دلیل تحریر الوسیله للامام الخمینی : ولایه الفقیه و ما یتعلق بها

اشارة

سرشناسه:سیفی، علی اکبر

عنوان و نام پديدآور:دلیل تحریر الوسیله للامام الخمینی: ولایه الفقیه و ما یتعلق بها/ تالیف علی اکبر السیفی المازندرانی

مشخصات نشر:تهران: موسسه تنظیم و نشر تراث الامام الخمینی(س)، 1422ق. = 1380.

مشخصات ظاهری:ص 303

شابک:964-335-507-1 : 10000ریال

يادداشت:عربی

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

عنوان دیگر:تحریر الوسیله. برگزیده . شرح

عنوان دیگر:ولایه الفقیه

موضوع:خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368. تحریر الوسیله -- نقد و تفسیر

فقه جعفری -- رساله عملیه

ولایت فقیه

شناسه افزوده:خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368. تحریر الوسیله. برگزیده .شرح

شناسه افزوده:موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی(س)

رده بندی کنگره:BP183/9/خ 8ت 30234578 1380

رده بندی دیویی:297/3422

شماره کتابشناسی ملی:م 80-27300

ص: 1

اشارة

ص: 2

شكر و تقدير

نتقدّم بجزيل الشكر و التقدير إلى الإخوة الأجلّاء الذين ساهموا في إنجاز هذا الأثر:

المساعدون في التحقيق: إبراهيم طاهري كيا، محمود أيوبي.

المقابلة: حجة اللّه أخضري.

صف الحروف و الإخراج الفنّي: فلاح المظفر.

ص: 3

ص: 4

مقدّمة الناشر

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إنّ «تحرير الوسيلة» هو خير وسيلة يبتغيها المكلّف في سيره و سلوكه، و هو أوثقها عُرى، و أصلحها منهاجاً؛ لِما امتاز به من سداد في تحديد الموقف العمليّ، و إصابة في تشخيص الوظائف المُلقاة على عاتق المكلّفين، و ذلك على ضوء الدليلين: الاجتهاديّ و الفقاهتيّ، النابعين من الكتاب و السنّة. ناهيك عن جمعه للمسائل العمليّة، و نأيه عن المسائل ذات الصبغة النظريّة التي لا تمسّ إلى واقعنا المُعاش بصلة.

و لئن كتب الشهيد الأوّل قدّس اللّه نفسه الزكيّة كتاب «اللّمعة الدمشقيّة» و هو سجين، فإنّ إمامنا العظيم نوّر اللّه ضريحه قد ألّف هذا الكتاب حينما كان منفيّاً في مدينة بورسا التركيّة من قبل الطاغوت الغاشم، و لم يكن بحوزته إلّا «وسيلة النجاة» و «العروة الوثقى» و «وسائل الشيعة».

نعم لم تكن بيده المباركة إلّا هذه الكتب الثلاثة، و لكنّ نفسه العلويّة لو لم تكن خزانة للعلوم الحقّة، و فؤاده مهبطاً للإلهام و التحديث، لامتنع وجود هذا السفر الخالد في تلك الظروف العصيبة.

و نظراً إلى أهمّية هذا الكتاب، و ضرورة نشره على مختلف المستويات

ص: 5

و الأصعدة؛ لذا فقد أخذت مؤسّسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني (قدّس سرّه) على عاتقها نشر شروح و تعاليق العلماء المحقّقين على «تحرير الوسيلة» و من نفقتها الخاصّة.

و يعدّ الكتاب الذي بين يديك، واحداً من هذه السلسلة الضخمة التي تروم مؤسّستنا طبعها، و هو شرح لمباحث ولاية الفقيه، و منصب القضاء و الحكومة و الإفتاء للمرأة، و ثبوت الهلال بحكم الحاكم و أولياء الصغار، و الرشوة إلى الولاة و العمّال و القضاة من «التحرير»، تأليف الشيخ علي أكبر السيفي المازندراني دام بقائه.

نسأل اللّه تعالى أن يوفّقه و إيّانا و أن يختم لنا جميعاً بالحسنى إنّه سميع الدعاء.

مؤسّسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني (قدّس سرّه) فرع قم المقدّسة

ص: 6

مقدّمة المؤلّف

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة على محمّد عبده و رسوله المصطفى، و السلام على آل بيته الطاهرين المعصومين.

أمّا بعد؛ فلا يخفى على القرّاء الكرام أنّ تحرير الوسيلة من أحسن المتون الفتوائية الجامعة لأهمّ المسائل الفقهية، و لا سيّما أنّ مؤلّفه الإمام الراحل، و هو مؤسّس هذا النظام الإسلامي المقدّس، قد تعرّض في هذا الكتاب إلى مسائل فقهية مهمّة ملائمة لمقتضيات العصر الحاضر على أساس ذوقه الفقهي السليم.

و أظنّ أنّ بالبحث و التحقيق حول هذه المسائل يحدث في الحوزات العلمية الدينية تحوّل أساسي، و تخطى بذلك خطوة شاسعة مثمرة في جهة ازدهار الفقه الشيعي في العالم العصري.

أهمّية مسألة ولاية الفقيه

إنّ ولاية الفقيه من أهمّ المسائل الفقهية، و لا سيّما في هذه الأيّام؛ لما أنّها شفرة انتصار ثورتنا الإسلامية، و من أهمّ عوامل صيانة القيم الإسلامية و معطيات الثورة، و من أُصول أركان هذا النظام الثائر المقدّس، و هي حصن حصين في قبال

ص: 7

أنحاء هجمات الاستكبار العالمي و دسائس الدول الاستعمارية و يصان بها الإسلام و المسلمون من صدمات الفتن و الخطرات المستحدثة.

و من هنا قد قام العدوّ بجميع إمكانيّاته لإيراد الصدمة على هذا الركن الأساسي و أعمل جميع مساعيه لإمحائه عن صفحة هذه الثورة، و من ظرائف مكايده أنّه أنجز هذا الهدف الاستعماري أخيراً بعد رحلة الإمام الخميني (قدّس سرّه) بالسنة بعض أصدقاء هذه الثورة، فتفوّهوا أحياناً بما يوهن هذا الركن الركين. و نرجو اللّه سبحانه أن يوفّقنا لحراسة معطيات ثورتنا الإلهية و صيانة دماء شهدائنا الأبرار و طيّ خطّة عمل إمامنا الراحل و طاعة أوامر قائدنا المعظم آية اللّه الخامنئي.

ثمّ إنّ فقهائنا العظام في طول الغيبة الكبرى و إن لم يغفلوا عن أهمّية مسألة ولاية الفقيه، بل قد تعرّض كثيرٌ من فحول المحقّقين لبيان أهمّيتها و إثبات توسعة نطاقها. و لكن لم يُشيّد أساس هذه المسألة و لم يهتم بتحكيم مبانيها و توسيع نطاقها أحدٌ مثل الإمام الراحل (قدّس سرّه)، كما لا يخفى ذلك على من لاحظ كتابة المسمّى بهذا العنوان (ولاية الفقيه)، و تأمّل في بحوثه العميقة الاستدلالية في كتاب البيع، و ما عقده من المسائل حول ذلك في كتابه «تحرير الوسيلة». و لا سيّما أنّ اللّه تعالى وفّقه لإجراء هذا الحكم الإلهي و إنجاز هذا الهدف المقدّس بتأسيس الحكومة الدينية الإسلامية على أساس هذه المسألة و تشيد أركانها عليها.

منهج البحث

منهجنا في البحث عن مسألة ولاية الفقيه يكون بالاُسلوب الآتي:

بحثنا في البداية عن مقتضى القاعدة الأوّلية العقلية، و هي تفيد عدم ثبوت

ص: 8

الولاية على الناس لأحد غير ذات الباري تعالى. و أنّ ثبوت الولاية عليهم لغيره تعالى بحاجة إلى نصّ قطعي واصل من جانبه تعالى، من الكتاب و السنة.

و بحثنا في المرحلة الثانية عن أُمور و مسائل مرتبطة بولاية الفقيه؛ لكي تنقّح جوانب هذه المسألة و تتضح نقاطها المبهمة. و ذلك لابتناء كثير من فروعها و مبانيها الفقهية على هذه الأُمور، و أهمّها: الفرق بين الحكم و الفتوى، و أقسام الحكم الولائي، و نطاق نفوذه، و نماذج من الأحكام الولائية الصادرة عن النبي و الأئمّة (عليهم السّلام) و الفقهاء.

و في المرحلة الثالثة تعرّضنا لتحرير كلمات الأصحاب من القدماء و المتأخرين الواردة في ثبوت الولاية العامّة للفقيه.

و في المرحلة الرابعة ذكرنا أدلّة إثبات ولاية الفقيه. و قدّمنا الاستدلال بالضرورة الشرعية المستفادة من مسلّمات الشريعة. و قرّبناها بوجهين مستفادين من كلام الإمام الراحل.

ثمّ ذكرنا الدليل العقلي بتقريبين، ثمّ حرّرنا الاستدلال ببناء العقلاء و أشكلنا على تمامية هذا الوجه.

و تلونا ذلك بدليل الحسبة و نقّحنا الاستدلال بها على ثبوت الولاية للفقيه، رغم ما يتوهم من عدم ثبوتها بهذا الدليل.

ثمّ تمسّكنا ببعض الآيات، و هي على طوائف، يدلّ بعضها بالملازمة على ثبوت الولاية للفقيه العادل المتمكّن من إقامة حدود اللّه و إجراء أحكامه و القيام بالقسط و العدل.

و في الختام استدللنا بالأخبار، و هي على طوائف، و لا إشكال في تماميتها بمجموعها سنداً و دلالةً. و ذلك للقطع بصدور ما يدلّ على مضمونها، مضافاً إلى

ص: 9

صحة سند بعضها، كما لا ريب في دلالتها على ثبوت الولاية العامّة و لا أقلّ من الولاية على الحكومة و القضاء للفقيه العادل.

و في المرحلة الخامسة تعرّضنا للبحث عن دور انتخاب الجمهور و مسألة الأعلمية.

و في المرحلة الخامسة بحثنا عن حكم الجهاد الابتدائي و أثبتنا عدم ثبوت الولاية للفقيه عليه.

ثمّ بحثنا في المرحلة السادسة عن مسائل مهمّة ترتبط بالمقام.

و هي أنّه: هل للمرأة الولاية على الحكومة و القضاء و الإفتاء أم لا؟ و أثبتنا عدم ولايتها على شيء من ذلك بمقتضى الأصل الأوّلي و بدلالة النصوص العامّة و الخاصة الواردة في المقام.

و مسألة ثبوت الهلال بحكم الحاكم.

و مسألة حكم الحاكم بعلمه.

و مسألة حكم الحاكم بالنسبة إلى غير مقلّديه.

و مسألة أولياء الصغار، حيث إنّ الكلام وقع في ولاية الفقيه على الصغار و نطاق ولايته عليهم.

و مسألة الرشوة إلى الحُكّام و القضاة و الولاة و الفقهاء لأجل التوصّل بها إلى الحكم و الفتوى و قضاء الحاجة.

و في الختام أرجو من الفقهاء الأبرار و الفضلاء الكرام أن يسامحوني في موارد الزلّة و الخطأ و يذكّروني.

غفر اللّه لي و لوالديّ و لإخواني المؤمنين العبد الخجلان من ساحة ربّه الغفّار علي أكبر السيفي المازندراني

ص: 10

ولاية الفقيه

اشارة

ص: 11

ص: 12

الولاية في عصر الحضور

اشارة

مسألة 1: ليس لأحد تكفّل الأُمور السياسيّة، كإجراء الحدود و القضائية و المالية، كأخذ الخراجات و الماليّات الشرعيّة، إلّا إمام المسلمين (عليه السّلام) و من نصبه لذلك (1).

مقتضى القاعدة الأوّلية

(1) و ذلك لأنّ مقتضى الأصل الأوّلي العقلي انحصار الولاية على الحكم في اللّه تعالى.

و يمكن الاستدلال لذلك بوجهين:

الأوّل: لا يشك العقل في عدم نفوذ حكم أحد غير اللّه تعالى في حق غيره؛ حيث لا يرى حق الطاعة و المولوية إلّا للّه تعالى؛ و ذلك لحكمه بأنّه موجدهم و رازقهم و وليّ نعمهم و مالكهم، فلا يرى لغيره حق سلطنة على العباد إلّا من أذنه اللّه تعالى للحكومة عليهم.

ص: 13

و السرّ في ذلك: أنّ في نظر العقل إنّما يجب طاعة من يرى ملاك وجوب الطاعة حاصلاً في حقه.

و ملاك وجوب الطاعة إنّما هو ثابت بنظر العقل في حق اللّه تعالى؛ حيث يرى جميع النعمات من أصل الوجود إلى جميع ما يحتاج إليه البشر في حياته و معاشه، من أُصول النعم من جانب خالق الوجود و ربّ العالمين؛ فلذا يحكم بوجوب حمده و شكر نعمه و يستقل بطاعة ذاته المقدّسة؛ شكراً لنعمائه.

و من هنا يحمل الأمر بالطاعة في قوله تعالى أَطِيعُوا اللّهَ.. (1)، و الأمر بالعبادة في قوله تعالى يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ.. (2)، و نحوهما من الآيات الآمرة بطاعة اللّه و عبادته على الإرشاد إلى حكم العقل بذلك؛ شكراً لنعمته تعالى؛ أو إلى مقتضى الفطرة، من دفع الضرر و العقاب الأُخروي الدائم الناشي من عصيان أمر اللّه تعالى و مخالفة حكمه.

توضيح ذلك: أنّ العقل لا يرى حق المولوية و التكليف، إلّا للمنعم بما يوجب له ذلك في نظره. قال الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) في بيان صفات من له التكليف و حق الطاعة -: «أمّا صفات المكلّف فيجب أن يكون حكيماً مأموناً منه فعل القبيح.. ليعلم انتفاء وجه القبح عن التكليف.. و أن يكون قادراً على الثواب.. و يجب أن يكون منعماً بما يجب له به العبادة.

و العبادة لا تستحق إلّا بأُصول النعم من خلق الحياة و الشهوة و البقاء و القدرة و كمال العقل و خلق المشتهي و غير ذلك مما لا يدخل نعمة كل منعم في كونها نعمة1.

ص: 14


1- المائدة (5):92.
2- البقرة (2):21.

إلّا بعد تقدّمها. و لذلك لا يستحق بعضنا على بعض العبادة، و إن استحقّ عليه الشكر؛ لأنّه لا يقدر على ما هو أُصول النعم. و يختص اللّه تعالى بالقدرة على ذلك، فلذلك اختص تعالى بالعبادة»(1).

و قد صرّح في العدّة بأنّ وجوب شكر المنعم من الضروريات العقلية(2).

و قال الشيخ الأعظم في المكاسب: «مقتضى الأصل عدم ثبوت الولاية لأحد.. خرجنا عن هذا الأصل في خصوص النبي و الأئمّة بالأدلّة الأربعة». ثمّ عدّ من الأدلّة استقلال العقل في حكمه بوجوب شكر المنعم، بعد معرفة أنّهم (عليهم السّلام) أولياء النعم(3).

و لكن فيه نظر؛ إذ العقل و إن يحكم بوجوب شكر المنعم؛ إلّا أنّه لا يرى حق المولوية و الطاعة، إلّا للمنعم بأُصول النعم، كما جاء في كلام الشيخ الطوسي، لا في فروعها و لا في الوسائط.

و قد أشكل المحقق الخراساني(4) و المحقق الأصفهاني(5) على الشيخ في حاشيتهما على المكاسب، بما حاصله: أنّ غاية مقتضى حكم العقل بوجوب شكر المنعم وجوب طاعته في أوامره و نواهيه، لا ثبوت ولايته على الأنفس؛ إذ هي ليست من مصاديق شكر النعمة.

لا يخفى أنّ ظاهر إشكالهما عليه و إن كان في ثبوت الولاية للنبي و الإمام2.

ص: 15


1- الاقتصاد: 63.
2- العدّة في أُصول الفقه 759:2.
3- المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 546:16.
4- حاشية المكاسب، المحقّق الخراساني: 92.
5- حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني 381:2.

إلّا أنّ المستفاد من كلامهما توجّه الإشكال على أصل الاستدلال بوجوب شكر المنعم على ثبوت الولاية.

و فيه: أنّ الولاية ليست إلّا حق المولوية و شأنية الأمر و التكليف، و لما كان هذا الحق ثابتاً في نظر العقل للمنعم بأُصول النعم فيستقلّ بلزوم طاعته؛ لأنّه يرى طاعته و عبوديته في جميع الجهات أداءً لشكر نعمه و قضاءً لحقّ ربوبيته. و أداء شكر نعم المنعم إنّما هو بصرفها في جهة طلب المنعم و أمره و نهيه، و لذا يستقلّ العقل بلزوم صرف القدرة و العقل و سائر قوى البدن في جهة طاعته؛ شكراً لنعمائه، بلا فرق بين ما يتعلّق بنفسه أو بغيره من العباد. و لعلّ هذا معنى ما ورد في الحديث عن الصادق (عليه السّلام)

العبودية جوهرة كنهها الربوبية(1)؛ فإنّ العقل لا يرى استحقاق المولوية و العبودية إلّا للرب. و إليه يشير قوله تعالى يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ.. ، أي الربّ الذي أنعم عليكم بأصل الوجود.

الوجه الثاني: قد يستدل لحصر الولاية في اللّه بأنّ العقل لا يجوّز لأحد التصرف في سلطان اللّه و ملكه إلّا بإذنه و أنّ ثبوت الولاية على العباد تجويز التصرف في ملكه تعالى؛ لأنّ جميع الموجودات ملكه. و قد خرجنا عن هذا الأصل في غير الإنسان من الحيوانات و النباتات و الأمتعة و الأشياء بمثل قوله خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (2). و أمّا التصرف في الإنسان، فخرج خصوص تصرف المولى في عبده بدليل الكتاب و السنّة، و أمّا الإنسان الحرّ فيبقى تحت عموم المنع العقلي.9.

ص: 16


1- مصباح الشريعة (المنسوب إلى الإمام الصادق (عليه السّلام): 7.
2- البقرة (2):29.

و لكن لا يخفى: أنّ ملكية اللّه تعالى حقيقية، لا اعتبارية، و إنّما يناقض سلطانه و ملكيته التصرف التكويني الحقيقي في الإنسان، لا الاعتباري. و ذلك إنّما يتحقق بالقهر التكويني، كالإجبار و الضرب و الجرح و القتل، لا بمجرد الأمر ما دام لم ينجرّ إلى ذلك.

و على أيّ حال يرد على هذا الاستدلال أنّ العقل لا يحكم بمنع التصرف في ملك اللّه إلّا بملاك. و ذلك الملاك لا يكون إلّا الظلم. و من هنا لا حكم للعقل بمنع التصرف في الناس إذا كان لإجراء العدل و إحقاق الحق. و إنّما يحكم به إذا كان من مصاديق الظلم و الجور.

و من الواضح أنّ الكلام في ثبوت الولاية لغير اللّه لغرض إجراء العدل و إحقاق الحق. و ما يكون من الظلم و الجور خارجٌ عن محلّ الكلام.

و لكن يمكن تقريب هذا الاستدلال بوجه آخر:

و هو أنّ العقل لا يرى الولاية على التصرف في شيء إلّا لمالكه، و أنّه لا يرى المالكية الحقيقية للموجودات إلّا لخالقها و موجدها، و أنّ اللّه تعالى هو المالك الحقيقي للموجودات بنظر العقل؛ لأنّه خلقها و أوجد ما لها من الكمالات و الخصوصيات.

و عليه فله تعالى حق التصرف في جميع الموجودات و الولاية على العباد في نظر العقل. و لمّا لا حظّ لغيره في ذلك، لا يرى لأحد الولاية على أحد من الناس، إلّا من ثبتت له الولاية عليهم بإذنه تعالى و إعطائه الولاية إليه.

و عليه فلا يرى العقل لغير اللّه تعالى من العباد ملاكاً لوجوب طاعته، إلّا من ورد له إذن من اللّه تعالى بالحكومة و الولاية على الناس كما ورد للنبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و الأئمّة (عليهم السّلام)، في صريح الكتاب و السنة المتواترة.

ص: 17

ثبوت الولاية للنبي و الأئمّة (عليهم السّلام)

فمن الكتاب قوله تعالى اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (1).

و قوله تعالى فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ (2)النساء (4):59.(3).

و قوله تعالى إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللّهُ (4).

و قوله تعالى أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (4)، إلى غير ذلك من الآيات.

و لا يخفى أنّ كون الأمر بطاعة اللّه إرشاداً إلى حكم العقل بقرينة استقلاله بلزوم طاعة اللّه، لا ينافي كونه مولوياً في تعلّقه بطاعة الرسول و أُولى الأمر؛ لعدم القرينة العقلية في ذلك، و لا بأس بتبعّض المتعلّقات في سنخ الأمر المتعلّق بها في كلام واحد فيما إذا دلّت القرينة العقلية على ذلك.

و أمّا ظهور الحكم في القضاء و فصل الخصومات، و لا سيّما بقرينة قوله فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ و بَيْنَ النّاسِ ، لو سلّم تكفي الآية الأُولى و الأخيرة لإثبات تعميم ولايتهم إلى غير مورد القضاء.

ص: 18


1- الأحزاب (33):6.
2- النساء
3- :65.
4- النساء (4):105.

مع أنّ دعوى اختصاص الحكم بالقضاء و فصل الخصومة ممنوعة؛ أمّا لغةً فلأنّ الحكم في الأصل المنع، كما في المقاييس(1) أو المنع لإصلاح، كما في المفردات(2)، و هو لا يختص بالخصومة و الاختلاف.

و أمّا في اصطلاح الآيات فقد جاء بمعنى مطلق الحكم بما أنزل اللّه، بل بغير ما أنزل اللّه.

و أمّا في اصطلاح الروايات و إن كان بمعنى القضاء غالباً و لكن أُطلق أيضاً في الحكم بثبوت الهلال و إجراء الحدود و لو من غير خصومة و اختلاف.

و أمّا في اصطلاح الفقه فلا يختص استعمال الحكم بباب القضاء و فصل الخصومة؛ بل استعمل في موارد اخرى، مثل ثبوت الهلال و الحدود و البدأة بالجهاد، كما قال في الجواهر(3).

و لكن الذي ينفع في المقام هو تعيين المعنى المقصود بالقرينة. و الإنصاف أنّ قرينية قوله بَيْنَ النّاسِ على إرادة خصوص الحكم القضائي الصادر لفصل الخصومات و رفع الاختلاف الواقع بين الناس، غير قابل للإنكار.

و لكن تكفي تمامية دلالة قوله اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ.. و قوله أَطِيعُوا.. لإثبات المطلوب.

هذا مضافاً إلى عمومات الأمر بطاعة الرسول في كثير من الآيات، و يجدها المتتبع بسهولة.0.

ص: 19


1- معجم مقاييس اللغة 91:2.
2- المفردات في غريب القرآن: 126.
3- جواهر الكلام 100:40.

و أمّا السنة: فقد ورد في النصوص المتواترة(1) تفسير اولى الأمر بالأئمّة المعصومين (عليهم السّلام). و أيضاً وردت نصوص متواترة أُخرى في موارد مختلفة دلّت على فرض طاعتهم و أنّهم خلفاء اللّه عزّ و جلّ في أرضه و ولاة أمره(2)، و غير ذلك مما ذكر في أبواب الحجة من أُصول الكافي، و غيره من الجوامع الروائية المعتبرة.

فتحصّل من جميع ما بينّاه أنّ مقتضى القاعدة العقلية عدم ولاية أحد على غيره من أيّة جهة إلّا من ثبتت له الولاية على ذلك من جانب اللّه تعالى بدليل قطعي.

و ممّا يتفرّع على ذلك من الثمرة الفقهية، أنّه لا اعتبار لآراء الناس و لا قيمة لانتخابهم في إعطاء الولاية على أنفسهم إلى من ينتخبونه بعنوان رئيس القوم و قائد الشعب، ما دام لم تثبت ولايته بدليل شرعي من جانب الشارع.

هذا لا كلام فيه. و إنّما الكلام في ثبوت الولاية على الحكومة و القضاء في عصر الغيبة للفقهاء الجامعين لشرائط الفتوى.2.

ص: 20


1- راجع تفسير نور الثقلين 508497:1.
2- الكافي 185:1 و 192.

الولاية في عصر الغيبة

اشارة

مسألة 2: في عصر غيبة وليّ الأمر و سلطان العصر عجّل اللّه فرجه الشريف يقوم نوّابه العامّة؛ و هم الفقهاء الجامعون لشرائط الفتوى و القضاء مقامه في إجراء السياسات و سائر ما للإمام (عليه السّلام) إلّا البدأة بالجهاد (1).

(1) و قبل الورود في البحث ينبغي التنبيه على أُمور تنفع في المقام، و هي ما يلي:

الأوّل: الفرق بين الحكم و الفتوى

اشارة

قال الشهيد الأوّل في قواعده: «الفرق بين الفتوى و الحكم، مع أنّ كلا منهما إخبار عن حكم اللّه تعالى يلزم المكلّف اعتقاده من حيث الجملة: أنّ الفتوى مجرد إخبار عن اللّه تعالى بأنّ حكمه في هذه القضية كذا. و الحكم إنشاء إطلاق أو إلزام في المسائل الاجتهادية و غيرها، مع تقارب المدارك فيها مما يتنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش. فبالإنشاء: تخرج الفتوى؛ لأنّها إخبار، و الإطلاق و الإلزام نوعان للحكم، و غالب الأحكام إلزام.

ص: 21

و بيان الإطلاق فيها: الحكم بإطلاق مسجون، لعدم ثبوت الحق عليه، و رجوع أرض حجّرها شخص ثمّ أعرض عنها و عطّلها، و بإطلاق حرّ من يد من ادعى رقّه و لم يكن له بينة.

و بتقارب المدارك في المسائل الاجتهادية: يخرج ما ضعف مدركه جدّاً كالعول، و التعصيب، و قتل المسلم بالكافر، فإنّه لو حكم به حاكم وجب نقضه.

و بمصالح المعاش: تخرج العبادات؛ فإنّه لا مدخل للحكم فيها، فلو حكم الحاكم بصحة صلاة زيد لم يلزم صحتها، بل إن كانت صحيحة في نفس الأمر فذاك، و إلّا فهي فاسدة. و كذا الحكم بأنّ مال التجارة لا زكاة فيه، أو أنّ الميراث لا خمس فيه، فإنّ الحكم به لا يرفع الخلاف، بل لحاكم غيره أن يخالفه في ذلك.

نعم لو اتصل بها أخذ الحاكم ممن حكم عليه بالوجوب مثلاً لم يجز نقضه. فالحكم المجرد عن اتصال الأخذ إخبار، كالفتوى، و أخذه للفقراء حكم باستحقاقهم، فلا ينقض إذا كان في محل الاجتهاد.

و لو اشتملت الواقعة على أمرين: أحدهما من مصالح المعاد و الآخر من مصالح المعاش، كما لو حكم بصحة حجّ من أدرك اضطراري المشعر و كان نائباً، فإنّه لا أثر له في براءة ذمة النائب في نفس الأمر، و لكن يؤثر في عدم رجوعهم عليه بالأُجرة.

و بالجملة؛ فالفتوى ليس فيها منع للغير عن مخالفة مقتضاها من المفتي و لا من المستفتي، أمّا من المفتي فظاهر، و أمّا من المستفتي فلأنّ المستفتي له أن يستفتي آخر، و إذا اختلفا عمل بقول الأعلم، ثمّ الأورع، ثمّ يتخير مع التساوي.

و الحكم لمّا كان إنشاءً خاصاً في واقعة خاصة وقع الخلاف في تلك الواقعة، بحيث لا يجوز لغيره نقضها، كما لو حكم حاكم بتوريث ابن العمّ، و منع العمّ للأب

ص: 22

و في المسألة خال، فإنّه يقتضي بخصوصه منع حاكم آخر بتوريث العمّ و الخال في هذه المسألة، لأنّه لو جاز له نقضها لجاز لآخر نقض الثانية.. و هلم جرا، فيؤدي إلى عدم استقرار الأحكام، و هو مناف للمصلحة التي لأجلها شرع نصب الحكام من نظم أُمور أهل الإسلام، و لا يكون ذلك رفعاً للخلاف في سائر الوقائع المشتملة على مثل هذه الواقعة»(1).

حاصل كلامه: أنّ الحكم و إن كان إنشاءً، إلّا أنّ مرجعه إلى الإخبار عن حكم اللّه، أي إخبار عن حكم الشارع في قالب الإنشاء؛ لأنّ الحاكم لا ينشئ الحكم إلّا باستناده إلى مدرك شرعي ينبئ عن حكم اللّه تعالى.

و أمّا الفتوى فهو إخبار محضٌ أي بيان مفاد دليل الحكم الشرعي في قالب الإفتاء بصيغة الأخبار. فالحكم يصدر عن الحاكم بالإنشاء في مقام فصل الخصومة و رفع النزاع. و الفتوى تصدر عن الفقيه في مقام الاجتهاد و الاستنباط لمجرّد الإخبار عن حكم الشارع.

ثمّ قسّم الحكم إلى حكم بالإطلاق و الترخيص و حكم بالإلزام و التكليف.

ثمّ اشترط تمامية مدرك كلّ من الفتوى و الحكم. و لكن لا يخفى عليك أنّ ذلك لا دخل له في ماهية كلّ واحد منهما و لا في الفرق بينهما.

نعم ما يستفاد من كلامه (قدّس سرّه) من تعلّق الحكم بمصالح المعاش لا مصالح المعاد و تعلّق الفتوى بالأعم منهما، صحيح و يمكن به التمييز بين الحكم الفتوى و من هنا لا ينفذ حكم الحاكم في العبادات، كحكمه بصحة صلاة شخص أو بطلان حج أحد أو نفي الزكاة أو الخمس عن متعلّقهما من الأموال، بل و حتى في مثل الحجّ النيابي.1.

ص: 23


1- القواعد و الفوائد 320:1.

فلو استقر رأي الحاكم على بطلان حجّه أو صحته لا اعتبار بحكمه ببطلان حج النائب أو صحته، بل إنّما ينفذ حكمه برجوع المنوب عنه عليه بالأُجرة في فرض البطلان أو عدم رجوعه في فرض الصحة. و أمّا الصحة و البطلان فيدوران مدار مفاد الأدلّة الشرعية حسب استنباطه.

و أمّا ما قال: من أنّ الحكم منع الغير دون الفتوى، ففيه: أنّ الفتوى أيضاً تتضمّن نهي المكلّف و منعه عن الحرام، نعم لا تختصّ بغير الحاكم كما في الحكم. فيشمل المنع المستفاد من الفتوى الحاكم و غيره على حدّ سواء، كما هو مقتضى القضية الحقيقية، و هذا بخلاف الحكم.

و أمّا ما أشار إليه من وقوع الخلاف في توريث ابن العمّ و منعه العمّ للأب و في المسألة خالٌ، فتوضيحه: أنّه لا يرث ابن عمّ مع عمّ و لا ابن خال مع خال أو عمّ؛ لأنّ ابن العمّ و ابن الخال أبعد عن الميت من العمّ و الخال، إلّا في مسألة واحدة إجماعية، و هي ما لو اجتمع ابن عمّ لأب و أُمّ مع عمّ لأب، فابن العمّ أولى حينئذٍ بلا خلاف، كما صرّح به في الجواهر(1). و لكن لا خلاف في حكم هذه المسألة ما دام لم ينضمّ إليهما الخال، و إلّا وقع الخلاف. فاختار جماعة من الفقهاء رجوع المسألة إلى مقتضى القاعدة حينئذٍ، و هو سقوط ابن العمّ، كما صرّح به في الشرائع و حكى في الجواهر(2) عن أكثر المحققين. و ذهب بعض إلى تقديم الخال؛ نظراً إلى حجب العمّ للأب بابن العمّ من الأب و الأُمّ و حجب ابن العمّ بالخال. و احتمل ثالث تقديم ابن العمّ؛ لأنّ العمّ محجوب بابن العمّ، فكذا الخال؛ لتساويهما في الدرجة. و اختار9.

ص: 24


1- جواهر الكلام 176:39.
2- نفس المصدر: 179.

رابعٌ شركة ابن العمّ مع الخال؛ نظراً إلى حجبه لخصوص العمّ و لكن المشهور هو القول الأوّل.

و حاصل مقصود الشهيد من ذلك أنّ في المسألة الخلافية لا يجوز نقض حكم الحاكم، بخلاف الفتوى، فيجوز فيها الرجوع إلى فتوى الفقيه الآخر، إذا لم يكن الأوّل أعلم.

و قال الشهيد الثاني في المسالك: «و الفرق بينهما أنّ الحكم إنشاء قول في حكم شرعي يتعلق بواقعة شخصية، كالحكم على زيد بثبوت دين لعمر و في ذمته. و الفتوى حكم شرعي على وجه كلّي، كالحكم بأنّ قول ذي اليد مقدّم على الخارج مع اليمين. أو إخبار عن حكم معيّن بحيث يمكن جعله كلّياً، كقوله: صلاة زيد باطلة، لأنّه تكلّم فيها عمداً؛ فإنّه و إن كان حكماً جزئياً، لكن يمكن جعله كلّياً، بحيث يكون هذا الجزئي من جملة أفراده، كقوله: كلّ من تكلّم في صلاته عمداً بطلت صلاته بخلاف الحكم»(1).

و يمتاز تعريفه عن تعريف الشهيد الأوّل بعدم اختصاص الحكم بباب المرافعات و الخصومات، بل يكون في مطلق الوقائع الشخصية.

و قال في الجواهر: «و الفرق بينهما أنّ الحكم إنشاء قول في حكم شرعي متعلق بواقعة مخصوصة، كالحكم بأنّ الدار ملك لزيد، و أنّ هلال شهر رمضان سنة كذا قد حصل و نحو ذلك مما هو في قضايا شخصية، و الفتوى حكم شرعي على وجه كلّي، كقوله: المعاطات جائزة، أو شخصي يرجع إلى كلّي، كقوله لزيد: إنّ صلاتك باطلة؛ لأنّك تكلّمت فيها مثلاً، إذ مرجعه إلى بطلان صلاة من تكلّم3.

ص: 25


1- مسالك الأفهام 108:3.

في صلاته، و زيد منهم»(1).

و قال (قدّس سرّه) في كتاب القضاء: «و الظاهر أنّ المراد بالأُولى الإخبار عن اللّه تعالى بحكم شرعي متعلق بكلّي، كالقول بنجاسة ملاقي البول أو الخمر، و أمّا قول: هذا القدح نجس لذلك، فهو ليس فتوى في الحقيقة، و إن كان ربما يتوسع بإطلاقها عليه، و أمّا الحكم فهو إنشاء إنفاذ من الحاكم لا منه تعالى لحكم شرعي أو وضعي أو موضوعهما في شيء مخصوص»(2).

و أنت إذا تأمّلت في كلامه تعرف أنّه يرجع إلى ما قاله الشهيد، إلّا أنّ في كلامه خصوصيّتين، إحداهما: أنّ الفتوى تتعلّق بالحكم الكلّي، و أنّ ما يلقى منها على نحو القضية الشخصية الخارجية ليس بفتوى حقيقة، بل إنّما يطلق عليه لفظ الفتوى توسّعاً و مجازاً. و قد عرفت بيان ذلك سابقاً. ثانيتهما: أنّ الفتوى حكم مجعول من اللّه تعالى و الحكم مجعول بإنشاء الحاكم.

و قال السيد الخوئي في الفرق بين الحكم و الفتوى: «و الفرق بينه و بين الفتوى هو أنّ الفتوى عبارة عن بيان الأحكام التكليفية من دون نظر إلى تطبيقها على موردها، و هي أي: الفتوى لا يكون حجة إلّا على من يجب عليه تقليد المفتي بها؛ و أمّا القضاء فهو الحكم بالقضايا الشخصية التي هي مورد الترافع و التشاجر، فيحكم القاضي بأنّ المال الفلاني لزيد أو أنّ المرأة الفلانية زوجة فلان و ما شاكل ذلك، و هو نافذ على كل حال حتى إذا كان أحد المتخاصمين أو كلاهما مجتهداً»(3).

و لا يخفى عليك أنّ كلّ من تعرّض لبيان الفرق بين الحكم و الفتوى، مقصوده1.

ص: 26


1- جواهر الكلام 403:21.
2- نفس المصدر: 100.
3- مباني تكملة المنهاج 3:1.

من الحكم هو الحكم الولائي الحكومي، لا الحكم التكليفي المنقسم إلى الأحكام الخمسة و لا الحكم الوضعي كالصحة و الفساد و الملكية و الزوجية و الطهارة و النجاسة و نحو ذلك.

مقتضى التحقيق في المقام

مقتضى التحقيق و التأمّل في مجموع كلماتهم أنّ الحكم يفترق عن الفتوى بأُمور.

أحدها: أنّ الحكم إنشاء إلزام و إنفاذ من جانب القاضي بالاستناد إلى دليل شرعي، و لكن الفتوى إخبار الفقيه عمّا استنبطه من الأدلّة من الحكم الشرعي الكلّي في مقام الاجتهاد.

ثانيها: أنّ الحكم يرجع في الحقيقة إلى تطبيق حكم كلّي على مورد جزئي وقع فيه النزاع و الخصومة بين المترافعين، فإنّ إنشاء الإنفاذ من جانب الحاكم يبتني على تطبيقه الحكم الشرعي الكلّي الذي استنبطه من الأدلّة على مورد الإنشاء و الإنفاذ، و لكن الفتوى ترجع إلى استنباط المجتهد حكماً شرعياً كلّياً من أدلّته التفصيلية و إعلانه للمقلّدين على نحو القضية الحقيقية، و إن كانت أحياناً بصورة التطبيق على مورد بإلقاء قضية شخصية خارجية باقتضاء سؤال السائل، إلّا أنّها ترجع في الحقيقة إلى إعلان حكم كلّي.

ثالثها: أنّ الحكم يرجع إلى مصالح المعاش و قلع مادة النزاع و الخصومة بين الناس في أُمورهم اليومية الراجعة إلى عيشهم أو إثبات موضوع خارجي كالهلال أو إجراء حدّ من حدود اللّه تعالى، و لا يتعلّق بالعبادات، بل و ليس مشروعاً فيها. و أمّا الفتوى فتتعلق بالأعم من العبادات و المعاملات. و لذا لا نفوذ للحكم في العبادات

ص: 27

بخلاف الفتوى فإنّها لا اختصاص لحجيتها بمورد دون مورد.

رابعها: أنّ الحكم لا يجوز نقضها للغير، حتى في المسائل الخلافية بل و لو كان المحكوم عليه مجتهداً، إلّا إذا ادّعى جور الحاكم في حكمه و شكى في ذلك إلى حاكم آخر. فيجوز له حينئذٍ نقضه، إذا ثبت له شرعاً جور الحاكم الأوّل في حكمه، أو بان خطأ مستنده في الحكم، كما أشار إلى الأوّل في الجواهر بقوله: «ليس على الحاكم تتبع حكم من كان قبله.. لكن لو زعم المحكوم عليه أنّ الأوّل حكم عليه بالجور.. لزمه النظر فيه، أي في حكمه بلا خلاف أجده بين من تعرّض له منّا..»(1).

و قد أشار إلى الثاني بقوله: «و كذا كل حكم قضى به الأوّل و بان للثاني فيه الخطأ و لو لفساد الاجتهاد من الأوّل فإنّه ينقضه. و كذا لو حكم هو ثمّ تبيّن الخطأ فإنّه يبطل الأوّل و يستأنف الحكم بما علمه»(2). و هذا بخلاف الفتوى فيجوز للمقلّد نقضه بالرجوع إلى مجتهد آخر، إلّا إذا كان الأوّل أعلم. هذا إذا كان الغير عاميّاً مقلّداً، و أمّا إذا كان مجتهداً، فله أن يعمل بفتوى نفسه و إن كان ناقضاً بذلك فتوى مجتهد آخر، بل يجب عليه ذلك مطلقاً و إن كان المجتهد الآخر أعلم منه.4.

ص: 28


1- جواهر الكلام 103:40.
2- نفس المصدر: 94.

و على مقلّديه العمل بالفتوى الثانية فيما يأتي، دون ما مضى فإنّه صحيح، فالأعمال السابقة محكومة بالصحة، بل إذا كان ما مضى عقداً أو إيقاعاً أو نحوهما ممّا من شأنه الدوام و الاستمرار، يبقى على صحته فيما يأتي أيضاً، بالنسبة إلى تلك الواقعة الخاصة. فإذا تزوّج بكراً بإذنها بناءً على كون أمرها بيدها ثمّ تبدّل رأيه أو رأي مجتهده إلى كون أمرها بيد أبيها، تكون باقية على زوجيته و إن كان لا يجوز له نكاح مثلها بعد ذلك.

و أمّا الثاني فكما إذا كان مذهبه اجتهاداً أو تقليداً نجاسة الغسالة أو عرق الجنب من الحرام مثلاً، و اشترى مائعاً، فتبيّن أنّه كان ملاقياً للغسالة أو عرق الجنب من الحرام، فتنازع مع البائع في صحة البيع و عدمها، و ترافعا إلى مجتهد كان مذهبه عدم النجاسة و صحة البيع فحكم بصحته، فإنّ اللازم على المشتري العمل به و جواز التصرف في ذلك المائع، ففي خصوص هذا المورد يعمل بمقتضى الطهارة و يبني عليها و ينقض الفتوى بالنسبة إليه بذلك الحكم. و أمّا بالنسبة إلى سائر الموارد فعلى مذهبه من النجاسة، حتى أنّه إذا لاقى ذلك المائع بعد الحكم بطهارة الغسالة أو عرق الجنب يبقى على تقليده الأوّل فيبني على نجاسته، و هكذا في سائر المسائل الظنية في غير الصورتين المذكورتين»(1).

خامسها: أنّ الحاكم في الحكم هو القاضي؛ نظراً إلى صدور الحكم بإنشائه. و أمّا الفتوى فالحاكم فيه هو الشارع، و إنّما الفقيه يخبر بالفتوى عن حكمه.

و عليه فالحكم الفتوائي يشرّعه الشارع و ينشئه بالخطابات اللفظية، و لكن الحكم الحكومي ينشئه الحاكم في مقام القضاء و الإلزام.5.

ص: 29


1- العروة الوثقى 27:3، مسألة 35.

الثاني: تقدّم الحكم الولائي على الفتوى عند التزاحم

لا إشكال في تقدّم الحكم الحكومي على الفتوى عند المزاحمة في المسائل الخلافية. و ذلك لوضوح توقف فصل الخصومات و حفظ النظام و إجراء الحدود و قلع مادة النزاع و الفساد على نفوذ الحكم، و إلّا لا يستقرّ حجر على حجر و لا يزال الناس في التخاصم و المنازعة، و هذا يوجب الفساد و الاختلال في نظام معاش الناس و حياتهم. و لأجل ذلك لا يجوز نقض حكم الحاكم بأيّ شيء، لا بالفتوى و لا بحكم حاكم آخر. هذا مضافاً إلى إطلاق دليل الحكم الكلّي الفتوائي و اختصاص الحكم الولائي بواقعة جزئية. و مقتضى القاعدة تخصيص عموم دليل الحكم الفتوائي بدليل الحكم الحكومي.

و قد صرّح الفقهاء بتقدّم الحكم. و إليك نصّ كلام بعضهم:

قال السيد في العروة: «كما لا يجوز نقض الحكم بالحكم، كذلك لا يجوز نقضه بالفتوى»(1). و قد تقدّم كلامه آنفاً بالتفصيل.

و إنّ لصاحب الجواهر كلاماً جامعاً في المقام ينبغي نقله بطوله؛ لما فيه من النكات المهمّة. قال (قدّس سرّه) بعد بيان مفصّل في ذلك -: «و قد بان لك من جميع ما ذكرنا أنّ الحكم ينقض و لو بالظن إذا تراضى الخصمان على تجديد الدعوى و قبول حكم الحاكم الثاني، و ينقض إذا خالف دليلاً علمياً لا مجال للاجتهاد فيه أو دليلاً اجتهادياً لا مجال للاجتهاد بخلافه إلّا غفلة و نحوها، و لا ينقض في غير ذلك، لأنّ الحكم بالاجتهاد الصحيح حكمهم، فالرادّ عليه رادّ عليهم (عليهم السّلام) و الرادّ عليهم على

ص: 30


1- العروة الوثقى 27:3، مسألة 35.

حد الشرك باللّه تعالى، من غير فرق بين اقتضائه نقض فتوى و عدمه للإطلاق. و من هنا جاز نقض الفتوى بالحكم دون العكس.

و المراد بنقضها إبطال حكم الكلّي في خصوص الجزئي الذي كان مورد الحكم بالنسبة إلى كل أحد، من غير الفرق بين الحاكم و مقلّدته و بين غيرهم من الحكام المخالفين له و مقلّدتهم. و يبطل حكم الاجتهاد و التقليد في خصوص ذلك الجزئي.

كما أنّه لا فرق في ذلك بين العقود و الإيقاعات و الحلّ و الحرمة و الأحكام الوضعية حتى الطهارة و النجاسة. فلو ترافع شخصان على بيع شيء من المائعات، و قد لاقى عرق الجنب من زنا مثلاً، عند من يرى طهارته، فحكم بذلك، كان طاهراً مملوكاً للمحكوم عليه، و إن كان مجتهداً يرى نجاسته أو مقلّد مجتهد كذلك؛ لإطلاق ما دلّ على وجوب قبول حكمه و أنّه حكمهم (عليهم السّلام) و الرادّ عليه رادّ عليهم. و يخرج حينئذٍ هذا الجزئي من كلّي الفتوى بأنّ المائع الملاقي عرق الجنب نجس في حق ذلك المجتهد و مقلّدته. و كذا في البيوع و الأنكحة و الطلاق و الوقوف و غيرها. و هذا معنى وجوب تنفيذ الحاكم الثاني ما حكم به الأوّل، و إن خالف رأيه ما لم يعلم بطلانه.

و أمّا عدم نقض الحكم بالفتوى حتى من ذلك الحاكم لو فرض تغيّر رأيه عن الفتوى بعد حكمه في جزئي خاص؛ فلأصالة بقاء أثر الحكم و ظهور أدلته في عدم جواز نقضه مطلقاً، و عدم اقتضاء دليل الفتوى أزيد من العمل بأفراد كلّي متعلّقها من حيث إنّها كذلك، فلا تنافي خروج بعض أفرادها بالحكم لدليلها، بل لعله ليس من متعلق كلّيها المراد به ما عدا المحكوم عليه من أفرادها.

نعم هي إنّما تنقض بالفتوى على معنى بطلان الفتوى برجوع صاحبها عنها

ص: 31

فيما لم يعمل به من أفرادها، أمّا ما عمل به فيه منها، فلا نقض فيما لا يتصور النقض فيه، كما إذا كان فعلاً قد فعله أو مالاً أكله أو شربه بل لو كان.. إلى أن قال: لما عرفت من نقض الفتوى به»(1).

قوله: «الحكم ينقض و لو بالظن..» أراد به جواز نقض حكم الحاكم الأوّل إذا تراضي الخصمان على تجديد الدعوى و رفعها إلى قاضٍ آخر و اتفقا على قبول حكمه، و بان للثاني خطأ الأوّل في مستنده.

و لا يخفى أنّ هذا المورد ثاني الموردين اللذين سبق نقلهما عنه. أحدهما: ما لو ادعى المحكوم عليه جور الحاكم في حكمه و شكى إلى حاكم آخر، ثانيهما: ما لو بأن خطأ مستند الحاكم في حكمه. فأشار إلى الثاني هاهنا أيضاً.

أمّا قوله: «فلأصالة بقاء أثر الحكم..» فمقصوده أنّ الحكم الشرعي الثابت بالفتوى إذا شككنا في ارتفاعه بتبدّل رأي المجتهد، مقتضى الاستصحاب بقاؤه، هذا مضافاً إلى أنّ أدلّة مشروعية الحكم الولائي و نفوذه ظاهرة في عدم جواز نقضه مطلقاً، و لو خالفته فتوى آخر.

و أمّا إطلاق دليل حجّية الفتوى بالنسبة إلى أفراد متعلّقها الذي هو الكلّي الطبيعي فيمكن تقييده بدليل حجّية الحكم الولائي؛ نظراً إلى أنّ مورده واقعة جزئية، و هي بعض مصاديق متعلّق الفتوى. و لمّا كان دليل حجّية الحكم أخصّ موضوعاً عن دليل اعتبار الفتوى، فمقتضى الصناعة تقييد دليل الفتوى بدليل الحكم؛ إذا الضابطة في أخذ النسبة بين دليلين متخالفين ملاحظة النسبة بين موضوعهما.0.

ص: 32


1- جواهر الكلام 9997:40.

و عليه فمقتضى الأدلّة الاجتهادية و الأصل العملي عدم جواز نقض الحكم بالفتوى. و لا يخفى أنّ الرجوع إلى الاستصحاب إنّما هو في فرض عدم تمامية دلالة الأدلّة الاجتهادية.

الثالث: أقسام الحكم الولائي

يمكن تقسيم الحكم الحكومي الإنشائي تارة: بلحاظ الحاكم؛ حيث قد يصدر عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، و أُخرى: عن الإمام (عليه السّلام)، و ثالثه: يصدر عن الفقيه.

و أُخرى: من جهة زمان صدوره؛ حيث قد يصدر في زمان استقرار الحكومة العادلة الإسلامية و قد يصدر في غير زمانها.

و ثالثة: من جهة مورد صدوره، و من هذه الحيثية ينقسم الحكم إلى أقسام عديدة، و هي:

أوّلاً: الحكم الصادر من الفقيه الحاكم في موارد إجراء الأحكام الجزائية، من الحدود و القصاص و الديات.

ثانياً: الحكم الصادر منه في الأُمور السياسية، مما يرتبط بشئون الحكومة، كنصب الأُمراء و الوزراء و مسئولي الحكومة و عمّالها و عزلهم. و الحكم بقطع الرابطة من بعض الدّول و الحكومات و بإيجادها مع بعض آخر.

ثالثاً: الحكم الصادر في جهة عمران البلاد و تخطيط المدن، كالحكم بإحداث الطرق و توسيع الشوارع في أملاك الناس باقتضاء المصلحة و الضرورة. و تخريب المساجد و البيوت و الأماكن الواقعة في مسير الطرق.

رابعاً: الحكم الصادر في الأُمور النظامية، كالحكم بإجبار الشباب على الخدمة العسكرية، و الإعزام الإجباري إلى جبهات الدفاع و القتال، و منع

ص: 33

عموم الناس من حمل السلاح.

خامساً: الحكم الصادر في الأُمور القضائية، كالحكم في المرافعات لفصل الخصومات و قلع مادة النزاع.

سادساً: الحكم الصادر لدفع المفاسد و منع المنكرات بأنواعها.

سابعاً: الحكم الصادر في الأُمور الاقتصادية، كالحكم بتعزير المحتكر، و تقييم الأجناس، و المنع من إخراج العملة و الأمتعة الأساسية عن المملكة الإسلامية. و مثل الحكم في تحديد الإجراءات الجمركية، و أخذ الضرائب المالية، و الحكم بمصادرة الأموال الربوية، و نحو ذلك مما يكون دخيلاً في حفظ النظام الاقتصادي.

إذا عرفت ما ذكرناه من موارد الحكم الولائي تتضح لك سعة نطاق الولاية المطلقة.

الرابع: ابتناء الحكم الحكومي على المصلحة

إنّ الحكم الحكومي من جهة ابتنائه على المصلحة يمكن تقسيمه إلى قسمين.

الأوّل: ما لا ابتناء له على المصلحة بأيّ وجه، بل إنّما يبتني على اجتهاده الصحيح في الأحكام الإلهية المقرّرة في الشريعة، من دون دخل لرعاية المصلحة في مشروعية هذا النوع من الأحكام و نفوذه، و هو الحكم الصادر في الأُمور القضائية و فصل الخصومات و المرافعات، و كذا الأحكام الصادرة لإجراء الحدود و القصاص و الديات و نحو ذلك من توقيفيات. فيدور اعتبار هذه الأحكام و نفوذها مدار مطابقتها للأحكام الشرعية التي جعلها الشارع في موازين القضاء و أبواب

ص: 34

الحدود و الديات و القصاص. فأيّ حكم لم يطابقها لا اعتبار و لا مشروعية له. و إن كان في إنفاذ هذه الأحكام مصالح واقعية يبتني عليها تشريع الأحكام الشرعية الأوّلية، كما أشار الكتاب المجيد بقوله تعالى وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ (1)، إلّا أنّ المقصود من المصلحة هاهنا ما هو مصلحة الإسلام و المسلمين بنظر شخص الحاكم، لا المصالح الواقعية الكائنة في تشريع الأحكام الأوّلية.

الثاني: ما يبتني على المصلحة. و هي قد تكون شخصية، و ذلك كابتناء تعيين مقدار التعزير و نوعه على المصلحة الراجعة إلى شخص المجرم. حسب تشخيص الحاكم؛ من طاقة بدن المجرم و شدّة جرمه و حصول التنبيه و منعه عن الفساد و المنكر.

و أُخرى: تكون المصلحة اجتماعية، و ثالثة: سياسية، و رابعة: اقتصادية، و خامسة: ثقافية، و سادسة: نظامية، إلى غير ذلك من جهات المصالح المترتبة على إنشاء الحكم و إنفاذه بنظر الحاكم.

و هذا القسم من الحكم يدور اعتباره و نفوذه مدار المصلحة. و الوجه فيه ابتناء أصل ولاية الحاكم على رعاية مصالح الإسلام و المسلمين بشئونها المختلفة.

و إنّ للإمام الخميني كلاماً جامعاً في ذلك نكتفي هاهنا بذكره.

قال (قدّس سرّه): «فالإسلام أسّس حكومة لا على نهج الاستبداد المحكّم فيه رأي الفرد و ميوله النفسانية من الجمع، و لا على نهج المشروطة أو الجمهورية المؤسّسة على القوانين البشرية، التي تفرض تحكيم آراء جماعة من البشر على المجتمع، بل حكومةً تستوحي و تستمدّ في جميع مجالاتها من القانون الإلهي، و ليس لأحد من9.

ص: 35


1- البقرة (2):179.

الولاة الاستبداد برأيه، بل جميع ما يجري في الحكومة و شئونها و لوازمها لا بدّ و أن يكون على طبق القانون الإلهي حتى الإطاعة لولاة الأمر.

نعم للوالي أن يعمل في الموضوعات على طبق الصلاح للمسلمين أو لأهل حوزته، و ليس ذلك استبداداً بالرأي، بل هو على طبق الصلاح، فرأيه تبعٌ للصلاح كعمله»(1).

و قال: «فللفقيه العادل جميع ما للرسول و الأئمّة (عليهم السّلام) ممّا يرجع إلى الحكومة و السياسة، و لا يعقل الفرق؛ لأنّ الوالي أيّ شخص كان هو المجري لأحكام الشريعة و المقيم للحدود الإلهية و الآخذ للخراج و سائر الضرائب و المتصرّف فيها بما هو صلاح المسلمين، فالنبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) يضرب الزاني مائة جلدة و الإمام (عليه السّلام) كذلك، و الفقيه كذلك، و يأخذون الصدقات بمنوال واحد، و مع اقتضاء المصالح يأمرون الناس بالأوامر التي للوالي، و يجب إطاعتهم»(2).

الخامس: نطاق نفوذ الحكم الولائي

وقع الخلاف في أنّ الحكم الولائي هل يكون نافذاً عند مخالفته و مزاحمته للأحكام الأوّلية، أو يختص نفوذه بخصوص الأحكام التي لم يجعل الشارع فيها حكماً إلزامياً، من وجوب أو حرمة. و بعبارة اخرى: هل الحكم الحكومي مقدّمٌ على جميع الأحكام عند المزاحمة أو يقدّم على خصوص أحكام غير إلزامية؟ فقد يستفاد من كلام بعض اختصاص نفوذه بغير الإلزاميات من الأحكام. كما

ص: 36


1- البيع، الإمام الخميني (قدّس سرّهم) 618:2.
2- نفس المصدر: 626.

يظهر ذلك من السيد الشهيد الصدر؛ حيث قال: «فأيّ نشاط و عمل لم يرد نصّ تشريعي يدلّ على حرمته أو وجوبه يسمح لولي الأمر بإعطائه صفة ثانوية، بالمنع عنه أو الأمر به. فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته، أصبح حراماً، و إذا أمر به، أصبح واجباً. و أمّا الأفعال التي ثبت تشريعياً تحريمها بشكل عام، كالربا مثلاً، فليس من حق ولي الأمر، الأمر بها.

كما أنّ الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه، كإنفاق الزوج على زوجته، لا يمكن لولي الأمر المنع عنه، لأنّ طاعة اولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة اللّه و أحكامه العامة»(1).

فإنّ كلامه و إن كان صحيحاً في تشريع الأحكام الأوّلية. و لكن بإطلاقه يشمل إنشاء الحكم الولائي بالمناط الذي ذكره. و لكن أوّل ما يرد عليه أنّ الآية التي استشهد لكلامه و هي أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ لا تدلّ على مطلوبه؛ لما قلنا سابقاً: إنّ ظاهر إطاعة الرسول و أُولي الأمر طاعتهم في أوامرهم و أحكامهم الولائية، و إلّا يكون من قبيل طاعة اللّه لا طاعتهم؛ لأنّهم في تشريع الأحكام الأوّلية يخبرون عن حكم اللّه، من دون أن ينشئونها. و أمّا الإشكال على إطلاق كلامه فستعرفه في ترجيح القول الآخر.

و يستفاد من كلمات بعض آخر عدم اختصاص اعتبار الحكم الولائي و نفوذه بذلك، بل هو مقدّم على جميع الأحكام، حتى الإلزامية، و أنّه نافذٌ مطلقاً، سواءٌ خالف حكماً غير إلزامي أو حكماً إلزامياً، كما هو المستفاد من كلام صاحب الجواهر و صاحب العروة في توجيه تقدّم الحكم على الفتوى، و قد سبق آنفاً. و قد0.

ص: 37


1- اقتصادنا، المجموعة الكاملة 684:10.

صرّح بذلك السيد الإمام الخميني في مواضع عديدة من كلماته(1).

و هذا القول هو الأصح. و ذلك أوّلاً: للزوم اختلال النظام من عدم نفوذ الحكم في مطلق الموارد بتقديم الحكم الأوّلي الفتوائي عليه في موارد التزاحم، كما سبقت الإشارة إليه، و لا سيّما في موارد كان حكم الفقيه على أساس رعاية مصالح الإسلام و المسلمين و يبتني عليه حفظ كيان الإسلام و نواميس المسلمين و عزّتهم، فحينئذٍ يقدّم على جميع الأحكام الفرعية الأوّلية؛ نظراً إلى القطع بأهمّية ذلك عند الشارع بالنسبة إليها، كيف؟! و إنّ لأجل حفظ هذا المهم و تحصيله تباح الدماء، بل يجب القتال و بذل النفوس. و إنّ بذلك يتضح موقف الولاية من بين الأحكام الإلهية و دورها الأساسي في حفظ جميع الأحكام الشرعية الأوّلية، كما جاء في النصوص أنّه لم يناد أحدٌ ما نودي بالولاية؛ لأنّها حافظة لجميع الأحكام و مفتاحهنّ (2).

و ثانياً: لإطلاق دليل نفوذ الحكم و مشروعيته، فيشمل بإطلاقه موارد مخالفته للأحكام الأوّلية، و لا يلزم إلغاء تشريع الأحكام الأوّلية؛ و ذلك لأنّ متعلقها كلّي على نحو القضية الحقيقية و أمّا الحكم الولائي فمورده بعض مصاديق ذلك الحكم الأوّلي الكلّي. و مقتضى الصناعة حينئذٍ تخصيص دليل الحكم الأوّلي بدليل وجوب إنفاذ الحكم الولائي. و قد سبقت الإشارة إلى ذلك في كلام صاحب الجواهر آنفاً.5.

ص: 38


1- راجع صحيفة إمام 451:20.
2- راجع وسائل الشيعة 13:1، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 1، الحديث 2 و 10 و 35.

السادس: نماذج من الأحكام الصادرة عن النبي و الأئمّة (عليهم السّلام)

لا ريب أنّ بعض الأحكام الصادرة عن النبي و الأئمّة (عليهم السّلام) كان مختصاً بزمانهم و باقتضاء المصالح التي كانوا يرونها في إنفاذ تلك الأحكام التي أنشئوها على أساس ولايتهم التي جعلها اللّه لهم، فيعملون ولايتهم بإنشاء الأحكام الولائية الحكومية في جهة مصالح الإسلام و المسلمين. و قد صدرت الأحكام الولائية عن النبي و الأئمّة (عليهم السّلام) كثيراً.

و نكتفي هاهنا بذكر نماذج منها.

أمّا الأحكام الولائية الصادرة عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم):

فمنها: حكم النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) على أصحابه بتغيير الشيب بخضاب اللحية. و قد علّله أمير المؤمنين (عليه السّلام) بغربة الدين و قلّة أهله و لذا خصّه بزمانه، كما جاء عنه في نهج البلاغة

و سُئل (عليه السّلام) عن قول الرسول (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): غيِّروا الشيب و لا تشبّهوا باليهود، فقال (عليه السّلام): إنّما قال (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) ذلك و الدين قُلٌّ. فأمّا الآن و قد اتّسع نطاقه و ضرب بجرانه. فَامرُؤ و ما اختار(1).

و منها: حكمه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بوجوب الحضور في صلاة الجماعة، و بإحراق البيوت الذين لا يحضرون الجماعة من جيران المسجد(2). مع استحباب الخضاب و الحضور في صلاة الجماعة بالأدلّة القطعية من النصوص و الإجماع.

و منها: حكمه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بإحراق المسجد الضرار، كما نزل في شأن ذلك قوله

ص: 39


1- نهج البلاغة: 471، الحكمة 17.
2- راجع وسائل الشيعة 291:8، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 2.

تعالى وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ (1) .

و قال في مجمع البيان في تفسيره: «قال المفسّرون: إنّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قبا و بعثوا إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أن يأتيهم فأتاهم و صلّى فيه، فحسدهم جماعة من بني غنم بن عوف، فقالوا نبني مسجداً فنصلّي فيه و لا نحضر جماعة محمّد، و كانوا اثنى عشر رجلاً، و قيل خمسة عشر رجلاً، منهم ثعلبة بن حاطب و معتب بن قشير و نبتل بن الحرث، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا؛ فلمّا فرغوا منه أتوا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و هو يتجهّز إلى تبوك فقالوا: يا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلّة و الحاجة و الليلة الشاتية(2)، و إنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا و تدعو بالبركة فقال (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): إنّي على جناح سفر، و لو قدمنا أتيناكم إن شاء فصلّينا لكم فيه. فلما انصرف رسول اللّه من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.. فوجّه رسول اللّه عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني و مالك بن الدخشم و كان مالك من بني عمرو بن عوف، فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه و حرّقاه.

و روى أنّه بعث عمار بن ياسر و وحشياً فحرّقاه. و أمر بأن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف»(3).

فإنّ أمره (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بهدم هذا المسجد و إحراقه و إيجابه ذلك حكم ولائي صدر منه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم).

و منها: حكمه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بتحريم لحوم الحمر الأهلية و نكاح المتعة، كما دلّت5.

ص: 40


1- التوبة (9):107.
2- يعني الليلة الباردة الشتائية.
3- مجمع البيان 110109:5.

عليه حسنة زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليه السّلام) قال

حرّم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) يوم خيبر لحوم الحُمُر الأهلية و نكاح المتعة(1).

هذه الرواية و إن حملها الشيخ و غيره على التقية، إلّا أنّ الظاهر كون حكمه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) يوم خيبر بذلك حكماً ولائياً باقتضاء المصلحة.

و منها: حكمه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بقتل بعض المنافقين، كما نقل في مجمع البيان: «أنّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أمر الأصحاب بقتل أربعة نفر: عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح و الحويرث بن نفيل و ابن خطل و مقبس بن ضبابة، و أمرهم بقتل قينتين كانتا تغنّيان بهجاء رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و قال اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة. فقتل علي (عليه السّلام) الحويرث بن نفيل و إحدى القينتين و أفلتت الأُخرى و قتل مقبس بن ضبابة في السوق»(2).

و من ذلك حكمه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بقتل كعب الأشراف و هو الذي كان يحرّض الناس على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، و يبكي على قتلى بدر، و كان يشبّ على نساء المسلمين، فقتله محمد بن مسلمة بأمر النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)(3).

و منها: حكمه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بقلع نخلة سمرة بن جندب، كما دلّ عليه ما رواه الصدوق بسنده الصحيح أنّه قال أبو جعفر (عليه السّلام)

كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط بني فلان فكان إذا جاء إلى نخلته ينظر إلى شيء من أهل الرجل يكرهه الرجل قال

فذهب الرجل إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) فشكاه، فقال: يا رسول اللّه إنّ سمرة يدخل عليّ بغير إذني فلو أرسلت إليه فأمرته أن يستأذن حتّى تأخذ أهلي2.

ص: 41


1- وسائل الشيعة 12:21، كتاب النكاح، أبواب المتعة، الباب 1، الحديث 32.
2- مجمع البيان 848:10.
3- سفينة البحار 483:2.

حذرها منه، فأرسل إليه رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) فدعاه، فقال: يا سمرة ما شأن فلان يشكوك و يقول: يدخل بغير إذني فترى من أهله ما يكره ذلك، يا سمرة استأذن إذا أنت دخلت. ثُمَّ قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): يسرُّك أن يكون لك عذق في الجنة بنخلتك؟ قال: لا، قال: لك ثلاثة؟ قال: لا، قال (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): ما أراك يا سمرة إلّا مضارّاً اذهب يا فلان فاقطعها (فاقلعها) و اضرب بها وجهه(1).

و منها: حكمه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بين أهل البادية أن لا يمنعوا من فضل ماء و لا كلأ، كما دلّ عليه ما رواه في الكافي بسنده عن الصادق (عليه السّلام)

قضى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع الشيء، و قضى (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاءٍ (2).

أمّا الأحكام الولائية الصادرة عن الأئمّة (عليهم السّلام):

فمنها: حكم الإمام الصادق (عليه السّلام) بتحريم المتعة على عمّار و سليمان بن خالد ما داما في المدينة. كما جاء في رواية الكليني بسنده عن عمّار، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام) لي و لسليمان بن خالد

قد حرّمت عليكما المتعة من قبلي ما دمتما بالمدينة، لأنّكما تكثران الدخول عليّ و أخاف أن تؤخذا، فيقال: هؤلاء أصحاب جعفر(3).

و منها: حكم أمير المؤمنين على (عليه السّلام) بتسعير الأثمان و تحديد القيم في كتابه إلى مالك؛ حيث أمره بقوله

و ليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، و أَسعارٍ5.

ص: 42


1- وسائل الشيعة 427:25، كتاب إحياء الموات، الباب 12، الحديث 1.
2- الكافي 6/293:5.
3- وسائل الشيعة 23:21، كتاب النكاح، أبواب المتعة، الباب 5، الحديث 5.

لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع. فمن قارف حكرةً بعد نهيك إِياهُ فنكِّل به، و عاقبهُ في غيرِ إسراف(1).

و منها: حكمه (عليه السّلام) بردّ ما أخذه عثمان من الرعايا، من القطائع و الأموال إلى بيت المال، كما أشار إليه بقوله

و اللّه لو وجدتُهُ قد تُزُوّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَ مُلِكَ بِهِ الإمَاءُ؛ لَرَدَدْتُه(2).

و في دعائم الإسلام عن علي (عليه السّلام) أنّه لمّا بايعه الناس أمر بكلّ ما كان في دار عثمان من مال و سلاح، و كل ما كان من أموال المسلمين، فقبضه، و ترك ما كان لعثمان ميراثاً لورثته.. و قال (عليه السّلام) في خطبة

إلا، وكّل قطعة أقطعها عثمانُ أو مال أعطاه من مال اللّه فهو ردٌّ على المسلمين في بيت مالهم(3).

و قال ابن ابى الحديد بعد ذكر موارد ردّت فيها قطائع عثمان و أمواله إلى بيت المال بأمر على (عليه السّلام) «و أمر (عليه السّلام) أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيبت أصحابها»(4).

و منها: حكمه (عليه السّلام) باسترداد أموال الأشعث بن قيس، كما روي في دعائم الإسلام: أنّه (عليه السّلام) أحضر الأشعث بن قيس، و كان عثمان استعمله على أذربيجان، فأصاب مائة ألف درهم، فبعضٌ يقول: أقطعه عثمان إيّاها، و بعض يقول: أصابها الأشعث في عمله، فأمره عليّ (عليه السّلام) بإحضارها فدافعه، و قال: يا أمير المؤمنين، لم أصبها في عملك. قال

و اللّه لئن أنت لم تُحضِرها بيتَ مال المسلمين1.

ص: 43


1- نهج البلاغة: 438، الخطبة 53.
2- نهج البلاغة: 57، الخطبة 15.
3- دعائم الإسلام 396:1.
4- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 270:1.

لأضربنك بسيفي هذا أصاب منك ما أصاب، فأحضرها و أخذها منه و صيرها في بيت مال المسلمين. و تتبع عمّال عثمان، فأخذ منهم كلّ ما أصابه قائماً في أيديهم و ضمّنهم ما أتلفوا(1).

و منها: حكم الإمام الحسن المجتبى بقتل جاسوسي معاوية لمّا اطّلع على أنّه أرسلهما للتجسّس و الاستخبار، و هما الحميري و القيني، كما روى المجلسي في البحار عن إرشاد المفيد: «لمّا بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين (عليه السّلام) و بيعة الناس ابنه الحسن (عليه السّلام)، دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة، و رجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار، و يفسدا على الحسن الأُمور، فعرف ذلك الحسن (عليه السّلام) فأمر باستخراج الحميري من عند لحّام (حجام/خ. ل) بالكوفة، فأخرج و أمر بضرب عنقه، و كتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم، فأخرج و ضرب عنقه»(2).

و منها: حكم الصادق (عليه السّلام) بقتل قاتل معلّى بن خنيس، كما ورد في الرواية أنّه (عليه السّلام) أمر ابنه إسماعيل بقوله

يا إسماعيل، شأنك به فخرج إسماعيل و السيف معه حتى قتله في مجلسه(3).

و منها: حكم الإمام الجواد بإيجاب الخمس في خصوص الذهب و الفضّة في سنة خاصّة و عفوه عما سواهما من الأمتعة و الأرباح و الفوائد، و إيجابه في سائر الأمتعة و الأرباح نصف السدس لخصوص من تقوم ضيعته بمئونته و إباحة باقي الخمس عليهم عفواً و تخفيفاً لهم، كما ورد في الصحيحة علي بن مهزيار، قال: كتب7.

ص: 44


1- دعائم الإسلام 396:1.
2- بحار الأنوار 5/45:44.
3- بحار الأنوار 59/352:47.

إليه أبو جعفر (عليه السّلام)

إنّ الذي أوجبت في سنتي هذه هذه سنة عشرين و مائتين فقط لمعنى من المعاني، أكره تفسير المعنى كلّه؛ خوفاً من الانتشار، و ساُفسّر لك بعضه إن شاء اللّه. إنّ مواليَّ أسأل اللّه صلاحهم أو بعضهم قصّروا فيما يجب عليهم؛ فعلمت ذلك فأحببت أن أُطهّرهم و أُزكّيهم بما فعلت من أمر الخمس في عامي هذا.. و لم أُوجب عليهم ذلك في كل عام و لا أُوجب عليهم إلّا الزكاة التي فرضها اللّه عليهم، و إنّما أوجبت عليهم الخمس في سنتي هذه في الذهب و الفضّة التي قد حال عليهما الحول، و لم أُوجب ذلك عليهم في متاع و لا آنية و لا دوابّ و لا خدم و لا ربح ربحه في تجارة و لا ضيعة إلّا ضيعة سأُفسّر لك أمرها؛ تخفيفاً منّي عن مواليَّ و منّاً مني عليهم لما يغتال السلطان من أموالهم و لما ينوبهم في ذاتهم.. فأمّا الذي أوجب من الضياع و الغلات في كلّ عام فهو نصف السدس ممّن كانت ضيعته تقوم بمئونته، و من كانت ضيعته لا تقوم بمئونته فليس عليه نصف سدس و لا غير ذلك(1).

إلى غير ذلك من الأحكام الولائية الصادرة عنهم (عليهم السّلام) بمقتضى المصلحة و الضرورة مما ليس إجراءً للحكم الإلهي الأوّلي، الثابت في الشريعة للأشياء بعناوينها الأوّلية، بل هي من الأحكام الولائية الصادرة عمّن له الولاية على إصدار الحكم من جانب اللّه تعالى.

السابع: نماذج من الأحكام الولائية الصادرة من الفقهاء

اشارة

إنّ فقهائنا و إن لم يكونوا مبسوطي اليد في عصر الغيبة؛ حيث كانت الحكومة تحت سيطرة سلاطين الجور و الطواغيت؛ إلّا أنّهم قد يتدخلون في الأُمور السياسية

ص: 45


1- وسائل الشيعة 501:9، كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، الباب 8، الحديث 5.

و الثقافية و الاجتماعية، حسب ما كانوا يعتقدونه من عدم انفكاك الدين عن السياسة و أنّ الشارع الأقدس أعطى إليهم الولاية على إنفاذ أُمور المسلمين، و قد صدر منهم في طول زمن الغيبة الكبرى أحكامٌ ولائيةٌ؛ حفظاً لبيضة الإسلام و مصالح المسلمين، و نحن نكتفي هاهنا بذكر نماذج منها:

فمنها: حكم جماعة من الفقهاء بتحريم ثياب الدول الخارجية الكافرة و أجناسهم و أمتعتهم و بخلع هذه الألبسة و نزعها و لبس الألبسة الإسلامية، فمن هذه الجماعة السيد محمد كاظم اليزدي صاحب العروة و شيخ الشريعة الأصبهاني و ميرزا فتح اللّه الشيرازي و المحقق آخوند الخراساني و الشيخ محمد حسن المامقاني و غيرهم(1).

و منها: حكم جماعة منهم بالجهاد و القتال في مقابل تجاوز بعض دول الكفر، كحكم السيد محمد كاظم اليزدي و السيد عبد الحسين لأرى بالقتال مع دول إنكليز و إيطاليا و روس(2).

و منها: حكم السيد الحسيني القمي بالكفاح و النضال مع أمرية الطاغوت بكشف الحجاب عن النساء في إيران(3).

و منها: حكم السيد محمد تقي الخونساري بتأميم صناعة النفط، مع تصريحة بأنّ ردّ هذا الحكم ردّ قول النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و لا عذر لأحد في ذلك(4).

و منها: حكم جماعة من الفقهاء بتحريم الانتخابات حينما أقدم دولة6.

ص: 46


1- راجع مجلۀ نور علم، المرحلة الثانية 18:5 و 21.
2- راجع مجلۀ نور علم، المرحلة الثالثة 25:6، نهضت روحانيون إيران 209:1.
3- راجع مجلۀ نور علم، المرحلة الثانية 84:1.
4- روحانيت و ملى شدن صنعت نفت: 56.

الإنكليز على ترشيح الفيصل في عراق بعد هزيمتها الشنعاء و فشلها في الحرب. و من هذه الجماعة المحقق النائيني؛ حيث حكم صريحاً بتحريم هذه الانتخابات و بأنّ الحضور فيهما مخالفة اللّه تعالى و الرسول و الأئمّة (عليهم السّلام)(1).

و منها: ذلك الحكم المعروف الصادر من الميرزا الشيرازي بقوله: «اليوم استعمال التوتون و التنباكو بأيّ نحو كان في حكم محاربة الإمام الحجة صاحب الأمر (عج)(2).

و منها: الأحكام الولائية الكثيرة الصادرة من الإمام الراحل (قدّس سرّه)، كحكمه بتشكيل مجلس قيادة الثورة و نصب رؤساء الجمهور و أمراء الجيش و رئيس القوّة القضائية و سائر مسئولي النظام الإسلامي و حكمه بمصادرة أموال الطواغيت الفهلوية و عائلتهم، و حكمه بإعدام سلمان رشدي؛ لإهانته بساحة النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و القرآن الكريم، بتأليف كتاب الآيات الشيطانية، و إن كان الأخير من قبيل إعلان الحكم الشرعي الأوّلي. إلى غير ذلك من الأحكام الولائية الصادرة من الفقهاء العظام (قدّس سرّهم).

و لا ريب أنّ ولاية الفقهاء على الحكم بين الناس لو كانت في إطار الأحكام الفرعية الشرعية الأوّلية، لا معنى لتفويض الولاية المطلقة الثابتة للنبي و الأئمّة (عليهم السّلام) إليهم، بل لا يعقل ثبوت الولاية لهم على الحكومة و حفظ نظام الإسلام و مصالح المسلمين؛ لوضوح توقف ذلك على إنفاد كثير من الأحكام الثانوية المخالفة للأحكام الأوّلية.0.

ص: 47


1- مجلۀ نور علم، المرحلة الثانية 21:5.
2- تحريم تنباكو، الزنجاني: 100.

و ذلك كالحكم بالخدمة العسكرية الإجبارية، و إيجاد الطرق و توسيع الشوارع و لو انجرّ إلى التصرّف في ملك الغير، و الحكم بمنع خروج العملة من المملكة الإسلامية و ورودها فيها، و الحكم بأخذ الضرائب المالية من التجار و أصناف الكسبة، و بالإجراءات الجمركية و تقييم الأجناس، و بحبس عوامل توزيع المواد المخدّرة و إعدامهم، إلى غير ذلك من الأحكام الولائية الصادرة من الحاكم لأجل حفظ النظام أو لمصالح الإسلام و المسلمين، ممّا يخالف الأحكام الشرعية الكلّية الأوّلية، و إنّ للإمام الراحل بياناً جامعاً في ذلك فراجع(1).0.

ص: 48


1- صحيفة إمام 451:20.
تحقيق في ولاية الفقيه على الحكومة و القضاء

قد تقدّم أنّ مقتضى القاعدة العقلية عدم ثبوت الولاية لأحد غير اللّه سبحانه على أحد إلّا بالدليل القطعي و الحجّة المعتبرة الثابتة من جانبه تعالى. و قد ثبت ذلك في حق النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و الأئمّة (عليهم السّلام) بالأدلّة القطعية من الكتاب و السنة المتواترة، و لا كلام فيه. و إنّما الكلام في ثبوته في حق الفقهاء العدول في عصر الغيبة. و لا بدّ من إقامة الدليل المعتبر لإثبات ولايتهم على الحكومة و القضاء.

فالكلام في أنّه كما ورد الدليل القطعي المعتبر في ثبوت الولاية على الحكومة و القضاء للنبي و الأئمّة (عليهم السّلام)، فهل ورد في حق فقهاء عصر الغيبة أيضاً أم لا؟ فنقول: لا إشكال في أنّ النصوص الدالّة على ثبوت منصب القضاء و الحكومة للنبي و الإمام لا دلالة لها بنفسها على ثبوتهما للفقهاء. و أمّا دعوى دلالة بعض الآيات و الروايات على عدم جواز الحكومة و القضاء لهم فلا يصغي إليها. نعم هي بنفسها مع قطع النظر عن أدلّة التنزيل قاصرة عن إثبات ذلك لغير النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و الإمام (عليه السّلام).

فيما استدلّ به على عدم ثبوت الولاية للفقهاء

فمن الآيات المستدلّ بها على عدم ثبوت الولاية على الحكومة و القضاء لغير النبي و الإمام (عليهم السّلام) قوله تعالى:

ص: 49

يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ (1) . بتقريب أنّ لفظ الفاء ظاهرٌ في التفريع، و مقتضى ذلك كون جواز الحكم بين الناس من متفرّعات الخلافة و عدم جوازه لغير خليفة اللّه في الأرض، بل ظاهر هذه الآية عدم جوازه لغير النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) مطلقاً. و إنّما خرجنا عن مدلولها بدلالة النصوص المتواترة على ثبوت الولاية للأئمّة (عليهم السّلام) دون غيرهم.

و فيه: أنّ تفريع الأمر بالحكم إنّما هو على نفس الجعل لا على عنوان الخلافة لكي يدور الحكم مداره، فالذي يتفرّع منه جواز الحكومة بين الناس هو جعل الولاية على ذلك من جانب اللّه تعالى.

و من الواضح أنّ إثبات شيء لا ينفي ما عداه. فجعل منصب الخلافة و الحكومة لداود (عليه السّلام) في هذه الآية لا ينفي ثبوته لغيره، بل إنّما هو تابعٌ لدليل آخر يدلّ عليه. و قد ثبت هذا الجعل للأئمّة أيضاً بدليل التنزيل الوارد في الروايات؛ حيث إنّه دلّت النصوص المتواترة على أنّهم: خلفاء اللّه في أرضه و ولاة أمره و أنّ بيدهم زمام أُمور الناس، بل الخلق كلّهم.

و من النصوص صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

اتقوا الحكومة؛ فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي (كنبيّ) أو وصيّ نبي(2). هذه الرواية صحيحة بطريق الصدوق؛ نظراً إلى صحة طريقه إلى سليمان بن خالد. و تدلّ على اختصاص منصب الحكومة بالنبي و الإمام؛ نظراً إلى ظهور لفظ «إنّما» في الحصر.

و منها: خبر إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

قال أمير المؤمنين3.

ص: 50


1- (ص) 26:38.
2- وسائل الشيعة 17:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.

لشريح: يا شريح! قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ (1). فاستدل بهما على عدم ثبوت الولاية على الحكومة بل القضاء لغير النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و الإمام (عليه السّلام).

و لكن يرد على الاستدلال بصحيحة سليمان أوّلاً: أنّ دخول كاف التمثيل قرينة تدلّ على أنّ المقصود من الإمام العالم العادل معناه العام و أنّ النبي و الوصي ذكرا بعنوان بعض مصاديقه. و هذا المعنى العام يشمل الفقيه العادل المتكفّل لقيادة الأُمّة و زعامتهم. هذا بناءً على نسخة الفقيه(2).

و أمّا بناءً على ما في نسخة الكافي و التهذيب و هو «لنبيّ» لا يتمّ ذلك، إلّا أنّ المتعيّن هو نسخة الفقيه لصحة سند الصدوق إلى سليمان بن خالد.

و ثانياً: أنّ وصى النبي عنوان عام يمكن انطباقه على الفقهاء العدول بأدلّة التنزيل، كما ورد أنّهم ورثة الأنبياء(3) و أُمناء الرسل(4) و حكام على الناس(5) و الكافلين لأيتام آل محمد(6).7.

ص: 51


1- وسائل الشيعة 17:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 2.
2- الفقيه 7/4:3.
3- راجع وسائل الشيعة 78:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 2.
4- مستدرك الوسائل 320:17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 29.
5- مستدرك الوسائل 321:17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 33.
6- مستدرك الوسائل 317:17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 22 و 23 و 27.

هذا مضافاً إلى أنّه على فرض كون المراد من الوصي الأئمّة المعصومين لا غيرهم فأيّ مانع من تعيينهم (عليهم السّلام) و نصبهم الفقهاء العدول أوصيائهم و ولاة الأمر في عصر الغيبة. كما قد دلّت النصوص المستفيضة على ذلك؛ فتدخل ولاية المنصوبين من قبلهم بذلك في ولايتهم بالجعل و التنزيل. مع إمكان أن يقال: إنّ الولاية المنفية عن غير النبي و الوصي بالحصر على فرضه هي الولاية بالأصالة لا بالتنزيل و النيابة، و إن يشكل على ذلك بأنّ الغرض الأصلي بيان شرائط الأهلية للقضاء في ضمن حصرها لمن له الأهلية. و لا فرق من هذه الجهة بين الولاية بالأصالة و بالنيابة؛ فإنّ غير المتأهّل للولاية لا يستأهل لها بلا فرق بين النوعين.

و أمّا خبر إسحاق بن عمار فمضافاً إلى الإشكال المزبور ضعيف سنداً؛ لوقوع مفضّل بن صالح أبي جميلة الكذّاب في سنده.

نعم لا إشكال في قصور الآيات و النصوص المزبورة عن إثبات الولاية للفقهاء، فلا بدّ من التماس دليل آخر من الضرورة أو دليل التنزيل.

و على هذا الأساس يحتاج إثبات جواز القضاء و الحكومة للفقيه في عصر الغيبة إلى الدليل.

ص: 52

أدلّة ولاية الفقيه المطلقة

الاستدلال بالإجماع و الشهرة
اشارة

لا خلاف بين الأصحاب في ثبوت الولاية للفقيه العادل على تولّي القضاء في فصل الخصومات و إقامة الحدود و تولّي أُمور الغيّب و القصّر و الصغار و أخذ الواجبات المالية، من الأخماس و الزكوات و إقامة الحدود، بل القتل.

فإنّ الجوامع الفقهية مشحونة من كلمات فقهائنا العظام، من القدماء و المتأخرين، بل صرّح بعضهم بأنّ ذلك مقتضى ضرورة المذهب و أنّ كلماتهم في ذلك أكثر من أن تحصى. و لا مجال، بل لا حاجة إلى نقلها؛ لوضوح ذلك و عدم الخلاف فلا كلام فيه.

و إنّما الكلام في ثبوت الولاية له في جميع ما للإمام (عليه السّلام) في أمر الحكومة و الإمارة، فنقول: إنّ ضرورة تأسيس الحكومة الإسلامية و ثبوت الولاية العامة على حكومة الإسلام للفقيه العادل في عصر الغيبة، و كذا ولايته على إجراء الحدود و القصاص و الديات، بل جميع الأحكام مشهورٌ بين الأصحاب، من القدماء و المتأخرين. بل صرّح بعضهم بأنّ ذلك مما اتفق عليه أصحابنا، و أنّه من ضرورة فقه أهل البيت (عليهم السّلام). و إنّ عدم تعرّض بعضهم لذلك لعلّه من باب الإيكال إلى الوضوح.

كلمات الأصحاب في ولاية الفقيه المطلقة

فعن المحقق الكركي في رسالة التي ألّفها في صلاة الجمعة: «اتفق أصحابنا على أنّ الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى، المعبّر عنه بالمجتهد في

ص: 53

الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمّة الهدى (عليهم السّلام) في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل. و ربّما استثنى الأصحاب القتل و الحدود»(1).

و يفهم من كلامه هذا أنّ ثبوت الولاية للفقيه في غير القتل و الحدود مورد اتفاق الأصحاب. ثمّ قال (قدّس سرّه)، بعد ذكر شرائط الفقيه النائب: «إنّ الفقيه الموصوف بالأوصاف المعينة منصوب من قبل أئمّتنا (عليهم السّلام) نائب عنهم في جميع ما للنيابة فيه مدخل بمقتضى قوله (عليه السّلام): فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً. و هذه استنابة على وجه كلّي»(2).

و قد علل جواز تولّي أخذ الخراجات و المقاسمات و الزكوات للفقيه في زمان الغيبة بثبوت الولاية المطلقة للفقيه في عصر الغيبة عند كل من يرى جواز إقامة الحدود و الحكم له. حيث قال: «من جوّز للفقهاء في حال الغيبة تولّي استيفاء الحدود و غير ذلك من توابع منصب الإمامة ينبغي تجويزه لهذا بالطريق الأولى لأنّ هذا أقلّ منه خطراً.. و من تأمّل في كثير من أحوال كبراء علمائنا السالفين مثل السيد الشريف المرتضى علم الهدى، و أعلم المحققين من المتقدمين و المتأخرين نصير الحق و الدين الطوسي و بحر العلوم مفتي الفرق جمال الملّة و الدين الحسن بن يوسف بن مطهر و غيرهم (رضوان اللّه تعالى عليهم) نظر متأمّل منصف لم يعترضه الشك في أنّهم كانوا يسلكون هذا المنهج و يقيمون هذا السبيل و ما كانوا ليودعوا بطون كتبهم إلّا ما يعتقدون صحته»(3).

و قد علل تمامية الوقف و انقطاع ملكية الموقوف عن سلطنة الواقف بقبض4.

ص: 54


1- رسائل المحقّق الكركي 142:1، انظر جواهر الكلام 396:21.
2- رسائل المحقّق الكركي 143:1.
3- رسائل المحقّق الكركي 270:1، الخراجيات: 74.

الحاكم أو من فوّض الحاكم إليه القبض بأنّ للحاكم الولاية العامة(1).

و قد علل اعتبار قبض الحاكم و نفوذه بأنّه الوالي للمصالح العامة(2).

و قال الشيخ المفيد بعد حكمه بعدم جواز تولّي الحكومة من قبل الطواغيت: «و من تأمّر على الناس من أهل الحق بتمكين ظالم له و كان أميراً من قبله في ظاهر الحال فإنّما هو أميرٌ في الحقيقة من قبل صاحب الأمر الذي سوّغه ذلك. و أذن له فيه دون المتغلّب من أهل الضلال.. و من لم يصلح للولاية على الناس لجهل بالأحكام أو عجز عن القيام بما يسند إليه من أُمور الناس فلا يحلّ له التعرّض لذلك»(3).

وجه دلالة كلامه على ثبوت الولاية للفقيه العادل أنّ الولاية على الإمارة أوسع نطاقاً من الولاية على الحكم في فصل الخصومات و إجراء الحدود و على أخذ الحقوق المالية، فإنّها تشمل جميع شئون الحكومة و الرئاسة العامة.

و قال الشيخ الطوسي في النهاية: «و أمّا الحكم بين الناس و القضاء بين المختلفين فلا يجوز أيضاً إلّا لمن أذن له سلطان الحق في ذلك. و قد فوّضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم في حال لا يتمكنون فيه تولّيه بنفوسهم..»(4).

و قال سلّار في المراسم: «فقد فوّضوا إلى الفقهاء إقامة الحدود و الأحكام بين الناس بعد أن لا يتعدّوا واجباً و لا يتجاوزوا حدّا، و أمروا عامّة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك ما استقاموا على الطريقة»(5). فإنّ إطلاق لفظ الحكم في مقابل1.

ص: 55


1- جامع المقاصد 157:2.
2- نفس المصدر 25:9.
3- المقنعة: 812.
4- النهاية: 301.
5- المراسم: 261.

القضاء في كلام الشيخ يشمل جميع موارد الحكم، و لو في غير فصل الخصومة، كما أنّ إقامة الحدود و الأحكام في كلام سلّار يشمل جميع موارد إقامة الأحكام بدلالة الجمع المحلّى بالألف و اللام. و قد صرّح في الجواهر(1) بأنّ عبارته في المراسم عامّةٌ للجميع.

و ممّن يدلّ كلامه على ذلك: أبو الصلاح الحلبي؛ حيث قال: «تنفيذ الأحكام الشرعية و الحكم بمقتضى التعبّد فيها من فروض الأئمّة (عليهم السّلام) المختصة بهم.. فإن تعذّر تنفيذها بهم.. لم يجز لغير شيعتهم تولّي ذلك.. و لا لمن لم يتكامل له شروط النائب عن الإمام في الحكم من شيعته؛ و هي العلم و التمكن و اجتماع العقل و الرأي و سعة الحلم و البصيرة بالوضع و ظهور العدالة.. فمتى تكاملت هذه الشروط فقد أذن له في تقلّد الحكم؛ لكون هذه الولاية أمراً بمعروف و نهياً عن منكر تعيّن فرضها بالتعريض للولاية عليه.. فهو نائب عن ولي الأمر (عليه السّلام) في الحكم و مأهول له؛ لثبوت الإذن منه و آبائهم (عليهم السّلام) لمن كان بصفته في ذلك، و لا يحلّ له القعود عنه.. و إخوانه في الدين مأمورون بالتحاكم و حمل حقوق الأموال إليه و التمكين من أنفسهم لحدّ أو تأديب تعيّن عليهم لا يحل لهم الرغبة عنه و لا الخروج عن حكمه..»(2).

و قد صرّح بذلك في السرائر أيضاً بنفس التعبير المزبور(3).

و إنّ كلامهما و إن كان له ظهور في الولاية المطلقة بعرضها العريض و لكن يشمل معظم مواردها.3.

ص: 56


1- جواهر الكلام 394:21.
2- الكافي في الفقه: 421-423.
3- السرائر 539537:3.

و منهم: العلّامة حيث علّل وجوب صرف الزكاة إلى الفقيه المأمون عند تعذّر إيصالها إلى الإمام بقوله

لأنّه نائب الإمام (عليه السّلام) فكان له ولاية ما يتولّاه(1). فإنّ إطلاق كلامه ظاهرٌ في ثبوت الولاية للفقيه في كلّ ما يتولّاه الإمام من أمر الحكومة.

و قد صرّح في المختلف بعد نقل كلام سلّار و تقويته بأنّ الأحاديث الدالّة على تسويغ الحكم للفقهاء تعمّ إقامة الحدود و غيرها(2)، و في التذكرة بنى عليه الجزم بجواز الحكم و الإفتاء للفقيه ما لم يخف على نفسه أو على أحد من المؤمنين(3)، و صرّح بذلك أيضاً في التحرير(4).

و قال في التذكرة: «الحكم و الفتيا بين الناس منوطٌ بنظر الإمام فلا يجوز لأحد التعرّض له إلّا بإذنه. و قد فوّض الأئمّة (عليهم السّلام) ذلك إلى فقهاء شيعتهم..»(5).

و منهم: الشهيد الثاني في روض الجنان، حيث علّل عدم دلالة دليل اختصاص إقامة الجمعة بالإمام أو نائبه على نفيه للفقيه، بأنّ الفقيه نائب الإمام (عليه السّلام) على وجه العموم(6).

و قد صرّح في المسالك أيضاً بأنّه منصوب للمصالح العامة(7).3.

ص: 57


1- نهاية الأحكام 417:2.
2- مختلف الشيعة 479:4.
3- تذكرة الفقهاء 447:9.
4- تحرير الأحكام 158:1 و 242:2.
5- تذكرة الفقهاء 446:9.
6- روض الجنان: 290 /السطر 13.
7- مسالك الأفهام 427:1 و 9:3.

و قد صرّح المحقق الأردبيلي بأنّ تولّى الحاكم لأُمور المجانين و الغيّب و القصّر و الصغار من باب الولاية العامة و وجّه بذلك ولايته على جميع المصالح العامة(1).

و منهم: الفقيه السبزواري حيث علّل ما جزم به الشهيد في الدروس من بقاء سهم العاملين في زمن الغيبة، بأنّ الحاكم نائب الإمام على العموم(2). و كذا علّل بذلك أفضلية تولّى الفقيه إخراج الفطرة في عصر الغيبة(3).

و منهم: الفاضل الهندي؛ حيث علّل ولاية الحاكم على إجبار الزوجين عند الشقاق و الاختلاف على الإصلاح بثبوت الولاية العامة له قال: «إنّ للحاكم الولاية العامة و أنّهما إذا امتنعا من الإصلاح كان للحاكم أن يجبرهما عليه بما يراه و يدفع الظالم عن ظلمه..»(4).

و ممن صرّح بثبوت الولاية المطلقة للفقيه في عصر الغيبة هو السيد محمد آل بحر العلوم فإنّه في ضمن بحث مفصّل في ذلك قال: «إنّ ما يتوقف على الثاني: فإمّا أن يكون هم الفقهاء أو طائفة مخصوصة غيرهم، و الأخير باطل قطعاً، لعدم الدليل عليه، بل و لا الإشارة منه إليه إلى أن قال -: فتعيّن كون المنصوب هو الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة مع ظهور بعض الأدلّة المتقدمة في ذلك، كقوله (عليه السّلام)

و أمّا الحوادث الواقعة و قوله

مجاري الأُمور بيد العلماء و قوله

هو حجتي عليكم، و جعلته حاكماً فإنّ المتبادر منها عرفاً استخلاف الفقيه على الرعية7.

ص: 58


1- مجمع الفائدة و البرهان 394:10.
2- ذخيرة المعاد: 465 /السطر 9.
3- نفس المصدر: 477 /السطر 3.
4- كشف اللثام 522:7.

و إعطاء قاعدة لهم كلّية بالرجوع إليه في كل ما يحتاجون إليه في أُمورهم المتوقفة على نظر الإمام»(1).

و منهم: المحقق الهمداني؛ حيث صرّح بثبوت النيابة للفقيه عن الإمام في كل ما يرجع فيه إليه (عليه السّلام). حيث قال بعد بحث مفصّل في ذلك: «و الحاصل: أنّه يفهم من تفريع إرجاع العوام إلى الرواة على جعلهم حجّةً عليهم أنّه أُريد بجعلهم حجةً إقامتهم مقامه في ما يرجع فيه إليه»(2).

و منهم: المحقق النراقي (قدّس سرّه)؛ حيث قال في العوائد: «أنّ كلّية ما للفقيه العادل تولّيه و له الولاية فيه، أمران:

أحدهما: كلّ ما كان للنبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و الإمام الذين هم سلاطين الأنام و حصون الإسلام فيه الولاية و كان لهم فللفقيه أيضاً ذلك إلّا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما.

و ثانيهما: أنّ كلّ فعل متعلّق بأُمور العباد في دينهم أو دنياهم لا بدّ من الإتيان به و لا مفرّ منه إمّا عقلاً أو عادة من جهة توقّف أُمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه. و إناطة انتظام أُمور الدين أو الدنيا به.

أو شرعاً من جهة ورود أمر به أو إجماع أو نفي ضرر أو إضرار أو عسر أو حرج أو فساد على مسلم أو دليل آخر، أو ورود الإذن فيه من الشارع و لم يجعل وظيفته لمعيّن واحد أو جماعة و لا لغير معيّن أي واحد لا بعينه بل علم لابدّية الإتيان به أو الإذن فيه و لم يعلم المأمور به و لا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه و له التصرّف فيه و الإتيان به.4.

ص: 59


1- بلغة الفقيه 233:3.
2- مصباح الفقيه 290:14.

أمّا الأوّل فالدليل عليه بعد ظاهر الإجماع حيث نصّ به كثيرٌ من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلّمات ما صرّحت به الأخبار المتقدّمة.. إلى آخره.

و أمّا الثاني: فيدل عليه بعد الإجماع أيضاً أمران»(1).

و ممن صرّح بثبوت الولاية المطلقة للفقيه في عصر الغيبة، و أحكم بنيان ذلك خاتم الفقهاء و المجتهدين و خرّيت صناعة الفقه، الشيخ محمد حسن النجفي؛ فإنّه نقل في الجواهر عن الإسكافي و الشيخين و الديلمي و الفاضل و الشهيدين و المقداد و ابن فهد و الكركي و السبزواري و الكاشاني و غيرهم «أنّه يجوز للفقهاء العارفين بالأحكام الشرعية عن أدلّتها التفصيلية العدول إقامة الحدود في حال غيبة الإمام (عليه السّلام) كما لهم الحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت فيجب على الناس مساعدتهم على ذلك، كما يجب مساعدة الإمام (عليه السّلام) عليه».

ثمّ قال: «بل هو المشهور، بل لا أجد فيه خلافاً إلّا ما يحكى عن ظاهر ابني زهرة و إدريس و لم نتحققه بل لعلّ المتحقق خلافه إذ قد سمعت سابقاً معقد إجماع الثاني منهما الذي يمكن اندراج الفقيه في الحكام عنهم منه، فيكون حينئذٍ إجماعه عليه لا على خلافه. كما أنّ ما في التنقيح من الحكاية عن سلّار أنّه جوّز الإقامة ما لم يكن قتلاً أو جرحاً كذلك أيضاً؛ فإنّ عبارته في المراسم عامة للجميع» ثمّ نقل كلامه بعين العبارة المتقدّمة.

إلى أن قال (قدّس سرّه): «بل منه ينقدح التأييد بعموم الأمر بالجلد للزاني و القطع للسارق و نحوهما فيه. و بأنّ تعطيل الحدود يفضي إلى ارتكاب المحارم و انتشار8.

ص: 60


1- عوائد الأيام: 536 538.

المفاسد و ذلك مطلوب الترك في نظر الشرع، و بأنّ المقتضي لإقامة الحدّ قائم في صورتي حضور الإمام و غيبته. و ليست الحكمة عائدة إلى مقيمه قطعاً فتكون عائدةً إلى مستحقّه أو إلى نوع من المكلّفين، و على التقديرين لا بدّ من إقامته مطلقاً بثبوت النيابة لهم في كثير من المواضع على وجه يظهر منه عدم الفرق بين مناصب الإمام أجمع. بل يمكن دعوى المفروغية منه بين الأصحاب فإنّ كتبهم مملوّة بالرجوع إلى الحاكم المراد به نائب الغيبة في سائر المواضع».

إلى أن قال (قدّس سرّه): «فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك بل كأنّه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً و لا فهم من لحن قولهم و رموزهم (عليهم السّلام) أمراً و لا تأمّل في المراد من قولهم (عليهم السّلام)

إنّي جعلته عليكم حاكماً و قاضياً و حجّةً و خليفة و نحو ذلك ممّا يظهر منه ارادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأُمور الراجعة إليهم».

ثمّ إنّه (قدّس سرّه) قال بعد صفحتين: «و بالجملة: المجتهد المطلق الجامع للشرائط المفروغ من تعدادها و تفصيلها في محلّه إذ هو المتيقن من النصوص و الإجماع بقسميه بل الضرورة من المذهب نيابته في زمن الغيبة عنهم (عليهم السّلام) على ذلك و نحوه»(1).

و ممن صرّح بثبوت الولاية العامة لفقهاء الشيعة في عصر الغيبة هو الشيخ الأعظم الأنصاري في كتاب القضاء و الشهادات، رغم ما اشتهر في الألسنة من نسبة المخالفة إليه. قال: «و الحاصل أنّ هنا أمرين: أحدهما ما هو وظيفة إمام العصر (عليه السّلام) و شغله و مباشرة فصل الأُمور الواقعة في زمانه. و لا ريب أنّها مختصّة في كل زمان بإمام ذلك الزمان، فإذا وكّله إلى غيره فهو نائبٌ عنه و وال فيما هو من وظيفة1.

ص: 61


1- جواهر الكلام 399394:21.

المنوب. و لازم ذلك أنّه إذا انتفت الوظيفة، انتفت النيابة و الولاية فيها.

و الثاني: ما هو وليّ فيه و له السلطنة عليه، و لا ريب في أنّ هذه الولاية و السلطنة تعمّ جميع الأُمور إلى يوم النشور. فلو وكّله كلاّ أو بعضاً إلى غيره فهو وال عنه فيما له الولاية فإذا لم يقيّد توليته بزمان استمرّ زمان ولايته تبعاً لولاية الأصل. و المفروض أنّ ولاية الأصل ثابتة حتى في الأُمور الواقعة بعده، فولاية الفرع كذلك. فإذا عرفت الفرق بين ما هو وظيفةٌ و شغلٌ لإمام العصر (عج) و بين ماله فيه الولاية.. فاعلم أنّ القضاة المنصوبين التي ينصبهم بالخصوص من قبيل الأوّل.. و أمّا الفقهاء المنصوبين منه بالتولية العامة فهو من قبيل الثاني..»(1).

و قد صرّح أيضاً في هذا الكتاب بظهور التوقيع و المقبولة في ثبوت الولاية المطلقة للفقيه بقوله: «و أمّا التوقيع الرفيع فصدره و إن كان مختصّاً بالأحكام الشرعية الكلّية من حيث تعلّق حكم الرجوع إلى رواة الحديث؛ فدلّ على كون الرجوع إليه فيما لرواية الحديث مدخلٌ فيه، إلّا أنّ قوله (عج) في التعليل

أنّهم حجتي عليكم، يدلّ على وجوب العمل بجميع ما يلزمون و يحكمون. فكما أنّه لو حكم بكون شخص سارقاً بعلمه أو بالبينة، وجب قطع يده و الحكم بفسقه، فكذلك إذا قال: اليوم عيد أو أوّل الشهر، أو قال: إنّ الشخص الفلاني حكمت بفسقه أو بعدالته.

و إن شئت تقريب الاستدلال بالتوقيع و بالمقبولة بوجه أوضح فنقول: لا نزاع في نفوذ حكم الحاكم في الموضوعات الخاصة إذا كانت محلاّ للتخاصم. فحينئذٍ نقول: إنّ تعليل الإمام (عليه السّلام) وجوب الرضا بحكومته في الخصومات بجعله حاكماً2.

ص: 62


1- القضاء و الشهادات، ضمن تراث الشيخ الأعظم 243:22.

على الإطلاق و حجةً كذلك، يدلّ على كون حكمه في الخصومات و الوقائع من فروع حكومته المطلقة و حجيته العامة، فلا يختصّ بصورة التخاصم»(1).

و قد علّل في كتاب الزكاة وجوب دفع الزكاة إلى الفقيه لو طلبها بثبوت الولاية العامة له؛ حيث قال: «و لو طلبها الفقيه فمقتضى أدلّة النيابة العامة وجوب الدفع؛ لأنّ منعه ردّ عليه و الرادّ عليه رادّ على اللّه تعالى..»(2).

إلى غير ذلك من الكلمات و التعابير الواردة من الفقهاء في ذلك، و أنّ المتتبع يجد أكثر مما نقلناه بأضعاف.

يمكن الاستدلال على ثبوت الولاية للفقيه بضرورة الدين و العقل و بناء العقلاء و دليل الحسبة و طوائف من الآيات و النصوص المتظافرة.

الاستدلال بالضرورة

أمّا الضرورة فيمكن تقريبها بوجهين:

أحدهما: ما يستفاد من كلام السيد الإمام الراحل في رسالة الاجتهاد و التقليد(3)، بتقريب أنّا نعلم علماً ضرورياً بأنّ نبيّنا محمّد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) الذي هو خاتم الأنبياء و دينه أكمل الأديان، بعد عدم إهماله شيئاً مما يحتاج الناس إلى بيان حكمه حتى آداب النوم و الأكل، بل أرش الخدش لم يهمل هذا الأمر الذي من أهمّ ما يحتاج إليه البشر. فلو أهمل و العياذ باللّه مثل هذا الأمر المهم؛ أي السياسة و الحكومة، لكان تشريعه ناقصاً و كان مخالفاً لخطبته في حجّة الوداع. و كذا لو لم

ص: 63


1- القضاء و الشهادات، ضمن تراث الشيخ الأعظم 49:22.
2- الزكاة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 356:10.
3- الاجتهاد و التقليد، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 22.

يعيّن تكليفهم في زمان الغيبة أو لم يأمر الإمام (عليه السّلام) بذلك، مع أنّه نفسه أخبر بوقوع الغيبة و طول زمانها، كان نقصاً فاحشاً على ساحة الشارع في تقنين الشريعة، نعوذ باللّه من إسناد ذلك إلى مقامه الرفيع و شأنه العالي.

و عليه فالضرورة قاضية بأنّ الأُمّة بعد غيبة الإمام في الأزمنة المتطاولة لم تترك سدى في أمر السياسة و القضاء الذي هو من أهمّ ما يحتاجون إليه، و لا سيّما مع تحريم الرجوع إلى سلاطين الجور و قضاتهم و تعبيرهم (عليهم السّلام) عن ذلك ب «التحاكم إلى الطاغوت» و أنّ «المأخوذ بحكمهم سحت و لو كان الحق ثابتاً»(1)، و إنّ ذلك واضح بضرورة العقل. و عليه فيدور الأمر في زعامة الأُمّة و قيادتهم بين أن يتصدّيها الفقيه العادل و بين أن يتكفّلها غيره، من العامي الجاهل أو الفقيه الفاسق. و لا ريب في تعيّن الفقيه العادل لذلك في نظر العقل و الشرع؛ لأنّ الجاهل لا يتمكن من القيادة على أساس الكتاب و السنة لجهله، و الفاسق لا يؤمن عليها. و هذا التقريب يستفاد من مذاق الشارع بحسب مجموع ما ورد عنه من النصوص المشار إليه مضمونها من الكتاب و السنة و من حكم العقل، فهو مقتضي ضرورة العقل و الشرع.

ثانيهما: ما يمكن استفادته ممّا استدل به في كتاب البيع(2) على لزوم تأسيس الحكومة الإسلامية بتقريب آخر. حاصله: أنّه من الضروري أنّ الأحكام الإلهية بنطاقها الواسع الشامل للحقوق و السياسات و القضائيات و الماليات و الجزائيات و غيرها من الأحكام، لا تختصّ بعصر الشارع، بل هي باقية إلى يوم القيامة، و إنّ ذلك يتطلّب سيادة القانون الإلهي و تحكيمه بين الناس. و لا يمكن2.

ص: 64


1- راجع وسائل الشيعة 11:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1.
2- البيع، الإمام الخميني (قدّس سرّهم) 617:2.

تحقق هذا المهم إلّا بتشكيل الحكومة الإسلامية، مع أنّ حفظ بيضة الإسلام و صيانة آثار الشريعة عن الدروس الذي وجب لأجله بذل النفوس بالقتال لا يمكن إلّا بتشكيل حكومة الإسلام بقيادة الفقيه العادل العارف بأحكام الشريعة العالم بزمانه القادر على دفع الشبهات و البدع و التحريفات و دسائس أعداء الدين. و إنّ الدليل على ذلك هو الدليل على ضرورة الإمامة بعينه و يدلّ على ضرورة النيابة القائمة مقام الإمامة بالفحوى؛ لأنّ زمن الغيبة أطول من زمن الحضور بأضعاف فلا بدّ أن يكون الاهتمام بالغرض المذكور أشدّ. و إنّ أساس هذا الاستدلال يبتني على مقتضى ضروري الدين.

و أمّا الإشكال: بأنّ غيبة صاحب الأمر (عج) إنّما وقع بسبب ظلم الأُمّة، و عدم لياقة أنفسهم فإنّهم غيّروا مصير حياتهم بأيدي أنفسهم، و لم يكن من جانب الشارع لينافي حكمته، كما قال تعالى إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ (1).

ففيه: أوّلاً: أنّ الأُمم السالفة قد صدر منهم أقبح القبائح و أنواع الظلم في حق أنبيائهم، فمع ذلك لم ينقطع إرسال الرسل و الوحي عنهم.

و ثانياً: أنّ إرسال الرسل إنّما هو لأجل إتمام الحجّة على الظالمين و الفاسقين الذين لا يأتمرون بأوامر الشارع و لا ينتهون من نواهيه، لا لأجل اللطف و الرحمة بالنسبة إليهم لينقطع بظلمهم، كما قال تعالى رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (2).5.

ص: 65


1- الرعد (13):11.
2- النساء (4):165.

و أمّا الحجة الباطنة و هو العقل و إن كانت قائمة لآحاد الناس، إلّا أنّه لكثرة أهواء البشر و شهواته و ميوله النفسانية و الغرائز الحيوانية قد أرسل اللّه الرسل إليهم؛ ليتم عليهم الحجّة بذلك.

و ثالثاً: أنّه لو ظلم الأُمّة المعاصرة للإمام الثاني عشر، فأيّ ذنب للذين تولّدوا في قرون بعد ذلك العصر حتى يحترقوا بنار أسلافهم بسلب حق حكومة الإسلام عنهم؟ فإنّ حرمانهم عن بركات قيادة الفقيه العادل العارف باللّه الأمين على حلاله و حرامه و ابتلائهم بحكومة الطواغيت لأجل ذلك، خلاف العدل و الإنصاف و ظلم بالنسبة إليهم، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

و الحاصل: أنّه يمكن دعوى الضرورة على لزوم تأسيس الحكومة الإسلامية في عصر غيبة صاحب الأمر بقيادة الفقيه العادل العارف بأحكام الشريعة، ليحكم بين الناس بالحق و العدل، و يقيم حدود اللّه، و يحيي آثار الشريعة، و يحفظ ما جاء به النبي من الاندراس، و يصدّ عن ظلم الطواغيت و يبطل البدع و يسوق مجتمع الأُمّة إلى السعادة و الفلاح، فيمهّدهم لظهور صاحبهم و يهيّئهم لسلطنته و حكومته الحقة العالميّة.

الاستدلال بالدليل العقلي

يمكن تقريب الدليل العقلي لثبوت الولاية على الحكومة للفقيه العادل المدبّر في عصر الغيبة بوجهين:

أحدهما: أنّ أداء شكر أُصول النعم في نظر العقل إنّما هو بصرفها في جهة إرادة المنعم و امتثال أمره، و لا يتحقق ذلك إلّا بإجراء أحكام دين اللّه تعالى، و إقامة الحكومة على أساس قوانين الشريعة. و يتوقف ذلك على عناصر ثلاثة أصلية

ص: 66

و هي: العلم و التدبير و العدالة. أمّا العلم فلعدم تمكّن الجاهل بأحكام الدين من إجرائها؛ لجهله بها. أمّا التدبير فلتوقف الحكومة و الإمارة عليه. أمّا العدالة فلأن الفاسق غير مأمون على إجراء أحكام الشريعة. فمن لم يتوفّر له أحد هذه الشروط الثلاثة الأساسية لا يكون أهلاً لتصدّي القيادة و الحكومة في نظر العقل.

ثانيهما: أنّ مقتضى حكمة اللّه تعالى في نظر العقل ضرورة ثبوت الولاية على الحكومة بين الناس لواحد منهم حتى يدفع ظلم الظالم و يأخذ حق المظلوم و يحفظ نظام حياة الناس و معاشهم من جميع جهاته الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية و السياسية و غيرها، على أساس إرادته تعالى و أحكامه، و ليحفظ به شريعته و دينه من الاندراس و التحريف و التغيير و هجمة الطواغيت و أهل البدع. و يتوقف ذلك في نظر العقل على تحقق الشروط الثلاثة الأساسية المذكورة، و هي العلم بأحكام الدين و التدبير و العدالة. فمن كان فاقداً لأحد هذه الشروط ليس أهلاً لتكفّل الحكومة في نظر العقل لأجل الملاك المذكور. و إلى ذلك يشير قول أبي الحسن (عليه السّلام)

فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق ممّا يعلم أنّه لا بدّ لهم منه و لا قوام لهم إلّا به، فيقاتلون به عدوّهم و يقسمون به فيئهم و يقيم لهم جمعتهم و جماعتهم و يمنع ظالمهم من مظلومهم(1).

و مقتضى التقريبين أنّ في نظر العقل لا أهلية لغير الفقيه العادل المدبّر لتصدّي الحكومة على الناس و قيادتهم. هذا ما يحكم به العقل مع قطع النظر عن ثبوت ولاية الإمام المعصوم من جانب اللّه تعالى بالدليل النقلي القطعي. و أمّا بعد معرفته ذلك فمع قطع النظر عن النص الوارد من جانبه (عليه السّلام) في ذلك يحكم بأنّ الواجد6.

ص: 67


1- علل الشرائع: 9/253، بحار الأنوار 1/60:6.

للشرائط الثلاثة المذكورة أهل لتصدّي الحكومة في عصر غيبة ولي اللّه (عج)، إلّا أن يرد من الشارع نص يدلّ على اعتبار ما هو خارجٌ عن نطاق حكم العقل كاشتراط عدم كون الحكم ولد الزنا و لا من النساء فيحكم بالتعبّد به قضاءً لحق العبودية و المولوية. و في الحقيقة يكشف العقل حينئذٍ في مورد حكمه من الشرائط عن نظر الشارع الحكيم في ذلك؛ نظراً إلى عدم حكمه أبداً بما هو خلاف مقتضى الحكمة.

إن قلت: كيف يحكم العقل بذلك بعد حكمه بعدم ثبوت الولاية على الناس لغير المنعم بأُصول النعم و مالك الموجودات.

قلت: لا ينافي ذلك حكمه أيضاً بأنّ مقتضى حكمته إعطاؤه تعالى الولاية على الحكومة إلى أحد لئلّا يترك عباده سدى بلا قيّم و حاكم يقيم أُمور معاشهم و معادهم و يحفظ نظام حياتهم و عيشهم، كما هو واضح.

الاستدلال ببناء العقلاء

ثمّ إنّه مما استدلّ به على مشروعية تصدّي الحكومة للفقيه العادل و ولايته على ذلك، بناء العقلاء، بتقريب استقرار سيرتهم على نصب رئيس و قيّم في أُمورهم و جعل الولاية له على شئونهم السياسية و الاجتماعية و سائر أُمورهم العامة، فيعطونه زمام أُمورهم؛ و إن يخطئون صغروياً بتطبيقها على غير مصاديقها الواقعية. و لكن لا يضر ذلك بقطعية هذه الكبرى الثابتة بالسيرة. و أمّا تطبيق هذه الكبرى المستقرّة عليها السيرة على جعل الفقيه العادل العارف بأحكام الشرع، فإنّما هو بالعلم الوجداني؛ نظراً إلى دوران الأمر بين تصدي الفقيه العادل العارف بقوانين الشرعية للحكومة و بين تصدّي غيره و من البديهي تقدّمه على غيره؛ ضرورة توقف

ص: 68

ذلك أوّلاً: على العلم بالقوانين الشرعية؛ نظراً إلى ابتناء الحكومة الإسلامية على القوانين الشرعية. و ثانياً: على العدالة ليؤمن من الخيانة و الحيف و الميل. و ثالثاً: على التدبير ليقدر به على القيادة و الحكومة.

و بالجملة فإنّ تشكيل الحكومة برئاسة من له الأهلية لذلك و إعطاء الولاية العامة على الأُمور إليه مما استقرّت عليه سيرة العقلاء و لم يردع عنه الشارع. بل يظهر من بعض النصوص إمضاؤها، مثل ما ورد في خبر الفضل بن شاذان، بل حسنته عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام)

إنّا لا نجد فرقة من الفرق و لا ملّة من الملل بقوا و عاشوا إلّا بقيّم و رئيس؛ لما لا بدّ لهم منه في أمر الدين و الدنيا(1).

و يظهر ذلك أيضاً من معتبرة أبي خديجة و مقبولة عمر بن حنظلة و غيرهما من النصوص الدالّة على تنزيل الفقهاء العدول منزلة الإمام (عليه السّلام) في عصر الغيبة في قيادة هذه الأُمّة و الحكومة عليهم؛ حيث دلّت على نصب من له الأهلية للحكومة بين الشيعة. و سيأتي ذكرها، إن شاء اللّه.

هذا غاية تقريب الاستدلال ببناء العقلاء.

و لكن يرد عليه: أنّ بناء العقلاء على أصل إقامة الحكومة و كذا إعطاء الولاية إلى من له الأهلية للرئاسة و القيادة في نظرهم، و إن لا يمكن إنكاره، إلّا أنّ الذي لم يردع عنه الشارع هو بناؤهم على إقامة أصل الحكومة.

أمّا بنائهم في تعيين نوع الحكومة و إعطاء الولاية إلى من له الأهلية بنظرهم و على أساس مسلكهم أيّاً ما كان، لا نسلّم كونه مورد إمضاء الشارع، كيف و قد ثبت لنا بضرورة الدين أنّ الشارع لم يشرّع إلّا الحكومة الإسلامية و لم يعط الولاية على6.

ص: 69


1- علل الشرائع: 9/253، بحار الأنوار 1/60:6.

الحكومة إلّا للنبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و الإمام (عليه السّلام) و نائبه؟! و أمّا ما روي عن أبي الحسن (عليه السّلام) فغاية مدلوله إمضاء بناء العقلاء في أصل إقامة حكومة بقيادة قيّم و رئيس، لا إمضاء بنائهم في تعيين نوع الحكومة و إعطاء الولاية إلى كلّ من له أهلية بنظرهم، من أيّ مسلك كانوا، و إلّا ليلزم كون جميع الحكومات القائمة بين العقلاء في جميع الأزمان و الأقطار مورد تأييد الشارع، و هو خلاف ضروري الدين.

و لا يخفى أنّه لا حاجة إلى الاستدلال ببناء العقلاء بعد تمامية الاستدلال بدليل العقل و ضرورة الدين و سائر الوجوه.

الاستدلال بدليل الحِسبة

و مما يمكن أن يستدل به لجواز تصدّي الفقيه للحكومة و القضاء، بل وجوب ذلك هو دليل الحسبة. و الحسبة إمّا اسم مصدر «الحَسْب» بمعنى الكفاية، و إمّا من الحسبة بمعنى التدبير، كما في المصباح المنير نقل عن الأصمعي، قال: فلان حسن الحسبة؛ أي حسن التدبير. و إنّ الأُمور الحسبة مثل تولّى أُمور الغيّب و القصّر و الصغار، و من لا وارث له، و من لا وصي له، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و إجراء القصاص و الحدود و الديات، و كل ما يقطع بعدم رضى الشارع بتركه و تعطيله، مما يحتاج إلى التصدّي و التكفّل بأمره. و يقطع من مذاق الشارع بعدم رضاه بتركه و تعطيله، لما له من الأهميّة في نظره.

و تقريبه: إنّه من الواضح أنّ من أهم الأُمور الحسبية أمر الحكومة و الإمارة و الولاية و قيادة الأُمّة، كما ورد في خبر الفضل المتقدّم آنفاً. و كما نقطع بعدم رضي الشارع بترك هذا الأمر المهم فكذلك نقطع بعدم رضاه بأن يتصدّى لذلك و يتكفّل به

ص: 70

من لا يليق به من الطواغيت و الفسقة أو الجهّال الذين لا يعرفون حلال الشريعة من حرامها و لا حدودها و قصاصها و دياتها. و عليه فنقطع بأنّ الشارع كما لا يرضى بترك تأسيس الحكومة الإسلامية فكذلك لا يرضى بإقامتها إلّا بقيادة الفقيه العادل الجامع لشرائط الإفتاء، حيث عند دوران الأمر بينه و بين غيره نقطع بعدم رضى الشارع بتصدّي غيره للحكومة.

و لا يخفى أنّ القطع بعدم رضى الشارع إنّما يحصل للفقيه بسبب معرفته مذاق الشارع و ديدنه الذي استنبطه من خطاباته الواردة في تشريع أحكام هذه الأُمور. و من هنا نقول: إنّ الملاك الذي لأجله نقطع بعدم رضى الشارع بترك أُمور الحسبة و تعطيلها حاصلٌ في إقامة الحكومة و إعطاء ولايتها إلى الفقيه المدبر العادل بالفحوى القطعي. و لكن لا يخفى أنّ مقتضى دليل الحسبة ثبوت الولاية للفقيه بقدر الضرورات المتوقف عليها حفظ نظام الحكومة، لا الولاية المطلقة بعرضها العريض.

الاستدلال بالآيات

فهي على طوائف، منها: ما أمر فيها بالاجتناب عن الطاغوت و نهى عن التحاكم و الرجوع إلى الظالم و الركون إليه و حرّم فيها إطاعة الفسّاق. مثل قوله تعالى وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ (1) هذه الآية و إن كان ربما يخطر بالبال كون المقصود الاجتناب عن عبادة الطاغوت بقرينة المقابلة، إلّا أنّ ذلك لا يمنع عن إطلاق الأمر بالاجتناب و شموله لجميع مصاديقه، فإنّ من راجع إلى الطاغوت و إنقاد لأوامره في جميع أُموره لم يجتنب عن الطاغوت

ص: 71


1- النحل (16):36.

قطعاً، و خالف الأمر بذلك. و قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ (1) .

و قد ورد نصوص كثيرة معتبرة دلت على تحريم الرجوع إلى قضاة الجور و الطواغيت(2) في تفسير هذه الآية. و هي دلّت بالمطابقة على حرمة التحاكم إلى الطاغوت و بالالتزام على وجوب التحاكم إلى الحاكم العدل، بتقريب أنّ اللوم و العتاب على الجمع بين دعوى الإيمان و بين التحاكم إلى الطاغوت يدلّ على وجوب تحكيم دين اللّه و شريعته على الناس و الحكم بينهم على طبقه؛ حيث إنّ الرجوع إلى الطاغوت و الركون إليه و الانقياد إلى أوامره يكشف عن الإيمان به، و ذلك يضادّ الإيمان باللّه. و من أجل ذلك عوتب هؤلاء على التحاكم إلى الطاغوت و جعل الاجتناب عنه كفراً به. و هذا الملاك لا يختص بالتحاكم إلى الطاغوت في خصوص فصل الخصومات و المنازعات، كما هو مورد الآية، بل يعمّ الركون إلى الطاغوت و الانقياد لأوامره في جميع شئون العيش و أُمور الحياة فيعلم من ذلك أنّ المقصود النهي عن الرجوع إلى الطاغوت و الركون إليه في جميع شئون العيش و تحريم الانقياد لأوامره في مطلق الأُمور. و هذا يدلّ بقرينة المقابلة على وجوب الرجوع في ذلك إلى من يتديّن بدين اللّه و يعرف أحكامه لكي يحكم على أساس دين اللّه و شريعته؛ ليتحقّق بذلك تحكيم حدود اللّه و الانقياد لأوامره في مطلق الأُمور4.

ص: 72


1- النساء (4):60.
2- راجع وسائل الشيعة 11:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 2 4.

و جميع شئون الناس. هذا المعنى بهذا المقدار يمكن استفادته من الآية بالدلالة السياقية الالتزامية، على نحو القضية الحقيقية، كما هي شأن الخطابات الشرعية، فهي تفيد كبرى كلّية صادقة على مصاديقها في جميع الأعصار. و أمّا انطباق من يتديّن بدين اللّه و يعرف أحكامه في عصر الغيبة على الفقيه العادل، فهو بالوجدان.

و من هذا القبيل قوله تعالى وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ(1) . و لا ريب أنّ إعطاء زمام الحكومة إلى الظالم من أظهر مصاديق الركون إليه. و قوله وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (2) . و دلالته على عدم مشروعية حكومة الفاسق، بلحاظ إسرافه على نفسه.

و منها: آيات تشريع الحدود و الديات و القصاص و غيرها من الأحكام المتوقف إجراؤها و إنفاذها على القهر و الإلزام و التعزير، بل القتال؛ فإنّ هذه الآيات تخاطب جميع المسلمين في كل عصر و تشمل بنطاقها الواسع مسلمي جميع الأعصار، من دون اختصاص بعصر النبي و الأئمّة (عليهم السّلام). و من الواضح أنّه إنّما يقوم بإجراء الحدود و الأحكام الإلهية من اعتقد بالدين و عرف أحكامه، و إلّا فمن لا اعتقاد له بالشريعة لا داعي له للقيام بذلك، و من كان جاهلاً بأحكامها لا يتمكّن من ذلك، بل يرى إقامة حدودها مزاحماً لسلطنته، بل لا بدّ له مضافاً إلى العلم و الاعتقاد من الورع و التقوى، و إلّا لا يأتمر الأُمّة بأمره و لا تنتهي بنهيه، مع أنّ الفاسق لا يؤمن على حفظ آثار الشريعة و إقامة أحكامها و لا من الخيانة بالإسلام و المسلمين.1.

ص: 73


1- هود (11):113.
2- الشعراء (26):151.

و أمّا وجه تعميم مفاده إلى سائر شئون الحكومة، غير إجراء الحدود و الديات و القصاص التي هي مورد هذه الآيات هو الملازمة الخارجية؛ حيث يقضي الوجدان بعدم إمكان إقامة الحدود الإلهية إلّا في حكومة عادلة، نعم قد يمكن القيام بإجراء بعضها و لكنه إنّما يمكن ما لم يزاحم سياسة الحكومة الجائرة و أمّا إقامة جميعها على النحو المشروع فلا يمكن عملاً إلّا في ظلّ الحكومة العادلة الإسلامية.

و منها: آيات أمر فيها بإقامة العدل و القسط بين الناس.

كقوله تعالى وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (1)الحديد (57):25.(2) .

و قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ(3) . فإنّ أمره تعالى بإقامة العدل و القسط إرشاد إلى حكم العقل لاستقلاله بحسن القسط و العدل و لزوم القيام بهما.

و قوله تعالى قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ(4) ، بل بيّن القيام بالقسط في بعض الآيات هدفاً لإرسال الرسل الإلهية و إنزال الكتب السماوية.

كما قال لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ(4) . و من الواضح أنّ الذي تعلّق به أمر الشارع من العدل و القسط إنّما هو ما يطابق موازين الشرع و أحكام الدين؛ حيث لا يرى الشارع غير ذلك قسطاً و لا عدلاً، فليس المقصود ما كان قسطاً و عدلاً في5.

ص: 74


1- النساء
2- :58.
3- النساء (4):135.
4- الأعراف (7):29.

نظر جماعة من الناس أو بادعاء رؤساء الدول. و ظاهر الآية أنّ إرسال الرسل و إنزال الكتاب و الميزان ليس لمجرّد إرشاد الناس إلى القيام بالقسط، بل المقصود سَوق الناس إلى القيام بالقسط بإجراء الأحكام الإلهية بينهم و تحكيم دين اللّه بينهم، كما يشير إلى ذلك ذيلها وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ.. .

و هذا المعنى تفيده الآية بالدلالة اللفظية. و أمّا انطباقه في عصر الغيبة على الفقيه العادل فهو بالوجدان؛ حيث يقضي بأنّ هذا الأمر المهمّ لا يتحقق في عصر الغيبة إلّا بتشكيل حكومة عادلة دينية، و أنّه لا يمكن إلّا بتولّي من كان عادلاً و عالماً بموازين القسط التي وضعها الشارع الأقدس بتشريع أحكام الدين و حدود الشريعة، و هو لا يكون إلّا فقيهاً عادلاً عالماً بقوانين الدين و أحكام الشريعة، لا الجاهل الجائر الذي لا حظّ له من العلم و العدالة.

و منها: آيات حرّم فيها الحكم بغير ما أنزل اللّه بل أُسند فيها الكفر و الظلم و الفسق إلى من لم يحكم بما أنزل اللّه. و ظاهرها إيجاب الحكم بما أنزل اللّه على من تمكّن منه، كقوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ،.. الظّالِمُونَ ،.. الْفاسِقُونَ (1) .

هذه الآيات دلّت أوّلاً: على وجوب الحكم بما أنزل اللّه. و ثانياً: على أنّ الصالح لتولّي الحكم إنّما هو من يحكم بما أنزل اللّه دون غيره.

و هذا المقدار من المعنى داخلٌ في مدلول لفظ الآية. و أمّا انطباقه على الفقيه العادل فإنّما هو بالوجدان؛ إذ الجاهل بأحكام الشريعة لا يتمكّن من الحكم بما أنزل اللّه، و لو كان مؤمناً عادلاً، كما أنّ الفاسق لا يؤمن منه على ذلك، و لو كان فقيهاً،7.

ص: 75


1- المائدة (5):44 و 45 و 47.

كقوله تعالى مخاطباً للنبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) - إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللّهُ (1) و لا يختص مدلول هذه الآية بالقضاء في فصل الخصومات أو بما يعمّه و خصوص الأحكام الجزائية من الحدود و الديات و القصاص بل يعمّ جميع الأحكام الراجعة إلى شئون الحكومة. و ذلك لأنّه ما من حادثة و لا أمر و شأن من الأُمور و الشئون السياسية و الثقافية و النظامية و الاقتصادية و غيرها، إلّا و له حكمٌ في الإسلام، فلا بدّ من إقامته و إجرائه بين الناس. مع أنّ لفظ الحكم في اصطلاح القرآن يعمّ جميع ذلك. هذا مضافاً إلى ثبوت التعميم بالفحوى؛ نظراً إلى وضوح أهمّية حكومة الدين على جميع شئون الناس من تحكيمه عليهم في خصوص فصل الخصومات و الجزائيات.

و من الواضح أنّ هذا المهم الذي يشكّل الهدف من إنزال الكتاب لا يختص بعصر النبي و الأئمّة (عليهم السّلام). و إنّما يصلح للقيام به العارف بأحكامه العادل الورع في دينه، كما قلنا.

فهذه الآيات الكثيرة و نحوها تدلّ بنطاقها الواسع أوّلاً: على ضرورة تشكيل حكومة العدل و القسط على أساس أحكام الشريعة و القوانين الإلهية و تحكيم دين اللّه و إقامة حدوده و إنفاذ الأحكام الشرعية و وجوب الحكم بما أنزل اللّه.

و ثانياً: على لزوم تصدّي الفقيه العادل العالم بأحكام الدين العارف بالحلال و الحرام للحكومة. و ذلك لأنّ الأمر بالقيام بالعدل و القسط و إيجاب الحكم بما أنزل اللّه و تحكيم دين اللّه و إقامة حدوده في جميع الأعصار، يستدعي ذلك؛ حيث لا تتحقق هذه الأُمور في عصر الغيبة، إلّا في حكومة عادلة إسلامية بقيادة الفقيه5.

ص: 76


1- النساء (4):105.

العادل، و إن كان هذا المعنى خارجاً عن نطاق مدلول لفظ الآيات و لكنّه من لوازم مدلولها الثابتة له بمقتضى السياق و الوجدان.

الاستدلال بالأخبار
اشارة

و أمّا الأخبار فهي عدّة طوائف:

الطائفة الأُولى: ما دلّت على أنّ الشارع الأقدس قد بيّن جميع ما تحتاج إليه الأُمّة

و لم يضايق لهم عن بيان شيء من الأحكام. و حيث إنّ من أهمّ الأُمور أمر قيادة الأُمّة و القيام بالحكومة بينهم، فدلّت هذه الطائفة على عدم إهمال الشارع ما هو أهم قدراً و أعظم خطراً في نظره. و قد عقد في أُصول الكافي باب بهذا العنوان و ذكر هناك روايات تدلّ على هذا المعنى:

فمنها: صحيح حمّاد عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام)

ما من شيء إلّا و فيه كتاب أو سنّة(1).

منها: ما رواه في الكافي بإسناده عنه (عليه السّلام) قال

و اللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبدٌ يقول: لو كان هذا أُنزل في القرآن إلّا و قد أنزله اللّه فيه(2). و لا يخفى أنّ لفظ «لو» فيه للتحضيض بمعنى الاعتراض و اللّوم.

منها: ما رواه بإسناده عنه (عليه السّلام)، قال

ما خلق اللّه حلالاً و لا حراماً إلّا و له حدٌّ كحدّ الدار فما كان من الطريق فهو من الطريق، و ما كان من الدار فهو من الدار، حتى أرش الخدش فما سواه(3).

ص: 77


1- الكافي 4/59:1.
2- نفس المصدر: 1/59.
3- نفس المصدر: 3/59.

منها: ما رواه بإسناده عنه (عليه السّلام)، قال

ما من أمرٍ يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللّه عزّ و جلّ (1).

منها: ما رواه بإسناده عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

أنّ اللّه تبارك و تعالى لم يدَعْ شيئاً يحتاج إليه الأُمّة إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و جَعَل لكل شيء حدّا و جعل عليه دليلاً يدلّ عليه و جعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا(2).

منها: صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في حديث

إنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) قال: الحمد للّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بيَّنتُ للأُمّة جميع ما تحتاج إليه(3).

منها: موثق ابن فضّال عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال

خطب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) في حجَّة الوداع، فقال: يا أيّها الناس: و اللّهِ ما من شيء يقرّبكم من الجنة و يباعدكم من النار إلّا و قد أمرتكم به، و ما من شيء يقرّبكم من النار و يباعدكم من الجنّة إلّا و قد نهيتكم عنه(4).

و غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالّة على هذا المضمون يجدها المتتبع في مظانّها. فقد دلّت هذه النصوص على أنّ الشارع بيّن للناس وظائفهم و أحكام جميع أُمورهم و من الواضح أنّ تأسيس الحكومة و جعل الولاية للحاكم من أهم أُمورهم. فكيف يسكت عنه؟! هذا، و لكن غاية مدلول هذه الطائفة عدم سكوت الشارع عن أمر الحكومة و قيادة الأُمّة و تعيين الحاكم، و عدم إهماله لهذا المهم، لا أزيد من ذلك.2.

ص: 78


1- الكافي 6/60:1.
2- نفس المصدر: 2/59.
3- الوافي 216/274:1.
4- الكافي 2/74:2.

فلا تصلح هذه الطائفة وحدها لإثبات المطلوب، بل يكون مفادها من مقدّمات الاستدلال بضرورة الدين على ولاية الفقيه بالتقريب المتقدّم.

الطائفة الثانية: ما دلّ على ضرورة وجود أمين قيّم للناس في كلّ عصر

ليمنعهم من التعدّي و الطغيان و الفساد و يقيم الحدود و الأحكام، و أنّه لا بدّ لهم من والٍ حتى يقاتلون به عدوّهم و يقيمون به جمعتهم، فتحفظ آثار الشريعة و أحكامها عن التغير، و يصان ما جاء به النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) عن الدروس، و أنّه لا بدّ لهم من إمام و حاكم أمين عادل لتنتظم به شتاتهم و تلمّ به فرقتهم و لا ينطبق ذلك في عصر الغيبة إلّا على الفقيه العادل؛ و قد سبق بيانه.

فمن هذه الطائفة ما رواه في العلل بسنده المعتبر عن الفضل بن شاذان عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) في حديث قال (عليه السّلام)

فإن قال: فلم جَعَلَ اولى الأمر و أَمَر بطاعتهم؟ قيل: لِعلل كثيرة. منها: أنّ الخلق لمّا وُقفوا على حدّ محدود و أُمِروا أن لا يتعدّوا ذلك الحدّ لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك و لا يقوم إلّا بأن يُجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدّي و الدخول فيما خطر عليهم؛ لأنّه لو لم يكن ذلك لكان أحد لا يترك لذّته و منفعته لفساد غيره. فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد و يقيم فيهم الحدود و الأحكام.

و منها: أنّا لا نجد فرقةً من الفرق و لا ملّةً من الملل بقوا و عاشوا إلّا بقيّم و رئيس؛ لِما لا بدّ لهم منه في أمر الدين و الدنيا فلم يَجُز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق ممّا يعلم أنّه لا بدّ لهم منه و لا قوام لهم إلّا به فيقاتلون به عدوّهم و يقسّمون به فيئهم و يقيم لهم جمعتهم و جماعتهم و يمنع ظالمهم من مظلومهم.

و منها: أنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً أميناً حافظاً مستودعاً لدرست الملّة و ذهب الدين و غُيِّرت السنة و الأحكام و لزاد فيه المبتدعون و نقص منه الملحدون

ص: 79

و شبّهوا ذلك على المسلمين؛ لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم و اختلاف أهوائهم و تشتت أنحائهم. فلو لم يجعل لهم قيّماً حافظاً لِما جاءَ به الرسول (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) لفسدوا على نحو ما بيّناه، و غُيّرت الشرائع و السنن و الأحكام و الإيمان، و كان في ذلك فساد الخلق أجمعين(1).

هذه الرواية لا إشكال في دلالتها على المطلوب؛ حيث لا ينطبق مفادها في عصر الغيبة إلّا على الفقيه العادل؛ لما بيّناه سابقاً.

و أمّا سنداً فقد رواه الصدوق في العلل عن عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار عن أبي الحسن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري عن أبي محمد الفضل بن شاذان. و أيضاً عن الحاكم أبي جعفر محمد بن نعيم بن شاذان عن عمّه أبي عبد اللّه محمد بن شاذان عن الفضل بن شاذان.

و لا يبعد كونها حسنة سنداً؛ نظراً إلى أنّه و إن لم يوثق بعض رواته صريحاً، إلّا أنّ الصدوق رواها بطريقين عن الفضل، و لم يرد ذمّ في واحد من رواتها، بل يظهر من ترضّي الصدوق لهم و كونهم من مشايخه حسن حالهم. و لا سيّما أنّه رواها بطريقين.

ثمّ إنّه لا يتوهم أنّها قول الفضل من عند نفسه، بل هي كلام الإمام (عليه السّلام)؛ لما قال الصدوق: «حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري (رضى اللّه عنه) قال حدّثنا عليّ بن محمد بن قتيبة النيسابوري، قال: قلت للفضل بن شاذان لمّا سمعت منه هذه العلل -: أخبرني عن هذه العلل أذكرتها من الاستنباط و الاستخراج و هي من نتائج العقل أو هي مما سمعت و رويته؟ قال لي: ما كنت لأعلم مراد اللّه6.

ص: 80


1- علل الشرائع: 9/253، عيون أخبار الرضا 1/99:2، بحار الأنوار 1/60:6.

عزّ و جلّ بما فرض و لا مراد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بما شرّع و سنّ و لا علل ذلك من ذات نفسي، بل سمعتها من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) المرّة بعد المرّة و الشيء بعد الشيء، فجمعتها. فقلت: فأُحدّث بها عنك عن الرضا (عليه السّلام)؟ قال: نعم»(1).

و قال: «و حدّثنا الحاكم أبو محمد جعفر بن نعيم بن شاذان النيسابوري (رضى اللّه عنه) عن عمّه أبي عبد اللّه محمد بن شاذان عن الفضل بن شاذان أنّه قال: سمعت هذه العلل من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) متفرقة فجمعتها و ألّفتها»(2).

و منها: قول أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)

فرض اللّه الإيمان تطهيراً من الشرك و.. و الإمامة نظاماً للأُمّة..(3) نقل صبحي الصالح «و الأمانة»، لكنه غلط، و الأصح «و الإمامة» كما في «مصادر نهج البلاغة»(4).

و ما ورد في خطبة الصديقة الطاهرة (سلام اللّه عليها)

ففرض اللّه الإيمان تطهيراً من الشرك.. و الطاعة نظاماً للملّة و الإمامة لمّاً من الفرقة(5).

و من الواضح عدم اختصاص حاجة المسلمين إلى هذا المهم بعصر الشارع بل حاجتهم إلى ذلك في عصر الغيبة أشدّ بلحاظ كثرة ما ظهر من الطواغيت و أعداء الدين مع أنواع الحيل و الدسائس بأبعادها الوسيعة الاقتصادية و النظامية و الثقافية و السياسية.4.

ص: 81


1- علل الشرائع: 9/274، عيون أخبار الرضا 2/119:2، بحار الأنوار 85:6.
2- عيون أخبار الرضا 3/121:2.
3- نهج البلاغة: 512، الحكمة 252.
4- مصادر نهج البلاغة و أسانيده 193:4.
5- مصادر نهج البلاغة و أسانيده 193:4.

و منها: وصيّته (عليه السّلام) للحسن لمّا ضربه ابن ملجم لعنه اللّه -

أُوصيكما و جميع ولدي و أهلي و من بلغه كتابي بتقوى اللّه و نظم أمركم(1).

بناءً على إرادة الإمارة و الحكومة من لفظ الأمر، كما هو الظاهر من القرائن المقامية و الحالية؛ لأنّ أهمّ عويصة كان يبتلي بها المسلمون في زمانه (عليه السّلام) هو تفرّقهم عن الحق و تشتّتهم عن ولي اللّه في مسألة الإمارة و الخلافة، بل أصل الإسلام كاد أن يمحو بسبب اختلاف الأُمّة و تشتّتهم و عدم انسجامهم و انتظامهم في أمر الحكومة. و هذا الخطر العظيم يتطلّب توصية أمير المؤمنين (عليه السّلام) في وقت مهم مثل حال الاحتضار ليهتمّ به شيعته. هذا بحسب القرينة الكاشفة عن المراد و أمّا لغةً فقد جاء لفظ الأمر بمعنى الإمارة و الحكومة كما قال في المصباح: «و الإمرة و الإمارة الولاية بكسر الهمزة. يقال أمر على القوم يأمر من باب «قتل» فهو أمير و الجمع الأُمراء»(2) و كذا صرّح بذلك في سائر جوامع اللغة.

و على فرض إرادة مطلق الأمر يشمل المقام بالإطلاق؛ لأنّ إدارة المسلمين و التدبير و السياسة بينهم من أهمّ أُمورهم و أحوجها إلى النظم، و هو لا يتحقق إلّا بقيم لهم و رئيس ينظم بينهم بسياسة و تدبير واحد. و لا ريب أن مقصوده (عليه السّلام) النظم على أساس أحكام الدين. و لا يصلح لأخذ زمام نظام الإمارة و قيادة الأُمّة في عصر الغيبة إلّا الفقيه العادل. و أمّا النظم في الأُمور اليومية فواضح لا يحتاج إلى بيان و لا يناسب شأن الشارع، و لا سيّما حال الوصية و الاحتضار.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على لزوم كون الوالي على المسلمين و القاضي بينهم

ص: 82


1- نهج البلاغة: 421، الوصية 47.
2- المصباح المنير: 22.

عادلاً قائماً بالقسط، عالماً بأحكام الدين، عارفاً بحلاله و حرامه. و إنّ اعتبار ذلك واضحٌ بضرورة العقل و الوجدان، كما قلنا سابقاً؛ نظراً إلى أنّ الحكومة الإسلامية لمّا كانت حكومة قانونية إلهية مجعولة لأجل إجراء القانون و بسط العدل و القسط بين الناس، لا بدّ للوالي من صفتين هما أساس الحكومة الإسلامية و لا يعقل تحققها إلّا بهما.

إحداهما: العلم بالقانون. و ثانيتهما: العدالة؛ لوضوح عدم صلاحية الجاهل و الظالم و الفاسق لذلك، و لا يلائم حكمة الشارع أن يجعله والياً على المسلمين و حاكماً على مقدّراتهم و على أموالهم و أنفسهم، مع شدّة اهتمامه بذلك؛ حيث لا يمكن إجراء القانون الإلهي كما هو حقّه إلّا بيد الفقيه العادل العارف بأحكام الدين؛ لأنّ الجاهل لا يعرف أحكام الدين و لا يميّز حلاله من حرامه، و لو كان عادلاً و الفاسق لا يؤمن منه عليها، و لو كان فقيهاً.

و قد دلّ على ذلك نصوصٌ:

منها: قول أمير المؤمنين (عليه السّلام)

لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و الدماء و المغانم و الأحكام و إمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نَهْمتُه(1)، و لا الجاهل فيُضلّهم بجهله، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه، و لا الحائف للدُّول(2) فيتَّخذ قوماً دون قوم، و لا المرتشي في الحكم فيَذهب بالحقوق و يقف بها دون المقاطع(3)، و لا المعطِّل للسنة فيُهلك الأُمّة(4).2.

ص: 83


1- النَّهمة: إفراط الشهوة و المبالغة في الحرص.
2- الدُّوَل: جمع الدُّولة: أي المال؛ لأنّه يتداول و يُنْقَلُ يداً بيدٍ.
3- المقصود منه حدود اللّه.
4- نهج البلاغة: 189، الخطبة 131، دعائم الإسلام 1886/531:2.

و منها: قول على (عليه السّلام)

و لكنّني آسَى أنْ يَليَ أمْرَ هذه الأُمّة سفهاؤُها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دُولاً و عبادَه خَولاً و الصالحين حرباً و الفاسقين حِزباً(1).

و رواه جماعة من المتقدّمين على الشريف الرضي. فمنهم إبراهيم بن هلال الثقفي في الغارات ذكره ابن أبي الحديد في شرحه(2)، و منهم: ابن قتيبة في الإمامة و السياسة(3)، و منهم: الطبري في المسترشد(4)، و منهم: الكليني في الرسائل على ما حكاه السيد بن طاوس في كشف المحجّة(5).

و قوله: آسى، أي أحزن، صيغة المتكلّم وحده من أسى يأسى، و الخول: العبيد و الإماء.

و منها: رواية تحف العقول عن الصادق (عليه السّلام) قال

.. فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل و ولاية وُلاته بجهة ما أمر به الوالي العادل بلا زيادة و لا نقصان. فالولاية له و العمل معه و معونته و تقويته حلال محلّل. و أمّا وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر و ولاية ولاته. فالعمل لهم و الكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام محرّم معذّب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثيرٍ؛ لأنّ كلّ شيء من جهة المعونة له معصية كبيرة من الكبائر. و ذلك أنّ في ولاية الوالي الجائر دروس الحق كله فلذلك حرّم العمل معهم و معونتهم و الكسب معهم إلّا بجهة الضرورة. نظير الضرورة إلى الدم و الميتة(6).1.

ص: 84


1- نهج البلاغة: 452، الكتاب 62.
2- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 35:2.
3- الإمامة و السياسة 154:1.
4- المسترشد: 95.
5- كشف المحجّة: 173.
6- وسائل الشيعة 83:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 2، الحديث 1.

و ممّا يدلّ على ذلك نصوص قد ذكر فيها استيلاء الأشرار و الطواغيت بعنوان العذاب و من مظاهر غضب اللّه تعالى بسبب ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و كثرة المعاصي. و نكتفي من هذه النصوص بذكر وصية أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) حينما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه تعالى فإنّها نقلت بطرق عديدة منها: ما رواه في أُصول الكافي بسنده المعتبر عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: بعث إليّ أبو الحسن موسى بوصية أمير المؤمنين، و فيها

و لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولّي اللّه أمرَكم شرارَكم، ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم(1).

و إذا كان هذا عذاباً يجب التخلص منه بتولية الفقيه العادل.

و رواه الصدوق أيضاً في الفقيه(2) و الرضي في نهج البلاغة(3) و أيضاً نقل بأسانيد كثيرة(4).

و منها: معتبرة أبي خديجة قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام)

إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور. و لكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه(5).

و لا يخفى أنّ ظاهر التنكير في «شيء» و إن كان هو التقليل، إلّا أنّه بالقياس إلى قضايا الأئمّة لا بدّ أن يكون كثيراً في نفسه ليصدق أنّه شيء من علمهم الذي كالبحر، كما يقال: «عند فلان شيء من أموال الدنيا» فهو بالقياس إلى ما في الدنيا5.

ص: 85


1- الكافي 7/52:7.
2- الفقيه 3/141:4.
3- نهج البلاغة: 422، الوصية 47.
4- راجع مصادر نهج البلاغة و أسانيده 379:3.
5- وسائل الشيعة 13:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.

من الأموال و الثروات كثيرٌ. فهذا التعبير كناية عن الكثرة في مثل هذه الموارد.

و يدلّ على هذا المضمون أيضاً معتبرته الأُخرى، قال: بعثني أبو عبد اللّه (عليه السّلام) إلى أصحابنا فقال

قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ و العطاء أن تحاكموا إلى أحدٍ من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً و إيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر(1).

هاتان الروايتان و إن وردتا في مورد الحكومة و القضاء، إلّا أنّ تصدّي ذلك للفقهاء لا يمكن تحققه على الوجه المطلوب للشارع إلّا بتشكيل الحكومة الإسلامية؛ لعدم إمكانه بقيادة الفاسق الجائر، إلّا أن يكون الأمير شخصاً عادلاً فيوكل أمر إجراء الحدود و الأحكام و القضاء إلى الفقيه العادل كما ربما ينقل ذلك في حق بعض سلاطين الصفوية، كما يقال: إنّ شاه طهماسب أوكل ذلك إلى المحقق الكركي. فعلى فرض إمكان ذلك لا يمكن القول بتوقف القضاء و إجراء الحدود و الأحكام على رئاسة الفقيه العادل و قيادته على الأُمّة، إلّا أنّه مشكل؛ لتضادّ أحكام الدين مع حكومة السلاطين و ميولهم و أغراضهم السياسية، إلّا أن يكون الأمير من عمّال الفقيه كما قد ينقل ذلك في قضية شاه طهماسب و المحقق الكركي.

و منها: مقبولة عمر بن حنظلة قال

سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحا كما إلى السلطان و إلى القضاة أ يحلّ ذلك؟ قال (عليه السّلام): من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، و ما يُحكم له فإنّما يأخذ سحتاً، و إن كان حقاً ثابتاً له؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت و ما6.

ص: 86


1- وسائل الشيعة 139:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

أمر اللّه أن يُكفر به.. قلت: فكيف يصنعان؟ قال (عليه السّلام): ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حَكَماً. فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً. فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه و علينا ردّ و الرادّ علينا الرادّ على اللّه و هو على حدّ الشرك باللّه(1).

و يستدلّ بهذه المقبولة على ثلاثة تقاريب:

الأوّل: أنّ لفظ الحاكم أعم من القاضي فإنّه يشمل كلّ متصدّي الحكومة من الأمير و السلطان، فلا اختصاص له بالقاضي. و يستشهد لذلك ذكر السلطان في السؤال؛ فإنّه قرينة على إرادة الأعم. و لكن يشكل الالتزام بشمول لفظ الحاكم لغير القاضي؛ نظراً إلى ظهوره في اصطلاح النصوص في القاضي لغلبة الاستعمال فيه، و لا سيّما بقرينة المقام و لا ينافيه كون لفظ الحكم في الأعم من القضاء. و أمّا ذكر السلطان فلا يفيد التعميم بعد كون موضوع السؤال و الجواب التحاكم و التخاصم.

الثاني: عموم التعليل؛ حيث إنّ قوله

فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً في قوّة التعليل، أي تعليل وجوب الرجوع إليه بجعله حاكماً. و عليه فمقتضى عموم التعليل وجوب الرجوع إليه في كل ما يحتاج إلى الحكم و يؤكّد هذا العموم إطلاق قوله (عليه السّلام)

فإذا حكم بحكمنا..؛ نظراً إلى شموله لمطلق الحكم الصادر منه المطابق لحكم أهل البيت (عليهم السّلام).

و بهذا التقريب يتم ولاية الفقيه الناظر في حلالهم و حرامهم العارف بأحكامهم على الحكم في جميع ما يحتاج إثباته أو إنفاذه أو إجراؤه إلى إنشاء الحكم. و لا يتوقف هذا التقريب على ظهور لفظ الحاكم عند الإطلاق في الأعم من القاضي بل1.

ص: 87


1- وسائل الشيعة 136:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

إنّما يتوقف على عموم التعليل المثبت لنفوذ حكمه مطلقاً.

الثالث: أنّ مشروعية القضاء تستتبع مشروعية سائر شئون الحكومة بالفحوى؛ لما في القضاء من التعرّض و التدخّل في النفوس و الأعراض و الدماء و الفروج. و هذا التقريب أيضاً تامٌّ.

و قد يناقش في الاستدلال بهذه المقبولة بأنّها واردة في مورد قاضي التحكيم؛ نظراً إلى كون السؤال فيها عن منازعة شخصية بين رجلين في قضية خارجية جزئية، و أنّ الإمام (عليه السّلام) في الجواب جعل الحكم بينهما.

و فيه: أنّ السؤال و إن كان في منازعة خارجية شخصية، إلّا أنّ الإمام (عليه السّلام) في الجواب بصدد جعل الولاية لكلّ من يتّصف بالأوصاف المذكورة على نحو القضية الحقيقية، كما هي شأن الخطابات الواردة في تشريع الأحكام الأوّلية. هذا مضافاً إلى أنّ لفظ «الحاكم» غير «الحكم»، فإنّه أعم من الحكم، مع أنّ ذلك ينافي عموم التعليل بالتقريب الذي ذكرناه.

و أمّا المناقشة: بأنّ الجعل الصادر من الإمام (عليه السّلام) في هذه المقبولة نفسه من قبيل الحكم الولائي المختص بزمانه (عليه السّلام)، لا الحكم الأولي الثابت إلى يوم القيامة؛ نظراً إلى كونه (عليه السّلام) بصدد جعل الحاكم للمتخاصمين في قضايا شخصية واقعة في زمانه.

ففيه: أنّ جعل الولاية لو كان لشخص من أصحابه لتمّت هذه المناقشة، إلّا أنّه ليس كذلك بل على نحو القضية الحقيقية الكلّية المنطبقة على موضوعها المقدّر إذا تحقق في أيّ عصر و زمان، كما هو شأن خطابات تشريع الأحكام الأوّلية.

كما أنّ المناقشة بأنّ فصل الخصومة و رفع المنازعة غير الولاية العامّة التي نحن بصدد إثباته، واضحة الدفع.

ص: 88

و ذلك لأنّ فصل الخصومة و الحكم بين المتنازعين من شئون الحكومة العامّة و من متفرّعات الولاية على الناس، كما يشهد لذلك تفريع الأمر بردّ مورد النزاع إلى اللّه و رسوله على الأمر بطاعتهما في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ (1) . و يدلّ على ذلك قوله تعالى يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ (2) .

و من هنا علّل الإمام (عليه السّلام) الأمر بالرجوع إلى من كان متّصفاً بالأوصاف المذكورة بجعل الولاية له على الحكم في مطلق الأُمور. و هذا الجعل هو ملاك مشروعية التحاكم إلى الواجد لتلك الأوصاف و موجبٌ لنفوذ حكمه مطلقاً، و خصوصية المورد لا تنافي كلّية الجعل.

الطائفة الرابعة: نصوص ذكر فيها العلماء و الفقهاء خلفاء رسول اللّه و أمناء الرسل و حصون الإسلام

كحصن سور المدينة و حجّة على الناس و مرجعهم في الحوادث الواقعة و بمنزلة أنبياء بني إسرائيل و حكاماً على الناس و أنّ مجاري الأُمور و الأحكام على أيديهم. هذه النصوص و إن لا يخلو سند بعضها من النقاش، إلّا أنّها بمجموعها في حدّ من الكثرة و التظافر يوجب الاطمئنان بصدور مضمونها في الجملة.

فمنها: ما رواه في الكافي بسنده الصحيح عن عليّ بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السّلام) قال

إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة و بقاع

ص: 89


1- النساء (4):59.
2- (ص) 25:38.

الأرض..؛ لأنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها(1).

و إنّ من أهمّ خواص حصن البلد حفظ أهله من هجوم العدوّ. و عليه فيدلّ هذا الخبر على أنّ شأن الفقهاء و منصبهم حفظ كيان الإسلام و نواميس المسلمين و دفع أعدائهم، فلا إشكال في دلالته على المطلوب.

و إنّما الكلام في سنده بلحاظ علي بن أبي حمزة سالم البطائني. و الأقوى جواز الاعتماد على رواياته ما لم تعارض بروايات أُخرى أو أصل أو قاعدة.

و ذلك أوّلاً: لشهادة الشيخ الطوسي على عمل الطائفة بأخباره(2).

و ثانياً: لنقل كثير من أجلّاء الرواة و أصحاب الإجماع عنه روايات كثيرة، و هذا كاشف عن اعتمادهم على رواياته.

و ثالثاً: وقوعه في أسناد تفسير القمي و دخوله في من شهد علي بن إبراهيم بعدالته على النحو العام(3).

مضافاً إلى أنّ له أصلاً نقله ابن أبي عمير، و له كتب و روايات كثيرة. و أمّا وقفه على أبي الحسن موسى (عليه السّلام)، فإنّما ينافي عدالته، لا وثاقته في نقل الخبر، و لا سيّما فيما أُحرز أنّه نقله قبل زمان الوقف. و أمّا شهادة علي بن الحسن الفضال على كونه كذّاباً متّهما، فلعلّه باعتبار وقفه على أبي الحسن موسى (عليه السّلام). مع أنّ علي بن الحسن نفسه فطحي لا يعبأ بشهادته و عدم قبول شهادته لا ينافي قبول خبره. و لا سيّما أنّها حدسية؛ لعدم إدراكه عليّ بن أبي حمزة؛ حيث إنّه كان من أصحاب الهادي و العسكري (عليهما السّلام)، و كان علي بن أبي حمزة من أصحاب4.

ص: 90


1- الكافي 3/38:1.
2- العُدّة في أُصول الفقه 150:1.
3- راجع مجمع الرجال 122:2، و 157:4.

الكاظم (عليه السّلام). و يشهد لما قلناه استناد العلّامة في تضعيف الرجل إلى تكذيب علي بن الحسن، مع ابتناء تضعيفاته على الفسق في المذهب فهو كاشف عن أنّ نظر علي بن الحسن أيضاً كان إلى فسق الرجل في مذهبه و كذبه في إنكار إمامة علي بن موسى و الأئمّة من ولده (عليهم السّلام).

و مما يشهد لذلك لعن ابن الغضائري على فرض ثبوت نسبة الكتاب إليه استناداً إلى أنّه أصل الوقف و أشدّ الخلق عداوةً لولي اللّه (عليه السّلام)، مع أنّه قال في ترجمة ابنه الحسن: إنّ أباه أي علي بن أبي حمزة أوثق منه. و أمّا التوجيه بأنّ مقصوده أنّه أقلّ ضعفاً من ابنه بقرينة تصريحه بضعف الابن خلاف ظاهر لفظ الأوثق في الاستعمال الدارج في تراجم الرجال. فإنّ ظاهره الوثاقة في النقل و الإخبار، لا العدالة و الديانة، فلا ينافي فسقه في المذهب.

هذا من جهة السند و أمّا من جهة الدلالة فهذه الرواية بصدد بيان شأنية الفقهاء لحفظ الإسلام و صيانة الشريعة.

و واضح أنّ من له شأنية ذلك هو المتعين لتصدّي منصب أمارة المسلمين و الحكومة عليهم، دون من لا حظّ له و لا شأنية له لذلك.

و منها: موثقة السكوني عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)

الفقهاءُ أُمناءُ الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول اللّه و ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتّباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم(1).

فإنّ أهمّ الأمانات التي أودعها اللّه تعالى إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) دينه و شريعته. و إنّ من أهمّ وظائف الأمين حفظ الأمانة. و لا يكون حفظ الدين بمجرد التعليم و التعلّم1.

ص: 91


1- الكافي 5/46:1.

و الإفتاء و التقليد، بل إنّما يتيسّر بإجراء أحكامه و تنفيذ قوانينه بين الناس، و لا يمكن ذلك إلّا بتأسيس الحكومة العادلة الإسلامية.

و منها: التوقيع المنسوب إلى صاحب الأمر

و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه(1).

هذه الرواية أشكل في سندها لوقوع إسحاق بن يعقوب في طريقه؛ حيث لم يوثّق في كتب الرجال، و لكن استفاد صاحب الوسائل مدحه من دعاء صاحب الأمر (عج) في حقه أرشدك اللّه و ثبّتك. و فيه: أنّه لا اعتبار به؛ لوقوعه نفسه في طريق هذه الرواية.

و قد رواها الصدوق في إكمال الدين(2)، و الشيخ في كتاب الغيبة(3) عن جماعة عن جعفر بن محمد بن قولويه و أبي غالب الرازي و غيرهما كلّهم عن محمد بن يعقوب. و في طريق الصدوق إلى الكليني في هذا التوقيع إشكال لوقوع محمد بن عصام؛ نظراً إلى عدم تصريح أحد بتوثيقه و إن وقع مورد ترضّي الصدوق (قدّس سرّه). و أمّا طريق الشيخ إلى الكليني صحيح. و على أيّ حال فعمدة الكلام في إسحاق بن يعقوب، و لم أر من يصرح بوثاقته.

و أيضاً رواها الطبرسي في الاحتجاج(4)، و رواه الراوندي في الخرائج و الجرائح(5) و اعتنى الفقهاء الكبار بهذا التوقيع الشريف و استدلوا به في مختلف3.

ص: 92


1- وسائل الشيعة 140:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
2- كمال الدين: 4/483.
3- الغيبة، الشيخ الطوسي: 247/290.
4- الاحتجاج 344/542:2.
5- الخرائج و الجرائح 1114:3.

أبواب الفقه بالمناسبة كالمحقق السبزواري في الكفاية(1) و المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة(2)، و المحدث البحراني في مواضع عديدة من الحدائق(3) و الفاضل الهندي في كشف اللثام(4) و صاحب الجواهر في مواضع مختلفة(5) و الشيخ الأعظم(6) و غيرهم ممّن تقدّم و من تأخّر عنهم.

و أمّا وجه الدلالة: أنّ لفظ «الحوادث» صيغة الجمع المحلّاة بالألف و اللام فيشمل بعمومه الحوادث الواقعة في جميع الأعصار. و أيّ حادث أهمّ من الأُمور السياسية و تأسيس الحكومة و تعيين الحاكم بين المسلمين؟ ففي جميع ذلك يكون الفقيه العارف بالحلال و الحرام هو المرجع بدلالة هذا التوقيع المبارك. و لا سيّما تعليله (عليه السّلام) بقوله

فإنّهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه؛ حيث دلّ أوّلاً: على كون قول الفقهاء حجّةً و حكمهم فصلاً في جميع شئون المسلمين. و ثانياً: على كون حجية قولهم على وزان حجية قول الإمام المعصوم (عليه السّلام) و حكمه. و بعبارة اخرى: دلّ على كون الفقيه العادل بمنزلة الإمام (عليه السّلام) في جميع شئون المسلمين.

و أمّا الإرجاع إلى رواة الحديث لا يدلّ على الرجوع في مجرد نقل الرواية و تعلّم أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام)؛ لوضوح عدم صدور الرواية في جميع الحوادث6.

ص: 93


1- كفاية الأحكام: 83 /السطر 9.
2- مجمع الفائدة و البرهان 360:4.
3- الحدائق الناضرة 431:12 و 450، و 259:13.
4- كشف اللثام 324:2 /السطر 39.
5- جواهر الكلام 158:16، و 395:21.
6- الخمس، ضمن تراث الشيخ الأعظم 175:11، المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 555:16.

الواقعة بجزئياتها، بل تحتاج إلى الاستنباط. فلفظ «رواة» لا يصلح لتقييد إطلاق الإرجاع، بل المراد أنّ الرجوع لا بدّ أن يكون إلى من استند في فتواه و حكمه إلى الرواية، و من الواضح أنّه لا فرق بين المفتي و بين الحاكم في استنادهما في كلّ من الفتوى و الحكم إلى الروايات. و يؤكّد ذلك إطلاق الحجية و إضافتها إلى الفقيه نفسه، و هو شامل للحكم و الفتوى الصادرين منه كليهما، و لا سيّما بقرينة تنزيل حجّيته منزلة حجّية الإمام المعصوم نفسه، لا مجرّد حجّية قوله.

فاتضح بذلك أنّ حجّية ما يصدر من الفقيه فتوًى و حكماً جهةٌ جامعة بين الفتوى و الحكم، فإنّ إطلاق الحجّية يقتضي حجّية في كليهما، و لا سيّما بقرينة إطلاق الحجية.

و منها: ما نقله الصدوق بأسانيده المتعددة عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) قال

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): اللهم ارحم خلفائي. قيل: يا رسول اللّه و من خلفاؤك؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): الذين يأتون من بعدي يروون حديثي و سنتي(1). و أيضاً أرسل الصدوق هذه الرواية جازماً.

بتقريب أنّ الحكومة من شئون الخلافة، كما بينّاه في استظهار ذلك من قوله تعالى يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ..(2) بدلالة فاء التفريع. فدلّ هذا الخبر على أنّ الفقهاء خليفة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) كما أنّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) خليفة اللّه في أرضه. و أمّا إرادة خصوص الأئمّة خلاف ظاهر عموم

الذين يروون حديثي و سنتي، كما أنّ تخصيص الخلافة بنقل الحديث و السنة لا وجه له، بل مادّة8.

ص: 94


1- وسائل الشيعة 91:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 50.
2- (ص) 25:38.

الخلافة ظاهرةٌ في الإمارة و الحكومة؛ لأنّ حقيقة الخلافة هي النيابة، و الخليفة هو النائب مناب من قبله و قائم مقامه، صرّح بذلك في جوامع اللغة.

كما أنّ قوله

يروون حديثي و سنتي عنوان مشير إلى الفقهاء و العلماء، و ليس من باب ذكر القيد للخلافة ليصلح للتخصيص، فإذا كان الفقهاء خلفاء رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و دار الأمر في تصدي الحكومة بينهم و بين من لا أهلية له لذلك، لا يبقى أيّ شك و لا ترديد في أنّ الفقهاء هم المتعيّنون لذلك، لأنّهم الذين ورد النص عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) على كون الخلافة في شأنهم و أنّهم لائقون لذلك.

و لا يشمل

يروون حديثي و سنتي أيّ شخص روى حديثاً عنه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، كما هو واضح، بل هو عنوان مشير إلى الفقهاء؛ بقرينة مادّة الخلافة، و لما ورد نظير ذلك في حقهم في سائر النصوص. و عليه فلا إشكال في دلالة هذه الرواية على المطلوب.

و أمّا سنداً فهي معتبرة لكثرة طرقها حيث رويت في مسند زيد بن علي(1) و رواها الصدوق في الفقيه(2).

و رواها في العيون بالأسانيد الثلاثة عن الرضا (عليه السّلام)(3) و في الأمالي(4) و معاني الأخبار(5)، و أيضاً رواها في البحار(6).2.

ص: 95


1- مسند زيد بن علي: 445.
2- الفقيه 915/302:4.
3- عيون أخبار الرضا 94/37:2.
4- الأمالي: 4/152.
5- معاني الأخبار: 1/374.
6- بحار الأنوار 4/144:2.

و قد استدل أعاظم الأصحاب و أكابر الفقهاء بهذه الرواية كالعلّامة الحلّي في تحرير الأحكام(1) و ابن فهد في المهذب البارع(2).

و المحدث البحراني في الحدائق(3) و المحقق النراقي في العوائد(4) و المستند(5).

و صاحب الجواهر(6) و من بعدهم من الفقهاء المحققين مع أنّها من جوازم مرسلات الصدوق أيضاً.

و منها: ما ورد عن علي (عليه السّلام)

أنّ أولى الناس بالأنبياء (عليهم السّلام) أعلمهم بما جاءوا به. ثمّ تلا (عليه السّلام) إِنَّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا (7). فإنّ إطلاق الأولوية بشئون الأنبياء يشمل ولايتهم المطلقة على إجراء الأحكام و حفظ نفوس المسلمين و أعراضهم و الحكومة عليهم على أساس الشريعة. فلا يعبأ بإشكال بعض من أنّ الأولوية غير ملازمة للولاية العامة؛ لوضوح أنّ المقصود أولوية النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و الذين آمنوا بشأن إبراهيم، و هو يقتضي ثبوت الولاية لهم، كما كانت ثابتة لإبراهيم (عليه السّلام). هذا، مضافاً إلى أنّ الأمر إذا دار بين من هو أولى بالنبي و بين من هو ليست له هذه الأهلية، فالمتعين لتصدّي قيادة الأُمّة و رئاسة6.

ص: 96


1- تحرير الأحكام 33:1.
2- المهذب البارع 61:1.
3- الحدائق الناضرة 444:9.
4- عوائد الأيام: 531.
5- مستند الشيعة 136:10.
6- جواهر الكلام 190:11.
7- نهج البلاغة: 484، الحكمة 96.

المسلمين و الحكومة عليهم إنّما هو من يكون أولى بشأن الأنبياء و أليق من غيره بولايتهم و تصدّي شئونهم.

و منها: ظاهر قوله (عليه السّلام)

إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه و أعلمهم بأمر اللّه فيه(1). فإنّ المقصود من

هذا الأمر ليس إلّا الإمارة و الحكومة؛ لأنّها التي غصبها الغاصبون، و إلّا فمنصب الخلافة الإلهيّة و الإمامة بيد اللّه تعالى و غير قابل للغضب و لم تنفكّ عن عليّ و أولاده المعصومين (عليهم السّلام) طرفة عين أبداً.

و هذه الرواية من أدلّ النصوص على ثبوت الولاية للفقيه الأعلم بالأحكام و برموز الحكومة و السياسة، بل يستفاد اعتبار الأعلمية في أمر الحكومة و السياسة من

فيه؛ لرجوع ضمير الهاء إلى

هذا الأمر، و لأنّ العلم بأمر اللّه تعالى و أحكامه في أمر الخلافة و الحكومة إنّما يتوقف على العلم بما يرتبط من أحكام اللّه و حدوده بأمر الحكومة و الإمارة بين الناس، لا سائر الأحكام العبادية الفردية التي يجب على كل مكلّف أن يعمل بها بشخصه و لا مساس لها بأمر الحكومة و الإمارة، كما هو واضحٌ.

و منها: ما دلّ على ضرورة وجود أمير للناس برّ أو فاجر. و لمّا نعلم بالضرورة أنّ الشارع الأقدس لا يرضى بأمارة الفاجر الجاهل، فلا مناص من الالتزام بأنّه أوجب عليهم اتّخاذ أمير عالم عادل أمين؛ ليحفظ أحكام الشريعة عن الاندراس و الاضمحلال و حقوق الناس عن التعدّي و التجاوز.

فمن هذه النصوص قول أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)

كلمة حق يراد بها باطلٌ، نعم إنّه لا حكم إلّا للّه، و لكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلّا للّه. و إنّه لا بدّ للناس من أمير3.

ص: 97


1- نهج البلاغة: 247، الخطبة 173.

برّ أو فاجرٍ، يعمل في إمرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر و يبلّغ اللّه فيها الأجل و يجمع به الفيء و يقاتل به العدوّ و تأمن به السبل و يؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح برٌّ و يستراح من فاجر(1).

و في رواية أُخرى عنه (عليه السّلام) لمّا سمع تحكيمهم قال

أمّا الإمرةُ البرّةُ فيعمل فيها التقيّ و أمّا الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي إلى أن تنقطع مدّتُه و تُدركه منيّتُه(2). و لا ريب أنّ الذي مطلوب الشارع الأقدس هو الإمرة البرّة الصالحة، و إن لا يستفاد ذلك من هذه الرواية.

و منها: ما دلّ على وجوب القيام على ضدّ الطواغيت و الظالمين للعلماء و تأسيس حكومة العدل قبالهم إذا تمكّنوا من ذلك بنصرة عامّة الناس.

مثل قول علي (عليه السّلام)

أمّا و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء ألّا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلومٍ لألقيت حبلها على غاربها(3).

فدلّ على وجوب إجابة دعوة الناس و القيام بالحكومة العادلة عند حضور الناس و بيعتهم و نصرتهم.

قوله: غاربها، أي عنقها. و المقصود: أدعهم و أتركهم على حالهم فيذهبوا حيث شاءوا.

و يؤيّده قوله (عليه السّلام)

دولة العادل من الواجبات(4).9.

ص: 98


1- نهج البلاغة: 82 83، الخطبة 40.
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر: 50، الخطبة 3.
4- غرر الحكم و درر الكلم: 7739/339.

و لفظ «الدولة» بفتح الدال و ضمّها في أصل اللغة اسم لما يتداول بين الناس من المال و الجاه و المنصب و الحرب، فيطلق على كل واحد من هذه المعاني بلحاظ تداولها في أيدي الناس. و يتعين المقصود منه بالقرينة. و المراد هنا الجاه و القدرة و الإمرة ظاهراً؛ لعدم مناسبة سائر المعاني للاتصاف بالوجوب. كما أُريد ذلك بالقرينة المقالية و الدلالة السياقية في قوله (عليه السّلام)

فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقّه و ادّى الوالي إليها حقّها عزّ الحقُّ بينهم.. فصلحَ بذلك الزمان و طُمِعَ في بقاء الدولة..(1).

هذا و لكن لا يبعد كون المقصود بقاء الدولة و ثباتها بالعدل و عدم ثباتها بالجور و إن يمكن حدوثها، كما لعلّه يستفاد من ذيل الحديث المزبور

و دولة الجائر من الممكنات(2)، و يشهد لذلك كون الوجوب في أصل اللغة بمعنى الثبوت.

و على أيّ حال لا إشكال في دلالة كلامه المزبور في الخطبة الشقشقية على وجوب قيام العلماء بالعدل و تأسيس حكومة العدل قبال الجبابرة و الطواغيت، إذا كانوا متمكنين من ذلك بنصرة الناس.

و منها: ما دلّ على مدح من تولّى أُمور الناس و عدل و نظر في أُمورهم، مثل صحيح زيد الشحام، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السّلام) يقول

من تولّى أمراً من أُمور الناس فعَدَل و فتح بابَه و رفع ستره و نظر في أُمور الناس كان حقاً على اللّه عزّ و جلّ أن يؤمّن روعته يوم القيامة و يدخله الجنة(3). تدلّ هذه الرواية7.

ص: 99


1- نهج البلاغة: 333، الخطبة 216.
2- غرر الحكم و درر الكلم: 8011/347.
3- وسائل الشيعة 193:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46، الحديث 7.

على ترغيب الشارع إلى تأسيس حكومة العدل بين الناس و تشمل بإطلاقه تولّي مطلق الأُمور.

و ما رواه العامّة في صحيح مسلم بسنده عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)

لو استُعمِلَ عليكم عبدٌ يقودكم بكتاب اللّه فاسمعوا له و أطيعوا(1).

ثمّ إنّ في المقام إشكال و حاصله:

أنّ الأئمّة (عليهم السّلام) لِمَ لم يأخذوا زمام الإمارة و الحكومة و لم يشوّقوا أصحابهم بتشكيل الحكومة و لم يأمروهم بتأسيس الحكومة الحقّة؟! و الجواب عنه: أوّلاً: أنّهم (عليهم السّلام) كانوا في حال التقية؛ حيث كانت الحكومة بيد مخالفيهم و معانديهم من عمّال بني أُميّة و بني العباس الذين كانوا من أولع الناس بدمائهم و دماء شيعتهم و كانوا بصدد مستمسك ليقتلوهم. و أنّهم (عليهم السّلام) مع ما كانوا عليه من التقية و تكليف شيعتهم بذلك و عدم تعرّضهم لمسألة الحكومة، فمع ذلك كانوا (عليهم السّلام) تحت مراقبة جواسيس الخلفاء و محبوسين في سجونهم أو ينالون درجة الشهادة بأيديهم.

ثانياً: أنّه ورد عنهم (عليهم السّلام) روايات دلّت على أنّه لو كان لهم ناصرين صدّيقين يمهّدون لهم مجالات القيام بالعدل بنصرهم، لم يسكتوا و كانوا ينهضون ضدّ الطواغيت بمجرد تمكّنهم من ذلك.

و إنّ أدلّ دليل على ذلك قيام أبي عبد اللّه الحسين ضدّ طاغوت عصره يزيد بن معاوية لعنه اللّه و لم يكن له (عليه السّلام) من قيامه الدامي غرضٌ إلّا إزالة الباطل و الظلم و الفساد و إحياء الحق و العدل و الدين، كما نطق بذلك في خطبه3.

ص: 100


1- صحيح مسلم 1468:3.

الشريفة الموجودة في المقاتل، فراجع.

و منها: معتبرة سدير الصيرفي قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السّلام) و قلت له: و اللّه ما يسعك القعود. فقال

و لِمَ يا سدير؟ قلت لكثرة مواليك و شيعتك و أنصارك و اللّه لو كان لأمير المؤمنين (عليه السّلام) ما لكَ من الشيعة و الأنصار و الموالي ما طمع فيه تَيْمٌ و لا عَدي، فقال

يا سدير! و كم عسى أن يكونوا؟ قلت: مائة ألف. قال (عليه السّلام)

مائة ألف؟ قلت: نعم و مائتي ألف. قال (عليه السّلام)

مائتي ألف؟ قلت: نعم و نصف الدنيا. قال: فسكت عنّي ثمّ نظر إلى غلام يرعى جداءً، فقال (عليه السّلام)

و اللّه يا سدير! لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود و نزلنا و صلّينا، فلمّا فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها، فإذا هي سبعة عشر(1).

و منها: ما رواه في البحار عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر محمّد بن علي (عليه السّلام) انّه قال

إذا اجتمع للإمام عدّة أهل بدر ثلاث مائة و ثلاث عشر وجب عليه القيام و التغيير(2).

و منها: ما رواه في الجواهر عن الصادق (عليه السّلام) قال

لو أنّ لي عدد هذه الشويهات و كانت أربعين لخرجتُ (3).

قوله

الشويهات جمع الشويهة مصغّر الشاة.

و منها: ما دلّ على وجوب القتال عند الخوف على بيضة الإسلام. و عليه فإذا خاف الفقيه في حكومة الجائر على بيضة الإسلام يجب عليه تمهيد مقدّمات القتال مع الجائر و الإطاحة بحكومته و تأسيس حكومة الإسلام؛ تحصيلاً للغرض الذي1.

ص: 101


1- الكافي 4/242:2.
2- بحار الأنوار 18/49:97.
3- جواهر الكلام 397:21.

أُمر بالقتال لأجله. مثل ما ورد في صحيحة يونس عن الكاظم (عليه السّلام)

و إن خاف على بيضة الإسلام و المسلمين قاتل فيكون قتاله لنفسه، ليس للسلطان؛ لأنّ في دروس الإسلام دروس ذكر محمدٍ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)(1).

و في صحيحة محمّد بن عيسى عن الرضا (عليه السّلام)

و لكن يقاتل عن بيضة الإسلام، فإنّ في ذهاب بيضة الإسلام دروس ذكر محمدٍ (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)(2). فإنّ تعليله بقوله (عليه السّلام)

فإنّ في ذهاب بيضة الإسلام دروس ذكر محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، يشمل جميع الأعصار و الأوقات إذا حصل هذا الخوف لأيّ شخص و تمكّن من القيام ضد الطاغوت و الإطاحة بحكومته، و دلّ بالملازمة القطعية على لزوم تأسيس الحكومة على أساس ما جاء به النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و أهل البيت (عليهم السّلام) عند التمكن، إذا توقّف عليه حفظ بيضة الإسلام و صيانة شعائره و بقاء معالمه.

و منها: تعليل علي (عليه السّلام) مشروعية تصدّيه للأمارة و توجيه حكومته بإصلاح البلاد و أمن المظلومين من الظلم و إقامة الحدود الإلهية المعطّلة. و هذا التعليل يشمل كلّ فقيه عادل إذا تمكن من ذلك، بلا اختصاص بعصر دون عصر؛ حيث قال (عليه السّلام)

اللهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان و لا التماس شيء من فضول الحطام، و لكن لنردّ المعالم من دينك و نُظهِر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك و تقام المعطّلة من حدودك(3). فيعلم من توجيهه (عليه السّلام) أنّ رفع الظلم و إحقاق حق المظلومين و إقامة الحدود الإلهية ملاك القيام بتأسيس الحكومة العادلة الإسلامية و دليل مشروعيته، بل وجوبه في نظر الشارع. و عموم1.

ص: 102


1- وسائل الشيعة 29:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 6، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 32:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 7، الحديث 2.
3- نهج البلاغة: 189، الخطبة 131.

التعليل ينفي اختصاص ذلك بعصره أو بشخصه (عليه السّلام).

و منها: ما دلّ على مشروعية قيام العالم الأمين الذي يدعو الناس إلى الحق و إلى ما هو مرضي الأئمّة و طاعتهم (عليهم السّلام)، و لزوم إجابته و نصرته و إعانته، مثل صحيح عيص بن القاسم قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) يقول

عليكم بتقوى اللّه وحده لا شريك له و انظروا لأنفسكم فو اللّه إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي. فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يُخرجه و يجيءُ بذلك الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها. و اللّه لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدةٍ يجرِّب بها ثمّ كانت الأُخرى باقيةً، فعمل على ما قد استبان لها. و لكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد و اللّه ذهبت التوبة.

فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم إن أتاكم آتٍ منّا. فانظروا على أيّ شيء تخرجون، و لا تقولوا خرج زيدٌ. فإنّ زيداً كان عالماً و كان صدوقاً، و لم يدعكم إلى نفسه، إنّما دعاكم إلى الرضى من آل محمّد (عليهم السّلام). و لو ظهر لوفى بما دعاكم إليه. إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه. فالخارج منّا اليوم إلى أيّ شيء يدعوكم؟ إلى الرِّضى من آل محمّد (عليهم السّلام)؟ فنحن نُشهدكم أنّا لسنا نرضى به و هو يعصينا اليوم(1).

و منها: ما دلّ على وجوب الانقياد بقيادة العلماء و الفقهاء و إعطاء زمام الحكومة و الزعامة إليهم.

مثل ما ورد عن علي (عليه السّلام)

فيكم العلماء و الفقهاءُ و النجباءُ و الحكماءُ و حملة الكتاب و المتهجّدون بالأسحار و عُمّار المساجد بتلاوة القرآن، أ فلا2.

ص: 103


1- بحار الأنوار 67/301:52.

تسخطون و تهتمّون أن ينازعكم للولاية عليكم سفهاؤكم و الأشرار و الأراذل منكم(1).

و منها: نصوص واضحة الدلالة على المطلوب، و إن لا تخلو أسنادها من النقاش، مثل قول أمير المؤمنين (عليه السّلام)

العلماءُ حكّامٌ على الناس(2).

و قول الحسين بن علي (عليه السّلام)

مجاري الأُمور و الأحكام على أيدي العلماء باللّه الاُمناء على حلاله و حرامه(3).

و قول أبي محمد العسكري (عليه السّلام)

يقال للفقيه يوم القيامة: أيّها الكافل لأيتام آل محمد..(4).

و غير ذلك من النصوص الكثيرة المتفرّقة في مظانّ موضوع البحث، فمن أرادها فليراجع إلى الكتب المفصّلة المؤلّفة في خصوص هذا الموضوع. مع عدم الحاجة إلى النصوص الخاصة لإثبات الولاية المطلقة للفقيه بعد تمامية دليل العقل و ضرورة الشرع، بل دليل الحسبة لإثبات ذلك بالتقريب المتقدّم ذكره، و بعد ذهاب أعاظم الفقهاء من القدماء و المتأخرين إلى ذلك.7.

ص: 104


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 99:6.
2- مستدرك الوسائل 321:17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 33.
3- مستدرك الوسائل 315:17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 16.
4- مستدرك الوسائل 319:17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 27.

إزاحة الشبهات

أشكل على بعض النصوص و الوجوه المستدل بها في المقام بأُمور نذكر أهمّها و الجواب عنه.

منها: أنّ توقيع إسحاق بن يعقوب ناظرٌ إلى الرجوع إلى رواة الحديث لأخذ الروايات منهم في المسائل المستحدثة، و لا أقلّ من نظره إلى تقليد الفقهاء. و أمّا الرجوع إليهم في الحكومة و القضاء و إعطاء الولاية إليهم في ذلك فخارج عن نطاق مدلوله.

و فيه: أنّ الذي أمر بالرجوع فيه إلى رواة الحديث هو جميع الحوادث الواقعة، لا خصوص المسائل الشرعية الحادثة؛ فإنّ عموم الجمع المحلّى بالألف و اللام يقتضي الرجوع إلى جميع الحوادث، و من أهمّها الحكومة و القضاء. و الاختصاص بالاستفتاء عن حكم المسائل المستحدثة ينفيه الإطلاق. و أمّا «رواة حديثنا» عنوان مشير إلى الفقهاء؛ نظراً إلى تعارف بيان الفتاوى في عصر الأئمّة ببيان الروايات و تطبيقها على مورد السؤال بالاستنباط.

و منها: أنّ قوله (عليه السّلام)

مجاري الأُمور و الأحكام على أيدي العلماء إخبار بأنّ تعيين مصير أُمور الملوك و السلطنة بفتاوى العلماء، و لا سيّما بلحاظ العلماء المعاصرين لهم. و ربما تتغير سياسة بعض السلاطين بسبب فتوى فقيه في عصره، فلا يزال يدور رحى تدبير الحكومات مدار فتاواهم، فليست الرواية إنشاءً بمعنى لزوم كون تدبير أُمور الأُمّة و تعيين مقدّراتهم على أيديهم لتفيد إعطاء الولاية لهم في ذلك.

ص: 105

و فيه: أوّلاً: أنّه لو كان المقصود مجرد الإخبار يلزم الكذب؛ حيث لم يكن أحكام سلاطين الجور و فرامينهم مبتنية على فتاوى عدول الفقهاء و آراء العلماء الاُمناء باللّه على حرامه و حلاله في واحد من الحكومات، بل كانت نواميس المسلمين و معتقداتهم و مقدراتهم ألعوبة ميول الطواغيت و السلاطين الجبابرة، و تحت سيطرة أهوائهم النفسانية في طول الأعصار و القرون المتمادية.

نعم كانت فرامينهم على أساس فتاوى العلماء الفسقة و أعوان الظلمة منهم. و عليه فلم يكن مجاري أحكام الطواغيت و سلاطين الجور إلّا على ميولهم و أغراضهم السياسية.

و لو أنّهم أنفذوا فتاوى الفقهاء العدول أحياناً فإنّما على هذا الأساس الباطل. فلو كانوا يحسّون مزاحمة فتاواهم لسلطنتهم و اقتدارهم السياسية لم يعتنوا بها. بل كانوا يخالفونها بأيّ نحو ممكن.

و ثانياً: أنّ ارادة الإنشاء من الجملة الخبرية شائعة في خطابات الشارع بل أنّه آكد من صيغة الأمر في إظهار الطلب و أبلغ في حث المكلّفين و بعثهم نحو المطلوب.

و منها: الإشكال على الاستدلال بقول الصادق (عليه السّلام)

الفقهاءُ أُمناءُ الرسل في موثقة السكوني. و حاصله: أنّ الأمانة و الاستيداع منهم لا يقتضي كونهم ولياً من قبلهم في التصرف في أموال الناس و أنفسهم.

و فيه: أنّ من أهمّ وظائف الأمين و أبرز صفاته الذي أُطلق عليه عنوان الأمين بلحاظه هو حفظ الأمانة و الحراسة عنها. و لا ريب أنّ دين اللّه تعالى و شريعته و إجراءها بين الناس و حفظ نفوس المسلمين و أعراضهم و أموالهم من أهمّ الأمانات التي أودعها اللّه تعالى عند الأنبياء و الأوصياء، و كلّفهم بتبليغ دينه

ص: 106

و حفظ شريعته و إجراء أحكامه بين الناس، كما فسّرت بذلك الأمانة المذكورة في الكتاب، بدلالة النصوص المتظافرة الواردة في ذيل قوله تعالى إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ..(1) .

و من الواضح أنّ حفظ هذه الأمانة، و تحقق هذا الهدف المقدّس في عصر الغيبة لا يتيسّر بغير إعطاء الولاية المطلقة إلى الفقيه في جهة حفظ الدين، كما قلنا سابقاً.

و أمّا إرادة خصوص الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) من لفظ الفقهاء و العلماء خلاف ظاهرهما لغةً، و لا سيّما بحسب استعمالهما الغالب في الآيات و النصوص المتواترة، بل فوق حدّ الإحصاء.

و أمّا ما ورد عنهم (عليه السّلام)

نحن العلماء و شيعتنا المتعلّمون(2)، فلا ينافي ذلك؛ لأنّ أيّ عالم يتعلم علمه ممّن قبله من العلماء؛ فإنّ العالم و المتعلم عنوانان إضافيان. فمثل هذا الحديث لا يوجب انصراف لفظ «العلماء» من ظاهره في مطلق العالم، إلّا إذا قامت قرينة على ارادة خصوص الأئمّة، فليس مقتضى الأصل في المقام عكس ذلك كما ادّعاه بعض الفحول.

و أمّا تعبير

العلماء باللّه في بعض النصوص لا ظهور له في الأئمّة، بل المقصود به مطلق العالم الرباني، كما ورد هذا التعبير في بعض النصوص الآخر.

و منها: الإشكال على ما سبق من إثبات كبرى الولاية العامة بالسيرة القطعية و تطبيق صغراها على الفقيه بالضرورة و العلم الوجداني.5.

ص: 107


1- الأحزاب (33):72.
2- راجع وسائل الشيعة 18:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 5.

حاصل الإشكال: إنّا لا نسلّم اتصال السيرة على هذه الكبرى بزمان الشارع؛ لعدم دليل قطعي على ذلك. و لا أقلّ من الشك فيه، فلا يثبت جواز التصرّف في أموال الناس و نفوسهم و أعراضهم إلّا بالدليل القطعي.

و فيه: أنّ روايات الطائفة الثانية كافية لإثبات تقرير هذه السيرة من جانب الشارع. فإنّ قوله (عليه السّلام)

إنّا لا نجد فرقة من الفرق و لا ملّة من الملل بقوا و عاشوا إلّا بقيّم و رئيس؛ لما لا بدّ لهم من أمر الدين و الدنيا صريح في ذلك. و كذا وصية أمير المؤمنين بنظم الأمر؛ نظراً إلى توقف ذلك على الولاية و الرئاسة العامة للوالي و الرئيس.

هذا مضافاً إلى أنّ ردع هذه السيرة من جانب الشارع يستلزم إمّا رضائه بالهرج و المرج بين المسلمين أو رضائه بولاية الطواغيت و سلاطين الجور، و من العجب أنّ هذا المستشكل كيف فرض الشك في ذلك؟! منها: إنّا نسلّم ضرورة الرجوع إلى الفقيه فيما لا مناص من القيام به من الأُمور الحسبة، مثل القيام بأُمور الغيّب و الأموات إذا لم ينصبوا قيّماً على صغارهم و لم يوصوا إلى وصي في أُمورهم، فاقتضت المصلحة إلى بيع بعض أموالهم أو تزويج صغار ولدهم؛ فإنّ الشارع بعد ما منع من الرجوع في ذلك إلى الطواغيت و قضاة الجور، و لمّا لم يجز في حكمته الإهمال في مثل هذه الأُمور الضرورية التي في تعطيلها مفاسد كثيرة، كان القدر المتيقن هو الرجوع إلى الفقيه العادل العارف بأحكام الدين، إلّا أنّ ارتفاع هذه الحاجة لا يتوقف على ثبوت الولاية العامة للفقيه ليكون جميع تصرفاته نافذة، حتى في غير موارد الضرورة، بل إنّما يستكشف بذلك نفوذ تصرفاته نفسه أو وكيله في خصوص موارد الضرورة و مساس الحاجة.

ص: 108

و فيه: أنّه أيّة حاجة و ضرورة أشدّ من إجراء القسط و العدل و منع الظالم من التعدي إلى المظلوم و تنظيم أُمور المسلمين في جميع شئون معاشهم و معادهم و وضع القانون في جميع ذلك و التصدي لإجرائه و مجازات المتعدّي عنه و حفظ حقوق المحرومين و المستضعفين و إقامة الجمعة و الجماعات و الحراسة عن ثغور بلاد المسلمين و نواميسهم و دفع دسائس الكفار و مكائد المنافقين و نحو ذلك من الأُمور الأساسية الحياتية، التي يكون في القيام بها حفظ بيضة الإسلام و كيان المسلمين و صيانة ما جاء به النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) عن الاندراس. و لو كان المقصود هو الاكتفاء بالضرورة بهذا العرض العريض سلّمه و لكنه ليس إلّا ما نحن بصدده.

و من العجب أنّه كيف يكون لتولّى أموال الأموات و الغيّب و القصّر و القيام بمصالحهم ضرورة توجب نفوذ تصرفات الفقيه بل عدول المؤمنين في هذه الأُمور، و لكن القيام بما تحفظ به بيضة الإسلام و كيانه و مصالح المسلمين و ما يلزم من تعطيله اختلال النظام و الهرج و المرج و محو آثار الشريعة و دروس ذكر محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، لا يكون في ذلك الحد من الضرورة، لكي يقتضي نفوذ تصرّفات الفقيه في مثل هذه الأُمور الحياتية للإسلام و المسلمين.

و مع قطع النظر عن أدلّة الولاية المطلقة للفقيه فلا مناص من تنفيذ تصرفاته في مثل هذه الأُمور المبتني عليها أساس مصالح الإسلام و المسلمين من قبل الشارع. كما قال الإمام الراحل (قدّس سرّه) في كتاب البيع فإليك نص عبارته

و لا يخفى أنّ حفظ النظام و سدّ ثغور المسلمين و حفظ شبّانهم من الانحراف عن الإسلام و منع التبليغات المضادّة للإسلام و نحوها من أوضح الحسبيات و لا يمكن الوصول

ص: 109

إليها إلّا بتشكيل حكومة عادلة إسلامية. فمع الغضّ عن أدلّة الولاية لا شك في أنّ الفقهاء العدول هم القدر المتيقن. فلا بدّ من دخالة نظرهم و لزوم كون الحكومة بإذنهم(1).

و قد اتضح مما ذكرنا عدم جواز مزاحمة فقيه لفقيه آخر إذا تصدّى للحكومة؛ نظراً إلى ابتناء ولاية الفقيه على أساس حفظ مصالح الإسلام و المسلمين. و مع حصول هذا الغرض بتصدّي الفقيه الأوّل للحكومة ينتفي ملاك فعلية الولاية للفقيه الآخر.

نعم لو عجز الأوّل عن التصدّي لضعف تدبيره أو عدم نفوذ رأيه بين الناس تصير الولاية فعلية لمن يقوى من الفقهاء العدول الجامع للشرائط على إدارة الحكومة و تحصيل الغرض المذكور.2.

ص: 110


1- البيع، الإمام الخميني (قدّس سرّهم) 665:2.

تنبيهان

الأوّل: في دور انتخاب الشعب

أمّا انتخاب الأُمّة و رأيهم فلا شك في عدم دخله في أصل مشروعية الولاية للفقيه الجامع، بل إنّما تنوط مشروعيتها بمدلول الأدلّة المعتبرة السابقة بيانها بالوجوه و التقاريب المختلفة.

بل إنّما يكون لرأي الأُمّة و انتخابهم دور أساسي لفعلية ولاية الفقيه و إتمام الحجّة عليه لتصدّي قيادة الأُمّة و زعامتهم العامّة و الحكومة على أساس الشريعة. كما وجّه بذلك أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) توجّه هذا التكليف إليه بقوله (عليه السّلام)

لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر.. لألقيت حبلها على غاربها..(1).

و ذلك لوضوح أنّ القدرة على الحكومة و إعمال الولاية لا تتيسر بدون رأي الأُمّة و انتخابهم و مساعدتهم.

فالحاصل: أنّ مجرّد قابلية الفقيه لتصدّي الحكومة و توفّر شرائط الفقاهة و الولاية لا يكفي لتوجه التكليف بذلك إليه ما دام لم تحصل موافقة الأُمّة و تأييدهم له؛ فإنّ من البناء المتسالم عليه بين العقلاء من جميع الملل ابتناء القيادة و الرئاسة على آراء عامة الناس، بل هو أمر وجداني واضح.

و عليه تتفرّع فعلية ولاية الفقيه و توجه التكليف إليه في تصدي الحكومة على رأي عامة الناس و انتخابهم من دون دخل لذلك في أصل ثبوت الولاية للفقيه؛ فإنّه ثابت له بضرورة المذهب، بل الدين، و بالنصوص المتظافرة. بل لو كان لرأي

ص: 111


1- نهج البلاغة: 50، الخطبة 3.

الناس و انتخابهم تمام الدخل في ذلك لم يكن معنى لنيابة الفقهاء العدول الجامعين للشرائط عن الإمام الحجة (عج)؛ فإنّ الزعامة و الرئاسة العامة و الولاية المطلقة على جميع شئون الأُمّة ثابتة لهم بما أنّهم حجج ولي اللّه الأعظم (أرواحنا له الفداء) و نائبين منابه (عليه السّلام)، و بما أنّهم من سلسلة الإمامة و منصوبين من جانب الإمام المعصوم (عليه السّلام) لا بما أنّهم وكلاء الناس و منصوبين من قبلهم.

الثاني: في شرطية الأعلمية

و أمّا الأعلمية فلو كانت في المسائل الشرعية الفردية التي لا مساس لها بأمر الحكومة، فلا ريب أنّها وحدها لا يكفي في القيادة و الزعامة و الرئاسة؛ لوضوح عدم الملازمة بينها و بين حسن التدبير، فربّ من هو أفقه من غيره، و لكن لا تدبير له بحيث يعجز عن إدارة بيته، فضلاً عن قيادة مجتمع المؤمنين. كما يشير إليه قوله (عليه السّلام)

أحقُّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه و أعلمهم بأمر اللّه فيه(1).

فالمقصود من الأعلمية في النصوص الظاهرة في اعتبارها كما ورد في صحيح العيص و النصوص الواردة عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) هو الأعلمية في تدبير الحكومة و الإمارة و الأعرفية برموز الرئاسة على أساس أحكام الدين و قوانين الشريعة. و عليه فيعتبر الأعلمية من كلتا الجهتين. و على فرض التساوي في الفقاهة أو مفضولية من هو أقوى تدبيراً و أحسن إدارة، لا ريب في تقديم من هو أقوى في التدبير و الرئاسة و السياسة بعد فرض اجتهاده المطلق لأنّه أحفظ لبيضة الإسلام و مصالح المؤمنين.

ص: 112


1- نهج البلاغة: 247، الخطبة 173.

القول في ولاية الفقيه على الجهاد الابتدائي

تعريف الجهاد

لفظ الجهاد على وزن فعال، مصدر ثانٍ للمجاهدة، كما صرّح به في مجمع البحرين و يظهر من الصحاح و النهاية و المصباح و سائر جوامع اللغة. و هو في الأصل إمّا من الجهد (بالفتح) و هو التعب و المشقة، أو من الجهد (بالضّم) و هو الوسع و الطاقة، كما عن ابن فارس في المقاييس، و عن الفرّاء على ما نقل عنه في الصحاح و عن الزمخشري في أساس البلاغة، و كذا في نهاية ابن الأثير. و قد اختاره في الرياض.

أو منهما كليهما و هما بمعنى الطاقة و الوسع كما قال في المفردات و نقله ابن الأثير في النهاية عن بعض، و أيضاً يظهر من ابن فارس رجوع بذل الطاقة و غاية الوسع بالمآل إلى المشقّة. و اختاره المقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة.

و احتمل في المسالك و الجواهر كونه إمّا من الجهد (بالفتح) بمعنى التعب و المشقة، أو منه (بالفتح و الضّم معاً) بمعنى الطاقة و الوسع. و هو الذي صرّح به في الصحاح. و على أيّ حال فالمهم هو معناه الشرعي حسب اصطلاح الفقهاء، و لا الكتاب و السنة؛ حيث جاء هذا اللفظ فيهما بمعناه الأعم.

و عرّفه الأكثر بأنّه بذل الوسع بالنفس و المال في محاربة المشركين أو الباغين على الوجه المخصوص، كما عن المسالك و الرياض و الجواهر و غيرهم.

و عرّفه الشهيد الأوّل بأنّه بذل النفس و المال في إعلاء كلمة الإسلام و إقامة

ص: 113

شعائر الإيمان. و قد صرّح بهذا التعريف في مجمع البحرين و قال في المسالك: إنّه أراد بالأوّل إدخال جهاد المشركين و بالثاني جهاد الباغين. أقول: مقصوده من الأوّل بذل النفس و المال في إعلاء كلمة الإسلام و من الثاني بذلهما في إقامة شعائر الإيمان. ثمّ أشكل عليه بأنّه غير مانع؛ لأنّ إعزاز الدين أعم من كونه بالجهاد المخصوص.

أقول: و لعل مقصوده أنّ بذل النفس و المال في إعلاء كلمة الإسلام و إقامة شعائر الإيمان قد يكون على سبيل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لا المقاتلة المعهودة الخاصّة المعروفة بالجهاد. و عليه فالتعريف الثاني غير مانع مما هو خارج عن المعرّف، بل أعم منه، كما يظهر هذا التوجيه للإيراد المزبور من صاحب الرياض.

و قد اتضح لك بما بيّناه أنّ تعريف الأكثر هو الأصح؛ لأنّه أسلم من الإشكال.

الجهاد الابتدائي و الدفاعي

قد قسّم الفقهاء الجهاد إلى ابتدائي و دفاعي، كما صرّح به أبو الصلاح في الكافي و ابن إدريس في السرائر و الحلبي في الإشارة و المحقق في الشرائع و العلّامة في كتبه. و يستفاد ذلك من كلمات أكثر الفقهاء، بل كلّهم؛ إمّا تصريحاً أو تلويحاً، و سيأتي في خلال هذا البحث نقل كلمات بعضهم.

و مقصودهم من الجهاد المبتدأ أو الابتدائي، هو محاربة المشركين و الكفار لغرض دعائهم و جلبهم إلى الإسلام.

و هاهنا إشكال اعتقادي قد يناقش به بعض. و حاصله: أنّ الدعاء إلى الإسلام لا بدّ أن تكون بالبيان و الدعوة الاستدلالية و التبليغ، لا بالقتال، كما أُشير إلى ذلك في

ص: 114

قوله تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ..(1)الإنسان (76):3.(2) و قوله إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً(2) ، و إلّا لعرف الإسلام بدين القهر و القتال، لا دين المنطق و البرهان.

و الجواب: أنّ أساس الجهاد الابتدائي يرجع إلى رفع مزاحمة الجبابرة و الطواغيت عن شعوبهم و أقوامهم، و قلع سلطتهم و قهرهم عن رءوس المستضعفين المبتلين بظلمهم، حتى يرفع بذلك ستار الضلالة و حجاب جهلهم بمعالم الدين الحق، و يقصى موانع رشدهم و كمالهم. و من هنا يكون الجهاد الابتدائي بعد دعوة الطواغيت إلى دين اللّه بالموعظة و الاستدلال، و بعد إحراز عدم اعتنائهم بذلك و عدم رفع أيديهم الظالمة الجائرة عن رءوس المستضعفين من شعوبهم و مللهم المبتلين بجورهم و ظلمهم.

فليس الجهاد الابتدائي على الشعوب و الملل، بل على الحكومات الجائرة و الطواغيت الذين يصدّون عن سبيل اللّه و أئمّة الكفر الذين ليس لهم أيّ تعهّد إنساني، كما قال تعالى فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ (3) ، و لغرض قلع مادّة الفتنة و أصل الفساد عن المجتمع البشري، كما قال تعالى وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ (4) . و من هنا لا يقتل أيُّ كافر و مشرك لأجل عدم انتحاله إلى الإسلام بعد الدعوة، كما هو من مسلّمات الشريعة الإسلامية. هذه إشارة إلى إشكال قد يورد في المقام و الجواب عنه في الجهاد الابتدائي. و تفصيل ذلك خارج عن غرض البحث الفقهي و موكول إلى محله من المباحث الاعتقادية.9.

ص: 115


1- البقرة
2- :256.
3- التوبة (9):12.
4- البقرة (2):193، الأنفال (8):39.

و أمّا الجهاد الدفاعي فهو محاربة المشركين و الكفار و البغاة و كلّ عدوّ يخشى منه على بيضة الإسلام و يخاف من استيلائه على دار الإسلام؛ لأجل حفظ معالم الدين و بيضة الإسلام، و لغرض صيانة الشريعة و آثارها عن الدروس، و لحراسة نواميس المسلمين و استقرار الأمنية بينهم. و من هذا القبيل دفاع كلّ شخص عن نفسه و أهله و ماله إذا وقع في معرض هجوم أيِّ شخص، كافراً كان المهاجم أو مسلماً فاسقاً.

و من هذا القبيل ما إذا كان مسلمٌ في بلاد الشرك فوقع حرب بين أهل ذلك الديار و بين عدوّهم فعليه أن يدافع عن نفسه حينئذٍ بالقتال، كما أُشير إلى ذلك في معتبرة طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام)، قال: سألته عن رجل دخل أرض الحرب بأمان فغزا القوم الذين دخل عليهم قوم آخرون قال

على المسلم أن يمنع نفسه و يقاتل على حكم اللّه و حكم رسوله، و أمّا أن يقاتل الكفار على حكم الجور و سنتهم فلا يحلّ له ذلك(1).

و المقصود ظاهراً أنّه يجب على المسلم أن يدافع عن نفسه أو يقاتل بأمر اللّه و رسوله لإعزاز الدين، فالمسلم الواقع بين المشركين و بين حروبهم لا بدّ أن يكون قتاله لأجل ذلك، لا لأجل نصرة طائفة من الكفار و المشركين الذين هو في ديارهم. هذا، و لكن يحتمل كون المراد من قوله: «يمنع نفسه» أن يحبس نفسه للقتال في سبيل اللّه و رسوله، نعم بناءً على ثبوت لفظ «عن»، كما في الجواهر: «عن نفسه» يتعيّن المعنى الأوّل.

و هل يطلق على الدفاع عنوان الجهاد؟ قال في الشرائع: «و قد تجب3.

ص: 116


1- وسائل الشيعة 31:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 6، الحديث 3.

المحاربة على وجه الدفع.. و لا يكون جهاداً». و قيّده في الجواهر(1) بالمعنى الأخص، أي إنّما لا يطلق على الدفاع عنوان الجهاد الابتدائي الدعائي، و إلّا فيطلق عليه عنوان الجهاد بالمعنى الأعم الشامل للدفاع.

و مقتضى التحقيق: ما قال به صاحب الجواهر. و الشاهد على ذلك تقسيم الفقهاء الجهاد إلى القسمين المزبورين، كما أشرنا إليه و سيأتي نقل كلمات بعضهم.

و أمّا ما يظهر منه (قدّس سرّه) من تقسيم الجهاد إلى ثلاثة أقسام(2)، فلا يصح؛ نظراً إلى اندراج الثالث منها في الثاني، و هما من قبيل الدفاع، كما هو ظاهر كلمات الأصحاب و هو واضحٌ.

و اتضح بذلك ما يرد على ما قال في الدروس: «ظاهر الأصحاب عدم تسمية ذلك كله جهاداً، بل دفاعٌ»(3).

و أنّ وجوب الدفاع في جميع موارده من الضروريات؛ لوضوح أنّ به حفظ بيضة الإسلام و آثار الشريعة و صيانة نواميس المسلمين و إنقاذ النفس عن الهلاك، مع دلالة النصوص المتواترة على ذلك. و هذه النصوص جمعها صاحب الوسائل في أبواب جهاد العدوّ و النهي عن المنكر و الحدود، فراجع إلى مظانّها.

هل للفقيه الولاية على الجهاد الابتدائي؟

لا كلام في عدم اشتراط إذن أحد، لا الإمام (عليه السّلام) و لا غيره في وجوب الجهاد الدفاعي، كما سبقت الإشارة إليه.

ص: 117


1- جواهر الكلام 15:21.
2- نفس المصدر: 18.
3- الدروس الشرعية 30:2.

و إنّما الكلام في اشتراط حضور الإمام و إذنه أو إذن نائبه المنصوب من قبله (عليه السّلام) بالخصوص في أصل مشروعية الجهاد الابتدائي.

ظاهر كلمات الأصحاب اشتراط ذلك و عدم مشروعية الجهاد الابتدائي بغير إذن الإمام المعصوم أو نائبه المنصوب لخصوص ذلك، كما صرّح بذلك في الشرائع، بل ادعي في الجواهر الإجماع على ذلك بقسميه، بقوله: «و على كل حال فلا خلاف بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه في أنّه إنّما يجب على الوجه المزبور بشرط وجود الإمام (عليه السّلام) و بسط يده أو من نصبه للجهاد، و لو بتعميم ولايته له و لغيره في قطر من الأقطار، بل أصل مشروعيته مشروط بذلك فضلاً عن وجوبه»(1). و قال في الرياض: «بلا خلاف أعلمه»(2).

و إليك نبذة من كلمات الأصحاب في ذلك.

قال أبو الصلاح الحلبي، بعد بيان القسمين المزبورين للجهاد: «و خالف الثاني الأوّل؛ لأنّ الأوّل جهاد مبتدإ، وقف فرض النصرة فيه على داعي الحق؛ لوجوب معونته، دون داعي الضلال؛ لوجوب خذلانه. و حال الجهاد الثاني بخلاف ذلك؛ لتعلّقه بنصرة الإسلام و دفع العدوّ عن دار الإيمان؛ لأنّه إن لم يدفع العدوّ، درس الحق و غلب على دار الإيمان»(3).

و قال في السرائر: «و من يجب عليه الجهاد إنّما يجب عليه عند شروط. و هو أن يكون الإمام العادل الذي لا يجوز لهم القتال إلّا بأمره و لا يسوغ لهم الجهاد من دونه ظاهراً، أو يكون من نصبه الإمام للقيام بأمر المسلمين في الجهاد حاضراً، ثمّ7.

ص: 118


1- جواهر الكلام 11:21.
2- رياض المسائل 447:7.
3- الكافي في الفقه: 247.

يدعوهم إلى الجهاد فيجب عليهم حينئذٍ القيام به. و متى لم يكن الإمام ظاهراً و لا من نصبه حاضراً لم تجز مجاهدة العدوّ. و الجهاد مع أئمّة الجور من غير إمام خطأ يستحق فاعله به الإثم، و إن أصاب لم يؤجر و إن أُصيب كان مأثوماً، اللهم إلّا أن يُدْهم المسلمين و العياذ باللّه أمرٌ من قبل العدوّ يخاف منه على بيضة الإسلام و يخشى بواره..»(1).

و نظيره عن أبي المجد الحلبي في الإشارة؛ حيث اشترط في الجهاد الابتدائي حضور الإمام المعصوم (عليه السّلام) أو نائبه المنصوب من جانبه، بقوله: «مع أمر الإمام الأصل به أو من نصبه و جرى مجراه أو ما حكمه حكم ذلك من حصول الخوف الطاري على كلمة الإسلام..»(2).

و نظيره ما عن الشهيد في الدروس(3). إلى غير ذلك من كلمات الأصحاب المصرّحة في ذلك، و لا حاجة إلى ذكرها بعد دعوى الإجماع بقسميه عليه في كلام فقيه نحرير مثل صاحب الجواهر.

و لا يخفى أنّ مقصودهم من النائب في المقام هو المنصوب من جانب الإمام لخصوص الجهاد. كما صرّح به في الشرائع، و كذلك في كشف الغطاء(4)، و يفهم ذلك أيضاً من كلام غيرهما.

و لكن الإنصاف أنّ تحصيل الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم بالتعبّد مشكل جدّاً، بعد دلالة النصوص الواردة في المقام على ذلك، و إن كان إحراز استناد2.

ص: 119


1- السرائر 3:2.
2- إشارة السبق: 142.
3- الدروس الشرعية 30:2.
4- كشف الغطاء 410:2 /السطر 2.

الأصحاب إليها لذلك مشكل؛ لخلوّ كلماتهم حسب فحصي عن الاستدلال بالنصوص لذلك، و لا سيّما القدماء منهم. و لكن من المحتمل قوياً أنّ دلالتها منشأ ذهابهم إلى اشتراط ذلك، و قوّة احتمال ذلك كافية في إسقاط الإجماع عن الاعتبار.

و على أيّ حال فاستدل لذلك بنصوص.

و منها: ما رواه الكليني بسنده الصحيح عن بشير الدّهان: عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: قلت له: إنّي رأيت في المنام أنّي قلت لك إنّ القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير، فقلت لي: نعم هو كذلك، فقال أبو عبد اللّه (عليه السّلام)

هو كذلك، هو كذلك(1).

هذه الرواية لا إشكال في دلالتها على عدم مشروعية الجهاد بغير إذن الإمام المعصوم، و هي بإطلاقها و إن تشمل القتال الدفاعي، إلّا أنّه خارج بالقرينة القطعية. و أمّا سنداً فلا إشكال في رجال سندها إلّا بشير الدّهان الكوفي. و هو من أصحاب الصادق و الكاظم (عليهما السّلام)، كما ذكره البرقي و الكشي و الشيخ في رجاله. و لم يرد في حقه أيّ ذمّ و لا مدح، و هو مشمول لتوثيق ابن قولويه؛ نظراً إلى وقوعه في أسناد كامل الزيارات، و لكن يشكل الحكم بوثاقته؛ لما بنينا على عدم إثبات وثاقة آحاد رجال أسناد هذا الكتاب بإطلاق كلام ابن قولويه في المقدمة. و قد بحثنا عن ذلك مفصّلاً في كتابنا مقياس الرواة.

و منها: صحيح عبد اللّه بن المغيرة قال: قال محمّد بن عبد اللّه للرضا (عليه السّلام) و أنا أسمع -: حدّثني أبي عن أهل بيته، عن آبائه أنّه قال له بعضهم: إنّ في بلادنا موضع رباط يقال له «قزوين»، و عدواً يقال له «الديلم»، فهل من جهاد أو هل من رباط؟1.

ص: 120


1- وسائل الشيعة 45:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 12، الحديث 1.

فقال (عليه السّلام): عليكم بهذا البيت فحجّوه، فأعاد عليه الحديث، فقال (عليه السّلام)

عليكم بهذا البيت فحجّوه، أ ما يرضى أحدكم أن يكون في بيته ينفق على عياله من طوله ينتظر أمرنا، فإن أدركه كان كمن شهد مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بدراً، فإن مات ينتظر أمرنا كان كمن كان مع قائمنا صلوات اللّه عليه هكذا في فسطاطه، و جمع بين السبّابتين، و لا أقول: هكذا، و جمع بين السبّابة و الوسطى، فإنّ هذه أطول من هذه، فقال أبو الحسن (عليه السّلام)

صدق(1). و أمّا اشتماله على الرباط لا يضرّ بالمطلوب بلحاظ وجوب الرباط مطلقاً؛ لما ثبت في محله من عدم البأس في تبعيض فقرأت الحديث في الحجية.

لا إشكال في دلالة هذه الرواية على المطلوب، كما لا إشكال في سندها؛ حيث ذكر الكليني لها طريقين، و لا إشكال في رجال طريقه الثاني.

و منها: موثقة سماعة عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: لقي عباد البصري علي بن الحسين (عليه السّلام) في طريق مكة، فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد و صعوبته، و أقبلت على الحج و لينه، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ الآية، فقال علي بن الحسين (عليه السّلام)

أتمّ الآية، فقال اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ الآية، فقال علي بن الحسين (عليه السّلام)

إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج(2).

و رواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلاً. و رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن3.

ص: 121


1- وسائل الشيعة 47:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 12، الحديث 5.
2- وسائل الشيعة 46:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 12، الحديث 3.

أبيه، عن رجاله، عن علي بن الحسين (عليه السّلام) مثله.

هذه الرواية لا إشكال في اعتبار سندها، و لكن لا ربط لها بالمطلوب؛ لأنّ الإمام (عليه السّلام) ناظر في كلامه إلى اشتراط وجود ناصرين موصوفين بالأوصاف المذكورة، و ليس بصدد بيان اعتبار إذن الإمام في مشروعية الجهاد. و لا يصح الاستدلال بها في المقام كما يظهر من بعض.

و منها: حسنة عبد الملك بن عمرو، قال: قال لي أبو عبد اللّه

يا عبد الملك ما لي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك؟ قال: قلت: و أين؟ قال

جدّة و عبّادان و المصيصة و قزوين، فقلت: انتظاراً لأمركم و الاقتداء بكم، فقال (عليه السّلام)

إي و اللّه لو كان خيراً ما سبقونا إليه، قال: قلت له: فإنّ الزيدية يقولون ليس بيننا و بين جعفر خلاف، إلّا أنّه لا يرى الجهاد، فقال (عليه السّلام)

أنا لا أراه؟! بلى و اللّه إنّي لأراه، و لكنّي أكره أن أدع علمي إلى جهلهم(1).

و فيه: أنّ غاية مدلولها عدم إذن الإمام (عليه السّلام) في قضية شخصية لذلك القتال المعهود الذي وقع مورد سؤال للراوي و عدم مشروعية فعل الذين أقدموا عليه في زمانه. و أمّا اشتراط إذنه (عليه السّلام) في الجهاد مطلقاً على سبيل القضية الحقيقية، فلا يستفاد من هذه الحسنة.

و مثله في الدلالة ما ورد عن أبي جعفر الثاني في حديث

و لا أعلم في هذا الزمان جهاداً، إلّا الحج و العمرة و الجوار(2). و الجوار: على وزن فعال مصدر المجاورة أي الاعتكاف في المساجد، كما قال في الصحاح.4.

ص: 122


1- وسائل الشيعة 46:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 12، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 47:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 12، الحديث 4.

و منها: ما رواه الصدوق في الخصال بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليه السّلام) في حديث شرائع الدين قال

و الجهاد واجب مع إمام عادل، و من قتل دون ماله فهو شهيد(1).

و فيه مضافاً إلى ضعف سنده؛ لوقوع تميم بن بهلول في سنده، لا يدلّ على المطلوب، إلّا بناءً على ثبوت المفهوم لقيد

مع إمام عادل و لكنّه غير ثابت؛ لاحتمال عدم المفهوم؛ نظراً إلى عدم دلالة لفظ «مع» و لا وصف «إمام» على المفهوم، و لا سيّما بعد توصيفه بعادل؛ حيث يقوّى إرادة معناه العام؛ لأنّ الإمام المعصوم لا يتعين بوصف العادل؛ لأنّه وصف أعم منه.

و مثله سنداً و دلالة ما رواه في تحف العقول(2).

و منها: نصوص دلّت على النهي عن الخروج بالسيف قبل قيام القائم عجّ، و أنّه يصبح عقيماً، و أنّ الدماء المراقة في سبيل ذلك تذهب هدراً.

و من هذا القبيل ما أمر فيه بإلزام البيت قبل قيامه (عليه السّلام). مثل: مرفوعة ربعي عن علي بن الحسين، قال (عليه السّلام)

و اللّه لا يخرج أحد منّا قبل خروج القائم (عليه السّلام)، إلّا كان مثله كمثل فرخ طار من و كره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به(3).

و صحيح سدير قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام)

يا سدير ألزم بيتك، و كن حلْساً من أحلاسه، و اسكن ما سكن اللّيل و النّهار، فإذا بلغك أنّ السفياني قد خرج2.

ص: 123


1- وسائل الشيعة 49:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 12، الحديث 9.
2- تحف العقول: 419، وسائل الشيعة 49:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 12، الحديث 10.
3- وسائل الشيعة 51:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 13، الحديث 2.

فارحل إلينا، و لو على رجلك(1).

و معتبرة الحسين بن المختار عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

كلُّ راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت، يعبد من دون اللّه عزّ و جلّ (2).

و معتبرة جابر عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

الزم الأرض و لا تحرّك يداً و لا رجلاً، حتى ترى علامات أذكرها لك، و ما أراك تدركها: اختلاف بني فلان، و مناد ينادي من السماء، و يجيئكم الصوت من ناحية دمشق(3).

فهذه النصوص دلّت بإطلاقها على عدم جواز قتال الطواغيت و محاربة سلاطين الجور في عصر الغيبة. و إطلاقها يشمل الجهاد، و لو بإذن الفقيه العادل.

و لكن وردت عدة نصوص أُخرى في قبال النصوص المزبورة دلّت بظاهرها على جواز الجهاد و مشروعية القتال إذا روعي فيه أحكام الجهاد و أحرز العمل بالحدود الشرعية التي وضعها الشارع في المسائل المرتبطة أو كان قائد الجند و أمير الجيش عالماً بحدود اللّه ورعاً في دينه، و كان غرضه من القتال الدعاء إلى إجراء أحكام اللّه المبيّنة في روايات أهل البيت (عليهم السّلام).

فمن هذه النصوص: خبر محمد بن عبد اللّه السمندري، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): إنّي أكون بالباب يعني باب الأبواب فينادون السلاح فأخرج معهم، قال: فقال (عليه السّلام) لي

أ رأيتك إن خرجت فأَسرت رجلاً فأعطيته الأمان و جعلت له من العقد ما جعله رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) للمشركين، أ كان يفون لك به؟ قال: قلت: لا و اللّه جعلت فداك ما كانوا يفون لي به، قال (عليه السّلام)

فلا تخرج، قال:6.

ص: 124


1- وسائل الشيعة 51:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 13، الحديث 3.
2- وسائل الشيعة 52:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 13، الحديث 6.
3- وسائل الشيعة 56:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 13، الحديث 16.

ثمّ قال (عليه السّلام) لي

أ ما إنّ هناك السيف(1). أي أنّ الحاكم في تلك المعركة هو قهر السيف، لا حكم اللّه و حدوده الشرعية.

هذه الرواية دلّت على جواز الجهاد و مشروعيته إذا أُحرز فيه رعاية أحكامه؛ حيث يفهم ذلك من تعليقه (عليه السّلام) جواز الخروج على إحراز رعاية حكم الأمان من جانب قائد الجيش، فيفهم منه أنّ قائد الجيش لو كان عالماً بأحكام الجهاد و عادلاً ورعاً عاملاً بها يجوز معه الخروج إلى الجهاد.

و لكنها ضعيفة سنداً بمحمد بن عبد اللّه السمندري و عبد اللّه بن المصدّق. هذا مضافاً إلى احتمال كون التعليق في كلامه (عليه السّلام) لأجل إقناع السائل و الاحتجاج عليه، كما يشهد له بيان ذلك بصورة السؤال و الجواب مخاطباً لشخص السائل على سبيل القضية الشخصية، فلم يبيّن التعليق على سبيل القضية الكلّية الحقيقية، حتى تستفاد منه الكلّية.

و منها: رواية الحسن بن راشد عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه، عن آبائه (عليهم السّلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السّلام)

لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم، و لا ينفذ في الفيء أمر اللّه عزّ و جلّ، فإنّه إن مات في ذلك المكان كان معيناً لعدوِّنا في حبس حقنا و الإشاطة بدمائنا، و ميتته ميتة جاهلية(2).

و رواه في الخصال(3) بعين هذا السند عن علي (عليه السّلام) في حديث الأربعمائة. قوله: الإشاطة بدمائنا، يعني تعريضنا للقتل.5.

ص: 125


1- وسائل الشيعة 48:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 12، الحديث 7.
2- وسائل الشيعة 49:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 12، الحديث 8.
3- الخصال: 10/625.

هذه الرواية تتوقف دلالتها على المطلوب على ظهورها في المفهوم بدلالة الوصف و هو مشكلٌ، و أشكل منه الأخذ بإطلاق مفهومها الشامل لغير الإمام، لا أصل المفهوم في الجملة. هذا مضافاً إلى ما في الحسن بن راشد؛ لأنّه كوفي مولى بني العباس و من أصحاب الصادق ظاهراً، أو هو الحسن بن راشد الطفاوي و من أصحاب الرضا (عليه السّلام)، و كلاهما ضعيف؛ لأنّ الأوّل ضعّفه ابن الغضائري و الثاني ضعّفه النجاشي.

و على أيّ حال فليس الرجل الحسن بن راشد الثقة؛ فإنّه بغدادي من آل مهلب، و من أصحاب الإمام الهادي (عليه السّلام)، و متأخّر عن الواقع في سند هذه الرواية بطبقتين؛ لأنّه في طبقة أبي بصير و محمد بن مسلم. و قد بحثنا عن ذلك في أوّل كتاب الخمس، من دليل تحرير الوسيلة، فراجع.

و منها: صحيح عيص بن القاسم، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) يقول

عليكم بتقوى اللّه وحده لا شريك له و انظروا لأنفسكم، فو اللّه إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه و يجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، و اللّه لو كانت لأحد كم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها ثمّ كانت الأُخرى باقية تعمل على ما قد استبان لها، و لكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد و اللّه ذهبت التوبة فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آت منّا فانظروا على أي شيء تخرجون، و لا تقولوا خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً و كان صدوقاً و لم يدعكم إلى نفسه، و إنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، و لو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه، فالخارج منّا اليوم إلى أيّ شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)

ص: 126

فنحن نشهدكم إنّا لسنا نرضى به، و هو يعصينا اليوم(1).

هذه الصحيحة لا إشكال في سندها، كما أنّ مقتضى التحقيق تمامية دلالتها على المطلوب لأنّ قوله (عليه السّلام)

كان عالماً صدوقاً.. مجتمع لينقضه. تعليل ظاهر في كون المعلّل به هو ملاك مشروعية الجهاد و القيام، و لا غيره من الأوصاف و الخصوصيات. و لمّا كان الفقيه الجامع العادل واجداً لهذه الأوصاف و الخصوصيات المعلّل بها فيشرع القتال معه.

هذا، و لكنّها محمولة على غير الجهاد الابتدائي، بل من قبيل الدفاع عن حريم الإمامة الواقع في معرض الخطر في ذلك الزمان بزعم زيد فكان قتاله من قبيل الدفاع، مع أنّ في بعض الروايات أنّه استشار الإمام في ذلك، و هو (عليه السّلام) لم يمنعه، كما رواه في العيون هذا مضافاً إلى كون خروج زيد على طاغوت بني الأُمية، و لم يكن قتاله لدعاء الكفار و المشركين إلى الإسلام؛ حتى يكون من قبيل الجهاد الابتدائي.

و مقتضى التحقيق في المقام عدم تمامية دلالة شيء من هذه النصوص على مشروعية الجهاد الابتدائي للفقيه في عصر الغيبة.

و عليه فلا ولاية له على ذلك؛ لخروجه عن عموم أدلة ولايته و إطلاقها بالنصوص الخاصة السابقة آنفاً، و لا إشكال في تمامية بعضها سنداً و دلالة على عدم مشروعية الجهاد الابتدائي لغير الإمام المعصوم فالتحقيق عدم ثبوت الولاية للفقيه على البدأة بالجهاد كما قال السيد الماتن (قدّس سرّه)، و لا سيّما بملاحضة اتفاق الأصحاب على ذلك.1.

ص: 127


1- وسائل الشيعة 50:15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 13، الحديث 1.

[وجوب قيام الفقهاء مع بسط يدهم كفاية بالعدل و القسط و إقامة الحدود المعطّلة و إحياء سنّة النبي و تصدي الأُمور الحسبة]

مسألة 3: يجب كفاية على النوّاب العامّة القيام بالأُمور المتقدّمة؛ مع بسط يدهم و عدم الخوف من حكّام الجور (1)، و بقدر الميسور مع الإمكان.

(1) و ذلك لما دلّ من النصوص المتقدمة على وجوب القيام بالعدل و القسط و إقامة الحدود المعطّلة و إحياء سنّة النبي و تصدي الأُمور الحسبة، بل وجوب ذلك للمتمكن منه معلوم بضرورة العقل و الشرع، مع قطع النظر عن النصوص الخاصة المتقدمة.

و لكنه مع عدم الخوف على نفسه أو أنفس سائر المؤمنين من الطواغيت، بل عدم الخوف على عرضه و عدم لزوم الحرج من ذلك؛ و ذلك لعمومات النهي عن إلقاء النفس إلى التهلكة و عن إذلال النفس و هتك العرض و إطلاقات نفي الضرر و الحرج.

فيعلم من ذلك عدم رضى الشارع بشيء من هذه المحاذير في العمل بالوظيفة و إجراء الأحكام الشرعية، إلّا ما أُخذ في موضوعه إيثار المال و النفس، كالجهاد و الدفاع، بل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في مهمّات الشريعة، و لا سيّما إزالة البدع و التحريفات.

و لا يخفى أنّه لا بدّ من مراعات الأهمية في ذلك، فإذا رأى الفقيه بيضة الإسلام في خطر المحو و آثار الشريعة و شعائر الإيمان في خطر الدروس، و وثق بنفسه من القيام و أحسّ التمكّن من الإطاحة بالطاغوت لاطمئنانه بمساعدة الناس، وجب عليه القيام بذلك، و تأسيس حكومة الإسلام، و لو انجرّ إلى بذل النفوس.

ص: 128

[وجوب مساعدة الفقهاء كفاية في إجراء السياسات و غيرها من الحسبيّات و عدم جواز التولّي للحدود و القضاء و غيرها من قبل الجائر]

مسألة 4: يجب على الناس كفاية مساعدة الفقهاء في إجراء السياسات و غيرها من الحسبيّات التي من مختصّاتهم في عصر الغيبة مع الإمكان (1)، و مع عدمه فبمقدار الميسور الممكن.

مسألة 5: لا يجوز التولّي للحدود و القضاء و غيرها من قبل الجائر (2)، فضلاً عن إجراء السياسات غير الشرعيّة، فلو تولّى من قبله مع الاختيار فأوقع ما يوجب الضمان ضمن، و كان فعله معصية كبيرة.

(1) و الوجه فيه أنّ وجوب مساعدة الفقهاء هو مقتضى ثبوت الولاية الشرعية للفقيه؛ فإنّ إعطاء الولاية إليه و نصبه حاكماً و والياً على الناس يقتضي وجوب طاعته و لزوم مساعدته فيما يصدر منه في مقام الحكومة و الولاية، و إلّا لا معنى لإعطاء الولاية إليه و جعله لهذا المنصب الشريف. فكيف كان ثبوت هذا المنصب للإمام المعصوم يقتضي ذلك فكذلك فيمن هو بمنزلته.

هذا مضافاً إلى أنّ أدلة وجوب تكفل الفقيه و تصديه لإجراء أحكام اللّه و إقامة حدوده بنفسها تقتضي مساعدة سائر المكلّفين له في ذلك.

(2) و الوجه فيه ما دلّ من نصوص الكتاب و السنة على تحريم التحاكم إلى الطواغيت و الركون إليهم.

و قد سبق ذكر هذه النصوص في أوائل البحث. و مقتضى مدلول هذه النصوص كون جميع تصرفاته في الأموال و النفوس حينئذٍ معصية و عدوانية، فيضمن كل ما أتلفه و ما جعل عليه اليد، من الأموال.

هذا مضافاً إلى ما دلّ على كون ما أُصيب من الظلمة و الطواغيت و أعوانهم سحتاً. مثل قول الصادق (عليه السّلام) في صحيحة عمار

و السحت أنواع كثيرة، منها:

ص: 129

[حكم من أكرهه الجائر على تولّي أمر من الأُمور]

مسألة 6: لو أكرهه الجائر على تولّي أمر من الأُمور جاز إلّا القتل و كان الجائر ضامناً (1)، و في إلحاق الجرح بالقتل تأمّل. نعم يلحق به بعض المهمّات، و قد أشرنا إليه سابقاً.

ما أُصيب من أعمال الولاة الظلمة(1).

و قوله (عليه السّلام) في مقبولة عمر بن حنظلة

من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، و ما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً، و إن كان حقاً ثابتاً له؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت(2).

و أمّا وجه كونه معصية كبيرة؛ لأنّه مما أوعد اللّه عليه النار في صريح الكتاب، كقوله تعالى وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ(3) .

(1) و الوجه فيه ما دلّ من النصوص على رفع العقاب عمّا استكره عليه و مقتضاه ارتفاع الحرمة و جواز الارتكاب. و لكن لا تشمل هذه النصوص القتل و الجرح و سائر مهمات الشريعة التي يقطع بأهميتها في نظر الشارع و عدم رضائه بوقوعها بأيّ وجه. ذلك لما استفيد من الأدلّة من الأهمية و عظم خطرها في نظر الشارع. و قد أشار إلى ذلك السيد الماتن في بعض المسائل السابقة من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قد بحثنا عنه هناك، فراجع.

ثمّ إنّ في موارد الجواز كلّما هو موجب للضمان، من تصرفاته، يكون ضمانه على الجائر الذي أكرهه على ذلك لا عليه نظراً إلى رفعه بالإكراه.

ص: 130


1- وسائل الشيعة 95:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 12.
2- وسائل الشيعة 136:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
3- هود (11):113.

[حكم تولّى الفقيه الجامع للشرائط أمراً من قبل والي الجور من السياسات و القضاء و نحوها لمصلحة]

مسألة 7: لو تولّى الفقيه الجامع للشرائط أمراً من قبل والي الجور من السياسات و القضاء و نحوها لمصلحة، جاز (1) بل وجب عليه إجراء الحدود الشرعيّة، و القضاء على الموازين الشرعيّة، و تصدّى الحسبيات، و ليس له التعدّي عن حدود اللّه تعالى.

[لو رأى الفقيه أن تصدّيه من قبل الجائر موجب لإجراء الحدود الشرعيّة و السياسات الإلهيّة]

مسألة 8: لو رأى الفقيه أن تصدّيه من قبل الجائر موجب لإجراء الحدود الشرعيّة و السياسات الإلهيّة يجب عليه التصدّي (2)، إلّا أن يكون تصدّيه أعظم مفسدة.

[المتجزّي حاله حال العامّي في الأُمور المتقدّمة]

مسألة 9: ليس للمتجزّي شيء من الأُمور المتقدّمة (3)، فحاله حال العامّي في ذلك على الأحوط. نعم لو فقد الفقيه و المجتهد المطلق، لا يبعد جواز تصدّيه للقضاء إذا كان مجتهداً في بابه، و كذا هو مقدّم على سائر العدول في تصدّي الأُمور الحسبيّة على الأحوط.

(1) و ذلك لعمومات وجوب القيام بإجراء حدود اللّه و أحكامه و إقامة القسط و العدل و الحكم بالحق، كما سبق ذكرها سابقاً. فإن تولّي ذلك من قبل الجائر إذا توقف عليه القيام بهذه المهمات التي لا يرضى الشارع بتركها و تعطيلها و كان لأجل مصلحة، كحفظ معالم الدين و آثار الشريعة عن الاندراس، يجوز لأجل ما له من المصلحة المهمة، بل يجب في فرض التوقف، كما يأتي في المسألة الآتية.

(2) قد علم وجه ذلك ممّا بينّاه في المسألة السابقة.

(3) و ذلك لعدم كونه عارفاً بالأحكام و فقيهاً في الدين و ناظراً في الحلال و الحرام على الإطلاق، كما هو ظاهر قوله

نظر في حلالنا و حرامنا و عرف

ص: 131

أحكامنا في مقبولة عمر بن حنظلة(1).

و قوله

قد عرف حلالنا و حرامنا في معتبرة أبي خديجة(2)؛ فإنّ إطلاق هذه النصوص بل عمومها تقتضي اعتبار الاجتهاد المطلق.

هذا مضافاً إلى اقتضاء سائر الأدلّة من النصوص و غيرها ثبوت الولاية للفقيه العالم بجميع أحكام الشريعة، و هو ليس إلّا المجتهد المطلق.

نعم؛ يستفاد من بعض النصوص كفاية العلم بالأحكام المرتبطة بشئون الإمارة و الحكومة في ثبوت الولاية، كقول أمير المؤمنين على (عليه السّلام)

إنّ أحقَّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه و أعلمهم بأمر اللّه فيه(3)، بناءً على إرادة أمر الحكومة و الإمارة من «هذا الأمر» و رجوع ضمير الهاء في «فيه» إليه، كما هو الظاهر. و قد بيّنّا وجه الاستظهار من هذه الرواية سابقاً في خلال الاستدلال بالنصوص. و بناءً على ذلك يكفي الاجتهاد في الأحكام المرتبطة بشئون الحكومة و الإمارة، بل يعتبر الأعلمية فيها، دون الأحكام الفردية التي لا مساس له بذلك كأكثر أحكام العبادات، بل كثير من أحكام المعاملات.

و كذلك الكلام في باب القضاء، كما دلّ عليه قوله (عليه السّلام)

و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضائنا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا3.

ص: 132


1- وسائل الشيعة 136:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 139:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.
3- نهج البلاغة: 247، الخطبة 173.

[عدم جواز الرجوع في الخصومات إلى حكّام الجور و قضاته]

مسألة 10: لا يجوز الرجوع في الخصومات إلى حكّام الجور و قضاته، بل يجب على المتخاصمين الرجوع إلى الفقيه الجامع للشرائط (1)، و مع إمكان ذلك لو رجع إلى غيره، كان ما أخذه بحكمه سحتاً على تفصيل فيه.

إليه في معتبرة أبي خديجة رواها المشايخ الثلاثة(1).

(1) سبق بيان وجه ذلك مفصّلاً. و أمّا لو رجع إلى غير الفقيه الجامع مع إمكان التحاكم إليه، فلو كان ذلك الغير من حكّام الجور و الظلمة و الطواغيت يكون ما أخذه بحكمه حراماً و سحتاً، كما ورد ذلك في النصوص، و سبق ذكرها آنفاً، و إلّا فلو كان عادلاً و مجتهداً متجزئاً في أحكام القضاء و ما يرتبط به من المسائل القضاوة، يشكل الحكم بكون ما أخذه سحتاً. و لعلّ تفصيل السيد الماتن إشارة إلى ذلك و اللّه العالم.

ثمّ إنّه لو لم يمكن الرجوع إلى الفقيه الجامع و لا المتجزي في القضاء و لا المقلّد المنصوب من قبل الفقيه الجامع و توقف استنقاذ حقه على الرجوع إلى حكّام الجور جاز الرجوع و حلّ ما أخذه بل يجوز دفع الرشوة إليه لذلك كما هو ظاهر الأصحاب، كما قال في الجواهر حيث قال: «نعم لو توقف تحصيل الحق على بذله لقضاة حكّام الجور جاز للراشي، و حرم على المرتشي كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافاً»(2).

ص: 133


1- الكافي 4/412:7، الفقيه 1/2:3، تهذيب الأحكام 516/219:6، وسائل الشيعة 13:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.
2- جواهر الكلام 145:22.

بل و لا فرق في ذلك بين إمكان الرجوع إلى قضاة العدل و عدمه في صورة توقف الاستنقاذ على الرجوع إلى قضاة الجور.

و سيأتي البحث عن ذلك مفصّلاً في مبحث الرشوة في هذا الكتاب إن شاء اللّه و عليه فلا بدّ من حمل المقبولة على غير هذه الصورة.

انتهى المقال في شرح نبذة من مسائل تحرير الوسيلة للسيد الإمام الخميني الراحل (قدّس سرّه) في ولاية الفقيه و ما يرتبط بها. و الحمد للّه أوّلاً و آخراً و صلواته على محمّدٍ و آله سرمداً.

ص: 134

هل للمرأة الولاية على الحكومة و القضاء و الإفتاء؟

اشارة

ص: 135

ص: 136

القول في منصب القضاء و الحكومة و الإفتاء للمرأة

اشارة

مسألة 1: يشترط في القاضي البلوغ و العقل و الإيمان و العدالة و الاجتهاد المطلق و الذكورة (1)(1) و طهارة المولد..

هل يجوز القضاء و الحكومة للمرأة؟ تنقيح محلّ الكلام (1) وقع الكلام في أنّه هل يشترط الذكورة في الولاية على القضاء و في الحكومة و الإمارة على الأُمّة أم لا؟ و كذا وقع الكلام في اشتراطها في المرجعية و الإفتاء.

و بعبارة اخرى: وقع الكلام في أنّه هل يجوز في نظر الشارع الأقدس أن تتصدّى المرأة لهذه المناصب أم لا يجوز لها تصدي شيء منها، و إن بلغت المراتب العالية من العلم و الفقاهة و توفّرت فيها سائر الشرائط؟

ص: 137


1- تحرير الوسيلة 386:2.

آراء الفقهاء

و نقدّم الكلام هنا في ولايتها على منصب القضاء و الحكومة، فنقول: لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط الذكورة في جواز القضاء، بل ادّعى كثيرٌ من الفقهاء الإجماع عليه، كما عن الرياض و الكفاية و المسالك و المفاتيح و نهج الحق و مفتاح الكرامة و الجواهر و العروة(1) و غير ذلك من الكتب و الجوامع الفقهية يجدها المتتبّع، و لم يعرف من بين فقهائنا الإمامية حتى مخالف واحد.

نعم أنكر المقدس الأردبيلي الدليل إن لم يكن إجماع في المقام(2).

و أمّا عدم ذكر الذكورة من شرائط القاضي في كلمات بعض الفقهاء فهو من باب الإيكال إلى الوضوح؛ اتكالاً على السيرة و ارتكاز المتشرعة؛ نظراً إلى كون عدم صلاحية المرأة للقضاء أمراً ثابتاً في سيرتهم بحيث صار مرتكزاً في أذهانهم كسائر مسلّمات الإسلام.

و قد يشكل على ذلك بأنّه فلم ذكروا العقل من أحد الشروط المعتبرة في القاضي مع كون العقل أوضح اعتباراً في القاضي من الذكورة.

و يمكن الجواب عن ذلك؛ بأنّه لم يذكر أحدٌ العقل من شرائط القاضي بدون ذكر الذكورة، و إن ذكره بعضهم مع الذكورة، و لكن من لم يذكر الذكورة لم يذكر العقل أيضاً، و إن ذكر الكمال في عداد الشروط بدون الذكورة.

و الحاصل أنّ الذكورة مفروضة في كلماتهم من الشروط؛ لما قلنا. فكأنّهم

ص: 138


1- رياض المسائل 385:2 /السطر 27، كفاية الأحكام: 261 /السطر 12، مسالك الأفهام 327:13، مفاتيح الشرائع 246:3، نهج الحق و كشف الصدق: 562، مفتاح الكرامة 9:10 /السطر 10، جواهر الكلام 12:40، العروة الوثقى 5:3.
2- مجمع الفائدة و البرهان 15:12.

قالوا: لا يجوز القضاء لأحد من الرجال، إلّا من كان له الإيمان و الكمال و العدالة و العلم و كذا سائر الشروط.

و قد نسب الخلاف إلى بعض العامّة، كأبي حنيفة و ابن جرير الطبري. قال الشيخ في الخلاف في المسألة السادسة من كتاب القضاء: «لا يجوز أن تكون المرأة قاضية في شيء من الأحكام، و به قال الشافعي، و قال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية فيما يجوز أن تكون شاهدة فيه و هو جميع الأحكام إلّا الحدود و القصاص. و قال ابن جرير: يجوز أن تكون قاضية في كل ما يجوز أن يكون الرجل قاضياً فيه؛ لأنّها تعدّ من أهل الاجتهاد»(1).

و في كتاب الفقه الإسلامي للدكتور الزحيلي قال: «و أمّا الذكورة فهي شرط أيضاً عند المالكية و الشافعية و الحنابلة فلا تتولّى امرأة القضاء.. و قال الحنفية: يجوز قضاء المرأة في الأموال، أي المنازعات المدنية؛ لأنّه تجوز شهادتها فيها.. و أجاز ابن جرير الطبري قضاء المرأة في كل شيء؛ لجواز إفتائها»(2).

و لا يخفى أنّه لا يعبأ بمخالفتهم بعد تسالم فقهائنا على اشتراط الذكورة في قضاء المرأة. بل تكون مخالفتهم من المؤيّدات؛ لأنّ الرشد في خلافهم؛ كما ورد في نصوص أهل البيت (عليهم السّلام).

ثمّ إنّ الإجماع لا ينبغي أن يعدّ دليلاً مستقلا في المقام، بعد استناد الفقهاء إلى بعض النصوص الخاصّة؛ لكونه محتمل المدرك. و لكن الإنصاف أنّ تسالم جميع الفقهاء قديماً و حديثاً على ذلك يكشف عن قطعية الحكم بينهم؛ فإنّه رصيدٌ وثيق لما استدل به في المقام، من القواعد و الآيات و الأحاديث و السيرة.6.

ص: 139


1- الخلاف 213:6.
2- الفقه الإسلامي، الزحيلي 745:6.

أدلّة عدم جواز القضاء و الحكومة للمرأة

اشارة

قبل الورود في الاستدلال على اشتراط الذكورة في القضاء ينبغي بيان مقتضى الأصل لإعطاء الضابطة في المقام.

مقتضى الأصل

يمكن تقريب الأصل في المقام بوجوه ثلاثة:

الأوّل: ما يظهر من مطاوي كلمات صاحب الجواهر و غيره من أنّ مقتضى الأصل عدم الجواز في مثل المقام ما لم تقم حجّة شرعية على الحكم؛ و ذلك لأنّ القضاء و الحكومة منصب لا بدّ له من الجعل، فما دام لم يدلّ دليل معتبر شرعي على جعل منصب القضاء لأحد لا يكون مشروعاً. و عليه فمقتضى الأصل عدم جواز القضاء للمرأة إلّا أن يثبت الجواز بالدليل المعتبر الشرعي. و لا يخفى أنّ هذا الأصل ليس من الأُصول العملية، بل قاعدة مسلّمة عقلائية.

الثاني: ما يظهر من جماعة، من تقريب الأصل بنحو آخر، و حاصله: أنّ العقل إنّما يستقلّ بولاية اللّه على عباده لأنّه خالقهم و منعمهم، فيحكم العقل بلزوم طاعته؛ شكراً لنعمته. و لا يرى لغيره تعالى ولاية و سلطة على الناس إلّا بإذن اللّه تعالى. و عليه فمقتضى هذه القاعدة العقلية عدم ثبوت الولاية للمرأة على الحكومة و القضاء، إلّا إذا أُحرز جعل الولاية لها من قبل اللّه أو الرسول أو الإمام المعصوم بدليل معتبر شرعي و قد بيّنا تقريب هذا الأصل مفصّلاً في أوّل هذا الكتاب.

الثالث: ما يستفاد من كلام الشيخ في الخلاف؛ حيث علّل لاشتراط الذكورة

ص: 140

في القاضي بقوله: «لا يجوز أن تكون المرأة قاضيةً في شيء من الأحكام.. ثمّ قال: دليلنا: أنّ جواز ذلك يحتاج إلى دليل؛ لأنّ القضاء حكم شرعي، فمن يصلح له يحتاج إلى دليل شرعي..»(1).

و لا يخفى أنّه قد ينسبق إلى الذهن في البداية من ظاهر تعبيره بالحكم الشرعي، أنّ مقصوده منه هو الجواز التكليفي بالمعنى الأعم، بتقريب أنّه حكم شرعي توقيفي يتوقف إثباته على دليل معتبر من الشارع، و أنّ الحكم هنا ليس من قبيل الحكم الإنشائي الذي يصدر بإنشاء القاضي؛ لكي يرجع هذا التقريب إلى الأصل بالتقريب الذي استفدناه من كلام صاحب الجواهر.

و لكن يشكل على ذلك: بأنّ الجواز المذكور في كلام الشيخ لو كان تكليفياً يمكن إثباته بأصالة البراءة من حرمة القضاء للمرأة عند الشك فيه، بل المقصود منه بحسب تناسب الحكم و الموضوع هو الجواز الوضعي، بمعنى نفوذ الحكم شرعاً. و أنّه أيضاً حكم شرعي يحتاج إثباته إلى إنفاذ الشارع و إمضائه، فما دام لم يقم دليل على مشروعية القضاء و نفوذه للمرأة لا ينفذ قضاؤها شرعاً. و هذا هو لبّ مراد الشيخ في الخلاف. و هذا المعنى غير كون القضاء منصباً محتاجاً إلى جعل من الشارع.

ثمّ إنّه قد يستشكل على هذا الأصل تمسكاً بعموم قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ(2) و كذا الآيات الآمرة بإجراء الحدود و القصاص و الديات؛ فإنّ ظاهر هذه الآيات جواز القضاء، بل وجوب القيام بالقسط5.

ص: 141


1- الخلاف 213:6.
2- النساء (4):135.

و إجراء الأحكام الجزائية لكلّ من يتمكّن من ذلك، بلا فرق بين الرجال و النساء. و عليه فمقتضى إطلاق هذه الآيات، بل عمومها تأسيس أصل جواز القضاء لكلّ من يتمكّن من القيام به، إلّا أن يثبت عدم الجواز بدليل.

و فيه: ما لا يخفى من الإشكال بأدنى تأمّل؛ لوضوح كون هذه الآيات بصدد بيان أصل تكليف المؤمنين بالقيام بالقسط و إجراء الأحكام، من دون نظر لها إلى بيان شرائط من يصلح للقيام بذلك، و لا إلى جعل منصب القضاء و بيان شرائط القاضي. هذا مضافاً إلى لزوم تخصيص الأكثر المستهجن من ثبوت الإطلاق المزبور لها بهذا العرض العريض؛ نظراً إلى عدم صلاحية أكثر الناس للقضاء.

و أمّا الثمرة الفقهية المترتبة على تأسيس أصل عدم الجواز في المقام فهي تظهر في الحاجة إلى الدليل. فبناءً على ذلك إنّ الذي يحتاج إلى الدليل الشرعي المعتبر هو جواز القضاء للمرأة. و أمّا بناءً على أصل جواز القضاء فالمحتاج إلى الدليل هو إثبات عدم جواز القضاء للمرأة. و حيث أثبتنا أصل عدم جواز القضاء للمرأة بالتقاريب الثلاثة المزبورة، و بالتقاريب السابقة في أوّل هذا الكتاب، فلذا نكون في غنى عن التمسك بالدليل لإثبات عدم جواز القضاء للمرأة، بل مجرد عدم قيام الدليل المعتبر على جواز القضاء للمرأة يكفي لإثبات عدم جواز القضاء لها.

ثمّ إنّ هذا الأصل ليس من قبيل الأصل العملي؛ لكي يقال بعدم وصول النوبة إليه قبل البحث عن الدليل. بل يرجع إلى القاعدة العقلية أو العقلائية المقتضية لتوقف نفوذ قضاء المرأة على قيام الدليل الشرعي.

و عليه فلا بدّ لإثبات جواز القضاء و الحكومة للمرأة من إقامة دليل معتبر شرعي، و إلّا تكفي القاعدة المزبورة لإثبات عدم مشروعية القضاء و الحكومة للمرأة، من دون حاجة إلى دليل لإثبات عدم الجواز.

ص: 142

و الحاصل: أنّ مقتضى القاعدة عدم مشروعية القضاء و الحكومة للنساء، ما لم يقم دليل معتبر شرعي على مشروعيتهما لهنّ.

و سيأتي في ختام البحث عدم صلاحية ما توهم دليليته لإثبات هذين المنصبين للمرأة. و لكن مضافاً إلى القاعدة المزبورة يمكن الاستدلال على عدم صلاحية المرأة للقضاء و الحكومة في نظر الشارع الأقدس بأدلة من الكتاب و السنة و السيرة، تكشف بمجموعها عن عدم رضى الشارع بتولّي المرأة للقضاء و الحكم.

الاستدلال بالكتاب

قد استدل في المقام بآيات من الكتاب المجيد. فمنها: قوله تعالى اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ (1) . لفظ «القوّام» صيغة المبالغة كالقيّم و القيّام. و المعنى أنّ الرجال قيّمون على النساء و مسلّطون عليهن في التدبير و التأديب و السياسة. و يشهد لذلك التعدي بحرف «على»، بخلاف ما لو تعدّى بحرف الباء فيفيد التصدي للعمل و الإقدام بالفعل؛ فإنّ قولهم: فلانٌ قام بذلك، أي تصدّى للإتيان به. و علّل ذلك في الآية أولاً: بأنّ اللّه فضّل الرجال على النساء في العقل و التدبير. و ثانياً: بأنّ الرجال ينفقون على النساء في أُمور المعاش و يعطونهنّ المهور.

قال الشيخ في التبيان: «و المعنى اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بالتأديب و التدبير لما فضّل اللّه الرجال على النساء في العقل و الرأي»(2).

ص: 143


1- النساء (4):34.
2- التبيان 189:3.

قال في مجمع البيان اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ ؛ أي قيّمون على النساء مسلّطون عليهنّ في التدبير و التأديب و الرياضة و التعليم بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ هذا بيان سبب تولية الرجال عليهنّ أي إنّما ولاّهم اللّه أمرهنّ لما لهم من زيادة الفضل عليهنّ بالعلم و العقل و حسن الرأي و العزم وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ عليهنّ من المهر و النفقة. كلّ ذلك بيان علّة تقويمهم عليهنّ و توليتهم أمرهنّ»(1).

و في مجمع البحرين: «أي: لهم عليهنّ قيام الولاء و السياسة و علّل ذلك بأمرين: أحدهما: موهبي من اللّه تعالى و هو أنّ اللّه فضّل الرجال عليهنّ بأُمور كثيرة من كمال العقل و حسن التدبير و تزايد القوّة في الأعمال و الطاعات و لذلك خصّوا بالنبوّة و الإمامة و الولاية و إقامة الشعائر و الجهاد و قبول شهادتهم في كل الأُمور و مزيد النصيب في الإرث و غير ذلك. و ثانيهما: كسبيّ، و هو أنّهم ينفقون عليهنّ و يعطونهنّ المهور، مع أنّ فائدة النكاح مشتركة بينهما، و الباء في قوله بِما أَنْفَقُوا للسببية و ما مصدرية، أي: بسبب تفضيل اللّه و بسبب إنفاقهم»(2).

و في فقه القرآن، لقطب الدين الراوندي: «أي: إنّهم يقومون بأمرهنّ و بتأديبهنّ فدلّت الآية على أنّه يجب على الرجل أن يدبّر أمر المرأة و أن ينفق عليها؛ لأنّ فضله و إنفاقه معاً علّة لكونه قائماً عليها مستحقّاً لطاعتها»(3).

و قال الفاضل الجواد الكاظمي في مسالك الأفهام اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ ، قيّمون على النساء في التدبير كقيام الولاة على رعيتهم..2.

ص: 144


1- مجمع البيان 68:3.
2- مجمع البحرين 142:6.
3- فقه القرآن 192:2.

بِما فَضَّلَ اللّهُ أي: بسبب تفضيله بعضهم على بعض أي: الرجال على النساء و ذلك بالعلم و العقل و حسن الرأي و التدبير و العزم و مزيد القوة في الأعمال و الطاعات و الفروسية و الرمي و أنّ منهم الأنبياء و الأئمّة و العلماء و فيهم الإمامة الكبرى و هي الخلافة و الصغرى، و هي الاقتداء بهم في الصلاة و أنّهم أهل الجهاد و الأذان و الخطبة إلى غير ذلك ممّا أوجب الفضل عليهنّ. قال في الكشاف: و فيه دليل على أنّ الولاية إنّما يستحق بالفضل لا بالتغليب و الاستطالة و القهر»(1). و غير ذلك من أقوال المفسرين و غيرهم و الظاهر اتفاقهم على تفسير الآية بذلك.

ثمّ إنّه لا ريب في دلالة هذه الآية على قيمومة الرجال على أزواجهم لأنّه المتيقن من مدلولها بقرينة التعليل بإنفاقهم عليهنّ. و أمّا دلالتها على جعل الولاية و حق القيمومة لقبيل الرجال و جنسهم على النساء فيمكن استفادتها من النصوص المفسّرة لها. و سيأتي ذكر بعضها في خلال البحث. و لعلّه من باب تنقيح الملاك كما يأتي بيانه.

و ممّن قال بذلك العلّامة الطباطبائي في تفسيره: «عموم هذه العلّة يعطي أنّ الحكم المبنيّ عليها، أعني قوله اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ غير مقصور على الأزواج بأن يختصّ القوّامية بالرجل على زوجته. بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعاً و الجهات العامّة التي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة و القضاء مثلاً، اللّتين يتوقّف عليهما حياة المجتمع. و إنّما يقومان بالتعقّل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء. و كذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة و قوّة التعقّل. كل ذلك مما3.

ص: 145


1- مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام 257:3.

يقوم به الرجال على النساء و على هذا فقوله اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ ذو إطلاق تامّ»(1).

و أشكل عليه بعض الأعاظم: «بأنّ شأن النزول و كذا السياق شاهدان على كون المراد قيمومة الرجال بالنسبة إلى أزواجهم، إذ لا يمكن الالتزام بأنّ كلّ رجل بمقتضى عقله الذاتي و بمقتضى إنفاقه على خصوص زوجه له قيمومة على جميع النساء حتى الأجنبيات. و لو سلّم الشك أيضاً فصِرف الاحتمال يكفي في عدم صحة الاستدلال»(2).

و يمكن تأييد هذا الإشكال بأنّ المقصود من الرجال لا بدّ أن يكون مرجع الضمير الفاعلي في «أنفقوا» و لا ريب في رجوعه إلى الرجال المتزوجين، و إنّ المراد إنفاقهم على أزواجهم المهر و النفقة، كما اتّفق عليه المفسّرون و نطقت به النصوص المفسرة. و إلّا فمن الواضح أنّ غيرهم لا يعطون نفقةً إلى النساء الأجنبيات. و هذا قرينة واضحة على أنّه ليس المقصود جميع الرجال أو جنسهم.

و هنا إشكال آخر: حاصله أنّ قوله اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ جمع محلّى بالألف و اللام فيدل على الشمول بالعموم الوضعي. و من الواضح أنّه غير مقصود، إذ لا معنى لولاية جميع الرجال على جميع النساء فكذلك الإطلاق؛ إذ بعد عدم معقولية إرادة العموم الذي هو بالوضع لا ينقذ إطلاق بالفحوى لابتنائه على مقدّمات الحكمة التي منها عدم قرينة على التقييد. و أمّا شأن النزول فلا يصلح لتخصيص مفاد الآية على فرض دلالتها على الشمول.1.

ص: 146


1- الميزان 343:4.
2- دراسات في ولاية الفقيه 350:1.

و بهذا البيان اتضح بطلان توهّم كون المقصود إنفاق مطلق الرجال على مطلق النساء، و لو الأجنبيات باعتبار إنفاق الحاكم و الأمير من بيت المال على جميع الأُمّة و منها النساء، نظراً إلى مخالفة تفسير الإنفاق بهذا المعنى لسياق الآية، كما قلنا، مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر لفظ الإنفاق بإطلاقه.

و على أيّ حال فلا إشكال في عدم الإطلاق أو العموم اللفظي للآية لتدلّ على سلطة الرجال بالنسبة إلى غير أزواجهم. و لكن الاستدلال بهذه الآية بفحوى الخطاب و الأولوية القطعية.

و ينبغي تقريب الفحوى المزبور في الآية و افتراقه عن القياس فنقول: إنّ فحوى الخطاب عبارة عن الدلالة الالتزامية للدليل اللفظي على الحكم المورد للاستدلال بنحو الأولوية القطعية مثل قوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ (1) فإنّه ظاهر بالدلالة المطابقية في حرمة التأفيف، و بالدلالة الالتزامية في حرمة الشتم و الضرب على أساس الأولوية القطعية و هي تبتني على استظهار العرف من الخطاب و فهم أهل العرف من الدليل اللفظي؛ فإنّ أهل العرف يستظهرون من حرمة التأفيف حرمة الضرب و الشتم بالأولوية القطعية و يرون ذلك مدلولاً التزامياً للخطاب؛ حيث يرون موضوع الحرمة إهانة الوالدين و هتكهما، و يرون الشتم و الضرب من أبرز مصاديق و أظهر أفراد طبيعي الإهانة، فهما أشدّ منعاً و أغلظ تحريماً بالقياس إلى التأفيف.

و كذلك في المقام؛ فإنّ الآية تدلّ بالصراحة على جعل القيمومة للرجل على المرأة و نصبه بعنوان وليّ المرأة و قيّمها في محيط الأُسرة، و تدلّ بالدلالة القطعية3.

ص: 147


1- الإسراء (17):23.

على كون المرأة تحت ولاية الرجل و قيمومته في خارج فضاء الأُسرة. و ذلك لأنّ الآية إذا دلّت صريحاً على جعل الولاية للرجل على المرأة و نفي ولاية المرأة في محيط الأُسرة و البيت، يفهم عرفاً نفي ولايتها على مجتمع المؤمنين بالأولوية القطعية، و العرف يستظهر ذلك من الآية؛ حيث يرى الولاية على الناس و مجتمع المؤمنين من أبرز مصاديق الولاية و أظهر أفرادها، بل لا يراها قابلاً للقياس مع الولاية على الأُسرة في الأهمية. و لذا يراها أحوج إلى لياقة التدبير و قدرة العقل و الإدارة من الولاية على الأُسرة. و هذا ليس من القياس؛ حيث إنّه لا يبتني على فهم أهل العرف من الخطاب و ليس من شئون الدلالة اللفظية، بل إنّما يسري الحكم من موضوع الخطاب إلى موضوع آخر باستنباط العقل مع احتماله وجود خصوصية في موضوع الخطاب و هذا هو الفرق الأساسي بين القياس و الفحوى. و قد بحثنا عن ذلك مفصّلاً في كتابنا مقياس الرواية، فراجع.

و حاصل الكلام: أنّ الآية دلّت بمنطوقها على عدم ولاية المرأة في بيتها على زوجها، و بالفحوى على عدم ولايتها على عموم الناس؛ لوضوح أنّه إذا لم يرض الشارع بولايتها على زوجها في بيتها فكيف يرضى بولايتها و حكومتها على الأُمّة؟! و أيضاً يمكن الاستدلال بهذه الآية بتنقيح الملاك؛ حيث علّل فيها قيمومة الرجال على النساء بتفضيل الرجال على النساء في العقل و الرأي و التدبير و قوّة الجسم. و هو و إن لا يكون من قبيل العلّة المنصوصة المأخوذة موضوعاً للحكم، إلّا أنّه لا يحتمل دخل خصوصية غيره في ثبوت الولاية و القيمومة للرجال المتزوجين على أزواجهم، و لمّا كان هذا الملاك التام موجوداً في قبيل الرجال بالنسبة إلى قبيل النساء، فلذا يثبت لهم الولاية و القيمومة عليهنّ.

ص: 148

و من الواضح عدم اختصاص هذا الملاك بالرجال بالنسبة إلى خصوص أزواجهم. و أمّا التعليل بالإنفاق عليهنّ و إن يختصّ بالأزواج، و لكن المعلوم بالتأمل أنّ كون أمر الإنفاق على الزوجة بيد الزوج إنّما هو باعتبار ما للرجل من الفضيلة على المرأة في العقل و الرأي و التدبير، كما قال تعالى وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ (1) و قد فسّر السفهاء في النصوص المعتبرة(2) بالنساء و الصبيان.

و أمّا احتمال قيمومة النساء للنساء فينفيه ظاهر قيمومة الرجال على النساء، إذ ظاهرها حصر القيمومة في الرجال. و مقتضاه نفي قيمومة النساء مطلقاً، سواءٌ كان على الرجال أو على النساء، و لا سيّما بلحاظ تعليل ذلك بتفضيل الرجال عليهنّ في العقل و الرأي و التدبير. فكأنّ الآية تنادي بأنّ ملاك القيمومة و تولّي الأُمور لمّا كان مرتبةً من العقل و الرأي و كان الرجال واجدين لتلك المرتبة، دون النساء؛ فلذلك جعل هذا المنصب للرجال. و معنى ذلك نفي صلاحية النساء لتولّي الأُمور و القيمومة على غيرهنّ مطلقاً، حتى على النساء؛ نظراً إلى فقدانهنّ شرط هذا المنصب. و من الواضح أنّ هذا الملاك لا يختصّ بالرجال بالنسبة إلى خصوص أزواجهم، بل يوجد في جنس الرجال بالقياس إلى جنس النساء، كما هو واضح.

فهذه الآية تصلح للاستدلال بها على عدم صلاحية النساء للقضاء و الحكومة و الإمارة، بل المرجعية و الإفتاء بتنقيح الملاك من مورد الآية إلى المقام، أو بالفحوى.

و لا يخفى أنّ تفضيل الرجال على النساء و الإنفاق ليسا علّة للحكم، بل من1.

ص: 149


1- النساء (4):5.
2- راجع نور الثقلين 442:1، البرهان في تفسير القرآن 341:1.

قبيل الحكمة؛ لعدم دخل لذلك في موضوع الحكم الذي هو الرجولية، كما قرّرنا في كتابنا «مقياس الرواية» ضابطة الفرق بين الحكمة و بين العلة، من عدم أخذ الحكمة في موضوع الحكم بخلاف العلة. و من هنا لا يمكن أن يستنتج من هذا التعليل جواز القضاء و الحكومة للنساء اللاتي يكنّ ذوات عقل و فضل و علم، كما قد يتوهم.

فحاصل الكلام: أنّ هذه الآية تدلّ على المطلوب بالدلالة الالتزامية لا المطابقية أو التضمّنية.

و منها: قوله تعالى وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (1)الزخرف (43):18.(2) ، فإنّ اختصاص الرجال بعلوّ الدرجة على النساء لا يكون إلّا بلحاظ ما لهم من الحظّ الأوفر في العقل و الرأي و التدبير بالنسبة إلى النساء، فلذا صار أمر تأديب الزوجة و طلاقها بيد الرجل. فهذه الآية تؤكّد مضمون الآية السابقة؛ حيث دلّت على كون الرجال واجدين للمرتبة العليا من العقل و الكمال المعتبرة في تولّى القضاء و الحكومة، دون النساء.

و منها: قوله تعالى أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ(2) . هذه الآية إمّا عطفت على قوله تعالى وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ.. أي أجعلوا له من عباده من ينشّأ في الحلية..؟ أو عطفت على قوله تعالى أَمِ اتَّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ.. أي اتخذ مما يخلق من ينشّأ في الحلية و هذا الاحتمال الثاني هو الأظهر، و إن رجّح الأوّل في مجمع البيان.

و على أيّ حال فالمقصود ممّن ينشّأ في الحلية هو النساء. و لفظ الخصام8.

ص: 150


1- البقرة
2- :228.

مصدر باب المخاصمة كالنزاع و المنازعة أي مقابلة الخصم لأخذ الحقّ منه بالمحاجّة و إقامة البرهان. و قوله غَيْرُ مُبِينٍ أي: غير قادر على إقامة البرهان على الوجه التام و لا إظهار المطلوب و إثباته بالاستدلال، أي: جعلوا للّه أو اتخذ اللّه مما يخلق النساء اللاتي يتزيّنّ بالزينة و الحلية مع عجزهنّ عن الاستدلال و إحقاق الحق و غير قادرات على إقامة البرهان. فدلّت هذه الآية على ضعف النساء في الرأي و العقل و عجزهنّ عن الاستدلال و إقامة البرهان و عدم قدرتهنّ على إثبات الحق و إحقاقه.

و من الواضح أنّ هذه الخصوصية من أهمّ ما يتوقف عليه القضاء و الحكومة و الإمارة. فهذه الآية تدلّ على عدم صلاحية النساء لتولّي هذه المناصب المحتاجة إلى عقل و رأي و تدبير فوق سائر الناس و إلى قوة و تمكّن في الاستدلال و إقامة البرهان لإحقاق حقوق المظلومين و أخذها من الظالمين.

و منها: قوله تعالى فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (1) فدلّت هذه الآية و مثلها من الآيات على نقصان شهادة النساء في الاعتبار عن شهادة الرجل.

و إذا لم تقبل شهادة المرأة وحدها في قانون القضاء فكيف ينفذ حكمها؟ مع أنّ الحكم و القضاء أحوج من الشهادة إلى دليل الاعتبار؛ لأنّه أعظم خطراً من الشهادة قطعاً.

فدلّت هذه الآية و نظائرها على عدم صلاحية المرأة للقضاء بالفحوى. هذا مضافاً إلى دلالة هذه الآية بالخصوص على المطلوب بلحاظ ما لها من تعليل عدم2.

ص: 151


1- البقرة (2):282.

اعتبار شهادة المرأة الواحدة و وجوب ضمّ شهادة المرأة الأُخرى إليها بضلالة إحدى المرأتين و انحرافها و تذكير الأُخرى إيّاها في مورد الشهادة. و لا يخفى أنّه ليس المقصود من الضلالة هنا النسيان، كما قد يتوهم، لكونه خلاف ظاهر مادة الضلالة؛ فإنّ كل لفظ من فعل و اسم ظاهرٌ في معناه الموضوع له. و مقتضى الأصل العقلائي في قانون المحاورة هو الأخذ بظاهر اللفظ و الكلام.

و أمّا التذكير فلا يصلح للقرينة على إرادة النسيان؛ نظراً إلى استعماله غالباً في القرآن بمعنى التنبيه على الضلالة. كما بيّن التذكير من رسالة النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) في قوله تعالى فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ(1) .

و أمّا وجه ضلال المرأة في الشهادة بلحاظ غلبة العواطف و الإحساسات عليها، و عدم قدم راسخ لها قبال مطامع الدنيا. فربما تورث ذلك زلّتها و ضلالتها و عدولها عن الحق فتميل إلى الشهادة على الباطل. فلذا قرّر الشارع انضمام مرأة أُخرى إليها لتذكّرها و تمنعها عن الميل إلى الباطل في مقام الشهادة.

و من الواضح أنّ من يضلّ في مقام الشهادة يضلّ في مقام القضاء و الحكم بالفحوى؛ نظراً إلى احتياج القضاء إلى استقامة في العدل و تركيز في الذهن و دقة في النظر على وجه أكمل و أتمّ من مقام الشهادة.

فهذه الآية دلّت بالخصوص أيضاً بهذا التقريب الثاني على عدم صلاحية النساء للقضاء و الحكومة، بل المرجعية و الإفتاء.

و منها: قوله تعالى وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ (2) بتقريب أنّ تولّى المرأة للقضاء3.

ص: 152


1- الغاشية (88):21.
2- الأحزاب (33):33.

و تصدّيها للحكومة و الإمارة يستدعي الخروج من البيت و اختلاطها مع الرجال و إسماع صوتها لهم. و من هنا عيّر الأصحاب عائشة بهذه الآية في مورد خروجها إلى البصرة. و لا فرق في ذلك بين نساء النبي و سائر النساء؛ فإنّ القرار في البيت و عدم الاختلاط مع الرجال و منع إسماع الصوت لا يختصّ بنساء النبي، بل دلّت النصوص المتواترة على وجوب تحصين المرأة بالبيت و منع اختلاطها و مكالمتها مع الرجال الأجانب، و قد ذكرنا كثيراً من هذه النصوص في كتاب الستر و النظر من دليل تحرير الوسيلة فراجع.

و منها: قوله تعالى وَ اللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً(1) . حيث دلّ على كون تأديب المرأة بيد الرجل، بل جوّز له ضربها عند خوف النشوز؛ و هو المعصية و الطغيان عن طاعة الرجل، كما دلّت عليه النصوص الواردة في تفسير هذه الآية، و اتّفق عليه المفسّرون، بل الآية نفسها ظاهرة في ذلك بلا حاجة إلى تفسير و لا دليل من الخارج. و ذلك بقرينة المقابلة بين النشوز و بين الإطاعة بقوله فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ.. . و من موارد النشوز خروجها عن بيت الزوج بغير إذنه و الورود في مجالس الأجانب. و هذا ينافي جعل الولاية على القضاء و الحكومة للنساء و استقلالهنّ في ذلك، كما هو واضح.

و يمكن الاستشهاد لذلك أيضاً بالآيات الأُخرى الدالّة على وجوب الستر و الحجاب على المرأة. و قد بحثنا عن هذه الآيات في كتاب الستر و النظر من دليل تحرير الوسيلة، فراجع.4.

ص: 153


1- النساء (4):34.
الاستدلال بالسنّة

و قد دلّت على عدم صلاحية المرأة للحكومة و القضاء طوائف من النصوص المتظافرة المعتبرة بعضها. هذه النصوص و إن كان كثيرٌ منها ضعيفاً في السند، إلّا أن تظافر ما دلّ منها على المطلوب كاف للاطمئنان بصدورها و لإثبات تمامية حجيتها على المطلوب مع أنّ بينها ما هو تام دلالةً و سنداً.

فمنها: ما دلّ على اختصاص منصب القضاء بالإمام العادل أو وصي النبي، كما في صحيح سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

اتقوا الحكومة فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين، كنبي أو وصي نبيٍّ (1)؛ لظهور الحصر في عدم صلاحية غير النبي و وصيّه الإمام العادل لإحراز منصب القضاء. و لا يخفى أنّ هذه الرواية صحيحة بطريق الصدوق لصحة طريقه إلى سليمان بن خالد.

و خبر إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) لشريح: يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّا نبيٌّ أو وصي نبي أو شقي(2). فإنّ هذه الطائفة من النصوص تنادي بسياقها أنّ هذا المنصب فوق شأن النساء، كما هو واضحٌ.

و منها: النصوص الدالّة على جعل منصب القضاء و الحكم للرواة العارفين بالحلال و الحرام و أحكام القضاء؛ حيث يظهر منها اختصاص هذا المنصب

ص: 154


1- وسائل الشيعة 17:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.
2- وسائل الشيعة 17:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 2.

بالرجال، مثل معتبرة أبي خديجة عن الصادق (عليه السّلام)

اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً(1).

و معتبرته الأُخرى عنه (عليه السّلام)

و لكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه(2). و في أكثر النسخ «قضائنا».

فإنّ في هاتين المعتبرتين إشعارٌ بصلاحية خصوص الرجل لمنصب القضاء كما قال في الجواهر و إن كان لا مفهوم لهما؛ لكي تنفى به صلاحية المرأة؛ حيث لا مفهوم للقب و الوصف و أمّا الحمل على الغالب فخلاف الظاهر، بل الوجدان؛ حيث لم يعهد تصدي مرأة للقضاء بين الناس و لو في موارد قليلة معدودة، حتى يكون هو غير الغالب.

و لذا لا ينعقد الإطلاق لكلامه (عليه السّلام)

ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا، فليرضوا به حَكَماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً(3) في مقبولة عمر بن حنظلة، كما قد يتوهم؛ نظراً إلى عدم ذكر الرجل و أعمّية لفظ «من» الموصول.

هذا مضافاً إلى ابتناء الإطلاق على مقدّمات الحكمة التي منها عدم وجود قرينة صالحة للاتكال عليها في البين. و لا ريب أنّ مجموع الآيات و الأخبار الآمرة بقرار النساء في البيوت و تحصينهنّ بها و الناهية عن اختلاطهن مع الرجال و مكالمتهن معهم و عدم خروجهنّ عن البيوت بغير إذن أزواجهنّ و غير ذلك1.

ص: 155


1- وسائل الشيعة 139:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.
2- وسائل الشيعة 13:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.
3- وسائل الشيعة 136:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

و لا سيّما أنّ ارتكاز المتشرعة الناشئ من استقرار سيرة النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و علي (عليه السّلام) على عدم جعل أحد من النساء الفقيهات قاضياً، و كذا من بعدهما من الأئمّة المتأخّرة، قرينة صالحة للاتكال عليها في عدم إرادة النساء من إطلاق المقبولة، مع تأكّد هذه القرينة بالتصريح بالرجل في المعتبرتين.

و مما يؤيد ذلك ما دلّ من النصوص على أنّ الإمام الحجّة (عج) في عصر قيامه يبعث من الرجال قضاةً إلى أقطار العالم، مثل ما رواه النعماني في كتاب الغيبة بإسناده عن الصادق (عليه السّلام) قال: «إذا قام القائم (عج) بعث في أقاليم الأرض، في كلِّ إقليم رجلاً. يقول (عليه السّلام): عهدك في كفّك، فإذا ورد عليك ما لا تفهمه و لا تعرف القضاء فيه فانظُر إلى كفِّك و اعمل بما فيها(1).

و منها: ما دلّ على عدم جواز تولّي المرأة للقضاء بالصراحة. مثل ما رواه الكليني و الصدوق بأسانيدهم المختلفة عن أبي جعفر (عليه السّلام) و أبي عبد اللّه (عليه السّلام): عن أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) في رسالته إلى ابنه الحسن

لا تُمَلِّكِ المَرأة من الأمر ما يجاوز نفسها معلّلاً بقوله (عليه السّلام)

فإنّ المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة(2). و دعوى اختصاص مدلوله بأُمور البيت خلاف ظاهر إطلاق النهي؛ حيث لا قرينة في كلامه (عليه السّلام) على التقييد. فدلالته على المطلوب واضحة. و أمّا سنده و إن كان ضعيفاً، إلّا أنّ تعدّد طرقها و اختلاف رواتها يقوّي جانب صدورها عن المعصوم (عليه السّلام).

و ما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن جابر بن يزيد الجعفي عن3.

ص: 156


1- بحار الأنوار 144/365:52.
2- وسائل الشيعة 168:20، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح، الباب 87، الحديث 1 و 2 و 3.

الباقر (عليه السّلام)

و لا تتولّى المرأة القضاء(1).

لا كلام في دلالتها، و أمّا سندها ضعيف. و قد نقله في البحار(2) بطريق آخر عن الصدوق عن القطّان عن العسكري عن الجوهري. و الجوهري هو محمّد بن زكريا البصري. و قد ذكره الصدوق في طريقه إلى شعيب بن واقد و غيره باسم الجوهري الغلابي البصري(3).

و ما رواه الصدوق بإسناده عن حماد بن عمرو و أنس بن محمد عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن آبائه في وصية النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) لعلي (عليه السّلام)

قال: يا عليّ ليس على المرأة جمعة إلى أن قال و لا تولّى القضاء(4). دلالة هذه الرواية على المطلوب واضحة، و لكن طريق الصدوق إلى حماد و أنس ضعيف.

و الإشكال بأنّ قوله (عليه السّلام)

لا تولّى القضاء على وزان قوله

ليس على المرأة.. و بمعنى نفي الوجوب، يدفعه تناسب الحكم و الموضوع؛ حيث إنّه يقتضي كون المقصود في القضاء نفي المشروعية.

و ما رواه الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول مرسلاً عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)

و إذا كان أُمراؤكم شراركم و أغنياؤكم بُخلاءكم، و أُموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خيرٌ لكم من ظهرها(5).

و ما رواه العامة بأسانيدهم و طرقهم المختلفة عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)

لن يُفلح قوم6.

ص: 157


1- وسائل الشيعة 220:20، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح، الباب 123، الحديث 1.
2- بحار الأنوار 1/254:100.
3- راجع الفقيه 532:4، الأمالي، الصدوق: 509، التوحيد: 80.
4- وسائل الشيعة 16:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 2، الحديث 1.
5- تحف العقول: 36.

ولوا أمرهم امرأةً (1). و رواه أيضاً من أصحابنا الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول مرسلاً عن النبي(2).

و ما رواه الديلمي في إعلام الدين بإسناده عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): ليأتينّ على الناس زمان يُظرَّف فيه الفاجر و يقرّب فيه الماجن و يُضعَّف فيه المنصف. قال: فقيل له متى يا أمير المؤمنين (عليه السّلام)؟ فقال (عليه السّلام): إذا اتّخذت الأمانة مغنماً و الزكاة مغرماً و العبادة استطالة و الصلة منّاً. فقيل: متى ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إذا تسلّطن النساء و تسلّطن الإماء و أمّر الصبيان(3).

و ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره بسنده عن عبد اللّه بن عباس عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قال في حديث

إنّ من أشراط القيامة إضاعة الصلاة إلى أن قال فعندها إمارة النساء و مشاورة الإماء و قعود الصبيان على المنابر..(4).

و من أقوى النصوص الدالّة على عدم صلاحية النساء للأمارة و الحكومة و القضاء، بل مطلق السلطنة، صحيح حمران؛ فإنّها من أتمها سنداً و دلالة على المطلوب. رواه محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن أبي حمزة عن حمران قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام) في حديث طويل

فإذا رأيت الحق قد مات و ذهب أهله و رأيت الجور قد شمل البلاد و رأيت القرآن قد خُلِقَ و أحدث فيه ما ليس فيه و وُجّه على الأهواء.. و رأيت النساءَ و قد غَلَبْنَ على6.

ص: 158


1- صحيح البخاري 1923/687:9، سنن النسائي 227:8، مسند الإمام أحمد بن حنبل 48:5.
2- تحف العقول: 35.
3- بحار الأنوار 23/261:100.
4- بحار الأنوار 6/305:6.

المُلك و غلبن على كل أمرٍ، لا يؤتى إلّا ما لهنّ فيه هوى..، فكُنْ على حَذَرٍ و اطلب إلى اللّه عزّ و جلّ النجاة و اعلم أنّ الناس في سخط اللّه عزّ و جلّ..(1).

و لا إشكال في دلالة هذه الصحيحة على المطلوب، بلا حاجة إلى تقريب و بيان؛ فإنّه على فرض ظهور لفظ

الملك في السلطنة و الإمارة و الحكومة و عدم شموله للقضاء وضعاً، يشمله بالفحوى؛ حيث إنّه يشمل السلطة على كل أمر اجتماعي أو سياسي أو نظامي و نحو ذلك مما هو دون القضاء في الأهمية، فضلاً عن القضاء. هذا مع أنّ القضاء من شئون الحكومة و الملك، و لا سيّما أنّ الكلام في الأعمّ من القضاء.

و احتمال كون المراد غلبتهنّ على جميع الأُمور بمجموعها مخالفٌ لظهور

كل أمرٍ في الاستغراق الظاهر في كل واحد من الأُمور بآحادها.

و منها: ما دلّ على النهي عن طاعة النساء و الترغيب في مخالفتهن.

مثل صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

ذكر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) النساء، فقال (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): اعْصوهنّ في المعروف، قبل أن يأمُرْنكم في المنكر. و تعوّذوا باللّه من شرارهنّ و كونوا من خيارهنّ على حذر(2).

و مرفوعة مطلّب بن زياد عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

تعوّذوا باللّه من طالحات نسائكم، و كونوا من خيارهنّ على حذر و لا تطيعوهنّ في المعروف فيأمُرْنكم بالمنكر(3). و مثله أحاديث أُخرى(4).2.

ص: 159


1- الكافي 7/36:8.
2- نفس المصدر 2/516:5.
3- نفس المصدر: 7/517.
4- نفس المصدر: 5/517 و 12.

و مرفوعة يعقوب بن يزيد عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): كل امرءٍ تدبِّره امرأةٌ فهو ملعون(1).

و بهذا الإسناد عن أمير المؤمنين (عليه السّلام)

في خلاف النساء البركة(2).

و ما رواه الشيخ في الأمالي بسنده عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قال في جواب اليهودي

أوّل من أطاع النساءَ، آدمُ فأنزله اللّه من الجنة، و قد بيّن فضل الرجال على النساء في الدنيا..(3)، إلى غير ذلك من النصوص المتظافرة.

و قد دلّت هذه الطائفة من النصوص على عدم ولاية المرأة على زوجها في أُمور البيت و غيرها، فكيف بالولاية على أُمور الناس و أعراضهم و نفوسهم؟ فإذا لم يرضَ الشارع بتدبير المرأة و ولايتها على أُمور البيت، فكيف يرضى بإعطاء الولاية لها على الحكم و الإمارة بين الناس؟ بل ظاهر صحيحة ابن سنان و مرفوعتي يعقوب بن يزيد المنع عن طاعة مطلق النساء و قبيلهنّ في مطلق الأُمور، كما هو واضح.

منها: ما دلّ على فضل الرجال على النساء.

مثل ما روي في تفسير الإمام الحسن العسكري عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)

ما من رجل رديءٍ، إلّا و المرأة الردية أردى منه. و ما من امرأة صالحة؛ إلّا و الرجل الصالح أفضل منها. و ما ساوَى اللّهُ قطُّ امرأة برجلٍ، إلّا ما كان من تسوية اللّه فاطمة بعلي (عليه السّلام) و إلحاقها به و هي امرأة بأفضل رجال العالمين(4)،7.

ص: 160


1- الكافي 10/518:5.
2- نفس المصدر: 9/518.
3- بحار الأنوار 4/299:9.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام): 374/657.

و رواه في البحار(1) أيضاً.

و ما رواه الصدوق في العلل و الأمالي بسنده عن الحسن بن علي (عليه السّلام) قال

جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) فسأله عن مسائل فكان فيما سأله، أخبرني ما فضل الرجال على النساء؟ قال النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) كفضل السماء على الأرض، أو كفضل الماء على الأرض فبالماء تحيي الأرض و بالرجال تحيي النساء. لو لا الرجال ما خلق النساء لقول اللّه عزّ و جلّ اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ (2).

و منها: ما دلّ على النهي عن مشاورة النساء؛ و مخالفتهنّ على فرض المشاورة.

مثل خبر سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) يقول

إيّاكم و مشاورة النساء فإنّ فيهنّ الضعف و الوهن و العجز(3).

و ما روي في نهج البلاغة في وصية أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) لابنه الحسن (عليه السّلام)

و إيّاك و مشاورة النساء؛ فإنّ رأيهنّ إلى الأفن و عزمهنّ إلى الوهن(4). الأفن هو ضعف الرأي و نقصه، و كذا الوهن أي الضعف مطلقاً.

و من ذلك خبر عمرو بن عثمان عن أبي عبد اللّه في حديث قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)

النساءُ لا يشاوَرْن في النجوى و لا يُطعن في ذوي القربى. إنّ المرأة إذا أسنّت ذهب خيرُ شَطْريها و بقي شرّهما. و ذلك أنّه يعقم رحمها و يسوءُ خُلقها0.

ص: 161


1- بحار الأنوار 11/259:100.
2- علل الشرائع: 1/512، الأمالي، الصدوق: 1/161، بحار الأنوار 1/241:100.
3- الكافي 8/517:5.
4- نهج البلاغة: 405، الوصية 31، بحار الأنوار 54/252:100.

و يحتدّ لسانها. و إنّ الرجل إذا أسَنّ ذهب شرُّ شطريه و بقي خيرهما. و ذلك أنّه يَئوب عقله و يستحكم رأيه و يحسن خلقُه(1). و رواه الصدوق أيضاً بسنده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السّلام).

و ما رواه الصدوق بسنده عن جابر قال سمعت أبا جعفر (عليه السّلام) يقول

ليس على النساء أذان إلى أن قال و لا تولّى المرأة القضاء و لا تلي الإمارة و لا تستشار..(2).

و ما رواه المجلسي عن كتاب الإمامة و التبصرة بسنده عن الصادق عن أبيه عن آبائه (عليهم السّلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قال

شاوروا النساء و خالفوهنّ، فإنّ خلافهن بركة(3).

و قد دلّت هذه النصوص بالفحوى على عدم رضى الشارع بتولّي المرأة للقضاء و تصدّيها للأمارة و الحكومة بين الناس؛ لوضوح كونه أعظم خطراً عن المشاورة في الأُمور.

و منها: ما دلّ على ضعف رأي النساء، بل عدم صلاحيتهنّ للرأي في الأحكام الشرعية.

مثل معتبرة عامر بن عبد اللّه بن جذاعة عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

ما للنساء و الرأي. نقله الكشي في ضمن أحوال محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام) إنّ امرأتي تقول بقول زرارة و محمد بن مسلم في الاستطاعة و ترى رأيهما. فقال (عليه السّلام)

ما للنساء و الرأي؟ و القول بقولهما؟! إنّهما ليسا بشيء في ولاية أي0.

ص: 162


1- وسائل الشيعة 182:20، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح، الباب 96، الحديث 6.
2- وسائل الشيعة 220:20، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح، الباب 123، الحديث 1.
3- بحار الأنوار 25/262:100.

ليس لهما ولاية على تشريع شيء من الأحكام، أو أنّهما ليسا ممّن تتمّ ولايتنا بمتابعة رأيهما(1).

و من الواضح عدم صلاحية من لا اعتبار برأيه في الأحكام الشرعية للقضاء و الحكومة و الإفتاء.

هذا بحسب الدلالة أمّا سنداً فالأقوى اعتبار سند هذه الرواية؛ إذ لا كلام في رجالها إلّا في عامر بن عبد اللّه بن جذاعة. و أنّه و إن ورد فيه ما يتضمّن ذمّه، إلّا أنّ النصوص الدالّة على ذلك ضعيفة، إمّا بالإرسال أو عدم وثاقة رواتها، كما أنّ ما تضمّن من النصوص مدحه أيضاً ضعيف. و أمّا وجه اعتبار رواياته، أنّه من المعاريف؛ حيث كان صاحب الكتاب و الأصل و ترحّم عليه الصادق (عليه السّلام) في بعض النصوص المعتبرة، و قد وقع في أسناد كامل الزيارات مع عدم ورود ذمّ في حقه في رواية معتبرة. و أمّا محمد بن عيسى بن عبيد الواقع في طريقه، فالتحقيق وثاقته. و قد حرّرنا حاله في بعض مجلدات دليل تحرير الوسيلة.

و كذا سيف بن عميرة النخعي، فإنّه ثقة قاله العلّامة و الشيخ و ابن شهرآشوب، و نقل ابن داود توثيقه عن النجاشي و اختار توثيقه الشيخ الحر العاملي و غيره. و بعد هذه التوثيقات الصريحة من فحول الرجاليين لا يعبأ بنقل الشهيد تضعيفه عن بعض مبهماً. فالأقوى اعتبار هذه الرواية.

و صحيحة مسعدة بن زياد عن أبي الحسن الكاظم (عليه السّلام)

فأيّ سفيه أسفه بعد النساء من شارب الخمر(2). و مثلها خبر آخر عن الباقر (عليه السّلام)(3).1.

ص: 163


1- اختيار معرفة الرجال: 282/168.
2- بحار الأنوار 10/127:76، نور الثقلين 51/442:1.
3- نور الثقلين 53/442:1.

و ما رواه عبد اللّه بن أبي بكر عن أبي جعفر الباقر (عليه السّلام) أنّ علياً (عليه السّلام) قال في حديث: «و قد كان من نقض طلحة و الزبير بيعتهما و خروجهما بعائشة ما قد بلغكم، و هو ضعف النساء و ضعف رأيهنّ، و قد قال اللّه عزّ و جلّ اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ (1) .

و في بعض النصوص

و قد نقض طلحة و الزبير و خرجا بعائشة و هي من النساء و ضعف رأيهنّ..(2).

و ما روي عن علي (عليه السّلام)

إيّاك و مشاورة النساء فإنّ رأيهنّ إلى الأفن و عزمهنّ إلى الوهن و قد سبق ذكره آنفاً.

و خبر السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السّلام) قال

قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): المرأة لا يوصى إليها لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ (3) .

حاصل الكلام في تحقيق الاستدلال بالسنة أنّه لا ريب و لا إشكال في تمامية الاستدلال بها على عدم جواز القضاء و الحكومة، بل الإفتاء للمرأة.

و ذلك أوّلاً: لدلالة صحيح حمران و معتبرة عامر بن جذاعة و صحيح مسعدة بن زياد و صحيح عبد اللّه بن سنان، فإنّ هذه النصوص تامة سنداً و دلالةً على المطلوب.

و ثانياً: لكثرة النصوص الواردة في المقام، و مع كثرة الدالّة منها على المطلوب و تظافرها لا يبقى أيّ شك في صدورها بهذا المضمون في الجملة من1.

ص: 164


1- بحار الأنوار 48/73:32.
2- الجمل، ضمن مصنفات الشيخ المفيد 245:1.
3- نور الثقلين 52/442:1.

المعصومين (عليهم السّلام). و على فرض النقاش في السند و لا نسلّمه ينجبر ضعفها بالشهرة العظيمة. اللهمّ إلّا أن يناقش في إحراز استناد الأصحاب إلى هذه النصوص؛ نظراً إلى احتمال استنادهم إلى بعض ما حرّرناه من الأُصول في المقام، كما استظهرنا من كلام الشيخ في الخلاف.

و لكن مع ذلك كلّه فالأمر سهل بعد دلالة النصوص الصحاح على المطلوب و وجود ما هو قطعي الدلالة من بين النصوص المتظافرة.

الاستدلال بالسيرة

ثمّ إنّ مما يمكن أن يستدلّ به على عدم جواز القضاء للمرأة استقرار سيرة النبي و علي (عليه السّلام) في حكومتهما على عدم تولية القضاء و الإمارة إلى المرأة؛ حيث لم يسمع حتى في رواية واحدة أن ينصبا امرأة للقضاء في طول زمان حكومتهما على المسلمين، بل و لم يسمع ذلك في الأديان السالفة أيضاً.

ص: 165

أدلّة جواز القضاء و الحكومة للمرأة

اشارة

قد يستدل لإثبات جواز القضاء و الحكومة للمرأة بأُمور:

الاستدلال بالعقل

و ممّا استدل به على جواز القضاء و الحكومة للمرأة: حكم العقل بقابلية من هو أحسن تدبيراً و علماً للحكومة و القضاء بين الناس، و إن كان الغالب بل الأغلب فضيلة الرجال على النساء في العقل و التدبير، و لكن يمكن أحياناً أن يكون بعض النساء أليق من الرجال الموجودين لتصدي منصب القضاء و الحكومة في العلم و التدبير. و يتحقق موضوع حكم العقل بإمكان ذلك في النساء. و عليه فيحكم العقل بأنّه كلّما إذا وجدت امرأة فضلى من الرجال الموجودين في زمان أو مكان خاص لا بدّ من تقديمها على الرجال في الحكومة و القضاء؛ لحكمه بقابلية الأحسن و الأعلم و الأقوى و الأفضل و بتقديم الأليق من غيره.

و فيه: أنّ العقل مع حكمه باختصاص الولاية على الناس باللّه تعالى بما أنّه خالق الناس و منعمهم و عدم ولاية غيره تعالى على أحد من الناس بمجرد الأفضلية و الأعلمية و الأحسنية، فلذا لا يرى لغير اللّه تعالى حقاً في تعيين شرائط القابلية و الاستحقاق لإحراز منصب القضاء و الحكومة و إعطاء الولاية على ذلك، بل إنّما يرى ذلك في شأن اللّه تعالى و من فوّض إليه ذلك من جانبه تعالى.

و بعبارة اخرى: إنّ اللّه تعالى هو الحاكم بالأصالة و إنّ الولاية على القضاء و الحكومة ثابتة له بالذات بحكم العقل. و أمّا غيره تعالى فالولاية إنّما هي ثابتة له

ص: 166

بالعرض. و من هنا لا يرى العقل حق تعيين شرائط التولية على القضاء و الحكومة و لا اختيار ذلك، إلّا للّه تعالى حيث يحكم بلزوم تفويض الولاية من جانب اللّه تعالى.

إن قلت: إنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع، و إنّ الشارع جعل العقل حجة على العباد، كما ورد في النصوص

العقل حجّة باطنة و

قاصد الحق. فحكمه بقابلية الأحسن و الأليق حكم الشرع أيضاً.

قلت: لمّا كانت الولاية على القضاء و الحكومة ولاية شرعية في نظر العقل؛ نظراً إلى حكمه بلزوم كونها من جانب الشارع فقط، فلذا لا بدّ في خصوص هذا المورد من دليل شرعي تعبدي مولوي من جانب الشارع؛ لكي تثبت به الولاية الشرعية على القضاء و الحكومة. و هذا معنى ما سبق من الشيخ (قدّس سرّه) في الخلاف، من أنّ جواز القضاء و نفوذه حكم شرعي و لا يثبت إلّا بدليل شرعي.

الاستدلال بقاعدة الاشتراك

و ممّا استدل به على جواز القضاء و الحكومة للمرأة: قاعدة اشتراك التكليف بين جميع المكلفين، بلا فرق بين الرجال و النساء؛ فإنّ هذه القاعدة تثبت أنّ كلّ مورد ثبت فيه الحكم على نحو القضية الحقيقية لواحد من المكلفين يثبت في حق غيره، من دون فرق بين الرجال و النساء و لا سائر أصناف المكلّفين.

و فيه: أنّ عمدة دليل هذه القاعدة هي دعوى اتفاق الفقهاء و ارتكاز المتشرعة، و لكنّها خلاف الوجدان؛ نظراً إلى قيام الضرورة و الاتفاق على اختلاف الرجال و النساء في كثير من الأحكام التكليفية كما في أبواب الصلاة و الحج و النذر و الجهاد و الستر و النظر و الأحكام الوضعية كالإرث و غيره، مع أنّ جميع هذه

ص: 167

الأحكام وضعت على نحو القضايا الحقيقة أيضاً.

و قد تمسّك لهذه القاعدة بمثل ما ورد عن الصادق (عليه السّلام)

حلال محمد حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة(1) و ما عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)

حكمي على الواحد حكمي على الجماعة(2)، و غير ذلك ممّا ربط له بالمقام؛ فإنّ مثل الأوّل ناظرٌ إلى دوام أحكام الشريعة إلى يوم القيامة و عدم اختصاصه بزمان خاص، و قبيل الثاني ناظر إلى عدم وضع الأحكام على نحو القضية الشخصية.

و ما قيل من اقتضاء جعل الأحكام الشرعية على نحو القضايا الحقيقية اشتراك الأحكام بين جميع المكلفين واضح البطلان؛ نظراً إلى وضوح دخل موضوع الحكم و قيوده و شرائطه في ثبوت التكليف، كما بحثنا عن ذلك مفصّلاً في مبادئ الأُصول؛ حيث إنّ الشارع ربما يجعل الحكم لصنف خاص من المكلفين كالنساء و السادات و الذين لا يرجون نكاحاً و الرجال الأجانب و المحارم و الخنثى و غير ذلك من أصناف المكلفين. و ربّما يبيّن بعد جعل أصل الحكم شرائط و قيود لذلك الموضوع و ثبوت الحكم له بأدلّة منفصلة عن دليل جعل أصل الحكم.

و حينئذ لا معنى لاشتراك ذلك الحكم المجعول بين جميع المكلفين، بل يختص بذلك الموضوع الحاصل فيه تلك القيود و الشرائط، مثل صلاة المريض و القاعد و المضطجع و في المحمل و صلاة العاري و الغريق، و تطهير المتنجّس بالبول بغسلة مرّتين، و الجهاد على الرجل دون النساء، و كون إرث الذكر مثل إرث الأُنثيين، و إلى غير ذلك، و كم له من نظير في أحكام الشريعة.2.

ص: 168


1- الكافي 19/58:1.
2- عوالي اللآلي 197/456:1، بحار الأنوار 4/272:2.

و إنّ ثبوت جواز القضاء و الحكومة للنساء أيضاً هو محلّ البحث في المقام و أوّل الكلام. و لا بدّ من إقامة الدليل على إلغاء شرط الذكورة و تعميم موضوع جواز القضاء إلى النساء.

و إنّما تنفع قاعدة الاشتراك في دائرة موضوع الحكم. و لمّا أثبتنا اختصاص موضوع جواز القضاء بالرجال. فمعنى اشتراكه بين الرجال عدم اختصاصه ببعض الرجال الواجد لشرائط القضاء دون البعض الآخر أو بزمان دون زمان، و أنّه لا يمكن التبعيض في ثبوت الحكم بحسب أصناف الرجال.

الاستدلال بالآيات

منها: إطلاق قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ(1) . يشمل جميع مصاديق القسط و لو توقّف القيام به على القضاء و الحكومة؛ لوضوح كون ذلك من مصاديق القيام بالقسط و العدل.

و عليه فالأصل الأوّلي اللفظي المستفاد من عموم هذه الآية و إطلاقها مشروعية القيام بالقسط لجميع المكلّفين، بل وجوبه عليهم كفائياً، بلا فرق بين الرجال و النساء.

و فيه: أنّ المتبادر من الأمر بالقيام بالقسط و إيجابه على عموم الناس في المحاورات العرفية هو غير تصدي الحكومة و القضاء، بل المتبادر منه هو أصل إيجاب إقامة القسط على المؤمنين حسب تمكّنهم من ذلك و قدرتهم، لا جعل منصب الحكومة و القضاء لكل أحد لأجل إقامة القسط، فضلاً عن شرائط القاضي و الحاكم. و إن يشمل القيام الفردي و الاجتماعي، كما قال تعالى:

ص: 169


1- النساء (4):135.

لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ(1) و أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَ فُرادى (2) . و لكن الذي تكون الآية بصدد بيانه هو الحكم التكليفي، و لا نظر لها إلى جعل الحكم الوضعي بتولية منصب الحكومة و القضاوة، فضلاً عن بيان شرائط الحاكم و القاضي، و إنّ انعقاد الإطلاق للخطاب من تلك الجهة.

و مما قد يتوهم دلالتها على جواز القضاء و الحكومة للمرأة ما دلّ من الآيات على تعيين الحدود و الديات و القصاص و وجوب إجرائها على المكلفين؛ فإنّ هذه الآيات عامة لجميع المكلفين؛ حيث لا تخاطب صنفاً خاصاً منهم، فتشمل بعمومها النساء أيضاً. و عليه فكلّ امرأة توفّرت فيه شرائط القضاء كالعلم بالأحكام و العدالة يجب عليها إجراء الحدود و الأحكام، من دون فرق بينها و بين الرجل.

و فيه: أنّ هذه الآيات بصدد أصل إيجاب الحدود و تعيين مقدارها، من دون نظر لها إلى إعطاء الولاية على القضاء إلى أحد و جعله لمنصب القضاء، فضلاً عن بيان شرائطه، كما قلنا في الجواب عن الاستدلال بقوله تعالى كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ .

و من الآيات التي استدل بها على تأسيس أصل جواز القضاء للمرأة قوله تعالى وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (3) بدعوى دلالته على جواز الحكم بالعدل و مشروعيته مطلقاً، بلا فرق بين الرجال و النساء.

و فيه: أنّ هذه الآية تدلّ على وجوب كون الحكم بالعدل على فرض تصدّي منصب القضاء و الحكومة؛ فإنّ معنى قوله وَ إِذا حَكَمْتُمْ.. أنّكم إذا تصدّيتم8.

ص: 170


1- الحديد (57):25.
2- سبأ (34):46.
3- النساء (4):58.

منصب الحكومة و القضاء فاحكموا بالعدل. و لا نظر لها إلى بيان من يصلح لتصدّي القضاء و الحكومة و ما هو شرائطه.

و أمّا الآيات الآمرة بالحكم بالحق مثل قوله تعالى يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ (1) . و قوله تعالى إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللّهُ (2)النمل (27):32.(3) .

فلا إطلاق لها؛ إذ الأُولى خطاب لداود (عليه السّلام) و الثانية خطاب لنبيّنا محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم). فاتضح بهذا البيان عدم صحة تأسيس أصل جواز القضاء و الحكم اتكالاً على إطلاقات الحكم بالحق أو العدل، مضافاً إلى تقييدها على فرض ثبوتها بما دلّ من النصوص على عدم جواز القضاء للمرأة.

و قد يستدل لذلك بالآيات النازلة في بلقيس ملكة قوم سبأ؛ حيث إنّه نقل فيها عن قول الهدهد بقوله تعالى إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (4) و عن قول بلقيس قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتّى تَشْهَدُونِ(4) . بتقريب أنّه يستفاد من هذه الآيات تمجيد بلقيس و تصديق تدبيرها في أمر الحكومة فيستكشف منها رضى الشارع بحكومة النساء و جواز حكمهنّ بين الناس إذا كنّ من أهل التدبير و الدراية و القوة، و نفي اشتراط الذكورة عن الواجدات منهنّ لسائر الشرائط.

و فيه: أنّ هذه الآيات لا ربط لها بتأييد حكومة بلقيس و لا مدحها، بل يستفاد2.

ص: 171


1- (ص) 26:38.
2- النساء
3- :105.
4- النمل (27):23.

من بعض فقرأتها ذمّها و عدم تأييد حكومتها و كونها باطلة. مثل قوله تعالى وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (1) ؛ حيث دلّ على كون سلوك بلقيس و قومها و مشيهم في جميع شئونهم من تزيين الشيطان و عدولاً عن الحق و اعوجاجاً عن سبيل اللّه. و مثل قوله تعالى نقلاً عن سليمان (عليه السّلام): - اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ (2) ؛ حيث دلّ على كون سليمان بصدد الإطاحة بحكومة بلقيس. فلو كانت حكومتها مرضيةً عند اللّه تعالى فلم كان سليمان بهذا الصدد؟! و أمّا إرجاعها إلى الحكومة مجدّداً، فلا يستفاد من هذه الآيات.

و أمّا التواريخ الناطقة بذلك فلا سند معتبر لها ليتّكل عليها في المقام. هذا مضافاً إلى ما دلّ من النصوص من ذمّ قوم سبأ من جهة حكومة بلقيس عليهم كما نقل السيد في اللهوف عن سيد الشهداء (عليه السّلام)

و أيم اللّه لَتَقْتُلني الفئة الباغية و لَيلبسنّهم اللّه ذُلاّ شاملاً و سيفاً قاطعاً و ليُسلّطنّ عليهم من يُذلّهم، حتى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ مَلَكتهم امرأةٌ منهم فحكَمَتْ في أموالهم و دمائهم(3).

الاستدلال بالسنة

و قد يستدلّ لجواز تولّي القضاء و الحكم للنساء ببعض النصوص.

منها: ما روي عن علي (عليه السّلام)

إيّاك و مشاورة النساء إلّا من جرّبت بكمال

ص: 172


1- النمل (27):24.
2- النمل (27):37.
3- اللهوف: 60 و 62، بحار الأنوار 368:44.

عقله(1)؛ حيث دلّ بالاستثناء على أنّ في النساء أيضاً يوجد من هو كمل عقله و صلح للمشاورة. و عليه فلا تشمل النصوص الناهية عن المشاورة و الدالّة على ضعف رأيهنّ لمثل هذه النساء. فلا مانع من تولّيهنّ للقضاء و الحكم.

و فيه: أنّ ظاهر هذه الرواية أنّه قلّما يتفق وجود المجرّبة بكمال العقل من بين النساء لشهادة ذيلها، فراجع. مع عدم وجود هذا الاستثناء في سائر النصوص المتظافرة الدالّة على ذلك. و من الواضح أنّ في جعل القانون يلاحظ الأغلب فلا مانع من عدم جواز تولّي النساء للقضاء مطلقاً بمقتضى طبعهنّ الغالب عليهنّ.

هذا مضافاً إلى ورود إشكال آخر على الاستدلال بهذه الرواية، و حاصله: أنّ من لا يصلح للمشاورة لا يصلح للقضاء و الحكم، بالفحوى؛ لكونه أعظم خطراً، و لا عكس؛ لوضوح عدم صلاحية كل من يصلح للمشاورة للقضاء و الحكم. و هذا الإشكال لا دافع منه، و إن كانت الملازمة في طرف الأصل ثابتةً، فإنّ من لا يصلح للمشاورة لضعف عقله و فساد رأيه، لا يصلح لإحراز منصب القضاء و الحكومة، كما هو واضح.

منها: ما ورد عن علي (عليه السّلام)

إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه و أعلمهم بأمر اللّه فيه(2)؛ حيث إنّه قد يتفق كون المرأة أقوى و أعلم من الرجال بحكم اللّه في أمر الحكومة.

و فيه: مع قطع النظر عما في سنده من الإشكال، أنّ نظر الإمام (عليه السّلام) في هذه الرواية إلى تقديم الأقوى و الأعلم من غيره مع قطع النظر عن سائر الشرائط المعتبرة المرتكزة في أذهان المسلمين المتسالم عليها؛ لأنّ الذي كان مورد النزاع3.

ص: 173


1- كنز الفوائد: 176، بحار الأنوار 56/253:100.
2- نهج البلاغة: 247، الخطبة 173.

و الاختلاف بين طالبي الرئاسة و الحكومة في ذلك الزمان هو الأقوائية في تدبير الحكومة و الأعلمية بأحكام الشريعة كما ابتليت الأُمّة بالمصيبة العظمى من هذه الجهة بعد النبي، فانحرفوا في انتخاب الأعلم بحكم اللّه و أقوى الناس بالحكومة، فقدّموا المفضول على الأفضل.

و ممّا استدلّ به على جواز القضاء للمرأة ما رواه النعماني في كتابه الغيبة عن أحمد بن هوذة عن النهاوندي عن عبد اللّه بن حمّاد الأنصاري عن ابن بكير عن حمران عن أبي جعفر (عليه السّلام) أنّه قال

كأنّني بدينكم هذا لا يزال مولّياً يفحص بدمه ثمّ لا يردُّه عليكم، إلّا رجلٌ منّا أهلُ البيت فيُعطيكم في السَّنة عطاءين و يرزقكم في الشهر رزقين و تؤتون الحكمة في زمانه، حتّى أنّ المرأة لتقضي في بيتها بكتاب اللّه تعالى و سنّة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)(1).

بتقريب أنّه لو لم يكن قضاء المرأة مشروعاً جائزاً لم يجز قضاؤها حتى في بيتها، بلا فرق في ذلك بين آخر الزمان و غيره من الأزمان.

و فيه: أنّ هذه الرواية ضعيفة سنداً حيث وقع في طريقها أحمد بن هوذة و هو أحمد بن النضر المكنّى بابن أبي هراسة، يلقّب أبوه هوذة. و هو لم تثبت وثاقته. و كذا وقع في طريقها النهاوندي. و هو مجهول، بل لا أثر لذكره في الجوامع الرجالية.

و أمّا دلالة فهي قاصرة عن إثبات المدّعى؛ نظراً إلى اختصاص مدلولها بزمان الحجّة (عج)، كما صرّح بذلك في قوله (عليه السّلام)

و تؤتون الحكمة في زمانه... و هذا لا يثبت جواز القضاء للمرأة و مشروعيته في جميع الأعصار. هذا2.

ص: 174


1- الغيبة، النعماني: 30/239، بحار الأنوار 106/352:52.

مضافاً إلى أنّه يحتمل كون المراد من قضاء المرأة في بيتها تدبيرها في أُمور أولادها و حكمها بينهم في أُمور المعاش و التربية و التأديب في محيط الأُسرة. فهذه الرواية لا تصلح لإثبات مشروعية القضاء للمرأة بأيّ وجه، لا سنداً و لا دلالة. هذا مع أنّ الشرائط المعتبرة في القاضي ليست من الأحكام الأوّلية غير القابلة للتغيير، بل من شئون ولاية الإمام المعصوم، فلا ينافي عدم جواز القضاء للمرأة قبل زمان الحجة (عج)؛ لقصور أدلة النصب.

منها: خبر مصادف، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) أ تحجّ المرأة عن الرجل؟ قال (عليه السّلام)

نعم إذا كانت فقيهة مسلمة و كانت قد حجّت، رب امرأة خيرٌ من رجل(1).

فإنّ إطلاق كلامه (عليه السّلام) في الذيل يقتضي عدم قصور كثير من النساء في الصلاحية عن الرجال من جميع الجهات، حتى في الرأي و التدبير و ما يرتبط بالقضاء، بل أصلح من الرجال.

و فيه أوّلاً: أنّ هذه الرواية ضعيفةٌ سنداً بوقوع مصادف في طريقه.

و ثانياً: أنّ كون المرأة فقيهة و كون ربّ امرأة خيراً من رجل في الإتيان بمناسك الحج، لا ربط له بالقضاء و الحكومة المحتاجة إلى الرأي و التدبير. و ليس الكلام في اشتراط العلم و الفقاهة.

و قد اتضح من خلال النصوص التي بينّاها عدم صلاحية المرأة لتصدّي القضاء و تولّي الحكومة العامة على المسلمين، و لا أثر لما يدلّ على صلاحيتها لذلك في شيء من الجوامع الروائية.5.

ص: 175


1- تهذيب الأحكام 1436/413:5.
اشتراط الرجولية في جواز التقليد

وقع الكلام بين الفقهاء المعاصرين في اشتراط الرجولية في جواز التقليد. و لم يعقد هذا البحث في كلمات القدماء، بل أكثر المتأخرين. نعم ظاهر الشهيد الثاني في صفات القاضي من كتاب القضاء اشتراط الذكورة في الصلاحية للإفتاء؛ حيث قال: «و في الغيبة ينفذ قضاء الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء و هي البلوغ و العقل و الذكورة.. إجماعاً»(1).

و هذا الاستظهار من كلامه (قدّس سرّه) مبني على كون مراده مطلق الإفتاء، كما هو ظاهر لفظ الإفتاء؛ فإنّه إخبار عن حكم اللّه بخلاف القضاء الذي هو إنشاء الحكم لقطع المنازعة و فصل الخصومة. و أمّا إرادة القضاء من لفظ الإفتاء، كما احتمله صاحب الفصول في مبحث الاجتهاد و التقليد من كتاب الفصول، فغير وجيه؛ لكونه خلاف ظاهر لفظ الإفتاء، بل صاحب الفصول؛ حيث رجّح كون المقصود هو مطلق الإفتاء، و جعله ظاهر اللفظ؛ حيث قال: «فيمكن أن يريد بالإفتاء القضاء، و أن يريد به مطلق الفتوى، كما هو الظاهر»(2). أي: ظاهر لفظ الإفتاء و قرينة المقابلة مع القضاء.

و أمّا الإجماع على اشتراط الذكورة و إن صرّح به الشهيد في كلامه المزبور، إلّا أنّ تحصيله في كلمات الفقهاء مشكل؛ حيث لم يتعرضوا لذلك في كلماتهم.

ص: 176


1- الروضة البهيّة 62:3.
2- الفصول الغروية: 424 /السطر 29.

نعم يمكن أن يقال: إنّ عدم تعرضهم لذلك فلعلّه لأجل وضوح اشتراط الرجولية في جواز التقليد عندهم؛ نظراً إلى تصريحهم بذلك في صفات القاضي، مع وضوح كون التقليد أهمّ و أعظم خطراً من القضاء لسريانه في جميع الأحكام العبادية و الوضعية من النكاح و الطلاق و أنواع المعاملات، بل إنّ مرجعية التقليد نوع قيادة للأُمّة و زعامة عامة للشيعة، و لا يقصر قطعاً عن القضاء في الأهمية و الحاجة إلى التدبير و قوّة الرأي، بل إنّما تبتني مشروعية القضاء على أساس الإفتاء. و لذا صرّحوا بعدم جواز تولّي القضاء لغير الجامع لشرائط الإفتاء.

و لذا لمّا كان اشتراط الرجولية في مرجعية التقليد واضحاً بالفحوى، لم يتعرضوا له، إيكالاً إلى الوضوح أو لعدم طرح مبحث الاجتهاد و التقليد في الفقه بعنوان كتاب مستقل في زمنهم بل عمدة المتأخّرين.

و على أيّ حال لا يكون عدم تعرض الفقهاء لاشتراط الرجولية في منصب الإفتاء و مرجعية التقليد من جهة عدم قبولهم لاعتبار هذا الشرط؛ فإنّ نسبة ذلك إليهم استناداً إلى عدم التعرض مشكل جدّاً، بل خلافه مقطوع.

و أمّا ذهاب أبناء العامة إلى عدم اشتراط الرجولية في الإفتاء كما نسب إليهم فعلى فرض ثبوته لا يصح للاستدلال به؛ نظراً إلى ما ورد في نصوص أهل البيت (عليهم السّلام) من الحثّ و الترغيب على مخالفتهم و الأخذ بما خالفوه؛ معلّلاً بأنّ الرشد في خلافهم. هذا مضافاً إلى كون المسألة بينهم اختلافيةً.

ثمّ إنّ عمدة ما يمكن أن يتّكل عليه النافون في الاستدلال على عدم اشتراط الرجولية في الإفتاء و مرجعية التقليد، بناء العقلاء؛ حيث إنّه لا فرق في بنائهم على الرجوع إلى أهل الخبرة في العلوم و الفنون بين النساء و الرجال.

و لكن يرد عليه أنّ حجية بناء العقلاء فيما لا يكون مصبّ البناء بعينه، بل

ص: 177

جرت في نظائره كالتقليد المعهود الشرعي في العمل بالتكليف و الأحكام الشرعية التوقيفية تتوقف على إحراز إمضاء الشارع. و إنّ القدر المتيقن من إمضاء الشارع لبناء العقلاء في المقام إنّما هو في الرجال؛ حيث إنّه ورد من الشارع نصوص دلّت على مشروعية التقليد من الفقهاء العدول من الرجال. مثل ما ورد عن العسكري (عليه السّلام)

فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه.. فللعوام أن يقلّدوه..(1) و ما ورد في النصوص المتظافرة من إرجاع الأئمّة (عليهم السّلام) شيعتهم و أصحابهم إلى الفقهاء من الرواة. و إنّ المتيقن من مدلول هذه النصوص جواز تقليد الفقهاء الرجال، بل هو الظاهر من مجموع هذه النصوص. أمّا جواز تقليد المرأة فلا يستفاد من هذه النصوص؛ نظراً إلى انصراف عنوان الفقهاء بحسب الارتكاز و اللغة إلى الرجال الفقهاء دون النساء الفقيهات، و كذا نصوص الإرجاع فإنّه لا إطلاق و لا عموم لها لتدلّ على جواز تقليد مطلق الثقة؛ لأنّه من الواضح عدم كفاية مجرّد الوثاقة و الأمن من الكذب في الصلاحية للإفتاء. و أمّا ما يستفاد من هذه النصوص، من تعليق الإرجاع على الوثاقة و اهتمامهم (عليهم السّلام) بإحراز هذا الوصف. إنّما هو في فرض المفروغية عن حصول سائر الشروط من العلم و الاعتقاد الصحيح و الرجولية.

هذا مضافاً إلى شيوع جعل الأحاديث و الاعتماد على الأقيسة و الاستحسانات في تلك الأزمان و لمّا كان عمدة ما يمنع عن ذلك هي الوثاقة، فلذا اهتمّ بها الأئمّة (عليهم السّلام)، بل و لم يوجد في شيء من نصوص الإرجاع حتى مورد واحد إرجاعٌ إلى المرأة الفقيهة، مع عدم قلّة النساء المؤمنات الفقيهات في عصرهم (عليهم السّلام). و لذلك يستشم من هذه النصوص عدم صلاحية النساء للإفتاء و التقليد.2.

ص: 178


1- الاحتجاج 337/511:2.

و حاصل الكلام: إنّ بناء العقلاء لا حجية له في جواز تقليد المرأة؛ نظراً إلى احتياجه في الحجية إلى إمضاء الشارع في ما لا يكون بعينه مصبّ بناءهم كالمقام. و لا سيّما مع احتمال خصوصية لأمر التقليد غير موجودة في سائر موارد الرجوع إلى أهل الخبرة، فمن المحتمل عدم جواز تقليد النساء لأجل تلك الخصوصية، كما يكشف ارتكاز المتشرعة من لدن عصر النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) إلى زمان المعصومين (عليهم السّلام) على عدم صلاحية النساء للشهادة في موارد كثيرة عن عدم صلاحيتهنّ للقضاء. و يشهد لذلك ما دلّ من النصوص على لزوم قرارهنّ و تحصينهنّ بالبيت و التستّر و عدم الاختلاط و المكالمة مع رجال الأجانب و عدم إرجاع أحد من الأصحاب إليهنّ في الاستفتاء و الإرجاع إلى الرجال الفقهاء في جميع الموارد.

بل مجموع هذه القرائن يكفي لردع بناء العقلاء. و لعلّ الشارع اتكل عليها في الردع؛ نظراً إلى كفايتها و صلاحيتها للرادعية عن ذلك.

هذا مضافاً إلى استقرار سيرة المتشرعة على عدم تقليد النساء الفقيهات من لدن عصر الأئمّة إلى الآن. و هذا أصلح شيء لردع بناء العقلاء. و يشهد لهذه السيرة ما يستشم من أحاديث الإرجاع كما أشرنا إليه آنفاً.

و أمّا دعوى كون عدة من الصحابيات فقيهات، مثل عائشة و أُم سلمة و حفصة و أُم حبيبة و جويرة أُمهات المؤمنين و أسماء بنت أبي بكر و أُم أيمن و أُم كلثوم بنت أبي بكر و عائشة بنت طلحة و غيرهنّ من الصحابيات و التابعيات، فعلى فرض كونهنّ فقيهات فلا دليل على تحقّق إفتائهنّ و التقليد منهنّ بأيّ وجه لعدم ملازمة بينهما، مع أنّ كونهنّ فقيهات بالحمل الشائع مقطوع العدم. هذا مضافاً إلى عدم الاستشهاد برأيهنّ في نصوص أهل البيت، بل لم يسمع ما يدلّ على اعتناء أصحابنا الشيعة بنقلهنّ مما روين من النصوص.

ص: 179

فلم يعرف بين نصوص أهل البيت المروية في جوامعنا الروائية ما يقعن في طريقه. و يشهد على ذلك ما ورد من النصوص في ذم عائشة لخروجها على علي (عليه السّلام) و تنقيص طلحة و الزبير في تبعيتهما لها، معلّلاً بضعف رأيها؛ لكونها من النساء، مع كونها من رأس هذه النساء.

أمّا النصوص: فيمكن أن يستفاد من عدة من النصوص الواردة من أهل البيت (عليهم السّلام) عدم صلاحية النساء لإحراز منصب الإفتاء و المرجعية للتقليد. و هذه النصوص صالحة باستقلالها لردع بناء العقلاء المزبور.

منها: ما دلّ على سلب حق الرأي للنساء في أمر التقليد و الإفتاء بالصراحة مثل معتبرة عامر بن عبد اللّه جذاعة قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام) إنّ امرأتي تقول بقول زرارة و محمد بن مسلم في الاستطاعة. فقال (عليه السّلام)

ما للنساء و الرأي(1).

فإنّ مقصود الإمام (عليه السّلام) من الرأي هو الرأي في مقام الإفتاء؛ و ذلك بقرينة ظهور كلام السائل «إنّ امرأتي تقول بقول زرارة» في كون موضوع السؤال هو رأي امرأته في المسائل الشرعية لا عملها، فلذا لم يقل: «تأخذ بقول زرارة».

منها: ما دلّ على ضعف رأيهنّ مطلقاً، و قد سبق ذكر هذه النصوص في الاستدلال على عدم صلاحية النساء للقضاء، و كذا بعض.

منها: ما دلّ على منع مشاورتهنّ و مخالفة رأيهنّ على فرض المشورة، و العمومات الناهية عن طاعة النساء في ما لا يقاس من جهة الأهمية بمثل الإفتاء و المرجعية.

منها: قوله تعالى وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (2) . الدالّ على عجز النساء8.

ص: 180


1- اختيار معرفة الرجال: 282/168، جامع الرواة 194:2.
2- الزخرف (43):18.

عن إقامة البرهان و عيّهنّ عن الفرق و التمييز بين الحق و الباطل في مقام المحاجّة و الاستدلال. و هو شامل للاستدلال في مقام الاجتهاد و الاستنباط بالملاك.

و منها: ما دلّ من النصوص المتواترة على وجوب تسترهنّ و قرارهنّ في البيوت، و الآمرة منها بتحصين النساء في البيوت؛ معلّلاً بأنهنّ عيّ و عورة، إلى غير ذلك من النصوص الموجبة للقطع بعدم رضى الشارع بتصدي النساء لمناصب اجتماعية مستلزم لاختلاطهنّ و حشرهنّ مع الرجال. و من الواضح أنّ مرجعية الإفتاء و التقليد نوع قيادة للأُمّة و زعامة عامة للمؤمنين، و لا ينفكّ هذا المنصب العظيم عن مخالطة الرجال و المكالمة معهم.

و أمّا خبر مصادف قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) أ تحجّ المرأة عن الرجل؟ قال

نعم، إذا كانت فقيهة مسلمة و كانت قد حجّت، ربّ امرأة خير من رجل(1). مضافاً إلى ضعف سنده بوقوع المصادف في طريقه فغاية مدلوله صلاحية المرأة الفقيهة للنيابة عن حجّ الرجل و أنّه ربّ امرأة خيرٌ من رجل في الإتيان بمناسك الحجّ صحيحةً، و لا ربط له بمسألة الإفتاء و الصلاحية لمرجعية التقليد، كما هو واضح.

ثمّ إنّه قد يستدل لجواز تقليد النساء بما رواه الصدوق في كمال الدين و الشيخ في كتاب الغيبة بإسنادهما عن أحمد بن إبراهيم أنّه قال: دخلت على خديجة بنت محمد بن علي الرضا (عليه السّلام) في سنة 282 (و في كتاب الغيبة 262) بالمدينة فكلّمتها من وراء حجاب و سألتها عن دينها فسمّت لي من تأتمّ به. ثمّ قالت: فلان بن الحسن (عليه السّلام) فسمَّته. فقلت: لها جعلني اللّه فداكِ، معاينةً أو خبراً؟5.

ص: 181


1- تهذيب الأحكام 1436/413:5.

فقالت: خبراً عن أبي محمد (عليه السّلام)(1) كتب به إلى امّه. فقلت لها: فأين المولود؟ فقالت: مستور. فقلت: فإلى من تفزع الشيعة؟ قالت: إلى الجدّة أُم أبي محمد (عليه السّلام). فقلت: أقتدي بمن وصيَّتُه، إلى امرأة؟ فقالت: اقتد بالحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام). إنّ الحسين بن علي أوصى إلى أُخته زينب بنت علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في الظاهر و كان ما يخرج عن علي بن الحسين من عِلم ينسب إلى زينب بنت علي (عليه السّلام) ستراً على علي بن الحسين. ثمّ قالت: إنكم قوم أصحاب الأخبار. أ ما رويتم أنّ التاسع من ولد الحسين (عليه السّلام) يقسم ميراثه و هو في الحياة؟(2).

هذه الرواية صحيحة لوثاقة محمد بن جعفر الأسدي و قد عدّه الشيخ في كتاب الغيبة(3) من الثقات التي كانت ترد عليهم التوقيعات و نقل توقيعاً في توثيقه. و أحمد بن إبراهيم هذا هو أبو بشر، بقرينة رواية التلعكبري عنه، كما روى عنه هذه الرواية بطريق آخر في كتاب الغيبة، و هو لا إشكال في وثاقته، كما قال الشيخ و النجاشي و العلّامة.

وجه الاستدلال به أنّ من تفزع الشيعة إليه في غياب الإمام الحجة (عليه السّلام) لا بدّ و أن يصلح للرجوع إليه في التكاليف الدينية و ليس المرجعية للتقليد إلّا ذلك.

و فيه أوّلاً: إنّ هذه الاستفادة من الرواية مناف لضرورة المذهب من حصر نواب الإمام الحجة (عج) في زمان الغيبة الصغرى في الأربعة الخاصة.

و ثانياً: كانت الجدّة مفزع الشيعة؛ لضرورة صيانة الإمام الحجة، كما في زينب و البحث في غير الضرورة.5.

ص: 182


1- و هو الإمام العسكري (عليه السّلام).
2- كمال الدين: 27/501، الغيبة، الشيخ الطوسي: 196/230.
3- الغيبة، الشيخ الطوسي: 390/415.

و ثالثاً: إنّ هذه الرواية غاية مدلولها إنّ جدّه صاحب الأمر و هي أُم الإمام العسكري (عليه السّلام) كانت تتشرف عند صاحب الأمر و تروي عنه بعض الأخبار. و هذا غير ممنوع في زمان الغيبة الصغرى، و ليس من قبيل النيابة و الوكالة عن الإمام. فلا ينافي نيابة النواب الخاصة الذين أرجع إليهم الإمام (عليه السّلام) الشيعة في أُمورهم و استفتاء مسائلهم الشرعية مطلقاً.

و من الواضح أنّ مجرد نقل الأخبار و الروايات ليس معيار الصلاحية للإفتاء و مرجعية التقليد، و كم من امرأة راوية في عصر الأئمّة (عليهم السّلام) من بين الأصحاب. و قد ورد في بعض النصوص ما يدلّ على ذلك، مثل ما ورد عن الصادق (عليه السّلام) في جواب السؤال عن وظائف الصبيان في الحج

مُرْ امّه تلقى حميدة فتسألها كيف تصنع بصبيانها(1).

و ما ورد عن حكيمة عمّة الإمام الحسن العسكري: «و اللّه إنّي لأراه صباحاً و مساءً و إنّه لينبّئني عمّا تسألوني عنه فاُخبركم»(2).

فهذه النصوص لا تدلّ على أكثر من حجية رواية النساء المؤمنات العادلات كالرجال العدول. و هذا غير الإفتاء و الاستفتاء و التقليد و أخذ الأحكام الشرعية و معالم الدين و العمل برأيهنّ، ممّا يناسب شئون مرجعية التقليد.

هذا تمام الكلام في حكم قضاء المرأة و حكومتها و تقليدها.

و الحمد للّه رب العالمين و صلواته على محمد و آله الميامين.1.

ص: 183


1- الكافي 5/301:4.
2- بحار الأنوار 14/14:51.

ص: 184

ثبوت الهلال بحكم الحاكم

اشارة

ص: 185

ص: 186

القول في ثبوت الهلال بحكم الحاكم

يثبت الهلال بالرؤية، و إن تفرّد به الرائي، و التواتر و الشياع المفيدين للعلم و مُضيّ ثلاثين يوماً من الشهر السابق و بالبينة الشرعية و هي شهادة عدلين و حكم الحاكم إذا لم يعلم خطأه و لا خطأ مستنده (1)(1).

(1) وقع الكلام في نفوذ حكم الحاكم بثبوت الهلال و دخول شهر رمضان أو الشوال، بأنّه لو شهد رجلان عدلان عند الحاكم بثبوت الهلال أو علم به الحاكم نفسه فحكم بوجوب الصوم أو الإفطار، فهل ينفذ حكمه و يجب العمل به و يجزي كسائر الطرق الشرعية أم لا؟ و بعبارة اخرى: هل يكون حكم الحاكم بثبوت الهلال أمارة شرعية على ذلك أم لا؟ فقد نسب في الحدائق(2) إلى الشهيد في الدروس و إلى السيد في المدارك و الفاضل الخراساني في الذخيرة نفوذ حكم الحاكم في المقام و وجوب اتّباعه. بل

ص: 187


1- تحرير الوسيلة 279:1.
2- الحدائق الناضرة 263:13.

نسبه في الحدائق إلى ظاهر الأصحاب؛ حيث قال: «و إنّما الإشكال في أنّه هل يجب على المكلّف العمل بحكم الحاكم الشرعي متى تثبت ذلك عنده و حكم به أم لا بدّ من سماعه بنفسه من الشاهدين؟ ظاهر الأصحاب الأول»(1). و ممّن ذهب إلى ذلك كاشف الغطاء؛ حيث قال في بيان ما يثبت به شهر رمضان: «سادسها: حكم الفقيه المجتهد المأمون بالنسبة إلى مقلّديه سواء حكم برؤية أو بيّنة أو غيرهما»(2).

و قد ذهب إلى ذلك في الجواهر؛ حيث قال: «إنّ الظاهر ثبوته أي الهلال بحكم الحاكم المستند إلى علمه»(3). ثمّ شرع في بيان الاستدلال و ردّ المخالفين، بل ادّعى إمكان تحصيل الإجماع عليه. و اختاره صاحب العروة و السيد الحكيم(4) و غيرهم من الفقهاء المتقدمين و المتأخرين و المعاصرين. و خالفهم جمعٌ من الفقهاء المتقدمين و المتأخرين و المعاصرين. و قد استدل على ثبوت الهلال بحكم الحاكم و نفوذ حكمه و وجوب اتباعه بالصيام عند حكمه بدخول شهر رمضان و بالإفطار إذا حكم بدخول شهر شوال بأُمور:

منها: ما يدلّ على إثبات الولاية العامّة للفقيه الجامع كما استدل به في الحدائق(5) و الجواهر(6) و المستمسك(7).8.

ص: 188


1- الحدائق الناضرة 258:13.
2- كشف الغطاء: 325 /السطر 26.
3- جواهر الكلام 359:16.
4- العروة الوثقى 224:2، مستمسك العروة الوثقى 460:8.
5- الحدائق الناضرة 259:13.
6- جواهر الكلام 360:16.
7- مستمسك العروة الوثقى 460:8.

و يمكن الاستدلال على ثبوت الولاية العامة للفقيه الجامع بثلاثة وجوه:

الأوّل: دعوى الضرورة على ذلك و هي عمدة ما اتكل عليه الإمام الراحل(1) لإثبات الولاية المطلقة للفقيه العادل الجامع لشرائط الإفتاء في عصر الغيبة.

و هي بأحد تقريبين:

أحدهما: أنّا نعلم بالضرورة عدم إهمال النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) شيئاً ممّا يحتاج إليه الأُمّة حتّى آداب النوم و الطعام، و غيرها من الحدود و الأحكام الإلهية، كما في صحيح حمّاد عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام)، قال: سمعته يقول (عليه السّلام)

ما من شيء إلّا و فيه كتاب أو سنّة(2).

و صحيح محمد بن مسلم عن أبى عبد اللّه (عليه السّلام) في حديث

إنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) قال: الحمد للّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بيّنت للأُمّة جميع ما تحتاج إليه(3).

و موثقة عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

خطب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) في حجّة الوداع فقال: يا أيّها الناس و اللّه ما من شيء يقرّبكم من الجنة و يباعدكم من النار إلّا و قد أمرتكم به، و ما من شيء يقرّبكم من النار و يباعدكم من الجنة إلّا و قد نهيتكم عنه(4).

و خبر عمر بن قيس عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: سمعته يقول

إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يدع شيئاً يحتاج إليه الأُمّة إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله و جعل لكلّ2.

ص: 189


1- البيع، الإمام الخميني (قدّس سرّهم) 619:2، الاجتهاد و التقليد، الإمام الخميني (قدّس سرّهم): 22.
2- الكافي 4/59:1.
3- الوافي 216/274:1.
4- الكافي 2/74:2.

شيء حدّا و جعل عليه دليلاً يدلّ عليه و جعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا(1).

و عليه فكيف يهمل الشارع الأقدس أمر قيادة الأُمّة و الحكومة و الولاية عليهم، و الحال أنّ أمر الولاية أهمّ من جميع الأحكام، بل لم يناد بشيء كما نودي بالولاية؛ لأنّ الولاية بمثابة مفتاح الشريعة و أساس أحكامها، كما صرّح بذلك في عدّة نصوص صحاح و معتبرة(2).

و من الواضح أنّ الأحكام الإلهية بنطاقها الواسع الشامل للسياسيات و الجزائيات و الماليات و.. لا تختص بعصر الشارع. و من الضروري تحكيمها في جميع الأعصار، كما في صحيح زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الحلال و الحرام؟ فقال (عليه السّلام)

حلال محمّد حلال أبداً إلى يوم القيامة و حرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجيء غيره(3).

و عليه فلا اختصاص لقوله تعالى إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللّهُ (4) بعصر النبي، و لا سيّما بملاحظة ما دلّ على النهي عن الرجوع و التحاكم إلى الطاغوت، كما صرّح بذلك في قوله تعالى وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ (5) .6.

ص: 190


1- الكافي 2/59:1.
2- راجع الكافي 1/18:2 و 3 و 5.
3- الكافي 19/58:1.
4- النساء (4):105.
5- النحل (16):36.

و قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ (1) ، فإنّ تشكيل الحكومة الإسلامية، التي بيّن في الآية الأُولى هدفاً لإنزال القرآن، و كذا حرمة المراجعة و التحاكم إلى الطاغوت المصرّح بها في الآيتين الأخيرتين، لا يختص بعصر النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)؛ لكي تترك الأُمّة سدى بلا قائد أمين و لا وليّ حاكم عادل فقيه في طول زمان الغيبة، التي هي أكثر من زمان النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بأضعاف.

و من البديهي الواضح أنّه لا يتحقق هذا الغرض الأساسي و لا يمكن العمل بهذا الحكم، إلّا بتشكيل الحكومة بقيادة الفقيه العادل. أمّا اعتبار الفقاهة فلأجل لزوم علم الحاكم بالأحكام و ضرورة معرفته بالحلال و الحرام ليتيسر له قيادة الأُمّة و الحكومة بين المسلمين على أساس القرآن و ما جاء به النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و أهل البيت (عليهم السّلام). و أمّا العدالة فلأن يتعدى عن حدود اللّه و لا يظلم الناس فإنّها من أهمّ ما يعتبر وجوده في الوالي، كما هو واضح و دلت عليه النصوص.

ثانيهما: أنّ ولاية الفقيه في الحقيقة هي من شئون إمامة الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام)؛ نظراً إلى أنّ الإمامة هي نظاماً للأُمّة و لمّاً لفرقتهم و ضامناً لإجراء أحكام الشريعة و حدود اللّه بين خلقه.

كما ورد في كلام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)

فرض اللّه الإيمان تطهيراً من الشرك.. و الإمامة نظاماً للأُمّة(2) نقل صبحي الصالح «الأمانة» و لكنه غلط و الأصح الإمامة، كما في مصادر نهج البلاغة(3).

و ما ورد في خطبة الصديقة الطاهرة (سلام اللّه عليها)

ففَرضَ اللّه الإيمان تطهيراً من4.

ص: 191


1- النساء (4):60.
2- نهج البلاغة: 512، الحكمة 252.
3- مصادر نهج البلاغة و أسانيده 193:4.

الشرك.. و الطاعة نظاماً للملّة و الإمامة لَمّاً من الفرقة(1).

و ما ورد في خبر الفضل بن شاذان بل معتبرته عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) في حديث قال (عليه السّلام)

فلِمَ جعل اولي الأمر و أُمِر بطاعتهم؟ قيل؛ لعِلَلٍ كثيرة.

منها: أنّ الخلق لمّا وقفوا على حدٍّ محدود و أُمروا أن لا يتعدّوا ذلك الحدّ؛ لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك و لا يقوم إلّا بأن يُجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدي و الدخول فيما حظر عليهم؛ لأنّه لو لم يكن ذلك لكان أحدٌ لا يترك لذّته و منفعته لفساد غيره، فجُعِل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد و يقيم فيهم الحدود و الأحكام.

و منها: أنّا لا نجد فرقةً من الفِرَق و لا مِلّةً من الملل بَقوا و عاشوا، إلّا بقيِّم و رئيس؛ لما لا بدّ لهم منه في أمر الدين و الدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنّه لا بدّ لهم منه و لا قوام لهم إلّا به فيقاتلون به عدوَّهم و يقسّمون به فيئهم و يقيم لهم جُمعتهم و جماعتهم و يمنع ظالمهم من مظلومهم.

و منها: أنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً أميناً حافظاً مستودعاً لدَرَستِ الملّة و ذهب الدين و غُيِّرَت السُّنَّة و الأحكام و لزاد فيه المبتدعون و نقص منه الملحدون و شَبَّهوا ذلك على المسلمين؛ لأنا قد وجدنا الخَلق منقوصين محتاجين غير كاملين، مع اختلافهم و اختلاف أهوائهم و تشتّت أنحائهم، فلو لم يجعل لهم قيّماً حافظاً لِما جاءَ به الرسول (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) لفسدوا على نحو ما بيّنّاه و غُيِّرت الشرائع و السنن و الأحكام و الإيمان، و كان في ذلك فساد الخلق أجمعين(2).

و ما ورد في وصية علي (عليه السّلام) للحسنين لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه)6.

ص: 192


1- كشف الغمة 110:2.
2- علل الشرائع: 9/253، بحار الأنوار 1/60:6.

أُوصيكما و جميع وُلدي و أهلي و من بلغه كتابي بتقوى اللّه و نظم أمركم(1)؛ بناءً على إرادة الإمارة و الحكومة من الأمر، كما هو الظاهر؛ لوضوح ضرورة النظم في أُمور المعاش اليومية الجزئية، مع عدم تناسبه لشأن الإمام (عليه السّلام) في مقام الوصية بأهمّ ما يجب على الأُمّة من الأحكام، كرعاية التقوى و إصلاح ذات البين. و على فرض إرادة مطلق الأمر يشمل المقام بالإطلاق، فإنّ إدارة أُمور المسلمين و تدبيرهم و سياستهم من أهم أُمورهم و أحوجها إلى النظم و لا سيّما بلحاظ كونها عويصة كانت الأُمّة مبتلاةً بها في عصره (عليه السّلام) و لا يتحقق هذا المهمّ، إلّا بقيّم لهم و رئيس ينتظم بينهم بسياسة و تدبير واحد.

و عليه فكلّ ما يستدل به على لزوم الإمامة للأُمّة، يمكن الاستدلال به على ولاية الفقيه و لزوم قيادته لهم. و لا سيّما بلحاظ طول زمان الغيبة. و بهذا التقريب تكون ولاية الفقيه من أُصول المذهب.

الثاني: أنّه قد دلّ الدليل على ولاية الفقيه في أُمور الحسبة(2) مثل أُمور الغيّب و القصّر و الصغار و من لا وارث له و من لا وصيّ له و كلّ ما يقطع بعدم رضى الشارع بتركه و تعطيله مما يحتاج إلى التصدي و التكفّل بأمره. و من الواضح الضروري أنّ من أهم أُمور الحسبة هو أمر الحكومة و الإمارة و الولاية و قيادة الأُمّة، كما ورد في خبر الفضل المتقدم آنفاً.

و كما نقطع بعدم رضى الشارع بترك هذا الأمر المهم، فكذلك نقطع بعدم رضاه بأن يتصدى لذلك و يتكفّل به من لا يليق به من الطواغيت و الفسقة أو الجهّال الذينر.

ص: 193


1- نهج البلاغة: 421، الوصية 47.
2- الحسبة: إمّا اسم مصدر «الحسْب» بمعنى الكفاية، و إمّا من الحسبة بمعنى التدبير، كما في المصباح المنير، نقل عن الأصمعي، قال: فلان حسن الحسبة أي حسن التدبير.

لا يعرفون حلال الشريعة و حرامها و لا قضائها و حدودها و قصاصها و دياتها.

و عليه فنقطع بالضرورة أنّ الشارع لا يرضى بترك تشكيل الحكومة على أساس الأحكام الإلهية و لا بتشكيلها بقيادة غير الفقيه العادل الجامع لشرائط الإفتاء.

الثالث: الأدلّة اللفظية:

و هي نصوص استدل بها لخصوص المقام مثل معتبرة أبي خديجة قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام)

إيّاكم أن يُحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه(1).

و مقبولة عمر بن حنظلة عن الصادق (عليه السّلام) في حديث

ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حَكَماً. فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنّما استخف بحكم اللّه و علينا رَدّ و الرادّ علينا الرادّ على اللّه و هو في حد الشرك باللّه تعالى(2).

و الاستدلال بهما يتوقف على عمومية التعليل بقوله (عليه السّلام)

فإنّي قد جعلته قاضياً في الاُولى و

فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً في الثانية كما هو الظاهر لغير مقام القضاء و شموله للولاية على الحكومة بما لها من الشئون.

و كذا ما ورد في توقيع الحجّة (عج)

أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجتي عليكم و أنا حجّة اللّه(3)؛ نظراً إلى عموم لفظ9.

ص: 194


1- وسائل الشيعة 13:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.
2- وسائل الشيعة 136:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 140:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.

الحوادث لجميع الأُمور من العباديات و المعاملات و السياسيات و الجزائيات و غيرها؛ لكونه جمعاً محلّى بالألف و اللام و هو من أداة العموم، و إن لا يبعد دعوى انصرافها إلى بيان الأحكام الشرعية بقرينة لفظ

رواة حديثنا؛ نظراً إلى عدم تناسبه بأمر الحكومة و الولاية. و لكن تعليله في الذيل بقوله

«فإنّهم حجّتي.. يشمل جميع ما كانوا (عليهم السّلام) حجة على العباد و من أهمّها أمر القيادة و الولاية على الأُمّة، و ما يرتبط بشئون الإمارة و الحكومة.

و ما ورد عن الإمام الكاظم (عليه السّلام)

الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها(1)، حيث من الواضح أنّ من أهم خواصّ حصن البلد حفظ أهله من العدوّ. و عليه فيدل هذا الخبر على أنّ شأن الفقهاء و منصبهم حفظ كيان الإسلام و نواميس المسلمين و دفع أعدائهم، فلا إشكال في دلالته على المطلوب.

و ما ورد في موثقة السكوني عن الصادق (عليه السّلام)

الفقهاء أُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا(2).

فإنّ من أهمّ الأمانات التي أودعها اللّه إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) دينه و شريعته و إنّ من أهم وظائف الأمين حفظ الأمانة. و لا يكون حفظ الدين بمجرد التعليم و التعلّم و الإفتاء و التقليد. بل إنّما يتيسّر بإجراء أحكامه و تنفيذ قوانينه بين الناس. و لا يمكن ذلك إلّا بتأسيس الحكومة الإسلامية بقيادة الفقيه العادل الجامع لشرائط الإفتاء.

و ما ورد عن علي (عليه السّلام)

العلماء حكّام على الناس(3) و

مجاري الأُمور و الأحكام على أيدي العلماء باللّه الاُمناء على حلاله و حرامه(4).6.

ص: 195


1- الكافي 3/38:1.
2- الكافي 5/46:1.
3- مستدرك الوسائل 321:17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 33.
4- مستدرك الوسائل 315:17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 16.

و غيرها من النصوص الدالّة على المطلوب. و لا يضرّ ضعف أسناد بعضها بعد تمامية سند عدّة منها. بل كثرة هذه النصوص و تظافرها تمنع عن التوقف و الترديد في صدور مضمونها عن المعصوم (عليه السّلام). هذا مع أنّ في الوجه الأوّل غنى و كفاية لإثبات المطلوب.

هذا حاصل الكلام و خلاصته في المقام و سبق البحث عن مسألة ولاية الفقيه مفصّلاً في أوّل هذا الكتاب، فراجع.

و بعد ما لاحظت من الأدلّة القاطعة على ثبوت الولاية العامة للفقيه الجامع على الحكومة و قيادة الأُمّة تثبت ولايته و نفوذ حكمه في أمر الهلال، بالفحوى.

و دعوى أنّ للشارع طرقاً أُخرى لإثبات الهلال لا يحتاج إلى حكم الحاكم، ففيه: أنّ مضيّ ثلاثين من الشهر السابق علامة قطعية لا يحكم الحاكم بخلافه قطعاً. و كذا لمن رأى الهلال بعينه و قطع به فلا معنى لحجية حكم الحاكم في حقّه، إذا حكم بخلاف مقطوعة، و إن لا يجوز له المخالفة بتبليغ ذلك و إعلان ردّ حكم الحاكم، بل يجب عليه متابعته في الظاهر، و إلّا ليدخل في حكم الراد على أهل البيت (عليهم السّلام) كما ورد في معتبرة أبي خديجة. و إنّما يرجع إلى حكم الحاكم إذا لم يمض الثلاثون فعند ذلك لو لم يحكم به الحاكم ليقع الاختلاف بين المؤمنين، بل الهرج و المرج، كما صرح به بعض المحققين(1). و لعلّه لذلك قد يقال باستقرار سيرة المتشرعة على الرجوع إلى الحاكم في إثبات الهلال(2)، و لا اختصاص لهذه السيرة برجوع أبناء العامة إلى قضاتهم و حكّامهم في إثبات أمر الهلال، كما توهّم(3).2.

ص: 196


1- مستمسك العروة الوثقى 461:8.
2- جواهر الكلام 360:16، مستمسك العروة الوثقى 461:8.
3- المستند في شرح العروة الوثقى، الزكاة 86:22.

ثمّ لا يخفى أنّ الكلام تارة: في كبرى ولاية الفقيه، و أُخرى: في صغراها بأنّه هل يرتبط ثبوت الهلال موضوعاً بالحاكم بمعنى أنّه من شئون الإمارة و الحكومة أم لا؟ و بعبارة اخرى: إنّ الاستدلال على نفوذ حكم الفقيه و حجيته في ثبوت الهلال بأدلّة ولاية الفقيه تارة: يكون كبروياً فيبحث عن تماميتها و عمومها بالنسبة إلى جميع الموضوعات العامة المحتاجة إلى الفتق و الرتق و الفصل و الحسم، سواءٌ كان من المرافعات أم لا. و قد سبق البحث عن ذلك مفصّلاً في أوّل الكتاب، و أشرنا إليه آنفاً و أثبتنا هذه الكبرى. و أُخرى: يكون البحث صغروياً بأنّه هل يكون ثبوت الهلال من قبيل الموضوعات العامة المحتاجة إلى الحسم أم لا؟ فإذا أثبتنا هذه الصغرى و ضممناها إلى الكبرى المزبورة يثبت بذلك المطلوب، و هو اعتبار حكم الحاكم و نفوذه في ثبوت الهلال في الجملة. و المتيقن من الحجية ما إذا كان مستنده البيّنة. و لذا يظهر من صاحب الجواهر و المستمسك و غيرها المفروغية عن نفوذ حكم الحاكم إذا كان باستناد البينة.

و ذلك لتمامية أدلة ولاية الفقيه عندهم كبروياً و صغروياً في المقام، و لضرورة جواز الحكم بالبينة. و إنّما عقدوا البحث في نفوذ حكمه بثبوت الهلال إذا كان مستنده علمه؛ نظراً إلى ما وقع من الخلاف في جواز حكم الحاكم بعلمه.

و على أيّ حال فالبحث هاهنا في مقامين:

الأوّل: في إثبات ولاية الفقيه كبروياً و صغروياً.

و الثاني: في نفوذ حكم الحاكم بثبوت الهلال باستناد علمه.

أمّا المقام الأوّل: فقد سبق البحث عنه كبروياً.

و أمّا صغروياً فنقول: يمكن الاستدلال على كون ثبوت الهلال من الأُمور

ص: 197

العامة الحسبة المتوقف حسمها بحكم الحاكم:

أوّلاً: بأنّه لو لا حكم الحاكم بثبوت الهلال ربّما يقع الاختلاف و الهرج و المرج بين المؤمنين حتى في البلدين المتقاربين، بل في بلد واحد، و لا سيّما بلحاظ تأثير ذلك في عيد الفطر و إقامة صلاته الموكول إلى الإمام و الحاكم.

و ثانياً: بنصوص يستفاد منها أنّ الحكم بثبوت الهلال من شئون الحكومة و إمامة المسلمين.

فمن هذه النصوص صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً، أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس. و إن شهدا بعد زوال الشمس أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم و أخّر الصلاة إلى الغد فصلّى بهم(1).

و دلالته على المطلوب واضحة؛ لأنّه لو لم يكن الحكم بثبوت الهلال و الأمر بالإفطار من شئون الحاكم لم يجز إيكال ذلك إلى الإمام. و أمّا الإشكال بأنّ المقصود منه الإمام المعصوم (عليه السّلام)، فلا يضرّ بما نحن بصدده، بعد إثبات أنّ ما كان للأئمّة (عليهم السّلام) من الولاية العامة ثابتٌ في حق الفقيه الجامع.

منها: صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) يجيز في الدين شهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين، و لم يُجِز في الهلال إلّا شاهدي عدلٍ (2)، أي لم ينفذ.

منها: صحيحه الآخر عن أبي جعفر قال (عليه السّلام)

لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة1.

ص: 198


1- وسائل الشيعة 275:10، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب 6، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 264:27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 1.

الرجل الواحد إذا علم منه خيرٌ مع يمين الخصم في حقوق الناس. فأمّا ما كان من حقوق اللّه عزّ و جلّ أو رؤية الهلال فلا(1). قوله أجزْنا: أي أنفذنا، فإنّه من الإجازة بمعنى الإنفاذ.

منها: صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام)

إنّ علياً (عليه السّلام) كان يقول: لا أُجيز في الهلال، إلّا شهادة رجلين عدلين(2).

منها: صحيح شعيب بن يعقوب عن جعفر عن أبيه (عليهما السّلام)

إنّ علياً (عليه السّلام) قال: لا أُجيز في الطلاق و لا في الهلال إلّا رجلين(3).

منها: مرفوعة أحمد بن محمد بن عيسى عن أبيه قال

قضى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بشهادة الواحد و اليمين في الدين. و أمّا الهلال فلا، إلّا بشاهدي عدل(4).

وجه الدلالة على المطلوب: أنّ لفظة «يجيز و أُجيز» من الإجازة و الإنفاذ، و هو ظاهر في الحكم الإنشائي، بخلاف «يجوز»، فإنّه من الجواز بمعنى الحكم التكليفي الإلهي. و لا سيّما لفظ «كان» في صحيحة محمد بن مسلم الاُولى؛ نظراً إلى ظهوره في استمرار صدور الحكم بثبوت الهلال من جانب النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و تكرّره. و أمّا الإشكال بأنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) لمّا كان مشرّعاً للأحكام فإجازته بمعنى التشريع، فلا يعبأ به بعد ورود هذا التعبير في كلام أمير المؤمنين و سائر الأئمّة (عليهم السّلام)، و لا سيّما قول أبي جعفر

لو كان الأمر إلينا أجزنا..؛ نظراً إلى ظهور لفظ «الأمر» في7.

ص: 199


1- وسائل الشيعة 268:27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 12.
2- وسائل الشيعة 286:10، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب 11، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 289:10، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب 11، الحديث 9.
4- وسائل الشيعة 292:10، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب 11، الحديث 17.

الإمارة و الحكومة، أي لو كنّا مبسوطي الأيدي في أمر الحكومة.

و أمّا التعبير بلفظ «لا يجوز» و «لا يجزي»(1) في بعض نصوص المقام فلا يصلح للقرينية على إرادة الجواز من لفظ «أُجيز و يجيز»، فإنّ كلّ واحد من اللفظين يدلّ على معناه الخاص وضعاً.

و قد وردت في المقام نصوص اخرى لا تخلو من إشعار بذلك:

منها: خبر عبد اللّه بن سنان قال: صام علي (عليه السّلام) بالكوفة ثمانية و عشرين يوماً شهر رمضان، فرأوا الهلال، فأمر منادياً ينادي

اقضوا يوماً فإنّ الشهر تسعة و عشرون يوماً(2). و حيث إنّ الإمام (عليه السّلام) أمر منادياً و كلّفه بالنداء بين مجتمع المؤمنين، فلا يخلو من إشعار بأنّ ذلك كان من شئون الإمارة و بيد الإمام (عليه السّلام).

مثله: ما روي عن النبي بطريق العامّة

أنّ ليلة الشك أصبح الناس فجاءَ أعرابي إليه، فشهد برؤية الهلال، فأمر النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) منادياً ينادي من لم يأكل فليصم و من أكل فليُمسك(3).

و إن كان الأنسب في خبر عبد اللّه بن سنان كون أمر الإمام (عليه السّلام) من قبيل الإعلان بوجوب القضاء؛ لفرض أنّ الناس رأوا الهلال من دون إناطة ثبوته بحكم الإمام (عليه السّلام).3.

ص: 200


1- راجع وسائل الشيعة 286:10، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب 11، الحديث 2، 3، 10، 13، 15.
2- وسائل الشيعة 296:10، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب 14، الحديث 1.
3- انظر جواهر الكلام 197:16، السنن الكبرى، البيهقي 212:4، المبسوط، السرخسي 62:3.

منها: نصوص وردت في موضع التقية، و لكنّها تدلّ على أنّ الأمر بالإفطار و الصيام كان بيد إمام المسلمين. و يظهر من هذه النصوص استقرار سيرة المسلمين في عهد الأئمّة (عليهم السّلام) على ذلك.

مثل مرسلة رفاعة عن رجل عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

دخلتُ على أبي العباس بالحيرة فقال: يا أبا عبد اللّه! ما تقول في الصيام اليوم. فقلت: ذاك إلى الإمام، إن صمت صمنا. و إن أفطرت أفطرنا. و قال: يا غلام عليّ بالمائدة، فأكلتُ معه و أنا أعلم و اللّه أنّه من شهر رمضان، فكان إفطاري يوماً و قضاؤه أيسر عليّ من أن يُضرب عنقي و لا يُعبد اللّه(1). و في نسخة الوسائل

فقال: ذاك إلى الإمام(2)، و لكن الصحيح

فقلت: ذاك... وجه دلالتها على المطلوب، أنّ الإمام (عليه السّلام) و إن كان في موضع التقية، إلّا أنّ تقيته كان في تطبيق «الإمام» الموكول إليه أمر ثبوت الهلال على أبي العباس بقوله (عليه السّلام)

إن صمت صمنا و إن أفطرت أفطرنا، لا في أصل بيان الكبرى بقوله (عليه السّلام)

ذاك إلى الإمام فكان مقصوده (عليه السّلام) إمام الحق.

و أمّا احتمال التقية في قوله (عليه السّلام)

ذاك إلى الإمام فغير وجيه؛ حيث لا حاجة إلى التقية فيه بعد تحقّقها بتطبيق هذه الكبرى على أبي العباس بقوله

إن صمت صمنا... و لا يجوز الحكم بالباطل من غير ضرورة التقية. و حيث لا ضرورة للتقية في بيان أصل هذه الكبرى فتتمّ حجيتها على المطلوب، و هو كون الأمر بالإفطار و الصيام في يوم الشك باختيار إمام المسلمين، بما له من منصب).

ص: 201


1- وسائل الشيعة 132:10، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 57، الحديث 5.
2- وسائل الشيعة 95:7، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 57، الحديث 5، (ط مكتبة الإسلامية).

الإمارة و الحكومة. فيستكشف منه عدم كونها باطلةً.

و صحيح عيسى بن أبي منصور أنّه قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في اليوم الذي يشك فيه. فقال (عليه السّلام)

يا غلام! اذهب فانظر أ صام السلطان أم لا؟ فذهب ثمّ عاد. فقال: لا. فدعا بالغداء فتغدَّينا معه(1). و لا يخفى أنّه لا تقية في إفطار الإمام عند عيسى بن أبي منصور لكونه من خيار أصحابه، بل كان العيد ثابتاً عنده فأمر بالفحص عن حال السلطان لئلّا يبتلي بمخالفته. و من ذلك يعلم أنّ مخالفة السلطان كان أمراً مستنكراً في ارتكاز المسلمين في ذلك الزمان. فيعلم من ذلك استقرار سيرتهم على رجوعهم في ذلك إلى إمام المسلمين.

و نظيره مرسل داود بن الحصين عن أبى عبد اللّه (عليه السّلام) أنّه قال، و هو بالحيرة في زمان أبي العباس

إنّي دخلت عليه و قد شكّ الناس في الصوم، و هو و اللّه من شهر رمضان، فسلّمت عليه. فقال: يا أبا عبد اللّه! أ صُمت اليوم؟ فقلت

لا، و المائدة بين يديه. قال: «فادن فكُل»، قال

فدنوت فأكلت. قال (عليه السّلام): و قلت

الصوم معك و الفطر معك، فقال الرجل لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): تفطر يوماً من شهر رمضان؟ فقال

أي و اللّه أفطر يوماً من شهر رمضان أحبّ إليّ من أن يُضرب عنقي(2).

و الحاصل أنّ هذه الطائفة من الروايات تكشف عن استقرار سيرة المسلمين في عهد الأئمّة على رجوعهم إلى إمام المسلمين و أميرهم و حاكمهم في الحكم بثبوت الهلال. و إنّ سيرتهم هذه كانت ناشئة من سيرة المسلمين في زمن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و الخلفاء و أمير المؤمنين (عليه السّلام)، و لا سيّما بعد دلالة الصحاح المزبورة4.

ص: 202


1- وسائل الشيعة 131:10، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 57، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 131:10، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 57، الحديث 4.

على ذلك لا يبقى شكّ في اتصال هذه السيرة بزمان المعصومين (عليهم السّلام). فلا يصح ما قد يقال: إنّها كانت ناشئة من بدعة خلفاء بني أُميّة و بني العباس، كما تفوّه به بعض.

ثمّ إنّ مما دلّ بالخصوص على كون الحكم بثبوت الهلال بيد الإمام، صحيح محمد بن قيس(1)، و دلالته على المطلوب واضحة. و أمّا احتمال كون المقصود خصوص إمام الحق المعصوم فلا دليل عليه. و على فرض كونه المقصود لا يضرّ بالمطلوب بعد تمامية أدلّة النيابة.

جواز حكم الحاكم بعلمه

أمّا المقام الثاني: فقد وقع الكلام في أنّه هل يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه من دون بيّنة و لا يمين أم لا؟ و لا يخفى أنّ محلّ الكلام في المقام هو الشبهات الموضوعية، التي تثبت شرعاً بالبيّنات و الايمان؛ إذ لا إشكال و لا خلاف في جواز حكم القاضي بعلمه في الشبهات الحكمية؛ حيث إنّه لا شيء أقرب إلى الواقع عنده من علمه فإنّ حجيته ذاتية، بل منع العمل به موجب للتناقض.

ثمّ إنّ من الوجوه التي استدلّوا بها لإثبات الهلال بحكم الحاكم بعلمه و وجوب اتّباعه: أولوية نفوذ حكم الحاكم بعلمه من حكمه باستناد البينة؛ إذ لا نزاع في جواز حكمه بشهادة عدلين مع كون البيّنة أمارة ظنّية و حجّيتها مجعولة بدليل الاعتبار، بخلاف العلم؛ فإنّ حجيته ذاتية. و عليه فلا ريب في أنّ علم الحاكم نفسه أقوى اعتباراً و سنداً من شهادة البينة التي ربما لا يورث له أزيد من الظنّ. و عليه فلا ريب في حجية حكم الحاكم في المقام و نفوذه و وجوب اتّباعه.

ص: 203


1- وسائل الشيعة 275:10، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب 6، الحديث 1.

و قد استدل بهذا الوجه صاحب المدارك على ما نسب إليه في الحدائق(1) و استدلّ به أيضاً صاحب الجواهر(2).

و منها: ما استدل به صاحب الجواهر(3)، من أنّ نفوذ حكم الحاكم في حقّ سائر المكلفين باستناد شهادة العدلين أمر ثابت في الشرع، مع عدم حصول شهود للحاكم نفسه وجداناً بشهادتهما و عدم كون شهادتهما في محضره شهادة عند غيره من المكلّفين. فيكشف ذلك عن أنّ اعتبار حكم الحاكم بأيّ مستند كان حجّةً عنده، و إن لم تثبت حجيته لغيره و من دون خصوصية لشهادة البيّنة.

ثمّ إنّه من الوجوه التي يمكن الاستدلال بها على جواز حكم الحاكم بعلمه الآيات و الأخبار الدالّة على وجوب الحكم بالحق، مثل قوله تعالى يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ (4) . و قوله تعالى أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (5) .

بتقريب أنّه إذا علم الحاكم بالحق و العدل و قطع بهما بعلمه الوجداني، يجب عليه أن يحكم على طبقه بمقتضى هذه الآيات.

و منها: الآيات و الأخبار الآمرة بالحدود و الديات و القصاص فإنّها تخاطب الحاكم و تأمره بإقامتها على نحو القضية الحقيقية. فإذا علم و أحرز تحقق موضوعها في الخارج يجب عليه إقامتها بمقتضى هذه الآيات، و إلّا يرتكب العصيان بمخالفة8.

ص: 204


1- الحدائق الناضرة 263:13.
2- جواهر الكلام 359:16.
3- نفس المصدر.
4- (ص) 26:38.
5- النساء (4):58.

هذه الآيات. و إنّ التفصيل بين أنواع الموضوعات العامة في جواز حكم الحاكم بعلمه خلاف الإجماع المركب. و من هنا اتضح عدم صحة حصر الحرمة في الحكم بخلاف علمه، كما عن صاحب الجواهر(1) بل يحرم ترك الحكم بالحق أيضاً، كما دلّ عليه قوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (2)وسائل الشيعة 255:10، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب 3، الحديث 12.(3) .

و منها: خبر الحسين بن خالد؛ حيث علّل فيه الإمام الصادق (عليه السّلام) وجوب حكم الإمام بعلمه في حقوق اللّه بقوله (عليه السّلام)

لأنّ الحق إذا كان للّه فالواجب على الإمام إقامته، و إذا كان للناس فهو للناس(4).

و من الواضح أنّ الحكم بالإفطار أو الصيام عند ثبوت الهلال من حقوق اللّه.

هذا مضافاً إلى تحقق الشهرة العظيمة بين فقهائنا في ذلك، أي: جواز حكم الحاكم بعلمه. بل حكي الإجماع عليه مستفيضاً، كما في الجواهر(5) عن الانتصار و الغنية و محكي الخلاف و نهج الحق و ظاهر السرائر.

أمّا المخالفون فاستدلّوا على عدم اعتبار حكم الحاكم بثبوت الهلال بأُمور:

الأوّل: النصوص الحاصرة مثل صحيح الفضل بن عثمان عن الصادق (عليه السّلام)

ليس على أهل القبلة إلّا الرؤية(5)، و ما يكون بمضمونه و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام)

إنّ علياً (عليه السّلام) كان يقول: لا أُجيز في رؤية الهلال إلّا شهادة رجلين2.

ص: 205


1- جواهر الكلام 89:40.
2- المائدة
3- :47.
4- وسائل الشيعة 57:28، كتاب الحدود، مقدّمات الحدود، الباب 32، الحديث 3.
5- جواهر الكلام 88:40.

عدلين(1). نظراً إلى أنّه دلّ بمفهوم الحصر على عدم ثبوت الهلال بغير البيّنة.

و فيه أوّلاً: أنّ الحصر المطلق مقطوع العدم؛ لضرورة وجود طرق قطعية و أمارات شرعية متعددة أُخرى لإثبات الهلال، مثل مضيّ ثلاثين يوماً من الشهر السابق و التواتر و الشياع المفيدين للعلم، و منها الرؤية و شهادة عدلين.

و ثانياً: إنّ الحصر في صحيحة الحلبي بإضافة شهادة الفاسق، كما أجاب به في الجواهر(2). و المعنى لا أُجيز في رؤية الهلال، إلّا شهادة رجلين عدلين، لا فاسقين. و كذا الجواب عن الحصر الوارد في الرؤية و غيره.

و ثالثاً: يمكن توجيه صحيح الحلبي بأنّ المقصود حصر الأمارة التعبدية في شهادة عدلين قبال من يرى حجيّة شهادة رجل واحد كأبناء العامة، من دون نظر إلى العلم الوجداني، كما أنّ المناسب لشأن الشارع جعل حجية الأمارة الظنية. و أُجيب عن الحصر بوجوه اخرى لا حاجة إلى ذكرها.

الثاني: عدم كون موضوع ثبوت الهلال و لا الحكم بالإفطار أو الصيام من شئون الحكومة نظراً إلى وجود طرق اخرى لذلك. و قد عرفت جواب هذا الإشكال مفصّلاً في تقريب صغرى أدلّة ولاية الفقيه في المقام، فلا نعيد.

الثالث: النصوص الناهية عن الأخذ بالشك و الظن في أمر ثبوت الهلال، مثل قوله (عليه السّلام)

إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض اللّه فلا تؤدّوا بالتظنّي في صحيح الخزّاز(3).0.

ص: 206


1- وسائل الشيعة 286:10، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب 11، الحديث 1.
2- جواهر الكلام 359:16.
3- وسائل الشيعة 289:10، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب 11، الحديث 10.

و قوله (عليه السّلام)

إيّاك و الشك و الظن، فإن خفي عليكم فأتِمّوا الشهر الأوّل ثلاثين في موثق إسحاق بن عمّار(1).

و قوله (عليه السّلام)

و ليس بالرأي و لا بالتظنّي و لكن بالرؤية في صحيح محمد بن مسلم(2)، و غيره من النصوص الواردة في المقام.

و من الواضح أنّ حكم الحاكم لا يفيد أكثر من الظن. و لا سيّما بقرينة المقابلة بالرؤية و مضيّ ثلاثين يوماً؛ لظهورها في الحصر و نفي الاعتبار عن غيرهما.

و فيه: أنّ الملاك في ثبوت الهلال بحكم الحاكم هو دليل اعتباره. قد دلّ الدليل المعتبر و الحجّة الشرعية على اعتبار حكم الحاكم بثبوت الهلال و نفوذه، و إلّا فالبيّنة أيضاً لا تفيد أكثر من الظن وجداناً.

الرابع: ما ورد في صحيح هشام عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان(3)؛ نظراً إلى دلالته على حصر مدرك القضاء في البينة و اليمين، فدلّ بمفهومه على عدم جواز القضاء بغيرهما حتى العلم.

و فيه: أنّ الحصر إضافي. و المقصود نفي مدركية غير البينة و اليمين للقضاء ممّا لا يفيد العلم و يحتاج في اعتباره إلى جعل الحجية من قبل الشارع، كالأقيسة و الاستحسانات و الظنون، دون ما يكون حجيته ذاتية؛ فإنّه لا يتطرّق إليه الجعل نفياً و إثباتاً. و يشهد على ما قلنا ما ورد من النصوص الناهية عن العمل بالأقيسة1.

ص: 207


1- وسائل الشيعة 255:10، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب 3، الحديث 11.
2- وسائل الشيعة 252:10، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، الباب 3، الحديث 2.
3- تهذيب الأحكام 552/229:6، وسائل الشيعة 232:27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

و الظنون في القضاء، كما عقد بهذا العنوان باباً في الوسائل(1).

و يؤيّد ما قلنا ما دلّ من النصوص على حكم أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السّلام) بعلمه و تصديق النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) إيّاه بأنّ

هذا حكم اللّه(2).

ثمّ إنّ صحيح هشام المزبور رواه في الكافي(3) عن سعد بن هشام بن الحكم، و لكنه غير صحيح؛ لعدم ذكر لهذا الاسم في كتب الرجال. و نقل عن بعض نسخ الكافي عن سعد و هشام بن الحكم و هو غير بعيد. و لكن الأمر سهل بعد صحة طريق التهذيب.

و قد عرفت ممّا بيّنّاه في إثبات صغرى ولاية الفقيه في المقام أنّ أمر ثبوت الهلال و إعلان عيد الفطر من شئون الفقيه المتولّي للأمارة و الحكومة بين المؤمنين، كما يفهم ذلك من قوله (عليه السّلام)

لو كان الأمر إلينا لأجزنا في صحيح محمد بن مسلم و قوله (عليه السّلام)

أَمر الإمام بإفطار ذلك اليوم.. في صحيح محمد بن قيس. و ما ورد عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و علي (عليه السّلام) أنّهما كانا لا يجيزان في الهلال، إلّا شهادة رجلين عدلين، و ما ورد أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قضى بذلك، و كذا قوله (عليه السّلام)

ذاك إلى الإمام في مرسل رفاعة، و غير ذلك مما دلّ على أنّ الحكم بثبوت الهلال من شئون الإمامة و إمارة المسلمين و مما يرتبط بالقاضي.

هذا مضافاً إلى كون أمر ثبوت الهلال و إعلان العيد من الأُمور العامة التي في معرض الاختلاف المحتاجة إلى الحسم المتوقف على حكم من بيده زمام الإمارة و الحكومة.7.

ص: 208


1- وسائل الشيعة 35:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6.
2- وسائل الشيعة 274:27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 18، الحديث 1.
3- الكافي 1/414:7.

و لا يخفى أنّ قوله (عليه السّلام)

لو كان الأمر إلينا.. ليس بمعنى تعليق جواز الحكم بثبوت الهلال بشاهدين عدلين على كون الإمارة و الحكومة بأيديهم (عليهم السّلام)، و إلّا فمن الواضح عدم إناطة جواز الحكم لهم (عليهم السّلام) بذلك بتصدّيهم للأمارة و الحكومة، و هذا من الواضح، بل من ضروري المذهب.

بل المشهور بين الفقهاء جواز الحكم للفقيه الجامع في عصر الغيبة بشاهد عدل و يمين في حقوق الناس و الديون، فلا بدّ أن يكون كذلك الحكم بثبوت الهلال؛ نظراً إلى مجيئهما في فقرة واحدة في النصوص الدالّة على ذلك.

و عليه فليس المقصود تعليق أصل جواز الحكم بتصدي الإمارة و الحكومة، بل المقصود أنّه لو كان أمر الحكومة و الإمارة على المسلمين بأيديهم (عليهم السّلام) كما كان بأيدي الخلفاء لم يحكموا بين عامّة المسلمين بثبوت الهلال إلّا بشاهدين عدلين، لا بشاهد واحد، كما كان دأب خلفاء بني العباس و سلاطينهم. فلا دلالة للصحيح المزبور على عدم جواز الحكم بثبوت الهلال لغير متصدّي الإمارة و الحكومة من الفقهاء بوجه، و هذا واضح.

ثمّ إنّه قد يقال: إنّ المرجعية نوع حكومة خفيّة على المقلّدين في جميع شئونهم الفردية و الاجتماعية؛ حيث إنّ المقلّد لا يأخذ وظيفته إلّا من مرجع تقليده، بل المرجعية بمعناه المصطلح كانت ثابتةً للأئمّة (عليهم السّلام) مع عدم بسط أيديهم، بل كانت ثابتةً أيضاً حتى لبعض الفقهاء من أصحابهم، مثل زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير و هشام بن الحكم و عمار الساباطي و يونس بن عبد الرحمن و الفضل بن شاذان و غيرهم.

و عليه فلا يبعد دعوى شمول النصوص المزبورة للفقهاء و المراجع أيضاً؛

ص: 209

لأنّ المرجعية منصب كالإمارة و الحكومة، فإنّها نوع رئاسة دينية و دنيوية بين الناس المقلّدين.

و فيه: على فرض ثبوت المرجعية بمعناه المصطلح الآن في زمن الأئمّة (عليهم السّلام)، فمن البعيد جدّاً ظهور لفظ الإمام و السلطان و الإمارة و القضاء فيها، بل هذه العناوين و ما شابهها منصرفة عن المرجعية. و على فرض الشمول فإنّ أظهر أفرادها من بيده الإمارة و الحكومة من بين الفقهاء.

و الحاصل: أنّ عمدة الوجه في كون الحكم بثبوت الهلال من شئون الفقيه المتولّي للأمارة و الحكومة مضافاً إلى ظهور التعابير الواردة في النصوص في ذلك أنّ هذا الموضوع من الأُمور العامة الواقعة في معرض الاختلاف و الفرقة بين الأُمّة، و يتوقف حسم ذلك على حكم من بيده زمام الإمارة و الحكومة. و عمدة الوجه في تعيّن الرجوع إليه في أمر ثبوت الهلال وقوع الاختلاف غالباً بين الأُمّة في البلاد المتقاربة، بل في بلد واحد و هو موجب لوهن الدين و الفرقة و النزاع بين المسلمين و لا مناص لحسم مادّة الاختلاف و الوهن إلّا من الرجوع إلى من بيده زمام الإمارة.

و الوجه الآخر: أنّ الولاية العامّة تصير فعليتها بتصدّي الإمارة و الحكومة و الغلبة أو أكثرية التابعين. بمعنى أنّ الولاية تكون شأنية لمن كان من الفقهاء واجداً لشرائطها العلمي و العدالة و لكن تصير فعليتها بذلك، كما سبق بيان وجه ذلك مفصّلاً في أوّل هذا الكتاب.

ص: 210

نفوذ حكم الحاكم بالنسبة إلى غير مقلّديه، حتى الحاكم الآخر

مسألة 5: لا تختص حجية حكم الحاكم بمقلّديه، بل حجة حتى على الحاكم الآخر (1) لو لم يثبت خطوة أو خطأ مستنده (2)(1).

(1) و الوجه فيه أوّلاً: أنّ ما دلّ على ثبوت الولاية العامة للفقيه كان يبتني على أساس غرض حسم مادة الخلاف و الهرج و المرج، و إقامة حدود اللّه و إجراء أحكام الشريعة بين المسلمين.

و من الواضح أنّ تحقق هذا الغرض يتوقف على حجية حكم الحاكم في حق جميع المؤمنين الذي هو يعيش بينهم. فلو لم يكن حكمه حجة في حق غير مقلّديه، بل حتى الحاكم الآخر لينقض الغرض. و لكنه يتمّ في بلد واحد أو بلدين متقاربين، لا يحتمل انفكاكهما من حيث ثبوت الهلال، و إلّا فلا ينفذ حكم الحاكم في حق من يعيش في البلاد المتباعدة الممكن انفكاكها عن بلد الحاكم من جهة ثبوت الهلال.

و ثانياً: إطلاقات حرمة ردّ حكم الحاكم، مثل مقبولة الحنظلة و توقيع الحجّة، فإنّها لا تختص في الشمول بمقلّدي الحاكم.

(2) وجه ذلك واضح؛ نظراً إلى عدم كون حكم الحاكم مغيّراً للحكم الواقعي، بل هو أمارة شرعية مجعولة في ظرف الجهل ظاهراً. و مع العلم الوجداني ينتفي موضوعه، و لا يجوز مخالفة العلم، لكون حجيته ذاتية، فيجب العمل به، و لكن على

ص: 211


1- تحرير الوسيلة 297:1.

نحو لا يخالف الحاكم بتبليغ الخلاف لأنّ علمه حجّةٌ له لا لغيره. فلذا لا يجوز له إعلان ذلك، و إلّا يدخل عمله في عمومات تحريم ردّ حكم الحاكم.

و خالف في ذلك كاشف الغطاء فخصّص اعتبار حكم الحاكم بمقلّديه. و قد سبق عبارته في أوّل البحث. و لعلّ وجهه العمل بالمقبولة و عدم الوقوع في مخالفة حكم الحاكم و نقضه فيما إذا صدر الحكم من عدّة من الفقهاء متخالفاً؛ بزعم أنّه لا مناص من القول بذلك في عدم الردّ و النقض، و لكن اتضح جوابه في خلال ما بينّاه.

و الحمد للّه رب العالمين و صلواته على رسوله و آله الميامين المعصومين.

ص: 212

أولياء الصغار

اشارة

ص: 213

ص: 214

أولياء الصغار

ولاية الأب و الجدّ

مسألة 5: ولاية التصرّف في مال الطفل و النظر في مصالحه و شئونه لأبيه و جدّه لأبيه(1)، (1) لا خلاف في ولاية الأب و الجدّ للأب على الصغير، بلا فرق بين الذكر و الأُنثى، كما صرّح بعدم الخلاف في المسالك و الكفاية(2)، بل في التذكرة الإجماع(3)، و في مجمع البرهان، إجماع الأُمّة(4)، و في الجواهر الإجماع بقسميه عليه(5).

و قد دلّت النصوص المستفيضة بل قيل المتواترة على ذلك.

و هي العمدة في الاستدلال؛ حيث لا مناص من احتمال استناد المجمعين في المقام إلى هذه النصوص.

ص: 215


1- تحرير الوسيلة 14:2.
2- مسالك الأفهام 161:4، كفاية الأحكام: 113 /السطر 15.
3- تذكرة الفقهاء 80:2 /السطر 28 (ط الحجري).
4- مجمع الفائدة و البرهان 231:9.
5- جواهر الكلام 170:29.

و قد وردت هذه النصوص في أولياء عقد النكاح و أموال اليتامى و في الوصية. و نكتفي هنا بذكر بعضها:

منها: ما دلّ على صحة الوصية بالولاية على الأطفال للأب مطلقاً، مثل معتبرة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام): أنّه سُئل عن رجل أوصى إلى رجل بولده و بمال لهم و أذن له عند الوصية أن يعمل بالمال و أن يكون الربح بينه و بينهم، فقال (عليه السّلام)

لا بأس به؛ من أجل أنّ أباه قد أذن له في ذلك، و هو حيّ (1).

فإنّها و إن وردت في المضاربة بمال الصغير، إلّا أنّ مقتضى عموم التعليل عدم اختصاص الحكم بالمضاربة، كما يدلّ بالفحوى على ثبوت الولاية للجدّ ما سيأتي من النصوص الدالّة على أقوائية ولاية الجدّ على ولاية الأب.

منها: ما دلّ على جواز تصرف الأب في مال ولده صغيراً كان أو كبيراً بغير إذنه معلّلاً بأنّ الولد و ماله لأبيه، مثل صحاح محمد بن مسلم و عبد اللّه بن سنان و سعيد بن يسار و ابن أبي يعفور(2) و غيره من النصوص البالغة حدّ الاستفاضة.

و لكن تحمل إطلاقات هذه النصوص على صورة احتياج الأب إلى مال الولد و اضطراره إليه في قوته، بل هو ظاهر نصوص متعدّدة من هذه الطائفة، مثل صحيح عبد اللّه بن سنان(3)، و خبر علي بن جعفر(4)، و لا سيّما بقرينة صحيحة الحسين بن6.

ص: 216


1- وسائل الشيعة 427:19، كتاب الوصايا، الباب 92، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 262:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 78، الحديث 1 و 3 و 4 و 5 و 7.
3- وسائل الشيعة 263:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 78، الحديث 3.
4- وسائل الشيعة 264:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 78، الحديث 6.

أبي العلاء(1)؛ فإنّها حاكمة على إطلاقات هذه النصوص و ناظرةٌ إليها. و هي صحيحة بطريق الصدوق في معاني الأخبار.

منها: ما دلّ على ولاية الأب على عقد نكاح الصغير مطلقاً، بلا فرق بين الذكر و الأُنثى، مثل صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السّلام) في الصبي يتزوّج الصبية يتوارثان؟ فقال (عليه السّلام)

إذا كان أبواهما اللذان زوّجاهما فنعم(2). و من الواضح أنّ المقصود من الأبوين في هذه الصحيحة هو أب الصبي و أب الصبية. فتثنية الأب بلحاظ ذلك.

و صحيح إسماعيل بن بزيع قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن الصبية يزوّجها أبوها، ثمّ يموت و هي صغيرة، فتكبر قبل أن يدخل بها زوجها. يجوز عليها التزويج أو الأمر إليها؟ قال (عليه السّلام)

يجوز عليها تزويج أبيها(3). و صحيح ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

لا تنكح ذوات الآباء من الأبكار، إلّا بإذن آبائهنّ (4).

و من هذه الطائفة ما دلّ على أولوية عقد الجدّ على عقد الأب، بعد ثبوت الولاية لهما، مثل صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما، قال (عليه السّلام)

إذا زوّج الرجل ابنة ابنه فهو جائز على ابنه، و لابنه أيضاً أن يزوّجها، فقلت: فإن هوى أبوها رجلاً و جدّها رجلاً. فقال (عليه السّلام)

الجدّ أولى بنكاحها(5).

و موثق عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام) الجارية يريد أبوها1.

ص: 217


1- وسائل الشيعة 289:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 11، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 292:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 12، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 275:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 6، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة 277:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 6، الحديث 5.
5- وسائل الشيعة 289:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 11، الحديث 1.

أن يزوّجها من رجل و يريد جدّها أن يزوّجها من رجل آخر. فقال (عليه السّلام)

الجدّ أولى بذلك ما لم يكن مضارّاً إن لم يكن الأب زوّجها قبله(1).

و صحيح هشام بن سالم و محمد بن حكيم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

إذا زوّج الأب و الجدّ كان التزويج للأوّل فإن كانا جميعاً في حال واحدة فالجدّ أولى (2)، إلى غير ذلك من النصوص. فإنّ ظاهر لفظ «الجدّ» بإطلاقه هو الجد للأب، فلا يشمل الجدّ للاُم.

هذا مضافاً إلى أن قوله (عليه السّلام) في صحيح ابن مسلم

إذا زوّج الرجل ابنة ابنه.. قرينة على كون المراد بالجد هو الجدّ للأب، لوضوح أنّه الذي تكون الصغيرة ابنة ابنه دون الجدّ للاُمّ.

و الحاصل: أنّه لا ريب في ثبوت الولاية للأب و الجدّ للأب على الصغير في أمر التزويج و التصرف في أمواله و غير ذلك ممّا يرتبط بشئونه، بلا فرق بين كون الولد ذكراً أو أُنثى.

و أمّا اختصاص الولاية بهما دون غيرهما من الاُمّ و الجدّ للاُمّ و الأخ و العمّ، فلعدم دليل على ثبوت الولاية لغيرهما.

نعم دلّ بعض النصوص في عقد النكاح على ثبوت الولاية لبعضهم، إلّا أنّه معارض بما هو أكثر عدداً و أقوى سنداً و دلالةً. مضافاً إلى اتفاق الفقهاء و إجماع الأصحاب على الاختصاص المزبور. و سيأتي البحث عن ذلك في شرح ذيل كلام السيد الماتن (قدّس سرّه).3.

ص: 218


1- وسائل الشيعة 265:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 78، الحديث 8.
2- وسائل الشيعة 289:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 11، الحديث 3.

ولاية الوصي و القيّم

و مع فقدهما للقيّم من أحدهما، و هو الذي أوصى أحدهما بأن يكون ناظراً في أمره (1)، (1) لا خلاف في ولاية الوصي و القيّم المنصوب من ناحية الولي الميّت أبا كان أو جدّاً للأب على الصغير اليتيم. و لا تصل النوبة مع وجودهما إلى القاضي و الحاكم، كما صرّح بذلك في مفتاح الكرامة(1) و غيره.

و قد دلّ على ذلك النصوص المستفيضة، بل يمكن استفادته من النصوص المتواترة بأنحاء الدلالات. و نحن نكتفي هنا بذكر بعض هذه النصوص:

فمنها: صحيح عيص بن القاسم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها مالها؟ قال (عليه السّلام)

إذا علمت أنّها لا تفسد و لا تضيّع. فسألته: إن كانت قد تزوّجت؟ فقال (عليه السّلام)

إذا تزوّجت فقد انقطع ملك الوصي عنها(2).

فإنّ قوله (عليه السّلام)

إذا تزوجت.. دلّ على ثبوت الملك و الولاية للوصي على اليتيمة قبل البلوغ و التزوّج.

و منها: صحيح علي بن رئاب قال: سألت أبا الحسن موسى (عليه السّلام) عن رجل بيني و بينه قرابة مات و ترك أولاداً صغاراً و ترك مماليك له غلماناً و جواري و لم يوصِ، فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتَّخذها أُمّ ولد، و ما ترى في

ص: 219


1- مفتاح الكرامة 257:5 /السطر 20.
2- وسائل الشيعة 366:19، كتاب الوصايا، الباب 45، الحديث 1.

بيعهم؟ فقال (عليه السّلام)

إن كان لهم وليّ يقوم بأمرهم باع عليهم و نظر لهم، كان مأجوراً فيهم. قلت: فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتخذها أُمّ ولد؟ قال (عليه السّلام)

لا بأس بذلك، إذا باع عليهم القيّم لهم الناظر فيما يُصلحهم(1).

فدلّ على ثبوت الولاية على الصغار اليتامى للقيّم بالمطابقة، و على ثبوت الولاية للوصي بالدلالة السياقية. فلا إشكال في تمامية دلالته على ثبوت ولاية الوصي و القيّم على اليتامى الصغار.

منها: معتبرة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام): أنّه سئل عن رجل أوصى إلى رجل بولد و بمال لهم، و أذن له عند الوصية أن يعمل بالمال و أن يكون الربح بينه و بينهم. فقال (عليه السّلام)

لا بأس به؛ من أجل أنّ أباه قد أذن له في ذلك، و هو حيّ (2).

لا إشكال في دلالتها على ثبوت الولاية على الصغار للوصي معلّلاً بإذن الأب له حال حياته. فلذا تشمل القيّم المنصوب من قبله.

و أمّا سنداً فالتحقيق اعتباره؛ حيث لا كلام في رجال سندها، إلّا حسن بن علي بن يوسف بن بقاح، و التحقيق اعتبار رواياته.

و مثله في الدلالة خبر خالد بن بكير الطويل، قال: دعاني أبي حين حضرته الوفاة، فقال: يا بُنيّ اقبض مالَ إخوتك الصغار و اعمل به و خُذ نصف الربح و أعطهم النصف، و ليس عليك ضمان. فقدّمتني أُمّ ولد أبي بعد وفاة أبي إلى ابن أبي ليلى. فقالت: إنّ هذا يأكل أموال ولدي. قال: فاقتصَصْتُ عليه ما أمرني به أبي. فقال لي ابن أبي ليلى: إن كان أبوك أمرك بالباطل لم أُجْزه. ثمّ أشهد عليّ ابن أبي ليلى إن أنا1.

ص: 220


1- وسائل الشيعة 421:19، كتاب الوصايا، الباب 88، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 427:19، كتاب الوصايا، الباب 92، الحديث 1.

حرّكته فأنا له ضامن. فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السّلام) فقصصت عليه قِصَّتي. ثمّ قلت له: ما ترى؟ فقال (عليه السّلام)

أمّا قول ابن أبي ليلى فلا استطيع ردَّه و أمّا فيما بينك و بين اللّه عزّ و جلّ فليس عليك ضمان(1). إلى غير ذلك من النصوص.

هذا كله في ولاية الوصي و القيم على أموال الصغار. و أمّا سائر شئونهم، مثل أمر التزويج و النكاح، فلا ولاية لهما عليه ما دام لم يصرح الموصي في وصيته بذلك.

و أمّا إذا صرّح بذلك فالأقوى ثبوت الولاية لهما على ذلك، و إن نسب خلافه في المسالك إلى الأشهر(2) و في الجواهر إلى المشهور(3).

و الوجه فيه:

أوّلاً: إطلاقات أدلّة نفوذ الوصية كقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (4) .

فإنّ قوله تعالى فَمَنْ بَدَّلَهُ.. يدلّ بإطلاقه على نفوذ الوصية و وجوب العمل بها في غير ما كان فيها جنفٌ أو إثم أو ضرر على الوارث.

و الإشكال باختصاص الآية المباركة بالوصية المالية، مدفوع بأنّ صدر الآية الكريمة و إن كان في مورد الوصية بالمال، و لكن خصوصية المورد لا توجب ضيقاً0.

ص: 221


1- وسائل الشيعة 427:19، كتاب الوصايا، الباب 92، الحديث 2.
2- مسالك الأفهام 148:7.
3- جواهر الكلام 189:29.
4- البقرة (2):182180.

في مدلول الخطاب بعد إطلاقه اللفظي.

و ثانياً: إطلاق ما دلّ من النصوص على نفوذ الوصاية على الأطفال و الصغار، و قد سبق ذكر هذه النصوص آنفاً، و لكن دلالتها مبنيّةٌ على شمولها للنكاح.

و ثالثاً: إطلاقات النصوص الواردة في تفسير من بيده عقدة النكاح؛ نظراً إلى اشتمال كثير من هذه النصوص على الوصي، مثل صحيح ابن مسلم و أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح، قال (عليه السّلام)

هو الأب و الأخ و الرجل يوصى إليه(1)، و خبر أبي بصير عن الصادق (عليه السّلام) قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح، قال (عليه السّلام)

هو الأب و الأخ و الرجل يوصى إليه(2) و اشتمالهما على ذكر الأخ لا يسقطهما عن الحجية في سائر الفقرات كما قال في الجواهر(3)، مع إمكان حمله على كون الأخ وكيلاً لها أو وصياً.

و لا يضرّ كون عطف الوصي عليه من عطف العام على الخاص. و لا يخفى أنّ المراد بالوصي في هذه النصوص بقرينة مناسبة الحكم و الموضوع هو من اوصي إليه بأمر النكاح دون الوصي في تصدّي الأُمور المالية، بل و لا شئونه العامّة على النحو المطلق.

و أمّا مع عدم نصّ الموصي أو قرينة قطعية على إرادة نكاح الأولاد الصغار، فيشكل الالتزام بثبوت ولاية الوصي على ذلك، نظراً إلى عدم ظهور الوصية في أمر النكاح، بل ظاهرها هو الأُمور العامة الراجعة إلى الشئون المالية، و لعدم دليل يثبت ولاية الوصي بعنوان أنّه وصى مطلق على أمر النكاح و الزواج، بل يستفاد من بعض9.

ص: 222


1- وسائل الشيعة 283:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 8، الحديث 5.
2- وسائل الشيعة 283:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 8، الحديث 4.
3- جواهر الكلام 190:29.

النصوص خلاف ذلك، مثل صحيح ابن بزيع(1) و محمد بن مسلم(2)؛ فإنّ الأوّل كالصريح في عدم ولاية الوصي المطلق على أمر الزواج و النكاح، و الثاني دلّ على ذلك بمفهوم الشرط.

بقي هنا نكتة، و هي أنّه وقع الكلام في اشتراط حياة الأب في ولاية الجدّ، فعن الصدوق و الشيخ و بني الجنيد و البراج و زهرة و أبي الصلاح اشتراطه؛ خلافاً للأكثر.

و استدل للاشتراط برواية الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

إنّ الجدّ إذا زوّج ابنة ابنه و كان أبوها حياً و كان الجدّ مرضياً جاز..(3). هذه الرواية حكم في الشرائع بضعفها و في الجواهر بكونها موثقة(4). و ما قال في الجواهر هو الأرجح. لأنّ توهم ضعفها ناش من جعفر بن سماعة الواقع في طريقها بزعم كونه عمّ الحسن بن محمد بن سماعة و هو ضعيف. لكنه توهّمٌ غير وجيه؛ نظراً إلى إطلاق هذا الاسم كثيراً ما على جعفر بن محمد بن سماعة أخي الحسن و هو معروف، صاحب أصل رواه الحسن، بخلاف العمّ. و إذا دار الاسم المشترك بين معروف و غيره ينصرف إلى المعروف. فالأقوى أنّها موثقة، كما قال في الجواهر.

و أمّا دلالةً فاستدل بمفهوم الحال أو الوصف في قوله

و كان أبوها حياً، كما أنّ المفهوم ثابت بهذا المنوال في قوله

و كان الجدّ مرضياً.

و لكنه مخدوش؛ لأنّ فرض حياة الأب من قبيل تمهيد الموضوع لبيان حكم9.

ص: 223


1- وسائل الشيعة 282:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 8، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 292:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 12، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 290:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 11، الحديث 4.
4- جواهر الكلام 171:29.

و مع فقده للحاكم الشرعي (1)، صورة تخالف إرادة الجدّ و الأب. هذا مضافاً إلى أنّ ولاية الجد إذا كانت ثابتة مع وجود المعارض و هو حياة الأب فعند عدم المعارض ثابتةٌ بالفحوى.

فهذه الرواية لا تتم دلالتها على المطلوب في نفسها، فضلاً عن كونها أظهر من إطلاقات النصوص الواردة في ثبوت الولاية للجد، حتى مع فرض حياة الأب. فلا تصلح لتقيد إطلاقات المقام قطعاً.

ولاية الحاكم الشرعي

(1) إنّ الكلام تارة: في ولاية الحاكم على نكاح اليتامى الصغار. و أُخرى: في سائر شئونهم. فالبحث في مقامين:

أمّا المقام الأول: فيقع الكلام تارة: في صورة فقدان الوصي، و أُخرى: مع وجوده. أمّا مع فقدانه، فالظاهر ثبوت الولاية للحاكم حينئذٍ، و لو من باب الحسبة؛ لأنّه القدر المتيقن ممن يجوز له التصدي لشئون اليتيم حينئذٍ.

و أمّا الإشكال بعدم كون المقام من الحسبة، فمدفوع بعدم انحصار مصلحة النكاح في الوطء؛ لكي تنتفي الحاجة إلى النكاح بدونه، كما أجاب بذلك في الجواهر(1) بل في مفتاح الكرامة عدم الخلاف في ذلك؛ حيث قال: «و أمّا إنّهما إن فُقِدا فالولاية للوصي لأحدهما فإن فقد الوصي فالحاكم، فلا خلاف في ذلك ولايةً.

ص: 224


1- جواهر الكلام 188:29.

و ترتيباً و لا في كون المراد بالحاكم حيث يُطلَق من يَعُمّ الفقيه المأمون الجامع لشرائط الفتوى. و يستفاد من بعض الأخبار ثبوت الولاية للحاكم مع فقد الوصي و للمؤمنين مع فقده»(1).

و الظاهر أنّ مقصوده من الأخبار ما ورد في باب الوصية من الأخبار الدالّة على ذلك، و قد ذكرناها في كتاب الوصية من دليل تحرير الوسيلة. هذا مضافاً إلى ما دلّ على ثبوت الولاية العامّة للفقيه الجامع. و ممّن صرح بثبوت الولاية للحاكم مع فقد الوصي هو العلّامة في القواعد.

و عليه فعمدة الكلام في صورة وجود الوصي. و على أيّ حال فالمشهور عدم ثبوت الولاية للحاكم على نكاح الصغار مطلقاً، كما في الروضة(2) و الجواهر(3)، و نسبه في الحدائق(4) إلى الأصحاب و كذا في المستمسك(5)، بل نقل فيه عن رسالة الشيخ الأنصاري أنّه لا يبعد كونه إجماعياً.

و لكن الإنصاف أنّه لا إجماع في المقام؛ نظراً إلى وجود المخالف في المسألة، مع أنّهم استندوا في ذلك إلى وجوه تخرج الإجماع عن كونه كاشفاً تعبدياً، فهو ساقط عن الحجية في مثل المقام.

و قد استدل للمشهور:

أوّلاً: بأصل عدم ثبوت الولاية لأحد ما دام لم يدلّ عليه دليل قطعي من4.

ص: 225


1- مفتاح الكرامة 257:5 /السطر 20.
2- الروضة البهيّة 118:5.
3- جواهر الكلام 188:29.
4- الحدائق الناضرة 237:23.
5- مستمسك العروة الوثقى 476:14.

جانب الشارع. و في المقام لا دليل على ولاية الحاكم على نكاح اليتامى الصغار.

و ثانياً: بأنّ ولاية الحاكم إنّما هي ثابتة من باب الحسبة، و هي في أُمور لا بدّ من القيام بها للحاجة إليها، بحيث لا يرضى الشارع بتركها و تعطيلها، و لا حاجة إلى تزويج الصغار؛ لأنّ مصلحة النكاح هي الوطء و الجماع و الاستمتاع الجنسي، و الفرض عدم قابلية الصغير لذلك.

و أجيب عن الأوّل: بأن الأصل مقطوع بعمومات ولاية الحاكم، كالنبوي المروي عن العامة

السلطان وليٌّ من لا وليَّ له(1). و معتبرة أبي خديجة

فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً(2).

و لكن النبوي لا اعتبار له سنداً، و المعتبرة موردٌ للنقاش دلالة؛ لأنّ كون أمر نكاح الصغار من شئون القضاء أوّل الكلام، بل الظاهر العدم. و كون النبوي معمولاً به عند مشهور القدماء من البعيد؛ لعدم تعرّضهم إليه.

و الوجه الصحيح في الجواب: أنّ الأصل المزبور مقطوع بالأدلّة القطعية على ثبوت الولاية للفقيه الجامع لشرائط الفتوى، من الضرورة و النصوص. كما سبق بيان ذلك مفصّلاً في البحث عن أدلّة ولاية الفقيه.

و أمّا الثاني: ففيه أوّلاً: أنّه بعد قطع الأصل النافي بالدليل لا تصل النوبة إلى التوسّل بدليل الحسبة لإثبات ولاية الحاكم، بل المحكّم هو مفاد نفس ذلك الدليل القاطع للأصل.

و ثانياً: أنّ مصلحة النكاح لا تنحصر في الوطء كما قال في الجواهر(3). بل9.

ص: 226


1- كنز العمّال 44643/309:16، السنن الكبرى، البيهقي 125:7.
2- وسائل الشيعة 139:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.
3- جواهر الكلام 188:29.

ربما تكون في أمر آخر، كقرابة المصاهرة و سائر الاستمتاعات من غير الوطء، نعم يستفاد نفي ترتّب بعض الآثار على نكاح غير الأب و الجدّ، كما دلّ على ذلك بعض النصوص، مثل صحيحتي محمد بن مسلم(1) و الحذّاء(2)؛ حيث دلّتا على نفي التوارث عن نكاح غير الأب و الجدّ.

أمّا المقام الثاني: و هو ولاية الحاكم على الصغار في غير أمر النكاح و لو من باب الحسبة، فلا خلاف فيه في صورة فقدان الوصي.

و أمّا مع وجوده فلا ولاية له ما دام الوصي واجداً للشرائط المعتبرة. و ذلك لدلالة النصوص المعتبرة على ولاية الوصي على الصغار، كما سبق ذكرها في الفرع السابق.

و لا خلاف في ذلك بين فقهائنا، كما سبق آنفاً عن مفتاح الكرامة، فإنّ مقصوده ظاهراً في غير أمر النكاح، و إلّا فهو مذعنٌ بذهاب الأصحاب إلى عدم ولاية الحاكم على نكاح الصغير مطلقاً، و كذا صاحب الحدائق.

ثمّ إنّ ولاية الفقيه و الحاكم الشرعي إنّما تثبت مع عدم وجود الأب و الوصي، كما ادعى في المفتاح الإجماع على هذا الترتيب، و لا أقل من كونه ظاهر عبارات كثير من الأصحاب.

و أمّا مع وجود الأب بل الوصي، لا ولاية له. و ذلك لما دلّ من النصوص على ثبوت الولاية لهما بعنوانهما بالأصالة. نعم لو صارا فاقدين للصلاحية تصل النوبة إلى الحاكم.1.

ص: 227


1- وسائل الشيعة 292:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 12، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 216:26، كتاب الفرائض و المواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 11، الحديث 1.

عدم الولاية للاُمّ و الجدّ للاُمّ و الأخ و العمّ و الخال

و أمّا الاُمّ و الجدّ للاُمّ و الأخ فضلاً عن سائر الأقارب فلا ولاية لهم عليه (1).

(1) ثمّ إنّ الكلام وقع تارةً: في ولاية الأُمّ، و أُخرى: في الجدّ للاُمّ، و ثالثةً: في الأخ، و رابعة في العمّ و الخال و أولادهما.

أمّا الأُمّ فالمعروف بين فقهائنا عدم ثبوت الولاية لها على الصغار، بل حكي الإجماع على ذلك في كلمات غير واحد، كما عن التذكرة(1) و مجمع البرهان(2) و في مفتاح الكرامة أنّه لا خلاف في ذلك(3)، و كذا في الجواهر(4).

و لم ينسب الخلاف إلّا إلى ابن الجنيد الإسكافي. و لكن قال في الجواهر: يمكن تحصيل الإجماع على خلافه(5). و على أيّ حال لا اعتبار بالإجماع في مثل المقام؛ لاستناد الفقهاء في المقام إلى وجوه:

منها: أصل عدم الولاية لأحد إلّا بدليل من الشارع، و لم يرد منه دليل يدلّ على ولاية الأُمّ، بل الدليل على خلاف ذلك.

و منها: ما دلّ من النصوص على حصر الولاية في الأب، كما في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السّلام) في الصبي يتزوّج الصبية يتوارثان؟ فقال (عليه السّلام):

ص: 228


1- تذكرة الفقهاء 80:2 /السطر 30 (ط الحجري).
2- مجمع الفائدة و البرهان 231:9.
3- مفتاح الكرامة 258:5 /السطر 6.
4- جواهر الكلام 234:29.
5- نفس المصدر.

إذا كان أبواهما اللذان زوّجاهما فنعم(1).

فإنّ مقتضى مفهوم هذه الصحيحة عدم ثبوت الولاية لغير الأب و لا يخرج عن عموم هذا المفهوم إلّا بدليل. و لم يرد دليلٌ يخرجنا عن تحته، إلّا في الجدّ للأب. و أمّا تثنية الأب فقد سبق أنّه بلحاظ أب الصبي و أب الصبية.

و في صحيح ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

لا تنكح ذوات الآباء من الأبكار إلّا بإذن آبائهنّ (2)، فإنّ مدلول هذه الصحيحة و إن يختص بزمان حياة الأب، إلّا أنّ محلّ الكلام و هو ثبوت الولاية للاُم يشمل حال حياة الأب، كما يظهر من استدلال المخالف برواية إبراهيم بن ميمون، إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على ذلك.

و قد استدلّ للمخالف برواية إبراهيم بن ميمون عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

إذا كانت الجارية بين أبويها فليس لها مع أبويها أمرٌ..(3).

و فيه أولاً: أنّها ضعيفة السند فإنّ إبراهيم بن ميمون لم يرد فيه أيّ توثيق، بل و لا مدح.

و ثانياً: أنّه لا دلالة لها على استقلال الأُمّ في الولاية، بل غاية مدلولها ثبوت الولاية لها منضمّة إلى الأب و لم يقل بذلك أحدٌ. فلا تصلح هذه الرواية للدليلية بوجه، فضلاً عن معارضتها للنصوص الحاصرة.

و أمّا الجدّ للاُمّ فلا دليل على ولايته، و لم يقل بثبوت الولاية له أحد من الفقهاء. نعم يظهر الترديد في ثبوت الولاية لجدّ أُمّ الأب من العلّامة في التذكرة، و لذا3.

ص: 229


1- وسائل الشيعة 292:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 12، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 227:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 6، الحديث 5.
3- وسائل الشيعة 284:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 9، الحديث 3.

تعجّب منه السيد الحكيم؛ حيث قال: «و من الغريب ما في التذكرة: الوجه أنّ جدّ أُمّ الأب لا ولاية له مع جدّ أب الأب و مع انفراده نظر»(1).

و قد يستدل لذلك بإطلاق لفظ الجدّ عليه فيدخل في نطاق ما دلّ على ولاية الجدّ؛ حيث إنّ الوارد في نصوص المقام هو لفظ الجدّ من غير تقييد بكونه للأب كقوله (عليه السّلام)

الجدّ أولى بذلك في موثق عبيد بن زرارة(2). و قوله (عليه السّلام)

الجدّ أولى بنكاحها في صحيح ابن مسلم(3). و مثله صحيح هشام(4).

و فيه أوّلاً: أنّ قوله (عليه السّلام)

إذا زوّج الرجل ابنة ابنه فهو جائز في صدر صحيح ابن مسلم قرينة قطعية على كون المراد من الجدّ في ذيله هو الجد للأب؛ لأنّه الذي تكون الصغيرة المزوّجة ابنة ابنه، دون الجدّ للاُمّ. و كذا الخبر الآخر لعبيد بن زرارة(5).

و ثانياً: أنّ ظاهر لفظ الجدّ عند الإطلاق هو الجدّ للأب، دون الجدّ للاُمّ، فلا يشمله.

و أمّا الأخ و العمّ و الخال و أولادهما فلا خلاف في عدم ثبوت الولاية لهم على الصغار، و لم يدلّ على ذلك دليلٌ.

نعم قد يظهر من بعض النصوص ثبوت الولاية للأخ، مثل خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح. قال (عليه السّلام)

هو الأب و الأخ5.

ص: 230


1- مستمسك العروة الوثقى 437:14.
2- وسائل الشيعة 289:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 11، الحديث 2.
3- وسائل الشيعة 289:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 11، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة 289:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 11، الحديث 3.
5- وسائل الشيعة 290:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 11، الحديث 5.

و الرجل يوصى إليه(1). و مثله صحيح ابن مسلم(2).

و من هذه النصوص مرسل الحسن بن علي عن بعض أصحابنا عن الرضا (عليه السّلام)، قال

الأخ الأكبر بمنزلة الأب(3).

و لكن هذه النصوص حملت على التقية، كما عن الشيخ الطوسي(4) و صاحب الجواهر(5). أو كون الأخ وكيلاً لها أو استحباب وكالتها، كما عن صاحب الوسائل(6).

و حملها في الجواهر أيضاً على الولاية العرفية بمعنى أنّ هؤلاء و أشباههم لا ينبغي مخالفتهم في ذلك ما لم يضارّوا بالصغار.

هذا مضافاً إلى دلالة بعض النصوص على عدم ثبوت الولاية للأخ، مثل صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في حديث قال: سئل عن رجل يريد أن يزوّج أُخته، قال (عليه السّلام)

يؤامرها، فإن سكتت فهو إقرارها و إن أبت لا يزوّجها(7).

و صحيح داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في رجل يريد أن يزوّج أُخته، قال (عليه السّلام)

يؤامرها فإن سكتت فهو إقرارها، و إن أبت لم يزوّجها، و إن قالت: زوّجني فلاناً، زوّجها ممّن ترضى(8).1.

ص: 231


1- وسائل الشيعة 283:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 8، الحديث 4.
2- وسائل الشيعة 283:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 8، الحديث 5.
3- وسائل الشيعة 283:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 8، الحديث 6.
4- الاستبصار 240:3، ذيل الحديث 860.
5- جواهر الكلام 171:29.
6- وسائل الشيعة 283:20، ذيل الحديث 6.
7- وسائل الشيعة 273:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 4، الحديث 4.
8- وسائل الشيعة 280:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 7، الحديث 1.

نعم الظاهر ثبوتها مع فقد الحاكم للمؤمنين مع وصف العدالة على الأحوط (1).

غاية الأمر وقوع المعارضة بين هاتين الطائفتين من النصوص. و المرجع بعد سقوطهما هو عموم النصوص الحاصرة في الأب.

و أمّا العمّ فلا خلاف أيضاً في عدم ولاية له على صغار أولاد أخيه، مع أنّه مقتضى الأصل المستفاد من مفهوم صحيح محمد بن مسلم المتقدّم. مضافاً إلى دلالة رواية محمد بن الحسن الأشعري قال: كتب بعض بني عمّي إلى أبي جعفر الثاني (عليه السّلام): ما تقول في صبية زوّجها عمّها فلمّا كبرت أبت التزويج؟ فكتب (عليه السّلام) لي

لا تكره على ذلك و الأمر أمرها(1).

و أمّا الخال و أولاد العمّ و الخال فلم تدلّ أيّة رواية على ولايتهم على الصغار و لم يذهب إليه أحد.

ولاية عدول المؤمنين

(1) يظهر من عبائر عدّة من الفقهاء عدم الولاية لأحد على أموال الصغار و شئونهم حينئذٍ، حتى الأخ و العمّ و الخال و الأُمّ فضلاً عن سائر المؤمنين، كما عن صريح محكي ابن إدريس و التذكرة و مجمع البرهان و غيرهم. و في الحدائق(2) أنّ الذي صرّح به الشيخ و تبعه الأكثر ثبوت الولاية لعدول المؤمنين مع فقد الحاكم

ص: 232


1- وسائل الشيعة 276:20، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 6، الحديث 2.
2- الحدائق الناضرة 589:22.

الشرعي. قال الشيخ في النهاية: «فإن لم يكن السلطان الذي يتولّى ذلك أو يأمر به جاز لبعض المؤمنين أن ينظر في ذلك من قبل نفسه و يستعمل فيه الأمانة و يؤدّيها من غير إضرارٍ بالورثة و يكون ما يفعله صحيحاً ماضياً»(1).

و قال ابن إدريس في السرائر، بعد نقل كلام الشيخ: «هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته، و الذي يقتضيه المذهب أنّه إذا لم يكن سلطان يتولّى ذلك فالأمر فيه إلى فقهاء شيعته (عليه السّلام) من ذوي الرأي و الصلاح، فإنّهم (عليهم السّلام) قد ولَّوهم هذه الأُمور.

فلا يجوز لمن ليس بفقيه تولّي ذلك بحال، فإنّ تولّاه فإنّه لا يمضي شيء مما يفعله؛ لأنّه ليس له ذلك بحالٍ»(2).

و رجّح في المسالك قول الشيخ نافياً للبأس عنه. و يظهر من موضع آخر من الحدائق أنّ هذا القول هو المشهور(3). و قد رجّحه بعد ذكر الأخبار الدالّة على ذلك بقوله: «لا يخفى أنّ الظاهر من هذه الأخبار باعتبار ضمّ بعضها إلى بعضٍ و حمل مطلقها على مقيّدها و مجملها على مفصّلها، هو ما صرّح به الأكثر؛ فإنّه هو الأقرب منها و الأظهر»(4).

و ممن ذهب إلى ذلك صاحب الجواهر، فإنّه بعد الاستشهاد لذلك بقاعدة الإحسان و دفع الضرر و حكاية فعل الخضر (عليه السّلام) و بعض النصوص، قال: «فالقول به حينئذٍ لا يخلو من قوّة؛ وفاقاً لصريح بعض الأصحاب، بل نسب إلى مشهورهم،2.

ص: 233


1- النهاية: 608.
2- السرائر 193:3.
3- الحدائق الناضرة 594:22.
4- نفس المصدر: 592.

بل ربما نسب ذلك إليهم»(1).

و مقتضى الأصل عدم الولاية لأحد إلّا بالدليل لأنّ الشك في أصل مشروعية التصرّف؛ و ذلك أولاً: لما قرّرناه في محله من عدم ولاية أحد على غيره، إلّا بدليل وارد من الشارع. و ثانياً: لأصالة عدم جواز تصرف أحد في مال غيره، إلّا بإذنه أو بإذن الشارع. فالشك في أصل مشروعيته باحتمال عدم الجواز.

و حيث إنّ حفظ أموال الميت من الضياع و القيام بإيصالها إلى مستحقيه مما لا بدّ منه، و يتعذّر الوصول إلى الحاكم و دار الأمر بين عدول المؤمنين و غيرهم يكون المتيقن من رضى الشارع ولاية العدول دون غيرهم بل هو الأقوى؛ نظراً إلى أنّه مقتضى الإطلاقات، مثل قوله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (2) و قوله وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ(3) فإنّ تولية الأُمور من شئون الولاية المفسّر بها العهد في الآية الأُولى، كما أنّه نوع من الركون المنهي عنه في الثانية.

و على أيّ حال فقد استدلّ لولايتهم بقاعدة الإحسان و نفي الضرر و حكاية فعل الخضر. و لكن لا يصلح شيء من ذلك للدليلية على ثبوت الولاية لعدول المؤمنين على الأيتام و الصغار عند فقد الولي و الحاكم، نعم يصلح للتأييد.

و إنّما العمدة في الاستدلال لذلك هي النصوص، و قد دلّ على ذلك عدة نصوص معتبرة:

منها: صحيح ابن بزيع عن أبي جعفر (عليه السّلام) و قلت له: يموت الرجل من أصحابنا و لا يوصي إلى أحد و يخلّف جواري فيقيم القاضي رجلاً منّا ليبيعهنّ أو3.

ص: 234


1- جواهر الكلام 104:26.
2- البقرة (2):124.
3- هود (11):113.

قال: يقوم بذلك رجل منّا فيضعف قلبه لأنّهنّ فروج فما ترى في ذلك؟ قال

إذا كان القيّم مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس(1). وجه الدلالة أنّ قاضي الكوفة لم يكن شيعياً إمامياً عادلاً، و لم تكن له ولاية، بل كان في حكم الطاغوت. و عليه فظاهر قوله (عليه السّلام)

مثلك.. بيان انتفاء ما هو مانع من ثبوت الولاية، من الخصوصيات و الصفات التي كانت في قاضي الكوفة. و تلك الصفات هي كون الرجل مخالفاً فاسقاً، و لمّا كان مثل عبد الحميد إمامياً عدلاً ينتفي المانع من ثبوت الولاية له. كما يشهد لذلك النصوص الناهية عن الرجوع إلى قضاتهم. فمقصود الإمام (عليه السّلام) من نفي البأس إثبات ولاية عدول المؤمنين.

و قد احتمل الشيخ الأعظم(2) في المراد من المماثلة أربع احتمالات و هي: المماثلة في التشيّع أو في الوثاقة و ملاحظة مصلحة اليتيم، أو في الفقاهة، أو في العدالة. و قد دفع الاحتمال الثالث بعدم كون إطلاق مفهومه قابلاً للالتزام و هو عدم ثبوت الولاية لأحد في صورة تعذر الوصول إلى الفقيه.

و أشكل عليه السيد الخوئي(3) نقضاً بورود هذا الإشكال في الاحتمال الرابع أيضاً؛ إذ عدم جواز التصرف لأحد في صورة عدم وجود عدول المؤمنين غير قابل للالتزام؛ لعدم رضى الشارع بتعطيل ذلك قطعاً. و أشكل حلاّ بأنّ أصالة الإطلاق شأنها كسائر الأُصول اللفظية إنّما تحكّم عند الشك في أصل مراد المتكلم و في المقام لا شك في إرادة وصول النوبة إلى العدول عند فقد الحاكم.

هذا، و لكن مقتضى التحقيق أنّ ظاهر هذه الرواية بقرينة سياق الكلام هو5.

ص: 235


1- وسائل الشيعة 363:17، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع، الباب 16، الحديث 2.
2- المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 565:16.
3- مصباح الفقاهة 5958:5.

الاحتمال الأوّل و الرابع؛ أي التشيّع و العدالة؛ لما بيّنّاه آنفاً.

هذا، و لكن الإنصاف أنّ العلم بالأحكام الشرعية و الفقاهة لا يقصر عن العدالة في إناطة جواز التصرف به؛ لأنّ الجاهل لا يدري كيف يصنع. و حيث إنّ عبد الحميد كان صاحب أصل روائي، فمن القريب جدّاً إرادة المماثلة من جهة الفقاهة أيضاً. فالأقوى إرادة مطلق المماثلة حتى التشيع؛ نظراً إلى عدم اعتبار حكم قاضي الكوفة؛ لعدم تشيّعه بل إنّه بحكم الطاغوت، كما في مقبولة ابن حنظلة و معتبرة أبي خديجة. و عليه فمقصود الإمام (عليه السّلام) ظاهراً أنّه إذا كان القيّم مثلك و مثل عبد الحميد إمامياً عدلاً و عالماً بالأحكام الشرعية فلا بأس. فلا تثبت هذه الصحيحة ولاية عدول المؤمنين ما لم يكونوا عالمين بالأحكام الشرعية، و لو عن تقليد.

منها: موثقة سماعة عن الصادق (عليه السّلام) في حديث: قال (عليه السّلام)

إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كلّه فلا بأس(1).

منها صحيح إسماعيل بن سعد القمي عن الرضا (عليه السّلام) في حديث قال (عليه السّلام)

إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع، فلا بأس به إذا رضي الورثة بالبيع و قام عدل في ذلك(2). فدل على ولاية عدول المؤمنين على تصدّي أمر اليتامى على وجه الاسترضاء و المصالحة بين الورثة، لا على وجه الحكومة. و على ذلك يحمل قوله (عليه السّلام) في صحيح ابن رئاب

إن كان لهم وليّ يقوم بأمرهم، باع عليهم و نظر لهم، كان مأجوراً و قوله

لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيّم لهم الناظر فيما1.

ص: 236


1- وسائل الشيعة 422:19، كتاب الوصايا، الباب 88، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 362:17، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع، الباب 16، الحديث 1.

يصلحهم، و ليس لهم أن يرجعوا عمّا صنع القيّم لهم و الناظر لهم فيما يصلحهم(1).

و الوجه في الحمل إطلاق لفظ

القيّم الناظر المنصرف عن الحاكم و القاضي. و قوله (عليه السّلام)

قام عدل في ذلك، يدلّ على اعتبار العدالة. و هاتان الصحيحتان كافيتان لإثبات المطلوب. و عليه فما احتاط فيه السيد الماتن (قدّس سرّه) وجوباً هو الأقوى.

نعم على فرض عدم وجود العدل يجب على كل مكلّف متمكّن من ذلك تولّي أُمور الصغار و القصّر؛ نظراً إلى القطع بعدم رضى الشارع بتركها و تعطيلها بأيّ وجه.1.

ص: 237


1- وسائل الشيعة 421:19، كتاب الوصايا، الباب 88، الحديث 1.

ص: 238

الرشوة إلى الولاة و العمّال و القضاة

اشارة

ص: 239

ص: 240

الرشوة إلى الولاة و العمّال و القضاة

[حكم أخذ الرشوة و إعطاؤها]

مسألة 6: أخذ الرشوة و إعطاؤها حرام إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل (1).(1)

(1) من المسائل المهمة التي تبتلي بها عموم الناس، و لا سيّما عمّال الحكومة و موظفّوها و قضاتها، هي الرشوة، التي تنشأ في الحقيقة من سوء استفادة ذوي الثروة و القدرة و المقام و المنزلة الاجتماعية من الضعفاء و المحرومين في مقام رفع مشاكلهم و قضاء حوائجهم. مع أنّ ذلك من وظائفهم العقلية و الشرعية، و لكنهم بسبب عدم تعرّفهم إلى الوظيفة و طمعهم يطالبون الرشوة بإزاء قضاء حوائج إخوانهم المؤمنين و حلّ مشاكل الذين يراجعونهم. و هذه العويصة من أكبر عوامل فرقة الناس و ابتعادهم عن الرؤساء و عمال الحكومة و سوء الظن بهم، مع ما ورد في النصوص المستفيضة أنّ الرشوة هي الكفر باللّه العظيم.

و من هنا يكون للبحث عن ماهية الرشوة و حدودها و أحكامها الشرعية أهمية خاصة.

ص: 241


1- تحرير الوسيلة 385:2.

ثمّ إنّ البحث عن الرشوة تارة: يقع في موضوعها و ماهيتها من جهة اللغة و اصطلاح الفقهاء و أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام)، و أُخرى: في حكمها.

ماهية الرشوة و تعريفها

إنّ في معرفة ماهية الرشوة ينبغي الالتفات إلى حدّها الشرعي لأنّه الموضوع للحكم الشرعي. فلا بدّ من النظر في أنّ الرشوة هل هي من الموضوعات الصرفة العرفية أو من الموضوعات المستنبطة التي حدّدها الشارع بقيود و خصوصيات خاصة خارجة عمّا هو المرتكز في أذهان العرف؟ و يتبين ذلك بالفحص عن كلمات الفقهاء و موارد استعمال مادّة الرشوة بصيغها المختلفة في الروايات.

و لا بدّ من تحرير نكات في البحث عن موضوع الرشوة.

إحداها: أنّه هل يعتبر في الرشوة أن تدفع للتوصل إلى خصوص حكم الحاكم، أو لا يعتبر ذلك؟ بل أعمّ من ذلك و من كل مال مدفوع لأجل التوصل به إلى دفع شرّ و مفسدة أو جلب منفعة.

ثانيتها: أنّه هل يعتبر في ماهية الرشوة أن يكون دفعها في جهة الباطل، بأن كان للتوصل بها إلى إحقاق باطل أو إبطال حق، كما يظهر من بعض أهل اللغة و الفقهاء؟ أو لا يعتبر ذلك، بل يعمّه و ما كان دفعه للتوصل إلى إنقاذ حق و الحكم بالعدل، كما يستفاد ذلك من جماعة من أهل اللغة و الفقهاء.

ثالثتها: أنّ الرشوة في باب القضاء هل يعتبر فيها أن تكون مالاً مدفوعاً لأجل التوصل إلى الحكم؟ أو لا يعتبر ذلك، بل يعمّ كلّ ما يتوصل به إلى الحكم، و لو كان غير المال من عمل أو كلام أو توقير و تعظيم، كما يظهر من صاحب الجواهر.

و على أيّ حال فالكلام في موضوع الرشوة يقع تارة: من جهة اللغة و المتبادر

ص: 242

منها إلى الذهن عند الإطلاق، و أُخرى: من جهة آراء الفقهاء، و ثالثة: من جهة مدلول روايات أهل البيت (عليهم السّلام).

كلمات أهل اللغة

إنّ في تحقيق كلمات أهل اللغة لا بدّ من تحرير النكات الثلاثة المزبورة. و الذي يستفاد من مجموع كلماتهم أنّه يعتبر في الرشوة أن تكون مالاً قابلاً للدفع و الإعطاء؛ نظراً إلى عدم استعمالها في غير المال، و إن قد يستعمل الإعطاء في تفويض المقام و المنصب أحياناً. و يستفاد أيضاً أنّ الرشوة لا تختصّ بما يتوصل إلى الحكم، بل تعمّه و ما يتوصل إلى غيره، كما ستعرف من خلال كلماتهم. و أمّا اعتبار كون دفعها لخصوص جهة الباطل أو عدمه و شمولها لمطلق ما يتوصل به إلى المراد، فاختلف كلماتهم في ذلك.

ففي النهاية: «أنّ الرشوة بكسر الراء و ضمّها الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة.. فالراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل.. فأمّا ما يعطى توصّلاً إلى أخذ حقّ أو دفع ظلم فغير داخل فيه»(1).

و في مجمع البحرين: «و الرشوة بالكسر ما يعطيه الشخص الحاكم و غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد إلى أن قال و الرشوة قلّما تستعمل إلّا فيما يتوصّل به إلى إبطال حق أو تمشية باطل»(2).

و لكن يفهم التعميم من كلمات أكثر أهل اللغة، كما يظهر من كلام ابن فارس

ص: 243


1- النهاية، ابن الأثير 226:2.
2- مجمع البحرين 184:2.

في المقاييس(1) و الزمخشري في أساس البلاغة(2) أنّ الرشوة مطلق ما يدفع للملاينة و المصانعة مع الحاكم أو غيره. و عن المصباح المنير: «ما يعطيه الشخص للحاكم و غيره ليحكم أو يحمله على ما يريد»(3). و عن القاموس: «الرشا: الجعل»(4). و كذا غيرهم من أهل اللغة.

كلمات الفقهاء

و أمّا في كلمات الفقهاء فقد عرّفه المحقق النراقي بأنّه مطلق مال يعطي للتوصل إلى فعل يجلب به نفع أو يدفع به شرّ، بل إلى مجرد الكفّ عن الإيذاء و الشرّ.

قال في المستند: «لا كلام في أنّ الرشوة للقاضي هي: المال المأخوذ من أحد الخصمين أو منهما أو من غيرهما للحكم على الآخر، و إهدائه و إرشاده في الجملة.

إنّما الكلام في أنّ الحكم أو الإرشاد المأخوذين في مهيّته، هل هو مطلق شامل للحقّ و الباطل، أو يختصّ بالحكم بالباطل؟ مقتضى إطلاق الأكثر و تصريح والدي العلّامة في معتمد الشيعة و المتفاهم في العرف هو: الأوّل، و هو الظاهر من القاموس و الكنز و مجمع البحرين.

و يدلّ عليه استعمالها فيما اعطي للحقّ في الصحيح: عن الرجل يرشو الرجل على أن يتحوّل من منزله فيسكنه، قال

لا بأس.

ص: 244


1- معجم مقاييس اللغة 398:2.
2- أساس البلاغة: 164.
3- المصباح المنير: 228.
4- القاموس المحيط 336:4.

فإنّ الأصل في الاستعمال إذا لم يعلم الاستعمال في غيره الحقيقة، كما حقّق في موضعه.

نعم، عن النهاية الأثيرية ما ربّما يشعر بالتخصيص ككلام بعض الفقهاء، و هو لمعارضة ما ذكر غير صالح؛ مع أنّ الظاهر أنّ مراد بعض الفقهاء تخصيص الحرمة دون الحقيقة ثمّ قال بعد أسطر -: و الحاصل أنّ كلّ مال مبذول لشخص للتوصل به إلى فعل صادر منه و لو مجرّد الكف عن شرّه لساناً أو يداً أو نحوهما فهو رشوة»(1).

و لا يخفى أنّ ما نسبه إلى مجمع البحرين لا يلائم ذيل كلامه؛ لدلالته على غلبة استعمال لفظ الرشوة فيما يتوصل به إلى الباطل، فإنّ إبطال الحق باطلٌ، كما هو واضح. و أمّا قوله: فإنّ الأصل في الاستعمال كونه حقيقياً ما لم يعلم الاستعمال في غيره، و إن كان صحيحاً في نفسه، إلّا أنّ في المقام قد استعمل لفظ الرشوة في كل ما يتوصل به إلى الحق و ما يتوصل به إلى الباطل و ما يتوصّل به إلى مطلق الحكم، بل و في غير الحكم.

فحينئذٍ لا مناص إلّا الرجوع إلى ما هو المتبادر إلى الذهن من دون قرينة أو إلى غلبة الاستعمال بحيث يوجب الوضع التعيّني. و يفهم من ذيل كلامه عدم اختصاص الرشوة بما يتوصل به إلى الحكم، بل تعمّ كل مال مبذول يتوصل به إلى دفع ضرر و شرّ.

و قد وافقه المحقق الأردبيلي في خصوص الرشوة للقاضي حيث قال: «و الظاهر أنّ المراد بها هنا ما يعطى للحكم حقاً أو باطلاً؛ لأنّه المفهوم الموافق للّغة و الخبر، فهو حرام على الراشي مطلقاً، فتخصيص البعض بأنّها التي يشترط بإزائها7.

ص: 245


1- مستند الشيعة 7270:17.

الحكم بغير الحق و الامتناع من الحكم بالحق، غير جيّد»(1). قوله، المراد بها هنا أي في باب القضاء، فهو بصدد تعريف الرشوة للقاضي.

و يرد عليه: أنّ أهل اللغة لم يتفقوا على ما ذهب إليه، لما عرفت من التخصيص بالباطل في كلام ابن الأثير في النهاية و الطريحي في مجمع البحرين، نعم يوافق كلامه لمدلول الروايات بل أعم منه، كما ستعرف.

و يستفاد من كلام الشيخ في المبسوط أنّ الرشوة أعم من المال المتوصل به إلى حكم الحاكم و ما يتوصل به إلى عمل العامل و من كون دفعها لجهة باطل أو حقّ، نعم لا تحرم على المرتشي إذا كان دفعها لاستنقاذ ماله، و لكنه لا يخصّص موضوع الرشوة.

قال (قدّس سرّه): «و القاضي بين المسلمين و العامل عليهم يحرم على كلّ واحد منهم الرشوة، لما روي أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قال لعن اللّه الراشي و المرتشي في الحكم، و هو حرام على المرتشي بكل حال و أمّا الراشي فإن كان قد رشاه على تغيير حكم أو إيقافه فهو حرام، و إن كان لإجرائه على واجبه لم يحرم عليه أن يرشوه كذلك؛ لأنّه يستنقذ ماله فيحلّ ذلك له»(2).

و مثله عن ابن إدريس في السرائر(3) و يظهر من المحدث البحراني أنّ الرشوة للقاضي ما يؤخذ من المتحاكمين على الحكم لصاحب الرشوة فتكون الرشوة في مقابلة الحكم له(4) و بذلك فرّق بينها و بين الهدية و الجعل.8.

ص: 246


1- مجمع الفائدة و البرهان 49:12.
2- المبسوط 151:8.
3- السرائر 166:2.
4- الحدائق الناضرة 218:18.

و لكنه في موضع آخر أطلق الرشوة على الأعم ممّا يتوصل به الحكم و ما يتوصل به إلى أيّ نفع أو دفع ضرر في المعاملات(1).

و يظهر من الشيخ عدم كون المقصود من الرشوة المحرّمة في الروايات، الرشوة في غير الحكم، بل هي ظاهرة في تحريم خصوص الرشوة في الحكم و لكنه توقف في أصل صدق الرشوة في غير الحكم(2).

و قد أطلق القاضي ابن البراج، الرشوة على ما يأخذه الشاهد لأجل شهادته على الحق(3).

و قد أطلق العلّامة في جميع كتبه، الرشوة على ما يتوصل به من المال إلى استنقاذ حق أو دفع ضرر تبعاً للنصوص الواردة. و إن حكم بجواز أخذها على المرتشي في بعض الصور. و لم يفرّق في باب القضاء بين ما يتوصل به إلى الحكم بالباطل و بينما يتوصل به إلى الحكم بالحق في إطلاق عنوان الرشوة. فراجع إلى مظان البحث عن الرشوة في كتبه و عمدتها هي باب المتاجر و القضاء.

و قد عرف الشهيد في شرح اللمعة الرشوة في باب القضاء بمال يؤخذ من أحد المتخاصمين أو منهما أو من غيرهما على الحكم أو الهداية إلى شيء من وجوهه، سواء حكم لباذلها بحقّ أو باطل(4).

و لكنه في مقام تعريف الرشوة للقضاء.

و يظهر من صاحب العروة موافقة صاحب الجواهر في تعريف الرشوة حيث3.

ص: 247


1- الحدائق الناضرة 100:20.
2- المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 247:14.
3- المهذّب 600:2.
4- الروضة البهية 74:3.

عمّمها إلى غير الحكم و ما يتوصل به إلى إحقاق حق أو أمر مباح و عمّم الرشوة في الحكم إلى العمل و القول و إن تردّد في ذيل كلامه في صدق الرشوة على العمل و القول و حرّمهما إلحاقاً بالرشوة.

قال (قدّس سرّه): «الرشوة قد تكون مالاً من عين أو منفعة، و قد تكون عملاً للقاضي كخياطة ثوبه أو تعمير داره أو نحوهما، و قد تكون قولاً كمدحه و الثناء عليه لإمالة قلبه إلى نفسه ليحكم له، و قد تكون فعلاً من الأفعال كالسعي في حوائجه و إظهار تعظيمه و تبجيله و نحو ذلك، فكلّ ذلك محرم، إمّا لصدق الرشوة عليها أو للإلحاق بها».

و قال: «لا تختص الرشوة بما يبذل للقاضي ليحكم له، بل تجري في غير الحكم أيضاً، كما إذا بذل شيئاً لحاكم العرف أو لظالم أو رئيس ليعينه على ظلم أو غيره من المعاصي، و نحو ذلك فتكون حراماً و لا تختص بالمحرم، بل قد لا تكون حراماً كما إذا بذل شيئاً ليعينه على إحقاق حق أو دفع ظلم أو أمر مباح»(1).

و لا يخفى أنّ تعميم الرشوة إلى العمل و القول لم أر في غير كلام صاحب الجواهر و صاحب العروة، من أحد من الفقهاء. و إنّه خلاف ظاهر كلمات اللغويين و غير المتبادر من لفظ الرشوة عن الإطلاق، كما سيأتي بيان ذلك.

و يستفاد من كلام الشهيد أنّ دفع المال إلى القاضي إن كان لغرض التوسل إلى القضاء أو العمل، بأن يحكم أو يعمل المبذول له لباذلها على التعيين بحق أو باطل، لا لجلب محبّته و مجرد عطف نظره، فهو رشوة.

و نقل في الجواهر عن مفتاح الكرامة «أنّها أي الرشوة عند الأصحاب ما3.

ص: 248


1- العروة الوثقى 23:3، مسألة 21 و 23.

يعطى للحكم حقاً و باطلاً». و نقل عن أُستاذه كاشف الغطاء في شرحه على القواعد: «أنّها ليست مطلق الجعل كما في القاموس بل بينه و بين الأجر و الجعل عموم من وجه و لا البذل على خصوص الباطل كما في النهاية و المجمع، و لا مطلق البذل و لو على خصوص الحق، بل هو البذل على الباطل أو على الحكم له حقاً أو باطلاً مع التسمية و بدونها» ثمّ نقل عنه أيضاً أنّه قال في مسألة الأُجرة على القضاء و الجعل عليه: «و يعصي الدافع في دفعه إلى القاضي في أحد الوجهين، إلّا إذا توقف تحصيل الحق عليه فيجوز، بخلاف الرشوة فإنّها لا تجوز بحال». ثمّ أشكل عليه بقوله: «و في كلامه الأخير ما لا يخفى؛ ضرورة إنّه إن أراد إخراجها عن الموضوع في صورة التوقف كان مخالفاً للعرف في ذلك، و إن أراد أنّها لا تجوز بهذا العنوان، حتى لو توقف الحق عليها، كان مخالفاً لما قدمناه سابقاً، بل لم أعرف له موافقاً عليه بعد تنزيل الإطلاق في النص و الفتوى على الاختيار»(1).

و لكن يمكن دفع إشكاله بما سبق عن الشهيد في المسالك أنّ الرشوة ما يتوصل به إلى أصل الحكم و فصل الخصومة، و لو لتوقف استنقاذ الحق عليه في نظر الدافع.

ثمّ قال: «فالذي ينبغي في المقام تحريره أمران:

أحدهما: أنّ الرشوة خاصّةٌ في الأموال، و في بذلها على جهة الرشوة أو أنّها تعمّها و تعمّ الأعمال بل و الأقوال، كمدح القاضي و الثناء عليه و المبادرة إلى حوائجه و إظهار تبجيله و تعظيمه و نحو ذلك، و تعمّ البذل و عقد المحاباة و العارية و الوقف و نحو ذلك، و بالجملة كل ما قصد به التوصل إلى حكم الحاكم، قد يقوى في النظر2.

ص: 249


1- جواهر الكلام 146:22.

الثاني و إن شكّ في بعض الأفراد في الدخول في الاسم أو جزم بعدمه فلا يبعد الدخول في الحكم.

ثانيهما: أنّ المحرم الرشا في خصوص الحكم أو يعمّه و غيره، و على الأوّل فهو خصوص الحكم الشرعي أو يعمّه و العرفي من حكام العرف، بل و غيرهم من الآمرين بالمعروف، و هل هو خاص بالحكم في الخصومة الخاصة أو يعمّه و ما يبذل توطئة لاحتمال وقوعها و نحوه، لم أجد تحرير الشيء من ذلك في كلام أحد من الأصحاب. نعم قد سمعت كلام الأُستاد و المصباح و غيرهما في الرشوة»(1).

فقد عرفت من كلامه أنّ الرشوة هي كلّ ما قصد به التوصل إلى حكم الحاكم بلا فرق بين الأموال و الأعمال و الأقوال. و لكن إطلاق لفظ الرشوة على الأعمال و الأقوال المتوصل بها إلى الحكم خلاف ما هو المتبادر في الذهن و مغاير لما صرّح به أهل اللغة و الفقهاء؛ فإنّ المتبادر منها هو المال المدفوع لأجل إحقاق باطل أو إبطال حق و في جهة الملاينة و المصانعة لهذا الغرض، و لنعم ما قال في مجمع البحرين من غلبة استعمال الرشوة في ذلك و قلّة استعمالها في غيره. و أمّا استعمالها أحياناً في إحقاق الحق كما ورد في الخبر لا يعيّن معناها الحقيقي بعد ما كان بالقرينة. و إنّ الاستعمال أعم من الحقيقة. و أمّا الرشا المحرّم فسيأتي في بيان حكمه. و لكن المسلّم أنّ لفظ الرشوة في النصوص استعمل غالباً فيما يتوصّل به إلى الباطل، كما ستعرف إن شاء اللّه.

و أمّا إذا شك في صدق عنوان الرشوة فالأصل عدمها و مقتضى ذلك عدم ترتب حكم الرشوة. و أمّا هل يجوز التصرف في المبذول حينئذ فقد صرّح المحقق2.

ص: 250


1- جواهر الكلام 147146:22.

النراقي في المستند، بأنّ مقتضى الأصل الحلية(1).

و كذا يظهر من صاحب الجواهر(2). و الوجه في ذلك أنّه إذا لم يصدق عنوان الرشوة يخرج المشكوك عن عمومات تحريمها و المفروض حصول طيب النفس من الباذل فيدخل في عقد المستثنى بقوله (عليه السّلام)

«إلّا من طيبة نفسه(3) و يخرج عن عقد المستثنى منه و هو

لا يحل مال امرءٍ مسلم.

هذا بالنسبة إلى المرتشي، و أمّا الراشي فالأمر أوضح؛ لأنّ له أن يتصرف في ماله كيف شاء، فمقتضى قاعدة السلطنة جواز تصرّفه فيه. و سيأتي البحث عن ذلك مفصلاً و عن الشك في الحكم أيضاً.

موارد استعمال الرشوة في النصوص

قد استعمل لفظ الرشوة و سائر صيغه في نصوص أهل البيت (عليهم السّلام) في موارد:

منها: أخذ المال من الغير لجهة إيصال نفع يحتاج ذلك الغير إليه. و بعبارة اخرى: ما يتوصل به من الأموال إلى قضاء الحاجة و تحصيل منفعة يحتاج إليها.

و قد دلّ على ذلك ما رواه الكليني بسنده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال

لعن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم).. و رجلاً يحتاج الناس إلى نفعه فسألهم الرشوة(4). و رواه في الوسائل(5).

ص: 251


1- مستند الشيعة 74:17.
2- جواهر الكلام 148:22.
3- وسائل الشيعة 10:29، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 1، الحديث 3.
4- الكافي 14/559:5.
5- وسائل الشيعة 191:20، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح، الباب 104، الحديث 3.

و رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن على بن محبوب عن محمّد بن عيسى بن عبيد عن أحمد بن إبراهيم الكرماني عن عبد الرحمن عن يوسف بن جابر، و لكن في نسخة الوسائل

رجلاً احتاج الناس إليه لتفقهه(1)، و في نسخة التهذيب المطبوع «لفقهه»(2).

و لكن الأوّل أعني

إلى نفعه أضبط لوجوده في نسخ الكافي، كما أنّه أنسب بالسياق. و لا يبعد كونهما روايتين مستقلتين؛ نظراً إلى عدم اتحاد رواتهما، فإنّ رواة طريق الشيخ غير رواة طريق الكليني في جميع الطبقات. و أمّا متناً و إن تتحدان في غير الكلمة المذبورة، كما صدرتا من الإمام الباقر (عليه السّلام)، و لكن صدورهما عنه (عليه السّلام) في مجلسين مختلفين غير بعيد. و على فرض التعدد لا إشكال في الاستشهاد بما رواه الكليني مع غض النظر عن إرساله نظراً إلى انتفاء معارضة النسختين المختصّة بصورة اتحاد المرويين. نعم بناءً على نقل الشيخ لا تفيد الرواية أكثر من استعمال الرشوة في ما يتوصّل به إلى الفتوى و القضاء، كما قال الشيخ الأعظم(3).

و ما رواه الصدوق في عقاب الأعمال بسنده عن الأصبغ عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) قال

«أيّما والٍ احتجب من حوائج الناس احتجب اللّه عنه يوم القيامة و عن حوائجه و إن أخذ هديّة كان غلولاً و إن أخذ الرشوة فهو مشرك(4).

حيث يفهم منه بقرينة السياق أنّ أخذه الهدية و الرشوة إنّما هو في قبال قضاء0.

ص: 252


1- وسائل الشيعة 223:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 5.
2- تهذيب الأحكام 534/224:6.
3- القضاء و الشهادات، ضمن تراث الشيخ الأعظم 100:22.
4- وسائل الشيعة 94:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 10.

حوائج الناس. و أمّا الفرق بين الهدية و الرشوة فسيأتي بيانه. و أمّا وجه التخصيص بالمال فهو التبادر و الارتكاز من لفظ الرشوة. و بقرينة قوله (عليه السّلام)

فسألهم الرشوة و قوله (عليه السّلام)

أخذ الرشوة، فإنّ العمل و الكلام غير قابلين للأخذ و السؤال إلّا العمل الذي كان له جهة مالية كخياطة ثوب أو نجارة باب و نحو ذلك، فيصح التعبير بالسؤال عنه، إلّا أنّ إطلاق لفظ الرشوة عليه غير معلوم و يشكل إحراز تبادره من إطلاق لفظ الرشوة، بلا قرينة، هذا مضافاً إلى أنّ من يحتاج الناس إلى نفعه أو فقهه أو حكمه غني عن السؤال غالباً.

و منها: ما يدفع من الأموال لغرض التوصل به إلى استنقاذ حق. كأن يرشو الرجل من غضب بيته ليرفع يده عن بيته و يخلّي سبيله ليسكنه أو يرشو الموجر المستأجر الذي لا يتحوّل من الدار المستأجرة لأن يتحوّل من داره فيسكنها الموجر نفسه.

و قد دلّ عليه صحيح محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنه، قال (عليه السّلام)

لا بأس به(1).

حمله في الوسائل على المنزل المشترك بين المسلمين، كالأرض المفتوحة عنوة أو الموقوفة على قبيل. و لكن لا شاهد لهذا الحمل، و لا مقيّد لإطلاقه.

و منها: ما يدفع إلى وكيل المشتري في المعاملة لئلاّ يأخذ أكثر من حقه أو يأخذ أقلّ من ذلك.

و قد دلّ على ذلك ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن إسماعيل بن أبي سمّال (خ ل سمّاك) عن محمد بن أبي حمزة عن حكيم بن2.

ص: 253


1- وسائل الشيعة 278:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 85، الحديث 2.

حكم الصيرفي، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السّلام) و سأله حفص الأعور، فقال: إنّ السلطان يشترون منّا القِرب و الأداوي فيوكّلون الوكيل حتى يستوفيه منا فنرشوه حتى لا يظلمنا، فقال (عليه السّلام)

لا بأس ما تصلح به مالك ثمّ سكت ساعة، ثمّ قال

إذا أنت رشوته يأخذ أقل من الشرط؟ قلت نعم، قال (عليه السّلام)

فسدت رشوتك(1).

هذه الرواية موثقة لأنّ الحسن و إسماعيل من الواقفة، و لكن ورد التوثيق في حقهما.

و قد دلّت على إطلاق الرشوة على المال المدفوع إلى وكيل المشتري لئلّا يأخذ أكثر من حقه من ثمن المتاع حتى يدفع إلى البائع مبلغاً قليلاً و ثمنا بخساً أدنى من ثمنه الواقعي فيفسد بذلك مال البائع. و ذلك لأنّ بيعه بأقل من قيمته إفساد فيه و إذا أخذ وكيل المشتري من ثمنه الذي دفعه السلطان لأجل الشراء أكثر من حقه يقلّ من قيمة المتاع بنسبة ما أخذه الوكيل زائداً من حقه.

و أيضاً دلّت على إطلاق الرشوة على ما يدفع إليه ليأخذ أقل من حقه ليرتفع بذلك قيمة المال. و يمكن كون المقصود الأخذ من المبيع و عليه فالمعنى في الصورة الاُولى أن يدفع إليه الرشوة لئلا يأخذ من المبيع أكثر من حقّه الذي بإزاء الثمن المدفوع ليجحف بذلك على البائع و في الصورة الثانية ليأخذ أقل من ذلك فيكون المبيع أقل من الثمن. و هذا المعنى هو الأظهر الأقرب إلى الواقع الخارجي.

و على أيّ حال دلّت هذه الرواية على كون الرشوة أعمّ من الصورتين.

و قد عدّ البخس من الرشوة في ما رواه الكليني بسنده الصحيح عن يزيد بن1.

ص: 254


1- وسائل الشيعة 96:18، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 37، الحديث 1.

فرقد قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن البخس؟ فقال

هو الرشا في الحكم(1).

و لكنه خلاف المعنى الموضوع له لفظ الرشوة؛ لأنّ البخس هو النقص في العوض أو النقص عن الظلم و التأويل بأنّ الرشوة أيضاً، بخس بلحاظ أنّ أخذها يوجب النقص في مال المشتري عن ظلم تعسّف ظاهر.

و لا يبعد وقوع الخطأ في الاستنساخ و كان الصحيح السحت. و يشهد لذلك ما رواه الشيخ بعين الإسناد المزبور: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن السحت؟ فقال

الرشا في الحكم(2).

بل روى صاحب الوسائل عن الكليني هذا الخبر بعينه سنداً و متناً، و فيه: «سألته عن السحت»(3).

و مثله ما رواه العياشي في تفسيره عن جراح المدايني عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

من أكل السحت الرشوة في الحكم(4). و نظيره صدر خبر دعائم، و سيأتي ذكره. و ما رواه في مجمع البيان مرسلاً عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)

إنّ السحت هو الرشوة في الحكم ثمّ قال: و هو المروي عن علي (عليه السّلام)(5).

و مثله موثقة السكوني عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر البَغِي و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن(6).5.

ص: 255


1- الكافي 3/409:7، وسائل الشيعة 222:27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 4.
2- تهذيب الأحكام 525/222:6.
3- وسائل الشيعة 93:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 4.
4- وسائل الشيعة 223:27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 7.
5- وسائل الشيعة 96:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 15.
6- وسائل الشيعة 93:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5.

و مثله ما رواه الصدوق بإسناده عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) في وصيته لعلي (عليه السّلام)(1).

و أمّا ما يظهر من المقابلة بين السحت و الرشوة في النصوص(2) فيمكن الجمع بأنّ السحت أعم من الرشوة فيصدق بعض مصاديقه على الرشوة و لكنّهما متغايران مفهوماً، كما هو الظاهر من خبر العياشي و دعائم الإسلام و موثقة السكوني و ما رواه الصدوق بإسناده عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و غيره.

و منها: ما يتوصّل به من المال إلى الحكم مطلقاً سواءٌ كان الحكم بالحق أو بالباطل.

و قد دلّ على ذلك ما ورد عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السّلام)

«من أكل السحت الرشوة في الحكم. قيل: يا ابن رسول اللّه، و إن حكم بالحق؟ قال (عليه السّلام)

و إن حكم بالحق..(3).

هذا مضافاً إلى إطلاقات تحريم الرشا في الحكم و هي فوق حد الاستفاضة؛ حيث لم يقيد الحكم فيها بالحكم الباطل، فتشمل مطلق الحكم.

مقتضى التحقيق

مقتضى التحقيق في ماهية الرشوة: أنّ المستفاد من النصوص الواردة في الرشوة أنّها أعم من المال المدفوع للتوصل به إلى الحكم و من المدفوع للتوصل إلى قضاء أيّة حاجة، كما دلّت عليه الطائفة الأُولى.

ص: 256


1- وسائل الشيعة 94:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 9.
2- راجع وسائل الشيعة 92:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 1 و 2 و 8 و 12 و 16.
3- دعائم الإسلام 1891/532:2.

و أنّها شاملة لما يدفع من الأموال لدفع الظلم و استنقاذ الحق، و لو بغير الحكم، بل في المعاملات اليومية، كما دلّت على ذلك الطائفة الثانية و الثالثة.

و أنّها شاملة لما يدفع من الأموال لغرض التوصل إلى مطلق الحكم سواء كان بالحق أو بالباطل كما دلّت عليه الطائفة الرابعة.

و لكن لم يدلّ شيء من النصوص على دخول كل ما يتوصل به إلى الحكم و لو بالعمل و القول في معنى الرشوة، كما يظهر من صاحب الجواهر و لعلّه ناظر إلى المعنى اللغوي و لكنّه بعيد عن الارتكاز و إن يمكن استفادة التعميم إلى ذلك من كلمات بعضهم ممن فسر الرشوة بمطلق الوصلة إلى المصانعة و الملاينة، و لكن مقصوده أيضاً المال المدفوع لذلك كما يظهر من ذيل كلام ابن أثير بعد تفسير الرشوة بذلك.

و على أيّ حال فالعمدة في المقام هي ما يستفاد من النصوص لأنّه الدخيل في موضوع الحكم. و قد عرفت مما بينّا ما هو المقصود من لفظ الرشوة في النصوص. كما أنّها المرجع في تعيين ما هو المحرّم من الرشوة. و سيأتي بيان ذلك مفصّلاً في حكم الرشوة.

و أمّا كلمات الفقهاء في تنقيح موضوع الرشوة فقد عرفت من كلام الشيخ في المبسوط و ابن إدريس في السرائر أنّ الرشوة تعمّ ما يتوصل به إلى الحكم و العمل، سواء كان دفعها لجهة حقّ أو باطل، و كذا من كلام الشهيد و العلّامة في كتبه و المحقق الأردبيلي و غيرهم.

و أمّا من أخذ في تعريف الرشوة التوصل بها إلى حكم الحاكم حقاً أو باطلاً فهو بصدد تعريف الرشوة للحاكم و القاضي في باب القضاء، فلا نظر له إلى تعريف ماهية مطلق الرشوة.

ص: 257

فالتحقيق أنّ الرشوة هي كل مال مبذول يتوصل به إلى قضاء حاجة، من جلب نفع أو دفع مفسدة، كان من وظيفة المبذول له قضاء حاجة الباذل لو لا بذل المال إليه. و يخرج بهذا القيد الأخير كل مال مبذول بإزاء حق أو مال أو عمل في معاملة أو عقد يوجب على المبذول له أن يدفع ما بإزاء المبذول من المال أو يأتي بإزائه من العمل أو الحكم. و بذلك يفترق العوض و الأُجرة عن الرشوة.

الفرق بين الرشوة و الهدية و الجُعل

نقل في المسالك عن بعض الفقهاء أنّه فرّق بين الهدية و الرشوة بأنّ الرشوة هي التي يشترط فيها باذلها الحكم بغير الحق أو الامتناع من الحكم بالحق و الهدية هي العطيّة المطلقة.

ثمّ قال: «و هذا الفرق يناسب ما أطلقه المصنف من اختصاص تحريمها بطلب التوصل إلى الحكم بالباطل دون الحقّ. و لكن ذكر جماعة تحريمها على التقديرين، خصوصاً في جانب المرتشي.

و الحقّ أنّها محرّمة على المرتشي مطلقاً و على الراشي كذلك، إلّا أن يكون محقّاً و لا يمكن وصوله إلى حقّه بدونها، فلا يحرم عليه. و على هذا يحتاج إلى فرق آخر.

و الأظهر في الفرق: أنّ دفع المال إلى القاضي و نحوه من العمّال إن كان الغرض منه التودّد أو التوسّل لحاجة من العلم و نحوه فهو هديّة، و إن كان التوسّل إلى القضاء و العمل فهو الرشوة».

و قال في الفرق بين الرشوة و الهدية و بين الجعل: «و الفرق بينهما و بين أخذ الجعل من المتحاكمين أو أحدهما كما قد قال: بعضهم بجوازه أخفى.

ص: 258

و بيانه: أنّ الغرض من الرشوة أن يحكم لباذلها على التعيين بحقّ أو باطل، و في الجعل أن يشترط عليهما أو على المحكوم عليه. فالفرق واضح، لأنّه حينئذٍ في مقابلة عمله معهما و فصل الحكومة بينهما، من غير اعتبار الحكم لأحدهما بخصوصه.

و إن شرط على المحكوم له فالفرق: أنّ الحكم لا يتعلّق الغرض فيه بأحدهما بخصوصه، بل من اتّفق الحكم له منهما على الوجه المعتبر يكون عليه الجعل. و هذا ليس فيه تهمة و لا ظهور غرض، بخلاف الرشوة المبذولة ابتداءً من شخص معيّن ليكون الحكم له بخصوصه كيف كان، فإنّ هذا ظاهر في فساد المقصد، و صريح في تطرّق التهمة»(1).

و قال في المستند: «فالفرق بين الرشوة و الهدية: أنّ الأولى كما عرفت هي المال المبذول للتوصّل به إلى الحكم ابتداءً أو إرشاداً. و الثانية: هي العطيّة المطلقة، أو لغرض آخر نحو التودّد أو التقرّب إليه أو إلى اللّه إلى أن قال -: و كل مبذول لا لغرض يفعله المبذول له، بل لمجرّد التودّد أو التقرّب إلى اللّه أو إليه أو لصفة محمودة أو كمال فيه، فهو هدية، و إن كان الغرض من التودّد و التقرّب إليه الاحتفاظ من شرّ شخص آخر أو التوصّل إلى فعل شخص آخر يوجبه التقرّب و التودّد إليه»(2).

و قال السيد في العروة: «الفرق بين الرشوة و الهدية أنّ الغرض من الرشوة جلب قلبه ليحكم له، و من الهدية الصحيحة القربة أو إيراث المودّة لا لداع، أو7.

ص: 259


1- مسالك الأفهام 422421:13.
2- مستند الشيعة 72:17.

الداعي عليها حبّه له لوجود صفة كمال فيه من علم أو ورع أو نحوهما»(1).

مقتضى التحقيق في الفرق بين الرشوة و الهدية: أنّ الهدية هي مال يبذل لغرض الإحسان أو إيراث المودة أو لأجل التكريم و التعظيم من غير اختصاص بالمال و لا بعمل له المالية كقراءة الفاتحة و الصلاة التي يهدي ثوابها إلى المقروء له. و لكن الرشوة هي خصوص المال المبذول للتوصل به إلى قضاء حاجة كان من وظيفة المبذول له قضاها بغير بذل، كما سبق آنفاً فليست الرشوة إحساناً و لا عملاً أو قولاً بخلاف الهدية.

و أمّا الأُجرة ما يبذل بإزاء العمل المقابل بالمال أي: العمل الذي كان له المالية و هذا بخلاف الرشوة حيث تبذل بإزاء ما لا مالية له من الأعمال، بل كان من الوظائف الشرعية و حقوق الأخ المؤمن.9.

ص: 260


1- العروة الوثقى 25:3، مسألة 29.

حكم الرشوة

لا إشكال و لا خلاف في حرمة الرشوة في الحكم في الجملة، بل هي من ضروريات الدين كما صرّح به السيد في ملحقات العروة(1). و ذلك لا لدلالة قوله تعالى وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (2) .

حيث اختلف في تفسيره و لم يفسّر قوله تعالى وَ تُدْلُوا بِها.. بالرشوة في رواية، و لم يستشهد بهذه الآية على تحريم الرشوة في شيء من الروايات. و لم يفسّرها بذلك المفسرون، نعم فسّرها الجوهري في الصحاح بالرشوة. و لم أره في كلام غيره، بل فسّروه بالتوصل و التقرّب إلى الحكّام بأكل أموال المتحاكمين بالباطل.

نعم تكون الرشوة من مصاديق ذلك، فيصح الاستدلال بهذه الآية على حرمة الرشوة في الحكم بالباطل.

و إنّما الدليل على ذلك دلالة النصوص المتواترة من الفريقين على حرمتها و أنّها كفرٌ باللّه العظيم(3).

ص: 261


1- ملحقات العروة الوثقى 22:3، مسألة 19.
2- البقرة (2):188.
3- راجع وسائل الشيعة 92:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، و 221:27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، السنن الكبرى، البيهقي 139:10، كنز العمال 113:6.

و إجماع أهل الإسلام على حرمتها، كما قال في جامع المقاصد(1) و المسالك(2) و المستند(3) و مجمع الفائدة(4) و غير ذلك من الكتب الفقهية. فلا كلام في أصل حرمة الرشوة في الجملة.

و إنّما الكلام في حرمة الرشوة في بعض الصور.

قال في الجواهر: «أنّ المحرّم الرشا في خصوص الحكم أو يعمّه و غيره، و على الأوّل فهو خصوص الحكم الشرعي أو يعمّه و العرفي من حكام العرف، بل و غيرهم من الآمرين بالمعروف، و هل هو خاص بالحكم في الخصومة الخاصة أو يعمّه و ما يبذل توطئة لاحتمال وقوعها و نحوه، لم أجد تحرير الشيء من ذلك في كلام أحد من الأصحاب»(5).

و قال في المستند في تحرير تخصيص حرمة الرشوة في الحكم ببعض الصور: «مقتضى إطلاق الأخبار التعميم. و قد يخصّ الجواز للمرتشي إذا كان يحكم بالحق، و إن لم يرتش و هو ضعيف غايته. و قد يخصّ الجواز للراشي إذا كان محقاً و لا يمكن وصوله إلى حقّه بدونها، ذكره جمع كثير، منهم الوالد الماجد إلى أن قال و قد يخصّ أيضاً أي: الحكم بالحرمة بما إذا أرشى و ارتشى للحكم بالباطل»(6).7.

ص: 262


1- جامع المقاصد 35:4.
2- مسالك الأفهام 419:13.
3- مستند الشيعة 69:17.
4- مجمع الفائدة و البرهان 49:12.
5- جواهر الكلام 147:22.
6- مستند الشيعة 7271:17.

و يعلم من كلام هذين العلمين و كلمات سائر الفقهاء الأعلام أنّ في المقام وقع الكلام في أُمور:

الأوّل: أنّ حرمة الرشوة هل تختص بالرشوة في الحكم أو تعمّ الرشوة في غير الحكم.

الثاني: أنّ الرشوة في الحكم هل تختص حرمته بخصوص الرشوة في الحكم الشرعي الصادر من جانب القاضي، أو تعمّ المبذول منها للتوصل إلى حكم حكّام العرف؟ الثالث: أنّه هل تختص حرمة الرشوة في الحكم بالمبذول منها بعد وقوع الخصومة أو تعمّه و المبذول منها إلى الحاكم قبل الخصومة توطئة للحكم بنفع الباذل عند وقوع التخاصم.

الرابع: أنّه هل تحرم الرشوة فيما إذا لم يكن لها دخل و تأثير في حكم الحاكم بالحق بأن يحكم بالحق و إن لم يرتش.

الخامس: أنّها هل تحرم فيما إذا كان الراشي محقّاً، و توقّف وصوله إلى حقه على الرشوة.

السادس: أنّه هل تختص حرمة الرشوة بالمبذول منها للتوصل إلى الحكم بالباطل، فلا تحرم للتوصل إلى الحكم بالحق مطلقاً، سواءٌ توقف استنقاذ حقه عليها أم لا؟ فلا بدّ من تحرير كلمات الفقهاء و تنقيح الأدلّة و بيان مقتضى التحقيق و الاستدلال عليه في كلّ واحد من هذه الأُمور.

ص: 263

الرشوة في غير الحكم

وقع الكلام بين الفقهاء في الرشوة في غير الحكم. ففصّل في المستند بينما إذا كان ما تبذل لأجله الرشوة أمراً محرّماً و بينما إذا كان حلالاً و مباحاً. فحكم في الأوّل بحرمة الرشوة و أنّها كالرشوة في الحكم من جهة الحرمة. و علّل ذلك بأنّ إعطائها حينئذٍ إعانة على الإثم و المعصية و العدوان، و حكم في الثاني بالجواز لأصل البراءة و الحلّية بعد اختصاص إطلاقات الحرمة بالرشوة في الحكم، و عدم دليل آخر على حرمته. قال (قدّس سرّه): «و إن كان غير الحكم، فإن كان أمراً محرّماً فهو أيضاً كرشوة الحكم محرّم؛ لكونه إعانة على الإثم و اتّباعاً للهوى. و إن لم يكن محرّماً فلا يحرم؛ للأصل، و اختصاص الأخبار المتقدّمة برشوة الحكم»(1).

و قد فصّل الشيخ الأعظم في المقام بينما إذا كان الأمر المبذولة لأجله الرشوة محرّماً أو مشتركاً بينه و بين المحلّل، بأن يبذل المال لإصلاح أمره، حقاً كان أو باطلاً، و بينما إذا كان ذلك الأمر حقاً و حلالاً. فحكم بالحرمة في الصورتين الأُوليين معلّلاً بإطلاقات حرمة أكل المال بالباطل، و لفحوى إطلاقات تحريم هدايا العمّال و الولاة، لا لأجل الرشوة؛ لعدم دليل عليه و انصراف إطلاقات الحرمة إلى الرشوة في الحكم، و حكم بالجواز في الصورة الثالثة؛ لعدم دليل على حرمته و لمقتضى أصل البراءة.

قال: «و هل تحرم الرشوة في غير الحكم بناء على صدقها كما يظهر ممّا

ص: 264


1- مستند الشيعة 73:17.

تقدّم عن المصباح و النهاية كأن يبذل مالاً على أن يصلح أمره عند الأمير؟ فإن كان أمره منحصراً في المحرّم أو مشتركاً بينه و بين المحلّل لكن بذل على إصلاحه حراماً أو حلالاً فالظاهر حرمته لا لأجل الرشوة لعدم الدليل عليه عدا بعض الإطلاقات المنصرف إلى الرشا في الحكم بل لأنّه أكل للمال بالباطل فيكون الحرمة هنا لأجل الفساد، فلا يحرم القبض في نفسه و إنّما يحرم التصرف لأنّه باق على ملك الغير. نعم يمكن أن يستدلّ على حرمته بفحوى إطلاق ما تقدّم في هدية الولاة و العمّال»(1).

و يظهر من صاحب الجواهر جواز الرشوة في غير الحكم فيما إذا لم يدفع إلى الفساق و الظلمة أو دفعت لدفع ظلم؛ إذ هو بعد ما جعل صورة التوقف متيقناً من جريان السيرة على الجواز، لا مطلق الرشوة بعد صدق عنوان الرشوة عرفاً، لم يستبعد دعوى اختصاص عنوانها بما يستعمله قضاة الجور و الظلمة، دون ما يبذل لبعض الأغراض الصحيحة، من الهدية و الأُجرة و الجعل؛ بدعوى أنّ العرف ينقّح أفراد الرشوة و يفرّق بينها و بين مثل هذه الأُمور.

فإنّه (قدّس سرّه) بعد ما ادّعى جريان السيرة على أخذ الرشوة في غير الحكم من المطالب و المقاصد قال: «لكن قد يقال: إنّ مثله لا يعد رشوة في العرف، و أنّ المراد منه العطاء فلا يستفاد منه ذلك، و المسلم من السيرة هو الرشوة على تحصيل الحق المتوقف عليها و على دفع الظلم من الظلمة و أتباعهم، و نحو ذلك، لا مطلق الرشوة بعد فرض صدق العرف عليها. اللهم إلّا أن يدّعى أنّه مختص في العرف بما يستعمله قضاة الجور و الظلمة و أتباعهم، و من يحذو حذوهم دون ما يبذل لبعض4.

ص: 265


1- المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 247:14.

الأغراض الصحيحة؛ من المحبة و الصداقة و غيرهما من الأُمور الدنيوية و الأُخروية و نحو ذلك مما أُمر لأجله بالتهادي بخلاف الرشوة التي كانت الأنفس السليمة مجبولة على التنزه عنها، لأنّها غير الهدية و الإجارة و الجعالة، بل هو قسم آخر مستقل ينقّح العرف أفراده»(1).

و فرّق في العروة بينما إذا كانت الرشوة في غير الحكم لإحقاق حق أو دفع ظلم أو أمر مباح و بينما إذا كانت لإحقاق الباطل أو الإعانة على ظلم أو معصية، فحكم في الأوّل بالجواز و في الثاني بالحرمة، من غير فرق بين كون العمل محلّلاً في نفسه و بين كونه محرّماً. قال: «لا تختص الرشوة بما يبذل للقاضي ليحكم له، بل تجري في غير الحكم أيضاً، كما إذا بذل شيئاً لحاكم العرف أو لظالم أو رئيس ليعينه على ظلم أو غيره من المعاصي، و نحو ذلك فتكون حراماً و لا تختص بالمحرم، بل قد لا تكون حراماً كما إذا بذل شيئاً ليعينه على إحقاق حق أو دفع ظلم أو أمر مباح»(2).

و المتحصّل من كلماتهم أنّه لا خلاف بينهم في حرمة الرشوة في غير الحكم إذا كانت لإحقاق باطل أو إبطال حقّ أو لأجل الإعانة على ظلم أو معصية. و ذلك إمّا لدخوله في عمومات تحريم الرشوة، كما لعلّه الظاهر من صاحب العروة و كل من عمّم الرشوة إلى غير الحكم موضوعاً، و هو الظاهر من صاحب الجواهر بل جعله متيقناً من مصاديق الرشوة؛ إذ لم يستبعد اختصاص عنوان الرشوة في غير الحكم عرفاً بما يستعمله قضاة الجور و الظلمة. أو لأنّه إعانة على الإثم و الظلم، كما3.

ص: 266


1- جواهر الكلام 148:22.
2- العروة الوثقى 24:3، مسألة 23.

يظهر من المحقق النراقي في المستند. و إمّا لأنّه أكل المال بالباطل، أو لفحوى إطلاق تحريم هدايا العمّال و الولاة، كما يظهر من الشيخ الأعظم.

هذا لا كلام فيه. و إنّما الكلام فيما إذا لم يكن العمل المبذولة له الرشوة حراماً في نفسه، فيظهر من الشيخ الأعظم حرمتها حينئذٍ؛ حيث حكم بحرمتها فيما إذا كانت لإصلاح أمر الراشي مطلقاً، سواءٌ كان العمل حراماً أم حلالاً. و هو الظاهر من صاحب العروة أيضاً، لكنّه خصّه بما إذا كان العمل الحلال المبذولة له الرشوة لغرض التوصّل به إلى إعانة ظلم أو معصية. و إن يحتمل كون مقصوده من قول: «و لا تختص بالمحرّم» عدم اختصاص الرشوة في غير الحكم بالمحرم، كما يشهد له قوله بعد ذلك: «بل قد لا تكون حراماً كما إذا بذل شيئاً..».

و أمّا إذا كانت الرشوة في غير الحكم لغرض صحيح مباح و كان العمل حلالاً، فلم يقل أحد بحرمة الرشوة حينئذٍ و ذلك إمّا لعدم دليل على الحرمة و انصراف إطلاقات حرمة الرشوة في رأيهم إلى الرشوة في الحكم، أو لعدم صدق الرشوة على المال المبذول لذلك عرفاً.

مقتضى التحقيق في المقام

هذا عمدة كلمات الفقهاء في المقام و حاصل ما يستفاد منها، و أمّا تنقيح الكلام في المقام أنّ الرشوة في غير الحكم تارة: تؤخذ على الإفتاء و تبليغ الأحكام و أُخرى على سائر الأُمور و الحوائج اليومية.

أمّا الرشوة على الإفتاء و تبليغ الدين فهي في الحقيقة أخذ الأُجرة عليها بحيث لو لا أخذها لم يفت و لم يبلّغ.

و يمكن الاستدلال على حرمتها مضافاً إلى ما سيأتي من عمومات حرمة

ص: 267

الرشوة الشاملة لغير الحكم، بناءً على صدق عنوانها على الأُجرة المأخوذة بإزائهما كما يظهر من رواية يوسف بن جابر ببعض النصوص الواردة في المقام.

مثل ما رواه الشيخ بسنده عن يوسف بن جابر عن الباقر (عليه السّلام)

لعن رسول اللّه.. و رجلاً يحتاج الناس إليه لفقهه فسألهم الرشوة. و في بعض النسخ

يحتاج الناس إليه لتفقهه(1).

و من الواضح أنّ الإفتاء و التبليغ من شئون الفقه و التفقّه، فتدل هذه الرواية على حرمة أخذ الأُجرة و الرشوة على الإفتاء و تبليغ الدين و تعليم الأحكام الشرعية. و لكنها ضعيفة سنداً بيوسف بن جابر؛ إذ لم تثبت وثاقته.

و هي تدلّ على حرمة الأُجرة على الإفتاء و التبليغ مطلقاً سواءٌ كان بحق أو باطل، و لكن في رواية حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) يقول

من استأكل بعلمه افتقر قلت: إنّ في شيعتك قوماً يتحمّلون علومكم و يبثّونها في شيعتكم فلا يعدمون منهم البرّ و الصّلة و الإكرام فقال

ليس أُولئك بمستأكلين، إنّما ذلك الذي يفتي بغير علم و لا هدى من اللّه، ليبطل به الحقوق، طمعاً في حطام الدنيا(2).

هذه الرواية و إن دلّت على كون المراد من المستأكل بعلمه خصوص من يفتي بغير علم و لا هدىً لإبطال الحقوق، إلّا أنّها لا تدلّ على الحرمة بل غاية مدلولها ابتلاء فاعل ذلك بالفقر و هو لا يدلّ على الحرمة، هذا مضافاً إلى ضعف سندها بمحمد بن سنان و تميم بن بهلول. فهي لا تنفع في المقام لإثبات شيء.2.

ص: 268


1- تهذيب الأحكام 534/224:6، وسائل الشيعة 223:28، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 5.
2- وسائل الشيعة 141:27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 12.

و يمكن الاستدلال لذلك بأنّ الإفتاء و التبليغ بطبعهما يقتضيان المجانية و كذا تعليم الأحكام كما دلّ على منع الأُجرة على تعليم القرآن بعض النصوص و ما دلّ من الآيات أنّه كان دأب الأنبياء عدم سؤال الأُجرة بإزاء تبليغ الدين و تعليم الأحكام و أنّه لا أجر في مثل هذه الأُمور إلّا على اللّه رب العالمين.

و عليه يكون أكل المال بإزاء ذلك من قبيل أكل المال بالباطل فتشمله إطلاقات تحريمه، إلّا أن يعطي المال لذلك هديةً من غير سؤال، فلا دليل حينئذٍ على حرمته بل طيب النفس من صاحب المال و استحباب الهدية و منع ردّها يقتضي الحلية. فإنّ مورد اللعن في خبر يوسف و المنفي في الآيات هو سؤال الأجر لذلك لا قبول الهدية لأجله.

و أمّا أكل المال و أخذ الأُجرة بإزاء الإفتاء بغير العلم و لا هدىً لإبطال الحقوق فلا كلام في حرمته بل هو المتيقن من مصاديق الأكل بالباطل.

و مقتضى التحقيق في المقام: أنّ أخذ الرشوة على الإفتاء و التبليغ إذا كان لإحقاق باطل أو إبطال حق، فلا إشكال في حرمتها لأنّه المتيقن من إطلاقات تحريم الرشوة.

و أمّا أخذها عليهما لا لذلك فإن احتاج الناس إلى إفتائه و تبليغه للعمل بوظائفهم الشرعية و فهم الحقائق الدينية فيشكل القول بجواز مطالبة الأُجرة و الرشوة منهم لأجل الإفتاء و التبليغ و تعليم المسائل الشرعية بل الأحوط الاجتناب عنه؛ نظراً إلى ما سبق آنفاً من أنّ الإفتاء و التبليغ يقتضيان المجانية و لا يقابلان بالأُجرة، كما كان ذلك دأب الأنبياء و الأئمّة و الأولياء و العلماء الربانين. و يدلّ على ذلك ما رواه الشيخ بسنده عن يوسف بن جابر عن الباقر (عليه السّلام).

هذا مضافاً إلى أنّ الإفتاء في الحقيقة نوعٌ من الحكم؛ فإنّ الفقيه في مقام

ص: 269

الإفتاء يحكم بالحرمة أو الحلّية أو الوجوب أو الجواز، و عليه فتدخل الرشوة على الإفتاء في إطلاقات تحريم الرشوة على الحكم بمعناه العام الشامل للحكم الفتوائي.

و لا يخفى أنّ حرمة أخذ الرشوة و مطالبتها على الإفتاء و التبليغ و تعليم أحكام الدين لا ينافي جواز قبولها على ذلك بغير مطالبة، بأن يقبل الهدية و العطية و البذل على ذلك، كما يحتاط بذلك في هذه الأزمنة أهل الورع و التقوى من المبلّغين.

هذا كلّه في الإفتاء و التبليغ.

و أمّا الرشوة على سائر الأُمور و الحوائج فيمكن تأسيس أصل الحرمة بدلالة الإطلاقات الواردة في تحريم الرشوة الشاملة لغير الحكم. فمن هذه الإطلاقات الرواية المشهورة بين الفريقين عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)

لعن اللّه الراشي و المرتشي و الماشي بينهما. رواها في كتاب الإمامة و التبصرة(1) عن سهل بن أحمد عن محمد بن محمد بن الأشعث عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السّلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)(2) هذه الرواية معتبرة؛ لأنّ سهل بن أحمد الديباجي لا بأس به، كما شهد بذلك النجاشي. و أمّا ابن الغضائري فهو و إن ضعّفه و لكن استثنى من رواياته ما رواه عن محمد بن الأشعث فحكم باعتباره. و رواها في عوالي اللآلي(3) و في المستدرك(4).

و رواها العامة في جوامعهم الروائية، كالبيهقي و ابن ماجة و أبو داود و الترمذي8.

ص: 270


1- هذا الكتاب لابن بابويه والد الصدوق ذكره النجاشي في رجاله و كذا العلّامة المجلسي في مقدّمة البحار.
2- بحار الأنوار 11/274:101.
3- عوالي اللئالي 60/266:1.
4- مستدرك الوسائل 355:17، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 8.

في سننهم و أحمد في مسنده(1).

و نظيرها ما رواه في كتاب الإمامة و التبصرة بالسند المزبور عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)

الراشي و المرتشي و الماشي بينهما ملعونون(2). و رواه أيضاً في جامع الأخبار(3).

و قد استشهد فقهاؤنا بهذه الرواية في مظانّها، كما عن القاضي في المهذّب(4) و المحقق الأردبيلي(5) و الفاضل الهندي(6) و استدل به في الجواهر(7) و غيرهم.

و منها: ما رواه أيضاً في كتاب الإمامة و التبصرة بسنده المعتبر المزبور عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)

إيّاكم و الرشوة فإنّها محض الكفر و لا يشمّ صاحب الرشوة ريح الجنة(8).

و منها: ما رواه الكليني بسنده عن الباقر (عليه السّلام)، سبق ذكره و سيأتي أيضاً.

و هذه الطائفة من النصوص تدلّ بإطلاقها على حرمة الرشوة مطلقاً، سواءٌ كان في الأحكام أم في غيرها، و دعوى انصرافها إلى الرشوة في خصوص الحكم لا دليل عليه، و لا سيّما بلحاظ كثرة موارد الرشوة في غير الحكم، من الحوائج1.

ص: 271


1- السنن الكبرى، البيهقي 139:10، سنن ابن ماجة 2313/775:2، سنن أبي داود 3580/324:2، مسند الإمام أحمد بن حنبل 279:5، سنن الترمذي 1352/397:2.
2- بحار الأنوار 9/274:101.
3- جامع الأخبار: 1235/439.
4- المهذّب 581:2.
5- مجمع الفائدة و البرهان 49:12.
6- كشف اللثام 329:2 /السطر 3.
7- جواهر الكلام 145:22، و 131:40.
8- بحار الأنوار 12/274:101.

اليومية و المقاصد و المطالب الراجعة إلى شئون العيش.

و عليه فلا بدّ للخروج عن إطلاقها في أي مورد من دليل يدلّ على جوازها فيه لدفع ظلم أو إحقاق حق، كما دلّت عليه موثقة الصيرفي(1) و صحيحة محمد بن مسلم(2) و قد سبق ذكر هاتين الروايتين و البحث عن مفادهما في تنقيح موضوع الرشوة.

و أمّا ما كانت منها لإحقاق باطل أو إبطال حقّ فلا دليل على خروجه من إطلاقات حرمة الرشوة مع أنّه ظلم و إعانة على الإثم و العدوان بل تشمله إطلاقات تحريم هدايا العمّال و الولاة.

و عليه فالمتقين من هذه الإطلاقات بالنسبة إلى غير الحكم ما إذا كانت لإحقاق باطل أو إبطال حق أو للإعانة على ظلم أو معصية أو فساد، فتدل على حرمة الرشوة لذلك قطعاً.

و لكن روى الصدوق في العيون بأسانيده الثلاثة عن الرضا (عليه السّلام) عن آبائه، عن علي (عليه السّلام) في قوله تعالى أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ ، قال

هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثمّ يقبل هديته(3).

ظاهر هذه الرواية حرمة أخذ الهدية بعد قضاء حاجة الأخ المؤمن، و هذا لم يلتزم به أحد من الفقهاء، و سيأتي توجيهها.

نعم مطالبة الرشوة بإزاء قضاء حاجة الأخ المؤمن لما كانت من حقوقه بمقتضى الأُخوّة الإيمانية، يشكل القول بجوازها، بل مقتضي عمومات الرشوة1.

ص: 272


1- وسائل الشيعة 96:18، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 37، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 278:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 85، الحديث 2.
3- وسائل الشيعة 95:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 11.

حرمته. و هو المراد فيما رواه الكليني بسنده عن الجابر عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

لعن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم).. و رجلاً يحتاج الناس إلى نفعه فسألهم الرشوة(1).

و قد سبق البحث عن تعدّد طرق هذه الرواية و اختلاف نسخها مفصلاً. و قلنا هناك إنّ هذه الرواية مستقلّة عما رواه الشيخ بطريقه عن يوسف بن جابر. و على أيّ حال هي مرسلة و لا تصلح إلّا للتأييد.

و على مدلول هذه الرواية يمكن حمل ما رواه الصدوق في العيون عن الرضا (عليه السّلام)، و سبق ذكرها آنفاً. فقوله (عليه السّلام)

«ثمّ يقبل هديته. يمكن حمله على التأخّر العملي، أي بعد فعل قضاء الحاجة، و هو لا ينافي تقدم سؤال الرشوة و تبانيهما عليها قولاً.

و الحاصل: أنّ مقتضى التحقيق في المقام التفصيل بينما إذا كانت الرشوة لإحقاق باطل أو إبطال حق و بين غيره، و في غيره بينما كان فعله من الوظائف الشرعية واجبة أو مستحبة بأن يقضي به حاجة الأخ المؤمن و بينما لم يكن من قبيل ذلك. فإذا كانت الرشوة لإبطال حق أو إحقاق باطل لا إشكال في حرمتها؛ لأنّها المتيقن من إطلاقات حرمة الرشوة.

و أمّا إذا كانت لقضاء حاجة الأخ المؤمن فإن توقف عليها استنقاذ حقه و دفع الظلم عنه فلا ريب في جوازها للراشي حينئذٍ، كما دلّ عليه صحيح محمد بن مسلم و موثقة الصيرفي و قد ذكرناهما في أوائل البحث.

و أمّا المرتشي فلا يجوز له أخذها حينئذٍ؛ نظراً إلى أنّ إنقاذ حق الأخ المؤمن3.

ص: 273


1- الكافي 14/559:5، وسائل الشيعة 191:20، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح، الباب 104، الحديث 3.

من يد الظالم و دفع الظلم عنه وظيفة شرعية له و تشمله إطلاقات تحريم الرشوة، و لا سيّما ما رواه الكليني عن الباقر (عليه السّلام) و ما رواه الصدوق عن الرضا (عليه السّلام).

و أمّا إذا لم يتوقف عليها استنقاذ الحق و لكن يرتفع بها الحاجة فالأحوط وجوباً عدم أخذ الرشوة، بل يتقوّى عدم جوازه؛ نظراً إلى إطلاقات تحريم الرشوة و لا سيّما بدلالة ما رواه الكليني، عن الباقر (عليه السّلام) و الصدوق عن الرضا (عليه السّلام)، و لا بملاحظة كون إصلاح أمر الأخ المؤمن و قضاء حاجته مستحباً مؤكّداً مأموراً به في الشرع؛ لجواز أخذ الأُجرة على المستحبات، كما ثبت في محله في الجملة، مع أنّ الأُجرة غير الرشوة، كما قلنا؛ لأنّ الأُجرة إنّما في المستحبات التي لها مالية عرفاً و يعطي المال بإزائها، دون ما يقتضي منها المجانية.

و عليه فإنّ أخذ الرشوة و الجعل على قضاء حاجة الأخ المؤمن دخل في عمومات النهي عن الرشوة، إلّا أنّ حرمتها تختصّ بالمرتشي الذي يسأل الرشوة لأجل قضاء حاجة أخيه المؤمن، دون الراشي المحتاج إلى ذلك. و لكن لم أر من يلتزم بحرمة أخذ الرشوة لقضاء حاجة المؤمن مطلقاً، إلّا أن تشتمل حاجته على أمر محرّم كما عرفته سابقاً من كلام الشيخ الأعظم.

هذا، و لكن يقوى في النظر الحرمة مطلقاً عملاً بإطلاقات حرمة الرشوة لو لم يكن الإجماع على الجواز أو الاتفاق على انصراف الإطلاقات إلى الرشوة في الحكم و لكن دعوى الانصراف مشكلٌ، كما قلنا، فيبقى الإجماع، و لكن تحصيله على جواز الأخذ في المرتشي مشكل بعد ما عرفت من الاختلاف و عدم تعرضهم للرشوة في غير الحكم، و لا سيّما القدماء من الأصحاب.

نعم إذا كان العمل المبذول بإزائه المال مما يقابل بالمال عرفاً، يخرج

ص: 274

المال المبذول بإزائه حينئذٍ من الرشوة و يدخل في الأُجرة. و هو خارج عن محل الكلام، لأن الكلام في الرشوة و هي ما يبذل للتوصل إلى عمل لا يقابل بالمال، أو عمل كان من الوظيفة الشرعية للعامل أن يعمله مجاناً، إمّا لارتزاقه من بيت المال أو مأموراً بفعله شرعاً.

و أمّا إذا لم يكن لقضاء حاجة المؤمن بل لإيصال نفع أو فعل ما لا يدخل في عنوان قضاء الحاجة، فإن لم يبطل به حق شخص آخر و لم يضرّ بأحد فالظاهر جواز أخذ الأُجرة على ذلك. و لكن لا يصدق عليها عنوان الرشوة، بل يطلق على المال المأخوذ في قبال ذلك عنوان الجعل أو الأُجرة و هما غير الرشوة.

ثمّ إنّ دفع الرشوة في غير الحكم إذا انحصر فيه استنقاذ الحق فقد اتضح مما سبق إنّه لا يحرم للدافع، بل إنّما يحرم أخذها للمرتشي خاصّةً.

ص: 275

الرشوة على الحكم

اشارة

سبق آنفاً أنّ الكلام في الرشوة على الحكم يقع في أُمور، و هي ما يلي:

هل تختص الحرمة بالرشوة على حكم الحاكم الشرعي؟

من الأُمور التي ينبغي تحريره في المقام: أنّ الحرمة هل تختص بالرشوة على الحكم الشرعي الصادر من جانب القاضي أو تعمّ المبذول منها للتوصل به إلى حكم حكّام العرف، و لم ينقّح ذلك في كلمات الفقهاء، كما أشار إليه في الجواهر(1).

و الأقوى دخوله في إطلاقات تحريم الرشوة في الحكم؛ حيث لم يقيّد الحكم فيها بالحكم الشرعي و لا بالصادر من حاكم الشرع و إنّ إطلاق الرشوة في الحكم كما في النصوص المستفيضة، بل المتواترة(2) يشمل كلّ حكم صادر من أيّ شخص، و لا سيّما عموم قول أبي عبد اللّه (عليه السّلام)

فأمّا الرشا يا عمار في الأحكام(3) في صحيحة عمار يشمل كلّ ما يصدق عليه الرشوة في الحكم عرفاً، بل لا فرق بين حكم القاضي و بين حكم الحاكم العرفي.

و يمكن استظهار هذا التعميم من كلام صاحب العروة؛ حيث قال: «لا تختص

ص: 276


1- جواهر الكلام 147:22.
2- راجع وسائل الشيعة 92:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، و 221:27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8.
3- وسائل الشيعة 95:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 12.

الرشوة بما تبذل للقاضي ليحكم له، بل تجري في غير الحكم أيضاً، كما إذا بذل شيئاً لحاكم العرف..»(1)، أي: مضافاً إلى جريان الرشوة في غير القاضي من حكّام العرف تجري في غير الحكم أيضاً و لذا مثّل لذلك بما يبذل لحاكم العرف عداد ما يبذل إلى العمّال و الولاة و الطواغيت، و إن يحتمل كون مقصوده أنّ الصادر من حاكم العرف من قبيل غير الحكم، و لكنه غير وجيه. و المقصود من حاكم العرف ظاهراً كلّ من ينصبونه العرف من أهل القبائل و الطوائف بين أنفسهم بعنوان الحاكم أو رئيس القبيلة لأن يحكم بينهم في المنازعات على أساس آدابهم و عاداتهم و رسومهم.

و الحاصل أنّ الأقوى عدم الفرق بين الرشوة على حكم القاضي و بين الرشوة على حكم غيره من حكّام العرف. فيدخل كلاهما في عمومات تحريم الرشوة في الأحكام.

هل المبذول قبل الخصومة رشوة محرّمة؟

و أمّا أنّه هل تختص حرمة الرشوة في الحكم بالمبذول منها بعد وقوع الخصومة أو تعمّ المبذول قبلها.

فالظاهر عمومها المبذول قبل وقوع الخصومة إذا كانت لأجل التوصّل بها إلى الحكم و لغرض التوطئة له فيما يتوقّع في المستقبل من الخصومة. و ذلك لأنّ المستفاد من نصوص المقام كون بذل الرشوة لغرض التوصّل بها إلى إنشاء الحكم.

و لا ريب في تحقق ذلك فيما إذا كان بذلها لغرض ذلك قبل وقوع الخصومة،

ص: 277


1- العروة الوثقى 24:3، مسألة 23.

بل لا دخل لوقوع الخصومة في ذلك، و أنّ بذل الرشوة قبل الخصومة ربما يكون أحفظ من التهمة و آمن من الفضيحة لكلّ من الباذل و الآخذ. و عليه فلا إشكال في حرمة الرشوة حينئذٍ.

و يشهد لذلك ما قال في المستند: «و لا فرق في الفعل الذي هو غاية البذل أن يكون فعلاً حاضراً، أو متوقّعاً، كأن يبذل للقاضي لأجل أنّه لو حصل له خصم يحكم للباذل، و إن لم يكن له بالفعل خصم حاضر و لا خصومة حاضرة إلى أن قال فإن كان الفعل المقصود الحكم فهو حرام مطلقاً كما مرّ، سواء كان الحكم لخصومة حاضرة أو فرضيّة، و لذا حكموا بحرمة الهدية الغير المعهودة قبل القضاء؛ لأنّه قرينة على أنّ المقصود منه الحكم و لو فرضاً.

و هو كذلك؛ لصدق الرشوة عرفاً، فتشمله إطلاقاتها، و عليه يحمل إطلاق ما ورد في طريق العامة و الخاصّة كما في أمالي الشيخ: «إنّ هدايا العمّال» كما في بعضها، أو: «هدية الأُمراء» كما في بعض آخر «غلول» أو «سحت»(1). و أشار إلى ذلك أيضاً في الجواهر و نقل عن أُستاذه(2).

هل تحرم الرشوة إذا لم يكن لها تأثير في الحكم؟

و أمّا أنّه هل تحرم الرشوة إذا لم يكن لها تأثيرٌ في حكم الحاكم بالحق، بأن يحكم بالحق، سواءٌ أخذ الرشوة أم لا.

فالأقوى: حرمة الرشوة حينئذٍ بذلاً و أخذاً؛ نظراً إلى إطلاقات تحريم الرشوة في الحكم و عدم مقيد لها، بل دلّ على حرمتها حينئذٍ بالخصوص رواية دعائم عن

ص: 278


1- مستند الشيعة 7372:17.
2- جواهر الكلام 147:22.

نعم لو توقّف التوصّل إلى حقّه عليها جاز للدافع و إن حرم على الآخذ (1).

الصادق (عليه السّلام) قال

من أكل السحت الرشوة في الحكم، قيل: يا بن رسول اللّه، و إن حكم بالحق؟ قال

و إن حكم بالحق(1).

و يشهد لذلك إطلاق جماعة من الفقهاء؛ حيث حكموا محرمة الرشوة على الحكم مطلقاً، سواء حكم بالحق أم بالباطل. و لم يستثنوا هذه الصورة. و ممّن صرّح بحرمة أخذ الرشوة للقاضي حينئذٍ المحقق النراقي في المستند(1) حيث ضعّف القول بجواز ذلك غاية التضعيف.

و لكن تخصيصه الحرمة بالآخذ لا وجه له؛ لأنّه مخالف لإطلاقات التحريم بل تحرم للدافع أيضاً.

بل إذا كان قصده التوصل به إلى الحكم بالحق، كما سيأتي.

حكم الرشوة إذا توقف استنقاذ الحق عليها

(2) إذا توقف على الرشوة استنقاذ حق الدافع فحينئذٍ تختص حرمتها بالآخذ و هو القاضي و هذا لا كلام فيه، كما صرّح به الشيخ في المبسوط(3) و الشهيد في المسالك(4) و الروضة(5). بل ظاهر كلمات الأصحاب جواز الرجوع إلى قضاة

ص: 279


1- مستند الشيعة 71:17.
2- دعائم الإسلام 1891/532:2.
3- المبسوط 151:8.
4- مسالك الأفهام 422:13.
5- الروضة البهيّة 75:3.

الجور حينئذٍ و جواز دفع الرشوة إليهم إذا توقف استنقاذ الحق على ذلك، بل ادعى في الجواهر عدم الخلاف بين الأصحاب في ذلك؛ حيث قال: «نعم لو توقف تحصيل الحق على بذله لقضاة حكام الجور جاز للراشي، و حرم على المرتشي كما صرّح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافاً»(1).

و الوجه فيه واضحٌ؛ لأنّ الدافع يستنقذ بذلك حقّه و لا مناص له من ذلك، بخلاف القاضي فتنصرف إطلاقات تحريم الرشوة إليه.

و ممن صرّح بذلك المحقّق في الشرائع(2)، بل نسبه المحقّق النراقي في المستند إلى جمع كثير، منهم والده. و استحسنه نفسه معلّلاً بمعارضة إطلاقات تحريم الرشوة و الرجوع إلى أصل الحلية، لو لم يرجّح الثاني(3). و مقصوده من أصل الحلية لعلّه حلّية الشيء الحرام حال الاضطرار، كما صرّح به في بعض النصوص، بلحاظ كون توقف استنقاذ حقّه على دفع الرشوة نوع اضطرار له إلى ذلك. و لكن في صدق عنوان الاضطرار على جميع موارده مشكل، و لا سيّما في القليل من الأموال.

و يحتمل كون مقصوده جواز تصرف المالك في ماله كيف شاء بمقتضى قاعدة السلطنة، و لكن التعبير عن ذلك بأصل الحلية خلاف الظاهر؛ فإنّ هذا التعبير ظاهر في موارد الشك في حلية الشيء لأجل الشبهة الموضوعية، كما هو ظاهر قوله (عليه السّلام)

كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام(4). و المقام ليس من هذا القبيل، كما هو واضح.4.

ص: 280


1- جواهر الكلام 145:22.
2- شرائع الإسلام 70:4.
3- مستند الشيعة 71:17.
4- وسائل الشيعة 89:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.

و هل يجوز الدفع إذا كان محقّاً و لم يتوقّف التوصّل إليه عليها؟ قيل: نعم، و الأحوط الترك، بل لا يخلو من قوّة (1).

و على أيّ حال قد يشكل في المقام دعوى حكومة أدلّة اللااقتضائيّ ضرر على إطلاقات تحريم الرشوة؛ حيث إنّ حرمة الرشوة ليست بنفسها حكماً ضرريّاً، بل غاية ما يلزم منه انسداد طريق رفع الضرر الوارد أو دفعه قبل الورود. و لكن إذا انحصر رفع الضرر و استنقاذ الحق في دفع الرشوة، يمكن القول بجواز دفع الرشوة، ذلك إمّا بحكومة دليل نفي الضرر على إطلاقات حرمة الرشوة حينئذٍ كأنّ توقف الاستنقاذ على دفعها يوجب استناد ذهاب الحق إلى المنع عن دفعها في نظر العرف. أو لوجوب استنقاذ المال كما يظهر هذا التعليل من كلام الشيخ في المبسوط؛ حيث قال: «و إن كان لإجرائه على واجبه لم يحرم عليه أن يرشوه لذلك؛ لأنّه يستنقذ ماله فيحلّ ذلك له»(1). و هذا بخلاف صورة عدم الانحصار؛ حيث لا دليل على الخروج من إطلاقات تحريم الرشوة في مطلق موارد استنقاذ الحق لو لم يتوقف على دفع الرشوة.

حرمة الرشوة إذا توصّل بها إلى الحكم بالحق من دون توقّفه عليها

(1) لا تختص حرمة أخذ الرشوة بما إذا توصّل بها إلى الحكم بالباطل، بل يحرم أخذها للمرتشي و هو القاضي فيما إذا توصّل الراشي بدفعها إلى الحكم بالحق أيضاً.

هذا لا كلام فيه بالنسبة إلى المرتشي، و إن يظهر من المحقق النراقي مخالفة

ص: 281


1- المبسوط 151:8.

بعض في ذلك؛ حيث نقل استدلالهم و رده، كما سيأتي بيانه.

و أمّا بالنسبة إلى الراشي فيظهر من جماعة من الفقهاء جواز دفع الرشوة له لأجل ذلك.

منهم المحقق في الشرائع و العلّامة في التحرير؛ حيث فصّلا بين الآخذ و الدافع، قال في التحرير: «و لو توصّل إلى الحق لم يأثم و يأثم المرتشي على التقديرين»(1)، و كذا في الشرائع(2). و يحتمل كون مرادهما التوصل بها إلى استنقاذ الحق. و على ذلك يحمل إطلاق كلامه في التبصرة(3) و كذا الشهيد في المسالك(4) و كلام المقدس الأردبيلي في مجمع الفائدة(5).

و لكن يظهر من جماعة الحكم بالحرمة حينئذٍ حتى للدافع.

منهم المحقق النراقي في المستند(6)؛ حيث إنّه نفى تخصيص الحرمة بما إذا أرشى و ارتشى للحكم بالباطل و عمّمها إلى الإرشاء و الارتشاء للحكم بالحق و ردّ استدلال المجوزين في الصورة الثانية.

و استدل للجواز مطلقاً حتى للمرتشي على ما يظهر في المستند(7) أولاً: بعدم صدق عنوان الرشوة. و ثانياً: بصحيحة محمد بن مسلم المجوّزة للإرشاءر.

ص: 282


1- تحرير الأحكام 180:2 /السطر 30.
2- شرائع الإسلام 70:4.
3- تبصرة المتعلمين: 237.
4- مسالك الأفهام 421:13.
5- مجمع الفائدة و البرهان 49:12.
6- مستند الشيعة 72:17.
7- نفس المصدر.

و لأجل التحوّل من منزله(1). و الجواب واضحٌ كما قال في المستند لأنّ دعوى عدم صدق الرشوة ممنوعة، كما سبق في تنقيح ماهية الرشوة. و أمّا صحيحة محمد بن مسلم فموردها الرشوة في غير الحكم و محلّ الكلام هو الرشوة في الحكم.

و ممّن صرّح بهذا الإطلاق هو المحقق الأردبيلي؛ حيث قال: «و الظاهر أنّ المراد بها هنا، ما يعطى للحكم حقاً أو باطلاً؛ لأنّه المفهوم الموافق للغة و الخبر. فهو حرم على الراشي أيضاً مطلقاً»(2).

مقتضى التحقيق في المقام حرمة دفع الرشوة على الراشي أيضاً، و ذلك لإطلاقات تحريم الرشوة في الحكم فإنّها تقتضي حرمة دفعها أيضاً مطلقاً حتى للتوصل إلى الحكم بالحق، و لم يرد مقيّد لها، بل يؤكدها الخبر السابق عن دعائم الإسلام.

و أمّا إذا توقّف استنقاذ الحق على دفع الرشوة فإنّما هو خرج عن إطلاقات التحريم بدليل نفي الضرر الحاكم على الأدلّة الأوّلية كما سبق بيانه آنفاً.

فالحق في المقام مع المحقق النراقي و المقدس الأردبيلي، بل يمكن حمل كلام من فصّل بين الآخذ و الدافع فيما إذا توصّل بها إلى الحق، كما في كلام المحقق و العلّامة، أو إلى الحكم بالحق، كما في كلام غيرهما على صورة توقف استنقاذ الحق على دفع الرشوة، كما سبق من المبسوط و الشرائع و المسالك.

و اتضح بذلك أنّ الرشوة إذا توصّل بها إلى الحكم بالباطل لا إشكال في حرمته مطلقاً، بلا فرق بين الراشي و المرتشي، بل هو المتيقن من إطلاقات التحريم.2.

ص: 283


1- وسائل الشيعة 278:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 85، الحديث 2.
2- مجمع الفائدة 49:12.

توقّف أصل الحكم على الرشوة

و أمّا إذا توقف أصل الحكم على الرشوة فإمّا أن ينحصر طريق أخذ حقه في صدور الحكم فيكون من قبيل ما إذا انحصر استنقاذ حقه في دفع الرشوة فيحلّ دفعها حينئذٍ كما قلنا، و إلّا فتوقف الحكم بالحق على دفع الرشوة بمجرّده لا يوجب جواز دفعها، فضلاً عن توقف أصل الحكم عليه. فما لم ينحصر استنقاذ حقه في ذلك مقتضى إطلاقات التحريم حرمة الرشوة دفعاً و أخذاً.

و اتضح بذلك أنّ دفع الرشوة لاستنقاذ حقه فيما إذا انحصر في صدور الحكم بالحق غير دفع الرشوة للحكم بالحق، فالأوّل جائزٌ؛ لانحصار استنقاذ الحق فيه، و الثاني حرام؛ نظراً إلى إطلاقات تحريم الرشوة في الحكم، و إلى ذلك أشار المقدس الأردبيلي بقوله: «و أيضاً الظاهر أنّ التحريم عليه، إذا لم يتوقّف الحكم على ذلك، فإذا توقف يجوز له ذلك، و يكون حراماً على المرتشي. و لكن ليس حينئذٍ أخذاً بالحكم الحق، بل استيفاء الحقّ بوجه، كالمقاصّة، فلا بدّ من التعذّر بكلّ وجه حتّى يحلّ ذلك»(1). و لا يخفى أنّ الجواز في الصورة الأُولى يختص بالراشي و أمّا المرتشي فيحرم له أخذ الرشوة مطلقاً، من غير فرق بين أن كان عالماً بموازين القضاء و حكم بالحق أم لا، و لا بين علمه بقصد الراشي و عدمه.

و قد عرفت مما تقدّم أنّه إذا دفع الرشوة ليحكم له، حقاً كان أو باطلاً يحرم له و للمرتشي كليهما مطلقاً، بلا فرق بين الصور المذكورة.

ص: 284


1- مجمع الفائدة و البرهان 49:12.

تنبيهات

الأوّل: عدم نفوذ حكم الحاكم الآخذ للرشوة

قال السيد في العروة: «لا ينفذ حكم الحاكم الآخذ للرشوة و إن كان على القاعدة و بالحقّ لصيرورته فاسقاً بأخذها. نعم لو تاب بعد الأخذ ثمّ حكم بالحقّ بعد التوبة صحّ و نفذ»(1).

تنقيح الكلام في المقام أنّ الحاكم بأخذه الرشوة يخرج عن العدالة و يصير فاسقاً. و الفاسق لا يصلح للحكم و لا ينفذ حكمه؛ لأنّ الفاسق لم تجعل له ولاية على الحكم. و من لا ولاية له على الحكم لا ينفذ حكمه. نعم إذا تاب بعد الأخذ و ردّ الرشوة المأخوذة إلى صاحبها ينفذ حكمه الصادر منه بعد التوبة؛ نظراً إلى عود عدالته بذلك، إلّا إذا قلنا بأن العدالة ملكة فلا تعود بمجرد التوبة. و لكن لا دليل على ذلك. و هذا البحث موكول إلى محله.

الثاني: الأُجرة على القضاء

يظهر من الشيخ في المبسوط حرمة الأُجرة على القضاء حيث قال: «و إن لم يكن له رزقٌ، قال لهما: لست أقضي بينكما حتّى تجعلا لي رزقاً عليه، حلّ ذلك له حينئذٍ عند قوم و عندنا لا يجوز بحال»(2).

ص: 285


1- ملحقات العروة الوثقى 25:3، مسألة 25.
2- المبسوط 151:8.

و نقل في الجواهر عن أُستاذه كاشف الغطاء في شرحه على القواعد أنّه قال في مسألة الأُجرة على القضاء: «و يعصي الدافع في دفعه إلى القاضي في أحد الوجهين، إلّا إذا توقف تحصيل الحق عليه فيجوز..»(1). قوله: «أحد الوجهين» إشارة إلى الاختلاف في حرمة الأُجرة و أنّ المعصية إنّما هي بناءً على القول بحرمتها.

و حكم في الجواهر بعدم جواز أخذ الجعل للقاضي من المتحاكمين مطلقاً(2). و يظهر من المحقق صاحب الشرائع في المقام التفصيل بين من لم يتعيّن عليه القضاء و كان مضطرّاً إليه و بين غيره، فيجوز في الأوّل دون الثاني. و وجّهه في الجواهر باقتضاء إطلاق تحريم الأُجرة على القضاء تعطيل الوظيفة الشرعية أو تحمّل الضرر و الحرج المنفيين شرعاً. ثمّ أشكل عليه بأنّه لو اقتضى ذلك يقتضي المجّانية حتى مع التعيّن، ثمّ قال: «بل قد يناقش في أصل ذلك بأنّ القضاء إن كان مما يقبل العوض بإجارة أو جعالة جاز و إن لم يكن محتاجاً إلى ذلك، و إلّا لم يجز و إن كان محتاجاً، ضرورة عدم اقتضاء الحاجة انقلاب الموضوع»(3).

و فيه أولاً: أنّ القضاء يقتضي المجّانية لأنّه وظيفة شرعية و عمل يعود نفعها إلى المسلمين، و قد تعلق الأمر به، و هو واجب كفائيٌ، بحيث لو ترك رأساً أثم جميع المتمكنين منه، كدفن الميت و غسله و كفنه. و من هنا لا فرق بين من تعيّن عليه و من لم يتعين عليه القضاء.

و ثانياً: إطلاق تحريم أُجور القضاة، بل عمومه يقتضي حرمة الأُجرة على3.

ص: 286


1- جواهر الكلام 146:22.
2- نفس المصدر 52:40.
3- نفس المصدر: 53.

القضاء مطلقاً، كما في صحيحة عمار بن مروان قال: قال أبو عبد اللّه

و السحت أنواع كثيرة، منها ما أُصيب من أعمال الولاة الظلمة، و منها أُجور القضاة و أُجور الفواجر..(1).

فإنّ إطلاق هذه الصحيحة بل عمومها يقتضي حرمة الأُجرة على القضاء مطلقاً، بلا فرق بين قاضي التحكيم و بين غيرها و لا بين من تعيّن عليه القضاء و من لم يتعيّن عليه.

و عليه فلا يتمّ شيء من التفاصيل الثلاثة المذكورة في المقام: أحدها: التفضيل بين من تعيّن عليه القضاء و بين من لم يتعين عليه. ثانيها: التفصيل بين قاضي التحكيم و بين غيره. ثالثها: التفصيل بينما كان من القضاء يقبل العوض و بين غيره. كما ناقش به في الجواهر(2).

فإنّ القضاء وظيفة شرعية و واجب ديني لأهله يقتضي المجّانية مثل الإفتاء و التبليغ، و عموم صحيحة عمار و إطلاقها ينفيان جميع التفاصيل المزبورة. و يدلّ على حرمتها أيضاً إطلاقات هدايا العمال و الولاة بالفحوى؛ نظراً إلى قداسة عملية القضاء و إلى كون الأُجرة مسبوقة بسؤال القاضي، بخلاف هدايا العمال و الولاة.

فالأقوى في المقام عدم جواز أخذ الأُجرة على القضاء مطلقاً، كما سبق من الشيخ الطوسي آنفاً أنّه لا يجوز بحال.

نعم لو اضطرّ إلى أخذها؛ لعدم ارتزاقه من بيت المال، أو لعدم كفاية ما يرتزقه ضروريات عيشه، فلا إشكال في جواز أخذها له حينئذٍ بقدر ما يرتفع به0.

ص: 287


1- وسائل الشيعة 95:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 12.
2- جواهر الكلام 53:40.

اضطراره، كما هو شأن أيّ محظور آخر؛ حيث يحلّ عند الاضطرار؛ لأنّ الضروريات تبيح المحظورات و لكنها تتقدّر بقدرها و لا يجوز التعدّي عن حدّها. و لعلّ مقصود صاحب الشرائع من اشتراط تعيّن القضاء عليه في جواز أخذ الأُجرة، أنّ في صورة وجود من به الكفاية و عدم تعيّن القضاء عليه، لا يتحقق موضوع الاضطرار، و لكنه غير وجيه لأنّ المجوّز لأخذ الأُجرة هو الاضطرار إلى أخذ الأُجرة، مع عدم كون تعيّن الوجوب من قبيل الاضطرار. و أمّا عمومات تحريم الرشوة في الحكم فلا يصح التمسك بها في المقام؛ لما اتضح سابقاً من الفرق بين الرشوة و الأُجرة. و أمّا التمسك بفحوى إطلاقات تحريم الهدايا العمال و الولاة لا يبتني على صدق عنوان الهدية على الأُجرة، بل من باب تعميم حكم الحرمة إلى الأُجرة بفحوى مدلول تلك النصوص، لما قلناه.

الثالث: هدايا العمّال و الولاة و القضاة

لا إشكال في حرمة أخذ الهدايا للولاة و العمّال و القضاة بإزاء ما يصدر منهم من العمل و القضاء و لحلّ مشاكل الناس و رفع خصوماتهم و قضاء حوائجهم، بلا فرق بين الصور.

و يدلّ على حرمتها مضافاً إلى إطلاقات تحريم الرشوة على الحكم في موارد صدقها إطلاقات تحريم هدايا العمال و الولاة، مثل ما رواه الصدوق في عقاب الأعمال بسنده المعتبر عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) في حديث قال

أيّما والٍ احتجب من حوائج الناس احتجب اللّه عنه يوم القيامة و عن حوائجه، و إن أخذ هديّة كان غلولاً، و إن أخذ الرشوة فهو مشرك(1).

ص: 288


1- وسائل الشيعة 94:17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 10.

هذه الرواية معتبرة حيث لا كلام في رجال سندها، إلّا ابن سنان و أبو الجارود.

أمّا ابن سنان فهو و إن كان متردّداً في نفسه بين محمد و عبد اللّه؛ نظراً إلى نقلهما عن أبي الجارود، إلّا أنّ ابن سنان المطلق ظاهرٌ في عبد اللّه؛ لأنّه أعرف و أكثر رواية و أُصولاً، فإليه تنصرف كنية ابن سنان عند الإطلاق، كما صرّح به غير واحد من علماء الرجال و حققناه في كتابنا مقياس الرواة في مبحث التمييز بين المشتركات، فراجع.

و أمّا أبو الجارود فالأقوى وثاقته؛ لأنّه زياد بن أبي رجاء، كما استظهره النجاشي و وثّقه. و كذا وثّقه محمد بن مسعود، و لم يضعّفه أحدٌ إلّا ما نسب إلى ابن الغضائري أنّه قال: «و زياد هو صاحب المقام، حديثه في حديث أصحابنا أكثر منه في الزيدية. و أصحابنا يكرهون ما رواه محمد بن سنان عنه».

و لكنك عرفت أنّ الظاهر كون ابن سنان الواقع في طريق هذه الرواية هو عبد اللّه بن سنان، لا محمد. هذا مضافاً إلى ضعف نسبة الكتاب إلى ابن الغضائري، كما حققناه في كتابنا مقياس الرواة. فالأقوى وثاقة أبي الجارود و اعتبار سند هذه الرواية.

و من هذه الإطلاقات: ما رواه الحسن بن محمد الطوسي في الأمالي عن أبيه الشيخ الطوسي بسنده عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أنّه قال

هدية الأُمراء غلول(1).

و منها: ما رواه العامّة عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) في حديث قال

ما بال العامل أبعثه، فيقول: هذا لكم و هذا اهدي إليّ، أ فلا قعد في بيت أبيه أو في بيت امّه حتّى ينظر6.

ص: 289


1- وسائل الشيعة 223:27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 6.

أ يهدي إليه أم لا؟ و الذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلّا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثمّ رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثمّ قال

اللّهم هل بلّغت، اللهمّ هل بلّغت(1). و رواه الشيخ في المبسوط مرسلاً عن أبي حميد الساعدي عن النبي و استدلّ به(2).

قوله: «عفرتي إبطيه» بضم العين و فتحها و الأشهر الضمّ مثنى العفرة و هي بياض الإبط، كما عن الأصمعي و غيره. و قوله: تيعر، أي: تصيح. و الرغاء: صوت ذوات الخوف، و قد رغا البعير يرغو رغاءً بالضم و المدّ أي: ضجّ، كما قال في الصحاح، و الخوار: هو الصيحة و الضجّة.

و أيضاً روى الشيخ (قدّس سرّه) مرسلاً عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أنّه قال

هدية العمّال غلول و قال: و في بعضها

هدية العمّال سحت(3).

و قد استدل بهذه النصوص فقهاؤنا أجمع و تلقّوها بالقبول و أفتوا بمضمونها. و لا إشكال في سندها و لا في دلالتها على حرمة أخذ الهدايا للعمال و الولاة و الحكّام في مقام حلّ مشاكل الناس و قضاء حوائجهم مطلقاً. و لا فرق في ذلك بين أخذها قبل قضاء حوائجهم و بين أخذها بعده إذا كان عن تبان بين الدافع و بين الآخذ، بل في صورة عدم التباني يشكل رفع اليد عن إطلاق هذه النصوص إذا كان العامل في مقام ذلك.

و لكن فصّل في المبسوط بين من كانت المهاداة من عادته و بين غيره فحكم بالحرمة مطلقاً في الصورة الثانية، و هي ما إذا لم تكن المهاداة من عادة الدافع. و أمّار.

ص: 290


1- صحيح مسلم 1832/111:4، السنن الكبرى، البيهقي 158:4.
2- المبسوط 151:8.
3- نفس المصدر.

في الصورة الأُولى أي جريان العادة على ذلك فقد فصّل بين حال الحكومة أو إحساس الآخذ كون تقديم الهدية لأجل الحكومة و بين غير هاتين الصورتين، فحكم فيهما بالحرمة و بالكراهة في غيرهما. فإنّه (قدّس سرّه) بعد ما حكم بحرمة أخذ الهدية للعامل ممن لم تجر عادته على المهاداة قال: «هذا إذا اهدي له من لم يجر له بمهاداته عادة، فأمّا إن كان ممن جرت عادته بذلك، كالقريب و الصديق الملاطف نظرت، فإن كان في حال حكومة بينه و بين غيره أو أحس بأنّه يقدمها لحكومة بين يديه حرم عليه الأخذ كالرشوة سواء و إن لم يكن هناك شيء من هذا فالمستحب أن يتنزّه عنها»(1). و قد استحسنه الشهيد في المسالك(2).

ثمّ إنّ هذه النصوص تدلّ على حرمة أخذ الهدية للقضاة بالفحوى؛ لأنّ فعل القضاء و الحكم بين الناس أشد قداسةً و أوجب وظيفةً.

و يظهر من صاحب الجواهر تضعيف هذا التفصيل في الحاكم، بدعوى ضعف سند إطلاقات تحريم هدايا العمّال و عدم صدق الرشوة. فإنّه قال: «و في غير واحد من كتب الأصحاب أنّه قيل يحرم على الحاكم قبول الهدية إذا كان للمهدي خصومة في المال، لأنّه يدعو إلى الميل و انكسار قلب الخصم، و كذا قيل إذا كان ممن لم يعهد عنه الهدية له قبل تولي القضاء، لأنّ سببها العمل ظاهراً، و في الخبر

هدايا العمال غلول و في آخر

سحت لكن في الرياض و غيره بعد نقله أنّه أحوط و إن كان في تعيينه و لا سيّما الأوّل نظر، للأُصول و قصور سند الخبرين و ضعف الوجوه الاعتبارية مع عدم تسمية مثله رشوة»(3).2.

ص: 291


1- المبسوط 152:8.
2- مسالك الأفهام 420:13.
3- جواهر الكلام 147:22.

و فيه أوّلاً: أنّ بعض إطلاقات المقام معتبر سنداً مثل ما سبق نقله عن الصدوق في عقاب الأعمال.

و ثانياً: أنّ مشهور القدماء و المتأخرين عملوا بهذه النصوص و أفتوا بإطلاقها، كما اعترف هو (قدّس سرّه) أنّ ذلك في كتب غير واحد من الأصحاب، فلا يختص ذلك بالشيخ و الشهيد و لا بالمعدود من الفقهاء. هذا، و لكن يظهر منه في كتاب القضاء خلاف ذلك؛ حيث فصّل هناك بينما لو كانت الهدية لغرض الرشوة، و بينما إذا لم تكن كذلك، فحكم بالحلّية في الصورة الثانية و بالحرمة في الصورة الأُولى. فإنّه (قدّس سرّه) بعد ما حكم بوجوب إعادة الرشوة إلى صاحبها، حتى لو وقعت في ضمن عقد هبة أو بيع محاباة أو وقف قال: «يتضح منه الأمر في الهدية أيضاً، ضرورة أنّه متى كانت أيضاً رشوة لحقها حكم الهبة رشوةً حرمةً و فساداً، أمّا إذا لم تكن رشوة و لا متوصلاً بها إلى باطل أو جزاءً عليه فلا ريب في حليتها، و إطلاق النصوص أن هدايا العمال غلول و سحت و نحو ذلك يمكن إرادة المدفوعة لهم دفعاً للباطل و نحوه منهم منه، و هو شيء آخر غير الرشوة التي هي محرّمة»(1).

و فيه: أنّ قيد توصّل المهدي إلى الباطل بدفع الهدية خلاف إطلاقات تحريم هدايا العمال و لا دليل لحملها على ذلك و لا نقول بكون حرمتها لأجل صدق عنوان الرشوة، بل هي بعنوانها متعلّقة للتحريم. و على أيّ حال فلا دليل على شيء من هذه التفاصيل. و الأقوى حرمة أخذ الهدية للاُمراء و العمال و الولاة و القضاة مطلقاً. نعم يجوز دفعها للمهدي إذا توقف استنقاذ حقه عليه أو كانت من عادته أو بدواع اخرى، و لم يقصد بذلك التوصل إلى قضاء حاجته بأيّ وجه.0.

ص: 292


1- جواهر الكلام 132131:40.

ضمان المرتشي الرشوة المأخوذة

و يجب على المرتشي إعادتها إلى صاحبها (1)؛ من غير فرق في جميع ذلك بين أن يكون الرُّشى بعنوانه أو بعنوان الهبة أو الهديّة أو البيع المحاباتي و نحو ذلك.

(1) أخذ الرشوة لمّا كان حراماً على المرتشي. و كانت الرشوة ملك الغير فليست يد المرتشي يد أمانة، فيترتب عليه ضمان اليد، و يجب عليه إعادتها فوراً. و ما لم يردّها لا يتخلّص من ضمانها بمقتضى قاعدة «على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه».

و لو أتلفها فعليه ردّ مثلها في المثلي و قيمتها في القيمي، كما هو مقتضى القاعدة في ضمان المتلفات. و هذا لا خلاف فيه، إلّا عن بعض العامة، كما يظهر ذلك من الشهيد في المسالك؛ حيث قال: «و يجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها على خلاف بعض العامّة، حيث ذهب إلى أنّه يملكها و إن فعل حراماً، لوجود التمليك و القبول، و آخرين حيث ذهبوا إلى أنّه يضعها في بيت المال»(1).

و أمّا فقهاؤنا فلم يعهد منهم الخلاف في ذلك، و قد جعل ذلك في مجمع الفائدة(2) أمراً ظاهراً واضحاً، بل ادّعى عليه الإجماع في المستند؛ حيث قال:

ص: 293


1- مسالك الأفهام 423422:13.
2- مجمع الفائدة و البرهان 50:12.

«و يجب على المرتشي ردّها على الراشي و إن بذلها برضى نفسه مع بقاء عينها إجماعاً، و الوجه فيه ظاهر.

و يجب عليه ردّ عوضها مع تلفها أيضاً و إن لم يكن التلف بتفريطه وجوباً فوريّاً، على المصرّح به في كلام الأصحاب، بل نفي الخلاف بيننا عنه، و عن ظاهر المسالك و غيره: إجماعنا عليه»(1).

و قد عرفت من كلامه أنّ وجوب الإعادة لا يختصّ بصورة عدم رضى الراشي، بل يجب ردّها عليه، و إن بذلها الراشي برضى نفسه.

و لكن تأمّل في المستند فيما لو بذلها بطيب نفسه، سيّما إذا حكم له بالحق بقوله: «و أمّا لو بذلها بطيب نفسه سيّما إذا حكم له بالحقّ فإن ثبت الإجماع على ثبوت غرامتها عليه و ضمانه إيّاها مطلقاً، و إلّا فللتأمّل فيه للأصل مجال واسع».

و فيه: أنّ الرشوة لمّا كانت حراماً على المرتشي مطلقاً و لو دفعها الراشي تبرّعاً و عن طيب نفسه، فلا بدّ أن يحرم تصرّفها و أخذها للمرتشي مطلقاً، فيجب عليه الإعادة حينئذٍ.

و ذلك لأنّ حرمة أخذ الرشوة للمرتشي لم تكن منوطة بعدم رضى الراشي؛ لكي ينوط وجوب ردّها بعدم رضاه، نعم لو ردّها إليه و امتنع من أخذها يتعين عليه ردّها إلى بيت المال؛ نظراً إلى ارتزاقه من بيت المال بإزاء عمله أو قضائه، فعليه أن يردّ ما أخذه بإزاء ذلك إلى كيس من صار عمله له في قبال ارتزاقه. و إنّما صار عمله للمسلمين في قبال ارتزاقه من بيت مالهم.7.

ص: 294


1- مستند الشيعة 74:17.

هذا في الرشوة، و كذلك الكلام في الهدية. فلمّا كان أخذها و قبولها رشوةً، حراماً على القضاة، يجب عليهم ردّها إلى المهدي المالك لها. و إن امتنع من قبولها فيجب عليهم ردها إلى بيت المال، كما قلنا.

و كلّما إذا جاز للولاة و العمال أخذ الهدية فالأحوط الأولى أن يجعلها في بيت المال؛ رعاية لإطلاقات تحريم هدايا العمال و الولاة الشاملة لجميع الصور.

و يشهد لذلك ما قال الشهيد في المسالك: «و حيث جاز الأخذ فالأولى أن يثبت عليها أو يضعها في بيت المال»(1). قوله: «يثبت عليها» أي: يقاوم على عدم قبول الهدية.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ ضمان المرتشي للرشوة المأخوذة في صورة رضى الراشي و بذلها التبرعي إنّما هو بدليل أنّ عمله ملك للمسلمين بإزاء ما يرتزقه من بيت المال، فيجب عليه ردّ ما أخذ من المال بإزاء عمله إلى بيت مال المسلمين.

نعم لو لم يرتزق منه كما في قاضي التحكيم و كان مضطراً إلى أخذها يرتفع عنه الضمان ما دام مضطراً و لكن بمجرد رفع الاضطرار و التمكن يجب عليه إعادتها. و أمّا لو أحرز رضى الراشي و امتناعه من استرداد ما دفعه، لا يجوز له التصرف بأيّ وجه ما لم يضطرّ إليه؛ لكون ما أخذه رشوة و سحتاً و غلولاً، بل عليه أن يرده إلى بيت المال أو يتصدق به عن مالكه؛ رعايةً لاحتمال عدم انقطاع الملك عن مالكه، حتى بعد إعراضه، ما لم يأخذه أحدٌ بقصد الحيازة و التملّك. و ليس حكم الأصحاب بوجوب الرد لقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»؛ لكي يرد عليه ما أشكل3.

ص: 295


1- مسالك الأفهام 421:13.

به في العروة(1) تارةً: بأنّه أخصّ من المدّعى؛ إذ قد يعطي الراشي مجاناً و تبرعاً برضى نفسه فهو الهاتك لحرمة ماله. و أُخرى: بعدم دليل على القاعدة.

و على أيّ حال فإذا عقد المرتشي معاملة بالرشوة، فإن كانت المعاملة على جهة الرشوة بنفسها فتبطل؛ نظراً إلى تعلق النهي حينئذٍ بنفس عنوان المعاملة الكذائية.

و أمّا إذا عقد المعاملة، لا لجهة الرشوة، و لكن دفع الرشوة ثمناً أو مبيعاً، فإن كانت المعاملة على عوضين كلّيين و دفع الرشوة في مقام التسليم صحّت المعاملة، و لكنه ضامن للعوض. و يجب عليه إعادة الرشوة إلى مالكها. و أمّا إذا كانت المعاملة واقعة على عين الرشوة يبطل العقد؛ نظراً إلى كون العوض حراماً و سحتاً و غلولاً.

تذنيب صورة الشك في الرشوة موضوعاً أو حكماً

إنّ الشك في الرشوة تارة: يقع في صدق عنوانها و تحقق موضوعها، و أُخرى: في حكمها بعد الفراغ من صدق عنوانها، فيشكّ في شمول إطلاقات التحريم لها، كما لو بذل الرشوة في غير الحكم، أو لأجل التوصل بها إلى الحكم بالحق، فيشك في شمول إطلاقات تحريم الرشوة لمثل هذه الرشوة، و لا سيّما بالنسبة إلى الراشي.

أمّا إذا شك في صدق عنوان الرشوة فمقتضى القاعدة، الحلية إذا علم الآخذ

ص: 296


1- العروة الوثقى 24:3، مسألة 24.

رضي الدافع و أحرز أنّه دفع المال إليه عن طيب نفسه. و ذلك لأنّه ليس رشوة لتشمله إطلاقات التحريم و لا يكون تصرفه حينئذٍ عدوانيا بغير رضى مالكه؛ لكي تشمله إطلاقات حرمة التصرف في ملك الغير، بل يدخل في عقد المستثنى في قوله (عليه السّلام)

إلّا بطيبة نفسٍ منه و يخرج عن عقد المستثنى منه و هو

لا يحل مال امرءٍ مسلم(1). و هذا هو المراد من الأصل في كلمات الأعلام، كالمحقق النراقي في المستند(2) و كذا يظهر من صاحب الجواهر حيث قال: «و ما كان منها محل شك فالأصل يقتضي حليته»(3).

هذا و لكن قال في العروة: «إذا شك في كون شيء رشوة أو لا؟ من حيث الحكم، بأن كان من الشبهة الحكمية لا الموضوعية، كما إذا شك في أنّ البذل للحكم له بالحق رشوة محرمة أو لا؟ أو شك في أنّ الأخذ مع عدم التأثير رشوة أو لا؟ فالأصل البراءة من حرمته»(4).

تنقيح كلامه أنّ الشك في صدق عنوان الرشوة إذا كان لأجل الجهل بحال الدافع بأنّه هل قصد الرشوة بذلك أم لا؟ فما لم تكن قرينة على قصده الرشوة يحكم بالحلية؛ حملاً لفعله على الصحة بمقتضى قاعدة أصالة الصحة. و أمّا إذا كانت هناك قرينة على إرادته الرشوة، كما إذا لم يكن من عادته ذلك قبل المرافعة، فلا إشكال في حرمته. و من تلك القرائن دفعها حال المرافعة، فيحكم بحرمتها، إمّا لصدق8.

ص: 297


1- وسائل الشيعة 120:5، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، الباب 3، الحديث 1.
2- مستند الشيعة 74:17.
3- جواهر الكلام 148:22.
4- العروة الوثقى 25:3، مسألة 28.

عنوان الرشوة عليها عرفاً، أو لدخولها في إطلاقات تحريم هدايا العمال و الولاة فيحكم بحرمتها تعبداً، و لو لم يصدق عنوان الرشوة.

هذا لبّ كلام السيد في المقام.

و لكنّه لم يتعرّض لصورة، و هي ما إذا شك في صدق عنوان الرشوة، لا من أجل الجهل بحال الدافع و عدم الاطلاع عن مقصوده، و عدم قرينة كاشفة عن قصده أو رافعة للشك، بل لأجل الشك في صدق عنوان الرشوة في نفسه عرفاً، كما لو دفع إلى القاضي مالاً في غير حال المرافعة، و لا قرينة على قصده، أو دفع مالاً إلى الوالي و العامل لقضاء حاجته لا لظلم أو إبطال حق. و هذه الصورة التي أشرنا إليها هاهنا هي عمدة موارد الشك.

و التحقيق حينئذٍ الرجوع إلى مقتضى أصل البراءة و الحلية، كما قلنا.

هذا تمام الكلام في الرشوة إلى الحكّام و الولاة و العمّال.

و الحمد للّه أولاً و آخراً و صلواته على محمد و آله سرمداً. العبد الخجلان من ساحة ربّه الغفّار على أكبر السيفي المازندراني

ص: 298

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.