دلیل تحریرالوسیله للامام الخمینی : کتاب الوقف

اشارة

سرشناسه:سیفی، علی اکبر ،شارح.

عنوان قراردادی:تحریرالوسیله. برگزیده. شرح.

عنوان و نام پديدآور:دلیل تحریرالوسیله للامام الخمینی: کتاب الوقف/ تالیف علی اکبر السیفی المازندرانی؛ [به سفارش] موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی.

مشخصات نشر:تهران: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی (س)، 1387.

مشخصات ظاهری:643 ص.

شابک:47000 ریال:978-964-212-009-3

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.

عنوان دیگر:کتاب الوقف.

موضوع:خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368. تحریر الوسیله --نقد و تفسیر.

موضوع:فقه جعفری -- رساله عملیه.

وقف (فقه).

شناسه افزوده:خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368. تحریرالوسیله. برگزیده. شرح.

شناسه افزوده:موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی (س).

رده بندی کنگره:BP183/9/خ8ت30234577 1387

رده بندی دیویی:297/3422

شماره کتابشناسی ملی:1317763

ص: 1

اشارة

ص: 2

دلیل تحریرالوسیله للامام الخمینی: کتاب الوقف

تالیف علی اکبر السیفی المازندرانی

موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی

ص: 3

ص: 4

مقدّمة الناشر

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إنّ «تحرير الوسيلة» هو خير وسيلة يبتغيها المكلّف في سيره وسلوكه، وهو أوثقها عُرىً، وأصلحها منهاجاً؛ لِما امتاز به من سداد في تحديد الموقف العملي، وإصابة في تشخيص الوظائف المُلقاة على عاتق المكلّفين، وذلك على ضوء الدليلين: الاجتهادي والفقاهتي، النابعين من الكتاب والسنّة. ناهيك عن جمعه للمسائل العملية، ونأيه عن المسائل ذات الصبغة النظرية التي لا تمسّ إلى واقعنا المُعاش بصلة.

ولئن كتب الشهيد الأوّل قدّس اللّه نفسه الزكيّة كتاب «اللمعة الدمشقية» وهو سجين، فإنّ إمامنا العظيم نوّر اللّه ضريحه قد أ لّف هذا الكتاب حينما كان منفيّاً في مدينة بورسا التركيّة من قبل الطاغوت الغاشم، ولم يكن بحوزته إلّا «وسيلة النجاة» و «العروة الوثقى» و «وسائل الشيعة».

نعم، لم تكن بيده المباركة إلّاهذه الكتب الثلاثة، ولكنّ نفسه العلوية لو لم تكن خزانة للعلوم الحقّة، وفؤاده مهبطاً للإلهام والتحديث، لامتنع وجود هذا السِفر الخالد في تلك الظروف العصيبة.

ص: 5

ونظراً إلى أهمّية هذا الكتاب، وضرورة نشره على مختلف المستويات والأصعدة؛ لذا فقد أخذت مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره على عاتقها نشر شروح وتعاليق العلماء المحقّقين على «تحرير الوسيلة» ومن نفقتها الخاصّة.

ويعدّ الكتاب الذي بين يديك، واحداً من هذه السلسلة الضخمة التي تروم مؤسّستنا طبعها، وهو شرح لمسائل كتاب الوقف وأخواته من الحبس والصدقة من «التحرير»، تأليف الشيخ علي أكبر السيفي المازندراني دام بقائه.

نسأل اللّه تعالى أن يوفّقه وإيّانا وأن يختم لنا جميعاً بالحسنى إنّه سميع الدعاء.

مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره

فرع قم المقدّسة

ص: 6

مقدّمة المؤلّف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين أحمده استتماماً لنعمته، واستسلاماً لعزّته واستعصاماً من معصيته، وأستعينه فاقةً إلى كفايته.

والصلاة على محمّد عبده ورسوله المصطفى، أرسله بالهدى ودين الحقّ، وجعله بلاغاً لرسالته، وكرامةً لاُمّته، وأنزل عليه القرآن نوراً لاتطفأُ مصابيحه، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضلّ نهجه، وفرقاناً لا يخمد برهانه.

والسلام على آله المعصومين المكرّمين الذين هم معادن الإيمان وبحبوحاته، وينابيع العلم، وأساس الدين، وعماد اليقين.

ونسأل اللّه سبحانه أن يوفّقنا لمعرفتهم وطاعتهم، ونشر علومهم ومعارفهم، ويرزقنا شفاعتهم يوم نأتيه فرداً.

وأمّا بعد: فقد دوّنت هذا الكتاب على أساس متن «تحرير الوسيلة» للإمام الخميني الراحل قدس سره، بعد التحقيق والدراسة وإلقاء مباحثه إلى عدّة من الفضلاء وحلّ المعضلات وغوامض الإشكالات التي اوردت في حلقات البحوث.

ص: 7

والذي ينبغي أن نشير إليه هاهنا، هو أنّ منهجنا في تحقيق مسائل هذا الكتاب يبتني على أساس المراحل التالية.

1 - ابتدأنا في تحقيق الفروعات المهمّة بالتتبّع في آراء الفقهاء وتحرير أقوالهم، ولا سيّما القدماء وفحول المتأخّرين والمعاصرين وتعيين القول المشهور أو الأشهر.

وترتيب أقوالهم على أساس ما به الاختلاف بينهم.

2 - ثمّ تعرّضنا للوجوه المستَدلّ بها لكلِّ قولٍ من الأقوال المذكورة، وأشرنا إلى موافقة السيّد الماتن لواحدٍ منها. وبالطبع يتّضح وجه مخالفته لسائر الأقوال.

3 - ثمّ تعرّضنا في كلّ مسألة إلى ما ادّعي أو نقل من الإجماعات المحصّلة والمنقولة، وأشرنا إلى عدم صلاحية غالب هذه الإجماعات للدليلية؛ نظراً إلى وجود ما يصلح للدليلية من آيات الكتاب ونصوص السنّة والقواعد العامّة، وإلى أنّ استناد الأصحاب إليها في مقام الاستدلال، أو كونها في مظانّ استدلالهم بها، ينفي حجّية الإجماع؛ لعدم كشفه تعبّداً عن رأي المعصوم حينئذٍ، وفقدان ملاك حجّيته.

4 - حيث إنّا بنينا على انجبار ضعف سند الخبر بعمل المشهور، كما أثبتنا ذلك في كتابنا «مقياس الرواية». فمن هنا نوافق رأي السيّد الماتن في أمثال هذا المورد.

ولكنّه فيما إذا لم تتعارض الأخبار، وإلّا فإنّما الشهرة الروائية هي التي ترجّح بها إحدى الطائفتين المتعارضتين بعد استقرار تعارضهما، ولا تصلح الشهرة الفتوائية للدليلية على ترجيح إحدى الطائفتين حينئذٍ.

وأمّا إعراض المشهور، فليس عندنا موجباً لوهن الخبر الصحيح، وقد أثبتنا ذلك أيضاً في كتابنا المشار إليه. ولكن ذلك فيما إذا كان المخالف للمشهور جماعة معتنى

ص: 8

بهم مع تعرّضهم للمسألة ومخالفتهم، وإلّا فلو انحصر المخالف في واحد أو اثنين من القدماء أو المتأخّرين، أو لم يتعرّض سائر القدماء لعنوان المسألة أو تعارضت النصوص وكانت الموافقة منها لرأي المشهور مشتهرةً من حيث الرواية، فلا إشكال في رفع اليد عن تلك الرواية المخالفة للمشهور، وإن كانت صحيحة. وذلك إمّا لتسالم الأصحاب على خلافها أو لأجل شهرتها الروائية.

5 - قد يتّفق في خلال الاستدلال ببعض النصوص تصحيح سنده بقاعدة تبديل السند، مشيراً إلى مفاد القاعدة، كما في طريق الشيخ إلى علي بن الحسن بن الفضّال. وقد فصّلنا البحث عن هذه القاعدة في كتابنا «مقياس الرواة»، فراجع.

6 - وقد أشرنا إلى وجه تصحيح بعض الاُصول الروائية، مثل كتاب علي بن جعفر بطريق صاحب «الوسائل»، لا طريق العلّامة المجلسي في «البحار». وأيضاً أشرنا إلى ضعف بعضها الآخر في هذا الكتاب، ولكن بحثنا عن تفصيل ذلك كلّه في كتابنا المشار إليه، فراجع.

7 - وقد فحصنا عن حال آحاد الرواة الواقعين في أسناد الروايات التي يدور مدارها رحى الاستدلال والاستنباط في المسألة. ونشير إلى قواعد رجالية لإثبات أو نفي وثاقة الراوي أو اعتبار روايته. وإنّما ذلك في الرواة الذين وقع الخلاف في اعتبار رواياتهم. وبنينا في أمثال هذه الموارد على اعتبار روايات من كان صاحب أصل وكثير الرواية وواقعاً في ضمن توثيق عامّ، مع نقل أجلّاء الأصحاب عنه، وعدم ورود قدح في حقّه. وقلنا: إنّ هذه القرائن - إذا توفّرت في حقّ أحد - تورث الوثوق النوعي بحسن حاله، بل تكشف عادةً عن اعتبار روايته، بل عن وثاقته، وإلّا

ص: 9

لو كان في مثله قدحٌ لبان. وأيضاً أشرنا إلى قواعد عامّة اصولية خلال المباحث والاستدلال.

هذه الخصوصيات هي أهمّ ما يبتني عليه منهجنا في تحقيق المسائل المهمّة وبها يمتاز هذا الكتاب.

وفي الختام أرجو من الفضلاء الكرام والعلماء الأبرار أن يسامحوا موارد زلّاتي ويذكّروني في مواضع الخطأ، فإنّ أحبّ إخواني من أهدى إليَّ عيوبي. غفر اللّه لي ولكم وتقبّل منّي آمين.

علي أكبر السيفي

المازندراني

ص: 10

كتاب الوقف وأخواته

اشارة

ص: 11

ص: 12

وهو تحبيس العين وتسبيل المنفعة (1).

تحرير الوسيلة 60:2

تعريف الوقف

اشارة

1 - قد عرّف الوقف بذلك فحول الفقهاء، ولا سيّما القدماء منهم؛ نظراً إلى مناسبة لفظ التسبيل لحقيقة الوقف، التي هي العبادة.

والوجه في ذلك أمران:

أحدهما: عبادية الوقف في ارتكاز المتشرّعة واستقرار سيرتهم على قصد القربة فيه. وإنّ لفظ التسبيل - المأخوذ في تعريفه - قد اخذ فيه أيضاً قصد القربة، كما قال في الصحاح وغيره: «سبّل فلان ضيعته؛ أي جَعَلَها في سبيل اللّه».

ويشهد لذلك فهم جميع الفقهاء معنى الوقف من لفظ التسبيل الوارد في النبوي:

«حبّس الأصل وسبّل المنفعة»(1). فلو لم يكن لفظ التسبيل مناسباً لمعنى الوقف في ارتكازهم، لم يفهموه من لفظ التسبيل الذي بمعنى الجعل في سبيل اللّه.

********

(1) - مستدرك الوسائل 47:14، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1. لكن فيه: «وسبّل الثمرة».

ص: 13

ثانيهما: أنّ الوقف من قبيل الصدقات، كما في النهاية ومحكيّ المراسم ومحكيّ التذكرة والمهذّب والتنقيح وغيره، بل نسبه في الثلاثة الأخيرة وفي المسالك إلى العلماء، كما نقله في الجواهر(1).

ومن المقطوع أخذ قصد القربة في الصدقات، كما ورد في النصوص أنّها للّه تعالى. وعليه فيناسبه لفظ التسبيل.

وقال في المسالك: «عُرِّف الوقف ببعض خواصّه؛ تبعاً للحديث الوارد عنه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «حبّس الأصل وسبِّل الثمرة». والمراد بتحبيس الأصل المنع من التصرّف فيه تصرّفاً ناقلاً للملكية، وبتسبيل الثمرة إباحتها للجهة الموقوف عليها، بحيث يتصرّف فيها كيف شاء، كغيرها من الأملاك. وعدل المصنّف عنه إلى إطلاق المنفعة؛ لأ نّه أظهر في المراد من التسبيل»(2).

وقال في الحدائق: «وجملة من الأصحاب عبّروا بإطلاق المنفعة عوض لفظ التسبيل، وهو أظهر في مقابلة التحبيس، وعرّفه في الدروس بأ نّه الصدقة الجارية، قال: وثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة»(3).

ولكن نسب في الجواهر(4) إلى المتأخّرين أنّهم أبدلوا لفظ «التسبيل» بالإطلاق؛ لما قيل من أنّه أظهر في المراد بزعم ظهور لفظ التسبيل في إباحة المنفعة للجهة الموقوف عليها.

وفيه: أنّه خلاف ما يظهر من كلمات أهل اللغة في معنى لفظ التسبيل، من كونه

********

(1) - جواهر الكلام 2:28.

(2) - مسالك الأفهام 309:5.

(3) - الحدائق الناضرة 126:22.

(4) - جواهر الكلام 3:28.

ص: 14

جعل المال في سبيل اللّه وبقصد القربة؛ لأنّه ملائم لعبادية الوقف. وبذلك يتّضح ضعف تعريف الوقف بتحبيس العين وإطلاق المنفعة، كما في العروة(1) والشرائع.

ومن هنا أشكل عليه في الجواهر وجعل التعبير بالتسبيل أولى؛ حيث قال:

«إلّا أنّ المتأخّرين أبدلوه بالإطلاق لما قيل من أنّه أظهر في المراد من التسبيل الذي هو إباحتها للجهة الموقوف عليها بحيث يتصرّف كيف شاء كغيره من الأملاك، لكن في الصحاح: سبّل فلان ضيعته، أي جعلها في سبيل اللّه تعالى، ومن هنا كان التعبير بالتسبيل أولى»(2).

وحاصل توجيه التعبير بإطلاق المنفعة بدلاً عن تسبيلها: أنّ مرادهم من التسبيل في الحقيقة إباحة المنفعة للجهة الموقوف عليها، بحيث يتصرّف فيه الموقوف عليه كيف شاء كسائر الأملاك. وإنّ لفظ الإطلاق أظهر من لفظ التسبيل في إفادة هذا المراد.

ولكن قد عرفت: أنّ لفظ التسبيل يتضمّن معنى العبادية وقصد القربة الملائم لحقيقة الوقف، بخلاف لفظ الإطلاق.

فالأقوى ما اختاره السيّد الماتن قدس سره في تعريف الوقف.

أنّ الوقف من العقود

وقع الكلام في أنّ الوقف من العقود أم لا؟ ففي جامع المقاصد(3)، والمسالك(4)،

********

(1) - العروة الوثقى 279:6.

(2) - جواهر الكلام 2:28.

(3) - جامع المقاصد 11:9.

(4) - مسالك الأفهام 310:5.

ص: 15

إطباق الأصحاب على أنّه من قبيل العقود الناقلة للملك، كما نقل عنهما ذلك في الجواهر(1)، بل استظهر فيه من الإيضاح وجامع المقاصد أنّه لا خلاف في ذلك بيننا وأنّ المخالف إنّما هو بعض الشافعية. ومن هنا عدّ في الجواهر عدم اعتبار القبول مطلقاً في الوقف توهّماً في غير محلّه.

وقد استدلَّ لإثبات كون الوقف من العقود بوجهين:

أحدهما: توقّف دخول عين أو منفعة في ملك الغير على القبول، كاشفٌ عن كون سبب النقل من العقود. ولمّا كان الوقف تمليك منفعة العين وحدها أو مع الرقبة للموقوف عليه، يعتبر فيه القبول الكاشف عن كونه من العقود. كما استدلّ بذلك في جامع المقاصد(2) ونقله في الجواهر(3).

ثانيهما: أنّ الوقف لو كان إيقاعاً لم يكن الردّ مبطلاً له، وهذا منافٍ لما صرّح به الفقهاء من بطلان الوقف بردّ الموقوف عليه، وإن لم نقل باعتبار القبول فيه.

وهذان الوجهان في غاية المتانة.

ولا يخفى: أنّ تمامية الوجه الأوّل لا تبتني على دخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه. وذلك لأنّه لا إشكال ولا كلام في نقل المنفعة إلى ملك الموقوف عليه بالوقف. وإن لم نقل بكونه سبباً لنقل العين الموقوفة إلى ملك الموقوف عليه.

ومن هنا عبّر في المسالك(4) عن حقيقة الوقف بنقل المنفعة وحدها أو مع الرقبة،

********

(1) - جواهر الكلام 7:28.

(2) - جامع المقاصد 11:9.

(3) - جواهر الكلام 5:28.

(4) - مسالك الأفهام 310:5.

ص: 16

بل صرّح بأنّ الوقف في الحقيقة من قبيل الإجارة، من جهة اشتراكها في تمليك المنفعة للغير(1).

وعليه فالأقوى كون الوقف من العقود.

وأمّا عدم اعتبار قبول الموقوف عليه في الوقف العامّ؛ فإنّما هو لعدم إمكانه؛ نظراً إلى عدم إحصاء أفراده.

وكذلك الكلام في الوقف على البطون؛ لعدم وجود البطون اللاحقة، فلا يضرّ عدم اعتبار قبولهم فيه بكونه عقداً؛ لكفاية اعتبار قبول بعض أفراد الموقوف له في الوقف العامّ وقبول البطن الموجود في الوقف على البطون؛ لعدم إمكان قبول غيرهم.

هذا، وقد عرّفه في الشرائع بأنّ الوقف عقد ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة. ووافقه جماعة، كما نقل في الجواهر(2) عن القواعد والتنقيح وإيضاح النافع والكفاية.

ولكنّه مبنيٌ على اعتبار القبول في الوقف؛ إذ ما لا يعتبر فيه القبول ليس بعقد.

فمن قال باعتبار القبول في الوقف، عرّفه بالعقد، بل اكتفى بذلك عن التصريح باعتبار القبول كالمحقّق في الشرائع، كما أشار إليه في الجواهر ودفع بذلك توهُّم عدم اعتبار القبول في الوقف عند المحقّق لعدم تعرّضه له؛ حيث قال:

«وربما توهِّم من عدم تعرّض المصنّف للقبول، عدم اعتباره فيه، وكذا غيره.

ولكن فيه: أنّه يمكن اكتفاء المصنّف عنه بذكر كونه عقداً، ومن المعلوم اعتباره في معناه»(3).

********

(1) - مسالك الأفهام 365:5.

(2) - جواهر الكلام 2:28.

(3) - جواهر الكلام 5:28.

ص: 17

ولمّا لم يفت السيّد الماتن قدس سره باعتبار القبول في الوقف على الجهات العامّة، لم يأخذ العقد قيداً في تعريف أصل الوقف؛ حذراً من شموله لجميع أنحائه، حتّى الوقف العامّ.

ونحن لمّا بنينا على اعتبار القبول مطلقاً، حتّى في الوقف العامّ، ولو على نحو القبول الفعلي بقبض الحاكم أو بقبض بعض أفراد الموقوف عليه أو بشروعه في العمل بالوقف - كما سيأتي بيان ذلك - فمقتضى التحقيق عندنا كونه من العقود؛ وفاقاً للمشهور، بل المتسالم بين الأصحاب، كما يفهم من كلام المحقّق الكركي وصاحب الجواهر.

وأمّا وجه اعتبار القبول في الوقف - ولو بالقبض أو الشروع في الانتفاع - فسيأتي بيانه تفصيلاً. وأشرنا إليه في بيان الوجهين السابقين آنفاً.

ولا دليل لمدّعى الإيقاع، إلّاعدم قابلية الموقوف عليه للقبول في الوقف العامّ، وقد أجبنا عن ذلك آنفاً.

ثمّ إنّ هاهنا شبهتين ينبغي دفعهما.

الشبهة الاُولى: أنّه لو كان القبض كافياً لإثبات اعتبار القبول والعقدية، لكان القبض في الزكاة والخمس وأداء الدين دليلاً على ذلك وهو مقطوع البطلان.

والجواب: أنّ القبض إنّما يثبت اعتبار القبول ويكشف عن العقدية إذا كان في مقام القبول من جانب القابل بإزاء إيجاب صادر من الموجب وإنشاء المنشئ، لا مطلقاً. والقبض في موارد النقض إنّما هو بإزاء الدفع ومحقّق للأداء، فالقياس مع الفارق.

الشبهة الثانية: لا إشكال في اعتبار التوالي بين الإيجاب والقبول وكون الفصل بينهما مبطلاً للعقد، كما ثبت في البيع، وكذلك في المقام نظراً إلى تأخّر

ص: 18

القبض عن إيجاب الوقف بفصل زمان طويل غالباً.

والجواب: أنّ تأخير القبض في الوقف قد جرت عليه سيرة المتشرّعة وعليه ارتكازهم من القبض بعنوان القبول. ولا إشكال في استقرار هذه السيرة في الوقف العامّ، بل لا يبعد دعوى ذلك في الوقف الخاصّ.

نعم، لا بدّ من إحراز هذه السيرة. وعليه فلو لم نحرزها، فمقتضى القاعدة اعتبار التوالي بين الإيجاب والقبض في الوقف الخاصّ.

لزوم عقد الوقف

لا إشكال ولا خلاف في لزوم الوقف؛ بمعنى عدم جواز الرجوع فيه بعد تماميته بشرائطه المعتبرة، بل في الجواهر(1): عليه الإجماع بقسميه عند فقهائنا وأ نّه كالضروري في مذهبنا.

وخالف في ذلك أبو حنيفة، فجوّز للواقف الرجوع فيه، بل جوّز لورثته، إلّاأن يرضوا به بعد موته أو يحكم به حاكم فيلزم عليهم حينئذٍ، ولكن عدل تلميذه أبو يوسف عن رأيه.

نعم، يظهر من الشيخ المفيد في المقنعة ما يلوح منه المخالفة في الجملة؛ حيث نقل عنه في الجواهر أنّه قال: «الوقوف في الأصل صدقات لا يجوز الرجوع فيها إلّا أن يحدث الموقوف عليهم ما يمنع الشرع من معونتهم، والقرب إلى اللّه تعالى

********

(1) - قال قدس سره: «وكيف كان فلا خلاف ولا إشكال في أنّه إذا تمّ الوقف بجميع شرائطه المعتبرة فيه كان لازماً، لا يجوز الرجوع فيه، إذا وقع في زمان الصحّة، بل الإجماع بقسميه عليه عندنا، بل هو كالضروري من مذهبنا، خلافاً لأبي حنيفة، فجوّز للواقف الرجوع به بل لورثته، إلّاأن يرضوا به بعد موته»، راجع: جواهر الكلام 10:28.

ص: 19

بصلتهم أو يكون تغيّر الشرط في الوقف إلى غيره أردّ عليهم وأنفع لهم من تركه على حاله. وإذا أخرج الواقف الوقف عن يده إلى من وقفه عليه لم يجز له الرجوع في شيءٍ منه ولا يغيّر شرائطه ولا نقله من وجوهه وسُبُله»(1).

قوله: «وإذا أخرج الواقف الوقف...» كناية عن اشتراط الإقباض في لزوم الوقف. ثمّ إنّ صاحب الجواهر أوّل كلامه إلى انتفاء الموقوف عليه عند فقدان بعض الشرائط المعتبرة فيه، كعروض فسق أو كفر على الموقوف عليهم أو صرفهم الموقوف في جهة الفسق والفحشاء والمنكرات، أو عروض تغيُّر في الموقوف، أو طروّ مانع عن صرفه في جهة الوقف.

وقد أوّله في العروة(2) بما إذا شرط الواقف قيداً في الموقوف عليه ثمّ تخلّف ذلك القيد كما إذا وقف على أولاده بقيد عدالتهم ثمّ صاروا فسّاقاً.

ولكنّه خلاف ظاهر كلام المفيد، بل إنّما يكون مراده أنّ الوقف لمّا كان من قبيل الصدقات ويعتبر فيه قصد القربة، يبطل بإحداث الموقوف عليه وإيجادهم ما يمنع الشرع من معونته والتقرّب به إلى اللّه كتبديل العين الموقوفة إلى بيت الفواحش والبيع والكنائس.

حاصل الكلام: أنّه لا إشكال في لزوم الوقف وعدم جواز الرجوع فيه للواقف؛ نظراً إلى تسالم الأصحاب واتّفاقهم على ذلك، كما عرفت من صاحب الجواهر وغيره، بل جعله في الجواهر من ضروري المذهب.

هذا مضافاً إلى ما دلّ من النصوص على عدم جواز الرجوع في الوقف؛ معلّلاً بأ نّه جُعل للّه، كقول أبي عبداللّه عليه السلام: «إنّما الصدقة للّه عزّ وجلّ، فما جُعِل للّه

********

(1) - جواهر الكلام 11:28.

(2) - العروة الوثقى 290:6.

ص: 20

عزّ وجلّ، فلا رجعة له فيه»(1)، وغيره من النصوص المعبّر فيها عن الوقف بالصدقة لقرائن قطعية داخلية فيها. ومن هنا فهم جميع الفقهاء منها الوقف.

ثمّ إنّه لا إشكال في عدم جواز الرجوع في الوقف بفسخ أو إقالة، بناءً على اشتراط قصد القربة؛ نظراً إلى عموم قوله عليه السلام: «إنّما الصدقة للّه عزّ وجلّ، فما جُعل للّه تعالى فلا رجعة له فيه».

وأمّا بناءً على عدم اعتبار قصد القربة، فتارة: يقع الكلام في الرجوع من جانب الواقف بفسخ ونحوه، فلا إشكال أيضاً في عدم جوازه لدلالة نصوص المقام على ذلك كصحيح صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن الرجل يقف الضيعة ثمّ يبدو له أن يحدث في ذلك شيئاً، فقال: «إن كان وقفها لولده ولغيرهم ثمّ جعل لها قيّماً لم يكن له أن يرجع فيها وإن كانوا صغاراً وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها...»(2).

ومثله في الدلالة معتبرة الأسدي فيما ورد عليه من جواب مسائله عن محمّد بن عثمان العمري عن صاحب الزمان عليه السلام: «وأمّا ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا وما يجعل لنا ثمّ يحتاج إليه صاحبه فكلّ ما لم يسلّم فصاحبه فيه بالخيار، وكلّ ما سلّم فلا خيار فيه لصاحبه احتاج أو لم يحتج، افتقر إليه أو استغنى عنه»(3).

وأمّا الرجوع بإقالة الطرفين؛ بأن تقاول الواقف والموقوف عليه على الفسخ وتراضيا عليه فأيضاً لا يجوز، بالاتّفاق. ويمكن الاستدلال لذلك، بناءً على عدم

********

(1) - وسائل الشيعة 204:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 1، ويدلّ على ذلك جميع نصوص هذا الباب.

(2) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 4.

(3) - وسائل الشيعة 181:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 21

اعتبار قصد القربة - مضافاً إلى اتّفاق الأصحاب - بأ نّه ينافي حقيقة الوقف؛ بناءً على أخذ الدوام في معناه، كما بنينا عليه بحكم التبادر وارتكاز المتشرّعة وظواهر النصوص.

وأمّا الاستدلال بأ نّه منافٍ لتحبيس العين المأخوذ في حقيقة الوقف، فغير تامّ؛ لأنّ تحبيس العين الموقوفة إنّما لا بدّ منه ما دام الوقف باقياً، لا بعد انتفائه بالبطلان أو الفسخ. ولا يرد هذا الإشكال على الاستدلال بأخذ الدوام في ماهية الوقف.

بزعم اعتباره ما دام الوقف موجوداً، دون ما إذا انتفى بالإقالة.

وجه عدم توجّه هذا الإشكال أنّ إيجاد سبب انقطاع الوقف والرجوع أمر اختياري وينافي الدوام بخلاف الانتفاء القهري بانقراض الموقوف عليه أو بالاختلال في بعض أركانه.

وممّا يؤيّد ذلك ما دلّ على عدم جواز شرط الواقف عود الوقف إليه عند الحاجة، كصحيحتي إسماعيل بن الفضل(1)، ولكن دلالتهما على عدم جواز الرجوع في الوقف مبنيّ على استفادة عدم جواز شرط ذلك وبطلان الوقف بذلك، كما عليه صاحب الحدائق وجماعة، لكنّه خلاف مقتضى التحقيق، بل أنّهما أدلّ على الصحّة، كما سيأتي منّا في المسألة الحادية والعشرين. هذا، مضافاً إلى أنّ بالتقاول ينتفي الوقف من أصله ومفاد الصحيحتين إنّما هو عدم جواز الرجوع ما دام الوقف باقياً.

وعلى أيّ حال لا إشكال في عدم جواز الرجوع في الوقف مطلقاً بفسخ أو إقالة؛ لاتّفاق الأصحاب على ذلك. ولإطلاقات منع الرجوع في الصدقة، ومنها

********

(1) - تهذيب الأحكام 146:9 و 607/150 و 612؛ وسائل الشيعة 177:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 3، الحديث 3.

ص: 22

وفيه فضل كثير وثواب جزيل، ففي الصحيح عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «ليس يتبع الرجلَ بعد موته من الأجر إلّاثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسُنّة هدىً سَنّها فهي يعمل بها بعد موته، وولد صالح يدعو له»، وبمضمونه روايات (1).

الوقف. ولإطلاق ما دلّ من النصوص على منع الرجوع في الوقف بالخصوص، كصحيحة صفوان ومعتبرة الأسدي المتقدّمتين.

فضل الوقف وثوابه

1 - وقد وردت نصوص كثيرة في فضل الوقف وثوابه. فمن هذه النصوص صحيح هشام بن سالم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر، إلّاثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته، فهي تجري بعد موته، وسنّة هدى سنَّها، فهي يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له»(1).

والمقصود من قوله: «صدقة أجراها»، الوقف. ونظيره موثّق إسحاق(2).

ومنها: صحيح الحلبي عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر، إلّاثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته، فهي تجري بعد موته، وصدقة مبتولة لا تورث، أو سنّة هدى يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له»(3).

********

(1) - وسائل الشيعة 171:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 1، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 172:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 1، الحديث 3.

(3) - وسائل الشيعة 172:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 1، الحديث 2.

ص: 23

وفي نسخة الخصال: «صدقة موقوفة لا تورث»(1).

ولا ريب أنّ المراد من قوله عليه السلام: «صدقة أجراها» الصدقة الجارية، وهي الوقف. وأمّا الصدقة المبتولة فاحتمل في الحدائق كون المراد بها الأوقاف العامّة التى اريد بها وجه اللّه فهي مقطوعة من المالك ومتقرَّب بها إلى اللّه تعالى.

قال في الحدائق: «قال العلماءُ: المراد بالصدقة الجارية الوقف فإن قيل: المعدود في الحديث الثاني أربع خصال، مع أنّه صرّح في صدر الخبر بأ نّها ثلاث خصال، قلنا: المعدود فيه إنّما هو ثلاث، ولكنّه قسَّم الصدقة التي هي إحدى الثلاث إلى قسمين، صدقة أجراها في حياته، فهي تجري بعد موته، وهي الوقف كما ذكرناه، وصدقة مبتولة لا تورث ولعلّه مثل بناء المساجد والرباطات وحفر الآبار، وبناء القناطر، ونحو ذلك، ولعل المراد بكونها مبتولة كونها مراداً بها وجه اللّه عزّ وجلّ والتقرّب إليه»(2).

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام ما يلحق الرجل بعد موته؟ فقال: «سنّة يعمل بها بعد موته، فيكون له مثل أجر من عمل بها، من غير أن يُنقص من أجورهم شيءٌ، والصدقة الجارية تجري من بعده، والولد الطيّب يدعو لوالديه بعد موتهما...»(3).

ومنها: خبر أبي كهمس المرويّ بطرق عديدة عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: «ستّةٌ تلحق المؤمن بعد موته: ولد يستغفر له، ومصحف يخلفه، وغرس يغرسه، وقليب

********

(1) - الخصال: 184/151.

(2) - الحدائق الناضرة 126:22.

(3) - وسائل الشيعة 172:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 1، الحديث 4.

ص: 24

(مسألة 1): يعتبر في الوقف الصيغة، وهي كلّ ما دلّ على إنشاء المعنى المذكور، مثل «وقفتُ» و «حبستُ» و «سبّلتُ»، بل و «تصدّقتُ» إذا اقترن به ما يدلّ على إرادته، كقوله: «صدقة مؤبّدة، لا تُباع ولا تُوهب» ونحو ذلك، وكذا مثل «جعلتُ أرضي موقوفة أو محبسة أو مسبّلة على كذا». ولا يعتبر فيه العربية ولا الماضوية، بل يكفي الجملة الاسمية، مثل: «هذا وقف» أو «هذه محبسة أو مسبّلة» (1).

يحفره، وصدقة يُجريها، وسنّة يؤخذ بها من بعده»(1).

والقليب: البئر قبل أن تبنى بالحجارة ونحوها، وكأنّ المراد أنّ الثواب مترتّب على مجرّد حفر البئر.

ومنها: خبر عبدالخالق بن عبد ربّه، قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام: «خير ما يخلفه الرجل بعده ثلاثة: ولد بارٌّ يستغفرله، وسنّة خير يُقتدى به فيها، وصدقة تجري من بعده»(2).

إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على استحباب الوقف وثوابه.

صيغة الوقف

اشارة

1 - يظهر من السيّد الماتن قدس سره:

أوّلاً: اعتبار الصيغة في الوقف.

وثانياً: عدم اعتبار لفظ خاصّ في صيغة الوقف، وكفاية أيّ لفظ وتعبير يفيد

********

(1) - وسائل الشيعة 173:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 1، الحديث 5.

(2) - وسائل الشيعة 174:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 1، الحديث 10.

ص: 25

معنى الوقف المعهود في الشرع وتعريفه المذكور آنفاً؛ من تحبيس العين وتسبيل المنفعة.

وعليه فالكلام هاهنا؛ تارة: في أصل اعتبار الصيغة في صحّة الوقف.

واُخرى: في تعيين لفظ الصيغة؛ بمعنى أنّه هل يعتبر لفظ «وقفت»؟ أم يكفي غيره من الألفاظ المفيدة معناه؟ وأنّ تلك الألفاظ ما هي؟ أمّا الجهة الاُولى: فاستظهر السيّد في العروة من كلمات الأصحاب إجماعهم على اشتراط الصيغة في صحّة الوقف؛ حيث قال: «ظاهر العلماء الإجماع على اشتراط الصيغة في الوقف وأ نّه بدونها غير صحيح»(1).

ولكن قال الشيخ في المبسوط في أحكام المسجد: «إذا بنى مسجداً خارج داره في ملكه، فإن نوى به أن يكون مسجداً يصلّي فيه كلّ من أراده، زال ملكه، وإن لم ينو ذلك فملكه باقٍ عليه، سواء صلّى فيه أو لم يصلّ»(2).

واستظهر الشهيد في الذكرى من كلام الشيخ عدم اعتبار الصيغة في وقف المسجد، ثمّ رجّح ذلك؛ حيث إنّه - بعد نقل كلام الشيخ - قال: «ظاهره الاكتفاء بالنيّة، وليس في كلامه دلالة على التلفّظ، ولعلّه الأقرب»(3).

نقل ذلك كلّه في الجواهر، ونقل نحوه عن الدروس ومحكيّ مجمع البرهان. ثمّ استظهر من كلماتهم أنّ دليلهم دعوى السيرة من المسلمين على ذلك، ولكن منعه بقوله: «وهي ممنوعة»(4).

********

(1) - العروة الوثقى 280:6.

(2) - المبسوط 162:1.

(3) - ذكرى الشيعة 133:3.

(4) - جواهر الكلام 87:28.

ص: 26

وأشكل في جامع المقاصد على الشهيد بقوله: «وفي النفس منه شيء وليس بمعلوم ما ذكره»(1).

وقد نقل في الجواهر إشكال المحقّق الكركي ونقل عنه تعليل الإشكال بأنّ حال الوقف كحال غيره من العقود مثل النكاح.

ثمّ أجاب عنه بقوله: «قلت: هو حينئذٍ كالنكاح من العقود الخاصّة ممّا شرّعت المعاطاة فيه بالسيرة القطعية عند القائل بها كما نقّحناه في محلّه، إلّاأنّها لمّا كانت مفقودة في مثل المساجد ونحوهما - فضلاً عن غيره من الأوقاف الخاصّة - قلنا: إنّه كالنكاح لا يجري فيه إلّاالعقد، ولا تشرع فيه المعاطاة، وإن حكي عن بعض المعاصرين المتأخّرين توهّم ذلك، إلّاأنّه كما ترى»(2).

ولكن لا يخفى: أنّ ما نسب في الجواهر إلى المحقّق الكركي من التعليل للإشكال المزبور غير صحيح.

فإنّ المحقّق إنّما علّل بذلك لإثبات عدم وجوب الفحص عن كيفية وقف المسجد إذا شاع كونه مسجداً، لا للإشكال على الكلام الشهيد.

ومن هنا لا ربط لجواب صاحب الجواهر بإشكال المحقّق الكركي، بل رأيُه موافق لرأي المحقّق الكركي في احتياج وقف المسجد إلى الصيغة، فضلاً عن الأوقاف الخاصّة. فلا اختلاف بينهما في ذلك، حتّى يشكل أحدهما ويجيب عنه الآخر.

وعرفت من كلام صاحب الجواهر أنّ اتّكاله في اعتبار الصيغة في الوقف على منع جريان السيرة على المعاطاة في وقف المساجد ونحوها وكذا في غيرها بالأولوية.

********

(1) - جامع المقاصد 157:2.

(2) - جواهر الكلام 88:28.

ص: 27

وظاهره توقّف نفي اعتبار الصيغة في الوقف على إثبات مشروعية المعاطاة في الوقف، وأ نّها لمّا لم تثبت بالسيرة ولا دليل آخر عليها، فلا مناص من الالتزام باعتبار الصيغة في الوقف، كما في النكاح.

وعلى أيّ حال لا ريب في أنّ مقتضى اشتراط الصيغة عدم كفاية المعاطاة في الوقف، كما أشار إلى ذلك في العروة بقوله: «ومقتضى ما ذكروه من اشتراط الصيغة عدم كفاية المعاطاة مثل ما إذا بنى مسجداً وأذن في الصلاة فيه مثلاً، فإنّه كما صرّح به بعضهم لا يصير وقفاً ولا يخرج عن ملكه، وكذا في نحوه»(1).

وسيأتي البحث مفصّلاً عن حكم المعاطاة في الوقف.

يظهر من كلام صاحب الجواهر اشتراط الصيغة في الوقف كما عرفت آنفاً. وهو الذي يقتضيه التحقيق.

فالأقوى اشتراط الصيغة في الوقف، إلّاما احرز فيه جريان السيرة القطعية على الوقف بالمعاطاة، من دون التلفّظ بالصيغة، كما في الوقف على الجهات والمصالح العامّة ووقف المباح بالأصالة. وسيأتي البحث عن ذلك قريباً.

وقد يستدلّ لاعتبار التلفّظ بالصيغة في الوقف، بل مطلق العقود بقوله عليه السلام: «إنّما يحلّ الكلام ويحرم الكلام»(2)؛ حيث دلّ بمفهوم الحصر على نفي مشروعية المعاطاة في مطلق العقود، إلّاما خرج بدليل خاصّ. ويجب الاقتصار في ما خالف القاعدة على موضع النصّ.

وعليه فلو احرز استقرار السيرة على المعاطاة في عقد أو إيقاع يُحكم فيه بجواز

********

(1) - العروة الوثقى 280:6.

(2) - وسائل الشيعة 50:18، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 8، الحديث 4. وفي نسخة الكافي وبعض نسخ الوسائل «إنّما يُحلّل الكلام» وهو الأصحّ.

ص: 28

المعاطاة وإلّا فلا. ولمّا يشكل إحراز جريان سيرة المتشرّعة على المعاطاة في الوقف لا مناص من الرجوع إلى إطلاق الحديث المزبور والحكم باعتبار الصيغة في الوقف.

ويرد على الاستدلال بهذا الخبر - مع قطع النظر عن المناقشة في سنده بعدم ثبوت وثاقة خالد بن نجيح ولا خالد بن الحجّاح الواقعين في طريقه - مناقشة الشيخ الأعظم في تفسير هذا الخبر بإرادة اللفظ من الكلام؛ بمعنى أنّ تحريم الشيء وتحليله ونقله وانتقاله لا يكون بمجرّد القصد أو الفعل، بل إنّما يكون باللفظ الدالّ عليه. وحاصل مناقشة الشيخ(1) في هذا التفسير لزوم تخصيص الأكثر؛ نظراً إلى جواز المعاطاة في أكثر العقود والإيقاعات بفتوى الأصحاب وقيام سيرة المتشرّعة.

ومحصّل الكلام في المقام: أنّ الأقوى اشتراط الصيغة في الوقف في الجملة؛ نظراً إلى اتّفاق الأصحاب على ذلك كما استظهره صاحب العروة من كلماتهم، إلّا في الوقف على الجهات كوقف المسجد ونحوه. وأمّا سيرة المتشرّعة فيشكل إحراز جريانها واتّصالها بزمان المعصومين عليهم السلام في الأوقاف الخاصّة، بل العامّة غير الوقف على الجهات. وسيأتي تفصيل هذا البحث في البحث عن جريان المعاطاة في الوقف.

بل لا يبعد دعوى جريان السيرة على المعاطاة في الوقف على الجهات والمصالح العامّة وفي وقف المباح الأصلي، كما سيأتي في شرح كلام السيّد الماتن قدس سره.

********

(1) - المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 60:16-64.

ص: 29

عدم اعتبار لفظ خاصّ في صيغة الوقف

وأمّا الجهة الثانية: فقد وافق السيّد الماتن قدس سره صاحب العروة في ألفاظ وصيغة الوقف؛ حيث قال: «والأقوى كفاية كلّ ما يدلّ على المعنى المذكور، ولو بضميمة القرائن كما في سائر العقود؛ إذ لا دليل على اعتبار لفظ مخصوص في المقام»(1).

وهذا هو مقتضى القاعدة؛ لأنّ مقتضى القاعدة في صيغ العقود والإيقاعات، كفاية كلّ لفظ يفيد إنشاءَ عنوان العقد أو الإيقاع المقصود، إلّاما دلّ نصٌ شرعي على توقيفيته. وذلك لأنّ المعاملات إمضائية، فما دام لم يثبت تحديد من الشارع في خصوصياتها يكون ممضىً عنده ويترتّب عليه الآثار شرعاً.

هذا، ولكن يظهر من الأصحاب اعتبار كون اللفظ صريحاً في الوقف. وعلّل ذلك في الحدائق بقوله: «والوجه في ذلك أنّ الوقف لمّا كان من العقود الناقلة للملك على وجه اللزوم افتقر إلى اللفظ الصريح الدالّ على ذلك»(2).

ولكن مقصودهم من الصريح ليس هو الصريح المقابل للظاهر، بل المقصود ما يعمّ الظاهر، كما أشار إلى ذلك في الحدائق بقوله: «ولا عُرف شرعي هنا سوى صريح الوقف، لاشتراك البواقي بينه وبين غيره، والموضوع للقدر المشترك لا دلالة له على شيء من الخصوصيات بشيء من الدلالات»، إلى أن قال: «والفرق بين الصريح وغيره - مع اشتراكهما في اعتبار القصد والنيّة - أنّ الصريح يحمل عليه ظاهراً، قصد أو لم يقصد، بخلاف غيره، فإنّه لا يحكم عليه، إلّامع القرينة»(3).

********

(1) - العروة الوثقى 280:6.

(2) - الحدائق الناضرة 125:22.

(3) - الحدائق الناضرة 127:22-128.

ص: 30

فإنّه: أوّلاً: جعل مقابل الصريح ما لا دلالة له على الوقف المعهود لوضعه للقدر المشترك.

وثانياً: فرّق بين الصريح وغيره بكون الصريح محمولاً على الوقف ظاهراً، بخلاف غيره، فإنّه لا يحمل على غيره، إلّابقرينة. ومعنى ذلك أنّ الصريح ما كان ظاهراً في الوقف ويُحمل عليه؛ لظهوره فيه، لا لأجل القرينة كما في غير الظاهر.

ولا إشكال في صراحة لفظ «وقفت» في الوقف.

ولم يخالف ذلك، إلّاالشافعي في بعض أقواله؛ حيث جعله كناية.

وعن بعض المتأخّرين(1) توجيه ذلك باستعمال لفظ الوقف في مجرّد الحبس والسكنى والرقبى والعمرى في صحيح ابن مهزيار والصفّار(2)؛ حيث اطلق فيها لفظ الوقف على الموقّت، مع اشتراط التأبيد في الوقف المصطلح. فيعلم من ذلك أنّ المقصود أحد العناوين المزبورة، كما قال في الوسائل(3).

وقد ردّ في الجواهر(4) هذا التوجيه بأنّ استعمال لفظ الوقف في العناوين المزبورة في الصحيحين إنّما هو بالقرينة والمجاز، ولا ينافي ذلك صراحته في الوقف المصطلح بالوضع. ثمّ رجّح صراحته فيه.

********

(1) - نقله في مفتاح الكرامة، بقوله: وقد يقال: لا غرابة عندنا فإنّهم قد صرّحوا باستعمال لفظالوقف في مجرّد الحبس والسكنى والعمرى والرقبى كما يأتي في صحيحتي ابن مهزيار والصفّار فكيف يكون صريحاً في التأبيد مع استعماله نصّاً وفتوى فيما قلناه. راجع: مفتاح الكرامة 3:9.

(2) - وسائل الشيعة 192:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 7، الحديث 1 و 2.

(3) - وسائل الشيعة 193:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 7.

(4) - جواهر الكلام 3:28.

ص: 31

وفي الحدائق: «قال في المبسوط: الذي يقوى في نفسي أنّ صريح الوقف قول واحد؛ وهو «وقفت»، لا غير، وبه يُحكم بالوقف. فأمّا غيره من الألفاظ، فلا يحكم به إلّابدليل، وهو قول ابن إدريس، قال: لأنّ الإجماع منعقد على أنّ ذلك الصريح في الوقف، وليس كذلك ما عداه. قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال:

والوجه ما قاله الشيخ في المبسوط، لنا أصالة بقاء الملك على صاحبه، وعدم خروجه عنه إلّابوجه شرعي، ولا عرف شرعي هنا سوى صريح الوقف، لاشتراك البواقي بينه وبين غيره، والموضوع للقدر المشترك لا دلالة له على شيء من الخصوصيات بشيء من الدلالات. نعم، إذا انضمّ القرائن صار كالصريح في صحّة الوقف به»(1).

وأمّا لفظ «حبّست وسبّلت» فيظهر من جماعة من القدماء والمتأخّرين صراحتهما في الوقف، بل في الخلاف الإجماع عليه كما قال في الجواهر(2). وعلّل ذلك بقوله صلى الله عليه و آله في النبوي: «حبِّس الأصل وسبّل المنفعة»(3).

وعن جماعة إنكار صراحتهما، بل نسب ذلك في الجواهر إلى الأكثر؛ معلّلاً بعدم وضعهما للوقف؛ لعدم تبادره منهما ولا ارتكازه واستقراره من سماعهما في الذهن.

وقد رجّح هذا القول في الشرائع، وعلّله في الجواهر بقوله: «ولا ريب في أنّ «هذا أشبه» بأصالة عدم النقل والانتقال، وعدم ترتّب أثر الوقف وأحكامه،

********

(1) - الحدائق الناضرة 127:22.

(2) - جواهر الكلام 5:28.

(3) - مستدرك الوسائل 47:14، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1، لكن فيه: «وسبّل الثمرة».

ص: 32

خصوصاً مع معلومية اشتراك كلّ منهما معنى بين الوقف وغيره. والخبر إنّما يدلّ على حصول الوقف بهما معاً، لا بكلّ واحد منهما، فيكون صريحاً في عدم صراحتهما التي هي بمعنى وضع اللفظ للوقف الذي معناه مركّب من معناهما، كما هو واضح بأدنى تأمّل. هذا، بل هما معاً لا يقومان مقام «وقفت» في الصراحة؛ لاشتراكهما بين الوقف وبين الحبس، بل لعلّهما في الثاني أظهر»(1).

ومقتضى التحقيق صحّة الوقف بكلّ لفظ ظاهر فيه عرفاً، وذلك إمّا بمقتضى الوضع والتبادر وارتكاز المتشرّعة، أو بسبب القرينة. فإنّ الحجّة على كلّ متكلّم ظاهر كلامه، من دون فرق بين كون سبب الظهور الوضع أو القرينة. نعم لو ورد تحديد من الشارع باعتبار لفظ خاصّ يؤخذ به، وإلّا فالمتّبع ظهور الألفاظ في باب المعاملات؛ لأنّها امور عرفية إمضائية وليست بتأسيسية.

وأمّا عدم اعتبار العربية والماضوية، فقد ثبت في محلّه من كتاب البيع من عدم دليل عليه. ولا إجماع في البين. وظهور المضارع في الإنشاء كالماضي بقرينة المقام، ممّا لا يمكن إنكاره. كما أنّ الجملة الاسمية الخبرية الصادرة في مقام الإنشاء - المعلوم بالقرينة - لا إشكال في ظهورها في الإنشاءِ، بلا فرق بينها وبين الجملة الفعلية.

********

(1) - جواهر الكلام 5:28.

ص: 33

(مسألة 2): لا بدّ في وقف المسجد من قصد عنوان المسجدية (1)، فلو وقف مكاناً على صلاة المصلّين وعبادة المسلمين صحّ، لكن لم يصر به مسجداً ما لم يكن المقصود عنوانه، والظاهر كفاية قوله: «جعلته مسجداً» (2) وإن لم يذكر ما يدلّ على وقفه وحبسه، والأحوط أن يقول: «وقفته مسجداً» أو «... على أن يكون مسجداً».

اعتبار قصد عنوان المسجدية في وقف المسجد

1 - وذلك لأنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها، كما في النصوص(1). فإذا لم يقصد الواقف عنوان المسجدية لا يدخل هذا العنوان في الوقف. نعم يترتّب جميع أحكام الوقف على ذلك المكان الموقوف للصلاة، ولكن لا يترتّب عليه شيء من أحكام المسجد.

2 - لظهوره في الوقف عرفاً؛ لأنّ المتعارف جعل المسجد وقفاً، بل يستعمل تعبير: «جعلته مسجداً» في الوقف غالباً. وغلبة الاستعمال توجب الظهور، بل يجعل أهل العرف ذلك كناية عن وقف المسجد.

ولا يخفى: أنّ احتياط السيّد الماتن قدس سره بقوله: «وقفته مسجداً أو على أن يكون مسجداً» استحبابي؛ نظراً إلى إفتائه بكفاية قوله: «جعلته مسجداً» في تحقّق الوقف وانعقاده صحيحاً.

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2.

ص: 34

(مسألة 3): الظاهر كفاية المعاطاة (1) في مثل المساجد، والمقابر، والطرق والشوارع، والقناطر، والرباطات المعدّة لنزول المسافرين، والأشجار المغروسة لانتفاع المارّة بظلّها أو ثمرها، بل ومثل البواري للمساجد، والقناديل للمشاهد، وأشباه ذلك. وبالجملة: ما كان محبساً على مصلحة عامّة، فلو بنى بناءً بعنوان المسجدية، وأذن في الصلاة فيه للعموم، وصلّى فيه بعض الناس، كفى في وقفه وصيرورته مسجداً. وكذا لو عيّن قطعة من الأرض لأن تكون مقبرة للمسلمين، وخلّى بينها وبينهم وأذن إذناً عامّاً للدفن فيها، فدفنوا فيها بعض الأموات، أو بنى قنطرة وخلّى بينها وبين العابرين فشرعوا في العبور عليها وهكذا.

كفاية المعاطاة في الوقف على المصالح العامّة

1 - مقتضى التحقيق كفاية المعاطاة في الوقف على الجهات والمصالح العامّة؛ إذ لا دليل على اعتبار الصيغة سوى ما ذكروه في سائر العقود. من عموم قوله عليه السلام:

«إنّما يحلّل الكلام ويُحرّم الكلام»(1). وسيرة المتشرّعة والإجماع وأصالة عدم النقل شرعاً إلّابسبب شرعي وعدم إحراز سببية المعاطاة للنقل شرعاً. ولكنّ الرواية المزبورة ضعيفة سنداً كما سبق آنفاً، مع ما يرد على عمومها من تخصيص الأكثر المستهجن؛ نظراً إلى خروج أكثر العقود لجواز المعاطاة فيها بفتوى

********

(1) - الكافي 6/201:5؛ راجع: وسائل الشيعة 50:18، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 8، الحديث 4.

ص: 35

الأصحاب وسيرة المتشرّعة كما أشار إليه الشيخ الأعظم في مكاسبه(1).

وأمّا الإجماع فغير محقّق في المقام، كما عرفت مخالفة الشيخ في المبسوط وابن إدريس والشهيد وجماعة من الفقهاء في وقف المساجد بدعوى كون معظم المساجد على نحو الوقف المعاطاتي.

وأمّا السيرة فقد ثبت في سائر العقود كفاية المعاطاة؛ لما جرت عليه السيرة، ولأنّ العقود تابعة للقصود ولغيره من الوجوه، فكذلك في الوقف؛ نظراً إلى جريان سيرة المتشرّعة، بل سيرة الأصحاب على ذلك في وقف المساجد، كما عن ابن إدريس والشهيد، مع عدم تحقّق إجماع منهم على اعتبار الصيغة اللفظية في وقف المسجد، بل ولا في الوقف على المصالح العامّة. وإنّ التفصيل بين المساجد وغيرها في ذلك، خلاف ما جرت عليه السيرة واستقرّ عليه ارتكاز المتشرّعة، بل الأمر في وقف سائر المصالح العامّة أسهل من وقف المساجد التي هي بيوت اللّه في الأرض ومحالّ عبادة اللّه وذكره.

ومن هنا قوّى في العروة إلحاق سائر المصالح العامّة بالمسجد في جريان الوقف المعاطاتي؛ حيث قال: «ومقتضى ما ذكروه من اشتراط الصيغة عدم كفاية المعاطاة مثل ما إذا بنى مسجداً وأذن في الصلاة فيه مثلاً. فإنّه كما صرّح به بعضهم لا يصير وقفاً ولا يخرج عن ملكه، وكذا في نحوه.

نعم حكي عن ابن إدريس والشهيد في الذكرى، كفاية ذلك في المسجد، ولو لم يجر الصيغة؛ لأنّ معظم المساجد في الإسلام على هذه الصورة، وهذا هو الأقوى.

بل الأقوى ذلك في غير المسجد، مثل بناء القناطر والخانات للمسافرين وغرس

********

(1) - المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 63:16.

ص: 36

الأشجار لانتفاع الناس بثمرها أو بالاستظلال بها وجعل الأرض مقبرة ونحوها، بل ومثل البواري والحصير للمساجد. وكذا تعمير المساجد الخربة بالنسبة إلى الآلات المعمولة فيها. فإنّ السيرة على عدم إجراء صيغة الوقف فيها.

ودعوى: كونها من باب الإباحة، مدفوعة؛ بأنّ اللازم حينئذٍ عدم جواز التصرّف بعد موته للانتقال إلى وارثه.

وما قد يُدَّعى؛ من أنّ جعل الحصير للمسجد من باب تمليك المسجد وليس وقفاً - وقد ذكر العلّامة في التذكرة أنّه لو قال: «جعلت هذا للمسجد»، فهذا تمليك لا وقف، وأ نّه من باب الهبة ويحتاج إلى قبول الناظر وقبضه - لا يجري في غير الحصر والبواري من المذكورات. مع أنّه غير تامّ في نفسه أيضاً؛ من حيث إنّ السيرة على عدم القبول والقبض فيها من الناظر، وأيضاً لازمه جواز أن يملك المسجد ونحوه داراً أو عقاراً بنحو الهبة وهو مشكل، فالأقوى أنّ الجميع من باب الوقف المعاطاتي»(1)، انتهى كلام صاحب العروة.

قوله: «مدفوعة بأنّ اللازم...»؛ أي لو كانت السيرة الجارية في جعل الحُصُر والبواري وسائر الآلات للمساجد من باب الإباحة، ليلزم من ذلك انتقال هذه المجعولات بعد موت الواقف إلى ورثته وعدم جواز تصرّف الموقوف عليهم، وهو خلاف النصّ والفتوى.

وقوله: «وما قد يُدّعى...»، حاصله: أنّ دعوى كون جعل الحُصر والبواري للمسجد من باب التمليك، لا تتمّ في غير الحُصر والبواري، من المسجد نفسه وسائر آلاته، مع أنّ في الحُصُر والبواري أيضاً لا تتمّ هذه الدعوى. وذلك لجريان

********

(1) - العروة الوثقى 280:6-281.

ص: 37

سيرة المتشرّعة على عدم اعتبار القبول والقبض فيها من الناظر. هذا، مضافاً إلى أنّ لازم ذلك جواز ملك المسجد داراً وعقاراً بالهبة وهو خلاف النصّ والفتوى.

مقتضى التحقيق في المقام: اشتراط الصيغة في الوقف الخاصّ وفي الوقف على العناوين العامّة كالعلماء والفقراء ونحو ذلك.

وذلك لاتّفاق الفقهاء على اعتبار الصيغة ولأصالة عدم سببية الوقف شرعاً بدونها عند الشكّ في نقل العين الموقوفة أو منفعتها بغير إجراء الصيغة.

هذا مضافاً إلى أنّ لزوم الوقف وعدم تطرّق الجواز فيه ينافي جريان المعاطاة فيه؛ لأنّ المعاطاة لا تفيد اللزوم وإن صحّ العقد المعاطاتي جوازاً، ومن هنا اشتهر بين الأصحاب احتياج العقود اللازمة إلى اللفظ.

ويشهد لذلك ما أفاده الشيخ بقوله: «يمنع من جريان المعاطاة في الوقف؛ بأن يكتفى فيه بالإقباض لأنّ القول فيه باللزوم منافٍ لما اشتهر بينهم من توقّف اللزوم على اللفظ. والجواز غير معروف في الوقف من الشارع.

نعم، احتمل الاكتفاء بغير اللفظ في باب وقف المساجد من الذكرى تبعاً للشيخ»(1).

نعم، لا يبعد دعوى إلغاء اشتراط الصيغة في وقف المساجد وآلاتها؛ نظراً إلى ما قيل من كون وقف معظم المساجد في صدر الإسلام على هذا المنوال، ولأجل ذلك ذهب جماعة من الفحول كالشيخ في المبسوط وابن إدريس والشهيد إلى عدم اعتبار الصيغة في وقف المساجد ولا يمكن التعدّي إلى غيرها من الأوقاف، إلّافي الوقف للجهات والمصالح العامّة كالقناطر والخانات بالأولوية؛ لما سبق آنفاً من أنّ الأمر فيها أسهل.

********

(1) - المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 94:16.

ص: 38

(مسألة 4): ما ذكرنا من كفاية المعاطاة في المسجد إنّما هو فيما إذا كان أصل البناء بقصد المسجدية؛ بأن نوى ببنائه وتعميره أن يكون مسجداً، خصوصاً إذا حاز أرضاً مباحة لأجل المسجد وبنى فيها بتلك النيّة. وأمّا إذا كان له بناء مملوك - كدار أو خان - فنوى أن يكون مسجداً وصرف الناس بالصلاة فيه من دون إجراء الصيغة عليه يشكل الاكتفاء به (1). وكذا الحال في مثل الرباط والقنطرة.

عدم كفاية المعاطاة في وقف البناء المملوك مسجداً

1 - وذلك لأنّ المتيقّن من السيرة والارتكاز ما لو كان أصل البناء بقصد المسجدية؛ لصدق عنوان المسجد بذلك عرفاً، بخلاف ما كان داراً أو خاناً مملوكاً ونحو ذلك؛ حيث إنّه بمجرّد قصد المسجدية لا يصير الدار أو الخان مسجداً عند أهل العرف. ولا ظهور للوقف المعاطاتي حينئذٍ في وقفه مسجداً. فلا بدّ حينئذٍ من التلفّظ بجعله مسجداً؛ حتّى يكون ظاهراً في وقفه مسجداً.

والضابط في ذلك كفاية الوقف المعاطاتي في كلّ ما صدق عليه عنوان الموقوف عليه - كالمسجد - بمجرّد ذلك عند أهل العرف. وفي مثل الدار والخان المملوكين لا يصدق عنوان المسجد بمجرّد الوقف المعاطاتي؛ حيث لا ظهور له في وقف مثلهما مسجداً.

وأمّا سيرة الأصحاب والمتشرّعة فيشكل إحراز جريانها على الوقف المعاطاتي في مثل ذلك.

ص: 39

(مسألة 5): لا إشكال في جواز التوكيل في الوقف (1). وفي جريان الفضولية فيه خلاف وإشكال لا يبعد جريانها فيه، لكن الأحوط خلافه.

جريان الوكالة والفضولية في الوقف

1 - لا إشكال في جريان الوكالة وجوازها في الوقف؛ لأنّ الوكيل في حكم الموكّل فيما وُكّل فيه، فيجوز له فيه ما يجوز للموكّل.

وذلك لأنّ الوكالة من العناوين العرفية التي استقرّت عليها سيرة أهل العرف، بما لها من المفهوم العرفي. وإنّ المرتكز في أذهان أهل العرف من التوكيل تفويض الأمر إلى الوكيل وجعله بمنزلة الموكّل فيما وُكّل فيه، فله الاختيار في جميع ما للموكّل من الولاية والاختيار. ولم يرد في الوقف من الشارع ما يخالف هذا المعنى ويردع عنه، بل هذا المعنى مورد إمضاء الشارع في النصوص الواردة في مختلف أبواب المعاملات.

إن قلت: الوقف أمر عبادي يعتبر فيه قصد القربة، ولم يعلم استقرار سيرة العقلاء على التوكيل في العبادات.

قلت: أوّلاً: إنّ الذي علم عدم جريان سيرتهم على التوكيل فيه، هو العبادات الذاتية المحضة. وأمّا العبادات المالية ممّا هو داخل في شؤون تصرّفات الناس في أموالهم ومن قبيل إعمال سلطة المُلّاك في أملاكهم - ولو بقصد العبادة والقربة، كالصدقات والمبرّات والهبات، ونحو ذلك من وجوه الخيرات المتوقّفة على تصرّفهم في أموالهم - فالظاهر جريان سيرتهم على التوكيل.

وإن أبيت ذلك في سيرة العقلاء، لا يمكن إنكاره في سيرة المتشرّعة. وبما أنّها

ص: 40

وليدة البيان الشرعي، تكشف عن حكم الشارع بذلك.

هذا، مع ما دلّ على إمضائها من جانب الشارع، من النصوص الواردة في العبادات المالية كالخمس والزكاة والحجّ والصلاة والصوم الاستيجاري والصدقات المستحبّة ونحوها.

وثانياً: يمكن تصحيح العبادية بقصد القربة من جانب الموكّل نفسه. فإنّه إذا قصد القربة من التوكيل للوقف وغيره من العباديات. لأنّ التوكيل في الحقيقة جعل اختيار المال والولاية عليه للوكيل، فإذا جعل الموكّل اختيار ما له بيد الوكيل في جهة الوقف بقصد القربة، يكفي ذلك في عبادية الوقف، ولا سيّما إذا قصد الوكيل القربة والعبادية من إنشائه الوقف؛ لأنّه بمنزلة الوكيل وقصده في حكم قصد الموكلّ. فإذا تحقّق قصد القربة والعبادية من الموكّل والوكيل معاً، لا إشكال في عبادية الوقف المُنشأ من جانب الوكيل.

وأمّا الفضولية، فلو صحّحناها بمقتضى القاعدة؛ نظراً إلى عدم الفرق بين لحوق إجازة المالك وبين سبقها في التأثير في ارتكاز العقلاء وسيرتهم، ففي المقام أيضاً كذلك؛ لعدم خصوصية للوقف من جهة شؤون المالك وسلطته على المال. فإنّ الوقف أيضاً كالبيع وسائر الأسباب المملّكة الناقلة - من العناوين المعاملية - من جهة إعمال سلطة المالك على ماله، ولا فرق في ذلك بين لحوق الإجازة وسبقها.

وأمّا بناءً على كون ملاك مشروعيتها نصوص الفضولية، فقد يشكل التعدّي من سائر المعاملات إلى الوقف؛ لاحتمال خصوصية فيه - من قصد القربة ونحوه - مانعة من التعدّي. ولعلّ لذلك احتاط السيّد الماتن قدس سره، كما يأتي منه الاحتياط الاستحبابي في اعتباره في المسألة السابعة.

ص: 41

ولكنّ الأقوى كون جواز الفضولية بمقتضى القاعدة، وكون النصّ إرشاداً إلى مقتضاها، من دون التعبّد بخصوصية. إمّا لأنّ ما أنشأه الفضولي من صورة البيع بالإيجاب والقبول، لا اعتبار به عند العقلاء مع قطع النظر عن إجازة المالك؛ لعدم سلطةٍ للفضولي ولا ولايةٍ له على المال حتّى يبيعه. فإنّ حقيقة البيع هي تمليك المال للغير. والتمليك ليس إلّانقل الملك. فلا بدّ للناقل من ملك حتّى ينقله، أو ولاية على الملك من جانب المالك. وإلّا يكون إنشاؤه وإجراؤه صيغة البيع مجرّد لقلقة لسان عند العقلاء ولا يرتّبون عليه أيّ أثر إلّاإذا لحقه إجازة المالك، فكأنّ إجازته اللاحقه توجب استناد إنشاء الفضولي إليه.

ومن هنا لا فرق في ارتكاز العقلاء وسيرتهم بين لحوق إجازة المالك وبين سبقها في التأثير.

وإمّا لأنّ الفضولي أوجد جميع ما يعتبر في صحّة البيع من الإيجاب والقبول وسائر ما يعتبر في صحّته، غير إذن المالك. فإذا لحقه الإذن يتمّ البيع بجميع شرائطه. فلا وجه حينئذٍ للحكم بفساده.

وأمّا عبادية الوقف فيمكن تحقّقها بقصد القربة من جانب المجيز بمعنى أنّه إنّما يجيز وقف الفضولي قربةً إلى اللّه وابتغاء مرضاته. وهذا يكفي في صيرورة وقف الفضولي عبادة. وأمّا قصد القربة من جانب الفضولي، فلا أثر له، كما هو واضح.

ص: 42

(مسألة 6): الأقوى عدم اعتبار القبول في الوقف على الجهات العامّة (1)، كالمساجد والمقابر والقناطر ونحوها. وكذا الوقف على العناوين الكلّية،

عدم اعتبار القبول في الوقف العامّ

اشارة

1 - ذهب جماعة من الفقهاء إلى اشتراط القبول في الوقف مطلقاً، كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد(1) واستظهره في المفتاح من إيضاح النافع بقوله: «ونحن قلنا: لعلّه ظاهر إيضاح النافع»(2) وهو الذي اختاره في الجواهر(3). وقد استدلّ له ببعض الوجوه، يأتي بيانه ونقده. وعليه فلا يعبأ بما في المفتاح من أنّ القول باشتراطه مطلقاً لا قائل به، نعم القائل به قليل.

وعمدة الفقهاء وأكثرهم بين قائل بعدم اشتراط القبول في الوقف مطلقاً، بل يظهر من المسالك والروضة والكفاية أنّه قول الأكثر، كما استظهر ذلك من كلامهم في المفتاح. وهو الذي مال إليه السيّد الماتن قدس سره. وبين قائل بالتفصيل بين الوقف العامّ وبين الوقف الخاصّ. والقائل بالتفصيل ليس أقلّ من القائلين بعدم اشتراطه مطلقاً، لو لم يكن بأكثر منهم. وقد صرّح في المفتاح باسم كثير من القائلين بهذا القولين.

وعلى أيّ حال فالأقوال في المسألة ثلاثة.

كلام المحقّق الكركي ونقده

ومن القائلين باشتراط القبول مطلقاً حتّى في الوقف على الجهات العامّة، هو

********

(1) - جامع المقاصد 12:9-13.

(2) - مفتاح الكرامة 9:9.

(3) - جواهر الكلام 6:28 و 84.

ص: 43

المحقّق الكركي. وقد أجاد في تقريب وجه القولين في المقام؛ حيث قال:

«وتحقيق المسالة إنّه هل يشترط لصحّة الوقف القبول أم لا؟ فيه إشكال ينشأ:

من إطلاقهم صحّة الوقف وانعقاده عند وجود لفظ الوقف والإقباض، من غير تقييد بالقبول، ولأ نّه إزالة ملك فكفى فيه صيغة الإيجاب كالعتق. واستحقاق الموقوف عليه للمنفعة، كاستحقاق العتيق منفعة نفسه.

ومن إطباقهم على أنّه عقد، فيعتبر فيه الإيجاب والقبول كسائر العقود. ولأنّ إدخال شيء في ملك الغير موقوف على رضاه؛ لأنّ الأصل عدم الانتقال بدونه.

وحصول الملك على وجه قهري كالإرث يتوقّف على نصّ الشارع، وهو منتفٍ هنا.

ولا دلالة في النصوص الواردة في هذا الباب على عدم حصول القبول. وللشكّ في تمامية السبب بدونه، فيستصحب ثبات الملك على المالك. ورجحان هذا الوجه هو وجه القرب الذي ذكره المصنّف، والأصحّ اشتراط القبول».

ثمّ أشكل على العلّامة - ذيل قوله في القواعد: ولو كان الوقف على المصالح لم يشترط القبول - بقوله: «هذا كالتقييد لإطلاق كلامه السابق، وقد حقّقنا ذلك فيما مضى وبيّنّا أنّ اشتراط القبول مطلقاً أولى»(1).

ولا يخفى: ما في كلام المحقّق الكركي من النظر في مواقع.

أمّا قوله: «ولأ نّه إزالة ملك»، ففيه: أنّا لا نسلّم كون الوقف مجرّد إزالة الملك كالعتق. ونمنع كون استحقاق الموقوف عليه لمنفعة العين الموقوفة من قبيل استحقاق العتيق منفعة نفسه. بل الوقف تحبيس العين الموقوفه ونقل منافعها إلى ملك الموقوف عليه. فهو إنّما يستحقّ منفعة عين خارجة عن ملكه بسبب شرعي مجعول، كسائر العقود. وأمّا استحقاق العتيق لمنافع نفسه، فإنّما هو لسلطته

********

(1) - جامع المقاصد 11:9-12.

ص: 44

التكوينية على نفسه، كسلطة أيّ إنسان حُرٍّ على نفسه. فلا يقاس هذا بذاك.

وحاصل الكلام: أنّ استحقاق الموقوف عليه لمنافع العين الموقوفة متوقّف على سبب ناقل لتدخل به منافعها إلى ملكه.

والشاهد على دخول منافع العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه أنّه يجوز له أيّ تصرّف مالكي في منافع العين الموقوفة. ومن هنا استدلّ القائلون باعتبار القبول بأنّ دخول مال في ملك الغير ابتداءً يحتاج إلى قبوله.

إن قلت: فلو دخل الموقوف في ملك الموقوف عليه وجاز له أيّ تصرّف مالكي فيه، ولو بالنقل والانتقال وإعدام الموقوف بذلك، فكيف يكون الوقف صدقة جارية، كما عُبّر بها عن الوقف في النصوص. فهل يكون جريان الصدقة إلّاببقائها واستمرار الانتفاع بها؟

قلت: يتحقّق الجريان بتحبيس العين الموقوفة واستمرار الانتفاع بها إلى يوم القيامة. والتصرّف في منافع العين الموقوفة ولو بالنقل والانتقال والإعدام - كأكل الثمار - لا ينافي استمرار الانتفاع لبقاء العين الموقوفة.

وأمّا كونه عقداً، فإطباق الأصحاب عليه غير محقّق، وإن ادّعاه في الجواهر أيضاً. وعلى فرض كونه عقداً كما هو الظاهر، يمكن القول بكفاية القبض عنه، فيتحقّق القبول بنفس القبض، ولو من جانب الحاكم الشرعي، أو بشروع الموقوف عليه في الانتفاع، كما لا يبعد مساعدة سيرة المتشرّعة لذلك. وبهذا يجاب عن صاحب الجواهر أيضاً.

وأمّا أصالة عدم الانتقال واستصحابه، فإنّما ينفع في فرض الشكّ. والقائل بدلالة إطلاقات الوقف على نفي اعتبار القبول، لا يشكّ في ذلك. والأصل إنّما يُرجع إليه إذا لم يقم دليل على الحكم.

ص: 45

كلام الشهيد الثاني

وممّن فصّل بين الوقف الخاصّ والعامّ في اعتبار القبول صاحب المسالك؛ حيث جزم بعدم اعتباره في الوقف على الجهات، وعلّله بما يتحصّل في عدم قابلية الجهة للقبول في الوقف على المصالح وعدم معقولية اعتبار القبول فيه.

قال قدس سره: «إنّ الوقف على المصالح العامّة كالقناطر والمساجد، لا يشترط فيه القبول. ووجهه ظاهر؛ لأنّ القبول يكون من الموقوف عليه، وقد عرفت أنّ الموقوف عليه في مثل ذلك هو الجهة ولا يعقل اعتبار قبولها، بخلاف ما لو كان الوقف على معيّن، فإنّ قبوله ممكن فيمكن القول باعتباره»(1).

ولكن أشكل على ذلك في الجواهر بما يتحصّل في الإجماع على عقدية الوقف وأولوية القبول من القبض في الاشتراط؛ حيث قال في جوابه:

«وإن كان لا يخفى عليك ما فيه؛ ضرورة كون القبول جزءاً من الوقف الذي قد عرفت الإجماع على أنّه من العقود، فهو أولى من القبض الذي هو شرط على فرض اعتباره»(2).

كلام صاحب الجواهر

يظهر من صاحب الجواهر اشتراط القبول في صحّة الوقف. وقد استدلّ لذلك بإطباق الفقهاء على كون الوقف عقداً، ونقله عن جامع المقاصد والمسالك.

وأيّد عقديته أوّلاً: بتوقّف إدخال المال في ملك الغير بسبب اختياري على قبول ذلك الغير المنتقل إليه.

********

(1) - مسالك الأفهام 372:5.

(2) - جواهر الكلام 84:28.

ص: 46

وثانياً: بأ نّه لو لم يمكن عقداً، لتعيّن كونه إيقاعاً، ولو كان إيقاعاً، لم يبطله الردّ، ولكنّه يبطل بردّ الموقوف عليه كما صرّح به جماعة. فتعيّن كونه عقداً.

ثمّ نقل عن المحقّق والعلّامة والشهيدين أنّهم صرّحوا بعدم الحاجة إلى القبول في الوقف على الجهات؛ نظراً إلى عدم قابلية الموقوف عليه للقبول فيها، ولما استظهروا من نصوص أوقاف الأئمّة عليهم السلام؛ حيث لم يتعرّضوا للقبول في هذه النصوص(1).

ثمّ ردّ ذلك بقوله: «إلّا أنّ الجميع كما ترى؛ ضرورة عدم اقتضاء الأوّل الصحّة بلا قبول، بل بعد فرض الدليل على اعتباره يتّجه عدم الصحّة فيها حينئذٍ، على أنّ قبول الوليّ العامّ كالحاكم أو منصوبه ممكن، بل ربّما يستفاد من بعض الأدلّة الآتية في القبض الاكتفاء بقبول من يجعله قيّماً لها، ولو نفسه كالقبض، ولعلّه على ذلك ينزّل ما وقع من صدقاتهم بناءً على أنّها من الوقف، لا قسم مستقلّ برأسه، يثبت مشروعيته من هذه الروايات، لخلوّها عن التصريح بكونه وقفاً، ولا بعد في دعوى مشروعية مثل هذا التسبيل بهذه النصوص، وإن لم أجد من احتمله»(2).

ثمّ ناقش في الاستدلال بالأصل لعدم اعتباره؛ بأنّ الأصل يقتضي اعتبار القبول لأنّ مقتضى الأصل عدم ترتّب الأثر شرعاً على السبب الشرعي ما لم يقل دليل على مشروعيته من جانب الشارع.

وناقش في الاستدلال لعدم اعتبار القبول بالأصل، بأنّ مقتضى الأصل عدم ترتّب الأثر الشرعي على ما شُكّ في سببيته الشرعية. وعليه فالأصل

********

(1) - وسائل الشيعة 198:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10.

(2) - جواهر الكلام 6:28.

ص: 47

يقتضي اعتبار القبول وبطلان الوقف بدونه.

وناقش في مطلقات العقد؛ بأ نّها لا تتناول مورد الشكّ في تحقّق معنى الوقف.

والوجه فيه أنّ الخطاب لا يتكفّل لإثبات موضوعه. لأنّ العقد حقيقة ارتباطية لا تتحقّق بدون القبول.

وقد صرّح في الختام باعتبار القبول مطلقاً حتّى في الوقف العامّ واستدلّ لذلك بعقدية الوقف ووحدة معناه في الموردين فإنّه قدس سره قال: «فالوحدة المزبورة حينئذٍ تقتضي اعتباره أيضاً حتّى في الجهات العامّة، بعد فرض مشروعيته فيها، على نحو فرض مشروعية غيره من العقود فيها، من الصدقة وغيرها، وإلّا كان للوقف معنيان أحدهما عقدي والآخر إيقاعي وهو منافٍ للوحدة المزبورة، كما هو واضح ونافع وموافق للذوق السليم»(1).

ولكن يرد عليه أنّ كون الوقف عقداً لا ينافي كفاية القبض عن القبول، بل يتحقّق بالقبض المتحقّق بداعي القبول معنى العقد. وذلك لأنّ الارتباط بين الالتزامين تارة يُبرَز بالقول واُخرى بالعمل المحفوف بالقرينة.

فإنّ القبض عقيب إنشاء الوقف بالصيغة وإيجابه باللّفظ لا ريب في قيامه مقام القبول عُرفاً، ويكفي ذلك في تحقّق معنى العقد، ولا سيّما بعد مساعدة سيرة المتشرّعة في الوقف العامّ وعلى الجهات.

كلام صاحب العروة

و قد علّل في العروة لعدم اعتبار القبول في الوقف مطلقاً:

أوّلاً: بشمول عمومات الوقف لغير الملحوق بالقبول؛ لخلوّها عن قيد اعتبار

********

(1) - جواهر الكلام 6:28-7.

ص: 48

القبول، بل إطلاقها ينفي اعتباره. كقوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1).

وثانياً: بأنّ اعتباره بحاجة إلى دليل شرعي يثبته. فإذا لم يقم دليل على اعتباره، فمقتضى الأصل عدم اعتباره.

وثالثاً: بأ نّه لا إشكال في عدم اعتبار قبول البطون اللاحقة، مع عدم الفرق بينهم وبين البطن السابق من جهة اعتبار القبول. ولكن يمكن الخدشة في الوجه الثاني والثالث.

ورابعاً: بخلوّ نصوص أوقاف الأئمّة(2) عن التعرّض لاعتبار القبول.

أمّا الوجه الثاني: ففيه أنّ مقتضى الأصل عدم زوال الملك السابق وعدم انتقاله عند الشكّ فيه؛ لاحتمال دخل القبول. هذا مضافاً إلى احتياج إثبات السبب الشرعي للنقل إلى دليل شرعي. ومقتضى الأصل عند الشكّ - لاحتمال دخل القبول - عدم سببية الإيجاب وحده للنقل شرعاً.

وأمّا الثالث: فيمكن المناقشة فيه باحتمال خصوصية في البطون اللاحقة، وهي عدم إمكان قبولهم؛ لعدم وجودهم، كما سيجيء في كلام صاحب المسالك. وهذا بخلاف البطن الأوّل الموجود حال الوقف.

وأمّا عموم «الوقوف على حسب...» فهي ناظرة إلى ما كان من شأن الواقف ويرتبط بنيّته. وذلك لظهور قوله: «على حسب ما يوقفها أهلها» فيما يرتبط بنيّة الواقف وكان من شؤون إنشائه، من دون نظر إلى القبول الذي هو فعل القابل.

وأمّا نصوص أوقاف الأئمّة عليهم السلام فهي قضايا جزئية متكفّلة لبيان كيفية إنشائهم

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

(2) - وسائل الشيعة 198:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10.

ص: 49

الوقف الذي هو من قبيل الفعل، والفعل لا إطلاق له ليتمسّك به لنفي اعتبار القبول.

بل غاية مفاد هذه النصوص مشروعية الوقف الصادر منهم بالكيفية المذكورة في هذه النصوص، وهي وإن كانت خالية عن التعرّض للقبول، ولكن من المحتمل قويّاً عدم الحاجة إلى ذكر القبول في صورة إنشاء الوقف.

وذلك أوّلاً: لعدم كون القبول من شؤون الإنشاء. وأنّ هذه النصوص بصدد بيان كيفية إنشاء الوقف الصادر منهم من دون نظر إلى القبول.

وثانياً: لعلّ القبول صدر بتسليم الإنشاء المكتوب إلى الموقوف عليه الذي هو مثل الإمام الحسن عليه السلام فهل يُحتمل عدم قبوله ما أنشأه أبوه أمير المؤمنين عليهم السلام؟! أ فهل ترى احتياج ذلك إلى ذكره في صورة إنشاء الوقف؟!

وثالثاً: إنّ الواقف في هذه النصوص هو الإمام المعصوم، وهو وليُّ الأمر، فيمكن أن يقبل نفسه بما له من الولاية على ذلك، كما احتمل ذلك في الجواهر بقوله: «على أنّ قبول الوليّ العامّ كالحاكم أو منصوبه ممكن. بل ربما يستفاد من بعض الأدلّة الآتية في القبض الاكتفاء بقبول من يجعله قيّماً لها، ولو نفسه كالقبض. ولعلّه على ذلك ينزّل ما وقع من صدقاتهم بناءً على أنّها من الوقف»(1).

وعلى أيّ حال لا تتوقّف صحّة الوقف على ذكر القبول في صورة إنشاء الوقف، بل اللازم - على فرض اعتباره - تحقّقه في الخارج. وعدم إخبار الإمام عن ذلك لا يُخلّ بشيء؛ إذ من الممكن وقوع القبول في الخارج ولم يخبر عنه الإمام عليه السلام؛ لأنّه لم يكن يرى حاجة في ذلك؛ حيث إنّ الفائدة المترتّبة على كتابة صورة إنشاء الوقف إنّما هي ما جاء في هذه النصوص من عدم جواز بيعه وهبته وإرثه وذكر الموقوف عليه وخصوصيات العين الموقوفة، وغير ذلك من الخصوصيات الراجعة

********

(1) - جواهر الكلام 6:28.

ص: 50

إلى نفس الوقف والموقوف عليه والعين الموقوفة.

ولا دلالة لهذه النصوص على عدم حصول القبول في الخارج فضلاً عن عدم اعتباره. ولعلّه مراد المحقّق الكركي من قوله: «ولا دلالة في النصوص الواردة في هذا الباب على عدم حصول القبول»(1).

وأمّا دعوى جريان السيرة على اعتبار القبول، وأ نّها قرينة مانعة من الإطلاق؛ لابتنائه على عدم القرينة على القيد، فهي مصادرة؛ لمنع جريان السيرة على اعتبار القبول، بل لا يبعد دعوى استقرارها على عدم اعتباره في الوقف العامّ الذي هو عمدة موارد الوقف الموجودة في الخارج.

وإليك نصّ كلام صاحب العروة، فتأمّل فيه، حتّى يتّضح لك ضعف مواضع من كلامه ممّا بيّناه، قال: «والأقوى عدم الاشتراط... وذلك للأصل بعد شمول العمومات. ودعوى معلومية عدم دخول عين أو منفعة في ملك الغير بسبب اختياري ابتداءً من غير قبول كما ترى، مصادرة. مع أنّه لا فرق بين الطبقة السابقة واللاحقة في ذلك، مع أنّه لا إشكال في عدم اعتبار قبول اللاحقة. وخلوّ الأخبار المشتملة على أوقاف الأئمّة عليهم السلام عن ذكر القبول؛ فإنّها دالّة على عدم اعتباره، سواء جعلنا ما ذكر فيها صيغة للوقف أو بياناً لأحكامه»(2).

قوله «مصادرة» أي لعلّ السبب الاختياري من قبيل الإيقاع فلا يحتاج إلى قبول.

فكون السبب اختيارياً لا يستلزم القبول.

ثمّ إنّه ممّن قال بعدم اعتبار القبول في الوقف على المصالح العامّة صاحب الشرائع، وتبعه جماعة من الفحول.

********

(1) - جامع المقاصد 11:9.

(2) - العروة الوثقى 281:6-282.

ص: 51

مقتضى التحقيق في المقام

مقتضى التحقيق في المقام عدم اعتبار القبول في الوقف مطلقاً، بلا فرق بين الوقف العامّ والخاصّ. نعم، يعتبر قبض الحاكم أو الموقوف عليه أو شروعه في الفعل المقصود من الوقف.

والوجه فيه: إطلاقات نصوص اعتبار القبض فإنّها تنفي بإطلاقها اعتبار القبول لفظاً.

فإنّ هذه النصوص على طائفتين:

الطائفة الاُولى: ما يظهر منها دوران صحّة الوقف الخاصّ مدار قبض الموقوف عليه؛ حيث دلّ على أنّه إذا مات الواقف قبل القبض بطل الوقف وإذا مات بعده صحّ الوقف.

فإنّ إطلاق حكمه عليه السلام ببطلان الوقف إذا مات الواقف قبل القبض يشمل ما إذا تحقّق القبول قبل موته، فلو كان القبول دخيلاً في صحّة الوقف لم يبطل الوقف مع تحققّه بمجرّد عدم تحقّق القبض، كما أنّ إطلاق حكمه عليه السلام بصحّة الوقف إذا مات الواقف بعد القبض يشمل ما إذا لم يتحقّق القبول قبل موت الواقف. فلو كان القبول معتبراً في صحّة الوقف مطلقاً لم يكن وجهاً لصحّة الوقف مع عدم تحقّقه بمجرّد تحقّق القبض. وهذا بخلاف القبض؛ حيث يستفاد من هذه الطائفة اعتباره مطلقاً.

وأمّا تعليق ذلك على موت الواقف، فلأجل عدم إمكان لحوق القبض والإقباض بعد موته؛ حيث إنّه لو كان حيّاً يمكن تحقّق القبض بإقباضه.

فمن هذه الطائفة صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: أنّه قال في الرجل يتصدّق على ولده وقد أدركوا: «إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث، فإن

ص: 52

تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز، لأنّ والده هو الذي يلي أمره»(1).

لا إشكال في صحّة سندها؛ لأنّ جميع الرجال الواقعين في سندها من الموثّقين، كما لا إشكال في دلالتها بالتقريب المتقدّم. وقوله عليه السلام: «فهو ميراث» كناية عن بطلان الوقف في مفروض الكلام؛ حيث لو صحّ الوقف لم تكن العين الموقوفة داخلة في ملك الواقف حتّى ينتقل بعد موته إلى ورثته.

ونظيرها معتبرة عبيد بن زرارة عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال في رجل تصدّق على ولد له قد أدركوا، قال: «إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث، فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائزٌ، لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره»، وقال: «لا يرجع في الصدقة إذا تصدّق بها ابتغاء وجه اللّه»(2).

هذه الرواية لا كلام في رجال سندها إلّافي قاسم بن سليمان؛ حيث لم يرد في حقّه توثيق خاصّ ولكنّ الأقوى اعتبار رواياته؛ إذ هو من مشاهير الرواة ومعاريفهم؛ لما له من الكتاب والروايات الكثيرة. وقد روى عنه بعض أجلّاء الرواة وفقهائهم مثل يونس بن عبدالرحمان وحمّاد والحسين بن سعيد والنضربن سويد.

ولم يرد في حقّه قدح من أحد. فلو كان في مثله قدح وضعف لبان وظهر؛ بل روى كتابه أحمد بن محمّد بن عيسى الذي كان كثير الطعن وشديد الاحتياط في النقل.

وهو داخل في عموم توثيق جعفر بن قولويه؛ لوقوعه في أسناد كامل الزيارات.

فالأقوى اعتبار رواياته ومن هنا عبّرنا عن هذه الرواية بالمعتبرة.

هذا من جهة السند. وأمّا من جهة الدلالة، فلا إشكال في تماميتها؛ لعين التقريب المتقدّم في الاستدلال بصحيحة محمّد بن مسلم.

********

(1) - وسائل الشيعة 178:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 5.

ص: 53

بل هي أتمّ دلالة من الصحيحة المزبورة. وذلك لعدم تطرّق احتمال إرادة اشتراط القبض في عدم جواز الرجوع وكونه من قبيل شرط اللزوم؛ حيث تعرّض الإمام عليه السلام في ذيلها لحكم الرجوع في الصدقة مستقلاًّ وعلى حدة.

إن قلت: لا نظر لهاتين الروايتين إلى سائر الشروط، بل إنّما تنظران إلى اشتراط القبض؛ فإنّ دلالة خطاب على اعتبار شرط لا يستفاد منها عدم اعتبار سائر الشروط؛ لعدم نظره إليها.

قلت: نعم، الأمر كذلك إذا لم نُحرز كون الإمام بصدد بيان ما له دخل من جهة شاملة لغير ما ذكره. وفي المقام أحرزنا أنّ الإمام بصدد بيان ما له دخل في تمامية الوقف من جانب الموقوف عليه والقبول من هذا القبيل أيضاً، بلا فرق بينه وبين الوقف من هذه الجهة. وعليه فالإطلاق منعقد بالنسبة إلى القبول.

والطائفة الثانية: ما يستفاد منه دوران لزوم الوقف وجواز الرجوع وعدمه مدار القبض من دون فرض موت الواقف.

فمن هذه الطائفة صحيح صفوان بن يحيى عن أبى الحسن عليه السلام قال: سألته عن الرجل يقف الضيعة ثمّ يبدو له أن يحدث في ذلك شيئاً، فقال: «إن كان وقفها لولده ولغيرهم ثمّ جعل لها قيّماً لم يكن له أن يرجع فيها، وإن كانوا صغاراً وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها، وإن كانوا كباراً ولم يسلّمها إليهم ولم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه فله أن يرجعَ فيها، لأنّهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا»(1).

فإنّ قوله: «وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم، لم يكن له أن

********

(1) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 4.

ص: 54

يرجع فيها، وإن كانوا صغاراً وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها، وإن كانوا كباراً ولم يسلّمها إليهم ولم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه فله أن يرجعَ فيها، لأنّهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا».

ظاهر في دوران جواز الرجوع وعدمه مدار تحقّق القبض وعدمه. فإنّ حكمه عليه السلام بعدم جواز الرجوع في الشرطية الاُولى إنّما هو لأجل اشتراط الواقف ولاية الضيعة الموقوفة ولمّا كانت الضيعة بيده فالقبض حاصل. وكذا حكمه عليه السلام لجواز الرجوع في الشرطية الثانية لأجل عدم تحقّق الحيازة والقبض من أولاده الكبار.

ولكنّ التأمّل يقضي أنّ حكم الإمام عليه السلام بجواز الرجوع وعدمه في الحقيقة هو صحّة الوقف وعدمها.

وذلك أوّلاً: بقرينة الروايتين المتقدّمتين في الطائفة الاُولى؛ حيث دلّتا على اعتبار القبض ودخله في أصل صحّة الوقف فيعلم من ذلك أنّ حكمه عليه السلام بجواز الرجوع وعدمه من هذه الصحيحة لأجل تمامية الوقف بالقبض وعدمها بعدمه.

وثانياً: لاتّفاق الأصحاب على كون الوقف عقداً لازماً. ولو كان القبض شرط اللزوم، دون أصل الجواز والصحّة، للزم كون الوقف بدونه صحيحاً جائزاً، وهذا خلاف إجماع الأصحاب.

نعم، لو اريد من الجواز كون عقد الوقف مُراعىً قبل تحقّق القبض؛ بمعنى توقّف تماميته على تحقّق القبض، فلا بأس به.

ومن هذه الطائفة معتبرة محمّد بن جعفر الأسدي في ما ورد: من جواب مسائله عن محمّد بن عثمان العمري، عن صاحب الزمان عليه السلام: «وأمّا ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا وما يجعل لنا ثمّ يحتاج إليه صاحبه فكلّ ما لم يسلّم فصاحبه

ص: 55

فيه بالخيار، وكلّ ما سلّم فلا خيار فيه لصاحبه احتاج أو لم يحتج، افتقر إليه أو استغنى عنه» - إلى أن قال -: «وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلّمها من قيّم يقوم فيها ويعمّرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومؤونتها، ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّماً عليها، إنّما لا يجوز ذلك لغيره»(1).

وجه دلالتها على المطلوب قد سبق آنفاً في تقريب الاستدلال بالصحيحة المتقدّمة. وموضع الاستشهاد قوله عليه السلام: «فكلّ ما لم يسلّم فصاحبه فيه بالخيار، وكلّ ما سلّم فلا خيار فيه لصاحبه احتاج أو لم يحتج، افتقر إليه أو استغنى عنه».

وأمّا مقتضى عقدية الوقف فإنّه وإن كان اعتبار القبول، إلّاأنّه لا ينافي الاكتفاء عنه بنفس القبض إذا جرت عليه سيرة المتشرّعة، كما هو الظاهر من الأدلّة الواردة في الوقف لبيان كيفيته وشرائطه فإنّه لا دلالة لها بوجه على اعتبار القبول بل دلّت بإطلاقها على نفي اعتباره حيث دلّت على دوران صحّة الوقف وتماميته وجواز الرجوع وعدمه مدار تحقّق القبض. وسيأتي ذكر بعض هذه النصوص في مسألة اشتراط القبض في الوقف.

إن قلت: يمكن كون القبض شرطاً آخر غير القبول، ولا منافاة بين اشتراطهما كليهما في صحّة الوقف، كما يحتمل كون القبض شرط تمامية الوقف واستقرار ملكية الموقوف للموقوف عليه وخروجها عن التزلزل، كما يقال في قبض المبيع في البيع.

قلت: كلّ ذلك وإن كان بمكان من الإمكان ثبوتاً، إلّاأنّه لا دليل عليه إثباتاً.

والإطلاق المزبور ينفيه.

********

(1) - وسائل الشيعة 181:19-182، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 56

كالوقف على الفقراء والفقهاء ونحوهما. وأمّا الوقف الخاصّ - كالوقف على الذرّية - فالأحوط اعتباره فيه (1)، فيقبله الموقوف عليهم، ويكفي قبول الموجودين، ولا يحتاج إلى قبول من سيوجد منهم بعد وجوده، وإن كان الموجودون صغاراً أو فيهم صغار قام به وليّهم. لكن الأقوى عدم اعتبار القبول في الوقف الخاصّ أيضاً، كما أنّ الأحوط رعاية القبول في الوقف العامّ أيضاً،

ولا إجماع على اعتبار القبول في الوقف بعد ذهاب الأكثر إلى عدم اعتبار القبول في الوقف مطلقاً.

وأمّا سائر النصوص الواردة في الوقف، فهي؛ إمّا عمومات ومطلقات واردة في مطلق الوقف، فقد قلنا إنّها إمّا غير ناظرة إلى شرائط الوقف كما دلّ منها على فضل الوقف وثوابه.

وإمّا غير ناظرة إلى أصل اشتراط القبول كقوله: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» فإنّه منصرف عن أصل اشتراط القبول.

القبول في الوقف الخاصّ

اشارة

1 - سبق آنفاً أنّه ذهب جماعة من الفقهاء إلى التفصيل بين الوقف الخاصّ وبين الوقف العامّ، فاختاروا اعتبار القبول في الأوّل دون الثاني. ولكن عرفت من كلام السيّد الماتن قدس سره في ختام كلامه تقوية عدم اعتبار القبول مطلقاً حتّى في الوقف الخاصّ. واحتاط استحباباً في اعتباره في المقامين؛ أي الوقف الخاصّ والعامّ.

واستدلّ في الجواهر - في ردّ كلام صاحب المسالك بعد نقل قوله بعدم اعتبار القبول في الوقف على المصالح؛ معلّلاً بعدم القابلية والمعقولية - لاعتبار القبول

ص: 57

مطلقاً؛ أوّلاً: بكون الوقف عقداً. وثانياً: بوحدة سببيته في جميع أقسامه؛ حيث قال في تعليل ذلك:

«ضرورة كون القبول جزءاً من الوقف الذي قد عرفت الإجماع على أنّه من العقود، فهو أولى من القبض الذي هو شرط على فرض اعتباره، وتكلّفوا حصوله بقبض الناظر والحاكم وغيرهما، وقد مرّ تحقيق المسألة، وقلنا: الظاهر وحدة سببية الوقف، لا أنّه عقد في المعيّن، وإيقاع في غيره، وقد استظهرنا كونه عقداً في الجميع، فلا بدّ من القبول من الحاكم أو منصوبه في المفروض، فضلاً عن سابقه»(1).

وعمدة ما استدلَّ به للتفصيل في المقام ما عرفته آنفاً من عدم إمكان قبول الموقوف عليه في الوقف العامّ دون الخاصّ. وأنّ المطلقات كلّها وردت في الوقف العامّ فهي منصرفة عن الوقف الخاصّ، فلا يصحّ التمسّك بإطلاقها لنفي اعتبار القبول في الوقف الخاصّ. وهذان الوجهان كما ترى مجرّد دعوى قد اتّضح بطلانها ممّا بيّنّاه.

والذي ينبغي أن يقال في جواب صاحب الجواهر: أنّ مقتضى القاعدة وإن كان اعتبار القبول بعد البناء على كونه عقداً، إلّاأنّه لا ينافي كفاية القبض عنه بعد مساعدة الدليل الخاصّ سيرة المتشرّعة وظواهر النصوص الواردة في الوقف الخاصّ(2) وقد سبق آنفاً ذكر موضع الحاجة منها وتقريب الاستدلال بها، وسيأتي بيان مفاد هذه النصوص في شرح المسألة الثامنة.

وأمّا وحدة سببية الوقف في جميع أقسامه، فلا ينافي إلغاءَ اعتبار القبول فيما لا قابلية للموقوف عليه للقبول في الوقف العامّ، ولا سيّما بعد اقتضاء الإطلاقات

********

(1) - جواهر الكلام 84:28.

(2) - وسائل الشيعة 178:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4.

ص: 58

الواردة في الوقف العامّ والخاصّ كليهما نفي اعتباره، وجريان سيرة المتشرّعة على الاكتفاء بالقبض الذي هو القبول الفعلي في الأوقاف مطلقاً، بل بنفس الشروع في العمل المقصود من الوقف في الوقف على المصالح، كما سبق بيانه.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّ التحقيق عدم اعتبار القبول اللفظي مطلقاً، بلا فرق بين الوقف الخاصّ وبين الوقف العامّ.

وذلك لأنّ اعتباره يحتاج إلى دليل شرعي. والدليل على ذلك لا يخلو من كونه:

إمّا إجماعاً، أو دليلاً لفظياً من النصوص الواردة في الوقف، وإمّا مقتضى عقدية الوقف.

أمّا الإجماع على اعتبار القبول اللفظي فغير متحقّق قطعاً؛ لما عرفت من ذهاب أكثر الأصحاب إلى عدم اعتبار القبول في الوقف مطلقاً، بلا فرق بين الوقف الخاصّ وبين الوقف العامّ.

وأمّا النصوص فقد عرفت آنفاً أنّ عموماتها ومطلقاتها بين ما لا نظر لها إلى شرائط الوقف وبين ما تدلّ بإطلاقها على نفي اعتبار القبول.

فإنّ المطلقات على طوائف.

فمنها: ما بصدد الترغيب إلى أصل الوقف وبيان استحبابه وفضله وثوابه كالروايات الواردة في الباب الأوّل من أحكام الوقف في الوسائل.

ومن هذا القبيل النبوي المعروف «حبّس الأصل وسبّل الثمرة»، بناءً على انجبار ضعف سنده بفتوى المشهور بمضمونه على فرض ثبوت تعريف الوقف في كلمات أكثر القدماء بمتن هذا النبوي كما جاء في كلام صاحب الشرائع.

لا تصلح هذه الطائفة للتمسّك بإطلاقها لنفي اعتبار القبول كما هو واضح؛ حيث إنّها بصدد تشريع أصل الوقف، من دون نظر لها إلى الشرايط والخصوصيات.

ص: 59

ومنها: إطلاق قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها» وهذه الطائفة أيضاً لا نظر لها إلى الخصوصيات المقوّمة لأصل الوقف كالقبول وقصد القربة، بل ظاهرها بدلالة السياق أن الوقف - بعد ما تحقّقت صحيحةً - تكون في كيفيتها وخصوصياتها الراجعة إلى خصوصيات الموقوف عليه وأمر الوقف والجهات الموقوف لها تابعة لنيّة الواقفين الذين هم أهل الوقوف وصاحبها. فهاتان الطائفتان لا تصلحان لنفى اعتبار القبول.

ومنها: النصوص الواردة في كيفية أوقاف الأئمّة عليهم السلام(1).

فقد يتمسّك بإطلاقها لنفي اعتبار القبول كما يظهر من صاحب العروة. وقد عرفت المناقشة في ذلك بأ نّه لا دلالة لها بوجه على عدم حصول القبول، فضلاً عن دلالتها على نفي اعتباره.

ومنها: نصوص تضمّنت دوران صحّة الوقف وتماميته مدار القبض. وهذه الطائفة هي الصالحة للتمسّك بها لنفي اعتبار القبول اللفظي مطلقاً؛ لأنّ بعضها ورد في الوقف العامّ كمعتبرة الأسدي؛ حيث وردت في الوقف على جهة الناحية عليه السلام الذي هو من قبيل الوقف في سبيل اللّه في الحقيقة؛ حيث قال عليه السلام: «وكلّ ما سُلّم فلا خيار فيه لصاحبه احتاج أو لم يحتج»(2).

وبعضها ورد في الوقف الخاصّ. وقد سبق ذكر موضع الحاجة منه وتقريب الاستدلال به آنفاً. وسيأتي بيان هذه الطائفة من النصوص، في شرح المسألة الثامنة. فإنّها قد دلّت بإطلاقها على عدم اعتبار القبول وجواز الاكتفاء عنه بالقبض - الذي هو القبول الفعلي في الحقيقة -؛ حيث دلّت بوضوح على دوران صحّة

********

(1) - راجع: وسائل الشيعة 198:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10.

(2) - وسائل الشيعة 181:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 60

والقائم به الحاكم أو المنصوب من قبله (1).

الوقف وتماميته مدار القبض، لا غيره.

وأمّا عقدية الوقف فعلى فرض تسليمها، فلا تنافي كفاية القبص عن القبول، مع فرض كون إيجابه لفظياً بالصيغة، بعد مساعدة سيرة المتشرّعة وظواهر النصوص الواردة.

وقد حَكمَ السيّد الماتن قدس سره بعدم اعتبار القبول في الوقف مطلقاً واحتاط في اعتباره استحباباً مطلقاً، بلا فرق بين الوقف الخاصّ والعامّ كما عرفت.

وقد عرفت من ضوء ما بيّنّاه أنّ مقتضى التحقيق في المقام ما اختاره السيّد الإمام الراحل قدس سره.

من يعتبر قبوله في الوقف

1 - وذلك لما للحاكم من الولاية على الاُمور الحسبية، بل الولاية المطلقة على جميع ما للإمام المعصوم عليه السلام ممّا يرتبط بشؤون الحكومة والإمارة وكفالة الاُمّة وقيادتهم الشرعية.

ولكنّه في الوقف العامّ والوقف على الجهات؛ لأنّها من الاُمور العامّة.

وأمّا في الوقف الخاصّ فالأقوى اعتبار قبض الموقوف عليه، كما صرّح بذلك صاحب العروة؛ حيث قال: «ثمّ على القول باعتبار القبول يكفي قبول الناظر أو الحاكم الشرعي في الأوقاف العامّة. وأمّا مثل الوقف على الأولاد، فاللازم فيه قبولهم، وإن كانوا صغاراً فقبول وليّهم أو وكيله»(1).

********

(1) - العروة الوثقى 282:6.

ص: 61

(مسألة 7): الأقوى عدم اعتبار قصد القربة (1) حتّى في الوقف العامّ؛ وإن كان الأحوط اعتباره مطلقاً.

قصد القربة في الوقف

اشارة

1 - وقع الخلاف في اعتبار قصد القربة في الوقف. والذى يظهر من قدماء الأصحاب اعتباره، كما عن الشيخ المفيد وابن إدريس والشيخ في النهاية(1)؛

بل نسب ذلك إلى المشهور في العروة؛ حيث قال: «المشهور اشتراط القربة في صحّة الوقف»(2).

بل حكى في الجواهر(3) عن الغنية والسرائر الإجماع عليه، وإن ردّه بأ نّا لم نتحقّقه؛ لخلوّ كثير من عبارات الأصحاب المشتملة على بيان شرائطه عنه.

وخالف ذلك جماعة من المتأخّرين، منهم المحقّق الكركي في جامع المقاصد؛ حيث أشكل على العلّامة بقوله: «ويشكل بانتفاء دليل الاشتراط»(4).

وممّن قال بعدم اشتراطه الشهيد في الروضة والمسالك، بل استظهره في مفتاح الكرامة(5) من كلام صاحب الشرائع في الوقف على الذمّي.

ويظهر من صاحب الجواهر عدم اعتباره.

هذا ما يظهر من كلمات الفقهاء وآرائهم في المقام.

********

(1) - المقنعة: 652؛ النهاية: 596؛ السرائر 152:3.

(2) - العروة الوثقى 282:6.

(3) - جواهر الكلام 7:28.

(4) - جامع المقاصد 15:9.

(5) - مفتاح الكرامة 15:9.

ص: 62

بيان الاستدلال لاعتبار قصد القربة

ويمكن الاستدلال لاعتبار قصد القربة في الوقف بوجوه.

الأوّل: الوقف صدقة؛ لإطلاق الصدقة عليه في النصوص وكلمات قدماء الأصحاب.

ويمكن تقريب هذا الاستدلال بتمهيد مقدّمتين:

إحداهما: الصغرى، وهي: أنّ الوقف صدقة. وذلك لإطلاق لفظ الصدقة عليه في النصوص وكلمات الأصحاب بلا قرينة وعناية.

وثانيتهما: كبرى اعتبار قصد القربة في الصدقة. وذلك بدليل النصوص. والنتيجة أنّ الوقف يعتبر فيه قصد القربة.

أمّا الصغرى: فيكفي لإثباتها كلمات القدماء والنصوص المعبَّر فيها عن الوقف بالصدقة.

أمّا كلمات القدماء: فقال الشيخ المفيد: «والوقوف في الأصل صدقات لا يجوز الرجوع فيها»(1).

وقال الشيخ الطوسي: «والوقف والصدقة شيء واحد. ولا يصحّ شيء منهما، إلّا ما يُتقرَّب به إلى اللّه تعالى، فإن لم يقصد بذلك وجه اللّه لم يصحّ الوقف»(2).

وقال ابن إدريس: «وجوه العطايا ثلاثة، اثنان منها في حال الحياة وواحد بعد الوفاة... فاللذان في حال الحياة فهما الهبة والوقف. فإن قيل: والصدقة، قلنا:

الوقوف في الأصل صدقات فلأجل هذا لم نذكرها»(3).

********

(1) - المقنعة: 652.

(2) - النهاية: 596.

(3) - السرائر 152:3.

ص: 63

وقال العلّامة في استدلاله لخروج أرباب الوقف عن الاستحقاق بتغييره وتبديله بقوله: «لأنّ الوقف صدقة ومن شرط الصدقة التقرّب بها إلى اللّه، فمن لا يصحّ التقرّب عليه يبطل الوقف عليه»(1).

وقد فسّر في الحدائق قول الشيخ المفيد في المقنعة بقوله: «قوله في المقنعة: «إنّ الوقف في الأصل صدقات، بمعنى أنّه إنّما يطلق في الأصل والصدر السابق على الوقف لفظ الصدقة. وهو حقّ كما سمعته من الأخبار المتقدّمة، سيّما أخبار وقوف الأئمّة عليهم السلام وإليه يشير قوله عليه السلام في هذين الخبرين: «إنّما الصدقة محدثة»؛ يعنى إطلاق هذا اللفظ على ما يعطى بقصد التقرّب محدث. وإنّما الذي كان يستعمل في زمنه صلى الله عليه و آله النحلة والهبة، أعمّ من أن يكون مقترنة بالتقرّب للّه سبحانه - فتدخل فيه الصدقة، بالمعنى المتأخّر - أو لم يكن كذلك، وهذا المعنى الذي استعمل فيه لفظ الصدقة إنّما هو الوقف. والمستعمل من لفظ الصدقة في الصدر الأوّل إنّما هو الزكاة، كما دلّت عليه الآية، وحينئذٍ فإذا كان الأصل في إطلاق الصدقة إنّما هو المعنى المترتّب على لفظ الوقف، فلا بدّ من اشتراط التقرّب فيه لاشتراط الصدقة بالقربة، وإن جرى ذلك أيضاً في الصدقة بالمعنى المتأخّر فيجب اشتراط القربة في الصدقة بكلّ من المعنيين بالتقريب المذكور.

ومجمله أنّ إطلاق لفظ الصدقة على الوقف كما عرفت في الأخبار إنّما هو من حيث إنّ الوقوف إنّما تكون للّه سبحانه، وما كان للّه سبحانه فلا رجعة من هذه الجهة لأنّه قد استحقّ الأجر، وكتب له الثواب، فلا يجمع بين العوض والمعوّض، وبهذا التقريب يتمّ المدّعى من شرطية التقرّب في الوقف، كما هو

********

(1) - مختلف الشيعة 285:6-286.

ص: 64

قول أولئك الفضلاء المتقدّمين»(1).

مقصوده قدس سره من هذين الخبرين موثّقة عبيد بن زرارة، قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الرجل يتصدّق بالصدقة، أله أن يرجع في صدقته؟ فقال عليه السلام: «إنّ الصدقة محدثة إنّما كان النحل والهبة، ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز، ولا ينبغي لمن أعطى شيئاً للّه عزّ وجلّ أن يرجع فيه»(2).

وصحيحة زرارة عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إنّما الصدقة محدثة، إنّما كان الناس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ينحلون ويهبون. ولا ينبغي لمن أعطى للّه شيئاً أن يرجع فيه». قال: «وما لم يعط للّه وفي اللّه فإنّه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة حيزت أو لم تحز»(3).

ولا يخفى: ما في ذيل هذه الصحيحة من الإشعار باختصاص ما يعطى لغير اللّه بالبهة والنحلة وخروج الوقف عن ذلك.

حاصل مفاد هذين الخبرين أنّ الوقف والصدقة المستحبّة كان في عهد النبي صلى الله عليه و آله يُعبّر عنهما بالهبة والنحلة. وكان هذان اللفظان يستعملان في الأعمّ ممّا يعطى لوجه اللّه وما يُعطى لغير ذلك. ولكن في زمان الأئمّة المعصومين عليهم السلام اختصّ لفظ الصدقة بما يُعطى لوجه اللّه وبقي لفظ النحلة والهبة مختصّاً بما يُعطى لغير اللّه.

والغرض أنّ لفظ الصدقة في زمانهم عليهم السلام كان يستعمل في مطلق ما يعطى لوجه اللّه، من الوقف والصدقة المستحبّة.

وقوله قدس سره: «وحينئذٍ فإذا كان الأصل...»؛ بمعنى أنّ المعنى الذي هو الأصل في

********

(1) - الحدائق الناضرة 155:22.

(2) - وسائل الشيعة 243:19، كتاب الهبات، الباب 10، الحديث 1.

(3) - وسائل الشيعة 231:19، كتاب الهبات، الباب 3، الحديث 1.

ص: 65

إطلاق الصدقة - وهو الزكاة - لمّا كان مترتّباً على لفظ الوقف؛ لاشتراكهما في لفظ الصدقة، فلا بدّ من اشتراط التقرّب في الوقف. وذلك لاشتراط الصدقة بالقربة وقوله: «بكلا المعنيين»، أحدهما: الأصل في إطلاق لفظ الصدقة وهو الزكاة.

ثانيهما: الصدقة بمعناها المحدث المتأخّر.

أمّا النصوص التي اطلق فيها لفظ الصدقة بمعنى الوقف فهي كثيرة يجدها المتتبّع في نصوص أبواب الوقوف والصدقات من كتاب الوسائل. وقد عرفت بعضها وستعرفها أكثر من ذلك في خلال المباحث الآتية.

كلام صاحب الجواهر وردّه

وقد ناقش صاحب الجواهر في ذلك: بأنّ هذه النصوص لا تُثبت أنّ الوقف بجميع مصاديقه من قبيل الصدقة؛ بحيث لا يكون غيرها وقفاً، بل أقصى مدلولها كون بعض أنحاء الوقف من قبيل الصدقة، وهو ما قصد به وجه اللّه تعالى.

فإنّه قدس سره قال في تعليل هذه المناقشة: «ضرورة عدم اقتضاء شيءٍ من ذلك أنّ الوقف جميعه من الصدقة، بل أقصاه أنّ منه ما يكون كذلك، وهو ما قصد به وجه اللّه تعالى، وهو الذي وقع منهم عليهم السلام ولذا أتبعوه بذلك. ولا دلالة فيه على اعتبارها في صحّته على وجه، بحيث لو وقف على ولده ونحوهم من دون ملاحظة القربة، يكون باطلاً. مع أنّ مقتضى ما سمعته من الإطلاقات صحّته. وما من الغنية والسرائر من الإجماع على ذلك لم نتحقّقه، لخلوّ كثير من عبارات الأصحاب المشتملة على بيان شرائطه عنه»(1).

ويرد على صاحب الجواهر: أنّ صدق عنوان الوقف وإطلاق لفظه حقيقةً على ما

********

(1) - جواهر الكلام 7:28.

ص: 66

يعطى لغير وجه اللّه تعالى والإعطاءِ المجرّد عن قصد وجه اللّه والقربة إليه تعالى، خلاف ارتكاز المتشرّعة. فإنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة من عنوان الوقف هو الإعطاء على وجه القربة ومن هنا يصحّ سلب عنوان الوقف في عرف المتشرّعة عمّا اعطي لغير وجه اللّه من العطايا والهدايا، ولا سيّما من الفسقة والكفرة.

ويشهد لذلك ما جاء في كلمات قدماء الأصحاب في تعريف الوقف بقولهم:

«تسبيل المنفعة» وما استقرّ عليه فتاواهم من اعتبار قصد القربة في الوقف. هذا مضافاً إلى ما جاء في النبوي «سبِّل الثمرة» وقد سبق أنّ لفظ التسبيل في اللغة بمعنى جعل المال في سبيل اللّه تعالى. ولأجل ذلك اطلق عليه لفظ الصدقة في النصوص. ولم يدلّ نصٌّ بالخصوص على إطلاق لفظ الوقف على ما يُعطى لغير وجه اللّه.

نعم، قوله عليه السلام: «لا يرجع في الصدقة إذا تُصدِّق ابتغاء وجه اللّه» في معتبرة عبيد بن زرارة(1) يشعر، بل لا يخلو من دلالة على صدق عنوان الصدقة على ما كان منها لغير وجه اللّه. ولعلّه منشأ توجيه صاحب الجواهر.

ولكن يمكن إرادة مجرد التعليل من هذه الفقرة، أي؛ لأنّه تصدّق ابتغاء وجه اللّه.

بل لا مناص من ذلك بعد دلالة النصوص المزبورة بأداة الحصر على اختصاص الصدقة بما كان للّه.

وسيأتي في البحث عن اشتراط القبض ذكر هذه المعتبرة وتنقيح سندها. كما يمكن حمله على المقابلة بين الصدقة وبين الهبة والنحلة؛ بأن يراد نفي الهبة والنحلة بمفهوم «إذا» الشرطية.

ويشهد لهذا المحمل موثّقة داود بن الحصين عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: سألته هل

********

(1) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 5.

ص: 67

لأحد أن يرجع في صدقة أو هبة؟ قال عليه السلام: «أمّا ما تصدّق به للّه، فلا. وأمّا الهبة والنحلة، فإنّه يرجع فيها»(1).

وجه الاستشهاد أنّ في هذه الموثّقة قوبل بين الهبة والنحلة وبين الصدقة للّه.

ومثل معتبرة عبيد صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل كانت له جارية فآذته فيها امرأته، فقال: «هي عليك صدقة». فقال عليه السلام: «إن كان قال: ذلك للّه فليمضها، وإن لم يقل فليرجع فيها إن شاءَ»(2).

فإنّ في هذه الصحيحة أيضاً قوبل بين التصدّق للّه وبين التصدّق لغيره. ويمكن توجيهها نظير ما قلنا في توجيه المعتبرة؛ بأنّ مراده عليه السلام أنّ الرجل إن كان قال:

«ذلك للّه» فالجارية صدقة فلا يجوز الرجوع فيها وإن لم يكن قوله: «ذلك للّه» فهي هبة ونحلة يجوز الرجوع فيها.

فإنّ ظاهر هاتين الروايتين - بقرينة ما دلّ من النصوص على اختصاص الصدقة بما يُعطى للّه وما دلّ على أنّ ما يعطى لغير اللّه من قبيل الهبة والنحلة - أنّ الصدقة اخذ فيها قصد القربة وأن ما يُعطى لغير وجه اللّه ليس من قبيل الصدقة المعهودة في الشريعة.

فتثبت من جميع ذلك أنّ الوقف صدقة، هذه صغرى الاستدلال.

وأمّا الكبرى: فهي كلّ صدقة يعتبر فيه قصد التقرّب. وقد دلّت على هذه الكبرى صحاح هشام وحمّاد وابن اذينة وابن بكير وغيرهم كلّهم قالوا: قال أبو عبداللّه عليه السلام:

«لا صدقة ولا عتق إلّاما اريد به وجه اللّه عزّ وجلّ»(3).

********

(1) - وسائل الشيعة 238:19، كتاب الهبات، الباب 6، الحديث 3.

(2) - وسائل الشيعة 209:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 13، الحديث 1.

(3) - وسائل الشيعة 210:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 13، الحديث 3.

ص: 68

ومثلها صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «لا صدقة ولا عتق، إلّا ما اريد به وجه اللّه عزّ وجلّ»(1)

وممّا يدلّ على ذلك ما رواه الصدوق بإسناده عن موسى بن بكر، عن الحكم، قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: إنّ والدي تصدّق عليّ بدار، ثمّ بدا له أن يرجع فيها، وإنّ قضاتنا يقضون لي بها، فقال: عليه السلام «نعم ما قضت به قضاتكم، وبئس ما صنع والدك، إنّما الصدقة للّه عزّ وجلّ، فما جعل للّه عزّ وجلّ فلا رجعة له فيه»(2).

قوله: «قضت به قضاتكم» كان الأصحّ قضى به قضاتكم؛ لأنّ القضاة الجمع المذكّر المكسّر. ولا يؤنّث الفعل لأجل التكسير في الجمع المذكّر من ذوي العقول.

فلا يقال: روت الرواة، بل يقال: روى الرواة وأجمع النحاة. والظاهر أنّ الاشتباه من المستنسخ، أو الراوي.

وثانياً: بما ورد من النصوص الخاصّة في الوقف. فاستدلّ بهذه النصوص لاعتبار قصد القربة في الوقف.

فمن هذه النصوص: صحيح عبدالرحمان بن الحجّاج، قال: بعث إلىّ بهذه الوصيّة أبو إبراهيم عليه السلام: «هذا ما أوصى به وقضى في ماله عبداللّه عليّ؛ ابتغاءَ وجه اللّه ليولجني به الجنة ويصرفني به عن النار، ويصرف النار عنّي يوم تبيضّ وجوه... وإنّ الذي كتبت من أموالي هذه صدقة واجبة بتلة حيّاً أنا أو ميّتاً ينفق في كلّ نفقة أبتغي بها وجه اللّه في سبيل اللّه ووجهه وذوي الرحم من بني هاشم وبني المطّلب... هذا ما قضى به علي بن أبي طالب عليه السلام في أمواله هذه الغد من يوم

********

(1) - وسائل الشيعة 209:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 13، الحديث 2.

(2) - وسائل الشيعة 204:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 1.

ص: 69

قدم مسكن ابتغاء وجه اللّه والدار الآخرة»(1). قوله: «الغد»، ظرف للقضاء، وهو كناية عن جعل ماله ذُخراً ليوم القيامة، يوم الفاقة والحسرة.

ومنها: صحيحه الآخر، قال: أوصى أبوالحسن عليه السلام «... تصدّق بأرضه في مكان كذا وكذا كلِّها، وحدُّ الأرض كذا وكذا... تصدّق موسى بن جعفر عليه السلام بصدقته هذه وهو صحيح صدقة حبساً بتّاً بتلاً مبتوتة لا رجعة فيها ولا ردَّ؛ ابتغاء وجه اللّه والدار الآخرة»(2).

هذا مضافاً إلى رأي مشهور القدماء؛ حيث أفتوا باعتبار قصد القربة في الوقف.

ولكن يمكن المناقشة في دلالة النصوص الخاصّة المزبورة على اعتبار قصد القربة؛ لإمكان حمل ما صدر عنهم عليهم السلام على طلب الأجر والثواب بذلك؛ إذ لا يترتّب شيء من الثواب بدون قصد القربة وإن صحّ ولزم، كما قال في الحدائق(3).

وأمّا الشهرة الفتوائية فلا حجّية لها، كما ثبت في محلّه.

بقيت هاهنا نكتة، وهي أنّه هل ينافي اعتبار قصد القربة عقدية الوقف.

والجواب: أنّ ماهية العقد ليست إلّاتوثيق التزام طرفي المعاملة وتؤكيد التزام المتعاقدين وارتباط التزامهما. وهذا المعنى لا ينافي اعتبار قصد القربة لو دلّ عليه دليل شرعي من الخارج. وإنّما الفرق بين العبادات والمعاملات أنّ العبادية بنفسها اخذ فيها قصد القربة بذاتها، بخلاف المعاملات. ولكن لا منافاة بين حقيقة المعاملة وبين اعتبار قصد القربة فيها إذا دلّ عليه دليل من جانب الشارع. فلا بدّ لإثبات اعتبار قصد القربة في الوقف - بناءً على عقديته - من دليل شرعي خاصّ. وقد

********

(1) - وسائل الشيعة 199:19-201، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 3.

(2) - وسائل الشيعة 202:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 4.

(3) - الحدائق الناضرة 154:22.

ص: 70

عرفت وجه ذلك. فتثبت بذلك عبادية الوقف من دون منافاة لكونه عقداً. وإنّ عبادية الوقف تقتضي اعتبار قصد القربة، ولو لأجل كونه من قبيل الصدقات.

استدلال القائلين بعدم اعتبار قصد القربة

وأمّا القائلون بعدم اعتبار قصد القربة في الوقف، فاستدلّوا لذلك؛

أوّلاً: بإطلاقات نصوص المقام، مثل قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها» في صحيحة محمّد بن يحيى(1).

وقوله عليه السلام: «الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء اللّه تعالى» في مكاتبة محمّد بن الحسن الصفّار(2).

فقد استدلّ في الجواهر(3) بإطلاق هذه الطائفة من النصوص لنفي اعتبار قصد القربة في الوقف، مؤيّداً بمقتضى الأصل؛ لأنّ مقتضاه عدم اعتبار قصد القربة عند الشكّ.

وثانياً: بالتزام الأصحاب وفتواهم بصحّة الوقف من الكافر، كما استدلّ به في الجواهر وكذا في العروة، قال: «المشهور اشتراط القربة في الوقف. والأقوى وفاقاً لجماعة عدم اشتراطه؛ للإطلاقات، ولصحّته من الكافر، وإطلاق الصدقة عليه إنّما هو باعتبار الأفراد التي يقصد فيه القربة ولا يلزم أن يكون جميع أفراده كذلك. نعم ترتّب الثواب موقوف على قصد القربة»(4).

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 2.

(2) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1.

(3) - جواهر الكلام 7:28.

(4) - العروة الوثقى 282:6.

ص: 71

هذا، ولكن يرد عليهم:

أوّلاً: أنّ قصد القربة من قبيل الانقسامات الثانوية؛ ويمتنع أخذه في متعلّق الخطاب الأوّلي، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق لنفيه؛ فإنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، وكلّ قيد لا شأنية للكلام التقييد به لا يصحّ التمسّك بإطلاقه لنفي ذلك القيد، كما ثبت ذلك في محلّه من علم الاُصول.

ولكن هذا الوجه غير تامّ عندنا لما قلنا في محلّه - وهو مسألة التعبّدي والتوصّلي من علم الاُصول - من إمكان أخذ القيود المتأخّرة عن جعل الحكم في موضوعه؛ نظراً إلى سعة باب الاعتبار ولتوقّف أخذ القيد على فرض وجوده لا وجوده.

هذا، مع أنّ أصل ثبوت الإطلاق في نصوص المقام - ولو بالإطلاق المقامي - محلّ تأمّل، بل منع. وذلك لعدم كون مثل قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» ناظراً إلى بيان شرائط الوقف، بل إنّما هو ناظر إلى مصرف الوقف، وبيان اعتبار ما جَعَل فيه شخص الواقف، من القيود والشرائط الراجعة إلى الموقوف عليه وكيفية الصرف، دون ما كان جعله بيد الشارع أو بحكم العقل، وخارج عن شأن الواقف.

بيان ذلك: أنّ الإطلاق المقامي إنّما ينعقد فيما إذا احرز كون المتكلّم بصدد بيان كلّ ماله دخل في متعلّق الأمر أو الجعل، وإن شئت فقل: إذا احرز كونه بصدد بيان كلّ ماله دخل في المكلّف به من الشرائط والقيود.

وعليه فإذا أحرزنا بحسب سياق الكلام عدم نظره إلى بعض القيود وأ نّه ليس بصدد بيان اعتباره، فلا يصحّ التمسّك حينئذٍ بالإطلاق المقامي؛ لعدم تمامية مقدّمته حينئذٍ.

ص: 72

وفي المقام: فإنّ قوله: «الوقوف حسب ما يقفها أهلها» ناظرٌ إلى ما يكون جعله ووضعه في شأن أهل الوقوف أي الواقفين، من شرائط الموقوف عليه وكيفية التصرّف وزمانه وسائر الخصوصيات. ولا نظرله إلى ما ليس جعله من شأن الواقف وخارج عن اختياره، بل من شأن الشارع، كقصد القربة إلى اللّه تعالى، ولا أقلّ من خروجه عن جعل الواقفين عادةً.

وإن كان المراد من الإطلاقات إطلاق: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) . ففيه: أنّ هذا الإطلاق قد قيّد بإطلاقات نصوص المقام، وهي ما دلّ منها على كون الصدقة للّه وأنّ الوقف من قبيل الصدقة. وأ نّه لا يجوز الرجوع فيما كان للّه.

وأمّا قوله صلى الله عليه و آله: «حبِّس الأصل وسبِّل الثمرة»(1). فلم تثبت صحّة سنده، مع عدم نظره إلى بيان شرائط الوقف أيضاً. ولا ينعقد للكلام إطلاق، إلّامن حيث ما كان المتكلّم بصدد بيانه فلم يقيّد كلامه به، دون ما لا نظر له إليه في كلامه.

هذا، مع أنّ لفظ التسبيل اخذ في معناه قصد القربة؛ حيث جاء في اللغة بمعنى جعل المال في سبيل اللّه، كما بيّنّا ذلك في تعريف الوقف مستشهداً بكلمات بعض أهل اللغة.

وثانياً: على فرض ثبوت الإطلاق لهذه الطائفة من النصوص، يمكن تقييد إطلاقها بما سبق من النصوص الدالّة على أنّ الوقف من قبيل الصدقة وأنّ الصدقة للّه تعالى.

وثالثاً: إنّ صحّة الوقف من الكافر لم يثبت إجماعهم عليه؛ لمخالفة بعضهم، كما نقله في المفتاح(2).

********

(1) - مستدرك الوسائل 47:14، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1.

(2) - مفتاح الكرامة 62:9.

ص: 73

هذا، مع تأويل الفقهاء صحّة الوقف منه بأنّ نيّته حسب اعتقاده باللّه تعالى في دينه ومسلكه، كما نقل عنهم في المفتاح.

مضافاً إلى أنّ الإجماع على فرض حصوله فهو على خلاف القاعدة، وإلّا لم يكن إجماعاً تعبّدياً، فإنّ الإجماع التعبّدي إنّما يكون فيما لم يدلّ عليه دليل أو قاعدة. وعليه فلا يصحّ التعدّي عن مورد الإجماع إلى غيره؛ اقتصاراً فيما خالف القاعدة على موضع النصّ، كما قرّرنا هذه القاعدة في كتابنا «بدايع البحوث».

ورابعاً: بأنّ النصوص الواردة في الوقف كلّها إنّما عُبِّر فيها عن الوقف بالصدقة، كما اعترف بذلك في الجواهر بقوله: «بل لم يذكر فيما ورد ممّا أوقفوه عليهم السلام إلّا بلفظ الصدقة»(1).

وقد عرفت هذا التعبير فيما ذكرناه من النصوص آنفاً. فإنّها دلّت بأداة الحصر - مثل إلّاوإنّما - على اختصاص الصدقة بما يعطى للّه وفي سبيله تعالى. وقلنا هناك:

أنّ ما ورد في معتبرة عبيد عن أبي عبداللّه عليه السلام: «لا يُرجع في الصدقة إذا تُصدِّق بها ابتغاء وجه اللّه»(2). ومثلها كلمات قدماءِ الأصحاب، بل صرّح الشيخ المفيد بأ نّهما شيء واحد. فإنّ القدماءَ كانوا قريبين إلى عصر المعصومين وكان المرتكز في أذهانهم من العناوين الشرعية موافقاً لمرتكزات أصحاب الأئمّة عليهم السلام.

وخامساً: إنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة - حديثاً وقديماً - كون الوقف أمراً عبادياً، ولا إشكال في اعتبار قصد القربة في العبادات.

فالأقوى في المقام اعتبار قصد القربة في صحّة الوقف، كما عليه المشهور.

********

(1) - جواهر الكلام 7:28.

(2) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 5.

ص: 74

(مسألة 8): يشترط في صحّة الوقف القبض (1)، ويعتبر فيه أن يكون بإذن الواقف،

اشتراط القبض في صحّة الوقف

اشارة

1 - يقع الكلام في المقام تارة: في اشتراط القبض في صحّة الوقف، واُخرى في لزومه، وثالثة: في اعتبار إذن الواقف في القبض. وأيضاً يقع الكلام في الجهة الاُولى تارة: في الوقف الخاصّ واُخرى: في الوقف العامّ.

وقبل الورود في البحث ينبغي التنبيه على نكتة؛ وهي: أنّ القبض لو كان شرطاً في لزوم الوقف دون صحّته، يكون معناه صحّة الوقف قبل تحقّق القبض وكون عقد الوقف مراعىً ومتزلزلاً حتّى يتمّ ويلزم بتحقّق القبض. وتظهر ثمرته في دخول نماء العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه في المدّة المتخلّلة بين إنشاء الوقف وبين تحقّق القبض.

ولكنّ الحقّ في المسألة أنّ ذلك خارج عن مقصود الفقهاء في المقام؛ حيث إنّهم لم يعنوا ذلك من اشتراط القبض في لزوم الوقف، بل إنّما أرادوا بذلك اشتراطه في الصحّة. وإنّما عبّروا باللزوم؛ لأنّ الوقف لا يصحّ إلّالازماً؛ لأنّه عقد لازم.

إن قلت: البيع أيضاً عقد لازم فكيف تتحقّق الملكية متزلزلاً قبل القبض بنفس الإيجاب والقبول، فكذلك في المقام.

قلت: فرق بينهما، فإنّ الدليل قد دلّ على عدم الرجوع في الوقف بوجه لا بالفسخ ولا بالإقالة، وهذا بخلاف البيع والإجارة وسائر المعاملات.

ص: 75

ويشهد لما قلنا ما نقله في المفتاح(1) عن بعض فحول الفقهاء كالشهيدين وغيرهما أنّ مراد الأصحاب من اشتراط القبض في اللزوم اشتراطه في أصل الصحّة.

وبناءً على ذلك لا معنى لاتّفاق الأصحاب في اعتبار القبض في اللزوم واختلافهم في اشتراطه في الصحّة كما يظهر من صاحب المفتاح؛ حيث قال:

«قلت: لا ريب أنّه شرط اللزوم، ولكن هل هو شرط في الصحّة أيضاً؟»(2).

تحرير كلام صاحب الجواهر

وقد حرّر في الجواهر كلمات الأصحاب في المقام واستنتج من ذلك في نهاية الشوط أنّ المسألة ذات قولين ولا إجماع في البين على كون القبض شرط الصحّة كما يظهر من المسالك والرياض وغيره. وردّ الاستدلال بالنصوص الدالّة على بطلان الوقف عند موت الواقف قبل القبض باحتمال انفساخ الوقف حينئذٍ لكونه عقداً جائزاً؛ لا لدخل القبض في الصحّة.

قال قدس سره ما حاصله: كرَّر في جامع المقاصد والمسالك نفي الخلاف عن كون

********

(1) - حيث قال: لا ريب أنّه شرط اللزوم ولكن هل هو شرط في الصحّة أيضاً بمعنى أنّ الانتقال مشروط بالقبض فالعقد قبله يكون صحيحاً في نفسه لكنّه ليس بناقل أم لا؟ بل العقد صحيح قبله وينتقل الملك انتقالاً متزلزلاً يلزم ويتمّ بالقبض وتظهر الفائدة في النماء المتخلّل بينه وبين العقد. و قد قال في الروضة: يمكن أن يكون المراد باللزوم في عبارة اللمعة الصحّة بقرينة حكمه بالبطلان لو مات قبله ونحو ذلك ما في موضع من المسالك؛ حيث قال: لعلّه حاول بقوله في الشرائع: «ولا يلزم إلّابالإقباض» الردّ على بعض العامّة حيث جعله لازماً بمجرّد الصيغة وإن لم يقبض. انتهى. فتأمل. ولكنّك قد سمعت أنّه صرّح بعد ذلك بأ نّه شرط في الصحّة. وقال في موضع آخر من المسالك: إنّ الجماعة الذين عبّروا بأ نّه شرط في اللزوم لا يريدون به غير أنّه شرط في الصحّة اتّفاقاً». راجع: مفتاح الكرامة 7:9.

(2) - مفتاح الكرامة 7:9.

ص: 76

القبض شرطاً في صحّة الوقف، بل في المسالك الإجماع على ذلك. ويحتمل اشتراطه فيها من عبارة الشرائع وما شابهها أيضاً بقرينة التصريح - بعد ذكره - بأ نّه من شرائط الصحّة أو من شرائط الوقف، وهو ظاهر في إرادة الصحّة.

ثمّ ناقش صاحب الجواهر قدس سره في ذلك بظاهر كلام الغنية، بل صريحه؛ حيث إنّه بعد ذكر شرائط الصحّة قال: «فأمّا قبض الموقوف عليه أو من يقوم مقامه في ذلك فشرط في اللزوم»، وظهوره في كون اللزوم معقد إجماع الغنية. بل استظهر قدس سره ذلك من عبارة اللمعة؛ حيث ذكر الشهيد أوّلاً أنّ الوقف شرط لزوم الوقف وفرّع عليه بطلانه بموته قبل القبض. ثمّ قال: وشرطه - أي الوقف - التنجيز والدوام، وأمّا تفريعه بطلان الوقف على موته قبل القبض، فلعلّه لعدم لزومه وكونه عقداً جائزاً حينئذٍ فالبطلان أثر اشتراطه في اللزوم.

وهذا ظاهر كلّ من عبّر بأ نّه شرط اللزوم، فيدلّ على صحّة الوقف قبل القبض على نحو الجواز بل عن الخلاف والسرائر والغنية الإجماع عليه. وبعضهم مثل سلّار لم يذكر القبض من الشروط أصلاً.

ثمّ استظهر قدس سره من ذلك كلّه أنّ المسألة ذات قولين ولا اتّفاق على اشتراط القبض في الصحّة كما في المسالك والرياض وغيرهما.

ثمّ جعل قدس سره اشتراطه في اللزوم مقتضى القاعدة - ناسباً ذلك إلى قول - بالجمع بين عمومات لزوم العقود ك «أوفوا بالعقود» وبين نصوص المقام.

ثمّ وجّه نصوص بطلان الوقف قبل القبض باحتمال كون بطلانه بموت الواقف لكونه حينئذٍ عقداً جائزاً؛ نظراً إلى لزومه قبل القبض بدلالة نفس هذه النصوص، مع ابتناء الاستدلال بها على إرادة الوقف. وعلى فرض كونه شرط الصحّة، يكون شرطاً كاشفاً لوجود مقتضي الصحّة. فالنماءُ المتخلّل على أيّ حال للموقوف عليه.

ص: 77

فلا ثمرة فارقة في البين، كما قيل.

هذا حاصل كلام صاحب الجواهر(1) في المقام، مع تحرير منّا.

ويرد عليه أنّ المسألة وإن كانت ذات قولين كما ذكر، إلّاأنّ قُربية الوقف وإناطة بطلان الوقف في النصوص بعدم تحقّق القبض قبل الموت دليل على اشتراط القبض في صحّة الوقف.

أمّا دليلية قربية الوقف، فلأنّ المستفاد من النصوص أنّ الوقف في ماهيته من العباديات التي لا تقع، إلّالوجه اللّه تعالى. وعليه فلو صحّ قبل القبض يقع عبادة غير قابل للرجوع بأيّ وجه. ومعنى ذلك عدم انفكاك صحّة الوقف عن لزومه دائماً.

ومن هنا من عبّر بأنّ القبض شرط لزوم الوقف، لا يمكن له أن يلتزم بالجمع بين الصحّة وبين جواز الرجوع في الوقف، وإن يمكن الالتزام بذلك في غير الوقف من سائر العقود غير العبادية قبل القبض.

أمّا وجه دليلة الإناطة المزبورة في النصوص فسيأتي بيانه قريباً إن شاء اللّه.

وأمّا كون القبض شرطاً كاشفاً - بعد لحوقه - عن صحّة الوقف من حين إنشائه ودخول النماءِ المتخلّل في ملك الموقوف عليه، فهو كلام متين جدّاً؛ لما أشار إليه في الجواهر من وجود مقتضى الصحّة. بمعنى أنّ القبض يكشف عن صحّة الوقف من حين إنشائه. وذلك لأنّ ما يتقوّم به عنوان الوقف وأصل ماهيته - التي هي تحبيس العين وتسبيل المنفعة - إنّما هو بالإيجاب المتحقّق قبل القبض، فلا مناص من الالتزام بكشف القبض عن صحّته من حين تحقّق عنوانه بالإيجاب. ويشهد لذلك ارتكاز المتشرّعة بصحّة الوقف وترتّب آثار الوقف الصحيح من حين الإنشاء بالقبض.

********

(1) - جواهر الكلام 8:28-10.

ص: 78

هذا، مع أنّ الواقف قد قطع ملكية الموقوف عن نفسه بنفس إنشاء الوقف. فكيف يرجع نماءُ الموقوف إلى ملكه عند لحقوق القبض وتماميه الوقف.

أمّا الوقف الخاصّ، فلا خلاف في اشتراط القبض في صحّته، فإنّه المتيقّن من معقد الإجماع في كلمات الأصحاب؛ حيث لا يأتي فيه إشكال عدم قابلية الجهة للقبض، كما أشار به في المسالك وغيره في الوقف على الجهات.

هذا، مع أنّه المتيقّن من مدلول نصوص المقام.

وأمّا النصوص الدالّة على ذلك:

فمنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الصدقة إذا لم تقبض هل تجوز لصاحبها؟ قال: «إذا كان أب تصدّق بها على ولد صغير فإنّها جائزة لأنّه يقبض لولده إذا كان صغيراً، وإذا كان ولداً كبيراً فلا يجوز له حتّى يقبض»(1).

لا إشكال في دلالة هذه الصحيحة على دوران أصل جواز الوقف مدار قبض الموقوف عليه، بل صرّح في ذيله بعدم جواز الوقف قبل القبض؛ لقوله عليه السلام: «فلا يجوز له حتّى يقبض» وإطلاقها ينفي اعتبار القبول.

فلا إشكال في ظهور هذه الصحيحة، بل صراحتها في اشتراط القبض في أصل صحّة الوقف ومشروعيته.

ومنها: صحيح صفوان بن يحيى عن أبي الحسن قال: سألته عن الرجل يقف الضيعة ثمّ يبدو له أن يحدث في ذلك شيئاً. فقال عليه السلام: «إن كان وقفها لولده ولغيرهم ثمّ جعل لها قيّماً لم يكن له أن يرجع فيها، وإن كانوا صغاراً وقد شرط

********

(1) - وسائل الشيعة 236:19، كتاب الهبات، الباب 5، الحديث 5.

ص: 79

ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم، لم يكن له أن يرجع فيها. وإن كانوا كباراً ولم يسلِّمها إليهم ولم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه، فله أن يرجع فيها؛ لأنّهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا»(1).

ومنها: معتبرة الأسدي فيما ورد عليه من جواب مسائله عن محمّد بن عثمان العمري عن صاحب الزمان (عج): «وأمّا ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا وما يجعل لنا ثمّ يحتاج إليه صاحبه، فكلُّ ما لم يسلَّم فصاحبه فيه بالخيار. وكلّ ما سُلِّم، فلا خيار فيه لصاحبه، احتاج أو لم يحتج، افتقر إليه أو استغنى عنه»، إلى أن قال: «وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلِّمها من قيِّم يقوم فيها ويعمّرها ويؤدّي من دَخْلِها خَراجَها ومؤونتها ويجعل ما بقي من الدَّخْل لناحيتنا فإنَّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّماً عليها، إنّما لا يجوز ذلك لغيره»(2).

هذه الرواية موردها من قبيل الوقف العامّ. وذلك لأنّ الوقف على الناحية عليه السلام، من قبيل الوقف على وجوه الخير وفي سبيل اللّه، كالوقف على سيّد الشهداء عليه السلام.

والسرّ فيه أنّ منفعة الوقف في مثل هذه الموارد لا تعود إلى أشخاص الأئمّة عليهم السلام، بل إنّما تعود إلى جميع الناس، كالإطعام والإسكان والإقراض وسائر وجوه الإعانات والإنفاقات والانتفاعات ممّا يعود نفعها إلى جميع الناس، ويقصد بذلك وصول ثوابه إلى أحد الأئمّة المعصومين عليهم السلام على الدوام ما دام ينتفع بالعين الموقوفة. فليس من قبيل الوقف الخاصّ من المصروفة منفعته لشخص الموقوف عليه.

********

(1) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 4.

(2) - وسائل الشيعة 181:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 80

نعم، في زمن حضور المعصومين عليهم السلام لا إشكال في كونه من الوقف الخاصّ.

ومن البعيد كونه من هذا القبيل في زمان الغيبة الصغرى لبعد صرفه في مصارفه الشخصية، وإن لا يجوز صرفه بغير إذنه، لكنّه وليّ عامّ لمثل الوقف وسائر الحسبيات.

والأقوى اعتبار سندها؛ نظراً إلى أنّ الصدوق رواها عن جماعة من مشايخهم مع ترضّيه عنهم واعتماده عليهم، مع إكثار الرواية عن بعضهم كمحمّد بن أحمد السناني، وهذا في اعتبار روايته عنهم جميعاً؛ لحصول الوثوق بصدورها.

ومنها: ما دلّ على بطلان الوقف بموت الواقف قبل إقباضه، كصحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال - في الرجل يتصدّق على ولده وقد أدركوا -: «إذا لم يقبضوا حتّى يموت، فهو ميراث. فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده، فهو جائز؛ لأنّ والده هو الذي يلي أمره»(1).

ومعتبرة عبيد بن زرارة عن أبي عبداللّه عليه السلام: «أ نّه قال في رجل تصدّق على ولد له قد أدركوا، قال: «إذا لم يَقْبِضوا حتّى يموت، فهو ميراث، فإن تصدَّق على من لم يدرك من ولده، فهو جائز؛ لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره...»(2).

قوله: «لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره» تعليل لصحّة الوقف وتماميته وعدم رجوعه ميراثاً إذا وقف ماله على ولده الصغار ومات قبل بلوغهم وقبضهم.

وكأنّ هذا التعليل دخل دفع مقدّر، حاصله: أنّ الوقف على الصبيّ كيف يصحّ وهو محجور وممنوع عن التصرّف كالمجنون، والقبض تصرّفٌ؟ وجه الدفع: أنّ الوالد لمّا كان وليّ أولاده الصغار شرعاً يجوز له قبول الوقف لهم. فهو موجب

********

(1) - وسائل الشيعة 178:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 5.

ص: 81

للوقف من حيث سلطته على ماله المملوك له وقابل من حيث ولايته الشرعية على ولده الصغار.

هذه المعتبرة قد رواها الشيخ الطوسي والصدوق بأسنادهما عن الحسين بن سعيد.

ولا إشكال في صحّة سندهما إليه، كما لا إشكال في وثاقة النضر وعبيد. وإنّما عبّرنا عنها بالمعتبرة بلحاظ القاسم بن سليمان؛ نظراً إلى عدم نقل توثيق في حقّه من أحد. ولكنّه من معاريف الرواة ومشاهيرهم. وذلك لما له من الكتاب والروايات الكثيرة ولنقل أجلّاء الرواة وفقهائهم عنه، وهذه القرائن تورث الوثوق برواياته، بل بحاله؛ إذ لو كان في مثله قدح لبان ونقل. وقد بيّنّا هذا المبنى في إثبات اعتبار روايات من كان بهذه الخصوصية من الرواة، بل وثاقة شخصه، في كتابنا «مقياس الرواة في كلّيات علم الرجال»، فراجع.

فلا إشكال في سند هذه النصوص.

أمّا وجه دلالتها على المطلوب، فمقتضى التحقيق أنّ هذه النصوص على طائفتين:

الطائفة الاُولى: ما يظهر منها دوران صحّة الوقف الخاصّ مدار قبض الموقوف عليه. ومن هذه الطائفة صحيحة محمّد بن مسلم ومعتبرة عبيد بن زرارة المتقدّمتين آنفاً(1). وذلك لأنّها قد دلّت على بطلان الوقف إذا مات الواقف قبله، دون ما إذا مات بعده. ومرجع ذلك إلى دوران بطلان الوقف مدار تحقّق موت الواقف قبل القبض وبعده.

ومعنى ذلك أوّلاً: اشتراط القبض في صحّة الوقف وتماميته. وثانياً: كون القبض

********

(1) - وسائل الشيعة 178:19-180، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 1 و 5.

ص: 82

بإذن الواقف ومن يده، وإلّا لم يكن لحياته وإقباضة دخل في الصحّة، كما تفيده هذه النصوص.

الطائفة الثانية: ما يستفاد منه دوران لزوم الوقف وجواز الرجوع وعدمه مدار القبض من دون فرض موت الواقف.

فمن هذه الطائفة صحيح صفوان بن يحيى المتقدّم. فإنّه ظاهر في دوران جواز الرجوع وعدمه مدار تحقّق القبض وعدمه. فإنّ حكمه عليه السلام بعدم جواز الرجوع في الشرطية الاُولى إنّما هو لأجل اشتراط الواقف ولاية الضيعة الموقوفة لنفسه وحصول القبض؛ لفرض كون الضيعة بيده، فالقبض حاصل. وكذا حكمه عليه السلام بجواز الرجوع في الشرطية الثانية لأجل عدم تحقّق الحيازة والقبض من أولاده الكبار.

ولكنّ التأمّل يقضي أنّ منشأَ حكم الإمام عليه السلام بجواز الرجوع وعدمه في الحقيقة هو صحّة الوقف وعدمها.

وذلك أوّلاً: بقرينة الروايتين المتقدّمتين في الطائفة الاُولى؛ حيث دلّتا على اعتبار القبض ودخله في أصل صحّة الوقف فيعلم من ذلك أنّ حكمه عليه السلام بجواز الرجوع وعدمه من هذه الصحيحة لأجل تمامية الوقف بالقبض وعدمها بعدمه.

وثانياً: لاتّفاق الأصحاب على كون الوقف عقداً لازماً وعدم جواز الرجوع فيه من الواقف بأيّ وجه ما دام الوقف صحيحاً. ولو كان القبض شرط اللزوم، دون أصل الجواز والصحّة، للزم كون الوقف بدونه صحيحاً جائزاً بناءً على القول بعدم اعتبار القبول، وهذا خلاف ظاهر كمات الأصحاب، بل كلّ من قال بعدم اعتبار القبول من الأصحاب.

نعم، لو اريد من الجواز كون عقد الوقف مراعىً قبل تحقّق القبض بمعنى

ص: 83

توقّف تماميته على تحقّق القبض، لا بأس به. لكنّه يرجع إلى الاشتراط في الصحّة.

وثالثاً: يستفاد من نصوص الوقف أنّه لمّا كان قربياً ولا يتحقّق إلّالوجه اللّه، ليس في ماهيته قابلاً للرجوع. ومن هنا لا يمكن الجمع بين صحّته وبين جواز الرجوع فيه قبل القبض، كما قلنا في جواب صاحب الجواهر لدفع احتمال استناد بطلان الوقف عند موت الواقف قبل القبض إلى جوازه حينئذٍ، بل إنّما هو لفقدان شرط الصحّة الذي هو القبض.

ومنها: معتبرة محمّد بن جعفر الأسدي.

وجه دلالتها على المطلوب قد سبق آنفاً في تقريب الاستدلال بالصحيحة المتقدّمة.

ثمّ إنّ مقتضى مدلول هذه النصوص اعتبار القبض في الوقف مطلقاً؛ سواء كان عامّاً أو خاصّاً؛ إذ أكثرها وإن وردت في الوقف الخاصّ، إلّاأنّ معتبرة الأسدي وردت في الوقف العامّ، لما بيّنّاه.

الوقف عقد لازم لا يقبل الفسخ

وقد علّل في جامع المقاصد لتمامية الوقف ولزومه بالإقباض وعدم جواز فسخه بعد القبض والإقباض، بقوله: «لأنّ الوقف قربة فيه حقّ للّه تعالى، وإن قلنا بانتقاله إلى الموقوف عليه، فلا يمكن إبطال ذلك الحقّ بتراضيهما»(1).

وهذا التعليل مبنيّ على كون الوقف عبادياً ومن قبيل الصدقة. فحينئذٍ لا ينافي القول بعقدية الوقف وانتقال الموقوف إلى ملك الموقوف عليه لزوم الوقف بحيث

********

(1) - جامع المقاصد 14:9.

ص: 84

لا يقبل الفسخ، ولو بالتراضي - المعبّر عنه حينئذٍ بالإقالة - وإن جاز الفسخ في سائر العقود اللازمة. بل الإقالة جائزة في جميع العقود اللازمة غير النكاح، كما أشار إليه السيّد الإمام الراحل(1).

والسرّ في ذلك أنّ الوقف قربيّ ومن قبيل الصدقة ولا يجوز الرجوع فيها؛ لما ورد في النصوص أنّ ما كان للّه لا يُرجع فيه. وإطلاقه يشمل صورة التراضي بالفسخ، مع أنّ حقّ اللّه لا يزول بتراضي المخلوقين وتبانيهم.

ثمّ إنّ مقصود المحقّق الكركي ظاهراً أنّ الوقف لمّا كان قربياً ولازماً، غير قابل للرجوع بوجه، فإذا تمّ بالإقباض - الذي هو تسليط الموقوف عليه على الموقوف - لا يجوز فسخه ولو بالتراضي. ويشهد لذلك كلام العلّامة - الذي علّل المحقّق الكركي لأجل توجيهه - حيث قال في القواعد: «وإذا تمّ الوقف بالإقباض كان لازماً لا يقبل الفسخ وإن تراضيا»(2).

ولا يخفى: أنّ الإقباض غير القبض، كما أشار إليه المحقّق الكركي بقوله:

«الإقباض، وهو غير القبض الذي تقدّم اشتراطه؛ لأنّ القبض لا يُعتدّ به من دون إقباض الواقف وتسليطه عليه»(3).

ثمّ إنّه قد اتّضح ممّا بيّنّاه سابقاً أنّ في الوقف العامّ - كالوقف على العناوين الكلّية وجهات المصالح العامّة - يكفي قبض الحاكم أو بعض الموقوف عليهم، كما يظهر من السيّد الماتن قدس سره في ذيل هذه المسألة، وكذلك الكلام في الوقف الخاصّ؛ نظراً إلى دلالة هذه النصوص المزبورة على كفاية القبض فيه عن القبول

********

(1) - تحرير الوسيلة 527:1.

(2) - قواعد الأحكام 388:2.

(3) - جامع المقاصد 15:9.

ص: 85

اللفظي؛ حيث دلّت على دوران صحّة الوقف مدار القبض مطلقاً، سواءٌ كان خاصّاً أو عامّاً.

وقد سبق آنفاً وجه عدم اعتبار القبول اللفظي في الوقف، وكفاية القبول الفعلي عنه بالقبض مطلقاً، بلا فرق بين الوقف العامّ وبين الوقف الخاصّ؛ نظراً إلى أنّ النصوص المزبورة الدالّة على اعتبار القبض في الوقف الخاصّ قد دلّت بإطلاقها على نفي اعتبار القبول اللفظي في الوقف الخاصّ؛ حيث دلّت بوضوح على دوران صحّة الوقف وتماميته مدار قبض الموقوف عليه، لا غيره.

ثمّ إنّ القبض هل هو شرط صحّة الوقف وتماميته مطلقاً، أو شرط لزومه، دون أصل الصحّة، أو يُفصّل في ذلك بين صورة تحقّق القبول اللفظي وبين عدمه، فيكون شرط اللزوم على الأوّل وشرط الصحّة على الثاني.

وجه التفصيل المزبور: أنّ القبول اللفظي إذا تحقّق من جانب الموقوف عليه بعد تحقّق إنشاء الوقف من جانب الواقف. يتحقّق الوقف صحيحاً ويتمّ به. فإذا صحّ وتمّ يكون لازماً؛ لصدق عنوان الوقف بذلك ودخوله في عنوان الصدقة للّه وتشمله الكبرى الواردة في قوله عليه السلام: «ما كان للّه لا يُرجع». ويشمله عموم كبرى عدم زوال حقّ اللّه بتراضي المخلوقين وتبانيهم.

وعليه لا بدّ من حمل ما دلّ على دوران صحّة الوقف مدار القبض - مثل النصوص المزبورة - على صورة عدم تحقّق القبول اللفظي؛ حيث إنّه إذا لم يتحقّق القبول اللفظي يتحقّق بالقبض أصل قبول الوقف.

هذا، ولكن مقتضى التحقيق القول الأوّل. وهو اشتراط القبض في صحّة الوقف مطلقاً وذلك لإطلاق نصوص اعتبار القبض، كما سبق تقريبه آنفاً. ولما سبق من سائر وجوه عدم اعتبار القبول والمناقشة في أدلّة اعتباره.

ص: 86

القبض شرط في صحّة الوقف

المعروف المشهور اشتراط كون القبض بإذن الواقف، كما صرّح بهذه الشهرة في المفتاح(1) والعروة(2). والوجه في اشتراط كون القبض بإذن الواقف.

أوّلاً: أنّ القبض - المعتبر في الوقف - فرع إقباض الواقف وتسليطه، بل وفي غير الوقف في مطلق العقود. وذلك لأنّه المنصرف من عنوان القبض حسب المتعارف وارتكاز أهل العرف ومقتضى جريان عادتهم، فإنّهم لا يرتّبون أيّ أثر على القبض في العقود، إلّامن يد المالك الموجب أو بإذنه. وينبغي أن يكون هذا التقريب مراد من استدلّ في المقام بموافقة الاعتبار، دون ما وجّه في المفتاح من امتناع التصرّف في مال الغير بغير إذنه؛ لما سيأتي من المناقشة في هذا التوجيه.

وهذا البيان لعلّه مقصود المحقّق الكركي من تعليله لذلك بقوله: «لأنّ القبض لا يعتدّ به من دون إقباض الواقف وتسليطه عليه»(3).

وثانياً: لما سبق آنفاً من دلالة النصوص المزبورة على توقّف صحّة الوقف وتماميته على كون القبض في حياة الواقف وبعد إقباضه. ومعنى ذلك اعتبار إذنه في تحقّق القبض شرعاً؛ حيث لا خصوصية لوقوع القبض في حال حياته، إلّاإقباضه وتسليمه العين الموقوفة عن طيب نفسه ورضاه بقصد الوقف. فإنّ المتفاهم عرفاً من اعتبار وقوع القبض حال حياته ليس إلّاذلك.

وثالثاً: لدلالة قوله عليه السلام في معتبرة جعفر الأسدي: «فكلّ ما لم يسلّم فصاحبه

********

(1) - مفتاح الكرامة 14:9.

(2) - العروة الوثقى 281:6.

(3) - جامع المقاصد 15:9.

ص: 87

فيه بالخيار وكلّ ما سلّم فلا خيار فيه لصاحبه» (1) ؛ حيث دلّ على إناطة لزوم الوقف وعدم جواز فسخه بالتسليم والإقباض المتوقّف على إذن المالك ورضاه. وأنّ الوقف جائز قبل التسليم، وأنّ حقّ الفسخ ثابت للواقف قبل ذلك.

وأمّا عمومات حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه فلا تصلح وجهاً في المقام.

وذلك أوّلاً: لتعلّق النهي - المستفاد من هذه العمومات - بالتصرّف وهو أمر خارج عن حقيقة العقد فلا يوجب بطلانه.

وثانياً: يمكن كون إنشاء العقد بنفس الإيجاب إذناً من الموجب، كما أفاد في العروة(2).

وثالثاً: لأنّه لا يثبت بهذه العمومات، إلّاحرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه وغايته حرمة القبض بغير إذن الواقف في المقام. وذلك لا يثبت المدّعى الذي هو بطلان الوقف.

ورابعاً: ليس كلّ قبض تصرّفاً في مال الغير، كما لو كان بتمهيد مقدّمات يتحقّق بها القبض من دون تصرّف في المقبوض.

وهاهنا نكات لا ينبغي الغفلة عنها:

الاُولى: أنّه ليس ثبوت الخيار وحقّ الفسخ للواقف قبل الإقباض، كثبوت خيار المجلس ما لم يفترقا أو خيار الحيوان إلى ثلاثة أيّام في البيع، بعد ما صحّ وانعقد وتمّ بالإيجاب والقبول وتسليم العوضين، بل بمعنى عدم صحّة الوقف وتماميته قبل الإقباض. فالإقباض شرط في صحّة الوقف وتماميته. فإذا صحّ وتمّ به، يكون لازماً غير قابل للرجوع والفسخ بدليل عباديته، كما بيّنّاه.

********

(1) - وسائل الشيعة 181:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

(2) - العروة الوثقى 281:6.

ص: 88

وهذا معنى قول العلّامة في القواعد: «وإذا تمّ الوقف بالإقباض كان لازماً لا يقبل الفسخ، وإن تراضيا»(1).

والثانية: أنّ الإقباض وحده ليس شرطاً، بل إنّما الشرط هو الإقباض المتعقّب بالقبض، ولو مع فصل زماني. ومن هنا لا يصحّ الوقف ولا يتمّ ما دام لم يتحقّق القبض عقيب الإقباض.

الثالثة: إنّ مرجع اشتراط إذن الواقف في القبض اعتبار إقباض الواقف وتسليمه الموقوف للموقوف عليه كما أشار إليه في العروة بقوله: «فالشرط هو الإقباض»(2).

الرابعة: أنّ المراد من اعتبار الإذن عدم تمامية الوقف بالقبض إذا منع منه الواقف أو احرز عدم رضاه. وأمّا لو لم يثبت عدم رضاه، فيكفي الإيجاب الصادر منه باستصحاب رضاه، فإنّه من الاُصول المُحرزة، ويُحرزبه رضا الواقف تعبّداً.

ثمّ إنّه قال في العروة: «المشهور على أنّه يشترط أن يكون القبض بإذن الواقف.

فالشرط هو الإقباض. فلو قبض الموقوف عليه بدون الإذن لم يكف. وعن صاحب الكفاية التوقّف؛ لعدم الدليل. وقد يستدلّ على المشهور بما في الخبر السابق «فكلّ ما لم يسلّم فصاحبه بالخيار»؛ حيث جعل المناط تسليم الواقف. لكنّه معارض بما في خبر عبيد بن زرارة وصحيح محمّد بن مسلم، من قوله عليه السلام: «إذا لم يقبضوا فهو ميراث». وبما في صحيحة صفوان، من قوله عليه السلام «ولم يخاصموا حتّى يحوزوها»؛ فإنّ ظاهره جواز المخاصمة مع الواقف للقبض. والمسألة محلّ إشكال. والأحوط اعتبار الإذن - مع أنّه مقتضى أصالة عدم الأثر بدونه. وربما يعلّل بأ نّه بدون الإذن تصرّف في مال الغير وهو حرام. وفيه - مع أنّه أخصّ من المدّعى - أنّ النهي متعلّق

********

(1) - قواعد الأحكام 388:2.

(2) - العروة الوثقى 285:6.

ص: 89

بأمر خارج فلا يوجب البطلان، مضافاً إلى إمكان منع الحرمة بعد صدور العقد»(1).

قوله: «والأحوط» مراده الاحتياط الوجوبي باعتبار الإذن؛ لعدم فتواه بالخلاف.

وقوله: «مع أنّه مقتضى أصالة عدم الأثر بدونه»؛ يعني أنّ نقل الموقوف إلى الموقوف عليه وخروجه عن ملك الواقف وترتّب آثار الوقف، متوقّف على تحقّق سببه الشرعي. وما دام لم يحرز تحقّقه بصدور إذن الواقف، لا يترتّب الأثر؛ نظراً إلى انتفاء المسبّب بانتفاء السبب.

قوله: «وربما يُعلّل»، إشارة إلى التعليل بعمومات منع التصرّف في مال الغير بدون إذنه ورضاه، كقوله عليه السلام: «لا يحلّ دم امرءٍ مسلم ولا ماله، إلّابطيبة نفس منه»(2).

وقوله: «وفيه...» إشارة إلى المناقشة في التعليل المزبور بثلاثة وجوه:

الأوّل: أنّ التعليل أخصّ من المدّعى. وذلك لأنّ مدّعى المستدلّ إثبات اشتراط الإذن في المقام بعد صدور الإيجاب من المالك، وكبرى حرمة التصرّف في مال الغير قاصرةٌ عن إثباته؛ لأنّ الخطاب لا يتكفّل لإثبات موضوعه.

وإنّما يصلح لإثباته دليل الاشتراط. فلو ثبت اشتراط الإذن بدليله في المقام ومنع تصرّف الموقوف عليه في الموقوف بدون إذن الواقف، يتحقّق موضوع دليل حرمة التصرّف في مال الغير، فيحرم، وإن لم يثبت اشتراطه بدليل لا يتحقّق موضوع دليل التحريم.

الثاني: أنّ النهي في المقام - على فرض تعلّقه - إنّما يتعلّق بفعل التصرّف الخارج عن حقيقة الوقف، لا بعنوان الوقف حتّى يقتضي بطلانه، بناءً على اقتضاء النهي في المعاملات فسادها.

********

(1) - العروة الوثقى 285:6.

(2) - وسائل الشيعة 120:5، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 3، الحديث 1.

ص: 90

الثالث: من الممكن دعوى كون نفس إنشاء الوقف وإيجابه إذناً في التصرّف، أو دعوى اختصاص اعتبار الإذن بما إذا لم يوجد المالك سبب نقل ماله بإنشاء العقد.

أمّا وجه المعارضة - التي أشار إليه صاحب العروة - فإنّ التعبير بالمخاصمة ظاهر في ثبوت حقّ للموقوف عليهم، وثبوت الحقّ لهم فرع صحّة الوقف، وإلّا فلو لم يصحّ ولم يتمّ الوقف فأيّ حقّ لهم في مال الغير. ولمّا كان مفروض كلام الإمام عليه السلام ما إذا لم يُسلّم الوقف إليهم ولم يخاصموا، فيدلّ كلامه عليه السلام على صحّة الوقف وتماميته مع عدم تحقّق التسليم من الواقف، وإلّا لم يكن للموقوف عليهم حقّ المخاصمة. فيثبت بذلك عدم اشتراط التسليم ولا اعتبار إذن الواقف في صحّة الوقف وتماميته.

وفيه: أنّ قوله عليه السلام: «ولم يخاصموا حتّى يحوزوها»، وإن كان ظاهراً في ثبوت حقّ المطالبة للموقوف عليهم الكبار في فرض عدم تسليم الوقف إليهم، إلّاأنّه لا يدلّ على عدم اعتبار التسليم؛ إذ يمكن أن يكون المراد من عدم المخاصمة ترك الورثة أصل الإقدام على القبض رأساً. فالمقصود من المخاصمة هاهنا المطالبة.

وإنّما عُبّر عنه بالمخاصمة؛ نظراً إلى صيرورة الموقوف وتسلُّمه وقبضه حقّاً لهم، بنفس إنشاء الوقف لهم من جانب الواقف وبنائه على تسليم العين الموقوفة إليهم وتسليطهم عليها. ومن هنا لا يجوز لغير الموقوف عليه القبض؛ لعدم ثبوت حقّ القبض لغيره. ولأجل ذلك جاء في صحيح صفوان التعبير بالمخاصمة مع الواقف لقبض حقّهم بطلب التسليم من الواقف ومطالبتهم منه تسليطهم على الموقوف. ومن هنا لا ينافي ذلك اعتبار التسليم، بل يؤكّده.

والوجه فيه: أنّه لا ينافي ذلك جواز رجوع الواقف واسترداده الموقوف إذا لم يقدموا على أخذ حقّهم بالقبض؛ لعدم تمامية الوقف حينئذٍ بدونه. وعليه

ص: 91

ففي الوقف الخاصّ يعتبر قبض الموقوف عليهم، ويكفي قبض الطبقة الاُولى عن بقيّة الطبقات، بل يكفي قبض الموجودين (1) من الطبقة الاُولى عمّن سيوجد، ولو كان فيهم قاصر قام وليّه مقامه، ولو قبض بعض الموجودين دون بعض صحّ بالنسبة إلى من قبض دون غيره.

فلا ينافي التعبير بالمخاصمة في الصحيح المزبور لاشتراط إذن الواقف في ترتّب الأثر على القبض شرعاً. فلا إشكال في المسألة.

وأمّا قوله عليه السلام: «إذا لم يقبضوا، فهو ميراث»، فغاية مدلوله اعتبار القبض في تمامية الوقف وصحّته. ولا ينافي ذلك اعتبار الإقباض أيضاً، كما قال في جامع المقاصد في تعليل الفرق بين القبض والإقباض: «لأنّ القبض لا يُعتدّ به من دون إقباض الواقف وتسليطه عليه»(1).

كفاية قبض الطبقة الاُولى في الوقف الخاصّ

1 - قد سبق بيان النصوص الدالّة على اعتبار القبض في الوقف الخاصّ.

وأمّا اشتراط قبض البطون اللاحقة في صحّة الوقف؛ فتارة: يتصوّر اعتباره حين إنشاء الوقف. واُخرى: يكون اعتباره في ظرف تحقّقه على نحو الشرط المتأخّر؛ بمعنى أنّ عدم تحقّقه يكشف عن بطلان الوقف من أوّل الأمر.

وثالثة: يكون معتبراً في استمرار الوقف.

فنقول: لا كلام في عدم اعتبار قبضهم حين الإنشاء؛ لعدم إمكان تحقّقه حينئذٍ، وإلّا لم يصحّ الوقف على البطون مطلقاً. وذلك خلاف الضرورة.

********

(1) - جامع المقاصد 15:9.

ص: 92

وأمّا اعتباره في أصل صحّة الوقف على نحو الشرط المتأخّر فلا معنى له أيضاً؛ لأنّ الموقوف عليه الأوّل إذا قبضوا يتمّ الوقف بالنسبة إليهم بلا كلام ولا إشكال.

وإنّما الكلام في اعتبار قبضهم في استمرار الوقف؛ بمعنى أنّهم لو لم يقبضوا ينقطع الوقف ويبطل بالنسبة إليهم. وعليه فالكلام في كفاية قبض البطن الأوّل عن البطون اللاحقة. وكذا الكلام في وجه كفاية قبض الموجودين من الطبقة الاُولى عمَّن سيوجد منهم.

وقد علّل في المسالك لكفاية قبض الطبقة الاُولى عن قبض سائر الطبقات بقوله:

«لأ نّهم يتلقّون الملك عن الأوّل، وقد تحقّق الوقف ولزم بقبضه. فلو اشترط قبض الثاني لانقلب العقد اللازم جائزاً بغير دليلٍ، وهو باطل»(1).

وفيه: أنّ قبض البطن اللاحق بعد وجوده إنّما هو شرط استمرار العقد وهو لا ينافي لزوم عقد الوقف؛ لأنّ قطع استمرار العقد اللازم أو بطلانه في الأثناء بفقدان شرطه لا يجعله جائزاً، كما يمكن رجوعه إلى الوقف المنقطع الآخر؛ لعدم حصول شرط الصحّة في بقيّة الطبقات أو انقطاعه بالفسخ قبل قبض الطبقة الثانية، بناءً على كون القبض شرط اللزوم.

هذا بمقتضى القاعدة. ولكن بعد اتّفاق الأصحاب، بل إجماعهم على سقوط اعتبار قبض بقيّة الطبقات - كما صرّح به في الجواهر(2) - وبعد اقتضاء إطلاق النصوص صحّة الوقف على البطون ولو لم يقبض بقيّة الطبقات إذا وُجدوا، لا إشكال في سقوط اعتبار قبض بقيّة الطبقات.

********

(1) - مسالك الأفهام 371:5.

(2) - جواهر الكلام 82:28.

ص: 93

وقد جعل في الجواهر اتّفاق الأصحاب وإطلاق النصوص وعموماتها عمدةً في سقوط اعتبار قبض البطون اللاحقة، وناقش في تعليل صاحب المسالك بما أشكلنا(1).

أمّا وجه قيام الوليّ مقام القاصر، فواضح؛ لعدم مشروعية تصرّفات القاصر، من الصبيّ والمجنون، بل السفيه؛ فإنّ كلّهم محجورون عن التصرّف في أموالهم، فضلاً عن أموال غيرهم. وقد دلّت النصوص على ثبوت الولاية لوليّهم عليهم في أنحاء التصرّفات. وقد بحثنا عن ذلك في مبحث أولياء الصغار من كتابنا «دليل تحرير الوسيلة في ولاية الفقيه وما يتعلّق بها».

********

(1) - حيث قال: بلا خلاف أجده فيه، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه، بل وقد تشعر به عبارة بعضهم في باقي الطبقات؛ لعموم الأدلّة وإطلاقها التي اقتصر في الخروج عنهما على هذا المقدار من القبض، دون غيره الذي يمكن دعوى القطع بعدم اعتباره.

وهذا هو العمدة، لا ما ذكروه - من أنّهم يتلقّون الملك عن الأوّل، وقد تحقّق الوقف ولزم بقبضه، فلو اشترط قبض الثاني لانقلب العقد اللازم جائزاً بغير دليل، وهو باطل -؛ إذ هو كما ترى؛ ضرورة أنّ التلقي من الواقف، وخصوصاً مع شركة المعدوم معهم في طبقتهم. فمع فرض عموم دليل القبض وعدم حصوله من الحاكم الذي هو وليّ البطون، لا مانع من صيرورة العقد لازماً في حقّ من قبض، دون غيره ممّن فقد الشرط. وليس ذلك انقلاباً للعقد، ولا تبعيضاً ممنوعاً، بل أقصاه أنّه يكون منقطعاً مع فرض الفسخ قبل قبض الطبقة الثانية أو عدم قبضهم. والممنوع إنّما هو انقلابه جائزاً في حقّ من لزم في حقّه بلا دليل، كما هو واضح والأمر سهل بعد معلومية الحال. راجع: جواهر الكلام 82:28.

ص: 94

وأمّا الوقف على الجهات العامّة والمصالح كالمساجد وما وقف عليها، فإن جعل الواقف له قيّماً ومتولّياً اعتبر قبضه أو قبض الحاكم (1)،

من يعتبر قبضه في الوقف العامّ

1 - لا ريب في اعتبار القبض في الوقف العامّ وفي الوقف على جهات الخير كما صرّح به في المسالك(1) و غيره(2).

وقد خالف صاحب الحدائق اعتبار القبض رأساً في الوقف على الجهات؛ بدعوى عدم استفادة اعتباره من شيءٍ من النصوص، وأنّ كلّها ناظرة إلى قبض الموقوف عليه في الأوقات الخاصّة من الوقف على الأولاد والبطون، وأنّ ما ورد في الوقف على الجهات - كوقف علي عليه السلام ماله في ينبع في سبيل اللّه في صحيح عبدالرحمان(3) - لم يتعرّض القبض أحد.

وأنّ غاية مدلول هذه النصوص، خروج العين الموقوفة بالوقف العامّ عن ملك الآدميين، - لا بمعنى كونه مباحاً حتّى يُتملّك بالاستيلاء والحيازة كما عن الشهيد - من دون دلالة على انتقاله إلى ملك أحد منهم؛ لكي يعتبر قبضه.

نعم، يستفاد منها تسبيل المنفعة وتخصيص الانتفاع لعنوان أو جهة خاصّة(4)

********

(1) - مسالك الأفهام 372:5.

(2) - راجع: مفتاح الكرامة 28:9.

(3) - وسائل الشيعة 202:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 4.

(4) - الحدائق الناضرة 226:22.

قال قدس سره: «لا يخفى على من راجع الأخبار وقطع النظر عن كلامهم، فإنّ المستفاد منها أنّه

ص: 95

********

(4) متى كان الموقوف عليه موجوداً منحصراً فإنّه ينتقل الملك إليه، ولهذا دلّت على اشتراط قبضه، أو قبض وليّه، ليتمّ بذلك الملك، ويمتنع الرجوع فيه كما تقدّمت الأخبار به.

ومتى كان الموقوف عليه جهة عامّة كالفقراء أو مصلحة كالمساجد، فإنّ غاية ما يفهم منها هو أنّه بالوقف يخرج من ملك الواقف، وأمّا أنّه يصير إلى اللّه سبحانه أو غيره، فلا دلالة في شيء من الأخبار عليه. وإنّما يدلّ على أنّه بعد الوقف وخروجه عن ملك الواقف يجب إبقاء العين، ولا يجوز التصرّف فيها ببيع ولا هبة ولا ميراث ولا نحو ذلك من الاُمور الموجبة لإخراجها عمّا صارت إليه وصرف حاصلها في تلك الجهة، أو المصلحة المعيّنة.

وأمّا أنّه يشترط القبض فيها كما هو المشهور - من أنّ القبض شرط في صحّة الوقف مطلقاً، فيجب القبض هنا من القيّم الذي ينصبه الواقف أو الحاكم الشرعي أو غير ذلك - فلا دليل عليه في الأخبار، ومورد القبض فيها إنّما هو فيما إذا كان الموقوف عليه موجوداً معيّناً محصوراً. على أنّ المراد من كونه في هذه الصورة ملكاً للّه كما صرّح به في المسالك إنّما هو الكناية عن عدم انتقاله إلى أحد من الآدميين. قال: «والمراد بكون الملك للّه تعالى انفكاك الموقوف عن ملك الآدميين واختصاصهم، لا كونه مباحاً كغيره ممّا يملكه اللّه تعالى» انتهى، وهو يرجع إلى ما ذكرناه وفي حديث وقف أمير المؤمنين عليه السلام أمواله على جهة الطاعات والقربات وصلة الرحم بعد أن جعل الولىّ القيّم بذلك الحسن ثمّ الحسين عليهما السلام ثمّ من يختاره الحسين عليه السلام ما صورته: وأن يشترط على الذي يجعله إليه أن يجعل المال على اصوله، وينفق الثمرة حيث يأمره به من سبيل اللّه، وذوي الرحم من بني هاشم وبني المطلّب القريب والبعيد لا يباع منه شيء، ولا يوهب، ولا يورث... الحديث، وليس فيه كماترى أزيد من أنّه بعد الوقف يجب إبقاءُ اصوله على ما هي، ولا يتصرّف فيها بشيء من هذه التصرّفات ونحوها، ويصرف الحاصل في الوجه الذي عيّنه، ولا دلالة فيه على الانتقال لأحد، وهو ظاهر في الردّ على القول المشهور من أنّه ينتقل في هذه الصورة إلى الموقوف عليه، وليس في الخبر أيضاً على طوله ما يشعر بأ نّه أقبضه أحداً، بل ظاهره أنّه مدّة حياته عليه السلام كان في يده يصرفه في الوجوه المذكورة، وبعد موته فوّض الأمر فيه إلى الحسن

ص: 96

وفيه: أوّلاً: إنّ عدم دلالة شيء من نصوص المقام على اعتبار القبض في تمامية الوقف العامّ ولزومه، نمنعه.

وذلك لدلالة معتبرة الأسدي(1) وصحيحة صفوان؛ حيث دلّت المعتبرة على دوران صحّة الوقف العامّ مدار القبض والإقباض وقد قلنا: إنّ المراد من التسليم فيها هو المتعقّب بالتسلُّم والقبض، لا مجرّد التسليم والإقباض. كما بيّنّا أنّ الوقف على الناحية (عج) أو أحد الأئمّة عليهم السلام في زمن الغيبة من قبيل الوقف العامّ بالمآل؛ لانتفاع العموم بأوقافهم، من دون أن ينتفع بها أشخاصهم.

ودلّ قوله عليه السلام: «إن كان وقفها لولده ولغيرهم، ثمّ جعل لها قيّماً لم يكن له أن يرجع فيها» في صحيحة صفوان على دوران لزوم الوقف مدار جعل القيّم. ولا يحتمل خصوصية في جعل القيّم في هذا الدوران، إلّاجعله وليّاً على الموقوف لحفظه واستخراج منفعته وتسليمها إلى مستحقّيه وصرفها في مواردها حسب غرض الواقف، كما سيأتي بيان دلالة قوله عليه السلام: «لوُلده ولغيرهم» على شمولها للوقف العامّ. فجعل القيّم في هذه الصحيحة كناية عن إعطاء الولاية إليه على الموقوف واعتبار قبضه وبيان دوران لزوم الوقف وعدم جواز الرجوع فيه مدار قبض القيّم في الوقف العامّ؛ لعدم إمكان قبض الموقوف عليهم.

.

********

(4) ثمّ إلى الحسين عليهما السلام ثمّ من ذكره في الخبر، ولو كان القبض في هذه الصورة شرطاً في صحّة الوقف لوقعت الإشارة إليه في الخبر، واحتمال أنّه قبضه بالولاية العامّة وإن أمكن، إلّاأنّ الظاهر بعده، إذ هو فرع وجود الدليل على اشتراط القبض في هذه الصورة ونحوها، وقد عرفت أنّه لا دليل على ذلك فيها سوى الصورة المتقدّمة» راجع: الحدائق الناضرة 226:22-227.

(1) - وسائل الشيعة 181:19-182، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 97

وأمّا النصوص الساكتة عن هذه الجهة، فلا نظر لها إلى ذلك لينعقد لها إطلاق من جهته.

وثانياً: إنّ دلالة النصوص الواردة في الوقف العامّ على خروج العين الموقوفة عن ملك الآدميين - على فرض تسليمها - لا تنافي اعتبار القبض في تمامية الوقف؛ حيث لا ملازمة بين عدم دخول الموقوف في ملك الموقوف عليه وبين أصل اعتبار القبض في الوقف العامّ؛ نظراً إلى توقّف حفظ العين واستخراج المنفعة منها وتسليم منافعها إلى متسحقّيها على وجود قيّم للوقف يقبضه ويتولّى اموره. كما ورد في وقف أمير المؤمنين عليه السلام على جهة الطاعات والقربات وصلة الرحم؛ حيث جعل الوليّ القيّم بذلك الحسن عليه السلام، ثمّ الحسين عليه السلام، ثمّ من يختاره الحسين عليه السلام؛ بقوله عليه السلام: «وإنّه يقوم على ذلك الحسن بن علي عليه السلام... وإنّه يضعه حيث يريد.

وإن حدث بحسن بن علي عليه السلام حدث وحسين حيٌّ، فإنّه إلى حسين بن علي عليه السلام، وإنّ حسيناً يفعل فيه مثل الذي أمرت به حسناً، له مثل الذي كتبت للحسن عليه السلام، وعليه مثل الذي على الحسن عليه السلام»(1).

وقد اتّضح بما بيّنّاه وجه المناقشة في كلام صاحب العروة؛ حيث حكم بإمكان منع اعتبار القبض في الوقف العامّ بقوله: «ظاهر كلمات العلماء اشتراط القبض في الوقف حتّى على الجهات العامّة، كالوقف على المساجد أو الزوّار أو نحوهم من الأصناف، ولكن يمكن منع اعتباره فيها، وكذا في وقف المسجد والمدرسة والمقبرة؛ لقصور الأخبار الدالّة على اعتباره عن شمول مثل المذكورات، وإن كان الأحوط ما ذكروه»(2).

********

(1) - وسائل الشيعة 202:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 4.

(2) - العروة الوثقى 289:6.

ص: 98

ثمّ إنّ المعروف اعتبار قبض الناظر لو عيّنه الواقف، وإلّا فيعتبر قبض الحاكم.

وظاهرهم؛ بل صريح بعضهم تقدّم قبض الناظر على قبض الحاكم. ولكنّ السيّد الماتن قدس سره لم يقدِّم الناظر على الحاكم؛ حيث عطف قبض الحاكم على قبض الناظر بالعطف بلفظ «أو»، وإن احتاط استحباباً بتقديم قبض الناظر.

ومقتضى التحقيق تقديم قبض الناظر، كما أشار إليه في المسالك، بقوله: «ثمّ إن كان لتلك المصلحة ناظر شرعي من قِبَل الواقف، تولىّ القبض من غير اشتراط مراجعة الحاكم؛ لأنّ الناظر مقدّم عليه، فإن لم يكن لها ناظر خاصّ فالقبض إلى الحاكم»(1).

ونظيره كلام المحقّق الكركي في جامع المقاصد؛ حيث قال: «إنّما يتولّى الناظر فيها القبض؛ لأنّه مقدّم على الحاكم، نعم لو لم يكن لها ناظر خاصّ كان القبض إلى الحاكم»(2).

والسرّ في ذلك أوّلاً: أنّ للقيّم الناظر الذي نصبه الواقف لتولية الوقف الولاية على القبض بالخصوص والحاكم وليّ عامّ لما لا وليّ له بالخصوص؛ نظراً إلى عمومات ولاية القيّم والناظر على ما نصبا قيّماً وناظراً عليه. وقد تقدّم ذكر بعض هذه النصوص منّا في أولياء الصغار وكتاب الوصيّة من كتابنا «دليل تحرير الوسيلة».

والوجه في كونه الوليّ الخاصّ أنّ له الولاية على مال معيّن مملوك لشخص الواقف. وهذه الولاية ثابتة له بجعل الواقف. وقد دلّت نصوص المقام - كمعتبرة الأسدي وصحيح صفوان - على جواز جعل المتولّي ونصب القيّم للواقف ونفوذه في نظر الشارع. فالقيّم وليّ خاصّ. ومع وجوده لا تصل النوبة إلى الحاكم؛

********

(1) - مسالك الأفهام 372:5-373.

(2) - جامع المقاصد 24:9.

ص: 99

لأ نّه وليّ عامّ، وأ نّه وليّ من لا وليّ له.

وعموم الموقوف عليه في الوقف العامّ وعلى الجهة، لا يوجب كونه من قبيل مصالح الإسلام والمسلمين وداخلاً في عموم ولاية الحاكم ما دام القيّم الناظر موجوداً.

وذلك لأنّ الشارع جعل الولاية له على الوقف بالخصوص فيكون نظير القيّم المنصوب على الصغار والقصَّر من جانب الأب والجدّ. وعلى أيّ حال لا شبهة عند الفقهاء أنّ القيّم المنصوب من جانب الواقف هو الوليّ الخاصّ، ولم يقل أحد إنّه الوليّ العامّ. نعم، لو كان إعمال ولاية القيّم مخالفاً لمصالح الإسلام والمسلمين فلا محالة يدخل الموقوف تحت نطاق الولاية العامّة الثابتة للفقيه، وإن كان بمصلحة خصوص العنوان الموقوف عليه وفي جهته.

وثانياً: جريان السيرة القطعية من المتشرّعة على ذلك؛ حيث جرت سيرة المتشرّعة على جعل نصب القيّم للأوقاف العامّة، وعدم المراجعة إلى الحاكم مادام القيّم موجوداً.

وثالثاً: إنّه يمكن استفادة ذلك من قوله عليه السلام: «إن كان وَقَفَها لولده ولغيرهم، ثمّ جعل لها قيّماً لم يكن له أن يرجع فيها»(1). في صحيحة صفوان المشتملة على الوقف العامّ.

وجه الاستفادة أنّ قوله عليه السلام: «ولغيرهم» يشمل بإطلاقه الوقف على الجهات العامّة، فيكون مفروض كلامه عليه السلام ما لو وقف الواقف لأولاده ولغيرهم من الفقراء والجهات العامّة. كما فهم ذلك صاحب الحدائق؛ حيث قال - بعد ذكر هذه

********

(1) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 4.

ص: 100

الصحيحة؛ مستشهداً بها -: «والظاهر أنّ المراد أنّه أوقفها على أولاده البالغين مع غيرهم من الجهات العامّة وجعل قيّماً للوقف، فإنّه لا يجوز له الرجوع لحصول القبض من القيّم، فيكون الخبر دليلاً في المسألة»(1).

وعلى هذا الأساس وجَّه دلالتها على المطلوب بأنّ لزوم الوقف بجعل القيّم وعدم جواز الرجوع للواقف عنه بعد ذلك، ظاهر في ثبوت الولاية للقيّم على القبض شرعاً بمجرّد جعله قيّماً. فمادام موجوداً لا ولاية للحاكم؛ لأنّه وليّ عامّ عند فقدان وليّ شرعي خاصّ. ويمكن تأييد ذلك بضميمة قوله عليه السلام: «فكلُّ ما سلّم فلا خيار لصاحبه، احتاج أو لم يحتج»(2) في معتبرة جعفر الأسدي؛ حيث دلّ على لزوم الوقف بالإقباض. وعليه فلمّا يتحقّق القبض والإقباض بجعل القيّم يصير الوقف بجعله لازماً، ولا خصوصية لجعل القيّم في مفروض كلام الإمام عليه السلام إلّاذلك.

فاتّضح بهذا البيان ثبوت الملازمة بين جعل القيّم على الوقف وبين إعطاء الولاية إليه على القبض.

وبذلك يجاب عن مناقشة صاحب الجواهر؛ حيث إنّه ناقش في الملازمة بين جعل القيّم الناظر وبين ولايته على القبض - فضلاً عن تقديمه على الحاكم - بقوله:

«وإن كان قد يناقش بأن لا دليل على اقتضاء نظارته المستفادة من عموم:

«المؤمنون...»، ثبوت ولاية له على وجه يكون قبضه لما يوقف على الصرف فيها قبضاً عن الموقوف عليه.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ مشروعية نظارته تقتضي ذلك، أو يقال: إنّ الوقف إنّما هو

********

(1) - الحدائق الناضرة 150:22.

(2) - وسائل الشيعة 181:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 101

على المصلحة التي تُحقّق ولايتَه عليها باشتراط النظارة فيها، فيكون وليّاً لها بالنسبة إلى ذلك.

لكن فيه ما عرفت من أنّ الوقف في ذلك على المسلمين، وإن صرف في المصلحة الخاصّة لهم؛ لعدم قابليّة الجهة للوقف عليها. وحينئذٍ فاشتراط نظارته فيها لا تقتضي الولاية على المسلمين على وجه يقوم قبضه ما يوقف لإرادة تعميرها ونحوه مقام قبضهم، فضلاً عن أن يكون هو مقدّماً على الحاكم الذي هو الوليّ العامّ، ولعلّه لذا وغيره عبّر في الرياض عن هذا الحكم بلفظ قالوا مشعراً بعدم الإذعان به»(1).

مقصوده من عموم «المؤمنون...»، ما سبق منه في قوله: «نعم له اشتراط الناظر على وقفه في عقد وقفه؛ لعموم: المؤمنون عند شروطهم. وهو غير قابض الوقف»(2).

وحاصل كلامه هنا: أنّ عموم «المؤمنون عند شروطهم» وإن يقتضي جواز اشتراط الناظر ونفوذه، إلّاأنّه لا يستلزم ثبوت الولاية له على القبض، فضلاً عن كونه مقدّماً على الحاكم.

وحاصل تعليله لعدم ولايته على القبض: أنّ الوقف العامّ في الحقيقة وقف على المسلمين، وإن يصرف في مصالحهم. ومن هنا لا يقتضي اشتراط الناظر ولايته على المسلمين.

وفيه: أن الناظر القيمّ المنصوب من جانب الواقف، إنّما له الولاية على التصرّف في العين الموقوفة في جهة حفظها والانتفاع والاستثمار منها. وإيصال منافعها إلى مستحقّيها. ولا ريب في احتياج ذلك إلى استيلائه على العين الموقوفة وولايته على

********

(1) - جواهر الكلام 85:28.

(2) - جواهر الكلام 83:28.

ص: 102

التصرّف فيها. وليس القبض إلّاالاستيلاء، كما هو المراد من الأخذ في قوله: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيها»(1)، ولا يستلزم ذلك ولايته على المسلمين أو كونه وكيلاً عنهم.

ولا يخفى: أنّ المقصود من الناظر في كلام المحقّق في الشرائع، والعلّامة في القواعد، والشهيد في المسالك، وكلام سائر الأصحاب في المقام، هو القيّم، كما فهمه المحدّث البحراني واستشهد لذلك بصحيح صفوان.

وممّا يدلّ على ذلك قول صاحب الزمان (عج) في معتبرة الأسدي: «ويسلّمها من قيّم يقوم فيها ويعمّرها يؤدّي من دخلها خراجها ومؤونتها، ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا؛ فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّماً عليها، إنّما لا يجوز ذلك لغيره»(2). فإنّ تسليم الموقوف إلى القيّم ليقوم بأمره، يدلّ بوضوح على إعطاء الولاية على الموقوف إلى القيّم، كما يدلّ على ولايته على القبض وكفاية قبضه عن قبض الموقوف عليه.

فتحصّل ممّا بيّنّاه: أنّ وجه تقديم الناظر على الحاكم أنّ للناظر القيّم الولاية على الوقف بالخصوص من جانب الشارع، مع قطع النظر عن ولاية الحاكم. والحاكم إنّما له الولاية على ما ليس له وليّ خاصّ شرعي. هذا مع دلالة نصوص المقام على ثبوت الولاية على قبض الموقوف والتصرّف فيه للناظر. بل يمكن أن يستدلّ لذلك بقوله عليه السلام: «فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّماً عليها، إنّما لا يجوز ذلك لغيره». فدلّ بإطلاقه على عدم جواز تولية الحاكم للوقف العامّ مادام القيّم عاملاً بمصلحة الوقف.

********

(1) - مستدرك الوسائل 7:14، كتاب الوديعة، الباب 1، الحديث 12.

(2) - وسائل الشيعة 181:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 103

والأحوط عدم الاكتفاء بالثاني مع وجود الأوّل (1)، ومع عدم القيّم تعيّن الحاكم. وكذا الحال في الوقف على العناوين الكلّية كالفقراء والطلبة، وهل يكفي قبض بعض أفراد ذلك العنوان؛ بأن يقبض فقير في الوقف على الفقراء مثلاً؟ لعلّ الأقوى ذلك فيما إذا سلّم الوقف إلى المستحقّ لاستيفاء ما يستحقّ (2)، كما إذا سلّم الدار الموقوفة على الفقراء للسكنى إلى فقير فسكنها، أو الدابّة الموقوفة على الزوّار والحجّاج للركوب إلى زائر وحاجّ فركبها.

هذا مضافاً إلى جريان سيرة المتشرّعة على عدم الرجوع في الأوقاف إلى الحاكم ما دام القيّم الناظر على الوقف موجوداً.

1 - هذا احتياط استحبابي. ولكن عرفت وجه وجوب تقديم قبض القيّم.

كيفية القبض إذا وقف على عنوان مصلحة

2 - لأنّه مصداق العمل بالوقف. فإنّ المستحقّ للوقف من مصاديق عنوان الموقوف عليه فكان قبضه قبضهم.

ولكن فيه إشكال لما دلّ على اعتبار قبض القيّم أو الحاكم، كما عرفت. والقيّم والحاكم لمّا كان لهما الولاية على الوقف، يكون قبضهما بمنزلة قبض العنوان، مضافاً إلى ثبوت الولاية العامّة للحاكم. كما صرّح بذلك في المسالك بقوله: «ثمّ إن كان لتلك المصلحة ناظر شرعي من قِبَل الواقف تولّى القبض من غير اشتراط مراجعة الحاكم، لأنّ الناظر مقدّم عليه، فإن لم يكن لها ناظر خاصّ فالقبض إلى الحاكم»(1)،

********

(1) - مسالك الأفهام 372:5.

ص: 104

وقد أجاد في بيان ذلك صاحب العروة، راجع كلامه(1).

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ غاية مدلول نصوص المقام كفاية قبض القيّم الناظر واستيلائه على الوقف في لزوم الوقف وتماميته. وأمّا ذيل معتبرة

********

(1) - قال في العروة: «وعليه ففي الوقف على الجهات لا بدّ من قبض المتولّي عليها أو الحاكم الشرعي أو مأذونه، وكذا في الوقف على الفقراء ونحوهم، ويكفي فيه قبض فقير واحد أو عالم واحد بعنوان الوقفية.

ولكن ذكر غير واحد إنّه لا يكفي؛ لأنّ الموقوف عليه هو الجنس ولا يتحقّق قبضه إلّابقبض جميع أفراده، ولذا لا يكفي في الزكاة قبض بعض المستحقّين عن غيره، بخلاف الحاكم الشرعي فإنّه يكفي قبضه عن الجميع.

وفيه: منع توقّف قبض الجنس على قبض جميع أفراده بل يصدق بقبض البعض، مثلاً إذا وقف فرساً على الحاجّ أو الزوّار فركبه شخص واحد في طريق الزيارة أو الحجّ يصدق عليه أنّه قبض الوقف. وهكذا في الخان الموقوف على المسافرين إذا نزل واحد فيه بعنوان الوقفية، بل وكذا إذا كان بستان وقفاً على الفقراء فدفع من ثمره إلى بعضهم بعنوان الوقفية وهكذا. مع إنّه لا فرق بين المذكورات وبين المسجد والمقبرة؛ حيث قالوا بكفاية صلاة واحدة ودفن ميّت واحد. ولا دخل لمسألة قبض الزكاة بما نحن فيه. نعم لو كان الوقف على الفقراء بنحو العموم بمعنى التقسيم عليهم جميعاً، لم يكف قبض بعضهم عن الباقين فيكون مثل الوقف على الأولاد، بل في الوقف عليهم أيضاً إذا كان بعنوان المصرف بحيث يجوز اختصاصه ببعضهم كان كالوقف على الفقراء في تحقّق القبض بقبض البعض.

ثمّ إنّه ذكر جماعة إنّه يجوز للواقف في الوقف على الفقراء أو العلماء أن ينصب قيّماً لخصوص القبض ولو بعد الوقف وإنّه يكفي حينئذٍ قبضه خصوصاً مع فقد الحاكم وهو مشكل؛ إذ لا دليل على مثل هذا. نعم لو جعل تولية الوقف بيد شخص وجعله قيّماً عليه كفى قبضه كما عرفت، وعلى هذا يحمل ما في صحيحة صفوان «إن كان أوقفه لولده ولغيرهم ثمّ جعل لها قيّماً لم يكن له أن يرجع». وما في التوقيع من قوله عليه السلام: ويسلّمها من قيّم يقوم فيها إلى آخره... بل الظاهر هو ذلك، وليس المراد نصب القيّم لخصوص القبض كما هو واضح»، راجع: العروة الوثقى 289:6.

ص: 105

نعم، لا يكفي مجرّد استيفاء المنفعة والثمرة من دون استيلاء على العين (1)، فإذا وقف بستاناً على الفقراء، لا يكفي في القبض إعطاء شيء من ثمرته لبعض الفقراء مع كون البستان تحت يده، بل لا يكفي ذلك في الإعطاء لوليّ لعامّ أو الخاصّ أيضاً.

الأسدي فلا ينفي جواز قبض بعض الموقوف عليه وتصرّفه في الموقوف، بل إنّما ينفي مشروعية تولية الوقف لغير القيّم.

عدم كفاية مجرّد استيفاء المنفعة في القبض

1 - وذلك لخروجه عن عنوان القبض عرفاً، فإنّ المرتكز في الأذهان الظاهر من قبض الوقف قبض العين الموقوفة الحاصل بالاستيلاء عليها؛ حيث لا سلطة للموقوف عليه على الانتفاع، إلّابذلك، فليس إعطاء الثمرة عملاً بالوقف.

واتّضح بهذا البيان وجه المناقشة في كلام صاحب العروة؛ حيث قال: «وكذا إذا كان بستان وقفاً على الفقراء، فدفع من ثمره إلى بعضهم بعنوان الوقفية»(1). مقصوده تحقّق القبض وصدقه بذلك.

وجه الإشكال أنّ المعتبر من القبض والإقباض في الوقف، إقباض العين الموقوفة وقبضها؛ لأنّ إقباض الموقوف فرع قطع استيلاء الواقف عليه وجعله تحت استيلاء الموقوف عليه أو القيّم، كما أنّ قبض الموقوف عليه أو القيّم فرع استيلائهما عليه.

ثمّ إنّه بقي في المقام مطلب: وهو أنّ في الوقف الخاصّ هل يكون للقيّم ولاية على الموقوف كما في الوقف العامّ؟

********

(1) - العروة الوثقى 289:6.

ص: 106

(مسألة 9): لو وقف مسجداً أو مقبرة، كفى في القبض صلاة واحدة فيه أو دفن ميّت واحد فيها بإذن الواقف، وبعنوان التسليم والقبض (1).

يشكل الالتزام بذلك؛ نظراً إلى دخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه الخاصّ بالوقف، فبمجرّد الوقف الخاصّ يصير الموقوف عليه الخاصّ بالقبض مستولياً على الموقوف. وحينئذٍ كونه تحت ولاية القيّم ينافي ذلك. نعم، للواقف اشتراط الناظر بمقتضى «المؤمنون عند شروطهم» وله الولاية على النظارة حينئذٍ من دون ولاية ولا استيلاءِ على العين، وإلّا يناقض مالكية الموقوف عليه الخاصّ.

وما سبق من صاحب الجواهر من إفادة هذا المعنى إنّما يتمّ في الوقف الخاصّ فيما إذا كان الموقوف عليهم كباراً.

وفي الوقف العامّ وعلى الجهات وإن تنتقل العين الموقوفة بالوقف إلى ملك الموقوف عليه، إلّاأنّ الموقوف عليه لمّا كان العنوان والجهة وهما غير قابلين للقبض دلّ الدليل على اعتبار قبض القيّم والحاكم أو كفايته، فلا يقاس بالوقف الخاصّ.

كفاية صلاة واحدة أو دفن ميّت في وقف المسجد والمقبرة

1 - قال في العروة: «لو وقف مسجداً أو مقبرة، كفى في قبضها صلاة واحدة في المسجد ودفن ميّت واحد في المقبرة على المشهور المدّعى عليه الإجماع. والظاهر أنّ ذلك لصدق القبض على فرض اعتباره فيهما كما هو ظاهرهم، لكن لا بدّ من كون الصلاة والدفن بإذن الواقف وبقصد كونه وقفاً وإلّا لم يكفِ. وكذا يكفي أيضاً قبض المتولّي، ومع عدمه فقبض الحاكم الشرعي»(1).

********

(1) - العروة الوثقى 288:6.

ص: 107

وحاصل ما يستفاد من كلمات الفقهاء لتوجيه ذلك، وجهان:

أحدهما: صدق القبض عرفاً بذلك، كما صرّح به في الجواهر(1).

وثانيهما: الإجماع على لزوم الوقف بذلك، لكنّه غير متحقّق، كما أشار إليه في الجواهر.

والعمدة في ذلك تحقّق القبض بذلك، ولو في ارتكاز الأصحاب والمتشرّعة الكاشف عن جريان سيرة المتشرّعة عليه.

ولكن قيّده الأصحاب بما إذا كان ذلك بإذن الواقف وبنيّة الوقف. فلو صلّي في المسجد أو دُفن الميّت، لا بعنوان المسجد أو المقبرة - إمّا للجهل به أو للنسيان والغفلة - لا يلزم الوقف بذلك؛ نظراً إلى انصراف ذلك عن الوقف، فلا ظهور له في قبض الوقف، كما قال في جامع المقاصد(2) والمسالك(3) والحدائق(4) والجواهر(5)وغيرهم. وقد سبق بيان وجه اعتبار إذن الواقف في القبض.

ولكنّ الأقوى كفاية التفات المصلّي إلى أنّ ما يصلي فيه مسجدٌ. وذلك لإشراب حقيقة الوقف في المسجد؛ لتوقّف تحقّق عنوان المسجدية على الوقف.

ومن هنا يتحقّق القبض عرفاً بالصلاة فيه مع الالتفات إلى أنّه مسجد، بل وكذا يكفي ذلك عن قصد الوقفية في المسجد. نعم، في المقبرة وغيرها من جهات الخير لا بدّ من قصد الوقفية. وأمّا قصد القبض - مضافاً إلى الدفن وما شابهه من التصرّف

********

(1) - جواهر الكلام 85:28.

(2) - جامع المقاصد 24:9.

(3) - مسالك الأفهام 373:5.

(4) - الحدائق الناضرة 150:22.

(5) - جواهر الكلام 86:28.

ص: 108

المناسب لشأن الموقوف - فلا يعتبر؛ نظراً إلى تحقّق القبض بالتصرّف المناسب بقصد الوقفية.

ولكن ذلك كلّه فيما إذا لم يقبضه القيّم أو الحاكم، وإلّا لكفى قبض أحدهما في تمامية الوقف ولزومه؛ لما سبق آنفاً. وهذا ممّا لا خلاف فيه بين الأصحاب. نعم، لصاحب الجواهر(1) مناقشة في كفاية صلاة واحد من المؤمنين أو دفن واحد منهم في تمامية وقف المسجد أو المقبرة، وقد سبق جوابه آنفاً في الفرع السابق.

حاصل إشكاله: أنّه لا ولاية للقيّم والناظر على جميع الموقوف عليهم حتّى يكون القبض منه بالفعل المزبور قبضاً عنهم.

والجواب: أنّ ظاهر النصوص كمعتبرة جعفر الأسدي وغيرها ثبوت الولاية للقيّم على حفظ العين الموقوفة والاستثمار منها وإيصال ثمرها إلى الموقوف عليه.

ومقصود الفقهاء ثبوت الولاية بهذا المعنى للقيّم والناظر، وهذا يكفي في كون قبضه بمنزلة قبضهم.

وأنّ في الوقف على الجهة لمّا لا يمكن قبض جميع المسلمين، يكفي طبيعي القبض الحاصل بقبض بعضهم؛ لأنّه المتفاهم العرفي من اعتبار القبض في الوقف على الجهة. وليس قبض البعض من قبيل ولاية القابض على المسلمين أو الفقراء أو الفقهاء ونحوهم من العناوين العامّة. فلا يرد إشكال صاحب الجواهر. ثمّ إنّه لا فرق بين الواقف وغيره في كفاية صلاة واحد أو دفن ميّت؛ لأنّه من مصاديق ذلك.

********

(1) - جواهر الكلام 85:28.

ص: 109

(مسألة 10): لو وقف الأب على أولاده الصغار ما كان تحت يده - وكذا كلّ وليّ إذا وقف على المولّى عليه ما كان تحت يده - لم يحتج إلى قبض حادث جديد (1)، لكن الأحوط أن يقصد كون قبضه عنه،

حكم القبض فيما لو أوقف على أولاده الصغار

1 - وذلك لتحقّق القبض حين إنشاء الوقف من قبل، فلا يحتاج إلى قبض حادث جديد، ولكنّ السيّد الماتن قدس سره احتاط وجوباً تغيير نيّته؛ بأن ينوي بعد إنشاء الوقف كون قبضه عن جانب المولّى عليه؛ ليتحقّق بذلك قبض الوقف. والوجه في ذلك كفاية قبض الوليّ عن قبض المولّى عليه، لو كان الوليّ هو الواقف، لاغيره. وقد علّل في المسالك لعدم الحاجة إلى قبض جديد ولا إلى تغيير النيّة بقوله:

«لمّا كان المعتبر من القبض رفع يد الواقف ووضع يد الموقوف عليه، وكانت يد الوليّ بمنزلة يد المولّى عليه، كان وقف الأب والجدّ وغيره - ممّن له الولاية على غير الكامل لما في يده - على المولّى عليه متحقّقاً بالإيجاب والقبول؛ لأنّ القبض حاصل قبل الوقف، فيستصحب وينصرف إلى المولّى عليه بعده لما ذكرناه. والظاهر عدم الفرق بين قصده - بعد ذلك - القبض عن المولّى عليه للوقف وعدمه؛ لتحقّق القبض الذي لم يدلّ الدليل على أزيد من تحقّقه»(1).

ثمّ احتمل اعتبار قصد كون قبضه عن المولّى عليه بقوله: «ويحتمل اعتبار قصده قبضاً عنه بعد العقد؛ لأنّ القصد هو الفارق بين القبض السابق الذي كان لغير الوقف وبينه».

********

(1) - مسالك الأفهام 360:5.

ص: 110

بل لا يخلو (1) من وجه.

1 - هذا عدول عن الاحتياط الوجوبي إلى الفتوى؛ نظراً إلى أنّه لا وجه للاحتياط مطلقاً، لا وجوباً ولا استحباباً فيما أفتى بوفاقه.

وعلى أيّ حال فقد استدلّ لاعتبار كون قبض الوليّ بقصد القبض عن المولّى عليه الموقوف عليه، بوجهين.

أحدهما: ما أشار إليه الشهيد في ذيل كلامه، من أنّ قصد ذلك هو الفارق بين القبض السابق غير المرتبط بالوقف وبين قبض الوقف؛ لما سبق آنفاً من أنّ المعتبر إنّما هو قبض الوقف، لا مطلق القبض ولو لغير عنوان الوقف. ولا مميّز لقبض الوقف في مفروض الكلام، إلّاقصد كون القبض للمولّى عليه بعنوان أنّه الموقوف عليه.

ومقتضى القاعدة في الوليّ وإن كان عدم اعتبار قصد ذلك؛ لأنّ أدلّة ولايته الشرعية دلّت على كونه بمنزلة المولّى عليه شرعاً من دون توكيل في البين. بخلاف باب الوكالة، إلّاأنّ في مفروض الكلام لا مميّز لكون القبض قبضاً للوقف، إلّا بهذا القصد.

ولكن في توقّف الميز على ذلك نظر؛ لإمكان دعوى كفاية قصد الوقفية في ذلك؛ نظراً إلى استلزام ذلك كون القبض للمولّى عليه بعنوان أنّه الموقوف عليه، بل يقع لا محاله له بهذا العنوان بمقتضى ولايته عليه وبمقتضى إنشائه عقد الوقف، من دون حاجة إلى قصد ذلك.

وثانيهما: دلالة بعض النصوص الواردة في المقام على ذلك، كقوله عليه السلام: «فإن تصدَّق على من لم يُدرك من ولده، فهو جائزٌ؛ لأنّ والده هو الذي يلي أمره» في

ص: 111

صحيحة محمّد بن مسلم ومعتبرة عبيد بن زرارة(1).

وقوله عليه السلام: «وإن كانوا صغاراً، وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم، لم يكن له أن يرجع فيها» في صحيح صفوان(2)؛ يعني إن كان الموقوف عليهم - من وُلده وغيرهم - صغاراً واشترط للصغار من غير وُلده ولاية الضيعة الموقوفة قيمومة الوقف لنفسه ثمّ قبضها لهم وعن جانبهم يصير الوقف تامّاً لازماً ولا يجوز حينئذٍ له الرجوع في الصدقة التي هي الوقف.

وجه الدلالة تفريع تمامية الوقف على حيازة الواقف وقبضه الضيعة الموقوفة للصغار المولّى عليهم. وظاهر هذا التفريع اعتبار قصد كون القبض لهم، لتوقّف ذلك على القصد، كما قال في الجواهر(3).

وأدلّ من ذلك صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الصدقة إذا لم تقبض هل تجوز لصاحبها؟ قال عليه السلام: «إذا كان أب تصدَّق بها على ولد صغير، فإنّها جائزة؛ لأنّه يقبض لولده إذا كان صغيراً، وإذا كان ولداً كبيراً، فلا يجوز له حتّى يقبض»(4).

وقد عبّر في الجواهر عنها بالخبر المرويّ عن قرب الإسناد وكذا في العروة عبّر عنها بالخبر.

ولكنّ التحقيق أنّها صحيحة. وذلك لأنّ صاحب الوسائل رواها عن كتاب علي بن جعفر وطريقه إلى كتاب علي بن جعفر صحيح. وقد أثبتنا ذلك في

********

(1) - وسائل الشيعة 178:19-180، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 1 و 5.

(2) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 4.

(3) - جواهر الكلام 64:28.

(4) - وسائل الشيعة 236:19، كتاب الهبات، الباب 5، الحديث 5.

ص: 112

كتابنا «مقياس الرواة».

هذا من جهة السند، وأمّا من جهة الدلالة فإنّ تعليل الإمام عليه السلام جواز الوقف بقوله عليه السلام: «يقبض لوَلده إذا كان صغيراً». ظاهرٌ في اعتبار قصد الوليّ كون قبضه للمولّى عليه بدلالة اللام في «لولده».

وقد استشهد بهذه النصوص في الجواهر، لاعتبار قصد كون قبضه عن المولّى عليه، ولا سيّما تعليله عليه السلام لجواز قبض الوليّ بقوله: «لأ نّه يقبض لولده إذا كان صغيراً».

وبما بيّنّاه اتّضح وجه اعتبار كون قبض الوليّ بقصد قبض الوقف وبعنوان تسلّمه، لا مطلقاً ولو بغير قصده، فضلاً عن قصد غيره، فلا يصحّ ما حكم به كاشف الغطاء في المقام، وإشكال صاحب العروة عليه وارد؛ حيث قال: «لكن عن كاشف الغطاء قدس سره: ولو نوى الخلاف فالأقوى الجواز، وهو مشكل»(1).

هذا، ولكن يمكن حمل هذه النصوص على مقتضى ولاية الوالد؛ بمعنى أنّ كون قبضه لولده إنّما هو بمقتضى ولايته، لا لأجل قصده ذلك؛ حيث يقع لا محالة له بمقتضى ولايته؛ لأنّه إنّما يقبض بما هو وليّ، لا بما هو مالك أو موقوف عليه.

ويشعر بذلك تعليله عليه السلام لجواز الوقف على الولد الصغير بقوله: «لأنّ والده هو الذي يلي أمره» في صحيحة محمّد بن مسلم وعبيد بن زرارة(2). فإنّ مرجع هذا التعليل إلى أنّه لمّا كان للوالد الولاية على أمر ولده الصغير، يكون قبضه قبض الولد.

ومقتضى إطلاق هذا التعليل نفي اعتبار قصد كون القبض عن جانب ولده الموقوف عليه.

********

(1) - العروة الوثقى 287:6.

(2) - وسائل الشيعة 178:19-180، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 1 و 5.

ص: 113

(مسألة 11): لو كانت العين الموقوفة بيد الموقوف عليه قبل الوقف؛ بعنوان الوديعة أو العارية - مثلاً - لم يحتج إلى قبض جديد (1)؛ بأن يستردّها ثمّ يقبضها. نعم، لا بدّ أن يكون بقاؤها في يده بإذن الواقف. والأحوط بل الأوجه أن يكون بعنوان الوقفية.

والحاصل: أنّ الوليّ بعد ما أنشأ وقف ماله للمولّى عليه وقطع عُلقة الملكية عن نفسه، وهو ملتفت إلى أنّ استيلائه على العين الموقوفة بعد وقفها من أجل كونه وليّاً، لا بما أنّه مالك، وإلى أنّ يده عليها هي اليد الولائية لا المالكية وأنّ قبضه بمنزلة قبض المولّى عليه، فلا محالة يقع قبضه عن جانب المولّى عليه، من دون حاجة إلى قصد كون قبضه عن جانبه؛ زائداً عن التفاته إلى مقتضى شأنه.

وذلك لأنّ شأن الولاية يقتضي كون قبضه عن المولّى عليه، بل ولو قصد القبض لنفسه؛ بأن يقصد بالقبض إدخال الموقوف تحت استيلائه وقبضته بعنوان أنّه وليٌّ، لا مالك، فيقع حينئذٍ قبضه عن المولّى عليه لا محالة.

نعم، يضرّ قصد الخلاف بمعنى قصده كون القبض لغير الموقوف عليه ممّن تحت ولايته، كما أشار إليه في جامع المقاصد بقوله: «ويشكل: بأنّ القبض إنّما يحسب لذي اليد، ما لم يقصده لغيره ممّن له ولاية عليه ونحوه»(1).

عدم احتياج تجديد قبض ما بيد الموقوف عليه

1 - والوجه في ذلك فحوى ما دلّ على كفاية قبض الولّي عن قبض المولّى عليه فيما إذا كانت العين الموقوفة بيد الوليّ قبل الوقف.

********

(1) - جامع المقاصد 23:9.

ص: 114

وذلك لأنّ قبضه عن الموقوف عليه إذا كان كافياً فيما إذا كان بيده، فقبض الموقوف عليه عن نفسه كافٍ بالفحوى القطعي. هذا مضافاً إلى انصراف عمومات اعتبار القبض عن هذه الصورة قطعاً؛ لأنّه حاصل. نعم يعتبر كون قبضه بعد الوقف بنيّة قبض العين الموقوفة، كما يعتبر كونه بإذن الواقف لما سبق بيانه آنفاً.

وقد أجاد في توجيه ذلك في العروة؛ حيث قال: «لو كانت العين الموقوفة بيد الموقوف عليه على وجه الأمانة أو الضمان حتّى الغصب لم يحتج إلى قبض جديد باستردادها ثمّ قبضها. نعم بناءً على اشتراط كون القبض بإذن الواقف لا بدّ من إذنه في البقاء بعنوان الوقفية. فالقول بكفايته مطلقاً؛ إمّا لانصراف ما دلّ على اشتراط القبض عن هذه الصورة، أو لفحوى التعليل في أخبار وقف الأب على أولاده الأصاغر ضعيف. وأمّا إذا قلنا بعدم اشتراط الإذن في القبض فلا إشكال في كفايته مطلقاً»(1).

ويرد عليه: أنّه حتّى لو قلنا بعدم اشتراط إذن الواقف في القبض، عنوان الوقفية لا ريب في اعتباره في القبض. ويتوقّف ذلك على قصده بالقبض؛ بأن يقصد قبض العين الموقوفة.

فالقول بعدم اشتراط إذن الواقف في القبض إنّما ينفع في سقوط اعتبار إذنه وعدم حصول القبض بدونه، ولا ينفع في سقوط اعتبار قصد عنوان الوقفية.

فاتّضح بهذا البيان وجه المناقشة في ما يظهر من ذيل كلامه: «وأمّا إذا قلنا...».

ومقتضى التحقيق: كفاية نفس الوقف عن الإذن في المقام؛ نظراً إلى ظهوره عرفاً في رضا الواقف بكون العين الموقوفة في يد الموقوف عليه بعد الوقف،

********

(1) - العروة الوثقى 288:6.

ص: 115

(مسألة 12): فيما يعتبر أو يكفي قبض المتولّي - كالوقف على الجهات العامّة - لو جعل الواقف التولية لنفسه لا يحتاج إلى قبض آخر (1)، ويكفي ما هو حاصل، والأحوط بل الأوجه أن يقصد قبضه بما أنّه متولّي الوقف.

كيف وهو ملَّكها له، فبعد تمليكه ماله للموقوف عليه بالوقف فكيف لا يرضى ببقائه في يده؟! فإنّ ذلك أمر مستبعَد في نظر أهل العرف، وعليه يبتني هذا الظهور العرفي.

عدم الحاجة إلى قبض جديد لو جعل الواقف التولية لنفسه

1 - يقع الكلام هنا، تارة؛ في أصل جواز جعل الواقف التولية لنفسه. واُخرى:

في عدم الحاجة إلى قبض جديد حينئذٍ.

أمّا الأوّل: فلا إشكال في جوازه؛ لأنّ التولية إنّما هو جعل الولاية على إجراء أحكام الوقف ولا ريب في كون إجراء أحكام الوقف في جهة الوقف وعلى حسب ما وقفه الواقف، فلا ينافي ماهية الوقف. وسيأتي بعض الكلام فيه في آخر هذا الكتاب.

وأمّا الثاني: فلتعليل الشهيد من توقّف قبض الموقوف وتحقّق الميز بينه وبين القبض السابق على نيّة قبضه بما أنّه متولّي الوقف، بلا حاجة إلى قبض جديد بالاسترداد ثمّ الأخذ.

وذلك لعين ما تقدّم آنفاً، وكذا وجه قصد قبضه بعنوان متولّي الوقف.

ص: 116

(مسألة 13): لا يُشترط في القبض الفورية (1)، فلو وقف عيناً في زمان ثمّ أقبضها في زمان متأخّر كفى، وتمّ الوقف من حين القبض.

عدم اعتبار الفورية في قبض الوقف

1 - المشهور عدم اعتبار الفورية في قبض الوقف، بل نقل الإجماع عليه، كما قال في المفتاح(1).

وذلك لأنّ اعتبار فورية القبض بحاجة إلى دليل، ولا دليل عليه، بل إنّما قام الدليل على إناطة مشروعية الوقف بتحقّق أصل قبض الموقوف. ولا يتوقّف قبضه على الفورية؛ لأنّ المناط في صدقه نظر أهل العرف؛ بأن يقال: قبض فلان ما وُقف عليه؛ حيث إنّ القبض المعتبر في الوقف من العناوين العرفية المحضة. ويدور تحقّقه مدار صدقه العرفي وأهل العرف لا يرون التأخير في القبض مانعاً عن صدق قبض الموقوف. وعليه فاعتبار الفورية بحاجة إلى الدليل، لا عدمه.

هذا مقتضى القاعدة. وأمّا النصوص الواردة في المقام، فلم يدلّ شيء منها على اعتبار الفورية، بل يمكن استفادة عدم اعتبارها من بعض النصوص، كقوله عليه السلام:

«إذا لم يقبضوا حتّى يموت، فهو ميراث» في معتبرة عبيد وصحيحة محمّد بن مسلم(2)؛ حيث دلّ بمفهومه على صحّة الوقف إذا قبضوا ما دام الواقف حيّاً، كما استند إليه لنفي اعتبار الفورية في جامع المقاصد والعروة(3).

********

(1) - مفتاح الكرامة 26:9.

(2) - وسائل الشيعة 178:19-180، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 1 و 5.

(3) - جامع المقاصد 23:9؛ العروة الوثقى 286:6.

ص: 117

(مسألة 14): لو مات الواقف قبل القبض بطل الوقف وكان ميراثاً (1).

ثمّ إنّه قال في القواعد: «وفي اشتراط فوريته إشكال». وقال في جامع المقاصد في شرحه:

«يُنشأ من أنّه ركن في العقد فجرى مجرى القبول، خصوصاً على القول بعدم اشتراط القبول. ومن أصالة عدم الاشتراط وانتفاء دليل يدلّ عليه، بل رواية عبيد بن زرارة دالّة على عدم الاشتراط؛ حيث عُلِّق فيها البطلان بعدم القبض إلى أن يموت. فإنّ مقتضاه الاكتفاء به قبل الموت متى حصل، والأصحّ عدم الاشتراط»(1).

ولكن ما يستفاد من صدر كلام المحقّق الكركي من الإشكال - نظراً إلى كون الوقف عقداً متقوّماً بالقبول وجريان القبض مجراه، خصوصاً على القول بعدم اشتراط القبول مع القول بعقدية الوقف - لا يخفى ما فيه من النظر؛ لما قلنا من عدم كون التأخير مانعاً عن تحقّق القبض المعتبر عرفاً؛ حيث جرت عادة العرف في الأوقاف على تحقّق القبض عند التأخير. مع أنّ المرتكز في أذهانهم كون القبض قائماً مقام القبول، ولا سيّما عند عدم تحقّق القبول.

هذا، مع جريان سيرة المتشرّعة على التأخير في قبض الموقوف، ولم يرد من الشارع ما يدلّ على خلاف ذلك.

بطلان الوقف بموت الواقف قبل القبض

1 - لا خلاف في ذلك بين الأصحاب، كما قال في المفتاح(2) وصرّح بعدم

********

(1) - جامع المقاصد 23:9.

(2) - مفتاح الكرامة 25:9.

ص: 118

الخلاف في ذلك صاحب العروة(1).

وقد دلّ على ذلك صريحاً صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال في الرجل يتصدّق على ولده وقد أدركوا: «إذا لم يقبضوا حتّى يموت، فهو ميراث»(2).

ونظيرها صحيحة عبيد بن زرارة عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال في رجل تصدّق على ولد له قد أدركوا، قال: «إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث»(3).

وبعد دلالة النصّ الصريح وتسالم الأصحاب على ذلك، لا يبقى أيّ إشكال في بطلان الوقف بموت الواقف قبل قبض الموقوف من جانب الموقوف عليه أو من يتولّى أمره.

وهاهنا نكتة أشرنا إليها سابقاً، وهي أنّه يمكن توهّم حمل الصحيحتين المزبورتين على صورة عدم تحقّق القبول اللفظي؛ نظراً إلى عقدية الوقف وتمامية العقد بالإيجاب والقبول اللفظيين ودخوله بذلك تحت إطلاق «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها»(4). فلا محالة ينعقد بذلك عقد الوقف ويصير لازماً غير قابل للرجوع؛ لما دلّ على أنّ ما كان للّه فلا رجعة فيه.

ولكن لا ملزم على هذا الحمل بعد إطلاق مفهوم الصحيحتين ودلالتهما على دوران البطلان مدار عدم تحقّق القبض قبل موت الواقف، سواء تحقّق القبول اللفظي أو لم يتحقّق؛ إذ لا إجماع على تمامية الوقف بتحقّق القبول، بل لا دليل على

********

(1) - العروة الوثقى 284:6.

(2) - وسائل الشيعة 178:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 1.

(3) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 5.

(4) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 2.

ص: 119

دخله في صحّة الوقف كما سبق واختاره جماعة من الفحول.

وقع الكلام في أنّ الوقف هل يبطل بموت الموقوف عليه أو لا؟ بل يمكن تصحيحه بقبض البطن الثاني. يظهر من المسالك(1) بطلان الوقف بموت الموقوف عليه قبل القبض كموت الواقف قبله؛ لأنّه مقتضى العقد الجائز، فضلاً عن الذي لم يتمّ ملكه بالقبض، كالوقف؛ نظراً إلى عدم تماميته قبل قبض الوقوف وكونه مراعىً إلى أن يتحقّق القبض واحتمل أيضاً قيام البطن الثاني مقامه في القبض، ونقل عن السرائر التوقّف في ذلك.

وفي العروة: أنّ المسألة محلّ إشكال(2)؛ أي ذات وجهين.

أمّا وجه البطلان، اعتبار قبض من كان طرفاً في إجراء الصيغة وعدم كفاية قبض غيره؛ فإنّ قبضه نظير قبول غير من خوطب بالإيجاب، مع أنّ الموقوف عليه بموته قبل تمامية الوقف بمنزلة المعدوم، فيكون من قبيل الوقف على معدوم ثمّ على موجود.

وأمّا وجه الصحّة أنّ جميع البطون ملحوظون في قصد الواقف، فيكون مفروض الكلام من قبيل الوقف على شخصين قبض أحدهما دون الآخر.

ورجّح في العروة الوجه الثاني بقوله: «والأوجه الوجه الثاني لضعف ما ذُكر من الوجهين».

********

(1) - قال في المسالك: والظاهر أنّ موت الموقوف عليه قبل القبض كموت الواقف، لأنّ ذلك هوشأن العقد الجائز فضلاً عن الذي لم يتمّ ملكه، ولكنّهم اقتصروا على المرويّ. ويحتمل هنا قيام البطن الثاني مقامه في القبض، ويفرّق بينهما بأنّ موت الواقف ينقل ماله إلى وارثه، وذلك يقتضي البطلان كما لو نقله في حياته، بخلاف موت الموقوف عليه فإنّ المال بحاله ولم ينقل إلى غيره، لعدم تمامية الملك». راجع: مسالك الأفهام 359:5.

(2) - العروة الوثقى 285:6.

ص: 120

وهذا متين جدّاً لفرض عدم انحصار الموقوف عليه في شخص معيّن ولا في البطن الأوّل ولكون البطن اللاحق داخلاً في قصد الواقف أيضاً. بلا فرق في ذلك بين كون الموقوف عليه في البطن الأوّل أشخاصاً معيّنين أو عنوان البطن الأوّل من غير تعيين شخص أو أشخاص في الطبقة الاُولى.

نعم، هذا الكلام إنّما يأتي فيما لو قلنا بأنّ القبض شرط صحّة الوقف لا شرط لزومه، وإلّا لا إشكال في الصحّة في مفروض الكلام. ولكن كونه شرط اللزوم خلاف مقتضى التحقيق، كما قلنا.

وقد فرّق في المسالك بين موت الواقف وبين موت الموقوف عليه بأنّ: موت الواقف قبل القبض ينقل ماله إلى وارثه، بخلاف موت الموقوف عليه قبله، فالوقف حينئذٍ قابل للبقاء بقبض البطن اللاحق.

قال قدس سره: «ويُفرّق بينهما بأنّ موت الواقف ينقل ماله إلى وارثه، وذلك يقتضي البطلان كما لو نقله في حياته، بخلاف موت الموقوف عليه؛ فإنّ المال بحاله ولم ينتقل إلى غيره، لعدم تمامية الملك»(1). ثمّ إنّه بعد الكلام المزبور قوّى عدم اشتراط فورية القبض في الوقف، ومقتضاه كفاية قبض البطن اللاحق في الصحّة بعد موت البطن الأوّل.

********

(1) - مسالك الأفهام 359:5.

ص: 121

(مسألة 15): يشترط في الوقف الدوام (1)؛ بمعنى عدم توقيته بمدّة، فلو قال: «وقفت هذا البستان على الفقراء إلى سنة» بطل وقفاً،

اشتراط الدوام في الوقف

اشارة

1 - المشهور بين الفقهاء اشتراط الدوام في الوقف، بل ادّعي عليه الإجماع، كما في الخلاف والغنية والسرائر. وقد نقل الإجماع في المفتاح(1) عن كثير، وذكر أسماءَ كثير من القائلين بذلك. واستظهر التردّد في ذلك من عبارة المفاتيح والكفاية.

وعلى أيّحال لا خلاف في ذلك بين جميع القدماء وجُلّ المتأخّرين. فلو لم يكن في البين إجماع تعبّدي، لا أقلّ من تسالم الأصحاب عليه.

وقد استُدلّ لاشتراط الدوام في صحّة الوقف بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع كما استدلّ به في العروة، بل إنّه - بعد المناقشة في الوجهين الآخرين - قال: «فالعمدة الإجماع، إن تمّ»(2). وفي الخلاف: بإجماع الفرقة وأخبارهم. وفي الغنية والسرائر: إجماعاً. وأخذه المهذّب البارع وإيضاح النافع من المسلّمات. ذكر ذلك كلّه في المفتاح(3).

وفي الجواهر «بلا خلاف أجده بمعنى عدم توقيته بمدّة، بل الإجماع محصّلة ومحكيّة - في الغنية وعن الخلاف والسرائر - عليه»(4).

********

(1) - مفتاح الكرامة 13:9.

(2) - العروة الوثقى 291:6.

(3) - مفتاح الكرامة 13:9.

(4) - جواهر الكلام 51:28.

ص: 122

ولا يخفى: أنّ الإجماع التعبّدي الكاشف عن رأي المعصوم إنّما يتحقّق فيما إذا لم يستدلّ قدماءُ الأصحاب بوجهٍ من الوجوه والأدلّة، وإلّا لكان الإجماع مدركياً غير كاشف عن رأي المعصوم بالتعبّد.

وفي المقام نقل في المفتاح(1) عن شيخ الطائفة أنّه جعل نصوص الأوقاف الصادرة عن الأئمّة عليهم السلام(2) من أدلّة اشتراط الدوام، وخصّص بها عموم آية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (3). ولا بدّ من الفحص في كلمات سائر القدماء، فلو كان غيره من القدماء استدلّ بهذه الأخبار ليصير الإجماع مدركياً.

وأمّا كون تلك الأدلّة والوجوه المذكورة في كلماتهم مخدوشة في نظر الفقيه، فلا يجعل الإجماع المدّعى تعبّدياً صالحاً للاستدلال به.

الوجه الثاني: إنّ ماهية الوقف قد اخذ فيها التأبيد والدوام حسب ارتكاز المتشرّعة، ومن هنا جُعل لفظ «وقفت» صريحاً في الوقف المعهود، دون سائر الألفاظ.

ويمكن الإشكال على هذا الوجه:

أوّلاً: بأنّ لفظ الوقف في أصل اللغة التحبيس، وقد سبق تعريفه في اصطلاح الفقهاء بأ نّه تحبيس العين وتسبيل الثمرة. واتّخذوا هذا التعريف من النبوي المشهور: «حبّس الأصل وسبّل الثمرة». فلم يؤخذ الدوام والتأبيد في ماهية الوقف وتعريفه، لا لغةً ولا اصطلاحاً.

وثانياً: بأنّ أكثر النصوص - الواردة في الوقف، المستدلّ بها لأحكامه - لم يرد

********

(1) - مفتاح الكرامة 192:2.

(2) - وسائل الشيعة 198:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10.

(3) - المائدة (5):1.

ص: 123

فيه لفظ الوقف حتّى يستدلّ بالمتبادر من لفظه، بل إنّما وردت هذه النصوص بلفظ الصدقة. هذا، مع أنّ أخذ الدوام والتأبيد في مفهوم لفظ الوقف غير معلوم.

ومقتضى التحقيق: أنّ الذي ينفع لإثبات اشتراط الدوام في الوقف، أمران؛

أحدهما: ورود التعبير بلفظ الوقف في نصوص المقام. وذلك لأنّ البحث عن مفهوم أيّ عنوان والفحص عن جذره اللغوي إنّما يُجدي في تعيينه موضوعاً للحكم أو تنقيح متعلّق الحكم، فيما إذا وقع في خطاب الشارع بلفظه موضوعاً أو متعلّقاً للحكم، وإلّا فلا دخل لتعيين مفهومه في تنقيح الموضوع.

وعليه فلا بدّ من استعمال لفظ الوقف في نصوص المقام؛ لكي يستدلّ بأصالة الحقيقة لإثبات كون المراد منه معناه الحقيقي المعهود المشترط فيه الدوام.

وقد يشكل بعدم ورود التعبير بلفظ الوقف في أكثر نصوص المقام، بل الوارد فيها لفظ الصدقة غالباً.

ولكن يمكن الجواب: بأنّ لفظ الوقف قد استعمل في عدّة نصوص معتبرة عامّة مفتاحية في المقام.

كقوله عليه السلام: «الوقف على حسب ما يوقفها أهلها» في صحيحة الصفّار عن العسكري عليه السلام(1).

وقوله عليه السلام: «إن كان وقفها لولده ولغيرهم...» في صحيح صفوان(2).

وما ورد في توقيع صاحب الزمان عليه السلام: «وأمّا ما سألت عنه في الوقف على ناحيتنا...»(3).

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 4.

(3) - وسائل الشيعة 181:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 124

وقوله عليه السلام: «إذا كان الوقف على إمام المسلمين، فلا يجوز بيعه»(1).

وقوله: «وهي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف»(2) إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة(3).

هذا مضافاً إلى القطع بكون المراد من لفظ الصدقة الوقف بقرينة سؤال الراوي؛ حيث صرّح في سؤاله بلفظ الوقف فأجاب عنه الإمام بلفظ الصدقة كما في خبر علي بن سليمان(4)، أو بقرينة كون المتصدّق به عيناً غير منقولة كعقار أو أرض أو ضيعة أو بستان أو ينبوع، ونحو ذلك ممّا لا ينتقل وإنّما يُنتفع بثماره ومنافعه.

فاتّضح بما بيّنّاه عدم وجاهة الإشكال المزبور.

ثانيهما: كون لفظ الوقف في زمن صدور الرواية حقيقة في هذا المعنى المعهود.

وقد يشكل على ذلك أيضاً بأ نّه لم يعلم كون لفظ الوقف في عهد الأئمّة عليهم السلام بالمعنى المعهود المأخوذ فيه الدوام، بل يحتمل كونه من مصاديق عنوان الصدقة، كما نقل في الحدائق(5) عن الشيخ في النهاية: «أنّ الوقف والصدقة شيء واحد».

ومن هنا ترى صاحب العروة ناقش في هذا الوجه بعد نقله بقوله: «وقد يقال: إنّ التأبيد معتبر في مفهومه. ولذا يجعل لفظ الوقف صريحاً في إرادة الوقف، بخلاف سائر الألفاظ، فإنّها بضميمة القرائن، وهو أيضاً كما ترى»(6).

********

(1) - وسائل الشيعة 191:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 6، الحديث 9.

(2) - وسائل الشيعة 193:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 8، الحديث 1.

(3) - وسائل الشيعة 188:19-189 و 192، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 6، الحديث 6 و 7، والباب 7، الحديث 1 و 2.

(4) - وسائل الشيعة 176:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 3، الحديث 1.

(5) - الحدائق الناضرة 153:22.

(6) - العروة الوثقى 291:6.

ص: 125

هذا، ولكن يمكن حلّ الإشكال المزبور بجرِّ المعنى المعهود - المرتكز من الوقف بين متشرّعي زماننا - إلى زمان الشارع بأصالة عدم النقل، وإثبات كون لفظ الوقف في زمانه حقيقة في المعنى المعهود المأخوذ فيه الدوام.

بل يؤيّده ما ورد من كثرة التعبير بالتصدّق عن الوقف في نصوص المقام.

وجه التأبيد أنّ الصدقة من العناوين العبادية التي قد دلّت النصوص على أنّها للّه وغير قابلة للرجوع فيها، بل كلّ ما كان للّه لا رجعة فيها، والوقف أيضاً كالصدقة، فلا يقبل الرجوع. وعدم القابلية للرجوع في قوّة الدوام والتأبيد كما لا يخفى.

وإطلاق هذه النصوص يقتضي عدم مشروعية الرجوع في الوقف، بل الصدقة مطلقاً، حتّى بالتوقيت.

وإنّما تصلح هذه النصوص للتأبيد؛ لأنّها تورث الظنّ بكون الوقف داخلاً في حقيقة الصدقة في ارتكاز متشرّعي عصر المعصومين عليهم السلام، فلا بدّ من أخذ الدوام وعدم القابلية للرجوع في مفهومه؛ نظراً إلى أنّ التعبير عن الوقف بالتصدّق في أكثر نصوص الباب كاشف عن إشراب حقيقة الصدقة في مفهومه العرفي في ذلك الزمان.

ولا سيّما بعد تصريح المفيد في المقنعة بأ نّهما أمر واحد. وهذا شاهد على كون ذلك مرتكزاً بين المتشرّعة في عصر المعصومين عليهم السلام بل دلّ على ذلك بعض النصوص بالخصوص سبق ذكره في مطاوي البحوث السابقة.

والإشكال: بأنّ استعمال لفظ الصدقة في الوقف إنّما هو بالقرينة لا بالوضع حتّى يشتركان في الماهية، مدفوع بأنّ وجود العلاقة المشتركة - وهي القربية والدوام - لا يضرّ ذلك بالمطلوب، بل يؤكّده؛ نظراً إلى كونها مصحّحة لأصل الاستعمال الكاشف عن اشتراكهما في الخصوصية الماهوية؛ مضافاً إلى دلالة كلام المفيد وغيره من القدماء - من أنّ الوقف والصدقة شيء واحد - على تبادر مفهوم الصدقة

ص: 126

من إطلاق لفظ الوقف. وعلى أيّ حال لا ريب في كون الوقف من سنخ الصدقة وإشراب مفهومها في ماهية الوقف في عصر الأئمّة عليهم السلام.

ولكن هاهنا إشكال أساسي على أخذ الدوام في ماهية الوقف ومفهومه. وهو أنّ لازم ذلك خروج أكثر الوقوف المقيّدة بالقيود عن ماهية الوقف. ولكن عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» يأبى عن ذلك. ويؤيّد ذلك عدم أخذ الدوام في ماهية الوقف؛ حيث لادوام ولا تأبيد للوقوف المقيّدة؛ نظراً إلى انقطاعها وانتفائها بتخلّف القيود.

ومن هنا يمكن أن يقال: إنّ الدوام مقتضى إطلاق الوقف؛ أي إنشائه على نحو المطلق ومن غير قيد؛ بمعنى أنّ الواقف لو أنشأ الوقف مطلقاً غير مقيّد بقيد يقتضي الدوام، وإلّا يبطل الوقف بالتوقيت الزماني؛ لقيام الإجماع على بطلانه. وهذا مراد من اعتبر الدوام في الوقف، كما فسّروه بذلك.

ويشهد لما قلنا ما أشكل في العروة على الاستدلال لبطلان الوقف المشروط بالعود عند الحاجة بأ نّه منافٍ لمقتضى الوقف؛ نظراً إلى أخذ الدوام والتأبيد في ماهيته، فإنّه قدس سره أشكل على هذا الاستدلال بقوله: «وفيه: أنّ هذا مقتضى إطلاقه، لا مطلقه»(1).

ومقصوده أنّ الدوام والتأبيد مقتضى إطلاق عقد الوقف حين إنشائه، وليس مقتضى مطلق الوقف حتّى ما أنشأه الواقف مقيّداً. وأمّا عدم جواز الرجوع بفسخ أو إقالة مطلقاً ولو بشرط ذلك، فإنّما هو لقوله: «ما كان للّه لا رجعة فيه»، ولما سبق آنفاً من كون الوقف داخلاً في حقيقة الصدقة وإشراب مفهومها في ماهية الوقف في

********

(1) - العروة الوثقى 307:6.

ص: 127

عهد الأئمّة عليهم السلام، لا لأجل أخذ الدوام في وضع لفظ الوقت.

وأمّا كلام المفيد فناظر إلى الغالب في الاستعمالات. وكذا استعمال لفظ الصدقة لا يثبت أكثر من ذلك؛ فإنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة كما لا يخفى. وأصالة عدم النقل إنّما تنفع لوثبت أخذ الدوام في الموضوع له لفظ الوقف.

الوجه الثالث: النصوص المتضمّنة لأوقاف الأئمّة عليهم السلام(1)؛ نظراً إلى دلالتها على معنى التأبيد، كقول أمير المؤمنين عليه السلام، في ختام صيغة الوقف: «ولا يحلّ لامرئٍ مسلم يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يغيّر شيئاً ممّا أوصيت به في مالي ولا يخالف فيه أمري من قريب ولا بعيد» في صحيح عبدالرحمان بن الحجّاج(2). وقوله عليه السلام:

«فإذا انقرض ولد أبي ولم يبق منهم أحد، فصدقتي على الأوّل فالأوّل حتّى يرثها اللّه الذي رزقها وهو خير الوارثين. تصدّق موسى بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح صدقة حبساً بتّاً بتلاً مبتوتة لا رجعة فيها ولا ردَّ؛ ابتغاء وجه اللّه والدار الآخرة، لا يحلّ لمؤمن يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يبيعها ولا يبتاعها ولا يهبها ولا ينحلها ولا يغيّر شيئاً ممّا وصفته عليها، حتّى يرث اللّه الأرض ومن عليها»(3).

وفيه: أنّ غاية مدلول هذه النصوص اشتراط الدوام في ذلك الوقف الذي صدر عنهم عليهم السلام، ولا دلالة لها على اشتراط الدوام في الوقف مطلقاً على نحو الكبرى الكلّية. نعم، لو كان قوله عليه السلام كبرى كلّية متضمّنة لاشتراط الدوام في كلّ وقف، لصحّ الاستدلال به. وليس كلامه عليه السلام في صيغة الوقف من قبيل ذلك، بل من قبيل فعل المعصوم. ولا إطلاق ولا عموم له.

********

(1) - وسائل الشيعة 198:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10.

(2) - وسائل الشيعة 201:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 3.

(3) - وسائل الشيعة 203:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 4.

ص: 128

بيان ذلك: أنّ الخطابات الصادرة عن المعصومين عليهم السلام المرتبطة بأحكام الشرع؛ إمّا قضايا جزئية، أو كبريات كلّية. لا إشكال في كون الكبريات من قبيل قضايا حقيقية وحجّة على الحكم الكلّي الشرعي. وأنّ أكثر خطابات الشارع من هذا القبيل.

وأمّا القضايا الجزئية، فهي إمّا بيان لحكم موضوع جزئي في قضية واقعة خارجية، كما لو سأل سائل عن حكم موضوع ابتلى به شخصه، فأجابه الإمام عليه السلام ببيان تكليفه، دون إلقاء كبرى كلّية. وإمّا فعل صادر منه في مقام العمل، كإنشاء صيغة الوقف في المقام.

فالقول الصادر منه على الأوّل في قوّة الكبرى الكلّية، لو بنينا على إلغاءِ الخصوصية من مورده الجزئي، أو قلنا بأنّ مقام التشريع ومصدر التقنين لمّا كان منصب الأئمّة عليهم السلام ومن شؤون إمامتهم، يعطي ذلك ظهوراً لخطاباتهم في بيان الأحكام الكلّية الشرعية، ويجعلها في قوّة الكبرى الكلّية ومن باب «إيّاك أعني واسمعي يا جاره»، أو كان خطاب الإمام عليه السلام شخصياً ولكنّه مقرون بتعليل ونحوه ممّا يرجع به إلى كبرى كلّية، كما أشار إليه في الجواهر بقوله: «أو شخصي يرجع إلى كلّي، كقوله لزيد: إنّ صلاتك باطلة؛ لأنّك تكلّمت فيها مثلاً؛ إذ مرجعه إلى بطلان صلاة من تكلّم في صلاته، وزيدٌ منهم»(1). وقد نقلنا نصّ كلامه في المجلّد الأوّل من كتابنا بدايع البحوث فراجع. وإلّا فلا يستفاد منه حكم كلّي.

وأمّا على الثاني؛ أي إذا كان الصادر منه فعلاً كإنشاءِ صيغة الوقف فلا إشكال في عدم دلالته على حكم كلّي لأنّ الفعل لا عموم ولا إطلاق له، كما قُرِّر في محلّه.

********

(1) - جواهر الكلام 403:21.

ص: 129

ومن هنا ناقش صاحب العروة في الاستدلال بها بقوله: «وربما يستدلّ عليه بالأخبار المتضمّنة لأوقاف الأئمّة عليهم السلام، فإنّها مشتملة على التأبيد، لكنّه كما ترى»(1).

وعليه فعمدة الدليل في اشتراط الدوام في المقام هو الإجماع وما دلّ على عدم قابلية الوقف للرجوع. ولا يبعد تحقّقه في المقام؛ لعدم مخالف في البين، ولا سيّما من بين القدماء، ولعدم وجود أصل أو دليل لفظي يدلّ عليه حتّى يكون الإجماع في المقام مدركياً.

نعم، نقل في المفتاح(2) عن شيخ الطائفة أنّه جعل النصوص المشار إليها من أدلّة اشتراط دوام الوقف. ومخصّصة لعموم الآية على القول بكون الوقف عقداً.

ومقصوده من الآية قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (3).

وعليه فلو كان غيره من القدماء استدلّ بهذه الأخبار يصير الإجماع المدّعى مدركياً. وإن لم يكن في كلماتهم إشارة إلى التعليل بهذه النصوص ولا بغيره من الأدلّة، يمكن الاعتماد على الإجماع في المقام.

وعليه فإن تمّ الإجماع فهو، وإلّا ينحصر الوجه في ما يستفاد من نصوص المقام من عدم قابلية الوقف للرجوع؛ حيث يدلّ مثل قوله: «فما جُعل للّه عزّ وجلّ فلا رجعة له فيه»(4) بإطلاقه على عدم مشروعية الرجوع في الوقف - بل مطلق الصدقة - مطلقاً، حتّى بالتوقيت، بل يكشف عن كون التوقيت مبطلاً للوقف؛ لخروجه بذلك عن منصرف النصوص، وهو غير القابل للرجوع.

********

(1) - العروة الوثقى 291:6.

(2) - مفتاح الكرامة 14:9.

(3) - المائدة (5):1.

(4) - وسائل الشيعة 204:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 1.

ص: 130

ويمكن أيضاً الاستدلال بأصالة عدم النقل بالتقريب الذي ذكرناه. فتتحصّل عمدة الوجه في ثلاثة وجوه.

وأمّا الاستدلال بصحية ابن مهزيار ومكاتبة الصفّار لاشتراط الدوام في الوقف، كما استظهره صاحب الوسائل وعقد عنوان الباب السابع من أحكام الوقوف والصدقات بذلك، فلا وجه له؛ لقصورهما عن الدلالة على اشتراط الدوام، بل لا نظر لهما إلى ذلك وسيأتي بيان مفادهما عن قريب إن شاء اللّه.

هذا كلّه فيما لو اريد من الوقف معناه الحقيقى المصطلح المعهود فلا إشكال في اشتراط الدوام فيه وبطلانه لو انشئَ موقّتاً، فلا يترتّب عليه شيء من آثار الوقف حينئذٍ. وهذا هو معقد الإجماعات والفتاوى، من دون مخالف في البين.

ولا يبعد دعوى ظهور لفظ الوقف، بل صيغته - بأيّ لفظ كانت - في ذلك.

حصيلة

1 - تحصّل أنّ عمدة الدليل على اشتراط الدوام وجهان:

أحدهما: إطلاق النصوص الناهية عن الرجوع في الوقف.

ثانيهما: أخذ الدوام في المعنى المرتكز في أذهان المتشرّعة، بل العرف العامّ في زماننا هذا. وانجرار ذلك إلى زمان الشارع بضميمة أصالة عدم النقل، مؤيّداً بالتعبير عنه بالصدقة في النصوص.

2 - وأمّا الإجماع فيبعد تحقُّقه؛ نظراً إلى خلوّ كلمات الأصحاب عن دعواه في المقام، ولا سيّما من كان دأبه دعوى الإجماع كالشيخ الطوسي مع احتمال مدركيته لما نقل في المفتاح.

أمّا نصوص أوقاف الأئمّة وعمومات «الوقوف على حسب ما يوقفها

ص: 131

وفي صحّته حبساً أو بطلانه كذلك أيضاً وجهان. نعم، لو قصد به الحبس صحّ (1).

أهلها»(1) فلا تصلح؛ لأنّ الطائفة الاُولى متضمّنة لقضايا جزئية راجعة إلى فعل الإمام عليه السلام، والطائفة الثانية لا نظر لها إلى جهة الدوام.

3 - تقوية عدم اعتبار الدوام والتأبيد في مفهوم لفظ الوقف بدلالة نصوص تبعية الوقف في رسمه وشكله لنيّة الواقف وما يذكره من القيود الراجعة إلى نفسه أو إلى العين الموقوفة أو إلى الموقوف عليهم. وكثرة موارد رجوع ذلك إلى انقطاع الوقف المتنافي للتأبيد - مضافاً إلى دلالة النصوص الخاصّة على صحّة الوقف - على من ينقرض غالباً، بل العموم انقراضه وما دلّ منها على صحّة اشتراط رجوع الوقف إلى الواقف عند الحاجة وغير ذلك ممّا يتنافي أخذ التأبيد في ماهية الوقف ومفهومه؛ لإطلاق لفظ الوقف على ذلك كلّه في نصوص المقام.

أمّا مشروعية الوقف المنقطع الآخر، فلأنّ الانقطاع فيه لأجل الاختلال في ركن الوقف، لا التوقيت.

صحّة الوقف الموقّت بقصد التحبيس

1 - وقع الكلام بين الأصحاب في أنّه هل يصحّ الوقف الموقّت حبساً؛ بأن كان الوقف حينئذٍ بمعناه العامّ الشامل للحبس فيقع حبساً أم لا، بل يبطل رأساً ولا يقع مطلقاً؟ وقد حكم السيّد الماتن قدس سره بوقوعه حبساً لو قصد به حبساً، دون ما إذا لم يقصد به الحبس.

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19 و 192 و 198، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2 و 7 و 10.

ص: 132

ويظهرمن جماعة القول الثاني؛ تعميماً لمعقد الإجماع - القائم على بطلان الوقف الموقّت - وتمسّكاً بأصالة عدم ترتّب آثار الوقف ما لم يثبت صحّته بالدليل.

ولكنّ الأقوى في المقام القول بالصحّة، ووقوعه حبساً فيما إذا قصد به الحبس، كما فصّل بذلك السيّد الماتن قدس سره. ولكن ظاهر كلمات الأصحاب صحّته حبساً مطلقاً، ولو لم يقصد الواقف الحبس، كما هو محلّ النزاع والكلام بينهم على ما يظهر من مطاوى كلماتهم وسياق استشهاداتهم، كما عليه فحول المحقّقين، وقد ذكر أسمائهم في المفتاح(1).

وقد استدلّ لوقوعه حبساً - ولو بغير قصده لذلك - أوّلاً: بوجود المقتضي وفقدان المانع. وذلك لصلاحية الصيغة لإفادة الحبس؛ نظراً إلى اشتراك الحبس والوقف في أصل المعنى. فيمكن إقامة كلّ منهما مقام الآخر. فكما أنّه إذا قُيّد لفظ الحبس بالتأبيد يفيد معنى الوقف المعهود، كما سبق في صيغة الوقف، فكذلك إذا قرن لفظ الوقف بالتوقيت يفيد معنى الحبس. فلا محالة يقع حبساً بقرينة التوقيت.

وتباينهما في الماهية بخروج الوقف عن ملك الواقف دون الحبس، لا يصلح للمانعية؛ حيث إنّه لا ينافي ذلك استعمال لفظ كلّ واحد منهما في الآخر مع القرينة، كما في أيّ استعمال مجازي.

ويردُّ هذا الوجه قاعدة «العقود تابعة للقصود»؛ حيث إنّه إذا لم يقصد الحبس، بل قصد إنشاء الوقف بذلك، كيف يمكن أن يقع حبساً مع أنّه لم يقصده؟ وهل هذا إلّا من قبيل ما وقع لم يُقصد وما قُصد لم يقع؟! فالمانع في مفروض الكلام هو عدم قصد الحبس. وإن شئت فعبِّر عنه بعدم المقتضي.

********

(1) - مفتاح الكرامة 16:9.

ص: 133

نعم، لو قصد الحبس بذلك لا مانع من وقوعه حبساً وصحّته. وعليه فهذا الردّ لا يصلح لإبطال ما ذهب إليه السيّد الماتن قدس سره.

وثانياً: بعموم قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»، كما استدلّ به الإمام عليه السلام في صحيحتي محمّد بن الحسن الصفّار ومحمّد بن يحيى(1).

وجه الدلالة: أنّ هذا العموم يفيد كبرى دوران صحّة الوقف مدار نيّة الواقف.

ومقتضى ذلك صحّة الوقف الموقّت إذا نواه الواقف وجعل في كلامه دالاًّ عليه.

وأمّا الإجماع على البطلان، فالمتيقّن من معقده - وهو الوقف المعهود الموقّت - قد خرج عن نطاق هذا العموم، ويبقى الباقي، وهو الوقف الموقّت بمعنى الحبس.

فإنّ لفظ الوقف على فرض كونه بالمعنى المعهود - المأخوذ فيه الدوام - في عصر صدور الرواية، ولو بمعونة أصالة عدم النقل، لا ينافي ذلك ظهوره في الحبس بقرينة التوقيت.

ويرد على هذا الوجه: - مضافاً إلى عدم كون الحبس مقصود الواقف كما هو المفروض - أنّ هاتين الصحيحتين، لا نظر لهما إلى جهة الدوام والتوقيت.

والسرّ في ذلك: أنّه لم يرد في أيّة رواية من نصوص الوقف سؤال عن التوقيت بالمعنى المبحوث عنه. وهذا كاشف عن كون اعتبار الدوام في الوقف أمراً مرتكزاً في أذهان متشرّعي ذلك الزمان ولم يكن مورداً للتردّد والسؤال.

وإنّما النظر في الصحيحتين المزبورتين إلى جهات وقعت مورداً للسؤال في سائر نصوص الباب من الخصوصيات الراجعة إلى الموقوف عليه والعين الموقوفة وسائر خصوصيات الوقف.

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 134

ومن هنا لا ينعقد لهما إطلاق من جهة اعتبار الدوام. وعموم الوقوف منصرف عن الوقف الموقّت لأجل ما قلناه.

وثالثاً: بدعوى دلالة بعض النصوص على صحّة الوقف الموقّت بالخصوص.

كصحيحة محمّد بن الحسن الصفّار، قال: قال كتبت إلى أبي محمّد أسأله عن الوقف الذي يصحّ: كيف هو؟ فقد روي أنّ الوقف إذا كان غير موقّت فهو باطل مردود على الورثة، وإذا كان موقّتاً فهو صحيح ممضى. قال قوم: إنّ الموقّت هو الذي يذكر فيه أ نّه وقف على فلان وعقبِه، فإذا انقرضوا، فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، وقال آخرون: هذا موقّت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا، ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها. والذي غير موقّت أن يقول: هذا وقف ولم يذكر أحداً، فما الذي يصحّ من ذلك؟ وما الذي يبطل؟ فوقّع عليه السلام: «الوقوف بحسب ما يوقفها إن شاء اللّه»(1).

ونظيره صحيح علي بن مهزيار قال: قلت له: روى بعض مواليك عن آبائك عليهم السلام: «أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة، وكلّ وقف إلى غير وقت جهل مجهول، فهو باطل على الورثة» وأنت أعلم بقول آبائك عليهم السلام، فكتب عليه السلام: «هكذا هو عندي»(2).

وجه الدلالة: أنّ قوله «كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة» - بناءً على كون المراد من الوقت المعلوم توقيت الأجل بذكر المدّة، يدلّ حينئذٍ بوضوح على صحّة الوقف الموقّت بذكر المدّة.

ولكنّه أوّلاً: خلاف ما عليه تسالم الأصحاب وإجماعهم.

********

(1) - وسائل الشيعة 192:19-193، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 7، الحديث 2.

(2) - وسائل الشيعة 192:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 7، الحديث 1.

ص: 135

وثانياً: مخالف لما ذكره محمّد بن الحسن الصفّار - في مكاتبته إلى أبي محمّد العسكري عليه السلام - من تفسير غير الموقّت بما لم يُذكر فيه الموقوف عليه.

ويؤيّد ذلك ما ذكره أهل اللغة(1)، من إطلاق الموقّت على كلّ ما قُدّر له غاية، ولو بغير ذكر المدّة. فينطبق على ما ذُكر له الموقوف عليه إلى ما بقوا، وعليه يكون غير الموقوف عليه ما لم يُذكر له الموقوف عليه.

ومن هنا قال الشيخ الطوسي: «معنى هذا إذا كان الموقوف عليه مذكوراً؛ لأنّه إذا لم يذكر في الوقف موقوف عليه، بطل الوقف. ولم يرد بالوقت الأجل، وكان هذا متعارفاً بينهم»(2).

وبناءً على كون المراد ذكر الموقوف عليه، كما قال الشيخ، لا ربط له بالمقام، كما هو واضح.

وقال في الوسائل بعد نقل هذه الرواية: «أقول: الظاهر أنّ المراد بقوله: «بحسب ما يوقفها»، أنّه إن جعلوا دائماً كان وقفاً وإلّا كان حبساً. وإن لم يعلم الموقوف عليه بطل للجهالة، قاله بعض علمائنا»(3).

ولكن يظهر من صاحب العروة(4) أنّ مورد سؤال ابن مهزيار تفسير الموقّت وغير

********

(1) - كما قال الخليل في العين 199:5: «وكلّ ما قدّرت له غاية أوحيناً فهو موقّت» وقال ابن فارس: «الواو والقاف والتاء، أصلٌ يدلّ على حدّ شيءٍ وكنهه في زمان وغيره».

(2) - تهذيب الأحكام 132:9.

(3) - وسائل الشيعة 193:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 7، ذيل الحديث 2.

(4) - حيث قال: «وما يقال: من أنّ المراد من التوقيت وعدمه فيه هو ذكر الموقوف عليه وعدمه بقرينة صحيح الصّفار... فيه: أوّلاً: إنّ كلاًّ منهما خبر مستقلّ ولا وجه لجعل أحدهما قرينة على الآخر، بل اللازم الأخذ بمفاد كلّ منهما. وثانياً أنّه يمكن حمل الثاني أيضاً على إرادة

ص: 136

الموقّت بالمعنى المبحوث عنه، من المؤجّل بذكر الأجل وتعيين المدَّة، والمؤبّد بعدم التأجيل أو بذكر لفظ المؤبّد ونحوه.

وهذا منه عجيب غير وجيه، بل مورد سؤاله إنّما هو الاختلاف في معنى الموقّت وغير الموقّت؛ حيث قال: «قال قوم: إنّ الموقّت هو الذي يذكر فيه إنّه وقف على فلان وعقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها. وقال آخرون: إنّ الموقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقِبِه مابقوا، وغير الموقّت أن يقول هذا وقف، ولم يذكر أحداً».

فلا دلالة لسؤاله على محلّ النزاع بوجه حتّى يصحّ الاستدلال بهذه الصحيحة على جواز الوقف المؤبّد وعدم جواز الموقّت بالمعنى المتنازع فيه. ومن هنا يشكل الالتزام بما قاله في الوسائل في توجيه هاتين الصحيحتين.

وبذلك اتّضح لك وجه ضعف الاستشهاد بهما للتفصيل المزبور.

وعليه فمقتضى التحقيق: أنّ المراد من الوقف الموقّت في هاتين الصحيحتين هو الوقف الذي عُيّن فيه الموقوف عليه؛ إمّا مقتصراً على ذكر الموقوف عليه ما دام باقياً، أو مع تعيين الموقوف عليه بعد انقراض الأوّل. ومن غير الموقّت ما لم يعيّن فيه الموقوف عليه؛ بأن يقول: هذا وقف. ولم يذكر أحداً من الموقوف عليه، كما جاء ببيان واضح في صحيحة محمّد بن الحسن الصفّار(1).

ويشهد لذلك كلام شيخ الطائفة في بيان المراد من الموقّت وغير الموقّت في ذيل

********

(4) المدّة من التوقيت فيه ويكون ذكر الموقوف عليه على الوجه المذكور لبيان المدّة، وحاصل السؤال أنّ الموقّت فسرّ بوجهين: أحدهما: مع التأبيد، والآخر: بدونه فأيّهما الصحيح، ومقتضى قوله عليه السلام: الوقوف... إلى آخره. صحّة كلٍّ منهما» راجع: العروة الوثقى 292:6.

(1) - وسائل الشيعة 192:19-193، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 7، الحديث 2.

ص: 137

صحيحة ابن مهزيار(1). وقد سبق نقله آنفاً. وأمّا ما جاء في مكاتبة الصفّار من التفسيرين للموقّت، فإنّ أحدهما: ناظر إلى أصل تعيين الموقوف عليه ما دام باقياً، والآخر إلى ذكر الموقوف عليه الثاني. وقد فُسّر غير الموقّت في ذيلها صريحاً بما لم يُذكر فيه الموقوف عليه بعد انقراض الموقوف عليه الأوّل.

وهذه المكاتبة في الحقيقة حاكمة على صحيحة علي بن مهزيار بلسان تفسير موضوع الحكم في الصحيحة؛ حيث بُيِّن فيها المراد من الموقّت المحكوم بالجواز، وغير الموقّت المحكوم بالبطلان في الصحيحة. وإلّا فلو كان الموقّت بمعناه اللغوي المعروف دلّت الصحيحة على عكس معقد الإجماع. ومخالف لما جاء في المكاتبة.

وحاصل الكلام: أنّ لفظ الوقت والموقّت وإن كان حقيقة في معناه المعروف وهو مقدار من الزمان، كما اتّفق عليه أهل اللغة وهو المتبادر من لفظه عند الإطلاق وعدم القرينة، ولكنّه بقرينة المقام من الإجماع والمكاتبة لا بدّ من حمله على معناه المجازي وهو أصل التحديد بحدّ أو قيد غير زماني، بل شهد شيخ الطائفة بتعارف إرادة ذلك في ذلك الزمان.

وعلى أيّ حالٍ لا ربط للتفصيل المذكور في الصحيحتين بالتأبيد وعدمه، كما استفاده صاحب العروة. فلا نظر لهما إلى اشتراط الدوام في صحّة الوقف كما استظهره صاحب الوسائل؛ حيث عقد عنوان الباب بذلك(2).

ثمّ إنّه استدلّ صاحب العروة لصحّة الوقف الموقّت ووقوعه حبساً بوجهين:

********

(1) - تهذيب الأحكام 561/132:9؛ وسائل الشيعة 192:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 7، ذيل الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 192:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 7.

ص: 138

أحدهما: أنّ قصد معنى الوقف الموقّت قصد لحقيقة الحبس؛ بدعوى أنّ الحبس وقف حقيقة، إلّاأنّ الوقف حبس مؤبّدٌ ولأجل دوامه يخرج الوقف عن ملك الواقف بخلاف الحبس فلمّا كان بغير التأبيد لا يخرج عن ملك الحابس. فمنشأ الفرق بينهما بالتأبيد وعدمه. وبذلك دفع قدس سره إشكال تباينهما وعدم إمكان وقوع الحبس بقصد الوقف. ودفع أيضاً إشكال قصد الوقف وتبعية العقود للقصود بأ نّه بعد إنشاء حقيقة الحبس لا يضرّ قصد الوقف واعتقاده.

ثانيهما: صحيحتا الصفّار وابن مهزيار بدعوى كون كلٍّ منهما رواية مستقلّة فدلّت الثانية على الصحّة حبساً، وعدم كون الاُولى قرينة مفسِّرة للثانية؛ لاستقلالهما. مع إمكان تأويل صحيحة الصفّار على تفسير الموقّت بالمؤبّد وغيره، فالمؤبّد ما ذكر فيه الموقوف عليه الثاني بعد انقراض الأوّل. وغير المؤبّد ما قُيّد الموقوف عليه بما دام بقوا.

ويرد على الوجه الأوّل: بأنّ مجرّد اشتراك الوقف والحبس في الجنس لا ينافي تباينهما بالفصل، كما في الإنسان والحيوان. فلا يكفي قصد أحدهما عن الآخر، كما لا يكفي قصد الجنس عن النوع، ولا نوع عن نوع، وإنّ العقود تابعة للقصود.

وعلى الثاني: بأنّ صحيح الصفّار يفسّر موضوع السؤال والجواب الواردين في صحيح ابن مهزيار. وهذا من قبيل الحكومة بالتفسير، كما قرّرناه في محلّه من علم الاُصول في كتابنا «بدايع البحوث»(1).

فاتّضح على ضوء ما قلناه وبيّنّاه أنّ الذي يقتضيه التحقيق: عدم صحّة الاستدلال بالصحيحتين المزبورتين على صحّة الوقف الموقّت. فالأقوى في المقام

********

(1) - راجع المجلّد الرابع من «بدايع البحوث في علم الاُصول»، مبحث الحكومة.

ص: 139

ما ذهب إليه السيّد الماتن قدس سره من التفصيل. والحكم بوقوعه حبساً فيما لو قصد الواقف الحبس. والوجه فيه واضح؛ حيث ليس من قبيل الوقف حتّى يستلزم إشكالاً. وإنّ العقود تابعة للقصود وما تلفّظ به الواقف حينئذٍ يكون صيغة الحبس ولا ربط له بالوقف.

ولكن لا ينبغي عدّ ذلك تفصيلاً في المقام؛ إذ كلُّ من قال بالبطلان مطلقاً، إنّما قال به فيما إذا لم يقصد الحبس بذلك. ومقصوده من البطلان مطلقاً، بلحاظ البطلان وقفاً وحبساً، لكن في هذه الصورة؛ أي إذا لم يكن الحبس مقصوداً من صيغة الوقف الموقّت. فالكلام السيّد الماتن قدس سره في الحقيقة راجع إلى القول بالبطلان مطلقاً.

هذا كلّه إذا عُلم أنّ الواقف أراد في إنشائه الوقف المعهود والحبس من لفظ صيغة الوقف الموقّت. وأمّا إذا لم يعلم أنّه أراد الوقف أو الحبس، فلا إشكال في الحكم بصحّته ووقوعه حبساً. وذلك لحمل فعل المسلم على الصحّة بضميمة ما استدلّ به للصحّة آنفاً.

وأمّا دعوى عدم إثبات ذلك بأصالة الصحّة؛ لظهور لفظ الوقف في معناه الحقيقي وهو يقتضي الفساد، غير وجيه؛ نظراً إلى كون ظهور الكلام تابعاً للقرينة وإنّما يكون ظاهراً في معناه الحقيقي إذا لم تكن قرينة على خلافه، وفي المقام يكون التوقيت قرينة على إرادة معنى الحبس، فينعقد الظهور للكلام بحسبها.

وبهذا البيان عرفت وجاهة مناقشة صاحب العروة في دعوى صاحب الجواهر؛ حيث قال: «وما في الجواهر من أنّ الأصل لا يثبت ذلك بعد ظهور اللفظ في إرادة الحقيقة المقتضية للفساد لا وجه له؛ إذ لفظ الوقف قابل لإرادة كلّ منهما. وقد ذكرنا أنّ دعوى صراحته في إرادة الوقف محلّ منع، بل بقرينة ذكر المدّة متعيّن في إرادة

ص: 140

(مسألة 16): لو وقف على من ينقرض - كما إذا وقف على أولاده - واقتصر على بطن أو بطون ممّن ينقرض غالباً، ولم يذكر المصرف بعد انقراضهم، ففي صحّته وقفاً أو حبساً أو بطلانه رأساً أقوال، والأقوى هو الأوّل (1)،

الحبس، وهو واضح»(1).

وجه المناقشة: أنّ المعنى الحقيقي إنّما يصار إليه ويُحمل عليه الكلام بأصالة الحقيقة، إذا لم تكن قرينة في الكلام صالحة لصرف اللفظ عن معناه الحقيقي، فحينئذٍ لا تصل النوبة إلى جريان أصالة الصحّة؛ لأنّ أصالة الحقيقة أصل لفظي لتعيين مراد المتكلّم وبجريانها ينعقد الظهور للكلام.

وأمّا إذا كان هناك قرينة صالحة لصرف اللفظ عن ظاهره، فلا تجري أصالة الحقيقة، بل يُشكّ في مفروض الكلام حينئذٍ بين إنشاء الوقف على الوجه الصحيح أو على الوجه الباطل. ومقتضى أصالة الصحّة صدور الوقف من الواقف على الوجه الصحيح، ولو حبساً.

حكم الوقف على من ينقرض غالباً

اشارة

1 - وهو صحّته وقفاً، وقال في الحدائق(2): «إنّه المشهور»، وكذا قال في العروة(3).

ولكن نسب في المفتاح(4) القول الثاني إلى أكثر المتأخّرين.

********

(1) - العروة الوثقى 293:6.

(2) - الحدائق الناضرة 137:22.

(3) - العروة الوثقى 293:6.

(4) - مفتاح الكرامة 17:9.

ص: 141

والظاهر أنّ القول الأوّل مشهور بين القدماء كما حكي في المفتاح عن ظاهر المقنعة والسرائر؛ نظراً إلى قولهما برجوع العين الموقوفة أو منفعتها بعد موت الموقوف عليه إلى ورثته، لا إلى الواقف ولا إلى ورثته كما يقوله القائلون بالصحّة حبساً. فيُعلم من ذلك أنّهما قائلان بصحّته وقفاً.

وأيضاً استظهر في المسالك عن قول صاحب الشرائع أنّه وافق المفيد؛ حيث قال: «وفي صحّته وقفاً أو حبساً، أو بطلانه من رأس أقوال أشار إليها المصنّف واختار أوّلها، ويمكن أن يكون اختار الثاني؛ لأنّ وجوب إجرائه حتّى ينقرض المسمّون يشملهما»(1).

وقال في جامع المقاصد: «فأمّا القول بالصحّة، فهو مختار الشيخين وأكثر الأصحاب والمصنّف في المختلف والتذكرة»(2)، بل قال في الحدائق: «وبالأوّل قال الشيخان وابن الجنيد وسلّار وابن البراج وابن إدريس على ما نقله في المختلف، والظاهر أنّه المشهور».

والقول الثاني - وهو صحّته حبساً - مشهور بين المتأخّرين ومتأخّري المتأخّرين، على ما يظهر من ذكر أسماء القائلين بهذا القول في المفتاح والحدائق وغيرهما.

وأمّا القول الثالث - وهو بطلانه رأساً - فقائله غير معلوم، وإنّما نسبه الشيخ في الخلاف والمبسوط(3) إلى بعض أصحابنا. ونقل ذلك عنه أيضاً في المسالك(4)

********

(1) - مسالك الأفهام 354:5.

(2) - جامع المقاصد 17:9.

(3) - الخلاف 543:3 و 548؛ المبسوط 292:3.

(4) - مسالك الأفهام 355:5.

ص: 142

والحدائق(1). وقال في الجواهر: «كما عن المبسوط إرساله أيضاً ولكن لم أتحقّق قائله»(2).

وعلى أيّ حال فالكلام تارة: يقع في مقتضى القاعدة، واُخرى: في مدلول النصوص.

أمّا مقتضى القاعدة: فلو كان عمدة دليل اشتراط الدوام في صحّة الوقف هي الإجماع - كما سبق من صاحب العروة - تقتضي القاعدة حينئذٍ الصحّة وقفاً. وذلك لأنّ المقتضي للصحّة موجود والمانع عنه مفقود.

أمّا وجود المقتضي، فلفرض قصد الوقف وقابلية لفظ الصيغة لإفادته. وأمّا عدم المانع، فلأنّ عمدة المانع من ذلك هي الإجماع على بطلان الوقف الموقّت، وهو غير متحقّق في المقام؛ لما وقع فيه من الاختلاف، بل القائل بالبطلان رأساً غير معلوم، بخلاف الوقف الموقّت بالتوقيت الزماني؛ حيث ادّعى فيه غير واحد الاتّفاق على بطلان الوقف.

وأمّا إذا كان دليل اعتبار الدوام في الوقف غير الإجماع - وهو ما قلنا من أخذ معنى الدوام في ماهية الوقف ومفهومه ولو بمعونة أصالة عدم النقل، أو إطلاقات منع الرجوع في الوقف - فيمكن أن يقال: إنّه لا فرق حينئذٍ بمقتضى القاعدة بين التوقيت بذكر الأجل وتعيين المدّة وبين المقام؛ لأنّ في كلتا الصورتين ينقطع الوقف ويرجع المال الموقوف إلى ملك الواقف. وذلك ممنوع مطلقاً بإطلاقات نصوص منع الرجوع في الوقف، كما سبق بيانها وتقريب دلالتها. وكذا بلحاظ مفهوم الوقف وماهيته المأخوذ فيها الدوام، ولو بأصالة عدم النقل، على ما

********

(1) - الحدائق الناضرة 137:22.

(2) - جواهر الكلام 55:28.

ص: 143

بيّنّاه. فبأيّ لحاظ كان، تقتضي القاعدة عدم الفرق.

وقد يستدلّ لاقتضاء القاعدة الجواز في المقام بوجوه:

أحدها: أنّ الوقف - لا سيّما الوقف الخاصّ - نوع تمليك واختيار تخصيصه بيد المالك.

وثانيها: مقتضى الأصل، والمراد به إمّا أصالة صحّة فعل المسلم، كما سيجىء في كلام المحقّق الكركي، أو الأصل المستفاد من عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

ويمكن أن يراد به أصل احتياج السبب الشرعي أو ما له دخل فيه شرعاً إلى الدليل، وأصالة عدم ثبوته عند الشكّ في قيام دليل من الشارع عليه، كما يلائمه مسلك صاحب الحدائق.

فلو كان المقصود من الأصل هذا المعنى، يقتضي الأصل بطلان الوقف على من ينقرض غالباً؛ نظراً إلى الشكّ في سببيته.

وثالثها: أنّ تمليك الموجودين تمليك مستقلّ عن تمليك البطون اللاحقة ولا يتوقّف عليه. فليس تمليك البطون اللاحقة شرطاً في صحّة تمليك البطن الأوّل.

وقد استدلّ العلّامة بهذه الوجوه الثلاثة، كما نقل عنه في الحدائق بقوله: «وإلى القول بالصحّة قال العلّامة في المختلف واحتجّ عليه. قال: لنا أنّه نوع تمليك وصدقة، فيتبع اختيار المالك في التخصيص وغيره، كغير صورة النزاع، وللأصل، ولأنّ تمليك الأخير ليس شرطاً في تمليك الأوّل، وإلّا لزم تقدّم المعلول على العلّة»(1).

ويرد عليه: أنّ القاعدة التي قرّبناها - بناءً على أخذ الدوام في ماهية الوقف أو

********

(1) - الحدائق الناضرة 137:22.

ص: 144

إطلاق منع الرجوع فيما كان للّه - محكّمة على الوجوه التي ذكرها؛ لأنّها مستفادة إمّا من وضع لفظ الوقف أو من النصوص الواردة في خصوص الوقف، وهي تقتضي اعتبار التأبيد والدوام في الوقف شرعاً، فلا سُلطة للواقف على مخالفة ما اعتبره الشارع.

وقد استدلّ المحقّق الكركي لتقريب مقتضى القاعدة باُمور:

أحدها: ما استدلّ به المحقّق الكركي بقوله: «لأ نّه نوع تمليك وصدقة فيستتبع اختيار المالك في التخصيص وغيره»(1).

ثانيها: أصالة صحّة فعل المسلم عند الشكّ.

ولا يخفى: أنّ هذين الوجهين قد مضى في كلام العلّامة وسبق الجواب عنهما آنفاً.

مضافاً إلى أنّ أصالة الصحّة إنّما تجري في فعل المسلم إذا نشأ الشكّ من احتمال صدور موجب الفساد من ناحية فعله الاختياري العمدي، دون ما إذا كان منشأ الشكّ احتمال دخل قيد من جانب الشارع أو شمول دليل شرعي لمورد الشكّ. فهذا خارج عن مجرى أصالة الصحّة في فعل المسلم. والمقام من هذا القبيل.

ثالثها: عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، بعد الإجماع على كون الوقف عقداً.

رابعها: عدم اشتراط تمليك اللاحق في تمليك السابق، حيث قال: «ولأنّ تمليك الأخير ليس شرطاً في تمليك الأوّل، وإلّا لزم تقدّم المعلول على العلّة»، مع انقراضهم عادةً.

خامسها: رواية أبي بصير: «إنّ فاطمة عليها السلام أوصت بحوائطها السبعة إلى

********

(1) - جامع المقاصد 17:9.

ص: 145

علي عليه السلام ثمّ إلى الحسن عليه السلام ثمّ إلى الحسين عليه السلام ثمّ إلى الأكبر من ولدها صلوات اللّه عليهم»(1).

وسادسها: عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(2) في صحيحتي محمّد بن يحيى والصفّار.

وقد قلنا سابقاً عدم نظرهما إلى جهة الدوام والتوقيت. بل إنّما المقصود على حسب ما جرت عادة الواقفين على اشتراطه في الموقوف عليه والمال الموقوف.

هذه الوجوه الستّة كلّها قد استدلّ بها المحقّق الكركي في جامع المقاصد(3).

وأجاب عن آحادها ببيان جامع لا يخلو نقل نصّ كلامه من فوائد كثيرة.

قال في جوابها:

«ويرد على الاُولى: أنّ التمليك لا يعقل موقّتاً وكذا الصدقة، ولا أصل يرجع إليه في المدّعى؛ لأنّ كون الوقف مؤبّداً أو موقّتاً إنّما يستفاد من الشرع.

والجواب عن الآية: لا دلالة فيها بالقول بالموجب، فإنّ الوفاء بعقد الوقف لازم حيث يعقل معنى الوقف. ولا يلزم من القول بعدم صحّة الوقف كون تمليك الأخير شرطاً في تمليك الأوّل، وإنّما الشرط بيان المصرف الأخير ليتحقّق معنى الوقف.

والرواية لا حجّة فيها؛ لأنّ فاطمة عليها السلام علمت تأبيد ولدها للنصّ على الأئمّة عليهم السلام، وقوله صلى الله عليه و آله: «حبلان متّصلان لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»(4) وغير ذلك ممّا لا يتناهى، ولأ نّه لا تصريح في كلامها عليها السلام بالوقف. والوصيّة

********

(1) - الكافي 5/48:7؛ الفقيه 332/180:4 والرواية منقولة بالمعنى.

(2) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

(3) - جامع المقاصد 17:9.

(4) - الخصال: 97/65 لكنّ الرواية منقولة بالمعنى.

ص: 146

لا بحث فيها، ونقول بموجب توقيع العسكري عليه السلام، مع عدم الدلالة، فإنّ معنى الوقف لا يتحقّق إلّامع انتقال الملك»(1).

قوله: «إنّ التمليك لا يعقل موقّتاً» مقصوده تمليك العين، وهذا مبنيّ على القول بانتقال العين الموقوفة إلى ملك الموقوف عليه، كما هو المشهور، وإلّا فتمليك المنفعة موقّتاً بمكان من الإمكان كما في الإجارة. وقد قال جماعة من الفقهاء كالشهيد الثاني: إنّ الوقف من قبيل الإجارة.

وقوله: «لا أصل» مقصوده عدم وصول النوبة إلى أصالة الصحّة؛ لأنّ المرجع في تشخيص كون الوقف على ما من ينقرض غالباً من قبيل المؤبّد أو الموقّت تابع للسان الدليل والأمارة الشرعية المستفادة منها اعتبار الدوام وبطلان الوقف الموقّت.

وذلك لأنّ أصل القيد إذا كان شرعياً، كان كيفية اعتباره بيد الشارع. وأصالة الصحّة إنّما تجري في فعل المسلم إذا كان الشكّ في كيفية فعله الاختياري، لا من احتمال دخل قيد من جانب الشارع.

وقوله «فإنّ الوفاء...» مقصوده أنّ الآية المزبورة إنّما يمكن التمسّك بعمومها أو إطلاقها لو تحقّق موضوعها في الخارج؛ لأنّ الخطاب لا يتكفّل لإثبات موضوعه.

وموضوع الصحّة هنا عقد الوقف. ولما كان الشكّ في أصل صدق عنوانه لأجل الشكّ في تحقّق الدوام المعتبر فيه. فلا يصحّ التمسّك بإطلاق الآية. ومجرّد صدق العقد لا ينفع في ترتّب أحكام الوقف.

وقوله: «إنّما الشرط...»؛ مقصوده: أنّ تمليك الأخير إنّما هو شرط في أصل صحّة الوقف بعنوان ذكر المصرف الأخير؛ حيث إنّه لو لم يذكر المصرف بعد

********

(1) - جامع المقاصد 17:9-18.

ص: 147

انقراض البطن الأوّل، لا تتحقّق ماهية الوقف المأخوذ فيها الدوام شرعاً.

وقوله: «نقول بموجب توقيع العسكري عليه السلام...»، ومقصوده أنّا نقول بمشروعية الوقف الموقّت بدلالة قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» في توقيع العسكري(1)، لا بدليل رواية أبي بصير المزبورة لأنّها ناظرة إلى الوصيّة. مع أنّ في دلالة التوقيع أيضاً إشكالاً؛ لأنّ الوقف لا يتحقّق إلّابالتمليك. والتمليك الموقّت غير معقول، كما جاء في صدر كلامه قدس سره.

فحاصل مقصوده: أنّ عموم هذا التوقيع ومفاده نقول به ونأخذه فيما إذا تحقّق الوقف، ولمّا كان منتفياً؛ حيث لا يُعقل التمليك الموقّت، فلا يمكن التمسّك بعمومه؛ نظراً إلى عدم تكفّل أيّ خطاب عامّ أو مطلق لإثبات موضوعه، كما هو شأن القضايا الحقيقية المبنيّة عليها الخطابات الشرعية. هذا تحرير كلام المحقّق الكركي.

وأمّا الإجماع المدّعى على الدوام، فالمتيقّن منه بطلان الوقف الموقّت بالمدّة كما قلنا، ودخول الوقف على من ينقرض غالباً في معقد هذا الإجماع غير معلوم، بل مقطوع العدم؛ نظراً إلى ذهاب مشهور القدماء إلى صحّة الوقف في المقام. فيكشف ذلك عن خروج محلّ الكلام عن معقد الإجماع المزبور.

وأمّا النصوص: - وهي العمدة في الاستدلال - فقد دلّ على صحّته وقفاً مكاتبة محمّد بن الحسن الصفّار وصحيح علي بن مهزيار(2)؛ لحكومة المكاتبة على الصحيحة بلسان التفسير كما سبق آنفاً.

ولا سيّما قوله عليه السلام: «الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها» في ذيل مكاتبة الصفّار بلحاظ مفروض سؤال الراوي بقوله: «هذا وقف على فلان وعقبه ما دام بقوا»؛

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 192:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 7، الحديث 1 و 2.

ص: 148

حيث عُدّ في كلام السائل من قبيل الوقف الموقّت. وقد حكم الإمام عليه السلام بصحّة مثل هذا الوقف بقوله: «الوقوف على حسب...». فكأنّ الإمام عليه السلام طبّق الكبرى المزبورة على مورد السؤال الذي يرجع إلى الوقف على من ينقرض غالباً.

فهذه المكاتبة تدلّ على المطلوب بتقريبين.

أحدهما: بلسان الحكومة على صحيح ابن مهزيار.

ثانيهما: دلالتها على المطلوب بالخصوص.

وبدلالة هاتين الصحيحتين بالتقريبين المذكورين نخرج عن مقتضى القاعدة التي قرّرناها في المقام. مضافاً إلى تأييد ذلك ببعض الوجوه السابقة في كلام المحقّق الكركي.

إن قلت: إطلاق قوله: «ما كان للّه لا يرجع فيه» إنّما يدلّ على منع الرجوع ما دام الوقف باقياً، دون ما إذا انتفى بالاختلال في بعض أركانه كانقراض الموقوف عليه.

وعليه فلا يشمل إطلاق النصّ المزبور لمحلّ الكلام.

قلت: الاختلال في أركان الوقف تارةً: يكون بيد الواقف؛ بمعنى كونه ناشئاً من تخصيصه الوقف بمن يكون في معرض الانقراض. واُخرى: لا يكون بفعله واختياره. والذي لا ينافي صحّة الوقف قبل حدوث الاختلال هو هذا الاختلال الخارج عن اختيار الوقف.

وأمّا الاختلال الحادث بفعله واختياره بإيجاد سببه من زمان إنشائه، فلا إشكال في كونه موجباً لبطلان الوقف. وذلك لأنّه أنشأ الوقف بحيث يرجع إلى ملكه بعد مدّة بانقراض الموقوف عليه الذي عيّنه. فهو أحدث سبب الرجوع، فكأ نّه رجع باختياره، كما لو كان رجع في الأثناء.

وهاهنا نكتة صناعية في العمومين الواردين في نصوص المقام.

ص: 149

حاصله: إنّ عموم «الوقوف على حسب...»(1) بظاهره معارض بعموم: «فما جعل للّه فلا رجعة فيه»؛ لأنّ العامّ الثاني يقتضى عدم جواز الرجوع مطلقاً حتّى بإيجاد سببه المقتضي للرجوع، كما في المقام؛ حيث إنّ الوقف على من ينقرض بنفسه يقتضي ذلك.

ولكن عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» يقتضي صحّة الوقف ونفوذه بأيّ شكل رسمه الواقف. ومقتضاه صحّة الوقف المشروط بإخراج من يريده الواقف.

ويمكن الجمع بينهما بأنّ الرجوع حقيقة إنّما هو فيما إذا رجع الواقف عن الوقف بعد إنشائه وانعقاده صحيحاً بالفسخ أو الإقالة كما يظهر من أهل اللغة أنّه فرع سبق ثبوت المرجع والخروج منه، ثمّ العود إليه.

وليس من قبيل ذلك ما إذا اشترط في متن العقد ما يقتضي انقطاع الوقف أو انتفائه أو خروج بعض الأفراد الموقوف عليهم عن الوقف أو إدخال غيرهم فيهم ونحو ذلك ممّا يدخل في عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»، بل هذا العموم في مقام تحديد موضوع العموم الأوّل، وهو «ما كان للّه» المراد به الواقف؛ إذ يُحدّد كيفية اعتبار الوقف من جانب الشارع ونطاق سببيّته الشرعية.

وبعبارة اخرى: إنّ العامّ الأوّل في مقام بيان حكم الوقف، وهو عدم جواز الرجوع. والعامّ الثاني بصدد تحديد موضوع الوقف بحسب ما رسمه الواقفون بلسان الحكومة.

فإنّ لفظة «ما» لو كانت مصدرية، يكون المعنى: صحّة الوقف ونفوذها على

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 150

حسب وقف أهلها؛ أي كيفية وقفهم. ويمكن أن تكون «ما» موصولة، فيكون المعنى: صحّة الوقوف ونفوذها على النحو الذي وقف تلك الوقوف أهلها. والضمير العائد إلى الموصول محذوف حينئذٍ؛ لمعلوميته.

فعلى أيّ حال اشتراط الواقف شيئاً في الوقف إنّما يعيّن كيفية الوقف وليس من قبيل الرجوع. فاتّضح بهذا البيان أنّه لا يصلح عموم «لا رجعة...» للدليلية على بطلان الوقف في محلّ الكلام.

وذلك لأنّ الواقف وإن لم يستعمل أداة الشرط في صيغة الوقف، إلّاأنّه صرّح بكيفية وقفه، فلا إشكال ولا ريب في تعلّق قصده ونيّته بالوقف على خصوص الموقوف على المذكور المنقرض عادة، لا على غيره.

وبقي وجه واحد للقاعدة المقتضية للبطلان وهو أخذ الدوام في عنوان الوقف في مصطلح النصوص وارتكاز المتشرّعة بالتقريب المتقدّم. ولكن لا مناص من رفع اليد عن مقتضى القاعدة - على القول بثبوته - بدلالة مكاتبة الصفّار المزبورة لورودها في خصوص مورد الوقف على من ينقرض غالباً.

ومن هنا قلنا: يقتضي القاعدة البطلان، ولكن أخرجنا من هذه القاعدة صحيح الصفّار بتقييد إطلاق النصّ المزبور.

وقال في العروة: «ومن العجب العدول عن التمسّك بالصحيحتين وبقوله عليه السلام:

«الوقوف على حسب...»، إلى التمسّك بهذه الوجوه»(1).

ومقصوده من الصحيحتين صحيحتا ابن مهزيار والصفّار المستدلّ بهما آنفاً. وقد سبق تقريب الاستدلال بهما منّا آنفاً، وكذا بعموم قوله عليه السلام: «الوقوف على

********

(1) - العروة الوثقى 296:6.

ص: 151

حسب...» الوارد في ذيل صحيحة الصفّار.

ولا يخفى: أنّ كلّ من قال بصحّة الوقف حبساً يرجع قوله إلى أنّه وقف يفيد فائدة الحبس، بلحاظ رجوعه بالمآل إلى ملكه بعد الانقراض.

ويظهر من صاحب العروة تقوية الصحّة وقفاً، وعلّل ذلك:

أوّلاً: بعدم المانع إلّاتخيّل اعتبار التأبيد، ولكنّه لا يصلح للمانعية؛ لأنّ عمدة دليله الإجماع، ومعقده إنّما هو بطلان توقيت الوقف بمعنى تعيين المدّة، والمقام خارج عن ذلك، مع أنّ في تحقّق الإجماع على ذلك أيضاً كلام، وعلى فرضه يُمنع من كشفه عن رأي المعصوم.

وثانياً: بصحيحتي ابن مهزيار والصفّار(1)، وقد سبق تقريب الاستدلال بهما آنفاً.

فإنّه قدس سره قال: «إذا وقف على من ينقرض غالباً، كما لو وقف على أولاده واقتصر على بطن أو بطون ممّن ينقرض غالباً ولم يذكر المصرف بعد انقراضهم، ففي صحّته وقفاً أو حبساً أو بطلانه أقوال، والمشهور على الأوّل، وجماعة على الثاني، والقائل بالثالث غير معلوم. والأقوى الأوّل؛ لأنّه لا مانع منه إلّاما يتخيّل من اعتبار الدوام في الوقف ولا دليل عليه، إلّادعوى الإجماع الذي على فرض تماميته إنّما هو في مقابل الموقّت إلى مدّة فلا يشمل المقام، مع أنّ الصحيحين المتقدّمين - مضافاً إلى العمومات - دالّان على صحّته وقفاً...، بل قد يقال: إنّ مراد من قال بكونه حبساً كونه كذلك حكماً وأ نّه وقف يفيد فائدة الحبس، وعليه فجميعهم على الصحّة وقفاً، ومعه كيف يكون التأبيد شرطاً بقول مطلق؟!»(2).

ولا إشكال في دلالة الصحيحتين - المشار اليهما في كلامه - على الصحّة وقفاً

********

(1) - وسائل الشيعة 192:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 7، الحديث 1 و 2.

(2) - العروة الوثقى 293:6.

ص: 152

في مفروض الكلام، وقد سبق منّا آنفاً تقريب الاستدلال بهما على ذلك.

وأمّا الوجه الأوّل فهو متين لو كان دليل اعتبار الدوام منحصراً في الإجماع، ولكن قد عرفت منّا سابقاً منع انحصار الدليل في الإجماع.

وحاصل الكلام: أنّ الوقف في مفروض الكلام - الذي هو من قبيل الوقف المنقطع الآخر - وقف حقيقةً إلى زمان انقراض الموقوف عليه.

وذلك بدلالة صحيحتي الصفّار وابن مهزيار بالتقريب الذي بيّنّاه. وإن كان مقتضى القاعدة اعتبار الدوام وبطلان الوقف المنقطع الآخر؛ نظراً إلى إطلاق ما استدللنا به لاعتبار الدوام، إلّاأنّ النصّ دلّ على صحّته وقفاً. وبدلالته نخرج عن مقتضى القاعدة ونتعبّد بصحّته وقفاً. ولا ينافي ذلك انتقال الموقوف عليه بانقراضه؛ لأ نّه إنّما هو لأجل الاختلال في ركن الوقف، لا لرجوعه إلى الحبس، وإلّا فلو كان حبساً ليرجع إلى الواقف أو ورثته بعد انقراض الموقوف عليه. ومن هنا يرد الإشكال على السيّد الماتن قدس سره؛ حيث عكس الأمر، كما سيأتي بيان ذلك.

وأمّا صحّته حبساً فلا يمكن المساعدة عليه؛ لما سبق أنّه خارج عن قصد الواقف. ومقتضى قاعدة تبعية العقود للقصود بطلانه حبساً، وإلّا لزم وقوع ما لم يقصد.

وقد استدلّ في العروة للقول بصحّته حبساً، بأنّ الوقف يقتضي خروج الموقوف عن ملك الواقف وانتقاله إلى ملك الموقوف عليه. ولا بدّ من عوده إلى ملكه بعد انقراض الموقوف عليه ولا يصلح مجرّد الانقراض للسببية، كما هو واضح. فالوقف الموقّت مستلزم لهذا المحذور، ومن هنا لا مناص من القول بصحّته حبساً.

ثمّ ناقش في هذا الاستدلال أوّلاً: بأنّ الوقف إيقاف للمال لا تمليكه للموقوف عليه، وإنّما الخروج عن ملكه مستلزم لاعتبار الدوام فلا يقتضي الوقف خروج

ص: 153

فيصحّ الوقف المنقطع الآخر؛ بأن يكون وقفاً حقيقة إلى زمان الانقراض والانقطاع، وينقضي بعد ذلك ويرجع إلى الواقف أو ورثته (1)، بل خروجه عن ملكه في بعض الصور محلّ منع.

الموقوف عن ملك الواقف حتّى يتمّ الاستدلال المزبور.

وثانياً: بأ نّه على فرض كون الوقف تمليكاً، لا مانع من التمليك الموقّت؛ لما حكم به الأصحاب من صحّة الوقف على زيد إلى عشر سنوات ثمّ إلى الفقراء، مع أنّ التمليك لزيد موقّت قطعاً حينئذٍ.

ويرد على ما أشار إليه من محذور القول بصحّة الوقف من عدم صلاحية الانقراض للسببية أنّه يقتضي عكس ما قال كما سيأتي بيانه في شرح ختام هذه المسألة.

ويرد على مناقشته الاُولى بأنّ كون الوقف مجرّد إيقاف من غير إفادة الملك مردودٌ بما بيّنّاه في تقوية القول المشهور بانتقال العين الموقوفة إلى ملك الموقوف عليه.

وعلى مناقشته الثانية بأنّ الوقف على زيد... لا يرجع إلى التمليك الموقّت، بل تمليكه للغير مستمرّ وإنّما التعدّد والترتيب في مصاديقه وأفراده.

رجوع المال الموقوف إلى الواقف بعد انقراض الموقوف عليهم

1 - هاهنا نكتة لا ينبغي الغفلة عنها. وهي أنّ السيّد الماتن قدس سره رتّب رجوع المال الموقوف إلى الواقف أو ورثته بعد الانقراض على القول بالصحّة وقفاً.

ولكن صرّح في المفتاح بأنّ ذلك لازم القول بصحّته حبساً، بل عدّ عشرين كتاباً

ص: 154

رتّب مؤلّفوها ذلك على القول بالصحّة حبساً. فإنّه قدس سره - بعد ما ذكر أسامي القائلين بالصحّة حبساً وترتيب الأثر المزبور عليه - قال قدس سره:

«وأمّا القول بأ نّه يرجع إلى الواقف أو ورثته عند انقراض الموقوف عليه، فهو خيرة ما يزيد على عشرين كتاباً بين ما صرّح فيه بأ نّه حبس وما ظهر منه ذلك»(1).

وهذا هو مقتضى القاعدة، دون ما جاء في كلام السيّد الماتن قدس سره. وذلك لأنّ المال بعد ما خرج عن ملك الواقف بالوقف يحتاج في نقله إلى ملكه مجدّداً إلى سبب شرعي ولم يثبت ومجرّد انقراض الموقوف عليه لا يصلح لذلك، بل مقتضى القاعدة رجوعه إلى ورثة الموقوف عليه لأنّه كان ملك مورّثهم وبموته ينقطع ملكه عنه، ولو لم يكن هناك وقف منقطع بموته، كما في سائر أملاكه. فكيف هناك ينتقل المال بموت المورّث إلى ورثته؟ فكذلك في المقام.

وهذا بخلاف ما لو بنينا على كونه حبساً؛ حيث لم يَخرج المال عن ملكه بالحبس حتّى يحتاج في رجوعه إلى ملكه بعد انقراض الموقوف عليه إلى سبب جديد، كما هو واضح.

هذا، ولكن يظهر من صاحب العروة موافقة السيّد الماتن قدس سره؛ حيث قال: «وأمّا على المشهور من كونه وقفاً فهل يرجع إلى ورثة الواقف أو ورثة الموقوف عليه أو يصرف في وجوه البرّ؟ أقوال أقواهما بل المتعيّن الرجوع إلى ورثة الواقف حسب ما مرّ من التحقيق»(2).

ومقصوده ممّا مرّ من التحقيق ما اختاره من كون الوقف مجرّد إيقاف من دون إفادته نقل ملك العين إلى الموقوف عليه. لكنّه خلاف مقتضى التحقيق وخلاف

********

(1) - مفتاح الكرامة 18:9.

(2) - العروة الوثقى 296:6.

ص: 155

(مسألة 17): الظاهر أنّ الوقف المؤبّد يوجب زوال ملك الواقف (1)، وأمّا الوقف المنقطع الآخر فكونه كذلك محلّ تأمّل.

ما عليه المشهور، كما بيّنّاه في بعض المسائل مفصّلاً.

وحاصل الكلام: أنّ انقراض الموقوف عليه كموته لا يمنع عن انتقال الملك إلى الورثة، بل هو موجب له. ولا ينافي ذلك كونه موجباً لقطع علقة الملكية عن الميّت.

حول زوال ملك الواقف بالوقف

اشارة

1 - المعروف المشهور زوال ملك الواقف وخروج العين الموقوفة عن ملكه بالوقف، كما صرّح به في الحدائق؛ حيث قال:

«اختلف الأصحاب في أنّ الوقف هل ينتقل عن ملك الواقف أم لا؟ وعلى الأوّل فهل ينتقل إلى الموقوف عليه أم إلى اللّه تعالى أم يفصّل في ذلك بين ما كان الوقف لمصلحة أو جهة عامّة؟ فإنّه ينتقل إلى اللّه عزّ وجلّ، وما كان الموقوف عليه ممّن يصحّ تملّكه، فإنّه ينتقل إليه.

فالكلام هنا يقع في مقامين:

الأوّل: أنّه هل ينتقل الموقوف بالوقف عن ملك الواقف أم لا؟ المشهور الأوّل، ونقل عن ظاهر أبي الصلاح وأسنده في المسالك أيضاً إلى اختيار جمع من العامّة أ نّه يبقى على ملك الواقف»(1).

وقد عرفت من كلام صاحب الحدائق أنّ المخالف منحصر في ظاهر أبي الصلاح

********

(1) - الحدائق الناضرة 223:22-224.

ص: 156

وجمع من العامّة على ما أسند إليهم في المسالك؛ حيث قال:

«إنّ الموقوف هل ينتقل عن ملك الواقف أم يبقى على ملكه؟ والمشهور - وهو اختيار المصنّف - انتقاله عنه... ويظهر من أبي الصلاح من علمائنا - وهو اختيار جماعةٍ من العامّة - أنّه لا ينتقل عن ملكه»(1).

فالأقوال إلى هنا صارت أربعة أحدها: عدم خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف بالوقف وبقاؤها في ملكه بعد الوقف كما كان قبله.

ثانيها: دخولها في ملك الموقوف عليه.

ثالثها: دخولها في ملك اللّه.

رابعها: التفصيل بين الوقف الخاصّ وبين الوقف العامّ والوقف على الجهات، وانتقال العين الموقوفة إلى ملك الموقوف عليه في الوقف الخاصّ. ودخولها في ملك اللّه في الوقف العامّ وعلى الجهات.

وهاهنا قول خامس مال إليه صاحب العروة في ختام كلامه(2)، وهو كون العين الموقوفة بعد الوقف بلا مالك كالمال المعرض عنه قبل تملُّك الغير.

ولكنّه ممنوع في مقام الإثبات؛ لأنّه خلاف الإجماع المركّب في الوقف، وإن كان ممكناً وغير مخالف للقاعدة ثبوتاً.

وقد علّل القائلون ببقاءِ الملك أوّلاً: بقول النبي صلى الله عليه و آله: «حبّس الأصل وسبّل الثمرة» وهو مرويٌّ بطرق العامّة(3)؛ بدعوى دلالته على أنّ حقيقة الوقف تحبيس العين الموقوفة في سلطة الواقف وفي ملكه. وبهذا عرّف الفقهاء الوقف.

********

(1) - مسالك الأفهام 375:5.

(2) - العروة الوثقى 346:6.

(3) - سنن ابن ماجة 2397/801:2؛ السنن الكبرى، البيهقي 162:6.

ص: 157

وقد ردّه في المسالك(1) والحدائق(2) بأنّ المراد من قوله صلى الله عليه و آله: «حَبِّس الأصل» تحبيسه على ملك الموقوف عليه؛ بحيث لا يباع ولا يوهب ولا يورث. ولا أقلّ من إمكان إرادة هذا المعنى واحتماله؛ إذ مطلق الحبس لا يدلّ على عدم الخروج؛ لأنّه أعمّ من الخروج. هذا، مع أنّ ظاهر كلامه صلى الله عليه و آله إرادة ما يقتضي الخروج. وذلك بقرينة مقابلته مع تسبيل الثمرة. مع أنّ الحبس بالمعنى الآخر عقد مستقلّ وقسيم الوقف.

وأمّا ضعف سند النبوي، فينجبر بفتوى مشهور القدماء والمتأخّرين؛ حيث عرّفوا الوقف بتحبيس الأصل وتسبيل الثمرة. وهذا عين التعبير الوارد في النبوي فيُحرز بذلك استنادهم في تعريف الوقف إليه.

والثاني: بما ثبت في الفتاوى من جواز إدخال الواقف في الوقف من يريده مع صغر الأولاد الموقوف عليهم. فإنّ ذلك متوقّف على بقاءِ ملك الواقف.

واُجيب عنه(3) بأنّ إدخال من يريده الواقف مع صغر الأولاد الموقوف عليهم، إنّما ثبت بالنصّ الخاصّ، مع أنّه ممنوع.

وأمّا القول المشهور - وهو خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف - فقد استدلّ له في المسالك وغيره بوجوه(4):

أحدها: أنّ الوقف سبب مزيل لحقّ التصرّف والانتفاع بالعين، بلا خلاف ولا إشكال. ولازم ذلك زوال الملك، كما في العتق.

********

(1) - مسالك الأفهام 376:5.

(2) - الحدائق الناضرة 224:22؛ جواهر الكلام 88:28.

(3) - راجع: مسالك الأفهام 376:5؛ الحدائق الناضرة 224:22؛ جواهر الكلام 88:28.

(4) - راجع: مسالك الأفهام 376:5؛ الحدائق الناضرة 224:22؛ جواهر الكلام 88:28.

ص: 158

وقد ناقش في هذا الوجه صاحب العروة(1) بأ نّه لا مانع من بقاء العين على ملك مالكها وإن كان ممنوعاً عن منافعها أبداً، كما لو آجر داراً أو دابّة أزيد من مدّة عمره.

وفيه: أنّ القياس مع الفارق؛ لأنّ في الإجارة تنتقل العين وجميع منافعها إلى الموجر أو إلى ورثته بعد انتهاء أمد الإجارة، وهذا بخلاف الوقف المؤبّد؛ مضافاً إلى إمكان بيع الموجر العين المستأجرة حال حياته بشرط التسليم بعد انقضاء أمد الإجارة. بخلاف الوقف؛ حيث إنّ الواقف محروم وممنوع عن جميع المنافع وجميع التصرّفات، مع عدم تطرّق الفسخ والإقالة في الوقف بخلاف الإجارة.

أمّا إجارة الدابّة أزيد من عمرها فلا إشكال في بطلانها؛ لأنّ تملُّك ثمن المقدار الزائد من الأكل بالباطل؛ لأنّه بلا عوض. وبذلك اتّضح ما في كلام صاحب العروة من الإشكال.

وثانيها: أنّه لو كان الموقوف باقياً في ملكه، لرجعت إليه قيمته كالملك الطلق.

والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

وقد يُردّ ذلك: بإمكان كونه في ملكه محبوساً بحيث لا يباع ولا يوهب، كما وجّهوا بذلك كونه محبوساً على ملك الموقوف عليه.

ولكن هذا الإشكال يناسب الاستدلال لذلك بمنع الواقف عن التصرّفات الناقلة في العين الموقوفة. وليس هذا مقصود المستدلّ، بل مقصوده أنّ في موارد جواز بيع العين الموقوفة - كما لو تنازع الموقوف عليهم أو توقّف الانتفاع على بيعها وتبديلها بعين اخرى - فلو قلنا ببقاء العين الموقوفة في ملك الواقف بعد الوقف. فلا مناص

********

(1) - العروة الوثقى 349:6.

ص: 159

من الالتزام برجوع قيمتها حينئذٍ إلى الواقف، وهذا مخالفٌ لفتوى الأصحاب بصرفها في جهة الوقف.

والجواب: أنّ هذا الاستدلال إنّما يتمّ بناءً على كون فتوى الأصحاب بصرف القيمة في جهة الوقف بمقتضى نفس الوقف وماهيته، لا بدليل النصّ الخاصّ أو الإجماع. وسيأتي البحث عن ذلك، إن شاء اللّه.

وثالثها: بما ورد في نصوص الوقف من الألفاظ والتعابير الظاهرة في زوال ملك الموقوف عليه وقطعه عن الواقف، كقوله عليه السلام: «وإنّ الذي كتبت من أموالي هذه صدقة واجبة بتلة حيّاً أنا أو ميّتاً ينفق في كلّ نفقة ابتُغي بها وجهُ اللّه في سبيل اللّه ووجهه وذوي الرحم من بني هاشم وبني المطّلب»(1) في صحيحة عبدالرحمان بن الحجّاج.

وقوله عليه السلام: «تصدّق موسى بن جعفر بصدقته هذه - وهو صحيح - صدقة حبساً بتّاً بتلاً مبتوتة لا رجعة فيها ولا ردّ ابتغاء وجه اللّه والدار الآخرة»(2).

فإنّ لفظي «البتل» و «البَتّ» كليهما جاءَ في اللغة(3) بمعنى القطع والإبانة. وعليه فقوله عليه السلام: «بتلة، حيّاً أنا أو ميّتاً»؛ أي منقطعة عنّي حال الحياة والممات، وقوله عليه السلام: «بتّاً، بتلاً، مبتوتةً، لا رجعة فيها ولا ردّ»؛ أي قطعاً وإبانةً، مقطوعة مبانةً عنّي، بلا رجوع ولا استرداد لي فيها.

ويمكن المناقشة في الاستدلال بهذه الطائفة من النصوص؛ بأنّ غاية مقتضاها إزالة الملك بهذه الأوقاف الصادرة عنهم عليه السلام المنقولة في هذه النصوص. وأمّا دلالتها

********

(1) - وسائل الشيعة 200:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 3.

(2) - وسائل الشيعة 202:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 4.

(3) - صحاح اللغة 242:1، و 1630:4؛ المصباح المنير: 35.

ص: 160

على زوال ملك الواقف في الوقف مطلقاً على نحو الكبرى الكلّية، فيشكل إثباتها.

فهذا الدليل أخصّ من المدّعى.

وأمّا عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» فلا ربط له بالمقام؛ لأنّه ناظرٌ إلى صورة اشتراط الواقف شيئاً في الوقف، وهذا خارج عن محلّ الكلام، لأنّ الكلام في مقتضى الوقف بنفسه، مع قطع النظر عن الاشتراط.

ويمكن الاستدلال لذلك بارتكاز العقلاء وسيرتهم الاعتبارية؛ حيث لا يعتبرون ملكية المال لمن هو ممنوع عن التصرّف في العين والمنفعة ويرون حرمانه عن جميع أنحاء التصرّفات والانتفاعات عن ذلك المال كاشفاً عن عدم العلقة الملكية.

وهذا الارتكاز مؤيّد لنصوص أوقاف الأئمّة وغيرها. يظهر هذا الاستدلال من كلام صاحب العروة(1).

ثمّ إنّ هذا كلّه في الوقف المؤبّد. وأمّا الوقف المنقطع الآخر، فلا يستفاد من شيءٍ من هذه الوجوه زوال ملك الواقف به؛ نظراً إلى انصراف لفظ الصدقة - المراد بها الوقف - ولفظ الوقف إلى الوقف المؤبّد عند عدم القرينة. وإرادة الوقف المنقطع الآخر من هذين اللفظين بحاجة إلى قرينة التوقيت ونحوه.

وذلك لأخذ الدوام في ماهية الوقف المصطلح الشرعي في ارتكاز متشرّعي عصر المعصومين بشهادة نصوص أوقاف الأئمّة وما دلّ منها على عدم جواز الرجوع(2).

وقد سبق آنفاً أنّ التوقيت قرينة على إرادة الحبس من الوقف، فلا يقتضي خروج العين الموقوفة حينئذٍ عن ملك الواقف.

********

(1) - العروة الوثقى 347:6.

(2) - وسائل الشيعة 178:19 و 198 و 204، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4 و 10 و 11.

ص: 161

وأمّا وقف بعض المنافع - كوقف العبد على خدمة البيت نهاراً فقط - فالأقوى صحّته؛ لعموم «الوقوف على حسب...» وعدم ثبوت المقيّد.

ولكنّ العين الموقوفة لا تخرج عن ملك الواقف حينئذٍ بالنسبة إلى المنافع الباقية فيكون كالمال المشترك، كما قال في العروة(1).

مقتضى التحقيق في المقام: أنّ هاهنا أربعة طوائف من النصوص ترتبط بالمقام.

1 - ما استدلّ به صاحب الحدائق من نصوص أوقاف الأئمّة(2) لخروج الموقوف عن ملك الواقف بالوقف. وقد سبق المناقشة آنفاً في الاستدلال بهذه الطائفة.

2 - عمومات منع رجوع الواقف عن الوقف بعد التسليم والقبض(3)؛ فيتوهّم دلالتها على المطلوب؛ نظراً إلى كشف إطلاق منع رجوع الواقف قطع العلقة الملكية وخروج الموقوف عن ملك الواقف على نحو غير قابل للرجوع.

وفيه: أنّ هذه النصوص ناظرة إلى تمامية الوقف ولزومها بالقبض، بل إلى إناطة أصل صحّة الوقف بالقبض كما سبق البحث عن ذلك ولا نظر لها إلى ما نحن بصدده.

3 - عمومات وإطلاقات حرمان الواقف عن جميع أنحاء التصرّفات الناقلة وغير الناقلة في العين الموقوفة(4)؛ حيث يكشف انتفاء آثار الملك عن خروج الموقوف

********

(1) - العروة الوثقى 349:6.

(2) - وسائل الشيعة 198:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10.

(3) - وسائل الشيعة 178:19 و 204، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4 و 11.

(4) - وسائل الشيعة 176:19 و 185 و 198، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 3 و 6 و 10.

ص: 162

عن ملك الواقف. وهذا المضمون يرجع في الحقيقة إلى الوجه الأوّل من أدلّة خروج الموقوف عن ملك الواقف بالوقف.

4 - ما دلّ على اشتراط قبض الوليّ عن جانب المولّى عليه في جواز وقف المال الموجود في يده للمولّى عليه.

فمن هذه النصوص صحيح علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «إذا كان أبٌ تصدّق بها على ولد صغير، فإنّها جائزة؛ لأنّه يقبض لولده إذا كان صغيراً»(1) ومثلها في الدلالة قوله عليه السلام «وإن كانوا صغاراً... فيحوزها لهم لم يكن أن يرجع فيها»(2). قوله: «فيحوزها لهم»؛ أي قبضها لهم، وهذه الفقرة هي محلّ الاستشهاد في المقام.

وجه الدلالة أنّه لو كان الموقوف باقياً في ملك الواقف بعد الوقف كما كان قبله، لا معنى لاشتراط قبض الوليّ عن جانب المولّى عليه؛ لأنّ المالك لا يقبض ماله عن جانب غير المالك. فيعلم من ذلك أنّ قبض الوليّ بعد الوقف ليس من سنخ قبضه قبل الوقف؛ فإنّ القبض السابق كان القبض المالكي والقبض اللاحق هو القبض الولائي النيابي عن جانب المولّى عليه المالك.

ويكشف ذلك عن خروج الموقوف عن ملك الواقف بالوقف وانتقاله إلى ملك الموقوف عليه.

والتحقيق صلاحية غير الثالثة من الطوائف المزبورة للاستدلال على خروج الموقوف عن ملك الواقف بالوقف.

********

(1) - وسائل الشيعة 236:19، كتاب الهبات، الباب 5، الحديث 5.

(2) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 4.

ص: 163

بخلاف الحبس، فإنّه باقٍ معه على ملك الحابس ويورّث (1)، ويجوز له التصرّفات غير المنافية لاستيفاء المُحبَس عليه المنفعة إلّاالتصرّفات الناقلة، فإنّها لا تجوز، بل الظاهر عدم جواز رهنه أيضاً، لكن بقاء الملك على ملك الحابس في بعض الصور محلّ منع.

1 - والوجه فيه أخذ ذلك في معنى الحبس. وهذا هو الفرق بين الحبس وبين الوقف عند عدم القرينة. نعم، لو اقترن بقرينة مفيدة لإرادة الوقف من لفظ الصيغة فتخرج العين حينئذٍ عن ملكه. وتفصيل البحث عن ذلك يرتبط بأحكام الحبس.

انتقال المال الموقوف إلى الموقوف عليه

لا كلام في دخول منافع العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه بالوقف. وأمّا انتقال رقبة العين الموقوفة إلى ملك الموقوف عليه، فهو المشهور؛ لذهاب أكثر الفقهاء - من القدماء والمتأخّرين - إليه مطلقاً، بلا فرق بين الوقف الخاصّ وبين الوقف العامّ كما صرّح به في المسالك بقوله: «فذهب الأكثر، ومنهم المصنّف إلى أنّه ينتقل إلى الموقوف عليه»(1). فإنّ مرادهم من الموقوف هو العين لأنّها متعلّقة للوقف.

وفي الجواهر: «بل الأقوى ما أطلقه المصنّف من أنّه ينتقل إلى ملك الموقوف عليه كما في المبسوط وفقه القرآن والغنية والسرائر والتذكرة والإرشاد وشرحه لولده وجامع الشرائع والتحرير والمختلف، سواء كان على معيّن أو غير معيّن أو جهة عامّة حتّى المسجد والمقبرة التي وقف على المسلمين مثلاً، بل في المسالك

********

(1) - مسالك الأفهام 376:5.

ص: 164

نسبة ما في المتن إلى الأكثر وعن غيرها إلى المشهور»(1). قوله ما أطلقه؛ أي ما أطلقه المصنّف صاحب الشرائع.

وقد أجاد في الحدائق في تحرير الآراء في المقام؛ حيث قال: «على تقدير الانتقال، هل ينتقل إلى الموقوف عليه أم إلى اللّه سبحانه، أم التفصيل؟ أقوال:

أشهرها الأوّل. قال الشيخ في المبسوط: «إذا وقف وقبض، زال مِلْكُه عنه على الصحيح، وملكه الموقوف عليه»، واختاره ابن إدريس وغيره. ونقل ابن إدريس عن بعضهم: «أ نّه ينتقل إلى اللّه»، وحكاه الشيخ في المبسوط عن قوم، والقول بالتفصيل اختيار شيخنا الشهيد في المسالك»(2).

واستدلّ للانتقال مطلقاً في الشرائع وأوضحه في المسالك(3): بأنّ الموقوف مال مملوك بلا إشكال؛ لما فيه من فائدة الملك التي ضمانه بالمثل أو القيمة عند الإتلاف. ولا إشكال في كون المضمون له هو المالك. والمضمون له لا يخلو؛ إمّا هو الواقف أو الموقوف عليه أو غيرهما. ومالكية الواقف قد ثبت آنفاً بطلانها. ولا ضمان لغيرها بلا إشكال فينحصر المضمون له في الموقوف عليه. وأمّا منعه من بيع العين الموقوفة، فلا ينافي الملك، كاُمّ الولد؛ فإنّها مملوكة للمولى مع عدم جواز بيعها له. وهذا الاستدلال متين لا غبار عليه.

ويمكن النقض على الشهيد بأنّ سهم اللّه في الخمس لا إشكال في كونه ملك اللّه اعتباراً - كما قلنا في كتاب الخمس من «دليل الوسيلة» - فنسأل الشهيد قدس سره: أنّ المضمون له من هو؟ فهل هو أحد غير وليّ اللّه ونائبه الذي هو وليّ الأمر؟! فكذلك

********

(1) - جواهر الكلام 88:28.

(2) - الحدائق الناضرة 224:22.

(3) - مسالك الأفهام 376:5.

ص: 165

الكلام في المقام، اللهمّ إلّاأن يدّعي الشهيد اتّفاق الأصحاب في الوقف على عدم كون المضمون له غير الواقف والموقوف عليه. فحينئذٍ لا بدّ من الفحص عن هذا الاتّفاق فلو كان إجماع في البين فهو، وإلّا فهذا النقض وارد عليه.

واستدلّ لذلك فخر المحقّقين في الإيضاح(1) بمكاتبة علي بن محمّد بن سليمان النوفلي قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام أسأله عن أرض وقفها جدّي على المحتاجين من ولد فلان بن فلان، وهم كثير متفرّقون في البلاد، فأجاب: «ذكرت الأرض التي وقفها جدّك على فقراء ولد فلان وهي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف، وليس لك أن تتبّع من كان غائباً»(2).

وجه الدلالة ظهور اللام في قوله: «وهي لمن حضر البلد...» في الملكية.

وضمير «هي» يرجع إلى الأرض الموقوفة.

وبذلك تتمّ دلالة الرواية على انتقال العين الموقوفة إلى ملك الموقوف عليه بالوقف.

وناقش فيه في المسالك بأنّ الوقف لو أفاد الملك للموقوف عليه لما كان وجه لاختصاصه بمن حضر في البلد، بل ملك لعنوان فقراء ولد فلان. فليس المقصود من اللام في قوله عليه السلام «لمن حضر البلد» إفادة الملك، بل بمعنى جواز اختصاص صرف فوائد الأرض الموقوفة بهم وعدم وجوب التتبّع والفحص عن الغائبين(3).

هذا من جهة الدلالة وأمّا سنداً فهي ضعيفة بموسى بن جعفر الواقع في سنده للجهل بحاله. وأمّا النوفلي، فالأقوى اعتبار رواياته؛ نظراً إلى كونه من مشاهير

********

(1) - إيضاح الفوائد 390:2.

(2) - وسائل الشيعة 193:19-194، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 8، الحديث 1.

(3) - مسالك الأفهام 377:5.

ص: 166

الرواة لكثرة رواياته ونقل الأجلّاء عنه وثبوت التوثيق العامّ في حقّه وعدم ورود أيّ قدح وجرح فيه فلو كان في مثله جرح وقدح لبان.

ويمكن الاستدلال لذلك بالطائفة الرابعة من الطوائف الأربعة المزبورة. وهي صحيح علي بن جعفر وصحيح صفوان المتقدّمان آنفاً.

بتقريب أنّ قوله: «وإن كانوا صغاراً وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم، لم يكن له أن يرجع فيها» - في صحيحة صفوان -(1) دلّ بظاهره على اعتبار حيازة الوليّ الذي هو الواقف الضيعة الموقوفة وقبضها للمولّى عليه. ولا معنى لقبض المالك ملكه عن جانب غير المالك. فهذا التعبير من الإمام عليه السلام ظاهر في خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف.

فلا إشكال في تمامية دلالة صحيح صفوان على المطلوب، كما لا إشكال في سندها.

وكذا لا إشكال في دلالة قوله عليه السلام: «إذا كان أبٌ تصدّق بها على ولد صغير، فإنّها جائزة؛ لأنّه يقبض لولده إذا كان صغيراً»(2) وجه الدلالة: تعليل الإمام عليه السلام لجواز الوقف بقبض الأب الواقف عن جانب ولده الصغير الموقوف عليه. فلو لم تدخل العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه بالوقف، لم يكن معنى لقبض الأب الواقف عن جانب ولده الموقوف عليه؛ حيث يلزم حينئذٍ قبض المالك ملك نفسه عن جانب غيره. فيدلّ التعبير المزبور على دخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه.

بيان ذلك: إنّه لا إشكال في دلالة هذه الرواية على خروج العين الموقوفة عن

********

(1) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 4.

(2) - وسائل الشيعة 236:19، كتاب الهبات، الباب 5، الحديث 5.

ص: 167

ملك الواقف. وأمّا دلالتها على دخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه فالوجه فيه ظهور قبض الأب عن جانب الولد في ذلك. ولا ينقض ذلك بقبض المستأجر العين المستأجرة مع عدم دخولها في ملكه، فضلاً عن وكيله في القبض فكيف أنّ الأب إذا قبضها لولده المستأجر لا ينافي عدم ملكيتها للولد، فكذلك في المقام.

وجه عدم النقض أنّ هناك قرينة قطعية - وهي ضرورة الفقه واتّفاق النصّ والفتوى - على عدم دخول العين المستأجرة في ملك المستأجر، بخلاف باب الوقف، وإلّا لم يقع الخلاف في المقام. والقبض عن المستأجر إنّما لا يدلّ على ملكية المقبوض له هناك لأجل وجود القرينة، ولا قرينة في المقام.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ غاية مدلول قوله: «فيحوزها لهم» كون الأب قيّماً لهم في نفس القبض من دون نظر إلى كون العين الموقوفة ملكاً لهم أم لا. ومجرّد كون شخص قيّماً في القبض له وكون قبضه مشروعاً، لا يدلّ على كون المقبوض ملكاً لذلك الغير؛ لصحّة القبض وصحّة التعبير بقوله: «فيحوزها لهم» على أيّ حال.

ولكنّه مشكل؛ إذ لا يخلو التعبير بقوله: «فيحوزها لهم» من دلالة على دخول العين الموقوفة في سلطة مالكية الولد بالوقف أوّلاً، ثمّ يقبضها الأب من جانبه، إلّا أن يقال: إنّ في صحّة قبضه عنه يكفي ثبوت مجرّد حقّ القبض له في الرتبة السابقة.

وعلى أيّ حال فقد يشكل القول بدخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليهم في الوقف على جهات الخير القربية، بل التحقيق فكُّها وتحريرها عن ملك الآدميين ودخولها في ملك اللّه تعالى. وهذا بخلاف الأوقاف الخاصّة؛ نظراً إلى ترتّب آثار الملك للموقوف عليه، ولأ نّه المضمون له، كما جاء في كلام الشهيد.

ص: 168

ولكن يمكن الجواب: بأنّ في الأوقاف العامّة وعلى الجهات أيضاً تترتّب آثار الملك للموقوف عليهم وهم المضمون لهم، بلا فرق.

وأمّا سنداً فقد عبّر عنها في الجواهر(1) بالخبر وكذا في العروة(2) ولكنّ الأقوى صحّة سنده.

وذلك لأنّ صاحب الوسائل قد نقلها عن كتاب علي بن جعفر، وقد حقّقنا أنّ له طريقاً صحيحاً لهذا الكتاب إلى الشيخ الطوسي، وأنّ للشيخ الطوسي طريقين صحيحين إلى كتاب علي بن جعفر ذكره في الفهرست. وعليه فلا إشكال في سند هذه الرواية.

واستدلّ للقول بانتقاله إلى ملك اللّه تعالى: بأنّ الوقف إزالة الملك عن العين والمنفعة على وجه القربة، وهذا كافٍ لانتقال الملك إلى اللّه سبحانه، كما في العتق.

ولأ نّه ممنوع عن بيعه، فلو كان مالكاً مسلّطاً على ماله، لجاز بيعه.

وفيه: أنّ دعوى كفاية إزالة الملك في الانتقال إلى ملك اللّه، لا دليل عليها، بل مصادرة، ولا يقاس بالعتق.

واستدلّ في المسالك(3) لما ذهب إليه من التفصيل بين الوقف الخاصّ وبين الوقف

********

(1) - جواهر الكلام 64:28.

(2) - العروة الوثقى 287:6.

(3) - قال قدس سره: وكيف كان فالأقوى الانتقال إليه كما ذكر، لكن هذا إنّما يتمّ في الموقوف عليه المعيّن المنحصر. أمّا لو كان على جهة عامّة أو مسجد ونحوه فالأقوى أنّ الملك فيه للّه تعالى، لتساوي نسبة كلّ واحد من المستحقّين إليه، واستحالة ملك كلّ واحدٍ أو واحد معيّن أو غير معيّن، للإجماع واستحالة الترجيح ولا المجموع من حيث هو مجموع، لاختصاص الحاضر به... والأقوى التفصيل، خصوصاً في الوقف على المسجد والمقبرة، لأنّه فيهما فكّ

ص: 169

العامّ وعلى الجهات والمصالح العامّة: بأنّ الوقف في الأخير فكّ الملك وتحريره كتحرير العبد وعتقه. ومن هنا لا يشترط في الوقف على المصالح ووجوه الخير - كوقف المسجد والمقبرة - قبول الحاكم ولا غيره، ولا قبض الحاكم، بل يكفي قبض كلّ من صلّى في المسجد ودفَنَ في المقبرة ميّتاً. وأمّا الوقف العامّ وعلى الجهات العامّة، فاشتراط قبض القيّم أو الحاكم فيها - بل اشتراط قبول الحاكم فيها على قول - شاهد على انتقال ملك العين الموقوفة فيها إلى اللّه، وإلّا فلو كانت ملك الموقوف عليهم لاعتُبر قبول وقبض أفراد العنوان الموقوف عليه، ولو بعضهم.

وفيه: أوّلاً: أنّ العبد يصير بعد العتق حُرّاً. والحرّ لا يدخل في ملك أحد؛ لعدم قابليته للدخول في ملك الغير، فلا يقاس بالمسجد أو المقبرة.

وثانياً: إنّ ملكية الحرّ للّه هناك تكوينية ولكن ملكية العين الموقوفة للّه - على القول بها - اعتبارية فلا يقاس العتق بالوقف.

وثالثاً: أنّ كفاية قبض القيّم والحاكم في الوقف العامّ؛ من أجل كون قبضهما بمنزلة قبض الموقوف عليهم؛ لما لهما من الولاية عليهم، فلا ينافي دخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه، بل يؤكّده. فإنّ الموقوف عليه في الوقف العامّ هو أفراد العنوان كالعلماء والفقراء والسادات. ولمّا لا يمكن قبض جميعهم فمن هنا يشترط قبض الحاكم أو القيّم عنهم. ولا ينافيه استرقاق جميع أفرادهم على السواء في عرض واحد.

********

(3) ملك كتحرير العبد، ومن ثمّ لا يشترط فيه القبول من الحاكم ولا من غيره، ولا يشترط القبض من الحاكم، بل كلّ من تولّاه من المسلمين صحّ قبضه بالصلاة كما مرّ. ومثله المقبرة. أمّا الجهات فلمّا اشترط فيها قبض القيّم أو الحاكم - وقيل: باشتراط القبول فيها - كانت الشبهة فيها أقوى. راجع: مسالك الأفهام 377:5.

ص: 170

(مسألة 18): لو انقرض الموقوف عليه ورجع إلى ورثة الواقف، فهل يرجع إلى ورثته حين الموت أو حين الانقراض؟ قولان، أظهرهما الأوّل (1). وتظهر الثمرة فيما لو وقف على من ينقرض كزيد وأولاده، ثمّ مات الواقف عن ولدين، ومات بعده أحد الولدين عن ولد قبل الانقراض ثمّ انقرض، فعلى الثاني يرجع إلى الولد الباقي، وعلى الأوّل يشاركه ابن أخيه.

ورابعاً: إنّ في كفاية صلاة مؤمن واحد أو دفنه في وقف المسجد أو المقبرة اشترط الفقهاء كون ذلك بنيّة القبض أو محقّقاً له عرفاً. كما قال في العروة(1) وهذا شاهد على دخول الموقوف في ملك الموقوف عليهم، حتّى في وقف مثل المسجد والمقبرة، وإلّا لم يشترطوا كون الصلاة والدفن بنيّة القبض أو محقّقاً له عرفاً.

هذا، مضافاً إلى أنّه كما يجوز الوقف على العنوان والجهة، فكذلك يجوز إسناد الملك إليهما، كما أشكل في المسالك بذلك على هذا الوجه، بقوله: «وما يقال في جوابه - من أنّ المالك لا بدّ أن يكون موجوداً في الخارج لاستحالة ملك مَن لا وجود له ولا تعيين - عين المتنازع، وجاز أن يكون الموقوف عليه الجهة والملك لها. ونمنع من عدم قبولها للملك، فإنّه كما يجوز الوقف عليها يجوز نسبة الملك إليها كذلك»(2).

حكم ما لو انقرض الموقوف عليه بعد موت الواقف

اشارة

1 - وقع الكلام فيما إذا انقرض الموقوف عليه بعد موت الواقف - على ما يظهر

********

(1) - العروة الوثقى 288:6.

(2) - مسالك الأفهام 377:5.

ص: 171

من كلمات الأصحاب(1) - في مقامين:

أحدهما: في تعيين من يرجع إليه المال الموقوف بعد انقراض الموقوف عليه.

فهل يرجع إلى ورثة الواقف، أو إلى ورثة الموقوف عليه، أو لا يرجع إلى واحد منهما، بل يُصرف في وجوه البرّ؟

ثانيهما: في تعيين من يرجع إليه الموقوف من ورثة الواقف، على القول برجوعه إلى ورثته، كما جاء في كلام السيّد الماتن قدس سره.

فاتّضح بذلك؛ أنّه ليس أصل رجوع الموقوف إلى ورثة الواقف بعد انقراض الموقوف عليه أمراً مسلّماً، كما يظهر من كلام السيّد الماتن قدس سره؛ حيث جعل ذلك مفروغاًعنه، وصرف عنان الكلام إلى المقام الثاني.

من يرجع إليه الموقوف بعد انقراض الموقوف عليه

أمّا المقام الأوّل: إذا وقف واقف ماله على من ينقرض غالباً - كالوقف على زيد مقتصراً عليه، أو على بطنه الأوّل، أو على بطون ينقرضون غالباً - وقع الكلام في تعيين من يرجع إليه الموقوف بعد انقراض الموقوف عليه، بأ نّه هل يرجع إلى ورثة الواقف، أو يرجع إلى ورثة الموقوف عليه، أو يُصرف في وجوه البرّ؟

ظاهر كلماتهم وقوع هذا النزاع في خصوص الوقف على من ينقرض غالباً.

والسرّ فيه: إمّا لأنّ الواقف لا يُعرض عن ماله الموقوف في الوقف على من ينقرض غالباً؛ لرجاء عود الموقوف إليه أو إلى ورثته، فلا يخرج المال الموقوف بالوقف عن ملكه رأساً حينئذٍ كما يظهر من كلام صاحب العروة. وإمّا لما سيأتي من

********

(1) - راجع: مسالك الأفهام 356:5؛ الحدائق الناضرة 140:22-142؛ العروة الوثقى 296:6.

ص: 172

الوجوه المستدلّ بها حينئذٍ لانتقال الموقوف إلى ورثة الواقف، أو إلى ورثة الموقوف عليه فإنّ هذه الوجوه لا تأتي في الوقف المؤبّد على من لا ينقرض غالباً.

وهذا بخلاف ما إذا وقف على من لا ينقرض عادة. فلا كلام في عدم رجوع العين الموقوفة إلى ورثة الواقف بعد موته واتّفاق انقراض الموقوف عليه في الوقف المؤبّد. وذلك إمّا لخروج العين الموقوفة عن ملك الواقف وقطع العلقة الملكية من أساسها، وانتقالها تماماً في ملك الموقوف عليه، كما عليه المشهور، أو لأنّ الواقف كأ نّه أعرض عن الموقوف حينئذٍ؛ لعدم احتماله ولا رجائه لعوده إليه، كما قال في العروة: «نعم في الوقف على من لا ينقرض غالباً إذا اتّفق حصول الانقراض يمكن أن يقال: بصرفه في وجوه البرّ لأنّ الواقف كأ نّه أعرض عن ملكه بالمرّة، لكنّه أيضاً لا يخلو عن إشكال»(1).

وعلى أيّ حال فعلى القول بكون الإعراض مُخرجاً عن الملك، وتحقّق الإعراض في الوقف المؤبّد على من لا ينقرض عادة، وعدم تحقّقه في الوقف على من ينقرض غالباً - كما يظهر من صاحب العروة - يتمّ هذا الوجه لتوجيه اختصاص هذا النزاع بالوقف على من ينقرض غالباً.

ولكن مقتضى التحقيق عدم إناطة النزاع بالإعراض في الوقف المؤبدّ على من لا ينقرض غالباً كما يظهر من كلام صاحب العروة في المقام؛ نظراً إلى عدم تحقّق الإعراض أساساً للواقف في الوقف المؤبّد وغيره، كما لا يتحقّق في سائر العقود كالبيع ونحوه. فإنّ الواقف يطلب بوقف ماله الأجر والثواب، ولولا ذلك لا يرضى بذهاب ماله هدراً بأيّ وجه من الوجوه، وهذا بخلاف من أعرض عن ماله. فإذا

********

(1) - العروة الوثقى 296:6.

ص: 173

لا يتحقّق الإعراض في المؤبّد، لا يتحقّق في الوقف على من ينقرض غالباً بالفحوى.

بل مناط اختصاص النزاع بالوقف على من ينقرض غالباً - بناءً على صحّته وقفاً وعدم رجوعه إلى الحبس - ما سيأتي من عدم عود العين الموقوفة إلى ملك الواقف بعد خروجها عن ملكه بهذا الوقف وما استُدلّ به من الوجوه لعود الموقوف إلى الواقف بعد انقراض الموقوف عليه.

وهذا بخلاف الوقف المؤبّد على من لا ينقرض عادةً؛ حيث لا يأتي فيه شيء من الوجوه المذكورة في المقام. فلا وجه لاحتمال رجوع المال الموقوف إلى ورثة الواقف في المؤبّد في مفروض الكلام، إلّابناءً على القول بعدم خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف بالوقف وبقائه على ملكه، كما يرجع إلى ورثة الموقوف عليه بناءً على دخولها في ملكه، ويُصرف في وجوه البرّ بناءً على انتقاله إلى ملك اللّه. فرجوعه بعد اتّفاق انقراض الموقوف عليه إلى واحد من المراجع الثلاثة المذكورة يبتني على أحد المباني الأربعة في المسألة السابقة. فيكون هذا من الفروعات المترتّبة على تلك المسألة، بلا حاجة إلى بحث على حدة غير ما سبق في المسألة السابقة.

فاتّضح بهذا البيان وجه اختصاص النزاع في محلّ الكلام بالوقف على من ينقرض غالباً. نعم، عدم إعراض الواقف عن ماله الموقوف في الوقف على من ينقرض غالباً، بمعنى ترقُّبه رجوع العين الموقوفة إليه بعد انقراض الموقوف عليهم ممّا يمكن الاستدلال لرجوع العين الموقوفة إلى الواقف بعد انقراضهم كما سيأتي بيان ذلك إن شاء اللّه.

ولا يخفى: أنّ النزاع في المقام متفرّع على القول بصحّة الوقف على من ينقرض

ص: 174

غالباً؛ بأن يقع وقفاً، كما عليه المشهور لا حبساً كما عليه جماعة كثيرة من الفحول، بل لا يبعد كونه الأشهر كما سبق آنفاً. وذلك لأنّه على القول بوقوعه حبساً لا يخرج عن ملك الواقف من أوّل الأمر، فلا إشكال حينئذٍ في رجوعه إلى الواقف بعد انقراض الموقوف عليه. قال في المسالك: «هذا الخلاف متفرّعٌ على القول بصحّته وقفاً، إذ لا شبهة في كونه مع وقوعه حبساً يرجع إلى الوقف أو إلى الواقف أو إلى ورثته، كما أنّه مع البطلان لا يخرج عنه، وإنّما الكلام على القول بصحّته وقفاً»(1).

ونظيره جاء في كلام صاحب الحدائق(2)

الأقوال في محلّ النزاع ثلاثة

تبيّن من تحرير محلّ النزاع أنّ في المقام ثلاثة أقوال:

أحدها: رجوع الموقوف بعد موت الواقف وانقراض الموقوف عليه إلى ورثة الواقف. وقد نسب في المسالك هذا القول إلى الأكثر وفي الجواهر إلى الأشهر، بل المشهور(3).

وعلّل ذلك في المسالك أوّلاً: بعدم خروج الموقوف عن ملك الواقف في مفروض المسألة بالكلّية؛ نظراً إلى أنّه إنّما قصد وقف ماله على أشخاص معدودين، فلا وجه للتعدّي إلى غيرهم. بل مقتضى قصده انقطاع الوقف وانتفاؤه بانقراض الموقوف عليه ورجوع العين الموقوفة إلى ملك صاحبه الأصلي،

********

(1) - مسالك الأفهام 356:5.

(2) - الحدائق الناضرة 140:22.

(3) - راجع: مسالك الأفهام 356:5؛ جواهر الكلام 59:28.

ص: 175

وهو الواقف، كما في الوقف على شخص معيّنٍ.

وثانياً: بما ورد في النصوص كقول الإمام العسكري عليه السلام: «الوقف على حسب ما يقفها أهلها»(1).

وجه دلالته على المطلوب أنّ الواقف إنّما وقف في مفروض الكلام على شخص أو جماعة معدودين، وأ نّهم ماتوا وانقرضوا، ولم يقف على غيرهم. فلا وقف بالنسبة إلى غيرهم.

فلا محالة يرجع بعد انقراض الموقوف عليهم وموت الواقف إلى ورثته.

قال في المسالك في تعليل ذلك:

«رجوعه إلى ورثة الواقف، لأنّه لم يخرج عن ملكه بالكلّية، وإنّما تناول أشخاصاً فلا يتعدّى إلى غيرهم. ولظاهر قول العسكري عليه السلام: «إنّ الوقف على حسب ما يقفه أهله»، وإنما وقفوه هنا على من ذكر فلا يتعدّى ويبقى أصل الملك لهم كالحبس، أو هو عينه»(2).

ويمكن المناقشة في الوجه الأوّل بأنّ العين الموقوفة قد خرجت عن ملك الواقف - بناءً على صحّته وقفاً، لاحبساً - كما هو المفروض في محلّ الكلام. وبعد خروجه عن ملكه ونقله إلى ملك غيره، يكون رجوعه إلى ملكه بعد انقراض الموقوف عليه من قبيل نقل مستقلّ آخر، وهو بحاجة إلى سبب شرعي، وسببه لم يتحقّق. وأمّا الانقراض فلا يصحّ لنقله إلى ملكه مجّدداً، كما هو واضح.

وسيأتي الكلام في ذلك في تحقيق أدلّة القول برجوعه إلى ورثة الموقوف عليه.

وأمّا الوجه الثاني: فيبتني الاستدلال بعموم «الوقوف على حسب...» على عدم

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 2.

(2) - مسالك الأفهام 356:5.

ص: 176

أخذ التأبيد والدوام في مفهوم الوقف وماهيته، أو كون لفظ الوقف في الصحيحة المزبورة بالمعنى الأعمّ من الحبس، ودخول مبنى وقوع الوقف على من ينقرض حبساً في محلّ الكلام.

وإلّا فلو كان لفظ الوقف بمعناه المصحّح وكان التأبيد مأخوذاً في ماهيته.

ينصرف العموم المزبور عن جهة التوقيت - ولو بغير ذكر المدّة - كما في المقام. وقد سبق بيان ذلك في مسألة الوقف على من ينقرض غالباً.

فلو لم يؤخذ التأبيد في ماهية الوقف، أو كان لفظ الوقف في الصحيحة بالمعنى الأعمّ منه والحبس وبنينا على شمول محلّ الكلام لمبنى وقوع الوقف على من ينقرض حبساً، يدلّ على المطلوب؛ إذ ظاهره حينئذٍ أنّ الوقوف حسب ما قصده ورسمه الواقف إن كان حبساً فحبس، كما في المقام بقرينة كون الموقوف عليهم ممّن ينقرض عادة. وإن كان وقفاً، تترتّب عليه أحكام الوقف. ويظهر هذا التوجيه من المحدّث البحراني؛ حيث قال: «وهذا غاية ما تدلّ عليه الصحيحة المنقولة عن العسكري قدس سره من «أنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها».

والمراد فيها بالوقف ما هو أعمّ من الوقف المبحوث عنه والتحبيس، فهو إن كان مؤبّداً فوقف، وإن كان مقطّعاً فتحبيس، وأمّا قول ابن زهرة: وقد روي أنّه يرجع إلى ورثة الواقف، وكذا قول الشيخ في المبسوط في هذه المسألة: وقال قوم: يرجع إليه إن كان حيّاً وإلى ورثته إن كان ميّتاً وبه تشهد روايات أصحابنا، فإن اريد به كما هو ظاهر كلامه أنّ هنا أخباراً دالّة على موضع البحث، وأ نّه مع كون الوقف منقطعاً قد صرّحت الأخبار بالرجوع إلى الواقف أو ورثته بعد انقراض الموقوف عليه فإنّه لم يصل إلينا في الأخبار ما يدلّ على ذلك، وإلّا لزال إشكال في هذا المجال، وإن أريد هذه الصحيحة المذكورة وقريب منها الصحيحة الاُخرى المتقدّمة معها، فإنّ غاية ما

ص: 177

تدلّان هو أنّ الوقف يتبع فيه ما رسمه الواقف، والوقف فيهما أعمّ من التحبيس والوقف بالمعنى المبحوث عنه. وغاية ما تدلّان عليه الاقتصار في الوقف على الجماعة الموقوف عليهم، واللازم من ذلك هو الرجوع بعد انقراض الموقوف عليه إلى الواقف أو ورثته، وهذا هو معنى التحبيس وإن سمّي وقفاً»(1).

ثانيها: رجوع الموقوف بعد انقراض الموقوف عليه إلى ورثة الموقوف عليه.

وهذا القول اختاره الشيخ المفيد(2)، وابن إدريس(3)، وقوّاه العلّامة في التحرير(4)، كما نسب إليهم في المسالك(5).

واستُدلّ لذلك أوّلاً: بأنّ عود الموقوف ورجوعه إلى الواقف بعد خروجه عن ملكه يحتاج إلى سبب ولم يوجد.

وثانياً: باستصحاب ملك الموقوف عليهم - الثابت لهم قبل انقراضهم يقيناً - بعد انقراضهم.

وثالثاً: بأنّ الوقف نوع صدقة ولا يجوز فيه الرجوع.

قال في المسالك في تعليل ذلك: «لانتقال الملك إليه قبل الانقراض فيستصحب ولأنّ عوده إلى الواقف بعد خروجه يفتقر إلى سبب ولم يوجد ولأ نّه نوع صدقة فلا يرجع إليه»(6).

قد نوقش في الأوّل: بأنّ خروج الموقوف عن ملك الواقف بالكلّية وانتقاله إلى

********

(1) - الحدائق الناضرة 141:22.

(2) - المقنعة: 655.

(3) - السرائر 165:3.

(4) - تحرير الأحكام 274:3.

(5) - مسالك الأفهام 356:5.

(6) - مسالك الأفهام 356:5.

ص: 178

ملك الموقوف عليه كذلك، إنّما هو مسلّم في الوقف المؤبّد، وأمّا في الوقف على من ينقرض غالباً فهو أوّل الكلام، بل ممنوع.

وفي الثاني: بأ نّه ليس الانتقال إلى الموقوف عليهم متيقّناً، حتّى يُستصحب. هذا مضافاً إلى عدم وصول التوبة إلى الأصل مع وجود الدليل.

وفي الثالث بأنّ ظاهر النصوص الناطقة بأنّ ما كان للّه لا يرجع أنّها ناظرة إلى الوقف المؤبّد كما هو شأن الصدقة بنوعيها الواجبة والمستحبّة. والكلام هاهنا في غير المؤبّد. مع أنّه ما دام وقفاً. والوقف ينتفي بانقراض الموقوف عليه في مفروض الكلام.

ويمكن ردّ المناقشة في الدليل الأوّل بأنّ العين الموقوفة إمّا أن تنتقل إلى الموقوف عليه، أو لا. وعلى الأوّل لامعنى لانتقالها إليه موقّتاً، كما هو واضح.

وعلى الثاني يرجع الوقف إلى الحبس وهو خارج عن محلّ الكلام كما اعترف به الشهيد وصاحب الحدائق.

فلا مناص إذاً من القول بانتقالها إلى الموقوف عليه تماماً بناءً على الوقفية ومع الانتقال التامّ لامعنى لعودها إلى الواقف بلا سبب كما سبق.

ثالثها: صرف الموقوف في وجوه البرّ وفي سبيل اللّه، وهذا القول ذهب إليه السيّد أبو المكارم ابن زهرة ونفي عنه البأس في المختلف على ما نسب إليهم في المسالك.

وعلّل لذلك أوّلاً: بعدم رجوع الموقوف إلى المالك بعد خروجه. وقد عرفت الجواب عنه آنفاً.

وثانياً: ب «أنّ ما كان للّه فلا يرجع». وعرفت جوابه أيضاً.

وثالثاً: بعدم تعلّق عقد الوقف بورثة الموقوف عليهم ولعدم دخولهم في قصد

ص: 179

الواقف، فلا ينتقل إليهم. وأقرب شيء إلى مقصوده هو وجوه البرّ؛ لأنّه مقتضى شأن ما ينفق في سبيل اللّه المعبَّر عنه بالصدقة.

وفيه: أنّ عدم رجوع الموقوف إلى الموقوف عليهم لعدم تعلّق قصد الواقف بهم مسلّم ومقبول، إلّاأنّه لا يثبت المطلوب، وهو وجوب صرف الموقوف في وجوه البرّ.

وأمّا كون الصرف في وجوه البرّ أقرب شيء إلى مقصود الواقف بمقتضى شأن الصدقة، فمسلّم أيضاً، إلّاأنّه فرع الخروج عن ملك الواقف بالكلّية أوّلاً، وتعلّق قصده به ثانياً. وكلا الأمرين غير ثابت في مفروض الكلام. فلا مناص من تحكيم عموم قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها»(1).

ومقتضى التحقيق في المقام: أنّه بناءً على رجوع الوقف على من ينقرض غالباً إلى الحبس، لا إشكال في رجوع العين الموقوفة في محلّ الكلام إلى ورثة الواقف.

وأمّا بناءً على وقوعه وقفاً - كما هو المشهور وبنينا عليه؛ لأجل التعبّد بالنصّ الخاصّ - فالأقوى في المقام رجوع العين الموقوفة إلى ورثة الموقوف عليه. لأنّ الموقوف كان ملكاً للموقوف عليه قبل انقراضه وبالانقراض لم يحدث إلّاالموت.

وهو لا يمنع عن نقل الملك إلى الورثة وإن يصلح لخروج المال عن ملك مالكه الميّت. فكيف في سائر الموارد ينتقل المال بمجرّد موت المالك إلى ورثته بنفس الموت؟ فكذلك في المقام. فليس السبب للنقل إلى الورثة الوقف بل الناقل هو الموت ومن هنا لا حاجة إلى بقاء الوقف للنقل إلى الورثة. فلا وجه للإشكال بأ نّه بمجرّد انقراض الموقوف عليهم ينتفي الوقف فيزول سبب الملك. ومع زواله لا وجه

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 2.

ص: 180

لانتقاله إلى ملك ورثتهم. فإذاً لا مناص من رجوعه إلى ملك الواقف؛ نظراً إلى عدم إعراضه عن العين الموقوفة قطعاً في الوقف على من ينقرض غالباً. بمعنى توقّعه وترقّبه ورجائه رجوع العين الموقوفة إليه بعد انقراض الموقوف عليهم، كما يستفاد ذلك من كلام صاحب العروة.

من يرجع إليه الموقوف من ورثة الواقف

المقام الثاني: في تعيين من يرجع إليه المال الموقوف بعد انقراض الموقوف عليهم من بين ورثة الواقف. فوقع الكلام - بعد البناء على رجوع المال الموقوف إلى ورثة الواقف حينئذٍ في أنّ من يرجع إليه الموقوف من ورثة الواقف، هل هو من كان وارثاً له حين موته؟ أو من يرثه حين انقراض الموقوف عليه؟

قال في الحدائق: «ثمّ إنّه بناءً على القول المشهور من الرجوع إلى ورثة الواقف بعد انقراض الموقوف عليه، فهل المراد وارثه حين الانقراض، أو بعد موته مسترسلاً إلى أن يصادف الانقراض؟ وجهان، قالوا: وتظهر الفائدة فيما لو مات الواقف عن ولدين، ثمّ مات أحدهما عن ولد قبل الانقراض: فعلى الأوّل يرجع إلى ولد الباقي خاصّة، وعلى الثاني يشترك هو وابن أخيه لتلقّيه من أبيه، كما لو كان معيّناً»(1).

ففي المثال: لو مات الواقف وخلّف ولدين بعد موته. ثمّ مات أحد الولدين وخلّف ولداً قبل انقراض الموقوف عليهم. فعلى القول الثاني، لا يرجع المال الموقوف إلى ولد ذلك الولد الذي مات، بل إنّما يرجع إلى الولد الباقي من ولدي الواقف؛ لأنّه وارث الميّت حين انقراض الموقوف عليهم، دون غيره.

********

(1) - الحدائق الناضرة 142:22.

ص: 181

وأمّا على الأوّل، فيرجع المال الموقوف بعد انقراض الموقوف عليهم إلى الولد الباقي وابن أخيه. وذلك لأنّ الذي مات من ولدي الواقف، يرجع إليه الموقوف حينئذٍ أيضاً؛ لأنّه كان حيّاً حين موت الواقف وورثه. وعليه فيتلقّي ولده الموقوف من أبيه بعد موته كما لو كان حيّاً. فيشرك حينئذٍ الباقي من ولدي الواقف وابن أخيه في المال الموقوف.

قال في المسالك - بعد تقوية القول برجوع الموقوف إلى ورثة الواقف بعد انقراض الموقوف عليهم -: «والمعتبر وارثه عند انقراض الموقوف عليه، كالولاء، ويحتمل وارثه عند موته مسترسلاً إلى أن يصادف الانقراض. وتظهر الفائدة فيما لو مات الواقف عن ولدين ثمّ مات أحدهما عن ولدٍ قبل الانقراض، فعلى الأوّل يرجع إلى الولد الباقي خاصّةً، وعلى الثاني يشترك هو وابن أخيه لتلقّيه من أبيه كما لو كان حيّاً»(1).

قوله: «كالولاء» أي كما في الإرث بسبب الولاء. فإنّ من له الولاء في ولاء العتق وولاء ضمان الجريرة وولاءِ الإمام إنّما هو وارث إذا لم يكن للمولّى عليه وارثٌ. فلو مات الوليّ إنّما يرجع مال المولّى عليه الميّت إلى ورثة الوليّ حين موته ولا معنى لرجوعه إلى ورثته حين موت من عليه الولاء. حين موت المولّى عليه.

ثمّ إنّه قد عرفت من كلام صاحب المسالك أنّه قوّى رجوع الموقوف إلى وارث الواقف حين الانقراض، ولكن قوّى في العروة(2) عكسه، فحكم برجوعه إلى وارث الواقف حين موته، ووافقه السيّد الماتن قدس سره.

والوجه في ذلك إمّا رجوع الوقف في مفروض الكلام إلى الحبس وعدم خروج

********

(1) - مسالك الأفهام 357:5.

(2) - العروة الوثقى 296:6.

ص: 182

الموقوف عن ملك الواقف، فيرثه وارثه من حين موته.

وإمّا كون الوقف على من ينقرض غالباً من باب التمليك الموقّت بعد البناء على كونه وقفاً، لاحبساً؛ لأجل التعبّد بالنصّ الخاصّ الدالّ على ذلك بالخصوص، ولا مانع منه ثبوتاً، كما في الوقف على زيد عشر سنوات ثمّ إلى الفقراء، فقد أفتى الأصحاب بصحّة الوقف هناك، فكيف يكون انتقال العين الموقوفة إلى ملك زيد موقّتاً فكذلك في المقام.

ولكنّ الأقوى ما ذهب إليه في المسالك، من رجوع الموقوف إلى وارث الواقف حين الانقراض. وذلك لما بنينا عليه من صحّة الوقف في مفروض الكلام.

فإذا صحّ تترتّب آثاره، ومنها عدم قابليته للإرث ما دام وقفاً، كما هو متسالم بينهم.

والعجب من السيّد الماتن قدس سره؛ حيث إنّه قوّى في المسألة السادسة عشر صحّة الوقف على من ينقرض، ومع ذلك أفتى هاهنا برجوع المال الموقوف إلى من كان وارث الواقف من حين موته، حين انقراض الموقوف عليه.

ص: 183

(مسألة 19): من الوقف المنقطع الآخر ما كان الوقف مبنيّاً على الدوام، لكن كان على من يصحّ الوقف عليه في أوّله دون آخره، كما إذا وقف على زيد وأولاده وبعد انقراضهم على الكنائس والبيَع مثلاً، فيصحّ بالنسبة إلى من يصحّ الوقف عليه دون غيره (1).

صحّة الوقف المنقطع الآخر

1 - وجهه واضح؛ لانقطاع الوقف بانقراض من يصحّ الوقف عليه وانتفائه بذلك؛ نظراً إلى بطلانه على من لا يصحّ الوقف عليه. و بعد انقطاعه لا يرجع إلى الأوّل، لعدم دخوله في قصد الواقف؛ حيث إنّه إنّما قصد الوقف على من يصحّ الوقف عليه إلى أمد معيّن، والمفروض تحقّق انقراضهم، فينقطع بذلك الوقف.

وأمّا المال الموقوف - الباقي بعد انقراض من يصحّ الوقف عليه - فهل يرجع إلى الواقف أو ورثته، أو إلى ورثة الموقوف عليه، أو يصرف في وجوه البرّ أقوال، ولكلّ قول وجوه سبق آنفاً بيانها في المسألة السابقة.

ص: 184

(مسألة 20): الوقف المنقطع الأوّل إن كان بجعل الواقف، كما إذا وقفه إذا جاء رأس الشهر الكذائي، فالأحوط بطلانه (1)، فإذا جاء رأس الشهر المزبور فالأحوط تجديد الصيغة، ولا يترك هذا الاحتياط. وإن كان بحكم الشرع؛ بأن وقف أوّلاً على ما لا يصحّ الوقف عليه، ثمّ على غيره، فالظاهر صحّته بالنسبة إلى من يصحّ، وكذا في المنقطع الوسط، كما إذا كان الموقوف عليه في الوسط غير صالح للوقف عليه، بخلافه في الأوّل والآخر، فيصحّ على الظاهر في الطرفين، والأحوط تجديده عند انقراض الأوّل في الأوّل، والوسط في الثاني.

حكم الوقف المنقطع الأوّل

اشارة

1 - عرفت من المتن أنّ السيّد الماتن قدس سره عقد الكلام في موضعين، وقسّم الوقف المنقطع الأوّل بحسب ذلك على قسمين. وينبغي أن يعلم قبل الشروع في البحث أنّ مراده من قوله: «عند انقراض الأوّل في الأوّل»، عند انقراض الموقوف عليه الأوّل في الوقف المنقطع الأوّل ومن قوله: «والوسط في الثاني» عند انقراض الموقوف عليه الوسط في الوقف المنقطع الوسط. فالكلام يقع في مقامين:

حكم الوقف المنقطع إن كان بجعل الواقف

أمّا المقام الأوّل: وهو ما كان انقطاع ابتداء الوقف بجعل الواقف؛ أي بتعليقه واشتراطه، كما لو قال: وقفته إذا جاء رأس الشهر، أو إن قدم زيدٌ، فلا خلاف في بطلان هذا الوقف؛ لأنّ الإجماع بقسميه على بطلانه.

وفي المسالك أنّه لا فرق بين تعليقه بأمر محقّق الوقوع المعبَّر عنه بالتعليق على

ص: 185

الوصف، وبين تعليقه على أمر محتمل الوقوع المعبّر عنه بالشرط؛ لأنّ في الموردين تعليق في العقد واشتراط التنجيز في العقود موضع وفاق، ولكن لا دليل على بطلان الوقف المعلّق بخصوصه.

قال قدس سره: «لا فرق بين تعليقه بوصف لا بدّ من وقوعه كمجيء رأس الشهر، وهو الذي يطلق عليه الصفة، وبين تعليقه بما يحتمل الوقوع وعدمه كقدوم زيدٍ، وهو المعبّر عنه بالشرط. واشتراط تنجيزه مطلقاً موضع وفاق كالبيع وغيره من العقود، وليس عليه دليل بخصوصه»(1).

وأشكل عليه في الجواهر(2) بأنّ التعليق على أمر متيقَّن الحصول أو متوقّعه ينافي ما دلّ على اعتبار تسبيب الأسباب الشرعية للنقل والانتقال؛ حيث إنّ مقتضى ذلك ترتيب الآثار حين إنشاء الوقف. ولكنّ التعليق على أمر يقتضي ترتيب الآثر من حين وقوع ذلك الأمر، لا من حين إنشاء الوقف.

وفيه: أنّ كلامه لا يرجع إلى معنى محصّل إلّاالدليل العامّ المقتضي لاعتبار التنجيز في مطلق العقود، بلا اختصاص بالوقف كما أشار إليه في المسالك، فلم يأت في الجواهر بشيءٍ جديد يُعدّ دليلاً خاصّاً في المقام.

هذا، مع أنّه أشكل صاحب العروة على ما استظهره صاحب الجواهر من أدلّة اعتبار أسباب النقل الشرعية بقوله: «نعم ادّعى صاحب الجواهر: أنّ ظاهر ما دلّ على تسبيب الأسباب، ترتُّب آثار حال وقوعها. وهو أيضاً مشكل، فالأحوط مراعاة الاحتياط»(3).

********

(1) - مسالك الأفهام 357:5.

(2) - جواهر الكلام 62:28.

(3) - العروة الوثقى 297:6.

ص: 186

ثمّ إنّ صاحب العروة قد صوّر للتعليق في الوقف صوراً ثلاثة؛

أحدها: كون التعليق على نحو الشرط المتأخّر على نحو الكشف، كالغسل الليلي للمستحاضة الكبرى والإجازة اللاحقة في البيع الفضولي بناءً على الكشف. فإذا تحقّق المعلّق عليه يكشف عن وقوع الوقف ونفوذه من أوّل زمان إنشائه.

ثانيها: كون التعليق في نفس الإنشاء على نحو الواجب المعلّق؛ بأن كان المراد إنشاءَ الوقفية من حين تحقّق المعلّق عليه، فهو أنشأ في هذه الصورة الوقف الحاصل في زمان تحقّق المعلّق عليه، فيكون منشؤه الوقف في ذلك الزمان لا قبله.

ثالثها: كون التعليق على نحو الواجب المشروط؛ بأن كان مراده نفوذ الوقف وترتيب الأثر عليه في زمان تحقّق المعلّق عليه، وإن كان الوقف منشأً من حين الإنشاء. وقد خصّ قدس سره إشكال صاحب الجواهر - وهو تأخُّر الأثر وانفصاله عن زمان تحقّق سبب النقل الشرعي ومخالفة ذلك لأدلّة سببيّته الشرعية - بالصورة الأخيرة.

قال قدس سره: «ثمّ لا يخفى أنّه إذا قال: وقفت إن جاء زيد يحتمل وجوهاً:

أحدها: أن يكون على نحو الشرط المتأخّر على وجه الكشف، فإذا كان يجيء في الواقع يكون وقفاً من الأوّل.

الثانيها: أن يكون على نحو الواجب المعلّق؛ بأن يكون المراد إنشاء الملكية حين المجيء ولازمه عدم جواز التصرّف بوجه آخر قبله لو علم بمجيئه؛ لأنّه أنشأ وقفيته في ذلك الوقف.

الثالثها: أن يكون على نحو الواجب المشروط على نحو الوصيّة، بمعنى حصول الوقفية بعد ذلك لا حين الإنشاء.

وإشكال تأخير الأثر عن السبب إنّما يرد في هذه الثالثة، بخلاف الأوّليين، وأمّا

ص: 187

الاُولى، فواضح. وأمّا الثانية؛ فلأنّ المنشأ الوقفية حين المجيء، وقد حصلت حين الإنشاء»(1).

ولكن لا يخفى: أنّ صورتي الاُولى والثانية خلاف ظاهر التعليق، بل المتعيّن - عند عدم قرينة خاصّة - ظهوره في الصورة الثالثة. وهي مصبّ إشكال صاحب الجواهر، وإن يأت إشكاله في الصورة الثانية أيضاً؛ حيث إنّ مرجعها بالمآل إلى إنفكاك الأثر عن السبب، كما لا يبعد دعوى ظهور التعليق فيها؛ لأنّ مرجع التعليق إلى تقييد المُنشأ.

وأمّا لو قال: وقفته إن كان الآن صباح يوم الجمعة، فيما إذا أنشأ الوقف صباح يوم الجمعة، فيصحّ قطعاً؛ لأنّه صورة تعليق ظاهراً وليس بتعليق حقيقةً.

ثمّ إنّ للشيخ الطوسي قولاً(2) بجواز الوقف المنقطع الأوّل إذا كان الموقوف عليه أوّلاً - الذي لا يصحّ الوقف في حقّه - محتمل الانقراض أو معلومه، فحكم بصحّة الوقف بعد انقراضه.

وقد استظهر في المسالك من كلامه صحّة الوقف المعلّق على بعض الوجوه، ولعلّه ما إذا كان بطلان المعلّق عليه الوقف بحكم الشارع.

قال في المسالك: «نعم، يتوجّه على قول الشيخ بجواز الوقف في المنقطع الابتداء - إذا كان الموقوف عليه أوّلاً ممّن يمكن انقراضه كنفسه وعبده، بمعنى صحّته بعد انقراض من بطل في حقّه - جواز المعلَّق على بعض الوجوه»(3).

ولعلّ مراد الشهيد من بعض الوجوه، ما إذا كان المعلّق عليه وقفاً على من كان

********

(1) - العروة الوثقى 297:6.

(2) - راجع: المبسوط 293:3؛ الخلاف 544:3، المسألة 10.

(3) - مسالك الأفهام 357:5-358.

ص: 188

في معرض الانقراض. فإنّه يرجع إلى التعليق على الوصف إذا كان معلوم الانقراض حين التعليق، وإلى التعليق على الشرط إذا كان محتمل الانقراض حين التعليق.

ولكنّه مطلقاً راجع إلى ما كان انقطاع أوّل الوقف به بحكم الشارع لا بجعل الواقف لأنّ مصبّ كلام الشيخ مبنيٌّ على بطلان الوقف على من ينقرض غالباً.

وبطلانه إنّما هو بحكم الشارع.

ولكن مبنى الشيخ في ذلك ضعيف مردود، كما أشار إليه في المسالك والجواهر(1).

وجه الضعف أنّ الشيخ حكم بجواز صرف الوقف للموقوف عليه الثاني، من حين إنشاء الوقف وقبل مجيء زمان انقراض الموقوف عليه الأوّل؛ معلّلاً بعدم استحقاقه للوقف. والحال أنّ الموقوف عليه الثاني لم يكن داخلاً في قصد الواقف قبل مجيء زمان انقراض الموقوف عليه الأوّل. وقد ناقش الشهيد في كلام الشيخ الطوسي بهذه المناقشة في المسالك.

وإنّ للكلام في المقام تتمّة، ستأتي في تفصيل البحث عن اعتبار التنجيز في المسألة الثانية والعشرين، إن شاء اللّه.

حكم الوقف المنقطع إن كان بحكم الشرع

أمّا المقام الثاني: وهو ما كان انقطاع ابتداء الوقف بحكم الشارع؛ بأن وقف أوّلاً على ما لا يصحّ الوقف عليه، ثمّ على غيره.

وقد وقع الخلاف في المقام بين الأصحاب على قولين:

********

(1) - مسالك الأفهام 358:5؛ جواهر الكلام 62:28.

ص: 189

أحدهما: ما ذهب إليه جماعة من الفحول، وهو بطلان الوقف حينئذٍ مطلقاً حتّى في حقّ من يصحّ الوقف عليه.

قال في المسالك: «وقد اختلف الأصحاب في حكمه، فذهب المصنّف [وهو صاحب الشرائع] والمحقّقون منهم إلى بطلان الوقف رأساً»(1).

بل هو المشهور بين الأصحاب، كما قال في الحدائق: «والمشهور في كلام الأصحاب بطلان الوقف من أصله»(2). وقد جعله الشيخ في المبسوط مقتضى مذهبنا(3).

ثانيهما: صحّة الوقف المنقطع الأوّل فيما إذا كان انقطاع ابتداء الوقف لأجل فساد الوقف على الموقوف عليه الأوّل.

وهذا قول الشيخ في الخلاف وموضع من المبسوط(4).

واحتجّ لذلك بأصالة الصحّة وبأنّ الوقف على من يصحّ الوقف عليه صحيح ولا يفسد بضمّ الفاسد إليه.

وردّه في الجواهر أوّلاً: بأنّ أصالة الصحّة لا تجري مع قيام الدليل على البطلان.

وثانياً: بأن ضمّ من لا يصحّ الوقف عليه إلى الموقوف عليه مُفسد للوقف بالبيان المزبور.

وقد عرفت المناقشة في البيان المزبور، فلا يصلح وجهاً لإثبات الفساد والبطلان.

********

(1) - مسالك الأفهام 328:5.

(2) - الحدائق الناضرة 155:22.

(3) - المبسوط 293:3-294.

(4) - الخلاف 544:3، المسألة 10؛ المبسوط 293:3-294.

ص: 190

ثمّ إنّه بناءً على القول بصحّة الوقف في حقّ من يصحّ الوقف عليه، فهل يجوز صرف منفعة الوقف لهم من ابتداء الوقف أم لا؟ مقتضى التحقيق جوازه، بل وجوبه مطلقاً، بلا فرق بين ما إذا كان الموقوف عليه الأوّل بمنزلة المعدوم الذي لم يُذكر، كالمجهول والميّت، وبين الموقوف عليه الموجود الذي يكون في معرض الانقراض، كما يظهر من الشيخ في المبسوط، وإن نقل اختلاف الأقوال في الفرض الثاني.

وخالفه في المسالك؛ بأنّ جواز صرف منافع الوقف لمن يصحّ عليه الوقف في الابتداء، مشكل؛ لعدم دليل عليه، بل خارج عن قصد الواقف؛ لعدم دليل عليه، بل خارج عن قصد الواقف؛ لأنّه قصد الوقف للموقوف عليه الثاني بعد انقراض الأوّل، والمفروض عدم انقراضه. فإنّه إلى ذلك أشار بقوله: «فالمصرف على تقدير الصحّة مشكل»(1).

وفيه: أنّ الواقف لو التفت إلى منع الصرف في الموقوف عليه الأوّل، بل عدم إمكان الوقف عليه شرعاً، فسئل حينئذٍ عن قصده لأخبر بدخول الموقوف عليه الأوّل في قصده، بل يرى الأوّل كالمعدوم حينئذٍ فلا محالة يتعيّن قصده في الموقوف عليه الثاني.

وحاصله: ما اختاره الشيخ في المبسوط والخلاف وغيرهما، صحّة الوقف بالنسبة إلى من يصحّ عليه الوقف وبطلانه في حقّ غيره.

وهو ظاهر صاحب العروة؛ حيث قال:

«لو وقف على نفسه، ثمّ على غيره، بطل بالنسبة إلى نفسه وكان من الوقف

********

(1) - مسالك الأفهام 330:5.

ص: 191

المنقطع الأوّل»(1). وهو الذي اختاره السيّد الماتن قدس سره، كما عرفت من المتن.

وقد علّل في المسالك لبطلان هذا الوقف رأساً.

أوّلاً:

بأ نّه لو صحّ، لزم إمّا صحّة الوقف ونفوذه مع عدم الموقوف عليه، أو مخالفة ما وقع من الوقف لقصد الواقف. وهذان اللازمان التاليان كلاهما باطلان فالمقدّم مثله، فيكشف ذلك عن عدم صحّة الوقف المنقطع الأوّل.

بيان الملازمة: أنّه لو صحّ الوقف المنقطع الأوّل؛ فإن لم يجب إجراؤه في حقّ من يصحّ الوقف عليه في الابتداءِ، لزم صحّة الوقف مع عدم موقوف عليه يجري حكم الوقف في حقّه. وإن وجب إجراؤه من الابتداء في حقّ من يصحّ الوقف عليه، يكون معنى ذلك انصراف الوقف إلى من يصحّ الوقف عليه وتنزيل الموقوف عليه الأوّل منزلة غير المذكور. ولازم ذلك جريان الوقف على خلاف ما قصده الواقف ورَسَمه. فيكون باطلاً بدليل قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(2).

وثانياً: بأنّ مرجع مثل هذا الوقف إلى الوقف المعلّق، وهو باطل.

قال قدس سره في تعليل ذلك: «لأنه لو صحّ، لزم إمّا صحّة الوقف مع عدم موقوف عليه أو مخالفة شرط الواقف وجريانه على خلاف ما قصده. والتالي بقسميه باطل، فالمقدّم مثله.

والملازمة ظاهرة؛ لأنّه مع الصحّة إن لم يجب إجراؤه على من يصحّ الوقف عليه - المذكور أو غيره - لزم الأوّل.

********

(1) - العروة الوثقى 299:6.

(2) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 192

وإن انصرف إلى من يصحّ الوقف عليه وينزّل الآخر منزلة غير المذكور لزم الثاني.

ويدلّ على بطلان الثاني قول العسكري عليه السلام في مكاتبة محمّد بن الحسن الصفّار: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». ولا شبهة في أنّ الواقف لم يقصد الموجود ابتداءً، فلا ينصرف إليه، بل يكون كالمعلّق على شرط وهو باطل»(1).

وبهذا البيان أجاب عن استدلال القائلين بالصحّة بأنّ مفروض الكلام من قبيل ما لو انقرض الموقوف عليه الأوّل.

نظير هذا الاستدلال نقله في الحدائق(2) عن العلّامة في المختلف والشهيد في المسالك، ولكن تقريبه يفترق عمّا لاحظته في المسالك؛ حيث جعَلَه الشهيد دليلاً واحداً، وهو كون صحّة الوقف المنقطع الأوّل مستتبعاً لأحد المحاذير الثلاثة المتقدّمة.

وعلى أيّ حال يمكن الجواب عن هذا الاستدلال: بأنّ محذور كون الوقف بلا موقوف عليه، إنّما يلزم على فرض عدم جريان الوقف من الابتداء في حقّ من يصحّ عليه الوقف. ونحن لمّا نقول بجريانه لا يلزم هذا المحذور.

وأمّا محذور وقوع الوقف على خلاف ما قصده الواقف ورسَمَه - على فرض جريان الوقف من الابتداء في حقّ من يصحّ عليه الوقف - فاستدلّ في المسالك لبطلانه بعموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(3). ولكنّه غير صالح لذلك.

والوجه فيه: أنّ هذا العموم إنّما ينعقد في دائرة ما جاز للواقف قصده وترسيمه

********

(1) - مسالك الأفهام 328:5-329.

(2) - الحدائق الناضرة 156:22.

(3) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 193

الوقف شرعاً، وموارد عدم جوازه خارجة عن نطاق هذا العموم من أوّل الأمر، بدليل ما دلّ من النصوص على بطلان الوقف على من لا يجوز عليه الوقف.

وبعبارة اخرى: إنّ العموم المزبور قد خُصّص بما دلّ من النصوص على بطلان الوقف على من لا يجوز عليه الوقف. وعليه فإذا كان الواقف قصد ورسم الوقف المنقطع الأوّل فلا اعتبار بقصده شرعاً وخارج عن نطاق العموم المزبور. ولازم ذلك صحّة هذا الوقف وجريانه في حقّ من يصحّ عليه الوقف من الابتداء، بلا محذور في البين.

وقد استدلّ المحدّث البحراني(1) على بطلان الوقف في المقام بوجهين:

أحدهما: ما دلّ من النصوص(2) على بطلان الوقف على نفسه، وما شرط فيه ثبوت حقّ الانتفاع لنفسه من العين الموقوفة عند الاحتياج إليه.

وفيه: أنّ محلّ السؤال والجواب في هذه النصوص، الوقف على نفسه، أو اشتراط رجوع بعض منافع الوقف إليه، أو اشتراط حقّ الاستفادة والانتفاع لنفسه في الوقف. ولا نظر لشيءٍ من هذه النصوص إلى ما إذا كان الوقف المزبور ملحوقاً بالوقف على من يصحّ عليه الوقف بعد موت الواقف، بل هو وقف على نفسه وغيره معاً في عرض واحد، بإدخال نفسه في الموقوف عليه. فهذا غير محلّ النزاع فيما نحن فيه. وعليه، فغاية ما يلزم من مدلولها في المقام بطلان الوقف في حقّ نفسه ومن لا يصحّ عليه الوقف، لا في حقّ من يصحّ عليه الوقف.

********

(1) - الحدائق الناضرة 156:22-158.

(2) - كصحيحي إسماعيل بن الفضل الهاشمي وموثّقة طلحة بن زيد وخبر علي بن سليمان بن رشيد. تهذيب الأحكام 59/150:9؛ وسائل الشيعة 176:19-178، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 3، الحديث 1 و 3 و 4.

ص: 194

ثانيهما: عدم الدليل على صحّة الوقف في المقام والسبب الشرعي للنقل بحاجة إلى دليل فما لم يقم دليل على ذلك، يقتضي الأصل بطلان الوقف في المقام.

وفيه: عدم الدليل على الصحّة ننكره ولا نُسلّمه. فإنّ عمومات الوقف وإطلاقها دليل على صحّة الوقف ونفوذه في حقّ من يصحّ عليه الوقف، هذا.

ولكنّ الحقّ في المقام مع السيّد الماتن قدس سره ومن على مسلكه.

وذلك لعدم رجوع هذا الوقف إلى التعليق بأمر متوقّع الحصول، بل من قبيل وقفين أحدهما في طول الآخر. فإذا بطل الأوّل، لا مانع من صحّة الثاني.

ويمكن استفادة هذا الاستدلال من كلام الشيخ على ما نقل عنه في الحدائق بقوله: «واستدلّ بأ نّه ذكر نوعين، أحدهما لا يصحّ الوقف عليه، والآخر يصحّ، فإذا بطل في حيّز من لا يصحّ الوقف عليه، صحّ في حيّز من يصحّ الوقف عليه، لأنّه لا دليل على إبطاله ولا مانع منه»(1).

ولكن يظهر من موضع من المبسوط أنّ صحّة الوقف المنقطع الأوّل مبنيّ على جواز تبعُّض الصفقة في عقد واحد حيث نقل عنه في الحدائق أنّه قال: «إذا كان الوقف منقطع الابتداء ومتّصل الانتهاء، بأن يقف أوّلاً على من لا يصحّ الوقف عليه، ثمّ على من يصحّ، كمن يقف على نفسه أو عبده أو المجهول أو المعدوم أو الميّت، ثمّ على الفقراء والمساكين، الذي يقتضيه مذهبنا أنّه لا يصحّ الوقف، لأنّه لادليل عليه، وفي الناس من قال: يصحّ تفريق الصفقة، وإذا قال: لا يصحّ تفريق الصفقة بطل الوقف في الجميع، وبقي الوقف على ملك الواقف لم يزل عنه، ومن قال: يصحّ تفريق الصفقة أبطله في حقّ من لا يصحّ الوقف عليه، وصحّحه في حقّ الباقين،

********

(1) - الحدائق الناضرة 156:22.

ص: 195

وهذا قويّ يجوز أن يعتمد عليه، لأنّا نقول بتفريق الصفقة»(1).

ولا يخفى: أنّ محلّ الكلام فيما إذا كان أحد الوقفين في طول الآخر، وهو غير موارد تبعّض الصفقة؛ لأنّ هناك يقع شيئان عوضاً معاً في عرض واحد؛ أحدهما ممّا لا يُملك والآخر ما يُملك. فمن لم يقل هناك بالصحّة يمكن أن يقول في المقام بالصحّة؛ لأنّ الوقف المنقطع الأوّل بهذا المعنى الثاني يرجع في الحقيقة إلى وقفين مستقلّين.

وقصد الواقف إنّما تعلّق بالثاني في موطنه، وإنّما الشارع عيّن موطنه في الحقيقة بإلغاء الوقف الأوّل. وبهذا البيان يمكن الجواب عن تعليل صاحب المسالك للبطلان بأنّ نفوذه من الابتداء مخالف لما قصده الواقف؛ حيث إنّه بإلغاء الشارع الوقف على الموقوف عليه الأوّل يتّسع موطن الصرف الموقوف عليه الثاني إلى ابتداء الوقف.

ولا يقصد الواقف غير ذلك عند التفاته إلى بطلان الوقف على الموقوف عليه الأوّل.

وأمّا قولهم عليهم السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» فهو إنّما يدلّ على تبعية الوقف مدار قصد الواقف في محيط الشرع، دون ما هو خارج عنه، مع فرض دخول الموقوف عليه الثاني في قصد الواقف أيضاً.

وبهذا البيان اتّضح وجه جواز صرف منافع الوقف للموقوف عليه الثاني من الابتداء لدخوله في قصده على فرض عدم الموقوف عليه الأوّل، والمفروض كونه كالعدم في نظر الشارع. كما اتّضح بذلك دفع إشكال لزوم نفوذ الوقف بلا موقوف عليه؛ لأنّه فرع عدم نفوذه في حقّ من يصحّ عليه الوقف من الابتداء.

هذا حكم الوقف المنقطع الأوّل، وكذلك الكلام في المنقطع الوسط طابق النعل بالنعل.

********

(1) - الحدائق الناضرة 156:22.

ص: 196

ولكن هاهنا إشكال، حاصله:

أنّ غاية ما يلزم من ذلك عدم الاعتبار بقصد الواقف من جهة قصده تقدّم زمان انتفاع الموقوف عليه الأوّل؛ نظراً إلى عدم صحّة الوقف عليه. ولا يستلزم ذلك تعلّق قصده بانتفاع الموقوف عليه الثاني في ابتداء زمان الوقف. ولمّا يعتبر قصده الوقف عليه حينئذٍ ولم يقصد، فلا ينفذ الوقف المنقطع الأوّل في حقّ الموقوف عليه الثاني في زمان الانقطاع لخروجه عن قصده. ومقتضى عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» عدم نفوذ الوقف في حقّ الموقوف عليه الثاني في زمان الانقطاع.

والتحقيق أنّ هذا الإشكال لا مدفع عنه في من وقف على نفسه أوّلاً ثمّ على غيره ممّن يصحّ الوقف عليه؛ نظراً إلى عدم قطعه العُلقة عن ماله حينئذٍ. ومن هنا لو فهم بطلان الوقف على نفسه بتذكّر المسألة أو تعلُّقها، يقوم بصدد منع حرمانه عن ماله ما دام حياته.

فحيث إنّ الإعراض عن ماله ما دام حيّاً لا يتحقّق في هذه الصورة، لا يقصد انتفاع الموقوف عليه الثاني قبل موته في هذا النوع من الوقف عادة.

فلا مناص من الالتزام بتعيّن زمان الصرف وانتفاع الموقوف عليه الثاني فيما بعد موته.

وأمّا لو وقف أوّلاً على غيره ممّن لا يصحّ الوقف عليه، ثمّ على من يصحّ الوقف عليه، فلا يأتي ما قلنا في الصورة السابقة؛ نظراً إلى إعراضه وانقطاعه عن منافع ماله الموقوف. ومن هنا لو تنبّه ببطلان الوقف على الموقوف عليه الأوّل يرضى بانتفاع الموقوف عليه الثاني عادة في زمان الانقطاع، بل يمكن دعوى دخول ذلك في قصده من حين إنشاء الوقف على فرض عدم إمكان الصرف في الموقوف عليه الأوّل بأيّ وجه.

ص: 197

(مسألة 21): لو وقف على جهة أو غيرها وشرط عوده إليه عند حاجته صحّ على الأقوى (1)، ومرجعه إلى كونه وقفاً ما دام لم يحتج إليه، ويدخل في منقطع الآخر، وإذا مات الواقف فإن كان بعد طروّ الحاجة كان ميراثاً، وإلّا بقي على وقفيته.

وهذا التفصيل هو مقتضى التحقيق في المقام.

حكم اشتراط الواقف عود الوقف إليه

اشارة

1 - كما عليه أكثر الأصحاب، بل نسبه في المسالك(1) إلى المعظم، بل ادّعى السيّد المرتضى(2) الإجماع عليه.

واختار جماعة بطلان الوقف من أصله حينئذٍ. واختاره الشيخ الطوسي في المبسوط(3) وقال في النهاية(4) بالصحّة. وممّن اختار البطلان ابن إدريس(5) والمحقّق الحلّي في المختصر النافع(6)، بل ادّعى ابن إدريس الإجماع عليه.

وفي المسألة قول ثالث وهو: صحّة الشرط المزبور ووقوع الوقف حبساً، لا وقفاً، اختاره العلّامة في القواعد والتذكرة والتحرير(7).

********

(1) - مسالك الأفهام 364:5.

(2) - الانتصار: 468.

(3) - المبسوط 81:2، و 300:3.

(4) - النهاية: 595.

(5) - السرائر 155:3-157.

(6) - المختصر النافع: 156.

(7) - راجع: جامع المقاصد 29:9؛ مفتاح الكرامة 33:9.

ص: 198

الاستدلال على الصحّة الوقف

وقد استدلّ في المسالك(1) للقول المشهور - أعني به الصحّة وقفاً - بستّة وجوه:

الأوّل: الإجماع الذي ادّعاه السيّد المرتضى. ويظهر من الشهيد أنّه جعله وجهاً مستقلاًّ. وذلك بقرينة قوله - بعد نسبة ذلك إلى المعظم ونقل الإجماع -:

«ولعموم...».

ولكن لا يصلح الإجماع المدّعى وجهاً بعد اختلاف الأقوال في المسألة بما عرفته آنفاً، بل هو معارض بدعوى الإجماع على البطلان من ابن إدريس، مع أنّه مدركي؛ لما سيأتي من استدلال الأصحاب بالوجوه الآتية.

الثاني: عموم قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2).

وهذا الاستدلال يبتني على كون الوقف عقداً، كما هو الصحيح المشهور، فيدخل هذا العقد المشروط بالشرط المزبور في عموم هذه الآية.

الثالث: عموم قوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم»(3).

وجه الدلالة: أنّ الواقف اشترط في متن عقد الوقف عوده إليه عند الحاجة، فيدخل في العموم المزبور.

ويرد على هذين الوجهين: أنّ العمومين المزبورين قد خُصّصا بالنصوص المانعة عن انتفاع الواقف من الوقف، وعن إدخال نفسه في الموقوف عليه، وعن اشتراطه انتفاع نفسه عند الحاجة. فلا مجال للتمسّك بهذه العمومات.

********

(1) - مسالك الأفهام 364:5-365.

(2) - المائدة (5):1.

(3) - وسائل الشيعة 276:21، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4.

ص: 199

الرابع: عموم قول الإمام العسكري عليه السلام: «الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها»(1). وفي حديث عنه عليه السلام بطريق آخر: «... يقفها أهلها»(2). والتعبير الأوّل من الإيقاف والثاني من الوقف.

فإنّ عود الوقف إلى الواقف عند الحاجة إنّما يكون على حسب ما وقفه ورسَمَه أهله، وهو الواقف.

لا إشكال في تمامية هذا الوجه - لو لا نصّ خاصٌ يدلّ على بطلانه بالخصوص - نظراً إلى ورود هذا العموم في خصوص باب الوقف، كما لا إشكال في تمامية الوجه الثالث؛ بناءً على عدم كون الشرط المزبور مخالفاً للكتاب والسنّة، فلو استظهرنا اشتراط الدوام في صحّة الوقف من نصوص المقام يكون هذا الشرط مخالفاً للسنّة.

ولكنّ النصوص الناهية عن انتفاع الواقف من الوقف - باشتراطه أو عدمه - مخصّصة لعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»، فخرج عن عمومه اشتراط العود والرجوع مطلقاً سواءٌ كان عند الحاجة أم لا، كما صرّح بهذا الإطلاق في معتبرة الأسدي(3)، بقوله عليه السلام: «وكلّ ما سُلّم فلا خيار فيه لصاحبه، احتاج أو لم يحتج افتقر إليه أو استغنى عنه».

وكذا تبتني تمامية الوجه الثاني على عدم كون الشرط المزبور مخالفاً لمقتضى عقد الوقف، وإلّا يكون من قبيل الشرط الفاسد. فلو قلنا بكون الدوام مأخوذاً في مفهوم الوقف - كما قلنا - يكون الاشتراط المزبور مخالفاً لمقتضى عقد الوقف.

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 2.

(3) - وسائل الشيعة 181:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 200

الخامس: ما قد يقال من أنّه لمّا كان مقتضى التحقيق صحّة الوقف المنقطع الآخر، يصحّ الشرط المزبور. فيكون نظير الوقف على من ينقرض غالباً، أو على من لا يصحّ الوقف عليه بعد انقراض الموقوف عليه؛ نظراً إلى عدم كونه من قبيل التوقيت، بل مبنيٌ على الدوام لو لم ينقرض، فكذلك في المقام لو لم تعرض الحاجة.

وفيه: أنّ ذلك في الوقف المنحلّ إلى وقفين؛ بأن يقف أوّلاً على من يصحّ الوقف عليه، ثمّ على من لا يصحّ عليه الوقف. وليس هذا محلّ الكلام، بل إنّما الكلام في اشتراط الواقف رجوعه وانتفاعه من الوقف عند الحاجة. والفرق بين النوعين واضح.

السادس: - وهو العمدة في المقام - الاستدلال للبطلان بالنصوص الخاصّة.

فمن هذه النصوص: صحيح إسماعيل بن الفضل، قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الرجل يتصدّق ببعض ماله في حياته في كلّ وجه من وجوه الخير، وقال: إن احتجّت إلى شيء من مالي أو من غلّة فأنا أحقّ به. ترى ذلك له، وقد جعله للّه يكون له في حياته فإذا هلك الرجل يرجع ميراثاً أو يمضي صدقة؟ قال: «يرجع ميراثاً على أهله»(1). لا إشكال في سند هذه الرواية؛ لثبوت وثاقة رجالها كلّهم.

ووقوع محمّد بن سنان في أحد الطريقين لا يضرّ بصحّة سندها؛ نظراً إلى صحّة الطريق الآخر الذي روى فيه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة والقاسم بن محمّد عن أبان عن إسماعيل. وللشيخ إلى الحسين بن سعيد طُرق عديدة صحيحة.

********

(1) - تهذيب الأحكام 607/146:9؛ وسائل الشيعة 177:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 3، الحديث 3.

ص: 201

نعم، نقل الشهيد عن القائلين بالبطلان المناقشة في سندها بقوله: «والرواية الخاصّة في طريقها أبان. والظاهر أنّه بن عثمان وحاله معلوم»(1).

وهذه المناقشة في غير محلّه؛ لأنّ أبان بن عثمان من أصحاب الإجماع، مع أنّ طعن ابن فضّال فيه بأ نّه كان ناووسياً(2)، مردود بأنّ ابن فضّال نفسه فطحي ولا يقبل طعنه، كما قال صاحب المنتقى، مع أنّ لفظ «كان» مشعر بالزوال في آخر عمره، مضافاً إلى عدم منافاة فساد العقيدة مع الوثاقة في الرواية.

وقد أجاد الشهيد في ردّ هذه المناقشة؛ حيث قال: «وأمّا أبان بن عثمان فقد اتّفقت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، فلا يقدح الطعن في مذهبه، كيف وقد انضاف إلى ذلك اتّفاق الأصحاب أو أكثرهم على العمل بمضمون حديثه. ومن ذلك يظهر بطلان حجّة المانع».

وكذا لا إشكال في تمامية دلالة هذه الصحيحة؛ لأنّ المراد بالصدقة الوقف بقرينة قوله: «إلى شيءٍ من مالي أو من غلّةٍ» فإنّ المقابلة بين الغلّة والمال ظاهرة في كون المتصدّق به أعمّ من الأرض بتحبيس رقبتها وتسبيل منفعتها، وهي الغلّة.

وهذا هو مقصود الشهيد من قوله: «والمراد بالصدقة في الرواية الوقف بقرينة الباقي»(3)؛ أي ذيل الرواية. ونظيره جاء في كلام المحقّق الكركي(4).

********

(1) - مسالك الأفهام 365:5.

(2) - قال في مجمع البحرين 120:4-121، والناووسية من وقف على جعفر بن محمّدالصادق عليهما السلام. أتباع رجل يقال له ناووس. قالت: إنّ الصادق عليه السلام حيٌّ لم يمت ولن يموت حتّى يظهر ويظهر أمره، وهو القائم المهدي. وحكى أبوحامد الزوزني أنّهم زعموا أنّعلياً مات وستنشقّ الأرض عنه من قبل يوم القيامة فملأ العالم عدلاً.

(3) - مسالك الأفهام 365:5-366.

(4) - جامع المقاصد 29:9.

ص: 202

نعم، ليس في نسحة الوسائل قوله: «أو من غلّةٍ»، وعليه فشموله للوقف أوضح.

لكنّه موجود في نسخة التهذيب بطريق صحيح، كما نقلناه.

وجه الدلالة أنّ التعبير بالرجوع في قوله عليه السلام: «يرجع ميراثاً إلى أهله»، ظاهر في تحقّق الوقف صحيحاً وخروج المال الموقوف عن ملك الواقف قبل الموت.

ومعناه أنّ الوقف بعد ما انعقد صحيحاً في مفروض السؤال - وهو شرط عود الوقف إلى الواقف عند احتياجه إليه - لمّا يصير ملكاً له عند عروض الاحتياج، فمن هنا لو هلك في هذا الحال يرجع الوقف ميراثاً له ولا يبقى على وقفيته، أو لحدوث الاحتياج بالموت؛ لأنّ الميّت فقير كما قال بعض. وذلك لوضوح عدم خصوصية لموت الواقف؛ إذ لا يصلح سبباً لدخول المال الموقوف في ملك الواقف بعد ما خرج عن ملكه بالوقف. فيعلم بقرينة السؤال ومناسبة الحكم والموضوع، أنّ الموت إمّا سبب الحاجة فيوجب انتفاء الشرط وبتبعه انتفاء المشروط - وهو الوقف - أو كان حدوثه بعد عروض الحاجة للوقف.

و بهذا التقريب يتمّ الاستدلال بهذه الصحيحة، كما قال الشهيد.

وقد استدلّ في الجواهر(1) بهذه الصحيحة وجعلها الأصل في هذه المسألة. وزاد في الاستدلال بصحيح آخر بنفس الطريق سيأتي ذكره.

ومن هذه الطائفة صحيحة اخرى لإسماعيل رواها الشيخ في التهذيب بطريقه عن الحسين بن سعيد عن القاسم بن محمّد وأبان عن إسماعيل بن الفضل عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «من أوقف أرضاً ثمّ قال: إن احتجت إليها، فأنا أحقّ بها، ثمّ مات الرجل، فإنّها ترجع إلى الميراث»(2).

********

(1) - جواهر الكلام 72:28.

(2) - تهذيب الأحكام 59/150:9.

ص: 203

وأشكل صاحب الحدائق(1) في دلالة الصحيحة السابقة وهذه الصحيحة على المطلوب بما حاصله: أنّ رجوعه ميراثاً يلائم مع الصحّة والبطلان كليهما، بل ظاهر في البطلان؛ لأنّ الأظهر كونه جواباً عن السؤالين معاً - وهما السؤال عن صحّة الشرط وعن حكمه بعد موت الرجل - فأجاب بذلك عن السؤال الثاني صريحاً وعن الأوّل تلويحاً؛ بمعنى أنّ رجوعه ميراثاً كناية عن عدم خروجه عن ملكه في حال حياته. ويؤيّده قوله: «وقد جعله للّه»؛ إذ ما كان للّه لا رجعة فيه، فالأنسب

********

(1) - قال قدس سره: «وأمّا حديث إسماعيل بن الفضل فلا أعرف له دلالة على ما ادّعوه إن لم يكن بالدلالة على البطلان أشبه، وذلك فإنّ كلام السائل قد تضمّن السؤال عن شيئين أحدهما أنّ هذا الشرط هل يصحّ أم لا؟ وإليه أشار قوله في الخبر المذكور «أله ذلك وقد جعله للّه» والثاني أنّه ما حكمه بعد موت الرجل، والحال هذه أيرجع ميراثاً أم يبقى وقفاً، والجواب في الخبر إنّما وقع عن الثاني خاصّة، ولا ريب أنّ رجوعه ميراثاً كما أجاب به عليه السلام كما أنّه يصحّ مع صحّة الوقف، كما ادّعوه كذلك يكون صحيحاً مع البطلان، كما بقوله الخصم، بل هو أولى بالبطلان، بل هو الظاهر، فإنّ الأظهر أنّ الإمام عليه السلام جعل هذا الجواب جواباً عن السؤالين معاً، وإلّا فسكوته عن جواب السؤال الأوّل من غير وجه يدعوه إليه مشكل، وحينئذٍ فحكمه عليه السلام برجوعه ميراثاً متضمّن للجواب صريحاً عن السؤال الثاني وضمناً عن الأوّل، بمعنى أنّ رجوعه ميراثاً كناية عن كونه لم يخرج عن ملكه في حال حياته، ويؤيّده قوله وقد جعله اللّه.

وقد تقدّم في جملة من الأخبار «أنّ ما جعله اللّه لا رجعة فيه»، وحاصله: أنّه ليس له الرجوع بما ذكره لكونه قد جعله للّه سبحانه، بل هو باطل في حال حياته وموته، ورجوعه ميراثاً إنّما هو لذلك، لأنّ الحكم بصحّته في حال الحياة باطل، بما ستعرفه في حجّة القول الثاني.

ونحو هذه الرواية صحيحة إسماعيل الثانية المتقدّمة عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: من أوقف أرضاً ثمّ قال: إن احتجت إليها فأنا أحقّ بها، ثمّ مات الرجل فإنّها ترجع ميراثاً، فإنّ الظاهر أنّ رجوعها كاشف عن بطلان الوقف في حياته، وأنّ رجوعها ميراثاً إنّما هو لذلك.» راجع: الحدائق الناضرة 166:22-167.

ص: 204

بطلان الوقف لا رجوعه إليه بعد ما انعقد صحيحاً.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ مقتضى الجمع بين هذه الصحيحة وبين تلك المطلقات عدم جواز الرجوع فيما جُعل للّه على نحو المطلق من غير شرط، بخلاف ما اعطى للّه مشروطاً بعدم الحاجة إليه كما في المقام. وأمّا رجوعه ميراثاً فلا يستلزم بطلانه من أوّل الأمر؛ إذ من الجائز كون الموت بنفسه حاجة؛ إذ الميّت فقير وبحاجة إلى أداء ديونه وأداء ما عليه من الواجبات من حجٍّ أو قضاء صلاة أو صوم، كما يظهر ذلك من المحقّق الكركي؛ حيث قال: «إنّ الحاجة تتحقّق بالموت فإنّ الميّت فقير»(1).

كما أنّه من الممكن أيضاً بطلانه بمجرّد عروض الحاجة. وإن شئت فقل: إنّه ينقلب ملكاً له بمجرّد عروض الحاجة في حال حياته بمقتضى الشرط المزبور.

ومن أجل صيرورته ملكه حال حياته، يرجع ميراثاً بعد ممّاته.

ويشهد لذلك أنّ موت الواقف لا دخل له في بطلان الوقف بضرورة الشرع. فما جاءَ في ظاهر الصحيحة الثانية من تفريع بطلان الوقف ورجوعه ميراثاً على موت الواقف ممّا لا يمكن الالتزام به. وعليه فلو كان المقصود بطلان الوقف من أوّل إنشائه لأجل الشرط المزبور، لم يكن وجهاً لتعليق البطلان وتخصيصه بموت الواقف، كما يظهر من كلام الإمام عليه السلام في الصحيحة الثانية. فيُعلم بذلك وبقرينة مناسبة الحكم والموضوع وارتباط الجواب بالسؤال، أنّ موته لأجل وقوعه بعد عروض الحاجة أو كونه بنفسه سبباً للحاجة موجباً لرجوعه ميراثاً، وإلّا لم يكن وجهاً لما جاء في كلام الإمام عليه السلام، من إناطة بطلان الوقف بموت الواقف، كما هو واضح.

فلا بدّ إمّا من فرض وقوع موت الواقف بعد عروض حاجته، أو الالتزام بكون

********

(1) - جامع المقاصد 29:9.

ص: 205

الموت نفسه سبباً لعروض الحاجة، كما قال المحقّق الكركي.

وبعبارة اخرى: لا ريب في عدم بطلان الوقف بلا دليل. والموجب لبطلانه في مفروض الكلام إمّا انتفاء الشرط، أو موت الواقف.

ولا ريب في عدم دخل الموت بعنوانه في بطلان الوقف.

فيتعيّن موجب البطلان في انتفاء الشرط بعروض الحاجة. وهذا قرينة قطعية على أنّ الموت إمّا حدث بعد عروض الحاجة، أو فُرض كون حدوثه بنفسه سبباً للحاجة بأن لم يكن للواقف مالاً غير الموقوف أو لا يفي سائر أمواله لأداءِ ديونه وقضاء واجباته المالية بعد موته. وهذا الاحتمال الثاني هو الملائم لمفروض الكلام في الصحيحة؛ حيث فرض فيها أنّ الرجل تصدّق ببعض ماله. وعلى ذلك ينبغي حمل كلام المحقّق الكركي، وإلّا فالميّت إذا كان له مال آخر غير الموقوف، وافياً بديونه وواجباته المالية بعد الموت لا يكون فقيراً. وأمّا قوله عليه السلام: «يرجع ميراثاً» فلا دلالة له على كون حاجة الميّت بإرث أهله، بل إنّما المراد منه رجوع الموقوف إلى ملك الواقف الميّت وبطلان الوقف بذلك، نعم لا خصوصية لفرض الموت إلّا عروض حاجة الواقف به، ولكنّه على النحو الذي بيّنّاه.

وقد أجاب عنه في العروة بقوله: «وفيه أنّه يمكن أن يكون المراد من الخبرين أ نّه إذا شرط ذلك ثمّ حصلت الحاجة وعاد إليه ثمّ مات، يرجع ميراثاً ولا يبقى وقفاً، وحينئذٍ يكون دليلاً على الصحّة. ولذا استدلّ بعضهم بهما على القول الأوّل.

ويؤيّده التعبير بالرجوع. فإنّه ظاهر في أنّه قبل ذلك كان وقفاً، وإلّا فعلى القول بالبطلان، يكون من الأوّل له، ولم يخرج عن ملكه حتّى يرجع اليه بالحاجة»(1).

********

(1) - العروة الوثقى 306:6.

ص: 206

ثمّ احتمل في العروة إرادة أحقّية الواقف عند الحاجة مع البقاء على الوقفية، وهو لا يبعد، لكنّه خارج عن مفروض الكلام.

قال قدس سره: «مع أنّه يمكن أن يكون المراد البطلان إذا أراد كونه أحقّ به مع بقائه على الوقفية. وحينئذٍ لا دخل لهما بمسألتنا، وهي خروجه عن الوقفية وعوده ملكاً. ويؤيّده قوله: «أو من غلّته» - على ما نقله صاحب المسالك - فإنّه ظاهر في أنّ مراده الأحقيّة مع البقاء على الوقفية».

ظاهره إحداث احتمال بطلان الوقف المشروط بشرط ثبوت حقّ الانتفاع من الموقوف للواقف عند عروض الحاجة مع بقاء الوقف، لا اشتراط عود الوقف إلى ملكه وبطلانه بذلك كما هو المعنون في متن المسألة.

ولكن بطلان الوقف المشروط بهذا المعنى أيضاً منافٍ لظاهر التعبير بقوله عليه السلام:

«يرجع ميراثاً»، كما ردّ بذلك صاحب العروة بطلان الوقف المشروط بالمعنى المعنون في متن المسألة.

وعلى أيّ حال تفسير الاشتراط بهذا المعنى خارج عن المقام ولا ربط له بهذه المسألة؛ إذ الكلام في اشتراط العود إلى الواقف، لا اشتراط ثبوت حقّ الانتفاع له عند الحاجة مع بقاءِ الوقف، فإنّه خارج عن محلّ الكلام، سواءٌ قلنا ببطلانه أو صحّته بقرينة «يرجع».

الوجه السابع: - من الوجوه المستدلّ بها لصحّة الوقف في مفروض الكلام - أنّ الوقف كالإجارة من حيث إنّهما كليهما تمليك المنافع، فيجوز فيه شرط الخيار كالإجارة، كما أشار إليه الشهيد بقوله: «ولأنّ الوقف تمليك للمنافع، فجاز شرط الخيار فيه كالإجارة»(1).

********

(1) - مسالك الأفهام 365:5.

ص: 207

وهذا الاستدلال يمكن المناقشة فيه بأنّ الوقف من قبيل الصدقة ويكون للّه، فيدخل في إطلاق قوله عليه السلام: «ما جعل للّه عزّ وجلّ فلا رجعة فيه»(1). وإطلاقه يشمل مطلق الرجعة سواءٌ أكان بالشرط أم لا. ومن الواضح أنّ هذا الإطلاق الوارد في خصوص الصدقات محكّم على إطلاق: «المؤمنون عند شروطهم» وعلى إطلاق سائر أدلّة شرط الخيار. ولو كان هذا الوجه صالحاً للاستدلال به، لكان عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» أصلح وأوجه منه، وقد عرفت ردّ الاستدلال به بدلالة النصّ الخاصّ الوارد في المقام، فضلاً عن هذا الوجه.

الاستدلال على البطلان الوقف

استُدلّ لبطلان الوقف من أصله في مفروض الكلام بوجوهٍ:

1 - إنّ الشرط المذكور منافٍ لمقتضى عقد الوقف الذي هو التأبيد والدوام.

وأشكل عليه في العروة(2) بأنّ الشرط المذكور مخالف لمقتضى إطلاق عقد الوقف، لا لمقتضى عقد الوقف نفسه. مقصوده أنّه مخالف لمقتضى إنشاء عقد الوقف مطلقاً من غير قيد؛ بمعنى أنه لمّا لم يقيّد صيغة الوقف بقيد، يقتضي ذلك استمرار الوقف ودوام بقائه، ولا ينافي ذلك تقييده بقيدٍ، مثل عروض الحاجة، فيكون الوقف حينئذٍ من قبيل منقطع الآخر.

ويمكن الجواب عن ذلك بأ نّه لو كان كذلك، لصحّ توقيت الوقف بمدّة مع أنّ الأصحاب - ومنهم صاحب العروة - تسالموا، بل أجمعوا على بطلانه. اللهمّ إلّاأن يقال: إنّهم إنّما حكموا بذلك لأجل الإجماع، لا لمقتضى القاعدة.

********

(1) - وسائل الشيعة 204:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 1.

(2) - العروة الوثقى 307:6.

ص: 208

والجواب الصحيح: أنّه ورد النصّ الخاصّ في خصوص المسألة ولا بدّ من التعبّد بمضمونه.

2 - إنّ الشرط المذكور يرجع إلى الوقف على النفس.

وردّه في العروة بأنّ مقتضى الشرط في المقام زوال أصل الوقفية عند عروض الحاجة، لا ثبوت استحقاقه مع بقائه على الوقفية، كما في الوقف على النفس؛ لأنّه في فرض تحقّق الوقف والبقاء على الوقفية.

3 - إنّه يرجع إلى التعليق في إنشاء عقد الوقف، فهو مبطل؛ نظراً إلى اشتراط التنجيز في صحّة الوقف، كما سيأتي.

وردّه في العروة بأنّ التعليق المبطل إنّما هو التعليق في أصل العقد. وفي المقام إنّما عُلّق بقاءُ الوقف ودوامه، لا أصل الوقفية.

4 - إنّه منافٍ لإطلاق ما دلّ على عدم جواز الرجوع في الصدقة؛ إذ يشمل بإطلاقه الرجوع بالاشتراط المزبور.

وردّه في العروة بأنّ الشرط المذكور تحديد لمقدار بقاء الصدقة. وإنّما الممنوع هو الرجوع عن الصدقة حال كونها صدقة، لا بعد انتفاء عنوانه بانتفاء شرطها وزوال أمدها. مع أن الوقف إذا لم يكن بقصد القربة لا يكون صدقة، فهذا الوجه أخصّ من المدّعى.

وفيه: إطلاق منع الرجوع في الصدقات، لا إشكال في شموله الرجوع بالاشتراط المذكور. ولا ينثلم بالشرط المذكور؛ لأنّه باختيار الواقف، فهو جعل بذلك لنفسه حقّ الرجوع في الحقيقة.

وأمّا ما جاءَ في كلام السيّد اليزدي، من أخصّية هذا الوجه عن المدّعى، فيرد عليه أنّه فرع كون المدّعى مطلق الوقف، ولكنّه ليس كذلك؛ حيث يكفي في تمامية

ص: 209

هذا الاستدلال بطلان الوقف في الجملة بالشرط المذكور، مع أنّ الغالب في الوقوف كونها بقصد القربة، بل الأقوى اعتبار قصد القربة في الوقف، كما سبق البحث عن ذلك في بعض المسائل السابقة.

والعمدة في الجواب عن هذا الوجه: تحكيم صحيحة إسماعيل بن الفضل على إطلاق منع الرجوع في الصدقة والجمع بينهما بما سبق منّا آنفاً.

5 - إنّه يرجع إلى شرط الخيار ولا يجري في الوقف خيار الشرط ولا خيار الاشتراط.

وردّه في العروة بأنّ الذي لا يجري في الوقف - من شرط الخيار - ما كان غايته ثبوت الخيار له في الفسخ وعدمه. ولكن مقتضى الشرط في المقام زوال أصل الوقفية وعود الوقف إلى ملك الواقف بانتفاء الشرط.

ويمكن المناقشة في كلام صاحب العروة: بأنّ عدم جريان شرط الخيار في الوقف - حتّى بالمعنى الذي فسّره - أوّل الكلام، بل مقتضى كون الوقف تمليك المنفعة كالإجارة، جواز شرط الخيار فيه، كما سبق في كلام الشهيد.

ولكنّ الإشكال الأساسي الوارد على الوجه المزبور ما ناقشنا به في الوجه السادس من كلام الشهيد، من تحكيم إطلاق منع الرجوع في الصدقات على إطلاق دليل جواز شرط الخيار في العقود.

6 - الاستدلال بصحيحة إسماعيل بن الفضل على بطلان الشرط المزبور بالتقريب الذى نقلناه عن صاحب الحدائق(1)؛ من أنّ مقصود الإمام عليه السلام من قوله:

«يرجع ميراثاً على أهله» إنّما هو رجوعه ميراثاً لأجل بطلان الوقف وعدم خروجه

********

(1) - الحدائق الناضرة 166:22-167.

ص: 210

عن ملك الواقف حال حياته. فأشار الإمام عليه السلام إلى بطلان هذا الوقف تلويحاً، بقوله المزبور. وهذا مراد صاحب العروة من قوله: «فإنّ حكمه عليه السلام بالرجوع إلى الميراث - بعد السؤال عن صحّة هذا الشرط وعدمها وعن رجوعه ميراثاً وعدمه، إذا شرط هذا الشرط في الخبر الأوّل وبالرجوع إليه في الخبر الثاني بقول مطلق من غير سبق سؤال - ظاهر في بطلانه»(1).

ولكن عرفت المناقشة في هذا الوجه بما بيّنّاه في الجواب عن مناقشة صاحب الحدائق في الاستدلال بالصحيحة المزبورة في بيان الوجه الخامس من وجوه الاستدلال لصحّة الوقف في محلّ الكلام.

أمّا القول بالصحّة حبساً، فقد استدلّ له في جامع المقاصد بدلالة صحيحة إسماعيل على الصحّة، وبضميمة العلم باعتبار التأبيد والدوام في الوقف، بدعوى:

أ نّه لامناص حينئذٍ من القول بالصحّة حبساً.

فإنّه بعد الاستدلال لذلك بالصحيحة المزبورة ونقلها، قال: «والمراد بالصدقة في الرواية: الوقف بدليل باقيها، فيكون دليلاً على الصحّة. وحيث علم أنّ الوقف لا بدّ فيه من التأبيد، فلا يكون ذلك إلّاحبساً، فلا يخرج عن ملك المالك، بل يورث عنه بعد موته»(2).

وقد ناقش صاحب العروة في ذلك؛ بأنّ عمدة هذا الوجه دعوى اعتبار الدوام في الوقف، لكنّه ممنوع، مع أنّ الحبس خلاف قصد الواقف. ومن هنا حكموا ببقائه على الوقفية إذا لم يعرض الحاجة.

قال قدس سره: «وأمّا القول بالصحّة حبساً، فلا وجه له، إلّادعوى اعتبار الدوام في

********

(1) - العروة الوثقى 306:6.

(2) - جامع المقاصد 29:9.

ص: 211

الوقف، وقد عرفت منعه. مع أنّ المفروض إنّه قصد الوقفية، فلا وجه لجعله حبساً، بل لا بدّ على قولهم ببطلانه مع عدم الدوام، بناءً على كون الوقف تمليكاً»(1).

والجواب الصحيح - بناءً على ما سلكناه من أخذ الدوام في ماهية الوقف ومفهومه - أنّ المناقض لدوام الوقف إنّما هو الرجوع بعد انعقاد الوقف صحيحاً وبعد تماميته، لا انتفائه وبطلانه بانتفاء ما شرطه الواقف فيه حين إنشاء الوقف؛ حيث لم ينعقد الوقف في الخارج عن شرط الواقف وقصده. وما لا حدوث له، لا يُتصوّر له دوام وبقاءٌ حتّى ينقض بالرجوع. وعليه فشرط الواقف لا ينافي دوام الوقف، وإلّا لأصبح عموم «الوقوف على حسب...» لغواً بلا مورد.

مقتضى التحقيق

وقد اتّضح من ضوء ما بيّنّاه من الوجوه وما يرد عليها من المناقشات، أنّ الأقوى في المقام قول المشهور، من صحّة الوقف ورجوعه إلى ملك الواقف عند عروض الحاجة.

وعمدة الدليل على ذلك وجهان:

أحدهما: عموم قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها».

ثانيهما: صحيحتا إسماعيل بالتقريب المتقدّم، مؤيّداً برأي المشهور.

وبقي هاهنا نكتة: وهي وجه التوفيق وكيفية الجمع بين عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» وبين عموم «ما كان للّه لا رجعة فيها».

وذلك لأنّه بناءً على اعتبار قصد القربة في الوقف، يقتضي عموم الثاني - بدلالة النكرة في سياق النفي - عدم جواز الرجوع في الوقف بأيّ نحو كان، سواء كان

********

(1) - العروة الوثقى 307:6.

ص: 212

بالرجوع عن الوقف الصحيح، بفسخ أو إقالة، أو كان بإيجاد سببه، من اشتراط العود والرجوع عند الحاجة فيُثبت بذلك حقّ الرجوع لنفسه عند انتفاء الشرط.

فعموم النصّ الثاني يشمل المقام، ومقتضاه البطلان. كما أنّ عموم الدليل الأوّل يشمل المقام أيضاً؛ لأنّ معناه نفوذ الوقف وصحّته بأيّ نحو وشكل رسمه الواقف.

ومقتضاه صحّة الوقف ما لم يعرض الحاجة.

ومقتضى القاعدة في الجمع بينهما تأويل الرجوع وحمله على ما إذا لم يبطل الوقف بتخلُّف القيد الذي شرطه الواقف في الوقف، كما في المقام.

هذا، مضافاً إلى شمول عموم الدليل الثاني لمطلق الصدقة وقفاً كان، أو غيره، فيقبل التخصيص في الوقف. وعليه فلو شرط شيئاً وتخلّف، جاز له الرجوع لأجل بطلان الوقف بتخلّف الشرط. ولا ينافي ذلك عموم: «ما كان للّه لا رجعة فيه».

والشاهد لما قلنا صحيح صفوان ومعتبرة الأسدي(1)؛ حيث ورد فيهما المنع من الرجوع في غير صورة الاشتراط، كقوله عليه السلام: «وكلّ ما سُلّم فلا خيار». فاتّضح بذلك أنّ ما أجاب به صاحب العروة في الجواب عن الوجه الخامس في غاية المتانة.

ومحصّل الكلام الذي يقتضيه التحقيق، أنّه يمكن التوفيق بين العامّين المزبورين بوجهين:

1 - تخصيص عموم «ما كان للّه لا رجعة فيه»(2) بعموم «الوقوف على حسب...»(3). فالنتيجة حينئذٍ عدم جواز الرجوع في الوقف، إلّاإذا شرط الواقف

********

(1) - وسائل الشيعة 180:19 و 182، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 4 و 8.

(2) - وسائل الشيعة 204:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 1.

(3) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 213

قيداً في متن إنشاء الوقف، فيجوز الرجوع عند تخلّف ذلك القيد، كما أفتى به العروة بقوله: «نعم لو اعتبر قيداً في الموقوف عليه وتخلّف جاز الرجوع». وعلى ذلك حمل كلام الشيخ المفيد في المقنعة بقوله: «وعلى ما ذكرنا يُحمل ما عن المفيد قدس سره من جواز الرجوع»(1) والمقصود من الرجوع حينئذٍ معناه اللغوي؛ أي رجوع المالك إلى ماله عند بطلان الوقف.

2 - إنّ الرجوع إنّما يصدق فيما إذا انعقد الوقف صحيحاً وتمّ قبل الرجوع، دون ما إذا كان باطلاً.

إن قلت: فكيف استشهد صاحب العروة بكلام الإمام عليه السلام: «يرجع ميراثاً» في صحيحة سليمان لدلالتها على صحّة الوقف المشروط بعوده إلى الواقف عند الحاجة؛ بدعوى ظهور قوله «يرجع» في صحّة الوقف وتماميته سابقاً؟ حيث قال:

«ويؤيّده التعبير بالرجوع، فإنّه ظاهر في أنّه قبل ذلك كان وقفاً»(2) أي صحيحاً تامّاً.

قلت: المقصود هنا رجوع الوقف؛ أي صيرورته ميراثاً بعد ما كان وقفاً، لا رجوع الواقف.

وعليه فلا يصدق رجوع الواقف عن الوقف في المقام بعروض الحاجة وبطلان الوقف وعود الموقوف إلى ملك الواقف.

وبناءً على هذا الأساس لا يكون موارد نطاق عموم «الوقوف على حسب...» من قبيل الرجوع، وإنّما الرجوع فيما إذا رجع الواقف عن الوقف - بعد انعقاده وتماميته - بفسخ أو إقالة.

فعلى ضوء هذا البيان يرتفع التنافي البدوي بين العامّين المزبورين.

********

(1) - العروة الوثقى 290:6.

(2) - العروة الوثقى 305:6.

ص: 214

كلام محقّق القمي في المقام

ثمّ إنّ المحقّق القمي - بعد ما اختار الصحّة حبساً في المسألة - حَكَمَ بأ نّه يرجع بالموت إلى الورثة، وإن لم تتحقّق الحاجة. وظاهره بطلان الوقف - المشروط فيه العود عند الحاجة - بمجرّد موت الواقف؛ بمعنى أنّ لموته دخلاً في بطلان الواقف حينئذٍ. وقد أسند ذلك إلى جماعة من العلماء.

ووجّهه في العروة بأنه لعلّ نظره إلى أن لفظ الرجوع في الخبرين، وإن كان ظاهراً في عدم كونه ملكاً قبل حصول الحاجة، إلّاأنّ إطلاق قوله عليه السلام: «يرجع ميراثاً على أهله»، يقتضي رجوع الوقف ميراثاً في مفروض السؤال بمجرّد موت الرجل مطلقاً، سواء عرضت الحاجة أم لا.

وجعل في العروة هذا التوجيه احتمالاً رابعاً في تفسير الخبرين، بلا فرق بين حملهما على الصحّة وقفاً أو حبساً.

ثمّ ردّه(1) بأ نّه لا وجه لرجوعه ميراثاً قبل عروض الحاجة؛ لأنّه بناءً على دلالة الخبرين على الصحّة، يلزم اختصاص الرجوع إلى الميراث بما إذا عرضت الحاجة ثمّ مات، لا مطلقاً.

********

(1) - وإليك نصّ كلامه، قال: «لكن ذكر المحقّق القمي في أجوبة مسائله بعد اختيار كونه حبساًأ نّه يرجع بالموت إلى الورثة وإن لم تتحقّق الحاجة، وأسنده إلى جماعة من العلماء. وفيه: إنّه لا وجه لرجوعه ميراثاً مع عدم حصول الحاجة. ولعلّ نظره إلى إطلاق الخبرين بعد استظهار صحّة الشرط، وأ نّه قبل حصول الحاجة لا يكون ملكاً له بشهادة لفظ الرجوع، وهو مشكل، بل اللازم بناءً على دلالة الخبرين على الصحّة تخصيص الرجوع إلى الميراث بما إذا حصلت الحاجة ثمّ مات، لا مطلقاً. ولا يخفى: أنّ هذا الوجه احتمال رابع في الخبرين سواء حملناهما على الصحّة وقفاً أو حبساً، راجع: العروة الوثقى 308:6.

ص: 215

والوجه في الملازمة أنّ القول بصحّة الاشتراط المزبور مستلزم لنفوذ الشرط.

ومعنى نفوذه صيرورة الوقف ملكاً له بعروض الحاجة، ولازم ذلك رجوعه إلى الميراث لو مات الرجل حال فقره. وهذا هو الموافق للذوق السليم والمتفاهم العرفي والمساعد لما يستفاد من سياق هاتين الصحيحتين سؤالاً وجواباً، دون الذي فهمه صاحب القوانين.

ثمّ إنّه وقع الكلام في أنّه على القول بالصحّة، هل يصير الوقف ملكاً طلقاً للواقف عند حصول الحاجة، أو منوط بإرادته؟

فقد يقال: بأ نّه على القول برجوع الشرط المذكور إلى اشتراط الخيار عند عروض الحاجة، ينوط رجوع الوقف إلى ملك الواقف بإرادته، وإلّا يصير ملكاً له بمجرّد عروض الحاجة.

مقتضى التحقيق: رجوعه إلى ملكه بمجرّد عروض الحاجة. وذلك لما سبق آنفاً من أنّه مقتضى صحّة الاشتراط في مفروض سؤال الراوي، بل يدلّ عليه قوله عليه السلام:

«يرجع ميراثاً على أهله»؛ لأنّه كاشف عن رجوع الوقف، إلى ملكه بمجرّد عروض الحاجة بعد خروجه عنه بالوقف وإلّا لم يصر ميراثاً لأهله بعد موته.

والحاصل: أنّ مقتضى التحديد المستفاد من سؤال الراوي، وبتبعه من جواب الإمام عليه السلام، رجوعه إلى ملكه بمجرّد عروض الحاجة، من دون إناطة باختيار الواقف وقصد تملّكه.

هذا مع أنّ الإناطة بإرادته لا يلائم إلّاثبوت خيار الشرط، وإنّ ثبوته في الوقف خلاف المتسالم بين الأصحاب، ولم أره في غير كلام الشهيد. وقد عرفت جوابه.

وقد أجاد في العروة في ردّ ذلك؛ حيث قال: «ثمّ إنّ القائلين بالصحّة اختلفوا في

ص: 216

أ نّه عند حصول الحاجة يعود ملكاً له مطلقاً، أو إذا أراد ذلك على قولين؟ والأقوى الأوّل كما أشرنا إليه؛ لأنّه مقتضى التحديد المذكور، مع أنّه على الثاني يكون من باب خيار الشرط، والظاهر إجماعهم على عدم جريانه في الوقف، إلّاأن يقال: إنّ هذا المورد خرج بالنصّ»(1). وقد عرفت ظهور النصّ في نفي ثبوت الخيار في مفروض المسألة.

تنبيه: ثمّ إنّ في المقام نكتتين أشار إليهما في العروة(2):

إحداهما: أنّه لا فرق بين جعل الغاية عروض الحاجة في الاشتراط المزبور وبين جعلها غير ذلك، كما هو واضح؛ لعدم احتمال خصوصية لمورد السؤال في الصحيحتين، بل لو لم يرجع الشرط إلى نفع الواقف أولى بالشمول.

ثانيهما: أنّ المدار في الحاجة إلى الوقف نظر أهل العرف. فلو صدق عُرفاً أنّه احتاج إليه، ترتّب عليه الحكم. ولا يعتبر فيها صدق عنوان الفقير المستحقّ للزكاة؛ لأنّ مورد السؤال حاجته إلى الوقف لا الحاجة مطلقاً.

********

(1) - العروة الوثقى 308:6.

(2) - حيث قال: ثمّ بناءً على ما ذكرناه من الصحّة وقفاً بمقتضى القاعدة لا فرق بين أن يجعل الغاية هي الحاجة أو غيرها؛ كما إذا قال: وقفت على الفقراء وإن قدم زيد فأنا أحقّ به. ونحو ذلك، ثمّ إنّ المدار في الحاجة إذا أطلقها هو العرف وإن عيّن كيفية خاصّة تعيّنت، ولا وجه لما قيل من أنّها صيرورته إلى حدّ الاستحقاق الزكاة، ولا ما قيل من عدم مالكيته مقدار قوت يوم وليلة، والمناط صدق الحاجة إلى العين الموقوفة لا الحاجة مطلقاً فقد لا يكون محتاجاً في حدّ نفسه وليس له شيء إلّاأنّه يحصل له من الوجوه من غير مؤونة تعب أو منّة ففي نفسه محتاج لكن لا يصدق أنّه محتاج إلى الوقف وأخذ العين الموقوفة فهذا لا يكفي في العود ملكاً، راجع: العروة الوثقى 308:6.

ص: 217

(مسألة 22): يشترط في صحّة الوقف التنجيز على الأحوط (1)، فلو علّقه على شرط متوقّع الحصول - كمجيء زيد - أو على غير حاصل يقيني الحصول فيما بعد، كما إذا قال: «وقفت إذا جاء رأس الشهر»، بطل على الأحوط. نعم، لا بأس بالتعليق على شيء حاصل سواء علم بحصوله أم لا، كما إذا قال:

«وقفتُ إن كان اليوم جمعة» وكان كذلك.

اعتبار التنجيز في الوقف

1 - والمراد بالتنجيز عدم تعليق العقد على شرط أو وصف. وقد جرى اصطلاح الفقهاء على التعبير بالتعليق على الشرط، إذا كان المعلّق عليه محتمل الوقوع وبالتعليق على الوصف إذا كان المعلّق عليه محقّق الوقوع. كما قال في الحدائق:

«وأرادوا بالتنجيز ما تقدّم في كتاب الوكالة، من أن لا يكون معلّقاً بوصف لا بدّ من وقوعه، كطلوع الشمس، ومجيء رأس الشهر، وهو باصطلاحهم تعليق على الصفة، وأن لا يكون معلّقاً على ما يحتمل الوقوع وعدمه، كمجيء زيد مثلاً، ويسمّى بالمعلّق على شرط»(1).

ونظيره في المسالك(2) وقال المحقّق الكركي: «والمراد بالشرط: ما جاز وقوعه وعدمه بالنسبة إلى العادة، والصفة ما كان محقّق الوقوع عادةً»(3).

ثمّ إنّ المشهور بين المتأخّرين اشتراط التنجيز في صحّة الوقف، كما قال في

********

(1) - الحدائق الناضرة 142:22-143.

(2) - مسالك الأفهام 357:5.

(3) - جامع المقاصد 15:9.

ص: 218

الحدائق بل يظهر ذلك من المحقّق في الشرائع وصرّح به العلّامة في القواعد(1)، وقال في المسالك: «واشتراط تنجيزه مطلقاً موضع وفاق كالبيع وغيره من العقود، وليس عليه دليل بخصوصه»(2)، بل قال في الجواهر: «بلا خلاف ولا إشكال، بل الإجماع بقسميه عليه»(3).

وعلى أيّ حال تحصيل الإجماع في ذلك مشكل؛ لعدم تعرّض أكثر القدماء إلى اشتراط هذا الشرط، كما قال في الحدائق:

«وهذا الشرط لم أقف عليه في جملة من كتب المتقدّمين، منها: كتاب النهاية للشيخ والمبسوط، وكتاب السرائر لابن إدريس، وكذا المقنعة للشيخ المفيد، فإنّه لم يتعرّض أحد منهم لذكره في الكتب المذكورة، مع أنّه لا نصّ عليه فيما أعلم»(4).

والمبنى الاُصولي لذلك أنّ معقد الإجماع تارة: يكون مبتلى بمخالفة جماعة من الفقهاء، ولا سيّما القدماء منهم، بأنّ يتعرّضوا لمصبّ الإجماع ويُفتوا بخلافه. فلا إشكال حينئذٍ في عدم إمكان تحصيل الإجماع في ذلك؛ لإحراز مخالفة جماعة من الفقهاء.

واُخرى: لم يتعرّض جماعة من القدماء - الذين هم الأصل في الإجماع - لمعقد الإجماع. فحينئذٍ لا يمكن إحراز مخالفتهم؛ بل ذلك من المحتمل.

ولكن يشكل تحصيل الإجماع في الصورة الثانية أيضاً؛ نظراً إلى توقّف تحصيله على إحراز موافقة الجميع، ومع احتمال مخالفة جماعة من الفقهاء، ولا سيّما

********

(1) - قواعد الأحكام 288:2.

(2) - مسالك الأفهام 357:5.

(3) - جواهر الكلام 62:28.

(4) - الحدائق الناضرة 142:22.

ص: 219

رؤوس القدماء - كما في المقام، يشكل تحصيل الإجماع في مثل ذلك.

وعلى ضوء هذا البيان تبيّن المبنى الاُصولي لمخالفة صاحب الحدائق للإجماع في المقام.

هذا، مضافاً إلى تمسّك بعض الفقهاء بوجوه - سيأتي بيانها - يُحتمل كونه مدركهم في تسالمهم على اشتراط التنجيز في الوقف هذا حال الإجماع المدّعى في المقام.

وأمّا النصوص فلا دلالة لشيءٍ منها على اعتبار التنجيز في الوقف بالخصوص، كما اعترف بذلك في المسالك بقوله: «وليس عليه دليل بخصوصه». وكذلك اعترف بذلك في الحدائق بقوله: «مع أنّه لا نصّ عليه فيما أعلم»(1). ولا يخفى أنّ مقصوده عدم وجود نصٍّ خاصّ يدلّ على ذلك بالخصوص.

نعم، علّل لذلك في الجواهر بمنافاة التعليق لظاهر ما دلّ من النصوص على تسبيب الأسباب؛ نظراً إلى اقتضاء ظهورها في ترتّب آثارها حال وقوعها؛ حيث قال في تعليل ذلك؛ ردّاً على الشهيد:

«لما ذكرناه غير مرّة، من منافاة التعليق على متيقّن الحصول أو متوقّعه؛ لظاهر ما دلّ على تسبيب الأسباب المقتضي لترتّب آثارها حال وقوعها، فما في المسالك من عدم الدليل على ذلك في غير محلّه»(2).

والإنصاف يقضي عدم ورود إشكال صاحب الجواهر على الشهيد؛ لأنّه إنّما أنكر ورود النصّ في المقام بالخصوص. وأمّا ما أشار إليه في الجواهر من أدلّة تسبيب أسباب النقل، فلم يرد شيءٌ منها في خصوص المقام.

********

(1) - الحدائق الناضرة 142:22.

(2) - جواهر الكلام 62:28.

ص: 220

مقصوده من استدلاله المزبور، أنّ أدلّة تسبيب الأسباب الناقلة الشرعية - كقوله تعالى: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) (1) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) (3) ونحوها من أدلّة مشروعية سائر العقود - ومنها الوقف - إنّما دلّت على سببيتها للنقل وترتّب آثارها شرعاً حال وقوعها.

ويمكن بيان ذلك بتقريبين:

أحدهما: أنّ ظاهر الأمر بالوفاء في قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وظاهر تشريع حلّية البيع وجواز التصرّف في قوله تعالى: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) ، جعل العقود سبباً لترتّب آثارها - من النقل والملكية وجواز التصرّف - أي سبباً تامّاً مستتبعاً لترتّب الآثار، بلا انفكاك بين تحقّقها وبين آثارها.

والسرّ في ذلك ظاهراً: أنّ جعل شيء سبباً لشيءٍ ظاهرٌ في كونه سبباً تامّاً.

وذلك لأنّ الأسباب الشرعية وإن لا تكون عللاً تكوينية، بل هي معرّفات باعتبارها علامات كاشفة ومتعلّقات أو موضوعات معروضة لأحكامها، إلّاأنّ اعتبارها كذلك يقتضي عروض أحكامها وترتّب آثارها عليها حال وقوعها، من دون إنفكاك بينها وبين آثارها وأحكامها.

ويمكن المناقشة في هذا التقريب: بأنّ عموم «أوفوا بالعقود» يدلّ على وجوب الوفاء بمطلق العقود، سواءٌ كان معلّقاً أو منجّزاً. وذلك لأنّ الجمع المحلّى باللام يفيد العموم، واحتمال عهدية اللام خلاف الظاهر. ولأنّ وفاء كلٍّ من العقد المعلّق والمنجّز بحسبه. وعليه فأدلّة تسبيب الأسباب ظاهرة في الأعمّ من السبب التامّ

********

(1) - البقرة (2):275.

(2) - المائدة (5):1.

(3) - النساء (4):29.

ص: 221

- المقتضي لترتّب آثارها حال وقوعها - ومن السبب الناقص، كما في المعلّق.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ غلبة وجود العقود المنجّزة بين أهل العرف توجب انصراف العموم إلى الفرد الغالب. ولكنّه خلاف مقتضى التحقيق؛ لما بيّنّا في المجلّد الثاني من كتابنا «بدايع البحوث»، من أنّ غلبة الوجود غير صالحة للانصراف، إلّاإذا كانت موجبة لجريان عادة العرف؛ بحيث صار الفرد الغالب متعارفاً، كما في غسل الوجه من الأعلى إلى الأسفل.

وهذا غير حاصل في المقام؛ نظراً إلى عدم كون العقود المعلّقة خارجة عن المتعارف، بل هي أيضاً كالعقود المنجّزة شايعة بين أهل العرف.

أو يقال: بأنّ ألفاظ عناوين المعاملات - كالبيع والإجارة والهبة والصدقة والوقف - غلب استعمالها في المنجّزات منها، وهذا أيضاً دون إثباته خرط القتاد.

فلا دافع من العموم المزبور. ولعلّه لذلك لم يرتض صاحب العروة بتعليل صاحب الجواهر، وأشكل عليه بقوله: «نعم ادّعى صاحب الجواهر أنّ ظاهر ما دلّ على تسبيب الأسباب، ترتّب آثارها حال وقوعها. وهو أيضاً مشكلٌ»(1).

ثانيهما: توجيه آخر لاستدلال صاحب الجواهر، وهذا التوجيه لعلّه سالم عن المناقشة.

حاصله: أنّ نصوص سببية عناوين المعاملات ظاهرةٌ في حال تلبّسها بمبادئها؛ بمعنى أنّ قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ظاهر في جعل العقود أسباباً للنقل حال تلبّسها بالعقدية والبيعية والوقفية ونحو ذلك من العناوين المعاملية.

والوجه في ذلك ما قُرِّر في علم الاُصول من ظهور لفظ المشتقّ - لولا القرينة -

********

(1) - العروة الوثقى 297:6.

ص: 222

في خصوص المتلبّس في الحال. وقد فصّلنا في محلّه(1) بين المشتقّات باختلاف الموارد حسب اختلاف المتبادر منها عرفاً. وعناوين المعاملات من قبيل ما يكون ظاهراً في المتلبّس في الحال عند الإطلاق، بل يساعده التبادر. بل لا يبعد كون جميع ما يعتبر موضوعات أو متعلّقات للأحكام من هذا القبيل، ومن هنا يترتّب الحكم على الموضوع بمجرّد تحقّقه.

وأظنّ أنّ هذا التوجيه والتقريب خالٍ عن الإشكال.

وحاصل الكلام: أنّ أحسن الوجوه والتقاريب في اعتبار التنجيز وبطلان التعليق - بعد الإجماع والتسالم على ذلك - ظهور أدلّة تسبيب الأسباب في كونها مؤثّرات في آثارها حال وقوعها؛ نظراً إلى ظهور المشتقّ الاُصولي - كالبيع والشراء والتجارة والعقد والوقف والإجارة ونحو ذلك من العناوين المعاملية - في المتلبّس في الحال، دون ما انقضى عنه التلبُّس ولا ما سيتلبّس به في المستقبل. ومن هنا حكموا بصحّة التعليق على شيءٍ محقّق في الواقع ولو لم يعلم به العاقد، كما جاء في المتن.

وقد استدلّ لذلك في جامع المقاصد بعدم الجزم بالوقف عند التعليق، فكأ نّه أخذ اعتبار الجزم به في نيّة الواقف أمراً مسلّماً مقطوعاً. ولم يفرّق في ذلك بين الوقف وغيره؛ حيث قال: «فلو علّق بشرط أو صفةٍ... لم يصحّ؛ لعدم الجزم به، كما لايجوز تعليق البيع والهبة»(2).

وحاصل استدلاله: أنّ الجزم في نيّة العاقد يعتبر في صحّة العقود.

ووجه ذلك ظاهراً أنّ إجزاء صيغ العقود وإنشائها من قبيل الاُمور الإيجادية، لا الإخبارية.

********

(1) - راجع: بدايع البحوث في علم الاُصول 279:2.

(2) - جامع المقاصد 15:9.

ص: 223

والفرق بينهما أنّ بالإخبار لا يوجد شيء، بل إنّما يحكى عمّا وُجد وتحقّق قبل زمان الإخبار.

وهذا بخلاف الإنشاء، فإنّ المُنشأ لا وجود له قبل الإنشاء وإنّما يوجد بنفس الإنشاء. فإنّ البيع والهبة والإجارة والوقف وسائر عناوين المعاملات لا وجود لها بمعناها المسبّبي - الذي هو منشأ الآثار - قبل زمان الإنشاء، بل إنّما يوجد ويتحقّق بنفس الإنشاء.

والعاقد المُنشئ ما لم يكن له جزم في النيّة، لا يوجد بإنشائه العقد بمعناه المسبّبي ولا سائر عناوين المعاملات. والتعليق لمّا كان مانعاً عن الجزم في النيّة وموجباً للترديد، فمن هنا لا يصلح الإنشاءُ المعلّق لإيجاد العقد بمعناه المسبّبي المَنشأ للآثار ولأجل ذلك يبطل العقد المعلّق.

وفيه: أنّ هذا التعليل وإن كان متيناً لاغبار عليه إلّاأنّه أخصّ من المدّعى.

وذلك لأنّه وإن تمّ في المعلّق على الشرط؛ نظراً إلى كونه محتمل الوقوع.

واحتمال وقوعه يوجب التردّد في العقد ومانع عن التنجيز. ولكنّه لا يتمّ في المعلّق على الصفة.

وذلك لأنّ الجزم في النيّة لا ينافي التعليق على الوصف المحقّق الوقوع، بل يلائمه كما لا يخفى، والحال أنّ الأصحاب لم يفرّقوا بين النوعين من التعليق في الحكم بالبطلان.

وهاهنا تعليل آخر لذلك يُفهم من كلام المحقّق الكركي في استدلاله لبطلان الوقف المعلّق على موت الواقف.

حاصله: إنّ صحّة العقود إنّما تتوقّف على كونها أسباباً تامّة في إنشاء المعاملات المقصودة منها، وإلّا لا تترتّب عليها آثارها. وإنّ التعليق مُخلٌّ بتمامية سببيّتها.

ص: 224

قال في توجيه مبطلية التعليق: «وذلك يقتضي البطلان؛ لإخلاله بكون الصيغة سبباً تامّاً في حصول الوقف، بل يكون لحصول الموت دخل في ذلك. وذلك معنى التعليق، فيكون باطلاً؛ لأنّ العقود إنّما تصحّ إذا كانت سبباً تامّاً في إنشاء ما يطلب بها، وإلّا لم يترتّب عليها أثرها، وذلك هو معنى البطلان»(1).

هذا التعليل يرد عليه أنّ ما قاله عين الدعوى وأشبه بالمصادرة على المطلوب؛ لأنّ توقّف صحّة العقود على تمامية سببيّتها مجرّد دعوى ومحلّ الكلام؛ إذ الخصم ينكر هذا التوقُّف ويقول بصحّة الوقف المعلّق كالمنجّز. غاية الأمر صحّة كلّ منهما ووجوب وفائه إنّما هو بحسبه.

بيان هذا الإشكال أنّ الأسباب الشرعية معرّفات، فلا تجري فيها أحكام العلل التكوينية، من التمامية والنقصان وعدم انفكاك المعلول عن علّته التامّة ونحو ذلك.

بل شأن العلل الشرعية شأن المعرّفات والعلامات. وفي الحقيقة هي ما يعتبر قيداً أو شرطاً، أو متعلّقاً أو موضوعاً للأحكام. وإنّما المرجع في صدقها وتحقّقها هو نظر أهل العرف في عناوين المعاملات التي هي عناوين عرفية محضة.

فكلّ ما صدق عنوانها يترتّب عليها الحكم.

وفي المقام يدور ترتّب الآثار المعاملية على صدق عنوان العقد وسائر عناوين المعاملات في نظر أهل العرف. ولافرق في صدقها بين المعلّق والمنجّز منها في نظر أهل العرف.

ومن هنا يشملها عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) على حدّ سواء.

********

(1) - جامع المقاصد 37:9-38.

ص: 225

فاتّضح وجه المناقشة في استدلال المحقّق الكركي على ضوء ما بيّنّاه لك.

وتستفاد من هذا البيان ضابطة كلية ينفع في غير المقام، فاغتنمها.

وقد علّل في الحدائق لبطلان التعليق في الوقف مطلقاً - على الشرط أو على الوصف - بأنّ العقود الناقلة متلقّاة من الشرع. ولم يثبت كون الوقف المعلّق من هذا القبيل. والأصل عند الشكّ في خروج الملك عن ملك الواقف، بقاؤه على ملكه ما لم يثبت صحّة الوقف المعلّق بدليل شرعي.

قال قدس سره: «فلو وقع الوقف على هذه الكيفية، فيمكن القول بعدم الصحّة استناداً إلى أنّ العقود الناقلة متلقّاة من الشارع، ولم يثبت كون هذا منها، والأصل بقاء الملك لمالكه»(1).

و مرجع هذا الاستدلال إلى توقّف إثبات صحّة الوقف المعلّق - كسائر العقود الشرعية - على دلالة دليل شرعي؛ لأنّ العقود والمعاملات وإن كانت عقلائية، إلّا أنّ صحّتها ونفوذها شرعاً بحاجةٍ إلى إمضاء الشارع؛ لما علمنا من مذاقه أ نّه اعتبر فيها قيوداً من جانبه. ولم يدلّ دليل على إمضائها بما هي عليها عند العقلاء.

وحاصل مقصوده: دعوى انصراف نصوص مشروعية الوقف إلى الوقف المنجّز؛ لأ نّه المتيقّن من مدلولها، وهو المتبادر من عنوان الوقف دون الوقف المعلّق. وعليه فالوقف المعلّق لم يقم دليل على صحّته ونفوذه من جانب الشارع.

وقد استدلّ لصحّة الوقف المعلّق بما ورد عن العسكري عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(2).

********

(1) - الحدائق الناضرة 143:22.

(2) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 226

وجه الاستدلال ظهوره في انعقاد الوقف على حسب نيّة الواقف، معلّقاً كان أو منجّزاً. فإطلاق هذه الصحيحة يشمل الوقف المعلّق.

وقد ناقش فيه صاحب الحدائق بأنّ المتبادر من الخبر المذكور إنّما هو اعتبار قصد الواقف ونيّته بلحاظ إطلاق الوقف وتقييده والتشريك والانفراد والتساوي والتفضيل في الموقوف عليه والتأبيد والتحبيس ونحو ذلك، لا باعتبار التعليق والتنجيز.

قال: «لا يقال: إنّه يمكن القول بالصحّة نظراً إلى قوله عليه السلام «الوقوف على حسب ما يوقفها» لأنّا نقول: المتبادر من الخبر المذكور إنّما هو باعتبار العموم والخصوص، والتشريك والانفراد، والتساوي والتفضيل في الموقوف عليه والتأبيد والتحبيس ونحو ذلك لا باعتبار ما ذكر هنا»(1).

والمبنى الاُصولي لهذه المناقشة انصراف العامّ إلى بعض أفراده لأجل القرينة الصارفة. وذلك إمّا لغلبة الوجود وكثرة الابتلاء أو بقرينة سياق الكلام، أو لغلبة الاستعمال.

ولا إشكال في عدم تحقّق غلبة الاستعمال؛ نظراً إلى عدم إثبات كثرة استعمال لفظ الوقف في ما ذكره صاحب الحدائق.

وأمّا غلبة وجود ما ذكره من وجوه الاشتراط في الأوقاف؛ نظراً إلى كثرة الابتلاء بها، فلم يُعلم بلوغها إلى حدّ صارف لعموم العامّ المزبور.

نعم، يمكن دعوى قرينية سياق النصّ المزبور على انصراف العامّ إلى ما ذكره؛ نظراً إلى قرينة قوله: «على حسب ما يوقفها أهلها» على أنّ المراد بيان تبعية نفوذ

********

(1) - الحدائق الناضرة 143:22.

ص: 227

الوقف وشكله وحدّه وصورته مدار ما اشترطه ورسمه الواقف. والتعليق ليس من قبيل كيفية ترسيم الوقف باشتراط شيء فيه؛ لعدم تبادره إلى الذهن من ذلك.

وهذا الإشكال متين لا غبار عليه. ويبتني على قاعدة نافعة في باب مسألة عموم العامّ من علم الاُصول.

ولكن يمكن المناقشة بوجه آخر أمتن وأدقّ. وهو أنّ العامّ المزبور ناظر إلى الاشتراط، لا التعليق. والفرق بينهما أنّ الوقف المشروط إنّما ينشئُه الواقف مقيّداً ومشروطاً بقيد وشرط، ولكن لا ينفكّ التأثير عن إنشاء الوقف، بل ينعقد ويستمرّ ما دام لم يتخلّف القيد المشترط، بل مورد التخلّف لم يكن داخلاً في نطاق الوقف ولا في قصد الواقف من أوّل الأمر، ومن هنا ينتفي الوقف وينفسخ بتخلّف القيد. وفي الحقيقة يكون بقاءُ الوقف واستمراره - بعد انعقاده وتماميته وتأثيره - معلّقاً على الشرط.

وأمّا في التعليق فيكون أصل تأثير الوقف ونفوذه معلّقاً على تحقّق شرط أو وصف في المستقبل. ومن هنا يأتي حينئذٍ إشكال انفكاك الأثر عن السبب، وعدم الجزم بأصل الوقف في القيد المحتمل الحدوث، والإخلال بتمامية سببية الوقف، وهذا بخلاف الوقف المشروط.

والحاصل: أنّ المقصود من قوله: «الوقوف على حسب...» أنّ الوقف التامّ النافذ المؤثّر إنّما يكون في كيفية شكله ورسمه تابعاً لقصد الواقف وشرطه، فينعقد ويؤثّر من أوّل آن إنشائه بأيّ نحو قصده الواقف وبأيّ شكل رسمه. وليس المراد بيان صحّة مجرّد إنشاءِ الوقف بالصيغة منفكّاً عن آثاره بتعليقه على شيءٍ مستقبل الوقوع، بل محتمله.

ص: 228

(مسألة 23): لو قال: «هو وقف بعد موتي» فإن فهم منه أنّه وصيّة بالوقف صحّ، وإلّا بطل (1).

حكم ما لو قال: هذا وقف بعد موتي

1 - قال العلّامة في القواعد: «ولو قال: هو وقف بعد موتي احتمل البطلان؛ لأنّه تعليق والحكم بصرفه إلى الوصيّة بالوقف».

وقد جزم المحقّق الكركي بظهور هذه الصيغة في الوقف المعلّق على الموت وحكم ببطلانه؛ معلّلاً بأنّ صحّة العقود إنّما تتوقّف على كونها سبباً تامّاً في إنشاء المعاملة المقصودة، وإلّا لم يترتّب عليها أثرها. والتعليق يُخلّ بذلك.

قال قدس سره: «لا ريب أنّه لا يراد بهذه الصيغة الخبر قطعاً، فبقي أن يراد بها الإنشاء، وهي بنفسها إنّما يدلّ مطابقة على إنشاء الوقف بعد الموت بهذه الصيغة المأتيّ بها الآن وذلك يقتضي البطلان؛ لإخلاله بكون الصيغة سبباً تامّاً في حصول الوقف، بل يكون لحصول الموت دخل في ذلك، وذلك معنى التعليق فيكون باطلاً؛ لأنّ العقود إنّما تصحّ إذا كانت سبباً تامّاً في إنشاء ما يطلب بها، وإلّا لم يترتّب عليها أثرها وذلك هو معنى البطلان. ولا دلالة لها على الوصيّة إلّابتكلّف تقدير ما لا يدلّ عليه اللفظ، ولا يدلّ عليه دليل بأن ينزّل على أنّ المراد اريد جعله وقفاً بعد الموت، وارتكاب مثل ذلك تعسّف محض»(1).

وقد عرفت آنفاً في المسألة السابقة نقد استدلاله هذا، فراجع.

هذا، ولكن ذلك ما لم يُعلم مقصود الواقف من الصيغة المزبورة بأ نّه أراد منها

********

(1) - جامع المقاصد 37:9-38.

ص: 229

(مسألة 24): من شرائط صحّة الوقف إخراج نفسه عنه، فلو وقف على نفسه لم يصحّ (1)،

الوصيّة، وإلّا فلا إشكال في صحّة وقوعها وصيةً كما في حواشي الشهيد.

وإشكال المحقّق الكركي بأنّ مجرّد القصد لا تأثير له، غير وارد.

وذلك لأنّه لا ريب في صحّة الوصيّة بالوقف بالصيغة المزبورة، فلا مانع من وقوعها وصيّة إذا عُلم إرادة ذلك منها.

بل في الإيضاح إنّ الصيغة المزبورة أبلغ من قوله: «قفوا هذا بعد موتي» وقال العلّامة في القواعد: «أ نّها أولى بالوصيّة». وقد صرّح في المفتاح(1) - بعد نقل قول العَلَمين -: «بأنّ الوصيّة أصحّ».

اعتبار إخراج الواقف نفسه عن الوقف

اشارة

1 - لا خلاف في عدم صحّة الوقف على نفسه، كما صرّح بذلك في المسالك، بقوله: «لا خلاف بين أصحابنا في بطلان وقف الإنسان على نفسه»(2). ونظيره في الحدائق(3)، بل في المفتاح: «قد حكى في السرائر الإجماع على عدم صحّة الوقف على نفسه ونسبه في التذكرة إلى علمائنا»(4). وقد نقل في المفتاح عن كثير من الفقهاء نفي الخلاف في ذلك.

********

(1) - مفتاح الكرامة 47:9.

(2) - مسالك الأفهام 361:5.

(3) - الحدائق الناضرة 155:22.

(4) - مفتاح الكرامة 14:9.

ص: 230

ولم ينسب الخلاف إلّاإلى بعض العامّة، وإلى ابن الجنيد، مع النقاش في دلالة كلامه على ذلك، كما أشار إليه في المسالك والعروة(1).

فأصل الإجماع لا إشكال في تحقّقه بين أصحابنا، إلّاأنّه قد يشكل بأ نّه مدركي؛ نظراً إلى استدلال الأصحاب لذلك بمقتضى القاعدة العقلية ومدلول بعض النصوص. كما أشار إليه في المفتاح بقوله: «وقد استدلّ الأصحاب على ذلك بأ نّه لا يُعقل تمليك الإنسان نفسَه مالَ نفسه. والأصل فيه الأخبار والإجماع»(2).

ومن تتبّع في كلمات الفقهاء يجد استدلالهم في المقام بالقاعدة العقلية المزبورة وبالنصوص، كما ستعرف الآن.

ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ القدماء لم يثبت استنادهم في المسألة إلى وجه عقلي أو نقلي، ولم يُنقل ذلك عنهم.

فإنّ ابن إدريس أوّل من حكى الإجماع في المسألة، وهو لم ينقل عنهم الاستناد في ذلك إلى وجه آخر عقلي أو نقلي. وإنّما نشأ الاستدلال بالوجه العقلي من المحقّق الكركي، كما نشأ الاستناد إلى الوجه النقلي - ممّن تأخّر عنه. وأمّا مخالفة ابن الجنيد، فلم تثبت، مع عدم ثبوته.

ويؤكّد ما قلناه أوّلاً: عدم اعتناء قدماء الأصحاب بالوجوه العقلية في استنباط الأحكام الشرعية التوقيفية، مع ما أشكل على الوجه العقلي في المقام، كما ستعرف من صاحب العروة. فمن البعيد استنادهم إلى الوجه العقلي في المقام.

وثانياً: إنّ ما استدلّ به المتأخّرون من النصوص في المقام، قد نقله ودوّنه القدماء في جوامع أخبارهم وكتبهم الفقهية، ومع ذلك لم يستندوا إلى شيء منها في

********

(1) - العروة الوثقى 298:6.

(2) - مفتاح الكرامة 15:9.

ص: 231

المقام. فيعلم من ذلك عدم تمامية دلالة النصوص المستدلّ بها عندهم على المطلوب، وإلّا لاستندوا إليها في المقام. هذا، مع ما في دلالة النصوص من المناقشة، بل في أصل ارتباطها بالمقام كلام، كما سيأتي.

ولأجل ما قلناه ينفي احتمال استنادهم في المقام إلى ما سيأتي من الوجه العقلي والنقلي.

فتحقّق الإجماع التعبّدي في المقام ممّا لا يمكن إنكاره في المقام. ومن هنا جعل في العروة(1) الإجماع عمدة وجه بطلان الوقف على النفس.

وقد استدلّ الفقهاء لبطلان الوقف على نفسه تارة: بمقتضى القاعدة، واُخرى:

بدلالة النصوص.

وأمّا مقتضى القاعدة: فقد بُيّن في كلمات الأصحاب بتقريبين:

أحدهما: القاعدة العقلية. وحاصلها عدم معقولية الوقف على نفسه، كما قال في جامع المقاصد: «لأ نّه لا بدّ من إخراج الوقف عن ملكه، فلا يُعقل وقفه على نفسه»(2).

تحرير ذلك: أنّ الوقف إخراج الواقف الموقوف عن ملك نفسه. فهو مضادّ لإبقائه. في ملكه السابق. فيستلزم ذلك محذور اجتماع المثلين. ومن الواضح عدم معقولية إجتماع الضدّين؛ لأنّ بينهما غاية المنافرة يستحيل اجتماعهما في شيءٍ واحد، وهو المال الموقوف.

وجه الملازمة أنّ المال من حيث كونه وقفاً يخرج عن ملك الواقف، ومن حيث كون وقفه على نفس الواقف، لا بدّ من دخوله في ملكه؛ نظراً إلى كون المال

********

(1) - العروة الوثقى 299:6.

(2) - جامع المقاصد 25:9.

ص: 232

الموقوف ملكاً للموقوف عليه، بل العين الموقوفة تدخل في ملكه؛ بناءً على رأي المشهور.

وهذا التقريب هو روح كلامهم ولبُّ مرادهم في هذا الاستدلال.

ثانيهما: ما يظهر من الشهيد من أنّ الملك متحقّق قبل الوقف ولا يعقل إدخاله وتجديده مع ثبوته. ولأنّ الوقف تمليك منفعة وحدها أو مع الرقبة. ولا يعقل تمليك الإنسان نفسه. ومرجع هذا الاستدلال إلى لزوم تحصيل الحاصل من تمليك الإنسان نفسه ماله؛ لفرض حصوله قبل ذلك. وتحصيل الحاصل مستحيل عقلاً.

قال في المسالك - بعد نفي الخلاف -:

«ولأنّ الوقف إزالة ملك وتمليك من الواقف وإدخال ملك على الموقوف عليه، والملك هنا متحقّق ثابت لا يعقل إدخاله وتجديده مع ثبوته، ولا اشتراط نفعه لنفسه كالبيع والهبة. ولأ نّه تمليك منفعة وحدها أو مع الرقبة. ولا يُعقل تمليك الإنسان نفسه»(1).

ونظيره ما جاء في كلام صاحب الجواهر وغيره(2).

وقد أشكل في العروة(3)، على ذلك بوجهين، ويمكن عدّه جواباً للتقريبين السابقين كليهما.

أحدهما: أنّ الوقف إيقاف العين الموقوفة وتحبيسها لا تمليكها. فلا يستلزم

********

(1) - مسالك الأفهام 361:5.

(2) - جواهر الكلام 66:28؛ مفتاح الكرامة 15:9.

(3) - العروة الوثقى 298:6، قال: بل قد يقال: بعدم معقولية الجواز، لأنّ الوقف تمليك للعين أومنفعتها ولا يعقل تمليك نفسه ما كان له، ولكن فيه أوّلاً: إنّ الوقف إيقاف لا تمليك. وثانياً: لا مانع من تبديل ملكية بملكية اخرى عليه بنحو آخر.

ص: 233

الوقف على نفسه تمليك العين لنفسه.

ويرد عليه: أنّ الوقف لو لم يكن تمليك العين الموقوفة، لا إشكال في كونه تمليك المنفعة للموقوف عليه.

ومن هنا قال الشهيد في تعليل ذلك: «لأ نّه تمليك منفعةٍ وحدها أو مع الرقبة...».

وبما أنّ المنفعة أيضاً ملك للواقف قبل الوقف، فلا يعقل تمليكها لنفسه بالوقف، فالمحذور باقٍ على حاله.

وبهذا البيان اتّضح وجه المناقشة في جواب بعض المحقّقين بقوله: «بأنّ حقيقة الوقف ليس هو التمليك، لا تمليك العين ولا تمليك المنفعة، بل حقيقته تحبيس الأصل عن التقلّبات الاعتبارية الواردة على المال... وأيضاً ليس التسبيل تمليك الثمرة والمنفعة، بل إباحتها طلباً لمرضاة اللّه وفي سبيله، فلا مانع عقلاً من جعل نفسه موقوفاً عليه أو شريكاً معه»(1).

وجه المناقشة أوّلاً: أنّه لا كلام بين الأصحاب في إزالة ملك العين الموقوفة عن الواقف وإخراجها عن ملكه. وإنّما الخلاف بينهم في دخوله في ملك الموقوف عليه، أو ملك اللّه، أو التفصيل بين الوقف الخاصّ والعامّ في ذلك كما سبق.

وثانياً: لا كلام بينهم في دخول منافع العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه بالقبض. وإنّما الكلام في دخول العين الموقوفة في ملكه وأنّ المنافع والعين هل تدخلان معاً في ملك الموقوف عليه أو خصوص المنفعة، كما أشار إليه الشهيد.

********

(1) - القواعد الفقهية، البجنوردي 258:4.

ص: 234

ثانيهما: أنّ العين كانت ملكاً طلقاً للواقف قبل الوقف وبتبعه منفعته. ولكنّها بعد الوقف تصير ملكاً له حبساً، لا طلقاً. وأمّا المنفعة فإنّما تصير بعد الوقف ملكاً له بسبب تحبيس العين، لا بتبع كونها ملكاً طلقاً له كما قبل الوقف. وعليه فالملكية الثابتة قبل الوقف تبدّلت بعد الوقف إلى ملكية اخرى غير السابقة. ولا مانع من تبديل الملكية عقلاً.

وهذا الإشكال الثاني وارد، على الوجهين العقليين المزبورين كليهما. ولا دافع عنه. وبه ينهدم أساس إشكال التضادّ وتحصيل الحاصل.

استدلّ الأصحاب لبطلان الوقف على نفسه ببعض النصوص، بل في المفتاح(1) أنّ الأصل في ذلك الأخبار.

فمن هذه النصوص مكاتبة علي بن سليمان بن رشيد قال: كتبت إليه؛ يعني أبا الحسن عليه السلام: جعلت فداك ليس لي ولد وارث ولي ضياع ورثتها عن أبي وبعضها استفدتها ولا آمن الحدثان. فإن لم يكن لي ولد وحدث بي حدث، فما ترى جعلت فداك؟ لي أن أقف بعضها على فقراء إخواني والمستضعفين، أو أبيعها وأتصدّق بثمنها عليهم في حياتي؟ فإنّي أتخوّف أن لا ينفذ الوقف بعد موتي. فإن وقفتها في حياتي، فلي أن آكل منها أيّام حياتي أم لا؟ فكتب عليه السلام: «فهمت كتابك في أمر ضياعك، فليس لك أن تأكل منها من الصدقة، فإن أنت أكلت منها لم تنفذ، إن كان لك ورثة فبع وتصدّق ببعض ثمنها في حياتك. وإن تصدّقت أمسكت لنفسك ما يقوتك، مثل ما صنع أمير المؤمنين عليه السلام»(2). وقد رواها المشايخ الثلاثة. والمراد بالصدقة فيها الوقف بقرينة صدرها.

********

(1) - مفتاح الكرامة 15:9.

(2) - وسائل الشيعة 176:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 3، الحديث 1.

ص: 235

موضع الدلالة والاستشهاد، قوله: «فليس لك أن تأكل منها من الصدقة، فإن أنت أكلت منها لم تنفذ».

وجه الدلالة أنّ نهي الإمام عليه السلام عن أكل الموقوف بقوله: «فليس لك أن تأكل منها من الصدقة». ظاهر في حرمة تصرّف الواقف وانتفاعه من المال الموقوف.

وقوله عليه السلام: «فإن أنت أكلت منها لم تنفذ»؛ يعني بطلان الوقف بانتفاع الواقف نفسه من الموقوف. وعدم النفوذ بمعنى عدم الصحّة وظاهر في البطلان، كما قال في الحدائق:

«والتقريب فيه أنّ مقتضى الوقف على نفسه جواز الأكل منه، مع أنّه ليس له ذلك بالخبر المذكور، فلا ثمرة لهذا الوقف لو قيل به، ومنه يعلم أنّ عدم جواز الأكل مستلزم لبطلان الوقف على نفسه، والمراد من عدم النفوذ إنّما هو البطلان»(1).

نعم، ليس مورد هذه الرواية الوقف على النفس، بل من الوقف على الغير، إلّاأنّه يمكن استفادة بطلانه من الفقرة المزبورة بالفحوى؛ لأنّه إذا بطل الوقف على الغير بتصرّف الواقف، يبطل الوقف على نفسه قطعاً.

هذا، ولكن في بطلان الوقف على الغير بانتفاع الواقف، نظر، بل منع؛ إذ غايته أنّه ارتكب حراماً بذلك. فيشكل الالتزام بظاهر قوله: «فإن أنت أكلت منها لم تنفذ» وعليه فيشكل في دلالة هذه الرواية على المطلوب. بل تصير بذلك مضطربة؛ نظراً إلى اشتمالها على ما هو خلاف ضرورة الفقه، ومخالف لما تسالم عليه الأصحاب.

وأمّا دعوى الإطلاق المقامي؛ نظراً إلى اكتفاء الإمام بقوله: «وإن تصدّقت أمسكت لنفسك ما يقوتك»، مع كونه عليه السلام في مقام البيان، فلو كان الوقف على

********

(1) - الحدائق الناضرة 157:22.

ص: 236

نفسه طريقاً آخر لتأمين غرض السائل لذكره. فحيث لم يذكره واكتفى بقوله المزبور، يُعلم منه عدم مشروعيته.

فلا وجه لها: لأنّ في الإطلاق المقامي يعتبر إحراز كون الإمام بصدد البيان من الجهة التي يراد التمسّك بالإطلاق من تلك الجهة. وإحراز ذلك في المقام مشكل؛ لأنّ مورد السؤال جواز تصرّف الواقف في الوقف على غيره ولا نظر له إلى الوقف على نفسه. وكذلك الجواب. وذلك لأنّ غرض الواقف بقاءُ المال وقفاً بعد موته. ولا يمكن تأمين هذا الغرض إلّابالوقف على غيره - كما جاء في سؤاله - دون الوقف على نفسه، لبطلانه بمجرّد موت الواقف الذي هو الموقوف عليه حينئذٍ. ومن هنا يكون الوقف على نفسه خارج عن مورد السؤال والجواب كليهما.

هذا، مع ما في سندها من الضعف؛ بلحاظ علي بن سليمان بن رشيد؛ إذ لم تثبت وثاقته.

ومثلها في الدلالة موثّق طلحة بن زيد عن أبي عبداللّه، عن أبيه عليهم السلام: إنّ رجلاً تصدّق بدار له، وهو ساكن فيها فقال: «الحين اخرج منها»(1).

وهذه الرواية لا إشكال في سندها؛ لأنّ طريق الشيخ إلى علي بن فضال في المشيخة وإن كان ضعيفاً، إلّاأنّ له طريقاً صحيحاً في الفهرست إلى جميع كتبه ورواياته.

فيمكن تصحيح سند هذه الرواية بقاعدة تبديل السند.

وقد بحثنا مفصّلاً عن هذه القاعدة، وأثبتنا اعتبارها في كتابنا «مقياس الرواة».

وأمّا وجه دلالتها على المطلوب، فدلالة قوله عليه السلام: «الحين اخرج منها» في بطلان الوقف بتصرّفه.

********

(1) - وسائل الشيعة 178:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 3، الحديث 4.

ص: 237

ولو وقف على نفسه وغيره فإن كان بنحو التشريك بطل بالنسبة إلى نفسه دون غيره (1)، وإن كان بنحو الترتيب فإن وقف على نفسه ثمّ على غيره فمن منقطع الأوّل، وإن كان بالعكس فمنقطع الآخر، وإن كان على غيره ثمّ نفسه ثمّ غيره فمنقطع الوسط، وقد مرّ حكم الصور.

ولكن يمكن المناقشة في دلالته بأنّ غاية مدلوله حرمة تصرّف الواقف في العين الموقوفة وعدم جواز انتفاعه منها. وأمّا بطلان الوقف بذلك فيشكل استفادته منه.

وأمّا الاستدلال بما ورد في اشتراط عود الوقف إلى الواقف عند الحاجة - كصحيحتى إسماعيل بن الفضل - فلا دلالة لهما على المطلوب؛ لعدم نظر لهما إلى وقف الشيء على نفسه ولا إلى تصرّف الواقف نفسه في الوقف ما دام وقفاً، كما لا يخفى. وأشار إليه في العروة(1).

حكم ما لو وقف على نفسه وغيره

1 - إذا وقف على نفسه وغيره تارة: يكون على نحو الترتيب واُخرى: على نحو التشريك. فلو كان على نحو الترتيب، فتارة: يقف على نفسه، ثمّ على غيره، واُخرى: بالعكس.

والأوّل من قبيل الوقف المنقطع الأوّل. وقد وقع الخلاف في بطلانه رأساً أو صحّته بالنسبة إلى آخره على قولين، كما في الجواهر(2).

وقد سبق تفصيل الكلام فيه في المسألة العشرين. وقد فصّل السيّد الماتن قدس سره

********

(1) - العروة الوثقى 299:6.

(2) - جواهر الكلام 67:28.

ص: 238

هناك بين ما كان الانتفاع بجعل الواقف وبين ما كان منه بحكم الشارع، فحكم بالصحّة في الثاني وبالبطلان في الأوّل. والمقام من قبيل الثاني؛ إذ بطلان الوقف على النفس إنّما هو بحكم الشارع.

والثاني: من قبيل الوقف المنقطع الآخر. وقد سبق البحث فيه أيضاً في المسألة السادسة عشر. وقد حكم السيّد الماتن قدس سره هناك بصحّته، وهو المشهور والأقوى في المسألة.

وقد اتّضح على ضوءِ ما بيّنّاه حكم الوقف منقطع الوسط؛ حيث إنّه يتشكّل من ثلاثة وقوف: فالأوّل من قبيل منقطع الآخر والثالث من قبيل منقطع الأوّل. ولا إشكال فيهما في مفروض الكلام.

وأمّا لو كان الوقف على نفسه وغيره على نحو التشريك، فقد وقع الخلاف في ذلك. والأقوى صحّته في نصفه المتعلّق بالغير، وبطلانه في النصف الآخر المتعلّق بنفسه، كما يظهر من السيّد الماتن قدس سره. ولا وجه هاهنا للقول بالبطلان رأساً؛ لعدم لزوم انقطاع الوقف بوجهٍ في مفروض المسألة، كما أشار إليه في الجواهر:

«نعم لو عطف الغير عليه ب «الواو»، فالأقوى الصحّة في النصف؛ لعدم الانقطاع فيه؛ لبقاء الموقوف عليه ابتداءً، وهو الغير»(1).

وأمّا توجيه البطلان بأنّ الموقوف عليه هو المجموع من حيث المجموع، فلا وجه له، كما أشار إليه في الجواهر بقوله:

«فإنّ الموقوف عليه ليس هو المجموع منه ومن الغير من حيث هو مجموع، بل كلّ واحد منهما، فيبطل النصف في حقّه، ويصحّ في النصف الآخر الذي لا مانع من الصحّة فيه».

********

(1) - جواهر الكلام 67:28.

ص: 239

وأمّا احتمال كون المجموع للغير الموقوف عليه، فلا وجه له أيضاً؛ لأنّه خلاف قصد الواقف، وإنّ «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»، كما ورد في النصّ(1). وقد أشار إلى ذلك أيضاً في الجواهر بقوله:

«وربما احتمل كون المجموع للغير، كما سمعته من الشيخ في المرتّب فضلاً عن المفروض، إلّاأنّه واضح الفساد فيهما، لمخالفته لقصد الواقف الذي جعل الشارع الوقف على حسب ما وقفه».

والمقام من قبيل تبعّض الصفقة ولا مانع منه في العقود، كما أشار إلى ذلك في الجواهر بقوله:

«والعقد لا يكون مبعّضاً، ضرورة عدم كون ذلك من التبعيض الممنوع، بل هو من باب تبعّض الصفقة الذي قد فرغنا من الكلام من صحّته في محلّه».

فإنّ لفظ الصفقة في اللغة بمعنى: ضرب اليدين عند البيعة والعهد والمصافحة ونحو ذلك.

والصفقة في البيع بل مطلق العقود كناية عن العهد والالتزام المعاملي ولزوم العقد الناشئ من التزام المتعاقدين.

والمقصود من التبعُّض في الصفقة، التبعُّض في لزوم العقد، فكأ نّه لا ينعقد العهد والالتزام المعاملي في بعض المعقود عليه، فلا يلزم العقد فيه.

واتّضح بهذا البيان عدم تطرّق تبعُّض الصفقة في نفس العقد، بل إنّما يتطرّق في لزومه.

وكذلك الكلام فيما لو وقف على نفسه والفقراء ونحوه من العناوين. فيصحّ نصفه في الفقراء؛ لأنّه ظاهر المقابلة بينهما.

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2.

ص: 240

واحتمال صحّة ربعه بالنسبة إليه وثلاثة أرباع في الفقراء؛ لأنّه مقتضى أقلّ الجمع، خلاف ظاهر المقابلة وجعل الفقراء واحداً بإزاء نفسه، كما قال في الجواهر:

«ولو وقف على نفسه والفقراء فالظاهر الصحّة أيضاً في النصف»(1).

هذا، ولكن فصّل في العروة بين ما لو أراد الواقف بذلك التوزيع بين نفسه وبين الفقراء، فالحكم كما ذُكر، وبين ما لو أراد المصرف فيصحّ كلّه في الفقراء؛ نظراً إلى عدم جواز صرف الوقف في الواقف نفسه. قال:

«ولو وقف على نفسه والفقراء، قيل ببطلانه، وقيل بكون تمامه للفقراء، وقيل ببطلانه في نصفه، وقيل ببطلانه في ربعه. والأقوى أنّه إن أراد التوزيع بطل في نصفه وصحّ في نصفه للفقراء، وإن كان مراده بيان المصرف صحّ في تمامه للفقراء.

إذ مع كونه له وللفقراء على وجه بيان المصرف، يمكن دفع تمامه للفقراء. ويمكن دفع تمامه له على تقدير صحّته له ولا يلزم التوزيع فعلى تقدير بطلان بعض المصرف يبقى البعض الآخر»(2). وفي كلامه هذا نظر ستعرفه في بيان مقتضى التحقيق.

مقتضى التحقيق في إعطاء الضابطة في المقام: بطلان الوقف بالنسبة إلى نفسه في كلّ مورد صدق الوقف على نفسه، بلا فرق بين الترتيب والتشريك والتوزيع ولا يبطل أصل الوقف؛ نظراً إلى انحلال الوقف بحسب تعداد الموقوف عليه المذكور في صيغة الوقف.

وأمّا الوقف التشريكي على وجه المصرف، فلو رجع إلى الوقف على نفسه ولو في بعض المال الموقوف، يبطل بالنسبة إلى نفسه، كما لو وقف داره على أهل بلده

********

(1) - جواهر الكلام 67:28.

(2) - العروة الوثقى 300:6.

ص: 241

(مسألة 25): لو وقف على غيره - كأولاده أو الفقراء مثلاً - وشرط أن يقضي ديونه، أو يؤدّي ما عليه من الحقوق المالية، كالزكاة والخمس، أو ينفق عليه من غلّة الوقف، لم يصحّ، وبطل الوقف (1) من غير فرق بين ما لو أطلق الدين أو عيّن، وكذا بين أن يكون الشرط الإنفاق عليه وإدرار مؤونته إلى آخر عمره، أو إلى مدّة معيّنة، وكذا بين تعيين المؤونة وعدمه.

بقوله مثلاً: «وقفت داري، هذه على أهل بلدي» وقصد نفسه بعنوان بعض أهل البلد داخلاً في الموقوف عليه.

وأمّا لو وقف على عنوان كالفقراء والعلماء ونوى بذاك نفسه بعنوان المصرف، فلو كان نفسه فقيراً أو عالماً، فلا إشكال في صحّة هذا الوقف وجواز صرف الموقوف على نفسه بعنوان أحد المصاديق.

والفرق بين الموردين صدق الوقف على نفسه عرفاً في الصورة الاُولى بخلاف الثانية.

وهذا الذي قلنا هو مقتضى التحقيق في المقام.

اعتبار عدم اشتراط الواقف نفعاً لنفسه

اشارة

1 - إذا اشترط الواقف نفعاً لنفسه - من قضاءِ ديونه أو إدرار مؤونته أو أداءِ ما عليه من النفقات والحقوق المالية - فالمشهور بطلان الوقف، كما صرّح به في الحدائق(1)، وقد نسبه في المسالك(2) إلى مذهب الأصحاب، بل في الجواهر: «بلا

********

(1) - الحدائق الناضرة 160:22.

(2) - مسالك الأفهام 363:5.

ص: 242

خلاف معتدٍّ به أجده»(1). وقد صرّح ببطلان الوقف بالاشتراط المزبور المحقّق في الشرائع والعلّامة في التذكرة والتحرير، كما نقل في مفتاح الكرامة(2) عنهم وعن غيرهم.

وقد استدلّ جماعة من الفقهاء للمشهور بأنّ اشتراط ذلك مخالف لمقتضى عقد الوقف المأخوذ في صحّته كون الموقوف عليه غير الواقف نفسه. والشرط المخالف لمقتضى العقد فاسد ومفسد للعقد.

ومن هنا حكم هؤلاء الفقهاء ببطلان الشرط والعقد معاً، كما علّل بذلك في جامع المقاصد بقوله: «لأنّ الشرط منافٍ لمقتضاه، فإنّه لا بدّ من إخراجه عن نفسه بحيث لا يبقى له استحقاق فيه؛ لأنّ الوقف يقتضي نقل الملك والمنافع عن نفسه، فإذا شرط قضاء ديونه أو إدرار مؤونته، أو نحو ذلك فقد شرط ما ينافي مقتضاه، فيبطل الشرط والوقف معاً»(3).

وتبعه في ذلك الشهيد في المسالك؛ حيث قال: «لمّا كان قاعدة مذهب الأصحاب اشتراط إخراج الوقف عن نفسه بحيث لا يبقى له استحقاق فيه - من حيث إنّ الوقف يقتضي نقل الملك والمنافع عن نفسه - فإذا شرط الواقف قضاء ديونه أو إدرار مؤونته أو نحو ذلك فقد شرط ما ينافي مقتضاه فيبطل الشرط والوقف معاً»(4).

ونظيره في المفتاح(5) والجواهر(6).

********

(1) - جواهر الكلام 67:28.

(2) - مفتاح الكرامة 31:9.

(3) - جامع المقاصد 27:9.

(4) - مسالك الأفهام 363:5.

(5) - مفتاح الكرامة 31:9.

(6) - جواهر الكلام 67:28.

ص: 243

ولكن لا يخفى: أنّ تمامية هذا الاستدلال لإثبات بطلان أصل الوقف - مضافاً إلى بطلان الشرط - مبنيّةٌ على فساد العقد بفساد الشرط. وهو محلّ الكلام بين الفقهاء وقد اختلفوا في فساد العقد بفساد الشرط وكثير منهم أنكروا ذلك. كما بحثنا عن ذلك في كتاب المضاربة من «دليل تحرير الوسيلة».

وعلى أيّ حال لم يختلف الأصحاب هاهنا في بطلان الوقف بالشرط المذكور.

هذا، ولكنّ المحدّث البحراني - بعد نقل الاستدلال المزبور - قال: «والأولى أن يجعل هذا الكلام توجيهاً للنصّ والعلّة الحقيقية إنّما هي النصّ، وهذا الكلام ممّا يصلح توجيهاً له وبياناً للحكمة في ذلك، ومقتضى الأخبار المذكورة بطلان الوقف بهذا الشرط، كما هو المشهور»(1).

وأظنّ أنّ كلام هذا المحدّث الجليل تامٌّ بناءً على مبناه من كون بطلان الوقف على نفسه بدليل النصّ، بل هو الصحيح المطابق للحقّ الواقع في المقام؛ حيث لم يعلم استناد المشهور في حكمهم ببطلان الوقف في هذه المسألة إلى كون الشرط المزبور مخالفاً لمقتضي الوقف وفساده بفساد الشرط.

والوجه في ذلك أوّلاً: ما يظهر من كلام الشهيد من أنّ الأصل في هذه المسألة بناءُ الأصحاب على بطلان الوقف على نفسه ورجوع الشرط في المقام إلى ذلك، بل هو من مصاديق الوقف على النفس في الحقيقة. وقد عرفت في تلك المسألة مبنى صاحب الحدائق، من أنّ بطلان الوقف على نفسه إنّما هو بدليل النصّ، وهو مكاتبة علي بن سليمان(2) وموثّقة طلحة(3). وقد سبق آنفاً تقريب الاستدلال به لبطلان

********

(1) - الحدائق الناضرة 160:22.

(2) - وسائل الشيعة 176:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 3، الحديث 1.

(3) - وسائل الشيعة 178:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 3، الحديث 4.

ص: 244

الوقف على نفسه، وإن أشكلنا في دلالة الخبر المزبور على ذلك.

وثانياً: أنّ الأصحاب قد تسالموا في المقام على بطلان الوقف بالاشتراط المزبور مع أنّهم اختلفوا في فساد العقد بفساد الشرط. فلو كان ذلك وجه بطلان الوقف في المقام لاختلفوا في المقام أيضاً حسب اختلافهم هناك. ولمّا لم يختلفوا في المقام، يعلم من ذلك عدم انحصار وجه البطلان في ذلك.

و لأجل ذلك لا وجه للقول بصحّة الوقف وبطلان الشرط وحده؛ معلّلاً بأنّ الشرط الفاسد لا يكون مفسداً، كما نقل في العروة(1).

وثالثاً: نمنع كون الشرط المزبور مخالفاً لمقتضى الوقف؛ لأنّ حقيقته إخراج المال عن ملكه مع إيقاف الرقبة وتحبيسها. ولا ينافي ذلك اشتراط قضاء ديونه أو إدرار مؤونته على الموقوف عليه بعد ما خرج المال الموقوف عن ملك الواقف ودخلت المنفعة وحدها أو هي مع الرقبة - على المبنى - في ملك الموقوف عليه، إذا كان شرط ذلك على نحو شرط الفعل، كما هو ظاهر الأصحاب؛ لأنّه الظاهر من اشتراط فعل قضاء الدين وإدرار المؤونة.

هذا، ولكن لمّا أشكلنا في دلالة المكاتبة المزبورة على بطلان الوقف على النفس، وقلنا هناك: إنّ عمدة الدليل على البطلان هو الإجماع، فكذلك في المقام.

وأمّا استناد جميع الأصحاب في المقام إلى فساد الشرط المخالف لمقتضى الوقف، واقتضائه فساد الوقف، فيشكل الالتزام به. وتعليل المحقّق الكركي والشهيد وصاحب الجواهر بذلك إنّما هو من استنباط أنفسهم ظاهراً.

وقد عرفت نفي الخلاف في البطلان في المقام من كلام صاحب الجواهر.

********

(1) - بقوله: وربما يقال: بعد منع كونه خلاف مقتضى الوقف بصحّة الوقف وبطلان الشرط لما ثبت في محلّه من أنّ الشرط الفاسد لا يكون مفسداً. راجع: العروة الوثقى 300:6.

ص: 245

هذا كلّه إن رجع الشرط إلى الوقف لنفسه (1).

فالأصحّ في التعليل والأصل في المسألة، هو اتّفاق الأصحاب على بطلان الوقف على النفس ورجوع الاشتراط المزبور إلى ذلك، بل اتّفاقهم متحقّق أيضاً في المقام، كما في الجواهر.

صحّة الوقف مع عدم رجوع شرط الواقف إلى الوقف لنفسه

1 - كان الأصح في المتن أن يعبّر السيّد الماتن قدس سره: «إلى الوقف على نفسه».

وعلى أيّ حال مقصوده: إنّ الشرط المزبور تارة: يُقصد به الوقف على الغير وعلى جهة إدرار مؤونته وأداء دينه؛ بحيث يكون هذه الجهة داخلة في عنوان الموقوف عليه؛ بأن يقول: - مثلاً - «وقفت أرضي هذه على فقراء بلدي وقضاء ديني وإدرار مؤونتي».

فمقتضى القاعدة حينئذٍ بطلان الوقف بالنسبة إلى ما يعادل ذلك وصحّته في الباقي. والوجه فيه ما سبق تفصيله في الوقف على نفسه وغيره تشريكاً؛ نظراً إلى رجوع الوقف في المقام إلى الوقف على نفسه بالنسبة إلى ما يعادل قضاءَ دينه وإدرار مؤونته. ولا يلزم تعيين مقدار مؤونته مادام العمر، بل يُردّ على الواقف مقدار ما يعادل موؤنته حسب شأنه المتعارف تدريجاً في دخل دفعه ظهرت منفعة المال الموقوف ويُضرب الباقي في الغير الموقوف عليه.

واُخرى: يُقصد به اشتراط ذلك على نحو شرط فعل القضاء والإدرار على الغير في ضمن الوقف عليه.

فحينئذٍ تارة: يقصد اشتراط إدرار المؤونة وأداء دينه على الموقوف عليه من المال الموقوف، واُخرى: من مال الموقوف عليه نفسه.

ص: 246

ظاهر كلمات الأصحاب رجوع الاشتراط على النحو الأوّل إلى الوقف على نفسه لبّاً وحكماً، بل هذا مراد الشهيد في المسالك من أنّ بطلان الوقف في مفروض المسألة مقتضى قاعدة الأصحاب من بطلان الوقف على نفسه، وإلّا فمن الواضح أنّه لو صرّح بالوقف على الجهة المزبورة يكون من قبيل الوقف على نفسه.

فلا إشكال حينئذٍ في صحّة هذا الشرط، فضلاً عن الوقف.

ومن هنا لا بدّ من حمل كلام الأصحاب على المعنى الأوّل. ولكنّهم حكموا ببطلان الوقف من أصله رأساً في المسألة، فكأ نّهم لم يروا انحلال الوقف ولا تعدّد الموقوف عليه؛ بأن كان أحدهما: الغير، والآخر: جهة قضاء الدين وإدرار المؤونة الراجعة إلى الوقف على نفسه. ومن هنا حكموا ببطلان الوقف رأساً.

و لمّا كان عمدة الدليل في المقام هي تسالم الأصحاب والشهرة العظيمة القريبة بالإجماع فالأحوط وجوباً الحكم ببطلان الوقف في المقام رأساً.

وعلى ضوء ما بيّنّاه قد اتّضح وجه تفصيل صاحب العروة(1) في المقام بين ما لو كان قصده من الشرط المزبور الوقف على جهة قضاء الديون وإدرار المؤونة، وبين ما لو كان قصده الاشتراط على الموقوف عليه قضاء دينه وإدرار مؤونته، فحَكَمَ على الأوّل بالبطلان وعلى الثاني بالصحّة؛ نظراً إلى رجوع الأوّل إلى الوقف على نفسه بخلاف الثاني. ثمّ ألحق بالثاني - بالأولوية - ما لو شرط على الموقوف عليه قضاء ديونه من ماله وما إذا قصد من الاشتراط المزبور استثناء مقدار ديونه من منفعة الوقف؛ إذ لم يدخل في متعلّق الوقف من أوّل الأمر(2).

********

(1) - العروة الوثقى 300:6.

(2) - قال قدس سره: والأقوى أن يقال: إن كان قصده من ذلك كونه وقفاً على أداء ديونه أو إدرار مؤونته

ص: 247

ومقتضى التحقيق: أنّ المعيار في ذلك هو الظهور العرفي فلو كان ظاهر كلام الواقف في الاشتراط المزبور اشتراط قضاء الموقوف عليه دينه أو إدرار مؤونته من ماله مال نفسه: أو كان مرجعه إلى استثناء ذلك من منافع الوقف، صحّ؛ لما قلناه آنفاً. وإلّا فلو كان ظاهره اشتراط قضاء دينه أو إدرار مؤونته من المال الموقوف، فالأحوط وجوباً بطلان الوقف رأساً؛ لأنّه مورد تسالم الأصحاب ولما قلنا من ظهور كلامهم في عدم الانحلال. فكأ نّهم رأوا ذلك مصداقاً للوقف على نفسه لُبّاً وحكماً. وبمثل هذا التسالم لم يخصّص عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» فيدلّ على جواز شرط الواقف إلّافي اشتراط انتفاعه من ماله الموقوف، كما في المقام؛ من ماله الموقوف، كما في المقام؛ نظراً إلى كونه في حكم الوقوف على نفسه. ومن هنا يعلم دخول صورة هذه المسألة في معقد الإجماع على بطلان الوقف على نفسه.

هذا كلّه إذا لم يصرّح بالوقف على جهة إدرار المؤونة وقضاء دينه بالعطف على الغير، وإلّا دخلت الجهة في عنوان الموقوف عليه، ويكون من قبيل الوقف على

********

(2) وعلى الفقراء، بطل شرطه؛ لأنّه بالنسبة إلى أداء الديون وإدرار المؤونة وقف على نفسه، ويمكن حينئذٍ أن يقال: بالنسبة إلى ما عدا مقدارهما صحيح للفقراء، وإن كان قصده الاشتراط على الموقوف عليه بأداء ديونه من منافع الوقف، فلا يكون وقفاً على نفسه، وأولى بالصحّة ما لو شرط على الموقوف عليه أداء ديونه من ماله ولو من غير منافع الوقف سواء أطلق أو قيّده بما دام ينتفع بهذا الوقف، لأنّه حينئذٍ لم يشترط كون بعض المنفعة له وإنّما شرط شرطاً على الموقوف عليه، فهو كما لو قال: وقفت على من يؤدّي ديوني من أولادي، أو قال: وقفت على من يقرء كلّ يوم سورة من القرآن ويهدى إليّ ثوابها، وأولى من ذلك بالصحّة لو كان قصده استثناء مقدار ديونه من منفعة الوقف، إذ عليه لم يشترط أداء دينه من الوقف كما يأتي. راجع: العروة الوثقى: 198-199.

ص: 248

الغير وعلى نفسه تشريكاً وينحلّ الوقف ويبطل فيما يعادل الدين والمؤونة ويصحّ في الباقي على الغير.

كأن يقول: «وقفت داري أو أرضي هذه على فقراء بلدي وقضاءِ ديني وإدرار مؤونتي».

ويحتمل البطلان هاهنا رأساً؛ لعدم العلم بمقدار مؤونته إلى آخر عمره؛ لأنّها تدريجية الاستحقاق والصرف، إلّاأن يعطي في كلّ يوم أو اسبوع أو شهر أو سنة مقدار ما يعادل مؤونته ثمّ يصرف في الغير.

وعلى أيّ حال لا إشكال في الفرق بين الوقف على نفسه وغيره تشريكاً وبين المقام من هذه الجهة.

وعلى كلّ حال مقتضى التحقيق أنّه لا مناص من الأخذ بالمتيقّن من معقد التسالم والإجماع في هذه المسألة وفي مسألة الوقف على نفسه وغيره تشريكاً.

والرجوع إلى مقتضى القاعدة الأوّلية وعمومات باب الوقف في غير المتيقّن من مصبّ التسالم والإجماع.

ثمّ إنّ منع الاشتراط المزبور وبطلان الوقف به إنّما يختصّ باشتراط ما يرجع إلى انتفاع نفسه.

وأمّا اشتراط انتفاع أهله أو أقربائه أو الناظر أو القيّم، فلا مانع منه. وذلك لعدم كونه من قبيل الوقف على نفسه، وإن كان مقتضى التحقيق رجوع انتفاع عياله الواجبي النفقة إلى انتفاع نفسه، إلّاأنّ النصّ وتسالم الأصحاب أوجبا الخروج عن مقتضى القاعدة.

هذا مع دلالة النصّ على ذلك، كما أشار إليه الشهيد بقوله:

«ومنع الاشتراط المذكور مختصّ بنفسه، فلو شرط أكل أهله منه صحّ الوقف

ص: 249

وأمّا إن رجع إلى الشرط على الموقوف عليهم؛ بأن يؤدّوا ما عليه أو ينفقوا عليه من منافع الوقف التي صارت ملكاً لهم فالأقوى صحّته (1)،

والشرط، كما فعله النبي عليه السلام في صدقته، وشرطته فاطمة عليها السلام كذلك. وكذا لو شرط أن يأكل الناظر معه أو يطعم غيره، فإن كان وليّه الواقف كان له ذلك عملاً بالشرط، ولا يكون ذلك شرطاً للنفع على نفسه»(1).

وأمّا ما أشار إليه من فعل النبي صلى الله عليه و آله فقد دلّ عليه صحيح أحمد بن محمّد عن أبي الحسن الثاني عليه السلام، قال: سألته عن الحيطان السبعة التي كانت ميراث رسول اللّه صلى الله عليه و آله لفاطمة عليها السلام، فقال عليه السلام: «لا، إنّما كانت وقفاً وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يأخذ إليه منها ما ينفق على أضيافه والتابعة(2) يلزمه فيها، فلمّا قبض جاء العبّاس يخاصم فاطمة عليها السلام فيه فشهد علي عليه السلام وغيره أنّها وقف على فاطمة عليها السلام وهي الدلّال والعواف والحسنى والصافية وما لاُمّ إبراهيم والميثب(3) والبرقة»(4).

حكم ما لو رجع الشرط على الموقوف عليهم

1 - بل الأقوى بطلانه حينئذٍ إذا كان مقصوده الإنفاق وقضاء الدين من منافع المال الموقوف؛ لما قلنا آنفاً - في المناقشة في كلام صاحب العروة - من رجوع

********

(1) - مسالك الأفهام 363:5.

(2) - المقصود التوابع اللازمة وهي ما يتبع المال من الحقوق والنوائب. وفي قرب الإسناد «النائبة» وهو الأصحّ والأنسب بالمراد.

(3) - الميثب، مال بالمدينة كانت من صدقات النبي صلى الله عليه و آله والبُرقِة موضع بالمدينة وكان من صدقات النبي صلى الله عليه و آله.

(4) - الكافي 1/47:7.

ص: 250

كما أنّ الأقوى صحّة استثناء مقدار ما عليه من منافع الوقف (1).

ذلك إلى اشتراط الواقف انتفاع نفسه من المال الموقوف ويرجع ذلك بالمآل إلى الوقف على نفسه، لبّاً وحكماً، وهو داخل في مصبّ تسالم الأصحاب ومحلّ إنفاقهم.

نعم، لو شرط عليهم الإنفاق من مال أنفسهم لا من منافع الوقف، صحّ، كما يظهر من صاحب العروة؛ حيث قال:

«إذا وقف على أولاده وشرط عليهم إدرار مؤونته ما دام حيّاً من كيسهم لا من منافع الوقف، أو شرط عليهم مقداراً من الدراهم كذلك كلّ سنة إلى كذا من المدّة، فالظاهر صحّته ولا يعدّ من الوقف على النفس»(1).

1 - لا إشكال في صحّته حينئذٍ؛ لعدم دخول المستثنى في الوقف المستثنى منه من أوّل آن إنشاء الوقف. فلم يتعلّق به الوقف، بل كان خارجاً من متعلّقه.

وقد أجاد صاحب العروة في تحرير ذلك؛ حيث قال: «إذا استثنى في ضمن إجراء الصيغة من منافع الوقف مقدار مؤونته ما دام حيّاً، أو استثنى نحو ذلك ممّا يعود إليه نفعه، فالظاهر عدم الإشكال فيه، إذ على هذا يكون خارجاً عن الوقف، فهو نظير ما لو وقف شاة واستثنى صوفها الموجود عليها حال إجراء الصيغة، وما إذا وقف بستاناً واستثنى ثمره الموجود أو ثمرة سنة واحدة ونحو ذلك، وكذا لو استثنى مقدار أداء دينه سواء كان بنحو التوزيع على السنين كلّ سنة كذا، أو تقديم أداء الدين على الصرف في مصارف الوقف، ولا يضرّ تأخير الصرف في مصارف الوقف،

********

(1) - العروة الوثقى 396:6.

ص: 251

ثمّ إنّ في صورة بطلان الشرط تختلف الصور، ففي بعضها يمكن أن يقال بالصحّة بالنسبة إلى ما يصحّ، كما لو شرّك نفسه مع غيره (1)، وفي بعضها يصير من قبيل منقطع الأوّل، فيصحّ على الظاهر فيما بعده، لكن الاحتياط بإجراء الصيغة في مواردها لا ينبغي تركه (2).

فهو نظير وقف العين المستأجرة إلى مدّة.

وبالجملة: انتفاع الواقف بالعين الموقوفة على الفقراء أو غيرهم بنحو الاستثناء ليس وقفاً على نفسه ولا انتفاعاً بالوقف بما هو وقف»(1).

1 - فيصحّ نصفه بالنسبة إلى الغير، نظير تبعّض الصفقة، كما تقدّم من صاحب الجواهر؛ حيث لا مانع من نفوذ الوقف وصحّته بالنسبة إلى الغير. هذا في التشريك، وكذلك إذا كان على نحو الترتيب فيصحّ الوقف، إلّاأنّه إذا قدّم نفسه يكون الوقف من قبيل المنقطع الأوّل. وأمّا إذا أخّر نفسه فيكون من قبيل المنقطع الآخر.

2 - وأمّا احتياط السيّد الماتن قدس سره استحباباً بإجراءِ صيغة الوقف فيما يصحّ الوقف عليه على حدة؛ فالوجه فيه احتمال بطلان أصل الوقف بالصيغة التي أجراها للمشترك، كما ذهب إلى البطلان في جميع الصور بعض الفقهاء.

********

(1) - العروة الوثقى 302:6.

ص: 252

(مسألة 26): لو شرط أكل أضيافه ومن يمرّ عليه من ثمرة الوقف جاز (1)، وكذا لو شرط إدرار مؤونة أهله وعياله وإن كان ممّن يجب نفقته عليه حتّى الزوجة الدائمة إذا لم يكن بعنوان النفقة الواجبة عليه حتّى تسقط عنه، وإلّا رجع إلى الوقف على النفس (2).

جواز اشتراط أكل أضيافه أو إدرار مؤونة أهله

1 - والوجه في الجواز عدم رجوع هذا الاشتراط إلى الوقف على النفس ولا إلى اشتراط انتفاع نفسه. وقد دلّ على ذلك صحيح أحمد بن محمّد عن أبي الحسن الثاني ومرسل الصدوق(1).

2 - قد سبق آنفاً وجه جواز اشتراط أكل أهله وعياله الواجبي النفقة. وسبق نقل كلام الشهيد في ذلك وأشرنا هناك إلى دلالة بعض النصوص على ذلك بالخصوص؛ مضافاً إلى أنّ جوازه مقتضى القاعدة؛ لعدم كونه من قبيل الوقف على النفس.

نعم، إذا شرط في متن عقد الوقف إنفاق زوجته الدائمة - أو غيرها ممّن يجب عليه إنفاقها - من منافع الوقف، فالأقوى بطلان الوقف بذلك كما يظهر من السيّد الماتن قدس سره. وذلك لرجوع اشتراط ذلك إلى اشتراط انتفاع نفسه فيندرج في الوقف على نفسه. وهذا بخلاف ما إذا اشترط أكل أهله وعياله، لا بعنوان النفقة الواجبة حتّى تسقط عنه. كما أشار إلى ذلك أيضاً في العروة(2).

********

(1) - وسائل الشيعة 199:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 2.

(2) - حيث قال في المسألة 13: لو شرط أكل أهله أو أضيافه ومن يمرّ عليه أو أتباعه من الوقف

ص: 253

والضابطة في المقام: إنّ كلّ شرط رجع إلى الوقف على نفسه أو على انتفاع نفسه، يبطل الوقف باشتراطه. ونفقة الزوجة لمّا كانت في عهدة الواقف نفسه، فمن هنا يدخل اشتراط إنفاقها في الوقف إلى الوقف على نفسه ويكون من قبيل الوقف على قضاء دينه وإدرار مؤونة نفسه، وهذا بخلاف أكل الزوجة وغيرها من عياله واجبي النفقة؛ لأنّ أكلهم والإنفاق عليهم فعل أنفسهم، وليس ديناً على الواقف ولا في عهدته.

ولكن هاهنا فرق بين الزوجة الدائمة وبين غيرها من واجبي النفقة كالعبد والدابّة؛ حيث إنّ نفقة الزوجة اعتبرها الشارع ملكاً لها وديناً على الزوج، بخلاف سائر أفراد واجبي النفقة، وإنّما يجب إنفاقهم تكليفاً، لاوضعاً بحيث يصير ديناً عليه.

وكلّ شرط لم يرجع إلى ذلك يصحّ فيه الوقف والشرط معاً. وعليه فلو شرط أداءَ ما عليه من الزكاة والخمس أو المظالم أو أداء ما عليه من الديون، يبطل الوقف بذلك، كما قال السيّد الماتن قدس سره. وجعل المنع عن ذلك وبطلان

********

(2) جاز كما حكي من فعل النبي صلى الله عليه و آله في خبر أحمد عن أبي الحسن الثانى عليه السلام.

وقال في المسألة 14: لو شرط إدرار مؤونة أولاده أو غيرهم من أقربائه صحّ وإن كانوا ممّن يجب عليه نفقتهم، وإذا كان ما يعود إليهم بقدر كفايتهم يسقط عنه وجوب نفقتهم، ولا يوجب هذا كونه وقفاً على نفسه كما هو واضح، وكذا لو شرط نفقة الزوجة الانقطاعية بخلاف نفقة زوجته الدائمة فإنّه لا يجوز إذا كان بعنوان نفقة الزوجية إذ يرجع إلى الوقف على نفسه، إلّاعلى بعض الوجوه السابقة، نعم لو شرط نفقتها لا بعنوان نفقة الزوجية فلا مانع منه وحينئذٍ لا يسقط عنه وجوب نفقتها، وكذا إذا شرط نفقة مملوكه أو دابّته على إشكال إذ ليس حال نفقتهما حال نفقة الزوجة بل حال نفقة الأقارب في إنّها ليست على وجه لو تركها أو تكلّفها غيره صارت ديناً عليه. راجع: العروة الوثقى 301:6.

ص: 254

الوقف به أظهر في العروة(1).

إذا شرط الواقف قرائة القرآن لنفسه على الموقوف عليه نيابةً عنه، فقد أشكل صاحب العروة في الصحّة حينئذٍ؛ حيث قال: «إذا شرط قراءة القرآن نيابة عنه في حياته أو بعد موته ففي صحّته إشكال، وكذا لو شرط قراءة القرآن وإهداء ثوابها إليه وهو حيّ، أو قرائتها على قبره وإهداء ثوابها إليه، لكنّ الأظهر الجواز خصوصاً في إهداء الثواب سيّما بعد الموت، وأمّا لو شرط قراءة القرآن على قبره من غير وجه إهداء الثواب فلا إشكال فيه»(2). ولكن لا وجه للإشكال لأنّ الممنوع هو اشتراط نفع مادّي لنفسه بحيث يصدق عليه المال، وليس قرائة القرآن بقصد إهداء الثواب من هذا القبيل، ومن هنا قوّى صاحب العروة الجواز والصحّة في ذيل كلامه.

وإذا جعل الواقف مقداراً من منافع الوقف لحقّ التولية وكان المتولّي نفسه، وقع الكلام في أنّ ذلك جائز أو لا؛ نظراً إلى رجوع ذلك إلى الوقف على نفسه.

حكم المحقّق القمي بالثاني؛ حيث نقل عنه في العروة أنّه قال: «إنّه يُعّد من الوقف على نفسه عرفاً»(3).

********

(1) - حيث قال: إذا شرط أداء ما عليه من الزكاة أو الخمس أو المظالم أو نحو ذلك كان حاله حال اشتراط أداء ديونه إذ هي أيضاً ديون إذا كانت في الذمّة وإن كانت في العين فالمنع أظهر، ولا فرق بين كونها واجبة أو كانت من باب الاحتياط ولو كان استحبابياً، وكذا لو شرط الصدقة أو الزيارة أو الحجّ نيابة عنه، ولا فرق بين كون الشرط إتيانها حال حياته أو بعد موته، لكن عن كاشف الغطاء قدس سره جواز اشتراط إتيانها بعد موته بعد أن منع جواز ذلك في حال حياته قال: ولو شرط ردّ مظالم عنه أو صدقة أو عبادة أو أداء ديون لزمته في حياته أو نحو ذلك قوىّ القول بالصحّة. راجع: العروة الوثقى 301:6-302.

(2) - العروة الوثقى 302:6.

(3) - العروة الوثقى 303:6.

ص: 255

ولكنّ التحقيق: - كما أفاده في العروة - جواز ذلك وصحّة الوقف؛ إذ المتولّي غير الموقوف عليه. وجعل شيءٍ من منافع الوقف للمتولّي، لا يكون من قبيل الوقف عليه.

وعليه فلو كان المتولّي نفسه لا يدخل مفروض الكلام في الوقف على نفسه.

كما يمكن جعل ذلك من باب الاستثناء؛ بأن استثنى مقداراً من منافع الوقف للمتولّي. فحينئذٍ لا يتوجّه أيّ إشكال؛ لعدم دخول ذلك المقدار المستثنى في الوقف، بل كان خارجاً عن متعلّقه من أوّل الأمر. وقد أجاد في تحرير ذلك صاحب العروة، فراجع كلامه(1).

********

(1) - قال قدس سره: لا إشكال في جواز جعل مقدار من منافع الوقف لحقّ التولية، وحينئذٍ فإذا جعل التولية لنفسه مادام حيّاً له أن يأخذ ذلك المقدار بهذا العنوان، ولا يكون من الوقف على نفسه لأنّ المتولّي ليس موقوفاً عليه، بل إنّما يأخذ في مقابل تعبه في حفظ الوقف وإصلاحه وإجارته وصرف منافعه في مصارفه، نظير سائر المؤن، ويمكن أن يكون ذلك من باب استثناء هذا المقدار من المنافع، وفي تعيين حقّ التولية الأمر بيد الواقف قلّة وكثرة ولا يلزم أن يكون بمقدار أجرة عمل المتولّي، بل يجوز أن يكون أزيد، خصوصاً إذا جعلناه من باب الاستثناء، وحينئذٍ فيجوز أن يجعل حقّ التولية في الرتبة الاُولى تسعة أعشار المنافع وللوقف عليهم عشراً منها، ويجعله في المراتب المتأخّرة بعكس هذا، ولا يكون من الوقف على نفسه كما تخيّله المحقّق القمي قدس سره وقال: إنّه يعدّ من الوقف على نفسه عرفاً إذ نمنع حكم العرف بعد الاطّلاع على الكيفية بنحو ما ذكرنا. راجع: العروة الوثقى 302:6-303.

ص: 256

(مسألة 27): لو آجر عيناً ثمّ وقفها صحّ الوقف (1)، وبقيت الإجارة على حالها، وكان الوقف مسلوب المنفعة في مدّة الإجارة، فإن انفسخت بالفسخ أو الإقالة بعد تمامية الوقف، رجعت المنفعة إلى الواقف المؤجر، دون الموقوف عليهم.

صحّة وقف العين المستأجرة

1 - والوجه في صحّة وقف العين المستأجرة كونها ملكاً له ولا إشكال في صحّة وقف العين المملوكة من جانب واقفها.

ولكنّه من باب استثناء ثمرة البستان أو الشجرة الموقوفة إلى سنة. ولا مانع من ذلك كما أشار إليه في العروة(1).

وذلك لأنّ عدم مضيّ أمد استيجار العين قرينة على استثناء منافعها إلى انتهاء مدّة الاستيجار. وعليه فإذا انتهى أمد الاستيجار أو انفسخت الإجارة بالفسخ أو الإقالة رجعت منفعة العين - الحاصلة في خلال مدّة الاستيجار - إلى الواقف دون الموقوف عليه، كما أفاد السيّد الماتن قدس سره.

وهاهنا شبهة، وهي تأخير تأثير الوقف وعدم تأثيره من حين إنشائه، فيكون نظير الوقف المعلّق المحكوم بالبطلان؛ لانفكاك أثره عنه.

فيأتي حينئذٍ إشكال صاحب الجواهر من أنّ الانفكاك المزبور خلاف ظاهر أدلّة سببية الأسباب الشرعية للنقل.

واُجيب بأنّ المقام من قبيل التأخير في صرف الوقف لا تأثيره. وذلك لأنّ أصل

********

(1) - العروة الوثقى 302:6.

ص: 257

تأثير الوقف من حين إنشائه لا إشكال فيه وإنّما المانع في صرف منافعه خلال مدّة الإجارة، ففي الحقيقة كانت منافع العين في خلال مدّة الإجارة خارجة من متعلّق الوقف من أوّل الأمر.

كما يعلم هذا الجواب من كلام صاحب العروة.

ولكن يشكل الفرق لحصول الانفكاك بين السبب وأثره على أيّ حال، إلّاأنّ المانع هناك التعليق وهاهنا إنشاءُ عقد الوقف على مايوجب إنفكاك الأثر؛ نظراً إلى كون المنافع ملكاً للمستأجر حين الوقف وبعده إلى مدّة ربما تكون طويلة. وإلّا فالعين المستأجرة ملكٌ للواقف في كلا المقامين.

و عليه فالأحوط وجوباً تجديد صيغة الوقف - المنشأ على العين المستأجرة - بعد انتهاء مدّة الإجارة. ولا سيّما إذا كانت الفاصلة طويلة.

نعم، لو كانت الفاصلة قصيرة بقدر ساعات أو يوم بحيث لا يُعدّ مانعاً فاصلاً عند أهل العرف، لا بأس به.

ثمّ إنّ الإشكال المزبور يبتني على تمامية دليلية تأخير التأثير لإثبات بطلان العقد وتسلُّم ظهور نصوص سببية الأسباب الشرعية في تأثيرها من حين تلبّسها بمبادئها، كما وجّهنا بذلك تعليل صاحب الجواهر لبطلان الوقف المعلّق. وبناءً على هذا الأساس، يخرج بعض موارد تأخير التأثير عن مقتضى القاعدة، كما في بيع العين المستأجرة. ولا بدّ في الخروج عن مقتضى القاعدة الاقتصار على المتيقّن من موضع النصّ أو الإجماع.

وأمّا بناءً على عدم تمامية الوجه المزبور - لمنع ظهور النصوص في فورية التأثير؛ لكونه خلاف المتبادر من أصل السببية الشرعية؛ نظراً إلى كون سببية كلّ سبب بحسبه وكون اختلاف كيفية تأثيره باختلاف الأسباب المنجّزة والمعلّقة

ص: 258

(مسألة 28): لا إشكال في جواز انتفاع الواقف بالأوقاف على الجهات العامّة (1)، كالمساجد والمدارس والقناطر والخانات المعدّة لنزول المسافرين ونحوها.

ومساعدة المتفاهم العرفي لذلك، ولا سيّما بلحاظ نقض الوجه المزبور بمثل بيع العين المستأجرة - فينتفي الإشكال المزبور في مطلق العقود المعلّقة، فضلاً عن مثل المقام. ولكن نظراً إلى الإشكال المزبور لا بدّ من الاحتياط بتجديد الصيغة عند انقضاء الإجارة.

جواز انتفاع الواقف بالأوقاف على الجهة العامّة

اشارة

1 - وذلك لأنّ الموقوف عليه حينئذٍ هو الجهة، فلا يصدق الوقف على نفسه.

هذا، مضافاً إلى استقرار سيرة المتشرّعة على جواز انتفاع الواقف حينئذٍ، إلّاأن يقصد خروج نفسه من الجهة الموقوف عليها، كما أفاده في العروة بقوله:

«في مثل المساجد والقناطر والخانات للزوّار والحجّاج والمسافرين والمدارس ونحوها من الأوقاف العامّة على الجهات العامّة لا ينبغي الإشكال في جواز انتفاع الواقف بها أيضاً؛ لأنّ الموقوف عليه هو الجهة فلا يصدق عليه الوقف على نفسه، مضافاً إلى السيرة عليه. نعم لو قصد خروج نفسه أشكل جواز تصرّفه؛ لأنّه حينئذٍ كالمستثنى»(1).

نعم، دلّ خبر علي بن سليمان على عدم جواز انتفاع الواقف بالمال الموقوف في الوقف العامّ؛ حيث سأل أبا الحسن عن انتفاعه من ضياعه الموقوفة على الفقراء

********

(1) - العروة الوثقى 304:6.

ص: 259

والمستضعفين بقوله: فإن وقفتها في حياتي، فلي أن آكُلَ منها أيّام حياتي أم لا؟ فكتب عليه السلام: «فهمت كتابك في أمر ضياعك. فليس لك أن تأكل منها من الصدقة.

فإن أنت أكلت منها، لم تنفُذ»(1).

ولكن قد سبق أنّ هذه الرواية ضعيفة سنداً بعليّ بن سليمان بن رشيد، وأنّ مدلولها غير قابل للالتزام؛ إذ غاية ما يلزم من النهي عن أكل الموقوف بقوله:

«فليس لك أن تأكل منها» حرمة تصرّف الواقف في المال الموقوف. وأمّا بطلان الوقف بسبب تصرّف الواقف - كما هو ظاهر قوله: «فإن أنت أكلت منها لم تنفذ» - فغير قابل للالتزام.

ومحصّل الكلام الذي يقتضيه التحقيق في المقام: أنّ الواقف لو صار واجداً لملاك عنوان الموقوف عليه العامّ وصار مصداقاً له، لا إشكال في جواز انتفاعه، كما لو وقف على الفقراء ثمّ صار فقيراً، أو وقف على المسافرين ثمّ صار مسافراً.

وأمّا إذا لم يكن من مصاديق عنوان الموقوف عليه، فلا يجوز له التصرّف في المال الموقوف بوجهٍ.

نعم، إذا قصد الواقف خروج نفسه عن منافع الوقف مطلقاً - حتّى لو صار مصداقاً للموقوف عليه - لا يجوز له التصرّف في منافع الوقف على الجهات العامّة.

وذلك لأنّ «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها».

فإنّ مقتضى هذا العموم تبعيّة الوقف في صحّته ونفوذه لقصد الواقف. فبأيّ شكل رسمه الواقف يصحّ الوقف وينفذ بذلك النحو. والمفروض أنّ الواقف قصد الوقف على الجهة المستثنى منها بعض مصاديقه الذي هو نفسه.

********

(1) - وسائل الشيعة 176:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 3، الحديث 1.

ص: 260

وأمّا الوقف على العناوين العامّة - كفقراء المحلّ مثلاً - إذا كان الواقف داخلاً في العنوان حين الوقف، أو صار داخلاً فيه فيما بعد، فإن كان المراد التوزيع عليهم، فلا إشكال في عدم جواز أخذ حصّته من المنافع (1)، بل يلزم أن يقصد من العنوان المذكور حين الوقف من عدا نفسه، ويقصد خروجه عنه، ومن ذلك ما لو وقف شيئاً على ذرّية أبيه أو جدّه إن كان المقصود البسط والتوزيع، كما هو الشائع المتعارف فيه.

حكم ما إذا كان الواقف داخلاً في عنوان الموقوف عليه

1 - في الأوقاف العامّة على العناوين، كالوقف على الفقراء والفقهاء والطلّاب، إذا كان الواقف داخلاً في العنوان، وقع الكلام في صحّة الوقف.

والأقوى - كما قال السيّد الماتن قدس سره - بطلان الوقف في حصّته إذا كان الوقف بقصد توزيع الموقوف بين الواقف وبين سائر أفراد العنوان؛ بأن قصد وقف نصفه أو عُشره على نفسه والباقي على سائر أفراد ذلك العنوان.

فلا إشكال في بطلان الوقف بالنسبة إلى حصّته حينئذٍ؛ لوضوح أنّه من قبيل الوقف على نفسه. ولا يبطل الوقف بذلك رأساً؛ لما سبق بيانه في الوقف على نفسه وغيره تشريكاً، من انحلال الوقف حينئذٍ، نظير التبعّض في الصفقة.

وما يظهر من السيّد الماتن قدس سره تبعاً لصاحب العروة(1)، من مجرّد عدم جواز انتفاع

********

(1) - قال السيّد في العروة: وأمّا الوقف على مثل الفقراء والفقهاء والطلّاب ونحوهم، إذا كان الواقف داخلاً في العنوان حين الوقف أو صار داخلاً بعد ذلك، فإن كان المراد التوزيع عليهم فلا إشكال في عدم جواز أخذه حصّة من المنافع. راجع: العروة الوثقى 304:6.

ص: 261

وإن كان المراد بيان المصرف (1)

الواقف من حصّته، مشكل جدّاً؛ نظراً إلى بطلان الوقف على نفسه. فلو كان الوقف المزبور من قبيل الوقف على نفسه بالنسبة إلى الحصّة المجعولة له، تقتضى القاعدة بطلانه من أصله بالنسبة إلى حصّته.

كما أنّ ما يظهر من السيّد الماتن قدس سره، من كون هذا النوع من الوقف متعارفاً مشكل جدّاً؛ لعدم جريان العادة على التوزيع في الأوقاف العامّة، بل إنّما يُلاحظ الواقف نفسه من مصاديق الموقوف عليه العامّ؛ لا مستقلاًّ عن سائر أفراد عنوان الموقوف عليه العامّ، كما أنّه يلاحظ أفراد العنوان العامّ بما أنّها مصارف الوقف، لا الموقوف عليه المستقلّ. وقد اعترف السيّد الماتن قدس سره بتعارف ذلك في الأوقاف العامّة، كما ستلاحظه في المتن الآتي.

1 - إذا قصد الواقف نفسه في الوقف العامّ بعنوان مورد الصرف، وقع الكلام بين الأصحاب في صحّة الوقف وبطلانها على أقوال:

أحدها: ما ذهب إليه المشهور من جواز انتفاعه مطلقاً.

ثانيها: عدم جواز انتفاعه مطلقاً، كما عن ابن إدريس والعلّامة في المختلف والتذكرة.

ثالثها: جواز انتفاعه، إلّامع قصد خروج نفسه.

رابعها: جواز انتفاعه مع الإطلاق، لا مع قصد الدخول أو الخروج.

وقد أشار في العروة(1) إلى هذه الوجوه واختار الوجه الثالث؛ حيث قال - بعد نقل

********

(1) - حيث قال: وإن كان المراد بنحو بيان المصرف كما هو الغالب المتعارف، ففي جواز انتفاعه مطلقاً كما عن المشهور، أو عدمه مطلقاً كما عن ابن إدريس والعلّامة في المختلف والتذكرة، أو جوازه إلّامع قصد خروجه، أو جوازه مع الإطلاق لا مع قصد الدخول؛ أو الخروج وجوه وأقوال. راجع: العروة الوثقى 304:6.

ص: 262

كما هو الغالب المتعارف في الوقف على الفقراء والزوّار والحجّاج ونحوهم - فلا إشكال في خروجه وعدم جواز الانتفاع به إذا قصد خروجه (1). وأمّا لو قصد الإطلاق والعموم بحيث يشمل نفسه فالأقوى جواز الانتفاع، والأحوط خلافه، بل يكفي في جوازه عدم قصد الخروج، وهو أولى به ممّن قصد الدخول.

الوجوه المزبورة -: «والأقوى الجواز، إلّامع قصد خروج نفسه».

وعلّل ذلك بقوله: «فإنّه لا يُعدّ وقفاً على نفسه؛ إذ الموقوف عليه هو عنوان الفقيه أو الفقير مثلاً، والملحوظ جهة الفقر والفقاهة. والقياس على الزكاة التي للفقراء ولا يجوز للفقير أن يأكل زكاة نفسه، لا وجه له؛ إذ فيها يجب الإعطاء، ومع أكله نفسه لا يصدق إيتاء الزكاة»(1).

وكلامه جيّد، إلّاأنّه مع علم الواقف بدخوله وقصده إدخال نفسه لا يبعد صدق الوقف على نفسه وغيره عرفاً، وإن أنكر في العروة بقوله: «وأمّا قصد الدخول فلا يضرّ؛ إذ معه لا يصدق الوقف على نفسه».

1 - وذلك لعدم دخوله في الموقوف عليهم حينئذٍ لأجل قصده حين إنشاء الوقف خروجه، فهو من قبيل تخصيص العنوان واستثناء بعض أفراده، كما أفاد في العروة بقوله: «وأمّا عدم الجواز مع قصد الخروج؛ فلأ نّه حينئذٍ من تخصيص العنوان وتقييده».

********

(1) - العروة الوثقى 304:6.

ص: 263

وأمّا إذا قصد دخوله، فحكم السيّد الماتن؛ وفاقاً لصاحب العروة بالصحّة وعلّل ذلك في العروة بعدم صدق الوقف على نفسه بذلك؛ حيث قال: «وأمّا قصد الدخول، فلا يضرّ؛ إذ معه أيضاً لا يصدق الوقف على نفسه»(1).

ولكنّه مشكل، بل لا يبعد صدق ذلك حينئذٍ مع علمه بدخوله وقصده لذلك، فإنّ أهل العرف إذا التفتوا إلى علمه بدخوله في عنوان الموقوف عليه وإلى قصده لذلك، لا يبعد حكمهم بأ نّه وقف ذلك على نفسه وعلى غيره. فينبغي الاحتياط في الاجتناب عن الانتفاع بالوقف حينئذٍ، وإن كان الأقوى جوازه؛ لأنّ عمدة دليل بطلان الوقف على نفسه هو الإجماع، والمتيقّن من معقده ما إذا جعل الواقف نفسه موقوفاً عليه، ولوتشريكاً. وأمّا إذا كان داخلاً في الوقف على الجهة والعنوان العامّ بعنوان أحد المصاديق، فلم يُعلم دخوله في معقد الإجماع، لو لم يكن منصرفاً عنه.

وأمّا لو لم يقصد دخول نفسه بخصوصه، بل قصد الإطلاق أو عموم العنوان - من غير عناية وقصد لدخول نفسه في الموقوف عليهم - فالأقوى الصحّة؛ لعدم صدق الوقف على نفسه مع عدم قصده ذلك. ومن هنا يكون غير القاصد لدخول نفسه أولى من قاصده في جواز انتفاعه من الوقف، كما أشار إليه السيّد الماتن.

********

(1) - العروة الوثقى 304:6.

ص: 264

(مسألة 29): يعتبر في الواقف: البلوغ والعقل والاختيار وعدم الحجر لفلس أو سفه، فلا يصحّ وقف الصبيّ وإن بلغ عشراً على الأقوى (1).

شرائط الواقف

وقف الصبيّ البالغ عشراً

1 - إنّ الدليل على اشتراط ذلك كلّه ما دلّ من النصوص المتواترة على رفع القلم عن الصبيّ والمجنون وأ نّه لا اعتبار بتصرّفاتهما المالية في مالهما ومال غيرهما.

وقد سبق ذكر هذه الإطلاقات والعمومات في مظانّها.

وأمّا الاختيار، فلوضوح اعتباره في جميع التكليفيات والوضعيات من التصرّفات والمعاملات بالنصّ والإجماع والعقل والضرورة.

وأمّا اشتراط عدم الحجر بالفلس والسفه، فلما دلّ من النصوص وقامت عليه السيرة، من كون السفيه والمفلّس ممنوعين عن التصرّف المالي. كما قُرّر ذلك في كتاب الحجر، وغيره. ولا كلام في ذلك هاهنا بالخصوص.

وإنّما الكلام في صحّة وقف الصبيّ البالغ عشراً. والمعروف المشهور عدم صحّة وقفه، كما في الحدائق(1)، ولا سيّما بين المتأخّرين ومتأخّري المتأخّرين والمعاصرين.

وقد صرّح المفيد في المقنعة بجواز وقفه. واستُظهر الجواز من كلام الشيخ الطوسي في النهاية وابن البرّاج في المهذّب؛ نظراً إلى تجويزهما صدقته وإلى تصريحهما بأنّ الصدقة والوقف شيء واحد، ومثلهما التقيّ الحلبي والإسكافي. كما

********

(1) - الحدائق الناضرة 181:22.

ص: 265

نقل في المفتاح(1) والحدائق. ولا يخفى أنّ استظهار الجواز في المقام من كلام غير المفيد مبنيٌّ على إرادتهم الوقف من لفظ الصدقة، وهو كذلك بعد ما صرّحوا بأنّ الوقف والصدقة شيء واحد.

وعليه فتحصيل الإجماع - المدّعى في الغنية - على بطلان وقف الصبيّ البالغ عشراً مشكل. هذا مع قوّة استنادهم إلى عمومات منع تصرّفات الصبيّ، فهو محتمل المدرك.

هذا مضافاً إلى وجود المخالف مثل المفيد والشيخ والحلبي والإسكافي وابن البرّاج وغيرهم من القدماء.

ومن القائلين بالجواز صاحب الحدائق، فإنّه بعد ذكر الأقوال ونصوص الجواز، ذكر كلام صاحب الشرائع وتردُّده في المقام وترجيح المنع معلّلاً بتوقّف الحجر على البلوغ والرشد. ثمّ أوّل ما قال في المسالك - من شذوذ الأخبار ومخالفتها لاُصول المذهب - بأنّ مراده من الاُصول عمومات منع تصرّفات الصبيّ، وهي مخصَّصة بما ورد في الوصيّة وغيرها، من صحّة وصيّة الصبيّ، ولا تنحصر النصوص المخصّصة بما ورد في الوقف حتّى تكون شاذّة نادرة.

قال قدس سره: «قال المحقّق في الشرائع: وفي وقف من بلغ عشراً تردّد، والمرويّ جواز صدقته، والأولى المنع؛ لتوقّف رفع الحجر على البلوغ والرشد.

وقال في المسالك بعد إيراد رواية زرارة: «وقريب منها رواية سماعة، ومثل هذه الأخبار الشاذّة المخالفة لاُصول المذهب، بل وإجماع المسلمين، لا تصلح لتأسيس هذا الحكم»(2).

********

(1) - مفتاح الكرامة 44:9.

(2) - مسالك الأفهام 323:5.

ص: 266

أقول: يمكن أن يقال: إنّ ما دلّ على الحجر قبل البلوغ والرشد - وهو المشار إليه في كلامه في المسالك باُصول المذهب - مخصّص بهذه الأخبار التي ذكرناها، ونحوها غيرها ممّا ورد في الوصيّة، كرواية عبدالرحمان بن أبي عبداللّه قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام: «وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيّته»(1). وفي معناها روايات عديدة في الوصيّة. ونسبة جميع هذه الروايات إلى الشذوذ بعيد جدّاً.

نعم، لو كانت المخالفة منحصرة فيما نقله من الروايات لأمكن ما ذكره، إلّاأنّك قد عرفت كثرة الأخبار بما يوجب الخروج عن تلك الاُصول المذكورة، فيجب التخصيص».

ثمّ قوّى في الحدائق مذهب الشيخ وأفتى بجواز وصيّة الصبيّ البالغ عشراً، بقوله: «وبما ذكرناه تظهر قوّة مذهب الشيخ وأتباعه في هذه المسألة»(2).

وعليه فمقتضى القاعدة تخصيص عمومات المنع بنصوص المقام لو تمّت سنداً ودلالةً، وإلّا فلا مناص من العمل بالعمومات والالتزام برأي المشهور.

فالعمدة في المقام ملاحظة النصوص الواردة في المقام.

فمن هذه النصوص: معتبرة موسى بن بكر عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنّه يجوز في ماله ما أعتق أو تصدّق أو أوصى على حدّ معروف وحقّ فهو جائز»(3).

هذه المعتبرة رواها المشايخ الثلاثة في الكافي والتهذيب والفقيه بطرقهم عن موسى بن بكر عن زرارة. ولا كلام في رجال سندها، إلّاموسى بن بكر؛ نظراً إلى

********

(1) - وسائل الشيعة 362:19، كتاب الوصايا، الباب 44، الحديث 3.

(2) - الحدائق الناضرة 182:22.

(3) - وسائل الشيعة 211:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 15، الحديث 1.

ص: 267

عدم توثيقه من جانب قدماء مشايخ الرجال. ولكنّ الأقوى اعتبار روايته.

وذلك أوّلاً: لكثرة رواياته، ونقل الأجلّاء عنه، وثبوت كتاب له روى عنه صفوان بن يحيى، ولوقوعه في أسناد تفسير علي بن إبراهيم؛ فإنّ ذلك كلّه يكشف عن كونه من معاريف الرواة ومشاهيرهم، فلو كان في مثله قدح لبان ونُقل، ولم ينقل من أحد قدح ولا جرح في حقّه، حتّى ممّن دأبه الطعن في الرواة، بل وقع مورد التوثيق العامّ من علي بن إبراهيم. وهذا يكشف عن اعتبار روايات الرجل، بل عن وثاقته.

وثانياً: لشهادة صفوان بن يحيى بعدم اختلاف بين الأصحاب في اعتبار كتاب موسى بن بكر؛ حيث روى محمّد بن يعقوب عن حميد بن زياد أنّه قال: «دفع إليّ صفوان كتاباً لموسى ابن بكر، فقال لي: هذا سماعي من موسى بن بكر وقرأته عليه، فإذاً فيه موسى بن بكر عن علي بن سعيد، عن زرارة، قال: هذا ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا»(1).

ولا إشكال في سند هذا النقل، ولا في دلالته على شهادة صفوان باتّفاق الأصحاب على اعتبار كتاب موسى بن بكر، بناءً على رجوع الضمير الفاعلي في «قال» إلى صفوان وكون المشار إليه بلفظ «هذا» كتابه، كما هو الظاهر.

ويؤيّد ذلك ما دلّ من النصوص على تفقّد أبي الحسن الكاظم عليه السلام له بالفحص عن حاله وأمره بأكل اللحم كباباً لعلاج مرضه(2). وما دلّ على احتجاج جعفر بن

********

(1) - الكافي 3/97:7.

(2) - الكافي 2/318:6. عدةٌ من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن حسّان، عن موسى بن بكر قال: اشتكيت بالمدينة شكاة ضعف معها فأتيت أبا الحسن عليه السلام فقال لي: أراك ضعيفاً قلت: نعم فقال لي: كل الكباب فأكلته فبرئت.

ص: 268

سماعة بروايته(1). فإنّ الأوّل يُشعر بحسن حال الرجل، والثاني يدلّ على اعتماد الأصحاب على رواياته.

فالأقوى اعتبار روايات موسى بن بكر. ومن هنا عبّرنا عن روايته هذه بالمعتبرة.

وأمّا تمامية دلالتها على المطلوب، فهي فرع إرادة ما هو أعمّ من الوقف من لفظ التصدّق وظهوره في ذلك، كما هو مقتضى التحقيق؛ لما دلّ على ذلك من النصوص المعتبرة، كصحيحة زرارة(2) وموثّقة عبيد بن زرارة(3).

وقد سبق في مسألة اشتراط القربة في الوقف تقريب دلالتهما على إطلاق لفظ الصدقة في عصر المعصومين عليهم السلام على مطلق ما يُعطى لوجه اللّه حتّى الوقف.

********

(2) وروى أيضاً عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن سنان، عن موسى بن بكر قال: قال لي أبوالحسن - يعني الأوّل - عليه السلام: «وما أراك مصفرّاً؟ فقلت له: وعك أصابني فقال لي: كل اللحم فأكلته ثمّ رآني بعد جمعة وأنا على حالي مصفرّاً، فقال لي: ألم آمرك بأكل اللحم؟ قلت: ما أكلت غيره منذ أمرتني، فقال: وكيف تأكله؟ قلت: طبيخاً، فقال: لا، كله كباباً فأكلته ثمّ أرسل إليّ فدعاني بعد جمعة وإذا الدم قد عاد في وجهي فقال لي: الآن نعم».

(1) - الكافي 9/141:6. حميد بن زياد عن الحسن بن محمّد بن سماعة عن جعفر بن سماعة أنّ جميلاً شهد بعض أصحابنا وقد أراد أن يخلع ابنته من بعض أصحابنا فقال جميل للرّجل: ما تقول رضيت بهذا الذي أخذت وتركتها؟ فقال: نعم، فقال لهم جميل: قوموا فقالوا: يا أبا علي ليس تريد يتبعها الطلاق؟ قال، لا، قال: وكان جعفربن سماعة يقول: يتبعها الطلاق في العدّة ويحتجّ برواية موسى بن بكر عن العبد الصالح عليه السلام قال: «قال على عليه السلام المختلعة يتبعها الطلاق ما دامت في العدّة». أي يترتّب عليه حكم الطلاق في العدّة بمعنى عدم جواز رجوعه إليها في العدّة، كما هو حكم الطلاق البائن. والمقصود أنّ الخلع في حكم الطلاق البائن.

(2) - وسائل الشيعة 231:19، كتاب الهبات، الباب 3، الحديث 1.

(3) - وسائل الشيعة 243:19، كتاب الهبات، الباب 10، الحديث 1.

ص: 269

وسبق هناك بيان صاحب الحدائق(1)، ونصّ الشيخ المفيد والشيخ الطوسي على كون الصدقة والوقف شيئاً واحداً.

وفي المقام أيضاً قد أشار إلى ذلك صاحب الحدائق بقوله: «والرواية وإن كان موردها الصدقة، إلّاأنّ الشيخ وجماعة عدّوه إلى الوقف؛ نظراً إلى أنّه بعض أفراد الصدقة بالمعنى الأعمّ».

وبقوله: قد عرفت أنّ إطلاق الصدقة على الوقف شائع، ذائع في الأخبار، بل هو الأصل في الإطلاق. وإنّما الإطلاق على ما ذكروه مستحدثٌ»(2). ومقصوده أنّه مستحدث في عصر الأئمّة عليهم السلام ولم يكن معهوداً في عهد النبي صلى الله عليه و آله.

نعم، قُيّد نفوذ وصيّة الصبيّ في ذيل المعتبرة بكونها «على حدّ معروف وحقّ»؛ بأن لم يوص بالمنكر والباطل والمعصية. ولا يختصّ اعتبار هذا القيد بوصية الصبيّ، بل يعتبر في وصيّة البالغ أيضاً، وإنّما ذُكر في وصيّة الصبيّ لكونه في معرض الزلّة لقصور عقله وقلّة معرفته.

هذا بناءً على تعلّق الجارّ والمجر وفي قوله: «على حدّ معروف وحقّ» بالوصيّة دون التصدّق، وإلّا يأتي في الصدقة والوقف أيضاً، كما يؤيّد ذلك قوله عليه السلام: «إذا وضعها في موضع الصدقة» في صحيحة الحلبي ومحمّد بن مسلم(3).

وعلى أيّ حال لا يضرّ هذا القيد بتمامية دلالة هذه المعتبرة على نفوذ صدقة الصبيّ البالغ عشراً ووقفه.

وعليه فلا إشكال في تمامية هذه المعتبرة سنداً ودلالة، فهي حجّة على

********

(1) - الحدائق الناضرة 154:22-155.

(2) - الحدائق الناضرة 181:22.

(3) - وسائل الشيعة 212:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 15، الحديث 3.

ص: 270

نعم، حيث إنّ الأقوى صحّة وصيّة من بلغه - كما يأتي - فإن أوصى به صحّ وقف الوصيّ عنه (1).

المطلوب، وكافٍ لإثبات صحّة وقف الصبيّ البالغ عشراً، هذا مع ذهاب أكثر القدماءِ إلى ذلك. كما استدلّ به صاحب الحدائق على ذلك.

وتؤيّدها صحيحة جميل، وصحيحة الحلبي ومحمّد بن مسلم؛ إذ صرّح فيهما بجواز صدقة الغلام إذا عقل ووضع الصدقة في موضعها ولو لم يحتلم.

ففي الاُولى عن أحدهما عليهم السلام قال: «يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته ووصيّته وإن لم يحتلم»(1).

وفي الثانية عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: سُئل عن صدقة الغلام ما لم يحتلم؟ قال:

«نعم، إذا وضعها في موضع الصدقة».

هاتان الصحيحتان، وإن لم يصرّح فيهما بعشر سنين، إلّاأنّهما صريحتان في إلغاء اعتبار البلوغ.

فالأقوى في المقام جواز وقف الصبيّ البالغ عشراً، وإن كان الأحوط استحباباً التجديد بعد البلوغ.

صحّة وصيّة الصبيّ البالغ عشراً بالوقف

1 - وذلك لما دلّت النصوص الصحيحة على جواز وصيّة الصبيّ البالغ عشراً، كمعتبرة موسى بن بكر المزبورة.

وصحيحة أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام، أنّه قال: «إذا بلغ الغلام عشر سنين

********

(1) - وسائل الشيعة 212:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 15، الحديث 2.

ص: 271

(مسألة 30): لا يعتبر في الواقف أن يكون مسلماً (1)، فيصحّ وقف الكافر فيما يصحّ من المسلم على الأقوى، وفيما يصحّ منه على مذهبه إقراراً له على مذهبه.

وأوصى بثلث ماله في حقّ جازت وصيّته، وإذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حقّ جازت وصيته»(1).

فإنّ ذيلها دلّت على جواز وصيّة الصبيّ حتّى في الأشياء الخطيرة وبالمال الكثير.

وصحيحة عبدالرحمان بن أبي عبداللّه عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديث قال: «إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيّته»(2). ومثلها صحيحته الاُخرى(3) ونظيرها صحيحة منصور بن حازم وصحيحة أبي أيّوب(4).

وقد سبق البحث عن هذه النصوص والجمع بينهما وبين سائر نصوص المقام في كتاب الوصيّة من كتابنا «دليل تحرير الوسيلة».

هذا، ولكن بعد ما بنينا على صحّة وقف الصبيّ البالغ عشراً - لما عرفت وجهه آنفاً - لا حاجة إلى هذا الاستدراك.

حول اعتبار إسلام الواقف

1 - المشهور صحّة وقف الكافر حتّى وقف ما لا يصحّ وقفه كالخنزير والبيع

********

(1) - وسائل الشيعة 361:19، كتاب الوصايا، الباب 44، الحديث 2.

(2) - وسائل الشيعة 362:19، كتاب الوصايا، الباب 44، الحديث 3.

(3) - وسائل الشيعة 362:19، كتاب الوصايا، الباب 44، الحديث 5.

(4) - وسائل الشيعة 363:19، كتاب الوصايا، الباب 44، الحديث 6 و 7.

ص: 272

والكنائس وعلى من لا يصحّ الوقف عليه، فضلاً عن وقف ما يصحّ وقفه على المسلمين، بل ظاهر التنقيح الإجماع عليه، كما قال في المفتاح(1).

ويظهر من بعض الفقهاء عدم صحّة وقف الكافر على بيوت النيران وقرابين(2)الشمس والكواكب كما نقل في المفتاح عن صريح المختلف والتنقيح. وأيضاً نقل عن الفخر في الإيضاح وقف الكافر الخنزير على مثله. وعلى أيّ حال لا خلاف في صحّة الوقف من الكافر في الجملة.

وعمدة الإشكال في المقام اعتبار قصد القربة في الوقف، فمن قال باعتباره في الوقف يشكل إفتاؤه بصحّة وقف الكافر في المقام، كما أشكل بذلك في جامع المقاصد على العلّامة، بقوله:

«هذا منافٍ لما سبق من اشتراطه في الوقف التقرّب، إلّاأن يريد به كونه ممّا يتقرّب به، فيصحّ حينئذٍ وقف الكافر إذا كان في نفسه قربة. لكن يرد أنّ المصنّف جوّز صدور الوقف على الكافر على نحو البيع والكنائس، لا على نحو بيوت النيران؛ محتجّاً بأنّ: الأوّل بيت عبادة للّه سبحانه بخلاف الثاني، مع أنّه قد تقرّر أنّ الوقف عليها معصية. وكأ نّه نظر إلى تأثير اعتقاد الواقف، ففرّق بين المسلم والكافر في ذلك. وفي الفرق نظر؛ لأنّ ذلك لو أثّر لأثّر بالنسبة إلى الوقف على بيوت عبادة النيران»(3).

وقد جعل في المفتاح المدار في صحّة وقف الكافر وبطلانه على تأثير اعتقاد

********

(1) - مفتاح الكرامة 62:9.

(2) - القرابين جمع القربان على خلاف القياس كما قال الخليل في العين. والمعنى ما يُتّخذ قُربة ووسيلة إلى اللّه.

(3) - جامع المقاصد 48:9.

ص: 273

الواقف وعدمه؛ حيث قال: «والذي ينبغي تحريره، أن يقال: إن كان المدار على اعتقاد الواقف وتأثيره، فالوجه الجواز في الجميع وإلّا فلا في الجميع»(1).

وفي الحدائق بعد ما نسب صحّة وقف الكافر إلى ظاهر الأصحاب، قال في تعليل ذلك: «وعُلّل الصحّة باعتقادهم شرعيته، مضافاً إلى إقرارهم على دينهم»(2).

ومقتضى التحقيق: التفصيل في صحّة وقف الكافر بين وقفه على معابد اللّه في مسلكه ودينه وفي وجوه البرّ، لا على بيوت النيران وقرابين الشمس والكواكب، من مظاهر الشرك ومعالم الكُفر.

وذلك لا لما قالوا من عدم تمشّي قصد القربة في الثاني ولتأثير الاعتقاد في الأوّل؛ لعدم وجاهة هذا الوجه؛ حيث إنّه لو كان الاعتقاد مؤثّراً لأثّر في القسم الثاني أيضاً، كما أشكل به المحقّق الكركي على العامّة.

بل إنّما لتحقّق الإجماع في الأوّل، دون الثاني كما عرفت المخالفة فيه من صريح المختلف والتنقيح. والإجماع دليل لبيّ يؤخذ بقدره المتيقّن.

وأمّا تعليل ذلك بقاعدة الإلزام وأخذهم بما التزموا في دينهم وبما أقرّوا به، فلا يصحّ.

وذلك أوّلاً: لأنّ قاعدة الإلزام على القول بتعميمها إلى كلّ من دان بدين في أيّ مسلك وعدم اختصاص جريانها بالمخالفين، إنّما هو فيما لم يعتبر فيه قصد القربة من نكاح أو بيع وإجارة ونحو ذلك من العقود والإيقاعات.

وأمّا ما يعتبر فيه قصد القربة من العباديات، فنصوص قاعدة الإلزام قاصرة عن شمولها، ولمّا كانت قاعدة الإلزام على خلاف القاعدة فلا بدّ من الاقتصار على

********

(1) - مفتاح الكرامة 63:9.

(2) - الحدائق الناضرة 195:22.

ص: 274

المتيقّن من مدلول نصوصها والرجوع إلى مقتضى القاعدة.

وبناءً على اعتبار قصد القربة في الوقف كما هو الحقّ، مقتضى القاعدة بطلان وقف الكافر؛ لعدم تمشّي قصد القربة منه في دينه المنسوخ الباطل.

وتوجيه ذلك بتمشّي قصد القربة في دينه في غير محلّه؛ لعدم تمشّي قصد القربة ممّن لم يقرّ بالإسلام والرسالة، كما قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ) (1) و (وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (2).

وثانياً: إنّ مصبّ قاعدة الإلزام - حسب ما يستفاد من نصوصها - ما إذا كان جريانها بنفع الشيعة الاثنى عشرية وإن كان الملزم عليه أعمّ من المخالفين. ومن لاحظ كلمات الفقهاء في المقام يعرف عدم اختصاص معقد إجماعهم بذلك.

وثالثاً: إنّ قاعدة الإلزام إنّما تُثمر وتفيد إذا حكم الحاكم الشيعي على طبقها، وإنّ نطاق معقد الإجماع في المقام أوسع من ذلك فإنّ ظاهر كلمات الفقهاء الإفتاء بصحّة وقف الكافر بعنوان الحكم الأوّلي، لا من باب الإلزام.

فمقتضى التحقيق في المقام صحّة وقف الكافر، وذلك بدليل الإجماع فقط، ولمّا كان خلاف مقتضى القاعدة ويكون دليلاً لبيّاً يجب الاقتصار على القدر المتيقّن من معقده؛ اقتصاراً فيما خالف القاعدة على موضع النصّ من الدليل.

********

(1) - آل عمران (3):19.

(2) - آل عمران (3):85.

ص: 275

(مسألة 31): يعتبر في الموقوف: أن يكون عيناً مملوكة، يصحّ الانتفاع به منفعة محلّلة، مع بقاء عينه (1) بقاءً معتدّاً به، غير متعلّق لحقّ الغير المانع من التصرّف، ويمكن قبضه. فلا يصحّ وقف المنافع، ولا الديون، ولا ما لا يملك مطلقاً كالحرّ، أو لا يملكه المسلم كالخنزير، ولا ما لا انتفاع به إلّابإتلافه كالأطعمة والفواكه، ولا ما انحصر انتفاعه المقصود في المحرّم كآلات اللهو والقمار،

شرائط الموقوف

اشارة

1 - يقع الكلام حول شرائط الموقوف في امور.

أحدها: كون الموقوف عيناً موجودةً باقيةً، لا معدومة ولا زائلة تالفة بالتصرّف، ولا ديناً ولا منفعةً.

ثانيها: كونه مملوكاً للواقف غير متعلّق لحقّ الغير على وجه مانع من تصرّف الواقف.

ثالثها: كونه ممّا يصحّ الانتفاع به انتفاعاً مقصوداً محلّلاً، من دون اشتراط كونه ممّا ينتفع به فعلاً.

رابعها: كونه معيّناً غير مبهم ولا متردّد.

خامسها: كونه ممّا أمكن تسليمه وإقباضه. فلو لم يحصل واحدٌ من هذه الشرائط، بطل الوقف، بل لا ينعقد من أصله.

وقد نقل في المفتاح(1) عن كثير من القدماء والمتأخّرين أنّهم أفتوا باشتراط

********

(1) - مفتاح الكرامة 70:9.

ص: 276

الاُمور المذكورة في الموقوف، بل نقل عن الغنية والسرائر الإجماع على ذلك.

وأيضاً نفى الخلاف عن ذلك في الرياض(1)، مع نقله الإجماع عن الغنية. وعلّل في الجواهر لذلك بقوله: «ولاتّفاق الأصحاب ظاهراً»(2).

والحاصل: أنّه لا ريب في اتّفاق الأصحاب على اشتراط الشروط الأربعة أو الخمسة المذكورة. ومع ذلك فقد علّلوا لكلّ واحد منها ببعض الوجوه، كما يأتي بيانها.

حول اشتراط كون الموقوف عيناً

يشترط في الموقوف كونه عيناً، فلا يصحّ وقف المنفعة كما لو وقف منافع داره المستأجرة، ولو مع بقاء عينها في ملكه؛ نظراً إلى إتلاف المنفعة بالانتفاع منها ولا بقاءَ ولا ثبات له، حتّى يصوّر فيها تحبيس الأصل؛ إذ لا أصل حينئذٍ غير المنفعة المنعدمة بالانتفاع، كما أشار إليه في العروة بقوله:

«فلا يصحّ وقف المنافع. مثلاً، إذا استأجر داراً في مدّة عشرين سنة وأراد أن يجعل منفعتها وهي السكنى فيها وقفاً مع بقاء العين على ملك مالكها طلقاً، لم يصحّ؛ لأنّ الانتفاع بها إنّما هو بإتلافها، فلا يتصوّر فيها تحبيس الأصل؛ إذ الأصل حينئذٍ هي المنفعة»(3).

وكذا لا يصحّ وقف الدين، كأن يقف الدائن عشر شياة على الغير قبل قبضها منه.

وكذا لا يصحّ وقف الكلّي في الذمّة؛ بأن كان الموقوف - مثلاً - عشر شياة في ذمّة

********

(1) - رياض المسائل 298:9، 300 و 301.

(2) - جواهر الكلام 14:28.

(3) - العروة الوثقى 309:6.

ص: 277

الواقف؛ لاشتراكه مع الدين في كون الموقوف شيئاً كليّاً مبهماً غير متعيّن، كما أشار إلى ذلك في العروة بقوله:

«وكذا لا يصحّ وقف الدين كما إذا كان له على الغير عشر شياة مثلاً، لا يصحّ أن يجعلها وقفاً قبل قبضها من ذلك الغير. وكذا لا يصحّ أن يكون كلّياً في ذمّة الواقف كأن يوقف عشر شياة في ذمّته».

وقد صرّح في العروة بأنّ عمدة الدليل على ذلك الإجماع، وإلّا فمقتضى القاعدة عدم الفرق بين الوقف وبين غيره من العقود غير العبادية - كالبيع والصلح والهبة والإجارة - من جهة جواز الجميع في الدين والكلّي في الذمّة، بلا فرق.

ويرد عليه: أنّ الفرق بين الوقف وبين المذكورات واضح؛ حيث إنّه اخذ في ماهية الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، فلا بدّ فيه من بقاء أصل - وهو العين - ينتفع به. وهذا لا يعتبر في غيره. وعليه فاعتبار كون الموقوف عيناً مقتضى ماهية الوقف.

ثمّ ناقش فيما ذكره في الجواهر من وجوه الفرق بين الوقف وبين غيره؛ بأ نّها أشبه بالمصادرة، مع عدم تماميتها في نفسه. وسيأتي تحرير كلام صاحب الجواهر في ذلك.

ولكنّ الملاك في بطلان وقف الدين والكلّي في المعيّن كليهما أمرٌ واحد، وهو كون الموقوف شيئاً كلّياً مبهماً لا وجود معيّن له في الخارج، وأن لا يكون الثاني ديناً؛ لوضوح عدم كون الواقف مديوناً ولا دائناً بالقياس إلى نفسه.

وقد أشار إلى الملاك المزبور في الحدائق؛ حيث إنّه نقل عن الأصحاب تعليل ذلك؛ بأنّ وقف الدين من قبيل وقف المعدوم ووقف المنفعة منافٍ للغاية المطلوبة من الوقف، وهي الانتفاع بالموقوف مع بقاء عينها. ولكنّه قدس سره لم يرتض بالتعليل

ص: 278

المزبور. واستدلّ لذلك بعدم استفادة كون الوقف ناقلاً للدين والمنفعة من نصوص الوقف، وأنّ المستفاد منها كون الوقف ناقلاً للعين، والأصل عدم السببية للنقل شرعاً ما لم تثبت بدليل شرعي.

قال قدس سره: «فأمّا الوجه في عدم صحّة وقف الدين، فلأنّ الوقف كما تقدّم عبارة عن تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. وذلك يقتضي أمراً موجوداً في الخارج يحكم عليه بذلك. والدين في الذمّة أمر كلّي لا وجود له في الخارج، فيكون وقفه قبل التعيين من قبيل وقف المعدوم. ومن ثمّ منعوا من جواز هبة الدين لغير من هو عليه لذلك، كذا قالوا.

والأظهر في تعليل ذلك إنّما هو ما تقدّمت الإشارة إليه سابقاً من أنّ: الوقف يقتضي نقل الوقف إلى الموقوف عليه. فيجب الوقوف فيه على ما علم من الشارع كونه ناقلاً، وما علم كونه قابلاً للانتقال بذلك. ولم يعلم من الأخبار تعلّق الوقف بالديون ونقلها به. والأصل العدم إلى أن يثبت الدليل على ذلك. وإنّما علم منه العين خاصّة.

وأمّا الوجه في عدم جواز وقف المنفعة فعلّل بأنّ وقفها منافٍ للغاية المطلوبة من الموقوف، وهي الانتفاع بها مع بقاء عينها. والانتفاع بالمنفعة يستلزم استهلاكها شيئاً فشيئاً. ولجواز التصرّف في العين؛ لأنّها لم يتعلّق بها الوقف، فتتبعها المنفعة فيفوت الغرض من الوقف. والأظهر عندي في الاستدلال، هو ما تقدّم ذكره»(1).

وحاصل ما اختاره صاحب الحدائق من الدليل في المقام: أنّ أسباب النقل الشرعية توقيفية لا تثبت، إلّابقيام الدليل الشرعي على سببيّتها للنقل شرعاً. وعليه

********

(1) - الحدائق الناضرة 176:22-177.

ص: 279

فالوقف لا يمكن القول بمسبّبيته للنقل شرعاً، إلّافيما دلّت نصوص المقام على سببيّة الوقف فيه للنقل شرعاً. وإنّما المستفاد من النصوص سببيّة الوقف للنقل شرعاً في العين، لا في الدين والمنفعة. ومقتضى الأصل عند الشكّ في سببيّة الوقف للنقل، عدم تحقّق انتقال الملك؛ لأنّه أمر حادث والأصل عدم حدوثه.

وأضاف في الجواهر(1) في تعليل ذلك بأنّ المستفاد من قوله صلى الله عليه و آله: «حبِّس الأصل وسبِّل الثمرة» اعتبار وجود أصل متهيّئ للانتفاع فعلاً لكي يُتصوّر تسبيل منفعته.

والدين والكلّي في الذمّة ليسا من هذا القبيل. ومن هنا لا تصحّ إجارتهما ولا غيرهما ممّا كان من قبيل تمليك المنفعة. وإنّما يصيران من قبيل ذلك بعد القبض، لكنّهما يخرجان حينئذٍ عن الدين والكلّي في الذمّة ويصيران عيناً. وكذلك الكلام في المنفعة؛ لانعدامها بالاستيفاءِ شيئاً فشيئاً.

ثمّ إنّه قدس سره ردّ دعوى عدم اعتبار تحبيس العين في الوقف وكفاية تسبيل المنفعة - كما حكي عن أبي الصلاح - بأ نّه خلاف ظواهر النصوص والفتاوى، بل يمكن دعوى مخالفة ذلك لضرورة المذهب أو الدين.

وإنّ استدلال صاحب الجواهر متين لا غبار عليه، فإنّ ما قاله هو ظاهر نصوص الوقف وارتكاز المتشرّعة وعليه اتّفاق الأصحاب. ولا يرد عليه إشكال صاحب العروة المشار إليه في بداية هذا البحث.

مقتضى التحقيق في الاستدلال: تقديم مقتضى القاعدة ثمّ اتّفاق الأصحاب. بل

********

(1) - قال قدس سره: «ولأنّ المستفاد من قوله صلى الله عليه و آله «حبّس الأصل وسبّل الثمرة» وما وقع من وقوفهم، اعتبار فعلية التهيّؤ للمنفعة في الأصل الذي يراد حبسه، ولا ريب في انعدام التهيّؤ فعلاً للكلّي المسلم فيه مثلاً، ولذا لا تصحّ إجارته ولا غير الإجارة ممّا يقع على المنفعة». راجع: جواهر الكلام 14:28.

ص: 280

الإجماع المنقول، ثمّ استدلال صاحب الحدائق؛ نظراً إلى كون القاعدة والإجماع من قبيل الدليل واستدلال صاحب الحدائق من قبيل عدم الدليل على الصحّة، لا الدليل على البطلان. هذا وجه تقديم القاعدة والإجماع وأمّا وجه تقديم القاعدة على الإجماع؛ لأنّها يرجع إلى الدليل اللفظي والإجماع دليل لبّي.

وعليه فالتحقيق في المقام يقتضي الاستدلال.

أوّلاً: بمقتضى القاعدة. ويمكن استفادتها من النبوي المعروف «حبّس الأصل وسبّل الثمرة»(1)؛ حيث يدلّ على اعتبار وجود أصل ثابت باقٍ قابل للاستثمار والانتفاع.

وأيضاً يمكن استفادتها من نصوص أوقاف الأئمّة عليهم السلام، كما أشار إلى ذلك في الجواهر بقوله: «ولأنّ المستفاد من قوله صلى الله عليه و آله: «حبّس الأصل وسبّل الثمرة». وما وقع من وقوفهم عليهم السلام اعتبار فعلية التهيّؤ في الأصل الذي يراد حبسه...».

وثانياً: اتّفاق الأصحاب بل إجماعهم كما نقل في المفتاح(2) عن الغنية والسرائر.

وثالثاً: قصور نصوص الوقف عن إفادة مشروعيته في الدين والمنفعة وكما أفاده في الحدائق.

ثمّ إنّ الأقوى صحّة وقف النقدين والذهب والفضّة للتزيين ونحوه ممّا يتصوّر فيه الانتفاع مع بقاء عين الموقوف. وكذلك وقف الثياب والأواني والأثاث والكتب والعقارات والكتب والسلاح ونحو ذلك ممّا يتصوّر الانتفاع منه مع بقاء عينه، ولا يلزم كون مدّة البقاء طويلة. ولا ينافي التأبيد المعتبر في الوقف؛

********

(1) - مستدرك الوسائل 47:14، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1.

(2) - مفتاح الكرامة 70:9.

ص: 281

لأنّ المراد منه مدّة عمر الشيء كما قال في العروة(1).

وقد قوّى صحّة الوقف في المذكورات جماعة من الفقهاء؛ لأجل الوجه المزبور كما حرّره في الجواهر(2).

حول اشتراط كون الموقوف ملكاً للواقف

من أحد الشروط المتّفق على اعتبارها في الموقوف كونه ملكاً للواقف قبل الوقف؛ بأن لم يتعلّق به حقّ الغير، تعلّقاً مانعاً من تصرّف الواقف؛ كأن يكون شريكاً فيه بإرث أو عقد؛ حيث لا يجوز للشريك التصرّف في المال المشترك بغير إذن صاحبه قبل القسمة ومثل وقف العين المرهونة قبل فكّها، كما قال في العروة(3).

وأن لا يكون غير قابل للتمليك كالخنزير، إلّاإذا وقفه الكافر على مثله، وهو فرع صحّة وقف الكافر، وقد سبق البحث عنه آنفاً.

وإلى ذلك أشار في الحدائق بقوله:

«فما لا يصحّ تملّكه لا يصحّ وقفه، فلا يصحّ وقف الحرّ ولو رضي بذلك ولا يصحّ وقف الخمر والخنزير من المسلم على مسلم أو كافر، ويصحّ من الكافر على مثله كما صرّحوا به، ويصحّ وقف الكلب المملوك»(4).

ويمكن التعليل لذلك - مضافاً إلى الإجماع المزبور - بأنّ الوقف في الحقيقة تمليك المال للغير. ولا سُلطة لغير المالك على تمليك المال للغير، فيبطل، إلّاإذا

********

(1) - العروة الوثقى 311:6.

(2) - جواهر الكلام 18:28.

(3) - العروة الوثقى 312:6.

(4) - الحدائق الناضرة 177:22-178.

ص: 282

لحقه إجازة المالك فيصحّ بناءً على صحّة وقف الفضولي بعد الإجازة.

كما لاسلطة له على ما منع الشارع تملّكه والتصرّف فيه، كالخنزير وآلات القمار. وما لا سلطة للواقف عليه شرعاً لا يجوز له التصرّف فيه ولا تمليكه بأيّ نحو كان، بالوقف أو غيره، إلّاما خرج بالدليل الشرعي.

لايشترط في صحّة الوقف كون الموقوف ملكاً للواقف بالفعل، وإلّا لم يصحّ الفضولي، كما أشار إليه في الحدائق بقوله:

«وأمّا بمعنى كونه ملكاً للواقف بالفعل فلو لم يكن كذلك لم يصحّ وقفه، وعلى هذا لا يصحّ الوقف فضولاً وإن أجاز المالك كما هو أحد القولين في المسألة. وقيل:

يصحّ بإجازة المالك، وتوقّف في التذكرة والدروس».

ومقتضى التحقيق: عدم اشتراط ملكية الموقوف بالفعل؛ لما بيّنّاه واستدللنا عليه من صحّة العقد الفضولي بلحوق إجازة المالك. نعم يعتبر في صحّته لحوق إجازة المالك. فلا يصحّ وقف غير المملوك بالفعل، إلّاإذا لحقه إجازة المالك، كما أنّه المراد من قولهم: لا بيع ولا عتق إلّافي الملك.

وهل يجوز وقف ما لا يملكه ولكن كان له حقّ الاختصاص؟ قال في العروة:

«فيه وجهان، أقواهما الجواز فيكفي ملكية التصرّف وإن لم يكن مالكاً للعين، فعلى هذا يجوز وقف كلب الحائط والزرع والماشية إذا قلنا بعدم كونه مملوكاً»(1).

وهذا كلام متين؛ لأنّ في مفروض الكلام عيناً قابلة للتحبيس وتسبيل ثمرتها، فلا مانع من وقف مثل كلب الحائط والزرع والماشية، كما لا إشكال

********

(1) - العروة الوثقى 310:6.

ص: 283

في صحّة وقف كلب الصيد لأنّه مملوك.

وكذا الكلام في وقف الأرض التي حجّرها لو قلنا بعدم كفاية التحجير في التملّك، وإلّا فلا إشكال في صحّة وقفها، كما أشار إلى ذلك في العروة بقوله: «وأمّا كلب الصيد، فلا إشكال فيه لأنّه مملوك، وكذا يصحّ وقف الأرض التي حجّرها إذ قلنا بعدم كفاية التحجير في التملّك».

لا خلاف في صحّة وقف المشاع، كما صرّح بذلك في الشرائع بقوله: «ويصحّ وقف المشاع». وعلّله في الجواهر بقوله: «بلا خلاف أجده فيه عندنا، بل الإجماع بقسميه عليه، بل نصوص التصدّق به مستفيضة أو متواترة»(1).

هذه النصوص المستفيضة التي أشار إليها صاحب الجواهر، عقد لها في الوسائل باباً بعنوان جواز وقف المشاع والصدقة به قبل القسمة.

فمنها: صحيح الحلبي: قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن دار لم تقسّم فتصدّق بعض أهل الدار بنصيبه من الدار، فقال: «يجوز»، قلت: أرأيت إن كان هبة، قال:

«يجوز»(2).

ومنها: صحيح الفضل بن عبدالملك عن أبي عبداللّه عليه السلام: في الرجل يتصدّق بنصيب له في دار على رجل، قال: «جائز وإن لم يعلم ما هو»(3).

ومنها: موثقة زرارة عن أبي جعفر: في الرجل يتصدّق بالصدقة المشتركة؟ قال عليه السلام: «جائزٌ»(4).

********

(1) - جواهر الكلام 19:28.

(2) - وسائل الشيعة 194:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 9، الحديث 1.

(3) - وسائل الشيعة 196:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 9، الحديث 3.

(4) - وسائل الشيعة 196:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 9، الحديث 4.

ص: 284

ومنها: «موثّقة أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: سألته عن صدقة ما لم تقبض ولم تقسّم؟ قال «تجوز»(1).

إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على ذلك.

وعلّل ذلك في الجواهر(2) أيضاً؛ بأنّ قبض المشاع في الوقف كقبضه في البيع، فكيف يصحّ هناك؟ فكذلك في المقام.

وفي المسالك أنّه خالف في ذلك بعض العامّة، فمنع وقف المشاع بدعوى عدم إمكان قبضه.

وردّه في المسالك بقوله: «والأصل ممنوع؛ فإنّ المشاع يصحّ قبضه كما يصحّ قبض المقسوم، لأنّه إن كان هو التخلية فإمكانه واضح. وإن كان هو النقل، فيمكن وقوعه بإذن الواقف والشريك معاً»(3).

وعلّل ذلك في جامع المقاصد بقوله: «لأنّ مقصود الوقف - وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة - يحصل به، ومنع ذلك بعض العامّة»(4).

حول اشتراط كون المنفعة المقصودة من الموقوف منفعة محلّلة

يشترط في الموقوف أن تكون المنفعته المقصودة منه في الوقف مشروعة محلّلة. فلا يصحّ وقف السيّارة أو الدابّة لحمل الخمر أو الخنزير أو لسائر المعاصي، كما أشار إلى ذلك في العروة بقوله: «الشرط السادس: أن تكون المنفعة المقصودة

********

(1) - وسائل الشيعة 197:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 9، الحديث 6.

(2) - جواهر الكلام 19:28.

(3) - مسالك الأفهام 322:5.

(4) - جامع المقاصد 58:9-59.

ص: 285

من الوقف محلّلة، فلا يصحّ وقف الدابّة لحمل الخمر والخنزير»(1).

وإلى ذلك أشار في الشرائع بقوله: «ضابطه كلّما يصحّ الانتفاع به منفعة محلّلة مع بقاء عينه». وقال في الجواهر: «لا كمنفعة أعيان الملاهي ونحوها». ثمّ قال: «بلا خلاف أجده في شيءٍ من ذلك بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه»(2).

ويمكن الاستدلال لذلك أيضاً بوجهين آخرين:

أحدهما: عدم تمشّي قصد القربة في ذلك كلّه. وقد سبق وجه اعتبار قصد القربة في الوقف.

ثانيهما: عدم إمكان تسبيل المنفعة فيما لا يجوز الانتفاع به شرعاً.

حول اشتراط كون الموقوف معيّناً

اشترطوا في الموقوف تعيينه، بأن لا يكون مبهماً؛ كأن يقول وقفت بعض أملاكي أو شيئاً من أموالي أو أحد هذين البستانين أو إحدى هاتين الدارين أو الأرضين، من غير تعيين.

وعلّل في المسالك لذلك بأنّ غير المعيّن إمّا غير موجود، أو غير موجود وغير مملوك أيضاً، فهو فاقد لأحد ملاكي صحّة الوقف أو كليهما. وذلك لأنّه لو كان كلّياً في معيّن، فهو غير موجود بلحاظ كلّيته، وإن كان كلّياً مبهماً، فهو غير موجود وغير مملوك؛ لأنّه إمّا دين كلّي في ذمّة الغير، أو كلّي مبهم لا في ذمّةٍ.

قال قدس سره: «وأمّا عدم جواز وقف المبهم - سواء استند إلى معيّن كفرس من هذه الأفراس، أم إلى غير معيّن كفرس - فلما ذكر في الدين من أنّ غير المعيِّن باعتبار

********

(1) - العروة الوثقى 311:6.

(2) - جواهر الكلام 17:28.

ص: 286

كلّيته غير موجود، ويزيد الثاني أنّه غير مملوك أيضاً، وهما مناط الوقف»(1).

وعليه فتعيين الموقوف وعدم إبهامه ليس شرطاً مستقلاًّ، بل إنّما يشترط ذلك لأنّ الإبهام وفقدان التعيين موجب لزوال شرطين آخرين للوقف وهما وجود المال الموقوف ومملوكيته للواقف.

ولكن في الحدائق(2) ردّ هذا الاستدلال - بعد نقله - بأنّ الأحكام الشرعية لا تبتني على مثل هذه التعليلات العقلية وإنّما تبتني على الأدلّة الشرعية. وأنّ عمدة الدليل على ذلك عدم ثبوت أسباب النقل الشرعية - لتوقيفيتها - إلّابقيام الدليل الشرعي على سببيّتها وأنّ الوقف سبب شرعي. وإنّما المستفاد من نصوص المقام سببيّته الشرعية لنقل العين المعيّنة، دون المبهمة. والأصل عدم ترتّب النقل عند الشكّ في السببيّة.

وهذا الكلام منه وإن كان متيناً، إلّاأنّه لا تصل النوبة إلى الأصل مع وجود الدليل اللفظي، كما سبق بيانه ويأتي في كلام صاحب الجواهر.

وأمّا كون الكلّي في المعيّن غير موجود، فممنوع جدّاً. كيف وهو موجود في ضمن الشيء المعيّن الخارجي ومقطوع الملكية؟

ومن هنا عدل في الجواهر عن تعليل المسالك، وعلّل لذلك أوّلاً: بعدم إطلاق العين على غير المعيّن، وإنّما تطلق على الشيء المعيّن الخارجي.

وفيه: أنّ لفظ العين لم يرد في نصّ حتّى يدور الحكم مدار إطلاق لفظها بل المدار على واقعها.

وثانياً: بالشكّ في تناول أدلّة الوقف ونصوصه لغير المعيّن والمبهم. وهذا نفس

********

(1) - مسالك الأفهام 319:5.

(2) - الحدائق الناضرة 177:22.

ص: 287

استدلال صاحب الحدائق بالتقريب المزبور. وعرفت أنّ الأصل لا تصل النوبة إليه مع قيام الدليل مع إمكان الرجوع إلى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) عند الشكّ في اعتبار قيد في الوقف، وبناءً على عقديته. وهو متين، كما قلنا.

وثالثاً: باتّفاق الأصحاب. ولا بأس به لو كان اشتراط ذلك داخلاً في معقد الاتّفاق.

ورابعاً: بأنّ المستفاد من قوله صلى الله عليه و آله: «حبّس الأصل وسبّل الثمرة»(1)، وكذا من نصوص أوقاف الأئمّة عليه السلام، اعتبار وجود أصل واجد للتهيّؤ الفعلي للانتفاع به ولا ريب في فقدان هذه الخصوصية في المبهم الكلّي. ومن هنا لا تصحّ إجارته، بل ولا أيّ عقد مفيد لتمليك المنفعة.

وهذا الاستدلال الأخير في غاية المتانة ونهاية القوّة. وقد سبق منّا نقل نصّ كلامه هذا وشرح مرامه آنفاً(2).

والسرّ في الأقوائية استناد هذا الوجه إلى ظاهر النصوص الواردة في الوقف.

وذلك لظهور نصوص أوقاف الأئمّة عليهم السلام وسائر نصوص المقام، ولا سيّما قوله صلى الله عليه و آله: «حبّس الأصل وسبّل الثمرة»، أنّه يعتبر في صحّة الوقف بل في ماهيته وجود أصل معيّن ثابت موجود بالوجود الخارجي ومتهيّئ للانتفاع بالتهيّؤ الفعلي؛

********

(1) - مستدرك الوسائل 47:14، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1.

(2) - فإنّه قدس سره بعد ذكر متن الشرائع - وهو: وكما لو قال: وقفت فرساً أو ناضحاً أو داراً، ولم يعيّن - قال في تعليل ذلك: «لأنّ العين تطلق في مقابل الثلاثة التي لا يصحّ وقف شيء منها للشكّ في تناول أدلّة الوقف لذلك، ولاتّفاق الأصحاب ظاهراً، ولأنّ المستفاد من قوله صلى الله عليه و آله «حبّس الأصل وسبّل الثمرة»، وما وقع من وقوفهم، اعتبار فعلية التهيّؤ للمنفعة في الأصل الذي يراد حبسه، ولا ريب في انعدام التهيّؤ فعلاً للكلّي المسلم فيه مثلاً، ولذا لا تصحّ إجارته ولا غير الإجارة ممّا يقع على المنفعة». راجع: جواهر الكلام 14:28.

ص: 288

بحيث يكون قابلاً للتحبيس والانتفاع منه تدريجاً في طيّ مدّة بقائه.

وهذه النصوص بمجموعها تدلّ بالدلالة السياقية على اعتبار كون المال الموقوف عيناً متعيّنة قابلة للبقاء والانتفاع منه تدريجاً.

ومن أجل دلالة هذه النصوص يرفع اليد عن عموم «أوفوا بالعقود» على فرض ثبوت العموم بنظرها إلى الشرائط والقيود وعلى فرض قابليته للرجوع والتمسّك بعد انثلامه في المقام بما دلّ على اعتبار بعض القيود المعتبرة في الوقف.

حول اشتراط إمكان تسليم الموقوف

يشترط في الموقوف إمكان تسليمه وعدم تعذّره مطلقاً. والوجه في ذلك واضح لعدم إمكان الانتفاع به، فلا يتحقّق الغرض من الوقف حينئذٍ.

ثمّ إنّ المعتبر عدم تعذّر إقباض الموقوف مطلقاً حتّى بعد عقد الوقف، وإلّا فلا مانع من صحّة الوقف؛ نظراً إلى إمكان الانتفاع به، ولو بعد مضيّ مدّة من زمان إنشاء الوقف، فالغرض من الوقف متحقّق حينئذٍ.

وليس اشتراط ذلك في الوقف على وزان اشتراطه في البيع؛ حيث يعتبر عدم تعذّر تسليم المبيع حين إنشاء العقد في البيع بالإجماع والنصّ هناك، وهذا بخلاف الوقف.

فالمشترط فيه تعذّر إقباض الموقوف مطلقاً، حتّى بعد الوقف. ولا يكفي مجرّد تعذّره حين الوقف.

ومن هنا أشكل في جامع المقاصد على العلّامة بقوله: «ظاهره أنّه لا يصحّ وقفه كما لا يصحّ بيعه وإن أمكن تسليمه بعد العقد، وليس كذلك بل العقد صحيح ويتمّ بالقبض إن أمكن، فلو تعذّر أصلاً بطل، والفرق بينه وبين البيع: أنّه معاوضة فيقتضي

ص: 289

إمكان تسليم العوض، ولاختصاص البيع بالنصّ»(1).

وإلى ذلك أشار في المسالك ببيان آخر، حاصله:

إنّ القبض شرط في صحّة الوقف، فلا يصحّ وقف ما تعذّر إقباضه. ولكنّ القبض المعتبر في الوقف غير فوري، فلا مانع من وقوعه ولو طال الزمان. فإن تعذّر بعد ذلك بطل، وهذا بخلاف البيع؛ حيث إنّه معاوضة، وإنّما اشترط فيه إمكان تسليم العوضين وعدم تعذّر في مجلس العقد بالنصّ(2)، فلا يمكن التعدّي عنه إلى غيره.

وإليك نصّ كلامه قال:

«لمّا تحقّق أنّ القبض شرط في صحّة الوقف وكان الآبق المتعذّر تسليمه لا يمكن قبضه، لم يصحّ وقفه. ومثله الجمل الشارد ونحوه. لكن يشكل بأنّ القبض المعتبر في الصحّة غير فوري، وحينئذٍ فلا مانع من وقوع الصيغة صحيحة وصحّة الوقف مراعاةً بقبضه بعد ذلك وإن طال الزمان، فإن تعذّر بطل. وهذا بخلاف البيع، فإنّه معاوضة من الجانبين، وشرطه إمكان تسليم العوضين في الحال بالنصّ، فلا يتعدّى إلى غيره للأصل»(3).

وقد قيّد في الجواهر اشتراط ذلك بما إذا كان راجعاً إلى السفه، كالطير في الهواء والسمك في الماء. وفي مثل العبد الآبق الممكن تسليمه بعد مضيّ الزمان؛ لا وجه لمنع صحّة الوقف، بل يصحّ مراعاة حتّى يتحقّق القبض فلو لم يتحقّق بعد ذلك بطل الوقف.

********

(1) - جامع المقاصد 58:9.

(2) - تهذيب الأحكام 1005/230:7؛ وسائل الشيعة 38:18، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 2، الحديث 4.

(3) - مسالك الأفهام 321:5.

ص: 290

ويلحق به ما كانت المنفعة المقصودة من الوقف محرّمة (1)، كما إذا وقف الدابّة لحمل الخمر، أو الدكّان لحرزها أو بيعها، وكذا لا يصحّ وقف ريحانة للشمّ على الأصحّ (2)؛ لعدم الاعتداد ببقائها، ولا العين المرهونة (3)، ولا ما لا يمكن قبضه كالدابّة الشاردة (4). ويصحّ وقف كلّ ما صحّ الانتفاع به مع بقاء عينه بالشرائط، كالأراضي، والدور، والعقار، والثياب، والسلاح، والآلات المباحة، والأشجار، والمصاحف، والكتب، والحلي، وصنوف الحيوان؛ حتّى الكلب المملوك والسنّور ونحوها.

وفرّق قدس سره بين الوقف وبين البيع؛ بأنّ في البيع يعتبر عدم الغرر والخطر(1).

1 - لاتّفاق الأصحاب على بطلان وقف ما قصد منه المنفعة المحرّمة ولعدم تمشّي قصد القربة حينئذٍ، كما سبق بيان ذلك آنفاً.

2 - لعدم كونها عيناً باقية قابلة لتسبيل ثمرته. وقد سبق وجه اعتبار بقاء العين الموقوفة آنفاً.

3 - لتعلّق حقّ الغير بالعين المرهونة. وقد سبق آنفاً بيان وجه اعتبار عدم تعلّق حقّ الغير بالموقوف.

4 - وقد سبق آنفاً أنّ وقف الدابّة الشاردة صحيح على نحو المُراعى حتّى

********

(1) - فإنّه قدس سره قال في ذيل كلام صاحب الشرائع - المتضمّن لمنع وقف العبد الآبق؛ لتعذّر تسليمه -: وهو جيّد فيما يرجع منه إلى السفه، كالطير في الهواء والسمك في الماء، أمّا إذا لم يكن كذلك فلا دليل على عدم جوازه، لإطلاق الأدلّة التي ليس في شيء منها ما يقتضي مقارنة إمكان القبض للعقد في الصحّة، بناءً على اعتبارها فيها، بخلاف البيع المعتبر فيه، عدم الغرر، الذي هو بمعنى الخطر، وحينئذٍ فيقف الآبق فإن قبض بعد ذلك صحّ، وإلّا فلا كما صرّح به ثاني المحقّقين والشهيدين، راجع: جواهر الكلام 17:28.

ص: 291

(مسألة 32): لا يعتبر في العين الموقوفة كونها ممّا يُنتفع بها فعلاً (1)، بل يكفي كونها معرضاً للانتفاع، ولو بعد مدّة، فيصحّ وقف الدابّة الصغيرة والاُصول المغروسة التي لا تثمر إلّابعد سنين.

يتحقّق تسليمه؛ حيث لا يكفي مجرّد تعذّر تسليم الموقوف حين الوقف، بل يعتبرفيه تعذّره مطلقاً، بخلاف البيع وأنّ الفارق النصّ.

عدم اشتراط الانتفاع الفعلي في الموقوف

1 - والوجه في عدم اعتبار كون الموقوف ممّا يُنتفع به فعلاً أنّ ضابط الصحّة وجود عين ذات منفعة محلّلة، بحيث جاز الانتفاع بها مع بقائها. ولا يعتبر في تحقّق هذا الملاك الانتفاع الفعلي كما علّل بذلك في الحدائق والعروة.

حيث قال في العروة: «لا يشترط في العين الموقوفة أن تكون محلاًّ للانتفاع فعلاً، فيصحّ وقف ما لا منفعة له إلّابعد مدّة كالعبد الصغير والدابّة الصغيرة والاُصول المغروسة التي لا تثمر إلّابعد خمس سنين أو أزيد»(1).

وقد أشار إلى ذلك في الحدائق بقوله: «ولا يشترط في الانتفاع كونه في الحال فيصحّ وقف العبد الصغير والدابّة الصغيرة»(2).

ولا يخفى: أنّ عدم الفعلية في الموارد المذكورة في كلام هذين العَلَمين إنّما هو من ناحية عدم قابلية المال الموقوف للانتفاع الفعلي.

********

(1) - العروة الوثقى 311:6.

(2) - الحدائق الناضرة 178:22.

ص: 292

(مسألة 33): المنفعة المقصودة في الوقف أعمّ من المنفعة المقصودة في العارية والإجارة، فتشمل النماءات والثمرات، فيصحّ وقف الأشجار لثمرها والشاة لصوفها ولبنها ونتاجها (1).

أعمّية المنفعة المقصودة في الوقف

1 - مراد السيّد الماتن قدس سره: أنّ المنفعة المقصودة المعتبرة في الوقف تتحقّق بحصول المنفعة المقصودة في العارية والإجارة، ممّا تبقى أعيانها مدّة معتنى بها وتزول بعد مدّةٍ.

وذلك لما أشرنا إليه آنفاً من تحقّق ملاك الوقف، وهو وجود عين ينتفع بها منفعة محلّلة مع بقائها، كما صرّح به العلّامة في القواعد بقوله:

«ويصحّ وقف كلّ ما ينتفع به منفعة محلّلة مع بقائه كالعقار، والثياب، والأثاث، والآلات المباحة، والحلي، والسلاح، والكلب المملوك والسنّور، والشجرة، والشاة، والأمة والعبد»(1).

وزاد في جامع المقاصد المصاحف والكتب، وعلّل ذلك كلَّه بقوله:

«لأنّ معنى الوقف متحقّق في ذلك كلّه، وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وقد روي(2) أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «أمّا خالد فإنّه قد احتبس أدراعه وأعبُده في سبيل اللّه».»(3).

وجه الاستشهاد بالنبوي أنّ الدرع والعبد ممّا لا يبقى أبداً بل يزولان بعد مدّة.

********

(1) - قواعد الأحكام 394:2.

(2) - صحيح البخاري 122:2؛ صحيح مسلم 68:3.

(3) - جامع المقاصد 59:9-60.

ص: 293

قوله: «أدراعه وأعبُده»؛ الأدراع: جمع الدرع، والأعبُد جمع العبد كأكلب جمع الكلب.

ولأ نّه لا يشترط بقاءُ العين الموقوفة إلى الأبد، بل يكفي بقاءُها حسب اقتضاء ذاتها في خلال الانتفاع منها وأن لا تزول ولا تنعدم بالانتفاع منها، كالخبز والفاكهة والطعام، وهذا المعنى هو المقصود من التأبيد المشترط في الوقف، كما أشار إليه في الحدائق بقوله:

«ولا يشترط كون العين ممّا تبقى مؤبّداً، فيصحّ وقف العبد والثوب وأثاث البيت والقفار، وضابطه ما عرفت من أنّه ما يصحّ الانتفاع به منفعة محلّلة مع بقائه، والتأبيد المشترط في الوقف إنّما هو بمعنى دوامه بدوام وجود العين الموقوفة»(1).

********

(1) - الحدائق الناضرة 179:22.

ص: 294

(مسألة 34): ينقسم الوقف باعتبار الموقوف عليه على قسمين: الوقف الخاصّ، وهو ما كان وقفاً على شخص أو أشخاص، كالوقف على أولاده وذرّيته أو على زيد وذرّيته، والوقف العامّ، وهو ما كان على جهة ومصلحة عامّة، كالمساجد والقناطر والخانات، أو على عنوان عامّ كالفقراء والأيتام ونحوهما (1).

شرائط الموقوف عليه

حول الوقف على آحاد المعصومين عليهم السلام

1 - وفي كون الوقف على النبي صلى الله عليه و آله أو آحاد الأئمّة المعصومين عليهم السلام بأسمائهم من قبيل الوقف الخاصّ كلام تقدّم منّا في ذيل معتبرة الأسدي الواردة في الوقف على الناحية(1) عند البحث عن اشتراط القبض في شرح المسألة الثامنة.

والأولى كون ذلك من قبيل الوقف على الجهة؛ أي جهة النبي صلى الله عليه و آله أو سيّد الشهداء عليه السلام؛ بأن يتصرّف فيه المؤمنون بهذه العناوين أو يصرفه الحاكم الشرعي لمأتمهم عليهم السلام ولنشر معارفهم وإحياء تراثهم عليهم السلام، من دون أن يُصرف الموقوف لأشخاصهم، كما في الوقف الخاصّ. ومن هنا يبطل الوقف الخاصّ بانقراض أشخاص الموقوف عليهم.

********

(1) - وسائل الشيعة 181:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 295

(مسألة 35): يعتبر في الوقف الخاصّ وجود الموقوف عليه حين الوقف (1)، فلا يصحّ الوقف ابتداءً على المعدوم، ومن سيوجد بعدُ، وكذا الحمل قبل أن يولد.

اشتراط وجود الموقوف عليه حين الوقف في الوقف الخاصّ

1 - لا إشكال في اشتراط وجود الموقوف عليه حين الوقف وبطلان وقف المعدوم ابتداءً بالمعنى المذكور في المتن. وكذا عدم صحّة وقف الحمل ممّا لا خلاف فيه بين الأصحاب كما صرّح به في المبسوط والغنية والسرائر، على ما نقل عنهم في مفتاح الكرامة(1) والجواهر(2) والحدائق(3).

وعلّلوا ذلك - مضافاً إلى الإجماع - بأنّ المعدوم لا يُعقل التمليك له؛ لعدم قابليته لذلك.

وإنّما الحق وقف الحمل بوقف المعدوم ابتداءً من جهة عدم قابلية الحمل للتمليك الفعلي. ولا يُنقض ذلك بصحّة الوصيّة على الحمل؛ لأنّ القياس مع الفارق؛ حيث تتعلّق الوصيّة بالمستقبل بخلاف الوقف؛ لأنّه تمليك الموقوف بعينه أو منفعته للموقوف عليه في الحال. كما أشار إلى ذلك في المسالك بقوله: «تفريع الحمل على المعدوم لا يخلو من تجوّز؛ لأنّه في نفسه موجود، غايته استتاره. وإنّما يشاركه في الحكم بعدم صحّة الوقف عليه من جهةٍ اخرى، وهي أهلية الموقوف عليه للتملّك،

********

(1) - مفتاح الكرامة 47:9-48.

(2) - جواهر الكلام 26:28.

(3) - الحدائق الناضرة 189:22.

ص: 296

فإنّها شرط من حيث إنّ الوقف إمّا تمليك العين والمنفعة إن قلنا: إنّ الوقف يملكه الموقوف عليه، وإمّا تمليك المنفعة إن لم نقل به، والحمل لا يصلح لشيءٍ منهما.

والفرق بين الوقف عليه والوصيّة له أنّ الوصيّة تتعلّق بالمستقبل وليس فيها نقل في الحال، بخلاف الوقف، فإنّه تسليط على الملك في الحال، فيشترط أهلية المنتقل إليه له»(1).

ولكن أشكل على ذلك في العروة بوجوه؛ بعضها - وهو الوجه الأوّل - اتّضح جوابه بما عرفت من كلام الشهيد آنفاً. مع أنّ في نقله التعليل نظرٌ؛ إذ يظهر من صاحب العروة(2) أنّ الأصحاب استشهدوا لإثبات مرامهم بعدم صحّة الوصيّة للحمل، فجعلوا عدم صحّة الوصيّة له مفروغاً عنه ولكنّك عرفت أنّ الوصيّة مورد النقض لا الاستشهاد، كما هو واضح لمن نظر وتأمّل في جامع المقاصد(3) والمسالك(4)والحدائق وغيرها من كتب الأصحاب.

وبعضها - وهو الوجه الثاني - مردودٌ؛ بأنّ الوقف على البطون منضمّاً إلى الموجودين مورد الاستثناء بإجماع الأصحاب، مع وجود الفارق، وهو ضمّ الموجود وتبعية البطن اللاحق للسابق الموجود بالفعل. والفرق بينه وبين المعدوم ابتداءً واضحٌ.

********

(1) - مسالك الأفهام 327:5-328.

(2) - حيث قال: قالوا: لأنّ الوقف تمليك ولا يعقل تمليك المعدوم فإنّ الملكية صفة وجودية تستدعي محلاًّ موجوداً، ولهذا لا تصحّ الوصيّة للمعدوم، وهذا من الوهن بمكان إذ أوّلاً: لا يتمّ في الحمل فإنّه موجود؛ ودعوى عدم قابليته للملكية ولذا لا تصحّ الوصيّة له كماترى؛ إذ لا فرق بين الحمل والرضيع؛ خصوصاً مع فصل قليل، كما إذا كان قبل الوضع بربع ساعة. راجع: العروة الوثقى 314:6.

(3) - جامع المقاصد 38:9-39.

(4) - مسالك الأفهام 327:5-328.

ص: 297

فلا يصحّ النقض بذلك كما فعل صاحب العروة(1)؛ لعدم قياسه بالمعدوم ابتداءً؛ من دون ضمّه وإلحاقه بالموجود؛ نظراً إلى تحقّق الوقف حينئذٍ على الموقوف عليه الموجود وتماميته قبل وجود المعدوم التابع المنضمّ ولحوقه، بخلاف المعدوم ابتداءً.

وقد وجّه في الجواهر(2) الفرق بين الوقف على المعدوم ابتداءً وبين الوقف على البطون منضمّاً إلى الأولاد الموجودين بأنّ في الثاني يكون وجود البطون بالتولّد كالقبض جزء الأخير من علّة تمامية الملك. ففي الحقيقة إنّما تتمّ سببية الوقف للملكية بعد تولّد البطون اللاحقة.

وأشكل عليه في العروة بأنّ هذا التوجيه يأتي بعينه في الوقف على المعدوم الابتدائي أيضاً.

وإشكاله وارد: إذ بإنشاءِ العقد بالصيغة تحدث الملكية المتزلزلة في كلا المقامين وبوجود الموقوف عليه وتولّده تتمّ الملكية. وإن شئت فقل: إنّ إنشاء العقد بالصيغة سبب ناقص للملكية في كلا الموردين وإنّما تتمّ بوجود الموقوف عليه فيهما، بلا فرق.

********

(1) - حيث قال: وثانياً: يرد عليهم النقض بما إذا كان تبعاً لموجود فإنّهم يجوّزونه، كما إذا وقف على أولاده الموجودين ومن سيوجد منهم وكما في سائر البطون اللاحقة، فإنّ تمليك المعدوم لو كان غير معقول لم يكن فرق بين الاستقلال والتبعية، وما في الجواهر: - من أنّ معنى تبعية البطن الثاني للأوّل أنّ الشارع جعل عقد الوقف سبباً لملك المعدوم بعد وجوده. فالوجود حينئذٍ كالقبض أحد أجزاء العلّة التامّة في ثبوت الملك له لا أنّه مالك حال عدمه - فيه؛ أنّا نقول بمثله في المعدوم أوّلاً أيضاً. راجع: العروة الوثقى 314:6.

(2) - حيث قال: وما ثبت في الوقف من صحّته على المعدوم تبعاً للموجود إنّما هو بمعنى جعل الشارع عقد الوقف سبباً لملك المعدوم بعد وجوده، فالوجود حينئذٍ كالقبض أحد أجزاء العلّة التامّة في ثبوت الملك له، لا أنّه مالك حال عدمه. راجع: جواهر الكلام 363:28.

ص: 298

وبعضها - وهو الوجه الأخير - مبنائي؛ لابتنائه على ما سلكه صاحب العروة، من كون حقيقة الوقف إيقافاً لا تمليكاً، مع ضعفه في نفسه؛ لأنّ الوقف وإن كان إيقاف العين، إلّاأنّه تمليك منفعتها للموقوف عليهم بلا خلاف ولا إشكال. وعليه فقوله: «وخامساً: إنّ الوقف ليس تمليكاً كما مرّ مراراً»(1)، لا يصلح وجهاً للإشكال في المقام.

وأمّا الوجه الثالث والرابع(2)، فقد حاول صاحب العروة بهذين الوجهين لإثبات

********

(1) - العروة الوثقى 316:6.

(2) - حيث قال: وثالثاً: لا فرق في المعقولية وعدمها بين كون المالك معدوماً أو المملوك - مع أ نّهم يجوّزون تمليك الكلّي في الذمّة - مع أنّه ليس شيئاً موجوداً في الخارج، وأيضاً يجوّزون بيع الثمار قبل بروزها عامين أو مع الضميمة، ويجوّزون تمليك المنافع وليست موجودة بل تُستوفى شيئاً فشيئاً، ويجوّزون الوصيّة بما تحمله الجارية أو الدابّة ونحو ذلك، ولو كانت الملكية تحتاج إلى محلّ موجود لم يتفاوت الحال بين كون المالك معدوماً أو المملوك، ولا وجه ولا طائل فيما ذكره صاحب الجواهر في دفع إشكال تمليك المعدوم حيث قال: - في مثل بيع الثمار - «يمكن منع تحقّق الملك حقيقة، بل أقصاه التأهّل للملك والاستعداد له على حسب ملك النماء لمالك الأصل وملك المنفعة لمالك العين، فهو من قبيل ملك أن يملك لا أنّه ملك حقيقة بل بالأسباب المقرّرة استحقّ أن يملك المعدوم بعد وجوده لا أنّه ملك للمعدوم حقيقة» انتهى. مع أنّه كيف يتحقّق البيع حينئذٍ مع كونه تمليكاً حقيقة.

ورابعاً: أنّ التحقيق إنّ الملكية من الاُمور الاعتبارية، فوجودها عين الاعتبار العقلائي، وليست كالسواد والبياض المحتاجين إلى محلّ خارجي، بل يكفيها المحلّ الاعتباري، بل أقول: إنّ جميع الأحكام الشرعية من الوجوب والحرمة ونحوهما، وكذا سائر الوضعيات وأحكام الموالي بالنسبة إلى العبيد والسلاطين بالنسبة إلى الرعايا، اعتبارات عقلائية حقيقتها عين الاعتبار ولا وجود لها في الخارج غير الاعتبار، فيكفيها المحلّ الموجود في

ص: 299

جواز التمليك للمعدوم وتمليك المعدوم، ونفي اعتبار وجود شيء من المالك والمملوك حين إنشاء التمليك.

ولكن يرد على الوجه الثالث: أنّ الأصحاب قد أفتوا في باب الوقف بمنع وقف الكلّي في الذمّة؛ معلّلاً بعدم وجود عين معيّن له في الخارج، كما سبق بيانه آنفاً.

فلم يعدلوا عن مبناهم في المقام. بل اشترطوا وجود الموقوف عليه كما اشترطوا وجود المال الموقوف وتعيّنه. وكلّ ذلك بالإجماع الفارق بين الوقف وبين سائر الأبواب. فلا نقض عليهم في باب الوقف.

هذا، مضافاً إلى ما في نقضه بالفروع المزبورة من المناقشة.

أمّا تمليك المنافع مع عدم وجودها حال إنشاء عقد الإجارة والوقف فأمر معقول لوجود قابلية الانتفاع الفعلي في العين فمنفعتها بحكم الموجود، بلا فرق بين الوقف والإجارة وغيرهما من العقود الناقلة للمنافع. وأمّا بيع الثمار قبل بروزها، فلأجل دليل خاصّ من نصّ أو إجماع، وإلّا فهو خلاف مقتضى القاعدة وغير قابل للالتزام.

وأمّا بيع الكلّي، فنمنع كون الكلّي معدوماً، بل هو موجود بوجود مصاديقه في الخارج، كما يمكن تعيينه بذكر الأوصاف والخصوصيات.

ويرد على الوجه الرابع: أنّ اعتبارية الملكية غير اعتبارية الأحكام والقوانين الكلّية التي من قبيل ضرب القانون. وذلك لأنّ الأحكام توضع لموضوعاتها المقدّرة المفروضة بالتصوّر الذهني - الذي لا موطن له حين التشريع إلّاالذهن - على نحو القضايا الحقيقية.

********

(2) اعتبار العقلاء، وإلّا لزم عدم تعلّق الوجوب بالصلاة ولا الحرمة بالزنا إلّابعد وجودهما في الخارج. نعم مبانيها من الحبّ والبغض والإرادة والكراهة أعراض خارجية، ويتفرّع على ما ذكرنا من التحقيق مطالب كثيرة، راجع: العروة الوثقى 315:6.

ص: 300

والمراد بكونه ابتداءً: أن يكون هو الطبقة الاُولى من دون مشاركة موجود في تلك الطبقة (1)، فلو وقف على المعدوم أو الحمل تبعاً للموجود؛ بأن يجعل طبقة ثانية، أو مساوياً للموجود في الطبقة بحيث شاركه عند وجوده، صحّ بلا إشكال، كما إذا وقف على أولاده الموجودين ومن سيولد له على التشريك أو الترتيب، بل لا يلزم أن يكون في كلّ زمان وجود الموقوف عليه وولادته، فلو وقف على ولده الموجود وعلى ولد ولده بعده، ومات الولد قبل ولادة ولده،

وأمّا الملكية فإنّما يعتبرها العقلاء للمال الموجود في الخارج أو ما بحكمه، كمنافع العين المستأجرة بلحاظ قابليتها للانتفاع الفعلي، ولا يعتبرونها للأمر الوهمي الذي لا يكون إلّامحض الاعتبار ولا وجود له إلّافي الذهن، بل لا يرونه قابلاً للتمليك والتملّك بوجه. فالقياس بين القسمين من الاُمور الاعتبارية مع الفارق.

راجع إلى وجدانك العريض وذوقك السليم، هل ترى إنشاء الملكية في المعاملات من قبيل القضايا الحقيقية المقدّرة موضوعاتها، كما في وضع القوانين وتشريع الأحكام الكلّية؟! كلّا.

1 - كما صرّح بذلك في جامع المقاصد(1). ومرجع ضمير «هو» في قوله: «أن يكون هو الطبقة الاُولى...» الواقف. والمراد أن يكون الواقف نفسه من الطبقة الاُولى ولم يوجد في طبقته شخص موجود.

********

(1) - جامع المقاصد 38:9.

ص: 301

فالظاهر صحّته (1)، ويكون الموقوف عليه بعد موته الحمل، فما لا يصحّ الوقف عليه هو المعدوم أو الحمل ابتداءً بنحو الاستقلال لا التبعية.

(مسألة 36): لا يعتبر في الوقف على العنوان العامّ (2) وجود مصداقه في كلّ زمان، بل يكفي إمكان وجوده مع وجوده فعلاً في بعض الأزمان، فلو وقف بُستاناً - مثلاً - على فقراء البلد ولم يكن في زمان الوقف فقير فيه، لكن سيوجد صحّ الوقف، ولم يكن من منقطع الأوّل، كما أنّه مع فقده بعد وجوده لم يكن منقطع الوسط، بل هو باقٍ على وقفيته، فيحفظ غَلّته إلى أن يوجد.

1 - نظراً إلى وجود ولده في الطبقة الاُولى وإنّما مات بعد تمامية الوقف، فلا يكون الوقف المزبور من قبيل المعدوم ابتداءً حين إنشاء الوقف.

وكذلك الكلام في الحمل فإنّه في الفرض المزبور ليس ابتدائياً، بل تابع للولد الموقوف عليه الموجود حين الوقف. وعروض موته بعد الوقف لا يُخرج الحمل عن التبعية؛ إذ ملاك التبعية وجود المتبوع حين الوقف، كما هو مفروض المسألة وظاهر كلمات الأصحاب ومعقد إجماعهم ومصبّ استدلالهم.

عدم اعتبار وجود مصداق الموقوف عليه حين الوقف

2 - ولا يخفى: أنّ الأصحاب لم يصرّحوا بالفرق بين الوقف الخاصّ وبين الوقف العامّ من حيث اعتبار وجود الموقوف عليه حين الوقف وإنّما اكتفوا لتمثيل ذلك بذكر موارد الوقف الخاصّ. فيعلم من ذلك أنّ معقد إجماعهم - على اشتراط وجود الموقوف عليه - هو الوقف الخاصّ. وأنّ الإجماع دليل لبّي يؤخذ بقدره المتيقّن

ص: 302

وهو الوقف الخاصّ؛ نظراً إلى تمثيلهم لذلك بموارد الوقف الخاصّ، ولا يرى في كلماتهم ذكر العناوين العامّة كالعلماء والفقراء ونحو ذلك في هذه المسألة. هذا مع عدم وجود ملاك المنع المزبور في الوقف العامّ؛ نظراً إلى عدم كون الموقوف عليه فيه الشخص الخارجي حتّى يكون الوقف له عند عدم وجوده الفعلي من قبيل الوقف على المعدوم.

بل إنّما الموقوف عليه في الوقف العامّ هو عنوانه وطبيعيه مهما وُجد فرد أو أفراد منه في الخارج. ولا محذور في شمول عمومات الوقف له.

وعلى أيّ حال شمول الإجماع المزبور للوقف العامّ محلّ تأمّل بل منع، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك. ومقتضى القاعدة الرجوع إلى عمومات الوقف في غير المتيقّن من معقد الإجماع، مع مساعدة الملاك المذكور عدم اشتراطه في الوقف العامّ.

ولا يخفى: أنّ قول السيّد الماتن قدس سره: «مع وجوده فعلاً» لا يلائم تفريع صحّة الوقف العامّ عند عدم وجود أحد من أفراد العامّ حين إنشاء الوقف.

ويحتمل تعلّق «مع وجوده فعلاً» بقوله: «في بعض الأزمان»؛ أي يكفي إمكان وجوده مع وجوده الفعلي في بعض الأزمان، لا مجرّد إمكانه مع عدم تحقّقه ولا فعلية وجوده في أيّ زمان. ولكنّه خلاف ظاهر العبارة، بل ظاهرها تقييد إمكان وجوده في بعض الأزمان الآتية بفعلية وجوده حال الوقف. وعلى أيّ حال فمقصود السيّد الماتن قدس سره معلوم بعد تصريحه بصحّة الوقف على فقراء البلد مع عدم وجود فقير أصلاً فيه حال الوقف.

ص: 303

(مسألة 37): يشترط في الموقوف عليه التعيين (1)، فلو وقف على أحد الشخصين أو أحد المسجدين لم يصحّ.

اشتراط تعيين الموقوف عليه

1 - عمدة وجوه الاستدلال في المسألة ما نقله في العروة من الاستدلال لاشتراط تعيين الموقوف عليه، وهي ثلاثة وجوه:

أحدها: الإجماع، ولم يجزم صاحب العروة بتحقّقه؛ حيث علّق الحكم باشتراط تعيينه على تمامية الإجماع بقوله: «بل ربّما يُدّعى عليه الإجماع، فإن تمّ»(1).

ثانيها: انصراف عمومات الوقف وإطلاقاته عن وقف الشيء المبهم المتردّد وكذا الوقف على الشخص المبهم المردّد؛ لعدم معهوديتهما بين العرف.

وقد ناقش فيه صاحب العروة بقوله: «ولكنّ الانصراف ممنوع والعمومات شاملة»(2). ومرجع منعه الانصراف إلى إنكار عدم معهودية وقف الشيء.

********

(1) - العروة الوثقى 319:6.

(2) - قال قدس سره: الشرط الثالث: التعيُّن، فلو وقف على أحد الشخصين أو أحد المسجدين أو أحد الطائفتين، لم يصحّ بلا خلاف، بل ربما يدّعى عليه الإجماع. فإن تمّ، وإلّا فلا دليل عليه، إلّادعوى انصراف أدلّة الوقف وعدم المعهودية. ولكنّ الانصراف ممنوع، والعمومات شاملة.

وقد يعلّل بعدم معقولية تمليك أحد الشخصين على سبيل الإبهام والترديد؛ لأنّ الملكية تحتاج إلى محلّ معيّن كالسواد والبياض. نعم، لو كان الموقوف عليه مفهوم أحدهما الصادق على كلّ منهما، صحّ؛ لكونه كسائر المفاهيم الكلّية المالكة والمملوكة.

وفيه: أنّه لا مانع من تعلّق الملكية بأحد المالكين، كما أنّها تتعلّق بأحد الشيئين المملوكين

ص: 304

ثالثها: أنّ الوقف تمليك ولا يُعقل التمليك لأحد الشخصين على سبيل الإبهام والترديد؛ بدعوى أنّ الملكية من قبيل الأعراض المتحقّقة بالعرض على معروضاتها، فهي في تحقّقها بحاجة إلى محلّ معيّن كالسواد والبياض. وليس عنوان أحدهما من قبيل المفاهيم الكلّية الصادقة على مصاديقها؛ لأنّه أمر انتزاعي لا يتعلّق به الغرض العقلائي بنفسه مع قطع النظر عن مصاديقه في الخارج، بخلاف المفهوم الكلّي الصادق على أفراده ومصاديقه الخارجية.

وأشكل في العروة بعدم كون الملكية من قبيل السواد والبياض ونحوها من الأعراض الخارجية، بل هي من الاعتباريات، ولا مانع من تعلّقها بأحد الشخصين أو بأحد الشيئين المملوكين، كما صرَّحوا بجواز ذلك في الوصيّة.

ثمّ استنتج من هذه المناقشات بقوله:

«فالأقوى عدم الاشتراط إن لم يتحقّق الإجماع الكاشف، بل الظاهر عدم الإشكال في صحّة الوقف لصرف منافعه على أحد الشخصين أو أحد المسجدين

********

(2) كغيرها من الأحكام الشرعية من الوجوب والاستحباب، كما في «جئني برجل».

وقد صرّحوا بجواز الوصيّة بأحد الشيئين وليست الملكية كالسواد والبياض ونحوهما من الأعراض الخارجية.

وأمّا تعلّقها بمفهوم أحدهما، فلا وجه له؛ إذ هو ليس كسائر المفاهيم الكلّية؛ لأنّه أمر انتزاعي لا يتعلّق به الأغراض، فإذا قال: افعل هذا أو هذا، الواجب أحد المصداقين، لأنّ المصلحة إنّما هي فيهما لا مفهوم الأحد، وهذا بخلاف مفهوم الرجل الصادق على زيد وعمرو فإنّه من المفاهيم المتأصّلة التي فيها المصلحة والفائدة، فالأقوى عدم الاشتراط إن لم يتحقّق الإجماع الكاشف، بل الظاهر عدم الإشكال في صحّة الوقف لصرف منافعه على أحد الشخصين أو أحد المسجدين ويكون المتولّي مخيّراً بينهما حينئذٍ. راجع: العروة الوثقى 319:6-320.

ص: 305

ويكون المتولّي مخيّراً بينهما حينئذٍ».

والذي يقتضيه التحقيق في أدلّة المسألة:

أنّ الإجماع لا يبعد تحقّقه في المقام؛ حيث حكي عن السرائر والغنية الإجماع على كون الموقوف عليه معروفاً متميّزاً، كما حكاه في المفتاح(1) والرياض(2)والجواهر(3)، ولأ نّه لم يعرف المخالف لذلك من بين الأصحاب.

واحتمال مدركية هذا الإجماع مندفع؛ بأنّ الاستدلال ببعض الوجوه الاُخرى - غير الإجماع - إنّما هو موجود في كلام المتأخّرين، مثل المحقّق الكركي والمحدّث البحراني ومن تأخّر عنهما، دون القدماء الذين هم الأصل في الإجماع.

وعلى أيّ حال لم يُعرف في المسألة مخالف غير صاحب العروة معلّقاً على عدم تمامية الإجماع، كما عرفت.

وأمّا سائر الوجوه المستدلّ بها. فاثنان منها يستفادان من كلام المحقّق الكركي:

أحدهما: عدم وجود غير المعيّن وكون المبهم معدوماً لا وجود له. ويشترط في صحّة الوقف وجود الموقوف عليه بلا كلام ولا إشكال.

ثانيهما: إنّ الوقف يقتضى التمليك ولا يعقل التمليك لغير المعيّن. قال قدس سره:

«وجه البطلان: انتفاءُ الموقوف عليه؛ لأنّ ما ليس بمعيّن في نفسه ليس بموجود، ولأنّ الوقف يقتضي التمليك ولا يعقل تمليك من ليس معيّناً»(4) وتبعه في هذا

********

(1) - مفتاح الكرامة 47:9 و 48.

(2) - رياض المسائل 309:9.

(3) - جواهر الكلام 49:28.

(4) - جامع المقاصد 39:9.

ص: 306

الاستدلال بعض من تأخّر عنه، كما في المفتاح(1).

وقد بسط المقال الشهيد الثاني في بيان هذين الوجهين - مقدِّماً للوجه الثاني - بقوله:

«الوجه فيه ما تقدّم من أنّه تمليك، فلا بدّ من مالكٍ معيّن ولو في ضمن عامّ أو مطلق، ولا يعقل تمليك ما ليس بمعيّن. ولأنّ الوقف حكم شرعي فلا بدّ له من محلٍّ معيّنٍ يقوم به كما يفتقر مطلق العَرَض إلى المحلّ الجوهري، وأحد الأمرين أمر كلّي لاوجود له خارجاً وإن كان كلّ واحدٍ منهما موجوداً خارجاً»(2).

وكلامه كما عرفت يتضمّن دليلين؛ إحداهما: عدم معقولية التمليك لغير المعيّن.

ثانيهما: احتياج الحكم الشرعي في ثبوته وفعليته إلى محلّ معيّن موجود ليقوم به الحكم، كما يفتقر العرض إلى معروض ومحلّ جوهري موجود في الخارج ليعرض عليه ويقوم به. وأحد الشخصين أو الأمرين لا وجود له في الخارج وإن كان كلُّ واحد منهما موجوداً في الخارج.

وفي الجواهر بعد ما استدلّ بعدم معقولية تمليك غير المعيّن، نقل ثاني وجهي المسالك وأضاف بقوله: «ومقتضاه اختصاص البطلان بالمبهم الذي لا يتقوّم في فرد في الخارج، أمّا لو كان الموقوف عليه أحدهما الصادق في كلّ منهما فلا بأس به، ولعلّه لقابليته حينئذٍ التمليك كغيره من المفاهيم الكلّية المالكة والمملوكة، ولا دليل على اعتبار العلم في الموقوف عليه على وجه تقدح فيه مثل هذه الجهالة»(3).

ثمّ وجّه ما حكم في القواعد من بطلان الوقف على رجل غير معيّن أو امرأة غير

********

(1) - مفتاح الكرامة 48:9.

(2) - مسالك الأفهام 351:5.

(3) - جواهر الكلام 49:28-50.

ص: 307

معيّنة على المبهم المتردّد، لا المفهوم الكلّي الصادق على أفراده.

وأمّا دعوى انصراف نصوص المقام عن الوقف على غير المعيّن والمبهم المتردّد، فوجهها عدم معهودية ذلك وعدم جريان التعارف عليه. ولم يشر إلى هذا الوجه في كلام المحقّق الكركي ولا في كلام صاحبي المسالك والجواهر، كما عرفت.

والمتحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّ أدلّة بطلان هذا الوقف - المستدلّ بها في كلمات الأصحاب - أربعة ثلاثة منها جائت في كلمات الأصحاب وهي الإجماع والوجهان المستدلّ بهما في جامع المقاصد والمسالك. والوجه الرابع دعوى الانصراف، وقد نقله في العروة وناقش فيه بما عرفت.

أمّا الوجه العقلي المذكور فلا يمكن المساعدة عليه؛ لشهادة الوجدان على وقوعه عند أهل العرف فيما إذا كان هناك معيِّنٌ كالقرعة ونحوها. ومن هنا أفتى الأصحاب بالصحّة لو عُيّن المبهم بالقرعة بعد الوقف، كما يمكن تعيين المبهم بعد الوقف بتفويض ذلك إلى شخص. ومن الواضح أنّ القرعة وذلك الشخص، لا يوجدان الشيءَ المجهول المبهم، بل إنّما يميّزانه ويعيّنانه.

وأمّا دعوى الانصراف، فهي كما عرفت مبنيّة على إحراز عدم تعارف هذا النوع من الوقف، وهو مشكل.

وأمّا إنكار وجود المبهم، ولو للطبيعي الجامع المتحقّق بأحدهما، فلا يمكن تصديقه، بل ذلك خلاف ما نجده في وجداننا وما نشاهده في الارتكاز العرفي العقلائي، كما يُعلم ذلك من حكم الفقهاء في المال المتردّد بين المالكين؛ حيث إنّهم لم يعدّوه ممّا لا مالك له. ومن هنا حكموا باختصاصه لأحدهما بالقرعة أو بالاقتسام وتعيين سهم كلّ واحد منهما بالقرعة. فلا يكون المبهم المتردّد من قبيل المعدوم الذي لا وجود له، كما زعمه صاحب المسالك ووافقه صاحب الجواهر.

ص: 308

(مسألة 38): الظاهر صحّة الوقف على الذمّي والمرتدّ لا عن فطرة (1)؛ سيّما إذا كان رحماً. وأمّا الكافر الحربي والمرتدّ عن فطرة فمحلّ تأمّل.

فلا يبقى في البين إلّاالإجماع. وهو على فرض عدم الالتزام بكونه كاشفاً تعبّدياً عن رأي المعصوم لاحتمال مدركيته - وإن يشكل ذلك بعدم التعليل بسائر الوجوه في كلام القدماء المدّعين للإجماع - فلا أقلّ من اتّفاق الأصحاب على اشتراط تعيين الموقوف عليه؛ حيث لم يُعهد المخالفة من أحدهم.

فمقتضى القاعدة في نهاية الشوط الاحتياط الواجب باشتراط ذلك؛ حذراً من مخالفة اتّفاق الأصحاب على اشتراطه.

حكم الوقف على الذمّي والمرتدّ

1 - قبل الورود في البحث ينبغي تعريف المرتدّ الفطري والملّي. ونكتفي لذلك بنقل كلام السيّد الماتن قدس سره.

قال في المسألة العاشرة من كتاب المواريث: «المرتدّ - وهو من خرج عن الإسلام واختار الكفر - على قسمين: فطريٌ وملّيٌ. والأوّل من كان أحد أبويه مسلماً حال انعقاد نطفته ثمّ أظهر الإسلام بعد بلوغه ثمّ خرج عنه.

والثاني: من كان أبواه كافرين حال انعقاد نطفته ثمّ أظهر الكفر بعد البلوغ، فصار كافراً أصلياً، ثمّ أسلم، ثمّ عاد إلى الكفر، كنصراني بالأصل أسلم ثمّ عاد إلى نصرانيته مثلاً»(1).

أحسن ما وجدته في بيان تحرير محلّ النزاع في المقام، كلام المحقّق الكركي.

********

(1) - تحرير الوسيلة 349:2.

ص: 309

وقد حرّر في جامع المقاصد اختلاف آراءِ الأصحاب في وقف المسلم على الذمّي بقوله: «اختلف الأصحاب في جواز الوقف على الذمّي على أقوال:

الأوّل: المنع مطلقاً، وهو قول سلّار، وابن البرّاج؛ لقوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ...) (1)، والوقف نوع مودّة فيكون منهيّاً عنه فلا يكون طاعة.

الثاني: الجواز مطلقاً، حكاه الشيخ في المبسوط، واختاره نجم الدين بن سعيد؛ لقوله تعالى: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ...) (2)، ولقوله عليه السلام: «على كلّ كبد حرّى أجر»(3).

الثالث: الجواز إذا كان الموقوف عليه قريباً دون غيره، وهو مختار الشيخين، وأبى الصلاح، وابن حمزة؛ لقوله تعالى: (وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (4)، وقوله تعالى: (وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) (5)، والأوامر كثيرة في صلة الرحم»(6).

قوله: «على كلّ كَبِد حَرّى أجرٌ»، أي على سقي كلّ كبِدٍ أجرٌ حكاه في الجواهر(7)عن النبي صلى الله عليه و آله ولكن جاءَ نظير هذا التعبير في صحيح ضريس بن عبدالملك عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ اللّه... إلّاظلّه»(8).

********

(1) - المجادلة (58):22.

(2) - الممتحنة (60):8.

(3) - عوالي اللئالي 3/95:1.

(4) - لقمان (31):15.

(5) - العنكبوت (29):8.

(6) - جامع المقاصد 49:9-50.

(7) - جواهر الكلام 130:28.

(8) - وسائل الشيعة 409:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 19، الحديث 2.

ص: 310

وجه الدلالة أنّه بإطلاقه يشمل وقف الماءِ على الذمّي. وثبوت الأجر فرع الصحّة.

ولكن قوّى التفصيل بين الرحم وبين غيره، وعدّه القول المشهور؛ حيث قال بعد نقل الأقوال: «وهذا القول ليس بعيداً من الصواب - إلى أن قال - وكيف كان فالأولى الاقتصار على الرحم، وهو المشهور»(1).

********

(1) - وهذا القول ليس بعيداً من الصواب.

فإن قيل: قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً...) نصّ في المنع من ذلك؛ لأنّ الوقف على الإنسان موادّة له.

قلنا: أوّلاً نمنع ذلك، فإنّ المفهوم من الموادّة غير ذلك، ويؤيّده قوله سبحانه في حقّ الأبوين الكافرين: (وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً)، فإنّه ليس من الصحبة بالمعروف ترك صلتهما مع حاجتهما.

ولا يبعد أن يكون المراد من الآية: المباعدة لأعداء اللّه، والتصلّب في مجانبتهم على وجه لايمنع صلة الرحم وحسن المصاحبة للوالدين المأمور بهما، ويكون كلّ من الأمرين جارياً على ظاهره.

أو يقال: إنّ المباعدة بالنسبة إلى كلّ شخص بحسب حاله، ففي الوالدين والأرقاب ما وراء الصلة المأمور بها بخلاف غيرهم.

والجواب عن قوله تعالى: (لا يَنْهاكُمُ...) الآية: أنّه لا دلالة فيها على الموادّة، وظاهرها يقتضي جواز الوقف على بعض الحربيين، والمنع من بعض أهل الذمّة الذين سبق منهم القتال.

ولعلّ المراد بها: النساء والصبيان، إذ ليس من شأنهم القتال، وهو قول بعض المفسّرين، بل قد قيل: إنّها منسوخة، ويشكل بأ نّه يلزم جواز الوقف على النساء والصبيان مطلقاً، وكيف كان فالأولى الاقتصار على الرحم، وهو المشهور.

ووجه القرب في المنع من الوقف على الحربي: أنّ ذلك منافٍ للمباعدة والمجانية المأمور بها؛ لانتفاء القرابة المقتضية للصلة فيكون الوقف نوع مودّة. ويحتمل ضعيفاً الجواز لعموم قوله عليه السلام: «على كلّ كبد حرّى أجر».

ص: 311

وأجاب عن قوله: «لا تَجِدُ...» ؛ بأنّ الوقف ليس موادّةً عرفاً، وأ نّه لا يبعد كون المراد من الآية المزبورة المباعدة والتصلّب في المجانبة على وجه لا يمنع من صلة الرحم والإحسان بالوالدين المأمور بهما في الكتاب والسنّة فيؤخذ بكلّ من المنع والأمر في موضعه.

ووجّه منع الوقف على الحربي بمنافاة الوقف للمباعدة والمجانبة المأموربها، مع انتفاء القرابة المقتضية للصلة؛ لكون الوقف نوع مودّة وكذا المرتدّ عن فطرة إذا كان رجلاً لوجوب قتله؛ بخلاف المرتدّ عن غير فطرة؛ لأنّه بحكم المسلم ولكن رجِّح في الختام كون المرتدّ مطلقاً كغيره من الكفّار.

وأضاف في المسالك قولاً رابعاً في الذمّي اختاره ابن إدريس. وهو جوازه في خصوص الأبوين؛ مستدلاًّ بما دلّ من الكتاب(1). ثمّ قال: «واعلم أنّه لم يرد في عبارة المتقدّمين إلّاالوقف على الكافر، غير المبسوط فإنّه صرّح بالذمّي، ولعلّ مرادهم ذلك».

وفصّل في الشرائع بين الحربي والذمّي بالمنع في الأوّل مطلقاً وبالجواز في الثاني مطلقاً. وقوّاه في المسالك بقوله: «وقول المصنّف لا يخلو من وجه»(2).

وعلى أيّ حال فالمشهور عدم جواز الوقف على الحربي مطلقاً، كما صرّح بذلك

********

(1) ووجه القرب في الصحّة على المرتدّ عن غير فطرة إنّه بحكم المسلم، ويشكل بأنّ ذلك في لحوق الأحكام له لا في جواز مودّته. والأصحّ أنّ المرتدّ كغيره من الكفّار أمّا المرتدّ عن فطرة فلا يجوز الوقف عليه أصلاً إذا كان رجلاً لوجوب قتله، أمّا المرأة فهي كالمرتدّ عن غير فطرة، راجع: جامع المقاصد 50:9.

(1) - وهو قوله تعالى: (وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً)؛ لقمان (31):15. وقوله (وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً)؛ العنكبوت (29):8.

(2) - مسالك الأفهام 332:5-333.

ص: 312

في المسالك بقوله: «هنا مسألتان: إحداهما: الوقف على الحربي والمشهور عدم جوازه مطلقاً...». والتفصيل بين الرحم وغيره في الذمّي، كما صرّح به في جامع المقاصد.

وقال المحقّق في موضع آخر من الشرائع: «ولو وقف على الذمّي جاز، لأنّ الوقف تمليك، فهو كإباحة المنفعة. وقيل: لا يصحّ، لأنّه يشترط فيه نيّة القربة إلّا على أحد الأبوين. وقيل: يصحّ على ذوي القرابة. والأوّل أشبه وكذا يصحّ على المرتدّ. وفي الحربي تردّد، أشبهه المنع»(1).

ويظهر من صاحب المسالك(2) ابتناء الجواز على عدم اعتبار قصد القربة. هذا الكلام منه متين لكنّه رجّح الجواز، نظراً إلى اختياره عدم اعتبار قصد القربة.

وفي الحدائق(3) توقّف في المسألة بعد تحرير الأقوال والنقض والإبرام.

وعلّل في الجواهر عدم جواز الوقف على الكافر الحربي - بعد دعوى الشهرة، بل استظهار نفي الخلاف عن التنقيح - بوجهين أحدهما: ما يستفاد من عمومات النهي عن موادّته وبرّه. ثانيهما: كون الحربي مباح المال على وجه ظاهر في عدم احترام أمواله. وهو منافٍ لصحّة الوقف عليه، كما علّل بذلك في الدروس لمنع الوقف عليه.

ثمّ نقل عن كثير من القدماء جواز الوقف على الكافر مطلقاً، بل عن مجمع البيان الإجماع على جوازه وكون الخلاف في إعطاء الزكاة والفطرة والكفّارات، فلم يجوّزه أصحابنا.

********

(1) - شرايع الاسلام 169:2.

(2) - مسالك الافهام 349:5-350.

(3) - الحدائق الناظرة 191:22-195.

ص: 313

ثمّ أشار إلى ما وقع فيه من الخلاف بين الفقهاء(1)، وعلّل للقائلين بالجواز بعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»، وبكون ذلك تأليف قلوبهم وجلبهم إلى الإسلام، وبما روي عن النبي صلى الله عليه و آله: «لكلّ كبد حرّى أجرٌ»، وأوّل النهي عن موادّة الكافر بأ نّه من حيث كونه محادّاً ومحارباً، وإلّا لحرم محادثتهم والتعارف معهم.

وعند التعارض بين وجوه المنع والجواز فالرجحان لوجوه الجواز، مع أنّ النهي عن الموادّة لا يقتضي الفساد بل أقصاه الإثم، إلّاإذا كانت الموادّة بنفس الوقف؛ بأن كان الوقف مصداقه. هذا حاصل كلام صاحب الجواهر في بيان ما يمكن الاستدلال به لجواز الوقف على الكافر مطلقاً.

ثمّ إنّه قدس سره بعد بيان وجوه الجواز في المقام ناقش في الجواز بوجوه(2):

1 - إمكان إرادة الذمّي من الكافر في كلمات الأصحاب؛ حيث حكموا بجواز الوقف عليه، كما احتمل ذلك الشهيد وجماعة من الفقهاء. وإلّا فكان الوقف على الحربي ممنوعاً عندهم قطعاً.

2 - خروج الوقف عن معقد الإجماع المنقول من الأصحاب؛ نظراً إلى أولوية الوقف عن الوصيّة في المنع، مع اتّفاق الأصحاب على منع الوصيّة للكافر، بل عن ظاهر المبسوط الإجماع على ذلك.

3 - اقتضاء ضرورة الشريعة قطع رحم الكافر، والحثّ على الإسائة له بكلّ وجه ممكن لأنّهم شرّ دوابّ الأرض وأشدّ الناس عداوة للذين آمنوا.

4 - وضوح الفساد على تقدير اشتراط قصد القربة؛ ضرورة عدم وقوع العبادة على الوجه الحرام، بل الوقف عليه إعانة وإحسان إلى عدوّ اللّه وعدوّ الدين وعدوّ

********

(1) - مجمع البيان 408:9.

(2) - جواهر الكلام 30:28-32.

ص: 314

المؤمنين والصادّ عن سبيل اللّه، كموارد النهي عن الإعانة على الإثم والعدوان.

فكيف يمكن قصد القربة فيه؟!

وهذه الوجوه في الحقيقة هي وجوه لمنع الوقف على الذمّي.

ثمّ إنّه قدس سره على فرض الشكّ في صحّته، قد حكم بالرجوع إلى أصالة الفساد؛ نظراً إلى كون سبب النقل الشرعي بحاجة إلى حجّة ودليل شرعي قطعي فما لم يثبت تجري أصالة عدم النقل.

هذا حاصل تحرير كلام صاحب الجواهر(1) في حكم الوقف على الكافر الحربي.

********

(1) - حيث إنّه قدس سره في توجيه ما جاءَ في الشرائع من منع الوقف على الكافر الحربي: وفاقاً للمشهور كما عن المسالك بل قد تشعر عبارته بعدم الخلاف كما عن ظاهر التنقيح، وإن كان فيه حينئذٍ ما ستعرف، للنهي عن موادّته وبرّه، ولأ نّه مباح المال على وجه ينافي صحّة الوقف عليه التي يترتب عليها عدم جوازتنا وله منه كما أومى إليه بتعليل المنع في الدروس بذلك. لكن عن كثير من القدماء إطلاق جوازه على الكافر - بل عن مجمع البيان الإجماع على جواز أن يبرّ الرجل على من شاء من أهل الحرب قرابة كان أو غير قرابة، وإنّما الخلاف في إعطائهم الزكاة والفطرة والكفّارات، فلم يجوّزه أصحابنا وفيه خلاف بين العلماء - لعموم قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب...»، ونحوه والحثّ على الإحسان والمعروف وصلة الأرحام، وربما كان فيه تأليف لقلوبهم وميلهم إلى الإسلام، ولأنّ: «لكلّ كبد حرّى أجر»، والنهي عن الموادة من حيث كونه محادّاً ومحارباً، وإلّا لحرم محادثتهم والتعارف معهم ونحوه، وتحريم تغييره من حيث كونه وقفاً، لا ينافي جوازه من حيث كونه مال حربي، لا أقلّ من أن يكون التعارض من وجه، ولا ريب في رجحان الأخير، ومع الإغضاء عن ذلك كلّه، فالنهي عن الموادّة لا يقتضي الفساد إذا كانت في عقد من العقود بل أقصاها الإثم. ولكن فيه - بعد إمكان إرادة خصوص الذمّي الذي ستعرف الحال فيه من الإطلاق كما عن الشهيد وجماعة، وأن يراد من معقد الإجماع المزبور ما لا يشمل الوقف عليهم، الذي هو أولى بالمنع من الوصيّة التى أطبقوا على ما قيل إلّامن شذّ على عدم جوازها له بل ظاهر

ص: 315

وأمّا الوقف على الذمّي فقد حكى في الجواهر(1) جوازه مطلقاً عن جماعة من الفحول - مضافاً إلى تصريح صاحب الشرائع بذلك - بل استظهره من القول بجواز الصدقة على الكافر - كما نسبه في المسالك إلى الأشهر؛ نظراً إلى دخول الوقف في عنوان الصدقة، بل نسبه في الكفاية إلى المشهور.

وعلّل لجواز الوقف على الذمّي مطلقاً - مضافاً إلى الوجوه المزبورة المستدلّ بها لجواز الوقف على الكافر بحمل بعضها على الذمّي وعدم محذور في الاستدلال ببعضها الآخر للذمّي - بقوله تعالى: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ...) ، وبعدم منافاته لقصد القربة المعتبر في الوقف بعد عدم كونه منهيّاً عنه، وشمول عمومات الوقف له.

ثمّ أشار إلى ما ادّعي لاختصاص الجواز بالرحِم، من الشهرة كما في جامع المقاصد، والإجماع ونفي الخلاف كما في خلاف الشيخ وغنية ابن زهرة، وإلى النبوي المرسل: «إنّ صفيّة وقفت على أخ لها يهودي فأقرّها النبي صلى الله عليه و آله»(2)وناقش في الكلّ بعدم صلاحيتها للاختصاص، مع إمكان إرادة هؤلاء الجماعة

********

(1) المبسوط الإجماع على ذلك - أنّ ضرورة الشريعة تقتضي الحثّ على قطع رحم الكفر، وعلى الإساءة لهم بكلّ ما يمكن، لأنّهم شرّ دوابّ الأرض المؤذية وأنّ الفساد على تقدير اعتبار القربة فيه واضح، لمعلومية عدم كون العبادة محرّمة، بل وعلى العدم أيضاً للنهي عن نفس العقد الذي هو فرد المقتضي للبرّ والموادة كالنهي عن فرد الإعانة على الإثم، وليس هو لأمر خارجي كالبيع وقت النداء. والظاهر أنّ ذلك مبني الفساد عندهم، لا ما في الرياض من عدم صلاحية الحربي للملك الذي هو مقتضى الوقف، ولا أقلّ من أن يكون محلّ الشكّ، والأصل الفساد. راجع: جواهر الكلام 30:28-31.

(1) - جواهر الكلام 31:28.

(2) - الشرح الكبير 192:6.

ص: 316

وضوح القول بالجواز في الرحم لا نفيه عن غيره من أهل الذمّة، فيمكن الجمع بذلك.

وأمّا القول باختصاص الجواز بالأبوين من أهل الذمّة فلم يُحك إلّاعن موضع من كلام ابن إدريس، مع أنّه حكي عنه في موضع آخر في كلامه الجواز مطلقاً.

والوجه في الاختصاص بهما هو المرسل المرويّ في المراسم: «إذا كان الكافر أحد أبوي الواقف كان جائزاً»(1) وللأمر بمعاشرتهما بالمعروف.

وناقش في هذين الوجهين بعدم صلاحيتهما للاختصاص.

ثمّ نقل القول بالمنع مطلقاً عن جماعة ونفي وجود دليل لهم غير ما قيل في الكافر الحربي.

ثمّ نقل مناقشة صاحب الرياض بأنّ وجوه الجواز مطلقاً، لا تثبت الأمر بالوقف على الذمّي، حتّى قوله: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ...) والوقف عبادة، ويشترط فيه قصد القربة الذي قصد إمتثال الأمر. فما لا أمر له لا يمكن قصد القربة بفعله. ولا أثر للأمر بالوقف على الكافر، حتّى الذمّي في الكتاب ولا السنّة.

ثمّ استغربه بقوله: «وهو من غرائب الكلام» معلّلاً بكفاية عمومات استحباب الوقف والصدقة الجارية، بل يكفي مجرّد قوله: «لا يَنْهاكُمُ اللّهُ...» للترغيب والحثّ على برّ الكافر الذمّي - غير الحربي - والإقساط إليه بالمودّة، مع عمومات «فإنّ اللّه يحبّ المقسطين والمحسنين ويأمر بالإحسان»(2).

وقال في الختام: «وبالجملة هو من غرائب الكلام. واللّه هو المؤيّد والمسدّد والحافظ من زلل الأقدام والأقلام».

********

(1) - المراسم: 201.

(2) - راجع: البقرة (2):195؛ النحل (16):90.

ص: 317

هذا تحرير كلام صاحب الجواهر في المقام، ولا غبار عليه(1).

********

(1) - قال قدس سره: وأمّا القول بجواز أن يقف المسلم على الذمّي ولو كان أجنبياً فهو محكيّ عن التذكرة والتبصرة، وموضع من التحرير والدروس وإيضاح النافع، بل لعلّه لازم للقائل بجواز الصدقة عليه الذي نسبه في المسالك إلى الأشهر، بل في الكفاية إلى المشهور، بل قيل: لم يحك الخلاف فيه إلّاعن الحسن، ومنه ينقدح الاستدلال عليه بالنصوص الدالّة على ذلك، مضافاً إلى عموم المقام، بل وعموم الإحسان والمعروف وصلة الرحم وغيرها، بعد قوله تعالى: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ...)، وإلى فحوى ما دلّ على جواز الوصيّة من الإجماع المحكيّ، أو النصوص وإلى ما سمعته من إجماع مجمع البيان، بل لا ينافي ذلك القول باعتبار القربة فيه بعد فرض شمول الأدلّة له، ضرورة عدم المانع من كونه مقرّباً إلى اللّه تعالى، وإن كان على أهل الذمّة كالصدقة، وبذلك يظهر لك ضعف القول باختصاص الجواز في الرحم وإن حكي عن الشيخين وأبي الصلاح وبني حمزة وزهرة وسعيد وإدريس، بل في جامع المقاصد أنّه المشهور، بل في الخلاف الإجماع عليه، بل قد يظهر من الغنية نفي الخلاف فيه - للمرسل: «إنّ صفيّة وقفت على أخ لها يهودي فأقرّها النبي صلى الله عليه و آله» ضرورة عدم دليل صالح للاختصاص، وإن زاد الرحم بما دلّ على رجحان صلته والوقف على الأرحام، بل يمكن إرادة القائلين وضوح القول بالجواز فيهم، لا الجزم بنفيه عن غيرهم، وحينئذٍ لا يكون مخالفاً للمختار، وكذا القول باختصاصه فيما إذا كان أحد الأبوين مع أنّا لم نتحقّق القول به إلّاما يحكى عن السرائر مع أنّ المنقول عنها في موضع آخر التصريح بجوازه على مطلق الأرحام، كما لم نتحقّق الدليل له إلّاالمرسل في محكي المراسم إذا كان الكافر أحد أبوي الواقف كان جائزاً، والأمر بمعاشرتهما بالمعروف وهما غير صالحين للدلالة على الاختصاص، وأمّا القول بالمنع، وإن حكى عن سلّار وابن البرّاج والفخر والشهيد في الحواشي المنسوبة إليه، لكن لا دليل لهم سوى ما سمعته في الحربي الذي يجب الخروج عنه بما عرفته هناك كما هو واضح، هذا. ولكن في الرياض المناقشة في أصل دلالة العمومات على الجواز مطلقاً بكون المراد من قوله عليه السلام الوقوف إلى آخره وغيره، الوقوف الصحيحة المتضمّنة لشرائط الصحّة التي منها قصد القربة، وهي فرع الأمر بالوقف أو مطلق الصدقة عليهم والمبرّة بهم، ولا أثر له في الشريعة لا في الكتاب ولا في سنّة، فكيف يقصد

ص: 318

ولكن مقتضى التحقيق: عدم جواز الوقف على الكافر الحربي وجوازه على الذمّي مطلقاً، كما يظهر من صاحب الشرائع والمسالك والجواهر وجماعة من الفحول.

والوجه في ذلك أوّلاً: قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ) (1). فإنّه دلّ على عدم جواز موادّة الكافر الحربي مطلقاً ولو كان أباً أو ابناً. والوقف لا إشكال في كونه من مصاديق الموادّة، بل من أظهر أفراده؛ لعدم الاقتصار فيه على مجرّد الموادّة القلبية، نظير الإيمان المنضمّ إليه العمل الصالح؛ ومن هنا جعلوا الإنفاق على الرحم من قبيل صلته. ولأنّ البرّ والإحسان بإنفاق المال أجلب مودّةً من الإحسان بالسلام

********

(1) التقرّب بشيء لم يرد به أمر أو حثّ أو ترغيب نحو ما ورد في المستحبّات الشرعية، وبذلك يظهر لك الجواب عن الاستدلال بقوله عليه السلام: «لكلّ كبد حرّاء أجر»، وبآية: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ...)، فإنّ غايتهما الدلالة على ثبوت الأجر، وعدم النهي عن المودّة، وهما لا يستلزمان الأمر بالوقف أو المودّة حتّى يتحقّق فيه قصد القربة المشترطة في الصحّة، مع معارضتهما بعموم دليل المنع، حتّى يتحقّق فيه قصد القربة المشترطة في الصحّة، مع معارضتهما بعموم دليل المنع، وهو قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...)، مع أنّي لم أجد لهذا القول عدا الماتن هنا وفي الشرائع قائلاً، إلى أن قال: فهو ضعيف غايته. وهو من غرائب الكلام وما كنّا لنؤثر أن يقع ذلك منه لا في النظر ولا في التتبّع، إذ قد عرفت أنّه قول غير المصنّف أوّلاً، وثانياً: لا يخفى عليك - بعد الإغضاء عمّا في تقييد العمومات بالصحيحة المقتضي لعدم استفادة الصحيح منها حينئذٍ، والإغضاء عن شرطيّة نيّة القربة - أنّه يكفي في ذلك إطلاق ما دلّ على استحباب الوقف، وأ نّه من الصدقة الجارية... وكذا ما دلّ على الأمر بالإحسان وبالمعروف وفعل الخير ونحو ذلك، بل قوله تعالى: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ...)، كافٍ في ثبوت الحثّ على برّهم، والإقساط إليهم بالمودّة، فإنّ اللّه يحبّ المقسطين والمحسنين، ويأمر بالإحسان. راجع: جواهر الكلام 31:28.

(1) - المجادله (58):22.

ص: 319

والمصافحة والضيافة والأكل والشرب من مال المضيف. ومن هنا خُصّ مقدارٌ من الزكاة بالمؤلّفة قلوبهم.

ونظير الآية المزبورة في الدلالة، قوله تعالى: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) (1).

وتأويل النهي في الآية الاُولى إلى النهي عن الموادّة من حيث المحادّة والمحاربة، لا يأتي في هذه الآية مع كون التأويل خلاف الظاهر؛ لأنّ محادّة اللّه ورسوله يقتضيها نفس الكفر.

وثانياً: باقتضاء إباحة مال الحربي وعدم احترام ماله بطلان الوقف؛ حيث يقتضي صحّته في حقّه منع المسلم عن التصرّف في المال الموقوف عليه، وكونه محترماً، كما قال صاحب الجواهر.

وثالثاً: بأنّ الكافر لا يُتوقّع منه إلّاالفجور والفواحش والآثام. ولا ريب في كون وقف المال عليه إعانته في ذلك. والإعانة على الإثم والمعصية حرام مبغوض. ولمّا كان قصد القربة معتبراً في الوقف على التحقيق، ولا يمكن التقرّب بالحرام المبغوض فمن هنا يكون الوقف باطلاً.

وأمّا الذمّي فالوجه في جواز الوقف عليه، جواز البرّ والإحسان والإقساط إليه بدليل قوله: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (2).

والأمر بالبرّ والإحسان بالوالدين وسائر الأرحام والأقرباء في الكتاب والسنّة لا ينافي هذه الآية؛ غاية الأمر شموله للكافر الذمّي بالإطلاق، ولكن لا دلالة له

********

(1) - الممتحنة (60):1.

(2) - الممتحنة (60):8.

ص: 320

على النهي عن البرّ بغير الأرحام.

وعليه فالذمّي من غير الأرحام لا دليل على منع البرّ إليه، بل مقتضى الآية جواز البرّ والإحسان والإقساط إليه، كما عرفت وقد خصّ النهي في الآية بالذين قاتلوا المسلمين وظاهروا على إخراجهم؛ لقوله تعالى - عقيب الآية المزبورة -:

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ...) (1) .

ومن هنا يكون الكافر المعاهد في حكم الكافر الذمّي، بل كلّ كافر ليس من شأنه القتال من النساء والصبيان والمستضعفين من الكفّار، بل وغيرهم من الكفّار الذين لم يقاتلوا المسلمين ولم يحادّوا ولم يصدّوا عن سبيل اللّه. اللهمّ إلّاأن يكون هنا إجماعٌ على خلاف ذلك، فيتَّبع، وإلّا فمقتضى القاعدة جواز البرّ والموادّة لغير المقاتلين والمظاهرين من الكفّار، بلا فرق بين الذمّي والمعاهد وغيرهما.

وأمّا الوجه فيما ذهب إليه المشهور من التفصيل، فلعلّه تمشّي قصد القربة في الرحم بلحاظ ما ورد من الأمر بصلة الرحم، بخلاف غير الرحم؛ نظراً إلى عدم أمر من الشارع بإعطائه، بل الوقف عليه مخالفة لما ورد من الشارع، من النهي عن الموادّة مع الكافر والأمر بالمباعدة عنه، كما يفهم هذا التوجيه من كلام صاحب الرياض، ولكن هذا التوجيه ممّا لا وجه له؛ نظراً إلى رفع النهي بقوله:

(لا يَنْهاكُمُ...) وإلى كفاية ما ورد من الأمر والترغيب بالوقف والإحسان إلى الغير مطلقاً.

وأمّا الإشكال بأنّ الوقف ليس من الموادّة، ففي غير محلّه. وذلك؛ لأنّ الوقف - كما قلنا - نوع من اظهار المودّة وإلقائها عرفاً وقد نهى عن ذلك قوله تعالى:

********

(1) - الممتحنة (60):9.

ص: 321

(لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) (1) وقوله:

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ...) (2) .

وأمّا دعوى الإجماع على الاختصاص بالرحم - كما عن الخلاف والغنية - فلا يعبأ به بعد تصريح جماعة من فحول القدماء والمتأخّرين بالجواز مطلقاً، ولا سيّما نسبة بعضهم إلى المشهور. والمرسل الوارد في وقف صفية ضعيف بالإرسال وبكونه عامّياً.

وحاصل الكلام: أنّ الأقوى في المقام ما ذهب إليه في الشرائع والجواهر من التفصيل بين الكافر الحربي والذمّي والمنع في الأوّل مطلقاً والجواز في الثاني مطلقاً بلا فرق بين الرحم وبين غيره.

فما ذهب إليه في العروة من القول بجواز الوقف على الكافر مطلقاً ونفي التفصيل بين الحربي والذمّي، خلاف مقتضى التحقيق. وذلك لما عرفت من وجوه المنع في الحربي ووجوه الجواز في الذمّي. وقد اتّضح وجه المناقشة في الوجوه التي تشبّث به في العروة(3).

********

(1) - الممتحنة (60):1.

(2) - المجادلة (58):22.

(3) - قال قدس سره: «في جواز وقف المسلم على الكافر وعدمه فيما لا يكون إعانة على المعاصي، ومع قطع النظر عن سائر الجهات أقوال؟ ثالثها: الجواز في الرحم دون غيره، رابعها: الجواز في الأبوين دون غيرهما؛ خامسها: الجواز في الذمّي دون الحربي، والأقوى الجواز مطلقاً للعمومات وما دلّ على الترغيب في البرّ والإحسان وما ورد من جواز الصدقة على الكافر، مضافاً إلى الآية الشريفة: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)، مع عدم دليل على المنع إلّاما يتخيّل من قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ

ص: 322

نعم، لوعلم أنّه يصرف الدار أو الأرض الموقوفة للبيع والكنائس ومظاهر الشرك أو لمصارف الفسق والفجور لا يجوز قطعاً؛ لانصراف عنوان البرّ عن ذلك قطعاً.

وكذا لو انجر وقف الأراضي والدور والأشجار والمعامل على أهل الذمّة إلى سلطتهم وسبيلهم على المسلمين؛ لعدم مشروعية ذلك بدلالة قوله تعالى:

(وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (1) . وقد بيّنّا في المجلّد الأوّل من كتابنا «مباني الفقه الفعّال» أنّ المقصود من الجعل - المنفيّ في هذه الآية - هو الجعل التشريعي؛ أي لن يشرّع اللّه حكماً كان فيه سبيل للكافرين على المسلمين.

وإنّما يجوز لرفع حوائجهم وتأمين معاشهم، ممّا يدخل في مصاديق البرّ والإحسان.

وعليه فلو وقف على الذمّي بهذا القصد ثمّ صرفه الذمّي في الموارد الممنوعة المزبورة أو انجرّ ذلك إلى سلطته على المسلمين، يبطل الوقف قهراً، ويعود الموقوف إلى ملك الواقف. من خلال ما بيّنّاه.

ونضيف هنا إلى ما سبق من وجوه منع الوقف على الكافر قوله تعالى (مُحَمَّدٌ

********

(3) أَبْناءَهُمْ)، ولا دلالة فيه إذ المنع المستفاد منه إنّما هو عن الموادّة من حيث كونها محادّة لا مطلقاً، ولذا لا إشكال في عدم حرمة مجالستهم ومحادثتهم والإحسان إليهم والتعارف معهم، بل ربما يكون راجحاً إذا كان موجباً لتأليف قلوبهم ورغبتهم في الإسلام، ويزيد على ما ذكرنا في الأرحام ما دلّ على استحباب صلة الرحم، وفي الأبوين ما دلّ على استحباب مصاحبتها بالمعروف والإحسان إليهما كقوله تعالى: (وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً)، وقوله تعالى: (وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً).

وبالجملة: لا دليل على عدم جواز الوقف على الكافر من حيث أنّه كافر حتّى الحربي، ولا وجه لما قيل من عدم أهليته للملكية لكون ماله فيئاً للمسلمين كما ذكرنا سابقاً». راجع: العروة الوثقى 321:6.

(1) - النساء (4):141.

ص: 323

(مسألة 39): لا يصحّ الوقف على الجهات المحرّمة (1) وما فيه إعانة على المعصية، كمعونة الزنا وقطع الطريق وكتابة كتب الضلال،

رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (1) ولا ريب في كون الإنفاق والبرّ والإحسان من قبيل الترحّم واللطف والموادّة ومقابل الشدّة والمحادّة.

وعليه فهذه الآية تدلّ على عدم جواز الموادّة والترحّم والبرّ بإنفاق المال ووقفه على الكافر. وقد خرج من إطلاقه الكافر الذمّي بأدلّته، فيبقى الكافر الحربي تحته. كما أنّ تأويله لقوله تعالى: (لا تَجِدُ...) إلى النهي عن موادّة الكافر من حيث المحادّة وتمهيد مقدّمات المحاربة والدسيسة على المؤمنين، ممّا لا يمكن المساعدة عليه بوجه؛ ضرورة أنّ الموادّة من العناوين العرفية المحضة. والمرجع في تشخيصها وصدقها نظر العرف ولا ريب في صدقها على إنفاق المال ووقفه على الكافر ولو بغير القصد المزبور، كما أنّ ذكر (مَنْ حَادَّ اللّهَ...) في الآية من باب ذكر الموضوع، وذلك لا يقتضي التخصيص بالقصد المزبور. مع عدم دخل لقصد ذلك في ملاك الموادّة وهي تأليف القلب وجلب المحبّة.

مضافاً إلى الشهرة العظيمة بين الأصحاب على حرمة الوقف على الكافر الحربي، وشذوذ، بل ندور القول به، كما عرفت من خلال كلمات الفحول.

بطلان الوقف على الجهات المحرّمة

اشارة

1 - إنّ بطلان الوقف على الجهات المحرّمة واضح، بناءً على ما سلكناه من اعتبار قصد القربة في الوقف؛ نظراً إلى عدم تمشّي قصد القربة في الوقف على

********

(1) - الفتح (48):29.

ص: 324

الجهات المحرّمة وعلى مظاهر الفسق وأماكن الشرك والإلحاد والفجور.

وأمّا مع قطع النظر عن اعتبار قصد القربة، فأيضاً يبطل الوقف على الجهات المحرّمة؛ لإجماع الأصحاب على ذلك، كما نقل في المفتاح(1) عن المبسوط والغنية وظاهر التنقيح الإجماع على ذلك، بل في الأوّلين نفي الخلاف في ذلك بين المسلمين، كما في الجواهر(2)، وقال فيه: «بلا خلاف أجده».

ومن هنا ذهب القائلون بعدم اعتبار قصد القربة في الوقف إلى بطلان الوقف على الجهات المحرّمة.

هذا مضافاً إلى النهي عن الإعانة على الإثم، وإنّ الوقف على الجهات المحرّمة إعانة على الحرام والنهي في العبادات يوجب الفساد. وقد بحثنا مفصّلاً عن قاعدة حرمة الإعانة على الإثم في المجلّد الأوّل من كتابنا «مباني الفقه الفعّال»، وبيّنّا هناك وجوه الاستدلال على حرمة الإعانة على الإثم، من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، فراجع.

وهاهنا نكتة، وهي أنّ إجماع الأصحاب على بطلان الوقف على الجهات المحرّمة كاشف عن عبادية الوقف واشتراط قصد القربة فيه.

********

(1) - مفتاح الكرامة 61:9.

(2) - جواهر الكلام 33:28-34.

ص: 325

وكالوقف على البيع والكنائس وبيوت النيران؛ لجهة عمارتها وخدمتها وفرشها ومعلّقاتها وغيرها. نعم، يصحّ وقف الكافر عليها (1).

حكم وقف الكافر على الجهات المحرّمة

1 - كما هو المعروف المشهور بل ادّعى عليه الإجماع من ظاهر التنقيح ونفى عنه الخلاف في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه»(1) وقد وُجِّه ذلك بتمشّي قصد القربة منه؛ إذ كلّ قوم يدينون بدين ويعتقدون باللّه كما أشار إليه تعالى: (وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ) (2).

ومقتضى التحقيق أنّ صحّة وقف الكافر خلاف مقتضى القاعدة المستفادة من نصوص الوقف، من عباديته وقربيته، كما حقّقناه سابقاً وإنّما خرجنا من هذه القاعدة بالإجماع. فلا يمكن التعدّي عن مورد الكافر إلى المسلم فيستنتج من ذلك عدم اعتبار قصد القربة؛ إذ اعتبار قصد القربة هو مقتضى النصوص الدالّة على حصر الصدقة فيما يُعطى لوجه اللّه ومتقرّباً إليه وما دلّ منها على كون الوقف من الصدقة وقد سبق بيان ذلك في محلّه. والإجماع لمّا كان خلاف مقتضى القاعدة. لا بدّ في مخالفة القاعدة من الاقتصار على القدر المتيقّن من موضع النصّ والإجماع، ولا سيّما أنّ الإجماع دليل لبّي غير صالح للتعدّي به إلى غير معقده. هذا مع ما ذكروه من تمشّي قصد القربة من كلّ ذي دين ونحلة. وعليه فلا يصحّ ذهاب القوم إلى صحّة وقف الكافر للدليلية على عدم اعتبار قصد القربة.

********

(1) - جواهر الكلام 35:28.

(2) - لقمان (31):25؛ الزمر (39):38.

ص: 326

(مسألة 40): لو وقف مسلم على الفقراء أو فقراء البلد انصرف إلى فقراء المسلمين، بل الظاهر أنّه لو كان الواقف شيعياً انصرف إلى فقراء الشيعة، ولو وقف كافر على الفقراء انصرف إلى فقراء نحلته (1)، فاليهود إلى اليهود، والنصارى إلى النصارى وهكذا، بل الظاهر أنّه لو كان الواقف مخالفاً انصرف إلى فقراء أهل السنّة. نعم، الظاهر أنّه لا يختصّ بمن يوافقه في المذهب، فلا انصراف لو وقف الحنفي إلى الحنفي، والشافعي إلى الشافعي وهكذا.

تعيين مراد الواقف من عنوان الوقف

حكم ما لو وقف على الفقراء

1 - قبل الورود في بيان مبنى السيّد الماتن قدس سره في هذه المسألة والاستدلال عليه، ينبغي إعطاءُ الضابطة في تعيين مراد الواقفين ومقصودهم من القيود والخصوصيات التي يأخذونها في عناوين الموقوف عليه، وبيان ما هو المعيار في تعيين منصرف كلامهم في الأوقاف العامّة المنعقدة على العناوين.

وهذه الضابطة لا تختصّ بباب الوقف، بل تنفع في مثل الوصايا والأقارير والأيمان والنذور، ونحو ذلك ممّا يدور فيه حكم الشارع مدار ما التزمه المكلّف وجعله على عاتقه بإنشاءِ وقف أو وصيّة أو نذر أو إخبار بإقرار ونحوه.

والسرّ في كلّية هذه الضابطة أنّ المتّبع في تعيين موضوع الحكم في هذه الموارد ظاهر كلام المتكلّم الواقف أو الموصي أو الناذر أو المقرّ ومثله. هذا، ولا سيّما في باب الوقف بلحاظ ما ورد فيه، من عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1)

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 327

فإنّه صريح في دوران صحّة الوقف مدار قصد الواقف. وقد بحثنا عن ضابطة تعيين ظاهر الكلام في المجلّد الثاني من كتابنا «بدايع البحوث».

ولا يخفى: أنّ المتّبع في أمثال المقام، وإن كان هو مراد المتكلّم؛ لوضوح عدم دخول غير مقصوده في موضوع التزامه أو إقراره، إلّاأنّ مراده قد يعلم بقرينة خاصّة، فلا ريب في لزوم اتّباعها. وأمّا إذا لم يعلم مقصوده بقرينة خاصّة، فلا طريق إلى كشف مراده، إلّاظاهر كلامه.

والمتّبع في تعيين ظاهر كلام المتكلّمين هو العرف واللغة. فإن كان لهم عرف خاصّ كعرف المتشرّعة أو عرف البلد أو القبيلة، فهو المتّبع؛ لأنّه يعطي الظهور للكلام، وإلّا فالمتّبع هو العرف العامّ.

ولا يخفى: أنّ حمل اللفظ على معناه الشرعي دون العرفي، فرع إحراز أنّ بناء المتكلّم على حسب اصطلاح الشرع.

وأمّا إذا لم يكن القيد والعنوان الملفوظ متعارفاً أصلاً - لا بالعرف الخاصّ ولا بالعرف العامّ - فيرجع إلى اللغة.

والسرّ في ذلك كلّه: أنّ المعيار في تعيين ظاهر كلام أيّ متكلّم واستكشاف مراده هو السيرة العقلائية المحاورية التي جرت عليها بناؤهم وسيرتهم في محاوراتهم.

وقد بحثنا عن القواعد العقلائية المحاورية مفصّلاً في كتابنا «بدايع البحوث» فراجع.

وإلى هذه الضابطة يشير كلام بعض الفحول في المقام، كما جاءَ في الحدائق والعروة.

قال المحدّث البحراني: «إذا وصف الموقوف عليه بصفة أو نسبة، دخل فيه كلّ من تناوله الإطلاق عرفاً مع اتّفاق العرف أو الاصطلاح على ذلك، وإلّا

ص: 328

فالمتعارف عند الواقف، اعتباراً بشاهد الحال، ولو كان ثمّة قرائن وجب العمل بمقتضاها»(1).

وقد أجاد الفقيه الفحل السيّد اليزدي في بيان ذلك؛ حيث قال:

«ولا يخفى أنّه في مثل الوقف والوصيّة والإقرار والحلف والنذر ونحوها ممّا يكون من كلام غير الشارع، إذا عُلِّق حكم على عنوان أو متّصف بوصف أو قيد، يكون المتّبع - من حيث العموم والخصوص وغيرهما من الكيفيات - ما قصده المتكلّم، من الواقف والموصي وغيرهما.

وحينئذٍ؛ فإن عُلِم مراده، اتُّبع. وإن لم يعلم، فالمدار على ما يستفاد من كلامه بحسب اللغة والعرف العامّ والخاصّ والقرائن المنضمّة والانصراف وعدمه، على مثل ما هو الحال في ألفاظ الكتاب والسنّة في تشخيص مراد الشارع.

ثمّ إنّ العرف الخاصّ مقدّم على العرف العامّ، وهو مقدّم على اللغة، كما أنّ القرائن المنضمّة المفيدة للقطع أو الظهور مقدّمة على الجميع.

هذا، ولو علّق الحكم على عنوان وأراد منه معناه الواقعي لكن تخيّل خلافه من حيث العموم والخصوص، اتُّبع ما هو مفاده واقعاً، لا ماتخيّله إذا لم يكن على وجه التقييد، مثلاً إذا وقف على الفقراء وأراد الفقير الواقعي لكن تخيَّل أنّ الفقير خصوص من لا يملك قوت يومه وليلته أو قوت شهر أو نحو ذلك، يكون المدار ما هو الواقع، لا ما تخيّله.

ولو كان للفظ مراد شرعي غير ما هو عند العرف؛ فإن كان مراده ما هو المراد منه شرعاً، اتّبع، وإلّا قدّم العرف. مثلاً المراد من الولد شرعاً أعمّ من الولد

********

(1) - الحدائق الناضرة 197:22.

ص: 329

بلا واسطة وولد الولد في باب الإرث والنكاح، وفي العرف مختصّ بالولد بلا واسطة. فإذا وقف على أولاده وعلم أنّه أراد المعنى الشرعي فهو المتّبع، وإلّا فالمدار على ما يفهمه العرف من الاختصاص، إلّاإذا كان هناك قرينة على إرادة الأعمّ، وهكذا.

وما في باب الوصيّة - من أنّه إذا أوصى بجزءٍ من ماله يعطى العشر، وإذا أوصى بشيءٍ يعطى السدس، وإذا أوصى بسهم يعطى الثمن - لو قلنا بها فإنّما هو من باب التعبّد بالأخبار، وإلّا فمقتضى القاعدة الرجوع إلى العرف، ولذا لا يقاس على الوصيّة غيرها»(1).

قوله: «ممّا يكون من كلام غير الشارع»؛ أي ممّا يدور فيه حكم الشارع مدار ما التزمه المكلّف وجعله على عاتقه بإنشاءِ وقف أو وصيّة أو نذر أو يمين أو عهد أو ما أخبر عنه بإقرار أو شهادة أو قذف.

قوله: «مثل ما هو الحال في ألفاظ الكتاب والسنّة في تشخيص مراد الشارع»، مراده الألفاظ التي هي من العناوين العرفية المحضة، لا المخترعة والمستنبطة.

وقد بحثنا عن ذلك في المجلّد الأوّل من كتابنا «بدايع البحوث». وبيّنّا هناك مفصّلاً تعريف كلّ قسم من هذه الثلاثة ووجه تحكيم فهم العرف في تعيين مراد الشارع من القسم الأوّل، دون الأخيرين.

قوله: «فإن كان مراده ما هو المراد منه شرعاً، اتُّبع، وإلّا قُدّم العرف»، ظاهر العبارة مستلزم لمحذور الدور حيث علّق تعيين مراده على العلم بإرادته المعنى الشرعي. ولكنّ التوجيه الصحيح لكلامه - الدافع لمحذور الدور - أنّه إن احرز أنّ

********

(1) - العروة الوثقى 322:6.

ص: 330

بنائه على التكلّم على حسب اصطلاح الشرع كالفقيه في رسالته العملية، يُحمل كلامه حينئذٍ على المعنى الشرعي؛ نظراً إلى انعقاد ظهور كلامه على حسب اصطلاح الشرع حينئذٍ.

وأمّا في هذه المسألة فيستفاد من كلام السيّد الماتن قدس سره أنّ كلّ وقف لو لا القرينة وعند الإطلاق ينصرف إلى أهل نحلة الواقف.

والوجه فيه: أنّه المتفاهم عرفاً من كلام الواقفين، فهو ظاهر كلامهم وحجّة عقلائية وشرعية. ولكن ذلك ما لم تكن قرينة خاصّة على الخلاف.

ومقصود السيّد الماتن قدس سره - بعد الفراغ عن أصل الضابطة المذكورة - تعيين ظاهر كلام الواقف في الوقف على الفقراء؛ بأنّ المسلم ينصرف وقفه إلى الوقف على المسلمين، ووقف الشيعي إلى الشيعة، ووقف المخالف إلى المخالفين، ووقف الكافر إلى أهل نحلته.

ولكنّ الأخير مبنيٌّ على صحّة وقف الكافر، وإلّا فلا أثر لوقفه ولا ثمر لتعيين منصرفه. وقد سبق منّا أنّ مقتضى التحقيق اعتبار قصد القربة في الوقف وبطلان وقف الكفّار.

وقد تبيّن على ضوء ما بيّنّاه:

أوّلاً: أنّ لفظ «الفقراء» وإن كان بحسب معناه اللغوي وبمقتضى وضع صيغة الجمع المحلّى باللام، مفيداً للعموم الشامل لفقراء المسلمين والكفّار؛ لأنّه جمع معرّف بالألف واللام، ولكنّ المتفاهم العرفي منه فقراءُ نحلة الواقف، كما أشار إليه الشهيد بقوله:

«لمّا كان الفقراء جمعاً معرّفاً مفيداً بصيغته العموم الشامل للمسلمين والكفّار، كان مدلول الصيغة من هذه الحيثية شمول الوقف على الفقراء للجميع، إلّاأنّ ذلك

ص: 331

مفهوم لغوي، والعرف يخالفه، فإنّه يدلّ على إرادة المسلم فقراءَ المسلمين وإرادة الكافر فقراءَ نحلته، فتخصّص به، لأنّ العرف مقدّم»(1).

وقد أجاد في الحدائق في بيان ذلك؛ حيث قال:

«فإن كان الواقف مسلماً انصرف إلى فقراء المسلمين، وإن كان كافراً وقلنا بصحّة وقف الكافر، انصرف إلى فقراء نحلته.

والوجه فيه: أنّ صفة الفقر وإن شملت لغة لكلّ من المسلم والكافر، ومقتضاه العموم للجميع في كلّ من الصورتين المذكورتين، إلّاأنّ العرف وشاهد الحال يدلّ على إرادة المسلمين في الاُولى، وأهل نحلة الواقف في الثانية. والعرف عندهم مقدّم على اللغة. وهذا يتمّ مع تحقّق دلالة العرف وشهادة الحال عليه، وإلّا فاللغة مقدّمةٌ»(2).

وثانياً: انصراف لفظ الفقراء إلى معناه اللغوي أو العرفي إنّما هو فيما إذا لم تكن قرينة على الخلاف، وإلّا فهو تابع للقرينة، كما لو لم يكن في بلد الواقف الشيعي غير المخالفين، فينصرف إلى فقراء المخالفين. وكذلك العكس، كما إذا لم يكن في بلد الواقف المخالف غير فقراء الشيعة وعلم الواقف بذلك فينصرف إليهم، كما أشار إلى ذلك الشهيد(3).

********

(1) - مسالك الأفهام 336:5.

(2) - الحدائق الناضرة 197:22-198.

(3) - حيث قال: نعم لو لم يكن في البلد المعيّن إلّافقراء الكفّار؛ حيث يكون الواقف المسلم، أو بالعكس وعلم الواقف بذلك، انصرف إلى الموجود كيف كان؛ عملاً بالإضافة وحذراً من بطلان الوقف؛ حيث لا مصرف له، مع إمكان حمله على الصحّة. راجع: مسالك الأفهام 336:5.

ص: 332

وفي الجواهر أيضاً قيّده بما إذا كان الواقف عالماً بعدم وجود فقراء نحلته في بلده؛ لانصراف الفقراء إلى فقراءِ بلده حينئذٍ وإنّهم فقراء غير مذهبه، وإلّا يبطل الوقف رأساً؛ لعدم وجود الموقوف عليه. وبذلك أشكل على صاحب المسالك(1).

قال: «نعم لو لم يكن في البلد، إلّافقراءُ غير مذهبه، وكان عالماً بذلك اتّجه حينئذٍ الصرف إليهم للقرينة. أمّا إذا لم يكن عالماً، فلا يبعد بطلان الوقف لعدم الموقوف عليه؛ خلافاً لما في المسالك، من أنّ الاُولى الصحّة؛ عملاً بالعموم المتناول للموجودين وحملاً للوقف على الوجه الصحيح.

وفيه: ما لا يخفى بعد فرض انصراف الإطلاق إلى ما ذكرناه»(2).

ولكنّ الحكم بالبطلان مشكل فيما إذا احتمل وجود فقراءِ نحلته في المستقبل؛ نظراً إلى عدم اعتبار وجود الموقوف عليه فعلاً حال الوقف في صحّته، بل يكفي في صحّته احتمال وجوده ولو في المستقبل، كما أشار إلى ذلك في العروة بقوله:

«هذا إذا لم يحتمل وجود فقير من أهل مذهبه بعد ذلك أيضاً، وإلّا فالظاهر الصحّة والصبر إلى أن يوجد. ولا يضرّ عدم وجود الموقوف عليه فعلاً»(3).

وعليه فالوقف المزبور صحيح بلا حاجة إلى جريان أصالة الصحّة.

********

(1) - حيث قال: ولو لم يعلم بذلك ففي كون الحكم كذلك وجهان، من وجود الإضافة والعموم المتناول للموجود، ومن أنّه بعدم العلم لا توجد القرينة الصارفة عن المتعارف. ولعلّ إلحاقه بالأوّل أولى. راجع: مسالك الأفهام 336:5.

(2) - جواهر الكلام 37:28.

(3) - العروة الوثقى 324:6.

ص: 333

نعم، لو لم يُحتمل وجود الموقوف عليه في المستقبل، يأتي الكلام في بطلانه؛ نظراً إلى جريان أصالة الصحّة وإلى انصراف الإطلاق إلى فقراء البلد وعدم الموقوف عليه عند عدم علمه بالحال.

والتحقيق: أنّه لو احرز عدم علم الواقف بالحال، لا مناص من الحكم بالبطلان حينما لم يحتمل حدوث الموقوف عليه في المستقبل؛ نظراً إلى ما يقتضيه ظاهر حاله من وقفه على أهل نحلته بزعم وجودهم في البلد حين إنشاء الوقف، مع عدم وجودهم. فيلزم تبيُّن عدم الموقوف عليه.

وأمّا لو لم يُحرز ذلك فتجري أصالة الصحّة؛ لأنّه مع علمه بالحال لو وقف على فقراء نحلته مع عدم احتمال وجودهم في المستقبل، أقدم على وقف باطل. وأصالة الصحّة تنفيه ويقتضي إقدامه على الوقف الصحيح المتوقّف على علمه بالحال والفقراء الموجودين في البلد من غير نحلته. فيحمل على هذه الصورة باقتضاءِ أصالة الصحّة، مع أنّ الغالب والمساعد للاعتبار علمه بالحال.

ولا يخفى: أنّ احتمال وجود الموقوف عليه في المستقبل، وإن يصحّح الوقف على القاعدة حتّى في صورة علم الواقف بالحال، بلا احتياج إلى الحكم بصحّة الوقف على الفقراء الموجودين من غير نحلته حينئذٍ. ولكنّ المانع من ذلك انصراف الوقف إلى الفقراء الموجودين في البلد، من غير نحلته، مع علمه بالحال؛ نظراً إلى انسباق ذلك إلى أذهان أهل العرف، لا فقراء نحلته المعدومين حال الوقف؛ لكي يصحّح باحتمال وجودهم في المستقبل.

ص: 334

(مسألة 41): لو كان أفراد عنوان الموقوف عليه منحصرة في أفراد محصورة معدودة - كما لو وقف على فقراء محلّة أو قرية صغيرة - توزّع منافع الوقف على الجميع، وإن كانوا غير محصورين لم يجب الاستيعاب (1)، لكن لا يترك الاحتياط بمراعاة الاستيعاب العرفي مع كثرة المنفعة، فتوزّع على جماعة معتدّ بها بحسب مقدار المنفعة.

حكم الاستيعاب في صرف الوقف

1 - فصّل السيّد الماتن قدس سره في توزيع منافع الوقف بين ما لو كان أفراد الموقوف عليه معدودين محصورين، وبين ما لو كانوا غير محصورين. فحكم في الأوّل بوجوب الاستيعاب في توزيع منافع الوقف بين أفراد الموقوف عليه، بخلاف الثاني.

والوجه فيه: عدم التمكّن من استيعاب التوزيع والصرف في غير المحصورين.

وأنّ عدم التمكّن من ذلك قرينة على عدم كون الاستيعاب مقصوداً للواقف حينئذٍ.

وقد يشكل على وجوب الاستيعاب في الأفراد المحصورين؛ بأنّ الوقف لا يقتضي أكثر من استحقاق الموقوف عليه للانتفاع من الوقف وجوازه له إذا أراد الانتفاع، بخلاف غير الموقوف عليه فلا يجوز له الانتفاع؛ لعدم استحقاقه.

وبعبارة اخرى: إنّ أشخاص الموقوف عليه العامّ ليسوا مالكين لمنافع الوقف، بل إنّهم مصارف لها، وإلّا لوجب الاستيعاب بمقتضى وضع صيغة الجمع، كما احتمله في المسالك1.

********

(1) - حيث قال: ويحتمل جواز الاقتصار على واحدٍ نظراً إلى أنّ الأشخاص مصرف الوقف

ص: 335

والجواب: أنّ منافع الوقف ملك للموقوف عليه، كما عليه الأصحاب، ودلّ عليه خبر علي بن سليمان النوفلي، قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام أسأله عن أرض وقفها جدّي على المحتاجين من ولد فلان بن فلان، وهم كثير متفرّقون في البلاد، فأجاب عليه السلام: «ذكرت الأرض التي وقفها جدّك على فقراء ولد فلان وهي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف، وليس لك أن تتبّع من كان غائباً»(1).

ولا يخفى: أنّ سند هذا الخبر، وإن كان ضعيفاً بموسى بن جعفر البغدادي وعلي بن محمّد بن سليمان، إلّاأنّ ضعفه منجبر بعمل المشهور؛ حيث حكموا بكون العين الموقوفة ملكاً للموقوف عليه مطلقاً. وعمل المشهور بخبر من جهةٍ يكفي لانجبار ضعفه وإن لم يعملوا بسائر فقراته، كما في هذا الخبر من حيث الاقتصار بالحاضرين في البلد.

ولكنّ العمدة في المقام إحراز استناد المشهور إلى هذا الخبر في ذهابهم إلى كون الوقف مفيداً لملك عين الموقوف مطلقاً، حتّى الوقف العامّ، مع كون أفراد الموقوف عليهم غير محصورين.

وعليه يكون العين الموقوفة في الوقف العامّ ملكاً لعموم المسلمين، لكن لا ملكاً تامّاً، بل ملكاً محبّساً غير جائز التصرّف الناقل.

وجه الدلالة: أنّ اللام في قوله: «ولمن حضر البلد» يفيد الملك والاختصاص واستحقاق الانتفاع لا يفيد أكثر من ثبوت حقّ الانتفاع لمن يستحقّه إذا أراد الانتفاع منه، فيجوز له الانتفاع منه ولا يجوز لغيره.

********

(1) لا مستحقّون، إذ لو حمل على الاستحقاق وعمل بظاهر اللفظ لوجب الاستيعاب، لأنّه جمع معرّف مفيد للعموم فيجب التتبّع ما أمكن. راجع: مسالك الأفهام 402:5.

(1) - وسائل الشيعة 193:19-194، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 8، الحديث 1.

ص: 336

ومقتضى كون منافع الوقف ملكاً للموقوف عليه، إنّما هو كون الموقوف ملكاً لأشخاص الموقوف عليهم في الوقف الخاصّ، وكذا أفراد الموقوف عليهم محصورين في الوقف العامّ. وأمّا إذا كان أفراد الموقوف عليهم غير محصورين، فقد يقال: إنّ الوقف العامّ لا يفيد أكثر من استحقاق الانتفاع والصرف حينئذٍ.

والفارق بين النوعين فهم أهل العرف؛ نظراً إلى عدم كون التمليك للمُلّاك غير المحصورين متعارفاً؛ لأنّ عدم انحصارهم يمنع عن أن يقصد الواقف تمليك منافع الوقف لآحاد أشخاصهم بخلاف المحصورين.

ويمكن نقض ذلك بالأراضي المفتوحة عنوة؛ حيث إنّها ملك لعموم المسلمين، لمن وُلد وسيولد إلى يوم القيامة كما ورد في نصوصها. وكونها ملكاً لهم لاينافي عدم وجوب استيعاب الصرف؛ لعدم التمكّن منها.

والذي يقتضيه التحقيق في المقام: أنّ أفراد عنوان الموقوف عليه إذا كانوا محصورين يكون الوقف على الأشخاص ومن قبيل الوقف الخاصّ، ويدخل منافع الوقف في ملكهم، فيجب الاستيعاب لوجوب إيصال المال إلى مالكه.

وأمّا إذا كان أفراد العنوان غير محصورين، يرجع الوقف إلى الوقف على الجهة؛ نظراً إلى كون الاعتبار حينئذٍ بالجنس عرفاً ويملك الموقوف عموم الموقوف عليه.

نعم، لمّا لا يمكن الاستيعاب ينتفع الأشخاص بقدر ما أمكن. والفرق أنّ أفراد الموقوف عليهم سواءٌ في استحقاق الانتفاع في الوقف العامّ ولو ازدحموا يمكن التعيين بالقرعة عند عدم إمكان انتفاع الجميع، بخلاف الوقف الخاصّ فلا استحقاق لغير أفراد الموقوف عليهم الخاصّ.

ولكن يظهر من صاحب العروة كون الأفراد حينئذٍ من قبيل المصارف بحسب المتفاهم العرفي، كما أشار إلى ذلك بقوله:

ص: 337

«إذا كان أفراد عنوان الموقوف عليه محصوراً، كما إذا وقف على فقراء محلّة أو قرية صغيرة، وجب استيعابهم في منافع الوقف، كما هو مقتضى اللغة والعرف. وإن كانوا غير محصورين لم يجب؛ لأنّه حينئذٍ وقف على الجهة ومن باب بيان المصرف. فيكون المراد جنس الجمع، بل جنس الفرد»(1).

وفيه: أنّ دعوى كون الوقف العامّ مفيداً لاستحقاق الصرف في غير المحصورين، لا وجه لها إلّامانعية عدم حصر الأفراد والموقوف عليهم للتمليك لهم. وقد سبق بيان عدم صلاحية عدم حصرهم لمنع التمليك لهم، كما في الأراضي المفتوحة عنوة. غاية الأمر يكون أمر توزيع الانتفاع والصرف بينهم بيد وليّ الأمر كسائر امور الحسبة، ويمكن التوصّل بالقرعة للتوزيع والاقتسام بين المستحقّين عند الازدحام وعدم الكفاية للجميع.

وظاهر السيّد الإمام كون الوقف العامّ مفيداً للملك حتّى فيما لو كان أفراد الموقوف عليهم غير محصورين حيث عبّر بالتوزيع بينهم مهما أمكن دون الصرف.

نعم، إذا كانت للوقف منافع كثيرة لا يقصد الواقفون عادةً الاكتفاء بصرف تمامها لفرد أو فردين من العنوان. ومن هنا يكون المتفاهم من كلامهم صرف منافع الوقف في جماعة معتدّ بهم من أفراد العنوان الموقوف عليه. فيدخل لذلك في عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(2). ومن هنا لا يجوز الاكتفاء بصرف منافع الوقف حينئذٍ في شخص أو شخصين، كما أشار إلى ذلك في العروة بقوله:

«لكنّ الظاهر أنّه مع كثرة المنفعة يشكل الصرف بتمامها على واحد أو اثنين مثلاً بل اللازم الصرف على جماعة معتدِّ بها بحسب مقدار المنافع».

********

(1) - العروة الوثقى 324:6.

(2) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 338

(مسألة 42): لو وقف على فقراء قبيلة - كبني فلان - وكانوا متفرّقين لم يقتصر على الحاضرين، بل يجب تتبّع الغائبين (1) وحفظ حصّتهم للإيصال إليهم، ولو صعب إحصاؤهم يجب الاستقصاء بمقدار الإمكان وعدم الحرج على الأحوط. نعم، لو كان عدد فقراء القبيلة غير محصور - كبني هاشم - جاز الاقتصار على الحاضرين. كما أنّ الوقف لو كان على الجهة جاز اختصاص الحاضرين به، ولا يجب الاستقصاء.

هذا كلّه في الوقف العامّ فيما إذا كان العنوان الموقوف عليه للأشخاص كالفقراء والعلماء والسادات ونحو ذلك ممّا كان قابلاً للتملّك.

وأمّا في الوقف على الجهات كالوقف على المسجد أو الخانات أو المشاهد ممّا لا يكون قابلاً للتملّك فلا إشكال في كون مصاديق الموقوف عليه وموارده من قبيل المصرف، كما هو واضحٌ وقد سبق هذا البحث مفصّلاً في بعض المسائل السابقة.

حكم الاقتصار على الحاضرين في الصرف

1 - وذلك لما مرّ آنفاً من انتقال منافع الوقف على المحصورين إلى ملك أشخاصهم ويجب إيصال المال إلى مالكهم. فلا يجوز الاكتفاء ببعضهم؛ نظراً إلى استلزام ذلك حرمان سائر المستحقّين المُلّاك عن حقوقهم وأموالهم.

نعم، دلّ خبر علي بن محمّد بن سليمان النوفلي بإطلاقه على جواز الاقتصار على الحاضرين في البلد.

وقد سبق نقله آنفاً، إلّاأنّه ضعيف سنداً؛ لعدم ثبوت وثاقة علي بن محمّد بن سليمان ولا موسى بن جعفر البغدادي، مع عدم فتوى المشهور بجواز الاكتفاء

ص: 339

بالبعض في الوقف الخاصّ ولا العامّ المحصورين، بل خلافه متسالم بين الأصحاب.

هذا مضافاً إلى إمكان حمله على ما إذا كان أفراد العنوان الموقوف عليه غير محصورين، كما يمكن حمل اللام في قوله عليه السلام: «هي لمن حضر البلد» على الاختصاص وإرادة كون الحاضرين مصارف الوقف. كما أشار إليه في العروة بقوله:

«لكنّها محمولة على صورة كون الوقف على الجهة وكون أولاد فلان مصرفاً له ولا ينافيه قوله عليه السلام: «وهي لمن حضر البلد»، بدعوى ظهوره في وجوب استيعابهم، ولو كان من الوقف على الجهة لم يجب ذلك لإمكان منع ظهوره في ذلك وأنّ المراد أنّ المصرف من حضر لا أنّه يجب الدفع إلى كلِّ من حضر»(1).

ولكنّه مبنيٌّ على القول بكون الأفراد الموقوف عليهم في الوقف العامّ من قبيل المصارف إذا كانوا غير محصورين.

وفيه: ما لا يخفى قد سبق بيانه والإشكال عليه حلاًّ ونقضاً.

وظاهر السيّد الإمام قدس سره كون الوقف العامّ مفيداً للملك، حتّى لو كان الأفراد الموقوف عليهم غير محصورين. حيث عبّر بالتوزيع وجوّز الاكتفاء بالحاضرين لنفي الحرج في أمر التوزيع. كما يظهر منه حمل المكاتبة على ذلك، لا إرادة المصرف كما احتمله الشهيد واستظهره صاحب العروة.

********

(1) - العروة الوثقى 324:6.

ص: 340

(مسألة 43): لو وقف على المسلمين، كان لمن أقرّ بالشهادتين؛ إذا كان الواقف ممّن يرى أنّ غير أهل مذهبه أيضاً من المسلمين (1). ولو وقف الإمامي على المؤمنين اختصّ بالاثني عشرية، وكذا لو وقف على الشيعة.

منصرف الوقف على المسلمين والمؤمنين

1 - ينبغي هاهنا الإشارة إلى ما سبق من الضابطة الكلّية في تعيين منصرف الوقف على المسلمين والمؤمنين. وهي ما يُتفاهم من كلام الواقف عند أهل عرفه، لولا القرينة الخاصّة.

وذلك لعدم دلالة دليل ولا قيام حجّة خاصّة من الكتاب والسنّة يدلّ بالخصوص على كون الوقف على المسلمين لكلّ من أقرّ بالشهادتين.

نعم، هذا مقتضى وضع اللفظ، لكنّه ما لم يكن المتفاهم العرفي على خلافه.

هذا، ولكن قد صرّح الفقهاءُ بانصراف الوقف على المسلمين إلى كلّ من أقرّ بالشهادتين، كما يجده المتتبّع في كلماتهم، بلا فرق بين كون الواقف عامّياً أو من الخاصّة. ولكن ربما يستشكل بأ نّه وإن كان مقتضى الوضع اللغوي، إلّاأنّ المدار في تعيين مراد الواقف من عنوان الموقوف عليه هو المتفاهم بين أهل عرف بلده من ذلك العنوان، إلّاإذا كانت هناك قرينة على خلافه. وفي مطابقة المتفاهم العرفي مع الوضع اللغوي في المقام نظرٌ.

فإذا رأى الواقف غير أهل مذهبه من المسلمين، قد صرّح السيّد الماتن قدس سره بانصراف الوقف حينئذٍ إلى عموم المسلمين. ومقصوده ظاهراً ما إذا عَلِم ذلك منه أهل عرفه.

ص: 341

وأمّا إذا لم يُعلم منه ذلك، فالأظهر دخولهم في ظاهر كلامه أيضاً؛ نظراً إلى دخول جميع فرق المسلمين في عنوان المسلمين، إلّافرقة كانت خارجة عن عداد المسلمين عند أغلب أهل شريعة الإسلام.

هذا، ولكن هاهنا إشكال في كفاية مجرّد كون سائر الفرق من المسلمين في اعتقاد الواقف، لتعيين مراده وحمل كلامه على ذلك. وحاصله: أنّ الواقف إذا كان شيعياً، لا يقف ما له على أهل العامّة، وإن اعتقد كونهم من المسلمين. فإنّك لو سألته عن سائر الفرق يعترف بإسلامهم، لكنّه لا يقصدهم من عنوان المسلمين الملفوظ في وقفه. والدليل على ذلك الوجدان، فإنّ من نشاهد في عصرنا من السيرة المتداولة بين الشيعة، عدم وقف أموالهم لأهل العامّة. بل صار ذلك مرتكزاً في أذهانهم، ولو تلفّظوا بلفظ المسلمين في عنوان الموقوف عليه، فلا يقصدون منه إلّا الشيعة الإمامية الاثنى عشرية. نعم يمكن انسباق عموم المسلمين من عنوانه في أوقاف الشيعة في عهد العلّامة وقبله أو بعده إلى زمان متأخّر المتأخّرين لاختلاط الخاصّة والعامّة، ولا سيّما في غير بلاد الشيعة. ولكنّ الآن ليس كذلك في بلاد الشيعة؛ لغلبتهم وندور وجود أهل العامّة، كما في بلادنا.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أوّلاً: أنّ المعيار في تعيين مراد الواقفين، هو المتفاهم العرفي المبتني على جريان عادة أهل عرف الواقف وما يرتكز في أذهانهم من العنوان المذكور في الوقف.

وثانياً: أنّ لفظ المسلمين وإن كان ظاهراً في كلّ مقرّ بالشهادتين بمقتضى وضع اللغة ودلالة النصوص، لكنّ المتفاهم العرفي منه في باب الوقف والوصيّة ونحو ذلك - ممّا يدور مدار مراد المتكلّم المُنشئ - ربما يفترق عن مقتضى الوضع ومدلول النصوص.

ص: 342

وثالثاً: إنّ مجرد اعتقاد الواقف بكون سائر الفرق أيضاً من المسلمين، لا يكفي في شمول عنوان المسلمين المذكور في صيغة الوقف لسائر الفرق المخالفين لمذهب الواقف.

فالحقّ في المقام مع ابن إدريس على ما نسب إليه في العروة(1) ولا أقلّ من كونه الأحوط.

هذا إذا كان الواقف شيعياً. وأمّا إذا كان الواقف عامّياً، فلا يبعد ظهور وقفه على المسلمين في خصوص أهل العامّة، بل هو الظاهر؛ لأنّه الدارج الرائج بينهم، إلّاإذا كان هناك قرينة على إرادة عموم المسلمين الشامل للإمامية.

وأمّا في الوقف على المؤمنين، فقد اختلف الأصحاب في منصرفه على ما نقل عنهم في الحدائق بقوله: «فقال الشيخ في النهاية: إذا وقف على المؤمنين، كان ذلك لمجتنبي الكبائر من أهل المعرفة بالإمامة دون غيرهم، ولا يكون للفسّاق منهم معهم شيء على حال. وكذا قال الشيخ المفيد وابن البرّاج وابن حمزة. وقال ابن إدريس: لا يختصّ ذلك بالعدل، بل هو عامّ لجميع المؤمنين، العدل منهم والفاسق، وعلى هذا القول جرى المتأخّرون»(2).

وقال في الشرائع: «ولو وقف على المؤمنين انصرف إلى الاثنى عشرية، وقيل:

إلى مجتنبي الكبائر. والأوّل أشبه»(3).

وكلامه ظاهر في موافقة ابن إدريس.

********

(1) - العروة الوثقى 325:6.

(2) - الحدائق الناضرة 201:22.

(3) - شرائع الإسلام 168:2.

ص: 343

وقد أجاد الشهيد الثاني(1) في بيان ذلك.

حاصله: إنّ لفظ الإيمان يُطلق على معنيين عامّ وخاصّ.

فالعامّ هو التصديق القلبي بما جاءَ به النبي صلى الله عليه و آله ويكشف عنه الإقرار باللسان.

وهو أخصّ من الإسلام مطلقاً. وهذا المعنى ثابت في ارتكاز عرف المسلمين.

والخاصّ قسمان:

أحدهما: التصديق القلبي مع العمل الصالح؛ بمعنى كون العمل جزءاً منه. وهذا مذهب الفرقة الوعيدية.

والآخر اعتقاد إمامة الأئمّة الاثني عشر.

فإذا كان الواقف على المؤمنين إمامياً انصرف الوقف إلى الشيعة الإمامية الاثني عشرية؛ لأنّه المعروف المعهود عندهم وهو المتفاهم عندهم.

وإن كان غيرهم ينصرف إلى عموم المسلمين؛ نظراً إلى اشتهار المعنى العامّ عند عامّة المسلمين. فالوقف على المؤمنين يحمل على ما هو المرتكز المعهود عند الواقف. والوجه فيه العمل بشهادة الحال وفهم العرف والقرينة الحالية.

وينبغي لتنقيح المقال في ذلك تحقيق في نصوص المقام، فنقول: الروايات في تعريف الإيمان مختلفة:

فمنها: ما عُرّف فيه الإيمان بالطاعة والعمل، مثل ما روي عن الصادق عليه السلام:

«الإيمان أن يطاعَ اللّه فلا يعصى»(2). وفي رواية سُئل عليه السلام: ألا تُخبرني عن الإيمان أ قولٌ هو وعمل، أم قول بلا عمل؟ فقال عليه السلام: «الإيمان عملٌ كلّه والقول بعض ذلك

********

(1) - راجع: مسالك الأفهام 337:5-338.

(2) - الكافي 3/33:2.

ص: 344

العمل»(1). وغير ذلك من النصوص الكثيرة نقلها الكليني في كتاب الإيمان والكفر من اصول الكافي.

ومنها: ما عُرّف فيه الإيمان بالإقرار والعمل، كما في رواية عن أبي عبداللّه:

«الإيمان إقرار وعمل والإسلام إقرارٌ بلا عمل»(2) وقد وردت روايات بهذا المضمون نقلت في الكافي وغيره من الجوامع الروائية.

ومنها: ما عرّف فيه الإيمان بما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال كصحيح فضيل بن يسار عن أبي عبداللّه عليه السلام: «إنّ الإيمان ما وقر في القلوب»(3) وصحيح حمران عن أبي جعفر عليه السلام: «الإيمان ما استقرّ في القلب وأفضى به إلى اللّه وصدّقه العمل بالطاعة...»(4) وفي رواية عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يا علي اكتب. فقلت: ما أكتب؟ فقال صلى الله عليه و آله: اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم: الإيمان ما وَقر في القلوب وصدّقته الأعمال...»(5) ويدلّ على هذا المعنى قوله تعالى: (وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (6)؛ حيث نفي فيه الإيمان؛ معلّلاً بعدم دخوله في القلب. فالإيمان هو الإسلام الداخل في القلب، وإن شئت فقل: الإسلام القلبي.

والطائفة الثالثة: تبيّن المراد من الطائفتين الاُوليين بأنّ العمل كاشف عن الإيمان ولا كاشف عنه سواه ولا يُعرف الإيمان إلّابالعمل، ولكن حقيقة الإيمان

********

(1) - الكافي 1/33:2.

(2) - الكافي 2/24:2.

(3) - الكافي 3/26:2.

(4) - الكافي 5/26:2.

(5) - بحار الأنوار 23/208:50.

(6) - الحجرات (49):14.

ص: 345

هي الخضوع الباطني والخشوع القلبي.

ومنها: ما دلّ على نفي الإيمان عن غير المعتقدين بولاية الأئمّة عليهم السلام، مثل صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: «أما لو أنّ رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ اللّه... ما كان له على اللّه حقٌّ في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان»(1) ووردت بمضمونه روايات اخرى يجدها المتتبّع في مظانّها. وعلى هذا المعنى الأخير اصطلاحُ فقهائنا.

هذا بحسب ما يستفاد من الروايات، ولكنّ المدار في تعيين مراد الواقف والموصي في الوقف والوصيّة ونظائر ذلك، هو المتفاهم العرفي من كلامه في عرف الواقف. ولا ريب في ظهور لفظ المؤمن الصادر من غير الشيعي الإمامي في المؤمن بالمعنى الأوّل العامّ.

وأمّا الواقف الشيعي فإذا وقف على المؤمن، إنّما ينصرف كلامه إلى الوقف على الشيعي لأجل الضابطة المذكورة آنفاً من ظهور وقف كلّ واقف إلى الوقف على أهل نحلته ومذهبه، لا لأجل ظهور لفظ المؤمن في الشيعي الإمامي، ولو صدر من الشيعي.

وحاصل الكلام: أنّ لفظ المؤمن في ارتكاز العرف العامّ ظاهرٌ في معناه العامّ، لا خصوص الشيعة، بلا فرق بين صدوره من الشيعي أو من غيره.

وحاصل الكلام: أنّ مقتضى التحقيق في تعيين منصرف كلام الواقف في الوقف على المؤمنين، ما اختار صاحب المسالك وهو الذي استقرّ عليه رأي السيّد الماتن قدس سره. والشاهد لذلك أنّ المتفاهم العرفي من كلام الواقف ظهوره في أهل نحلته ممّن يوافقه في المذهب.

********

(1) - وسائل الشيعة 19:1، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 29، الحديث 2.

ص: 346

(مسألة 44): لو وقف في سبيل اللّه يصرف في كلّ ما يكون وصلة إلى الثواب (1)، وكذلك لو وقف في وجوه البرّ.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أوّلاً: أنّ المعيار في تعيين مراد الواقف من عنوان الموقوف عليه هو المتفاهم العرفي من كلامه.

وثانياً: أنّ المتفاهم العرفي من لفظ الإيمان يطابق ما عُرّف في أكثر النصوص، بل جميعها، وهو الإيمان بالمعنى العامّ.

وثالثاً: ظهور وقف الشيعي في الموقوف عليه الشيعي، إنّما هو لأجل الضابطة المذكورة - في أوّل البحث في المسألة الأربعين - لا لأجل ما جاءَ في النصوص واصطلاح الفقهاءِ.

وعليه فإن كان الواقف في الوقف على المؤمنين غير الإمامية الاثني عشرية، ينصرف كلامه إلى المعنى المرتكز في ذهنه من لفظ المؤمنين وهو عنده عموم المسلمين والمنتحلين إلى شريعة الإسلام، وهذا بخلاف ما إذا كان الواقف من الإمامية الاثني عشرية فإنّ المرتكز في ذهنه من المؤمنين خصوص المعتقدين بإمامة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت عليهم السلام، فينصرف كلامه إلى ذلك.

وهذا هو المتفاهم العرفي، كما بيّنّاه في إعطاء الضابطة الكلّية في المقام. وبهذا البيان تبيّن حكم ما لو وقف الإمامي على الشيعة.

الوقف في سبيل اللّه ووجوه البرّ

1 - إذا وقف الواقف ماله في سبيل اللّه، فالمشهور المعروف أنّه منصرف إلى مطلق ما يتقرّب به إلى اللّه. ولكن خالفهم الشيخ في الخلاف

ص: 347

والمبسوط(1) فخصَّه بالغزاة المطوّعة والحجّ والعُمرة، فحكم بتقسيم الموقوف في سبيل اللّه بينهم أثلاثاً. وقال ابن حمزة(2) باختصاصه بالمجاهدين. ولا يخفى أنّ مقصود الشيخ ظاهراً من الغزاة المطوّعة، من حضر الغزوة تطوّعاً من غير أمر وإلزام من النبي صلى الله عليه و آله في الجهاد الدعائي الابتدائي، لا الدفاعي.

ومقتضى التحقيق: أنّ الوقف في سبيل اللّه وفي سبيل الخير والثواب ينصرف إلى كلّ ما كان طريقاً ووصلة إلى رضوان اللّه وثوابه، ومنصرفه كلُّ ما يصلح لأن يتقرّب به إلى اللّه، كما هو المشهور بين الأصحاب، كما صرّح به في المسالك والحدائق(3)، بل في الجواهر(4) عن ابني زهرة وإدريس في بحث الوصيّة الإجماع عليه.

وعمدة الدليل على ذلك أنّه المتفاهم عرفاً من الوقف في سبيل اللّه وفي سبيل الخير والثواب،؛ لما أشرنا إليه من الضابطة آنفاً.

نعم الوقف في سبيل الخير إذا كان الواقف كافراً - بناءً على صحّة وقفه - ينصرف إلى مطلق وجوه البرّ، لاخصوص ما يتقرّب به إلى اللّه، وإن يتصادقان غالباً. وأمّا لو وقف المسلم في وجوه البرّ فهو أيضاً كذلك وذلك لما ندب الشارع إلى مطلق وجوه البرّ والخيرات، كقوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (5).

********

(1) - الخلاف 545:3؛ المبسوط 294:3.

(2) - الوسيلة: 371.

(3) - مسالك الأفهام 387:5؛ الحدائق الناضرة 239:22.

(4) - جواهر الكلام 101:28.

(5) - البقرة (2):148.

ص: 348

(مسألة 45): لو وقف على أرحامه أو أقاربه فالمرجع العرف (1)، ولو وقف على الأقرب فالأقرب كان ترتيبياً على كيفية طبقات الإرث (2).

الوقف على أرحامه أو أقاربه

1 - لما بيّناه في إعطاء الضابطة في المقام من حمل كلام كلّ واقف على المتفاهم العرفي من كلامه وعنوان الأرحام والأقارب من العناوين العرفية. ومن هنا اكتفى الإمام عليه السلام في جواب السؤال عن حدّ القرابة بذكر لفظها، كما في صحيح البزنطي؛ حيث سأل أبا الحسن بقوله: ما حدّ القرابة، يُعطى من كان بينه وبينه قرابة، أو لها حدٌّ يُنتهى إليه؟ فرأيك فدتك نفسي. فكتب عليه السلام: «إن لم يسمّ أعطاها قرابته»(1). وقد نقلنا النصّ الوارد في المقام وبحثنا عن مفاده في صلة الأرحام وقطيعتها من كتابنا «دليل تحرير الوسيلة».

2 - لأنّه المرتكز عند عرف المتشرّعة. ولا فرق في منشأ الارتكاز بين كون النصّ الوارد من الشارع أو وضع اللغة، بل إنّما المعيار في الانصراف هو ارتكاز المعنى المنصرف إليه في أذهان أهل عرف الواقف.

ويُقدّم المتقرّب بالأبوين على المتقرّب بأحدهما؛ لأنّ المتقرّب بهما أقرب إلى الواقف من المتقرّب بأحدهما عند العرف. وقد اختار ذلك الشيخ في المبسوط والعلّامة في المختلف وابن إدريس في السرائر.

وتضعيف صاحب العروة لهذا القول في غير محلّه؛ حيث قال: «والقول بتقدّم المتقرّب بالأبوين من الإخوة والأعمام والأخوال على غيرهم لأنّ الانفراد بقرابة

********

(1) - وسائل الشيعة 401:19، كتاب الوصايا، الباب 68، الحديث 1.

ص: 349

(مسألة 46): لو وقف على أولاده اشترك الذكر والاُنثى والخُنثى، ويقسّم بينهم على السواء (1)، ولو وقف على أولاد أولاده عمّ أولاد البنين والبنات؛ ذكورهم وإناثهم بالسويّة.

يجري مجرى التقدّم بدرجة، كما عن الشيخ في المبسوط، والعلّامة في المختلف والسرائر ضعيف»(1).

والسرّ في ما قلناه: أنّ المرجع في تعيين مقصود الواقف من وقفه، هو المتفاهم العرفي من كلامه، كما بيّنّاه في الضابطة.

اشتراك الذكر والاُنثى والخنثى في الوقف على الأولاد

1 - كلّ ذلك للصدق عرفاً. فإنّ المتفاهم عرفاً من لفظ الأولاد مطلق الأولاد بلا فرق بين الذكر والاُنثى والخنثى، كما لا فرق عند أهل العرف في صدق أولاد الأولاد بين أولاد البنين والبنات والخناثي، كما علّل بذلك في المسالك والحدائق والجواهر(2).

ولا يلاحظ قانون الإرث بأن يكون (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) * كما عن ابن جنيد؛ لأنّه خلاف المتفاهم العرفي عند الإطلاق، إلّاأن يقيّد الواقف بقوله:

على حسب قانون الإرث.

ولا ينافي ذلك صيرورة خصوص طبقات الإرث متفاهماً ومرتكزاً عند العرف، دون سائر قوانين الإرث ممّا كان بعيداً عن ارتكازهم.

********

(1) - العروة الوثقى 328:6.

(2) - مسالك الأفهام 351:5؛ الحدائق الناضرة 223:22؛ جواهر الكلام 50:28.

ص: 350

(مسألة 47): لو قال: «وقفت على ذرّيتي» عمّ البنين والبنات وأولادهم بلا واسطة ومعها ذكوراً وإناثاً، وتشارك الطبقات اللاحقة مع السابقة، ويكون على الرؤوس بالسويّة (1)، وكذا لو قال: «وقفتُ على أولادي وأولاد أولادي»، فإنّ الظاهر منهما التعميم لجميع الطبقات أيضاً. نعم، لو قال: «وقفت على أولادي، ثمّ على الفقراء» أو قال: «وقفت على أولادي وأولاد أولادي، ثمّ على الفقراء» فلا يبعد أن يختصّ بالبطن الأوّل في الأوّل، وبالبطنين في الثاني، خصوصاً في الصورة الاُولى (2).

وأمّا وجه التقسيم على السواء؛ فلأ نّه مقتضى الاشتراك عند الإطلاق وعدم تعيين الحصص عرفاً؛ حيث يسري الشركة إلى جميع أجزاء منافع الوقف.

ويمكن الاستدلال لذلك أيضاً بقاعدة العدل والإنصاف بمعناها الواسع الأعمّ.

وقد أثبتنا اعتبار هذه القاعدة وبحثنا عن نطاقها في الجزء الأوّل من كتابنا «مباني الفقه الفعّال».

1 - لما تقدّم آنفاً من دوران استحقاق أفراد الموقوف عليه لمنافع الوقف مدار صدق العنوان عرفاً. وإنّ عنوان الذرّية صادق عرفاً على البنين والبنات وأولادهم، بلا واسطة ومعها، ذكوراً وإناثاً وعلى حسب رؤوسهم على السواء وكذا عنوان أولاد الأولاد؛ لعدم الفرق بينه وبين الذرّية في نظر أهل العرف.

2 - وذلك لانقطاع الوقف على الأولاد بانقراض البطن الأوّل، ووصول النوبة إلى الموقوف عليه الثاني وهو عنوان الفقراء. ولعدم صدق الأولاد على البطن الثاني فإنّهم أولاد الأولاد، وإن يحتمل صدق أولاد الأولاد على البطون الثالثة والرابعة ممّن يمكن دركه عادةً من نسل الرجل. فيحتمل اعتبار انقراضهم جميعاً ثمّ الفقراء،

ص: 351

لكنّه خلاف المتفاهم العرفي، كما أنّه خلاف الاحتياط أيضاً.

ولكن هاهنا تهافت في كلام السيّد الماتن وحاصله: أنّ الوقف على الأولاد وأولاد الأولاد لو كان ظاهراً في التعميم لجميع الطبقات، كما صرّح به السيّد الماتن قدس سره، لا يمكن رفع اليد عن هذا الظهور بمجرد تعقيبه بالوقف على الفقراء على نحو الوقف الترتيبي. فإنّ الموقوف عليه الأوّل بما له من الظهور المعنى والمتفاهم العرفي لو خُلّي وطبعه مقصود الواقف في الوقف الترتيبي أيضاً كما لو كان هو الموقوف عليه وحده. وظاهر السيّد الماتن أنّ الوقف على الأولاد وأولاد الأولاد إذا عُقّب بالوقف على الفقراء على نحو الترتيب يتغيّر معناه وينحصر في البطنين الاُوّلين، وهذا تهافت.

فإنّ العنوان المزبور - لو خلّي وطبعه وعند الإطلاق - بأيّ معنى كان، لايفترق بين الصورتين. ومجرّد تعقيبه بعنوان الفقراء ونحوه على نحو الترتيب، لايصلح لصرف العنوان المزبور عن معناه.

هذا، ولكنّ الظاهر من العنوان المزبور خصوص البطنين الأوّلين، بلا فرق في المقامين. وذلك لعدم تعبير آخر يفيد الاقتصار على البطنين الأوّلين، فإنّ عناوين «النسل» و «نسلاً بعد نسل» و «الذرّية» و «طبقة بعد طبقة» كلّها تشمل جميع الطبقات.

ص: 352

(مسألة 48): لو قال: «وقفت على أولادي نسلاً بعد نسل وبطناً بعد بطن»، فالظاهر المتبادر منه عرفاً أنّه وقف ترتيب (1)، فلا يشارك الولد أباه ولا ابن الأخ عمّه.

حكم الوقف على الأولاد نسلاً بعد نسل

1 - وذلك لدلالة لفظة «بعد» في قوله: «نسلاً بعد نسل»؛ حيث يتبادر منه البعدية. ومقتضى بعدية النسل اللاحق عن السابق في تعلّق الوقف به، عدم وصول النوبة إليه مع وجود النسل السابق، ولو بقي منه فردٌ واحدٌ.

ولكن يخطر بالبال هاهنا أنّ الظاهر انحلال البعدية والترتيب في الوقف على الأقارب. فيلاحظ الترتيب بين الأب والابن على حدة وكذا بين الأخ وابنه. وعليه فوجود الأخ لا يمنع من انتفاع الولد بعد موت أبيه الواقف. وإنّما يمنع الأخ ابنه، لا ابن أخيه. وعليه فلا مانع من مشاركة ابن الأخ عمّه مع موت أبيه، وإنّما لا يشارك أباه الذي هو أخ الواقف. فيما لو قال: وقفت على أقربائي وأرحامي نسلاً بعد نسل وبطناً بعد بطن. نعم في الوقف على الأولاد نسلاً بعد نسل، فالظاهر عدم انحلال الترتيب والبعدية بين الأولاد، فلا يلاحظ لكلّ ولد ترتيباً على حدة.

ثمّ إنّه يحتمل كون قوله: «نسلاً بعد نسل» قيداً للأولاد بمعنى أنّ الوقف قد انشي لجميع الأولاد في عرض واحد سواء، وإنّما الأولاد موصوفون بأ نّهم يولدون نسلاً بعد نسلٍ. وعليه فلا يقتضي الترتيب.

ومن هنا احتمل الوجهين في العروة بقوله: «ولو قال: وقفت على أولادي نسلاً بعد نسل أو بطناً بعد بطن. ففي كونه ترتيباً أو تشريكاً قولان، مبنيّان على أنّ قوله:

ص: 353

(مسألة 49): لو علم من الخارج وقفية شيء على الذرّية، ولم يعلم أنّه وقف تشريك أو ترتيب، فالظاهر فيما عدا قسمة الطبقة الاُولى الرجوع إلى القُرعة (1).

«نسلاً بعد نسل» قيد للوقف أو للأولاد، والأظهر الأوّل فيستفاد منه الترتيب»(1).

ولكنّ الأظهر كونه قيداً للوقف، كما قال في العروة واستظهر السيّد الماتن قدس سره؛ لأ نّه المتبادر المنسبق إلى الذهن عند الإطلاق وعدم القرينة.

وكذا لو قال: وقفت على أولادي طبقةً فطبقة، أو طبقةً بعد طبقة، فيستفاد منه الترتيب في الطبقات. وأمّا لو قال: وقفت على أولادي الأعلى فالأعلى، فلا يبعد كونه بمنزلة قوله: الأكبر فالأكبر، فلا يقتضي، إلّاالترتيب بين أولاده، ولا يشمل أولاد أولاده فضلاً عن الترتيب بين الطبقات. ولا أقلّ من الاحتمال المعتنى به المصادم لظهوره في ترتيب الطبقات.

وبذلك تبيّن ما في كلام صاحب العروة من المناقشة حيث جعل «الأعلى فالأعلى» في قوّة «طبقة بعد طبقة» بقوله: «لو قال: وقفت على أولادي طبقة فطبقة أو طبقةً بعد طبقة أو الأعلى فالأعلى، اقتضى الترتيب، فإذا مات واحد من أهل الطبقة كان نصيبه للباقين لا لأولاده»(2).

حكم ما إذا تردّد الوقف على الذرّية بين الترتيب والتشريك

1 - لا يخفى: أنّ محلّ الكلام فيما إذا أمكن فرض التشريك. وأمّا إذا لم يتحقّق هناك تشريك - بأن لم يلاق أفراد الطبقة اللاحقة فرداً من الطبقة السابقة - فهو

********

(1) - العروة الوثقى 338:6.

(2) - العروة الوثقى 338:6.

ص: 354

خارج عن محلّ الكلام. لأنّه المتيقّن من الوقف على الذرّية. وإنّما الكلام فيما اجتمع أفراد الطبقة اللاحقة مع الطبقة السابقة كما هو الغالب.

ولا إشكال في استحقاق الطبقة السابقة في كلّ طبقتين أو طبقات مجتمعة مطلقاً، سواءٌ كان المقصود الترتيب أو التشريك. وإنّما الترديد في اشتراك الطبقات اللاحقة مع السابقة لاحتمال التشريك.

فتبيّن ممّا قلنا أنّ المتيقّن من الموقوف عليه في مفروض الكلام ليس خصوص الطبقة الاُولى، كما يظهر من السيّد الماتن، بل كلّ طبقة متلاقية للطبقات اللاحقة.

وإنّما التردّد والإشكال في لحوق الطبقة اللاحقة بالسابقة حال حياتهم، لاحتمال التشريك.

ولا ريب في التشريك فيما إذا تلفّظ الواقف بلفظ الذرّية بقوله - مثلاً -: «وقفت أرضي على ذرّيتي»، بل لا كلام في ذلك. وإنّما الكلام فيما إذا عُلم من الخارج كون الوقف على الذرّية.

والأقوى اللحوق نظراً إلى اقتضاء طبيعي الذرّية التشريك؛ حيث يشمل جميع أفراد الذرّية على السواء، فلا وجه للقرعة، فيما عدا الطبقة السابقة.

اللهمّ إلّاأن لا يفي المال الموقوف بالجميع، فيمكن القول بالقرعة حينئذٍ؛ لما يقع من الإشكال في الأمر.

هذا ولكن في الرجوع إلى القرعة مطلقاً إشكالٌ أساسي في المقام؛ نظراً إلى كون الطبقة السابقة متيقّنة الاستحقاق، وأمّا استحقاق اللاحقة مع وجود السابقة فمشكوك. فالدوران بين الأقلّ والأكثر وينحلّ العلم الإجمالي بالأخذ بالأقلّ، وذلك بتقسيم الموقوف بين الطبقة السابقة وجريان البرائة في اللاحقة.

هذا مع الشكّ في سببية الوقف وتأثيره في استحقاق اللاحقة حينئذٍ.

ص: 355

(مسألة 50): لو قال: «وقفت على أولادي الذكور نسلاً بعد نسل» يختصّ بالذكور من الذكور في جميع الطبقات، ولا يشمل الذكور من الإناث (1).

ومقتضى الأصل عدم سببيته الشرعية عند الشكّ، كما أشار إليه صاحب الحدائق كراراً.

ومن أجل هذين الوجهين لا تصل النوبة إلى قاعدة العدل والإنصاف.

وأمّا لو اختلفت الذرّية في الترتيب والتشريك، فالمرجع ميزان القضاء من البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر. وإذا أشكل الأمر لتداعٍ أو نكول، فالمرجع القرعة. ولكن لا يقع مشكل في الوقف على الذرّية والأولاد وأولاد الأولاد؛ لعموم الأوّل وانصراف الثاني عن أولاد الأولاد، وانصراف الثالث عن الأولاد، كما هو واضحٌ.

عدم صدق الأولاد على أولاد الإناث في الوقف

1 - وذلك لوضوح أنّه المنسبق إلى الذهن من إطلاق لفظ «أولادي نسلاً بعد نسل» عند عدم القرينة على الخلاف، فهو المتفاهم عرفاً وظاهر الكلام؛ لأنّ الكلام ظاهر في المعنى المتبادر المنسبق إلى أذهان العرف. وظاهر الكلام حجّة على مراد المتكلّم.

ولكن لا يخفى ما في قوله: «يختصّ بالذكور من الذكور في جميع الطبقات» من المناقشة وذلك لأنّ في الطبقة الاُولى لا فرق بين الذكور والإناث، فإنّهم بأجمعهم أولاد الواقف. نعم، من الطبقة الثانية إلى من بعدهم لا يصدق على أولاد الإناث أولاد الواقف. فكان الأولى أن يقيّد السيّد الماتن كلامه بما عدا الطبقة

ص: 356

الاُولى. ولعلّه رأى ذلك واضحاً بقرينة نسلاً بعد نسل.

وهل يدخل الجنين في الأولاد؟ الأقوى عدم دخوله في الأولاد ولا الذرّية ولا العقب ولا النسل ولا الأحفاد، إلّابعد انفصاله حيّاً. وذلك لعدم صدق العناوين المزبورة على الجنين عرفاً عند الإطلاق ما دام لم ينفصل حيّاً. كما أشار إلى ذلك في القواعد بقوله: «ولا يدخل تحت الولد الجنين، إلّابعد انفصاله حيّاً»(1).

وعلّله في جامع المقاصد بقوله: «لأنّ الأحكام إنّما تجري بالنسبة بعد الانفصال»(2). ومقصوده ظاهراً أنّ في سائر الأبواب كالإرث والوصيّة ونحوهما كيف استظهر الفقهاء من نصوصها ترتّب أحكام الولد على بعد انفصال الجنين حيّاً؟ فكذلك في المقام. وذلك لأنّ فعلية الأحكام تتبع تحقّق موضوعاته. وموضوع الحكم في المقام عنوان الموقوف عليه وهو الولد ويكون من العناوين العرفية المحضة. ولا يصدق الولد عرفاً على الجنين إلّابعد انفصاله. هذا مضافاً إلى عدم قابلية الجنين للتملّك والتصرّف، ومن هنا ينصرف عنه الوقف.

********

(1) - قواعد الأحكام 397:2.

(2) - جامع المقاصد 93:9.

ص: 357

(مسألة 51): لو كان الوقف ترتيبياً كانت الكيفية تابعة لجعل الواقف:

فتارة: جعل الترتيب بين الطبقة السابقة واللاحقة، ويراعى الأقرب فالأقرب إلى الواقف (1)، فلا يشارك الولد أباه، ولا ابن الأخ عمّه وعمّته، ولا ابن الاُخت خاله وخالته. واُخرى: جعل الترتيب بين خصوص الآباء من كلّ طبقة وأبنائهم، فإذا كانت إخوة ولبعضهم أولاد لم يكن للأولاد شيء ما دام حياة الآباء، فإذا توفّي الآباء شارك الأولاد أعمامهم. وله أن يجعل الترتيب على أيّ نحو شاء، ويتّبع.

تبعية كيفية الترتيب لنيّة الواقف

1 - ومقصوده عدم مشاركة الطبقة اللاحقة ما دام يوجد أحد من الطبقة السابقة.

وذلك لعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1)؛ حيث دلّ على دوران كيفية نفوذ الوقف وصحّته مدار ما قصده الواقف ورسمه.

هذا مضافاً إلى أنّ الوقف عقد وأنّ العقود تابعة للقصود، كما قُرّر في محلّه من أبواب المعاملات.

وعليه فيرتسم الوقف بأيّ شكل ونحو رسمه الواقف. وهذا واضح لا كلام فيه.

وهل يجوز الترتيب في بعض الطبقات والتشريك في سائر الطبقات؟ مقتضى التحقيق جوازه؛ لما عرفت من تبعية الوقف في كيفيته وشكله لنيّة الواقف.

ويشهد لذلك ما قال العلّامة في القواعد: «ولو رتّب البعض وشرَّك البعض، شرك فيمن شرّك بينهم ورتّب فيمن رتّب كقوله: وقفت على أولادي، ثمّ على أولاد

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 358

(مسألة 52): لو قال: «وقفت على أولادي طبقة بعد طبقة، فإذا مات أحدهم وكان له ولد فنصيبه لولده» ولو مات أحدهم وله ولد يكون نصيبه له، ولو تعدّد الولد يقسّم نصيبه بينهم على الرؤوس، وإذا مات من لا ولد له فنصيبه لمن كان في طبقته، ولا يشاركهم الولد الذي أخذ نصيب والده (1).

أولادي، وأولادهم ما تعاقبوا وتناسلوا أو وقفت على أولادي وأولاد أولادي، ثمّ على أولادهم ما تعاقبوا الأعلى فالأعلى»(1).

وقال المحقّق الكركي في تعليله: «إذا جمع الواقف بين الترتيب والتشريك في الوقف، اتُّبع ما فعل. فإذا بدأ بالترتيب ثمّ شرَّك أو عكس، كان ما فعله ماضياً؛ لعموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(2)».

حكم ما لو قال: وقفت على أولادي طبقة بعد طبقة

1 - وقد سبق بيان وجه ذلك في شرح المسألة الثامنة والأربعين. ومقتضى رعاية الترتيب بين الطبقات عدم وصول النوبة إلى الولد مع وجود الوالد في كلّ طبقة.

ولا يخفى: أنّ مقصود السيّد الماتن قدس سره من قوله: «وإذا مات من لا ولد له فنصيبه...»، أنّه لو مات بعض أولاد الواقف وانتقل نصيبه إلى ولده، ثمّ مات بعده البعض الآخر من أولاده ولم يكن له ولدٌ ينتقل نصيبه إلى سائر إخوته الموجودين ولا يشاركهم الولد الذي أخذ نصيب والده الميّت؛ أي لا حظّ لابن

********

(1) - قواعد الأحكام 398:2.

(2) - جامع المقاصد 95:9-96.

ص: 359

أخيهم الذي ورث من أبيه الميّت. إلّاأن يقول الواقف: «إذا مات من لا ولد له فنصيبه لأهل الوقف»، فيشارك بني الإخوة أعمامهم حينئذٍ. وإلى ذلك أشار في العروة بقوله:

«لو قال وقفت على أولادي طبقة بعد طبقة وإذا مات أحدهم فنصيبه لولده، فحينئذٍ إذا مات أحدهم وله ولد يكون نصيبه لولده، وإذا مات من لا ولد له فنصيبه للباقين من أهل الطبقة ولا يشاركهم الولد الذي أخذ نصيب والده. نعم إذا قال: إذا مات أحدهم فنصيبه لولده وإذا مات من لا ولد له فنصيبه لأهل الوقف. شاركهم الولد المفروض أيضاً؛ لأنّه حينئذٍ من أهل الوقف فيشارك أعمامه»(1).

ثمّ إنّ ظاهر كلام السيّد الإمام وصاحب العروة في هذه المسألة أنّ المستفاد من الوقف على الأولاد طبقة بعد طبقة، إنّما هو الترتيب على نحو الانحلال إلى ما بين كلّ ولد ونسله، لا الترتيب بين جميع أفراد الطبقة الاُولى وبين الطبقة اللاحقة، بحيث لا تصل النوبة إلى الطبقة اللاحقة مع وجود فرد واحد من الطبقة السابقة.

وهذا يناقض ما يظهر منهما من البناء على اقتضاء الترتيب بالكيفية الثانية من الوقف على الأولاد طبقة بعد طبقة.

وقد استشكلنا هناك ورجّحنا ظهور الوقف على الأولاد نسلاً بعد نسل في الترتيب الانحلالي.

********

(1) - العروة الوثقى 338:6.

ص: 360

(مسألة 53): لو وقف على العلماء انصرف إلى علماء الشريعة (1)، فلا يشمل غيرهم كعلماء الطبّ والنجوم والحكمة.

منصرف الوقف على العلماء

1 - لا وجه له إلّاالمتفاهم العرفي من لفظ العلماء في عرف المتشرّعة؛ لأنّ المنسبق إلى أذهانهم من لفظ العلماء، علماء الشريعة. وهذا الانصراف إنّما هو عند الإطلاق وعدم القرينة على التعميم، وإلّا يشمل سائر العلماء بالقرينة.

أمّا لو وقف على وجوه البرّ والمصالح وأطلق القول، فلا إشكال في صحّته ونفوذه في مطلق جهات البرّ ووجوه المصالح. وأمّا إشكال عدم قابلية الجهة للتملُّك، فقد أشار إلى جوابه في الشرائع بقوله: «ويصحّ الوقف على المصالح كالقناطر والمساجد؛ لأنّ الوقف في الحقيقة على المسلمين، لكن هو صرف إلى بعض مصالحهم»(1).

وقال الشهيد في شرحه: «أشار بالتعليل إلى جواب سؤال يرد على صحّة الوقف المذكور من حيث إنّ هذه المصالح المذكورة وشبهها لا تقبل التملّك، وهو شرط صحّة الوقف كما سلف.

وتقرير الجواب: أنّ الوقف وإن كان لفظه متعلّقاً بالجهات المذكورة، إلّاأنّه في الحقيقة وقف على المسلمين القابلين للتملّك، غاية ما هناك أنّه وقف على المسلمين باعتبار مصلحة خاصّة لأنّهم المنتفعون بها، فإنّ الغرض من المسجد تردّدهم إليه للعبادة وإقامة شعار الدين ونحوه، فكأ نّه وقف عليهم بشرط صرفه

********

(1) - شرائع الإسلام 168:2.

ص: 361

على وجه مخصوص، وهو جائز. ومثله الوقف على أكفان الموتى ومؤونة حفر قبورهم ونحو ذلك»(1). وإنّ استدلال المحقّق لا غبار عليه، وتقريب الشهيد وافٍ وواضح غنيّ عن التوضيح.

وقد أجاد المحقّق الكركي في بيان ذلك قبل الشهيد؛ حيث قال: «لمّا كان الوقف على المصالح والقرب في الحقيقة وقفاً على المسلمين؛ لأنّهم المنتفعون به لم يرد لزوم بطلانه من حيث إنّ الموقوف عليه لا يملك. غاية ما هناك أنّه وقف على المسلمين في مصلحة خاصّة، فإذا وقف على المسجد كان وقفاً على المسلمين؛ لأ نّهم المنتفعون بالمسجد والتردّد إليه للعبادة وإقامة شعار الدين، لكن على هذا الوجه المخصوص والمصلحة المعيّنة، وكذا القول في الوقف على القناطر، والمشاهد، وأكفان الموتى، ومؤونة الغسّالين والحفّارين»(2).

وأمّا الوقف على وجوه البرّ، فمنصرف إلى كلّ مصلحة يتقرّب بها إلى اللّه كما قال في الشرائع والمسالك وجامع المقاصد والجواهر وغيرها(3)، بل ادّعى في الجواهر عدم الخلاف في ذلك.

وقد وجّه انصرافه إلى المصالح المتقرّب بها إلى اللّه في جامع المقاصد بقول صاحب القاموس. ووجّهه في المسالك بذلك من غير ذكر مأخذه.

والظاهر أنّ الوجه في ذلك كون الوقف قربياً، فلفظ الوقف ومقام الإيقاف قرينة صالحة لصرف لفظ البرّ إلى ما يتقرّب به إلى اللّه من المصالح، وإلّا فلفظ البرّ لم يؤخذ في معناه القربة إلى اللّه. ومن هنا لم يذكره الخليل ولا الجوهري ولا غيرهما

********

(1) - مسالك الأفهام 331:5-332.

(2) - جامع المقاصد 46:9.

(3) - مسالك الأفهام 348:5؛ جامع المقاصد 52:9؛ الجواهر 47:28.

ص: 362

(مسألة 54): لو وقف على أهل مشهدٍ - كالنجف مثلاً - اختصّ بالمتوطّنين والمجاورين، ولا يشمل الزوّار والمتردّدين (1).

من قدماء اللغويين، بل ذكر أبو هلال العسكري(1) والجوهري: أنّ البرّ خلاف العقوق، وأضاف أبوهلال: أخذ قيد قصد إيصال النفع في البرّ بخلاف الخير، وقيّده بجلب مودّة ذي الحقّ بإعطاء حقّه إليه بخلاف الصدقة؛ حيث إنّها لسدّ خُلّة الفقير.

فتبيّن بذلك أنّ ما استدلّ به في جامع المقاصد، من الاستشهاد لذلك بما جاء في القاموس لا وجه له مع أنّه من المتأخّرين.

اللهمّ إلّابلحاظ ما ورد في القرآن من الأمر بالبرّ، فيمكن الإتيان به بقصد امتثال الأمر متقرّباً إلى اللّه. ولا يستلزم ذلك أخذ القربة في معنى لفظ البرّ.

حكم ما لو وقف على أهل مشهد

1 - لوضوح ظهور لفظ الأهل في من توطّن، كما يقال: أهالي البلد الفلاني؛ أي المتوطّنون فيه. وهذا ممّا لا إشكال فيه، كما قال في العروة: «لو وقف على أهل النجف مثلاً، اختصّ بالمتوطّنين والمجاورين، ولا يشمل الزوّار والمتردّدين»(2).

كما أنّه لو وقف على الزوّار ينصرف عن الأهالي الحاضرين في البلد. قال في

********

(1) - قال: الفرق بين الصدقة والبرّ: أنّك تصدّق على الفقير لسدِّ خُلَّتِه، وتَبَرُّ ذا الحقّ لاجتلاب مودّته. ومن ثمَّ قيل: برّ الوالدين، ويجوز أن يقال: البرّ هو النفع الجليل. ومنه قيل: البرّ محلاًّ له نفعة. وقال أيضاً: الفرق بين البرّ والخير: أنّ البرّ مضمّن بجعل جاعل قد قصد وجه النفع به فأمّا الخير فمطلق حتّى لو وقع عن سهو لم يخرج عن استحقاق الصفة به، ونقيض الخير الشرّ ونقيض البرّ العقوق. معجم الفروق اللغوية: 1255/312 و 382/95.

(2) - العروة الوثقى 332:6.

ص: 363

(مسألة 55): لو وقف على المشتغلين في النجف - مثلاً - من أهل بلد كطهران أو غيره، اختصّ بمن هاجر من بلده إليه للاشتغال، ولا يشمل من جعله وطناً له معرضاً عن بلده (1).

العروة: «لو وقف على الزوّار انصرف إلى من يجيء للزيارة من بعيد ولا يشمل من كان حاضراً في ذلك المشهد، وكذا لو وقف على الحجّاج. نعم، لو وقف على من يزور أو يحجّ دخل الحاضر أيضاً».

وأمّا لو وقف على معونة الزوّار فينصرف إلى كلّ من يحتاج إلى المعونة من الزوّار وهذا أعمّ من الفقراء وأبناء السبيل من الزوّار. فلا يختصّ بهما، كما يظهر من صاحب العروة؛ حيث قال: «لو وقف على معونة الزوّار إنصرف إلى الفقراء وأبناءِ السبيل منهم».

كلّ ذلك بحسب المتفاهم العرفي ووضع اللفظ.

حكم ما لو وقف على المشتغلين في مشهد

1 - ولا يخفى: أنّ المشتغلين في النجف من أهل بلد - مثلاً - تشمل كلّ من هاجر إليها للاشتغال بالعلوم الدينية مطلقاً، سواء أعرض عن وطنه أم لا، وسواء توطّن في حوزة النجف أو قم، أو لم يتوطّن فيهما.

وذلك لأنّ الموقوف عليه لمّا كان عنوان المشتغلين بالعلم من أهل بلد، يصدق على الاختصاص بغير المعرضين من المهاجرين إلى النجف ونحوه من الحوزات العلمية، كما يظهر ذلك من السيّد الماتن قدس سره؛ وفاقاً لظاهر كلام صاحب العروة؛ حيث قال: «لو وقف على المشتغلين في النجف مثلاً، من أهل الطهران أو أصفهان

ص: 364

(مسألة 56): لو وقف على مسجد، فمع الإطلاق صرفت منافعه في تعميره وضوئه وفرشه وخادمه، ولو زاد شيء يُعطى لإمامه (1).

أو غيرهما من البلدان اختصّ بمن كان في النجف منهم بعنوان الاشتغال لا من جعله وطناً له معرضاً عن بلده»(1).

ولعلّ مرادهما من أعرض عن وطنه وتوطّن في النجف لغرض آخر غير الاشتغال بتحصيل العلوم الدينية. وحينئذٍ لا يرد عليهما الإشكال المزبور.

حكم ما لو وقف على مسجدٍ

اشارة

1 - لا إشكال في وجوب صرف ما وُقف على المسجد فيما عيّنه الواقف من مصارفه إذا عيّن له مصرفاً؛ لعموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»؛ حيث يدلّ على ارتسام الوقف بحسب ما رسمه الواقفون.

وأمّا إذا لم يعيّن مصرفاً خاصّاً، فيُصرف في مطلق مصارف المسجد من التعمير والضوء والفرش والكنس والخادم ونحوه. ولو زاد عن ذلك يُعطى لإمامه وسائر ما له دخل في راحة أهل المسجد ونظافتهم وإطعامهم ممّا يدخل في التعمير المادّي والمعنوي؛ لأنّهما داخلان في إطلاق قوله تعالى: (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ) (2)، كما يشهد له النصوص المفسّرة.

ويشهد لذلك كلام السيّد في العروة؛ حيث قال: «لو وقف على مسجد صرف مع الإطلاق في تعميره مع الحاجة، ثمّ في ضوئه وفرشه وخادمه مع الحاجة، وإن زاد

********

(1) - العروة الوثقى 332:6.

(2) - التوبة (9):18.

ص: 365

يعطى لإمامه لأنّه تعمير معنوي، ومع عدم الحاجة إلى المذكورات - ولو فيما سيأتي - يصرف في سائر المساجد، ومع تعيين الواقف للمصرف يتعيّن ما عيّن»(1).

بقي في المقام إشكال ينبغي التنبيه عليه، وهو أنّ مقتضى عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» عدم جواز صرف الوقف في سائر المساجد، عند عدم الحاجة إلى منافع الوقف للمسجد المعيّن الموقوف عليه، ولو فيما سيأتي؛ لأنّ سائر المساجد خارجة عن قصد الواقف.

ويمكن حلّ هذا الإشكال بأنّ الأمر إذا دار بين الصرف في المسجد وغير المسجد، يكون الصرف في المسجد أقرب إلى نيّة الواقف - المؤمن الذي وقف ماله في سبيل اللّه متقرّباً إليه - في ارتكاز عرف المتشرّعة. وهذه القرينة العرفية الارتكازية تعطى للكلام الواقف ظهوراً في مفروض الكلام.

ولكنّه فيما إذا لم تكن هناك قرينة على عدم رضا الواقف بالصرف في سائر المساجد. وإلّا فالمتّبع قصده. وعند الشكّ في رضا الواقف بالصرف في غير المسجد المعيّن، فمقتضى الأصل بطلان الوقف في مفروض الكلام؛ لأنّ الأسباب الشرعية في إثباتها بحاجة إلى دليل قطعي من الشارع وما دام لم يثبت فمقتضى الأصل عدم تحقّق النقل ولا ترتيب آثاره.

حكم ما لو وقف على ميّت

ولو وقف على ميّت، فالأحوط الأولى تقديم صرف الموقوف في واجباته المالية ثمّ في كفنه ودفنه وتجهيزه. ولو زاد عن ذلك شيءٌ يصرف في وجوه الخيرات له، كما يظهر الترتيب المزبور من كلام صاحب العروة؛ حيث قال: «لو وقف على ميّت

********

(1) - العروة الوثقى 336:6.

ص: 366

صرف في كفنه ودفنه، ومع عدم الحاجة ففي الخيرات له، والأولى مع احتمال اشتغال ذمّته صرفه في تفريغها، ومع العلم به فالأحوط ذلك بتقديم الواجبات المالية على البدنية»(1).

بقيت هاهنا نكتة: وهي ما سبق من اعتبار قابلية الموقوف عليه للتملّك ومن هنا أوّل الفقهاء الوقف على الجهات إلى الوقف على المسلمين وجعلوا الجهات موارد الصرف.

وفي المقام لا إشكال في عدم قابلية الميّت للتملّك فلابدّ من التأويل إلى الوقف على جهة الميّت، من أداء ديونه وواجباته المالية وسائر ما في عهدته.

ولكن يتولّد من ذلك إشكال وهو أنّ الوقف على الجهة لا بدّ من تأويله إلى الوقف على من يكون قابلاً للتملّك. والمفروض عدم قابلية الميّت لذلك، فكيف التأويل في مفروض الكلام!! بل يستلزم الدور.

والجواب: أنّ التأويل المزبور إنّما هو فيما كان هناك عنوان قابل للتملّك. وفي غير ذلك - كالمقام - يؤوّل أهل العرف إلى الوقف على مصارف الميّت، فلا يفيد الوقف الملك لأحد لأجل القرينة المزبورة. نعم الحاكم الشرعي وليّ أمر الوقف فله التصرّف فيه في جهة الوقف.

حكم ما لو وقف على الجيران

إذا وقف على الجيران، فاختلف الأصحاب في تعيين حدّ الجيران الموقوف عليهم على أقوال:

أحدها: الرجوع إلى العرف. وهذا قول جماعة من الأصحاب، منهم العلّامة في

********

(1) - العروة الوثقى 337:6.

ص: 367

القواعد والتذكرة والتحرير والمختلف والآبي في الكشف والفخر في الإيضاح والمحقّق الكركي في جامع المقاصد والشهيد في الروض والمسالك والفقيه السبزواري في الكفاية وغيرهم.

وقد علّله في جامع المقاصد بعد ما اختاره، بقوله: «وهو الأصحّ؛ لأنّ الحقيقة العرفية هي المرجع عند انتفاء الشرعية»(1).

وعللّه في المسالك، بقوله: «وجه الأوّل واضحٌ؛ لأنّه المرجع حيث لا يكون للفظ حقيقة شرعية»(2)، وفي الجواهر بقوله: «لانّه المدار في الألفاظ الصادرة من أهله»(3).

ثانيهما: من يلي داره إلى أربعين ذراعاً من كلّ جانب. وهو قول الأكثر كما نُسب إليهم في كتب غير واحد من الأصحاب، كما اعترف به في الجواهر، بل نسبه في جامع المقاصد إلى المشهور. ولم أجد له شاهداً من الأخبار.

وقال في المسالك بعد نقل هذا القول: «ومع ذلك لم نقف لهم على مستندٍ خصوصاً لمثل ابن إدريس الذي لا يعوّل في مثل ذلك على الأخبار الصحيحة ونحوها، والعرف لا يدلّ عليه فكيف فيما لا مستند له، ولعلّه عوّل ما تخيّله من الإجماع عليه كما اتّفق له ذلك مراراً».

ثالثها: من يلي داره إلى أربعين داراً من أطرافه. ولم يُعرف القائل به كما اعترف به في الجواهر والمسالك(4) واستدلّ له الفخر والفاضل المقداد والمحقّق

********

(1) - جامع المقاصد 44:9.

(2) - مسالك الأفهام 343:5.

(3) - جواهر الكلام 41:28.

(4) - جواهر الكلام 43:28؛ مسالك الأفهام 343:5.

ص: 368

الكركي(1) برواية عائشة عن النبي صلى الله عليه و آله: أنّه سُئل عن حدّ الجوار، فقال صلى الله عليه و آله: «إلى أربعين داراً»(2).

ولكن نقل الكليني ثلاث روايات معتبرة دالّة على ذلك. ومن هنا أشكل عليهم في المسالك(3) وتعجّب منهم المحدّث البحراني(4)، وهو تعجّب أيضاً من صاحب الشرائع؛ حيث طرح القول بذلك. وقال في المسالك: «ولولا شذوذ هذا القول بين أصحابنا، لكان القول به حسناً لكثرة رواياته من الطرفين، وكثيراً ما يثبت الأصحاب أقوالاً بدون هذا المستند، والعامّة عاملون بروايتهم في ذلك»(5).

ومقتضى التحقيق في تعيين حدّ الجيران العرف؛ لعدم حقيقة شرعية له كما قال الأصحاب. ولا سيّما أنّه من كلام شخص الواقف حين إنشاء الوقف، لا من كلام الشارع. وإنّما المرجع إلى العرف في الألفاظ الصادرة من أهله، كما قال في الجواهر.

وقد حاول صاحب الجواهر أن يرجع ما ورد من النصوص في تحديد الجيران إلى بيان الحدّ العرفي؛ حيث إنّه بعد الإشارة إلى القول المشهور قال:

«ولعلّه غير منافٍ للأوّل ضرورة أنّه تحديد للعرف بذلك، كما هي عادة الشارع في مثل ذلك، كالوجه والمسافة ونحوهما ممّا يشكّ في بعض الأفراد منها، بعدم معرفة التحقيق في العرف على وجه يعلم الداخل فيه، والخارج عنه، فيضبطه

********

(1) - إيضاح الفوائد 386:2؛ التنقيح الرائع 320:2؛ جامع المقاصد 45:9.

(2) - الجامع الصغير 3687/570:1؛ كنز العمّال 24895/52:9.

(3) - مسالك الأفهام 344:5.

(4) - الحدائق الناضرة 210:22.

(5) - مسالك الأفهام 344:5.

ص: 369

الشارع الذي لا يخفى عليه الشيء بما هو حدّ له في الواقع، وليس ذلك منه معنى جديد، ولا إدخال لما هو معلوم الخروج في العرف وبالعكس»(1).

وهو غير بعيد بالنسبة إلى القول المشهور كما قال. وأمّا بالنسبة إلى القول الأخير - وهو التحديد بأربعين ذراعاً - فمشكل؛ حيث إنّه ربما تكثر فواصل البيوت لسعة الدار والعرصة، فلا يصدق الجارّ حينئذٍ قطعاً على البيوت البعيدة.

ومن هنا ترى صاحب الحدائق - بعد اختيار القول الأخير - قوّى اعتبار قرب الفاصلة لخروج الدور البعيدة عن مسمّى الجيران عرفاً؛ حيث قال: «إنّه على القول المختار من اعتبار الجوار بعدد الدور من الجوانب الأربعة، فالظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين الدار الصغيرة والكبيرة، ولا بين قرب المسافة بين الدور وبعدها، عملاً بالإطلاق وحصول مسمّى العدد، ويحتمل اعتبار قرب المسافة؛ نظراً إلى العادة والعرف في البلدان، وأنّ دورها في الغالب متّصلة بعضها ببعض، أو يكون بينها مسافة يسيرة ولعلّه الأقرب»(2).

وعلى أيّ حال مقتضى التحقيق في تعيين حدّ الجيران الرجوع إلى نظر أهل العرف؛ لأنّ الواقف من أهل العرف، ولا يقصد من كلامه إلّاما يفهمه العرف.

بقيت في المقام نكتة حاصلها:

أنّ ما ورد في النصوص في حقوق الجارّ إنّما يكون موضوعها هو الجارّ بالمعنى المقصود في الخطابات الشرعية. وهو ما ورد فيها من التحديد بأربعين داراً من الجهات الأربعة. وذلك لأنّ الشارع قد بيّن مقصوده من الجارّ المأخوذ في موضوع خطابه، اللهمّ إلّاأن يُحمل الحدّ المذكور على الحدّ العرفي كما فعله صاحب

********

(1) - جواهر الكلام 41:28-42.

(2) - الحدائق الناضرة 212:22.

ص: 370

(مسألة 57): لو وقف على مشهد يصرف في تعميره وضوئه وخدّامه المواظبين لبعض الأشغال اللازمة المتعلّقة به (1).

(مسألة 58): لو وقف على سيّد الشهداء عليه السلام يُصرف في إقامة تعزيته؛ من اجرة القارئ وما يُتعارف صرفه في المجلس للمستمعين وغيرهم (2).

الجواهر. لكنّه يحتاج إلى تجشّم وتعسّف كما قلنا، وإن لا يبعد بعد عدم الالتزام بالحقيقة الشرعية في لفظ الجارّ وأمّا مقصود الواقفين من لفظ الجارّ في صيغ الوقف، فالمعيار في تعيينه فهم أهل العرف، ولا ربط له بالنصوص؛ لأنّه من العناوين العرفية المحضة.

1 - والوجه في ذلك عين ما مرّ في المسألة السابقة. فيُقدّم ما عيّنه الواقف من المصارف، ثمّ يُصرف في كلّ ما يتعلّق بالمشهد الموقوف عليه، من تعميره وضوئه وخُدّامه ونظافته وسائر ما يرتبط بشؤون المسجد. قول المصنّف: «لبعض الأشغال...»، لفظ «الأشغال» جمع «الشغل»؛ أي بعض الشؤون والاُمور اللازمة المتعلّقة بالمساجد.

حكم ما لو وقف على أحد الأئمّة عليهم السلام

2 - وقد سبق منّا أنّ الوقف على سيّد الشهداء وسائر الأئمّة عليهم السلام من قبيل الوقف على الجهة؛ لأنّ المرتكز في أذهان العرف في الوقف على النبي صلى الله عليه و آله أو على أحد الأئمّة عليهم السلام، إنّما هو الوقف على المصارف العامّة، لكن بنيّة إهداء الثواب إليهم، وكذلك الوقف على التعزية والإطعام في مواليدهم ووفياتهم. فليس الوقف على أحدهم عليهم السلام من قبيل الوقف الخاصّ الذي يتصرّف فيه شخص الموقوف عليه.

ص: 371

ومن هنا يصرف الموقوف على سيّد الشهداء عليه السلام في مجالس التعزية والوعظ والإطعام وغير ذلك، ممّا ينتفع به العموم بنيّة كون الثواب والأجر له عليه السلام. فلا يختصّ بالتعزية. نعم لو كان مقدار المال الموقوف قليلاً بحيث دار أمر صرفه بين واحد من الثلاث، فالأولى صرفه في التعزية.

ومع ذلك لا يبعد تقديم بعض مجالس الوعظ المبنيّة على بيان أهداف قيام سيّد الشهداء عليه السلام وفضيلة البكاء عليه وسائر معارف عاشوراء؛ لأنّها توجب المعرفة بمكتب سيّد الشهداء ومدرسة عاشوراء وأهداف قيامه عليه السلام ولا قيمة للتعزية بدون هذه المعارف الإلهية الحقّة التي لأجل إحياءها أقدم سيّد الشهداء على القيام واختار القتال والشهادة في سبيلها. وهذا المعنى أمر مرتكز بين أهل المعرفة بمنزلة أهل البيت من الشيعة الإمامية، ولعلّه يوجب كون ذلك متفاهماً عرفياً من الوقف على سيّد الشهداء عليه السلام وسائر الأئمّة عليهم السلام.

فلا يمكن الالتزام بإطلاق أولوية الصرف في التعزية حينئذٍ كما يلوح من كلام السيّد في العروة؛ حيث قال: «لو وقف على سيّد الشهداء عليه السلام انصرف إلى التعزية والأولى صرفه في إقامة مجلس التعزية، وإن كان لا يبعد جواز إعطائه للقارئين يقرؤن في مثل المسجد»(1).

وعلى ضوء ما بيّنّاه تبيّن حكم ما وُقف على إمام العصر عليه السلام، فيصرف في جهته عليه السلام من المصارف العامّة التي ينتفع بها عموم الناس.

ولكن أمره بيد من جعله الواقف متولّياً قيّماً عليه. وإن لم يجعل تصل النوبة إلى الحاكم. كما يُفهم هذا الترتيب من معتبرة الأسدي، عن صاحب العصر عليه السلام في

********

(1) - العروة الوثقى 337:6.

ص: 372

التوقيع: «وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلّمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومؤونتها، ويجعل ما بقي من الدّخل لناحيتنا، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّماً عليها، إنّما لا يجوز ذلك لغيره»(1).

ومن هنا لا يمكن المساعدة مع ما ذهب إليه السيّد في العروة، من إطلاق القول برجوع أمر الموقوف على الحجّة (عج) إلى الحاكم الشرعي؛ حيث قال: «لو وقف على إمام العصر (عج) يرجع أمره إلى الحاكم الشرعي»(2)، بل يقدّم القيّم المنصوب من ناحية الواقف على الحاكم.

********

(1) - وسائل الشيعة 181:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

(2) - العروة الوثقى 337:6.

ص: 373

(مسألة 59): لا إشكال في أنّه بعد تمامية الوقف، ليس للواقف التغيير في الموقوف عليه؛ بإخراج بعض من كان داخلاً أو إدخال من كان خارجاً؛ إذا لم يشترط ذلك في ضمن عقد الوقف (1). وهل يصحّ ذلك إذا شرطه؟ لا يبعد عدم الجواز مطلقاً؛

أحكام الوقف

اشارة

1 - وذلك أوّلاً: لقطع سلطة الواقف عن المال الموقوف بالوقف. وثانياً: لأنّ التغيير مستلزم للفسخ ولا يجوز فسخ الوقف؛ لأنّه عقد لازم لا خيار لأحدٍ من طرفيه على فسخه. وثالثاً: لأنّ الوقف من قبيل الصدقة، كما عُبِّر عنه بالتصدّق والصدقة في نصوص كثيرة واعترف به الأصحاب، فيكون للّه ولا يجوز الرجوع فيه؛ لعموم قوله: «إنّما الصدقة للّه عزّ وجلّ فما جُعل للّه فلا رجعة فيه»(1)، مع إطلاق الصدقة على الوقف في نفس الرواية المزبورة.

هذا، ولكن للمناقشة في عدم جواز إدخال من يريده بعد تمامية الوقف - من غير شرط ذلك في متن العقد - مجالاً واسعاً، بل ظاهر النصوص(2) جواز ذلك.

ودعوى اختصاصها بالوقف على الأولاد، لا وجه له، فضلاً عن الأولاد الصغار. وسيأتي الكلام في ذلك مفصّلاً عند البحث عن اشتراط إدخال من يريده الواقف.

********

(1) - وسائل الشيعة 204:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 183:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 5.

ص: 374

لا إدخالاً ولا إخراجاً، فلو شرط ذلك بطل شرطه، بل الوقف على إشكال (1)،

اشتراط الواقف إخراج من يريده أو إدخاله

1 - يقع الكلام هاهنا في المقامين:

المقام الأوّل: في حكم الوقف المشروط بإخراج بعض الأفراد الموقوف عليهم، بأن يشترط الواقف إخراج من أراده عن الموقوف عليهم.

المقام الثاني: حكم الوقف المشروط بإدخال الغير عن الموقوف عليهم في الموقوف عليهم على المنوال المذكور.

إذا شرط الواقف إخراج من أراده عن الموقوف عليهم، فقد حكم في الشرائع ببطلان الوقف حينئذٍ، وقال في المسالك: إنّه موضع وفاق، ونسب الخلاف إلى بعض العامّة. وعلّل لذلك بأنّ الوقف لازم، وهذا الشرط بمنزلة شرط الخيار في العقد اللازم، وهو باطلٌ.

قال في الشرائع: «ولو شرط إخراج من يريد بطل الوقف»(1).

وقال الشهيد في شرحه: «هذا عندنا موضع وفاق، ولأنّ وضع الوقف على اللزوم، وإذا شرط إخراج من يريد من الموقوف عليهم كان منافياً لمقتضى الوقف؛ إذ هو بمنزلة اشتراط الخيار، وهو باطل. وخالف في ذلك بعض العامّة فسوّغ هذا الشرط»(2).

وكذا قال العلّامة في القواعد، واستدلّ له في جامع المقاصد بقوله: «وذلك: لأنّ

********

(1) - شرائع الإسلام 171:2.

(2) - مسالك الأفهام 368:5.

ص: 375

بناءَ الوقف على اللزوم، فإذا شرط إخراج من يريد من الموقوف عليهم، كان منافياً لمقتضى الوقف؛ إذ هو بمنزلة اشتراط الخيار»(1).

ويمكن المناقشة في هذا الوجه بأ نّه مبنيٌّ على كون الشرط الفاسد مفسداً للعقد.

وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فأنكر كثير منهم كون الشرط الفاسد مبطلاً للعقد المشروط به.

ولكنّهم تسالموا واتّفقوا على بطلان الوقف باشتراطه إخراج من يريد. فلو كان الوجه في ذلك كونه مخالفاً لمقتضى الوقف وهو فاسد، لكان استلزامه بطلان الوقف مبنيّاً على كبرى بطلان العقد بفساد الشرط. وقد اختلفوا في هذه الكبرى. فيكشف ذلك عن عدم تمامية هذا الوجه وعدم صلاحيته للاستدلال به في المقام.

وقد أشكل في الحدائق على الشهيد؛ بأنّ استدلاله منقوض باشتراط عود الوقف إليه عند الحاجة؛ لمنافاته مع لزوم الوقف أيضاً؛ لاستلزامه الرجوع حينئذٍ، ولا سيّما مع اعتبار قصد القربة في الوقف وعموم «ما كان للّه لا رجعة فيه»، مع أنّ المشهور - ومنهم الشهيد - قد أفتوا هناك بصحّة الوقف. فإنّه قال بعد نقل كلام الشهيد:

«وهو جيّد، إلّاأنّ فيه ردّاً عليه فيما اختاره من صحّة الوقف مع اشتراط عوده إليه عند الحاجة، فإنّه لا يخفى أنّ اللزوم الذي هو وضع الوقف عليه، كما يعتبر من جهة الموقوف عليه بحيث لا يجوز إخراج بعضهم، كذلك يعتبر من حيث حبس الوقف عليهم، فلا يجوز للواقف الرجوع إليه بوجه، خصوصاً مع اقترانه بالقربة، كما قدّمنا بيانه من اشتراط الوقف بذلك، وقد تكاثرت الأخبار بأنّ ما كان للّه تعالى فلا رجعة فيه»(2).

********

(1) - جامع المقاصد 31:9.

(2) - الحدائق الناضرة 170:22.

ص: 376

ويمكن الجواب عن نقض صاحب الحدائق بأنّ الحكم بصحّة الوقف المشروط بعود الوقف إلى الواقف عند حاجته، إنّما هو مستند إلى النصّ الخاصّ الوارد فيه؛ خلافاً للقاعدة. وهذا بخلاف المقام؛ حيث لم يرد فيه نصّ بالخصوص؛ لكي تُرفع اليد عن مقتضى القاعدة لأجل العمل بالنصّ الخاصّ.

كما يمكن تخصيص عموم «فما كان للّه لا رجعة فيه» بالنصّ الخاصّ الوارد هناك على فرض صدق الرجوع. وفي ذلك كلام سيأتي في بيان مقتضى التحقيق، وكذا سيأتي الكلام في معارضة العموم المزبور مع عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها».

وقد أشار في الجواهر(1) إلى ما أشكل في الحدائق من منافاة ذلك لعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(2)؛ حيث يقتضي جواز الوقف على النحو الذي رسمه الواقف بأيّ نحو كان، ثمّ أشار إلى النقض باشتراط العود إلى الوقف عند الحاجة ونحو ذلك ممّا يشترطه الواقف.

ولكن وجّه في الجواهر كلام الأصحاب في المقام بأنّ مرادهم اشتراط خياره على فسخ الوقف حينئذٍ، فيتّجه البطلان؛ حيث ينافي اشتراط الخيار مقتضى العقد اللازم.

قال قدس سره: «وربما كان مراد الأصحاب باشتراط إخراج من يريد، فسخ الوقف حينئذٍ، لا خروجه بانتفاء الوصف المعلّق عليه الوقف، وحينئذٍ يتّجه البطلان فيه، ضرورة رجوعه إلى نحو اشتراط الخيار الذي قد عرفت فساده»(3).

********

(1) - جواهر الكلام 77:28.

(2) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

(3) - جواهر الكلام 76:28.

ص: 377

ولكن هذا التوجيه لا يزيد عمّا قال في جامع المقاصد والمسالك من كون الشرط المزبور بمنزلة اشتراط خيار الفسخ في العقد اللازم، وهو مخالف لمقتضى عقد الوقف؛ لبنائه على اللزوم.

ثمّ إنّ صاحب العروة(1) قوّى صحّة الوقف في مفروض الكلام لولا الإجماع على بطلانه. واستدلّ للصحّة بعموم: «الوقوف...»؛ حيث قال: «وعن الكفاية إشكال في البطلان. وهو في محلّه، بل الأقوى الصحّة إن لم يكن إجماعٌ؛ لعموم قوله عليه السلام:

«الوقوف...».

ثمّ أجاب عمّا استدلّوا للبطلان؛ أوّلاً: بأنّ كون الشرط المزبور منافياً لمقتضى عقد الوقف - المبنيّ على اللزوم - ممنوع؛ لأنّه مثل سائر ما يشترطه الواقف في منافاته للزوم الوقف، مع فتوى الأصحاب بصحّة سائر الشروط.

********

(1) - قال قدس سره: إذا شرط إخراج من يريد فالمشهور بينهم البطلان، بل في المسالك «هذا عندناموضع وفاق» وعلّل بأ نّه منافٍ لمقتضى الوقف، إذ وضعه على اللزوم، وهذا يرجع إلى جواز الفسخ بالنسبة إلى بعض الموقوف عليهم فهو بمنزلة اشتراط الخيار الممنوع بالإجماع. وعن الكفاية الإشكال في البطلان وهو في محلّه؛ بل الأقوى الصحّة إن لم يكن إجماع، لعموم قوله عليه السلام الوقف... إلى آخره، وكونه منافياً لمقتضى الوقف ممنوع، إذ مع الشرط مقتضاه ذلك، والممنوع من شرط الخيار أن يشترط أن يكون له الفسخ بحيث يرجع إلى ملكه لا مثل هذا الشرط؛ ودعوى؛ أنّ ذلك يرجع إلى كون أمر السلطنة في سببية السبب بيده - مع أنّ ذلك من وظيفة الشارع؛ محلّ منع؛ وإلّا فشرط الخيار في البيع ونحوه كذلك، بل هو نظير سائر الشروط في الموقوف أو الموقوف عليه، ولا فرق بين ذلك وبين أن يقول بشرط أن يكون التقسيم بيدي، هذا - مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ مرجع الشرط المذكور إلى اشتراط عنوان في الموقوف عليه، مثل ما إذا قال: وقفت على أولادي إلى أن يصيروا أغنياء أو ما داموا فقراء، وأيضاً لا فرق بين هذا الشرط واشتراط إدخال من يريد الذي يجوز عندهم كما يأتي. راجع: العروة الوثقى 363:6.

ص: 378

وثانياً: بأنّ الممنوع من شرط الخيار إنّما هو اشتراط خيار الفسخ المستلزم لرجوع المال إلى مالكه الفاسخ، لا مثل المقام الذي لا يستلزم الشرط رجوع المال الموقوف إلى الواقف بأيّ وجهٍ.

وبهذين الوجهين أجاب عن إشكال رجوع نفوذ الشرط المزبور إلى كون السلطة على سببية السبب الشرعي بيد الواقف، مع أنّ ذلك من وظيفة الشارع؛ نظراً إلى ورود هذا الإشكال في سائر الشروط، المتّفق على صحّتها.

وثالثاً: بإمكان رجوع الشرط المزبور إلى اشتراط عنوان في الوقف، كالوقف على أولاده ما دام لم يُخرجهم، أو إلى زمان الإخراج، نظير ما لو قال: «وقفت على أولادي ما داموا فقراء، أو إلى أن يصيروا أغنياءَ».

ورابعاً: بأ نّه لا فرق بين هذا الشرط وبين اشتراط إدخال من يريد.

وأمّا استدلاله بعموم: «الوقوف على حسب...»، فيخطر بالبال إشكال فيه في بادي النظر.

وذلك: أنّ العموم المزبور بظاهره معارض بعموم: «فما كان للّه فلا رجعة فيه»؛ لأنّ الشرط المزبور مستلزم للتغيير والرجوع بالمآل ولو بإيجاد مقدّمته اختياراً من حين إنشاء الوقف. وعموم «لا رجعة فيه» دلّ على عدم جواز الرجوع بأيّ نحو كان، إلّاأنّ عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» يقتضي صحّة الوقف ونفوذه بأيّ شكل رسمه الواقف. ومقتضاه صحّة الوقف المشروط بإخراج من يريده الواقف.

ولكن يمكن الجمع بينهما بأنّ الرجوع حقيقةً إنّما هو فيما إذا رجع الواقف عن الوقف بعد إنشائه وانعقاده صحيحاً بالفسخ أو الإقالة. كما جاء لفظ «الرجعة

ص: 379

والرجوع» بهذا المعنى في أصل اللغة(1).

وليس من قبيل ذلك ما إذا اشترط في متن العقد ما يقتضي انقطاع الوقف أو انتفائه أو خروج بعض الأفراد الموقوف عليهم عن الوقف أو إدخال غيرهم فيهم ونحو ذلك ممّا يدخل في عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»، بل هذا العموم في مقام تحديد موضوع العموم الأوّل، وهو «ما كان للّه» المراد به الواقف؛ إذ يُحدّد كيفية اعتبار الوقف من جانب الشارع ونطاق سببيته الشرعية.

وبعبارة اخرى: إنّ العامّ الأوّل في مقام بيان حكم الوقف، وهو عدم جواز الرجوع. والعامّ الثاني بصدد تحديد موضوع الوقف بحسب ما رسمه الواقفون بلسان الحكومة.

فإنّ لفظة «ما» لو كانت مصدرية، يكون المعنى: صحّة الوقف ونفوذها على حسب وقف أهلها؛ أي كيفية وقفهم. ويمكن أن تكون «ما» موصولة، فيكون المعنى: صحّة الوقوف ونفوذها على النحو الذي وقف تلك الوقوف أهلها. والضمير العائد إلى الموصول محذوف حينئذٍ؛ لمعلوميته.

فعلى أيّ حال اشتراط الواقف شيئاً في الوقف إنّما يعيّن كيفية الوقف وليس من قبيل الرجوع. فاتّضح بهذا البيان أنّه لا يصلح عموم «لا رجعة...» للدليلية على بطلان الوقف في محلّ الكلام.

ويرد على الوجه الرابع: بأنّ إدخال من يريد لا مخالفة له لمقتضى لزوم الوقف بخلاف إخراجه؛ لما سيأتي بيانه.

********

(1) - قال الخليل في العين 226:1، والرجعة مراجعة الرجل أهله بعد إطلاق. وقال أبوهلال في الفروق اللغوية: 249. الرجوع هو المصير إلى الموضع الذي قد كان فيه قبلُ ومصير الشيء إلى حال كان عليها. وبذلك فرّق بين هذا اللفظ وبين الردّ والعود والانقلاب.

ص: 380

وعلى الوجه الثالث: بأنّ مجرّد رجوع الشرط إلى عنوان لا يصلح للدليلية على صحّة الشرط؛ إذ لا يمنع عن منافاته لمقتضى الوقف ولا عن سائر المحاذير؛ إذ المنافاة وعدمه تابعٌ للملاك، سواءٌ تعنون بعنوان أم لا؟

وعلى الوجه الثاني: بأنّ الخصوصية المذكورة في موارد فتوى الأصحاب بنفوذ شرط الخيار لا تصلح لإناطة الحكم بها ولا دورانه مدارها؛ إذ ليست بمنصوصة ولا من قبيل تنقيح الملاك القطعي، بل هذا العموم في مقام تحديد موضوع العموم الأوّل، وهو «ما كان للّه» المراد به الوقف؛ إذ يُحدّد كيفية اعتبار الوقف من جانب الشارع ونطاق سببيته الشرعية.

وبعبارة اخرى: إنّ العامّ الأوّل في مقام بيان حكم الوقف، وهو عدم جواز الرجوع. والعامّ الثاني بصدد تحديد موضوع الوقف بحسب ما رسمه الواقفون بلسان الحكومة.

ومقتضى التحقيق: بطلان الوقف والشرط المزبور كليهما بمقتضى القاعدة. وذلك لأنّ مقتضى عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» وإن كان صحّة الشروط والوقف. ويؤكّده عموم: «المؤمنون عند شروطهم»، كما في سائر الشروط التي يشترطها الواقف. ولذلك قوّى في العروة الصحّة - إن لم يكن إجماع - بقوله: «بل الأقوى الصحّة إن لم يكن إجماع لعموم قوله عليه السلام: الوقوف...»(1).

ولكن تبقى هاهنا شبهة بقاءِ سلطة الواقف على المال الموقوف بعد الوقف، وكون زمام أمر المال الموقوف بيده كما كان وعدم قطع علقته بعد الوقف، مع أنّ الوقف يقتضي في ماهيته قطع سلطة الواقف على المال الموقوف بالكلّية.

وذلك لأنّ مقتضى الشرط المزبور إناطة إخراج الموقوف عليه وقطع يده عن

********

(1) - العروة الوثقى 363:6.

ص: 381

المال الموقوف بإرادة الواقف نفسه. ومعنى ذلك بقاءُ سلطة الواقف على المال الموقوف وعدم خروجه عن سلطنته بعد الوقف. وهذا منافٍ لمقتضى ماهية الوقف بلا ريب.

وهذا مراد صاحب الجواهر من قوله: «أمّا لو فُرض إرادة اشتراط سلطة الإخراج والإدخال إليه، على وجه يكون أصل الوقف بيده دخولاً وخروجاً، فالمتّجه البطلان فيهما، لرجوعه إلى اشتراط كون أصل السببية بيده، والفرض أنّ ذلك أمر شرعي لا يرجع إليه»(1).

وأمّا قياس الشرط المزبور بمثل اشتراط العود عند الحاجة مع الفارق؛ فلأنّ الشرط هناك معلّق ومنوط بأمر غير اختياري كالفقر والانقراض ونحوه. وهذا بخلاف المقام؛ حيث إنّ الشرط أمر اختيارى تحت سلطة الواقف وهو إرادته ومشيته.

ومن هنا قلنا إنّ هذا الشرط يجعل أمر الموقوف عليه والمال الموقوف تحت سلطة الواقف بعد الوقف، بخلاف سائر الشروط. ولأجل ذلك لا يصحّ النقض بها.

وأمّا عموم: «الوقوف...» فغاية مفاده إثبات سلطة الوقف على كيفية إنشاء الوقف ورسمه حين إنشائه بالصيغة، لا بعد ما أنشأه وتمّ الوقف. ومن هنا لا يجوز له تغيير شرطه بعد ذلك.

إن قلت: غاية ما يلزم من التقريب المزبور لمقتضى القاعدة كون الشرط في المقام مخالفاً لمقتضى العقد، ولا يتمّ هذا الوجه أيضاً - كالوجه المذكور في جامع المقاصد والمسالك - إلّابضميمة كبرى كلِّ شرط فاسد مفسد. فيعود الإشكال الوارد على الوجه الأوّل.

********

(1) - جواهر الكلام 77:28.

ص: 382

قلت: مقتضى العقد غير ماهيته، بل إنّما هو أثره الذي لا ينفكّ منه، كجواز التصرّف في المبيع الذي هو أثر التمليك، فيكون اشتراطه مخالفاً لمقتضى البيع.

ومن قبيله اشتراط عدم انتفاع الموقوف عليه من المال الموقوف. وأمّا الشرط المنافي لقطع علقة الملكية الموجب بقاء سلطة الواقف على المال الموقوف كما كان ينافي ماهية الوقف. فهو تلفّظ بالوقف ولم يرد معناه الشرعي الذي هو موضوع الأثر عند الشارع، فالسبب الشرعي - وإن شئت فقل: الوقف الشرعي - لم يتحقّق.

وعلى فرض الشكّ في تحقّقه، مقتضى الأصل عدمه.

وبهذا التقريب نتمكّن من إثبات بطلان الوقف المشروط بالشرط المزبور بمقتضى القاعدة.

وأمّا رجوع الشرط المزبور إلى اشتراط خيار الفسخ فممنوع؛ إذ لا ينفسخ الوقف بإخراج من أخرجه الواقف، بل الوقف على حاله، وإنّما يتبدّل الموقوف عليه، فليس بمنزلة شرط الخيار حتّى يكون مخالفاً لمقتضى الوقف.

هذا بمقتضى القاعدة. وأمّا الإجماع المدّعى، فهو وإن يشكل إثبات كونه إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم بعد استناد مدّعي الإجماع إلى الوجوه المزبورة ولا أقلّ من كونه محتمل المدرك، إلّاأنّ تسالم الأصحاب على ذلك غير قابل للإنكار بعد ما عرفت من دعوى الإجماع والاتّفاق على ذلك من الشهيد وصاحب الجواهر، بل استظهر من عبارة المبسوط اعترافه بهذا الاتّفاق(1).

فالأقوى بطلان الوقف المشروط بإخراج من يريده الواقف بمقتضى القاعدة وتسالم الفقهاء.

قال في الشرائع: «ولو شرط إدخال من يولد مع الموقوف عليهم، جاز سواءٌ

********

(1) - جواهر الكلام 75:28.

ص: 383

وقف على أولاده أو على غيرهم»(1).

ولم يدّع أحدٌ في هذا الفرع اتّفاق الأصحاب على بطلان الوقف، بل في الدروس(2) أنّ اشتراط ذلك يقتضي البطلان، كما استظهر ذلك من كلامه المحقّق الكركي في جامع المقاصد(3).

وعليه فلا إجماع ولا إتّفاق في المسألة.

والكلام في المقام تارة: يقع على أساس مقتضى القاعدة. واُخرى: على ضوءِ مدلول النصوص الخاصّة.

أمّا مقتضى القاعدة: فقد استدلّوا للصحّة أوّلاً: بأ نّه لا ينافي مقتضى الوقف لعدم رجوعه إلى اشتراط خيار الفسخ؛ إذ بناءُ الواقف في اشتراط ذلك على إبقاء الوقف على صحّته ولزومه، وإنّما اشترط إدخال من شاءَ في الموقوف عليهم.

وثانياً: بأنّ الأصحاب قد اتّفقوا على جواز إدخال من سيوجد وسيولد من أولاده في الوقف على البطون من غير شرط على نحو الجزم، فكذلك في اشتراط إدخال من يريده بالفحوى والأولوية؛ إذ مقتضى هذا الشرط عدم إدخال من لم يرده الواقف فيبقى حينئذٍ الوقف على حاله من غير تغيير.

هكذا استدلّوا للصحّة كما في جامع المقاصد، والمسالك(4) والحدائق(5) والجواهر وغيرها.

********

(1) - شرائع الإسلام 171:2.

(2) - الدروس الشرعية 271:2.

(3) - جامع المقاصد 31:9.

(4) - مسالك الأفهام 368:5-369.

(5) - الحدائق الناضرة 169:22.

ص: 384

ولكن مقتضى التحقيق في المقام التفصيل بين اشتراط إدخال من سيولد أو سيوجد وبين اشتراط إدخال من يريده.

ومقتضى القاعدة: صحّة الوقف المشروط بالشرط على النحو الأوّل وبطلانه على النحو الثاني.

والوجه فيه ما تقدّم منّا من أنّ مقتضى اشتراط إدخال أو إخراج من أراده الواقف إناطة ذلك بإرادته، ومقتضى ذلك بقاءُ سلطته على المال الموقوف وعدم خروجه عن سلطته بعد الوقف وهذا منافٍ لمقتضى ماهية الوقف، من غير فرق بين اشتراط الإخراج واشتراط الإدخال؛ لأنّ مرجع الشرط في كليهما إلى إبقاءِ سلطة الواقف على المال الموقوف بعد الوقف.

وأمّا مقتضى النصوص الواردة في المقام فصحّة الوقف المشروط بالشرط المزبور.

فمن هذه النصوص: صحيح علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يتصدّق على بعض ولده بطرف من ماله ثمّ يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده، قال: «لا بأس بذلك»، وعن الرجل يتصدّق ببعض ماله على بعض ولده ويبيّنه لهم، أله أن يدخل معهم من ولده غيرهم بعد أن أبانهم بصدقة؟ قال:

«ليس له ذلك إلّاأن يشترط أنّه من ولد له فهو مثل من تصدّق عليه فذلك له»(1).

وقد استدلّ به صاحب الحدائق(2).

ولا يخفى: أنّ المقصود من قوله: «ويبيّنه لهم»؛ أي يبيّن اختصاص الوقف بهم بالبيان الآتي. وقوله: «بعد أن أبانهم بصدقة»؛ أي فصلهم وقطعهم عن

********

(1) - وسائل الشيعة 183:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 5، الحديث 1.

(2) - الحدائق الناضرة 17:22.

ص: 385

الوقف بإعطاءِ مبلغ أو شيء إليهم صدقةً.

وهذا نظير ما ورد في مكاتبة البلالي عن الحجّة عليه السلام: «وأمّا إعطاؤه المئتي دينار وإخراجه من الوقف فالمال ماله فعل فيه ما أراد»(1).

لا إشكال في سند هذه الرواية؛ نظراً إلى صحّة طريق الشيخ إلى أحمد بن محمّد بن عيسى، كما لا إشكال في وثاقة ابن يقطين وولديه الحسن والحسين.

وأمّا دلالةً، فقد دلّت على التفصيل بين ما لو تكلّم حين إنشاء الوقف بما دلّ على اختصاص الوقف بالأولاد الموقوف عليهم وعدم دخول سائر الأولاد في الموقوف عليهم بإعطاء مبلغ إليهم صدقةً؛ لكي يجلب رضايتهم. فلا يجوز حينئذٍ إدخالهم في الوقف وإلّا يجوز إدخالهم فيه.

ويؤيّده في هذا التفصيل خبر البلالي الآتي.

فحاصل مضمونهما جواز إدخال من يريده الواقف في الموقوف عليهم من غير شرط ما لم يتلفّظ حين إنشاء الوقف بما يدلّ على اختصاص الوقف به.

وأيضاً دلّت نصوص اخرى على جواز إدخال من يريده في الموقوف عليهم من دون اشتراط ذلك، كصحيح عبدالرحمان بن الحجّاج وصحيح علي بن جعفر وخبر سهل(2).

وجه دلالة هذه النصوص على المطلوب أنّه إذا جاز إدخال من يريده الواقف من غير شرط - كما دلّت عليه هذه النصوص - جاز ذلك مع شرطه حين الوقف بطريق أولى.

وقد أجاد صاحب الحدائق في تقريب الاستدلال بهذه النصوص حيث قال:

********

(1) - وسائل الشيعة 184:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 5، الحديث 4.

(2) - وسائل الشيعة 183:19-184، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 5، الحديث 2 و 3 و 5.

ص: 386

«والتقريب فيها أنّه إذا جاز الإدخال من غير شرط - كما هو مدلول الأخبار المذكورة - فمع الشرط بطريق أولى».

وإن أشكل بعد ذلك بقوله: «وكيف كان: فالمسألة لا تخلو من شوب الإشكال؛ لعدم النصّ الواضح في هذا المجال وما ذكروه من التعليل لا يصلح لتأسيس حكم شرعي كما عرفت في غير موضع»(1).

ومقتضى التحقيق: أنّ الشرط المزبور - المبحوث عنه في المقام - باطل، بل مبطل للوقف بمقتضى القاعدة؛ لأنّه ينافي ماهية الوقف، بل يوجب كون أصل سببية الوقف بيده، كما أشار إليه صاحب الجواهر بقوله:

«وأمّا لو فرض إرادة اشتراط سلطنة الإخراج والإدخال إليه - على وجه يكون أصل الوقف بيده دخولاً وخروجاً - فالمتّجه البطلان فيهما؛ لرجوعه إلى اشتراط كون أصل السببية بيده، ولفرض أنّ ذلك أمر شرعي لا يرجع إليه»(2)

ومن هنا لا بدّ من تأويل قوله عليه السلام: «فالمال ماله، فَعَل فيه ما أراد» في خبر أبي هلال على نحو لا ينافي مقتضى القاعدة. هذا، مع ضعف سنده، ولكن لا مناص من رفع اليد عن مقتضى القاعدة بدلالة نصوص المقام - ابن يقطين وغيره - على جواز الشرط المزبور بالفحوى، كما قال في الحدائق، ولكن لا بدّ من الخروج عن مقتضى القاعدة المزبورة من الاقتصار على موضع النصّ. وهو شرط إدخال من يريده. فتحصّل أنّ الأقوى جواز اشتراط إدخال من يريده الواقف بدلالة النصوص المعتبرة المزبورة بالفحوى.

ثمّ إنّ هاهنا إشكالين:

********

(1) - الحدائق الناضرة 170:22.

(2) - جواهر الكلام 77:28.

ص: 387

أحدهما: إنّ احتمال اختصاص مورد النصوص المزبورة بوقف الوالد على أولاده، بل بالصغار؛ نظراً إلى ولايته عليهم، كما فرض في صحيح عبدالرحمان بقوله: «في الرجل يجعل لولده شيئاً وهم صغار...» واُشير إليه في ذيل صحيح علي بن جعفر بقوله عليه السلام: «نعم يصنع الوالد بمال ولده ما أحبّ»(1).

ولكن يندفع هذا الاحتمال بعدم خصوصية للولد في حكم الوقف، بل صغرهم يمنع من إدخال غيرهم للغبطة المبني عليها ولاية الأب ولعلّ من أجل ذلك صرّح في الوسائل في عنوان الباب بعدم جواز إدخال الغير في الأولاد والموقوف عليهم، مع صغرهم، بقوله: «لم يجز مع صغرهم». بل العطف بلفظ «مع» في قوله: «رجل تصدّق على وَلَده بصدقة ثمّ بدا له أن يدخل غيره فيه مع ولده» - في صحيح علي بن جعفر - ظاهرٌ في إدخال غير الولد.

ومثله خبر أبي طاهر البلالي، قال: كتب جعفر بن حمدان: استحللت بجارية - إلى أن قال -: ولي ضيعة قد كنت قبل أن تصير إليّ هذه المرأة سبّلتها على وصاياي وعلى سائر ولدي على أنّ الأمر في الزيادة والنقصان منه إلى أيّام حياتي، وقد أتت بهذا الولد فلم الحقه في الوقف المتقدّم المؤبّد، وأوصيت إن حدث بي حدث الموت أن يجري عليه ما دام صغيراً، فإن كبر اعطي من هذه الضيعة حمله مأتي دينار غير مؤبّد، ولا تكون له ولا لعقبه بعد إعطاء ذلك في الوقف شيء فرأيك أعزّك اللّه؟ فورد جوابها؛ يعني من صاحب الزمان عليه السلام:

«أمّا الرجل الذي استحلّ بالجارية - إلى أن قال -: وأمّا إعطاؤه المئتي دينار وإخراجه من الوقف فالمال ماله، فَعَلَ فيه ما أراد»(2). وقد استدلّ به في

********

(1) - وسائل الشيعة 183:19-185، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 5، الحديث 3 و 5.

(2) - وسائل الشيعة 184:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 5، الحديث 4.

ص: 388

العروة(1) بدعوى دلالته على جواز تغيير الوقف مع الشرط. وكذا في الجواهر حمله على ما لا ينافي ذلك(2) ولكنّك عرفت الجواب عن ذلك كلّه آنفاً.

وأمّا مطلقات جواز إدخال من يريده الواقف إذا بدا له بعد الوقف، فتشمل ما إذا بيّن الواقف اختصاص الوقف بالموقوف عليهم المذكورين حين إنشاء الوقف، لكنّها مقيّدة من هذه الجهة بصحيح علي بن يقطين وخبر البلالي؛ حيث دلّا على عدم جواز إدخال الغير حينئذٍ. وعليه فالنتيجة بعد تقييد مطلقات المقام بهاتين الروايتين، جواز إدخال الغير ما لم يصدر منه ما يدلّ على اختصاص الوقف بالمذكورين. أمّا جواز اشتراط إدخال الغير فيستفاد من هذه النصوص بالفحوى كما قال في الحدائق.

ثانيهما: إعراض المشهور عن النصوص المجوّزة لإدخال الغير من غير شرط، مضافاً إلى معارضتها بما دلّ على عدم جواز ذلك كما في ذيل صحيح علي بن يقطين السابق آنفاً(3). هذا الإشكال عن صاحب العروة(4).

وفيه: أنّ ذيل الصحيحة المزبورة مع ملاحظة صدرها، يفيدان معاً ما سبق منّا من التفصيل آنفاً. وأمّا إعراض المشهور على فرض تحقّقه فلا يوجب وهن سند الخبر على التحقيق كما حقّقنا ذلك في كتابنا «مقياس الرواية»، كما أنّه لا يصلح لترجيح أحد المتعارضين به؛ وإنّما الصالح لذلك هو الشهرة الروائية، لا الفتوائية.

********

(1) - العروة الوثقى 364:6.

(2) - راجع جواهر الكلام 77:28.

(3) - وسائل الشيعة 183:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 5، الحديث 1.

(4) - العروة الوثقى 366:6.

ص: 389

ومثل ذلك لو شرط نقل الوقف من الموقوف عليهم إلى من سيوجد (1). نعم، لو وقف على جماعة إلى أن يوجد من سيوجد، وبعد ذلك كان الوقف على من سيوجد، صحّ بلا إشكال (2).

1 - لأنّ نقل الوقف من الموقوف عليهم إلى غيرهم معناه في الحقيقة إخراج الموقوف عليه الأوّل وإدخال غيرهم. فهو من مصاديق إخراج من يريده الواقف عن دائرة الوقف وإدخال من أراده فيها إلّاأن يشترط إخراج من أراده أو إدخاله فيأتي فيه البحث السابق آنفاً. وأمّا بدون الاشتراط - كما هو مفروض الكلام - فهو غير جائز. ولكن لا يبطل به الوقف، بل ثمرة عدم جوازه كونه لغواً غير نافذ وبلا أثر.

2 - والوجه في الصحّة رجوع ذلك إلى كيفية تعيين الموقوف عليه. ولا ريب في كون أمر تعيين الموقوف عليه بيد الواقف. وهذا لا إشكال ولا خلاف فيه. ويدلّ على ذلك عموم قوله: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1).

بطلان الوقف باشتراط الخيار

لا إشكال في بطلان الوقف باشتراط الخيار في الرجوع فيه كما قال في القواعد:

«ولو شرط الخيار في الرجوع عنه بطل الشرط والوقف»(2).

والوجه فيه كون هذا الشرط مخالفاً لمقتضى عقد الوقف لأنّه مبنيٌّ على الدوام، كما علّل ذلك في جامع المقاصد بقوله: «لأنّ ثبوت الخيار منافٍ لمقتضى الوقف

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

(2) - قواعد الأحكام 389:2.

ص: 390

(مسألة 60): لو علم وقفية شيء ولم يعلم مصرفه - ولو من جهة نسيانه - فإن كانت المحتملات متصادقة غير متباينة يُصرف في المتيقّن، كما إذا لم يدرِ أ نّه وقف على الفقراء أو الفقهاء، فيقتصر على مورد تصادق العنوانين (1).

المبنيّ على اللزوم التامّ الذي لا يقبل الفسخ بحال»(1).

ولكن سبق آنفاً أنّ ذلك مبنيّ على كبرى كون كلّ شرط فاسد مفسداً للعقد. فمن لم يلتزم بهذه الكبرى في محلّها لا يمكنه الحكم ببطلان الوقف في المقام.

وأمّا نقض ذلك باشتراط عود الموقوف إلى الواقف عند الحاجة؛ لأنّه أيضاً ينافي الدوام، فقد أجاب عنه المحقّق الكركي؛ بأنّ مورد النقض لا ينافي ماهية الحبس؛ لأنّ الحبس لازم إلى أمد. بخلاف اشتراط الخيار؛ حيث لا يكون العقد حينئذٍ وقفاً ولا حبساً.

قال قدس سره: «فإن قيل: اشتراط عوده عند الحاجة أيضاً منافٍ فلِم جوّزتموه. قلنا:

هو منافٍ للوقف لا للحبس، ولهذا حكمنا بصحّته حبساً.

فإن قيل: فلم لا يصحّ هذا حبساً؟ قلنا: لأنّ الحبس لازم إلى أمد ومشروط الخيار ليس كذلك فلا يكون وقفاً ولا حبساً».

وكلامه متينٌ لا غبار عليه.

حكم ما لو علم وقفية شيءٍ ولم يعلم مصرفه

1 - لا إشكال في عدم بطلان الوقف بالجهل أو نسيان مورد صرفه؛ لفرض تمامية أركان الوقف وحصول شرائطه حين إنشائه. وعروض الجهل بالموقوف عليه

********

(1) - جامع المقاصد 30:9.

ص: 391

وإن كانت متباينة، فإن كان الاحتمال بين امور محصورة، كما إذا لم يدر أنّه وقف على المسجد الفلاني أو المشهد الفلاني، أو فقراء هذا البلد أو ذاك، يقرع ويعمل بها (1).

أو نسيانه لا سببية ولا تأثير له في بطلان الوقف الصحيح بعد ما انعقد وتمّ أركانه.

ومن هنا قال في العروة: «إذا كان وقف لم يعلم مصرفه من جهة الجهل به أو نسياناً من الأوّل أو في الأثناء، لم يحكم ببطلانه بلا إشكال»(1).

وأمّا في فرض تصادق المحتملات وعدم تباينها، فالوجه في جواز صرف المال الموقوف في المصداق المتيقّن أنّه مجمع العناوين المحتملة، فيصرف الوقف في مورده الموقوف عليه على أيّ حال. وهذا واضح لا كلام فيه.

1 - وأمّا مع تباين المحتملات وعدم تصادقها، فإن كانت المحتملات محصورة، فهل يحكم بالتوزيع؛ حذراً من الترجيح بلا مرجّح، أو يقرع بينهم؟ الأقوى تعيّن القرعة كما عليه السيّد الماتن؛ لعمومات نصوص القرعة وإطلاقاتها، بل المتيقّن من مدلولها موارد اشتباه الحقوق. وأمّا التوزيع، فيمكن فيه الإشكال بأنّ أصل استحقاق الجميع مقطوع العدم وثبوت الحقّ لكلّ واحد بعينه مشكوكٌ. والتوزيع فرع العلم بثبوت الحقّ لهم في الجملة وإنّما لم يعلم مقدار سهم كلّ واحدٍ. ومن هنا قد يستشكل في جريان قاعدة العدل والإنصاف. وإن لا يبعد جريانها، كما قوّيناه في محلّ البحث عن هذه القاعدة. وقد بحثنا مفصّلاً عن قاعدة العدل والإنصاف في المجلّد الأوّل من كتابنا «مباني الفقه الفعّال»، وعن نصوص القرعة ودلالتها في قاعدة القرعة في

********

(1) - العروة الوثقى 370:6.

ص: 392

وإن كان بين امور غير محصورة، فإن كان بين عناوين وأشخاص غير محصورة، كما علم أنّه وقف على ذرّية أحد أفراد المملكة الفلانية، ولا طريق إلى معرفته، كانت منافعه بحكم مجهول المالك، فيتصدّق بها بإذن الحاكم على الأحوط، والأولى أن لا يخرج التصدّق عن المحتملات مع كونها مورداً له (1).

المجلّد الثالث من كتابنا المذكور.

وبهذا البيان بيّن وجه كلام صاحب العروة؛ حيث تردّد بين التوزيع والقرعة في مفروض الكلام بقوله: «إن كان الترديد مع انحصار الأطراف يوزّع عليهم أو يقرع بينهم»(1).

1 - وذلك لعدم إمكان القرعة حينئذٍ ولا التوزيع. فلا مناص في العمل بالوقف من إجراء حكم مجهول المالك. لأنّ الضابطة في مجهول المالك، العلم بكون شيءٍ ملكاً لشخص أو أشخاص، ولكن لم يُعرف مالكه بشخصه ولا هويته ولا باسمه ومكانه ولا طريق إليه بوجه ليوصل ماله إليه.

والمقام من هذا القبيل. فيترتّب حكم مجهول المالك، وهو التصدّق به من جانب مالكه إلى فقراء المؤمنين.

وقد بحثنا عن حكم مجهول المالك مفصّلاً في أحكام اللقطة من كتابنا «دليل تحرير الوسيلة». هذا بمقتضى القاعدة.

وأمّا النصوص فيشهد لذلك خبر أبي علي بن راشد، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام قلت: جعلت فداك اشتريت أرضاً إلى جنب ضيعتي بألفي درهم، فلمّا وفّيت المال

********

(1) - العروة الوثقى 370:6.

ص: 393

وإن كان مردّداً بين الجهات غير المحصورة، كما علم أنّه وقف على جهة من الجهات؛ ولم يعلم أنّها مسجد أو مشهد أو قنطرة أو تعزية سيّد الشهداء عليه السلام أو إعانة الزوّار وهكذا، تصرف المنافع في وجوه البرّ بشرط عدم الخروج عن مورد المحتملات (1).

خبّرت أنّ الأرض وقف، فقال عليه السلام: «لا يجوز شراء الوقف ولا تدخل الغلّة في مالك وادفعها إلى من وقفت عليه»، قلت: لا أعرف لها ربّاً، قال: «تصدّق بغلّتها»(1).

هذه الرواية وإن كانت ضعيفة سنداً لأنّ أبي علي بن راشد مشترك بين ثلاث رواة. وهذا هو الحسن بن راشد الطفاوي الذي كان من أصحاب الرضا عليه السلام، وهو ضعيف؛ حيث ضعّفه النجّاشي ولم يوثّق. وأ نّه غير أبي على الحسن بن راشد الثقة لأ نّه كان بغدادياً من آل مهلب ومن أصحاب الإمام الهادي عليه السلام، وأيضاً غير أبي علي الحسن بن راشد الكوفي الذي من أصحاب الصادق عليه السلام وضعّفه ابن الغضائري.

لكن لا إشكال في تمامية دلالتها على المطلوب، كما هو واضحٌ. ولكنّ الأمر سهل بعد كون ترتّب حكم مجهول المالك موافقاً لمقتضى القاعدة. والرواية المزبورة مؤكّدة لمقتضى القاعدة.

1 - وذلك لأنّه مع عدم خروج صرفه عن المحتملات يدخل في قصد الواقف في الجملة، ولرجوع الكلّ إلى جهات البرّ بالمآل، فيدخل بذلك في عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها».

وقد وافق السيّد الماتن قدس سره صاحب العروة بقوله: «وإن كان بين الجهات الغير

********

(1) - وسائل الشيعة 364:17، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع، الباب 17، الحديث 1.

ص: 394

المحصورة، كأن لم يعلم أنّه وقف على المسجد أو القنطرة أو نحو ذلك من الجهات، صرف في وجوه البرّ الغير الخارج عن أطراف الترديد»(1).

كلّ ما سبق فيما إذا ذكر المصرف حين إنشاء الوقف ولكن جهل به أو نسيه. وأمّا إذا وقف ولم يذكر المصرف في حال إنشاءِ الوقف، فبطل الوقف عند مشهور الفقهاء شهرة عظيمة.

قال في المسالك في ذيل فتوى الشرائع بذلك: «هذا هو المشهور بين الأصحاب، ولم أقف فيه على مخالف، إلّاابن الجنيد، وخلافه غير قادحٍ هنا على قاعدة الأصحاب»(2). وكذلك في الجواهر(3) وقد وجّه في الجواهر مخالفة ابن الجنيد بما يلائم رأي المشهور.

وقد علّل بطلان الوقف حينئذٍ في المسالك أيضاً بما يرجع حاصله إلى توقّف تحقّق التمليك على وجود من ينتقل إليه الملك ولا بدّ من كونه شخصاً معلوماً؛ كما لا خلاف في بطلان البيع والهبة بذلك لتحقّق علّة البطلان في الجميع وهو جهالة المصرف. ويعلم من كلامه أن مقصودهم من المصرف هو الموقوف إليه.

قال قدس سره: «ويدلّ عليه أيضاً أنّ الوقف تمليك كما مرّ فلابدّ من مالك كالبيع والهبة، فإنّه لو قال: بعت داري بكذا أو وهبتها» ولم يذكر المصرف بطلا اتّفاقاً، ولأ نّه لو وقف على مجهول ك «وقفت على جماعة، بطل فإذا أطلق كان أولى بالبطلان، لأنّ علّة البطلان جهالة المصرف وهي متحقّقة فيهما»(4).

********

(1) - العروة الوثقى 370:6.

(2) - مسالك الأفهام 350:5.

(3) - جواهر الكلام 49:28.

(4) - مسالك الأفهام 350:5.

ص: 395

(مسألة 61): لو كان للعين الموقوفة منافع متجدّدة وثمرات متنوّعة، يملك الموقوف عليهم جميعها مع إطلاق الوقف، ففي الشاة الموقوفة يملكون صوفها المتجدّدة ولبنها ونتاجها وغيرها، وفي الشجر والنخل ثمرهما ومنفعة الاستظلال بهما والسعف والأغصان والأوراق اليابسة، بل وغيرها ممّا قطعت للإصلاح، وكذا فروخهما وغير ذلك (1).

ملكية المنافع المتجدّدة للموقوف عليهم

اشارة

1 - والوجه في ذلك كلّه أنّه مقتضى عقد الوقف نفسه؛ إذ حقيقته تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. فلو لم تدخل المنافع في ملك الموقوف عليهم لا يحصل الغرض من الوقف، هذا مع كون انتقال منافع الوقف إلى الموقوف عليه بنفس الوقف مورد اتّفاق الأصحاب ولا خلاف فيه بينهم، إلّاممّن شذّ وندر. واختصاص ذلك ببعض منافع الوقف يحتاج إلى دليل، ولا دليل عليه.

وقد استُدلّ لذلك أيضاً بقاعدة تبعية النماء للأصل. فإنّ هذه القاعدة تفيد أنّ من كان مالكاً للأصل، يملك النماء مطلقاً، متّصلةً كانت أم منفصلة. ولمّا كان الموقوف عليه مالكاً لرقبة العين الموقوفة - كما سبق أنّه المشهور الموافق لمقتضى التحقيق - يملك جميع منافعها ونمائاتها.

وعليه فالدليل على هذه المسألة مقتضى عقد الوقف وتوقّف حصول الغرض منه على ذلك وما عليه من إجماع الأصحاب واتّفاقهم وقاعدة تبعية النماء للأصل.

وكأنّ الوجه في عدم دخول النمائات والثمرات والمنافع المتجدّدة في ملك الموقوف عليه، شبهة خروجها عن حيطة الوقف؛ نظراً إلى انفصالها عن العين

ص: 396

الموقوفة وعدم وجودها بوجه حين إنشاء الوقف، فيوجب ذلك تطرُّق احتمال خروجها عن قصد الواقف، مع كون وقفها من قبيل تمليك المعدوم. ولكن هذه الشبهة مندفعة بالوجهين المزبورين، بل لا أساس لها.

ونظير ما عرفت من السيّد الماتن ما جاء في كلام السيّد في العروة؛ حيث قال:

«ويستحقّ الموقوف عليه مع إطلاق الوقف جميع المنافع المتجدّدة بعده للعين الموقوفة، ولو كانت نادرة، فيدخل في منافع العبد جميع ما يكتسبه حتّى بالالتقاط والاصطياد الغير المعتاد له، وفي منافع الجارية جميع ما تكتسبه حتّى المهر، وكذا الحمل المتجدّد إذا كان مملوكاً، وكذا في الدابّة بناءً على ما هو الأقوى من عدم تبعيّته لهما في الوقفية. ويدخل في منافع الشجر والنخل فروخهما والسعف والأغصان والأوراق اليابسات وغيرها إذا قطعت للتهذيب أو انقطعت»(1).

قوله: «وكذا الحمل المتجدّد إذا كان مملوكاً»، قد احترز به من الولد الحُرّ.

قوله: «وكذا في الدابّة بناءً...»؛ إذ بناءً على ذلك يصير الحمل عين الدابّة الموقوفة، لا من منافعها.

فحاصل الكلام: أنّ دليل المسألة وجهان:

أحدهما: مقتضى عقد الوقف نفسه؛ نظراً إلى اتّفاق النصوص والفتاوى على انتقال منافع الوقف ونمائاته إلى الموقوف عليهم بنفس الوقف.

ثانيهما: قاعدة تبعية النماء للأصل بناءً على ما هو المشهور ومقتضى التحقيق من انتقال العين الموقوفة إلى ملك الموقوف عليهم.

وينبغي في المقام تحقيق قاعدة: «تبعية النماء للأصل» وبيان وجه الفرق بين

********

(1) - العروة الوثقى 373:6.

ص: 397

النمائات الموجودة حال الوقف وبين المتجدّدة منها بعده. فنقول:

قد سبق منّا المناقشة - في كتاب المضاربة وفي أوائل هذا الكتاب - في شمول القاعدة المزبورة للمنافع المنفصلة المكتسبة بفعل العامل؛ إذ لا يمكن إنكار دخل الفعل في توليد هذه المنافع كدخل نفس العين المستعملة.

وذلك لما جرت على ذلك سيرة العقلاء في باب المضاربة والمزارعة ونحوها ممّا يكون فيه عمل العامل سبباً لتوليد المنافع واستخراجها من العين، ومن هنا اشتهر أنّ الزرع للزارع ولو كان غاصباً، كما صرّح بهذه الشهرة المحقّق الأردبيلي(1)، واستدلّ لذلك أيضاً بخبر عقبة بن خالد(2)، وإن يمكن الإشكال بأنّ الزرع نماءُ الحبوب المملوكة للغاصب، ولكن لا إشكال في أنّ الزرع من منافع الأرض، مع كون العين للمغصوب منه، وإن كان له قلع الزرع بغير إذن الغاصب؛ لعدم احترام عمله، ولأ نّه مأخوذ بأشقّ الأحوال ولا تنافي بين الأمرين كما لا يخفى على المتأمّل. وهذه بخلاف النمائات التي هي من أجزاءِ العين.

هذا مع أنّ السيرة الجارية على القاعدة المزبورة دليل لبّيٌ يؤخذ بقدره المتيقّن منه، وهو النمائات المتّصلة التي تعدّ من أجزاء العين عرفاً.

نعم، دلّ على ذلك خبر عقبة خالد، بناءً على كون الزرع نماءَ الحبّ، لا الأرض.

وأمّا الخبر المشار إليه، فقد رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عبداللّه بن هلال، عن عقبة بن خالد قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن رجل أتى أرض رجل فزرعها بغير إذنه حتّى إذا بلغ الزرع جاء صاحب الأرض فقال: زرعت بغير إذنى فزرعك لي وعليّ ما أنفقت، أله ذلك؟

********

(1) - مجمع الفائدة والبرهان 176:9.

(2) - وسائل الشيعة 157:19، كتاب الإجارة، الباب 33، الحديث 2.

ص: 398

فقال: «للزارع زرعه، ولصاحب الأرض كراء أرضه»(1).

وهذا الخبر ضعيف بمحمّد بن عبداللّه بن هلال للجهل بحاله، إلّاأنّ فتوى المشهور بكبرى «الزرع للزاع ولو كان غاصباً» - كما صرّح الأردبيلي بهذه الشهرة - جابرةٌ لضعفه، كما ينجبر ضعفه بفتوى المشهور بقاعدة تبعية النماء للملك، بناءً على تمامية دلالته على مفاد هذه القاعدة أيضاً.

وقد وقع الخلاف بين الفحول في هذه القاعدة يظهر من العلّامة في المختلف قبول كبرى تبعية النماء للملك؛ حيث أجاب عن الاستدلال بهذه الكبرى لدخول مطلق النمائات في الرهن، بمنع الملازمة بعد الفراغ عن الكبرى المزبورة؛ حيث قال: «احتُجَّ بأنّ النماءَ تابعٌ في الملك، فكذا في الرهن. والجواب: المنع من الملازمة»(2). وجه عدم الملازمة أنّ قضية تبعية النماءِ للملك لا تقتضي دخول النمائات الموجودة حال إنشاء العقد في مسمّى المبيع والمرهون في باب العقود، فإنّه وإن كان تابعاً للملك، إلّاأنّه غير داخل في مسمّى المبيع والمرهون.

ولكن فصّل في الحدائق في النمائات الموجودة حال إنشاء العقد، بين النمائات المتّصلة مثل الصوف والشعر على ظهر الحيوان وطوله وسمنه وبين النماء المنفصل كالولد والثمرة، فحكم بانتقال الأوّل في المعاملات لأنّه من الأصل عرفاً بخلاف الثاني. قال: «لا يبعد التفصيل بالفرق بين مثل الولد والثمرة، وبين مثل الشعر والصوف على ظهر الحيوان، بخروج الأوّل ودخول الثاني، فإنّ من الظاهر عدم دخول الولد والثمرة في مسمّى الاُمّ والنخل ودخول الشعر والصوف في الحيوان

********

(1) - تهذيب الأحكام 906/206:7.

(2) - مختلف الشيعة 424:5.

ص: 399

اللذين هما على ظهره، فإنّه كالمتبادر عرفاً، فإنّه متى باعه حيواناً كذلك أو وهبه أو نقله له بأحد النواقل الشرعية، فإنّ ظاهر العرف الحكم بدخول ذلك فيه»(1).

و هذا هو مقتضى التحقيق كما صرّح به في جامع المقاصد والتذكرة والشهيد الأوّل. وذلك لأنّ مثل الصوف على الظهر واللبن في الضرع تابعان للحيوان الموقوف. وهذا بخلاف ولد الحيوان واللبن والحليب وثمار الأشجار، فإنّها خارجة عن مسمّى الموقوف وعنوانه حينئذٍ. ولكنّك قد عرفت أنّ كلامهم هذا وتفصيلهم في ذلك إنّما يرتبط بالنمائات الموجودة حال العقد، دون المتجدّدة.

وقد علّل في جامع المقاصد المسألة بقوله: «أمّا وجه ملك الموقوف عليه لهما؛ فلأ نّهما جزء من الموقوف فيتناولهما العقد كما يتناولهما البيع، لكن لا بدّ من اللبن من أن يكون موجوداً في الضرع والصوف على الظهر، فلو احتلب اللبن أو جزء الصوف لم يدخلا قطعاً.

ولو كان الموقوف نخلة وكان طلعها موجوداً حين العقد لم يدخل في الوقف سواء أبّر أم لا؛ لأنّه ليس جزءاً من المسمّى، وبه صرّح المصنّف في التذكرة، وشيخنا الشهيد في الدروس.

فإن قيل: عقد الوقف إن تناول الصوف واللبن وجب أن يكونا وقفاً، عملاً بمقتضى العقد وذلك ممتنع في اللبن وإن لم يتناولهما كانا على ملك الواقف كالحمل.

قلنا: تناول العقد لهما لا يقتضي كونهما وقفاً؛ لأنّ مقتضاه تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وهما محسوبان من المنافع فيتناولهما العقد باعتبار شمول المسمّى إيّاهما على حكمهما»(2).

********

(1) - الحدائق الناضرة 242:20.

(2) - جامع المقاصد 67:9.

ص: 400

وقد خالفهم صاحب الجواهر وتبعه صاحب العروة؛ حيث قال: «الثمر الموجود حال الوقف على النخل والشجر لا يكون للموقوف عليه، بل هو للواقف ولو كان قبل بدوّ صلاحه، بل يكفي في كونه مجرّد ظهوره، من غير فرق بين ما قبل التأبير وما بعده. نعم، ذكر جماعة أنّ الصوف على الشاة واللبن في ضرعها الموجودين حال الوقف للموقوف عليه. وهو مشكل»(1).

ونظيره كلام صاحب الجواهر؛ حيث قال: «وإذا وقف شاة كان صوفها الذي على ظهرها ولبنها الموجود في ضرعها داخلاً في ما اقتضاه الوقف من تسبيل الثمرة ما لم يستثنه نظراً إلى العرف كما لو باعها بلا خلاف أجده بين من تعرّض له من الفاضل، والشهيدين والكركي وغيرهم، بخلاف الحمل، بل وبخلاف ثمرة النخل والشجر ونحوهما، فإنّه لا عرف يقتضى ذلك إلّاأنّ الإنصاف عدم خلوّه من الإشكال بحسب ما نجده الآن، بل قد يشكّ في أصل الحكم حتّى مع التصريح بناءً على عدم اقتضاء عقد الوقف تمليك نفس الثمرة وإنّما اقتضاؤه ذلك بإدخال العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه، فتكون الثمرة نماء ملكه المحبوس عليه بالمنع من التصرّف فيه ببيع ونحوه بخلاف الثمرة، ومن المعلوم أنّ ذلك إنّما يكون في النماء المتجدّد دون ما حصل من النماء الذي هو ملك الواقف فإنّه لا يتصوّر تملّكه من حيث التبعية المزبورة كما هو واضح»(2).

وحاصل الكلام: أنّ المعيار في النمائات الموجودة حين إنشاء العقد، صدق عنوان المسمّى. وأمّا قاعدة التبعية المزبورة، فهي مختصّة بباب الملك. ومن هنا تجري في النمائات المتجدّدة، دون الموجودة حال العقد.

********

(1) - العروة الوثقى 374:6.

(2) - جواهر الكلام 13:28.

ص: 401

وهل يجوز في الوقف التخصيص ببعض المنافع؛ حتّى يكون للموقوف عليهم بعض المنافع دون بعض؟ الأقوى ذلك (1).

وحاصل الفرق: أنّ مجرى قاعدة التبعية إنّما هو في الأملاك والنمائات المتجدّدة.

وأمّا قاعدة دوران الانتقال المعاوضي مدار صدق مسمّى متعلّق العقد - من المبيع والموهوب والمرهون والموقوف - فإنّما تجري في أبواب العقود في النمائات والمنافع الموجودة حال العقد.

فلا ينبغي الخلط بين القاعدتين ولا الاشتباه في موردهما.

جواز تخصيص الوقف ببعض المنافع للموقوف عليهم

1 - وذلك لعموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1).

وقد سبق بيان مفاد هذه الطائفة من النصوص. ولا إشكال في دلالتها على مشروعية الوقف على النحو الذي رسمه الواقف. وبدلالة هذه النصوص ترتفع شبهة عدم جواز التخصيص ببعض منافع العين بعد خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف وقطع يده وسلطته عنها؛ ضرورة كون التخصيص ببعض المنافع في متن إنشاء الوقف من كيفية الوقف، وأنّ تعيين كيفية الوقف وترسيمه بيد الواقف حسب مدلول هذه النصوص. فينفذ الوقف ويجب إجراؤه بأيّ شكل رسمه الواقف بمقتضى العموم المزبور.

هذا، ولكن مقتضى التحقيق في المقام التفصيل في المقام بين النمائات والمنافع الموجودة حال إنشاء عقد الوقف وبين المتجدّدة منها.

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 402

أمّا الموجودة منها حال العقد، فلا إشكال في جواز استثناء المنفصلة منها، بل هي لا تحتاج في خروجها إلى الاستثناء. بل لا إشكال في جواز استثناء المتّصلة منها، ممّا لو لم يستثنه لدخل في مسمّى الموقوف عرفاً، كالصوف والشعر على ظهر الحيوان واللبن في ضرعه ونحو ذلك، كما صرّح بجواز ذلك في الشرائع بقوله:

«وإذا وقف شاة كان صوفها ولبنها الموجود في ضرعها داخلاً في الوقف ما لم يستثنه»، وقد نفي الخلاف فيه في الجواهر(1).

وأمّا المنافع المتجدّدة فقد استشهد في الجواهر(2) لجواز استثنائها بالاستثناء المزبور المصرّح به في كلمات الفحول. واستدلّ لذلك بعموم «المؤمنون عند شروطهم» وعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلُها». وبخصوص قوله عليه السلام: «وإن تصدّقت أمسكت لنفسك ما يقوتك» في خبر علي بن سليمان بن رشيد، قال: كتبت؛ إليه يعني أبا الحسن عليه السلام: جعلت فداك ليس لي ولد وارث ولي ضياع ورثتها عن أبي وبعضها استفدتها، ولا آمن الحدثان فإن لم يكن لي ولد وحدث بي حدث، فما ترى جعلت فداك لي أن أقف بعضها على فقراء إخواني والمستضعفين أو أبيعها وأتصدّق بثمنها عليهم في حياتي؟ فإنّي أتخوّف أن لا ينفذ الوقف بعد موتي فإن وقفتها في حياتي فلي أن آكل منها أيّام حياتي أم لا؟ فكتب عليه السلام: «فهمت كتابك في أمر ضياعك فليس لك أن تأكل منها من الصدقة، فإن أنت أكلت منها لم تنفذ إن كان لك ورثة فبع وتصدّق ببعض ثمنها في حياتك، وإن تصدّقت أمسكت لنفسك ما يقوتك، مثل ما صنع أمير المؤمنين عليه السلام»(3). وأيّد

********

(1) - جواهر الكلام 13:28.

(2) - جواهر الكلام 69:28.

(3) - وسائل الشيعة 176:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 3، الحديث 1.

ص: 403

ذلك بما ذكره الشيخ الحرّ العاملي في عنوان الباب بقوله: «وله أن يستثني لنفسه شيئاً».

قال قدس سره: «ولكنّ الظاهر عدم اقتضائها - يعنى المكاتبة المزبورة - بطلان اشتراط ذلك على جهة الاستثناء له من التسبيل الذي قصده بالوقف؛ لقاعدة: المؤمنون، والوقوف، وغيرهما.

بل ربما كان المراد من قوله عليه السلام في المكاتبة المزبورة: «وإن تصدّقت أمسكت لنفسك ما يقوتك»، كما عساه يظهر من عنوان الحُرّ في الوسائل، أقصاها بطلان استحقاقه له من حيث كونه وقفاً؛ لاعتبار إخراج نفسه من عينه ومنفعته، لا نحو ما ذكرناه الراجع إلى وقف عين وتسبيل منفعتها الخارجة عمّا استثناه، فهو حينئذٍ كوقف العين المستأجرة مدّة مثلاً، وربما يشهد له ما تقدّم له سابقاً من دخول اللبن والصوف الموجودين في الشاة الموقوفة ما لم يستثنه، بل حكينا عن الفاضل في التذكرة أنّ وقف البقرة للحرث مثلاً خاصّة يقتضي بقاءَ باقي المنافع من اللبن وغيره للواقف»(1).

ولكنّ الرواية ضعيفة سنداً بعلي بن سليمان بن رشيد؛ لعدم تثويقه من أحد ولو بالتوثيق العامّ ولعدم إمكان إثبات روايته بأيّ نحو. كما يمكن الإشكال في دلالتها باحتمال كون مقصود الإمام عليه السلام ما إذا تصدّق الرجل بثمن الضياع بعد بيعها، بل يقوى احتمال ذلك بدلالة الفقرة الأخيرة من كلام الإمام عليه السلام على هذا الفرض وهي أقرب إلى كلامه المزبور المستشهد به.

ويشهد لذلك قوله عليه السلام في ذيل الخبر «مثل ما صنع أمير المؤمنين عليه السلام»؛ حيث

********

(1) - جواهر الكلام 68:28.

ص: 404

لم يستثن أمير المؤمنين عليه السلام بعض منافع الوقف لنفسه في متن إنشاء عقد الوقف، بل إنّه وقف بعض ضياعه وبستانه وأمسك بعضها الآخر لنفسه، من دون وقف.

وهذا إنّما يلائم تصدُّق بعض ثمن المبيع وإمساك بعضه الآخر لنفسه، ولا يلائم استثناء بعض منافع الوقف واشتراطه لنفسه في متن إنشاء الوقف، كما استفاده صاحب الجواهر.

ويظهر من كلام المحقّق الكركي أنّ استثناءَ المنافع المتجدّدة خلاف مقتضى عقد الوقف، وبذلك فرّق بين النمائات والمنافع الموجودة وبين المنافع المتجدّدة فجوّز استثناءَ الاُولى دون الثانية؛ حيث قال: «وأمّا إذا استثنى الواقف الصوف واللبن الموجودين؛ فلأ نّه لا منافاة في هذا الاستثناء لمقتضى العقد؛ لأنّ الموقوف ما عداهما. والمعتبر ما يتجدّد من المنافع، أعني: ما يتكوَّن بعد تحقّق الوقف. فلو استثنى شيئاً من تلك المنافع، لم يصحّ»(1).

ولكن لم يرتض به صاحب الجواهر؛ حيث ردّه بقوله: «إلّا أنّه كما ترى مجرّد دعوى عارية عن الدليل، بل مخالفة لما ذكره من الدليل، بل ستسمع هنا من المسالك جواز الشرط للناظر، فإذا كان الواقف هو، أخذه. وهو مبنيّ على ما ذكرناه. بل في كشف الاُستاذ: ولو شرط ردّ مظالم عنه أو صدقة أو عبادة أو أداءَ ديون، لزمته في حياته، ونحو ذلك قوى القول بالصحّة»(2).

ومقتضى التحقيق: ما ذكره المحقّق الكركي؛ لأنّه بناءً على انتقال العين الموقوفة إلى الموقوف عليهم - كما هو المشهور ومقتضى التحقيق والمبنى المختار - لا معنى لعدم انتقال بعض منافعها إليهم بعد تمامية الوقف. هذا مع أنّه لا يلائم أيضاً خروج

********

(1) - جامع المقاصد 67:9.

(2) - جواهر الكلام 69:28.

ص: 405

العين الموقوفة عن ملك الواقف بنفس الوقف، كما هو المتّفق عليه.

فكيف يُعقل بقاءُ بعض المنافع - المتجدّدة الناشئة من العين - في ملك الواقف بعد خروج العين عن ملكه؟!

ولعلّه لأجل ذلك يظهر من كلام المحقّق الكركي أنّ استثناءَ المنافع المتجدّدة مخالف لمقتضى عقد الوقف كما عرفت من كلامه.

وأمّا عموم «المؤمنون عند شروطهم»، فقد حُقّق في محلّه أنّه لا يشمل الشرط المخالف لمقتضى العقد، وكذا عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». ولا سيّما أنّ هذا العموم إنّما يكون موضوعه الوقوف، فلا يشمل ما ينافي ماهية الوقف.

فإنّ تعيين ماهيتها - تأسيساً أو إمضاءً - وتغييرها إنّما هو بيد الشارع وليس للمكلّف التخطّي والتعدّي عن الحدود والمقرّرات الشرعية. وهذا العموم إنّما هو في دائرة موضوعه الذي هو بنفسه وفي ماهيته مقرّرٌ شرعيٌ. فإنّ كيفية الوقف وإن كان بيد الواقف، إلّاأنّ أصل الوقف وتحديد ماهيته بيد الشارع وبعد ما عيّن الشارع ماهية الوقف، ليس للواقف التعدّي عن الحدّ المقرّر الشرعي.

وحاصل الكلام أنّ كيفية الوقف فرع أصله. والذي يستفاد من العموم المزبور: أنّ الذي بيد الواقف إنّما هو كيفية الوقف وأمّا أصل الوقف فاعتبار خصوصياته بيد الشارع وخارج عن نطاق هذا العموم.

هذا مع أنّ الاستثناءَ المزبور مخالفٌ لقاعدة تبعية النمائات والمنافع للملك، بعد فرض كون المنافع غير مكتسبة بعمل الواقف، وبعد فرض خروج العين الموقوفة عن ملكه بالاتّفاق ودخولها في ملك الموقوف عليهم على التحقيق المختار.

وأمّا ما استشهد به صاحب الجواهر من جواز شرط بعض المنافع للناظر فلا ربط له بالمقام، بل من قبيل ما لو وقف على الفقراء، ثمّ صار فقيراً. فكيف

ص: 406

يستحقّ هناك منافع الوقف؟ فكذلك فيما اشترطه للناظر ثمّ تصدّى النظارة بنفسه.

وأمّا اشتراط ردّ مظالم عنه أو عبادة، أو صدقة، أو أداءَ ديونه، فهو من قبيل شرط الفعل في ضمن العقد، ولا ربط له بتخصيص بعض منافع الوقف والنمائات المتجدّدة لنفسه.

فالأقوى في المقام عدم جواز تخصيص الوقف ببعض المنافع المتجدّدة؛ خلافاً لما يظهر من السيّد الماتن قدس سره، واحتمال كون مراده المنافع الموجودة حال إنشاء الوقف، لا يُعتنى به؛ إذ لا خلاف في جواز استثناء الموجودة منها حين إنشاء الوقف إذا كانت متّصلة، كما صرّح به في الشرائع والقواعد ونفي الخلاف عنه في الجواهر(1)فضلاً عمّا إذا كانت متّصلة. وإنّما الكلام والنزاع في المنافع المتجدّدة، كما عرفت.

ولكن في المقام نكتتان لا ينبغي الغفلة عنهما.

إحداهما: أنّ عدم جواز تخصيص الوقف ببعض المنافع ليس بمعنى بطلان الوقف الكذائي رأساً، إلّابناءً على فساد العقد بفساد الشرط. ولمّا كان مقتضى التحقيق عندنا عدم سراية الفساد من الشرط إلى العقد، فمن أجل ذلك نتيجة التحقيق في المقام صحّة الوقف وبطلان الشرط نفسه؛ بمعنى عدم نفوذه وعدم ترتّب أثر شرعي عليه.

ثانيتهما: أنّه لو كان مقصود السيّد الماتن قدس سره من تخصيص الوقف ببعض المنافع سكوته عن البعض الآخر، يدخل في محلّ الكلام، فلا يصحّ التخصيص حينئذٍ؛ نظراً إلى ظهوره في بقاءِ تلك المنافع الاُخرى في ملكيته بعد الوقف فيجرى فيها البحث المتقدّم آنفاً.

********

(1) - جواهر الكلام 13:28.

ص: 407

(مسألة 62): لو وقف على مصلحة فبطل رسمها، كما إذا وقف على مسجد أو مدرسة أو قنطرة فخربت ولم يمكن تعميرها، أو لم تحتج إلى مصرف؛ لانقطاع من يصلّي في المسجد والطلبة والمارّة، ولم يرج العود، صرف الوقف في وجوه البرّ (1)، والأحوط صرفه في مصلحة اخرى من جنس تلك المصلحة، ومع التعذّر يراعى الأقرب فالأقرب منها.

وإن كان مقصوده تخصيص الموقوف ببعض منافعه؛ بأن يريد الانتفاع الخاصّ من العين الموقوفة، كأن يقف الأرض بشرط الزرع الخاصّ، كزراعة خصوص الأرز أو الحنطة - مثلاً - فلا بأس بمثل هذا الشرط؛ لعدم كونه مخالفاً لمقتضى الوقف، لكنّه خارج عن كلام السيّد الماتن قدس سره ظاهراً؛ لعدم خلاف في جواز ذلك ظاهراً؛ إذ لا ينافي ذلك خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف، فلا ينافي هذا الشرط مقتضى عقد الوقف، مع دخوله في عموم: «الوقوف...».

حكم ما لو انتفت المصلحة الموقوف عليها

1 - هذا هو المشهور بين الأصحاب كما نسب إليهم في الحدائق والجواهر(1)، بل في الجواهر عدم المخالف عدا المحقّق في النافع.

وقد علّل ذلك في جامع المقاصد بعدم إمكان رجوع الموقوف إلى ملك الواقف حينئذٍ بعد خروجه عنه بالوقف، وإلّا لخرج عن الوقف ويرجع إلى الحبس. فلا مناص من صرفه في وجوه البرّ. ولكنّه رجّح صرفه في وجوه القربات بلا فرق؛ لاشتراكها في القربة، ولأنّ الصرف في القربات أقرب شيءٍ إلى مراد الواقف. وعلّق

********

(1) - الحدائق الناضرة 218:22؛ جواهر الكلام 44:28.

ص: 408

ذلك كلّه على عدم إمكان صرف الموقوف في جهة المصلحة الموقوف عليها بوجه.

قال: «هذا إذا لم يمكن صرف الوقف إليها بعد بطلان رسمها. فلو أمكن، تعيّن.

وإنّما يصرف إلى وجوه البرّ حيث لا يمكن ذلك؛ لأنّ عوده ملكاً بعد خروجه عن ملك المالك على وجه الحبس باطل، وأقرب شيءٍ إلى مراد الواقف صرفه في وجوه القربات؛ لاشتراكها في القربة»(1).

ولا يخفى: أنّ عدم إمكان صرف الموقوف في جهة المصلحة الموقوف عليها، لا ريب في اعتباره في الصرف في وجوه البرّ، كما هو مفروض المسألة، ولا كلام في ذلك.

وأمّا أولوية صرفه في جهات القربات، فلا إشكال فيها أيضاً، بل هو الأقوى؛ لما سبق منّا من اشتراط قصد القربة في الوقف، فإنّ مقتضاه صرف الوقف في جهات القربات.

وفي المسالك: «هذا الحكم ذكره الشيخ قدس سره وتبعه عليه الجماعة، ولم أقف فيه على رادٍّ منهم إلّاالمصنّف في النافع، فإنّه نسبه إلى قولٍ مشعراً بردّه. ووجه الحكم:

أنّ الملك خرج عن الواقف بالوقف الصحيح أوّلاً فلا يعود إليه، والقربة الخاصّة قد تعذّرت، فيصرف إلى غيرها من القرب؛ لاشتراك الجميع في أصل القربة. ولأ نّه أقرب شيءٍ إلى مراد الواقف»(2).

وكلامه هذا متين لا غبار عليه، ولكنّه في الحقيقة شرح كلام المحقّق الكركي ولم يأت بشيءٍ جديد غير حكايته ذلك عن الشيخ. ويفهم منه ثلاث تعليلات لثلاثة امور:

********

(1) - جامع المقاصد 54:9.

(2) - مسالك الأفهام 346:5.

ص: 409

1 - تعليله لأصل المسألة بخروج العين الموقوفة عن ملك الواقف بالوقف وعدم رجوعها إلى ملكه بغير سبب شرعي بعد عدم إمكان الصرف في الجهة الموقوف عليها.

2 - تعليله للصرف في القُرُبات بأ نّها أقرب شيءٍ إلى مراد الواقف.

3 - تعليله لعدم الفرق بين القربات ونفي ترجيح أحدها على الآخر، باشتراك الجميع في أصل القربة.

وعليه، فلا وجه لترجيح بعض وجوه البرّ على بعضها الآخر بعد اشتراك الكلّ في القربة التي هي المقصود الأصلي والغائي في الوقف، كما أشار إلى ذلك العَلَمان المزبوران.

ولكن أشكل في المسالك على ذلك بقوله: «وفيه نظر: فإنّه لا يلزم من قصد القربة الخاصّة وإرادتها قصد القربة المطلقة، فإنّ خصوصيات العبادات مقصودة، ولا يلزم بعضها من إرادة بعض. والدعوى المشهورة - من أنّ المطلق جزءٌ من المقيَّد فقصده يستلزم قصدَه كما أنّ العلم به يستلزم العلم به - ممنوعة»(1).

وفيه: أنّ المفروض في هذه المسألة ما إذا تعذّرت المصلحة الخاصّة المقصودة ولم يمكن صرف العين الموقوفة في جهتها، كما أشار إليه المحقّق الكركي بقوله:

«هذا إذا لم يمكن صرف الوقف إليها...» وأشار إليه الشهيد نفسُه بقوله: «والقربة الخاصّة قد تعذّرت...».

وإشكال الشهيد يبتني على إمكان الصرف في المصلحة الخاصّة وعدم تعذّرها وهو خروج عن محلّ كلام الفقهاء في المقام وما هو المفروض في هذه المسألة.

********

(1) - مسالك الأفهام 347:5.

ص: 410

فإذا لم يمكن الصرف في المصلحة الخاصّة، لا دليل على تعلّق قصد الواقف على مصلحة اخرى قربية بخصوصها.

ومقتضى الأصل عند الشكّ عدمه. فلا لزوم للاحتياط، إلّاعلى وجه الحُسن والاستحباب، كما هو ظاهر السيّد الماتن.

هذا، مع أنّ في الوقف على الجهات - بل مطلق الأوقاف العامّة - يرجع الموقوف عليه في الحقيقة إلى مصالح المسلمين بقصد القربة، فهاتان الخصوصيتان إذا تحقّقتا يتحقّق روح مراد الواقف ومقصوده الأصلي، كما يظهر ذلك من ذيل كلام العَلَم المزبور. والواقف وإن قصد المصلحة الخاصّة، لكنّه إذا تعذّرت وانتفت، يبقى وجه القربة على اعتباره، بلا فرق بين سائر المصالح العامّة.

نعم، يأتي إشكال في الوقف الخاصّ. ولكن ما ورد في الشرع في نظائر ذلك - من الأمر بالصرف في وجوه البرّ وذهاب المشهور إلى ذلك - كافيان لإثبات المطلوب، مع عدم قابليتها للرجوع إلى الواقف بغير دليل، بعد الخروج عن ملكه، كما قال في جامع المقاصد، وقد سبق نقل كلامه آنفاً.

ونظيره ما جاء في كلام صاحب الحدائق(1). فإنّه قدس سره بعد الإشارة إلى النصوص

********

(1) - قال قدس سره: لا يخفى أنّ المسألة المذكورة وإن كانت غير منصوصة على الخصوص، إلّاأنّ لهانظائر في الشرع عديدة قد ورد الحكم فيها بما ذكره الأصحاب، ويرجع الجميع إلى أنّه مع تعذّر ما عيّنه المالك من وصيّة أو نذر أو نحو ذلك، ممّا يجب إنفاذه شرعاً، فإنّه مع تعذّر المصرف المخصوص يصرف في وجوه البرّ، ولا يرجع إلى الورثة، وإن خالف فيه بعض الأصحاب كما هنا، فأوجب ردّه إلى الورثة مع تعذّر المصرف، إلّاأنّه محجوج بالأخبار الدالّة على ما ذكرناه، فمن ذلك ما لو أوصى بأبواب عديدة من الوصايا فنسي باباً أو أبواباً، فإنّه يصرف في وجوه البرّ كما رواه المشايخ الثلاثة عن محمّد بن الريان: أنّه كتب إلى أبي

ص: 411

الآمرة بالصرف في وجوه البرّ الواردة في سائر الاُمور القربية، قال: «وهذه الأخبار وإن كان موردها الوصيّة كما في بعض، والهدي كما في آخر، والنذر كما في ثالث، ولم يتضمّن شيءٌ منها حكم الوقف، إلّاأنّها ممّا يتبادر منها إلى الفهم السليم والذهن القويم كون الوقف كذلك، فإنّ الجميع مشترك في الخروج عن المالك بما وقع من وقف أو وصيّة أو نذر أو نحوها، فعوده إليه عند تعذّر المصرف المخصوص يتوقّف على الدليل، ولا دليل»(1). ونظيره عن صاحب الجواهر(2).

********

(1) الحسن محمّد بن علي عليهما السلام يسأله عن إنسان أوصى بوصية، فلم يحفظ الوصي إلّاباباً واحداً منها كيف يصنع في الباقي؟ فوقّع عليه السلام: «الأبواب الباقية يجعلها في البرّ...» (أ) ومن ذلك ما رووه عن علي بن يزيد صاحب السابري عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديث طويل يتضمّن أنّه أوصى رجل بتركته إلى علي المذكور، وأمره أن يحجّ بها عنه، قال: فنظرت فإذا هو شيء يسير لا يكفي للحجّ، فسألت الفقهاء من أهل الكوفة فقالوا: تصدّق بها عنه، فتصدّق به ثمّ لقي بعد ذلك أبا عبداللّه عليه السلام فسأله وأخبره بما فعل، فقال: «إن كان لا يبلغ أن يحجّ به من مكّة فليس عليك ضمان وإن كان يبلغ ما [أن] يحجّ به من مكّة فأنت ضامن» (ب)، والتقريب فيه أنّه قرّره على الصدقة إذا لم يبلغ الحجّ به من مكّة، ولم يحكم بكونه ميراثاً.

وفي جملة وافرة من الأخبار ما يدلّ على أنّ ما أوصى به بالكعبة أو كان هدياً لها أو نذراً فإنّه يباع إن كان جارية ونحوها، وإن كان دراهم فإنّه يصرف في المنقطعين من زوّارها، معلّلين عليهم السلام ذلك بأنّ الكعبة لا تأكل ولا تشرب، فيصرف ذلك إلى المحتاجين من زوّارها (ج)، وهو مؤيّد لذلك. وقد تقدّمت الأخبار المشار إليها في آخر جلد كتاب الحجّ». راجع: الحدائق الناضرة 218:22-219.

(أ) - وسائل الشيعة 393:19، كتاب الوصايا، الباب 62، الحديث 1.

(ب) - وسائل الشيعة 421:19، كتاب الوصايا، الباب 87، الحديث 1.

(ج) - الكافي 2/242:4 و 3.

(1) - الحدائق الناضرة 219:22-220.

(2) - جواهر الكلام 45:28.

ص: 412

ثمّ إنّه وقع الكلام في أنّه هل يجب في المقام مراعاة الأقرب فالأقرب إلى المصلحة الموقوف عليها. وقد احتاط السيّد الماتن استحباباً مراعاة ذلك.

والوجه فيه أقربية المشابه إلى مراد الواقف. ولكن ردّه المحقّق الكركي بقوله:

«فإن قيل: صرفه في قربة تشابه تلك المصلحة التي بطل رسمها أقرب.

قلنا: لمّا بطل رسم المصلحة المخصوصة، وامتنع عود الوقف ملكاً كانت وجوه البِرّ كلّها بالنسبة إلى عدم تعلّق الوقف بها كلّها على حدّ سواء، لا أولوية لبعض على البعض الآخر، والمشابهة وغيرها سواء في عدم شمول العقد لها، ومجرّد المشابهة لا دخل لها في تعلّق الوقف بها، فيبطل القيد ويبقى أصل الوقف من حيث القربة»(1).

وأيضاً ناقش صاحب الجواهر في ذلك بقوله: «وربّما احتُمل وجوب الصرف في الفرض إلى ما شابه تلك المصلحة فيصرف وقف المسجد في مسجد آخر، والمدرسة إلى مثلها، اقتصاراً على المتيقّن، لاحتمال إرادة المثالية فيما ذكره مصرفاً في الوقف المراد تأبيده أو لفحوى ما دلّ على صرف آلات المسجد بعد اندراسه أو خرابه في مسجد آخر، على ملاحظة الشارع الأقرب إلى نظر الواقف.

ولكن قد عرفت إطلاق فتوى الأصحاب الذي مبناه ما قلناه، من استواء القرب كلّها في عدم تناول عقد الوقف لها، وعدم قصده إليها بخصوصها، فلا أولوية لبعضها على بعض بالنسبة إلى ذلك، ومجرّد المشابهة لا دخل لها في تعلّقه بها، فيبطل القيد، ويبقى أصل الوقف من حيث القربة فيصرف في كلّ فرد منها»(2).

********

(1) - جامع المقاصد 54:9.

(2) - جواهر الكلام 46:28.

ص: 413

(مسألة 63): إذا خرب المسجد لم تخرج عرصته عن المسجدية (1)، فتجري عليها أحكامها إلّافي بعض الفروض (2). وكذا لو خربت القرية التي هو فيها بقي المسجد على صفة المسجدية.

حكم ما لوخرب المسجد أو القرية التي هو فيها

1 - لا خلاف فيه، إلّامن أحمد بن حنبل(1) من العامّة، كما قال في جامع المقاصد. وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده في شيءٍ من ذلك من بيننا»(2).

فما حكم به السيّد الماتن في هذه المسألة إجماعي، لا خلاف بين فقهاءِ الإمامية حتّى من واحد منهم.

قال في جامع المقاصد في تعليل ذلك: «لأنّ وقف المسجد بمنزلة تحرير العبد، فلا يقبل التغيّر، ولبقاء الغرض المقصود من إعداده للعبادة لرجاء عود القرية وصلاة من يمرّ به»(3).

ولا يخفى: أنّ الوجه الأوّل لا يصلح للدليلية على هذه المسألة، بل إنّما يصلح وجهاً للمسألة السابقة، كما لا يخفى. نعم لا إشكال في تمامية الوجه الثاني في فرض إمكان الانتفاع من العرصة للمسجدية.

وزاد في المسالك في التعليل اقتضاء الوقف للتأبيد وعود المسجد الموقوف بعد خرابه إلى ملك الواقف ينافي التأبيد المأخوذ في الوقف.

********

(1) - المغني، ابن قدامة 250:6.

(2) - جواهر الكلام 107:28.

(3) - جامع المقاصد 82:9.

ص: 414

قال قدس سره: «لمّا كان الوقف مقتضياً للتأبيد، ووقف المسجد فكَّاً للملك - كما تقدّم - كتحرير العبد لم يكن خرابه ولا خراب القرية التي هو فيها ولا المحلّة موجباً لبطلان وقفه؛ لعدم منافاة ذلك الوقف؛ استصحاباً لحكم ما ثبت، ولبقاء الغرض المقصود من إعداده للعبادة؛ لرجاء عود القرية وصلاة مَن يمرّ به»(1).

ثمّ إنّه لا إشكال في المسألة فيما لو كان المسجد الموقوف واقعاً في غير الأرض المفتوحة عنوة من الأراضي المملوكة الشخصية.

وأمّا إذا كان المسجد الموقوف واقعاً في الأراضي المفتوحة عنوةً، فقد أشكل في المسالك بأنّ رقبة الأرض المفتوحة عنوة لمّا كانت ملكاً لعموم المسلمين من غير دخول في ملك أحد منهم، فلا يصحّ وقفها. وإنّما يصحّ الوقف تبعاً للآثار وهي البناء الواقع فيها. فالموقوف في الحقيقة نفس بناءِ المسجد الواقع في هذه الأراضي، لا رقبتها. وعليه فإذا خرب بناءُ المسجد يبطل الوقف بانعدام العين الموقوفة.

قال قدس سره: «هذا كلّه يتمّ في غير المبنيّ في الأرض المفتوحة عنوة؛ حيث يجوز وقفها تبعاً لآثار المتصرّف، فإنّه حينئذٍ ينبغي بطلان الوقف بزوال الآثار، لزوال المقتضي للاختصاص، وخروجه عن حكم الأصل، اللهمّ إلّاأن يبقى منه رسوم ولو في اصول الحيطان بحيث يعدّ ذلك أثراً في الجملة كما هو الغالب في خراب البناء فيكفي في بقاء الحكم بقاء الأثر في الجملة».

ولكن أجاب عنه في الجواهر بأنّ السيرة القطعية جارية من لدن عصر المعصومين عليهم السلام على اتّخاذ المساجد في الأراضي المفتوحة عنوة من غير دخل للبناء والآثار؛ ضرورة جريان أحكام المسجد على المساجد المبنيّة في أرض

********

(1) - مسالك الأفهام 397:5.

ص: 415

العراق ونحوها من الأراضي المفتوحة عنوة من زمن المعصومين من غير نكير.

قال قدس سره في جواب صاحب المسالك: «قلت: قد أشرنا في كتاب البيع إلى خروج ذلك بالسيرة القطعية على اتّخاذ المساجد فيها، وإجراء حكمها عليها من غير مدخلية للآثار في ذلك، ضرورة اقتضاء المسجدية الدوام والتأبيد، وحينئذٍ فلا وجه للحكم بمسجديتها لا على هذا الوجه، بل التزام عدم صيرورتها مسجداً حينئذٍ أولى، وإن كان هو مردوداً بالسيرة القطعية، بل بالمعلوم من الشرع من جريان أحكام المساجد على مساجد العراق ونحوه، وغيرها من المفتوحة عنوة»(1) وجوابه متين لا غبار عليه.

وأمّا ما جاء في كلام السيّد الماتن من استثناء بعض الفروض، فهو إشارة إلى موارد استثناء حرمة بيع الوقف، كما لو تعذّر تجديد بناء المسجد ولم يمكن الانتفاع من العرصة للمسجدية بوجه كأن تصير مستنفعاً بجريان الماء عليها، أو لغير ذلك.

وسيأتي البحث عن ذلك مفصّلاً إن شاء اللّه.

********

(1) - جواهر الكلام 107:28.

ص: 416

(مسألة 64): لو وقف داراً على أولاده أو على المحتاجين منهم، فإن أطلق فهو وقف منفعة، كما إذا وقف عليهم قرية أو مزرعة أو خاناً ونحوها يملكون منافعها، فلهم استنماؤها، فيقسّمون بينهم ما حصل منها - بإجارة وغيرها - على حسب ما قرّره الواقف من الكمّية والكيفية، وإن لم يقرّر كيفية في القسمة يقسّمونه بينهم بالسويّة. وإن وقفها عليهم لسكناهم فهو وقف انتفاع (1)، ويتعيّن لهم ذلك، وليس لهم إجارتها.

وقف المنفعة ووقف الانتفاع

اشارة

1 - حاصل كلام السيّد الماتن في المقام أنّ الوقف على الأشخاص عند الإطلاق من قبيل وقف المنفعة، وعند ما قيّده بالسكنى، بأن يقول مثلاً: «وقفت داري أو أرضي لسكنى أولادي، أو لسكنى المحتاجين»، يكون من قبيل وقف الانتفاع.

وذكر الفرق بين وقف المنفعة ووقف الانتفاع: أنّ في وقف المنفعة يجوز للموقوف عليهم الاستنماء من العين الموقوفة بأيّ نحو، ولو بإجارتها. ولكن في وقف الانتفاع لا يجوز الانتفاع بها إلّابالسكنى. ولمّا كان غرض الواقف سكنى الموقوف عليهم أنفسهم، لا يجوز لهم إسكان غيرهم بإجارة أو غيرها.

والوجه في ذلك، عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1). فإنّ إجارة العين في وقف المنفعة داخلة في غرض الواقف؛ لأنّها نوع استنماءٍ وانتفاع من العين. وهذا بخلاف الوقف للسكنى في وقف الانتفاع.

إن قلت: إنّ ذلك ينافي ملكية المنافع، بل العين الموقوفة للموقوف عليهم.

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 417

فكيف أنّ اشتراط ذلك أي اشتراط التصرّف الخاصّ على المشتري في المبيع المنتقل إليه في عقد البيع منافٍ لمقتضى عقد البيع، ويكون من قبيل الشرط الفاسد! فكذلك في المقام.

قلت: لم يرد في البيع عموم من الشارع نظير ما ورد عنه في باب الوقف. فإنّ عموم «الوقوف...» دلّ على أنّ تعيين كيفية الوقف وترسيم شكله - ولو بتحديد ملكية المنافع للموقوف عليهم - بيد الواقف. والملكية الشرعية كما أنّ أصلها بيد الشارع، فكذلك تعيين كيفيتها وتحديد حدّها. ومن هنا لا يجوز للموقوف عليهم التصرّفات الناقلة في العين الموقوفة.

إن قلت: فكيف قلتم: إنّ اشتراط ملكية بعض منافع الوقف لنفسه مخالف لمقتضى عقد الوقف؟ فكذلك في المقام.

قلت: سبق منّا أنّه فرق بين تخصيص الواقف بعض المنافع المتجدّدة لنفسه وبين تخصيصه الوقف ببعض منافع العين الموقوفة؛ لأنّ الأوّل منافٍ لخروج العين عن ملك الواقف بالوقف، دون الثاني، كما هو واضح. ومن هنا لا ينافي اشتراط ذلك ماهية الوقف.

هذا، ولكن هاهنا نكتة، وهي أنّه لو وقف الواقف داره أو بستانه أو مزرعته للانتفاع، فليُنظَر، فإن كان ظاهر كلامه - بحسب القرائن - إرادة خصوص السكنى من الانتفاع فهو، وإلّا فلو كان ظاهراً في مطلق الانتفاع لا خصوص السكنى، يكون في حكم وقف المنفعة. وظاهر الكلام يختلف باختلاف المقامات ففي وقف الأشجار والبساتين والمزارع والخانات المعدّ للإجارة، لا يبعد دعوى ظهور الكلام في وقف المنفعة، بخلاف وقف الدار ونحوها ممّا جرت العادة على انتفاع المالك بسكناه.

ص: 418

وحينئذٍ إن كفت لسكنى الجميع فلهم أن يسكنوها، وليس لبعضهم أن يستقلّ به ويمنع غيره. وإن وقع بينهم تشاحّ في اختيار الحجر، فإن جعل الواقف متولّياً يكون له النظر في تعيين المسكن للساكن، كان نظره وتعيينه هو المتّبع، ومع عدمه كانت القرعة هي المرجع. ولو سكن بعضهم ولم يسكنها بعض، فليس له مطالبة الساكن باُجرة حصّته إن لم يكن مانعاً عنه، بل هو لم يسكن باختياره أو لمانع خارجي. وإن لم تكف لسكنى الجميع فإن تسالموا على المهاياة أو غيرها فهو، وإلّا كان المتّبع نظر المتولّي من قبل الواقف لتعيين الساكن، ومع فقده فالمرجع القرعة، فمن خرج اسمه يسكن، وليس لمن لم يسكن مطالبته باُجرة حصّته (1).

كيفية انتفاع الموقوف عليهم من منافع الوقف

1 - ينبغي هاهنا تحرير مبنى السيّد الماتن في كيفية قسمة السكنى بين الموقوف عليهم وكذا قسمة منافع العين الموقوفة في وقف المنفعة.

ولتحرير مبنى السيّد الماتن في المقام ينبغي بيان مقتضى القاعدة في المقام، فنقول:

مقتضى القاعدة في كيفية انتفاع الموقوف عليهم وتصرّفهم في العين الموقوفة، تبعية ما قرّره الواقف، وذلك لعموم قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1).

وعليه فلو قرّر الواقف كيفية خاصّة في تصرّف الواقفين، يجب عليهم تبعية ذلك،

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 419

وكذا يجب على المتولّي رعاية ذلك، سواءٌ نصبه الواقف أم غيره.

وإذا لم يقرّر الواقف كيفية خاصّة، فلو نصب متولّياً لذلك، يجب العمل بما قرّره وعيّنه المتولّى ما دام لم يتخلّف عن ظاهر كلام الواقف ولم يتخطَّ عمّا قرّره الشارع من أحكام الوقف. وذلك لأنّ معنى نصبه لذلك توكيله في إعمال نظره. وإلّا فالأمر إلى الحاكم الشرعي فيجب تبعية من نصبه الحاكم من المتولّي، لما له من الولاية على مثل ذلك من الاُمور الحسبية التي لا يرضى الشارع بتركه وتعطيله بأيّ وجه ومن هنا لو لم يكن حاكماً، يجب تصدّي ذلك على المؤمنين.

ولا بدّ في القسمة من رعاية العدل والرجوع إلى القرعة في موارد توقّف تعيين المحِقّ عليه.

ولا يخفى: أنّه لو سبق بعض أفراد الموقوف عليهم إلى السكنى من غير منازع فسكن في الدار الموقوفة، لا يجوز للمتولّي ولا لغيره إخراجه وإسكان غيره بمجرّد طلبه، إلّاأن يقرّر الواقف أو الحاكم زماناً معيّناً لكلّ واحدٍ من السكنة لصرف الوقف في جميع أفراد الموقوف عليهم وعدم التبعيض والترجيح.

ودليل عدم جواز إخراج السابق إلى التصرّف ما ورد في النصوص أنّه: «من سبق إلى مكان فهو أحقّ به»(1).

********

(1) - وسائل الشيعة 405:17، كتاب التجارة، آداب التجارة، الباب 17، الحديث 1.

ص: 420

(مسألة 65): الثمر الموجود حال الوقف على النخل والشجر لا يكون للموقوف عليهم (1)، بل هو باق على ملك الواقف، وكذلك الحمل الموجود حال وقف الحامل. نعم، في الصوف على الشاة واللبن في ضرعها إشكال، فلا يترك الاحتياط.

حكم وقف النمائات الموجودة حال الوقف

1 - والوجه في ذلك أنّ وقف النخل والشجر ظاهر في تمليك منافعها الحادثة بعد الوقف؛ لأنّها الناشئة من الشجر والنخل الموقوف. وأمّا الثمر الموجود عليهما حال الوقف فقد نشأ منهما قبل زمان الوقف. ومن هنا يكون الثمر الموجود خارجاً عن ظاهر كلام الواقف.

وكذلك الكلام في الصوف على الشاة واللبن في ضرعها. ولكن يشكل الحكم بذلك في الصوف واللبن؛ نظراً إلى لحوقها بالشاة الموقوفة بل من أجزائها عُرفاً، والشاهد لذلك تبادرهما إلى الذهن من وقف الشاة. ومن هنا حَكَم المشهور بلحوقهما، خلافاً لصاحب الجواهر، سبق كلامه في المسألة الواحد والستّين.

ولا يخفى: أنّ ذلك كلّه إنّما هو مقتضى القاعدة عند إطلاق اللفظ. وأمّا مع وجود قرائن اللحوق الموجبة للظهور، فلا إشكال في دخول الموجود من النمائات حال إنشاء العقد في الوقف. وذلك مثل أن يقول الواقف: وقفت النخل والشجر بما عليهما من الثمار، والشاة بما لها من الحمل فإنّ دخول النمائات - الموجودة حال الوقف - في الوقف، إنّما هو بالقرينة لا لدخولها في مسمّى الموقوف عرفاً.

ص: 421

وهذا بخلاف مثل الصوف على ظهر الشاة واللبن في ضرعها حال الوقف؛ حيث يُعدّ عرفاً من ذلك الحيوان الموقوف ومن أجزائه.

ولا يخفى: أنّ احتياط السيّد الماتن في الصوف واللبن بصرفهما في الموقوف عليهم وجوبي؛ نظراً إلى ذهاب المشهور إلى ذلك، ولكنّه أقوى على وجه الفتوى.

وذلك لدخولهما في مسمّى الحيوان الموقوف عرفاً.

ثمّ إنّ ما وجّهنا به المسألة من المتفاهم العرفي، قد أشار إليه صاحب الشرائع بقوله: «نظراً إلى العرف» وحرّره الشهيد الثاني بقوله: «نبّه بالنظر إلى العرف على أنّ حقّهما أن لا يدخلا في الوقف، لأنّهما منافع خارجة عن حقيقة الشاة التي تعلّقت صيغة الوقف بها، لكن لمّا دلّ العرف على كونهما كالجزء منها تناولهما العقد كما يتناولهما البيع، بخلاف الحمل، فإنّه وإن كان بمثابتها في الاتّصال الذي هو في قوّة الانفصال إلّاأنّ العرف لم يجعله كالجزء، والأصل عدم دخوله كغيره»(1).

وعلى أيّ حال كأ نّهم اتّفقوا على خروج الثمار الموجودة عن وقف الأشجار وعدم دخولها في الموقوف عرفاً، كما يستفاد ذلك من الجواهر(2) والمسالك، والتحقيق إنّه لو كان إجماعٌ في البين فهو، وإلّا يشكل الحكم بالخروج عرفاً لما قلناه.

********

(1) - مسالك الأفهام 316:5-317.

(2) - جواهر الكلام 13:28.

ص: 422

(مسألة 66): لو قال: «وقفت على أولادي وأولاد أولادي» شمل جميع البطون كما مرّ، فمع اشتراط الترتيب أو التشريك أو المساواة أو التفضيل أو الذكورة أو الاُنوثة أو غير ذلك، يكون هو المتّبع، ولو أطلق فمقتضاه التشريك والشمول للذكور والإناث والمساواة وعدم التفضيل (1).

مقتضى إطلاق الوقف على الأولاد وأولاد الأولاد

اشارة

1 - إنّ الكلام في هذه المسألة يقع في ثلاث جهات:

إحداها: وجه شمول الوقف على أولاد الأولاد لجميع الطبقات.

ثانيتها: وجه شموله لأولاد البنات.

ثالثتها: وجه التسوية بين الجميع وعدم لزوم رعاية الأقرب فالأقرب.

أمّا الجهة الاُولى: فالوجه في الشمول عند الإطلاق أمران:

أحدهما: صدق عنوان أولاد الأولاد على الجميع عرفاً، ولو قلنا بعدم صدقه حقيقةً، ولا سيّما أولاد البنات، إلّاأنّ الصدق العرفي يكفي في إعطاء الظهور لكلام الواقفين وتعيين مرادهم.

ثانيهما: غلبة الدوام في الوقف على الأولاد. فلا محالة يشمل أولاد الأولاد من جميع البطون اللاحقة.

وغلبة الدوام إمّا بحسب الوجود أو بحسب الاستعمال. وظاهر كلام السيّد اليزدي - كما يأتي نصّ كلامه - الثاني. فالغلبة في الوجود؛ بأن كان الواقع المتحقّق في غالب موارد الوقف على أولاد الأولاد كون الوقف على نحو التأبيد والدوام، لا المنقطع. وقد حرّرنا في المجلّد الثاني من كتابنا «بدايع البحوث» أنّ الغلبة في

ص: 423

الوجود إنّما توجب الظهور فيما إذا بلغت حدَّ المتعارف كما في الغَسل المتعارف فيه غسل الوجه واليد من الأعلى إلى الأسفل.

فلو بلغت الغلبة الوجودية في الوقف على أولاد الأولاد إلى هذا الحدّ توجب الظهور في الدوام.

وأمّا الغلبة في الاستعمال؛ فبأن يغلب استعمال اللفظ في المعنى بحيث توجب كثرة الاستعمال انساً في الذهن بين ذلك اللفظ ومعناه بحيث يتبادر وينسبق المعنى إلى الذهن بمجرّد سماع ذلك اللفظ.

ولو كان استعمال صيغة الوقف على أولاد الأولاد في الدوام على هذا النحو، لا إشكال في تبادره إلى الذهن، وهو غير بعيد أيضاً عن مراد السيّد؛ لأنّه يرجع إلى الغلبة في الوجود؛ إذ وجود الصيغة إنّما هو بنفس الاستعمال.

واحتمل في العروة الانصراف إلى الصلبي من الطبقتين الاُولى والثانية ونسبه إلى المشهور. ولكن رجَّح شمول الجميع على السواء في ختام كلامه؛ معلّلاً لذلك بما قلناه؛ حيث قال: «إذا قال: وقفت على أولادي، انصرف إلى الصلبي، فلا يشمل أولاد الأولاد إلّامع القرينة، وكذا لو قال: وقفت على أولادي وأولاد أولادي. فإنّه يختصّ بالبطنين ولا يتعدّى إلى المرتبة الثالثة، وهكذا، إلّامع القرينة؛ وفاقاً للمشهور، خلافاً لجماعة فيشترك الجميع لصدق الولد على ولد الولد وهكذا؛ وفيه؛ بعد تسليم الصدق أنّ المنساق عرفاً عدم الشمول والانصراف إلى الصلبي.

والإنصاف أنّ دعوى الانسباق والانصراف إلى الصلبي محلّ تأمّلٍ، بل يمكن أن يقال: بالانصراف إلى الأعمّ وأ نّه ظاهر في إرادة الدوام سيّما في الصورة الثانية، وخصوصاً بملاحظة أنّ الغالب في الوقف على الأولاد إرادة الدوام، بل هو كذلك

ص: 424

ولو قلنا: إنّ ولد الولد ليس بولد حقيقةً»(1).

وقد جزم في الشرائع بالاختصاص بالبطنين من الصلب ووافقه في الجواهر(2).

ولكن لا دليل عليه غير الشهرة الفتوائية، وقد حُرّر في الاُصول عدم حجّيتها.

والعمدة في المقام هي صدق العنوان بحسب المتفاهم العرفي. والمعيار عرف الواقف؛ لأنّ «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها».

فمقتضى التحقيق الشمول لجميع البطون، كما قال السيّد الماتن.

وأمّا الجهة الثانية: فقد وقع الكلام في شمول أولاد الأولاد لأولاد البنات من الطبقة الثانية والثالثة. والتحقيق عدم شموله؛ خلافاً للرأي المشهور بين الأصحاب. وذلك لعدم صدقه عرفاً بخلاف أولاد أولاده الذكور، فإنّهم أولاد الواقف حقيقة، وإن نزلوا؛ لما عليه إجماع الأصحاب وصدق الأولاد عليهم عرفاً، كما سبقت الإشارة إلى ذلك آنفاً في كلام صاحب الجواهر نقلاً عن صاحب الرياض بقوله: «وأشكله في أولاد بنات أولاد الواقف، بناءً على المشهور بأ نّهم ليسوا بأولادٍ حقيقيةً لأولاده بخلاف أولاد أولاده الذكور، فإنّهم أولاد أولاد حقيقةً وإن نزلوا إجماعاً»(3).

وعلى أيّ حال فالمحكّم في مثل المقام هو العرف بمقتضى القاعدة في العناوين العرفية المحضة المأخوذة في موضوعات الأحكام الشرعية ومتعلّقاتها.

وقد بحثنا مفصّلاً عن هذه القاعدة في أقسام الموضوعات في المجلّد الأوّل من كتابنا «بدايع البحوث».

********

(1) - العروة الوثقى 329:6.

(2) - جواهر الكلام 106:28.

(3) - جواهر الكلام 104:28.

ص: 425

نعم، لو كان في المسألة إجماعٌ على دخول أولاد البنات من جميع الطبقات في الوقف على أولاد الأولاد يُتّبع، ولكن دون إثباته خرط القتاد بعد ما لاحظته من نسبة عدم الدخول إلى المشهور في كلام صاحبي الجواهر والرياض. نعم، نسب في الحدائق(1) إلى مشهور المتقدّمين شمول الوقف على الأولاد لكلّ من تناسل من الوقف ذكوراً وإناثاً، بل في الجواهر(2) إجماع الأصحاب على شمول الوقف على أولاد الأولاد لأولاد البنين والبنات، إلّاأنّ مرادهم أولاد البنات الصلبية في الطبقة الثانية، لا الثالثة والرابعة. ومن هنا أشكل عليهم صاحب الرياض على تعليل بعض الأصحاب للشمول، بناءً على المشهور من عدم كون أولاد البنات أولاداً، بقوله:

«أمّا لو أرادوا أولاد أولاد الإناث من الدرجة الثانية والثالثة وهكذا ففي شمول التعليل لهم مناقشة إن قلنا بالمشهور من أنّ أولاد البنات ليسوا بأولاد حقيقة، وذلك فإنّ أولاد بنات أولاد الواقف ليسوا حقيقة بأولاد لأولاده على هذا التقدير»(3) ثمّ أجاب عنه في الجواهر بعدم كون مرادهم جميع الطبقات، بل خصوص البطنين الأوّلين.

هذا مضافاً إلى أنّ المعيار في مثل المقام نظر العرف والمحكّم هو الصدق العرفي، كما أشار إليه في الجواهر، ولذلك أشكل على الإجماع المزبور بقوله:

«وإن كان هو محلّ تأمّل في عرفنا الآن، بل لعلّ الظنّ بالعدم»(4) وكلامه هذا مشعر بأنّ الإجماع المزبور مستند إلى الارتكاز العرفي المختصّ بعصر المتقدّمين وأ نّه

********

(1) - الحدائق الناضرة 216:22.

(2) - جواهر الكلام 103:28.

(3) - رياض المسائل 343:9.

(4) - جواهر الكلام 103:28.

ص: 426

ليس إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم.

وأمّا الشهرة في المقام ففتوائية غير مستندة إلى نصّ شرعي. ولا اعتبار بالشهرة الفتوائية، كما قلنا.

وأمّا الجهة الثالثة: فالوجه في التسوية بين جميع البطون اللاحقة - على فرض الشمول لهم - أمران:

أحدهما: استواءُ الجميع في صدق عنوان الأولاد واستواء نسبتهم إلى سبب اشتراكهم في الاستحقاق.

ثانيهما: أصالة عدم التفاضل بغير دليل، والسرّ في ذلك صدق عنوان الأولاد على الجميع بالسوية عرفاً، واحتياج التفاضل إلى الدليل، وهو مفقود مع الاستواء.

وقد أشار المحقّق الكركي إلى هذا الوجه في جامع المقاصد بقوله: «وأمّا كونه بالسوية؛ فلأنّ الأصل عدم التفاضل مع اشتراكهم في سبب الاستحقاق واستواء نسبتهم إليه»(1).

نعم، لو كان المتفاهم عرفاً في عرف خاصّ، أو لقرينةٍ خاصَّة لزوم رعاية الأقرب فالأقرب إلى الميّت وعدم وصول النوبة إلى الأولاد مع وجود الآباء، بحيث ينكشف ذلك عن قصد الواقف فهو المتّبع؛ نظراً إلى عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»، فبأيّة قرينة انكشف قصد الواقف يجب اتّباعه.

********

(1) - جامع المقاصد 92:9-93.

ص: 427

ولو قال: «وقفت على أولادي، ثمّ على أولاد أولادي»، أفاد الترتيب بين الأولاد وأولاد الأولاد قطعاً، وأمّا بالنسبة إلى البطون اللاحقة فالظاهر عدم الدلالة على الترتيب، فيشترك أولاد الأولاد مع أولادهم، إلّاإذا قامت القرينة على أنّ حكمهم كحكمهم مع الأولاد؛ وأنّ ذكر الترتيب بين الأولاد وأولاد الأولاد من باب المثال، والمقصود الترتيب في سلسلة الأولاد؛ وأنّ الوقف للأقرب فالأقرب إلى الواقف (1).

إفادة الترتيب بين الأولاد وأولاد الأولاد

1 - والوجه في إفادة الترتيب بين الأولاد وبين أولاد الأولاد إنّما هو دلالة لفظة «ثمّ» على ذلك وضعاً، كما هو واضح. وأمّا عدم الدلالة على الترتيب بين البطون اللاحقة، فالوجه فيه صدق أولاد الأولاد على جميعهم بالسوية.

ولكنّه بناءً على شمول لفظ أولاد الأولاد لجميع البطون اللاحقة؛ لغلبة الاستعمال، كما سبق آنفاً. وأمّا لو قلنا باختصاصه بالبطن الثاني كما يظهر من المشهور في الفرع السابق، فلا يشمل جميع البطون اللاحقة.

ومن أجل ذلك أشكل صاحب الجواهر على صاحب الرياض بقوله: «ولا يخفى عليك أنّ المراد هنا بيان اندراج أولاد البنين والبنات في الدرجة الاُولى في أولاد الأولاد، لصدق الولد على الذكر والاُنثى، لا بيان دخول أولاد أولاد الذكور من الدرجة الثانية والثالثة وهكذا، كما احتمله في الرياض، وأشكله في أولاد بنات أولاد الواقف، بناءً على المشهور بأ نّهم ليسوا بأولاد حقيقة لأولاده بخلاف أولاد أولاده الذكور، فإنّهم أولاد أولاد حقيقة، وإن نزلوا إجماعاً؛ إذ هو كماترى منافٍ

ص: 428

(مسألة 67): لا ينبغي الإشكال في أنّ الوقف بعد تماميته، يوجب زوال ملك الواقف عن العين الموقوفة إلّافي منقطع الآخر الذي مرّ التأمّل في بعض أقسامه. كما لا ينبغي الريب في أنّ الوقف على الجهات العامّة، كالمساجد والمشاهد والقناطر والخانات والمقابر والمدارس، وكذا أوقاف المساجد والمشاهد وأشباه ذلك، لا يملكها أحد، بل هو فكّ الملك وتسبيل المنافع على جهات معيّنة (1).

لما تسمعه منهم بلا خلاف من اختصاص الوقف على أولاده وأولاد أولاده بالبطنين فيما لو قال: أولادي، وأولاد أولادي، لدعوى الانصراف عرفاً فلا وجه لاحتمال إرادتهم هنا ما ذكره كما هو واضح»(1).

ولكنّ التحقيق في أمثال المقام تبعية المتفاهم العرفي من كلام الواقفين.

حكم ملكية العين الموقوفة

1 - هذه المسألة بتفصيلها قد سبق البحث عنها في شرح المسألة السابعة عشر.

والكلام واقع في مقامين: أحدهما: زوال ملك الواقف بالوقف.

ثانيهما: دخول الموقوف في ملك الموقوف عليه.

ونتعرّض هاهنا إلى حاصل الكلام.

أمّا في المقام الأوّل: فالمشهور شهرة عظيمة قريبة بالإجماع زوال ملك الواقف بالوقف؛ خلافاً لأبي الصلاح من علمائنا وجماعة من علماء العامّة، كما قال

********

(1) - جواهر الكلام 104:28.

ص: 429

وأمّا الوقف الخاصّ كالوقف على الأولاد، والوقف العامّ على العناوين العامّة كالفقراء والعلماء ونحوهما، فهل يكون كالوقف على الجهات العامّة لا يملك الرقبة أحد؛ سواء كان وقف منفعة؛ بأن وقف ليكون منافع الوقف لهم، فيستوفونها بأنفسهم أو بالإجارة أو ببيع الثمرة وغير ذلك، أو وقف انتفاع كما إذا وقف الدار لسكنى ذرّيته أو الخان لسكنى الفقراء، أو يملك الموقوف عليهم رقبته ملكاً غير طلق مطلقاً، أو تفصيل بين وقف المنفعة ووقف الانتفاع، فالثاني كالوقف على الجهات العامّة دون الأوّل، أو بين الوقف الخاصّ فيملك الموقوف عليه ملكاً غير طلق، والوقف العامّ فكالوقف على الجهات؟ وجوه. لا يبعد أن يكون اعتبار الوقف - في جميع أقسامه - إيقاف العين لدرّ المنفعة على الموقوف عليه، فلا تصير العين ملكاً لهم، وتخرج عن ملك الواقف إلّا في بعض صور المنقطع الآخر، كما مرّ.

في المسالك والحدائق(1).

وقد استُدلّ للبقاء، وهو خلاف المشهور.

أوّلاً: بما رواه العامّة عن النبي صلى الله عليه و آله: «حبّس الأصل وسبّل الثمرة»(2)؛ بدعوى دلالته على أنّ حقيقة الوقف تحبيس العين الموقوفة في سلطة الواقف.

وقد ردّه في المسالك والحدائق والجواهر(3) بأنّ المراد تحبيس الأصل في ملك الموقوف عليه، بحيث لا يُباع ولا يوهب ولا يورث. مع أنّ احتمال إرادة ذلك يُبطل

********

(1) - مسالك الأفهام 375:5؛ الحدائق الناضرة 223:22-224.

(2) - سنن ابن ماجة 2397/801:2؛ السنن الكبرى، البيهقي 162:6.

(3) - مسالك الأفهام 376:5؛ الحدائق الناضرة 224:22؛ جواهر الكلام 88:28.

ص: 430

الاستدلال المزبور، مضافاً إلى أنّ الحبس المصطلح بين الفقهاء بدلالة ما دلّ عليه من النصوص مقابل للوقف وقسيمه. ولكنّه بناءً على توجيه هذا المستدلّ عين الوقف. وهو خروج عن النصّ والفتوى وهذا قرينة على عدم إرادة معنى الحبس المصطلح في النبوي المزبور.

وأمّا ضعف سند النبوي، فمنجبر بفتوى المشهور بأخذ تحبيس العين في تعريف الوقف.

وثانياً: بما أفتى به الفقهاء من جواز إدخال الواقف من يريده في الوقف مع صغر أولاد الموقوف عليهم. فإنّ ذلك يتوقّف على بقاء ملك الواقف بعد الوقف.

واُجيب عنه بأنّ ذلك إنّما ثبت بالنصّ(1)، مع أنّه محلّ كلام، بل منع.

واستُدلّ للمشهور - وهو زوال ملك الواقف بالوقف - بوجوهٍ:

1 - لا إشكال ولا كلام في زوال حقّ التصرّف والانتفاع بالموقوف للمالك دائماً بسبب الوقف، ولازم ذلك زوال الملك.

وناقش فيه صاحب العروة(2) بأ نّه لا مانع من بقاءِ العين على ملك مالكها، وإن كان ممنوعاً عن منافعها أبداً، كما لو آجر داراً أو دابّة أزيد من مدّة عمره.

ويمكن ردّه: أوّلاً: بأنّ في الإجارة تنتقل العين بجميع منافعها إلى الموجر أو ورثته بعد انتهاءِ أمد الإجارة، بخلاف الوقف.

وثانياً: بجواز الفسخ والإقالة في الإجارة. والفسخ والإجارة كليهما من شؤون المالكية وإعمال سلطة المالك. وهذا بخلاف الوقف، فلا يمكن شيءٌ من ذلك فيه.

********

(1) - وسائل الشيعة 183:19-184، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 5، الحديث 2 و 3 و 5.

(2) - حيث قال: إذ لا مانع من بقاء العين على ملك مالكها وإن لم يكن له منفعتها أبداً، كما إذاآجر دابّة أزيد من مدّة عمرها. راجع: العروة الوثقى 349:6.

ص: 431

وثالثاً: بجواز بيع العين المستأجرة، فتنقل به إلى ملك المشتري بعد انتهاءِ أمد الإجارة ولو بعد موته، فيمنع عن توريث العين المستأجرة بخلاف الوقف.

2 - لو كان الموقوف باقياً في ملك الواقف، لرجعت إليه قيمته بعد بيعه. والتالي باطل فالمقدّم مثله.

وردّ ذلك بإمكان كونه في ملكه محبوساً بحيث لا يباع ولا يوهب.

ولا يخفى: أنّ هذا الرّد إنّما يناسب الاستدلال بعدم جواز التصرّفات الناقلة، ولكنّه ليس مقصود المستدلّ، بل ظاهره الاستدلال بفتوى الأصحاب بصرف قيمة العين الموقوفة في جهة الوقف، من غير انتقالها إلى المالك في موارد توقّف الانتفاع على بيعها.

والجواب: أنّ وجوب صرف القيمة في جهة الوقف - في مفروض المسألة - إنّما هو لدلالة النصّ الخاصّ(1)، لا بمقتضى الوقف، حتّى يقتضي بنفسه وذاته زوال ملك الواقف.

3 - ما ورد في نصوص أوقاف الأئمّة عليهم السلام(2) من التعابير الظاهرة في زوال ملك الواقف بالوقف، كقوله عليه السلام: «حبساً بتّاً بتلاً مبتوتةً لا رجعة فيها ولا ردَّ»(3) وقوله عليه السلام: «صدقة واجبة بتلةً حيّاً أنا أو ميّتاً يُنفق في كلّ نفقة أبتغي بها وجه اللّه»(4). وهذا الاستدلال من صاحب الحدائق.

ويمكن المناقشة في دلالتها: بأنّ غاية مدلولها زوال ملك الواقف في خصوص

********

(1) - وسائل الشيعة 188:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 6، الحديث 5، 6، 7، 8 و 9.

(2) - وسائل الشيعة 198:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10.

(3) - وسائل الشيعة 203:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 4.

(4) - وسائل الشيعة 200:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 3.

ص: 432

هذه الأوقاف بقرينة ما ورد فيها من التعابير الخاصّة، ولا تثبت بذلك كبرى زوال ملك الواقف بنفس الوقف، مع قطع النظر عن القرائن والتعابير المزبورة. هذا، مع أنّ هذه النصوص لا تفيد أكثر من بيان فعل المعصوم المتضمّن لكيفية إنشاء الوقف.

والفعل لا عموم ولا إطلاق له.

4 - ويمكن الاستدلال لزوال ملك الواقف وحرمانه عن مطلق التصرّفات والانتفاعات بارتكاز المتشرّعة الناشئة من سيرتهم الجارية المستقرّة في باب الأوقاف، مع عدم وصول ردع من الشارع، بل النصوص الشرعية شاهدة، بل مُمضيةٌ لهذه السيرة.

وأمّا ما يظهر من صاحب العروة(1) من الاستشهاد بارتكاز العقلاء وسيرتهم الجارية على ذلك، مع تأييد النصوص، ففيه: أنّ الوقف المعهود في الشرع إنّما هو من التوقيفيات الشرعية - بناءً على التحقيق السابق بحثه مفصّلاً - لا من الاُمور العقلائية. وعلى فرض جريان سيرة العقلاء على أصل الوقف في الجملة، يشكل إحراز جريانها بحيث ينقطع فيه ملك الواقف عن العين الموقوفة بحيث لا ترجع إليه قيمتها بعد بيعها لعلّةٍ.

فلا بدّ من الاستدلال فيه بسيرة المتشرّعة التي هي وليدة النصوص الشرعية، ويُحرز فيها قطع العلقة الملكية عن المالك بالمرّة.

المقام الثاني: في أنّه هل يدخل الموقوف في ملك الموقوف عليه؟

ولا يخفى: أنّه لا كلام في دخول منافع العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه بنفس الوقف.

********

(1) - العروة الوثقى 349:6.

ص: 433

وإنّما الكلام في انتقال رقبة العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه بالوقف. وهو المشهور؛ لذهاب أكثر الفقهاء إلى ذلك، كما صرّح به في المسالك بقوله: «فذهب الأكثر - ومنهم المصنّف - إلى أنّه ينتقل إلى الموقوف عليه»(1).

ولا يخفى: أنّ الضمير الفاعلي في قوله «ينتقل» يرجع إلى الموقوف، ومقصوده من الموقوف العين الموقوفة.

وقال في الجواهر - بعد تقوية ذلك والاستشهاد بآراء القدماء والمتأخّرين -:

«بل في المسالك نسبة ما في المتن إلى الأكثر وعن غيرها إلى المشهور»(2) وجعله في الحدائق(3) أشهر الأقوال.

وقد استُدلّ للقول المشهور بوجوهٍ:

1 - ما استدلّ به في الشرائع وأوضحه في المسالك(4)، وحاصله:

إنّ الموقوف مال مملوك مضمون، والمضمون له إمّا هو الواقف أو الموقوف عليه، ولا ضمان لغيرهما قطعاً، ومالكية الواقف قد ثبت بطلانها آنفاً. فينحصر المضمون له في الموقوف عليه. ولا ينافي ذلك منعه من التصرّفات الناقلة بمقتضى التحبيس المأخوذ في ماهية الوقف؛ لعدم منافاة المنع من البيع مع الملك كما في امّ الولد؛ حيث إنّها مملوكة للمولى مع عدم جواز بيعها له.

ويمكن نقض الاستدلال المزبور بسهم اللّه في الخمس فإنّه ملكٌ للّه اعتباراً والمضمون له هو وليّ الأمر، لا طرفي الانتقال، وهما المكلّف واللّه تعالى. اللهمّ إلّا

********

(1) - مسالك الأفهام 376:5.

(2) - جواهر الكلام 88:28-89.

(3) - الحدائق الناضرة 225:22.

(4) - راجع: مسالك الأفهام 376:5.

ص: 434

أن يُدّعى الإجماع في المقام - ولو مركّباً - بانحصار المضمون له في الواقف والموقوف عليه. ودون إثبات هذا الإجماع خرط القتاد في الوقف على الجهات بل في الوقف العامّ بعد ذهاب جمع إلى خروج العين الموقوفة عن ملك الآدميين ودخوله في ملك اللّه.

ولكن يمكن ردّ النقض المزبور بأنّ الحاكم ليس في باب الخمس هو المضمون له، بل المضمون له أرباب الخمس - من الإمام والسادات - وإنّما للحاكم الولاية على الصرف. وكذلك في باب الوقف، فإنّ المضمون له هو الموقوف عليه وإنّما للحاكم الولاية على صرف الموقوف في جهة الوقف.

2 - دلالة قوله عليه السلام: «وهي لمن حضر البلد» في مكاتبة علي بن محمّد بن سليمان النوفلي قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام أسأله عن أرض وقفها جدّي على المحتاجين من ولد فلان بن فلان، وهم كثير متفرّقون في البلاد، فأجاب:

«ذكرت الأرض التي وقفها جدّك على فقراء ولد فلان وهي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف، وليس لك أن تتبّع من كان غائباً»(1).

وجه الدلالة ظهور اللام - في قوله: «وهي لمن حضر البلد» - في الملكية.

وضمير «هي» يرجع إلى الأرض الموقوفة.

وناقش فيه صاحب المسالك(2) بأنّ التعبير المزبور لو أفاد الملك لما كان وجهٌ لاختصاصه بمن حضر في البلد، بل مقتضاه كون الأرض الموقوفة ملكاً لعنوان فقراء ولد فلان. فيُعلم من ذلك أنّ اللام ليست للملكية، بل المقصود جواز اختصاص صرف فوائد الأرض الموقوفة بمن حضر في البلد وعدم وجوب

********

(1) - وسائل الشيعة 193:19-194، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 8، الحديث 1.

(2) - مسالك الأفهام 377:5.

ص: 435

الفحص والتتبّع عن الغائبين.

هذا من جهة الدلالة وأمّا سنداً، فهي ضعيفة بموسى بن جعفر الواقع في سنده؛ للجهل بحاله. وأمّا النوفلي، فالأقوى عندنا اعتبار رواياته؛ نظراً إلى شهرته ومعروفيته ونقل الأجلّاء عنه وشمول التوثيق العامّ له وعدم ورود أيّ قدح فيه.

3 - قوله عليه السلام في صحيحة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه السلام. قال: سألته عن الرجل يقف الضيعة ثمّ يبدو له أن يحدث في ذلك شيئاً. فقال عليه السلام: «إن كان وقفها لولده ولغيرهم ثمّ جعل لها قيّماً لم يكن له أن يرجع فيها. وإن كانوا صغاراً وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها. وإن كانوا كباراً ولم يسلّمها إليهم ولم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه فله أن يرجع فيها، لأ نّهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا»(1)؛ حيث دلّ بظاهره على اعتبار حيازة الوليّ - الذي هو الواقف في مفروض سؤال الراوي - الضيعة الموقوفة وقبضها عن جانب المولّى عليه. ولا معنى لقبض المالك ملكه عن جانب غيره، كما لا معنى للقبض عن جانب شخص إلّاإذا كان المقبوض ملكاً لذلك الشخص المقبوض عنه.

فقوله عليه السلام: «فيحوزها لهم» يدلّ بظاهره أوّلاً: على خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف، وثانياً: على دخولها في ملك الموقوف عليهم الصغار.

وبهذا التقريب تتمّ دلالة هذه الصحيحة على المطلوب.

ومثله في الدلالة قوله عليه السلام في صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الصدقة إذا لم تقبض هل تجوز لصاحبها؟ قال: «إذا كان أب تصدّق بها على ولد صغير فإنّها جائزة؛ لأنّه يقبض لولده إذا كان صغيراً، وإذا

********

(1) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 4.

ص: 436

كان ولداً كبيراً فلا يجوز له حتّى يقبض»(1).

بتقريب: أنّه لو لم تخرج العين الموقوفة عن ملك الواقف، لا يُعقل قبضه عن جانب ولده الموقوف عليه. وجه الملازمة عدم معقولية قبض المالك مال نفسه الذي بيده عن جانب غيره.

فلا إشكال في دلالة هذه الرواية على خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف.

وأمّا دلالتها على دخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه، فالوجه فيه ظهور قبض الأب عن جانب الولد في ذلك. ولا ينقض ذلك بقبض المستأجر العين المستأجرة مع عدم دخولها في ملكه، فضلاً عن وكيله في القبض، فكيف أنّ الأب إذا قبضها لولده المستأجر لا ينافي عدم ملكيتها للولد؟ فكذلك في المقام.

وجه عدم النقض أنّ هناك قرينة قطعية - وهي ضرورة الفقه واتّفاق النصّ والفتوى - على عدم دخول العين المستأجرة في ملك المستأجر، بخلاف باب الوقف، وإلّا لم يقع الخلاف في المقام. والقبض عن المستأجر إنّما لا يدلّ على ملكية المقبوض له هناك لأجل وجود القرينة، ولا قرينة في المقام.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ غاية مدلول قوله: «فيحوزها لهم» كون الأب قيّماً لهم في نفس القبض، من دون نظر إلى كون العين الموقوفة ملكاً لهم أم لا. ومجرّد كون شخص قيّماً على القبض عن الغير وكون قبضه مشروعاً، لا يدلّ على كون المقبوض ملكاً لذلك الغير؛ لصحّة القبض وصحّة التعبير بقوله: «فيحوزها لهم» باعتبار ولايته على القبض.

ولكنّه مشكل؛ إذ لا يخلو التعبير بقوله: «فيحوزها لهم» من دلالة على دخول

********

(1) - وسائل الشيعة 236:19، كتاب الهبات، الباب 5، الحديث 5.

ص: 437

العين الموقوفة في سلطة مالكية الولد بالوقف أوّلاً، ثمّ يقبضها الأب من جانبه، إلّا أن يقال: إنّ في صحّة قبضه عنه يكفي ثبوت مجرّد حقّ القبض له في الرتبة السابقة.

وعلى أيّ حال فقد يشكل القول بدخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليهم في الوقف على جهات الخير القربية، بل التحقيق فكُّها وتحريرها عن ملك الآدميين ودخولها في ملك اللّه تعالى. وهذا بخلاف الأوقاف الخاصّة؛ نظراً إلى ترتّب آثار الملك للموقوف عليه، ولأ نّه المضمون له، كما جاءَ في كلام الشهيد.

ولكن يمكن الجواب: بأنّ في الأوقاف العامّة وعلى الجهات أيضاً تترتّب آثار الملك للموقوف عليهم وهم المضمون لهم، بلا فرق.

أمّا سنداً فالأقوى صحّة سندها؛ لما بيّنّاه في كتابنا «مقياس الرواة» من صحّة طريق صاحب الوسائل إلى كتاب علي بن جعفر.

واستُدلّ للقول بانتقال الموقوف إلى ملك اللّه بمجرّد وقفه؛

أوّلاً: بأنّ الوقف إزالة الواقف ملكه عن مملوكه في سبيل اللّه، وهذا كافٍ في الانتقال إلى ملك اللّه.

وثانياً: بأ نّه ممنوع عن البيع بعد الوقف، كالمعتَق. فكيف أنّ المعتَق لا يدخل في ملك الآدميين؟ فكذلك في الموقوف.

واُجيب أوّلاً: بمنع كفاية كون الوقف إزالة الواقف ملكه عن ماله في سبيل اللّه لدخول العين الموقوفة في ملك اللّه؛ نظراً إلى وضوح إمكان دخولها في ملك الموقوف عليه محبَّساً على وجه القربة.

وثانياً: بأنّ قياس المعتَق بالموقوف مع الفارق، لصيرورة المعتَق حرّاً بالعتق، والحرّ لا يدخل في ملك أحد.

ص: 438

وثالثاً: إنّ العتق إيقاع لا يتضمّن النقل والتمليك؛ بخلاف الوقف، فإنّه عقدٌ متضمّن لنقل منافع العين الموقوفة وتمليكها للموقوف عليه قطعاً. وإنّما الكلام في نقل العين الموقوفة، فلا يقاس الوقف بالعتق.

وقد ذهب في المسالك(1) إلى التفصيل بين الوقف الخاصّ وبين الوقف العامّ وعلى الجهات، فحكم بدخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليهم في الوقف الخاصّ، دون الوقف على الجهات والوقف العامّ وعلّل ذلك بأنّ الوقف على الجهة تحرير الملك وفكّه كتحرير العبد وعتقه. ومن هنا لا يُشترط فيه قبول الحاكم ولا قبضه، بل يكفي مجرّد تصرّف بعض أفراد الموقوف عليه في جهة الوقف. وهذا دليل على دخول الموقوف في ملك اللّه. وكذلك الوقف العامّ؛ حيث لا يُشترط فيه قبول أفراد الموقوف عليه، بل يكفي قبض الحاكم بل قبوله، على قول.

ويمكن النقاش فيه:

أوّلاً: بأنّ المعتَق يصير حرّاً بالعتق، والحُرّ لا يدخل في ملك أحد، بخلاف الموقوف. وأمّا ملكية الحرّ للّه تعالى فهي تكوينية وملكية الموقوف اعتبارية.

فالقياس مع الفارق.

وثانياً: بأنّ العتق إيقاع متضمّن لمجرّد تحرير الملك وفكّه، لا تمليك المال ونقله، بخلاف الوقف، كما سبق آنفاً.

وثالثاً: بأنّ كفاية قبض القيّم والحاكم في الوقف العامّ من أجل كون قبضهما بمنزلة قبض الموقوف عليهم؛ نظراً إلى ولايتهما عليهم وعدم إمكان قبض جميعهم، فلا ينافي ذلك دخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليهم، بل يؤكّده.

********

(1) - مسالك الأفهام 377:5.

ص: 439

ورابعاً: بأنّ في كفاية صلاة مؤمن أو دفنه في وقف المسجد أو المقبرة، قد اشترط الفقهاء كون ذلك بنيّة القبض أو محقّقٌ للقبض عن الموقوف عليه عرفاً، كما قال في العروة(1).

هذا حاصل الكلام في المقام. وقد سبق تفصيل المقال في شرح المسألة السابعة عشر.

ولا يخفى: أنّه لم يظهر من السيّد الماتن قدس سره أنّ العين الموقوفة ينتقل إلى ملك أيّ أحد، حيث لم يتعرّض لذلك بعد نفيه دخولها في ملك الموقوف عليه بعد خروجها عن ملك الواقف؛ حيث إنّه - بعد تحرير الأقوال والوجوه في المسألة - قال في ختام كلامه:

«لا يبعد أن يكون اعتبار الوقف في جميع أقسامه إيقاف العين لدرّ المنفعة على الموقوف عليه، فلا تصير العين ملكاً لهم وتخرج عن ملك الواقف».

ولكنّك قد عرفت ممّا حقّقناه دخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه مطلقاً كما عليه المشهور؛ نظراً إلى ترتّب آثار الملك للموقوف عليه، ولأ نّه المضمون له مطلقاً، سواءٌ كان من الأشخاص الحقيقي كما في الأوقاف الخاصّة، أو من الأشخاص الحقوقي كما في الأوقاف العامّة وفي الأوقاف على الجهات الراجعة إلى الأوقاف العامّة، كوقف الأرض أو البناء على المؤمنين في جهة المسجدية أو الاستشهاد ونحو ذلك.

ولا فرق بين الوقف الخاصّ والوقف العامّ وعلى الجهات، ولا بين وقف المنفعة ووقف الانتفاع، بل لا معنى لوقف المنفعة بما هي؛ نظراً إلى أخذ تحبيس الرقبة في

********

(1) - العروة الوثقى 289:6.

ص: 440

(مسألة 68): لا يجوز تغيير الوقف (1) وإبطال رسمه وإزالة عنوانه ولو إلى عنوان آخر، كجعل الدار خاناً أو دكّاناً أو بالعكس. نعم، لو كان الوقف وقف منفعة، وصار بعنوانه الفعلي مسلوب المنفعة أو قليلها في الغاية، لا يبعد جواز تبديله إلى عنوان آخر ذي منفعة، كما إذا صار البستان من جهة انقطاع الماء عنه أو لعارض آخر لم ينتفع به، بخلاف ما إذا جعل داراً أو خاناً.

ماهية الوقف. ومن هنا لا بدّ من كون الانتقال إلى الموقوف عليهم على نحو تحبيس العين. ولازم ذلك عدم جواز شيءٍ من التصرّفات الناقلة لهم.

عدم جواز تغيير عنوان الوقف ومورد استثنائه

1 - قد سبق الكلام مفصّلاً في حكم تغيير الموقوف عليه بعد تمامية الوقف بإخراج بعض الموقوف عليهم أو إدخال الغير فيهم. وقلنا هناك: إنّ مقتضى القاعدة عدم الجواز مطلقاً، بالاشتراط أو بغيره، ولكن مقتضى النصوص(1) جواز ذلك بالاشتراط لخصوص الوالد في وقف ماله على أولاده الصغار، بل يستفاد من بعضها(2) جواز ذلك للوالد الواقف مطلقاً، ولو بغير اشتراطه.

ولكنّ الكلام هاهنا في حكم تغيير الوقف. ومقتضى القاعدة في المقام عدم جواز أيّ تغيير في الوقف، إلّاإذا اشترطه الواقف حين الإنشاء.

وذلك لدلالة عموم قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(3) على عدم

********

(1) - وسائل الشيعة 183:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 5.

(2) - وسائل الشيعة 183:19-185، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 5، الحديث 2 و 3 و 5.

(3) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 441

جواز أيّ تغيير في الوقف، إلّاما كان على حسب ما اشترطه الواقف وعلى نحو وشكل رسمه صورة الوقف في متن إنشائه. ولا إشكال في تمامية هذه الطائفة من النصوص سنداً ودلالةً. وقد سبق في مطاوى البحوث السابقة تنقيح سندها وتقريب دلالتها، فلا نعيد. فلا بدّ من العمل بما اشترطه الواقف حين الإنشاء ولا يجوز التخطّي عنه بمقتضى دلالة العموم المزبور على جواز ترسيم شكل الوقف وتصويره بأيّ شكل وصورة وهيئة رسمها وصوَّرها الواقف حين إنشائه.

نعم، لو خربت العين الموقوفة وسقطت عن حيّز الانتفاع المقصود من الوقف يجوز تغييرها وتبديلها ولو ببيعها لإصلاحها وإعدادها للانتفاع في جهة الوقف أو أقرب الجهات إلى غرض الواقف.

وسيأتي البحث عن ذلك مفصّلاً في مستثنيات منع بيع الموقوف، إن شاء اللّه.

وأمّا اختياراً فلا يجوز، كما أشار إليه في الجواهر؛ مستشهداً بما حُكي عن التذكرة، بقوله: «نعم، قد يشكل تغييرها اختياراً كما نصّ عليه في محكيّ التذكرة قال: لا يجوز تغيير الوقف عن هيئته، فلا يجوز جعل الدار الموقوفة بستاناً ولا حمّاماً، ولا بالعكس، ولو تعذّر الاستمرار صار إلى أقرب الأوصاف»(1).

والدليل على ذلك فقد عرفت أنّه عموم قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»، بالتقريب المزبور؛ مضافاً إلى تسالم الفقهاء على ذلك، حيث لم ينقل الخلاف في ذلك من أحد.

وأيضاً قد يستدلّ لذلك بقول الإمام الكاظم عليه السلام: «لا يحلّ لمؤمن يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يبيعها ولا يبتاعها ولا يهبها ولا ينحلها ولا يغيّر شيئاً ممّا وصفته

********

(1) - جواهر الكلام 108:28.

ص: 442

عليها حتّى يرث اللّه الأرض ومن عليها»(1).

هذه الرواية صحيحة سنداً بطريقين؛

أحدهما: ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان بن يحيى عن عبدالرحمان بن الحجّاج. فلا يضرّ وقوع علي بن السندي في طريقه الآخر.

وثانيهما: ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن صفوان عن عبدالرحمان بن الحجّاج، بل لها طُرق اخرى صحيحة للصدوق والكليني ذكرها صاحب الوسائل في ذيلها، فلا إشكال في سندها.

وأمّا وجه دلالتها على المطلوب، فلنهي الإمام عليه السلام عن تغيير الوقف بقوله عليه السلام:

«ولا يُغيّر شيئاً ممّا وصفته عليها، حتّى يرث اللّه الأرض ومن عليها».

ولكن ناقش صاحب الجواهر في دلالتها على المطلوب بإمكان حمل كلامه عليه السلام على اشتراطه ذلك في شخص الوقف الصادر منه عليه السلام. وحمل المحكيّ عن التذكرة على ما إذا قصد الواقف كون الموقوف داراً لا غير.

قال قدس سره - بعد نقل المحكيّ عن التذكرة والرواية المزبورة -: «اللهمّ إلّاأن يحمل ذلك منه لبيان الاشتراط منه عليه السلام، كما يحمل كلام التذكرة على وقف الدار الملحوظة في وقفها داريتها».

لكنّه قدس سره ناقش في توجيهه المزبور لكلام العلّامة بقوله: «لكن لا يخفى أنّه لا داعي إلى هذا الحمل؛ لظهور وقف الدار في إرادة الانتفاع بها داراً وهكذا، إلّامع التصريح بعدم قصد ذلك، وهو خارج عن محلّ الفرض».

هذا، ويمكن تقوية المناقشة المزبورة في دلالة الرواية المذكورة؛ نظراً إلى كفاية

********

(1) - وسائل الشيعة 203:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 4.

ص: 443

إمكان حملها على اشتراط عدم التغيير من جانب الإمام في شخص الوقف الذي صدر منه، واحتمال ذلك يكفي لانهدام أساس الاستدلال بها.

ولكن يمكن ردّ احتمال ذلك والجواب عن هذه المناقشة؛ بأنّ قوله عليه السلام: «ممّا وصفته عليها» يدلّ على أنّه عليه السلام قد اشترط في وقفه ما وصفه، فهو الذي شَرَطه، ثمّ نهى عليه السلام عن تغيير ما وصفه وشَرَطه في الوقف بقوله: «ولا يُغيّر شيئاً ممّا وصفته عليها». فإنّه عليه السلام في هذه الفقرة في مقام بيان حكم ما وصفه وشرطه بالنهي عن تغييره، لا في مقام اشتراط عدم التغيير في وقفه؛ فإنّ الإمام عليه السلام إنّما نهى عن تغيير ما وصفه ورسمه في الوقف بعنوان أنّه واقف، لا بعنوان أنّه شخص خاصّ، فيكون نهيه عليه السلام على وفق عموم «الوقوف على...». فتندفع المناقشة المزبورة بهذا البيان وتتمّ دلالة الرواية على المطلوب.

وعلى أيّ حال فالعمدة في الاستدلال هي العموم المزبور وتسالم الفقهاء واتّفاقهم على ذلك.

ص: 444

(مسألة 69): لو خرب الوقف وانهدم وزال عنوانه، كالبستان انقلعت أو يبست أشجاره، والدار تهدّمت حيطانها وعفت آثارها، فإن أمكن تعميره وإعادة عنوانه ولو بصرف حاصله الحاصل بالإجارة ونحوها لزم، وتعيّن على الأحوط، وإلّا ففي خروج العرصة عن الوقفية وعدمه، فيُستنمى منها بوجه آخر - ولو بزرع ونحوه - وجهان بل قولان، أقواهما الثاني. والأحوط أن تجعل وقفاً ويجعل مصرفه وكيفياته على حسب الوقف الأوّل (1).

حكم ما لو خرب الوقف وزال عنوانه

1 - والوجه في ذلك عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1)؛ حيث يدلّ بإطلاقه على وجوب التصرّف في المال الموقوف في جهة الوقف مطلقاً، سواءٌ كان الموقوف موجوداً بعينه ورقبته أو بمنفعته.

هذا، مع بقاءِ رقبة الأرض الموقوفة في مفروض الكلام، فيمكن الانتفاع بها في جهة الوقف أو أقرب الجهات إليه.

نعم، إذا قيّد الواقف كون الموقوف بستاناً أو احرز أنّه قصد ذلك، فلم يمكن لانقلاع الأشجار أو يبوستها وجفاف أنهاره، يشكل الانتفاع من رقبة الأرض في جهة الوقف حينئذٍ. ومن هنا حمل صاحب الجواهر(2) كلام العلّامة - من إطلاقه منع جعل الدار الموقوفة بستاناً أو بالعكس - على صورة قصد الواقف كون الموقوف داراً؛ بأن تعلّق غرضه بداريته. وقد سبق نقل كلامه آنفاً.

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

(2) - جواهر الكلام 108:28.

ص: 445

ولكن مع ذلك لا يكون الانتفاع برقبة الأرض في الجهة المقصودة للواقف ببيعها وصرف قيمتها خارجاً عن غرضه من الوقف، بل يراه العرف داخلاً في غرضه في الجملة. والشاهد لذلك أنّك لو سألت أيَّ واقف عن ذلك يُجيبك بدخوله في غرضه من الوقف في الفرض المزبور.

هذا، ولكن مع ذلك يظهر من صاحب الجواهر بطلان الوقف في هذا الفرض؛ حيث قال: «هذا كلّه مع عدم ملاحظة الدارية في وقفه، أمّا إذا لاحظ الواقف في وقفه لها حيثية كونها داراً، فمتى بطل كونها كذلك بحيث خرجت عن قابليّة ذلك، يمكن الحكم، ببطلان الوقف حينئذٍ بذهاب موضوعه، بل يمكن التزامه في النخلة الموقوفة الملاحظة في وقفها تسبيل ثمرتها أيضاً إذا سقطت كما ستسمعه إن شاء اللّه.

ولعلّ مرجعه إلى نظير ما سبق من جواز الوقف في منفعة خاصّة، وربما يشهد لذلك ما سمعته سابقاً من ثاني الشهيدين ومن تبعه في أنّ الوقف على مصلحة تنقرض غالباً يكون من الوقف المنقطع الآخر، وهو كذلك»(1).

ومقتضى التحقيق تبعية ما يدلّ عليه ظاهر كلام الواقف. فإن كان ظاهر كلامه تقييد الوقف بالدارية ونفي غيرها، فلا إشكال في بطلان الوقف في مفروض الكلام.

وما قلناه من إرجاع ذلك إلى فهم العرف، فإنّما هو لاستظهار مراد الواقف من كلامه.

وأمّا بعد استقرار الظهور أو القطع بمراده، فلا إشكال في دوران الوقف مداره وجوداً وعدماً؛ لأنّه المتيقّن من مدلول عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها».

********

(1) - جواهر الكلام 109:28.

ص: 446

ثمّ إنّ صاحب الجواهر قد صوّر في وقف مثل الدار أربع صور، وبيّن لكل صورة حكمها. وينبغي هاهنا نقل كلامه. قال: «ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ وقف الدار مثلاً يقع على وجوه:

أحدها: وقفها ما دامت داراً فانهدمت. والظاهر كونها من منقطع الآخر.

ثانيها: وقفها داراً على معنى أنّه ينتفع بها داراً. والظاهر أنّها وقف كذلك ما دامت صالحة لذلك، وإن انهدمت، نعم إذا خرجت عن قابلية ذلك على وجه لا يرجى عودها، أمكن القول ببطلان وقفها.

ثالثها: وقف الدار على معنى تسبيل منفعتها كائنة ما كانت، وإن قارن كونها داراً حال الوقف. والظاهر بقاء وقفها، بل يجوز تغييرها اختياراً.

رابعها: وقفها داراً وعلم إرادة دوام أصل الوقف منه، فاتّفق انهدامها، والظاهر عدم جواز تغييرها اختياراً، لكن إذا انهدمت جاز له الانتفاع بها على غير وجه الدارية، إلّامع التصريح».

وأنت إذا تأمّلت في كلامه تعرف أنّه أدخل خصوص الصورة الرابعة الأخيرة في مفروض الكلام، وحكم فيها بعدم جواز تغيير الدار الموقوفة اختياراً حتّى عند خرابها ما دام أمكن تعميرها، وحكم بجواز تغييرها عند سقوطها عن حيّز الانتفاع، بخلاف الصورة الثالثة؛ لعدم قصد الواقف ولا تعلّق غرضه بخصوصية الدارية، بل إنّما وقف الدار في هذه الصورة لغرض تسبيل منفعتها كائنةً ما كانت، وإن صادف استحصال منفعة العين الموقوفة كونها منفعة الدار حال الوقف. ومن هنا يجوز تغييرها اختياراً، فضلاً عمّا إذا انهدمت. وبخلاف صورة الثانية التي هي من قبيل وقف الانتفاع فعند عدم القابلية للدارية حكم ببطلان الوقف رأساً. وبخلاف الصورة الاُولى التي من قبيل منقطع الآخر. فهذه الصور الثلاث خارجة عن محلّ الكلام.

ص: 447

(مسألة 70): إذا احتاجت الأملاك الموقوفة إلى تعمير وترميم وإصلاح لبقائها والاستنماء منها، فإن عيّن الواقف لها ما يصرف فيها فهو، وإلّا يصرف فيها من نمائها (1) على الأحوط مقدّماً على حقّ الموقوف عليهم، والأحوط لهم الرضا بذلك، ولو توقّف بقاؤها على بيع بعضها جاز.

كما أشار إليه صاحب الجواهر في كلامه المزبور.

ويظهر ما بيّنّاه من كلام السيّد اليزدي، فراجع(1).

ولا يخفى: أنّ احتياط السيّد الماتن هاهنا وجوبي؛ لعدم سبق فتوى معه بخلافه.

حكم ما لو احتاج الوقف إلى التعمير

1 - الكلام يقع تارة: في صرف نماء الموقوف في تعميره وحفظه عن الخراب وفي جهة استثماره.

واُخرى: في جواز بيع بعض الموقوف للغرض المزبور.

أمّا المقام الأوّل: فإنّ صرف نماء الوقف في الجهة المذكورة لا يجوز قطعاً فيما إذا عيَّن الواقف مالاً لذلك. وأمّا إذا لم يُعيّن لذلك مالاً، فلا إشكال في جوازه.

وذلك لفرض أنّ العمل بالوقف وصرف الموقوف في الجهة التي تعلّق بها غرض الواقف، متوقّف على صرف نماء الموقوف في تعميره. وهذا ممّا يرضى به الواقف وداخل في غرضه بالفحوى؛ إذ هو أعطى جميع ما له في سبيل الوقف، فكيف ببعضه؟

وعمدة الإشكال في المقام أنّ نماءَ العين الموقوفة لمّا كانت ملك الموقوف

********

(1) - العروة الوثقى 367:6.

ص: 448

عليهم - كما هو المتّفق عليه ومقتضى التحقيق - لا بدّ من كون التصرّف فيها وبيع بعضها بإذنهم.

ويمكن حلّ هذه العويصة بأنّ منافع الوقف إنّما هي ملكٌ لهم بعنوان الوقف. فإذا لم يكن وقفاً في البين تنتفي ملكيتهم. والمفروض توقّف بقاءِ الوقف على تعمير العين الموقوفة وإصلاحها وجيادة ثمارها ودوام الاستنماء منها. فإذا توقّف ذلك على صرف بعض المنافع، يكون ذلك موجباً لبقاء ملكيتهم ودوام انتفاعهم. فلا يناقض ملكيتهم هذه، بل إنّما يؤكّدها.

هذا، مضافاً إلى دلالة عمومات العمل بالوقف وعموم: «الوقوف على...» على وجوب العمل بالوقف على نحو رسمه الواقف، فيجب على الناظر والموقوف عليهم حفظ العين الموقوفة على شكلها بتعمير أو غيره، حتّى لا يوجد خَلَل في غرض الواقف ورسم الوقف.

وأمّا احتياط السيّد الماتن في المقام فوجوبي؛ نظراً إلى عدم سبقه بالفتوى على خلافه.

والوجه فيه: الأخذ بما دلّ من النصوص على وجوب العمل بالوقف على نحو رسمه الواقف مقدّماً على حقّ الموقوف عليهم. وكون ملكية الموقوف عليهم وثبوت حقّهم في طول حفظ الوقف وتحصيل غرض الواقف، وذلك إنّما يكون فيما إذا لم يخالف أصل غرض الواقف، أو تماميته. ومنافاة إيصال حقّهم لأصل غرض الواقف إنّما يكون فيما إذا توقّف بقاءُ الوقف وأصل الاستثمار من العين الموقوفة على صرف منافعها - التي هي حقّ الموقوف عليهم - في تعميرها وترميمها.

وأمّا منافاته لتمام غرض الواقف، ففيما إذا توقّف الاستثمار والانتفاع المتوقّع

ص: 449

المطلوب من الوقف على صرف نمائاته ومنافعه في إصلاح الأملاك الموقوفة وتعميرها.

ففي كلتا الصورتين يكون الصرف مصداق العمل بالوقف على حسب ما أوقفه الواقف.

وأمّا المقام الثاني: فإنّ بيع بعض منافع الوقف في مفروض الكلام، قد عرفت ممّا بيّنّاه جوازه؛ لعين ما قدّمناه من الملاك.

وفي المقام كلام آخر: حاصله أنّه تارة. يكون احتياج العين الموقوفة إلى التعمير، بحيث يتوقّف الانتفاع بها على ذلك بحيث لو لم تُعمّر لا يمكن الانتفاع بها.

ففي هذه الصورة لا إشكال في جواز بيع النماء لتعمير العين الموقوفة. بل يجوز حينئذٍ بيع بعض العين الموقوفة، بل جميعها عند التوقّف، فضلاً عن نمائها؛ لما قلناه آنفاً.

واُخرى: لا يتوقّف الانتفاع بها على ذلك، بل إنّما يكون التعمير دخيلاً في زيادة نمائها وجيادة ثمارها. فحينئذٍ لا إشكال في عدم جواز بيع العين الموقوفة لما قلناه آنفاً. وأمّا بيع النماء لذلك فقد سبق الكلام فيه في المقام الأوّل. لكنّه بحاجة إلى إذن الموقوف عليهم إذا لم يكن دخيلاً في تأمين غرض الواقف.

ص: 450

(مسألة 71): الأوقاف على الجهات العامّة التي مرّ أنّها لا يملكها أحد كالمساجد والمشاهد والمدارس والمقابر والقناطر ونحوها، لا يجوز بيعها (1) بلا إشكال في مثل الأوّلين، وعلى الأحوط في غيره وإن آل إلى ما آل؛ حتّى عند خرابها واندراسها بحيث لا يرجى الانتفاع بها في الجهة المقصودة أصلاً، بل تبقى على حالها، هذا بالنسبة إلى أعيانها.

بيع الوقف ومستثنياته

عدم جواز بيع الأوقاف العامّة مطلقاً

1 - والوجه في ذلك: تارة: يُلاحظ بمقتضى القاعدة، واُخرى: يلاحظ بمقتضى النصّ والإجماع.

وأمّا مقتضى القاعدة في باب الوقف، فعدم جواز بيع العين الموقوفة ولا نقلها بسائر النواقل.

وذلك لأنّ حقيقة الوقف تحبيس الأصل. ولا ريب أنّ نقل العين الموقوفة - ببيع كان أو غيره - ينافي تحبيسها المأخوذ في ماهية الوقف.

ولا فرق في ذلك بين أقسام الوقف ولا بين الواقف والموقوف عليه والحاكم، ولا بين القول بدخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليهم وعدمه.

ويمكن أيضاً تحرير مقتضى القاعدة، بأ نّه تارةً: يقع الكلام في بيع الواقف، واُخرى: في بيع الموقوف عليه.

أمّا بيع الواقف: فمقتضى القاعدة عدم جوازه والوجه فيه عدم صحّة بيع غير

ص: 451

المملوك إلّابإذن مالكه؛ إذ لا إشكال في خروج الموقوف على الجهات وعلى العموم عن ملك الواقف، ولا بيع إلّافي ملكٍ مع فرض عدم إذن مالكه الجديد فلا يجوز ولا يصحّ بيع الموقوف من جانب الواقف.

وأمّا بيع الموقوف عليهم، فلا يجوز بناءً على عدم دخول العين الموقوفة بالوقف على الجهات في ملكهم ولا في ملك أحد من الناس - كما عليه جماعة من الفقهاء وسبق من السيّد الماتن قدس سره في المسألة الثامنة والستّين، من أنّ الوقف على الجهات فكُّ الملك وتحريره المستلزم لخروجه عن ملك الآدميين -؛ حيث لا يملكها أحدٌ. ومن هنا لا يصحّ بيعها من جانب الموقوف عليه ولا غيره أيضاً بمقتضى القاعدة، إلّابإذن الحاكم، بناءً على دخولها في ملك اللّه اعتباراً بعد خروجه عن ملك الآدميين. والوجه في ذلك أنّ للحاكم الولاية على إقامة حدود اللّه واستيفاءِ حقوقه تعالى.

هذا في الوقف على الجهات والأوقاف العامّة. وأمّا الأوقاف الخاصّة، فمقتضى القاعدة فيها - بناءً على رأي السيّد الماتن قدس سره، من عدم دخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليهم - عدم جواز بيعها لهم، بل ولا للحاكم؛ لفرض عدم كونها من حقوق اللّه، كما في الوقف العامّ وعلى الجهات.

هذا بناءً على مبنى السيّد الماتن، وأمّا بناءً على ما سلكناه - من دخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليهم مطلقاً، بلا فرق بين أنحاء الوقف، إلّاأنّ المالك في الوقف العامّ وعلى الجهات، الشخصية الحقوقية وفي الوقف الخاصّ، الشخصية الحقيقية - فمقتضى القاعدة حينئذٍ جواز بيع العين الموقوفة للموقوف عليهم أنفسهم في الوقف الخاصّ ولوليّهم - الذي هو الحاكم - في الوقف العامّ وعلى الجهات.

هذا كلّه بمقتضى القاعدة.

ص: 452

وأمّا بمقتضى النصوص، فالدالّة منها على عدم جواز البيع طائفتان. إحداهما:

النصوص العامّة، ثانيتهما: النصوص الخاصّة.

أمّا النصوص العامّة، فمنها، ما دلّ على عدم جواز الرجوع في الوقف من عمومات النصوص الواردة في الوقف كقوله عليه السلام: «إنّما الصدقة للّه، فما جُعل للّه عزّ وجلّ فلا رجعة له فيه»(1). وقول الحجّة عليه السلام في الجواب عن حكم الوقف: «وكلّ ما سُلّم فلا خيار فيه لصاحبه احتاج أم لم يحتج»(2). وغيرهما من النصوص. وقد سبق بيان مفاد هذه النصوص(3) وتقريب الاستدلال بها.

وأمّا: النصوص الخاصّة فراجع(4).

وقد استدلّ صاحب العروة لعدم جواز بيع الوقف مطلقاً بثلاثة وجوه:

1 - الإجماع. ويمكن تحصيل الإجماع على عدم جواز بيع الوقف في الجملة؛ إذ لم يُعهد مخالف لذلك، إلّاأنّه مدركي مع وجود الروايات الدالّة على ذلك. ولكن تسالم الفقهاء رصيد وثيق في المسألة.

2 - كون البيع - بل أيّ نقل آخر - مخالفاً لماهية الوقف؛ حيث اخذ في ماهيته تحبيس العين الموقوفة وينافيه النقل.

3 - ما دلّ من النصوص - عموماً أو خصوصاً - على منع نقل العين الموقوفة بأنحاء النواقل، بيعاً كان أو غيره.

********

(1) - وسائل الشيعة 204:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 181:19-182، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

(3) - راجع: وسائل الشيعة 178:19-180، الباب 4، الحديث 2، 3، 4 و 5، وأيضاً: 204، الباب 11 يدلّ أكثر نصوص هذا الباب على عدم جواز الرجوع.

(4) - وسائل الشيعة 185:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 6.

ص: 453

أمّا ما دلّت على ذلك بعمومها، فكقوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1).

وأمّا ما دلّت على ذلك بالخصوص، فمنه: رواية أبي علي الراشد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام قلت: جعلت فداك اشتريت أرضاً إلى جنب ضيعتي بألفي درهم، فلمّا وفرت المال خبّرت أنّ الأرض وقف، فقال عليه السلام: «لا يجوز شراء الوقوف ولا تدخل الغلة في ملكك، ادفعها إلى من اوقِفت عليه». قلت: لا أعرف لها ربّاً، قال:

«تصدّق بغلّتها»(2).

هذه الرواية لا إشكال في تمامية دلالتها على المطلوب. وأمّا سنداً فهي ضعيفة بأبي علي الراشد؛ إذ الرجل مشترك بين ثلاثة رجال والواقع منهم في سند هذه الرواية من أصحاب الرضا عليه السلام وهو ضعيف؛ حيث ضعّفه النجاشي.

ومن هذه النصوص: قول الإمام الكاظم عليه السلام في أرضه وقفها: «لا يحلّ لمؤمن يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يبيعها ولا يبتاعها ولا يهبها ولا ينحلها ولا يغيّر شيئاً ممّا وصفته عليها، حتّى يرث اللّه الأرض ومن عليها»(3) في صحيحة عبدالرحمان بن الحجّاج.

ومثله ما ورد في أوقاف سائر الأئمّة عليهم السلام: «صدقة بتّاً بتلاً... لا تباع ولا توهب ولا تورث...»، ورد هذا التعبير ونظيره في عدّة نصوص.

ويمكن المناقشة في الاستدلال بهذه الطائفة بحملها على اشتراط الإمام عليه السلام ذلك في خصوص الوقف الصادر منه في تلك القضية الشخصية، كما احتمله في

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2.

(2) - وسائل الشيعة 185:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 6، الحديث 1.

(3) - وسائل الشيعة 203:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 5.

ص: 454

الجواهر(1) وقد سبق نقل كلامه آنفاً في بعض الفروع السابقة.

وقد أجبنا عن مناقشة صاحب الجواهر في دلالة الرواية الاُولى في المسألة الثامنة والستّين بأنّ الإمام عليه السلام لمّا كان في مقام التشريع والتقنين، يستفاد من نهيه الحكم الكلّي الشرعي وفرقٌ بين نهيه عليه السلام عن البيع والهبة والتغيير وبين ما اشترطه من الأوصاف والقيود في وقفه.

وناقش صاحب العروة في دلالة هذه النصوص على عدم جواز بيع الأوقاف على نحو الكبرى الكلّية بقوله: «وفيه: أنّ المراد من عدم البيع، هو بيعه على نحو سائر الأملاك، فلا تدلّ على المنع كلّيةً»(2).

ولكن هذه المناقشة في غير محلّه؛ إذ النفي أو النهي عن البيع، يفيدان الإطلاق الشمولي، ورفع اليد عن إطلاقه بغير دليل خلاف مقتضى القاعدة. ودعوى الانصراف إلى بيع الملك الطلق على نحو بيع سائر الأملاك، لا وجه لها بعد فرض تعلّق نهيه ببيع الوقف، فقرينة مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدم القياس بسائر الأملاك.

هذا في صورة عدم اندراس العين الموقوفة وعدم خرابها بحيث تسقط عن حيّز الانتفاع في الجهة المقصودة من الوقف.

وأمّا إذا اندرست العين الموقوفة وخربت بحيث لا يُرجى الانتفاع بها، فهل يجوز بيعها حينئذٍ أم لا؟

فمجمل الكلام: أنّ مقتضى القاعدة عدم جواز بيع الآلات والأجزاء، إلّاإذا توقّف الانتفاع بها على بيعها لدخولها في عموم: «الوقوف على...».

********

(1) - جواهر الكلام 108:28.

(2) - العروة الوثقى 377:6.

ص: 455

وأمّا العرصة فلا يجوز بيعها، إلّاإذا توقّف الانتفاع بها في جهة الوقف على بيعها لإحداث البناء الجديد أو إحياء الوقف.

أمّا البناء فمنع السيّد الماتن من بيع مثل المساجد والمشاهد مطلقاً حتّى عند الاندراس. ولعلّه لما في بيعها من الإهانة بالمحترمات والشعائر.

وفيه: أنّ تجديد البناء يهدم البناء الأوّل وبيع بعض العرصة عند التوقّف ليس من الإهانة.

وعليه فمنع بيع العين الموقوفة ثابت بمقتضى حقيقة الوقف وهي تحبيس العين؛ إذ نقل العين الموقوفة بالبيع وسائر النواقل الشرعية ينافي التحبيس المأخوذ في ماهيته، كما أشار إليه صاحب العروة بقوله: «بل عدم جواز البيع وسائر النواقل وما في معرض النقل كالرهن داخل في حقيقته، إذ هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة»(1).

وقد أشكل في العروة أوّلاً على الاستدلال بالنصوص العامّة بأ نّها لا تدلّ على أكثر ممّا تقتضيه حقيقة الوقف وهو منع البيع لمنافاته لتحبيس الأصل. فلا تدلّ إلّا على عدم الجواز في الجملة. ولا يمكن استفادة الإطلاق منها ليرجع إليه في مقامات الشكّ؛ حيث قال: «ويستدلّ عليه أيضاً بجملة من الأخبار، لكن لا تزيد على ما هو داخل في حقيقتها بل لا يستفاد منها إلّاعدم جوازه في الجملة فلا تنفع في مقامات الشكّ».

وأنّ مراده من النصوص ما تعلّق فيه النهي بعنوان بيع الوقف وهبته وسائر النواقل، مثل قوله عليه السلام: «لا يحلّ... أن يبيعها... ولا يهبها...» وقوله عليه السلام: «لا تباع

********

(1) - العروة الوثقى 376:6.

ص: 456

ولا توهب...»، فلا إشكال في ثبوت الإطلاق اللفظي الشمولي والأحوالي لمثل هذه النصوص. وإنّما التقييد ببيع خاصّ بحاجة إلى إثبات المقيّد.

وثانياً: يقع الكلام حينئذٍ تارة: في بيع الأسباب والآلات المنقولة المتعلّقة ببناءِ المسجد والمقبرة والحمّام ونحوه، واُخرى: في بيع العرصة؛ أي رقبة الأرض الموقوفة لذلك، وثالثة: في بيع البناء.

أمّا الأوّل: فمقتضى القاعدة عدم جواز بيع الآلات والأجزاء ما دام أمكن صرفها في مثله، أو في البناء الجديد؛ نظراً إلى وجوب العمل بالوقف وإلى شمول عموم «الوقوف...» لأجزاء العين الموقوفة. نعم لو توقّف الانتفاع بها على بيعها وشراء أجزاء البناء الجديد من ثمنها، تباع ويصرف ثمنها في البناء الجديد.

وذلك لأنّه مقتضى عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». ولأنّ العين الموقوفة ما دام لم تخرج عن حيّز الانتفاع يجب صرفها في جهة الوقف ولا يجوز تغييرها ولا تبديلها بمقتضى العموم المزبور. وأمّا إذا توقّف الانتفاع بها في جهة الوقف على شرائها وإحداث البناء الجديد، فيجب عملاً بالعموم المزبور.

وأمّا الثاني: فلا إشكال في عدم جواز بيع العرصة؛ لأنّها العين الموقوفة وقابلة للانتفاع بها في جهة الوقف كما هو المفروض.

نعم، لو توقّف الانتفاع بها على بيع بعضها، كما لو لم يكن مالٌ، لتأمين مخارج البناء الجديد وتوقّف تأمينه على بيع جُزءٍ من رقبة الأرض الموقوفة، فهل يجوز ذلك أم لا؟ مقتضى القاعدة جواز ذلك على الأقوى، لما بيّنّاه في شرح المسألة السابقة. وفيه بحث مفصّل سيأتي في مستثنيات بيع الوقف، إن شاء اللّه.

وأمّا الثالث: فقد فصّل السيّد الماتن بين مثل المساجد والمشاهد من الأماكن المقدّسة التي تُعدّ من الشعائر ومحترمات الدين، وبين غيرها كالمقابر والحمّامات

ص: 457

وأمّا ما يتعلّق بها من الآلات والفَرش وثياب الضرائح وأشباه ذلك، فما دام يمكن الانتفاع بها باقيةً على حالها لا يجوز بيعها، وإن أمكن الانتفاع بها في المحلّ الذي اعدّت له بغير ذلك الانتفاع الذي اعدّت له، بقيت على حالها أيضاً، فالفرش المتعلّقة بمسجد أو مشهد إذا أمكن الافتراش بها في ذلك المحلّ، بقيت على حالها فيه (1)، ولو فُرض استغناؤه عن الافتراش بالمرّة، لكن يحتاج إلى ستر يقي أهله من الحرّ أو البرد - مثلاً - تجعل ستراً لذلك المحلّ، ولو فرض استغناء المحلّ عنها بالمرّة؛ بحيث لا يترتّب على إمساكها وإبقائها فيه إلّا الضياع والضرر والتلف،

والقناطر. فلم يجوّز بيع الأوّل مطلقاً حتّى في صورة الاندراس والخراب المزيل لرجاء الانتفاع بها. ولعلّه لما يراه في بيعها من إهانة الشعائر، أو كون وقفها فكّ الملك وتحريره.

وفيه نظرٌ: إذ لو أمكن تجديد البناء في نفس العرصة وعين رقبة الأرض الموقوفة لذلك وتوقّف ذلك على هدم البناء الأوّل، فلا وجه لمنع ذلك؛ إذ ليس فيه إهانةٌ عرفاً، بل تعظيم بتجديد بنائه بل عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» يقتضي الجواز؛ نظراً إلى توقّف الانتفاع بالعرصة الموقوفة في جهة الوقف على ذلك. بل لو توقّف ذلك على بيع بعض العرصة، لا يبعد القول بالجواز على القاعدة، اللهمّ إلّاأن يكون إجماع في البين فليتأمّل. وسوف يأتي تفصيل هذا البحث في مستثنيات بيع الوقف.

1 - وذلك لما بيّنّاه، من اقتضاء عموم «الوقوف...» عدم جواز تغيير العين الموقوفة ولا تبديلها عن الجهة المقصودة من الوقف ما دام أمكن ذلك بنحو من الأنحاء.

ص: 458

تجعل في محلّ آخر مماثل له؛ بأن تجعل ما للمسجد لمسجد آخر، وما للمشهد لمشهد آخر (1)،

1 - وربّما يُفرّق بين المساجد والمشاهد من جهة عدم الفرق بين المساجد من حيث تحقّق غرض الواقف، بخلاف المشاهد؛ حيث يقصد الواقف تعظيم صاحب القبر الموقوف له وتجليله بخصوصه.

ولكن أشكل المحقّق الكركي على هذا الفرق.

قال: «ربّما فرّق بين المساجد والمشاهد بأنّ الغرض من المساجد ما يجعل فيها إقامة شعائر الدين وفعل العبادات فيها، وهذا الغرض لا تختلف فيه المساجد. وأمّا المشاهد المقدّسة فإنّ الغرض من كلّ واحد منها غير الغرض ممّا سواه، فإنّ المقصود تعظيم القبر الشريف ببناء مشهد ومعونة سدنته وزوّاره، فيكون الوقف على كلّ واحد منها وقفاً على قبيل خاصّ، فلا يتجاوز به شرط الواقف.

وللنظر في هذا الفرق مجال، إلّاأنّ الأصحاب ذكروا جواز صرف الفاضل من آلات مسجد في مسجد آخر، ولا وجه لإلحاق المشاهد بها في ذلك»(1). قوله:

«سَدَنَتِه» من السَدَنة جمع السادن؛ أي خادم المساجد والكعبة.

والظاهر عدم الفرق بين مشاهد الأئمّة عليهم السلام وذراريهم عليهم السلام. وأمّا في مشاهد العلماء وقبور الفقهاء فربّما يفترق الأغراض.

وعلى أيّ حال ما دام لم يُحرز الفرق يجوز الصرف في سائر المشاهد.

********

(1) - جامع المقاصد 113:9.

ص: 459

فإن لم يكن المماثل، أو استغنى عنها بالمرّة، جعلت في المصالح العامّة (1).

هذا إذا أمكن الانتفاع بها باقيةً على حالها. وأمّا لو فرض أنّه لا يمكن الانتفاع بها إلّاببيعها - وكانت بحيث لو بقيت على حالها ضاعت وتلفت - بيعت، وصرف ثمنها في ذلك المحلّ إن احتاج إليه، وإلّا ففي المماثل، ثمّ المصالح حسب ما مرّ.

(مسألة 72): كما لا يجوز بيع تلك الأوقاف، الظاهر أنّه لا يجوز إجارتها (2)،

1 - وفيه نظرٌ. وذلك لأنّ الأمر إذا دار بين صرف أجزاء المسجد المخروبة في جهة المسجدية التي هي المقصودة من الوقف - ولو ببيعها وصرف ثمنها في ذلك - وبين صرفها وأعيانها في سائر المصالح العامّة التي هي خارجة عن قصد الواقف، مقتضى عمومات الوقف تقديم بيعها وصرف ثمنها في جهة المسجدية؛ لأنّها نوع صرف للعين الموقوفة في الجهة المقصودة من الوقف، فإنّ العرف يرى صرف ثمن العين الموقوفة في جهة الوقف، داخلاً في غرض الواقف بالمآل.

ولا يخفى: أنّ ما بيّنّاه في المقام هو المتّبع بمقتضى عمومات الوقف. وهي المتّبع في باب الوقف ما لم يقع إجماع على الخلاف.

حكم إجارة الأوقاف العامّة

اشارة

2 - والوجه في عدم جواز إجارة الوقف نفس الوجوه السابقة آنفاً في توجيه عدم جواز بيع الأوقاف. نعم بينهما فرقان أساسيان.

أحدهما: أنّ في الإجارة لا تنتقل العين المستأجرة عن ملك الموجر، فلا ينافي التحبيس المأخوذ في ماهية الوقف التي هي تحبيس العين. ومن هنا صرّح الشهيد

ص: 460

الثاني وغيره بأنّ حقيقة الوقف من قبيل الإجارة. وقد سبق نقل كلام الشهيد في مطاوى الأبحاث السابقة.

ثانيهما: أنّ عنوان الإجارة غير عنوان البيع والشراء. ومن أجل هذه الجهة الفارقة لا يشمل الإجارة ما سبق آنفاً من النصوص الدالّة على عدم جواز بيع الوقف وشرائه، كما لا يشملها عنوان الهبة المنهي عنه في النصوص المزبورة.

نعم، بعض ما ذكرناه هناك من الوجوه يشمل الإجارة. فمن تلك الوجوه الصالحة للاستدلال بها لعدم جواز إجارة الأوقاف، مقتضى القاعدة بالتقريب الثاني، لا الأوّل المبنيّ على أخذ تحبيس الأصل في حقيقة الوقف.

والوجه في ذلك: أنّ الواقف بعد خروج العين الموقوفة عن ملكه بالوقف لا يصحّ له إجارتها مطلقاً في جميع أنحاء الوقف وعلى كلِّ المباني، وكذا لا يجوز للموقوف عليه بناءً على عدم دخول العين الموقوفة في ملكه بالوقف، كما عليه السيّد الماتن في مطلق أنحاءِ الوقف، وأمّا بناءً على مبنى المشهور المختار، من دخولها في ملكه مطلقاً فيجوز إجارتها على القاعدة.

ومنها: النصوص العامّة، كعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1)؛ حيث إنّ إجارة العين الموقوفة لا تكون على حسب ما وقفه الواقف، بل على خلافه في وقف الانتفاع قطعاً بل في وقف المنفعة الظاهر في انتفاع الموقوف عليه من العين الموقوفة بالمباشرة.

وكذا عمومات منع الرجوع عن الوقف فإنّها تقتضي عدم جواز إجارة العين الموقوفة للواقف؛ لأنّه مصداق الرجوع.

وكذلك الإجماع والتسالم والاتّفاق؛ حيث اتّفق الأصحاب على منعها للواقف، بل

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2.

ص: 461

ولو غصبها غاصب واستوفى منها غير تلك المنافع المقصودة منها - كما إذا جعل المسجد أو المدرسة بيت المسكن - فلا يبعد (1) أن تكون عليه اجرة المثل في مثل المدارس والخانات والحمّامات، دون المساجد والمشاهد والمقابر والقناطر ونحوها. ولو أتلف أعيانها متلف فالظاهر ضمانه، فيؤخذ منه القيمة، وتصرف في بدل التالف ومثله.

للموقوف عليه في وقف الانتفاع، بل وقوف المنفعة ما دام لم يتوقّف الانتفاع عليها.

وأمّا إذا توقّف الانتفاع من العين الموقوفة في جهة الوقف على إجارتها، فلا إشكال في جوازها؛ لخروج هذه الصورة عن مصبّ الإجماع المزبور وداخل في عموم العمل بالوقف على حسب ما وقفه الواقف، لكنّه في وقف المنفعة، لا وقف الانتفاع، كما سبق.

هذا كلّه بناءً على ملكية المنافع للموقوف عليهم في الأوقاف على الجهات كما هو التحقيق وعليه الأكثر. وأمّا بناءً على عدم ملكيتها لهم في هذه الأوقاف وثبوت مجرّد حقّ الانتفاع لهم فلا يجوز لهم إجارتها، إلّاأن يقال بأنّ ثبوت حقّ الانتفاع للموقوف عليهم من قبيل ملك الانتفاع لا جوازه كما في الانتفاع بالمباحات وعليه فالانتفاع المختصّ بالموقوف عليهم ملكٌ لهم قابل للتمليك بالإجارة. وسيأتي تفصيل ذلك في تحرير كلام صاحب العروة.

حكم غصب الموقوف على الجهة

1 - يقع الكلام هاهنا تارة: في التصرّف الغصبي المخالف للجهة المقصودة من الوقف، من غير إتلاف. واُخرى: في إتلاف الموقوف غصباً.

ص: 462

وفي الجهة الاُولى: تارة: يقع الكلام في تصرّف مثل المساجد والمشاهد، ممّا لا يدخل في ملك أحد من الناس على رأي السيّد الماتن ومن وافقه.

واُخرى: في مثل المدارس والخانات والحمّامات، ممّا يدخل في ملك العموم.

فالكلام واقع في ثلاث مقامات:

أمّا في المقام الأوّل: فقد حكم السيّد الماتن قدس سره بعدم ضمان الغاصب شيئاً من العين والاُجرة. أمّا عدم ضمان العين، فلفرض عدم إتلافها حينئذٍ. وأمّا عدم ضمان الاُجرة؛ لعدم كون العين الموقوفة ملك أحد، حتّى يكون الموقوف عليه بمثابة الموجر ويستحقّ الاُجرة. نعم يرتكب الغاصب بذلك معصية، وأمر مجازاته وتعزيره بيد الحاكم الشرعي، أو لعدم قابلية المساجد والمشاهد للتملّك لا بعينها ولا بمنافعها، فلا اجرة لها حتّى يضمنها الغاصب.

ولا يخفى ما في هذا التفصيل؛ إذ لا فرق من حيث ثبوت المالية بين المساجد والمشاهد وبين غيرهما؛ ضرورة ثبوت المالية للمنفعة المستوفاة من المساجد والمشاهد كالمنافع المستوفاة من الدار والخان والمدرسة ونحوها.

وأمّا في المقام الثانى: فأفتى السيّد الماتن قدس سره بضمان اجرة المثل. وذلك لصيرورة العين الموقوفة في الحقيقة ملكاً للأفراد الموقوف عليهم بعنوانهم في الوقف العامّ وعلى الجهات. فيستحقّون بعنوانهم اجرة الانتفاع من العين الموقوفة ويستوي فيها المتولّي أو الحاكم لهم.

وأمّا في المقام الثالث: فلا إشكال في ضمان الغاصب ما أتلفه من العين الموقوفة. ولا ينافيه عدم مالك شخصي لها. فإنّ المضمون له عموم من يدخل في الجهة والعنوان الموقوف عليه من الزوّار والمصلّين والمؤمنين المنتفعين بالعين الموقوفة.

ص: 463

(مسألة 73): الأوقاف الخاصّة كالوقف على الأولاد، والأوقاف العامّة التي كانت على العناوين العامّة كالفقراء، لا يجوز بيعها ونقلها بأحد النواقل إلّا لعروض بعض العوارض وطروّ بعض الطوارئ (1)، وهي امور:

عدم جواز بيع الأوقاف، إلّالبعض العوارض

1 - يقع الكلام تارة: في عدم جواز بيع الأوقاف الخاصّة والعامّة التي كانت على العناوين، كالفقراء والعلماء والهاشميين ونحوهم. واُخرى: في جواز بيعها عند عروض بعض العوارض.

أمّا المقام الأوّل، فالدليل على عدم جواز بيع القسمين المزبورين من الأوقاف عين الدليل على عدم جواز بيع الوقف على الجهات. وقد سبق البحث وبيان أدلّة ذلك، فلا نعيد الكلام.

بل النصوص المستدلّ بها هناك لمنع بيع الأوقاف، وردت في هذين القسمين، كما لا يخفى على من تأمّل من تعابيرها ومضامينها.

وكذلك المنافاة لماهية الوقف؛ لأنّ الوقف بجميع أنحائه قد اخذ في ماهيته تحبيس الأصل. وينافي ذلك نقل العين الموقوفة - التي هي الأصل المحبّس - بالبيع والهبة ونحوهما من النواقل. فلا فرق في ذلك بين الوقف الخاصّ وبين الوقف العامّ والوقف على الجهات.

وكذلك الإجماع. نعم له قدر متيقّن في البين، وهو ما لم يقل أحدٌ بخروجه واستثنائه عن عموم المنع ومعقد الإجماع. فالموارد التي وقع الخلاف في استثنائها خارجة عن المتيقّن من معقد الإجماع. ولكن لا يمنع ذلك من التمسّك بعمومات

ص: 464

المنع على فرض تمامية دلالتها.

ويمكن أن يقال: إنّ مقتضى القاعدة المقرّرة الثابتة في باب الوقف عدم جواز البيع. وهذه القاعدة مصطادة من مقتضى ماهية الوقف وعمومات المنع.

ولا بدّ من إثبات الاستثناء بدليل قطعي نصّ في الاستثناء، وإلّا يُرجع إلى القاعدة المقتضية للمنع.

وذلك لقاعدة وجوب الاقتصار فيما خالف القاعدة على موضع النصّ. وقد بحثنا عن هذه القاعدة في مباحث الحجج العقلائية المحاورية من كتابنا «بدايع البحوث في علم الاُصول».

ثمّ لا يخفى: أنّ ظاهر كلام السيّد الماتن عدم شمول أدلّة استثناء منع البيع للأوقاف على الجهات.

ولكنّ الأقوى خلاف ذلك؛ حيث لا دليل على عدم شمول هذه الأدلّة للوقف على الجهات، إلّافي مثل المشاهد والمساجد مع ثبوت الاستثناء فيها أيضاً في الجملة.

هذا كلّه في بيان مقتضى القاعدة المحكّمة في موارد استثناء عدم جواز بيع الوقف. وأمّا البحث في استثناء آحاد هذه الموارد والنقض والإبرام فيها، فسيأتي قريباً. إن شاء اللّه.

قبل الورود في البحث عن آحاد موارد استثناء منع بيع الوقف، ينبغي تحرير آراءِ الفقهاء في الخروج عن عمومات المنع وكيفية استثنائها.

وقد أجاد الشيخ الأعظم الأنصاري في تحرير آراءِ الفقهاء في ذلك(1).

حاصل كلامه: إنّه قد اختلف الأصحاب في ذلك على أقوال:

********

(1) - راجع: المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 38:17-53.

ص: 465

أحدها: عدم الخروج عن عمومات المنع، والحكم بعدم جواز بيع الوقف مطلقاً، سواءٌ خرب الوقف وسقط عن الانتفاع أم لا، أو كان بيعه أعود عليهم أم لا.

ونقل ذلك عن ابن إدريس والإسكافي وفخر الإسلام بنصّ كلماتهم الصريحة في ذلك.

ثانيها: الخروج عن عموم المنع في الوقف المنقطع الآخر خاصّةً في الجملة، دون الوقف المؤبّد مطلقاً. فنقل عن القاضي في محكيّ المهذّب أنّ الوقف على قوم خاصّ في معرض الانقراض، يجوز بيعه إذا خيف هلاكهم أو فسادهم، أو كان بأربابه حاجة فكان البيع أصلح لهم، أو يُخاف من وقوع خُلف بينهم يؤدّي إلى فساده، وإلّا لا يجوز بيع الوقف مطلقاً. وحُكي هذا التفصيل عن الحلبي والصدوق أيضاً.

وقد تنظّر الشيخ الأعظم في هذا التفصيل بأنّ القائل بهذا التفصيل لو كان ممّن يقول برجوع الوقف المنقطع الآخر بعد انقراضه إلى ورثة الموقوف عليه، فلهذا التفصيل حينئذٍ وجه. وأمّا لو كان ممّن يقول برجوعه إلى الواقف أو ورثته، فلا وجه لجواز بيعه وصرف ثمنه في الموقوف عليهم. إلّاأن يقول هذا القائل بعدم بقاءِ العين الموقوفة في ملك الواقف في المنقطع الآخر، بل وقف مدّة وجود الموقوف عليهم، فيكون بيعهم مع تعلّق حقّ الواقف نظير بيع البطن الأوّل مع تعلّق حقّ البطون اللاحقة في الوقف المؤبّد، فكيف يجوز بيع الوقف للبطن الأوّل هناك في مورد الاستثناء المزبور؟ فكذلك هاهنا. ولكنّ الشيخ لم يرتض بهذا التوجيه؛ نظراً إلى ذهاب الحلبي إلى عدم خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف مطلقاً.

ثالثها: الخروج عن عموم المنع والقول بجواز بيع الوقف في المؤبّد في الجملة - على اختلافهم في موارد الاستثناء - كما عليه الأكثر المشهور، بل نقل عن محكيّ

ص: 466

الانتصار نسبة ذلك إلى الإمامية. وعن العلّامة اتّفاق الإمامية وإجماعهم على ذلك.

ثمّ نقل الشيخ الأعظم عن كثير من القدماء والمتأخّرين نسبة ذلك إلى أصحابنا الإمامية ونقل عنهم وجوه التفاصيل في المقام. ولا حاجة إلى نقلها، فليراجع.

وقد فصّل الشيخ الأنصاري(1) في المقام بين الأوقاف التي ملكٌ للموقوف عليهم، وبين ما لا يكون ملكاً لأحدٍ، بل فكُّ الملك نظير تحرير العبد، كالمساجد والمدارس. وحاصل كلامه:

أنّ القسم الثاني خارج عن محلّ كلام الأصحاب في خروجهم عن منع البيع والحكم بجوازه في موارد الاستثناء، بل ذلك كلّه في القسم الأوّل؛ نظراً إلى دخوله في ملك الموقوف عليهم، وإن كان غير طلق، بخلاف القسم الثاني؛ حيث لا يكون ملك أحدٍ من الناس، فلا إشكال في عدم جواز بيعه وبطلانه.

فلا خلاف بين الأصحاب في عدم جواز بيع مثل المسجد عند خرابه وسقوطه عن حيّز الانتفاع، كما اعترف به غير واحد.

فلا وجه لما عن بعض الأساطين من جواز إجارة مثل هذه الأوقاف بعد اليأس عن الانتفاع بها في الجهة المقصودة؛ حيث لم تثبت كون هذه الأوقاف للمسلمين، بل ملكها لهم منفيٌّ بالأصل.

وأمّا ما ورد في جواز بيع ثوب الكعبة وهبته وما أفتى به الفقهاء من جواز بيع حُصُر المسجد إذا خَلُقت وجذوعه إذا خرجت عن حيّز الانتفاع، فليست هذه الآلات مسجداً، بل مبذولة للكعبة والمسجد، فتكون كسائر أموالهما للمسلمين. ثمّ استحسن إلحاق كلّ ما قُصد بوقفه انتفاع عموم الناس أو المسلمين كالمشاهد

********

(1) - المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 53:17-54.

ص: 467

والمقابر والخانات والقناطر ونحوها، بناءً على كون وقفها فكّاً للملك.

وأمّا لو أتلفها متلف - كلاًّ أو بعضاً - ففي ضمانها وجهان:

1 - الضمان، ووجهه عموم على اليد. 2 - عدم الضمان وله وجهان:

أحدهما: أنّ ما يُطلب بقيمته يطلب بمنافعه فما لا يُضمن بمنافعه لا يضمن بقيمته. والمفروض عدم المطالبة بالاُجرة في هذه الاُوقاف.

ثانيهما: إنّ قوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه»(1) ظاهرٌ في التأدية والإيصال إلى المالك، فيختصّ بأملاك الناس. ولا يتصوّر ذلك في ما لا يملكه أحد من الناس، كما في هذه الاُوقاف.

وقد أشكل صاحب العروة(2) على الشيخ الأعظم:

أوّلاً: بمنع كون وقف المذكورات من قبيل فكِّ الملك وتحريره ومنع كونها بمنزلة المباحات الأصلية، بل هي على القول بخروجها عن ملك الواقف وعدم دخولها في ملك الموقوف عليه ملكٌ للّه اعتباراً وأمرها بيد الحاكم الشرعي. فله الولاية على بيعها في موارد الاستثناء.

وثانياً: بأنّ لازم ما ذكره عدم جواز بيع الأوقاف الخاصّة مطلقاً، بناءً على عدم دخولها في ملك الموقوف عليهم.

وثالثاً: بأنّ ما ذكره من الفرق بين حُصر المساجد وفُرشها وبين غيرهما، مجرّد دعوى بلا دليل.

ورابعاً: بأ نّا لا نسلّم بطلان البيع مع عدم الملك، بل يكفي في صحّته كون المبيع مالاً؛ لأنّ البيع مبادلة مال بمال، وكما في الكلّي في الذمّة، فإنّه يصحّ بيعه مع عدم

********

(1) - مستدرك الوسائل 7:14-8، كتاب الوديعة، الباب 1، الحديث 12.

(2) - العروة الوثقى 383:6.

ص: 468

كونه ملكاً للبايع، بل مال في نفسه كالأوقاف على الجهات، أمّا قوله عليه السلام: «لا بيع إلّا في ملك»، فليس المراد منه لا بيع إلّافي ملكٍ للمبيع، حتّى يفيد اعتبار كون المبيع ملكاً للبايع، بل المراد: «لا بيع إلّافي ملكٍ للبيع» فيفيد اشتراط سلطة البايع على البيع، ولذا يشمل بيع الوليّ والوكيل.

وخامساً: بأنّ ما ذكره من أنّ المسلمين لا يملكون منافع هذه الاُوقاف، بل إنّما يملكون الانتفاع منها، ممنوع غير صحيح. بل مرجع هذه الأوقاف إلى وقفها على المسلمين في جهة المسجدية والدرس ونحو ذلك من جهات القربات والمصالح العامّة. فيكون المسلمون موقوفاً عليهم ويملكون منافع هذه الأوقاف، كغيرها.

وسادساً: إنّ ملك الانتفاع يكفي في الضمان؛ نظراً إلى ماله من المالية ومن هنا يجوز إجارته.

والوجه في ذلك أنّه فرق بين الانتفاع بالمباحات وبين ملك الانتفاع. فإنّ الأوّل لا يدخل تحت الملك؛ لأنّه مجرّد جواز الانتفاع ومن قبيل الحكم، بخلاف الثاني فإنّه مملوكٌ وله المالية عند العقلاء. وعليه فلا وجه لما حكم به الشيخ من عدم ضمان اجرة المثل حتّى في مثل المساجد ونحوها ممّا اعترف بكونها من قبيل ملك الانتفاع.

هذا كلّه حاصل مناقشات صاحب العروة في كلام الشيخ الأعظم.

وكلامه في مناقشاته المزبورة متين، إلّاما قال في الإشكال الرابع؛ لما يرد عليه من أنّ مجرّد صدق عنوان البيع العرفي لا يكفى في جوازه، كما هو واضح. والذي يدور مدار صدق المال، هو عنوان البيع العرفي، لا الشرعي. وذلك لأنّه ربّ مبادلة مال بمال بين أهل العرف يصدق عليها عنوان البيع عرفاً ولكنّه ليس بيعاً شرعاً لعدم كون ذلك المال قابلاً للتملّك في نظر الشارع. وأمّا الكلي في الذمّة، فنمنع عدم

ص: 469

الأوّل: ما إذا خربت بحيث لا يمكن إعادتها إلى حالها الاُولى، ولا الانتفاع بها إلّا ببيعها والانتفاع بثمنها، كالحيوان المذبوح والجذع البالي والحصير الخلق، فتباع ويشترى بثمنها ما ينتفع به الموقوف عليهم (1)، والأحوط لو لم يكن الأقوى مراعاة الأقرب فالأقرب إلى العين الموقوفة.

دخوله في الملك، كيف لا يكون ملكاً؟ وتترتّب عليه آثار الملك من الإبراء والتمليك ببيع أو حوالة أو هبة أو بأيّة معاوضة اخرى.

وأمّا قوله «لا بيع إلّافي ملك» فهو أعمّ من ملك البايع نفسه أو من يبيع له بالوكالة والنيابة والولاية؛ نظراً إلى كون الوكيل والنائب والوليّ بمنزلة الموكّل والمنوب عنه والمولّى عليه، وفي الحقيقة يكون بمنزلة المالك، فكأ نّه ينشئ البيع في سلكه؛ لأنّه تحت سلطته. ومن هنا يجوز بيع الوقف للحاكم مع توفّر شرائطه في الوقف العامّ وعلى الجهات.

والحاصل: أنّ المقصود من الملك في نصّ هذه القاعدة أعمّ من الملك بالولاية والنيابة والوكالة، وإن شئت فقل: إنّ المراد منه ما كان داخلاً تحت سلطة المالكية للبايع؛ بأن كان له سلطة المالكية بنيابة أو ولاية.

مستثنيات عدم جواز بيع الوقف

الأوّل: إذا توقّف الانتفاع على البيع

1 - وقد سبق البحث عن ذلك في بعض المسائل السابقة آنفاً، فلا نعيد تفصيلاً.

ولكن ينبغي في المقام إعطاءُ الضابطة.

وحاصل الكلام: أنّ قصد الواقف وغرضه تارة: يتعلّق بعنوان الموقوف

ص: 470

بخصوصه، كما لو وقف البناء لسكونة الموقوف عليهم بعنوان الدار، لا غيرها، أو وقف الأرض للبستان بعنوانه الخاصّ أي قصد خصوص كونه بستاناً لا غير. وهو الذي يُعبّر عنه بوقف الانتفاع.

واُخرى: يتعلّق غرضه بالانتفاع بالموقوف، لا بعنوانه الخاصّ، بل بعنوان أحد مصاديق ما يُنتفع به. ويعبّر عنه بوقف المنفعة.

ففي الصورة الاُولى: إذا خربت العين الموقوفة تارة: يمكن حفظ عنوانها بتعميرها وإصلاحها.

واُخرى: لا يمكن ذلك، بل لا مناص من إحداث شيءٍ آخر مغاير لعنوان الموقوف. فحينئذٍ لا إشكال في بطلان الوقف؛ نظراً إلى عدم إمكان العمل بالوقف ولا الانتفاع من الموقوف على حسب ما قصده الواقف. وعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» ينفي مشروعية ذلك.

وأمّا إذا أمكن حفظ عنوان الموقوف بالتعمير والإصلاح، فيجب ذلك، ولو ببيع بعض العرصة لو توقّف على ذلك، كما إذا لم يجعل الواقف مالاً لأجل التعمير.

وأمّا في الصورة الثانية: فلا إشكال في جواز بيع العين الموقوفة لو توقّف الانتفاع منها على بيعها، بل يجوز بيعها اختياراً، فيما إذا كان البيع أعود وأنفع للموقوف عليهم.

والوجه فيه توقّف العمل بالوقف على ذلك، وعدم مخالفة ذلك لعموم: «الوقوف على...»؛ لأنّه داخل في قصد الواقف وغرضه، كما هو المفروض.

وأمّا إذا شكّ في مقصود الواقف عند الإطلاق وعدم القرينة ولم يُعلم أنّ غرضه من قبيل الأوّل أو الثاني، فمقتضى القاعدة الحمل على الأوّل؛ لأنّه وإن كان مقتضى حقيقة الوقف تمليك منافعه للموقوف عليهم، وإلّا لم يترتّب غرض الواقف، ولكن

ص: 471

ظاهر كلامه دخول عنوان العين الموقوفة - بما لها من الخصوصية - في غرض الواقف وتعلّق قصده به. وذلك لانّه المتبادر من مثل وقف الدار أو البستان عند الإطلاق، وظاهره أخذ العنوان.

وحاصل الكلام: أنّ مقتضى القاعدة عند الإطلاق وعدم القرينة الحمل على وقف المنفعة وأخذ خصوصية عنوان الموقوف عليه، فلا يجوز تغييره. وعليه فالأقوى مراعاة عنوان الوقف ما لم يُحرز عدم دخله في غرض الواقف. واحتياط السيّد الماتن في ذيل المسألة لزومي، بل هو الأقوى، كما عرفت.

هذا كلّه في البناء. أمّا العرصة، فلا تخرج عن الوقف على أيّ حال. وعليه فلا يبطل أصل الوقف باندراس الآثار وزوال الأبنية الموقوفة في مثل وقف الدار والخان والحمّام، ونحو ذلك ممّا يُبنى على رقبة الأرض، بل حتّى في مثل المسجد.

وذلك لعدم زوال العرصة بزوال البناء، بل الوقف صحيح نافذ كما كان ويجب العمل به، ولو بإحداث بناءٍ جديد، ولو ببيع بعض الأرض الموقوفة لو توقّف العمل بالوقف على ذلك؛ نظراً إلى عمومات وجوب العمل بالوقف مهما أمكن.

وأمّا الأعيان الموقوفة التي تكون من المنقولات كالحُصُر والفُرش والبواري والحيوان والخشب ونحو ذلك من الأعيان المنقولة، فإنّ وقفها من قبيل الصورة الثانية؛ لعدم تعلّق الغرض بعناوينها الخاصّة غالباً، بل إنّما توقَف لمحض غرض الانتفاع بها.

وحاصل الكلام: أنّ مقتضى القاعدة في المقام العمل بعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1). ولا يجوز الخروج عن غرض الواقف فيما إذا احرز غرضه وقصده المتعلّق بكيفية الانتفاع وخصوصيات العين الموقوفة، ولو بظاهر كلامه.

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 472

فكلّما إذا عُلم غرض الواقف وكان البيع منافياً لقصده وغرضه من الوقف، لايجوز.

بقيت في المقام نكتتان:

إحداهما: الفرق بين البناء والعرصة، وهو أنّ البناءَ لو كان بمجرّده موقوفاً يبطل الوقف بخرابه وسقوطه عن حيّز الانتفاع، بخلاف ما لو كان موقوفاً مع العرصة؛ لإمكان القول بعدم بطلان الوقف بخراب البناء فيما لو أمكن تجديده في تلك العرصة ولو ببيع بعض العرصة؛ نظراً إلى كون العرصة من العين الموقوفة، فالوقف يستقرّ ما دامت العرصة باقية. وأمّا ما سيأتي من صاحب الجواهر من بطلان الوقف حينئذٍ فلا وجه له، وما ذكره من الوجه لذلك مناقَشٌ بما سيأتي منّا في ردّ توجيهه.

ثانيتهما: قد اتّضح على ضوء ما سردناه لك في إعطاء الضابطة، أنّه عند الإطلاق وعدم القرينة لا يجوز تبديل العين الموقوفة إذا كانت ذات عنوان كالدكّان والبستان والمزرعة والحمّام؛ لما قلنا آنفاً: من ظهور الوقف حينئذٍ في دخل العنوان في غرض الواقف، نعم عند خرابها وسقوطها عن حيّز الانتفاع يجوز بيع بعض العرصة لتجديد ذلك البناء مع حفظ الخصوصية والعنوان، من المسجدية والبستانية ونحوها.

وإنّ ما رسمناه وبيّنّاه لك من الضابطة في المقام هو المحكَّم، ما دام لم يقم إجماع الأصحاب على خلافه في مورد.

وإنّ لصاحب الجواهر في المقام كلاماً ينبغي نقله ونقده.

قال قدس سره: «والذي يقوى في النظر بعد إمعانه، أنّ الوقف ما دام وقفاً لا يجوز بيعه، بل لعلّ جواز بيعه مع كونه وقفاً من المتضادّ.

نعم، إذا بطل الوقف اتّجه حينئذٍ جواز البيع، والظاهر تحقّق البطلان فيما لو خرب الوقف على وجه تنحصر منفعته المعتدّ بها منه في إتلافه، كالحصير والجذع ونحوهما، ممّا لا منفعة معتدٍّ بها فيه إلّابإحراقه مثلاً، وكالحيوان بعد ذبحه مثلاً وغير ذلك.

ص: 473

ووجه البطلان حينئذٍ فقدان شرط الصحّة في الابتداء المراعى في الاستدامة بحسب الظاهر، وهو كون العين ينتفع بها مع بقائها. كما أنّه قد يقال بالبطلان أيضاً في انعدام عنوان الوقف فيما لو وقف بستاناً مثلاً ملاحظاً في عنوان وقفه البستانية، فخربت حتّى خرجت عن قابلية ذلك. فإنّه وإن لم تبطل منفعتها أصلاً لإمكان الانتفاع بها داراً مثلاً، لكن ليس من عنوان الوقف.

واحتمال بقاءِ نفس العرصة على الوقف باعتبار أنّها جزء الموقوف وهي باقية، وخراب غيرها وإن اقتضى بطلانه فيها، يدفعه أنّ العرصة كانت جزءاً من الموقوف من حيث كونه بستاناً لا مطلقاً، فهي حينئذٍ جزء عنوان الموقوف الذي قد فرض فواته.

ولو فرض إرادة وقفها لتكون بستاناً أو غيرها، لم يكن إشكال في بقاء وقفها؛ لعدم ذهاب عنوان الوقف، لكنّه خلاف الفرض. وكذا لو وقف نخلة للانتفاع بثمرتها فانكسرت، فإنّه وإن أمكن الانتفاع بالجذع بتسقيف ونحوه، لكنّه ليس من عنوان الوقف»(1).

ولكن يمكن المناقشة في فقرتين من كلامه.

الفقرة الاُولى: قوله: «إنّ الوقف ما دام وقفاً لا يجوز بيعه...»؛ حيث إنّ هذا الكلام وإن لا يمكن إنكاره في الجملة، إلّاأنّ بإطلاقه يمكن المناقشة فيه بأ نّه إذا وقف بستاناً أو داراً، ثمّ خربت الدّار وأنهار البستان وأشجارها وسقطت عن حيّز الانتفاع. فلا إشكال في عدم خروج العرصة عن الوقفية حينئذٍ. فلو لم يكن مال لتعمير البستان والدار الموقوفة أو إحداث بناءٍ جديد، وتوقّف ذلك على بيع جزءٍ من

********

(1) - جواهر الكلام 358:22-359.

ص: 474

الأرض، لا يبعد القول حينئذٍ بجواز بيع ما يتوقّف التعمير أو إحداث البناء الجديد على بيعه من الأرض الموقوفة. وذلك لتوقّف العمل بالوقف على ذلك حينئذٍ، بل يتقوّى وجوب البيع وإحياء الوقف على النحو الذي رسمه الواقف؛ عملاً بعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها».

الفقرة الثانية: قوله: «واحتمال بقاءِ نفس العرصة على الوقف باعتبار أنّها جزءُ الموقوف وهي باقية، وخراب غيرها وإن اقتضى بطلانه فيها، يدفعه أنّ العرصة كانت جزءاً من الموقوف من حيث كونه بستاناً لا مطلقاً».

وجه المناقشة في هذه الفقرة قد اتّضح ممّا بيّنّاه آنفاً؛ لأنّ غرض الواقف في هذا الفرض وإن تعلّق بعنوان الدارية أو البستانية، إلّاأنّ هذا الغرض إذا لم يمكن تأمينه إلّا ببيع جزء من رقبة الأرض وصرف ثمنه في تعمير الدار أو البستان أو تجديد بنائهما لا مناص من الالتزام بمشروعية بيع العرصة، بل يجب بيعها حينئذٍ؛ عملاً بعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»؛ نظراً إلى توقّف تأمين غرض الواقف وإحياء الوقف على بيعها.

ومحصّل الكلام أنّه لمّا يتوقّف العمل بالوقف على ذلك حينئذٍ، يتعيّن بيع ذلك المقدار من جزء الأرض الموقوفة. هذا بمقتضى القاعدة. وعمومات باب الوقف، وهو المحكّم لولا الإجماع على خلافه.

ولكن تحصيل الإجماع في مثل المقام مشكل جدّاً؛ لما وقع بين الأصحاب من الاختلاف الشديد؛ بحيث قال في المسالك: «قد اضطربت فتوى الأصحاب في هذه المسألة اضطراباً عظيماً، حتّى من الرجل الواحد في الكتاب الواحد»(1).

********

(1) - مسالك الأفهام 169:3.

ص: 475

الثاني: أن يسقط بسبب الخراب أو غيره عن الانتفاع المعتدّ به (1)؛ بحيث كان الانتفاع به بحكم العدم بالنسبة إلى أمثال العين الموقوفة، بشرط أن لا يرجى العود كما مرّ، كما إذا انهدمت الدار واندرس البستان، فصار عرصة لا يمكن الانتفاع بها إلّابمقدار جزئي جدّاً يكون بحكم العدم بالنسبة إليهما، لكن لو بيعت يمكن أن يشترى بثمنها دار أو بستان آخر أو ملك آخر؛ تساوي منفعته منفعة الدار أو البستان، أو تقرب منها، أو تكون مُعتدّاً بها. ولو فرض أ نّه على تقدير بيعها لا يشترى بثمنها إلّاما يكون منفعتها كمنفعتها باقيةً على حالها أو قريب منها لم يجز بيعها، وتبقى على حالها.

وقال في الجواهر: «فإنّه قد وقع الاختلاف بينهم في هذه المسألة على وجهٍ لم نعثر على نظيره في مسألة من مسائل»(1). وقد وجدت أحسن ما قيل في المقام كلام صاحب المسالك. وسيأتي نقل كلامه في توضيح الأمر الرابع من مستثنيات بيع الوقف.

الثاني: إذا سقط عن الانتفاع المعتدّ به

1 - والفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة، أنّ في الصورة السابقة تسقط العين الموقوفة عن حيّز الانتفاع بعروض الخربان، بحيث لا يمكن الانتفاع منها بأي وجه إلّابيعها والانتفاع بثمنها.

وهذا بخلاف هذه الصورة؛ لأنّ المفروض فيها عدم سقوط العين الموقوفة عن حيّز الانتفاع رأساً، بل يمكن الانتفاع بها بمقدار جزئي قليل، إلّاأنّ

********

(1) - جواهر الكلام 360:22.

ص: 476

الثالث: ما إذا اشترط الواقف في وقفه أن يباع عند حدوث أمر، مثل قلّة المنفعة، أو كثرة الخراج أو المخارج، أو وقوع الخلاف بين أربابه، أو حصول ضرورة أو حاجة لهم، أو غير ذلك، فلا مانع من بيعه عند حدوث ذلك الأمر على الأقوى (1).

ذلك المقدار ممّا لا يُعتدّ به.

وعلى أيّ حال سبق الكلام آنفاً في بيان وجه جواز بيع العين الموقوفة في هذه الصورة، وحاصله: توقّف العمل بالوقف وتأمين غرض الواقف والانتفاع بالعين الموقوفة في جهة الوقف على بيعها وصرف ثمنها في تعمير العين الموقوفة أو تجديدها. ولكن نسب في العروة إلى المشهور تعليق جواز بيع العين الموقوفة على سقوطها عن حيّز الانتفاع رأساً، ثمّ حمل كلامهم على عدم الانتفاع المعتدّ به؛ حيث قال: «ولا يبعد جواز البيع حينئذٍ لعدم شمول أدلّة المنع مثل الصورة السابقة، وإن كان ظاهر المشهور على ما قيل على عدم جوازه، حيث علّقوا الجواز على عدم إمكان الانتفاع به، إلّاأن يحمل كلامهم على عدم الانتفاع المعتدّ به»(1)، وهذا التوجيه متين يساعده المتفاهم العرفي من كلام الأصحاب والنصوص الواردة في المقام.

الثالث: إذا شرط الواقف بيع الوقف عند عروض مانع

1 - كما قوّى ذلك في العروة(2)؛ وفاقاً للعلّامة ومن تبعه كما نقله في العروة.

واستدلّ لذلك في العروة أوّلاً: بعموم «المؤمنون عند شروطهم»(3).

********

(1) - العروة الوثقى 379:6.

(2) - العروة الوثقى 379:6.

(3) - وسائل الشيعة 276:21، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4.

ص: 477

وثانياً: بعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1).

وثالثاً: بما دلّ على ذلك من النصوص الخاصّة، مثل ما ورد في صحيح عبدالرحمان بن الحجّاج، عن أمير المؤمنين عليه السلام في وقف عين ينبع، قال عليه السلام: «إن أراد أن يبيع نصيباً من المال فيقضي به الدين، فليفعل إن شاء، لا حرج عليه فيه»(2).

والاستدلال بهذه الصحيحة على المطلوب إنّما يتمّ بناءً على كون المقصود من المال في قوله عليه السلام: «نصيباً من المال» رقبة العين الموقوفة. وهو الظاهر بل المقطوع؛ حيث إنّ ماءَ ينبع لا يُعدّ مالاً يناسبه تعبيره عليه السلام: «نصيباً من المال»، فلا يكون مقصوداً من هذا التعبير.

هذا، ولكن في جواز شرط ذلك من الواقف إشكال من حيث كونه منافياً لتحبيس العين وللتأبيد المعتبر في الوقف، وكون مآله إلى اشتراط الرجوع عن الوقف وتغييره، ولا إشكال في منع ذلك وعدم جوازه. فالشرط المزبور من أجل هاتين الجهتين مخالف لمقتضى القاعدة.

ومن أجل ذلك لا بدّ في الاحتجاج بصحيحة عبدالرحمان من الاقتصار على مورد أداءِ الدين وعدم التعدّي عنه إلى سائر موارد قضاءِ الحاجات. وذلك لقاعدة وجوب الاقتصار في مخالفة القاعدة على موضوع النصّ. وقد حقّقنا هذه القاعدة وبحثنا عنها مفصّلاً في المجلّد الثاني والخامس من كتابنا «بدايع البحوث في علم الاُصول» فراجع.

ولكنّ الاشتراط المزبور جائزٌ من جهة الوجوه المستدلّ بها آنفاً للجواز، ومن أجل أنّ البيع جائز عند عروض الخراب والسقوط عن حيّز الانتفاع، ولو لم يكن

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2.

(2) - وسائل الشيعة 200:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 3.

ص: 478

شرطٌ في البين، فضلاً عن صورة الاشتراط. فلأجل ذلك يكون الجواز مقتضى القاعدة.

وقد أشار المحقّق الكركي إلى الوجهين المزبورين في جامع المقاصد بقوله:

«ففي صحّة الشرط إشكالٌ: من التردّد في أنّه شرط منافٍ لمقتضى العقد، أو لا.

فمن حيث إنّه منافٍ للتأبيد المعتبر في الوقف ما دامت العين باقية يلزم منافاته، ومن حيث إنّه إذا بلغ هذه الحالات جاز بيعه وإن لم يشترط كما سبق بيانه، فلا يكون الاشترط منافياً»(1).

ومقتضى التحقيق: التفصيل بين ما لو كان مورد اشتراط الواقف خارجاً عن موارد استثناء منع البيع وبين ما كان منه داخلاً في الاستثناء.

فما كان من موارد اشتراط الواقف خارجاً عن نطاق أدلّة الاستثناء، لا يجوز اشتراط بيعه. وذلك لأنّ اشتراط بيع الوقف أساساً مخالفٌ لمقتضى عقد الوقف وحقيقته من تحبيس العين وأخذ التأبيد والدوام فيه.

وما كان منها داخلاً في نطاق أدلّة الاستثناء، يجوز اشتراط بيعه. وذلك لأنّه خرج عن مقتضى القاعدة بالنصوص الدالّة على جواز البيع مع قطع النظر عن الاشتراط، فضلاً عن صورة الاشتراط. لكنّه لا بدّ من الاقتصار في مخالفة القاعدة على موضع النصّ.

والفرق بين الاشتراط وعدمه حينئذٍ، وجوب البيع مع الاشتراط؛ عملاً بعمومات الوفاء بالشرط وعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». وأمّا بدون الشرط فالبيع جائزٌ فقط.

********

(1) - جامع المقاصد 72:9-73.

ص: 479

ومحصّل الكلام: أنّه لا إشكال حينئذٍ في جواز الشرط المزبور؛ إذ غرض الواقف اشتراط بيع الوقف عند عروض المانع عن الانتفاع المقصود من الواقف، وعدم إمكان العمل بالوقف أو لقضاء الدين. والمفروض جواز بيع الوقف في مثل هذه الموارد مع قطع النظر عن الاشتراط فقد تعلّق اشتراط الواقف بما جاز بيعه بأدلّة الاستثناءِ.

فلا وجه لعدم جواز شرط البيع في هذه الموارد.

وهذا بخلاف ما لو كان مورد الاشتراط خارجاً عن موارد الاستثناء؛ مثل مجرّد قلّة منفعة الوقف ما دام لم تصل إلى حدّ عدم الاعتداد العرفي، أو كثرة الخراج - وهي الضرائب المالية - والمخارج ما دام لم توجب قلّة المنافع الباقية إلى حدّ عدم الاعتداد العرفي، أو مجرّد عروض الحاجة للموقوف عليهم. فإنّ عروض هذه العوارض ومثلها - ممّا هو خارج عن الاستثناء - لا دليل على خروجها عن تحت القاعدة المقتضية لمنع البيع، بل اشتراط بيع الوقف في هذه الموارد مخالف لمقتضى عقد الوقف، فهو غير جائز. ومقتضى القاعدة بطلان الشرط وعدم ترتّب أيّ أثر عليه، ولكنّ الوقف بحاله صحيحاً، كما قرّر في محلّه من عدم فساد العقد بفساد الشرط.

ص: 480

الرابع: ما إذا وقع بين أرباب الوقف اختلاف شديد؛ لا يؤمن معه من تلف الأموال والنفوس، ولا ينحسم ذلك إلّاببيعه، فيباع ويقسّم ثمنه بينهم (1). نعم، لو فُرض أنّه يرتفع الاختلاف ببيعه وصرف الثمن في شراء عين اخرى، أو تبديل العين الموقوفة بالاُخرى، تعيّن ذلك، فتشترى بالثمن عين اخرى أو يبدّل بآخر، فيجعل وقفاً ويبقى لسائر البطون، والمتولّي للبيع في الصور المذكورة وللتبديل ولشراء عين اخرى، هو الحاكم أو المنصوب من قبله إن لم يكن متولّ منصوب من قبل الواقف.

الرابع: إذا وقع الاختلاف الشديد بين الموقوف عليهم

1 - وقع الخلاف بين الأصحاب في جواز بيع الوقف في هذه الصورة. وقد نقل في الجواهر(1) كلمات الأصحاب في المقام، واستقصى في نقلها وأجاد في تحريرها.

فمن الأصحاب من جعل جواز البيع حينئذٍ رأي أصحابنا، كابن زهرة وغيره.

ومنهم من جعل ذلك مشهوراً كالشهيد في اللمعة. ومنهم من جعله أشهر الأقوال. كلّ ذلك نقله في الجواهر.

وقد صرّح في الحدائق بأنّ جواز بيع الوقف حينئذٍ مشهور بين الأصحاب؛ حيث قال: «المشهور بين الأصحاب جواز بيع الوقف إذا وقع بين الموقوف عليهم خُلف، بحيث يُخشى خرابه»(2). وقد أجاد في جامع المقاصد(3) في تحرير الأقوال. ونسب

********

(1) - جواهر الكلام 363:22-368.

(2) - الحدائق الناضرة 255:22.

(3) - جامع المقاصد 68:9.

ص: 481

جواز بيع الوقف حينئذٍ إلى أكثر الأصحاب في الجملة؛ أي مع اختلاف تعابيرهم.

ولم يُعلم مخالف لذلك، إلّاابن إدريس وابن الجنيد؛ حيث منعا بيع الوقف مطلقاً في جميع الأحوال على ما نسب إليهم في جامع المقاصد. وعلى أيّ حال لا إجماع في البين، ولكنّه مشهور بين الأصحاب.

وقد يُستدلّ للمنع: بأنّ الوقف على البطون يستحقّ فيه البطون اللاحقة. وأنّ بيع الموجودين من البطن الأوّل وتقسيم الثمن بين أنفسهم، تضييعٌ لحقّهم.

ويمكن المناقشة: بأنّ البطون اللاحقة إنّما يوجد ويحدث لهم الاستحقاق بعد وجودهم، والمعدوم لا حقّ له، مع أنّ قصد الواقف إنّما تعلّق باستحقاقهم على فرض حياتهم، لا حال كونهم معدومين؛ لأنّه المرتكز والمتفاهم العرفي المبنيّ عليه تكلّم المتعاملين بألفاظ صيغ العقود والإيقاعات، ما لم يثبت من الشارع تأسيس في مورد.

وأمّا جواز البيع في مفروض الكلام فتارة: يُلاحظ في الاستدلال له مقتضى القاعدة، واُخرى: مقتضى النصّ الخاصّ.

وأمّا مقتضى القاعدة في باب الوقف، فعدم جواز البيع كما قلنا؛ نظراً إلى منافاته للتحبيس والتأبيد المأخوذين في الوقف، مع ما دلّ على منعه من عمومات نصوص باب الوقف، وقد سبق البحث عنها. هذا بحسب الحكم الأوّلي الثابت لذات الوقف.

وأمّا في مفروض المسألة، فمقتضى القاعدة جواز بيع الوقف؛ لأنّه من قبيل موارد الاضطرار الثابت فيه الجواز والرخصة بالعنوان الثانوي بقاعدة الاضطرار، كما ورد: «ليس شيء ممّا حرّم اللّه إلّاوقد أحلّه لمن اضطرّ إليه»(1). ولكن لا بدّ من صدق عنوان الاضطرار وتوقّف دفعه على البيع، وهو مشكل؛ نظراً إلى إمكان دفعه عند التشاحّ والنزاع بإبطال الوقف وصرف الثمن في وجوه البرّ.

********

(1) - وسائل الشيعة 228:23، كتاب الأيمان، باب 12، الحديث 18.

ص: 482

وأمّا مقتضى النصوص الشرعية؛ فلا إشكال في أنّ النصّ حجّة شرعية تعبدية تفيد حكماً توقيفياً وتقطع القاعدة.

وعلى أيّ حال فعمدة الدليل على ذلك صحيح علي بن مهزيار، قال: وكتبت إليه: إنّ الرجل ذكر أنّ بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافاً شديداً، وأ نّه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف ويدفع إلى كلّ إنسان منهم ما وقف له من ذلك، أمرته. فكتب إليه بخطّه: «وأعلمه أنّ رأيي له - إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف - أن يبيع الوقف أمثل؛ فإنّه ربّما جاءَ في الاختلاف تلف الأموال والنفوس»(1).

هذه الرواية لا إشكال في صحّة سندها؛ إذ رواها المشايخ الثلاثة - وهم الكليني والصدوق والشيخ - بأسنادهم عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني. وطرق الثلاثة كلّهم إلى علي بن مهزيار صحيحة. وضمير «الهاء» في قوله: «كتبت إليه»، يرجع إلى الإمام أبي جعفر الثاني عليه السلام. وذلك بقرينة المكاتبة السابقة المرويّة في الكتب الأربعة، وبقرينة كثرة رواية ابن مهزيار عنه عليه السلام، فلا تُعَدُّ مثل هذه الرواية مضمرة، بعد العلم بمرجع الضمير بالقرينة القطعية.

وأمّا في تمامية دلالتها على المطلوب فخلاف بين الأصحاب. ولا إشكال في اختصاص موردها بما لو وقع الاختلاف الشديد بين الموقوف عليهم، بحيث يخاف منه الانجرار إلى تلف النفوس والأموال. فلا يمكن التعدّي عن موردها؛ إلّابدليل قطعي آخر؛ نظراً إلى قاعدة وجوب الاقتصار في ما خالف القاعدة على موضع النصّ.

********

(1) - وسائل الشيعة 188:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 6، الحديث 6.

ص: 483

وقد حُملت هذه الصحيحة على محامل، وهي:

1 - حملها على ما لو كان الوقف على البطن الأوّل، دون البطون اللاحقة، وإلّا لم يجز بيعه أبداً. هذا الحمل نقله صاحب الوسائل عن الصدوق بقوله:

«هذا وقف كان عليهم دون من بعدهم، ولو كان عليهم وعلى أولادهم ومِن بعدُ على فقراء المسلمين، لم يجز بيعه أبداً».

2 - حملها على الرخصة لأجل دفع الضرر، فهو حكم ثانوي اضطراري. هذا الحمل نقله في الوسائل عن الشيخ الطوسي بقوله: «وحمله الشيخ على أنّه رخصة في الصورة المذكورة خاصّة؛ لدفع الضرر».

3 - حملها على صورة عدم تحقّق القبض وكون الموقوف عليهم وارثين.

4 - حملها على إرادة الوصيّة من الوقف؛ لأنّه معنى لغويّ مستعمل في الأحاديث.

هذان الحملان الأخيران احتملهما صاحب الوسائل بقوله: «ويمكن حمله أيضاً على عدم حصول القبض وكون الموقوف عليهم وارثين. ويمكن حمل الوقف على الوصيّة؛ لأنّه معنى لغويّ مستعمل في الأحاديث»(1).

أمّا الحمل الأوّل فيمكن ردّه بأنّ كلام السائل، وإن لا يبعد دعوى حمله على ما إذا كان الموقوف عليهم البطن الأوّل؛ بقرينة قوله: «إنّ بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافاً شديداً» وقوله: «ويدفع إلى كلّ إنسان منهم ما وقف له من ذلك».

ولكن كلام الإمام عليه السلام في الجواب مطلق. فإنّه عليه السلام أجاب عن السؤال بكبرى كلّية، حاصلها: جواز بيع الوقف كلّما إذا وقع بين أصحاب الوقف اختلاف شديد

********

(1) - راجع: وسائل الشيعة 189:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 6، ذيل الحديث 6.

ص: 484

وتوقّف رفعه على البيع، وذلك بلحاظ عموم تعليله عليه السلام في ذيل كلامه، بقوله عليه السلام:

«أن يبيع الوقف أمثل؛ فإنّه ربّما جاءَ في الاختلاف تلف الأموال والنفوس».

وأمّا حملها على صورة عدم حصول القبض وكون الموقوف عليهم وارثين، أو حمل الوقف على الوصيّة - كما قال صاحب الوسائل - فكلّها خلاف الظاهر، ولا ملزم لشيءٍ منها.

وأمّا حملها على صورة الاضطرار ودفع الضرر كما عن الشيخ، فهو عين صورة المسألة ومصبّ استثناء البيع لو أراد خصوص هذه الصورة. ولو أراد بذلك جواز البيع في جميع صور الاضطرار ودفع أيّ ضرر، ففيه أنّه لا يتوقّف دفعه على البيع، بل يمكن دفعه أيضاً بالحكم ببطلان الوقف حينئذٍ وعود المال إلى مالكه أو صرفه في وجوه البرّ. وبما بيّنّاه في ردّ المحامل المزبورة اتّضح وجه ضعف ما استدلّ به في العروة(1) من الوجوه للمناقشة في المقام، فتأمّل.

فتحصّل: أنّ المتعيّن الأخذ بإطلاق كلام الإمام عليه السلام والحكم بجواز بيع الوقف عند الاختلاف الشديد المخوف، كما عليه رأي المشهور. ولا يمكن التعدّي عن هذا المورد؛ اقتصاراً فيما خالف القاعدة على موضع النصّ، إلّابنصّ دالّ على جواز بيع الوقف في مورد.

ثمّ إنّ المتصدّي لبيع الوقف شرعاً إمّا هو الواقف أو الحاكم أو المنصوب من قبلهما. والأقوى عدم جواز المداخلة في ذلك للحاكم ولا للمنصوب من قبله ما دام الواقف أو المتولّي موجوداً صالحاً لتولّي امور الوقف وعدم الخروج عن جادّة الشرع.

********

(1) - العروة الوثقى 381:6.

ص: 485

وذلك لدلالة قول صاحب الزمان عليه السلام في معتبرة الأسدي: «وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلّمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومؤونتها، ويجعل ما بقي من الدّخل لناحيتنا، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّماً عليها، إنّما لا يجوز ذلك لغيره»(1)؛ حيث دلّ على عدم جواز تولّي الوقف لغير القيّم المنصوب من جانب الواقف. وإنّما خرجنا عنه بأدلّة ولاية الحاكم على الاُمور الحسبية المعطَّلة وأدلّة ولايته المطلقة.

وعليه فما دام القيّم الناظر المنصوب من جانب الواقف موجوداً، لا تصل النوبة إلى الحاكم.

وقد ذكر في العروة صوراً اخرى في المسألة، مثل ما لو أدّى الخراب والاندراس إلى زوال عنوان لاحظه الواقف، كما لو لاحظ عنوان الدارية أو البستانية فخرب البستان والدار وأدّى خرابهما إلى زوال عنوانهما. فحينئذٍ لا إشكال في بطلان الوقف بذلك، فيما إذا لم يمكن تعمير البستان والدار أو إحداث الجديد منهما - ولو ببيع جزءٍ من العرصة وصرف ثمنه في ذلك - وإلّا يجب ذلك؛ عملاً بعمومات الوقف، ولأنّ العرصة جزء من الموقوف وهي باقية وقابلة للانتفاع بها في جهة الوقف، كما بيّنا وجه ذلك تفصيلاً وأجبنا عن إشكال صاحب الجواهر على ذلك.

نعم، إذا وقف الدار أو البستان - مثلاً - ما داما باقيين بعينهما بما لهما من البستانية بأن علمنا من نيّته أنّه وفقهما بعينهما، لا بعنوانهما بحيث لم يقصد وقف غيرهما ولو كان متّصفاً بعنوانهما وخصوصيتهما، فلا إشكال حينئذٍ في بطلان الوقف بخرابهما؛ حيث لا يمكن إحياء الوقف ولا تأمين غرض الواقف حينئذٍ بوجه. ولكنّه خارج

********

(1) - وسائل الشيعة 181:19-182، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 486

عن فرض كلام صاحب الجواهر؛ نظراً إلى ظهور كلامه فيما لو تعلّق قصد الواقف بخصوصية الدارية والبستانية الصادقة على مثلهما.

ومن تلك الصور ما إذا كان البيع أعود وأنفع للموقوف عليهم. وقد ذهب إلى ذلك جماعةٌ من الفقهاءِ منهم الشيخ المفيد، على ما نقل عنه المحقّق الكركي(1) وكذا نقل عنه الشهيد في الدروس وغاية المراد. وفي الجواهر بعد الإشارة إلى ذلك أنكر الوقوف على ذلك في كلام المفيد، بل استظهر من كلامه خلاف ذلك؛ حيث قال:

«وحكى الشهيد في الدروس وغاية المراد عن المفيد جواز بيع الوقف إذا كان البيع أعود على الموقوف عليهم وأنفع لهم. وتبعه عليه جملة المتأخّرين. ولكن لم نتحقّق ذلك من كلامه. وعبارته المنقولة خالية عنه، بل قاضية بخلافه؛ حيث اشترط فيها الضرورة، ومقتضاه عدم جواز البيع بمجرّد كونه أعود»(2).

وقد نسب ذلك في الشرائع إلى قول، ولكن رجّح المنع؛ حيث قال: «ولو لم يقع خلف ولا يُخشى خرابه، بل كان البيع أنفع لهم قيل: يجوز بيعه، والوجه المنع»(3).

وعلى أيّ حال فجواز البيع حينئذٍ خلاف مقتضى القاعدة؛ نظراً إلى عمومات منع بيع الوقف وتغييره، ومنافاته للتأبيد والتحبيس المأخوذين في ماهية الوقف.

فلا بدّ لإثبات جواز ذلك من دليل قطعي. ومجرّد الأعودية والأنفعية لا يكفي للدليلية.

نعم، دلّ على ذلك ذيل رواية جعفر بن حنّان عن أبي عبداللّه عليه السلام - في حديث - قال: قلت: فللورثة من قرابة الميّت أن يبيعوا الأرض إن احتاجوا ولم يكفهم ما

********

(1) - جامع المقاصد 68:9.

(2) - جواهر الكلام 367:22.

(3) - شرائع الإسلام 174:2.

ص: 487

يخرج من الغلّة؟ قال: «نعم، إذا رضوا كلّهم وكان البيع خيراً لهم باعوا»(1)؛ حيث دلّ على جواز بيع الأرض الموقوفة مع تراضي الموقوف عليهم وحاجتهم إلى بيعها وكون البيع أنفع لهم.

ولكنّها ضعيفة سنداً بجعفر بن حنّان؛ لعدم ثبوت وثاقته، بل هو مجهول الحال، كما صرّح بذلك الشهيد(2). ولم يعمل بمضمونها المشهور حتّى ينجبر بعملهم ضعف سندها؛ حيث إنّ جواز بيع الوقف حينئذٍ لم يُفت به مشهور القدماء.

وقد اتّضح بما بيّنّاه حكم سائر الصور التي ذكرها في العروة والجواهر وغيرهما.

بقيت هاهنا صورة، وهي حكم بيع الوقف لأداء الدين من جانب الموقوف عليهم بعد الفراغ عن عدم جواز بيعه للواقف لأجل ذلك.

وقد دلّت روايتان على جواز بيع الوقف للموقوف عليهم حينئذٍ.

إحداهما: صحيحة أحمد بن حمزة عن أبي الحسن: أنّه كتب إليه: مدين أوقف ثمّ مات صاحبه وعليه دين لا يفي ماله إذا وقف فكتب عليه السلام: «يباع وقفه في الدين»(3).

هذه الرواية رواها الشيخ بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب عن أحمد بن حمزة. وأيضاً رواها الصدوق بإسناده عن محمّد بن عيسى العبيدي. ولا إشكال في صحّة سندها؛ إذ أحمد بن حمزة الواقع في سندها، أحمد بن حمزة بن اليسع القمّي من أصحاب الإمام الهادي عليه السلام بقرينة الراوي، وهو ثقة. وطريق الشيخ إلى محمّد بن علي بن محبوب صحيح، وأيضاً طريق الصدوق إلى محمّد بن عيسي صحيحٌ.

فلا إشكال في سند هذه الرواية.

********

(1) - وسائل الشيعة 190:19-191، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 6، الحديث 8.

(2) - مسالك الأفهام 170:3.

(3) - وسائل الشيعة 189:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 7، الحديث 7.

ص: 488

وإنّما الكلام في دلالتها؛ إذ نقل في نسخة الشيخ: «كتب إليه مدين...»(1)، وجاءَ في نسخة الصدوق «كتب إليه مدبَّر»(2).

والاستدلال بها تامّ بناءً على نسخة الشيخ. وصيغة «أوقف» معلومة حينئذٍ.

والمعنى أنّه أوقَف المدين ماله ثمّ مات وعليه دين لا يفي ماله لأدائه إذا وُقف.

وأمّا بناءً على نسخة الصدوق، فالصيغة مجهولة، ويكون المعنى حينئذٍ أنّه وُقِف عبد مدبَّرٌ، ثمّ مات مولاه الذي وقفه، وعليه دينٌ لا يفي به ماله إذا وُقف.

وهذه النسخة أصحّ من نسخة الشيخ. وذلك بقرينة لفظ «ثمّ مات صاحبه»؛ حيث لا يلائم هذا التعبير نسخة الشيخ؛ نظراً إلى زيادة لفظ صاحبه وتمامية قوله:

«مدين أوقف ثمّ مات». هذا، مضافاً إلى أنّ الصدوق أضبط من الشيخ. وبناءً على الثانية يكون المراد من «صاحبه» مولاه، وصيغة «وُقف» أو «اُوقف» مجهولة حينئذٍ.

وقد ناقش صاحب الوسائل في دلالة هذه الصحيحة على المطلوب - بناءً على نسخة الصدوق - بأنّ الوقف حينئذٍ بمعنى الوصيّة بقرينة التدبير الذي هو من قبيل الوصيّة، حيث قال: «والوقف حينئذٍ بمعنى الوصيّة، فإنّ التدبير وصيّة»(3).

وفيه: أنّ كون التدبير من قبيل الوصيّة لا يستلزم كون وقف العبد المدبّر أيضاً من قبيل الوصيّة. وحمل الوقف على الوصيّة خلاف الظاهر؛ نظراً إلى وضعها للوقف المعهود، كما سبق في البحث عن صيغ الوقف في أوّل الكتاب. وتعلّق الوقف بالمدبّر لا يصلح للقرينية على هذا الحمل.

ثمّ إنّ العبد المدبّر لمّا يُعتق بعد موت مولاه بمقتضى التدبير ويصير حرّاً، ينشأ

********

(1) - تهذيب الأحكام 579/138:9.

(2) - الفقيه 624/177:4.

(3) - الفقيه 177:4، ذيل الحديث 624.

ص: 489

من ذلك إشكال، وهو أنّه لايُعقل استمرار وقفه ولا جواز بيعه بعد موته.

وحلّ هذا الإشكال أنّ دين الميّت مانع من صحّة التدبير والعمل به. وعليه فلو لم يكن المدبّر موقوفاً فأيضاً كان الدين مانعاً من صحّة التدبير والعمل به. وذلك لأنّ التدبير من قبيل الوصيّة. والوصيّة إنّما يحوز العمل بها إذا لم يكن العمل بها مانعاً من أداء دين الميّت. فإذا دار الأمر بينهما يُقدّم أداءُ الدين، بلا إشكال.

ومن هنا لا بدّ من الحكم بتقديم أداءِ الدين عند الدوران المزبور، على فرض كون الوقف المزبور من قبيل منقطع الآخر؛ بلحاظ تعلّقه بالملك المقطوع بموت المولى بمقتضى التدبير. ولأجل ذلك يكون المراد من قوله «يباع وقفه في الدين»، أنّ ما كان وقفاً في حال حياته في مفروض الكلام، يباع في الدين؛ لانقلابه بالموت إلى التدبير الذي في حكم الوصيّة. وإطلاق عنوان المشتقّ على ما انقضى عنه التلبُّس ليس بمجاز بناءً على التحقيق، كما قُرِّر في محلّه، هذا مع وجود القرينة في المقام. هذا البيان مطابق لما قاله صاحب الوسائل من حمل الوقف في هذه الرواية على الوصيّة، بناءً على نسخة الصدوق. فيمكن توجيه كلامه بأنّ مقصوده رجوع الوقف إلى الوصيّة بالمآل.

ويمكن أيضاً حمل هذه الرواية؛

على إلغاء التدبير بالوقف. ولا مانع منه؛ لأنّ التدبير من قبيل الوصيّة، وهي تنقض بلحوق تمليك متعلّق الوصيّة من جانب الموصي قبل موته، كما تبطل وتلغى الوصيّة الاُولى بلحوق وصيّة اخرى مناقضة للوصية الاُولى.

وعليه يصير المدبّر بعد وقفه من قبيل الوقف المؤبّد. ويدخل في موضوع الكلام في المقام.

فلا إشكال في دلالة الرواية على المطلوب حينئذٍ. ولكن بمجرّد احتمال الوجه

ص: 490

الأوّل تسقط الرواية عن حيّز الاستدلال كما أشار إليه في الوسائل.

والحاصل: أنّ هذه الرواية تامّة سنداً، ولكن في دلالتها إشكال بناءً على نسخة الصدوق. ولمّا كانت رواية واحدة يكفي احتمال مطابقة ما صدر من الإمام عليه السلام لنسخة الصدوق لسقوطها عن حيّز الاستدلال. ولا تجري في مثل المقام أصالة عدم الزيادة، كما هو واضحٌ. هذا، مع إمكان حملها على الدين المستغرق الذي لا يمكن أداؤه مع بقاءِ الوقف على حاله. وذلك يندرج تحت الضرورة والحاجة الشديدة التي ذكرها الأصحاب من مستثنيات منع بيع الوقف.

وثانيتهما: صحيحة عبدالرحمان عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «فإن أراد أن يبيع نصيباً من المال فيقضي به الدين، فليفعل إن شاءَ، لا حرج عليه فيه»(1). وقد سبق تقريب دلالته آنفاً. ولكن يمكن حملها على اشتراط ذلك من الإمام عليه السلام في متن عقد وقفه الصادر منه. فجواز البيع حينئذٍ ثابت بمقتضى اشتراط الواقف، لا بمقتضى الاستثناءِ.

ولكن يرد على هذا الحمل أنّ اشتراط البيع مخالف لمقتضى عقد الوقف؛ نظراً إلى منافاته لحقيقة الوقف، وهي تحبيس العين، مع منافاته للتأبيد المأخوذ في الوقف.

فلا مناص من حمله على صورة استغراق الدين وعدم إمكان أدائه بسائر الأموال ولا بمنافع الوقف؛ بحيث يتوقّف على بيعه.

هذا، مقتضى دلالة نصوص المقام. ولكن لم أر في كلمات الأصحاب من يفتي بجواز بيع الوقف لأداء الدين، وإنّما أفتوا بجوازه لدفع ضرورة وحاجة شديدة

********

(1) - وسائل الشيعة 200:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 3.

ص: 491

(مسألة 74): لا إشكال في جواز إجارة ما وقف وقف منفعة - سواء كان وقفاً خاصّاً أو عامّاً - على العناوين أو على الجهات والمصالح العامّة، كالدكاكين والمزارع الموقوفة على الأولاد أو الفقراء أو الجهات العامّة؛ حيث إنّ المقصود استنماؤها بإجارة ونحوها ووصول نفعها إلى الموقوف عليهم، بخلاف ما كان وقف انتفاع، كالدار الموقوفة على سُكنى الذرّية وكالمدرسة والمقبرة والقنطرة والخانات الموقوفة لنزول المارّة، فإنّ الظاهر عدم جواز إجارتها في حال من الأحوال (1).

عرضت على الموقوف عليهم. ولا يبعد ذلك عند الاضطرار لدلالة بعض نصوص المقام، المنجبر ضعف سنده بعمل المشهور، مثل رواية جعفر بن حنّان عن أبي عبداللّه عليه السلام: قلت: فللورثة من قرابة الميّت أن يبيعوا الأرض إن احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من الغلّة؟ قال: «نعم، إذا رضوا كلّهم وكان البيع خيراً لهم باعوا»(1).

وخبر الحميري عن صاحب الزمان عليه السلام(2).

جواز إجارة وقف المنفعة دون وقف الانتفاع

1 - والفرق بين الوقفين أنّ في وقف المنفعة يتعلّق قصد الواقف وغرضه بانتفاع الموقوف عليهم من العين الموقوفة بأيّ نحو ممكن.

وبعبارة اخرى: يتعلّق غرضه حينئذٍ بتمليك منفعة العين الموقوفة للموقوف عليهم وعودها إليهم، من دون نظر إلى كيفية خاصّة من الانتفاع.

********

(1) - وسائل الشيعة 190:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 6، الحديث 8.

(2) - وسائل الشيعة 191:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 6، الحديث 9.

ص: 492

وأمّا في وقف الانتفاع فيتعلّق غرض الواقف بانتفاع الموقوف عليهم من العين الموقوفة بكيفية خاصّة، كما لو وقف الدار لخصوص سكنى الموقوف عليه، لا لغير السكونة من سائر وجوه الانتفاع.

إذا عرفت الفرق بينهما تستطيع أن تعرف مقتضى القاعدة فيهما.

فإنّ مقتضى القاعدة في الأوّل جواز الانتفاع من العين الموقوفة للموقوف عليهم بأيّ نحو وكيفية، سواءٌ كان بإجارة أو زراعة أو صناعة أو تجارة أو نحو ذلك من وجوه المعاملات والصناعات والتجارات.

وأمّا في الثاني فمقتضى عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» عدم جواز التصرّف والانتفاع من العين الموقوفة؛ إلّابالسكنى، لأنّها التي تعلّق غرض الواقف بها، دون غيرها.

هذا، ولكن قد سبق من الشيخ الأعظم أنّ الوقف على الجهات من قبيل وقف الانتفاع، لا المنفعة، وأنّ الموقوف عليهم في هذا النوع من الوقف لا يملكون منافع الوقف، فلا يجوز لهم استيفاؤها بغير طريق الانتفاع المباشري.

ولكن أجاب عنه في العروة بأنّ الانتفاع الثابت للموقوف عليهم في الوقف على الجهات - على القول به - إنّما هو من قبيل ملك الانتفاع، لا من قبيل جواز الانتفاع الراجع إلى الحكم كما في الانتفاع بالمباحات الأصلية.

ولا يخفى: أنّه بناءً على هذا الأساس لا فرق بين وقف المنفعة والانتفاع من حيث جواز تمليك حقّ الانتفاع بعد صدق عنوان المال والملك عليه. وعليه يشكل على ما يظهر من السيّد الماتن من الفرق بينهما بعدم جواز إجارة الوقف في الثاني؛ لأنّ بالإجارة يمكن تمليك حقّ الانتفاع، وقد يُعبّر عنه بالسرقفلية وهي في الحقيقة إجارة العين المستأجرة.

ص: 493

(مسألة 75): لو خرب بعض الوقف بحيث جاز بيعه، واحتاج بعضه الآخر إلى التعمير لحصول المنفعة، فإن أمكن تعمير ذلك البعض المحتاج من منافعه، فالأحوط تعميره منها، وصرف ثمن البعض الآخر في اشتراء مثل الموقوفة (1)، وإن لم يمكن لا يبعد أن يكون الأولى بل الأحوط أن يصرف الثمن في التعمير المحتاج إليه (2). وأمّا جواز صرفه لتعميره الموجب لتوفير المنفعة فبعيد (3). نعم، لو لم يكن الثمن بمقدار شراء مثل الموقوفة يصرف في التعمير ولو للتوفير.

هذا، ولكنّنا في راحةٍ من هذه المنازعات بعد ما بنينا عليه من دخول العين الموقوفة في ملك الموقوف عليهم - فضلاً عن منافعها - في مطلق الأوقاف.

حكم ما لو خرب بعض الوقف واحتاج بعضه إلى التعمير

1 - لأنّه إذا جاز بيع بعض الرقبة الموقوفة أو كلّها، لا بأس بصرف ثمنها في شراءِ مثلها، بل يجب ذلك؛ لأنّه صرف في جهة الوقف، ولفرض كفاية المنافع لتعمير ما يحتاج إليه.

2 - وجه الأولوية، بل التعيُّن، أنّ التعمير إحياءٌ للوقف وإبقاءٌ للعين الموقوفة، فهي أقرب إلى غرض الواقف وأوفق بعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها».

3 - وذلك لأنّ توفير المنفعة لا يصلح وجهاً ودليلاً لصرف ثمن العين الموقوفة فيه؛ حيث لا يتوقّف العمل بالوقف على ذلك، بل بدونه أيضاً يمكن العمل بالوقف.

ولتعلّق غرض الواقف بتحبيس العين وتسبيل منفعتها مطلقاً، قليلةً كانت المنفعة أو كثيرةً. وأنّ الوقف يتقوّم بتحبيس العين ولو بشراء مثلها وتحبيسه. إلّاإذا كان الثمن

ص: 494

(مسألة 76): لا إشكال في جواز إفراز الوقف عن الملك الطلق؛ فيما إذا كانت العين المشتركة بينهما (1)، فيتصدّيه مالك الطلق مع متولّي الوقف أو الموقوف عليهم.

في حدٍّ من القلّة لا يمكن أن يُشترى به مثل العين الموقوفة. فيُصرف ثمن المبيع في التوفير؛ لأنّه أقرب إلى غرض الواقف من صرفه فيما لا يرتبط بذلك الوقف.

جواز إفراز الوقف عن الملك الطلق

1 - إذا كان عيناً - كرقبة أرض أو بستان أو دار - مشتركةً بين الوقف وبين الملك الطلق، فمقتضى التحقيق جواز إفرازه وتقسيمه، كما صرّح به في الشرائع، وعلّل ذلك بأنّ القسمة حينئذٍ موجبة لتمييز الوقف عن غيره؛ حيث قال: «لو كان الملك الواحد وقفاً وطلقاً صحّ قسمته؛ لأنّه تمييز للوقف عن غيره»(1). ومراده أنّ القسمة حينئذٍ ليست في الوقف نفسه، بل مرجعها إلى تفكيك الوقف عن الملك الطلق.

ثمّ إنّ القسمة في مفروض الكلام لو استلزمت ردّاً من جانب الموقوف عليه، وقع الكلام في أنّ مقدار ما يقابل العوض المردود من المال، هل يكون وقفاً أو ملكاً له، الأقوى هو الثاني. وذلك لأنّ الموقوف عليه إنّما يملك سهمه من الجزءِ الزائد بعنوان منفعة الوقف، لا العين الموقوفة؛ لفرض عدم إمكان إفرازه. وأمّا النصف الآخر، فيدخل في ملكه بازاءِ ما دفعه من العوض، كما هو مقتضى أيّة معاوضة.

********

(1) - جواهر الكلام 315:26.

ص: 495

ويشهد لما قلنا كلام صاحب الجواهر؛ حيث قال: «ثمّ إنّ الظاهر مشروعية قسمة الوقف من الطلق، وإن استلزمت ردّاً من الموقوف عليه، لكن هل تكون الأجزاء المقابلة للردّ وقفاً أو ملكاً وجهان: أقواهما الثاني، نعم لو كان الردّ عوض وصف كالجودة والردائة، اتّجه كونه حينئذٍ وقفاً، كما صرّح به في القواعد وغيرها»(1).

ولكن قال في العروة: «إنّ قسمة الوقف عن الطلق إذا اشتمل على الردّ من جانب الطلق فلا تجوز لاستلزامها ملكية بعض الوقف، وإن كان الردّ من جانب الوقف فلا مانع منه ومقابل الردّ وقف إن كان من الوقف، وإن كان من مال الموقوف عليه فهو لهم على الظاهر. نعم لو كان في مقابل الردّ وصف مثل الجودة ونحوها، كان الجميع وقفاً؛ لعدم إمكان الفصل»(2).

مقصوده: أنّ ردّ ثمن المقدار الزائد من العين إن كان من جانب مالك الطلق لايجوز؛ لاستلزامه دخول مقدار من العين الموقوفة في ملكه. ولا يملك الوقف أحدٌ. وأمّا في صورة العكس، فلا محذور؛ نظراً إلى انتقال مقدار من الملك الطلق إلى الموقوف عليه حينئذٍ بإزاءِ ما يدفعه من الثمن، لكنّه إنّما يصير ملكاً للموقوف عليه إذا كان ما دفعه من الثمن ملكاً له، لا من الوقف.

ويرد عليه: أنّ الردّ شرط صحّة القسمة وتماميتها، لا من القسمة، بل إنّما هو معاوضة مستقلّة تُعتبر في تمامية القسمة.

إن قلت: لا ريب في أنّ الجزاءَ الزائد نصفه للوقف، ولا يستحقّه الموقوف عليهم، إلّابعنوان العين الموقوفة، فكيف يكون ملكاً طلقاً لهم حال كونه وقفاً.

********

(1) - جواهر الكلام 317:26.

(2) - العروة الوثقى 394:6.

ص: 496

قلت: نعم، ولكنّ المفروض في قسمة الردّ عدم إمكان إفراز عين نصف الجزء الزائد وتحبيسه، بل إنّما يتوقّف انتفاعهم من ذلك النصف على المعاوضة المزبورة؛ لفرض عدم إمكان إفرازه ولو بالتعديل. فلا محالة يتوقّف انتفاعهم منه على معاوضة الجزء الزائد، فيملكون نصفه - الواقع في سهمهم بعنوان منفعة الوقف ونصفه الآخر بإزاءِ الثمن المدفوع بطريق المعاوضة. وأمّا في صورة العكس ففي الحقيقة يدخل المقام في موارد توقّف الانتفاع من العين الموقوفة على بيعها؛ لفرض عدم إمكان إفراز الجزء الزائد فينتفعون من نصفه - الواقع في سهمهم - ببيعه وأخذ ثمنه.

والحاصل: أنّ الكلام واقع في جهتين:

الاُولى: في جواز ردّ الجزء الزائد إلى مالك الطلق؛ نظراً إلى محذور وقوع نصفه - الذي هو سهم الموقوف عليهم - في الملك الطلق. والأقوى جوازه لما بيّنّاه من توقّف انتفاع الموقوف عليهم من النصف المزبور على بيعه أو شراء النصف الآخر، الذي هو الملك الطلق.

الثانية: أنّ النصف الذي هو سهم الوقف، هل يملكه الموقوف عليهم - في صورة شراءِ الجزء الزائد - بعنوان الملك الطلق أو بعنوان الوقف. والأقوى أنّهم يملكونه حينئذٍ بعنوان الملك الطلق كما عرف من صاحب الجواهر اختياره. وذلك لأنّهم يملكونه بعنوان منفعة الوقف لا العين الموقوفة؛ نظراً إلى عدم إمكان إفرازه، كما هو المفروض في قسمة الردّ.

وعليه فمقتضى التحقيق في المقام كون مقابل الثمن في الصورة الاُولى والثمن المأخوذ بإزائه في الصورة الثانية ملكاً للموقوف عليهم، لا من الوقف، والأمر في الصورة الثانية واضح؛ لعدم كون الثمن قابلاً للوقفية.

ص: 497

بل الظاهر جواز قسمة الوقف أيضاً لو تعدّد الواقف والموقوف عليه، كما إذا كانت دار مشتركة بين شخصين، فوقف كلّ منهما حصّته المشاعة على أولاده. بل لا يبعد الجواز فيما إذا تعدّد الوقف والموقوف عليه مع اتّحاد الواقف، كما إذا وقف نصف داره مشاعاً على مسجد والنصف الآخر على مشهد. ولا يجوز قسمته بين أربابه إذا اتّحد الوقف والواقف؛ مع كون الموقوف عليهم بطوناً متلاحقة أيضاً. ولو وقع النزاع بين أربابه بما جاز معه بيع الوقف ولا ينحسم إلّابالقسمة جازت، لكن لا تكون نافذة بالنسبة إلى البطون اللاحقة، ولعلّها ترجع إلى قسمة المنافع، والظاهر جوازها مطلقاً. وأمّا قسمة العين بحيث تكون نافذة بالنسبة إلى البطون اللاحقة، فالأقوى عدم جوازها مطلقاً (1).

حكم قسمة الوقف

1 - المعروف بين الأصحاب عدم مشروعية قسمة الوقف. بل في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه»(1).

وقد علّل في الشرائع عدم مشروعية قسمة الوقف بعدم انحصار الحقّ في المتقاسمين؛ حيث قال: «ولا يُقسّم الوقف؛ لأنّ الحقّ ليس بمنحصر في المتقاسمين».

ومقصوده أنّ البطون الموقوف عليهم لا ينحصرون في الذين قسّمت العين الموقوفة بينهم؛ إذ لا يمكن الوقوف على تعداد البطون اللاحقة الذين لم يوجدوا

********

(1) - جواهر الكلام 315:26.

ص: 498

ولم يتولّدوا بعدُ. فقد يزيد تعدادهم عن عدد الذين قُسّمت العين الموقوفة بينهم، كما قد يقلّ تعدادهم عن المقسوم عليهم الوقف.

وأنت ترى أنّ هذا المحذور يدور مدار عدم العلم بتعداد الموقوف عليهم، كما في الوقف على البطون.

وأمّا لو تعدّد الوقف أيضاً - كما لو وقف واقف نصف عينٍ على بطن ونصفها الآخر على بطن آخر، فلا محذور في قسمة العين الموقوفة على نصفين حينئذٍ، فكلّ نصف لبطن. وكذلك الأمر لو تعدّد الواقف والموقوف عليه، كما هو واضح.

ومن هنا قال الشهيد في المسالك في شرح كلام المحقّق: «هذا إذا كان الواقف واحداً وإنّما التعدّد في الموقوف عليه كالبطون المتعدّدة. فإنّ الحقّ يتغيّر بزيادتها ونقصانها. فربما استحقّ بعض بطون المتقاسمين أكثر ممّا ظهر بالقسمة لمورِّثهم، وبالعكس. وكذا لو تعدّد الواقف واتّحد الموقوف عليه، كما لو وقف جماعة على شخصٍ وعلى ذرّيته وأراد بعض الذرّية القسمة، لعين ما ذكر.

أمّا لو تعدّد الوقف والموقوف عليه، كما لو وقف واقف نصف عينٍ على شخصٍ وذرّيته، وآخر على غيره كذلك، فجاز للموقوف عليهما الاقتسام، بحيث يميّزان كلّ وقف على حدته، وكذا لذرّيتهما دون الذرّية الواحدة.

ولو كان التعدّد فيهما على غير هذا الوجه، كما لو وقف اثنان على كلّ واحد من الاثنين، فحكمه حكم المتّحد.

والضابطة أنّ الوقف الواحد لا تصحّ قسمته، وإن تعدّد الواقف والمصرف، وهو المراد من العبارة»(1).

********

(1) - مسالك الأفهام 321:4.

ص: 499

ولا يخفى: أنّ مقصوده من قوله: «كما لو وقف اثنان...» أنّه لو وقف شخصان عيناً واحدة على شخصين، لانصفها على أحدهما ونصفها الآخر على آخر.

يظهر من صاحب الحدائق عدم صحّة قسمة الوقف بين الموقوف عليهم بأن يأخذ كلّ واحد منهم سهمه ويتصرّف فيه على حدة. وفسّر ذلك بما إذا كان الموقوف عليه متعدّداً، سواءٌ كان الواقف متعدّداً أو واحداً. وقد علّل لذلك بثلاثة وجوه يرجع الأوّلان إلى الأخير في الحقيقة.

قال في الحدائق: «قد صرّح الأصحاب بأ نّه لا يصحّ قسمة الوقف؛ بأن يأخذ كلّ واحد من الشركاء فيه بعضاً ويتصرّف فيه على حدة.

وتفصيل هذا الإجمال أن يقال: إنّه متى كان الواقف واحداً أو متعدّداً والموقوف عليه متعدّداً، كأن يقف زيد داره على ذرّيته من الموجودين وما تناسل منهم، وقفاً مؤبّداً مشتملاً على شرائط الصحّة واللزوم، أو يكون نصف الدار لزيد، ونصفها لعمرو، فيقف كلّ منهما حصّته على تلك الذرّية مثلاً.

فإنّه في هذه الصورة لا يجوز للموقوف عليهم قسمة الوقف؛ لأنّه أوّلاً: على خلاف وضع الواقف والموقوف على ما وقفت عليه، كما ورد به النصّ.

وثانياً: أنّ الوقف ليس ملكاً لاُولئك الموجودين الآن، لمشاركة البطون الاُخرى لهم في ذلك.

وثالثاً: إنّ الحقّ يتغيّر بزيادة البطون ونقصانها. فربما استحقّ بعض بطون المتقاسمين أكثر ممّا ظهر بالقسمة لمورّثهم وبالعكس»(1).

********

(1) - الحدائق الناضرة 176:21-177.

ص: 500

مقصوده من ذلك أنّ البطن الأوّل لو كان خمسة أشخاص - وقسّموا الوقف بينهم على السوية، لمّا يتفاوت تعداد ذراريهم عادةً، تستحق ذرّية بعضهم أكثر من سهم مورّثه؛ نظراً إلى كون تعدادهم أكثر من ذرّية آخرين. ولمّا لا يمكن العلم بتعدادهم قبل وجودهم، فلا يمكن رعاية العدل وحفظ سهمهم بالقسمة. فلا يزال تكون قسمة الوقف مزيلة لحقوق البطون اللاحقة.

وأنت ترى أنّ الوجهين الأوّلين تتوقّف تماميتهما على الوجه الثالث. وذلك لأنّه لو لا مغايرة عدد المقسوم عليهم مع تعداد البطون الموقوف عليهم، لا مخالفة في البين لوضع الواقف ولا لكيفية وقفه.

ومن هنا ترى صاحب الجواهر أنّه لم يعتن بالوجهين الأوّلين، وعلّل بالوجه الأخير فقط، كما سيأتي الآن نصّ كلامه.

وقد علّل في الجواهر منع قسمة الوقف بوجهين؛

أحدهما: ما يرجع إلى الوجه الأخير من الوجوه الثلاثة المذكورة في كلام صاحب الحدائق. وكأ نّه لم يعتن بالوجهين الأوّلين. ورتّب على ذلك جواز الوقف فيما لو اتّحد الوقف وتعدّد الواقف، رغماً لصاحب الحدائق ولكن يستفاد من تمثيله لذلك أنّ الجواز لأجل تعدّد الوقف، وإن كان الواقف واحداً.

قال في الجواهر في بيان مقتضى التحقيق في المسألة:

«فالتحقيق أنّ الوقف متى كانت قسمته منافية لما اقتضاه الوقف باعتبار اختلاف البطون قلّةً وكثرةً ونحو ذلك، لم يجز قسمته. أمّا إذا لم يكن كذلك كما في المثال، بل فيما لوا اتّحد الواقف وتعدّد المصرف، مثل ما لو وقف نصف داره على زيد مثلاً وذرّيته والآخر على عمرو وذرّيته، لم يكن بأس في قسمته، إلّاأنّ المتولّي لها

ص: 501

الحاضرون من الموقوف عليهم، ووليُّ البطون»(1).

ومرجع كلامه هذا في الحقيقة إلى اعتبار وحدة الوقف في عدم جواز قسمة الوقف.

ثانيهما: ما يرجع إلى نفي مشروعية ولاية المتولّي - سواءٌ كان منصوباً من الواقف أو الموقوف عليهم أو الحاكم - على قسمة الوقف. وحاصل كلام صاحب الجواهر(2) في التعليل لذلك: إنّه لا ولاية لمتولّي الوقف على قسمة الوقف. ولم أر هذا الاستدلال في كلام غيره.

بيان ذلك: أنّ «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»، كما ورد في نصوص الوقف. ولا ريب في دخول الموقوف عليهم اللاحقين في قصد الواقف. وإنّما تثبت الولاية للمتولّي على العين الموقوفة على حسب الحدّ المشروع في الوقف. وتبتني على رعاية مصلحة الموقوف عليهم اللاحقين. وقسمة الوقف لمّا كانت مستلزمة لمخالفة حقّ الموقوف عليهم اللاحقين، وموجبة لنقض حكم الشارع في الوقف، لا ولاية للمتولّي عليها.

وبعبارة اخرى: أنّ ولاية المتولّي تبتني على أساس أمرين: أحدهما: ما قصده الواقف وما رسمه من كيفية الوقف.

ثانيهما: مصلحة المولّى عليهم، وهم جميع أفراد الموقوف عليهم المشتمل على البطون اللاحقة. وكلا الأمرين منتفيان في المقام.

أمّا انتفاء الأمر الأوّل، فلفرض كون تضييع حقّ البطون اللاحقة مخالفة لما قصده

********

(1) - جواهر الكلام 316:26.

(2) - جواهر الكلام 315:26.

ص: 502

الواقف وما رسمه من كيفية الوقف.

أمّا انتفاءُ الثاني، فلكون إزالة حقوق البطون اللاحقة مخالفاً لمصلحتهم.

ومن هنا لا ولاية للمتولّي على قسمة الوقف على البطون. وهذا الاستدلال متين؛ إلّاأنّه إنّما يتمّ في الوقف على البطون، دون الوقف على البطن الأوّل فقط ولا على عدّة موجودين. وهذا الاشكال يرد أيضاً على الاستدلال بتضييع حقوق البطون اللاحقة أيضاً. وحلّه أنّ مفروض كلامهم في الوقف على البطون.

وإنّ لصاحب العروة كلاماً في المقام ينبغي نقله.

قال: «وأمّا قسمة الوقف بين أربابه، فلا تجوز على المشهور. ومقتضى إطلاقهم عدم الفرق بين صورة اتّحاد الوقف والواقف والموقوف عليه والعين الموقوفة، وبين التعدّد في الجميع أو البعض. وذهب صاحب الحدائق إلى جوازها مع تعدّد الواقف والموقوف عليه، كما إذا كانت مشتركة بين زيد وعمروٍ، فوقف كلّ منهما حصّته على أولاده. وكذا المحقّق القمّي قدس سره، بل يظهر منه جوازها مع تعدّد الوقف والموقوف عليه، كما إذا كان نصف مشاع من ملك وقفاً على مسجد والنصف الآخر على مشهد.

والأقوى: الجواز مطلقاً ما لم تكن منافية لمقتضى الوقف بسبب اختلاف البطون قلّة وكثرة.

نعم، في صورة اتّحاد الوقف والواقف، كما إذا وقف على أولاده وكانوا متعدّدين يمكن دعوى عدم الجواز؛ لكونه خلاف وضع الوقف وإن رضي الواقف.

و أمّا تعليل المنع بعدم انحصار الحقّ في الموجودين، فيمكن دفعه بأنّ المتولّي أو الحاكم الشرعي يتولّاها عن البطون اللاحقة.

ثمّ إنّ هذا إذا اريد القسمة الحقيقية بحيث تلزم على البطون، وأمّا إذا اقتسم أهل

ص: 503

كلّ طبقة بالنسبة إلى أنفسهم فقط، فالظاهر أنّه لا مانع منه وليس هذا مراد المشهور»(1).

وقد تبيّن بما بيّنّاه ما في كلامه من الإشكال.

وذلك أوّلاً: لأنّه إذا جازت قسمة أهل كلّ طبقة بين أنفسهم، فلِمَ لا تجوز إذا وقف على أولاده الموجودين وكانوا متعدّدين. فكيف ادّعى هذا العَلَم كون القسمة حينئذٍ خلاف وضع الوقف، وإن رضي الواقف؟!

وبعبارة اخرى: إن كان مراده من قوله: «نعم في صورة اتّحاد الوقف والواقف...» صورة الوقف على البطون، لا معنى للاستدراك بقوله: «نعم...»؛ نظراً إلى أنّها حينئذٍ نفس الصورة التي أرادها من قوله: «ما لم تكن منافيةً لمقتضى الوقف بسبب اختلاف البطون قلّة وكثرةً».

وإن كان مقصوده من قوله المزبور صورة الوقف على خصوص أولاده الموجودين؛ بأن لا يشمل البطون اللاحقة ويكون من الوقف المنقطع الآخر، يُنقض بقوله في ذيل كلامه: «وأمّا إذا اقتسم أهل كلّ طبقة بالنسبة إلى أنفسهم فقط، فالظاهر لا مانع منه»؛ لأنّه نفس تلك الصورة.

ولكنّ الحقّ ما جاءَ في ذيل كلامه والاستدراك في غير محلّه.

وثانياً: ما قاله من إمكان دفع إشكال تضييع حقّ اللاحقين بأنّ المتولّي أو الحاكم يتولّيان القسمة عن البطون اللاحقة، غير وجيه؛ لما عرفت آنفاً ممّا بيّنّاه في وجه عدم ولاية المتولّي لقسمة الوقف، وكذلك الحاكم؛ إذ الملاك واحد. وهو كون قسمة الوقف بذاتها مستلزمة لتضييع حقوق البطون اللاحقة؛ لأنّ سببه اختلافهم قلّةً

********

(1) - العروة الوثقى 393:6.

ص: 504

(مسألة 77): لو آجر الوقف البطن الأوّل، وانقرضوا قبل انقضاء مدّة الإجارة، بطلت بالنسبة إلى بقيّة المدّة (1) إلّاأن يجيز البطن اللاحق، فتصحّ على الأقوى. ولو آجره المتولّي فإن لاحظ فيه مصلحة الوقف، صحّت ونفذت بالنسبة إلى البطون اللاحقة، بل الأقوى نفوذها بالنسبة إليهم لو كانت لأجل مراعاتهم، دون أصل الوقف، ولا تحتاج إلى إجازتهم.

وكثرةً، وهذا أمر غير معلوم لأحد وخارج عن الاختيار.

وثالثاً: ما نسبه إلى المشهور من إطلاق القول بعدم جواز قسمة الوقف وشموله لجميع الصور، فيه نظرٌ؛ لأنّ تعليلهم لذلك - بعدم انحصار الحقّ في المتقاسمين.

وبعدم رعاية حقوق البطون اللاحقة؛ لاختلاف تعدادهم قلّةً وكثرة - قرينة مانعة من انعقاد الإطلاق المزبور، فتعطي الظهور فيما كانت القسمة منافية لحقوق الموقوف عليهم. ولازمه جواز القسمة فيما لم تناف حقوقهم ما دام لم تخالف نيّة الواقف.

ومقتضى التحقيق في المقام: عدم جواز قسمة الوقف لأحد الملاكين التاليين:

1 - تضييع حقوق الموقوف عليهم، كما لا تنفكّ عنه قسمة الوقف على البطون؛ حيث لا تخلوا من تغيير السهام باختلاف البطون قلّة وكثرةً.

2 - اتّحاد الوقف؛ إذ لا محذور في قسمة حينئذٍ، بلا فرق بين تعدّد الواقف واتّحاده. ومن هنا تعرف الإشكال في استدراك صورة اتّحاد الوقف والواقف؛ حيث لا دخل لاتّحاد الواقف في عدم جواز الوقف، وإنّما الملاك اتّحاد الوقف.

حكم إجارة الوقف الخاصّ

1 - يقع الكلام في المقام تارة: في إجارة الوقف من جانب البطن الأوّل،

ص: 505

واُخرى: في إجارته من جانب المتولّي.

فالكلام في مقامين:

أمّا المقام الأوّل: وهو ما لو آجر البطن الأوّل الوقف ثمّ ماتوا وانقرضوا جميعاً قبل مضيّ مدّة الإجارة، فوقع الكلام في أنّه هل يبقى الإجارة على صحّتها ونفوذها، من دون توقّف على إجازة البطن اللاحق؟ أو لا بل تتوقّف صحّتها على إجازة البطن اللاحق، أو تبطل رأساً، من دون تأثير لإجازة البطن اللاحق في صحّتها، بل عليهم استيناف الإجارة لو شاؤوا.

مقتضى التحقيق: بطلان الإجارة بمجرّد موت البطن الأوّل. وذلك للوجهين:

أحدهما: أنّ بموت الموقوف عليه الموجر تنقضي مالكيته وسلطنته للعين المستأجرة. وإنّ صحّة الإجارة فرع مالكية الموجر للعين المستأجرة مطلقاً ملكاً طلقاً - كما في مالك الطلق - لا ملكاً غير طلق كما في الوقف. وقد انتفى استحقاق البطن الأوّل ومالكيتهم للعين بانقضاء أجلهم ومدّة استحقاقهم بمقتضى الوقف. فلا محالة تبطل الإجارة بخروج العين المستأجرة عن سُلطة الموجر شرعاً.

ثمّ إنّ في المقام نكتة ينبغي التنبيه عليها.

وهي: أنّ بموت الموجر هل تبطل الإجارة في غير باب الوقف كالوقف أم لا؟ المشهور بين القدماء بطلان الإجارة بموت الموجر، واشتهر بين المتأخّرين الصحّة.

وتحقيق المسألة تارة:

يكون بمقتضى القاعدة.

واُخرى: بمقتضى النصّ.

وأمّا مقتضى القاعدة فقد قرّرها السيّد الخوئي(1) بما حاصله: أنّ إطلاق (أَوْفُوا

********

(1) - المستند في شرح العروة الوثقى 128:30.

ص: 506

بِالْعُقُودِ) يقتضي صحّة الإجارة بعد موت الموجر، وأنّ ملكية المنفعة تامّة وطلقٌ بإزاء العوض المأخوذ، وهذا بخلاف الوقف، فالبطلان يحتاج إلى الدليل.

وفيه: أنّ مالكية الموجر تنتفي بعد موته عن العين المملوكة وبتبعها عن المنفعة؛ لأنّ النماءَ تابعة للعين، كما تنتفي مالكية الموقوف عليه بموته كذلك مطلقاً.

وأمّا: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فلا إطلاق له بعد انقطاع مالكية الموجر، وكون الملك طلقاً لا ينفع بعد انقطاعه بالموت. والنماءُ تابعةٌ للعين المستأجرة، وهي قد خرجت عن ملك الموجر بموته في بابي الوقف وغيره كليهما، بلا فرق.

وأمّا النصوص، فإطلاقات لزوم الإجارة لا يصحّ التمسّك بها؛ حيث لا نظر لها إلى صورة موت الموجر وكذا عموماتها لا تصلح لإثبات صحّتها بعد موت الموجر لما بيّنّاه في بيان مقتضى القاعدة.

والعمدة في المقام روايتان:

إحداهما: مكاتبة الهمداني عن أبي الحسن عليه السلام(1). وقد استُدلّ بها للمشهور ولمخالفيهم. ومصبّ الاستدلال للطرفين قوله عليه السلام: «إن كان لها وقت مسمّى لم يبلغ فماتت، فلورثتها تلك الإجارة». قوله عليه السلام: «فلورثتها»؛ أي لورثة المرأة الموجرة.

فاستُدلّ به للمشهور بتقريب: أنّ المقصود كون زمام أمر الإجارة - بقاءً بعد موت المرأة الموجرة - بيد ورثتها. ومعنى ذلك بطلان الإجارة بموت الموجر لو لا إجازة الورثة، وإنّما تصحّ بإجازتهم، كما قال به مشهور القدماءِ.

واستدلّ به المخالفون بتقريب أنّ المقصود أنّ منفعة الإجارة إلى الورثة. ولازم

********

(1) - وسائل الشيعة 136:19-137، كتاب الإجارة، الباب 25، الحديث 1.

ص: 507

ذلك عدم بطلان الإجارة بموت الموجر، بل تستمرّ وتبقى صحيحة وينتقل مال الإجارة إلى ملك الورثة، وإن لم يجيزوها.

وفي سند هذه الرواية ضعف ينجبر بعمل مشهور القدماء بناءً على التفسير الأوّل الموافق لهم. وأمّا ما ورد في بعض نسخها «فلورثتها تلك الاُجرة» فيدفعه سياق الرواية؛ إذ يقتضى كون المشار إليه بلفظ «تلك» مطابقاً لمرجع ضمير الهاء في قوله:

«إن كان لها وقت مسمّى» وليس المرجع والمشار إليه غير الإجارة.

ثانيتهما: صحيحة أبي همام: أنّه كتب إلى أبي الحسن عليه السلام في رجل استأجر ضيعة من رجل فباع المواجر تلك الضيعة بحضرة المستأجر ولم ينكر المستأجر البيع، وكان حاضراً له شاهداً فمات المشتري وله ورثة، هل يرجع ذلك الشيء في ميراث الميّت، أو يثبت في يد المستأجر إلى أن تنقضي إجارته؟ فكتب عليه السلام: «يثبت في يد المستأجر إلى أن تنقضي إجارته»(1)؛ حيث حَكمَ فيها الإمام عليه السلام بصحّة الإجارة وثبوتها في يد المستأجر مع فرض موت الموجر - وهو المشتري - إلى أن تنقضي الإجارة ونظيرها مكاتبة أحمد بن إسحاق إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام(2).

ولكنّها محمولة على انتقال العين إلى المشتري مسلوبة المنفعة خلال مدّة الإجارة. بل هو الظاهر؛ نظراً إلى كون الشراء بمحضر المستأجر. فلم تدخل المنفعة في ملك المشتري خلال تلك المدّة حتّى تنتقل بعد موته إلى ملك ورثته. ومن هنا حكم الإمام عليه السلام بصحّة الإجارة ولزومها إلى انقضاءِ مدّة الإجارة في مفروض سؤال الراوي. وهذا مطابق لفتوى الأصحاب، لكنّه صحيح في صورة اطّلاع المشتري كما في مفروض السؤال في الرواية المزبورة، وإلّا تبطل الإجارة لعدم

********

(1) - وسائل الشيعة 134:19، كتاب الإجارة، الباب 24، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 136:19، كتاب الإجارة، الباب 24، الحديث 5.

ص: 508

دخوله في قصد المشتري وللغرر، إلّاأن يجيز ذلك.

والحاصل: أنّه لا ربط لهذه الرواية بالمقام في الحقيقة؛ نظراً إلى اختصاصها بما إذا كانت العين المملوكة مسلوبة المنفعة خلال مدّة الإجارة، فهي خارجة عن ملك مالكها وملك ورثته. ومن هنا لم يتعرّض الفقهاء لهذه الرواية في مسألة بطلان عقد الإجارة بموت الموجر، كما يشهد لذلك عنوان الباب في الوسائل؛ حيث أدرج هذه الرواية في باب «أنّ بيع العين لا يُبطل الإجارة ويجب أن يبيّن للمشتري»، ولكن ذكر مكاتبة الهمداني في باب أنّ الإجارة هل تبطل بموت الموجر أو المستأجر أم لا؟(1)

ثانيهما: أنّه لا يمكن تصحيح هذه الإجارة بإجازة البطن اللاحق من باب الفضولي.

والوجه فيه: أوّلاً: أنّ البطن الأوّل كانوا مالكين حال إنشاء عقد الإجارة، فلا معنى للفضولية عن الغير حينئذٍ، فلا فضولية في البين.

وثانياً: أنّ البطن اللاحق لم يكونوا مالكين حال إنشاءِ عقد الإجارة حتّى يستأهلوا لوقوع الإجارة عن جانبهم فضولةً، ومن الواضح اعتبار مالكية من يقع عنه الفضولي حين إنشاء العقد. فشرط الفضولي مفقود في المقام من كلتا الجهتين المزبورتين.

نعم، هاهنا طريق آخر لحلّ هذه العويصة، وهو أن يستأنف البطن اللاحق إنشاءَ عقد الإجارة بعد انقراض البطن الأوّل. فلا إشكال في صحّة الإجارة حينئذٍ، لكنّها تنعقد بإنشاءٍ جديد بعد عروض البطلان. فليس هذا الطريق تصحيحاً للإجارة

********

(1) - راجع: وسائل الشيعة 134:19-136، كتاب الإجارة، الباب 24 و 25.

ص: 509

السابقة، بل إنّما هو إنشاءُ إجارة جديدة.

وأيضاً سبق منّا أنّه يمكن تصحيح الإجارة السابقة بطريق آخر، وهو أن يعلن البطن اللاحق رضاهم بالإجارة الاُولى حال حياة البطن الأوّل، فحينئذٍ لا يبعد بقاءُها على صحّتها بعد انقراض البطن الأوّل. وذلك لأنّه ينتقل المال الموقوف بمجرّد موت البطن الأوّل إلى ملك البطن اللاحق حالكونهم راضين بالإجارة، وإن كان مع ذلك مغايراً للعقد الفضولي. لكن لا يبعد الحكم بصحّة الإجارة حينئذٍ وعدم انفساخها؛ نظراً إلى حصول الشرطين المزبورين للفضولي. أمّا الملكية، فلفرض حصولها بموت البطن الأوّل، أمّا الإجازة، فلحصولها بإعلان رضاهم حال حياة البطن الأوّل.

وبعبارة اخرى: تدخل العين المستأجرة في ملكهم حال كونهم راضين بالإجارة، فيحصل بذلك الشرطان وينتفي الإشكالان المزبوران لا محالة.

وأمّا إشكال عدم مالكية البطن اللاحق قبل انقراض البطن الأوّل، فيمكن دفعه بأنّ البطن اللاحق أيضاً يستحقّ العين الموقوفة في الجملة في حال حياة البطن الأوّل، بنفس إنشاء صيغة الوقف، لا بالتلقّي عن البطن الأوّل. ومن هنا يجب على البطن الأوّل مراعاة حقّ البطون اللاحقة في كيفية تصرّفهم في العين الموقوفة. بل بذلك يحصل الفرق بين سائر المُلّاك وبين الموقوف عليهم، كما صرّح بذلك الشهيد في المقام بقوله:

«وجه الفرق: أنّ ملك الموقوف عليه غير تامّ، فإنّ باقي البطون لهم استحقاق في الملك بأصل الصيغة لا بالتلقّي عن الموقوف عليه، بحيث لو تصرّف قبل الانتقال صحّ، فبموت الموجر من البطون تبيّن انتهاء حقّه بموته، فيكون إجارته بالنسبة إلى بقيّة المدّة تصرّفاً في حقّ غيره فيتوقّف على إجازته، بخلاف إجارة المالك، فإنّ له

ص: 510

نقل ماله صحيحاً وإتلافه كيف شاء من غير مراعاة الوارث مطلقاً»(1).

هذا إذا كان الوقف ترتيبياً بحسب البطون؛ بأن لا يستحقّ البطن اللاحق مع وجود البطن السابق.

وأمّا إذا كان تشريكياً بأن كان استحقاق اللاحق ثابتاً في عرض السابق فلا مشكلة في البين؛ إذ لا فرق بين البطن اللاحق وبين البطن السابق من حيث مالكيتهم للعين المستأجرة. فيصحّ الفضولي حينئذٍ، بلا إشكال. ولعلّ هذه الصورة مقصود السيّد الماتن، كما هي الصادرة من الواقفين في الوقف على البطون غالباً.

وعليه فلا إشكال على السيّد الماتن في إطلاقه القول بتصحيح الإجارة بإجازة البطن اللاحق بعد انقراض البطن الأوّل، وإلّا فلا يمكن مساعدته في الوقف الترتيبي بين البطون، كما قلنا.

وأمّا المقام الثاني: وهو ما لو آجر المتولّي الوقف لمصلحة الوقف، أو لمراعاة مصلحة البطون اللاحقة، فلا يبطل الوقف حينئذٍ بانقراض البطن الأوّل، كما أشار إلى ذلك الشهيد بقوله: «نعم، لو كان البطن الموجر ناظراً إلى الوقف وآجر لمصلحة الوقف لا لمصلحته، لم يبطل. وكذا لو كان الموجر هو الناظر، ولم يكن موقوفاً عليه»(2). وذلك لبقاءِ الموجر بعد انقراض البطن الأوّل، ولأنّ له الولاية الشرعية على الإجارة وسائر أنحاء التصرّفات لأجل حفظ مصالح الوقف والموقوف عليه. فلا وجه لبطلان الإجارة حينئذٍ بانقراض البطن الأوّل. ولا فرق في ذلك بين كون المتولّي من الموقوف عليهم وبين كونه من غيرهم كشخص آخر أجنبيّ عن الوقف.

********

(1) - مسالك الأفهام 401:5.

(2) - مسالك الأفهام 401:5.

ص: 511

والفرق بين ما لو آجر البطن الأوّل بعنوان نفسه - لا بعنوان الناظر - وبين ما آجر بعنوان أنّه ناظر، أنّ للناظر الولاية على العين الموقوفة بإجارة أو غيرها من سائر التصرّفات في جهة حفظ مصالح الوقف والموقوف عليهم في حال حياتهم، فضلاً عن قبل زمان حياتهم، كما أشار إلى هذا الوجه في الجواهر بقوله: «نعم لو كان المؤجر، الناظر على الوقف لمصلحة الوقف اتّجه ذلك؛ لأنّ له الولاية المقتضية لنفوذ تصرّفه في ذلك مع وجودهم، فضلاً عمّا قبله»(1).

********

(1) - جواهر الكلام 114:28.

ص: 512

(مسألة 78): يجوز للواقف أن يجعل تولية الوقف ونظارته لنفسه (1)؛ دائماً أو إلى مدّة، مستقلاًّ ومشتركاً مع غيره، وكذا يجوز جعلها للغير كذلك، بل يجوز أن يجعل أمر جعل التولية بيد شخص، فيكون المتولّي من يعيّنه ذلك الشخص، بل يجوز جعل التولية لشخص، ويجعل أمر تعيين المتولّي بعده بيده، وهكذا يقرّر أنّ كلّ متولّ يعيّن المتولّي بعده.

تولية الوقف ونظارته

اشارة

1 - هذه المسألة اتّفاقية لم يحكى الخلاف فيه إلّامن ابن إدريس، كما نقل عنه في جامع المقاصد(1) وضعَّفه، وكذا في الجواهر.

والوجه في ذلك: أنّ مقتضى عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(2) جواز اشتراط الواقف أيّ شيءٍ في الوقف ما دام لم يكن منافياً لمقتضى حقيقة الوقف.

وأنّ اشتراطه النظارة لنفسه أو لغيره لغرض حفظ الوقف ومصالح الموقوف عليه، لا ينافي حقيقة الوقف ومقتضاه قطعاً، ولا سيّما إذا اشترطها لنفسه؛ لأنّه أحفظ للوقف وأكثر رعايةً لمصالح الموقوف عليهم من غيره ممّن لم يبذل ماله في سبيل الوقف.

وقد أشار إلى هذا الوجه المحقّق الكركي بقوله: «لاريب أنّ كلّ شرط لا ينافي مقتضى الوقف يجوز اشتراطه في العقد، ويجب الوفاء به حينئذٍ. ولا شبهة في أنّ اشتراط النظر للواقف لا ينافي الوقف، بل ربّما كان أدخل في جريانه على جهة الوقف».

********

(1) - جامع المقاصد 34:9.

(2) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 513

وأمّا عموم وجوب الوفاءِ بالشرط المستفاد من مثل قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «المؤمنون عند شروطهم»(1) فلا يصلح للاستدلال به في مثل المقام الذي من قبيل جعل الولاية ونصب الوليّ على المال، بل ينصرف إلى ما يُشترط بين المؤمنين المتعاملين في العقود والإيقاعات. وعليه فما أشار إليه المحقّق الكركي في الاستدلال لذلك بقوله:

«وعموم الكتاب والسنّة يقتضي وجوب العمل بهذا الشرط»، لو كان مراده عمومات وجوب الوفاء بالشرط، فهي قاصرة عن إثبات المطلوب في مثل المقام الذي من قبيل نصب الوليّ وإعطاء الولاية؛ لأنّه منافٍ لشؤون مالكية المنتقل إليه. ومن هنا لا يجوز ذلك في البيع والإجارة وسائر المعاوضات. وأمّا اشتراط جعل الخيار للأجنبي، فليس من قبيل المقام؛ لأنّ الفسخ إزالة أصل العقد لا الولاية على المال المنتقل بعد انتقاله إلى الغير. ومن هنا لا مرجع في المقام إلّاعموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» الوارد في خصوص باب الوقف.

وقد دلّ على مشروعية نصب المتولّي والقيّم على الوقف من جانب الواقف بعض النصوص الخاصّة، مثل قول صاحب الأمر عليه السلام: «وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلِّمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومؤونتها، ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّماً عليها، إنّما لا يجوز ذلك لغيره» في التوقيع الوارد في معتبرة أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي(2)؛ حيث دلّت هذه المعتبرة على جواز جعل الناظر للواقف - الذي هو صاحب الضيعة في مفروض سؤال الراوي - بل دلّت على عدم جواز ذلك لغيره.

********

(1) - وسائل الشيعة 276:21، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4.

(2) - وسائل الشيعة 181:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 514

(مسألة 79): إنّما يكون للواقف جعل التولية لنفسه أو لغيره؛ حين إيقاع الوقف وفي ضمن عقده، وأمّا بعد تماميته فهو أجنبيّ عن الوقف (1)، فليس له جعل التولية ولا عزل من جعله متولّياً، إلّاإذا اشترط في ضمن عقده لنفسه ذلك؛ بأن جعل التولية لشخص وشرط أنّه متى أراد أن يعزله عزله.

عدم جواز جعل التولية بعد الوقف للواقف

1 - وذلك لخروج المال عن ملكه وزوال سلطته على المال الموقوف بعد تمامية الوقف وصيرورته كالأجنبي بالنسبة إليه.

نعم، لو اشترط لنفسه ثبوت حقّ التولية بعد الوقف يجوز له ذلك؛ لأنّ اشتراط ذلك نافذ - كما قلنا آنفاً - مطلقاً سواءٌ كان متعلّق الشرط ثبوت حقّ النظارة لنفسه أو لغيره.

هذا كلّه إذا عيّن الواقف الناظر، وأمّا لو لم يعيّن، فيكون أمر التولية والنظارة إلى الموقوف عليهم بناءً على دخول العين الموقوفة في ملكهم بالوقف؛ لأنّ ذلك من شؤون سلطة المالك على ماله، وإلّا فإلى الحاكم لأنّه الوليّ العامّ ووليّ من لا وليّ له، كما في الوقف العامّ وعلى الجهات.

وقد أشار إلى ذلك في الشرائع والجواهر بقوله: «فإن لم يعيّن الواقف الناظر كان النظر إلى الموقوف عليهم بناءً على القول بالملك، ونحوه في القواعد ومحكيّ التحرير والجامع وغيرها، وإليه يرجع ما عن جماعة من إطلاق كونه للموقوف عليهم»(1).

********

(1) - جواهر الكلام 25:28.

ص: 515

(مسألة 80): لا إشكال في عدم اعتبار العدالة (1) فيما إذا جعل التولية والنظر لنفسه، والأقوى عدم اعتبارها لو جعلها لغيره أيضاً. نعم، يعتبر فيه الأمانة والكفاية، فلا يجوز جعلها - خصوصاً في الجهات والمصالح العامّة - لمن كان خائناً غير موثوق به،

عدم اعتبار عدالة المتولّي

1 - يقع الكلام في المقام تارة: فيما إذا جعل الواقف التولية لنفسه واُخرى: فيما إذا جعل التولية لغيره.

أمّا إذا جعل التولية لنفسه فلا إشكال في عدم اعتبار عدالته؛ وذلك أوّلاً: لأنّ اشتراط الواقف تولّي نفسه حين الوقف يكون من شؤون تصرّفه في ماله، فيكون نافذاً. وبعبارة اخرى: إنّه بذل ماله في سبيل الوقف، فيُتَّبع نظره، كما علّل بذلك في المسالك بقوله: «لأ نّه إنّما نقل ملكه عن نفسه على هذا الوجه، فيتّبع شرطه»(1).

وثانياً: لعموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»؛ لأنّ اشتراط تصدّي تولية الوقف من شؤون الوقف وكيفية رسمه.

وثالثاً: لفحوى قول الإمام الحجّة عليه السلام: «فإنّ ذلك جائزٌ لمن جعله صاحب الضيعة قيّماً عليها» في معتبرة الأسدي(2)؛ لأنّه إذا جاز له جعل الغير قيّماً، يجوز اشتراط القيمومة لنفسه بالفحوى.

وعلى أيّ حال لا خلاف في جواز جعل الواقف تولية الوقف لنفسه، كما صرّح

********

(1) - مسالك الأفهام 325:5.

(2) - وسائل الشيعة 181:19-182، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 516

به في الجواهر بقوله: «بل مقتضى الإطلاق نصّاً وفتوى عدم الفرق في ذلك بين كونه عدلاً أو فاسقاً، كما صرّح به غير واحد بل لم أجد فيه خلافاً»(1).

وأمّا إذا جعل التولية لغيره فقد وقع الخلاف في اعتبار العدالة في المتولّي. وذهب غير واحد إلى اعتبارها، بل نسب ذلك إلى المعروف، بل ادُّعي حكاية الاتّفاق عليه، كما أشار إلى ذلك في الجواهر بقوله: «نعم قد صرّح غير واحد باعتبارها في غيره، بل في الكفاية أنّه المعروف من مذهب الأصحاب، بل في الرياض دعوى حكاية الاتّفاق عليه»(2).

ولكن ناقش صاحب الجواهر في دعوى الاتّفاق على ذلك، ونقل عن بعض التصريح بعدم اعتبار ذلك، ومال نفسُه إلى عدم اعتبارها في بابي الوقف والوصيّة بدليل ما ورد فيهما من العموم. وهو في الوقف عموم قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(3) وفي الوصيّة عموم قوله تعالى: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) (4) فإنّه ناقش في حكاية الاتّفاق من صاحب الرياض بقوله: «وإن كان فيه ما لا يخفى على المتتبّع... ونحو ذلك قد ذكروه في الوصي، والظاهر اختصاص ذلك فيهما من بين العقود لاقتضاء العموم في دليل مشروعيتها من قوله عليه السلام «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها إن شاء اللّه»، وقوله تعالى: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) إلى آخره جواز ذلك، وهو جعل العنوان الشخص الموصوف من حيث الوصف». ومقصوده أنّ المستفاد من عموم الرواية جواز التولّي لمن يعمل بحسب ما قرّره

********

(1) - جواهر الكلام 21:28.

(2) - جواهر الكلام 21:28-22.

(3) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

(4) - البقرة (2):181.

ص: 517

الواقف والوصف هنا كلّ من يعمل بذلك. ومن عموم الآية جواز الوصاية والتولّي للعمل بالوصيّة لمن عمل على طبقها من غير تبديل، ويكفي لتحقّق هذا الوقف الثقة بالمتولّي في العمل على طبق الوقف والوصيّة، سواءٌ كان عادلاً أم لا.

وقوّاه في العروة بعد تحرير الأقوال بقوله: «وهل يُشترط ذلك في غيره المنصوب من قبله فيه قولان؟ فعن الكفاية أنّ اعتبارها هو المعروف من مذهب الأصحاب. وعن الرياض دعوى حكاية الاتّفاق عليه. وفي الحدائق لا أعرف خلافاً فيه. ويظهر من المحكيّ عن التحرير عدم اعتبارها واختاره في الجواهر، وهو الأقوى»(1).

وقد استدلّ في العروة لعدم اعتبار العدالة بأنّ اعتبارها بحاجة إلى الدليل ولا دليل عليه. ثمّ إنّه قدس سره حكى الاستدلال بما ورد عن أمير المؤمنين في وقفه، من اعتبار الرضا بهديه وإسلامه وأمانته. وناقش فيه بأ نّه لا دلالة له على أكثر من وثاقته وأمانته، بل فيه إشعار بعدم اعتبار عدالته.

قال قدس سره في تعليل ذلك: «لعدم الدليل، فيكفي كونه موثوقاً به مأموناً في العمل على طبق الوقف، وما في وقف أمير المؤمنين عليه السلام من اعتبار الرضا بهديه وإسلامه وأمانته، لا دلالة فيه على اعتبار ذلك في جميع الأوقاف - مع أنّه لا يستفاد منه أزيد من اعتبار الأمانة والرضا بإسلامه وهديه، بل يمكن أن يكون دليلاً على كفاية ذلك وعدم اعتبار العدالة».

وأمّا ما أشار إليه من قول أمير المؤمنين عليه السلام، فهو ما ورد عنه عليه السلام في كيفية وقف ماله بينبع؛ حيث قال عليه السلام: «وإن حدث بحسن وحسين عليهما السلام حدث، فإنّ الآخر

********

(1) - العروة الوثقى 343:6.

ص: 518

منهما ينظر في بني علي، فان وُجد فيهم من يُرضى بهداه وإسلامه وأمانته، فإنّه يجعله إليه إن شاء، فإن لم يُرَ منهم بعض الذي يريد فإنّه في بني ابني فاطمة، فإن وُجد فيهم من يُرضى بهداه وإسلامه وأمانته فإنّه يجعله إليه إن شاء، فإن لم ير فيهم بعض الذي يريد فإنّه يجعله إلى رجل من آل أبي طالب يُرضى به» في صحيح عبدالرحمان بن الحجّاج(1).

قوله: «بهداه» أي بهدايته. ولعلّ المقصود هدايته إلى ولاية الأئمّة المعصومين عليهم السلام، بل هو الظاهر بقرينة ورود هذا التعبير في سائر النصوص. هذا بناءً على نسخة الوسائل. ولكن في العروة «بهديه»، ويُحتمل كون مقصوده هدايته؛ نظر إلى كتابة الألف المقصورة بصورة الياء. ويحتمل كون المقصود الهدي في الحجّ؛ أي كون هديه مطابقاً للمذهب الحقّ الجعفري. وهذا كناية عن اعتبار إيمانه وتشيُّعه، كما يُشعر بذلك قوله: «وإسلامه» فإنّ كون إسلامه مرضياً كناية عن تشيُّعه.

وعلى أيّ حال لا دلالة لهذه الصحيحة على اعتبار العدالة. نعم يمكن الاستدلال باعتبار إيمانه وتشيعِّه، كما هو الأقوى. بل يمكن الاستدلال لعدم اعتبار العدالة بإطلاق قول الإمام الحجّة عليه السلام في معتبرة الأسدي السابقة آنفاً؛ حيث إنّ قوله عليه السلام:

«فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّماً عليها»(2) دلّ بإطلاقه على جواز التولية للواقف ونفوذ تصرّفات القيّم المنصوب من جانبه مطلقاً سواءٌ كان عادلاً أم لا.

وأمّا اعتبار وثاقة القيّم وعدم جواز جعل الخائن للتولية، فهو ثابت بالإجماع، بل من الضروريات؛ فإنّ الائتمان على الخائن ممّا اتّفق على عدم جوازه النصّ والفتوى، ولا سيّما في أموال المؤمنين وحقوقهم.

********

(1) - وسائل الشيعة 199:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 10، الحديث 3.

(2) - وسائل الشيعة 182:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 519

وكذا من ليس له الكفاية (1) في تولية امور الوقف، ولا يجوز جعل التولية للمجنون ولا الطفل حتّى المميّز (2) إن اريد عمل التولية من إجارة الوقف وأمثالها مباشرة، وأمّا إذا جعل التولية له حتّى يقوم القيّم بأمرها ما دام قاصراً، فالظاهر جوازه (3) ولو كان غير مميّز، بل لا يبعد الجواز في جعلها لمجنون متوقّع برؤه، ويقوم الوليّ مقامه إلى أن يفيق.

شرائط المتولّي

1 - وذلك لابتناء الولاية على رعاية مصلحة المولّى عليه، ومن لا كفاية له للتولية، لا يقدر على رعايتها، فلا أهلية له للتولية.

2 - وذلك لعمومات منع تصرّفات الصبيّ وحجره ورفع القلم عنه حتّى يبلغ وإنّ قيمومة الوقف وتوليته مستلزم للتصرّف في الوقف. وإنّ التمييز لا يكفي لرفع منعه وحجره، لإطلاق نصوص المنع كقوله عليه السلام: «رُفع القلم عن الصبيّ حتّى يحتلم»(1).

كما ثبت في محلّه من كتاب الحجر والوصيّة. هذا مضافاً إلى دلالة النصوص الخاصّة على ذلك، كما ستعرفه الآن.

3 - والوجه فيه واضح؛ لفرض عدم تصرّف الصبيّ قبل بلوغه في الوقف، بل إنّما يتصرّف فيه القيّم حتّى يبلغ.

وممّا يدلّ على ذلك بالخصوص عدم جواز قبض الصبيّ الوقف لو كان هو الموقوف عليه، بل يجب على وليِّه أن يقبض عنه كما دلّ على ذلك: قول أبي جعفر عليه السلام: «فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده، فهو جائز؛ لأنّ والده هو

********

(1) - الخلاف 353:3.

ص: 520

(مسألة 81): لو جعل التولية لشخص لم يجب عليه القبول (1)؛ سواء كان حاضراً في مجلس العقد، أو غائباً بلغ إليه الخبر ولو بعد وفاة الواقف (2)،

الذي يلي أمره»(1) في صحيح محمّد بن مسلم.

ونظيره قول أبي عبداللّه عليه السلام: في صحيح عبيد بن زرارة(2). وقول أبي الحسن عليه السلام: «وإن كانوا صغاراً وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا، فيحوزها لهم»(3) في صحيح صفوان، فلو جاز قبض الصغار لم يكن لقبض الوليّ عنه وجه، فإذا لا يجوز قبضه لنفسه لا يجوز قبضه لغيره بالفحوى.

حكم قبول التولية وعزل المتولّي نفسه

1 - لأنّ وجوبه يحتاج إلى دليل، ولا دليل عليه، بل مقتضى القاعدة في مطلق العقود عدم وجوب القبول؛ لابتناء كلّ عقد على تراضي الطرفين؛ حيث اخذ ذلك في ماهية العقد.

2 - كما يستفاد وجوب القبول حينئذٍ في الوصيّة من عدّة نصوص.

مثل صحيح محمّد بن مسلم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إن أوصى رجل إلى رجل وهو غائب، فليس له أن يردّ وصيّته»(4).

وصحيح الفضيل عن أبي عبداللّه عليه السلام في رجل يوصى إليه. قال عليه السلام: «إذا بعث

********

(1) - وسائل الشيعة 178:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 5.

(3) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 4.

(4) - وسائل الشيعة 319:19، كتاب الوصايا، الباب 23، الحديث 1.

ص: 521

ولو جعل التولية لأشخاص على الترتيب وقبل بعضهم، لم يجب القبول على من بعده (1)،

بها إليه من بلد، فليس له ردّها»(1).

وصحيح منصور بن حازم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إذا أوصى الرجل إلى أخيه وهو غائب فليس له أن يردّ عليه وصيّته؛ لأنّه لو كان شاهداً فأبى أن يقبلها، طلب فيه»(2).

وقد يتوهّم شمول هذه النصوص للوقف. ولكن لا وجه له؛ حيث إنّها إنّما وردت في الوصيّة ولا عموم ولا إطلاق لها لغير مورد الوصيّة. والاتّكال على التعليل الوارد في ذيل صحيح منصور بقوله عليه السلام: «لأ نّه لو كان شاهداً فأبى أن يقبلها طلب فيه» للتعميم إلى غير مورد الوصيّة، أشبه بالقياس، كما قال في العروة(3)؛ لعدم كون الوجه المعلّل به في كلام الإمام عليه السلام من قبيل منصوص العلّة، بل من قبيل الحكمة.

وقد حرّرنا الفرق بينهما في بعض المباحث الاُصولية(4). ولمّا كان وجوب القبول خلاف مقتضى القاعدة، يجب الاقتصار فيما خالف القاعدة على موضع النصّ.

1 - لعين ما سبق من الوجه آنفاً. ولا دخل لقبول من قبله في وجوب القبول على من بعده.

********

(1) - وسائل الشيعة 320:19، كتاب الوصايا، الباب 23، الحديث 2.

(2) - وسائل الشيعة 320:19، كتاب الوصايا، الباب 23، الحديث 3.

(3) - العروة الوثقى 341:6.

(4) - راجع المجلّد الأوّل من كتابنا «بدايع البحوث في علم الاُصول» و «مقياس الرواية في علم الدراية».

ص: 522

ومع عدم القبول كان الوقف بلا متولّ منصوب. ولو قبل التولية فهل يجوز له عزل نفسه كالوكيل أم لا؟ قولان، لا يترك الاحتياط بعدم العزل (1)، ومعه يقوم بوظائفه مع المراجعة إلى الحاكم ونصبه.

1 - بل الأقوى التفصيل بين قبل موت الموصي، فيجوز العزل وبين بعد موته؛ بأن كان في ضمن وصيّة عهدية، فأوصاه بالتولّي فقبله، فلا يجوز حينئذٍ ردّه ولا عزل نفسه بعد موت الموصي الواقف. وذلك لأنّ حقيقة التولية من قبيل التوكيل، وهو عقد جائز من الطرفين. فكما لا يجب على الوكيل المضيّ على الوكالة والاستمرار عليه، بل يجوز له الرجوع والفسخ، فكذلك المتولّي والقيِّم؛ لكون جعل المتولّي من الواقف ما دام حياته من قبيل التوكيل. ولا نقول إنّه عين التوكيل حتّى يحتاج إلى قصد ذلك، كما أشكل بذلك في الجواهر بقوله: «ودعوى أنّه في معنى التوكيل كما ترى، ضرورة عدم الدليل وعدم القصد»(1)، بل إنّما نقول بأنّ التولية من سنخ التوكيل من حيث كونهما من العقود الجائزة الثابتة فيها حقّ الفسخ لكلٍّ من الطرفين.

وهذا بخلاف ما إذا كان جعل المتولّي في ضمن الوصيّة؛ بأن أوصى الواقف في ضمن الوقف إلى شخص أن يتولّي الوقف بعد موته، فقبله ذلك الشخص ثمّ مات الواقف، فلا يجوز لذلك الشخص عزل نفسه وردّ القبول السابق؛ لدخوله في إطلاق منع تبديل الوصيّة وإطلاق منع ردّ الوصيّة بعد موت الموصي. ولا مانع من شمول عمومات الوصيّة للمقام، بعد مشروعية جعل المتولّي للواقف مطلقاً، فالوصيّة بالتولّي يكون جائزة بالفحوى. فإذا كانت الوصيّة به مشروعة، تشمله عمومات الوصيّة.

********

(1) - جواهر الكلام 22:28.

ص: 523

ويحتمل عدم الجواز مطلقاً؛ نظراً إلى عموم «الوقوف...»؛ حيث دلّ على وجوب العمل بالوقف حسب ما قرّره الواقف. والمتولّي بعد قبول التولية يدخل تحت إطلاق الخطاب المزبور. ومن هنا يكون عزله نفسه مخالفة للوجوب المستفاد من العموم المزبور.

نعم، قبل القبول لا يصحّ هذا العموم للدليلية على وجوب العمل بشرط التولّي من جانب الواقف؛ نظراً إلى عدم ترسيم هيئة الوقف بذلك ما دام لم يقبل المتولّي.

ولكن هذا الاحتمال مردود؛ نظراً إلى تقدّم دليل جواز فسخ العقد الجائز. للطرفين على العموم المزبور. وذلك لأنّ التولية بذاتها عقد جائز كالتوكيل. فكيف أنّه لو وكّل المتولّي غيره للتولية، لا يجب على الوكيل قبول الوكالة والاستمرار والمضيّ عليها؛ لمقتضى ذات الوكالة - وهي عقد جائز - فكذلك التولية. وأمّا حديث رجوع ذلك إلى اشتراط التولية في ضمن عقد لازم - وهو الوقف - فيجب الوفاء به على المتولّي بعد القبول، فيأتي جوابه في نقد كلام صاحب الجواهر، كما قد يُستدلّ لمنع الردّ بعد القبول وعدم جواز العزل مطلقاً؛ بأنّ اشتراط التولية لمّا كان في ضمن عقد لازم - وهو الوقف - يجب على المتعاقدين - وهما الواقف والموقوف عليه - ومن يتعلّق بالعقد، وهو المتولّي في المقام، الوفاءُ بالشرط ولا يجوز مخالفته، كما يلوح ذلك من كلام صاحب الجواهر؛ حيث قال: «قد يناقش في جواز الردّ بعد القبول بإطلاق الأمر بالوفاء بالعقد من المتعاقدين وغيرهما ممّن له تعلّق بالعقد. والقبول بالنسبة إليه حينئذٍ رضاه بما اشترط له منه».

ولعلّ ذلك وجه احتياط السيّد الماتن وجوباً في المقام على وجه الإطلاق.

ولكنّ الأقوى التفصيل المزبور. وأمّا رجوع جعل المتولّي إلى اشتراط التولّي له في ضمن عقد الوقف، فإنّما يقتضي وجوب الوفاء به للمتعاقدين. وأمّا المشروط له

ص: 524

(مسألة 82): لو جعل التولية لاثنين، فإن جعل لكلّ منهما مستقلاًّ استقلّ (1)، ولا يلزم عليه مراجعة الآخر، وإذا مات أحدهما أو خرج عن الأهلية انفرد الآخر، وإن جعلهما بالاجتماع ليس لأحدهما الاستقلال، وكذا لو أطلق ولم تكن على إرادة الاستقلال قرائن الأحوال، فحينئذٍ لو مات أحدهما أو خرج عن الأهلية، يضمّ الحاكم إلى الآخر شخصاً آخر على الأحوط لو لم يكن الأقوى.

- وهو المتولّي - فكما لا يجب عليه قبول أصل الشرط، فكذلك لا يجب عليه الوفاء، لأنّ الاشتراط إنّما بين المتعاقدين. وأمّا بالنسبة إلى المشروط له فيكون من قبيل التولية الراجعة إلى التوكيل. ويترتّب عليه حكم العقد الجائز، من جواز الفسخ للطرفين إلّاأن يكون المشروط له التولّي الموقوف عليه. فحينئذٍ لا يجوز له العزل والردّ بعد القبول. وذلك لدخوله في عموم وجوب الوفاء بالشرط الواقع في ضمن العقد اللازم.

فالتولية حينئذٍ وإن كانت من العقود الجائزة غير واجب الوفاء في ذاتها، إلّاأنّه بالاشتراط تكون معنوناً بعنوان الشرط فيشمله عموم وجوب الوفاء بالشرط في ضمن العقد.

فتحصّل أنّ عزل المتولّي نفسه حال حياة الواقف جائز وبعد موته غير جائز، إلّا بإذن الحاكم وأمره؛ لأنّه الوليّ العامّ.

تبعية استقلال المتولّي وعدمه لجعل الواقف

1 - مقتضى القاعدة دوران استقلال كلّ واحد من المتولّيين واشتراكهما مدار كيفية جعل الواقف. والوجه فيه أنّ ذلك مقتضى عموم: «الوقوف على حسب

ص: 525

ما يوقفها أهلها»(1).

ويترتّب على الاستقلال أنّه لو مات أحدهما أو خرج عن الأهلية، انفرد الآخر للتولية، فيجوز له تصدّي التولية وحده. ويترتّب على الاشتراك عدم جواز انفراده حينئذٍ، بل على الحاكم أنّ يضمّ إليه شخصاً آخر. وذلك لأنّ المفروض اشتراط الواقف الاشتراك في التولية ويخالفه الانفراد.

وأمّا إذا لم يصرّح الواقف بالانفراد ولا بالاشتراك، وأطلق جعل التولية لهما، فالظاهر الاشتراك؛ لأنّ انفراد كلّ واحدٍ منهما ينافي الولاية الثابتة للآخر على كلّ حال بمقتضى الإطلاق، سواءٌ كان ولاية الآخر على نحو الاشتراك أو الانفراد. وهذا هو الوجه في ظهور الإطلاق في الاشتراك، ومن هنا يكون الانضمام هو المتفاهم العرفي عند تعدّد القيّم. ولا ينافي ذلك قاعدة عدم تداخل الأسباب في العلل ومعرّفات الأحكام الشرعية؛ لعدم ربط للمقام بتعليق حكم شرعي كلّيٍّ على شرط أو وصف. هذا مع أنّ ثبوت الولاية لهما مشتركاً هو القدر المتيقّن من مقصود الواقف من جعل التولية لهما، كما أشار إليه في العروة بقوله: «وإن أطلق فالقدر المتيقّن بل الظاهر الشركة، فلا ينفذ تصرّف الموجود بدون ضمّ الحاكم إليه»(2).

وقد احتمل في العروة انتفاء ولاية الآخر حينئذٍ؛ لكونها مشروطة بولاية الآخر والمشروط ينتفي بانتفاء الشرط، ولكنّه استبعده.

قال قدس سره: «ويحتمل في هذه الصورة وصورة اشتراط الاجتماع انعزال الآخر أيضاً، بموت أحدهما، بدعوى أنّ تولية كلّ منهما مشروطة بالآخر، لكنّه بعيد.

ولعلّه يختلف بحسب القرائن في المقامات».

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

(2) - العروة الوثقى 341:6.

ص: 526

(مسألة 83): لو عيّن الواقف وظيفة المتولّي وشغله فهو المتّبع، ولو أطلق كانت وظيفته ما هو المتعارف (1)؛ من تعمير الوقف، وإجارته وتحصيل اجرته، وقسمتها على أربابه، وأداء خراجه، ونحو ذلك؛ كلّ ذلك على وجه الاحتياط ومراعاة الصلاح. وليس لأحد مزاحمته فيه حتّى الموقوف عليهم.

وجه الاستبعاد ظهور كلام الواقف في طبيعي الانضمام بحيث لا ينفرد كلٌّ منهما في تصرّفاته، لا انضمام ذلك الشخص الخاصّ. ومن هنا يحصل غرضه بانضمام آخر حينئذٍ؛ لأنّه أقرب إلى نيّة الواقف وأحفظ للوقف.

نعم، لو احرز بقرينة أنّ من نيّة الواقف انضمام شخص خاصّ معيّن، ينعزل الآخر الباقي بعد موت ذلك الشخص الخاصّ بلا إشكال.

وبعبارة اخرى: وجه عدم انعزال أحد المتولّيين بموت الآخر ظهور كلام الواقف في انضمام كلّ واحد من شخص المتولّيين إلى الآخر ما دام حياته، وإلّا بانضمام شخص آخر؛ لتعلّق غرضه بطبيعي الانضمام المتحقّق بذلك.

إعطاءُ الضابطة في تعيين وظيفة المتولّي

1 - إنّ الكلام في وظيفة المتولّي تارة: يقع في ما لو عيّنها الواقف، واُخرى: فيما إذا لم يعيّنه.

أمّا الصورة الاُولى، فلا إشكال في تعيُّن وظيفة المتولّي - من حفظ مصالح الوقف وتعميره واستحصال منفعته وتقسيمها بين الموقوف عليهم - حسب ما عيّنه الواقف؛ لأنّ مثل ذلك داخل في عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1). ويدلّ على

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 527

ويجوز أن يجعل الواقف تولية بعض الاُمور لشخص وبعضها لآخر (1)، فجعل أمر التعمير وتحصيل المنافع - مثلاً - لأحد، وأمر حفظها وقسمتها على أربابها لآخر، أو جعل لواحد أن يكون الوقف بيده وحفظه وللآخر التصرّفات. ولو فوّض إلى واحد أمراً كالتعمير وتحصيل الفائدة،

ذلك أيضاً ما دلّ من النصوص على كون أمر نصب القيّم وتعيين وظيفته بيد الواقف، مثل ما ورد في ذيل معتبرة الأسدي(1). ومن هنا لا يجوز لغير المتولّي مزاحمته؛ لأنّه مخالفة للعموم المزبور، وللحصر المستفاد من قوله عليه السلام: «وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلّمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومؤونتها ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّماً عليها، إنّما لا يجوز ذلك لغيره» في ذيل المعتبرة المزبورة.

وأمّا الصورة الثانية: وهي ما إذا لم يعيّن الواقف وظيفة القيّم بجزئياتها بعد نصبه بأن أطلق، فالمرجع هو السيرة المتعارفة؛ لأنّها منشأ تبادر المتفاهم العرفي من كلام الواقف. ولكنّه ما دام لم يخرج المتولّي عن جادّة الشرع ولا عن مصلحة الموقوف عليهم؛ نظراً إلى ابتناء ولايته على اعتبارها من الشارع وعلى مصلحة المولّى عليه.

1 - والوجه في ذلك ما سبق آنفاً من نصوص المقام الدالّة على ذلك عموماً وخصوصاً؛ فإنّ مدلولها كون أمر التولية ونصب القيّم بيد الواقف، فله إعمال الولاية على ذلك كيف شاءَ.

********

(1) - وسائل الشيعة 181:19-182، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 528

وأهمل باقي الجهات من الحفظ والقسمة وغيرهما، كان الوقف بالنسبة إلى غير ما فوّض إليه بلا متولّ منصوب (1)، فيجري عليه حكمه الآتي.

(مسألة 84): لو عيّن الواقف للمتولّي شيئاً من المنافع تعيّن (2)، وكان ذلك اجرة عمله؛ ليس له أزيد منه وإن كان أقلّ من اجرة مثله، ولو لم يعيّن شيئاً فالأقرب أنّ له اجرة المثل.

1 - وذلك لفرض عدم تعيين المتولّي من جانب الواقف، فيكون من قبيل امور الحسبة، وأمرها بيد الحاكم الشرعي وعدول المؤمنين على النحو المقرّر في محلّه.

حكم اجرة المتولّي

2 - وذلك لأنّ اجرة المتولّي وتعيينها من شؤون الوقف؛ ضرورة احتياج الوقف إلى مراقبةٍ وحفظ وإصلاح وتعمير واستحصال المنافع وتقسيمها بين أفراد الموقوف عليهم وإيصالها إليهم. وكلّ ذلك يحتاج إلى صرف وقت وعمل يتصدّى لها القيّم، وإنّ لعمله قيمة واُجرة، فلا بدّ من تأمينها بمنافع الوقف أو بما يجعله الواقف ذلك على حدة.

فلو عيّن الواقف شيئاً من الاُجرة فهو المتعيّن وإن كان أقلّ من اجرة مثله. وذلك؛ لأ نّه شرطها الواقف وعيّنها ضمن تولية حين إنشاء الوقف، مع تضمّنه عقد إجارة الواقف المتولّي للتولية. وقد قبلها المتولّي، فعليه الوفاء بالعقد والشرط؛ لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و «المؤمنون عند شروطهم». هذا ممّا لا إشكال فيه ولا كلام.

وإنّما الكلام فيما إذا أطلق الواقف. وقد قوّى السيّد الماتن ثبوت اجرة المثل

ص: 529

للواقف، واختاره السيّد اليزدي؛ حيث قال: «وإن أطلق استحقّ بمقدار اجرة عمله»(1).

ولكن نقل في العروة عن صاحب الحدائق المناقشة في ذلك بأنّ منافع الوقف ملك الموقوف عليهم فأمرها بيدهم بعد تمام الوقف، لا بيد الواقف، مع أنّه رضي بذلك مجّاناً. وقد أجاب في العروة بأنّ حقّ التولية من مؤن تحصيل المنافع.

قال قدس سره: «لكن استشكل صاحب الحدائق في ذلك؛ لأنّ منافع الوقف انتقلت إلى الموقوف عليه، وإخراج شيءٍ منها يحتاج إلى دليل، مع أنّ الناظر إنّما رضي بذلك مجّاناً. وفيه: أنّ حقّ التولية من مؤن تحصيل المنافع».

ويمكن الجواب عن إشكال صاحب الحدائق: بأنّ المتفاهم العرفي من إطلاق كلام الواقف ثبوت اجرة المثل. وذلك لأنّه الذي طلب واستدعى من الرجل تولّي الوقف وقيمومته. فكيف ما إذا طلب من رجل بناءَ داره أو تعميرها، ولم يعيّن اجرةً، انصرف إلى اجرة المثل عرفاً؟ فكذلك في المقام، فيكون ثبوت اجرة المثل داخلاً في ما رسمه الواقف في مقام إنشاء الوقف؛ لأنّ ذلك من شؤون الوقف ومؤن حفظه واستحصال منافعه. وأمّا إشكال انتقال منافع الوقف إلى ملك الموقوف عليهم وخروجها عن ملك الواقف، فقد أجاب عنه صاحب العروة بأنّ اجرة المتولّي من قبيل مؤن تحصيل منافع الوقف ويتوقّف استحصال منافع الوقف على إخراجها.

ويمكن المناقشة: بأنّ الموقوف عليهم ما دام لم يرضوا بتولية المتولّي المنصوب ولم يقبلوه، ليس عليهم دفع الاُجرة، بل إنّما على الواقف.

فالجواب الصحيح ما قلنا من دخول ذلك في عموم: «الوقوف على حسب ما

********

(1) - العروة الوثقى 345:6.

ص: 530

(مسألة 85): ليس للمتولّي تفويض التولية إلى غيره حتّى مع عجزه عن التصدّي (1) إلّاإذا جعل الواقف له ذلك عند جعله متولّياً. نعم، يجوز له التوكيل في بعض ما كان تصدّيه وظيفته؛ إن لم يشترط عليه المباشرة.

يوقفها أهلها»؛ نظراً إلى كون تعيين المتولّى وما يستتبعه من اجرة المثل داخلاً في ما رسمه الواقف حين إنشاء الوقف.

عدم جواز تفويض المتولّي التولية إلى غيره

1 - يقع الكلام تارة: في عدم جواز تفويض المتولّي التولية إلى غيره، واُخرى:

في جواز توكيل الغير في أمر التولّي.

أمّا عدم جواز تفويض المتولّي أمر التولية وقيمومة الوقف إلى غيره، فلأ نّه خلاف ما اشترطه الواقف؛ لأنّ غرض الواقف وقصده من توليته إعطاءُ أمر القيمومة إلى شخصه ليدبّر امور الوقف ويتصدّى شؤونه بنفسه، لا بتدبير غيره. ومن هنا يكون تولية الوقف إلى غيره، خلاف غرض الواقف، ومخالفة للشرط وخروج عن الوفاء بالعقد ونقضه، فلا يجوز ذلك لوجوه ثلاثة:

أحدها: عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1)؛ لأنّه أجير استوجر للتولية، والإجارة عقد لازم لا يجوز فيه الرجوع. هذا إذا كانت التولية بالاستيجار. وأمّا لو كان التولّي بالتبرّع، من دون إجارة، فلا يمكن التمسّك بهذا العموم؛ لأنّ التولية كالتوكيل عقد جائز لا يجب الوفاء به من الطرفين. نعم لا سلطة للواقف على التولية بعد تمامية الوقف بمقتضى خصوصية الوقف، لا التولية. ولكن يجوز للمتولّي فسخ التولية

********

(1) - المائدة (5):1.

ص: 531

وعزل نفسه بمقتضى جواز عقد التولية.

ثانيها: عموم: «المؤمنون عند شروطهم»(1)؛ لأنّ كون الولاية له لغيره، شرط ضمنيٌّ متفاهم عرفاً في ضمن عقد التولية والإجارة. وإنّ العمل بالشرط - الواقع في ضمن أيّ عقد - واجب، بلا فرق بين العقد الجائز واللازم؛ بناءً على ما هو مقتضى التحقيق، من وجوب الوفاء بالشرط الواقع في ضمن مطلق العقود، جائزةً كانت أو واجبة.

بيان ذلك: أنّ التولية تارة: تكون باستيجار المتولّي واُخرى: تبرّعاً.

فإن كانت التولية باستيجار المتولّي، يتوجّه الأمر بالوفاء بالشرط - الواقع في ضمنها، وهو كون الولاية له، لا لغيره - إلى المتولّي؛ لأنّه أحد طرفي عقد الإجارة.

وكذا إلى الواقف؛ لأنّه الطرف الآخر. وأيضاً على الموقوف عليه، لكنّه بمقتضى عموم «الوقوف على حسب...»؛ لما سيأتي بيانه.

وأمّا إذا كان التولّي تبرّعاً، فأيضاً يتوجّه إليه الأمر بالوفاء بالشرط؛ لأنّ التولية عقد كالوكالة، والشرط المزبور قد وقع في ضمنها. وهي وإن كانت - كالوكالة - من العقود الجائزة، إلّاأنّ جوازها لا يضرّ بوجوب الوفاء بالشرط الواقع في ضمنها؛ لأنّ التحقيق وجوب الوفاء بالشرط الواقع في ضمن أيّ عقد، جائزاً كان أو لازماً.

نعم، يجوز للمتولّي فسخ أصل عقد التولية بعزل نفسه رأساً، من غير تفويض التولية إلى غيره. ومن هنا قلنا سابقاً بجواز عزله نفسه بمقتضى القاعدة؛ نظراً إلى جواز عقد التولية. ولا ينفع في عدم جوازه كون التولية شرطاً في الوقف من جانب الواقف، كما زعم صاحب الجواهر أنّه شرط والوفاء بالشرط الواقع في ضمن العقد

********

(1) - وسائل الشيعة 276:21، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4.

ص: 532

واجب؛ لما سبق منّا في جوابه من أنّ الشرط الواقع في ضمن العقد إنّما يجب الوفاءُ به على طرفي العقد - وهما الواقف والموقوف عليه - لا على الأجنبيّ الذي لا التزام له بأصل العقد، كالمتولّي في مفروض المقام. وقد سبق بيان ذلك مفصّلاً.

ثالثها: عموم: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1).

وجه الدلالة دخول ما هو المتفاهم العرفي من كلام الواقف في العموم المزبور؛ لكونه من شؤون الوقف، فيرتسم به الوقف. وإنّ اختصاص التولية به وعدم ثبوت الولاية لغيره من هذا القبيل لأنّ التولية لمّا كان من شؤون الوقف، يكون مباشرة المتولّي من قبيله قطعاً؛ لأنّه المتفاهم العرفي من نصب المتولّي والعمل بشرائط الوقف لازم على المتولّي لا للأمر بالوفاء بالعقود، بل لعموم: «الوقوف على حسب...»؛ لأنّ تفويض التولية إلى الغير خلاف ما اشترطه الواقف ورسمه في متن الوقف، فيكون التفويض المزبور على حسب خلاف ما وقفه أهل الوقف؛ أي الواقف.

أمّا جواز توكيل المتولّي بعض اموره إلى غيره، فالوجه فيه أنّه المتفاهم من التولية وغير خارج عن مدلول كلام الواقف في إنشاء التولية؛ لأنّه متبادر إلى الذهن وعليه يستقرّ ظهور الكلام بعد ما كان المتعارف الغالب في المتولّي والقيّم إيكال بعض الاُمور إلى الغير، وقد جرت عليه العادة، ولعدم خروج التولية حينئذٍ عن تدبير المتولّي، فلا يكون خارجاً عن قصد الواقف وغرضه، بل داخل في ظاهر كلامه؛ لأنّه المتعارف الغالب.

وهذا بخلاف أصل التولية الموجبة للولاية على شؤون الوقف وتدبيرها؛ حيث

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

ص: 533

(مسألة 86): يجوز للواقف أن يجعل ناظراً على المتولّي (1)، فإن أحرز أنّ المقصود مجرّد اطّلاعه على أعماله لأجل الاستيثاق، فهو مستقلّ في تصرّفاته؛ ولا يعتبر إذن الناظر في صحّتها ونفوذها، وإنّما اللازم عليه اطّلاعه، وإن كان المقصود إعمال نظره وتصويبه لم يجز له التصرّف إلّابإذنه وتصويبه، ولو لم يحرز مراده فاللازم مراعاة الأمرين.

يتعلّق غرض الواقف في نصب المتولّي والقيّم بكون الولاية على التولية له، لا لغيره.

نعم، لو اشترط المباشرة لا يجوز له التوكيل، كما لا إشكال في جواز تفويض أمر التولية إلى غيره لو أذن له الواقف بذلك. أمّا إيكاله أمر التولية إلى الحاكم الشرعي، فلا إشكال فيه؛ لأنّه الوليّ العامّ.

وقد أجاد في تحرير ذلك السيّد اليزدي؛ حيث قال: «ليس للمتولّي تفويض التولية إلى غيره، إلّاإذا كان الواقف أذن له في ضمن إجراء الصيغة، من غير فرق بين صورة عجزه عن التصدّي وعدمه. نعم، يجوز له توكيل الغير إذا لم يشترط عليه المباشرة، كما يجوز له إيكال الأمر إلى الحاكم الشرعي»(1).

جواز جعل الناظر على المتولّي

1 - إنّ الكلام تارة: في أصل جواز جعل الناظر على المتولّي، واُخرى: في وجوب اتّباع قصد الواقف في كيفية نظارة الناظر.

أمّا الأوّل: فلا إشكال في جوازه؛ لأنّه إذا جاز له جعل القيّم، يجوز له جعل الناظر

********

(1) - العروة الوثقى 344:6.

ص: 534

عليه بالفحوى، كما يجوز له جعل شخصين أو عدّة أشخاص للقيمومة والتولية.

وأمّا الثاني: فالوجه في وجوب اتّباع قصد الواقف في كيفية نظارة الناظر، عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(1)، وما دلّ من النصوص على ولاية الواقف على جعل القيّم والناظر، كمعتبرة الأسدي(2) وغيرها بالتقريب المزبور.

وأمّا لزوم مراعاة الأمرين - أي اطّلاع الناظر وإذنه وتصويبه - عند عدم إحراز مراد الواقف، فالوجه فيه مقتضى إطلاق النظارة.

ثمّ إنّ عدم إحراز مقصود الواقف إنّما في صورة عدم ظهور لكلامه في كلا الأمرين أو أحدهما. بأن كان كلامه مجملاً لوجود ما يوجب التردّد المصادم للظهور فشُكّ في مراده. فحينئذٍ يدور الأمر بين ثلاثة امور:

أحدها: الأخذ بأحد الوجهين المذكورين من النظارة بعينه. وهذا لا يمكن لما فيه من محذور الترجيح بلا مرجّح.

ثانيهما: طرح الوجهين كليهما؛ بأن لا يُرتّب أيّ أثر على النظارة، حتّى في حدّ اطّلاع الناظر، فضلاً عن إذنه وهذا لا يجوز قطعاً؛ لما فيه من محذور المخالفة القطعية لنظر الواقف؛ لرجوع ذلك إلى إلغاء أصل النظارة رأساً.

ثالثها: إعمال النظارة بالوجهين المزبورين كليهما. وهذا لا محذور فيه، بل تتمّ بذلك النظارة بمعناها الأتمّ الأكمل. فهو المتعيّن.

وقد أفتى في العروة بمثل ما جاءَ في كلام السيّد الماتن؛ حيث قال: «يجوز للواقف أن يجعل ناظراً على المتولّي. وحينئذٍ فإن ظهر من كلامه أنّ مراده من نظارته اطّلاعه على أعمال المتولّي وتصرّفاته، لا يعتبر فيها إذنه بل اللازم اطّلاعه. وإن ظهر

********

(1) - وسائل الشيعة 175:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، الحديث 1 و 2.

(2) - وسائل الشيعة 181:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 8.

ص: 535

(مسألة 87): لو لم يعيّن الواقف متولّياً أصلاً، ففي الأوقاف العامّة يكون الحاكم أو المنصوب من قبله متولّياً على الأقوى (1). وكذا في الخاصّة فيما يرجع إلى مصلحة الوقف ومراعاة البطون؛ من تعميره وحفظ الاُصول وإجارته للبطون اللاحقة. وأمّا بالنسبة إلى تنميته وإصلاحاته الجزئية المتوقّف عليها حصول النماء الفعلي - كتنقية أنهاره وكريه وحرثه وجمع حاصله وتقسيمه وأمثال ذلك - فأمرها راجع إلى الموقوف عليهم الموجودين.

أنّ مراده رأيه وتصويبه. لم يجز إلّابإذنه وتصويبه. وإن شكّ في مراده لزم الأمران»(1).

حكم ما لو لم يعيّن الواقف متولّياً

1 - وقد احتمل في العروة ابتناءَ هذه المسألة على المبنى المختار من المباني المختلفة في ملكية الوقف، من بقاء العين الموقوفة في ملك الواقف بعد الوقف، أو خروجه عن ملكه ودخوله في ملك الموقوف عليهم مطلقاً، أو خروجه عن ملك الآدميين ودخوله في ملك اللّه مطلقاً، أو التفصيل في ذلك بين الوقف العامّ والوقف الخاصّ، والقول في الأوّل بدخوله في ملك اللّه وفي الثاني بدخوله في ملك الموقوف عليهم.

وبناءً على ذلك يكون أمر التولية في مفروض المسألة إلى الواقف على القول الأوّل، وإلى الموقوف عليهم مطلقاً على القول الثاني، وإلى الحاكم مطلقاً بناءً على القول الثالث، وإلى الحاكم في الوقف العامّ وإلى الموقوف عليهم في الوقف الخاصّ بناءً على التفصيل. وعليه فكلّ يُفتي في المسألة بناءً على مبناه.

********

(1) - العروة الوثقى 344:6.

ص: 536

ولكن مقتضى التحقيق كون أمر التولية في المقام إلى الحاكم مطلقاً، كما قال السيّد الماتن. وقد حرّر ذلك السيّد اليزدي ببيان مفصّل(1).

وإنّه قدس سره قد استدلّ لذلك ببيان وجه عدم صلاحية غير الحاكم للتولية في مفروض الكلام وتعيُّنها في الحاكم بالطبع.

وحاصله: إنّ عدم صلاحية الواقف للتولية في المقام، لأجل خروج الوقف بعد تماميته عن يد الواقف وكونه كالأجنبيّ حينئذٍ. ولا ينافيه بقاءُ ملكيته - بناءً على القول به -؛ إذ هذه الملكية ليست تامّة لكي تستلزم سلطة الواقف عليه وتوليته له، بل على نحو ناقص ملائم لمضيِّ الوقف وترتيب آثاره.

********

(1) - قال: إذا لم يعيّن الواقف متولّياً في ضمن صيغة الوقف، فهل التولية له أو للموقوف عليهم أو للحاكم، أو يفصّل بين الوقف الخاصّ فللموقوف عليهم وبين الوقف العامّ فللحاكم أقوال. وربما تبتني المسألة على أنّ العين الموقوفة تبقى على ملك الواقف أو تنتقل إلى الموقوف عليهم أو إلى اللّه مطلقاً، أو يفصّل بين الخاصّ فتنتقل اليهم والعامّ فإليه تعالى، فعلى القول بالبقاء للواقف، وعلى القول بالانتقال إلى الموقوف عليهم مطلقاً أو في الخاصّ فلهم، وعلى القول بكونه للّه فللحاكم، والأقوى كونها للحاكم مطلقاً وليست للواقف ولا للموقوف عليهم، أمّا الواقف فلخروج الأمر من يده وصيرورته كالأجنبيّ وإن قلنا ببقاء ملكه، لأنّ هذه الملكية لا تقتضي التولية على المملوك، ولا مجرى لاستصحاب جواز تصرّفاته. أمّا على عدم بقاء ملكيته، فواضح. وأمّا على بقائها، فلأنّ الجواز من آثار الملك المطلق لا من آثار مطلق الملك. وأمّا الموقوف عليهم، فلتعلّق حقّ البطون اللاحقة فليس لهم الولاية على الوقف على نحو ما يكون للمتولّي المنصوب من قبل الواقف بحيث تمضى إجارتهم له على البطون اللاحقة. نعم لهم التصرّف في تنميته وإصلاحه ونحو ذلك ممّا هو راجع إلى انتفاعهم به، من غير فرق بين القول بملكهم وعدمه بعد كونهم مالكين للمنفعة أو للانتفاع به. وكونهم مالكين له على القول به لا يقتضي ولايتهم على نحو ما للمتولّي المنصوب، كما أنّ عدمه لا يوجب عزلهم بالمرّة هذا في الأوقاف الخاصّة، وأمّا في العامّة فليس لهم أمر أصلاً. راجع: العروة الوثقى 339:6-340.

ص: 537

(مسألة 88): في الأوقاف التي توليتها للحاكم ومنصوبه مع فقدهما وعدم الوصول إليهما توليتها لعدول المؤمنين (1).

وأمّا عدم صلاحية الموقوف عليهم للتولية، فلفرض تعلّق حقّ البطون اللاحقة بالوقف، فما كان من شؤون التولية - من حفظ الوقف وتعميره وإصلاحه وإجارته لهم - لا ربط له بالموقوف عليهم، بل إنّما ذلك من امور الحسبة وموكول إلى الحاكم الشرعي الذي هو الوليّ العامّ. وكونهم مالكين في الجملة لا يقتضي ذلك؛ لعدم اختصاص العين الموقوفة بالموجودين، بل للاحقين أيضاً.

نعم، يجوز للموقوف عليهم التصرف في الوقف لأجل تنميته واستحصال منافعه الفعلية؛ حيث يتحقّق بذلك انتفاعهم من الوقف، من دون دخل لملكية العين الموقوفة لهم وعدمها في ذلك شيئاً. فإنّ ملكية المنفعة الفعلية لهم تقتضي جواز استثمارها واستحصالها بأيّ نحو شاؤوا.

هذا في الوقف الخاصّ. وأمّا في الوقف العامّ، فلا ربط لتوليتها في مفروض الكلام بالواقف؛ لما قلناه ولا بالموقوف عليهم كما هو واضح. فتتعيّن التولية في الحاكم بلا إشكال؛ لأنّه الوليّ العامّ في مطلق الاُمور الحسبية، ولعدم تعلّق الوقف الخاصّ بشخص أو أشخاص خاصّة.

تولية عدول المؤمنين مع فقد الحاكم

1 - المشهور بين الأصحاب تولية عدول المؤمنين لاُمور الحسبة مع فقد الحاكم الشرعي ومنصوبه، كما صرّح به في الحدائق(1)؛ خلافاً لابن إدريس، فمنع ذلك؛

********

(1) - الحدائق الناضرة 408:18.

ص: 538

معلِّلاً بأ نّه موقوف على الإذن الشرعي وهو منتفٍ، كما نقل عنه في الحدائق. ولكن مقتضى التحقيق ما ذهب إليه المشهور ويمكن الاستدلال لذلك بوجوه:

الأوّل: إطلاق قوله تعالى: (تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى...) (1). وذلك لأنّ تولّي الاُمور الحسبية من مصاديق البرّ.

الثاني: إطلاق قوله تعالى: (وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (2)؛ لأنّ تولّي الاُمور الحسبية من المعروف، ولأنّ تركه مستتبع لتعطيل ما لا يرضى الشارع بتعطيه، ولا ريب في كون ذلك من المنكرات.

ومن هنا يمكن الاستدلال لذلك بسائر عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الثالث: ما دلّ على ذلك بالخصوص كقوله عليه السلام: «وإن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كلّه، فلا بأس»(3).

هذه الطائفة من النصوص، لا إشكال في تمامية دلالتها على المطلوب بعد إلغاء الخصوصية عن مواردها وتنقيح الملاك القطعي، وهو تولّي أموال الغُيّب والقُصّر والأطفال والبطون اللاحقة لعدول المؤمنين وثقاتهم عند عدم وجود قيّم خاصّ ولا الحاكم الشرعي ومنصوبه.

وأمّا وجه التقييد بعدم وجود الحاكم ومنصوبه فإنّه الوليّ العامّ ووليُّ من لا وليّ له، لما ثبت ذلك بالنصّ والفتوى. وليس هاهنا محلّ البحث عن ذلك.

********

(1) - المائدة (5):2.

(2) - التوبة (9):71.

(3) - وسائل الشيعة 422:19، كتاب الوصايا، الباب 88، الحديث 2.

ص: 539

(مسألة 89): لا فرق فيما كان أمره راجعاً إلى الحاكم بين ما إذا لم يعيّن الواقف متولّياً، وبين ما إذا عيّن ولم يكن أهلاً لها أو خرج عن الأهلية (1)، فإذا جعل للعادل من أولاده ولم يكن بينهم عادل أو كان ففسق، كان كأن لم ينصب متولّياً.

(مسألة 90): لو جعل التولية لعدلين من أولاده - مثلاً - ولم يكن فيهم إلّا عدل واحد، ضمّ الحاكم إليه عدلاً آخر (2)، وأمّا لو لم يكن فيهم عدل أصلاً، فهل اللازم عليه نصب عدلين، أو يكفي نصب واحد أمين؟ أحوطهما الأوّل، وأقواهما الثاني (3).

1 - وذلك لأنّ الملاك في وصول النوبة إلى الحاكم فقدان المتولّي الشرعي، ومن لا يصلح شرعاً للتولّي وجوده كالعدم. وعليه فبمجرّد خروجه عن العدالة تُسلب عنه صلاحية التولّي، فتصل النوبة إلى الحاكم الشرعي.

2 - سبق وجه ذلك مفصّلاً في شرح المسألة الثانية والثمانين، راجع.

3 - وجه القوّة أنّه إذا لم يمكن العمل بما رسمه الواقف تنتفي شرطية الانضمام والاثنينية. فعلى الحاكم أن يعمل بنظره في جعل التولية لمن يرى مصلحة الوقف والموقوف عليه، واحداً كان أم متعدّداً.

ولا يخفى: أنّ احتياط السيّد الماتن في المقام استحبابي؛ نظراً إلى فتواه بخلافه.

وأمّا وجه الاحتياط فاحتمال شمول عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» لمثل المقام؛ نظراً إلى إمكان تأمين غرض الواقف والعمل بالوقف على نحو رسمه، ولكنّ المتيقّن من قصد الواقف تعلّقه بالانضمام والاثنينية في خصوص الأشخاص الذين عيّنهم الواقف للتولية، لا مطلقاً؛ بداهة اختلاف مراتب التدبير والتمكّن في

ص: 540

(مسألة 91): لو احتاج الوقف إلى التعمير ولم يكن ما يصرف فيه، يجوز للمتولّي أن يقترض له قاصداً أداء ما في ذمّته بعد ذلك ممّا يرجع إليه، كمنافعه أو منافع موقوفاته (1)، فيقترض متولّي البستان - مثلاً - لتعميره بقصد أن يؤدّي دينه من عائداته، ومتولّي المسجد أو المشهد أو المقبرة ونحوها بقصد أن يؤدّيه من عائدات موقوفاتها، بل يجوز أن يصرف في ذلك من ماله بقصد الاستيفاء ممّا ذكر.

الأفراد. ولكن مع ذلك يكون الانضمام مطلقاً أقرب إلى نظر الواقف. ولمّا كان من المحتمل شرط الانضمام في التولّي مطلقاً - ولو في غير الأشخاص الذين عيّنهم - يُستحبّ للحاكم رعاية جانب الاحتياط بالانضمام.

حكم الاقتراض لتعمير الوقف

1 - أصل جواز الاقتراض لا إشكال فيه. ولا ينبغي الكلام حوله. وإنّما الكلام ينبغي أن يقع حول جواز أداء مال القرض من منافع الوقف؛ نظراً إلى كونها ملكاً للموقوف عليهم وأمرها بيدهم.

ومقتضى التحقيق جواز الأداء.

وذلك أوّلاً: لأنّ مال القرض إنّما صرفه المتولّي في شؤون الوقف، من مصالحه وتعميره واستحصال منافعه.

وثانياً: لأنّ أصل التولية كان له مشروعاً، فكذلك ما يرجع إلى شؤونها ومقتضياتها. ففي الحقيقة يكون اقتراضه وصرف مال القرض في شوون التولية بأمر الشارع، فلا ضمان عليه. هذا مضافاً إلى رجوع ذلك إلى مؤونة تحصيل المنافع،

ص: 541

ولو اقترض له وصرفه لا بقصد الأداء منه، أو صرف ماله لا بقصد الاستيفاء منه، لم يكن له ذلك بعده (1).

فليست من المنافع في الحقيقة عند أهل العرف بعد الكسر والانكسار. فلا يدخل ما يعادلها في ملك الموقوف عليهم، حتّى يعتبر إذنهم. ومن هنا يجوز أداؤه من منافع الوقف قطعاً، ففي الحقيقة يكون ذلك صرف لمنافع الوقف في شؤونه. وهذا لا إشكال فيه.

1 - لأنّه قد قصد التبرّع بذلك أو أداءِ مال القرض من غير منافع الوقف. وذلك مثل أن تقترض المال فتؤدّيه من مال غيرك، فكيف لا يجوز؟ كذلك في المقام.

وكيف في المثال لا يُجوّز مجرّد صرف مال القرض من مصالح ذلك الغير أداءَه من ماله؟ إلّاأن يضمن لك الأداء، فكذلك في المقام؛ لأنّ منافع الوقف مال الغير، وهو الموقوف عليه.

ص: 542

(مسألة 92): تثبت الوقفية: بالشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان، وبإقرار ذي اليد أو ورثته بعد موته، وبكونه في تصرّف الوقف؛ بأن يعامل المتصرّفون فيه معاملة الوقف بلا معارض، وبالبيّنة الشرعية (1).

ما تثبت به الوقفية ولواحقها

اشارة

1 - والوجه فيه: أنّ العلم حجّة بذاته، بلا احتياج إلى جعل جاعل. والمفروض حصوله بالسبب المتعارف، وهو الشياع.

وأمّا الاطمئنان الحاصل بالشياع، أو بأيّ طريق متعارف، فالوجه في حجّيته استقرار سيرة العقلاء بل المتشرّعة على معاملة العلم معه وترتيب الأثر عليه كالعلم.

ولم يردع عنه الشارع، بل يستفاد تقريره وإمضاؤه من خطاباته في موارد عديدة من أبواب الفقه.

ومن هنا ترى الأصحاب قد أفتوا بإثبات الاجتهاد والهلال والقبلة ونحوها من الموضوعات - التي لها الآثار الشرعية - بالشياع المفيد للاطمئنان.

هذا، ولكن يستفاد من كلام صاحب العروة عدم إثبات الوقف بالشياع المفيد للاطمئنان؛ حيث إنّه قوّى اعتبار حصول العلم بالشياع.

قال قدس سره «تثبت الوقفية بالشياع. والأقوى اعتبار حصول العلم به»(1). ولكن مقتضى التحقيق ما قلناه من إثباته بالشياع المفيد للاطمئنان؛ نظراً إلى استقرار سيرة العقلاء على العمل به وعدم ردعها من الشارع.

********

(1) - العروة الوثقى 397:6.

ص: 543

(مسألة 93): لو أقرّ بالوقف، ثمّ ادّعى أنّ إقراره كان لمصلحة، يسمع منه، لكن يحتاج إلى الإثبات لو نازعه منازع صالح، بخلاف ما إذا أوقع العقد وحصل القبض، ثمّ ادّعى أنّه لم يكن قاصداً، فإنّه لا يسمع منه (1) أصلاً، كما هو الحال في جميع العقود والإيقاعات.

وأمّا إثبات الوقف بإقرار ذي اليد، فالوجه فيه حجّية اليد، ولكنّه ما دام لم تكن معارضة بيد اخرى أو دعوى مدّعٍ.

وأمّا قول ورثة الواقف، فلأ نّهم ما لكون لتركة الواقف الميّت. فلو لم يكن وقفاً لا نتقل إليهم بالإرث. فإقرارهم بالوقفية يكون إقراراً على أنفسهم.

وأمّا معاملة المتصرّفين فيه معاملة الوقف بلا معارض، فالوجه في ثبوت الوقف به حجّية قول ذي اليد من غير معارض؛ لأنّهم من قبيل ذي اليد.

وأمّا البيّنة الشرعية، فحجّيتها ممّا لا إشكال فيه ما لم تعارضها بيّنة اخرى.

وحاصل الكلام: هذه المسألة ليست من مختصّات باب الوقف، بل تأتي في إثبات كلّ موضوع ذي أثر شرعي. ولصاحب العروة في المقام كلام، فليراجع(1).

حكم ما لو أقرّ بالوقف ثمّ ادّعى كونه لمصلحة

1 - كما صرّح بذلك في العروة بقوله: «إذا أقرّ بالوقف ثمّ ادّعى أنّ إقراره كان لمصلحة يسمع منه بعد إثبات كونه كذلك، وإلّا فمأخوذٌ به»(2).

أمّا سماع إقراره بالوقف، فلا كلام فيه؛ لأنّه عليه وإقرار العقلاء على أنفسهم

********

(1) - العروة الوثقى 397:6.

(2) - العروة الوثقى 397:6.

ص: 544

(مسألة 94): كما أنّ عمل المتصرّفين معاملة الوقفية، دليل على أصل الوقفية ما لم يثبت خلافها، كذلك كيفية عملهم من الترتيب والتشريك والمصرف وغير ذلك دليل على كيفيته، فيتّبع ما لم يعلم خلافها (1).

جائز، بخلاف دعواه أنّ إقراره كان لمصلحة؛ فإنّ ذلك بنفعه وليس بضرره. مع أنّ دعواه ذلك على خلاف ظاهر إقراره بالوقف، فهو خلاف الأصل، فيكون هو المدّعي وعليه إثبات مدّعاه، لكنّه إذا نازعه منازع بإنكار دعواه. وذلك لاختصاص قاعدة المدّعي والمنكر بما إذا كان في البين منازع ينكر دعوى المدّعي، وإلّا فلا حاجة إلى الإثبات.

ولكن هذا كلّه إذا كان دعواه قبل تمامية عقد الوقف، وإلّا لا يُسمع دعواه بوجه؛ نظراً إلى شمول عمومات الوقف بعد تمامية أركانه.

1 - سبق آنفاً أنّ المتصرّفين في حكم ذي اليد، وقول ذي اليد وعمله أمارة وحجّة ما لم يعارضه قول ذي اليد الآخر أو دعوى مدّعٍ.

وعليه فإذا كان عمل المتصرّفين وقولهم حجّة عند عدم المعارض على أصل الوقفية، فكذلك يكون حجّة في كيفية الوقف من حيث الترتيب والتشريك ومورد الصرف وسائر الجزئيات.

وأمّا إذا ادّعى مدّعٍ ملكية العين الموقوفة أو مخالفة عمل المتصرّفين لما قرَّره الواقف واشترطه، فعليه إثبات ذلك. فما دام لم يُثبت مدّعاه ببيّنة وحجّة شرعية، لا يُعتنى بدعواه؛ نظراً إلى حجّية يد المتصرّفين وقولهم.

ص: 545

(مسألة 95): لو كان ملك بيد شخص يتصرّف فيه بعنوان الملكية، لكن علم أ نّه قد كان في السابق وقفاً، لم ينتزع من يده بمجرّد ذلك ما لم يثبت وقفيته فعلاً. وكذا لو ادّعى أحد أنّه قد وقف على آبائه نسلاً بعد نسل؛ وأثبت ذلك من دون أن يثبت كونه وقفاً فعلاً (1).

حكم ما لو عُلِم كون ملكٍ وقفاً سابقاً

1 - والوجه في ذلك أنّ هذه المسألة من قبيل تعارض اليد الفعلية مع استصحاب الملكية أو اليد السابقتين. وقد قرّر في محلّه تقدّم اليد الفعلية، كما أشار إلى ذلك في العروة بقوله: «إذا كان ملكٌ بيد شخص يتصرّف فيه بعنوان الملكية لكن علم كونه سابقاً وقفاً، أو ادّعى رجل وقفيته على آبائه نسلاً بعد نسل وأثبت ذلك عند الحاكم الشرعي، فهل يحكم بوقفيته وينتزع من يد المتصرّف أو لا؟ بل يحتاج إلى إثبات كونه وقفاً عليه فعلاً وإنّه غصب في يد المتصرّف؟ الأقوى الثاني؛ لأنّه من تعارض اليد المتصرّفة فعلاً مع استصحاب الملكية أو اليد السابقتين، وقد قرّر في محلّه تقدّم اليد الفعلية»(1).

تحرير مقتضى القاعدة في المقام: أنّ قاعدة اليد لا بدّ من تقديمها على الاستصحاب مطلقاً، سواءٌ قلنا بكون قاعدة اليد في عرض سائر الأمارات، أم لا، بل متأخّرة عن سائر الأمارات.

أمّا على القول بكون قاعدة اليد في عرض سائر الأمارات، فالوجه في تقدُّمها على الاستصحاب، أنّ الاستصحاب على القول بأماريّتها تكون رتبتها متأخّرة عن

********

(1) - العروة الوثقى 401:6.

ص: 546

سائر الأمارات؛ نظراً إلى أخذ الشكّ في موضوعه. بخلاف سائر الأمارات، فضلاً عن كونه من الاُصول، فوجه تقدّم اليد عليه واضح، كما في تقدّم أيّة أمارة على الأصل. وهذا النوع من التقدّم من قبيل الورود، كما قلنا في المجلّد الخامس من كتابنا «بدايع البحوث في علم الاُصول» في مبحث قاعدة الورود وذكرنا لذلك تطبيقات فقهية.

وأمّا بناءً على القول بتأخّر قاعدة اليد عن سائر الأمارات - نظراً إلى اختصاص جريان السيرة على حجّية اليد فيما إذا لم يثبت خلافها بأمارة - فأيضاً تُقدَّم قاعدة اليد على الاستصحاب حتّى بناءً على كونه أمارة.

والوجه في ذلك: أنّ أدلّة اعتبار قاعدة اليد قد وردت في موارد الاستصحاب؛ نظراً إلى أنّ غالب موارد جريان قاعدة اليد مسبوق باليد السابقة؛ نظراً إلى العلم بكون ما في أيدي الناس مسبوقاً بكونه ملكاً للغير، فيجري استصحاب عدم ملكية الغير، فيكون تقديم الاستصحاب في الفرض المزبور موجباً لإلغاءِ دليل قاعدة اليد أو تخصيص الأكثر المستهجن.

وعلى ضوءِ هذا البيان اتّضح وجه تقدّم قاعدة اليد على الاستصحاب على أيّ حال. ومن هنا لا يجوز انتزاع العين - المتصرّف فيها بعنوان الملكية - من يد متصرّفها، بمجرّد العلم بكونها وقفاً سابقاً، بل لا بدّ من إثبات وقفيته فعلاً. وكذا لو ادّعى أحدٌ أنّ العين قد وُقِفت على آبائه نسلاً بعد نسل وأثبت ذلك بالبيّنة الشرعية، ولا تسمع دعواه ولا يُرتّب عليها أيّ أثر، بل يُحكم بملكية العين لمالكها الفعلي كما كانت، بل عليه أن يُثبت كونه ملكاً فعلاً.

والسرّ في ذلك: عدم الملازمة بين الوقف السابق وبين ثبوته في حال النزاع بعد مضيّ زمان.

ص: 547

نعم، لو أقرّ ذو اليد في مقابل دعوى خصمه: بأ نّه كان وقفاً إلّاأنّه قد حصل مسوّغ البيع وقد اشتراه، سقط حكم يده وينتزع منه (1)، ويلزم بإثبات وجود المسوّغ ووقوع الشراء.

وذلك لاحتمال تبديله بالملك لعروض أحد أسباب مستثنيات حرمة بيع الوقف، أو لبطلانه بعد سقوطه عن حيّز الانتفاع وعروض الموتان عليه ثمّ صار ملكاً لأحد بالإحياء وغير ذلك من الأسباب والوجوه المحتملة.

ومن هنا لا منافاة بين كون شيءٍ وقفاً سابقاً وبين كونه ملكاً فعلاً.

1 - والوجه في سقوط اليد عن الاعتبار حينئذٍ أنّها اقترنت بإقرار ذي اليد واعترافه بكون المال ملكاً للمدّعي ودعواه انتقال المال إليه بعد ذلك بالشراء، فينقلب ذو اليد مدّعياً والمدّعي منكراً في الحقيقة حينئذٍ، فيحكم بوقفية المال وعلى ذي اليد إثبات انتقاله إليه.

ولا مجال للتمسّك بقاعدة اليد وذلك لعدم إحراز جريان السيرة على اعتبارها حينئذٍ وكذا تعليله بقوله: «لو لا هذا لما قام للمسلمين سوق»(1) لا يشمل المقام، بل منصرف عن هذه الصورة.

هذا، ولكن فيه إشكال. وذلك لأنّ الوقف إذا ثبت وقوعها سابقاً بالحجّة الشرعية - من بيّنة وغيرها - لا يصلح لمعارضة اليد وإسقاطها، كذلك لا بدّ أن لا يصلح الإقرار بالوقف السابق لإسقاطها. وذلك لأنّه لا يزيد عن البيّنة في الحجّية، وغاية مقتضاه ثبوت أصل الوقفية سابقاً. وأمّا الحكم ببقائه في الحال، فلا يمكن إلّابدليل

********

(1) - عوالي اللئالي 35/392:1.

ص: 548

(مسألة 96): لو كان كتاب أو مصحف أو غيرهما بيد شخص وهو يدّعي ملكيته، وكان مكتوباً عليه أنّه وقف، لم يُحكم بوقفيته بمجرّده (1)، فيجوز الشراء منه. نعم، الظاهر أنّ وجود مثل ذلك عيب ونقص في العين، فلو خفي على المشتري حال البيع كان له الخيار.

الاستصحاب، وهو معارضٌ باليد الفعلية في كلتا الصورتين فإنّ اليد أمارة الملك.

ودعوى الوقفية الفعلية خلاف مقتضى الأمارة، فهي خلاف الأصل فمدّعي الوقفية الفعلية مدّعٍ مطلقاً وذو اليد منكرٌ مطلقاً حسب ضابطة المدّعي والمنكر. ولا ينافي ذلك إقراره بالوقفية سابقاً.

حكم ما كتب عليه أنّه وقف

1 - وذلك لعين ما سبق آنفاً؛ حيث إنّ ما كتب عليه أنّه وقف لا يُثبت أكثر من أ نّه كان وقفاً في زمان، لا فعلاً. فمقتضى القاعدة المزبورة تقدّم قاعدة اليد، كما بيّنّا وجه ذلك آنفاً. هذا مع عدم حجّية الكتابة شرعاً ما لم يعلم صدورها من المالك بالقصد الجدّي. هذا، مع احتمال إرادة الوقف في المستقبل وعروض البداءِ أو النسيان أو حدوث مانع كالموت، فيكون تحقّق القبض والإقباض مشكوكاً.

فلا مانع من بيعه وشرائه ونقله بأيّ سبب من أسباب النقل. وهذا وجه ما أفتى به في العروة بقوله: «إذا كان كتاب أو قرآن بيد شخص مكتوب على ظهر ورقة الأوّل أو على سائر أوراقه إنّه وقف، لا يحكم بوقفيته بمجرّد ذلك، فلو ادّعى ملكيته جاز الشراء منه، إلّامع العلم أو الاطمئنان بكونه وقفاً»(1).

********

(1) - العروة الوثقى 404:6.

ص: 549

(مسألة 97): لو ظهر في تركة الميّت ورقة بخطّه: أنّ ملكه الفلاني وقف؛ وأ نّه وقع القبض والإقباض، لم يحكم بوقفيته بمجرّده (1) ما لم يحصل العلم أو الاطمئنان به؛ لاحتمال أنّه كتب ليجعله وقفاً كما يتّفق ذلك كثيراً.

وأمّا وجه كونه عيباً، فلأجل تأثير ذلك في قلّة رغبة الناس ونقصان القيمة، كما يشهد لذلك الوجدان العرفي.

عدم ثبوت الوقفية بخطّ الميّت

1 - وجه عدم ثبوت وقفية ما كُتب أنّه وقف وحصل قبضه، احتمال كون مقصوده الوقف في المستقبَل وعروض البداء، أو النسيان، أو عدم الفرصة لعروض المرض والموت، فلم يوفّق لإنشاء الوقف وإقباضه، بل بقي على ملكيته؛ نظراً إلى أنّ احتمال ذلك يمنع عن حصول العلم والاطمئنان بوقفيته فعلاً؛ أي بعد موته.

وممّا يؤكّد عدم الوقفية، بل يُثبته أنّه لو كان وقفاً لكان أقرباؤه وأصدقاؤه يطّلعون على ذلك. فإذا لم يعلم بذلك أحدٌ منهم، ينكشف منه عدم الوقفية؛ حيث إنّ هذه الاُمور المهمّة لو وقعت لا نتشرت في بداية أمرها.

فتحصّل أنّه لولا احتمال عروض المانع - من البداء والنسيان - لا وجه للحكم بعدم الوقفية. وأمّا عدم اطّلاع الأقرباء وأولاد الميّت وأهله، فإنّما يُقوّي احتمال عروض البداء والنسيان.

ومن هنا كان الأصحّ أن يقول السيّد الماتن: «ليجعله وقفاً ثمّ بدا له في ذلك أو نسي أو ضاقت فرصته بحلول الموت». كما صرّح بذلك في العروة؛ حيث قال:

«كما أنّه إذا ظهر في تركة الميّت ورقة أنّ ملكه الفلاني وقف وأ نّه حصل القبض

ص: 550

(مسألة 98): إذا كانت العين الموقوفة من الأعيان الزكوية - كالأنعام الثلاثة - لم يجب على الموقوف عليهم زكاتها وإن بلغت حصّة كلّ منهم النصاب (1). وأمّا لو كانت نماؤها منها - كالعنب والتمر - ففي الوقف الخاصّ،

والإقباض، لا يحكم بوقفيته، وإن كان بخطّ الميّت وخاتمه لاحتمال أنّه كتب ليجعله وقفاً فبدأ له في ذلك أو نسي أو نحو ذلك»(1).

هذا، مضافاً إلى ما قلنا آنفاً من أنّ غاية ما يثبت بذلك، كونه وقفاً في زمان. وأمّا كونه وقفاً في الحال، فلا يمكن إثباته إلّابالاستصحاب. وهو لا يصلح لمعارضته يد من عنده ذلك المال، بل لا بدّ من تقديم اليد والحكم بملكية ذلك المال لذي اليد.

ومن هنا يظهر في كلام السيّد الماتن من الإشكال في حكمه بالوقفية في صورة العلم أو الاطمئنان بالوقفية حال حياة الميّت، كما هو الظاهر من مفروض المسألة.

وأمّا فرض صورة هذه المسألة فيما إذا لم تكن التركة في يد أحدٍ بعنوان الملك حتّى الوُرّاث، ففي غاية البُعد عادةً. ومن هنا لا فرق بين هذه المسألة وبين السابقة من حيث كون المال المتنازع في وقفيته في يد شخص بعنوان الملك، كما يشعر بذلك تعبير السيّد الماتن بقوله: «أنّ ملكه الفلاني وقف».

حكم الزكاة في العين الموقوفة ونمائها

1 - يقع الكلام تارة: في حكم الزكاة في العين الموقوفة، واُخرى: في زكاة نمائها.

أمّا العين الموقوفة، فلا إشكال في عدم وجوب الزكاة فيها.

********

(1) - العروة الوثقى 404:6.

ص: 551

وذلك أوّلاً: لمنافاة تعلُّق الزكاة بالعين الموقوفة ووجوب أدائها مع ماهية الوقف.

وذلك لما سبق في تعريف الوقف أنّه تحبيس العين وتسبيل منفعتها. فلو وجبت الزكاة فيها، ليلزم انتقال متعلّق الزكاة منها إلى أرباب الزكاة، وهذا ينافي التحبيس والبقاء.

وثانياً: لانصراف أدلّة وجوب الزكاة إلى الأموال التي يملكها المكلّف ملكاً تامّاً، بحيث يتمكّن شرعاً من إعطائها ونقلها؛ فإنّ قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) (1) ظاهر في هذا المعنى؛ نظراً إلى ظهور (أَمْوالِهِمْ) في الإضافة الملكية الظاهرة في كون الأموال ملكاً طلقاً لهم؛ حسب المتفاهم العرفي.

والعين الموقوفة وإن تدخل في ملك الموقوف عليه على التحقيق المشهور بين الأصحاب، إلّاأنّ ملكيتها ليست تامّة طلقاً كملكية سائر الأملاك، ممّا يتمكّن المالك فيه من وجوه التصرّفات الناقلة وغيرها، بل إنّما يجوز له الانتفاع بالتصرّفات غير الناقلة؛ نظراً إلى منافاة التصرّفات الناقلة لتحبيس الأصل المأخوذ في ماهية الوقف.

ومن هنا اشترط الفقهاءُ في وجوب الزكاة تمامية الملك وكماله، كما صرّح به في الشرائع والقواعد والبيان. وقد صرّح العلّامة والشهيد بخروج الوقف باشتراط هذا الشرط في وجوب الزكاة، كما نقل عنهما في الجواهر(2).

أمّا منافع الوقف ونمائاته، فينبغي التفصيل بين الوقف الخاصّ وبين الوقف العامّ والوقف على الجهة.

أمّا الوقف الخاصّ، فمقتضى القاعدة تعلّق الزكاة بمنافع العين الموقوفة ونمائاتها، فيجب على الموقوف عليهم أداءُ زكاتها. وذلك لأنّ منافع الوقف ملك

********

(1) - التوبة (9):103.

(2) - جواهر الكلام 48:15 و 56.

ص: 552

طلقٌ للموقوف عليهم بالاتّفاق. فشرط تعلّق الزكاة - وهو تمامية الملك وكماله - حاصل في ملكية منافع الوقف للموقوف عليهم؛ حيث يجوز لهم أنحاءُ التصرّفات فيها - الناقلة وغيرها - بلا خلاف ولا كلام، فلا مانع من شمول أدلّة الزكاة لها.

وأمّا الوقف العامّ، فالأقوى عدم تعلّق الزكاة بمنافعه؛ لأنّ الموقوف عليهم في الوقف العامّ عنوان كلّي عامّ غير محصور، كالفقراء والعلماء والسادات، وإنّ منافع الوقف وإن كانت ملكاً لهم، إلّاأنّ أدلّة وجوب الزكاة - كقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) (1) منصرفة عن العناوين الكلّية غير المحصورة، بل إنّها ظاهرة في آحاد الملكّفين وأفراد المُلّاك بأشخاصهم، إلّاأن يكون الأشخاص المندرجة تحت العنوان محصورين في الوقف العامّ، كعلماءِ بلد، أو فقراء أو سادات أو أيتام قرية صغيرة.

وأمّا في الوقف على الجهات، فإنّ الجهة، وإن كانت مالكة بلحاظ تأويلها إلى عموم المؤمنين في تلك الجهة، إلّاأنّ الجهة غير مكلّفة بشيءٍ، وقد عرفت أنّ عموم المؤمنين عنوان عامّ.

وأمّا الحاكم الشرعي، فلا تكليف عليه بدفع الزكاة في الوقف العامّ وعلى الجهة؛ لعدم كون منافع الوقف ملكه، ولفرض عدم تعلّق الزكاة بالموقوف عليهم حينئذٍ، حتّى يتولّى الحاكم دفعها عنهم.

نعم، لو اعطيت منافع الوقف إلى واحدٍ من أفراد الموقوف عليهم في الوقف العامّ، ثمّ بلغ ذلك المال بعد قبضه حدَّ النصاب لا إشكال في تعلّق الزكاة به؛ نظراً إلى حصول الملك الطلق التامّ بعد القبض.

********

(1) - التوبة (9):103.

ص: 553

ولكن هذا خارج عن محلّ الكلام؛ لأنّ الكلام إنّما في ما إذا بلغت منافع الوقف حدّ النصاب وحال عليها الحول قبل دفعها إلى أفراد الموقوف عليهم. فوقع الكلام حينئذٍ في أنّه هل يجب دفع زكاتها أوّلاً ثمّ دفعها إلى أشخاص الموقوف عليهم أو يجب على أشخاص الموقوف عليهم دفع الزكاة أوّلاً بعد قبضها وقبل التصرّف فيها؟

مقتضى التحقيق كما قلنا: عدم تعلّق الزكاة بمنافع الوقف العامّ وعلى الجهة ببلوغها حدَّ النصاب ومضيِّ الحول قبل إقباضها إلى أشخاص الموقوف عليهم.

نعم، بعد إقباضها ضمان إلى أشخاصهم عند بلوغها حدّ النصاب ومضيّ الحول؛ نظراً إلى تحقّق الملك التامّ لأشخاصهم بذلك.

وإنّ لصاحب العروة في المقام كلاماً نافعاً، فراجع الهامش(1).

********

(1) - قال قدس سره: «إذا كان العين الموقوفة من الأجناس الزكوية كالأنعام الثلاثة لا يجب على الموقوف عليهم زكاتها وإن بلغت حصّة كلّ واحد منهم النصاب مع تحقّق سائر الشرائط حتّى على القول بكونهم مالكين للعين الموقوفة.

وكذا لا تجب في نتايجها على القول بكونها وقفاً تبعاً للاُمّهات أو إذا شرط الواقف كونها وقفاً. وأمّا على القول بعدم تبعيتها مع عدم الشرط فتجب على كلّ من بلغت حصّته النصاب، وكذا في سائر النمائات إذا كانت من الأجناس الزكوية كالتمر والعنب والحنطة والشعير فإنّه يجب على من بلغت حصّته النصاب زكاتها في الوقف الخاصّ.

وأمّا في الوقف العامّ، فلا تجب، إلّاإذا كان الوقف للعموم على وجه الشركة لا لبيان المصرف واتّفق كون الموقوف عليهم محصورين، كما إذا كان الوقف على فقراء قرية أو بلد وكانوا محصورين، فحينئذٍ تجب على من بلغت حصّته النصاب.

وأمّا إن كان من باب المصرف، فلا تجب لعدم كونهم مالكين إلّابعد قسمة المتولّي. نعم لو قسم بينهم قبل وقت تعلّق الزكاة بحيث تعلّقت في ملكهم وجبت عليهم إذا بلغت النصاب، بل وكذا إذا انحصر الموقوف عليه في واحد فإنّه حينئذٍ يكون مالكاً قبل دفع المتولّي إليه من حين التعلّق». راجع: العروة الوثقى 405:6.

ص: 554

وجبت الزكاة على كلّ من بلغت حصّته النصاب من الموقوف عليهم؛ لأنّها ملك طلق لهم، بخلاف الوقف العامّ حتّى مثل الوقف على الفقراء؛ لعدم كونه ملكاً لواحد منهم إلّابعد قبضه. نعم، لو اعطي الفقير - مثلاً - حصّة من الحاصل على الشجر قبل وقت تعلّق الزكاة - بتفصيل مرّ في كتاب الزكاة - وجبت عليه لو بلغت النصاب.

(مسألة 99): الوقف المتداول بين بعض الطوائف يعمدون إلى نعجة أو بقرة، ويتكلّمون بألفاظ متعارفة بينهم، ويكون المقصود أن تبقى وتذبح أولادها الذكور وتبقي الإناث وهكذا الظاهر بطلانه (1)؛ لعدم تحقّق شرائط صحّته.

1 - والوجه في البطلان أنّ من شرائط الوقف التلفّظ بالصيغة الظاهرة في الوقف المعهود في الشرع، وليس التكلّم بالألفاظ المتداولة - في مثل الوقف المتداول المشار إليه - ظاهراً في الوقف المعهود، بل يدلّ على معنى مخالف له، كما أنّ من شرائط، بل أركان الوقف المشروع تحبيس الأصل - الذي هو العين الموقوفة - فلو كانت النعاج الذكور موقوفة لا بدّ من بقائها ودرّ نمائاتها؛ لكي يتحقّق بذلك تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.

هذا تمام الكلام في كتاب الوقف. وقد تمّ بعون اللّه وقوّته و

لطفه في غُرّة شعبان المعظَّم سنة 1427 ه ق.

الحمد للّه أوّلاً وآخراً وصلواته على محمّد وآله سرمداً.

العبد الخجلان من ساحة ربِّه الغفار

علي أكبر السيفي المازندراني.

ص: 555

ص: 556

خاتمة

اشارة

تشتمل على أمرين: أحدهما في الحبس وما يلحق به، ثانيهما في الصدقة (1).

1 - مقصوده من «ما يلحق به»، السكنى والعمرى والرقبى. وسيأتي البحث عنها وعن الصدقة.

ولكنّ الذي سلكه السيّد الماتن قدس سره في ترتيب البحث، عكس ما صنعه الفقهاء؛ حيث إنّهم عقدوا البحث أوّلاً عن السكنى وأختيها، ثمّ تعرّضوا في ذيلها إلى البحث عن الحبس، ولم يفصّلوا فيه البحث، بل اقتصروا على ذكر فرعين فيه، كما في جامع المقاصد(1) والمسالك(2) والجواهر(3).

فكان الأنسب أن يعقد السيّد الماتن قدس سره عنوان الخاتمة في أمرين:

أحدهما: السكنى وأخواتها المشتملة على الحبس.

ثانيهما: في الصدقة.

وجه ذلك أنّ عمدة النصوص والفروع في الجوامع الروائية والكتب الفقهية، إنّما هي في السكنى واُختيها، دون الحبس.

********

(1) - جامع المقاصد 117:9-128.

(2) - مسالك الأفهام 415:5-432.

(3) - جواهر الكلام 133:28-156.

ص: 557

القول: في الحبس وأخواته

اشارة

(مسألة 1): يجوز للشخص أن يحبس ملكه على كلّ ما يصحّ الوقف عليه؛ بأن تصرف منافعه فيما عيّنه على ما عيّنه (1)،

تعريف الحبس

1 - يقع الكلام أوّلاً: في تعريف الحبس، وثانياً: في صحّة الحبس على كلّ ما يصحّ الوقف عليه.

أمّا تعريف الحبس، فلم يتعرّض له الفقهاء بعنوانه، ولكنّ الذي يمكن أن يستفاد من مضامين كلماتهم في تعريف الحبس أنّه: تخصيص مال بجهة مجّاناً. وبعبارة اخرى: تمليك منفعة المال لجهة أو إنسان مجّاناً مع بقاءِ العين في ملك مالكها.

وأمّا أنّه هل يكون عقداً، فيفتقر إلى إيجاب وقبول؟ فقد يقال: إنّ مقتضى السيرة الاكتفاء فيه بالفعل. ولكن نقل في الجواهر عن بعض الأصحاب التصريح بأنّ الحبس عقد واحتمل كون مرادهم الحبس في سبيل اللّه والاُمور العبادية، واستشهد لذلك بما عن المشهور، من عدم حاجة الوقف إلى القبول، فضلاً عن الحبس.

قال قدس سره: «بل قد يقال: إنّ مقتضى السيرة الاكتفاء فيه بالفعل بهذا العنوان. فلا يحتاج صحّته، بل ولا لزومه إلى لفظ، فضلاً عن أن يكون عقداً محتاجاً إلى القبول من الناظر، أو الحاكم. لكن عن التحرير واللمعة وصيغ العقود والمسالك والروضة والتنقيح والتذكرة التصريح بكون الحبس عقداً، بل قيل: إنّه ظاهر الباقين. ويمكن إرادتهم غير المفروض، إذ قد عرفت فتوى المشهور في الوقف، بعدم الاحتياج إلى

ص: 558

القبول، فضلاً عن الحبس، وإن كان قد سمعت المناقشة فيه منّا»(1).

وقوله: غير المفروض؛ أي غير حبس المال على إنسان من غير جهة القربة.

وفي جامع المقاصد: أنّ الأصحاب لم يصرّحوا في الحبس بكونه عقداً ولا باعتبار القبض وقصد القربة فيه؛ حيث قال: «يصحّ الحبس كما يصحّ الوقف والسكنى، والظاهر أنّه لا بدّ من العقد والقبض والقربة ولم يصرّحوا بذلك هنا».

وقوله: لم يصرّحوا بذلك هنا؛ أي في حبس المال على إنسان.

وعلى أيّ حال، الحبس قسمان:

أحدهما: الحبس في الجهات العبادية وفي سبيل اللّه.

ثانيهما: حبس مال على إنسان، كما صرّح بهذين القسمين المحقّق الكركي بقوله: «وهو قسمان، أحدهما: أن يحبس فرسه في سبيل اللّه، أو غلامه في خدمة البيت الحرام أو المشهد أو المسجد أو معونة الحاجّ. فإذا فعل ذلك على وجه القربة، لزم ولم يجز له فسخه بحال. - إلى أن قال - قوله: «ولو حبس شيئاً على رجل فإن عيّن وقتاً لزم ويرجع إلى الحابس أو ورثته بعد المدّة، وإن لم يعيّن كان له الرجوع متى شاءَ»، هذا هو القسم الثاني»(2).

ولا يخفى: أنّ المعيار في القسم الأوّل - وهو الحبس في سبيل اللّه - كون الحبس على غير الآدمي - يعني مطلق وجوه الخير العامّ المنفعة للمؤمنين الداخل في عنوان سبيل اللّه، وعلى محالّ العبادات والمشاهد، ولتعظيم شعائر اللّه.

وأمّا اعتبار قصد القربة فالمعروف والمشهور - كما عرفت من كلمات الأصحاب - اعتباره. وعليه فالملاك في القسم الأوّل كلا الأمرين ولكن في القسم

********

(1) - جواهر الكلام 152:28.

(2) - جامع المقاصد 127:9-128.

ص: 559

الثاني إنّما يعتبر وقوع الحبس على الآدمي، سواءٌ كان بقصد القربة أم لم يكن.

ولا ريب في لزوم القسم الأوّل من الحبس؛ نظراً إلى عموم قوله عليه السلام: «فما جُعل للّه عزّ وجلّ، فلا رجعة فيه»(1)، في معتبرة موسى بن بكر وغيرها. هذا مضافاً إلى ما سيأتي ما ادّعاه في الحدائق والمسالك وغيرهما، من اتّفاق الأصحاب على لزوم الحبس في سبيل اللّه وعدم جواز الرجوع فيه.

فالوجه في لزوم هذا القسم من الحبس وعدم جواز الرجوع فيه هو التعبُّد بالنصّ والاتّفاق، لا كونه عقداً، فلا يكون لزوم الحبس وعدم جواز الرجوع فيه دليلاً على عقديته؛ حيث لا ملازمة في البين.

إن قلت: العقد أعمّ من اللازم والجائز، فلا يستلزم اللزوم، فلا وجه لدفع توهّم عقدية الحبس للّه من حكم الفقهاء بلزومه.

قلت: لمّا كان الأصل في العقد اللزوم بمقتضى أصالة اللزوم، يتوجّه الوهم والدفع المزبور.

ولكن يظهر من الشهيد في المسالك أنّه يعتبر في هذا القسم العقد والقبض، ونقل ذلك عن صريح التذكرة؛ حيث قال: «ولم يذكروا على الأوّل سنداً وكأ نّه وفاقيٌّ، لكن يُعتبر فيه مع العقد القبض، صرّح به في التذكرة»(2).

قوله: «على الأوّل»؛ أي على القسم الأوّل، وهو الحبس في سبيل اللّه. ولكن لا دليل على عقديته ولا على اعتبار القبض فيه، مع عدم تصريح الأصحاب وعدم مساعدة السيرة. هذا في القسم الأوّل، وهو الحبس في سبيل اللّه. وأمّا القسم الثاني فسيأتي حكمه في كلام السيّد الماتن.

********

(1) - وسائل الشيعة 204:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 1.

(2) - مسالك الأفهام 432:5.

ص: 560

فلو حبسه على سبيل من سبل الخير ومحالّ العبادات - مثل الكعبة المعظّمة والمساجد والمشاهد المشرّفة - فإن كان مطلقاً أو صرّح بالدوام فلا رجوع بعد قبضه، ولا يعود إلى ملك المالك ولا يورّث (1)، وإن كان إلى مدّة لا رجوع إلى انقضائها، وبعده يرجع إلى المالك أو وارثه. ولو حبسه على شخص فإن عيّن مدّة أو مدّة حياته لزم الحبس في تلك المدّة،

وأمّا صحّة حبس كلّ ما صحّ وقفه وصحّة الحبس على كلّ ما يصحّ الوقف عليه، فالوجه فيه أنّ ماهية الحبس كالوقف. وإنّما يفترق عنه في بعض الجهات كالخروج عن الملك والدوام. هذا، مضافاً إلى ظهور النصوص وكلمات الأصحاب في ذلك، بل صريح كثير منهم، كما قال في الجواهر: «ثمّ إنّ الظاهر أنّه كالوقف بالنسبة إلى الموقوف والموقوف عليه كما عن المقنعة والنهاية والمهذّب والوسيلة وجامع الشرايع والتحرير وغيره من كتب المتأخّرين، بل لعلّ حكمهم في الوقف المنقطع الآخر بأ نّه حبس، ظاهر أو صريح في ذلك. وربما كان هذا هو السبب في عدم استقصائهم الكلام في عقده، وشرطه ومورده والمحبوس عليه، ونحو ذلك، بل لعلّ النصوص أيضاً كذلك»(1).

قوله: «بالنسبة إلى الموقوف والموقوف عليه...» أي كلّ ما صحّ وقفه يصحّ حبسه، وكلّ ما صحّ الوقف عليه يصحّ الحبس عليه.

عدم جواز الرجوع وعدم الوراثة في الحبس للّه

1 - هذا هو القسم الأوّل من الوقف - المشار إليه - في كلام المحقّق الكركي.

********

(1) - جواهر الكلام 153:28.

ص: 561

وقد عرفت أنّه لازم لا يجوز الرجوع فيه؛ لأجل التعبّد بالنصّ. إلّاأنّه لمّا لا يخرج عن ملك الحابس لو وقَّت له زماناً معيّناً، يكون عدم جواز الرجوع محدوداً بذلك الوقت المعيّن. وأمّا إذا أطلق أو صرّح بالدوام، فلا يجوز الرجوع فيه أصلاً ولازمه الخروج عن ملكه لا محالة.

وقد نسب المحدّث البحراني لزوم هذا القسم من الحبس وعدم جواز الرجوع فيه ولا تغييره إلى الأصحاب من غير خلاف. قال: «المعروف من كلام الأصحاب - من غير خلاف يعرف - أنّه إذا حبس فرسه أو بعيره في سبيل اللّه أو غلامه في خدمة المسجد أو بيت اللّه الحرام أو بيت العبادة، لزم ذلك ولم يجز تغييره ما دامت العين موجودة»(1).

وحاصل الكلام: أنّ اللزوم وعدم جواز الرجوع في هذا النوع من الحبس لا دليل عليه، غير ما أشرنا إليه من التعبّد بما دلّ من النصوص على عدم جواز الرجوع فيما كان للّه. ولكن يستفاد من كلام الشهيد أنّ الوجه في ذلك منحصر في اتّفاق الأصحاب. ومن هنا حمل ما ورد في بعض النصوص من أمر علي عليه السلام بردّ الحبيس على القسم الثاني، وهو تحبيس المال على إنسان.

قال: «والموجود من النصوص في هذا الباب ما روي من قضاءِ أمير المؤمنين عليه السلام بردّ الحبيس وإنفاذ المواريث. والأصحاب حملوا ردّه على القسم الثاني، وهو ما إذا وقع مع آدمي، فإنّه يردّ إلى الحابس بعد موته، ولم يذكروا على الأوّل سنداً، وكأ نّه وفاقيٌ»(2).

وأمّا النصّ المشار إليه: فهو اثنان:

********

(1) - الحدائق الناضرة 295:22.

(2) - مسالك الأفهام 432:5.

ص: 562

أحدهما: ما رواه الصدوق بإسناده عن محمّد بن أبي عمير عن عمر بن اذينة، قال: كنت شاهداً عند ابن أبي ليلى وقضى في رجل جعل لبعض قرابته غلّة داره ولم يوقّت وقتاً، فمات الرجل، فحضر ورثته ابن أبي ليلى وحضر قرابته الذي جعل له غلّة الدار. فقال ابن أبي ليلى: أرى أن أدعها على ما تركها صاحبها، فقال محمّد بن مسلم الثقفي: أمّا إنّ علي بن أبي طالب عليه السلام قد قضى في هذا المسجد بخلاف ما قضيت. فقال: وما علمك؟ فقال: سمعت أبا جعفر محمّد بن علي عليه السلام يقول: «قضى علي عليه السلام بردّ الحبيس وإنفاذ المواريث». فقال له ابن أبي ليلى: هذا عندك في كتابك؟ قال: نعم، قال: فأرسل وائتني به. فقال له محمّد بن مسلم: على أن لا تنظر من الكتاب إلّافي ذلك الحديث، قال: لك ذلك، قال: فأحضر الكتاب وأراه الحديث عن أبي جعفر عليه السلام في الكتاب فردّ قضيّته(1). هذه الرواية صحيحة؛ لصحّة طريق الصدوق إلى ابن أبي عمير، ولا إشكال في وثاقة عمر بن اذينة. ونظيرها خبر عبدالرحمان الجعفي(2).

هذان الخبران بظاهرهما يدلّان على جواز الرجوع والتوريث في الحبس مطلقاً، ولكنّ الأصحاب حملوهما على النوع الثاني من الحبس؛ لما اتّفقوا على عدم جواز الرجوع في النوع الأوّل، كما عرفت من صاحب المسالك.

وهذا هو مقتضى الصناعة أيضاً في الجمع بين مطلقات النهي عن الرجوع فيما كان للّه وبين هذين الخبرين، بحملها على القسم الثاني والأخذ بمطلقات النهي عن الرجوع في القسم الأوّل.

ولا يخفى: أنّ قول السيّد الماتن: «ولا يعود إلى ملك المالك ولا يورث» ينبغي

********

(1) - وسائل الشيعة 223:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 5، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 224:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 5، الحديث 2.

ص: 563

استثناؤه بما إذا انبطل الحبس بانقراض المحبوس عليه أو بانتهاء أمده فيما إذا عيّن له وقتاً، فلا محالة يرجع العين المحبوسة إلى المالك حينئذٍ، وهذا بخلاف الوقف.

وبذلك يظهر الفرق بين الوقف وبين الحبس للّه.

وهاهنا نكتة مهمّة، وهي أنّه هل يجوز توقيت الحبس للّه أم لا؟

يحتمل عدمه؛ نظراً إلى كون التوقيت في قوّة اشتراط الرجوع بعد الوقت، فيكون شرطاً مخالفاً للسنّة الدالّة على كبرى عدم جواز الرجوع فيما كان للّه.

ويحتمل الجواز؛ نظراً إلى رجوع التوقيت إلى تعيين الأمد لأصل الحبس الذي هو موضوع عدم الرجوع. فإذا انتهى الوقت المضروب، ينتفي أصل الحبس الذي هو موضوع عدم الرجوع.

وبعبارة اخرى: لمّا لم يتعلّق قصد الحابس بالحبس بعد مضيّ تلك المدّة، فإذا انتهت المدّة، لا حبس في البين. والنصّ إنّما يدلّ على عدم جواز الرجوع في فرض تحقّق موضوعه، ولا يتكفّل أيّ خطاب لإثبات موضوع عند الشكّ في تحقّقه، فضلاً عن صورة العلم بانتفائه كما هو المفروض في المقام.

هذا كلّه إذا لم نقتصر على الإجماع والاتّفاق المدّعى واستندنا إلى عموم النصوص الناهية عن الرجوع فيما كان للّه. وأمّا إذا اقتصرنا على الإجماع، فالأمر سهل؛ لأنّه دليل لبّي يؤخذ بالقدر المتيقّن من معقده وهو ما إذا لم يُوقّت الحبس للّه بمدّة.

وعلى أيّ حال، فالأقوى جواز توقيت الحبس للّه وجواز الرجوع بعد انقضاء المدّة، بل لا رجوع في البين حقيقةً، وإنّما ذلك من قبيل رجوع المال إلى مالكه وترتُّب أحكام الملك عليه بانتفاء الحبس عند انقضاء أمده.

ص: 564

ولو مات الحابس قبل انقضائها يبقى على حاله إلى أن تنقضي، وإن أطلق ولم يعيّن وقتاً لزم ما دام حياة الحابس، فإن مات كان ميراثاً (1). وهكذا الحال لو حبس على عنوان عامّ كالفقراء، فإن حدّده بوقت لزم إلى انقضائه، وإن لم يوقّت لزم ما دام حياة الحابس.

حكم الحبس على الآدمي

1 - يقع الكلام هاهنا في جهتين:

الجهة الاُولى: في لزوم الحبس وعدم جواز الرجوع فيه إلى انقضاء المدّة إذا عيّن له مدّة، أو ما دام الحياة؛ بأن كان الحبس موقوتاً بمدّة حياة الحابس أو المحبوس عليه، وقد حَكمَ الأصحاب بلزوم الحبس حينئذٍ، وإن كان على آدمي.

فعلى الأوّل يكون لزوم الحبس مدّة حياة الحابس، وعلى الثاني مدّة حياة المحبوس عليه؛ لرجوع الثاني أيضاً إلى التوقيت.

هذا ظاهر كلمات الأصحاب والمعروف بينهم، بل يظهر من صاحب الحدائق اتّفاق الأصحاب على ذلك؛ حيث جعل هذه الصورة في عداد الحبس في سبيل اللّه ومحالّ العبادات في اللزوم. وصرّح بحصر الدليل على ذلك في اتّفاق الأصحاب؛ حيث قال: «وإن عيّن مدّة، لزم في تلك المدّة وبعد انقضائها يرجع إلى الحابس أو ورثته، وعلى هذا فلا دليل لهم على الحبس المقيّد بمدّة، ولا على الحبس في سبيل اللّه إلّاظاهر الاتّفاق على ذلك، وإلّا فإنّه لا تعرّض له في شيء من الأخبار المتقدّمة»(1).

********

(1) - الحدائق الناضرة 295:22.

ص: 565

هذا، ولكن يمكن الاستناد في ذلك أوّلاً: إلى عموم «المؤمنون عند شروطهم»؛ لرجوع تعيين المدّة إلى الاشتراط بها.

وثانياً: إلى ما دلّ على ذلك بالخصوص مثل صحيح محمّد بن مسلم، قال:

سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل جعل لذات محرم جاريته حياتها، قال: «هي لها على النحو الذي قال»(1).

وجه الدلالة: أنّ قوله عليه السلام: «هي لها على النحو الذي قال» يدلّ على لزوم الحبس وعدم جواز الرجوع فيه إذا كان موقوتاً بمدّة حياة المحبوس عليه، كما هو مفروض كلام السائل.

وحاصل الكلام: أنّ هذه الرواية قد دلّت بمفهوم التحديد على خروج الجارية عن سلطة الحابس مدّة عمر المرأة المخدومة؛ لأنّ قوله: «هي لها على النحو الذي قال» دلّ بمفهوم التحديد على عدم كونها له على غير النحو الذي قال، وهو في مدّة حياة المرأة المخدومة ومعنى ذلك عدم جواز الرجوع للحابس في المدّة المعيّنة.

وصحيح يعقوب بن شعيب عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: سألته عن الرجل يكون له الخادم تخدمه، فيقول: هي لفلان تخدمه ما عاش، فإذا مات فهي حرّة فتأبق الأمة قبل أن يموت الرجل بخمس سنين أو ستّة ثمّ يجدها ورثته، ألهم أن يستخدموها قدر ما أبقت؟ قال عليه السلام: «إذا مات الرجل فقد عتقت»(2).

وجه الدلالة: أنّ قوله عليه السلام: «إذا مات الرجل، فقد عتقت» - مع فرض تحديد خدمة الجارية بما عاش الرجل المحبوس عليه - ظاهرٌ بمفهوم الشرط في لزوم الحبس مدّة حياة المحبوس عليه إذا قيَّد الحابس الحبس بذلك.

********

(1) - وسائل الشيعة 225:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 6، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 225:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 6، الحديث 2.

ص: 566

ولكن في دلالة هذه الصحيحة على المطلوب خفاءٌ، بل لا تخلو من مناقشة؛ نظراً إلى سوق السؤال والجواب إلى استخدام الجارية بعد موتها.

وأمّا جواز الرجوع بعد انقضاء المدّة حال الحياة وعدم جواز رجوعه بعد الممات إلى انقضاء المدّة، فالوجه فيه - مضافاً إلى الخبرين المتقدّمين - صحيح ابن اذينة المتقدّم آنفاً، كما أشار إلى الاستدلال به في المقام المحقّق الكركي بقوله الآتي. وكذا في المسالك والحدائق والجواهر.

الجهة الثانية: في ما إذا أطلق الحابس ولم يعيّن للحبس مدّةً. فقد وقع الخلاف في جواز الرجوع حينئذٍ.

وقد صرّح العلّامة في القواعد بجواز الرجوع للحابس حينئذٍ متى شاءَ؛ حيث قال: «ولو حبس شيئاً على رجل، فإن عيّن وقتاً، لزم ويرجع إلى الحابس أو ورثته بعد المدّة وإن لم يعيّن كان له الرجوع متى شاءَ»(1).

وعلّله في جامع المقاصد بقوله: «ورواية ابن اذينة البصري عن أبي جعفر عليه السلام بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام قضى بردّ الحبيس وإنفاذ المواريث، دليل على بقاءِ الملك»(2).

ولا يخفى: أنّ بقاءَ الملك كنايةٌ عن جواز الرجوع، بل بيان لوجهه.

ولكن صاحب الشرائع لم يصرّح بجواز الرجوع، بل إنّما حكم ببطلان الحبس بموت الحابس ورجوعه ميراثاً في الصورتين؛ حيث قال: «أمّا لو حبس شيئاً على رجل، ولم يعيّن وقتاً، ثمّ مات الحابس كان ميراثاً، وكذا لو عيّن مدّة وانقضت، كان ميراثاً لورثة الحابس»(3).

********

(1) - قواعد الأحكام 404:2.

(2) - جامع المقاصد 128:9.

(3) - شرائع الإسلام 178:2.

ص: 567

ولكنّ الشهيد في شرحه استحسن كلام العلّامة بقوله: «وبقي في كلام المصنّف أ نّه مع الإطلاق هل يصحّ الرجوع فيه أم لا؟ وليس في كلامه ما يدلّ عليه، بل على بطلانه بموته. والذي صرّح به في القواعد أنّه مع الإطلاق له الرجوع متى شاء كالسكنى، وهو حسنٌ»(1).

والأقوى في المقام ما ذهب إليه العلّامة، وذلك بدليل ظهور صحيح ابن اذينة؛ فإنّ أمر أمير المؤمنين علي عليه السلام بردّ الحبيس دلّ بإطلاقه على جواز الرجوع في الحبس. وإنّما خرجنا عن هذا الإطلاق في صورة تعيين المدّة - ولو بمدّة الحياة - بدليل عموم وجوب الوفاء بالشرط، كما في أيّ عقد جائزٍ يُحكّم هذا العموم، وأيضاً بدليل النصّ الخاصّ المزبور.

وقد عمّم جواز الرجوع في الحدائق إلى صورة تحديد الحبس بمدّة عمر الحابس أو المحبوس عليه حسب القواعد الشرعية، بعد إذعانه بخلوّ عبارات أكثر الأصحاب من التعرُّض لذلك؛ حيث قال: «ثمّ إنّه مع الإطلاق هل يصحّ له الرجوع فيه؟ أكثر العبارات خالٍ من التعرّض لذلك. وفي القواعد صرّح بأنّ له الرجوع متى شاءَ، واستحسنه في المسالك، وهو غير بعيد لو حبس عليه مدّة عمر أحدهما؛ فإنّه مثل الحبس مدّة في الرجوع إلى الحابس أو ورثته بعد انقضاء المدّة والعمر، وبه جزم في التحرير. والنصوص خالية عنه، إلّاأنّه الأوفق بالقواعد الشرعية»(2).

ولكن يرد عليه ما عرفت آنفاً من دلالة النصّ الخاصّ على لزوم الحبس الموقوف بعمر أحدهما.

وقد استند صاحب الجواهر في جواز الرجوع حينئذٍ إلى النصّ - وهو صحيح

********

(1) - مسالك الأفهام 433:5.

(2) - الحدائق الناضرة 295:22-296.

ص: 568

ابن اذينة البصري وخبر عبدالرحمان الجعفي المتقدّمين - وإلّا فمقتضى القاعدة اللزوم؛ حيث قال: «إنّما الكلام في لزوم الأوّل إلى موت الحابس وجوازه، ففي القواعد إن لم يعيِّن كان له الرجوع متى شاء، ومال إليه بعض من تأخّر عنه، لعلّه لكونه حينئذٍ كالسكنى المطلقة، بناءً على أنّ جوازها للقاعدة باعتبار عدم اقتضاء عقدها، إلّاالطبيعة التي تتحقّق بالمسمّى.

وفيه: أنّ ذلك لما سمعته من النصّ، وإلّا فمقتضى العقد اللزوم»(1). قوله:

«فمقتضى العقد اللزوم»، فإنّ دليله إطلاق، بل عموم قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2)، وهو المعبّر عنه بأصالة اللزوم.

إن قلت: لا وجه لتحكيم أصالة اللزوم مع فرض بقاء المال المحبوس في ملك الحابس وصيرورة الحبس بذلك عقداً جائزاً.

قلت: مجرّد بقاء المال في ملك المالك لا يستلزم جواز العقد كما في الإجارة، بل إثبات الجواز بحاجة إلى دليل خاصّ مُخرج عن أصالة اللزوم.

بقي الكلام في نكتة، وهي أنّه لو قصد القربة في هذا النوع من الحبس، مقتضى عموم «ما كان للّه لا رجعة له فيه» عدم جواز الرجوع فيه، وكذا الكلام في الهبة على غير ذي الرحم بغير عوض، إذا كان للّه. مع أنّ الفقهاء لم يفتوا بحرمة الرجوع فيها حينئذٍ.

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال: بتخصيص العموم المزبور بالنصوص الخاصّة الواردة الدالّة بالخصوص على جواز الرجوع في هذا النوع من الحبس وكذا في باب الهبة. وهذه النصوص الخاصّة، وإن كان لها عموم من جهة ما كان من الحبس

********

(1) - جواهر الكلام 155:28.

(2) - المائدة (5):1.

ص: 569

أو الهبة بقصد القربة وما كان بغير قصد القربة، ولكن لا يستقرّ بذلك التعارض بينها وبين العموم المزبور بزعم الاندراج في العامّين من وجه. وذلك لأنّ المعيار في القياس بين الأدلّة ملاحظة النسبة بين موضوعاتها، لا بلحاظ حالات المكلّف.

وأمّا لو لم يقصد القربة في الحبس على جهات الخير ومحالّ العبادات، فظاهر كلمات البعض عدم جواز الرجوع لعدم استثنائهم هذه الصورة في اتّفاقهم على عدم جواز الرجوع، ولكن سبق من المحقّق الكركي تقييد اللزوم في هذا القسم بما إذا قصد القربة.

وعلى أيّ حال فلو كان هناك إجماع تعبّديٌ يؤخذ به، وإلّا فمقتضى عموم «ردّ الحبيس وإنفاذ المواريث» جواز الرجوع، مع عدم دخوله في عموم «ما كان للّه...»؛ لفرض عدم قصد القربة. وعلى فرض الشكّ لا إطلاق لمعقد الإجماع حتّى يتمسّك به؛ لأنّه دليل لبّيٌ يؤخذ بالقدر المتيقّن منه.

هذا، ولكن في المقام نكتة فنّية اصولية وهي أنّ قوله: «ما كان للّه لا رجعة فيه» يشمل ما لو قصد القربة في الحبس على الآدمي بالعموم، ولكن قوله: «ردّ الحبيس» يشمله بالإطلاق الأحوالي؛ لأنّ موضوعه عنوان واحد وهو الحبس ولا يشمل غيره، وقصد القربة من حالات المكلّف.

فيكون الدوران في الحقيقة بين الإطلاق الأحوالي وبين العموم الأفرادي.

ومقتضى الصناعة - كما بحثنا عنه في علم الاُصول(1) تقديم التقييد على التخصيص عند الدوران بينهما. ونتيجة التقييد على التخصيص عند الدوران بينهما.

ونتيجة ذلك في مفروض الكلام عدم جواز الرجوع في الحبس على الآدمي إذا كان بقصد القربة.

********

(1) - راجع كتابنا: بدايع البحوث: 5.

ص: 570

(مسألة 2): لو جعل لأحد سكنى داره - مثلاً - بأن سلّطه على إسكانها مع بقائها على ملكه، يقال له: السكنى (1)؛ سواء أطلق ولم يعيّن مدّة، كأن يقول:

«أسكنتك داري»، أو «لك سكناها»، أو قدّره بعمر أحدهما، كما إذا قال: «لك سُكنى داري مدّة حياتك، أو مدّة حياتي»، أو قدّره بالزمان كسنة وسنتين مثلاً.

نعم، لكلّ من الأخيرين اسم يختصّ به، وهو «العمرى» في أوّلهما و «الرقبى» في الثاني.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ المراد من قوله: «ما كان للّه لا رجعة فيه» ما كان من العطايا والهبات متقوّماً بقصد القربة بأن كان قصد القربة مأخوذاً في ماهيته وعنوانه كالصدقة والوقف، كما طبّق الإمام عليه السلام الكبرى المزبورة على الصدقة بقوله: «إنّما الصدقة للّه...» وعليه فتنصرف عن مثل الحبس على الآدمي والهبة، إن يدخل فيه الحبس في سبيل اللّه.

ولا يبعد القول بذلك في الحبس على غير الآدمي في سبيل اللّه وعلى محالّ العبادات إذا كان بقصد القربة. وذلك لعدم أخذ قصد القربة في عنوانه. ولعلّه لذلك لم يستدلّ ب «ما كان للّه لا رجعة فيه».

السكنى والعمرى والرقبى

1 - يمكن تعريف السكنى: بتسليط الغير على الانتفاع من الدار بالسكنى مجّاناً مع بقائها على ملكه، فإذا اطلق ذلك يُعبّر عنه بالسكنى، وإذا قُدّر بعمر المالك أو الساكن يُعبّر عنه بالعمرى، وإذا وُقّت بزمان معيّن يُعبّر عنه بالرقبى.

فماهية الثلاثة واحدة في الحقيقة، وإنّما الفرق من ناحية التقدير والتوقيت وعدمه.

ص: 571

وقد أجاد صاحب الحدائق في تنقيح ماهية الثلاثة وتوجيه الفرق بينها وبين غيرها من العقود؛ حيث قال: «اعلم أنّ انتقال المنفعة إلى الغير؛ إمّا على وجه اللزوم أم لا، والثانى في العارية. والأوّل؛ إمّا مع خروج العين عن الملك أم لا، والأوّل الوقف. والثاني إمّا بعوض أم لا، والأوّل الإجارة، والثاني العمرى التي هي محلّ البحث هنا. ومنه يظهر أنّ ثمرتها هو التسليط على المنفعة مجّاناً، مع بقاء الملك لمالكه. ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ الاختلاف في هذه الألفاظ اعتباري بحسب اختلاف ما تضاف، والمرجع إلى أمر واحد. فإذا قرنت بالإسكان، قيل: «سكنى»، وإذا قرنت بالعمر من المالك أو الساكن قيل: «عمرى». وإذا قرنت بمدّة معيّنة، قيل:

«رقبى»، من ارتقاب المدّة وخروجها أو رقبة الملك. وقد يقترن باثنين منها، كأن يقول: أسكنتك هذه الدار مدّة عمرك، فيقال: «سكنى»؛ لاقترانها بالإسكان، و «عمرى» لاقترانها بالعمر. ولو قال: أسكنتكها مدّة كذا وكذا، قيل: «سكنى ورقبى». ولو قال: أرقبتكها، تحقّقت «الرقبى» خاصّة. وتنفرد السكنى فيما لو أسكنه أيّاها مطلقاً. وتنفرد العمرى فيما لو كان للعمر في غير مسكن.

قالوا: وهي؛ يعني السكنى عقد يشتمل على الإيجاب والقبول والقبض، وفائدتها التسليط على استيفاء المنفعة مع بقاء الملك على مالكه»(1).

وقد صرّح العلّامة في القواعد بوجه التسمية المزبورة. وقال المحقّق الكركي في شرحه: «فإن اقترن التسليط على المنفعة بعمر أحدهما، قيل: عمرى، وبالإسكان، قيل: سكنى، وبالمدّة قيل: رقبى، واشتقاقها إمّا من الارتقاب أو من رقبة الملك.

وكانت العرب في الجاهلية تستعمل لفظين وهما العمرى والرقبى، فالعمرى مأخوذ

********

(1) - الحدائق الناضرة 275:22-276.

ص: 572

من العمر والرقبى مأخوذ من الرقوب، كان كلّ واحدٍ منهما يرتقب موت صاحبه»(1).

وقال في المسالك: «واعلم أنّ إطلاق اسم السكنى بالمعنى الأعمّ والعمرى مطابق للمعنى، وأمّا الرقبى فأخذها من الارتقاب - وهو انتظار الأمد الذي علّقت عليه، أو من رقبة الملك بمعنى إعطاء الرقبة للانتفاع بها المدّة المذكورة - لا ينافي المعنيين الأخيرين، لأنّ كلاًّ من الساكن والمُسكِن أو مطلق المعطي في الأقسام الثلاثة يرتقب المدّة التي يرجع فيها، وذلك في العمرى ظاهر، وفي السكنى المطلقة يتمّ في أخذها من رقبة الملك مطلقاً، وفي أخذها من ارتقاب المدّة من جهة القابل، فإنّه يرتقب في كلّ وقتٍ أخذ المالك العين، لكن وقع الاصطلاح على اختصاص الرقبى بما قرن بالمدّة المخصوصة»(2).

وقد جاء لفظ السكنى والعمرى في النصوص، سيأتي ذكرها في خلال البحث.

هذا، ولكن في الجواهر أنّ المعلوم من النصّ والفتوى تباين هذه العقود، وأنّ كلَّ واحد من الثلاثة المزبورة عقد مستقلّ، فلا بدّ من تغايرها. واستشهد بكلام التحرير لإثبات عدم اجتماعهما. ونقل عن المبسوط والخلاف والمهذّب وفقه القرآن والغنية والسرائر اتّحادها في الصورة وإنّما الاختلاف في اللفظ. وعن محكيّ التذكرة عن علي عليه السلام: «الرقبى والعمرى سواء»(3) ولكن استقرّ رأيه في الختام أنّ التمييز بينهما إنّما هو بالقصد؛ حيث قال: «إنّ الاُولى قصد السكنى والعمرى في اللفظ المشتمل عليهما، وكذا اللفظ المشتمل على المدّة المعيّنة»(4).

********

(1) - جامع المقاصد 118:9.

(2) - مسالك الأفهام 419:5-420.

(3) - مستدرك الوسائل 65:14، كتاب السكنى والحبيس، الباب 2، الحديث 1.

(4) - جواهر الكلام 135:28.

ص: 573

(مسألة 3): يحتاج كلّ من الثلاثة إلى عقد (1) مشتمل على إيجاب من المالك وقبول من الساكن، فالإيجاب: كلّ ما أفاد التسليط المزبور عرفاً، كأن يقول في السكنى: «أسكنتك هذه الدار» أو «لك سكناها» وما أفاد معناهما بأيّ لغة كان، وفي العمرى بإضافة مدّة حياتي أو حياتك، وفي الرقبى بإضافة سنة أو سنتين مثلاً، وللعمرى والرقبى لفظان آخران، فللاُولى: «أعمرتك هذه الدار عمرك أو عمري، أو ما بقيتَ أو بقيتُ، أو ما عشتَ أو عشتُ» ونحوها، وللثانية: «أرقبتك مدّة كذا»، والقبول: كلّ ما دلّ على الرضا بالإيجاب.

تفتقر في صحّة الثلاثة إلى إيجاب وقبول

1 - لا إشكال ولا خلاف في كون السكنى واُختيها من قبيل العقود وبحاجة إلى إيجاب وقبول، كما صرّح بنفي الخلاف في ذلك صاحب الجواهر(1). وقد صرّح الفقهاء بالصيغ المذكورة في المتن في الكتب الفقهية(2).

ويمكن إرادة الثلاثة أو الاثنين منها باللفظ الدالّ أو بقرينة موجبة لظهور الصيغة في ذلك، كما حكاه في المسالك عن الأكثر(3).

وأمّا القبول، فلم يُذكر له صيغة خاصّة، بل اكتُفي فيه بكلّ ما دلّ على الرضا لفظاً أو فعلاً.

********

(1) - جواهر الكلام 132:28.

(2) - راجع: جامع المقاصد والمسالك والحدائق والجواهر طبق المصادر المذكورة.

(3) - مسالك الأفهام 419:5.

ص: 574

(مسألة 4): يشترط في كلّ من الثلاثة قبض الساكن (1)، وهل هو شرط الصحّة أو اللزوم؟ وجهان، لا يبعد أوّلهما، فلو لم يقبض حتّى مات المالك بطلت كالوقف على الأظهر.

اشتراط القبض في الثلاثة

1 - يقع الكلام في مقامين:

أحدهما: في أصل اعتبار القبض.

ثانيهما: في أنّ القبض هل هو شرطٌ في أصل الصحّة أو هو شرط اللزوم؟

أمّا المقام الأوّل: فلا خلاف بين الفقهاء في اعتبار القبض، كما صرّح به في الجواهر بقوله: «وأمّا القبض، فلا خلاف أجده في اعتبارها فيها أيضاً، بل في الرياض عن ظاهر جماعة وصريح آخر الإجماع عليه»(1).

ولكن علّق المحقّق الكركي اعتبار القبض فيها على القول بكونها عقوداً لازمة، وإلّا فعلى القول بجوازها تكون بمنزلة العارية لا يعتبر فيها القبض؛ حيث قال:

«وكذا لا بدّ من القبض؛ لكن ينبغي أن يكون اشتراطه على القول بلزوم العقد، أمّا على عدم اللزوم، فإنّه بمنزلة العارية»(2).

وقد وجّهه في الجواهر - بعد نقله - بقوله: «والظاهر أنّ مراده ما في الروضة، من أ نّه إنّما يشترط على تقدير لزومها، أمّا لو كانت جائزة فالإقباض شرط في جواز التسلّط على الانتفاع. ولمّا كانت الفائدة بدونه منتفية، اطلق اشتراطه فيها، وإلّا

********

(1) - جواهر الكلام 133:28.

(2) - جامع المقاصد 117:9.

ص: 575

(مسألة 5): هذه العقود الثلاثة لازمة (1) يجب العمل بمقتضاها، وليس للمالك الرجوع وإخراج الساكن، ففي السكنى المطلقة حيث إنّ الساكن استحقّ مسمّى الإسكان - ولو يوماً - لزم العقد في هذا المقدار، وليس للمالك منعه عنه، وله الرجوع في الزائد متى شاء، وفي العمرى والرقبى لزم بمقدار التقدير، وليس له إخراجه قبل انقضائه.

فلا يخفى عليك عدم منافاة شرطيته لجوازه، كما في القبض بالنسبة إلى الهبة، على معنى عدم تحقّق أثر العقد إلّابه».

أمّا المقام الثاني: فلا يبعد اشتراط القبض في لزومها، لا أصل الصحّة. وذلك لدلالة إطلاقات نصوصها وعموماتها على الصحّة بمجرّد تحقّق عنوانها بإنشائها بالصيغة وقبولها من الساكن. والإجماع دليل لبّيٌّ يؤخذ بقدره المتيقّن.

ويشهد لما قلناه ما قال في الجواهر: «وعن المبسوط والمهذّب وفقه القرآن للراوندي والسرائر وغيرها أنّها تفتقر في صحّتها إلى الإيجاب والقبول، ولزومها إلى القبض، ولعلّه لا يخلو من قوّة؛ لأنّ العمدة في اشتراطه إجماع الخلاف، وهو إنّما يقتضيه، لا الصحّة التي هي من مقتضى العمومات والإطلاقات».

لزوم العقود الثلاثة المزبورة

1 - اختلف الأصحاب في لزوم هذه العقود وجوازها على ثلاثة أقوال:

1 - اللزوم بمجرّد القبض، 2 - الجواز 3 - التفصيل بقصد القربة، فتلزم الثلاثة به، دون ما إذا لم يُقصد بها القربة.

وقد أجاد المحقّق الكركي في تحرير المسألة؛ حيث قال: «وفي هذه المسألة

ص: 576

للأصحاب على ما نقله جمع ثلاثة أقوال:

الأوّل: اللزوم بالقبض؛ لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، ولقول الصادق عليه السلام في رواية أبي الصباح عن السكنى والعمرى: «إن كان جعل السكنى في حياته، فهو كما شرط. وإن جعلها له ولعقبه من بعده حتّى يفنى عقبه، فليس لهم أن يبيعوا ولا يورثوا»(1). وفي معناها حسنة الحلبي عنه عليه السلام. وفيها: قلت: فرجل أسكن داره ولم يوقّت، قال: «جائز ويخرجه إذا شاء»(2)، وهاتان لم يصرّح فيهما باعتبار القبض، إلّا أ نّه لا شكّ في اعتباره، والقائل باللزوم إنّما يقول به مع القبض، وهو الأشهر والأصحّ.

الثانى: الجواز؛ للأصل وضعفه ظاهر.

الثالث: التفصيل: وهو اللزوم إن قصد القربة؛ لأنّها في معنى الهبة المعوّضة»(3).

وقد نسب التفصيل المزبور في الجواهر إلى أبي الصلاح وظاهر محكيّ المقنعة والغنية وجامع الشرائع؛ حيث قال: «قيل: - والقائل أبو الصلاح في المحكيّ عن كافيه، بل لعلّه ظاهر المحكيّ عن المقنعة والغنية، وجامع الشرائع - تلزم إن قصد به القربة، وإلّا فلا»(4).

ولكنّ القول الأوّل هو الأشهر كما عن المحقّق، بل هو المشهور كما عن صاحب الجواهر، بل هو المعروف من مذهب الأصحاب كما في المسالك، بل ادّعي عليه الإجماع كما في محكيّ الخلاف. كلّ ذلك في الجواهر؛ حيث قال: «والأوّل أشهر،

********

(1) - وسائل الشيعة 220:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 3، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 222:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 4، الحديث 1.

(3) - جامع المقاصد 119:9-120.

(4) - جواهر الكلام 137:28.

ص: 577

بل المشهور. وفي المسالك هو المعروف من مذهب الأصحاب، بل فيها أيضاً لم نقف على قائل بالقولين الآخرين، بل في محكيّ الخلاف: إذا أتى بواحدة منها - أي العقود الثلاثة - وأقبضه، فقد لزمت العمرى، ثمّ ادّعى عليه إجماع الفرقة وأخبارهم، ولعلّه الحجّة، مضافاً إلى قاعدة اللزوم واستصحابه».

ويستفاد من ذيل كلامه - مضافاً إلى الشهرة القريبة بالإجماع - ثلاثة وجوه اخرى للقول المشهور:

أحدها: الأخبار المشار إليها في محكيّ الخلاف.

ثانيها: قاعدة اللزوم.

ثالثها: الاستصحاب.

أمّا الاستصحاب، فلا تصل النوبة إليه مع وجود الإطلاقات والعمومات اللفظية والنصوص الخاصّة، مضافاً إلى أنّ الكلام في أصل اللزوم، فلم يُحرز حتّى يستصحب.

وأمّا قاعدة اللزوم، فمقصوده، عموم قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1)؛ حيث دلّ بعمومه على وجوب الوفاء ولزومه في مطلق العقود، فلا بدّ لإثبات الجواز من دليل مخصّص لهذا العموم. وهذا الوجه متين جدّاً، لكنّه بحاجة إلى إحراز عدم دليل على الجواز، فالعمدة هي نصوص المقام.

وأمّا الأخبار، فقد استدلّ صاحب الجواهر بعدّة منها.

فمن هذه النصوص ما رواه الكليني والصدوق بإسنادهما عن محمّد بن الفضيل عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبداللّه عليه السلام. قال: سئل عن السكنى والعمرى،

********

(1) - المائدة (5):1.

ص: 578

فقال عليه السلام: «إن كان جعل السكنى في حياته، فهو كما شرط. وإن كان جعلها له ولعقبه بعده حتّى يفنى عقبه، فليس لهم أن يبيعوا ولا يورِّثوا، ثمّ ترجع الدار إلى صاحبها الأوّل»(1).

هذه الرواية لا إشكال في رجال سندها، إلّافي محمّد بن الفضيل؛ لأنّه بقرينة الطبقة وروايته عن أبي الصباح من أصحاب الرضا عليه السلام. وعدّه الشيخ من أصحاب الكاظم عليه السلام، وضعّفه، وسكت عن حاله النجاشي واقتصر على ذكر سائر أوصافه.

وقد وقع في أسناد كامل الزيارات، ومدحه الشيخ المفيد وعدّه من رؤساء المذهب المأخوذ عنهم الحلال والحرام.

وإذا تعارض الجرح والتعديل بنينا في كتابنا «مقياس الرواة»(2) على تساقطهما بالتعارض؛ رغماً للمشهور وناقشنا في الوجوه المستدلّ بها للمشهور.

وإن قوّينا أخيراً رأي المشهور لبعض الوجوه، كاستلزام تقديم قول المعدّل تكذيب قول الجارح دون العكس، إلّاأنّ ذلك فيما إذا لم يكن هناك مرجّح لأحدهما.

ولكن قوّينا هناك في نهاية الشوط تقديم ما كان منهما له مرجّحٌ. وفي المقام لتوثيق المفيد مرجّحٌ وهو تعبيره في حقّ محمّد بن الفضيل بأ نّه من رؤساء المذهب المأخوذ عنهم الحلال والحرام، وهذا التعبير ظاهر في كون وثاقة الرجل من المسلّمات وغير قابل للتشكيك، بل يفيد جلالة قدره وعظم شأنه، هذا مضافاً إلى وقوعه في أسناد كامل الزيارات.

ثمّ إنّ هذا كلّه بناءً على كونه غير محمّد بن القاسم بن الفضيل الثقة. ولكن جزم

********

(1) - وسائل الشيعة 220:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 3، الحديث 1.

(2) - مقياس الرواة في كلّيات علم الرجال: 113-117.

ص: 579

الأردبيلي واحتمل السيّد التفرشي اتّحادهما. ولا يبعد ذلك بقرينة كثرة رواية محمّد بن القاسم بن الفضيل عن الكناني وعدم تعرّض الصدوق في مشيخته إلى حال غير محمّد بن القاسم بن الفضيل، وإن لا يُنفى احتمال التعدّد بذلك.

وأمّا دلالةً، فهي ناظرةٌ إلى صورة اشتراط مدّة الحياة أو مدّة حياة عقب الساكن بعده. ولا نظر له إلى صورة الإطلاق.

ومنها: مضمر حمران، قال: سألته عن السكنى والعمرى، فقال: «الناس فيه عند شروطهم إن كان شرط حياته، فهي حياته، وإن كان لعقبه فهو لعقبه كما شرط حتّى يفنوا ثمّ يردّ إلى صاحب الدار»(1). قوله عليه السلام: «فهي حياته»؛ أي فالعمرى لازمة في حياته. وقوله: «فهو لعقبه» يرجع إلى السكنى بلحاظ المعنى المصدري.

هذه الرواية مضمرة، ولكن لا يضرّ إضمار مثل حمران ممّن لا يحتمل سؤاله وروايته عن غير الإمام عليه السلام. فهي في حكم الصحيحة.

وأمّا دلالةً فهي كسابقتها في الدلالة على اللزوم بالاشتراط، بل هي أوضح دلالة، كما هو واضح.

ومنها: صحيح الحسين بن نعيم عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، قال:

سألته عن رجل جعل دار سكنى لرجل أيّام حياته أو جعلها له ولعقبه من بعده، هل هي له ولعقبه من بعده، كما شرط؟ قال عليه السلام: «نعم». قلت له: فإن احتاج يبيعها؟ قال عليه السلام: «نعم». قلت: فينقض بيع الدار السكنى؟ قال عليه السلام: «لا ينقض البيع السكنى، كذلك سمعت أبي عليه السلام يقول: قال أبو جعفر عليه السلام: لا ينقض البيع الإجارة ولا السكنى، ولكن تبيعه على أنّ الذي اشتراه لا يملك ما اشترى حتّى تنقضي

********

(1) - وسائل الشيعة 218:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 2، الحديث 1.

ص: 580

السكنى. كما شرط، وكذا الإجارة». قلت: فإن ردّ على المستأجر ماله وجميع ما لزمه من النفقة والعمارة فيما استأجر، قال عليه السلام: «على طيبة النفس وبرضا المستأجر بذلك لا بأس»(1). ولا إشكال في سند هذه الرواية. ولكن نقلها في الوسائل في الباب الثاني من أحكام السكنى، بقوله: وعن ابن أبي عمير عن الحسن بن نعيم، لكنّه تصحيف غلط؛ إذ لا أثر لهذا الاسم في كتب الرجال.

والصحيح ما نقله في الباب الرابع والعشرين من الإجارة، وهو الحسين بن نعيم.

ويشهد لما قلناه تصريح صاحب الجواهر بقوله: «وكذا صحيح الحسين بن نعيم عن الكاظم عليه السلام...»(2).

ولا إشكال في دلالة هذه الصحيحة على كون السكنى عقداً لازماً كالإجارة لا ينقضه بيع العين المسكونة، بل إنّما تدخل في ملك المشتري مسلوب المنفعة إلى انقضاء أمد السكنى، كما في الإجارة، إلّاأن يطيب نفس الساكن ويرضى بالبيع، كما جاءَ في ذيل هذه الصحيحة. ويعلم منها أيضاً أنّ المقصود من الشرط تعيين الأجل، كما في الإجارة.

هذا، ولكن وردت في المقام نصوص تعارض النصوص المزبورة؛ حيث دلّت بظاهرها على جواز السكنى.

فمن هذه النصوص صحيح الحلبي عن أبي عبداللّه عليه السلام: في الرجل يسكن الرجلَ دارَه، قال عليه السلام: «يجوز». وسألته عن الرجل يسكن الرجلَ دارَه ولعقبه من بعده. قال عليه السلام: «يجوز وليس لهم أن يبيعوا ولا يورِّثوا». قلت: فرجل أسكن

********

(1) - وسائل الشيعة 135:19، كتاب الإجارة، الباب 24، الحديث 3.

(2) - جواهر الكلام 138:28.

ص: 581

داره حياته، قال عليه السلام: «يجوز ذلك»(1)؛ حيث صرّح فيه بجواز السكنى الموقّتة بالحياة وحياة عقبه من بعده، مع كون هذا نفس المفروض في صحيح الحسين بن النعيم.

ولكن حمل الجواز على المضيّ في الجواهر بقوله: «المعلوم إرادة المضيّ من الجواز خصوصاً بملاحظة ذيل الخبر وما تقدمّه من النصوص».

والوجه في ذلك تعقيب الإمام عليه السلام الجواز بمنع البيع والإرث في قوله عليه السلام:

«يجوز وليس لهم أن يبيعوا ولا يورِّثوا»، ظاهرٌ في إرادة الجواز؛ نظراً إلى كون عدم جواز بيع العين المسكونة ولا توريثها للساكن، من آثار أصل المشروعية وصحّة عقد السكنى.

ويشهد لهذا الحمل موثّق الحلبي عن أبي عبداللّه عليه السلام: قال: سألته عن رجل أسكن داره رجلاً حياته. قال عليه السلام: «يجوز له وليس له أن يخرجه». قال قلت: فله ولعقبه، قال عليه السلام: «يجوز له»(2)؛ حيث عقَّب الإمام عليه السلام الجواز بمنع إخراج الساكن طول حياته فيُعلم منه قطعاً أنّ المراد من الجواز المضيّ والنفوذ.

وممّا يدلّ على جواز عقد السكنى ونفي لزومه ما رواه عبداللّه بن جعفر الحميري في قرب الإسناد عن السندي بن محمّد عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام: «إنّ السكنى بمنزلة العارية، إن أحبّ صاحبها أن يأخذها أخذها. وإن أحبّ أن يدعها، فعل أيَّ ذلك شاءَ»(3).

هذه الرواية لا إشكال في دلالتها على جواز عقد السكنى؛ حيث صُرّح فيها بأنّ

********

(1) - وسائل الشيعة 220:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 3، الحديث 2.

(2) - وسائل الشيعة 219:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 2، الحديث 3.

(3) - وسائل الشيعة 222:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 4، الحديث 3.

ص: 582

السكنى في حكم العارية ولا إشكال في كون العارية جائزةً من الطرفين.

وقد حملها في الجواهر على السكنى المطلقة بقوله: «مع أنّه محمول على السكنى المطلقة، بل لعلّها هي السكنى، وأمّا المحدود بالعمر والمدّة المعيّنة، فهي العمرى والرقبى، كما سمعت الكلام فيه سابقاً. وإطلاق المصنّف وغيره هنا لزومَها منزَّلٌ على غير هذا الفرد الذي سيصرِّح المصنّف بحكمه»(1).

ومقصوده من تصريح المصنّف، ما صرّح المحقّق بقوله: «ولو أطلق المدّة ولم يعيّنها، كان صحيحاً وله الرجوع متى شاءَ»(2). وقد علَّله صاحب الجواهر بقوله:

«لحسن الحلبي أو صحيحه عن أبي عبداللّه عليه السلام وخبر أحمد بن عمر الحلبي عن أبيه عنه أيضاً المتقدّمين سابقاً»(3). وسوف يأتي ذكر هذه الصحيحة وتقريب الاستدلال بها في بيان مقتضى التحقيق.

وعلى أيّ حال لا يصلح خبر البختري وحده للمعارضة لضعف سنده؛ لأنّ أبا البختري وهب بن وهب قد صرّح مشايخ الرجال بضعفه، بل كونه من الكذّابين. نعم يصلح للتأييد.

ولكن مقتضى التحقيق في المقام التفصيل بين السكنى الموقّتة - وهي العمرى والرُقبى - وبين المطلقة - المعبّر عنها بالسكنى - والحكم باللزوم في الاُولى وبالجواز في الثانية.

والدليل على ذلك: صحيح الحلبي عن أبي عبداللّه عليه السلام - في حديث - قال:

وسألته عن الرجل يُسكِنُ رجلاً ولم يوقّت شيئاً، قال عليه السلام: «يخرجه صاحب الدار

********

(1) - جواهر الكلام 139:28.

(2) - شرائع الإسلام 177:2.

(3) - جواهر الكلام 144:28.

ص: 583

إذا شاءَ»(1)؛ حيث دلّ بظاهره على أنّ زمام أمر السكنى والرجوع عنها وإخراج الساكن بيد المالك المُسكن، ومرجع ذلك إلى جواز عقد السكنى عنه.

ولكن ناقش فيه بقوله: «لكن ظاهر الإخراج فيهما - كما هو المحكيّ من تعبير الأكثر - لا ينافي لزوم العقد الذي هو مقتضى ما عرفته سابقاً من أدلّته الشاملة لجميع الأفراد فيما يتحقّق به مسمّى السكنى، كما عن العلّامة في التذكرة التصريح به، ووافقه عليه أوّل الشهيدين وثاني المحقّقين فيما حكي عنهما»(2).

ولا يخفى: أنّ هذا هو السرّ في ما أشار إليه السيّد الماتن قدس سره بقوله: «استحقّ مسمّى الإسكان ولو يوماً...» ولكنّه ينافي إطلاق حكم الإمام بجواز الإخراج متى أحبّ وشاءَ. فإنّ إطلاق الحكم بجواز الإخراج يقتضي جواز الرجوع، ولو في أوّل الآن بعد الإيجاب والقبول والقبض، ولو قبل السكونة، فضلاً عن خلال زمان صدق مسمّى الإسكان. فلا إشكال في دلالتها على كون السكنى المطلقة جائزة بقرينة تعقيب الجواز بإخراجه متى شاءَ في قوله عليه السلام: «جائز ويخرجه إذا شاءَ» ولمّا كان موضوعها السكنى غير الموقّتة لا تنافي بينها وبين سائر النصوص المزبورة، بل لا تعارض قوله: «يجوز له وليس أن يخرجه» في موثّقة الحلبي المزبورة. وذلك لأ نّها إنّما وردت في السكنى الموقّتة بمدّة الحياة.

ويمكن الاستدلال لذلك أيضاً بمفهوم قوله عليه السلام: «إن كان جَعَل السكنى في حياته، فهو كما شرط» في معتبرة محمّد بن الفضيل(3).

********

(1) - وسائل الشيعة 222:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 4، الحديث 2.

(2) - جواهر الكلام 144:28.

(3) - وسائل الشيعة 220:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 3، الحديث 1.

ص: 584

(مسألة 6): لو جعل داره سكنى أو عمرى أو رقبى لشخص لم تخرج عن ملكه (1)، وجاز بيعها، ولم تبطل العقود الثلاثة، بل يستحقّ الساكن السكنى على النحو الذي جعلت له، وكذا ليس للمشتري إبطالها، ولو كان جاهلاً فله الخيار بين فسخ البيع وإمضائه بجميع الثمن. نعم، في السكنى المطلقة بعد مقدار المسمّى، يبطل العقد وينفسخ إذا اريد بالبيع فسخه وتسليط المشتري على المنافع، فحينئذٍ ليس للمشتري الخيار.

ونظيره مضمر حمران(1).

فإنّهما دلّا بظاهرهما على جواز عقد السكنى ما لم يشترط بمدّة الحياة.

والحاصل: إنّ جميع الروايات المعارضة للصحيحة المزبورة واردة في السكنى الموقّتة المشروطة وهذه في غير الموقّتة ولا منافاة بينهما.

ويؤيّده خبر أبي البختري. وقد سبق آنفاً إشارة صاحب الجواهر إلى هذا الجمع.

فالأقوى في المقام التفصيل المزبور.

عدم خروج العين عن الملك في الثلاثة

1 - يقع الكلام هاهنا في جهات:

الاُولى: عدم خروج العين عن ملك مالكها بالسكنى واُختيها.

لا خلاف بين الأصحاب في عدم كون السكنى واُختيها ناقلةً للملك، بل إنّما تفيد استحقاق استيفاءِ المنفعة، كما صرّح به في جامع المقاصد بقوله: «لا خلاف عندنا في أنّ السكنى لا ينتقل الملك بها إلى الساكن بحال من الأحوال، بل فائدتها

********

(1) - وسائل الشيعة 218:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 2، الحديث 1.

ص: 585

استحقاق استيفاء المنفعة في المدّة المشترطة... حاصله: أنّ العقد المسمّى بالسكنى فائدته ما ذكر، وأسماؤه مختلفة بحسب اختلاف الإضافة»(1).

ولم ينسب الخلاف في ذلك إلى أصحابنا، إلّاما حُكي عن الشيخ والراوندي وابن البرّاج من انتقال العين في خصوص العمرى ولكن ناقش صاحب الجواهر في ثبوت النسبة إلى الشيخ وابن البرّاج.

قال في الجواهر: «وعلى كلّ حال ففائدتها التسلّط على استيفاء المنفعة تمام المدّة المشترطة مع بقاء الملك على مالكه بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به غير واحد، إلّاما يحكى عن الشيخ والراوندي وابن البرّاج من اقتضائها نقل العين في خصوص ما لو قال: هذه الدار لك عمرك ولعقبك من بعدك، مع أنّا لم نتحقّق ذلك عن الشيخ وابن البرّاج، بل المتحقّق عن أوّلهما خلافه، وإن حكي عنه ما يوهم ذلك، وعلى تقديره فلا ريب في ضعفه، ضرورة عدم اختلاف مقتضاها باختلاف كيفية تعلّقها، مع أنّ الأصل بقاء الملك على ملك مالكه»(2).

نعم، خالف بعض العامّة فحَكَم بكون السكنى مفيدة فائدة الهبة، كما أشار إليه صاحب الجواهر بقوله: «وإنّما غرض المصنّف وغيره فيما ذكره التنبيه على خلاف بعض العامّة؛ حيث جعلها مفيدة فائدة الهبة على بعض الوجوه، فينتقل ملك العين إلى الساكن وهو واضح الفساد».

وقد دلّت على عدم خروج العين عن ملك مالكها بالسكنى واُختيها النصوص المستفيضة الدالّة على عدم جواز بيع العين للساكن وعقبه. كقول أبي عبداللّه عليه السلام:

********

(1) - جامع المقاصد 118:9.

(2) - جواهر الكلام 134:28.

ص: 586

«فليس لهم أن يبيعوا ولا يورّثوا ثمّ ترجع الدار إلى صاحبها الأوّل»(1) في صحيح أبي الصباح الكناني، وقوله عليه السلام: «وليس لهم أن يبيعوا ولا يورّثوا»(2).

وما دلّ منها على جواز بيع العين المسكونة للمالك عند الاحتياج وأ نّه لا ينقض السكنى كما في صحيح الحسين بن نعيم(3) وقد سبق ذكر هذه الصحيحة وتحقيقها آنفاً.

وما دلّ على جواز إخراج الساكن متى شاء المالك، كصحيح الحلبي وأحمد بن عمر الحلبي(4) فإنّ ذلك يستفاد من جميع هذه النصوص، ولا سيّما صحيح ابن نعيم المصرّح بجواز بيع العين للمالك في أثناء مدّة السكنى، وصحيح عبدالرحمان(5)المصرّح بالأمر بردّ الدار المحبوسة إلى المالك بعد انقضاء الحبس. وعلى أيّ حال لا خلاف في ذلك.

الجهة الثانية: جواز بيع العين المسكونة للمالك في أثناء مدّة السكنى وعدم نقضها بالبيع. وقد دلّ عليه صحيح الحسين بن النعيم عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: سألته عن رجل جعل داراً سكنى لرجل أيّام حياته أو جعلها له ولعقبه من بعده، هل هي له ولعقبه من بعده، كما شرط؟ قال عليه السلام: «نعم». قلت له: فإن احتاج يبيعها؟ قال عليه السلام: «نعم». قلت: فينقض بيع الدار السكنى؟ قال عليه السلام:

«لا ينقض البيع السكنى، كذلك سمعت أبي عليه السلام يقول: قال أبو جعفر عليه السلام:

********

(1) - وسائل الشيعة 220:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 3، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 220:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 3، الحديث 2.

(3) - وسائل الشيعة 135:19، كتاب الإجارة، الباب 24، الحديث 3.

(4) - وسائل الشيعة 222:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 4، الحديث 1 و 2.

(5) - وسائل الشيعة 218:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 2، الحديث 1.

ص: 587

لا ينقض البيع الإجارة ولا السكنى، ولكن تبيعه على أنّ الذي اشتراه لا يملك ما اشترى حتّى تنقضي السكنى كما شرط، وكذا الإجارة». قلت: فإن ردّ على المستأجر ماله وجميع ما لزمه من النفقة والعمارة فيما استأجر، قال عليه السلام: «على طيبة النفس وبرضا المستأجر بذلك لا بأس»(1).

هذا، مع أنّه مقتضى القاعدة؛ إذ العين لا تخرج عن ملك مالكه بالسكنى، فتترتّب عليها أحكام الملك لا محالة. وقد صرّح في الصحيح المزبور بعدم انتقاض السكنى ببيع الدار المسكونة، مع أن ذلك أيضاً لا خلاف فيه، بل ادّعى في الجواهر إمكان تحصيل الإجماع في ذلك؛ حيث قال: «وعلى كلّ حال فلا يبطل عقد العُمرى بالبيع وغيره من نواقل العين الذي مورده غير موردها كما لا تبطل بالإجارة بلا خلاف أجده فيه، بل يمكن دعوى تحصيل الإجماع عليه، كما عن ظاهر التنقيح أو صريحه، مضافاً إلى الأصل وغيره من أدلّة اللزوم المتقدّمة، وخصوص صحيح الحسين بن نعيم المتقدّم سابقاً والظاهر أنّ الرقبى أيضاً كذلك، لاتّحاد الدليل في الجميع، بل قيل: إنّها أولى، بل وكذا السكنى اللازمة»(2). ومقصوده من السكنى اللازمة، إمّا ما يلزم منها بالشرط أو اللازمة منها بمقدار مسمّى الإسكان عرفاً، ومقتضى ما حقّقناه هو الأوّل.

هذا كلّه في السكنى المقيّدة بالمدّة أو العمر.

الجهة الثالثة: ما قد يتوهّم من التفصيل في السكنى المطلقة بين ما قبل صدق مسمّى السكنى وبين ما بعده بالحكم بعدم بطلانها بالبيع في الأوّل مطلقاً وببطلانها في الثاني إذا اريد بالبيع فسخه.

********

(1) - وسائل الشيعة 135:19، كتاب الإجارة، الباب 24، الحديث 3.

(2) - جواهر الكلام 146:28-147.

ص: 588

فنقول: مقتضى القاعدة بطلان عقد السكنى بالبيع المقصود به الفسخ؛ لأنّه عقد جائز في نفسه، وإنّما يلزم باشتراطه بعمر شخص أو بوقت معيّن كما يستفاد من صحيح حمران.

وأمّا السكنى المطلقة، فمقتضى القاعدة انفساخها بالبيع؛ حيث لم يُشترط فيها بشرط حتّى تلزم من أجل الشرط، مع عدم خلاف فيه أيضاً، كما قال في الجواهر:

«أمّا السكنى المطلقة والعُمرى والرقبى - بناءً على مشروعية الإطلاق فيهما - فالذي صرّح غير واحد، بل لا أجد خلافاً بينهم فيه، إنفساخها، كما هو شأن العقد الجائز إذا طرأ عليه لازم ينافيه.

وربما يحمل على ذلك ما في الدروس لو باع المالك العين كان فسخاً للسكنى، لا للعمرى والرقبى بناءً منه على عدم جريان الإطلاق فيهما».

وقد سبق أنّ السكنى المطلقة من العقود الجائزة؛ لما دلّ من النصوص على أنّه يجوز للمالك أن يخرج الساكن متى شاءَ، كما في صحيح الحلبي قال: سألته عن الرجل يسكن رجلاً داره ولم يوقّت شيئاً، قال: «يخرجه صاحب الدار إذا شاءَ»(1)؛ فإنّ جواز إخراج الساكن متى شاءَ المالك يدلّ على جواز عقد السكنى المطلقة كما هي مفروض السائل. وأيضاً يدلّ بإطلاقه على جواز إخراجه من أوّل زمان تمامية العقد بتحقّق مسمّى الإسكان. وعليه فدخل مسمّى الإسكان إنّما هو في أصل تمامية عقد السكنى، لا في لزومه، فلا يصحّ جعل ذلك ملاكاً للتفصيل في اللزوم، بل السكنى المطلقة جائزة في ماهيتها، فتبطل بالبيع - المراد به الفسخ - مطلقاً، ولو قبل صدق مسمّى الإسكان، بل هي حينئذٍ أولى بالبطلان؛ لعدم تماميتها بعد. ومن

********

(1) - وسائل الشيعة 222:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 4، الحديث 2.

ص: 589

هنا قيّد السيّد الماتن بطلان السكنى المطلقة بالبيع بما بعد صدق مسمّى الإسكان؛ حيث لا عقد قبله حتّى يبطل.

نعم، يعتبر إرادة المالك فسخ عقد السكنى من البيع، وإلّا لا يبطل؛ لأنّ الفسخ أمرٌ قصديٌ.

وهذا بخلاف العمرى والرقبى فإنّهما عقدان لازمان؛ نظراً إلى دلالة النصوص على ذلك وقد سبق البحث عن ذلك مفصّلاً فلا يجوز للمالك فسخهما حتّى يَقصده بالبيع. ولعلّ السرّ في اتّفاق النصّ والفتوى على ذلك فيهما، رجوعهما إلى السكنى المشروطة بالمدّة الموقّتة أو المحدّدة بعمر شخص المالك أو الساكن، كما يدلّ عليه صحيح حمران(1).

وبذلك قد تبيّن أنّه لا معنى لإطلاق العمرى والرقبى من حيث المدّة - كما يلوح من كلام صاحب الجواهر - إلّافي العمرى بلحاظ طول مدّة العمر، لكنّه خلاف صريح صحيح ابن نعيم في عدم بطلان العمرى بالبيع.

الجهة الرابعة: ثبوت خيار الفسخ للمشترى إذا كان جاهلاً، فالوجه فيه وجود العيب في المبيع؛ لوضوح كون سلب منافع المبيع إلى مدّة ومنع التصرّف فيه من أبرز مصاديق العيب، وهذا إنّما فيما إذا لم يبطل عقد السكنى والعمرى ببيع العين المسكونة، وإلّا فلا ريب في عدم ثبوت الخيار له لعدم حرمانه عن شيءٍ من منافع العين المبيعة حينئذٍ.

********

(1) - وسائل الشيعة 218:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 2، الحديث 1.

ص: 590

(مسألة 7): لو جعلت المدّة في العمرى طول حياة المالك، ومات الساكن قبله، كان لورثته السكنى إلى أن يموت المالك (1)، ولو جعلت طول حياة الساكن ومات المالك قبله، ليس لورثته إخراج الساكن طول حياته، ولو مات الساكن ليس لورثته السكنى، إلّاإذا جعل له السكنى مدّة حياته ولعقبه بعد وفاته، فلهم ذلك، فإذا انقرضوا رجعت إلى المالك أو ورثته.

تبعية أمد الثلاثة للمدّة المقرّرة

1 - والوجه فيه ما يستفاد من النصوص، من تبعية الثلاثة في اللزوم لما يشترط فيها المالك من تحديدها بالعمر أو توقيتها بالوقت. هذا، مع عدم خلاف في ذلك كما قال في الجواهر: «وإذا عين للسكنى مدّة، لزمت بالقبض لما عرفته سابقاً ولا يجوز الرجوع فيها إلّابعد انقضائها، وكذا لو جعلها عمر المالك لم ترجع السكنى وإن مات المعمر - بالفتح - لجميع ما تقدّم من أدلّة اللزوم، وحينئذٍ فينتقل ما كان له إلى ورثته كغيرها من الحقوق والأملاك حتّى يموت المالك، بل عن الشيخ في الخلاف أنّ عليه إجماع الفرقة وأخبارهم معتضداً بما في المسالك وعن غيرها من نفي الخلاف فيه»(1).

وقد دلّ على ذلك صحيح حمران والحسين بن نعيم والحلبي وغيره(2). وقد سبق ذكر هذه النصوص وتحقيق مفادها آنفاً.

وقد صرّح في المسالك بعدم الخلاف في ذلك. بعد ما وجّهه بأ نّه لمّا كان الأصل

********

(1) - جواهر الكلام 141:28.

(2) - وسائل الشيعة 218:19-220، كتاب السكنى و الحبيس، الباب 2.

ص: 591

في العقود اللزوم، وكان عقد السكنى واُختاها ناقلاً للمنفعة على وجه خاصّ - من دون نقل العين - يكون لزومه تابعاً لكيفية نقل المنفعة.

قال قدس سره: «لمّا كان الأصل في العقود اللزوم، وكان هذا العقد غير ناقلٍ لملك الرقبة بل للمنفعة على وجهٍ مخصوص، فاللازم منهما لزوم العقد بحسب ما نقله، فإن كان مدّة معيّنة لزم فيها، وإن كان عمر أحدهما لزم كذلك، فلا يبطل العقد بموت غير من علّقت على موته. فإن كانت مقرونةً بعمر المالك استحقّها المعمر كذلك، فإن مات المعمَر قبل المالك انتقل الحقّ إلى ورثته مدّة حياة المالك كغيره من الحقوق والأملاك. وهذا ممّا لا خلاف فيه»(1).

ثمّ إنّ الأصحاب قد تعرّضوا في المقام لما إذا قُيّدت العمرى بعمر المُعمِر المُسكن أو المُعمَر الساكن. ولم يتعرّضوا إلى حكم ما لو قُيّدت بعمر الأجنبيّ.

مقتضى القاعدة حينئذٍ لزومها حسب ما قرّره، ولو قرنه بعُمر الأجنبيّ.

والوجه فيه: عموم الأمر بالوفاءِ بالشرط في ضمن العقد؛ بالنظر إلى رجوع التوقيت والتعليق على عمر شخصٍ إلى اشتراط مدّة عمر ذلك الشخص، كما يشعر بذلك صحيح عبدالرحمان مع صدق العمرى على ذلك فيدخل في إطلاقات نصوص المقام. وقد أجاد في بيان ذلك الشهيد الثاني؛ حيث قال: «واعلم أنّ الموجود في عبارة المصنّف قدس سره وغيره ومورد الأخبار أنّ العمرى مختصّة بجعل الغاية عمر المالك أو عمر المعمَر. ويضاف إلى ذلك عقب المعمر كما سلف. وهل يتعدّى الحكم إلى غير ذلك؛ بأن يقرنها بعمر غيرهما؟ يحتمله، وهو الذي أفتى به الشهيد قدس سره في بعض فوائده؛ للأصل، وعموم الأمر بالوفاء بالعقود، وأنّ المسلمين

********

(1) - مسالك الأفهام 423:5.

ص: 592

عند شروطهم، وهذا من جملته، ولصدق اسم العمرى في الجملة المدلول على شرعيّتها في بعض الأخبار من غير تقييدٍ بعمر أحدهما، وهذا لا بأس به»(1).

وناقش في ذلك صاحب الحدائق وقوّى البطلان حينئذٍ؛ معلّلاً بقوله: «لأنّ الحكم بانتقال الملك عن مالكه عيناً كان أو منفعةً يتوقّف على ناقل شرعي، ولم يرد من الشارع ما يدلّ على هذه الصورة، ليصحّ ترتّب النقل عليها، والاحتجاج بالأصل مدفوع بأنّ الأصل العدم، حتّى يقوم دليل على جواز ذلك، وعموم الأمر بالوفاء بالعقود متوقّف على مشروعية العقد وثبوته عن الشارع، فالاستدلال به لا يخرج عن المصادرة. والمؤمنون عند شروطهم، غاية ما يفيده الإباحة، والكلام في لزوم ذلك بحيث لا يجوز له الرجوع تلك المدّة كما هو مقتضى هذه المعاملة.

نعم، إذا وقع الشرط في عقد لازم لزم ما وقع فيه، ويؤيّد ذلك أيضاً أنّه هو الأحوط في الدين، والأخذ به واجب في موضع عدم النصّ عند المحدّثين، «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن اجتنب الشبهات نجى من الهلكات»، واللّه العالم»(2).

وفيه: أنّ أصل توقيت العمرى ممّا لا إشكال فيه نصّاً وفتوى وأمّا جهالة أمد المدّة، فتكون في التوقيت بعمر المالك والساكن وعقبه أيضاً، فإشكال جهالة غاية المدّة المقرّرة مشترك الورود. والعمل بالشرط الواقع في ضمن العقد اللازم، يجب الوفاءُ به قطعاً بعد البناء على صحّة عقد العُمرى ولزومها في مفروض الكلام. بل الشرط الواقع في ضمن العقد الجائز أيضاً يجب الوفاء به على التحقيق فعلى فرض عدم صدق العمرى مع قطع النظر عن الاشتراط المزبور - كما هو كذلك؛ نظراً إلى

********

(1) - مسالك الأفهام 424:5.

(2) - الحدائق الناضرة 285:22-286.

ص: 593

الكلام في أصل مشروعيته - يشمله عموم وجوب الوفاء بالشرط الواقع في ضمن العقود.

ولا يصلح ذكر التوقيت بعمر المالك أو الساكن وعقبه مورداً للسؤال والجواب أو موضوعاً للحكم في نصوص المقام لتقييد الإطلاق المزبور.

والذي يقتضيه التحقيق في المقام صحّة العمرى الموقّتة بعمر الأجنبيّ.

والوجه في ذلك إمّا مقتضى القاعدة. وهي لزوم الوفاء بالشرط الواقع في أيّ عقدٍ، جائز أو لازم، وإنّها مصطادة من عموم «المؤمنون عند شروطهم، إلّاما خالف الكتاب والسنّة» وليس الشرط المزبور مخالفاً للكتاب والسنّة، بل أقصى ما يمكن أن يُدّعى في المقام قصور نصوص المقام عن الدلالة على لزومه في عقد العمرى بالخصوص.

هذا مقتضى القاعدة. وأمّا النصوص الخاصّة، فيمكن استفادة صحّة الشرط المزبور ولزوم الوفاء به من إطلاق قوله عليه السلام: «الناس فيه عند شروطهم» في صحيح حمران، قال: سألته عن السكنى والعمرى، فقال عليه السلام: «الناس فيه عند شروطهم إن كان شرط حياته فهي حياته، وإن كان لعقبه، فهو لعقبه كما شرط، حتّى يفنوا ثمّ يردّ إلى صاحب الدار»(1).

وذلك لأنّ الإمام عليه السلام ابتدأ في هذه الصحيحة بإلقاءِ الكبرى الكلّية، ثمّ رتّب عليه التقييد بعمر الساكن وعقبه. فالملاك هو نفس الكبرى، وإلّا لم يقتصر عليه السلام فيه على التقييد بعمر الساكن، من دون تعرّض لعمر المالك. فلا إشكال في دخول الاشتراط بعمر الأجنبيّ في الكبرى المزبورة.

********

(1) - وسائل الشيعة 218:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 2، الحديث 1.

ص: 594

(مسألة 8): هل مقتضى العقود الثلاثة تمليك سُكنى الدار، فيرجع إلى تمليك المنفعة الخاصّة (1)، فله استيفاؤها مع الإطلاق بأيّ نحو شاء؛ من نفسه وغيره مطلقاً ولو أجنبيّاً، وله إجارتها وإعارتها، وتورث لو كانت المدّة عمر المالك ومات الساكن دون المالك. أو مقتضاها الالتزام بسكونة الساكن على أن يكون له الانتفاع والسكنى؛ من غير أن تنتقل إليه المنافع،

هذا، مع أنّ في مورد سؤال الراوي قُدّم السكنى على العمرى. فعلى فرض عدم صدق العمرى على محلّ النزاع - لكون أصل مشروعية التحديد بعمر الأجنبيّ أوّل الكلام - لا ريب في صدق عنوان السكنى؛ لعدم إناطة صدقه بالتحديد بالعمر أصلاً.

فمعنى كلامه عليه السلام، أنّ لزوم عقد السكنى إنّما تابع لشرط المالك بأيّ نحو كان، ومقتضى إطلاقه، نفوذ شرط المالك ولزوم العمل به ما لم يخالف الكتاب والسنّة.

مقتضى العقود الثلاثة من جهة تمليك المنفعة أو الانتفاع

1 - ينبغي قبل الخوض في البحث أن نمهّد مقدّمتين.

إحداهما: إعطاء الضابطة في كون العقود الثلاثة من قبيل تمليك المنفعة أو الانتفاع أو إباحته. وهي: أنّ العقود تابعة للقصود؛ بمعنى أنّ من بيده زمام أمر العقد شرعاً بأيّ نحو وشكل قصد العقد وأنشأه، ينعقد على ذلك الشكل.

ولا إشكال في أنّ المالك هو الذي بيده زمام هذه العقود الثلاثة؛ لأنّها ليست إلّا أنحاءِ تصرّفه في ماله.

وهذا القصد لا بدّ من استظهاره من كلام المالك ولفظه الذي أنشأ به العقود المزبورة. والمحكّم في استظهار قصده واستكشاف مراده من لفظ الصيغة المنشأة،

ص: 595

إنّما هو المتفاهم العرفي، بل هو المرجع في تعيين ظواهر مطلق صيغ العقود والإيقاعات؛ لأنّ مُنشئها - وهو العاقد والموقِع - من أهل العرف ويتكلّم على حسب المتفاهم العرفي وقوانين المحاورة العقلائية.

إنّ العين المسكونة في العقود الثلاثة غير قابلة للتوريث للساكن؛ لأنّها ملك المالك ولم تخرج عن ملكه بهذه العقود، وهذا واضحٌ. وكذا منفعتها؛ ما دام عقد المالك للساكن وحده، لا له ولعقبه، إلّاأن يكون عقبه داخلاً في العقد أو شرط المالك. فالمعيار في جواز التوريث إنّما هو اقتضاءُ شرط المالك، كما يستفاد ذلك من صحيح حمران وأبي الصباح والحلبي(1).

وذلك بدلالة قوله عليه السلام: «الناس فيه عند شروطهم» - في الأوّل - على أنّ المدار في تعيين كيفية تأثير هذه العقود من حيث النقل أو الإباحة وما يترتّب عليها من الأحكام، كيفية شرط من بيده زمام هذه العقود وهو المالك.

وبدلالة قوله عليه السلام: «ليس لهم أن يبيعوا ولا أن يورّثوا» في الآخرين بإطلاقه على منع التوريث في هذه العقود مطلقاً، حتّى توريث المنفعة، بل يمكن دعوى نظرهما إلى منع توريث المنفعة. وذلك لمعلومية عدم قابلية العين للتوريث بعد وضوح عدم خروجها عن ملك المالك المُسكِن، ولفرض ثبوت استحقاق العَقِب بدلالة لفظ المالك وشرطه من غير حاجة إلى التوريث، لكن لمّا كان فيه شائبة التوريث للأعقاب اللاحقة كما انتقل من الساكن إلى عقبه - وإن كان بغير الإرث - تعرّض الإمام عليه السلام لمنع التوريث المتوهّم حينئذٍ.

********

(1) - وسائل الشيعة 218:19 و 220، كتاب السكنى والحبيس، الباب 2، الحديث 1، والباب 3، الحديث 1 و 2.

ص: 596

ولازمه عند الإطلاق جواز إسكان من جرت العادة بالسكنى معه، كأهله وأولاده وخادمه وخادمته ومرضعة ولده وضيوفه، بل وكذا دوابّه إن كان الموضع معدّاً لمثلها، ولا يجوز أن يسكن غيرهم إلّاأن يشترط ذلك، أو رضي المالك، ولا يجوز أن يؤجر المسكن ويعيره، ويورث هذا الحقّ بموت الساكن. أو مقتضاها نحو إباحة لازمة، ولازمه كالاحتمال الثاني إلّافي التوريث، فإنّ لازمه عدمه؟ ولعلّ الأوّل أقرب، خصوصاً في مثل «لك سكنى الدار»، وكذا في العمرى والرقبى. ومع ذلك لا تخلو المسألة من إشكال (1).

1 - كما يستفاد ذلك من كلام صاحب الجواهر؛ حيث قال: «اللهمّ إلّاأن يقال:

إنّه قول الصادق عليه السلام في خبري أبي الصلاح والحلبي المتقدّمين «ليس لهم أن يبيعوا ولا أن يورثوا» وزاد في أوّلهما: ثمّ ترجع الدار على صاحبها، على معنى إرادة عدم نقل المنفعة لهم وعدم إرثها، لا العين المعلوم فيها ذلك، بل ربما في جعل ذلك جواباً للشرط في أحدهما إشعارٌ بذلك»(1).

وعلى ضوءِ ما بيّنّاه يتّضح أيضاً منع التوريث فيما لو قال: «أسكنتك مدّة حياتي» في صورة موت الساكن؛ لظهور «أسكنتك» في إسكان الساكن ومن يعيش معه حال حياته، لا عقبه بعد موته. ومن ذلك تعرف الإشكال في كلام السيّد الماتن في المسألة السابقة؛ حيث حكم بانتقال حقّ الانتفاع إلى ورثة الساكن بعد موته في مفروض الكلام، بل مقتضى القاعدة عود العين المسكونة حينئذٍ إلى المالك بموت الساكن.

********

(1) - جواهر الكلام 150:28.

ص: 597

وعلى أيّ حال لا إشكال في إطلاق صحيحي الكناني والحلبي في المقام، فيدلّان على منع التوريث في العقود الثلاثة مطلقاً، حتّى المنفعة، لو لم نقل بنظرهما إليها.

وعلى ضوءِ الضابطة الاُولى نستطيع أن نقول: إنّ السكنى واُختيها من قبيل تمليك الانتفاع، لا المنفعة؛ وذلك لأنّ العقود تابعة للقصود. ولا ريب أنّ قصد المُسكن - حسب ظاهر كلامه - تسليط الغير على الانتفاع من داره بسكنى نفسه مباشرةً، أو له ولعقبه، لو قرنه بذكره. وليس ذلك إلّامن قبيل تمليك الانتفاع. وأمّا تمليك المنفعة المجوّزة للانتفاع بالدار بأيّ وجه شاء المُعمَر ولو بإجارته، فهو خارج عن قصد المالك المُعمِر؛ لأنّه مخالف لظاهر مثل قوله: «أسكنتك داري...» ولا ريب في تحكيم الظهور العرفي في كشف مراد المتكلّم وتعيين عنوان المعاملة في أمثال المقام. نعم يجوز له إسكان من جرت العادة على عيشه معه كالولد والزوجة والخادم والضيف والدابّة.

وهذا هو المعروف المشهور بين الأصحاب. وخالف في ذلك ابن إدريس(1)؛ حيث جوّز للساكن إسكان من شاء، بل إجارة الدار، ولكنّه شاذٌ كما قال به في الرياض.

وقد أجاد في تحرير المسألة؛ حيث قال: «وليس له أن يسكن معه غيره ممّن لم يحكم العرف بإسكانه معه، ولا الإجارة وغيرها من التصرّفات الناقلة حتّى للمنفعة إلّا بإذن المالك على الأظهر الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر؛ اقتصاراً - فيما خالف الأصل الدالّ على لزوم الاقتصار في ملك الغير - على ما يقتضيه الإذن والرخصة على المتيقّن، وليس إلّاإسكان من قدّمناه خاصّة. بل لو لا العادة لكان اللازم عليه الإسكان بنفسه دون غيره فإنّ ذلك مقتضى أسكنتك لغة، لكن جاز التعدّي إلى من

********

(1) - السرائر 169:3.

ص: 598

ذكر قضية لها؛ مضافاً إلى الاتّفاق عليه فتوى، كما مضى.

خلافاً للحلّي فجوّز له إسكان من شاء إجارته ونقله كيف شاء محتجّاً بأ نّه ملّكه المنفعة بعقد لازم، فيجوز له التصرّف فيها مطلقاً، كما لو تملّكها بالإجارة وكغيرها من أمواله. وهو شاذٌّ ومستنده - كما ترى - ضعيف».

وقال: «إطلاق السكنى بأقسامها الثلاثة حيث تتعلّق بالمسكن، يقتضي أن يُسكن الساكن معه من جرت العادة به أي عادة الساكن به، أي بإسكانه معه كالولد والزوجة والخادم والضيف والدابّة إن كان في المسكن موضع معدّ لمثلها. وكذا وضع ما جرت العادة بوضعه فيها من الأمتعة والغلّة بحسب حالها بلا خلاف، إلّامن ظاهر النهاية والقاضي وابن زهرة؛ حيث اقتصروا على ذكر الولد وأهله. ولعلّ مرادهم منه التمثيل خاصّة، كما فهمه متأخّروا الأصحاب كافّةً»(1).

ولكن يظهر من صاحب الجواهر(2) أنّ العقود الثلاثة من قبيل تمليك المنفعة ولذا جعل كلام ابن إدريس مقتضى القاعدة. ولكنّه خلاف المتفاهم العرفي من قول المعمِر «أسكنتك دارى...». نعم لو قال: «لك سكنى داري...»، كان لما قال في الجواهر وجه. ولعلّ السيّد الماتن لذلك قوّى هذا القول في ختام كلامه.

ولكنّه أيضاً مورد للمناقشة والسرّ في ذلك أنّ اللام إنّما تفيد الملكية إذا دخلت على الذوات، كقولك: «لك هذا المال» أو «له عليّ درهم» بخلاف ما لو دخلت على المصدر، فحينئذٍ إنّما تفيد الترخيص والإباحة. كقولك «لك سكونة داري أو سكناها» فإنّه كما يمكن إرادة معنى الاسم المصدري ونتيجة السكونة - التي هي منفعة الدار - كذلك يصحّ أن يراد به المعنى المصدري المفيد لفعل السكونة ولا تفيد

********

(1) - رياض المسائل 363:9.

(2) - جواهر الكلام 150:28-151.

ص: 599

(مسألة 9): كلّ ما صحّ وقفه صحّ إعماره (1) من العقار والحيوان والأثاث وغيرها. والظاهر أنّ الرقبى بحكم العمرى، فتصحّ فيما يصحّ الوقف. وأمّا السكنى فيختصّ بالمساكن.

اللام حينئذٍ إلّاالترخيص والإباحة في فعل السكونة، لا الملكية. وغاية ما تفيده حينئذٍ تمليك الانتفاع وثبوت حقّ السكونة، لا تمليك المنفعة. وعلى فرض التنزُّل لا أقلّ من احتمال ذلك، فلا يمكن دعوى ظهور مثل قوله «لك سكنى هذه الدار» في تمليك المنفعة؛ لاحتمال كون المقصود من السكنى معناها المصدري، لو لم نقل بظهورها فيه.

فالأقوى في المقام عدم جواز الإجارة والعارية، كما عليه المشهور.

وأمّا التوريث، فلا وجه له مطلقاً؛ حيث دلّت نصوص المقام على عدم مشروعية التوريث مطلقاً، كقول أبي عبداللّه عليه السلام: «فليس لهم أن يبيعوا ولا يورّثوا» في صحيحي أبي الصباح والحلبي(1)؛ حيث يدلّ بإطلاقه على عدم توريث حقّ السكنى أيضاً - كعدم توريث العين المسكونة - بل إنّما يكون استحقاق عقب الساكن تابعاً لشرط المالك المُعمِر، كما دلّ عليه قوله عليه السلام: «الناس فيه عند شروطهم» في صحيح حمران(2).

صحّة العُمرى والرُقبى في كلّ ما يصحّ وقفه

1 - كما هو المعروف، بل قال في الجواهر: «بل لا أجد فيه خلافاً، بل عن

********

(1) - وسائل الشيعة 220:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 3، الحديث 1 و 2.

(2) - وسائل الشيعة 218:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 2، الحديث 1.

ص: 600

ظاهر التذكرة الإجماع عليه»(1).

وقد دلّت عليه طائفتان من نصوص المقام.

الاُولى: مطلقاتها. كصحيح حمران، قال: سألته عن السكنى والعمرى، فقال عليه السلام: «الناس فيه عند شروطهم»(2).

وجه الدلالة: أنّ الإمام جعل المعيار في لزوم عقد السكنى والعمرى مفاد شرط المالك وكيفيته. وإطلاق كلامه يقتضي كون الرقبى كالعمرى في التبعية لشرط المالك؛ لأنّهما كليهما في الحقيقة من قبيل السكنى. وإنّما اختلفا في العنوان باختلاف كيفية شرط المالك.

ونظيره ما رواه في قرب الإسناد عن علي عليه السلام: «إنّ السكنى بمنزلة العارية إن أحبَّ صاحبها أن يأخذها أخذها. وإن أحبّ أن يدعها، فعل أيّ ذلك شاء»(3).

ومثلهما صحيح محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قضى في العمرى أنّها جائزة لمن أعمرها، فمن أعمر شيئاً ما دام حيّاً، فإنّه لورثته إذا توفّى»(4). فإنّ لها دلالة واضحة على مشروعية العمرى في غير موارد السكنى بالإطلاق.

الثانية: ما دلّ من نصوص المقام بالخصوص على جواز العمرى ومشروعيتها، بل لزومها عند الشرط في غير مورد العقار والدار.

من هذه النصوص: صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفر عليه السلام عن

********

(1) - جواهر الكلام 146:28.

(2) - وسائل الشيعة 218:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 2، الحديث 1.

(3) - وسائل الشيعة 222:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 4، الحديث 3.

(4) - وسائل الشيعة 228:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 8، الحديث 2.

ص: 601

رجل جعل لذات محرم جاريته حياتها، قال: «هي لها على النحو الذي قال»(1).

ومعتبرة يعقوب بن شعيب، رواها محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن صفوان(2)، عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبداللّه عليه السلام قال:

سألته عن الرجل يكون له الخادم تخدمه، فيقول: هي لفلان تخدمه ما عاش، فإذا مات فهي حرّة. فتأبق الأمة قبل أن يموت الرجل بخمس سنين أو ستّة، ثمّ يجدها ورثته، ألهم أن يستخدموها قدر ما أبقت؟ قال: «إذا مات الرجل فقد عُتقت»(3).

وإنّما عبّرنا عنها بالمعتبرة؛ لما فيه من ذكر «سعدان بن مسلم» بدلاً عن صفوان.

فيحتمل كون الراوي سعدان. وهو وإن لم يُصرِّح مشايخ الرجال بوثاقته، إلّاأنّه صاحب أصل وكثير الرواية ونقل عنه الأجلّاء وفقهاءُ الرواة، ومع ذلك لم يُعرف بقدح من أحد، بل مشمول للتوثيق العامّ من ابن قولويه وعلي بن إبراهيم؛ لوقوعه في طريق كامل الزيارات وتفسير القمي، بل عن السيّد الداماد أنّه شيخ كبير القدر، جليل المنزلة.

فإنّ هذه المعتبرة وصحيحة ابن مسلم قد دلّتا بالخصوص على مشروعية العمرى في غير المسكن.

وأمّا كون الرقبى في حكم العمرى، فالوجه فيه تطابق تعريفيهما في كلمات الفقهاء، غير أنّ التوقيت في العمرى بالعمر وفي الرقبى بالمدّة المعيّنة. ولدخولها في مطلقات النصوص(4) الظاهرة في الإناطة بالتوقيت مطلقاً. ولم أقف على نصٍّ خاصّ في ذلك.

********

(1) - وسائل الشيعة 225:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 6، الحديث 1.

(2) - و في هامش الوسائل: «في نسخة: سعدان بن مسلم».

(3) - وسائل الشيعة 225:19، كتاب السكنى والحبيس، الباب 6، الحديث 2.

(4) - راجع: وسائل الشيعة 221:19-223، كتاب السكنى والحبيس، الباب 4، الحديث 1 و 2، الباب 5، الحديث 1.

ص: 602

القول: في الصدقة

اشارة

قد وردت النصوص الكثيرة (1) على ندبها والحثّ عليها، خصوصاً في أوقات مخصوصة، كالجمعة وعرفة وشهر رمضان، وعلى طوائف مخصوصة، كالجيران والأرحام حتّى ورد في الخبر:

تعريف الصدقة

1 - يقع الكلام أوّلاً: في تعريف الصدقة، وثانياً: في تحقيق نصوصها.

أمّا تعريف الصدقة: فقد عرّفها في الشرائع بأ نّها: عقد يحتاج إلى إيجاب وقبول.

وقال في الجواهر في ذيله: «بلا خلاف محقَّق أجده فيه، بل عن ظاهر المبسوط وفقه القرآن للراوندي والغنية والكفاية والمفاتيح الإجماع عليه»(1).

ولا يخفى: أنّه لا يعتبر فيه الإيجاب والقبول اللفظي، كما عن جماعةٍ، بل يكفي الفعلي منهما؛ نظراً إلى قيام سيرة المسلمين على ذلك.

فالأقوى تحقّقها بكلٍّ من العقد والمعاطاة كما في البيع، بل المعاطاة أيضاً عقد

********

(1) - جواهر الكلام 124:28.

ص: 603

فعليٌ. وعلى أيّ حال فلا إشكال في لزوم الصدقة وعدم جواز الرجوع فيها. وليس ذلك ناشئاً من عقديتها، بل إنّما نشأ ممّا ورد في النصوص، كقوله عليه السلام: «فما جُعل للّه عزّ وجلّ فلا رجعة فيه» في معتبرة موسى بن بكر(1)، وقوله: «ولا ينبغي لمن أعطى للّه شيئاً أن يرجع فيه» في صحيح زرارة(2).

ولكنّ الظاهر عدم كونها عقداً. وممّا يشهد لأعمّية الصدقة من العقد - مضافاً إلى السيرة - صدق عنوان الصدقة على الإبراء القربي وعلى مجرّد بذل الطعام، ولو لم يكن على وجه العقدية بل على الإطعام نفسه. ومن هنا لم يستبعد صاحب الجواهر أن يكون الصدقة دفع المال مجّاناً بقصد القربة؛ حيث قال: «نعم يبقى شيءٌ، وهو احتمال دعوى أعمّية الصدقة من العقد، ضرورة صدقها على الإبراء المتقرّب به، والوقف كذلك، بل وعلى بذل الطعام والماء ونحوهما للفقراء والمساكين مثلاً، وإن لم يكن على جهة معنى العقدية الذي هو قصد الارتباط بالإيجاب والقبول، ولقد كان علي بن الحسين عليه السلام يتصدّق على الفقير في السرّ(3) على وجه لا يحصل فيه معنى العقدية، بل لا يبعد كونها دفع المال مجّاناً قربة إلى اللّه تعالى شأنه، فإن كان مورده الإبراء، كان صدقة وإبراء، وإن كان مورده الهبة، كان هبة وصدقة، وإن كان مورده الوقف، كان وقفاً وصدقة، وإن كان غير ذلك كان صدقة»(4).

فتحصّل أنّ الأصحّ: تعريف الصدقة بأ نّها دفع المال مجّاناً قربة إلى اللّه، كما قال في الجواهر، وأمّا خصوصية العقدية، فلم تؤخذ في ماهيتها.

********

(1) - وسائل الشيعة 204:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 231:19، كتاب الهبات، الباب 3، الحديث 1.

(3) - وسائل الشيعة 397:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 13، الحديث 8.

(4) - جواهر الكلام 125:28.

ص: 604

«لا صدقة وذو رحم محتاج» (1)، وعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ اللّه لا إله إلّاهو ليدفع بالصدقة الداء والدبيلة والحرقة والغرق والهدم والجنون، وعدّ سبعين باباً من السوء» (2)،

تحقيق نصوص الصدقة المندوبة

و قد أشار السيّد الماتن إلى مضامين عدّة من النصوص، نذكر هاهنا تلك النصوص على ترتيب المتن، ونذكر في خلالها عدّة اخرى مهمّة من نصوص المقام.

أمّا النصوص التي أشار السيّد الماتن إلى مضامينها - على الترتيب الموجود في المتن - فهي:

1 - روى الصدوق مرسلاً بقوله: «وقال عليه السلام: لا صدقة وذو رحم محتاج»(1).

ومسنداً عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السلام في وصيّة النبي صلى الله عليه و آله «يا علي...

لا صدقة وذو رحم محتاج»(2). ولهذا الحديث طرق اخرى غير نقيّة، إلّاأنّ الأمر في السُنَن سهل؛ نظراً إلى التسامح في أدلّتها.

2 - معتبرة السكوني عن جعفر عن آبائه عليهم السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ اللّه لا إله إلّاهو ليدفع بالصدقة الداء والدبيلة والحرق والغرق والهدم والجنون، وعدّ صلى الله عليه و آله سبعين باباً من السوء»(3).

********

(1) - الفقيه 1740/68:2، و 5823/381:4؛ وسائل الشيعة 380:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 7، الحديث 2.

(2) - وسائل الشيعة 384:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 8، الحديث 4.

(3) - وسائل الشيعة 386:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 9، الحديث 1.

ص: 605

وقد ورد: «أنّ الافتتاح بها في اليوم يدفع نحس يومه، وفي الليلة يدفع نحسها» (1)، و «أنّ صدقة الليل تطفئ غضب الربّ، وتمحو الذنب العظيم، وتهوّن الحساب، وصدقة النهار تثمر المال، وتزيد في العمر» (2)، و «ليس شيء أثقل على الشيطان من الصدقة على المؤمن، وهي تقع في يد الربّ تبارك وتعالى قبل أن تقع في يد العبد» (3).

1 - كما في مرسل علي بن أسباط عن أبي عبداللّه - في حديث - قال لرجل:

«ألا احدّثك بحديث حدّثني به أبي؟ قال: قال رسول اللّه عليه السلام: من سرّه أن يدفع اللّه عنه نحس يومه فليفتتح يومه بصدقة... يدفع عنه نحس ليلته»(1).

ونظيره موثّقة الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

إذا أصبحت فتصدّق بصدقة يذهب عنك نحس ذلك اليوم، وإذا أمسيت فتصدّق بصدقة يذهب عنك نحس تلك الليلة»(2).

2 - معتبرة معلّى بن خنيس عن أبي عبداللّه عليه السلام - في حديث - قال: «إنّ صدقة الليل تطفئُ غضب الربّ، وتمحو الذنب العظيم وتهوّن الحساب وصدقة النهار تثمر المال، وتزيد في العمر»(3).

3 - ما رواه الكليني بسنده عن عبداللّه بن سنان - في حديث - قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام: «ليس شيءٌ أثقل على الشيطان من الصدقة على المؤمن وهي تقع

********

(1) - وسائل الشيعة 392:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 12، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 394:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 12، الحديث 6.

(3) - وسائل الشيعة 393:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 12، الحديث 2.

ص: 606

وعن علي بن الحسين عليهما السلام: «كان يقبّل يده عند الصدقة، فقيل له في ذلك، فقال: إنّها تقع في يد اللّه قبل أن تقع في يد السائل» (1)، ونحوه عن غيره عليه السلام.

وعن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «كلّ معروف صدقة إلى غنيّ أو فقير، فتصدّقوا ولو بشقّ التمرة، واتّقوا النار ولو بشقّ التمرة، فإنّ اللّه يربّيها لصاحبها كما يربّي أحدكم فلوه أو فصيله؛

في يد الربّ تبارك وتعالى قبل أن تقع في يد العبد»(1).

1 - مثل ما رواه العياشي في تفسيره عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال:

«كان علي بن الحسين عليه السلام إذا أعطى السائل قبّل يد السائل»، فقيل له: لم تفعل ذلك؟ قال: «لأ نّها تقع في يد اللّه قبل يد العبد»(2).

ونظيره ما رواه الصدوق في الخصال(3) بإسناده عن علي عليه السلام - في حديث الأربعمائة - قال: «إذا ناولتم السائل شيئاً فاسألوه أن يدعولكم» - إلى أن قال -:

«وليردّ الذي يناوله يده إلى فيه فليقبّلها، فإنّ اللّه يأخذها قبل أن تقع في يده، كما قال عزّ وجلّ: (أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) (4)».

ومثله ما رواه معلّى بن خنيس عن أبي عبداللّه(5).

********

(1) - وسائل الشيعة 406:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 18، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 434:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 29، الحديث 7.

(3) - الخصال: 619؛ وسائل الشيعة 433:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 29، الحديث 1.

(4) - التوبة (9):104.

(5) - وسائل الشيعة 434:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 29، الحديث 5.

ص: 607

حتّى يوفيه إيّاها يوم القيامة، وحتّى يكون أعظم من الجبل العظيم» (1) إلى غير ذلك.

(مسألة 1): يعتبر في الصدقة قصد القربة (2)،

1 - ما رواه الحسن بن محمّد الطوسي عن أبيه بإسناده عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «كلُّ معروف صدقة إلى غنيٍّ أو فقير، فتصدّقوا ولو بشقّ التمرة، واتّقوا النار ولو بشقّ التمرة؛ فإنّ اللّه يربّيها لصاحبها كما يربّى أحدكم فِلْوَه أو فصيله(1)، حتّى يوفّيه إيّاها يوم القيامة وحتّى يكون أعظم من الجبل العظيم»(2).

هذه النصوص هي التي أشار إليها السيّد الماتن وقد ذكرناها بألفاظها وأسنادها على حسب ترتيب المتن.

اعتبار قصد القربة في الصدقة

اشارة

2 - لا خلاف في اعتباره في الصدقة، بل هو إجماعي، كما قال في الجواهر:

«بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه»(3).

وقد دلّت على ذلك عدّة نصوص معتبرة:

منها: صحيح حمّاد بن عثمان، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «قال: لا صدقة ولا عتق إلّا ما اريد به وجه اللّه عزّ وجلّ»(4).

********

(1) - الفِلْوْ والفُلُوّ: ولد الفرس والحمار في أوان انفصاله عن امّه. والفصيل: ولد الناقة المنفصل عن امّه.

(2) - وسائل الشيعة 381:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 29، الحديث 5.

(3) - جواهر الكلام 128:28.

(4) - وسائل الشيعة 210:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 13، الحديث 2.

ص: 608

ومثله صحيح هشام وحمّاد وابن اذينة وابن بكير وغيرهم عن أبى عبداللّه عليه السلام(1).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفر عليه السلام عن رجل كانت له جارية فآذته فيها امرأته فقال: «هي عليك صدقة»، فقال: «إن كان قال ذلك للّه فليمضها، وإن لم يقل فليرجع فيها إن شاءَ»(2).

هذه الصحيحة دلّت بالصّراحة على جواز الرجوع في الصدقة إذا كانت لغير اللّه.

ومثلها صحيحه الآخر(3).

وهل يصدق عنوان الصدقة على ما لم تُقصد به القربة؟ ظاهر هذه الصحيحة صدقها؛ نظراً إلى رجوع ضمير الهاءِ في قوله عليه السلام: «فليرجع فيها» إلى الصدقة.

ولكنّ التأمّل يقتضي أنّ تأنيث الضمير إمّا بلحاظ لفظ الصدقة في قول الرجل: «هي عليك صدقة»، أو على حسب زعم السائل. ولكن لا ينافي ذلك كونه بداعي دافع شرّ امرأته وبقصد الخلاص من أذيتها، لا بقصد القربة.

ثمّ إنّ المتيقّن من اعتبار قصد القربة في الصدقة اعتباره في صحّة الصدقة وقبولها عند اللّه، من حيث ترتّب آثار الصحّة وأحكامها وما وُعد في نصوصها من الأجر والثواب ودفع البلية ومحو الذنب ونحو ذلك.

وأمّا اعتباره في صدق عنوانها العرفي، فلا يبعد؛ نظراً إلى أخذ القربة في عنوانها في ارتكاز عرف المتشرّعة؛ حيث لا يطلقون عنوان الصدقة على ما اعطي لغير وجه اللّه، بل إنّما يطلقون عليه عناوين اخرى كالهبة والجائزة والبذل والإعانة.

ويمكن استفادة ذلك من بعض النصوص أيضاً كقوله عليه السلام: «وإنّما الصدقة للّه»

********

(1) - وسائل الشيعة 210:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 13، الحديث 3.

(2) - وسائل الشيعة 209:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 13، الحديث 1.

(3) - وسائل الشيعة 206:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 7.

ص: 609

ولا يعتبر فيها العقد المشتمل على الإيجاب والقبول على الأقوى (1)،

في معتبرة موسى بن بكر(1) وقوله عليه السلام: «لا صدقة ولا عتق، إلّاما اريد به وجه اللّه عزّ وجلّ» في صحيح هشام وحمّاد وابن اذينه وابن بكير.

فإنّ ظاهر هذه النصوص أخذ قصد القربة في عنوان الصدقة وماهيتها.

ومن هنا لا بدّ من تأويل ما يوهم خلاف ذلك، كصحيح ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: «لا يُرجع في الصدقة إذا ابتُغي بها وجه اللّه عزّ وجلّ». فتحمل الشرطية فيه على المسوقة لبيان الموضوع، كما يشهد لذلك صحيح زرارة الآتية المصرّحة بعدم معهودية الصدقة - بمعنا الإعطاء القربي - في عهد النبي صلى الله عليه و آله وحدوثها في زمن الأئمّة.

فإنّ ظاهر هذه الصحيحة أنّ لفظ الصدقة حقيقة متشرّعية في دفع المال مجّاناً على وجه القربة. وسوف يأتي ذكر هذه الصحيحة في خلال أدلّة عدم جواز الرجوع في الصدقة.

1 - وقد سبق البحث فيه آنفاً. وحاصل الكلام: أنّه لا دليل على الإيجاب اللفظي فلا دليل عليه، فضلاً عن القبول، بل سيرة المتشرّعة تشهد بكفاية الفعلي منهما. بل الظاهر أنّه لم تؤخذ خصوصية العقدية في ماهيتها؛ لما سبق من جريان السيرة على دفعها من غير إيجاب وقبول، ولما ورد في النصوص، من تصدّق الأئمّة عليهم السلام خفاءً. ومن هنا قلنا: إنّ الأصحّ تعريف الصدقة بأ نّها دفع المال مجّاناً قربة إلى اللّه، كما قال في الجواهر.

********

(1) - وسائل الشيعة 204:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 1.

ص: 610

بل يكفي المعاطاة، فتتحقّق بكلّ لفظ أو فعل - من إعطاء أو تسليط - قصد به التمليك مجّاناً مع نيّة القربة، ويشترط فيها الإقباض والقبض (1).

(مسألة 2): لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض (2) وإن كانت على أجنبيّ على الأصحّ.

اعتبار القبض في الصدقة

1 - لا خلاف في ذلك، كما في الجواهر، بل نقل فيه إجماع الفقهاء؛ حيث قال:

«وكيف كان فتفتقر صحّتها مع الإيجاب والقبول إلى إقباض أي القبض بإذن، بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به غير واحد، بل قيل: إنّه قد يلوح الإجماع على ذلك»(1).

وقد دلّ عليه صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام، إنّه قال في الرجل يتصدّق على ولده وقد أدركوا: «إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث، فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز؛ لأنّ والده هو الذي يلى أمره»(2). ومثله صحيح عبيد بن زرارة(3).

عدم جواز الرجوع في الصدقة بعد القبض

اشارة

2 - يقع الكلام في ثلاث مواضع:

أحدها: عدم جواز الرجوع في الصدقة.

********

(1) - جواهر الكلام 127:28.

(2) - وسائل الشيعة 178:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 1.

(3) - وسائل الشيعة 180:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، الحديث 5.

ص: 611

ثانيها: جواز الرجوع فيها إذا لم يُقصد بها القربة.

ثالثها: اشتراط القبض في عدم جواز الرجوع في الصدقة.

أمّا عدم جواز الرجوع في الصدقة: فقد دلّت عليه عدّة نصوص صحيحة صريحة.

منها: معتبرة موسى بن بكر عن الصادق عليه السلام: «إنّما الصدقة للّه عزّ وجلّ، فما جعل للّه عزّ وجلّ فلا رجعة له فيه»(1).

ومنها: صحيح عبداللّه بن سنان قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الرجل يتصدّق بالصدقة ثمّ يعود في صدقته، فقال عليه السلام: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنّما مثل الذي يتصدّق بالصدقة ثمّ يعود فيها مثل الذي يقيء ثمّ يعود في قيئه»(2). ومثله صحيح الحلبي(3). تقريب الاستدلال: أنّه كيف لا يجوز العود في القيء؟ فكذلك لا يجوز الرجوع في الصدقة، كما وجّه الشهيد بهذا التقريب الاستدلال بصحيحة ابن سنان؛ حيث قال: «والعود في القيء غير جائز، فكذا العود في الصدقة»(4).

وأجاب عنه المحقّق؛ حيث حكم بعدم جواز الرجوع في الصدقة وعلّله بقوله:

«لأنّ المقصود بها الأجر، وقد حصل، فهي كالمعوّض عنها»(5). وقال الشهيد في شرحه: «ونبَّه المصنّف بقوله: «لأنّ المقصود بها الأجر وقد حصل» على ردّ قول الشيخ لو سلّم مساواتها للهبة؛ لأنّ الهبة إذا حصل لها عوض لا يجوز الرجوع فيها

********

(1) - وسائل الشيعة 204:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 204:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 2.

(3) - وسائل الشيعة 205:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 4.

(4) - مسالك الأفهام 408:5.

(5) - شرائع الإسلام 176:2.

ص: 612

مطلقاً، والصدقة تستلزم العوض دائماً وهو القربة فكانت كالمعوّض عنها، وهذا هو الأقوى، حتّى لو فرض في الهبة التقرّب كان عوضاً كالصدقة ولم يجز الرجوع فيها.

ويدلّ عليه أيضاً من الأخبار قول الصادق عليه السلام في صحيحة عبداللّه بن سنان، وقد سأله عن الرجل يتصدّق بالصدقة ثمّ يعود في صدقته فقال عليه السلام: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّما مثل الذي يتصدّق بالصدقة ثمّ يعود فيها مثل الذي يقيء ثمّ يعود في قيئه»؛ والعود في القيء غير جائز فكذا العود في الصدقة.

والحاصل: أنّ قول الشيخ إمّا ضعيف جدّاً أو مبنيّ على عدم اشتراط نيّة القربة فيها، فيكون قولاً في المسألة»(1).

ولكن جواب المحقّق أشبه بالقياس؛ لعدم كون أجر الصدقة عوضاً في نظر العرف المحكَّم في أبواب المعاملات، وعلى فرض دخله لا يكون من قبيل العلّة للزوم، كما لا يخفى.

والجواب الصحيح: دلالة النصوص المزبورة بوضوح على عدم جواز الرجوع في الصدقة؛ معلّلاً بكونها للّه.

وأمّا جواز الرجوع في الصدقة إذا لم يُقصد بها اللّه فليس بمعنى كون ما لم يقصد به وجه اللّه من قبيل الصدقة أيضاً لكنّها يجوز فيها الرجوع، بل بمعنى خروجه بذلك عن حقيقة الصدقة. وذلك بقرينة ما دلّ من النصوص على نفي عنوان الصدقة عمّا لم يُرَد به وجه اللّه تعالى.

ولا سيّما صحيحة زرارة الدالّة على حدوث عنوان الصدقة بمعنى الإعطاء القربي من بعد زمن النبي صلى الله عليه و آله. ومن أجل ذلك لا بدّ من حمل الصدقة لغير وجه اللّه

********

(1) - مسالك الأفهام 409:5.

ص: 613

على مجرّد التلفّظ بلفظ الصدقة والتصدّق وما ينشقّ من مادّتها، من غير إرادة معناها الحقيقي، بل من قبيل الاستعمال المجازي.

وعلى أيّ حال فقد دلّ عليه بعض النصوص، كصحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام - في حديث - قال: «ولا يُرجع في الصدقة إذا ابتُغي بها وجه اللّه، وقال:

الهبة والنحلة يُرجع فيها إن شاء حيزت أو لم تُحَز، إلّالذي رحم فإنّه لا يُرجع فيه»(1).

فإنّ صدر هذه الصحيحة دلّ بمفهومه على جواز الرجوع في الصدقة إذا لم يُقصد بها وجه اللّه. ولكنّ التأمّل يقضي بعدم ثبوت هذا المفهوم. وذلك لأنّ الشرطية فيها إنّما سيقت لبيان الموضوع، كقولك: «إن رزقت ولداً فاختنه» وقوله تعالى:

(لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (2) .

والوجه في ذلك أوّلاً: ما دلّ من النصوص على حصر الصدقة فيما كان لوجه اللّه؛ حيث دلّ على عدم كون ما يُعطى لغير وجه اللّه من قبيل الصدقة وقد سبق ذكر هذه النصوص آنفاً.

وثانياً: بقرينة المقابلة؛ حيث جعل في قبال الصدقة المُبتغي بها وجه اللّه الهبة والنحلة. فيعلم من ذلك أنّ المقصود من الشرطية المزبورة إخراج مثل الهبة والنحلة.

وثالثاً: بشهادة صحيحة زرارة عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إنّما الصدقة محدثة إنّما كان الناس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ينحلون ويهبون، ولا ينبغي لمن أعطى للّه شيئاً أن يرجع فيه، قال: وما لم يعط للّه وفي اللّه فإنّه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة حيزت أو لم تُحز»(3).

********

(1) - وسائل الشيعة 231:19، كتاب الهبات، الباب 3، الحديث 2.

(2) - النور (24):33.

(3) - وسائل الشيعة 231:19، كتاب الهبات، الباب 3، الحديث 1.

ص: 614

وممّا يدلّ على جواز الرجوع في الصدقة إذا لم يُقصد بها وجه اللّه صحيح آخر لمحمّد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفرٍ عن رجل كانت له جارية فآذته فيها امرأته فقال: «هي عليك صدقة»، فقال: «إن كان قال ذلك للّه فليمضها، وإن لم يقل فليراجع فيها إن شاء»(1).

فمقتضى التحقيق: عدم جواز الرجوع في الصدقة مطلقاً وما لم يقصد به وجه اللّه ليس بصدقة، بل إنّما هي نحلة وهبة وجائزة وهدية.

وأمّا اشتراط القبض في عدم جواز الرجوع في الصدقة، فالوجه فيه ما دلّ من النصوص على اعتبار القبض في تمامية الصدقة ولزومها. وقد سبق ذكرها آنفاً.

مضافاً إلى اتّفاق الفقهاء وإجماعهم على اعتباره. ولكنّه ليس الإجماع دليلاً مستقلاًّ في المقام على فرض تمامية دلالة النصوص المزبورة على اعتبار القبض حتّى في الصدقة المندوبة وعدم انصرافها إلى الوقف، كما يقتضي سياقها؛ وذلك لصيرورة الإجماع حينئذٍ مدركياً.

وبهذا البيان يظهر المناقشة في كلام صاحب الجواهر؛ حيث جعل الإجماع في المقام حجّة بعد النصوص المذكورة، بقوله: «بل عن التذكرة الإجماع عليه في موضعين، وهو الحجّة بعد النصوص المذكورة في الوقف»(2).

نعم، بناءً على عدم تمامية دلالة النصوص المزبورة وانصرافها إلى الوقف كما يشهد سياقها، يمكن جعل الإجماع كاشفاً تعبّدياً عن رأي المعصوم صلى الله عليه و آله ودليلاً على حدة، لو لم تكن هناك قرينة على استنادهم إلى النصوص المزبورة. ولكن لا يبعد دعوى انصرافها إلى الوقف؛ نظراً إلى شهادة سياقها الظاهر في كون المال

********

(1) - وسائل الشيعة 209:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 13، الحديث 1.

(2) - جواهر الكلام 127:28.

ص: 615

(مسألة 3): تحلّ صدقة الهاشمي لمثله ولغيره مطلقاً (1)؛ حتّى الزكاة المفروضة والفطرة. وأمّا صدقة غير الهاشمي للهاشمي فتحلّ في المندوبة، وتحرم في الزكاة المفروضة والفطرة، وأمّا غيرهما من المفروضات كالمظالم والكفّارات ونحوهما فالظاهر أنّها كالمندوبة؛ وإن كان الأحوط عدم إعطائهم لها وتنزّههم عنها.

المتصدّق به قابلاً للحبس والبقاء إلى بلوغ الصغار، مع أنّ الولد الصغير واجب النفقة ولا وجه لإعطاءِ الصدقة المستحبّة من غير الوقف في موارد وجوب الإنفاق. اللهمّ إلّا بالمقدار الزائد عن حدّ الإنفاق الواجب، ولكنّ المعهود المتعارف بين المتشرّعة هو الوقف على الأولاد كما ورد في نصوص باب الوقف. وهذه المعهودية والارتكاز الناشئ من هذه النصوص قرينة صارفة عن إرادة غير الوقف من الصدقات المستحبّة. وعليه فعمدة الدليل في المقام هو اتّفاق الأصحاب.

هذا، ولكن يستفاد من مرسل علي بن إسماعيل عدم اعتبار القبض في منع الرجوع؛ فإنّه روى عمّن ذكره، عن أبي عبداللّه عليه السلام في الرجل يُخرج الصدقة يريد أن يعطيها السائل، فلا يجده؟ قال: «فليعطها غيرَه ولا يردّها في ماله»(1)؛ حيث دلّ على منع الرجوع في الصدقة بمجرّد إخراجها وقبل إقباضها.

ولكنّه - مضافاً إلى ضعف سنده بالإرسال - قد أعرض عنه الأصحاب؛ نظراً إلى إجماع التذكرة. وكيف كان فلا خلاف في المسألة.

1 - يقع الكلام هاهنا في أربع مسائل:

الاُولى: في جواز صدقة الهاشمي للهاشمي ولغيره مطلقاً.

********

(1) - وسائل الشيعة 206:19، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 11، الحديث 6.

ص: 616

الثانية: في جواز صدقة غير الهاشمي للهاشمي في المندوبة.

الثالثة: في حرمة أخذ الهاشمي الصدقة المفروضة من غير الهاشمي.

الرابعة: حكم المظالم والكفّارات.

جواز صدقة الهاشمي للهاشمي ولغيره

لا خلاف في جواز صدقة الهاشمي للهاشمي مطلقاً واجبة كانت أو مندوبة، بل ذلك مورد إجماع الفقهاء، كما قال في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه»(1). إلّاأنّه ليس إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم؛ لما دلّ على ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة.

وقد دلّت عليه النصوص المستفيضة:

منها: موثّق زرارة عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: قلت له: صدقات بني هاشم بعضهم على بعض تحلّ لهم؟ فقال عليه السلام: «نعم»(2).

ومنها: صحيح البزنطي عن الرضا عليه السلام قال: سألته عن الصدقة تحِلّ لبني هاشم؟ فقال عليه السلام: «لا، ولكن صدقات بعضهم على بعض تحلّ لهم»(3).

ومنها: صحيح إسماعيل بن الفضل الهاشمي، قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الصدقة التي حرّمت على بني هاشم ما هي؟ فقال عليه السلام «هي الزكاة»، قلت: فتحلّ صدقة بعضهم على بعض؟ قال عليه السلام: «نعم»(4).

********

(1) - جواهر الكلام 408:15.

(2) - وسائل الشيعة 275:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 32، الحديث 6.

(3) - وسائل الشيعة 276:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 32، الحديث 8.

(4) - وسائل الشيعة 274:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 32، الحديث 5.

ص: 617

ومنها: خبر جميل بن درّاج عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: سألته هل تحلّ لبني هاشم الصدقة؟ قال: «لا»، قلت: تحلّ لمواليهم؟ قال: «تحلّ لمواليهم، ولا تحلّ لهم إلّاصدقات بعضهم على بعض»(1).

ومنها: خبر زيد الشحّام عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: سألته عن الصدقة التي حرّمت عليهم، فقال: «هي الزكاة المفروضة ولم يحرّم علينا صدقة بعضنا على بعض»(2).

ومنها: صحيح الحلبي عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: «إنّ فاطمة عليها السلام جعلت صدقاتها لبني هاشم وبني عبدالمطّلب»(3).

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة(4).

جواز أخذ الصدقة المندوبة للهاشمي من غيره

لا خلاف في جواز أخذ الصدقة المندوبة للهاشمي من غيره، بل عليه الإجماع المستفيض، كما قال في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه بيننا كما اعترف به غير واحد، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكيّ منه صريحاً وظاهراً فوق الاستفاضة»(5).

ونظيره عن الشهيد؛ حيث قال: «واعلم أنّه لا خلاف في إباحة المندوبة لمن عدا النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام منهم»(6) ولكن ليس الإجماع في المقام كاشفاً تعبّدياً عن

********

(1) - وسائل الشيعة 278:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 34، الحديث 4.

(2) - وسائل الشيعة 274:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 32، الحديث 4.

(3) - وسائل الشيعة 273:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 32، الحديث 1.

(4) - راجع: وسائل الشيعة 273:9، كتاب الزكاة، الباب 32.

(5) - جواهر الكلام 413:15.

(6) - مسالك الأفهام 410:5.

ص: 618

رأي المعصوم بعد دلالة النصوص المتظافرة على ذلك.

فالعمدة في الدليلية هي النصوص:

فمن هذه النصوص: صحيح عبدالرحمان بن الحجّاج عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال: «لو حُرّمت علينا الصدقة لم يحلّ لنا أن نخرج إلى مكّة لأنّ كلّ ماء بين مكة والمدينة فهو صدقة»(1). ذيل كلامه عليه السلام قرينة على أنّ المراد بالصدقة في صدره، الصدقة المندوبة؛ لعدم كون الماءِ من الصدقة الواجبة، بل إنّه وقف بتبع وقف القنوات. والوقف من الصدقات المستحبّة.

ومنها: صحيح جعفر بن إبراهيم الهاشمي عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: قلت له:

أتحلّ الصدقة لبني هاشم؟ فقال: «إنّما الصدقة الواجبة على الناس لا تحلّ لنا، فأمّا غير ذلك فليس به بأس، ولو كان كذلك ما استطاعوا أن يخرجوا إلى مكّة، هذه المياه عامّتها صدقة»(2).

لا إشكال في سند هذه الرواية فإنّ جعفر بن إبراهيم الهاشمي هو جعفر بن محمّد بن علي الجعفري من وُلد جعفر الطيّار، كما حقّقه السيّد الخوئي. وقد عبّر في الحدائق عن هذا الخبر بالصحيحة(3).

ودلالة هذه الرواية على المطلوب صريحة وبقرينتها يتّضح وجه دلالة صحيح عبدالرحمان على المطلوب.

ومنها: ما دلّ على حصر الصدقة المحرّمة في المفروضة، مثل صحيح إسماعيل بن الفضل الهاشمي، قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الصدقة التي حرّمت على

********

(1) - وسائل الشيعة 272:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 31، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 272:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 31، الحديث 1.

(3) - الحدائق الناضرة 271:22.

ص: 619

بني هاشم ما هي؟ فقال عليه السلام: «هي الزكاة»(1).

وأظهر منه دلالةً خبر زيد الشحّام عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: سألته عن الصدقة التي حرّمت عليهم؟ فقال: «هي الزكاة المفروضة»(2).

وقد استدلّ بهذه النصوص صاحب الجواهر.

ومنها: ما دلّ على استحباب إنفاق المال على بني هاشم فإنّ إطلاقها يشمل الصدقات مطلقاً المندوبة والواجبة، وإنّما خرج من إطلاقها الصدقة المفروضة وهي الزكاة، فيجوز التصدّق عليهم مطلقاً حتّى الواجبة منها بالنذر والكفّارات والمظالم.

وقد استدلّ بهذه النصوص المحقّق الكركي(3) والشهيد الثاني(4).

فمن هذه النصوص معتبرة عيسى بن عبداللّه عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من صنع إلى أحد من أهل بيتي يداً، كافيته يوم القيامة»(5).

ومنها: مرسل محمّد بن خالد البرقي عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّي شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاءوا بذنوب أهل الدنيا: رجلٌ نصر ذُرّيتي ورجل بذل ماله لذرّيتي عند المضيق ورجلٌ أحبّ ذرّيتى باللسان وبالقلب ورجل يسعى في حوائج ذرّيتي إذا طردوا أو شُرِّدوا»(6).

وأمّا حرمة تناول الهاشمي الصدقة المفروضة من يد غير الهاشمي، فممّا

********

(1) - وسائل الشيعة 274:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 32، الحديث 5.

(2) - وسائل الشيعة 274:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 32، الحديث 4.

(3) - جامع المقاصد 131:9.

(4) - مسالك الأفهام 411:5.

(5) - الكافي 8/60:4.

(6) - الكافي 9/60:4.

ص: 620

لا خلاف فيه أيضاً بين الفقهاء بل بين المسلمين والنصوص الدالّة على ذلك متواترة، كما قال في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه بين المؤمنين بل وبين المسلمين، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكيّ منهما متواتر كالنصوص»(1).

وقد سبق آنفاً ذكر بعض هذه النصوص وما لم نذكره منها أكثر(2) ولا حاجة إلى ذكرها.

وأمّا المظالم والكفّارات، فقد عرفت وجه إلحاقها بالصدقة المندوبة، من أنّ إطلاق ما دلّ من النصوص الدالّة على استحباب إنفاق المال على بني هاشم يشمل مطلق الإنفاق - غير الزكاة الخارجة بالنصّ - فيشمل المظالم والكفّارات.

وأمّا احتياط السيّد الماتن استحباباً بقوله: «وإن كان الأحوط عدم إعطائهم لها وتنزّههم عنها»، فالوجه فيه ما دلّ من النصوص على أنّ اللّه تعالى إنّما حرّم عليهم الزكاة؛ تنزُّهاً منهم عن أوساخ الناس، كما ورد في صحيح محمّد بن مسلم وأبي بصير وزرارة كلّهم عن أبي جعفر وأبي عبداللّه عليهما السلام قالا: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ الصدقة أوساخ أيدي الناس؛ وإنّ اللّه قد حرّم عليّ منها ومن غيرها ما قد حرّمه.

وإنّ الصدقة لا تحلّ لبني عبدالمطّلب»(3).

ونظيره ما ورد في صحيح سليم بن قيس الهلالي قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام وذكر خطبة طويلة يقول فيها: «نحن واللّه عنى بذي القربى الذين قرننا اللّه بنفسه وبرسوله، فقال: (فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ) ، فينا خاصّة - إلى أن قال -: ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيباً، أكرم

********

(1) - جواهر الكلام 406:15.

(2) - راجع وسائل الشيعة 268:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 29.

(3) - وسائل الشيعة 268:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 29، الحديث 2.

ص: 621

اللّه رسوله وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس»(1).

فإنّ فيهما إشعاراً بتعليل تحريم الصدقة عليهم بأ نّها أوساخ أيدي الناس، فيكون نظير الوصف المشعر بالعلية. وهذه العلّة متحقّقة في المظالم والكفّارات؛ لأنّها أيضاً من أوساخ الناس. ولكن ليس له ظهورٌ في حدّ منصوص العلّة أو الملاك القطعي، حتّى يُتعدّى إلى المقام، مع قوّة احتمال كون ذلك من قبيل الحكمة، لا العلّة. ومن هنا يوجب الاحتياط الاستحبابي، كما حكم به السيّد الماتن قدس سره.

إن قلت: الصدقة المندوبة، أيضاً لا بدّ أن تكون من أوساخ الناس؛ لأنّها من سنخ الزكاة، من حيث اشتراكهما في جنس الصدقة.

قلت: في الزكاة خصوصية نحتمل دخلها في كونها من الأوساخ. وهي تطهير المال بها كما قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) (2)، وقد ورد في النصوص المفسّرة لهذه الآية أنّ المراد من الصدقة فيها هي الزكاة. ولم يرد هذا التعبير في المندوبة، بل نفس استحبابها يثبت لها فضلاً وشرفاً، فتكون نظير الهدية والهبة، إلّاأنّها بقصد القربة ولا يزيدها قصد القربة إلّاطهارة ونظافة ونورانية. وهذا بخلاف المظالم والكفّارات، فإنّها واجبات مالية نظير الزكاة في الخصوصية.

********

(1) - وسائل الشيعة 512:9، كتاب الخمس، أبواب قسمة الخمس، الباب 1، الحديث 7.

(2) - التوبة (9):103.

ص: 622

(مسألة 4): يعتبر في المتصدّق: البلوغ والعقل (1) وعدم الحجر لفلس أو سفه، فلا تصحّ صدقة الصبيّ حتّى من بلغ عشراً.

اعتبار البلوغ والعقل وعدم الحجر في المتصدِّق

1 - يقع الكلام في ثلاثة مواضع:

أمّا اعتبار البلوغ. والوجه فيه ما دلّ على رفع القلم عن الصبيّ حتّى يحتلم، وعدم ورود ما يدلّ على جواز تصرّفه في المال بالتصدّق حتّى للبالغ عشراً، كما ورد في الوصيّة، فلا قياس. وهذا بناءً على عدم مشروعية عبادات الصبيّ واضح.

وأمّا بناءً على مشروعية عباداته فأيضاً مشكل؛ لاستلزامه التصرّف في المال، وإنّما تشرع عباداته في غير موارد استلزام العبادة التصرّف في المال. فإنّ الصبيّ ممنوع ومحجور عن التصرّف في أمواله بدليل الكتاب والسنّة وعليه اتّفاق النصّ والفتوى. وقد بحثنا عن ذلك مفصّلاً في حكم الصبيّ من كتابنا «دليل تحرير الوسيلة».

وأمّا العقل فواضح؛ لعدم تمشّي قصد القربة من المجنون.

وأمّا المحجور؛ فلِعين ما تقدّم في الصبيّ؛ لأنّ جواز الصدقة مشروعيته فرع جواز التصرّف في المال المتصدَّق به.

كلّ ما قلناه إنّما هو بمقتضى القاعدة ولم أر من تعرّض لاشتراط هذه الاُمور بالخصوص في الصدقة.

ص: 623

(مسألة 5): لا يعتبر في المتصدّق عليه في الصدقة المندوبة الفقر ولا الإيمان ولا الإسلام (1)، فتجوز على الغنيّ وعلى الذمّي والمخالف وإن كانا أجنبيّين.

عدم اشتراط الفقر والإيمان والإسلام في المتصدّق عليه

1 - يقع الكلام هاهنا في ثلاثة امور:

عدم اشتراط الفقر. والوجه فيه إطلاق النهي عن ردّ السائل في قوله تعالى:

(وَ أَمَّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (1) ودلّت على ذلك عدّة نصوص معتبرة.

منها: صحيح ابن مسلم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «أعط السائل ولو كان على ظهر فرس»(2). ومثله في الدلالة عمومات النهي عن ردّ السائل(3).

وفي خبر منهال القصّاب قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام: «أعط الكبير والكبيرة والصغير والصغيرة ومن وقعت له في قلبك رأفة»(4).

مثله ما رواه الكليني بإسناده عن أبي عبداللّه عليه السلام: أنّه سئل عن السائل يسأل ولا يدرى ما هو؟ فقال: «أعط من وقعت له الرحمة في قلبك»، فقال: «أعط دون الدرهم»، قلت: أكثر ما يطعى؟ قال: «أربعة دوانيق»(5). و «دوانيق» جمع «دانق»

********

(1) - الضحى (93):10.

(2) - وسائل الشيعة 417:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 22، الحديث 1.

(3) - راجع: وسائل الشيعة 413:9-421، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 21 و 22.

(4) - وسائل الشيعة 415:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 21، الحديث 6.

(5) - وسائل الشيعة 414:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 21، الحديث 4.

ص: 624

بفتح النون وكسرها وهو سدس الدرهم. قاله في الصحاح.

وأمّا الأصحاب فلم أر من اعتبر الفقر في مشروعية الصدقة المندوبة، بل حكموا بجواز مجهول الحال ومن ظُنّ غناه كما عنون بذلك في الوسائل الباب الحادي والعشرين والثاني والعشرين من أبواب الصدقة.

هذا، ولكن ظاهر قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ) (1)، اشترط الفقر في مشروعية مطلق الصدقة وعدم مشروعيتها لغير الفقراء؛ حيث دلّ بمفهوم الحصر الداخل على الفقراء - الذي صيغة الجمع المحلّى باللام - على اشتراط الفقر في الصدقات بجميع أنحائها وأفرادها.

ولكنّ النصوص قد دلّت على كون المراد من الصدقات في الآية الزكاة، مع أنّ سياقها لا يخلو من دلالة على ذلك؛ نظراً إلى ذكر مصارف الزكاة لها بإدخال لام الاختصاص عليها.

وعلى أيّ حالٍ لم أر من اعتبر الفقر في استحباب الصدقة المندوبة، ولكن لا ينبغي ترك الاحتياط بالاقتصار على الفقراء؛ عملاً بعموم الآية وارتكاز المتشرّعة وجريان السيرة. وأمّا النصوص، فإنّ ذكر الزكاة فيها من قبيل المصداق، وإن كان سائر المصارف المذكورة فيها - في عِدل الفقراء - تعطي الظهور في الزكاة.

وأمّا السائل فلا يعتبر فيه الفقر كما عرفت من النصّ والفتوى، والكلام إنّما في غير السائل.

وأمّا الإيمان، فالمشهور عدم اشتراطه. كما يظهر من صاحب الحدائق؛ حيث قال: «وهذا هو المشهور ونقل في الدروس عن الحسن بن أبي عقيل المنع

********

(1) - التوبة (9):60.

ص: 625

من الصدقة على غير المؤمن مطلقاً»(1).

ولكنّ الروايات تدلّ على نفي اشتراط الإيمان في الصدقة، ويستفاد من هذه النصوص عدم جواز التصدّق على الناصبي وأهل البدعة.

فمن هذه النصوص حسنة سدير الصيرفي قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: اطعم سائلاً لا أعرفه مسلماً؟ قال: «نعم أعط من لا تعرفه بولاية ولا عداوة للحقّ، إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: (وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً) (2)، ولا تطعم من نصب لشيء من الحقّ أو دعا إلى شيء من الباطل»(3).

وجه الدلالة ظهوره في أخذ عداوة الحقّ والنصب في منع الزكاة لا مجرّد عدم الإيمان بالولاية.

ويمكن تقريب الاستدلال بها على المطلوب بوجهين:

أحدهما: مفهوم التحديد؛ إذ الإمام عليه السلام في مقام تحديد من يستحقّ الصدقة، وقد حكم بعدم استحقاق من عُرف عداوته ونصبه للحقّ أو كونه من أهل البدعة والدعوة إلى الباطل، ولم يذكر منهم من لم يؤمن بالولاية.

ثانيهما: ترك الاستفصال من حيث الولاية في جواب السائل، مع تعرُّضه للاستفصال من جهة النصب وعداوة الحقّ. وترك الاستفصال ظاهرٌ في الإطلاق.

وصحيح محمّد بن علي بن عيسى قال: كتبت إليه؛ يعني علي بن محمّد الهادي عليه السلام أسأله عن المساكين الذين يقعدون في الطرقات من الجزائر والسايسين

********

(1) - الحدائق الناضرة 271:22.

(2) - البقرة (2):83.

(3) - وسائل الشيعة 414:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 21، الحديث 3.

ص: 626

وغيرهم، هل يجوز التصدّق عليهم قبل أن أعرف مذهبهم؟ فأجاب: «من تصدّق على ناصب فصدقته عليه لا له، لكن على من لا يعرف مذهبه وحاله فذلك أفضل وأكبر ومن بعد فمن ترقّقت عليه ورحمته ولم يمكن استعلام ما هو عليه لم يكن بالتصدّق عليه بأس إن شاء اللّه»(1). قوله «السايسين» جمع السايس؛ أي راعي الأحشام. وقوله: «من الجزائر من أهل الجزائر، وهي جزائر أطراف الخليج الفارسي».

وجه الدلالة: تركيز الإمام المنع على النصب بشرط إحرازه؛ بقرينة تجويزه التصدّق على من لا يُعرف مذهبه. ولم يتعرّض لاشتراط الإيمان بالولاية مع كونه في مقام البيان واحتمال التقيّة في هاتين الروايتين منفيٌّ؛ نظراً إلى تصريح الإمام عليه السلام بمنع التصدّق على الناصبي.

وصحيح الثمالي في حديث: أنّه سمع علي بن الحسين عليه السلام يقول لمولاة له: «لا يعبر على بابي سائل إلّاأطعمتموه فإنّ اليوم يوم الجمعة»، قلت له: ليس كلّ من يسأل مستحقّاً، فقال: «يا ثابت أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقّاً فلا نطعمه ونردّه فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب وآله، أطعموهم»(2).

وأيضاً يدلّ على ذلك بعض ما تقدّم من النصوص آنفاً.

وأمّا عدم اشتراط الإسلام، ففي الحدائق(3) والجواهر(4): أنّه المشهور. ويصلح للاستدلال لذلك كلّ ما سبق الاستدلال به لجواز الوقف على الذمّي، كقوله تعالى:

********

(1) - وسائل الشيعة 416:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 21، الحديث 8.

(2) - وسائل الشيعة 416:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 21، الحديث 9.

(3) - الحدائق الناضرة 271:22.

(4) - جواهر الكلام 130:28.

ص: 627

(لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (1) .

ويمكن الاستدلال لذلك - مضافاً إلى صحيحة الثمالي المزبورة - ببعض النصوص كموثّقة ضريس بن عبدالملك عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ اللّه تبارك وتعالى يحبّ إبراد الكبد الحرّى، ومن سقى كبداً حرّى، من بهيمة وغيرها، أظلّه اللّه يوم لا ظلّ إلّاظلّه»(2).

وصحيح عمر بن أبي نصر، قال: «قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: إنّ أهل البوادي يقتحمون علينا وفيهم اليهود والنصارى والمجوس فنتصدّق عليهم؟ قال عليه السلام:

«نعم»(3).

وموثّق إسحاق بن عمّار عن جعفر عليه السلام عن أبيه عليه السلام: «إنّ عليّاً عليه السلام كان يقول:

لا يذبح نسككم إلّاأهل ملّتكم، ولا تصدّقوا بشيء من نسككم إلّاعلى المسلمين، وتصدّقوا بما سواه غير الزكاة على أهل الذمّة»(4). قوله عليه السلام: «بما سواه غير الزكاة»؛ أي بما سوى التصدّق بشيءٍ من النُسُك فتصدّقوا به على الذمّي، إلّاالزكاة.

والمراد من النسك ظاهراً، الهدي في الحجّ. وذلك بقرينة قوله: «ولا يذبح نسككم»؛ لعدم قابلية غيره للذبح، كما هو المراد في قوله تعالى: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (5)؛ بقرينة المقابلة مع الصيام والصدقة.

********

(1) - الممتحنة (60):8.

(2) - وسائل الشيعة 409:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 19، الحديث 2.

(3) - وسائل الشيعة 415:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 21، الحديث 7.

(4) - وسائل الشيعة 410:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 19، الحديث 6.

(5) - البقرة (2):196.

ص: 628

نعم، لا تجوز على الناصب ولا على الحربي وإن كانا قريبين (1).

(مسألة 6): الصدقة سرّاً أفضل (2)، فقد ورد: «أنّ صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار،

ويدلّ على ذلك أيضاً إطلاق بعض النصوص السابق ذكره آنفاً.

1 - أمّا الكافر الحربي فلما سبق في وجه حرمة الوقف عليه من الآيات الدالّة على حرمة الموادّة مع الكفّار، وأمّا الناصب فالوجه في حرمة الصدقة عليه النصّ، كقول الإمام الهادي عليه السلام: «من تصدّق على ناصب فصدقته عليه لا له»(1) في صحيح محمّد بن علي بن عيسى.

وممّا يدلّ على ذلك صحيح عمر بن يزيد قال: سألته عن الصدقة على النصّاب وعلى الزيدية؛ فقال: «لا تصدّق عليهم بشيء ولا تسقهم من الماء إن استطعت» وقال: الزيدية هم النصّاب كما أشار إليه في الوسائل(2) في ذيل هذا الحديث.

أفضلية إخفاء الصدقة المندوبة وإظهار الواجبة

2 - أمّا أفضلية إخفاء الصدقة المندوبة، فلا خلاف فيه كما قال في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه»(3)، بل في المسالك(4) أنّه موضع وفاق. ودلّ عليه قوله تعالى:

(وَ إِنْ

********

(1) - وسائل الشيعة 416:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 21، الحديث 8.

(2) - وسائل الشيعة 414:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 21، الحديث 2.

(3) - جواهر الكلام 130:28.

(4) - مسالك الأفهام 413:5.

ص: 629

تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (1) . فإنّ قوله: (خَيْرٌ لَكُمْ) أي أخير لكم من أن تؤتوها مُعلناً. وذلك لأنّ الصدقة العلانية بعد مشروعيتها وجوازها لا إشكال في كونها خيراً حسنةً ومندوبة، كما دلّ عليه قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ...) وما قلناه هو مقتضى الجمع بين هاتين الآيتين.

والمرويّ عن النبي صلى الله عليه و آله: «صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ وتطفئُ الخطيئة كما يطفئُ الماءُ النار وتدفع سبعين باباً من البلاء»(2).

وموثّقة عمّار الساباطي قال: قال لي أبو عبداللّه عليه السلام: «يا عمّار الصدقة، واللّه في السرّ أفضل من الصدقة في العلانية، وكذلك واللّه العبادة في السرّ أفضل منها في العلانية»(3).

وما رواه الصدوق بقوله: كان أمير المؤمنين يقول: «إنّ أفضل ما يتوسّل به المتوسّلون الإيمان باللّه... وصدقة السرّ؛ فإنّها تطفئ الخطيئة وتطفئ غضب اللّه عزّ وجلّ...»(4) إلى غير ذلك من النصوص.

وأمّا استحباب إظهار الصدقة المفروضة، فهو المشهور، كما قال في الحدائق(5)وهو مقتضى التحقيق لدلالة النصوص.

كصحيح أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ

********

(1) - البقرة (2):271.

(2) - وسائل الشيعة 398:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 13، الحديث 10.

(3) - وسائل الشيعة 395:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 13، الحديث 3.

(4) - وسائل الشيعة 396:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 13، الحديث 4.

(5) - الحدائق الناضرة 274:22.

ص: 630

وتدفع سبعين باباً من البلاء». نعم، لو اتّهم بترك المواساة فأراد دفع التهمة عن نفسه، أو قصد اقتداء غيره به، لا بأس بالإجهار بها ولم يتأكّد إخفاؤها. هذا في المندوبة. وأمّا الواجبة فالأفضل إظهارها مطلقاً.

(مسألة 7): يستحبّ المساعدة والتوسّط في إيصال الصدقة (1)، فعن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في خطبة له: «ومن تصدّق بصدقة عن رجل إلى مسكين كان له مثل أجره، ولو تداولها أربعون ألف إنسان، ثمّ وصلت إلى المسكين، كان لهم أجر كامل، وما عند اللّه خير وأبقى للذين اتّقوا وأحسنوا لو كنتم تعلمون».

وَ الْمَساكِينِ...) - إلى أن قال - «وكلّما فرض اللّه عليك فإعلانه أفضل من إسراره، وكلّما كان تطوّعاً فإسراره أفضل من إعلانه، ولو أنّ رجلاً يحمل زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانية كان ذلك حسناً جميلاً»(1).

وموثّق إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللّه عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ: (وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ، فقال: «هي سوى الزكاة، إنّ الزكاة علانية غير سرٍّ»(2) وأيضاً دلّت على ذلك نصوص اخرى مستفيضة(3).

استحباب الوساطة في إيصال الصدقة

1 - جعل في الوسائل متن المسألة عنوان الباب السادس والعشرين من أبواب الصدقة بقوله: «باب استحباب المساعدة على إيصال الصدقة والمعروف إلى

********

(1) - وسائل الشيعة 309:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 54، الحديث 1.

(2) - وسائل الشيعة 310:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 54، الحديث 2.

(3) - راجع: وسائل الشيعة 309:9، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، الباب 54.

ص: 631

(مسألة 8): يكره كراهة شديدة أن يتملّك من الفقير ما تصدّق به (1) بشراء أو اتّهاب أو بسبب آخر، بل قيل بحرمته. نعم، لا بأس بأن يرجع إليه بالميراث.

المستحقّ».

والرواية المذكورة في المتن نقلها في الوسائل عن عقاب الأعمال(1). وقد روى في الوسائل روايات اخرى معتبرة دالّة على ذلك.

1 - لا خلاف في ذلك بلا فرق بين الصدقة الواجبة والمندوبة، كما صرّح به في الجواهر بقوله: «يكره أن يُملَك ما أخرجه في الصدقة اختياراً - واجبة كانت أو مندوبة - بلا خلاف أجده فيه كما عن المنتهى الاعتراف به، بل في المدارك الإجماع عليه وهو الحجّة»(2) وفي الحديث أنّ في الزكاة المفروضة صاحبها أحقّ بتملّكها؛ لقوله عليه السلام: «فإن أرادها صاحبها فهو أحقّ بها»(3). والمراد من الأحقّية إنّما هي بالنسبة إلى غيره، وإن كان في نفسه مكروهاً مرجوحاً، ولا منافاة، كما هو واضح.

ولا إشكال في أنّ مقصودهم تملّك الصدقة بسبب شرعي، من شراءٍ أو اتّهاب ونحوه، وإلّا فلا إشكال ولا كلام في حرمته.

وأمّا الرجوع إليه بالميراث، فليس من قبيل التملّك المقصود من معقد الإجماع، فهو خارج عنه.

********

(1) - وسائل الشيعة 426:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 26، الحديث 3.

(2) - جواهر الكلام 455:15.

(3) - وسائل الشيعة 131:9، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الأنعام، الباب 14، الحديث 3.

ص: 632

(مسألة 9): يكره ردّ السائل ولو ظنّ غناه (1)، بل يعطي ولو شيئاً يسيراً.

(مسألة 10): يكره كراهة شديدة السؤال من غير احتياج، بل مع الحاجة أيضاً، بل قيل بحرمة الأوّل، ولا ينبغي ترك الاحتياط، وقد ورد فيه الإزعاج الأكيد، ففي الخبر: «من سأل الناس وعنده قوت ثلاثة أيّام، لقي اللّه يوم القيامة وليس على وجهه (2) لحم».

كراهة ردّ السائل وأشدّية كراهة السؤال من غير احتياج

1 - جعله في الوسائل عنوان الباب الثاني والعشرين من أبواب الصدقة، فراجع نصوصها، وقد سبق ذكر بعضها في توجيه عدم اشتراط الفقر.

2 - جعل في الوسائل مضمون هذه المسألة عنوان الباب الأحد والثلاثين من أبواب الصدقة. ولكنّه أفتى بحرمة السؤال من غير احتياج.

والرواية المشار إليها في المتن رواها الصدوق في عقاب الأعمال بإسناده عن عنبسة بن مصعب عن أبي عبداللّه عليه السلام(1) وهي ضعيفة كما أنّ أكثر روايات الباب بل كلّ ما دلّ بظاهره على الحرمة ضعيفة، هذا مضافاً إلى مطلقات الجواز، مع أنّ المعروف بين الأصحاب عدم الحرمة.

هذا تمام الكلام في الصدقة. وقد تمّ بعون اللّه ولطفه كتاب السكنى وأخواتها والصدقة، في ليلة الأربعاء، الحادية عشر من محرّم الحرام، سنة 1428 ه ق. الحمد للّه أوّلاً وآخراً وصلواته على محمّد وآله سرمداً.

العبد الخجلان من ساحة ربّه الغفّار علي أكبر السيفي المازندراني.

********

(1) - وسائل الشيعة 437:9، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 31، الحديث 5.

ص: 633

ص: 634

فهرس المحتويات

مقدّمة الناشر 5

مقدّمة المؤلّف 7

كتاب الوقف وأخواته

تعريف الوقف 13

أنّ الوقف من العقود 15

لزوم عقد الوقف 19

فضل الوقف وثوابه 23

صيغة الوقف 25

عدم اعتبار لفظ خاصّ في صيغة الوقف 30

اعتبار قصد عنوان المسجدية في وقف المسجد 34

كفاية المعاطاة في الوقف على المصالح العامّة 35

عدم كفاية المعاطاة في وقف البناء المملوك مسجداً 39

جريان الوكالة والفضولية في الوقف 40

عدم اعتبار القبول في الوقف العامّ 43

كلام المحقّق الكركي ونقده 43

كلام الشهيد الثاني 46

ص: 635

كلام صاحب الجواهر 46

كلام صاحب العروة 48

مقتضى التحقيق في المقام 52

القبول في الوقف الخاصّ 57

من يعتبر قبوله في الوقف 61

قصد القربة في الوقف 62

بيان الاستدلال لاعتبار قصد القربة 63

كلام صاحب الجواهر وردّه 66

استدلال القائلين بعدم اعتبار قصد القربة 71

اشتراط القبض في صحّة الوقف 75

تحرير كلام صاحب الجواهر 76

الوقف عقد لازم لا يقبل الفسخ 84

القبض شرط في صحّة الوقف 87

كفاية قبض الطبقة الاُولى في الوقف الخاصّ 92

من يعتبر قبضه في الوقف العامّ 95

كيفية القبض إذا وقف على عنوان مصلحة 104

عدم كفاية مجرّد استيفاء المنفعة في القبض 106

كفاية صلاة واحدة أو دفن ميّت في وقف المسجد والمقبرة 107

حكم القبض فيما لو أوقف على أولاده الصغار 110

عدم احتياج تجديد قبض ما بيد الموقوف عليه 114

عدم الحاجة إلى قبض جديد لو جعل الواقف التولية لنفسه 116

عدم اعتبار الفورية في قبض الوقف 117

بطلان الوقف بموت الواقف قبل القبض 118

ص: 636

اشتراط الدوام في الوقف 122

حصيلة 131

صحّة الوقف الموقّت بقصد التحبيس 132

حكم الوقف على من ينقرض غالباً 141

رجوع المال الموقوف إلى الواقف بعد انقراض الموقوف عليهم 154

حول زوال ملك الواقف بالوقف 156

انتقال المال الموقوف إلى الموقوف عليه 164

حكم ما لو انقرض الموقوف عليه بعد موت الواقف 171

من يرجع إليه الموقوف بعد انقراض الموقوف عليه 172

الأقوال في محلّ النزاع ثلاثة 175

من يرجع إليه الموقوف من ورثة الواقف 181

صحّة الوقف المنقطع الآخر 184

حكم الوقف المنقطع الأوّل 185

حكم الوقف المنقطع إن كان بجعل الواقف 185

حكم الوقف المنقطع إن كان بحكم الشرع 189

حكم اشتراط الواقف عود الوقف إليه 198

الاستدلال على الصحّة الوقف 199

الاستدلال على البطلان الوقف 208

كلام محقّق القمي في المقام 215

اعتبار التنجيز في الوقف 218

حكم ما لو قال: هذا وقف بعد موتي 229

اعتبار إخراج الواقف نفسه عن الوقف 230

حكم ما لو وقف على نفسه وغيره 238

ص: 637

اعتبار عدم اشتراط الواقف نفعاً لنفسه 242

صحّة الوقف مع عدم رجوع شرط الواقف إلى الوقف لنفسه 246

حكم ما لو رجع الشرط على الموقوف عليهم 250

جواز اشتراط أكل أضيافه أو إدرار مؤونة أهله 253

صحّة وقف العين المستأجرة 257

جواز انتفاع الواقف بالأوقاف على الجهة العامّة 259

حكم ما إذا كان الواقف داخلاً في عنوان الموقوف عليه 261

شرائط الواقف 265

وقف الصبيّ البالغ عشراً 265

صحّة وصيّة الصبيّ البالغ عشراً بالوقف 271

حول اعتبار إسلام الواقف 272

شرائط الموقوف 276

حول اشتراط كون الموقوف عيناً 277

حول اشتراط كون الموقوف ملكاً للواقف 282

حول اشتراط كون المنفعة المقصودة من الموقوف منفعة محلّلة 285

حول اشتراط كون الموقوف معيّناً 286

حول اشتراط إمكان تسليم الموقوف 289

عدم اشتراط الانتفاع الفعلي في الموقوف 292

أعمّية المنفعة المقصودة في الوقف 293

شرائط الموقوف عليه 295

حول الوقف على آحاد المعصومين عليهم السلام 295

اشتراط وجود الموقوف عليه حين الوقف في الوقف الخاصّ 296

عدم اعتبار وجود مصداق الموقوف عليه حين الوقف 302

ص: 638

اشتراط تعيين الموقوف عليه 304

حكم الوقف على الذمّي والمرتدّ 309

بطلان الوقف على الجهات المحرّمة 324

حكم وقف الكافر على الجهات المحرّمة 326

تعيين مراد الواقف من عنوان الوقف 327

حكم ما لو وقف على الفقراء 327

حكم الاستيعاب في صرف الوقف 335

حكم الاقتصار على الحاضرين في الصرف 339

منصرف الوقف على المسلمين والمؤمنين 341

الوقف في سبيل اللّه ووجوه البرّ 347

الوقف على أرحامه أو أقاربه 349

اشتراك الذكر والاُنثى والخنثى في الوقف على الأولاد 350

حكم ما وقفت على أولادي نسلاً بعد نسل 353

حكم ما إذا تردّد الوقف على الذرّية بين الترتيب والتشريك 354

عدم صدق الأولاد على أولاد الإناث في الوقف 356

تبعية كيفية الترتيب لنيّة الواقف 358

حكم ما لو قال: وقفت على أولادي طبقة بعد طبقة 359

منصرف الوقف على العلماء 361

حكم ما لو وقف على أهل مشهد 363

حكم ما لو وقف على المشتغلين في مشهد 364

حكم ما لو وقف على مسجدٍ 365

حكم ما لو وقف على ميّت 366

حكم ما لو وقف على الجيران 367

ص: 639

حكم ما لو وقف على أحد الأئمّة عليهم السلام 371

أحكام الوقف 374

اشتراط الواقف إخراج من يريده أو إدخاله 375

بطلان الوقف باشتراط الخيار 390

حكم ما لو علم وقفية شيءٍ ولم يعلم مصرفه 391

ملكية المنافع المتجدّدة للموقوف عليهم 396

جواز تخصيص الوقف ببعض المنافع للموقوف عليهم 402

حكم ما لو انتفت المصلحة الموقوف عليها 408

حكم ما لوخرب المسجد أو القرية التي هو فيها 414

وقف المنفعة ووقف الانتفاع 417

كيفية انتفاع الموقوف عليهم من منافع الوقف 419

حكم وقف النمائات الموجودة حال الوقف 421

مقتضى إطلاق الوقف على الأولاد وأولاد الأولاد 423

إفادة الترتيب بين الأولاد وأولاد الأولاد 428

حكم ملكية العين الموقوفة 429

عدم جواز تغيير عنوان الوقف ومورد استثنائه 441

حكم ما لو خرب الوقف وزال عنوانه 445

حكم ما لو احتاج الوقف إلى التعمير 448

بيع الوقف ومستثنياته 451

عدم جواز بيع الأوقاف العامّة مطلقاً 451

حكم إجارة الأوقاف العامّة 460

حكم غصب الموقوف على الجهة 462

عدم جواز بيع الأوقاف، إلّالبعض العوارض 464

ص: 640

مستثنيات عدم جواز بيع الوقف 470

الأوّل: إذا توقّف الانتفاع على البيع 470

الثاني: إذا سقط عن الانتفاع المعتدّبه 476

الثالث: إذا شرط الواقف بيع الوقف عند عروض مانع 477

الرابع: إذا وقع الاختلاف الشديد بين الموقوف عليهم 481

جواز إجارة وقف المنفعة دون وقف الانتفاع 492

حكم ما لو خرب بعض الوقف واحتاج بعضه إلى التعمير 494

جواز إفراز الوقف عن الملك الطلق 495

حكم قسمة الوقف 498

حكم إجارة الوقف الخاصّ 505

تولية الوقف ونظارته 513

عدم جواز جعل التولية بعد الوقف للواقف 515

عدم اعتبار عدالة المتولّي 516

شرائط المتولّي 520

حكم قبول التولية وعزل المتولّي نفسه 521

تبعية استقلال المتولّي وعدمه لجعل الواقف 525

إعطاءُ الضابطة في تعيين وظيفة المتولّي 527

حكم اجرة المتولّي 529

عدم جواز تفويض المتولّي التولية إلى غيره 531

جواز جعل الناظر على المتولّي 534

حكم ما لو لم يعيّن الواقف متولّياً 536

تولية عدول المؤمنين مع فقد الحاكم 538

حكم الاقتراض لتعمير الوقف 541

ص: 641

ما تثبت به الوقفية ولواحقها 543

حكم ما لو أقرّ بالوقف ثمّ ادّعى كونه لمصلحة 544

حكم ما لو عُلِم كون ملكٍ وقفاً سابقاً 546

حكم ما كتب عليه أنّه وقف 549

عدم ثبوت الوقفية بخطّ الميّت 550

حكم الزكاة في العين الموقوفة ونمائها 551

خاتمة

القول: في الحبس وأخواته 558

تعريف الحبس 558

عدم جواز الرجوع وعدم الوراثة في الحبس للّه 561

حكم الحبس على الآدمي 565

السكنى والعمرى والرقبى 571

تفتقر في صحّة الثلاثة إلى إيجاب وقبول 574

اشتراط القبض في الثلاثة 575

لزوم العقود الثلاثة المزبورة 576

عدم خروج العين عن الملك في الثلاثة 585

تبعية أمد الثلاثة للمدّة المقرّرة 591

مقتضى العقود الثلاثة من جهة تمليك المنفعة أو الانتفاع 595

صحّة العُمرى والرُقبى في كلّ ما يصحّ وقفه 600

القول: في الصدقة 603

تعريف الصدقة 603

تحقيق نصوص الصدقة المندوبة 605

اعتبار قصد القربة في الصدقة 608

ص: 642

اعتبار القبض في الصدقة 611

عدم جواز الرجوع في الصدقة بعد القبض 611

جواز صدقة الهاشمي للهاشمي ولغيره 617

جواز أخذ الصدقة المندوبة للهاشمي من غيره 618

اعتبار البلوغ والعقل وعدم الحجر في المتصدِّق 623

عدم اشتراط الفقر والإيمان والإسلام في المتصدّق عليه 624

أفضلية إخفاء الصدقة المندوبة وإظهار الواجبة 629

استحباب الوساطة في إيصال الصدقة 631

كراهة ردّ السائل وأشدّية كراهة السؤال من غير احتياج 633

ص: 643

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.