عنوان و نام پديدآور : اهل لبيت في مصر/ اعداد و تقويم هادي الخسرو شاهي ؛ تحقيق شوقي محمد
نويسنده: عدة من الباحثين / اعداد سيد هادى خسروشاهى
وفات: معاصر
مشخصات نشر : تهران : مجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلاميه - المعاونيه الثقافيه، مركز التحقيقات والدراسات العلميه ، 1427ق = 1385.
مشخصات ظاهري : ص 520
فروست : (سلسله فضائل اهل البيت عند اهل السنه)
شابك : 964-8889-26-0
وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي
يادداشت : فهرست نويسي براساس اطلاعات فيپا
موضوع : امامزاده ها -- مصر
موضوع : زيارتگاههاي اسلامي -- مصر
موضوع : آرامگاهها -- مصر
شناسه افزوده : خسروشاهي، هادي ، 1317 -، گردآورنده و مقدمه نويس
شناسه افزوده : محمد، شوقي ، محقق
شناسه افزوده : مجمع جهاني تقريب مذاهب اسلامي. معاونت فرهنگي
شناسه افزوده : مجمع جهاني تقريب مذاهب اسلامي. مركز مطالعات و تحقيقات علمي
رده بندي كنگره : BP263/8/الف 9
رده بندي ديويي : 297/766
شماره كتابشناسي ملي : م 85-580
نام كتاب: اهل البيت في مصر
تعداد جلد واقعى: 1
زبان: عربى
موضوع: اهل البيت عليهم السلام
ناشر: المجمع العالمى للتقريب بين المذاهب الإسلامية- المعاونية الثقافية / مركز التحقيقات و الدراسات العلمية
مكان نشر: تهران
سال چاپ: 1427 ق- 2006 م
نوبت چاپ: اوّل
مقدّمة المركز 13
كلمة المحقّق 17
مدرسة و ثقافة تقريبية 18
هذا الكتاب 20
المقدّمة 23
مكانة آل البيت و منزلتهم مكانة آل البيت و منزلتهم/ النبوي جبر سراج 35
من هم آل البيت؟ 39
وجوب محبّة آل البيت و مودتهم 44
اختصاص أهل البيت بفضائل كثيرة 47
في مشروعية الزيارة لقبور الصالحين 49
أهل البيت في مصر أهل البيت في مصر/ الشيخ عبد الحفيظ فرغلي 57
لما ذا مصر؟ 60
أهل البيت في مصر ،ص:6
من جاء من أهل البيت إلى مصر؟ 63
دوحة النبي صلّى اللّه عليه و آله لما ذا الكثير من أغصانها
في مصر؟/ أحمد أبو كفّ 67
(1) دوحة النبي صلّى اللّه عليه و آله المباركة 67
(2) المشهد الحسيني 75
(3) رءوس الشهداء في مصر 90
1- علي زين العابدين، زهرة آل البيت 90
2- ثم يأتي الحديث حول الرأس الثاني 92
1- الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب عليهما السّلام أهل البيت المدفونون في مصر/ حنفي المحلاوي 105
الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السّلام 108
من هو؟ 108
علمه و صفاته 114
وصف الضريح 116
المرقد الحسيني/ الدكتورة سعاد ماهر 121
القبّة 129
الإمام الحسين عليه السّلام/ مأمون غريب 135
2- السيدة زينب (أم الشهداء) عليها السّلام السيدة زينب عليها السّلام/ علي أحمد شلبي 151
رحلة إلى الشام 165
خطبة علوية زينبية 170
بيان الحقيقة واجب 175
أهل البيت في مصر ،ص:7
أم الشهداء زينب بنت الإمام علي عليها السلام/ صافيناز كاظم 183
السيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب/ حنفي المحلاوي 201
من هي؟ 201
علمها و صفاتها 203
وصف الضريح 206
مرقد سيدة زينب عليها السّلام/ د. سعاد ماهر 209
3- السيدة نفيسة عليها السّلام السيدة نفيسة عليها السّلام/ توفيق أبو علم 213
مولدها و سبب تسميتها ب «نفيسة» 215
نفيسة العلم 225
أخلاقها 231
من بلد الرسول محمد صلّى اللّه عليه و آله إلى القاهرة 234
السيدة نفيسة حفيدة الرسول صلّى اللّه عليه و آله/ حنفي المحلاوي 241
من هي؟ 241
صفاتها و علمها 245
وصف المزار 248
مرقد السيدة نفيسة/ الدكتورة سعاد ماهر 251
4- السيدة سكينة بنت الإمام الحسين عليها و عليه السلام السيدة سكينة بنت الحسين/ د. حمزة و عبد الحفيظ و عبد الحميد 255
سكينة في بحر الأحداث 257
سكينة الأديبة 262
أهل البيت في مصر ،ص:8
شجاعتها 266
كرمها و ظرفها و أدبها 267
وفاتها 270
المشهد الموجود بالقاهرة 271
سكينة المفترى عليها/ صافيناز كاظم 273
* مشهد أول 273
* مشهد ثان 274
* مشهد
ثالث 277
* لقطات من الماضي 280
* عودة إلى المشهد 283
* الافتراءات 284
* المشهد الختامي 287
السيدة سكينة بنت الإمام الحسين/ حنفي المحلاوي 291
من هي؟ 291
صفاتها و علمها 293
وصف المقبرة 296
مرقد السيدة سكينة بنت الإمام الحسين عليهما السّلام/ الدكتورة سعاد ماهر 301
5- السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين عليها و على أبيها السلام فاطمة بنت الحسين عليهما السّلام/ مجدي فتحي السيد 305
فاطمة بنت الحسين و مقتل الحسين 308
مواقف عطرة من سيرة فاطمة بنت الحسين 310
وفاة فاطمة بنت الحسين 312
أهل البيت في مصر ،ص:9
السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين عليها السّلام/ حنفي المحلاوي 315
من هي؟ 315
صفاتها و أخلاقها 316
زهدها و قربها من اللّه 317
وصف الضريح 317
6- السيدة رقيّة بنت الإمام علي عليها و على أبيها السلام السيدة رقيّة بنت الإمام علي عليها السلام/ حمزة النشرتي 321
من هي؟ 321
المشاهد التي بجوارها 327
* مشهد السيد محمد المرتضى 327
* مشهد أسماء 327
* مشهد السيدة زبيدة 327
* مشهد عاتكة و الجعفري 329
تعليق 330
السيدة رقيّة من آل بيت النبوة/ حنفي المحلاوي 333
من هي؟ 333
صفاتها و أخلاقها 335
وصف الضريح 336
7- إبراهيم ابن الإمام الحسن عليهما السّلام مرقد إبراهيم بن الحسن عليهما السّلام/ الدكتورة سعاد ماهر 341
أهل البيت في مصر ،ص:10
8- الإمام حسن الأنور حفيد الإمام الحسن بن علي عليهم السّلام الإمام حسن الأنور والد السيدة نفيسة/ أحمد أبو كف 349
الحياة الدينية و العلمية 355
حياة الحسن الأنور السياسية 358
الحياة الاقتصادية 360
حسن الأنور و الولاية 365
ذرّية الحسن 367
منزلته العلمية 368
تشدّده في إقامة معالم الدين 368
كرمه 369
وفاته 369
9- الإمام زيد ابن الإمام علي زين العابدين عليهما السّلام الإمام زيد بن علي زين العابدين عليهما السّلام/ حنفي المحلاوي 377
من هو؟ 377
صفاته و بلاغته 381
وصف المشهد 384
مرقد زين العابدين/ د. سعاد
ماهر 387
10- محمد الجعفري ابن الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام الإمام محمد الجعفري ابن الإمام جعفر الصادق/ حنفي المحلاوي 391
من هو؟ 391
صفاته و علمه 395
أهل البيت في مصر ،ص:11
وصف المقبرة 395
11- السيدة عائشة بنت الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام السيدة عائشة بنت الإمام جعفر الصادق/ حنفي المحلاوي 401
من هي؟ 401
صفاتها و علمها 403
وصف المقبرة 403
مرقد السيدة عائشة ابنة الإمام جعفر الصادق/ الدكتورة سعاد ماهر 407
12- السيدة كلثوم حفيدة الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام السيدة كلثوم بنت القاسم/ حنفي المحلاوي 411
من هي؟ 411
علمها و ورعها 412
وصف المشهد 412
زيارة قبور أهل البيت عليهم السّلام زيارة قبور أهل البيت عليهم السّلام/ النبوي جبر سرّاج 417
خاتمة 433
ملاحق الكتاب ملحق (1) كتاب أخبار الزينبات مقدمة 439
وثيقة تاريخية حول مرقد السيدة زينب 439
أهل البيت في مصر ،ص:12
تصدير 443
السيدة زينب رمز الحقّ و الفضيلة 443
جثمان السيّدة في مصر 445
أخبار الزينبات 449
فمن الزينبات: 449
ملحق (2) مالك الأشتر مالك الأشتر 465
ملحق (3) محمد بن أبي بكر رضي اللّه عنه محمد بن أبي بكر رضي اللّه عنه 469
الفهارس الفنّيّة فهرس الآيات 477
فهرس الأحاديث 479
فهرس الأعلام 483
فهرس الأماكن 501
أهل البيت في مصر ،ص:13
مع ال
زيادة المستمرّة في تأليف الكتب التي تصدح بمناقب و سيرة أهل بيت النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله، المستندة إلى المصادر و الوثائق المختلفة و المحفوظة في خزانات متعددة، و مع النموّ الكمّي للعناوين و الموضوعات و الزوايا التي تتصل بالحديث عن تاريخ العترة الطاهرة و أبنائهم الطيّبين، المنتشرين في بقاع عدّة من بلاد الإسلام العريضة، إمّا خوفا من ظالم، أو هجرة لعيش أفضل، أو طلبا للعلم و الحكمة، أو نشرا لتعاليم دين جدّهم الأكرم صلّى اللّه عليه و آله، أو
نفيا و إبعادا من قبل السلطات ...، فمهما تعدّدت الأسباب للسفر إلى تلك البقاع البعيدة عن مدينة جدّهم، و عن عشيرتهم و أهليهم، فالهدف يبقى ساميا، و يتلخّص بنشر الاصول الأخلاقية و المعنوية و الدينية في الأمة من ناحية، و الدفاع عن حياض الدين القويم- كتابا و سنّة- بقمع الشبهات و الأوهام التي يحاول الأعداء نسجها في عقول العوام من ناحية ثانية، و حلّ المشاكل التي تهمّ الناس و الهموم التي تعاني منها شعوب هذه الأمة و تقديم المعونة لهم من ناحية ثالثة.
نقول: إنّه مع الزيادة في هذه التراكمات الموضوعية على هذا الصعيد، بدأت الفكرة تلحّ في أذهان البعض من الوسط الثقافي الإسلامي إلى تصنيف معجم يضمّ كلّ ما ألّف
أهل البيت في مصر ،ص:14
و كتب في أهل البيت عليهم السّلام، و يبدي اهتماما كبيرا في الكشف عن أبرز العناوين التي تصدّت بالحديث عن سيرة و تاريخ و شخصيات هذا البيت العتيق.
و لعلّ كتاب «أهل البيت في المكتبة العربية» من آثار المحقّق المتتبع المرحوم السيد عبد العزيز الطباطبائي، من أروع ما صنّف على هذا الصعيد، حيث عرض لعناوين الكتب و الرسائل المؤلّفة في حبّ و سيرة و تاريخ أهل البيت عليهم السّلام، و المنسوبة للمتقدّمين و المتأخّرين، و حسب الحروف الألفبائية، مع ذكر النسخ المتعدّدة لها، و أماكن وجودها في خزانات مكتبات العالم كلّه.
لكن الأستاذ حجة الإسلام و المسلمين السيد هادي خسروشاهي حفظه اللّه قد قام بمبادرة جديدة تجدر الثناء عليها و تقديرها، حيث أحضر كل ما كتب عن أهل البيت عليهم السّلام المدفونين بمصر، من الأبناء و الأحفاد الأشراف من ولد علي بن أبي طالب و بناته، و التي تشهد أضرحتهم أرض الكنانة، و تشمخ
مآذنهم سماء القاهرة، و اقتطف منها ما يراه مناسبا للحديث عن الشخصية الشريفة، و موضع دفنها، و أبرز ما قيل فيها، و بأقلام متعددة، بعيدة عن كل ما يمسّ المشاعر المذهبية، و يعكّر صفو النفوس النبيلة.
إنّنا نجد لزاما علينا- من واقع خبرتنا في التقريب- أن نثمّن جهد السيد المعدّ، لأنّ من شأنها أن تسهم في توثيق الروابط المقدّسة بين الأمة و أبناء هذا البيت الشريف من جانب، و في تمتين أواصر الوحدة بين شعوب الأمة الإسلامية عبر الارتكاز على محور أهل بيت النبوة و معدن الرسالة من جانب آخر، و يقينا أنّ كلّ نجاح نحقّقه في هذا الميدان- من طبع الكتب بعد تحقيقها و توثيقها- سوف يصبّ بالضرورة في تجاه تحقيق التقارب و الترابط بين أطراف المسلمين كافة.
و من هنا فحبّذا لو تلتقي جهود كلّ العالمين و المصلحين مع جهود المؤسّسات و المراكز و الهيئات الثقافية الإسلامية التي تعنى بشأن التقريب و الوحدة، و على رأسها المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية الأغرّ، عبر مركزه العلمي المبارك، من
أهل البيت في مصر ،ص:15
أجل إرساء أعمدة الأخوّة و المحبة و الوداد بين أفراد المسلمين، و رفع راية التوحيد عاليا، و التكاتف ضد كلّ الهجمات الشرسة التي يشنّها الأعداء ضدّ هذا الدين، و هذه الأمة المرحومة.
كما أنّنا نقدّم شكرنا و تقديرنا للمحقّق الكريم الأخ الفاضل شوقي شالباف (شوقي محمد) الذي بذل جهدا حثيثا في سبيل توثيق و تصحيح الموارد المدرجة في طيّ هذا السفر الشريف، و ما قام به من تعليقات رآها ضرورية لتدوينها، فشكر اللّه سعيه، و وفّقه للمزيد من الأعمال التي تخدم الدين و الرسالة، إنّه وليّ التوفيق.
مركز التحقيقات و الدراسات العلمية التابع للمجمع العالمي للتقريب
بين المذاهب الإسلامية
أهل البيت في مصر ،ص:17
بسم اللّه الرحمن الرحيم
و الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على نبي الهدى محمد صلّى اللّه عليه و آله و على أهل بيته الطيّبين الطاهرين و على صحبه المنتجبين المخلصين.
و بعد، فإنّ اللّه قد تفضّل عليّ و أكرمني بأن أتاح لي الفرصة أن أقوم بتحقيق هذا الكتاب الذي أراه «موسوعة» منوّعة تحكي حياة و سيرة بعض أهل البيت عليهم السّلام ممّن نزلوا مصر الكنانة و توفّوا بين أهاليها.
و الحديث عن أهل البيت عليهم السّلام حديث طويل و متفرّع، لأنّه يتصل بكلّ جانب من جوانب حياة الأمة الإسلامية بكلّ تفاصيلها و تاريخها. و لذا فإنّني أعجز عن أن أروي جانبا واحدا فكيف بالباقي؟!
لكن استميح القارئ عذرا لو اقتطعت من وقته لأقول كلمة مختصرة و هادفة في مسألة سرّ تهافت الناس إلى صوب أهل بيت علي و أحفادهم: نسائهم و رجالهم، صغيرهم و كبيرهم رغم وجود البيوتات الأخرى من آل أبي طالب؟! و لم هذا التقديس العظيم لأحفاد فاطمة دون غيرها من بنات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟
فهل اكتسبوا هذه الحفاوة و الاحترام و التقديس لكونهم من أبناء النبي صلّى اللّه عليه و آله فحسب، أم أنّهم رافقوا شرف نسبهم بمناقب أخرى؟
أهل البيت في مصر ،ص:18
فصحيح أنّ لأبناء علي عليه السّلام شئونا كبيرا، و صحيح أنّ أحدا غيرهم عجز أن يبلغ ما بلغوه من سموّ و رفعة، و جلالة و تقدير جماهيري واسع، و لكن الصحيح أيضا أنّهم لم يدركوا هذا المقام السامي إلّا بتوافرهم على الورع و التقوى، و العلم و الشجاعة و الخلق الحميد! فهم لم يكتسبوا تقديس الناس و تجليلهم بسبب نسبهم الشريف
فحسب، بل بما بذلوه من جهود في ترويض نفوسهم، و تهذيبها من كلّ علائق الدنيا الدنية.
إذ هم يجالسون العلماء و الحكّام، يقعدون مع الفقراء و يأكلون مع المساكين أيضا.
و إذ هم يهدون الناس إلى النور، و يمسحون عنهم غبار الجهل، تراهم يمدّون المحتاجين بما يقدرون عليه، و لم يحتفظوا لأنفسهم شيئا سوى القليل! و هكذا برزوا مصاديق حيّة للشريعة المعطاة، و مشاعل نيّرة تضي ء درب المحرومين.
و التاريخ خير شاهد على ذلك، حيث يؤكّد على الدور الكبير الذي لعبه أبناء علي في نشر مفاهيم الدين الصحيحة في ربوع الأرض الإسلامية، و ترويج الثقافة السليمة حيثما حلّوا، و أينما نزلوا.
و ليس هذا الكلام ينطبق على الأجداد العظام الذين ضمّوا جملة معان رفيعة في أدقّ تفاصيل حياتهم، و جسّدوا أوامر الشريعة، بل ينسحب إلى أبنائهم و أحفادهم، فضلا عن حواريّهم و تلاميذهم، حتّى صاروا يمثّلونهم في المحافل المختلفة.
و إذا ما تأمّلت الأمة مواقف الأحفاد- فضلا عن الأبناء- تجده امتدادا حقيقيا لسلوك و مواقف جدّهم الأعلى: علي بن أبي طالب عليه السّلام الذي كان يعدّ أحد أبرز و أعظم و أهمّ تلاميذ و حواريّي الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله، و بالتالي سوف تعود الأمة إلى وعيها الذي كادت تفقده، و ترجع إلى تراثها الذي أهملته، فتستمدّ منه أروع الدروس و العبر من أجل بناء حياة أفضل لأجيالها المتلاحقة.
إنّ من يطالع سيرة أيّ فرد من أفراد هذا البيت الشريف، و في أيّ بقعة من بقاع الدنيا
أهل البيت في مصر ،ص:19
عاش، يجده مدرسة بحدّ ذاته، و نبع بركة يفور منه الخير و الصلاح و الخلق الكريم، سواء كان في الجزيرة العربية أو في العراق أو مصر أو المغرب
أو ... فحاله هو هو، و سلوكه هو هو، لا تمنعه العقبات الجغرافية عن تقديم المعونة للآخرين، و لا تصدّه الحواجز النفسية: قطرية أو قومية و ما شاكل عن المساهمة في مساعدة الناس.
أي أنّهم قد جسّدوا الثقافة التقريبية في سلوكهم اليومي، و بالتالي خطوا الخطوة الأولى نحو الوحدة و التقريب بين أطراف المسلمين.
لقد ساهموا بأفعالهم و أقوالهم في إنشاء تيار من الوعي التقريبي الصحيح للأجيال المتعاقبة، من خلال تعريف الرسالة الإسلامية و صاحبها بالصورة الصحيحة، و توجيه مشاعر المسلمين في غرب البلاد و شرقها باتجاه كتابهم الكريم، و تمتين العلاقات و الوشائج فيما بينهم، و رفض كل الحواجز المصطنعة بينهم.
و هذا ما دعا إلى تهافت الناس: عالمهم و جاهلهم، كبيرهم و صغيرهم، أبيضهم و أسودهم، إلى الالتفات حول مشاهدهم المشرّفة، و تقبيل أضرحتهم، و لثم صفحات قبورهم، و تلاوة الأدعية و الزيارات المأثورة لأرواحهم، ليترجموا وفاءهم و حبّهم لهم.
و ليس هذا فحسب، بل تبارى العلماء و المفكّرون، و الأدباء و المثقّفون في الكتابة عنهم، و الثناء عليهم من خلال سرد سيرتهم الحسنة، و تحليل مواقفهم، بالتأليف تارة و بالتدريس أخرى.
فقد ألّفت عشرات الكتب التي تحكي فضائلهم، و تتحدّث عن مناقبهم الشريفة. فكما صنّف ابن خالويه (370 ه) و هو إمام اللغة و النحو، و ابن أبي حاتم الرازي (327 ه) و هو إمام في الرجال، و هكذا ابن حجر (973 ه)، و ابن الفحام الفقيه المعروف (458 ه)، و ابن جرير الطبري (310 ه) و هو إمام في الحديث و التاريخ، و هكذا جلال الدين السيوطي (911 ه) و السخاوي الحافظ (902 ه)، و الفخر الرازي (606 ه) و هو إمام في التفسير، كذلك صنّف
القاضي الجعابي (355 ه)، و السبط ابن الجوزي (654 ه) ...، و ابن الطيب المغربي الفاسي (1187 ه) في منظومته المسمّاة «الدرّة الفريدة في العترة المجيدة».
أهل البيت في مصر ،ص:20
و لم ينقطع هذا الاهتمام عند الكتّاب المسلمين و أدبائهم الأوائل، بل امتد حتّى عند المعاصرين، شعورا منهم بمسئولية المساهمة في هذا الاندفاع العارم باتجاه التعريف بأفراد و سيرة و مناقب هذا البيت الشريف، ممّا يدلّل على دوام تمسّك و اعتزاز هذه الأمة بذرّية النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله.
و هذا الكتاب يعدّ إحدى المحاولات الجديرة بالتقدير في هذا السياق، إذ فضلا عن كونها مبادرة هادفة ترمي إلى التعريف بمنازل أبناء علي في مصر الكنانة، فهو يمثّل مشروعا ينهض بمستوى الوعي الثقافي و التقريبي لدى المسلمين، و يدفعها إلى المزيد من التطوّر.
كما أنّه يقوم بتأسيس أشبه ما يكون بمنتدى ثقافي و تاريخي في الوسط العربي الإسلامي، يحاول من خلاله الأستاذ الحجّة السيد هادي الخسروشاهي التعريف بشخصيات من آل علي عليه السّلام قد نزلوا مصر الكنانة، و عاشوا وسط أهلها، ثم بيان منزلتهم و جلالتهم، و محاولة تحديد تاريخ مدفنهم، و مواضع أضرحتهم، و غير ذلك ... عبر جمع مقاطع من الكتب التي ألّفت بهذا الصدد.
فإضافة إلى سعيه إلى نشر الثقافة الإسلامية عبر التعريف لرموزها الكريمة، و تأسيس مناخات ملائمة تزيد من تمسّك الناس بدينهم و رسالتهم المقدّسة، فهو يخطو خطوة هامة بما يمتلك من صبر و موهبة، و حكم موقعه و علاقاته بدار التقريب الشريفة بالقاهرة، نحو تجذير الوعي التقريبي لدى المسلمين في الشمال الإفريقي، و تعزيز النظرة التجليلية إلى مكانة و دور أهل البيت عليهم السّلام العلمي و الأخلاقي و الإصلاحي في ذلك
الجزء من العالم الإسلامي.
إنّ هذا المشروع الموضوعي- على بساطته- خليق بأن ينال الحظوة من التقدير من قبل الآخرين، و الاقتداء به لإنشاء مشاريع أخرى على وتيرته، كأن يكون: أهل البيت
أهل البيت في مصر ،ص:21
في المغرب أو تونس أو العراق أو ايران أو ... فهذا الكتاب ربّما أضحى أساسا لما بعده من تأليفات جامعة في هذا الموضوع.
إنّنا بحاجة إلى دراسة التاريخ من زاوية أخرى، و حاجتنا أشدّ إلى التعرّف على شخصيات البيت النبوي، و علمائهم الأشراف، و الوجوه التي ساهمت في تثبيت الدين و نشر علومه في كافة بقاع العالم.
فأمر رائع حقّا أن نساهم جميعا في تعريف شخصيات البيت الشريف، أينما كانت مشاهدهم، و الأروع منه أن نلغي كلّ الحواجز المصطنعة فيما بيننا، و نلتقي معا، و بقلب واحد ينبض بحبّ أبناء و أحفاد بيت الرسالة لنشكّل منعطفا إسلاميا واحدا، و نواجه أعدائنا بقوة، مستمدّين منهم أروع الدروس و العبر من أجل بناء حياة أفضل و وداد دائم.
فمن أجدر من مثقّفي هذه الأمة و مفكّريها لأن يكونوا أمثلة حقيقية لكلّ معاني السموّ الإسلامي، و من أجدر منهم لأن يفهم رموز هذه المعاني؟
و باختصار شديد، فقد قام هذا السيد الجليل بإنجاز كبير على الصعيد الثقافي، أراد منه تجذير الوعي التاريخي و التقريبي للأمة، و لا سيّما بين محبّي و عشاق آل بيت محمد صلّى اللّه عليه و آله، و جذب الاهتمام بمشاهدهم الشريفة، و القيام بمسئولية الحفاظ على الإرث النبوي و العناية به، كما صرّح به في خاتمته، فجزاه اللّه جزاء المحسنين، و بلّغه شفاعة النبي صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته المكرمين.
و لا بدّ من الإشارة إلى قيمة هذا الكتاب في إطار تقريبي و
تاريخي، إذ يمكن أن يعدّ مصدرا مهمّا جامعا يقدّم للباحثين ما يحتاجونه فيما يتعلّق بآل علي في مصر الكنانة، و دليلا مختصرا لمشاهد الأشراف في القاهرة لمن أراد زيارة أضرحتهم المقدّسة. و لذا وقع الاختيار على هذا الكتاب لتحقيقه و توثيقه، و طبعه بحلّة جديدة، بمعونة و إشراف مركز التحقيقات و الدراسات العلمية التابع لمجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية.
أهل البيت في مصر ،ص:22
و ختاما لا يسعني إلّا أن أتوجّه بالشكر و الامتنان لمركز التحقيقات و الدراسات هذا لتبنّيه نشر الكتب التي تعنى بالفكر الوحدوي المشرق، و تخدم أهداف التقريب المباركة، بغضّ النظر عن كون أصحاب هذه الكتب من الشيعة أو أهل السنّة.
نسأل الباري عزّ و جلّ أن يوفّق العاملين في هذا المركز، من مسئول و مدراء أقسام علمية و فنية و إدارية، و يزيد من ألطافه لخدمة الدين، و توحيد صفوف أتباعه، و غرس المحبّة و الإخاء بينهم، إنّه سميع عليم.
و الحمد للّه ربّ العالمين.
شوقي محمد 25 ذو القعدة 1426 ه/ 28 كانون الأول 2005 م
أهل البيت في مصر ،ص:23
... لطالما راودني حبّ الاطّلاع أن أقف بنفسي على معالم الحبّ و الودّ الذي يكنّه شعب مصر لأهل البيت عليهم السّلام، خصوصا و أنّ وشائج تاريخية عريقة ربطت بين الشعبين المسلمين في إيران و مصر ألقت بظلالها على المشاعر و العلاقات بينهما، ممّا جعلهما- و في مقدّمتهم العلماء و المثقّفون منهما- يستشرفون التطلّعات الثقافية في كلا البلدين، و يتبادلون الرؤى و الأفكار المتجدّدة في حركتيهما العلمية و الثقافية رغم الحواجز و الموانع التي حاول أعداء الإسلام و المسلمين وضعها لعرقلة هذا التواصل و التناصر.
و هكذا تحقّقت الأمنية، فحططت رحالي في مصر، و كانت أولى محطّاتي
هي القاهرة عاصمة مصر الكنانة، و رحت أجول بقلب شغوف، و عقلية ثقافية تاريخية يقظة واعية، أجواء القاهرة و غيرها من الحواضر المصرية العريقة، فأدهشني ما رأيت من ظواهر فاقت تصوّري الأوّلي عن مدى و عمق الحبّ و الودّ الذي يحمله مسلمو مصر لأهل البيت عليهم السّلام، حتّى شعرت و أنا في وسط تلك الظواهر الولائية كأنّني في إيران أو العراق، حيث ألفنا المراسم و الشعائر المتعارفة في إحياء ذكرى أهل البيت عليهم السّلام و مدحهم أو رثائهم، فكان ممّا وقع نظري عليه و أدهشني هو الأفواج الضخمة من المسلمين المصريّين الذين يتوافدون- ليل نهار- لزيارة مساجد و مقامات أهل البيت عليهم السّلام في القاهرة؛ للدعاء و الصلاة و الذكر فيها.
أهل البيت في مصر ،ص:24
و قد كرّس هذا الودّ و الحبّ لأهل البيت عليهم السّلام في مصر وجود مقامات مشرّفة متعدّدة منها: مسجد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السّلام، و مقام رأسه الشريف الذي قد دفن فيه، و مسجد و مرقد السيدة زينب ابنة الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام، حيث يعتقد المؤرّخون بأنّها دفنت فيه، و مسجد و مرقد السيدة نفيسة ابنة زيد بن الحسن بن علي ابن الإمام الحسن المجتبى عليهم السّلام، و زوجة السيد إسحاق ابن الإمام الصادق عليه السّلام التي رافقته إلى مصر و ماتت و دفنت فيها.
و من الآثار المتميّزة فيها: وجود لوحة جميلة تزيّن أحد أبواب حرم السيدة نفيسة، مكتوب عليها فقرة من دعاء «الافتتاح» الشهير، المنقول عن الإمام المهدي عليه السّلام، و هي «اللّهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام و أهله، و تذلّ بها النفاق و أهله ...»
كما أنّ هناك
مجموعة أخرى من الألواح النفيسة داخل الحرم، تتضمّن مقاطع من ذكر و مدح أهل البيت عليهم السّلام.
و ينقل المؤرّخون كرامات كثيرة، و دعوات مستجابة لهذه المراقد الشريفة.
و من المشاهد التي أثارت دهشتي: الاحتفال الجماهيري الضخم بمناسبة مولد الإمام الحسين عليه السّلام، و حين تواجدي في مصر تلقّيت دعوة من شيخ الطريقة العزمية- و هي إحدى الطرق الصوفية في مصر- لحضور مراسم إحياء ذكرى مولد سبط النبي صلّى اللّه عليه و آله الإمام الحسين عليه السّلام الذي أقيم في جوار المسجد الحسيني، و لبّيت الدعوة بشوق، و قصدت السرادق الخاصّ المعدّ للضيوف، ففوجئت بالسيل البشري من المسلمين المصريّين- و الذي قدّرته الصحف المصرية آنذاك بحوالي مليوني نسمة- كانوا قد توافدوا من القاهرة، و من مختلف المدن المصرية القريبة منها و البعيدة؛ للمشاركة في إحياء هذه الذكرى الإسلامية الكبرى.
و قد راعني أنّني لم أر قط مثل هذا العدد من المشاركين في أيّ مكان آخر، حيث كانت جميع الشوارع المؤدّية إلى مسجد سيدنا الحسين عليه السّلام مزدحمة بالوافدين، و قد أغلقت كلّها بوجه مرور السيارات و وسائل النقل المختلفة، و لا يجد أحد قدرة على
أهل البيت في مصر ،ص:25
الحركة إلّا بشقّ الأنفس، و لم يكن لنا سبيل إلّا السير بعناء على الأقدام مسافة كبيرة جدا وسط هذه الكتل البشرية حتّى وصلنا إلى المسجد، إلّا أنّنا و بسبب الزحام الشديد، و عدم إمكانية الوصول إلى المكان المخصّص للضيوف الذي أقامته العشرات من مشيخات الطرق الصوفية المحبّة لأهل البيت عليهم السّلام، اضطررنا- أنا و الإخوة أعضاء سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في القاهرة- إلى مغادرة المكان بعد لحظات من وصولنا.
و قد يتساءل سائل عن السرّ في عراقة هذه المودّة الراسخة و
الحبّ الشغوف لآل البيت عليهم السّلام عند شعب مصر، و الذي سبق في عمقه التاريخي عهد الدولة الفاطمية، و لعلّنا نجد الجواب عند ما نقلّب وريقات التاريخ الإسلامي المدوّن، فنجد أنّ هذا الودّ و الحبّ لآل البيت عليهم السّلام قد نما و ترعرع منذ صدر الإسلام، حين فتح الجيش الإسلامي الظافر بلاد مصر، و كان الروّاد الأوائل بهذا الفتح مجموعة من كبار صحابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و خواص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، و الدعاة إلى حبّه و ولايته، و المجاهرين بموقعه و مواقع أهل بيته عليهم السّلام من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الرسالة، و على رأسهم: أبو ذرّ الغفاري و المقداد بن الأسود الكندي و أبو أيّوب الأنصاري، و عندها يمكننا التأكيد على أنّ مودّة أهل البيت عليهم السّلام و حبّهم دخل قلوب المصريّين في اليوم الذي دخل فيها الإسلام، فقرنوا مع شهادتهم بأن لا إله إلّا اللّه محمد رسول اللّه: ودّ آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و حبّهم.
كلّ هذا قبل أن تستوثق الأمور لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، و يتصدّى لخلافة المسلمين، و يؤكّد هذه الحقيقة التاريخية ما نقله ابن الأثير في «الكامل» عن حوادث سنة 36 ه من أنّ مبعوث الإمام علي عليه السّلام إلى مصر دعا في خطبته إلى مبايعته «فقام الناس فبايعوه و استقامت مصر، و بعث عليها عمّاله ...»، كما أورد المقريزي في «خطط مصر»: أنّ قيس بن سعد الأنصاري بعث على مصر، فدخلها مستهلّ ربيع الأول سنة سبع و ثلاثين للهجرة، و مصر يومئذ من جيش علي عليه السّلام.
و توّجت أجواء الحبّ و الودّ
و الولاء لآل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله بتعيين الإمام علي عليه السّلام محمد بن أبي بكر و قيس بن سعد على مصر، و هما خلّص أصحابه و المحبّين لآل البيت عليهم السّلام،
أهل البيت في مصر ،ص:26
فكان لهم الدور الرائد في تعريف شعب مصر بمقام أهل البيت عليهم السّلام و فضائلهم و فواضلهم، حتّى سرى حبّ آل البيت عليهم السّلام و ودّهم في عروقهم، و أشرق في نفوسهم، و انفلقت معانيه السامية في عقولهم.
و لم يستطع الولاة و السلاطين الذين تعاقبوا على حكم مصر بعد استشهاد أمير المؤمنين علي عليه السّلام، و خصوصا في عهد معاوية بن أبي سفيان تغيير عقائد مسلمي مصر و حبّهم و ولائهم لأهل البيت عليهم السّلام رغم القتل و السجن و النفي للكثير منهم؛ و ذلك لعمق عقيدتهم بأهل البيت عليهم السّلام، و رسوخ حبّهم و ودّهم لهم، و غاية ما استطاعوا فعله هو أنّهم حوّلوا أجهزة السلطة و جيشها إلى ولاية السلاطين، و صنعوا منهم أتباعا لهم، يدورون معهم ما دارت معايشهم.
أمّا في عهد بني العباس، و بعد أن استتبّ لهم الحكم و السلطان، اشتدّوا بالتنكيل بالعلويّين و آل البيت عليهم السّلام، ممّا أدّى إلى بروز انتفاضات و نهضات علوية هنا و هناك، كان منها نهضة علي بن محمد بن عبد اللّه- و هو من أحفاد الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام- و هو أول علوي دخل مصر في تلك الحقبة الزمنية و بويع فيها من قبل المسلمين، و كان له أثر كبير في إخراج محبّي أهل البيت عليهم السّلام و أتباعهم من عزلتهم التي ضربها عليهم بنو أميّة و من بعدهم بنو العباس.
و توالت انتفاضات العلويّين في
مصر، و رغم أنّها لم تستطع أن تحقّق هدفها في إقامة حكومة موالية لأهل البيت عليهم السّلام، إلّا أنّها عزّزت حالة الولاء و الحبّ لأهل البيت عليهم السّلام عند أهل مصر.
و ظهرت حركة تجديد الولاء و الحبّ لأهل البيت عليهم السّلام مرّة أخرى في مصر على يد الفاطميّين، و قد أطلقوا على أنفسهم هذه التسمية نسبة إلى السيدة فاطمة الزهراء عليها السّلام؛ لاعتقادهم بأنّهم من ذرّيتها، و كان أول خليفة فاطمي استولى على الاسكندرية عام (301 ه) هو عبيد اللّه المهدي المنتسب إلى محمد بن إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام، و أقام حكومة السلسلة الفاطمية في تونس عام (308 ه).
أهل البيت في مصر ،ص:27
ثم امتدّ بحكومته إلى أجزاء من مصر، إلّا أنّ الأمير المعزّ لدين اللّه، هو أوّل خليفة فاطمي يفلح في بسط سيطرته على كلّ مصر، حيث فتحها عام (358 ه) و بنى مدينة القاهرة و اتّخذها عاصمة لمصر، و انتشر مذهب أهل البيت عليهم السّلام في عهده، و أصبح الفقه الشيعي أساسا للشعائر و العبادات و المعاملات، و انتشرت في عهده أيضا محافل ذكر فضائل أهل البيت عليهم السّلام و مدائحهم، و أسّس الجامع الأزهر تيمّنا باسم فاطمة الزهراء عليها السّلام، بهدف تدريس علوم أهل البيت عليهم السّلام و فقههم.
و توالى تأسيس مؤسّسات التعليم و التربية في عهود الخلفاء الفاطميّين، كان منها:
دار الحكمة؛ لتتواصل الحركة العلمية في نشر معارف و علوم مدرسة أهل البيت عليهم السّلام في حواضر مصر و آفاقها.
و ممّا تميّزت به هذه المؤسّسات العلمية- و خصوصا الجامع الأزهر- هو عقد حلقات الدروس العلمية، و الحوار العلمي بين علماء مذهب أهل البيت و علماء المذاهب الإسلامية الأخرى؛ كعلماء الشافعية
و الحنفية و المالكية و غيرهم.
*** و قد كان من الأماني التي خالجتني قبل أن أحطّ رحالي في القاهرة أن أطّلع عن قرب على المراقد و المقامات الشريفة لآل البيت عليهم السّلام في مصر، بهدف تحقيق طموحي لتأليف كتاب عن معالم أهل البيت عليهم السّلام في مصر، إلّا أنّ هذه الأماني- بعد الذي شاهدته- تحوّلت إلى ضرورة ملحّة أخذت عليّ جميع مشاعري، فانبريت لهذا الأمر بعزيمة لا تنفسخ، خصوصا و أنّ مثل هذا العمل الثقافي التاريخي سوف يصبّ في إطار تعميق العلاقات التاريخية و الثقافية في بعدها الإسلامي الرسالي بين الشعبين المسلمين في إيران و مصر؛ لتعيد لحواضرهما ذلك التواصل و التكامل في محور أهل البيت عليهم السّلام حبّا و ودّا و ولاء، و عندها سوف تتلاشى الموانع التي صنعتها يد الاستكبار على أرضية الجهل و العصبية و الوهم، فتجد جامعة الأزهر الشريف تعانق حوزة قم المقدّسة علما و معالم و معارف و منابر، و تجد مشاعر الحبّ و الودّ و الولاء لأهل البيت عليهم السّلام في مصر
أهل البيت في مصر ،ص:28
تناغم نظائرها في إيران و يحاكي أحدها الآخر؛ ليعكس حقيقة وحدة الكلمة في أصل كلمة التوحيد، و عندها سنجد أنّ العلاقات الأخوية الشاملة و الراسخة لا ينقصها إلّا العلاقة السياسية القائمة على وحدة الهدف الكبير، و التواصل التاريخي الثقافي المشترك، و المصلحة الإسلامية و الإنسانية المتبادلة.
و الذي زاد في ترسيخ فكرة تأليف كتاب، بل سلسلة كتب عن معالم أهل البيت عليهم السّلام في مصر، هو ملاحظتي الفاحصة لثلاث ظواهر أصيلة تشكّل مادّة المعالم الشاخصة لأهل البيت عليهم السّلام، و مدى حبّهم و ودّهم في أوساط مسلمي مصر، و هذه الظواهر هي:
الظاهرة الأولى: ظاهرة الحبّ
الشغوف و الودّ العميق في الأوساط الشعبية العامة، من خلال مجالس الذكر، و مناسبات المواليد و الوفيات لأهل البيت عليهم السّلام، خصوصا ذكرى سيدنا الحسين عليه السّلام كما يعبّر المصريّون، و التي أخذت حالة شعائرية تقليدية، توارثتها الأجيال و تفاعلت معها، دون أن تؤثّر فيها سلبا التحوّلات العصرية المتواصلة.
الظاهرة الثانية: ظاهرة الثقافة الولائية لأهل البيت عليهم السّلام بين أوساط الكثير من مثقفي مصر، سواء كانوا أزهريّين أم غيرهم، و انفتاحهم الموضوعي على مدرسة أهل البيت عليهم السّلام و علومها و ثقافتها خصوصا في القرن الأخير، فهناك عشرات الكتّاب و عشرات الكتب، بحثت بعقلية علمية و قلم واع مسائل أهل البيت عليهم السّلام و معالم مدرستهم الإصلاحية، و لعلّ الحركة العلمية و الثقافية التي كانت على عهد الدولة الفاطمية كان لها الأثر الكبير في نشوء و دوام هذه الظاهرة، و قد أشار عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في مصر: عبد الحليم الجندي في كتابه «الإمام الصادق» عليه السّلام إلى ذلك قائلا: «الإمام الصادق هو الإمام الوحيد في التاريخ الإسلامي، و العالم الوحيد في التاريخ العالمي الذي قامت على أسس مباديه الدينية و الفقهية و الاجتماعية و الاقتصادية دول عظمى، و مصر تذكر منها أكبر دولة عرفها التاريخ فيها من عهد الفراعنة: الدولة الفاطمية التي امتدّ سلطانها من المحيط الأطلسي إلى برزخ السويس، و لو لا هزيمة جيوشها أمام الأتراك لخفقت
أهل البيت في مصر ،ص:29
أعلامها على جبال الهمالايا في وسط آسيا» «1» و «2».
الظاهرة الثالثة: أنّ العديد من علماء الإسلام المصريّين- و خصوصا كبار شخصيات جامعة الأزهر الشريف- لم يقتصروا على إبراز حبّهم و ودّهم لأهل البيت عليهم السّلام في محاضراتهم و خطبهم و محافلهم العلمية، بل
نجدهم منفتحين بعقلية طلّاب الحقّ على علوم مدرسة أهل البيت عليهم السّلام في المطارحات و المناقشات العلمية، و لعلّ أبرز مصاديق ذلك هو مطارحات إمام الأزهر الأكبر: العلّامة الشيخ عبد الحليم البشري مع العلّامة الحجّة الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي فيما اشتهر بعد ذلك ب «المراجعات».
و قد وفّقني اللّه سبحانه لأن أشرع بهذا العمل المهمّ، فقمت بجمع الكتب التاريخية، قديمها و حديثها، التي ألّفها و نشرها كبار علماء الأزهر الشريف، و الباحثون و المؤرّخون المصريّون، فاكتشفت أنّ جلّ هذه الكتب تظهر مدى حبّ أهل البيت عليهم السّلام و ودّهم عند المصريّين بصفة عامة، و لم يقف التنوّع المذهبي الفقهي عقبة أمام ذلك، بل كثيرا ما كان يكشف عن مدى القرب من أهل البيت سلام اللّه عليهم و مدرستهم المباركة، و قد كرّر لي بعض كبار رجالات الدين و السياسة في مصر عند لقائي بهم مقولتهم عن علاقة أهل مصر بأهل البيت عليهم السّلام، و هي: «إنّ شعب مصر شيعي الهوى و سنّي المذهب» «3»، و هكذا هو فعلا فيما سمعناه و رأيناه.
و بعد تجميعي لهذه الكتب التي بلغت العشرات، جاءتني فكرة أخرى، و هي أن أعدّ كتابا جامعا أو سلسلة كتب متكاملة باللغة العربية، يكون مخاطبوها كلّ الشيعة و غير الشيعة، و من ثم تترجم إلى اللغة الفارسية و الإنجليزية و إلى اللغات الحيّة الأخرى.
______________________________
(1). عبد الحليم الجندي: الإمام الصادق عليه السّلام، ط القاهرة.
(2). و قد نشره المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية ضمن تطلّعاته في هذا المضمار في طبعة أنيقة و محقّقة، أشرف على تحقيقها المركز العلمي التابع للمجمع تحقيقا علميا، جديرة بأن تطالع و تقلّب صفحاتها بإمعان.
(3). آخرهم صديقي الأستاذ الدكتور
مصطفى الفقي حيث يقول: «إنّ المصري سنّي المذهب شيعي المزاج» الأهرام 31/ 12/ 2002، مقال: «دعوة و نداء».
أهل البيت في مصر ،ص:30
و كانت باكورة هذه الجهد و السعي بدءا هو هذا الكتاب الذي بين يديكم، تحت عنوان: «أهل البيت في مصر» و يتضمّن مختارات ممّا كتبه بعض العلماء أساتذة الأزهر الشريف، أو بعض البارزين من الباحثين و المفكّرين المصريّين، حيث قمنا بتلخيصها و تنقيحها و تبويبها؛ لتكون المجموعة الأولى من مشروعنا.
و جدير بالذكر أنّ الكثير من العلماء و المفكّرين الإسلاميّين و الكتّاب المثقّفين كتبوا كثيرا عن أهل البيت عليهم السّلام عموما، و في مصر خصوصا، منهم: الدكتور عبد الحليم محمود (شيخ الأزهر الأسبق)، و الشيخ محمد زكي إبراهيم (رائد العشيرة المحمدية الراحل)، و الشيخ أحمد حسن الباقوري (وزير الأوقاف الأسبق)، و الشيخ محمد أبو زهرة، و الشيخ عبد الحليم الجندي، و الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود، و الأستاذ خالد محمد خالد، و عبد الرحمن الشرقاوي، و السيدة صافيناز كاظم، و الأديب عبد الحميد جودة السحّار، و الأستاذ حسن كامل الملطاوي، و الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل، و عشرات غيرهم، و كلّ ذلك يدلّ بوضوح على موقع و مقام أهل البيت عليهم السّلام في نفوس هذه الشريحة العليا من العلماء و المفكّرين و الكتّاب المصريّين.
و لا يفوتني أن أشير إلى أنّ الضوء الذي سلّطته في هذا الكتاب على مشاهد و مراقد أهل البيت عليهم السّلام في مصر هو لمحة خاطفة، لا تستوعب كلّ ما في الواقع، آملا أن تتمّ الإحاطة المناسبة لها في الكتب القادمة إن شاء اللّه.
*** إنّ نشر هذا الكتاب باللغة العربية أولا- و بعدها باللغة الفارسية و الإنجليزية- و إن كان يعدّ جهدا
متواضعا في حجمه، إلّا أنّه كبير في معناه و دلالاته، فهو خطوة إيجابية مباركة على طريق التفاعل الإسلامي و التقارب المذهبي، و مفردة ثقافية لتحقيق أرضية التكامل و التحسين للعلاقات السياسية بين جمهورية مصر العربية و الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الأمر الذي سيصبّ في هدفه الكبير المتمثّل بالتقريب بين المذاهب الإسلامية، و بوحدة الأمة الإسلامية جمعاء، بقومياتها المتنوّعة و أقطارها المتعدّدة.
و هذه المقولة تصديق لما قاله أخي العزيز السيد محمد خاتمي رئيس الجمهورية
أهل البيت في مصر ،ص:31
الإسلامية الإيرانية في مقابلته الصحفية مؤخّرا، في الردّ على سؤال مراسل وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية بأنّ: «مصر و إيران ركيزتان أساسيّتان للحضارة الإسلامية» و بلا أدنى شكّ إذا انطلقت هاتان الركيزتان كجناحين قويّين يمكنهما الطيران إلى أعلى القمم، و هو ما يخافه الأعداء، و هم في كلّ يوم يواصلون السعي لخلق العقبات و المشاكل للحيلولة دون تحقّقه، و لكن بلا تردّد بإرادة الرجال و عزيمتهم يمكن التغلّب على هذه المشاكل، و تمهيد الطريق لتطوّر جديد في العلاقات بين البلدين الهامين في العالم الإسلامي «1».
______________________________
(1). عقد الرئيس السيد محمد خاتمي رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية في بداية الدورة الثانية لرئاسته و في ختام «أسبوع الحكومة» مؤتمرا صحفيا ضمّ جمعا من الصحفيّين من وسائل الإعلام الداخلية و الأجنبية، أجاب على أسئلتهم، منها سؤال حول العلاقات المصرية الإيرانية على النحو التالي:
وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية (أرنا):
بالنسبة للسياسة الخارجية لديّ عدّة أسئلة حول علاقات إيران و مصر التي تعتبر من الدول المهمة في العالم الإسلامي، منذ فترة مضت أعلن السيد حسني مبارك رئيس جمهورية مصر العربية بأنّهم على استعداد لإقامة علاقات منطقية مع إيران، أودّ أن أسأل سيادتكم عن مستقبل هذه العلاقات و العقبات الموجودة
في طريقها، مع الأخذ في الاعتبار أنّ البعض يعتقد بأنّه من الممكن أن تكون التيارات المتشدّدة غير راغبة في استئناف العلاقات!
رئيس الجمهورية: إنّ لمصر عندنا جميعا و العالم الإسلامي و العالم العربي مكانة و قاعدة مهمة، فشعبها شعب نبيل جدا، حضارته عريقة، له دور ممتاز في الحضارة الإسلامية، كما كان له دور حيوي في المحافل السياسية و الاجتماعية خلال القرن الأخير في المجتمع العربي الإسلامي.
و اليوم يتمتّع المفكّرون و العلماء المصريّون باحترام فائق، فمصر و إيران كانتا و ما زالتا في الواقع ركيزتين أساسيتين للحضارة الإسلامية في تاريخ العالم الإسلامي، و لا يقتصر تعامل مصر و إيران على وقتنا هذا، فالمصريّون يحبّون إيران و شغوفون بأهل البيت، كما كان لهم دور مهم في تجديد الفكر في العالم الإسلامي، فهم قاعدة مهمّة، كما أنّ صلة الشعبين العظيمين لا يمكنها أن تنقطع بهذه السهولة، و لا يمكن للقضايا السياسية أن تخدشها و إن كان من الوارد أن تختلف السياسات و الحكومات في وجهات النظر، و هذا الاختلاف في وجهات النظر لا يزول في يوم و ليلة.
لقد كانت العلاقات الثقافية و الاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية- أي العلاقات بين المفكّرين و شعبنا و المفكّرين و شعب مصر- قائمة، و اليوم ما زالت محلّ تشجيع و تأييد. و لأسباب تعلمونها جميعا، و العالم يعرفها؛ تأثّرت العلاقات فيما بين مصر و إيران من الناحية السياسية. آمل في المستقبل في نفس الوقت-
أهل البيت في مصر ،ص:32
و سيقوم قريبا مركز البحوث الإسلامية في مدينة قم المقدسة في ايران- الذي أسّسته منذ ربع قرن، و لا زلت أشرف عليه- بطباعة و نشر هذا الكتاب باللغة الفارسية، و من ثم ترجمته إلى اللغات الحيّة
الأخرى، و بذلك يمكننا وضع الكتاب في متناول مسلمي العالم على اختلاف لغاتهم؛ ليعرف الجميع أنّ قواسم مشتركة و أساسية تجمعنا- شيعة و سنّة- في وحدة ثقافية تاريخية شاملة، و روح معنوية إسلامية واحدة، و أن لا عقبات تقف في طريقها لتحقيق أفضل صور العلاقات السياسية الإسلامية بين بلدانها، و في مقدّمتها: إيران و مصر.
نودّ أن نشير إلى أنّ الطبعة الأولى لهذا الكتاب تمّ إصدارها في 200 صفحة عن «دار الهدف» عام 1422 ه- القاهرة- و تضمّنت الطبعة الثانية التي أصدرتها (مكتبة الشروق الدولية) عام 1425 ه- 2004 م أكثر من 330 صفحة.
و نرى من الضروري أن نعرب للسيد المهندس عادل المعلّم مدير هذه المؤسسة الموقّرة، عن فائق تقديرنا للقيام بنشر هذا الكتاب التاريخي القيّم.
و ختاما أتضرّع إلى اللّه سبحانه أن يجعل هذا الجهد المتواضع خالصا لوجهه تعالى، و أن يتقبّله منّي بأحسن القبول، و يحقّق الهدف السامي الذي قصدته من ورائه، إنّه سميع مجيب، و هو على كلّ شي ء قدير.
سيد هادي خسروشاهي أرض الكنانة- القاهرة 1424 ه- 2003 م
______________________________
الذي نشجّع فيه مختلف العلاقات الثقافية و الاقتصادية و الاجتماعية بين شعبي البلدين، أن نتمكّن من أن نسير في الاتجاه الذي حافظنا فيه، و ما زلنا نحافظ فيه على المبادئ و المعايير مع رعاية مبدأ إزالة التوترات و اجتناب التدخّل في الشئون الداخلية؛ لنتمكّن من حلّ المشاكل، و على الصعيد السياسي مع رعاية المعايير التي ننشدها، يمكننا من تحسين موقفنا إلى مرحلة أفضل ممّا هو عليه الآن.
على أية حال، فإنّ مصر تعتبر مهمّة بالنسبة لنا، كما أنّ مصر لها نظرة و اهتمام خاصّ بإيران، من هنا فنحن نؤيّد التعاون الثنائي على كافّة الأصعدة، و إن شاء
اللّه نستطيع أن نصل إلى المرحلة التي نتغلّب فيها على المشاكل السياسية.
أهل البيت في مصر ،ص:33
مكانة آل البيت و منزلتهم بقلم النبوي جبر سراج
أهل البيت في مصر ،ص:35
النبوي جبر سراج
قال صلّى اللّه عليه و آله «الزموا محبّتنا أهل البيت، فإنّه من لقي اللّه عزّ و جلّ و هو يودّنا دخل الجنّة بشفاعتنا» أخرجه الطبراني «2».
و أخرج الطبراني في الأوسط كذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله: «خلق الناس من أشجار شتّى، و خلقت أنا و علي بن أبي طالب من شجرة واحدة، أنا أصلها، و فاطمة ابنتي غصنها، و علي لقاحها، و الحسن و الحسين فروعها، و شيعتنا أوراقها، من تعلّق بغصن من أغصانها ساقه إلى الجنّة، و من تخلّف عنها هوى إلى النار» «3».
______________________________
(1). مقتبس من كتاب أحفاد النبي صلّى اللّه عليه و آله، طبع مكتبة طاهر للتراث، القاهرة 2001 م.
(2). المعجم الأوسط للطبراني 3: 122 حديث (2251) بإسناده عن ابن أبي ليلى عن الحسن بن علي عليهما السّلام.
و فيه: «الزموا مودّتنا» بدل «محبّتنا»، و في آخره بعد «بشفاعتنا»: «و الذي نفسي بيده، لا ينفع عبدا عمله إلّا بمعرفة حقّنا».
(3). لم نعثر على هذا الحديث في معاجم الطبراني الثلاث المطبوعة، و خاصة الأوسط منها رغم وجود فهرس كامل قد قام بتنظيمه الدكتور محمود الطحّان، و نشرته مكتبة المعارف في الرياض. غير أنّ الحديث بعينه أخرجه ابن جرير الطبري في بشارة المصطفى: 76 حديث (8) عن ابن عباس. و تجدر الإشارة إلى أنّ الحديث قد رواه و أخرجه الفريقان عن طرق عدّة و لو كانت بألفاظ متغايرة أحيانا، إلّا أنّها متقاربة، نذكر-
أهل البيت في مصر ،ص:36
و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أثبتكم على
الصراط أشدّكم حبّا لأهل بيتي و لأصحابي».
رواه ابن حبّان في صحيحه «1» و الطبراني في المعجم الكبير «2».
أخرج ابن حبّان: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «ما بال رجال يؤذونني في أهل بيتي، و الذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتّى يحبّني، و لا يحبّني حتّى يحبّ ذرّيتي» «3».
و عند ما اشتدّت قطيعة قريش لقرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خاصة و للمسلمين في بداية الرسالة- فقد كانوا يعبسون في وجوه آل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله، و يقطعون الحديث عند رؤيتهم- غضب لذلك الرسول صلّى اللّه عليه و آله غضبا شديدا، ففي الأثر: «ما بال أقوام يتحدّثون، فإذا رأوا الرجل من أهل بيتي قطعوا حديثهم، و اللّه لا يدخل قلب رجل الإيمان حتّى يحبّهم لقرابتهم منّي» «4».
لهذا نجد المحبّين يتسابقون في إظهار الحبّ الصادق لآل البيت، و للّه درّ الإمام محيي الدين بن عربي قال:
______________________________
من المصادر لا على سبيل الحصر: الأمالي للطوسي 1: 18، الأمالي للمفيد البغدادي: 245، بصائر الدرجات: 78 و 80، تفسير جوامع الجامع 2: 282 عند تفسير الآية الشريفة: 24 من سورة إبراهيم المباركة، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني 1: 406 و ما بعده، تاريخ دمشق لابن عساكر 4: 318، كنوز الحقائق للمناوي: 155، المقتل للخوارزمي: 108، كفاية الطالب: 425، نزهة المجالس 2: 222، الرياض النضرة 2: 253، الإصابة: 306، لسان الميزان 4: 434، المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 160، عنه في كنز العمال 11: 608 حديث (32944)، السيدة فاطمة الزهراء لمحمد بيومي: 102 و 166 و غيرها.
(1). صحيح ابن حبّان 6: 285 رقم (6987) بسنده عن علي بن أبي طالب عليه السّلام.
(2). لم نعثر
عليه في المعجم الكبير المطبوع، و لكن الحديث بعينه أورده المتقي الهندي في كنز العمال 12:
56 رقم (24157) عنه، و أيضا عن ابن عدي في الكامل 6: 302. و أخرجه أيضا المناوي في الفيض 1:
148 و في الكنوز أيضا: 5.
(3). صحيح ابن حبّان 6: 280- 281 رقم (6972). و أخرجه أيضا الشبلنجي في نور الأبصار: 126.
(4). أخرجه ابن ماجة في سننه 1: 50 حديث 140 عن العباس بن عبد المطلب، و قال: في الزوائد: رجال اسناده ثقات. و أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 75 و ذكر حديثا آخر عن العباس عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «و الذي نفس محمد بيده، لا يدخل قلب رجل الإيمان حتّى يحبّكم للّه و لرسوله». و أورده المتقي الهندي في الكنز 12: 102 رقم (34193) و عزاه إلى ابن ماجة و الروياني و الطبراني و ابن عساكر.
أهل البيت في مصر ،ص:37 رأيت ولائي آل طه فريضةعلى رغم أنّ البعد يورثني القربا
فما طلب المبعوث أجرا على الهدى بتبليغه إلّا المودّة في القربى كما قال كذلك برواية ثانية:
أرى حبّ آل البيت عندي فريضةعلى رغم أهل البعد يورثني القربا
فما اختار خير الخلق منّا جزاءه على هديه إلّا المودّة في القربى «1» و في الحديث الشريف: «لا يبغضنا أهل البيت أحد إلّا أدخله اللّه النار».
رواه الحاكم على شرط الشيخين «2».
و عند ما حذّر الإمام علي كرّم اللّه وجهه معاوية بن أبي سفيان قال له: إيّاك و بغضنا، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا يبغضنا و لا يحسدنا أحد إلّا ذيد عن الحوض يوم القيامة بسياط من نار» رواه الطبراني في الأوسط «3».
لذلك التزم السلف الصالح بما أمروا به من حبّ
آل البيت و إكرامهم و توقيرهم، فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يقول لعبد اللّه بن الحسن بن علي- رضي اللّه عنهم جميعا- و قد جاءه في حاجة: إن كانت لك حاجة فأرسل أو اكتب بها إليّ،
______________________________
(1). ذكرهما ابن حجر في الصواعق المحرقة 1: 110.
(2). المستدرك على الصحيحين 4: 352 (المؤلّف).
و أخرج الحديث أيضا ابن حجر في الصواعق: 143 و قال: إنّه صحيح. و السيوطي في الدرّ المنثور 6: 7 و عزاه إلى أحمد بن حنبل و ابن حبّان و الحاكم كلّهم عن أبي سعيد الخدرى. و أخرجه جمع في كتب المناقب، مثل: ابن المغازلي: 138، و السيوطي في الخصائص 2: 266، و القندوزي في الينابيع: 48، و الأمر تسري في أرجح المطالب: 334 و غيرهم.
(3). المعجم الكبير للطبراني 3: 82 رقم (2726). (المؤلّف).
نعم، و قد أخرجه في المعجم الأوسط أيضا 3: 203- 204 رقم (2426) بسنده إلى معاوية بن حديج عن الحسن بن علي عليهما السّلام.
أهل البيت في مصر ،ص:38
فإنّي أستحي من اللّه أن يراك على بابي «1».
أمّا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقد قال للإمام الحسين رضي اللّه عنهما حين علم أنّه كان قادما إليه، فلمّا قابله عبد اللّه بن عمر في الطريق قال له: إنّ أبي مشغول ببعض الأمور، فرجع، فلمّا علم عمر بذلك نهر ابنه، و دعا الحسين و اعتذر له، و قال له: حتّى و إن كنت أنا مشغولا فلا أنشغل عنك، فأنت ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قضى له حاجته بعد أن اعتذر له عمّا بدر من ابنه عبد اللّه «2».
و ما أروع ما قال الفرزدق في مدح آل البيت في شخص الإمام زين
العابدين ابن الحسين رضي اللّه عنهم جميعا، مبيّنا فضلهم:
من معشر حبّهم فرض و بغضهم كفر و قربهم منجى و معتصم
يستدفع السوء و البلوى بحبّهم و يستزاد به الإحسان و النعم
مقدّم بعد ذكر اللّه ذكرهم في كلّ بدء و مختوم به الكلم
إن عدّ أهل التقى كانوا أئمّتهم أو قيل: من خير أهل الأرض؟ قيل: هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم و لا يدانيهم قوم و إن كرموا «3» و في الأثر: «أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة: المكرم لذرّيتي، و القاضي حوائجهم، و الساعي لهم في أمورهم عند ما اضطرّوا إليه، و المحبّ له بقلبه و لسانه» «4».
______________________________
(1). أورد الأثر ابن عساكر في تاريخ دمشق 27: 366 بسنده عن ضمرة و ذكر أيضا: أنّه كان يستعين به على سليمان في حوائجه، فقال له عمر: إن رأيت أن لا تقف ببابي إلّا في الساعة التي ترى أنّه يؤذن لك فيها عليّ، فإنّي أكره أن تقف ببابي فلا يؤذن لك عليّ.
(2). رواه ابن حجر في التهذيب 2: 300 ضمن ترجمة الحسين بن علي عليهما السّلام برقم (615) و أضاف: «فقال:
أنت أحقّ بالإذن من ابن عمر، و إنّما أنبت ما ترى في رءوسنا اللّه ثم أنتم».
(3). ديوان الفرزدق 2: 355.
(4). أورد هذا الأثر المحبّ الطبري في ذخائر العقبى: 18، و ابن حجر في الصواعق: 237، و الزبيدي في إتحاف السادة المتّقين 8: 73، كلّهم عن علي عليه السّلام. و أخرج الأثر الخوارزمي في المقتل 2: 25 و لكن بلفظ:
«أنا لهم شفيع يوم القيامة و لو أتوا بذنوب أهل الأرض: الضارب بسيفه أمام ذرّيتي، و القاضي لهم ... الخ».
أهل البيت في مصر ،ص:39
فواجب المسلم أن يملأ قلبه بحبّ من وصّى بحبّهم المصطفى صلّى اللّه عليه و
آله، فبحبّهم ينال الخير الكثير في الدنيا و الآخرة، و ما أجمل ما قال المحبّ:
فيا ربّ زدني من يقيني بصيرةو زد حبّهم يا ربّ في حسناتي «1» و رحم اللّه الشاعر الملهم، شاعر الأولياء، شيخنا الشيخ علي عقل إذ يقول في دفع ملامة الذين يلومونه في شدّة تعلّقه بآل البيت:
و مهما ألام على حبّهم فلست الفتى خائف اللائمه
فروحي على بابهم ترتمي و نفسي بأعتابهم خادمه
إذا مسّ نفسي فتور المعاصي بذكرهمو أصبحت هائمه
فيا عاذلي ثمّ يا عاذري سواء رضاك أو اللائمه
فقل ما تشاء و كن ما تشافإنّي أحبّ بني فاطمه
لمّا نزلت الآية الكريمة في سورة الشورى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى سأل ابن عباس رضي اللّه عنهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: يا رسول اللّه، من قرابتك الذين نزلت فيهم الآية؟ قال:
«علي و فاطمة و الحسن و الحسين» «2».
كذلك جاء: أنّ ذوي قربى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّ من ينسب إلى جدّه الأقرب
______________________________
(1). ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 16، و البيت من قصيدة طويلة لدعبل بن علي الخزاعي، يذكر فيها ما أصاب آل محمد صلّى اللّه عليه و آله من رزايا، انظر ديوانه: 63.
(2). ذكر الخبر الطبراني في المعجم الكبير 3: 47 رقم (2641)، و العلّامة القندوزي في ينابيع المودّة 1: 105 و عزاه إلى أحمد و ابن أبي حاتم و الحاكم في المناقب و الواحدي في الوسيط و أبي نعيم في الحلية و غيرهم.
و ذكره من المفسّرين ابن كثير في تفسيره 4: 169- 170، و القرطبي في أحكام القرآن 16: 22، و الزمخشري في الكشاف 4: 219- 220، و علي بن إبراهيم القمي في تفسيره 1:
275، و الثعلبي في الكشف و البيان 8:
310، كلّهم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ذيل آية: 23 من سورة الشورى المباركة.
أهل البيت في مصر ،ص:40
عبد المطلب «1»، و قيل: قريش كلّها «2»، و قيل: كلّ مسلم محبّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «3».
و إنّما المعنى الخاصّ لذوي القربى يقصد به عليا و فاطمة و الحسن و الحسين كما جاء في إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى و فضائل أهل بيته الطاهرين، للصبّان «4».
روى أنّه لمّا نزل قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33]، لفّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كساء على عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين، و قال:
«اللّهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا» «5».
و في رواية قال: «اللّهم هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك و بركاتك على آل محمد كما جعلتها على إبراهيم، إنّك حميد مجيد» «6».
______________________________
(1). ذهب إليه البعض لرواية مسلم عن زيد بن أرقم، قال له الحصين بن سبرة: و من أهل بيته؟ أ ليس نساؤه أهل بيته؟ قال: أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: و من هم؟ قال: هم آل علي و آل عقيل و آل جعفر و آل عباس، قال: كلّ هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم. (صحيح مسلم 4: 1873 رقم (2408) كتاب فضائل الصحابة).
(2). قاله الزجاج في معاني القرآن 3: 176 قال في ذيل الآية إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى: «الخطاب لقريش خاصة، قاله ابن عباس و أبو مالك و الشعبي».
(3). ذهب إليه بعض المفسّرين؛ كالقرطبي في أحكام القرآن 16: 22 حيث قال: الآية منسوخة، و انّما نزلت بمكة، و كان المشركون
يؤذون النبي صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت الآية و أمرهم اللّه بمودّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و صلة رحمه، فلمّا هاجر آوته الأنصار و نصروه، و أراد اللّه أن يلحقه بإخوانه من الأنبياء حيث قال: وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، و عزاه إلى الضحاك و الحسين بن الفضل.
(4). إسعاف الراغبين المطبوع بهامش نور الأبصار: 225.
(5). أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 13: 204 ترجمة الحسن بن علي عليهما السّلام و الطبراني في المعجم الكبير 3: 53 رقم (2666) و: 54 رقم (2668) و: 55 رقم (2669) و الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل 2: 64 رقم (686) و ما بعده، و ابن المغازلي الشافعي في المناقب: 305، و الشبلنجي في نور الأبصار: 225، و الذهبي في سير أعلام النبلاء 3: 385.
(6). و أخرجه بهذا اللفظ ابن عساكر في تاريخ دمشق 13: 203 ترجمة الحسن بن علي عليهما السّلام و الطبراني في المعجم الكبير 3: 53 رقم (2664) و (2665)، و الشبلنجي في نور الأبصار: 225، و الكنجي الشافعي في كفاية الطالب: 372.
أهل البيت في مصر ،ص:41
و جاء كذلك أنّ آل البيت هم زوجاته صلّى اللّه عليه و آله؛ أخذا من سياق الآيات القرآنية في سورة الأحزاب، فالحديث القرآني موجّه إلى نسائه صلّى اللّه عليه و آله ثم أتبعه اللّه تعالى بهذه الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] و هو ما ذهب إليه الزمخشري في تفسيره «1» و «2».
و لقد أصبح الإقرار بفضل آل البيت و الشعور بفضلهم سمة من سمات المسلمين، و لدى المصريّين خاصّة، و يستدلّ عليه
بانعطاف قلوب المصريّين نحوهم، و زيارتهم لهم في أضرحتهم، و المزاحمة للوقوف عند قبورهم، و إهداء آيات الدعاء و قراءة القرآن على أرواحهم، و التعبير عن حبّهم لنبيّهم و عترته الطاهرة. و كذلك انجذاب الأرواح إلى مشاهدهم، و الصلاة في المساجد المنسوبة إليهم في صلاة الفجر و العشاء، و خاصّة في شهر الروحانيات شهر رمضان.
لأنّ واجب العرفان و الوفاء يقتضي إسناد الفضل لأصحابه، أهل البيت الذين طهّرهم اللّه تطهيرا، فهم أهل التقوى، و أهل العلم و الحكمة، و هم نوّاب المصطفى صلّى اللّه عليه و آله في نشر فضائله و أخلاقه، فحبّ الناس لأهل البيت يعدّ امتدادا لحبّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و التأسّي به و حبّ من أحبّه.
و ممّا يؤيّد أنّ أهل البيت هم علي و فاطمة و ابناهما خاصّة، ما رواه أنس بن مالك: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقف عند بيت السيدة فاطمة ابنته و هو خارج لصلاة الفجر، و يقول:
______________________________
(1). تفسير الكشاف 3: 538.
(2). يذكر أنّ عكرمة و مقاتل بن سليمان ينفردان من بين المفسّرين جميعا بتخصيص الآية بنساء النبي صلّى اللّه عليه و آله، و يرويان عبر التمسك بالسياق العام: أنّ المراد بالبيت هنا بيت النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و مساكن زوجاته. بل أنّه يروى عن عكرمة أنّه كان ينادي بالأسواق و الطرقات بهذا. و من يتتبّع كتب جرح الرجال و تراجمهم يرى ما يكفيه عن هذين الرجلين أن يدير الصفح عنهما، فضلا عن استماع أقوالهما، فقد اتّهما بالاضطراب و الوضع و التدليس، بل قد عرفا بالكذب عند المحدّثين، و بالتجسيم أيضا. راجع في أحوالهما: تهذيب التهذيب 7: 267 و 10:
281، و تقريب التهذيب 2: 272، التاريخ الكبير للبخاري 8: 14، وفيات الأعيان 4: 342، الكاشف للذهبي 2: 276.
أهل البيت في مصر ،ص:42
«الصلاة أهل البيت إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «1».
كما كان يقول: «السلام عليكم أهل البيت و رحمة اللّه و بركاته، الصلاة يرحمكم اللّه» «2».
و معلوم أنّ المودّة تكون من أثر المحبّة، بل هي الثبات على المحبّة، و معلوم كذلك أنّه لا دين لمن لا محبّة له، و أنّ محبّة آل البيت نابعة من محبّته صلّى اللّه عليه و آله، و محبّة النبي صلّى اللّه عليه و آله نابعة من محبّة اللّه تعالى. و من هنا، فإنّ محبّة آل البيت أصبحت واجبة على كلّ مسلم؛ لأنّها أجر لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله على هديه المسلمين إلى نور الإيمان في الدنيا، كما أنّها وفاء له بعد انتقاله.
و قد أشار المحبّ إلى هذا المعنى، فقال:
إنّ النبي هو النور الذي كشفت به عمايات باقينا و ماضينا
و رهطه عصمة في ديننا و لهم فضل علينا و حقّ واجب فينا و هناك فريق آخر يرى أنّ أهل البيت هم ذرّية النبي صلّى اللّه عليه و آله؛ تمييزا لهم عن باقي المهاجرين و الأنصار «3»، كما يرى غيرهم: أنّ اللفظ يتّسع ليشمل الأمة الإسلامية،
______________________________
(1). أخرجه عن أنس الإمام أحمد في المسند 1: 331 قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يمرّ بباب فاطمة ستّة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر ...». و الترمذي في سننه 5: 352 رقم (3206) و قال: و في الباب عن أبي الحمراء و معقل بن يسار و أمّ سلمة. و السيوطي في الدر المنثور 6: 606 ذيل
تفسير الآية (33) من سورة الأحزاب المباركة و عزاه إلى ابن جرير و ابن مردويه، و في ص 605 عزاه إلى ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و حسّنه و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني و الحاكم و ابن مردويه.
(2). رواه بهذا اللفظ ابن مردويه عن ابن عباس، قال: «شهدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تسعة أشهر، يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول ...» الدر المنثور 6: 606.
(3). و هو ما يتمسّك به الفريق الأعظم و الأكبر من المفسّرين، لرواية أبي سعيد الخدري و أم سلمة و عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه و واثلة بن الأسقع و عائشة أخرجه جمع غفير من المحدّثين و أعلام الفقهاء كأحمد بن حنبل في المسند 4: 107 و 6: 296 و 304، و الطبراني في المعجم الكبير 3: 48 ضمن ترجمة الإمام الحسن بن علي عليهما السّلام، و محبّ الدين الطبري في الذخائر: 21- 24، و ابن المغازلي في المناقب:
305 ناهيك عن أرباب التفسير كالطبري و ابن كثير و السيوطي في الدرّ المنثور و الحبري عند تفسير الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً الأحزاب: 33.
أهل البيت في مصر ،ص:43
و لقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6].
و يرى الأستاذ حسن الملطاوي: أنّ آل البيت هم المنسوبون إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله من أولاد فاطمة و علي رضي اللّه عنهما، و قال: «إنّ الفقهاء ذكروا أنّه من خصائصه صلّى اللّه عليه و آله أنّه ينسب إليه أبناء بناته، فأولاد فاطمة رضي اللّه عنها ينسبون
إليه، و أولاد الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما ينسبون إليه صلّى اللّه عليه و آله، بينما أولاد أختيهما زينب و أم كلثوم ينسبون إلى أبيهم عبد اللّه بن جعفر و عمر بن الخطاب، زوجيهما، و إنّما خرج أولاد فاطمة وحدها؛ للخصوصية التي ورد الحديث بها، و هو مقصور على ذرّية الحسن و الحسين عليهما السّلام؛ لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «لكلّ بني آدم عصبة، إلّا ابني فاطمة، أنا وليّهما و أنا عصبتهما» «1» ...».
أمّا لفظ «الشريف» الذي اختصّ به أهل البيت و سلالتهم الطاهرة فيطلق على كلّ من كان من أهل البيت، سواء كان حسنيّا أو حسينيّا أو علويّا، من ذرّية محمد بن الحنفية- و هو ابن الإمام علي من زوجته الحنفية- أو غيره من أولاد علي، أو جعفريّا أو عقيليّا أو عباسيّا، فيقال: الشريف العقيلي، و الشريف العباسي، و الشريف الجعفري، و الشريف الزينبي «2». و لما تولّى الفاطميون الخلافة في مصر قصروا لفظ الشريف على ذرّية الحسن و الحسين.
و من هنا، فإنّ اختصاص الحسن و الحسين و ذرّيتهما بال «آل» خصوصية و إيثار؛ لأنّ أباهم الإمام عليّا كان الابن و الأخ للرسول صلّى اللّه عليه و آله فقد قال صلّى اللّه عليه و آله: «أنت منّي بمنزلة
______________________________
(1). أخرج الحديث الطبراني في المعجم 3: 44 رقم (2631) و (2632) بلفظ: «كلّ بني أنثى ...» و «كلّ بني أمّ ...»، و الحاكم في المستدرك 3: 164 بهذا اللفظ. و ابن حجر في الصواعق: 236.
(2). يقول الحافظ ابن حجر في الألقاب: «الشريف ببغداد لقب لكلّ عباسي، و بمصر لكلّ علوي. و لا شك أنّ المصطلح القديم أولى، و هو إطلاقه على كلّ علوي و
جعفري و عقيلي و عباسي، كما صنعه الذهبي، و كما أشار إليه الماوردي من أصحابنا، و القاضي أبو يعلى من الحنابلة ...» (نزهة الألباب في الألقاب 1: 399 رقم 1669).
أهل البيت في مصر ،ص:44
هارون من موسى، غير أنّه لا نبي بعدي» «1». أمّا أمّهما، فهي ابنته صلّى اللّه عليه و آله، و ريحانته، و بضعة منه صلّى اللّه عليه و آله، و رضي اللّه عنهم جميعا، و أكرمنا بمحبّتهم.
قال النبي صلّى اللّه عليه و آله للعباس عمّه لمّا شكا إليه نفرا من قريش، قال: «و الذي نفسي بيده، لا يدخل قلب رجل الإيمان حتّى يحبّكم للّه و لرسوله» «2».
______________________________
(1). صحيح الترمذي (3758).
أقول: أخرجه الترمذي مسندا إلى جابر بن عبد اللّه (5: 640- 641 رقم 3730) و قال: و في الباب عن سعد و زيد بن أرقم و أبي هريرة و أم سلمة. و بسند آخر عن سعيد بن المسيّب عن سعد بن أبي وقّاص، و قال: هذا حديث حسن صحيح (3731). و أخرجه الطبراني 1: 146 رقم (328) بسنده عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه إلى قوله: «من موسى».
و يذكر أنّ حديث المنزلة من أثبت الآثار، و قد صرّح بتواتره أعلام الحديث، كالحاكم: «هذا حديث دخل حدّ التواتر» (كفاية الطالب: 283 ب 70)، و السيوطي في الأزهار المتناثرة: 76 رقم 103، و نظم المتناثر: 206 رقم 233، و إتحاف ذوي الفضائل: 169 رقم 217. و قال ابن الجوزي و الخطيب التبريزي:
«أخرجاه في الصحيحين و اتّفقا عليه» (تذكرة الخواص: 27 ب 2، مشكاة المصابيح: 17193 رقم 6078 مناقب علي عليه السّلام) و قد أخرجه البخاري في صحيحه 3: 1359 رقم 3503 كتاب فضائل
أصحاب النبي باب مناقب علي رقم 9، و 4: 1602 رقم 4154 كتاب المغازي، غزوة تبوك، كما أخرجه مسلم في فضائله رقم (6167) كتاب فضائل الصحابة باب فضائل علي عن سعد. و قال ابن عبد البرّ و التلمساني: «هو من أثبت الآثار و أصحّها» (الاستيعاب 3: 340 بداية ترجمة علي عليه السّلام، الجوهرة في نسب الإمام علي: 14).
و ممّا يجدر ذكره أنّ الإمام أحمد قد أخرجه من طرق كلّها صحيحة، في فضائل الصحابة، مناقب علي: 2/ 567 و 569 و 592 و 633 و 956 و 960 و 1005 و 1006 و 1079 عن سعد و 598 و 642 و 1091 عن أسماء.
(2). صحيح البخاري (3714- 3767).
أقول: لم أعثر عليه في صحيح البخاري المطبوع في دار ابن كثير و دار اليمامة للنشر، لكن الحديث أورده المتقي الهندي في الكنز 11: 700 رقم (33395) و عزاه إلى أحمد و الترمذي و الحاكم عن عبد المطلب بن ربيعة، و عن الحاكم أيضا عن العباس. و قد أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، باب مناقب العباس بن عبد المطلب رقم (3758) و قال: هذا حديث حسن صحيح، و الشجري في الأمالي 1: 157.
أهل البيت في مصر ،ص:45
و لذلك، قال أبو بكر رضي اللّه عنه صلة قرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحبّ إليّ من صلة قرابتي «1».
و لذلك أنشأ الإمام الشافعي هذه الأبيات في وجوب حبّ آل البيت:
يا آل بيت رسول اللّه حبّكموفرض من اللّه في القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم الفخر أنّكمومن لم يصلّ عليكم لا صلاة له «2» يشير إلى أنّه لا تقبل صلاة من لم يصلّ على آل البيت في التشهّد.
و كما قال المحبّ:
أحبّ النبي
المصطفى و ابن عمه عليا و سبطيه و فاطمة الزهرا
همو أهل بيت أذهب الرجس عنهم و إنّي أرى البغضاء في حقّهم كفرا
عليهم سلام اللّه ما دام ذكرهم لدى الملأ الأعلى و أكرم بهم ذكرا «3» و كذلك قال الإمام الشافعي:
يا راكبا قف بالمحصب من منى و اهتف بساكن خيفها و الناهض
______________________________
(1). أخرج الأثر البخاري 3: 1361 رقم (3508) عن عروة بن الزبير عن عائشة، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (12).
(2). بيتان من البسيط، يؤكّد فيهما الإمام على أنّ حبّ أهل البيت فرض، و هو العالم الحبير. ورد البيتان في ديوانه: 115 رقم (118).
(3). الأبيات أوردها المحبّ في الرياض 2: 110 في مناقب علي عليه السّلام، و الشبلنجي في نور الأبصار: 232- 233، و نسبوها إلى أبي الحسن بن جبير.
و يظهر هنا أنّ الأبيات قد حدث فيها خلط، حيث أنّ عجز البيت الثاني كما يلي
................ ..و أطلعهم أفق الهدى أنجما زهرا
مولاتهم فرض على كلّ مسلم و حبّهمو أسنى الذخائر للأخرى
و ما أنا للصحب الكرام بمبغض فانّي أرى البغضاء في حقّهم كفرا
أهل البيت في مصر ،ص:46 سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى فيضا كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضا حبّ آل محمدفليشهد الثقلان أنّي رافضي «1» و قال المحبّ كذلك:
هم القوم من أصفاهم الودّ مخلصاتمسّك في أخراه بالسبب الأقوى
هم القوم فاقوا العالمين مناقبامحاسنهم تحكى و آياتهم تروى
موالاتهم فرض و حبّهمو هدى و طاعتهم ودّ و ودهمو تقوى «2» و قال الفخر الرازي: «إنّ أهل بيته صلّى اللّه عليه و آله ساووه في هذه الأشياء:
في الصلاة عليه و عليهم في التشهد، فيلزم أن قال: اللّهم صلّ على محمد و على آل محمد.
و في الطهارة، قال تعالى: وَ
يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33].
و في المحبّة، و في قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] ...» «3».
______________________________
(1). الأبيات من الكامل، أنشأها الإمام لمّا نسبت إليه الخوارج الرفض؛ حسدا و بغيا. وردت الأبيات في ديوانه: 93 رقم (84). و وردت أيضا في مناقب الشافعي 2: 71، و في الوافي بالوفيات 2: 178 أنّ الربيع بن سليمان قال: خرجنا مع الشافعي من مكة نريد منى، فلم ننزل واديا و لم نصعد شعبا إلّا و سمعته يقول الأبيات تلك.
(2). الأبيات يرويها الشبلنجي في نور الأبصار: 233، و ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة: 29 عن بعضهم في مدح أهل البيت عليهم السّلام.
(3). التفسير الكبير 27: 166 ذيل تفسير آية القربى: 23 من سورة الشورى.
أهل البيت في مصر ،ص:47
و ما أفضل ما قال المحبّ:
يا بني الزهراء و النور الذي ظنّ موسى أنّه نور قبس
لا أوالي قطّ من عاداكم إنّهم آخر سطر في عبس «1» و نقول متمثّلين قول المحبّ:
صلوا حبل ودّي بالنبي و آله تمسّكت بالمختار جزئي و أجمعي
من هذه الخصائص: تحريم الصدقة عليهم، و تعويضهم الخمس من الفي ء و الغنيمة، و كذلك إطلاق لقب الأشراف عليهم، و يطلق اللقب على سائر أهل البيت، و خاصّة على ذرّية الحسن و الحسين و السيدة زينب «2».
و من خصائصهم كذلك: وجوب إكرامهم و توقيرهم، لأجل قرابتهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقد كان هذا حال الصالحين معهم.
______________________________
(1). تحفة الأحباب للسخاوي: 112- 113 يرويها ضمن زيارة مخصوصة ينقلها عن بعض السلف. و يشير إلى قوله تعالى في آخر آي عبس: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ.
(2). و هل يشاركون أولاد الحسن و الحسين عليهما السّلام في
أنّهم ينسبون إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله؟ لقد ذكر جمهور الفقهاء أنّ من خصائصه صلّى اللّه عليه و آله أنّه ينسب إليه أولاد بناته، و لم يذكروا مثل ذلك في أولاد بنات بناته، فالخصوصية للطبقة العليا فقط، و هم أولاد فاطمة عليها السّلام ينسبون إليه، و أولاد الحسن و الحسين عليهما السّلام ينسبون إليهما فينسبون إليه صلّى اللّه عليه و آله أمّا أولاد زينب و أم كلثوم فإنّهم ينسبون إلى أبيهم، لا إلى الأم، و لا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فجرى فيهم الأمر على قاعدة الشرع في أنّ الولد يتبع أباه في النسب، لا أمه، و انّما خرج أولاد عليها السّلام للخصوصية التي وردت عنه صلّى اللّه عليه و آله، و هي مقصورة على ذرّية الحسن و الحسين عليهما السّلام. فقد أخرج الحاكم بسنده عن جابر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «لكلّ بني أمّ عصبة، إلّا ابني فاطمة، أنا وليّهما و عصبتهما».
و لهذا جرى السلف و الخلف على أنّ ابن الشريفة لا يكون شريفا.
أهل البيت في مصر ،ص:48
و منها: أنّ محبّتهم تطيل العمر، و تحصل بها البركة، و تبيّض الوجه يوم القيامة و عكس ذلك كرههم.
و على خلاف ذلك، فبغضهم يورث الشقاوة، و يعرض المبغض لهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مسودّ الوجه يوم القيامة، و ما أحسن ما عرض هذا المعنى المحبّ:
فيا من يواليهم و يحفظ ودّهم و يكرم مثواهم هنيئا لك البشرى
فلا بد يوم العرض تسمع قائلاتفضّل تفضّل فادخل الجنة الخضرا
و يا من يعاديهم لفرط شقائه تمهّل قليلا أنت في سقر الحمرا و منها: أنّ أولاد فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه
و آله يسمّون أبناءه صلّى اللّه عليه و آله.
و هذه الخصوصية لأولاد فاطمة ابنته رضي اللّه عنها دون بقية أولاد بناته، و أبناء فاطمة هم: الحسن و الحسين و المحسن و زينب و أم كلثوم، فهم الذين لهم هذه الخصوصية، و ما تبع هذا من ذرّيتها من الأبناء الذكور؛ لأنّ أبناء الإناث ينسبون الى آبائهم.
و منها: أنّ مهدي آخر الزمان من ذرّية أهل البيت.
و ممّا يبيّن مكانة أهل البيت، و خاصّة الحسن و الحسين هذه المحاورة التي تمّت بين الحجّاج و الشعبي حول بنوّة الحسنين و نسبتهما إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و كان الشعبي يحبّ آل البيت، و يقول عنهم: إنّهم أبناء النبي صلّى اللّه عليه و آله و ذرّيته.
فذات يوم استدعاه الحجّاج إلى مجلسه، و حضر المجلس علماء الكوفة و البصرة، و لمّا دخل الشعبي لم يحسن الحجّاج استقباله، و لمّا جلس سأله الحجّاج:
يا شعبي، أمر بلغني عنك يشهد عليك بجهلك!
أهل البيت في مصر ،ص:49
فقال الشعبي: ما هو أيّها الأمير؟
قال الحجّاج: أ لم تعلم أنّ أبناء الرجل إنّما ينسبون إليه؟ و الأنساب لا تكون إلّا بالآباء؟ فما بالك تقول عن أبناء فاطمة الزهراء بنت النبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّهم أبناء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذرّيته، مع أنّ أباهم علي، و ليس لهم اتّصال بالنبي صلّى اللّه عليه و آله إلّا من جهة أمّهم فاطمة؟!
فردّ عليه الشعبي ردّ الواثق: أيّها الأمير، ما أراك تتكلّم إلّا بكلام من يجهل كلام اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله.
فقال الحجّاج و قد اشتدّ غضبه: ويلك! كيف تقول لي هذا؟!
فقال الشعبي: هؤلاء هم العلماء و القرّاء و حملة
كتاب اللّه، أ ليس اللّه تعالى يقول:
يا بَنِي آدَمَ، يا بَنِي إِسْرائِيلَ، و أ لم يقل سبحانه و تعالى عن سيّدنا إبراهيم عليه السّلام: و من ذرّيته عيسى، فهل كان اتّصال عيسى عليه السّلام بسيّدنا إبراهيم عليه السّلام إلّا من جهة الأم فقط؟ كما صحّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال عن الحسين رضي اللّه عنه: «هذا ابني سيّد شباب أهل الجنّة».
عندئذ خجل الحجّاج، و أخذ يتلطّف مع الشعبي بعد أن أفحمه الشعبي بالحجّة من الكتاب و السنّة «1».
لكي ندفع شبهات المنكرين للزيارة نستند الى أدلّة منسوبة للأئمة الكبار ...
فجميعهم متّفق على زيارة المصطفى صلّى اللّه عليه و آله في القبر الشريف، و أنّها أعظم قربة لمن له سعة، و أنّها مستحبّة و واجبة كذلك. و يدلّ على زيارة قبور أهل البيت: القياس، أي
______________________________
(1). حكى المحاورة محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السئول في مناقب آل الرسول 1: 24- 25.
أهل البيت في مصر ،ص:50
قياس الأولى، و هو قبر المصطفى صلّى اللّه عليه و آله «1».
و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يزور أصحابه في البقيع و في أحد- رضي اللّه عنهم جميعا- و من بعده صلّى اللّه عليه و آله كان الصحابة الكرام يواظبون على هذه الزيارة، و لو كانوا يأتون إلى هذه الأماكن من بلاد بعيدة. و من بعد الصحابة إلى اليوم يواظب المقتدون به صلّى اللّه عليه و آله على هذه الزيارة كسنّة متوارثة جيلا بعد جيل.
غير أنّ هناك من يعترضون على زيارة مشاهد آل البيت، لزعمهم أنّ الحديث الشريف ينصّ على عدم شدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد فقط: المسجد الحرام، و المسجد النبوي،
و المسجد الأقصى. بينما جاء في تفسير الحديث الشريف «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد» «2»: أنّ جميع المساجد متساوية في فضل الصلاة فيها
______________________________
(1). أفتى فقهاء الإسلام بجواز زيارة القبور، و خاصّة قبور الأنبياء و الأولياء الصالحين، استنادا إلى مجموعة من الأدلّة الشرعية من الكتاب و السنّة و الإجماع و القياس و العقل، بل قد أفتى أئمة المذاهب كلّها باستحبابها و أفضليتها. يقول ابن هبيرة 560 ه في كتابه «اتّفاق الائمة»: اتّفق مالك و الشافعي و أبو حنيفة و أحمد رضي اللّه عنهم على أنّ زيارة قبر النبي مستحبّة (عند كتاب المدخل لابن الحاج 1: 256).
و قد ألّف تقي الدين السبكي الشافعي 756 ه كتابا حافلا في خصوص زيارة النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و باقي الأولياء الصالحين أسماه «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» ردّا على ابن تيمية، و ذكر كثيرا من أحاديث الباب، ثم عقد بابا في نصوص العلماء من المذاهب الأربعة على استحبابها، ثم قال: «إنّ ذلك مجمع عليه بين المسلمين» و قال: «لا حاجة إلى تتبّع كلام الأصحاب في ذلك مع العلم باجماعهم و إجماع سائر العلماء عليه، و الحنفية قالوا: إنّ زيارة قبر النبي صلّى اللّه عليه و آله من أفضل المندوبات و المستحبات، بل يقرب من درجة الواجبات» (راجع ص 48).
و يقول السيد نور الدين السمهودي 911 ه في كتابه الموسوم «وفاء الوفاء 2: 412» بعد ذكر أحاديث الباب: «و أمّا الاجماع، فأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي، بل قال بعض الظاهرية بوجوبها ... و أضاف الدمنهوري الكبير- و هو من كبار المتأخرين- إلى ذلك: قبور الأولياء و الصالحين و الشهداء» و
به قال الحافظ أبو العباس القسطاني المصري 923 ه في كتابه «المواهب اللدنية» في الفصل الثاني منه، و كذا الشربيني محمد الخطيب 977 ه في كتابه «مغني المحتاج 1: 357».
(2). أخرج الرواية البخاري في صحيحه 1: 398 كتاب صفة الصلاة ب 14 من أبواب التطوّع حديث 1132 و ص 400 ب 19 ح 1139، و مسلم في صحيحه 2: 1014 كتاب الحج ب 95 ح 1397 كلاهما عن أبي هريرة، و الترمذي في سننه 2: 148 ب 242 من أبواب الصلاة ح 326 عن أبي سعيد الخدري.
أهل البيت في مصر ،ص:51
إلّا في هذه المساجد الثلاثة المذكورة يكون الثواب أكبر «1». و هذا لا يعني ألّا يسافر المرء إلى مسجد غير هذه الثلاثة المذكورة، و إلّا لما حرص المسلمون على الصلاة في مسجد قباء على سبيل المثال، و هم قد جاءوا إلى هذا من بلاد بعيدة، و كذلك يحرص الحجّاج و المعتمرون على زيارة مساجد المدينة و مكّة للصلاة فيها.
فالمعنى ينصرف إلى بيان أفضلية المساجد الثلاثة على غيرها، و لا ينفي السفر لزيارة غيرها و الصلاة فيها، و كلّ له درجته عند اللّه.
و حول الحديث الثاني، و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا تجعلوا قبري عيدا» من رواية أبي داود «2» فإنّ ما فهمه العلماء المنصفون هو: ألّا تجعلوا قبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله كالعيد بالعكوف عليه و إظهار الزينات عنده، و الاشتغال عنده باللهو و الطرب ممّا يجتمع له في الأعياد، أي: لا يؤتى القبر إلّا للدعاء و الزيارة. و هذا كلام ابن حجر رضي اللّه عنه، ثم أضاف: و كذلك يعلم من الحديث: ألّا تجعلوا للزيارة يوما مخصوصا مثلما للعيد
يوم مخصوص، فلا يزار القبر إلّا في هذا اليوم فقط «3».
كما يستفاد من الحديث: الزجر عن سوء الأدب عند القبور، و التزام الأدب الذي لا يتجاوز الدعاء و الاعتبار و التأسي بأعمال و سيرة الصالحين الذين تضمّهم هذه القبور.
و عن الحديث النبوي الشريف: «اشتدّ غضب اللّه على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» «4»، فقد جعل بعض المعترضين من هذه ذريعة لمنع الزيارة، و يزعمون أنّ سبب المنع لديهم المحافظة على التوحيد، و هذا الزعم باطل؛ لأنّ الممنوع هو اتّخاذ القبور مساجد يعكفون عليها، أمّا الزيارة و الدعاء عند القبور بقصد الموعظة
______________________________
(1). انظر شرح الكرماني على صحيح البخاري 7: 12.
(2). سنن أبي داود 2: 218 كتاب المناسك باب: زيارة القبور ح 2042. و أورده المتقي الهندي في الكنز 1:
498 ح 2199 و عزاه إلى الحكيم.
(3). الجوهر المنظم لابن حجر، ذكره السمهودي في وفاء الوفاء 2: 612.
(4). رواه ابن أبي شيبة في المصنّف 8: 325، و ابن عبد البرّ في التمهيد 5: 41 و 43 كلاهما عن أبي سعيد الخدري.
أهل البيت في مصر ،ص:52
و الاعتبار ممّا أوجبه الشرع الذي شرّع الزيارة و الدعاء.
بل كيف يكون الشرك و الزائر حين يدخل المسجد يصلّي للّه تحية المسجد أولا، فيعظّم ربّه، و يسجد له، و يشهد أنّه لا إله إلّا هو شهادة توحيد خالص؟!
و من هنا، فإذا كان الهجر لكلّ مسجد فيه قبر، لهجر المسجد النبوي الشريف و الصلاة فيه بعد إدخال القبر فيه في عهد عمارة عمر بن عبد العزيز له، و لما كانت الصلاة فيه بألف صلاة «1». و لقد قال صلّى اللّه عليه و آله: «ما بين قبري و منبري روضة من رياض الجنة» و الحديث برواية
البزّاز، و هو بسند صحيح «2».
و قد قال النووي: يسنّ الإكثار من زيارة القبور، و إكثار الوقوف عند قبور أهل الخير و الصلاح «3».
كما قال ابن الحاج في مدخله: ما زال العلماء كابرا عن كابر، مشرقا و مغربا، يتبرّكون بزيارة قبور الصالحين، فإنّ بركتهم جارية بعد موتهم، كما كانت في حياتهم «4».
و كذلك قال الإمام الغزالي رضي اللّه عنه- كما نقل عنه ابن الحاج في مدخله- إنّ السفر لأجل العبادة يدخل في جملة زيارة قبور الأنبياء و الصحابة و التابعين و سائر العلماء و الأولياء «5».
فما القول بعد هذا في زيارة أضرحة أهل البيت الذين دعانا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى مودّتهم و محبّتهم، و حدّث عن فضلهم؟! فمن اعتقد خلاف ذلك فهو المحروم.
و قد اهتم كثير من المسلمين بزيارة أضرحة آل البيت، كما اهتمّوا بزيارة
______________________________
(1). لرواية أبي هريرة عنه صلّى اللّه عليه و آله التي أخرجها مسلم في صحيحه 2: 1012 كتاب الحج ب 94 فضل الصلاة بمسجدي مكة و المدينة ح 1394 و ما بعده.
(2). مجمع الزوائد 4: 6 عن علي عليه السّلام و أبي هريرة برواية البزّاز، أمّا برواية ابن عبيد «ما بين بيتي و منبري ...» أخرجها البخاري في صحيحه 1: 399 ب 18 من أبواب التطوع ح 1137 و 1138 عن عبد اللّه بن زيد و أبي هريرة.
(3). حكاه عنه السيد نور الدين السمهودي في وفاء الوفاء 2: 413.
(4). المدخل 1: 261.
(5). المصدر السابق: 269.
أهل البيت في مصر ،ص:53
مشايخهم أينما كانوا، مستندين إلى كلام جاء في «نور الأبصار» للشبلنجي قال: فإنّ الأنوار التي على أضرحتهم شاهد صدق على وجودهم بهذه الأضرحة، و لا ينكر ذلك إلّا من
ختم اللّه على قلبه، و جعل على بصره غشاوة «1». كما قال: إنّ مثل هذه الأشياء تؤخذ بحسن النية، فإذا كان صاحب المزار غير موجود فيه فإنّ ثواب الزيارة يحصل، كما أنّ الزيارة تصل إليه في أيّ مكان أينما كان «2».
و كما قال العلّامة العقاد: إن لم تكن هذه الأماكن التي دفن فيها رأس الإمام الحسين- و سمّاها في أنحاء العالم الإسلامي كلّه- قال: فإنّها الأماكن التي تحيا بها ذكراه لا مراء ...
و أيّا كان الاختلاف في موضع الرأس الشريف، فهو في كلّ موضع أهل للتعظيم و التشريف «3».
و قال في كتابه «أبو الشهداء»: و إنّما أصبح الحسين بكرامة الشهداء و كرامة البطولة و كرامة الأسرة النبوية معنى يستحضره الرجل في قلبه، و هو قريب أو بعيد من قبره، و هذا المعنى في القاهرة، و في عسقلان، و في دمشق، و في الرقّة، و في كربلاء، و في المدينة، و في غير تلك الأماكن سواء «4».
و صدق المحبّ حيث قال:
لا تطلبوا المولى الحسين بأرض شرق أو بغرب و ذروا الجميع و يمموا نحوي فمشهده بقلبي و يضيف الصوفية قولهم: حكم باب البرزخ حكم التيار الذي نزل فيه إنسان، فيغطس ثم يطفو في موضع آخر، و تلك خاصيّة من خواصّ الأولياء الذين لهم ما يشاءون عند ربّهم.
______________________________
(1). نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار: 356.
(2). المصدر السابق: 357.
(3). أبو الشهداء الحسين بن علي: 262.
(4). المصدر السابق.
أهل البيت في مصر ،ص:55
بقلم عبد الحفيظ فرغلي أحمد أبو كف
أهل البيت في مصر ،ص:57
الشيخ عبد الحفيظ فرغلي
تعرّض أهل البيت بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله لمحنة شديدة، و كان لهذه المحنة جذور عميقة تمتدّ إلى أيام الجاهلية، و ظهرت أيام النبي صلّى اللّه عليه و آله، و اشتدّت بعد وفاته ...
و كانت هناك أحداث عاتية قد حدثت في أيام ثالث الخلفاء عثمان رضي اللّه عنه، انتهت بمصرعه على يد بعض الثوّار الذين حاصروا داره عدّة أيام، ثم قتلوه و هو يقرأ في مصحفه، و كان بين المدافعين عنه ابنا علي كرّم اللّه وجهه: الحسن و الحسين، و حين علم «علي» بمقتل الخليفة جاء إلى الدار حزينا والها، و ثار غاضبا في وجه ابنيه، و قال لهما: كيف قتل أمير المؤمنين و أنتما على الباب؟ و شتم محمد بن طلحة، و لعن «عبد اللّه بن الزبير».
و اجتمع الناس على «علي» يبايعونه، و لم يكن بالراغب في هذه البيعة، و قال للناس و قد اجتمعوا حوله و تكاثروا عليه: «لا حاجة لي في أمركم، فمن اخترتم رضيت به». و كأنّه رضي اللّه عنه كان يحسّ بما ستنتهي إليه الأمور، و بما يبيت نحوه من غدر، و تحت إلحاحهم الشديد قبل، و صعد المنبر و ألقى بيانه الذي يوضّح فيه طريقه للناس:
«ليس لي من دونكم إلّا مفاتيح مالكم معي، و ليس لي أن آخذ درهما دونكم ...».
______________________________
(1). مقتبس من مقدّمة كتاب «أهل البيت في مصر» ط. القاهرة.
أهل البيت في مصر ،ص:58
و لكن على الرغم من هذه الخطّة التي من شأنها أن تقوّم الأمور، إلّا أنّ التبييت كان أقوى من خطّته، و المكيدة أشدّ من أن تقف في طريقها
المبادئ و المثل، فظهرت فكرة الأخذ بثأر عثمان، و أحسن استغلالها استغلالا يرجّح كفّة الباطل على الحقّ ...
و اشتدّ الخلاف، و أريقت دماء، و انتهى الأمر بقتل الإمام علي كرّم اللّه وجهه، بيد مارق من الخوارج هو عبد الرحمن بن ملجم.
و هال مقتل «عليّ» الناس فالتفّوا حول ابنه «الحسن» رضي اللّه عنه ... و لكنّه لقي حتفه بعد قليل مسموما، و بعد أن كان سببا في حقن دماء المسلمين، فقد آثر صلح معاوية- على ما فيه من غمط لحقّه- على الاستمرار في القتال و إراقة الدماء، و صدق قول جدّه العظيم عنه: «إنّ بنيّ هذا سيد، و سيصلح اللّه به بين طائفتين من المسلمين» «1».
و بوفاة الحسن استتبّ الأمر لمعاوية قليلا، فأراد أن يمهّد لولاية ابنه يزيد، فقد سنحت أمامه الفرصة، و تمكّن معاوية من أن يأخذ العهد لابنه قبل وفاته، و بايعه الناس على ذلك ما عدا بضعة نفر، منهم: الحسين و عبد اللّه بن عمر و عبد الرحمن بن أبي بكر و عبد اللّه بن الزبير، لذلك كان شغل يزيد الشاغل، حين تولّى الخلافة بعد موت أبيه أن يأخذ هؤلاء بالبيعة.
و لجأ الحسين رضي اللّه عنه إلى مكّة معتصما بها، و لاجئا إليها من عنت هؤلاء الذين اغتصبوا الحقّ من أهله، و قتلوا أباه، و سمّوا أخاه ...
و بقي الحسين بمكّة وقتا جاءته فيه الرسل و الوفود من الكوفة طالبين منه الخروج إليهم، فعزم على ذلك، و لكن عزمه هذا أقلق عليه قلوبا تحبّه، و خشيت أن يصيبه ما أصاب أباه و أخاه من الخذلان ...
و لكن الحسين كان يرى بعين لا يرى بها غيره، إنّه ما زال يحفظ لمكّة قداستها،
______________________________
(1). أخرجه البخاري
في صحيحه 2: 962 كتاب الصلح ب 9 قول النبي صلّى اللّه عليه و آله للحسن بن علي: ابني هذا سيد ... ح 2557 و 3: 1328 كتاب المناقب ب 22 علامات النبوة في الإسلام ح 3430، و ص 1369 كتاب فضائل الصحابة ب 22 مناقب الحسن و الحسين ح 3536.
أهل البيت في مصر ،ص:59
و خشي أن يكون سببا في انتهاك حرمتها، فقال: «لأن أقتل خارجا منها بشبرين أحبّ إليّ من أن أقتل خارجا منها بشبر، و أيم اللّه لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا بي حاجتهم، و اللّه ليعتدى عليّ كما اعتدى اليهود في السبت».
و يمضي الحسين إلى الكوفة، و لكنّه يضيق عليه الخناق في الطريق، و يحاصر في كربلاء بجيش كثيف ينتهي باستشهاده رضي اللّه عنه بعد أن أبلى بلاء حسنا، و بعد أن حيل بينه و بين الماء، و بعد أن ناشد المحيطين به من أهله و ذوي قرابته و المناصرين له أن يتفرّقوا عنه في سواد الليل؛ لأنّ القوم ليس لهم مطمع سواه، و لكنّ هؤلاء أبوا مفارقته، و استشهدوا دونه، و استشهد معهم.
و أثارت هذه الحادثة ثائرة الناس، و كان من نتائجها ثورة المدينة بعد ذلك التي قمعت بكلّ عنف «1»، و تبعها حصار مكة و ضربها بالمنجنيق.
و كان الوالي في المدينة قبل نشوب الثورة يخشى وجود السيدة زينب بها، فطلب منها بأمر يزيد أن تخرج من المدينة و تختار أيّ بلد تريد، و لكنّها رفضت في أول الأمر قائلة: «قد علم اللّه ما صار إلينا، قتل خيّرنا، و سيق الباقون كما تساق الأنعام، و حملنا على الأقتاب، فو اللّه، ما خرجنا و إن أريقت
دماؤنا».
و أحاط بها نساء بني هاشم مشفقات عليها من مصير آخر مشئوم إن هي استمرّت في مناوأة الوالي.
و قالت لها ابنة عمها زينب بنت عقيل: «يا ابنة عمي، قد صدقنا اللّه وعده، و أورثنا الأرض نتبوّأ منها حيث نشاء، و سيجزي اللّه الشاكرين، ارحلي إلى بلد آمن» فاختارت مصر.
***______________________________
(1). و قد جرت على ألسنة المؤرّخين بوقعة الحرّة سنة 63 ه حينما ثار أهل المدينة على عثمان بن محمد بن أبي سفيان عامل يزيد و أخرجوه و بني أميّة منها، و لمّا كتبوا إلى يزيد يستغيثون به بعث إليهم مسلم بن عقبة المرّي، و هو الذي سمّي مسرفا؛ لإسرافه في القتل و الجريمة و إراقة الدماء بالجملة، فقمع الثورة و بدّد أهلها، و هتك عرضها، بعد ما أباحها لجنده ثلاثا، يقتلون الناس كيفما شاءوا، و يأخذون المتاع و الأموال بما يحلوا لهم، و فيها الصحابة الكرام و القرّاء و الزهّاد و الحفّاظ، فقتل فيها خلق كثير. انظر تفصيله في الكامل 4: 111- 122.
أهل البيت في مصر ،ص:60
ذكرنا تلك الأسباب لنخلص منها إلى اختيار السيدة زينب رضي اللّه عنها- و هي أول مهاجرة من أهل البيت- مصر مقاما لها، فلما ذا اختارت مصر بالذات لتهاجر إليها؟
و الجواب على ذلك ورد على لسان ابنة عمها حين قالت لها: «ارحلي إلى بلد آمن». فقد كانت مصر في هذه الآونة أكثر البلاد أمانا و استقرارا، فالحجاز و حاضرتاه مكة و المدينة، قد اشتعل غضبا على «يزيد» كما يقول المسعودي:
و لمّا شمل الناس جور يزيد و عمّاله، و ما ظهر من فسقه و قتل ابن بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنصاره ... أخرج أهل المدينة عامله
عليهم و هو عثمان بن محمد بن أبي سفيان، و مروان بن الحكم و سائر بني أمية.
و نما فعل المدينة ببني أمية إلى يزيد، فسيّر إليهم الجيوش بقيادة مسلم بن عقبة المرّي الذي حاصر المدينة من جهة «الحرّة»، و أخاف أهلها، و قتل منهم عددا كبيرا، و لا سيّما من بني هاشم الذين لم ينج منهم سوى علي بن الحسين المعروف بالسجاد، و علي بن عبد اللّه بن العباس و قد عصم اللّه الأول بدعائه، و منع الثاني أخواله من كندة الذين كانوا في جيش مسلم بن عقبة.
و ترك مسلم بن عقبة المدينة متّجها إلى مكّة التي ثارت بقيادة ابن الزبير، و لكنّه هلك في الطريق، و تولّى بعده قيادة الجيش الحصين بن نمير الذي نصب المجانيق حول الكعبة و رماها بالأحجار المحماة، حتّى اشتدّ الأمر على أهل مكّة و ابن الزبير «1».
فلا يمكن- و الحالة هذه- أن يستقرّ مقام أهل البيت في هذا الجوّ المشحون بالخطر في الحجاز، أمّا الشام فهو مقرّ الأمويّين، الذين اصطنعوا أهله بالمال و الوعود، و زيّنوا لهم كراهية علي و بنيه.
أمّا العراق و هو شيعة علي، فقد وجّه إليه الأمويّون سخطهم، و بلوا أهله
______________________________
(1). انظر مروج الذهب 3: 78 و ما بعده.
أهل البيت في مصر ،ص:61
بالجبّارين، من أمثال زياد ابن أبيه، ثم ابنه عبيد اللّه، ثم الحجّاج بن يوسف الثقفي، الذين تتبّعوا شيعة علي و بنيه فأذاقوهم ألوان العذاب.
ظلّت هذه الأنحاء- الحجاز و العراق و الشام- تضطرب بالفتن و القلاقل، و لم ينج من ذلك إلّا مصر التي جعلها اللّه كنانته في أرضه، و قد أصبحت معقل الإسلام و دار الأمان.
و لقد ورد في فضائل مصر أخبار كثيرة، خصّها
اللّه بالذكر في كتابه الكريم في مواطن متعددة «1»، كما جاء عن عيسى عليه السّلام أنّه مرّ بسفح «المقطم» في أثناء ذهابه إلى الشام، فالتفت إلى أمه و قال لها: «يا أماه، هذه مقبرة أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله» «2».
و بغضّ النظر عن ثبوت هذا الخبر أو عدم ثبوته، فإنّه يدلّ على فضل مصر، و أنّها
______________________________
(1). فقد ذكر السيوطي أنّ مصر ذكرت في القرآن في أكثر من ثلاثين موضعا، بعضها من طريق الصراحة و بعضها بطريق الكناية. فمن الصريح قوله: اهْبِطُوا مِصْراً البقرة/ 61 و أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً يونس/ 87 و اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ يوسف/ 21 و ادْخُلُوا مِصْرَ يوسف/ 99 و أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ الزخرف/ 51.
و من الكناية قوله تعالى: وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ يوسف/ 30 و دَخَلَ الْمَدِينَةَ القصص/ 15 و فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ القصص/ 18 و وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى القصص/ 20 و لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ الأعراف/ 123 و آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ المؤمنون/ 50 و اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ يوسف/ 55 و إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ القصص/ 4 و نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ القصص/ 5 و نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ القصص/ 6 و إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ القصص/ 19 و الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ غافر/ 29 و أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ غافر/ 26 و وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ الأعراف/ 129 و لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ الأعراف/ 127 و كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الأعراف/ 137 و يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ الأعراف/ 110 و الشعراء/ 35 و فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ*
وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ الشعراء/ 57- 58 و كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ* وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ الدخان/ 25- 26 و مُبَوَّأَ صِدْقٍ يونس/ 93 و كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ البقرة/ 265 و ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ المائدة/ 21 و نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ السجدة/ 27 و وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ يوسف/ 100 فجعل الشام بدوا، و سمّى مصر مصرا و مدينة (نور الأبصار: 354 نقلا عن حسن المحاضرة للسيوطي).
(2). كتاب المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط و الآثار 1: 51.
أهل البيت في مصر ،ص:62
ستظلّ مهوى القلوب و محطّ الأنظار من عترة النبي الكريم على مرّ الزمان «1».
و لقد مرّ بمصر كثير من الأنبياء، منهم: إبراهيم، و موسى، و عيسى، و إدريس، و يوسف عليهم السّلام، و نجت مصر من الفتن التي اشتعلت في غيرها من الحواضر و الأقطار الأخرى، و ليس يرجع ذلك في الحقيقة إلّا إلى طبيعة أهلها الذين امتازوا «بالبساطة و اليسر و عدم المبالغة، و الصبر و قوّة العزيمة و الهدوء».
جاء في كتاب مصر العربية «2»: «و حدثت موقعة كربلاء التي استشهد فيها سبط الرسول صلّى اللّه عليه و آله و معه كثير من أهل بيته و ولده، و لم يطمئنّ بهذه الأسرة الكريمة المقام بعد أن أدركوا الحقد الذي يتعقّبهم به خلفاء بني أمية و ولاتهم ... فأقبلت وفودهم إلى مصر، حيث وجدوا في رحابها الأمن و الهدوء ... و أكرمت وفادتهم، و أفسحت لهم صدرها، و لاقتهم بما يليق بهم و بمجدهم الكريم، من حفاوة و تكريم، و بذلك أصبحت مصر دارا للأسرة النبوية المجيدة التي بادلت مصر الحبّ
و الوفاء ... و أصبحت مصر في نظر العالم الإسلامي منذ ذلك الوقت رمزا للوفاء و التقدير، يتطلّع إليها المسلمون في شتّى الأقطار، و أصبحت بيوت الهاشميّين في مصر قبلة يحجّ إليها المسلمون، و أضحت قبورهم من بعدهم مثار ذكرى و مهبط رحمة و كعبة يقصدها الآلاف، يستعيدون فيها سيرة رسول اللّه الكريم، و يتبرّكون فيها بآثار عثرته الطاهرة الزكية. و لحكمة ما اختصّ اللّه مصر بهذه النعمة المباركة، فقد أكرمها اللّه بأوليائه الطاهرين و أصفيائه المقرّبين، حتّى إن شاء اللّه أن يقبض بعيدا عن مصر، قيّض اللّه له من ينقل رأسه الشريف إليها».
***______________________________
(1). و قد وردت أخبار في مصر، منها: ما روي عن كعب بن مالك عن أبيه يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «إذا اقتحمتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا، فإنّ لهم ذمّة و رحما». و في مسلم أيضا عن أبي ذرّ قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ستفتحون مصر، و هي أرض يسمّى فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإنّ له ذمّة و رحما». و غيرها.
(2). تأليف أحمد حسنين القرني و عبد الحفيظ فرغلي القرني. (منه)
أهل البيت في مصر ،ص:63
تفرّق بعض أهل البيت في الأمصار، و بقي بعضهم في مكّة و المدينة، و يحسن بنا أن نذكر أسماء ولد علي بن أبي طالب، لنعرف هذا النسل الشريف، و من جاء منه إلى مصر.
أمّا أولاد علي من فاطمة الزهراء، الذين ينتسبون إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فهم: الحسن و الحسين و محسن و أم كلثوم الكبرى و زينب الكبرى.
و أولاده من غيرها: محمد و أمّه خولة بنت إياس الحنفية، و قيل: ابنة جعفر بن قيس بن
مسلمة الحنفي، و عبد اللّه و أبو بكر و أمّهما ليلى بنت مسعود، و عمر و رقيّة و أمّهما تغلبية، و يحيى و أمّه أسماء بنت عميس الخثعمية، و كانت متزوّجة من جعفر الطيار رضي اللّه عنه، و أعقبت منه عونا و محمدا و عبد اللّه، ثم تزوّجها أبو بكر الصدّيق، ثم تزوّجها علي بن أبي طالب، الذي أعقب منها يحيى و جعفر و العباس و عبد اللّه و أمّهم أم البنين بنت حزام الوحيدية، و رملة و أم الحسن و أمّهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي.
كما أنّ له بنات أخريات، هنّ: أم كلثوم الصغرى و زينب الصغرى و جمانة و ميمونة و خديجة و فاطمة و أم الكرام نفيسة و أم سلمة و أم أبيها.
أمّا العقب للإمام علي من أولاده، فكان من الحسن و الحسين و محمد و عمر و العباس رضي اللّه عنهم أجمعين.
و يوجد بمصر كثير من الأضرحة و المزارات لا حصر لها، و التي ينسب كثير منها إلى أهل البيت، و مصر من قديم تشتهر بكثرة ما بها من المساجد و القباب و الأضرحة، و ما ذلك إلّا لطيبة و صلاح يغلبان على أهلها، و الشاهد على ذلك واضح.
قال القضاعي: «إنّه كان بمصر سنة تسع و ثلاثين و خمسمائة من المساجد: ستة و ثلاثون ألف مسجد، و ثمانية آلاف شارع مسلوك، و غالب هذه المساجد كانت
أهل البيت في مصر ،ص:64
بالقرافة الكبرى و مدينة مصر و الكيمان و العسكر و أرض القطائع» «1».
فما بالك بما وجد بعد ذلك؟
جاء في كتاب تحفة الأحباب: «أنه لمّا قتل الحسين بن علي بأرض كربلاء طيف برأسه و سير في البلاد، إلّا بأرض مصر، فإنّ
أهلها لم يمكّنوا حامليه من الدخول على تلك الحالة البشعة ... ثم يقول: إنّ أهل مصر تلقّوا أهل البيت بمدينة الفرما- و هي أول مدينة من مدائن مصر- و حملوهم في الهوادج، و أوسعوا لهم في الكرامة، و أنزلوهم خير الأماكن بمصر و أووهم، و بنوا لموتاهم المشاهد و اتّخذوها مزارات، و جعلوا لهم أرزاقا من أموالهم تقوم بهم، فكان أهل البيت يقولون: يا أهل مصر! نصرتمونا نصركم اللّه، و آويتمونا آواكم اللّه، و أعنتمونا أعانكم اللّه، و جعل لكم من كلّ مصيبة فرجا، و من كلّ ضيق مخرجا» «2».
و هناك اختلافات حول وجود بعض أصحاب الأضرحة بداخلها، فمن منكر و من مثبت. و حجّة المنكر عدم وجود النصوص القاطعة و الشواهد الدالّة على التنقّل و الارتحال في بعض الأحيان، أو وجود نصوص متعارضة مع ما هو شائع معروف.
و نحن في حديثنا هنا، ليس من هدفنا أن نكذّب أحداث التاريخ، و لكنّا نودّ أن نلقي الضوء على أصحاب هذه الأضرحة من السلالة الطيّبة الطاهرة، و ننوّه إلى أنّ هناك مصادر كثيرة مفقودة، كما أنّ حركة التأليف في الفترة التي تقع بين منتصف القرنين الأول و الثاني، لم تكن قد نضجت بعد، و هي الفترة التي شهدت الأحداث الدامية التي تعرّض لها أهل البيت. يضاف إلى ذلك حملة التشويه الكبرى التي دعا إليها الأمويّون؛ ليطمسوا بها آثار الهاشميّين و فضائلهم، ليحولوا بينهم و بين التعريف بهم حتّى لا يلتفّ الناس حولهم و يظاهرون في نيل حقّهم.
______________________________
(1). تحفة الأحباب: 180 ط القاهرة.
(2). المصدر السابق: 221.
أهل البيت في مصر ،ص:65
على أنّه لا يمنع أن يكون هناك بعض الأخبار التي جاءت في بعض المصادر التي ألّفت فيما بعد، و
التي اعتمد أصحابها على الرواية التي كانت العماد الوحيد للعرب قبل عصر التدوين و التأليف، مثل كتب السيرة و الطبقات و الفتوح و الأنساب و التاريخ. ثم لا ننسى ما فعله التتار بعد ذلك بالكتب و المؤلّفات التي أغرقوها في دجلة، و جعلوها جسرا عبروا عليه.
و قد اعتنى الصوفية على وجه خاصّ بشأن هذه المزارات و الأضرحة على اعتبار أنّها ذكرى من ذكريات الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و أثر من آثاره الشريفة. فصاحب الضريح منسوب إلى المصطفى، و من حقّ المنسوب أن يحترم؛ إجلالا للمنسوب إليه.
أهل البيت في مصر ،ص:67
أحمد أبو كفّ
دوحة النبي صلّى اللّه عليه و آله المباركة ظلّلت أرض مصر من أوراقها و أغصانها، و لآلئ من كنوز آل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رصعت جبين مصر، و صارت أنوارا مضيئة يفوح عطرها الذكي.
و هذه الدوحة النبوية المباركة ألقت ثمارها و أوراقها أكثر ما ألقت من نسل فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه ابن عم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و بعضها من نسل الحسن بن علي.
بل إنّ أرض مصر و أهل مصر- حبّا في آل البيت و عشقا و تشيّعا- لم يكتفوا
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «آل البيت في مصر» ط. دار المعارف بالقاهرة.
(2). الدوحة: الشجرة العظيمة، و منه حديث الرؤيا: «فأتينا على دوحة عظيمة» أي شجرة. راجع النهاية: مادة «دوح».
أهل البيت في مصر ،ص:68
بتلك الأضرحة و المشاهد الحقيقية، و إنّما بنوا عشرات و مئات من أضرحة أو مشاهد الرؤيا «1».
إذا كانت القاهرة- خاصّة القديمة منها- تعرف بمدينة الألف مئذنة، فإنّ ما على جغرافية أرضها من قباب و مشاهد يفوق العدد و الحصر، و لا شكّ أنّ هذا إن دلّ على شي ء فإنّما يدلّ على أنّ مصر أرض الإيمان، و أنّ أهل مصر منذ أن ارتفعت الراية الخضراء في سمائها، اختاروا الإسلام عن صدق و يقين و اقتناع.
آمن المصريون برسالة محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تحمّسوا للدين، بل أنّهم قد انغمسوا فيما وقع من أحداث مصيرية، و لا أكون متجاوزا أو مبالغا إذا قلت: إنّ أهل مصر كانوا من صنّاع السياسة في صدر الدولة العربية الإسلامية و ما بعد ذلك
من قرون.
و قد كان تحمّس أهل مصر للنبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله و لدعوته، و لآل بيته، تحمّسا يدعو إلى الفخر ما يدعو إلى التساؤل.
و الذين يتساءلون لهم بعض العذر من تساؤلهم؛ لأنّهم ليس لهم رؤية شاملة بالنسبة لمصر بالذات، و بالنسبة لتاريخها الإيماني و العقائدي، حتّى من قبل الإسلام، بل إنّ- و هذا ثابت تاريخيا- الذين ليس لهم رؤية بالنسبة للمصريّين، ليس لهم هذه الرؤيا أيضا بالنسبة للفرس، حول سرّ تحمّس أهل فارس لآل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و الإجابة التي يمكن أن نعطيها بالنسبة لمصر هي نفس الإجابة لفارس! فأهل الحضارات و المعتقدات القديمة كان تحمّسهم و تشيّعهم رائعا للدين الجديد و لآل البيت. و طبعا، إنّ تشيّع المصريين يختلف بعض الشي ء عن تشيّع الفرس!
______________________________
(1). مشاهد الرؤيا أو أضرحة الرؤيا مصطلح يطلق على تلك المشاهد التي بنيت جراء رؤيا يراها أحد الصالحين في منامه مؤدّاها أن يقيم مسجدا أو ضريحا لأحد من أهل البيت عليهم السّلام أو الوليّ المسمّى في الرؤية، فكان عليه أن يقيم الضريح أو المسجد باسمه. و قد كثر بناؤها في العصور الوسطى، و ما زالت شاهدة تاريخية تحكي حياة أهل البيت، و تعكس محبة المصريين لهم، لكن هذا لا يمنع من إعمال التحقيق و ايجاد الوثائق التي تؤكد أو تنفي واقع الأمر.
أهل البيت في مصر ،ص:69
إنّ الإسلام جاء كسفينة أمان؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، بما في هذه المعاني من أبعاد و أبعاد، بل إنّ الذين لم يدخلوا الإسلام من أهل تلك البلاد كان الإسلام بالنسبة لهم رائعا؛ لأنّه حافظ على معتقداتهم و احترامها من خلال شريعته السمحاء.
فمثلا في مصر، حين جاء عمرو بن
العاص و فتحها جند الإسلام، وجد منه القبط ما لم يجدوه من الرومان، و من كلّ غاز لها من قبل، ألّف عمرو بن العاص بين المسلمين و القبط، و أرسل كتاب أمان إلى بنيامين بطريرك القبط، و ردّه إلى كرسيّه، و أعاد إليه إدارة شئون الكنيسة، و كان الرومان قد أقصوه عن هذا الكرسي ثلاثة عشر عاما، فعاد بنيامين إلى الإسكندرية، بعد أن كان مختفيا في الصحاري، و عاش الأقباط في ظلال حرّية العقيدة و الأمان.
سألني أحدهم- بعد أن كتبت عن كوكبة من آل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله- هل هم في مصر حقّا؟ و هل دفنوا فيها؟!
أجبته و بثقة: نعم، على الأغلب.
و أضفت قائلا:
- إنّني لم أكتب إلّا عن الذين عاشوا في حدود القرون الأولى تقريبا للإسلام، بمعنى أنّني كتبت عن بعض من دفن من آل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله في مصر، في إطار قرون أربعة أو خمسة من الهجرة، و المدفونون في مصر من آل البيت يفوقون هذا العدد- بلا شكّ- أضعافا مضاعفة.
و قلت: إنّني لم أتشرّف بالكتابة عن بعض المشهورين، و الذين لهم قبور لا تزال في مصر من آل البيت، و هم كثيرون، و ممّا هو ثابت أنّهم مدفونون عندنا، و ثابت أيضا أنّهم من آل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. أهل البيت في مصر 69 (1) دوحة النبي صلى الله عليه و آله المباركة ..... ص : 67
قلت كذلك: إنّني أردت من هذه الحلقات القليلة أن أزيل النقاب عن الكثير ممّا
أهل البيت في مصر ،ص:70
لا يعرفه الكثيرون، خاصّة بالنسبة للشباب المسلم و الشابّات المسلمات، فحياة أهل البيت هي نماذج و قدوة ينبغي
على الشباب المسلم- فتيانا و فتيات- أن يتأسّوا بها، و يعرفوا شيئا من سيرتها و من تاريخها، و من قوة إيمانها و صدقها، و من دفاعها عن العقيدة السمحاء، و عن دين محمد صلّى اللّه عليه و آله.
فليس من الدين في شي ء أن يذهب المسلم إلى ضريح سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين ليزوره، و هو لا يعرف شيئا عن تاريخه، و عن صلابته في الإيمان و المبدأ، و النضال و الكفاح إلى حدّ الاستشهاد.
و من غير المعقول أن تذهب السيدة المسلمة إلى مقام سيدتنا زينب، أو سيدتنا فاطمة النبوية، أو سيدتنا نفيسة، دون أن تعرف شيئا عن التاريخ الإيماني لتلك النماذج المسلمة الرائعة من آل البيت.
إنّ تعرّف التاريخ و السيرة يجعلك تقتنع أكثر، و تكون لك أسوة حسنة تتأسّى بها، و تجعلها نبراسا لك و مصباحا هاديا.
فالتاريخ و السيرة عظات و عبر، و من لم يتأسّ بذلك يصبح كالببغاء، يظلّ يردّد دون وعي ما يسمعه، و هذا ليس من الإسلام في شي ء.
فالحبّ التلقائي الوراثي وحده لا يكفي، و إنّما الحبّ المبني على المعرفة، يصبح يقينا، خاصة بالنسبة لآل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذين ضربوا بسلوكهم و سيرتهم أعظم الأمثال، و جمعوا حولهم قلوب المؤمنين في حياتهم و مماتهم على السواء.
*** بعد كربلاء عادت السيدة زينب أخت الإمام الشهيد الحسين بن علي إلى المدينة المنوّرة و معها سيدات آل البيت، بالإضافة إلى الزهرة التي بقيت من صلب الحسين، سيدي علي زين العابدين.
لكن حين ضيّق عليها الأمويون الخناق في المدينة، و خيّروها أن تذهب إلى
أهل البيت في مصر ،ص:71
أرض اللّه الواسعة- غير مكّة بالطبع- حتّى لا تؤلّب المسلمين عليهم، اختارت مصر دارا
لإقامتها و مقامها، لما ذا؟
تجمع كتب التاريخ أنّها اختارت مصر أرض الكنانة، لما سمعته عن أهلها من محبّتهم لآل البيت، و مودّتهم لذوي القربى من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله.
و كذلك لما وعته عمّا حدّثت به أم سلمة من أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوصى بأهل مصر، حين بدأ التفكير في فتحها، و روي عنه قوله صلّى اللّه عليه و آله:
«إنّكم ستفتحون مصر، و هي أرض يسمّى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإنّ لهم ذمّة و رحما» «1». و في رواية أخرى: «ذمّة و طهرا» «2».
و قد فسّر البعض «رحما و طهرا»: مارية القبطية التي يقال: إنّها كانت ابنة المقوقس عظيم القبط في مصر، التي أرسلها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فتزوّجها، و أنجب منها ابنه إبراهيم «3».
و يعجز القلم عن أن يصف موكب السيدة زينب حين بدأت تشارف أرض مصر، من الذين ذهبوا على اختلاف طبقاتهم لاستقبالها عند «بلبيس» عام 61 هجرية، حتّى أنّها رضي اللّه عنها حين شاهدت احتفاء أهل مصر بها، ظلّت تردّد و تقول:
هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 52].
و منذ ذلك التاريخ كانت السيدة زينب أول جوهرة من دوحة النبوة المباركة ترصع أرض مصر، بل هي رضي اللّه عنها ظلّت منذ هذا التاريخ قبسا من أقباس النبوة في مصر.
و ما فعله أهل مصر مع السيدة زينب فعلوه مع تلك الأغصان من الدوحة النبوية المباركة التي جاءت إلى مصر بعدها.
______________________________
(1). أخرجه مسلم في صحيحه 4: 1970 كتاب فضائل الصحابة، باب وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله بأهل مصر ح 226/ 2543 عن أبي ذرّ.
(2). المصدر السابق: ح 227/
2543. و رحما لكون هاجر أم اسماعيل منهم، و صهرا لكون مارية أم إبراهيم منهم.
(3). راجع خطط المقريزي 1: 47.
أهل البيت في مصر ،ص:72
فعلوه مع السيدة نفيسة بنت سيدي حسن الأنور، التي جاءت إلى مصر في الخامس و العشرين من رمضان عام 193 ه، تلقتها نساء مصر و رجالها بالهوادج و الخيول، رافعين المصاحف عند العريش، مكبّرين مهلّلين، فرحين مستبشرين بتلك اللؤلؤة المباركة التي ستضاف إلى عقد لآلئ آل البيت في مصر.
و حين فكّرت السيدة نفيسة في العودة إلى المدينة المنورة، فإن أهل مصر لم يتركوها، و تكاثروا عليها من كلّ فجّ و في كل وقت يرجون بركتها، و أسقط في يدهم حتّى أنّهم ذهبوا إلى الوالي؛ كي يتشفّع لهم و يرجو السيدة نفيسة البقاء.
و قيل على لسان السيدة نفيسة: إنّ سبب تفكيرها في العودة إلى المدينة المنوّرة هو كما قالت: «إنّي كنت قد اعتزمت البقاء عندكم، غير أنّي امرأة ضعيفة، و قد تكاثر الناس حولي، فشغلوني عن أورادي، و جمع زادي» «1».
و ما فعله أهل مصر مع لآلئ آل بيت النبوة فعلوه أيضا مع تلك الرءوس الشريفة، التي بذلوا من أجلها الغالي و النفيس لنقلها أو دفنها في مصر.
فعلوا ذلك مع رأس الإمام الحسين بن علي.
و كذلك مع رأس سيدي زيد بن زين العابدين، و رأس سيدي إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي.
*** أمّا رأس كلّ من سيدي زيد بن علي زين العابدين، و سيدي إبراهيم بن عبد اللّه فقد جازف المصريون أيام الأمويّين و أيام العباسيّين على التوالي، و سرقوا الرأسين من المسجد الجامع- جامع عمرو- لكي يدفنوهما، ليصبحا مزارات، رغم أنّ التشيّع لآل البيت كان في أيام دولة
الأمويّين، و في فترات كثيرة في زمن العباسيّين جريمة لا تغتفر، فرأس سيدي زيد دفن بالفسطاط، و رأس سيدي إبراهيم دفن بالمطرية «2».
______________________________
(1). ذكره الشبلنجي في نور الأبصار: 389.
(2). راجع المصدر السابق: 406.
أهل البيت في مصر ،ص:73
لكن لما ذا هذا كلّه؟
إنّ الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله رأس هذه الدوحة المباركة يقول: «المرء مع من أحبّ» «1».
و أهل مصر أحبّوا آل البيت و وقفوا معهم، بلا شكّ.
و أهل مصر أيضا حفظوا عن ظهر قلب، و وعوا ما قاله الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و ما قاله صدق. فقد روى الإمام أحمد بسنده: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّي أوشك أن ادعى فأجيب، و إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه حبل ممدود من الأرض إلى السماء، و عترتي أهل بيتي، و إنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة، فانظروني بما تخلفوني فيهما» «2».
و روى الديلمي و الطبراني و ابن حبّان و البيهقي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا يؤمن عبد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه، و تكون عترتي أحبّ إليه من عترته، و أهلي أحبّ إليه من أهله و ذاته» «3».
و قد كان أهل مصر- و ما زالوا- مؤمنين محبّين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دوحته المباركة، و سيظلّون على هذا الإيمان إلى أن يشاء اللّه. و من هنا جاء تحمّس أهل مصر لآل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لكلّ أثر من آثار النبوة الكريمة.
و أقصد بآثار النبوة الكريمة تلك المخلّفات النبوية الشريفة التي تقبع في حجرة المخلّفات في مسجد سيدي الإمام الحسين، بعد أن
جاءت إلى مصر في القرن
______________________________
(1). أخرجه البخاري 5: 2283 كتاب الأدب باب: علامة الحبّ في اللّه عزّ و جلّ ح 5816 و 5817 و 5818.
و مسلم 4: 2034 كتاب البرّ و الصلة و الأدب باب: المرء مع من أحبّ ح 165/ 2640 كلاهما عن ابن مسعود.
(2). مسند أحمد 3: 17 عن أبي سعيد الخدري. و حديث الثقلين قد رواه أجلّاء علماء الجمهور و أكابر محدّثيهم في صحاحهم و سننهم و بأسانيد متعدّدة، ففضلا عن الإمام أحمد فقد رواه مسلم و الترمذي و الدارمي و ابن ماجة و أبو داود و صاحب الجمع بين الصحاح الستّ و الحميدية من إفراد مسلم و السمعاني في فضائل الصحابة و الطبراني و ابن حجر و أغلب المفسّرين. و قد روي من طريق أهل البيت باثنين و ثمانين طريقا.
(3). فردوس الأخبار للديلمي 5: 154 ح 7796، المعجم الكبير للطبراني 7: 75 ح 6416، شعب الإيمان للبيهقي 2: 654 رقم 1505، كلّهم عن أبي ليلى.
أهل البيت في مصر ،ص:74
السابع الهجري من مدينة «ينبع» حتّى أنّ المصريّين بلغوا من حرصهم على تلك المخلّفات- كما تقول الدكتورة سعاد ماهر- أنّهم جعلوا من بين وظائف الدولة المهمة: وظيفة «شيخ الآثار النبوية». بنوا لها رباطا؛ أي حصنا من الحصون العسكرية، أو قلعة ليحفظوها بها، و لم تذهب الآثار النبوية إلى تلك الغرفة المباركة في المشهد الحسيني إلّا في موكب هائل، و حراسة مشدّدة من مكانها في «سراي عابدين» في عام 1305 ه، و هذا الموكب اعتبره البعض من المواكب المشهورة في تاريخ مصر الحديث «1».
*** و الذين لم يقتنعوا، و ما زالوا يتساءلون أيضا: لما ذا آل بيت النبي صلوات اللّه و سلامه عليه في
مصر؟
أقول: معهم الحقّ؛ لأنّهم لا يعرفون أنّ مصر لم تكن بعيدة عن مكة و المدينة في يوم من الأيام، و لا بعيدة أيضا عن تلك الفتنة التي قامت بعد مقتل الخليفة عمر بن الخطاب، حيث قتله أبو لؤلؤة المجوسي في عام 23 ه. و هذه الفتنة هي التي مهّدت «للفتنة الكبرى» كما يسمّيها طه حسين.
و منشأ هذا كان من مصر أيضا.
لقد كانت الفتنة التي أدّت إلى مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان من مصر! و أذكى نيرانها صحابي قديم، اشتهر- كما يقول صحيح مسلم- بأنّه أول من حيّا النبي صلّى اللّه عليه و آله بتحية الإسلام «2»، و بأنّه رابع- أو خامس على رواية الطبراني «3»- من اعتنق دين الإسلام «4»، و اشتهر بالورع و التقوى، و كان من أئمة الحديث، و قصد به «أبو ذرّ الغفاري».
______________________________
(1). مخلّفات الرسول صلّى اللّه عليه و آله في المشهد الحسيني: 32.
(2). راجع صحيح مسلم 4: 1919 ب 28 من فضائل الصحابة ح 132/ 2473 بطوله.
(3). المعجم الكبير 2: 147 ترجمة جندب بن جنادة الغفاري رقم 1617 و 1618.
(4). في رواية الحاكم في المستدرك 3: 342: «كنت ربع الإسلام».
أهل البيت في مصر ،ص:75
منطقة المشهد الحسيني كانت مقرّ حكم الفاطميّين في القاهرة، و في مكان المشهد الحسيني الحالي و حوله «قصر الزمرّد»، أهم قصور دولة الفاطميّين. و هذا القصر كان يشمل من منطقة «خان الخليلي»، و يمتدّ ربّما إلى حافة شارع بور سعيد الآن. و في مكان الزمرّد- و كان أشرف مكان بالقصر تقام به الصلاة- جي ء بالرأس الشريف ليدفن هناك، و لأنّ الزمرّد لونه أخضر، قد سمّيت المنطقة بالباب الأخضر، و منطقة الباب الأخضر، هي التي تضمّ مقام
الحسين رضي اللّه عنه.
و هذا المقام يضمّ الرأس الشريف، و عليه الآن المقصورة من الفضّة، تحوي فصوصا خمسة من الماس هدية من طائفة «البهرة». و كانت المقصورة قبلها من خشب الساج الهندي، المحفور و المعشق ... نقلت إلى متحف الفن الإسلامي، و قبل مقصورة الفضّة كانت هناك مقصورة من النحاس نقلت إلى مشهد آخر.
و قد تردّدت الآراء حول رأس الإمام الحسين «1»:
رواية تقول: إنّ الرأس أرسل إلى عمرو بن سعيد بن العاص والي يزيد على المدينة المنوّرة، حيث قام الوالي بدفنها في البقيع عند قبر السيدة فاطمة رضي اللّه عنها «2».
و رواية أخرى تقول: إنّ الرأس وجد بخزانة يزيد بن معاوية بعد موته، فأخذ، و دفن بدمشق عند باب «الفراديس» «3».
______________________________
(1). بينما اتفقت الأقوال في مدفن جسده الطاهر. راجع نزهة المشتاق 2: 668، إعلام الورى 1: 470، البداية و النهاية 8: 203.
(2). راجع المنتظم 5: 344، تاريخ أبي الفداء 1: 266، تاريخ الإسلام للذهبي: حوادث و وفيات 61 ه- 80 ه، مرآة الجنان 1: 109، البداية و النهاية 8: 204.
(3). راجع أنساب الأشراف 3: 241، المنتظم 5: 344، البداية و النهاية 8: 204، سمط النجوم العوالي 3:
197- 198.
أهل البيت في مصر ،ص:76
و يقول ابن كثير: ادّعت الطائفة المسمّاة بالفاطميّين الذين ملكوا الديار المصرية:
أنّهم دفنوه، و بنوا عليه المشهد المشهور بمصر «1».
و يحصي العقّاد عدّة أماكن ذكرت بأنّ رأس الإمام الحسين دفن فيها، و هي:
المدينة المنوّرة، كربلاء، الرقّة، دمشق، عسقلان، القاهرة، مرو «2».
و أقرب رواية للتاريخ: أنّه بعد استشهاد الإمام الحسين على أرض كربلاء، جرى التمثيل بالجثّة، فقدم الجسد الطاهر خولي بن يزيد الأصبحي ليجزّ الرأس، لكنّه لم يستطع، و ارتعد جسده، فتقدّم شمر بن ذي
الجوشن بنفسه و جزّ الرأس، ثم أرسله إلى يزيد بن معاوية ليتلقّى المكافأة، و هي توليته على إحدى الإمارات الإسلامية «3».
و ترى د. سعاد ماهر: أنّ أقوى الآراء هو الذي يقول: إنّ الرأس طيف به في الأمصار الإسلامية حتّى وصل إلى عسقلان «4» حيث دفن هناك، و حينما استولى الفرنجة على عسقلان «5»، تقدّم الصالح طلائع «6» وزير الفاطميّين بمصر، فدفع 30 ألف درهم، و استردّ الرأس الشريف و نقله إلى القاهرة.
و يؤيّد هذا الرأي ابن خلّكان، الذي يذكر في تاريخه: أنّ رأس الحسين ابن بنت
______________________________
(1). البداية و النهاية 8: 206 و فيه: «... المشهد المشهور به بمصر، الذي يقال له: تاج الحسين، بعد سنة خمسمائة».
(2). أبو الشهداء الحسين بن علي: 261- 262.
(3). تاريخ أبي مخنف 1: 493- 494، الكامل في التاريخ 3: 296.
(4). مدينة الشام، من أعمال فلسطين، تقع على ساحل البحر بين غزّة و بيت جبرين، و يقال لها: عروس الشام، قد نزلها جماعة من الصحابة و التابعين. راجع معجم البلدان 3: 327.
(5). و ذلك سنة 548 ه، و بقيت في أيديهم نحو خمس و ثلاثين سنة حتّى حرّرها صلاح الدين الأيوبي منهم سنة 583 ه. راجع معجم البلدان 3: 327.
(6). أبو الغارات طلائع بن رزّيك الأرمني المصري، من الأدباء و الخطباء فضلا عن كونه وزيرا للفاطميّين، ولي نواحي الصعيد، و استولى على مصر بعد أن أخذ بثأر الظافر. له كتب و ديوان شعر صغير، تزوّج العاضد ابنته ثم دبّر قتله مع بعض الأمراء، فاغتيل سنة 556 ه. راجع وفيات الأعيان 2: 526- 529، البداية و النهاية 12: 243، أعيان الشيعة 7: 396 و ما بعده.
أهل البيت في مصر ،ص:77
محمد صلّى اللّه عليه
و آله كان مدفونا بعسقلان قبل نقله إلى مصر، و إنّ الأفضل شاهنشاه «1» بنى مشهد الرأس في عسقلان «2».
و ابن بطوطة «3» يؤيّد الرواية، و يقول بعد زيارته لعسقلان: «ثم سافرت من القدس الشريف إلى ثغر عسقلان، و هو خراب، و قد عاد رسوما طامسة و أطلالا دارسة، و بها المشهد الشهير، حيث كان رأس الحسين بن علي قبل أن ينقل إلى القاهرة، و هو مسجد عظيم سامي العلو» «4».
ثم يقول ابن بطوطة عند زيارته للقاهرة: «و من المزارات الشريفة: المشهد المقدّس العظيم الشأن، حيث رأس الحسين بن علي، و عليه رباط ضخم عجيب البناء، على أبوابه حلق فضة و صحائفها، و هو موفى الحقّ من الإجلال و الإعظام» «5».
و يقول المؤرّخ الهروي في كتابه «إشارات إلى أماكن الزيارات»: «و فيها- أي عسقلان- مشهد الحسين ... فلمّا أخذتها الفرنج، نقله المسلمون إلى مدينة القاهرة سنة تسع و أربعين و خمسمائة» «6».
و تفنّد الدكتورة سعاد ماهر الآراء التي قيلت، من الناحية الأثرية، من خلال
______________________________
(1). أبو القاسم شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي، الملقّب بالأفضل، مولده بعكّا، خلف أباه في إمارة الجيوش المصرية، أرمني الأصل، وطّد دعائم الملك للآمر بأحكام اللّه العبيدي صاحب مصر، و دبّر شئون دولته، لكنّه نقم عليه لأمر، فدسّ له من قتله على مقربة من داره بالقاهرة عام 515 ه.
(2). وفيات الأعيان 2: 450.
(3). أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن محمد اللواتي الطنجي، المعروف بابن بطوطة، رحّالة و مؤرّخ معروف، ولد سنة 703 ه بطنجة و نشأ فيها، و طاف بلادا كثيرة، و اتصل بملوك و أمراء، توفّي بمراكش سنة 779 ه راجع إيضاح المكنون 1: 262.
(4). رحلة ابن بطوطة:
60.
(5). المصدر السابق: 87.
(6). و السائح الهروي هو أبو الحسن علي بن أبي بكر الهروي، المولود بالموصل، و قد استوطن حلب، كان فاضلا جوّالا فسمّي بالسائح بنى له مدرسة يدرّس بها و يخطب، له كتاب الاشارات المذكور و الخطب الهروية، توفّي 611 ه، و قبره في مدرسته بظاهر حلب. راجع سير أعلام النبلاء 22: 56- 57.
أهل البيت في مصر ،ص:78
كتابيها «مخلّفات الرسول صلّى اللّه عليه و آله في المشهد الحسيني» و «مساجد مصر».
فعن القول بوجود الرأس في المدينة المنوّرة، هناك ما ينقصه الدليل المادي الذي ذكره المسعودي، و هو أنّه كان يوجد حتّى القرن الرابع الهجري شاهد مكتوب عليه العبارة الآتية: «الحمد للّه مميت الأمم و محيي الأمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، سيدة نساء العالمين، و الحسن بن علي بن أبي طالب، و علي بن الحسين بن علي، و محمد بن علي، و جعفر بن محمد. رضوان اللّه عليهم أجمعين».
فلو أنّ الرأس كان مدفونا في البقيع لما أغفل ذكر اسم سيد الشهداء. و هذا النصّ منقول من كتاب «الإشراف و التنبيه» للمسعودي عن ابن كثير في «البداية و النهاية» «1».
أمّا قول غالبية الشيعة الإمامية «الاثني عشرية»، بأنّ الرأس مدفون مع الجسد في كربلاء، فهو لا تؤيّده مراجعة الحوادث، فمن المستبعد عقلا أن يعيد يزيد بن معاوية الرأس إلى كربلاء، حتّى لا يزيد النار اشتعالا، و هو يعلم بأنّها مركز الشيعة و المتشيّعين للإمام الحسين، و المؤيّدين لمذهبه. هذا بالإضافة إلى ما جاء في أحداث سنة 236 ه، من أنّ الخليفة المتوكّل أمر «النويريج» بالمسير إلى قبر الحسين و هدمه، فتناول النويريج مسحاة و هدم أعلى قبر الحسين، و
انتهى هو و من معه إلى الحفر أو موضع اللحد، فلم يروا أثرا للرأس. و لا يمكن أن يتصوّر أحد أنّ الرأس قد بلي في ذلك الوقت المبكّر، إذا عرف أنّ أرض كربلاء رملية تحتفظ بالعظام مئات السنين «2».
______________________________
(1). الإشراف و التنبيه: 49، و راجع البداية و النهاية 8: 206.
(2). لم تنفرد الشيعة الإمامية وحدها بهذا القول، فقد ذهب غيرها إليه. راجع على سبيل المثال كتاب نزهة المشتاق لابن ادريس الحسني المعروف بالشريف الإدريسي من علماء القرن السادس الهجري: 668، بل في تذكرة الخواص: 265 أنّه أشهرها. و البداية و النهاية لابن كثير 8: 205 حيث يقول: «اشتهر عنه كثير من المتأخّرين أنّه (أي قبر الحسين عليه السّلام) في مشهد علي، بمكان من الطفّ عند نهر كربلاء ... و قد ذكر ابن جرير و غيره أنّ موضع قتله عفي أثره حتّى لم يطّلع أحد على تعيينه بخبر ... و ذكر هشام بن الكلبي أنّ الماء لما أجري على قبر الحسين ليمحى أثره نضب الماء بعد أربعين يوما، فجاء أعرابي من بني أسد-
أهل البيت في مصر ،ص:79
أمّا الرأي الذي يقول: إنّ الرأس موجود في رباط مرو بخراسان هو منقوض من أساسه؛ لأنّ أبا مسلم الخراساني الذي قيل: إنّه نقل الرأس من دمشق، لمّا استولى عليها و بنى عليها الرباط بمرو، لم يكن أبو مسلم موجودا بالشام وقت فتحها أيام العباسيّين، ثم إنّ العباسيّين لو ظفروا بالرأس لأظهروه للناس.
و أقرب الآراء: أنّ الرأس وضع أول الأمر في خزائن السلام بدمشق، ثم دفن في عسقلان على البحر، و حين استولى الفرنجة على عسقلان تقدّم الصالح طلائع بن رزّيك وزير الفاطميّين بمصر، فدفع 30 ألف درهم، و استردّ الرأس
الشريف، و نقله إلى مصر، حيث جاء الرأس في حراسة ثلّة من الجند، و استقبله الخليفة الفاطمي- كما يقول الإمام الشعراني «1» في طبقات الأولياء «2»- هو و عسكره حفاة من الصالحية، و قد وضع الرأس الشريف في كيس أخضر من الحرير، على كرسي آبنوس، و فرش تحته المسك و الطيب، و بنى عليه القبّة المعروفة.
و الدليل على وجود الرأس الشريف ما ذكره عثمان مدوخ في كتابه «العدل الشاهد في تحقيق المشاهد» و قد ألّفه في القرن التاسع عشر، و قال فيه: «إنّ المرحوم عباس كتخدا الفزدوغلي لمّا أراد توسيع المسجد المجاور للمشهد الحسيني، قيل: إنّ هذا المشهد لم يثبت فيه دفن، فأراد تحقيق ذلك، فكشف المشهد الشريف بمحضر من الناس، و نزل فيه الأستاذ الجوهري الشافعي و الأستاذ الشيخ
______________________________
فجعل يأخذ قبضة قبضة و يشمّها حتّى وقع على قبر الحسين، فبكى و قال: بأبي أنت و أمي، ما كان أطيبك و أطيب تربتك! ثم أنشأ يقول:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه فطيب تراب القبر دلّ على القبر»
(1). أبو محمد عبد الوهاب بن أحمد بن علي الحنفي الشعراني، من العلماء المتصوّفين، يرجع نسبه إلى ابن الحنفية محمد بن علي بن أبي طالب عليه السّلام. ولد سنة 898 ه في قلقشندة بمصر، و نشأ بساقية أبي شعرة إحدى قرى المنوفية، و إليه يرجع نسبه، له مصنّفات منها: طبقات الأولياء، لواقح الأنوار في طبقات الأخيار، البدر المنير و غيرها، توفّي سنة 973 ه بالقاهرة. راجع شذرات الذهب 8: 372- 373.
(2). طبقات الأولياء: 26. و راجع نور الأبصار: 269- 270.
أهل البيت في مصر ،ص:80
الملوي المالكي ... و كانا من كبار العلماء العاملين، و شاهدا ما بداخل البرزخ، ثم ظهرا و
أخبرا بما شهداه. و هو كرسي من خشب الساج، عليه طست من ذهب، فوقه ستار من الحرير الأخضر، تحتها كيس من الحرير الأخضر الرقيق، داخله الرأس الشريف ...».
و الذي نريد أن نقوله هنا: إنّنا لا نرجّح وجود الرأس الشريف فقط، بل إنّنا نؤكّد ذلك، ليس ممّا أوردناه من الأدلّة، و إنّما أيضا من خلال الاهتمام بالمشهد الحسيني قرنا وراء قرن، ذكرنا بعضا منه و أغفلنا الكثير من الاهتمامات المتنوّعة.
و دليل آخر محسوس ملموس، هو كثرة الإخوة الإيرانيّين، الذين جاءوا إلى مصر عبر العصور، و اختاروا مقامهم و سكناهم، بل مقدار أعمالهم، بجوار الرأس الشريف، حتّى أنّ الكثير من الأسماء الإيرانية كانت إلى فترة قصيرة- و لا تزال- تنتشر فوق الدكاكين و الوكالات و غيرها، و انتشر حول المشهد بالذات بيع السجّاد الشيرازي و التبريزي.
و يضاف إلى ذلك تلك المقصورة التي أهدتها جماعة «البهرة» للمشهد الحسيني، و هذه الجماعة فيها الكثير من العلماء و الباحثين الذين درسوا و تأكّدوا من وجود الرأس الشريف، و هو السبب في إهدائهم المقصورة عام 1965، و التي تكلّفت 300 ألف جنيه، جمعت من جماعة البهرة أنفسهم، بالإضافة إلى تلك المقصورة التي أهديت إلى مشهد السيدة زينب رضي اللّه عنها.
و الواقع أنّ لجلال المشهد و بركته، فإنّ الدولة بمصر المؤمنة قد جعلت من المشهد الحسيني المسجد الرئيسي الذي يختصّ بصلاة العيدين فيه، كما تقام فيه أيضا الاحتفالات بالمناسبات الدينية المهمّة.
هكذا يثبت وجود الرأس في مصر.
و على أيّة حال، ففي أيّ مكان رأس الحسين أو جسده- كما يقول سبط ابن
أهل البيت في مصر ،ص:81
الجوزي «1»- فهو ساكن في القلوب و الضمائر، قاطن في الأسرار و الخواطر «2».
و المهمّ كما يرى العقاد: «أيّا
كان ذلك الموضع الذي دفن فيه الرأس الشريف، فهو في كلّ موضع أهل للتعظيم و التشريف، و إنّما أصبح الحسين بكرامة الشهادة، و كرامة البطولة، و كرامة الأسرة النبوية ... معنى يستحضره المسلم في صدره، و هو قريب أو بعيد من قبره» «3».
لكن ما ذا بقي من القديم الآن، و قد ثبت أنّ الرأس الشريف موجود في مشهد الإمام الحسين بمصر؟!
يقول المقريزي «4»: «نقل رأس الحسين من عسقلان إلى القاهرة يوم الأحد 8 من جمادى الآخرة سنة 548 ه (31 أغسطس 1153 م)، وصل الرأس إلى القاهرة يوم الثلاثاء العاشر من نفس الشهر، ثم أنزل بالرأس إلى الكافوري- حديقة القصر الفاطمي- ثم حمل في سرداب إلى قصر الزمرّد، و دفن عند قبّة الديلم بباب دهليز الخدمة» «5».
و يضيف ابن عبد الطاهر: أنّ طلائع بن رزّيك بنى الجامع خارج باب زويلة ليدفن الرأس به و يفوز بهذا الفخار، فغلبه أهل القصر الفاطمي، و عمدوا إلى هذا المكان الموجود به الآن، هو قصر الخلافة الفاطمية في ذلك الوقت، و بنوه له، و كان ذلك في خلافة الفائز الفاطمي سنة 549 ه (1145 م). و حمل الرأس الشريف في سرداب
______________________________
(1). شمس الدين يوسف بن قزأغلي بن عبد اللّه التركي العويني الهبيري البغدادي الحنفي، المعروف بسبط ابن الجوزي الواعظ البليغ و المؤرّخ المتفنّن. ولد سنة 581 ه ثم رحل إلى دمشق و سكنها، فأفتى و درّس، حتّى توفّي فيها سنة 654 ه بسفح قاسيون. راجع وفيات الأعيان 3: 142.
(2). تذكرة الخواص: 266.
(3). أبو الشهداء الحسين بن علي: 262.
(4). أحمد بن علي بن عبد القادر الحسيني العبيدي المقريزي، مؤرّخ الديار المصرية، أصله من بعلبك من احدى حاراتها: حارة المقارزة، ولد
سنة 766 ه، و نشأ بالقاهرة، و قد ولي الحسبة و الخطابة و الإمامة مرّات فيها. من مصنّفاته المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط و الآثار و يعرف بخطط المقريزي، و تاريخ الأقباط، و السلوك في معرفة دول الملوك و غيرها، توفي بالقاهرة سنة 845 ه. راجع الاعلام 1: 177.
(5). خطط المقريزي 2: 323.
أهل البيت في مصر ،ص:82
طويل حفر تحت الأرض من باب زويلة إلى القبّة الشريفة «1».
و يقول ابن جبير الذي زار مصر في عصر الأيوبيّين، و بعد الحريق الذي شبّ في المشهد عام 640 ه و في عهد الصالح نجم الدين أيوب، أنّه أنشئت منارة على باب المشهد عام 634 ه (1237 م)، أنشأها أبو القاسم ابن يحيى السكري، و لم يتمّها، فأتمّها ابنه و هي مليئة بالزخارف الجصية و النقوش، تعلو الباب الأخضر، و قد قام بترميمها و توسيعها بعد ذلك القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، ثم في عصر الناصر محمد بن قلاوون أمر بتوسيع المسجد عام 684 ه.
و في العصر العثماني أمر السلطان سليم بتوسيع المسجد لما رآه من الإقبال العظيم من الزائرين و المصلّين، ثم بعد ذلك أحضرت للمسجد عمد الرخام من القسطنطينية، و بنيت ثلاثة أبواب من الرخام جهة خان الخليلي، و مثلها الباب الأخضر بجوار القبّة بالجهة الشرقيّة.
و لمّا قدّم مصر السلطان عبد العزيز العثماني عام 1279 ه و زار المقام الحسيني، أمر الخديوي إسماعيل بعمارته و تشييده على أتمّ شكل و أحسن نظام، و استغرقت العملية التي أشرف عليها علي باشا مبارك و وصفها في خططه عشر سنوات.
هذه ملامح ممّا حدث لسبط الرسول صلّى اللّه عليه و آله و حضور رأسه الشريف إلى مصر، و تشريف مصر به؛
ممّا يجعل المشهد الحسيني قبلة لمحبّي آل البيت، و المؤمنين الصابرين المجاهدين.
*** أقيم المشهد الحسيني، لكنّ الدولة الفاطمية تلاشت، و لكنّ الأيوبيّين الذين أنهوا الحكم الفاطمي الشيعي بمصر اهتمّوا بالمشهد. فصلاح الدين «2» جعل به حلقة تدريس
______________________________
(1). المصدر السابق.
(2). يوسف بن أيّوب بن شاذي، صلاح الدين الأيّوبي، الملقّب بالملك الناصر، ولد سنة 532 ه بتكريت، كان-
أهل البيت في مصر ،ص:83
و فقهاء، و فوّض ذلك للفقيه البهاء الدمشقي السنّي المذهب. و كان يجلس عند المحراب الذي يقع الضريح خلفه، و في مكان هذه المدرسة بنى المسجد الحسيني.
و زيادة في الاهتمام- كما يقول الأثري حسن عبد الوهاب- فإنّ صلاح الدين الأيوبي أهدى للمشهد مقصورة، تشبه المقصورة التي أهداها للإمام الشافعي عام 574 ه.
و بعد صلاح الدين كان الملك الصالح نجم الدين أيوب الذي بنى إيوانا للتدريس، و بيوتا خاصة للفقهاء، و قد وصفها ابن جبير في رحلته «1»، و هذا الرحّالة زار مصر عام 578 هجرية. و في عصر الكامل «2» الأيوبي بنيت المنارة على باب المشهد عام 634 ه، تعلو الباب الأخضر، تهدّم معظمها، و لم يبق حتّى الآن إلّا القاعدة المربّعة و عليها لوحتان تثبتان ذلك.
و في عصر الصالح نجم الدين أيوب «3» (637- 647 هجرية) احترق بناء المشهد
______________________________
أبوه و أهله من قرى دوين في شرقي آذربيجان و هم بطن من الرواية، من قبيلة الهذانية، من الأكراد، نزلوا تكريت، ثم ولي أبوه أعمالا في بغداد و الموصل و دمشق، فنشأ هو في دمشق، و تأدّب بها و بمصر كان له دور في إنهاء الحكم الفاطمي بعد مرض العاضد، و صار يخطب للعبّاسيين، ثم استقلّ بملك مصر، ثم اضطربت البلاد الشامية و الجزيرة، فدعي إلى ضبطها،
فأقبل على دمشق و استولى على بعلبك و حمص و حماة و حلب، توفّي بدمشق سنة 589 ه.
و يذكر أنّ حكم الأيوبيّين قد امتدّ إلى القسم الأكبر من بلاد الشام و مصر فترة تقرب من التسعين عاما، و قد استمرّت في مصر حتّى قبيل سقوط بغداد بيد المغول. راجع دراسة وثيقة للتاريخ الإسلامي لمحمد ماهر حمادة: 259، و الاعلام 8: 220.
(1). رحلة ابن جبير: 24.
(2). محمد بن محمد العادل ابن أيّوب، ناصر الدين، من سلاطين الدولة الأيوبية، ولد بمصر سنة 576 ه و نشأ بها، فأعطاه أبوه الديار المصرية، فتولّاها مستقلا بعد وفاة أبيه سنة 615 ه، ثم اتّجه إلى توسيع نطاق ملكه حتّى امتلك الديار الشامية، له مواقف مشهورة في الجهاد بدمياط، و ولع في البناء و الترميم، من آثاره بمصر المدرسة الكاملية، توفّي بدمشق سنة 635 ه و دفن بقلعتها. راجع السلوك للمقريزي 1: 194 و ما بعده.
(3). أيوب بن محمد بن أبي بكر بن أيوب، أبو الفتوح نجم الدين، الملقّب بالملك الصالح، من كبار الملوك الأيوبيّين بمصر، ولد و نشأ بالقاهرة، و ولي بعد خلع أخيه سنة 637 ه، فضبط الدولة بحزم، و عمر بمصر ما-
أهل البيت في مصر ،ص:84
في عام 640 هجرية، و قد رمّمه الصالح و وسّعه، و ألحق به ساقية و ميضأة «1»، و وقف عليه أراضي.
و ظلّت العناية بالمشهد الحسيني أيام المماليك، فالظاهر بيبرس «2» حين بيعت قطعة أرض بجانب المشهد من حقوق الفاطمي، ردّ ثمنها و هو 6 آلاف درهم و وقفها على الجامع. ثم إنّ الناصر محمد قلاوون «3» وسّع المسجد عام 684 هجرية.
و في العصر العثماني تم توسيع المسجد نظرا للإقبال الشديد عليه من جماهير
مصر المؤمنة، و صنعت له مقصورة من أبنوس مطعّم بالصدف، عليه ستر من الحرير المزركش، و نقلت إلى المشهد الحسيني في احتفال كبير وصفه الجبرتي بأنّها حملت و أمامها طائفة الرفاعية و الصوفية بطبولهم و أعلامهم، و بأيديهم المباخر الفضية و بخور العود و العنبر، و بأيديهم قماقم ماء الورد يرشّونه على الناس.
______________________________
لم يعمره أحد من ملوك بني أيوب، و في أواخر أيامه أغار الفرنج على دمياط سنة 647 ه و احتلوها، و كان غائبا في دمشق، فلمّا قدم مات بناحية المنصورة، و نقل إلى القاهرة. راجع الاعلام 2: 38.
(1). الميضأة و الميضاة: الموضع يتوضّأ فيه، أو المطهرة يتوضّأ منها.
(2). بيبرس العلائي البندقداري الصالحي، الملك الظاهر، صاحب الفتوحات، ولد سنة 625 ه بأرض القپچاق، ثم أسر و بيع في سيواس، ثم نقل إلى حلب، و منها إلى القاهرة فاشتراه الأمير علاء الدين البندقدار، و بقي عنده، فلمّا قبض عليه الملك الصالح نجم الدين الأيوبي أخذه فجعله في خاصة خدمه، ثم أعتقه، ثم اصبح «أتابك العسكر» بمصر أيام الملك المظفّر، ثم استولى على سلطنة مصر و الشام سنة 658 ه، و كان يباشر الحروب بنفسه، و له وقائع مع التتر و الافرنج، و أخباره و عمائره كثيرة، توفّي بدمشق سنة 676 ه و مرقده معروف فيها، أقيمت حوله المكتبة الظاهرية. راجع النجوم الزاهرة 7: 94.
(3). محمد بن قلاوون بن عبد اللّه الصالحي، من كبار ملوك الدولة القلاوونية، ولد سنة 684 ه بدمشق، و أقام فيها مدّة طفولته، ثم ولي سلطنة مصر و الشام سنة 693 ه و هو صبي، و خلع منها لحداثته بعد عام، و أعيد إليها سنة 698 ه فأقام بالقلعة كالمحجور عليه، و
الأعمال كلّها بيد الأمير بيبرس و نائب السلطنة الأمير سلّار، و استمرّ الحال نحو عشرين سنة، و ضاق بالأمر فأظهر العزم على الحجّ، و توجّه بعائلته و حاشيته و مماليكه و خيله، حتّى بلغ الكرك فنزل قلعتها و استولى على ما فيها من أموال، ثم وثب فدخل دمشق، ثم زحف إلى مصر فقاتل المظفّر بيبرس حتّى ظفر به فقتله خنقا بيديه و شرّد أنصاره، و امتلك قيادة الدولة و استمرّ حكمه 32 عاما، كانت له فيها سير و أنباء و عمران كثير، توفّي بالقاهرة سنة 741 ه. راجع الأعلام 7: 11.
أهل البيت في مصر ،ص:85
أمّا عبد الرحمن كتخدا فقد أعاد بناء المسجد عام 1175 هجرية، و عمل له صهريجا و حنفية، و خصّص رواتب لخدمه و سدنته «1».
ثم إنّه في عهد الخديوي «2» إسماعيل- كما يقول علي باشا مبارك- أعاد عمارته و تشييده، و استغرق ذلك عشر سنوات، و فرش بالفرش النفيسة، و نوّر بالشموع و الزيوت الطيّبة و الأنفاس الغازية في قناديل البلّور، و رتّبوا له فوق الكفاية من الأئمة و المؤذّنين و المبلّغين و البوّابين و الفرّاشين و الكنّاسين و الوقّادين و السقّائين و نحو ذلك، و أوقفوا عليه أوقافا جمّة بلغ إيرادها نحو ألف جنيه في السنة.
و كما يقول علي مبارك كمهندس قام بتصميم البناء الحالي: و قد صرفت هذه العمارة 79 ألف جنيه من ميزانية الأوقاف، هذا عدا ما تبرّع به الأمراء و عليّة القوم.
و يذكر أنّه أحضرت للمسجد الأعمدة الرخامية من القسطنطينية، و قد احتوى صحن الجامع على 44 عمودا، كما بني له المئذنة الكبيرة الحالية على الطراز العثماني، و هي تشبه القلم الرصاص، و على هذه المئذنة لوحتان بخطّ
السلطان عبد المجيد خان.
*** على أنّنا لا يمكن أن نتحدّث عن المشهد الحسيني دون أن نتحدّث عن غرفة تجاور الرأس الشريف، و هذه الغرفة أنشأها عباس حلمي الثاني «3» لمجموعة من
______________________________
(1). عجائب الآثار في التراجم و الأخبار لعبد الرحمن الجبرتي 1: 492.
(2). الخديوي: لقب أطلق على بعض الحكّام، منحه السلطان العثماني عبد العزيز لإسماعيل باشا والي مصر عام 1867 م، ثم أطلق على أفراد سلالة محمد علي في مصر. راجع المنجد في الاعلام: 267.
(3). عباس حلمي بن توفيق بن إسماعيل، حفيد محمد علي، و يعرف بالخديوي عباس حلمي الثاني، أحد الذين حكموا مصر، ولد بالقاهرة سنة 1874 م و تعلّم بمدرسة عابدين، و ولي الخديوية بعد وفاة أبيه 1892 م بإرادة سلطانية من الآستانة، نشبت الحرب العالمية الأولى و هو في أوربا، فتأخّرت عودته، فخلعته الحكومة البريطانية التي بسطت سيطرتها على مصر آنذاك، و ولّت أحمد فؤاد مكانه، فاستقرّ في لوزان بسويسرا، و قضى بقية عمره مغتربا حتّى توفّي فيها سنة 1944 م (1874 ه) و نقل جثمانه إلى القاهرة ليدفن فيها. راجع الاعلام 3: 261.
أهل البيت في مصر ،ص:86
الآثار النبوية الشريفة، كانت قد نقلت إلى المشهد الحسيني عام 1305 هجرية، و حفظت في دولاب في الجدار الجنوبي الغربي للمزار الشريف.
و هذه الغرفة الآن مفروشة بالسجّاد الثمين، و فيها مصابيح و ثريات بلّورية نادرة، و جدرانها مكسوّة بالرخام المجزّع «1»، و بها محراب صغير، كما أنّها تحتوي على دولاب عبارة عن دولاب حائط، و هو فجوة في الجدار قوي ظهرها بقضبان من حديد، و كسيت بالجوخ «2» الأخضر، و لهذه الفجوة باب من خشب الجوز المطعّم بالعاج «3» و الصدف و الآبنوس «4»، و كتب
بأعلى الباب بأحرف من عاج: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «5».
هذه الغرفة لها بابان: أحدهما يفتح على المسجد، و الآخر يفتح على مشهد الإمام الحسين، و في داخل الدولاب الآثار النبوية الشريفة، و تشمل: قطعة من قميص الرسول صلّى اللّه عليه و آله و مكحلة، و مرودا «6»، و قطعة من قضيب، و شعرات من شعره الشريف، ثم مصحفين كريمين بالخطّ الكوفي على رقّ «7» غزال: أحدهما منسوب لعثمان رضي اللّه عنه، و الثاني لسيدنا علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
و هذه الآثار النبوية الشريفة- كما تقول المصادر- تداولها آل البيت، و تسارع عليها الخلفاء و الأمراء.
و قد ذكرت المصادر أيضا أنّ ما تركه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد وفاته: ثوبا حبرة «8»،
______________________________
(1). المجزّع: ما فيه سواد و بياض.
(2). الجوخ: النسيج من الصوف.
(3). العاج: أنياب الفيل.
(4). الآبنوس: نوع من الشجر، يكثر في البلدان الحارّة، خشبه ثمين يميل إلى السواد، و عوده صلب للغاية.
(5). النساء: 58.
(6). المرود: الميل يكتحل به.
(7). الرقّ: جلد رقيق يكتب عليه، و ذلك لمّا يخترع الورق بعد.
(8). الحبر من الثياب: ما كان موشيا و مخطّطا.
أهل البيت في مصر ،ص:87
و إزار عثماني، و ثوبان صحاريان، و قميص صحاري «1»، و قميص سحولي «2»، و سراويل، و جبّة يمانية، و خميصة أو كساء أبيض، و قلانس «3» ... و مجموعات من شعره الشريف «4».
أمّا هذه الآثار الموجودة بالمشهد الحسيني فهي بعض ما خلّفه الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و قد قامت د. سعاد ماهر بدراسة هذه الآثار، و يقال: إنّ هذه الآثار في مصر، كانت عند بني إبراهيم في مدينة «ينبع» بالحجاز، و هؤلاء توارثوها، و
في القرن السابع الهجري 13 ميلادي، في عصر الظاهر بيبرس، اشترى هذه الآثار الشريفة من بني إبراهيم الوزير المصري الصاحب تاج الدين، و لكن اختلفت المصادر على المبلغ الذي دفعه، فمصادر تقول: إنّه دفع فيها 60 ألف درهم فضة، و قيل: مبلغ 250 ألف درهم، و قيل كذلك مائة ألف درهم. و هذه الآثار نقلت إلى مصر، و حفظت بمكان على النيل سمّي «رباط الآثار» أو «الرباط الصاحبي التاجي»، و عرف مؤخّرا باسم «أثر النبي» في حي مصر القديمة.
و هذا الرباط لأهميته كان له شيخ بوظيفة «شيخ الآثار النبوية»، و كان هذا الشيخ من القضاة الموثوق بهم، و منهم من ذكره ابن إياس في حوادث 889 هجرية و هو الشيخ ولي الدين أحمد. و في الضوء اللامع للسخاوي ذكر في عام 870 هجرية كان شيخ الآثار هو ولي الدين أبو زرعة أحمد بن محمد الذي نقل قاضيا لدمياط.
و الواقع أنّه كما اختلف المؤرّخون- على عادتهم- على ثمن شراء هذه المخلّفات النبوية من بني إبراهيم، فقد اختلفوا أيضا في نوعها و عددها، و لكنّهم يذكرون
______________________________
(1). صحاري: منسوب إلى صحار، و هي قرية باليمن اشتهرت بصناعة القمصان و الثياب.
(2). قال ابن الأثير: يروى بفتح السين و ضمّها، فالفتح منسوب إلى السحول، و هو القصّار؛ لأنّه يسحلها، أي يغسلها، أو إلى سحول و هي قرية باليمن. و أمّا الضمّ فهو جمع سحل، و هو الثوب الأبيض النقي، و لا يكون إلّا من قطن ... و قيل: إنّ اسم القرية بالضمّ أيضا. راجع النهاية 2: 760.
(3). القلانس و القلانيس و القلاس و القلاسي: جمع قلنسوة، نوع من أنواع ملابس الرأس، و يكون على هيئات متعدّدة.
(4). راجع البداية و النهاية
6: 3 و ما بعده.
أهل البيت في مصر ،ص:88
الكثير عن رباط الآثار، و كيف بني و من بناه، و مهاجمة مياه الفيضان له، و اهتمام الخلفاء و السلاطين به، و منهم الأشرف شعبان «1» في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري، و منهم أيضا السلطان برقوق «2» عام 784 هجرية.
و المهم أنّ هذه المخلّفات النبوية الشريفة ظلّت في رباط الآثار إلى أن نقلت منه إلى قبّة السلطان الغوري «3» عام 926 هجرية أو قبل هذا التاريخ؛ خشية السرقة، بعد أن تصدّع مبنى رباط الآثار.
و لقد بقيت هذه الآثار بقبّة الغوري حوالي ثلاثة قرون، إلى أن نقلت في عام 1275 هجرية، و بعدها نقلت إلى ديوان عموم الأوقاف، ثم في عام 1305 هجرية نقلت إلى سراي عابدين، و من سراي عابدين إلى المشهد الحسيني في دولاب خاصّ، إلى أن أنشئت لها الغرفة الحالية عام 1311 هجرية.
و عملية النقل من قصر عابدين إلى المشهد الحسيني جرت في احتفال كبير تقدّمه رجال الطرق الصوفية ... و تقدّمه الشيوخ و البكري و السادات و قناصل الدول
______________________________
(1). شعبان بن حسين بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، من ملوك الدولة القلاوونية بمصر و الشام، ولد عام 754 ه بالقاهرة، و ولي السلطنة بعد خلع ابن عمه محمد بن حاجي سنة 764 ه، عرف بحبّه للعلم و أهله، كثير البرّ و الصدقات، و قد اضطرب أمر الجيش مدة، و في عام 778 ه لما أراد الحجّ ثار عليه بعض مماليكه، فعاد فقاتلهم، لكنّه انهزم و عاد إلى القاهرة و اختفى فيها، و اكتشفوا مخبأه و قبضوا عليه، ثم خنقه الأمير اينبك البدري و رماه في بئر. راجع الدرر الكامنة 2: 190، الأعلام
3: 164.
(2). الظاهر برقوق بن آنص- أو أنس- العثماني، أول من ملك مصر من الشراكسة، جلبه إليها أحد تجار الرقيق فباعه فيها، ثم أعتق و ذهب إلى الشام فخدم نائب السلطنة، و عاد إلى مصر، و تقدّم في دولة المنصور القلاووني، و انتزع السلطنة من آخر بني قلاوون سنة 874 ه، و انقادت إليه الشام و مصر، قام بأعمال من الاصلاح، و بنى المدرسة البرقوقية بمصر توفي بالقاهرة سنة 792 ه. راجع الضوء اللامع 3: 10.
(3). قانصوه بن عبد اللّه الظاهري الأشرقي الغوري، الملقّب بالملك الأشرف سلطان مصر، جركسي الأصل، خدم السلاطين، و ولي حجابة الحجاب بحلب، ثم بويع بالسلطنة بقلعة الجبل في القاهرة سنة 905 ه، كان ملمّا بالأدب، له ديوان شعر، قصده السلطان سليم العثماني سنة 922 ه بجيش جرّار، فقاتله لكنّه انهزم عسكر الغوري، فأغمي عليه و هو على فرسه، فمات قهرا. راجع خطط المقريزي 3: 420- 421، الأعلام 5: 187.
أهل البيت في مصر ،ص:89
و غيرهم، و سار الموكب الكبير من قصر عابدين، بشارع عبد العزيز، فالعتبة الخضراء، إلى شارع محمد علي، فميدان باب الخلق، فطريق تحت الربع، فالسكرية، فالعقادين بالغورية، فالسكّة الجديدة إلى أن وصلت إلى المشهد الحسيني.
و لكن يأتي سؤال هنا: هل هذه المخلّفات النبوية الشريفة الموجودة بالمشهد الحسيني هي المخلّفات الموجودة و التي تمّ توارثها منذ عصر النبوة؟
إنّ في المشهد الحسيني- كما أحصت د. سعاد ماهر- ثلاث قطع من النسيج، و قطعة من القضيب- أي العصا- و المكحلة، و المسبل أو المورد، و بعض شعر اللحية و الرأس الشريف.
و بالطبع فهناك الكثير في عالم الإسلام في استانبول، و پاكستان، و تونس، بل هناك في المسجد الأحمدي في «طنطا» غرفة
خاصّة و خزانة بها شعرات من شعر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
الواقع أنّه منذ أن مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- بل و قبل وفاته صلّى اللّه عليه و آله- كانت مثل هذه المخلّفات الشريفة مطلبا للمسلمين، يحفظونها بين أحداق العيون، بمعنى أنّه لم يكن بنو إبراهيم في «ينبع» وحدهم الذين توارثوا مخلّفات الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فالكثير كان لديهم الكثير من المخلّفات الشريفة، بل أنّه في مصر أيضا كانت هناك كثير من المخلّفات الشريفة- خاصّة الشعرات- في الخانقاوات و المساجد و المقتنيات الخاصّة.
و هذا يعني أنّ في المشهد الحسيني قليلا من كثير من الآثار النبوية الشريفة، بل أنّه- و هذا ما يثبت وجهة نظري- في المشهد الحسيني- كما أحصيت- 15 شعرة من شعرات الرسول صلّى اللّه عليه و آله الشريفة، فبعضها اشتري من بني إبراهيم، و بعضها أهدي للمشهد الحسيني. و هذا يؤكد ما قيل من أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله كان يهدي شعره بين الناس! «1»
______________________________
(1). أخرج مسلم 2: 947 كتاب الحج ح 1305 عن أنس: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى و نحر، ثم قال للحلّاق: «خذ» و أشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس. و في أخرى: فأعطاه أبا طلحة فقال: «اقسمه بين الناس».
أهل البيت في مصر ،ص:90
ثلاثة من الرءوس الشريفة لثلاثة من آل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جاءت إلى مصر لترصع جبينها، و تصبح لآلئ و محاور بركة، و مقامات تزار، ليس لأهل مصر وحدهم، و إنّما لمحبّي و عاشقى آل البيت رحمة
اللّه عليهم، الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا.
و الرءوس الشريفة، حسب الترتيب التاريخي لدخولها مصر هي كالآتي:
الأول: رأس سيدي زيد بن علي زين العابدين ابن الإمام الحسين رضي اللّه عنهم، و هو مدفون في المشهد المنسوب لسيدي علي زين العابدين، في الحي المعروف بذلك الاسم، و كان يعرف في عصور الإسلام الأولى «الحمراء القصوى» أو هو مدفون قرب ضريح نجله سيدي حسن الأنور، قرب سور مجرى العيون.
الثاني: رأس سيدي إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن المثنّى ابن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب، و جدّته لأبيه السيدة فاطمة النبوية. و هذا الرأس مدفون في حي المطرية، في شارع البرنس «ماهر حاليا».
و الثالث: رأس سيد شباب أهل الجنة، سيدي الإمام الحسين بن علي، في الحي الذي يحمل اسمه (و قد أفضنا في الرأس الشريف و كيف جاء مصر).
فالمعروف أنّ سيدي زين العابدين هو الوحيد الذي بقي من بني الحسين بن علي بعد مأساة كربلاء، و قد عاش حياته قطبا كبيرا، نفحة عطرة زكية، و أنجب بذورا صالحة، منها سيدي زيد.
أهل البيت في مصر ،ص:91
و في نطاق اغتصاب بني أمية للخلافة من آل البيت، كان سيدي زيد أول من طالب بحقّه في الخلافة في أيام الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، فكانت الجفوة و الصراع مع الخليفة الأموي، و كانت السبب في خروج سيدي زيد على بني أمية.
و كما سار جدّه الإمام الحسين رضي اللّه عنه إلى الكوفة، سار إليها أيضا سيدي زيد، و في اللحظات الأخيرة حين همّ بالعودة إلى المدينة المنوّرة؛ لعدم ثقته بأهل الكوفة، أقنعوه بالنصر و البقاء و محاربة الأمويّين معه، قائلين له: نعطيك الأيمان و العهود و المواثيق
ما تثق به، فإنّا نرجو أن تكون المنصور، و أن يكون هذا الزمان الذي تهلك فيه بنو أمية!
و ما زال أهل الكوفة على إغرائهم- و هم الذين خذلوا جدّه- حتّى اقتنع سيدي زيد، و بقي هناك.
و هكذا نشب القتال بين سيدي زيد و مناصريه و بين يوسف بن عمر والي الكوفة، من قبل هشام بن عبد الملك. و تفرّق الكوفيّون كعادتهم! من حول سيدي زيد، ليبقى في فئة قليلة من أهله يحارب الأمويّين، حتّى سقط شهيدا في صفر عام 122 ه، و قبل زوال ملك الأمويّين بعشر سنوات.
و اختلفت المصادر على مكان دفن رأس سيدي زيد، فقيل: إنّ جسده الشريف حمل إلى الكوفة ثم أحرق و ذرّ رماده في النهر؛ ليكون عبرة لمن تحدّثه نفسه بالخروج على الأمويّين! «1»
و قيل: إنّ رأسه احتزّ، و بعث به إلى الخليفة الأموي، فنصبه على باب دمشق: ثم أعيد الرأس الشريف إلى المدينة «2».
______________________________
(1). تاريخ دمشق 19: 477، بغية الطلب 9: 4046، المعرفة و التاريخ 3: 348، وفيات الأعيان 6: 111 ترجمة هيثم بن عدي، مروج الذهب 3: 220 ذكر أيام هشام بن عبد الملك، أمالي الصدوق: 321 مجلس (62) ح 3، تاريخ الإسلام 8: 106 و غيرها
(2). البداية و النهاية 9: 344 حوادث سنة 122 ه.
أهل البيت في مصر ،ص:92
لكن أغلب المؤرّخين يقولون: إنّ الرأس جاء مصر، فالكندي في كتابه «الولاة و القضاة» و هو من المؤرّخين الثقات، يؤكّد قدوم الرأس إلى مصر «1».
و في «الجوهر المكنون» نصّ يقول: «إنّه بعد قدوم رأسه- يقصد رأس سيدي زيد- إلى مصر، طيف به، ثم نصب على المنبر الجامع بمصر- جامع عمرو- في سنة 122 ه فسرق، و دفن في هذا
الموضع، إلى أن ظهر، و بني عليه المشهد في عهد الدولة الفاطمية».
رأس سيدي إبراهيم بن عبد اللّه، المدفون في مشهده، داخل المسجد الحالي، الذي يعرف باسم مسجد سيدي إبراهيم، في حيّ المطرية. و هو مسجد تعدّدت أسماؤه في الماضي، فقد عرف باسم مسجد التبر، و مسجد التبن، و مسجد البئر، و مسجد الجميزة.
أمّا الاسم الذي يعتمد على أسانيد تاريخية صحيحة، كما ترى الدكتورة سعاد ماهر في كتابها «مساجد مصر و أولياؤها الصالحون» فهو مسجد «تبر» أو مسجد «سيدي إبراهيم»، و لكلّ دلالة.
لكن، من هو سيدي إبراهيم الذي تدور الحياة حوله في المطرية، و يأتيه الزوّار من كلّ أنحاء عالم الإسلام؟
سيدي إبراهيم كما تجمع المصادر عليه هو إبراهيم الجواد ابن عبد اللّه المحض ابن الحسن المثنّى ابن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب، و هو من أوائل الذين جمعوا بين سلالة الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما، من خلال جدّه الحسن المثنّى ابن الحسن السبط، و من خلال جدّته السيدة فاطمة النبوية بنت الحسين بن علي.
______________________________
(1). الولاة و القضاة 1: 82. و يذكر أنّ ياقوت الحموي يذهب إلى هذا الرأي حينما يتكلّم عن مصر فيقول:
«و على باب الكورتين مشهد فيه مدفن رأس زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتل بالكوفة، و أحرق، و حمل رأسه فطيف به الشام، ثم حمل إلى مصر فدفن هناك». معجم البلدان 5: 143.
أهل البيت في مصر ،ص:93
و ثابت في المصادر أنّ سيدي إبراهيم قتل في عهد الخليفة المنصور العباسي سنة 145 ه.
و كما يقول المقريزي في خططه «1»: «أرسل إلى مصر فنصب في المسجد الجامع العتيق» أي مسجد عمرو بن العاص.
و يقول المؤرّخ أبو
المحاسن في كتابه «النجوم الزاهرة» «... و بينما الناس في ذلك، قدم يزيد برأس إبراهيم بن عبد اللّه فنصب في المسجد أياما، في محلّة مطر، و هو الاسم القديم للمطرية» «2».
و في «الولاة و القضاة» للكندي يقول: «ثم قدمت إلى مصر رأس إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن علي بن أبي طالب، في ذي الحجّة سنة خمس و أربعين و مائة، لينصبوه في المسجد الجامع، و قامت الخطباء فذكروا أمره ...» «3».
و يقول القضاعي في كتابه «عيون و فنون أخبار الخلايف» حول مسجد سيدي إبراهيم: «مسجد تبر بني على رأس إبراهيم بن عبد اللّه، أنفذه المنصور، فسرقه أهل مصر، و دفنوه هناك ...» و يقصد بهناك أي المطرية.
أمّا الشيخ الشبلنجي في «نور الأبصار»، فهو يحقّق الاسم، و يذكر بعضا ممّا جرى لسيدي إبراهيم، و يقول: «هو إبراهيم بن عبد اللّه المحض، أخو محمد المهدي- يقصد محمد النفس الزكية- و كان مرضي السيرة، من كبار العلماء» «4».
قال أبو الحسن المعمري: «قتل إبراهيم في ذي الحجّة سنة خمس و أربعين و مائة، و هو ابن ثمان و أربعين سنة، و حمل ابن أبي الكرام رأسه الشريفة إلى مصر».
_____________________________
(1). المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط و الآثار 4: 280 ذكر مسجد تبر.
(2). النجوم الزاهرة 1: 121.
(3). الولاة و القضاة 1: 42. و في نور الأبصار: 406: «و قال الكندي في كتابه الأمراء ...» و ذكر هذا النصّ.
(4). نور الأبصار: 406.
أهل البيت في مصر ،ص:94
و السؤال الذي ينبغي طرحه هنا لنعرف تسلسل الأحداث حول آل البيت: كيف قتل سيدي إبراهيم؟ و لما ذا؟ و كيف جاء رأسه الشريف إلى مصر بالذات دون بقية الولايات أو الأمصار الإسلامية؟
حين انتهت دولة
الأمويين في 132 ه، و ظفر العباسيون بالخلافة، أدرك آل علي بن أبي طالب أنّ أبناء عمومتهم من العباسيّين قد خدعوهم و استأثروا بالخلافة دونهم، مع أنّهم- بالطبع- أحقّ بها منهم.
و طبيعة الأمور أن ينشأ نتيجة لذلك صراع يغذّيه و ينفخ في جذوته الكثيرون من المخلصين، و أيضا الكثير من المتآمرين على دين الإسلام، و الذين يعرفون كيف يصيدون في المياه العكرة.
و هكذا، ألقت الظروف على كلّ من محمد و إبراهيم ولدي عبد اللّه المحض أن يكونا أول المطالبين بالخلافة لبني علي، و أول الخارجين من آل البيت على العباسيّين، رغم أنّ محمدا و إبراهيم لم يكونا وحدهما من أعمدة آل البيت في ذلك الوقت، فقد كان هناك من أحفاد الإمام الحسين: جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي، إمام الشيعة الإمامية، لكنّه لم يحرّك ساكنا، و أوصى أصحابه و مشايعيه بالخلود إلى السكينة، حتّى تحين الفرصة الذهبية «1».
______________________________
(1). لكن من يقف على سيرته عليه السّلام يجده أنّه كان يحضّ على الجهاد بالنفس و المال، و يقول للمسلمين: «الجهاد واجب مع إمام عادل، و من قتل دون ماله فهو شهيد» (بحار الأنوار 97: 23، وسائل الشيعة 15: 49).
و كان يرى الانحياز إلى الظالمين تمكينا لهم، و الجهاد مع العادلين تثبيتا للاسلام، فقد سأل يوما عبد الملك بن عمرو الأحول الكوفي (من الممدوحين): «لم لا تخرج إلى هذه الديار التي يخرج إليها أهل بلادك؟» أي تجاهد مع الولاة، فقال عبد الملك: انتظر أمركم، فقال الإمام: «اي و اللّه، لو كان خيرا ما سبقونا إليه».
و لمّا سأله عبد الملك أنّ البعض يقولون أنّك لا ترى الجهاد، أجابه: «أنا لا أرى الجهاد؟!
... بلى و اللّه، إنّي أراه، لكنّي أكره أن ادع حلمي إلى جهلهم». راجع جواهر الكلام 21: 13، الإمام الصادق عليه السّلام للمستشار عبد الحليم الجندي: 414.
أهل البيت في مصر ،ص:95
كان محمد- إذا- و أخوه إبراهيم أوّلي المطالبين بالحقّ، و محمد كان الأخ الأكبر لإبراهيم «1».
و لذلك فقد طالب محمد النفس الزكية بالخلافة، و ساعده أخوه إبراهيم استنادا على دعواه الأساسية من أنّه من أولاد علي و فاطمة الزهراء، و هو الوصي و الإمام كما ذكر ذلك في خطابه إلى أبي جعفر المنصور، ضمن الخطابات التي تبودلت بينهما و سجّلتها كتب التاريخ، و أهمّها كتاب ابن طباطبا: «الفخري في الآداب السلطانية».
و كان محمد قد طالب بحقّه أيضا استنادا إلى أحداث و اتّفاقات جرت في أواخر دولة الأمويّين يقول عنها ابن طباطبا: «إنّ بني هاشم من العلويّين و العباسيّين اجتمعوا في مغرب دولة الأمويّين، و تذكّروا حالهم، و ما تعرّضوا له من الاضطهاد، و ما آل إليه بنو أمية من الاضطراب، و ميل الناس إلى آل البيت، و رغبتهم في أن تكون لهم دعوة، و اتّفقوا على مبايعة محمد النفس الزكية، الذي كان في ذلك الوقت من سادات بني هاشم، علويّيهم و عباسيّيهم، فضلا و شرفا و علما، و كانت مبايعته بعد اجتماع حضره كبار آل البيت، و منهم الإمام جعفر الصادق و عبد اللّه المحض، و ابناه
______________________________
(1). محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الملقّب بالنفس الزكية، أحد الأشراف من الطالبيّين، ولد سنة 93 ه بالمدينة و نشأ بها، كان غزير العلم شجاعا حازما، لما ذهب ملك الامويّين و قامت دولة العباسيّين تخلّف هو و أخوه إبراهيم عن الوفود
على السفّاح، ثم على المنصور، و لم يخف المنصور ما في نفسه، فطلبه و أخاه، فتواريا بالمدينة، فقبض على أبيهما و اثني عشر من أهلهما، و أذاقهم العذاب حتّى ماتوا في الحبس بالكوفة بعد سبع سنوات، فعن ذاك خرج محمد ثائرا في (250) رجلا، فقبض على المدينة و بايعه أهلها، و أرسل أخاه إلى البصرة فغلب عليها و على الاهواز و فارس، و جرت مراسلات بينه و بين المنصور انتهت بقتال بعد ما أرسل له المنصور جيشا بأربعة آلاف فارس، فقاتلهم محمد بثلاثمائة رجل على أبواب المدينة، و لمّا اشتدّ الأمر تفرّق عنه أصحابه فقتله عيسى بن موسى و بعث برأسه إلى المنصور سنة 145 ه.
و أمّا أخوه فسيّر الجموع نحو الكوفة، فكانت بينه و بين جيوش المنصور وقائع هائلة، إلى أن قتله حميد بن قحطبة، و بعث برأسه إلى المنصور في تلك السنة التي قتل فيها أخوه محمد. راجع الاعلام 6:
220 و 1: 48.
أهل البيت في مصر ،ص:96
محمد و إبراهيم، كما حضره أبو العباس السفّاح، و المنصور، و غيرهم».
ثم تغرب شمس الأمويّين.
و لكنّ العباسيّين ها هم الذين يخلفون الأمويّين و يضربون بالاتّفاق عرض الحائط، و من هنا يمتنع محمد النفس الزكية و أخوه إبراهيم عن مبايعة أبي العباس السفّاح، و حين حاول أخوه المنصور أن يأخذ له البيعة في الحجاز، يمتنع النفس الزكية عن البيعة؛ لأنّه أحقّ بها، و يمتنع أخوه تدعيما له.
و كان لا بدّ من احتدام الصراع الذي وصل إلى حدّ استخدام السلاح، و القتل و الصلب، و احتزاز الرءوس!
حين ولي المنصور الخلافة! كانت دعوة محمد النفس الزكية و إبراهيم قد جمعت حولها الأنصار و المشايعين، و صارت خطرا يهدّد الدولة العباسية،
و هنا رأى المنصور أنّه لا بدّ من التخلّص منهما، و لا بدّ من الظفر بهما، مع إعمال كلّ الحيل، كما يقول الطبري في تاريخه الجزء التاسع «1».
بل إنّ المنصور العباسي أصدر تعليماته إلى واليه بالمدينة المنورة، أن يبذل كلّ ما في طاقته للقبض على الأخوين، لكنّ الوالي- في الواقع- تهاون في القبض عليهما، بل إنّه اتّصل سرّا بمحمد النفس الزكية، و ساعده على الهروب من المدينة المنورة، فسافر إلى عدن، ثم إلى السند، ثم إلى الكوفة، بعدها عاد إلى المدينة المنورة بعد أن جمع عددا كبيرا من الأعوان و المشايعين.
و هنا يقسو المنصور على واليه في المدينة، فيعزله، بل يأمر بتكبيله بالحديد، و يحبسه بعد أن يصادر أمواله، و يولّي مكانه خالد بن عبد اللّه القسري الذي اتّهم أيضا بالتهاون و التفريط في مصادرة النفس الزكية و أخيه إبراهيم، ثم يولّي المنصور على المدينة رباح بن عثمان بن حيّان، و هو عم مسلمة بن عقبة المرّي قائد معركة
______________________________
(1). تاريخ الطبري: حوادث سنة 144 ه.
أهل البيت في مصر ،ص:97
«الحرّة» في عهد يزيد بن معاوية الأموي.
و يتولّى مسلمة بن عقبة المرّي المدينة المنورة سنة 141 ه، و يعتلي المنبر يخطب في أهل المدينة مهدّدا إذا ساند أهلها محمدا النفس الزكية و أخاه إبراهيم، و يستخدم في خطبته ألفاظا لا تختلف عن ألفاظ خطبة الحجّاج بن يوسف الثقفي في أهل الكوفة.
لكن أهل المدينة لم يخافوا، بل أعلنوا الاستمرار في موقفهم، و تدفّق شعورهم حماسة نحو آل البيت، فرجموا الوالي بالحصى، حتّى أنّه بعث للمنصور يشكو له ما حدث من أهل المدينة.
و هنا تثور ثائرة المنصور، و يبعث بخطاب يتوعّد فيه أهل المدينة، و يقرأ الخطاب من فوق
المنبر مسلمة بن عقبة المرّي، فكان نصيبه مثلما حدث له أثناء خطبته العنترية السابقة.
لكن، ما العمل و المنصور يشدّد على واليه في طلب محمد النفس الزكية و أخيه إبراهيم؟
هنا يبدأ التنكيل الحقيقي بآل البيت من قبل العباسيّين، و يأتي مسلمة بن عقبة المرّي بعبد اللّه المحض، والد محمد و إبراهيم من سجنه، و كان المنصور قد حبسه بعد قيام ابنيه و معارضتهما مبايعة العباسيّين، و هدّد مسلمة عبد اللّه بالويل و الثبور و عظائم الأمور إن لم يأته بابنيه.
و يزداد الاضطهاد و التنكيل، فيقبض مسلمة على إبراهيم القمر، و الحسن المثلّث أخوي عبد اللّه المحض، و عمّي محمد و إبراهيم و من يناصرهما في المدينة المنورة «1».
كلّ ذلك يحدث و الأخوان مختفيان.
و حين عرفا ما حلّ بأهلهما، بعث محمد- كما يقول اليعقوبي في تاريخه «2»
______________________________
(1). راجع مقاتل الطالبيين: 140 و ما بعده.
(2). تاريخ اليعقوبي 2: 221.
أهل البيت في مصر ،ص:98
و المسعودي في مروج الذهب و معادن الجوهر «1»- إلى أبيه في سجنه بمن يشاوره، لكنّ أباه شجّعه على الكفاح و النضال من أجل حقّ آل البيت، هذا رغم ما كان يلاقيه الأب و أسرته من اضطهاد و تعذيب.
و هنا بدأ محمد و إبراهيم يعدّان العدّة للخروج من دعوتهما السرّية إلى الدعوة العلنية، و يستفحل أمرهما، ممّا أزعج المنصور؛ لأنّهما هدّدا أركان الدولة العباسية بأسرها.
و يحجّ المنصور في سنة 144 ه، و يأتي إلى المدينة المنوّرة، فجاءوا له بالمسجونين من آل البيت؛ لينكل ببعضهم، و يرسل البعض الآخر إلى سجون أخرى، على أقتاب جمال بغير و طاء، جمال بغير سروج و غطاء- كما يقول الطبري «2»- و يحبس أغلبهم في سراديب تحت الأرض، لا يفرّقون فيها
بين ضياء النهار و سواد الليل.
و يزيد المنصور في تعذيب كبار آل البيت، حتّى يموت عبد اللّه المحض و أخواه:
إبراهيم القمر و الحسن المثلث، خنقا داخل السراديب المظلمة.
و كان لا بدّ لمحمد النفس الزكية و أخيه إبراهيم من الظهور، بعد ما جرى لأهلهما أهل البيت النبوي الكريم.
و فعلا ظهرا علنا في جمادى الآخرة سنة 145 ه- 762 م. ظهر محمد النفس الزكية بعد أن بايعه الناس بالإمامة في مكة و المدينة، أي الحجاز، و تلقّب بأمير المؤمنين. و قد شجّعه أيضا على الظهور فتوى الإمام مالك بنقض بيعة المنصور، حين قال لأهل المدينة: «إنّما بايعتم مكرهين، و ليس على مكره يمين».
كما شجّع محمدا النفس الزكية و إبراهيم على الظهور تلك الخطابات التي جاءت من الأمصار الإسلامية بتأييد الناس له، و هي خطابات- كما يقول المؤرّخون- غالبيتها دسيسة من تدبير الخليفة المنصور و أعوانه؛ لكي يظهر محمد و أخوه و يسهل على العباسيّين اصطيادهما.
______________________________
(1). مروج الذهب 3: 306، 310.
(2). تاريخ الطبري 6: 174 حوادث سنة 144 ه، و انظر تاريخ الإسلام 9: 18 حوادث سنة 144 ه.
أهل البيت في مصر ،ص:99
يظهر محمد و إبراهيم، و يكون الصراع سافرا بين من لهم الحقّ، و من اغتصبوا هذا الحقّ.
و يرسل محمد أخاه إبراهيم إلى البصرة لنشر دعوته و أخذ البيعة له، و قبلها توجّه الاثنان و أشياعهما إلى سجن المدينة، و أخرجا من لا يزال حيّا فيه من آل البيت، كما قبضا على والي المنصور و حبساه.
و قيل: إنّ المنصور حاول أن يقبض على إبراهيم و هو في طريقه إلى البصرة متخفّيا، لكنّه- أي المنصور- لم يوفّق.
و بالفعل وصل إبراهيم إلى البصرة «سرّا في عشرة أنفس» كما يقول
الذهبي «1» ...
و وجد الأشياع كثيرين، و استولى على دار الإمارة بعد أن هزم والي المنصور هناك، و قد شدّ من أزره و رحّب به فقهاء البصرة و غيرهم من ذوي الجاه و الرأي هناك.
و انضوت الزيدية و المعتزلة تحت لوائه بمعاونة الإمام أبي حنيفة، و راسله سرّا. كما سبق أن ذكرنا فتوى الإمام مالك للنفس الزكية.
و قد استطاع إبراهيم إدخال أهل واسط و الأهواز و فارس في دعوته، و حصل منهم على اعتراف بمبايعة أخيه محمد النفس الزكية بالإمامة، بل إنّ الأخوين- قبل ذلك- أرسلا إلى الأمصار الإسلامية، و منها مصر التي رحّبت بذلك.
و يوالي محمد و إبراهيم انتصاراتهما. و بدت الصورة أنّ الخلافة العباسية أوشكت على زوالها.
و لكنّ الأخبار تصل إلى إبراهيم بمقتل أخيه النفس الزكية في المدينة المنورة، و قبل عيد الفطر بثلاثة أيام في عام 145 الهجري.
فقد أرسل المنصور إلى المدينة بجيش كبير، و حين وجد محمد النفس الزكية أنّه لا قبل له بجيش المنصور أشار عليه البعض أن يرحل إلى مصر؛ لأنّه سيجد فيها
______________________________
(1). سير أعلام النبلاء 6: 219.
أهل البيت في مصر ،ص:100
أرضا خصبة و قلوبا مفتوحة مرحّبة و مشايعة، لكنّ البعض الآخر رجوه أن يبقى في المدينة و يصمد، رغم أنّ المدينة من الناحية الاستراتيجية العسكرية غير صالحة.
و قد انقاد النفس الزكية للرأي الذي غلب ببقائه في المدينة لحرب قوات المنصور، و كان لا بدّ ممّا ليس منه بدّ، إذ كانت المدينة هي المصيدة بالنسبة لمحمد النفس الزكية الذي هزم و قتل و احتزّ رأسه.
و في كتاب «العبر في خبر من غبر»: «أنّ محمدا النفس الزكية ظهر في المدينة المنوّرة، و خرج في مائتين و خمسين نفسا بالمدينة، فندب
الخليفة المنصور لحربه ابن عمّه عيسى بن موسى، يدعوه إلى الإنابة، فلم يسمع، ثم أنذر عيسى أهل المدينة و رغّبهم و رهّبهم، ثم زحف إلى المدينة فظهر عليها، و قتل محمدا و بعث برأسه إلى المنصور» «1».
و قد أثّر في إبراهيم مقتل أخيه. حتّى أنّه صعد إلى المنبر و نعاه، فأبكى الناس «2».
و يقال: إنّ إبراهيم جمع حوله مائة ألف محارب، و أنّه لو أحكم التخطيط لانهزمت الدولة العباسية. و كان المنصور يستشعر هذا الأمر، فجنّد كلّ القوى ضد إبراهيم، و أرسل إليه المنصور- ابن عمّه- عيسى بن موسى الذي قتل النفس الزكية، بجيش عباسي كبير، فدارت معركة هائلة في «باخمرى» «3»، أو «باغمرى»، ما بين واسط و الكوفة، و كادت الهزيمة تلحق بالجيش العباسي، لو لا أنّ عيسى بن موسى ثبت في المعركة، و أبى أن يغادر ساحتها حتّى يقتل أو ينتصر.
و ما زال الفريقان يقتتلان، حتّى بدا أنّ جيش إبراهيم ينهزم، بعد أن تخلّى عنه
______________________________
(1). العبر في خبر من غبر: 2: 147.
(2). الكامل في التاريخ 5: 565، و انظر تاريخ الطبري 6: 25.
(3). باخمرى: موضع بين الكوفة و واسط، و هو إلى الكوفة أقرب، و ايّاها عنى الشاعر دعبل بن علي بقوله:
و قبر بأرض الجوزجان محلّه و قبر بباخمرا لدى الغربات راجع معجم البلدان 1: 316.
أهل البيت في مصر ،ص:101
الكثيرون. و مع ذلك فإنّ إبراهيم ثبت في عدد قليل من أنصاره، حتّى أصيب بسهم في حلقه، فأنزلوه و هو يقول: «و كان أمر اللّه مقدورا، أردنا أمرا و أراد اللّه غيره».
و بسرعة حمل عيسى بن موسى على إبراهيم و من بقي معه، و كان عددهم سبعين رجلا، فتفرّق عنه حتّى أنصاره. و جاء ابن
قحطبة- من قوّاد عيسى بن موسى- فاحتزّ رأس إبراهيم و أرسله للمنصور في يوم الاثنين لخمس ليال بقين من ذي القعدة سنة خمس و أربعين و مائة.
يقول د. حسن إبراهيم حسن في كتابه «تاريخ الإسلام السياسي»: «كانت هزيمة إبراهيم بسبب تقسيمه جيشه إلى كراديس يقدّم منها إلى المعركة كردوسا، فإذا انهزم قاد آخر، و هكذا، بمعنى أنّ إبراهيم لم يقاتل بجيشه صفّا واحدا ... بالإضافة إلى أنّ الخطّة التي رسمها مع أخيه النفس الزكية في المدينة المنوّرة لم تنفّذ، و هي خطّة كانت تهدف بدء القتال في المدينة و الكوفة في وقت واحد، و قيل: إنّ تأخّر إبراهيم في بدء القتال يرجع إلى مرضه. و قيل أيضا: إنّ تعجّل أخيه محمد للحرب كان سبب الهزيمة، و لو خرج الأخوان في وقت واحد لحرب قوات المنصور، لتغيّر وجه التاريخ» «1».
هزّ مقتل سيدي إبراهيم- شهيد باخمرى- أركان دولة العباسيّين هزّا عنيفا، و كاد يصدع أركانها، حتّى أنّ المؤرّخ الحافظ الذهبي يقول: «إنّ الخليفة العباسي المنصور مكث لا يقرّ له قرار، فجهّز العساكر، و لم يأو إلى فرش خمسين ليلة، و كلّ يوم يأتيه فتق في ناحية» «2». و المقصود بالفتق هنا هو الهبّات و الثورات على الحكم العباسي.
و يضيف الذهبي عن المنصور العباسي: «... و لو لا السعادة لثلّ عرشه بدون ذلك، فلو هجم إبراهيم بالكوفة لظفر بالمنصور، و لكنّه كان فيه ديّن- أي إبراهيم- قال:
______________________________
(1). تاريخ الإسلام السياسي و الديني و ... 2: 137- 138. و يذكر أنّ خروج محمد كان بالمدينة أول رجب سنة 145 ه، و كان ظهور أخيه إبراهيم بالبصرة في أول رمضان من تلك السنة، أي بعد شهرين من ظهور النفس الزكية.
(2).
تاريخ الإسلام 9: 39 حوادث سنة 145 ه.
أهل البيت في مصر ،ص:102
أخاف إن هاجمتها يستباح الصغير و الكبير، و كان أصحابه يختلفون عليه» «1».
و الواقع أنّه من بين أسباب هزيمة إبراهيم- خلافا لما ذكرنا- أنّ الخليفة المنصور استطاع أن يحتفظ بالكوفة؛ لأنّها موقع استراتيجي، و أثناء ثورة إبراهيم ألزم الناس بلبس السواد، و جعل يقتل كلّ من اتّهم بالتعاون و التعاطف مع العلويّين، و يحبسه. و لو أنّ سيدي إبراهيم سيطر على الكوفة بجانب البلدان التي ذكرناها لتغيّرت المقادير، خاصّة و أنّ محمدا النفس الزكية و إبراهيم بعد أن خرجا بعثا بإخوتهما و أبناء عمومتهما إلى الأمصار الإسلامية ليأخذوا البيعة لمحمد.
ففي مصر- كما يقول «ابن ظهيرة» في كتابه «الفضائل الباهرة في محاسن مصر و القاهرة»-: «و في أيام يزيد بن هاشم والي مصر من قبل الخليفة المنصور، ظهرت بمصر دعوة بني الحسن بن علي بن أبي طالب، و تكلّم بها الناس، و بايع منهم لبني الحسن في الباطن، و ماجت الناس بمصر، و كاد أمر بني الحسن أن يتمّ، و البيعة كانت باسم علي بن محمد بن عبد اللّه، أي ابن محمد النفس الزكية أخي إبراهيم، و بينما الناس في ذلك، قدم يزيد برأس إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن علي بن أبي طالب في ذي الحجّة سنة خمس و أربعين و مائة، فنصب في المسجد أياما»!
و هذا يعني أنّ مصر، كولاية إسلامية، لعبت دورا خطيرا و مرموقا في هذه الثورة العلوية، بل إنّ مصر، منذ أيام كربلاء و ربّما قبلها، أيام الخلاف بين علي عليه السّلام و معاوية، أعلنت تعاطفها مع آل البيت، و لذلك فليس بغريب أن نجد الكثير من آل بيت
النبي صلّى اللّه عليه و آله مدفونين بمصر.
______________________________
(1). تاريخ الإسلام 9: 40 حوادث سنة 145 ه، سير أعلام النبلاء 6: 222 رقم 106 ترجمة إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن.
أهل البيت في مصر ،ص:103
بقلم حنفي المحلاوي د. سعاد ماهر مأمون غريب
أهل البيت في مصر ،ص:105
حنفي المحلاوي من هم آل البيت ... أو آل بيت النبوة؟!
سؤال نردّده كثيرا، و في المناسبات عديدة- و نتناوله في كثير من الأحوال بالبحث و الدراسة- و قد نعثر على الإجابة المطلوبة.
إلّا أنّ البعض منّا يريد تحديدا أكثر لما يسمعه من إجابات، خاصة حين يأتي الحديث عن آل البيت الذين وفدوا و عاشوا في مصر حتّى توفّاهم اللّه تعالى، و تركوا وراء ظهورهم آثارا لا تزال باقية، نستظلّ بها، و نعيش في رحابها.
و كان علينا أيضا- و نحن بصدد الحديث عن «مقابر» آل البيت و صفاتهم و عملهم و أخلاقهم- أن نردّد هذا التساؤل، و ذلك من أجل إحداث نوع من الربط التاريخي الواجب لما سوف نتلوه من كلمات، و بين ما هو شائع من أقوال و أقاويل عن أهل البيت رضي اللّه عنهم أجمعين.
و الحديث عن توصيف أهل البيت، و تحديد ماهيّتهم بالضبط، قد بدأ يتردّد بقوة حين أنزل ربّ العالمين هذه الآية الكريمة: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
______________________________
(1). مقتبس من كتاب مقابر المشاهير من آل البيت، ط. القاهرة 2000 م.
أهل البيت في مصر ،ص:106
أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33]. إذ حاول المفسّرون تحديد المقصود بأهل البيت الذين جاء ذكرهم بتلك الآية الكريمة، و قد انقسموا إلى فريقين ... ما ساهمت الموسوعات العربية في وضع تعريف لهؤلاء القوم الصالحين من أسرة النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله، و قد أخذت هذه الموسوعات في تعريفهم بأكثر الروايات رواجا في مجال التفسير.
و ممّا ذكرته تلك الموسوعات القول بأنّ المقصود بأهل البيت: أسرة النبي صلّى اللّه عليه و آله؛ تمييزا عن المهاجرين
و الأنصار.
أمّا مفسّرو أهل السنّة- و الكلام لا يزال لمؤلّف الموسوعة العربية- فيجعلون تسمية أهل البيت تتّسع من وجوه شتّى، لتشمل فروع بني هاشم و ما لهم من موال، و على رأسهم أزواج النبي و أبناؤه ... و يقول العلويون في تفسير معنى «أهل البيت» ... فهم عندهم: علي و فاطمة و نسلهما، و هم طاهرون مطهّرون «1».
و قد أكّدت بعض الأحاديث الشريفة: أنّ أهل البيت الذين قصدهم ربّ العالمين في هذه الآية إنّما هم زوجات النبي صلّى اللّه عليه و آله و أولاده و بناته، خاصّة فاطمة رضي اللّه عنها، و الإمام علي و ولداه الحسن و الحسين ... مصداقا لما ذكره بعض المفسّرين من أنّه حين نزلت الآية الكريمة: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33]. جمع النبي صلّى اللّه عليه و آله ابنته فاطمة و ولديها الحسن و الحسين، و توجّه إلى اللّه و قال: «هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا» «2».
______________________________
(1). الموسوعة العربية: حرف الألف.
(2). حديث الكساء و جمعه صلّى اللّه عليه و آله أهل بيته: فاطمة و بعلها و بنيها تحته من الأحاديث المتواترة على ألسنة الحفّاظ و أعلام الحديث و فحول الرواية و الفقهاء و المؤرّخين، و غير قابل للإنكار و إن اختلفت بعض الألفاظ، و هذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 10: 278 برقم 5396 ترجمة عبد الرحمن بن علي المروزي، باسناده إلى أبي سعيد الخدري، و العقيلي المكي في الضعفاء الكبير 3:
304 برقم 1313 ترجمة عمران بن مسلم الفزاري الأزدي، و علّة ضعف سند الحديث بعمران هذا الذي يذكره سبب ضعفه على لسان مجاهد:
«رافضي»، ثم قال: و هذا الحديث يروى بإسناد أصلح من هذا. يريد-
أهل البيت في مصر ،ص:107
أمّا القول الأغلب و الأعمّ- و الذي يتمسّك به معظم المفسّرين، و كتّاب السيرة النبوية- فإنّ المقصود بأهل البيت هم أسرة النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله و بناته و أحفاده «1».
و قد حدّثتنا كتب السيرة النبوية عن هذه الأسرة الكريمة، سواء فيما يخصّ زوجات النبي صلّى اللّه عليه و آله أو فيما يخصّ أولاده و بناته و أحفاده من الذين عاصروا أيامه العظيمة صلّى اللّه عليه و آله أو من الذين لم يعاصروا هذه الأيام الطيبة، كما حدّثتنا هذه الكتب نفسها عن أماكن معيشة هؤلاء و أماكن تواجدهم من مولدهم حتّى وفاتهم.
و قد اتّضح لنا أنّ غالبية أسرة النبي صلّى اللّه عليه و آله قد عاشت ما بين مكّة و المدينة، ثم استقرّ بها المقام نهائيا في مدينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التي اختارها بعد هجرته الشريفة ... و قد ظلّوا يعيشون بالمدينة المنوّرة حتّى توفّاهم اللّه تعالى، و دفنوا جميعا بأرض البقيع.
و هناك من أحفاد الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله من ترك المدينة المنوّرة متّجها إلى العراق، و منهم من اتّجه إلى مصر، و كان توقيت ذلك قد بدا واضحا بعد مقتل عثمان بن عفان، ثم حدث ما حدث من خلاف بين المسلمين الذين انقسموا بين مؤيّدين لعلي بن أبي طالب، و مؤيّدين لمعاوية بن أبي سفيان.
هذا الخلاف كان بداية تفرّق أحفاد رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه و آله و تركهم المدينة: إمّا إلى العراق حيث الحرب ضدّ الفتن، و إمّا إلى مصر، طلبا للأمان، و فرارا من البطش و العدوان.
______________________________
ما رواه
الترمذي في السنن 5: 351 ب 34 من أبواب تفسير القرآن، تفسير سورة الأحزاب ح 3205.
و يذكر أنّ الشاهد الذي يدليه المؤلّف يخالف ما ادّعاه بأنّ بعض الأحاديث الشريفة يؤكّد أنّ أهل البيت الذين قصدهم ربّ العالمين في الآية انّما هم زوجات النبي و أولاده و بناته، خاصّة فاطمة و ...!! إذ أنّ الرواية صريحة بخروج الجميع عدا فاطمة و بعلها و بنيها الذين خصّهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالدعاء بالتطهير، و يقوّيه ما في ذيل الرواية التي ذكرها من أنّ أم سلمة زوج النبي صلّى اللّه عليه و آله قالت: أ لست منهم؟ فقال: «إنك لعلى خير أو إلى خير».
(1). لم يزد المؤلّف في هذا القول عمّا ذكره في قوله السابق، بل قول الأغلب و الأعم من المفسّرين و أصحاب السيرة فيتجلّى فيما رواه أبو سعيد الخدري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أنّ الآية نزلت في خمسة (لا سبعة و لا أكثر):
«فيّ و في علي و الحسن و الحسين و فاطمة». راجع كتاب السيدة نفيسة للأستاذ توفيق أبو علم: 69- 70 ط. المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ففيه بحث رائع في هذا النطاق.
أهل البيت في مصر ،ص:108
و ممّا هو ثابت تاريخيا أنّ أهل البيت من أحفاد النبي صلّى اللّه عليه و آله قد بدءوا يتوافدون على مصر بعد معركة كربلاء.
و كان أشهر من وفد إلى مصر من أحفاد النبي صلّى اللّه عليه و آله، سواء الأحفاد المباشرون أو غير المباشرين: الإمام الحسين رضي اللّه عنه، و ابنه الإمام زين العابدين، و حفيده الإمام زيد، و الإمام الجعفري.
و كذلك السيّدات العابدات المؤمنات باللّه و بالقدر حلوه و
مرّه: السيدة زينب، و السيدة رقيّة، و السيدة عائشة، و السيدة نفيسة، و السيدة سكينة، و السيدة فاطمة النبوية، و السيدة أم كلثوم رضي اللّه عنهم أجمعين.
إنّه الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، سيد شباب أهل الجنّة، أبو عبد اللّه، ريحانة النبي صلّى اللّه عليه و آله و شبيهه.
ولد الإمام الحسين رضي اللّه عنه في اليوم الثالث أو الخامس من شهر شعبان «1» عام أربعة من الهجرة، الموافق 564 م، و قد أسماه النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله حسينا، فهو و أخوه سيّدا شباب الجنة، و أمّه فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيدة نساء العالمين بعد السيدة مريم عليها السّلام «2».
______________________________
(1). يذكر أنّ ولادته عليه السّلام في الثالث من شعبان بالمدينة المنوّرة، لكن المشهور أنّ ولادته كان لخمس خلون منه. راجع مقاتل الطالبيين: 51، كشف الغمة للإربلي 2: 215، الفصول المهمة: 170، نور الأبصار: 253، أبو الشهداء الحسين بن علي للعقّاد: 14- 15 ط المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
(2). و في السياق أخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك 3: 156 بسنده عن عائشة قالت: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال و هو في مرضه الذي توفّي فيه: «يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، و سيدة نساء هذه الأمة، و سيّدة نساء المؤمنين؟» ثم قال الحاكم: هذا إسناد صحيح.
أهل البيت في مصر ،ص:109
و ممّا روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في هذا السياق أنّه قال: «هما ريحانتاي من الدنيا» «1».
و عن أبي يعلى بن مرّة رضي اللّه عنه، قال: قال رسول
اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الحسين منّي و أنا منه ...
من أحبّ الحسين أحبّه اللّه ... حسين سبط من الأسباط» «2».
و جاء في مسند أحمد بن حنبل عن سبب تسمية الحسين بن علي بهذا الاسم، قال: إنّ عليا رضي اللّه عنه قال عن ذلك: «لمّا ولد الحسن سمّيته حربا، فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: «أروني ابني، ما ذا سمّيتموه؟» قلت: حربا! قال: «بل هو حسن». فلمّا ولد الحسين، سمّيته حربا! فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: «أروني ابني، ما سمّيتموه؟» قلت:
حربا! فقال: «بل هو حسين» «3».
كما يروى في هذا السياق أنّ رسول للّه صلّى اللّه عليه و آله قد عقّ يوم سبوعه بكبش، و حلق رأسه و تصدّق بزنته فضة، و أذّن في أذنه، و دعا له «4».
و الإمام الحسين بن علي رضي اللّه عنه اسمه و ذكره ملآ الدنيا في عصره و من بعده في كلّ مكان في البلاد الإسلامية و العربية، فهو لذلك غنى عن التعريف بنسبه الشريف، و مكان من محبّة النبي صلّى اللّه عليه و آله.
______________________________
(1). أخرجه البخاري 3: 1371 ب 22 مناقب الحسن و الحسين من أبواب فضائل الصحابة ح 3543، و في 5:
2234 ب 18 رحمة الولد و تقبيله من أبواب كتاب الأدب (81) ح 5648 عن عبد اللّه بن عمر، و أحمد في المسند 2: 85، 93 عن ابن عمر، و الطبراني في المعجم الكبير 3: 127 برقم 2884 عن ابن عمر.
(2). أخرجه الإمام أحمد 4: 172، و ابن ماجة 1: 51 ب 11 في فضائل أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أبواب المقدّمة ح 144، و
الترمذي في السنن 5: 658 ب 31 من أبواب المناقب ح 3775، و الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 181، و الطبراني في الكبير 3: 32 برقم 2586 و رقم 2589 و فيها: «أحبّ اللّه من أحبّه ...».
كما و رواه ابن الأثير في أسد الغابة 2: 19 ترجمة الحسين بن علي عليهما السّلام برقم 1173، و الحاكم في المستدرك 3: 177، و الأدب المفرد للبخاري: باب معانقة الصبي، و فضائل الخمسة للفيروزآبادي 3: 316.
(3). مسند أحمد 1: 98، 118 بإسناده عن هانئ بن هانئ عن علي عليه السّلام. و رواه البيهقي في السنن 6: 166 و 7: 63، و الحاكم في المستدرك 3: 165، 180 عن هانئ بن هانئ، و رواه الطبرسي في إعلام الورى:
225 ف 3 ذكر بعض خصائصه و مناقبه عليه السّلام عن مسند الرضا عليه السّلام.
(4). البداية و النهاية 8: 152، مولد العلماء و وفياتهم 1: 168، إعلام الورى: 225، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 25.
أهل البيت في مصر ،ص:110
و لقد أصبح ذلك الإمام الشهيد بعد مأساة كربلاء سيد الشهداء، و رمز الإيمان و الفداء، و موضع الحبّ و التقدير، كما كانت لهذا الإمام التقي مناقب كثيرة، كانت حديث العام و الخاصّ في حياته، و قد خلّدها التاريخ فوق صفحاته؛ إذ كان كثير الصلاة و الصوم و الصدقة و الحجّ و أفعال الخير جميعا.
أمّا بخصوص حادث مقتله في كربلاء فقد تحدّث عنها التاريخ طويلا، و ذكرها العشرات من المؤرّخين «1» ... و تتلخّص وقائعها فيما سوف نرويه مختصرا، و قد نقلناه من مصادر عديدة، إذ ليس من هدفنا في هذه الأوراق سرد تلك الوقائع بالتفصيل التاريخي، إلّا بالقدر الذي يخدم موضوعنا الأساسي،
و هو الحديث عن الضريح الذي أقيم له بالقاهرة من بعد وصول رأسه الشريف بعد مقتله في كربلاء، و قد دفن جسده وفق الإجماع في مدينة كربلاء، من بعد الشهادة مباشرة.
و لقد صوّر العديد من المؤرّخين المسلمين الأوائل هذه المأساة تصويرا بليغا، كما عبّروا من خلال كلماتهم عمّا كان يمرّ به العالم الإسلامي آنذاك من مشاكل، أودت بحياة العديد من آل بيت النبوة.
و ممّا ذكره العلّامة محمد بن علي طباطبا المعروف باسم «الطقطقي» عن هذه المأساة قوله: «هذه قضية لا أحبّ بسط القول فيها؛ استعظاما لها و استفظاعا، فإنّها قضية لم يجر في الإسلام أعظم منها ... و لعمري إنّ قتل أمير المؤمنين عليه السّلام هو الطامّة الكبرى، و لكن هذه القضية جرى فيها من القتل الشنيع و السبي و التمثيل ما تقشعرّ له الجلود، و اكتفيت أيضا عن بسط القول فيها بشهرتها، فإنّها شرّ الطامّات. فلعن اللّه كلّ من باشرها و أمر بها و رضي بشي ء منها، و لا تقبّل اللّه منه صرفا و لا عدلا، و جعله
______________________________
(1). انظر: اليعقوبي 2: 241- 247، و المسعودي 3: 64- 74، و الدولابي: 119- 121، و أبو الفرج الاصفهاني: 51- 81، و الخطيب 1: 141- 144، و المقدسي 6: 10- 13، و ابن عساكر 14: 111- 260 و الذهبي: 93- 108 حوادث سنة 61 ه، و ابن كثير 8: 149- 211، و العاصمي في سمط النجوم 3: 161- 198 و غيرهم.
أهل البيت في مصر ،ص:111
من الخاسرين أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا». في طبقاته، الجزء الأول.
و تعود قصة كربلاء و مأساتها التي انتهت بمقتل الإمام الحسين إلى عام 60 ه،
و ذلك بعد تولّي يزيد بن معاوية الحكم بعد وفاة والده معاوية في العام نفسه، و قد أراد يزيد أن يأخذ البيعة بتوليته خلافة المسلمين- بدلا من والده- من الإمام الحسين رضي اللّه عنه، فأرسل بذلك إلى أميره على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
و في لقاء الوليد مع الإمام الحسين لأخذ تلك البيعة رفض الإمام ذلك، و أصرّ على أن تكون البيعة عامة، و ليست قاصرة عليه وحده! و من ثم ترك الإمام الحسين المدينة و أقام في مكة قرابة شهرين بعيدا عن هذه الأجواء، و قد أخذ معه أهله و إخوته و بني أخيه.
في هذا الوقت، علم أهل الكوفة بوفاة معاوية و بتولّي يزيد ابنه الخلافة مكانه، فرفضوا هذا الأمر، و كتبوا إلى الحسين بن علي رضي اللّه عنه؛ لكي يكون هو إمامهم بدلا من يزيد، و أخذوا يرسلون له الرسائل بهذا المعنى، فما كان من الإمام الحسين إلّا أن أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب برسائل إلى هؤلاء الشيعة؛ ليعرف منهم موقفهم هناك، فسافر مسلم بن عقيل إلى الكوفة، و اجتمع بهؤلاء المتشيّعين للإمام الحسين، و أثناء وجوده هناك علم بذلك يزيد بن معاوية فأمر والي البصرة- و هو من أتباعه- أن يتعقّب رسول الإمام الحسين و يضرب عنقه و عنق من كانوا معه.
و بالفعل حدث ذلك، و قد أرسل والي البصرة رءوس هؤلاء إلى يزيد في دمشق، و ذكر ابن كثير: أنّ عدد الذين بايعوا الحسين بالكوفة بلغ حوالي ثمانية عشر ألفا «1»، أمّا ابن قتيبة فذكر أنّهم ثلاثون ألفا، كما ذكر أنّ الذين كانوا مع رسول الإمام الحسين ثمانين رجلا! «2».
______________________________
(1). البداية و النهاية 8: 154.
(2).
تاريخ الخلفاء 2: 8.
أهل البيت في مصر ،ص:112
و في اليوم الثامن من ذي الحجة من العام نفسه قرّر الإمام الحسين الزحف ناحية الكوفة، و قد شدّ من أزره آنذاك أهل مسلم بن عقيل للأخذ بثأره ممّن قتله، و قد قيل كلام كثير عن تلك التحذيرات التي لم يأخذ بها الإمام الحسين، حيث مضى إلى الكوفة لملاقاة جيش يزيد بن معاوية هناك.
و في كربلاء دارت معركة حامية، شارك فيها أكثر من ألف فارس من أتباع عبيد اللّه بن زياد والي البصرة و مبعوث يزيد بن معاوية، ثم انضم إليه بعد ذلك أربعة آلاف مقاتل آخرون.
و خلال ساعات استشهد كلّ أتباع و أصحاب الإمام الحسين، و ظلّ هو يحارب وحده حتّى مات شهيدا في كربلاء عام 61 ه الموافق 680 م، و قد عرفت باسم موقعة «الطف» الواقعة بجوار مدينة كربلاء.
و تقول الدكتورة سعاد ماهر أستاذ الآثار: «إنّه يكاد يكون هناك إجماع بين المؤرّخين و كتّاب السير على أنّ جسد الإمام الحسين- بالفعل- مدفون هناك بكربلاء و قد جاء في كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد «1» بشأن ذلك أنّه بعد أن احتزت الرأس و أخذت إلى ابن زياد بالكوفة، خرج قوم من بني أسد كانوا نزولا بالغاضرية إلى الحسين و أصحابه فصلّوا عليهم، و دفنوا الحسين حيث قبره الآن بكربلاء، كما دفنوا ابنه عليا عند رجليه، و حفروا للشهداء من أهل بيته و أصحابه حوله، كما دفنوا العباس بن علي في الموضع الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن ...» «2».
______________________________
(1). الشيخ المفيد هو أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان البغدادي، المعروف بابن المعلم، أحد مشاهير فقهاء الإمامية، و من أجلّة متكلّميها، انتهت إليه
رئاسة الإمامية في وقته، كان مقدّما في العلم و صناعة الكلام، له ما يقارب من مائتي مصنّف، ولد سنة 338 ه و قيل: 336، و توفي سنة 413 ه و دفن بداره سنين، ثم نقل إلى مقابر قريش. (فهرست الشيخ الطوسي: 186، 187، رجال النجاشي: 399 رقم 1067).
(2). مساجد مصر و أولياؤها الصالحون 1: 164.
أهل البيت في مصر ،ص:113
أمّا عن رأس الحسين- و التي ارتبطت بضريحه الموجود الآن بالقاهرة- فقد كثرت فيه الأقوال و تضاربت الآراء «1»، و اختلفت الروايات و كتب السيرة في تحديد مكان تواجده ... و لسوف نسوق بعض هذه الأماكن التي ذكرت في هذا السياق، ثم نتوقّف كثيرا أمام قبره و ضريحه الموجود الآن بالقاهرة بحي الحسين، و المجاور للأزهر الشريف.
و ممّا قيل عن ذلك: إنّ رأس الحسين رضي اللّه عنه قد دفنت في عدة أماكن قبل مقدمها إلى القاهرة. و قد ذكر ذلك كلّ من الأثري حسن عبد الوهاب، و الدكتورة سعاد ماهر، و آخرين.
و من الأماكن التي ذكرت بخصوص رأس الحسين: أنّها دفنت مع جسده في كربلاء، إذ أنّه أعيد إلى جسده الطاهر بعد أربعين يوما من موته، ثم قيل: إنّه دفن في المدينة المنوّرة. و قد ذكر ذلك ابن سعد في طبقاته و البخاري في تاريخه، حيث ذكرا: أنّ رأس الحسين حمل إلى المدينة و دفن بها في البقيع عند قبر أمه رضي اللّه عنها.
أمّا طائفة الشيعة الإسماعيلية فقد ذكروا: أنّ رأس الإمام الحسين تمّ دفنها في مدينة دمشق و جاء في المقريزي «2»: «مكث الرأس مصلوبا بدمشق ثلاثة أيام، ثم أنزل في خزائن السلاح حتّى ولي سليمان بن عبد الملك، فبعث فجي ء به و قد صار عظما
أبيض، فجعله في سفط، و طيّبه و جعل عليه ثوبا و دفنه في مقابر المسلمين».
كما أنّ هناك أقوالا أخرى ضعيفة تقول بوجود الرأس في «حلب»، و أنّ الرأس مدفون في حلب في وسط جبل جوشن، و قد بنى عليه الملك الصالح ابن الملك العادل نور الدين، و لكنّه لم يذكر متى و كيف جي ء بالرأس الشريف إلى هناك؟!
______________________________
(1). ذكر الشبلنجي الشافعي هذه الآراء ضمن فصل أسماه «فصل: اختلفوا في رأس الحسين» من كتابه نور الأبصار: 269.
(2). المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط و الآثار 2: 328.
أهل البيت في مصر ،ص:114
ثم قالوا: إنّ رأس الإمام الحسين قد دفن أيضا في مدينة «مرو» بأرض خراسان، و كذلك في مدينة «عسقلان» بأرض الشام ... و منها نقل إلى مصر حيث دفن في مقامه الموجود حاليا.
و قد أيّد رواية الرأس الشريف بعسقلان و نقله منها إلى مصر جمهور كبير من المؤرّخين و الرواة، منهم: ابن ميسر، و القلقشندي، و ابن إياس، و سبط ابن الجوزي.
الدكتورة سعاد ماهر في العصر الأيوبي أنشأ أبو القاسم بن يحيى بن ناصر السكري المعروف بالزرزور! منارة على باب المشهد سنة 634 ه (1236 م). و هي منارة مليئة بالزخارف الجصّية و النقوش البديعة، و هي تعلو الباب الأخضر، و قد تهدّم معظمها، و لم يبق منها إلّا القاعدة المربّعة، و عليها لوحتان تأسيسيتان، و نصّ الأولى: «الشيخ الصالح المرحوم أبو القاسم بن يحيى المعروف بالزرزور ابتغاء وجه اللّه و رجاء ثوابه، و كان تمامها على يدي ولده محمد سنة ثلاث و ثلاثين و ستمائة عفا اللّه عنه». و نصّ الثانية: «بسم اللّه الرحمن الرحيم الذي أوصى بإنشاء هذه المئذنة المباركة على باب مشهد السيد
الحسين تقرّبا إلى اللّه، و رفعا لمنار الإسلام، الحاج إلى بيت اللّه أبو القاسم بن يحيى بن ناصر السكري المعروف بالزرزور، تقبّل اللّه منه، و كان المباشر بعمارتها ولده لصلبه الأصغر، الذي أنفق عليها من ماله بقية عمارتها خارجا عمّا أوصى به والده المذكور، و كان فراغها في شهر شوال سنة أربع و ثلاثين و ستمائة».
و قد احترق هذا المشهد في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب «1» سنة 640 ه،
______________________________
(1). هو أبو الفتوح نجم الدين أيوب بن محمد بن أبي بكر، من كبار الملوك الأيوبيين بمصر، ولد سنة-
أهل البيت في مصر ،ص:122
و كان سبب الحريق كما يرويه المقريزي و أبو المحاسن: «أنّ أحد خزّان الشمع دخل ليأخذ شيئا فسقطت منه شعلة، فوقف الأمير جمال الدين نائب الملك الصالح بنفسه حتّى طفئ».
و قد قام بترميمه بعد هذا الحريق القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني و وسعه، و ألحق به ساقية و ميضأة، و وقف عليه أراضي خارج الحسينية قريب الخندق «1».
و في العصر المملوكي سنة اثنتين و ستين و ستمائة، رفع إلى الملك الظاهر ركن الدين بيبرس قضية موضوعها: أنّ مسجدا على باب مشهد الحسين رضي اللّه عنه و إلى جانب مكان من حقوق القصر، بيع و حمل ثمنه للديوان و هو ستة آلاف درهم، فأمر السلطان بردّ الدراهم و أبقى الجميع للمسجد، فاتّسع نطاقه و زاد رونقا و بهاء بما صرفه عليه من تلك الأموال.
و في عهد الملك الناصر محمد بن قلاوون أمر بتوسيع المسجد، و ذلك ببناء إيوان و بيوت للفقهاء العلوية، و كان ذلك عام أربعة و ثمانين و ستمائة.
و في العصر العثماني أمر السلطان سليمان خان بتوسيع المسجد، و ذلك لمّا رآه
من الإقبال العظيم من المصلّين و الزائرين، كذلك عنى الوالي العثماني السيد محمد باشا الشريف الذي ولي مصر في سنة 1004 ه إلى سنة 1006 ه، بترميم المشهد و إصلاح زخارفه، أمّا الأمير حسن كتخدا الجلفي فإنّه وسّع المشهد، و زاد في مساحته، و صنع له تابوتا من أبنوس مطعّم بالصدف و العاج، و جعل عليه سترا من الحرير المزركش، نقله إليه في احتفال كبير.
و يصف الجبرتي ذلك الاحتفال فيقول: «لمّا تمّموا صناعته، وضعوه على قفص
______________________________
603 ه، بالقاهرة، و نشأ بها، ولي بعد خلع أخيه العادل سنة 637 ه، و ضبط الدولة بحزم، عمر مصر ما لم يعمره أحد من ملوك بني أيوب، مات سنة 647 ه بناحية المنصورة بمرض السلّ، فنقل إلى القاهرة و دفن فيها. (الأعلام 2: 38، مرآة الزمان 8: 775).
(1). الحسينية: اسم حيّ من الأحياء الشعبية التي تقع خارج القاهرة.
أهل البيت في مصر ،ص:123
من جريد و حمله أربعة رجال، و على جوانبه الأربعة أربعة عساكر من الفضة المطلية بالذهب، و مشت أمامه طائفة الرفاعية بطبولهم و أعلامهم و بين أيديهم المباخر ...، حتّى وصلوا المشهد الشريف و وضعوا ذلك الستر على المقام» «1».
و أمّا الأمير عبد الرحمن كتخدا فقد قام بإصلاحات كثيرة، ففي سنة 1175 ه أعاد بناء المسجد، و عمل به صهريجا و حنفية بفسحة، و أضاف إليه إيوانين، كما رتّب لسدنته و القائمين عليه مرتّبات كثيرة ظلّ معمولا بها حتّى سنة 1206 ه، حيث أصبحت أوقاف المسجد تحت نظارة السيد محمد أبي الأنوار الوفائي، فألحق بالمسجد ضررا كبيرا.
و يقول الجبرتي في ترجمة المذكور: «إنّ أبا الأنوار كان له دار بجوار المسجد، و لوجودها قبالة الميضأة و المراحيض كان يتضرّر
من سكّانها، فعزم على إبطال دورة المياه من تلك الجهة، فاشترى دارا قبلي المسجد و أدخل فيها جانبا فيه بمقدار باكية، و رفعها درجة؛ ليميّز الحديث من العتيق، و جعل به محرابا، و أنشأ فيما بقي من الدار الميضأة و المراحيض، و فتح لها بابا من داخل المسجد، و أبطل الدورة القديمة لانحراف مزاجه منها، و تأذّيه من رائحتها» «2».
و تحوّل عبور الناس إلى الميضأة الحديثة من المسجد، و لم تمض أيام قلائل حتّى أضرّت الروائح الكريهة بمن في المسجد من المصلّين و الزائرين، و ظهرت بالمسجد أقذار البلل من أرجل الأوباش لقربها منه، فغلظ الناس و شنوا القالة، و لم يحضر من أوقات الصلاة من أتراك خان الخليلي و التجّار أحد. ثم قاموا قومة واحدة و أغلقوا الباب، و أبطلوا تلك الميضأة و المراحيض الحديثة بالقوة، و منعوا الناس من الدخول، و ساعدهم المنصفون من أجناسهم، فاضطرّ أبو الأنوار- كما
______________________________
(1). تاريخ عجائب الآثار 1: 170 حوادث سنة 1140 ه.
(2). المصدر السابق 2: 139 حوادث سنة 1206 ه.
أهل البيت في مصر ،ص:124
يقول الجبرتي- إلى إعادة الميضأة القديمة كما كانت، و جعل الحديثة مربطا للحمير! يستغلّ أجرته بعد أن أزال أثرها.
و لمّا قدم السلطان عبد العزيز 1279 ه و زار المقام الحسيني الشريف، أمر الخديوي إسماعيل بعمارته و تشييده على أتمّ شكل و أحسن نظام، و قد استغرقت هذه العملية عشر سنوات؛ إذ تمّت سنة 1290 ه. و قد أسهب علي مبارك في خططه في وصف الإنشاءات التي قام بها الخديوي إسماعيل، و لم يذكر أنّها تنفيذ لأمر السلطان عبد العزيز، فقد قال: «و فرش بالفرش النفيسة، و تنويره بالشموع و الزيوت الطيّبة و الأنفاس الغازية
في قناديل البلور، و رتّبوا له فوق الكفاية من الأئمة و المؤذّنين و المبلّغين و البوّابين و الفرّاشين و الكنّاسين و الوقّادين و السقّائين و نحو ذلك، و وقفوا عليه أوقافا جمّة يبلغ إيرادها نحو الألف جنيه».
و في بيان مدى الاهتمام بالمسجد الشريف، فيقول: «لمّا رأى أهمّية و ازدحام الناس عليه و ضيقه؛ لأنّ أرباب مظاهر الدين يسعون من كلّ فجّ على العربات و الخيل و البغال و الحمير، حتّى تزدحم أبوابه و طرقه، فيضرّ ذلك بالمارّة، خصوصا في المواسم، ففتح بجواره سنة 1295 ه (1878 م) شارع السكة الجديدة حتى وصل إلى تلول البرقية».
و كان علي مبارك هو الذي قام بعملية الرسم، إذ يقول: «و ندبني لعمل و رسم للجامع يكون به وافيا بمقصده الحسن، فبذلت الهمّة في ذلك، و عملت له الرسم اللائق بعظم شأنه، بحيث لو وضع عليه لكان مبرّا من العيوب، مع الاتّساع العظيم داخلا و خارجا، إذ جعلته منفصلا من كلّ جهة عن المساكن بشوارع و ميادين رحيبة، و جعلت شكله قائم الزوايا، و جعلت حدّه الأيمن بحذاء جدار القبّة الأيسر بالنسبة للمصلّي فيها، بحيث يكون الجداران واحدا، و حدّه الأيسر نهاية الحدّ الأيسر للصحن الذي به الحنفية الآن، و يصير هذا الصحن من ضمن الجامع، و حدّه
أهل البيت في مصر ،ص:125
الذي به المحراب و المنبر يكون بحذاء جدار القبّة الذي به محرابها، بحيث يكون الجداران واحدا، و الحدّ الرابع الذي يلي خان الخليلي هو الذي له الآن، و جعلت الصحن و الحنفية عن يمين الجدار الأيمن، أعني في محلّ الإيوان القديم بجوار عمارة العناني، و تكون عن يمين ذلك المطهرة و الساقية بحيث يؤخذ لها بعض من عمارة العناني،
فيكون الجامع آمنا من انعكاس الروائح إليه. و في الرسم صار الضريح الشريف خارجا من الجامع في الزاوية التي عن يمين المحراب، داخلا في الصحن من جهته اليسرى، و جعلت للضريح بابا إلى الجامع، و بابا إلى الصحن، و بابا إلى شارع الباب الأخضر لزيارة النساء، و جعلت سعة الشارع في غربيّه و شرقيّه نحو ثلاثين مترا، و في بحريّه نحو أربعين».
أمّا الذي قام بتنفيذ المشروع فكان راتب باشا، إذ كان ناظر الأوقاف يومئذ، فقد تسارع في بناء المسجد جميعه ما عدا القبّة و الضريح الشريف، و تمّ البناء سنة 1290 ه، أمّا المنارة فقد تمّت سنة 1295 ه.
غير أنّ راتب باشا لم يلتزم برسم علي مبارك، و لذلك فإنّه انتقده نقدا لاذعا- و هو محقّ في ذلك- يقول: «إنّ راتب باشا بنى الجامع غير قائم الزوايا، فإنّ ضلعه الأيمن قصير عن ضلعه الأيسر، و كذا الضلعان الآخران غير متساويين، بحيث أوجب ذلك وضع الأساطين منحرفة، بحيث لو وافقتها صفوف المصلّين كما هو العادة لانحرفوا عن القبلة، و لو سامتوا القبلة كما هو المطلوب لقطعوا صفوف الأساطين، و صار الجامع مع سعته و ارتفاعه غير مستوف لحقّه من النور و الهواء؛ لسوء رسم الأبواب و الشبابيك، و عدم أخذها حقّها من الارتفاع و الاتّساع مع قلّتها و قلّة الملاقف».
و قد تكلّفت هذه العمارة- على حدّ قول على مبارك- تسعا و سبعين ألف جنيه صرفت من خزينة الأوقاف، هذا عدا ما تبرّع به الأمراء و عليّة القوم، فقد أحضرت له
أهل البيت في مصر ،ص:126
العمد الرخام من القسطنطينية، و ثلاثة أبواب مبنية من الرخام الأبيض جهة خان الخليلي، و مثلها الباب الأخضر الذي بجوار القبّة، و بالجامع
منبر خشبي بديع مطليّ بطلاء مذهّب، و هو في الأصل منبر جامع «أزبك» الذي كان عند العتبة الخضراء، فلمّا تخرّب المسجد نقل إلى مشهد الحسين، و في مؤخّرة المسجد دكّة تبليغ كبيرة، أمّا صحن الجامع فيحتوي على أربعة و أربعين عمودا عليها بوائك حاملة للسقف، و هو من الخشب المطليّ بزخارف نباتية و هندسية متعدّدة الألوان، و مذهّبة غاية في الدقّة و الإبداع، و في وسط السقف ثلاثة مناور مرتفعة مسقوفة كذلك، و بجدران المسجد الأربعة يوجد ثلاثون شبّاكا كبيرا من النحاس المطليّ بالذهب، و يعلوها شبابيك أخرى صغيرة دوائرها من الرخام.
و للمسجد مئذنتان: إحداهما قصيرة و قديمة، و هي التي بناها أبو القاسم ابن يحيى بن ناصر السكري المعروف بالزرزور سنة 634 ه (1236 م) فوق القبّة- كما سبق أن أشرنا- و قد طوّقتها لجنة حفظ الآثار بحزامين من الحديد محافظة على بقائها. أمّا المئذنة الثانية فتقع في مؤخّر المسجد، و هي مرتفعة و رشيقة على الطراز العثماني الذي يشبه المسلّة أو القلم الرصاص، و عليها لوحان بخطّ السلطان عبد المجيد خان، كتبهما سنة 1266 ه، بأحدهما سورة الأنعام الآية (90): أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ.
و الآخر: «أحبّ أهل بيتي إليّ: الحسن و الحسين» «1».
كذلك فرشت أرضية مصلّى الباب الأخضر بالسجّاد و البسط التركية، و بشرقي المسجد باب موصل إلى قاعة الآثار النبوية، التي أنشأها عباس حلمي الثاني سنة 1311 ه بعد أن بقيت هذه الآثار ستّ سنوات محفوظة في الدولاب الجميل الذي
______________________________
(1). أخرجه الذهبي في ميزان الاعتدال 4: 461 برقم 9855 عن أنس، و المتقي الهندي في كنز العمال 12:
116 برقم 34265
و عزاه إلى الترمذي عن أنس.
أهل البيت في مصر ،ص:127
صنع سنة 1305 ه في الطرف الجنوبي للجدار الشرقي للمسجد، و هي قاعة متّسعة الأرجاء، مفروشة بالسجّاد الدقيق الصنع، المستورد من إيران و تركيا، تضاء بالمصابيح و الثريات البلورية النادرة، و قد كسيت جدرانها بالرخام (المجزع) و بها محراب صغير، و سقفها من الخشب المنقوش، و نوافذها من الجصّ المخرّم و المعشّق بالزجاج الملون.
أمّا دولاب الآثار الشريفة فقد وضع في الجهة القبلية من القاعة، و هو عبارة عن فجوة كبيرة في الجدار، قوي ظهرها بقضبان من الحديد، و قد كسيت جدرانها و أرضيتها و سقفها بالجوخ «1» الأخضر، و في سطحها لوح من الزجاج لتوضع فوقه باقي الأمانات، و قد عمل لهذه الفجوة باب من خشب الجوز المطعّم بالعاج و الصدف و الآبنوس، و كتب بأعلاه بأحرف من العاج: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58].
و للقاعة الشريفة بابان: أحدهما إلى المسجد، و الآخر يؤدّي إلى القبّة. و قد كتب على جدران الغرفة من الداخل على الرخام البسملة و سورة أَ لَمْ نَشْرَحْ و بعد ذلك النصّ الآتي: «ذكر ما هو محفوظ بهذه الخزانة المباركة من آثار المصطفى صلّى اللّه عليه و آله و آثار خلفائه رضي اللّه عنهم أجمعين. تشتمل هذه الخزانة من الآثار النبوية على قطعة من قميصه الشريف، و مكحلة و مرود، و قطعة من القضيب، و شعرتين من اللحية الشريفة. و بها أيضا مصحفان كريمان بالخطّ الكوفي، أحدهما بخطّ سيدنا عثمان بن عفان رضي اللّه عنه، و الآخر بخط سيدنا الإمام علي كرّم اللّه وجهه. ذكر ما تركه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم وفاته ثوبا حبرة
و إزار عماني، و ثوبان صحاريان، و قميص صحاري، و قميص سحولي، و سراويل، و جبّة يمنية، و خميصة، و كساء أبيض، و قلانس، و فدك، و ثلث أرض وادي القرى، و سهم و خمس أرض خيبر، و حصته من أرض بني النضير».
______________________________
(1). الجوخ: نسيج من الصوف، فارسية، و القطعة منه جوخة.
أهل البيت في مصر ،ص:128
أمّا في عهد ثورة 23 يوليو سنة 1952 م، فقد عنيت عناية خاصة بتجديد مسجد الحسين و زيادة مساحته، و فرشه و إضاءته، حتّى يتّسع لزائريه و المصلّين به.
فقد كان المسجد القديم يضيق بهم، و خاصة في المواسم و الأعياد، فزيدت مساحته حتّى بلغت 3340 متر مربّع، بعد أن كانت مساحته 1500 متر مربّع، أي بإضافة 1840 متر مربّع إليه، و قد أخذت أبعاد الأروقة و قطاعات العقود، و كذا النوافذ و الأبواب التي استجدت من الطبيعة حتّى جاءت التوسعة كامتداد طبيعي للمسجد القديم.
و قد روعي كذلك أن تكون المباني مشابهة للقديم، و من نفس الخامات بقدر الإمكان، فقد بنيت الجدران التي يبلغ سمكها 80 سم من الحجر المتخلّف (من المباني القديمة) من الخارج و الآخر من الداخل، كما كسيت الحوائط من الداخل بمئونة الحجر الصناعي حتّى تكون مضاهية للحوائط القديمة.
و قد أضيف للمسجد مبنى مكوّن من دورين، خاصّا بإدارة المسجد، يقع في الجهة الشرقية منه بجوار غرفة المخلّفات، كما أنشئت مكتبة خاصّة بالمسجد تبلغ مساحتها 144 متر مربّع في الجهة الشرقية أيضا، على امتداد القبّة و المصلّى الخاص بالنساء.
و لمّا كانت الواجهة الرئيسية للمسجد القديم- و هي الواجهة القبلية- ليست على استقامة واحدة، فقد أضيف إليها مثلث في الطرف الجنوبي الشرقي مساحته 35 مترا مربعا، فجاءت الواجهة الرئيسية على
استقامة واحدة، و بدأت هذه التجديدات سنة 1959 م، و تمّت سنة 1963 م، و بلغت جملة تكاليفها 83 ألف جنيه، هذا بالإضافة إلى السجّاد اليدوي الذي صنع خصيصا بمدينة المحلّة الكبرى، و الذي بلغت تكاليفه ما يقرب من 40 ألف جنيه.
هذا و قد اعتمدت وزارة الأوقاف مبلغ 40 ألف جنيه لإقامة واجهة جديدة تتقدّم الواجهة القديمة، تليق و صاحب المقام، خاصّة بعد أن أزيلت كل المباني التي كانت تحجبه عن الميدان الذي خطّط خصّيصا من أجله، و سيكون طول هذه الواجهة 45 مترا و عرضها 8 أمتار، و روعي في الواجهة الجديدة أن تكون أقصر
أهل البيت في مصر ،ص:129
من القديمة، حتّى تظهر شرفات الواجهة القديمة.
و قد صمّمت هذه الواجهة بحيث جاءت آية في الدقّة و الإبداع، و تتكوّن الواجهة من حائط تزخرفه سبعة عقود مدبّبة، يرتكز كلّ منها على عمودين من الرخام، و يحيط بهذه العقود شريط من الزخارف الجصّية البديعة، و يستعمل ثلاثة من هذه العقود كأبواب، أمّا الأربعة الباقية فهي نوافذ مملوءة بالرنز المخرّم، و كذا النصف العلوي من الأبواب، و تتدلّى من الحوائط المحصورة بين العقود مشكاوات بديعة التصميم، و يعلو كلّ منها دائرة من الزخارف الجصّية في توازن و تماثل محكم.
و ستقام مئذنة في الطرف الجنوبي الشرقي، مماثلة للمئذنة الموجودة في الطرف الجنوبي الغربي و من نفس الطراز. كما صنع منبر جديد للمسجد من الخشب العزيزي و الجوز التركي و الزان، و يتكوّن من حشوات مجمّعة و مطعّمة بالصدف و العاج و الآبنوس، و قد بلغت تكاليفه 1500 جنيه. و رصدت الوزارة كذلك مبلغ 50 ألف جنيه لإقامة دورة مياه جديدة تقع في الجهة البحرية من المسجد. و قد أهدت
«طائفة البهرة» مقصورة من الفضّة كتب عليها «بسم اللّه الرحمن الرحيم» و رصّعت بفصوص من الماس، و ذلك سنة 1385 ه/ 1965 م.
يقول الأستاذ «كرزويل» الذي قام بالكشف على المشهد من الناحية المعمارية:
إنّ القبّة كلّها ترجع إلى منتصف القرن التاسع عشر فيما عدا الضريح الشريف، و هذا يؤيّد ما ذهب إليه «الجبرتي» و «علي باشا مبارك»، فقد ذكر: أنّ عبد الرحمن كتخدا أعاد بناء الضريح الشريف سنة 1175 ه كما هو ثابت على العتب الرخامي و نصّه:
مسجد للحسين أصل المعالي لا يضاهيه في البقاع علا
فيه فضل الرحمن للعبد نادي زر و أرّخ لك الهنا و الرضا
أهل البيت في مصر ،ص:130
و القبّة ليست مربعة تماما، و لكنّها تميل إلى الاستطالة قليلا، و لذلك فقد كانت هناك صعوبة في إقامتها، أمكن التغلّب عليها بفتح نافذة ذات ثلاث فتحات بين المثلثات الكروية الموجودة في أركان الضلع القصير، و نافذة ذات ستّ فتحات بين المثلثات الكروية الموجودة في أركان الضلع الطويل. و قد غطّيت فتحات النوافذ بجصّ مخرّم و معشّق بزجاج ملون، و تتكوّن زخارف النوافذ الجصّية من كتابات نسخية كلّها آيات قرآنية و أحاديث نبوية. أمّا القبّة فإنّها ترتكز على عقود نصف دائرية و مقرنصات في الأركان شبه دائرية، و كل هذه الأجزاء مزخرفة بنقوش زيتية غاية في الدقّة، تشبه إلى حدّ كبير تلك النقوش التي عملها «علي بك الكبير» في قبّة الإمام الشافعي، فهي بذلك عثمانية الطراز، و فوق المحراب نقشت قصيدة بماء الذهب كتبها الخطّاط البلخي سنة 1187 ه، و مطلع القصيدة:
ألا إنّ تقوى اللّه خير البضائع و من لازم التقوى فليس بضائع كما نجد نفس التاريخ منقوشا على الشريط الذي يحيط بقاعدة القبّة، و معنى ذلك:
أنّ هذه الزخارف عملت بعد اثنتي عشرة سنة من العمارة التي قام بها عبد الرحمن كتخدا.
على أنّ أقدم أجزاء الضريح هو الباب الذي يعرف بالباب الأخضر، و يقع بالقرب من الركن الجنوبي للضريح، و بالركن الجنوبي الغربي بالنسبة لجدار القبّة، و هو عبارة عن حائط طوله 92/ 4 متر و ارتفاعه 85/ 5 متر، تخترقه بوّابة مستطيلة الشكل عرضها 89/ 1 و ارتفاعها 33/ 2 متر. و يعلو البوابة عقد عاتق به حنية، بداخلها دائرة مفرغة بزخارف دقيقة، و تعلوها بقايا شرافات جميلة، و تشبه هذه البوابة و زخارفها باب جامع الأقمر «1».
و لذا فإنّ «كرزويل» يرجع هذا الجزء إلى آخر العصر الفاطمي، و معنى ذلك: أنّ
______________________________
(1). مسجد من المساجد الفاطمية، جدّدته طائفة البهرة.
أهل البيت في مصر ،ص:131
هذا الجزء يرجع تاريخه إلى تاريخ مجي ء الرأس الشريف إلى مصر تقريبا، و قد عرف هذا الباب باسم «المحسنين» كما ورد في خريطة الحملة الفرنسية، أمّا الآن فإنّه يعرف بالباب الأخضر.
و فوق هذا الباب توجد مئذنة قصيرة ترجع إلى العصر الأيوبي، فقد ثبت عليها لوحة تذكارية مؤرّخة 634 ه، و سبقت الإشارة إليها، و المئذنة مبنية بالآجر، و تتكوّن من مربّع طول ضلعه 50/ 2 متر، و ارتفاعه 76/ 12 مترا ينتهي بقاعدة مثمّنة الشكل، تقوم عليها الدورة الثانية للمئذنة، و هي مثمّنة الشكل، و ارتفاعها 50/ 2 متر، و في كلّ وجه من أوجه المثمّن توجد فتحة طويلة، و يعلو هذه الدورة رقبة مثمّنة تعلوها قبّة مضلّعة يبلغ ارتفاعها مع الرقبة 30/ 2 متر، و على ذلك يكون ارتفاع المئذنة كلّه 5/ 17 متر.
أمّا مربّع القبّة من الداخل فقد كسيت واجهته المطلّة على المسجد بالرخام الدقيق المطعّم
بفسيفساء من الصدف، و كذا غطّي محيطها من الداخل بالرخام و الصدف في رسوم هندسية غاية في الدقّة و الإبداع، و ترجع هذه الآثار الرخامية و الصدفية إلى القرن الثامن الهجري.
أمّا الأجزاء العليا من مربّع القبّة فقد زخرف بنقوش زيتية مذهّبة تشبه تلك التي نقشت على القبّة نفسها، و كلّها ترجع إلى القرن الثاني عشر الهجري، ثم جدّدت هذه النقوش سنة ستّ عشرة بعد الثلاثمائة و الألف، و قد سجّل على الباكية الشريفة ما يأتي:
ركن هذا المقام جنّة عدن فمامن أتاه يفوز بالمأمول
ركن هذا المقام ركن سديدنال فيه الداعون حسن القبول
ركن هذا المقام كعبة مصرزاد مجدا بالسيد ابن البتول
ركن هذا المقام حاز فخارابالإمام الحسين سبط الرسول و تحتوي القبّة على أربعة أبواب، بابين في الجهة الغربية يؤدّيان إلى المسجد،
أهل البيت في مصر ،ص:132
و باب بجوار المحراب سد الآن بأعلاه، كتب بالخطّ الثلث البارز الجميل المذهّب على الرخام: «الإجابة تحت قبّته، و الشفاء في تربته، و الائمة في ذرّيته و عترته».
و باب يؤدّي إلى غرفة الآثار كتب بأعلاه: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ.
كذلك كتب الشيخ عبد اللّه الشبراوي عام 1156 ه أبياتا من الشعر على الباب الخارجي نصّها:
يا كرام الأنام يا آل طه على من يهيم فيكم غلام
ركن هذا بابكم كعبة الهدى و حماكم منهل فيه للأنام ازدحام
باب فضل لما سما أرّخوه من دنا نحو بابكم لا يضام
رضي اللّه عنكم آل طه و صلاة منّي لكم و سلام و في العمارة التي قام بها السيد علي أبو الأنوار، و التي سبقت الإشارة إليها، أجرى فتح باب الجهة البحرية للقبّة، و له مصراعان من النحاس المخرّم بنقوش جميلة، بتواشيح الباب أربع دوائر كتب فيها على التوالي: لا إله إلّا
اللّه محمد رسول اللّه، الإمام علي، الإمام الحسين، الإمام الحسن.
و يعلو الباب عتبان كتب على أحدهما:
أنشأ علي أبو الأنوار سيدنابابا لسبط رسول اللّه ذي الرشد
و حسن أشراف نور اللّه أرّخه باب حماة عظيم الجاه و المدد و قد غطّيت كلّ الأبواب و النوافذ بستار من الحرير الأخضر الجميل، و في وسط القبّة توجد المقصورة، على بابها أربع حلقات من الفضّة النقية الخالصة:
لن يخيب اليوم من رجائك من حرّك من دون بابك الحلقة و حول المقصورة توجد مشكاوات من الزجاج المموّه بالميناء المنقوشة بزخارف جميلة، و مكتوب عليها اسم الملك الظاهر أبي سعيد، كما تحتوي على كتابات قرآنية اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، و يبلغ عدد هذه المشكاوات ثلاثا
أهل البيت في مصر ،ص:133
و عشرين. كانت قيمتها في ذلك الوقت أكثر من ألفي دينار.
و بالقبّة قبلة قديمة محلّاة بقطع من الفسيفساء الرخامية، و يكتنفها عمودان من حجر السماق، و بجانبها قاعدتان من الرخام كانتا معدّتين فيما مضى لوضع الشموع، و مكتوب فوق القبلة قصيدة مطلعها:
ألا إنّ تقوى اللّه خير البضائع و من لازم التقوى فليس بضائع و سبق أن ذكرنا: أنّ جميع جدران القبّة مكسوّة بالرخام الملوّن الجميل إلى ارتفاع نحو قامتين، و فوق ذلك ألواح من الخشب المطلي بنقوش زيتية متعدّدة الألوان، و مذهّبة، و بأعلى النقوش كتب عليها قصيدة الإمام ابن جابر الأندلسي المشهورة، و التي مطلعها:
في كلّ فاتحة للقول معتبره حقّ الثناء على المبعوث بالبقرة و هي مكتوبة بالخطّ الثلث المذهّب، و تحيط بالقبّة و تعلوها قصيدة أخرى، يقال:
أنّها تنسب إلى الحسين رضي اللّه عنه، و يقول الشيخ الببلاوي: إنّها لسان حاله، و مطلعها:
خيرة اللّه من الخلق أبي بعد جدّي و أنا ابن الخيرتين
عبد اللّه غلاما ناشئاو قريش يعبدون
الوثنين
والدي شمس و أمي قمرو أنا الكوكب بين النيّرين و فوق القصيدتين شريط من الخشب يحيط بالقبّة كتب عليه سورة «الفتح» من القرآن الكريم.
أمّا حجرة التابوت فهي تقع في الطبقة الثالثة من أرض القبّة، و قد وضعت الرأس فيها على كرسي من الآبنوس، و هي ملفوفة في برنس أخضر، و حولها نحو نصف إردب من الطيب الذي لا يفقد رائحته بتوالي السنين، و فوق الحجرة طبقة أخرى يسلك إليها من فجوتين على كلّ فجوة باب متين.
و الحجرة مسقوفة بقضبان من الحديد الصلب، و تحتوي على مكان فسيح، بحدّه
أهل البيت في مصر ،ص:134
الشرقي باب يوصل إلى الحجرة المباركة التي تحتوي على القبر الشريف، و بها تابوت من خشب الساج الهندي، و يحتوي التابوت على ثلاثة جوانب فقط؛ لأنّ التركيبة التي تحيط به كانت ملتصقة بالجدار الشرقي، و لمّا تصدّع بعض جدران الروضة الشريفة قامت وزارة الأوقاف سنة 1321 ه بترميمها و إعادتها إلى حالتها الأولى، كما أخرج التابوت الخشبي و رمّم و أعيد إلى حالته الأولى، و هو محفوظ الآن بمتحف الفن الإسلامي بالقاهرة.
و قد عنى حسن عبد الوهاب بدراسة و قراءة ما نقش عليه من النصوص القرآنية و الأحاديث النبوية دراسة مستفيضة.
و يبلغ طول التابوت 85/ 1 متر و عرضه 32/ 1 متر و ارتفاعه 35/ 1 متر، و هو مكوّن من جنب و رأسين، و مقسّم إلى مستطيلات رأسية و أفقية، يحيط بها أشرطة تحتوي على كتابات، بعضها بالخطّ الكوفي، و البعض الآخر بالخطّ النسخي الذي انتشر في مصر في العصر الأيوبي. أمّا زخارف هذه الحشوات فهي عبارة عن نقوش نباتية غاية في الروعة و الإتقان، و يحيط بالحشوات السداسية شريط من الخطّ الكوفي
به كلمات منها «الملك للّه»، «و ما توفيقي إلّا باللّه»، «ثقتي باللّه»، «نصر من اللّه و فتح قريب»، «العزّة للّه»، «و ما بكم من نعمة فمن اللّه» ... الخ.
و يقول حسن عبد الوهاب: «إنّ هذا التابوت يشبه إلى حدّ كبير تابوت الإمام الشافعي، ممّا يدلّ على أنّه معاصر له، و لذلك فإنّه يرجّح أنّهما صنعا في عصر واحد، و بيد صانع واحد» و بما أنّ تابوت الإمام الشافعي مؤرّخ سنة 574 ه، أي أنّه صنع صلاح الدين الأيوبي، لذلك يرجّح حسن عبد الوهاب أنّ تابوت الإمام الحسين صنع بأمر صلاح الدين؛ ذلك لأنّه عنى عناية خاصة بمشهد سيدنا الحسين، و أنشأ مدرسة بجواره.
أهل البيت في مصر ،ص:135
مأمون غريب
في ذكرى مولانا الإمام الحسين سبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و سيّد شباب أهل الجنّة، نتذكّر قصّته الخالدة عند ما خرج و في ذهنه أن يقوّض حكم بني أميّة، و يعيد للخلافة صفاءها و رواها، لكنّه استشهد في كربلاء، و لاقى من أعدائه ما لم يمكن تصوّره من الخسّة و النذالة، و عدم مراعاة لحرمة البيت النبوي.
و لا شكّ أنّ الإمام الحسين له مكانة كبيرة في قلوب الناس و عقولهم، فهو حفيد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و ابن فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أبوه علي بن أبي طالب صاحب المواقف المشهودة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الذي قال عنه الرسول صلّى اللّه عليه و آله: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبي بعدي» رواه البخاري و مسلم «2».
و هناك أحاديث كثيرة تشيد بالحسين «3»، و مدى حبّ الرسول صلّى
اللّه عليه و آله له، فقد عاش
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «الإمام الحسين حياته و استشهاده» ط. القاهرة.
(2). صحيح البخاري 3: 1359 رقم 3503 كتاب فضائل أصحاب النبي باب (9) فضائل علي، و 4: 162 رقم 4154 كتاب المغازي، غزوة تبوك، صحيح مسلم 4: 1871 رقم 2404 و ما بعده، كتاب فضائل الصحابة باب (4) فضائل علي بن أبي طالب.
(3). فقد تضافرت النصوص الواردة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بشأن الحسين عليه السّلام و هي تبرز المكانة الرفيعة التي-
أهل البيت في مصر ،ص:136
الحسين خمس سنوات في ظلّ النبوّة ... كثيرا ما كان يحمله الرسول صلّى اللّه عليه و آله على ظهره، و كثيرا ما كان و أخوه الأكبر الحسن يقفزان على ظهر الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله أثناء سجوده، فيطيل السجود حتّى ينزلا من على ظهره.
و قد ولد الحسين في شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة على أرجح الأقوال، و سعد به الرسول صلّى اللّه عليه و آله.
و يقول الرواة: إنّ السيدة أم الفضل بنت الحارث رأت في منامها أنّ في بيتها طرفا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فذهبت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليفسّر لها هذه الرؤيا، فقال لها: «...
هو ذاك» ... فولدت فاطمة حسينا فأرضعته أم الفضل حتّى فطم «1».
و قد أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله بحلق رأس الحسين، و تصدّق بزنته فضة، و كثيرا ما كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله يضع يده الشريفة في فمه ليمتصّها ... و كثيرا ما كان يغذّيه، و كان يخشى عليه هو و أخيه الحسن من الحسد، فكان يعوّذهما قائلا: أهل البيت في
مصر 136 الإمام الحسين عليه السلام ..... ص : 135
أعيذكما بكلمات اللّه التامّة من كلّ شيطان و هامة، و من كلّ عين لامّة» «2».
و قد تربّى الحسين بن علي في ظلّ بيت النبوة، و تعلّم كيف يكون عليه دينه، و كيف يعامل الآخرين على ضوء تعاليم الإسلام، فشرب العلم من جدّه و من أمه فاطمة الزهراء، و من والده.
______________________________
يمثّلها في دنيا الرسالة و الأمة. راجع كتب الصحاح و السنن، في فضائل الصحابة، الباب الذي يتعلّق بمناقب و فضائل الحسين بن علي عليه السّلام و أخيه الأكبر الحسن عليه السّلام. و من الكتب الشيعية المهمّة التي روت هذه النصوص، انظر على سبيل المثال: إعلام الورى بأعلام الهدى: الركن الثالث، الفصل المختصّ بذكر الإمامين الحسن و الحسين عليهما السّلام، و كتاب عيون أخبار الرضا للصدوق ابن بابويه القمي، و الإرشاد للمفيد، و بحار الأنوار: المجلدان (44) و (45) المختصّان بذكر تاريخ هذين الإمامين ... و غير ذلك ممّا يطول ذكره.
(1). رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق: ترجمة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، و ذكر رواية أم الفضل الطبراني في المعجم الكبير 25: 22 برقم (38) مسندا عن قابوس بن المخارق، و الطبرسي في اعلام الورى: 225 الفصل الثالث نقلا عن الأوزاعي.
(2). أخرجه أبو داود في السنن 4: 235 برقم 4737 كتاب السنّة، و الحاكم في المستدرك 3: 167، و الإمام أحمد في المسند 1: 270 عن ابن عباس.
أهل البيت في مصر ،ص:137
و قد نصحه والده الإمام علي رضي اللّه عنه بقوله في خطبة طويلة يحثّه فيها على ما ينبغي أن يكون عليه كشخص يراقب اللّه في سرّه و علانيته، و يراقب الناس في خلقه، و
يبصّره بالتجارب التي استفاد منها في حياته. و من هذه النصائح الغالية التي استوعبها الإمام الحسين بلا شكّ: قول الإمام علي:
«يا بني، أوصيك بتقوى اللّه عزّ و جلّ في الغيب و الشهادة، و كلمة الحقّ في الرضا و الغضب، و القصد في الغنى و الفقر، و العدل في الصديق و العدوّ، و العمل في النشاط و الكسل، و الرضا عن اللّه تعالى في الشدّة و الرخاء ...
يا بني، ما شرّ بعده الجنّة بشرّ، و لا خير بعده النار بخير، و كلّ نعيم دون الجنة محقور، و كلّ بلاء دون الناس عافية ...
و اعلم يا بني، إنّ من أبصر عيب نفسه شغل عن غيره، و من تعرّى من لباس التقوى لم يستتر بشي ء من اللباس أبدا، و من رضي بقسم اللّه تعالى لم يحزن على ما فاته، و من سلّ سيف البغي قتل به، و من حفر بئرا لأخيه وقع فيها، و من هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، و من نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، و من كابد الأمور عطب، و من اقتحم الغمرات غرق، و من أعجب برأيه ضلّ، و من استغنى بعقله ذلّ، و من تكبّر على الناس ذلّ، و من سفّه عليهم شتم، و من دخل مداخل السوء اتّهم، و من خالط الأنذال حقّر، و من جالس العلماء وقّر، و من فرح استخفّ به، و من أكثر من شي ء عرف به، و من كثر كلامه كثر خطأه، و من كثر خطأه قلّ حياؤه، و من قلّ حياؤه قلّ ورعه، و من قلّ ورعه مات قلبه، و من مات قلبه دخل النار».
إلى آخر هذه النصيحة الغالية التي ركّز فيها الإمام علي على الفضائل
الإنسانية، و نهى فيها عن الرذائل التي تفقد الإنسان وزنه في دنيا الناس، و التي اختتمها بقوله:
«و اعلم يا بني ... من لانت كلمته وجبت محبّته، و من لم يكن له حياء و لا سخاء فالموت أولى به من الحياة ... لا تتمّ مروءة الرجل حتّى لا يبالي أيّ ثوبيه لبس، و لا أيّ طعاميه أكل. وفّقك اللّه لرشده، و جعلك من أهل طاعته بقدرته إنّه جواد كريم».
أهل البيت في مصر ،ص:138
كلّ هذه القيم و الشمائل التي تربّى عليها الإمام الحسين، جعلت منه إنسانا متكاملا في أخلاقه، صاحب شخصية قوية آسرة، محبوبا من الناس.
كان الإمام الحسين تقيّا ... بليغا ... و نقيّا ... صاحب مروءة ... و محبّا للخير ...
عزوفا عن الشرّ، فقيها في أمور دينه، جوادا كجدّه العظيم، بجانب و سامته الفائقة، فقد كان شبيها بجده صلّى اللّه عليه و آله.
و ما أكثر ما قاله الرواة عن شخصية الحسين المحبوبة من الناس! و ما أكثر ما ساقوه عن تواضعه و هيبته و قوة منطقه! و ما أكثر الروايات التي ساقها الرواة عن مدى احترام الصحابة و أبناء الصحابة لشخصية الحسين.
الرواة يروون مثلا عن فصاحته و بلاغته فيسوقون مثالا عن حديثه لأبي ذرّ رضي اللّه عنه الذي هاجم الترف الذي يعيش فيه معاوية و بنو أمية، فنفاه معاوية عند ما كان واليا على الشام، و نفاه الخليفة عثمان بن عفان من المدينة، فقال الحسين للصحابي الجليل المغلوب على أمره: «يا عماه! إنّ اللّه قادر أن يغيّر ما قد ترى، و اللّه كلّ يوم في شأن ... و قد منعك القوم دنياهم و منعتهم دينك، و ما أغناك عمّا منعوك، و أحوجهم إلى ما منعتهم، فاسأل
اللّه الصبر و النصر، و استعذ به من الجشع و الجزع، فإنّ الصبر من الدين و الكرم، و إنّ الجشع لا يقدّم رزقا، و الجزع لا يؤخّر أجلا» «1».
هذه الكلمات اللغوية الرائعة التي تنبئ عن عقلية متفتّحة واعية، قالها الإمام الحسين و كان عمره ثلاثين عاما!
و يروي الرواة عن جوده و كرمه الكثير، و من ذلك أنّ أسامة بن زيد أقعده المرض، و ذهب الإمام الحسين لزيارته فوجده شديد الحزن، لا لخوفه من الموت، و لكن لأنّ عليه دينا يخشى أن يموت دون أن يقدر على سداده، و كان الدين ثقيلا على أسامة، فسدّده الإمام الحسين حتّى يلقى أسامة وجه ربّه و هو قرير العين و الفؤاد «2».
______________________________
(1). شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8: 373- 374، الغدير للعلّامة الأميني 8: 351، أبو الشهداء للعقّاد: 136.
(2). سيرة الائمة الاثني عشر 2: 30- 31.
أهل البيت في مصر ،ص:139
و قد ساق الرواة حادثة طريفة تبيّن علمه وجوده و حبّه للمعرفة، و التبسّط مع الناس، و معاملة كلّ على قدر عقله.
جاءه أعرابي في حاجة، فما سأله عنها؛ و كتب الأعرابي حاجته على الأرض، هنا داعبه الإمام الحسين، و قال له: سمعت أبي يقول: «المعروف بقدر المعرفة» فأسألك عن ثلاث مسائل إن أجبت على واحدة فلك ثلث ما عندي، و إن أجبت على اثنين فلك ثلثا ما عندي، و إن أجبت الثلاث فلك كلّ ما عندي! و قد حملت إليّ (صرة) من العراق. فقال الأعرابي: سل! و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه.
فقال الإمام الحسين: أيّ الأعمال أفضل؟
فأجابه الأعرابي: الإيمان باللّه.
فقال الإمام الحسين: ما نجاة العبد من الهلكة؟
فأجابه الأعرابي: الثقة باللّه.
فقال الإمام الحسين: ما يزيّن المرء؟
فأجابه الأعرابي: علم
معه حلم.
فقال الإمام الحسين: فإن أخطأه ذلك؟
فأجابه الأعرابي: مال معه كرم.
فقال الإمام الحسين: فإن أخطأه ذلك؟
فأجابه الأعرابي: فقر معه صبر.
فقال الإمام الحسين: فإن أخطأه ذلك؟
فأجابه الأعرابي: صاعقة تنزل من السماء فتحرقه.
فضحك الإمام الحسين و أعطاه الصرّة! «1»
و إذا كان الحقّ ما شهد به الأعداء، فقد كان معاوية يعرف للحسين قدره، حتّى
______________________________
(1). عقد اللآل في مناقب الآل: 87، سيرة الائمة الاثني عشر 2: 28.
أهل البيت في مصر ،ص:140
قال: إنّه لا يجد فيه ما يعيبه، حتّى أنّ رجلا سأل معاوية أين يجد الحسين؟ فقال معاوية: إذا دخلت مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرأيت حلقة فيها قوم كأنّ على رءوسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبد اللّه الحسين «1».
و يروي الرواة عن سخائه و كرمه و جوده، و حسن معاملته للناس، كما يتحدّثون عن كثرة صيامه و صلاته، و أنّه حج خمسا و عشرين مرة ماشيا على قدميه، و كان دعاؤه في الحج و هو يمسك الركن الأسود:
«إلهي، أنعمتني فلم تجدني شاكرا، و ابتليتني فلم تجدني صابرا، فلا أنت سلبت النعمة بترك الشكر، و لا أدمت الشدّة بترك الصبر ... إلهي، ما يكون من الكريم إلّا الكرم ...».
و قد كان الإمام الحسين شديد التضرّع إلى اللّه، كثير الدعاء؛ لأنّ الدعاء يقرّب بين الإنسان و ربّه، لا يجعل بين اللّه و عباده حجابا، إنّ الإنسان يشعر و هو يرفع يديه إلى السماء و يناجي خالقه أنّ اللّه برحمته و جلاله و رأفته معه، فتستكين النفس، و تطمئنّ الروح، و يتوافق الإنسان فيما بينه و بين نفسه، فيعود إلى النفس صفاؤها، و طمأنينتها، لا يهمّها ما تواجه من صعوبات الحياة.
و كان من أدعيته التي رواها عنه الرواة دعاؤه
عند ما يكون في عرفة، كان كثير الدعاء يدعو بقلب خاشع، و ممّا كان يدعو به:
«اللّهم اجعل غنائي في نفسي، و اليقين في قلبي، و الإخلاص في عملي، و النور في بصري، و البصيرة في ديني، و متّعني بجوارحي، و اجعل سمعي و بصري الوارثين منّي، و انصرني على من ظلمني، و أرني فيه ثأري و مأربي، و أقر بذلك عيني.
اللّهم اكشف كربتي، و استر عورتي، و اغفر لي خطيئتي، و اخسأ شيطاني، و فكّ رهاني، و اجعل لي الدرجة العليا في الآخرة و الأولى.
______________________________
(1). تاريخ دمشق 14: 179 ترجمة الحسين بن علي عليهما السّلام مسندا عن أبي سعيد الكلبي.
أهل البيت في مصر ،ص:141
اللّهم لك الحمد كما خلقتني فجعلتني سميعا بصيرا، و لك الحمد كما خلقتني سويا، رحمة بي، و قد كنت عن خلقي غنيا».
و كان من دعائه أيضا:
«اللّهم أوسع عليّ من رزقك الحلال، و عافني في بدني و ديني، و آمن خوفي، و أعتق رقبتي من النار ...».
و ما أكثر الأدعية التي وردت عنه، و تدلّ على نفس بالغة الصفاء، بالغة الشفّافية، تريد ما عند اللّه لا ما عند الناس.
و من أجلّ هذه الصفات و الشمائل التي كان يتمتّع بها الإمام الحسين: أنّه كان قريبا إلى قلوب الناس، و كان يذكّرهم بنبيّهم العظيم، كلّما استمع إلى عظة من عظاته، أو خطبة من خطبه، أو مجلس علم يجلس فيه في مسجد جدّه العظيم يلقي درسه، فإذا الناس تستمع إليه و كأنّ على رءوسهم الطير، فهم منتبهون إلى كلّ كلمة يقولها، أ ليس هو سليل بيت النبوة الطاهرة، و غصن الدوحة المباركة؟!
مرّ يوما على جماعة في مسجد جدّه صلّى اللّه عليه و آله و كان فيهم
عبد اللّه بن عمرو بن العاص، و عند ما اشرأبّت الأعناق نحو الإمام الحسين، قال عبد اللّه بن عمرو بن العاص لهم: ألا أخبركم بأحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء؟
قالوا: بلى.
قال: هذا الماشي ... و أشار إلى الإمام الحسين! «1».
شخصية لها كلّ هذا الجلال و العلم، الذي ورث بعضه عن جدّه العظيم نبي الإسلام محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله «2»، و ورث بعضه عن أمه فاطمة الزهراء، فقد رويت على لسانه بعض الأحاديث التي سمعها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و التي سمعها من أمه و من أبيه.
______________________________
(1). تاريخ دمشق 14: 179 مسندا عن العيزار بن حريث.
(2). و يكفيه قول النبي صلّى اللّه عليه و آله له: «حسين منّي و أنا من حسين ...» أخرجه البخاري في الأدب المفرد: 116، و الترمذي في السنن 5: 658- 659 ح 3775 كتاب المناقب.
أهل البيت في مصر ،ص:142
و من هذا مثلا: أنّه روى عن أبيه وصفه للنبي صلّى اللّه عليه و آله في جلساته، فقال:
«كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ و لا غليظ، و لا صخّاب و لا فحّاش، و لا عيّاب و لا مشّاح، يتفاءل عمّا لا يشتهي و لا يؤيس منه، و لا يخيب فيه، فقد ترك نفسه من ثلاث: المراء و الإكبار و ما لا يعنيه، و ترك الناس من ثلاث: كان لا يذمّ أحدا و لا يعيبه، و لا يتطلّب عورته، و لا يتكلّم إلّا فيما رجا ثوابه.
و إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رءوسهم الطير، فإذا سكت تكلّموا، و لا يتنازعون عنده الحديث، و من تكلّم
عنده أنصتوا إليه حتّى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك ممّا يضحكون منه، و يتعجّب ممّا يتعجّبون، و يصبر للغريب على الجفوة في منطقه و مسألته، حتّى إن كان أصحابه ليستجلبونهم، و يقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فارفدوه، و لا يقبل الثناء إلّا من مكافئ، و لا يقطع على أحد حديثه حتّى يجوز فيقطع بنهي أو قيام ...».
و هناك أحاديث كثيرة مسندة إليه، قد رواها عن أبيه أو عن أمه ممّا سمعاه من خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله «1».
رجل في مثل الحسين، و في جمال خلقته، و جمال خلقه، و جمال تكوينه، و شخصيته التي تأثّرت بالبيئة النبوية، كان جديرا بأن يكون محبوبا عند الناس لأنّهم يعرفون قدره، و محبوبا عند صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنّهم يعرفون كم كان النبي صلّى اللّه عليه و آله حفيّا به، و محبّا له.
و كان الإمام عالما جليلا ... متفقّها في أمور دينه، و أصقلته تجارب الأيام.
______________________________
(1). من ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة الحديث 919 عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «ما من مسلم تصيبه مصيبة و إن قدم عهدها، فيحدث لها استرجاعا، إلّا أعطاه اللّه ثواب ذلك».
و ما أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب: في من تكلّم بكلمة يضحك منها الناس الحديث 2240 عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
و أخرج أبو يعلى الموصلي في مسنده، المجلد الثاني عشر من الصفحة 142 إلى 156 خمسة عشر حديثا عنه عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و أسماه مسند الحسين
بن علي.
أهل البيت في مصر ،ص:143
سمع رجلا يقول في حضرته: إنّ المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع! فقال الإمام الحسين: ليس كذلك، و لكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر، تصيب البرّ و الفاجر! و من أقواله المأثورة:
* «إياك و ما يعتذر منه، فإنّ المؤمن لا يسي ء و لا يعتذر، و المنافق كلّ يوم يسي ء و يعتذر».
* «اعلموا أنّ حوائج الناس إليكم من نعم اللّه عزّ و جلّ عليكم فلا تملّوا النعم فتعود النقم».
* «لا تتكلّف ما لا تطيق، و لا تتعرّض لما لا تدرك، و لا تعد بما لا تقدر عليه، و لا تنفق إلّا بقدر ما تستفيد، و لا تطلب من الجزاء إلّا بقدر ما صنعت، و لا تفرح بما نلت من طاعة اللّه، و لا تتناول إلّا ما رأيت نفسك أهلا له».
* و عند ما سأله رجل كيف أصبح، قال: «أصبحت ولي ربّ فوقي، و النار أمامي، و الموت يطلبني، و الحساب محدق بي، و أنا مرتهن بعملي، لا أجد ما أحبّ، و لا أدفع ما أكره، و الأمور بيد غيري، فإن شاء عذّبني، و إن شاء عفا عنّي، فأيّ فقير أفقر منّي؟!» «1».
بهذا الأسلوب الجميل، و بهذه المعاني الراقية الفضفاضة، و بهذه التجلّيات التي تفوح بالإيمان و الحكمة و فهم الحياة بما مرّ عليه من تجارب، و ما تغلغل في أعماق نفسه من أنوار النبوة، كان الإمام الحسين صورة تجسّد كلّ ما في الإسلام من قيم الحقّ و الخير و الجمال، و العدل و الإيثار.
و كان يعيش بالمادئ و للمبادئ، فلم يؤثر عنه المداهنة أو النفاق أو السعي وراء مغانم رخيصة، و لكنّه عاش و في قلبه منهج القرآن، و سنّة
جدّه صلّى اللّه عليه و آله، فعاش حياته
______________________________
(1). راجع هذه الحكم و غيرها كتاب تحف العقول عن آل الرسول لأبي محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني: 174- 177.
و لعلّ من أجمل هذه الدرر قوله عليه السّلام: «إنّ قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجّار، و إنّ قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عباد العبيد، و إنّ قوما عبدوا اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار، و هي أفضل العبادة».
أهل البيت في مصر ،ص:144
كلّها ينشد الحقّ و يسعى إليه، و يكره الباطل و يحاربه.
و هذا ما يفسّر موقفه بعد ذلك عند ما قرّر أن يتصدّى لظلم بني أمية، و الوقوف في وجه يزيد، و استشهد في سبيل المبدأ. و لو أراد أن يعيش في ترف من العيش، و في رغد من المال، لاستطاع، و لأعطاه الحكم الأموي ما يريد على ألّا يقف في طريقهم، و يفنّد أكاذيب حكمهم الذي ابتعد عن الحكم الذي انتهجه الراشدون من الخلفاء.
لو أراد ذلك ما كلّفه ذلك إلّا الصمت عن الخوض في سياسة الدولة الأموية المتمثّلة في يزيد بن معاوية، و لكنّه رفض أن يرى الظلم و يسكت ... و رفض أن يرى الباطل يرتفع له لواء و يصمت ... و رفض أن يرى الحكم بالكتاب و السنّة قد خفت ثم يلوذ بالصمت ... و رفض أن يشاهد المظالم على أشدّها، و أموال المسلمين تغدق بلا حساب على الأعوان و طلّاب السلطة، و المتحلّقين لها يبغون السلطان و يضع يده في أذنيه.
لقد قرّر أن يقوم بثورة ... أن يغيّر من الصورة القاتمة التي عشّشت على العالم الإسلامي في فترة حكم يزيد بن معاوية.
هل كان يعرف أنّه يستطيع أن يتغلّب على الدولة
الأموية في أوج قوّتها و عنفوان سلطانها؟ و هل حسب أنّ بقدرته أن يقضي على دولة لها جيوشها القوية، و يدها المتمكّنة من أعناق الناس، و لها سطوة الحكم، و جبروت السلطة؟
هل كان اندفاع من الإمام الحسين أن يذهب ليحارب قوى عاتية تملك السلاح و الرجال، و يخرّ تحت أقدامها طلّاب النفوذ و الجاه و المال؟ و هل كان يتصوّر أن ينتصر و سيوف الناس معهم حتّى و لو كانت قلوبهم معه؟ أم أنّ الأقدار قد كتبت عليه أن يكون دمه الشريف نقطة تحوّل في التاريخ الإسلامي كلّه؟
فإنّ دم الإمام الحسين لم يضع عبثا، فقد انهارت الدولة الأموية بعد أقلّ من قرن واحد، و لتظلّ بعد ذلك العبرة بأنّ الحقّ دائما يعلو في النهاية مهما كانت أشواك الطريق.
إنّ النظر إلى موقف الإمام الحسين من خلال النظرة إلى الحوادث التي تمرّ بدنيا
أهل البيت في مصر ،ص:145
الناس ربّما لا يكون نظرا سليما، فإنّ لموقف الإمام الحسين بعدا إيمانيا غيبيا، فقد كان عليه أن يطلق صيحته بأن يكون الحكم شورى بين المسلمين كما أقرّه الإسلام، و أنّ الديكتاتورية و حكم الفرد ممّا يأباه الإسلام، و أنّ تقوم الأوضاع لا بدّ له من الضحايا، لا بدّ من الدماء و الدموع، حتّى لا يترك الباطل يرفع رايته في أرض اللّه، و حتّى لا تترك سلوكيات الناس حسب الأهواء، بل حسب ما جاء في كتاب اللّه و سنّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله.
لقد كان الإمام الحسين يوقن بقوله تعالى:
وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمران: 145].
و قد أخرج الإمام أحمد في مسنده «1»، هذا الحديث الشريف:
عن أم سلمة قالت: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه
عليه و آله و هو يمسح رأس الحسين و يبكي، فقلت:
ما بكاؤك؟ قال: «إنّ جبريل أخبرني أنّ ابني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء».
قالت: ثم ناولني كفّا من تراب أحمر، و قال: «إنّ هذا من تربة الأرض التي يقتل بها، فمتى صار دما فاعلمي أنّه قد قتل».
قالت أم سلمة: فوضعت التراب في قارورة عندي، و كنت أقول: إنّ يوما يتحوّل فيه دما ليوم عظيم.
و في رواية أخرى عن أم سلمة قالت: كان جبريل عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و الحسين معي، فبكى فتركته، فذهب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له جبريل: أ تحبّه يا محمد؟ قال: «نعم».
قال: إنّ أمتك ستقتله، و إن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها، فبسط جناحه إلى الأرض، فأراه أرضا يقال لها: كربلاء! «2»
و رويت أحاديث كثيرة بصيغ مختلفة تجمع في مضمونها على أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قد
______________________________
(1). مسند أحمد 3: 242، 265، و انظر 6: 294. و رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 187 و قال: رواه أحمد و أبو يعلى و البزار و الطبراني بأسانيد.
(2). أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 188- 189 و قال: رواه الطبراني بأسانيد و رجال أحدها ثقات.
أهل البيت في مصر ،ص:146
تنبّأ بقتل حفيده الحسين في كربلاء «1»، و الحديث بلا شكّ قد عرفه أهل البيت، حتّى أنّ ابن عباس قال: ما كنّا نشكّ- و أهل البيت متوافرون- أنّ الحسين بن علي يقتل بالطف «2».
و الإمام الحسين كان يعرف بلا شكّ أمر حديث جدّه صلّى اللّه عليه و آله، و من هنا فقد خرج غير هيّاب و لا وجل.
أ ترى قد قدّر على الإمام
الحسين ما قدّر على والده الإمام علي كرّم اللّه وجهه؟
قد تنبّأ الرسول صلّى اللّه عليه و آله للإمام علي بأنّه سيقتل «3».
و يروي الرواة: أنّ أم المؤمنين أم سلمة هي أول من علمت مقتل الحسين، و اختلفت الروايات في ذلك، فمن قائل: إنّها شاهدت النبي صلّى اللّه عليه و آله في رؤيا لها، و كان على لحيته التراب، و عند ما سألته عمّا حدث قال لها: «كنت أدفن ابني الحسين» فعرفت أنّ الحسين قد قتل.
______________________________
(1). و قد روى في مسند الرضا عليه السّلام بأسانيد متعددة عن أمّ سلمة حديث النبي صلّى اللّه عليه و آله لها في شأن مقتل ولده الحسين عليه السّلام، و التربة الحمراء. نقلها العلّامة الطبرسي في إعلام الورى: 225- 226.
و يذكر ابن عساكر حديثا عن أنس بن الحارث قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «إنّ ابني هذا- يعني الحسين- يقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره» قال الأشعث بن سحيم عن أبيه:
فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء، فقتل مع الحسين.
(2). و هو ما دعا ابن عباس إلى القول: أوحى اللّه تعالى إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله: أنّي قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، و أنا قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا و سبعين ألفا. أخرجه ابن عساكر 14: 225.
(3). ما أخرجه الحاكم في مستدركه 3: 142 بسنده عن حيان الأسدي قال: سمعت عليا عليه السّلام يقول: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الأمة ستغدر بك بعدي، و أنت تعيش على ملّتي، و تقتل على سنّتي، من أحبّك أحبّني، و من أبغضك أبغضني، و إنّ هذه ستخضب من هذا» يعني لحيته
من رأسه. ثم قال الحاكم: صحيح و روى بمثله في الاستيعاب 2: 681 باب الكنى، حرف الفاء ترجمة أبي فضالة الأنصاري. و أخرجه أحمد أيضا في مسنده 1: 102 (مسند علي بن أبي طالب)، و المحبّ الطبري في الرياض النضرة 2: 223 ب 4 مناقب علي بن أبي طالب/ كراماته، ثم قال: أخرجه ابن الضحاك. و كذا أخرجه أبو داود الطيالسي 1: 23 ح 157.
و يذكر الهيثمي في مجمعه 9: 137 كتاب المناقب/ مناقب علي باب في وفاته: عن عائشة قالت:
رأيت النبي صلّى اللّه عليه و آله التزم عليا و قبّله و يقول: «بأبي الوحيد الشهيد» و قال: رواه أبو يعلى. كما رواه ابن حجر في الصواعق: 74 ب 9 مآثر علي و فضله ف 2.
أهل البيت في مصر ،ص:147
و هناك رواية أخرى تقول: إنّ النبي في حياته كان قد أعطاها قارورة بها تراب، و قال لها: «إذا استحال هذا التراب دما فاعلمي أنّ الحسين قد قتل».
و مهما يكن من شي ء، فقد قتل الحسين مظلوما، و لم يراعوا فيه حرمة، و لكن استشهاده كان صيحة مدوّية في مختلف أرجاء العالم العربي.
هناك من طالب بدم الإمام الشهيد ... و هناك من ثار على بني أمية إلى أن انتهت دولتهم نهاية مأساوية رهيبة.
و هناك من تشفّع لآل البيت إلى أن ظهرت الدولة الفاطمية في المغرب العربي و في مصر، و ظهرت الانقسامات حول من يكون له حقّ الحكم ... إلى أن خلّفت الدولة الأموية الدولة العباسية، و أخذ التاريخ مسارات جديدة.
و لكن السؤال الذي يفرض نفسه: أين ذهبت رأس الحسين؟ و كيف جاءت إلى القاهرة؟! على أساس أنّه لا خلاف بين المؤرّخين و الرواة أنّ الجسد الشريف
قد دفن في مكانه في كربلاء، في مشهده المعروف هناك!
و لكن الخلاف حول مكان الرأس.
يقول بعض الرواة: إنّ الذي وصل بالرأس من عسقلان الأمير سيف المملكة و واليها، و وصل في القصر يوم الثلاثاء، العاشر من جمادى الاخرى.
و قالوا: إنّ هذا الرأس الشريف لمّا أخرج من المشهد بعسقلان وجد دمه لم يجفّ، و له ريح كريح المسك، و عند ما جي ء به إلى مصر دفن في قصر الزمرّد، و هو المكان المعروف الآن بالمشهد الحسيني «1».
***______________________________
(1). تقدّم الحديث حول هذا الموضوع سابقا.
أهل البيت في مصر ،ص:149
بقلم علي أحمد شلبي صافيناز كاظم حنفي المحلاوي
أهل البيت في مصر ،ص:151
علي أحمد شلبي
بعد أن قتلوا الحسين في كربلاء و احتزّوا رأسه الشريف، اقتحم السفلة من جند ابن زياد- و ما أكثرهم- فسطاط نساء أهل البيت و صاحباتهنّ، و أعملن فيه سلبا و نهبا و حرقا، غير مبالين بأمر عمر بن سعد الذي أمرهم به من قبل، و غير مكترثين بحرمة الموت الذي يحيط بالنساء و الأطفال من كلّ جانب، فأظهروا من القسوة و الغلظة في معاملتهنّ ما لم يعرف من قبل في مثل هذه المواقف المؤلمة.
و بعد أن قضوا أربهم، و اتمّوا سلبهم و نهبهم، و أحرقوا الخيام بما بقي فيها من متاع لم يستطيعوا حمله معهم، ساقوا أسراهم و سباياهم من الأطفال و النساء، و كان فيهم ولدان للإمام الحسن بن علي رضي اللّه تعالى عنهم جميعا، استصغر الأعداء شأنهما و سنّهما، فتركوهما دون أن يقتلوهما، كما كان فيهم كذلك زين العابدين علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما، و كان مريضا في حجر عمّته العقيلة السيدة زينب رضي اللّه تعالى عنها، و قد أراد الأعداء قتله، لو لا أن انقذته عمّته بعد أن عرضت نفسها للقتل دونه «2».
______________________________
(1). مقتبس من كتابه «السيدة زينب» ط. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة.
(2). نور الأبصار: 378 نقلا عن تاريخ القرماني.
أهل البيت في مصر ،ص:152
و كان من نعمة اللّه تعالى على الأمة المحمدية أن بقي زين العابدين علي بن الحسين حيّا، إذ حفظ اللّه تعالى به ذرّية الإمام الحسين، و هم من ذرّية جدّه النبي الأمين محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
كما سيق في هذا الركب من نساء البيت النبوي الكريم: العقيلة الطاهرة السيدة
زينب، و أختها أم كلثوم، و ابنتا الإمام الحسين فاطمة و سكينة، و بقية من نساء بني هاشم رضي اللّه تعالى عنهنّ جميعا.
حملت السيدة العقيلة زينب و من معها على أقتاب «1» الجمال بغير غطاء، فمرّت على مصارع الشهداء، و وقعت أبصار النساء و الأطفال على أبشع منظر، فكان لذلك أثره العميق في النفوس؛ إذ كانت الأرض مغطّاة بجثث الأبرار، محزوزة الرءوس، و قد ارتوت رمال الصحراء من دمائهم، و تسفي عليها الرياح، و تطير في الفضاء القريب منهم الطيور الجارحة، كأنّها تريد أن تنقض على لقمة سائغة و وليمة حافلة، فضلا عن الوحوش الكاسرة التي كانت تنتظر هبوط الليل لتخرج من جحورها لتشترك بنصيب في هذه الوليمة الأموية!
كان لهذا أثره البالغ على العقيلة السيدة زينب رضي اللّه تعالى عنها، فنفد صبرها، و لم تتمالك نفسها أمام ما ترى من هول و بشاعة، فنادت بصوت حزين و قلب يتفتّت حسرة و ألما.
يا محمداه! صلّى عليك مليك السماء، هذا حسين بالعراء، مقطّع الأعضاء، و بناتك سبايا، إلى اللّه المشتكى، و إلى محمد المصطفى، و إلى علي المرتضى، و إلى فاطمة الزهراء، و إلى حمزة سيد الشهداء.
يا محمداه! هذا حسين بالعراء تسفى عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا.
وا حزناه، وا كرباه عليك يا أبا عبد اللّه، اليوم مات جدّي رسول اللّه.
______________________________
(1). الأقتاب: واحدة قتب، و هو الرحل الصغير يحمل على قدر سنام الجمل.
أهل البيت في مصر ،ص:153
يا أصحاب محمداه، هؤلاء ذرّية المصطفى يساقون سوق السبايا، و هذا حسين محزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة و الرداء.
بأبي من أضحى معسكره يوم الاثنين نهبا، بأبي من فسطاطه مقطّع العرى، بأبي من لا غريب فيرجى، و لا جريح فيداوى، بأبي من
نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتّى قضى، بأبي من جدّه محمد المصطفى، بأبي خديجة الكبرى، بأبي علي المرتضى، بأبي فاطمة الزهراء، بأبي من ردّت عليه الشمس حتّى صلّى.
و لقد صوّرت العقيلة السيدة زينب رضي اللّه تعالى عنها بكلامها الفصيح و بلاغتها الفائقة الموقف الذي مرّ عليه الركب أبلغ تصوير، و لذلك أبكت ألفاظها التي صدرت من قلب جريح مسكور كلّ عدوّ و صديق، و كان لكلامها هذا أعظم الأثر في الإحساس بفداحة ما أقدم عليه القوم من فعلة شنعاء، و الشعور بعظم الخسارة التي لا تعوّض.
و لمّا أقبل الركب على الكوفة، تتقدّمه السبايا و الرءوس المقطّعة، في نحو أربعين جملا، كان زين العابدين علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما على بعير بغير غطاء، و في حالة يرثى لها من الضعف و المرض، و من الحزن على ما أصاب أهل البيت النبوي الكريم و على رأسهم والده الحبيب، فكان يقول في أسى و ألم بالغين:
يا أمة السوء لا سقيا لربعكم يا أمة لم تراع أحمدا فينا
لو أنّنا و رسول اللّه يجمعنايوم القيامة ما كنتم تقولونا
تسيرون بنا على الاقتاب عاريةكأنّنا لم نشيد فيكم دينا
بني أمية ما هذا الوقوف على هذي المصائب لم تصغوا لداعينا
تصفقون علينا كفّكم فرحاو أنتم في فجاج الأرض تسبونا
أ ليس جدي رسول اللّه الكريم هادي البرية من سبل المضلّينا
يا وقعة الطف قد أورثتني حزناو اللّه يهتك أستار المسيئينا و ما أن وقعت أنظار الكوفة على هذا الركب، حتّى أقبلوا يناولون الأطفال و هم
أهل البيت في مصر ،ص:154
على محاملهم بعض التمر و الخبز و الطعام، فصاحت فيهم السيدة زينب و قالت: يا أهل الكوفة! إنّ الصدقة علينا حرام.
و صارت تأخذ من أيدي الأطفال و أفواههم ما أخذوه
من القوم و تلقي به إلى الأرض، و الناس حولهم يبكون على مصيبتهم التي حاقت بهم. فطلّت عليهم السيدة أم كلثوم برأسها من محملها و قالت لهم: صه يا أهل الكوفة يقتلنا رجالكم، و تبكينا نساؤكم! فالحكم بيننا و بينكم اللّه يوم فصل القضاء.
و بينما هي تخاطبهم، إذ بضجّة قد ارتفعت، و إذا هم قد أتوا برأس الإمام الحسين، و الرمح تلعب بها يمينا و يسارا، فالتفتت موجعة، و أومأت إليه بحرقة، و جعلت تقول:
يا هلالا لما استتمّ كمالاغاله خسفه فأبدى غروبا
ما توهمت يا شقيق فؤادي كان هذا مقدّرا مكتوبا ثم أشارت رضي اللّه تعالى عنها إلى الناس، فسكتت أصواتهم، و طارت نفوسهم؛ خشية من جلال الموقف و رهبته، و أخذت تخاطبهم قائلة:
الحمد للّه، و الصلاة و السلام على أبي محمد و آله الطيّبين الأخيار.
أمّا بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل «1» و الغدر، أ تبكون، فلا رقأت الدمعة، و لا هدأت الرنّة، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتّخذون أيمانكم دخلا «2» بينكم.
ألا و هل فيكم إلّا الصلف «3» و النطف «4»، و الكذب و الشنف «5»، و ملك الإماء و غمز الأعداء، أو كرعي على دمنة «6»، أو كغضّة ملحودة، ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم، و في العذاب أنتم خالدون.
______________________________
(1). الختل: الخديعة.
(2). دخلا: أي خيانة و مكرا.
(3). الصلف: التكبّر و الإصرار عليه.
(4). النطف: التلطّخ بالعيب.
(5). الشنف: البغض و الإنكار.
(6). الدمنة: ما تدمنه الأنعام من الأبوال و الأبعار.
أهل البيت في مصر ،ص:155
أ تبكون و تنتحبون؟ إي و اللّه فابكوا كثيرا و اضحكوا قليلا، فقد ذهبتم بعارها و شنارها، و لن ترحضوها بغسل أبدا، و أنّى
ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، و معدن الرسالة، مدرة «1» حجّتكم و منار محجّتكم، و ملاذ خيرتكم، و مفزع نازلتكم، و سيد شباب أهل الجنة، ألا ساء ما تزرون.
فتعسا و نكسا، و بعدا لكم و سحقا، فلقد خاب السعي، و تبّت الأيدي، و خسرت الصفقة، و ضربت عليكم الذلّة و المسكنة.
ويلكم يا أهل الكوفة! أ تدرون أيّ كبد لرسول اللّه فريتم، و أيّ كريمة له أبرزتم، و أيّ دم له سفكتم، و أيّ حرمة له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئا إدّا، تكاد السماوات يتفطّرن منه، و تنشقّ الأرض، و تخرّ الجبال هدّا. و لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء كطلاع «2» الأرض و مل ء السماء، أ فعجبتم أن مطرت السماء دماء، و لعذاب لا يحفزه «3» البدار، و لا يخاف فوت الثأر، و إنّ ربّك لبالمرصاد.
أدهش خطابها البليغ الذي تدفّق من لسانها كجلمود صخر حطّه السيل من عل، هؤلاء القوم و أثّر فيهم، و أيقظ أفئدتهم، و أظهر لهم شنيع جرمهم، فأخذوا و قد أدركوا فجيعة فاجعتهم و عظيم جنايتهم في حقّ الإسلام و المسلمين، فلا يدرون ما يصنعون، حتّى أنّ شيخا كبيرا كان يستمع، فأبكاه كلامها حتّى اخضلّت لحيته بالدموع، و أخذ يقول:
- بأبي أنتم و أمي، كهولكم خير الكهول، و شبابكم خير الشباب، و نساؤكم خير النساء، و نسلكم خير النسل، لا يخزى و لا يبزو «4».
ثم تكلّمت فاطمة الصغرى فقالت:
______________________________
(1). المدرة: الناطق عن القوم و المدافع عنهم و حاميهم.
(2). طلاع الأرض و الشي ء: ملؤه.
(3). يحفزه: يحثّه و يعجّل به.
(4). أي لا يغلب و لا يقهر.
أهل البيت في مصر ،ص:156
الحمد للّه عدد الرمل و الحصى، و زنة العرش إلى الثرى، أحمده و أؤمن به و
أتوكل عليه، و أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أنّ محمدا عبده و رسوله.
اللّهم إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، أو أن أقول خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيّه علي بن أبي طالب، المقتول كما قتل ولده بالأمس، في بيت من بيوت اللّه، فيه معشر مسلمة بألسنتهم، تعسا لمروءتهم، ما رفعت عنه ضيما في حياته و بعد وفاته، حتّى قبض إليك محمود النقيبة، طيّب العريكة «1»، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه فيك لومة لائم، زاهدا في الدنيا، مجاهدا في سبيلك، فهديته إلى صراطك المستقيم.
أمّا بعد، يا أهل الكوفة! يا أهل المكر و الغدر و الخيلاء! فإنّا أهل بيت ابتلانا اللّه بكم و ابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسنا، و جعل علمه عندنا و فهمه لدينا، فنحن عيبة علمه «2»، أكرمنا بكرامته، و فضّلنا بمحمد نبيّه صلّى اللّه عليه و آله على كثير ممّن خلق تفضيلا، فكذّبتمونا و رأيتم قتالنا حلالا، و أموالنا نهبا، كأنّا أولاد ترك أو كابل، فلا تدعوكم أنفسكم إلى الجدل بما أصبتم من دمائنا، و نالت أيديكم من أموالنا، فكأنّ العذاب قد حلّ بكم و أتت نقمات، ألا لعنة اللّه على الظالمين.
تبّا لكم يا أهل الكوفة! أيّ تراث لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبلكم، و دخول له لديكم، بما عنتّم بأخيه علي بن أبي طالب، افتخرتم بقتل قوم زكّاهم اللّه في كتابه، و طهّرهم و أذهب عنهم الرجس، و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، و من لم يجعل اللّه له نورا فماله من نور.
ثم تكلّمت أم كلثوم بنت الإمام علي كرّم اللّه وجهه و شقيقة العقيلة «3» الطاهرة السيدة زينب رضي اللّه تعالى عنهما، و
قد غلب عليها البكاء، فقالت: يا أهل الكوفة
______________________________
(1). العريكة: الخلق.
(2). أي: خزّان علمه.
(3). العقيلة من النساء: المرأة الكريمة على قومها، العزيزة في بيتها.
أهل البيت في مصر ،ص:157
سوءة، ما لكم خذلتم حسينا و قتلتموه، و سبيتم نساءه و نكبتموه! ويلكم، أ تدرون أيّ دواه دهتكم، و أيّ وزر على ظهوركم حملتم، و أيّ كريمة أصبتموها، و أيّ أموال انتهبتموها؟ قتلتم خير رجالات بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله، ألا إنّ حزب اللّه هم الفائزون، و حزب الشيطان هم الخاسرون.
ثم قالت:
قتلتم أخي و اللّه صبرا للؤمكم ستجزون نارا حرّها يتوقّد
سفكتم دماء حرّم اللّه سفكهاو حرّمها القرآن ثم محمد
ألا فأبشروا بالنار أنّكم غدالفي سقر حقا يقينا تخلدوا
و إنّي لأبكي في حياتي على أخي على خير من بعد النبي سيولد
بدمع غزير مستهلّ مكفّف على الخدّ منّي دائبا ليس يجمد فضجّ الناس بالبكاء و العويل.
ثم قام زين العابدين علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما، و أومأ للناس أن اسكتوا، و قال بعد حمد اللّه و الثناء عليه:
أيها الناس، من عرفني فكفى، و من لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن المذبوح بشط الفرات بغير ذحل «1» و لا تراث، أنا ابن من انتهك حريمه، و انتهب ماله، و سبي عياله، و قتل صبرا، و كفى بذلك فخرا، فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي، و أعطيتموه العهد و الميثاق فخذلتموه، فتبّا لما قدّمتم، و سوأة لرأيكم، بأيّة عين تنظرون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إذ يقول: قتلتم عترتي، و انتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي!
فارتفعت الأصوات من كلّ ناحية، و قال بعض الناس لبعضهم: هلكتم و ما تعلمون، فقال رضي اللّه تعالى
عنه:
______________________________
(1). الذحل: الثأر.
أهل البيت في مصر ،ص:158
رحم اللّه امرأ قبل نصيحتي و وصيتي في اللّه و في رسوله و أهل بيته، فإنّ لنا في رسول اللّه أسوة حسنة.
فقالوا جميعا: سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك و لا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك اللّه، فإنّا حرب لحربك و سلم لسلمك، لنأخذن يزيد و نبرأ ممّن ظلمك و ظلمنا، فقال رضي اللّه تعالى عنه:
هيهات هيهات! أيّها الغدرة المكرة، حيل بينكم و بين شهوات أنفسكم، أ تريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى أبي بالأمس و أهل بيته معه، و لم ينس ثكل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ثكل أبي و بني أبي، و وجده «1» بين لهاتي «2»، و مرارته بين حناجري، و غصصه في فراش صدري؟ و مسألتي أن لا تكونوا لنا و لا علينا، ثم قال:
غمز و إن قتل الحسين فشيخه قد كان خيرا من حسين و أكرما
فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي أصاب حسينا كان ذلك أعظما
قتيل بنهر الشط روحي فداؤه جزاء الذي أرداه نار جهنّما ثم قال: رضينا منكم رأسا برأس، فلا يوم لنا و لا علينا.
*** و لمّا أدخل أهل البيت النبوي الكريم و من معهم إلى حيث اللعين عبيد اللّه بن زياد والي الكوفة من قبل يزيد بن معاوية، و الذي كان حربا على أهل البيت، و كرهه الشديد للإمام الحسين رضي اللّه عنه، لمّا أدخلوا إلى هذا المكان تذكّرت السيدة العقيلة زينب رضي اللّه عنها تلك القاعة التي يجلس فيها قاتل أخيها و أهلها و أنصارهم، بعد أن كان يجلس فيها- من قبل- أبوها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه.
دخلتها السيدة العقيلة زينب هذه المرّة و
قلبها متصدّع من الحزن و الأسى من أثر
______________________________
(1). الوجد: الحزن.
(2). اللهاة: قطعة اللحم المدلاة في أقصى الفم. و يريد بهذا المبالغة، أي أنّه بلغ به الحزن في صدره و قلبه حتّى وصل إلى أطراف فمه و حلقه.
أهل البيت في مصر ،ص:159
ما مرّ بها من أحداث جسام شهدتها بعيني رأسها، و لمستها بيديها عن كثب، و لكنّها لاذت بكلّ كبريائها و عزّة نفسها و كرامة محتدها، و اعتزّت بعلوّ حسبها و نسبها الشريفين، و التفّت بجلال البنوّة، و جلست بعد أن كانت قد لبست أبلى ثيابها و أرذلها متنكّرة فيها، منتحية ناحية من القاعة، تحفّ بها إماؤها.
ثم أمر اللعين ابن زياد، فجي ء له برءوس الضحايا و الشهداء، و من بينها الرأس الشريف لمولانا أبي عبد اللّه الحسين رضي اللّه تعالى عنه، فجعل اللعين ابن زياد ينكت بقضيب كان في يده بين ثنيتي الرأس الشريف، غير عابئ بشعور الحاضرين، و لا مراع لإحساس أهل البيت النبوي، و هم يرون ما يصنع هذا المجرم الآثم.
و لذلك انبرى له زيد بن الأرقم «1» و صاح فيه قائلا: أعل هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فو الذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على هاتين الثنيتين يقبّلهما، ثم بكى.
فقال له اللعين ابن زياد: أبكى اللّه عينيك، فو اللّه لو لا أنّك شيخ قد خرفت و ذهب عقلك، لضربت عنقك.
فخرج ابن الأرقم و هو يقول:
أنتم يا معشر العرب! العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، و أمّرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم و يستعبد شراركم، فرضيتم بالذلّ «2».
نظر اللعين ابن زياد إلى الحاضرين أمامه، و تفحّص كلّا منهم بنظرة، ثم تساءل عن هذه المنحازة وحدها و
معها نساؤها و هي شامخة الرأس عالية، فلم تجبه
______________________________
(1). أبو عمرو زيد بن ارقم بن زيد بن قيس الخزرجي الأنصاري، من مشاهير الصحابة. كان نزيلا في الكوفة فشهد هذه الواقعة المؤلمة. و كان زيد ممّن شهدوا غزوة مؤتة و غيرها، و صفين إلى جانب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام. توفي بالكوفة عام 66 ه و قيل: 68 ه. (طبقات ابن سعد 6: 18، تهذيب الكمال 10: 9- 12).
(2). الأخبار الطوال: 259- 260، الإرشاد للمفيد 2: 114- 115، تاريخ أبي الفداء 1: 266. و في البداية و النهاية 8: 197 أنّ الذي أجاب ابن زياد انّما هو أبو برزة الأسلمي.
أهل البيت في مصر ،ص:160
العقيلة السيدة زينب رضي اللّه تعالى عنها، فأعاد تساؤله ثلاثا دون أن تردّ عليه.
فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و بنت الإمام علي كرّم اللّه وجهه «1».
فقال متشفّيا فيها: الحمد للّه الذي فضحكم و قتلكم، و أكذب أحدوثتكم!
فقالت: الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيّه، و طهّرنا من الرجس تطهيرا، إنّما يفتضح الفاجر، و يكذّب الفاسق، و هو غيرنا.
فلم يصبر اللعين ابن زياد على قولها، بل ردّ عليها قائلا: كيف رأيت صنع اللّه في أهل بيتك و أخيك؟!
و هنا تتجلّى كلّ معاني الإيمان و الصبر و الشجاعة، فتردّ عليه بقولها: ما رأيت إلّا خيرا، هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، و سيجمع اللّه بينك و بينهم فتحاجّ و تخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة. فأثار هذا الردّ الحازم الحاسم حفيظة اللعين ابن زياد، و استشاط غيظا و غضبا، فقال له عمرو بن حريث: أصلح اللّه الأمير،
إنّما هي امرأة، و هل تؤاخذ المرأة بشي ء من منطقها، إنّها لا تؤاخذ بقول، و لا تلام على خطل.
و لكنّ اللعين ابن زياد ظلّ غاضبا محنقا، فردّ على السيدة الطاهرة بقوله: لقد شفى اللّه قلبي.
فقالت: قتلت كهلي، و قطعت فرعي، و اجتثثت أصلي.
فردّ عليها اللعين ابن زياد قائلا: هذه سجّاعة، و لعمري لقد كان أبوها سجّاعا شاعرا! فقالت: يا بن زياد، ما للمرأة و السجاعة، و إنّ لي عن السجاعة لشغلا، و إنّي لأعجب ممّن يشتفي بقتل أئمته، و يعلم أنّهم منتقمون منه في آخرته «2».
______________________________
(1). في المصادر التاريخية هكذا: «هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللّه» و سنأتي على ذكر هذه المصادر.
(2). الإرشاد 2: 115- 116، الكامل في التاريخ 3: 296- 297، اعلام الورى 1: 471- 472، البداية-
أهل البيت في مصر ،ص:161
و في هذا الموقف الشجاع الجدير بالتسجيل، يقول الشيخ الجليل ابن نما الحلّي:
يا أيّها المتشفّي في قتل أئمته قلبي من الوجد على مثل الحجر
لا بلغتك الليالي ما تؤمّله منها و بل سداك المالح المقر
قوم هم الدين و الدنيا فمن قلاهم فمأواهم إذن سقر
لهم نبي الهدى جدّ، و جدّهم يوم المعاد بنصر اللّه ينتصر «1» أثار هذا النقاش الصريح بين العقيلة الطاهرة السيدة زينب رضي اللّه تعالى عنها و بين اللعين ابن زياد، غيرة زين العابدين علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما و على عمّته العقيلة، فانبرى صائحا بابن زياد: إلى كم تهتك عمتي بين من يعرفها و من لا يعرفها؟
فالتفت إليه ابن زياد و قال: من أنت؟
فردّ عليه في حزم و ثبات: أنا علي بن الحسين.
قال ابن زياد، أ ليس اللّه قتل علي بن الحسين؟
قال علي: كان لي أخ يسمّى عليا قتله الناس بأسيافهم.
فردّ اللعين عليه:
بل قتله اللّه.
و هنا تتجلّى مرّة أخرى قوة إيمان أهل البيت و شجاعتهم، عند ما ردّ زين
______________________________
و النهاية 8: 193.
و في هذه الواقعة كتب الاستاذ بولس سلامة معتبرا:
و رأى زينبا عليها من الأسمال و البوس ما يسرّ الأعادي
فأراد امتهانها بشمات بعض إيلامه سنان الصعاد
فأجابت بحكمة و إباءهاج فيه شرارة الإيقاد
يفضح الجوهر القديم هجينامحدث الجاه زائف الأجداد
ذاك أنّ العريق يبقى عريقالا يضير الهزال أصل الجواد
لا يكون الطود العتيّ خصيباإنّما الخصب في وديع الوهاد (عيد الغدير: 324- 325)
(1). ديوان ابن نما الحلّي: 37.
أهل البيت في مصر ،ص:162
العابدين بقوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ... «1».
فيسأله ابن زياد عليه اللعنة في دهشة و غضب: أ و بك جرأة على جوابي، و فيك بقيّة للردّ؟
و صاح بغلمانه أن ينظروا هل أدرك «2»، إنّي لأحسبه رجلا.
فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري، و قال: نعم، قد أدرك.
قال: اقتله.
فقال علي: من توكل بهذه النسوة؟
فتعلّقت العقيلة السيدة زينب رضي اللّه تعالى عنها بزين العابدين علي و قالت:
يا ابن زياد! حسبك من دمائنا ما ارتويت و سفكت، و هل أبقيت أحدا غير هذا؟ و اللّه لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه.
و عندئذ قال علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما: اسكتي يا عمّة حتّى أكلّمه.
و التفت إلى اللعين ابن زياد و قال: أ بالقتل تهدّدني؟ أ ما علمت أنّ القتل لنا عادة، و كرامتنا من اللّه الشهادة؟
فنظر ابن زياد إليه و إلى العقيلة الطاهرة عمّته ساعة، ثم قال: عجبا للرحم، و اللّه إنّي لأظنّها ودّت لو أنّي قتلته أنّي قتلتها معه، دعوه مع نسائه فإنّي أراه لما به مشغولا «3».
ثمّ نادى اللعين ابن زياد بالصلاة الجامعة، و نصر أمير
المؤمنين! و أيّد حزبه، و قتل الكذّاب ابن الكذّاب الحسين بن علي و شيعته!! «4»
______________________________
(1). الزمر: 42.
(2). أي: بلغ سنّ الحلم. و كأنّه يريد أن يتثبّت من إحدى أحكام اللّه و هو يريد أن يقتل ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله!!
(3). طبقات ابن سعد 5: 212، اعلام الورى 1: 472- 473، الكامل في التاريخ 4: 82.
(4). يقول ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ»: هذا النصر في نظري و نظر كل عاقل صحيح العقل شرّ من الخذلان، إذ ما فخر الآلاف الكثيرة تجتمع على اثنين و سبعين رجلا قد نزلوا على غير ماء، إنّما يعتبر النصر شرفا و فخرا إذا كانت العدّة متكافئة و العدد قريبا.
أهل البيت في مصر ،ص:163
و قبل أن يستأنف كلامه، وثب إليه عبد اللّه بن عفيف الأزدي، و كان ضريرا قد ذهبت إحدى عينيه يوم الجمل مع الإمام علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه، و ذهبت الأخرى بصفّين معه أيضا، و كان لا يفارق المسجد يصلّي فيه الليل ثم ينصرف. فلمّا سمع مقالة اللعين ابن زياد، قال: يا ابن مرجانة! إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنت و أبوك و الذي ولّاك و أبوه، يا ابن مرجانة! أ تقتلون أبناء النبيّين و تتكلّمون بكلام الصدّيقين؟!
فقال ابن زياد: عليّ به. فأخذوه، فنادى بشعار الأزد: «يا مبرور!» فوثب إليه فتية من الأزد فانتزعوه من أيدي الجلاوزة، و أتوا به أهله و منزله.
فقال ابن زياد: إليّ أعمى الأزد، أعمى اللّه قلبه، فأتوني به.
فلمّا بلغ الأزد ذلك، اجتمعوا و قبائل اليمن معهم، فبلغ ذلك ابن زياد، فجمع قبائل مصر و ضمّهم إلى ابن الأشعث و أمر بالقتال، فاقتتلوا حتّى وصل أصحاب ابن زياد عليه
اللعنة إلى دار عبد اللّه بن عفيف الأزدي، فكسروا الباب و اقتحموا عليه، فصاحت ابنته: أتاك القوم من حيث تحذر، فقال: لا عليك، ناوليني سيفي، فناولته، فجعل يذبّ عن نفسه و يقول:
أنا ابن ذي الفضل عفيف الطاهرعفيف شيخي و ابن أم عامر
كم دارع من جمعكم و حاسر
فقالت ابنته: يا ليتني كنت رجلا أخاصم بين يديك هؤلاء الفجرة، قاتلي العترة البررة.
و القوم محدقون به، كلّما جاءوه من جهة أشعرته ابنته، و هو يذبّ عن نفسه و يقول:
أقسم لو فرج لي عن بصري ضاق عليكم موردي و مصدري فتكاثروا عليه فأخذوه، فقالت ابنته: وا ذلّاه! يحاط بأبي و ليس له ناصر.
______________________________
فحقّ ابن زياد و من كان على شاكلته أن يندبوا على أنفسهم بالخيبة و الخسران، و أن يطأطئوا رءوسهم ذلّا و عارا حينما وقف هؤلاء النسوة الأشراف و على رأسهم السيدة زينب بنت فاطمة بنت رسول اللّه و هي بهذه الحالة. لعن اللّه الفسق و الفسّاق، لقد سوّءوا صحائف التاريخ، و سجّلوا على أنفسهم الجرائم الكبرى التي لا تغتفر و لا تنسى مدى الدهر، فإنّا للّه و أنا إليه راجعون، و لا حول و لا قوة إلّا باللّه العلي العظيم.
أهل البيت في مصر ،ص:164
و أدخلوه على اللعين ابن زياد، فقال: الحمد للّه الذي أخزاك.
فقال: يا عدوّ اللّه، فما ذا أخزاني؟ و اللّه لو فرج لي عن بصري، ضاق عليكم موردي و مصدري.
فقال: يا عدوّ اللّه، ما تقول في عثمان؟
فقال: يا عبد بني علاج، يا ابن مرجانة، ما أنت و عثمان، أساء أم أحسن، فقد لقي ربّه و هو وليّ خلقه يقضي بينهم بالعدل، و لكن سلني عن أبيك و عن يزيد و أبيه.
فقال: و اللّه لا أسألنّك عن
شي ء حتّى تذوق الموت عطشا.
فقال: الشهادة، و سألته أن يجعلها على يدى ألعن خلقه و أبغضهم إليه، فلمّا كفّ بصري يئست من الشهادة، و الآن، فالحمد للّه الذي رزقنيها بعد اليأس منها.
فأمر ابن زياد، فضرب عنقه و صلب في السبخة «1».
ثم عاد بجندب بن عبد اللّه الأزدي و كان شيخا، فقال: يا عدوّ اللّه! أ لست بصاحب أبي تراب «2»؟
فقال: بلى، لا أعتذر منه.
قال: ما أراني إلّا متقرّبا الى اللّه بدمك.
قال: إذن، لا يقربك اللّه منه، بل يباعدك.
قال: شيخ قد ذهب عقله. و خلّى سبيله.
*** ثم أمر ابن زياد عليه اللعنة برأس الحسين فطافوا به في الكوفة، و كان هذا الرأس الشريف أول رأس حمل في الإسلام على خشبة «3».
و يقول ابن الأثير في ذلك: «و إني لأعد من سيّئات بني أمية- و منهم معاوية- أن
______________________________
(1). انظر الإرشاد 2: 117، الكامل في التاريخ 4: 83.
(2). يقصد علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه.
(3). انظر الكامل في التاريخ 4: 83.
أهل البيت في مصر ،ص:165
يرخّصوا لولاتهم في المعاقبة بالقتل، و كان سبيلهم أن يكون العقاب على يد الخليفة لا الوالي، فإنّ الترخيص بذلك جرّأ أمثال زياد و سمرة بن جندب و عبيد اللّه على الإكثار من القتل، لموجب و لغير موجب».
أمر اللعين عبيد اللّه بن زياد، فأرسل رأس مولانا الإمام الحسين رضي اللّه عنه و رءوس أصحابه، مع زحر بن قيس «1» و معه جماعة إلى الشام حيث يزيد بن معاوية في مقرّ حكمه، كما أرسل النساء و الصبيان من أهل البيت النبوي الكريم محمولين على أقتاب الجمال، و فيهم زين العابدين علي بن الحسين، مغلول اليدين و الرقبة.
فلمّا قربوا من دمشق دنت السيدة أم كلثوم
رضي اللّه عنها من شمر بن ذي الجوشن و كان ضمن جماعة ابن زياد، و قالت له: لي حاجة!
قال: ما هي؟
قالت: إذا دخلت البلد «دمشق»، فاحملنا في درب قليل النظارة، و تقدّم أن يخرجوا هذه الرءوس من بين المحامل و ينحونا عنها، فقد خزينا من كثرة النظر إلينا و نحن في هذه الحال.
و لكنّ اللعين شمر، أمر بعكس ما سألته السيدة أم كلثوم، بغيا و عدوا و عتوّا على أهل البيت النبوي الكريم، و سلك بهم على تلك الصورة الدروب الواسعة، حتّى وصلوا باب دمشق حيث يكون السبي!
و يقول ابن الأثير في كتاب الكامل في التاريخ: و لمّا بلغوا دمشق دخل زحر بن قيس على يزيد بن معاوية، فسأله قائلا: ما وراءك؟
______________________________
(1). و قيل: مع شمر، و معه ابن مرّة العائذي، من عائذة قريش. انظر في ذلك تاريخ ابن الأثير 4: 83.
و قيل: غير ذلك، مثل محفز بن ثعلبة، زفر بن قيس، أبو بردة و طارق و جماعة. راجع تاريخ أبي مخنف 1: 497، الأخبار الطوال: 260، البداية و النهاية 8: 191، المنتظم 5: 341.
أهل البيت في مصر ،ص:166
فردّ عليه قائلا: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح اللّه و نصره! ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته، و ستّين من شيعته «1»، فسرنا إليهم فسألناهم أن ينزلوا على حكم الأمير عبيد اللّه أو القتال، فاختاروا القتال، فعدونا عليهم من شروق الشمس، فأحطنا بهم من كلّ ناحية، حتّى إذا أخذت السيوف مأخذها من هام القوم جعلوا يهربون «2» الى غير وزر! فو اللّه ما كان إلّا جزر جزور، أو نومة قائل، حتّى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجرّدة، و ثيابهم مرمّلة، و خدودهم
معفّرة، تصهرهم الشمس، و تسفي عليهم الريح، زوّاره العقبان و الرخم بقيّ سبسب «3».
فدمعت عينا يزيد! و قال: كنت أرضى من طاغيتكم بدون قتل الحسين، لعن اللّه ابن سمية! أما و اللّه لو أنّي صاحبه لعفوت عنه، فرحم اللّه الحسين! «4».
و يروى أنّه لما ورد وفد أهل الكوفة بالرأس الشريف إلى الشام و دخلوا مسجد دمشق، أتاهم مروان بن الحكم فقال: حجبتم عن محمد صلّى اللّه عليه و آله يوم القيامة، لن أجامعكم على أمر أبدا. ثم انصرف عنهم «5».
______________________________
(1). صحّة العدد كلّه: اثنان و سبعون رجلا من أهل البيت و شيعتهم.
(2). هذا هو الفخر المزيّف و الكذب الصريح، فإنّ كلّ المؤرّخين يذكرون لمن كان مع الحسين و آله ثباتا لا يضارعه ثبات، و إباء و شمما ندر أن يريا لمكسور قلّ ناصروه و مؤيّدوه، و كثر خاذلوه و واتروه (منه).
(3). القيّ: قفر الأرض، الخلاء. و في نسخة: و معى سبيهم. و السبب: المفازة، الأرض البعيدة المستوية، لا ماء فيها و لا أنيس (لسان العرب: مادة سبسب).
(4). الكامل في التاريخ 4: 83- 84. و يروي ابن الأثير فيه: 87 أنّه قيل: لمّا وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده، و زاده، و وصله و سرّه ما فعله، ثم لم يلبث إلّا قليلا حتّى بلغه بغض الناس له و لعنهم و سبّهم، فندم على قتل الحسين، فكان يقول: ... لعن اللّه ابن مرجانة فإنّه اضطرّه ... فبغّضني بقتله إلى المسلمين، و زرع في قلوبهم العداوة، فأبغضنى البرّ و الفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين، ما لي و لابن مرجانة، لعنه اللّه و غضب عليه!!
(5). و إن كان من المستبعد على مروان أن يقول
هذا، لأنّه رأس كلّ المصائب، إلّا أنّها ربّما تكون صحوة ضمير بعد فوات الأوان (منه). و يذكر ابن الأثير: انّ الذي قال ذلك هو أخوه يحيى بن الحكم، و ليس مروان.
أهل البيت في مصر ،ص:167
فلمّا دخلوا على يزيد، قال يحيى بن الحكم «1»:
لهام بجنب الطفّ أدنى قرابةمن ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سميّة أمسى نسلها عدد الحصى و ليس الآل المصطفى اليوم من نسل «2» و قيل: إنّه لمّا سمعت هند بنت عبد اللّه بن عامر بن كريز- و كانت تحت يزيد- ما دار من حديث زحر بن قيس و جماعته، و رأت بعينيها الرأس الشريف بين يديه، تقنّعت بثوبها و خرجت، و قالت: يا أمير المؤمنين، أ رأس الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟
قال: نعم، فأعولي عليه، وحدي على بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صريحة قريش، عجّل عليه ابن زياد فقتله، قتله اللّه!
ثم أذن للناس فدخلوا عليه و الرأس بين يديه، و معه قضيب و هو ينكت به ثغره! ثم قال: إنّ هذا و إيّانا، كما قال الحصين بن الحمام:
أبى قومنا أن ينصفونا نصفت قواضب «3» في أيماننا تقطر الدما
يفلّقن هاما «4» من رجال أعزّة «5»علينا و هم كانوا أعقّ و أظلما فقال له أبو برزة الأسلمي: ويحك، أ تنكت بقضيبك في ثغر الحسين ابن فاطمة؟!
______________________________
(1). في الكامل: 89، «يحيى بن أكثم». أمّا في الإرشاد 2: 119، و إعلام الورى 1: 474، و كفاية الطالب:
432 فكما هو مثبت في المتن.
(2). و في رواية: و بنت رسول اللّه ليست بذي نسل.
(3). أي السيوف.
(4). إلهام: الرءوس.
(5). في رواية: «أحبّة» بدل «أعزّة».
أهل البيت في مصر ،ص:168
أشهد لقد رأيت
النبي صلّى اللّه عليه و آله يرشف ثناياه و ثنايا أخيه و يقول: «أنتما سيّدا شباب أهل الجنة، فقتل اللّه قاتلكما، و لعنه اللّه، و أعدّ له جهنّم و ساءت مصيرا». أما إنّك يا يزيد تجي ء يوم القيامة و ابن زياد شفيعك، و يجي ء هذا و محمد شفيعه، ثم قام أبو برزة فولّى.
فقال يزيد: و اللّه يا حسين، لو كنت أنا صاحبك ما قتلتك! ثم قال: أ تدرون من أين أتي هذا؟ لقد قال: أبي علي خير من أبيه، و فاطمة أمي خير من أمّه، و جدّي رسول اللّه خير من جدّه، و أنا خير منه و أحقّ بهذا الأمر منه، فأمّا قوله: «أمي خير من أمّه» فلعمري فاطمة بنت رسول اللّه خير من أمي، و أمّا قوله: «جدّي رسول اللّه خير من جدّه» فلعمري ما أحد يؤمن باللّه و اليوم الآخر يرى لرسول اللّه فينا عدلا و لا ندّا، و لكنّه أتي من قبل فقهه، و لم يقرأ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ!! «1».
ثم أدخل نساء الحسين عليه و الرأس الشريف بين يديه، فجعلت فاطمة و سكينة ابنتا الشهيد الإمام الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس، و جعل يزيد يتطاول بدوره ليستره عنهما، فلمّا رأتا الرأس صاحتا، فصاحت نساء يزيد و ولولت بنات معاوية، فقالت فاطمة بنت الحسين: أ بنات رسول اللّه سبايا يا يزيد؟
فقال: يا ابنة أخي، أنا لهذا كنت أكره!
فقالت: ما ترك لنا خرص «2».
فقال: ما أتى إليكنّ أعظم ممّا أخذ منكنّ «3».
و قد تجرّأ من أهل الشام من كان حاضرا في هذا الحبس، فقام و قال: هب لي هذه الجارية «4» يا أمير المؤمنين
تكون خادمة عندي!
______________________________
(1). انظر تاريخ الطبري 4: 657- 658، المنتظم 5: 343، الكامل في التاريخ 4: 85. و الآية: 26 من آل عمران.
(2). أي: اعتبار في الرأي.
(3). الكامل في التاريخ 4: 85- 86.
(4). يعني بها فاطمة بنت الحسين.
أهل البيت في مصر ،ص:169
فارتعدت فرائص فاطمة «1»، و أخذت بثياب عمّتها العقيلة السيدة زينب رضي اللّه تعالى عنها، و قالت: يا عمّتاه، أو تمّت و أستخدم!!
فقالت العقيلة السيدة زينب للشامي: كذبت و لؤمت، ما جعل اللّه ذلك لك و لا لأميرك.
فغضب يزيد و قال: كذبت و اللّه، إنّ ذلك لي، و لو شئت أن أفعل لفعلت.
فقالت: كلّا و اللّه، ما جعل اللّه ذلك لك إلّا أن تخرج من ملّتنا و تدين بغير ديننا.
فاستطار يزيد غضبا و قال: إياي تستقبلين بهذا الكلام!! إنّما خرج من الدين أبوك و أخوك.
فقالت السيدة العقيلة: بدين أبي و أخي اهتديت أنت و أبوك و جدّك إن كنت مسلما.
قال: كذبت يا عدوّة اللّه!
قالت: يا يزيد، أنت أمير! تشتم ظالما و تقهر بسلطانك.
فاستحى يزيد و سكت، فأعاد الشامي سؤاله قائلا: هب لي هذه الجارية.
فقال له يزيد: اسكت، وهب اللّه لك حتفا قاضيا «2».
و لم يرتدع يزيد بن معاوية عن غيّه في مجلسه هذا، بل ظلّ ينكت بقضيبه الذي في يده ثنايا الإمام أبي عبد اللّه الحسين، و يقول:
ليت أشياخي ببدر شهدواجزع الخزرج من وقع الأسل «3»
فأهلّوا و استهلّوا فرحاثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القوم من سادتهم و عدلنا ببدر فاعتدل
______________________________
(1). فاطمة بنت الحسين بن علي الهاشمية؛ أم عبد اللّه. و أمّها: أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد اللّه التيمية. لقّبت بفاطمة الصغرى تمييزا لها عن فاطمة الكبرى بنت علي بن أبي طالب
عليه السّلام. تزوّجها الحسن المثنّى بن الإمام الحسن عليه السّلام، و ولدت له عبد اللّه المحض و إبراهيم و الحسن المثلّث و زينب، و هي صاحبة الخطبة الشهيرة التي ألقتها على مسامع أهل الكوفة بعد مقتل أبيها عليه السّلام توفّيت على الأشهر: سنة 117 ه، و قيل:
110 ه عن أكثر من سبعين عاما (مرآة الجنان 1: 184، اعلام النساء: 360 و ما بعده).
(2). تاريخ أبي مخنف 1: 500، الإرشاد 2: 121، تاريخ ابن الأثير 4: 86، البداية و النهاية 8: 194.
(3). الأسل: السيف.
أهل البيت في مصر ،ص:170
و ما أن سمعت العقيلة السيدة زينب رضي اللّه تعالى عنها ذلك القول حتّى انتصبت قائمة تردّ على يزيد قائلة في خطبة تعدّ من أبلغ الخطب و أفصحها، عليها أنوار الحقّ، خطبة علوية فاطمية، فتقول رضي اللّه تعالى عنها:
«الحمد للّه ربّ العالمين، و صلّى اللّه على رسوله و آله أجمعين، صدق اللّه سبحانه حيث يقول: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ [الروم: 10]، أ ظننت يا يزيد حين أخذ علينا بأقطار الأرض و آفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أنّ بنا هوانا على اللّه، و بك عليه كرامة و أنّ ذلك لعظيم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، و نظرت في عطفك، تضرب أصدريك «1» فرحا، و تنفض مذوريك «2» مرحا، جزلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة و الأمور متّسقة، و حين صفا لك ملكنا و سلطاننا؟! فمهلا! أنسيت قول اللّه تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ؟
أ من العدل يا ابن الطلقاء «3»، تخديرك حرائرك و
إماءك، و سوقك بنات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبايا قد هتكت ستورهنّ، و أبديت وجوههنّ، تحدوا بهنّ الأباعر من بلد إلى بلد، و يستشرفهنّ أهل المناهل و المناقل، و يتصفّح وجوههنّ القريب و البعيد، و الدنيّ و الشريف، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي، و لا من حماتهنّ حمي؟
و كيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأذكياء، و نبت لحمه من دماء الشهداء؟!
______________________________
(1). أصدريك: منكبيك.
(2). المذوران: جانبا الأليتين، و لا واحد لها. و هي كناية عن البغي المفرط، و الفرح الشديد بذلك.
(3). الطلقاء: هم أبو سفيان و معاوية و بقية الأمويين الذين أطلقهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم الفتح، و قال لهم:
«اذهبوا فأنتم الطلقاء» و بهذا صاروا موالي له هم و ذرّيتهم الى يوم القيامة.
أهل البيت في مصر ،ص:171
و كيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف و الشنآن، و الإحن و الأضغان، ثم تقول غير متأثّم و لا مستعظم:
فأهلّوا و استهلّوا فرحاثم قالوا يا يزيد لا تشل منحنيا على ثنايا أبي عبد اللّه، سيّد أهل الجنة، تنكتها بمخصرتك؟!
و كيف لا تقول ذلك و قد نكأت القرحة، و استأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرّية محمد صلّى اللّه عليه و آله، و نجوم الأرض من آل عبد المطلب، و تهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم؟
فلتردنّ و شيكا موردهم، و لتودّنّ أنّك شللت و بكمت، و لم تكن قلت ما قلت، و فعلت ما فعلت.
اللّهم خذ لنا بحقّنا، و انتقم ممّن ظلمنا، و أحلل غضبك بمن سفك دماءنا و قتل حماتنا.
فو اللّه يا يزيد، ما فريت إلّا جلدك، و لا حززت إلّا لحمك، و لتردنّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و
آله بما تحمّلت من دماء ذرّيته، و انتهكت من حرمته في عترته و لحمته، حيث يجمع اللّه شملهم، و يلمّ شعثهم، و يأخذ بحقّهم وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169].
و حسبك باللّه حاكما، و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله خصيما، و بجبريل ظهيرا، و سيعلم من سوّل لك و أمكنك من رقاب المسلمين- بئس للظالمين بدلا- أيّنا شرّ مكانا و أضعف جندا.
و لئن جرت على الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، و أستعظم تقريعك، و أستنكر توبيخك، لكن العيون عبرى، و الصدور حرى، و ما يجزي ذلك أو يغني، و قد قتل أخي الحسين، ألا إنّ حزب الشيطان يقرب إلى حزب السفهاء، ليعطوهم أموال اللّه عونا على انتهاك محارم اللّه.
ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب اللّه النجباء بحزب الشيطان الطلقاء! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، و الأفواه تتحلّب من لحومنا، و تلك الجثث الطواهر الذواكي
أهل البيت في مصر ،ص:172
تنتابها العواسل «1» و تعفرها أمّهات الفراعل «2».
و لئن اتّخذتنا مغنما، لتجدنّ وشيكا مغرما، حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك، و ما ربّك بظلّام للعبيد، و إلى اللّه المشتكى و عليه المعوّل.
فكد كيدك، و اسع سعيك، و ناصب جهدك، فو اللّه لا تمحو ذكرنا، و لا تميت و حينا، و لا تدرك أمدنا، و لا ترحض عنك عارها، و هل رأيت إلّا فندا «3»، و أيامك إلّا عددا، و جمعك إلّا بددا، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة اللّه على الظالمين.
فالحمد للّه ربّ العالمين الذي ختم لأوّلنا بالسعادة و المغفرة، و لآخرنا بالشهادة و الرحمة، نسأل اللّه أن يكمل لهم الثواب، و يوجب لهم المزيد، و
يحسن علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود، و حسبنا اللّه و نعم الوكيل».
لم يستطع يزيد بن معاوية، مع ما هو عليه من سلطان و ملك و هيبة يخشاها أكثر الناس أن يقاطع العقيلة السيدة زينب رضي اللّه تعالى عنها، أو أن يمنعها من الاستمرار في الكلام- رغم أنّه من لاذع القول و شديد التقريع- مع علم السيدة زينب أنّها في ذلّة الأسر، و أنّها كانت دامية القلب، باكية الطرف، ممّا مرّ بها من أحداث جسام.
إنّه لموقف عظيم لا يحتاج إلى برهان للتدليل على شجاعتها رضي اللّه تعالى عنها، و على قوّة حجّتها، إذ مثّلت في موقفها هذا الحقّ تمثيلا صحيحا، و أضاءت إلى طلّاب المعرفة و الحقيقة سبيلا واضحا.
إلّا أنّ يزيد بن معاوية أراد أن يخرج من هذا المأزق الذي وقع فيه، و الحرج الشديد الذي أصابه من افتضاح حقيقة أمره، فلم يستطع أن ينطق بغير هذه الكلمة:
يا صيحة تحمد من صوائح ما أهون النوح على النواح ثم أمر، فأخرج النساء و أدخلن دور يزيد، فلم تبق امرأة من آل يزيد إلّا أتتهنّ،
______________________________
(1). العواسل: الذئاب.
(2). الفراعل: الضباع.
(3). أي: كذبا.
أهل البيت في مصر ،ص:173
و أقمن مأتما على الضحايا الشهداء.
و قد سألن يزيد عمّا أخذ منهنّ، فأضعفه لهنّ حتّى قالت السيدة سكينة ابنة الإمام الحسين رضي اللّه تعالى عنهما: ما رأيت كافرا باللّه خيرا من يزيد بن معاوية! «1».
أمّا زين العابدين علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما، فكان قد أدخل على يزيد و هو مغلول الأيدي، فقال ليزيد: «لو رآنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مغلولين لفكّ عنّا».
قال: صدقت، و أمر بفكّ غلّه.
فقال علي: و لو رآنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعداء لأحبّ
أن يقرّبنا.
فأمر يزيد فقرب منه، و قال: إيه علي بن الحسين، أبوك الذي قطع رحمي، و جهل حقّي، و نازعني سلطاني، فصنع اللّه به ما رأيت.
فقال علي: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد: 22، 23].
فقال يزيد: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30].
فقال علي: «هذا في حقّ من ظلم، لا من ظلم» «2».
ثم سكت عنه، و أمر بإنزاله و أهل بيته- بعد أن خرجن من عند نساء يزيد- في دار خاصّة، و كان يدعوه للطعام معه سواء في الغداء أو العشاء. فدعاه مرّة و معه ابن الحسن [عمرو] و هو صبي، فقال له يزيد بن معاوية و هو يشير إلى ابنه خالد: أ تقاتل هذا؟
فقال عمرو: أعطني سكّينا و أعطه سكّينا حتّى أقاتله!
______________________________
(1). الكامل في التاريخ 4: 86. ربّما يبدو من هذه الرواية عطف يزيد و رقّته على أهل البيت عليهم السّلام لدرجة أن قالت سكينة بنت الإمام الحسين عليه السّلام- لو صحّ الخبر- هذا الكلام. غير أن ابن قتيبة يروي الرواية هكذا:
«ان يزيد غضب- من جواب الإمام علي بن الحسين عليهما السّلام- و جعل يعبث بلحيته، و قال، وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ يا أهل الشام: ما ترون في هؤلاء؟ ... فقال النعمان بن بشير: يا أمير ...
اصنع بهم ما كان يصنع بهم رسول صلّى اللّه عليه و آله لو رآهم بهذه الحال ...». الإمام و السياسة 2: 12- 13.
(2). الكامل في التاريخ 4:
86- 87، الإمامة و السياسة 2: 12- 13.
أهل البيت في مصر ،ص:174
فقبّله يزيد و ضمّه إليه و قال: شنشنة أعرفها من أخزم، و هل تلد الحيّة إلّا حيّة؟! «1» و «2»
و يروي أبو الديلم: أنّه لمّا جي ء بعلي بن الحسين إلى دمشق فيمن جاء معهم، فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد للّه الذي قتلكم و استأصلكم، و قطع قرني الفتنة.
فقال علي: «أقرأت القرآن؟».
قال: نعم.
قال: «أقرأت آل حم؟».
قال: قرأت القرآن، و لم أقرأ آل حم.
قال: «أ ما قرأت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23]؟»
قال: و إنّكم لأنتم هم؟
قال: «نعم» «3».
*** و لقد اطمأنّ يزيد بن معاوية على ملكه بعد ما حدث للإمام الحسين رضي اللّه عنه، و استتبّ له الأمر، فرضي عن اللعين عبيد اللّه بن زياد، و زاده و وصله، و سرّه منه ما فعل. إلّا أنّ هذا لم يدم طويلا، إذ كبر على الناس ما جرى للشهيد العظيم الإمام الحسين و أهل بيته و أنصاره، فكرهوا يزيد و حكمه، و أبغضوه و لعنه و سبّوه.
و لمّا بلغه ما وصل إليه حال الناس ندم على قتل الإمام الحسين و صحبه رضي اللّه تعالى عنهم جميعا، فصار يقول:
______________________________
(1). الكامل في التاريخ 4: 87، الأخبار الطوال للدينوري: 261 و فيه: «أعطني سيفا، و اعطه سيفا حتّى أقاتله، فتنظر أيّنا أصبر». و الشنشنة: الطبيعة و السجيّة. و أخزم: اسم ولد كان عاقّا لأبيه، فمات و ترك بنين عقّوا جدّهم أيضا و زادوا عليه أن ضربوه و أدموه، فقال: إنّما هو شنشنة أعرفها من أخزم، فصار مثلا.
(2). و لو أنصفه اللعين يزيد لقال: إنّ ذلك الشبل من ذاك الأسد.
(3).
كتاب الفتوح لابن أعثم 5: 242- 243، مقتل الحسين للخوارزمي 2: 61، اللهوف على قتلى الطفوف:
100، مقتل الحسين عليه السّلام للمقرم: 449 نقلا عن تفسير ابن كثير و الآلوسي.
أهل البيت في مصر ،ص:175
- و ما عليّ لو احتملت الأذى، و أنزلت الحسين معي في داري، و حكمته فيما يريد و إن كان في ذلك وهن في سلطاني؛ حفظا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رعاية لحقّه و قرابته، لعن اللّه ابن مرجانة فإنّه اضطرّه، و قد سأله أن يضع يده في يده أو يلحق بثغر حتّى يتوفّاه اللّه، فلم يجبه إلى ذلك فقتله، فبغّضني بقتله إلى المسلمين، و زرع في قلوبهم العداوة، فأبغضني البرّ و الفاجر بما استعظموه من قتل الحسين، ما لي و لابن مرجانة، لعنه اللّه و غضب عليه.
كأنّي بالقارئ الكريم و هو يطالع فصول هذه المأساة الأليمة التي روّعت الأمة الإسلامية، و صدعت قلوب أبنائها في القرن الأول الهجري، كأنّي بالقارئ الكريم و قد ارتسم على وجهه من علامات الاستفهام ما ينمّ عن حزن عميق، و حيرة شديدة و دهشة بالغة، تثير في خاطره سيلا من الأسئلة عن هذا الذي حدث لبيت النبوّة، كيف حدث أنّ أهل البيت قد أشاد اللّه تعالى بذكرهم، و أثنى في القرآن الكريم عليهم، فكيف تعرّضوا للقتل و الإبادة بتلك الصورة البشعة التي تقشعرّ الأبدان من هولها؟ و أين ما تكفّل اللّه به لأوليائه من رعايتهم و حمايتهم و نصرتهم؟ و من أولى من الحسين و أهل بيته رضي اللّه تعالى عنهم جميعا بتلك الرعاية، و تلك الحماية، و تلك النصرة؟!
ألا هوّن عليك أيها القارئ الكريم، فإنّ اللّه تعالى لم يرد بالإمام الحسين و
أهله الطيّبين الطاهرين إلّا خيرا، إنّه تعالى أراد أن يجعلهم في مستوى مع أنبياء بني إسرائيل و رسلهم، و هؤلاء قد طغى الظلمة و الجبّارين من اليهود عليهم، فأمعنوا فيهم قتلا و تمزيقا، و تحريقا و إبادة. فقتلوا زكريا و يحيى و شيعاء و أرمياء و عددا كبيرا من كرام الأنبياء.
أهل البيت في مصر ،ص:176
و قد روي «1»: أنّ زكريا عليه السّلام لاذ من قاتليه بشجرة، فانفتحت له و دخل في جوفها، و لكنّ الطغاة البغاة أعملوا فيها بمناشيرهم حتّى نشروه و هو في داخلها، و شطروا جسمه شطرين، فلم ينقص ذلك من درجة الشهادة إلى جانب مرتبة النبوّة، فكان نبيّا و كان شهيدا، و حاق بالظلمة ما بين اللّه تعالى في قوله: وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة: 61].
و قد وصف النبي صلّى اللّه عليه و آله بعض ما تعرّض له المؤمنون من قبل، و ذلك حين جاء خباب بن الأرتّ يشكو إليه ما كان يعانيه هو و رفاقه من تنكيل كفّار قريش بهم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «اصبروا، فقد كان يؤتى بالرجل ممّن قبلكم، فينشر بمنشار من حديد من قمّة رأسه إلى أخمص قدمه، ما يصرفه ذلك عن دين اللّه» «2».
و في القرآن الكريم إشارة إلى طوائف من المؤمنين بغى عليهم الكفّار، فحفروا لهم أخاديد في الأرض ملئوها نارا، ثم أخذوا يعرضون عليهم الارتداد عن الإسلام فيأبون، فيقذفون بهم في تلك الأخاديد، و يجلسون للتفرّج عليهم و هم يحترقون، و من هؤلاء: ابن ماشطة فرعون، فإنّه لمّا أراد
فرعون أن يقذف به في النار، و خشيت عليه أمّه، أنطق اللّه تعالى لسانه و هو طفل رضيع، و قال لها: تقدّمي يا أمي و لا تتقاعسي، فإنّك على الحقّ، فتقدّمت و احترقت، و لم تستغرق عملية احتراقها إلّا لحظات قصيرة، من بعدها تفتّحت لها و لرضيعها أبواب الجنّة، ينعمان بقصورها و أنهارها، و أشجارها و ثمارها، و كلّ ما فيها.
فإذا كان الإمام الحسين رضي اللّه عنه و من معه من بني هاشم قد لاقوا ما لاقوا من بغي الباغين، و ظلم الظالمين، فإنّ ذلك لم يكن لهوان لهم على اللّه تعالى، إنّ اللّه تعالى
______________________________
(1). رواه ابن الأثير في تاريخه 1: 306.
(2). أخرجه البخاري 3: 1322 من كتاب المناقب ب 22 علامات النبوة في الاسلام. حديث 3416، و: 1398 من كتاب فضائل الصحابة ب 58 ما لقي النبي صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه من المشركين بمكة حديث 3639.
أهل البيت في مصر ،ص:177
رفعهم إلى أعلى علّيّين، و جعل أعداءهم في أسفل سافلين.
و في اعتقادي أنّ اللّه تعالى لم يرد للإمام الحسين رضي اللّه عنه أن يكون واليا لأمور الدنيا؛ لأنّه لو تولّاها لكان واحدا من الخلفاء الراشدين، و لحكمة لا يعلمها إلّا اللّه، اقتضت المشيئة الإلهية ألّا يتجاوز عهد الخلفاء الراشدين أكثر من ثلاثين عاما «1» بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله. فلو أصبح الإمام الحسين خليفة لجاء في عهد غير عهده، و أوان غير أوانه، و كما قال الفرزدق الشاعر الكبير:
القدر ينزل من السماءو اللّه يفعل ما يشاء على أنّ ما صنعه الإمام الحسين كان له نور في الأرض و ذخر في السماء، فما زال يذكر رضي اللّه عنه بكلّ إجلال و
إكرام، بينما خصومه لا يذكرون إلّا بالرجم و الشتم و اللعن. و قد أصاب من قال:
لذكرك فينا يا حسين خلودبقيت به حيّا و مات يزيد
نعم مات حتّى ضلّ في الأرض قبره و ليس له بين القبور وجود
و من رجمت ذكراه من بعد موته هو الميّت لكنّ الحسين شهيد و قد يسأل القارئ عن الأمة الإسلامية بعد مقتل الحسين، لما ذا لم تغضب غضبتها و لم تثر ثورتها؟
و أقول: إنّ الأمة قد حزنت أشدّ الحزن لمّا أصاب الإمام الحسين و رفاقه، و لكنّها إذ ذاك كانت ذاخرة بالعقلاء من الرجال ما بين صحابة و تابعين، و هؤلاء رأوا أنّ الثورة آنذاك لأعداء الإسلام من اليهود و النصارى، فيسرعون بالتدخّل، و يعملون بكلّ ما أوتوا من قوة على وقف تقدّم الدعوة و انطلاقها لهداية المشرق و المغرب،
______________________________
(1). و هي مدة حكم الخلفاء الراشدين الأربعة، و كذلك الإمام الحسن. فقد بقي أبو بكر الصدّيق في الحكم سنتين و ثلاثة شهور و عشرة أيام، و بقي عمر عشر سنوات و ستّة شهور و أربعة أيام، و بقي عثمان إحدى عشرة سنة و أحد عشر شهرا و ثمانية عشر يوما، و بقي علي أربع سنوات و تسعة شهور. أمّا الحسن بن علي فبقي ستة شهور فقط، و هي المدة المكمّلة للثلاثين عاما.
أهل البيت في مصر ،ص:178
ففضّلوا أن تسكن الفتنة، ليتاح لدعوة الحقّ أن تشقّ طريقها في كلّ اتّجاه، فذلك أجدى بكثير من ثورة عارمة لا يعلم إلّا اللّه تعالى مداها.
و ممّا يجدر ذكره أنّ قتلة الحسين رضي اللّه عنه و أهل بيته ظنّوا أنّهم يستطيعون القضاء على الذرّية المحمدية، و لكنّ اللّه تعالى أحبط كيدهم.
فقد عاش زين العابدين علي بن الحسين و
كثر نسله، و انتشرت في الأرض ذرّيته رضي اللّه تعالى عنهم جميعا، و لا يزالون حتّى الآن يعيشون في أقطار شتّى من الدنيا، فهم أرادوا أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم، و لكنّ اللّه تعالى أتمّ نوره على الرغم منهم.
و أمّا سيّدات بني هاشم اللاتي شهدن المأساة، فإنّ الأحداث المروّعة لم تستطع أن تطغي على إيمانهنّ و صبرهنّ، فقد بقين في الحياة و بعد الممات يملأن حياة المسلمين نورا و هدى، و خيرا و بركة، و في طليعتهنّ سيّدتنا الطاهرة العقيلة السيدة زينب رضي اللّه تعالى عنها و أرضاها.
و قد اختارت السيدة العقيلة زينب رضي اللّه تعالى عنها مصر دارا لإقامتها، لما سمعته عن أهلها من محبّتهم لأهل البيت النبوي الكريم، و عظيم عطفهم و مودّتهم و ولائهم لذوي القربى، و لما تعرفه من أنّ مصر كنانة اللّه في أرضه، من أرادها بسوء من جبّار قصمه اللّه، و لما سمعته بما حدّثت به أمّ سلمة، من أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوصى قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بأهل مصر، فقال:
«إنّكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإنّ لهم ذمّة و رحما» «1».
و في رواية: أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّكم ستفتحون مصر، و هي أرض يسمّى فيها القيراط،
______________________________
(1). أخرجه مسلم 4: 1970 من كتاب فضائل الصحابة ب 56 وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله بأهل مصر ح 2543، و البيهقي في السنن الكبرى 9: 206 عن أبي ذرّ.
أهل البيت في مصر ،ص:179
فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإنّ لهم ذمّة و رحما»، أو قال: «ذمّة و صهرا» «1».
و قد صحب السيّدة الكريمة في مجيئها إلى مصر بعض أهل البيت
الكرام. و كان فيمن صحبها من أهل البيت النبوي الكريم- كما يروي البعض-: السيدة فاطمة ابنة مولانا الحسين، و مسجدها معروف بالقاهرة باسم مسجد السيدة فاطمة النبوية، و كذلك السيدة سكينة ابنة مولانا الإمام الحسين، و مسجدها معروف بالقاهرة كذلك باسمها، و بهذا قال محمد بن عبد اللّه بن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن الحسن بن الحسن رضي اللّه عنهم جميعا.
و بالإسناد المرفوع الى علي بن محمد بن عبد اللّه، قال:
لمّا دخلت مصر في سنة 145 هجرية، سمعت عسامة المعافري يقول: حدّثني عبد الملك بن سعيد الأنصاري، قال: حدّثني وهب بن سعيد الأوسي، عن عبد اللّه بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: رأيت زينب بنت علي بعد قدومها بأيام، فو اللّه ما رأيت مثلها وجها، كأنّه شقّة قمر.
و بالسند المرفوع إلى رقيّة بنت عامر الفهري، قالت:
كنت في من استقبل زينب بنت علي لمّا قدمت مصر بعد المصيبة، فتقدّم إليها مسلمة بن مخلد الأنصاري و عبد اللّه بن الحارث و أبو عميرة المزني، فعزّاها مسلمة فبكى، فبكت و بكى الحاضرون، و قالت: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ.
و كان مسلمة بن مخلد والي مصر، قد توجّه و معه جماعة من أصحابه، و رهط كبير من أعيان مصر و علمائها و وجهائها و تجّارها؛ ليكونوا في شرف استقبال السيدة زينب رضي اللّه تعالى عنها عند ما تطأ قدماها الشريفتان أرض الكنانة، فاستقبلوها جميعا استقبالا حافلا يليق بمقامها الكريم، عند قرية على طريق مصر
______________________________
(1). أخرجه مسلم 4: 1970 من كتاب فضائل الصحابة ب 56 وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله بأهل مصر ح 227/ 2543، و أحمد في المسند 5: 174 كلاهما عن أبي ذرّ.
و قوله: «و رحما» لكون «هاجر» أم إسماعيل منهم، و قوله:
«و صهرا» لكون «مارية» أم إبراهيم، زوج النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله منهم.
أهل البيت في مصر ،ص:180
و الشام، شرقي مدينة «بلبيس» بمحافظة الشرقية. و قد عرفت هذه القرية فيما بعد باسم «القرية العباسية» نسبة للعباسة ابنة أحمد بن طولون.
و قد وافق دخول السيدة الطاهرة مصر بزوغ هلال شعبان سنة إحدى و ستين هجرية، الموافق 26 أبريل سنة 681 ميلادية، و كان قد مضى على استشهاد شقيقها الإمام أبي عبد اللّه الحسين رضي اللّه عنه ستة أشهر و أيام.
و لقد قال أحد الشعراء في اختيارها مصر دارا لإقامتها:
لمّا رجعت من الشام ليثرب من بعد فاجعة الإمام الحسين
طلبوا إليك الظعن للبلد الذي تستوطنينه خارج الحرمين
فاخترت مصر فرحبت بك و انثنت تهتزّ من شرف على الكونين و قد أنزلها الوليّ هي و من معها في داره بالحمراء القصوى ترويحا لها، إذ كانت تشكو ضعفا من أثر ما مرّ بها، فنزلت بتلك الدار معزّزة مكرّمة، و بقيت فيها موضع إجلالهم و تقديرهم، حيث كانوا يفدون إلى منزلها الكريم متلمّسين بركتها و دعواتها، مستمعين إلى ما ترويه من الأحاديث النبوية الشريفة، و الأدب الديني الرفيع.
و بقيت العقيلة السيّدة زينب بتلك الدار أقلّ من عام بقليل، فلم تر خلال مدة إقامتها إلّا عابدة متبتّلة متهجّدة، صوّامة قوّامة تالية لآي الذكر الحكيم.
و قد انتقلت رضوان اللّه عليها عشية يوم الأحد لأربع عشرة مضين من رجب سنة اثنتين و ستين من الهجرة، الموافق 27 مارس سنة 682 ميلادية، فمهّدت لها الأرض الطاهرة مرقدا ليّنا في مخدعها من دار مسلمة، حيث أقامت، و حيث اختارت أن تلقى فيها ربّها الكريم؛ ليكون مضجعها الأخير «1».
______________________________
(1). اختلف
المؤرّخون في قبرها عليها السّلام على ثلاثة أقوال:
الأول: أنّها دفنت في مدينة جدّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و مال إلى ذلك المرحوم السيد محسن الأمين في كتابه أعيان الشيعة، مستدلّا بأنّه قد ثبت دخولها إلى المدينة، و لم يثبت خروجها.
الثاني: أنّها عليها السّلام قد دفنت في قرية بضواحي الشام. ذهب إليه ثلّة من العلماء و المؤرّخين، منهم:-
أهل البيت في مصر ،ص:181
و صار مقامها حيث و وريت الثرى مزارا مباركا يفد إليه المسلمون من كلّ حدب و صوب، يتبرّكون به و يسألون ربّهم فيه صالح الدعوات.
و في هذا المقام الطاهر المعروف بالحرم الزينبي أو المسجد الزينبي أو مسجد السيدة زينب، حيث أطلق على الحيّ كلّه، يقول الشاعر:
هذا ضريح شقيقة القمرين بنت الإمام شريفة الأبوين
و سليلة الزهراء بضعة أحمدنور الوجود و سيّد الثقلين
نسب كريم للفصيحة زينب شمس الضحى و كريمة الدارين هذا قبس من تاريخ حياة العقيلة الطاهرة، سليلة المجد و زهرة أهل البيت السيّدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنهما، و منه نقف على ما غمض من حياة جرى النبل في ركاب صاحبتها، و تسابقت الفضائل بين يديها، و تكاملت الصفات في ثناياها، و انطبعت محامد الخصال على لألاء صفحتها، و تفجّرت جلائل الأعمال من ينبوع همّتها.
سيّدة كانت و لا تزال فخر النساء، حملت علم الجهاد، و شاركت الرجال في الضرّاء، و ألزمت أعداءها الحجّة ببليغ منطقها، و فصيح خطابها، فباتوا يخشون على سطواتهم و جبروتهم بأسها، و يعملون ألف حساب لحماستها، و لكن لم يغنهم حسابهم، و لم يفدهم تدبيرهم نفعا.
***______________________________
المقريزي، و صاحب كتاب لواقح الأنوار، و ابن بطوطة، و ياقوت الحموي، و ابن جبير في رحلته.
و الثالث: أنّها
دفنت في مصر. و نقل هذا عن جماعة، منهم: العبيدلي، و ابن عساكر، و ابن طولون ...
و الحقيقة هي أنّ المشهد الذي بمصر هو مشهد أم كلثوم بنت علي عليه السّلام، و المشهد الذي بالشام هو مشهد السيدة زينب الكبرى عليها السّلام، و قد تسلّمته الشيعة يدا عن يد، و جيلا عن جيل. و للسيد الحجّة عبد الحسين شرف الدين مقالة مسهبة في هذا السياق، كتبها بمناسبة وصول الضريح الأثري الذي تبرّع به المرحوم محمد حبيب الباكستاني، و نصب على قبر السيدة زينب في قرية «الستّ» من ضواحى الشام، تحت عنوان «مشهد العقيلة». انظر عقيلة بني هاشم لعلي بن الحسين الهاشمي الخطيب: 69.
أهل البيت في مصر ،ص:183
صافيناز كاظم
إن كنت قد قتلت بكاء عند أمّك فاطمة، فكيف يكون حالي عندك يا زينب بنت علي؟
إلّا أنّ الدموع لم تكن قطّ لترضيك، فكرهتها لمّا أتيتك، و بلعتها نارا.
و أمسكت شهقاتي، مكظومة، لأقف وراءك، أتعلّم كيف يكون الفعل حين لا يكون الوقت لائقا للبكاء، و كيف يغرق الصدق في انهمار الدمعة الكذوب من عين الذي قتل، و الذي سلب، و الذي انحاز للصمت، فجرت الدماء من تحت أنفه و لم يحرّك ساكنا، ثم أتى و الرءوس على الحراب، و الخيام محروقة، و الحرائر الكريمات سبايا، ثم أتى: يبكي!
*** حين سال النفاق دمعا و اختلط البكاء، سقطت معاني الشفقة، و أدركتها من فورك أنّ هذا البكاء مريب، فرفضت يا زينب المواساة، و رأيت العداء في النحيب، كما رأيته في النبال الساقطة على «عترة» جدّك المفدّى، و السيوف الذابحة أهل بيته،
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «رساليات في البيت النبوي»، ط. دار الزهراء للإعلام العربي- القاهرة 1987 م.
أهل البيت في مصر ،ص:184
و
صوته الشريف ما زال يطوف بالضمائر: «أذكّركم اللّه في أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي» «1».
يجلجل صوتك يا ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، صوتك الذي عرفته الليالي متبتّلا خاشعا ذاكرا، يجلجل صوتك حاسما صارما:
«صه يا أهل الكوفة! يقتلنا رجالكم و تبكينا نساؤكم يا أهل الكوفة؟! يا أهل الختل و الغدر، أ تبكون؟ فلا رقأت الدمعة، و لا هدأت الرنّة، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا تتّخذون أيمانكم دخلا بينكم ... ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم، و في العذاب أنتم خالدون. أ تبكون و تنتحبون؟
أي و اللّه ... فابكوا كثيرا و اضحكوا قليلا، لقد ذهبتم بعارها و شنارها، و لن ترحضوها بغسل أبدا، و أنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، و معدن الرسالة! مدرة- المدافع عن- حجّتكم، و منار محجّتكم، و ملاذ خيرتكم، و مفزع نازلتكم، و سيّد شباب أهل الجنة، ألا ساء ما تزرون!
فتعسا و نكسا، و بعدا لكم و سحقا، فلقد خاب السعي و تبّت الأيدي، و خسرت الصفقة، و ضربت عليكم الذلّة و المسكنة!
ويلكم يا أهل الكوفة! أ تدرون أيّ كبد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فريتم، و أيّ كريمة له أبرزتم، و أيّ دم له سفكتم، و أيّ حرمة له انتهكتم؟
لقد جئتم شيئا إدّا، تكاد السماوات يتفطّرن منه، و تنشقّ الأرض، و تخرّ الجبال هدّا ... فلا يستخفّنّكم المهل، فإنّه لا يحفزه البدار، و لا يخاف فوت الثار، و إنّ ربّكم لبالمرصاد!» «2».
______________________________
(1). رواه مسلم 4: 1873 من كتاب فضائل الصحابة ب 4 فضائل علي بن أبي طالب ح 36، و البيهقي
في السنن 2: 148 و 7: 31 و 10: 114 عن زيد بن أرقم.
(2). من خطبتها الغرّاء لأهل الكوفة حينما سيقت السبايا إلى عبيد اللّه بن زياد بن أبيه والي يزيد على الكوفة.
نقلتها أغلب كتب التاريخ و السيرة.
أهل البيت في مصر ،ص:185
و وراءك يا زينب كربلاء، كرب و بلاء، لتوّك تركتها: مصّاصة دم شريف، و آكلة أجساد عطرة: «... ثلاثة و سبعون شهيدا ثبتوا أمام أربعة آلاف حتّى قتلوا عن آخرهم»!
عون ابن زوجها عبد اللّه بن جعفر و أخوه محمد، و إخوتها من أبيها، أولاد علي:
العباس، و جعفر، و عبد اللّه، و ابنا أخيها الحسن: أبو بكر و القاسم، و بنو عمّها عقيل:
جعفر، و عبد الرحمن، و عبد اللّه، و غيرهم، و على رأسهم جميعا سبط الرسول: الحسين، استشهد الجميع بين ذراعيها و هي تقول: «اللّهم تقبّل منّا هذا القليل من القربان»!
هطل الجور و العسف، و غرور الدنيا على أرض كربلاء مطرا نجسا، ترتوي منه بذور حقد جاهلية، كان الإسلام قد دفنها طيّ سماحته حين كانت: «اذهبوا فأنتم الطلقاء!» حمامة يطلقها الرسول صلّى اللّه عليه و آله لترفرف بالرحمة فوق الثأر، و فوق عدل القصاص!
و كان حتما أن يروي مطر الجور بذرة الحقد القديم، فتينع كربلاء!
و كربلاء بذرة كانت في صلب الاستهزاء الفظّ بالنبي الكريم، و تكذيبه، و إيذائه بكرش البعير!
كربلاء كانت سطرا في حلف قريش الذي فرض حصار الجوع و العطش على العصبة المؤمنة في شعب أبي طالب.
و كربلاء كانت رنينا في صرخة أبي جهل: «تنازعنا نحن و بنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، و حملوا فحملنا، و أعطوا فأعطينا، حتّى إذا تجاثينا على الركب و كنّا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي
من السماء، فمتى تدرك هذه؟! و اللّه لا نؤمن به أبدا و لا نصدّقه»!
و كربلاء كانت في نفر القبائل الذي اجتمع ليقتل محمد بن عبد اللّه، الذي ظنّوه نائما، فإذا النائم علي بن أبي طالب، المفتدي بروحه حياة نبيّه و رسوله و مربّيه، ابن عمّه و أخيه: محمد الأمين صلّى اللّه عليه و آله.
و كربلاء كانت رمحا في قتلة الغدر بحمزة يوم أحد!
أهل البيت في مصر ،ص:186
و كربلاء كانت دقّات على دفوف النساء المشركات، يرقصن على جثث شهداء المسلمين! يقطعن الآذان و الأنوف يعلّقنها أقراطا و قلائد، و يبقرن البطون يمضغن الأكباد، و قائدهم أبو سفيان يقول للنبي و أصحابه: «اعل هبل، الحرب سجال، يوم بيوم بدر!». و يكاد يكرّرها حفيده يزيد بعده بنصف قرن، حين تسقط بين يديه رءوس الشهداء من أحفاد النبي و أحفاد أصحابه، فيتغنّى بأبيات من شعر الشماتة:
ليت أشياخي ببدر شهدواجزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلّوا، و استهلّوا فرحاثم قالوا: يا يزيد لا تشل! لكنّ اللّه أعلى و أجلّ! فيشاء سبحانه و تعالى أن يظلّ قول نبيه المبعوث للعالمين أمام عناد المشركين من قريش: «و اللّه يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، و القمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته أو أهلك دونه».
يظلّ هذا القول راية نبوية، يحملها علي و يستشهد تحتها، و يحملها أبناؤه: الحسن ثم الحسين، و كوكبة من نجوم أهل البيت الذي أذهب اللّه عنه الرجس و طهّره تطهيرا، و معهم صحابة أبرار من الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه و ما بدّلوا تبديلا، و وراءهم على طول الزمن الإسلامي، و من مشارق الأرض و مغاربها تأتي قوافل من أبناء الإسلام، لا تنتهي و لا
تنفد، بل تنمو و تربو كلّما اشتدّ الحصار و سقط الشهداء.
فلا يمكن للشهيد أن يحدّد نسله، و قد جعله اللّه أكثر الرجال خصوبة، و ما زال الإسلام الولود يكثر أبناؤه على طريق دين اللّه، و الراية النبوية مرفوعة أبدا تتبادلها الأيدي: «و اللّه يا عمّ، لو وضعوا الشمس في يميني، و القمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته أو أهلك دونه!».
*** وردة طفلة تولد في بيت النبوة في شعبان في السنة الخامسة للهجرة، و يسمّيها الرسول المفدّى: زينب.
أهل البيت في مصر ،ص:187
و مع الفرحة تكون النبوءة: هذه الطفلة النبوية تنتظرها من أيام الجهاد أشقّها و أثقلها على القلب وطأة «... فهم يذكرون أنّ سلمان الفارسي أقبل على عليّ بن أبي طالب يهنّئه بوليدته، فألفاه واجما حزينا، يتحدّث عمّا سوف تلقى ابنته في كربلاء ...!» «1».
و تحت ظلال هذه النبوءة تنمو زينب في كنف الرسول مع أمّها فاطمة سنوات خمسا، أو تقارب الستّ، و تدرج طفلة رصينة ناضجة، لا تفارق أمّا مجاهدة متبتّلة، تسابقها في إسباغ الوضوء، و تلاحقها في إقامة الصلاة، ترشف و تتعلّم، و تحاكي كلّ حركة و سكنة تفعلها الأمّ البتول التي هي أشبه خلق اللّه بالرسول صلّى اللّه عليه و آله.
و فاطمة تحتضن زينب بين ابتسامة و رقرقة دمعة، تدعو لها: «جعل اللّه فيك الخير يا زينب، و في أبنائك البررة الأتقياء، و كأنّي يا ابنتي أنظر إليك و أنت تدافعين عن الحقّ المهضوم، بمنطق فصيح و لسان عربيّ مبين».
ثم تأتي اللحظة التي تلحق فيها الأم القدوة بأبيها العظيم في رحاب اللّه، حزينة، غاضبة، و قد أوجعها أن ترى الحقّ يخرج من مكمنه، و بشفافية التقى و التبتّل تراه،
و قد استدرجته الأهواء؛ ليكون كرة تتقاذفها العاصفة الفاتنة، التي سوف يستشهد فيها زوجها و أبناؤها و أهل بيتها، صرعى مجندلين «2»، لا يؤنسهم إلّا الحقّ في وحشة الطريق.
و غريب: لا تشعر زينب بثقل هذا اليتم الرهيب المبكّر، حين يفقد الإنسان أمّا ليست ككلّ الأمّهات، فكأنّها استثقلت على أمّها مواصلة الحياة بعيدا عن النبي المفدّى، فآثرت لها سعادة اللقاء به على مرارة الفراق عنها، فداء لها، و برهان حبّ سخي.
و توصيها فاطمة في ثقة و احترام أن تكون «أمّا لأخويها: الحسن و الحسين»!
و تنفّذ زينب الوصية بدقّة و التزام، فتكون أمّا حقيقية، و هي لم تتجاوز السادسة، لا تفارق أخويها، حتّى بعد زواجها و زواجهما، لتبقى دائما أمّا لهما، ثم لتصير من بعد ذلك أمّا للشهداء في كلّ زمان و مكان!
______________________________
(1). عن كتاب «السيدة زينب بطلة كربلاء» للدكتورة بنت الشاطئ: 30 ط. دار الهلال، القاهرة (المؤلّفة).
(2). مجندل: ممدّد.
أهل البيت في مصر ،ص:188
و أغمض عيني و أطرد من ذهني كلّ أوصافها التي خاض فيها المؤرّخون و الرواة و الكتّاب- سامحهم اللّه- فلا أرى تفصيل هيئة أو وجه، لكنّني أراها:
خديجة تعود ... خديجة السكن الرءوم!
و يدخل بيت علي ثماني نساء زوجات له بعد فاطمة الزهراء، معظمهنّ أرامل شهداء، و إخوة في الجهاد، أو يتيمات كريمات، سوف يجدن في بيت إمام العلم حماية و رعاية و تربية، و إعدادا طيّبا ليكنّ رساليات حاملات للعلم و الفقه.
و يحتفظ بيت علي لزينب بموقعها: أمّا لأخويها، و تلميذة لباب مدينة العلم النبوي، فتجلس بين يدي أبيها علي يعلّمها تفسير بعض الآيات، و يأخذه الحديث إلى ما ينتظرها من دور خطير، فتومئ زينب برأسها، «أعرف ذلك يا أبي ... أخبرتني أمي!».
و تسمع
عن أنس بن مالك يقول: «كنت عند النبي صلّى اللّه عليه و آله، فرأى عليا مقبلا، فقال:
يا أنس، قلت: لبيك، قال: هذا المقبل حجّتي على أمتي يوم القيامة» لم أجد له أصلا فتأخذها المسئولية منذ البداية، لكي لا يفوتها من أبيها ما لم تستطع أن تأخذه مباشرة من جدّها رسول اللّه، و خاتم أنبيائه، و قد عرفت قول الرسول المفدّى: «علي منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبي بعدي» «1».
فتعلّمت بعلم أبيها الذي وصفه ابن عباس: «و اللّه لقد أعطي علي تسعة أعشار العلم، و أيم اللّه لقد شارككم في العشر العاشر»!
و حفظت بلاغته، و حكمته، و مأثوراته في القضاء:
أتي عمر بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور، فأمر برجمها، فردّه علي و قال: هذا سلطانك عليها، فما سلطانك على ما في بطنها؟ و لعلّك انتهرتها أو أخفتها، قال: قد كان ذلك، قال: أو ما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لا حدّ على معترف بعد بلاء، إنّه
______________________________
(1). أخرجه الكثير من الحفّاظ، و أصحاب الصحاح، و ذكره أصحاب التواريخ عند الكلام عن غزوة تبوك عن عدّة من الصحابة.
أهل البيت في مصر ،ص:189
من قيد أو حبس أو تهدّد فلا إقرار له. فخلّى عمر سبيلها «1».
و يزوّجها أبوها الإمام علي من ابن عمها عبد اللّه بن جعفر، الذي قال عنه فقراء المدينة: ما عرفنا ما السؤال إلّا بعد وفاة عبد اللّه بن جعفر! و كان والده هو جعفر بن أبي طالب، الذي اشتهر باسم «جعفر الطيّار» إذ بشّر الرسول صلوات اللّه عليه أرملته بعد استشهاده بأنّ اللّه قد أعطاه جناحين في الجنّة؛ ثوابا لقتاله، حاملا الراية في غزوة مؤتة في جهاد أمر به الرسول
المفدّى ضدّ الروم، و ظلّ جعفر يقاتل حاملا الراية حتّى قطعت يداه و استشهد، و به ما يزيد عن التسعين طعنة!
و أنجبت السيدة زينب من عبد اللّه بن جعفر: محمدا المسمّى بجعفر الأكبر و إخوته عون الأكبر، و علي الأكبر، و أمّ كلثوم، و أم عبد اللّه، و قد توفّوا جميعا دون عقب، إلّا علي الأكبر و أم كلثوم، فكان منهما ذرّية عقيلة بني هاشم «2».
إلّا أنّنا، مع أخبار هذا الزوج و الأبناء، لا نراها إلّا في إطار الابنة للإمام علي، و الأم الملازمة لأخويها: الحسن و الحسين، سيدي شباب أهل الجنّة، و قرّة عين نبيّنا المفدّى، حافظة لوصيّة أمها الزهراء، منذ كانت في السادسة من عمرها.
و عند ما نراها في هذا الإطار، نجدها: العالمة، المتفقّهة، الدارسة، القارئة، الحافظة لكتاب اللّه العزيز، المتأمّلة في آيات اللّه، الزاهدة المتحرّجة من حلال الدنيا، المتصدّرة لمجالس العلم النسائية، تروي الحديث عن أمّها و أبيها و أخويها، و عن أم سلمة و أم هانئ، و المروي عنها من ابن عباس، و عبد اللّه بن جعفر، و علي زين العابدين، و فاطمة بنت الحسين، و الساهرة ليلا تتهجّد: مسبّحة، داعية، ناطقة بالخير و المأثورات، تقول أبياتها الشهيرة:
سهرت أعين و نامت عيون لأمور تكون أو لا تكون
______________________________
(1). نقلا عن كتاب «زينب» للأستاذ علي أحمد شلبي: 70 ط. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- القاهرة 1977 م (المؤلّفة).
(2). انظر الذرّية الطاهرة للدولابي: 164.
أهل البيت في مصر ،ص:190 إنّ ربّا كفاك ما كان بالأمس سيكفيك في غد ما يكون
فادرأ الهمّ ما استطعت عن النفس فحملانك الهموم جنون! و تقول: «خف اللّه لقدرته عليك، و استح منه لقربه منك!».
و تنقل عن أبيها: «نعم الحارس الأجل!» حين ينصحه
ناصح بأخذ حارس يحميه من الخوارج.
و تردّد عنه: «ثلمة الدين موت العلماء!».
و «شرّ الولاة من خافه البري ء».
و «خابت صفقة من باع الدنيا بالدين!».
و «يوم المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم!».
و تتحاور مع أبيها الإمام فتسأله: أ تحبّنا يا أبتاه؟
فيردّ قائلا: و كيف لا أحبّكم و أنتم ثمرة فؤادي؟!
فتقول و كأنّها قد أمسكت عليه خطأ: يا أبتاه، إنّ الحبّ للّه تعالى، و الشفقة لنا!
محفوفة مبجّلة بأبيها و أخويها إذا أرادت الخروج، و غالبا لزيارة قبر جدّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، خرجت ليلا متدثّرة بالحجاب الساتر الكامل، من الرأس حتّى القدم، و الحسن عن يمينها و الحسين عن شمالها، و الإمام علي أمامها، فإذا اقتربت من القبر الشريف، سبقها أبوها فأخمد ضوء القناديل؛ خشية أن ينظر أحد إلى عقيلة بني هاشم: زينب «1».
هذه الصورة الممعّنة في الحرص الشديد على التستّر و التحجّب في عزوة الأب و الأخوين، أحبّ الناس إلى رسولنا المفدّى، تواجهها بقسوة صورتها بعد مذبحة كربلاء، و هي مقصوصة الأب و الإخوة، و كلّ رجال و محارم بيتها، منزوعة الستر، محترقة الخباء، منهوبة المتاع، منتهكة الحرمة، يسوقها رجال عبد اللّه بن زياد، مكشوفة الوجه،
______________________________
(1). أعلام النساء: 273 برواية يحيى المازني، و انظر زينب الكبرى للنقدي: 22.
أهل البيت في مصر ،ص:191
حاسرة الرأس، تسير في موكب السبايا الكريمات من بنات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من كربلاء إلى الكوفة، إلى دمشق، إلى المدينة، يتطلّع إليها و إليهنّ كلّ من غلبه حبّ الاستطلاع على حبّ اتّقاء اللّه بغضّ البصر رحمة و مودّة في قربى النبي المفدّى، و منهنّ نائحات:
«وا محمداه! هذا الحسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، يا محمداه! هذه
بناتك سبايا، و ذرّيتك مقتلة، تسفى عليها الصبا!».
وى لنيران الغضب من جرأة السفهاء، الذين- مع هذا النحيب- لم يكتفوا بالنظر، بل بادروا بالوصف و التغزّل في محاسن وجه بنات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله!
*** تمرّ أحداث التاريخ المعروف، و زينب في خضمها يوما بيوم، بل لحظة لحظة، و القضية أمامها: إسلام أو لا إسلام، حقّ أو باطل.
تأتي فتنة التآمر لقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفّان فيأمر علي بن أبي طالب ولديه:
- «اذهبا بسيفيكما حتّى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحدا يصل إليه بمكروه ...» «1».
لكنّ الأهواء ما تلبث أن تجعل الذين أثاروا النفوس على عثمان هم المطالبون بثأر عثمان، و يقفون مناوئين لخلافة إمام المتّقين، و باب مدينة العلم، معلّم الفقهاء:
علي بن أبي طالب. و يعلنها بنو أمية حربا سافرة على بني هاشم، إحياء لثارات الجاهلية، و طمعا في ملك الدنيا، و يخرج الصحابي الجليل عمّار بن ياسر، و عمره تسعون سنة، يقول مهتاجا: «أيّها الناس، سيروا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يزعمون أنّهم يثأرون لعثمان، و و اللّه ما قصدهم الأخذ بثأره، و لكنّهم ذاقوا الدنيا و استمرءوها، و علموا أنّ الحقّ يحول بينهم و بين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم و دنياهم، و ما كان لهؤلاء سابقة في الإسلام يستحقّون بها طاعة الإسلام، أو الولاية عليهم ... ألا إنّهم ليخادعون الناس بزعمهم أنّهم يثأرون لدم عثمان، و ما يريدون إلّا أن يكونوا جبابرة و ملوكا. و الذي أهل البيت في مصر 191 أم الشهداء زينب بنت الإمام علي عليها و على أبيها السلام ..... ص : 183
____________________________________________________________
(1). انظر تاريخ ابن الأثير 3: 172 و 174 ذكر مقتل عثمان، و علي
بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين لمحمد رضا: 30 و ما بعده.
أهل البيت في مصر ،ص:192
نفسي بيده، لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ها أنا ذا أقاتل بها اليوم!» «1».
و تتحقّق نبوءة النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّ عليا سيقاتل قريشا في سبيل اللّه: «... يا معشر قريش لتنتهنّ أو ليبعثنّ اللّه عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن اللّه قلبه على الإيمان».
قالوا: من هو يا رسول اللّه؟
قال: «هو خاصف النعل» و كان قد أعطى عليا نعله يخصفها.
أخرجه الترمذي عن ربعي بن حراش، و أخرج مثله أحمد «2».
و يقف علي مبدئيا حاسما، لا يخشى في اللّه لومة لائم، و يعلنها: «و اللّه لا أداهن في ديني، و لا أعطي الرياء في أمري».
- «أ تأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟ لا و اللّه، لن يراني اللّه متّخذ المضلّين عضدا ...».
- «ما لي و لقريش، أما و اللّه لقد قتلتهم كافرين و لأقتلنّهم مفتونين، و اللّه لأبقرنّ الباطل حتّى يظهر الحقّ من خاصرته، فقل لقريش فلتضجّ ضجيجها!».
و تقضي زينب سنوات خلافة أبيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في الكوفة من 35 ه إلى 40 ه، و هو في بحر متلاطم من الصراعات و المؤامرات و الفتن، و الكوفة معه، كما ستكون مع بنيه، مسرفة في الوعود، متخاذلة في الأفعال، ناكثة عهودها!
حتّى تأتي ضربة عبد الرحمن بن ملجم في 19 رمضان عام 40 ه لتقضي على الإمام الشهيد بعد يومين، فينتقل إلى الرفيق الأعلى، لاحقا بحبيبه و أخيه و نبيّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله في 21 رمضان عام 40 الهجري، و وصيّته: «يا بني عبد
المطلب، لا تخوضوا دماء المسلمين خوضا تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلنّ بي إلّا قاتلي. انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربة و لا تمثّلوا به، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «إيّاكم و المثلة و لو بالكلب العقور».
______________________________
(1). تاريخ ابن الأثير 3: 308- 309.
(2). سنن الترمذي 5: 634 كتاب المناقب ب 20 مناقب علي بن أبي طالب ح 3715. مسند أحمد 3: 33 و 6: 106.
أهل البيت في مصر ،ص:193
و وقف الحسن يقول في رثائه: «... و اللّه ما ترك ذهبا و لا فضّة ...» «1».
*** على أثر استشهاد الإمام علي بايع أهل العراق الحسن، لكنّ خلافته لم تدم أكثر من ستّة أشهر، آثر الإمام الحسن بعدها، حقنا لدماء المسلمين، أن يتركها لمعاوية؛ حتّى تكفّ الفتنة، و تهدأ الأطماع، لكن هل تشبع لبني أمية بطن؟!
يستشهد الحسن مسموما على يد زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس، بعد أن يرسل إليها معاوية يقول: إنّي مزوّجك يزيد ابني، على أن تسمّي زوجك الحسن بن علي! لكنّه لا يزوّجها يزيد خوفا على حياته من مسممة الأزواج، و يعطيها بدلا عن ذلك مائة ألف درهم!!
و كان هدفه من وراء قتل الإمام الحسن تمهيد الطريق لأخذ البيعة ليزيد في حياته، كاسرا لنظام الشورى الإسلامي إلى وراثة قيصرية؛ لتكون ملكا عضوضا لبني أمية دون المسلمين أجمعين، و من فيهم من أفذاذ بيت النبوّة، و ليبدأ أول انحراف أساسي في تاريخ الحكم الإسلامي؛ ليفرخ فيما بعد المزيد و المحزن من الانحرافات.
*** و يتصدّى الحسين: لا مبايعة ليزيد!
و تتسارع الأحداث نحو النبوءة التي أخبر بها رسولنا المفدّى، و أبكته البكاء المرّ، قبل حدوثها بما يزيد على
نصف قرن.
عن أنس بن مالك: أنّ ملكا ... استأذن ربّه أن يأتي النبي صلّى اللّه عليه و آله، فأذن له، فقال لأم سلمة: أملكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد، قال: و جاء الحسين ليدخل، فمنعته، فوثب فدخل، فجعل يقعد على ظهر النبي و على منكبه و على عاتقه، قال: فقال الملك للنبي: أ تحبّه؟ قال: نعم، قال: أما إنّ أمتك ستقتله، و إن شئت أريتك المكان
______________________________
(1). تناقلت كتب التاريخ و السيرة و المناقب خبر مقتله 7 و الحوادث التي وقعت إبّان أيام جرحه من سنة 40 ه.
أهل البيت في مصر ،ص:194
الذي يقتل فيه، فضرب بيده فجاء بطينة حمراء، فأخذتها أم سلمة فصرّتها في خمارها.
قال: قال ثابت: بلغنا أنّها كربلاء.
أخرجه الإمام أحمد «1»، و في رواية البيهقي عن أبي الطفيل «2»، و قال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني، و إسناده حسن «3».
و في رواية أخرى: «أنّ جبريل عليه السّلام أخبر الرسول المفدّى بأنّ الحسين يقتل بشطّ الفرات» «4».
يموت معاوية دون أن ينجح في حمل الحسين على المبايعة أو سمّه هو الآخر، و يأتي يزيد و يأمر الوليد بن عتبة «5» واليه على المدينة بأخذ البيعة من الحسين، فيقول الحسين بحسم: «يا أمير، إنّا أهل بيت النبوّة، و معدن الرسالة، بنا فتح اللّه و بنا ختم، و يزيد فاسق فاجر، شارب الخمر، و قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق و الفجور، و مثلي لا يبايع مثله!».
و يوصي مروان بن الحكم الوليد بقتل الحسين، فيفزع الوليد: ويحك! أنت أشرت عليّ بذهاب ديني بدنياي، و اللّه ما أحبّ أن أملك الدنيا بأسرها و أنّي قتلت حسينا، سبحان اللّه! أ أقتل حسينا لما أنّه قال: لا أبايع؟! و اللّه ما
أظنّ أحدا يلقى اللّه بدم الحسين، إلّا و هو خفيف الميزان، لا ينظر اللّه إليه يوم القيامة، و لا يزكّيه و له عذاب أليم «6».
______________________________
(1). مسند أحمد 3: 242.
(2). السنن الكبرى 7: 315.
(3). مجمع الزوائد 9: 187، و انظر المعجم الكبير للطبراني 3: 106 ح 2813. و في الباب عن الطبراني بطرق عدّة عنه صلّى اللّه عليه و آله، لكن بألفاظ قريبة. راجع ح 2814- 2822.
(4). انظر المعجم الكبير 3: 105 ح 2811.
(5). الوليد بن عتبة بن أبي سفيان الأموي، ولي لعمه معاوية المدينة، كما ولي الموسم عدّة مرات، عرف بالاعتدال في مواقفه تجاه خصوم بني أمية، و خاصة أهل البيت عليهم السّلام، و لمّا مات معاوية بن يزيد أراده أهل الشام على الخلافة، فطعن فمات سنة 64 ه. و قيل: أصابه الطاعون و هو في الصلاة، فمات!!. انظر تاريخ الإسلام للذهبي: حوادث 61- 80 ه، ص 194- 197، سير أعلام النبلاء 3: 534.
(6). ذكرت تفاصيل هذه الحادثة في كتب التاريخ و السيرة، انظر على سبيل المثال: تاريخ خليفة: 144،-
أهل البيت في مصر ،ص:195
و تتوالى التفصيلات، و يخرج الحسين من المدينة مع أهله إلى مكّة، و هناك تأتيه كتب الكوفة تستحثّه على القدوم لمبايعته، و التصدّي معه لعدوان يزيد: «... إنّ الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك ... العجل العجل ... فأقدم إذا شئت فإنّما تقدم على جند مجنّد لك!» «1».
فيرسل إليهم ابن عمه الوضي ء مسلم بن عقيل، فإذا بهم يتخاذلون حين تأتيهم فتنة عبيد اللّه بن زياد! و يقتل عبيد اللّه بن زياد مسلم بن عقيل رسول الحسين، و معه من آواه: هاني بن عروة المرادي، و هو يقسم: قتلني اللّه إن لم أقتلك
قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام! «2»
ثم يسير بالظلم يجمع الولاء ليزيد: يقتل عشوائيا في جاهلية و ضراوة، لتخاذل الناس خوفا و هلعا، و يعمّ العراق جوّ قاتل رهيب من الفزع و الذعر!
بينما الحسين في مكة يستعدّ للتحرّك إلى خلفائه الذين أهابوا به أن يعجل بالمجي ء إلى العراق!
و يتوسّل إليه أحبّاؤه بمكّة، ألّا يذهب إلى أهل الغدر، الذين خذلوا أباه و أخاه من قبل، و يقول قائل: «... فو اللّه لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنّك، و لئن قتلوك لا يهابون أحدا أبدا!».
و الحسين يستخير اللّه، و قدر اللّه سابق، فقد شاء اللّه أن يهلك يزيد و جنده بقتلهم الحسين، و ينجو الحسين و أهله بالاستشهاد على طريق دين اللّه! و يقول الحسين:
- «ألا ترون الحقّ لا يعمل به، و الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء اللّه
______________________________
الأخبار الطوال: 227- 228 تاريخ الطبري 4: 548- 550، إعلام الورى 1: 434- 435، البداية و النهاية 8: 146- 147.
(1). راجع تاريخ أبي مخنف 1: 404، الأخبار الطوال: 229، مروج الذهب 3: 64، إعلام الورى 1: 436، تاريخ أبي الفداء 1: 263.
(2). راجع الأخبار الطوال: 241- 242، الإرشاد 2: 61 و 65، الكامل في التاريخ 3: 275، تذكرة الخواص: 243.
أهل البيت في مصر ،ص:196
عزّ و جلّ، و إنّي لا أرى الحياة مع الظالمين إلّا جرما».
و يتحرّك الشهيد ابن الشهيد نحو الكوفة، و جنبات مكّة لم تنس بعد جدّه النبي و صوته الشريف: «و اللّه يا عمّ، لو وضعوا الشمس في يميني، و القمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته أو أهلك دونه!» «1».
و يأتيه من يخبره بمقتل مسلم و رسوله الآخر، و
تخاذل الكوفة: «أمّا أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، و ملئت غرائرهم، فهم قلب واحد عليك، و أمّا سائر الناس بعدهم، فإنّ قلوبهم تهوى إليك، و سيوفهم غدا مشهورة عليك!» «2».
و ما يلبث أن يبعث ابن زياد بألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي؛ ليحاصره في الطريق، و يقطع عليه خطّ الرجعة حتّى يأخذه معتقلا إلى ابن زياد، أو يخضع بالبيعة الجبرية ليزيد!
و يواجههم الحسين خطيبا بالمعروف يستحثّ ضمائرهم: «أيّها الناس، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلّا لحرم اللّه، ناكثا لعهد اللّه، مخالفا لسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يعمل في العباد بالإثم و العدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل و لا قول، كان حقّا على الشيطان أن يدخله مدخله! ألا و إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، و تركوا طاعة الرحمن، و أظهروا الفساد، و عطّلوا الحدود، و استأثروا بالفي ء، و أحلّوا حرام اللّه، و حرّموا حلاله ... و قد أتتني كتبكم و رسلكم ببيعتكم، و أنّكم لا تسلّموني و لا تخذلوني، فإن أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، و أنا الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول اللّه ... نفسي من نفسكم، و أهلي من أهلكم ... فإن لم تفعلوا و نقضتم عهدي، و خلعتم بيعتي، فلعمري ... لقد فعلتموها بأبي و أخي و ابن عمي مسلم بن عقيل، و المغرور من اغترّ بكم!».
______________________________
(1). تاريخ الطبري 2: 326.
(2). قائله مجمع بن عبيد العامري. راجع تاريخ أبي مخنف 1: 443، أنساب الأشراف 3: 172 و فيه: مجمع بن عبد اللّه العائذي، البداية و النهاية 8: 173 و فيه: مجمع بن عبد اللّه العامري.
أهل البيت في مصر
،ص:197
فقال الحرّ: «... فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ».
فقال الحسين: أ بالموت تخوّفني؟ ...
سأمضي و ما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى خيرا و جاهد مسلما
و واسى رجالا صالحين بنفسه و خالف مثبورا و فارق مجرما
فإن عشت لم أندم و إن متّ لم ألم كفى بك أن تعيش و ترغما! «1» يتصاعد المكر، و تشحذ قوى البشر، و تأتى أوامر ابن زياد، تحمل تعليمات يزيد:
«لا رحمة! امنعوهم عن الماء!».
و معسكر الحسين ينسج مجد الاستشهاد، ثلاثة و سبعون إنسانا في مواجهة أربعة آلاف وحش غاشم من جند ابن زياد من الكوفيّين!
و الأقمار من بيت النبوة من كلّ عمر، من لم يتجاوز العاشرة، و من ملك فتوة الثامنة عشرة و العشرين، و من بلغ مبلغ الرجال و الكهول، يتلألئون بالإقدام و الشجاعة، لا يقهرهم إلّا العطش: «يا أباه، العطش!».
و الحسين يجيب: «اصبر بنيّ، فإنّك لا تمسي حتّى يسقيك رسول اللّه!».
و زينب بين الخيام و المعركة تتلقى الأقمار: شهيدا شهيدا، و أنّاتها رغما عنها تتوالى: «يا حبيباه! يا ابن أخاه! يا ولدي! وا ثكلاه! اليوم مات جدي رسول اللّه! اليوم ماتت أمي فاطمة! اليوم مات أبي علي! و اليوم مات الحسن! وا حسيناه».
و تثخن الجراح حسينا، و يتقدّم التعس الذي باء بقتله، و بعده يحزّ رأسه؛ لترفعها الرماح إلى يزيد!
______________________________
(1). تاريخ أبي مخنف 1: 442- 443، الإرشاد 2: 80- 81، الكامل في التاريخ 3: 280- 281، البداية و النهاية 8: 172- 173، سمط النجوم العوالي 3: 174.
أهل البيت في مصر ،ص:198
و ترفرف كلمات الحسين حمائم، تسكن أعشاشها في قلب زينب و بين جوانحها، تطوف بها، ترويها في كلّ الأمصار، و لكلّ الآذان، حاضرة بأكملها كما أطلقها يوم الطفّ، يوم كربلاء و
هو يتفرّس في وجوه الكوفيّين، الذين دعوه ثم جاءوه قاتلين وراء عمر بن سعد:
- «أ لست ابن بنت نبيكم؟».
- «... يا فلان ... يا فلان ... يا فلان ... أ لم تكتبوا إليّ ... أن تقدم على جند لك مجنّد؟!».
- «أ تطلبونني بقتل منكم قتلته؟ أو بمال استهلكته؟ أو بقصاص من جراحة؟».
- «أعلى قتلي تجتمعون؟ أما و اللّه لا تقتلون بعدي عبدا من عباد اللّه، اللّه أسخط عليكم لقتلة منّي، و أيم اللّه إنّي لأرجو أن يكرمني اللّه بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون. أما و اللّه لو قتلتموني لألقي اللّه بأسكم بينكم، و سفك دماءكم، ثم لا يرضى بذلك منكم حتّى يضاعف لكم العذاب الأليم».
و ينتهي الدور الحسيني بالاستشهاد البطولي و الفداء، و يبدأ الدور الزينبي:
الراوية، الشاهدة، الفاضحة للجور و البغي و الطغيان.
فإذا الذي ظنّ نفسه منتصرا يبوء بانتصاره الفادح! و إذا الذي ظنّوا أنّهم قد سحقوه و أحاطوا به و قتلوه: متوّج بالمجد لم ينهزم، و زينب تحمل راية الحسين المنتصرة، بعد أن ألقمت الجبّارين و هي أسيرتهم أحجارا بلعوها في خزي، بين أهليهم و حرّاسهم و بروجهم المحصنة، و إذا الحسين حي في زينب، أشدّ قوة و تمكينا ممّا كان عليه، و أنّى لأعدائه بعد أن يقتلوه، و قد خرج من أسر الموت يتوالد عبر اللحظات و الأيام، كبيرا، كثيرا، خالدا.
و يضجّ عمرو بن سعيد الأشدق، والي يزيد على المدينة، يشكو زينب:
- إنّ وجودها بين أهالي المدينة مهيّج للخواطر!
و تصدر أوامر يزيد المرتعب: لتختفي زينب من المدينة.
أهل البيت في مصر ،ص:199
و تأتي العزيزة، ابنة الأعزّاء لتسعد بها كنانة اللّه، و تخرج مصر إلى «بلبيس» لتأخذها إلى قلبها، مضغة رسول
اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حانية على الجراح!
و في شهر مولدها: شعبان عام 61 للهجرة، و قد بلغت السادسة و الخمسين، تريح العقيلة الهاشمية رأسها الشريف إلى صدر مصر، و تركن إلى التبتّل و التضرّع و الاستغفار أحد عشر شهرا، حتّى يأتي رجب لعام 62 هجرية، فتلحق بركب النور النبوي في الرفيق الأعلى أمّا للشهداء، و شهيدة معركة: «الدنيا» أو «محمد»!
أهل البيت في مصر ،ص:201
حنفي المحلاوي
كنت و إلى فترة غير قصيرة من الزمن أعتقد- و معي بعض الناس- أنّ الضريح الموجود حاليا بحي السيدة زينب بوسط القاهرة القديمة، هو مقام أو مشهد أو ضريح أو قبر السيدة زينب، كبرى بنات النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله، لكنّني حين عقدت العزم على الكتابة عن أشهر المقابر و الأضرحة في مصر، اكتشفت من بعد الرجوع إلى المصادر التاريخية الرئيسية في هذا السياق: أنّ هذا الضريح إنّما يخصّ ابنة الإمام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، السيدة زينب، و أخت الإمام الحسن و الإمام الحسين، و ابنة السيدة فاطمة الزهراء، و أنّ جدّها العظيم النبي الكريم محمدا صلّى اللّه عليه و آله هو الذي اختار لها اسم السيدة زينب، مثل أخويها: الحسن و الحسين.
و من أجل بيان هذا الفارق، و إجلاء لهذا اللبس الذي فرض نفسه علينا بعض الوقت، رأينا من الضرورة- و نحن نكتب عن السيدة زينب صاحبة هذا الضريح- أن
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «مقابر المشاهير من آل البيت» ط. القاهرة، 2000 م.
أهل البيت في مصر ،ص:202
نشير إلى السيدة زينب، كبرى بنات رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه و آله.
و من أهمّ ما ذكرته كتب التاريخ و السيرة عن هذه السيدة العظيمة: أنّها ولدت بمكة المكرمة قبل الهجرة بثلاث و عشرين سنة، أي: قبل بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بعشر سنوات، و كان عمر والدها صلّى اللّه عليه و آله آنذاك ثلاثين عاما.
و السيدة زينب هي الابنة الكبرى للرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله من زوجته السيدة خديجة بنت خويلد، و قد زوّجها النبي صلّى اللّه عليه و آله لابن خالتها هالة بنت خويلد: العاص بن
الربيع، قبل ظهور الإسلام «1». و لمّا بعث النبي صلّى اللّه عليه و آله طلبت السيدة زينب من زوجها العاص بن الربيع أن يسلم، فرفض، و لذلك طلّقت منه، و ظلّ على دين آبائه حتّى العام السابع من الهجرة، حين أسلم و آمن بالإسلام، عندئذ ردّت إليه زوجته السيدة زينب، و كان قد رزق منها بطفلتين «2»، إلّا أنّه و بعد عام واحد من عودتها إلى زوجها من بعد إسلامه فرّق بينهما الموت، و دفنت بالبقيع.
و هناك بعض الروايات التاريخية التي أشارت إلى أنّ السيدة زينب ابنة رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه و آله قد ماتت في حادث عرض، و قد نقلت بعض هذه الروايات الدكتورة سعاد ماهر، و ممّا أشارت إليه في هذا السياق قولها في مطلع حديثها عن السيدة ابنة الإمام علي رضي اللّه عنه: ولدت السيدة زينب ابنة الإمام علي في السنة السادسة للهجرة في بيت النبوة بالمدينة المنوّرة، فباركها جدّها النبي صلّى اللّه عليه و آله و اختار لها اسم زينب إحياء لذكرى ابنته التي توفيت في السنة الثانية للهجرة متأثّرة بجراحها، فقد لقيت أحد المشركين بعد غزوة بدر و هي في طريقها إلى المدينة، فنخسها في بطنها و كانت حاملا، فأسقط حملها و ماتت.
و ظلّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله حزينا حتّى ولدت أختها الزهراء «فاطمة الزهراء» زوجة
______________________________
(1). الطبقات الكبرى 8: 30، نساء حول الرسول لمحمود طعمة: 154.
(2). ذكر ابن سعد أنّها ولدت عليا و أمامة، فتوفّي علي و هو صغير و بقيت أمامة، فتزوجها علي بن أبي طالب عليه السّلام بعد وفاة الزهراء عليها السّلام. الطبقات الكبرى 8: 30.
أهل البيت في مصر ،ص:203
الإمام علي بن أبي طالب ابنتها
الأولى فسمّاها زينب، و قد نشأت هذه الطفلة- السيدة زينب- تحوطها رعاية جدّها العظيم حتّى لقي ربّه.
و لمّا شارفت السيدة زينب ابنة الإمام علي على الزواج، اختار لها أبوها ابن عمها عبد اللّه بن جعفر، و أنجبت من زوجها عبد اللّه بن جعفر ثلاثة بنين، هم: جعفر، و عون، و علي ... و كذلك أنجبت بنتين، هما: أم كلثوم، و أم عبد اللّه.
كما ذكرت هذه المصادر أنّ زوجها ربّما تزوّج من غيرها في حياتها، حيث تفرّغت هي لرعاية إخوتها من بعد مقتل أبيها «1».
و قد عاصرت السيدة زينب عدّة أحداث سياسية عصفت بأهل بيتها، بدءا بوالدها الإمام علي، و مرورا بأخويها الحسن و الحسين، كما شهدت كذلك معركة كربلاء التي قتل بها أخوها الحسين، و قد سيقت بعد هذه المعركة مع الأسرى و السبايا حيث مقرّ البصرة عبيد اللّه بن زياد التابع ليزيد بن معاوية، ثم سيقت السيدة زينب بعد ذلك مع هؤلاء الأسرى إلى دمشق، و في مقدّمة الركب رأس الإمام الحسين رضي اللّه عنه، ثم أمرها يزيد بن معاوية باختيار مكان إقامتها، ففضّلت العودة إلى المدينة المنوّرة، و كان وجودها هناك دافعا لاشتعال الثورة ضدّ بني أمية، ممّا جعل والي المدينة المنوّرة يجبرها على الرحيل خوفا من زيادة هذه الثورة، فاختارت مصر، للإقامة بها حتّى يوم رحيلها.
لم تكن هذه السيدة الشريفة ... ببعيدة عن بيت العلم و المعرفة و الأخلاق، إلى جانب تحلّيها بصفات الشجاعة و الإقدام، و حسن الاختيار، ذلك لأنّها قد تربّت في بيت كان كلّه علما، و والدها الإمام الكبير علي بن أبي طالب كم هو معروف بالعلم
______________________________
(1). أعلام النساء لابن عساكر: 190، الطبقات الكبرى 8: 365 و سمّوها:
ليلى بنت مسعود.
أهل البيت في مصر ،ص:204
و التقوى، كذلك أخواها الكبيران: الإمام الحسن و الإمام الحسين رضي اللّه عنهما.
و من أخصّ صفات هذه السيدة الطاهرة: الوفاء، حيث حفظت عهد والدتها السيدة فاطمة ابنة النبي الكريم محمد صلّى اللّه عليه و آله.
و ممّا يروى في هذا السياق أنّ والدتها رضوان اللّه عليها و رغم صغر سنّ ابنتها السيدة زينب، إلّا أنّها قد أوصتها خيرا بكلّ من أخويها: الحسن و الحسين، و أن تكون بعدها أمّا لهما، فقامت بتنفيذ هذه الوصية خير قيام طوال حياتها، حتى أصبح هناك نوع من التلازم بين قصّة حياة هذين الإمامين الجليلين، و بين قصّة حياة هذه السيّدة الفاضلة، من حيث التفاصيل و الأحداث، خاصّة الأحداث التي حضرها أخوها الإمام الحسين رضي اللّه عنه، و التي انتهت بمقتله و رحيلها و أسرتها إلى المدينة المنوّرة، ثم اختيارها مصر كمنفى آمن لها و لأسرتها، بعد ما واجهت القسوة في المعاملات و هي تعيش في المدينة من بعد حادث كربلاء.
و قد علّمتها المصائب: الشجاعة و حسن التصرّف، و لها العديد من المواقف التي أظهرت فيها شجاعتها بقوة. و ممّا يروى في هذا السياق ... أنّه لمّا استشهد أخوها الإمام الحسين على مرأى و مشهد منها، لم تجزع، و لم تولول كبقية النساء في مثل هذه المواقف، بل تذرّعت بالصبر و الشجاعة و الرضا بقضاء اللّه و قدره، و قالت: «إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، اللّهم تقبّل منّا هذا القليل من القربان».
و ممّا يروى كذلك عن شجاعتها و قوّة نفوذها على أهل الباطل ... أنّه لمّا وصلت هي و سيدات أهل البيت مع رأس الإمام الحسين إلى الكوفة، و مثلت أمام عبيد اللّه بن
زياد، لاحظت أنّه كان ينظر إليهنّ نظرة التشفّي و التهكّم، فلم يسعها إلّا أن أنذرته بسوء ما سيلقاه هو و رجاله يوم القيامة، جزاء خيانتهم و غدرهم بأخيها الإمام الحسين و صحبه، كما أسمعته من العبارات الحادّة و الكلام الشديد ما لم يعتدّ أن يسمعه من أعظم الرجال شجاعة و أقواهم بأسا، فخاف أن يسترسل في إساءاتها، و حوّل مجرى الحديث إلى شاب كان بجانبها و سأله: من أنت؟
أهل البيت في مصر ،ص:205
فقال الشاب: أنا علي بن الحسين.
فقال ابن زياد: أو لم يقتل اللّه علي بن الحسين؟
قال الشاب: كان لي أخ أكبر منّي يسمّى عليا، قتله الناس.
فقال ابن زياد: إنّ اللّه قتله!
فقال الشاب: إنّ اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها.
فاغتاظ ابن زياد: و أمر بضرب عنقه، فتقدّمت إليه عمّته السيدة زينب فاحتضنته، و قالت: و اللّه لا أفارقه، إن قتلته فاقتلني، فبهت ابن زياد و عمل على أن يتخلّص من هذه الورطة ... ثم تراجع عن تنفيذ حكمه السابق بقتل ابن الامام الحسين.
و كان لها إلى جانب ذلك العديد من المواقف الشجاعة الأخرى حتّى مع الخليفة!! يزيد بن معاوية نفسه، عند ما قدمت إليه في دمشق مع رأس أخيها الإمام الحسين، ليس هذا فقط، بل و كان لشجاعتها بعد عودتها إلى المدينة دور كبير في إثارة مشاعر المسلمين ضدّ يزيد بن معاوية، بما كان ينذر بثورة عارمة ضدّه و ضدّ رجاله، و يرى بعض المؤرّخين أنّ هذه الثورة ظلّت مشتعلة سواء في الحجاز أو في العراق، و التي وضعت بذرتها الأولى هي السيدة زينب في عام واحد و ستّين من الهجرة، و قد أخذ نطاق هذه الثورة يتّسع حتّى أفلت الزمام من يد بني أمية في
عام 132 ه، فتولّى الخلافة من بعدهم بنو العباس بن عبد المطلب عمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله.
أمّا عن علمها و ورعها، فيقول عنه الجاحظ في كتابه البيان و التبيين: إنّها كانت تشبه أمّها لطفا و رقّة، و تشبه أباها علما و تقوى. فقد كان لها مجلس علم حافل تقصده جماعة النساء اللواتي يردن التفقّه في الدين؛ لذلك كانت- بحقّ- عقيلة بني هاشم، كما كانت تلقّب «1».
و حتّى عند ما اختارت مصر للإقامة بها، بعد أن خيّروها في منفى اختياري بدلا
______________________________
(1). البيان و التبيين 2: 157.
أهل البيت في مصر ،ص:206
من المدينة- خوفا من اندلاع المزيد من الثورة ضدّ بني أمية- أخذت تجمع حولها العلماء من أهل مصر من الذين أرادوا الاستزادة من علمها و ورعها و تقواها حتّى بات لها مريدون كثيرون.
أجمعت المصادر التاريخية على أنّ ضريح السيدة زينب كان في بدايته زاوية صغيرة يقع في الضاحية البحرية من مدينة «الفسطاط»، حيث الحدائق الغنّاء المطلّة على الخليج المصري، الذي كان يمرّ من هذه المنطقة آنذاك.
و قد دفنت السيدة زينب ابنة الإمام علي بن أبي طالب في الدار التى أقامت بها لمدّة عام من بعد قدومها مصر، و هي بيت الوالي مسلمة بن مخلد الأنصاري، كما أقيم الضريح حيث دفنت هذه السيدة الطاهرة، و هو لا يزال موجودا حتّى الآن، و كان الوالي الأموي يقيم آنذاك في منطقة بالفسطاط تعرف باسم «الحمراء القصوى»، و هي منطقة كانت غنية بالبساتين و الحدائق، و أمّا المنطقة التي يوجد بها الضريح الآن فكانت تعرف باسم «قنطرة السباع» نسبة إلى السباع التي كانت موجودة على القنطرة التي أقامها على الخليج «الظاهر بيبرس» «1»، هذا الخليج كان يخرج منه
الماء إلى فم الخليج و ينتهى عند السويس، و كانت هذه السباع هي شارة «الظاهر بيبرس» الذي شيّد القنطرة.
و في عام 1315 ه/ 1898 م تمّ ردم جزء من هذا الخليج، و بردمه اختفت هذه القنطرة، و مع الردم تمّ توسيع الميدان.
و تقول بعض مصادر التاريخ: إنّ هذا الخليج كان يستمدّ ماءه من نهر النيل عند
______________________________
(1). بيبرس العلائي البندقداري الصالحي، الملك الظاهر، صاحب الفتوحات و العمران، و كانت له أنباء و سيرة بها، ولد عام 625 ه بأرض القپچاق، و توفّي بدمشق سنة 676 ه و مرقده معروف فيها، حيث أقيمت حوله المكتبة الظاهرية. انظر النجوم الزاهرة 7: 94.
أهل البيت في مصر ،ص:207
مصر القديمة، ثم يتّجه شمالا حتّى حي غمرة، و لمّا ردم في عام 1898 م سار فيه الترام بدءا من عام 1901 م.
و عند بدء عمليات توسيع ذلك الميدان، اكتشف رجال الآثار واجهة زاوية و ضريح السيدة زينب الذي كان قد أقامه من قبل الوالي العثماني علي باشا الوزير في عام 951 ه/ 1547 م، ثم أعاد تجديده الأمير عبد الرحمن كتخدا عام 1174 ه/ 1761 م، ثم ظهرت به بعد ذلك عيوب، فشرع في هدمه و بنائه عثمان بك المعروف بالطنبورجي المرادي عام 1212 ه/ 1798 م، و توقّف البناء بمجي ء الحملة الفرنسية حتّى أكمله محمد خسرو باشا عام 1217 ه/ 1802 م.
ثم جدّد بعد ذلك على يد السيد أحمد المحروقي، ثم شرع عباس باشا في تجديده و توسيعه و وضع أساسه في عام 1270 ه/ 1854 م، و لكنّه توفّي قبل إتمامه، فأجرى هذا التجديد سعيد باشا ناظر الأوقاف في ذلك الوقت، و أدخل فيه الردهة البحرية التي بها ضريح الشيخ
محمد العتريس أخي سيدي إبراهيم الدسوقي، و الشيخ عبد الرحمن الحسيني العلوي العيدروسي التريمي المتوفّى في عام 1192 ه/ 1758 م، كما بنى حول الجامع سورا من الحديد، و بعد ذلك أمر الخديوي توفيق بهدم المسجد دون الضريح، و بناه من جديد، و أدخل فيه الرحاب التي حوله، و انتهى البناء في عام 1305 ه/ 1888 م «1».
و قد أراد الخديوي اسماعيل إنشاء عدّة شوارع يكون مركزها جامع السيدة زينب و ضريحها، و ذلك للمحافظة على الصحّة العامة. و كان أحدها من ميدان السيدة إلى بركة الفيل إلى شارع محمد علي. كما ذكر المورّخ علي باشا مبارك في كتابه «الخطط التوفيقية» عن ذلك المسجد و الضريح، فقال: و في سنة ستّ و ثمانين و مائتين و ألف، عند ما كنت ناظرا على ديوان الأوقاف، و كان يلصق بمسجد السيدة
______________________________
(1). انظر مدينة القاهرة من ولاية محمد علي إلى اسماعيل، للدكتور محمد حسان الدين اسماعيل.
أهل البيت في مصر ،ص:208
زينب من الجهة الشرقية مقبرة، و بعدها أراض فضاء و مزارع، فاشتريت ما كان مملوكا من ذلك و أضفته إلى أرض المقبرة، ثم أعطي بالحكر لمن يرغب في ذلك، فأخذ منه الكثير من الناس و بنوا فيه، و بعد قليل من الزمن صار خطّا عظيما، به جملة شوارع و حارات و بيوت لكثير من الأمراء و غيرهم.
و لهذا السبب ردم معظم البركة (بركة ابن طولون)، و كانت هذه البركة تقع فيما بين قلعة الكبش و مقابر زين العابدين «1».
و بعد ثورة يوليو عام 1952 م اهتمّت الثورة بهذا المسجد، فأخذت في توسعته و الاهتمام بالضريح. و في عام 1964 م أصبحت مساحة المسجد 7800 متر مربع، بعد أن كانت
مساحته قبل ذلك 4500 متر مربع فقط.
و بعد هذه التوسعة الجديدة نقلت إلينا الدكتورة سعاد ماهر صورة لمسجد السيدة زينب و ضريحها، فقالت: يتكوّن المسجد من سبعة أروقة موازية للقبلة، يتوسّطها صحن مربّع بقبّة، و يقابل هذه القبّة ضريح السيدة زينب ... كما يتقدّم المسجد من الواجهة الشمالية رحبتان، يوجد بهما مدخلان رئيسان يفصل بينهما مستطيل تعلوه «شخشيخة» ... و في الطرف الشمالي الغربي يوجد ضريح سيدي العتريس ...
و في عام 1969 م أضافت وزارة الأوقاف مساحة ثانية مماثلة تماما للمسجد الأصلي و بنفس مساحته، بحيث أصبحت الإضافة الاولى تفصل بين المسجد الأصلي و التوسعة الأخيرة؛ لذلك فقد عمل في منتصف التجديد الأول محراب يتوسّط المسجد الجديد، مع الإبقاء على المحراب القديم. و يقابل ضريح السيدة زينب في التجديد الثاني رحبة مماثلة للصحن مغطّاة أيضا ... «2».
______________________________
(1). الخطط التوفيقية 3: 178.
(2). كتاب مساجد مصر و أولياؤها الصالحون. و قد أضيفت إلى المسجد مساحة جديدة في العصر الحاضر إذا تمّ هدم ما حوله من محالّ تجارية و مساكن و ضمّها إلى المسجد.
أهل البيت في مصر ،ص:209
د. سعاد ماهر
يقع جامع السيدة زينب في الميدان الذي يعرف باسمها، و كان يعرف قبل ذلك باسم «قنطرة السباع» نسبة إلى نقش السباع الموجودة على القنطرة التي كانت مقامة على الخليج الذي كان يخرج من النيل عند فم الخليج و ينتهى عند السويس، و كانت السباع (رنك) شارة إلى «الظاهر بيبرس»، الذي أقام القنطرة.
و في عام 1315 ه/ 1898 م تمّ ردم الجزء الأوسط من الخليج، و بردمه اختفت القناطر، و مع الردم تمّ توسيع الميدان، و عند عملية التوسيع اكتشفت واجهة جامع السيدة زينب الذي كان الوالي العثماني علي
باشا قد جدّده سنة 951 ه/ 1547 م، ثم أعاد تجديده الأمير عبد الرحمن كتخدا سنة 1170 ه/ 1768 م.
و منذ اكتشاف واجهة الجامع في القرن التاسع عشر، أصبح يطلق على الميدان، بل و الحيّ كلّه، اسم: عقيلة بني هاشم.
و قد أقامت وزارة الأوقاف سنة 1940 م المسجد الموجود حاليا، و يتكوّن من سبعة أروقة موازية للقبلة، يتوسّطها صحن مربّع مغطّى بقبّة، و يقابل القبلة قبّة
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «مساجد مصر و أولياؤها الصالحون».
أهل البيت في مصر ،ص:210
ضريح السيدة زينب، و يتقدّم المسجد من الواجهة الشمالية رحبتان، يوجد مدخلان رئيسان يفصل بينهما مستطيل تعلوه (شخشيخة).
و في الطرف الشمالي الغربي يوجد ضريح سيدي العتريس.
و قامت وزارة الأوقاف بعد ذلك بإضافة مساحة تبلغ 17* 32 إلى المسجد الأصلي.
و في سنة 1969 أضافت وزارة الأوقاف مساحة ثانية مماثلة تماما للمسجد الأصلي و بنفس مساحته، بحيث أصبحت بالإضافة الأولى تفصل بين المسجد الجديد و التوسعة الأخيرة ... مع الإبقاء على المحراب القديم. و يقابل ضريح السيدة زينب في التجديد الثاني رحبة مماثلة للصحن مغطّاة أيضا، و في الواجهة الغربية يوجد مدخلان أحدهما يتوسّط التجديد الأول، و الثاني في التجديد الأخير.
أهل البيت في مصر ،ص:211
بقلم توفيق أبو علم حنفي المحلاوي
أهل البيت في مصر ،ص:213
السيدة نفيسة عليها السّلام «1» توفيق أبو علم
نفيسة الدارين ...
نفيسة العلم ...
نفيسة الطاهرة ...
نفيسة العابدة ...
نفيسة المصريّين ...
و سيدة أهل الفتوى و التصريف، و السيدة الشريفة العلوية، و صاحبة الكرامات الطاهرة الوفيرة، و المناقب الفاخرة، و أم العواجز، و السيدة المرضية، و مشبعة المحروم.
و هي السيدة النقيّة، العفيفة الزاهدة، الساجدة الراكعة، المحدّثة المتبحّرة المتضلّعة، الكثيرة النفحات، الغزيرة البركات، و البضعة المنيفة الناضرة، و الزهرة الزاهرة، سليلة
______________________________
(1).
مقتبس من كتاب «السيدة نفيسة» ط. المجلس الأعلى للشئون الاسلامية. و للمؤلّف سلسلة مطبوعة عن آل البيت، ط. دار المعارف- القاهرة. و قد ترجم الجزء الخاص بالسيدة فاطمة الزهراء إلى الفارسية، و طبع في ايران عدّة مرات.
أقول: و قد طبعه مؤخّرا المركز العلمي التابع للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية طبعة محقّقة و موثّقة، و مزدانة بتعليقات رأيتها ضرورية و مكمّلة للمقام، كما قام المركز بترجمة الكتاب بأكمله إلى اللغة الفارسية، حينما وجده جديرا بالاطّلاع للناطقين بهذه اللغة العريقة.
أهل البيت في مصر ،ص:214
النبوة، و فرع الرسالة، و جناح الرحمة، كريمة العنصر و المنبت من آل بيت من اصطفاه اللّه، و رسوله محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أولئك الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا.
هذه ألقاب السيدة نفيسة رضي اللّه عنها:
1- فهي نفيسة الدارين: لعوارفها و صنائعها و شفاعتها يوم القيامة لقاصديها، و بجناح الرحمة لتواضعها و خضوعها لبارئها، و شفقتها و رحمتها و برّها و صلتها لذويها و قاصديها، و يستظلّ زائرها بجناح رحمتها.
2- و هي نفيسة العلم: لما استنبطته من ذخائر العلم، و استجلته من غوامضه، و ما نثرته على طالبي الاستفادة منها، فكان يرجع إليها في المشكلات، و يستصبح بضوئها في المعضلات، و تشدّ إليها الرحال من أطراف البلاد في طلب ما حذقته و أحكمته من علوم بيت النبوة.
و يكفي أن نذكر هنا أنّها تعلّمت القراءة و الكتابة قبل أن تبلغ السابعة من عمرها، و هي بلا شكّ علامة كبيرة مميّزة تنبئ عمّا ينتظرها في مستقبلها، و قد ساعدها ذلك على أن تحفظ القرآن الكريم و تجيده في سنّ مبكرة.
3- و هي نفيسة الطاهرة: لطهارتها و تعبّدها، و
هي السيدة العظيمة العابدة، النقية الطاهرة.
4- و هي نفيسة العابدة: لعبادتها و تقواها، فإنّها كانت من السائحات العابدات، الصالحات القانتات، تصوم نهارها و تقوم ليلها، و قد حجّت ثلاثين حجّة، أكثرها و هي ماشية، و كانت تتعلّق بأستار الكعبة و تقول: إلهي و سيدي، و مولاي، متّعني و فرّحني برضاك عنّي، فلا تسبّب لي سببا يحجبك عنّي «1».
5- و هي نفيسة المصريّين: لحبّ أهل مصر لها، و يكفي أن أقول في أول هذا البحث: إنّها لمّا عزمت على الرحيل من مصر إلى بلاد الحجاز، شقّ ذلك على أهل مصر و سألوها الإقامة لحبّهم لها «2».
______________________________
(1). انظر خطط المقريزي 4: 325.
(2). راجع تفصيله في المصدر السابق: 325- 326.
أهل البيت في مصر ،ص:215
كما أجمع أهل السير و التاريخ على وفاة السيدة نفيسة بالقاهرة، كما أجمعوا على أنّها لمّا توفّيت وصل زوجها في ذلك اليوم و أراد حملها إلى المدينة لدفنها بالبقيع، فاجتمع أهل مصر إلى أمير البلد، و استجاروا به إلى زوجها ليردّوه عمّا أراد، و قد دفنت فعلا بالقاهرة كما سيأتي تفصيله، و لذلك كان المصريّون يسمّونها بنفيسة المصرية.
ولدت السيدة الطاهرة بمكة المكرمة في يوم الأربعاء الحادي عشر من شهر ربيع الأول سنة خمس و أربعين و مائة من الهجرة النبوية، و قد فرحت أمها بمولدها، و استبشر بها أبوها، و عمّت الفرحة أكناف بيتها، و قد زاد في سرور أبيها و بهجته أن تكشّف في سيماها شبها عظيما بأخته، عمّتها السيدة نفيسة بنت زيد رضي اللّه عنها، و هي التي تزوّج بها الوليد بن عبد الملك، فاختار لها أبوها اسم عمّتها لنفاستها، و ما تبيّنه لبنته من و سام و قسام اختصّت بهما أخته،
و تفاؤلا بأن يكتب اللّه لها حظّ عمّتها، و ما واتاها من سعادة و نعماء، و ما لها من آثار و حظوة.
إذ كانت محبّبة، و لها اليد البيضاء في خلافة زوجها؛ إذ أنّها دفعته إلى ما قام به في عهده، فقد فتحت في عهده فتوح عظيمة، و كان يتكفّل بالأيتام، و يرتّب لهم معاشهم، و من يرعاهم، و من يقوم بخدمتهم، و للعميان من يقودهم، و عمّر المسجد النبوي و وسّعه، و رزق الفقهاء و الضعفاء و الفقراء، و أسبغ عليهم، و حرّم الاستجداء و فرض لذوي الحاجات ما يكفيهم، و قد ضبط أمور الخلافة أتمّ ضبط «1».
و من المصادفات أنّ عمة السيدة نفيسة رضي اللّه عنها، رحلت إلى مصر و توفّيت بها، و مقامها بالقرب من السيّدة نفيسة؛ إذ أنّها دفنت بالدار التي وهبت لها من والي مصر أخي زوجها عبد اللّه بن عبد الملك، و كانت من الصالحات، و قد توفّيت قبل وفاة بنت أخيها.
______________________________
(1). انظر تاريخ الطبري 8: 97، بلغة الظرفاء: 23، تاريخ اليعقوبي 3: 27، مروج الذهب 2: 119- 127.
أهل البيت في مصر ،ص:216
و والدها: هو أبو محمد الحسن الأنور ابن زيد الأبلج ابن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم أجمعين، فهي من دوحة النبوة التي طابت فرعا، و زكت أصلا، و من شعبة الرسالة التي سمت رفعة و نبلا، قد اكتنفها العزّ و الشرف، و لازمها السؤدد و الكرامة:
يا حبذا روضة في الخلد نابتةما مثلها أبدا في الخلد من شجر
المصطفى أصلها و الفرع فاطمةثم اللقاح علي سيد البشر
و الهاشميان سبطاه لها ثمرو الشيعة الورق الملتفّ بالثمر
هذا مقال رسول اللّه جاء به أهل الرواية في العالي من الخبر
إنّي
بحبّهم، أرجو النجاة غداو الفوز في زمرة من أفضل الزمر «1» و كان والدها إماما عظيما، عالما جليلا من كبار أهل البيت، معدودا من التابعين، مجاب الدعوة، فاضلا شريفا.
و في سنة خمسين و مائة عزل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عامله جعفر بن سليمان عن إمرة المدينة، و ولّاها الحسن بن زيد، و قد بقي واليا على المدينة إلى أن عزله المنصور لوشاية فيه سنة ستّ و خمسين و مائة «2».
فإنّ الحسن كان قد اصطفى ابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، و آواه و أكرمه، لكنّه لم يأمن فلتات لسانه، فإنّ ابن أبي ذئب ذهب إلى المنصور و أخبره بأنّ الحسن يطمح للخلافة، و يعمل على عودتها للعلويّين، فثارت ثائرة المنصور، و أمر بعزل الحسن و حبسه.
و قد تسرّع ابن أبي ذئب في وشايته، إذ أنّه غلب على ظنّه طمع آل البيت في الخلافة و ما يعرفه أنّه حقّ لهم، و هم أولى بها من غيرهم، مع أنّ الحسن كان معروفا
______________________________
(1). الأبيات في كتاب بشارة المصطفى: 76 و هي منسوبة إلى يعقوب البصراني، و في الغدير 3: 8: أبو يعقوب النصراني.
(2). انظر تاريخ بغداد 7: 309 و ما بعده، و المنتظم في تاريخ الملوك و الأمم 8: 294.
أهل البيت في مصر ،ص:217
بمظاهرته لبني العباس، و مناصرته لدولتهم، و كان أول من لبس السواد، شعار العباسيّين من العلويّين «1».
و قد لبث الحسن في حبسه إلى أن ولي المهدي الخلافة، و كان يعرف منه علمه و اعتداله، و زهادته و عبادته، فأمر بإخراجه من حبسه، و قرّبه منه و اصطفاه «2».
و كان الحسن ذا حزم في ولايته، و عزم في إمرته، و شدّة في
أخذ الناس بالحدود و حرمات اللّه، لا تأخذه رأفة في دين اللّه، و لا تقفه رحمة عن إقامة حدوده.
و لمّا عاد إلى المدينة لم يعاتب ابن أبي ذئب «3».
و لمّا توفي أبوه زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب و هو غلام، و ترك عليه دينا أربعة آلاف دينار، فحلف السيد حسن أن لا يظلّ رأسه سقف إلّا سقف مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو بيت رجل يكلّمه في حاجة حتّى يقضي دين أبيه، فوفى بنذره، و وفى دين أبيه «4».
و من كرمه أنّه أتى بشاب شارب متأدّب و هو عامل على المدينة، فقال: يا بن رسول اللّه، لا أعود، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» «5» و أنا ابن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، و قد كان أبي مع أبيك كما علمت.
فقال: صدقت، هل أنت عائد؟
قال: لا و اللّه!
فأقاله و أمر له بخمسين دينارا و قال له: تزوّج بها وعد إليّ، فتاب الشاب، فكان الحسن يحسن إليه «6».
______________________________
(1). راجع عمدة الطالب: 70.
(2). إن أردت تفصيل ذلك، راجع تاريخ بغداد 7: 309، تهذيب التهذيب 2: 279، المنتظم في تاريخ الملوك و الأمم 8: 294، أعيان الشيعة 5: 75.
(3). خطط المقريزي 4: 326.
(4). ذكر القصة المقريزي في الخطط 4: 326، و الخطيب البغدادي في تاريخه 7: 309.
(5). أخرجه أحمد في المسند 6: 181، و الهيثمي في المجمع 6: 282.
(6). انظر خطط المقريزي 4: 325.
أهل البيت في مصر ،ص:218
و كان الحسن والد السيدة نفيسة مجاب الدعوة، يقال: مرّت به امرأة و هو في الأبطح و معها ولدها! فاختطفه عقاب، فسألت الحسن أن يدعو اللّه
لها بردّه، فرفع يديه إلى السماء و دعا ربّه، فإذا بالعقاب قد ألقى الصغير، من غير أن يضرّه بشي ء، فأخذته أمه «1».
و دخل عليه بعض الشعراء فأنشده:
اللّه فرد و ابن زيد فرد
فقال: بفيك الأثلب، ألا قلت:
اللّه فرد و ابن زيد عبد
و نزل عن سرير الإمارة، و ألصق بالأرض، يسبّح اللّه العلي الكبير «2».
و كان رضي اللّه عنه جليلا جميلا، سريّا، سخيّا.
و فيه يقول الشاعر:
إذا أمسى ابن زيد لي صديقافحسبي من مودّته نصيبي «3» و قال آخر:
إلى حسن بن زيد بات نضوي يجوب السهل و هنا و الأكاما
إلى رجل أبوه أبو المعالي و أول مؤمن صلّى و صاما
أ أشتم أن أحبّك يا بن زيدو أن أهدي التحية و السلاما
و قد سلفت عليّ له أيادتعيش الروح منها و العظاما
و كان هو المقدّم من قريش و رأس العزّ منها و السناما
و خيرهم لجار أو لصهربتسكين الكلالة و الذماما
و كان أشدّهم عقلا و حلماو أبرحهم إذا ازدحم الزحاما «4»
______________________________
(1). المصدر السابق.
(2). حكاه الشبلنجي في كتابه نور الأبصار: 137.
(3). أنشده في غاية الاختصار 1: 276 عن بعضهم استعطاه فأكرمه.
(4). روى الأبيات الحاكم في المستدرك 4: 86.
أهل البيت في مصر ،ص:219
و كان الحسن كثير الثراء، و له مال بالغابة، و قصره الحمراء كان من أعظم قصور المدينة، و قد أتاه مصعب بن ثابت الزبيري و ابنه عبد اللّه و هو يريد الركوب إلى ماله بالغابة، فأنشده مصعب:
يا ابن بنت النبي و ابن علي أنت أنت المجير من ذا الزمان
من زمان ألحّ ليس بناج منه من لم يجيره الخافقان
من ديون تنوؤنا فادحات من يد الشيخ من بني ثوبان
في صكاك مكتبات علينابمئين إذا عدّد ثمان
بأبي أنت إن أخذن و أمي ضاق عيش النسوان و الصبيان فأرسل الحسن إلى ابن
ثوبان فسأله، فقال: على الشيخ سبعمائة، و على ابنه مائة، فقضى عنهما، و أعطاهما مائتي دينار! «1».
و قد خلّف الحسن من الذكور تسعة، و من البنات اثنتين: السيدة أم كلثوم و قد تزوّج بها أبو العباس السفّاح الخليفة العباسي، و السيدة نفيسة و لم يبلغ واحد من أولاده من الشهرة و ذيوع الذكر ما بلغته ابنته السيدة نفيسة، فهي درّته اليتيمة، و غرّته الوضّاءة.
و أولاده الذكور «2» هم: القاسم، و محمد، و علي، و إبراهيم، و زيد، و عبد اللّه، و يحيى، و إسماعيل، و إسحاق. أمّا أمّهم فأمّ سلمة، و اسمها ابنة الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
و تزوّج أم كلثوم عبد اللّه بن علي بن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهم، و قد توفّي سنة 168 ه، و هو في طريقه إلى الحجّ في صحبة أمير المؤمنين المهدي، و دفن في
______________________________
(1). راجع القصة بكاملها في تاريخ بغداد 7: 310- 311.
(2). ذكر صاحب عمدة الطالب في أنساب أبي طالب: 71 أنّه أعقب سبعة ذكور: القاسم و هو أكبرهم، و كان مظاهرا لبني العباس على بني عمّه، و علي يكنّى أبا الحسن، مات في حبس المنصور، و كان يتظاهر بالنصب، و زيد و يكنّى أبا زيد، و إبراهيم و يكنّى أبا إسحاق، و عبد اللّه و يكنّى أبا زيد، و إسحاق و يكنّى أبا الحسن، و كان أعور و يلقّب بالكوكي، قيل: كان عينا للرشيد، فيسعى بآل أبي طالب إليه، حتّى غضب عليه الرشيد يوما و حبسه، فمات في حبسه، و اسماعيل و يكنّى أبا محمد، و هو اصغر أولاده.
أهل البيت في مصر ،ص:220
الحجاز، و قيل بالحاجر «1». و يذكر الشعراني: أنّه
مدفون بتربته المشهورة قريبا من جامع القرّاء بين مجراة القلعة (العيون) و جامع عمرو بن العاص «2». و يغلب على الظنّ أنّه دفن بالحاجر في الطريق إلى مكة.
و روي أنّ الإمام زيد الأبلج، والد السيد حسن الأنور، كان يأخذ بيد ولده الحسن و يدخل إلى قبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و يقول: «يا سيدي يا رسول اللّه، هذا ولدي الحسن و أنا عنه راض»، ثم يرجع و ينصرف، فلمّا كان في بعض الليالي نام فرأى المصطفى صلّى اللّه عليه و آله، و هو يقول له: «يا زيد، إنّي راض عن ولدك برضاك عنه، و الحقّ سبحانه و تعالى راض عنه برضاي عليه».
و جاء الحسن بالسيدة نفيسة إلى المدينة، و كان دائما يأخذ بيدها و يدخل بها إلى القبر الشريف و يقول: «يا رسول اللّه، إنّي راض عن بنتي نفيسة» و يرجع، فما زال يفعل حتّى رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المنام و هو يقول: «يا حسن، إنّي راض عن ابنتك نفيسة برضاك عنها، و الحقّ سبحانه و تعالى راض عنها برضاي عنها» «3».
و زيد الأبلج هو ابن الحسن السبط ابن سيّدنا الإمام.
______________________________
(1). قاله الخطيب و أغلب النسّابة. راجع تاريخ بغداد 7: 309 و 313، و عمدة الطالب: 70. و حاجر: موضع على خمسة أميال من المدينة من جهة مكة.
(2). لواقح الأنوار في طبقات الأخيار 2: 271.
(3). وجد أخيرا ما يدلّ على دفن السيد زيد الأبلج بالقاهرة، قريبا من جامع القرّاء، بين مجراة القلعة و جامع عمرو في التربة المشهورة قريبا من جامع القرّاء، فقد وجد حجر عتيق شرقي مقام ولده السيد حسن الأنور بقرب جامع عمرو بعد مجراة القلعة
بقليل، مرقوم عليه نسب زيد.
أمّا الإمام محمد الأنور عمّ السيدة نفيسة في المشهد القريب من عطفة جامع طولون، ممّا يلي دار الخليفة في الزاوية التي ينزل إليها بدرج، و هو على يمين الطالب للسيدة سكينة، و مكتوب على بابه في لوح رخام هذا البيت.
مسجد حلّ فيه نجل لزيدذلك الأنور الأجلّ محمد و هذه تدلّ على أنّ الأضرحة و المساجد الموجودة في القاهرة، لآل البيت أو الأولياء، ليست «مشاهد الرؤيا» كما يدّعيها بعض الكتّاب.
أهل البيت في مصر ،ص:221
من هذا الغصن، غصن القرن الأول للهجرة، جاءت إحدى أغصان رياحين القرن الثاني.
أمّا أمها فأم ولد، و أمّا إخوتها فأمّهم أمّ سلمة زينب بنت الحسن بن الحسن بن علي رضي اللّه عنهم، و ليس ذلك بضائرها، و لا ما ينقص من قدرها، فقديما تسرّى الخليل إبراهيم عليه الصلاة و السلام هاجر، فولدت له إسماعيل عليه السّلام، فكان من نسله صفوة خلق اللّه محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و قد تسرّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مارية القبطية فولدت له إبراهيم، و قد كان أبوها الحسن من أمّ ولد.
و كذا زيد بن علي رضي اللّه عنهما من أمّ ولد، و قد دخل على هشام بن عبد الملك، فقال له: بلغني أنّك تحدّث نفسك بالخلافة؟ و لا تصلح لها لأنّك ابن أمه!
فقال له: أمّا قولك: إنّي أحدّث نفسي بالخلافة، فلا يعلم الغيب إلّا اللّه تعالى، و أمّا قولك: إنّي ابن أمة، فإسماعيل ابن أمة، أخرج اللّه من صلبه خير البشر محمدا صلّى اللّه عليه و آله، و إسحاق ابن حرّة أخرج من صلبه القردة و الخنازير!
فقال له: قم!
فقال: إذن، لا تراني إلّا حيث تكره. فلمّا
خرج من الدار قال: ما أحبّ أحد الحياة إلّا ذلّ.
فقال سالم مولى هشام: باللّه لا يسمعهنّ هذا الكلام منك أحد «1».
و قد كان زيد رضي اللّه عنه من أحسن بني هاشم عبادة، و أجلّهم سيادة. و كانت ملوك بني أمية تكتب إلى صاحب العراق أن يمنع أهل الكوفة من حضور مجلس زيد بن علي، فإنّ له لسانا أقطع من ظبة السيف، و أحدّ من شبا الأسنّة، و أبلغ من السحر و الكهانة، و من النفث في العقد «2».
______________________________
(1). راجع تفصيله في تاريخ دمشق 21: 333- 334، و مروج الذهب 3: 206، و الصواعق المحرقة:
246- 247.
(2). انظر زهر الآداب و ثمر الألباب للحصري القيرواني 1: 72.
أهل البيت في مصر ،ص:222
و قال الشعبي: و اللّه ما ولدت النساء أفضل من زيد بن علي، و لا أفقه و لا أشجع و لا أزهد «1».
و قال أبو حنيفة: شاهدت زيد بن علي كما شاهدت أهله، فما رأيت في زمانه أفقه منه و لا أعلم، و لا أسرع جوابا، و لا أبين قولا. لقد كان منقطع النظير، و كان يدعى بحليف القرآن، قرأ مرّة قول اللّه تعالى: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ فقال: إنّ هذا لوعيد و تهديد من اللّه تعالى، ثم قال: اللّهم لا ملجأ ممّن تولّى عنك فاستبدلت به بديلا ... «2».
و نشأت السيدة نفيسة رضي اللّه عنها نشأة نبوية، فإنّها بعد أن درجت بمكّة تحوطها العزّة و الكرامة، استصحبها أبوها و قد أوفت الخامسة من عمرها إلى المدينة المنوّرة، و عاشت معه بداءة، و أخذ يلقّنها ما تحتاج إليه من أمور دينها و دنياها، و كانت تذهب إلى المسجد النبوي تسمع من
شيوخه، و تتلقّى الحديث و الفقه من علمائه، و عاشت في مدرسة أبيها المحمدية، تسمع منه تاريخ دينها و تاريخ أسرتها.
و من بين الذين التقت بهم السيدة نفيسة في المدينة الإمام مالك الذي كان حديث الفقهاء و المسلمين جميعا بكتابه «الموطّأ» و فقهه الذي انتشر في كلّ الأمصار، و وجدت السيدة كريمة الدارين في هذه الأجواء الرائعة مبتغاها، و قرأت «الموطأ»، و ناقشت كلّ القضايا الدينية، و بدأت تزداد معرفة كاملة، و الناس من حولها بما فيهم الإمام معجبون بهذه السيدة الطاهرة، يسمعون آراءها في كلّ ما يتدارسون من فقه و سيرة و حديث.
و بلغت كريمة الدارين سنّ الزواج، فرغب فيها شباب آل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بني الحسن و بني الحسين رضي اللّه عنهم، كما تهافت على خطبتها الكثير من شباب أشراف قريش، لما عرفوه من خيرها و برّها، و دينها و إيمانها، و صلاحها و تقواها، و ما نشأت عليها من عبادة ربّها، و إقبالها على طلب العلم حتى ضربت فيه بسهم
______________________________
(1). المصدر السابق.
(2). تاريخ دمشق 23: 299، خطط المقريزي 3: 335، الروض النضير للسياغي 1: 98.
أهل البيت في مصر ،ص:223
وافر، بالإضافة إلى ما حباها به اللّه عزّ و جلّ من حسن بارع و جمال رائع، و ما امتازت به من سرى الأخلاق و كريم المناقب و حميد الشمائل، فكان أبوها يأبى عليهم إجابة طلبهم، و يردّهم ردّا جميلا، إلى أن أتاه إسحاق المؤتمن ابن جعفر الصادق رضي اللّه عنهما، و كانت دار الحسن قبالة دار جعفر الصادق، فخطبها من أبيها، فلم يردّ عليه جوابا، فقام إسحاق من عند الحسن، و في نفسه ما فيها، و ذهب توّا
إلى المسجد النبوي و دخل الحجرة الشريفة، و وقف تجاه القبر في خشوع و إجلال. فقال: «يا رسول اللّه، إنّي خطبت نفيسة بنت الحسن من أبيها فلم يردّ عليّ جوابا، و إنّي لم أخطبها إلّا لخيرها و دينها و عبادتها». ثم انصرف، و قد انشرح صدره و اطمأنّت نفسه.
ففي تلك الليلة رأى أبوها الحسن جدّه المصطفى صلّى اللّه عليه و آله في النوم، و هو يقول له:
«يا حسن، زوّج نفيسة من إسحاق المؤتمن». فما أن أفاق من نومه حتى بعث إلى إسحاق يستدعيه إليه، فسارع إليه، و ما أن جلس بين يدي الحسن حتى أخبره برؤياه، و ما لبث أن عقد له على ابنته في حفل جمع جمهرة من آل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و جماعة من أشراف قريش، و كان في سنة إحدى و ستين و مائة «1».
و بعد أن جهّزها أبوها و جليت لزوجها، بنى عليها في دار أبيه جعفر الصادق بالمدينة، و هي الدار التي كان يسقى فيها الماء الذي تصدّق به جعفر رضي اللّه عنه، و كانت تلك الدار قبلا لحارثة بن النعمان الأنصاري الخزرجي. ثم من بني النجّار، و كان من فضلاء صحابة رسول صلّى اللّه عليه و آله، و قد قال صلّى اللّه عليه و آله: «دخلت الجنّة فسمعت قراءة، فقلت من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، فقال صلّى اللّه عليه و آله: كذلكم البرّ» «2»، و كان برّا بأمه، و كان قد ذهب بصره، فاتّخذ خيطا في مصلّاه إلى باب حجرته، فكان إذا جاءه مسكين أخذ من مكتله شيئا ثم أخذ بطرف الخيط حتّى يناوله، فكان أهله يقولون له: نحن نكفيك،
______________________________
(1). راجع خطط المقريزي
4: 327.
(2). مسند أحمد 6: 36.
أهل البيت في مصر ،ص:224
فيقول: إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «مناولة المسكين تقي ميتة السوء» «1».
و كان قبالة تلك الدار في الغرب دار الحسن بن زيد، و هو أطمّ، كان الحسن قد ابتاعه فخاصمه فيه أبو عوف النجاري، فهدمه الحسن فجعله دارا مشيّدة البنيان، عالية الأركان، تحوطها الكرامة، و يرفرف عليها الشرف و الجلالة.
و بزواج السيد إسحاق من السيدة نفيسة، اجتمع في بيتها نوران، نور الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، فالسيدة نفيسة جدّها الإمام الحسن، و السيد إسحاق جدّه الإمام الحسين، لأنّ إسحاق المؤتمن هو ابن الإمام جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين ابن أبي الشهداء الإمام الحسين عليه السّلام، و أمه «حميدة البربرية» و هي أم اخوته موسى الإمام و محمد و فاطمة الكبرى رضي اللّه عنهم جميعا.
و كان إسحاق من أهل الفضل و الاجتهاد، و الورع و الصلاح. روى عنه الكثير من الناس الحديث و الآثار، و كان كاسب: يعقوب بن حميد بن كاسب المدني- و ينسب إلى جدّه إذا ما حدّث عن إسحاق- يقول: حدثني الثقة الرضا، إسحاق بن جعفر.
و ناهيك بابن كاسب، فقد كان محدّثا ثقة، مأمونا صادقا «2».
و في عمدة الطالب: و أمّا إسحاق بن جعفر الصادق، و يكنّى أبا محمد، و يلقّب بالمؤتمن، فقد ولد بالعريض، و هو واد بالمدينة، و كان من أشبه الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان محدّثا جليلا، و كان سفيان بن عيينة شيخ الإمام الشافعي رضي اللّه عنهما إذا ما روى عنه يقول: حدّثني الثقة الرضا إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين
رضي اللّه عنهم. و هو أقلّ المعقّبين من ولد جعفر الصادق عددا، إذ أعقب ثلاثة رجال:
محمدا و الحسن و الحسين، و تعرف ذرّيته بالاسحاقيّين «3».
______________________________
(1). أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 3: 228، و الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 112 و 4: 9، و أبو نعيم في الحلية 1: 356.
(2). انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 11: 336- 337 رقم 646.
(3). عمدة الطالب: 42.
أهل البيت في مصر ،ص:225
و يقول المقريزي في خططه: و تزوّج بنفيسة رضي اللّه عنها إسحاق بن جعفر الصادق رضي اللّه عنهما، و كان يقال له: إسحاق المؤتمن، و كان من أهل الصلاح و الخير، و الفضل و الدين. روي عنه الحديث، و كان ابن كاسب إذا حدّث عنه يقول: حدّثني الثقة و الرضا إسحاق بن جعفر، و كان له عقب بمصر بنو الرقى، و بحلب بنو زهرة «1».
و ولدت نفيسة من إسحاق ولدين، هما: القاسم و أم كلثوم.
و في تهذيب التهذيب: إسحاق بن جعفر، روى عن كثير بن عبد اللّه بن عمرو بن عوف، و عبد اللّه بن جعفر المخزومي، و صالح بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر، و غيرهم. و روى عنه: إبراهيم بن المنذر، و يعقوب بن حميد بن كاسب، و يعقوب بن محمد الزهري، و غيرهم ممّن قدم مصر. و هو زوج السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور رضي اللّه عنهم «2».
و قد ذكر في لسان الميزان: أنّه كان يقال له الحزين؛ لأنّه لم ير ضاحكا «3».
و في مشتركات الطوبجي: إنّه الممدوح بروايته عن أبيه، و قد مكث بعد وفاة السيدة نفيسة رضي اللّه عنها زمنا ليس بالكثير، ثم توفّي و دفن بمصر، و قيل: إنّه رحل و ولداه القاسم
و أم كلثوم إلى المدينة و توفّي بها، و هو الأصحّ.
في بيت كريم، و بين أسرة طهّرها اللّه سبحانه و تعالى تطهيرا و أذهب عنها الرجس، فتحت السيدة كريمة الدارين عينيها، و وعت أذناها كتاب اللّه العظيم، و لا شكّ أنّ الجوّ الذي كان يحيطها شجّعها على ذلك، فأب صالح و أم عابدة، يعبدان اللّه سبحانه و تعالى ليل نهار، فكان طبيعيا أن تقلّدهما، و لعلّها سمعت من أبيها تاريخ جدّيها الإمامين: الحسن و الحسين و أمّهما الزهراء، و أبيهما أمير المؤمنين، و ما اقتبسوا
______________________________
(1). خطط المقريزي 4: 325.
(2). تهذيب التهذيب 1: 200 رقم 424.
(3). لسان الميزان 1: 359 رقم 1101.
أهل البيت في مصر ،ص:226
جميعا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أنوار، و ما أخذوا عنه من شتّى الفضائل و المكرمات.
و لعلّ والدها تنبّأ لها بأنّها سيكون لها شأن عظيم بين الصالحين و الصالحات، فقد بدأت في سنّ مبكرة في تلاوة القرآن الكريم بمفردها، ثم عملت على حفظه حتى تمّ لها ذلك في خلال سنة واحدة فقط. أمّا العبادات المفروضة فقد أثر عنها رضي اللّه عنها أنّها كانت تؤدّي الصلوات الخمس بانتظام مع والديها في المسجد الحرام و هي في السادسة من عمرها «1».
و نشأت كذلك آية من آيات اللّه تعالى في قوة الذاكرة و الحافظة، صفاء نفس و نقاء حدس، فكان طبيعيا أن تتّجه بكلّ قواها إلى كتاب اللّه الكريم، فألمّت بتفسيره و تأويله، فاستجلت غوامضه، و خاضت عبابه.
و أخذت و هي تنمو جسما و عقلا و روحا، تقوم الليل و تصوم النهار، و تمعن في العبادة و الدراسة، فاتّجهت بكلّ روحها إلى دراسة حديث جدّها، فروت منه عن أبيها
و آل بيتها و علماء عصرها، و أخذت بحظّ وافر من الفقه و العلم، و من هنا جاء اللقب الذي اشتهرت به: «نفيسة العلم».
شغفت بحديث جدّها المصطفى صلّى اللّه عليه و آله، و روت من الحديث و الآثار الكثيرة من أبيها و آل بيتها و علماء عصرها، و بخاصّة الإمام مالك بن أنس رضي اللّه عنه بالمدينة، و كان من عادته أن يتصدّر مجالس العلم و في يمينه موطّؤه، و حوله العلماء و طلّاب العلم وفدوا عليه من سائر الأقطار الإسلامية، و هو ينشر العلم في أرجاء المدينة، و من أرجائها ينساب إلى آفاق العالم المتعطّش له، و كانت أحاديث الإمام مالك علنية، و كانت أصداؤها لتصل إلى السيدة نفيسة، فتأخذ ما تضيفه إلى ما جاءت به من مكة من سائر علوم القرآن و الحديث، و قد سمع عنها الحديث كثير من علماء مصر و الراحلين إليها.
______________________________
(1). انظر مجموعة آل بيت النبي في مصر: 79.
أهل البيت في مصر ،ص:227
و قد كان ابن خلّكان يروي: أنّ الإمام الشافعي رضي اللّه عنه لمّا دخل مصر حضر إليها و سمع عليها الحديث «1».
و قالت زينب بنت يحيى المتوّج، و هو أخو السيدة نفيسة رضي اللّه عنهم: «كانت عمّتي نفيسة تحفظ القرآن و تفسيره، و كانت تقرأ القرآن و تبكي، و تقول: إلهي و سيدي يسّر لي زيارة خليلك إبراهيم عليه السّلام» «2»، لأنّها كانت تعلم أنّه أبو الأنبياء، أي أنّه أبو أبيها محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و خاتم الأنبياء، و أنّه بشّر به كما ورد في الأثر، و إذن فهو أبوها و جدّها، و كانت تعرف أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله قال:
«أنا دعوة إبراهيم عليه السّلام، حيث يقول: رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «3».
و حين بلغت المزار، و وقفت بين يدي جدّها خليل اللّه، قالت: «ما أن بلغت المقام الكريم و الضريح العظيم حتى أجهشت بالبكاء، بكاء السرور لتحقيق أمنيتي في زيارة الخليل، ثم جلست في خشوع أقرأ من آيات اللّه ما ورد في خليل اللّه.
و قرأت: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيم* رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ* رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي* الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ* إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ* رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ* وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا
______________________________
(1). وفيات الأعيان 5: 424 رقم 767. و ذكره أيضا المقريزي في خططه 4: 325.
(2). تحفة الأحباب و بغية الطلاب: 105.
(3). رواه في كنز العمال 11: 384 رقم 31833 عن الضحاك مرسلا. و الآية: 129 من سورة البقرة.
أهل البيت في مصر ،ص:228
يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ* مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ* لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ* وَ أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ
الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ* وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ* كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ* وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كانَ* مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ* فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو* انتِقامٍ* يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ* وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ* سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ* لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ* هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [إبراهيم: 35- 52].
و حجّت كريمة الدارين هي و زوجها إسحاق المؤتمن، وزارت قبر خليل الرحمن عليه الصلاة و السلام، كما قلت: حجّت في حياتها المباركة ثلاثين مرّة، أكثرها ماشية على قدميها «1»، و كان القدوة لها في ذلك جدّها الإمام الحسن الذي كان يقول:
«إنّي لأستحي من ربّي أن ألقاه و لم أمش إلى بيته» «2».
و قالت زينب بنت يحيى «3» المتوّج: خدمت عمتي السيدة نفيسة أربعين سنة، فما
______________________________
(1). انظر خطط المقريزي 4: 325.
(2). حلية الأولياء 2: 37، مناقب ابن شهرآشوب 3: 180، العوالم (الامام الحسن): 132.
(3). يحيى أخوها بمصر، و ليس لأخيها يحيى سوى زينب التي صحبت عمّتها طوال حياتها، و قد عافت الدنيا و زهدتها، فلم تتزوّج، و كان يرى على قبر يحيى نور. قال أبو الذاكر: دخلت إلى قبر يحيى، فلم أحسن الأدب، فسمعت من قبره من يقول: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.
و ليس بمصر من أخواتها سواه، و مشهده معروف بإجابة الدعاء، و قد دفنت زينب بنت يحيى المتوّج رضي اللّه عنهما بجوار قبر عمرو بن العاص، و كان أهل مصر يأتون لزيارة قبرها من كلّ فجّ، و كان الظاهر الخليفة الفاطمي يأتي إلى زيارتها ماشيا، و كان أهل مصر يجيئون إلى قبرها يستسقون، و كان النيل قد توقّف، فاستسقى أهل مصر بها، و جأروا إلى ربّهم، فجرى النيل بإذن اللّه تعالى.
أهل البيت في مصر ،ص:229
رأيتها نامت بليل و لا أفطرت بنهار، إلّا العيدين و أيام التشريق. فقلت لها: أ ما ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي و أمامي عقبات لا يقطعهنّ إلّا الفائزون؟ «1»
و كانت تقول: كانت عمتي تحفظ القرآن و تفسيره، و كانت تقرأ القرآن و تبكي «2».
و قد سمع منها الحديث و تفسيره و الفقه كثير ممّن قابلوها، فقد سمع منها بمصر غير الإمام الشافعي جمهور كبير من العلماء؛ كذي النون المصري، و عبد اللّه بن الحكم، و ولديه محمد و عبد الرحمن، و عبد الرحمن البويطي، و الربيعين المرادي و الجيزي، و حرملة من أصحاب الإمام الشافعي رضي اللّه عنهم، و كثيرين غيرهم «3» استفادوا ممّا أفاضه اللّه عليها من فيوضات ممّا سيأتي بيانه بعد قليل، و ما روته من أحاديث و آثار، و فقه و علم و معارف نبوية، فإنّها رضي اللّه عنها من أهل بيت اتّقوا اللّه فعلّمهم اللّه، و أنار قلوبهم بنور عرفانه، فكانوا من حلمة العلم و حضنته، و من ذوي الفقه و الدين، و المعرفة و اليقين.
و كانت السيدة الورعة زاهدة في دنياها، تؤمن بمنهج الزهد و تمارسه، و كان رائدها في
طريق الزهد جدّها الأعظم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي أحاطت بسيرته، و كان مرشدها هو ما قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما فعل، و قد مالت بطبعها من صغرها إلى حياة بعيدة عن زخرف الحياة و زينتها بالرغم من أنّ أباها كان أميرا للمدينة، و كان بلا شكّ يعيش عيشة رغدة، و لكنّها ما كانت تستشرف إلى لذائذ الدنيا و شهواتها.
و في بيت أبيها نشأت- برغم ما يحيط بها من مظاهر الترف- نشأة الزهادة و التقشّف، فمثلا كنت قليلة الأكل، و يروى: أنّها كانت تأكل كلّ ثلاثة أيام مرّة «4».
و تقول زينب بنت يحيى: «كنت أجد عندها ما لا يخطر بخاطري، و لا أعلم من
______________________________
(1). خطط المقريزي 4: 325.
(2). المصدر السابق.
(3). كالإمام أحمد و سفيان الثوري و رابعة العدوية. انظر تحفة الأحباب للسخاوي: 107.
(4). راجع خطط المقريزي 4: 325.
أهل البيت في مصر ،ص:230
يأتي به، فعجبت من ذلك، فقالت: يا زينب من استقام مع اللّه تعالى كان الكون بيده و في استطاعته» «1».
و كانت تمضي أكثرها وقتها في معبدها أو حرم جدّها المصطفى صلّى اللّه عليه و آله، على أنّه يقال: إنّها رضي اللّه عنها لم تكن سلبية في زهدها، تقاطع الحياة مقاطعة تامة كما يفعل بعض الزهّاد، إنّما كان هجرها للدنيا واقعا على كلّ ما يعوقها عن اللّه و طاعته و مرضاته، و يعوقها عن العمل لآخرتها و التزوّد لها.
كانت الآخرة و كان الموت نصب عينها، و الدليل على ذلك حفرها قبرها بيدها، و قضاؤها شطرا من وقتها كلّ يوم تستلهم منه العظات، و تستوحي الصالحات.
و هي بعد ذلك زوجة مخلصة، و لم يشغلها أيّ أمر عن مسئوليتها كزوجة،
حتى فاخر بها المؤتمن الدنيا، و يذكر للناس من حوله أنّه قد وجد فيها نعمة اللّه عليه، فلم تقصّر في حقّ له أبدا، و لم يشغلها أيّ أمر عن حقوقه و واجباته.
و هي أم ترعى اللّه في زوجها و ولدها، تغدق بالحنان ولديها: أبا القاسم و أم كلثوم، ترعاهما و تؤدّبهما حتى يصيرا نموذجا صالحا بشرف الانتساب إلى بيت النبوة.
و هي ربّة بيت تشرف عليه، و هي محبّة للعلم حبّا جعلها بحقّ نفيسة العلم.
و تجتمع بذوي الحاجات من الناس، و تستمع إليهم، و لهذا شاهد مسكنها في المدينة وفود الزوّار من كلّ بلد اسلامي، خصوصا من القادمين في مواسم الحج و الراغبين في العلم، و قد كان أكثر هؤلاء الوفود، و أشدّهم حرصا على لقائها كانوا من مصر.
و ضاقت دارها بالزائرين، كما حدث تماما في مصر عند ما طلبت الرحيل إلى الحجاز عند أهلها؛ بسبب ازدحام منزلها بالقاصدين إليها، كما سيأتي تفصيل ذلك فيما بعد.
فزهد السيدة نفيسة إيجابي نافع، كما كان زهد الرسول إيجابيا، مثاليا في إيجابيته.
______________________________
(1). راجع المصدر السابق.
أهل البيت في مصر ،ص:231
و يقول الإمام أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه: ترك الحرام و هو زهد العوامّ، و ترك الفضول من الحلال و هو زهد الخواصّ، و ترك ما يشغل العبد عن اللّه، و هو زهد العارفين «1».
و هو زهد السيدة كريمة أهل الدارين، شعارها: اللّه أولا، و المجتمع ثانيا. للّه صلاتها و نسكها، و للّه محياها، و للّه مماتها.
كانت رضي اللّه عنها و أرضاها، كريمة الخليقة، شريفة الطبع، غرّاء المكرمات، زهراء المأثرات. فقد صاغها اللّه من معدن كريم، و أنبتها نباتا حسنا، فجمعت خلال الفتوّة و المروءة، فكانت معطاءة فيّاحة، فيّاضة،
نفّاحة، جمّة المبرات، كثيرة الصلات، و هي مع هذا زاهدة متقشّفة.
أمّا ما برأها عليه من عزّة نفس و حمى أنف، تربأ بنفسها عن مواطن الذلّ و الابتذال، و تتصاون عن الامتهان و الهوان، و هي مع هذا، لا يذهب بنفسها زهو و كبرياء، و لا يخالطها تيه و عجب، بل كانت متواضعة النفس، متطامنة الجانب.
سلاسة طبع و سجاحة خلق، و بالإجمال: فأخلاقها مقتبسة من أخلاق جدّها المصطفى صلّى اللّه عليه و آله، و إنّه لعلى خلق عظيم.
و كانت المثل الأعلى في الوفاء لزوجها على وجه الخصوص، و عرفان حقوقه، و القيام بواجباته، و قد ساهمته الاخلاص و الودّ، و عرف فيها هذا الخلق النبيل، فكان مثال الطاعة لها فيما تسلكه و تنحيه، فما خالف لها أمرا، و لا وقف لها في سبيل رغبة، بل كان يهيّئ لها ما تبتغيه، و يسهّل لها ما تريده، و لم يبخل عليها بشي ء من ماله.
و كانت عطوفة على أسرتها، فها هي تلك بنت أخيها زينب، و قد لمست في عمّتها
______________________________
(1). كتاب الزهد: 4.
أهل البيت في مصر ،ص:232
العطف، فتمادت في خدمتها، و نسيت نفسها في سبيل عمّتها، فلازمتها و أصبحت كظلّها، و عافت الزواج لتنفرد بخدمتها، و تسهر على راحتها، و تقضي لها حاجتها، و ما رحلت عمتها نفيسة بنت زيد إلى مصر، إلّا شوقا لبنت أخيها، و كان برّها لخادمتها «جوهرة»، و معاملتها لها أحسن معاملة، فأشرب في قلبها حبّها، و الإخلاص إليها إلى ما عرف عنها من إيثار ذويها و برّهم، ممّا جعلها تملك قلوبهم.
و كان كثيرة الخير و البرّ، تواسي البائسين، و تسعف الملهوفين، و تفرّج كرب المكروبين، و كان لها مال كثير إلى مال زوجها، تحسن
من كلّ أولئك إلى المرضى و المحتاجين و الناس عامة، فما كانت تردّ سائلا، و لا تمنع مستجديا، و كانت تتعرّف من به حاجة، فتقضي حاجته، سخيّة لكلّ من يتّصل بها، نديّة لكلّ من يلوذ بها، و يحوم حول رحابها.
وهب لها أحد الأمراء مائة ألف درهم، و قال: خذي هذا المال شكرا للّه تعالى لتوبتي، فأخذته و صرّته صررا بين يديها، و فرقت الصرر عن آخرها، و كان عندها بعض النساء فقالت لها: يا سيدتي، لو تركت لنا شيئا من هذا الدراهم لنشتري به شيئا فنفطر عليه؟!
فقالت لها: خذي غزلا غزلته بيدي فبيعيه بما تشتري به طعاما نفطر عليه، فذهبت المرأة و باعت الغزل و جاءت بما أفطرت به هي و إيّاها، و لم تأخذ من المال شيئا «1».
فهي الجوادة بنت الجواد، و هي من قوم يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة.
و كانت رضي اللّه عنها عيوفة عزوفة، فما عرف عنها أنّها مدّت يدها لمخلوق، و ما كانت تأخذ شيئا ممّا كان يأتي إليها من منح الأمراء و العظماء، بل أنّها كانت تبعث به إلى ذوي الحاجات، سخاء نفس و عزّة فطرة، و ما كانت تنفق على نفسها و أفراد بيتها إلّا ما كان من مالها أو مال زوجها أو ما يأتيها ممّا تغزله بيدها، و كانت لا تأكل طعاما لغير زوجها.
______________________________
(1). تحفة الأحباب: 106.
أهل البيت في مصر ،ص:233
و هذا أمير مصر السري بن الحكم، فقد ألحّ عليها إلحاحا شديدا في أن تنزل في دار له نزل عنها لها، فبعد لأي و جهد قبلت أن تنزل في تلك الدار التي وهبها إليها، و قد سرّه قبولها، و حمد اللّه تعالى على ذلك «1»،
فهي من آل بيت لا يرضى ذووه أن يكون لأحد غير اللّه تعالى له عليهم نعمة و لا منّة؛ شمما و إباء نفس.
و هذا هو الأمير الذي بعث إليها بمائة ألف درهم، فلم تشأ أن تبيتها أو تدخرها، بل وزّعتها دون أن تبقي لها منها درهما.
و كانت السيدة نفيسة رضي اللّه عنها كثيرة البرّ و المواساة، عطوفة رحيمة، تحنو على القوم و تتّحد بهم، فتؤويهم إلى ظلّ رحمتها، و تمهّد لهم مهاد رأفتها.
و لم يكن عطفها على ذوي قرباها بأقلّ أثرا من ذلك، فكثيرا ما نالهم برّها و شملهم خيرها. فهذه بنت أخيها السيدة زينب قد لاقت من عمّتها من الحنان و الرأفة و الإحسان، ما جعلها تخلص الودّ إليها، و تتفانى في خدمتها، و تقوم لها بما تحتاجه من أمورها، فإنّ عمتها ملكت قلبها ببرّها و عطفها، حتّى وفت لها أربعين سنة، تنشط لخدمتها، و تسهر على حاجتها، دون سأم أو ملل «2».
و كذلك أخلصت لها خادمتها «جوهرة» لما لمسته من عطف و حنان، فعاشت في كنفها مسرورة، تفديها بنفسها، و تسارع تلبية ندائها، و قضاء حاجتها.
و هؤلاء جيرانها و قد عرفوا برّها و عطفها، فكانوا يودّونها و يثقون بها، حتى أولئك الذين كانوا يخالفونها في دينها. فهذه جارتها اليهودية لم تأمن على وحيدتها غير الشريفة السيدة نفيسة، بالرغم من وجود جمهرة من اليهود أبناء شيعتها يجاورونها، غير أنّها لم تر فيهم أحدا موضع ثقتها فتودع عنده فلذة كبدها إلى أن تعود من حمامها، فلم تجد غير تلك الأمينة العطوفة، فتركتها عندها، فنالت من بركتها ممّا سيأتي في حينه.
______________________________
(1). خطط المقريزي 4: 327- 328.
(2). المصدر السابق: 325.
أهل البيت في مصر ،ص:234
فالبرّ و العطف آيتان
محبّبتان بهما، تملك القلوب، و تؤسر الأفئدة، إلى ما رأيناه من إقبال الناس عليها فوق ما لمسوه من بركاتها، و ما عرفوه من نفحاتها.
ولدت السيدة نفيسة بمكة، ثم انتقلت إلى المدينة بصحبة أبيها، و لبثت بالمدينة إلى أن روّعت بحبس المنصور لأبيها من سنة 156 ه إلى سنة 159 ه حين أخرجه المهدي من حبسه و ردّ عليه ماله «1»، و استمرّت في المدينة المنوّرة، و عاشت في ظلّ أبيها قريرة مسرورة إلى أن تزوجها إسحاق المؤتمن و بنى عليها في بيت أبيه بالمدينة، فعاشت ردحا من الزمن، فكانت تشوق لزيارة قبر أبيها إبراهيم صلّى اللّه عليه و آله، ثم زارت بغوطة دمشق، مقام السيدة زينب بنت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم «2»، إذ أنّها مدفونة بمغارة، و عند قبرها رخامة مكتوب عليها:
أسكنت من كان في الأحشاء مسكنه بالرغم منّي بين التراب و الحجر
أفديك فاطمة بنت ابن فاطمةبنت الأئمة بنت الأنجم الزهر وزارت قبر «فضّة» جارية جدّتها فاطمة الزهراء رضي اللّه عنها، و غير أولئك.
و في دمشق استقبلها جمهور كبير من العلماء هرعوا للتسليم عليها، و التماس دعائها و بركتها، و في مقدّمتهم الشيخ الكبير العارف باللّه أبو سلمان الداراني، و كان رجلا صالحا زاهدا، و له كلام رفيع في التصوّف و الوعظ، و محدّث الشام أبو العباس الوليد بن مسلم الدمشقي «3»، و كان إماما حافظا، و الإمام أبو بكر الدمشقي مروان بن محمد الطاطري «4»،
______________________________
(1). انظر تاريخ بغداد 7: 309، المنتظم في تاريخ الملوك و الأمم 8: 294، شذرات الذهب 2: 21.
(2). انظر تحفة الأحباب: 105.
(3). الوليد بن مسلم الأموي بالولاء، الدمشقي، عالم الشام في عصره، من حفّاظ
الحديث، ولد عام 119 ه، و توفّى عام 195 ه بذي المروة عند قفوله من الحج. انظر تذكرة الحفاظ 1: 278.
(4). أبو بكر مروان بن محمد بن حسان الطاطري الأسدي، ولد عام 147 ه عام الكواكب، و توفي عام 210 ه بدمشق، أثنى عليه الإمام أحمد و يحيى لكنّه قال: كان مرجئا. انظر تاريخ دمشق 24- 213.
أهل البيت في مصر ،ص:235
و كان صالحا خاشعا عابدا، و غير أولئك من علماء الشام و محدّثيه و صلحائه، يرجون منها دعاءها، و يلتمسون بركتها، و يسمعون منها ما تحدّث به من حديث جدّها المصطفى صلّى اللّه عليه و آله «1».
و في يوم السبت الموافق 26 رمضان 193 ه وصلت السيدة كريمة الدارين إلى مصر، قبل أن يقدم إليها الإمام الشافعي رضي اللّه عنه بخمس سنين، و كان ذلك في ولاية الحسن بن البحباح «2» والي مصر من قبل الرشيد «3».
و في العريش استقبل أهل مصر السيدة نفيسة رضي اللّه عنها أحسن استقبال «4»، فقد أحبّها الشعب المصري قبل قدومها إليه، سمع عن أنبائها بالمدينة بلد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و تلقّتها النساء و الرجال بالهوادج و الخيول مرحّبين، يهلّلون و يكبّرون، و لم يزالوا معها إلى أن دخلت مصر، فأنزلها عنده كبير التجّار بمصر جمال الدين عبد اللّه الجصاص، و كان من أهل الصلاح، و من أصحاب المعروف و البرّ و الصدقة، و المحبة في الصالحين و العلماء و السادة الأشراف، فنزلت عنده في داره معزّزة مكرّمة مبجّلة، فأقامت بها عدّة شهور، و الناس يفدون إليها زرافات و وحدانا، من سائر مدن القطر، و من جميع الآفاق، يتلمسون بركتها، و يرجون دعاءها، و يرون في إشراقتها
إشراقة بيت النبوّة و عترة المصطفى صلّى اللّه عليه و آله.
و كانت سيدة من المصريّين تسمّى بأم هانئ، لها دار رحيبة بجهة المراغة، فرجت من السيدة نفيسة النزول في دارها، و كانت امرأة ورعة تقية صالحة، فقبلت السيدة
______________________________
(1). راجع كتاب الدرّة النفيسة: 57- 58.
(2). أحد ولاة بني العباس على مصر، ولّاه الرشيد عليها سنة 193 ه و في أيامه توفّي الرشيد، و ولي الخلافة ابنه الأمين، و بعد أن ثار جند مصر قاتلهم الحسن بن البحباح و نكل بهم و أخضعهم للأمين، ثم عزله الأمين، و كانت مدّة ولايته كلّها سنة و شهرين! توفّي بعد عام 194 ه. انظر النجوم الزاهرة 2: 641.
(3). الدرّة النفيسة: 64.
(4). في قصة استقبالها رضي اللّه عنها من قبل المصريّين، راجع كتاب الدرّة النفيسة في ترجمة السيدة نفيسة:
17- 21.
أهل البيت في مصر ،ص:236
نفيسة و انتقلت إلى تلك الدار، فلم ينقطع عنها الزوّار، و انهال عليها الناس من كلّ حدب و صوب، من طلّاب الحاجات، و راغبي الدعوات، و ملتمسي النفحات و البركات، و يعودون جميعا و قد استجاب اللّه دعاءها، و قضى لهم حاجتهم، و كشف كروبهم.
و قد كان يجاور بيت أم هانئ رجل من اليهود، يقال له: أبو السرايا أيّوب بن صابر، و له بنت مقعدة. و في يوم من الأيام توجّهت بها أمها إلى السيدة نفيسة و استأذنت في بقائها في حماها إلى أن تعود من حمامها، فتركتها في ردهة الدار و مضت إلى الحمّام، حتى إذا جاء وقت صلاة الظهر نهضت السيدة نفيسة لوضوئها و البنت القعيدة ترقبها، و تستشرف إلى ما تصنعه السيدة، و كان ماء الوضوء يجري في مجرى بالردهة إلى بئر تحت عتبة الدار،
فألهم اللّه عزّ و جلّ البنت إلى أن تزحف من مكان قعدتها و تصل إلى ذلك المجرى زاحفة، و أخذت في تقليد السيدة فيما تفعله من غسل وجهها و يديها و رجليها، و ما أن غسلت رجليها من ذلك الماء الذي يسيل في المجرى من فضل وضوء السيدة نفيسة، حتى كأنّما نشطت من عقالها، و زال عنها كساحها، و شفاها اللّه سبحانه و تعالى ممّا بها، فنهضت قائمة مسرعة في الخروج إلى الدرب، خارج الدار تلعب مع لدّاتها، و السيدة في شغل عنها بعبادتها و صلاتها.
فلمّا حضرت أم البنت إذ بها تجدها و قد زال عنها ما أقعدها و هي قائمة على قدميها، كأنّه لم يكن بها شي ء، فاحتضنتها و هي نشوانة، مأخوذة ممّا رأت شفاء بنتها و عافيتها، فسألتها عن أمرها، فأخبرتها بجلية الأمر، و ما كان من غسلها رجليها من فضل ماء الوضوء، فبكت الأم بكاء شديدا، و قالت: لا ريب في أنّ دين تلك السيدة الشريفة هو الدين الصحيح، و دخلت على السيدة في خشوع و خضوع، و إجلال و احترام، و وقفت بين يديها تحيّيها، ثم نطقت بالشهادتين، و أخلصت للّه ربّ العالمين، و شكرت للسيدة صنيعها و جميلها، و حمدت اللّه عزّ و جلّ على أن أخرجها من الظلمات إلى النور، و أنقذها من الضلال إلى الهدى.
و لمّا حضر والد البنت- و كان من كبار قومه، و سراة عشيرته- و رأى وحيدته
أهل البيت في مصر ،ص:237
و قد تعافت، فصح جسمها، و استقام عودها، و ذهبت شكاتها، فأخذته الأريحية و استطاره الفرح، فأخذ يصفّق و يرقص، و لم يلبث أن نبّأته أمها بخبرها، و ما حاطها من بركة السيدة الشريفة جارتهم،
فما أن أنهت زوجته من إخباره حتى رفع بصره و مدّ يديه إلى السماء، و قال: سبحانك ربّنا تهدي من تشاء و تضلّ من تشاء، اللّهم إنّي أشهدك أنّ هذا الدين هو الدين الحقّ، و أنّ الدين عند اللّه الإسلام، و أنّه لا دين غير الإسلام. ثم توجّه من فوره إلى دار السيدة نفيسة، و استأذنها في الدخول، فأذنت له، فكلّمها و هي من وراء حجاب، و بعد أن حيّاها و شكر لها صنيعها، قال: سيدتي ارحميني و تشفّعي لي، و اشفعي في من هو في ضلال الكفر قد تاه، و من الدين أبعده الكفر و أقصاه. فرفعت السيدة نفيسة بطرفها إلى السماء، ودعت اللّه عزّ و جلّ له بالهداية، فما أن انتهت من دعائها حتى نطق أبو السرايا بالشهادتين، و سرى الخبر في تلك الجهة فأسلم أهلها، و كانوا أكثر من سبعين بيتا من اليهود «1».
ثم استأذن أبو السرايا من السيدة نفيسة أن تنتقل إلى دار له بدرب الكرويين المعروف الآن بالحسينية، و هذه الدار باقية للآن، و كذلك الحجرة التي كانت تتعبّد فيها باقية، و هي محلّ إجلال و إكبار، و لا يدخلها إلّا من عهد إليه بنظافتها.
على أنّه ما كاد تذاع تلك الكرامة حتى هرع إليها القوم من جميع الجهات، يلتمسون بركاتها و دعواتها، فتكاثرت الجموع على بابها، و ضاقت بهم الدار بما رحبت، ففكّرت مليا في مغادرة مصر حيث تعود ثانيا إلى مدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، لتقضي بقية عمرها في هدوئها و عبادتها و مناجاة بارئها، و تلتزم حرم جدّها المصطفى صلّى اللّه عليه و آله، فاشتدّ ذلك على أهل مصر، و شقّ عليهم أن تفارقهم، و قد
لمسوا نفحاتها، و عرفوا هداها و تقواها، و ما أفاضه اللّه تعالى عليها من فيوضات، و ما يحيطه بها من تجلّيات و مشاهدات، فالتمسوا منها العدول عن عزمها، و رجوها
______________________________
(1). خطط المقريزي 4: 326، تحفة الأحباب: 105- 106.
أهل البيت في مصر ،ص:238
البقاء بين ظهرانيهم، فأبت عليهم طلبهم، و صارحتهم بأنّها تريد انفرادها لعبادة ربّها، و لا يشغلها منهم شاغل.
و لمّا رأوا منها إصرارا على مغادرة الديار، ولّوا وجوههم نحو والي مصر السري ابن الحكم بن يوسف «1».
و كان آل السري يكبّرون السيدة نفيسة و يعظّمونها و يكثرون من زيارتها و تعهّدها، و يعرضون عليها خدمتهم إيّاها، و ما أن ذهبت جمهرة من محبّيها إلى السري يخبرونه بعزمها، و يسألونه أن يتوسّل إليها في العدول عن عزمها، حتّى انتقل السري إليها يستعطفها و يرجو بقاءها بمصر.
فقالت له: إنّي كنت قد اعتزمت المقام عندكم، غير أنّي امرأة ضعيفة، و قد تكاثر الناس حولي، و أكثروا من زيارتي، فشغلوني عن أورادي، و جمع زادي لمعادي، غير أنّ منزلي هذا يضيق بهذا الجمع الكثيف و العدد الكثير، و قد زاد حنيني إلى روضة جدّي المصطفى صلّى اللّه عليه و آله.
فقال لها السري: يا ابنة رسول اللّه، إنّي كفيل بإزالة ما تشكين منه، و سأمهّد لك السبيل، و أهيّئ لك ما فيه راحتك و رضاك، أمّا ضيق المنزل فإنّ لي دارا واسعة بدرب السباع، و إنّي أشهد اللّه تعالى أنّي قد وهبتها لك، و أسألك أن تقبليها منّي، و لا تخجليني بردّها عليّ.
فقالت بعد سكوت طويل: إنّي قد قبلتها منك، ثم قالت: يا سري، كيف أصنع بهذه الجموع الكثيرة، و الوفود الغفيرة؟
______________________________
(1). السري بن الحكم بن يوسف، مولى بني ضبة،
و أصله من بلخ، و قد ولي إمرة مصر بإجماع الجند و أهل مصر على الصلاة و الخراج معا، و ذلك في مستهلّ شهر رمضان سنة مائتين بعد عزل المطلب بن عبد اللّه الخزاعي عنها، و قد سكن العسكر على عادة أمراء مصر، و كان السري أميرا جليلا، معظّما في الدول و في الأعمال، و تنقّل في البلاد، و قد توفّي سنة خمس و مائتين، فولي ابنه محمد إمرة مصر بعد وفاة أبيه، فكان على غرار أبيه إلى أن توفّي سنة ست و مائتين، فوليها أخوه عبد اللّه بن السري، و قد بقي في ولايته إلى أن عزله المأمون في ربيع الأول سنة إحدى عشرة و مائتين.
أهل البيت في مصر ،ص:239
فقال: تتّفقين معهم على أن يكون للزوّار في كل جمعة يومان، و باقي الأسبوع تتفرغين لعبادتك و خدمة مولاك، فاجعلي يومي السبت و الأربعاء للناس.
فقبلت منه ذلك، و انتقلت إلى داره، و خصّصت للزيارة يومي السبت و الأربعاء من كلّ أسبوع «1».
______________________________
(1). خطط المقريزي 4: 327- 328، و الدرّة النفيسة: 117.
أهل البيت في مصر ،ص:241
حنفي المحلاوي
اتّفق المورّخون و كتّاب السيرة على أنّ السيدة الطاهرة كريمة الدارين، و رئيسة أهل التصوّف: نفيسة ... هي ابنة السيد حسن الأنور ابن السيد زيد الأبلج ابن السيد أبي محمد الحسن السبط ابن الإمام علي، و ابن السيدة فاطمة الزهراء ابنة رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه و آله.
و قد أورد لنا عليّ باشد مبارك في خططه كلاما آخر عن نسب هذه العابدة الطاهرة، فقال على لسان المؤرّخ تقي الدين المقريزي: إنّها نفيسة ابنة الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، و أمّها أم ولد ... تزوّجها إسحاق بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي زين العابدين، فولدت له ولدين هما: القاسم، و أم كلثوم.
ولدت السيدة نفيسة بمكّة المكرمة، في شهر ربيع الأول من عام 145 ه، و كانت خيرا على والدها السيد حسن الأنور؛ إذ اختاره أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «مقابر المشاهير من أهل البيت» ط. دار العلم و التراث.
أهل البيت في مصر ،ص:242
العباسيّين أميرا و واليا على المدينة المنوّرة عام 150 ه، فصحبها والدها إلى المدينة المنوّرة، و كان عمرها آنذاك خمس سنوات، فحفظت القرآن الكريم، و أجادت تفسيره، و تفقّهت في دين اللّه، فأحبّها أهل المدينة حبّا مقرونا بالإجلال و التعظيم؛ لما اشتهرت به من الزهد و التقوى و الصلاح، كما كانت كثيرا ما تلازم قبر جدّها رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه و آله.
عرفت السيدة نفيسة رضي اللّه عنها بالعديد من الألقاب، فهي «نفيسة الدارين» لعوارفها، و صنائعها، و شفاعتها يوم القيامة.
و هي «نفيسة العلم» لما استنبطته من العلم، و استجلته من غوامضه، و ما نثرته على طالب الاستفادة منه.
و هي «نفيسة الطاهرة»
لطهارتها و تعبّدها.
و هي «نفيسة العابدة» لعبادتها و تقواها.
و هي «نفيسة المصريّين» لحبّ أهل مصر لها «1».
و لمّا بلغت السيدة نفيسة سنّ الزواج، رغب بها شباب آل البيت من بني الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما، كما تهافت على خطبتها الكثير من شباب أشراف قريش؛ و ذلك لما عرفوه من خيرها و برّها، و دينها و صلاحها و تقواها ... و كان أبوها يأبى عليهم جميعا، و يردّهم ردّا جميلا، إلى أن أتاها إسحاق المؤتمن ابن جعفر الصادق رضي اللّه عنه، فخطبها من أبيها.
و بزواج إسحاق من السيدة نفيسة اجتمع في بيتها- على حدّ قول المؤرّخين- نوران: نور الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة.
و ممّا ذكره المقريزي بهذا الشأن قوله: «... و تزوّج بنفيسة رضي اللّه عنها إسحاق بن جعفر الصادق رضي اللّه عنه، و كان يقال له: إسحاق المؤتمن، و كان من أهل الصلاح و الخير، و الفضل و الدين ...» «2».
______________________________
(1). السيدة نفيسة لتوفيق أبو علم، سلسلة أهل البيت، ط. دار المعارف.
(2). خطط المقريزي 4: 325.
أهل البيت في مصر ،ص:243
و قد أنجبت السيدة نفيسة من زوجها ولدين، هما: القاسم، و أم كلثوم.
و جاءت السيدة نفيسة إلى مصر بصحبة زوجها إسحاق المؤتمن، و قد عاش من بعد رحيل زوجته لسنوات طويلة، و دفن بعدها في مصر أيضا.
وصلت السيدة نفيسة إلى مصر يوم السبت 26 رمضان سنة 193 ه و كان ذلك قبل مقدم الإمام الشافعي إلى مصر بخمس سنوات، و عاشت السيدة نفيسة على أرضها خلال ولاية الحسن بن البحباح والي مصر من قبل الرشيد.
و في العريش استقبلها الناس استقبالا حافلا حين علموا بقدومها من بلد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و
ظلّت على هذه الحفاوة حتى وصلت مدينة مصر، و أقامت في بيت كبير التجّار آنذاك: جمال الدين عبد اللّه الجصّاص، و كان كذلك من أهل التقوى و الصلاح، و ظلّت السيدة نفيسة تقيم بهذه الدار المشهورة التي كانت تقع في مدينة الفسطاط فترة من الزمن، و كان يتوافد عليها فيها الناس ترحيبا و تبرّكا.
ثم انتقلت بعد ذلك هذه السيدة الطاهرة لتقيم في بيت أم هانئ، و كانت إحدى السيدات العابدات في مصر آنذاك، و أخيرا انتقلت للإقامة في الدار التي وهبها لها والي مصر السري بن الحكم في خلافة المأمون العباسي ... و كان ذلك في عام 201 ه في ولايته الثانية.
و لمّا كثرت كرامات السيدة نفيسة، و تكاثر عليها الناس تبرّكا ... أرادت الرحيل مرة أخرى إلى بلاد الحجاز- على ما رواه السخاوي في كتابه المزارات- فشقّ هذا الأمر على أهل مصر، و سألوها الإقامة، فأبت ذلك، فركب إليها والي مصر السري بن الحكم و سألها الإقامة، فقالت: أنا امرأة ضعيفة، و قد شغلوني عن جمع زادي لميعادي، و مكاني ضاق بهذا الجمع الكثيف ... فقال لها: أمّا ضيق المكان فإنّ لي دارا واسعة بدرب السباع، فأشهد اللّه أنّي قد وهبتها لك، و أسألك أن تقبليها منّي، و أمّا الجموع الوافدة فقرّري معهم أن يكون ذلك يومين في الجمعة، و باقي أيامك في
أهل البيت في مصر ،ص:244
خدمة مولاك. فوافقت، و جعلت لهم يوم السبت و يوم الأربعاء، إلى أن توفّيت و دفنت بهذه الدار.
و أضاف السخاوي: إنّ السيدة نفيسة أقامت في مصر قرابة سبع سنوات ... و في شهر رجب عام 208 ه ... مرضت السيدة نفيسة، و لمّا أحسّت بدنوّ أجلها بعثت إلى
زوجها إسحاق المؤتمن كتابا، و حفرت قبرها بيدها في بيتها، و كانت تنزل و تصلّي به كثيرا «1».
و أراد زوجها بعد موتها أن يحملها إلى المدينة المنوّرة لكي يدفنها بالبقيع، فاجتمع أهل مصر إلى الوالي، و استجاروا به عن زوجها ليردّه عمّا أراد، فأبى، فجمعوا له مالا وفيرا حتى وسق بعيره، و سألوه أن يدفنها عندهم، فأبى ... فباتوا في ألم عظيم، فلمّا أصبحوا اجتمعوا إليه فوجدوه مستجيبا لرغبتهم، فلمّا سألوه عن ذلك قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يقول لي: «ردّ عليهم أموالهم، و ادفنها عندهم».
و عن ذلك يقول العلّامة الأجهوري: إنّ السيدة نفيسة رضي اللّه عنها حفرت قبرها بيدها الشريفة، أي أمرت ببنائه حال صحّتها؛ لشدّة شوقها للقاء خالقها، و عدم رغبتها في الدنيا الفانية و زينتها، و كانت- عليها سحائب الغفران- تنزل فيه للتعبّد و التذكّر بالدار الآخرة «2».
و هناك رواية سجّلها بعض المؤرّخين على لسان ابنة أخيها ... و قد وصفت فيها أحوال هذه السيدة الطاهرة بعد أن أصابها المرض و أحسّت بدنوّ أجلها ... و ممّا نقله هؤلاء المؤرّخون على لسانها: «تألّمت عمّتي في أول يوم من رجب، و كتبت إلى زوجها إسحاق المؤتمن كتابا، و كان غائبا بالمدينة، تطلب إليه المجي ء إليها و موافاتها؛ لإحساسها بدنوّ أجلها، و فراقها الدنيا، و إقبالها على الآخرة».
و ما زالت متوعّكة إلى أن كان يوم أول جمعة من شهر رمضان، فزاد عليها الألم و هي صائمة، فدخل عليها الأطبّاء، فأشاروا عليها بالإفطار لحفظ قوتها، و التغلّب
______________________________
(1). تحفة الأحباب: 106.
(2). مشارق الأنوار من نسل النبي المختار: 87.
أهل البيت في مصر ،ص:245
على مرضها، فرفضت ذلك ... و قالت: وا عجباه!
إنّ لي خمسين سنة و أنا أسأل اللّه عزّ و جلّ أن يتوفّاني و أنا صائمة، فأفطر؟! أعوذ باللّه ... فانصرف الأطبّاء و هم معجبون بقوة يقينها، و ثبات عزيمتها، و سألوها الدعاء، فقالت لهم خيرا ودعت لهم.
ثم قالت زينب ابنة أخيها: ثم إنّها بقيت كذلك و قد افترسها الداء العشر الأواسط من شهر رمضان، فاشتدّ بها المرض، و احتضرت، فاستفتحت بقراءة سورة الأنعام ...
فلا زالت تقرأ إلى أن وصلت إلى قوله تعالى: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 127] فغشي عليها.
ثم قالت زينب: فضممتها إلى صدري، فإذا بها تشهد شهادة الحقّ، و قبضت، و اختارها اللّه لجواره، و نقلها إلى دار كرامته، و كان ذلك في سنة ثمان و مائتين، و ذلك بعد موت الإمام الشافعي بأربع سنوات «1».
تميّزت السيدة نفيسة رضي اللّه عنها كما تميّز غيرها من آل البيت بالتفاني في عبادة اللّه، و الخوف من عذابه ... فكانت- و هي لا تزال تقيم في المدينة، و تعيش في كنف والدها- دائمة العبادة ... و تلاوة القرآن الكريم ... و ممّا يروى عنها، و هي لا تزال في سنّ الخامسة من عمرها: أنّها حفظت القرآن الكريم، و أجادت تفسيره، ثم تفقّهت في الدين، و لازمت قبر جدّها المصطفى صلّى اللّه عليه و آله، فأحبّها أهل المدينة حبّا مقرونا بالإجلال و التعظيم؛ لما اشتهرت به رضي اللّه عنها من الزهد و التقوى، و صيام النهار و قيام الليل في عبادة اللّه.
و كانت و هي بالمدينة تتردّد كثيرا على مكّة لأداء الحجّ، و قد أثر عنها حين طوافها حول الكعبة: أنّها كانت تتّجه إلى اللّه و تقول: «إلهي
و سيدي و مولاي: متّعني
______________________________
(1). السيدة نفيسة، لتوفيق أبو علم.
أهل البيت في مصر ،ص:246
برضاك عنّي، فلا سبب لي يحجبك عنّي».
و كانت السيدة نفيسة كثيرة الترحال ... فسافرت إلى بلاد الشام عند ما بلغ عمرها ثمانية و أربعين عاما، و هناك زارت قبر خليل الرحمن إبراهيم عليه السّلام، ثم جاءت إلى مصر و استقرّت بها.
و كان يزورها أثناء اقامتها بمصر الكثير من العلماء و الصالحين، و كان على رأسهم آنذاك الإمام الشافعي رضي اللّه عنهم، و قد سمع منها الحديث، و صلّى بها التراويح في شهر رمضان، و كان إذا ما مرض، و لم يستطع زيارتها، أرسل لها رسولا يبلّغها تحياته، و يسألها الدعاء له بالشفاء.
و نظرا لكثرة عبادتها و قربها من اللّه ... فقد أصبح المكان الذي تقيم فيه، و الذي دفنت به أيضا ... تجاب فيه الدعوات إلى اللّه ... و قد عرف المصريّون ذلك، فأصبح قبرها و مسجدها ... محطّ أنظار ملايين الناس الذين يقصدونه من أجل الدعاء المبارك به، عسى اللّه أن يستجيب لهم، و يفرّج عنهم كروبهم.
و عشرات الكتب التي أخرجها العديد من الصالحين فيها قصص و حكايات عن كرامات مقام السيدة نفيسة رضي للّه عنها.
و ممّا يروى عن صفاتها و كثرة إقبالها على اللّه ... ما قصّته عنها زينب ابنة أخيها التي لازمتها أربعين عاما ... حين قالت: خدمت عمّتي نفيسة أربعين سنة، فما رأيتها نامت بالليل، و لا أفطرت بنهار ... فقلت لها: أ ما ترفقين بنفسك؟! فقالت: كيف أرفق بنفسي و أمامي عقبات لا يقطعها إلّا الفائزون؟!
ثم أضافت زينب: كانت عمّتي نفيسة تحفظ القرآن و تفسيره، و كانت تقرأه و هي تبكي، و تقول: إلهي و سيدي، يسّر
لي زيارة قبر خليلك إبراهيم. فاستجاب الرحمن لدعاتها، وزارت هذا المقام هي و زوجها إسحاق المؤتمن.
و ممّا يروى كذلك عن صفات و علم السيدة الطاهرة: أنّها كانت شغوفة بحديث جدّها المصطفى صلّى اللّه عليه و آله، لذلك نجدها قد روت عنه الكثير من الأحاديث، سواء عن
أهل البيت في مصر ،ص:247
طريق أبيها و آل بيتها، أو من العلماء المسلمين الذين عاصرتهم، و بخاصّة الإمام مالك بن أنس بالمدينة.
لقد كانت أصداء أحاديث الإمام مالك- لما كان لها من صفة العلنية- تصل إلى السيدة نفيسة رضي اللّه عنها، فتأخذ منها ثم تضيف إلى ما جاءت به من مكة من سائر علوم القرآن و الحديث؛ لذلك فقد سمع منها الحديث عدد كبير من علماء مصر غير الإمام الشافعي، مثل: ذي النون المصري «1»، و عبد اللّه بن الحكم «2» و ولديه: محمد و عبد الرحمن، و عبد الرحمن البويطي «3»، و الربيعين: المرادي «4» و الجيزي «5»، و حرملة «6»، و كانوا من أصحاب الإمام الشافعي.
______________________________
(1). أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم الأخميمي ذو النون المصري، أحد الزهّاد العبّاد المشهورين، نوبي الأصل، مولى، كانت له فصاحة و حكمة و شعر، و هو أول من تكلّم بمصر في ترتيب الأحوال و مقامات أهل الولاية، و قد أنكر عليه قوم، و اتّهمه المتوكّل العباسي بالزندقة، و ضيّق عليه بعد أن استحضره إليه، ثم أطلقه فعاد إلى مصر، توفّي بالجيزة سنة 245 ه. راجع طبقات الصوفية: 18، و الأعلام 2: 102.
(2). أبو محمد عبد اللّه بن الحكم بن أعين بن ليث بن رافع، فقيه مصري، و مفتي الديار المصرية، من جلّة أصحاب مالك، و قد أفضت إليه رئاسة المالكية بعد أشهب، ولد عام
155 ه بالاسكندرية، سمع الليث بن سعد و مالك و غيرهما، حدّث عنه بنوه الأئمة الأربعة: محمد و سعد و عبد الرحمن و عبد الحكم، و كان صديقا للشافعي، توفّي عام 214 ه بالقاهرة و دفن إلى جنب الشافعي. انظر سير أعلام النبلاء 10: 220 رقم 57.
(3). المشهور في المصادر التاريخية أنّ ممّن أوفى لها في حياتها و بعد موتها هو أبا يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، من أكبر أصحاب الشافعي من المصريّين، و هو الذي حمل إلى بغداد أيام الواثق العباسي على بغل و مقيّدا بالحديد إبّان محنة خلق القرآن، و قد سجن حتّى مات بسجنه سنة 331 ه. انظر طبقات الشافعية للسبكي 2: 162، و الأعلام 8: 257.
(4). أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي بالولاء، المصري، صاحب الشافعي و راوي كتبه، عمل مؤذّنا بجامع ابن طولون، و كان أول من أملى الحديث فيه ولد عام 174 ه بمصر، و توفّي فيها سنة 270 ه. راجع طبقات الشافعية 2: 132.
(5). الربيع بن سليمان بن داود الجيزي المصري، فقيه مصر الشافعي، روى عنه أبرز أئمة الحديث كأبي داود و النسائي و غيرهما، توفّي بمصر سنة 256 ه. راجع طبقات الشافعية 2: 132.
(6). أبو عبد اللّه حرملة بن يحيى بن عبد اللّه بن حرملة التجيبي، مولاهم، المصري، فقيه من أصحاب الشافعي، روى عنه بعض أئمة الحديث كمسلم و ابن ماجة و غيرهما، توفّي سنة 243 ه. انظر طبقات الشافعية 2: 127.
أهل البيت في مصر ،ص:248
و كانت السيدة نفيسة- وفقا للإجماع- بالإضافة إلى علمها الغزير، زاهدة في دنياها، تؤمن بمنهج الزهد و تمارسه، و كان رائدها في طريق الزهد جدّها العظيم رسول اللّه صلّى
اللّه عليه و آله الذي أحاطت بسيرته.
و كذلك كانت تميل بطبعها منذ صغرها إلى حياة بعيدة عن زخرف الحياة و مباهجها، على الرغم من أنّ أباها كان أميرا للمدينة، و كان لا شكّ يعيش حياة رغدة.
في هذا البيت نشأت السيدة نفيسة نشأة زهد و تقشّف، فمثلا كانت تميل للأكل القليل ... فقد روي: أنّها كانت تأكل كلّ ثلاثة أيام مرة.
كما كانت- في الوقت نفسه- زوجة مخلصة، لم يشغلها أيّ أمر عن مسئوليتها كزوجة، و قد أخذ زوجها المؤتمن يفاخر بها، و يذكر للناس من حوله أنّه وجد فيها نعمة اللّه عليه ... فلم تقصّر في حقّ له أبدا، و لم يشغلها أيّ أمر عن حقوقه و واجباتها.
و هناك إلى جانب ذلك صفات أخرى كثيرة عرفت بها السيدة نفيسة رضي اللّه عنها، فقد كانت كريمة الأخلاق، شريفة الطبع، و كانت عطوفة على أسرتها و أهلها ...
كما كانت كثيرة الخير و البرّ، تواسي البائسين، و تسعف الملهوفين، و كان مالها الكثير تفرّج به عن المحتاجين من الناس.
من أشهر الكتب التاريخية التي تحدّثت باستفاضة عن قبر السيدة نفيسة رضي اللّه عنها هو ما كتبه السخاوي في كتابه عن المزارات ... حيث حدّد لنا بالضبط مكان هذا القبر، و الذي أقيم في الدار التي عاشت بها بدرب السباع، و التي منحها إيّاها الوالي السري بن الحكم.
و ممّا ذكره السخاوي في هذا الشأن قوله: و مشهد السيدة نفيسة معروف بالقرافة بالمراغة ... و القبر طويل قبلي الشارع المعروف بالزرائب، و شرقي الشارع الموصل للسيدة جوهرة، على يسار من يقصد المشهد النفيسي من الجهة البحرية، تجاه
أهل البيت في مصر ،ص:249
سقاية الماء المنتهية بحوش الشيمي ... و هي مدفونة هنا تحقيقا
بمحلّ سكنها الموهوب لها من عبد اللّه بن عبد الملك بن مروان.
و ممّا ذكره ابن الزيّات أيضا في كتابه: «الكواكب السيّارة في ترتيب الزيارة» عن هذا الضريح قوله: و أردت بذلك أن أصحّح المشاهد كما رواه العلماء رضي اللّه عنهم، و لم أر أحدا من أرباب التاريخ صحّح مشهدا بغير القرافة من مشاهد أولاد علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، إلّا المشهد النفيسي؛ لأنّها أقامت به أيام حياتها، و حفرت قبرها بيدها رضي اللّه عنها.
كما أكّد ذلك أيضا صاحب كتاب «الدرّة النفيسة في ترجمة السيدة نفيسة».
أهل البيت في مصر ،ص:251
د. سعاد ماهر
أمّا عن ضريح السيدة نفيسة فقد جاء في خطط المقريزي «2»: أنّ أول من بنى على قبرها عبد اللّه بن السري بن الحكم والي مصر من قبل الدولة الأموية، ثم أعيد بناء الضريح في عهد الدولة الفاطمية، حيث أقيمت عليه قبّة، و قد دوّن تاريخ هذه العمارة على لوحة من الرخام وضعت على باب الضريح، جاء فيها ما نصّه: نصر من اللّه و فتح قريب، لعبد اللّه و وليّه معد أبي تميم الإمام المستنصر باللّه أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، و على آبائه الطاهرين و أبنائه الأكرمين. أمر بعمارة هذا الباب السيد الأجلّ، أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الأنام كافل قضاة المسلمين و هادي دعاة المؤمنين، أمتع بطول بقائه المؤمنين، و أدام قدرته و أعلى كلمته و شدّ عضده بولده الأجلّ سيف الإمام جلال الإسلام شرف الأنام ناصر الدين خليل أمير المؤمنين، زاد اللّه في علائه و أمتع المؤمنين بطول بقائه في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين و ثمانين و أربعمائة.
و في عهد الخليفة الفاطمي الحافظ لدين اللّه حدث تصدّع لقبّة المشهد
النفيسي، فجدّدت، كما كسي المحراب بالرخام، و كان سنة اثنتين و ثلاثين و خمسمائة.
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «مساجد مصر و أولياؤها الصالحون».
(2). خطط المقريزي 4: 326.
أهل البيت في مصر ،ص:252
و جاء في كتاب «المزارات» «1» للسخاوي، أنّ السلطان الناصر محمد بن قلاوون أمر سنة 752 ه أن يتولّى النظارة على المشهد النفيسي الخلفاء العباسيون، و أنّ أول من تولّى النظر عليه هو الخليفة المعتضد باللّه أبو الفتح أبو بكر المستكفي باللّه.
و الخلفاء العباسيون هؤلاء هم سلالة الخلفاء العباسيين الذين هاجروا إلى مصر سنة 656 ه، بعد أن قضى المغول على الدولة العباسية في العراق.
و يقول الجبرتي «2»: إنّ الأمير عبد الرحمن كتخدا عمّر المشهد النفيسي و مسجده، و بنى الضريح على هذه الهيئة الموجودة، و جعل لزيارة النساء طريقا بخلاف طريق الرجال، و ذلك سنة 1173 ه، كما كتب على باب الضريح بالذهب على الرخام هذان البيتان:
عرش الحقائق مهبط الأسرارقبر النفيسة بنت ذي الأنوار
حسن بن زيد بن الحسن نجل الإمام علي ابن عم المصطفى المختار و في عام 770 ه أقام والي مصر علي باشا الحكيم بوابة على ساحة الفضاء أمام المسجد، و ما زالت باقية حتى الآن. ثم تعرّض المسجد لحريق في عام 1310 ه، أتلف النصف الشرقي للمسجد، فأمر الخديوي عباس حلمي الثاني بإعادة بناء الضريح و المسجد، و افتتحه بنفسه بعد التجديد، فصلّى فيه صلاة الجمعة. و أمّا المقصورة النحاسية- دقيقة الصنع و الموجودة الآن- فترجع إلى عصر عباس باشا أيضا.
و قد ذكر علي مبارك في خططه «3» الضريح و المسجد الملحق وصفا مستفيضا، كما ذكر أنّه قد حبس على المشهد أربعمائة و خمسون فدانا، و عددا من الرباع (جمع ربع) و
الحوانيت للصرف عليه. هذا بالإضافة إلى ما يتجمّع في صندوق نذوره، و التي كانت تبلغ في السنة في ذلك العهد ما قيمته خمسة و عشرين ألف قرش، كما كانت نظارة الأوقاف تصرف له ثمن الزيت و الحصر و البسط و مل ء الميضأة «4».
______________________________
(1). تحفة الأحباب: 106. (منه)
(2). عجائب الآثار: 89.
(3). الخطط التوفيقية 5: 113.
(4). تمّ توسعة المسجد مؤخّرا، و إضافة مساحات جديدة له.
أهل البيت في مصر ،ص:253
بقلم د. حمزة النشرتي عبد الحفيظ فرغلي عبد الحميد مصطفى صافيناز كاظم حنفي المحلاوي
أهل البيت في مصر ،ص:255
د. حمزة النشرتي و عبد الحفيظ فرغلي و عبد الحميد مصطفى
أبوها الحسين بن علي سبط النبي صلّى اللّه عليه و آله و حبيبه الذي قال فيه: «حسين منّي و أنا من حسين، أحبّ اللّه من أحبّ حسينا» «2».
و أمّا أمّها فهي الرباب بنت امرئ القيس الكلبي.
و يذكر الرواة في قصّة زواج الحسين بالرباب قصة طريفة ... قالوا: قدم امرؤ القيس بن عدي بن أوس- سيد بني كلب بن وائل- على رأس وفد من قومه إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في أثناء خلافته، و أعلن إسلامه هو و قومه، و عقد له عمر لواء على من أسلم من قومه. قال عوف بن خارجة المرّي: و اللّه ما رأيت رجلا أمر على جماعة من المسلمين قبل أن يصلّي ركعة قطّ إلّا امرئ القيس.
و ما كاد امرؤ القيس ينصرف حتّى لحق به عليّ بن أبي طالب فاستوقفه، و قال له:
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «سيرة آل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله» المجلّد 23، ط. القاهرة.
(2). أخرجه الترمذي 5: 658 كتاب المناقب ب 31 مناقب الحسن و الحسين عليهما السّلام حديث 3775، و ابن ماجة 1: 51 ب 11 فضل الحسن و الحسين عليهما السّلام حديث 144، و أحمد 4: 172، و انظر المصنّف لابن أبي شيبة 12: 103، و المستدرك للحاكم 3: 177، و اتحاف السادة المتّقين 5: 307.
أهل البيت في مصر ،ص:256
أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صهره، و هذا ابناي من ابنته فاطمة الزهراء، و أشار
إلى الحسن و الحسين، و قد رغبنا في مصاهرتك.
فلم يتردّد امرؤ القيس أن قال: مرحبا بكم آل بيت النبي ... و نظر إلى الحسن و قال له: قد أنكحتك يا حسن ابنتي سلمى بنت امرئ القيس، و التفت إلى الحسين و قال:
و أنكحتك يا حسين ابنتي الرباب بنت امرئ القيس! «1» و «2»
و أنجبت الرباب للحسين ابنته سكينة رضي اللّه عنها بعد أن أنجبت له قبلها عبد اللّه «3».
______________________________
(1). ذكر القصة أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني 14: 157، و في مقاتل الطالبيّين: 271 عند ترجمة عبد اللّه بن الحسين.
(2). إنّ من يمحّص في هذه القصة يجدها لا تمت إلى الواقع شيئا، و ذلك لعدّة أمور، من أهمّها:
أولا: أنّ شخصية أمير المؤمنين علي عليه السّلام و ولديه معروفة عند جميع المسلمين، بتحلّيها بالأخلاق الكريمة، و التزامها بأدقّ تفاصيل الشريعة و العادات الرفيعة، فهي تأنف أن تنحدر إلى هذا المستوى من الوضاعة، و الجري وراء الشهوات كما تصوّرها هذه القصة!
و ثانيا: أنّ ارتكاب مثل هذا السلوك لا يتّفق مع الآداب الشرعية و الأعراف الجارية في مجال التزويج؛ حتّى و لو كان من سوقة الناس، فكيف بمن هو مؤهّلا للزعامة و الخلافة، و أحد الراشدين من عظماء أئمة المسلمين؟!
و ثالثا: يلاحظ إهمال بعض الأمور الشرعية في مسألة الزوج، كاختيار البنت و رضاها، و تعيين المهر ... الخ، و أمير المؤمنين عليه السّلام- و هو سيد المتقين- بعيد منه أن يرتكب ما يخالف الشرع بأدقّ تفاصيله.
و رابعا: لو صحّت القصة، فإنّ الرباب قد تمّ تزويجها من الحسين عليه السّلام أيام خلافة عمر بن الخطاب، و على تقدير آخر أيامه، فإنّه قتل سنة 25 ه، و ولادة سكينة كان سنة
47 ه. و هذا يعني أنّ الرباب كانت حائلا عند الحسين عليه السّلام لأكثر من 22 عاما على الأقلّ، أي لم تنجب طول هذه الفترة الطويلة! و هو شي ء بعيد!! و لو كان كذلك لتلقّفته بنو أمية بالطعن و التشهير كما هو ديدنهم حينما يفتقرون إلى الحجة، و هو ما لم يحصل أبدا.
و خامسا: أنّ ابن كثير في كتابه البداية و النهاية 8: 217 ذكر الرباب، و أنّ اسم أبيها «أنيف» و لم ينسبه إلى أحد، كما أنّه لم يذكر هذه القصة بتاتا.
و في ضوء ما تقدم، نقول: لا حجّة واضحة تؤيّد هذه الرواية، أو تأخذ بنا إلى الإيمان بها، و ما هي إلّا محض اسطورة، تناقلها بعض الرواة بشكل أعمى، و من غير تمحيص.
(3). و هو الرضيع الذي استشهد بكربلاء، أثر رمية سهم غاشم رماها نحوه معسكر الأمويين و هو بين يدي أبيه يتلوى عطشا، و قد جاء به إلى القوم طالبا له ماء.
أهل البيت في مصر ،ص:257
و نشأت سكينة في حضن والديها، و كان أبوها يحبّها حبّا شديدا، حتّى لقد أثر عنه أنّه قال فيها و في أمّها شعرا:
لعمرك إنّني لأحبّ داراتحل بها سكينة و الرباب
أحبّهما و أبذل كلّ مالي و ليس بلائمي فيها عتاب
و لست لهم و إن عتبوا مطيعاحياتي أو يغيّبني التراب «1» و يبدو أنّ الحسين قد عوتب في شدّة إقباله على زوجته و ابنته، فردّ بذلك على من يعتب عليه.
كانت ولادة سكينة حوالي سنة 47 ه، و قد توفّي عمّها الحسن سنة 50 ه، و لها من العمر ثلاث سنوات، و شهدت مع أبيها معركة كربلاء و لها من العمر أربع عشرة سنة «2».
و شهدت سكينة الأحداث الدامية التي
أودت بمصرع أبيها رضي اللّه عنه في المأساة المعروفة بمأساة كربلاء، كانت في صحبته مع عمّتها زينب، و بقية أولاد الحسين و إخوته و أولاد عمومته و بعض أنصاره و شيعته.
و رأت مصارع إخوتها: عبد اللّه و علي الأكبر مع أبيها، فانطبع هذا المشهد في وجدانها، و لم تنسه، فحاولت أن تتصبّر عليه بالشعر و الأدب.
... لقد عرفت سكينة بالجمال و الأدب منذ صغرها، و لذلك كانت مطمح أولي الفضل من شباب قريش، كلّ يريد أن يخطبها، و قد تقدّم الحسن بن الحسن بن علي رضي اللّه عنهم يوما إلى عمه الحسين ليخطب إليه، و كان يطمع في سكينة، و لكنّه لم يصرّح لعمه بمن يريد.
فقال له عمّه رضي اللّه عنه: اخترت لك ابنتي فاطمة، فهي أشبه النساء بأمي فاطمة
______________________________
(1). زهر الآداب 1: 100. (منه)
(2). سكينة بنت الحسين، لبنت الشاطئ: 22.
أهل البيت في مصر ،ص:258
الزهراء، أمّا سكينة فيغلب عليها الاستغراق مع اللّه فلا تصلح لرجل «1».
و يدلّ هذا على أنّ نشأتها كانت متّصلة بالدين اتّصالا وثيقا.
و استشهد الحسين في موقعة كربلاء و لم تتزوّج سكينة بعد. و انطوت أيام من الحزن، فتقدّم مصعب بن الزبير فخطبها. و قد كان ينافسه في سبيل الظفر بها أخوه عروة بن الزبير، و عبد اللّه بن عمر، و عبد الملك بن مروان.
لقد كان هذا الزواج بعد مصرع أبيها، و عودتها من رحلتها التي صاحبت فيها عمتها السيدة زينب إلى مصر.
لقد عادت و استقرّ بها المقام مع أخيها السجّاد زين العابدين رضي اللّه عنه، و قد كانت عزفة عن هذا الزواج، بعد هذا الجرح الغائر في أعماقها بمصرع أبيها، و وفاة أمها بعده بقليل.
و لكنّ قومها أحاطوا بها، و ألحّوا
عليها في الزواج؛ إبقاء على سلالة الحسين رضي اللّه عنه، فقبلت بعد إباء شديد.
و بعض الرواة يقول: إنّها تزوّجت قبل مصعب بن الزبير، و أنّ الذي تزوّجها هو ابن عمها عبد اللّه بن الحسن ... و لكنّه قتل عنها مع أبيها، و كان لم يدخل بها، و لكنّها رواية لا تنبعث الدلائل على رجحانها «2».
______________________________
(1). إسعاف الراغبين للصبّان، المطبوع بهامش نور الأبصار: 202. و انظر السيدة سكينة ابنة الإمام الشهيد أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام، للمقرّم: 43.
(2). بل علماء النسب و التاريخ يشهدون بأنّ زوجها الأول هو عبد اللّه الأكبر ابن الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام، الذي استشهد و أخوه القاسم يوم الطفّ، و من هؤلاء نذكرهم على سبيل المثال لا الحصر:
* النسّابة أبو الحسن العمري، من أعلام القرن السادس في كتابه «المجدي».
* أبو علي الطبرسي، من أعلام القرن السادس في كتابه «اعلام الورى».
* الشيخ محمد الصبّان في إسعاف الراغبين المطبوع بهامش نور الأبصار.
* أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني (14: 163).
* المدائني في كتابه «المترادفات: 64».
و غيرهم كثيرون.
أهل البيت في مصر ،ص:259
و لكن أغلب الروايات تشير إلى أنّ حياة السيدة سكينة الزوجية بدأت بمصعب بن الزبير «1».
جاء في عيون الأخبار: اجتمع أربعة رجال بفناء الكعبة، و هم: عبد اللّه بن عمر، و مصعب بن الزبير، و عبد الملك بن مروان، و عروة بن الزبير.
فقال لهم مصعب: تمنّوا.
فقالوا له: ابدأ أنت.
فقال: أتمنّى ولاية العراق، و التزوّج من سكينة بنت الحسين و عائشة بنت طلحة.
و تمنّى عروة الفقه و أن يحمل عنه الحديث. و تمنّى عبد الملك الخلافة. و تمنّى عبد اللّه بن عمر الجنة!
و من الغريب أنّ كلّ واحد من هؤلاء تحقّقت له أمنيته
«2».
لقد قدم مصعب مهرا لسكينة قدره ألف ألف درهم، و أعطى أخاها عليا حين حملها إليه أربعين ألف دينار. أهل البيت في مصر 259 سكينة في بحر الأحداث ..... ص : 257
كانت سنّها حين زفّت إلى مصعب عشرين عاما «3» ... و كان مصعب أمير العراق من قبل أخيه عبد اللّه بن الزبير.
و ظلّت سكينة في بيت زوجها، تغالب أحزانها القديمة التي كانت تعاودها. إنّ مصرع أبيها و إخوتها و أبناء عمومتها يؤرقها، و يملأ حياتها حزنا، و لكنّ الزوجية لها حقوق و واجبات، و هي ذات دين و صلاح، ربّاها أبوها و أهل بيتها على وجوب معرفة حقوق الزوجية، فأصبحت تبدو و كأنّها قد نسيت أحزانها، و ما نسيت، و لكنّها
______________________________
(1). يكاد ينفرد بها ابن قتيبة و صاحب وفيات الأعيان 1: 298.
(2). عيون الأخبار 2: 258 ط. دار الكتب.
(3). و يذكر أنّ قصة زواج مصعب من سكينة الذي رواها ابن قتيبة تعدّ من الخيالات، إذ لم يؤيّدها فحول التاريخ و أعلام السيرة، و هي و إن أثبتها مرسلة. و أمّا ما يسندها أبو منصور البغدادي عن المدائني عن مجالد عن الشعبي في زواجها من عبد اللّه بن عثمان- كما سيأتي- ففيه «مجالد» الذي شهد له ابن معين و يحيى بن سعيد بالكذب و الضعف و التدليس.
أهل البيت في مصر ،ص:260
تتكلّف النسيان، و كم كلّفها ذلك الكثير من الجهد و المشقّة!
حتّى إذا استقامت الحياة لها قليلا، روّعت بمصرع زوجها و التي أنست هي إلى ظلّه، و استراحت في كنفه فترة من الدهر.
لقد تجدّدت أحزان سكينة بوفاة زوجها في صراعه مع عبد الملك بن مروان، و غاظها أن وفد عليها الكوفيّون يعزّونها.
و قد كانت تستشعر حزنا
قاسيا، فقالت لهم: «اللّه يعلم أنّي أبغضكم، قتلتم جدّي عليا، و قتلتم أبي الحسين، و قتلتم زوجي مصعبا، فبأيّ وجه تلقونني؟ تيتّمت صغيرة، و ترمّلت كبيرة على أيديكم».
و قد أعقبت من مصعب فتاة جميلة أسمتها الرباب على اسم أمّها، زوّجها عمها عروة بن الزبير من ابنه عثمان بن عروة، و ماتت و هي صغيرة. و كانت هذه الفتاة الجميلة تفوق الدرّ جمالا و حسنا، و كانت أمّها تحليها بالجواهر، لا لتزيد من حسنها، بل لتفضح هي الجواهر بحسنها!
و مكثت سكينة حينا من الزمن دون زواج، تعاني الحزن و الألم و مرارة الذكريات، و تستعين على ذلك بالصبر و الصلاة، كما أمر القرآن الكريم.
ثم تقدّم لخطبتها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، خطبها من أخيها علي زين العابدين، و لكنّها خطبة لم تتمّ.
و قيل: إنّ الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان خطبها، و كان حينئذ واليا على مصر، فقبلت بعد تردّد.
و لكن هذا الزواج لم يتمّ أيضا؛ لأنّ عبد الملك بن مروان أرسل لابن أخيه يخيره بين البقاء في ولاية مصر أو الزواج من سكينة بنت الحسين، فاختار الولاية على الزواج منها ... و أرسل إلى سكينة ذلك، فحمدت اللّه على ذلك. و بقيت سكينة في المدينة، و بقي الأصبغ في مصر محزونا.
و تزوّجت سكينة من عبد اللّه بن عثمان بن عبد اللّه بن حكيم بن حزام، و هو رجل
أهل البيت في مصر ،ص:261
فاضل ماجد، و تمّ الزواج الذي باركه أبو دهبل الجمحي الشاعر، بقوله:
قضت و طرا من أهل مكّة ناقتي سوى أملي في الماجد ابن حزام
تمطّت به بيضاء فرع نجيبةهجان و بعض الوالدات عزام
جميل المحيّا من قريش كأنّه هلال بدا من سدفه و ظلام
فأكرم بنسل منك
بين محمدو بين علي فاسمعنّ كلامي
و بين حكيم و الزبير فلن ترى له شبها في منجد و تهام «1» و أعقبت سكينة من هذا الزوج عدّة أولاد.
و ما كادت سكينة تنسى في ظلّ هذا الزواج أحزانها القديمة التي كانت تراودها بين الحين و الحين، حتّى روّعت مرّة أخرى بوفاة زوجها ... فعادت صفحة الحزن تغزو حياتها من جديد.
و تعرّضت بعد ذلك سكينة لزيجة فاشلة من زيد بن عمرو العثماني .. و الذي عرّض هذا الزواج للفشل هو بخل زيد الشديد الذي كان مثلا يضرب في المدينة، و عليه كان يتندّر الناس لشدّة بخله.
قال أشعب فيما يرويه أبو الفرج في أغانيه: خرج زيد حاجّا و خرجت معه سكينة، و معها خمسة أجمال محمّلة بأصناف الطعام، فكلّما بلغ الركب منزلا أمرت السيدة سكينة بالطعام و أعدّت الأطباق، فجاء بعض القوم يسلّمون على زيد، فتعلّل بوجع خاصرته فرفع الطعام.
قال أشعب: و لبثنا حتّى انصرفوا و دخلنا، و قد هلكت جوعا، فلم آكل ممّا اشتريته من السوق بمائة دينار أعطتني إيّاها السيدة سكينة، فلمّا كان الغد أصبحت و بي من الجوع ما اللّه به عليم، و دعا زيد بالطعام فأمر بإسخانه، و جاءته مشيخة قريش يسلّمون عليه، فلمّا رآهم اعتلّ بخاصرته، و دعا بالترياق و الماء الحارّ، و رفع
______________________________
(1). سكينة بنت الحسين لبنت الشاطئ: 89.
أهل البيت في مصر ،ص:262
الطعام، فلمّا ذهبوا أمر بإعادته، فجي ء به و قد برد، قال لي: يا أشعب، هل إلى إسخان هذا الدجاج سبيل؟
فقلت له: أخبرني عن دجاجك هذا، أ هو من آل فرعون! فهو يعرض على النار غدوّا و عشيا؟ «1».
كان من الطبيعي أن يفشل زواج كهذا، فهو غير متكافئ بين سليلة الكرم و الجود
و العطاء، التي لا تنظر إلى الدنيا بأسرها إلّا على أنّها أحقر من جناح بعوضة، و بين ذلك الرجل الذي يأبى أن يشاركه في طعام و شراب ضيوف هو غير متكلّف لهم.
و لقد كانت تعمل حساب ذلك قبل الزواج، فاشترطت عليه أن يطلق يدها في ماله و إلّا كانت منه خليّة، فقبل ذلك.
و لكن نفسه لم تسمح بالمال، و ظلّ في تضييق حتّى تحوّلت الحياة معه إلى جحيم، و كان الطلاق ... ففارقته و هي غير آسفة.
حين نقرأ الأغاني و غيره من كتب الأدب نعثر على صفحات متعدّدة تتحدّث عن شخصية سكينة الأديبة، فهي شاعرة ناقدة، و هي قد تستقبل الشعراء لتحكم بينهم و تفاضل بين شعرهم «2».
______________________________
(1). الأغاني 14: 165.
(2). إنّ ما يرويه أبو الفرج عن المدائني و عن أبي عبد اللّه الزبيري من أخبار الشعر و اجتماع الشعراء في بيت سكينة للمفاخرة و المفاضلة ليس المقصود منها سكينة بنت الحسين كما ينقلها أغلب كتّابنا، بل هي سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير، لأنّه يروي في بعض مواضع من كتابه «الأغاني» (1: 67) عن رجاله أنّ سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير كانت تجتمع مع عمر بن أبي ربيعة و معهما ابنة زوجة محمد بن مصعب بن الزبير و جاريتان يغنيان عندهم ... و في موضع آخر (1: 153) يذكر أنّه تزوّج سكينة بنت خالد بن مصعب: بكير بن عثمان بن عفّان فولدت بنتا يقال لها: أم عثمان تزوّجها عبد اللّه العرجي.-
أهل البيت في مصر ،ص:263
و قد كانت سكينة عاقلة لبيبة، تعرف مواقع الكلام و الردود عليها.
يروي أبو الفرج في أغانيه: أنّ عائشة بنت طلحة حجّت و معها ستون بغلا عليها
الهوادج و الرحائل، و حجّت في ذلك العام أيضا سكينة بنت الحسين- و كانت ضرّة عائشة- و لم يكن معها ذلك القدر من البغال و الرحال. و أخذ حادي عائشة يحدو و يقول:
عائش يا ذات البغال الستين لا زلت ما عشت كذا تحجّين
______________________________
كما و يذكر في موضع (16: 12) بسنده: أنّ إسحاق الموصلي غنى الرشيد بقوله:
قالت سكينة و الدموع ذوارف منها على الخدّين و الجلباب فغضب الرشيد حتّى سقط القدح من يده و نهره و لعنه!! و الحال أنّ هذا البيت مع أبيات رواها الزجّاج في أماليه:
قالت سعيدة و الدموع ذوارف منها على الخدّين و الجلباب
ليت المغيري الذي لم أجزه فيما أطال تصعّدي و طلابي إلى آخر الأبيات في سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف و قال: كانت سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف جالسة في البيت الحرام، فرأت عمر بن أبي ربيعة يطوف البيت، فأرسلت إليه: إذا فرغت من طوافك فاتنا، فأتاها فقالت: لا أراك يا ابن أبي ربيعة صادرا عن حرم اللّه، أ ما تخاف اللّه؟ ويحك إلى متى هذا السفه؟! فقال لها: دعي هذا عنك، أ ما سمعت ما قلت فيك؟ قال: لا، فأنشدها الأبيات.
و هذه الأبيات رواها الجاحظ أيضا في كتابه (المحاسن و الأضداد: 212) في ابنة عبد الملك بن مروان حين حجّت البيت لكن بزيادة.
هذا و رجّح العلّامة الشنقيطي في شرح أمالي الزجاج: (104 ط 2 مصر) رواية الأغاني في سعدى بنت عبد الرحمن على الرواية في سكينة بنت الحسين، و قال: «هذا هو الصحيح، و إنّما غيّره المغنّون، فجعلوا سكينة مكان سعيدة».
كما أنّ الحصري في زهر الآداب (1: 101) أنكر الرواية- رواية الشعر- في سكينة بنت الحسين و قال: «كذب من روى
هذا الشعر في سكينة». فهذا حال ضبط أبي الفرج و هذا نقله!!
على أنّا لا نعرف هذا البيت الذي فتحته للضيافة و مفاضلة الشعر متى كان؟ أ في العهد الذي كانت فيه ذات بعل فتنفق من مال أزواجها كما يزعمون، أم أنّها كانت تنفق على الأضياف و تجيز للشعراء من مالها الخاصّ الذي لم يرد به تاريخ أصلا أو أنّ الإمام السجّاد- بعنوان وليّها و القائم بأمرها بعد شهادة أبيه الحسين عليه السّلام- كان يفيض عليها المال لتنفقه على الأجانب؟!!
ثم إنّ هذه الأخلاق تتنافى و ربيبة أهل بيت النبوّة و العفّة الذي طهّرهم اللّه تطهيرا بنصّ القرآن، البيت الأجدر باتّباع تعاليم جدّهم المقدّسة؛ فكيف تتنكّر سكينة سنن جدّها الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و تعاليمه التي تدعو إلى الحشمة و العفّة و التأدّب بالآداب الربانية التي علّمها اياها أبوها سيد الشهداء عليه السّلام؟!
أهل البيت في مصر ،ص:264
و شقّ ذلك على سكينة، فأمرت حاديها أن يردّ قائلا:
عائش هذه ضرّة تشكوك لو لا أبوها ما اهتدى أبوك فأمرت عائشة حاديها أن يكفّ، فكفّ «1».
قال الإمام السبكي معلّقا على هذا الخبر: فللّه درّ عائشة حيث كفّت في موضع الإكفاف أدبا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله! فقد كان الأمر و المفاخرة في الدنيا هزلا، فقابلته سكينة بذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جدا، فأفحمت خصمها، و أقامت عليها الحجّة، فللّه درّها من مناظرة عرفت مواقع الجدل، و درّ عائشة من مذعنة للحقّ منقادة إلى الصدق! «2».
و شهدت سكينة يوما مأتما- فيه بنت لعثمان بن عفّان رضي اللّه عنه- فقالت بنت عثمان:
أنا بنت الشهيد- قالت ذلك على سبيل الفخر، و هي توجّه كلامها إلى سكينة- على
حين أمسكت سكينة صامتة، إلى أن أذّن المؤذّن من مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للصلاة، فلمّا بلغ قوله: «أشهد أنّ محمدا رسول اللّه» التفتت سكينة إلى بنت عثمان و سألتها:
أ هذا أبي أم أبوك؟
فأجابت بنت عثمان في تواضع و حياء: لا أفخر عليكم أبدا «3».
حكت صاحبة الدر المنثور قالت:
و كانت السيدة سكينة سيدة نساء عصرها، و من أجمل النساء و أظرفهنّ و أحسنهنّ أخلاقا، و لها نوادر و حكايات ظريفة مع الشعراء! «4».
و كانت السيدة سكينة عفيفة أريبة، و لم يكن لقاؤها بالشعراء إلّا بهدف تزجية وقتها، و التسرية عن نفسها ممّا لقيته من آلام و محن، فإنّ حياتها كانت سلسلة من النكبات، فجعت بمصارع أحبّتها في كربلاء، و روّعت بالترمّل، و لم تصف حياتها
______________________________
(1). الأغاني 11: 188.
(2). سكينة بنت الحسين للدكتورة بنت الشاطئ: 122، نقلا عن طبقات السبكي: 166.
(3). الأغاني 14: 159.
(4). تقدّم الردّ على هذه المقولة التي تتنافى و عفّة و طهارة أهل بيت النبوة الطاهر.
أهل البيت في مصر ،ص:265
من منغّصات، فحاولت أن تتناسى كلّ ذلك في ظلّ الأدب و الشعر.
لقد اتّهمها بعض الرواة بالتبذّل، و مجالسة الشعراء و المغنّيين!، و ذلك كلّه مكذوب عليها .. فما كان لمثلها التي تناوبت الأحداث عليها، و اصطلحت النكبات على غزو حياتها أن يكون لديها الفراغ للتبذّل الذي حاول هؤلاء الرواة إلصاقه بها.
و قد ناقشت الدكتورة بنت الشاطئ ما ورد في سيرتها، و ذلك في كتابها «موسوعة أهل البيت» قالت: إنّ كثيرا من الروايات التي تظهرها في مظهر التبذّل مختلقة مفتعلة، فقد كانت عن ذلك في شغل بمصرع والدها و إخوتها و ذويها في كربلاء، و كانت قد شهدت هذه الموقعة الرهيبة ..
هذا و لا يخفى أنّه كان لأبيها خصوم يحاولون التنقيص من قدر أهل البيت، و ذريّة علي و الحسين خاصّة، حتّى يغضّوا من منزلتهم في نفوس الناس. فلا يبعد أن يكون ما نسب إليها من ذلك من بعض أنصار هؤلاء الخصوم.
و يدلّ على ذلك أنّ ما ورد من شعر في «الأغاني» ممّا يتّصل بالحوار الدائر بينها و بين الشعراء مضطرب النسب إلى أصحابه، كما يقول صاحب نور الأبصار «1».
و يدلّ على ذلك أيضا قول الحصري في زهر الآداب «2»: و في سكينة يقول عمر بن عبد اللّه بن أبي ربيعة كاذبا عليها، ثم يورد أبياتا. فقد وصفه الحصري بالكذب و الادّعاء، و لا نبرئ ابن ربيعة الشاعر المفتون بنفسه و شبابه من الكذب و الافتراء، و قد عرف النقّاد عنه رقّة دينه، و كثرة عبثه، و غلبة مجونه.
و قد انساق مع رواية هؤلاء المدّعين الدكتور زكي مبارك- غفر اللّه له- فذكر أنّ عمر بن أبي ربيعة قد تغزّل في سكينة بنت الحسين!! و هو كلام مردود بما قلناه، يضاف إليه أنّ الفترة التي شهدت شبيبة عمر بن أبي ربيعة كانت فيها سكينة لم تزل طفلة، و قد انشغل الحجاز بعده بالأحداث الدامية التي لم تترك فرصة لغزل متغزّل، فلمّا ترمّلت سكينة من زوجها مصعب، و كانت معه في العراق بعيدا عن الحجاز، ثم
______________________________
(1). نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار للشبلنجي: 361.
(2). زهر الآداب 1: 101.
أهل البيت في مصر ،ص:266
عادت بعد ذلك إلى المدينة، كان عمر بن أبي ربيعة قد جاوز الأربعين، و أقلع عن العبث، و أقسم ألّا يقول شعرا في الغزل.
و إذن، فما ورد من شعر على لسانه يتحدّث فيه عن سكينة،
لا أصل له، و ربّما حوّل بفعل بعض الرواة من سكينة أخرى إلى سكينة بنت الحسين. و الدليل على ذلك عدم اتّفاق الرواة في هذه الأشعار، و اختلافهم اختلافا شديدا فيما روي منها.
يحدّثنا الرواة على أنّ السيدة سكينة كانت مثالا للشجاعة و الصبر.
كان ابن مطير- خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم المرواني- يذكر جدّها علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه، فكانت تتصدّى له و تردّ عليه، فلا يملك أن يردّ عليها.
و ذكر صاحب الأغاني في شجاعتها و صبرها هذه القصة العجيبة، قال: ظهرت لها سلعة «1» في أسفل عينها، ما زالت تكبر حتّى أخذت جانب وجهها و عينها، و كان «درافيس» العالم بالطبّ في خدمتها، فقالت له: أ ما ترى ما وقعت فيه؟
فقال لها: أ تصبرين على ما يمسّك من الألم حتّى أعالجك؟
قالت: نعم.
فشقّ جلد وجهها، و سلخ اللحم من تحتها حتّى ظهرت عروقها، و كان منها شي ء تحت الحدقة، فرفع الحدقة عنها، حتّى جعلها ناحية ثم سلّ عروق السلعة من تحتها، فأخرجها أجمع، و ردّ العين موضعها، و سكينة لا تتحرّك و لا تئنّ حتّى فرغ ممّا أراد!
و زال ذلك عنها و برئت منه، و بقي أثر الحزازة في مؤخّر عينها، فكان أحسن في وجهها من كلّ حلي و زينة، و لم يؤثّر ذلك في نظرها و لا عينها «2».
______________________________
(1). السلعة: كلّ زيادة تحدث في البدن، كالغدّة و ما شابهها.
(2). الأغاني 14: 172.
أهل البيت في مصر ،ص:267
و إنّ من شجاعتها الأدبية أنّها كانت تتحلّى بالصبر على ما انتابها من أحزان و آلام، و أن تتحكّم في مشاعرها، و تقوى على ضبط نفسها. و استطاعت أن تحتفظ برباطة جأشها على الرغم
ممّا يعتمل في نفسها من أسى ولوعة:
و كانت كريمة سخيّة، تنفق ما لديها في سماح، و كم قصدها أصحاب الحاجات، فما ضاقت بأحد منهم ذرعا.
و قد عرفنا أنّها ضاقت ذرعا ببخل زوجها زيد بن عمر العثماني، حتّى أدّى هذا الضيق إلى الفراق.
كانت السيدة سكينة في نقدها للشعر ذوّاقة للأدب، و في الوقت نفسه متصوّفة عفيفة.
و كانت تجيد قول الشعر، إلّا أنّ ما يؤثر عنها قليل، فمن ذلك قولها ترثي أباها رضي اللّه عنه:
إنّ الحسين غداة الطفّ يرشقه ريب المنون فما أن يخطئ الحدقة
أ أمّة السوء هاتوا ما احتجاجكموغدا و جلّكم بالسيف قد صفقه
الويل حلّ بكم إلّا بمن لحقه صبرتموه لأرماح العدا درقه
يا عين فاحتفلي طول الحياة دمالا تبك ولدا و لا أهلا و لا رفقه
لكن على ابن رسول اللّه فانسكبي دما و قيحا و في إثريهما العلقة «1» و هو شعر يتّفق مع طبيعة المرأة و أسلوبها.
أمّا في نقدها للشعر فنذكر من أمثلته ما رواه صاحب الأغاني قال: اجتمع جرير و الفرزدق و كثير و جميل و نصيب في ضيافة سكينة بنت الحسين رضي اللّه عنهما، فمكثوا أياما، ثم أذنت لهم فدخلوا عليها، فقعدت حيث تراهم و لا يرونها، و تسمع كلامهم.
______________________________
(1). ذكر الزجاج هذه الأبيات في أماليه: 109.
أهل البيت في مصر ،ص:268
ثم أخرجت وصيفة لها قد روت الأشعار و الأحاديث، فقالت: أيّكم الفرزدق؟
فقال: ها أنا ذا
قالت: أنت القائل:
هما دلياني من ثمانين قامةكما انحط باز أقتم الريش كاسره
فلمّا استوت رجلاي بالأرض قالتاأ حيّ يرجى أم قتيل نحاذره
فقلت: ارفعوا الأمراس لا يشعروا بناو أقبلت في إعجاز ليل أبادره
أبادر بوابين قد وكلا بهاو احمر من ساج تبص مسامره قال: نعم.
قالت: فما دعاك إلى إفشاء سرّها و سرّك، هلا سترت
عليك و عليها؟ خذ هذه الألف و الحق بأهلك.
ثم دخلت على مولاتها و خرجت برسالتها، فقالت: أيّكم جرير؟
قال: ها أنا ذا
قالت: أنت القائل:
طرقتك صائدة القلوب و ليس ذاوقت الزيارة فارجعي بسلام
تجري السواك على أغرّ كأنّه برد تحدّر من متون غمام
لو كان عهدك كالذي حدّثتنالرصدت ذاك و كان غير لمام
إنّي أواصل من أردت وصاله بحبال لا صلف و لا لوام قال: نعم.
قالت: هلّا أخذت بيدها و قلت لها ما يقال لمثلها؟ أنت عفيف و فيك ضعف، خذ هذه الألف و الحق بأهلك.
ثم دخلت على مولاتها و خرجت، فقالت: أيّكم كثير؟
قال: ها أنا ذا
أهل البيت في مصر ،ص:269
قالت: أنت القائل:
و أعجبني يا عزّ منك خلائق كرام إذا عدّ الخلائق أربع
دنوك حتى دفع الجاهل الصباو دفعك أسباب المنى حين يطمع
فو اللّه ما يدري كريم مماطل أ ينساك إذا باعدت أو يتصدّع قال: نعم.
قالت: ملحت و شكلت، خذ هذه الثلاثة آلاف و الحق بأهلك.
ثم دخلت على مولاتها و خرجت، فقالت: أيّكم نصيب؟
قال: ها أنا ذا
قالت: أنت القائل:
و لو لا أن يقال صبا نصيب لقلت بنفسي النشأ الصغار
بنفسي كلّ مهضوم حشاهاإذا ظلمت فليس لها انتصار قال: نعم.
قالت: ربيتنا صغارا و مدحتنا كبارا، خذ هذه الألف و الحق بأهلك.
ثم دخلت على مولاتها و خرجت، فقالت: يا جميل، مولاتي تقرئك السلام و تقول لك: ما زلت مشتاقة لسماع شعرك منذ سمعت قولك:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةبوادي القرى إنّي إذن لسعيد
لكلّ حديث بينهنّ بشاشةو كلّ قتيل عندهنّ شهيد جعلت حديثنا بشاشة، و قتلانا شهداء، خذ هذه الألف و الحق بأهلك «1».
و قد علّقت الدكتورة بنت الشاطئ على هذه القصة قائلة:
و ليس يفوتنا ما للنصّ من دلالات، منها: أنّ أمراء الشعر في عصرها كانوا يجتمعون في دارها، فتأذن
لهم، و تجلس حيث تراهم و لا يرونها، و قد اتّخذت وصيفة لها تنقل
______________________________
(1). الأغاني 14: 166. و ذكر الشبلنجي بعضا منه في نور الأبصار: 359- 361.
أهل البيت في مصر ،ص:270
ما اختارته من شعر و تعليقها عليه. و قد أنكرت على الفرزدق إفشاءه سرّه و سرّ صاحبته، و أثنت على جرير لعفّة شعره و إن أنكرت ضعفه و أسلوبه في مخاطبة زائريه.
و أعجبتها أبيات «كثير» في وصف صاحبته؛ لما لمحت فيها من دقّة التعبير عن عزّة الأنثى و طبيعة حوّاء «1».
و لعلّ هذا الإعجاب هو الذي دفعها إلى مضاعفة عطائه .. و نضيف إلى ما قالته الدكتورة بنت الشاطئ: أنّ هذه القصة تدلّ إلى جانب براعتها في النقد على أريحيتها و سخائها، فهي لم تعط على مدح، و لم تثب على قول قيل فيها، و لكنّها أعطت برّا و معروفا و سخاء «2».
توفّيت السيدة سكينة بالمدينة المنوّرة سنة سبع عشرة و مائة .. و يروي أبو الفرج
______________________________
(1). سكينة بنت الحسين: 177.
(2). ذكر القصة بكاملها صاحب الأغاني، و بتفاصيل مثيرة تصلح مادة للسمر و حديث الندماء! على أنّ المبرّد في كتابه تهذيب الكامل 2: 150، و ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار (4: 146) ذكرا اجتماع الشعراء هؤلاء إنّما كان عند عبد الملك بن مروان، و زاد تذاكرهم بيت نصيب:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت أوكل بدعد من يهيم بها بعدي فأزرى كلّهم على نصيب، فقال لهم عبد الملك: ما تقولون؟ فقال أحدهم: أقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي فقال عبد الملك: أنت أسوأ رأيا من نصيب. فقالوا: فما كنت تقول أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: أقول:
أهيم بدعد ما حييت
فإن أمت فلا صلحت دعد لذي خلّة بعدي فقالوا: أنت أشعر الثلاثة يا أمير المؤمنين.
كما و يحدّث المرزباني في الموشح: 189 هذه الحكاية أيضا عن عبد الملك بن مروان، و ذكر نقده للفرزدق و الآخرين.
و كان ابن كثير قد ذكر هذه الحكاية، و تفاضل هؤلاء الشعراء عند عبد الملك بن مروان و ليس عند سكينة في كتابه البداية 9: 262.
كلّ ذلك يرشدنا إلى القول بالتشكيك في صحّة نسب القصة إلى السيدة سكينة بنت الحسين عليه السّلام على ما ادّعاه و حكاه أبو الفرج في كتابه «الأغاني». و ممّا يؤكّد ذلك أنّه لم يذكر و لا بيتا منسوبا إليها في العرفان و النسك و الأدب، أو في رثاء أبيها سيد الشهداء كما حفل به كتابه عن غيرها.
أهل البيت في مصر ،ص:271
في أغانيه: أنّها ماتت و على المدينة خالد بن عبد الملك، فأرسلوا إليه فآذنوه بالجنازة، و ذلك في أول النهار في حرّ شديد- فأرسل إليهم: لا تحدثوا حدثا حتّى أجي ء فأصلّي عليها. فوضع النعش في موضع المصلّى على الجنائز، و جلسوا ينتظرون حتّى حان الظهر، فأرسلوا إليه، فقال: لا تحدثوا شيئا حتّى أجي ء!
فجاءت صلاة العصر، ثم لم يزالوا ينتظرونه، كلّ ذلك يرسلون إليه، فلا يأذن لهم حتّى صلّيت العتمة و لم يجئ، و مكث الناس جلوسا حتّى غلبهم النعاس، فقاموا فأقبلوا يصلّون عليها جمعا جمعا و ينصرفون.
فلمّا صلّيت الصبح أرسل إليهم خالد: صلّوا عليها و ادفنوها! فصلّى عليها شيبة بن النطاح «1».
يقول الشعراني: إنّ السيدة سكينة بنت الحسين هي التي بمصر، و قبرها بالقاهرة، بالقرب من السيدة نفيسة رضي اللّه عنها، و لكنّه قد قيل: إنّ السيدة سكينة توفّيت بالمدينة المنوّرة و دفنت بها، و هناك
قول آخر، يقول: إنّها توفّيت بمكّة يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول سنة ستّ و عشرين و مائة.
و إذن، فمن هي سكينة التي يوجد مشهدها بالقاهرة؟
لقد أزال الإمام السخاوي في كتابه «تحفة الأحباب» هذا الإبهام، و حلّ هذا الإشكال، فقال: إنّ السيدة سكينة التي بمصر هي السيدة سكينة بنت الإمام علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب.
و كان سبب قدومها إلى مصر أنّ الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان خطبها، و بعث بمهرها إلى المدينة، فحملها أخوها إلى مصر، فقالت له: و اللّه لا كان لي بعلا. فلمّا
______________________________
(1). الأغاني 14: 173.
أهل البيت في مصر ،ص:272
وصلت إلى أبواب مصر مات الأصبغ في الليلة التي وصل ركبها فيها، و ماتت بكرا في مصر، و هي أقدم وفاة من السيدة نفيسة رضي اللّه عنها «1».
و يفهم من ذلك أنّ الأصبغ حين حال عمّه عبد الملك بينه و بين الزواج من سكينة الكبرى بنت الحسين، أراد أن يصل نسبه بابنة أخيها سكينة الصغرى، و كلتاهما يطلق عليهما بنت الحسين.
و هذا هو ما نميل إليه؛ لأنّه الذي يوافق الصواب، و اللّه أعلم.
______________________________
(1). تحفة الأحباب: 94.
أهل البيت في مصر ،ص:273
صافيناز كاظم
بنات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أزواج أبنائه و أهل بيته، سافرات الوجوه، حاسرات الشعر، ممزّقات الثياب. يهجم الناهبون على خيامهنّ، بعد المذبحة، و التمثيل بالأشلاء التي كانت أقمار البيت النبوي.
يسرق الناهبون كلّ شي ء حتّى ثوب المرأة من فوق جسدها، و الواحدة تصارع الناهب؛ لتبقى على نفسها القليل الذي يسترها. ناهب كربلائي يبكي و يده لا تكفّ عن الانتزاع و السرقة، و تسأله السيدة زينب: «لما ذا تبكي؟» فيقول في قحّة و هو مسترسل في نحيبه و سرقته: إنّما أبكي لمصابكم أهل البيت!
و من الخارج يأتي صوت سنان بن أنس، الذي اجتزّ رأس الحسين، يغنّي فائزا:
أوقر ركابي فضّة و ذهباإنّي قتلت السيّد المحجبا
قتلت خير الناس أمّا و أباو خيرهم إذ ينسبون نسبا!
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «رساليات في البيت النبوي» ط. دار الزهراء، القاهرة 1987 م.
أهل البيت في مصر ،ص:274
موكب السبايا الكريمات، عرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يسقن إلى الكوفة، إلى بيت الإمارة، الذي كان يسكنه الإمام علي و هو أمير للمؤمنين، و عنوان للحكم الإسلامي كما ينبغي. المسكن الذي شهد زينب عزيزة دارسة للحكمة على يد النموذج الإسلامي الفذّ، الذي ربّاه و نشّأه الرسول المفدّى بخلق القرآن، و مثل الإسلام: من نافسك في دينك فنافسه، و من نافسك في دنياك فألقها في وجهه!
يجلس مكان الإمام علي بن أبي طالب- الذي لا يخشى في اللّه لومة لائم- أنجس أهل الأرض طرّا: عبيد اللّه بن زياد. مفتون جلف، وغد مغرور، لا يرعى في المسلمين إلّا و لا ذمّة، نسي اللّه فأنساه نفسه، خلقه اللّه إنسانا، فجعل نفسه بهيمة لا ترى إلّا شهوتها في يد صاحبها: يزيد بن معاوية، فلا
تبلغ إلّا وجهته.
رأس الحسين بين يدي هذا العبيد اللّه بن زياد، جمار نار لم يستشعر سعيرها بعد، بل يرتاح للطمها و العبث بها! و كلمات الرسول صلّى اللّه عليه و آله معلّقة بقلوب السبايا: «إيّاكم و المثلة و لو بالكلب العقور!».
لكن ها هو ذا الكلب العقور يمثّل بابن الرسول صلّى اللّه عليه و آله!
من وجوه السبايا يبرز- في لقطات قريبة متعاقبة- وجه زينب بنت علي، أخت الحسين، تخطّت الخمسين من عمرها، و صوت الحسين الأخير ما يزال في أذنها:
«يا أختاه! لا تنسيني في نافلة الليل ... يا أخية: لا يذهبنّ بحلمك الشيطان!»
ثم وجه الرباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين، على مشارف الثلاثين، و صوت الحسين في أذنيها: «إنّي أقسم عليك فأبري قسمي: لا تشقّي عليّ جيبا، و لا تخمشي عليّ وجها!»
ثم وجه كالزنبقة المتفتّحة، تخضله الدموع و يرهقه الفزع، و يمنعه الإباء عن الانكسار أو الانهيار، هو وجه الصبية الوضيئة: سكينة بنت الحسين، في ربيعها الثالث عشر، مثلها لا يراها رجل إلّا من محارمها أو زوجها، مثلها يظلّ وجها سرّا،
أهل البيت في مصر ،ص:275
يحتال عليه الواصفون فلا يعرفونه، حتّى يلقى اللّه نقيّا مصونا!
بيد أنّ البدر الآن قد سرق ستره، و ها هو ذا أمام الملأ مفضوح مباح، تتجوّل فيه الأعين الأجنبية براحتها، تدقّق في التفاصيل، تستوعبها و تحفظها بالذاكرة لحين تأتي لحظات الاستثمار، حين يطرح الذهب فيباع كلّ شي ء، و حين تفتح الأكاذيب سوقها و يأتي موسمها، فتشتري أقداما لتقف عليها، و تبتاع لتلفيقاتها جدارا تسند إليه!
فاليوم هو مهرجان الظلم الذي لا بدّ له من غد مؤثّث بالافتراء!
فلتعبّ العيون إذا من وجه سكينة و أخواتها، و لتجرّ من الرأس إلى القدم، تقيس الطول و العرض،
و التفاف الخصر، و تتكهّن بالاحتمالات التي سوف تنضجها سنوات الشباب الغضّ، و الأنوثة المكتملة، فهي الفرصة التي لن يتيحها الزمن القاسي ثانية، فلتختزن من اللحظة بذور الأقاصيص التي سوف تختلق، و الأشعار التي سوف تروى و تنتهك، فهناك مذبحة قادمة بعد كربلاء سوف يتمّ فيها «اغتيال الشخصية» للطاهرة النبوية، بخنجر الزور و البهتان!
ابن زياد مع الناظرين، ثم يحوّل عينيه إلى التي جلست من قبل إذنه، مشيحة عنه بوجهها، و يسأل: من هذه؟
- زينب بنت فاطمة!
فيقول: الحمد للّه الذي فضحكم، و قتلكم، و أذهب أحدوثتكم!
فتردّ العقيلة المؤمنة زينب: الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و آله، و طهّرنا من الرجس تطهيرا .. إنّما يفضح اللّه الفاسق، و يكذّب الفاجر، و هو غيرنا و الحمد للّه!
فيقول: كيف رأيت صنع اللّه في أهل بيتك؟
فتردّ: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، و سيجمع اللّه بينك و بينهم فتحاجّون إليه، فتختصمون عنده!
فيقول: لقد شفى اللّه نفسي من طاغيّتك! و العصاة المرد من أهل بيتك!
أهل البيت في مصر ،ص:276
فتردّ: لعمري لقد قتلت كهلي، و أبرت أهلي، و قطعت فرعي، و اجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت! «1»
تنتقل عينا ابن زياد فجأة لتقع على قمر:
- من هذا؟
- علي بن الحسين!
- أو لم يقتل؟
- كان لي أخ يقال له أيضا: علي، فقتله الناس.
- إنّ اللّه قد قتله!
- اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها، و ما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن اللّه!
- اقتلوه!
و تهبّ زينب: يا ابن زياد، حسبك منّا! أما رويت من دمائنا؟
و يشاء اللّه أن يتوقّف ابن زياد عن القتل، و يأمر بجعل الأغلال في يد و عنق علي بن الحسين زين العابدين، الذي يقول عنه
الخليفة عمر بن عبد العزيز بعد سنوات:
«سراج الدنيا و جمال الإسلام: زين العابدين!».
تلتصق سكينة بعمّتها الجليلة و الإباء يضني بكاءها.
أ ليس هؤلاء الذين منذ قامت دولتهم، يسبّون من فوق منابر المساجد جدّها علي بن أبي طالب، و هم على وعي كامل بحديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من سبّ عليّا فقد سبّني!» «2».
______________________________
(1). الإرشاد 2: 115- 116، إعلام الورى 1: 471- 472، الكامل في التاريخ 3: 296- 297، البداية و النهاية 8: 193.
(2). أخرجه أحمد بن حنبل في المسند 6: 323، و الحاكم في المستدرك 3: 121، و الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 130، و الشجري في أماليه 1: 136، و ابن كثير في البداية 7: 355، و المتقي الهندي في كنز العمال 11:
602 رقم 32903 كلّهم عن أمّ سلمة.
أهل البيت في مصر ،ص:277
لعلّهم من أجل ذلك بالذات يسبّون عليا!
و لو قدروا على أكثر من ذلك لفعلوا، و ها هم أولاء اليوم قد قدروا على أكثر ففعلوه، و سوف يقدرون غدا على أكثر و أكثر، و سوف يفعلونه!
إن كان هؤلاء يملئون أعينهم من وجه سكينة، و يفحصون في قحّة مكامن ملاحتها، فلتملأ هي قلبها بالوعي العميق بقدرة الباطل على خداع نفسه، حتّى يتطاول كأنّه حقّ! و لتتفحّص بعقلها التفافات النفاق حين يتّخذ إيمانه ساترا؛ ليصدّ عن سبيل اللّه!
لترى سكينة إذا في هذا المشهد و ما يليه برهان ما تعلّمته من القرآن عن الكافرين و المشركين و المنافقين، و لتتعزّ بآياته التي تتذكّر منها الآن بقوة: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ* وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 97- 99].
موكب السبايا الكريمات، و
بينهنّ علي بن الحسين الذي سخّر اللّه له المرض؛ لينجيه من المذبحة؛ ليحفظ به العترة الطاهرة من ذريّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، يسير الموكب من الكوفة إلى دمشق، إلى حيث قصر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب.
إلّا تكن نبوّة فخلافة! هكذا صار منطقهم ليعيدوا «فرسي الرهان» إلى التوازن بين بني عبد مناف و بني أمية!
قالها أبو سفيان صراحة عند موته: يا بني أمية تلقّفوها تلقّف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم، و لتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة!
و ها قد تمّ له ما أراد!
و ما كان أفدح الثمن الذي غرمه المسلمون لتتحقّق إرادة أبي سفيان!
يدخل أهل بيت النبوة قصر يزيد، تثقلهم أغلال الأسر و السبي، فلا تتحمّل نساء
أهل البيت في مصر ،ص:278
يزيد هول المشهد الفاجع؛ فيعولن نادبات منتحبات!
لا تسقط أنظار رجال يزيد عن النساء النبويات اللاتي أهتك الأسر سترهنّ، لا تبالي أنظار رجال يزيد جوّ الشؤم و البلاء، و تدور تتفحّص الحرمات العقائل.
يزيد مشغول بالتنقيب بين الرءوس المقدّمة إليه، حتّى يجد رأس الحسين، فيعبث بقضيب في يده بثنايا الإمام الحسين حيث كانت قبلات الرسول المفدّى لقرّة عينه.
أحد الرجال يحدق في سكينة «1» التي تعجبه، فيتقدّم ليأخذها:
- يا أمير المؤمنين، هب لي هذه!
في هلع تختبئ الصبية بحضن عمّتها التي تزعق:
- كذبت و لؤمت! ما ذلك لك و لا له!
تأخذ يزيد العزّة بالإثم:
- كذبت .. و و اللّه، إنّ ذلك لي، و لو شئت أن أفعله لفعلت!
وطأة اللؤم تشتدّ لكن زينب مستمرّة:
- كلا و اللّه، ما جعل اللّه ذلك لك، إلّا أن تخرج من ملّتنا، و تدين بغير ديننا! فيهب زاعقا:
- إنّما خرج من الدين أبوك و أخوك!
- بدين اللّه
و دين أبي و أخي و جدّي اهتديت يا يزيد، أنت و أبوك وجدك!
فيطير صوابه:
- كذبت يا عدوّة اللّه!
- أنت أمير مسلّط، تشتم ظالما و تقهر بسلطانك ... إنّ اللّه إن أمهلك فهو قوله:
وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً
______________________________
(1). قد ذكرت المصادر فاطمة بنت الحسين عليه السّلام و ليس سكينة كما في تاريخ أبي مخنف 1: 500، الإرشاد للمفيد 2: 121، المنتظم 5: 343- 344. و في البداية لابن كثير 8: 196- 197 «فاطمة بنت علي».
أهل البيت في مصر ،ص:279
وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178]. أ من العدل يا ابن الطلقاء تخديرك بناتك و إماءك، و سوقك بنات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كالأسارى، قد هتكت ستورهن! .. و تحدو بهنّ الأعادي من بلد إلى بلد ..، يتشوّقهنّ القريب و البعيد ... تنكث ثنايا أبي عبد اللّه بمخصرتك غير متأثّم و لا مستعظم؟! ...
أ يزيد، و اللّه ما فريت إلّا في جلدك، و لا حززت إلّا في لحمك، و سترد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برغمك ... و ستعلم أنت و من بوّأك و مكّنك من رقاب المؤمنين، إذ كان الحكم ربّنا و الخصم جدّنا، و جوارحك شاهدة عليك، أيّنا شرّ مكانا و أضعف جندا؟ ...
فلئن اتّخذتنا في هذه الحياة مغنما، لتجدنّنا عليك مغرما، حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك، تستصرخ بابن مرجانة- عبيد اللّه بن زياد- و يستصرخ بك، تتعاوى و أتباعك عند الميزان، و قد وجدت أفضل زاد تزوّدت به: قتل ذريّة محمد صلّى اللّه عليه و آله «1».
تهدأ سكينة و تقف معتدلة شامخة جوار العمّة التي
أنطقها اللّه «برغم الموت و الضرّاء و الحزن»، بكلّ ألسنة البلغاء الصادقين الأباة، من بيت النبوّة؛ لتظلّ كلماتها مأثورات، تستجمع قلوب المستضعفين في قوة، لمواجهة أعتى الظالمين و المستكبرين.
و يتقدّم الفظّ بعد هذا كلّه ليلحّ على أخذ سكينة:
- يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية!
فيردّه يزيد في حنق:
- اغرب، وهب اللّه لك حتفا قاضيا!
و تعود سكينة مع الركب الحزين، عائدين إلى مدينتهم، ناصرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله المدينة المنوّرة.
______________________________
(1). راجع تاريخ أبي مخنف 1: 500- 501، الإرشاد للمفيد 2: 121، المنتظم 5: 344، البداية و النهاية 8:
196- 197.
أهل البيت في مصر ،ص:280
* امرؤ القيس بن عدي بن أوس: سيد بني كلب، يدخل على عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يعلن إسلامه- و كان لا يزال على نصرانيته- حوالي 22 ه، قبل استشهاد عمر رضي اللّه عنه عام 23 ه. علي بن أبي طالب يلحق بامرئ القيس فور إسلامه و يطلب منه المصاهرة، فيقسم امرؤ القيس بناته الثلاث: المحيّاة لعلي، و سلمى للحسن، و الرباب للحسين، و معهنّ: «مرحبا بكم آل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله!» «1».
* تتأجّل الزيجات بسبب أحداث متتالية، تدخل فيها ظروف الخلافة بعد استشهاد عمر، و انشغال الحسن و الحسين في الجهاد ضمن جيش الفتح الإسلامي، و خروجهما في الجيش الزاحف إلى إفريقيا بقيادة عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح عام 27 ه في عشرة آلاف من المهاجرين و الأنصار، و يعودان من الغزوة بعد ما يزيد على العام، حين يتمكّن الحسين من الزواج من الرباب بنت امرئ القيس، بعد أن تكون قد بلغت سنّ الزواج.
* تكون الرباب أحبّ زوجات الحسين إلى قلبه، و تكون الرباب
أهنأ الزوجات بزوجها، و تلد له عبد اللّه، و بعده بسنوات تلد آمنة و تناديها: سكينة عام 47 ه «2».
* تترعرع سكينة هانئة بين أبوين متحابّين رغم خضمّ الأحداث الشرسة المائجة حول بيتها، و بين إخوة أربعة:
1- شقيقها عبد اللّه، الذي يستشهد مع أبيه في كربلاء.
2- علي الأكبر، و أمّه هي ليلى بنت أبي مرة: بنت أخت معاوية بن أبي سفيان، و قد استشهد مع أبيه في كربلاء بسيوف ابن خاله يزيد!
3- علي الأصغر، و هو علي زين العابدين، و أمّه سلافة بنت يزدجرد، آخر ملوك
______________________________
(1). تقدّم الكلام حول هذه المسألة.
(2). كتاب سكينة بنت الحسين للدكتورة بنت الشاطئ، ط. القاهرة.
أهل البيت في مصر ،ص:281
فارس، و هو الوحيد الذي بقي من أبناء الحسين، يحمل ذريّة رسولنا المفدّى، صلوات ربّي و سلامه عليه و على آله، ولد عام 38 ه، عرفه الناس في طفولته و صباه، و شبابه و كهولته، حتّى وفاته و عمره 57 عاما: عابدا، زاهدا، فقيها، عالما من أشهر البكّائين- ورعا- في الإسلام.
4- جعفر و أمّه من قبيلة بليّ.
و أخت واحدة هي فاطمة، و أمّها أمّ إسحاق بنت طلحة بن عبيد اللّه التميمي.
* تعيش سكينة السنوات العشر الأولى من عمرها في بيت النبوة، تحت حكم معاوية، يكون فيها عمّها الحسن قد آثر الانقطاع للعلم و الفقه، و يكون والدها الحسين قد شارك في فتح إفريقيا و طبرستان، و في غزو القسطنطينية عام 49 ه، و يكون متواصلا مع ذلك في حلقات العلم التي يعقدها في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حتّى ليقول معاوية و هو في دمشق لرجل من رجاله: «إذا دخلت مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرأيت
حلقة، فيها قوم كأنّ على رءوسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبد اللّه الحسين، مؤتزرا إلى أنصاف ساقيه». و يكون عمّها الحسن قد استشهد، مقتولا بسمّ دسّه له معاوية ليتحلّل من عهده، و يجمع البيعة المنكرة لابنه يزيد عام 50 ه، و هي لم تتعدّ الثالثة، لكنّها تستشعر طقس غضب البيت النبوي، و إحساسه المكثّف بالظلم و الغدر، و التزام الحسين بمبدإ: «لا مبايعة ليزيد» انطلاقا من التزامه بمصلحة الإسلام: دينا، و حكومة، و حقّا للمسلمين في عنقه.
* في تلك السنوات العشر، بل الثلاث عشرة، منذ مولدها 47 ه حتّى سفرها إلى مكة مع الحسين في موسم الحج (12/ 60 ه) قبل السير إلى كربلاء، تكون سكينة، ككلّ نماذج البيت النبوي، و المسلمين الصالحين الملتزمين، قد حفظت القرآن و وعته و درسته، و تشرّبت مبدئيات و أخلاقيات الرساليات الداعيات من بيت النبوّة، و أمامها قدوتها المثلى: عمّتها زينب بنت فاطمة بنت خديجة، ذريّة بعضها من بعض، نشأتهنّ تربية محمد صلّى اللّه عليه و آله على الزهد و التقى و الجهاد، و التحرّج حتّى في الحلال،
أهل البيت في مصر ،ص:282
بعيدات عن اللغو و التفاهة، و الهذر و فتنة الدنيا، التي لا تفتأ تغالب كلّ مجتمع، حتّى و لو كان مجتمعا يحكمه الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فما بال مجتمع أغرقته ثروات الفتوحات، و غزته الميول و الأهواء لتسحبه تدريجيا من طقس الجدّية و الالتزام، في عصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الراشدين، إلى ردّة الترف و الشعر العائد لمجون الجاهلية و خمرها، و مجالس القيّان و الخلاعة، و ثرثرة الأخباريّين و رواياتهم المختلقة أو الحقيقية عن نوادر البيوت و فضائحها.
*** أينما تلفّتت سكينة في
تلك المرحلة- الآمنة نسبيا في حياتها العاصفة- لم تكن لترى في أبيها و عمّتها و إخوتها و أبناء عمومتها و أهلها إلّا سياجا نورانيا، يعتصم من فتنة الدنيا بمدارسة القرآن و الحديث، و الاعتكاف و التهجّد و التعبّد، و القنوت بالأدعية الخاشعة، التي ضمتها حافظة أهل البيت، مأثورات عن جدّهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، أو إبداعا من دعاء قلوبهم الصافية، متوجّها في تسابيح للّه سبحانه و تعالى.
يكمل هذا الجوّ من البشر الإسلامي المحبّة و السكينة، التي كان الحسين يلمسها خاصّة عند زوجته الرباب، التي نادت طفلتها آمنة باسم «سكينة» عنوانا لبيتها مع الحسين الذي لم يجد حرجا في تحية أهله بأبيات تقول:
لعمري إنّني لأحبّ داراتكون بها سكينة و الرباب
أحبّهما و أبذل كلّ مالي و ليس لعاتب عندي عتاب! «1» و إذا كان الحسين قد ملكه كلّ هذا الحبّ لسكينة و أمّها، أ فلا يعني هذا، و هو إمام المسلمين، أنّه رآهما على خير ما يودّ أن يراه في نموذج الزوجة المسلمة، و الابنة المسلمة، و هو الذي «ما رئي إلّا عاكفا على العبادة و الجهاد ... جهادا مع النفس، و مع الباطل أينما كان» على حدّ قول الدكتورة بنت الشاطئ.
______________________________
(1). روى ابن كثير الأبيات في البداية 8: 211 نقلا عن الزبير بن بكّار باختلاف يسير.
أهل البيت في مصر ،ص:283
و يؤكّد هذا قول الحسين للحسن المثنّى- ابن أخيه الحسن- الذي ذهب إليه خاطبا واحدة من بناته:
- اخترت لك ابنتي فاطمة، فهي أكثر ابنتي شبها بأمي فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إنّها لذات دين و جمال ... أمّا سكينة، فغالب عليها الاستغراق مع اللّه، فلا تصلح لرجل «1».
* سكينة في
المدينة عام 61 ه بعد المذبحة بقليل في إطار عمّتها زينب العائدة؛ لتواصل حمل راية الحسين: راوية و شاهدة، و فاضحة لحكم الفحشاء و المنكر و البغي، حتّى يضجّ منها والي يزيد، و يصدر عليها الحكم بالنفي من المدينة بتهمة «تهييج الخواطر، و إشاعة الغضب، و الحض على الثورة!» فترحل زينب إلى مصر في شعبان 61 ه، بعد ثمانية أشهر من المذبحة.
* تبقى سكينة مع أمّها الرباب التي لا تبقى طويلا بالمدينة، بعد رحيل زينب؛ إذ يقتلها الحزن و القهر، فتلحق بالحسين و ابنها عبد اللّه، بعد عام من استشهادهما في محرم 62 ه.
* تسافر سكينة إلى عمّتها بمصر لتعود بعد شهور إلى المدينة مرّة أخرى، تبكي وفاة العمة في رجب 62 ه.
* سكينة في الخامسة عشرة في كنف أخيها السجاد: علي زين العابدين، و عام 62 ه علامة في المدينة المنوّرة، فقد استباحها جنود يزيد ثلاثة أيام، قتلوا و نهبوا و اغتصبوا الحرمات، كما شاء لهم شيطانهم، و بعدها ساروا إلى مكّة المكرّمة، فأحرقوا الكعبة المشرّفة بعد ضربها بالمجانيق! و لا يعود الجند إلى دمشق إلّا بعد أن تأتيهم الأخبار بموت يزيد فجأة في 63 ه.
______________________________
(1). إسعاف الراغبين للصبّان: 202، و انظر السيدة سكينة ابنة الإمام الشهيد أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام لعبد الرزاق المقرم: 43 و ما بعده.
أهل البيت في مصر ،ص:284
* يموت يزيد، و لم يلبس الملك إلّا ما يزيد قليلا على السنوات الثلاث، ذبح فيها ذريّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و هتك مدينته المنوّرة، و أحرق بيت اللّه الحرام، «ثم لم تكن عاقبة هذا كلّه على آل أبي سفيان، إلّا خروج الملك منهم، و انتقاله إلى غيرهم، فقد
مات يزيد ... قتلته لذّته أشنع قتلة، فقد كان- فيما زعم الرواة- يسابق قردا فسقط عن فرسه سقطة كان فيها الموت!» «1».
* تعيش سكينة في هذا الإطار الدامي في كنف أخيها العابد، السجّاد، المتفرّغ للعلم و الفقه، القائم ليلا، باكيا داعيا متضرّعا، و هي «المستغرقة في اللّه، فما تصلح لرجل». و مع ذلك ما نلبث أن نرى الروايات و الأخبار و الواصفين لسكينة أخرى غريبة عن هذا كلّه، متناقضة منطقيا و فكريا و دينيا مع عواصف حياتها، و إطار منشئها، و مبدئية دينها. واصفون لها ما عرفوا لها شكلا و لا ملمحا إلّا يوم كشف وجهها مع نساء أهل البيت في كربلاء و سقط حجابها، فاستبيح جلال جمالها بالتحدّث عنه و التغزّل فيه و الافتراء عليها .. إيذاء في قالب تمجيد و مباهاة!
بينما تأخذنا الصفات لنرى: خديجة السكن، و فاطمة الزهراء و البتول، و زينب العقيلة الهاشمية، نجد سكينة و قد ألحقوا بها: الغادة الهاشمية! أو الحسناء القرشية! أو صاحبة الطرّة السكينية! بزعم أنّها كانت لها أساليبها و أفانينها في التأنّق في الملبس و تصفيف الشعر! فتأخذ الصفات صورة «المستغرقة في اللّه فما تصلح لرجل» لتحيلها إلى صورة المفتونة بالدنيا المقبلة عليها، المشاركة في تدعيم فتنتها!! حتّى يتمهّد الطريق ليصبح- فيما بعد- معقولا، أن نرى سكينة و قد شغلت عن قضية الحسين، لتنغمس حتّى أذنيها في قضايا عمر بن أبي ربيعة الماجنة، أو نراها و قد
______________________________
(1). طه حسين «إسلاميات، الفتنة الكبرى، علي و بنوه» ط. دار الآداب، بيروت: 1031.
أهل البيت في مصر ،ص:285
انتزعت من إطار أخيها سراج الدنيا و جمال الإسلام علي زين العابدين، لتصبح طرفا في نوادر أشعب الطفيلي الجشع، و مقابلات المغنية
«عزة الميلاء»، بل و ناهية المغنّي ابن سريج عن التوبة و الإياب إلى حظيرة الورع الإسلامي!!
من رواية يقولها أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني:
«كان ابن سريج قد أصابته الريح الخبيثة، و آلى يمينا ألّا يغنّي، و نسك و لزم المسجد حتّى عوفي. ثم خرج و فيه بقيّة من العلّة، فأتى قبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و موضع مصلّاه. فلمّا قدم المدينة نزل على بعض إخوانه من أهل النسك و القراءة، فكان أهل الغناء يأتونه مسلّمين عليه، فلا يأذن لهم بالجلوس و المحادثة، فأقام بالمدينة حولا، حتّى لم يعد يحسّ من علّته بشي ء، و أراد الشخوص إلى مكّة، و بلغ ذلك سكينة بنت الحسين رضي اللّه عنه، فاغتمّت اغتماما شديدا، و ضاقت به ذرعها.
و كان أشعب يخدمها، و كانت تأنس بمضاحكته و نوادره. فقالت لأشعب: ويلك! ..
إنّ ابن سريج شاخص و قد دخل المدينة منذ حول، و لم أسمع من غنائه قليلا و لا كثيرا، و يعزّ ذلك عليّ، فكيف الحيلة في الاستماع منه و لو صوتا واحدا؟ فقال لها أشعب: جعلت فداك، و أنّى لك بذلك، و الرجل اليوم زاهد و لا حيلة فيه؟ فارفعي طمعك و امسحي بوزك تنفعك حلاوة فمك! فأمرت بعض جواريها فوطئن بطنه حتّى كادت أمعاؤه أن تخرج.
و تستمرّ الرواية في هذا النهج من السرد الفظّ البذي ء تحكي فيه كيف أرغمت بنت الحسين أشعب على الذهاب لابن سريج المغنّي التائب ليقنعه بالغناء عندها، و المغنّي يقول: كلّا و اللّه، لا يكون ذلك أبدا بعد أن تركته! حتّى يصل الأمر بأن يهدّده أشعب بالصراخ و الافتراء عليه بأبشع التهم الأخلاقية، حتّى يرضخ المغنّي، و يذهب إلى سكينة التي تضحك من
فعل أشعب اللاأخلاقي، و تأمر له بدنانير و كسوة!!!
ثم تقسم على المغنّي قائلة: برئت من جدّي إن برحت داري ثلاثا، و برئت من جدّي إن أنت لم تغنّ إن خرجت من داري شهرا، و برئت من جدّي إن أقمت في
أهل البيت في مصر ،ص:286
داري شهرا إن لم أضربك في كلّ يوم فيه عشرا، و برئت من جدّي إن حنثت في يميني أو شفعت فيك أحدا! حتّى صاح المغنّي التائب مستسلما: وا ذهاب ديناه! ...
وا فضيحتاه! ثم اندفع يغنّي!
و تستمرّ الرواية في حديث الإفك هذا- الذي يحمل وزره العظيم صاحب الأغاني و من استأجره و من صدّقه- تحكي عن سوار الذهب، الذي أرغمت سكينة الرجل على لبسه، و كيف أرسلت بعد ذلك إلى المغنّية «عزّة الميلاء» لتأتي و تغنّي مع ابن سريج، الذي منع عن التوبة؛ ليكتمل مجلس الغناء «1» في بيت حفيدة رسولنا المفدّى صلّى اللّه عليه و آله! «2».
*** كان المقصود، بمثل هذه الروايات- و هناك ما هو أفحش و أبشع منها- و بمثل إقحام اسم سكينة زورا إلى أبيات الغزل لعمر بن أبي ربيعة، أن ترفع الرهبة، و تسقط
______________________________
(1). تسالمت كلمات أهل السيرة و التاريخ على أنّ السيدة سكينة بنت الحسين عليه السّلام قد عاشت بعد مقتل أبيها عليه السّلام و رجوع القافلة الحسينية من عند يزيد إلى المدينة، عاشت في بيت أخيها الإمام زين العابدين عليه السّلام الذي عرف بالزهد و الورع و التقوى و العبادة و البكاء. هل يمكن تصوّر هذا المشهد الذي ينقله أبو الفرج في بيت هذا السيد الزاهد العابد الحزين؟!!
هذا و يضاف إليه تضافر الآثار و كلمات كثير من أئمة المسلمين و فقهائهم على حرمة الغناء. بل عن
التتارخانية: حرمته في جميع الأديان. و قال شيخ الإسلام المرغيناني: لا تقبل شهادة المغنّي في كتابه الهداية (3: 90). و حكى ابن تيمية عن ابن المنذر أنّه نقل الاتفاق على حرمة الغناء مطلقا، و إبطال إجارة المغنية (مختصر الفتاوى الكبرى: 388). و حكى القاضي عياض الإجماع على كفر مستحلّه (الفروع 3:
903). و في مفتاح الكرامة، فصل المكاسب المحرّمة عند ذكر حرمة الغناء قال: وردت خمسة و عشرون رواية صحيحة. و في جواهر الكلام: أنّها متواترة عن الإمام السجاد و ابنه الباقر و الصادق عليهم السّلام دالّة على حرمة الغناء مطلقا و إن لم يقترن بمحرم.
فإذا كان الحال هذه، فكيف يسوغ للإمام السجاد زين العابدين عليه السّلام أن يجيز لأخته سكينة ان تقيم حفلتها الغنائية في بيته؟!! إلّا أن يكون ذلك افتراء عليه و على السيدة النبيلة عليها السّلام.
غير أنّ الناظر في أحاديث الغناء التي سجّلها أبو الفرج على هذه الحرّة العفيفة الطاهرة مروية عن آل الزبير الذين عرفت عداوتهم لآل علي عليه السّلام، كما هو مشهور.
(2). نصّ الرواية مذكور بكامله عند الدكتورة بنت الشاطئ، سكينة بنت الحسين، دار الهلال: 143- 146.
أهل البيت في مصر ،ص:287
الحرمة، و تستباح سيرة العقيلة النبوية، مثلما استبيحت المدينة، و أحرقت الكعبة، من قوم لا يتأثّمون و لا يستعظمون من الاجتراء على حدود اللّه، حتّى يتمّ تجريد جمهور المسلمين من عزّة مقدّساته، و حتّى تتحطّم قياداته و تتهاوى قدواته.
فالطعنة بهذا البهتان لم تكن تعني سكينة بنت الحسين وحدها، بل كانت في صميمها مذبحة أخرى- ككربلاء- معنوية و أدبية، تغتال فيها شخصية أهل البيت، لتنتزع بالافتراء قيادتها الروحية، كما انتزعت من قبل بالغدر و الذبح قيادتها الحكومية، و لا أقول: السياسية؛ إذ
أنّ هذه القيادات السياسية و الروحية لأهل البيت لم تسقط عنهم أبدا، في أيّ يوم من الأيام، على مدى الزمن الإسلامي، على الرغم من الجهد الهائل للباطل و أعوانه في كلّ زمان و مكان!
كانت سكينة منذ حداثتها صاحبة مصحف و ذكر و ثقافة نبوية، تعكسها في ذكاء و إبداع، ورثت عن أبيها و جدّها البلاغة، و عن عمّتها الطلاقة و المبادرة بردّ الإساءة في شجاعة و رقى، و عن أمّها قول الشعر الذي تمحور حول رثاء الحسين:
إنّ الحسين غداة الطفّ يرشقه ريب المنون فما أن يخطئ الحدقة
بكف شرّ عباد اللّه كلّهم نسل البغايا و جيش المرق الفسقة! «1» ظلّت سبع سنوات، بعد كربلاء، رافضة للزواج، و المعروف شعبيا أنّها كانت مخطوبة للقاسم ابن عمها الحسن «2»، الذي استشهد في السابع من محرّم عام 61 ه،
______________________________
(1). من أبيات رثت بها أباها الشهيد عليه السّلام، يحكيها الزجاج في أماليه: 109 ط 2- مصر.
(2). تقدّم الكلام بأنّ حديث تزويج القاسم منها محض قول عار عن الصحة، لعدم الشاهد له، بل العكس- كما ذكرنا- أنّ علماء النسب و التاريخ يؤكّدون بأنّ زوجها الأول هو عبد اللّه الأكبر، أخو القاسم، ابنا الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام، منهم النسّابة أبو الحسن العمري، و العلّامة الطبرسي، و الشيخ الصبّان و أبو الفرج و المدائني .. و غيرهم.
و كذلك لأنّ القاسم آنذاك لم يدرك الحلم كما نصّ عليه أهل التاريخ و المقاتل.
أهل البيت في مصر ،ص:288
و كان من أوائل شهداء كربلاء، و لم يكن قد بلغ السابعة عشرة.
ثم زوّجها أخوها الإمام علي زين العابدين من مصعب بن الزبير أخي عبد اللّه بن الزبير، المنافس لبني أمية بعد الحسين. و كان مصعب قد تولّى إمارة
البصرة و العراق من قبل أخيه، و عند ما تزوّجته سكينة عام 67 ه، و هي في العشرين من عمرها، عادت معه إلى العراق مسترجعة سبع سنوات مضت على وقفتها العزلاء في أسر عبيد اللّه بن زياد.
كانت إقامة مصعب بالعراق إقامة قلقة مضطربة، خاض فيها حربا ضدّ المختار بالكوفة، بعد أن جاوز الحدّ في بغيه على أهلها، مستترا تحت شعار: «الثأر للحسين!» و قتل مصعب المختار، دفاعا عن أهل الكوفة، و بقيت أمامه المواجهة التي حفّزه إليها تربّص عبد الملك بن مروان به.
و حين جاءت لحظة خروجه للحرب ثقل على سكينة وداعه، و ألمّ بها دوار فأمسك بها مصعب يشجّعها:
- ما ترك أبوك يا سكينة لابن حرّ عذرا.
فقالت: وا حزناه عليك يا مصعب!
و كانت المرة الأولى التي تصرّح فيها بحبّها لزوجها.
فالتفت إليها: أ كان كلّ هذا لي عندك؟
فقالت: و ما أخفي أكثر!
فقال و قد أزفت لحظة الرحيل: لو كنت أعلم، لكان لي و لك يا سكينة شأن آخر! و مشى يردّد:
و إن الألى بالطفّ من آل هاشم تأسّوا فسنّوا للكرام التآسيا! «1» و قتل مصعب بغدر من الكوفيّين عام 70 ه. و جاء المعزّون إلى قصر الإمارة
______________________________
(1). مذكور باختلاف عند الدكتورة بنت الشاطئ في كتابها «سكينة بنت الحسين: 86».
أهل البيت في مصر ،ص:289
بالكوفة لتواجههم سكينة من جديد. و ما أشبه الليلة ببارحة 61 ه، لكنّها الآن في الثالثة و العشرين تنهض ظلّا و امتدادا لزينب، لتواجه أهل الكوفة، ناظرة إليهم في تعب و ملل، و هي تقول في حزن هادئ جليل:
و اللّه يعلم أنّي أبغضكم! قتلتم جدّي عليا، و قتلتم أبي الحسين، و زوجي مصعبا، بأيّ وجه تلقونني؟ أيتمتموني صغيرة، و أرملتموني كبيرة! ... و أشاحت
بوجهها.
و خرجت من الكوفة، و من العراق!
و ظلّت بالمدينة، مجلس علم و فقه، و ثقافة نبوية حتّى توفّاها اللّه تعالى عام 117 ه، و هي في السبعين من عمرها «1».
***______________________________
(1). و هذا هو المشهور و المحكي في كتب التاريخ، مثل: تاريخ الطبري 8: 228، و تاريخ ابن الأثير 5: 71، و وفيات الأعيان ضمن ترجمتها، و كذلك في مرآة اليافعي. و به قال النووي في تهذيبه 1: 163، و ابن عماد في شذراته 1: 154.
هذا و يحكي النووي في تهذيب الأسماء 1: 163 أنّ وفاتها في الشام بعد ما رجعت إليه، و أنّ قبرها هنالك. و به قال صاحب ثمار المقاصد في ذكر المساجد: 106.
و يذهب الشعراني إلى وفاتها بمراغة من أرض مصر، و أنّ قبرها بالقرب من قبر السيدة نفيسة. انظر لواقح الأنوار 1: 23.
هذا و يذكر ياقوت الحموي في المعجم 6: 26 أنّ أهل طبرية يزعمون أنّ بظاهرها قبر سكينة بنت الحسين عليه السّلام. كما أنّ صاحب نور الأبصار يزعم أنّها توفّيت بمكة! و حيث إنّ أغلب المؤرّخين على أنّ قبرها بالمدينة، فهو بالصحة أجدر.
أهل البيت في مصر ،ص:291
حنفي المحلاوي
أكّد العديد من المؤرّخين و رواة التاريخ: أنّ السيدة سكينة رضي اللّه عليها ابنة الإمام الحسين بن علي رضي اللّه عنه. و من أشهر هؤلاء المؤرّخين: ابن خلّكان و السخاوي و الصبان و الشعراني و آخرين «2».
و السيدة سكينة- وفق ما نقله هؤلاء- اسمها الحقيقي آمنة بنت الحسين رضي اللّه عنها، و أمّها هي الرباب ابنة امرئ القيس بن عدي بن أوس سيد بني كلب.
و كانت ولادتها- على أشهر الروايات- في عام 48 ه، و اختار لها أبوها الإمام الحسين اسم «آمنة» على اسم جدّتها أم النبي صلّى اللّه عليه و آله ثم لقّبتها أمّها بسكينة «3»؛ و ذلك
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «مقابر المشاهير من آل البيت».
(2). راجع وفيات الأعيان 1: 298، تحفة الأحباب: 93، إسعاف الراغبين المطبوع بهامش نور الأبصار:
359، و انظر: المترادفات للمدائني: 64، و عيون الأخبار لابن قتيبة 2: 257، و الأغاني 14: 163 و ما بعده.
(3). قال الصبّان: المشهور على الألسنة في اسمها أنّه مكبّر بفتح السين و كسر الكاف. (إسعاف الراغبين: 202) لكن المحكي عن شرح أسماء رجال المشكاة أنّه مصغّر، أي بضمّ السين و فتح الكاف، و مثله في القاموس.
أهل البيت في مصر ،ص:292
لأنّ نفوس أهلها و أسرتها كانت تسكن إليها من فرط فرحها و مرحها و حيويتها. كما قيل عن سبب ذلك أيضا: ما لاح منها و هي طفلة من أمارات الهدوء و السكينة، و قد غلب هذا اللقلب على اسمها الحقيقي: آمنة «1».
نشأت السيدة سكينة و تربّت في أحضان والدتها الرباب، بإشراف والدها الإمام الحسين رضي اللّه عنه بالمدينة «2» .. فسلكت طريق الصلاح و التقوى .. و كان الإمام الحسين رضي اللّه عنه يحبّ
فتاته سكينة، كما كان يحبّ أمّها رباب حبّا جمّا، و روي عنه أنّه لمّا رأى الأهل يلاحظون عليه ذلك أنشدهم هذا الشعر:
لعمرك إنّني لأحبّ داراتحلّ بها سكينة و الرباب
أحبّهما و أبذل فوق جهدي و ليس لعاذل عندي عتاب
و لست لهم و إن عتبوا مطيعاحياتي أو يغيّبني التراب «3» و بدأت شخصية السيدة سكينة تظهر حين كانت تعيش في مكّة .. و لمّا بلغت الثالثة عشرة من عمرها أصبحت قبلة الأنظار لحسنها، و ظرف حديثها، و أناقتها، و سحرها، حتّى صارت مثلا يحتذى.
على أنّ مرحها و أناقتها لم تلهها عن التعبّد الذي كان يصل إلى حدّ الاستغراق.
و قد شهدت السيدة سكينة معركة كربلاء في عام 60 ه، عند ما خرجت مع والدها الإمام الحسين لملاقاة جيش يزيد بن معاوية، و عند ما قتل الإمام الحسين في هذه
______________________________
(1). و هو المشهور عند المؤرّخين، و تؤكّده رواية أبي إسحاق المالكي عنها عليها السّلام قولها: «إنّكم سميتموني باسم جدّتي أمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: آمنة بنت وهب». انظر: النجوم الزاهرة 1: 276، و الكواكب الدرّيّة للمناوي 1: 58. بينما يحكي أبو الفرج القول بأنّ اسمها: أمينة و أميمة.
(2). صحّ أن ولادتها بالمدينة، و وفاتها فيها أيضا، لكن لم يتّضح دقيقا سنة ولادتها و لا مقدار عمرها سلام اللّه عليها، و إن أمكننا القول بأنّها قاربت السبعين، بعد ملاحظة سنة وفاتها يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول سنة 117 ه، و كونها يوم الطف بالغة مبلغ النساء. انظر: تهذيب الأسماء 1: 163، نور الأبصار، 160، و ترجمتها في معارف ابن قتيبة و تذكرة الخواص و وفيات الأعيان.
(3). روى الأبيات في زهر الآداب 1: 100 باختلاف في بعض
اللفظ.
أهل البيت في مصر ،ص:293
المعركة، سيقت السيدة سكينة مع السبايا و الأسرى إلى دمشق، و ذلك مع كلّ آل البيت.
و بعد فترة إقامتها بدمشق سمح لها يزيد بن معاوية أن ترجع إلى المدينة المنوّرة في صحبة عمّتها السيدة زينب .. و هناك أقامت مع أمّها الرباب حتّى توفّيت، فأقامت السيدة سكينة مع أخيها زين العابدين حتّى تزوّجت.
و قد اختلف الرواة و المؤرّخون في عدد أزواج هذه السيدة الطاهرة، فقيل: إنّها تزوّجت اثنين، و قيل: واحدا. على أنّ جمهور الروايات تجمع على أنّهم ثلاثة، و هم:
مصعب بن الزبير، ثم عبد اللّه بن عثمان بن عفان، ثم يزيد بن عثمان بن عفّان، و قال ابن خلّكان: إنّها تزوّجت من الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان «1».
و إذا كانت السيدة سكينة قد عاصرت مقتل والدها الإمام الحسين في معركة كربلاء، فكذلك عاصرت مصرع زوجها مصعب بن الزبير الذي تولّى إمارة المدينة عام 65 ه من قبل أخيه عبد اللّه بن الزبير بن العوّام .. فبعد أن رزق مصعب بابنته من زوجته السيدة سكينة استشهد بالعراق في عام 72 ه ضدّ جيش عبد اللّه بن مروان القادم من الشام.
و بعد رحيل زوجها لازمت السيدة سكينة طاعة اللّه بالصيام نهارا و قيام الليل، و البرّ بالمساكين و الفقراء، حتّى اختارها اللّه إلى جواره في اليوم الخامس من شهر ربيع الأول عام 117 ه عن عمر يناهز السبعين عاما.
أجمع المؤرّخون و كتّاب سيرة أهل البيت رضوان اللّه عليهم أنّ السيدة سكينة ابنة الإمام الحسين رضي اللّه عنهما كانت كلّما كبرت في سنّها من بعد مولدها، كلّما كانت تزداد تأدّبا مع نفسها و مع الآخرين، ثم مع اللّه ... هذا الأمر
جعلها قد اشتهرت
______________________________
(1). يكاد ينفرد به ابن خلّكان. و قد تقدّم الحديث عن هذه المسألة.
أهل البيت في مصر ،ص:294
بين نساء آل البيت بالذكاء و حدّة الذهن، و سرعة الخاطرة، و قوّة الحجّة. و يضربون لذلك العديد من الأمثال .. و ممّا يروونه في هذا السياق: أنّ هذه السيدة الطاهرة سكينة ابنة الإمام الحسين رضي اللّه عنهما كانت تحضر في يوم من الأيام مجتمعا لمثيلاتها من الشابات، كنّ يتحدّثن فيه عن فضل الشهداء و درجاتهم عند اللّه، أمثال أمراء المؤمنين: عمر بن الخطاب، و عثمان بن عفّان، و علي بن أبي طالب، و ابنه الإمام الحسين، مستشهدات بقول اللّه تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران: 169- 170].
و كان في هذا المجتمع إحدى بنات سيدنا عثمان رضي اللّه عنه، فقالت مفتخرة بأبيها: إنّها بنت الشهيد الثاني، و فهمت السيدة سكينة بذكائها أنّ ابنة عثمان كانت تقصد بكلامها هذا أنّ أباها استشهد قبل استشهاد كلّ من الإمام علي جدّ السيدة سكينة، و الإمام الحسين والدها.
و كان ذلك قبيل دخول وقت من أوقات الصلاة، فسكتت السيدة سكينة حتّى أذّن المؤذّن، و ذكر اسم جدّها محمد صلّى اللّه عليه و آله عقب ذكر اسم اللّه تعالى، حيث قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أشهد أنّ محمدا رسول اللّه .. فاتّجهت السيدة سكينة إلى ابنة سيدنا عثمان و قالت: هذا جدّي، ذاك أبوك، فقالت ابنة سيدنا عثمان: من الآن لا أفتخر عليكم أبدا.
و لمّا بلغت السيدة سكينة رضي اللّه عنها الثالثة عشرة من عمرها، كان جسمها ناميا كأنّها بنت العشرين .. و
كانت مضرب الأمثال في العفّة و الإيمان، مع رفعة مكانتها من البيت النبوي الكريم.
و قد عاشت أخريات أيامها حيث لازمت طاعة اللّه بصيام النهار و قيام الليل، و البرّ بالفقراء و المساكين، حتّى رحلت إلى جوار ربّها.
و هناك من الرواة من ينسب إليها الكثير من الأعمال و الأقوال، و قد شكّك في ذلك فريق آخر من هؤلاء الرواة، و نحن ننقل هنا ما قيل بشأن هذه و ذاك. فقد ذكرت بعض كتب هؤلاء الرواة أنّ السيدة سكينة رضي اللّه عنها كانت تصفّف شعرها،
أهل البيت في مصر ،ص:295
أي جمتها- قصّتها- تصفيفا لم ير أحسن منه حتّى ضرب بها المثل، فقيل «جمّة سكينة» و «طرّة سكينة» «1»! و ذلك يقتضي قضاء بعض الوقت في تصفيف شعرها لتجعل منه طرّة جميلة، يستحسنها كلّ من يراها.
و ردّا على ذلك ذكر الشيخ محمد عثمان في أحد كتبه: أنّ هذه القول يناقض قول الحسين للمثنّى- ابن أخيه الحسن السبط- حينما جاء ليخطبها، فقال له عمه: إنّ سكينة مستغرقة في اللّه، تصوم النهار و تقوم الليل، فهي لا تصلح لرجل .. «2» و زوّجه أختها السيدة فاطمة النبوية.
كذلك قالوا عن السيدة سكينة: إنّ الشعراء يجتمعون في دارها .. و قد اجتمع لديها ذات يوم خمسة من فحول الشعراء، منهم: جرير بن عطية و الفرزدق و آخرون، و قد عرضوا عليها أشعارهم، فكانت تعلّق على شعر كلّ منهم بما اقتنع به صاحبه، كما قدّمت لكلّ منهم ألف دينار! إلّا جميل بثينة فأعطته ثلاثة آلاف دينار!
______________________________
(1). و حكاية تصفيف الشعر و اشتهاره كحديث أنّها كانت برزة من النساء، تجالس الأجلّة، يحكيها أبو الفرج في كتابه الأغاني 14: 159 عن الزبير بن بكار عن عمه
مصعب، و هما معروفان بعداوتهما لأبناء علي عليه السّلام على ما نبّه إليه المرزباني فقال: «انحراف الزبير بن بكار عن أهل البيت ظاهر، فلا يقبل ما جمعه من سرقات كثير الشاعر لتشيّعه و هجائه لآل الزبير» (الموشح: 154- 155).
و لعلماء الرجال و التراجم كلمتهم في هذين الرجلين تبيّن للقارئ ما هما عليه من مستوى في مقام النقل و الحديث.
يقول ابن الأثير: «كان مصعب بن عبد اللّه بن مصعب بن ثابت بن عبد اللّه بن الزبير بن العوّام منحرفا عن علي» (الكامل 7: 19 ضمن حوادث سنة 236 ه).
و يقول ابن حجر: «لم يعتمد أحمد بن علي السليماني على روايات الزبير بن بكار؛ لإكثاره الرواية عن الضعفاء» (تهذيب التهذيب 3: 313).
و يقول ابن النديم: «كان مصعب الزبيري و أبوه عبد اللّه من شرار الناس، متحاملين على ولد علي» (الفهرست: 160).
و ذكر الشيخ المفيد أنّه لم يكن الزبير بن بكار مأمونا في الحديث و لا موثوقا في النقل فيما يرويه من القذائف في حقّ أهل البيت عليهم السّلام. (المسائل السروية: 61 مسألة رقم (10).
(2). إسعاف الراغبين: 202.
أهل البيت في مصر ،ص:296
على الرغم من أنّ بعض الرواة و المؤرّخين قد شكّكوا في إقامة السيدة سكينة بالحجاز، و مع ذلك هناك فريق آخر من هؤلاء الرواة و المؤرّخين من الذين أكّدوا إقامتها بمصر، حين قدمت مع عمّتها السيدة زينب بعد معركة كربلاء، و ظلّت تعيش في دار بالقرب من دار عمّتها السيدة زينب حتّى توفّيت و دفنت بها؛ و بالتالي أقيم في هذه الدار ضريحها الموجود حاليا بالمسجد الذي يحمل اسمها.
و ممّا قيل في هذا السياق .. إنّها من بعد وصولها إلى مصر في عام 61 ه خطبها
الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان أمير مصر، و بينما هي في طريقها إلى مصر بلغها بغي الأصبغ و فجوره، فأقسمت ألّا تكون زوجة له، فاستجاب اللّه لدعائها .. فلم تصل إلى مصر حتّى كان الأصبغ قد مات.
و يشكّك الشيخ محمد عثمان في كتابه «في البيت النبوي» .. في هذه الرواية .. بل و في علاقتها بالأصبغ بن عبد العزيز بن مروان من أصله .. فيقول عن ذلك مستندا على ما جاء في كتاب «النجوم الزاهرة» من أنّ الأصبغ المذكور، لم يل إمارة مصر إلّا نيابة عن والدها في مدّة و جيزة من سنة 75 ه، قضاها والده بدمشق عند أخيه عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الخامس، فيعلم من ذلك أنّ الأصبغ لم يمت سنة إحدى و ستين، و أنّه لم يكن أميرا على مصر في تلك السنة، و أنّه في سنة إحدى و ستين المذكورة تزوّج بالسيدة سكينة مصعب بن الزبير، و كان مقيما بالمدينة المنوّرة، ثم أسندت إليه إمارتها سنة خمس و ستين هجرية «1».
______________________________
(1). حكاية أخرى من جملة الحكايات التي ينقلها أبو الفرج الأصفهاني في كتابه «الأغاني» الذي لم تكن غايته من تأليفه إلّا إمتاع النفوس و القلوب و الاذواق كمّا صرّح هو بنفسه في مقدّمته، فكتابه لا يعدو كونه مجموعة نافعة لأندية الغناء و مجتمعات اللهو و الطرب و مغاني الشرب و السمر على حدّ قول الدكتور زكي مبارك في كتابه النثر الفني 1: 235 و ما بعده. فكتاب الأغاني ما هو إلّا سجلّ للهو و السمر يدور حول-
أهل البيت في مصر ،ص:297
و من الذين أيّدوا مقدمها إلى مصر، و إقامتها فيها حتّى وفاتها، الإمام الشعراني في طبقاته، حيث قال:
إنّها مدفونة في مصر بالقرافة، بالقرب من السيدة نفيسة رضي اللّه عنها. و كذلك في طبقات المناوي و الحلبي. كما أكّد ذلك أيضا ابن زولاق فقال: إنّ أول من دخل مصر من ولد علي كرّم اللّه وجهه سكينة بنت الحسين بن علي رضي اللّه عنهم، و ذلك أنّها حملت إلى الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان ليدخل بها، فوجدته قد مات، فخرجت إلى المدينة المنوّرة .. و كذلك النسّابة العبيدي الذي قال: إنّ السيدة سكينة صحبت عمّتها السيدة زينب في خروجها إلى مصر حين أدرك الخليفة يزيد مقامها بالمدينة، فأمر أن يفرق بينها و بين الناس حتّى لا تكون فتنة.
و للدكتورة «بنت الشاطئ» رأي أوردته الدكتورة سعاد ماهر في كتابها عن المساجد و الأولياء، فيما يخصّ مكان ضريح السيدة سكينة .. و ممّا قالته عن ذلك: إنّ هذا الضريح ربّما كان من أضرحة الرؤيا، و ليس على سبيل اليقين .. هذه الأضرحة التي كانت تقام وقت الشدّة و الحروب .. فعند ما كان أحد أولياء اللّه الصالحين يشاهد رؤيا في منامه بخصوص إقامة مسجد أو ضريح لأحد أهل البيت، فكان عليه أن يقيم ذلك الضريح باسم من رآه في منامه! «1».
و بشكل عام فقد قدّم لنا العديد من رجال التاريخ و من رجال الآثار عدّة
______________________________
الطرائف و قصص الملوك أيام الجاهلية بأسلوب لا يخلو من الخيال و المرح و جذب القلوب.
و أمّا من الجانب الآخر فلا يشتمل على حقائق تاريخية يمكن الاطمئنان إليها و إن ضمّ أسانيد في رواياته و حكاياته، و بذلك فلا يمتلك قيمة علمية و لا تاريخية يمكن الاستناد إليها.
و ممّا يجدر ذكره أنّه من يراجع معجم الأدباء لياقوت 5: 160 و هو
يروي قصة عن أبي الفرج نفسه في إحدى سلوكياته الماجنة، يكتشف مستوى هذا الرجل و توجّهاته في حياته، و درجة الشناعة التي بلغها في ذوقياته!!
(1). هذه نظرية ضعيفة جدا، فلا يعقل أن يقوم جمع من العلماء و العقلاء ببناء مسجد و ضريح لمجرّد الرؤيا! و من الصحيح أن نقول: إنّه كانت بأيديهم وثائق و أدلّة، لم تصل لأيدينا، و من ثم فلا بدّ أن نتابع الأمر، حتّى نصل إلى الحقيقة التاريخية لكلّ ضريح و مقبرة و مسجد بني باسم الأولياء أو آل البيت في مصر أو غيرها من البلاد الإسلامية.
أهل البيت في مصر ،ص:298
دراسات عن هذا الضريح، و صفوا فيها مكانه و تطوّره عبر الزمان.
فقد أشار إليه علي باشا مبارك في خططه، فقال: إنّه أقيم بحي الخليفة عن شمال الذاهب إلى القرافة الصغرى .. و كان في بدايته زاوية صغيرة، ثم ألحق بالضريح مسجد أقامه الأمير عبد الرحمن كتخدا عام 1174 م، ثم أجرى فيه عباس باشا عمارة، و له ثلاثة أبواب غير الميضأة، اثنان على الشارع، مكتوب على وجه أحدهما:
حرم به بنت الحسين مورّخ بسكينة تصب المواهب كلّها و على وجهه الآخر:
ذا مسجد يا آل طه مؤرّخ شمس هدى بنت الحسين سكينة و الثالث: الباب المقبول في الجهة القبلية، و يفتح على درب الأكراد، مكتوب:
لك مظهر بنت الحسين مؤرّخ لج هاهنا التابوت فيه سكينة و هذا المسجد تقام فيه الشعائر، و يشتمل على ستة أعمدة من الرخام، و منبر من الخشب النقي، و دكّة، و فيه خلوتان، يسكنهما الخدمة، و مدفن قديم لصاحب البحر و أخيه صاحب النهر الحنفيّين المشهورين. و بجوار القبّة شبّاك مطلّ على ضريح السيدة سكينة رضي اللّه عنها، و هو ضريح مجلّل بالبهاء
و النور، عليه تابوت من الخشب من داخل مقصورة كبيرة من النحاس الأصفر متقن الصنع، من إنشاء المرحوم عباس باشا.
و يحيط بذلك قبّة جميلة مرتفعة، بها أربعة أعمدة من الرخام، و إيوان صغير يجلس عليه القرّاء في ليالي الحضرة، و بأسفلها إزار من خشب ارتفاعه نحو متر، و بأعلاها نقوش، و على وجه بابها: «رحمة اللّه و بركاته عليكم أهل البيت، إنّه حميد مجيد» و حضرتها كلّ ليلة خميس، و لها مولد كلّ سنة قبل مولد السيدة نفيسة رضي اللّه عنها «1».
______________________________
(1). راجع الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك، المجلد الخامس.
أهل البيت في مصر ،ص:299
و كان ضريح السيدة سكينة قبل عهد الخديوي عباس الثاني منخفضا عن سطح الأرض، فرفع الضريح إلى ما يقرب من مستوى سطح المسجد، و أحيط بمقصورة من النحاس شبيهة بالموجودة في مشهد السيدة نفيسة رضي اللّه عنها .. كما جدّد الخديوي عباس ذلك الضريح و مسجد السيدة نفيسة، و ما زالت تلك التجديدات موجودة إلى الآن، ثم قامت وزارة الأوقاف بآخر عمارة للمسجد و للضريح، على الشكل الذي نراه عليه الآن.
أهل البيت في مصر ،ص:301
الدكتورة سعاد ماهر
أمّا عن ضريح السيدة سكينة الذي يقع بحيّ الخليفة بالقاهرة، بالشارع المسمّى باسمها، فقد اختلف المؤرّخون في صحّة وجودها به، و الذين يقولون بوجودها بمصر يعتمدون على القصة التالية: خطبها الأصبغ بن عبد العزيز والي مصر من قبل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، فكتبت إليه تقول: «إنّ أراضي مصر وخمة» فبنى لها «مدينة الأصبغ»، و لكنّ هذا الأمر لم يرق في عين الخليفة، فحسده و كتب إليه: أن تأخذ ولاية مصر أو سكينة! فكفّ عن زواجها.
و قال ابن زولاق: إنّ أول من دخل مصر
من ولد علي كرّم اللّه وجهه سكينة بنت الحسين بن علي رضي اللّه عنهم، و ذلك أنّها حملت إلى الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان ليدخل بها، فوجدته قد توفّي، فرجعت إلى المدينة، و قيل غير ذلك.
و يقول النسّابة العبيدي: إنّ السيدة سكينة صحبت عمّتها السيدة زينب في خروجها إلى مصر حين أدرك الخليفة يزيد خطر مقامها بالمدينة، فأمر أن يفرّق
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «مساجد مصر و أولياؤها الصالحون».
أهل البيت في مصر ،ص:302
بينهما و بين الناس حتّى لا تكون فتنة «1».
و تعلّق الدكتورة بنت الشاطئ على ذلك فتقول: و إذا صحّت هذه الرواية، فلعلّ السيدة سكينة قد عادت إلى الحجاز بعد وفاة عمّتها زينب سنة 62 ه «2».
و على أيّة حال، فقد ظهر في العصور الوسطى، و خاصّة في أوقات المحن و الحروب التي لا تجد فيها الشعوب من تلوذ به غير الواحد القهّار، أن يتلمّسوا أضرحة آل البيت و الأولياء للزيارة و البركة و الدعاء؛ ليكشف اللّه عنهم السوء و يرفع البلاء، و من ثم ظهر ما يعرف باسم أضرحة الرؤيا، فإذا رأى ولي من أولياء اللّه الصالحين في منامه رؤيا مؤدّاها أن يقيم مسجدا أو ضريحا لأحد من أهل البيت أو الولي المسمّى في «الرؤيا» فكان عليه أن يقيم الضريح أو المسجد باسمه «3».
و المسجد الموجود حاليا يرجع إلى عهد عبد الرحمن كتخدا سنة 1173 ه، ثم جدّدته بعد ذلك وزارة الأوقاف في القرن الثالث عشر الهجري، و على باب المقصورة النحاسية نجد لوحة تذكارية مؤرّخة سنة 1266 ه.
______________________________
(1). سكينة بنت الحسين لبنت الشاطئ: 35- 36.
(2). المصدر السابق.
(3). كما سبق أن أشرنا: أنّ هذه نظرية غير صحيحة، و لا يمكن قبولها، فلا بدّ
أن ندرس الأمور أكثر و أكثر؛ حتّى نجد الوثائق و الأدلّة الصحيحة المعقولة الموجودة عند الناس الذين قاموا ببناء هذه الأضرحة و المساجد و المشاهد، و لا يجوز أن نكتفي بنظرية «الرؤيا»!! فقط.
أهل البيت في مصر ،ص:303
بقلم مجدي فتحي السيد حنفي المحلاوي
أهل البيت في مصر ،ص:305
مجدي فتحي السيد
حفيدة من حفيدات الرسول صلّى اللّه عليه و آله، روت عن جدّتها مرسلا و أبيها حسين بن علي، و عمتها زينب بنت علي، و أخيها علي بن الحسين، و عبد اللّه بن عباس، و عائشة أم المؤمنين، و أسماء بنت عميس، و بلال المؤذّن مرسلا «2».
و روى عنها بنوها: عبد اللّه، و إبراهيم، و الحسن، و أم جعفر بنو الحسن بن الحسن، و محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، و أمّ هشام بنت زياد، و أم الحسن بنت جعفر بن الحسن.
و تعدّ من التابعيات الروايات للحديث النبوي «3»، و كانت مع أبيها أثناء مقتله في كربلاء، ثم أتي بها إلى دمشق مع إخوتها، ثم خرجت إلى المدينة.
و فاطمة بنت الحسين أمّها: أمّ إسحاق بنت طلحة بن عبيد اللّه التيمي، تزوّجها ابن عمّها حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فولدت له عبد اللّه، و إبراهيم، و حسنا، و زينب.
______________________________
(1). مقتبس من سيرة آل بيت النبي الأطهار، ط. المكتبة التوفيقية، القاهرة 2001 م.
(2). انظر الذريّة الطاهرة للدولابي: 126 و ما بعده و 135 و 144 و ما بعده، و أعلام النساء لابن عساكر: 274 ترجمة رقم (202).
(3). أعلام النساء لعلي محمد علي دخيل: 363.
أهل البيت في مصر ،ص:306
ثم مات عنها، فخلف عليها عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان، زوّجها إيّاه ابنها عبد اللّه بن حسن بأمرها، فولدت القاسم و محمدا، الملقّب بالديباج، و قد لقّب بذلك لجماله، و رقية بني عبد اللّه بن عمرو، و كان يقال لعبد اللّه بن عمرو: المطرف؛ لجماله، فمات عنها.
و استعمل عبد الرحمن بن
الضحّاك بن قيس الفهري على المدينة، فخطب فاطمة بنت الحسين فقالت: و اللّه ما أريد النكاح و لقد قعدت على بنيّ هؤلاء.
و جعلت تحاجره، و تكره أن تباديه لخوفها إيّاه، و ألحّ عليها، فقال: و اللّه لئن لم تفعلي لأجلدنّ أكبر ولدك في الخمر! يعني عبد اللّه بن الحسن.
فبينا هي كذلك، و كان على ديوان المدينة ابن هرمز، قال: فكتب إليه يزيد بن عبد الملك أن يرتفع إليه للمحاسبة، فدخل على فاطمة يودّعها، فقال: هل من حاجة؟ فقالت: تخبر أمير المؤمنين ما ألقى من ابن الضحّاك، و ما يعترض به منّي.
و بعثت رسولا بكتاب إلى يزيد تذكر قرابتها و رحمها، و ما ينال ابن الضحّاك منها، و ما يتوعّدها به.
فقدم ابن هرمز فأخبر يزيد، و قرأ كتابها، فنزل من أعلى فراشه فجعل يضرب بخيزرانة في يده، و هو يقول: لقد اجترأ ابن الضحّاك، من رجل يسمعني صوته في العذاب، و أنا على فراشي؟ ثم دعا بقرطاس فكتب إلى عبد الواحد بن عبد اللّه النصري، و هو يومئذ بالطائف: قد ولّيتك المدينة، فأغرم ابن الضحّاك أربعين ألف دينار، و عذّبه حتّى أسمع صوته، و أنا على فراشي «1».
______________________________
(1). نقل الحكاية ابن سعد في طبقاته 8: 474 و عمر رضا كحالة في أعلام النساء 4: 47. و هذا يعدّ من الخيال المفرط!! أو يقرب من قصص ألف ليلة و ليلة. إذ كيف يقدم ابن الضحّاك و بهذه الضراوة على خطبة بنت الحسين، العدوّ اللدود لبني أمية، و هو عامل لهم على المدينة، و أحد الأفراد الذين لا يتوانون في فعل أيّ شي ء من أجل كسب رضا الخليفة؟! و الأغرب من هذا غيرة يزيد المعروف عنه بهتك الحرمات
... على فاطمة إحدى بنات الرسالة اللاتي ذقن الأمرّين إبان الأسر و القهر و التطواف في البلدان بعد كربلاء!!
أهل البيت في مصر ،ص:307
و بلغ ابن الضحّاك الخبر فهرب إلى الشام، فلجأ إلى مسلمة بن عبد الملك، فاستوهبه من يزيد فلم يفعل، و قال: قد صنع ما صنع و أدعه؟!!
فردّه إلى النصري إلى المدينة، فأغرمه أربعين ألف دينار، و عذّبه، و طاف به في جبة من صوف.
و هذا جزاء من استعلى و تكبّر، و افترى و تبختر على الصالحات التقيّات، نساء آل البيت رضي اللّه عنهنّ أجمعين.
و قد كان لها كثير من الحكم و المواعظ، فمن كلامها: «ما نال أحد من أهل السفه بسفههم شيئا، و لا أدركوا من لذّاتهم شيئا، إلّا و قد ناله أهل المروءات، فاستتروا بجميل ستر اللّه».
و وقع ذكرها في صحيح البخاري، في كتاب الجنائز، قال البخاري رحمه اللّه: لمّا مات الحسن بن الحسن بن علي رضي اللّه عنهم، ضربت امرأته القبّة- الخيمة- على قبره سنة، ثم رفعت، فسمعوا صائحا يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه الآخر: بل يئسوا فانقلبوا «1».
قال ابن المنير: إنّما ضربت الخيمة هناك للاستمتاع بالميّت بالقرب منه؛ تعليلا للنفس، و تخييلا باستصحاب المألوف من الأنس، و مكابرة للحسّ، كما يتعلّل بالوقوف على الأطلال البالية، و مخاطبة المنازل الخالية، فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتفين بتقبيح ما صنعوا، و كأنّهما من الملائكة، أو من مؤمني الجنّ.
و إنّما ذكره البخاري لموافقته للأدلّة الشرعية.
و لعلّ من أشدّ المواقف تأثيرا في حياة فاطمة بنت الحسين: موقف مقتل والدها في أرض كربلاء شهيدا.
______________________________
(1). أخرجه البخاري في صحيحه 1: 446 كتاب الجنائز ب 60 ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، و ابن عساكر
في أعلام النساء: 278 برقم 202 ترجمة فاطمة بنت الحسين عليهما السّلام عن المغيرة بن شعبة.
أهل البيت في مصر ،ص:308
يروي عوانة بن الحكم فيقول: لمّا قتل الحسين، و جي ء بالأثقال و الأسارى حتّى وردوا بهم إلى الكوفة إلى عبيد اللّه بن زياد، فبينا القوم في الحبس، إذ وقع حجر في السجن، معه كتاب مربوط، و في الكتاب: خرج البريد بأمركم في يوم كذا و كذا إلى يزيد بن معاوية، و هو سائر كذا و كذا يوما، و راجع في يوم كذا و كذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل، و إن لم تسمعوا تكبيرا فهو الأمان إن شاء اللّه.
قال: فلمّا كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجر قد ألقي في السجن، و معه كتاب مربوط و موسى، و في الكتاب: أوصوا و اعهدوا، فإنّما ينتظر البريد يوم كذا و كذا.
فجاء البريد و لم يسمع التكبير، و جاء كتاب بأن سرّح الأسارى إليّ، قال: فدعا عبيد اللّه بن زياد محفز بن ثعلبة و شمر بن ذي الجوشن، فقال: انطلقوا بالثقل و الرأس إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية.
قال: فخرجوا حتّى قدموا على يزيد، فقام محفز بن ثعلبة «1» فنادى بأعلى صوته:
جئنا برأس أحمق الناس و ألأمهم!!
فقال يزيد: ما ولدت أم محفز ألأم و أحمق، و لكنّه قاطع و ظالم.
قال: فلمّا نظر يزيد إلى رأس الحسين، قال:
يفلقن هاما من رجال أعزّةعلينا و هم كانوا أعقّ و أظلما «2» ثم قال: أ تدرون من أين أوتي هذا؟ قال: أبي عليّ خير من أبيه، و أمي فاطمة خير من أمّه، و جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خير من جدّه، و أنا خير منه، و
أحقّ بهذا الأمر منه. فأمّا قوله: أبوه خير من أبي، فقد حاجّ أبي أباه، و علم الناس أيّهما حكم له،
______________________________
(1). اختلف أهل التاريخ في من قاد ركب العترة الطاهرة إلى الشام و منها إلى يزيد، و الأسماء التي عثرنا عليها كالآتي: مخفر بن ثعلبة و شمر، مخفر بن ثعلبة و شمر، مجفر بن ثعلبة العائذي و شمر، زحر بن قيس مع محقن بن ثعلبة و شمر، زفر بن قيس و أبو بردة بن عوف الأزدي و طارق بن ضبيان و غير ذلك. انظر: تاريخ أبي مخنف 1: 497، الأخبار الطوال: 260، المنتظم 5: 341، البداية و النهاية لابن كثير 8: 193.
(2). البيت من الطويل للحصين بن الحمام المري. راجع البداية و النهاية 8: 193.
أهل البيت في مصر ،ص:309
و أمّا قوله: أمّي خير من أمّه، فلعمري فاطمة ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خير من أمّي، و أمّا قوله:
جدّي خير من جدّه، فلعمري ما أحد يؤمن باللّه و اليوم الآخر يرى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فينا عدلا و ندّا، و لكنّه إنّما أتى من قبل فقهه، و لم يقرأ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ «1» [آل عمران: 26].
ثم أدخل نساء الحسين على يزيد، فصاح نساء آل يزيد و بنات معاوية، و أهله، و ولولن، ثم إنّهنّ أدخلن على يزيد، فقالت فاطمة بنت الحسين- و كانت أكبر من سكينة-: أ بنات رسول اللّه سبايا يا يزيد؟!
فقال يزيد: يا ابنة أخي، أنا لهذا كنت أكره. و في رواية أخرى قال:
بل حرائر كرام، ادخلي على بنات عمك تجدين قد فعلن ما فعلت.
قالت: و اللّه ما ترك لنا خرص «2».
قال: يا ابنة أخي! ما آت إليّ أعظم ممّا أخذ منك، ثم أخرجن فأدخلن دار يزيد بن معاوية، فلم تبق امرأة من آل يزيد إلّا أتتهنّ، و أقمن المأتم، و أرسل يزيد إلى كلّ امرأة ما ذا أخذ لك؟ و ليس منهنّ امرأة تدّعي شيئا بالغا ما بلغ إلّا قد أضعفه لها «3».
فكانت سكينة تقول: ما رأيت رجلا كافرا باللّه خيرا من يزيد بن معاوية!
ثم أدخل الأسارى إليه، و فيهم علي بن الحسين، فقال له يزيد: إيه يا علي؟!
فقرأ علي من كتاب اللّه تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ
______________________________
(1). ذكر الخبر الطبري في التاريخ 4: 657- 658، و ابن الأثير في الكامل 3: 299، و ابن الجوزي في المنتظم 5: 343.
(2). الخرص: حلقة القرط، أي: ما ترك لنا صغيرة و لا كبيرة إلّا انتهبوها منّا.
(3). انّ أدنى ملاحظة أو متابعة لأخلاق يزيد هذا، كما يحكيه تاريخه و سيرته، نجد خلاف هذا الذي يرويه ابن كثير في البداية 8: 197- 198 و هو يعزيه إلى القيل.
أهل البيت في مصر ،ص:310
وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد: 22، 23].
فقرأ يزيد عليه قوله تعالى: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30].
ثم جهّزه، و أعطاه مالا، و سرّحه إلى المدينة «1».
و في رواية أخرى قال علي بن الحسين: أما و اللّه لو رآنا رسول اللّه صلّى
اللّه عليه و آله مغلولين لأحبّ أن يحلّنا من الغلّ.
قال يزيد: صدقت، فحلّوهم من الغلّ.
قال: و لو وقفنا بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على بعد لأحبّ أن يقرّبنا.
قال: صدقت، فقرّبوهم، فجعلت فاطمة و سكينة تتطاولان ليريا رأس أبيهما، و جعل يزيد يتطاول في مجلسه ليستر عنهما رأس أبيهما، ثم أمر بهم فجهّزوا، و أصلح إليهم، و أخرجوا إلى المدينة «2».
و فاطمة بنت الحسين دخلت مع قواعد قومها على هشام بن عبد الملك- قدمته المدينة- فقال للأبرش الكلبي: كان عندي البارحة قواعد قومي، فما كان فيهنّ أخفر و لا أحيا من فاطمة بنت الحسين، و أمّها أم إسحاق بنت طلحة، و كانت قبله عند الحسن بن علي، فولدت له طلحة.
فلمّا حضرت حسنا الوفاة قال لأخيه حسين: يا أخي، لا تخرجن أم إسحاق من دوركم، فخلف على أم إسحاق الحسين بن علي بن أبي طالب.
و عاشت فاطمة بنت الحسين حتّى زوّجت ابنتها رقية من هشام بن عبد الملك،
______________________________
(1). تاريخ الطبري 5: 464، و انظر: الكامل في التاريخ 3: 299، و إعلام الورى 1: 474.
(2). أعلام النساء لابن عساكر: 276 برقم 202 ترجمة فاطمة بنت الحسين عليه السّلام. و انظر: تاريخ أبي مخنف 1: 500، و الإرشاد 2: 122، و في سمط النجوم العوالي 3: 183 تعليق بعد أن يذكر الخبر.
أهل البيت في مصر ،ص:311
و دخلت هي و سكينة عليه، فقال هشام لفاطمة: صفي لنا يا بنت حسين ولدك من ابن عمك، و صفي لنا ولدك من ابن عمنا.
فبدأت بولد الحسن، فقالت: أمّا عبد اللّه فسيّدنا و شريفنا، و المطاع فينا. و أمّا الحسن فلساننا و مدرهنا «1»، و أمّا إبراهيم فأشبه الناس
برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شمائل و تقلّعا و لونا، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا مشى تقلّع، فلا تكاد عقباه تقعان بالأرض «2».
و أمّا اللذان من ابن عمكم، فإنّ محمدا جمالنا الذي نباهي به، و القاسم عارضتنا التي نتمتّع بها، و أشبه الناس بأبي العاص بن أمية عارضة و نفسا!
فقال: و اللّه لقد أحسنت صفاتهم يا ابنة حسين، ثم وثب، فجبذت سكينة بنت الحسين بردائه، و قالت: و اللّه يا أحول، لقد أصبحت تتهكّم بنا، أما و اللّه ما أبرزنا لك إلّا يوم الطفّ.
قال: أنت امرأة كثيرة الشرّ «3».
و أعطت فاطمة بنت حسين ولدها من حسن بن حسن مورثها من حسن بن حسن، و أعطت ولدها من عبد اللّه بن عمرو مورثها من عبد اللّه بن عمرو، فوجد ولدها من حسن بن حسن في أنفسهم من ذلك؛ لأنّ ما ورثت من عبد اللّه بن عمرو أكثر، فقالت لهم:
يا بني، إنّي كرهت أن يرى أحدكم شيئا من مال أبيه بيد أخيه فيجد في نفسه، فلذلك فعلت ذلك «4».
______________________________
(1). دره عن القوم: إذا تكلّم عنهم و دافع.
(2). رويت الأخبار التي تروي صفة مشي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و انّه كان يتقلّع في مشيه، أي: كأنّه ينحدر، يريد قوة مشيه، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يرفع رجليه من الأرض إذا مشى رفعا بائنا بقوة، لا كمن يمشي اختيالا و تنعّما كما عليه النساء. انظر: روايات مشيه صلّى اللّه عليه و آله في سنن أبي داود 1: 36 حديث 143، و مسند أحمد 4: 33 و 211، و دلائل النبوة للبيهقي 1: 252.
(3). أعلام النساء لابن
عساكر: 278.
(4). المصدر السابق: 279.
أهل البيت في مصر ،ص:312
و يحدّث محمد بن عبد اللّه بن عمرو فيقول: جمعتنا أمّنا فاطمة بنت الحسين فقالت: يا بني ... إنّه و اللّه ما نال أحد من أهل السفه بسفههم، و لا أدركوا ما أدركوه من لذّاتهم، إلّا و قد أدركه أهل المروءات بمروءاتهم، فاستتروا بستر اللّه «1».
و لمّا جاءه نصيبها من الخمس، و قد نالت خمسين دينارا، فدعت يحيى بن أبي يعلى و قالت له: اكتب، فكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم لعبد اللّه عمر أمير المؤمنين، من فاطمة بنت الحسين .. سلام عليك، فإنّي أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد .. فأصلح اللّه أمير المؤمنين و أعانه على ما ولّاه، و عصم له دينه، فإنّ أمير المؤمنين كتب إلى أبي بكر بن حزم أن يقسم فينا مالا من الكتيبة، و يتحرّى بذلك ما كان يصنع من قبله من الأئمة الراشدين المهديّين، فقد بلغنا ذلك و قسّم فينا، فوصل اللّه أمير المؤمنين، و جزاه من وال من خير ما جزى أحدا من الولاة، فقد كانت أصابتنا جفوة و احتجنا إلى أن يعمل فينا بالحقّ، فأقسم لك باللّه يا أمير المؤمنين، لقد اختدم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من كان لا خادم له، و اكتسي من كان عاريا، و استنفق من كان لا يجد ما يستنفق.
و بعثت إليه رسولا. قال: فأخبرني الرسول قال: فقدمت عليه، فقرأ كتابها، و إنّه ليحمد اللّه و يشكره، و أمر لي بعشرة دنانير، و بعث إلى فاطمة بخمسمائة دينار، و قال:
استعيني بها على ما يعروك، و كتب إليها يذكر فضلها، و فضل أهل بيتها، و يذكر ما أوجب
اللّه لهم من الحقّ. قال: فقدمت عليها بذلك المال «2».
عاشت فاطمة بنت الحسين، و عمرت حتّى ماتت، و قد قاربت التسعين سنة،
______________________________
(1). تاريخ بغداد 5: 386، أعلام النساء لابن عساكر: 279.
(2). أعلام النساء: 279.
أهل البيت في مصر ،ص:313
و اختلف في سنة وفاتها، فقيل: سنة عشر و مائة، و قيل: و أربع عشرة، و قيل: سنة سبع عشرة، و قيل: سنة ثماني عشرة «1».
و رجّح كثيرون أنّها توفّيت في سنة عشر و مائة «2»، و كان ذلك في خلافة هشام بن عبد الملك. فرحمها اللّه رحمة واسعة.
و ذكرت فاطمة بنت الحسين عند عمر بن عبد العزيز، و كان لها معظّما، فقيل: إنّها لا تعرف الشرّ. فقال عمر: عدم معرفتها الشرّ جنّبها الشرّ.
فرضي اللّه عن فاطمة بنت الحسين في عداد بنات حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله.
***______________________________
(1). راجع أعلام النساء لابن عساكر: 280.
(2). نور الأبصار: 385.
أهل البيت في مصر ،ص:315
حنفي المحلاوي
إنّها السيدة فاطمة النبوية ابنة الإمام الحسين ابن الإمام علي كرّم اللّه وجهه، و هي لذلك أخت السيدة سكينة من أبيها الإمام الحسين رضي اللّه عنهما، و أمّها- كما أجمعت على ذلك معظم المصادر التاريخية الإسلامية- هي أمّ إسحاق بنت طلحة بن عبيد اللّه القرشي، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة.
ولدت السيدة فاطمة النبوية في عام 45 ه، و ذلك قبل مولد أختها السيدة سكينة بنحو سنتين، و قد نشأت و ترعرعت في حجر والدها الإمام الحسين رضي اللّه عنه، و ورثت عنه التقوى و الصلاح.
و لمّا بلغت السيدة فاطمة مبلغ النساء، و اشتهرت بين مثيلاتها من النساء بالزهد و العفاف، و الجمال و الكمال، حضر إلى والدها الإمام الحسين ابن عمها الحسن بن الإمام الحسن السبط- و كلمة «سبط» هنا تعني الأمة، و قيل: ولد البنت، و الحفيد،
______________________________
(1). مقتبس عن كتاب «مقابر المشاهير من آل البيت».
أهل البيت في مصر ،ص:316
ولد الولد، و الجمع: حفدة- و ذلك لخطبة إحدى بنات عمه: فاطمة أو سكينة. فأدخله عمّه بيته و خيّره بينهما، فاستحيا أن يختار إحداهما دون الأخرى، فأخبره عمّه بأنّ سكينة مستغرقة في صوم النهار و تقوم الليل؛ و لذلك فهي لا تصلح له حاليا زوجة، و قد اخترت لك فاطمة؛ لأنّها تكبر سكينة، كما أنّها كثيرة الشبه بجدّتها فاطمة الزهراء، و بالتالي فقد زوّجها إياه، ثم رزق منها بابنهما عبد اللّه و لقّب بالمحض، أي:
الخالص، ثم رزق منها بولدين آخرين، هما: إبراهيم القمر، و الحسن المثلث «1».
على أنّ أهمّ الأحداث السياسية التي عاصرتها هذه السيدة الطاهرة فاطمة النبوية كانت معركة كربلاء، عند ما قتل والدها الإمام الحسين رضي اللّه عنه، و بعد المعركة سيقت السيدة
فاطمة النبوية مع الأسرى و السبايا إلى دمشق حيث مقرّ الخليفة يزيد بن معاوية، ثم أعيدت مع نساء آل البيت إلى المدينة المنوّرة مع عمّتها السيدة زينب و أختها السيدة سكينة بالمدينة، حيث لازمت صيام النهار و قيام الليل، و العطف على الفقراء و المساكين، حتّى توفّيت في عام 110 ه؛ و بالتالي دفن جسدها الطاهر بالبقيع «جبّانة» مدينة جدّها المصطفى صلّى اللّه عليه و آله.
و من أهمّ ما اتّصفت به السيدة الطاهرة فاطمة النبوية صاحبة المقبرة أو الضريح بمدينة القاهرة ... أنّها كانت تشبه جدّتها لأمها فاطمة الزهراء صغرى بنات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و زوجة الإمام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، كذلك كانت السيدة فاطمة النبوية ابنة الإمام الحسين رضي اللّه عنه إحدى بنات هذا الإمام الشهيد التي حضرت مع والدها معركة كربلاء، و هي الفتاة الوضيئة التي كان سيطمع فيها أحد جلساء يزيد بن معاوية حين عرض عليه رأس أبيها الإمام الحسين بدمشق في الشام.
______________________________
(1). نقلا عن كتاب «في البيت النبوي الكريم» للشيخ محمد عثمان، سلسلة كتب إسلامية ط. القاهرة.
أهل البيت في مصر ،ص:317
و ممّا يحكى عن وفاء و إحسان السيدة فاطمة النبوية: أنّه بعد مقتل أبيها، و إرسال الرأس إلى يزيد .. و بعد قرار الخليفة إرسال السيدات إلى المدينة بحراسة رجل أمين من أهل الشام، و لمّا وصلن إلى هناك بسلام، أشارت السيدة فاطمة على أختها السيدة سكينة بأنّه ما دام هذا الحارس الأمين قد أحسن إليهنّ، فلا بدّ من أن نمنحه شيئا .. فقالت السيدة سكينة: ما معي إلّا سواران، فأخذتهما السيدة فاطمة و قدّمتهما إلى هذا الحارس، فردّهما بأدب شديد و تواضع، و
قال: لو كان ما صنعته رغبة في الدنيا ما كنت اكتفي بهذا .. و اللّه ما فعلته إلّا للّه، و لقرابتكم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فشكرن له هذا الجميل، و دعون له بالخيرات «1».
و قد ظلّت حتّى أخريات أيامها تعيش مع اللّه .. في عبادته دائمة، كانت تصوم النهار و تقوم الليل .. كما كانت كثيرا ما تعطف من مالها الخاصّ على المساكين ممّن كانوا حولها «2».
السيدة زينب عمّتها، و التي تولّت تربيتها من بعد رحيل والدها الإمام الحسين رضي اللّه عنه .. هذه السيدة الطاهرة التي عاشت كلّ أيامها تتقرّب إلى اللّه بالنوافل ..
سواء و هي تعيش في المدينة أو حين مقدمها إلى مصر .. و قد تركت آثار زهدها و قربها من اللّه داخل نفس كلّ من السيدة فاطمة النبوية و أختها السيدة سكينة، حيث تولّت تربيتهما بعد رحيل والدهما و أمهما أيضا.
فإنّ ضريح- أو مقبرة- السيدة فاطمة النبوية و الذي ينسب إليها بالقاهرة الآن
______________________________
(1). البداية و النهاية لابن كثير 8: 197، الدرّ المنثور في طبقات ربّات الخدور: 361.
(2). انظر نور الأبصار: 383 فصل في مناقبها.
أهل البيت في مصر ،ص:318
عليه خلاف ... ففي الوقت الذي أشار فيه بعض المؤرّخين إلى أنّها دفنت بالبقيع بالمدينة .. أشار عدد آخر لا بأس به إلى أنّ جسدها الطاهر هو المدفون في مقبرتها الموجودة بالضريح الملحق حاليا بمسجدها الموجود بالدرب الأحمر.
و قد استند أصحاب هذا الرأي إلى أنّ السيدة فاطمة النبوية قد قدمت إلى مصر مع عمتها السيدة زينب و أختها السيدة سكينة، من بعد إبعادهما من المدينة من قبل يزيد بن معاوية، و لذلك فقد ظلّت تعيش بمصر حتّى توفّيت في عام 110 ه، و دفنت في المكان الموجود به الضريح الآن.
و من أشهر المؤرّخين الذين ذكروا ذلك: العلّامة الأجهوري في كتابه «مشارق الأنوار» حيث قال: إنّ السيدة فاطمة ابنة الإمام الحسين رضي اللّه عنه مدفونة خلف الدرب الأحمر، بزقاق يعرف باسم فاطمة النبوية، في مسجدها الجليل، و مقامها العظيم ..
و عليه من المهابة و الجلالة و الوقار ما يسرّ قلوب الناظرين .. أمّا ما اشتهر من أنّ السيدة فاطمة النبوية
مدفونة بدرب سعادة فهو غير صحيح.
و أضاف الأجهوري تعليقا على هذا القول: و على تقرير صحّة ذلك يحتمل أن يكون معبدها، و يحتمل أن تكون فاطمة النبوية أخرى من بيت النبوة. ثم أكّد ذلك أيضا الشيخ الصبّان .. و قال: إنّ ضريحها موجود بمصر، و في الموضع الموجود به حاليا «1».
و بعد فترة زمنية غير معروفة ألحق بالضريح مسجد، و هو المسجد المعروف الآن باسم مسجد النبوية الموجود بالدرب الأحمر.
و قد أنشئ في عام 266 ه، بالجهة القبلية من ذلك الضريح، و في العام نفسه ركّب على الضريح مقصورة نحاسية في غاية الروعة. و في عام 1930 م ... تمّ تجديد محراب المسجد، و كسي بطبقة من القيشاني على أشكال زخرفية بديعة.
______________________________
(1). إسعاف الراغبين: 202.
أهل البيت في مصر ،ص:319
بقلم د. حمزة النشرتي حنفي المحلاوي
أهل البيت في مصر ،ص:321
حمزة النشرتي
يقول بعض الرواة: إنّ السيدة رقيّة التي يقع مشهدها بين مشهدي السيدتين نفيسة و سكينة هي بنت الإمام علي كرّم اللّه وجهه، و إنّ أمّها هي أمّ حبيب الصهباء التغلبية، كانت أم ولد، تزوّجها علي رضي اللّه عنه، فولدت له رقية و عمر الأكبر «2»، قيل: كانا توأمين، و عاش عمر خمسا و ثمانين سنة «3».
و قال الليث بن سعد: إنّ رقيّة هذه بنت علي من فاطمة الزهراء رضي اللّه عنها «4». أهل البيت في مصر 321 من هي ..... ص : 321
بعضهم يقول: إنّها بنت الإمام علي الرضا، و هناك على باب ضريحها يوجد بيت من الشعر يشير إلى ذلك، هو:
بقعة شرّقت بآل النبي و ببنت الرضا علي رقيّة «5»
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «سيرة آل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله» المجلّد الثالث، ط. القاهرة.
(2). مروج الذهب 2: 92، نور الأبصار: 363، أعيان الشيعة 7: 34.
(3). الفصول المهمة لابن الصباغ: 188، نور الأبصار: 363.
(4). حكاه الشبلنجي في نور الأبصار: 363 عن الليث و الدار قطني.
(5). ذكر البيت الشبلنجي في كتابه: 363، لكنّه ينسبها إلى الإمام علي عليه السّلام، نقلا عن الشعراني في الباب-
أهل البيت في مصر ،ص:322
و ربّما كان هذا أقرب إلى الصواب.
و لنقرأ معا هذا التقرير الذي كتبه الأستاذ أحمد أبو كف في كتابه القيّم «آل بيت النبي في مصر» عن هذا الموضوع ... و هو يسمّى هذه المنطقة التي يوجد بها المشهد المذكور ببقيع مصر الصغير. و سمّى هذه المنطقة بهذا الاسم؛ نظرا لوجود عدّة أضرحة منسوبة لأهل البيت فيها.
و هو يقول عن ضريح السيدة رقيّة: إنّ علي مبارك في خططه التوفيقية أشار إلى أنّ هناك تكية معروفة بتكية
السيدة رقية، و هي غاية في الخفّة و النورانية، و بداخلها ضريح السيدة رقيّة، و يعلوه قبّة لطيفة، و بقربه عدّة أضرحة.
ثم يتحدّث بعد ذلك عمّا قرأه في المصادر المختلفة حول السيدة رقيّة و وجودها في مصر، فيقول: يذكر الحافظ السلفي وفاة سيدنا علي بن أبي طالب، و عدّ له من الأولاد ثلاثين ولدا، و عدّ رقيّة منهم، و قال: رقيّة هذه من الصهباء «1».
و يؤيّد ذلك ما جاء في كتاب الرياض النضرة في مناقب العشرة الذي ذكر أنّ السيدة رقيّة من بنات سيدنا علي رضي اللّه عنه «2».
و في الباب العاشر من منن الشعراني، يقول حول وجود السيدة رقيّة بمصر:
و أخبرني سيدي علي الخواص: أنّ رقيّة بنت الإمام علي كرّم اللّه وجهه، في المشهد القريب من جامع دار الخليفة، و معها جماعة من أهل البيت، و هو معروف بجامع شجرة الدر، و هذا الجامع على يسار الطالب للسيدة نفيسة، المكان الذي فيه السيدة رقيّة عن يمينه، و قيل: إنّ للسيدة رقيّة ضريحا بدمشق «3».
______________________________
العاشر من مننه قال: أخبرني يعني الخواص: أنّ رقيّة بنت الإمام علي كرّم اللّه وجهه ... الخ غير أنّ المصنّف سيأتي على ذكر هذا الرأي قريبا.
(1). الصهباء أمّ حبيب بنت عباد بن ربيعة بن يحيى بن العبد من سبي اليمامة أو سبي عين التمر، اشتراها أمير المؤمنين عليه السّلام فأولدها عمر الأطرف و رقيّة عليها السّلام.
(2). الرياض النضرة 2: 211.
(3). حكاه الشبلنجي في نور الأبصار: 363.
أهل البيت في مصر ،ص:323
أمّا ابن عين الفضلاء صاحب كتاب «مصباح الدياجي» فيقول: قال عبيد اللّه بن سعيد: بعث لي الحافظ عبد المجيد في الليل، فجئت مع الذي دعاني له، فقلت: ما تريد؟ فقال: رأيت مناما،
فقلت: ما هو؟ قال: رأيت امرأة متلفّفة، فقلت: من أنت؟
قالت: بنت علي- رقيّة- فجاءوا بنا إلى هذا الموضع، فلم نجد به قبرا. فأمر ببناء هذا المشهد، فبني. و هو مكان معروف بالدعاء.
و ربّما يقصد صاحب «مصباح الدياجي» هنا أنّ أول من بنى مشهدا على قبر السيدة رقيّة، هو الخليفة الفاطمي الحافظ لدين اللّه عام 524 ه- 544 ه.
و يؤيّد ذلك النصّ في كتاب ابن محمود السخاوي «تحفة الأحباب و بغية الطلاب في الخطط و المزارات و البقاع المباركات» حيث يقول: «و بنى هذا المشهد تميم، المكنّى بأبي تراب الحافظي» «1» أقول: كان في آخر مدّة الفواطم.
و الحافظ المنسوب إليه تميم المذكور، كانت وفاته بعد الأربعين و الخمسمائة، و قد بنى هذا المحلّ سنة ثلاث و سبعين و مائة و ألف الأمير عبد الرحمن كتخدا، و هو مشهد مقصود بالزيارة، له مولد كلّ سنة.
و يقول الشيخ الأجهوري حول مجي ء السيدة رقيّة إلى مصر: إنّ السيدة رقيّة لمّا جاءت من المدينة، اعترضها شخص من خصوم أبيها و أراد قتلها، فوقفت يده في الهواء و سقط ميّتا «2».
و لكن هذا يخالف ما ذكره صاحب كتاب «العدل الشاهد في تحقيق المشاهد» نقلا عن كتاب الشيخ محمد الصبّان «إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى و أهل بيته الطاهرين» حيث يقول: و أمّا السيدة رقيّة رضي اللّه عنها فإنّها ماتت قبل البلوغ، و محلّها بعد السيدة سكينة بشي ء يسير.
و واضح في المصادر إذا الاختلاف على السيدة رقيّة.
______________________________
(1). تحفة الأحباب: 246.
(2). نقل عنه هذه الكرامة الشبلنجي في نور الأبصار: 364.
أهل البيت في مصر ،ص:324
مصادر تقول: إنّ أمها هي السيدة فاطمة الزهراء، و أخرى ترى أنّها ليست أمّها، و إنّما أمّها أم حبيب الصهباء
التغلبية، من سبي الردّة. و البعض الثالث يرى أنّ هناك رقيّة صغرى، و رقيّة كبرى، و أنّ رقية التي في مصر هي بنت أسماء بنت عميس الخثعمية.
و هناك من المصادر من يقول: إنّ السيدة رقيّة ماتت دون البلوغ. و هناك من يرى رأيا آخر يقول: إنّ للسيدة رقيّة ضريحا بدمشق الشام.
و جمهور المؤرّخين و أصحاب السير يجمعون على أنّ للإمام علي رقيّة واحدة، من غير السيدة فاطمة الزهراء، و لكن يخالفهم في ذلك الليث بن سعد، الذي قال: إنّ السيدة رقيّة من السيدة فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».
و كما يوجد الاختلاف على من هي رقيّة المدفونة في مصر، فهناك خلاف حول أمّها، و خلاف حول موتها.
البعض يقول: إنّها جاءت إلى مصر مع السيدة زينب بنت علي أختها بعد معركة كربلاء. و البعض لا يرى هذا الرأي.
و هناك رأي له بعض المنطق، يقول: إنّ السيدة رقيّة ليست بنت الإمام علي بن أبي طالب، و ليست السيدة فاطمة الزهراء أمّها ... بمعنى أنّها ليست أخت الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما، بل يقولون: إنّ السيدة رقيّة المدفونة في مشهدها في شارع الخليفة هي بنت الإمام علي الرضا ابن الإمام الحسين بن علي «2» .. ذكر ذلك في أحد الأبحاث للشيخ محمد زكي إبراهيم، و هو من العلماء الأفاضل و رئيس جماعة العشيرة المحمدية.
و تأسيسا على هذا الرأي فإنّ السيدة عائشة بنت جعفر الصادق الراقدة في مشهدها القريب من السيدة رقيّة تعتبر عمّتها؛ لأنّ السيدة عائشة أخت الإمام موسى الكاظم المولود في عام 128 ه. كما أنّ السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور تعتبر زوجة عم
______________________________
(1). راجع نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي
المختار: 363 فصل في ذكر مناقب السيدة رقيّة.
(2). لا يخفى أنّ الإمام علي الرضا من أبناء الإمام أبي الشهداء الحسين بن علي عليهما السّلام، فهو علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عليهم السّلام، فهو إذا أحد أجداده الطاهرين، و ليس أباه.
أهل البيت في مصر ،ص:325
السيدة رقيّة. و هو إسحاق المؤتمن.
و تأسيسا على التأسيس- كما يقول المناطقة- فإنّه ربّما يكون هناك خلط جرى بين تاريخ و حياة السيدة عائشة، و بين تاريخ و حياة السيدة رقيّة ... أقول: ربّما يكون هناك خلط بين الاثنين، فهناك تشابه غريب في وفاتهما.
فالمؤرّخون يرون أنّ السيدة عائشة ماتت دون البلوغ، تماما مثلما يقولون عن السيدة رقيّة. و هذا ما نتركه للعلماء و الباحثين في تاريخ آل البيت في مصر و في غير مصر ليقولوا رأيهم، و إن كنّا نحن نميل إلى الرأي القائل بأنّ السيدة رقيّة هي بنت الإمام علي الرضا ابن موسى الكاظم، و هي ليست بالقطع بنت الإمام علي بن أبي طالب و السيدة فاطمة الزهراء.
على أنّ ذلك ينقلنا إلى قضية أخرى، بمعنى أنّ السيدة رقيّة إذا ثبت أنّها بنت الإمام علي، فهي من مواليد الربع الأول من القرن الأول الهجري، و إذا ثبت أنّها بنت الإمام علي الرضا فتكون من مواليد النصف الأول من القرن الثاني الهجري، و بالطبع شتّان ما بين التاريخين من سنوات و أحداث بالنسبة لآل البيت.
لكن- و بلا شكّ- فسواء كانت السيدة رقيّة تنتمي للقرن الأول الهجري، أو القرن الثاني الهجري، فهي بالتأكيد أيضا تنتمي لآل البيت، و هي درّة من درره النفيسة.
و على أيّة حال، فالثابت أنّ السيدة رقيّة تنتمي لآل البيت، و أنّها تنتمي إلى السيدة
فاطمة الزهراء، و أنّ الزهراء رضي اللّه عنها جدّتها، و ليست أمّها.
و يقوّي من رأينا و يدعمه ما قالته الدكتورة سعاد ماهر عميدة كلّية الآثار، و أستاذة العمارة الإسلامية فيها، و هي مهتمة بتاريخ آل البيت في مصر، تقول:
فمشهد السيدة رقية يعتبر من المشاهد الفاطمية البارزة و الباقية في مصر حتّى الآن، بجانب مشهدين فاطميين آخرين، هما مشهد السبع بنات في مصر القديمة الفسطاط و الذي شيّد عام 400 ه، و المشاهد الفاطمية في جبانة أسوان، و التي يرجع تاريخ معظمها إلى القرن الخامس الهجري.
أهل البيت في مصر ،ص:326
و بالإضافة إلى ذلك، فإنّ مشهد السيدة رقيّة يشبه أحلى و أرقّ الآثار الفاطمية في حي النحّاسين بالأزهر، و أقصد الجامع الأقمر، خاصّة واجهته الغربية، و الجامع الأقمر بني في عصر الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام اللّه عام 519 ه. إنّه يشبه تماما في واجهته الغربية مشهد السيدة رقيّة، و هذه الواجهة الغربية تعتبر من أجمل واجهات المساجد في مصر، للنقوش و الكتابات المزهرة عليها، و كلّها منحوتة في الحجر، بالإضاضة إلى تلك العقود و الحنيات المجوّفة و المقرنصات التي تتوسطها دوائر، كتب عليها: محمد و علي ... كما توجد دائرة كبيرة فوق الباب كتب عليها: بسم اللّه الرحمن الرحيم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33].
و الذي نريد أن نقوله: إنّ أغلب ما في واجهة الأقمر، يوجد مثله في مشهد السيدة رقيّة و في محاريبه الثلاثة، حتّى إنّ الناظر إليهما، و المقارن بينهما، يظنّ أنّ الجامع الأقمر، و مشهد السيدة رقيّة عملا في وقت واحد ... و لكنّ الثابت أنّ الذي بنى مشهد السيدة رقيّة هو الخليفة الفاطمي الحافظ لدين اللّه،
ثامن الخلفاء الفاطميّين، بينما الجامع الأقمر أنشئ في عهد الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام اللّه.
و ممّا يثبت أنّ السيدة رقيّة من آل البيت، و أنّ جدّتها السيدة فاطمة الزهراء، ما قيل من أنّ الفاطميّين بالذات كانوا من الحرص بحيث لا يبنون مشهدا على قبر، إلّا بعد تأكّدهم من أنّ صاحبه أو صاحبته من آل البيت، و من سلالة فاطمة الزهراء و علي بن أبي طالب بالذات.
و نحن لو عرفنا أنّ في مصر يزيد عدد المشهور من الأضرحة و المشاهد على الألف، فإنّ اهتمام الفاطميّين ببعض هذه الأضرحة و المشاهد- و منه مشهد السيدة رقيّة- دليل دامغ على أنّها في مصر. و إذا كان بناء القبّة في مصر قد تطوّر- من خلال العمارة الإسلامية- و صار لها وظيفة مهمة هي تغطية المساحات المربّعة- و فضلا عن الإشارة إلى أهمية هذا الجزء- فإنّ قبّة السيدة رقية قد بنيت لتقول: هنا ترقد السيدة الشريفة رقيّة رضي اللّه عنها.
أهل البيت في مصر ،ص:327
هذا بالنسبة للسيدة رقيّة، الراقدة في مشهدها- أو ضريحها- في شارع الخليفة، و ليس هناك اختلاف بين المشهد و الضريح، و إنّما الشيعة يطلقون على القبّة اسم «المشهد»، و أهل السنّة يطلقون عليه «الضريح»، بمعنى أنّ المشهد و الضريح اسمان لمسمّى واحد.
و لكن ما ذا عن الأضرحة أو المشاهد الموجودة في رحاب السيدة رقيّة أو في تكية السيدة رقيّة، كما يسمّيها علي باشا مبارك، في إطار بقيع مصر الصغير؟!
أول هذه المشاهد إلى يمين الداخل لمشهد السيدة رقيّة، هو قبر السيد محمد الشهير بمرتضى، و قبر زوجته السيدة زبيدة ... يقابل ذلك على يسار الداخل قبر يحمل اسم السيدة أسماء، و على بعد عدّة أمتار قبّتان أثريتان من نفس طراز قبة السيدة رقية لضريحين: أحدهما للسيدة عاتكة، و الآخر للسيد علي الجعفري ...
و لنتحدّث عن هذه الأسماء التي ذكرناها:
و نبدأ بالسيدة أسماء، فالذين يرجّحون أنّ السيدة رقية هي بنت الإمام علي بن أبي طالب، يرون أنّها أسماء بنت عميس الخثعمية، زوجة الإمام علي، و بذلك يقولون: إنّ القبر هو قبر والدة السيدة رقيّة: السيدة أسماء، أمّا هؤلاء الذين يرون أنّ السيدة رقيّة من بنات علي الرضا، فيقولون عن أسماء: إنّها كانت خادمة السيدة رقيّة و دفنت بجوارها.
و نحن نميل إلى الرأي الذي يقول: إنّ قبر السيدة أسماء هو قبر لخادمة السيدة رقيّة.
و نثنّي بقبر السيدة زبيدة، و السيد محمد الشهير بمرتضى الحسيني الزبيدي.
أهل البيت في مصر ،ص:328
و المعلومات عنهما وفيرة. وجدنا بعضها في الجبرتي، و بعضها في بقيع علي مبارك.
و السيد محمد الشهير بمرتضى الحسيني الزبيدي، كما يصفه الجبرتي هو: «الفقيه المحدّث، اللغوي النحوي، الأصولي، الناظم الناثر، أبو الفيض السيد محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق، الشهير بمرتضى الحسيني الحنفي ... جاء إلى مصر في تاسع صفر سنة سبع و ستين و مائة و ألف ... درس في مصر حتّى راج أمره و ترونق حاله، و اشتهر ذكره عند الخاصّ و العام» «1».
و الواقع أنّ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي قد أفاض في سيرة الشيخ مرتضى الحسيني، و أفرد له كثيرا من السطور و الصفحات «2»، كما أنّ هذه الشخصية فرضت نفسها على الكتّاب و الأمراء و ذوي السلطان في عصرها، و هو القرن الثاني عشر الهجري، و كما كان هذا الشيخ مشهورا في مصر، كان أيضا من المشهورين في المغرب .. يقول الجبرتي: و له عند المغاربة شهرة عظيمة و منزلة كبيرة «3».
هذا بالرغم من أنّ أصله من زبيدة اليمن.
أمّا عن زوجته السيدة زبيدة- فقد ذكر أنّها ماتت في سنة
ستّ و تسعين و مائة و ألف- فحزن عليها حزنا كبيرا، و دفنها عند المشهد المعروف بمشهد السيدة رقيّة، و عمل على قبرها مقاما و مقصورة، و ستورا و فرشا و قناديل، و لازم قبرها أياما كثيرة، و كان يجتمع عنده الناس و الفقراء و المنشدون، و يعمل لهم الأطعمة و الثريد و القهوة «4».
و يقول علي باشا مبارك: إنّ السيد محمد الشهير بمرتضى، اشترى مكانا بجوار مقبرة زوجته، و عمّره بيتا صغيرا، و فرشه، و أسكن فيه أمّها- أي أمّ زوجته- و كان يبيت به أحيانا. كما كان يقصده الشعراء بالمراثي، فيقبل منهم ذلك و يجيزهم عليه،
______________________________
(1). تاريخ عجائب الآثار 2: 103 و 104.
(2). من ص 103 إلى ص 114 من المجلّد الثاني من تاريخه.
(3). المصدر السابق: 104.
(4). المصدر نفسه: 109.
أهل البيت في مصر ،ص:329
و لحبّه الشديد لزوجته رثاها بجملة قصائد ذكرها الجبرتي.
و قد مات السيد مرتضى بالطاعون، و دفن في القبر الذي أعدّه لنفسه بجوار زوجته بمشهد السيدة رقيّة «1».
و قد عدّد علي باشا مبارك مؤلّفات الشيخ مرتضى، فذكر منها الكثير، فبجانب شرح القاموس، و شرح الإحياء له كتب أخرى منها: كتاب الجواهر المنيفة في أصول أدلّة مذهب الإمام أبي حنيفة رضي اللّه عنه، و له أيضا: كتاب العقد الثمين في طريق الإلباس و التلقين، و حكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق، و إعلام الأعلام بمناسك حجّ بيت اللّه الحرام، و رشف سلاف الرحيق في نسب حضرة الصديق، و القول المثبوت في تحقيق لفظ التابوت، و منح الفيوضات الوفية فيما في سورة الرحمن و من أسرار الصفة الإلهية، و ترويح القلوب بذكر ملوك بني أيّوب، و كثير من الكتب و المؤلّفات ذكرها الشيخ الجبرتي
«2»، و لا نستطيع حصرها في هذه السطور.
و أخيرا نأتي إلى مشهدين: للسيدة عاتكة، و للسيد علي الجعفري. فبالنسبة للسيدة عاتكة فالعامة يقولون: إنّها السيدة عاتكة عمّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله. و لكنّ الحقيقة أنّ القبر و القبّة هما للسيدة عاتكة بنت شرحبيل، زوجة محمد بن أبي بكر، كان من المتشيّعين لعلي كرّم اللّه وجهه، و له موقف ضدّ الأمويّين.
و قد ولد محمد بن أبي بكر في سنة حجّة الوداع. و لموقف محمد بن أبي بكر من الأمويّين، و وقوفه ضدّهم بعد التحكيم معروف، و بعد قتل الإمام علي رحل إلى مصر، خاصّة و أنّ مصر كانت تلعب دورا خطيرا في سياسة دولة الإسلام منذ أن دخلت الإسلام.
و ثابت أنّ السيدة عاتكة كانت مع زوجها محمد بن أبي بكر في مصر، و أنّها دفنت فيها،
______________________________
(1). المصدر: 113.
(2). المصدر المتقدم: 111.
أهل البيت في مصر ،ص:330
لكنّ تاريخها لا يزال يحتاج إلى إماطة اللثام عنه و عن زوجها محمد بن أبي بكر الصدّيق.
أمّا الضريح الثاني لسيدي علي الجعفري، فليس لصاحب الضريح ترجمة فيما تيسّر من المصادر و إن كانت الصفة التي يحملها اسمه تدلّ على أنّه ينتسب للإمام جعفر الصادق، لكن وجود هذا الضريح قرب ضريح السيدة رقيّة يدعم الرأي الذي يرى أنّ السيدة رقيّة هي بنت الإمام علي الرضا. و يجوز أن يكون سيدي علي الجعفري واحدا من أسرتها، بل ربّما كان شخصية مهمة من أبناء جعفر الصادق، تحتاج من المؤرّخين لآل البيت إلى وقفة «1».
أمّا الدكتورة سعاد ماهر فتذكر ما يأتي بالنسبة لمشهدي السيدة عاتكة و الجعفري: مشهد الجعفري هو مشهد محمد الجعفري، لا علي الجعفري «2»، و هو المعروف بمحمد الديباج ابن جعفر الصادق الذي سبق الحديث عنه.
و أمّا
مشهد عاتكة فتقول عنها: هي عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل العدوية، عاصرت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و هاجرت إلى المدينة، و كانت شاعرة حسناء، تزوّجها عبد اللّه بن أبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنهما، و قد شغلته بجمالها عن الجهاد، فأمره أبوه أن يطلّقها، فطلّقها و أنشد يقول:
يقولون طلّقها وخيم مكانهامقيما تمني النفس أحلام نائم
و إنّ فراق أهل بيت جمعتهم على كبر منّي لإحدى العظائم
أراني و أهلي كالعجول تروحت إلى بوّها قبل العشار الروائم «3»
______________________________
(1). كتاب «آل بيت النبي في مصر» لأحمد أبو كف.
(2). و لكنّه يوجد في اللوحة على الباب: «هذا مقام سيدي علي الجعفري ابن جعفر الصادق» و ليس محمدا الجعفري!
(3). أسد الغابة 7: 183. و العجول من النساء و الإبل: الوالدة التي فقدت ولدها، الثكلى لعجلتها في ذهابها و إيابها جزعا. و البوّ: ولد الناقة.
أهل البيت في مصر ،ص:331
و دخل عليه أبوه يوما و هو ينشد:
أ عاتك قلبي كلّ يوم و ليلةإليك بما تخفي النفوس معلّق
و لم أر مثلي طلق اليوم مثلهاو لا مثلها في غير جرم تطلّق
لها خلق جزل و رأي و منصب و خلق سوى في الحياء و مصدّق فرّق له أبوه و أمره أن يراجعها، فراجعها و قال:
أ عاتك قد طلّقت في غير ريبةو روجعت للأمر الذي هو كائن
كذلك أمر اللّه غاد و رائح على الناس فيه ألفة و تباين و أصيب عبد اللّه بن أبي بكر بسهم في حصار الطائف، استشهد منه بعد عودته إلى المدينة، و حزنت عليه عاتكة حزنا شديدا، ثم تزوّجها عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه و استشهد عنها، ثم تزوّجها الزبير بن العوّام فمات عنها في موقعة الجمل، ثم تزوّجت محمد بن
أبي بكر الذي تولّى إمرة مصر من قبل الخليفة علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فلمّا قتل بمصر رثته عاتكة بقولها:
إن تقتلوا و تمثّلوا بمحمدفما كان من أجل النساء و لا الخمر و خطبها علي بن أبي طالب بعد مقتل محمد بن أبي بكر، فقالت: إنّي أضنّ بك يا ابن عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على القتل.
لقد علمت أنّ كلّ من يتزوّجها يقتل، حتّى أصبح المسلمون يتندّرون قائلين: من أحبّ الشهادة فليتزوّج عاتكة!
و قيل: إنّ الحسن بن علي تزوّجها، جاء ذلك في كتاب «الاستيعاب» لابن عبد البر، و لم يذكر أنّ محمد بن أبي بكر تزوّجها، و جاء في كتاب «الأغاني» أنّ آخر أزواجها الحسين بن علي رضي اللّه عنهما «1».
______________________________
(1). راجع مساجد مصر و أولياؤها الصالحون 2: 117- 118.
أهل البيت في مصر ،ص:333
حنفي المحلاوي
ممّا لاحظناه- و نحن في سبيل البحث عن معلومات موثّقة عن هذه السيدة الطاهرة السيدة رقيّة رضي اللّه عنها ... بمناسبة الحديث عن ضريحها- وجود خلاف واضح و كبير بين عدد من المؤرّخين في من تكون هذه السيدة صاحبة الضريح؟!
و قد انقسم المؤرّخون حيال ذلك إلى فريقين ... فريق يرى: أنّ الضريح الموجود بالقاهرة هو للسيدة رقيّة بنت رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه و آله، و فريق ثان يرى أنّه للسيدة رقيّة ابنة الإمام علي رضي اللّه عنه.
كما لاحظنا في الوقت نفسه وجود خلاف كبير بين طائفة ثالثة من المؤرّخين حول الضريح نفسه .. فمنهم من قال: إنّ به جثمان السيدة الطاهرة رقيّة ... و منهم من قال: إنّ السيدة رقيّة- سواء ابنة الرسول صلّى اللّه عليه و آله أو ابنة الإمام علي- قد دفنت بأرض البقيع بالمدينة المنوّرة ...
و على ذلك فإنّ الضريح الموجود حاليا باسمها هو ضريح قد أقيم ضمن أضرحة الرؤيا.
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «مقابر المشاهير من آل البيت».
أهل البيت في مصر ،ص:334
و من أجل حسم هذا الخلاف وجدنا من الضروري التعريف بكلّ من السيدة رقيّة ابنة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و السيدة رقيّة ابنة الإمام علي رضي اللّه عنه.
أمّا بخصوص حديث التعريف بالسيدة رقيّة ابنة رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه و آله فتقول عنها كتب التاريخ: إنّها إحدى بنات الرسول صلّى اللّه عليه و آله من زوجته السيدة خديجة، و هي تصغر أختها السيدة زينب بثلاث سنوات ... زوّجها النبي صلّى اللّه عليه و آله من عتبة بن أبي لهب، و أقامت عنده إلى أن نزلت الآية الكريمة من سورة المسد تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَ
فقال أبو لهب لولده: يهجوني محمد و ابنته عندك؟! رأسي من رأسك حرام إن لم تفارق ابنة محمد! ففارقها، فتزوّجت من بعده عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه، فهاجر بها إلى الحبشة، و كانت بارعة الجمال!
و ولدت السيدة رقيّة لعثمان بن عفّان: عبد اللّه، و به يكنّى، و قد عاش هذا الولد ستّة أعوام، ثم مات بعدها. و لمّا عاد عثمان بن عفّان بزوجته من الحبشة إلى مكّة، فرحت السيدة رقيّة بلقاء أبيها صلّى اللّه عليه و آله، إلّا أنّها حزنت لمّا علمت بأنّ أمها السيدة خديجة قد توفّيت في اليوم العاشر من شهر رمضان سنة عشر من مبعثه صلّى اللّه عليه و آله و عمره خمسون عاما.
و لمّا هاجر النبي صلّى اللّه عليه و آله من مكّة إلى المدينة ... لحقت به ابنته السيدة رقيّة بصحبة زوجها عثمان بن عفّان. و لمّا خرج الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله لغزوة بدر سنة اثنتين كانت السيدة رقيّة قد مرضت بالحصبة؛ ممّا تسبّب في تخلّف عثمان بن عفّان عن الخروج في معركة بدر! و ظلّت على مرضها حتّى أوائل شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة حتّى توفّيت، و نقل جثمانها الطاهر إلى أرض البقيع لتدفن بجوار الشهداء و الصالحين «1».
و جاء في كتاب البستان- كما ذكرت الدكتورة سعاد ماهر- أنّ السيدة رقيّة ماتت
______________________________
(1). راجع طبقات ابن سعد 8: 36- 37، نساء حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله: 162 و ما بعده القسم السادس: بنات النبي صلّى اللّه عليه و آله، إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي: 153- 154 و فيه: «فطلّقها عتبة قبل أن يدخل بها، و لحقها منه أذى، فقال النبي صلّى اللّه عليه
و آله: اللّهم سلّط على عتبة كلبا من كلابك، فتناوله الأسد من بين أصحابه ..»، ربيع الشيعة لابن طاوس: 98، أعيان الشيعة 7: 34- 35.
أهل البيت في مصر ،ص:335
بعد ما خرج الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى بدر، و لمّا عاد وجدها قد ماتت، فتزوّج عثمان بن عفان أختها أم كلثوم رضي اللّه عنها.
و أمّا بالنسبة لحديث المعرفة عن السيدة رقيّة ابنة الإمام علي رضي اللّه عنه، فممّا ذكر عنها قول المؤرّخين- على لسان الحافظ السلفي- أنّ سيدنا علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنجب أطفالا، كان من بينهم السيدة رقيّة رضي اللّه عنها، كما ذكر ذلك أيضا الشيخ علي الخواصّ حيث قال: إنّ رقية بنت الإمام علي كرّم اللّه وجهه.
و الغريب أنّنا قد عثرنا في هذا السياق على قول ثالث يخصّ سيدة أخرى و اسمها رقيّة أيضا ... و هي رقية بنت الإمام علي الرضا ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام الباقر ابن الإمام زين العابدين ابن الإمام عبد اللّه الحسين رضي اللّه عنهم أجمعين، و والدها بناء على ذلك هو الإمام علي الرضا الذي ولد بالمدينة في عام 148 ه. ثم اختاره الخليفة المأمون العباسي وليّا لعهده عام 201 ه، ثم توفّي رضي اللّه عنه في آخر صفر عام 203 ه، و دفن بجوار قبر هارون الرشيد بمدينة طرطوس بالعراق «1».
و لمّا كان هناك خلاف كبير بين المؤرّخين في من تكون السيدة رقيّة صاحبة هذه المقبرة الموجودة في مصر حاليا ... فقد آثرنا التوقّف عند حدود هذه الكلمات ...
الخاصة بالصفات و الأخلاق .. و أخصّ ما نقوله في هذا الموضوع: إنّ صاحبة هذا المقام الشريف ..
تنتسب إلى آل البيت، سواء كانت هي السيدة رقيّة ابنة المصطفى صلّى اللّه عليه و آله أم كانت رقيّة غيرها ... ذلك و وفقا لما أشارت إليه الدكتورة سعاد ماهر بقولها: إنّ
______________________________
(1). هذا خطأ، و الصواب أنّ الإمام الرضا دفن في خراسان أو طوس بإيران. و قد أطلق على موقع مدفنه اسم مدينة مشهد. و هناك يوجد بجواره قبر هارون الرشيد ... و مدينة مشهد معروفة عند الجميع، يفد إليها ملايين من الناس من كلّ العالم الإسلامي لزيارة ضريح الإمام الرضا عليه السّلام.
أهل البيت في مصر ،ص:336
صاحبة هذا المشهد لا بدّ و أن تكون من آل البيت، و إلّا لما أقام الخليفة الحافظ القبّة الفاطمية التي ترجع إلى سنة 526 ه عليها ... و أضافت الدكتورة سعاد قولها: لذلك فإنّني أرجّح أن تكون صاحبة هذا المقام هي السيدة الفاضلة رقيّة بنت الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و شقيقة السيدة فاطمة الزهراء التي تنتسب إليها الدولة الفاطمية.
لقد أكّدت معظم كتب التاريخ التي تناولت المشاهد و الأضرحة ... أنّ ضريح السيدة رقيّة رضي اللّه عنها، و الموجود حاليا بشارع الخليفة، إنّما هو من مشاهد الرؤيا، و التي لا يوجد بها جثمان صاحبة المقام، و قد استند هؤلاء الذين أشاروا إلى ذلك إلى رواية ذكرها أحد السلف الصالح و يدعى عبد اللّه بن سعيد .. و جاء فيما رواه:
أنّ الحافظ عبد المجيد طلبه في الليل، فلمّا جاءه أخبره بأنّه رأى مناما ... فقلت له:
ما هو؟ قال: رأيت امرأة ملثّمة، فلمّا سألتها: من أنت؟ قالت: بنت الإمام علي ... رقيّة! لقد جاءوا بنا إلى هذه المواضع فلم نجد بها قبرا ... فأمر ببناء هذا المشهد، فبني، و هو
مكان معروف بالدعاء «1».
و قد أكّدت هذا المعنى الدكتورة سعاد ماهر حين قالت: و على أيّة حال، فسواء أ كان هذا المشهد للسيدة رقيّة صاحبة السيرة العطرة، أم رقية غيرها من آل البيت، فهي من مشاهد الرؤيا كما أجمع على ذلك كلّ المؤرّخين، مثل ابن الزيّات و السخاوي .. و غيرهما «2».
و يقع ضريح السيدة رقيّة في الربع الكبير الذي يفصل بينه و بين شارع الخليفة أو بينه و بين جامع شجرة الدرّ المقابل بابا من الحجارة، محفورا في أعلاه بيت يقول:
______________________________
(1). راجع عواصم مصر الإسلامية لحسن البزّاز 6: 241 (كتاب الشعب).
(2). انظر مساجد مصر و أولياؤها الصالحون 1: 287.
أهل البيت في مصر ،ص:337 بقعة شرّقت بآل النبي و بنت الرضا علي رقيّة و عن ذلك الموقع يقول علي باشا مبارك: يقع مشهد السيدة رقية بجوار البوّابة الموصلة إلى السيدة نفيسة، بالقرب من جامع شجرة الدرّ على يمين الذاهب من السيدة سكينة طالبا المشهد النفيسي.
كما يوجد ذلك المشهد داخل أسوار تحيط به مجموعة من الغرف، كان يطلق عليها في العصر العثماني اسم «التكية»، و يمكن الدخول إلى المشهد عن طريق سقيفة تتقدّمه، لها ثلاث فتحات معقودة، يبلغ طول هذه السقيفة 5/ 12 متر، و عرضها 5/ 2 متر.
أمّا ضريح السيدة رقيّة فهو يتكوّن من مستطيل يتوسّط ضلعه الغربي المدخل، و على جانبيه محراب، يعلو كلّا منهما شكل محّارة تتفرّع فصوصها من الوسط، كما ينقسم الضريح إلى ثلاثة أقسام: المتوسّط منها مربع يبلغ طوله خمسة أمتار، أمّا
القسمان الجانبيان فيبلغ مساحة كلّ منهما 85/ 25 أمتار، و قد غطّى سقف القسمين الجانبيين، و كذا السقيفة التي تتقدّم الضريح سقف خشب مسطّح. أمّا القسم المتوسط حيث توجد المقبرة
فتغطّيها قبّة.
أمّا عن تاريخ عمارة هذا الضريح فقد نسبه المقريزي إلى الأميرة «علم الآمرية» «1»، حيث ترجع أقدم النصوص المؤرّخة في هذا الضريح إلى عام 527 ه/ 1132 م، في شريط يدور حول رقبة القبّة، إضافة إلى كتابة أثرية أخرى بالخطّ الكوفي على التابوت الخشبي، تحمل تاريخ عام 533 ه «2».
______________________________
(1). علم، جهة مكنون، زوجة الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام اللّه، عرفت بالاحسان لسكّان مصر، و ترميم و بناء أماكن العبادة، من آثارها مسجد الأندلس شرقي القرافة الصغرى بالقاهرة، و رباط الأندلس بجانب المسجد. و أمّا أنّها عرفت بجهة مكنون لاختصاص القاضي مكنون بخدمتها، توفّيت نحو عام 545 ه.
راجع خطط المقريزي 2: 446، 454، و الأعلام للزركلي 4: 248.
(2). الآثار الإسلامية في مصر للدكتور عبد اللّه شيحة.
أهل البيت في مصر ،ص:338
و السيدة «علم الآمرية» هي زوجة الخليفة الآمر بأحكام اللّه ... و قد أمرت القاضي مكنونا الحافظي ببناء هذا الضريح.
هذا و تحتوي قبّة الضريح على 24 ضلعا، و ترتكز على مثمّنة تقوم بدورها على دلايات في أركان المربّع، و يرجع تاريخ إنشاء ذلك المشهد أو ضريح السيدة رقية، اعتمادا على المحراب الخشبي المتنقل و الموجود بمتحف الفن الإسلامي، إلى عام 528 ه/ 1134 م.
و استطاع الأستاذ «كزويل» العثور على تاريخ ذلك المشهد على القبة مع كتابات قرآنية باللون الأزرق على أرضية بيضاء. هذه الكتابات جاء في بعضها أنّ القاضي مكنونا الحافظي، الذي كان يعرف بأبي تراب، هو الذي بنى هذا المسجد بما فيه الضريح.
و أبو تراب هذا هو أبو تميم تراب الحافظ، الذي بلغ منصب الوزارة في أيام الحافظ الفاطمي.
أهل البيت في مصر ،ص:339
بقلم د. سعاد ماهر
أهل البيت في مصر ،ص:341
د. سعاد ماهر
لقد تعدّدت أسماء هذا المسجد، فقد عرف قديما بمسجد التبر، و مسجد الجميزة، و مسجد التبريز. و تسمّيه العامة: مسجد التبن، أمّا الاسم الذي يعتمد على أسانيد تاريخية صحيحة، فهو مسجد تبر أو مسجد إبراهيم.
أمّا بالنسبة لإبراهيم المقصود بالذكر هنا، فهو إبراهيم الجواد ابن عبد اللّه الملقّب بالكامل ابن الحسن المثنّى ابن الإمام الحسن السبط ابن الإمام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم.
و يقول المقريزي: «إنّ الخليفة المنصور قتله سنة خمس و أربعين و مائة، و أرسل رأسه إلى مصر، فنصبت في المسجد الجامع العتيق (جامع عمرو) «2».
و يضيف أبو المحاسن: «أنّ إبراهيم رحمه اللّه، كان ضحية الطمع و الجشع، نشأ في بلدة «باغمرى» من أعمال الكوفة». و يصف كيف جاءت الرأس إلى مصر، فيقول:
«و بينما الناس في ذلك قدم يزيد برأس إبراهيم بن عبد اللّه، فنصب في المسجد أياما،
______________________________
(1). مقتبس من كتاب «مساجد مصر و أولياؤها الصالحون» مطبوع في خمسة مجلّدات، ط. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- القاهرة.
(2). خطط المقريزي 4: 271.
أهل البيت في مصر ،ص:342
ثم طيف به، و دفن في الضاحية التي تعرف بمنية مطر» «1».
و كذلك أورد القضاعي هذه الرواية، إذ يقول: «مسجد تبر بني على رأس إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أنفذه المنصور، فسرقه أهل مصر و دفنوه هناك» «2».
و جاء في كتاب الولاة و القضاة: «ثم قدمت الخطباء إلى مصر برأس إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن علي بن أبي طالب في ذي الحجّة سنة خمس و أربعين و مائة لينصبوه في المسجد الجامع، و قامت الخطباء فذكروا أمره» «3».
و قد حقّق الشيخ
الشبلنجي الاسم في كتابه «نور الأبصار في مناقب آل البيت» و انتهى إلى أنّه هو إبراهيم بن عبد اللّه المحض أخو محمد المهدي، و كان مرضي السيرة، من كبار العلماء، و روى أنّ الإمام أبا حنيفة بايعه، و أفتى الناس بالخروج معه و مع أخيه محمد. قال أبو الحسن المعمري: قتل إبراهيم في ذي الحجّة سنة خمس و أربعين و مائة، و هو ابن ثماني و أربعين سنة، و حمل ابن أبي الكرام رأسه الشريف إلى مصر «4».
و جاء في حوادث سنة 145 ه في كتاب «العبر في خبر من غبر»: «فيها ظهر محمد بن عبد اللّه بن حسن، فخرج في مائتين و خمسين نفسا بالمدينة، فندب الخليفة المنصور لحربه ابن عمه عيسى بن موسى يدعوه إلى الإنابة، و يبذل له الأمان، فلم يسمع، ثم أنذر عيسى أهل المدينة و رغّبهم و رهّبهم أياما، ثم زحف على المدينة، فظهر عليها، و بادر محمدا و ناشده اللّه، ثم قتل في المعركة و بعث إلى المنصور» «5».
______________________________
(1). ابن تغري بردي 3: 136.
(2). راجع تاريخ القضاعي: 122- 123، و ذكره الشبلنجي في نور الأبصار: 406.
(3). الولاة و القضاة للكندي: 57، نور الأبصار: 406.
(4). نور الأبصار: 406.
(5). العبر 1: 199- 202 و قد أورده المؤلّف بتصرّف و اختصار.
أهل البيت في مصر ،ص:343
و يضيف الذهبي فيقول: و فيها (أي سنة 145 ه) خرج أخوه إبراهيم بن عبد اللّه بن حسن بالبصرة، و كان قد سار من الحجاز إلى البصرة، فدخلها سرّا في عشرة أنفس، و لمّا بلغ المنصور خروجه تحوّل فنزل الكوفة حتّى يأمن غائلة أهلها، و ألزم الناس بلبس السواد، و جعل يقتل كلّ من اتّهمه أو يحبسه، و
تهاون متولّي البصرة في أمر إبراهيم حتّى اتّسع الخرق، فجهّز المنصور لحربه خمسة آلاف، فكان بين الفريقين عدّة وقعات، و قتل خلق من أهل البصرة و واسط. و بقي إبراهيم سائر رمضان يفرّق العمال على البلدان ليخرج على المنصور من كلّ جهة فتقا، فأتاه مصرع أخيه بالمدينة قبل الفطر بثلاثة أيام، فلم يبرح أن ردّ المنصور من المدينة عيسى بن موسى فوجّهه لحرب إبراهيم «1».
و لعلّ استطرادنا في سرد تفاصيل الحوادث التي دارت بين المنصور و إبراهيم ما يبرّر جزّ المنصور لرأس إبراهيم و الطواف به في الأمصار؛ ليكون عبرة لمن تحدّثه نفسه من العلويّين للخروج عليه أو على غيره من آل العباس، فقد جاء في أحداث سنة 145 ه أنّ المنصور مكث لا يقرّ له قرار، فجهّز العساكر، و لم يأو إلى فراش خمسين ليلة. و كلّ يوم يأتيه فتق من ناحية «2».
و يضيف الحافظ الذهبي: و لو لا السعادة لثلّ عرشه بدون ذلك، فلو هجم إبراهيم بالكوفة لظفر بالمنصور، و لكنّه كان فيه دين، قال: أخاف إن هجمتها أن يستباح الصغير و الكبير. و كا