تذكرة الاعيان

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : تذكره الاعيان : يحتوي علي ترجمه لفيف من اعيان المتكلمين و الفقهاء/ تاليف جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق(ع) ، 1429ق. = 1387 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : 978-964-357-327-0

ص: 458

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرست نويسي بر اساس جلد دوم: 1429ق.= 1387.

يادداشت : كتابنامه .

موضوع : متكلمان -- سرگذشتنامه

موضوع : فقيهان -- سرگذشتنامه

موضوع : مجتهدان و علما -- سرگذشتنامه

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندي كنگره : BP153/1 /س 2ت 4 13 00ي

رده بندي ديويي : 297/392

شماره كتابشناسي ملي : 2983273

[مقدمة المؤلف]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الذي فضل مداد العلماء علي دماء الشهداء، و جعلهم ورثة الأَنبياء، و مصابيح الهدي في اللجج الظلماء.

و الصلاة و السلام علي سيد الأَنبياء محمّد و آله الأَتقياء.

أمّا بعد: فقد بعث النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- بشريعة بيضاء متكاملة الجوانب أُنيطت بها سعادة البشر في آجله و عاجله، فبقاؤها و استمرارها كظهورها رهن عوامل ساهمت مساهمة فعالة، أبرزها الدور الذي قام به أئمّة أهل البيت- عليهم السلام- من خلال تربية طليعة واعية أخذوا الشريعة من منهلها العذب و معينها الصافي و نشروها في الأُمّة بغية صيانتها عن الزوال و الاندثار، و قد تلتهم طبقات أُخري من العلماء ورثوا هذه المهمة الصعبة منهم، فأخذوا علي عاتقهم نشر الشريعة و بيان العقيدة عبر القرون، فتجلّت جهودهم الفكرية و العلمية في كتبهم و آثارهم الخالدة.

فالواجب المحتّم علي الأُمّة الإِسلامية هو تقدير جهودهم، و تثمين أعمالهم، و إحياء مآثرهم للحيلولة دون أن يغمر ذكرهم و تنطمس معالمهم.

و انطلاقاً من هذا المبدأ فقد عطرت كتب المعاجم و السير بأسمائهم، و أُلّفت في سيرهم

عشرات الكتب يقف عليها كلّ من سبر رفوف المكتبات و مخازن الكتب.

تذكرة الأعيان، ص: 6

و قد كنت منذ ريعان شبابي و حداثة سني ذا ولع خاص بالاطّلاع علي تراجم علمائنا الأَبرار و الوقوف علي آثارهم، و أوّل من فتح عيني علي هذا العلم هو شيخي و أُستاذي الكبير الشيخ محمد علي المدرس الخياباني التبريزي (1296 1373) مؤَلّف «ريحانة الأَدب في ترجمة من اشتهر بالكني و اللقب» فإنّه رحمه اللّه أخذ بيدي و أجالني في رياض ذلك العلم و بساتينه، و علي ما أُلّف في ذلك المضمار من قديمه و جديده.

هذا ممّا دعاني إلي أن أقوم ببعض هذا الواجب و أتحمل أعباءه من خلال ترجمة طائفة من فقهائنا الأَبرار و علمائنا الكرام الذين كانت لهم منزلة كبيرة في سماء العلم، و لم أقتصر علي ذلك فحسب، بل أوعزت إلي نكات علمية و تاريخية لا غني للباحثين عنها، و لما كانت تلك البحوث مبعثرة في مقدمات الكتب المنشورة بين الحين و الآخر ألحَّ عليّ بعض روّاد العلم بجمع شملها في كتاب واحد كي يسهل تناولها، فنزلت عند رغبتهم و قمت بجمع شواردها مرتباً إيّاها علي حسب وفيات المترجمين، عسي أن ينتفع بها رواد العلم و طلاب الفضيلة.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين جعفر السبحاني قم المقدسة، مؤَسسة الامام الصادق- عليه السلام في 16 ذي القعدة الحرام من شهور عام 1418 ه.

تذكرة الأعيان، ص: 7

[قائمة في ترجمة طائفة من الفقهاء و العلماء الإمامية]

1- محمد بن مسلم بن رباح الثقفي الطائفي (80- 150 ه)

خريج جامعة الامام الصادق- عليه السلام

كان المسلمون في عصر الرسول- صلي الله عليه و آله و سلم- أُمّة متراصّة الصفوف ذات أهداف واحدة، و كان النبي الكريم- صلي الله عليه و آله و سلم- هو القطب الذي تدور عليه رحي الإِسلام و تلتف حوله الأُمّة، كلّما

نجم شقاق بين المسلمين أو فصائلهم، عالجه بحكمته السديدة و قيادته الرشيدة.

و لقد كان الحفاظ علي العقيدة و الشريعة، يتطلب وجود قيادة رشيدة، و مرجعيّة حكيمة، تنطق بالكتاب و السنّة بعد رسول اللّه صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم حتي تلتفّ حولها الأُمّة، و تقوم بدورها في معالجة كل مشكلة تحدث، و رأب كل صَدع يطرأ علي حياتهم في ضوء الكتاب و السنّة.

و كان رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- قد عالَجَ بالفعل هذه الناحية الهامّة في حياة المسلمين المستقبلية، برسم خط القيادة من بعده، و ذلك من خلال التعريف بأهل بيته المطهَّرين، و إلفات نظر الأُمّة إليهم في مواضع عديدة، و بأساليب متنوّعة، واضحة و قاطعة.

غير أنّ الأُمّة تجاهلت و لشديد الأَسف هذا الأَمر و أقصَتْ أهلَ البيت

تذكرة الأعيان، ص: 8

عن الحكم، و عزلتهم عن الدور المهمّ المرسوم لهم في قيادة و هداية الأُمّة بعد النبي- صلي الله عليه و آله و سلم-، و لمّ شعثهم، و قيادة سفينتهم في خضمِّ الأَمواج العاتية، علي غرار ما كان يفعله رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- في عهده المبارك.

و لأَجل هذا الانحراف في خطّ القيادة، نجم الخلاف الحاد بين المسلمين، في شتي النواحي السياسية و العقائدية و التشريعية.

فالشقاق المستمر بين الأُمّة و عمّال الخُلَفاء، و الحروب الدامية بين صفوف الأُمّة كان من نتائج الابتعاد عن قيادة أهل البيت الرشيدة التي رسمها النبي صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم في حياته الشريفة و عهده المبارك، إلي أن آل أمر الخلافة إلي مُلك عضوض يرث فيه المُلك واحدٌ بعد واحد، و فاسد تلو فاسد، و يتلقّفه ولد بعد والد!! إنّ

السنّة النبويّة هي الحجّة الثانية بعد الكتاب العزيز، و كان المسلمون في أمس الحاجة إليها، و لكن صارت كتابتُها و التحدّث بها أمراً ممنوعاً قرابة قرن و نصف القرن، بينما كان التحدّث بالاساطير من قِبَل مُسلِمة أهل الكتاب (من أحبار اليهود و قساوسة النصاري) أمراً مسموحاً به!! لقد أنتج هذا الابعاد للقيادة الإِسلامية الحقة، و الابتعاد عنها و ما تلاهما من أُمور، ظهور شقاق، و اختلاف بين المسلمين في شتي المجالات.

أمّا في السياسة فقد عرفت.

و أمّا في مجال العقيدة، فقد ظهرت فيهم آراء و أفكار خطيرة مستلهمة أغلبها من اليهود و النصاري.

فمن محدّثٍ يُثبت للّه سبحانه الجسم و الصورة، و الأَعضاء و الجوارح، و الزمان و المكان، و الحركة و الانتقال، و الجهة و الرؤية غير مكترث بقداسة الذات الإِلهيّة، و تنزّهها عن مشابهة المخلوقين، و يري أنّ هذه هي العقيدة الإِسلامية التي جاء بها القرآن الكريم و صدع بها الرسول العظيم- صلي الله عليه و آله و سلم-.

تذكرة الأعيان، ص: 9

إلي جَهميّ يرفع عقيرته بالجبر، و سلب الاختيار عن الإِنسان، و ينكر في المآل ضرورة بعث الأَنبياء، كما يصرّح بفناء النار في الآخرة مُأوِّلًا خلود الكفّار فيها، و الذي صرّح به القرآن الكريم.

إلي قدَريّ يفسّر القَدَر في مجال أفعال البشر كعامل قهري يرسم حياة الإِنسان، و يفرض عليه أفعاله، بحيث لا يكون الإِنسان قادراً علي أن يحيد عن ذلك قيد شعرة، بل لهذا القَدَر الذي هو فعلُ اللّه، من السيادة علي اللّه تعالي، بحيث لا يقدر هو سبحانه علي تغييره.

إلي متفقّة يري الكتاب و السُّنّة، غير وافيين بالتشريع، و بيان الحلال و الحرام، فعاد يلتجي إلي مقاييس ظنيّة و معايير استحسانية ما أنزل اللّه

بها من سلطان، فصار التشريع حلبة الاختلاف، و مضمار الشقاق، حتي أنّك لا تري فرعاً عملياً من الفروع اتّفقت عليه أئمّة المذاهب الفقهيّة إلّا الشاذّ النادر.

إلي داعٍ إلي الثنوية بشكل غير مباشر حيث يري للإِنسان إرادة مطلقة، و اختياراً مستقلا، كأنّه في غني في أفعاله عن اللّه سبحانه، و هو بهذا يشبه إله الأَرض.

إلي متفلسفٍ يخضع لتيّارات و آراء فلسفية مستورَدَة، من دون أن يقيّم مفاهيمها في ضوء الكتاب و السنّة و العقل السليم.

إلي ملاحدة ظهروا بين المسلمين، و أُعطيَت لهم حرية واسعة في العمل و الدعوة، فراحوا يضلّلون الناس، و يسفّهون أقوال الالهيين و ينكرون الشرائع و الأَديان من الأَساس.

إلي غير ذلك من الفرق و الطوائف و الاتجاهات و التيارات المعكّرة لصفو العقيدة الإِسلامية و المكدّرة لنقاء النظام الإِسلامي.

تذكرة الأعيان، ص: 10

كان هذا هو وضع الأُمّة الإِسلامية، و حالهم في القرون التي أعقبت وفاة رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم-.

و في تلك الظروف بالذات كان في الجانب الآخر شيعة أئمّة أهل البيت- عليهم السلام- و كانوا علي موقفين: موقف يري الثورة علي الحكومات التي كانت وراء هذا الشقاق و الاختلاف، و تدهور الوضع السياسي و الفكري و الاجتماعي و ربما كان هذا الموقف صحيحاً في بعض الحالات بل و مثمراً.

و موقف يري أنّ الثورة المسلّحة لا تأتي في ظرف خاص طبعاً إلّا بالضرر و الخسارة الكبري، و أنّه لا بدّ من العمل الفكري و بثّ العقيدة الصحيحة، و مكافحة التيارات المنحرفة و الفاسدة، عبر تربية الدعاة الصالحين، و حمَلَة الفقه و الحديث الواعين، و إرشاد الناس إلي ما هو الصحيح في مجالات الفكر و الفقه، و العقيدة و الشريعة.

فهو بالتالي الأسلوب

الناجح، و الدواء الناجع، للأُمّة في حاضرها، و مستقبلها، و ذلك نظَراً لتعاظم قوة الحكومات آن ذاك، و قدرتها علي الفتك بمعارضيها، و محوهم محواً كاملًا لا يُبقي و لا يذر.

و هنا تكمن أهمية الدور الحضاري لجامعة الامام جعفر الصادق الكبري التي عالجت مشاكل مستعصية و أحيت الحضارة الإِسلامية، و ذلك:

1- ببيان العقيدة الإِسلامية المأخوذة من الكتاب و السنّة و خطب الإِمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- عليه السلام- و العقل الحصيف، و ردّ السهام المرشوقة إلي توحيد اللّه سبحانه و صفاته، و قداسة الأَنبياء، و سائر قضايا العقيدة.

و كفي لمعرفة هذا ما دوّنه المحدّث الكبير الشيخ الصدوق (306 381 ه)

تذكرة الأعيان، ص: 11

في كتابه القيم «التوحيد»، حيث يري المتتبع في أحاديثه بياناً مشرقاً في مجال توحيد الافعال، و تنزيهاً رائعاً لأَفعاله سبحانه عن الحيف و الظلم، و الجبر و إرادة القبيح، و وصفاً لائقاً لمقام النبوّة و الأَنبياء في مجال تلقّي الوحي و التبليغ، و علي صعيد السلوك و المعاشرة.

2- كان تدوين الحديث و نشره، و التحدّث بكلام رسول اللّه صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم أمراً محظوراً و قد أُضفي علي تدوينها ثوبُ البدعة، و صار لترك التحدّث بالسُّنة الشريفة قداسة بين الأُمّة، غفلةً عمّا يترتب علي هذا الموقف من خسائر جمّة.

و لكن الامام الصادق- عليه السلام- قام غير مكترث بقرار الحظر الذي كان سائداً منذ زمن الخلفاء إلي عصره بنشر أحاديث الرسول صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم آخذاً إياها من عين صافية لم تعكر صفوها الأَهواء و الأَوهام، إذ رواها عن طريق آبائه المطهرين عن عليّ عن رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- عن جبرئيل

عن اللّه سبحانه.

و بذلك أعاد الحديث النبوي الشريف إلي حياة الأُمّة الإِسلامية مجرّداً عن الاساطير منزهاً عن بدع اليهود و النصاري.

3- تربية جيل عظيم، و ثلّة جليلة تربية أخلاقية و معنوية و علمية لتحمل هذه الرسالة من بعده، و نشر الأَحاديث و الروايات الشريفة في الاجيال اللاحقة.

و لقد تخرّج من مدرسة الامام الصادق- عليه السلام- ثلّة كريمة واعية من المتكلّمين الذابين عن حياض العقيدة، و الفقهاء و المحدّثين البارعين في حقل الشريعة و المفسرين و غيرهم ممن اعترفت الأُمّة بفضلهم، و استمرت بواسطتهم الهداية الإِلهية إلي القرون المستقبلة، و الأَجيال اللاحقة.

و كان من تلك الثلّة المباركة: محمد بن مسلم و هو الفقيه أبو جعفر الكوفي

تذكرة الأعيان، ص: 12

المعروف بالاوقص، أحد أئمّة العلم في الإِسلام، و أحد وجوه الشيعة بالكوفة، اختص بالامامين أبي جعفر الباقر و أبي عبد اللّه الصادق عليمها السَّلام، و روي الشي ء الكثير من علومهما، و قد وقع في أسناد كثير من الروايات تبلغ ألفين و مائتين و ستة و سبعين مورداً.

روي عنه: يونس بن عبد الرحمن، و العلاء بن رزين، و عمر بن أذينة، و جميل ابن درّاج، و محمد بن حمران، و يعقوب الأَحمر، و حماد بن عثمان، و عبد الحميد الطائي، و خلق كثير.

و كان فقيهاً محدّثاً و من الأَعلام المأخوذ عنهم الحلال و الحرام و الفتيا و الأَحكام، له كتاب يسمّي: الأَربعمائة مسألة في أبواب الحلال و الحرام، و لقد ورد في روايات صحيحة عن أهل البيت لا سيما الباقرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

و إليك فيما يأتي طائفة من الروايات و الأَخبار المادحة الصادرة من الإِمامين الهمامين الامام الباقر و الإِمام الصادق سلام اللّه عليهما.

مكانة محمد بن مسلم عند الصادقين عليمها السَّلام

لقد أثني الإِمامان الجليلان

الباقر و الصادق عليمها السَّلام علي حافظنا الكبير و أقرانه علي وجه لا نري مثله في حقّ غيره من تلاميذهما و خريجي منهجهما، و إليك البيان:

1- قال الصادق- عليه السلام-: أحبُّ الناس إليّ أحياء و أمواتاً أربعة: بريد بن معاوية العجلي، و زرارة، و محمد بن مسلم، و الأَحول، و هم أحبُّ النّاسِ إليّ أحياءً و أمواتاً «1».

2- روي أبو عبيدة الحذّاء قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السلام- يقول:

______________________________

(1) الكشي: اختيار معرفة الرجال، برقم: 215.

تذكرة الأعيان، ص: 13

«زرارة، و أبو بصير، و محمد بن مسلم، و بريد من الذين قال اللّه تعالي: (وَ السّٰابِقُونَ السّٰابِقُونَ. أُولٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)» «1».

3- روي سليمان بن خالد الأَقطع، قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول: «ما أحد أحيي ذكرنا و أحاديث أبي- عليه السلام- إلّا زرارة، و أبو بصير ليث المراديّ، و محمد بن مسلم، و بريد بن معاوية العجلي، و لو لا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حفّاظ الدين و أُمناء أبي، علي حلالِ اللّه و حرامه، و هم السابقون إلينا في الدنيا، و السابقون إلينا في الآخرة» «2».

4- قال الصادق و هو يصف لفيفاً من أصحاب أبيه: «هم مستودع سرّي، أصحاب أبي حقّا إذا أراد اللّه بأهل الأَرض سوءاً صرف بهم عنهم السوءَ، هم نجوم شيعتي أحياء و أمواتاً، يحيون ذكر أبي- عليه السلام-، بهم يكشف اللّه كلّ بدعة، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين، و تأوّل الغالين» ثم بكي فقلت: مَنْ هم؟ فقال: «مَنْ عليهم صلوات اللّه و رحمته أحياءً و أمواتاً: بريد العجلي، و زرارة، و أبو بصير، و محمد بن مسلم» «3».

5- سأل عبد اللّه بن أبي يعفور أبا عبد اللّه الامام الصادق-

عليه السلام و قال: إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك، و لا يمكن القدوم و يجييَ الرجل من أصحابنا فيسألني، و ليس عندي كلّما يسألني عنه، قال: «فما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنّه قد سمع من أبي و كان عنده وجيهاً» «4».

6- روي زرارة قال: شهد أبو كريبة الأَزديّ و محمد بن مسلم الثقفي عند شريك بشهادة و هو قاض، فنظر في وجوههما مليّاً، ثم قال: جعفريان فاطميّان! فبكيا، فقال لهما: ما يُبكيكما؟ قالا له: نسبتنا إلي أقوام لا يرضَون بأمثالنا أن يكونوا من إخوانهم، لما يرون من سخف ورعنا، و نسَبْتنا إلي رجل لا يرضي بأمثالنا أن

______________________________

(1) الكشي: اختيار معرفة الرجال، برقم: 218، 219، 220، 273.

(2) الكشي: اختيار معرفة الرجال، برقم: 218، 219، 220، 273.

(3) الكشي: اختيار معرفة الرجال، برقم: 218، 219، 220، 273.

(4) الكشي: اختيار معرفة الرجال، برقم: 218، 219، 220، 273.

تذكرة الأعيان، ص: 14

يكونوا من شيعته فان تفضّل و قبلنا فله المنّ علينا و الفضل، فتبسم «شريك» ثمّ قال: إذا كانت الرجال فلتكن أمثالكم، يا وليد أجزهما هذه المرّة! قال: فحججنا فخبّرنا أبا عبد اللّه- عليه السلام- بالقصة فقال: «ما لشريك، شركه اللّه يوم القيامة بشراكين من نار» «1».

7- روي أبو كهمس قال: دخلت علي أبي عبد اللّه- عليه السلام- فقال لي: «شهد محمد بن مسلم الثقفي القصير عند ابن أبي ليلي بشهادة فردّ شهادته؟» فقلت: نعم.

فقال: «إذا صرت إلي الكوفة فأتيت ابن أبي ليلي إلي أن قال: فقل له: يقول لك جعفر بن محمد ما حملك علي أن رددت شهادة رجل أعرف منك بأحكام اللّه و أعلم بسيرة رسول اللّه منك؟».. فقال لي: و من هو؟ فقلت: محمد بن مسلم

الطائفي القصير، قال: فقال: و اللّه انّ جعفر بن محمد قال لك هذا؟ قال: فقلت: و اللّه إنّه قال لي جعفر هذا، فأرسل إلي محمد بن مسلم فدعاه، فشهد عنده بتلك الشهادة فأجازه «2».

8- قال الامام الصادق- عليه السلام-: «بشّر المخبتين بالجنة..، و محمد بن مسلم، أربعة نجباء أُمناء اللّه علي حلاله و حرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة و اندرست» «3».

9- و قال- عليه السلام-: «إنّ أصحاب أبي كانوا زيناً أحياءً و أمواتاً، أعني: زرارة، و محمد بن مسلم، و منهم ليث المرادي، و بريد العجلي، هؤلاء القوّامون بالقسط، هؤلاء القوّامون بالقسط، و هؤلاء السابقون، السابقون أُولئك المقربون» «4».

10- روي عبد اللّه بن محمد بن خالد الطيالسي، عن أبيه، قال: كان محمد ابن مسلم من أهل الكوفة يدخل علي أبي جعفر- عليه السلام- فقال أبو جعفر: «بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ».

______________________________

(1) اختيار معرفة الرجال، برقم 274، 277، 286، 287.

(2) اختيار معرفة الرجال، برقم 274، 277، 286، 287.

(3) اختيار معرفة الرجال، برقم 274، 277، 286، 287.

(4) اختيار معرفة الرجال، برقم 274، 277، 286، 287.

تذكرة الأعيان، ص: 15

و قال أيضاً: كان محمد بن مسلم رجلًا شريفاً موسِراً، فقال له أبو جعفر عليه السَّلام: «تواضع يا محمد!» فلمّا انصرف إلي الكوفة أخذ قوصرة من تمر مع الميزان و جلس علي باب مسجد الجامع و جعل ينادي عليه، فأتاه قومه فقالوا له: فضحتنا، فقال: إنّ مولاي أمرني بأمر فلن أُخالفه و لن أبرح حتي من بيع باقي هذه القوصرة «1».

هذا هو محمد بن مسلم في لسان الصادقين عليهما السَّلام، و نصوصهما يكفينا عن توثيق أي موثّق، و مع ذلك لابن مسلم مع المتسنمين لمنصّة الإِفتاء و القضاء في عصره قضايا جميلة

تعرب عن خضوعهم له في القضاء و الإِفتاء.

1- روي الكليني في الكافي أنّ رجلًا قدّم إلي ابن أبي ليلي خصماً له، فقال: إنّ هذا باعني هذه الجارية، فلم أجد علي ركبها حين كشفتها شعراً، و زعمت انّه لم يكن لها قط، فقال ابن أبي ليلي: إنّ الناس يحتالون لهذا بالحيل حتّي يذهبوا به، فما الذي كرهت؟ قال: أيّها القاضي إن كان عيباً فاقض لي به، قال: اصبر حتي أخرج إليك فإنّي أجد أذي في بطني، ثمّ دخل و خرج من باب آخر، فأتي محمد بن مسلم الثقفي، فقال له: أي شي ء تروون عن أبي جعفر- عليه السلام- في المرأة لا يكون علي ركبها شعر، أ يكون ذلك عيباً؟ فقال محمد بن مسلم: أمّا هذا نصاً فلا أعرفه، و لكن حدّثني أبو جعفر عن أبيه عن آبائه عن النبي صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال: كلّ ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب، فقال له ابن أبي ليلي: حسبك، ثمّ رجع إلي القوم فقضي لهم بالعيب «2».

2- قال محمد بن مسلم: انّي لنائم ذات ليلة علي السطح إذ طرق الباب

______________________________

(1) اختيار معرفة الرجال، برقم: 278.

(2) الكافي: 5- 215، التهذيب: 7- 65 برقم 282.

تذكرة الأعيان، ص: 16

طارق، فقلت: من هذا؟ فقال: شريك يرحمك اللّه، فأشرفت فإذا امرأة فقالت: لي بنت عروس ضربها الطَّلق، فما زالت تطلق حتي ماتت و الولد يتحرّك في بطنها و يذهب و يجي ء، فما أصنع؟ فقلت: يا أمة اللّه سئل محمد بن علي بن الحسين الباقر- عليه السلام- عن مثل ذلك، فقال: «يشق بطن الميت و يستخرج الولد»، يا أمة اللّه افعلي مثل ذلك! أنا يا أمة

اللّه رجل في ستر، من وجّهك إليّ؟ قال: قالت لي: رحمك اللّه جئت إلي أبي حنيفة صاحب الرأي، فقال: ما عندي فيها شي ء، و لكن عليك بمحمد بن مسلم الثقفي فإنّه يخبر، فمهما أفتاك به من شي ء فعودي إليّ فاعلمينيه! فقلت لها: امضِ بسلام.

فلما كان الغد خرجت إلي المسجد و أبو حنيفة يسأل عنها أصحابه، فتنحنحت فقال: اللهمّ غفراً دعنا نعيش «1».

هذان النموذجان يدلان علي مكانة الرجل في الإِحاطة بالنصوص و مصادر القضاء.

و قد لزم الرجل الامام الباقر قرابة أربع سنين و سأل الامام الصادق عن ستة عشر ألف حديث.

روي أنّ ابن أبي عمير قال: سمعت عبد الرحمن بن الحجاج و حماد بن عثمان يقولان: ما كان أحد من الشيعة أفقه من محمد بن مسلم قال، فقال محمد بن مسلم: سمعتُ من أبي جعفر ثلاثين ألف حديث، ثمّ لقيتُ جعفراً ابنه فسمعت منه أو قال سألته عن ستة عشر ألف حديث أو قال مسألة «2».

و علي أيّة حال فهو من الذين أجمعت العصابة علي تصديقهم و فقههم، و لهم دويّ في كتب الرجال و الحديث «3».

______________________________

(1) اختيار معرفة الرجال: 162 برقم 275.

(2) اختيار معرفة الرجال برقم 280، 431.

(3) اختيار معرفة الرجال برقم 280، 431.

تذكرة الأعيان، ص: 17

محمد بن مسلم في الكتب الرجالية

قال النجاشي: محمد بن مسلم بن رباح، أبو جعفر الاوقص الطحان، مولي ثقيف، الأَعور، وجه أصحابنا بالكوفة، فقيه ورع، صحب أبا جعفر و أبا عبد اللّه عليمها السَّلام و روي عنهما، و كان من أوثق الناس، له كتاب يسمّي الأَربعمائة مسألة في أبواب الحلال و الحرام «1».

و قال الشيخ الطوسي: محمد بن مسلم بن رباح الثقفي، أبو جعفر الطحان، الأَعور أسند عنه، قصير حداج، روي عنهما عليمها السَّلام،

و روي عنه العلاء بن رزين القلّاء، مات سنة 150 و له نحو من سبعين سنة «2».

و عدّه الشيخ المفيد في الرسالة العددية من الفقهاء و الأَعلام الرؤَساء المأخوذ عنهم الحلال و الحرام و الفتيا و الأَحكام، الذين لا يُطعن عليهم و لا طريق إلي ذم واحد منهم «3».

و قال إسماعيل باشا البغدادي: محمد بن مسلم بن رباح الاوقص المعروف بالطحان، مولي ثقيف، من علماء الشيعة الإِمامية بالكوفة، توفّي سنة 150 ه، له كتاب الأَربعمائة مسألة في أبواب الحلال و الحرام «4».

و قال أيضاً: كتاب الأَربعمائة مسألة من أبواب الحلال و الحرام لمحمد بن مسلم بن رباح الكوفي الشيعي المتوفي سنة 150 ه «5».

______________________________

(1) رجال النجاشي، برقم 883.

(2) رجال الطوسي: أصحاب الإِمام الصادق- عليه السلام-، الرقم 317؛ و ترجمه أيضاً في أصحاب الإِمام الباقر- عليه السلام- برقم 1 باب الميم.

(3) الرسالة العددية: 25، طبعة المؤتمر العالمي بمناسبة ذكري ألفية الشيخ المفيد.

(4) إسماعيل باشا البغدادي: هدية العارفين: 6- 7.

(5) إسماعيل باشا البغدادي: هدية العارفين المطبوع في ذيل كشف الظنون: 4- 265.

تذكرة الأعيان، ص: 18

و قال عمر رضا كحالة: محمد بن مسلم بن رباح الكوفي الطحان، الشيعي (أبو جعفر) فقيه، من آثاره كتاب الأَربعمائة مسألة في أبواب الحلال و الحرام «1».

الأصول الأَربعمائة للشيعة

إذا كانت الأَحاديث مدونة علي أسماء الصحابة يطلق عليها المسند مقابل تدوينها علي الأَبواب حيث يرتب المحدِّث كتابه علي الموضوعات، و قد يتوسع في إطلاقه فيطلق علي تدوين روايات رأو في كتاب خاص سواء كان صحابياً أم لا، روي عن المعصوم أم لا، و قد دوّن من أحاديث الامام الصادق و ابنه الكاظم، أربعمائة مسندٍ اشتهر باسم الأَصل قد جمع كلّ محدّث رواياته عن الامام عليه

السَّلام من غير ترتيب الأَبواب.

قال الإِمام الطبرسي (471 548 ه) في «إعلام الوري»: روي عن الامام الصادق عليه السلام- من مشهوري أهل العلم، أربعة آلاف إنسان، و صنّف من جواباته في المسائل أربعمائة كتاب تسمّي الأصول رواها أصحابه و أصحاب ابنه موسي الكاظم عليه السلام- «2».

و قال المحقّق الحلي (602 676 ه) في «المعتبر»: كتبت من أجوبة مسائل جعفر بن محمد أربعمائة مصنف لأَربعمائة مصنف سمّوها أُصولًا «3».

و قال الشهيد (734- 786 ه) في «الذكري»: كتب من أجوبة الامام الصادق- عليه السلام- أربعمائة مصنَّف لأَربعمائة مصنِّف، و دوِّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل «4».

______________________________

(1) عمر رضا كحالة: معجم المؤَلفين: 12- 21.

(2) الطبرسي: إعلام الوري: 284.

(3) المحقّق الحلي: المعتبر: 1- 26.

(4) محمد بن مكي العاملي: الذكري: 6.

تذكرة الأعيان، ص: 19

هذه هي مسانيد الشيعة في القرن الثاني، المعروفة بالأُصول الأَربعمائة و طوارق الزمان و إن مسّت وضعها، لكن لم تمس موادّها و مضامينها، فموادّ الأُصول و أحاديثها انتقلت إلي الجوامع الحديثية الأَوّلية، كجامع البزنطي و جامع محمد بن أحمد بن يحيي بن عمران الأَشعري باسم نوادر الحكمة و غيرهما، أو الثانوية كالكافي للكليني (ت 329 ه) أو الفقيه للصدوق (306 381 ه) أو التهذيب و الاستبصار للطوسي (385 460 ه) إلي غير ذلك من الجوامع الحديثية.

و قد قام الفاضل الجليل و الحجّة الثقة الشيخ بشير المحمدي المازندراني دامت إفاضاته بإعادة مسند الحافظ الكبير محمد بن مسلم الطائفي إلي أوساط الحديث، بسعي متواصل و همّة قعساء، و بيّن مكانة محدّثنا الكبير في الحديث و الأَحكام و العقائد، و قد دوّن مسندين آخرين لِامامين كبيرين في الحديث، و هما:

1- مسند محمد بن قيس البجلي، راوية أقضية الإِمام أمير

المؤمنين عليه السَّلام.

2- مسند زرارة بن أعين الشيباني الكوفي.

و كان للكتابين صدي واسع في الأَوساط العلمية، و نال التقدير و التبجيل من الأَكابر الملمّين بالحديث، و ها هو الآن يقدم مسنداً ثالثاً للقرّاء، ألا و هو مسند ابن مسلم الطائفي، الذي كتب من أحاديث أبي جعفر الباقر- عليه السلام ثلاثين ألف حديث.

كما كتب من أحاديث ابنه الامام الصادق- عليه السلام- ستة عشر ألف حديث.

و لكنّه رعاه اللّه بعد الفحص الدَؤوب في زوايا المكتبات و غضون المعاجم لم يعثر إلّا علي ألفي حديث، و هذا ان دلّ علي شي ء إنّما يدلّ علي ضياع قسم كبير من أحاديث حافظنا الكبير.

تذكرة الأعيان، ص: 20

2- زرارة بن أعين الكوفي الشيباني (80- 150 ه)

مسند زرارة و المسانيد في الجوامع الحديثية

إنّ للحديث مكانة رفيعة بين المسلمين، و هو المصدر الرئيسيّ الثاني لديهم في مجالي العقيدة و الشريعة.

فالفقيه يرجع إليه في استنباط الأَحكام الشرعية المطهّرة، و المفسِّر يَركن إليه في تفسير آيات الذكر الحكيم، و المتكلِّم يتّخذه سناداً لعقائد الإِسلام، و الخطيب يستمدُّ منه في مجال الدعوة و الإِرشاد، و العارف يُميِّز به المحاسن عن المساوي، فهو القسطاس المستقيم و المعيار القويم.

و الحديث نور العقل و دليله، يتفكَّه به أُولو النُهي، و يأنس به اللبيبُ، و فيه غرر الحكم، و درر الحكم، و ينابيع العلم، فجَّرها اللّه سبحانه علي لسانِ مَنْ لا ينطق عن الهوي، نبيِّه و أفضل رسله محمّد- صلي الله عليه و آله و سلم-، و وعاه عنه أوصياؤه و عترته، و حفظه عنه أصحابه و التابعون لهم بإحسان، بجدّ و حماس، و ولع شديد، إلي حدٍّ عضُّوا عليه النواجذ، و صرفوا فيه أعمارهم.

و ضربوا في طريق تحصيله آباط الإِبل.

و من الموسف جدّاً أنّ الحظر السياسي بعد رحيل النبي صلَّي اللّه عليه و آله

و سلَّم حالَ بين المسلمين و كتابة الحديث و تدوينه و نشره في الأَقطار و الأَمصار، حتي صار التحدُّث

تذكرة الأعيان، ص: 21

بحديث الرسول و كتابته و إفشائه إلي قرن، عملًا محظوراً يُلام علي فعله، و يُحْرق كتابه بالنار، و يذهب جهده سدي «1».

و قد سار الخلفاء علي هذا النهي، و قامت حياتهم السياسية علي هذا الأَساس، فكانت الصحابة و التابعون ممنوعين عن نشر ثاني أدلّة الأَحكام، و عدل القرآن، إلي أن رُفِعَ الحظرُ في خلافة عمر بن عبد العزيز، حيث أحسّ بضرورة تدوين الحديث، فكتب رسالة إلي عالم المدينة أبي بكر بن حزم و أمره بكتابة حديث النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- لَانّه يخافُ من دروس العلم و ذهاب العلماء «2».

رُفِعَ الحظر، و عادت فكرة إحياء ما دثر من الآثار إلي المجتمع الإِسلامي، لكن بعد ما اختلط الحابل بالنابل، و تسرَّبتْ موضوعات كثيرة عن طريق الأَحبار و الرهبان إلي الأَوساط الإِسلامية، و تفاقم الأَمر إلي حدٍّ أخرج محمد بن إسماعيل البخاري صحيحه، الذي يحتوي بلا تكرار علي 2761 حديثاً من زهاء ستمائة ألف حديث «3».

و مع أنّ عمر بن عبد العزيز كان مؤَكِّداً علي تدوين الحديث و لكنَّ رواسبَ الحظر السابق حالت دون القيام بما أمر، فلم تكتب بعد صدور الأَمر إلّا صحائف غير مرتَّبة و لا منظَّمة، و إنّما قام المحدّثون بهذه الوظيفة الخطيرة بعد ما زالت دولة الأُمويين و أخذ أبو جعفر المنصور بمقاليد الحكم، فأخذوا بالكتابة و التدوين و التنظيم و الترتيب «4».

و لئن خضعت رقاب ثلّة من الصحابة و التابعين لهذا النهي رغباً أو رهباً الحديث، و ها هو الآن يقدم مسنداً ثالثاً للقرّاء، ألا و هو مسند ابن

مسلم الطائفي، الذي كتب من أحاديث أبي جعفر الباقر- عليه السلام ثلاثين ألف حديث.

كما كتب من أحاديث ابنه الامام الصادق- عليه السلام- ستة عشر ألف حديث.

و لكنّه رعاه اللّه بعد الفحص الدَؤوب في زوايا المكتبات و غضون المعاجم لم يعثر إلّا علي ألفي حديث، و هذا ان دلّ علي شي ء إنّما يدلّ علي ضياع قسم كبير من أحاديث حافظنا الكبير.

______________________________

(1) تقييد العلم للخطيب البغدادي: 52.

(2) الصحيح للبخاري: 1- 27.

(3) إرشاد الساري لشهاب الدين القسطلاني: 1- 28.

(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 261.

تذكرة الأعيان، ص: 22

لكن كان هناك لفيف منهم لم يروا لهذا النهي وزناً و لا قيمة، و لم يعبأوا به، و قاموا بضبط الحديث و تدوينه، و علي رأسهم إمام المسلمين علي بن أبي طالب عليه السَّلام، و تبعته شيعته و أصحابه، نذكر منهم السبّاقين إلي التدوين:

1- أبو ذر الغفاري: ضبط ما أوصاه به النبي- صلي الله عليه و آله و سلم-، و قد شرحه العلّامة المجلسي و أسماه «عين الحياة».

2- أبو رافع مولي رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- و خازن بيت المال في عصر الامام علي- عليه السلام-: له كتاب «السنن و الأَحكام و القضايا».

3- ابنه علي بن أبي رافع كاتب أمير المؤمنين- عليه السلام-: صنَّف كتاباً في فنون من الفقه: الوضوء و الصلاة و نحوهما.

4- ربيعة بن سميع، تلميذ الإِمام أمير المؤمنين- عليه السلام-: له كتاب «زكاة النعم».

إلي غير ذلك من صحابيّ و تابعيّ، دفعوا عادية الحظر بالقيام بالوظيفة و تدوين ما روي عن النبي- صلي الله عليه و آله و سلم-

و قد استأثر الحديث باهتمام متزايد في عصر الامام الباقر- عليه السلام- (57 114 ه)، و الصادق- عليه السلام-

(83 148 ه).

و هذا هو أحمد بن محمد بن عيسي رئيس القمّيين في عصره يقول: خرجت إلي الكوفة في طلب الحديث، فلقيت بها الحسن بن علي الوشّاء، فسألته أن يُخرج لي كتاب العلاء بن رزين و أبان بن عثمان الأَحمر فأخرجهما إليّ، فقلت له أحبُّ أن تجيزهما لي، فقال لي: يا رحمك اللّه و ما عجلتك؟! اذهب فاكتبهما و اسمع من بعد، فقلت: لا آمن الحدثان، فقال: لو علمت أنّ هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه، فإنّي أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد «1».

______________________________

(1) رجال النجاشي: 40 برقم 80.

تذكرة الأعيان، ص: 23

الشيعة هم أهل السنّة حقيقة

إنّ الشيعة في الواقع هم أهل السنّة، فإنّه إذا كانت اللفظة لا تعني سوي الاهتمام بالسنّة و شؤونها فأئمّة الشيعة و تلاميذ مدرستهم هم الذين أحيوا السنّة و أماتوا البدعة، خصوصاً في ظروف اندلعت فيها نيران الحرب بين الأَمويين و مناوئيهم من العباسيين، و قد استغلّ الإِمامان الباقر و الصادق عليمها السَّلام الفرصة فنشروا من أحاديث النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- ما سارت به الركبان.

يقول الشيخ المفيد: لم يظهر عن أحد من ولد الحسن و الحسين عليمها السَّلام من علم الدين و الآثار و السنّة و علم القرآن و السيرة و فنون الآداب ما ظهر عن أبي جعفر- عليه السلام-، روي عنه معالم الدين بقايا الصحابة و وجوه التابعين و رؤَساء فقهاء المسلمين «1» و سارت بذكر كلامه الاخبار، و أُنشدت في مدائحه الاشعار.

تربّي علي يدي الإِمام الصادق- عليه السلام- آلاف من المحدّثين و الفقهاء، و جمع أصحابُ الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات فكانوا أربعة آلاف رجل «2» و هذه سمة

امتاز بها الامام الصادق علي غيره من الأَئمّة.

و قد وجد الامام الصادق- عليه السلام- أنّ السنّة النبويّة قد بدأ يعتريها اتجاهات خطيرة و انحرافات واضحة ففنَّد الآراء الدخيلة و الأَحاديث المتسربة.

و قد أنجبت مدرسته الرفيعة شخصيات بارزة و فقهاء كبار يُعَدُّون من أعلام الدين و أساتذة العلم و أئمّة الحديث و رواد الفضيلة، و أخصّ بالذكر منهم الطبقة الممتازة من تلاميذ الإِمامين عليمها السَّلام الذين كرّسوا أعمارهم في ضبط ما وعوه عنهما حتي صاروا مصابيح الدجي و مشاكي الظلام.

______________________________

(1) الإِرشاد للشيخ المفيد: 261.

(2) المناقب لابن شهرآشوب: 4- 247؛ الإِرشاد للشيخ المفيد: 271.

تذكرة الأعيان، ص: 24

قال الكشي عند تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليمها السَّلام: اجتمعت العصابة علي تصديق هؤلاء الأَوّلين من أصحاب أبي جعفر عليه السلام-، و أصحاب أبي عبد اللّه- عليه السلام- و انقادوا لهم بالفقه فقالوا: أفقهُ الأَوّلين ستة: زرارة، و معروف بن خرّبوذ، و بُريد، و أبو بصير الأَسدي، و الفضيل بن يسار، و محمد بن مسلم الطائفي.

فقالوا: و أفقه الستة: زرارة «1».

كيف لا يكون أفقه الستة، بل أفقه أهل عصره و خريجي مدرسة الإِمامين، و قد وصفه الامام الصادق- عليه السلام- بعقود درّية نقتطف منها ما يلي: إنّ زرارة من أُمناء اللّه علي حلاله و حرامه، و من الذين ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين، و تأويل الغالين، و من القوّامين بالقسط، و السابقين إلينا في الدنيا، و السابقين إلينا في الآخرة، و هو أحبُّ الناس إليّ أحياءً و أمواتاً، و لولاه لكانت أحاديث أبي ستذهب «2».

و توالت كلمات الثناء و الاطراء في حقّه من موَرخي الإِسلام و علماء الرجال.

قال ابن النديم: و زرارة أكبر رجال

الشيعة فقهاً و حديثاً و معرفة بالكلام و التشيّع «3».

و قال النجاشي: زرارة بن أعين بن سُنْسُن، أبو الحسن، شيخ أصحابنا في زمانه و متقدّمهم، و كان قارئاً فقيهاً متكلِّماً شاعراً أديباً، قد اجتمعت فيه خلال الفضل و الدين، صادقاً فيما يرويه.

و أطراه صدوق المحدّثين و قال: رأيت له كتاباً في الاستطاعة و الجبر، و أنّه

______________________________

(1) رجال الكشي: 206، ثمّ سمّي طبقة أُخري من فقهاء أصحاب الإِمام الصادق.

(2) اقتطفنا هذه العقود الدرّية من مواضع مختلفة من كلام الامام الصادق عليه السلام- في حقّ زرارة، تقرأها في مواضعها في مقدمة مسند زرارة، فلاحظ.

(3) الفهرست لابن النديم: 323.

تذكرة الأعيان، ص: 25

مات سنة خمسين و مائة «1».

و هو كوفيّ التربة و الولادة، شيبانيُّ الولاء لا النسب، كما صرح به أكثر من ترجمه «2».

مشايخه في الرواية

إنّ شيخنا المترجم كان من حواري الإِمامين الباقر و الصادق عليمها السَّلام و من المختصّين بهما، روي عنهما في العقيدة و الشريعة ما سيظهر لك مداه، إذا سبرت هذا المسند، و مع ذلك لم تَفِتْه الرواية عن سائر مشايخ الشيعة، أمثال:

1- أبي الخطاب 2- بكر 3- الحسن البزاز 4- الحسن بن السري 5- حمران بن أعين 6 سالم بن أبي حفصة 7- عبد الكريم بن عتبة الهاشمي 8- عبد اللّه بن عجلان 9- عبد الملك 10- عبد الواحد بن المختار الأَنصاري 11- عمر بن حنظلة 12- الفضيل 13 محمد بن مسلم 14- اليسع «3».

و قد جاء في هذا المسند من أحاديثه المبثوثة في كتب الحديث قرابة 1800 حديث.

هذا زرارة، و مكانته في الحديث، و منزلته عند الأَئمّة، و لا يشكّ في وثاقته و صدقه و أمانته أيّ ذي مسكة.

و لئن صدر عن الامام الصادق- عليه

السلام- في بعض الظروف كلام لا يناسب شأن الرجل فإنّما صدر عنه- عليه السلام- لحفظ دمه و عرضه، لَانّ الرجل كان وليدَ بيت كبير ضربَ بجرانه الكوفة و أطرافها، و كان معاشراً مع أكابر السنّة و حكّامهم و قضاتهم، و كان في بيته من لم يتشيّع بعدُ و كان أعداء أهل البيت يكنُّون العداء لرافع ولائهم و لوائهم، فأراد الإِمام عليه السلام-

______________________________

(1) رجال النجاشي: 175 برقم 463.

(2) الفهرست لابن النديم: الفن الخامس من المقالة السادسة تحت عنوان آل زرارة ص 322.

(3) معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: 7- 247 برقم 4662.

تذكرة الأعيان، ص: 26

بكلامه هذا صيانة دمه.

و قد صرّح الامام بذلك في كلامه مع ولده الحسين بن زرارة، فقال: «أقرئ منّي علي والدك السلام، و قل له إنّي إنّما أعيبُك دفاعاً منّي عنك، فإنّ الناس و العدوّ يسارعون إلي كلِّ من قرّبناه و حُمدنا مكانه، لإِدخال الأَذي فيمن نحبُّه و نقرِّبه، و يرمونه لمحبّتنا له و قربه و دنوّه منّا، و يرون إدخال الأَذي عليه و قتله، و يَحمدون كل من عبناه نحن، و أن يُحْمَد أمره، فإنّما أعيبك لأَنّك قد اشتهرت بنا و لميلك إلينا و أنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأَثر بمودتك لنا و بميلك إلينا، فأحببت أن أعيبك ليَحْمِدوا أمرك في الدين بعيبك و نقصك و تكون بذلك منّا دافع شرهم عنك.

ثمّ تمثل بآية السفينة التي كانت لمساكين.. و قال: لا و اللّه ما عابها إلّا لكي تَسْلَمَ من الملك و لا تُعْطَبَ علي يديه، و لقد كانت صالحة ليس للعيب منها مساغ» «1».

إنّ هناك بوناً شاسعاً بين أبي بصير خِصِّيص الامام الصادق- عليه السلام- و زرارة ابن أعين، إذ

لم تكن لأَبي بصير أيّة صلة بالشخصيات البارزة في العراق خصوصاً الحكّام و القضاة، و ما كان معروفاً في أوساط العراق، و هذا بخلاف زرارة، فقد كان من رجال العراق و رئيس القبيلة، و كفي في ذلك ما قاله الجاحظ: زرارة بن أعين مولي بني أسعد بن همام، و كان رئيس النميمية «2» و يصفه أبو غالب من مشايخ الشيعة و من أبناء ذلك البيت الرفيع بقوله: إنّ زرارة كان وسيماً، جسيماً، أبيض، و كان يخرج إلي الجمعة و علي رأسه برنس أسود، و بين عينيه سجادة، و في يده عصا، فيقوم له الناس سماطين، ينظرون إليه لحسن هيئته، و ربما رجع عن طريقه، و كان خصماً، جدلًا، لا يقوم أحد لحجته، إلّا أنّ العبادة أشغلته عن الكلام، و المتكلّمون من الشيعة تلاميذه «3».

______________________________

(1) رجال الكشي: 138 برقم 221، و قد أفاض الكلام في ذلك العلّامة المامقاني، لاحظ تنقيح المقال.

(2) رسالة أبي غالب الزراري: 134 و 136.

(3) رسالة أبي غالب الزراري: 134 و 136.

تذكرة الأعيان، ص: 27

بيت آل أعين

هذا غيض من فيض و قليل من كثير ممّا يمكن أن يقال أو قيل في حقّ فقيه عصره و محدّث زمانه، و كفي في الإِشادة بفضله و فقهه سبر هذا المسند، فإنّ في نفس الأَسئلة التي طرحها لدي الإِمامين عليمها السَّلام لدليلًا واضحاً علي أنّ الرجل كان ملمّاً بالفقه، عارفاً بأُصوله و قواعده، مناقشاً أبناء عصره، و كان يستمدّ من منهل علوم أئمته، و ربما كان لا يقتنع بسماع الحكم من إمامه، و يطلب منه الحجّة من الكتاب و السنّة، و يناقشه حتي يتجلّي له الحقّ، تلمس كلَّ ذلك بالسبر في أحاديث هذا المسند.

و قد قام الشيخ المتضلّع

أبو غالب الزراري (285 356 ه) بتأليف رسالة ضافية للتعرف علي آل أعين والد زرارة فالناظر في هذا الكتاب ينظر إلي روضة غنّاء يشاهد فيها شجرة طيّبة لها أغصان، و دوحة لها أفنان، و قد نبغ في هذا البيت حَمَلةُ الحديث و حفّاظه، فصاروا قدوة للأُمّة و نوراً علي جبين الدهر.

يقول شيخنا الزراري في صدر رسالته: أما بعد، فإنّا أهل بيت أكرمنا اللّه عزّ و جلّ بمنّه علينا بدينه و اختصّنا بصحبة أوليائه و حججه علي خلقه من أوّل نشأتنا إلي وقت الفتنة التي امتحنت فيها الشيعة «1».

فلقي حمران «2» سيّدنا و سيد العابدين علي بن الحسين صلوات اللّه عليهما، و كان حمرانُ من أكبر مشايخ الشيعة المفضَّلين، الذين لا يشكّ فيهم، فكان أحدَ حملة القرآن، و من يُعَدّ و يُذْكَرُ اسمه في كَتْبِ القرّاء، و روي أنّه قرأ علي أبي جعفر محمد بن علي عليمها السَّلام، و كان مع ذلك عالماً بالنحو و اللغة.

و لقي حمران و جدّانا زرارة و بكير: أبا جعفر

______________________________

(1) أرّخ تاريخ الفتنة في رسالته عام 314، حيث هجمت القرامطة علي الكوفة معقل الشيعة.

(2) حمران بن أعين أخو زرارة.

تذكرة الأعيان، ص: 28

محمد بن علي، و أبا عبد اللّه جعفر بن محمد عليمها السَّلام.

و لقي بعض إخوتهم و جماعة من أولادهم مثل حمزة بن حمران و عبيد بن زرارة و محمد بن حمران و غيرهم أبا عبد اللّه جعفر بن محمد عليمها السَّلام و رووا عنه إلي أن قال: و آل أعين أكثر أهل بيت في الشيعة و أكثرهم حديثاً و فقهاً، و ذلك موجود في كتب الحديث و معروف عند رواته. «1»

ثمّ ذكر في الرسالة رجال بيته الشامخ من عصر أعين

إلي تاريخ تأليف الرسالة التي ألّفها لحفيده عام 356، و من أراد الاطّلاع فعليه الرجوع إليها و قد شرحها العلّامة المعاصر السيد محمد علي الموسوي الابطحي (دام ظلّه) «2».

و قال بحر العلوم: آل أعين أكبر بيت في الكوفة، من شيعة أهل البيت عليهم السَّلام، و أعظمهم شأناً، و أكثرهم رجالًا و أعياناً، و أطولهم مدة و زماناً، أدرك أوائلهم السجاد و الباقر و الصادق- عليهم السلام- و بقي أواخرهم إلي أوائل الغيبة الكبري، و كان فيهم العلماء و الفقهاء و القرّاء و الأُدباء و رواة الحديث «3».

المدوّنات في الحديث و أقسامها

كثرت المدوّنات في الحديث، و من أنواعها المسند و المعجم و الجامع و السنن «4» فإذا كانت الأَحاديث مدوّنة مرتبة علي أسماء الصحابة فَيُتَرجَم بالمسند مقابل تدوينه علي الأَبواب، حيث يرتب المحدِّث كتابه علي الموضوعات، و الموضوع الواحد يتناول موضوعاتٍ جزئية، و تحت كل موضوع جزئي أحاديث توضح الموضوع.

______________________________

(1) رسالة أبي غالب الزراري: 114.

(2) طبعت الرسالة عام 1399 ه.

(3) الفوائد الرجالية لبحر العلوم: 1- 222.

(4) راجع في الوقوف علي خصوصيات هذه الأَنواع، التقريب و التفسير مع شرح السيوطي، و الوجيز في علوم الحديث، و لاحظ كتاب أُصول الحديث و أحكامه: 202 204.

تذكرة الأعيان، ص: 29

ففي المسند يجمع المؤَلّف أحاديث الصحابي في موضوعات مختلفة و يَضُمّ بعضها إلي بعضٍ تحت عنوان، كمسند عبد اللّه بن عباس، أو عبد اللّه بن مسعود، أو أُبيّ بن كعب، و ربما يتوسع فترتب المسانيد علي أسماء القبائل، أو علي حسب السابقة إلي الإِسلام أو الشرافة في البيت و قد يقتصر علي أحاديث صحابي واحد كمسند الامام علي- عليه السلام- أو جماعة منهم كأحاديث الخلفاء، أو العشرة، أو طائفة خاصة جمعها وصف واحد، كمسند

الصحابة الذين نزلوا مصر أو الكوفة.

و قد قام لفيف من المحدثين القدامي بتدوين الحديث علي هذا النوع، فمن الشيعة نذكر ما يلي:

1- مسند الإِمام أمير المؤمنين- عليه السلام- لأَبي أحمد عبد العزيز بن يحيي الجلودي شيخ جعفر بن قولويه الذي توفّي عام 367 ه «1».

2- مسند ابن عباس له أيضاً «2».

3- مسند زيد بن علي بن الحسين (الشهيد عام 122 ه) جمعها عبد العزيز ابن إسحاق البقّال (المتوفّي عام 313 ه)، و رواه عن زيد أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي «3».

و قد ذكر النجاشي سنده إلي عمرو بن خالد الواسطي الذي كان زيدياً «4».

4- مسند عبد اللّه بن بكير بن أعين جمعه أبو العباس أحمد بن عقدة الهمداني اليماني (المتوفّي عام 333 ه) «5».

إلي غير ذلك ممّا ذكره البحاثة الكبير شيخنا المجيز الطهراني في الذريعة «6».

______________________________

(1) رجال النجاشي: 240 برقم 640.

(2) رجال النجاشي: 240 برقم 640.

(3) الذريعة للطهراني: 21- 26.

(4) رجال النجاشي: 288 برقم 771.

(5) رجال النجاشي: 94 برقم 233.

(6) الذريعة للطهراني: 21- 27.

تذكرة الأعيان، ص: 30

5- مسند زرارة بن أعين (80 150 ه) جمعها الشيخ بشير المحمدي بعد جهد متواصل و سعي حثيث، فأعاد بذلك تأليف مسند شيخ الشيعة في القرن الثاني.

و ألّف أهل السنّة مسانيد كثيرة نذكر المشهور منها:

1- مسند أبي داود سلمان بن داود بن الجارود البصري الطيالسي (المتوفّي عام 206 ه).

و قيل هو أوّل من ألّف في المسانيد بين أهل السنّة «1» و هو أحد عشر جزءاً طبع في مجلّد واحد.

2- مسند الحافظ عبد اللّه بن الزبير الحميدي (المتوفّي عام 219 ه)، بتحقيق حبيب الرحمن الاعظمي في جزءين، يبلغ عدد أحاديثه إلي 1300 حديث و الغالب عليه المرفوعة، و فيه

عدد قليل من الآثار الموقوفة علي الصحابة و التابعين.

3- مسند الامام أحمد (المتوفّي عام 241 ه) و هو المتبادر عند الإِطلاق، و قد أفردنا رسالة في تحقيق حال هذا المسند، طبعت في سالف الزمان ضمن كتاب حول مسند الامام أحمد.

4- مسند الحافظ أبي يعلي الموصلي (210 307 ه) طبع في ثلاثة عشر جزءاً، بتحقيق حسين سليم أسد، و هناك مسانيد أُخري يقف عليها من له إلمام بالحديث و علومه.

______________________________

(1) تدريب الراوي للسيوطي: 1- 140 نقلًا عن العراقي.

تذكرة الأعيان، ص: 31

3- السيد علي بن الحسين الموسوي الشريف المرتضي (355 436 ه)

أكاذيب مزيفة في حياة المرتضي

اشارة

لقد كان للسيدين الرضي و المرتضي مقام شامخ في دنيا الكلام و الذبّ عن المذهب بما أُوتيا من و قادة الفكر، و رصانة البيان، ناهيك أنّ السيّد المرتضي له تصنيفات كثيرة في حقل الكلام تتجلّي فيها أفكاره و قوّة برهانه، ككتاب «الشافي» الذي نقض به كتاب المغني للقاضي عبد الجبار، و «الذّخيرة» و هي دورة كلامية مسهبة طبعت في جزءين.

إضافة إلي ما أورده من البحوث الكلامية في غرره و درره المعروف ب «الأَمالي» و في «الفصول المختارة» و «تنزيه الأَنبياء» و رسائله و جواباته القيّمة.

و هذه المؤَلّفات تدلّ علي سموّ مقامه و أنّه أُستاذ لا ينازعه أحد في عصره.

و أمّا شقيقة الرضي فقد غلب أدبه و شعره علي علمه، إلّا أنّ كتابه «حقائق التنزيل في تفسير القرآن الكريم» الذي عبث به الزمان و لم يصل إلينا سوي الجزء الخامس منه، خير شاهد علي نبوغه في فهم و تفسير ما يرجع إلي الآيات حول العقائد و المعارف، مضافاً إلي أنّ ما في كتابيه «مجازات القرآن» و «المجازات النبوية» غني و كفاية علي ذلك أيضاً.

تذكرة الأعيان، ص: 32

و لمّا نسبت بعض الأَيدي الاثيمة إليهما ما لا يليق

بمقامهما الشامخ، آليت علي نفسي أن أُدافع عنهما بمتابعة المعاجم و المصادر لتوخّي الحقيقة.

إنّ الرضي و المرتضي في دوح السيادة ثمران، و في فلك الرئاسة قمران، و أدب الرضي إذا قُرن بعلم المرتضي كان كالفِرِنْد في متن الصارم المنتضي «1».

و قد وصف أبو العلاء المعرّي الشريفين في قصيدة يرثي بها والدهما بقوله:

أبقيتَ فينا كوكبين سناهما في الصبح و الظلماء ليس بخاف

إلي أن قال:

ساوي الرضي و المرتضي و تقاسما خطط العلي بتناصف و تصاف

«2» روي أهل السير و التواريخ أنّ المفيد أبا عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان نابغة العراق، و مفخرة الآفاق، رأي في منامه أنّ فاطمة- عليها السلام- بنت رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- دخلت إليه و هو في مسجده بالكرخ و معها ولداها: الحسن و الحسين عليمها السَّلام صغيرين، فسلّمتهما إليه، و قالت له: علِّمهما الفقه.

فانتبه متعجّباً من ذلك، فلمّا تعالي النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأي فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر، و حولها جواريها و بين يديها ابناها: محمد الرضي و عليّ المرتضي صغيرين، فقام إليها و سلم عليها فقالت له: أيّها الشيخ: هذان ولداي قد أحضرتهما لتعلّمهما الفقه، فبكي أبو عبد اللّه، و قصّ عليها المنام و تولّي تعليمهما الفقه، و أنعم اللّه عليهما و فتح لهما من أبواب العلوم و الفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا، و هو باق ما بقي الدهر «3».

______________________________

(1) دميّة القصر: 1- 299، القسم الثالث في فضلاء العراق.

الفِرِنْد: السيف، يقال: «سيفٌ فِرِند» أي لا مثيل له.

(2) ديوان سقط الزند لشاعر المعرّة: 1301، ط القاهرة.

(3) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة: 1- 41؛ رياض العلماء: 4-

22؛ الروضات: 4- 295.

تذكرة الأعيان، ص: 33

هكذا بدأ العلمان حياتهما الفكرية و العلمية، و نشئا و ترعرعا في مدرسة أُستاذ واحد غير أنّ كلّ منهما انطلق حسب ذوقه و مواهبه الطبيعية، و في مجال خاصّ.

فصبّ الرضي اهتمامه علي العلوم الأَدبية و الشعر، و الحديث و التفسير، و تولّي نقابة الطالبيّين إلي غير ذلك من مهامّ الأُمور.

بينما صبّ المرتضي جهوده علي الفقه و الكلام ثمّ التفسير، فنبغ كلّ واحد منهما في مجال خاصّ مع اشتراكهما في سائر المجالات العلمية و الفكرية.

و لأَجل ذلك نجد أنّ الرضي يراجع أخاه المرتضي في المسائل الفقهية و يطلب منه حلّها.

قال الشهيد الأَوّل في «الذكري» و الشهيد الثاني في «الروض» في مسألة الجاهل بالقصر في السفر: حيث إنّ الإِمامية تذهب إلي صحّة صلاة الجاهل بالحكم إذا أتمّ مكان القصر.

سأل الرضي أخاه المرتضي و قال: إنّ الإِجماع واقع علي أنّ من صلّي صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية، و الجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها فلا تكون مجزية، (فكيف تكون صلاة الجاهل بوجوب القصر إذا أتمّ صحيحة؟) فأجابه المرتضي بجواز تغيّر الحكم الشرعي بسبب الجهل، و إن كان الجاهل غير معذور «1».

كما أنّ هناك ما ينبئَ عن أنّ المرتضي يرجع إلي أخيه الرضي في الفنون التي برع فيها أخوه.

روي السيد نعمة اللّه الجزائري قال: دخل أبو الحسن علي السيّد المرتضي طاب ثراه يوماً و كان المرتضي قد نظم أبياتاً من الشعر فوقف به بحر الشعر فقال: يا أبا الحسن خذ هذه الأَبيات إلي أخي الرضي و قل له يتمّها

______________________________

(1) بحر الفوائد للعلّامة الشيخ محمد حسن الاشتياني، ص 45 و غيرها.

تذكرة الأعيان، ص: 34

و هي هذه:

سري طيف سلمي طارقاً فاستفزّني سحيراً و صحبي

في الفلاة رقود

فلمّا انتبهنا للخيال الذي سري إذ الأَرض قفراً و المزار بعيد

فقلت لعيني عاودي النوم و اهجعي لعلّ خيالًا طارقاً سيعود

قال أبو الحسن:

فأخذت الأَبيات، و مضيت إلي السيّد الرضي، فلمّا رآها قال: عليّ بالمحبرة فكتب:

فردّت جواباً و الدموع بوادر و قد آن للشمل المشتت ورود

فهيهات عن ذكري حبيب تعرّضت لنا دون لقياه مهامه بيد

فأتيت بها إلي المرتضي، فلمّا قرأها ضرب بعمامته الأَرض و قال: يعزّ عليّ أخي، يقتله الفهم بعد أُسبوع، فما دار الأُسبوع إلّا و قد مضي الرضيّ إلي رحمة اللّه سبحانه «1».

و ممّا يكشف عن شدّة التلاحم و الارتباط و الودّ بين هذين الأَخوين العلمين، أنّه لمّا توفّي السيّد الرضي و حضر الوزير فخر الملك و جميع الأَعيان و الأَشراف و القضاة جنازته، و الصلاة عليه، مضي أخوه المرتضي من جزعه عليه إلي مشهد موسي بن جعفر عليمها السَّلام لَانّه لم يستطع أن ينظر إلي تابوته و دفنه.

و صلّي عليه فخر الملك أبو غالب؛ و مضي بنفسه آخر النهار إلي أخيه المرتضي بالمشهد الشريف الكاظمي، فألزمه بالعَوْد إلي داره.

نري أنّ المرتضي يصبّ عواطفه الرفيعة و حنانه في الأَبيات التالية:

______________________________

(1) رياض العلماء: 4- 64؛ الروضات: 6- 199.

تذكرة الأعيان، ص: 35

يا للرجال لفجعةٍ جَذَمَتْ يدي و وددت لو ذهبَت عليّ برأسي

ما زلت آبَي وِردَها حتي أتت فَحسوتُها في بعض ما أنا حاسي

و مَطلتُها زمناً فلمّا صمّمت لم يَثنِها مَطْلِي و طولُ مِكاسي

للّه عمرك من قصير طاهرٍ و لربّ عمرٍ طال بالادناس «1»

هذا بعض ما حفظ التاريخ من تفاني كلّ من الأَخوين بالنسبة إلي الآخر.

غير أنّ ثمة شرذمة من أهل السير و التراجم لم يتحمّلوا ما وجدوه بين هذين الأَخوين من العطف و المودّة، و

الأَدب و الأَخلاق و الفضائل و المناقب، فعادوا ينسبون إليهما ما لا تصحّ نسبته إلي من هو أدون منهما بدرجات، و إليك بعض هذه التهم التي تكذّبها سيرة العلمين و حياتهما المشرقة.

المرتضي خائض في دماء..

يحكي أنّه اقتدي الرضي يوماً بأخيه المرتضي في بعض صلاته، فلمّا فرغ قال: لا أقتدي بك بعد هذا اليوم أبداً؛ قال: و كيف ذلك؟ قال: لأَنّي وجدتك خائضاً في صلاتك في دماء النساء فصدّقه المرتضي و أنصف، و التفت إلي أنّه أرسل ذهنه في أثناء تلك الصلاة إلي التفكّر في مسألة من مسائل الحيض.

و ربّما يحكي أنّ الرضي بمجرّد أن انكشفت له الحالة المزبورة، انصرف من صلاته و أخذ في الويل و العويل، و أظهر الفزع الطويل في تمام السبيل إلي أن بلغ المنزل بهذه الحالة؛ فلمّا فرغ المرتضي، أتي المنزل من فوره، و شكا ما صنعه به إلي أُمّه، فعاتبته علي ذلك، فاعتذر عندها بما ذكر و أنّه كان يتفكّر إذ ذاك في مسألة من الحيض، سألته عنها بعض النسوة في أثناء مجيئه إلي الصلاة «2».

______________________________

(1) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة: 1- 41.

راجع ديوانه: 2- 142.

(2) روضات الجنات: 2036- 202، نقلًا عن صاحب حدائق المقرّبين.

تذكرة الأعيان، ص: 36

تساوَلات حول القصة؟ و هذه القصة تحيط بها إبهامات عديدة و تساؤلات نشير إليها: الأَوّل: هل الفكرة الشرعية الصحيحة إذا راودت ذهن الإِنسان في أوقات الصلاة أو غيرها توجب تمثّلَ الإِنسان بنفس تلك الفكرة عند أرباب البصائر و ذوي العيون البرزخية، الذين يستطيعون مشاهدة ما وراء الحجب و الستور ببصائرهم؟ فلو خاض الإِنسان في أحكام السرقة أو حدّ الزنا و القذف، فهل يوجب ذلك أن يتمثّل المفكّر فيها، عند من يعاين الأَشياء بأنظار

ثاقبة، سارقاً و زانياً و قاذفاً؟ لا أظن أن يتفوّه بهذا أيّ حكيم نابه أو عارف بصير، بل لازم تلك البصيرة أن يعاين صاحب الفكرة علي الحالة التي هو عليها، فيري الرضي صاحب تلك البصيرة أخاه الفقيه علي الحالة التي هو عليها، أي مفكّراً و متعمّقاً في مسألة فقهية شاغلًا بها لا خائضاً في الدماء.

الثاني: أنّ القصة تكذّب نفسها، فإنّ لازم رجوع النساء إلي المرتضي في المسائل المختصة بالنساء هو كون المسئول من ذوي الشخصيات الضاربة في الأَربعين أو ما يقاربه، و لازم إرجاع الشكاية إلي الأم كون المصلّي و المقتدي في سنين الصبا، و من المعلوم أنّ الأَخوين كانا متقاربي السن و لا يكبر المرتضي عن أخيه الرضي إلّا بأربعة أعوام.

الثالث: أنّ القصة علي بعض الروايات تصرّح بانصراف الرضي عن الصلاة بقطعها و إبطالها، و هو أمر محرّم و لا يسوغ لمثل الرضي ارتكابه.

تذكرة الأعيان، ص: 37

2- المرتضي شحيح و الرضيّ سخي!

إنّ هذه التهمة ليست التهمة الوحيدة التي أُلصقت بالمرتضي، بل نسجت الأَلسنة الحاقدة فرية أُخري أرادوا بها الانتقاص من ذينك العلمين الجليلين، و إليك واحدة أُخري من هذه التهم: قال صاحب كتاب «عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب»: إنّ المرتضي كان يبخل و لمّا مات خلف مالًا كثيراً و خزانته اشتملت علي ثمانين ألف مجلّد، و لم أسمع بمثل ذلك، و قد أناف القاضي عبد الرحمن الشيباني علي جميع من جمع كتباً فاشتملت خزانته علي مائة ألف و أربعين ألف، و كان المستنصر أودع خزانته في المستنصرية ثمانين ألف مجلداً «1».

ثمّ إنّ القصّاصين لم يكتفوا بهذه التهمة، بل ذكروا شاهداً و نقلوا عن أبي حامد أحمد بن محمد الاسفرائيني الفقيه الشافعي انّه قال: كنت يوماً عند

فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة و ابنه سلطان الدولة، فدخل عليه الرضي أبو الحسن، فأعظمه و أجلّه و رفع من منزلته، و خلّي ما بيده من الرقاع و القصص، و أقبل عليه يحادثه إلي أن انصرف، ثمّ دخل عليه المرتضي أبو القاسم رحمه اللّه فلم يعظّمه ذلك التعظيم، و لا أكرمه ذلك الإِكرام.

و تشاغل عنه برقاع يقرأها، و توقيعات يوقّع بها، فجلس قليلًا، و سأله أمراً، فقضاه، ثمّ انصرف.

قال أبو حامد: فتقدّمتُ إليه، و قلت له: أصلح اللّه الوزير هذا المرتضي هو الفقيه المتكلّم صاحب الفنون، و هو الأَمثل و الأَفضل منهما و إنّما أبو الحسن شاعر، قال: فقال لي: إذا انصرف الناس و خلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة.

قال: و كنت مُجمِعاً علي الانصراف، فجاءني أمرٌ لم يكن في الحساب،

______________________________

(1) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: 235؛ و لاحظ أيضاً الرياض: 4- 21.

تذكرة الأعيان، ص: 38

فدعتِ الضرورة إلي ملازمة المجلس إلي أن تقوّض الناس واحداً فواحداً.

فلمّا لم يبق إلّا غلمانه و حُجّابه، دعا بالطعام، فلمّا أكلنا و غسل يديه و انصرف عنه أكثرُ غلمانه، و لم يبق عنده غيري قال لخادم: هات الكتابين اللّذين دفعتهما إليك منذ أيّام و أمرتُك أن تجعلهما في السفَط الفلاني فأحضرَهما، فقال: هذا كتاب الرضيّ، اتّصل بي أنّه قد وُلدَ له ولد، فأنفذتُ إليه ألف دينار و قلت له: هذه للقابلة، فقد جرت العادة أن يحمِل الأَصدقاء إلي أخِلّائهم و ذوي مودّتهم مثلَ هذا في مثل هذه الحال، فردّها و كتب إليّ: هذا الكتاب فاقرأه، قال: فقرأته و هو اعتذار عن الرد، و في جملته: إنّنا أهل بيت لا يطّلع علي أحوالنا قابلة

غريبة، و إنّما عجائزنا يتولّين هذا الأَمر من نسائنا و لَسنَ ممّن يأخذ أُجرة، و لا يقبلن صلة.

قال: فهذا هذا.

و أمّا المرتضي فإنّنا كنّا قد وزّعنا و قسّطنا علي الاملاك ببادرويا تقسيطاً نصرفه في حَفر فوّهة النهر المعروف بنهرِ عيسي، فأصاب مِلكاً للشريف المرتضي بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهماً ثَمَنها دينار واحد، قد كتب إليّ منذ أيام في هذا المعني هذا الكتاب، فاقرأه، فقرأته و هو أكثر من مائة سطر، يتضمّن من الخضوع و الخشوع و الاستمالة و الهزّ و الطلب و السؤَال في إسقاط هذه الدراهم المذكورة عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه.

قال فخر الملك: فأيّهما تري أولي بالتعظيم و التبجيل؟ هذا العالم المتكلّم الفقيه الأَوحد و نفسه هذه النفس، أم ذلك الذي لم يُشهر إلّا بالشعر خاصّة، و نفسُه تلك النفس! فقلت: وفّق اللّه تعالي سيدنا الوزير فمازال موفّقاً؛ و اللّه ما وضع سيدنا الوزير الأَمرَ إلّا في موضعه، و لا أحلّه إلّا في محلّه! و قمت فانصرفت «1».

______________________________

(1) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة: 401- 39؛ روضات الجنات: 6- 195.

تذكرة الأعيان، ص: 39

قرائن تكذّب هذه القصة إنّ ثمة قرائن و شواهد قويّة دلّت علي أنّ القصة، حديث كاذب، و تهمة مختلقة، و إليك تلك القرائن المفيدة للعلم بخلاف هذه الحكاية:

1- إنّ السيد المرتضي و هو ذلك الرجل الصدوق ينصّ بنفسه علي أنّه لم يكن يري لثروته الطائلة قيمة تجاه مكارمه و كراماته و كان يقول:

و ما حزّني الإِملاق و الثروة التي يذلُّ بها أهل اليسار ضلالُ

أ ليس يُبقِّي المال إلّا ضنانة و أفقر أقواماً ندي و نوالُ

إذا لم أنل بالمال حاجة مُعسر حصورٍ عن الشكوي فمالي مال

«1» أ

فتري أنّ صاحب هذه الروحية العالية يكتب لإِعطاء عشرين درهماً مائة سطر يتضمّن من الخضوع و الخشوع ما لا يرتكبه أدني الناس فكيف بمثله؟! 2- إنّ الشريف المرتضي تقلّد بعد أخيه الرضي نقابة الشرفاء شرقاً و غرباً و إمارة الحاج و الحرمين، و النظر في المظالم، و قضاء القضاء ثلاثين سنة و ذلك من عام 406) و هو العام الذي توفّي فيه أخوه الرضي) إلي عام 436 الذي توفّي فيه نفس الشريف.

أ فهل يمكن أن يقوم بأعباء مثل هذه المسئولية الاجتماعية من يبخل بدينار واحد يصرفه فخر الملك في حفر نهر تعود فائدته إلي الجميع، و يكتب في إسقاطه أكثر من مائة سطر؟! حاشاه.

هذا و الحجيج بين شاكر لكلاءته، و ذاكر لمقدرته، و مُطْرٍ لأَخلاقه، و متبرّك بفضائله، و مثنٍ علي أياديه، و هذا يفيد أنّ الشريف المرتضي كان كأخيه الرضي

______________________________

(1) الغدير: 4- 275، و لم يذكر مصدره.

تذكرة الأعيان، ص: 40

سخياً معطياً، و لم ير للمال قيمة.

3- إنّ ابن خلّكان بعد ما عرّفه بقوله: كان إماماً في علم الكلام و الأَدب و الشعر، أتي بقصة حكاها الخطيب التبريزي، و هي بنفسها أقوي شاهد علي أنّ السيد كان ذا سماحة كبيرة.

قال الخطيب: إنّ أبا الحسن عليّ بن أحمد بن عليّ بن سلَّك الفالي الأَديب كانت له نسخة لكتاب «الجمهرة» لابن دريد في غاية الجودة، فدعته الحاجة إلي بيعها فباعها و اشتراها الشريف المرتضي بستّين ديناراً، فتصفّحها فوجد فيها أبياتاً بخطّ بائعها، و هي:

أنِسْتُ بها عشرين حولًا و بعتها فقد طال وَجْدي بعدها و حنيني

و ما كان ظنّي أنّني سأبيعها و لو خلَّدتني في السجون ديوني

و لكن لضعفٍ و افتقار و صبيةٍ صغارٍ عليهم تستهلُّ شئوني

فقلت و

لم أملك سوابق عَبرةٍ مقالة مكويّ الفؤَاد حزينِ

«و قد تُخرج الحاجات يا أُم مالك كرائم من ربّ بهنّ ضَنين»

و قال الخطيب:

فأرجع السيد النسخة إليه و ترك له الدنانير «1».

أ فهل في وسع البخيل الشحيح المقدم علي التنقيص من كرامته لأَجل إسقاط دينار ضُرب عليه لحضرته، أن تسخو نفسه و تجود بمثل هذه الدنانير؟! 4- روي أصحاب التراجم أنّ السيد المرتضي كان يجري الرزق علي جميع تلامذته حتي انّه قرّر للشيخ الطوسي كلّ شهر أيّام قراءته عليه اثني عشر ديناراً و علي ابن البرّاج كلّ شهر ثمانية دنانير، ليتفرّغوا بكلّ جهدهم إلي الدراسة من غير

______________________________

(1) وفيات الأَعيان: 3- 316، ط بيروت، دار الثقافة.

تذكرة الأعيان، ص: 41

تفكّر في أزمات المعيشة «1».

أ في وسع القاري أن يتّهم من يدرّ من ماله الطاهر أو ممّا يصل إليه من الناس من الحقوق الشرعية علي تلامذته الكثيرين البالغ عددهم المئات هذه الرواتب الطائلة، أن يشحّ و يبخل بدينار، و يكتب في إسقاطه مائة سطر؟!! 5- إنّ الشريف المرتضي كان قد وقف قرية علي كاغذ «2» الفقهاء، حتي لا يواجه الفقهاء أية أزمة في لوازم الكتابة و التحرير.

6- و قد روي أنّ السيد المرتضي كان يملك قري كثيرة واقعة بين بغداد و كربلاء، و كانت معمورة في الغاية، و قد نُقِل في وصف عمارتها أنّه كان بين بغداد و كربلاء نهر كبير، و علي حافتي النهر كانت القري إلي الفرات، و كان يعمل في ذلك السفائن، فإذا كان في موسم الثمار كانت السفائن المارة في ذلك النهر تمتلئ من سقطات تلك الأَشجار الواقعة علي حافتي النهر، و كان الناس يأكلون منها من دون مانع «3».

7- قد نقل أصحاب السير أنّ الناس أصابهم

في بعض السنين قحط شديد، فاحتال رجل يهودي علي تحصيل قوته، فحضر يوماً مجلس الشريف المرتضي و سأله أن يأذن له في أن يقرأ عليه شيئاً من علم النجوم، و أمر له بجزاية تجري عليه كلّ يوم، فقرأ عليه برهة، ثمّ أسلم علي يديه «4».

8- إنّ ياقوت الحموي نصّ في معجم الأُدباء (ج 3، ص 154) علي

______________________________

(1) الرياض: 4- 20، لاحظ مقالنا حول ترجمة عبد العزيز بن البرّاج المنشور في الجزء الأَوّل من كتاب «المهذّب» فقد ذكرنا مصادر هذا الموضوع.

(2) كذا في المصدر.

و المراد القرطاس.

لاحظ الروضات: 4- 296.

(3) الرياض: 4- 20.

(4) الرياض: 4- 23؛ الروضات: 4- 296.

تذكرة الأعيان، ص: 42

أنّ المرتضي كان يدخل عليه من أملاكه كلّ سنة أربعة و عشرون ألف دينار.

9- إنّ الشريف المرتضي هو أوّل من جعل داره دار العلم و قدرها للمناظرة و يقال: إنّه أُمّر و لم يبلغ العشرين، و كان قد حصل علي رئاسة الدنيا بالعلم و العمل الكثير، و المواظبة علي تلاوة القرآن و قيام الليل، و إفادة العلم، و كان لا يؤَثر علي العلم شيئاً مع البلاغة و فصاحة اللهجة.

و حكي عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنّه قال: كان الشريف المرتضي ثابت الجأش، ينطق بلسان المعرفة و يردّد الكلمة المسدّدة، فتمرق مروق السهم من الرمية ما أصاب و ما أخطأ أشوي «1».

و القاري الكريم إذا لاحظ ما ذكرناه في هذه الفقرات الخمس الأَخيرة يقف علي تفاهة ما نُسب إلي هذا العَلَم من تلك القصّة المنحوتة المختلَقَة.

10- إنّ القصّة تتضمّن أنّ فخر الملك لم يُعظِّم المرتضي بما يليق بشأنه و تشاغل عنه برقاع يقرأها و توقيعات يوقع بها، و لكن الفخر هذا قد عظم المرتضي بأفضل ما يمكن

يوم مات الشريف الرضي حيث إنّ المرتضي لم يشهد جنازة أخيه، و لم يستطع أن ينظر إلي تابوته و ذهب إلي مشهد موسي بن جعفر عليمها السَّلام، و مضي فخر الملك بنفسه آخر النهار إلي المشهد الكاظمي، و استدعي منا لسيد العود إلي داره ببغداد.

فبأي هذين الموقفين نذعن؟! هذه القرائن و الشواهد تشهد بوضوح علي بطلان هذه القصة الخرافية، و تدلّ علي أنّ ناسجها نسجها في غير موضعها.

11- قد اشتهر علي ألسن العلماء أنّه لمّا اتّفقت فقهاء العامة علي حصر

______________________________

(1) لسان الميزان: 4- 223 نقلًا عن تاريخ ابن أبي طيّ.

تذكرة الأعيان، ص: 43

المذاهب الفقهية الإِسلامية التي تعدّدت و تشعّبت من زمان الصحابة و التابعين و من تبعهم إلي عصر السيد المرتضي في مذاهب معيّنة، التقي السيد المرتضي بالخليفة و تعهّد له أن يأخذ من الشيعة مائة ألف دينار حتي ترفع التقيّة و المؤاخذة علي الانتساب إليهم، فتقبّل الخليفة؛ ثمّ إنّه بذل لذلك من عين ماله ثمانين ألفاً، و طلب من الشيعة بقية المال، و من الأَسف إنّهم لم يقدروا عليه «1» و هذه القصة سواء أصحّت أم لا، تكشف علي أنّ السيد كان من السخاء بمكان بحيث أمكن نسبة هذه القصّة إليه.

12- هذا هو الدفاع الصحيح عن كرامة السيد الجليل و دحض القصة بهذه القرائن المفيدة للعلم، و العجب أنّ صاحب الروضات بعد ما نقل تلك القصة المختلقة انبري للدفاع عن السيد بما نقله عن السيد الجزائري بقوله: كأنّ الوزير فخر الملك لم يتحقّق معني علو الهمّة، فلذا عاب الأَمر علي الشريف المرتضي، و إنّما كان علي غضاضة في ذلك الكتاب لو كان سائلًا لها من أموال الوزير، و ما فعله الشريف عند التحقيق من

جملة علو الهمّة، و ذلك أنّه دفع عن ملكه بدعة لو لم يتداركها بقيت علي ملكه، و ربما وضعت من قدره لو بقيت عند أهل الاملاك و غيرهم، و كما أنّه ورد الحديث: المؤمن ينبغي له الحرص علي حيازة ماله الحلال، كي ينفقه في سبيل الطاعات.

كما كانت عادة جدّه أبي طالب بن عبد المطلب، فإنّه كان يباشر جبر ما انكسر من مواشيه و أنعامه، فإذا جاء الوافد إليه وهبها مع رعاتها له «2».

______________________________

(1) الروضات: 4- 307.

و لاحظ الرياض: 344- 32، و قال في الأَخير ص 53: إنّه خلف بعد وفاته ثمانين ألف مجلد من مقرواته و مصنّفاته و محفوظاته و من الأَموال و الأَملاك ما يتجاوز عن الوصف.

إلي آخر ما أفاد.

(2) روضات الجنات: 2046- 203.

تذكرة الأعيان، ص: 44

غير أنّه كان من الواجب علي السيد الجزائري و صاحب الروضات أن يفنّدا هذه القصة من أساسها للقرائن و الشواهد التي ألمحنا إلي بعضها، كما كان عليهما أن يتمسكا في المقام بما روي عن عليّ- عليه السلام-: «من أنّ أفضل المال ما وقي به العرض، و قضيت به الحقوق» «1».

الشريف الرضي

قد عرفت ما في كنانة القصّاصين من التّهم الباطلة الموجّهة إلي الشريف المرتضي، فهلمّ الآن إلي ما اختلقه الآخرون ممّن يحملون الحقد و البغض الدفين لأَبناء البيت العلوي حول الشريف الرضي و إن نقله أصحاب التراجم من غير دقّة و تحقيق.

فقالوا: كان الرضي ينسب إلي الإِفراط في عقاب الجاني، و له في ذلك حكايات، منها: انّ امرأة علويّة شكت إليه زوجها، و أنّه لا يقوم بمئونتها، و شهد لها من حضر بالصدق في ما ذكرت، فاستحضره الشريف و أمر به، فبُطِح و أمر بضربة فضرب، و المرأة تنظر

أن يكف و الأَمر يزيد حتي جاوز ضربه مائة خشبة؛ فصاحت المرأة: «و أيتم أولادي كيف يكون حالنا إذا مات هذا؟» فكلّمها الشريف بكلام فظّ، و قال: ظننت أنّك تشكينه إلي المعلّم؟ «2» لا شكّ أنّه كان من وظيفة الشريف الرضي نصح الزوج، و دعوته إلي الرفق بالمرأة، و القيام بلوازم حياتها لا الأَمر ببطحه و ضربه ضرباً كاد يقضي علي حياته.

و علي فرض أنّ الشريف كان آيساً من تأثير النصح في ذلك الرجل، كان يجب عليه القيام بما جاء به الشرع من مورد التعزيرات، إذ لا شكّ أنّ ذلك المورد ليس من موارد الحدود بل من موارد التعزيرات، فإنّ الحدود ما جاء به الشرع

______________________________

(1) بحار الأَنوار: 78- 7.

(2) الروضات: 6- 196.

تذكرة الأعيان، ص: 45

بمقرّر و حدّ خاص، و أسبابه كما في «الشرائع» علي ما قرّر في الفقه ستّة: الزنا و ما يتبعه، و القذف، و شرب الخمر، و السرقة، و قطع الطريق.

و المورد ليس من تلك الموارد، ففيه التعزير، و قد قرّر في محلّه أنّه يجب أن يكون التعزير أقلّ من الحدّ.

روي حمّاد بن عثمان عن الصادق- عليه السلام- قال قلت له: التعزير؟ فقال: دون الحدّ، قال قلت: دون ثمانين؟ قال: لا، و لكن دون أربعين فإنّها حدّ المملوك، قلت: و كم ذاك؟ قال: علي قدر ما يراه الوالي من ذنب الرجل و قوّة بدنه «1».

و بما أنّ حدّ القاذف في الحر هو ثمانون جلدة، فلو قلنا بأنّ حدّ المملوك فيه نصف ما علي الحر، يصير الحدّ المقرر هو أربعون جلدة، قال تعالي: (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَي الْمُحْصَنٰاتِ مِنَ الْعَذٰابِ) «2» فيجب أن يكون التعزير علي هذا، دون الأَربعين.

و في خبر

القاسم بن سليمان: سئل الصادق- عليه السلام- عن العبد إذا افتري علي الحرّ كم يُجلد؟ قال: «أربعين» «3».

و لو قلنا بأنّه لا يشترط في الثمانين الحرية و أنّ حدّ القاذف في الحر و العبد سواء كما هو المشهور و أنّ الفاحشة (في الآية) التي تصرّح باختلاف حدّ الحر مع العبد ظاهرة في الزنا فقط، و حدّها حسب تصريح الذكر الحكيم هو مائة جلدة، يكون أقلّ الحدّ هو خمسين «4».

و إن قلنا: إنّ قوله: «دون الحد» منصرف عن حدود العبد، و الأَمة لأَنّ الأَحكام المتعلّقة بهما في الإِسلام، أحكام مؤَقتة ثابتة ما دامت الرقية موجودة، فإذا

______________________________

(1) الوسائل: 18- 584 أبواب بقية الحدود، الباب 10، الحديث 2.

(2) النساء: 25.

(3) المنتظم: 7- 279.

(4) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة: 1- 32.

تذكرة الأعيان، ص: 46

ارتفع الموضوع و لم يوجد في أديم الأَرض أية رقية، ترتفع أحكامها بارتفاع موضوعها.

و الناظر في التشريع الإِسلامي يقف علي أنّ الشارع اهتمّ بتحرير العبيد و الإِماء بطرق كثيرة كانت تقضي علي حديث الرقية و أنّ الحكومات القائمة باسم الإِسلام ما قامت بوظيفتها في ذاك المجال.

فلو قلنا بذلك الانصراف، و قلنا بأنّ ما ورد في حدّ القيادة من أنّه يضرب ثلاثة أرباع الزاني خمسة و سبعين سوطاً «1» حدّ لا تعزير و لا توضيح لأَحد مصاديقه، يكون «أقل الحدّ» هو أربعة و سبعون سوطاً ممّا دونه، و علي كلّ تقدير ليس في الفقه الإِمامي تعزير يتجاوز عن المائة، و كان الرضي يعمل بالفقه الإِمامي و يعتنقه و ليس ممّن يخفي عليه ذاك الحكم الذي كان يمارسه طيلة نقابته للطالبيين.

و علي كلّ هذه التقادير كيف أمر الشريف بجلد ذلك الرجل حتي جاوز مائة خشبة مع

أنّه رحمه اللّه ذلك الورع التقي الذي اتّفق الجميع علي طهارته، و نزاهته و تقواه؟ و ما نري ذلك إلّا فرية أراد الجاعل الحطّ بها من مكانة السيد الشريف قدس اللّه روحه.

و قد روي عن أبي جعفر أنّ أمير المؤمنين- عليه السلام- أمر قنبراً أن يضرب رجلًا حدّا، فغلط قنبر، فزاده ثلاثة أسواط، فأقاده عليّ- عليه السلام- من قنبر بثلاثة أسواط «2».

إنّ الشريف الرضي هو الذي يعرّفه ابن الجوزي في المنتظم: كان الرضي نقيب الطالبيين ببغداد، حفظ القرآن في مدّة يسيرة بعد أن جاوز ثلاثين سنة، و عرف من الفقه و الفرائض طرفاً قويّاً، و كان عالماً، فاضلًا، و شاعراً مترسّلًا، عفيفاً، عالي الهمّة، متديّناً، اشتري في بعض الأَيام جزازاً من امرأة بخمسة دراهم فوجد

______________________________

(1) صحاح الاخبار: 61.

(2) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة: 1- 33.

و لاحظ الغدير: 1- 250.

تذكرة الأعيان، ص: 47

جزءاً بخط أبي عبد اللّه بن مقلة، فقال للدلّال: أحضر المرأة، فأحضرها فقال: قد وجدت في الجزاز جزءاً بخط ابن مقلة، فإن أردت الجزء فخذيه و إن اخترت ثمنه فهذه خمسة دراهم، فأخذتها، و دعت له، و انصرفت «1».

فمن كان هذا مبلغ تقواه و ورعه، لا يقدم علي معاقبة الزوج أمام زوجته بتلك المعاقبة الخشنة الخارجة عن حدود الشرع.

هذا ابن أبي الحديد يعرّفه في كتابه بقوله: كان عفيفاً، شريف النفس، عالي الهمّة، ملتزماً بالدين و قوانينه، و لم يقبل من أحد صلة و لا جائزة «2».

و هذا الرفاعي يعرّفه في صحاح الاخبار بقوله: كان أشعر قريش، و ذلك لَانّ الشاعر المجيد من قريش ليس بمكثر، و المكثر ليس بمجيد، و الرضي جمع بين فضلي الإِكثار و الإِجادة، و كان صاحب ورع و

عفّة، و عدل في الأَقضية، و هيبة في النفوس «3».

فمن كان عفيفاً شريف النفس ملتزماً بالدين و قوانينه، و كان صاحب ورع و عفّة، و عدل في الأَقضية أ تري يتجاوز عن حدود الشريعة و يرتكب ما لا يرتكبه من له أدني ورع؟ ما هكذا تورد يا سعد الإِبل!! لقد تولّي الشريف نقابة الطالبيّين و أمارة الحجّ و النظر في المظالم سنة 380 ه و هو ابن واحد و عشرين سنة علي عهد الطائع، و صدرت الأَوامر بذلك من بهاء الدولة و هو بالبصرة عام 397 ه، ثمَّ عهد إليه في 16 محرم عام 403 ه بولاية أُمور الطالبيّين في جميع البلاد فدُعي نقيب النقباء، و لم يبلغ أحد من أهل البيت تلك المنزلة إلّاالإِمام عليّ بن موسي الرضا سلام اللّه عليه الذي كانت له ولاية عهد و الجُزاز: قطعة من الصوف الذي يُجزّ من الغنم.

______________________________

(1) المنتظم: 15- 115 برقم 3065.

(2) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة: 1- 33.

(3) صحاح الأَخبار: 61.

تذكرة الأعيان، ص: 48

المأمون.

و أُتيحت للشريف الخلافة علي الحرمين علي عهد القادر «1».

و النقابة موضوعة لصيانة ذوي الأَنساب الشريفة عن ولاية من لا يكافئهم في النسب، و لا يساويهم في الشرف ليكون عليهم أحبي، و أمره فيهم أمضي، و هي علي ضربين: خاصّة و عامة، أمّا الخاصة فهو أن يختصر بنظره علي مجرّد النقابة من غير تجاوز لها إلي حكم و إقامة حدّ، فلا يكون العلم معتبراً في شروطها و يلزمه في النقابة علي أهله من حقوق النظر اثنا عشر حقّا، و قد ذكرها الماوردي في الأَحكام السلطانية.

و أمّا النقابة العامّة فعمومها أن يردَ إلي النقيب في النقابة عليهم، مع ما قدمناه من

حقوق النظر، خمسة أشياء:

1- الحكم بينهم في ما تنازعوا فيه.

2- الولاية علي أيتامهم في ما ملكوه.

3- إقامة الحدود عليهم في ما ارتكبوه.

4- تزويج الأَيامي اللّاتي لا يتعيّن أولياؤهنّ أو قد تعيّنوا فعضلوهن.

5- إيقاع الحَجر علي من عته منهم أو سفه و فكه إذا أفاق و رشد.

فيصير بهذه الخمسة عامَّ النقابة، فيعتبر في صحّة نقابته وعد ولايته أن يكون عالماً من أهل الاجتهاد ليصحّ حكمه، و ينفذ قضاؤَه «2».

فمن تصدّي لهذه المناصب الخطيرة أعواماً و سنين عديدة مضافاً إلي ولاية المظالم و الولاية علي الحج، و الكلّ يتطلّب خصوصيات و صفات نفسانيّة عالية، و سجايا أخلاقية رفيعة جدّاً حتي انّه يجب أن يكون ظاهر العفّة، قليل الطمع، كثير الورع، لا يعقل أن يقوم بما جاء ذكره في القصة السابقة التي لا توجد إلّا في

______________________________

(1) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة: 1- 38.

و لاحظ الغدير: 4- 205.

(2) الاحكام السلطانية، ص 8682.

تذكرة الأعيان، ص: 49

علبة القصّاصين و جعبة الوضّاعين.

كلّ ما مرّ عليك من الأَكاذيب و التهم قد أُلصقت إمّا بالشريف الرضي أو بأخيه المرتضي، و كان الهدف من وراء وضعها تكبير هذا بتصغير ذلك أو بالعكس، هذا يرشد إلي أنّ كليهما كانا موضع حقد البعض و بغضهم و حسدهم.

و يؤَيّد ذلك ما اتُّهما به علي وجه الاشتراك، و أوّل ما رُميا به ما ذكره ابن خلّكان في تاريخه إذ قال: اختلف الناس في كتاب «نهج البلاغة» المجموع من كلام الامام عليّ بن أبي طالب هل هو جَمْعه الشريف الرضي أم جمع أخيه المرتضي؟ و قد قيل: إنّه ليس من كلام عليّ، و إنّما الذي جمعه و نَسَبه إليه، هو الذي وضعه «1».

و تبعه اليافعي من دون تحقيق

و ردّد نفس ما قاله ابن خلّكان في تاريخه «2».

فما تورّط فيه هذان الكاتبان من نسبة الكتاب إلي علم الهدي و اتّهامه بوضعه أو أخيه سيدنا الشريف الرضي، ممّا لا يقام له في سوق الحقائق وزن و ليس له مناخ إلّا حيث تربض فيه العصبية العمياء، و يكشف عن جهل أُولئك، و قد قام عدّة من المحقّقين بتفنيد هذه النسبة عن طريق ذكر مصادر نهج البلاغة المؤَلّفة قبل أن يولد الرضي أو الشريف المرتضي، فنحن نضرب عن ذلك صفحاً و نمرّ عليها كراماً.

و في كتاب مصادر نهج البلاغة للعلّامة الخطيب السيد عبد الزهراء الحسني، و ما كتبه الأُستاذ عبد اللّه نعمة، و ما أفرد العلّامة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في ذلك المضمار و طبع مع كتابه مستدرك نهج البلاغة، غني و كفاية في دحض الشبهة، و إبطال الفرية.

و اللّه الهادي.

______________________________

(1) وفيات الأَعيان: 2- 313، بيروت، ط دار الثقافة.

(2) لاحظ الروضات: 4- 304.

و لاحظ الرياض: 4- 55.

تذكرة الأعيان، ص: 50

4- الشيخ سعد الدين بن نحرير بن عبد العزيز ابن البراج (400- 481 ه)

مكانة الفقه

إنّ شرف كلّ علم بشرف موضوعه، و شرف ما يبحث فيه عن عوارضه و أحواله.

فكلّ علم يرتبط باللّه سبحانه و أسمائه و صفاته و أفعاله، أو يرجع إلي معرفة سفرائه و خلفائه و ما أوحي إليهم من حقائق و تعاليم، و أحكام و تكاليف يعدّ من أشرف العلوم، و أفضلها، و أسناها.

و قد تمتع (علم الفقه) بمكانة خاصة بين تلك المعارف و العلوم، لَانّه منهج للحياة في كافة المجالات لا سيما العبادات و المعاملات كالنكاح و الإِرث و القضاء و فض الخصومات و المنازعات و غيرها.

و في الجملة: هو المنهاج الوحيد و البرنامج الدقيق لحياة المسلم الفردية، و الاجتماعية، و قد أشار أمير المؤمنين- عليه

السلام- إلي أهمية تلك التعاليم و البرامج، من خلال الإِشارة إلي آثارها في حياة الفرد و الجماعة إذ يقول: «فرضَ اللّهُ الايمانَ تطهيراً من الشرك، و الصَّلاة تنزيهاً عن الكبر، و الزَّكاة تسبيباً للرِّزق.

و الصّيام ابتلاء لإخلاص الخلق، و الحجَّ تقوية للدِّين: و الجهاد عزاً

تذكرة الأعيان، ص: 51

للإِسلام، و الأَمر بالمعروف مصلحة للعوامِّ، و النّهي عن المنكر ردعاً للسفهاء، و صلة الرحم منماة للعدد، و القصاص حقناً للدِّماء، و إقامة الحدود إعظاماً للمحارم، و ترك شرب الخمر تحصيناً للعقل، و مجانبة السرقة إيجاباً للعفة، و ترك الزِّنا تحصيناً للنَّسب، و ترك اللِّواط تكثيراً للنَّسل، و الشَّهادات استظهاراً علي المجاحدات، و ترك الكذب تشريفاً للصِّدق، و السَّلام أماناً من المخاوف، و الإِمامة نظاماً للأُمَّة، و الطّاعة تعظيماً للإِمامة» «1».

و إذا كان الفقه كفيلًا بسعادة العباد في الدارين و مبيناً لفرائضهم و وظائفهم، فقد اختار اللّه سبحانه أفضل خلائقه، و أشرف أنبيائه لإِبلاغ تلك المهمة الجسيمة، فكان النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- في حياته مرجعاً للمسلمين، في بيان وظائفهم و ما كانوا يحتاجون إليه من أحكام، كما كان قائدهم في الحكم و السياسة، و معلمهم في المعارف و العقائد؟

إكمال الشريعة بتمام أبعادها

أنّ الشريعة التي جاء بها خير الرسل، هي آخر الشرائع التي أنزلها اللّه سبحانه، لهداية عبادة فهو صلوات اللّه عليه خاتم الأَنبياء، كما أنّ كتابه و شريعته خاتمة الشرائع، و آخر الكتب.

قال سبحانه: (مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اللّٰهِ وَ خٰاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كٰانَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً) «2» و هي شريعة كاملة الجوانب، جامعة الأَطراف لم يفوتها بيان شي ء، و أغنت المجتمع البشري عن كلّ تعليم غير سماوي.

______________________________

(1) نهج

البلاغة، قسم الحكم، الحكمة رقم 252.

(2) الأَحزاب: 40.

تذكرة الأعيان، ص: 52

قال تعالي: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً) «1».

و ظاهر قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أنّه سبحانه أكمل دينه النازل علي نبيّه- صلي الله عليه و آله و سلم- من جميع الجوانب، و كافة الجهات.

فهذا الدين كامل في معارفه و عقائده، كامل في وظائفه و أحكامه، كامل في مقومات استمراره، و موجبات خلوده، و متطلبات بقائه، علي مدي الأَيام و الدهور.

فلا وجه اذن لقصر الآية علي الكمال من ناحية دون ناحية، و جانب دون آخر، فهي بإطلاقها تنبئ عن كمال الشريعة في جميع جوانبها، و مجالاتها من غير اختصاص بالايمان، أو بالحج، أو بغيره.

علي أنّ حديث الإِكمال الوارد في هذه الآية، لا يختص بإكمال الدين من حيث بيان العقيدة و تبليغ الشريعة، بل يعم الإِكمال بقاء الشريعة و استمرارها طيلة الأَعوام، إذ ليس حديث الدين كالمناهج الفلسفية و الأَدبية و ما يشبه ذلك، فإنّ الإِكمال في هذه المناهج يتحقّق بمجرّد بيان نظامها و توضيح خطوطها الفكرية، سواء تحققت علي الصعيد العملي أم لا و سواء دامت أو اندثرت، بل الدين شريعة إلهية أنزلت بغية تحقيقها في الخارج ابتداء و استمراراً حسب الأَجل الذي أُريد لها.

فتشريع الدين من دون الأَخذ بنظر الاعتبار عوامل استمراره يعد ديناً ناقصاً.

و لأَجل ذلك دلت السنّة علي نزول الآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ) يوم غدير خم عند ما قام النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- بنصب علي- عليه السلام- للولاية و الخلافة «2».

______________________________

(1) المائدة: 3.

(2) راجع الغدير: 1 217- 210.

تذكرة الأعيان، ص: 53

و العجب أنّ ابن جرير أخرج عن ابن جريج، قال: مكث النبي

صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم بعد ما نزلت هذه الآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ..) احدي و ثمانين ليلة «1».

و بما أنّ الجمهور أطبقوا علي أنّ وفاة النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- كانت في الثاني عشر من ربيع الأَوّل، فينطبق أو يقارب يوم نزول هذه الآية علي الثامن عشر من شهر ذي الحجّة، و هو يوم الغدير الذي قام النبي صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم فيه بنصب علي- عليه السلام- للخلافة و الولاية.

و قد بلغت هذه الآية من الأَهمية بمكان حتي روي المحدّثون عن طارق بن شهاب، قال: قالت اليهود للمسلمين: إنّكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: و أيّ آية؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي).

أخرج ابن جرير، عن عيسي بن حارثة الأَنصاري قال: كنّا جلوساً في الديوان، فقال لنا نصراني: يا أهل الإِسلام: لقد أُنزلت عليكم آية لو أُنزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم، و تلك الساعة عيداً ما بقي اثنان، و هي قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).

و كما روي ابن جرير، عن ابن جريج، عن السدي أنّه لم ينزل بعد هذه الآية حرام و حلال، و رجع رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- فمات «2».

بماذا يتحقّق الكمال؟

لا شكّ أنّ الشريعة الإِسلامية اكتملت بأمرين أحدهما: كتاب اللّه سبحانه، و الآخر سنّة نبيّه الكريم.

أمّا الأَوّل فقد عرّف سبحانه مكانته، و سعة معارفه بقوله: (وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ) «3».

______________________________

(1) الدر المنثور: 2- 257 و 259.

(2) الدر المنثور: 2- 257.

(3) النحل: 89.

تذكرة الأعيان، ص: 54

فلا شكّ أنّ المراد من لفظة (كلّ شي ء) هو كلّ شي ء أُنيط بيانه

إلي سفرائه و أنبيائه سبحانه من العلوم و المعارف، و المناهج و التعاليم التي لا يصل الفكر الإِنساني إلي الصحيح منها مهما بلغ من الكمال.

فهذه الأُمور تكفّل الكتاب الكريم ببيانها و ذكر خصوصياتها، و أمّا بقية العلوم كالهندسة و الرياضيات و الفيزياء و الكيمياء، فهي خارجة عن رسالة ذلك الكتاب، و ليس بيانها من مهامه و وظائفه.

نعم ربَّما يحتمل أن يكون للآية معني أوسع ممّا ذكر، غير أنّ هذا الاحتمال علي فرض صحته لا يصحح أن يكون (القرآن الكريم) مصدراً لتلك المعارف، حتي يرجع إليه كافة العلماء الإخصاء في هذه العلوم، و إنّما يتيسر استخراج هذه العلوم و المعارف لمن له قابلية علمية إلهية غيبية، حتي يتسنّي له استخراج هذه الحقائق و المعارف من بطون الآيات.

و أمّا مكانة السنّة فيكفي فيها قوله سبحانه: (وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَويٰ) «1» و قوله سبحانه: (وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) «2» و غير ذلك من الآيات التي تنص علي لزوم اقتفاء أثر النبي، و تصريح علي وجوب اتّباعه، و عدم مخالفته و معصيته.

و علي ذلك تكون الشريعة الإِسلامية شريعة كاملة الجوانب، قد بيّنت معارفها، و أحكامها بكتاب اللّه العزيز و سنّة نبيّه الكريم، فلم يبق مجال للرجوع إلي غير الوحي الإِلهي و إلي غير ما صدر عن النبي الكريم.

و هذه الحقيقة التي تكشف عنها الآية بوضوح و أنّ الدين اكتمل في حياة النبي بفضل كتابه و سنته، مما أطبقت عليه كلمة العترة الطاهرة بلا خلاف، نأتي ببعض ما ورد عنهم في ذلك المجال.

______________________________

(1) النجم: 3.

(2) الحشر: 7.

تذكرة الأعيان، ص: 55

لكلّ شي ء أصل في الكتاب و السنّة

لقد صرّح أئمّة أهل البيت و العترة الطاهرة بأنّه ما من شي ء في

مجالي العقيدة و الشريعة إلّا و له أصل في الكتاب و السنّة و هذا هو ما يظهر من كلماتهم و نصوصهم الوافرة.

روي مرازم، عن الصادق- عليه السلام- أنّه قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالي أنزل في القرآن الكريم تبيان كلّ شي ء حتي و اللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد إلّا بيّنه للناس حتي لا يستطيع عبدٌ يقول: لو كان هذا نزل في القرآن إلّا و قد أنزل اللّه فيه» «1».

و روي عمرو بن قيس، عن الامام الباقر- عليه السلام- قال: سمعته يقول: «إنّ اللّه تبارك و تعالي لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلي يوم القيامة، إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله، و جعل لكلّ شي ء حدّا و جعل عليه دليلًا يدلّ عليه» «2».

و روي سليمان بن هارون قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السلام- يقول: «ما خلق اللّه حلالًا و لا حراماً إلّا و له حدّ كحدّ الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق، و ما كان من الدار فهو من الدار، حتي أرش الخدش فما سواه، و الجلدة و نصفا لجلدة» «3».

و روي حماد، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال: سمعته يقول: «ما من شي ء إلّا و فيه كتاب أو سنّة» «4» و عن المعلّي بن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السلام-: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللّه عزّ و جلّ، و لكن لا تبلغه عقول الرجال» «5».

______________________________

(1) الكافي: 1- 59 ح 1.

(2) الكافي: 1- 59 ح 2 من كتاب فضل العلم.

(3) الكافي: 1 60- 59 ح 3 و 4 و 6 من كتاب فضل العلم.

(4) الكافي: 1 60-

59 ح 3 و 4 و 6 من كتاب فضل العلم.

(5) الكافي: 1 60- 59 ح 3 و 4 و 6 من كتاب فضل العلم.

تذكرة الأعيان، ص: 56

و عن سماعة، عن أبي الحسن موسي- عليه السلام- قال: قلت له: أ كلّ شي ء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه- صلي الله عليه و آله و سلم- أو تقولون فيه؟ قال: «بل كلّ شي ء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه- صلي الله عليه و آله و سلم-» «1».

هذا هو حال الكتاب و السنّة عند أئمّة العترة الطاهرة، فلو لم نجد حكم كثير من الموضوعات و الحوادث، في الكتاب و السنّة و لا وقفنا علي جملة من المعارف و العقائد فيهما، فما ذلك إلّا لأَجل قصور فهمنا و قلّة بضاعتنا، لأَنّ في الكتاب رموزاً و إشارات، و تنبيهات و تلويحات منها تستنبط أحكام الحوادث و الموضوعات، و يهتدي بها الإِنسان إلي المعارف و العقائد و قد اختص علمها بهم دون غيرهم.

كما أنّ عندهم سنّة النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- التي لم تصل كثير منها إلي أيدي الناس، هذه هي حقيقة الحال عن أئمّة العترة الطاهرة، و علي ذلك اقتفت شيعتهم أثرهم في تشييد صرح المعارف و العقائد، و إرساء فقههم، و فروعهم و أُصولهم.

إنّ القارئ الكريم لو راجع الجوامع الحديثية و التفسيرية، و وقف علي كيفية استدلال الأَئمّة الطاهرين، بالآيات و السنّة النبوية علي كثير من المعارف و الأَحكام لأَذعن بصحة ما قلناه، و هو أنّ عندهم علم الكتاب بالمعني الجامع الوسيع، كما أنّ عندهم السنّة النبوية بعامتها.

و هذا لا ينافي أن يكون الكتاب هادياً للأُمّة جمعاء، و أن تكون السنّة في متناول أيدي الناس،

غير أنّ الاكتناه برموز الكتاب و إشاراته، و الإِحاطة بعامة سننه، من خصائص العترة الطاهرة.

و قد قام بعض الأَفاضل بجمع الأَحاديث، التي استدل فيها الأَئمّة الطاهرون بالكتاب و السنّة علي أُمور و أحكام، ممّا لم تصل إليه أفهام الناس، و إنّما خصّ علم ذلك بهم.

______________________________

(1) الكافي: 1- 62 ح 10 من كتاب فضل العلم.

تذكرة الأعيان، ص: 57

فإذا كان الشارع قد أعلن عن خاتمية الرسالة و كمال الشريعة الإِسلامية، وجب أن تتقارب الخطي و المواقف بين المسلمين، و يقل حدة الخلاف و النقاش بينهم، و يجتمع الكل علي مائدة القرآن و السنّة من دون أن يختلفوا في عقائدهم، و لا أن يتشاجروا في تكاليفهم و وظائفهم.

و لكنّنا مع الأَسف نشاهد في حياة المسلمين أمراً خلاف ذلك، بل يضاده، و ينادي بأنّ الرسول- صلي الله عليه و آله و سلم- لم يأت بشريعة كاملة جامعة الأَطراف شاملة لكلّ شي ء.

و تلك الحقيقة المرّة و الخلافات المتجذرة التي حدثت بين المسلمين بعد وفاة رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- بل قبيلها أيضاً.

فقد نشب النزاع بينهم في أبسط المسائل إلي أعقدها، و افترقوا فرقتين أو فرقاً حتي انتهوا إلي سبعين فرقة.

فهذا هو التاريخ يحدّثنا أنّ أوّل نزاع نشب في مرضه (عليه الصلاة و السلام) روي البخاري بإسناده عن عبد اللّه بن عباس، قال: لما اشتدّ بالنبيّ مرضه الذي مات فيه، قال: «ائتوني بدواة و قرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي»، فقال عمر: إنّ رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب اللّه، و كثر اللغط، فقال النبي- صلي الله عليه و آله و سلم-: «قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع»

قال ابن عباس: الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللّه و بين كتابه «1».

و لم ينحصر الخلاف في أُخريات حياته، بل ظهر الخلاف أيضاً عند تجهيز جيش أُسامة، حيث إنّه- صلي الله عليه و آله و سلم- أمر أُسامة بأن يسير إلي المكان التي سار إليها أبوه من قبل، و جهز له جيشاً و عقد له راية، فتثاقل أكابر الصحابة عن

______________________________

(1) صحيح البخاري: 1- 29، باب كتابة العلم؛ و ج 4- 69، كتاب الجهاد، باب جوائز الوفد؛ و صحيح مسلم: 5- 76، كتاب الوصية، باب ترك الوصية.

تذكرة الأعيان، ص: 58

المسير معه لمّا رأوا مرض النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- و هو يصرّ علي مسيرهم، حتي أنّه خرج معصب الجبين، و قال: جهزوا جيش أُسامة، لعن اللّه من تخلف عنه «1».

و أمّا اتساع رقعة الخلاف، و دائرة الاختلاف بعد لحوقه صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم بالرفيق الأَعلي فحدث عنه و لا حرج.

فقد اختلفوا في موته- صلي الله عليه و آله و سلم- قال عمر بن الخطاب: من قال إنّ محمّداً قد مات قتلته بسيفي هذا، و إنّما رفع إلي السماء كما رفع عيسي عليه السَّلام.

و لمّا جاء أبو بكر بن أبي قحافة من السُّنْح، و قرأ قول اللّه سبحانه: (وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلّٰا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَليٰ أَعْقٰابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَليٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّٰهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّٰهُ الشّٰاكِرِينَ) «2» رجع عمر عن قوله، و قال: كأنّي ما سمعت هذه الآية حتي قرأها أبو بكر «3».

و أخطر الخلافات و أعظمها هو الاختلاف في الإِمامة، و إدارة شئون الأُمّة الإِسلامية،

فمنهم من قال بتعدد الأُمراء فأمير من الأَنصار و أمير من المهاجرين، و من قائل بلزوم انتخابه عن طريق الشوري، و من قائل ثالث بالتنصيص بالولاية و الأمارة.

و لأَجل ذلك يقول الشهرستاني في «ملله و نحله»: ما سل سيف في الإِسلام علي قاعدة دينيّة مثل ما سلّ علي الإِمامة في كلّ زمان «4».

و لم يقف الخلاف و الاختلاف عند هذا الحدّ، فقد اتّسع نطاقه بعد الاختلاف في الزعامة السياسية، حتي شمل القيادة الفكريّة، فحدثت مذاهب

______________________________

(1) الملل و النحل للشهرستاني: 1- 23، المقدمة الرابعة؛ و شرح نهج البلاغة: 2- 20.

(2) آل عمران: 144.

(3) الملل و النحل: 1- 23.

(4) الملل و النحل: 1- 24.

تذكرة الأعيان، ص: 59

و اتّجاهات، و وجدت مناهج متباينة في المعارف الاعتقاديّة، التي تشكل دعامة الدين و أُصوله و جذور الإِسلام و أسسه.

فاختلف المسلمون في هذا المجال إلي معتزلة و جبريّة.

و انقسمت الأولي إلي: واصليّة، هذليّة، نظاميّة، خابطيّة، بشريّة، معمريّة، مرداريّة، ثماميّة، هشاميّة، جاحظيّة، خياطيّة.

كما انقسم خصوم المعتزلة (أعني الجبريّة) إلي: جهمية، نجارية، ضرارية.

و قد كان هذا الاختلاف في إطار خاص، أي في معني الإِسلام و الإِيمان و ما يرجع إلي فعل اللّه سبحانه، ثمّ اختلفوا في صفاته سبحانه إلي: أشعرية، و مشبّهة و كراميّة.

و نشبت حروب طاحنة علي إثر تلك الاختلافات و النقاشات أسفر عنها سفك دماء الابرياء من المسلمين.

غير أنّ اطار الاختلاف لم يقف عند هذا الحدّ، فقد حدث اختلاف في مصير الإِنسان و ما يؤَول إليه بعد موته من البرزخ و مواقفه، و يوم القيامة و خصوصياته، إلي غيرها من الاختلافات و المنازعات الفكرية، التي فرقت شمل المسلمين، و مزقت وحدتهم و كأنّهم نسوا قول اللّه تعالي: (إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً

وٰاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) «1».

فصارت الأُمّة الواحدة أُمماً متعددة، و أصبحت اليد الواحدة أيدي متشتتة.

و لو أضفنا إلي ذلك ما نشب بين المسلمين من الاختلاف في المناهج الفقهية التي أرساها الصحابة و التابعون، إلي أن وصلت النوبة إلي الأَئمّة الأَربعة لهال الإِنسان هذا الاختلاف الواسع المروع، و عند ذلك يسأل المرء نفسه: تري

______________________________

(1) الأَنبياء: 92.

تذكرة الأعيان، ص: 60

أي الأَمرين أحقّ و أصحّ؟

1- ما نصّ به القرآن الكريم، و حدّث عنه سيّد المرسلين عن كمال الدين بأُصوله و جذوره، و شعبه و فروعه بحيث لم يبق للمسلم حاجة إلّا رفعها، و لا حادثة إلّا بيّن حكمها، و مقتضي ذلك أنّ تقليل حدّة الخلاف و النقاش إلي أقلّ حدّ ممكن.

2- ما نلمسه و نراه بوضوح من الخلاف و التشاجر في أبسط الأُمور و أعقدها من دقيقها و جليلها، بحيث لم يبق أصل و لا فرع إلّا و فيه رأيان بل آراء.

إنّ حديث الاختلاف الكبير هذا لا يمكن أن يعد أمراً هيناً، كيف و الإِمام علي عليه السلام- يعتبره دليلًا علي نقصان الدين إن كان المختلفون علي حق، و إلّا كان اختلافهم أمراً باطلًا، لَانّ كمال الشريعة يستلزم أن يكون كلّ شي ء فيها مبيناً، فلا مبرر و لا مصحّح للاختلاف.

يقول الامام- عليه السلام- في ذم اختلاف العلماء في الفتيا: ترد علي أحدهم القضية في حكم من الاحكام، فيحكم فيها برأيه ثمَّ ترد تلك القضية بعينها علي غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإِمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً.

و إلههم واحد، و نبيّهم واحد، و كتابهم واحد أ فأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟! أم نهاهم عنه فعصوه؟! أم أنزل اللّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان

بهم علي إتمامه؟! أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضي؟! أم أنزل اللّه سبحانه ديناً تاماً فقصر الرسول- صلي الله عليه و آله و سلم- عن تبليغه و أدائه، و اللّه سبحانه يقول: (مٰا فَرَّطْنٰا فِي الْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ) و فيه تبيان لكلّ شي ء و ذكر أنّ الكتاب يصدق بعضه بعضاً «1».

______________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة رقم 18.

تذكرة الأعيان، ص: 61

تري أنّه- عليه السلام- بعد ما يندّد بالاختلاف، يقول أم أنزل اللّه ديناً ناقصاً فاستعان بهم علي إتمامه؟ فإكمال الدين في كافة أبعاده ينفي وجود الثاني، كما أنّ وجود الخلاف في عامة المسائل لا يجتمع مع إكمال الدين، فما هو الحل لهذين الأَمرين المتخالفين؟! الإِجابة علي هذا السؤال إنّ هناك تحليلين يمكن أن يستند إليهما الباحث في حلّ تلك المعضلة: الأَوّل: أنّ النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- و إن أكمل دينه في أُصوله و فروعه غير أنّ المسلمين في القرون الغابرة وقفوا أمام النصوص الإِسلامية، فأوجدوا مناهج و مذاهب لا تلائم القرآن الكريم و لا السنّة النبويّة.

بيد انّ هذه الإِجابة لا تتفق مع الواقع، بل تعتبر قسوة علي الحقّ و أصحابه، لَانّ الدين كان عند المسلمين في الصدر الأَوّل من أعز الأَشياء و أغلاها، فكانوا يضحون بأنفسهم و أموالهم في سبيله.

فعند ذلك كيف يمكن أن ينسب إليهم بأنّهم قد وقفوا في وجه النصوص الإِسلامية، و قابلوها بآرائهم، و رجحوا أفكارهم و نظرياتهم علي الوحي؟ كيف و القرآن الكريم يصف تلك الثلة بقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَي الْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً سِيمٰاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذٰلِكَ

مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَويٰ عَليٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّٰاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّٰارَ وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً) «1».

______________________________

(1) الفتح: 29.

تذكرة الأعيان، ص: 62

الثاني: أن الشريعة الإِسلامية قد جاءت بدقائق الأُمور و جلائلها، غير أنّ الشارع الحكيم قد أودع علم كتابه و الإِحاطة بسنة نبيّه اللّذين اكتملت بهما الشريعة، و تمت بهما النعمة.

و استغنت الأُمّة بهما عن التطفل علي موائد الآخرين عند أُناس منزهين عن الإِثم و الذنب، مصونين عن الزلل و الخطأ، قد أحاطوا بمحكم القرآن و متشابهه، و مجمله، و مفصّله و ناسخه و منسوخه، و عامّه و خاصّه، و مطلقه و مقيده، بل بدلالاته و تنبيهاته، و رموزه و إشاراته التي لا يهتدي إليها إلّا من شملته العناية الإِلهيّة، و عمّته الفيوض الربّانية.

كما و أحاطوا بسنّة نبيّهم، و شوارد أقواله، و وجوه أفعاله، و ألوان تقريره و إقراره.

فالتحق- صلي الله عليه و آله و سلم- بالرفيق الأَعلي و الحال هذه، أي أنّ العلم بحقائق الكتاب و متون سنّته مخزون عند جماعة خاصّة، قد عرّفهم صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم بصفاتهم و خصوصيّاتهم تارة، و أسمائهم و أعدادهم تارة أُخري كما سيوافيك.

و لو أنّ الأُمّة الإِسلاميّة رجعوا في مجال العقائد و المعارف، و موارد الاحكام و الوظائف إلي تلك الثلّة الطاهرة، لَاوقفوهم علي كلّ غرة لائحة، و حجّة واضحة، و قول مبين، و برهان متين، و استغنوا بذلك عن كلّ قول ليس له أصل في كتاب اللّه و سنّة رسوله، و لمسوا إكمال الدين في مجالي العقيدة و الشريعة بكلّ وضوح.

فحديث إكمال الدين في جميع مجالاته أمر

لا غبار عليه، و لكنّ الخلاف و النقاش حدث في أسس الإِسلام و فروعه لأَجل الاستقلال في فهم الذكر الحكيم، و جمع سنّة الرسول من دون أن يرجعوا إلي من عنده رموز الكتاب و إشاراته، و دلائله و تنبيهاته، فهم ورّاث الكتاب «1» و ترجمان السنّة، فافترقوا لأَجل هذا الإعراض إلي فرق كثيرة و مناهج عديدة.

______________________________

(1) إشارة إلي قوله سبحانه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتٰابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنٰا مِنْ عِبٰادِنٰا). (فاطر- 32).

تذكرة الأعيان، ص: 63

إنّ الاستقلال في فهم المعارف و الأُصول و استنباط الفروع، ألجأ المسلمين إلي الأَخذ بالقياس و الاستحسان، و تشييد قواعد و مقاييس ظنية كسد الذرائع و المصالح المرسلة، و غيرها من الأُمور التي ما أنزل اللّه بها من سلطان، و ذلك لأَنّهم واجهوا من جانب إكمال الدين من حيث الفروع و الأُصول، بحيث لا يمكن إنكاره حسب الآيات و الأَحاديث، و من جانب آخر واجهوا الحاجات و الحوادث المتجددة التي لم يجدوا لها دليلًا، لا في الكتاب و لا في السنّة، فلاذوا إلي العمل بهذه المقاييس حتي يسدوا الفراغ، و يبرّئوا الشريعة الإِسلامية عن وصمة النقص.

قال ابن رشد مستدلًا علي حجّية القياس: إنّ الوقائع بين أشخاص الأُناس غير متناهية، و النصوص و الأَفعال و الإِقرارات (أي تقرير النبي) متناهية، و محال أن يقابل ما لا يتناهي بما يتناهي «1».

و كأنّه يريد أن يقول: إنّه لولا القول بحجّية القياس لَاصبحت الشريعة ناقصة غير متكاملة.

و هذا الجواب (و هو إيداع علم الكتاب عند العترة و إحاطتهم بالسنّة) ممّا يلوح عند الغور في غضون السنّة، و لعلّ القاريَ الكريم يزعم باديَ بدء أنّ هذا الجواب غير مدعم بالبرهان، غير أن من راجع السنّة يري النبي صلَّي اللّه

عليه و آله و سلَّم يصرّح في خطبة حجّة الوداع بأنّ عترته أعدال الكتاب العزيز و قرناؤه، و هم يصونون الأُمّة عن الانحراف و الضلال، و لا يفارقون الكتاب قدر شعرة، و مع الرجوع إليهم لا يبقي لقائل شك و لا ترديد.

روي الترمذي، عن جابر قال: رأيت رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- في حجّة يوم عرفة، و هو علي ناقته القصوي يخطب فسمعته يقول: «يا أيها النّاس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب اللّه

______________________________

(1) بداية المجتهد و نهاية المقتصد: 1- 2 راجع أيضاً المدخل الفقهي العام: 1- 77.

تذكرة الأعيان، ص: 64

و عترتي أهل بيتي» «1».

و روي مسلم في صحيحه: «أنّ رسول اللّه قام خطيباً بماء يدعي خماً بين مكة و المدينة.. ثمّ قال: ألا يا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب و انّي تارك فيكم ثقلين: أوّلها كتاب اللّه فيه الهدي و النور، فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به.. و أهل بيتي» «2».

و قد روي هذا الحديث أصحاب الصحاح و السنن بعبارات مختلفة، كما رووا أنّه نطق به النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- في حجّة الوداع، و في غدير خم و قبيل وفاته، فدراسة الحديث توقفنا علي مكانة أهل البيت النبوي، و عترة رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- الذين هم عدل القرآن الكريم في الهداية و النور، و العصمة، فمن فارقهم فقد فارق الكتاب و السنّة و حاد عن جادة الحقّ إلي هاوية الضلالة.

عدد الأَئمة

إنّ النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم- لم يكتف بالتنصيص بالوصف، بل أخبر بأنّ عدد الأَئمّة الذين يعقبوه

هو اثنا عشر، و قد رواه أصحاب الصحاح و المسانيد، فروي مسلم، عن جابر بن سمرة، أنّه سمع النبي يقول: «لا يزال الدين قائماً حتي تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش» «3».

و روي البخاري قال: سمعت النبي يقول: يكون اثنا عشر أميراً: «فقال كلمة لم أسمعها فقال أبي: قال كلّهم من قريش» «4».

______________________________

(1) صحيح الترمذي: 3- 199، باب مناقب أهل بيت النبي.

(2) صحيح مسلم: 7- 123، باب فضائل علي بن أبي طالب.

(3) صحيح مسلم: 46- 3، باب الناس تبع لقريش، من كتاب الامارة.

(4) صحيح البخاري: 6- 65، كتاب الاحكام.

تذكرة الأعيان، ص: 65

و هناك نصوص أُخري لهذا الحديث تصرح بأنّ عدد الولاة اثنا عشر و أنّهم من قريش.

و جاء علي- عليه السلام- يفسّر حديث النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- و يوضح إبهامه، و يقول: «إنّ الأَئمّة من قريش في هذا البطن من هاشم، لا تصلح علي سواهم و لا يصلح الولاة من غيرهم» «1».

إحاطة العترة بالسنّة

ما ذكرناه آنفاً من أنّ العترة الطاهرة أحاطوا بالسنّة النبوية، التي لم تحتفظ بأكثرها الأُمّة و انّ كلّما يروون من أحاديث في مجالي العقيدة و الشريعة، كلّها رواية عن رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- عن طريق آبائهم.

و قد وردت في هذا الصعيد نصوص لا مجال لنقلها برمتها، بل نكتفي بالقليل من الكثير: روي حماد بن عثمان و غيره، قالوا: سمعنا أبا عبد اللّه- عليه السلام- يقول: حديثي حديث أبي، و حديث أبي حديث جدي، و حديث جدّي حديث الحسين، و حديث الحسين حديث الحسن، و حديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السَّلام، و حديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّه- صلي

الله عليه و آله و سلم-، و حديث رسول اللّه صلي الله عليه و آله و سلم- قول اللّه عزّ و جلّ» «2».

و عن جابر قال: قلت لأَبي جعفر- عليه السلام-: إذا حدثتني بحديث، فأسنده لي، فقال: «حدّثني أبي عن جدّي رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم-، عن

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 142.

(2) جامع أحاديث الشيعة: 1 128- 127.

تذكرة الأعيان، ص: 66

جبرئيل- عليه السلام-، عن اللّه عزّ و جلّ و كلّ ما أحدّثك (فهو) بهذا الاسناد» و قال: «يا جابر لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا و ما فيها» «1».

و من كتاب حفص بن البختري، قال: قلت لأَبي عبد اللّه- عليه السلام-: نسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعة، أو من أبيك، فقال: «ما سمعته منّي فأروه عن أبي، و ما سمعته فاروه عن رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم-» «2».

و عن يونس، عن عنبسة قال: سأل رجل أبا عبد اللّه- عليه السلام- عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: إن كان كذا و كذا ما كان القول فيها، فقال له: «مهما أجبتك فيه بشي ء فهو عن رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم-، لسنا نقول برأينا من شي ء» «3».

كيفية بيان الفقه عند الإِمامية

لقد عكفت الشيعة بعد لحوق النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- بالرفيق الأَعلي علي دراسة الفقه، و جمع مسائله و تبويب أبوابه و ضم شوارده، و أقبلوا عليه إقبالًا تاماً قلّ نظيره لدي الطوائف الإِسلامية الأُخري، حتي تخرّج من مدرسة أهل البيت و علي أيدي أئمّة الهدي، عدّة من الفقهاء العظام، فبلغوا الذروة في الفقاهة و الاجتهاد، نظراء: زرارة ابن أعين، و محمد بن

مسلم الطائفي، و أبي بصير الأَسدي، و يزيد بن معاوية، و الفضيل بن يسار، و هؤلاء من أفاضل خريجي مدرسة أبي جعفر الباقر و أبي عبد اللّه عليمها السَّلام، فأجمعت العصابة علي تصديق هؤلاء، و انقادت لهم بالفقه و الفقاهة.

و يليهم في الفضل و الفقاهة ثلة أُخري، و هم خريجو جامعة أبي عبد اللّه

______________________________

(1) جامع أحاديث الشيعة.

(2) المصدر نفسه: 1291- 128.

(3) المصدر نفسه، و من أراد الوقوف علي المزيد فليرجع إلي المصدر المذكور ص 126 219.

تذكرة الأعيان، ص: 67

الصادق- عليه السلام-، نظراء: جميل بن دراج، و عبد اللّه بن مسكان، و عبد اللّه بن بكير، و حماد بن عثمان، و حماد بن عيسي، و أبان بن عثمان.

كما أقرت العصابة علي فقاهة ثلة أُخري من تلاميذ أصحاب الإِمام موسي ابن جعفر الكاظم و ابنه أبي الحسن الرضا عليمها السَّلام، نظراء: يونس بن عبد الرحمن، و صفوان ابن يحيي، و محمد بن أبي عمير، و عبد اللّه بن المغيرة، و الحسن بن محبوب و الحسين بن علي بن فضال، و فضالة بن أيوب «1».

هؤلاء أفذاذ الشيعة في الفقه و الحديث في القرنين: الأَوّل و الثاني من الهجرة، و قد تخرّجوا من جامعة أهل البيت- عليهم السلام- و أخذوا منهم الفقه و أُصول الاجتهاد و الاستنباط.

نعم لا ينحصر المتخرّجون من جامعتهم في هؤلاء الذين ذكرناهم، فقد تخرّج منها جماعة كثيرة تجاوزت المئات بل الآلاف، و قد ضبطت كتب الرجال أسماءهم و خصوصياتهم و كتبهم.

و مع أنّ كتب الرجال و الفقه تنص علي مكانتهم في الفقاهة، و مدي استنباطهم الأَحكام الشرعية، غير أنّ كتبهم في القرون الثلاثة الأُولي كانت مقصورة علي نقل الروايات بأسنادها، و الإِفتاء في المسائل بهذا

النحو، مع تمييز الصحيح عن السقيم و المتقن عن الزائف.

و تطلق علي كتبهم عناوين: الأَصل، الكتاب، النوادر، الجامع، المسائل، أو خصوص باب من أبواب الفقه، كالطهارة، و الصلاة، و ما شابه ذلك.

هذه الكتب المدونة في القرون الثلاثة بمنزلة «المسانيد» عند العامة، فكلّ كتاب من هؤلاء الرواة يعد مسنداً للراوي، قد جمع فيه مجموع رواياته عن الامام

______________________________

(1) راجع رجال الكشي: 206 و 32، 466.

تذكرة الأعيان، ص: 68

أو الأَئمّة في كتابه، و كان الإِفتاء بشكل نقل الرواية بعد إعمال النظر و مراعاة ضوابط الفتيا.

و مع إطلالة القرن الرابع خرج لون جديد في الكتابة و الفتيا، و هو الإِفتاء بمتون الروايات مع حذف أسنادها، و الكتابة علي هذا النمط مع إعمال النظر و الدقة فخرج الفقه في ظاهره عن صورة نقل الرواية، و اتخذ لنفسه شكل الفتوي المحضة.

و أوّل من فتح هذا الباب في وجه الشيعة علي مصراعيه هو والد الشيخ الصدوق «علي بن الحسين بن موسي بن بابويه» المتوفّي عام 329 ه، فألّف كتاب «الشرائع» لولده الصدوق، و قد عكف فيه علي نقل متون و نصوص الروايات، و قد بثّ الصدوق هذا الكتاب في متون كتبه: كالفقيه، و المقنع و الهداية، كما يظهر ذلك من الرجوع إليها.

و لقد استمر التأليف علي هذا النمط، فتبعه ولده الصدوق المتوفّي عام 381، فألّف «المقنع و الهداية»، و تبعه شيخ الأُمّة و مفيدها «محمد بن محمد بن النعمان» المتوفّي عام 413 في «مقنعته»، و تلميذه شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي المتوفّي عام 460 في «نهايته».

و لما كانت متون هذه الكتب و المؤلّفات مأخوذة من نفس الروايات و الأُصول وقعت متونها موضع القبول من قبل الفقهاء فعاملوها معاملة الكتب الحديثية، و

عولوا عليها عند اعوازهم النصوص علي اختلاف مشاربهم و أذواقهم.

و كان سيدنا الأُستاذ آية اللّه البروجردي (1292 1380 ه) يسمّي تلك الكتب ب «المسائل المتلقاة»، و سماها بعض الأَجلّة ب: «الفقه المنصوص».

تذكرة الأعيان، ص: 69

مبدأ تطور الفقه عند الشيعة الإِمامية

إنّ ظهور النمط الثاني (تجريد المتون عن الأَسانيد) تمخّض عنه اندثار الطريقة القديمة السائدة طيلة قرون، لكنّه لم يكن رافعاً للحاجة و سادّاً للفراغ، لأَنّ هناك وقائع و أحداث لم ترد بعينها في متون الروايات و سنن النبي صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم، و إن كان يمكن استنباط أحكامها من العمومات و الإِطلاقات و الأُصول الواردة في الكتاب و السنّة.

و لذلك دعت الحاجة في أوائل القرن الرابع إلي إبداع منهج خاص في الفقه، و هو الخروج عن نطاق عبائر النصوص و الأَلفاظ الواردة في الكتاب و السنّة، و عرض المسائل علي القواعد الكلية الواردة في ذينك المصدرين، مع التحفظ علي الأصول المنقولة عن أئمّة الشيعة من نفي القياس و الاستحسان و نفي الاعتماد علي كلّ نظر و رأي ليس له دليل.

و هذا اللون من الفقه و إن كان سائداً بين فقهاء العامة، لكنّه كان مبنياً علي أُسس و قواعد زائفة، كالعمل بالقياس و سائر المصادر الفقهية.

و أوّل من فتح هذا الباب علي مصراعيه في وجه الأُمّة، هو شيخ الشيعة و فقيهها الأَجل، الحسن بن علي بن أبي عقيل أبو محمد الحذّاء عرّفه النجاشي بقوله: فقيه متكلم ثقة، له كتب في الفقه و الكلام منها: كتاب «المتمسك بحبل آل الرسول»، كتاب مشهور في الطائفة، و قيل: ما ورد الحاج من خراسان إلّا طلب و اشتري منه نسخاً، و سمعت شيخنا أبا عبد اللّه (المفيد) رحمه اللّه يكثر الثناء علي

هذا الرجل رحمه اللّه «1».

______________________________

(1) رجال النجاشي: 35.

و اختلف أرباب المعاجم في كنيته و اسم أبيه لاحظ تعليقات فوائد الرجال للعلامة بحر العلوم: 2- 212.

تذكرة الأعيان، ص: 70

و هذا شيخ الطائفة الطوسي يعرّفه و يعرّف كتابه المذكور في فهرسته، و يقول: و هو من جملة المتكلّمين، إماميّ المذهب، و من كتبه كتاب «المتمسك بحبل آل الرسول» في الفقه و غيره، و هو كتاب كبير حسن «1».

و يقول العلّامة: و نحن نقلنا أقواله في كتبنا الفقهية، و هو من جملة المتكلّمين و فضلاء الإِمامية.

و يصف كتابه «المتمسك بحبل آل الرسول» بأنّه كتاب مشهور عندنا «2» و قد نقل آراءه العلّامة في «مختلف الشيعة» في جميع أبواب الفقه، و هذا يكشف عن أنّ الكتاب المذكور كتب علي أساس الاستنباط، و ردّ الفروع إلي الأصول، و الخروج عن دائرة ألفاظ الحديث، عملًا بقول الصادق: علينا إلقاء الأصول إليكم، و عليكم التفريع «3».

و لعلّه لأَجل هذا قال العلّامة بحر العلوم في «فوائده الرجالية»: هو أوّل من هذّب الفقه و استعمل النظر، و فتق البحث في الأصول و الفروع في ابتداء الغيبة الكبري و بعده الشيخ الفاضل «ابن الجنيد» «4».

و قال مؤَلف «روضات الجنات» أيضاً: إنّ هذا الشيخ هو الذي ينسب إليه إبداع أساس النظر في الأَدلّة، و طريق الجمع بين مدارك الاحكام بالاجتهاد الصحيح، و لذا يعبّر عنه و عن الشيخ أبي علي ابن الجنيد في كلمات فقهاء أصحابنا بالقديمين، و قد بالغ في الثناء عليه أيضاً صاحب «السرائر»، و غيره و تعرضوا لبيان خلافاته الكثيرة في مصنفاتهم «5».

ضبط الشيخ اسم أبيه «عيسي»، و النجاشي «علي»؛ و الثاني أقرب إلي الصواب.

______________________________

(1) الفهرست: 79.

(2) الخلاصة: 40.

(3) السرائر قسم المستطرفات: 477

في ما أورده من جامع البزنطي.

(4) الفوائد الرجالية: 2- 229.

(5) روضات الجنات: 2- 259.

تذكرة الأعيان، ص: 71

و التاريخ و إن لم يضبط عام وفاته، غير أنّه من معاصري الشيخ الكليني المتوفّي عام 329 ه، و من مشايخ جعفر بن محمد بن قولويه، المتوفي عام 369 ه، و قد ترجم له السيد الأَمين رحمه اللّه في أعيان الشيعة ترجمة مبسوطة «1».

و الثاني هو محمد بن أحمد بن جنيد، أبو علي الكاتب الإسكافي، الذي قال النجاشي عنه: وجه في أصحابنا، ثقة، جليل القدر، صنّف فأكثر، ثمّ ذكر فهرس كتبه و منها: كتاب «تهذيب الشيعة لأَحكام الشريعة»، و كتاب «الأَحمدي للفقه المحمدي» «2».

و يصف الشيخ الطوسي كتاب «تهذيب الشيعة لأَحكام الشريعة»: بأنّه كتاب كبير في عشرين مجلداً، يشتمل علي عدّة من كتب الفقه علي طريق الفقهاء «3».

و قوله: علي طريقة الفقهاء إشارة إلي أنّه كان كتاباً علي نمط الكتب الفقهية الاستدلالية، نظير الكتب الفقهية للعامة.

و لأَجل ذلك يقول مؤَلف «روضات الجنات»: إنّ هذا الشيخ تبع الحسن ابن أبي عقيل العماني فأبدع أساس الاجتهاد في أحكام الشريعة.

و نقل عن «إيضاح العلامة» أنّه قال: وجدت بخط السيد السعيد محمد بن معد، ما صورته: وقع إليّ من هذا الكتاب أي كتاب «تهذيب الشيعة» مجلد واحد، و قد ذهب من أوّله أوراق، و هو كتاب النكاح، فتصفحته و لمحت مضمونه فلم أر لأَحد من هذه الطائفة كتاباً أجود منه، و لا أبلغ و لا أحسن عبارة، و لا أدق معني، و قد استوفي منه الفروع و الأُصول، و ذكر الخلاف في المسائل و استدل

______________________________

(1) أعيان الشيعة: 20222- 192.

(2) رجال النجاشي: 273.

(3) الفهرست: 160.

تذكرة الأعيان، ص: 72

بطريق الإِمامية و طريق مخالفيهم، و هذا

الكتاب إذا أمعن النظر فيه و حصلت معانيه علم قدره و مرتبته، و حصل منه شي ء كثير و لا يحصل من غيره.

ثمّ يقول العلّامة: قد وقع إليّ من مصنفات هذا الشيخ المعظم الشأن كتاب «الأَحمدي في الفقه المحمّدي»، و هو مختصر هذا الكتاب، جيد يدلّ علي فضل هذا الرجل و كماله، و بلوغه الغاية القصوي في الفقه و جودة نظره، و أنا ذكرت خلافه و أقواله في كتاب «مختلف الشيعة في أحكام الشريعة» «1».

و بذلك يعلم أنّ استعمال القياس في فقهه كان لأَجل الاستدلال علي طريق المخالفين، و لعلّه إلي ذلك ينظر الشيخ حيث يقول في «عدّته»: لما كان العمل بالقياس محظوراً في الشريعة عندهم لم يعملوا به أصلًا، و إذا شذ واحد منهم عمل به في بعض المسائل، علي وجه المحاجة لخصمه، و إن لم يكن اعتقاده، رووا قوله و أنكروا عليه «2».

الثالث: الشيخ الفقيه المحقّق النقّاد نابغة العراق، و نادرة الآفاق، الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان (338 413 ه).

يقول تلميذه، أبو العباس النجاشي عنه في رجاله: شيخنا و أُستاذنا رضي اللّه عنه، فضله أشهر من أن يوصف في الفقه و الكلام و الرواية و الوثاقة و العلم «3».

و يقول عنه تلميذه الآخر الشيخ الطوسي في فهرسته: محمد بن محمد بن النعمان المفيد، يكنّي أبا عبد اللّه المعروف بابن المعلم، من جملة متكلّمي

______________________________

(1) روضات الجنات: 1476- 145، نقلًا عن إيضاح العلّامة: 88 89، ط إيران، و قد نقله بعض الأَجلّة عن خلاصة العلّامة، و هو ليس بصحيح.

(2) عدة الأصول: 1- 339 الطبعة الحديثة.

لاحظ أيضاً في ذلك ما حقّقه السيد بحر العلوم في فوائده: 3 225- 213.

(3) رجال النجاشي: 399 برقم 1067.

تذكرة الأعيان،

ص: 73

الإِمامية، انتهت إليه رئاسة الإِمامية في وقته، و كان مقدماً في العلم و صناعة الكلام، و كان فقيهاً متقدماً فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، و له قريب من مائتي مصنف كبار و صغار «1».

و كفي في فضل الرجل و تقدّمه في الفقه و الكلام انّه تخرّج عليه و تربّي في مدرسته العلمان الكبيران: السيد المرتضي، و الشيخ الطوسي قدس اللّه أسرارهما.

و قد ذكر النجاشي من أسامي مؤَلفاته نحواً من مائة و أربعة و ستين كتاباً.

و قد طبع منه في الفقه: المقنعة، (و المسائل الصاغانية «و الإعلام» فيما اتّفقت عليه الإِمامية و هو كالذيل لكتاب أوائل المقالات) غير أنّ رسائله في الفقه كثيرة معروفة، يظهر لمن راجع الفهارس.

الرابع: علي بن الحسين الملقّب ب «علم الهدي» و المعروف ب «السيد المرتضي» (355 436 ه).

قال عنه تلميذه الشيخ الطوسي: متوحّد في علوم كثيرة، مجمع علي فضله، مقدّم في العلوم مثل علم الكلام و الفقه و أُصول الفقه، ثمّ ذكر تصانيفه.

و قال عنه تلميذه الآخر أبو العباس النجاشي: حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه و سمع من الحديث فأكثر.

و ذكر تآليفه «2».

و من تآليفه في الفقه: الانتصار في انفرادات الإِمامية، صنّفه للأَمير الوزير عميد الدين في بيان الفروع التي شنّع علي الشيعة لأَنّهم خالفوا فيها الإِجماع فأثبت أنّ لهم فيها موافقاً من فقهاء سائر المذاهب، و انّ لهم عليها حجّة قاطعة، من الكتاب و السنّة، و قد طبع الكتاب كراراً.

______________________________

(1) فهرست الشيخ الطوسي: 166.

(2) فهرست الشيخ: 125؛ رجال النجاشي: 270 برقم 708.

تذكرة الأعيان، ص: 74

و كتابه هذا في الفقه، و كتابه الآخر أعني: «الذريعة في أُصول الفقه» يعربان عن أنّ السيد من

الشخصيات البارزة التي يضن بها الدهر إلّا في فترات قليلة.

الخامس: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي (385 460 ه)، فقيه الشيعة و زعيمهم في القرن الخامس بعد السيد المرتضي الشهير بعلم الهدي، فقد قام بتأليف كتاب علي هذا النمط و أسماه كتاب «المبسوط»، و ألّفه بعد كتابه المسمّي ب «النهاية» الذي كتبه علي النمط الأَوّل من التأليف.

قال في مقدمة «المبسوط»: كنت عملت في قديم الوقت كتاب «النهاية»، و ذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم و أُصولها من المسائل، و فرّقوه في كتبهم، و رتبته ترتيب الفقه، و جمعت فيه النظائر.. و لم أتعرض للتفريع علي المسائل و لا لتعقيد الأَبواب، و ترتيب المسائل و تعليقها و الجمع بين نظائرها، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالأَلفاظ المنقولة، حتي لا يستوحشوا من ذلك و عملت بآخره مختصر جمل العقود، و في العبارات سلكت فيه طريق الإِيجاز و الاختصار، و عقود الأَبواب في ما يتعلّق بالعبادات.. و وعدت فيه أن أعمل كتاباً في الفروع خاصة، يضاف إلي كتاب «النهاية»، و يجتمع مع ما يكون كاملًا كافياً في جميع ما يحتاج إليه.

ثمّ رأيت أنّ ذلك يكون مبتوراً يصعب فهمه علي الناظر فيه، لَانّ الفرع إنّما يفهمه إذا ضبط الأَصل معه، فعدلت إلي عمل كتاب يشتمل علي عدد جميع كتب الفقه التي فصلوها الفقهاء، و هي نحو من ثلاثين كتاباً، أذكر كلّ كتاب منه علي غاية ما يمكن تلخيصه من الأَلفاظ، و اقتصرت علي مجرد الفقه دون الأَدعية و الآداب، و أعقد فيه الأَبواب و أقسم فيه المسائل، و أجمع بين النظائر و استوفيه غاية

تذكرة الأعيان، ص: 75

الاستيفاء، و أذكر أكثر الفروع التي ذكرها

المخالفون «1».

و قد لخّصنا عبارة الشيخ في مقدمته، و قد أوضح فيها طريقته الحديثة، التي اجتمعت فيه مزية التفريع و التكثير، و الإِجابة علي الحاجات الجديدة، و بيان أحكام الحوادث مع عدم الخروج عن حدود الكتاب و السنّة، بل الرجوع إليهما في جميع الأَبواب.

و قد نال هذا الكتاب القيم رواجاً خاصّاً، و هو أحد الكتب النفيسة للشيعة الإِمامية في الفقه، و قد طبع في ثمانية أجزاء.

كما أنّ للشيخ الطوسي كتاباً آخر و هو كتاب «الخلاف»، سلك فيه مسلك الفقه المقارن.

و الحقّ أنّ شيخ الطائفة قد أُوتي موهبة عظيمة و فائقة، فخدم الفقه الإِسلامي بألوان الخدمة، فتارة كتب كتاب «النهاية» علي طريقة الفقه المنصوص أو المسائل المتلقاة كما كتب «المبسوط» علي نهج الفقه التفريعي، و أثبت أنّ الشيعة مع نفيهم للقياس و الاستحسان، قادرون علي تفريع الفروع، و تكثير المسائل، و تبيين أحكامها من الكتاب و السنّة مع التحفّظ علي أُصولهم بالاجتهاد.

ثمّ ألف كتاب «الخلاف» علي نمط الفقه المقارن، فأورد فيه آراء الفقهاء في عصره و العصور الماضية، و هو من أحسن الكتب و أنفسها، كما أنّه ابتدع نوعاً رابعاً في التأليف، فأخرج أُصول المسائل الفقهية بأبرع العبارات و أقصرها و أدرجها في فصول خاصة، أسماها «الجمل و العقود»، و قد أشار إليها في مقدمته إذ قال و أنا مجيب إلي ما سأل الشيخ الفاضل أدام اللّه بقاه في إملاء مختصر، يشتمل علي ذكر كتب العبادات، و ذكر عقود و أبواب و حصر جملها، و بيان أفعالها، و أقسامها إلي الأَفعال و التروك و ما يتنوع من الوجوب و الندب، و أضبطها بالعدد، ليسهل علي

______________________________

(1) المبسوط: 31- 2.

تذكرة الأعيان، ص: 76

من يريد حفظها، و لا يصعب

تناولها و يفزع إليه الحافظ عند تذكّره، و الطالب عند تدبّره.

فهذه الأَلوان الأَربعة في كتب الشيخ يسدّ كلّ منها ناحية من النواحي الفقهية.

السادس: الشيخ سعد الدين أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير «1» بن عبد العزيز بن براج الطرابلسي، تلميذ السيد المرتضي، و زميل الشيخ الطوسي أو تلميذه المعروف بالقاضي تارة و بابن البراج أُخري، فقيه عصره و قاضي زمانه، و خليفة الشيخ في الشامات.

و هو أحد الفقهاء الافذاذ في القرن الخامس بعد شيخيه: المرتضي و الطوسي، صاحب كتاب «المهذب» في الفقه و غيره من الآثار الفقهية فهو قدَّس سرَّه اقتفي خطوات شيخ الطائفة من حيث التبويب و التفريع، و يعد الكتاب من الموسوعات الفقهية البديعة في عصره.

و قبل كلّ شي ء نذكر أقوال أئمّة الرجال و التراجم في حقّه، فنقول: 1- يقول الشيخ منتجب الدين في الفهرست: القاضي سعد الدين أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج، وجه الأَصحاب، و فقيههم، و كان قاضياً بطرابلس، و له مصنفات منها: «المهذب» و «المعتمد» و «الروضة» و «المقرب» و «عماد المحتاج في مناسك الحاج» أخبرنا بها الوالد، عن والده، عنه «2».

2- و يقول ابن شهرآشوب في «معالم العلماء»: أبو القاسم عبد العزيز بن

______________________________

(1) نقل السيد بحر العلوم في فوائده: 3- 61 إنّ في نسختين من نسخ إجازة العلّامة لأَبناء زهرة «بحر» مكان نحرير و جعله أصحّ لكون «بحر» أكثر في الأَسماء من «نحرير».

(2) بحار الأَنوار: 105- 441، و قد طبع فهرست منتجب الدين في هذا الجزء من أجزاء البحار.

تذكرة الأعيان، ص: 77

نحرير بن عبد العزيز، المعروف بابن البراج، من غلمان «1» المرتضي رضي اللّه عنه، له كتب في الأصول و الفروع، فمن الفروع:

الجواهر، المعالم، المنهاج، الكامل، روضة النفس في أحكام العبادات الخمس، المقرب، المهذب، التعريف، شرح جمل العلم و العمل للمرتضي رحمه اللّه «2».

3- و قال العلّامة الحلّي في إجازته لأَولاد زهرة المدرجة في كتاب الإِجازات للمجلسي الملحق بآخر أجزاء البحار، قال: و من ذلك جميع كتب الشيخ عبد العزيز بن نحرير البراج «3».

4- و قال الشهيد في بعض مجاميعه في بيان تلامذة السيد المرتضي: و منهم أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن البراج، و كان قاضي طرابلس، ولّاه القاضي جلال الملك رحمه اللّه و كان أُستاذ أبي الفتح الصيداوي، و ابن رزح] كذا [، من أصحابنا.

5- و قال ابن فهد في اصطلاحات المهذب: و القاضي عبد العزيز بن البراج تولي قضاء طرابلس عشرين سنة.

و قال في رموز الكتاب: و بكتابي القاضي: إلي المهذب و الكامل «4».

6- و قال الشيخ علي الكركي في إجازته للشيخ برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن علي في حقّ ابن البراج: الشيخ السعيد، خليفة الشيخ الإِمام أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي بالبلاد الشامية، عز الدين عبد العزيز بن نحرير ابن البراج قدَّس سرَّه «5».

______________________________

(1) المراد من الغلمان في مصطلح الرجاليين هو الخصيص بالشيخ، حيث إنّه تلمذ عليه و صار من بطانة علومه.

(2) معالم العلماء: 80.

(3) البحار: 105- 265.

(4) الفوائد الرجالية: 3- 63.

(5) رياض العلماء: 3- 144، و ما نقلناه من الشهيد آنفاً نقلناه من ذاك المصدر.

تذكرة الأعيان، ص: 78

7- و ذكره الشهيد الثاني في إجازته، قال:».. و عن السيد المرتضي علم الهدي، و عن الشيخ سلار و القاضي عبد العزيز بن البراج، و الشيخ أبي الصلاح بجميع ما صنفوه و رووه».

و قال في حاشية هذا الموضع: وجدت بخط شيخنا الشهيد

انّ ابن البراج تولّي قضاء طرابلس عشرين سنة أو ثلاثين «1».

8- و قال بعض تلامذة الشيخ علي الكركي، في رسالته المعمولة في ذكر أسامي مشايخ الأَصحاب: و منهم الشيخ عبد العزيز بن البراج الطرابلسي، صنف كتباً نفيسة منها: المهذب، و الكامل، و الموجز، و الإِشراق، و الجواهر، و هو تلميذ الشيخ محمد بن الحسن الطوسي.

9- و قال الأَفندي التبريزي في الرياض: و قد وجدت منقولًا عن خطّ الشيخ البهائي، عن خط الشهيد أنّه تولّي ابن البراج قضاء طرابلس عشرين سنة أو ثلاثين سنة، و كان للشيخ أبي جعفر الطوسي أيام قراءته علي السيد المرتضي كلّ شهر اثنا عشر ديناراً و لابن البراج كل شهر ثمانية دنانير، و كان السيد المرتضي يجري علي تلامذته جميعاً.

10- و نقل عن بعض الفضلاء أنّ ابن البراج قرأ علي السيد المرتضي في شهور سنة تسع و عشرين و أربعمائة إلي أن مات المرتضي، و أكمل قراءته علي الشيخ الطوسي، و عاد إلي طرابلس في سنة ثمان و ثلاثين و أربعمائة، و أقام بها إلي أن مات ليلة الجمعة لتسع خلون من شعبان سنة إحدي و ثمانين و أربعمائة و قد نيف علي الثمانين «2».

______________________________

(1) و لاحظ الفوائد الرجالية للسيد بحر العلوم: 3- 62.

(2) رياض العلماء: 3 142- 141.

تذكرة الأعيان، ص: 79

11- و نقل صاحب الروضات عن «أربعين الشهيد»، نقلًا عن خط صفي الدين المعد الموسوي: أنّ سيدنا المرتضي رضي اللّه عنه كان يجري علي تلامذته رزقاً فكان للشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه أيّام قراءته عليه كلّ شهر اثنا عشر ديناراً و للقاضي كلّ شهر ثمانية دنانير، و كان وقف قرية علي كاغذ الفقهاء «1».

12- و قال عنه التفريشي في

رجاله: فقيه الشيعة الملقّب بالقاضي، و كان قاضياً بطرابلس «2».

13- و قال المولي نظام الدين القريشي في نظام الأَقوال: عبد العزيز بن البراج، أبو القاسم، شيخ من أصحابنا، قرأ علي السيد المرتضي في شهور سنة تسع و عشرين و أربعمائة و كمل قراءته علي الشيخ الطوسي، و عبر عنه بعض كالشهيد في الدروس و غيره بالقاضي، لأَنّه ولي قضاء طرابلس عشرين سنة أو ثلاثين، مات ليلة الجمعة لتسع خلون من شعبان سنة إحدي و ثمانين و أربعمائة «3».

14- و قال الشيخ الحرّ العاملي في أمل الآمل:.. وجه الأَصحاب و فقيههم، و كان قاضياً بطرابلس، و له مصنفات، ثمّ ذكر نفس ما ذكره منتجب الدين في فهرسته، و ابن شهرآشوب في معالمه، و التفريشي في رجاله «4».

15- و قال المجلسي في أوّل البحار: و كتاب المهذب و كتاب الكامل و كتاب جواهر الفقه للشيخ الحسن المنهاج، عبد العزيز بن البراج، و كتب الشيخ الجليل ابن البراج كمؤَلفها في غاية الاعتبار «5».

______________________________

(1) روضات الجنات: 4- 203.

و انظر رجال السيد بحر العلوم: 3- 105.

(2) نقد الرجال: 189.

(3) رياض العلماء: 3- 145، نقلًا عن نظام الأَقوال.

(4) أمل الآمل: 2 153- 152.

(5) بحار الأَنوار: 1- 20 و 38.

تذكرة الأعيان، ص: 80

16- و في مجمع البحرين.

مادة «برج»: و ابن البراج: أبو القاسم عبد العزيز من فقهاء الإِمامية و كان قاضياً بطرابلس.

17- و قال التستري في مقابس الأَنوار: الفاضل الكامل، المحقّق المدقق، الحائز للمفاخر و المكارم و محاسن المراسم: الشيخ سعد الدين و عز المؤمنين، أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج الطرابلسي الشامي نوّر اللّه مرقده السامي، و هو من غلمان المرتضي، و كان خصيصاً بالشيخ و

تلمذ عليه و صار خليفته في البلاد الشامية، و روي عنه و عن الحلبي، و ربما استظهر تلمذته علي الكراجكي و روايته عنه أيضاً «1».

و صنف الشيخ له بعد سؤَاله جملة من كتبه معبراً عنه في أوائلها بالشيخ الفاضل، و هو المقصود به و المعهود، كما صرح به الراوندي في «حل المعقود»، و كتب الشيخ أجوبة مسائل له أيضاً، و كان من مشايخ ابن أبي كامل، و الشيخ حسكا، و الشيخ عبد الجبار، و الشيخ محمد بن علي بن محسن الحلبي، و روي عنه ابناه الأُستاذان: أبو القاسم و أبو جعفر اللّذان يروي عنهما القطب الراوندي و ابن شهرآشوب السروي و غيرهم، و له كتب منها: المهذب، و الجواهر، و شرح جمل المرتضي، و الكامل، و روضة النفس، و المعالم، و المقرب، و المعتمد، و المنهاج، و عماد المحتاج في مناسك الحاج، و الموجز، و غيرها، و لم أقف إلّا علي الثلاثة الأُول، و يعبر عنه كثيراً بابن البراج «2».

18- و قال المتتبع النوري:.. الفقيه العالم الجليل، القاضي في طرابلس الشام في مدّة عشرين سنة، تلميذ علم الهدي و شيخ الطائفة، و كان يجري السيد عليه في كلّ شهر دينار (الصحيح ثمانية دنانير)، و هو المراد بالقاضي علي الإِطلاق

______________________________

(1) سيوافيك من صاحب رياض العلماء خلافه و أنّ الذي تتلمذ عليه هو تلميذ القاضي لا نفسه، و أنّ الاشتباه حصل من وحدة الاسم و اللقب.

(2) مقابس الأَنوار: 7 9.

تذكرة الأعيان، ص: 81

في لسان الفقهاء، و هو صاحب المهذب و الكامل و الجواهر و شرح الجمل للسيد و الموجز و غيرها.. توفّي رحمه اللّه ليلة الجمعة لتسع خلون من شعبان سنة 481 ه و كان مولده و

منشأه بمصر «1».

19- و قال السيد الأَمين العاملي: وجه الأَصحاب، و كان قاضياً بطرابلس، و له مصنفات،.. كتاب في الكلام، و كان في زمن بني عمار «2».

20- و قال الحجّة السيد حسن الصدر عنه: القاضي ابن البراج، هو الشيخ أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج، وجه الأَصحاب و فقيههم إمام في الفقه، واسع العلم، كثير التصنيف، كان من خواص تلامذة السيد المرتضي حضر عالي مجلس السيد في شهور سنة 429 إلي أن توفّي السيّد.

ثمّ لازم شيخ الطائفة أبا جعفر الطوسي حتي صار خليفة الشيخ و واحد من أهل الفقه، فولّاه جلال الملك قضاء طرابلس سنة 438، و أقام بها إلي أن مات ليلة الجمعة لتسع خلون من شعبان سنة إحدي و ثمانين و أربعمائة، و قد نيف علي الثمانين، و كان مولده بمصر و بها منشأه «3».

إلي غير ذلك من الكلمات المعطرة التي فاحت بها كتب التراجم و الرجال و التي تعرب عن مكانة الرجل و مرتبته في الفقه و انّه أحد أعيان الطائفة في عصره، و قاضياً من قضاتهم في طرابلس.

غير أنّ من الموسف إنّ أرباب التراجم الذين تناولوا ترجمة الرجل عمدوا إلي نقل الكلمات حوله بعضهم عن بعضهم من دون تحليل لشخصيته، و من دون إشارة إلي ناحية من نواحي حياته العلمية و الاجتماعية.

______________________________

(1) المستدرك: 3- 481.

(2) أعيان الشيعة: 7- 18.

(3) تأسيس الشيعة لفنون الإِسلام: 304.

تذكرة الأعيان، ص: 82

و لأَجل ذلك نحاول في هذه المقدمة القصيرة تسليط المزيد من الإضواء علي حياته، و تحليلها.

أضواء علي حياة المؤَلف

ميلاده:

لم نقف علي مصدر يعين تاريخ ميلاد المترجم له علي وجه دقيق، غير أنّ كلمة الرجاليين و المترجمين له اتّفقت علي أنّه توفي عام

481 ه و قد نيف علي الثمانين، فعلي هذا فإنّ أغلب الظن أنّه رحمه اللّه ولد عام 400 ه أو قبل هذا التاريخ بقليل.

هو شامي لا مصري و أمّا موطنه فقد نقل صاحب «رياض العلماء» عن بعض الفضلاء أنّ مولده كان بمصر، و بها منشأه «1».

و أخذ منه صاحب «المقابيس» و السيد الصدر كما عرفت، و لكنّه بعيد جدّاً.

و الظاهر أنّه شامي لا مصري، و لو كان من الديار المصرية لزم عادة أن ينتحل المذهب الاسماعيلي، و ينسلك في سلك الاسماعيليين، لَانّ المذهب الرائج في مصر يومذاك كان هو المذهب الاسماعيلي، و كان الحكام هناك من الفاطميين يروّجون لذلك المذهب، فلو كان المترجم له مصري المولد و المنشأ فهو بطبيعة الحال إذا لم يكن سنياً، يكون إسماعيلياً، و بما أنّه يعد من أفذاذ فقهاء الشيعة الإِمامية لزم أن يشتهر انتقاله من مذهب إلي مذهب، و لذاع و بان، مع انّه لم يذكر في حقّه شي ء من هذا القبيل.

______________________________

(1) رياض العلماء: 3- 143.

تذكرة الأعيان، ص: 83

هذا هو القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي، الفقيه الفاطمي الاسماعيلي، مؤَلف كتاب «دعائم الإِسلام» المتوفّي في القاهرة في جمادي الآخرة عام 363 ه قد عاش بين الفاطميين و ألّف علي مذهبهم، و مات عليه، و صلّي عليه المعز لدين اللّه.

و ترجمه السيد بحر العلوم في الجزء الرابع ص 145 من فوائده، و علّق عليه المعلق تعليقات مفيدة، فشكر اللّه مساعي المؤَلف و المعلق فلاحظ.

فالظاهر أنّ ابن البراج شامي، و قد انتقل بعد تكميل دراسته في بغداد إلي مولده البلاد الشامية للقيام بواجباته، و حفظ الشيعة من الرجوع إلي محاكما لآخرين.

منزلته العلمية
اشارة

قد وقفت في غضون كلمات الرجاليين و المترجمين

انّ السيد المرتضي كان يجري الرزق علي الشيخ الطوسي اثني عشر ديناراً و علي المؤَلف ثمانية دنانير، و هذا يفيد أنّ المؤَلف كان التلميذ الثاني من حيث المرتبة و البراعة بعد الشيخ الطوسي في مجلس درس السيد المرتضي، كيف و قد اشتغل الشيخ بالدراسة و التعلم قبله بخمسة عشر عاما، لَانّه ولد عام 400 ه أو قبله بقليل و ولد الشيخ الطوسي عام 385 ه.

و حتي لو فرض أنّهما كانا متقاربين في العمر و مدّة الدراسة، و لكن براعة الشيخ و توقده و نبوغه ممّا لا يكاد ينكر، و علي كلّ تقدير فالظاهر أنّ هذا السلوك من السيد بالنسبة لتلميذيه كان بحسب الدرجة العلمية.

تذكرة الأعيان، ص: 84

زمالته للشيخ

لقد حضر المؤَلف درس السيد المرتضي رحمه اللّه عام 429 ه و هو ابن ثلاثين سنة أو ما يقاربه فقد استفاد من بحر علمه و حوزة درسه قرابة ثمان سنين، حيث إنّ المرتضي لبّي دعوة ربّه لخمس بقين من شهر ربيع الأَوّل سنة 436 ه «1».

فعند ما لبّي الأُستاذ دعوة ربّه، حضر درس الشيخ إلي أن نصب قاضياً في طرابلس عام 438 ه، و علي ذلك فقد استفاد من شيخه الثاني قرابة ثلاث سنوات، و مع ذلك كلّه فالحقّ أنّ القاضي ابن البراج زميل الشيخ في الحقيقة، و شريكه في التلمذ علي السيد المرتضي، و أنّه بعد ما لبّي السيد المرتضي دعوة ربّه و انتهت رئاسة الشيعة في بغداد إلي الشيخ الطوسي، حضر درس الشيخ الطوسي توحيداً للكلمة، و تشرفاً و افتخاراً، أوّلًا، و استفادة ثانياً كما قبل من جانبه الخلافة و النيابة في البلاد الشامية.

و تدل علي أنّ ابن البراج كان زميلًا صغيراً للشيخ لا تلميذاً له

أُمور: 1- عند ما توفي أُستاذه السيد المرتضي رحمه اللّه، كان القاضي ابن البراج قد بلغ مبلغاً كبيراً من العمر، يبلغ الطالب في مثله مرتبة الاجتهاد، و هو قرابة الأَربعين، فيبعد أن يكون حضوره في درس الشيخ الطوسي من باب التلمذ المحض بل هو لأَجل ما ذكرناه قبل قليل.

2- انّ السيد المرتضي عمل كتاباً باسم «جمل العلم و العمل» في الكلام و الفقه علي وجه موجز، ملقياً فيها الأصول و القواعد في فن الكلام و الفقه.

و قد تولّي شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي شرح القسم الكلامي منه و هو ما يعبّر عنه ب «تمهيد الأصول» و قد طبع الكتاب بهذا الاسم و انتشر.

______________________________

(1) رجال النجاشي: 193.

تذكرة الأعيان، ص: 85

بينما تولّي القاضي ابن البراج المترجم له شرح القسم الفقهي و من هذا يظهر زمالة هذين العلمين، بعضهما لبعض في المجالات العلمية، فكلّ واحد يشرح قسماً خاصاً من كتاب أُستاذهما.

3- أنّ شيخنا المؤَلّف ينقل في كتابه «شرح جمل العلم و العمل» عند البحث عن جواز إخراج القيمة من الأَجناس الزكوية ما هذا عبارته: «و قد ذكر في ذلك ما أشار إليه صاحب الكتاب رضي اللّه عنه من الرواية الواردة، من الدرهم أو الثلثين، و الأَحوط إخراجها بقيمة الوقت، و هذا الذي استقر تحريرنا له مع شيخنا أبي جعفر الطوسي و رأيت من علمائنا من يميل إلي ذلك» «1».

و هذه العبارة تفيد زمالتهما في البحث و التحرير.

4- نري أنّ المؤَلّف عند ما يطرح في كتابه «المهذب» آراء الشيخ يعقبه بنقد بنّاء و مناقشة جريئة، مما يدل علي زمالته للشيخ لا تلميذاً آخذاً، و نأتي لذلك بنموذجين: أوّلًا: فهو يكتب في كتاب الايمان من «المهذب» إذا ما حلف

الرجل علي عدم أكل الحنطة، فهل يحنث إذا أكلها دقيقاً أو لا، ما هذا عبارته: كان الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه قد قال لي يوماً في الدرس: أن أكلها علي جهتها حنث، و إن أكلها دقيقاً أو سويقاً لم يحنث.

فقلت له: و لم ذلك؟ و عين الدقيق هي عين الحنطة، و إنّما تغيرت بالتقطيع الذي هو الطحن.

فقال: قد تغيرت عمّا كانت عليه.

و إن كانت العين واحدة، و هو حلف أن لا يأكل ما هو مسمي بحنطة لا ما يسمي دقيقاً.

______________________________

(1) شرح جمل العلم و العمل: 268، و قد حقق نصوصه الأُستاذ مدير شانه چي دام ظله.

تذكرة الأعيان، ص: 86

فقلت له: هذا لم يجز في اليمين، فلو حلف: لا أكلت هذه الحنطة ما دامت تسمّي حنطة، كان الأَمر علي ما ذكرت، فإنّما حلف أن لا يأكل هذه الحنطة أو من هذه الحنطة.

فقال: علي كلّ حال قد حلف أن لا يأكلها و هي علي صفة، و قد تغيّرت عن تلك الصفة، فلم يحنث.

فقلت: الجواب هاهنا مثل ما ذكرته أوّلًا، و ذلك: إن كنت تريد أنّه حلف أن لا يأكلها و هي علي صفة.

أنّه أراد و هي علي تلك الصفة، فقد تقدّم ما فيه، فإن كنت لم ترد ذلك فلا حجّة فيه.

ثمّ يلزم علي ما ذكرته أنّه لو حلف أن لا يأكل هذا الخيار و هذا التفاح، ثمّ قشره و قطعه و أكله إلّا يحنث و لا شبهة في أنّه يحنث.

فقال: من قال في الحنطة ما تقدم، يقول في الخيار و التفاح مثله.

فقلت له: إذا قال في هذا مثل ما قاله في الحنطة علم فساد قوله بما ذكرته: من أنّ العين واحدة، اللّهمّ إلّا إن شرط في يمينه

أن لا يأكل هذا الخيار أو هذا التفاح و هو علي ما هو عليه، فأنّ الأَمر يكون علي ما ذكرته؟ و قد قلنا إنّ اليمين لم يتناول ذلك.

ثمّ قلت: علي إنّ الاحتياط يتناول ما ذكرته، فأمسك «1».

ثانياً: ما جاء في كتاب الطهارة، في الماء المضاف إذا اختلط بالماء المطلق و كانا متساويين في المقدار، فذهب القاضي إلي أنّه لا يجوز استعماله في رفع الحدث، و لا إزالة النجاسة، و يجوز في غير ذلك، ثمّ قال: و قد كان الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه قال لي يوماً في الدرس: هذا

______________________________

(1) المهذب: 2- 419 و 420، كتاب الكفارات.

تذكرة الأعيان، ص: 87

الماء يجوز استعماله في الطهارة و إزالة النجاسة.

فقلت له: و لم أجزت ذلك مع تساويهما؟ فقال: إنّما أجزت ذلك لَانّ الأَصل الإِباحة.

فقلت له: الأَصل و إن كان هو الإِباحة، فأنت تعلم أنّ المكلّف مأخوذ بأن لا يرفع الحدث و لا يزيل النجاسة عن بدنه أو ثوبه إلّا بالماء المطلق، فتقول أنت بأنّ هذا الماء مطلق؟! فقال: أ فتقول أنت بأنّه غير مطلق؟ فقلت له: أنت تعلم أنّ الواجب أن تجيبني عمّا سألتك عنه قبل أن تسألني ب «لا» أو «نعم» ثمّ تسألني عمّا أردت، ثمَّ إنّني أقول بأنّه غير مطلق.

فقال: أ لست تقول فيها إذا اختلطا و كان الأَغلب و الأَكثر المطلق فهما مع التساوي كذلك؟ فقلت له: إنّما أقول بأنّه مطلق إذا كان المطلق هو الأَكثر و الأَغلب، لَانّ ما ليس بمطلق لم يؤَثر في إطلاق اسم الماء عليه، و مع التساوي قد أثر في إطلاق هذا الاسم عليه، فلا أقول فيه بأنّه مطلق، و لهذا لم تقل أنت بأنّه مطلق، و قلت فيه بذلك

إذا كان المطلق هو الأَكثر و الأَغلب، ثمّ إنّ دليل الاحتياط تناول ما ذكرته، فعاد إلي الدرس و لم يذكر فيه شيئاً «1».

و هذا النمط من البحث و النقاش و الأَخذ و الرد في أثناء الدروس يرشد إلي مكانة القاضي في درس الشيخ الطوسي، و انّ منزلته لم تكن منزلة التلميذ بل كان رجلًا مجتهداً ذا رأي و نظر ربما قدر علي إقناع أُستاذه و إلزامه برأيه.

5- انّ الناظر في ثنايا كتاب «المهذب» يري بأنّ المؤَلف المترجم له يعبر عن أُستاذه السيد المرتضي بلفظة «شيخنا» بينما يعبر عن «الشيخ الطوسي»

______________________________

(1) المهذب: 251- 24، كتاب الطهارة.

تذكرة الأعيان، ص: 88

بلفظة «الشيخ أبو جعفر الطوسي» لا ب «شيخنا» و الفارق بين التعبيرين واضح و بيّن.

و هذا و إن لم يكن قاعدة مطردة في هذا الكتاب إلّا انّها قاعدة غالبة.

نعم عبّر في «شرح جمل العلم و العمل» عنه ب «شيخنا» كما نقلناه.

6- ينقل هو رأي الشيخ الطوسي في مواضع كثيرة بلفظ «ذكر» أي قيل، و قد وجدنا موارده في مبسوط الشيخ رحمه اللّه و نهايته.

و لا شكّ أنّ هذا التعبير يناسب تعبير الزميل عن الزميل لا حكاية التلميذ عن أُستاذه.

و علي كلّ تقدير فرحم اللّه الشيخ و القاضي بما أسديا إلي الأُمة من الخدمات العلمية، و وفقنا للقيام بواجبنا تجاه هذين العلمين، و الطودين الشامخين.

استمرار الاجتهاد و المناقشة في آراء الشيخ

لقد نقل صاحب المعالم عن والده الشهيد الثاني رحمه اللّه بأنّ أكثر الفقهاء الذين نشئوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوي تقليداً له لكثرة اعتقادهم فيه و حسن ظنّهم به، فلمّا جاء المتأخرون وجدوا أحكاماً مشهورة قد عمل بها الشيخ و متابعوه فحسبوها شهرة بين العلماء، و ما دروا أنّ مرجعها إلي الشيخ و

أنّ الشهرة إنّما حصلت بمتابعته.

قال الوالد قدّس اللّه نفسه: و ممّن اطّلع علي هذا الذي تبيّنته و تحقّقته من غير تقليد: الشيخ الفاضل المحقّق سديد الدين محمود الحمصي، و السيد رضي الدين ابن طاوس، و جماعة.

و قال السيد رحمه اللّه في كتابه المسمّي ب «البهجة لثمرة المهجة»: أخبرني جدي الصالح قدّس اللّه روحه ورام بن أبي فراس قدّس روحه أنّ الحمصي حدّثه

تذكرة الأعيان، ص: 89

أنّه لم يبق مفت للإِمامية علي التحقيق بل كلّهم حاك.

و قال السيد عقيب ذلك: و الآن فقد ظهر لي أنّ الذي يفتي به و يجاب علي سبيل ما حفظ من كلام المتقدمين «1».

و لكن هذا الكلام علي إطلاقه غير تام، لما نري من أنّ ابن البراج قد عاش بعد الشيخ أزيد من عشرين سنة، و ألّف بعض كتبه كالمهذّب بعد وفاة الشيخ و ناقش آراءه بوضوح، فعند ذلك لا يستقيم هذا القول علي إطلاقه: «لم يبق مفت للإِمامية علي التحقيق بل كلّهم حاك».

و خلاصة القول: إنّ في الكلام المذكور نوع مبالغة، لوجود مثل هذا الفقيه البارع.

منزلته عند الشيخ الطوسي

قد عرفت مكانة الشيخ و منزلته العلمية، فقد كان الشيخ الطوسي ينظر إليه بنظر الاكبار و الإِجلال، و لأَجل ذلك نري أنّ الشيخ ألف بعض كتبه لأَجل التماسه و سؤاله.

فها هو الشيخ الطوسي يصرّح في كتابه «المفصح في إمامة أمير المؤمنين» بأنّه ألّف هذا الكتاب لأَجل سؤَال الشيخ (ابن البراج) منه فيقول: سألت أيها الشيخ الفاضل أطال اللّه بقاءك و أدام تأييدك إملاء كلام في صحّة إمامة أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، صلوات اللّه عليه «2».

كما أنّه ألف كتابه «الجمل و العقود» بسؤَاله أيضاً حيث قال: أمّا بعد فأنا مجيب إلي ما سأل الشيخ

الفاضل أدام اللّه بقاءه، من إملاء مختصر يشتمل علي

______________________________

(1) معالم الدين: 408 الطبعة الجديدة المطلب الخامس في الإِجماع.

(2) الرسائل العشر: 117.

تذكرة الأعيان، ص: 90

ذكر كتب العبادات «1».

و نري أنّه ألّف كتابه الثالث «الإِيجاز في الفرائض و المواريث» بسؤَال الشيخ أيضاً فيقول: سألت أيدك اللّه إملاء مختصر في الفرائض و المواريث «2».

و لم يكتف الشيخ بذلك، فألف رجاله بالتماس هذا الشيخ أيضاً إذ يقول: أمّا بعد فإنّي قد أجبت إلي ما تكرر سؤَال الشيخ الفاضل فيه، من جمع كتاب يشتمل علي أسماء الرجال الذين رووا عن النبي- صلي الله عليه و آله و سلم-، و عن الأَئمّة من بعده إلي زمن القائم- عليهم السلام-، ثمّ أذكر من تأخر زمانه عن الأَئمّة من رواة الحديث «3».

و يقول المحقّق الطهراني في مقدمته علي «التبيان» عند البحث عن «الجمل و العقود»: قد رأيت منه عدّة نسخ في النجف الأَشرف، و في طهران، ألّفه بطلب من خليفته في البلاد الشامية، و هو القاضي ابن البراج، و قد صرح في هامش بعض الكتب القديمة بأنّ القاضي المذكور هو المراد بالشيخ، كما ذكرناه في الذريعة ج 5 ص 145 «4».

و يقول المحقّق الشيخ محمد واعظ زاده في تقديمه علي كتاب «الرسائل العشر»: و في هامش النسخة من كتاب «الجمل و العقود» التي كانت بأيدينا، قد قيد أنّ الشيخ هو ابن البراج.

و علي ذلك يحتمل أن يكون المراد من الشيخ الفاضل في هذه الكتب الثلاثة هو الشيخ القاضي ابن البراج، كما يحتمل أن يكون هو المراد في ما ذكره في

______________________________

(1) الرسائل العشر: 155.

(2) الرسائل العشر: 269.

(3) رجال الشيخ: 2.

(4) التبيان، ج 1، مقدمة المحقق الطهراني ص (ث).

تذكرة الأعيان، ص: 91

أوّل كتاب الفهرست حيث

قال: و لما تكرر من الشيخ الفاضل أدام اللّه تأييده الرغبة في ما يجري هذا المجري و توالي منه الحث علي ذلك، و رأيته حريصاً عليه، عمدت إلي كتاب يشتمل علي ذكر المصنفات و الأُصول و لم أفرد أحدهما عن الآخر..، و ألتمس بذلك القربة إلي اللّه تعالي، و جزيل ثوابه، و وجوب حقّ الشيخ الفاضل أدام اللّه تأييده و أرجو أن يقع ذلك موافقاً لما طلبه إن شاء اللّه تعالي «1».

و نري نظير ذلك في كتابه الخامس أعني «الغيبة» حيث يقول: فانّي مجيب إلي ما رسمه الشيخ الجليل (أطال اللّه بقاه) من إملاء كلام في غيبة صاحب الزمان «2» و ربما يحتمل أن يكون المراد من الشيخ في الكتاب الخامس، هو الشيخ المفيد، و لكنّه غير تام لوجهين: أوّلًا: انّه قدَّس سرَّه قد عين تاريخ تأليف الكتاب عند البحث عن طول عمره حيث قال: فإن قيل: ادعاؤكم طول عمر صاحبكم أمر خارق للعادات، مع بقائه علي قولكم كامل العقل تام القوة و الشباب، لَانّه علي قولكم في هذا الوقت الذي هو سنة سبع و أربعين و أربعمائة..

و من المعلوم انّ الشيخ المفيد قد توفي قبل هذه السنة ب 34 عاما.

أضف إلي ذلك أنّه يصرّح في أوّل كتاب الغيبة بأنّه (رسمه مع ضيق الوقت و شعث الفكر، و عوائق الزمان، و طوارق الحدثان)، و هو يناسب أُخريات إقامة الشيخ في بغداد، حيث حاقت به كثير من الحوادث الموسفة المؤلمة، حتي ألجأت الشيخ إلي مغادرة بغداد مهاجراً إلي النجف الأَشرف، لما دخل طغرل بك

______________________________

(1) فهرست الشيخ: 24.

(2) الغيبة: 78.

تذكرة الأعيان، ص: 92

السلجوقي بغداد عام 447، و اتّفق خروج الشيخ منها بعد ذلك عام 448، فقد أحرق

ذلك الحاكم الجائر مكتبة الشيخ و الكرسي الذي يجلس عليه في الدرس، و كان ذلك في شهر صفر عام 448 «1».

أضف إلي ذلك أنّ شيخ الطائفة ألف كتاباً خاصاً باسم «مسائل ابن البراج» نقله شيخنا الطهراني في مقدمة «التبيان» عن فهرس الشيخ «2».

أساتذته

لا شكّ أنّ ابن البراج رحمه اللّه أخذ أكثر علومه عن أُستاذه السيد المرتضي رحمه اللّه و تخرج علي يديه، قال السيد بحر العلوم: و قد تلمذ علي السيد المرتضي و أخذ عنه العلم و الفقه، الجم الغفير من فضلاء أصحابنا و أعيان فقهائنا منهم.. و القاضي السعيد «عبد العزيز بن البراج».

و حضر بحث شيخ الطائفة علي النحو الذي سمعت، غير أنّنا لم نقف علي أنّه عمّن أخذ أوليات دراساته في الأَدب و غيره «3».

و ربّما يقال إنّه تتلمذ علي المفيد، كما في «رياض العلماء» «4» و هو بعيد جدّاً، لَانّ المفيد توفّي عام 413 ه، و القاضي بعد لم يبلغ الحلم لَانّه من مواليد 400 أو بعام قبله، و مثله لا يقدر علي الاستفادة عادة من بحث عالم نحرير كالمفيد رحمه اللّه.

و قد ذكر التستري صاحب المقابيس أنّه تلمذ علي الشيخ أبي الفتح محمد ابن علي بن عثمان الكراجكي أحد تلاميذ المفيد ثمّ السيد، و مؤَلف كتاب «كنز

______________________________

(1) لاحظ المنتظم لابن الجوزي: 8- 173، الكامل لابن الأَثير: 8- 81.

(2) التبيان ص أ ب.

و نص به أيضاً العلّامة الطباطبائي في فوائده الرجالية لاحظ: 3- 233.

(3) الفوائد الرجالية: 3- 139.

(4) رياض العلماء: 3- 142.

تذكرة الأعيان، ص: 93

الفوائد» و غيره من المؤَلفات البالغة ثلاثين تأليفاً «1».

و قال في الرياض نقلًا عن المجلسي في فهرس بحاره: إنّ عبد العزيز بن البراج الطرابلسي من تلاميذ أبي

الفتح الكراجكي، ثمّ استدرك علي المجلسي بأنّ تلميذه هو القاضي عبد العزيز بن أبي كامل الطرابلسي، لا عبد العزيز بن نحرير «2» غير أنّ التستري لم يذكر علي ما قاله مصدراً، نعم بحسب طبع الحال فقد أخذ عن مثله.

و ربّما يقال بتلمذه علي أبي يعلي محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري، صهر الشيخ المفيد و خليفته، و الجالس محله الذي وصفه النجاشي في رجاله بقوله: بأنّه متكلّم فقيه قيم بالأَمرين جميعاً «3».

و لم نقف علي مصدر لهذا القول، سوي ما ذكره الفاضل المعاصر الشيخ كاظم مدير شانه چي في مقدمة كتاب «شرح جمل العلم و العمل» للقاضي ابن البراج.

و ربّما عدّ من مشايخه أبو الصلاح تقي الدين بن نجم الدين (347 447 ه)، عن عمر يناهز المائة، و هو خليفة الشيخ في الديار الحلبية، كما كان

______________________________

(1) ريحانة الأَدب: 5- 40.

(2) رياض العلماء: 3- 142.

(3) رجال النجاشي: 288، و هذا الشيخ هو الذي اشترك مع النجاشي في تغسيل السيد المرتضي، يقول الشيخ النجاشي عند ترجمة المرتضي: و توليت غسله و معي الشريف أبو يعلي محمد بن الحسن ابن حمزة الجعفري و سالار بن عبد العزيز، و بذلك يظهر أنّه كان حياً عام وفاة المرتضي، و هو 436 و الأَخير هو الحقّ الحقيق بالتصديق لاحظ مقال العلّامة الحجّة السيد موسي الزنجاني دام ظله في مجلة «نور علم» العدد 11 و 12.

و ليعلم أنّ الشيخ أبا يعلي غير محمد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي، و هو الذي يقول فيه الشيخ منتجب الدين: فقيه، عالم، واعظ له تصانيف منها: الوسيلة، الواسطة، الرائع في الشرائع، المعجزات، مسائل في الفقه (البحار: 102- 271).

تذكرة الأعيان، ص: 94

القاضي خليفته في ناحية طرابلس.

كما يحتمل

تلمّذه علي حمزة بن عبد العزيز الملقّب بسلّار صاحب المراسم، المتوفّي عام 463 ه، المدفون بقرية خسرو شاه من ضواحي تبريز، و لم نجد لذلك مصدراً و إنّما هو و ما قبله ظنون و احتمالات، و تقريبات من الشيخ الفاضل المعاصر «مدير شانه چي» و علي ذلك فقد تلمذ المترجم له علي الشيخ أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الدوريستي الذي هو: «ثقة عين، عدل، قرأ علي شيخنا المفيد، و المرتضي علم الهدي» «1».

و قد ذكر الفاضل المعاصر من مشايخه عبد الرحمن الرازي، و الشيخ المقري ابن خشاب، و نقله عن فهرست منتجب الدين، غير أنّا لم نقف علي ذلك في فهرست منتجب الدين و إنّما الوارد فيه غير ذلك «2».

فقد قال الشيخ منتجب الدين: الشيخ المفيد أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين النيسابوري الخزاعي، شيخ الأَصحاب بالري، حافظ، ثقة، واعظ، سافر في البلاد شرقاً و غرباً، و سمع الأَحاديث عن المؤَالف و المخالف، و قد قرأ علي السيدين: علم الهدي المرتضي، و أخيه الرضي، و الشيخ أبي جعفر الطوسي، و المشايخ: سالار، و ابن البراج، و الكراجكي رحمهم اللّه جميعاً و قال أيضاً: الشيخ المفيد عبد الجبار بن عبد اللّه بن علي المقري الرازي فقيه الأَصحاب بالري، قرأ عليه في زمانه قاطبة المتعلمين من السادة و العلماء، و قد قرأ علي الشيخ أبي جعفر الطوسي جميع تصانيفه و قرأ علي الشيخين سالار و ابن البراج «3».

______________________________

(1) فهرست منتجب الدين: 215 216.

(2) و قد رفعنا رسالة في هذا الموضوع إلي الفاضل المعاصر «مدير شانه چي» فتفضل بالجواب مصرّحاً بأنّ الحق انّهما من تلاميذه لا من مشايخه.

(3) بحار الأَنوار: 105- 242 عن فهرست منتجب الدين.

تذكرة الأعيان،

ص: 95

عام تأليف الكتاب

قد ذكر القاضي في كتاب الإِجارة تاريخ اشتغاله بكتابة باب الإِجارة و هو عام 467 ه «1».

فالكتاب حصيلة ممارسة فقهية، و مزاولة طويلة شغلت عمر المؤَلف مدّة لا يستهان بها، و علي ذلك فهو ألّف الكتاب بعد تخلّيه عن القضاء، لَانّه اشتغل بالقضاء عام 438 ه و مارسها بين عشرين و ثلاثين عاما، فعلي الأَوّل كتبها بعد التخلّي عنه، و علي الثاني اشتغل بالكتابة في أُخريات ممارسته للقضاء.

و علي ذلك فالكتاب يتمتع بأهمية كبري، لأَنّه رحمه اللّه وقف في أيّام تولّيه للقضاء علي موضوعات و مسائل مطروحة علي صعيد القضاء، فتناولها بالبحث في الكتاب و أوضح أحكامها، فكم فرق بين كتاب فقهي يؤَلّف في زوايا المدرسة من غير ممارسة عملية للقضاء، و كتاب يؤَلّف بعد الممارسة لها أو خلالها.

و لأَجل ذلك يعتبر الكتاب الحاضر «المهذب» من محاسن عصره.

تلاميذه

كان شيخنا المترجم له يجاهد علي صعيد القضاء بينما هو يؤَلف في موضوعات فقهية و كلامية، و في نفس الوقت كان مفيداً و مدرساً، فقد تخرج علي يديه عدة من الاعلام نشير إلي بعضهم:

1- الحسن بن عبد العزيز بن المحسن الجبهاني (الجهياني) المعدل بالقاهرة، فقيه، ثقة، قرأ علي الشيخ أبي جعفر الطوسي، و الشيخ ابن البراج

______________________________

(1) راجع الجزء الثاني، كتاب الإِجارة، ص 476 قال: إذا استأجر داراً فقال الموجر و هو مثلًا في رجب: آجرتك هذه الدار في شهر رمضان، أو كان في مثل هذه السنة و هي سنة سبع و ستين و أربعمائة، فقال: أجرتك هذه الدار سنة ثمان و ستين و أربعمائة، إلي آخره.

تذكرة الأعيان، ص: 96

رحمهم اللّه جميعاً «1».

2- الداعي بن زيد بن علي بن الحسين بن الحسن الافطسي الحسيني الآوي، الذي عمّر عمراً

طويلًا كما ذكره صاحب المعالم في إجازته الكبيرة، و هو يروي عن المرتضي، و الطوسي، و سلّار، و ابن البراج، و التقي الحلبي جميع كتبهم و تصانيفهم و جميع ما رووه و أُجيز لهم روايته «2».

3- الشيخ الامام شمس الإِسلام الحسن بن الحسين بن بابويه القمي، نزيل الري المدعو حسكا، جدّ الشيخ منتجب الدين الذي يقول نجله في حقه: فقيه، ثقة، قرأ علي شيخنا الموفق أبي جعفر قدّس اللّه روحه جميع تصانيفه بالغري علي ساكنه السلام و قرأ علي الشيخين: سلّار بن عبد العزيز، و ابن البراج جميع تصانيفهما «3».

4- الشيخ المفيد أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين النيسابوري الخزاعي.

5- الشيخ المفيد عبد الجبار بن عبد اللّه بن علي المقري الرازي، و قد توفّي بطرابلس، و دفن في حجرة القاضي، كما حكي عن خط جدّ صاحب المدارك، عن خط الشهيد و كان حياً إلي عام 503 ه «4».

و قد عرفت نصّ الشيخ منتجب الدين في حقّ الرجلين.

6- الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن المحسن الحلبي، فقيه، صالح، أدرك الشيخ أبا جعفر الطوسي رحمه اللّه «5».

______________________________

(1) فهرست منتجب الدين المطبوع في الجزء 105 من البحار، ص 219.

(2) المستدرك: 3- 444؛ طبقات أعلام الشيعة في القرن الخامس: 75.

(3) فهرست منتجب الدين المطبوع في بحار الأَنوار: 105- 219.

(4) طبقات أعلام الشيعة في القرن الخامس: 103 و 107.

(5) فهرست منتجب الدين المطبوع في بحار الأَنوار: 105- 265.

تذكرة الأعيان، ص: 97

و قال في «الرياض»: انّه يظهر من إجازة الشيخ علي الكركي للشيخ علي الميسي و غيرها من المواضع، انّه يروي عن القاضي عبد العزيز بن البراج قدّس اللّه روحه الشيخ أبو جعفر محمد بن محسن الحلي «1»

ينقل عنه.

و قال في تلك الإِجازة في مدح ابن البراج هكذا: الشيخ السعيد الفقيه، الحبر العلامة، عزّ الدين، عبد العزيز بن البراج قدَّس سرَّه «2».

7- عبد العزيز بن أبي كامل القاضي عزّ الدين الطرابلسي، سمّي شيخنا المترجم له، يروي عن: المترجم له، و الشيخ الطوسي، و سلّار، و يروي عنه: عبد اللّه بن عمر الطرابلسي كما في «حجّة الذاهب» «3».

8- الشيخ كميح والد أبي جعفر، يروي عن ابن البراج «4».

9 و 10- الشيخان الفاضلان الأُستاذان ابنا المؤَلف: أبو القاسم «5» و أبو جعفر اللّذان يروي عنهما الراوندي و السروي و غيرهم «6».

11 و 12- أبو الفتح الصيداوي و ابن رزح، من أصحابنا «7».

هؤلاء من مشاهير تلاميذ القاضي وقفنا عليهم في غضون المعاجم و ليست تنحصر فيمن عددناهم.

______________________________

(1) و وصفه الشيخ منتجب الدين: بالحلبي كما نقلناه آنفاً.

(2) رياض العلماء: 3- 144.

(3) طبقات أعلام الشيعة في القرن الخامس: 106.

(4) طبقات أعلام الشيعة في القرن السادس: 4.

(5) و بما أنّ كنية القاضي هو أبو القاسم، فلازم ذلك أن يكون اسم ابنه القاسم لا أبا القاسم، و من جانب آخر فإنّ التسمية بنفس القاسم وحده بلا ضمّ كلمة الأَب إليه قليل في البيئات العربية، فيحتمل وحدة الكنية في الوالد و الولد.

(6) المقابيس: 90.

(7) رياض العلماء: 3- 143 و 145.

تذكرة الأعيان، ص: 98

و قال السيد بحر العلوم: و له كتاب الموجز في الفقه، قرأ عليه الفقيه شمس الإِسلام الحسن بن الحسين بن بابويه «1» و الشيخ الفقيه الحسين بن عبد العزيز «2»، و شيخ الأَصحاب عبد الرحمن بن أحمد الخزاعي «3» و فقيه الأَصحاب عبد الجبار بن عبد اللّه الرازي «4» و عبيد اللّه «5» عن الحسن بن بابويه «6».

و

في خاتمة المطاف ننبه علي أُمور: 1- انّه كثيراً ما يشتبه الأُستاذ بالتلميذ لأَجل المشاركة في الاسم و اللقب، فتعد بعض تصانيف الأُستاذ من تآليف التلميذ.

قال في «رياض العلماء»: و عندي أنّ بعض أحوال القاضي سعد الدين عبد العزيز ابن البراج هذا، قد اشتبه بأحوال القاضي عز الدين عبد العزيز بن أبي كامل الطرابلسي «7».

و يظهر من الشهيد الأَوّل في كتابه «الأَربعين» في سند الحديث الثاني و الثلاثين، و سند الحديث الثالث و الثلاثين مغايرة الرجلين.

قال الشهيد الأَوّل في سند الحديث الثاني و الثلاثين:.. حدثنا الشيخ الامام قطب الدين أبو الحسين المعروف بالقطب الراوندي، عن الشيخ أبي جعفر محمد ابن علي بن المحسن الحلي «8».

______________________________

(1) و هو جدّ الشيخ منتجب الدين المدعو ب «حسكا» تجد ترجمته في فهرست منتجب الدين.

(2) ترجمه الشيخ منتجب الدين في فهرسته ص 4 و قال: «الموفق الشيخ أبو محمد الحسين بن عبد العزيز ابن الحسن الجهاني المعدل بالقاهرة.

فقيه، ثقة، قرأ علي: الشيخ أبي جعفر الطوسي، و الشيخ ابن البراج».

(3) ترجمه الشيخ منتجب الدين في فهرسته: 7، و نص علي تلمذه علي ابن البراج.

(4) لاحظ المصدر نفسه.

(5) لاحظ المصدر أيضاً، ص 15.

(6) الفوائد الرجالية: 3- 23.

(7) رياض العلماء: 3- 143 و 145.

(8) و قد عرفت أنّ الصحيح هو «الحلبي».

تذكرة الأعيان، ص: 99

قال: حدّثنا الشيخ الفقيه الامام سعد الدين أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن البراج الطرابلسي، قال: حدّثنا السيد الشريف المرتضي علم الهدي أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، إلي آخره، و في سند الحديث الثالث و الثلاثين.. حدّثنا الشيخ أبو محمد عبد اللّه بن عمر الطرابلسي، عن القاضي عبد العزيز بن أبي كامل الطرابلسي، عن الشيخ الفقيه المحقّق أبي

الصلاح تقي بن نجم الدين الحلبي، عن السيد الامام المرتضي علم الهدي.. إلي آخره «1».

و لاحظ الذريعة ج 23، ص 294 فلا شكّ كما ذكرنا فإنّ القاضي عبد العزيز ابن أبي كامل، تلميذ القاضي بن نحرير.

2- يظهر من غضون المعاجم أنّ بعض ما ألّفه القاضي في مجالات الفقه كان مركزاً للدراسة، و محوراً للتدريس، حيث إنّ الشيخ سعيد بن هبة اللّه بن الحسن الراوندي الشهير بالقطب الراوندي كتب بخطه إجازة لولده علي كتاب «الجواهر في الفقه» لابن البراج عبد العزيز و هذه صورتها: قرأه عليّ ولدي نصير الدين أبو عبد اللّه الحسين أبقاه اللّه و متّعني به، قراءة إتقان، و أجزت له أن يرويه عن الشيخ أبي جعفر محمد بن المحسن الحلبي عن المصنف «2».

و لم تكن الدراسة لتقتصر علي كتاب «الجواهر»، بل كان كتابه الآخر و هو (الكامل) كتاباً دراسياً أيضاً.

و لذلك نري أنّ الشيخ أبا محمد عبد الواحد الحبشي، من تلاميذ القاضي عبد العزيز بن أبي كامل الطرابلسي، قرأ الكامل عليه.

______________________________

(1) الأَربعون للشهيد، في شرح الحديث الثاني و الثلاثين و الثالث و الثلاثين: 23 24، فيظهر من السندين مغايرة الرجلين و تعاصرهما.

(2) قد مضي أنّه من تلاميذ القاضي.

تذكرة الأعيان، ص: 100

و الكامل من مؤَلفات شيخنا المترجم له «1».

3- نقل صاحب الرياض أنّه تولّي القضاء في طرابلس، لدفع الضرر عن نفسه بل عن غيره أيضاً، و التمكن من التصنيف، و قد عمل أكثر الخلق ببركته بطريق الشيعة، و قد نصبه علي القضاء جلال الملك عام 438 ه «2».

4- و قال صاحب الروضات: إنّ المستفاد من كتاب (الدرة المنظومة) لسيدنا العلّامة الطباطبائي انّه يعبر عن القاضي بالحافي، و لم نجد له مصدراً قبله.

قال في منظومته:

و

سنّ رفع اليد بالتكبير و المكث حتي الرفع للسرير

و الخلع للحذاء دون الاحتفا و سن في قضائه الحافي الحفا «3»

تآليفه

خلّف المترجم له ثروة علمية ضخمة في الفقه و الكلام، تنبئ عن سعة باعه في هذا المجال، و تضلّعه في هذا الفن.

و إليك ما وقفنا عليه من أسمائها في المعاجم: 1- الجواهر: قال في رياض العلماء: رأيت نسخة منه في بلدة ساري، من بلاد مازندران، و هو كتاب لطيف، و قد رأيت نسخة أُخري منه بأصفهان عند الفاضل الهندي، و قد أورد قدِّس سرُّه فيه المسائل المستحسنة المستغربة

______________________________

(1) طبقات أعلام الشيعة في القرن السادس: 168.

(2) رياض العلماء: 3- 152؛ و تأسيس الشيعة: 304.

(3) روضات الجنات: 4- 205، لكن من المحتمل أن يكون «الحافي» مصحف «القاضي» لقرابتهما في الكتابة فلاحظ.

تذكرة الأعيان، ص: 101

و الأَجوبة الموجزة المنتخبة «1».

2- شرح جمل العلم و العمل.

3- المهذب، و هو الكتاب الذي بين يديك.

4- روضة النفس.

5- المقرب في الفقه (الذريعة 22، ص 108).

6- المعالم في الفروع (الذريعة ج 21، ص 197).

7- المنهاج في الفروع (الذريعة ج 23، ص 155).

8- الكامل في الفقه، و ينقل عنه المجلسي في بحاره (الذريعة ج 17، ص 257).

9- المعتمد في الفقه (الذريعة ج 21، ص 214).

10- الموجز في الفقه، و ربما ينسب إلي تلميذه ابن أبي كامل الطرابلسي (لاحظ الذريعة ج 23، ص 251).

11- عماد المحتاج في مناسك الحاج (لاحظ الذريعة ج 15، ص 331).

و يظهر من الشيخ ابن شهرآشوب في «معالم العلماء» أنّ كتبه تدور بين الأصول و الفروع كما أنّ له كتاباً في علم الكلام.

و لكنّه مع الأَسف قد ضاعت تلك الثروة العلمية، و ذهبت إدراج الرياح و لم يبق إلّا الكتب الثلاثة: الجواهر،

المهذب، شرح جمل العلم و العمل.

و يظهر من ابن شهرآشوب أنّه كان معروفاً في القرن السادس بابن البراج، مما يؤَكد علي أنّ ابن البراج كان شخصية من الشخصيات، حتي أنه نسب القاضي إلي هذا البيت.

______________________________

(1) رياض العلماء: 3- 142.

تذكرة الأعيان، ص: 102

هذه هي كتبه و قد طبع منها «الجواهر» ضمن «الجوامع الفقهية» علي وجه غير نقي عن الغلط، فينبغي لرواد العلم إخراجه و تحقيق متنه علي نحو يلائم العصر «1».

كما أنّه طبع من مؤَلفاته «شرح جمل العلم و العمل» بتحقيق الأُستاذ كاظم مدير شانه چي.

و قد كان سيدنا الأُستاذ آية اللّه العظمي البروجردي قدس سره يحث الطلاب علي مراجعة المتون الفقهية المؤَلّفة علي يد الفقهاء القدامي، و كان يعتبر الشهرة الفتوائية علي وجه لا يقل عن الإِجماع المحصّل.

و كان من نواياه قدس سره طبع بعض الكتب الفقهية الاصيلة منها: 1- الكافي، للفقيه أبي الصلاح الحلبي.

2- الجامع للشرائع، ليحيي بن سعيد الحلي.

3- كشف الرموز، للفقيه عز الدين الحسن بن أبي طالب اليوسفي الآبي، تلميذ المحقّق و شارح كتاب «النافع» شرحاً حسناً متوسطاً و قد أسماه كما عرفت ب «كشف الرموز».

4- المهذب، للقاضي ابن البراج.

______________________________

(1) و قد أنجز هذه الأُمنية الشيخ المحقق البهادري فقد حققه و انتشر و قدمنا له مقالًا سيوافيك فيما بعد.

تذكرة الأعيان، ص: 103

الشيعة و التشريع الإِسلامي تدويناً و تطويراً

اشارة

«1» الكتاب و السنّة هما المصدران الرئيسيّان للتشريع الإِسلامي لدي المسلمين، فالكتاب نور و هداية للأُمّة في شتي حقول الحياة، قال سبحانه: (وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ) «2» فلو شكّكنا في عمومية الشي ء في الآية الشريفة و سعته لكل ما يصدق عليه، فلا يُشك في أنّ التشريع أعني وظيفة الإِنسان امام اللّه و أمام أخيه المسلم من أوضح مصاديقه، فهو

مبيّن لكلّ ما يحتاج إليه الإِنسان فيما يرجع إلي المبدأ و المعاد، و إلي ما يحتاج إليه في حياته الفرديّة و الاجتماعيّة من السنن و القوانين.

فإذا كانت هذه مكانة الكتاب، فما هي مكانة السنّة في ذلك الحقل؟ إنّ السنّة أوّلًا مبيِّنة لإِجمال الكتاب و إبهامه، و موضحة لتنزيله و تفسيره.

قال سبحانه: (وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) «3».

و ثانياً: انّ الرسول هو الأُسوة و القدوة، فهو بقوله و فعله يبيّن عزائم الشرع و رخصه، فرائضه و نوافله.

قال سبحانه:

______________________________

(1) طبعت هذه المقالة كمقدمة لكتاب جواهر الفقه لابن البراج.

(2) النحل: 98.

(3) النحل: 44.

تذكرة الأعيان، ص: 104

(لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اللّٰهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّٰهَ كَثِيراً «1» (، و قال سبحانه: (وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) «2».

و قال الرسول الأَعظم- صلي الله عليه و آله و سلم-: ألا إنّي أُوتيت الكتاب و مثله معه، ألا إنّي أُوتيت القرآن و مثله معه، أ لا يوشك رجل ينثني شبعاناً علي أريكته، يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم من حلال فاحلّوه و ما وجدتم من حرام فحرّموه..» «3».

و في ظل هذين المصدرين المباركين استغنت الأُمّة عن كلّ تقنين بشري و تشريع غير إلهي إلي يوم القيامة فقد كان لهم في هدي الكتاب و السنّة غني و كفاية.

كيف لا و قد أطلق سبحانه حكم الجاهلية علي كلّ تشريع غير إلهي، و قال: (أَ فَحُكْمَ الْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) «4».

فإذا كان هذه منزلة السنة النبوية، كان من الواجب علي الأُمّة القيام بضبط كلّ دقيق و جليل أُثر عنه-

صلي الله عليه و آله و سلم-، و لكن يا للَاسف تقاعست الأُمّة الإِسلامية عن تدوين السنّة و جمعها و ضبطها في حياة صاحبها و بعد رحيله، و توانت عن القيام بهذا الواجب إلي منتصف القرن الثاني بعد ضياع قسم كبير من السنّة و تسرّب الاسرائيليات و الأَحاديث الموضوعة إلي أوساط المسلمين عامة و المحدثين خاصة، و بعد ان ألمّ بهم الندم قاموا بواجبهم و لما ينفعهم الندم.

روي السيوطي، قال: أراد عمر بن الخطاب أن يكتب السنن و استشار فيها أصحاب رسول اللّه فأشار إليه عامّتهم بذلك فلبث عمر بن الخطاب شهراً يستخير اللّه تعالي في ذلك شاكاً فيه، ثمّ أصبح يوماً و قد عزم اللّه تعالي له، فقال:

______________________________

(1) الأَحزاب: 21.

(2) الحشر: 7.

(3) مسند أحمد: 4- 131.

(4) المائدة: 50.

تذكرة الأعيان، ص: 105

إنّي كنت فكرت لكم من كتابة السنن ما قد علمتم، ثمّ تذكرت فإذا أُناس من أهل الكتاب كتبوا مع كتاب اللّه كتباً فاكبّوا عليها و تركوا كتاب اللّه، و انّي و اللّه لا البس كتاب اللّه بشي ء فترك كتابة السنن.

و روي ابن سعد بسنده عن الزهري قال: لمّا أراد عمر بن الخطاب أن يكتب السنن فاستخار اللّه شهراً ثمّ أصبح و قد عزم اللّه له فقال: ذكرت قوماً كتبوا كتاباً فأقبلوا عليه و تركوا كتاب اللّه «1».

هذا قرظة بن كعب الأَنصاري، قال: أردنا الكوفة فشيَّعنا عمر إلي صرار، و قال: تدرون لم شيّعتكم؟ قلنا: نعم.

نحن أصحاب رسول اللّه، فقال: إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويٌّ بالقرآن كدويّ النحل، فلا تصدّوهم بالأَحاديث، فتشغلوهم، جرّدوا القرآن، و أقلّوا الرواية عن رسول اللّه، و امضوا و أنا شريككم «2».

و قد جرت السيرة في ظل هذا الحظر علي

ترك كتابة السنّة نجم عنها حرمان الأُمّة من عدل الكتاب و قرينه، و لو صحّ ما ذكره الخليفة من التعليل، لوجب علي الأُمّة في جميع الاجيال و القرون تمزيق الصحاح و المسانيد و القضاء علي السنّة النبوية، و لا ينتج ذلك إلّا البُؤس و الشقاء و التجاءها إلي القوانين الموضوعة في مجال التشريع و الأَخلاق و السياسة و النظم الاجتماعية.

نعم أحس الخليفة الأَموي عمر بن عبد العزيز (المتوفّي 101 ه) بخطورة الموقف و ضرورة تدوين الحديث، فكتب إلي عالم المدينة أبي بكر بن حزم و قال: انظر ما كان من حديث رسول اللّه فاكتبه، فانّي خفت دروس العلم و ذهاب العلماء و لا تقبل إلّا أحاديث النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم- و لتفشوا العلم

______________________________

(1) السيوطي: تنوير الحوالك في شرح موطإ مالك الفائدة الثانية: و راجع: فتح الباري بشرح صحيح البخاري المقدمة: 6، ط دار المعرفة.

(2) ابن سعد: الطبقات الكبري: 6- 7؛ الحاكم: المستدرك: 1- 102.

تذكرة الأعيان، ص: 106

و لتجلسوا حتي يعلم من لا يعلم، فانّ العلم لا يهلك حتي يكون سراً «1».

و مع هذا الإِصرار المؤَكَّد من الخليفة حالت رواسب الحظر السابق من جانب الخلفاء الماضين عن قيام ابن حزم بمهمته الملقاة علي عاتقه، فلم يكتب شي ء من أحاديث النبي إلّا صحائف غير منظمة و لا مرتبة إلي ان دالت دولة الأُمويّين و قامت دولة العباسيين و أخذ أبو جعفر المنصور بمقاليد الحكم، فقام المحدّثون عام 143، بتدوين الحديث، فهذا هو السيوطي يشرح تلك المأساة و يقول: «شرع علماء الإِسلام في هذا العصر في تدوين الحديث و الفقه و التفسير فصنّف ابن جريج بمكة، و مالك الموطأ بالمدينة، و الأَوزاعي بالشام، ابن

أبي عروبة و حماد بن سلمة و غيرهما في البصرة، و معمر باليمن، و سفيان الثوري بالكوفة و صنّف ابن إسحاق المغازي، و صنّف أبو حنيفة الفقه و الرأي إلي أن قال: و قبل هذا العصر كان الأَئمّة يتكلّمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة «2».

و قد أدي ذلك التقاعس و التواني إلي أنّه لما تكثرت الفروع بسبب اختلاط المسلمين بغيرهم و لم يجدوا في السنة النبوية نصّاً فيها، مال قسمٌ من العلماء إلي القول بالرأي و الاستحسان، فافتوا بآرائهم فيما لا يجدون نصّاً فيه فاشتهروا بأصحاب الرأي و القياس، و كان أكثر أهل العراق من أتباع هذه المدرسة، كما أنّ أكثر أهل الحجاز كانوا يتجنّبون عنه، و قد روي انّه لما سأل ربيعة بن عبد الرحمن (المتوفّي 136 ه) سعيد بن المسيب عن علّة الحكم، فأجاب: أ عراقي أنت؟ «3» و لم تكن إحدي الطائفتين أولي من الأُخري في أداء الوظيفة، فإذا كان العمل بالرأي و القياس أمراً محظوراً فالتزمت بالنصوص المحدودة و عدم هداية الأُمّة إلي

______________________________

(1) البخاري: الصحيح، كتاب العلم، ج 1، ص 27.

(2) السيوطي: تاريخ الخلفاء: 261.

(3) أحمد أمين: فجر الإِسلام: 1- 290.

تذكرة الأعيان، ص: 107

واجبها في مجال الفروع و التكاليف محظورٌ مثله، و ما ذلك إلّا أنّ الحظر الذي فرضه الخليفة بعد رحلة النبي أدّي إلي ذلك و قسم العلماء و الفقهاء إلي قسمين بين معتمد علي المقاييس و المعايير الظنية كالقياس و الاستحسان و سدّ الذرائع و شرع من قبلنا إلي غير ذلك ممّا لم ينزل اللّه بها من سلطان، و متزمت حصر التشريع الإِلهي في النصوص المحدودة التي لا تتجاوز عن أربعمائة حديث أو ما

يقرب من ذلك «1».

و قد ظهر أثر ذلك التقاعس في ضبط الحديث في عصر الخلفاء فضلًا عن الأَعصار المتأخرة فلنأت بنموذج أو نموذجين من ذلك:

1- انّ مسألة العول شغلت بال الصحابة فترة من الزمن و كانت من المسائل المستجدة التي واجهت جهاز الحكم بعد الرسول، قد طرحت أيّام خلافة عمر بن الخطاب، فتحيّر فأدخل النقص علي الجميع استحساناً، و قال: و اللّه ما أدري أيّكم قدّم اللّه و أيّكم أخّر.

ما أجد شيئاً أوسع لي من ان أُقسم المال عليكم بالحصص، و ادخل علي ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة «2».

أو يصح الاعتماد في الفتيا علي هذا التعليل الوارد عن الخليفة أو يجب أن يصدر المفتي عن دليل شرعي إلهي يقنعه بأنّه قام بواجبه؟ 2- سُئل عمر بن الخطاب عن رجل طلّق امرأته في الجاهلية تطليقتين و في الإِسلام تطليقة واحدة فهل تُضم التطليقتان إلي الثالثة أو لا؟ فقال للسائل: لا آمرك و لا أنهاك «3».

و قد أدّي ذلك إلي القول بحجّية قول الصحابيّ و فعله و تقريره و عومل معه معاملة المعصوم في حجّية أقواله و أفعاله و تقريراته، يقول محمد بن عمر

______________________________

(1) محمّد رشيد رضا: الوحي المحمّدي: 125.

(2) الجصاص: أحكام القرآن: 2- 109؛ الحاكم: المستدرك: 4- 340.

(3) المتقي الهندي: كنز العمال: 5- 116.

تذكرة الأعيان، ص: 108

الأَسلمي: و كلّ أصحاب رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- كانوا أئمّة يقتدي بهم و يحفظ عليهم ما كانوا يفعلون و يستفتون فيفتون «1» و هذا يناقض موقف أهل السنّة من حصر العصمة في النبي- صلي الله عليه و آله و سلم-.

موقف الشيعة من السنّة النبوية:
اشارة

هذا حال الأُمّة المنتسبة إلي السنّة و هم الجمهور الأَعظم من المسلمين،

و لكن كان حال أئمّة الشيعة و قادتهم و متابعيهم علي خلاف ذلك فهم لم يتقاعسوا عن أداء الواجب بل عمدوا إلي ضبط سنّة النبي دقيقها و جليلها، فهذا أمير المؤمنين كتب ما أملي عليه رسول اللّه، في الحلال و الحرام و العزائم و الرخص، أخرج الحمويني بسنده عن الامام محمد الباقر عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين- عليهم السلام- قال: قال رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم-: يا علي؛ اكتب ما أملي عليك، قلت: يا رسول اللّه أ تخاف عليَّ النسيان؟ قال: لا، و قد دعوت اللّه عزّ و جلّ أن يجعلك حافظاً، و لكن اكتب لشركائك الأَئمة من ولدك، بهم تسقي أُمتي الغيث، و بهم يستجاب دعاؤهم، و بهم يصرف اللّه عن الناس البلاء، و بهم تنزل الرحمة من السماء، و هذا أوّلهم و أشار إلي الحسن عليه السَّلام.

ثمّ قال: و هذا ثانيهم و أشار إلي الحسين- عليه السلام-.

ثمّ قال: و الأَئمّة من ولده «2».

و قد ورث هذا الكتاب أئمّة أهل البيت- عليهم السلام- واحداً تلو واحد فيصدرون عنه، و هذا هو عذافر الصيرفي، قال: كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر- عليه السلام-، فكان يسأله و كان أبو جعفر- عليه السلام- له مكرماً، فاختلفا في شي ء، فقال أبو جعفر- عليه السلام-: «هذا خط علي- عليه السلام- و إملاء رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم-» و أقبل علي الحَكَم، و قال:

______________________________

(1) ابن سعد: الطبقات الكبري: 2- 376.

(2) القندوزي: ينابيع المودة: 20 ط عام 1301 ه؛ بحار الأَنوار: 36- 232، الحديث 14.

تذكرة الأعيان، ص: 109

«يا أبا محمّد اذهب أنت و سلمة و أبو المقداد حيث شئتم

يميناً و شمالًا، فواللّه لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل» «1».

نعم كان لأَمير المؤمنين غير هذا كتبٌ أُخري مثل كتاب الفرائض، و كتاب الآداب و غيرهما ممّا ورد في الكتب الحديثية.

الطبقة الأولي

ثمّ إنّ الطبقة الأولي من الشيعة اقتدوا بإمامهم أمير المؤمنين- عليه السلام- فألّفوا في ذلك كتباً و رسائل حفظوا بذلك السنّة النبوية، و استقوا العلم من نميره العذب و قد ذكرهم أصحاب المعاجم في طبقاتهم و إليك أسماء لفيف منهم: 1- أبو رافع مولي رسول اللّه و خازن بيت المال في عهد أمير المؤمنين، صنّف كتاب السنن و الأَحكام و القضايا «2».

2- عبيد اللّه بن أبي رافع مؤَلف كتاب «من شهد حروب أمير المؤمنين من أصحاب النبي» «3».

3- علي بن أبي رافع، كاتب أمير المؤمنين، صنّف كتاباً في فنون من الفقه: الوضوء و الصلاة و سائر الأَبواب «4».

4- ربيعة بن سميع صنّف كتاب زكاة النعم علي ما سمعه من أمير المؤمنين «5».

5- سليم بن قيس مؤَلف الأَصل المعروف المطبوع المنتشر «6».

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 2- 260 برقم 967، ذكره في ترجمة محمّد بن عذافر الصيرفي.

(2) النجاشي: الرجال: 1- 64 برقم 1.

(3) الطهراني: الذريعة: 1- 14.

(4) النجاشي: الرجال: 1- 65 برقم 1.

(5) النجاشي: الرجال: 1- 67 برقم 2.

(6) المصدر نفسه: برقم 3.

تذكرة الأعيان، ص: 110

6- الأَصبغ بن نباتة المجاشعي، قد كتب عهد أمير المؤمنين إلي مالك الأَشتر النخعي و وصيته إلي ابنه محمّد بن الحنفية «1».

7- سلمان الفارسي الصحابي الجليل، ذكر ابن شهرآشوب له كتاب خبر جاثليق «2».

8- أبو ذر الغفاري، قال ابن شهرآشوب: له خطبة يشرح فيما الأُمور بعد النبيّ صلي الله عليه و آله و سلم- «3» كتاب وصايا

النبيّ، و قد شرحه العلّامة المجلسي و أسماه عين الحياة.

9- أبو الأَسود الدؤَلي، التابعي المعروف، أخذ النحو عن أمير المؤمنين و كتبه في كرأس و عرضه علي أمير المؤمنين، فقال: نعم ما نحوت «4».

10- زيد بن وهب الجهني الكوفي، جامع خطب أمير المؤمنين- عليه السلام- علي المنابر في الجمع و الأَعياد «5».

الطبقة الثانية

ثمّ إنّ الطبقة الثانية نهجوا منهاج سلفهم، حذو القذة بالقذة و ألّفوا كتباً و رسائل في الحديث و الفقه و التفسير، فبلغوا الذروة في فهم الحديث و فقهه و استنباط الاحكام من المصادر، نظراء: زرارة بن أعين (المتوفّي 150 ه)، و محمّد ابن مسلم الطائفي، و أبي بصير الأَسدي (المتوفّي 150 ه) و بريد بن معاوية،

______________________________

(1) المصدر نفسه: برقم 4.

(2) ابن شهرآشوب: معالم العلماء: 57 برقم 382.

(3) المصدر نفسه: 32 برقم 180.

(4) التستري: قاموس الرجال: 5- 171 نقله عن الذهبي.

(5) ابن شهرآشوب: معالم العلماء: 51 برقم 34.

تذكرة الأعيان، ص: 111

و الفضيل بن يسار من تلاميذ مدرسة أبي جعفر الباقر (المتوفّي 114 ه) و الإِمام الصادق (المتوفّي 148 ه).

و يليهم في الفضل ثلة أُخري و هم خريجو مدرسة الامام الصادق، نظراء: جميل بن دراج، و عبد اللّه بن مسكان، و عبد اللّه بن بكير، و حماد بن عثمان، و حماد بن عيسي، و أبان بن عثمان، و هم أصحاب الأصول و الكتب المذكورة في المعاجم.

و هناك طبقة رابعة من خريجي مدرسة الامام الكاظم و أبي الحسن الرضا- عليه السلام- ذكرت أسماؤهم و آثارهم في المعاجم.

و كفاك في عنايتهم بحديث رسول اللّه المروي عن طريق العترة الطاهرة الذين هم أعدال الكتاب و قرناؤه في حديث الثقلين انّ أبان بن تغلب (المتوفّي 141 ه) و هو

من خريجي مدرسة الباقر و الصادق- عليه السلام-، حدّث عن الصادق- عليه السلام بثلاثين ألف حديث «1»

لا قياس و لا استحسان و لا..

و في ظلّ أحاديث العترة الطاهرة المروية عن النبي صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم استغني فقهاء الشيعة عن القياس و الاستحسان و الاعتماد علي كلّ دليل ظني ما لم يدل دليلٌ قطعيٌ علي حجّيته، حيث إنّهم دوّنوا الأصول و الفروع في حياة أئمّتهم و جاءوا بجوامع حديثية عديدة في أعصارهم «2» و بعدهم «3» إلي أن وصلت النوبة إلي المحمدين الثلاثة: أبي جعفر الكليني (المتوفّي 329 ه)

______________________________

(1) البهائي: الوجيزة: 6، الطبعة الحجرية.

(2) كجامع الحسين بن سعيد الأَهوازي المعروف بالثلاثين.

(الرجال للنجاشي 172، برقم 135).

و جامع علي بن مهزيار من أصحاب الإِمام الجواد.

(الرجال للنجاشي 622 برقم 665).

(3) كنوادر الحكمة لمحمّد بن أحمد بن يحيي، يقول النجاشي: و هو كتاب كبير حسن، ج 2- 244 برقم 940.

تذكرة الأعيان، ص: 112

و الشيخ الصدوق (306 381 ه) و الشيخ الطوسي (385 460 ه) فألفوا الجوامع الحديثية الكبري، فصارت مداراً في استنباط الأَحكام، فألّف الكليني كتاب الكافي في الأصول و الفروع في ثمانية أجزاء، و الصدوق كتاب «الفقيه» في أربعة أجزاء، و الطوسي كتاب التهذيب في عشرة أجزاء و الاستبصار في أربعة أجزاء، شكر اللّه مساعيهم.

مراحل تدوين الفقه و تطويره
اشاذة

كان تدوين الفقه بين الشيعة بعد رحلة النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- علي غرار تدوين الحديث، فالكتب الفقهية هي الكتب الحديثية، لكنّها مختصة بروايات وردت حول الفروع و الأَحكام و السنن و الآداب، فكان الفقهاء من أصحاب الأَئمّة يؤَلّفون الكتب الفقهية و يذكرون الحديث بسنده و نصه و لا يتجاوزون ذلك.

و ربما يرون ذلك أمراً غير صحيح، إلي أن وصلت النوبة، إلي علي بن الحسين بن بابويه (المتوفّي 329 ه) فقام بتدوين الفقه علي نمطٍ جديد، و أحدث فيه تطويراً،

فحذف الأَسانيد، و أتي بالمتون علي ترتيب الكتب الفقهية، فألّف كتاب الشرائع و قد كان عمله هذا ثورة في ذلك المجال، و تبعه ابنه الصدوق فألف المقنع و الهداية علي ذلك الغرار، و تبعه الشيخ المفيد فألف المقنعة، و الشيخُ الطوسي النهاية و راج هذا النمط في الفقه.

و هو كان تدويناً و تطويراً للفقه تلقاها الاجيال بالقبول، و تعد تلك المرحلة، المرحلة الأُولي بالنسبة إلي التطوير، كما تعد المرحلة الثانية بالنسبة إلي تدوين الفقه، و قد كانت المرحلة للتدوين ذكر المتون مع الأَسانيد.

و لما اتسع نطاق الفقه باتساع دائرة الحاجات، لم ير فقهاء الشيعة محيصاً عن التجاوز عن متون الأَحاديث إلي صياغة فروع جديدة مستنبطة من تلك الأَحاديث و مضامينها بعبارات جديدة، انطلاقاً من قولهم- عليهم السلام- علينا إلقاء

تذكرة الأعيان، ص: 113

الأصول و عليكم التفريع «1».

و لعلّ أوّل كتاب خرج علي هذا النمط هو كتاب «المتمسك بحبل آل الرسول» تأليف الشيخ الأَقدم الحسن بن علي بن أبي عقيل المعاصر للشيخ الكليني و كتاب «تهذيب الشيعة لأَحكام الشريعة» تأليف محمّد بن أحمد ابن الجنيد المعاصر للصدوق.

ثمّ قام شيخ الطائفة بتأليف المبسوط علي ذلك الغرار فخرج في ثمانية أجزاء، كما ألّف الخلاف في الفقه المقارن الذي أودع فيه آراء فقهاء المذاهب الإِسلامية؛ و توالت حركة التأليف بعده علي ذلك النمط إلي يومنا هذا، فألّفت مجاميع فقهية مفصلة تتجاوز المئات و الألوف.

و تشكل هذه المرحلة الثالثة من تدوين الفقه، و بما أنّ الشيعة الإِمامية التزمت بانفتاح باب الاجتهاد و وجوب رجوع العاميّ إلي المجتهد الحي لم يزل هذا النوع يتكامل من صورة إلي أُخري يقف عليها السائر في الكتب الفقهية لهذه الطائفة.

و شتان ما بين استنباط الاحكام و

الفروع من الكتاب و السنّة و بين الرجوع فيها إلي المقاييس الظنية.

و قد قامت مؤَسسة النشر الإِسلامي في الآونة الأَخيرة بنشر آثار فقهية و كلاميّة لثلاثة من كبار فقهاء الشيعة في القرن الخامس: 1- جواهر الفقه، للقاضي عبد العزيز بن البراج (400 481 ه) مؤَلف المهذب و الكامل في الفقه الإِمامي، و هو من اعلام الفقه في عصره و تلميذ المرتضي و زميل شيخ الطائفة.

2- المسائل الميافارقية، للسيّد الشريف المرتضي (355 436 ه) صاحب

______________________________

(1) الحرّ العاملي: وسائل الشيعة: 18، كتاب القضاء، الباب 6، الحديث 52.

تذكرة الأعيان، ص: 114

التآليف الممتعة في مجال الفقه و الأُصول و الكلام.

3- العقائد الجعفرية، لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي (385 460 ه).

و هو أُستاذ الشيعة في عصره و مهذب أُصولهم و فروعهم و له يد بيضاء علي العلم و أهله.

و الرسالتان الأُوليان في الفقه و الثالثة في عقائد الإِمامية يجمعها كونها من آثار القدماء و من تراث الشيعة الخالد قام بتأليفها أُستاذٌ بعد أُستاذ، فالمرتضي أُستاذ شيخ الطائفة و هو أُستاذ ابن البراج، و لإِيقاف القاريَ علي حياتهم نذكر شيئاً يسيراً منها.

القاضي ابن البرّاج

«1» الشيخ سعد الدين أبو القاسم، عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج الطرابلسي، يعرّفه الشيخ منتجب الدين بقوله: «وجه الأَصحاب و فقيههم و كان قاضياً بطرابلس، و له مصنفات، منها: «المهذّب» و «المعتمد» و «الروضة» و «المقرب»: و «عماد المحتاج في مناسك الحاج» أخبرنا بها الوالد عن والده عنه «2».

يقول ابن شهرآشوب: «أبو القاسم المعروف بابن البراج، من غلمان المرتضي رضي اللّه عنه له كتب في الأصول و الفروع، فمن الفروع: الجواهر، المعالم، المنهاج، الكامل، روضة النفس في أحكام العبادات الخمس، المقرب، المهذب، التعريف، شرح

جمل العلم و العمل للمرتضي رحمه اللّه «3».

______________________________

(1) قدّمنا ذكره لكون كتابه أبسط من التأليفين الآخرين، و لأَجل ذلك قدم في الطبع علي الآخرين.

(2) منتجب الدين: الفهرست: 107، برقم 218.

(3) ابن شهرآشوب: معالم العلماء: 80 برقم 545.

تذكرة الأعيان، ص: 115

و قد أثني عليه كلّ من تأخر عنه كالعلّامة الحلّي في إجازته لبني زهرة، و الشهيد الأَوّل في بعض مجاميعه، و ابن فهد في مهذّبه، و المحقّق الثاني في إجازته، و الشهيد الثاني في إجازته، إلي غير ذلك من أئمّة الفقه، تراهم أثنوا عليه ثناء بليغاً كاملًا «1».

و قد تعرفت علي أسماء تآليفه فقد طبع منها ثلاثة: 1- شرح جمل العلم و العمل، و هو شرح كتاب جمل العلم و العمل للسيّد المرتضي علي وجه موجز، ألقي فيها الأصول و القواعد في فني الكلام و الفقه و قد تولّي شيخ الطائفة شرح القسم الكلامي منه و انتشر باسم تمهيد الأصول، بينما تولي القاضي ابن البراج شرح القسم الفقهي، و نشر و حقق نصوصه الأُستاذ الشيخ كاظم مدير شانه چي دام ظلّه.

2- المهذب، و هو أبسط كتاب فقهي استدلالي بعد كتاب المبسوط للشيخ الطوسي، و قد اشتغل به عام 467، فالكتاب حصيلة ممارسة فقهية شغلت عمر المؤَلف و قد انتشر في جزءين ضخمين: 3- جواهر الفقه، و هو كتاب فقهي اقتصر فيه المؤَلف علي ذكر الفتيا، لعلها كانت رسالة عملية لمن كان يرجع إليه في الشامات.

الشريف المرتضي (355 436 ه)

هو السيد المرتضي، علم الهدي، ذو المجدين، أبو القاسم علي بن الحسين ابن موسي بن محمّد بن موسي بن إبراهيم بن الامام موسي الكاظم- عليه السلام- مفخرة من مفاخر العترة الطاهرة، و إمام من أئمّة العلم و الحديث و الأَدب، و بطل

من أبطال الدين و العلم و المذهب، و هو بعد أُستاذ الكلام و محقّقه، و إمام الفقه

______________________________

(1) راجع للوقوف علي نصوصهم تقديمنا لكتاب المهذب لابن البراج: 1 36- 32.

تذكرة الأعيان، ص: 116

و مؤَسس أُصوله.

و لأَجل إيقاف القارئ علي منزلته العلمية نأتي ببعض ما ذكره علماء الفريقين في حقّه: قال النجاشي (372 450 ه): أبو القاسم المرتضي، حاز من العلوم ما لم يدانه أحد في زمانه، و سمع من الحديث فأكثر، و كان متكلماً شاعراً أديباً، عظيم المنزلة في العلم و الدين و الدنيا «1».

و قال تلميذه الآخر شيخنا الطوسي (385 460 ه): إنّه أكثر أهل زمانه أدباً و فضلًا، متكلم، فقيه، جامع العلوم كلّها مدّ اللّه في عمره «2».

و قال في فهرسته: المرتضي متوحّد في علوم كثيرة، مجمع علي فضله، مقدم في العلوم، مثل علم الكلام، و الفقه، و أُصول الفقه، و الأَدب و النحو، و الشعر، و معاني الشعر، و اللغة، و غير ذلك، له من التصانيف و مسائل البلدان شي ء كثير مشتمل علي ذلك فهرسته المعروف «3».

و قال الثعالبي: و قد انتهت الرسالة اليوم ببغداد إلي المرتضي في المجد و الشرف و العلم و الأَدب و الفضل و الكرم، و له شعر في نهاية الحسن «4».

و قال ابن خلكان (608 681 ه): كان إماماً في علم الكلام و الأَدب و الشعر، و له تصانيف علي مذهب الشيعة

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 1- 102 برقم 706.

(2) الطوسي: الرجال: 484 برقم 53، باب في من لم يرو عنهم.

قم 545.

(3) الطوسي: الفهرست: 99.

(4) الثعالبي: تتميم يتيمة الدهر: 1- 53.

تذكرة الأعيان، ص: 117

و مقالة في أُصول الدين، و ذكره ابن بسام في الذخيرة، و قال: كان هذا الشريف إمام

أئمّة العراق بين الاختلاف و الاتفاق، إليه فزع علماؤها و عنه أخذ عظماؤها، صاحب مدارسها و جمّاع شاردها و آنسها، ممن سارت أخباره و عرفت له إشعاره، و حمدت في ذات اللّه مآثره و آثاره، إلي تآليفه في الدين و تصانيفه في أحكام المسلمين ممّا يشهد أنّه فرع تلك الأصول و من أهل ذلك البيت الجليل «1».

تري نظير هذه الكلمات كثيرة مبثوثة في طيات الكتب و المعاجم كلّها تشير إلي مكانته المرموقة و مآثره الجليلة.

و يشهد علي ذلك: التراث العلمي الذي خلفه السيّد المرتضي و كان و لم يزل مرجعاً لإعلام الدين، و هي تربو علي 86 كتاباً و رسالة في مجالات مختلفة و حيث لا يمكن لنا سرد أسمائها و الإِشادة بأبعادها نكتفي في المقام بكتبه الفقهية و الأُصولية، و من أراد التفصيل، فليرجع إلي المعاجم.

1- الذريعة في أُصول الفقه، و هو أبسط كتاب في أُصول الفقه، فرغ منه في نهاية القرن الرابع (سنة 400 ه) علي ما شاهدت في بعض النسخ الخطية في مدينة قزوين، و طبع الكتاب في جزءين.

2- مفردات في أُصول الفقه.

3- الخلاف في الفقه.

4- الناصريات في الفقه.

5- الانتصار فيما انفردت به الإِمامية.

ثمّ إنّ للسيد رسائل وافرة في الكلام و الفقه و فنون شتي، و منها رسالة «المسائل الميافارقية» و تشتمل علي 65 مسألة فقهية و غير فقهية ذكرها

______________________________

(1) ابن خلّكان: وفيات الأَعيان: 3- 313 برقم 443.

تذكرة الأعيان، ص: 118

ابن شهرآشوب في ترجمته.

و للسيد رسائل أُخري في مسائل فقهية و كلامية و أُصولية، نطوي الكلام عنها رعاية للِايجاز.

هذا هو السيد المرتضي و هذه كلمات الثناء من العلماء في حقّه و هذه آثاره، و أمّا تلاميذه فكفي انّه قد أنجبت مدرسته أفذاذاً

يفتخر بهم الدهر، و إليك أسماؤهم: 1- شيخ الطائفة، أبو جعفر الطوسي (ت 460 ه).

2- أبو يعلي سلّار بن عبد العزيز الديلمي مؤَلف «المراسم» (ت 463 ه).

3- أبو الصلاح تقي بن النجم، خليفته في بلاد حلب (ت 447 ه).

4- القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي (ت 481 ه).

5- الشريف أبو يعلي محمّد بن الحسن بن حمزة الجعفري (ت 463 ه).

6- الشيخ أبو الفتح محمّد بن علي الكراجكي (ت 449 ه).

7- أبو الصمصام ذو الفقار بن معبد الحسيني المروزي.

8- السيد نجيب الدين أبو محمّد الحسن بن محمّد بن الحسن الموسوي.

9- السيد التقي بن أبي طاهر الهادي النقيب الرازي.

10- الشيخ أبو الحسن سليمان الصهرشتي، صاحب كتاب «قبس المصباح».

إلي غير ذلك من الشخصيات البارعة الذين استقوا من منهل علمه و معين فقهه «1».

______________________________

(1) قد استقصي العلّامة الاميني في موسوعته أسماء تلامذة السيد، فلاحظ: الغدير: 2714- 270.

تذكرة الأعيان، ص: 119

شيخ الطائفة، محمّد بن الحسن الطوسي (385 460 ه)

لا عتب علي اليراع أن تهيب شخصية شيخ الطائفة، و مكانته العلمية و منزلته الرفيعة، و جهاده المتواصل في طريق نشر العلم و الهدي، و مناهضته المخالفين و المعاندين إلي غير ذلك من مآثر و فضائل جمة لا يحيط بها القلم و لا يبلغ مداها البيان و يعجز عن تحديدها و رسمها، و بما انّ الميسور لا يسقط بالمعسور، نكتفي بتعريف بعض نواحي شخصيته، قال تلميذه الجليل النجاشي: أبو جعفر، جليل من أصحابنا، ثقة، عين، من تلامذة شيخنا أبي عبد اللّه (المفيد) «1».

و قال العلّامة الحلّي (648 728 ه): شيخ الإِمامية و رئيس الطائفة، جليل القدر، عظيم المنزلة، ثقة، عين، صدوق، عارفٌ بالاخبار و الرجال و الفقه و الأُصول، و الكلام، و الأَدب و جميع الفضائل تُنسب إليه، صنّف

في كلّ فنون الإِسلام، و هو المهذّب للعقائد في الأُصول و الفروع، و الجامع لكمالات النفس في العلم و الأَدب، و كان تلميذ الشيخ المفيد، وُلدَ قدّس اللّه سرّه في شهر رمضان سنة 385 ه، و قدم العراق سنة 408 ه، و توفي رضي اللّه عنه ليلة الاثنين الثاني و العشرين من محرم سنة 460 بالمشهد المقدّس الغروي و دفن بداره «2».

و قد ألّف شيخ الباحثين، الشيخ الطهراني رسالة مستقلة في ترجمة شيخنا الطوسي، أدّي فيها حقّ المقام، و لم يبق في القوس منزعاً، و لكن نكمّل مقاله بكلمة قيمة هي:

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 2- 332، برقم 1069.

(2) العلّامة الحلي: خلاصة الأَقوال في علم الرجال: 148.

تذكرة الأعيان، ص: 120

كلمة السيد المحقّق البروجردي (1292 1380 ه)

كان السيد البروجردي كثير الإِعجاب بالشيخ و تآليفه القيمة، و قال في تقديمه علي كتاب الخلاف ما هذا نصه: و يستفاد من أدعيته للمفيد في كتاب التهذيب «1» عند نقل عبارة المقنعة إلي أواخر كتاب الصلاة بقوله: قال الشيخ أيّده اللّه تعالي: و منه إلي آخر الكتاب بقوله: قال الشيخ رحمه اللّه، أنّه كتب الطهارة و الصلاة من التهذيب في حياة الشيخ المفيد، و هو من أبناء أربع أو ثمان و عشرين سنة، و لكنك إذا نظرت إلي كلماته في الكتابين «2» و ما جادل به المخالفين في المسائل الخلافية كمسألة مسح الرجلين، و ما أفاده في مقام الجمع بين الاخبار، و اختياراته في المسائل و ما يستند إليه فيها و ما يورده من الاخبار في كلّ مسألة، تخيّلته رجلًا من أبناء السبعين و صرف عمره في تحصيل العلوم الأَدبية و الأُصولين، و القراءات و التفسير، و مسائل الخلاف و الوفاق، و طاف البلاد في طلب أحاديث

الفريقين و ما يتعلق بها من الجرح و التعديل حتي صار له قدم راسخة في جميع العلوم الدينية، و لو قيل لك إنّه كان شاباً حدثاً لَانكرت ذلك و لقلت «إنْ هذا لشي ء عجاب» «3».

ثمّ إنّ تآليف شيخنا الطوسي في نواح مختلفة تشهد علي كونه متخصصاً في العلوم و ملمّاً بكثير منها، و قد ذكر أصحاب المعاجم فهرس كتبه «4».

و أمّا تلاميذه فحدّث عنهم و لا حرج، و قد ذكر السيد البروجردي أسماء بعض تلاميذه ممن قرأوا عليه و صدروا عنه في تقديمه علي كتاب الخلاف، و من أراد التفصيل فليرجع إليه.

______________________________

(1) التهذيب للشيخ الطوسي شرح استدلالي علي كتاب المقنعة للشيخ المفيد.

(2) المقصود بالكتابين، التهذيب و الاستبصار.

(3) البروجردي: مقدمة الخلاف، ص 1 و 2 الطبعة الحجرية.

(4) النجاشي: الرجال: 2- 332 برقم 1065؛ العلامة: خلاصة الأَقوال: 148.

و قد ذكر الشيخ الطوسي، قدس سره فهرس تآليفه في فهرسته: 188 برقم 712.

تذكرة الأعيان، ص: 121

5- أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (.. حوالي 550 ه)

المعارف و العقائد بين التشبيه و التعطيل

اشارة

لم تزل المعارف و العقائد منذ أن صدع بها القرآن الكريم و السنّة النبويّة، يتلاعب بها رجال بين آونة و أُخري.

فمنهم من يبني عقائده الدينيّة علي أساس الحسّ، فلا يتورَّع عن وصفه سبحانه بأوصاف و أفعال لا تفترق عن التشبيه و التجسيم قدر شعرة، فيري أنّ له صورة و جوارح، و أعضاءً، من يدٍ و رِجلٍ، و رأس و عينين.

فهذه هي المجسّمة و المشبّهة يصفونه سبحانه بما توحي إليهم القوّة الخياليّة، الاسيرة لعالم الحسّ و المادّة، و آخر ما عندهم في ساحة التنزيه: «انّ هذه الأَعضاء له سبحانه و لكن بلا كيف، و أنّها لا تشابه ما لدي الإِنسان من أعضاء».

و منهم من يعطِّل العقول عن الوصول إلي المعارف قائلًا بأنّه لا يمكن

للإِنسان إدراك عالم الغيب، فالواجب عليه: الإِطلاق، و الإِمرار، ثمّ السكوت، و هم الذين يقولون: إنّ كلّ ما وصف اللّه به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته، و السكوت عليه «1».

______________________________

(1) الرسائل الكبري لابن تيمية: 1- 32، نقله عن سفيان بن عيينة.

تذكرة الأعيان، ص: 122

و ربما يتفلسف و يقول: إنّما أُعطينا العقل لإِقامة العبودية لا لإِدراك الربوبية، فمن شغل ما أُعطي لإِقامة العبودية في إدراك الربوبيّة، فاتته العبودية و لم يدرك الربوبية «1».

و كأنّه يتصوّر أنّ العبودية تنحصر في القيام و القعود لأَداء الصلاة، و الإِمساك للصوم، و لكنّه غفل عن أنّ ركناً من العبودية يعود إلي العقل و القلب، و أقلّ مراتبه الايمان بالغيب.

فإذا أمكن له استشعار الغيب و ما فيه من المعارف عن طريق الامعان في الكتاب و السنّة، و الأَقيسة العقليّة، فقد قام بوظيفة الربوبية.

و هذا يعرب عن أنّ الطائفتين تائهتان، و تسيران في وادٍ مُظْلِم، فالأولي تؤَدّي إلي التجسيم و التشبيه، و الثانية إلي تعطيل و إيصاد باب المعرفة في وجه الإِنسان.

فلو كان التفكّر العقلي في المعارف الإِلهيّة أمراً ممنوعاً، و كانت الوظيفة منحصرة في القراءة فحسب، كما يقوله ابن قدامة المقدسي: «و علي هذا درج السلف و الخلف، فهم متّفقون علي الإِقرار و الإِمرار و الإِثبات، لما ورد من الصفات في كتاب اللّه و سنّة رسوله من غير تعرّض لتأويله» «2» فما بال القرآن يثير في الإِنسان التفكّر في المعارف، و يأخذ بيده للوصول إلي غايتها الممكنة، و يقول: (لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلَّا اللّٰهُ لَفَسَدَتٰا فَسُبْحٰانَ اللّٰهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ) «3».

و قال سبحانه: (مَا اتَّخَذَ اللّٰهُ مِنْ وَلَدٍ وَ مٰا كٰانَ مَعَهُ مِنْ إِلٰهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلٰهٍ بِمٰا

خَلَقَ وَ لَعَلٰا بَعْضُهُمْ عَليٰ بَعْضٍ سُبْحٰانَ اللّٰهِ عَمّٰا يَصِفُونَ) «4».

______________________________

(1) رضا نفسان، علاقة الإِثبات و التفويض، نقلًا عن الحجّة في بيان المحجة: 33.

(2) المراد من التأويل تفسيرها بما يتجاوب مع تنزيهه علي ضوء سائر الآيات و الأَقيسة المنطقيّة.

(3) الأَنبياء: 22.

(4) المؤمنون: 91.

تذكرة الأعيان، ص: 123

و قال سبحانه: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ هٰذٰا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) «1».

إنّ ثمة أُصولًا يعتقد بها الالهيّون جميعاً، و في مقدّمتهم المسلمون، لا يمكن للعلوم الطبيعية أن تساعدهم في فهمها و لا أن تهدي إليها البشر.

كالبحث في أنّ المصدر لهذا العالم و المبدع له، أزليّ أو حادث، واحد أو كثير، بسيط أو مركب، جامع لجميع صفات الجمال و الكمال أو لا؟ هل لعلمه حدّ ينتهي إليه أو لا؟ هل لقدرته نهاية أو لا؟ هل هو أوّل الأَشياء و آخرها أو لا؟ هل هو ظاهر الأَشياء و باطنها أو لا؟ فالاعتقاد بهذه المعارف عن طريق العلوم الطبيعيّة و الحسّية غير ممكن، و الاعتماد علي الوحي للتعرّف عليها غير مقدور، لَانّه يجب معرفتها قبل معرفة الوحي و حامله، فكيف يُتعرَّف عليها عن طريق النبيّ و الوحي المنزل عليه.

نري أنّه سبحانه يذكر الفؤَاد إلي جانب السمع و البصر و يقول: (وَ اللّٰهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ لٰا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصٰارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) «2».

و المراد من الشكر في ذيل الآية: صرف النعمة في مواضعها، فشكر السمع و البصر هو إدراك المسموعات و المبصرات بهما، و شكر الفؤَاد هو درك المعقولات غير المشهودات به، فالآية تحرّض علي استعمال الفؤَاد و القلب و العقل

في ما هو خارج عن إطار الحسّ و غير واقع في متناول أدواته.

و لأَجل أن يتّخذ القرآن في بعض المجالات موقف المعلِّم فيعلّم المجتمعَ البشري كيفية البرهنة العقلية علي توحيد الخالقية و التدبير فيقول:

______________________________

(1) الأَنبياء: 24.

(2) النحل: 78.

تذكرة الأعيان، ص: 124

(نَحْنُ خَلَقْنٰاكُمْ فَلَوْ لٰا تُصَدِّقُونَ. أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تُمْنُونَ. أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخٰالِقُونَ.. أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ. أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّٰارِعُونَ. لَوْ نَشٰاءُ لَجَعَلْنٰاهُ حُطٰاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنّٰا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ. أَ فَرَأَيْتُمُ الْمٰاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشٰاءُ جَعَلْنٰاهُ أُجٰاجاً فَلَوْ لٰا تَشْكُرُونَ. أَ فَرَأَيْتُمُ النّٰارَ الَّتِي تُورُونَ. أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهٰا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) «1».

إنّ تعطيل العقول عن المعارف الإِلهيّة يجرّ الإِنسان إلي التشبيه و التجسيم، و إن تبرّأ منهما و انبري إلي نفي هذه الوصمة عن نفسه و أهل ملّته «2».

نظرة إجمالية في كتابين:

إنّ هناك أثرين أُلِّفا في عصر متقارب، قام بتأليف أحدهما الحافظ محمّد بن إسحاق بن خزيمة (311223) أسماه كتاب «التوحيد و إثبات صفات الربّ عزّ و جلّ»، و قد بلغ في حشد الاسرائيليّات و الموضوعات و المجعولات بمكان أثار حفيظة الرازي عليه، و قال في تفسير قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ): «و اعلم أنّ محمّد ابن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سمّاه بالتوحيد و هو في الحقيقة كتاب الشرك، و اعترض عليها، و أنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات، لَانّه كان رجلًا مضطرب الكلام قليل الفهم، ناقص العقل» «3».

و لو سبر الإِنسان فهرس هذا الكتاب الذي طبع في آخره، لوقف علي

______________________________

(1) الواقعة: 7257.

(2) لاحظ مقدّمة الجزء السادس من موسوعتنا «مفاهيم القرآن «: 1615.

(3)

تفسير الإِمام الرازي: 27- 150.

تذكرة الأعيان، ص: 125

أنّ الرجل من رءوس المشبّهة، لكنّه تستّر في غير واحد من المقامات بقوله: «إنّا نثبت للّه ما أثبته اللّه لنفسه، نقرّ بذلك بألسنتنا، و نصدِّق بذلك بقلوبنا، من غير أن نشبّه وجه خالقنا بوجه أحد المخلوقين، و عزَّ ربّنا أن يشبَّه بالمخلوقين، و جلّ ربّنا عن مقالة المعطّلين».

و هذه واجهة الرجل و الغطاء الذي تستّر خلفه، لكنّه لمّا صار بصدد نقض أهل التنزيه، وقع في ورطة التجسيم، فقد صار في كتابه إلي إثبات النفس و الوجه و العين و اليد و الرجْل للّه سبحانه، و استوائه علي العرش، و كونه في السماء بالمعني الحرفي منها، و يكفيك نموذجاً قوله في الأَخير: «قد ذكرنا استواء ربّنا علي العرش في الباب قبله، فاسمعوا الآن ما أتلو عليكم عن كتاب ربّنا الذي هو مسطور بين الدفّتين، مقروء في المحاريب و المكاتيب، ممّا هو مصرّح في التنزيل، انّ الربّ جلّ و علا في السماء، لا كما قالت الجهميّة المعطّلة إنّه في أسفل الأَرضين، فهو في السماء، عليهم لعائن اللّه البالغة» «1».

و قام بتأليف الآخر صدوق الأُمّة و محدِّثها و حافظها محمد بن علي بن الحسين ابن موسي بن بابويه (306 381 ه) و أسماه بالتوحيد، و الكتاب مطبوع منتشر، تري أنّه جمع فيه الخطب و الروايات المأثورة عن الامام علي أمير المؤمنين و عترته في مجال التوحيد و سائر المعارف، فهو يندّد بالمعطّلة الذين عطّلوا العقول عن المعارف، و يرون أنّ وظيفة الإِنسان، هو توصيف الربّ بالصفات و السكوت عليها، كما يندّد بالمشبّهة، الذين نزّلوا الربّ درجة الجسم و الجسمانيّات، و فيه بحوث عقليّة و منطقيّة تتجاوب مع الفطرة و صريح المعقول.

قارن

بين الكتابين، ثمَّ اقض أيّهما ألصق بمقام الوحي و النبوّة، و أيّهما أليق

______________________________

(1) توحيد ابن خزيمة: 110.

تذكرة الأعيان، ص: 126

بتعريف التوحيد للعالم.

إنّ كشف الحقائق و رفع الحجب عنها يتمّ بأُمور ثلاثة، دعا إليها الكتاب العزيز و قال: (ادْعُ إِليٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) «1».

و المراد من الحكمة و اللّه العالم الحجّة التي تنتج الحقّ الذي لا مرية فيه و لا وهن و لا إبهام و القرآن ملي بها، خصوصاً في مجال التنديد بالوثنيّة، و دحض الشرك، و قد تعرّفت علي بعض الآيات في صدر المقال.

و الموعظة، هو البيان الذي تلين به النفس، و يرقّ به القلب، لما فيه صلاح حال السامع.

و الجدل هو الحجّة التي تستعمل لِافحام الخصم، عن طريق مسلّماته، أو مسلّمات الناس، فلعلّ الآية إشارة إلي ما يذكره أهل المنطق بالبرهان و الخطابة و الجدل.

غير أنّ القرآن يقيّد العظة و الجدل بالتي هي أحسن، مشيراً إلي أنّهما علي قسمين، ثمّ إنّ مبدأ الكلام لو كان هو القسم الأَوّل، فتقسَّمُ بالبرهان، و إن كان هو القسم الثاني، فتوصف بالخطابة، و إن كان الثالث، فبالجدل.

و الاحتجاج مَقْسمٌ، له أقسامه الثلاثة الماضية، و بعد دعوة القرآن الكريم إلي الاحتجاج بالطرق الثلاثة لا يبقي شكّ في مشروعية الاحتجاج في باب المعارف، سواء كان الهدف إقناع النفس و هدايتها، أو إقناع الغير.

أضف إليه أنّ النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم- و العترة الطاهرة عليهم السَّلام هم الأُسوة في المجالات كلّها، و لهم مناظرات و مراجعات يقف عليها من سبر كتب الحديث و السيرة و التاريخ.

______________________________

(1) النحل: 125.

تذكرة

الأعيان، ص: 127

نعم، ربّما يتخيّل الغافل إنّ أئمّة أهل البيت، نهوا عن المناظرة و الاحتجاج، و لكنّه لو صحّ فإنّما نَهُوا من ليس له قدم ثابت في باب المعارف، و لا له معرفة بصناعة الكلام و إقامة البرهان، فيقع في قلبه عند المناظرة ما لا تحمد عاقبته.

كما أنّ الغاية من النهي عن الجدل، هو الجدل المبني علي التعصّب و الأَنانيّة لا التعرّف علي الواقع و كشف الحجب عن وجه الحقيقة.

هذا هو رئيس الشيعة و إمام مذهبهم الامام الصادق- عليه السلام-، قد ربّي في حجره رجالًا عارفين بصناعة المناظرة، فناظروا المخالفين في مجالات شتّي، و أفحموهم فخرجوا مرفوعي الرؤوس، و هذا هشام بن الحكم ناظر عمرو بن عبيد (المتوفّي 142 ه) رئيس المعتزلة في وقته، و هو جالس في مسجد البصرة و له حلقة كبيرة، و عليه شملة سوداء من صوف متّزر بها، و شملة مرتدٍ بها، و الناس يسألونه، فاستفرج هشامُ الناسَ، فأفرجوا له، ثمّ قعد في آخر القوم، فقال له: أيّها العالم إنّي رجل غريب، تأذن لي في مسألة؟! و قد نقل مناظرته مع عمرو بن عبيد للإِمام الصادق فضحك و قال: «يا هشام من علّمك هذا؟» قال هشام: شي ء أخذته منك و ألفته «1».

لقد تخرّج علي يدي الإِمام الصادق- عليه السلام- رجال بارعون في الكلام، ناظروا المخالفين مناظرة مبنيّة علي أسس صحيحة من الكتاب، و السنّة و العقل كحُمران ابن أعين، و قيس بن الماصر و مؤمن الطاق المعروف بالاحول و غيرهم؛ روي الكليني عن يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد اللّه، فورد عليه رجل من أهل الشام، فقال: إنّي رجل صاحب كلامٍ و فقه، و فرائض، و قد جئت لمناظرة

أصحابك.. فالتفت أبو عبد اللّه- عليه السلام- إليّ، و قال: «يا يونس لو كنت تُحسِنُ الكلامَ كلّمتَه» قال يونس: فيا لها من حسرة.

ثمّ قال لي: «أُخرج إلي الباب فانظر من

______________________________

(1) الكافي: 1- 170.

تذكرة الأعيان، ص: 128

تري من المتكلّمين فأدخله» قال: فأدخلت حُمْرانَ بن أعين، و كان يحسن الكلام، و أدخلت الأَحول، و كان يُحسِن الكلام، و أدخلت هشام بن سالم و كان يُحسِن الكلام، و أدخلت قيس بن الماصر و كان عندي أحسنهم كلاماً، و كان قد تعلّم الكلام من علي بن الحسين عليهما السَّلام إلي أن قال فورد هشام بن الحكم، و هو أوّل ما اختطّت لحيته، و ليس فينا إلّا من هو أكبر سنّاً منه، قال: فوسَّع له أبو عبد اللّه و قال: «ناصرنا بقلبه و لسانه و يده ثمّ قال يا حُمران كلِّم الرجل» فكلّمه، فظهر عليه حمران، ثمّ قال: «يا طاقي كلِّمه» فكلّمه فظهر عليه الأَحول، ثمّ قال: «يا هشام بن سالم كلِّمه» فتعارفا «1».

ثمّ قال أبو عبد اللّه لقيس الماصر: «كلِّمه» فكلّمه، فأقبل أبو عبد اللّه- عليه السلام- يضحك من كلامهما، ممّا قد أصاب الشامي «2».

كلّ ذلك يعرب عن أنّه لو صدر نهي عن المناظرة، فإنّما هو لغايات أُخري، لوجود ضعف في المناظِر، و عدم وقوفه علي أُصولها.

قال السيد المرتضي (355 436 ه): قلت للشيخ المفيد (أدام اللّه عزّه): إنّ المعتزلة و الحشوية يزعمون أنّ الذي نستعمله من المناظرة شي ءٌ يخالف أُصول الإِمامية، و يخرج عن إجماعهم، لأَنّ القوم لا يرون المناظرة ديناً، و ينهون عنها، و يروون عن أئمّتهم بتبديع فاعلها، و ذمّ مستعملها، فهل معك رواية عن أهل البيت- عليهم السلام- في صحّتها، أم تعتمد علي حجج العقول،

و لا تلتفت إلي من خالفها، و إن كان عليه إجماع العصابة؟ فقال: أخطأت المعتزلة و الحشوية فيما ادّعوه علينا من خلاف جماعة أهل مذهبنا في استعمال المناظرة، و أخطأ من ادّعي ذلك من الإِماميّة أيضاً، و تجاهل،

______________________________

(1) أي لم يظهر غلبة لأَحدهما علي الآخر، و في نسخة: فتعاركا.

(2) الكافي: 1 172- 171، الحديث 4، كتاب الحجّة.

لاحظ في التعرّف علي مضمون المناظرة، نفس الحديث.

تذكرة الأعيان، ص: 129

لَانّ فقهاء الإِماميّة و رؤَساءهم في علم الدين كانوا يستعملون المناظرة، و يدينون بصحّتها، و تلقّي ذلك عنهم الخلف و دانوا به، و قد أشبعت القول في هذا الباب، و ذكرت أسماء المعروفين بالنظر و كتبهم و مدائح الأَئمّة لهم في كتابي «الكامل في علوم الدين»، و كتاب «الأَركان في دعائم الدين»، و أنا أروي لك في هذا الوقت حديثاً من جملة ما أوردت في ذلك إن شاء اللّه، ثمّ روي بسنده عن أبي جعفر محمّد ابن النعمان عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال: قال لي: «خاصِمُوهم و بيّنوا لهم الهدي، الذي أنتم عليه، و بيّنوا لهم ضلالهم، و باهلوهم في عليّ عليه السَّلام» «1».

و يظهر من ديباجة كتاب الاحتجاج أنّ هذه الفكرة قد كانت موجودة في عصره أيضاً، و لأَجل ذلك قام بتأليف كتاب الاحتجاج ردّاً عليها، قال: ثمّ إنّ الذي دعاني إلي تأليف هذا الكتاب، عدول جماعة من الأَصحاب، عن طريق الحجاج جدا، و عن سبيل الجدال و إن كان حقّا، و قولهم: «إنّ النبيّ صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم و الأَئمّة- عليهم السلام- لم يجادلوا قطّ، و لا استعملوه و لا للشيعة فيه إجازة، بل نهوهم عنه و عابوه» فرأيت عمل كتاب يحتوي

علي ذكر جمل من محاوراتهم في الفروع و الأُصول، مع أهل الخلاف و ذوي الفضول، قد جادلوا فيها بالحقّ من الكلام، و بلغوا غاية المرام.

و انّهم- عليهم السلام- إنّما نهوا عن ذلك الضعفاء و المساكين من أهل القصور عن بيان الدين، دون المبرزين في الاحتجاج، الغالبين لأَهل اللجاج، فإنّهم كانوا مأمورين من قِبَلِهم بمقاومة الخصوم، و مداواة الكلوم، فَعَلَت بذلك منازلهم، و ارتفعت درجاتهم و انتشرت فضائلهم «2».

______________________________

(1) الفصول المختارة من العيون و المحاسن: 284) للسيد المرتضي، اختارها من كتاب العيون للشيخ المفيد).

(2) مقدمة الاحتجاج: 13.

و قد عقد العلّامة المجلسي باباً في البحار تحت عنوان: ما جاء في تحرير المجادلة و المخاصمة في الدين و النهي عن المراء.

راجع البحار، ج 2، ص 124 حيث نقل فيه 61 أثراً.

تذكرة الأعيان، ص: 130

تقييم كتاب الاحتجاج

إنّ كتاب الاحتجاج ضمَّ بين دفّتيه، احتجاجات النبيّ صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم و الأَئمّة- عليهم السلام- في شتّي المجالات، و أناروا لطلبة الحقّ و الحقيقة طريقَ الهدي، كما قطعوا الطريق علي أهل اللجاج، و بذلك انتشرت علومهم، و فضائلهم و ليس لهذا الكتاب مثيل في مؤَلفات أصحابنا، حيث جمع في كتاب واحد ما وصل إليه من مناظراتهم، إلّا أنّه ربّما يؤخذ عليه بعض الأَشياء، لا بأس بالتنويه عليها: 1- أكثر ما أورده في الكتاب من المناظرات مراسيل لا مسانيد.

إنّ المؤَلف يجيب عن هذا الاشكال بقوله: «و لا نأتي في أكثر ما نورده من الاخبار بإسناده، إمّا لوجود الإِجماع عليه، أو موافقته لما دلّت العقول إليه، أو لاشتهاره في السير و الكتب بين المؤَالف و المخالف، إلّا ما أوردته عن أبي محمّد الحسن العسكري- عليه السلام- فإنّه ليس في الاشتهار علي حدّ

ما سواه، و إن كان مشتملًا علي مثل الذي قدّمناه.

فلأَجل ذلك ذكرتُ إسناده في أوّل جزء من ذلك دون غيره، لأَنّ جميع ما رويت عنه، إنّما رويته بإسناد واحد من جملة الأَخبار التي ذكرها- عليه السلام- في تفسيره «1».

و السند الذي روي به احتجاجات الإِمام العسكري ذكره في أوّل الكتاب علي النحو التالي: حدّثني السيد العالم العابد أبو جعفر مهدي بن أبي حرب الحسيني المرعشي (رضي اللّه عنه) قال: حدّثني الشيخ الصدوق أبو عبد اللّه جعفر بن

______________________________

(1) مقدمة الاحتجاج: 1- 15.

تذكرة الأعيان، ص: 131

محمّد بن أحمد الدوريستي «1» (رحمة اللّه عليه) قال: حدّثني أبي محمّد بن أحمد، قال: حدّثني الشيخ السعيد أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي رحمه اللّه قال: حدّثني أبو الحسن محمّد بن القاسم المفسّر الأسترآبادي «2» قال: حدّثني أبو يعقوب يوسف بن محمّد بن زياد و أبو الحسن علي بن محمد بن سيّار و كانا من الشيعة الإِمامية قالا: حدّثنا أبو محمّد الحسن بن علي العسكري..

و بهذا الإسناد الذي ذكره في أوّل الكتاب، أخرج ما رواه عن الإِمام العسكري و أشار إليه في الباب الخاصّ به.

سواء كان ما اعتذر به المؤَلّف مقبولًا أو غير مقبول، فقد عولجت هذه النقيصة في هذه الطبعة «3» علي القدر المستطاع، حيث قام المحقّقان لهذا الكتاب بإرجاع مراسيلها إلي المسانيد، و ذلك بالغور في كتب مشايخنا الإِمامية، كالكافي للشيخ الكليني، و كتب الصدوق المختلفة، و غيرهما، و بذلك أصبحت جل أحاديثه مسندة، خارجة عن الإِرسال.

علي أنّ ما اعتذر به المؤَلف عذر مقبول؛ و ذلك لأَنّ المسائل العقائدية تختلف عن المسائل الفرعية العملية، فالمطلوب في الثانية هو العمل و إن لم يكن هناك يقين

بالصحّة، و هذا بخلاف الحال في الأُولي، فإنّ المطلوب فيها هو الاعتقاد و الإِذعان، و هو رهن قوّة البرهان و رصانة الحجّة.

فلو توفّرت فيه لنال الإِنسان ضالّته المنشودة و إلّا فلا، من غير فرق بين كونه مسنداً أو مرسلًا، فلأَجل ذلك ترك المؤَلف الاسناد و رواها بالشكل المرسل اعتماداً علي مضمون الحجّة، و قوّتها.

______________________________

(1) نسبة إلي «دوريست»، قرية من قري الري.

و يقال لها الآن «درشت»، كما في «الكني و الأَلقاب» لشيخنا المحدّث القمّي 2: 480.

(2) و هو الراوي لتفسير الإِمام العسكري، روي عنه الشيخ الصدوق في الفقيه و غيره.

(3) طبعة منظمة الأَوقاف.

تذكرة الأعيان، ص: 132

إنّ موقف النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم- و الأَئمّة- عليهم السلام- في عامّة المناظرات، هو موقف المعلّم المحايد، و المرشد الناصح و هو يعتمد علي قوة العارضة و حصافة الرأي، لا علي كونه نبيّاً موحي إليه أو وصيّاً قائماً مقام النبيّ.

و لو لا اتّخاذ ذلك الموقف لما أنتجت تلك المناظرات و صارت عقيمة، و علي ضوء ذلك، فالاعتماد إنّما هو علي المضمون و المحتوي، سواء أصحّ إسناده إلي المعصوم أو لا.

أضف إلي ذلك أنّه ليس علينا ردّ المراسيل بما أنّها مراسيل، و كيف يكون ذلك، فإنّ الإِمام الصادق- عليه السلام- يقول: «لا تكذّبوا الحديث إذا قام به مرجئيّ و لا قدريّ و لا حروريّ، ينسبه إلينا فإنّكم لا تدرون لعلّه شي ءٌ من الحقّ، فيكذّب اللّه فوق عرشه» «1».

2- نقل في ثنايا الكتاب رواية ظاهرة في وقوع التحريف في الذكر الحكيم.

غير أنّه أورد ما أورد، علي سبيل التأليف، و ألقي التحقيق علي عاتق القاريَ، كشأن كلّ كتاب كانت الغاية منه جمع الشوارد، و لَمِّ المتفرّقات، بغضّ النظر عن الصحّة

و عدمها.

و لعلّ ما جاء في التعليق علي هذا الموضع في هذه الطبعة ما يروي الغليل و يقطع السبيل، فلاحظ.

هذا بعض ما يمكن أن يقال في تقييم الكتاب، و أمّا ما يرجع إلي مادة الكتاب و ما فيه من البراهين الدامغة، و الحجج اللامعة في أبواب المعارف و الحكم فحدّث عنه و لا حرج.

و يكفيك العيان عن البيان و لا نطيل الكلام، و أخصّ بالذكر مناظرات الامام الطاهر عليّ بن موسي الرضا عليمها السَّلام، ففيها الحجّة علي رفعة منزلته و علوّ شأنه و سعة اطّلاعه علي كتب العهدين.

______________________________

(1) المحاسن: 1- 230.

تذكرة الأعيان، ص: 133

حياة الطبرسي

اشارة

المؤَلّف هو أحمد بن عليّ بن أبي طالب المعروف بالطبرسي، من علماء القرن السادس من مشايخ ابن شهرآشوب، المتوفّي عام (588 ه).

1- قال في معالم العلماء: شيخي أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي، له كتاب الكافي في الفقه حسن، الاحتجاج، مفاخرة الطالبية، تاريخ الأَئمّة- عليهم السلام-، فضائل الزهراء- عليها السلام-، كتاب الصلاة «1».

2- قال الشيخ الحرّ العاملي في أمل الآمل: هو عالم فقيه، فاضل محدّث ثقة، له كتاب الاحتجاج علي أهل اللجاج كثير الفوائد (ثمّ ذكر روايته عن الشيخ الصدوق بالطريق الذي ذكره هو في أوّل كتاب الاحتجاج و قد عرفت نصّه) «2».

3- قال أيضاً في خاتمة كتاب الوسائل عند ذكر الكتب المعتمدة: كتاب الإحتجاج تأليف الشيخ الجليل أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي «3».

4- قال العلّامة المجلسي: كتاب الاحتجاج و إن كان أكثر أخباره مراسيل لكنّه من الكتب المعروفة المتداولة، و قد أثني السيد ابن طاوس علي الكتاب و علي مؤَلّفه، و قد أخذ عنه أكثر المتأخّرين «4».

5- قال الفقيه الشيخ يوسف البحراني: الفاضل العالم المعروف بالشيخ أبي

منصور الطبرسي صاحب الاحتجاج و غيره، كان من أجلّاء العلماء و مشاهير الفضلاء «5».

______________________________

(1) معالم العلماء (باب الالف (: 25) برقم 125).

(2) أمل الآمل: 2- 17.

(3) وسائل الشيعة: 20- 41.

(4) بحار الأَنوار: 1- 28.

(5) كشكول البحراني: 1 301- 300.

تذكرة الأعيان، ص: 134

و قال أيضاً: كثيراً ما ينقل الشيخ في شرح الإِرشاد فتاواه و أقواله، فمن ذلك ما نقله في كتاب القصاص في شرح الإِرشاد في مسألة أنّ للمولي القصاص من دون ضمان الدية للديان بهذه العبارة: و جمع الشيخ أبو منصور الطبرسي بين الروايتين في كتابه، بأنّ القائل.. «1».

6- قال الخونساريّ: إنّ هذا الرجل «أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي» من أجلّاء أصحابنا المتقدّمين، و إنّ كتاب الاحتجاج كتاب معتبر معروف بين الطائفة، مشتمل علي كلّ ما اطّلع عليه من احتجاجات النبيّ و الأَئمّة، بل كثير من أصحابهم الأَماجد مع جملة من المخالفين، و في خواتيمه توقيعات كثيرة خرجت من الناحية المقدّسة إلي بعض أكابر الشيعة «2».

7- و قال شيخنا المجيز الطهراني: أحمد بن علي بن أبي طالب الشيخ أبو منصور الطبرسي صاحب الاحتجاج و من مشايخ رشيد الدين محمّد بن علي بن شهرآشوب (المتوفّي 588 ه) ترجمه و ذكر تصانيفه في معالم العلماء، و هو يروي عن السيد العابد أبي جعفر مهدي بن أبي حرب الحسيني المرعشي في أوّل الاحتجاج «3».

هذه كلمات مشايخ الإِماميّة في حقّ الرجل و كتابه، و السابر في كتب التراجم يجد نظير هذه الاطراءات في حقّه، اكتفينا بهذا المقدار منها، و علي كلّ تقدير فلم تعلم سنة ولادته و لا عام وفاته، فهو من علماء القرن الخامس، أدرك أوائل القرن السادس، و لعلّه توفّي حوالي عام (530 ه) أو

أزيد بقليل.

______________________________

(1) المصدر نفسه.

(2) روضات الجنّات: 1- 64) رقم الترجمة 14).

(3) طبقات أعلام الشيعة (القرن السادس): 12.

تذكرة الأعيان، ص: 135

تآليفه

إنّ لشيخنا المترجم تآليف ذكرها تلميذه ابن شهرآشوب في معالم العلماء، و قد عرفت نصّه.

و إليك أسماءها: 1- الاحتجاج.

2- تاريخ الأَئمّة- عليهم السلام-.

3- كتاب الصلاة.

4- الكافي في الفقه، و وصفه تلميذه بأنّه حسن.

5- مفاخر الطالبية «1».

و مع الأَسف أنّ الدهر قد عفا علي الجميع، فلم يبق منها إلّا كتاب الاحتجاج، و لعلّ في بعض المكتبات توجد نسخة من بعضها.

إزاحة شبهة و ربّما ينسب هذا الكتاب إلي الشيخ أبي علي الطبرسي مؤَلّف «مجمع البيان»، و يظهر من روضات الجنّات أنّ ابن أبي جمهور الأحسائي مؤَلّف «الغوالي» (المتوفّي حوالي 900 ه) و المحدّث الأَمين الأسترآبادي (المتوفّي 1035 ه) نسبا الكتاب إلي صاحب التفسير «2».

و قال العلّامة المجلسيّ في مقدّمات البحار: و ينسب هذا الكتاب «الاحتجاج» إلي أبي علي الطبرسي و هو خطأ، بل هو تأليف أبي منصور أحمد بن

______________________________

(1) و لعلّ الصحيح: «مفاخر الطالبيين».

(2) روضات الجنّات: 1- 65.

تذكرة الأعيان، ص: 136

علي بن أبي طالب، كما صرّح به السيد ابن طاوس في كتاب «كشف المحجّة» «1» و ابن شهرآشوب في «معالم العلماء» «2».

و يكفي في المقام قول تلميذه ابن شهرآشوب، حيث عدّه من تآليفه، و هو أعرف بحال أُستاذه من غيره، أضف إلي ذلك أنّ ما ذكره من السند لروايات الإِمام العسكري علي ما عرفت يدلّ علي أنّه ليس من تآليف صاحب التفسير، إذ لم يعرف له مثل هذا السند.

و نقل السيد الأَمين في «أعيان الشيعة» عن «رياض العلماء»، أنّ هذا الطبرسي المترجم غير صاحب «مجمع البيان» لكنّه معاصر له، و هما شيخا ابن شهرآشوب و أُستاذاه، و

ظنّي أنّه بينهما قرابة «3».

المعروفون بالطبرسي

قد اشتهر لفيف من علماء الإِماميّة بهذا اللقب: 1- أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، مؤَلّف «الاحتجاج».

2- أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، مؤَلّف «مجمع البيان» (471 548 ه).

3- أبو نصر الحسن بن الفضل بن الحسن رضي الدين، صاحب «مكارم الأَخلاق»، ابن أبي عليّ صاحب «مجمع البيان».

______________________________

(1) ذكره في كتاب «المجلي» علي ما في كشكول المحدّث البحراني.

(2) بحار الأَنوار: 1- 9.

(3) أعيان الشيعة: 1- 29.

و المطبوع من رياض العلماء، فاقد لهذا النصّ، و إنّما جاء فيه ما ذكره المحدّث البحراني من الترجمة في حقّ الرجل.

و يظهر من السيد الأَمين، و كذا صاحب الروضات 1: 34، كون الجزء في متناولهما.

و لكن صريح محقّق كتاب «رياض العلماء» أنّ الجزء الأَوّل و الثاني مفقودان.

تذكرة الأعيان، ص: 137

4- أبو الفضل علي بن الحسن بن الفضل بن الحسن الطبرسي، صاحب «مشكاة الأَنوار».

5- أبو علي محمّد بن الفضل الطبرسي، كما في «أمل الآمل» و قال: كان عالماً صالحاً عابداً يروي ابن شهرآشوب عنه، من تلاميذ الشيخ الطوسي «1».

6- أحمد بن علي بن عبد الجبار الطبرسي القاضي الراوي عن سعيد بن هبة اللّه القطب الراوندي (المتوفّي 573 ه) «2».

و هناك أعلام للطائفة اشتهروا بهذا الاسم لم نذكرهم روماً للاختصار.

هل الطبرسي منسوب إلي طبرستان؟

اشتهر علي الأَلسن و ذاع بين الناس، و ذكرته بعض الكتب «3» أنّ الطبرسي نسبة إلي طبرستان المعروفة اليوم باسم «مازندران» و هي تشمل أكثر ما يقع علي ضفاف بحر الخزر، و لكن للنظر فيه مجال: 1- إنّ النسبة إلي المركّب المزجي تتحقّق بحذف الجزء الثاني، و إلحاق الياء إلي الجزء الأَوّل، فيقال في «بعلبك» «بعليّ»، و في «معديكرب» «معديّ»، قال ابن مالك في ألفيّته:

و انسب لصدر جملة و

صدر ما ركِّبَ مزجاً و بثان تمّما

إضافة مبدوءة بابن أو أب أو إله التعريف بالثاني وجب

قال ابن عقيل في شرحه: إذا نسب إلي الاسم المركّب، فإن كان مركّباً

______________________________

(1) أمل الآمل: 2- 293.

(2) طبقات أعلام الشيعة، القرن السادس: 13.

(3) الفوائد الرضويّة للمحدّث القمّي: 1- 352.

تذكرة الأعيان، ص: 138

تركيب جملة أو تركيب مزج حذف عجزه و أُلحق صدره ياء النسبة، فتقول في «تأبّط شرّاً» «تأبطيّ» و في «بعلبك» «بعليّ» و إن كان مركّباً إضافة، فإن كان صدره ابناً أو أباً، أو كان معروفاً بعجزه، حذف صدره و أُلحق عجزه ياء النسبة، فتقول في «ابن الزبير» «زبيري» و في «أبي بكر» «بكريّ» و في «غلام زيد» «زيديّ».. «1».

و علي ضوء ذلك، فالصحيح في النسبة إلي طبرستان هو «الطبريّ» لأَنّها مركّبة من «طبر» الذي هو معرّب «تبر» في الفارسية بمعني الفأس، و من «ستان» الذي بمعني الناحية فركّبا معاً و قيل طبرستان و معناه المنطقة التي يكثر فيها الفأس، و ذلك لأَنّ أكثر أهلها كانوا يصطحبونه إمّا للدفاع عن أنفسهم من هجوم الوحوش المنتشرة في غاباتها الكثيرة، و إمّا لقطع الأَشجار، فالصحيح عند النسبة حذف العجز أعني «ستان» و إدخال الياء علي الصدر فتكون «الطبريّ».

هذا إذا كان المتكلّم بهذه النسبة هم العرب، و أمّا غيرهم فلا يتّبعون تلك القاعدة العربيّة، فيدخلون الياء علي جميع المركّب، فيقولون في «عربستان» «عربستاني» و في «تاكستان» «تاكستاني» و في المقام «طبرستاني»، فهذا يدلّ علي أنّ لفظ الطبرسي ليس منسوباً إلي طبرستان، لا عند العرب و لا عند غيرهم.

2- تصريح اللغويّين بذلك، قال في «تاج العروس» في مادة «طبر»: طبرستان بلاد عظيمة، منها دهستان، و جرجان، و استرآباد، و آمل، و النسبة إليها «طبري»

«2».

قال في «معجم البلدان»: النسبة إلي طبرستان «الطبريّ»، و أمّا «الطبريّة» فالنسبة إليها «الطبراني» علي غير قياس، فكأنّه لمّا كثرت النسبة بالطبريّ إلي طبرستان أرادوا التفرقة بين النسبتين، فقالوا «طبراني» إلي طبرية، كما قالوا

______________________________

(1) شرح ابن عقيل: 2- 391) طبع مصر).

(2) تاج العروس: مادة «طبر».

تذكرة الأعيان، ص: 139

«صنعاني» بالنسبة إلي صنعاء «1».

فقد تحقّق بذلك أنّ الكلمة غير منسوبة إلي طبرستان، فيتعيّن كونها منسوبة إلي نفس «طبرس» و أمّا تعيين ذلك المكان و أين يقع من بلاد إيران، فيحدّثنا الموَرخ أبو الحسن علي بن زيد البيهقي المعروف بابن فندق المتوفّي سنة (565 ه) في تاريخ بيهق المؤَلّف باللغة الفارسيّة، أنّ «طبرس» رستاق واقع بين قاشان و أصفهان، و أنّ الشيخ الطبرسي صاحب التفسير من ذلك المكان «2».

و قد ذكر الحسن بن محمّد بن الحسن القمي المعاصر لابن العميد في تاريخ قم، تلك الناحية فعبّر عنها ب «طبرس» و أُخري رستاق «طبرش» و لعلّ في تبديل الشين إلي السين و التلفّظ ب «طبرس» مكان «طبرش» لأَجل إكمال التعريب، و لا ينطبق هذا المكان الأعلي بلدة «تفرش» التي هي واقعة بين «قم» و «أراك» و لعلّ تعبير البيهقي بأنّها واقعة بين قاشان و أصفهان، غير دقيق.

و لكنّ الجاري علي الأَلسن عند التعبير عن هذه البلدة هو «تفريش» بكسر الراء و إضافة الياء، و لعلّ التغيير طرأ عند التعريب «3».

______________________________

(1) معجم البلدان: 4- 18) طبع دار إحياء التراث العربي).

(2) تاريخ بيهق: 242 243، و قد ذكر هذا الكلام في ترجمته للشيخ الطبرسي مؤَلّف التفسير و يظهر من عبارته أنّه كان بينهما معاشرة، حيث إنّ الشيخ الطبرسي قطن في بيهق مدّة من الزمن، و استمرّت زمالتهما.

(3) و من أراد التبسّط

في تحقيق الحال، فليرجع إلي تعاليق الأُستاذ أحمد بهمنيار علي تاريخ بيهق و مذكّرات الأُستاذ محمّد القزويني: 5- 285، و مقدّمة الشهيد السيد محمد علي القاضي الطباطبائي علي «جوامع الجامع» للشيخ أبي علي الطبرسي مؤَلّف مجمع البيان (طبعة تبريز).

تذكرة الأعيان، ص: 140

6- أبو الحسن علي بن الحسن بن أبي المجد الحلبي (من أعيان القرن السادس)

العقيدة و الشريعة أو الفقه الأَكبر و الفقه الأَصغر

اشارة

يعتمد الإِسلام في دعوته العالمية، علي العقيدة و الشريعة من دون تفريق و فصل بينهما.

فبالدعوة إلي الأُولي يغذّي العقل و الفكر، و يرفع الإِنسان إلي سماء الكمال، و يصونه عن السقوط في مهاوي الشرك و الوثنية، و عبادة غير اللّه سبحانه، و يلفت نظره إلي مبدئه و مصيره، و انّه من أين جاء و لماذا جاء، و إلي أين يذهب.

و بالدعوة إلي الثانية يمهد طريق الحياة له و يضييَ دُروبها الموصلة إلي سعادته الفردية و الاجتماعية، الدنيوية و الأُخروية.

و الجدير بالذكر هو أنّ الإِسلام لا يفرّق بين العقيدة و الشريعة، و يندد بالذين يكرسون اهتمامهم في العقيدة دون الشريعة، و يختصرون الدين في الايمان المجرّد عن العمل، بل يري أنّ ترك العمل قد يؤَدي إلي زوال العقيدة، و يقول سبحانه: (ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا السُّوايٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ) «1»

______________________________

(1) الروم: 10.

تذكرة الأعيان، ص: 141

و في نفس الوقت يندد بالذين يحطّون من شأن العقيدة و يعكفون علي العمل و العبادة من دون تدبّر في غاياتها، و مقاصدها، و التفكير في الآمر بها، و تتلخص العبادة عندهم في السجود و الركوع فقط و يغفلون عن قوله سبحانه: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَليٰ جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلًا سُبْحٰانَكَ فَقِنٰا عَذٰابَ النّٰارِ) «1» و تأكيداً لهذه الصلة بين العلمين، قام لفيف من علمائنا

القدامي و المتأخرين بالجمع بينهما حتي في التأليف، فكان الفقه الأَكبر (العقائد) إلي جانب الفقه الأَصغر (الاحكام).

نذكر من ذلك علي سبيل المثال لا الحصر: 1- السيد الشريف المرتضي (355 436 ه) صاحب الآثار الجليلة.

فقد جمع بين العلمين في كتابه المسمي ب «جمل العِلم و العمل».

و قد تولي شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي (385 460 ه) شرح القسم الكلامي منه و أسماه: «تمهيد الأصول» و قد طبع و نشر.

كما تولي تلميذه الآخر القاضي ابن البراج (401 481 ه) شرح القسم الفقهي منه و أسماه: «شرح جمل العلم و العمل» و قد طبع أخيراً.

2- الشيخ أبو الصلاح تقي الدين الحلبي (374 447 ه) فقد ألّف كتاباً باسم: «تقريب المعارف في العقائد و الأَحكام» و قد طبع و نشر.

3- أبو المكارم عزّ الدين حمزة بن علي بن زهرة الحلبيّ (511 585 ه) مؤَلف: «غنية النزوع» فقد أدرج في كتابه العقائد و أُصول الفقه و الأَحكام.

4- علاء الدين أبو الحسن علي بن الحسن بن أبي المجد الحلبي من أعلام القرن السادس الهجري.

______________________________

(1) آل عمران: 191.

تذكرة الأعيان، ص: 142

5- المحقق الفقيه الشيخ جعفر النجفي المعروف بكاشف الغطاء (1156 1228 ه) مؤَلف كتاب «كشف الغطاء» حيث ضم إلي جانب الفقه مباحث هامة كلامية و أُصولية لا يستغني عنها الباحث، و بذلك أثبت أنّ العمل ثمرة العقيدة، و قرينها تكويناً و تشريعاً.

إلي غير ذلك من تآليف علي هذا النمط يطول الكلام بذكرها.

فقد ألّف كتابه هذا المسمي ب «إشارة السبق إلي معرفة الحق» علي هذا المنوال، و قد طبع الكتاب في ضمن «الجوامع الفقهية» عام 1276 ه بالطبعة الحجرية، و أعيد طبعه بصورةٍ محقّقةٍ مصححة بهيّة.

ترجمة المؤَلّف:

إنّ التاريخ قد بَخَس المؤَلف حقّه

حيث لم يذكر عنه شيئاً جديراً بشخصيته العلميّة الممتازة، و لم يكن المؤَلف هو الوحيد الذي أصابه هذا البخس، فكم له من نظير في تاريخ علمائنا.

هذا هو الفقيه الطائر الصيت عز الدين الحسن بن أبي طالب اليوسفي الآبيّ مؤَلّف «كشف الرموز» «1» شرحاً علي كتاب «النافع» للمحقق، فلا تجد لذلك الفقيه الكبير الذي يعرب كتابه عن تضلّعه في الفقه ترجمة ضافية لائقة بشخصيته، إلّا جملًا عابرة فلا عتب علينا إذا لم نوفق لأَداء حق مؤَلفنا فلنذكر ما وقفنا عليه من جمل الإِطراء و عبارات الثناء عليه:

1- قال المحقق الشيخ أسد اللّه التستري (المتوفّي 1234 ه) صاحب المقابس:

______________________________

(1) فرغ من تأليف كتابه عام 672 ه و لا نعلم من ترجمته غير أنّه تلميذ المحقّق (المتوفي عام 676 ه).

تذكرة الأعيان، ص: 143

و منها ابن أبي المجد الشيخ الفقيه المتكلّم النبيه علاء الدين أبو الحسن علي ابن أبي الفضل بن الحسن بن أبي المجد الحلبي نور اللّه مرقده و هو صاحب كتاب «إشارة السبق إلي معرفة الحق» في أُصول الدين و فروعه إلي الأَمر بالمعروف، و تاريخ كتابة نسخته الموجودة عندي سنة ثمان و سبعمائة، و يظهر من الأمارات أنّها كانت عند صاحب «كشف اللثام» و أنّ هذا الكتاب هو الذي يعبّر عنه فيه بالإِشارة «1» 2- و قال الخوانساري: أنّ «إشارة السبق إلي معرفة الحق» الذي يعبر عنها لمتأخرون بالإشارة، هو مختصر في أُصول الدين و فروعه إلي باب الأَمر بالمعروف فهو بنصّ الفاضل الهندي، و صاحب الرياض و غيرهما تصنيف الشيخ علاء الدين أبي الحسن بن أبي الفضل الحسن بن أبي المجد الحلبي، ثم نقل عبارة صاحب «مقابس الأَنوار» التي تقدمت «2» 3- و قال الشيخ

حبيب اللّه الكاشاني: منهم علاء الدين و هو علي بن أبي الفضل بن الحسن بن أبي المجد الحلبي، كان متكلماً و من مصنفاته كتاب «إشارة السبق» «3» 4- قال شيخنا الطهراني: علي بن الحسن ابن أبي المجد الحلبي علاء الدين أبو الحسن مؤَلف كتاب «إشارة السبق إلي معرفة الحق» المطبوع في مجموعة «الجوامع الفقهية» في 1276 ه.

قال صاحب المقابس: إنّ تاريخ كتابة النسخة الموجودة عنده 708 ه و كنية والده أبو الفضل بن أبي المجد «4»

______________________________

(1) مقابس الأَنوار: 12 مؤَسسة آل البيت، قم.

(2) روضات الجنات: 2- 114، و أوعز إليه أيضاً في ج 4 ص 356.

(3) لباب الأَلقاب في ألقاب الأَطياب: 21.

(4) طبقات أعلام الشيعة النابس في القرن الخامس: 119.

و كان اللازم أن يذكره في قسم سادس القرون لا خامسها.

تذكرة الأعيان، ص: 144

5- و قال في الذريعة: «إشارة السبق إلي معرفة الحق» في أُصول الدين و فروعه العبادية من الطهارة إلي آخر الأَمر بالمعروف و النهي عن المنكر، للشيخ علاء الدين أبي الحسن علي بن أبي الفضل الحسن بن أبي المجد الحلبي.

ترجمه سيدنا الحسن صدر الدين في التكملة «1» و ذكر صاحب الروضات تصريح الفاضل الهندي، و صاحب رياض العلماء بنسبة الكتاب إليه، و ذكر أنّ نسبته إلي الشيخ تقي الدين بن نجم الدين الحلبي كما ذكر البعض نشأت من الاشتراك في النسبة إلي حلب، و قال الشيخ أسد اللّه في المقابس: إنّ النسخة الموجودة عندي من هذا الكتاب تاريخ كتابتها سنة 708، و طبع ضمن مجموعة تسمي «الجوامع الفقهية» سنة 1276 ه «2».

و الإِمعان في الكتاب يُورث الاطمئنان بأنّه كان من فقهاء القرن السادس الذين ظهروا بعد الشيخ الطوسي و عاصروا الشيخ الطبرسي (المتوفّي

548 ه) و عمادالدين محمد بن علي بن حمزة الطوسي (المتوفّي بعد سنة 566 ه)، و قطب الدين الراوندي (المتوفّي 573 ه) مؤَلف «فقه القرآن»، و قطب الدين محمد بن الحسن الكيدري البيهقي الذي كان حيّاً إلي سنة 576 ه، مؤَلف كتاب «الإصباح»، و رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب (المتوفّي 588 ه).

إلي غير ذلك من نوابغ القرن السادس الذي احتفل التاريخ، و كتب التراجم بأسمائهم و أسماء كتبهم و تآليفهم.

و المؤلف من مدينة حلب الشهباء أكبر مدينة سؤرية بعد دمشق التي تبعد عن الحدود التركية قرابة خمسين كيلو متراً، و قد فتحها المسلمون سنة 16 ه، و قد أنشأ سيف الدولة الحمداني الدولة الحمدانية فيها، و جعل عاصمتها حلب،

______________________________

(1) و هذا القسم من التكملة بعد مخطوط، و أمّا المطبوع فيرجع إلي علماء جبل عامل.

(2) الذريعة إلي تصانيف الشيعة: 2- 99.

تذكرة الأعيان، ص: 145

و دخلت مدينة حلب آن ذاك في عهد جديد و هو عهد أمجادها التي لم تشهد لها مثيلًا، و أصبحت مركزاً ثقافياً و علمياً و عسكرياً من أعظم المراكز التي عرفها الإِسلام، و قد وفد كبار الشعراء و العلماء علي بلاط سيف الدولة، فصار ملتقي رجال العلم و الفكر الذين وجدوا في العاصمة حامياً لهم.

و ينسب إلي حلب من رواة الشيعة الأَقدمين آل أبي شعبة، في أواسط المائة الثانية، و هذا البيت بيت كبير نبغ فيه محدّثون كبار، منهم الحسن بن علي (المعروف بابن شعبة) من علماء القرن الرابع مؤَلف «تحف العقول».

و كان في حلب سادات آل زهرة و كانوا نقباء، و خرج منهم جملة من العلماء منهم السيد أبو المكارم: صاحب «الغنية» و قبره بسفح جبل «جوشن» إلي اليوم، و

ذرية بني زهرة موجودة إلي الآن في قرية الفوعة من قري حلب «1» و قد طلع من تلك المدينة في القرنين الرابع و الخامس فحول من فقهاء الشيعة نذكر أسماء بعضهم:

1- علي بن الحسن بن شعبة، من أعلام القرن الرابع، مؤَلف «تحف العقول».

2- أبو الصلاح تقي الدين، (374 447 ه) مؤَلف كتاب «الكافي».

3- حمزة بن علي بن زهرة (511 585 ه) صاحب «غنية النزوع».

4- السيد جمال الدين أبو القاسم عبد اللّه بن عليّ بن حمزة (531 580 ه) أخو أبي المكارم حمزة بن علي.

إلي غيرهم من الفطاحل الاعلام الذين أنجبتهم تلك التربة الخصبة بالفكر و الفضيلة.

______________________________

(1) دائرة المعارف الشيعية: 3 36- 17.

تذكرة الأعيان، ص: 146

الماع إلي كتاب إشارة السبق:

الكتاب مجموعة من المعارف و الأَحكام و قد بسط الكلام في الأَوّل و اختصر في الثاني، فحرر أحكام الطهارة و الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الأَمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ختم الكلام مشعراً بأنّه قد فرغ عمّا قصده، و يعرب أنّ الكتاب كان رسالة عملية للمؤلف و قد كتبه بصورة واضحة و إن كانت براهينه في المعارف مشرقة عالية لا يتحملها إلّا الأَمثل فالأَمثل.

و ختاماً، نرجو من اللّه سبحانه أن يتغمد المؤَلف الفقيه برحمته الواسعة.

كما نرجو منه سبحانه أن يوفق المسلمين للعودة إلي إحضان الفقه الإِسلامي، و الأَخذ بأحكام الشريعة في جميع المجالات، و نبذ القوانين الوضعية الكافرة المستوردة.

و قد تمّ تحقيق الكتاب في مؤَسسة الامام الصادق- عليه السلام- و قامت بنشره مؤَسسة النشر الإِسلامي المعروفة بغزارة الإِنتاج العلمي.

حيّا اللّه رجال العلم و الفقه، و الاجتهاد من أبناء أُمّتنا الإِسلامية المجيدة.

تذكرة الأعيان، ص: 147

7- السيد أبو المكارم حمزة بن علي الحسيني ابن زهرة الحلبي (115- 585 ه)

التشيّع في حلب عبْر القرون و ترجمة المؤَلف

اشارة

انتشر الإِسلام في عصر النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم- في الجزيرة العربية، كما انتشر بعد رحيله في شتّي الأَقطار و ما ذلك إلّا لأنّه دين الفطرة، يدعو إلي عبادة ربّ واحدٍ، لا شريك له، و نبذ عبادة الأَصنام، و الحجر و البشر، و إلي العدل و المساواة، و كلّ عمل و خلق حسن، و ينهي عن كلّ خلق و عمل قبيح، إلي غير ذلك ممّا يرفع الإِنسانَ عن حضيضِ الحيوانيّة إلي ذروة الكمال.

و والاه التشيّع في الانتشار بسرعة في الأَقطار الإِسلامية، و ما ذلك إلّا لأَنّ أكثر المهاجرين و الأَنصار كانوا يشايعون عليّاً- عليه السلام- و يحاربون معه لا سيما في الحروب التي نشبت أيام خلافته.

فبعد ما نزل الإِمام بالكوفة، انتشر التشيّع في

العراق.

و لما غادر الامام الصادق- عليه السلام- المدينةَ المنورة و نزل بالكوفة أيّام أبي العباس السفاح حيث مكث فيها مدّة سنتين، فعمِد الإِمام إلي نشر علومه، و تخرج علي يديه الكثير من العلماء.

فقويت شوكةُ التشيّع و هذا الحسن الوشّاء يحكي لنا

تذكرة الأعيان، ص: 148

ازدهار مدرسة الإِمام في العراق في تلك الظروف و يقول: أدركتُ في هذا المسجد يعني مسجدَ الكوفة تسعمائة شيخ كلّ يقول: حدثني جعفر بن محمد «1» و قد كان لهذه المدرسة العظيمة للإِمام أكبر الأَثر في انتشار التشيّع في أقطار العالم و إن كانت جذوره موجودة قبل الامام الصادق- عليه السلام- في الشام و مصر و غيرهما و قد انتشر التشيّع بواسطة مدرسة الإِمام في معظم الأَمصار الإِسلامية خصوصاً في ثالث القرون و ما بعده.

و مع انّ الشام كانت معقلَ الأُمويين و دارَ خلافتهم نري انّ التشيّع قد دبّ فيها دبيبَ الماء في الورد، فما من بلدة أو قرية إلّا و فيها نجم لا مع من علماء الشيعة يقتفي أثر أهل البيت و ينادي بموالاتهم التي نصّ القرآن الكريم عليها و قد كان لسماع كلمات أهل البيت- عليهم السلام- جاذبيّة خاصة في قلوب المسلمين حيث يحنُّون إليهم حنانَ العاشق للمعشوق، لا سيما إنّهم كانوا يصلون علي أهل بيت محمّد و آله و عترته في كلّ يوم و ليلة تسعَ مرات.

و هذا الأَمر يدفعهم إلي التعرف عليهم و الاعتناء بشأنهم.

و لهذا و ذاك، قوي انتشار التشيّع و الموالاة لأَئمّة أهل البيت في أكثر الأَقطار الإِسلامية حتي في معاقل الاعداء و دار خلافتهم.

حلب الشهباء و جمالها الطبيعي

من المناطق التي اعتنقت التشيعَ منذ عصور قديمة هي الشام و أخصّ منها بالذكر حلب الشهباء التي نبغ فيها كثير من

بيوتات الشيعة، و تربّي في أحضانها جيل كبير من المحدثين و الفقهاء و المتكلمين و الأُدباء من الشيعة التي ستمرّ عليك أسماء بعضهم.

و قبل التعرف عليهم، نذكر شيئاً عن هذه المدينة الزاهرة.

______________________________

(1) النجاشي، الرجال: 1- 137 رقم 79.

تذكرة الأعيان، ص: 149

يقول ياقوت الحموي: «حَلَب» بالتحريك مدينة عظيمة واسعة كثيرة الخيرات طيّبة الهواء صحيحة الأَديم و الماء «1».

و قد وصف الشعراء و الأُدباء أزهارها و أثمارها، و أشاروا إلي ضواحيها و نواحيها و ما فيها من جمال الطبيعة و كمال الصنع، و كأنّك تري ماءها الفضيّ يجري علي تراب كالذهب.

و تري فيها أنواعاً من الأَزهار و الفواكه كلّها تسقي بماء واحد و كأنّ الشاعر بشعره يقصد تلك البلدة إذ يقول:

صُبغت بلون ثمارها أوراقها فتكاد تُحسبُ أنّهن ثمار

و للشاعر أبي بكر الصنوبريّ قصيدة تبلغ مائة و أربعة أبيات يصف فيها منتزهات حلب و قراها مستهلّها:

احبسا العيس احبسا ها و سلا الدار سلاها

و من جملتها:

أنا أحمي حلباً داراً و أحمي من حماها

أي حسن ما حوته حلبٌ أو ما حواها

إلي أن يقول:

حلب أكرم مأوي و كريم من أواها

بسط الغيثُ عليها بسط نورٍ، ما طواها

و كساها حللا، أب دع فيها إذ كساها

حللا لُحْمتها السُّوسن و الوَرْدُ سَداها

«2»

______________________________

(1) ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج 2، ص 282 و 286.

(2) ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج 2، ص 282 و 286.

تذكرة الأعيان، ص: 150

قال السيد الخوانساري نقلًا عن كتاب تلخيص الآثار: انّ حلب مدينة عظيمة بأرض الشام كثيرة الخيرات، طيّبة الهواء، صحيحة التربة، لها سور حصين، و كان الخليل- عليه السلام- يحلب غنمه، و يتصدق بلبنها يوم الجمعة، و لقد خصّ اللّه هذه المدينة ببركة عظيمة من حيث يُزرع بأرضها القطن، و السمسم، و الدخن،

و الكرم، و المشمش، و التين، يسقي بماء المطر، و هي مسورة بحجر أسود، و القلعة بجانب السور لأنّ المدينة في وطأ من الأَرض، و القلعة علي جبل مدور، لها خندق عظيم، وصلَ حفره إلي الماء، و فيها مقامان للخليل- عليه السلام يزاران إلي الآن، و في بعض ضياعها بئر إذا شرب منها من عضَّه الكلب الكلِيب برأ.

و من عجائبها سوق الزجاج لكثرة ما فيها من الظرائف اللطيفة، و الآلات العجيبة «1».

التشيّع في حلب عبْر القرون

دخل التشيّع في حلب قبل عهد الحمدانيين (293 392 ه) و لكنّه انتشر و قوي فيها علي عهدهم و ذلك لانّ الدولة الحمدانيّة كانت من الدول الشيعيّة، يجاهرون بالتشيّع و ينصرونه و كانوا يكرمون الأُدباء و الشعراء و العلماء و المحدثين، لا سيما الذين يجاهرون منهم بالتشيّع و ولاء أهل البيت.

و من أبرز شعراء الحمدانيّين أبو فراس الحمداني (320 357 ه) و له القصيدة الميميّة الطائرة الصيت التي مستهلّها:

الحق مهتضم و الدين مخترم و في ء آل رسول اللّه مقتسم

______________________________

(1) السيد الخوانساري، روضات الجنات: 2- 115.

تذكرة الأعيان، ص: 151

إلي أن قال:

قام النبي بها يوم الغدير لهم و اللّه يشهد و الاملاك و الأُمم

حتي إذا أصبحت في غير صاحبها باتت تنازعها الذوَبان و الرخم

و صيّروا أمرهم شوري كأنّهم لا يعلمون ولاةَ الحقّ أيّهم

تاللّه ما جهل الأَقوامُ موضعها لكنّهم ستروا وجهَ الذي علموا

ثمّ ادعاها بنو العباس ملكهم و لا لهم قَدَم فيها و لا قِدَم

و لأَجل تلك المناصرة، و وجود المناخ المساعد، أصبح التشيّع مذهباً رائجاً في تلك البلدة الخصبة ممتداً إلي ضواحيها كالموصل و تشهد بذلك نصوص كثير من المؤَرخين.

1- يقول ياقوت الحموي و هو يذكر حلب: و الفقهاء يفتون علي مذهب الإِمامية «1».

2- و

قال ابن كثير الشامي في تاريخه: كان مذهب الرفض فيها في أيّام سلطنة الأَمير سيف الدولة بن حمدان رائجاً رواجاً تاماً.

3- و قال مؤَلف نهر الذهب: لم يزل الشيعة بعد عهد سيف الدولة في تصلّبهم حتي حلّ عصبتَهم و أبطل أعمالهم نورُ الدين الشهيد (543) و من ذلك الوقت ضعف أمرهم غير انّهم ما برحوا يجاهرون بمعتقداتهم إلي حدود (600) فأخفوها.

ثمّ ذكر أنّ مصطفي بن يحيي بن حاتم الحلبي الشهير ب «طه زاده» فَتك بهم في حدود الالف فاخفوا أمرهم، و ذكر بعض ما يفعله الحلبيّون مع الشيعة من

______________________________

(1) ياقوت الحموي، معجم البلدان: ج 2، ص 273.

تذكرة الأعيان، ص: 152

الأَعمال الوحشية و المخازي و القبائح التي سوّدت وجه الإِنسانية و يخجل القلم من نقلها.

و قال القاضي المرعشي: «أهل حلب كانوا في الأَصل شيعة و إلي أواخر زمان الخلفاء العباسية كانوا علي مذهب الإِمامية، و قد أُجبروا في زمان انتقال تلك الولاية إلي حكم السلاطين العثمانية علي ترك مذهبهم» و ما مرّ من فعل (طهزاده) يؤَيد ذلك فإن استيلاء العثمانيين علي حلب كان في أوائل المائة العاشرة.

و قال مؤَلّف نهر الذهب: انّه لم يزل يُوجد في حلَب عدّة بيوت معلومة يقذفهم بعض الناس بالرفض و التشيّع و يتهابون الزواج معهم مع أنّ ظاهرهم علي كمال الاستقامة و موافقة أهل السنة «1».

4- و قال ابن كثير: لما سار صلاح الدين إلي حلب فنزل علي جبل جوشن، نُودي في أهل حلب بالحضور في ميدان باب العراق فاجتمعوا فأشرف عليهم ابن الملك نورُ الدين فتودّد إليهم و تباكي لديهم و حرّضهم علي قتال صلاح الدين و ذلك عن إشارة الأُمراء المقدّمين فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته علي كلّ أحد

و شرط عليه الروافض منهم أن يعاد الأَذانَ بحيّ علي خير العمل، و أن يذكر في الأَسواق و أن يكون لهم في الجامع، الجانبَ الشرقي، و أن يذكر أسماء الأَئمّة الاثني عشر بين يدي الجنائز، و أن يكبروا علي الجنازة خمساً، و أن تكون عقود أنكحتهم إلي الشريف أبي طاهر أبي المكارم حمزة بن زاهر «2» الحسيني فأجيبوا إلي ذلك

______________________________

(1) السيد الأَمين، أعيان الشيعة: ج 1، ص 201.

(2) كذا في المصدر و الصحيح «زهرة».

تذكرة الأعيان، ص: 153

كلّه، فأذِّن بالجامع و سائر البلد بحيّ علي خير العمل «1».

و نقل السيد الأَمين عن أعلام النبلاء عن كتاب الروضتين، عن ابن أبي طي انّه قال: فأذّن المؤَذنون في منارة الجامع و غيره بحيّ علي خير العمل، و صلّي أبي في الشرقي مُسبّلا، و صلّي وجوه الحلبيين خلفه و ذكروا في الأَسواق و قُدام الجنائز أسماء الأَئمّة و صلّوا علي الأَموات خمس تكبيرات، و أُذن للشريف ابن زهرة أن يكون عقود الحلبيين من الإِمامية إليه و فعلوا جميع ما وقعت الايمان عليه «2».

5- قال ابن كثير: إنّ بدر الدولة أبا الربيع سليمان بن عبد الجبار بن أرتق صاحب حلب لما أراد بناء أوّل مدرسة للشافعية بحلب لم يمكِّنه الحلبيون، إذ كان الغالب عليهم التشيعَ.

إنّ ابتداء إمرة سليمان هذا في حلب نيابة عن عمّه «ايلغاري» بن ارتق، كان سنة 515 ه و انتهاؤها 517 و إنّ تلك المدرسة تسمي «الزجاجية» و انّه كلما بني فيها شي ء نهاراً خرّبه الحلبيون ليلًا إلي أن أعياه ذلك، فاحضر الشريف زهرة بن علي بن إبراهيم الاسحاقي الحسيني و التمس منه أن يباشر بناءها فكفّ العامة عن هدم ما يبني، فباشر الشريف البناء ملازماً له

حتي فرغ منها «3».

و خرج من حلب عدّة من علماء الشيعة و فقهائهم منهم الشيخ كردي بن عكبري بن كردي الفارسي الفقيه الثقة الصالح، كان يقول: بوجوب الاجتهاد عيناً

______________________________

(1) ابن كثير: البداية و النهاية: 12- 309 حوادث سنة 570 و في غير واحد من المعاجم، كالرياض 2- 208.

تبعاً لمجالس المؤمنين: 1- 63 و قد صحِّف فيهما لفظ السبعين بسبع فلاحظ.

(2) السيد الأَمين: أعيان الشيعة: ج 6، ص 250، ترجمة ابن زهرة.

(3) السيد محسن الأَمين: أعيان الشيعة: 7- 69، و زهرة المذكور جدّ المؤَلّف فيعرب عن مكانة المؤَلف في عصره حيث كان رئيساً مطاعاً.

تذكرة الأعيان، ص: 154

و عدم جواز التقليد قرأ علي الشيخ الطوسي و بينهما مكاتبات و سؤالات و جوابات «1».

و منهم الفقيه المقدام أبو الصلاح تقي بن نجم الحلبي (374 447) مؤَلف «الكافي»، و «التهذيب» و «المرشد» و «تقريب المعارف»، و قد طبع الأَول و الأَخير و غيرها.

و قد كانت الصلة بين شيعة حلب و شيعة الكوفة وثيقة جدّاً و لأَجل ذلك نري انّ بعض البيوت العراقية ينتسب إلي حلب و ما ذلك إلّا لوجود الصلة التجارية أو العلمية بين البلدين، فهذا هو عبيد اللّه بن علي بن أبي شعبة المعروف بالحلبي و ما هو إلّا أنّه كان يتجر هو و أبوه و اخوته إلي حلب فاشتهروا بالحلبيّين.

و عبيد اللّه هذا من فقهاء الشيعة في القرن الثاني و له كتاب يرويه أصحابنا عنه «2» و رواياته مبثوثة في المعاجم الحديثية.

هذا بعض ما كان للشيعة من الشأن في تلك التربة الزاهرة و أمّا مصيرهم في القرون فقد حدّث عند المؤَرخون و قد مرّ تصريح بعضهم بما جري علي شيعة آل البيت من المجازر فيها.

و لنشير

إلي النزر اليسير منها و نترك الكثير إلي مجال آخر.

إنّ تاريخ الشيعة تاريخ حافل بالتضحيات حيث إنّهم عاشوا بين الخوف و الرجاء، و بين الحجر و المدر، و قد تعامل معهم الأُمويّون و العباسيّون بشكل يَندي له جبين البشرية، فلم يكن السبب وراء ذلك إلّا عدم تحالفهم مع الظالمين، و مع ذلك فبقاء الشيعة اليوم يعدّ من أكبر المعاجز و من خوارق العادات، إذ لم يشهد التاريخ أُمة أصابها النوائب و المظالم و القتل الذريع مثل ما أصابت شيعة أهل البيت و مواليهم، و لو انّك وقفت علي ما في طيات كتب التاريخ لضُقتَ ذرعاً

______________________________

(1) الخوانساري: روضات الجنات ج 2، ص 115.

(2) النجاشي، الفهرست ترجمة عبيد اللّه، رقم 640.

تذكرة الأعيان، ص: 155

و لملئت ممّا جاء فيها رُعباً.

6- قال كرد علي في خطط الشام: كان أهل حلب سنة حنفية، حتي قدم الشريف أبو إبراهيم الممدوح في عهد سيف الدولة فصار فيها شيعة و شافعية، و أتي صلاح الدين، و خلفاؤه فيها علي التشيّع، كما أتي عليه في مصر، و كان المؤَذن في جوامع حلب الشهباء يؤَذّن بحيّ علي خير العمل، و حاول السلجوقيون مرات، القضاء علي التشيّع، فلم يوفَّقوا إلي ذلك، و كان حكم بني حمدان و هم شيعة، من جملة الأَسباب الداعية إلي تأصل التشيّع في الشمال، و لا يزال علي حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل «جوشن» بظاهر حلب ذكر الأَئمّة الاثني عشر، و قد خرب الآن «1».

7- و قال ابن جبير: للشيعة في هذه البلاد أُمور عجيبة، و هم أكثر من السنيين بها، و قد عموا البلاد بمذاهبهم «2».

دخل صلاح الدين الايوبي إلي حلب عام 579 و حمل الناس علي التسنن و

عقيدة الأَشعري و لا يُقدَّم للخطابة و لا للتدريس إلّا من كان مقلِّداً لأَحد المذاهب الأَربعة، و وضع السيف علي الشيعة فقتلهم و أبادهم مثل عمله في مصر، إلي حدّ يقول الخفاجي في كتابه: «فقد غالَ الايوبيّون في القضاء علي كلّ أثر للشيعة» «3».

و بما انّه سبحانه شاء أن يبقي التشيّع في حلب، نري أنّ الدولة الايوبيّة لم تتمكن من القضاء علي التشيّع فيها تماماً بل بقي مع ما أصابه من الكوارث و المحن.

______________________________

(1) كرد علي خطط الشام: 6- 258.

(2) ابن جبير، الرحلة، ص 250 ط مصر.

قام برحلته هذه عام 581 و استغرقت ثلاث سنوات.

(3) الخفاجي: الأَزهر في ألف عام: 1- 58.

تذكرة الأعيان، ص: 156

8- هذا هو ياقوت الحموي يكتب عن حلب عام 636 ه أي بعد دخول الايوبي لها بسبع و خمسين سنة ما لفظه: و عند باب الجنان مشهد علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، رُئي فيه في النوم، و داخل باب العراق مسجدُ غوث، فيه حجر عليه كتابة زعموا انّها خطّ علي بن أبي طالب- عليه السلام- و في غربي البلد في سفح جبل جوشن قبر المحسِن بن الحسين يزعمون انّه سقط لما جي ء بالسبي من العراق ليُحْمَل إلي دمشق، أو طفل كان معهم بحلب فدفن هنالك، و بالقرب منه مشهد مليح العمارة تعصب الحلبيون، و بنوه أحكمَ بناءٍ، و أنفقوا عليه أموالًا، يزعمون أنّهم رأوا علياً عليه السلام- في المنام في ذلك المكان «1».

هكذا استمر التشيّع في حلب رفيع البناء، لم يقلعه تلك الهزَّاتُ العنيفة، و لم تقوّضه تلك العواصف الشديدة، إلي أن أفتي الشيخ نوح الحنفي «2» بكفر الشيعة و استباحة دمائهم و أموالهم، تابوا أو لم يتوبوا، فزحفوا

علي شيعة «حلب» و أبادوا منهم أربعين ألفاً أو يزيدون، و انتهبتْ أموالهم، و أُخرج الباقون منهم من ديارهم إلي «نبل» و «النغاولة» و «أُمّ العمد» و «الدلبوز» و «الفوعة» و غيرها من القري، و اختبأ التشيّع في أطراف حلب في هذه القري و البلدان.

9- هاجم الأَمير ملحم بن الأَمير حيدر، بسبب هذه الفتوي جبل عامل عام 1048 فانتهك الحرمات و استباح المحرمات يوم وقعة قرية «أنصار» فلا تسأل عمّا أراق من دماء، و استَلب من أموال، و انتهك من حريم، فقد قتل ألفاً و خمسمائة، و أسر ألفاً و أربعمائة، فلم يرجعوا حتي هلك في الكنيف ببيروت.

فياللّه من هذه الجرأة الكبري علي النفوس و الأَعراض، و من تلك الفتيا، الّتي غرّرت بأُولئك علي تلك الفظائع و الجرائم «3».

______________________________

(1) ياقوت الحموي، معجم البلدان: 2- 284.

(2) كان مفتي قونية في عصر الخلافة العثمانية توفي عام 1070.

اقرأ ترجمته في الإعلام للزركلي: 8- 51.

(3) محمد حسين المظفر، تاريخ الشيعة، ص 147.

تذكرة الأعيان، ص: 157

10- و لم يكن ذلك الفتك الذريع أوّل تصفية جسدية للشيعة، بل صُبّت عليهم قوارع في دار الخلافة، قبل قرنين بالوحشية التامة يَنْدي لها جبين الإِنسانية.

فقد قتل السلطان سليم في الاناضول وحدها أربعين ألفاً، و قيل سبعين لا لشي ء إلّا أنّهم شيعة «1».

ما أقبحها من عصبية و ما أقساها.

تري أ كان يسوغ في شريعة الإِنصاف أن يُسام قوم يدينون بدين الحقّ، و يتّبعون أوصياء النبيّ الشرعيين الّذين أوصي النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم بموالاتهم و محبتهم، و يمنعوا من أبسط حقوقهم الإِنسانية و هي حرّية الرأي و المعتقد، خاصة إذا كان ذلك المعتقد من النوع الذي يأخذ بصاحبه إلي الفضيلة و الطهر،

و الإِنسانية و الكمال؟! تري أ كان يسوغ أن تمنع جماعة يحترمون وصية النبيّ صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم في ذريته و خلفائه الأَبرار، من أداء شعائرهم النابعة من الكتاب و السنة إلّا في غطاء التقية؟! و إذا كانت التقية أمراً قبيحاً فعمل من حملهم عليها أقبح.

و هذا هو العالم الشاعر إبراهيم يحيي «2» يصف مظالم «جزار» والي عكا و فظائعه علي الشيعة في جبل عامل تلك المنطقة الخصبة بالعلم و الفضل، و جمال الطبيعة و كانت و لم تزل داراً للشيعة منذ عصور، تلمع كشقيقتها «حلب» في خريطة الشامات و قد صوّر الشاعر ما جري عليهم في قصيدته علي وجه يدمي الأَفئدة و القلوب، و قد هاجر من موطنه إلي دمشق و نظم فيها القصيدة الميميّة نقتطف منها ما يلي:

______________________________

(1) محمد جواد مغنية، الشيعة و الحاكمون، ص 194 نقلًا عن أعيان الشيعة.

(2) اقرأ ترجمته في الجزء الثاني من دائرة المعارف اللبنانية لرئيس الجامعة اللبنانية فؤَاد البستاني.

تذكرة الأعيان، ص: 158

يعزّ علينا أن نروحَ و مصرنا لفرعونَ مغني يصطفيه و مغنم

منازلُ أهل العدل منهم خليّة و فيها لأَهل الجور جيش عرمرم

و عاثت يدُ الأَيام فينا و مجدنا و بالرغم مني أن أقول مهدَّم

و لست تري إلّا قتيلًا و هارباً سليباً و مكبوباً يغلّ و يزغم

و كم علَم في عامل طُوّحت به طوائح خطب جرحها ليس يلَام

و أصبح في قيد الهوان مكبّلًا و أعظمُ شي ء عالم، لا يعظّم

و كم من عزيز ناله الضيم فاغتدي و في جيده حبل من الذلّ محكم

و كم هائم في الأَرض تهفوا بلبّه قوادم أفكار تغور و تتهم

و لما رأيتُ الظلم طال ظلامه و انّ صباح العدل لا يتبسم

ترحلتُ عن دار

الهوان و قلما يَطيب الثوي في الدار و الجار، أرقم

تملكها و الملك للّه فاجر سواء لديه ما يحلّ و يحرم

عتلّ زنيم، يُظهر الدين كاذباً و هيهات أن يخفي علي اللّه مجرم «1»

نسب المؤَلف
اشارة

اتّفقت كلمة المترجمين علي أنّ نسبَه ينتهي إلي الامام الصادق- عليه السلام-، و لكن اختلفوا في عددِ الوسائط فذكر الأَفنديّ التبريزي نسبَه بالنحو التالي: السيد عز الدين أبو المكارم حمزة بن علي، بن أبي المحاسن زهرة، بن أبي علي الحسن، بن أبي المحاسن زهرة، بن أبي المواهب علي، بن أبي سالم محمد، بن

______________________________

(1) محمد جواد مغنية، الشيعة و الحاكمون، ص 196.

تذكرة الأعيان، ص: 159

أبي إبراهيم محمد النقيب، بن علي، بن أبي علي أحمد، بن أبي جعفر محمد، بن أبي عبد اللّه الحسين، بن أبي إبراهيم إسحاق المؤتمن، بن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق- عليهم السلام- الحسيني الحلبي، و قال: هذا الذي ذكرناه، من نسبه هو الموجود في المواضع المعتبرة، و رأيت في أواخر بحث أُصول الفقه من بعض نسخ الغنية له، نسبه هكذا: السيد أبو المكارم حمزة، بن علي، بن زهرة، بن علي، بن محمد، بن أحمد، بن محمّد، بن الحسين، بن إسحاق بن جعفر الصادق- عليه السلام-، و لعلّ فيه اختصاراً كما هو الشائع في الأَنساب «1» و علي ما ذكره يصل نسب المؤَلف إلي الامام الصادق- عليه السلام- باثنتي عشرة واسطة.

و قد ذكر شيخ الباحثين الطهراني نسبه بالنحو المتقدم و كأنّه تبع صاحب الرياض «2».

و يقول السيد الخوانساري: السيد بن زهرة الحلبي ينتهي نسبه إلي الامام جعفر بن محمد الصادق باثنتي عشرة واسطة سادات أجلاء «3».

نعم حكي السيد الأَمين عن كتاب اعلام النبلاء «أنّه قد أبقت أيدي الزمان قبر

المترجم في تربته الكائنة في سفح جبل جوشن جنوبيّ المشهد، و بينها و بين التربة أذرع و قد كانت تلك التربة مردومة فاكتشفت في جمادي الأُولي سنة 1297 و قد حاط جميل باشا ما بقي من هذه التربة بجدران حفظاً لها، و قبر المترجم ظاهر فيها و علي أطرافه كتابة حسنة الخط هذا نصه: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم: هذه تربة الشريف الأَوحد ركن الدين أبي

______________________________

(1) الأَفندي التبريزي، الرياض: ج 2، ص 202.

(2) الطهراني، طبقات أعلام الشيعة القرن السادس، ص 87.

(3) الخوانساري، روضات الجنات: ج 2، ص 374.

تذكرة الأعيان، ص: 160

المكارم حمزة، بن علي، بن زهرة، بن علي، بن محمد، بن محمد، بن أحمد، بن محمد، بن الحسين، بن إسحاق بن جعفر الصادق صلوات اللّه عليه و علي آبائه و أبنائه الأَئمّة الطاهرين و كانت وفاته في رجب سنة 585 ه رضي اللّه عنه «1».

و علي ما ذكره ينتهي نسبه إلي الامام الصادق- عليه السلام- بوسائط تسع.

و ذكر العمري نسب أبي إبراهيم محمد الذي هو الجدّ السادس للمؤلف إلي الامام الصادق- عليه السلام- بالنحو التالي: أبو إبراهيم: محمد، بن جعفر، بن محمد، بن أحمد، بن الحسين، بن إسحاق، ابن جعفر الصادق- عليه السلام- «2».

قال: و كان أبو إبراهيم لبيباً عاقلًا و لم تكن حاله واسعة، فزوجه الحسين الحرّاني، بنته خديجة المعروفة بأُمّ سلمة إلي أن قال: فأمدَّ أبا إبراهيم، الحسين الحرّاني بماله وجاهة، و نبغ أبو إبراهيم و تقدّم و خلف أولاداً سادة فضلاء، و لهم عقب منتشر بحلب «3».

و قال الزبيدي في تاج العروس: بنو زهرة شيعة بحلب بل سادة نقباء، علماء، فقهاء، محدثون كثر اللّه أمثالهم و هو أكبر بيت من بيوت الحسين و

هم: أبو الحسن زهرة، بن أبي المواهب علي، بن أبي سالم محمد، بن أبي إبراهيم محمد الحرّاني و هو المنتقل إلي حلب و هو ابن أحمد الحجازي، بن محمد، بن الحسين، (و هو الذي وقع إلي حرّان) بن إسحاق، بن محمد «4» المؤتمن، ابن الامام جعفر الصادق- عليه السلام- الحسيني الجعفري، و جمهور عقب إسحاق بن جعفر ينتهي إلي أبي إبراهيم المذكور» «5».

______________________________

(1) السيد الأَمين، أعيان الشيعة: 6- 249.

(2) العمري المجدي، ص 99.

(3) العمري المجدي، ص 99.

(4) كذا في المصدر و الصحيح «أبو محمد»، إذ لا واسطة بين إسحاق، و الإِمام الصادق عليه السَّلام.

(5) الزبيدي، تاج العروس: ج 3، ص 248) مادة زهرة).

تذكرة الأعيان، ص: 161

و لأَجل التعرف علي بعض الشخصيات الذين شادوا هذا البيت الرفيع نذكر شيئاً من ترجمة أبيه و جدّه و نترك ترجمة الباقين من أجداده إلي مجال آخر فإنّ الإشارة إلي حياتهم تحوجنا إلي القيام بتأليف مفرد.

أبوه: علي بن زهرة

قال في الرياض: و كان علي، والد السيد ابن زهرة هذا من أجلة العلماء بحلب، و يروي هو عن والده زهرة الحلبي المذكور، و يروي عنه ولده السيد ابن زهرة المذكور علي ما رأيته بخطّ بعض الأَفاضل نقله عن خط الشيخ سديد الدين يوسف والد العلّامة قدّ س اللّه سرّه، و صرّح بذلك محمد بن جعفر المشهديّ في مزاره الكبير أيضاً.

و قال الكفعمي في أواخر فرج الكرب و فرج القلب: إنّ السيد العالم علي بن زهرة الحسيني طاب ثراه ألف في التغاير كتاباً سماه آداب النفس، و مراده بالتغاير ما هو مصطلح علماء البديع أعني به ما سماه بعضهم التلطيف.

ثمّ قال: و اعلم انّ هذا السيد و أباه زهرة و أولاده يحيي و حمزة

و سائر سلسلته المعروفين، كلّهم من أكابر العلماء ببلاد حلب «1».

جدّه أبو المحاسن «2» زهرة

قال في الرياض: كان من أكابر العلماء بحلب، و يروي عنه ولده عليّ المذكور، و هو يروي عن ابن قولويه علي ما رأيته بخطّ بعض الأَفاضل نقلًا عن خطّ الشيخ سديد الدين يوسف والد العلّامة قدّس سرّه و به صرّح الشيخ

______________________________

(1) الأَفندي التبريزي، رياض العلماء، ج 4، ص 97 و لاحظ روضات الجنات، ج 2، ص 374 و طبقات الاعلام القرن السادس، ص 181.

(2) اختلفت كلمة أصحاب المعاجم في كنيته، فصاحب الرياض علي أنّه «أبو المحاسن» بينما يصرّ السيد الأَمين علي انّ كنيته «أبو الحسن» و أن الأَوّل كنية «زهرة» الثاني.

تذكرة الأعيان، ص: 162

محمد بن جعفر المشهديّ في المزار الكبير أيضاً، لكنّه قال: انّه يروي عن الصدوق.

و السيد زهرة الحلبي هذا هو الذي ينسب إليه سبطه حمزة المعروف بالسيد ابن زهرة و سائر أولاد زهرة و بنو زهرة معروفون «1».

و لو كان يروي عن ابن قولويه المتوفي عام 369 ه أو الصدوق المتوفي عام 381 ه، فقد عاش (جدّ المؤلف) في العقد الثاني من القرن الرابع و أدرك سنين كثيرة من القرن الخامس.

و لعلّ في هذا الإلمام العابر، غني و كفاية للقاريَ في التعرف علي حياة والد المؤَلف و جدّه بوجه موجز.

لقد ظلّ البيت، عامراً بالعلم و الفضل، و الفقه و الحديث، مُشعاً عبْر القرون، حتي بعد مضي مؤَلفنا الجليل الذي عاش بين (511 585 ه) و مع ما أصابته من نكبات و نوائب تدمي القلوب، و تهزّ المشاعر في أواخر القرن السادس علي ما عرفت فما برح البيت ساعياً في تربية نوابغ العلم و أبطال الفقه و جهابذة الحديث حتي القرن السابع و

الثامن و بعدهما و يكفيك ما نذكره في المقام من استجازة عدّة من أعلام البيت و فقهائهم، علّامة عصره و فقيه دهره الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي (648 726 ه)، المشتهر بالعلّامة علي الإِطلاق و هذا نصّ إجازته لبني زهرة نقتطف منه ما يلي قال: بعد البسملة و التحميد و المقدمة: و بلغنا في هذا العصر، ورود الأَمر الصادر من المولي الكبير، و السيد

______________________________

(1) الأَفندي التبريزي، الرياض، ج 2، ص 356 و لاحظ أعيان الشيعة، ج 7، ص 69.

أقول: نقل الجدّ عن الصدوق فضلًا عن ابن قولويه بعيد جدّاً، لَانّ حفيده المترجم له المتوفي عام 585 ه ينقل عنه، فكيف يصحّ لشيخه أن ينقل عن الصدوق المتوفي عام 381 ه أو عن ابن قولويه المتوفي عام 369 ه، إذ لازم ذلك أن يكون الجدّ من المعمّرين و لم يذكر في عدادهم!.

تذكرة الأعيان، ص: 163

الجليل، الحسيب النسيب، نسل العترة الطاهرة، و سلالة الأَنجم الزاهرة، المخصوص بالنفس القدسيّة، و الرياسة الإنسية، الجامع بين مكارم الأَخلاق، و طيب الاعراق، أفضل أهل عصره علي الإِطلاق، علاء الملّة و الحقّ و الدين، أبي الحسن علي، «1» بن أبي إبراهيم محمد، ابن أبي علي الحسن، بن أبي المحاسن زهرة، بن أبي المواهب علي، بن أبي سالم محمد، بن أبي إبراهيم محمد النقيب، بن أبي علي أحمد، بن أبي جعفر محمد، بن أبي عبد اللّه الحسين، بن أبي إبراهيم إسحاق المؤتمن، ابن أبي عبد اللّه جعفر الصادق صلوات اللّه و سلامه عليه ابن أبي جعفر محمد الباقر صلوات اللّه و سلامه عليه ابن أبي الحسن علي زين العابدين صلوات اللّه و سلامه عليه ابن أبي عبد اللّه الحسين السبط الشهيد صلوات

اللّه و سلامه عليه ابن أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب صلوات اللّه و سلامه عليه.

نسب تضاءلت المناسبُ دونه فضياؤه لصباحه في فجره

أيّده اللّه تبارك و تعالي بالعنايات الإِلهية، و أمَدّه بالسعادات الربانية، و أفاض علي المستفيدين من جزيل كماله كما أسبغ عليهم من فواضل نواله.

يتضمن سبب اجازة صادرة من العبد له و لأَقاربه السادات الأَماجد، المؤَيّدين من اللّه تعالي في المصادر و الموارد، و أجوبة عن مسائل دقيقة لطيفة،

______________________________

(1) هكذا في البحار المطبوع، الجزء 104- 61.

فلو حذفنا الكني يكون نسب المستجيز هكذا: علي بن محمد بن الحسن، بن زهرة و علي هذا، تكون الواسطة بينة و بين زهرة اثنين و لا يخفي بعده لانّه يُصبح المستجيز تِرْب ولد المؤَلف الذي كان يعيش في أوائل القرن السابع، و من البعيد أن يروي عن العلّامة عام 723.

و في البحار الجزء 26- 21 المطبوع عام 1315» علاء الدين أبو الحسن، علي بن إبراهيم، بن محمد، بن أبي الحسن، بن أبي المحاسن زهرة فيكون نسبه بعد حذف الكني هكذا: علي بن إبراهيم بن محمد بن الحسن بن زهرة، فتكون الواسطة بينهما ثلاث، و لا يخلو عن بعد أيضاً.

أضف إليه ما فيه من الغلط فانّ محمّداً والد إبراهيم هو الحسن لا ابن الحسن.

تذكرة الأعيان، ص: 164

و مباحث عميقة شريفة، فامتثلت أمره رفع اللّه قدره، و بادرتُ إلي طاعته و إن استلزمت سوءَ الأَدب، المغتَفر في جنب الاحتراز عن مخالفته، و إلّا فهو معدن الفضل و التحصيل، و ذلك غني عن حجّة و دليل.

و قد أجزت له أدام اللّه أيّامه.

و لولده المعظم و السيد المكرم، شرف الملة و الدين أبي عبد اللّه الحسين.

و لأَخيه الكبير الامجد و السيد

المعظم الممجّد بدر الدين أبي عبد اللّه محمد.

و لولديه الكبيرين المعظمين أبي طالب أحمد أمين الدين، و أبي محمد عز الدين حسن عضدهما اللّه تعالي بدوام أيّام مولانا.

أن يروي هو و هم، عني جميعَ ما صنفته في العلوم العقلية و النقلية أو أنشأته أو قرأته أو أُجيز لي روايته أو سمعته من كتب أصحابنا السابقين، رضوان اللّه عليهم أجمعين، و جميع ما أجازه لي المشايخ الذين عاصرتهم و استفدت من أنفاسهم.. إلي آخرها «1».

و الإجازة مفصّلة جديرة بالمطالعة، تعرب عن تضلّع العلّامة في غالب الفنون و العلوم، و اتصاله المستمر بالمشايخ و استجازته عن أساتذته العلوم و الحديث و الفقه و قد أرّخها ب 25 شعبان 723.

و هذا الثناء العاطر الذي سمعناه عن العلّامة علي أبناء زهرة في القرن الثامن يُوقفنا علي انّ ذلك البيت العلوي لم يزل باقياً علي ذروة العلم و كان كشجرة طيّبة تؤتَي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها إلي حدّ نري انّ العلامة الحلي، يتواضع للمستجيز، و يعدّ سؤَاله، أمراً صادراً منه، فإذا كان هذا حال البيت في الأَثمار و الإضاءة في القرن الثامن فكيف حاله في عصر المؤَلف و بعده؟ و لذلك نشير إلي شخصيات معاصرة للمؤلف كلّهم من نتاج بيته الرفيع.

______________________________

(1) المجلسي: البحار: 104 62- 61.

) ط بيروت).

تذكرة الأعيان، ص: 165

أقطاب الطائفة في عصر المؤَلّف

1- الشريف زهرة بن علي بن زهرة بن الحسن الحسيني و هو أخو الشريف أبي المكارم مؤَلفنا الجليل.

قال المقريزي في خططه: أنشد الشريف زهرة بن علي بن زهرة بن الحسن الحسيني و قد اجتاز بالمعشوق يريد الحج:

قد رأيت المعشوقَ و هو من المهجر بحال تنبُو النواظر

عنه أثر الدهر فيه آثار سوء قد أدالت يد الحوادث منه

و «المعشوق» كما

في معجم البلدان: قصر عظيم بالجانب الغربي من دجلة قبالة سامراء في وسط البرية عمره المعتمد «1».

2- عبد اللّه بن علي بن زهرة إخوة الآخر ولد عام 531 و توفي عام 580.

و قد قرأ النهاية علي أخيه أبي المكارم، و له كتاب التجريد لفقه الغنية عن الحجج و الأَدلة، و لعلّه لخّص كتاب أخيه «الغنية»، و له ترجمة في غير واحد من الكتب «2».

3- السيد محي الدين أبو حامد محمد بن عبد اللّه بن علي بن زهرة و هو ابن أخي المؤَلف، و يروي عنه، يحيي بن سعيد مؤَلف الجامع للشرائع المتوفّي عام 690 ه، و علي بن موسي بن طاوس المتوفّي سنة 664 ه، و المحقّق الحلّي المتوفّي سنة 676 ه، و قد قرأ مقنعة المفيد علي عمّه أبي المكارم سنة 584 ه، و له من العمر أقلّ منا لعشرين فيكون من مواليد حوالي عام 565 ه، و له ترجمة

______________________________

(1) المقريزي، الخطط: ج 3، ص 259، لاحظ أعيان الشيعة: ج 7، ص 70.

(2) الطهراني، طبقات أعلام الشيعة القرن السادس، ص 165.

تذكرة الأعيان، ص: 166

في طبقات أعلام الشيعة «1».

4- أحمد بن محمد بن جعفر الشريف النقيب أبو طالب أمين الدين الحسيني، يروي عنه: السيد محي الدين أبو حامد، محمد بن عبد اللّه بن زهرة في «الأَربعين»، و ابن أخي السيد أبي المكارم كما مرّ، و قد صرّح بأنّ الشريف خال والده عبد اللّه بن علي بن زهرة، و الظاهر انّه من السادة العلماء النقباء بحلب من بني زهرة «2».

هؤلاء بعض الشخصيات البارزة الذين تخرجوا من هذا البيت فهم بين متقدم علي المؤَلّف أو معاصر له أو متأخر عنه، و هناك فقهاء أجلاء نبغوا من هذا

البيت عبر العصور فالقيام بترجمتهم و لو بصورة المامة عابرة يحوجنا إلي تأليف مفرد.

حياة المؤَلف و أشواطه العلمية

اشارة

أظنّ انّه قد حان الوقت لاستعراض ترجمة مؤَلفنا الكبير أبي المكارم حمزة بن علي بن زهرة.

و ننقل قبل كل شي ء كلمات الاعلام في حقّه:

1- قال ابن شهرآشوب (488 588 ه): حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي، له كتاب قبس الأَنوار في نصرة العترة الأَخيار، و غنية النزوع حسن «3».

2- و قال العلّامة الحلي: حمزة بن علي بن زهرة الحسيني (بضم الزاي) الحلبي، قال السيد السعيد صفي الدين معد (رحمه اللّه): انّ له كتاب قبس الأَنوار

______________________________

(1) لاحظ الجزء المختص بالقرن السابع باسم الأَنوار الساطعة في المائة السابعة، ص 160.

(2) السيد الأَمين: أعيان الشيعة: 3- 91.

(3) ابن شهرآشوب، معالم العلماء: ص 46 برقم 303.

تذكرة الأعيان، ص: 167

في نصرة العترة الاطهار و كتاب غنية النزوع «1».

3- قال الزبيدي: فمِنْ وُلْد علي، الشريف أبو المكارم حمزة بن علي المعروف بالشريف الطاهر، قال ابن العديم في تاريخ حلب: كان فقيهاً أُصولياً نظّاراً علي مذهب الإِمامية، و قال ابن أسعد الجواني: الشريف الطاهر عز الدين أبو المكارم حمزة ولد في رمضان سنة 511 و توفي بحلب سنة 585 «2».

4- و قال الطباخ الحلبي في إعلام النبلاء: الشريف حمزة بن زهرة الاسحاقي الحسيني أبو المكارم السيد الجليل، الكبير القدر، العظيم الشأن، العالم، الكامل، الفاضل، المدرس، المصنف، المجتهد، عين أعيان السادات و النقباء بحلب، صاحب التصانيف الحسنة و الأَقوال المشهورة، له عدّة كتب، و قبره بحلب بسفح جبل جوشن، عند مشهد الحسين، له تربة معروفة مكتوب عليها اسمه و نسبه إلي الامام الصادق عليه السلام- و تاريخ موته أيضاً «3».

5- و قال نظام الدين القرشي في كتاب نظام

الأَقوال: حمزة بن علي بن زهرة الحسيني، أبو المكارم المعروف بابن زهرة، عالم فاضل، متكلّم من أصحابنا، له كتب: منها غنية النزوع في الأصول و الفروع، و كتاب قبس الأَنوار في نصرة العترة الاطهار، ولد في شهر رمضان في سنة إحدي عشرة و خمسمائة، و توفي سنة خمس و ثمانين و خمسمائة، و روي عنه ابن أخيه محمد بن عبد اللّه بن علي بن زهرة و محمد بن إدريس «4».

6- و قال الشيخ الحر العاملي: هو فاضل عالم ثقة جليل القدر له مصنفات

______________________________

(1) العلّامة الحلي، إيضاح الاشتباه: 168 169.

(2) الزبيدي، تاج العروس: ج 3، ص 249) مادة زهرة).

(3) أعلام النبلاء: 4- 269 برقم 132.

(4) الأَفنديّ التبريزي، الرياض: ج 2، ص 206 نقله عن نظام الدين القرشي.

تذكرة الأعيان، ص: 168

كثيرة، ثمّ ذكر تآليفه التي ستوافيك «1».

7- و قال القاضي نور اللّه ما هذا خلاصته: إنّ السيد أبا المكارم حمزة بن زهرة كان من مجتهدي علماء الإِمامية، و صاحب التصانيف الكثيرة و كان رئيساً كبيراً بحلب ثمّ قال: و كان من أفاضل المتأخرين، المناظرين و من هذه السلسلة السيد علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي إبراهيم محمد بن أبي علي الحسن بن أبي المحاسن زهرة بن أبي علي الحسن، ثمّ ساق نسب علاء الدين إلي الامام أمير المؤمنين- عليه السلام- «2».

8- و قال العلّامة المجلسي: و كتاب «غنية النزوع في علم الأصول و الفروع» للسيد العالم الكامل أبي المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني «3».

و قال في الفصل الثاني من فهرس البحار: و كتاب الغنية مؤَلفه غني عن الإِطراء و هو من الفقهاء الأَجلّاء، و كتبه معتبرة مشهورة لا سيما هذا الكتاب «4».

9- و قال

السيد الخوانساري: السيد أبو المكارم من كبار فقهائنا الأَصفياء النبلاء، و كلما أطلق السيد ابن زهرة ينصرف الإِطلاق إليه و له كتاب «غنية النزوع إلي علم الأصول و الفروع» تعرض بتبيين مسائل الأُصولين ثمّ الفقه في نحو من أربعة آلاف بيت، و هو غير «غنية» أخيه، و النزوع (بضم النون) بمعني الاشتياق «5».

10- و قال المحدّث النوري: السيد عز الدين أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي الفقيه الجليل المعروف صاحب الغنية و غيرها المتولد في الشهر المبارك سنة إحدي عشر و خمسمائة، المتوفّي سنة خمس و ثمانين

______________________________

(1) الحر العاملي، أمل الآمل: 2- 105 رقم 293.

(2) القاضي نور اللّه المرعشي، مجالس المؤمنين: 1- 508.

(3) المجلسي: بحار الأَنوار: 1- 21 و 40.

(4) المجلسي: بحار الأَنوار: 1- 21 و 40.

(5) السيد الخوانساري، روضات الجنات: ج 2، ص 374 375 رقم الترجمة 225.

تذكرة الأعيان، ص: 169

و خمسمائة، هو و أبوه و جدّه و أخوه و ابن أخيه من أكابر فقهائنا، و بيتهم بيت جليل بحلب «1».

11- و قال المحدّث القمي: أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي العالم الفاضل الجليل الفقيه الوجيه صاحب المصنفات الكثيرة في الإِمامة و الفقه و النحو و غير ذلك.

ثمّ ذكرت تئاليفه «2».

12- و قال شيخنا المدرس في موسوعته: ابن زهرة حمزة بن علي بن أبي المحاسن زهرة، عالم فاضل جليل القدر من أكابر علماء الإِمامية و متكلميهم و فقهائهم، و يروي بواسطة واحدة عن أبي علي ولد الشيخ الطوسي المتوفّي سنة 515 ه «3».

إلي غير ذلك من الكلمات المماثلة التي تعرب عن مكانة المؤَلف العليا، و لعلّ في ما ذكرناه من الكلمات غني و كفاية.

آثاره و تآليفه:

إنّ أحسن ما يستدل

به علي مكانة الإِنسان و سعة باله و كثرة اطّلاعه و رصانة تفكيره، هو الآثار التي يتركها الإِنسان بعد رحيله فإنّها مرآة لما كان ينطوي عليه من المواهب و الطاقات و قد ترك مؤَلفنا الجليل آثاراً قيمة، خالدة علي جبين الدهر مشرقة عبر القرون و الأَجيال لا تندرس بمرّ الحقب و الأَيام، و ها هو أثره القيم الذي يزفه الطبع إلي القراء لم يزل مصدراً للعلم و مرجعاً للفقهاء منذ تأليفه إلي يومنا هذا و قد كان محور الدراسة في عصره و بعد رحيله حتي انّ المحقق الطوسي قرأه علي معين الدين المازني المصريّ، و كتب أُستاذه إجازة له في خاتمة الكتاب

______________________________

(1) النوري، المستدرك، الخاتمة، 3- الفائدة الثالثة، ص 475.

(2) القمي، الكني و الأَلقاب، ج 1، ص 294.

(3) المدرس التبريزي، ريحانة الأَدب، ج 7، ص 550.

تذكرة الأعيان، ص: 170

و سيوافيك نصّها.

و ها نحن نذكر صورة موجزة من تصانيفه: 1- الاعتراض علي الكلام الوارد من حمص «1» 2- الجواب عمّا ذكره مطران «2» نصيبين.

3- الجواب عن الكلام الوارد من ناحية الجبل.

4- جواب الكتاب الوارد من حمص، رواها عنه ابن أخيه السيد محيي الدين محمد و غيره و يحتمل اتحاده مع الأَوّل.

5- جواب المسائل الواردة من بغداد «3».

6- قبس الأَنوار في نصرة العترة الأَخيار.

و قد رد عليه بعض المخالفين من معاصري العلامة الحلي أسماه «المقتبس» ثمّ رد عليه الشيخ علي بن هلال بن فضل (المتوفّي 874 ه) و أسماه الأَنوار الجالبة لظلام الغلس من تلبيس صاحب المقتبس (الذريعة: 17- 31).

7- مسائل في الرد علي المنجمين تبلغ 21 مسألة، و للشريف المرتضي أيضاً كتاب بهذا الاسم (الذريعة: 2- 387).

8- مسألة في انّ النظر الكامل علي انفراده كاف في تحصيل المعارف

العقلية.

9- مسألة في نفي الرؤيَة و اعتقاد الإِمامية و مخالفيهم ممن ينسب إلي السنة

______________________________

(1) حِمْص: بالكسر ثمّ السكون بلد مشهور قديم و هي بين دمشق و حلب، بناها رجل يقال له حمص بن المهر، معجم البلدان، ج 2، ص 302.

و في الذريعة 5- 185 جواب الكتاب الوارد من حمص.

(2) مطران: بفتح الميم و سكون الطاء رئيس الكهنة، و هو فوق الأُسقف و دون البطريرك و الكلمة أصلها يونانية.

المنجد مادة «مطر».

و في الذريعة 5- 193 جواب المسألة الواردة من نصيبين.

(3) و في الذريعة (5- 216 جواب المسائل البغدادية).

تذكرة الأعيان، ص: 171

و الجماعة.

و عبر عنها في الروضات (2- 375) ب «الشافية»، تلك المسألة التي تفترق فيها العدلية عن الأَشاعرة فالطائفة الأُولي ينزهون الربّ عنها في الدنيا و الآخرة و الأَشاعرة ينفونها في الدنيا و يثبتونها في الآخرة.

10- مسألة في كونه تعالي جباراً حيّاً.

11- المسألة الشافية في ردّ من زعم أنّ النظر علي انفراده غير كاف في تحصيل المعرفة به تعالي «1».

12- مسألة في أنّ نية الوضوء عند المضمضة و الاستنشاق.

13- مسألة في تحريم الفقاع.

14- مسألة في الرد علي من ذهب إلي انّ الحسن و القبح لا يعلمان إلّا سمعاً.

و هذه المسألة تعبر عنها، بأنّ الحسن و القبح عقليّان كما عليه العدلية أو شرعيّان كما عليه الأَشاعرة.

15- مسألة في الردّ علي من قال في الدين بالقياس.

16- مسألة في إباحة نكاح المتعة.

17- نقض شبه الفلاسفة.

18- النكت في النحو.

19- غنية النزوع إلي علمي الأصول و الفروع «2».

______________________________

(1) قد كتب غير واحد من علمائنا رسالة في هذا الموضوع لاحظ الذريعة ج 5- 192 برقم 882.

(2) الحر العاملي: أمل الآمل: 2- 105 رقم 293، ذكر فهرس تصانيفه، بالنحو الذي ذكرنا، و ذكرنا

موارد اختلافه مع الذريعة في الهامش و المتن.

و العجب أنّ بعض ما ذكر في أمل الآمل، لم نعثر عليه في الذريعة و لعلّه ذكره تحت عنوان آخر.

تذكرة الأعيان، ص: 172

و ذكر في الذريعة ما يلي:

20- جوابات مسائل البلدان للسيد أبي المكارم عز الدين حمزة بن زهرة (الذريعة 5- 216).

21- مسائل البلدان أوعز إليه في ج 5- 216 قائلًا بأنّه يأتي في الميم.

و لم يذكرها في محلّها و يحتمل اتحادهما.

و الظاهر انّ الزمان قد لعب بتصانيفه، إذ لم نجد في المعاجم شيئاً يدلّ علي وجود نسخة من كتبه في المكتبات و المتاحف، غير كتاب «الغنية» الذي نحن بصدد التقديم له، فما ظنّك بكتب عالم أو طائفة أُغير عليها بخيل و ركاب، و قُتلوا في عقر دارهم، أو أجبروا علي ترك ديارهم، و النزول في الجبال و القري النائية؟!

مشايخه و أساتذته

إنّ وليد بيت العلم و الفضل كابن زهرة يتخذ بطبع الحال مشايخ بيته، سناداً و عماداً لرقيّه.

و أساتذة لعلومه و لذلك قرأ سيدنا المترجم علي لفيف منهم، و إليك أسماء من وقفنا عليهم من أساتذته.

1- والده: علي بن زهرة الحلبي «1».

2- جدّه: السيد أبو المحاسن زهرة الحلبي «2».

3- أبو منصور محمد بن الحسن بن منصور النقاش الموصلي تلميذ أبي علي ولد شيخ الطائفة «3».

______________________________

(1) السيد الخوانساري: الروضات: 2- 374.

(2) السيد الخوانساري: الروضات: 2- 374.

(3) السيد الأَمين: أعيان الشيعة: 6- 250 و هو يصرّ بأنّ كنيته «أبو الحسن».

تذكرة الأعيان، ص: 173

4- أبو عبد اللّه الحسين بن طاهر بن الحسين، و هو يروي عن الشيخ أبي الفتوح «1».

تلامذته و من يروي عنه

يروي عنه لفيف من الأَكابر.

1- الشيخ معين الدين المصري «2».

2- الشيخ شاذان بن جبرئيل القمي الّذي كان حياً سنة 584 ه «3».

3- الشيخ محمد بن جعفر المشهدي صاحب «المزار» المشهور «4».

4- ابن أخيه السيد محيي الدين محمد «5».

5- محمد بن إدريس الحلي مؤَلف السرائر (المتوفّي 598 ه) و لو صحّ فهو من مشايخ روايته لا انّه تتلمذ عليه كما يظهر من تعبيره عنه في السرائر «6».

و قال السيد حسين البروجردي في نخبة المقال:

و ابن علي بن زهرة الأَجل ذو غنية عنه ابن إدريس نقل

و لعل من سبر الكتب و المعاجم يعثر علي أسماء أُخري تروي عن المؤَلف أو يروي هو عنهم.

______________________________

(1) الأَفندي التبريزي، الرياض: 2- 205 و في المصدر المعري مكان المصري و الصحيح ما أثبتناه.

(2) السيد الخوانساري: الروضات: 2- 375 و أمل الآمل: 2- 106.

(3) السيد الخوانساري: الروضات: 2- 375 و أمل الآمل: 2- 106.

(4) الحرّ العاملي: أمل الآمل: 2- 106 و لاحظ ريحانة الأَدب: 7- 551.

(5) طبقات

أعلام الشيعة، القرن السابع: 160.

(6) ذكره في أمل الآمل و الروضات و غيرهما لاحظ السرائر: 2، ص 443.

تذكرة الأعيان، ص: 174

غنية النزوع إلي علمي الأصول و الفروع

هذا الكتاب مشتمل علي العلوم الثلاثة:

أ- الفقه الأَكبر: و هذا القسم مشتمل علي مهمات المسائل الكلامية من التوحيد إلي المعاد.

ب- أُصول الفقه: و هو حاو لبيان القواعد الأصولية التي يستنبط منها الأَحكام الشرعية، ألفه علي غرار أُصول القدماء، و من فصوله النافعة، بحثه عن القياس، و آثاره السلبية في الفقه.

و قد خلت كتب المتأخرين من أصحابنا من طرح هذه المسألة و دراسة أدلّة المثبتين و النافين، و ما هذا إلّا لأنّ عدم حجّيته هو الأَصل المسلّم في فقه أهل البيت.

ج- الفروع و الأَحكام الشرعية: و هو دورة فقهية كاملة، استدلالية، يستدل بالكتاب و السنة النبوية و أحاديث العترة الطاهرة و الإِجماع، و هذا القسم من محاسن الكتب و جلائلها و إليك مواصفاته: 1- يستمد من الكتاب العزيز في مسائل كثيرة علي وجه ليس له مثيل فيما بأيدينا من كتب القدماء فقد استدل، بقرابة مائتين و خمسين آية، في موارد مختلفة فهو بحقّ جدير بالتقدير.

2- يعتمد علي أحاديث نبوية وافرة إمّا استدلالًا علي المطلوب، أو احتجاجاً علي المخالف و هو الغالب علي أسلوب الكتاب فهي عنده أشبه بأُصول موضوعية تلقاها المخالف بالقبول و لأَجل هذا الامتياز صار الكتاب فقهاً مقارناً، سدّ به الفراغ الموجود في المكتبة الفقهية في عصره.

3- يعتمد علي الإِجماع في مسائل كثيرة تبلغ قرابة ستمائة و خمسين مسألة و مراده من الإِجماع ليس الإِجماع المصطلح، و هو اتّفاق الأُمة أو الإِمامية علي

تذكرة الأعيان، ص: 175

الحكم بشرائطه الخاصة، بل المصطلح الخاصّ له في هذا الكتاب و قبله للشيخ الطوسي في كتاب الخلاف، و

قد صرّح بهذا الاصطلاح في القسم الثاني من الكتاب في مبحث الإِجماع و حاصله: «انّ المراد منه في مقام الاحتجاج هو قول المعصوم.

لَانّ ملاك حجّية الإِجماع عند الإِمامية هو اشتماله علي قوله، و ليس الإِجماع إلّا طريقاً إلي كشفه، فإذا اكتشفناه عن غير ذاك الطريق، يطلق عليه الإِجماع، توسعاً و مجازاً».

و لا شكّ انّه استعمال علي خلاف الاصطلاح الدارج، لكنّه التجأ إليه لأَجل المجاراة مع المخالف في مقام الاحتجاج علي المدّعي، و سيوافيك تعبيره في مبحث الإِجماع في القسم الثاني من الكتاب.

و بذلك يعلم، أن ما يساق إليه من الاعتراض من عصر صاحب الجواهر و الشيخ الأَنصاري إلي يومنا، من أنّه كيف يدّعي الإِجماع في مسائل غير معنونة، أو مختلفة، فهو ناشئ عن عدم الرجوع إلي مصطلحه في الكتاب.

و قد كان سيد مشايخنا المحقّق البروجردي قدَّس سرَّه يبرِّر بذلك الإِجماعات الواردة في كتاب الخلاف لشيخ الطائفة، في درسه الشريف الذي كنّا نحضره عام 1369 عند البحث عن حجّية الإِجماع المنقول بخبر الواحد.

4- انّ المؤَلف يسير علي ضوء كتاب الانتصار و الناصريات للسيد المرتضي، و كتاب الخلاف و المبسوط للشيخ الطوسي، و قد استفاد المحقّق بالرجوع إليها في تحقيق نصّ الكتاب و تصحيحه.

5- انّ المؤَلف كان فقيهاً متضلّعاً عارفاً بفقه أهل السنّة كعرفانه بفقه الإِمامية، و لم يكن اطلاعه علي الأَوّل أقلّ من الثاني و بذلك أضفي علي كتابه صبغة السعة و الشمول.

تذكرة الأعيان، ص: 176

8- يحيي بن الحسن الأَسدي الحلي ابن البطريق (523- 600 ه)

العمدة لِابن البطريق

لقد قامت الإِمامية بتدوين مناقب أهل البيت من أقدم العصور إلي زماننا هذا، فألّفوا في هذا المضمار كتباً حافلة و رسائل ذات أهميّة بصور متنوّعة.

و من أحسن ما أُلّف في هذا الباب في أُخريات القرن السادس، هو كتاب «العمدة» لمحدّث

عصره، و علّامة زمانه، الحافظ: يحيي بن الحسن بن البطريق الأَسدي الحلي (523 600 ه) فقام بتدوين الفضائل و المناقب لوصيّ المختار، بصورة بديعة لم يسبقه إليها أحد من أصحابنا الإِمامية حتّي شيخه العلّامة الحافظ: محمد بن علي بن شهرآشوب السروي (488 588 ه) فقد دوّن جلّ ما رواه أصحاب الصحاح و المسانيد بشكل ممتاز، موضحاً لمشكلاته، و مبيّناً لمعضلاته، معلّقاً عليها كلّما استدعت الحاجة، و يقف الباحث علي موقع المؤَلّف و مكانته العلمية، من خلال الثناء عليه من أعلام الطائفة، و إليك بعض ما وقفنا عليه: 1- قال العلامة في إجازته لبني زهرة: و من ذلك جميع مصنّفات الشيخ أبي زكريا: يحيي بن علي البطريق، و رواياته عنّي عن والدي قدّس اللّه روحه عن

تذكرة الأعيان، ص: 177

السيّد فخار عن المصنف «1» و علي ذلك فيروي العلّامة (648 726 ه) عن شيخنا المترجم بواسطتين: والده و السيد فخار.

2- قال الشيخ الحر العاملي: الشيخ أبو الحسين يحيي بن الحسن ابن الحسين بن علي بن محمد بن البطريق الحلي، كان عالماً، فاضلًا، محدّثاً، محقّقاً، ثقة، صدوقاً، ثم ذكر كتبه «2» 3- و قال المتتبّع الخبير عبد اللّه الأَفندي التبريزي: الشيخ الأَجل شمس الدين أبو الحسين يحيي بن (الحسن بن الحسين بن علي بن محمد بن) البطريق الحلّي الأَسدي، المتكلم الفاضل، العالم، المحدث الجليل، المعروف بابن البطريق: صاحب كتاب العمدة و غيره من الكتب العديدة في المناقب، و قد رأيت في بعض المواضع في مدحه هكذا: الامام الأَجل شمس الدين جمال الإِسلام، العالم الفقيه، نجم الإِسلام، تاج الأَنام مفتي آل الرسول «3» 4- و قال العلامة المجلسي في أول البحار: و كتاب العمدة، و كتاب المستدرك، كلاهما في

أخبار المخالفين في الإمامة للشيخ أبي الحسين يحيي (بن الحسن بن الحسين بن علي بن محمد) بن البطريق الأَسدي «4»

______________________________

(1) إجازة العلّامة لبني زهرة المطبوعة في البحار: 107 137- 60، و هذه الإِجازة الكبيرة من العلّامة لبني زهرة الحلبيين توصف بالإِجازة الكبيرة كتبها عام 723، و هم عبارة عن: علاء الملة و الحق و الدين أبي الحسن علي بن أبي إبراهيم محمد بن أبي علي الحسن بن أبي المحاسن بن زهرة، و ولده المعظم شرف الملة و الدين أبي عبد اللّه الحسين، و أخيه بدر الدين أبي عبد اللّه محمد، و ولديه أبي طالب أحمد أمين الدين و أبي محمد عز الدين الحسن رحمهم اللّه.

(2) أمل الآمل: 2- 45.

(3) رياض العلماء: 5- 358.

(4) بحار الأَنوار: 1- 10 و 29.

تذكرة الأعيان، ص: 178

ثم قال: و كتاب العمدة و مؤَلّفه مشهوران مذكوران في أسانيد الإِجازات، و أمّا المستدرك فعندنا منه نسخة قديمة نظن أنّها بخط مؤَلّفها «1» 5- و قال في الروضات بعد نقل ما ذكره الشيخ الحر في أمله في حقه: و في بعض كتب الإِجازات اكتناء الرجل بأبي زكريا و في بعضها تلقّبه بشمس الدين، شرف الإسلام.

ثم قال: و يروي في الأَغلب عن عماد الدين محمد بن القاسم الطبري، و هو يروي عن الشيخ أبي علي، ولد شيخنا الطوسي «2».

6- و قال الميرزا الأسترآبادي في رجاله الكبير: يحيي بن الحسن.. كان عالماً فاضلًا، محدثاً، محققاً، ثقة، صدوقاً، له كتب.. الي آخر ما ذكره الشيخ الحر العاملي في أمله «3» 7- و قال المحدّث النوري: الشيخ الأَجل شمس الدين أبو الحسين أو أبو زكريا كما في إجازة العلّامة لبني زهرة: يحيي بن الحسن بن الحسين بن

علي بن محمد بن بطريق الحلّي الأَسدي مؤَلف كتاب «العمدة» الذي جمع فيه ما في الصحاح الستة، و تفسير الثعلبي، و مناقب ابن المغازلي من مناقب أمير المؤمنين- عليه السلام بحيث لم يغادر شيئاً من ذلك، و لم يذكر فيه شيئاً من غيرها، و لم يسبقه الي هذا التأليف البديع أحد من أصحابنا، و مؤَلف كتاب المستدرك بعد العمدة، أخرج فيه قريباً من ستمائة حديث من كتب أُخري لهم، عثر عليها بعد تأليف العمدة، كالحلية لأَبي نعيم، و المغازي لابن إسحاق، و الفردوس لابن شيرويه الديلمي، و مناقب الصحابة للسمعاني و غير ذلك من المؤَلفات «4».

______________________________

(1) بحار الأَنوار: 1- 10 و 29.

(2) روضات الجنات: 8- 196.

(3) منهج المقال: 513.

(4) المستدرك: 3- 13، ط مؤَسسة آل البيت.

تذكرة الأعيان، ص: 179

8- قال السيد الصدر: أبو الحسين يحيي بن الحسن بن الحسين بن علي ابن محمد بن البطريق الأَسدي، المتكلم الفاضل، المحدث الجليل، المعروف بابن البطريق، يروي عن ابن شهرآشوب سنة خمس و تسعين «1» و خمسمائة و هو صاحب «كتاب العمدة في مناقب الأَئمة» و «الخصائص» في مناقب أمير المؤمنين- عليه السلام-، و هو أشهر من أن تشرح أحواله، من كبار شيوخ الشيعة رضي اللّه عنه «2».

9- و قال شيخنا الطهراني: الشيخ شمس الدين أبو الحسين يحيي بن الحسن بن الحسين بن علي بن محمد الراوي عن محمد بن علي بن شهرآشوب في 575، و قد أرّخ في «كشف الحجب» وفاته سنة 600 عن سبع و سبعين سنة، و هو صاحب كتاب «العمدة» المعروف بعمدة ابن البطريق و له «رجال الشيعة» الذي نقل عنه ابن حجر في «لسان الميزان» الذي كتبه في ما زاد علي «ميزان الاعتدال»

للذهبي «3» هذا ما ذكره أعلام الإمامية في حق المترجم له، و ترجمه من غيرهم، ابن حجر العسقلاني.

10- قال في لسان الميزان نقلًا عن تاريخ ابن النجّار «4»: يحيي بن الحسن

______________________________

(1) هكذا في النسخة المطبوعة، و الظاهر انّه مصحّف سبعين، و قد توفي الشيخ ابن شهرآشوب عام 588 فكيف يمكن أن يروي عنه المترجم عام 595؟! و قد نقل شيخنا الطهراني عام الرواية كما ذكرناه.

(2) تأسيس الشيعة لعلوم الإِسلام 130.

(3) مصفي المقال: 502.

(4) و هو غير ابن النجار الشيعي، أعني: أبا الحسن محمد بن جعفر بن محمد التميمي النحوي المعروف بابن النجار المتوفّي سنة 402 ه مؤَلف تاريخ الكوفة، الموسوم بالمصنف، الذي ينقل عنه السيد عبد الكريم بن طاوس المتوفّي سنة 692 ه في كتابه فرحة الغري، و هو يروي عن أبي بكر الدارمي الذي أجاز التلعكبري سنة 330 ه و هذا الكتاب من أنفس الكتب، نسأل اللّه تعالي أن يوفقنا للعثور عليه و نشره.

تذكرة الأعيان، ص: 180

بن الحسين بن علي الأَسدي الحلّي الربعي المعروف بابن البطريق، قرأ علي أخمص الرازي الفقه و الكلام علي مذهب الإِمامية و قرأ النحو و اللغة و تعلّم النظم و النثر، و جدّ حتي صارت إليه الفتوي في مذهب الإِمامية، و سكن بغداد مدة، ثم واسط و كان يتزهّد و يتنسّك، و كان وفاته في شعبان سنة 600 و له سبع و سبعون سنة «1».

أقول: و علي ذلك يكون المترجم له من مواليد عام 523 ه، و قد نصّ بذلك شيخنا المجيز الطهراني في الثقات العيون ص 338.

و القاري الكريم يجد نظير هذه الكلمات من الثناء علي المؤَلف و كتبه في المعاجم و التراجم مثل أعيان الشيعة ج 10

ص 289، و الفوائد الرضوية ص 709، و هدية العارفين ج 2 ص 522، و ريحانة الأَدب ج 7 ص 415.

و الكلّ متّفقون علي جلالة قدر الرجل في الأَدب و غيره من الفنون الإسلامية و في ما ذكرنا من الكلمات حول الآثار العلمية التي خلّفها أقوي شاهد عليه و إليك هذه الآثار.

آثاره العلمية

أنّ حياة شيخنا المترجم له كانت مفعمة بالتأليف و التصنيف و التربية و التدريس فخلّف آثاراً مشرقة تدل علي نبوغ الرجل و تضلّعه في فنون الحديث و الرجال، و إليك أسماء ما وقفنا عليه منها في المعاجم و كتب التراجم: 1- اتفاق صحاح الأَثر في إمامة الأَئمّة الاثني عشر و اسمه يحكي عن مسمّاه، و عنوانه يكشف عن محتواه.

______________________________

(1) لسان الميزان: 6- 247.

تذكرة الأعيان، ص: 181

2- تصفّح الصحيحين في تحليل المتعتين و المراد من المتعتين متعة الحج و متعة النساء اللتين دلّت نصوص الكتاب و السنّة علي جوازهما في العصر النبوي، و بعده الي أن نهي عنهما نهياً سياسياً، فبقيتا متروكتين بين أبناء السنّة دون غيرهم.

3- خصائص الوحي المبين في مناقب أمير المؤمنين- عليه السلام و قد قام بهذا التأليف بعد كتابي العمدة و المستدرك، قال في الرياض: «و رأيت منه نسخة عتيقة بتبريز و عندنا منه نسخة» قد أورد فيه أخبار المخالفين في تفسير الآيات التي نزلت في شأن علي عليه السلام طبع في إيران سنة 1311 ه طبعة حجرية.

4- الرد علي أهل النظر في تصفّح أدلّة القضاء و القدر و لعلّ الكتاب حول إبطال استنتاج نظرية الجبر من القول بالقضاء و القدر.

5- العمدة من عيون الاخبار في مناقب إمام الأَبرار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصيّ المختار- صلي الله عليه

و آله و سلم- و علي الأَئمة من ذريته الاطهار 6- عيون الاخبار قال في الرياض: نسبه إليه المولي محمد طاهر القمي في مقدمة كتاب الأَربعين نقلًا عن كتاب الصراط المستقيم.

7- المستدرك المختار في مناقب وصيّ المختار و الكتاب استدراك لكتاب العمدة «1»

______________________________

(1) قال في البحار عندنا منه نسخة قديمة، و ذكر الطهراني في الذريعة وجود نسخة في المكتبات.

تذكرة الأعيان، ص: 182

8- نهج العلوم إلي نفي المعدوم المعروف بسؤَال أهل حلب «1» 9- رجال الشيعة و ينقل عنه ابن حجر في لسان الميزان كما مر.

مشايخه و أساتذته

قرأ شيخنا المترجم له علي لفيف من علماء الفريقين و أخذ عنهم الحديث و التفسير و الفقه.

فمن الخاصة يروي عن عدة من الاعلام: 1- الشيخ عماد الدين الطبري صاحب بشارة المصطفي، كما يظهر من إجازة الشيخ محمد سبط الشهيد الثاني، للمولي محمد أمين الأسترآبادي.

و الشيخ عماد الدين الطبري هو العالم الجليل الواسع الرواية، يروي في كتابه: «البشارة» عن عدة من مشايخه، من سنة 503 ه إلي سنة 517 ه منهم نجل شيخنا الطوسي و الفقيه «حسكا» الحسن بن الحسين بن بابويه «2» 2- محمد بن شهرآشوب (488 588 ه) صاحب «المناقب» و «المعالم» و غيرهما من المؤَلّفات «3» هؤلاء بعض مشايخه من أعلام الطائفة، و أمّا مشايخه من العامة فقد ذكر أسماءهم عند ذكر طرقه إلي الصحاح الستة في مقدمة كتاب «العمدة» و «الخصائص» و إليك بعض من ذكرهم:

______________________________

(1) هذه الكتب ذكرها الشيخ الحر العاملي في أمل الآمل: 2- 345، و نقلها عنه صاحب رياض العلماء: 5- 354، و غيره من المؤَلفين.

(2) لاحظ رياض العلماء: 5- 358.

(3) الثقات العيون: 278 و 338.

تذكرة الأعيان، ص: 183

3- أبو جعفر إقبال بن المبارك

بن محمد العكبري الواسطي، روي عنه في جمادي الأولي من شهور عام 584 ه.

4- الشيخ الإِمام المقري أبو بكر عبد اللّه بن منصور بن عمران الباقلاني، روي عنه في شهر رمضان سنة 579 ه، و هو يروي صحيح البخاري عن طريقيهما معاً كما يروي صحيح مسلم عن طريق الأَخير فقط.

5- فخر الإِسلام أبو عبد اللّه أحمد بن الطاهر و هو يروي مسند أحمد عن طريقه.

6- السيد الأَجل محمد بن يحيي بن محمد بن أبي السطلين العلوي الواعظ البغدادي يروي عنه تفسير الثعلبي الموسوم بالكشف و البيان في سنة 585 ه.

هؤلاء بعض مشايخه و أساتذة حديثه و قد أتي بأسمائهم و خصوصياتهم في مقدمة كتابي «العمدة» و «الخصائص».

الراوون عنه

لقد تتلمذ علي يد شيخنا المترجم له، و روي عنه لفيف من المشايخ و العلماء في الحديث و الرجال، و قد جاءت أسماؤهم في غضون المعاجم نأتي بما وقفنا عليه: 1- علي بن يحيي بن الحسن ولد المؤَلف المكنّي بأبي الحسن الكاتب.

قال الحافظ ابن كثير في «البداية و النهاية» ما لفظه: أبو الحسن علي بن يحيي ابن الحسن بن الحسين بن علي بن محمد البطريق بن نصر بن حمدون بن ثابت الأَسدي الحلّي، ثم الواسطي، ثم البغدادي، الكاتب الشاعر الشيعي، فقيه الشيعة..

تذكرة الأعيان، ص: 184

ثم قال: كان فاضلًا ذكيا جيد النظم و النثر، لكنّه مخذول محجوب عن الحق، و قد أورد ابن الساعي قطعة جيدة من إشعاره الدالة علي غزارة مادته في العلم و الذكاء رحمه اللّه «1» و العجب من ابن كثير يصفه بأنّه «مخذول محجوب عن الحق» و هو يعترف بفضله و علو كعبه في العلم و الأَدب!! أ فهل يكون حب أهل البيت الذين أمر

اللّه بحبّهم و مودّتهم موجباً لخذلان من يتولّاهم؟! أ فهل يكون المتّبع لآثارهم بعيداً عن الحق و قد أمر النبي صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم بطاعتهم؟! نعم هكذا يري ابن كثير، فمن تولّي أعداء الرسالة هو العزيز، و من أحبّ خصوم أهل البيت هو الواقف علي الحق؟!! و قد قرأ الشيخ كمال الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم العفيف الموصلي كتاب «العمدة» عليه، و كتب عليه إجازة، و هذه صورتها: قرأ عليّ الأَجل الأَوحد العالم العامل الورع كمال الدين عزّ الإِسلام كهف الطائفة أبو العباس أحمد بن الأَجل تاج الدين إبراهيم بن أحمد بن الأَجل العفيف الموصلي أدام اللّه سعادته و بلغه إرادته، من أوّل هذا الكتاب و هو كتاب العمدة في عيون صحاح الأَخبار تأليف والدي رحمه اللّه إلي فصل: «انّه عليه السلام أوّل من أسلم» و أذنت له أن يروي ذلك عنّي و عن والدي المصنّف بالقراءة «2» و سيوافيك ما نقله الشارح الحديدي منه.

2- علي بن يحيي بن علي الخياط الشيخ الفقيه أبو الحسن السوراوي،

______________________________

(1) البداية و النهاية: 13- 164.

(2) الأَنوار الساطعة في القرون السابعة: 3.

تذكرة الأعيان، ص: 185

يروي عن ابن إدريس المتوفّي عام 598 ه و عن يحيي بن البطريق «1» 3- فخار بن معد بن فخار بن أحمد شرف الدين أبو علي العلوي الموسوي الحائري المتوفّي عام 630 ه، و هو يروي عن جماعة منهم والده معد بن فخار و أبو المكارم حمزة بن زهرة و يحيي بن علي بن البطريق «2» 4- السيد نجم الدين محمد بن أبي هاشم العلوي قرأ رجال الكشي علي شيخنا المترجم له و كتب شهادة القراءة له في عدّة مواضع من النسخة

و هي موجودة عند العلّامة الورع الشيخ حسن المصطفوي «3» 5- محمد بن معد بن علي و هو صفي الدين أبو جعفر الموسوي من تلاميذ ابن البطريق و مشايخ سديد الدين الحلّي (والد العلّامة الحلي) و ابن طاوس كما صرّح به في كتاب اليقين عند روايته عنه في العشر الأَخير من صفر عام 616 ه «4» 6- محمد بن عبد اللّه بن علي بن زهرة الكبير المعروف بابن زهرة، و هو ابن أخ أبي المكارم حمزة بن زهرة صاحب كتاب الغنية المتوفّي عام 585 ه، و هو يروي عن شيخنا المترجم له.

قال في الرياض: و يروي عنه محمد بن عبد اللّه بن زهرة الحسيني الحلبي، كما يظهر من إجازة الشيخ محمد سبط الشهيد الثاني، للمولي محمد أمين الأسترآبادي «5».

______________________________

(1) الأَنوار الساطعة: 118.

(2) الأَنوار الساطعة: 130.

(3) الثقات العيون: 310.

(4) المصدر نفسه: 338، الأَنوار الساطعة: 176.

(5) رياض العلماء: 5- 358، و لاحظ الثقات العيون: 338.

تذكرة الأعيان، ص: 186

7- الفقيه مجد الدين أبو المكارم أحمد بن الحسين بن علي أبي الغنائم كما يظهر من أسانيد بعض أحاديث كتبه «1» هذا و في أمل الآمل: و يروي الشهيد عن محمد بن جعفر المشهدي عن ابن البطريق، و قد قرأ كتبه عليه «2» أقول: و ما ذكره غير صحيح، لَانّ محمد بن المشهدي مؤَلف المزار ولد حوالي سنة 510 و ابن البطريق ولد عام 533 و قراءة الأَكبر علي الأَصغر، و الرواية عنه بعيدة.

أضف إلي ذلك انّ شيخنا المجيز الطهراني استخرج مشايخ المشهدي الذين يروي عنهم في كتاب «المزار» فبلغ خمسة عشر رجلًا، و لم يذكر ابن البطريق فيهم، بل ذكر من مشايخه، نظراء: أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني

الحلبي المتوفي عام 584 ه، و الشيخ الفقيه عماد الدين محمد بن أبي القاسم الطبري المتوفّي عام 553 ه، و محمد بن علي بن شهرآشوب المتوفّي 588 ه «3» ثمّ إنّ رواية الشهيد عن ابن المشهدي غير صحيحة قطعاً، لَانّ الشهيد من أعلام القرن الثامن، و قد ولد عام 734 ه، و توفّي عام 786 ه، فكيف يمكن له الرواية عن ابن محمد المشهدي الذي هو من مواليد حوالي سنة 510 ه؟! كما أنّ ما في الرياض ج 5 ص 49 من أنّ صاحب المزار يروي عن نصير الدين الطوسي غير صحيح جدّاً، لأَنّ الطوسي توفّي عام 672 ه، فكيف يصح لابن المشهدي أن يروي عنه؟ و ما في أعيان الشيعة من أنّ صاحب المزار توفّي في 4 ذي الحجة سنة

______________________________

(1) رياض العلماء: 5- 358.

(2) أمل الآمل: 2- 345.

(3) راجع الذريعة: 20- 324.

تذكرة الأعيان، ص: 187

336 ه بالحلّة و نقل إلي مشهد الحسين- عليه السلام- و دفن فيه، غير تام جدّاً.

هذا هو ما وقفنا عليه من تلاميذ المترجم له و من يروون عنه.

أولاده

خلّف المترجم له ولدين كريمين فاضلين هما: 1 علي بن يحيي بن البطريق نجم الدين أبو الحسن الحلّي الكاتب.

قال محمد بن شاكر في فوات الوفيات ما لفظه: علي بن يحيي بن بطريق: نجم الدين أبو الحسن الحلّي الكاتب، كتب بالديار المصرية أيام الدولة الكاملية، ثم اختلَّت حاله، فعاد إلي العراق، و مات ببغداد سنة اثنتين و أربعين و ستمائة، و كان فاضلًا أُصولياً.

ثم نقل طرفاً من إشعاره «1» و يظهر من الشارح الحديدي وجود الخلطة و الصداقة بينهما حيث ينقل عنه في شرحه، و يقول: كان صديقنا علي بن يحيي البطريق (رحمه

اللّه)، يقول: لولا خاصة النبوّة و سرّها، لما كان مثل أبي طالب و هو شيخ قريش و رئيسها و ذو شرفها يمدح ابن أخيه محمداً و هو شاب قد رُبِّي في حجره و هو يتيمة و مكفوله، و جار مجري أولاده، بمثل قوله:

و تلقوا ربيع الابطحين محمّدا علي ربوة في رأس عنقاء عيطل

و تأوي إليه هاشم، إنّ هاشماً عرانين كعب آخر بعد أوّل

و مثل قوله:

و أبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامي عصمة للأَرامل

يطيف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة و فواضل

______________________________

(1) فوات الوفيات: 3- 112.

تذكرة الأعيان، ص: 188

فإنّ هذا الأُسلوب من الشعر لا يمدح به التابع و الذنابي من الناس، و إنّما هو من مديح الملوك و العظماء، فإذا تصوّرت انّه شعر أبي طالب، ذاك الشيخ المبجّل العظيم في محمد- صلي الله عليه و آله و سلم- و هو شاب مستجير به، معتصم بظلّه من قريش، قد ربّاه في حجره غلاماً و علي عاتقه طفلًا، و بين يديه شابّاً، يأكل من زاده، و يأوي إلي داره علمت موضع خاصّية النبوّة و سرّها، و انّ أمره كان عظيماً و انّ اللّه تعالي أوقع في القلوب و الأَنفس له منزلة رفيعة و مكاناً جليلًا «1».

2- محمد بن يحيي بن البطريق، انظر ترجمته في تأسيس الشيعة: 130.

نكات يجب التنبيه عليها

1- قد أطبقت كلمة المترجمين لشيخنا المؤَلّف علي أنّ اسمه هو: يحيي ابن الحسن بن الحسين فما في تعليقات بعض الأَعاظم بترجمته، بالحسن بن الحسين محمول علي سهو القلم و يصحّح بسقوط لفظ «يحيي» قبل الحسن.

كما أنّ عد شيخنا المترجم له من علماء أهل السنّة كما صدر عنه سهو آخر حيث قال: و انّ كتاب العمدة من الكتب

المعتبرة المعتمدة لديهم «2» و كيف خفي علي مثله أنّه من أعيان الطائفة المحقّة و محدّثيهم و من المتفانين في حب أهل البيت المقتفين آثارهم؟! 2- قال السيد الصدر في تأسيس الشيعة: آل البطريق بيت جليل بالحلّة من الشيعة الإِمامية، بيت علم و فضل و أدب، اشتهر منهم صاحب الترجمة و ابناه: علي بن يحيي و محمد بن يحيي «3»

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة: 14- 63، طبع مصر.

(2) لاحظ إحقاق الحق: 2- 406 و 509 و 3- 6.

(3) تأسيس الشيعة: 130.

تذكرة الأعيان، ص: 189

3- قال في القاموس: البطريق كالكبريت: القائد من قوّاد الروم، تحت يده عشرة آلاف رجل، ثم الطرخان علي خمسة آلاف، ثم الفومس علي مائتين.

4- قال شيخنا المجيز الطهراني: و لعل المؤَلّف من ولد البطريق الذي عدّه ابن النديم مع ابنه يحيي بن بطريق من السريان المترجمين إلي العربية في عهد المنصور العباسي و إليه تعزي ترجمة «تيماوس» لَافلاطون، فيكون انتماؤه إلي بني أسد بالولاء «1» 5- المشهور انّ المترجم له توفّي عام 600 عن عمر يبلغ 77، غير أنّ إسماعيل باشا في هدية العارفين ج 2 ص 522 ذكر أنّ المترجم له توفي حدود 605 و لم يذكر مصدره.

6- إنّ شيخنا الطهراني قد عنون المترجم له في الثقات العيون في سادس القرون، و ذكر أنّه ولد عام 523 و توفّي عام 600.

و مع ذلك قد عنونه في الأَنوار الساطعة في المائة السابعة و أرّخ ميلاده و وفاته (623 700 ه).

و الصحيح هو ما ذكره في الثقات العيون، و لعلّه تصحيف لتاريخه الصحيح و هو 523 600، بتبديل خمسة إلي ستة في الميلاد و ستة إلي سبعة في الوفاة، و مع ذلك لم يعلم

وجه لتكراره في الأَنوار الساطعة، لأَنّه لم يكن من علماء القرن السابع بل كان من علماء القرن السادس.

تعريف بكتاب العمدة

لقد قام المؤَلّف في كتاب العمدة بجمع و تدوين مناقب الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- عليه السلام- الواردة في الصحاح و السنن و المسانيد لأَهل السنّة

______________________________

(1) طبقات أعلام الشيعة: 2- 337: القرن السادس.

تذكرة الأعيان، ص: 190

علي نسق خاص و ترتيب مبتكر.

و قد استخرج هذه المناقب من: صحيحي البخاري و مسلم، و من الجمع بين الصحيحين للحميدي، و من كتاب الجمع بين الصحاح الستة لجامعه الشيخ أبي الحسن رزين بن معاوية بن عمار العبدري و مسند أحمد بن حنبل الشيباني، و تفسير الثعلبي الموسوم بالكشف و البيان لأَبي إسحاق أحمد ابن محمد بن نعيم الثعلبي، و مناقب الفقيه أبي الحسن بن علي بن محمد الطيب المعروف بابن المغازلي الواسطي، و مناقب أحمد بن حنبل المعروف بفضائل الصحابة، إلي غير ذلك من الكتب التي أشار إليها المؤَلّف في ديباجة الكتاب، و خلال فصوله.

و قد كان هذا الكتاب خير بداية لهذا النوع من التأليف و التصنيف أعني «جمع المناقب من الصحاح و المسانيد أو السنن المعتبرة عند أهل السنة» و توالت التآليف و المصنّفات علي هذا النمط من بعد.

هذا و الكتاب الحاضر، يشتمل علي تسعمائة و ثلاثة عشر حديثاً في ستة و ثلاثين فصلًا ثم ذيّله بعدة أُمور تري تفصيلها في فهرس الكتاب و لم يخصّها بالفصل، و قد ذكر عدد أحاديث كل فصل في مقدّمته.

كما ذكر المؤَلّف أسانيده و طرقه إلي مؤَلّفيها و رواتها في صدر الكتاب، و هو يعرب عن مكانته في الحديث و تضلّعه فيه، و كثرة مشايخه و أساتذته، و بلوغه الذروة في الإِحاطة

بالمناقب و الفضائل.

تذكرة الأعيان، ص: 191

9- محمد بن الحسين البيهقي قطب الدين الكيدري (كان حياً سنة 610 ه)

الشريعة الإِسلامية و دورها في الحياة البشرية

اشارة

بُعث النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- بكتاب مبين، و سنّة زاهرة، و شريعة جامعة، فأحدث رجّة في كافة جوانب الحياة الإِنسانية، و لم يبق مظهر للحياة إلّا اهتزّ و ظهرت معالم التطوّر فيه.

كانت الشريعة الإِسلامية زلزالًا في حقل الدين و العقيدة فعصفت بالشرك و جعلت من الإِنسان المشرك، موحّداً ضحّي بنفسه و نفيسه في سبيل التوحيد و مكافحة الوثنية.

كانت زلزالًا في جانب العادات و التقاليد و الآداب و الأَخلاق، فقد أبادت الرسوم الجاهلية و ذهبت بأعرافها فأصبح الإِنسان العاكف علي الخرافات الموروثة منا لآباء، فرداً موضوعياً رافضاً لما يخالف الفطرة و العقل السليم.

كانت هزّة عنيفة في مجال العلم و المعرفة بعالم الوجود و فسيح الكون و قد دعت إلي النظر في بديع الصنع و خاطبت الإِنسان، بقوله: (قُلِ انْظُرُوا مٰا ذٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ) «1» فعاد الجاهل عالماً بالسنن الكونية، سابحاً في بحار

______________________________

(1) يونس: 101.

تذكرة الأعيان، ص: 192

المعرفة بتأسيسه علوماً و فنوناً لم يكن لها مثيل من ذي قبل، كما أكمل فنوناً موروثة من المتقدّمين.

و من أعجب ما أحدثته في الحياة الإِنسانية تشريع أُسُس و نُظُم في حقل التكاليف و الحقوق مبنية علي الفطرة و الخلقة البشرية لا تحيد عنها قيد شعرة، و لم يرتحل صاحب الدعوة و حامل الشريعة حتي أرسي دعائم أعظم حضارة عرفتها البشرية فكان رائدها و موجدها حيث لم ير التاريخ مثلها فيما عبر و غبر في الشمولية و العمومية.

فصارت الشريعة الإِسلامية كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتَي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها، و صار المسلمون مراجع في الكلام و العقيدة، و أساتذة في الأَخلاق و عباقرة العلوم،

و علماء شامخين في الحقوق، استغنوا في ظل التشريع الإِسلامي عن أي تشريع سواه.

و من مميزاتها البارزة شموليّتها و عموميّتها بحيث لم يبق موضوع إلّا و تناولته تشريعاً و تقنيناً، و هذا إن دل علي شي ء فإنّما يدلّ علي أنّ الشريعة الإِسلامية ليست وليدة الفكر البشري المتناهي و إنّما هي أثر العلم و القدرة الواسعين غير المتناهيين.

حفّاظ الشريعة و حملتها:

لبّي النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- دعوة ربّه و ترك كنزين ثمينين و وديعتين كريمتين عرّفهما في حديثه الخالد المعروف بحديث الثقلين، و قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي» فكان الكتاب شمساً ساطعة، و العترة الطاهرة أقماراً منيرة أناروا الطريق للمهتدين.

و من حسن الحظ أنّ جيلًا كبيراً من الأُمّة الإِسلامية قد استضاءوا بنورهم و وصلوا القمة في مجال العلم و العمل، و معالم الفقه و مكارم الأَخلاق، فصاروا نجوماً في سماء العلم يهتدي بهم الناس في حياتهم فحملوا الشريعة دقيقها

تذكرة الأعيان، ص: 193

و جليلها إلي الآخرين إلي أن تواصلت حلقات العلم و الحديث و التفسير و الفقه إلي العصر الحاضر.

فسلام اللّه علي العترة الطاهرة حملة السنّة النبويّة و حفظة الشريعة، و علي أصحابهم المتربّين في حجورهم الطاهرة، الحافظين لعلومهم و أسرارهم، و الناقلين لَامانتهم إلي الاجيال اللاحقة، فهم كما قال رسول اللّه: «يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين و تحريف الغالين و انتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد» «1» و لو عرضنا أسماء من تخرّجوا من مدرستهم في القرون الإِسلامية الأولي و بالأَخص في القرن الثاني و الثالث لطال بنا الكلام و طال موقفنا مع القرّاء الكرام، و بما أنّ مؤَلف هذا الكتاب من علماء القرن

السادس و من كبار المجتهدين علي مذهب العترة الطاهرة في ذلك العصر، نذكر أسماء مشاهير فقهاء ذلك القرن من الإِمامية بوجه موجز مقتصراً علي اسمهم و عصرهم، كي يقف القاريَ الكريم علي أنّ الفقه الشيعي الإِمامي قد بلغ القمة في تلك العصور و نبغ فيها فطاحل الفقه و أبطال الاجتهاد عند ما تجمد الفقه و انحسر عن التطور علي مذهب الجمهور، فلو كان القرن السادس و السابع عصر الجمود و الركود لفقههم، فقد كان ذانك القرنان عصر ازدهار الفقه الشيعي و تطوره، و قد كثر الفقهاء و المحقّقون في الفقه فيهما، كما كثر التأليف أيضاً بمختلف الأَلوان و شتي الوجوه، و إليك قائمة مشاهير الفقهاء في القرن السادس: 1- الحسن بن محمّد بن الحسن الطوسي المجاز عن والده شيخ الطائفة في سنة 455 ه.

الراوي عن والده و عن سلار الديلمي (المتوفّي 463 ه) و يروي عنه جمع كثير، منهم: أبو الرضا فضل اللّه بن علي الراوندي و كان حياً عام 515 ه.

______________________________

(1) رجال الكشّي: 10.

تذكرة الأعيان، ص: 194

2- الإِمام فضل اللّه بن علي بن هبة اللّه المعروف بالسيد الامام ضياء الدين أبي الرضا الحسنيّ الراوندي الكاشاني، جمع مع علو النسب، كمال الفضل و الحسب، و كان أُستاذ أئمّة عصره، كان حياً سنة 548 ه.

3- الإِمام الطبرسي: الفضل بن الحسن بن الفضل (471 548 ه) صاحب «مجمع البيان في تفسير القرآن» و هو غني عن التعريف و آراؤه في الفقه معروفة.

4- الحسين بن علي بن محمد جمال الدين أبو الفتوح النيسابوري الخزاعي، نزيل الري صاحب التفسير الكبير باسم «روض الجنان» من مشايخ ابن شهرآشوب و كان حياً عام 552 ه.

5- الامام قطب الدين سعيد بن هبة

اللّه الراوندي مؤَلف «فقه القرآن» المتوفّي 573 ه.

6- عبد اللّه بن حمزة بن عبد اللّه بن حمزة أُستاذ مؤَلف هذا الكتاب قطب الدين الكيدري، و ستوافيك اجازته للمترجم.

7- عبد اللّه بن علي بن زهرة أخو أبي المكارم صاحب «الغنية» (531 580 ه) له «التجريد لفقه الغنية عن الحجج و الأَدلّة» و غيره.

8- الشيخ الامام رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب (488 588 ه) صاحب المناقب و المتشابهات.

9- حمزة بن علي بن زهرة المعروف ب «ابن زهرة» (511 585 ه) له «غنية النزوع في علمي الأصول و الفروع» فقيه شهير.

10- محمد بن المنصور المعروف ب «ابن إدريس العجلي» (543)

تذكرة الأعيان، ص: 195

(598 ه) صاحب كتاب «السرائر و الحاوي لتحرير الفتاوي»، أحد الفقهاء الكبار المعروف بالجرأة علي الخلاف.

11- سديد الدين محمود بن علي بن الحسن، علّامة زمانه في الأُصولين، له «المصادر في أُصول الفقه» توفي سنة 600 ه.

12- علي بن الحسن بن أبي المجد الحلبيّ مؤَلف كتاب «إشارة السبق» المحقّق المنتشر أخيراً.

هؤلاء نماذج من مشاهير فقهاء القرن السادس الذي نبغ فيه شيخنا المؤَلف قطب الدين الكيدري البيهقي، و إليك ترجمته حسب ما وقفنا عليه في كتب التراجم و غيرها.

الإِقليم الخصب بالمواهب و القابليات:

إنّ إقليم خراسان إقليم خصب، بالمواهب و الاستعدادات، بل كانت و لم تزل تربّي في أحضانها رجالًا كباراً و أفذاذاً في العلم و الحديث.

و لقد كانت هذه المنطقة في القرن السادس و لا سيما منطقة بيهق بيئة شيعية، خرج منها العديد من الفقهاء منهم الشيخ قطب الدين البيهقي الذي نحن بصدد ترجمته.

قال في معجم البلدان: و قد أخرجت هذه الكورة من لا يحصي من الفضلاء و العلماء و الفقهاء و الأدباء و مع ذلك و الغالب علي

أهلها مذهب الرافضية «1».

______________________________

(1) ياقوت الحموي: معجم البلدان: 1- 538.

تذكرة الأعيان، ص: 196

حياة المؤَلف و مشايخه و مؤَلفاته:

[أما حياة المؤلف]

هو أبو الحسن محمد بن الحسين بن تاج الدين الحسن بن زين الدين محمد ابن الحسين بن أبي المحامد البيهقي النيسابوري.

كل من ذكر شيخنا المترجم له فقد أطراه و أثني عليه، و إن كان ما ذكر في حقّه من الكلمات لا تستطيع أن ترسم لنا حياته منذ شبابه إلي شيخوخته، أو تحدد ميلاده و وفاته، أو تضبط مشايخه في الرواية و الدراية، و تلامذته و الرواة عنه، و مع هذا النقص الذي ابتلي به كثير من أكابر الطائفة نذكر ما عثرنا عليه من الكلمات في حقّه: 1- قال الشيخ الحر العاملي: الشيخ قطب الدين محمد بن الحسين بن أبي الحسين القزويني فقيه صالح، قاله منتجب الدين «1».

2- قال السيد بحر العلوم: محمد بن الحسين بن أبي الحسين بن أبي الفضل القزويني المعروف ب «قطب الدين القزويني»، فقيه فاضل من أهل بيت العلم و الفقه، ذكره الشيخ منتجب الدين و ذكر أباه و أخويه إلي أن قال: و لعل الشيخ قطب الدين محمد بن الحسين القزويني المذكور، هو الشيخ قطب الدين الكيدري المشهور أحد الفضلاء الاعلام و الفقهاء المنقول عنهم الاحكام «2».

و هذان النّصان مأخوذان من عبارة الشيخ منتجب الدين و إليك نصه: المشايخ: قطب الدين محمد، و جلال الدين محمود، و جمال الدين مسعود، أولاد الشيخ الإِمام أوحد الدين، الحسين بن أبي الحسين القزويني كلّهم فقهاء صلحاء «3».

______________________________

(1) الحرّ العاملي: أمل الآمل: 2- 266 برقم 770.

(2) بحر العلوم: الرجال: 3 241- 240.

(3) منتجب الدين: الفهرست: 187 برقم 89.

تذكرة الأعيان، ص: 197

غير أنّ الشك يساور انطباق ما ذكره الشيخ منتجب الدين علي شيخنا

الكيدري، و ذلك من جهتين: 1- أنّه منسوب إلي «بيهق» و «كيدر» من مضافاته، و كلاهما تعرفان اليوم ب «سبزوار» و «بيهق» من أعمال خراسان و أين هما من بلدة قزوين الواقعة في غرب طهران؟! 2- أنّ الشيخ الفقيه عبد اللّه بن حمزة من أساتذة شيخنا و قد أجاز له و ذكر اسمه في إجازته هكذا: محمد بن الحسين بن الحسن الكيدري البيهقي، كما سيوافيك، و هو يغاير الموجود في فهرست منتجب الدين.

كلّ ذلك يورث الظّن القويّ بأنّ المترجم في الفهرست، غير شيخنا الكيدري.

نعم قال الحموي في معجم البلدان: كندر: موضعان: أحدهما: قرية من نواحي نيسابور من أعمال طريثيث «1» و الثاني: قرية قريبة من قزوين «2».

و لعل صاحب المعجم لم يقف علي «كيدر» بتاتاً، و لأَجل ذلك لم يذكره في معجم البلدان و إنّما ذكر «كندر».

و احتمال أنّ «كيدر» مصحف «كندر» و المترجم من منطقة «كندر» في قزوين حتي ينطبق عليه ما ذكر في الفهرست بعيد جدّاً، كيف و قد وصفه أُستاذه ابن حمزة المشهدي بالكيدري لا بالكندري؟! كما أنّ العلّامة الحلي أكثر عنه النقل في مختلف الشيعة و أسماه بقطب الدين الكيدري.

كل ذلك يدل علي أنّ عبارة منتجب الدين في فهرسته لا تمتُّ للمترجم

______________________________

(1) كذا في المصدر.

(2) معجم البلدان: 4- 482.

تذكرة الأعيان، ص: 198

بصلة فلا محيص لنا من التتبع في سائر المعاجم حتي نقف علي ترجمته.

3- وصفه شيخه عبد اللّه بن حمزة في إجازته له بقوله: الامام الأَجل، العالم الزاهد، المحقّق المدقّق، قطب الدين تاج الإِسلام فخر العلماء و مرجع الأَفاضل محمد بن الحسين بن الحسن الكيدري البيهقي وفّقه اللّه لما يتمنّاه في دنياه و عقباه «1».

4- قال صاحب الروضات (المتوفّي 1313 ه):

كان من أكمل علماء زمانه في أكثر الافنان، و أكثرهم إفادة لدقائق العربية في جموعه الملاح الحسان «2» 5- و قال المحدّث النوري نقلًا عن صاحب الرياض: إنّ قطب الدين يطلق علي جماعة كثيرة: الأَوّل: علي قطب الدين الراوندي.

و الثاني: علي الشيخ أبي الحسن قطب الدين محمد بن الحسن بن الحسين الكيدري السبزواري صاحب «مناهج النهج» بالفارسية و غيره «3» 6- و قال شيخنا الطهراني: محمد بن الحسين بن الحسن البيهقي الشيخ قطب الدين أبو الحسن النيسابوري الشهير ب «قطب الدين الكيدري» شارح نهج البلاغة سنة 576 ه، ثم ذكر تآليفه «4» 7- و قال المحدّث القمي: أبو الحسن محمد بن الحسين بن الحسن البيهقي النيسابوري الإِمامي الشيخ الفقيه، الفاضل الماهر و الأَديب الاريب، البحر الزاخر

______________________________

(1) سوف يوافيك نصّ الإِجازة في أثناء المقال.

(2) الخوانساري: روضات الجنات: 6- 295 رقم الترجمة 587.

(3) النوري: المستدرك: 3- 448.

و لكن الصحيح في اسمه: الحسين بن الحسن.

(4) الطهراني: طبقات أعلام الشيعة (القرن السادس (: 259.

تذكرة الأعيان، ص: 199

صاحب «الإِصباح» في الفقه، و أنوار العقول في جمع أشعار أمير المؤمنين عليه السَّلام و شرح النهج «1» 8- و ذكر شيخنا المدرس في ريحانته قريباً ممّا ذكر «2»

مشايخه:

روي عن جمع من مشايخ الإِمامية، و إليك أسماءهم: 1- الشيخ الامام نصير الدين أبو طالب عبد اللّه بن حمزة بن عبد اللّه الطوسي الشارحي المشهدي و عرفه منتجب الدين في فهرسته بقوله: فقيه، ثقة، وجه «3».

2- المفسّر الكبير الفضل بن الحسن الطبرسي (471 548 ه) قال شيخنا الطهراني: يظهر نقله عنه من أثناء كتابه هذا (أنوار العقول) عند ذكر الحرز المشهور عن أمير المؤمنين- عليه السلام- في قوله: «ثلاث عصي طفقت بعد خاتم»

«4» 3- الإِمام أبو الرضا فضل اللّه بن علي بن هبة اللّه المعروف بضياء الدين أبي الرضا الحسنيّ الراوندي الكاشاني ذكر العماد الكاتب الأصفهاني في خريدة القصر أنّه رآه في كاشان سنة 533 ه و هو يعظ الناس في المدرسة المجدية.

نقل شيخنا المجيز الطهراني رواية الكيدري عنه و أنّه يروي عنه بغير

______________________________

(1) الكني و الأَلقاب: 3- 74.

(2) المدرس التبريزي: ريحانة الأَدب: 4- 473.

(3) منتجب الدين: الفهرست: 269 برقم 272.

(4) الذريعة: 2- 431 برقم 1697، تحت عنوان أنوار العقول.

تذكرة الأعيان، ص: 200

واسطة، و ربّما يروي عنه بواسطة أُستاذه الشيخ عبد اللّه بن حمزة بن عبد اللّه الطوسي «1» و لعل الثاني أقرب.

4- محمد بن سعيد بن هبة اللّه الراوندي المعروف ب «ظهير الدين» (المتوفّي 573 ه) فقد ترجمه منتجب الدين في فهرسته و قال: فقيه ثقة، عدل، عين.

ذكر شيخنا الطهراني أنّ صاحب الترجمة يروي عنه في كتابه «بصائر الأُنس بحظائر القدس» نقله البياضي في الصراط المستقيم «2»

تآليفه:
اشارة

إنّ لشيخنا الكيدري تآليف في موضوعات مختلفة يظهر أنّه كان ميّالًا لأَكثر من فن واحد، نذكرها حسب ترتيب حروف الهجاء: 1- إصباح الشيعة بمصباح الشريعة: و هذا هو الكتاب الذي يزفّه الطبع إلي القراء و سوف نبرهن علي أنّه من تآليفه، لا من تأليف الفقيه الصهرشتي.

2- أنوار العقول من أشعار وصيّ الرسول: و هو ديوان أشعار منسوبة إلي الامام أمير المؤمنين- عليه السلام- مرتبة قوافيها ترتيب حروف الهجاء، قال شيخنا الطهراني: من جمع قطب الدين الكيدري أوّله: «الحمد للّه لأنت لعزته الجبابرة، و تضعضعت دون عظمته الأَكاسرة» ذكر في أوّله أنّه جمع أوّلًا خصوص إشعاره المشتملة علي الآداب و الحكم و المواعظ و العبر و سمّاه «الحديقة الانيقة»، ثم

جمع إشعاره- عليه السلام- جمعاً عاما في هذا الكتاب الّذي سمّاه «أنوار العقول» «3».

______________________________

(1) طبقات أعلام الشيعة (سادس القرون (: 260، و هو غير محمد بن علي بن حمزة الطوسي الفقيه مؤَلف «الوسيلة» و ان كانا معاصرين.

و يظهر منا لمحقق السيد عبد العزيز الطباطبائي كونه صاحب الوسيلة.

تراثنا: العدد: 39- 303.

و الحق خلافه.

(2) طبقات أعلام الشيعة (سادس القرون (: 265، و لاحظ أيضاً ص 260.

(3) الطهراني: الذريعة: 2- 431 برقم 1697) أنوار العقول).

تذكرة الأعيان، ص: 201

3- البراهين الجليّة في إبطال الذوات الأَزليّة: ذكره صاحب الروضات و شيخنا الطهراني في الذريعة «1» 4- بصائر الأُنس بحظائر القدس «2» 5- تنبيه الأَنام لرعاية حقّ الامام: ذكره المؤَلف في كتاب إصباح الشيعة «3» 6- حدائق الحقائق في تفسير دقائق أفصح الخلائق: شرح علي كتاب نهج البلاغة و فرغ منه عام 576 ه، ذكر صاحب الروضات أنّه وجد في آخر نسخة عتيقة من الشرح المذكور صورة خط لبعض أعاظم فضلاء عصر الشارح المعظم، بهذه الصورة: وافق الفراغ من تصنيف الامام العالم الكامل المتبحر الفاضل قطب الدين نصير الإِسلام مفخر العلماء مرجع الأَفاضل محمد بن الحسين بن الحسن الكيدري البيهقي تغمده اللّه تعالي برضوانه في أواخر الشهر الشريف شعبان سنة ست و سبعين و خمسمائة «4» و قد ألّفه بعد شرح ظهير الدين البيهقي المعروف بابن فندق (493 565 ه) «5» و قد أسماه معارج نهج البلاغة طبع عام 9041 ه، بتحقيق «محمد تقي دانش پژوه» و نشرته مكتبة السيد المرعشي في قم، و شرح شيخه قطب الدين الراوندي، و قد أسمي شرحه بمنهاج البراعة، و طبع بتحقيق المحقق العطاردي عام 1403 ه، ثمّ أُعيدت طبعته في ثلاثة أجزاء عام 1406

ه، بتحقيق السيّد عبد اللطيف القرشي.

و قد ذكر صاحب الروضات ملامح الكتاب و قد نقل شيئاً من مقدّمة الكتاب و أنّه قال في ديباجته:

______________________________

(1) نفس المصدر: 3- 80 برقم 241.

(2) طبقات أعلام الشيعة سادس القرون، ص 265 و لاحظ أيضاً ص 260.

(3) إصباح الشيعة: 128.

(4) الخوانساري: روضات الجنات: 6- 298، الأَمين: أعيان الشيعة: 8- 245.

(5) ياقوت الحموي: معجم الأدباء: 5- 208.

تذكرة الأعيان، ص: 202

«إنّه كامل بإيراد فوائد علي ما فيهما (يريد كتابي المنهاج لابن فندق و المعارج لأُستاذه قطب الدين الراوندي) زوائد، لا كزيادة الأَديم، بل كما زيد في العقل من الدرر اليتيم، و متمم ما تضمّناه بتتمة لا تقصر في الفضل دونهما، إن لم ترب عليهما، و أنّه قد اندرج فيه من علوم نوادر اللغة و الأَمثال، و دقائق النحو و علم البلاغة، و ملح التواريخ و الوقائع، و من غوامض الكلام لمتكلمي الإِسلام، و علوم الأَوائل، و أُصول الفقه و الأَخبار، و آداب الشريعة و علم الأَخلاق و مقامات الأَولياء، و من علم الطب و الهيئة و الحساب، علي ما اشتمل عليه المعارج، كل ذلك لا علي وجه التقليد و التلقين، بل علي وجه يجدي بلج اليقين «1».

و قد نقل عنه المحقّق ابن ميثم في شرحه علي نهج البلاغة في تفسير الخطبة الشقشقية «2» و قد نقل عنه العلّامة المجلسي في بحاره في أجزاء السماء و العالم «3» 7- الحديقة الانيقة: و قد مضي أنّه ألّفه قبل تأليف أنوار العقول.

8- الدرر في دقائق علم النحو: ذكره شيخنا المدرس في موسوعته «4» 9- شرح الإِيجاز في النحو: لاحظ مجلة تراثنا العدد: 39- 302.

10- شريعة الشريعة: ذكره في حدائق الحقائق: 3- 1451.

______________________________

(1) روضات الجنات: 6-

295 برقم 587.

و ذكر شيخنا الطهراني أن منه نسخة في المدرسة الفاضلية الذريعة: 6- 285.

(2) ابن ميثم: شرح نهج البلاغة: 1 271- 269.

(3) بحار الأَنوار: 55- 279، و قد ذكر السيد بحر العلوم بعض مواضع النقل، لاحظ الفوائد الرجالية: 3- 242.

و العجب أن المحدّث النوري ذكر انّ اسم شرحه علي النهج هو «الإِصباح» لاحظ المستدرك: 3- 513.

أضف أنّه ذكره تارة باسم «أبي الحسن البيهقي» و اخري باسم «أبي الحسين».

(4) ريحانة الادب: 4- 475.

تذكرة الأعيان، ص: 203

11- كفاية البرايا في معرفة الأَنبياء: ذكره شيخنا الطهراني في الذريعة قال: و قد نقل جملة من عباراته شيخنا النوري في خاتمة المستدرك «1» 12- لبّ الأَلباب في بعض مسائل الكلام: ذكره الطهراني في الذريعة، و المدرس في موسوعته «2» 13- مباهج المهج في مناهج الحُجج (بالفارسية): ذكر شيخنا الطهراني أن له منتخباً فارسياً باسم «بهجة المناهج» في فضائل النبي و الأَئمة و معجزاتهم «3» و ذكر السيد المحقّق الطباطبائي في مذكّراته أنّ منه نسخة في مكتبة المسجد الأَعظم في قم المشرفة ذكرت في فهرستها ص 383، و مخطوطة أُخري في مكتبة مدرسة السيّد الگلپايگاني في قم رقم 2125 ذكرت في فهرستها: 3- 169.

إصباح الشيعة من مؤَلفات الكيدري:

إنّ هذا الكتاب من تأليف شيخنا المحقّق الكيدري بلا ريب، و إنّ نسبته إلي الشيخ سليمان بن الحسن بن سليمان الصهرشتي خطأ، و ذلك بالأَدلّة التالية: أوّلًا: أنّ الشيخ منتجب الدين الذي قام في فهرسته بترجمة علماء الإِمامية من بعد عصر الشيخ إلي زمانه (460 600 ه) ترجم شيخنا الصهرشتي و ذكر تآليفه و لم يذكر له ذلك الكتاب و قال: الشيخ الثقة أبو الحسن سليمان بن الحسن ابن سليمان الصهرشتي فقيه، وجه، دين، قرأ علي

شيخنا الموفق أبي جعفر الطوسي و جلس في مجلس درس سيدنا المرتضي علم الهدي (ره) و له تصانيف،

______________________________

(1) الذريعة: 8- 89 برقم 812، و ذكره شيخنا المدرس في ريحانة الادب: 4- 475، و لم نعثر عليه في المستدرك.

(2) الذريعة: 18- 282 برقم 117، و ريحانة الادب: 4- 475.

(3) الذريعة: 19- 460 برقم 241، و رياض العلماء: 2- 445 و ذكره في الذريعة: 22- 349 باسم «مناهج المنهج» و قال: و الظاهر أن الصحيح «مباهج المهج في مناهج الحجج».

تذكرة الأعيان، ص: 204

منها: كتاب النفيس، كتاب التنبيه، كتاب النوادر، كتاب المتعة أخبرنا بها الوالد عن والده عنه «1» و لو كان له ذلك الكتاب الرائع لما غفل عن ذكره.

و ثانياً: أنّ العلّامة الحلي (648 726 ه) قد نقل عن ذلك الكتاب شيئاً كثيراً و نسبه إلي المحقّق الكيدري، و ذلك في مواضع كثيرة و النصوص المنقولة موجودة في هذا الكتاب «2» و ثالثاً: أنّ نفس الكتاب ينفي أنّه تأليف الصهرشتي الذي هو من تلاميذ المرتضي و الشيخ الطوسي و يبدو أنّه قد توفي في أواخر القرن الخامس و كان حياته بين (400 500 ه) و ذلك لَانّه ينقل في ذلك الكتاب «3» من السيد الجليل حمزة ابن علي بن زهرة المعروف ب «ابن زهرة» المشهور بكتابه «غنية النزوع إلي علمي الأصول و الفروع» و قد ولد كما في نظام الأَقوال في رمضان 511 ه، و توفي سنة 585 ه، فكيف يمكن أن يكون الكتاب أثراً للصهرشتي الذي أجازه النجاشي سنة 442؟! قال صاحب الرياض: إنّ الشيخ الصهرشتي قال في أواخر «قبس المصباح»: فصل: أخبرنا الشيخ الصدوق أبو الحسن أحمد بن علي بن أحمد النجاشي و الصيرفي المعروف

ب «ابن الكوفي» يعني النجاشي صاحب الرجال ببغداد في آخر شهر ربيع الأَوّل سنة اثنتين و أربعين و أربعمائة و كان شيخاً، بهيّاً، ثقة، صدوق اللسان عند المؤالف و المخالف رضي اللّه عنه، ثم ذكر رواياته عن أبي يعلي محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري المتوفّي عام 463 ه و غيره «4»

______________________________

(1) منتجب الدين: الفهرست: 85 برقم 184، و رياض العلماء: 2- 445.

(2) لاحظ مختلف الشيعة كتاب زكاة الفطرة: 199، كتاب الخمس: 205، كتاب الشفعة: 403، كتاب الوقف: 491 و 494، كتاب النكاح: 543 و 553 و 556 و 559، نكاح المتعة: 560 و 564، كتاب الفرائض: 733 في ميراث العمّ و الخال؛ 735، و غير ذلك كلّه من الطبعة القديمة الحجرية.

(3) لاحظ إصباح الشيعة: 99 و 100.

(4) رياض العلماء: 2- 445.

تذكرة الأعيان، ص: 205

و رابعاً: أنّ من سبر الكتاب يقف علي أنّ المؤَلف سار علي ضوء كتاب الغنية، ترتيباً للكتب، تبويباً للأَبواب غالباً، و ربما يستخدم من عباراتها شيئاً في طرح المسائل و شرحها.

و هذه الوجوه تثبت بوضوح أنّه من تأليف شيخنا المؤَلف الذي بخس التاريخ حقّه، فلم يذكر عن حياته إلّا شيئاً قليلًا.

ثم إنّ أوّل من نسب الكتاب إلي الشيخ الصهرشتي هو شيخنا العلّامة المجلسي عند ذكر مصادر بحار الأَنوار حيث قال: و كتاب «قبس المصباح» من مؤَلّفات الشيخ الفاضل أبي الحسن سليمان بن الحسن الصهرشتي من مشاهير تلامذة شيخ الطائفة إلي أن قال: و كتاب إصباح الشيعة بمصباح الشريعة له أيضاً «1».

و لمّا كان ذلك العزو غير مرضي عند صاحب الرياض قال: و نسَبه الأُستاذ الاستناد في البحار إليه و ينقل عنه فيه، و الذي يظهر من كتب الشهيد، أنّ الإِصباح المذكور

من مؤَلّفات قطب الدين الكيدري، لأَنّ العبارات التي ينقلها عن القطب المذكور هي مذكورة في الإِصباح المزبور «2» و تبع صاحب البحار، شيخنا المجيز الطهراني في طبقات أعلام الشيعة في ترجمة شيخنا الصهرشتي و قال: و له «إصباح الشيعة بمصباح الشريعة» كذا في فهرست منتجب ابن بابويه «3» و ما نسبه إلي فهرست منتجب الدين ليس بموجود فيه إذ لم يذكر الكتاب في ترجمة الصهرشتي «4» و منهم: السيد الأَمين فقد تبع صاحب الذريعة فنسب الإِصباح إلي

______________________________

(1) المجلسي، البحار: 1- 15.

(2) رياض العلماء: 2- 446.

(3) طبقات أعلام الشيعة (القرن الخامس): 88.

(4) منتجب الدين: الفهرست: 86.

تذكرة الأعيان، ص: 206

الصهرشتي «1».

و لم يبق في المقام سوي احتمال أنّ المؤَلفين الجليلين ألّفا كتابين مسمّين باسم إصباح الشيعة بمصباح الشريعة، غير أنّه وصل إلينا أحدهما دون الآخر، و قد عرفت أنّ الواصل إلينا ليس إلّا تأليف الشيخ الكيدري.

نعم اشترك المؤَلفان في اسم كتاب آخر و هو التنبيه غير أنّ ما ألّفه الصهرشتي أسماه «تنبيه الفقيه» «2» و ما ألّفه شيخنا المؤَلف أسماه ب «تنبيه الأَنام لرعاية حق الإِمام».

إجازة ابن حمزة للمؤلف:

إنّ شيخنا المؤَلف لما فرغ من كتاب «حدائق الحقائق» الذي ألّفه شرحاً لنهج البلاغة، علي غرار ما ألّفه ابن فندق البيهقي، و شيخه قطب الدين الراوندي، عرضه علي أُستاذه الشيخ عبد اللّه بن حمزة، فاستحسنه و كتب تقريظاً له، و أجازه فيه أن يروي عنه ما صحت له روايته و نص الإجازة موجودة علي ظهر مصورة كتاب إصباح الشيعة بمصباح الشريعة في مكتبة المرعشي المسجل برقم 127 و إليك نصها: هذا الكتاب الموسوم ب «حدائق الحقائق في شرح نهج البلاغة» كتاب جامع لبدائع الحكم، و روائع الكلم، و زواهر المباني و

جواهر المعاني، فائق ما صنّف في فنّه من الكتب، حاوٍ في فنون من العلم لبابَ الأَلباب، و نكت النخب، ألفاظه رصينة متينة، و معانيه واضحة مستبينة، فبالحري أن يُمسي لكلام أفصح العرب بعد رسول اللّه صلي الله عليه و آله و سلم- شرحاً، و يقابل بالقبول و الإقبال، و لا يعرض عنه صفحاً، و صاحبه الامام الأَجل العالم الزاهد، المحقّق المدقق، قطب الدين تاج الإِسلام، مفخرُ العلماء، مرجعُ الأَفاضل، محمد بن الحسين بن

______________________________

(1) الأَمين: أعيان الشيعة: 7- 297.

(2) ابن شهرآشوب: معالم العلماء: 56 برقم 373.

تذكرة الأعيان، ص: 207

الحسن الكيدري البيهقي، وفّقه اللّه لما يتمناه في دنياه و عقباه، قد عبّ في علوم الدين من كل بحر و نهر، و قلب كل فن ممّا انطوي عليه الكتاب بطناً لظهر، و لم يأل جهداً في اقتناء العلوم و الآداب، و أدأب نفسه في ذلك، غاية نهار عمره كل الإِدآب، حتي ظفر بمقصوده، و عثر علي منشوده، و ها هو منذ سنين يقتفي آثاري و يعشو إلي ضوء ناري، يغتذي ببقايا زادي، و يطأ مصاعد جوادي.

و قد صح له و ساغ رواية جميع ما سمعته و جمعته من الكتب الأصولية و الفروعية و التفاسير و الأَخبار و التواريخ و غير ذلك علي ما اشتمل عليه فهارس كتب أصحابنا و غيرهم، من مشايخي المشهورة لا سيما الكتاب الذي شرحه هو، و هو نهج البلاغة.

و له أن يرويه بأجمعه عنّي، عن السيد الشريف السعيد الأَجل أبي الرضا فضل اللّه بن علي الحسين الراوندي، عن مكي بن أحمد المخلّطي، عن أبي الفضل محمد بن يحيي الناتلي، عن أبي نصر عبد الكريم بن محمد الديباجي، المعروف بسبط بشر الحافي، عن السيد الشريف الرضي

رضي اللّه عنه، و عن غير هؤلاء من مشايخي.

و هو حري بأن يؤخذ عنه، و موثوق بأن يعول عليه.

و هذا خط العبد المذنب المحتاج إلي رحمة اللّه عبد اللّه بن حمزة بن عبد اللّه الطوسي في شهر رمضان عظم اللّه بركته سنة ست و تسعين و خمسمائة.

و أظنّ أنّ التسعين مصحّف السبعين، لمقاربتهما كتابةً، و يبدو أنّ المؤَلف لمّا فرغ من شرحه علي النهج عام 576 ه، عرض علي أُستاذه في هذه السنة أو وقف أُستاذه عليه عفواً، و من البعيد أن يقف عليه بعد الفراغ بعشرين سنة، أو يعرضه عليه مؤَلّف الكتاب بعد تلك الفترة من تأليفه.

فالإجازة دليل علي حياة ابن حمزة في تلك السنة، كما هي دالة علي أنّ شيخنا المؤَلف كان أحد المؤَلّفين الافذاذ الكبار في ذلك العصر.

تذكرة الأعيان، ص: 208

ثم إنّ شيخنا قطب الدين المجاز صرّح بقراءته علي أُستاذه ابن حمزة في بعض كتبه الذي ألّفه عام 573 ه قال المحدّث النوري: قال محمد بن الحسين القطب الكيدري تلميذه في كتاب كفاية البرايا في معرفة الأَنبياء و الأَوصياء: حدّثني مولاي و سندي الشيخ الأَفضل، العلّامة، قطب الملّة و الدين نصير الإِسلام و المسلمين، مفخر العلماء، مرجع الفضلاء، عمدة الخلق، ثمال الأَفاضل عبد اللّه بن حمزة بن عبد اللّه بن حمزة الطوسي أدام ظل سمّوه و فضله للأَنام، و أهله ممدوداً، و شرّع نكته و فوائده لعلماء العصر مشهوداً قراءة عليه ب «ساتروار بهق» «1» في شهور سنة ثلاث و سبعين و خمسمائة «2»

وفاته:

لم تحدّد وفاته بالضبط، لكنه كان حيّاً في سنة 610 ه، لَانّه كتب في هذا التاريخ اجازةً علي ظهر كتاب «الفائق» لمن قرأه عليه، أورد ابن الفوطي صورتها

في ترجمة الكيدري «3»

كلمة في الكتاب و مؤَلّفه:

1- إنّ مؤَلّفنا الجليل ينقل في كتابه هذا عن كتاب «المبسوط» و «النهاية» لشيخ الطائفة و كتاب «المراسم» لسلّار الديلمي، و «الغنية» لابن زهرة، و كثيراً ما ينقل آراء السيد المرتضي و ابن البراج الطرابلسي و لا يذكر مصادر رأيهما.

2- إنّ المعروف أنّ القرن السادس قرن الجمود و التقليد لما ورث الفقهاء من الآراء عن الشيخ الطوسي قدَّس سرَّه و أن أوّل من نهض لرفض الجمود هو الشيخ محمد بن إدريس الحلي (المتوفّي 598 ه) و لكن ذلك زعم غير صحيح،

______________________________

(1) معرب «سبزوار بيهق».

(2) النوري: المستدرك: 3- 472.

(3) مجلة تراثنا: العدد 39- 302.

تذكرة الأعيان، ص: 209

و هذا هو الشيخ ابن البراج الطرابلسي (400 481 ه) قد خالف في كتابه «المهذّب» آراء أستاذه أبي جعفر الطوسي، و قد ذكرنا بعض مناظراته الفقهية مع الشيخ الطوسي.

و النموذج البارز لبطلان ذلك الزعم هو كتاب «إصباح الشيعة» لشيخنا الكيدري، فمع أنّ الرأي المنقول عن الشيخ، و الموجود في كتابه «النهاية» في فريضة الخمس هو دفنه أو الوصاية حيث قال: و لو أنّ إنساناً استعمل الاحتياط و عمل علي أحد الأَقوال المقدّم ذكرها من الدفن أو الوصاية لم يكن مأثوماً «1» مع أنّ هذا كان هو رأي شيخنا الطوسي لكن يتراءي أنّ مؤَلّفنا أبدي بشجاعة علمية خاصة رأياً آخراً و ألّف كتاباً فيه، و قال: فأمّا ما عدا ذلك من أخماسهم، فلا يجوز لأَحد التصرّف فيه، و حكمه في أيدي شيعتهم و من اشتغل به ذمتهم، حكم ودائع المسلمين و أماناتهم.

و قد أمليت في ذلك مسألةً مستوفاةً مستقصاةً و سميتها «تنبيه الأَنام لرعاية حق الامام» يطلع بها علي ثنايا هذه المسألة و خباياها «2» 3- لم

يكن كتاب إصباح الشيعة كتاباً مهجوراً عند العلماء كيف و قد نقل عنه لفيف من المتأخّرين منهم شيخنا صاحب «الجواهر» في مبحث الأقارير المبهمة «3» و الفاضل الهندي في «كشف اللثام» في مبحث آداب الخلوة «4»، كما نقل عنه المتقدّمون عليهما كالعلّامة في «المختلف» كما نقل غيره.

4- قد سبق أن شيخنا المؤَلف كانت له شجاعة أدبية في التعبير عن آرائه و كان لا يأبه بمخالفة المشهور، نري أنّه ربّما يفتي بخلاف المشهور، فقد أفتي في صلاة الاحتياط بالتخيير بين قراءة الحمد و التسبيح «5» مع أنّ المشهور بين الفقهاء قراءة الحمد.

______________________________

(1) الطوسي: النهاية: 201.

(2) إصباح الشيعة: 128.

(3) النجفي: الجواهر: 35- 39.

(4) الفاضل الهندي، كشف اللثام: 1- 19.

(5) لاحظ إصباح الشيعة: 83.

تذكرة الأعيان، ص: 210

10- الشيخ يحيي بن سعيد الحلي الهذلي (601- 690 ه)

لمحة عن تاريخ تدوين الحديث

اشارة

لقد رحل النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- بعد ان عاني ما عاني من المشاق و تحمل ما تحمل من المتاعب، و قد خلف في أُمّته الإِسلامية وديعتين عظيمتين هما: «الكتاب و العترة» و أمر بالتمسك بهما إلي يوم القيامة حيث قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً».

و تواتر هذا الحديث، و استفاضته و صحّة متنه و سنده تغنينا عن الإِفاضة حوله «1».

و قد أخرجه علماء الفريقين في موسوعاتهم الحديثية و التفسيرية و التاريخية.

و هذا الحديث يعرب عن أنّ العترة كالقرآن الكريم في العصمة عن الخطاء و الزلل.

______________________________

(1) و يكفي في المقام انّ العالم المحقّق المتتبّع السيد مير حامد حسين قد جمع أسناد الحديث، و طرقه في كتابه القيم «عبقات الأَنوار» و طبع في 6 مجلدات، و قد نشرت جماعة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية رسالة حول

أسناد الحديث و متنه المستفيض.

تذكرة الأعيان، ص: 211

و قد وصف اللّه سبحانه كتابه بقوله: (وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ عَزِيزٌ. لٰا يَأْتِيهِ الْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لٰا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) «1» فلو كانت العترة من حيث العصمة كما وصفناها صحّ جعلها قرينة للقرآن و صحّ قوله- صلي الله عليه و آله و سلم-: «ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا أبداً».

و لو كان غير ذلك و جوزنا عليهم الخطاء و الزلل لكانت المعادلة غير صحيحة و لا سديدة.

و الحديث المذكور كما يعرب عن ذلك الأَمر يعرب أيضاً عن أنّ الملجأ المشروع للأُمّة الإِسلامية بعد النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- هو «الكتاب و العترة»، و انّ ذينك المصدرين هما العاملان الوحيدان للوحدة و الاتفاق، و التآخي و الاتحاد.

التمسك بالكتاب و العترة عامل الوحدة

هب أنّ الأُمّة اختلفت في أمر الخلافة إلي قائل بنظرية «التنصيص» و انّه لا بدّ أن يكون الامام بعد النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- معيناً بنصه، و من قائل بنظرية «الانتخاب» و انّ الامام ينتخب بتعيين أهل الحلّ و العقد.

إلّا أنّها لا تختلف في هذا الحديث المبارك و مفاده و مضمونه، فيجب عليها الأَخذ به، و التمسك بالكتاب و العترة، و إن اختلف سلفهم في أمر الخلافة و الإِمامة الذي مضي عصره، و انقضي دوره.

و لأَجل هذا يعد الرجوع إلي مذهب العترة الطاهرة سبباً للوفاق و الوئام، و وسيلة لجمع شمل الأُمّة.

الشيعة و تدوين الحديث

كانت الشيعة ممن أخذت السنة عن لسان العترة و اعتنت بها كاعتنائها

______________________________

(1) فصلت: 41 42.

تذكرة الأعيان، ص: 212

بالقرآن الكريم، و من هنا كان حرصهم علي تسجيل كل ما صدر عن العترة كحرصهم علي تسجيل كل ما صدر عن النبي- صلي الله عليه و آله و سلم-، و اعتبارهما مفسرين للكتاب العزيز، و مبينين لأَحكامه و تعاليمه.

و لما كانت أهمية هذا الموقف لا تتضح إلّا بعد الوقوف علي سير تدوين الحديث في التاريخ الإِسلامي، كان لا بدّ من إلقاء الضوء علي هذه المسألة.

لا ريب أنّ النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- بحكم القرآن الكريم، لا ينطق عن الهوي، فحديثه حجّة كقرآنه الذي أتي به من عند اللّه، دون فرق بينهما، إلّا أنّ القرآن معجزة خالدة، و حديثه حجّة كذلك كما انّ أحاديث عترته بنص النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- أيضاً حجج خالدة، بيد انّ بعض الحوادث عاقت المسلمين عن كتابة حديث النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- و ذلك لأَمر صادر عن أحد الخلفاء

بعد النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- بأنّ «من كتب حديثاً فليحرقه»!! «1» ث و ربّما برر بعضهم هذا النهي بما نسبوه إلي رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- من قوله: «لا تكتبوا عنّي شيئاً سوي القرآن، و من كتب عنّي غير القرآن فليمحه» «2».

و لا يتردد المحقّق الباحث في أنّ هذا الأَمر قد صدر لأَغراض سياسية و انّما نسب إلي النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- إنّما هو من الأَوهام الباطلة التي لا تصح نسبتها إليه- صلي الله عليه و آله و سلم-.

و اللّه وحده يعلم كم خسر الإِسلام و المسلمون بسبب هذا القرار، و كم فقد من الحديث النبوي بسبب النهي عن كتابة الحديث.

و لأَجل التقليل من الإضرار الناجمة عن المنع قام الخليفة «عمر بن عبد العزيز» بإصدار أمر بتدوين الحديث بعد مضي قرن من هجرة الرسول الأَعظم- صلي الله عليه و آله و سلم- حيث كتب من الشام إلي «أبي بكر بن حزم» و هو من

______________________________

(1) كنز العمال: 5- 239.

(2) رواه الدارمي في مقدمة سننه.

تذكرة الأعيان، ص: 213

كبار المحدّثين بالمدينة: «انظر من حديث رسول اللّه فاكتبه فانّي خفت دروس العلم و ذهاب العلماء» «1».

غير انّ الشيعة اقتفوا أثر أمير المؤمنين علي- عليه السلام-، فقاموا بكتابة الحديث المروي عن رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- و عترته الطاهرة غير مكترثين بذلك النهي.

فقد قام الإِمام أمير المؤمنين علي- عليه السلام- بتأليف عدّة كتب في حياة النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- حيث أملي رسول اللّه كثيراً من الأَحكام الإِسلامية علي علي- عليه السلام-، و دوّن ما أملاه رسول اللّه عليه في حياته

الشريفة، و اشتهر ذلك بكتاب علي، و قد روي عنه البخاري في صحيحه في باب «كتابة الحديث» و باب «إثم من تبرأ من مواليه» «2».

و قد اقتفت شيعته النهج الذي سار عليه فجمعوا شذرات الحديث و شوارد السير، و أُصول الأَخلاق، و قد جمع الشيخ أبو العباس النجاشي كغيره في أوّل فهرسته أسماء عدّة منهم، و إليك هذه الأَسماء:

1- أبو رافع مولي رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- و صاحب بيت مال أمير المؤمنين علي- عليه السلام- صنف كتاب السنن و الأَحكام و القضايا.

2- عبيد اللّه بن أبي رافع كاتب أمير المؤمنين و أوّل من ألّف في الرجال.

3- علي بن أبي رافع كاتب أمير المؤمنين- عليه السلام- صنف كتاباً في فنون من الفقه: الوضوء و الصلاة و سائر الأَبواب.

4- ربيعة بن سميع صنف كتاب زكاة النعم علي ما سمعه عن أمير المؤمنين- عليه السلام- في صدقات النعم و ما يؤخذ من ذلك.

5- أبو صادق سليم بن قيس الهلالي صاحب أمير المؤمنين- عليه السلام- ألّف أصله المعروف المطبوع.

______________________________

(1) صحيح البخاري: 1- 27، كتاب العلم.

(2) صحيح البخاري: 1- 29، كتاب العلم.

تذكرة الأعيان، ص: 214

6- الأَصبغ بن نباتة المجاشعي من خيار أصحاب أمير المؤمنين و من شرطة الخميس، له كتاب عهد أمير المؤمنين إلي مالك الأَشتر النخعي، و وصيته إلي ابنه محمد ابن الحنفية.

7- أبو عبد اللّه سلمان الفارسي، له كتاب خبر جاثليق، و قد أملي الخطبة الطويلة و الاحتجاجات.

8- أبو ذر الغفاري، له كتاب وصايا النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- و شرحه العلامة المجلسي و أسماه عين الحياة.

هذا حال الطبقة الأُولي منهم، و أمّا الّذين أعقبوهم فالرواة المعاصرون للأئمّة الهداة خلال

القرنين منذ قبض الإِمام أمير المؤمنين- عليه السلام إلي عصر العسكري- عليه السلام- لم يُوْثر عنهم فتور في تدوين العلوم و ضبط الحديث، و جمع قواعد الفقه و تنسيق طبقات الرجال، و ضم حلقات التفسير و إتقان مباني و أُسس الكلام إلي غير ذلك من الموضوعات و اللّه وحده يعلم عدد المؤَلفين و تصانيفهم في ذينك القرنين.

و تشهد بذلك الفهارس الموجودة التي ذكرت مصنفات الشيعة و مؤَلفاتهم في ذلك العصر لا سيما الجوامع الرجالية الأَربعة: (كرجال ابن عمرو الكشي المعاصر للشيخ الكليني (المتوفّي عام 329 ه) و رجال النجاشي (372 450 ه) و فهرست شيخ الطائفة الطوسي (385 460 ه) فهذه الفهارس و غيرها كفهرس أبي غالب الزراري و بالأَخص ما ألفه الشيخ المتتبع الطهراني في موسوعته الخالدة (الذريعة إلي تصانيف الشيعة) يدلّ علي مدي ما بذلوه من جهد في تدوين الحديث و جمعه، كيف و قد أدرك الحسن بن علي الوشاء في عصر واحد 900 رجل في مسجد الكوفة كلّهم يقول حدثني جعفر بن محمد عليمها السَّلام «1».

______________________________

(1) رجال النجاشي، ترجمة الحسن الوشاء، ص 29.

تذكرة الأعيان، ص: 215

و قد أحصي الشيخ أبو العباس «ابن عقدة» الثقات من أصحاب الإِمام الصادق فصاروا أربعة آلاف «1».

حتي قام جماعة من المحدّثين في عهد الامام الرضا- عليه السلام- بتأليف مجاميع حديثية كبيرة تسمي بالجوامع الأَوّلية أمثال: 1- يونس بن عبد الرحمن، و قد وصفه ابن النديم في فهرسته بعلّامة زمانه، له جوامع الآثار، و الجامع الكبير، و كتاب الشرائع.

2- صفوان بن يحيي البجلي الذي كان أوثق أهل زمانه، صنّف ثلاثين كتاباً.

3- الحسن و الحسين ابنا سعيد بن حماد الأَهوازي، صنّفا الكتب الثلاثين.

4- أحمد بن محمد بن خالد البرقي،

له كتاب «المحاسن».

إلي غير ذلك من أصحاب الجوامع الحديثية المسماة بالجوامع الأَوّلية التي ترك استنساخها بعد تأليف الجوامع الثانوية بيد أعلام هذه الطائفة، حيث ألفوا جوامع متقنة استمدت موادها من الجوامع السابقة و هذبوها و هذه الجوامع عبارة عن: 1- الكافي لثقة الإِسلام الكليني.

2- من لا يحضره الفقيه لأَبي جعفر الصدوق محمد بن علي بن موسي بن بابويه، نزيل الري، المتوفّي عام 381 ه.

3 و 4- الاستبصار و التهذيب لشيخ الطائفة الطوسي.

ثمّ وصلت النوبة في التدوين و التصنيف و التحقيق و التهذيب للحديث إلي المشايخ المتأخرين فجاءوا بجوامع أوسع من الجوامع السابقة الأُولي و الثانية و هي عبارة عن:

______________________________

(1) راجع المناقب: 1- 247 و غيره، و قد أوردنا نصوص علمائنا حول هؤلاء الرواة في كتاب «كليات في علم الرجال».

تذكرة الأعيان، ص: 216

1- وسائل الشيعة إلي تحصيل مسائل الشريعة لمحمد بن الحسن الحر العاملي، المتوفّي عام 1104 ه، و يقع في 20 مجلداً من القطع الوزيري.

2- الوافي في الأصول و الفروع و السنن و الأَحكام في عدة أجزاء، و هو للمحدّث المحقّق الفيض الكاشاني، و قد اقتصر فيه علي النقل من الكتب الأَربعة.

3- بحار الأَنوار للعلّامة المحقّق محمد باقر المجلسي الذي طبع مؤَخراً في 110 مجلدات.

إلي غيرها من الجوامع الحديثية الأُخري التي يضيق المجال بذكرها.

و قد قام أخيراً سيّد الطائفة الأُستاذ الأَكبر الحاج حسين البروجردي بتشكيل لجنة من ذوي الفضل و التحقيق لجمع أحاديث الشيعة بترتيب خاص في موسوعة كبيرة و قد توفق رحمه اللّه في ذلك كلّ التوفيق و كانت نتيجة جهود تلك اللجنة تأليف كتاب «جامع أحاديث الشيعة» و قد طبع في ستّة و عشرين جزءاً تحت رياسة العالم الكبير الشيخ إسماعيل المعزّي دامت

إفاضاته.

و المتتبع لحالات علماء الحديث و الرجال يقف علي مدي عنايتهم بجمع الحديث و لم شعثه و تحقيقه و تهذيبه و تعريف رجاله بالاستقامة و الضعف إلي غير ذلك ممّا يرجع إلي الحفاظ علي تلك الوديعة النبوية في الأُمّة الإِسلامية.

و من الموسف أن يظهر في الآونة الأَخيرة ممّن ينصب العداء لأَهل البيت النبوي و لأَحاديثهم و آثارهم و يبادر إلي أضعاف أحاديث الشيعة بحجّة انّ كلّ ما يرويه الشيعة الإِمامية يرجع إلي الضعفاء من الرواة فقام بجمع أسمائهم في كتاب خاص أسماه «رجال الشيعة في الميزان» «1».

و قد بدأ كتابه هذا بقوله: «أمّا بعد فقد استفحل خطر التشيع في غفلة من أهل الحقّ».

______________________________

(1) و هو تأليف عبد الرحمن بن عبد اللّه، و قامت دار الارقم بنشره بالكويت.

تذكرة الأعيان، ص: 217

و في الحقيقة ليس خطر الشيعة إلّا خطر منطقهم القوي و حجّتهم الدامغة، و إلّا فليست الشيعة إلّا الحفظة الأُمناء لآثار الرسول- صلي الله عليه و آله و سلم- و آثار عترته، فقد عزب عن الكاتب انّ ما وقف عليه بعد تتبع كتب الشيعة و مصنفاتهم من وجود 130 راوياً ضعيفاً في اسناد أحاديث الشيعة الذين صرح بضعفهم علماؤهم بعد تسليم ادّعائه و صحّة استنتاجاته، لهو خير دليل علي أنّ الشيعة كانوا بالمرصاد لكلّمن كان يحاول الدس و التحريف، أو يزاول الحديث من دون أهلية لازمة.

أجل انّ تصريح علماء الرجال الشيعة بهذا المقدار من الضعاف خير شاهد علي مدي حرصهم علي سلامة الحديث من كلّ ما يسقط اعتباره.

و الكاتب بعد ما تصعد و تصوب، فقد أتي بأسماء 130 راوياً يعدّون من الضعاف عند محدثي الشيعة، فلو كان وجود الضعفاء دليلًا علي سقوط أحاديث الشيعة جمعاء، فليكن

وجود الكذابين و الوضّاعين و الدّجّالين في أحاديث أهل السنّة دليلًا علي كون صحاحهم و مسانيدهم موضوعة مكذوبة أيضاً، فإنّ وجود الكذابين و الوضاعين في رجال أحاديث أهل السنة ممّا لا ينكر، فقد جمع العلّامة الاميني طائفة منهم في موسوعته «الغدير» فبلغت سلسلة الوضاعين و الكذابين إلي سبعمائة رجل «1».

أضف إلي ذلك انّ كثيراً ممّن وصفهم بالضعف إنّما هي نظرية شخصية للكاتب لا يوافقه فيها أحد من علماء الرجال من الشيعة، و ما ذلك إلّا لأَجل عدم وقوفه علي ما هو الهدف من تضعيف الشخصيات العظيمة، كزرارة من جانب أئمّة أهل البيت، فلم يكن الهدف إلّا حفظ دمائهم بالتبرّي منهم.

و الكاتب و إن كان يهدف في الظاهر إلي تضعيف مجموعة من رواة الشيعة غير انّ له وراء هذا الادّعاء هدفاً آخر، و هو تضعيف جميع رجال الشيعة

______________________________

(1) لاحظ الغدير الجزء الخامس.

تذكرة الأعيان، ص: 218

و اتّهامهم بأنواع التهم.

غير انّه عزب عنه انّه لو صحّ ما رآه من الأَحلام لزم أضعاف صحاح أهل السنّة و مسانيدهم أيضا، لأَنّ أصحابها رووا عن الشيعة كثيراً «1».

إنّ ما ارتكبه الكاتب لا يثير العجب، بل انّما يثير الدهشة و الحزن و الأَسي هو أن ينبري من يدّعي التشيع و الولاء إلي تأليف كتاب يحاول فيه أضعاف جملة كبيرة من أحاديث الشيعة و قد أسماه ب «معرفة الحديث و تاريخ نشره و تدوينه و ثقافته عند الشيعة الإِمامية».

و ما أكثر الأَسماء التي لا تنطبق علي المسمي، فليس الكتاب إلّا مجموعة من النظريات الشخصية المسبقة حول رجال أحاديث الشيعة، و ليست حجّة حتي علي صاحبها، و ما حاول من الاستدلال عليها بالنصوص التاريخية و الرجالية ليست إلّا محاولة سخيفة لا يركن إليها، و

لأَجل أن يقف القاريَ علي بعض ما في هذا الكتاب من النظريات الساقطة، نعرض ما ذكره في مقدمة الكتاب و حسب انّها كبيت القصيد من كتابه حيث كرر في مقدمته و في ثناياها صحيحة حمّاد و نظرية الكاتب حولها.

صحيحة حماد و نظرية الكاتب حولها

لقد زعم الكاتب انّ الحديث المروي في الفقيه بسند صحيح عن حمّاد بن عيسي عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- موضوع، و الحديث جزء من الأَحاديث البيانية لأَجزاء الصلاة و شرائطها، و قد رواه صاحب الوسائل «2» و قد أقام دلائل

______________________________

(1) لاحظ كتاب المراجعات للإِمام شرف الدين: 42 105، فقد جمع أسماء مجموعة كبيرة من رواة الشيعة الذين احتج بهم أصحاب الصحاح و المسانيد.

(2) الوسائل: 4- 673، الباب الأَوّل من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 1.

تذكرة الأعيان، ص: 219

ثلاثة علي كون الحديث موضوعاً و مكذوباً علي حماد، و إليك بيانها: 1- قال أبو الحسين أحمد بن العباس بن النجاشي في فهرسته ص 19: قال حماد بن عيسي: «سمعت من أبي عبد اللّه- عليه السلام-، سبعين حديثاً، فلم أزل أدخل الشك علي نفسي حتي اقتصرت علي هذه العشرين» و هذه العشرون حديثاً هي التي نراها في كتاب قرب الاسناد ص 1512 طبعة النجف.

رواها عبد اللّه بن جعفر الحميري عن محمد بن عيسي بن عبيد و الحسن ابن ظريف و علي بن إسماعيل كلّهم عن حماد بن عيسي الجهني، و ليس فيها هذه الرواية المذكورة عن حماد عن أبي عبد اللّه- عليه السلام-.

فإذا كانت رواياته عن أبي عبد اللّه محصورة في تلك العشرين حديثاً و ليس منها هذه الرواية المذكورة فلا بدّ و انّها موضوعة عليه.

2- مات حمّاد بن عيسي سنة 209، و له نيف و سبعون سنة، نصّ

علي ذلك شيخنا أبو عمرو الكشي، و نقله عنه شيخنا أبو جعفر الطوسي في اختياره ص 317، و نص علي ذلك شيخنا ابن داود الحلي أيضاً كما في رجاله ص 556، فيكون مولد حماد حوالي سنة 135، و لم يكن له حين وفاة الصادق- عليه السلام- إلّا ثلاثة عشر سنة أو نحوها، فإذا كان لقاؤَه لأَبي عبد اللّه الصادق- عليه السلام- في صغره، فكيف يقول أبو عبد اللّه الصادق- عليه السلام- لغلام ليس له إلّا اثني عشر سنة و نحوها: «ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة»؟ 3- حماد بن عيسي الجهني، هو راوية كتاب حريز في الصلاة و لا يروي أصحابنا كتاب حريز إلّا عن حماد بن عيسي الجهني هذا، بعد ما قال حماد لأَبي عبد اللّه الصادق- عليه السلام-: «يا سيدي أنا أحفظ كتاب حريز» فلم يعبأ أبو عبد اللّه بمقاله و ادّعائه و قال: «لا عليك.

قم فصلّ».

لا بد و انّ حماداً قام و صلّي بين يديه- عليه السلام- بأحسن الآداب التي كان قد حفظها من كتاب حريز في الصلاة،

تذكرة الأعيان، ص: 220

و نحن راجعنا روايات حريز في الصلاة برواية حماد بن عيسي الجهني هذا فوجدنا يروي عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر الباقر- عليه السلام- نفس هذه الآداب المذكورة في هذا الحديث بل و أحسن منها و أتم و أوفي، و إذا كان حماد حفظ نفس هذه الآداب بل حفظ أتمها و أوفاها و تأدب بها في صلاته بين يدي أبي عبد اللّه الصادق- عليه السلام-، كيف يرد عليه الإِمام أبو عبد اللّه الصادق عليه السَّلام و يقول له: «يا حماد،

لا تحسن أن تصلي، ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة»؟ «1» ربما يتبادر إلي ذهن القاريَ الكريم أنّ لما استنتجه لمسة من الحقيقة أو مسحة من الصدق، و لا يدري أنّ في ما ذكره خلطاً و إغفالًا و أخذاً بما يؤَيد نظريته، و تركاً لما لا يوافقه، و إليك بيان ذلك: 1- انّما نقله عن ابن النجاشي صحيح غير انّ ما رتب عليه من النتيجة باطل و النتيجة المذكورة هي عبارة عن قوله: «و هذه العشرون حديثاً هي التي نراها في قرب الاسناد ص 1512 طبع النجف رواها عبد اللّه بن جعفر الحميري.. عن حماد بن عيسي، و ليس فيها هذه الرواية المذكورة عن حماد عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام، فإذا كانت رواياته عن أبي عبد اللّه محصورة في تلك العشرين حديثاً و ليس منها هذه الرواية المذكورة فلا بدّ و انّها موضوعة عليه».

فنحن نسأل الكاتب بأيّ دليل يقول: إنّما اقتصر عليه حماد من عشرين حديثاً هي نفس ما وردت في قرب الاسناد عنه في الصحائف المذكورة، مع أنّ لحمّاد روايات عن أبي عبد اللّه بلا واسطة تقرب الستين في الجوامع الحديثية من الكافي و الفقيه و التهذيب و الاستبصار و غيرها من الكتب الحديثية.

فلما ذا لا تكون تلك الأَحاديث العشرون ما ورد في تلك الجوامع الحديثية

______________________________

(1) معرفة الحديث و تاريخ نشره و تدوينه: 3 5 المقدمة.

تذكرة الأعيان، ص: 221

دون ما ورد في قرب الاسناد؟ لماذا لا تكون مبثوثة بين تلك الجوامع و بين قرب الاسناد؟ فإنّ مجرّد ورود عشرين حديثاً في قرب الاسناد لا يكون دليلًا علي أنّما اقتصر عليه حماد هي

تلك الأَحاديث العشرون مع أنّ أحاديثه التي تقرب عن الستين حديثاً مبثوثة في الجوامع الحديثية و كلّها عن الامام الصادق بلا واسطة «1».

و أمّا ما رواه المحدثون عنه (أي عن حماد) في مختلف الكتب من الاستبصار و أمالي الصدوق و كامل الزيارات، و الخصال، و إكمال الدين، و ثواب الاعمال و تفسير القمي، و معاني الاخبار، و بصائر الدرجات، و قصص الأَنبياء للراوندي، و الإِمامة و التبصرة، و أربعين الشهيد، فحدث عنه و لا حرج «2».

إنّ بعض هذه الأَحاديث و إن وردت في تلك الكتب بصورة مكررة إلّا أنّ

______________________________

(1) و حتي يقف الكاتب علي تلك الأَحاديث نأتي بإجمال ما وقفنا عليه: لاحظ الكافي الاجزاء و الصفحات و الأَحاديث التالية: 1- 286 الحديث 2- 4، 467 الحديث 2- 5، 613 الحديث 5- 2، 376 الحديث 6 167- 5، 46 479 494 496 الحديث 2 و 2 و 6 و 5 و 8- 7، 303 الحديث 466.

و لاحظ الفقيه الاجزاء و الصفحات و الأَحاديث التالية: 2- 296 الحديث 3- 2505، 429 الحديث 4- 4487، 101 الحديث 5182.

و لاحظ التهذيب الاجزاء و الصفحات و الأَحاديث التالية: 1- 374 الحديث 2- 4، 81 الحديث 3 170- 69، 23 الحديث 81 و 4- 1، 331 الحديث 5 232 386 430 447 487- 107، 163 الحديث 71 و 125 و 261 و 140 و 204 و 6 287- 382، 275 الحديث 153 و 7- 20، 61 الحديث 9 433- 7، 20 الحديث 81 و 39.

(2) لاحظ الموسوعة الحديثية الكبيرة: «معجم الأَسانيد لأَحاديث الشيعة» للعلّامة الحجّة السيد محمد باقر الابطحي الأصفهاني دام ظله الوارف، و قد تفضل علينا بما ذكرناه حول روايات

حماد في الكتب الحديثية.

تذكرة الأعيان، ص: 222

مجموع أحاديثها عن الصادق- عليه السلام- بلا واسطة يتجاوز و يفوق ما نقله في «قرب الاسناد» من العشرين حديثاً، و عند ذلك فمن أين و كيف وقف الكاتب بأنّما اقتصر عليه من العشرين حديثاً هي نفس ما وردت في «قرب الاسناد»، و ليس شي ء ممّا ورد في هذه الجوامع و الكتب من جملة تلك العشرين، فهل هذا إلّا رجم بالغيب، و رمي الكلام علي عواهنه؟! أعاذنا اللّه منه.

ثمّ إنّ ما نقله النجاشي من أنّ حماداً قال: «سمعت من أبي عبد اللّه سبعين حديثا، فلم أزل أدخل الشكّ علي نفسي حتي اقتصرت علي هذه العشرين» إنّما ذكره النجاشي مرسلًا لا مسندا، فلا يمكن الاحتجاج بهذا المرسل.

نعم نقله الكشي عن حماد مسنداً بواسطة محمد بن عيسي العبيدي، و هو ممّن اختلفت أنظار علماء الرجال في حقّه، و الكاتب ممّن بالغ في تضعيفه في كتابه ص 222، فكيف يحتج بحديث روي عن مثل العبيدي؟! فإسقاط صحيحة حماد بمثل هذه الرواية عند الكاتب أمر عجيب، و هذا يعرب عن أنّ هدفه ليس إلّا إسقاط روايات الشيعة عن الحجية بأيّ وسيلة ممكنة و إن كانت باطلة.

2- نقل في الدليل الثاني عن أبي عمرو الكشي أنّ حماداً مات و له نيف و سبعون سنة، فاستنتج منها أنّ حماد كان حين وفاة الصادق- عليه السلام- في السنة الثالثة عشرة من عمرة أو نحوها، ثمَّ رتب عليه بأنّه لا يصحّ أن يخاطب الامام غلاماً كهذا بالجملة التالية: ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون أو سبعون إلخ.

إنّ ما نقله عن أبي عمرو الكشي صحيح، غير انّا نسأله كيف غفل (أو تغافل) عن نقل ما في رجال النجاشي

فإنّه قال: «مات حماد بن عيسي غريقاً بوادي قناة و هو واد يسيل من الشجرة إلي المدينة، و هو غريق الجحفة في سنة تسع و مائتين، و قيل ثمان و مائتين، و له نيف و تسعون سنة رحمه اللّه» «1»

______________________________

(1) لاحظ رجال النجاشي: 142 برقم 370.

تذكرة الأعيان، ص: 223

و علي ذلك يكون عمره حين خاطبه الامام- عليه السلام- في الحديث علي الأَقل (34 سنة) و علي حمل «نيف» علي الثمانية يكون (37 سنة).

و حينها يصح مخاطبة الرجل الكامل الذي يقارب عمره «الأَربعين» بهذا الكلام.

و ليس ابن النجاشي وحيداً في هذا النقل، فقد نقل شيخنا المفيد بأنّ حماداً عاش نيفاً و تسعين «1».

فلو كان من نية الكاتب هو تحقيق الحقّ، فلما ذا نقل قول الكشي الذي يتوافق مع ما يتبناه و تغافل عن ذكر قول ابن النجاشي و الشيخ المفيد الذي يخالف ما يتبناه.

أ هكذا يكون أدب العلم و نهج التحقيق؟! مع أنّ المحتمل أن يكون «سبعين» في نسخة الكشي مصحف «تسعين» و قد يتفق ذلك كثيراً.

علي أنّه إذا دار الأَمر بين ما ينقله الكشي و ابن النجاشي فالأَخذ بالثاني هو المتعين لدقة الثاني دون الأَوّل و اشتماله علي أغلاط و اشتباهات هذبها شيخنا الطوسي و أسماه «باختيار الرجال».

3- نقل في الدليل الثالث قول حماد لأَبي عبد اللّه الصادق- عليه السلام-: يا سيدي أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة، فلم يعبأ أبو عبد اللّه بمقاله و قال له: لا عليك قم فصلّ.

إلي هنا صحّ ما نقله من متن الرواية.

غير انّه رتب علي ذلك نتيجة واهية حيث قال: لا بدّ و انّ حماداً قام و صلّي بين يديه- عليه السلام- بأحسن الآداب التي كان قد حفظها من

كتاب حريز في الصلاة.

فأنّا نسأل الكاتب كيف وصل إلي هذه النتيجة؟ أو ليس معروفاً انّ بين

______________________________

(1) لاحظ معجم رجال الحديث: 6- 227.

تذكرة الأعيان، ص: 224

العلم و العمل بوناً شاسعاً، فانّ كثيراً من المصلين مع وقوفهم علي أحكام الصلاة و واجباتها و آدابها و سننها لا يراعون ذلك.

أو ليس من المحتمل أنّ حماداً لم يأت في الصلاة بما حفظه من كتاب حريز، و لأَجل ذلك وبّخه الامام بقوله: ما أقبح بالرجل منكم.. إلخ.

و ما ذكرناه من الاحتمال، و إن لم يكن إلّا احتمالًا غير انّه يكفي في الأَخذ بالحديث و عدم جواز الرد إلّا إذا قام الدليل القاطع علي بطلانه.

أضف إلي ذلك انّ الكاتب حذف لفظة «منكم» من قوله- عليه السلام-: «ما أقبح بالرجل منكم..» التي تعرب عن أنّ التوبيخ لم يكن متوجهاً إلي حماد وحده، بل لعلّه من باب «إياك أعني و اسمعي يا جارة».

و أمّا ما ذكره من أنّ ما ورد في كتاب حريز من الآداب أحسن و أتم و أوفي ممّا ورد في رواية حماد فهو أيضاً بعيد عن الصواب بل النسبة بين الروايتين عموم و خصوص من وجه، و يظهر ذلك بمقارنة الروايتين.

إنّ الكاتب يدّعي انّ الزنادقة كانوا يدسّون في أحاديث الشيعة، و استدل لذلك بما يحكي عن عبد الكريم بن أبي العوجاء، من انّه لما قبض عليه محمد بن سليمان و هو والي الكوفة من قبل المنصور، و احضره للقتل، و أيقن بمفارقة الحياة قال: «لئن قتلتموني، فقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة مصنوعة» «1».

إنّ الاستدلال بقول (عبد الكريم بن أبي العوجاء) ذلك الزنديق الملحد من عجائب الاستدلالات أ فيصح الاستدلال بقول الفاسق فضلًا عن الكافر؟! فمن أين وقف

الكاتب علي صدق مقاله و حقيّة كلامه؟! انّ من المعلوم انّ الإِنسان الآيس من حياته، المحكوم بالقتل و الصلب يطلق الكلام علي عواهنه و يأتي بالغث

______________________________

(1) أمالي المرتضي: 1- 128.

تذكرة الأعيان، ص: 225

و السمين ليثير غضب الحاكم من غير أن يكون ملتزماً بصدق مقاله و نعم ما قال القائل:

إذا يئس الإِنسان طال لسانه كسنور مغلوب يصول علي الكلب

و القاري الكريم جد عليم بأنّه لو صحّ ما نقله عن المرتضي فإنّما يتوجه ذلك إلي الأَحاديث غير الشيعية، فإنّه قال ما قال لمحمد بن سليمان الذي كان والياً من قبل المنصور، و الكتب التي دس فيها كتب لا تمت إلي الشيعة بصلة.

و يدلُّ علي ذلك ما ذكره ابن الجوزي في كتاب الموضوعات في حقّ الرجل «ابن أبي العوجاء» من انّه كان ربيباً لحماد بن سلمة، و قد دس في كتب حماد بن سلمة «1» و قد نص بذلك أيضاً الذهبي في ميزان الاعتدال ج 1 ص 590 595، و ابن حجر في تهذيب التهذيب ج 3 ص 11 16.

فالكلّ ينص بأنّ الرجل دسّ ما دسّ في كتب أبي سلمة البصري المشتهر بحماد بن سلمة الذي كان يعدّ من محدّثي السنة، فأين ذلك من الدس في كتب الشيعة؟ كما نبه بذلك العلّامة مرتضي العسكري في بعض المنشورات «2».

هذا غيض من فيض، و قليل من كثير ممّا في هذا الكتاب من الجرأة و الإِساءة إلي هذه الطائفة و أُصولها و فروعها، و نعوذ باللّه من سبات العقل و قبح الزلل.

هذا و انّ العلّامة الحجّة السيد موسي الزنجاني أحد أساتذة الحوزة العلمية الخبير في علمي الرجال و الدراية، قد أخذ علي عاتقه نقد هذا الكتاب و تبيين زلاته كما حدثني

هو بذلك شفهياً.

______________________________

(1) راجع الموضوعات ص 37، طبع المدينة المنورة.

(2) لاحظ دور الأَئمّة في إحياء الدين، ج 7 قسم المستدرك.

تذكرة الأعيان، ص: 226

مميزات الفقه الإِمامي و أُسسه

اشارة

من أهمّ ما يمتاز به الفقه الإِمامي الشيعي الإِسلامي هو استناده بعد الكتاب العزيز إلي السنّة المروية من لدن حياة النبي- صلي الله عليه و آله و سلم بواسطة عترته الطاهرة و أتباعهم الصادقين الضابطين بلا انقطاع، في الوقت الذي فقد الآخرون مثل هذا المنبع الصافي مدّة تزيد علي مائة سنة، و لهذا اضطروا إلي استعمال القياس و الاستحسان و الاستصلاح و قاعدة المصالح المرسلة إلي غير ذلك من الاستنباطات الظنية لأَجل قلّة النصوص و كثرة الاحتياج إلي الفروع الفقهية الجديدة.

كما أنّ من أهمّ ما يمتاز به هو سعة منابعه الحديثية بفضل عطاء العترة الذي دام 250 سنة بعد وفاة الرسول، فيما كان يفقد الآخرون مثل هذا المنبع الواسع، الزاخر المستمر.

كما أنّ من أهمّ ما يمتاز به، هو نقاوة المصدر الذي كان يشكل الركيزة الاساسية للفقه الإِمامي بعد القرآن الكريم بفضل ما تتمتع به العترة الطاهرة من العصمة التي جعلها ثقلًا قريناً للقرآن كما عرفت.

و من هذه الشجرة الطيبة، الراسخة الجذور، المتصلة بالنبوة، نتجت هذه الثمرة و هي «الفقه الإِمامي».

و امتاز أيضاً بالسعة و الشمولية، و العمق و الدقة، و الانسجام الكامل مع الروح الإِسلامية، و النقاوة، و البرهنة الساطعة، و القدرة علي مسايرة مختلف العصور و مستجداتها في الإِطار الإِسلامي دون تخطّي الحدود المرسومة لها.

هذا عن مميزات هذا الفقه.

و أمّا عن الأسس التي يعتمد عليها أو بالاحري المصادر التي يستمد منها هذا الفقه مادته، فهي قبل كلّ شي ء، القرآن الكريم، الذي استمد منه منذ الأَيام الأولي من تاريخه.

تذكرة الأعيان، ص: 227

و

أمّا مصدره الثاني فهو الحديث النبوي و أحاديث عترته الطاهرة التي مرّ عليك بيان كيفية حرص الشيعة علي تدوينها و تسجيلها بدقة و أمانة، منذ العهد النبوي إلي يومنا هذا، انطلاقاً من حديث الثقلين السالف ذكره.

ثمّ إنّ الفقه الإِمامي الشيعي الإِسلامي كما يستمد مادته من ذينك المصدرين، كذلك يستمد من العقل في إطار خاص مثل باب الملازمات العقلية، كالملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدمته، و حرمة الشي ء و حرمة ضدّه، و حرمة الشي ء و فساده، و توقف تنجز التكليف علي البيان و قبح العقاب بدونه، و استلزام الاشتغال اليقيني البراءة القطعية إلي غير ذلك ممّا يبحث عنه في الملازمات العقلية.

كما انّه يستمد مادته أيضاً من الإِجماع الكاشف عن وجود النص الوارد في المسألة و إن لم يصل إلي يد الباحث في العصور اللاحقة.

هذه هي أهمّ الأسس التي يقوم عليها صرح الفقه الإِمامي الشيعي الإِسلامي.

و قد ألّفت الشيعة الإِمامية حول الفقه و أُصوله و مبادئه و مقدماته مؤَلفات كثيرة لا تحصي كثرة، و لا تعد وفرة، و لا يفي بذكر أسمائها الفهارس المطولة غير أنّا لَامر الذي يجب التنبيه عليه هو انّ مؤَلفات فقهاء الإِمامية الأَقدمين الذين جاءوا بعد وفاة الإِمام العسكري إلي زمان الشيخ الطوسي (المتوفّي 460 ه) اتّسمت بأنّها كانت نفس متون الأَحاديث و عين عباراتها بحذف الاسناد.

و كأنّهم كانوا حريصين علي أن لا يتخطوا العبارات التي جاءت في الأَحاديث حفاظاً علي الأَصالة، و تجنباً من أية زيادة أو نقيصة.

و يعد كتاب الفقه الرضوي و المقنع للصدوق، و نهاية الشيخ الطوسي من هذا النوع.

تذكرة الأعيان، ص: 228

غير انّه لما اتسع نطاق الفقه باتساع دائرة الحاجات الّتي أدّت بدورها إلي اتساع دائرة الاستنباط، و

تجدد الفروع، اضطر فقهاء الإِمامية إلي الكف عن الالتزام بنفس متون الأَحاديث و عينها في كتابة المؤَلفات الفقهية و إلي صياغة فروع جديدة مستنبطة من نفس تلك الأَحاديث و مضامينها بعبارات جديدة انطلاقاً من قولهم: «علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع» «1».

و يعد كتاب المبسوط و الخلاف في الفقه للشيخ الطوسي شيخ الطائفة أبرز و أقدم نموذج من هذا النوع.

و تشكل هذه المرحلة، المرحلة الثانية في تطور الفقه الإِمامي الشيعي الإِسلامي، بعد المرحلة الأُولي التي اتسمت كما قلنا بالتزام نفس عبارات الأَحاديث في صياغة المتون الفقهية.

و يعد من أبرز رواد هذه المرحلة الفقهاء التالية أسماؤهم: 1- الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد (المتوفّي 413 ه).

2- الشريف المرتضي علي بن الحسين (المتوفّي عام 436 ه).

3- الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (385 460 ه).

4- الفقيه البارع أبو الصلاح الحلبي صاحب الكافي في الفقه (374 447 ه).

5- القاضي الشيخ عبد العزيز بن نحرير بن البراج (المتوفّي سنة 481 ه) صاحب المهذب البارع الذي هو كالمبسوط في غزارة الفروع.

هؤلاء هم أعيان علماء المرحلة الثانية في تاريخ الفقه الإِمامي.

و قد كان سيد الطائفة آية اللّٰه البروجردي قدَّس سرَّه يسمي القسم الأَوّل: «الأصول المتلقاة من الأَئمّة- عليهم السلام-».

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، كتاب القضاء، الباب 6، الحديث 52.

تذكرة الأعيان، ص: 229

و قد استمر البحث و التنقيب حول المسائل الفقهية بين علماء الشيعة في جميع القرون التي مضت إلي يومنا هذا، و لم يكن ذلك إلّا لأَجل انفتاح باب الاجتهاد لديهم، و وجوب رجوع العامي إلي المجتهد الحي، و هم يرون أنّ إفتاء علماء المذاهب الأَربعة بإقفال باب الاجتهاد، خسارة جسيمة للعلم و ما جاءوا به من التعليلات لتوجيه هذا الاغلاق وجوه

عقيمة لا جدوي لها «1».

و لم يكن لذلك الاغلاق إلّا حافز سياسي قد أوضحناه في كتابنا «مفاهيم القرآن» «2».

عصر الجمود أو عصر الازدهار

يصف «مصطفي أحمد الزرقاء» القرن السابع بأنّه قرن الانحطاط و الجمود، و يقول: «في هذا الدور أخذ الفقه بالانحطاط، فقد بدأ في أوائله بالركود، و انتهي في أواخره إلي الجمود، و قد ساد في هذا العصر الفكر التقليدي المغلق، و انصرفت الأَفكار عن تلمس العلل و المقاصد الشرعية في فقه الاحكام إلي الحفظ الجاف و الاكتفاء بتقبل كلّ ما في الكتب المذهبية دون مناقشة، و طفق يتضاءل و يغيب ذلك النشاط الذي كان لحركة التخريج و الترجيح و التنظيم في فقه المذاهب، و أصبح مريد الفقه يدرس كتاب فقيه معيّن من رجال مذهبه، فلا ينظر إلي الشريعة و فقهها إلّا من خلال سطوره بعد أن كان مريد الفقه قبلًا يدرس القرآن و السنّة و أُصول الشرع و مقاصده.

و قد أصبحت المؤَلفات الفقهية إلّا القليل أواخر هذا العصر اختصاراً

______________________________

(1) لاحظ المدخل الفقهي العام تأليف مصطفي أحمد الزرقاء: 1- 187، و كتاب «الملكية و نظرية العقد في الشريعة الإِسلامية» تأليف الشيخ محمد أبو زهرة ص 38 39، تري أن الكاتبين يذكران وجوهاً عليلة لإِغلاق باب الاجتهاد.

(2) لاحظ مفاهيم القرآن: 3 303- 209 و أيضاً الخطط المقريزية: 3442- 333.

تذكرة الأعيان، ص: 230

لما وجد من المؤَلفات السابقة أو شرحاً له، فانحصر العمل الفقهي في ترديد ما سبق و دراسة الأَلفاظ و حفظها، و في أواخر هذا الدور حل الفكر العامي محلّ الفكر العلمي لدي كثير من متأخري رجال المذاهب الفقهية» «1».

و في هذا العصر نجد ازدهار الفقه الشيعي حيث اكتسب نضارة قلما نجد نظيرها في القرون السابقة، كما أنّه بزغت

في المحافل العلمية شخصيات لامعة في الفقه و الأُصول تعد من النوابغ القلائل الذين يضن بهم الدهر إلّا في فترات، أمثال: 1- الحسن بن زهرة بن الحسن بن زهرة الكبير، و هو الجدّ الأَعلي لبني زهرة المجازين عن العلّامة الحلّي في سنة 723 ه.

قال الذهبي في «شذرات الذهب»: رأس الشيعة بحلب و عزهم و جاههم كان عالماً بالعربية و القراءات و الأَخبار و الفقه علي رأي القوم و اندكت الشيعة بموته في 620 «2».

2- نجيب الدين محمد بن جعفر بن هبة اللّه بن نما الشهير بابن نما، المتوفّي سنة 645 ه من مشايخ سديد الدين يوسف بن المطهر والد العلّامة، و المحقّق الحلي المتوفّي عام 676 ه و قد بلغ المترجم له في سلامة النفس و تحرّي الحقيقية مبلغاً عظيماً حيث وقّع فتوي للمحقّق الحلي و سديد الدين يوسف الحلي في مسألة «مقدار الواجب من المعرفة» مع أنّ الأَخيرين من تلاميذه.

إنّ بيت ابن نما بيت عريق في العراق شهير بالعلم و الفضل، و قد خرج من هذا البيت علماء و فقهاء لا يدرك شأوهم و لا يشق غبارهم.

منهم نجم الدين جعفر بن محمد بن جعفر بن هبة اللّه بن نما ولد المترجم.

______________________________

(1) المدخل الفقهي العام: 1 187- 186.

(2) طبقات أعلام الشيعة في المائة السابعة: 38.

تذكرة الأعيان، ص: 231

و منهم ابنه الآخر نظام الدين أحمد بن محمد بن جعفر بن هبة اللّه بن نما، فالكل يعني الوالد و الولدين معدودون من الأَجلّاء في هذا القرن، و كلّما أطلق ابن نما ينصرف إلي الوالد.

3- أحمد بن موسي بن جعفر بن طاوس المتوفّي عام 673 ه و هو من مشايخ العلّامة الحلّي، و تقي الدين الحسن بن علي

بن داود صاحب الرجال، و هو يروي عن جماعة، منهم: نجيب الدين محمد بن جعفر بن هبة اللّه بن نما و فخار بن معد بن فخار بن أحمد ترجمه تلميذه ابن داود في رجاله، و يصفه السيد حسين البروجردي في منظومته بقوله:

فقيه أهل البيت ذو الشمائل هو ابن طاوس أبو الفضائل

هو ابن موسي شيخ بن داود في باخع (673) مضي إلي الخلود

و هو أوّل من قسم أحاديث الشيعة إلي الصحيح و الحسن و الموثق و الضعيف، و كلّما أُطلق «ابن طاوس» في كتب الفقه و الرجال ينصرف إلي هذا، كما انّه كلّما أُطلق في كتب الأَدعية و الزيارات ينصرف إلي أخيه رضي الدين علي بن موسي بن جعفر بن طاوس المتوفّي 664 ه.

4- جعفر بن الحسن بن يحيي الأَكبر بن الحسن بن سعيد المشتهر ب «نجم الدين المحقّق» علي الإِطلاق (600 676 ه) و هو غني عن الإِطراء و التوصيف له أثره الخالد «الشرائع» و قد عكف علي ذلك الكتاب العلماء بالدراسة و الشرح و التعليق، و له شروح و تعاليق ذكرها شيخنا الطهراني في موسوعته القيمة «الذريعة».

5- الفقيه البارع أبي زكريا نجيب الدين يحيي بن أحمد بن يحيي بن الحسن ابن سعيد الهذلي الشهير ب: يحيي بن سعيد منسوباً إلي جدّه الأَعلي، (601 689 أو 690 ه)، ذكره المترجمون مقروناً بكثير من التجليل و التكريم و الإِشادة

تذكرة الأعيان، ص: 232

بمكانته الرفيعة التي كانت له بين علماء عصره و فضلاء زمانه، و له «الجامع للشرائع» الذي نقدّمه إلي القرّاء.

كلمات الثناء و جمل الإِطراء في حقّ المؤَلف

اشارة

قال السيوطي في بغية الوعاة في طبقات اللغويين و النحاة: يحيي بن أحمد ابن سعيد الفاضل نجيب الدين الحلي الشيعي.

قال الذهبي: لغوي أديب حافظ للآثار بصير

باللغة و الأَدب، من كبار الرافضة سمع من ابن الأَخضر، ولد بالكوفة سنة إحدي و ستمائة، و مات ليلة عرفة سنة تسع و ثمانين و ستّمائة «1».

و قال ابن داود في رجاله: يحيي بن أحمد بن سعيد شيخنا الإِمام العلّامة الورع القدوة، كان جامعاً لفنون العلوم الأَدبية و الفقهية و الأُصولية و كان أورع الفضلاء و أزهدهم له تصانيف جامعة للفوائد منها كتاب «الجامع للشرائع» في الفقه كتاب «المدخل» في أُصول الفقه و غير ذلك، مات سنة تسع و ثمانين و ستّمائة «2».

و قال القاضي نور اللّه التستري: الشيخ الفاضل يحيي بن أحمد بن يحيي بن سعيد الهذلي الحلي مجيب نداء (يٰا يَحْييٰ خُذِ الْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ) و المقتبس من مشكاة الولاية و النبوة من أعاظم مجتهدي الشيعة «3».

و قال الشيخ الحر العاملي في «أمل الآمل»: الشيخ أبو زكريا يحيي بن سعيد و هو ابن أحمد بن يحيي بن الحسن بن سعيد الهذلي من فضلاء عصره، روي عنه السيد عبد الكريم بن أحمد بن طاوس كتاب «معالم العلماء» لابن شهرآشوب

______________________________

(1) بغية الوعاة: 2- 331.

(2) لاحظ رجال ابن داود، و يقرب منه ما ذكره الأَردبيلي في جامع الرواة: 2- 334، و التفريشي في نقد الرجال: 370.

(3) مجالس المؤمنين: 234.

تذكرة الأعيان، ص: 233

و غيره كما رأيته بخط ابن طاوس، و يروي عنه العلّامة، له كتاب «جامع الشرائع» و غيره، و ذكر العلّامة انّه كان زاهداً ورعاً «1».

و قال حجّة التاريخ المتتبع الخبير عبد اللّه الأَفندي في كتابه القيم «رياض العلماء»: كان قدس سرَّه مجمعاً علي فضله و علمه بين الشيعة و عظماء أهل السنة أيضاً «2».

و قال الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن صالح السيبي القسيني تلميذ

فخار بن معد الموسوي، و ابن نما في إجازة للشيخ المحقّق الفاضل نجم الدين طمان بن أحمد العاملي الشامي، انّه قال بعد ذكر جماعة من مشايخه المعظمين: رويت عن الفقيه المعظم السعيد الشيخ نجم الدين جعفر بن سعيد جميع ما صنفه و ألفه و رواه، و كنت في زمن قراءتي علي شيخنا الفقيه نجيب الدين محمد بن نما أتردد إليه أواخر كلّ نهار و حفظت عليه كتابه المسمي ب «نهج الأصول إلي معرفة الأصول» في أُصول الفقه و شرحه لي قال: و قرأت كتاب الجامع في الشرائع تصنيف الفقيه السعيد المعظم شيخ الشيعة في زمانه نجيب الدين أبي زكريا يحيي ابن أحمد بن سعيد، عليه أجمع، و سمع بقراءتي جماعة منهم النقيب الطاهر العالم الزاهد جلال الدين محمد بن علي بن طاوس و الفقيه جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي و الوزير شرف الدين أبو القاسم علي الوزير المعظم بن مؤَيد الدين محمد بن العلقمي..

و قال صاحب الروضات بعد نقل هذه العبارة: يظهر منه انّ الشيخ نجيب الدين يحيي بن أحمد الذي هو ابن عم المحقّق من غير واسطة لو لم يكن في زمانه بأشهر منه في الفقه و متقدماً لدي الفضلاء لما كان بأنقص منه «3».

______________________________

(1) أمل الآمل: 2 347- 346.

(2) رياض العلماء: 5- 336.

(3) روضات الجنات: 2- 188 و قد ترجم المؤَلف في كتابه أيضاً لاحظ: 7 199- 198، و قد سقط لفظة «بن» في «بن مؤَيد الدين» من النسخة المطبوعة، فلاحظ.

تذكرة الأعيان، ص: 234

إلي غير ذلك من جمل الإِطراء و كلمات الثناء التي يطول المقام بذكرها و نقلها.

تأليفات المؤَلف

قد ترك المؤَلف ثروة علمية بين أبناء أُمّته نذكر منها ما يلي:

1- «الجامع للشرائع»

و هو ثمرة غنية و ناضجة من تلك الدوحة الفقهية (دوحة الفقه الإِمامي) الذي سبق الحديث عن مميزاته و أُسسه و قواعده، و شي ء من تاريخ نشوية و تطوره، و بعض أدواره و رجاله.

و قد مدحه بعض الفضلاء بقوله:

ليس في الناس فقيه مثل يحيي بن سعيد

صنف الجامع فقهاً قد حوي كلّ شريد

و مدحه بعض آخر بقوله:

يا سعيد الجدود يا ابن سعيد أنت يحيي و العلم باسمك يحيي

ما رأينا كمثل بحثك بحثا ظنه العالم المحقّق وحيا

«1» و يظهر من ثنايا الكتاب انّ الكتاب أُلّف حوالي 654 ه، قال: و في هذه السنة و هي سنة أربع و خمسين و ستّمائة في شهر رمضان احترق المنبر و سقوف المسجد إلي آخر ما ذكره «2».

2- نزهة الناظر في الجمع بين الأَشباه و النظائر:

______________________________

(1) رياض العلماء: 5 341- 340.

(2) لاحظ الجامع للشرائع: 481.

تذكرة الأعيان، ص: 235

وصفه صاحب الروضات بأنّه: كتاب لطيف في الفقه ينوف علي ثلاثة آلاف بيت تقريباً، و قد طبع أخيراً بتحقيق العلّامة السيد أحمد الحسيني و نور الدين الواعظي عام 1388 ه، و أثبت المحقّقان انّ هذا التأليف للمؤلف لا للشيخ مهذب الدين، و ناقشا ما ذكره صاحب الرياض في هذا المقام.

3- «المدخل في أُصول الفقه» ذكره أكثر من ترجم للمترجم له.

4- «قضاء الفوائت» نسبه إليه الشهيد في غاية المراد «1».

5- «الفحص و البيان عن أسرار القرآن» نسبه إليه الشيخ زين الدين البياضي في كتاب «الصراط المستقيم» و قال: إنّه قدس سرَّه قد قابل في ذلك الكتاب الآيات الدالة علي اختيار العبد، بالآيات الدالة علي الجبر، فوجد آيات العدل تزيد علي آيات الجبر بسبعين آية «2».

6- «كشف الالتباس عن نجاسة الأَرجاس» نسبه إليه الكفعمي في بعض

مجاميعه «3».

7- «كتاب السفر» نسبه إليه الشهيد في الذكري «4».

مشايخه و أساتذته

يروي عن عدّة من المشايخ و الفضلاء، ذكرت أسماء بعضهم في آخر هذا الكتاب (الجامع للشرائع) عند نقل رواية ظريف بن ناصح.

منهم:

1- السيد الفقيه محيي الدين أبو حامد محمد بن عبد اللّه بن علي بن زهرة

______________________________

(1) أعيان الشيعة: 50- 18، و العجب انّ سيدنا الأَمين لم يترجم المؤَلف إلّا بسطر واحد.

(2) رياض العلماء: 5 338- 337.

(3) رياض العلماء: 5 338- 337.

(4) رياض العلماء: 5 338- 337.

تذكرة الأعيان، ص: 236

الحسيني الحلبي، و ليس هذا السيد بالسيد ابن زهرة المشهور صاحب الغنية المتوفّي سنة 585 بل هو ابن أخيه.

2- الشيخ محمد بن أبي البركات بن إبراهيم الصنعاني، و ذكر المؤَلف أنّ تاريخ الرواية شهر رجب سنة ست و ثلاثين و ستّمائة «1».

3- والده الشيخ أحمد عن جدّه يحيي الأَكبر.

4- السيد الأَجل فخار بن معد المتوفّي سنة 630 ه.

5- الشيخ نجيب الدين محمد بن جعفر بن هبة اللّه بن نما الحلي.

إلي غير ذلك من المشايخ التي تقف علي أسمائهم عند المرور علي ترجمة المؤَلف في غضون كتب التراجم، و قد جمع صاحب الرياض أسماءهم و بعض خصوصياتهم، فلاحظ «2».

تلامذته و الراوون عنه

1- السيد عبد الكريم بن طاوس (المتوفّي 693 ه) أجازه في ذي القعدة سنة 686 ه «3» 2- العلّامة الحلّي (648 726 ه) «4».

3- ولده صفي الدين محمد بن يحيي بن سعيد.

4- الشيخ جلال الدين أبو محمد الحسن بن نما الحلّي.

5- السيد شمس الدين محمد بن أبي المعالي.

______________________________

(1) رياض العلماء: 5 338- 337.

(2) لاحظ الجامع للشرائع: 605 606.

(3) رياض العلماء: 5- 337، و قد نقل صورة الإجازة.

(4) لاحظ إجازته لبني زهرة التي كتبها سنة 723 ه.

تذكرة الأعيان، ص: 237

6- السيد عز الدين الحسن بن علي بن محمد بن علي

المعروف بابن الأبزر الحسيني، و كان تاريخ إجازته سنة خمس و خمسين و ستّمائة و قد نقل صاحب رياض العلماء صورة الإِجازة في حالات المجاز له، فلاحظ «1».

7- السيد نجم الدين أبو عبد اللّه الحسين بن أردشير بن محمد الطبري، و قد أجازه و كتب الإِجازة بخطه الشريف علي ظهر نهج البلاغة، و كان تاريخها سنة سبع و سبعين و ستّمائة «2» و قد نقل صاحب رياض العلماء صورة الإِجازة في ترجمة السيد نجم الدين.

8- الشيخ كمال الدين علي بن حماد الليثي الواسطي، كما يظهر من إجازة ولد ذلك الشيخ (الشيخ حسين) للشيخ نجم الدين خضر بن محمد بن نعيم المطارآبادي.

9- الحمويني مؤَلف فرائد السمطين، فقد قرأ عليه في داره في ذي القعدة سنة إحدي و سبعين و ستّمائة.

10- الشيخ عمرو بن الحسن بن خاقان قرأ عليه المبسوط، أجاز له سنة 674 ه.

11- أحمد بن عبد الكريم و قد كتب كتاب الجامع بخطه و كتب المؤَلف عليه إجازة بخطه في جمادي الأُخري سنة 681 ه «3».

12- علي بن محمد بن أحمد شرف الدين أبو القاسم بن الوزير مؤَيد الدين ابن العلقمي، قرأ علي المؤَلف كتاب جامع الشرائع.

13- شمس الدين محمد بن أحمد بن صالح السيبي القسيني علي ما ذكره

______________________________

(1) و نقله المتتبع الطهراني في الأَنوار الساطعة: 41.

(2) رياض العلماء: 5- 338.

(3) لاحظ الأَنوار الساطعة: 7.

تذكرة الأعيان، ص: 238

في إجازته للشيخ طومان «1».

14- العالم الزاهد جلال الدين محمد بن علي بن طاوس.

هذه حياة المؤَلف المفعمة بالبحث و التحقيق و الدراسة و التربية و مع الأَسف انّه لم ينتشر له شي ء سوي «نزهة الناظر» فقامت ثلة من الفضلاء باستنساخ الكتاب و تحقيق نصوصه و تخريج أحاديثه.

______________________________

(1) لاحظ

الأَنوار الساطعة: 109، و قد مرّ نص العبارة في ذلك، فلاحظ.

تذكرة الأعيان، ص: 239

11- علي بن عيسي الإِربلي (.. المتوفّي عام 693 ه)

اشارة

إنّ التاريخ البشري حافل بأنواع من الحوادث و الكوارث و الملمات و المحن و النجاحات و الإِخفاقات، فكلّ تلك الظواهر لابدّ لها من سبب ينشئها و يوجدها و لم يكن تحققها علي مسرح التاريخ أمراً اعتباطياً أو اتفاقياً تحققت صدفة.

فالباحث عن التاريخ عند ما يستعرض السير التاريخي للحوادث لا بدّ أن يأخذ بنظر الاعتبار العلل التي حققتها و أظهرتها علي الساحة التاريخية و يبدأ بتحليلها بغية اقتناص العبر المفيدة و تطبيقها علي حياته الفردية و الاجتماعية، و عند ذلك يصبح التاريخ محل العبر، و مثار العظات و مصدر العلم بالسنن الإِلهية في حياة المجتمعات الإِنسانية و انفساخها.

و بالتالي يكون التاريخ مدرسة تطبيقية للوقوف علي الأصول التي فيها حياة الأُمّة و بقاؤها أو موتها و فناؤها.

و قد كان التاريخ في القرون السالفة يتلخص في قراءة الحوادث و تتابعها بسرد حوادث تتضمن انتصارات أقوام علي أقوام، و نشوء أُمم و فناءها، دون أن يقوم الموَرخ بتحليل تلك الحوادث التاريخية و الوقوف علي أسبابها و عللها، و الوقوف علي نتائجها و مضاعفاتها.

و قد أُطلق علي هذا النوع من كتابة التاريخ بالتاريخ النقلي، و هو أشبه بسرد القصص من دون تحليل و استنتاج.

تذكرة الأعيان، ص: 240

و أمّا اللون الآخر للتاريخ الذي أصبح علماً مستقلا احتل مكانة ممتازة بين العلوم الإِنسانية هو التاريخ التحليلي، و هو أن يقوم الموَرخ بتحليل الظواهر التاريخية، و يعيّن علل الحوادث و نتائجها، و يميّز الصحيح عن الزائف تحت المشراط العلمي، و هذا اللون من التاريخ و إن شاع في العصور المتأخرة، و لكن ليس كلّ موَرخ محلل، و لا كل

تحليل تحليلًا صحيحاً.

إنّ القرآن الكريم يدعو إلي دراسة التاريخ و التدبر فيه علي النمط الثاني و هو يتلو علي أسماعنا ما جري علي الأُمم السالفة من سعادة و شقاء، و ما استخلفوا من صالح الاعمال و طالحها، و لم يبرح يحث علي السبر و الغور في حياة الأُمم السالفة، و التفكر فيما حلّ بهم من تقدّم و تدهور حتي يستنتج من قراءة القصص قانوناً عاما لمجتمعه و يعرف لهم عوامل الرقي و الازدهار أو عوامل السقوط و الانحلال، قال سبحانه: (ذٰلِكَ مِنْ أَنْبٰاءِ الْقُريٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهٰا قٰائِمٌ وَ حَصِيدٌ) «1» و قال سبحانه: (أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدٰارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلٰا تَعْقِلُونَ) «2» و قال في آية أُخري: (أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهٰا أَوْ آذٰانٌ يَسْمَعُونَ بِهٰا فَإِنَّهٰا لٰا تَعْمَي الْأَبْصٰارُ وَ لٰكِنْ تَعْمَي الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) «3».

إلي غير ذلك من الآيات الكريمة الواردة في هذا المضمار.

______________________________

(1) هود: 100.

(2) يوسف: 109.

(3) الحج: 46.

تذكرة الأعيان، ص: 241

سيرة الأَنبياء و الأَولياء

إنّ كلّ صفحة من صفحات التاريخ يستلهم منها دروس و عبر، لكن تاريخ الصلحاء و في طليعتهم الأَنبياء و الأَولياء من أهم المواضع التي يجب أن تستأثر بالاهتمام، فإنّ حياتهم المشرقة احتلت أنصع صفحات التاريخ، ففيها دروس هداية تأخذ بيد البشر و تهديهم إلي ساحل النجاة و السعادة.

فقراءة تاريخ رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- و الأَئمّة المعصومين قراءة حياة أُمّة كبيرة يعدون مصابيح الدجي و أعلام التقي و ذوي النهي و خزان العلم و منتهي الحلم و أُصول الكرم و قادة الأُمم و دعائم الأَخيار و

ساسة العباد و أركان البلاد ففي كلّ صفحة من حياتهم دروس وافية تنير الدرب للسائرين.

و لأَجل ذلك قامت أُمّة كبيرة بتدوين تاريخ النبي صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم و أئمّة أهل البيت، فخلفوا تراثاً تاريخيّاً ضخماً.

و ها نحن نشير إلي لفيف من المؤَرخين الذين بذلوا جهوداً كبيرة في تدوين سيرة رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- و آله المعصومين و في مقدمتهم: 1- محمد بن إسحاق المدني (المتوفّي 151 ه) صاحب كتاب «المغازي» الذي لخصه ابن هشام، و اشتهر بالسيرة النبوية.

2- لوط بن يحيي بن سعيد بن مخنف (المتوفّي 158 ه) له من الكتب: «المغازي»، «السقيفة»، «فتوح الإِسلام»، «فتوح العراق»، «صفين»، و «قتل الحسين» «1».

، ك 3- إمام علماء الاخبار و المغازي نصر بن مزاحم (المتوفّي 212 ه) تلميذ لوط بن يحيي أبي مخنف، أثني عليه النجاشي، و أورد فهرست كتبه، و قال: كوفي

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 2- 191 برقم 873.

تذكرة الأعيان، ص: 242

مستقيم الطريقة، صالح الأَمر، و عدَّ من مؤَلفاته وقعة صفين، النهروان، الغارات، المناقب، مقتل الحسين «1».

إلي غير ذلك من التآليف التي سردها النجاشي في رجاله.

4- هشام بن محمد السائب، أبو المنذر الناسب (المتوفّي 206 ه) العالم بالأَيام المشهور بالفضل و العلم، و كان يختص بمذهبنا، ذكر النجاشي كتبه و تاريخه، منها: الجمل، و صفين، و النهروان، و الغارات، و مقتل أمير المؤمنين، و مقتل الحسين، إلي غير ذلك من الكتب التي سردها النجاشي في رجاله «2».

هؤلاء هم روّاد التاريخ من أصحابنا و تبعهم عدّة جليلة من أئمّة العلم و الأَدب إلي أن انتهت النوبة إلي فخر الشيعة محي آثار الأَئمّة و ناشر مناقبهم و فضائلهم، أعني: بهاء الدين أبا

الحسن علي بن فخر الدين عيسي بن أبي الفتح الإِربلي نزيل بغداد و دفينها، و قد أثني عليه كلّ من ذكره من أصحاب المفاهيم و لنذكر نزراً يسيراً من أقوال العلماء في حقّه: 1- قال الصفدي (المتوفّي 764 ه): علي بن عيسي، الإِربلي المنشئ، الكاتب البارع، له شعر و ترسل، كان رئيساً كتب لمتولّي إربل «3» ابن صلايا، ثمّ خدم ببغداد في ديوان الإنشاء أيّام علاء الدين صاحب الديوان، ثمّ إنّه فتر سوقه في دولة اليهود ثمّ تراجع بعدهم و سلم، و لم يُنكب إلي أن مات سنة اثنتين و تسعين و ستّمائة و كان صاحب تجمّل و حشمة و مكارم، و فيه تشيّع، و كان أبوه

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 2- 384 برقم 1149.

(2) النجاشي: 2- 399 برقم 1167.

(3) إربل: و هي مدينة كبيرة، و قلعة حصينة تقع علي تل عال من التراب ما بين الزابين تعد من أعمال الموصل و بينها مسيرة يومين و أكثر أهلها أكراد قد استعربوا، بينها و بين بغداد مسيرة سبعة أيام للقوافل.

معجم البلدان: 1- 138.

تذكرة الأعيان، ص: 243

والياً بإربل، و لبهاء الدين مصنفات أدبية مثل المقامات الأَربعة و رسالة الطيف المشهورة و غير ذلك «1».

2- و ذكر ابن شاكر الكتبي نفس النص الماضي من الصفدي، ثمّ ذكر قسماً من إشعاره «2».

و لكنّهم لم يقفوا علي أثره الخالد المسمّي «كشف الغمة في معرفة الأَئمّة» و إنّما ذكره المعلّق علي كتاب فوات الوفيات في التعليقة.

3- و قال الشيخ الحر العاملي: الشيخ بهاء الدين أبو الحسن علي بن عيسي ابن أبي الفتح الإِربلي، كان فاضلًا، عالماً، محدّثاً، ثقة، شاعراً، أديباً منشئاً، جامعاً للفضائل و المحاسن، له كتب منها: كشف الغمة في معرفة الأَئمّة،

جامع حسن فرغ من تأليفه سنة 687 ه، و له رسالة الطيف و ديوان شعر و عدّة رسائل و له شعر كثير في مدح الأَئمّة عليهم السَّلام، ذكر جملة منها في كشف الغمة «3».

4- و قال في آخر وسائل الشيعة: كشف الغمة في معرفة الأَئمّة، تأليف الشيخ الصدوق الجليل علي بن عيسي بن أبي الفتح الإِربلي «4».

5- و وصفه الأَفندي التبريزي بقوله: «الوزير الكبير و الشيخ الخبير بهاء الدين أبو الحسن علي بن عيسي فخر الدين بن أبي الفتح الإِربلي، و كان يعرف بابن الفخر و قد كان قدّس اللّه سرّه صاحب الفضائل الجمة و العالم الجليل الذي كشف الغمة و أزال الحيرة عن الأُمّة، و هو مؤَلف كتاب كشف الغمة في معرفة

______________________________

(1) الصفدي: الوافي بالوفيات: 21- 378 برقم 250.

(2) ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات: 3- 57 برقم 347.

(3) أمل الآمل: 2- 195 برقم 588.

(4) وسائل الشيعة: 20- 43.

تذكرة الأعيان، ص: 244

الأَئمّة، و هو مجلدان كبيران في أحوال النبي و فاطمة و الأَئمّة- عليهم السلام-، ثمّ ذكر من مشايخه السيد جلال الدين عبد الحميد بن فخار، و قال: و كان معاصراً للسيد رضي الدين علي بن طاوس و يروي عنه و عن غيره من العلماء من العامة و الخاصة كما يظهر من الكتاب المذكور.

ثمّ قال: و كان ولده الشيخ تاج الدين محمد و سبطه الشيخ عيسي بن محمد ابن علي بن عيسي الإِربلي من الفضلاء، و كلاهما يرويان الكتاب عنه مع جماعة أُخري «1».

6- و قد ذكر الفوطي في كتابه الحوادث الجامعة في موارد مختلفة نقتبس منها ما يلي: قال: و في سنة 657 وصل بهاء الدين علي بن الفخر عيسي الإِربلي إلي بغداد، و

رتب كاتب الإنشاء بالديوان، و أقام بها إلي أن مات «2».

و قال: أنّه توفي ببغداد سنة 693 ه.

و قال أيضاً: تولّي تعمير مسجد معروف سنة 678 ه.

و قال أيضاً: له قصيدة رثي بها نابغة زمانه نصير الدين الطوسي و الملك عز الدين عبد العزيز.

و لمّا قضي عبد العزيز بن جعفر و أردفه رزء النّصير محمّد

جزعت لفقدان الأَخلّاء و انبرت شئوني كمرفض الجمان المبدد

و جاشت إليّ النفس جزعاً و لوعة فقلت: تعزِّي و اصبري فكأن قدِ

«3» و قال أيضاً: إنشاؤه كتاب صداق في تزويج الخواجة شرف الدين هارون

______________________________

(1) الأَفندي التبريزي: رياض العلماء: 4- 166.

(2) انظر الحوادث الجامعة: 341، 480، 38.

(3) انظر الحوادث الجامعة: 380 381.

تذكرة الأعيان، ص: 245

بن شمس الدين الجويني بابنة أبي العباس أحمد بن الخليفة المستعصم في جمادي الآخرة سنة 670 ه، و إليك جملًا من الكتاب.

الحمد للّه الذي جمع الشمل و نظمه، و قوي عقد الألفة و أحكمه، و أوثق الاجتماع و أبرمه، و صلواته علي سيدنا محمد الذي شرفه و أعظمه، و رفع قدره و كرمه، و علي آله و صحبه الذين أوضحوا منار الايمان و علمه، و أظهروا برهانه «1».

هذه الكلمات تعطينا صورة إجمالية عن حياة مؤَلفنا الجليل و قد احتل مكان الصدارة بين موَرخي الشيعة و كتّابهم و محدّثيهم، كما أنّه كان معدوداً من الشخصيات البارزة في الدولة العباسية و إنّ رحي الديوان يومذاك كان يدور علي تدبيره و تفكّره، و إنشائه و تحبيره، و الذي يمكن أن يؤخذ علي ابن الفوطي مؤَلف الحوادث انّه أرّخ وفاته 693 ه و لكن المتفق عليه بين أصحاب المعاجم هو 692 ه.

7- و حكي شيخنا الاميني عن صاحب رياض الجنة في الروضة الرابعة

انّه قال: كان وزيراً لبعض الملوك و كان ذا ثروة و شوكة عظيمة، فترك الوزارة و اشتغل بالتأليف و التصنيف و العبادة و الرياضة في آخر أمره «2».

أقول: لم نقف في المصادر علي تصدّي شيخنا المؤَلف لمنصة الوزارة غير ما ذكره معاصره ابن الفوطي في الحوادث الجامعة ما مرّ من أنّه وصل إلي بغداد و رتب كاتب الإِنشاء في الديوان و أقام بها إلي أن مات، و غير ما نقلناه من الصفدي و تبعه الكتبي من انّه خدم ببغداد في ديوان الإنشاء أيّام علاء الدين صاحب الديوان، و ما ذكراه لا يدل علي تحمّله أعباء الوزارة.

نعم كان علي بن عيسي بن داود وزيراً للمقتدر باللّه في أُخريات القرن الرابع، و لعلّ اشتراكهما في الاسم صار سبباً لهذه النسبة، و العجب من العلّامة

______________________________

(1) انظر الحوادث الجامعة: 369.

(2) الغدير: 5- 452.

تذكرة الأعيان، ص: 246

الاميني مع تضلعه و حيطته تبع صاحب رياض الجنة، و قال: هو أحد ساسة عصره الزاهي ترنّحت به أعطاف الوزارة و أضاء دستها، كما ابتسم به ثغر الفقه و الحديث، و حميت به ثغور المذهب، و سفره القيم كشف الغمة خير كتاب أُخرج للناس في تاريخ أئمّة الدين و سرد فضائلهم و الدفاع عنهم و الدعوة إليهم، و هو حجّة قاطعة علي علمه الغزير، و تضلّعه في الحديث، و ثباته في المذهب، و نبوغه في الأَدب، و تبريزه في الشعر، حشره اللّه مع العترة الطاهرة صلوات اللّه عليهم «1».

تآليفه

و قد ترك المترجم له ثروة أدبية و تاريخية، نذكر منها ما يلي:

1- رسالة الطيف، كما ذكرها ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات، و قد مرّ كلامه.

2- التذكرة الفخرية، و قد كتبها لفخر الدين أبي

نصر منوجهر الهمداني، و قد كان يلوذ بعلاء الدين الجويني الحاكم علي بغداد، و قد طبع في بيروت عام 1407 ه بتحقيق الدكتور نوري حمودي القيسي و الدكتور حاتم الصالح الظامي.

3- المقامات الأَربع، كما ذكره الصفدي و الكتبي كما عرفت.

4- جلوة العشاق و خلوة المشتاق، و قد جاء اسمها في مقدمة رسالة الطيف.

5- ديوان شعر، و هو من المكثرين في المدائح و المراثي، و قد نقل قسماً من إشعاره في كشف الغمة، كما نقل شيئاً منه في أمل الآمل.

6- عدّة رسائل ذكرها الشيخ الحر العاملي كما عرفت.

7- كشف الغمة في معرفة الأَئمّة.

______________________________

(1) الغدير: 5- 446.

تذكرة الأعيان، ص: 247

مشايخه في الرواية

يروي عن عدّة من أعلام الأُمّة، و إليك سرد بعض ما نصّ عليه نفسه في كشف الغمة أو نبّه عليه غيره.

1- سيدنا رضي الدين السيد علي بن طاوس المتوفّي 664 ه.

2- السيد جلال الدين علي بن عبد الحميد بن فخار، أجاز له سنة 676 ه.

3- تاج الدين أبو طالب علي بن أنجب، الشهير بابن الساعي البغدادي السّلامي المتوفّي 674 ه نص عليه في كشف الغمة «1».

و قال: أروي عنه كتاب معالم العترة النبوية العليّة تأليف الحافظ أبي محمد عبد العزيز ابن الأَخضر الجنابذي المتوفّي 611 ه.

4- الحافظ أبو عبد اللّه الكنجي الشافعي (المتوفّي 658 ه) نصّ عليه في كشف الغمة «2»، و قال: قرأت عليه كتابيه (كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب، و البيان في أخبار صاحب الزمان) و ذلك بإربل سنة 648 ه.

5- كمال الدين أبو الحسن علي بن وضاح (المتوفّي 672 ه) «3».

6- الشيخ رشيد الدين أبو عبد اللّه محمد بن أبي القاسم، قرأ عليه كتاب «المستغيثين باللّه عند المهمات و الحاجات»، قال

في كشف الغمة: كانت قراءتي عليه في شعبان من سنة 686 بداري المطلة علي دجلة ببغداد «4» إلي غير ذلك ممن يروي عنهم في كتبه.

______________________________

(1) كشف الغمة: 13، الطبعة الحجرية.

(2) كشف الغمة: 1- 105.

(3) كشف الغمة: 1- 373.

(4) كشف الغمة: 224، الطبعة الحجرية.

تذكرة الأعيان، ص: 248

الرواة عنه

يروي عنه عدّة من الفطاحل، منهم: العلّامة الحلي، و الشيخ رضي الدين علي بن المطهر، و السيد شمس الدين محمد بن فضل العلوي الحسني، و الشيخ تقي الدين بن إبراهيم بن محمد بن سالم، و ولده الوارث علمه و ماله الشيخ تاج الدين محمد بن علي، إلي غير ذلك.

ما هو كشف الغمة؟

قد عرفت أنّه في أحوال الأَئمّة، و هو خير كتاب في خير موضوع، فاق علي كثير ممّا أُلّف قبله في هذا الموضوع، في جودة السرد، و وضوح العبارة، و الأَمانة في النقل، و الركون إلي المصادر الموثوقة بها بين الفريقين، و بالجملة فهو ضالة الخطيب و أمنية الطالب، و لنعم ما قال في حقّه الشيخ جمال الدين أحمد بن منيع الحلي «1».

إلا قل لجامع هذا الكتاب يميناً لقد نلت أقصي المراد

و أظهرت من فضل آل الرسول بتأليفه ما يسوء الاعادي

توفي ببغداد عام 692 ه، و دفن بالجانب الغربي من بغداد، و في البيت الكبير المعروف اليوم (بكارپردازخانه) و كانت دار سكناه يوم دفن فيه.

قال شيخنا الطهراني: و كانت تلك الدار التي دفن فيها الإِربلي باقية إلي عصرنا، و قد زرت قبره في بقعة في وسط الدار أنا و العلّامة الميرزا محمد الطهراني العسكري في سنة 1345 ه و كانت يسكنها السفير الايراني ببغداد، و لكنّها هدمت فلا أثر لها اليوم (1389 ه) «2».

فسلام اللّه عليه يوم ولد و يوم مات و يوم يبعث حياً.

______________________________

(1) و هو من أُدباء الحلة، و قد ترجم له في البابليات، ج 1.

(2) الذريعة: 21- 12، و لاحظ 18- 47.

تذكرة الأعيان، ص: 249

12- الحسن بن يوسف بن المطهّر العلّامة الحلّي (648- 726 ه)

اشارة

الحمد للّه علي سوابغ النعم و ضوافي الآلاء، حمد معترف بالقصور عن إدراك أقلّ مراتب الثناء، و صلّي اللّه علي محمد عبده و رسوله، أفضل الأَنبياء و أكرم الأَصفياء و علي آله السادة النجباء.

أمّا بعد: فإنّ الإِمام الهمام علّامة العلماء، و أُستاذ الفقهاء، جمال الدين أبا منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر غني عن التعريف و الاطراء، فقد سارت بذكره الركبان في حياته، فعطّروا كتبهم بذكره الجميل، و

سطّرت أقلامهم له أنصع الصفحات.

و بما انّي بصدد التقديم لواحد من كتبه الفقهية، ممّا جاد به يراعه نقتصر في ترجمته علي ذكر لمحة خاطفة عن حياته و سيرته، ثمّ نعطف عنان القلم إلي الإِشادة بما هو المقصود بالذات من هذا التقديم، فنقول: ولد قدَّس سرَّه في شهر رمضان سنة 648 ه في بيت عريق في العلم و التقوي، أخذ عن والده الفقيه المتكلم سديد الدين يوسف بن المطّهر، و عن خاله شيخ الإِمامية المحقّق الحلّي (602 676 ه) الّذي كان له بمنزلة الأَب الشفيق، فحظا باهتمامه

تذكرة الأعيان، ص: 250

و رعايته، و أخذ عنه الفقه و الأصول و سائر علوم الشريعة، و لازم الفيلسوف نصير الدين الطوسي (597 673 ه) و اشتغل عليه في العلوم العقلية و مهر فيها، و قد برع و تقدّم في العلوم الإِسلامية في مقتبل عمره علي العلماء الفحول، و فرغ من تصنيفاته الحكمية و الكلامية قبل أن يكمل له 26 سنة.

يعرّفه معاصره ابن داود الحلّي، و يقول: شيخ الطائفة، و علّامة وقته، و صاحب التحقيق و التدقيق، كثير التصانيف، انتهت رئاسة الإِمامية إليه في المعقول و المنقول «1».

و عرّفه ابن حجر في لسان الميزان بقوله: عالم الشيعة و إمامهم و مصنّفهم، و كان آية في الذكاء و كان مشتهر الذكر، حسن الأَخلاق «2».

إلي غير ذلك من كلمات الإِطراء في حقّه التي لا مجال لذكر معشارها، و لنعطف عنان القلم إلي ما نحن بصدد بيانه: قد قدّمتُ منذ زمن ليس ببعيد مقدّمة لأَحد كتبه الكلامية ألا و هو كتاب «نهاية المرام في علم الكلام».

و حينما سرحت النظر فيه ازداد إعجابي به، فأدركت إنّي إمام بحر لجيٍّ بعيد الاغوار، لا يدرك ساحله، كيف،

و هو في الكلام فارس حلبته، و خبير خباياه و عويصات مسائله، و حلّال عقده و غوامضه، فقد أورد في كلّ مسألة آراء الأَوائل و الملّيين و الإِسلاميين من الأَشاعرة و المعتزلة و الإِمامية و سائر الفرق و قارن بين المناهج الكلامية و حسم الموقف برأيه الصائب و عقله الثاقب، و قد تبلورت في هذا الكتاب شخصيته الكلامية و عقليته الفلسفية، فالكتاب عديم النظير بين سائر الموسوعات الكلامية في تبويب المواضيع و مقارنة الآراء، و القضاء الحاسم بينها، و عدم الحياد عن جادة الحقّ، و إنصاف الخصم من نفسه و قد طبع

______________________________

(1) رجال ابن داود: 119 برقم 461.

(2) لسان الميزان: 2- 17 برقم 1295.

تذكرة الأعيان، ص: 251

و انتشر «1» ذي في ثلاثة أجزاء ضخام.

و أمّا في الفقه و استنباط الأَحكام الشرعية عن أدلّتها التفصيلية فواسطة عقده و مرتكز لوائه، و هو بحق ممّن لا يقف علي ساحله أو يكتفي بظاهره، بل خاض غماره و اقتحم لجته فسبر أغواره و وقف علي حقيقته.

و ها نحن الآن بصدد التقديم لكتاب فقهي له قدَّس سرَّه و هو كتاب «تحرير الأَحكام الشرعية علي مذهب الإِمامية» الّذي يصفه المؤَلف في خلاصته بأنّه حسن جيد استخرجنا فيه فروعاً لم نسبق إليها مع اختصاره.

و قد حقّق الكتاب بتحقيق رائع يجاوب روح العصر، و هو علي عتبة النشر.

و الكتاب واحد من مؤَلفاته الكثيرة في الفقه، إذ له وراء ذلك موسوعات فقهية و كتب جامعة لعامة أبواب الفقه، منها: أ- تبصرة المتعلّمين في أحكام الدين.

ب- إرشاد الأَذهان إلي أحكام الايمان.

ج- قواعد الاحكام في مسائل الحلال و الحرام.

د- مختلف الشيعة في أحكام الشريعة.

ه- تذكرة الفقهاء علي تلخيص فتاوي العلماء، و ذكر قواعد الفقهاء.

و- منتهي المطلب في

تحقيق المذهب.

ز- نهاية الاحكام في معرفة الاحكام.

إلي غير ذلك من الكتب أو الرسائل الفقهية التي خلَّفها مضافاً إلي ما ألّفه في مجال أُصول الفقه بين مقتضب كتهذيب الأصول، إلي مسهب كنهاية الوصول إلي علم الأصول.

______________________________

(1) نشرته مؤَسسة الامام الصادق- عليه السلام- في قم المشرّفة.

تذكرة الأعيان، ص: 252

و من تمعّن في هذه الكتب يجد أمامه دورات فقهية و موسوعات ضخمة قلّما يتفق لأَحد أن يقوم ببعضها.

و ثمّة سؤَال يطرح نفسه، و هو لماذا قام العلّامة بهذا العب ء الثقيل و ألّف كتباً فقهية مختلفة المنحي و المنهج أسفر عن اختلاف فتاواه و آرائه في كتاب بعد كتاب، فما هو السر وراء ذلك؟ و الإِجابة علي هذا رهن الوقوف علي الغايات التي كانت وراء تأليف تلك الكتب.

فقد تكرر منه تأليف تلو تأليف في علم واحد لأَجل غايات مختلفة، و إليك دراسة هذه الكتب علي وجه الإِيجاز، لتعلم الغايات المتوخاة منها، و ربما يعرب أسماؤها عن الغرض المطلوب.

[دراسة في مؤلفات العلامة الحلي]

الأَوّل: تبصرة المتعلمين

هذا الكتاب دورة فقهية كاملة موجزة بدون شرح و استدلال طرح فيها العلّامة آراءه الفقهية و فتاواه في جميع الأَبواب.

يقول في مقدمته: وضعناها لإِرشاد المبتدئين و إفادة الطالبين مستمدين من اللّه المعونة و التوفيق، فإنّه أكرم المعطين، و أجود المسئولين، و نبدأ بالأَهم فالأَهم.

و الكتاب لو جازته و سلاسة ألفاظه صار موضع اهتمام الفقهاء منذ عصر مؤَلفه إلي يومنا هذا و تولَّوه بالشرح و التعليق، و قد كان في سالف الزمان كتاباً دراسياً، و ذكر شيخنا المجيز في الذريعة ما يقارب 35 شرحاً و تعليقاً عليه، و من أحسن الشروح إيضاحاً شرح أُستاذنا الكبير الشيخ محمد علي التبريزي المعروف بالمدرّس، و قد طبع الجزء الأَوّل منه و الجزء الثاني لم ير

النور، عسي اللّه أن يُشحذ الهمم بغية نشر الباقي.

تذكرة الأعيان، ص: 253

الثاني: إرشاد الأَذهان إلي أحكام الإِيمان

و هو دورة فقهية كاملة غير استدلالية للفقه الإِمامي من الطهارة إلي الديات، و يعد من الكتب الفقهية المعتمد عليها.

يعرفه مؤَلفه في خلاصته بأنّه حسن الترتيب «1».

و قال شيخنا الطهراني: هو من أجل كتب الفقه و أعظمها عند الشيعة، و لذلك تلقّاها علماؤهم بالشرح و التعليق عبر القرون من عصر مؤَلفه إلي يومنا هذا، و قد أحصي مجموع مسائله في خمس عشرة ألف مسألة، فرغ منه سنة 676 ه أو 696 «2».

و الكتاب بالنسبة إلي ما سبقه أشبه بالمفصل إلي المجمل، فقد بسط القول فيه أكثر ممّا ورد في الأَوّل، ألّف الأَوّل للمتعلّمين المبتدئين ثمّ ألّف هذا لمن ارتقي مرتبة من العلم.

و قد ذكر شيخنا الطهراني في موسوعته أسماء 36 شرحاً و تعليقة علي الكتاب «3»، و أنهاها محقّق كتاب إرشاد الأَذهان في تقديمه إلي 15 شرحاً و تعليقة «4».

الثالث: قواعد الاحكام في مسائل الحلال و الحرام

و هو من الكتب المتداولة المشهورة، و قد ذكر فيه من القواعد ما يناهز 660 قاعدة في الفقه، لخص فيه فتاواه و بيّن قواعد الأَحكام، ألّفه بالتماس ولده فخر

______________________________

(1) كما في أمل الأمل: 2- 84، و لم ترد هذه الكلمة في الخلاصة المطبوعة.

(2) الذريعة: 13- 73 و 1- 510.

(3) الذريعة: 1- 510 برقم 2509.

(4) إرشاد الأَذهان: 185 193، قسم المقدمة.

تذكرة الأعيان، ص: 254

المحقّقين، و فرغ منه عام 693 ه أو 692 ه «1».

و ذكره في خلاصته باسمه و لم يصفه بشي ء.

لكن وصفه في أوّله بقوله: هذا قواعد الاحكام في معرفة الحلال و الحرام لخصت فيه لبّ الفتاوي خاصة، و بيّنت فيه قواعد أحكام خاصة، إجابة لالتماس أحب الناس إليَّ و أعزّهم عليَّ، و هو الولد العزيز محمد الّذي أرجو من اللّه طول عمره بعدي و

أن يوسدني في لحدي «2».

و في آخر الكتاب وصية قيّمة للعلّامة يوصي بها ولده بقوله: اعلم يا بني أعانك اللّه تعالي علي طاعته.. قد لخّصت لك في هذا الكتاب لبّ فتاوي الاحكام، و بيّنت لك قواعد شرائع الإِسلام بألفاظ مختصرة و عبارات محرّرة، و أوضحت لك فيه نهج الرشاد و طريق السداد، و ذلك بعد ان بلغت من العمر، الخمسين و دخلت في عشرة الستين، و قد حكم سيد البرايا بأنّها مبدأ اعتراك المنايا.. «3».

و بما انّ العلّامة من مواليد عام 648 ه، فقد بلغ الخمسين عام 698 ه، و تجاوز عنه عام 699 أو 700 ه، و بذلك يعلم انّ ما ذكره شيخنا المجيز من أنّه ألّف القواعد عام 693 أو 692 ه ليس بتام.

و ممّا يجدر ذكره هو انّ براعة العلّامة و نبوغه لم يتلخّص في الفقه و الأُصول و الكلام، بل تعدّاها إلي علوم أُخري، كالرياضيات العالية التي تتجلّي مقدرته فيها بوضوح في كتابه هذا، و أخص بالذكر «كتاب الوقوف و العطايا، المطلب الثالث في الأَحكام المتعلقة في الحساب»، فقد نجح إلي حد كبير في حلّ غوامض المسائل الرياضية الجبرية المعقدة.

______________________________

(1) الذريعة: 17- 176 برقم 930.

(2) قواعد الاحكام: 2.

(3) قواعد الاحكام: 2- 346.

تذكرة الأعيان، ص: 255

و استغرقت بحوثه الرياضية أكثر من 50 صفحة بالقطع الرحلي.

و إذا عطفت النظر إلي كتاب الفرائض، فتري نظير تلك البحوث فيها.

فسبحان اللّه معطي المواهب و مفيض النعم.

ليس من اللّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد

الرابع: مختلف الشيعة في أحكام الشريعة

ذكره في الخلاصة و قال: ذكرنا فيه خلاف علمائنا خاصة و حجة كلّ شخص و الترجيح لما يصير إليه «1».

و قال في مقدمته: إنّي لما وقفت علي كتب أصحابنا المتقدمين رضوان اللّه

عليهم، و مقالات علمائنا السابقين في علم الفقه وجدت بينهم خلافاً في مسائل كثيرة متعددة، فأحببت إيراد تلك المسائل في دستور يحتوي علي ما وصل إلينا من اختلافهم في الأَحكام الشرعية، و المسائل الفقهية دون ما اتفقوا عليه، إذ جعلنا ذلك موكولًا إلي كتابنا الكبير المسمّي ب «منتهي المطلب في تحقيق المذهب» فإنّه مجمع بين مسائل الخلاف و الوفاق.

و من محاسن ذلك الكتاب انّه إذا لم يجد للمخالف دليلًا يحاول أن يلتمس دليلًا له.

قال: ثمّ ان عثرنا في كلّ مسألة علي دليل لصاحبها نقلناه و إلّا حصَّلناه بالتفكّر و أثبتناه، ثمّ حكمنا بينهم علي طريقة الانصاف، متجنبي البغي و الاعتساف و وسمنا كتابنا هذا بمختلف الشيعة «2».

______________________________

(1) الخلاصة: 45.

(2) مختلف الشيعة: 1- 173.

تذكرة الأعيان، ص: 256

و الكتاب دورة فقهية استدلالية من الطهارة إلي الديات، و من مزاياه انّه حفظ آثار علمائنا السابقين، أمثال: ابن الجنيد، و ابن أبي عقيل، و الصدوق الأَوّل و غيرهم و لولاه لاندثرت آثارهم.

و قد شرع في تأليفه قبل سنة 699 ه، و انتهي منه في الخامس عشر من ذي القعدة في ثمان و سبعمائة، أي قبل وفاته بثمانية عشر سنة.

و من فوائد هذا الكتاب العلم بالمسائل الخلافية و تميزها عن المجمع عليها، فربما يدعي الإِجماع في مسألة، و لها مخالف أو مخالفان يعلم من الرجوع إلي ذلك الكتاب.

الخامس: تذكرة الفقهاء علي تلخيص فتاوي العلماء و ذكر قواعد الفقهاء

و هي موسوعة فقهية استدلالية كبيرة يذكر فيها أقوال الفقهاء من الشيعة و السنة، و يذكر دليل كل قول و يناقشه، و ربما يحاول أن يذكر للمخالف دليلًا من جانبه ثمّ يجيب عنه، و هو تراث علمي قيم.

و إليك بعض ميزاته: أ- أثبت في تأليفه هذا أن الفقه الإِمامي الذي يرفض العمل

بالقياس و الاستحسان قادر علي الإِجابة علي المسائل الفقهية عامة مستمداً من الأَدلّة الأَربعة: الكتاب، و السنّة، و الإِجماع، و العقل.

يقول العلّامة في مقدمة الكتاب: و قد عزمنا علي تلخيص فتاوي العلماء و ذكر قواعد الفقهاء علي أحقّ الطرائق و أوثقها برهاناً و أصدق الأَقاويل و أوضحها بياناً، و هي طريقة الإِمامية الآخذين دينهم من الوحي و العلم الرباني، لا بالرأي و القياس، و لا باجتهاد الناس، علي سبيل الإِيجاز و الاختصار و ترك الإِطالة و الإِكثار.

تذكرة الأعيان، ص: 257

ب- انّه يقارن الأَقوال بعضها ببعض و يحاكم بينها بأُسلوب متين، و يشير إلي ذلك في مقدمة الكتاب بقوله: أشرنا إلي كلّ مسألة إلي الخلاف و اعتمدنا في المحاكمة بينهم طريق الانصاف «1».

ج- أنّه أُلّف بصورة الفقه المقارن، و المراد منه جمع الآراء الفقهية المختلفة و تقييمها و الموازنة بينها بالتماس أدلّتها و ترجيح بعضها علي بعض، و هذا هو المسمّي عند القدماء بعلم الخلاف.

فالمؤَلف في هذا الصدد يجعل نفسه مسئولًا عن فحص جميع الأَدلّة و القضاء بينها و اختيار أتقنها و أوثقها بالقواعد و هو ليس أمراً سهلًا، و للفقه المقارن فوائد جمة يذكرها السيد محمد تقي الحكيم حيث يقول: أ- محاولة البلوغ إلي واقع الفقه الإِسلامي من أيسر طرقه و أسلمها، و هي لا تتضح عادة إلّا بعد عرض مختلف و جهات النظر فيها و تقييمها علي أساس موضوعي.

ب- العمل علي تطوير الدراسات الفقهية و الأُصولية و الاستفادة من نتائج التلاقح الفكري في أوسع نطاق لتحقيق هذا الهدف.

ج- ثماره في إشاعة الروح الرياضية بين الباحثين، و محاولة القضاء علي مختلف النزعات العاطفية و إبعادها عن مجالات البحث العلمي.

د- تقريب شقة الخلاف بين المسلمين، و

الحد من تأثير العوامل المفرّقة التي كان من أهمها و أقواها جهل علماء بعض المذاهب بأُسس و ركائز البعض الآخر، ممّا ترك المجال مفتوحاً أمام تسرّب الدعوات المغرضة في تشويه مفاهيم بعضهم و التقوّل عليهم بما لا يؤمنون به «2».

______________________________

(1) التذكرة: 1- 3 و 4.

(2) الأصول العامة للفقه المقارن: 10.

تذكرة الأعيان، ص: 258

و الموجود بين أيدينا من الكتاب ينتهي إلي أواخر كتاب النكاح، إلّا أنّ ثمّة شواهد تشير إلي أنّ المؤَلف انتهي في كتابته إلي أكثر من ذلك: أوّلًا: انّ ولده فخر المحقّقين يقول في كتابه «إيضاح الفوائد في شرح القواعد» في آخر شرحه لإِرث الزوج: قد حقّق والدي هذه المسألة و أقوالها و أدلّتها في كتاب التذكرة «1».

و ثانياً: انّه فرغ من كتاب النكاح سنة 720 ه بالحلة، فقد عاش بعده حوالي ست سنين، و من البعيد أن يهمل إنهاء ذلك الكتاب الّذي يعد من ثمرات عمره اليانعة «2».

و في الختام أود أن أُشير إلي ما جاء في مجلة رسالة الإِسلام لدار التقريب بين المذاهب الإِسلامية في القاهرة حول هذا الكتاب و الإِشادة به حيث يقول: من ذخائر الفكر الإِسلامي كتاب تذكرة الفقهاء للشيخ العلّامة الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلّي، هذا كتاب من أنفس كتب الفقه الاستدلالي المقارن، و قد جرت عادة المؤَلّفين في الفقه المقارن من علماء السنة أن يعرضوا للمذاهب الأَربعة متحدّثين عن آراء علمائها، و عن أدلّتهم دون أن يخرجوا عن نطاقها فيعرضوا للمذاهب الأُخري لا سيما مذهب الشيعة الإِمامية.

و قد أوحي ذلك إلي كثير من طلاب العلم و أساتذة الفقه بمعني فيه ظلم كثير للفقه الإِمامي، و هو انّ هذا الفقه ليس كفقه السنة استيعاباً و استنباطاً

و دقة نظر، و انّه لا يستند إلي أدلّة يمكن مناقشتها و مقارنتها.

و لما اتسع نطاق الفقه المقارن في كلية الشريعة و أصبح حتماً علي الاساتذة و الطلاب أن يعرفوا رأي الإِمامية في مسائل المقارنة و أن يوازنوا بين أدلّتهم و أدلّة

______________________________

(1) إيضاح الفوائد: 4- 242.

(2) لاحظ الذريعة: 4- 43.

تذكرة الأعيان، ص: 259

غيرهم من أهل المذاهب الفقهية، كانوا يجدون كثيراً من الصعوبات في الرجوع إلي مصادر هذا الفقه الإِمامي، و إذا عثروا علي مرجع من هذه المراجع وجدوه مطبوعاً طبعاً حجرياً علي نحو غير مألوف عندنا في مصر، فلم يستطيعوا الإِفادة منه علي الوجه الذي ينبغي.

إلي أن قال: و كنت أعرف كتاب تذكرة الفقهاء للشيخ الحلّي و هو المعروف بالشيخ العلّامة، و له مؤَلّفات كثيرة غير هذا المؤَلّف، و لكن تذكرة الفقهاء بين أيدينا، و لكنّه رهين محبسين: محبس من عدم معرفة علماء السنّة به و عدم اطّلاعهم عليه إلّا قليلًا منهم، و محبس من هذه الطبعة الحجرية الضيقة التي تجعله بعيداً عن متناول الذين يهتمون بالفقه و دراسته و أُصوله المحررة.

و لذلك تمنيت لو انّ هذا الكتاب طبع طبعة حديثة حتّي يمكن لعلماء الأَزهر و غيرهم أن يقرأه، إذاً لوجدوا فيه علماً غزيراً، و خيراً كثيراً، و لاستطاعوا أن يملَئوا جو المقارنة الفقهية بما يذكره من آراء و أدلة، و لعرفوا أنّ هناك فقهاً لا يقل في مستواه العلمي و الفكري عن فقههم، و لما بقي في بعضهم أثر من الرغبة عن هذا الفقه استهانة به أو تعصباً عليه.

ثمّ إنّ صاحب المقال أخذ شيئاً من كتاب النكاح فطبعه في آخر مقاله، يبلغ عدد صفحاته قرابة 31 صفحة، و بذلك حاول أن يُلفت نظر الفقهاء

في الأَزهر و غيره إلي هذا الكتاب الثمين و ما فيه من مادة فقهية قلّما يتفق في غيره «1».

و نحن نزفّ البشري إلي صاحب المقال، و هي انّ الكتاب قد طبع طبعة أنيقة رشيقة محققة مع تخريج مصادر الروايات و الأَقوال بشكل مثير للِاعجاب، و قد قام بهذا العب ء الثقيل مؤَسسة آل البيت- عليهم السلام- لإِحياء التراث، و قد خرج منه لحدّ الآن ثمانية أجزاء و الباقي قيد الطبع.

______________________________

(1) مجلة رسالة الإِسلام: العدد 51 و 52، المؤَرخة عام 1382 ه.

تذكرة الأعيان، ص: 260

و الحقّ انّ أغلب التراث الفقهي للشيعة الإِمامية رهين محبسين: عدم اطّلاع علماء السنة عليه، و رداءة طبعه بل لم يزل الكثير منها مخبوءاً لم ير النور.

السادس: منتهي المطلب في تحقيق المذهب

و هو كتاب ضخم يتسم بطابعين: «الاستدلال» و «المقارنة» و هو نظير «التذكرة» و لكن أوسع و أشمل منه، و لذلك يصفه العلّامة في بعض الموارد بقوله ينتهي بانتهاء عمرنا.

و يصفه في الخلاصة، بقوله: لم يعمل مثله، ذكرنا فيه جميع مذاهب المسلمين في الفقه، رجحنا ما نعتقده، بعد إبطال حجج من خالفنا فيه، يتم إن شاء اللّه تعالي عملنا منه إلي هذا التاريخ، و هو شهر ربيع الآخر سنة ثلاث و تسعين و ستمائة سبع مجلدات «1».

و يصفه في مقدمة الكتاب بقوله: أحببنا أن نكتب دستوراً في هذا الفن (الفقه) يحتوي علي مقاصده، و يشتمل علي فوائده علي وجه الإِيجاز و الاختصار، مجتنبين الإِطالة و الإِكثار مع ذكر الخلاف الواقع بين أصحابنا، و الإِشارة إلي مذاهب المخالفين المشهورين، مع ذكر ما يمكن أن يكون حجّة لكلّ فريق علي وجه التحقيق، و قد وسمناه ب «منتهي المطلب في تحقيق المذهب» و نرجو من لطف اللّه تعالي أن

يكون هذا الكتاب بعد التوفيق لِاكماله أنفع من غيره «2».

و علي ضوء ذلك فقد حاز العلّامة الحلّي قصب السبق علي غيره في تطوير الفقه المقارن، فتارة ألّف كتاباً لبيان الخلافات في الفقه الإِمامي و قارن الأَقوال بعضها ببعض مثل المختلف، و أُخري لبيان الخلافات بين المذاهب

______________________________

(1) الخلاصة: 45.

(2) منتهي المطلب: 4.

تذكرة الأعيان، ص: 261

الإِسلامية سنّية و شيعية، بين مقتضب كالتذكرة، و مسهب كالمنتهي.

و هذا النوع من الفقه المقارن من خصائصه و لم يسبقه أحد قبله.

نعم، قام غير واحد من مشايخ الشيعة بتصنيف كتب في الفقه المقارن علي النمط الثاني كالإنتصار للسيد المرتضي (355 436 ه) و الخلاف للشيخ الطوسي (385 460 ه) و الكتاب يعد من ذخائر التراث الفقهي الإِسلامي، و قد طبع في جزءين كبيرين بالطبعة الحجرية ينتهي الجزء الأَوّل إلي آخر الصلاة، و الجزء الثاني إلي آخر الحجّ.

و قال في إجازته للسيد مهنا بن سنان بن عبد الوهاب الإِمامي المدني قاضي المدينة المتوفّي عام 754 ه، قال: كتاب منتهي المطلب خرج منه العبادات سبع مجلدات «1».

إنّه قدَّس سرَّه يشير إلي الفرق بين التذكرة و المنتهي في نهاية كتاب تحرير الأَحكام الذي سيأتي الكلام فيه.

يقول في نهاية هذا الكتاب: «هذا آخر ما أخذناه في هذا الكتاب، و هو قيم يعرض طالب التوسط في هذا الفن، و من أراد الإِطالة فعليه بكتابنا الموسوم بتذكرة الفقهاء الجامع لأُصول المسائل و فروعها مع إشارة وجيزة إلي وجوهها و ذكر الخلاف الواقع بين العلماء و إيراد ما بلغنا من كلام الفضلاء.

و من أراد الغاية و قصد النهاية فعليه بكتابنا الموسوم ب «منتهي المطلب في تحقيق المذهب» و اللّه الموفق للصواب منه المبدأ و إليه المعاد» «2».

و قد قام

بتحقيقه و إخراجه في حلة قشيبة قسم الفقه في مجمع البحوث الإِسلامية بمشهد الرضا- عليه السلام- و خرج منه إلي الآن خمسة أجزاء.

______________________________

(1) أجوبة المسائل المهنائية: 155؛ البحار: 104- 147.

(2) تحرير الاحكام: 2- 281.

تذكرة الأعيان، ص: 262

السابع: نهاية الاحكام في معرفة الاحكام

كتاب يحتوي علي جلّ المسائل الفرعية الفقهية مع الإِشارة إلي الدلائل بعبارة موجزة.

يعرّفه العلّامة في مقدمة الكتاب بقوله: لخصت فيه فتاوي الإِمامية علي وجه الإِيجاز و أشرت فيه إلي العلل مع حذف الإِطالة و الإِكثار.

و خرج منه كتاب: الطهارة، الصلاة، الزكاة، البيع إلي آخر الصرف.

و قد فرغ كتاب الصلاة في شهر شعبان من شهور سنة 705 ه.

و قد طبع في جزئين بتحقيق السيد مهدي الرجائي (حفظه اللّه) و هو ممّن وقف عمره في إحياء التراث و نشر مآثر الشيعة.

و الفرق بينه و بين التحرير طفيف جدّاً، فالإِشارة إلي الدليل فيه أكثر من التحرير لكن الثاني يفوق عليه بجودة الترتيب و التخريج.

و اشتماله علي تمام الكتب الفقهيّة.

الثامن: تحرير الاحكام

و ها نحن الآن بصدد استعراض كتاب فقهي آخر و هو كتاب تحرير الأَحكام الشرعية إلي مذهب الإِمامية.

و قد عرّفه العلّامة في مقدمة الكتاب بقوله: جمعنا فيه معظم المسائل الفقهية و أوردنا فيه أكثر المطالب الشرعية الفرعية من غير تطويل بذكر حجّة و دليل، إذ جعلنا ذلك موكولًا إلي كتابنا الموسوم ب «منتهي المطلب في تحقيق المذهب» فإنّه قد شمل المسائل أُصولها و فروعها و ذكر الخلاف الواقع بين

تذكرة الأعيان، ص: 263

المسلمين إلّا ما شذ، و استدلال كلّ فريق علي مذهبه مع تصحيح الحقّ و إبطال الباطل و إنّما اقتصرنا في هذا الكتاب علي مجرّد الفتاوي لا غير «1».

و عرّفه في الخلاصة بقوله: حسن جيد، استخرجنا فيه فروعاً لم نسبق إليها مع اختصاره «2».

و قال شيخنا المجيز: اقتصر فيه علي مجرد الفتوي و ترك الاستدلال، لكنّه استوعب الفروع و الجزئيات حتّي أنّه أُحصيت مسائله فبلغت أربعين ألف مسألة «3» رتّبها علي ترتيب كتب الفقه في أربع قواعد: العبادات، و المعاملات،

و الإِيقاعات، و الأَحكام؛ بادياً بمقدمة ذات مباحث في معني الفقه و فضله و آدابه و معرفته و عدم كتمانه.

ثمّ ذكر النسخ الموجودة منه في المكتبات «4».

عصر التخريج و التفريع

اشارة

لقد تألّق نجم المذاهب الأَربعة منذ منتصف القرن الرابع، فسرت روح التقليد للأَئمة الأَربعة سرياناً عاما اشترك فيه العلماء و جمهور الناس.

لقد تلقّي الجمهور تلك المذاهب تراثاً إسلامياً بلغ من القداسة كأنّها وحي من اللّه لا يمكن النقاش فيها و لا يجوز الخروج عن إطارها، فأصبحت نصوص الأَئمّة الأَربعة كالوحي المنزل يجب استفراغ الوسع في فهم كلامهم و مؤَدّي لفظهم، و قد خلّف ذلك مضاعفات حالت دون تكامل الفقه، منها: أ- نشوء روح التقليد بين فقهاء تلك الأَعصار و التعصّب لمذهب الاسلاف.

______________________________

(1) تحرير الأَحكام: 1- 2.

(2) الخلاصة: 45 برقم 52.

(3) و لعلّ المراد هي الفروع لا المسائل، لأَنّ الأُولي تقارب هذا المقدار دون الثانية.

(4) الذريعة: 3- 378.

تذكرة الأعيان، ص: 264

ب- كثرة التخريج و التفريع و الترجيح بين فقهاء المذاهب، فإنّهم بدل أن يبذلوا جهودهم في فهم الكتاب و السنّة، أنصبت جهودهم في استنباط الفروع من الأصول الثابتة عند أئمّة المذاهب، و لأَجل ذلك كثر التأليف و التصنيف في هذه العصور و أكثرها يحمل طابع التخريج و التفريع.

إنّ باب الاجتهاد و إن أقفل في هذه الفترة لكن نشط الاجتهاد في إطار مذهب معين.

فلذلك بدأ التخريج و التفريع في مسائل كثيرة فلم يكن لأَئمّتهم فيها نص، و بذلك ألفت كتب في هذا المضمار، أي استنتاج الفروع من الأصول و ما لا نص فيه من أئمّتهم عمّا فيه نص منهم.

و هذا نوع من الاجتهاد المحدّد بمذهب خاص، و قد نشأ العلّامة في هذه الاجواء التي تطلب لنفسها التخريج و التفريع، فشمّر

عن ساعد الجد و ألّف كتاب «تحرير الاحكام» لتلك الغاية، و لو صحّ ما نقله شيخنا المجيز عن بلوغ مسائله إلي أربعين ألف، فقد تحمل عبئاً ثقيلًا في جمع تلك الفروع في الأَبواب الفقهية المختلفة و عرضها علي الأَدلّة و استخراج حكمها منها و ليست تلك المحاولة جديدة من نوعها، فقد سبقه فيها الشيخ الطوسي بتأليفه كتاب «المبسوط» و كانت الغاية من تأليفه هو الإِجابة علي الفروع التي لا نصّفيها مستخرجاً أحكامها ممّا نص فيه، يقول: فإنّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقّهة و المنتسبين إلي علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الإِمامية و يستنزرونه و ينسبونهم إلي قلّة الفروع و قلّة المسائل، و انّ من ينفي القياس و الاجتهاد لا طريق له إلي كثرة المسائل و لا التفريع علي الأصول، لَانّ جلَّ ذلك مأخوذ من هذين الطريقين.

ثمّ ردَّ علي و جهة النظر تلك بقوله: إنّ جلَّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا و منصوص عليه تلويحاً عن أئمّتنا الذين قولهم في الحجة يجري مجري

تذكرة الأعيان، ص: 265

قول النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- إمّا خصوصاً أو عموماً أو تصريحاً أو تلويحاً «1».

و التخريج في الفقه الإِمامي يختلف عن التخريج في فقه المذاهب الأَربعة، فإنّ التخريج هناك علي ضوء النصوص الموروثة عن أئمّتهم التي لا تتجاوز عن كونها فتاوي فقهية لهم مستنبطة غالباً من الأَساليب الظنية.

و أمّا التخريج في الفقه الإِمامي فهو تابع لضوابط معيّنة، إذ يستخرج حكم الفروع من الأصول المنصوصة إمّا خصوصاً أو عموماً أو تصريحاً أو تلويحاً كما صرّح به الشيخ.

فالاجتهاد عند السنّة في هذا المجال، اجتهاد شخصي في فهم كلام إمام المذهب، و لكن الاجتهاد في الفقه الإِمامي

اجتهاد في فهم النصوص الشرعية الواردة من النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- و آله المعصومين الذين تجري أقوالهم مجري قول النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- لحديث الثقلين.

هذه هي الكتب الفقهية الثمانية المعروفة للعلّامة الحلّي المنتشرة علي نطاق واسع، و له كتب فقهية أُخري غير مشهورة، و انّ قسماً منها لم ير النور.

مشكلة الاختلاف في آرائه

من استعرض فتاوي العلّامة الحلّي في كتبه الفقهية ربما يقف علي آراء مختلفة له في مسألة واحدة في مختلف الكتب، و قد أثارت هذه المسألة العديد من التساولات.

فربما يفسر اختلاف فتاواه بحرصه علي التأليف و استعجاله في التصنيف، و انّه كان يكتب كلّ ما يرتسم في ذهنه بلا مراجعة إلي أقواله المتقدمة، أو انّه كان لا يفحص في الأَحاديث و الأَدلّة حقّ الفحص.

فبدا له التجدّد في الرأي و التلوّن

______________________________

(1) المبسوط: 1- 2.

تذكرة الأعيان، ص: 266

في الاجتهاد «1».

و قريب منه ما ذكره المحدّث البحراني في لؤلؤَة البحرين «2».

و ربما يجاب عن الإِشكال: بأنّ فتاوي العلّامة كانت في متناول فقهاء عصره الذين بلغ عددهم في الحلّة إلي 440 مجتهداً «3».

فقد كانت تنهال عليه مناقشات العلماء و المجتهدين فيما أفتي به و ذهب إليه فكان رضي اللّه عنه ينظر فيها و يبحثها معهم، فإن لم يقتنع بها ردّها، و إن رآها سديدة قبلها برحابة صدر، و غيّر فتواه «4».

و هذا النوع من الدفاع و إن كان صحيحاً إجمالًا و لا يختص هذا بالعلّامة و عصره، فانّ تغيير الفتاوي لأَجل مناقشات المعاصرين ليس أمراً جديداً، لكن تبرير هذا النوع من الاختلاف الشاسع عن هذا الطريق غير كاف، إذ لو كان هذا هو السبب الرئيسي لأَشار إليه العلّامة في طيات كتبه، و

انّه رجع عمّا كان يراه فيما سبق لأَجل هذه المناقشة، و لكن صياغة كتبه تأبي عن ذلك التبرير فيجب التماس وجه آخر.

و هو انّ العلّامة الحلّي قد عاش في عصر ازدهرت فيه عملية التخريج و التفريع، و كانت له صلة وثيقة بفقهاء كلا الفريقين طوال ستين سنة، و كان ذا ذكاء خارق و ذهن ثاقب، و آية في الدقة و التحقيق، فمثل هذا الفقيه الذي هو في

______________________________

(1) لاحظ تنقيح المقال: 1- 315، نقله عن السماهيجي.

(2) لؤلؤَة البحرين: 226.

(3) رياض العلماء: 1- 361، قال: و من الغرائب ما نقل انّه كان في الحلّة في عصر العلّامة أو غيره 400 مجتهداً و أربعين.

(4) إرشاد الأَذهان: 160، قسم المقدمة.

تذكرة الأعيان، ص: 267

خضمِّ الاحتكاكات الفقهية من جانب و كثرة أسفاره و لقائه بعلماء كلا الفريقين أتاح له الفرصة في خلق أفكار فقهية جديدة حسب ما يوحي إليه فهمه الخلاق، و ليس هذا بعزيز.

فهذا هو محمد بن إدريس الشافعي (150 204 ه) قد خلف فتاوي قديمة و فتاوي جديدة، فلما غادر الحجاز إلي العراق و مكث فيه سنين طوال كانت له آراء، فلما هبط مصر بدت له فتاوي أُخري غير تلك الفتاوي القديمة، و صارت معروفة بالفتاوي الجديدة.

فمثير هذه الشبه انطلق من جمود فكري و عدم معرفة كاملة بواقع الفقه، و لو كان من فرسان هذه الحلبة لسهل له هذا الأَمر و لم ينقم علي العلّامة كثرة فتاواه.

فسلام عليه يوم ولد و يوم مات و يوم يبعث حيّاً.

تذكرة الأعيان، ص: 268

13- محمد بن إبراهيم الشيرازي صدر المتألّهين (979- 1050 ه)

اشارة

يتضمّن هذا التقديمُ استعراضَ تاريخ الحديث عند الشيعة الإِمامية، و تألُّق نجمة في القرن الرابع الهجريّ علي يد شيخ المحدثين، ثقة الإِسلام، محمّد بن يعقوب الكلينيّ، و بيان خدماته

الجليلة في هذا الصعيد.

كما يتضمّن حياة و سيرة صدر الحكماء المتألّهين، و استعراض المراحل الثلاث التي مرّ بها في حياته المِعْطاء، و الآثار العلمية القيمة التي خَلَّفَها للَاجيال اللاحقة، والاصول التي أسّسها و أرساها في ميدان المعرفة، و إخلاصه الكتاب اللّه العزيز، و السنة المحمدية الشريفة، و لأَحاديث العترة المطهَّرة.

و يسعِدُنا أن تأتي هذه الترجمة لذينك العَلَمين الفذّين، و الرائدين العبقريّين من روّاد الحديث و الفلسفة، في مطلع كتابٍ التقي فيه رافِدا «الحديثِ» و «الحكمة» ليوَكّدَ هذا التلاقي المبارك علي مدي التوافق بين «الدين الحنيف» و «العقلِ الحصيف» و مدي التعاضدِ بين «العلمِ و العقيدة».

تذكرة الأعيان، ص: 269

[كلمة للمؤلف في مؤتمر إحياء الذكري المئوية الرابعة لصدر المتألهين و هي مقدمة لشرح أصول الكافي]

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه الذي عجزت العقول عن كنه معرفته، و قصرت الأَلسن عن وصف جلاله و جبروته.

و الصلاة و السلام علي سيّد بريّته، محمّد المصطفي و آله من عترته.

أمّا بعد: إنّ إحياء ذكري نوابغ الفكر و أساطين العلم هو في الحقيقة إحياء للعلم نفسه و تثمين للجهود المبذولة في هذا السبيل، و تقييم للتراث الذي خلّفوه، و دعوة للجيل الصاعد إلي اقتفاء آثارهم و الاقتداء بمناهجهم.

و من حسن الحظ و دواعي المسرّة و الغبطة أن يقام مؤتمر لإِحياء الذكري المئوية الرابعة لمنار العلم و الفكر و حامل لوائه، في عصر أخذ فيه التفكير العقلي يخبو و يتراجع تراجعاً ملحوظاً أمام المدّ الاخباري ألا و هو الحكيم الجليل محمد بن إبراهيم الشيرازي (979 1050 ه) المعروف بصدر المتألهين أنار اللّه برهانه.

و قد قام غير واحد من الكتّاب بتسليط الإضواء علي سيرته و آثاره و ما قدّم إلي الساحة الفكرية من تراث عظيم، و لكن ما زالت ثمّة خبايا من حياته لم يبحث عنها و لم

تلق عناية لأَكثر من كتب عنه، لعلّنا نوافيك بها في هذا المقال الذي هو تقديم لكتابة القيّم «شرح أُصول الكافي» لثقة الإِسلام الكليني فيناسب طرح موضوعات لها صلة بالمؤَلّف و الشارح و كتابيهما و التيارات الفكرية التي سادت

تذكرة الأعيان، ص: 270

في عصرهما و لإِيفاء ذلك الغرض نطرح الموضوعات التالية و ليكون أداءً لبعض الحقوق:

1- تصوير الظروف و التيارات الفكرية التي سادت عصر الشيخ الكليني.

2- عرض نبذة مختصرة عن سيرة الكليني و البيت العريق الذي نشأ فيه.

3- لمحة خاطفة عن الآثار التي تركها و أخصّ بالذكر كتابه القيّم «الكافي».

4- سيرة الشارح و حياته و آثاره.

5- الخطوط العريضة لفلسفته.

6- تحليل كتابه باسم «شرح أُصول الكافي».

هذه هي الخطوط الرئيسيّة لمقالنا.

فنقول:

الحديث المصدر الثاني في التشريع

يُعدّ الحديث المصدر الرئيس للمسلمين قاطبةً في العقائد و الأَحكام بعد القرآن الكريم، و هو كالكتاب وحي بمعناه و إن لم يكن وحياً بلفظه، و كيف لا يكون كذلك و النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم- لا يصدر في تبيين العقيدة و الشريعة إلّا عن الوحي، قال سبحانه: (وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَويٰ. إِنْ هُوَ إِلّٰا وَحْيٌ يُوحيٰ) «1» و قال سبحانه: (وَ أَنْزَلَ اللّٰهُ عَلَيْكَ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ) «2» إنّ مقتضي عطف الحكمة علي الكتاب، أنّها غيره، و ليست هي إلّا السنّة المأثورة عن طريق قوله- صلي الله عليه و آله و سلم- و فعله و تقريره.

______________________________

(1) النجم: 3 4.

(2) النساء: 113.

تذكرة الأعيان، ص: 271

إنّ العترة الطاهرة بما أنّهم قرناء الكتاب و أعداله و خلفاء الرسول و أوصياوَه، فهم حفظة سننه، و عيبة علمه، فقولهم و فعلهم و تقريرهم يجسّد سنّة النبيّ صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم بصورها الثلاث.

لقد وقف المسلمون علي مكانة

السنّة و عظمتها و أنّها ركن مهم في التشريع الإِسلامي و لكن حالت السياسة بعد رحيل النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم- دون نقلها و تدوينها و دراستها لطيلة قرن من الزمن، و قد ألمح بعض الصحابة في عهد الرسول إلي فكرة «حسبنا كتاب اللّه» و أنّ المسلمين في غني عن غيره فكانت هذه أخطر عملية منعٍ، لكتابة الحديث و تدوين السنّة عقب وفاة الرسول صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم.

روي البخاري عن ابن عباس، قال: لمّا اشتدّ بالنبيّ وجعه، قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده».

قال عمر: إنّ النبيّ غلبه الوجع و عندنا كتاب اللّه، حسبنا.

فاختلفوا و كثر اللغط.

قال- صلي الله عليه و آله و سلم-: «قوموا عنّي فلا ينبغي عندي التنازع».

فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه و بين كتابه «1».

لم تكن فكرة الاستغناء عن سنّة الرسول- صلي الله عليه و آله و سلم- مجرّد أُمنية تراود بعض الصحابة بل نفذّها علي الصعيد العملي عند ما تولي مقاليد الخلافة، و كان المانع هو نفسه الذي تزعم عملية الحظر لما أراد النبي كتابتها.

روي الخطيب قال: إنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّ في أيدي الناس كتباً، فاستنكرها و كرهها، و قال: أيّها الناس إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم

______________________________

(1) البخاري: الصحيح: 1- 30 باب كتابة العلم، من كتاب العلم.

تذكرة الأعيان، ص: 272

كتب، فأحبّها إلي اللّه أعدلها و أقومها، فلا يبقين أحد عنده كتاب إلّا أتاني به فأري فيه رأيي.

قال: فظنّوا أنّه يريد ينظر فيها و يقوِّمها علي أمر حتي لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار ثمّ قال: أُمنية كأُمنية أهل

الكتاب «1».

لقد صار عمل الخليفة سنّة رائجة في حياته و بعده إلي عصر المنصور الذي دعا الناس إلي تدوين الحديث و كتابته بعد خسارات فادحة أُصيب بها الحديث.

قال الذهبي: و في سنة 143 ه شرع علماء الإِسلام في هذا العصر في تدوين الحديث و الفقه و التفسير فصنّف ابن جريج بمكة، و مالك الموطأ بالمدينة، و الأَوزاعي بالشام، و ابن أبي عروبة و حماد بن سلمة و غيرهما في البصرة، و معمر باليمن، و سفيان الثوري بالكوفة، و صنّف ابن إسحاق المغازي، و صنّف أبو حنيفة الفقه و الرأي إلي أن قال: و قبل هذا العصر كان الأَئمّة يتكلّمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتّبة «2».

أمّا شيعة أئمّة أهل البيت فلم يُعيروا أهمية لهذا الحظر، بل دأبوا علي كتابة السنّة و تدوينها و نشرها بين أبنائهم لعلمهم بأنّ السنّة وحي كالقرآن الكريم لا يمكن التساهل و التسامح فيها دون نشرها و إلّا تذهب إدراج الرياح، لَانّ ما في الصدور يذهب بذهاب أصحابها بخلاف الكتاب فإنّه يبقي عبر الأَزمنة و القرون.

كان لرفع الحظر عن كتابة الحديث و تدوينه و التحريض علي دراسته أثر ملحوظ في انكباب العلماء و المحدّثين علي دراسته و كتابته و تدوينه، و شدّ الرحال إلي آفاق بعيدة بُغية جمع السنّة النبوية، فراج الحديث علي أثرها أواخر القرن الثاني و بلغ ذروته أوائل الرابع، فصارت الحواضر الإِسلامية مراكز مهمة للحديث و جمعه لا سيما حاضرة العراق و ضاحيتها الكوفة، و الري و ضواحيها

______________________________

(1) الخطيب البغدادي: تقييد العلم، ص 52.

(2) تاريخ الخلفاء، للسيوطي، ص 261.

تذكرة الأعيان، ص: 273

و خراسان و مدنها، فأُلِّفت خلالها مسانيد و صحاح و جوامع و موسوعات،

كصحيح البخاري لمحمد ابن إسماعيل بن إبراهيم البخاري (194 256 ه) و صحيح مسلم لأَبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري (201 261 ه) إلي غير ذلك من الصحاح و السنن عند أهل السنّة.

كما خرج للشيعة الإِماميّة كتاب «الجامع» لأَحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي المتوفّي (221 ه) و كتاب «الثلاثين» لحسين بن سعيد الأَهوازي الذي يروي عن الامام الرضا- عليه السلام- المتوفّي (203 ه) و الإِمام الجواد- عليه السلام- المتوفّي (220 ه) و كتاب «المحاسن» لأَحمد بن محمد بن خالد المتوفّي (274 ه) و نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيي الأَشعري المتوفّي (حوالي 293 ه) إلي غير ذلك من محدّثي الشيعة الكبار الذين خدموا السنّة و أحاديث العترة ببيانهم و أقلامهم و ألسنتهم و حفظوها عن الضياع و الاندثار.

و الجوامع التي أشرنا إليها علي وجه الإِيجاز كانت هي المادة المستقاة لشيخنا الكليني في تصنيفه للكافي في الأصول و الفروع بإسناد متّصلة قراءة و سماعاً.

التيارات الفكرية في عصر الكليني
اشارة

نشأ الكليني في النصف الثاني من القرن الثالث و أدرك الربع الأَوّل من القرن الرابع، حيث إنّه ولد في عصر إمامة العسكري- عليه السلام- التي دامت ستّ سنين (254 260 ه) و توفّي عام 328 ه أو 329 ه، فقد أدرك عصر الظهور و الغيبة الصغري جميعاً، و كان ذلك العصر مشحوناً بتيّارات فكرية مختلفة لم يكن لها مثيل من قبل.

فمن متحدِّث سلفيّ يحمل لواء التشبيه و التجسيم و إثبات الجهة و الجبر و يضم إلي حزمته كلّ غثّ و سمين لا يبالي عمّن أخذ و ما أخذ.

تذكرة الأعيان، ص: 274

إلي مرجئي ينادي بكفاية الايمان باللّه و رسوله عن القيام بالتكاليف، و بالتالي يدعو إلي الانحلال عن

القيود الشرعية.

إلي قدريّ يري حاجة الفاعل في ذاته إلي اللّه سبحانه دون فعله، و كأنّه إله ثان في الأَرض في مقام الإِيجاد و التأثير يهدم بمعوله التوحيد في الخالقية.

إلي خارجيّ يكفّر جميع طوائف المسلمين بمل ء فمه و ينزّه الخليفتين الأَوّلين و يبغض الآخرين بذريعة أنّه لا حكم إلّا للّه.

إلي دخلاء في الإِسلام يتظاهرون به في حين يصوّبون سهامهم إلي ظهر المسلمين.

إلي غير ذلك من التيارات التي عجّت بها تلك الحقبة من الزمان.

و مع أنّ الحواضر الإِسلامية كانت مشحونة بهذه الفرق المختلفة إلّا أنّ الطابع العام الذي كان سائداً علي سياسة الحكومات آن ذاك هو تأييد السلفية و دعاة الحديث خدمة لمصالحها، و لذلك نجد بين أهل الحديث من رفع راية التجسيم و التشبيه بحماس من غير خوف و لا و جل من أهل التنزيه، منهم:

1- عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد التميمي الدارمي السجستاني صاحب «المسند»، ولد قبل المائتين و توفّي عام 280 ه، له كتاب «النقض» يقول فيه: اتّفق المسلمون علي أنّ اللّه تعالي فوق عرشه و سماواته «1».

2- خشيش بن أصرم مصنّف كتاب «الاستقامة» يعرّفه الذهبي بأنّه يردّ فيه علي أهل البدع «2» توفّي سنة 522 ه «3».

______________________________

(1) سير أعلام النبلاء: 13- 325.

(2) تذكرة الحفّاظ: 2- 551.

(3) سير أعلام النبلاء: 2- 250.

تذكرة الأعيان، ص: 275

و يريد من هذه الكلمة أهل التنزيه الذين لا يثبتون للّه سبحانه خصائص الموجود الامكاني و ينزّهونه عن الجسم و الجسمانيات.

3- أحمد بن محمد بن أزهر بن حريث السجستاني السِّجزي، نقل الذهبي في ميزان الاعتدال عن السلمي، قال: سألت الدارقطني عن الأَزهري، فقال: هو أحمد بن محمد بن الأَزهر بن حريث، سجستاني منكر الحديث لكن بلغني أنّ ابن

خزيمة حسن الرأي فيه و كفي بهذا فخراً «1» توفّي عام 213 ه «2».

أقول: و كفي بهذا ضعفاً، لَانّ ابن خزيمة هو رئيس المجسّمة و المشبّهة في عصره، و منه يعلم حال السجستاني، و الجنس إلي الجنس يميل.

4- محمد بن أبي إسحاق بن خزيمة (المتوفّي 311 ه) مؤَلّف كتاب «التوحيد في إثبات صفات ربّ العالمين» و كتابه هذا مصدر المشبّهة و المجسّمة في العصور الأَخيرة الذي يقول في حقّه الرازي عند تفسيره قوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ).

و اعلم أنّ محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سمّاه «التوحيد» و هو في الحقيقة كتاب الشرك و اعترض عليها، و أنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات، لَانّه كان رجلًا مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل «3».

5- عبد اللّه بن أحمد بن حنبل (213 290 ه) راوية أحاديث أبيه أحمد بن حنبل و كتابه «السنّة» المطبوع لأَوّل مرّة بالمطبعة السلفية و مكتبتها عام 1349 ه مشحون بروايات التجسيم و التشبيه، يروي فيه ضحك الرب و تكلّمه و أصبعه

______________________________

(1) ميزان الاعتدال: 1- 132.

(2) سير أعلام النبلاء: 14- 396.

(3) الرازي: مفاتيح الغيب: 27- 150.

تذكرة الأعيان، ص: 276

و يده و رجله و ذراعيه.

و قد كان لكتاب «التوحيد» لابن خزيمة صديً واسع في القرن الرابع و بعده، هذا ابن كثير يذكر في حوادث عام 460 ه: و في يوم النصف من جمادي الآخرة قُري «الاعتقاد القادري» الذي فيه مذهب أهل السنّة و الإِنكار علي أهل البدع.

و قَرأ أبو مسلم الكجي البخاري المحدّث كتاب «التوحيد» لابن خزيمة علي الجماعة الحاضرين، و ذكر بمحضر من الوزير ابن جهير و جماعة الفقهاء و أهل الكلام و اعترفوا بالموافقة

«1».

و قد ظهر في عصر الكليني، الإِمام أبو الحسن الأَشعري (260 324 ه) و قد تربّي في إحضان المعتزلة و تتلمذ علي يد أبي علي الجبائي (236 303 ه) ثمّ رفض الاعتزال و التحق بمنهج الحنابلة و نادي بأعلي صوته في الجامع الكبير في البصرة و قال: من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا أُعرّفه نفسي، أنا فلان بن فلان كنت قلت بخلق القرآن، و إنّ اللّه لا يري بالابصار، و إنّ أفعال الشرّ أنا أفعلها، و أنا تائب مقلع معتقد للردّ علي المعتزلة «2».

إنّ كثيراً ممّن يُحسن الظنّ بإمام الأَشاعرة يفسّرون انقلابه إلي منهج الحنابلة بفكرة القيام بإصلاح عقيدة أهل الحديث التي كانت سائدة في أكثر البلاد و أنّ الإِصلاح لم يكن ميسّراً إلّا بالتزيّ بزيّهم، و لو صحّت تلك في بدء الأَمر، و لكنّه لم يتخلّص من أكثر ما كان عليه أهل الحديث في ذلك اليوم غير أنّ الجبر و التشبيه و التجسيم صريح في كلمات المحدّثين، و هي مروية في كتب الأَشعري و من والاه.

يقول الدكتور أحمد أمين: في رأيي لو سادت المعتزلة إلي اليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي و قد أعجزهم التسليم

______________________________

(1) البداية و النهاية: 6- 96.

(2) فهرست ابن النديم: 271.

تذكرة الأعيان، ص: 277

و شلّهم الجبر، و قعد بهم التواكل «1».

ففي هذا الجو المشحون بالأَهواء النفسية و الافتخارات الجاهلية و التعصّبات الباطلة، تألّق نجمٌ محدّثٌ شيعيّ واع جمع سنّة النبيّ و حديث عترته الطاهرة بعد أن غادر مسقط رأسه (كلين) متابعاً رحلته في طلب الحديث حتي جاب البلاد و اجتازها، فألّف كتابه الكبير الكافي في الأصول و الفروع في عشرين عاما، يضمّ في طيّاته

حوالي ستة عشر ألف حديث من أحاديث النبي و أئمّة أهل البيت الذين هم أدري بالبيت؛ صانوا بذلك السنّة من عبث الوضّاعين و الجعّالين، و إليك لمحة عن سيرته:

سيرة الكليني

هو الشيخ محمد بن يعقوب بن إسحاق المكنّي بأبي جعفر، ولد في قرية كُلَين بضمّ الكاف و فتح اللام قرية من قري الري تقع علي بعد 38 كيلومتراً جنوبي غربي بلدة الري الحالية، شرقي مدينة قم بينها و بين الطريق 5 كيلومترات.

و أمّا كلَين بفتح اللام فهي قرية من قري «ورامين» و ربّما يُنسب شيخنا إليها و هو اشتباه واضح.

أمّا أُسرته فوالده عالم من علماء الري انتقل إلي موطنه و بقي فيها إلي أن توفّي، و قبره هناك معروف يزار.

هذا من جانب الأَب.

و أمّا أُسرته من جانب الأُمّ فأُمّه من بيت عريق في العلم و الحديث، و يبدو أنّ الأُمّ كانت عالمة فاضلة، لأَنّها تربّت في إحضان هذا البيت الذي أنجب العديد من المحدّثين و العلماء.

فوالدها هو الشيخ محمد بن إبراهيم بن أبان، وصفه الشيخ الطوسي بقوله:

______________________________

(1) ضحي الإِسلام: 3- 70.

تذكرة الأعيان، ص: 278

محمد بن إبراهيم المعروف بعلان الكليني، خيّر «1».

و عمّها هو الشيخ أحمد بن إبراهيم بن أبان يعرّفه الطوسي بقوله: أحمد بن إبراهيم المعروف بعلان الكليني، خيّر، فاضل من أهل الري «2».

و أخوها، هو الشيخ علي بن محمد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني، يعرّفه النجاشي بقوله: علي بن محمد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني المعروف بعلان، يكنّي أبا الحسن، ثقة، عين، له كتاب أخبار القائم- عليه السلام- «3».

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ علّان لقب العائلة، حيث إنّ الجدّ و الأَب و الخال يطلق عليهم علّان و خاله هذا من مشايخ الكليني.

يقول العلّامة

المامقاني: و هو الذي يروي عنه الكليني بغير واسطة كثيراً، و هو داخل في العدّة التي يروي الكليني بواسطتهم عن سهل بن زياد، و قال غير واحد أنّه أُستاذ الكليني و خاله «4».

و يظهر من العلّامة المامقاني أنّ ابن الخال: محمد بن علي و حفيده القاسم بن محمد من العلماء «5».

و في هذه الأسرة العريقة بالعلم و الأَدب نشأ شيخنا الكليني و تألّق نجمة، فصار من أكابر المحدّثين، و أعظم المجتهدين في عصره علي وجه أطلق لسان كلّ موافق و مخالف للثناء عليه و إطرائه، و فاحت بذكره المعطر أقلامهم، فلو نقلنا أقوال الفريقين في حقّه لطال بنا المقام، و لكن نكتفي ببعض الكلمات:

______________________________

(1) رجال الطوسي، باب من لم يرو عنهم- عليهم السلام-: 496، باب الميم برقم 29.

(2) رجال الطوسي، باب من لم يرو عنهم- عليهم السلام-: 438، باب الالف برقم 1.

(3) النجاشي: 2- 88 برقم 680.

(4) تنقيح المقال: 2- 302 برقم 8446.

(5) المصدر نفسه.

تذكرة الأعيان، ص: 279

1- يذكره الشيخ المفيد بقوله: و قد ذكر الكليني رحمه اللّه في كتاب «الكافي» و هو من أجلّ كتب الشيعة و أكثرها فائدة «1».

2- يقول النجاشي: محمد بن يعقوب بن إسحاق، أبو جعفر الكليني، شيخ أصحابنا في وقته بالري و وجههم، و كان أوثق الناس في الحديث و أثبتهم، صنّف الكتاب الكبير المعروف بالكليني يسمّي «الكافي» في عشرين سنة «2».

ثمّ ذكر كتبه.

3- و قال الشيخ الطوسي: محمد بن يعقوب الكليني يكنّي أبا جعفر، جليل القدر، عالم بالاخبار، و له مصنّفات يشتمل عليها الكتاب المعروف بالكافي «3».

4- و قال في الفهرست: محمد بن يعقوب الكليني،، يكنّي أبا جعفر، ثقة، عارف بالاخبار، له كتب منها كتاب «الكافي» يشتمل علي ثلاثين

كتاباً «4».

هذا بعض ما قاله علماء الشيعة في حقّه، و إليك بعض النصوص من علماء السنّة، و قد ذكروه بإجلال من دون أيّ غمض فيه.

5- ذكره مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد المعروف بابن الأَثير (544 606 ه) في جامع الأصول في تفسير ما رواه أبو هريرة عن رسول اللّه صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال: «إنّ اللّه يبعث لهذه الأُمّة علي رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها».

و قال: أخرجه أبو داود «5».

______________________________

(1) المفيد: تصحيح الاعتقاد: 27، طبعة تبريز.

(2) رجال النجاشي: 2- 290 برقم 1027.

(3) رجال الطوسي: 496، باب من لم يرو عن الأَئمّة، باب الميم برقم 27.

(4) الفهرست: 161 برقم 603.

(5) لسان الميزان: 5- 433.

تذكرة الأعيان، ص: 280

ثمّ ذكر أنّ العلماء تكلّموا في تأويل هذا الحديث كلّ واحد في زمانه، ثمّ قال: و نحن نذكر الآن المذاهب المشهورة في الإِسلام التي عليها مدار المسلمين في أقطار الأَرض و هي: مذهب الشافعي، و أبي حنيفة، و مالك، و أحمد، و مذهب الإِمامية و من كان المشار إليه من هؤلاء علي رأس كلّ مائة سنة.

ثمّ ذكر أنّ الإِمام الباقر هو مجدّد مذهب الإِمامية علي رأس المائة الأولي، و الإِمام عليّ بن موسي الرضا- عليه السلام- علي رأس المائة الثانية.

ثمَّ قال: و أمّا من كان علي رأس المائة الثالثة.. أبو جعفر محمد بن يعقوب الرازي من الإِمامية «1».

6- و ذكره عزّ الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأَثير (558 630 ه) في حوادث عام 328 ه و قال: و فيها توفّي محمد بن يعقوب، (و قتل محمد بن علي) أبو جعفر الكليني و هو من أئمّة الإِمامية و علمائهم

«2».

7- و ذكره ابن عساكر محمد بن مكرم (630 711 ه) في تاريخ دمشق و هذا يعرب عن أنّه ممّن دخل دمشق و زارها و قال: محمد بن يعقوب و يقال (محمد ابن علي) أبو جعفر الكليني، من شيوخ الرافضة، حدّث عن علي بن إبراهيم بن هاشم بسنده إلي جعفر بن محمد قال: قال أمير المؤمنين: «إعجاب المرء بنفسه دليل علي ضعف عقله».

ثمّ قال: الكليني بضمّ الكاف و النون بعد الياء و إمالة اللام، توفّي محمد بن

______________________________

(1) أخرجه برقم 4291، في الملاحم باب ما يذكر في حول المائة، لاحظ جامع الأصول: 1- 423.

(2) ابن الأَثير: جامع الأصول: 11- 323، نشر و توزيع دار الفكر، الطبعة الثانية، 1403 ه.

ما بين القوسين موجود في الطبعتين القديمة و الحديثة لاحظ الكامل: 8- 364 حوادث عام 328 ه و لاحظ الطبعة القديمة: 6- 274.

و لعلّ «قتل» مصحف «قيل» كما يظهر من كلام ابن عساكر الآتي.

تذكرة الأعيان، ص: 281

يعقوب سنة 328 ه «1».

هذا ما وقفنا عليه في مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، ثم وقفنا علي نفس تاريخ ابن عساكر حيث جاء فيه: أبو جعفر الكليني الرازي من شيوخ الرافضة، قدم دمشق و حدّث ببعلبك عن أبي الحسين محمد بن علي الجعفري السمرقندي، و محمد بن أحمد الخفّاف النيسابوري، و علي بن إبراهيم بن هاشم.

روي عنه أبو سعد الكوفي شيخ الشريف المرتضي، و أبو عبد اللّه أحمد بن إبراهيم، و أبو القاسم علي بن محمد بن عبدوس الكوفي، و عبد اللّه بن محمد بن ذكوان.

أنبأنا أبو الحسن.. بن جعفر قالا: أنا جعفر بن أحمد بن الحسين بن السراج، أنا أبو القاسم المحسن بن حمزة.. الورّاق بتنيس أنا أبو علي الحسن بن

علي بن جعفر الديبلي بتنيس في المحرم سنة خمس و تسعين و ثلاثمائة، أنا أبو القاسم علي بن محمد بن عبدوس الكوفي، أخبرني محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم الي أن انتهي الإسناد الي أمير المؤمنين- عليه السلام- انّه قال: «إعجاب المرء بنفسه دليل علي ضعف عقله» «2».

8- و قال صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (697 764 ه): الكليني محمد بن يعقوب أبو جعفر الكليني من أهل الري سكن بغداد إلي حين وفاته، و كان من فقهاء الشيعة و المصنّفين علي مذهبهم، حدّث عن أبي الحسين محمد بن علي الجعفري السمرقندي، و محمد بن أحمد الخفّاف النيسابوري، و علي بن إبراهيم بن هاشم، توفّي سنة 328 ه «3».

______________________________

(1) مختصر تاريخ دمشق لِابن عساكر: 23- 362 برقم 386.

(2) تاريخ ابن عساكر: 56- 297.

(3) الوافي بالوفيات: 5- 226 برقم 2003.

تذكرة الأعيان، ص: 282

9- و عرّفه ابن حجر (المتوفّي 852 ه) بقوله: محمد بن يعقوب بن إسحاق أبو جعفر الكليني الرازي، سكن بغداد و حدّث بها عن محمد بن أحمد بن عبد الجبار، و علي بن إبراهيم بن هاشم و غيرهما، كان من فقهاء الشيعة و المصنّفين علي مذهبهم، توفّي سنة 328 ه ببغداد «1».

ثقافته العلمية

إنّ من أمعن النظر في مشايخ الكليني الذين أكثر عنهم الرواية يقف علي أنّه تألّق نجمة في الحديث في بلدة الري و ضواحيها، حيث إنّ أكثر من يروي عنهم هم من أهل الري و قم، و هذا يدل علي أنّه قد اكتملت شخصيته الحديثية و العلمية قبل رحيله إلي العراق عام 327 ه، و إليك نزراً من مشايخه القميين و الرازيين الذين تتلمذ عليهم: 1- أبو علي الأَشعريّ أحمد بن

إدريس (المتوفّي 306 ه)، فقد روي عنه في الكافي 1029 حديثاً.

2- أبو عبد اللّه الحسين بن محمد بن عمران الأَشعري القمّي المعروف بابن عامر «2»، تبلغ رواياته عنه 83 حديثاً.

3- علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي، تبلغ رواياته عنه 7028 حديثاً.

4- علي بن محمد، و هو مردّد بين علي بن محمد البندار «3» المعروف بماجيلويه أو علي بن محمد بن إبراهيم علّان الكليني و الظاهر هو الثاني، لأَنّ الكليني روي في موارد كثيرة عن علي بن محمد عن سهل بن زياد، و قد ذكر المحقّقون أنّ علان الكليني

______________________________

(1) لسان الميزان: 5- 433.

(2) لاحظ ترجمته في تنقيح المقال: 1- 342.

(3) اقرأ ترجمته في تنقيح المقال: 2- 303.

تذكرة الأعيان، ص: 283

أحد العدة التي يروي بها عن سهل بن زياد.

5- محمد بن إسماعيل البندقي النيسابوري، و قد بلغت رواياته عنه 758 حديثاً.

6- محمد بن يحيي العطار القمّي، و قد بلغت رواياته عنه 5073 حديثاً.

هذه أجلّة مشايخ الكليني الذين أكثر عنهم الحديث و كلّهم من محدّثي قم و الري.

و يبدو أنّ الشيخ الكليني بعد ما أخذ ما أخذ من القمّيين و الرازيين و الخراسانيين، بدأ رحلته إلي العراق ليجوب البلاد و يلتقي بالمشايخ في أخذ الحديث و يكمِّل به كتابه.

و هذا هو الشيخ الطوسي يذكر في سنده إلي كتاب الكافي أنّه يرويه عن أحمد ابن عبدون المعروف بابن الحاشر، عن أحمد بن أبي رافع و أبي الحسين عبد الكريم ابن عبد اللّه بن نصر البزاز بتنيس «1» و بغداد، عن أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني جميع مصنفاته و أحاديثه سماعاً و أجازه ببغداد بباب الكوفة بدرب السلسلة سنة 327 ه «2».

و هذا يدلّ علي أنّ شيخنا الكليني كان

يقطن بغداد في ذلك العام، و أمّا السنة التي غادر موطنه و نزوله بغداد، فغير معلوم و لعلّه كان في تلك السنة أو قبلها بكثير أو قليل.

ذكر الشيخ في الفهرست أنّه يروي كتب الكليني بالطريق المذكور في المشيخة، و قال: أخبرنا أبو عبد اللّه أحمد بن عبدون، عن عبد الكريم بن عبد اللّه

______________________________

(1) كذا في المصدر و في فهرست الشيخ (تفليس) و الثاني بعيد جدّاً و الأَوّل مبهم.

(2) تهذيب الاحكام: 10- 29 قسم المشيخة.

تذكرة الأعيان، ص: 284

بن نصر البزاز بتفليس و بغداد، عن الكليني بجميع مصنّفاته و رواياته «1» و لم يذكر سنة إجازة الشيخ الكليني لتلميذه عبد الكريم بن عبد اللّه.

و قد عرفت عن تاريخ دمشق لابن عساكر أنّ شيخنا الكليني دخل دمشق و حدّث ببعلبك، إلي آخر ما ذكرنا، و هذا يعرب عن أنّه دخل بغداد قبل زمان الإِجازة حتي أُتيحت له الفرصة أن يغادر العراق إلي دمشق و منها إلي بعلبك حتي التقي بالمشايخ فيها و حدّث بها ثمّ رجع إلي العراق و قطن بغداد و حدّث هناك.

و علي هذا فقد جاب شيخنا الكليني مراكز الحديث واحداً تلو الآخر، فرحل من موطنه كلين إلي الري، ثمّ قم، ثمّ بغداد، ثمّ دمشق، ثمّ بعلبك راجعاً إلي بغداد نزيلًا بها مفيضاً، إلي أن لقي اللّه تبارك و تعالي عام 329 ه، كما ذكره النجاشي في فهرسته و الشيخ في رجاله.

قال النجاشي: مات رحمه اللّه، أبو جعفر الكليني ببغداد سنة 329 ه سنة تناثر النجوم، و صلّي عليه محمد بن جعفر الحسني أبو قيراط، و دفن بباب الكوفة «2».

و قال الشيخ في رجاله: مات سنة 329 في شعبان في بغداد، و دفن بباب الكوفة «3».

و

لكن قدَّس سرَّه أرّخ وفاته في الفهرست عام 328 ه، و ما ذكره النجاشي هو الأَقرب إلي الواقع.

و قد ذكر النجاشي في ترجمة والد الصدوق أنّه قدم بغداد سنة 328 ه، و مات سنة 329 ه و هي السنة التي تناثرت بها النجوم.

غير أنّ ابن الأَثير أرّخ سنة التناثر ب 323 ه حيث قال في حوادث سنة 323: و فيها أي في الليلة الثانية عشرة من ذي القعدة و هي التي أوقع القرمطي

______________________________

(1) الفهرست: 162، طبع النجف.

(2) رجال النجاشي: 2- 292.

(3) رجال الطوسي: 495.

تذكرة الأعيان، ص: 285

بالحجاج، انقضت الكواكب من أول الليل إلي آخره انقضاضاً دائماً مسرفاً جدّاً لم يعهد مثله «1».

و بما أنّ النجاشي أقرب إلي الواقعة و ألصق بها فقوله أقرب إلي الحقّ.

نعم ذكر الشيخ في ترجمة والد الصدوق أنّه روي عنه التلعكبري و قال: سمعت منه (والد الصدوق) في السنة التي تهافتت فيها الكواكب دخل بغداد فيها، و ذكر أنّ له منه إجازة بجميع ما يرويه «2».

و من الممكن أن يكون عام السماع هو عام وفاة المجيز و لا دلالة له علي أنّ وفاته كان في غير ذلك العام لما عرفت من أنّ ليلة التناثر كانت في شهر شعبان، و يمكن أن تتقدّم الإِجازة علي التناثر بعدة أشهر.

مشايخه

روي الكليني عن العديد من علماء أهل البيت و رجالهم و محدّثيهم بما يضيق المجال بذكرهم و نقتصر علي مشاهيرهم: 1- أبو جعفر محمد بن الحسن بن فروخ الصفار القمّي، صاحب كتاب: «بصائر الدرجات» (المتوفّي 290 ه).

2- أبو علي أحمد بن إدريس بن أحمد الأَشعري القمّي (المتوفّي 306 ه).

3- أبو الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم، صاحب التفسير المعروف (المتوفّي حوالي 308 ه).

4- أبو

جعفر محمد بن يحيي العطّار القمّي.

إلي غير ذلك من مشايخ الحديث و فطاحله.

______________________________

(1) الكامل في التاريخ: 6- 249، حوادث سنة 323.

(2) رجال الطوسي، باب من لم يرو عنهم- عليهم السلام- مادة علي، برقم 34.

تذكرة الأعيان، ص: 286

تلاميذه و الرواة عنه

و أمّا تلاميذه و الرواة عنه فحدّث عنهم و لا حرج، فمنهم علي سبيل المثال: 1- أبو الحسين أحمد بن علي بن سعيد الكوفي، المعروف ب «ابن عقدة» (المتوفّي 333 ه).

2- أبو غالب أحمد بن محمد بن محمد بن سليمان بن الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين بن سنسن الرازي (285 368 ه).

3- أبو القاسم جعفر بن محمد بن جعفر بن موسي بن قولويه صاحب «كامل الزيارات» (المتوفّي 369 ه).

4- أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب النعماني، المعروف ب «ابن زينب» كان خصيصاً به يكتب كتابه الكافي.

إلي غير ذلك ممّن يروي عنه، تجد أسماءهم مبسوطة في مقدمة كتاب «الكافي» بقلم الأُستاذ حسين علي محفوظ البغدادي.

آثاره

ترك الشيخ تراثاً علمياً ضخماً للأُمّة، و من أشهر تآليفه كتاب «الكافي» و هو في ثمانية أجزاء، يقول النجاشي: صنّف الكتاب الكبير المعروف بالكافي في عشرين سنة، ثمّ شرح كتبه و قال: 1- كتاب العقل، 2- كتاب فضل العلم، 3- كتاب التوحيد، 4- كتاب الحجّة، 5- كتاب الايمان و الكفر، 6- كتاب الوضوء و الحيض، 7- كتاب الصلاة، 8- كتاب الصيام، 9 كتاب الزكاة و الصدقة، 10- كتاب النكاح و العقيقة، 11- كتاب الشهادات، 12- كتاب الحج، 13- كتاب الطلاق، 14- كتاب

تذكرة الأعيان، ص: 287

العتق، 15- كتاب الحدود، 16- كتاب الديات، 17- كتاب الايمان و النذور و الكفارات، 18- كتاب المعيشة، 19- كتاب الصيد و الذبائح، 20- كتاب الجنائز، 21 كتاب العشرة، 22- كتاب الدعاء، 23- كتاب الجهاد، 24- كتاب فضل القرآن، 25- كتاب الأَطعمة، 26- كتاب الأَشربة، 27- كتاب الزي و التجمّل، 28- كتاب الدواجن و الرواجن، 29- كتاب الوصايا، 30- كتاب الفرائض، 31- كتاب

الروضة «1».

روي فيه 15508 حديثاً و قد أخذها عن مشايخه سماعاً و قراءة، و هو عمل شاق ضخم لم يسبقه إليه أحد من أئمّة الحديث، فقد قام بتصنيف الكافي و استخدم في تأليفه الأسلوب الكامل و هو توزيع الأَحاديث بعد جمعها علي مجموعة من الكتب، و الكتب علي مجموعة من الأَبواب، و الأَبواب علي عدد من الأَحاديث شريطة أن تكون تلك الأَحاديث مناسبة لأَبوابها و الأَبواب لكتبها، و قد حقّق الكليني هذا المطلب علي أحسن ما يرام إذ قسم كتابه الكافي علي ثلاثة أقسام رئيسية و هي: 1- أُصول الكافي، 2- فروع الكافي، 3- روضة الكافي.

ثمّ قسم أُصول الكافي علي ثمانية كتب، اشتمل علي 499 باباً، و أخرج فيها 3881 حديثاً.

و تجد هذا التصنيف نفسه مع فروع الكافي أيضاً، إذ اشتمل علي 26 كتاباً، فيها 1744 باباً و مجموع أحاديثها 11021.

و أمّا قسم الروضة فلم يخضعه إلي هذا المنهج من التصنيف بل ساق أحاديثه تباعاً من غير كتب أو أبواب بل جعله كتاباً واحداً و قد احتوي علي 606

______________________________

(1) رجال النجاشي: 2- 291 برقم 1027، ما ذكره من الترتيب لا يوافق ما هو المطبوع، و ذكره الشيخ في الفهرست و هو ينطبق مع ما هو المطبوع، لاحظ الفهرست: 161.

تذكرة الأعيان، ص: 288

أحاديث.

و ذكر النجاشي له كتباً أُخري، نظير: كتاب «الردّ علي القرامطة»، و كتاب «رسائل الأَئمّة- عليهم السلام-»، و كتاب «تعبير الرؤيا»، و كتاب «الرجال»، و كتاب «ما قيل في الأَئمّة منا لشعر» «1».

و له غير ذلك منها: كتاب «خصائص الغدير» ذكره السيد المحقّق عبد العزيز الطباطبائي في كتابه الغدير في التراث الإِسلامي «2».

و ممّا يؤسف له حقّا أنّ هذه الكتب سوي الكافي قد لعب

بها الدهر فضاعت و لم نجد لها أثراً.

نماذج من إنشائه

إنّ شيخنا الكليني لم يكن محدّثاً فحسب بل كان كاتباً بارعاً يصبّ المعاني و المفاهيم العالية في قوالب جميلة، و كان نثرة نموذجاً رائعاً من النثر الرائج في القرن الرابع، و إليك جملًا من أوّل كتابه، يقول: الحمد للّه المحمود لنعمته، المعبود لقدرته، المطاع في سلطانه، المرهوب لجلالة، المرغوب إليه فيما عنده، النافذ أمره في جميع خلقه، علا فاستعلي، و دنا فتعالي، و ارتفع فوق كلّ منظر، الذي لا بدء لَاوليّته، و لا غاية لأَزليته، القائم قبل الأَشياء، و الدائم الذي به قوامها، و القاهر الذي لا يئوده حفظها، و القادر الذي بعظمته تفرّد بالملكوت، و بقدرته توحّد بالجبروت، و بحكمته أظهر حججه علي خلقه، اخترع الأَشياء إنشاءً، و ابتدعها ابتداءً بقدرته و حكمته، لا من شي ء فيبطل الاختراع، و لا لعلّة فلا يصحّ الابتداع، خلق ما شاء كيف شاء، متوحّداً بذلك

______________________________

(1) رجال النجاشي: 2- 291 برقم 1027.

(2) الغدير في التراث الإِسلامي: 38 و لم يذكر مصدره.

تذكرة الأعيان، ص: 289

لإِظهار حكمته، و حقيقة ربوبيته، لا تضبطه العقول، و لا تبلغه الأَوهام، و لا تدركه الابصار و لا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة، و كلّت دونه الابصار، و ضلّ فيه تصاريف الصفات.

آراؤه الكلامية

لم يقتصر أمر شيخنا الكليني علي جمع الحديث دون تحقيقه و تبيينه، و إنّما قام بشرح الحديث في مواضع تحتاج إلي الشرح، تجلّت فيه أفكاره الكلامية، فلاحظ في ذلك الجزء الأَوّل باب جوامع التوحيد «1».

و من نماذج آرائه هي صياغة قاعدة يتم علي ضوئها تمييز صفات الذات عن صفات الفعل، و حاصل القاعدة: «أنّ كلّ وصف غير خاضع للنفي و الإِثبات فهو من صفات الذات كالعلم و القدرة، فلا يصحّ أن يقال إنّ

اللّه يعلم و لا يعلم، أو يقدر و لا يقدر، و أمّا ما كان خاضعاً لهما فهو من صفات الفعل فيقال: يريد و لا يريد».

يقول: ألا تري أنّا لا نجد في الوجود ما لا يُعلم و ما لا يقدر عليه، و كذلك صفات ذاته الأَزليّ لسنا نصفه بقدرة و عجز، و يجوز أن يقال: يحبّ من أطاعه و يبغض من عصاه، و يوالي من أطاعه و يعادي من عصاه، و إنّه يرضي و يسخط.

و في الدعاء: «اللّهمّ ارض عنّي و لا تسخط عليّ وتولّني و لا تعادني» إلي آخر ما أفاده «2».

______________________________

(1) أُصول الكافي: 1421- 134.

(2) لاحظ الكافي، كتاب التوحيد: 1- 111، باب جملة القول في صفات الذات و صفات الفعل.

تذكرة الأعيان، ص: 290

الشروح و التعاليق

و من حسن الحظّ أنّ كتاب الكافي صار محطّاً للنظر و الشرح و التعليق، و قد كُتب عليه تعاليق و شروح نافت علي ثلاثين شرحاً و تعليقاً.

و ممّن شرحه المولي المحقّق صدر المتألّهين الشيرازي (979 1050 ه) و سيوافيك الكلام عن هذا الشرح بعد بيان لمحة عن سيرته و آثاره.

هذه المامة عابرة عن حياة الشيخ الكليني و سيرته و آثاره.

صدر المتألّهين سيرته و حياته

لا عتب علي اليراع إن وقف عاجزاً عن الإِفاضة في تعريف شخصية فذّة و فيلسوف كبير يعدّ من نوابغ الدهر، من الذين يضنُّ بهم الدهر إلّا في فترات يسيرة، ألا و هو الفيلسوف الإِسلامي الكبير محمد بن إبراهيم الشيرازي المشهور بصدر المتألهين، صاحب منهج الحكمة المتعالية في الفلسفة.

نشأ فيلسوفنا الكبير في أجواء مشحونة بالعداء للفكر و أهله، ساد فيها الفكر الاخباري الذي كان يقود المجتمع نحو السذاجة و الجمود.

و قد كان له و لأُستاذه السيد الداماد سهم عظيم في كسر السدود و القيود التي كانت تكبّل العقول و الأَلباب، و لذلك تعرّض إلي انتقاد مرّ أصبح هدفاً لسهام اللوم و التكفير، فها نحن نسلّط قبساً من النور علي سيرته ليكون مناراً يُضييَ الدرب لطلّاب الحقيقة.

تذكرة الأعيان، ص: 291

هو صدر الدين محمد بن إبراهيم بن يحيي الشيرازي، ولد عام 979 ه، «1» و كان والده إبراهيم بن يحيي المعروف بالقوامي أحد وزراء العهد الصفوي، و ترعرع في بيت سادة العلم و الوعي.

يصفه السيد المدني في سلافته: بأنّه كان عالم أهل زمانه في الحكمة متقناً لجميع الفنون «2».

يقول صاحب الروضات: كان فائقاً علي من تقدّمه من الحكماء الباذخين، و العلماء الراسخين إلي زمن مولانا نصير الدين الطوسي، منقّحاً أساس الإِشراق و المشاء بما لا مزيد عليه «3».

هذه

الكلمات و ما قيل في حقّه كلمات قاصرة عن تبيين مكانته، و ألطف كلمة قيلت في حقّه ما نقل عن الحكيم المتألّه الشيخ محمد حسين الأصفهاني (1296 1361 ه) أنّه قال: لو أعلم أحداً يفهم أسرار كتاب الاسفار لشددت إليه الرحال للتَّلْمذَة عليه و إن كان في أقصي الديار.

و زاد عليه الشيخ المظفّر في مقدمته علي هذه الكلمة: بأنّ أُستاذه يريد أن

______________________________

(1) لم يذكر المترجمون تاريخ ولادته لكن استخرجناها ممّا ذكره هو في حاشية المشاعر الطبعة القديمة، ص 77 في مبحث اتحاد العاقل و المعقول عند ما يقول: «كل صورة إدراكية سواء كانت معقولة أو محسوسة فهي متّحدة الوجود مع وجود مدركها ببرهان فائض علينا من عند اللّه» فكتب في الهامش النص التالي: تاريخ هذه الإِفاضة كانت ظهيرة يوم الجمعة سابع جمادي الأولي لعام 1037 من الهجرة النبوية، و قد مضي من عمر المؤَلّف ثمان و خمسون سنة.

فعند طرح 58 سنة من 1037 تكون سنة ولادته هو عام 979 ه.

و أوّل من اطلعني علي ذلك هو زميلنا المرحوم الشيخ محمد فريد النهاوندي رضوان اللّه عليه حيث كانت تلك التعليقة مكتوبة أيضاً في حاشية أسفاره، فأثبتنا هذه التعليقة في حاشية الأَسفار التي كنّا نملكها.

(2) سلافة العصر في أعيان أهل العصر.

(3) روضة الجنات: 4- 120 برقم 356.

تذكرة الأعيان، ص: 292

يفتخر أنّه وحده بلغ درجة فهم إسراره، أو أنّه بلغ درجة من المعرفة أدرك فيها عجزه عن اكتناه مقاصده العالية.

و أضاف: إنّي من المؤمنين بأنّ صدر المتألهين أحد أقطاب في الدورة الإِسلامية: هو و المعلم الثاني أبو نصر الفارابي (المتوفّي 339 ه) و الشيخ الرئيس ابن سينا (373 427 ه) و المحقّق نصير الدين الطوسي (597 672 ه)

هؤلاء هم في الرعيل الأَوّل و هم الأصول للفلسفة، و صاحبنا خاتمتهم و الشارح لآرائهم و المروّج لطريقتهم و الأُستاذ الأَكبر لفنّهم.

و لو لا خوف المغالاة لقلت هو الأَوّل في الرتبة العلمية، لا سيما في المكاشفة و العرفان «1».

أقول: هذه هي الكلمات التي ذكرها الأَساطين في ترجمة صدر المتألهين، و الذي انكشف لي طول ممارستي لدراسة كتبه و الإِمعان فيها أنّه كان يتميّز بأُمور، أوضحها: أوّلًا: إنّه لم يكن فيلسوفاً ناقلًا للَافكار بل كان محقّقاً لها، كاشفاً الشبهات عن وجهها، و مؤَسساً لأُصول كان لها دور عظيم في تحوّل الفلسفة الإِسلامية تحوّلًا جذرياً لها تأثير في المعارف و العقائد كما سيوافيك.

ثانياً: إنّ أفكاره و كتبه صارت محوراً للدراسة و البحث في المعاهد العلمية ما يربو علي ثلاثة قرون، و قد عكف علي دراستها أساتذة الفلسفة دراسة و تمحيصاً.

ثالثاً: إنّ من أعقبه من فطاحل الحكماء الذين يعدّون في الرعيل الأَوّل كلّهم عيال علي فلسفته في أفكارهم و تحقيقاتهم، نظراء: 1- المولي المحقّق ملّا محمد صادق الاردستاني (المتوفّي 1113 ه).

2- المحقّق ملّا إسماعيل الخواجوي (المتوفّي 1137 ه).

3- السيد محمد البيدآبادي (المتوفّي 1147 ه).

______________________________

(1) الاسفار: 1- 3، قسم التقديم.

تذكرة الأعيان، ص: 293

4- الشيخ محمد رضا القمشئي (المتوفّي 1241 ه).

5- الفيلسوف الكبير ملّا علي النوري (المتوفّي 1246 ه).

6- المحقّق ملّا هادي السبزواري (1212 1289 ه).

7- المدرس الكبير علي المدرس (1234 1307 ه).

8- السيد أبو الحسن جلوة (1238 1314 ه).

إلي غير ذلك من كبار أساتذة الفلسفة الذين تخرّجوا علي يد العلمين الأَخيرين أخيرهم لا آخرهم أُستاذنا الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي (1321 1402 ه)، الذي تتلمذ علي السيد حسين البادكوبي (1293 1387 ه) و هو من أبرز تلاميذ السيد أبو

الحسن جلوة، فهؤَلاء هم الذين حملوا أفكار صدر المتألهين و قرّروها بأحسن ما يمكن و لا تجد هذه الميزات الثلاث عند أحد غيره.

رابعاً: إنّه جمع بين ما عليه الإشراقيون من أنّه لا يصل الإِنسان إلي الحقائق إلّا عن طريق الرياضة و التصفية و الشهود، و ما عليه المشاءون من أنّ اقتناص الحقائق رهن الدراسة و التحقيق، فصار المؤَلف يجمع بين الأُسلوبين و يصرّ علي أنّ الأَقيسة و المقدّمات المنطقية توصل الإِنسان إلي ما يوصله إليه تجريد النفس عن شهواتها و لذّاتها و تخلّصها من أدران الدنيا و أوساخها، فالسبيلان ينتهيان إلي هدف واحد، و الفرق بينهما كالفرق بين من يسمع وصف الحلاوة و بين من يذوقها، و يندّد بمن يكرس اهتمامه علي أحد دون الآخر، و يقول في هذا الصدد: «و لا تشتغل بترَّهات عوام الصوفية من الجهلة، و لا تركن إلي أقاويل المتفلسفة جملة فإنّها فتنة مضلّة، و للأقدام عن جادة الصواب مزلّة و هم الذين إذا جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون، وقانا اللّه و إياك شرّ هاتين الطائفتين و لا جمع اللّه بيننا و بينهم طرفة عين أبداً» «1».

______________________________

(1) الاسفار، المقدمة: 1- 12.

تذكرة الأعيان، ص: 294

و لأَجل أنّ الميزة الرابعة هي المهمة في الوقوف علي ما بذله مؤَلفنا في هذا المضمار نتكلّم حولها بإسهاب، فنقول: صاغ صدر المتألهين أسساً جديدة في الفلسفة الإِسلامية و وضع حجر الزاوية لها و أسماها بالحكمة المتعالية، و صارت فيما بعد محوراً للدراسات الفلسفية في الجامعات العلمية فعكف عليها روّاد العلم و عشّاق الحقيقة.

صبّ سيّدنا المؤَسس اهتمامه بتحليل المباحث الهامة و شرحها و عطف نظره إلي القواعد العامة

الجارية في نظام الوجود من غير أن يختصّ بموجود دون آخر، فدقّق النظر فيها في بابها الخاص أعني الفن الأَعلي، كما إنّه بحث بحثاً وافياً في الالهيات و أتقنها أيّ إتقان.

و قد استعان رحمه اللّه فيما أحدث من أُصول جديدة للفلسفة و فيما جاء من المنهج الجديد و التفكير الحديث، بما وصل إليه من الاغارقة الأَقدمين لا سيما أفلاطون و أرسطو و نظرائهما، و ضمّ إلي تلك الانظار الجليلة ما استفاده من أساتذة الشرق و فلاسفتهم ممّا جادت بها قرائحهم و نشرتها أقلامهم، إلي منتصف القرن الحادي عشر الهجري.

لا شكّ أنّه لاحظ و تأمّل فيما كتبه فطاحل المشائيين و الإشراقيين، و ما جاد به ذوق العرفاء الشامخين، فجاء مبدعاً خامره كثير من التجديد و الابتكار، و أعانه في ذلك فطنته المتوقّدة و ذكاؤه الملتهب.

و من إبداعاته أنّه جاء بنظام متكامل في المسائل الفلسفية، فقدّم ما حقّه التقديم و أخّر ما حقّه التأخير، فأصبحت المسائل الفلسفية، كالمسائل الرياضية في ترتيبها المنطقي.

نهض بهذا العب ء الثقيل و لا نصير له سوي براعته و همّته القعساء، و عقله الكبير، و قلبه البصير، و لذلك جاء مهبطاً للعلوم و المعارف، و صار بذلك بطلًا

تذكرة الأعيان، ص: 295

مقداماً في تلك الميادين.

و لقد توفّق رحمه اللّه كلّ التوفيق في الجمع بين آراء أفلاطون (مؤَسّس مدرسة الإشراق) و تلميذه أرسطو (مبتكر منهج المشائين) و كان الأَوّل من المعلّمين داعياً إلي تهذيب النفس و تصفية الباطن، قائلًا بأنّ الطريق الوحيد إلي اقتناص شوارد الحقائق و اكتشاف دقائق الكون هو هذا المنهج لا غير، و كان الثاني مخالفاً له في المنهج، قائلًا بأنّ الدليل للوصول إلي الحقائق المكنونة، و الدقائق المجهولة، هو التفكير و الاستدلال

و البرهنة الصحيحة.

و لم يزل التشاجر قائماً علي قدم و ساق بين العلمين و أتباعهما في اليونان و الإسكندرية و أُوربا في القرون الوسطي، إلي أن سري هذا الاختلاف إلي الفلاسفة الاسلاميين و هم بين مشّائي لا يقيم للِاشراق وزناً، و إشراقي لا يجنح إلي فلسفة المشاء.

و قد قضي الحكيم الشيرازي علي هذا التشاجر و النقاش الذي شغل بال العديد من فلاسفة الإغريق و المسلمين طوال هذه القرون فطوي بأفكاره و أُسلوبه، صفحة هذا الجدل العقيم، و من كان له إلمام بأساسه الرصين يعرف كيف ختم هذا المبتكر الفذ تلك المشاجرات، و كيف ألغي بالأُصول المحرّرة تقابل المسلكين، و تضاربهما، بحيث لا يكاد يصحّ بعد هذه الأصول أن يعدّ أحدهما مقابلًا للآخر.

و قصاري القول: إنّه قد حاز قصب السبق في ميدان الابتكار فجاء بأفكار عالية جديدة علي عهده لا توجد في زبر الأَوّلين و لا في خواطر الآخرين، و ضمّ إلي تلك الانظار نتائج جهود عظماء الفلسفة و خلاصة دروسهم العالية و محاضراتهم القيّمة، و لباب مجاهداتهم طوال القرون الثمانية منذ ظهور الفلسفة في البيئات الإِسلامية إلي عصر المؤَسس.

تذكرة الأعيان، ص: 296

مراحل أطوار حياته

لقد طوي فيلسوفنا الفذ حياته في مراحل ثلاث: مرحلة تلقّي المعارف الإِلهية، و مرحلة تهذيب النفس و تزكيتها، و مرحلة التأليف و التصنيف.

هذه هي المراحل التي اجتازها مترجمنا و يظهر ذلك من الامعان فيما كتبه في مقدمة الاسفار فإنّه (قدّس اللّه سرّه) لما كان يعتقد بأنّ تحصيل المعارف ليس رهن مدارستها فحسب بل إنّ تهذيب النفس سبيل آخر لتهيئة الإِنسان لِافاضة المعارف الإِلهية علي قلبه فلذلك طوي المرحلتين، فلمّا اكتملت لديه أدوات المعرفة انصرف إلي التأليف و التصنيف و ما وقف عليه عن

طريق المدارسة و ما أُفيض عليه من المعارف في قالب التأليف و التصنيف.

و يشير إلي المرحلة الأُولي بقوله: ثمّ إنّي قد صرفت قوّتي في سالف الزمان منذ أوّل الحداثة و الريعان، في الفلسفة الإِلهية، بمقدار ما أُوتيت من المقدور، و بلغ إليه قسطي من السعي الموفور، و اقتفيت آثار الحكماء السابقين و الفضلاء اللاحقين مقتبساً من نتائج خواطرهم و أنظارهم، مستفيداً من أبكار ضمائرهم و أسرارهم، و حصّلت ما وجدته في كتب اليونانيين و الرؤساء المعلّمين تحصيلًا يختار اللباب من كل باب، و يجتاز عن التطويل و الإِطناب، مجتنباً في ذلك طول الأَمل مع قصر العمل، معرضاً عن إسهاب الجدل مع اقتراب الساعة و الأَجل، طلباً للجاه الوهميّ، و تشوّقاً إلي الترأس الخيالي، من غير أن يظفر من الحكمة بطائل أو يرجع البحث إلي حاصل «1».

ثمّ إنّه وقف في برهة من عمره علي خطئه في هذه المرحلة مع أنّ هذه العلوم من دون أن تتزامن مع تهذيب النفس لا تسمن و لا تغني من جوع.

______________________________

(1) الاسفار: 1- 4.

تذكرة الأعيان، ص: 297

يقول في حقّ نفسه: و إنّي لَاستغفر اللّه كثيراً ممّا ضيّعت شطراً من عمري في تتبّع آراء المتفلسفة و المجادلين من أهل الكلام و تدقيقاتهم و تعلّم جربزتهم في القول و تفنّنهم في البحث، حتي تبيّن لي آخر الأَمر بنور الايمان و تأييد اللّه المنّان أنّ قياسهم عقيم و صراطهم غير مستقيم «1».

يقول في معرض كلامه عن المرحلة الثانية بعد الشكوي من طائفة كانت تضمر له العداء يقول: فالجاني خمود الفطنة و جمود الطبيعة، لمعاداة الزمان و عدم مساعدة الدوران، إلي أن انزويت في بعض نواحي الديار و استترت بالخمول و الانكسار منقطع الآمال، متوفّراً

علي فرضٍ أُوَدّية، و تفريطٍ في جنب اللّه أسعي في تلافيه، لا علي درس أُلقيه، أو تأليف أتصرّف فيه إذ التصرّف في العلوم و الصناعات و إفادة المباحث و دفع المعضلات، و تبيين المقاصد و رفع المشكلات ممّا يحتاج إلي تصفية الفكر، و تهذيب الخيال عمّا يوجب الملال و الاختلال، و استقامة الأَوضاع و الأَحوال مع فراغ البال، و من أين يحصل للإِنسان مع هذه المكاره التي يسمع و يري من أهل الزمان و يشاهد ممّا يكبّ عليه الناس في هذا الأَوان «2».

و في معرض كلامه عن المرحلة الثالثة يقول: فلمّا بقيت علي هذا الحال من الاستتار و الانزواء و الخمول و الاعتزال، زماناً مديداً و أمداً بعيداً، اشتعلت نفسي لطول المجاهدات اشتعالًا نورياً، و التهب قلبي بكثرة الرياضات التهاباً قوياً ففاضت عليها أنوار الملكوت، و حلّت بها خبايا الجبروت، و لحقتها الإضواء الاحدية، و تداركتها الأَلطاف الإِلهية فاطّلعت علي أسرار لم أكن أطّلع عليها إلي الآن، و انكشفت لي رموز لم تكن منكشفة هذا الانكشاف من البرهان إلي أن قال: فبلغ الكتاب أجله و أراد اللّه تقديمه و قد كان أجَّله فأظهره في الوقت الذي

______________________________

(1) الاسفار، المقدمة: 1- 11.

(2) الاسفار، المقدمة: 1- 6.

تذكرة الأعيان، ص: 298

قدّره و أبرزه علي من له يسّره، فرأيت إخراجه من القوة إلي الفعل و التكميل، و إبرازه من الخفاء إلي الوجود و التحصيل، فأعملت فيه فكري، و جمعت علي ضمّ شوارده أمري، و سألت اللّه تعالي أن يشدّ أزري و يحط بكرمه وزري، و يشرح لإِتمامه صدري، فنهضتْ عزيمتي بعد ما كانت قاعدة، و هبّت همّتي غبَّ ما كانت راكدة، و اهتزّ الخامد من نشاطي، و تموّج الجامد من

انبساطي، و قلتُ لنفسي: هذا أوان الاهتمام و الشروع و ذكر أُصول يستنبط منها الفروع، و تحلية الاسماع بجواهر المعاني الفائقة، و إبراز الحقّ في صورته المعجبة الرائقة، فصنّفت كتاباً إلهياً للسالكين المشتغلين بتحصيل الكمال، و أبرزت حكمة ربّانية للطالبين لَاسرار حضرة ذي الجمال و الجلال «1».

تهجّده و عبادته

يري صدر المتألهين أنّ الإِشراق و الإِلهام يعدّان من أدوات المعرفة و هما رهن تخلية النفس من كدر الذنوب و مساويَ الاعمال و الأَخلاق، و تحليتها بفضائل الاعمال و الرياضات النفسية، فلا تعجب ممّا ذكر أصحاب التراجم أنّه حجّ سبع مرات مشياً علي الاقدام.

إخلاصه لأَئمّة أهل البيت- عليهم السلام

يعدّ الحكيم المؤَسّس أحد الموالين المخلصين لأَئمّة أهل البيت عليهم السَّلام، و يظهر إخلاصه في كلماته في كتاب الاسفار و غيرها من كتبه بوضوح، و لنذكر مقاطع من كلامه في المقام: يقول: إنّي أعلم يقيناً أنّه لا يمكن لأَحد أن يعبد اللّه كما هو أهله و مستحقّه،

______________________________

(1) الاسفار، المقدمة: 1 9- 8.

تذكرة الأعيان، ص: 299

إلّا بتوسّط من له الاسم الأَعظم و هو الإِنسان الكامل خليفة اللّه في الخلافة الكبري.

و يقول في مقدمة الاسفار: فألقينا زمام أمرنا إلي اللّه و إلي رسوله النذير المنذر، فكلُّ ما بلغنا منه آمنّا به و صدّقناه، اقتدينا بهداه و انتهينا بنهيه، امتثالًا لقوله تعالي: (وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1» (حتي فتح اللّه علي قلبنا ما فتح، فأفلح ببركة متابعته و أنجح «2».

و يقول أيضاً: إنّي أستعيذ ربّي الجليل في جميع أقوالي و معتقداتي و مصنّفاتي، في كلّما يقدح في صحّة متابعة الشريعة التي أتانا بها سيّد المرسلين عليه و آله أجزل صلوات المصلّين، أو يشعر بوهن في العزيمة في الدين أو ضعف في التمسّك بحبل المتين «3».

و من قرأ شرحه علي كتاب الحجّة من أُصول الكافي يجده رحمه اللّه مفعماً بإخلاصه لأَئمّة أهل البيت و إيمانه بعصمتهم و طهارتهم و علومهم و مقاماتهم الرفيعة، و ها نحن نذكر لك شيئاً يسيراً ممّا ذكره في مستهلّ كتاب الحجة حيث يقول: الحمد للّه

الذي اجتبي من صفوة عباده إصابة أهل الحقّ و اليقين، المقتبسين أنوار الحكمة و الدين من مشكاة النبوّة و الولاية، و خصّهم من بين سائر الفرق بمزايا اللّطف و المنّة، و أفاض عليهم من نور هدايته ما كشف لهم به حقائق الملّة و الشريعة و أسرار الكتاب و السنّة، و اتّبعوا به سبيل حجج اللّه الناطقة، و براهينه الساطعة من الذوات المقدّسة و النفوس المطهّرة الذين طهّرهم اللّه به عن نزعات الشياطين تطهيراً، و نوّر بواطنهم بأنوار الولاية و القرب تنويراً لهم

______________________________

(1) الحشر: 7.

(2) الاسفار: 1- 12.

(3) رسالة العرشية: 69، طبعة أصفهان.

تذكرة الأعيان، ص: 300

باقتفاء هذه الحجج و البراهين و أهل بيت النبوّة التي أتي بها سيّد الأَوّلين و الآخرين و خاتم الأَنبياء و المرسلين محمّد المصطفي- صلي الله عليه و آله و سلم اهتدوا إلي أسرار العلم و اليقين، و أدركوا ببصائرهم أنوار الكتاب المستبين و أخبار الأَولياء المعصومين، و أطلقوا بضمائرهم علي طرق التلفيق بين مقتضي الشرائع و موجبات العقول، و تحقّقوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول و الحقّ المعقول «1».

تمتّع صدر المتألّهين بحرّية التفكير و رفض التقليد في كلّ ما يكتب و يحرّر، فهو مع التزامه بالكتاب و السنّة و أن لا يخرج عنهما قيد شعرة لم يصدّه ذلك عن الحرية في التفكير و كسر قيود الجمود، و هو يصرّح بذلك تارة و يلوّح أُخري.

يقول: و أنشدك باللّه و ملكوته و أهل رسالاته أن تترك عادة النفوس السفلية من الالف بما هو المشهور بين الجمهور، و التوحّش عمّا لم تسمعه من المشايخ و الآباء و إن كان مبرهناً عليه بالحجّة البيضاء، فلا تكن ممّن ذمّهم اللّه علي التقليد المحض في مواضع

كثيرة من القرآن: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يُجٰادِلُ فِي اللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لٰا هُديً وَ لٰا كِتٰابٍ مُنِيرٍ)* «2».

فإيّاك أن تجعل الشريعة الإِلهية و حقائق الملّة الحقيقة مقصورة علي ما سمعته من معلّميك و أشياخك منذ أوّل إسلامك، فتجمد دائماً علي عتبة بابك و مقامك غير مهاجر إلي ربِّك «3».

و قال أيضاً في معرض كلامه عن ذمّ التقليد: و ليعلم أنّ معرفة اللّه تعالي و علم المعاد و علم طريق الآخرة، ليس المراد بها الاعتقاد الذي تلقّاه العامي أو الفقيه وراثة و تلقّفاً، فإنّ المشعوف بالتقليد و المجمود علي الصورة، لم ينفتح له

______________________________

(1) شرح أُصول الكافي: 438، كتاب الحجّة، الطبعة الحجرية.

(2) الحج: 8.

(3) العرشية: 200.

تذكرة الأعيان، ص: 301

طريق الحقائق كما ينفتح للكرام الالهيين، و لا يتمثل له ما ينكشف للعارفين المستصغرين لعالم الصورة و اللّذات المحسوسة، من معرفة خلّاق الخلائق و حقيقة الحقائق، و لا ما هو طريق تحرير الكلام و المجادلة في تحسين المرام، كما هو عادة المتكلّم، و ليس أيضاً هو مجرّد البحث البحت كما هو دأب أهل النظر، و غاية أصحاب المباحثة و الفكر فإنّ جميعها (ظُلُمٰاتٌ بَعْضُهٰا فَوْقَ بَعْضٍ إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّٰهُ لَهُ نُوراً فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ) «1» بل ذلك نوع يقين هو ثمرة نور يُقذف في قلب المؤمن بسبب اتّصاله بعالم القدس و الطهارة، و خلوصه بالمجاهدة عن الجهل و الأَخلاق الذميمة «2».

مؤَلّفاته

إنّ من سبر كتب صدر المتألهين لا سيما الاسفار الأَربعة، يقف علي أنّه تمتّع بموهبة كبيرة في مجال البيان و تبيين المعضلات و حلّ المشكلات بنحو لم يسبق إليه أحد من الحكماء، و أنت إذا قارنت كتب

صدر المتألهين مع كتب الشيخ الرئيس لوجدت الفرق الواضح بينها في التقرير و العرض، و لا غرو في ذلك فإنّ صدر المتألهين تلميذ السيد الداماد الملقّب بأمير البيان، و لكن التلميذ حسب زعمي بلغ مدارج الرقي و الكمال و برع أكثر من أُستاذه، و لذلك نري أنّ شيخنا المظفّر يقول في حقّه: بالغ في تصوير آرائه باختلاف العبارات و التكرار، حسبما أوتي من مقدرة بيانية، و حسبما يسعه موضوعه من أدائه بالأَلفاظ، و هو كاتب موهوب لعلّه لم نعهد له نظيراً في عصره و في غير عصره، و إذا كان أُستاذه الجليل السيد الداماد أمير البيان، فإنّ تلميذه ناف عليه و كان أكثر منه براعة و تمكّناً من البيان السهل «3».

______________________________

(1) النور: 40.

(2) الاسفار: المقدمة: 1- 11.

(3) الاسفار: قسم التقديم: 1- 16.

تذكرة الأعيان، ص: 302

و قد ترك صدر المتألهين تراثاً علمياً في حقل الفلسفة و العرفان و التفسير و شرح الحديث ما يُنيفُ علي 33 كتاباً و قد ذكر تفاصيلها و خصوصياتها سلسلة من الاعلام لا سيما الشيخ أبو عبد اللّه الزنجاني في أُطروحته المسمّاة «الفيلسوف الفارسي الكبير صدر المتألّهين» و العلّامة الشيخ المظفر (رضوان اللّه عليه) في تقديمه علي الاسفار و العلّامة الشيخ عبد اللّه نعمة في فلاسفة الشيعة، غير أنّا نشير إلي ما هو المهم: 1- الاسفار الأَربعة، و ربما يطلق عليها: الحكمة المتعالية في الأَسفار العقلية، و هذا الكتاب هو المرجع لباقي مؤَلفاته لا سيما: كتابيه المبدأ و المعاد، و المشاعر، و قد طبع في إيران علي الحجر في أربعة مجلّدات كبار سنة 1282 ه يقع مجموعها في 926 صفحة بالقطع الكبير و علي الأَجزاء الثلاثة تعاليق المحقّق السبزواري، و الأَسفار جمع

سفر بفتح السين و الفاء و يراد منه السياحة الفعلية الأَربعة التي نوّه إليها في مقدّمة الكتاب و هي: الأَوّل: السفر من الخلق إلي الخلق.

الثاني: السفر بالحقّ في الحقّ.

الثالث: السفر من الحقّ إلي الخلق بالحقّ.

الرابع: السفر بالحقّ في الخلق.

و قد أُعيد طبعه بصف جديد في تسعة أجزاء عام 1384 ه مزيّناً بتعليقات المحقّق السبزواري و أُستاذنا الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي (1321 1402 ه) و عليها تقديم بقلم الشيخ العلّامة محمد رضا المظفر.

2- المبدأ و المعاد، طبع عام 1314 ه و هو في الفنّين: الربوبيات و المعاد، جمع فيه بين مسلكي أهل البحث و العرفان.

تذكرة الأعيان، ص: 303

3- الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية، لخّص فيه آراءه في المسائل الحكمية، طبع عام 1286 ه.

4- المشاعر، طبع عام 1315 ه و فيه حصيلة ما أسّسه من الأصول في الفلسفة.

5- الحكمة العرشية علي الطريقة العرفانية طبع مع المشاعر.

6- أسرار الآيات و أنوار البيّنات في معرفة أسرار آيات اللّه تعالي و صنائعه و حكمه علي الطريقة العرفانية مع تطبيق الآيات القرآنية علي أكثر بحوثه مرتبة علي مقدمة و ثلاثة أطراف كلّ طرف ذو مشاهد، الطرف الأَوّل في علم الربوبية، و الثاني في أفعاله تعالي، و الثالث في المعاد، طبعت في إيران مكرراً.

7- شرح الهداية الأَثيرية، نهج فيه منهج أهل الحديث تبعاً للمتن، طبع عام 1313 ه.

8- شرح إلهيات الشفاء، نهج فيه منهج المتن، طبع بالقطع الكبير عام 1303 ه مع إلهيات الشفاء في مجلّد واحد.

9- رسالة الحدوث، رسالة مبسوطة في مسألة حدوث العالم طبع عام 1302 ه.

10- كتاب مفاتيح الغيب، طبع مع شرح أُصول الكافي.

الأَثر الخالد: شرحه علي أُصول الكافي

هذه هي الكتب المهمّة في مجال الفلسفة، و له رسائل أُخري و لكن الذي

صار سبباً لتحرير هذا التقديم هو كتابه الذي نلوّح به ألا و هو «شرح أُصول

تذكرة الأعيان، ص: 304

الكافي» و شرحه هذا طبع مرّتين، مرّة علي القطع الرحلي بالطبع الحجري في جزءين يقع الجميع في 492 صفحة، و فرغ المؤَلف من الجزء الأَوّل عام 1044 ه و انتهي فيه إلي باب الأَخذ بالسنّة.

كما أنّه انتهي في الجزء الثاني إلي باب أنّ الأَئمّة ولاة أمر اللّه و خزنة علمه من كتاب الحجة.

و في الحقيقة لو طابقنا شرحه علي الطبعة الحديثة من الكافي ينتهي الشرح إلي صفحة 210 من طبعة الغفاري (حفظه اللّه).

و قد طبع مع هذا الشرح كتابه الآخر «مفاتيح الغيب» كما تقدّم.

و أُخري ما قامت بطبعه مؤَسسة «مطالعات و تحقيقات إسلامي» فطبعته طبعة حديثة في أجزاء و نقل في ذيل كلّ جزء ما علّقه الحكيم النوري علي الشرح، و قد حقّقه محمد الخواجوي عام 1370 ه ش.

إلمامه بالرجال

إنّ التوغّل في العلوم العقلية و مدارسة مسائلها طيلة الزمان يعوق الإِنسان عن الإِلمام بالعلوم النقلية إلّا من وفّقه اللّه تعالي للجمع بينهما، فحكيمنا المؤَسّس من هذه النخبة التي جمعت بين العلوم النقلية و العقلية، فهو في الوقت الذي يؤَلّف موسوعة كبيرة في الفلسفة، يقوم بشرح أُصول الكافي و لم يكتف بشرح المفاهيم، بل تعداه إلي دراسة أسانيد الحديث الرجالية بالتعديل و الجرح و هذه موهبة كبيرة تمتّع بها المؤَلف و قلّما يتّفق أن يدرس حديثاً، إلّا و يدرس عنه سنده إتقاناً و ضعفاً.

تذكرة الأعيان، ص: 305

مشايخه

إنّ كتب التراجم أهملت الكثير من تفاصيل حياته و سيرته و لم تذكر من أساتذته في مراحل صباه و شبابه إلّا شيئاً يسيراً، و اتّفق الجميع علي أنّه تخرج في العلوم النقلية علي يد الشيخ بهاء الدين العاملي (953 1003 ه) و العلوم العقلية علي السيد المحقّق الداماد (المتوفّي 1040 ه).

و قد أجازه شيخنا البهائي كما ذكره صدر المتألهين في شرح أُصول الكافي حيث قال: حدّثني شيخي و أُستاذي و من عليه في العلوم النقلية استنادي، عالم عصره و شيخ دهره بهاء الحق و الدين محمد العاملي الحارثي الهمداني (نوّر اللّه قلبه بالانوار القدسية) عن والده الماجد المكرّم و شيخه الممجّد المعظّم الشيخ الفاضل الكامل حسين بن عبد الصمد (أفاض اللّه علي روحه الرحمة و الرضوان و أسكنه دار الجنان) عن شيخه الجليل و أُستاذه النبيل عماد الإِسلام و فخر المسلمين الشيخ زين الملّة و الدين العاملي (طاب ثراه و جعل الجنّة مثواه) عن الشيخ المعظّم المفخّم و المطاع، المؤَيّد المكرّم، عالي النسب سامي اللقب، المجدّد للمذهب علي بن عبد العال الكركي (قدّس اللّه سرّه) عن الشيخ الورع

الجليل علي بن هلال الجزائري، عن الشيخ الفاضل القائد أحمد بن فهد الحلّي، عن الشيخ علي بن الخازن الحائري، عن الشيخ الفاضل و النحرير الكامل السعيد الشهيد محمد بن مكي (أعلي اللّه رتبته) «1».

كما إنّه يذكر أُستاذه في العلوم العقلية بالنحو التالي و يقول: أخبرني سيدي و سندي و أُستاذي و استنادي في المعالم الدينية، و العلوم الإِلهية، و المعارف الحقيقية، و الأُصول اليقينية السيّد الأَجل الأَنور، العالم المقدّس الأَطهر، الحكيم

______________________________

(1) شرح أُصول الكافي، الطبعة الحجرية، ص 16.

تذكرة الأعيان، ص: 306

الإِلهي و الفقيه الربّاني، سيّد عصره و صفوة دهره، الأَمير الكبير و البدر المنير، علّامة الزمان، أعجوبة الدوران المسمّي بمحمد الملقّب بباقر الداماد الحسيني قدّس اللّه عقله بالنور الربّاني، عن أُستاذه و خاله المكرّم المعظّم الشيخ عبد العال رحمه اللّه، عن والده السامي المطاع، المشهور اسمه في الآفاق و الأَصقاع الشيخ علي بن عبد العال، مسنداً بالسند المذكور و غيره إلي الشيخ الشهيد محمد بن مكي قدَّس سرَّه، عن جماعة من مشايخه منهم الشيخ عميد الدين عبد المطلب الحسيني، و الشيخ الأَجل الأَفضل فخر المحقّقين أبو طالب محمد الحلّي، و المولي العلّامة قطب الدين الرازي، عن الشيخ الأَجل العلّامة آية اللّه في أرضه جمال الملّة و الدين أبي منصور الحسن بن مطهر الحلّي قدّس اللّه روحه، عن شيخه المحقّق رئيس الفقهاء و الأُصوليين نجم الملّة و الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن سعيد الحلّي، عن السيد الجليل النسّابة فخار بن معد الموسوي، عن شاذان بن جبرئيل القمّي، عن أبي القاسم الطبري، عن الشيخ الفقيه أبي علي الحسن، عن والده الأَجل الأَكمل شيخ الطائفة محمد بن حسن الطوسي نوّر اللّه مرقده، عن الشيخ الأَعظم الأَكمل

المفيد محمد بن محمد بن النعمان الحارثي سقي اللّه ثراه، عن الشيخ الأَجل ثقة الإِسلام و قدوة الأَنام محمد بن علي بن بابويه القمي أعلي اللّه مقامه، عن أبي القاسم جعفر بن قولويه، عن الشيخ الجليل ثقة الإِسلام سند المحدثين أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني «1».

و من أساتذته الآخرين الحكيم الإِلهي السيد أبو القاسم المعروف بالمير فندرسكي (970 1050) ابن ميرزا بيك بن الأَمير صدر الدين الموسوي الحسيني المعاصر للعلمين بهاء الدين العاملي، و المحقّق المير داماد.

______________________________

(1) شرح أُصول الكافي، الطبعة الحجرية، ص 16.

تذكرة الأعيان، ص: 307

تلامذته

و قد خرج علي يديه نخبة من الأَكابر أشهرهم اثنان: الأَوّل: صهره المحقّق الكبير و العالم النحرير محمد بن المرتضي المدعو بالمحسن الفيض الكاشاني (1007 1091 ه) له آثار علمية كثيرة أشهرها: 1- الصافي في تفسير القرآن الكريم، 2- الوافي، جمع فيه أحاديث الكتب الأَربعة، 3- المحجّة البيضاء في إحياء الإحياء إلي غير ذلك من الآثار.

الثاني: الحكيم الإِلهي الكبير المولي عبد الرزاق اللاهيجي (المتوفّي 1070 ه) مؤَلّف «الشوارق» ألّفه شرحاً علي تجريد الاعتقاد للمحقّق الطوسي.

و قد ذكر من تلامذته القاضي سعيد القمي صاحب شرح «توحيد الصدوق» الذي هو من أنفس الكتب الحكمية و العرفانية و لكنّه من تلاميذ تلامذته، حيث تتلمذ علي الفيض الكاشاني و الشيخ المولي عبد الرزاق اللاهيجي، توفّي بقم عام 1103 ه «1».

وفاته

و المعروف أنّه توفّي بالبصرة عند سفره إلي الحجّ و لم يعلم أنّه توفّي عند ذهابه أو إيابه.

يقول السيد حسين البروجردي في نخبة المقال:

ثمّ ابن إبراهيم صدر الأَجل في سفر الحجّ مريضاً ارتحل

قدوة أهل العلم و الصفاء يروي عن الداماد و البهائي

______________________________

(1) ريحانة الأَدب: 4- 413.

تذكرة الأعيان، ص: 308

فكلمة «مريضاً» علي الحساب الأَبجدي ينطبق علي عام وفاته الذي هو عبارة عن: 1050 ه.

و وفاته في البصرة و إن كانت مشهورة لكن صهره الشيخ عبد الرزاق اللاهيجي مؤَلّف الشوارق من أهل بيته و هو أدري بما في البيت، حيث رثاه في قصيدة فارسية غرّاء ذكر فيها أنّه توفّي في النجف و قال في مطلعها:

زين هفت خوان كه پايه أو بر سر فناست در شش جهت به هر چه نظر ميكني خطاست

بيچاره آن دلي كه ميكند تكيه بر سپهر سر گشته آن سري كه به بالين آسياست

إلي أن يقول:

در راه كعبه

مرده و آسوده در نجف اي من فداي خاك تو اين مرتبت كراست

از راه كعبهت نجف آورد سوي خويش اين جذبه كار قوّت بازوي مرتضي است

اين هم اشاره اي است مبرّأ ز شك و ريب آن را كه دل به كعبه تحقيق آشناست

يعني ميانه نجف و كعبه فرق نيست آسوده باش ما ز خدا و خدا ز ماست «1»

______________________________

(1) ديوان الحكيم فياض اللاهيجي، ص 118 122 بتحقيق الدكتورة أميرة كريمي.

تذكرة الأعيان، ص: 309

الخطوط العريضة لفلسفته

اشارة

أنّ الأصول التي صاغ عليها فلسفته و التي أوجدت تحوّلًا جذرياً في عالم الفلسفة الإِسلامية تمخّضت عنها نتائج باهرة في حقل العقائد هي عبارة عن:

الأَصل الأَوّل: أصالة الوجود

لقد اختلف المشاء و الإِشراق فيما هو الأَصيل و المجعول، فذهب المشاء إلي أنّ المجعول هو الوجود، و ذهب الإِشراق إلي أنّ المجعول هو الماهية، و بذلك ظهر هنا مذهبان فيما هو الأَصيل في الجعل بعد اتفاقهم علي أنّ واجب الوجود وجود بحت لا ماهية له، و كان النزاع علي قدم و ساق بين الطائفتين حتي ظهر صدر المتألهين علي ساحة الفلسفة فطرح المسألة و أقام عليها براهين دامغة أزاحت الشكوك عن وجهها، فعاد القولان قولًا واحداً.

و ممّا يدل علي أنّ المشاء و في طليعتهم شيخ المشائين أعني ابن سينا كانوا من دعاة القول بأصالة الوجود، ما ذكره الشيخ عند البحث عن نفي الماهية عن الواجب تبارك و تعالي حيث قال: و الذي يجب وجوده لغيره دائماً فهو أيضاً غير بسيط الحقيقة، لأَنّ الذي له باعتبار ذاته، غير الذي له من غيره، و هو حاصل الهوية منهما جميعاً في الوجود، فلذلك لا شي ء غير واجب الوجود بعريّ عن ملابسته ما بالقوة و الإِمكان باعتبار نفسه، و هو الفرد، و غيره زوج تركيبي «1».

و هذه العبارة صريحة في أنّ ما يفاض من الواجب هو الوجود و أنّ ملاك

______________________________

(1) الشفاء، بحث نفي الماهية عن الواجب، ص 305 و الطبعة الجديدة ص 60 تحقيق الأُستاذ «حسن زاده» و لاحظ الاسفار: 1- 14.

تذكرة الأعيان، ص: 310

المعلومية و الحاجة إلي العلّة هو الماهية التي تتساوي إليها نسبة الوجود و العدم.

و ليس الشيخ وحيداً في هذه العقيدة بل المحقّق الطوسي أيضاً يدعم تلك النظرية لما قال:

«إذا صدر عن المبدأ الأَوّل شي ء كان لذلك الشي ء هوية مغايرة للَاوّل بالضرورة و مفهوم كونه صادراً عن الأَوّل غير مفهوم كونه ذا هويةٍ ما، فإذن هاهنا أمران معقولان: أحدهما الأَمر الصادر عن الأَوّل و هو المسمي بالوجود، الثاني هو الهوية اللازمة لذلك الوجود و هو المسمّي بالماهية «1».

كما أنّ تلميذ الشيخ أعني بهمنيار في كتابه «التحصيل» حسب ما ينقله صدر المتألهين عنه حيث يقول: الوجود حقيقته أنّه في الأَعيان و كيف لا يكون في الأَعيان ما هذه حقيقته «2».

و لم نجد حكيماً يذبّ عن أصالة الماهية سوي أُستاذ صدر المتألهين، المحقّق الداماد حيث قوّي نظرية شيخ الإِشراق في أصالة الماهية.

نعم كان صدر المتألهين متأثّراً بأفكار أُستاذه لكنّه رجع عنه كما قال: «إنّي كنت شديد الذبّ عنهم في اعتبارية الوجود و تأصّل الماهيات، حتي هداني اللّه و انكشف لي انكشافاً أنّ الأَمر علي خلاف ذلك، و هو أنّ الوجودات هي الحقائق المتأصّلة الواقعة في العين، و أنّ الماهيات المعبّر عنها في عرف طائفة من أهل الكشف و اليقين بالأَعيان الثابتة ما شمَّت رائحة الوجود «3».

و يترتّب علي هذا الأَصل أُمور:

______________________________

(1) شرح الإِشارات: 3- 245.

(2) الاسفار: 1- 39.

(3) الاسفار: 1- 49.

تذكرة الأعيان، ص: 311

1- توحيد الصفات اتّفق أهل الحقّ علي أنّ صفات الواجب متباينة مفهوماً، متّحدة حقيقة مع الذات، كما أنّ كلّ واحدة منها متّفقة مع الأُخري كذلك، و قالوا: القادر و العالم و الحيّ و المريد متغايرات مفهوماً متّحدات وجوداً و مصداقاً.

و هذا يترتّب علي القول بأصالة الوجود، و ذلك لَانّ الوجود مدار الوحدة و الماهيات مثار الكثرة، إذ يمتنع أن يكون مفهوم العالم أو القادر عين الذات أو متّحداً مع مفهوم القادر.

2- توحيد الافعال

قد أثبت البرهان علي أنّه لا يصدر من الواحد إلّا الواحد، فاللّه سبحانه هو الواحد لا يصدر منه إلّا واحد، هذا من جانب.

و من جانب آخر أنّ الموجودات الإِمكانية متكثّرات و متخالفات فكيف يمكن صدور المختلف من الواحد من جميع الجهات، و لا تحلّ العقدة إلّا بالقول بأصالة الوجود، فالصادر هو الوجود المنبسط القائم بالذات قيام المعني الحرفي بالاسمي، و إنّما جاء الاختلاف من جانب القوابل و الماهيات.

3- صحّة الحمل في القضايا إنّ صحّة المحمول علي الموضوع و ادّعاء الهوهوية لا يتمّ إلّا بأصالة الوجود و يمتنع علي القول بالماهية، و قد بيّنه صدر المتألهين في المشاعر و قال: لو كانت موجودية الأَشياء بنفس ماهيّاتها لا بأمر آخر، لامتنع حمل بعضها علي بعض و الحكم بشي ء منها علي شي ء، كقولنا: زيد حيوان و الإِنسان ماشٍ، فإنّ الحمل

تذكرة الأعيان، ص: 312

يقتضي الاتّحاد في الخارج و المغايرة في الذهن.

فلو لم يكن الوجود شيئاً غير الماهية، لم تكن جهة الاتّحاد مخالفة لجهة المغايرة.

و اللازم باطل «1».

الأَصل الثاني: اشتراك الوجود

هذا الأَصل يبتني علي أمرين:

الأَوّل: وحدة مفهوم الوجود و أنّه موضوع بالاشتراك المعنوي علي حدّ سواء في الواجب و الممكن، و هو صادق عليها بوضع واحد و هذا ما يعبّر عنه بوحدة الوجود مفهوماً و أنّه مشترك معنويّ موضوع لمعني جامع بين جميع المصاديق، و قد استدلّ عليه صدر المتألهين بقوله: البديهة حاكمة بأنّ المعني الواحد لا يمكن أن تكون حيثية الاتّصاف و مناط الحكم به ذوات متخالفة من حيث تخالفها من غير جهة جامعة فيها «2».

الثاني: وحدة الوجود حقيقة، و هو أنّ الوجود في عامة مراتبه حقيقة واحدة تختلف بالشدّة و الضعف علي وجه تكون الشدة عين الوجود و الضعف حدّا

له، و علي ذلك فحقيقة الوجود عبارة عن طرد العدم و هو متحقّق في عامة المراتب من العلّة و المعلول، و الواجب و الممكن.

أمّا الأَمر الأَوّل فالمخالف فيها قليل و إنّما الاختلاف في الأَمر الثاني، فالمشاءون علي أنّ الوجود حقائق متباينة ليس بين المراتب أيّة جهة اشتراك، و أنّ

______________________________

(1) المشاعر، ص 12.

(2) الاسفار: 1 70- 6، 69- 62.

تذكرة الأعيان، ص: 313

الواجب و الممكن و الوجود و العرض كالاجناس العالية حقائق متباينة يمتاز كلّ عن الآخر بتمام الذات لا بالفصول.

و الذي دعاهم إلي تلك النظرية هو أنّ الواجب علّة للممكن، و الجوهر علّة للعرض، علي وجه لو كان الوجود حقيقة واحدة فلا وجه لَان يكون بعض الوجود علّة للبعض الآخر.

و أمّا الاشراقيون فقد ذهبوا إلي أنّ الوجود حقيقة واحدة في عامة المراتب و أنّ كلّ مرتبة تتمايز عن الأُخري بالكمال و النقص، و ليس الكمال إلّا نفس الوجود كما أنّ النقص حدّ الوجود، و ليس داخلًا فيه و بذلك صحّحوا ملاك العلّية و أنّ القوي علّة للضعيف، لكن لا بمعني أنّ الشدّة مقوّمة لحقيقة الوجود حتّي لا يكون الضعيف لأَجل ضعفه من مصاديق الوجود، و لا الضعف مقوّماً له حتي يخرج الشديد عن تحت الوجود بل الشدّة مقوّمة للمرتبة لا للحقيقة.

و قد استدلّوا علي وحدة الحقيقة بما سبق في الأَمر الأَوّل من هذا الأَصل من وحدة مفهوم الوجود و اشتراكه المعنوي، إذ لو كان الوجود حقائق متباينة لا جهة اشتراك بينها لامتنع انتزاع مفهوم واحد من حقائق متباينة، و إليه يشير الحكيم السبزواري بقوله:

لَانّ معني واحداً لا ينتزع ممّا لها توحد ما لم يقع

و هذان الأَصلان لهما الدور الكبير في تحوّل الفلسفة، و يترتّب علي الأَصل

الثاني الأَمر التالي:

توحيد الذات و نفي تعدّد الواجب إنّ توحيد ذاته سبحانه و نفي تعدّد الواجب من المسائل المهمّة في الحكمة الإِلهية، و قد استدلّوا عليه بقولهم: لو كان الواجب متعدّداً يلزم أن يكون بينهما

تذكرة الأعيان، ص: 314

وجه اشتراك و وجه امتياز، و عندئذٍ فما به الاشتراك في كلّ واحد غير ما به الامتياز فيلزم التركيب و هو آية الحاجة.

هذا هو أساس الاستدلال و قد اعتمد عليه الحكماء الالهيون إلي القرن السابع حتّي ظهرت شبهة ابن كمونة «1» و حاصل شبهته: لماذا لا يجوز أن تكون هناك هويّتان بسيطتان متباينتا الذات ليس بينهما قدر اشتراك حتي يحتاج إلي ما به الامتياز، و يكون صدق الوجود عليهما عرضيا كصدق العرض علي الأَجناس التسعة العرضية؟ و حلّ الشبهة واضح علي القول بالوحدة المفهومية و الحقيقية للوجود، و هو أنّه لا شكّ أنّ مفهوماً واحداً باسم الوجود ينتزع من كلا الواجبين من حاق ذاتهما، فافتراض هويَّتين بسيطتين متباينتي الذات ليس بينهما أ يّوجه اشتراك، لا يجتمع مع وحدة المفهوم، لما سبق من أنّه يمتنع انتزاع مفهوم واحد من أمرين متباينين، و إلي الشبهة و الدفاع يشير الحكيم السبزواري و يقول:

هويّتان بتمام الذات قد خالفتا لابن الكمونة استند

و ارفع بأن طبيعة ما انتزعت ممّا تخالفت بما تخالفت

الأَصل الثالث: اتّحاد جوهر العاقل و المعقول

إنّ اتّحاد العاقل و المعقول من المسائل الغامضة، و قد حقّقها صدر المتألّهين و أقام براهينها، و أوضحها بما يلي: 1- انّ نسبة الصور المعقولة بالذات إلي النفس كنسبة الصور الجسمية

______________________________

(1) هو سعد بن منصور البغدادي الملقّب بعزّ الدولة المعروف بابن كمونة، توفي عام 683 ه أو 690 ه.

تذكرة الأعيان، ص: 315

بالنسبة إلي المادة، فكما أنّ الثانية محصّلة لها و مخرجة لها

من النقص إلي الكمال، فهكذا الصور المعقولة محصّلة للنفس الإِنسانية، فإنّ العقل الهيولاني مادة المعقولات، و هي صور لها، و يقول في هذا الصدد: و ليس وجود الصور الادراكية عقلية كانت أو حسية للجوهر المدرك كحصول الدار و الأَموال و الأَولاد لصاحب الدار و المال و الولد، فإنّ شيئاً من ذلك الحصول ليس في الحقيقة حصولًا لذات الشي ء لدي ذات أُخري بل إنّما ذلك حصول إضافة لها فقط، نعم حصول الصورة الجسمانية الطبيعية للمادة التي يستكمل بها و تصير ذاتاً متحصّلة أُخري يشبه هذا الحصول الادراكي، فكما ليست المادة شيئاً من الأَشياء المعيّنة بالفعل إلّا بالصور، و ليس لحوق الصور بها، لحوقَ موجود بموجود بالانتقال من أحد الجانبين إلي الآخر بل بأن «1» يتحوّل المادة من مرتبة النقص في نفسها إلي مرتبة الكمال، فكذلك حال النفس في صيرورتها عقلًا بالفعل بعد كونها عقلًا بالقوّة، و ليس لحوق الصورة العقلية بها عند ما كانت قوّة خيالية بالفعل عقلًا] و [بالقوة، كلحوق موجود مباين لموجود مباين كوجود الفرس لنا، أو كلحوق عرض لمعروض جوهري مستغني القوام في وجوده عن ذلك العرض، إذ ليس الحاصل في تلك الحصولات إلّا وجود إضافات لا يستكمل بها شي ء و حصول الصورة الادراكية للجوهر الدرّاك أقوي في التحصيل و التكميل له من الصور الطبيعية في تحصيل المادّة و تنويعها «2».

نعم قد أقام صدر المتألهين برهاناً آخر يُدعي برهان «التضايف» قائلًا بأنّ العاقل و المعقول متضايفان و المتضايفان متكافئان قوّة و فعلًا، و لكن البرهان عقيم لَانّ التضايف لا يثبت إلّا وجودهما في مرتبة واحدة و أمّا كون أحدهما نفس الآخر

______________________________

(1) كذا في المصدر و الظاهر زيادة «بأن».

(2) الاسفار: 3 321- 319 و

لاحظ الاسفار: 277، الطبعة الحجرية.

تذكرة الأعيان، ص: 316

كما هو المطلوب، فلا «1».

يقول الحكيم السبزواري: و أمّا مسلك التضايف الذي سلكه صدر المتألهين في المشاعر و غيره لإِثبات هذا المطلب، فغير تام لما ذكرنا في تعاليق الاسفار.

الأَصل الرابع: بسيط الحقيقة كلّ الأَشياء

و اعلم أنّ كونه سبحانه عالماً بالأَشياء بعد الإِيجاد، أمر لا سترة فيه فإنّ نفس الأَشياء فعله و في الوقت نفسه علمه، كالصور الذهنية للنفس فإنّها فعلها و في الوقت نفسه علمها الفعلي.

إنّما الكلام في إثبات علمه تعالي بالأَشياء قبل الإِيجاد فذهب المشاء إلي أنّ علمه سبحانه بها من قبيل الصور المرتسمة في ذاته الحاكية عن الأَشياء، و من الواضح أنّ القول بالصور المرتسمة مع أنّها لا تخلو من إشكالات لا تثبت علمه سبحانه بها في مقام الذات، بل أقصاه إثباته دون الذات، و لأَجل ذلك حاول حكيمنا المؤَسّس إثبات علمه سبحانه بها في مقام الذات بحيث تكون الذات كاشفة عمّا وراءها من الأَشياء، و إثبات مثل هذا العلم مشكل جدّاً و لذلك يصفه بقوله: و اعلم أنّ كون ذاته عقلًا بسيطاً هو كلّ الأَشياء، حقّ لطيف غامض، و لكن لغموضه لم يتيسّر لأَحد من فلاسفة الإِسلام و غيرهم حتي الشيخ الرئيس تحصيله و إتقانه علي ما هو عليه، إذ تحصيل مثله لا يمكن إلّا بقوّة المكاشفة مع قوّة البحث الشديد، و الباحث إذا لم يكن له ذوق تام و كشف صحيح، لم يمكنه الوصول إلي ملاحظة أحوال الحقائق الوجودية، و أكثر هؤلاء القوم، مدار بحثهم

______________________________

(1) لاحظ المشاعر، المشعر السابع في أنّه تعالي يعقل ذاته و يعقل الأَشياء كلّها من ذاته، ص 50، و لاحظ شرح المنظومة، قسم الفلسفة، ص 33.

تذكرة الأعيان، ص: 317

و تفتيشهم علي أحكام المفهومات الكلية

و هي موضوعات علومهم دون الانِّيات الوجودية، و لهذا إذا وصلت نوبة بحثهم إلي مثل هذا المقام ظهر منهم القصور و التلجلج و المجمج في الكلام، فيرد عليه الاعتراض فيما ذكروه من أنّه كيف يكون شي ء واحد بسيط غاية الوحدة، و البساطة صورة علمية لأَشياء مختلفة؟ «1» ثمّ إنّه أثبت القاعدة المشهورة و هي «أنّ بسيط الحقيقة كل الأَشياء و ليس بشي ء منها» بعد بيان مقدمات و أصل، و إليك بيان لبّها: إنّ كلّما تحقّق شي ء من الكمالات الوجودية في موجود من الموجودات فلا بدّ أن يوجد أصل ذلك الكمال في علّته علي وجه أعلي و أكمل، و هذا ممّا يفهم من كلام «معلّم المشائين» في كثير من مواضع كتابه في الربوبيات المسمّي «باثولوجيا» و يعضده البرهان و يوافقه الذوق السليم و الوجدان، فإنّ الجهات الوجودية للمعلول كلّها مستندة إلي علّته الموجدة، و هكذا إلي علّة العلل ففيه جميع الخيرات كلّها و لكن سلبت عنها القصورات و النقائص و الأَعدام اللازمة للمعلولية بحسب مراتب نزولها «2».

ثمّ قال: فإذا تمهّدت هذه الأصول فنقول: الواجب تعالي هو المبدأ الفيّاض لجميع الحقائق و الماهيات، فيجب أن يكون ذاته تعالي مع بساطته و أحديته كلّ الأَشياء، و نحن قد أقمنا البرهان في مباحث العقل و المعقول علي أنّ البسيط الحقيقي من الوجود يجب أن يكون كلّ الأَشياء.

و إن أردت الاطّلاع علي ذلك البرهان فارجع إلي هناك.

فإذن لمّا كان وجوده تعالي وجودَ كلّ الأَشياء فمن عقل ذلك الوجود عقل جميع الأَشياء،

______________________________

(1) الاسفار: 6- 239، الفصل التاسع في حلّ مذهب القائلين بأنّ علمه تعالي بما سواه علم واحد إجمالي.

(2) الاسفار: 6- 269.

تذكرة الأعيان، ص: 318

و ذلك الوجود هو بعينه عقل لذاته

و عاقل، فواجب الوجود عاقل لذاته بذاته، فعقله لذاته عقل لجميع ما سواه، و عقله لذاته مقدّم علي وجود جميع ما سواه.

فعقله لجميع ما سواه، سابق علي جميع ما سواه فثبت: أنّ علمه تعالي بجميع الأَشياء حاصل في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه سواء كانت صوراً عقلية قائمة بذاته، أو خارجة منفصلة عنها، فهذا هو العلم الكمالي التفصيلي بوجه و الإِجمالي بوجه، و ذلك لَانّ المعلومات علي كثرتها و تفصيلها بحسب المعني موجودة بوجود واحد بسيط، ففي هذا المشهد الإِلهي و المجلي الأَزلي ينكشف و ينجلي الكلّ من حيث لا كثرة فيها، فهو الكلّ في وحدة «1».

الأَصل الخامس: الحركة الجوهرية

اتّفقت كلمة الفلاسفة علي وقوع الحركة في الاعراض الأَربعة (الكيف الكمّ الوضع الأَين) و اختلفوا في إمكان وقوعها في غيرها من الاعراض.

و لتوضيح الحركة في هذه المقولات الأَربع نقول: إنّ حركة الماء من البرودة إلي السخونة حركة في الكيف، و حركة الرحي علي مدارها حركة في الوضع، و نمو الشجرة من حيث الحجم أي تعاظمها من حيث الطول و العرض حركة الكم و حركة السيارة من مكان إلي آخر حركة في الأَين.

ثمّ إنّهم لم يجوّزوا الحركة في الجوهر كما لم يجوّزوا الحركة في الاعراض غير الأَربعة.

لكن حكيمنا المؤَسّس كشف عن وجود الحركة في الجوهر و بيّن تعدّي التغيّر من سطوح الطبيعة إلي أعماقها، و من ظواهرها إلي بواطنها، و قد احتلّت هذه المسألة مكان الصدارة في الفلسفة الإِسلامية، و أقام علي مدعاه براهين دقيقة و أزاح عمّا في طريقها من الإِشكالات.

______________________________

(1) الاسفار: 6- 271.

تذكرة الأعيان، ص: 319

أمّا الثاني فنحيله إلي محلّه و إنّما المهم بيان براهين الحركة في الجوهر فنقول:

البرهان الأَوّل إنّ وجود الحركة في العرض

لا ينفكّ عن الحركة في الجوهر، أي أنّ حركة الجسم و تكامله التدريجي في الأَوصاف، خير دليل علي حركته و تكامله و تدرّجه من حيث الذات و الجوهر.

و بعبارة أُخري: إنّ الشي ء الذي يتحرّك في ناحية الكيف أو الكم، تلازمه حركة أعمق ممّا نشاهده في سطوح الجسم و ظواهره، و هي الحركة في الذات و الجوهر «1».

البرهان الثاني إنّ البرهان الثاني يهدف إلي أنّ الزمان داخل في جوهر الأَشياء و منتزع من حاقّها و ما هذا حاله لا يمكن أن يكون جامداً في طبيعته، بل سيّالًا في ذاته.

و بما أنّ لهذا البرهان قيمة علمية كبيرة حيث كشف حكيمنا المؤَسّس دخول الزمان في جوهر الأَشياء و أنّه البعد الرابع للطبيعة، كان من الأَفضل أن نشرحه فنقول: لا شكّ في أنّ البعد الزماني من الأُمور الواقعية التي يلمسها كلّ إنسان، فلا يمكن مثلًا إنكار البعد الزماني بين السيّد المسيح- عليه السلام- و نبيّنا صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم و تقدّم الأَوّل و تأخّر الثاني.

و البعد الزماني لا ينكره إلّا من أنكر العالم من الأَساس و نحن في فسحة عن مناقشته وجدا له.

______________________________

(1) لاحظ تفصيل البرهان في كتاب «اللّه خالق الكون «: 536530.

تذكرة الأعيان، ص: 320

غير أنّ كلّ من اعترف بأنّ للزمان واقعية وجد نفسه أمام السؤال التالي: ما هو حقيقة الزمان و أين مبدؤه و منشأه؟ هل يكفي أن يقال: إنّ وصف الأَشياء و الظواهر بالتقدّم و التأخّر، إنّما هو لانطباق أحدها مع طلوع الشمس و الآخر مع غروبها، أو بوقوع أحدها في أوّل الشهر، و الآخر في نهايته؟ إنّ هذه الإِجابة رغم صحّتها في نفسها و إن كانت تُقنع العامي، و لكنّها لا تقنع

الفيلسوف المتحرّي للحقيقة، لَانّه سيسأل أيضاً: و يقول بماذا نَصِفُ طلوع الشمس بالتقدّم و غروبها بالتأخّر، و ما هو الملاك لهذا الوصف؟ و لو أُجيب بأنّ هناك ملاكاً آخر لوصف طلوع الشمس بالتقدّم، و الغروب بالتأخّر لنقل السؤَال إلي ذلك الملاك أيضاً، و هكذا.

و لهذا لجأت الفلاسفة لحلّ هذا الإِشكال إلي القول بأنّ ثمّة بعداً مستقلا مستمرّاً و سيالًا جارياً توصف أجزاؤه بالتقدّم و التأخّر اتّصافاً ذاتياً، أي ليس التقدّم و التأخّر صفة عارضة له بل هويّته هويّة مستقلّة و عين التقدّم و التأخّر و هو لا يرتبط بالكائنات و الظواهر المادّية، إلّا من حيث كونها وعاءً لهذه الكائنات و الظواهر المادّية، و ليس هذا البعد إلّا الزمان.

نعم إذا قيست الكائنات و الظواهر المادّية إلي هذا البعد و الوجود المستقلّ وصفت تلك الأَشياء بالتقدّم و التأخّر.

و علي ذلك فليس في ذات الكائنات المادّية أيّ تقدّم أو تأخّر، أي ليست الكائنات المادية متقدّمة أو متأخّرة بالذات، بل قد استعارت وصف التقدّم و التأخّر من الزمان، لأَجل وقوعها في هذا الظرف أو ذاك، بحيث لو حذفنا الزمان من صفحة الوجود لما وصفت تلك الكائنات المادية بالتقدّم و التأخّر.

تذكرة الأعيان، ص: 321

و هذا القول (أي وجود بعد مستقلّ، هويته نفس السيلان و الجريان، و ذاته عين التقدّم و التأخّر و هو في حدّ نفسه وعاء للكائنات المادّية فهي واقعة فيه وقوع المظروف في الظرف) و إن أجاب عن السؤال المطروح حول ملاك وصف بعض الكائنات بالتقدّم، و البعض الآخر بالتأخّر، إلّا أنّه ليس بمرضيّ عند الفيلسوف الإِسلامي الكبير «صدر الدين الشيرازي» الذي تعرّض له بالنقد بالبيان التالي: إنّ محصّل هذا القول هو: أنّ الزمان شي ء و الكائنات شي ء

آخر، و ليس الزمان داخلًا في جوهر الموجودات المادّية، واقعاً في حقيقتها، و إنّما هو وعاء يقع العالم فيه، فبما أنّ لأَجزاء ذلك البعد تقدّماً و تأخّراً بالذّات وصفت الكائنات التي تقع في ذلك الظرف بذلك الوصف استعارة و مجازاً، و عندئذٍ يُطرح السؤال التالي: لو كانت طبيعة الكائنات المادّية منزّهة بالذات عن الزمان، و عارية عنه بحسب ذاتها، استحال وصفها بالتقدّم و التأخّر علي وجه الحقيقة، إذ علي هذا يكون ذلك البعد السيّال المتقدّم بعضه و المتأخّر بعضه الآخر، خارجاً عن جوهر الكائنات و ذات هذا الكون، و يكون أمراً عرضيا لا يتجاوز عن كونه وعاءً و ظرفاً للكون و الكائنات، و عند ذلك فكيف يصحّ وصف تلك الكائنات بأنّها متقدّمة أو متأخّرة حقيقة، و الحال أنّ المتقدّم و المتأخّر في الحقيقة هو وعاء هذه الكائنات و ظرف هذا الكون؟ أو ليست نسبة هذا الأَمر و إسناده إلي الظواهر المادية علي هذا القول نسبة خاطئة و إسناداً مجازياً غير حقيقي، مع أنّ ما نجده هو خلاف هذا فإنّنا عند ما نصف كائناً بالتقدّم و آخر بالتأخّر و نسند إليهما هذين الوصفين، نفعل ذلك علي وجه الحقيقة لا المجاز، أي أنّنا نعتبر التقدّم و التأخّر صفة لنفس الظاهرة حقيقة.

إنّ قولهم بأنّ التقدّم و التأخّر خارجان عن حقيقة الكائنات المادّية غير أنّها

تذكرة الأعيان، ص: 322

يسند إليها التقدّم و التأخّر بالمجاز و العناية، يشبه وصف الجسم الذي لا يقبل الحرارة بأنّه حارّ حقيقة، أو الذي لا يقبل الاحتراق بأنّه محترق بالحقيقة.

فلو كانت الكائنات المادّية قارّة في حقيقة ذاتها، ثابتة في صميم طبيعتها، استحال أن توصف باللّاقرار و اللإثبات، و التقدّم و التأخّر إلّا بالمجاز و العناية، و

يكون وصفها من قبيل الوصف بحال المتعلّق «1».

و لكن اتّصافها بالتقدّم و التأخّر، و التصرّم و الانقضاء، و المضيّ و الاستقبال، علي الحقيقة، خير دليل علي أنّ لهذا الوصف منشأ في ذات الجسم و طبيعته، و حقيقة جوهرة.

و لأَجل ذلك نري أنّ الموجودات الخارجة عن أُفق الزمان (كالمجرّدات) لا تقع في نطاق الزمان و لا توصف به و لا توصف بالتقدّم و التأخّر «2» أي لا تكون ضمن الزمان و لا معه بل هي خارجة عنه غير موصوفة به، و نسبتها إلي الزمان المتقدّم و المتأخر سواء.

و هذا بخلاف الكائنات المادّية فإنّ نسبتها إلي الزمان ليست علي نحو واحد، ففيها المتقدّمات و فيها المتأخّرات علي وجه الحقيقة لا المجاز.

و لأَجل ذلك يجب أن نقول: إنّ ملاك الوصف بالتقدّم و التأخّر، موجود في نفس هويّات الكائنات و طبائعها، و أنّ لها هوية سيالة متقدّمة و متأخّرة.

و بعبارة أُخري: إنّ مثل الكائنات المادية و نسبتها إلي الزمان مثل نسبتها إلي المكان، فكما أنّ البعد المكاني داخل في هوية الكائنات المادّية، بمعني أنّ الجسم

______________________________

(1) مثل قولنا: زيد طويل ثوبه

(2) و يشبه ذلك القوانين الرياضية مثل 4 2+ 2 فإنّ هذا الأَمر نزيه عن الزمان و إن كان كلّ واحد من مصاديق هذه الأَرقام أُموراً زمانية، و لكن تلك القاعدة الكلّية منزّهة عن الزمان مبرّأة من السيلان و هو أشبه شي ء بالمجرّدات في عالم الأَعيان غير المادية.

تذكرة الأعيان، ص: 323

يمتدّ بذاته طولًا و عرضاً و عمقاً، فكذلك يوصف الجسم بالسيلان و الجريان (و إن شئت قلت: بالزمان) بالذات.

فكما أنّ الشي ء إذا لم يكن بذاته قابلًا للتحيّز استحال استعارة المكان له من الخارج، كذلك إذا لم يكن قابلًا للزمان بذاته،

استحال أن نستعير له الزمان من الخارج أيضاً.

فهذا الوصف أدلّ دليل علي أنّ العامل لهذا هو نفس طبيعة الجسم غير القارة، و أنّ سيلان الجسم و تدرّجه لإقراره، هو منبع تولّد الزمان وصفه به.

و بعبارة أوضح: إنّ وصف الجسم بالمكان كما أنّه دليل علي كونه ذا أبعاد ثلاثة (الطول و العرض و العمق) بالذات، كذلك وصفه بالزمان علامة علي أنّ للأَجسام و الكائنات المادية هذه بعداً رابعاً هو «الزمان».

فلو أنّ الفلاسفة أدخلوا الأَبعاد الثلاثة في حقيقة الجسم معرّفين له بأنّه ما يكون له أبعاد ثلاثة، فإنّ نظرية الفيلسوف «الشيرازي» في الحركة الجوهرية تضيف إلي الجسم بعداً آخر هو البعد الزماني، فلا بدّ من تعريفه بأنّ الجسم ما يكون ذا أبعاد أربعة: الطول و العرض و العمق و الزمان بمعني السيلان و الجريان الذي هو عين التقدّم و التأخّر.

و بما أنّ حقيقة الجسم ذات تصرّم و سيلان، انتزع منه الزمان، و وصف بالتقدّم و التأخّر، و كان الزمان علي هذا عجيناً بالجسم و جزءاً من جوهرة و بعداً رابعاً له إلي جانب الأَبعاد الثلاثة الأُخري.

فعلي هذا يجب أن يكون وجود الطبائع و الكائنات كوجود نفس الزمان في السيلان و الجريان، و لا يكون لوجودها قرار و ثبات، بل يكون قرارها و ثباتها موتها و فناءها، كما أنّ قرار الزمان و ثباته عين فنائه و موته.

و إليك نصّ عبارة هذا الفيلسوف القدير في هذا الصدد: «لا شبهة في أنّ

تذكرة الأعيان، ص: 324

كون الشي ء واقعاً في الزمان و في مقولة «متي» سواء كان بالذات أو بالعرض هو نحو وجوده، كما أنّ كون الشي ء واقعاً في المكان و في مقولة «أين» سواء كان ذلك الوقوع بالذات أو بالعرض هو

نحو وجوده.

فإنّ العقل المستقيم يحكم بأنّ شيئاً من الأَشياء الزمانية أو المكانية يمتنع بحسب وجوده العيني و هويته الشخصية أن ينسلخ عن الاقتران بهما و يصير ثابت الوجود، بحيث لا يختلف عليه الأَوقات، و لا يتفاوت بالنسبة إليه الأَمكنة و من جوّز ذلك فقد كابر مقتضي عقله، و عاند ظاهرُه باطنَه و لسانُه ضميرَه.

فإذن كون الجسم بحيث يتغيّر و تتبدّل عليه الأَوقات و يتجدّد له المضي و الحال و الاستقبال ممّا يجب أن يكون لأَمر صوري داخل في قوام وجوده في ذاته، حتي يكون في مرتبة قابليته لهذه التجدّدات، غير متحصّلة الوجود في نفس الأَمر إلّا بصورة التغيّر و التجدّد» «1».

و يقول أيضاً: «إنّ الزمان عند القوم ذا هوية متفاوتة في التقدّم و التأخّر، و السبق و اللحوق و المضي و الاستقبال، و لكن الطبيعة عندنا كالزمان عندهم من غير تفاوت إلّا أنّ هذه هويّة جوهرية و الزمان عرض.

و الحقّ أنّ الهوية الجوهرية الصورية هي المنعوتة بما ذكرناه بالذات، لا الزمان، لَانّ الزمان عرض عندهم، و وجوده تابع لوجود ما يتقدّر به،] لكنّ [الزمان عبارة عن مقدار الطبيعة المتجدّدة بذاتها من جهة تقدّمها و تأخّرها الذاتيّين كما أنّ الجسم التعليمي مقدار الطبيعة من جهة قبولها للَابعاد الثلاثة، فللطبيعة امتدادان و لها مقداران أحدهما: تدريجيّ زمانيّ يقبل الانقسام الوهمي إلي متقدّم و متأخّر

______________________________

(1) الاسفار: 7 291- 290.

تذكرة الأعيان، ص: 325

زمانيّين، و الآخر: دفعيّ مكانيّ يقبل الانقسام إلي متقدّم و متأخّر مكانيّين» «1».

انظر أيّها القاريَ الكريم إلي هذه النظريّة التي وصل إليها الحكيم و الفيلسوف الكبير الشيرازي قبل أربعة قرون حيث صرّح بأنّ الأَجسام (أو ما سماها بالطبائع الجرمية) ذات أربعة أبعاد: الطول و العرض و العمق

و الزمان، قبل أن يقف عليه أقطاب علماء الطبيعة في هذا العصر.

و علي ذلك تصير النتيجة بناءً علي هذا البرهان أنّ وجود الأَجسام كالزمان الذي له وجود سيّال، غير قار الذات حتي لحظة واحدة، بل و يكون قراره: فناءَه، و سكونه: انعدامه، و علي هذا تكون الكائنات المادّية سيّالة غير قارة يجري وجودها، و يتدرّج علي غرار جريان الزمان و سيلانه و ما ذلك إلّا لأَجل كون الطبيعة عجينة بالزمان، و لكون الزمان داخلًا في هويّتها، فلا يمكن أن يختلفا في الحكم.

ثمّ إنّ حكيمنا المؤَسّس خرج عن البحث بنتائج باهرة: الأولي: الزمان وليد حركة المادّة و سيلانها.

الثانية: الزمان مقدار حركة المادة.

الثالثة: حدوث العالم المادّي.

الرابعة: الحركة بحاجة إلي محرّك.

الخامسة: الحركة تلازم الغاية.

و قد استوفينا البحث في هذه الغايات في بعض محاضراتنا «2».

______________________________

(1) الاسفار: 1403- 139.

(2) انظر «اللّه خالق الكون «: 555543.

تذكرة الأعيان، ص: 326

الأَصل السادس: فعلية كلّ مركّب بصورته لا بمادته
اشارة

قد ذكر قدَّس سرَّه في إثبات المعاد الجسماني و أنّ المعاد في الآخرة و البدن الدنيوي، أُصولًا عشرة نشير إلي أصلين مهمّين هما دعامتان لما يرتئيه من إثبات المعاد الجسماني فقال، حول الأَصل الأَوّل: إنّ كلّ مركب بصورته هو هو، لا بمادته فالسرير سرير بصورته لا بمادته، و السيف سيف بحدّته لا بحديدة، و الحيوان حيوان بنفسه لا بجسده، و إنّما المادة حاملة قوّة الشي ء و إمكانه، و موضوعه انفعالاته و حركاته حتي لو فرضت صورة المركب قائمة بلا مادة لكان الشي ء بتمام حقيقته موجودة.

و بالجملة نسبة المادة إلي الصورة نسبة النقص إلي التمام، فالنقص يحتاج إلي التمام و التمام لا يحتاج إلي النقص و كذلك الفصل الأَخير في الماهيات المركّبة من الأَجناس و الفصول كالناطق للإِنسان، هو أصل الماهية النوعية، و

سائر الفصول و الأَجناس من اللوازم غير المجعولة لهذا الأَصل فقد يقع في تعريفه الحدّي و إنّما دخولها في الحدّ بما هو محدود «1».

و قال في بيان الأَصل الثاني: إنّ هوية البدن و تشخّصه إنّما يكونان بنفسه لا بجرمه، فزيد مثلًا زيد بنفسه لا بجسده، و لأَجل ذلك يستمرّ وجوده و تشخّصه ما دامت النفس باقية فيه و إن تبدّلت أجزاؤه و تحوّلت لوازمه من أينه و كمّه و كيفه و وضعه و منتهاه كما في طول عمره، و كذا القياس لو تبدّلت صورته الطبيعة بصورة مثالية كما في المنام و في عالم القبر و البرزخ إلي يوم البعث، أو بصورة أُخروية كما في الآخرة، فإنّ الهوية الإِنسانية في جميع هذه التحوّلات و التقلّبات واحدة هي هي بعينها، لأَنّها واقعة علي سبيل الاتّصال الوحداني التدريجي، و لا عبرة

______________________________

(1) الاسفار: 9- 187.

تذكرة الأعيان، ص: 327

بخصوصيات جوهرية و حدود وجودية واقعة في طريق هذه الحركة الجوهرية، و إنّما العبرة بما يستمرّ و يبقي و هي النفس لأَنّها الصورة التمامية في الإِنسان التي هي أصل هويّته و ذاته، و مجمع ماهيته و حقيقته، و منبع قواه و آلاته، و مبدأ أبعاضه و أعضائه و حافظها ما دام الكون الطبيعي، ثمّ مبدّلها علي التدريج بأعضاء روحانية، و هكذا إلي أن تصير بسيطة عقلية إذا بلغت إلي كمالها العقلي بتقدير ربّاني و جذبة إلهية.. «1».

ثمّ إنّه استنتج من هذين الأَصلين بضميمة الأصول الثمانية أنّ المعاد في الآخرة، هو البدن الدنيوي و يقول: إنّ المُعاد في المَعاد مجموع النفس و البدن بعينها و شخصها و إنّ المبعوث في القيامة هذا البدن بعينه لا بدن آخر مباين له عنصرياً كان كما ذهب

إليه جمع من الاسلاميين، و مثالياً كما ذهب إليه الاشراقيون «2».

و علي هذين الأَصلين تتعلّق النفس بالبدن المثالي أو الأُخروي و يصدق عليه قوله سبحانه: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) «3» لَانّ واقعية الإِنسان بصورته لا بمادّته، بنفسه لا بمتعلّقه، فالنفس تحتاج إلي الجرم بغية اكتساب الكمالات.

أقول: إنّ الحكيم المؤَسّس إنّما اختار ما اختار من تعلّق النفس بالبدن المثالي أو البدن الأُخروي الّذي هو أكمل من المثالي و لكنّهما غير البدن العنصريّ الذي شهد الكتاب العزيز بعوده و بعثه، لأَجل شبهتين طرأتا:

______________________________

(1) الاسفار: 9- 190.

(2) المصدر نفسه: 9- 197.

(3) يس: 79.

تذكرة الأعيان، ص: 328

الشبهة الأُولي: رجوع ما بالفعل إلي ما بالقوّة

إنّ تعلّق النفس بالبدن العنصري يستلزم رجوعها عن الفعل إلي القوّة، فكما أنّ النفس بعد الانتقال عن المرتبة المعدنية إلي النباتية أو الحيوانية لا ترجع وراءها و إنّما تأخذ بالتكامل من الحيوانية إلي الإِنسانية، فإنّ النفس بالموت تنتقل من عالم المادّة إلي عالم التجرّد، و من عالم العنصر إلي عالم القدس، فرجوعها إلي عالم المادة و تعلّقها بالبدن العنصري يستلزم رجوع ما بالفعل إلي ما بالقوّة.

و بعبارة أُخري: تعلّقه بالبدن العنصري نحو انحطاط لها و تنزّل من درجة عالية إلي درجة دانية.

هذا و إنّ الشبهة مردودة بوجهين: الأَوّل: فلأَنّ صدر المتألّهين قد صوّب ذلك في شرحه علي الهداية الأَثيرية قال: ثمّ اعلم، أنّ إعادة النفس إلي بدن مثل بدنها الذي كان لها في الدنيا، مخلوق من سنخ هذا البدن بعد مفارقتها عنه في القيامة كما نطقت به الشريعة من نصوص التنزيل و روايات كثيرة متضافرة لأَصحاب العصمة و الهداية غير قابلة للتأويل، كقوله تعالي: (قٰالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهٰا

أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) «1» (فَإِذٰا هُمْ مِنَ الْأَجْدٰاثِ إِليٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) «2» (أَ يَحْسَبُ الْإِنْسٰانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظٰامَهُ. بَليٰ قٰادِرِينَ عَليٰ أَنْ نُسَوِّيَ بَنٰانَهُ) «3» أمر ممكن غير مستحيل فوجب التصديق بها لكونها من ضروريات

______________________________

(1) يس: 78 79

(2) يس: 51.

(3) القيامة: 3 4.

تذكرة الأعيان، ص: 329

الدين و إنكاره كفر مبين «1».

و الثاني: إنّ خروج النفس من البدن بالموت لا يعني صيرورتها أمراً بالفعل و مجرّداً تامّاً غير قابل لتعلّقها بالمادة، و ذلك لَانّ النفس و إن كانت في وحدتها كلّ القوي و لكنّها في عالم العقل عقل، و في عالم النفس نفس، و في عالم المثال خيال، و في عالم الحسّ حسّ، و علي ذلك فهو لا ينقلب عمّا هو عليه و لا يخرج عمّا كان له من القوّة، فعلي ذلك فالنفس تتعلّق بالبدن العنصري بما فيه من القوّة الموجودة في مرتبة الحسّ و تكون مدبّرة للبدن بما لها هذه الحقيقة.

هذا كما أنّ العقل الفعّال يدبّر ما دونه من العوالم المثالية و العنصرية و لا يستلزم تدبيرهما رجوع ما بالفعل إلي ما بالقوّة حيث إنّ له تعلّقاً بهما تعلّقاً تدبيريّاً، كذلك النفس تدبّر البدن العنصري من دون أن تتنزل عن مقامها الشامخ.

الشبهة الثانية: شبهة التناسخ

و حاصل هذه الشبهة أنّ عود الروح إلي البدن العنصري نوع من التناسخ، و التناسخ باطل لوجوه، منها: لزوم تعلّق نفسين ببدن واحد كما في المقام فإنّ البدن المعاد مستحقّ لتعلّق النفس به من عالم الغيب و واهب الصور و موجد النفوس، فالقابل كامل في القابلية كما أنّ الواهب كذلك في الإِفاضة فتتعلّق به النفس بلا تريّث، هذا من جانب.

و من جانب آخر، تعود النفس المفارقة و تتعلّق بذلك

البدن كما هو المفروض فيلزم تعلّق نفسين ببدن واحد.

يلاحظ عليه: بأنّ التناسخ باطل و له أقسام قرّر في محلّه، و لكن تعلّق النفس المفارقة بنفس البدن الدنيوي ليس من أقسام التناسخ و لا يستلزم تعلّق نفسين

______________________________

(1) شرح الهداية الأَثيرية: 381، ط 1313 ه.

ق.

تذكرة الأعيان، ص: 330

ببدن واحد، و ذلك أنّ إفاضة النفس من الواهب ليس علي نحو الجبر و إنّما هو باختيار منه، فعدم إفاضة النفس علي ذلك البدن لا ينافي كونه جواداً مطلقاً و إنّما ينافي إذا لم تتعلّق به النفس أبداً، و يكفي في ذلك تعلّق النفس المفارقة بالبدن حتّي يتهيّأ للمثوبات الأُخروية أو العقوبات كذلك، و المادة الخارجية و إن كانت تنتهي إلي التجرد قهراً إذا وقعت في صراط الحركة الجوهرية فيلزم محذور تعلّق النفسين بالبدن الواحد، لكنّه فيما إذا كان البدن حصل الحركة و مخلوقاً بالتدريج لا ما إذا خلق دفعة واحدة كما هو الحال في يوم البعث.

قال سبحانه: (حَتّٰي إِذٰا جٰاءَتْهُمُ السّٰاعَةُ بَغْتَةً) «1».

و بذلك وقفت علي أنّ الشبهتين ليستا علي نحو يجرّ الحكيم إلي التصرّف في الآيات الصريحة و الروايات القطعية و إجماع المسلمين علي المعاد العنصري، و لكن بما أنّ البدن الأُخروي و الحياة الأُخروية حياة لطيفة فلا يلزم من القول بالمعاد العنصري رجوع الإِنسان إلي الدنيا بعد مفارقتها، و ذلك لأَنّ الحياة الأُخروية و إن كانت عنصرية لكنّها حياة رفيعة لا تنافي حكمته سبحانه.

هذه هي الأصول المهمّة التي أسسها صدر المتألهين و هناك أُصول أُخري نشير إلي عناوينها: الأَصل السابع: النفس جسمانية الحدوث روحانية البقاء الأَصل الثامن: اتّحاد العلّة مع المعلول حسب الحقيقة و الرقيقة.

الأَصل التاسع: النفس في وحدتها كلّ القوي.

الأَصل العاشر: إنّ العلم ليس من قبيل

الجوهر و العرض و إنّما هو نحو من الوجود.

______________________________

(1) الانعام: 31.

تذكرة الأعيان، ص: 331

هذه هي الأصول العشرة في كلام حكيمنا المؤَسس و له آراء و أفكار أُخري يقف عليها من آنس بكتبه و عاش مع أفكاره.

كانت هذه إلمامة عابرة لسيرة صدر المتألّهين و كتبه و آثاره و الأُصول التي أسّسها.

فسلام اللّه عليه يوم ولد و يوم مات و يوم يبعث حيّاً

تذكرة الأعيان، ص: 332

14- السيد عبد الفتاح بن علي الحسيني المراغي (المتوفّي عام 1246 ه)

دور الفقهاء في الحفاظ علي الدين و صيانته من الضياع

اشارة

«ألا إنّ الفقيه من أفاض علي الناس خيره، و أنقذهم من أعدائهم، و وفر عليهم نعم جنان اللّه، و حصل لهم رضوان اللّه تعالي» «1».

الامام علي بن موسي الرضا عليمها السَّلام نفتتح هذا التقديم بهذا الحديث القيم المروي عن الامام علي بن موسي الرضا عليمها السَّلام الذي قام بالحفاظ علي الدين و صيانته من الضياع و الاندثار، في عصر تراكمت فيه علي الإِسلام شبهات الاعداء من كلّ جانب، و راجت فيه الأَفكار الشاذة المستوردة علي أيدي الأَحبار و الرهبان الذين سربوا خرافاتهم و أباطيلهم إلي مختلف مجالات الثقافة الإِسلامية، و عرضوا بذلك أفكار المسلمين لمخاطر عقائدية و أخلاقية رهيبة، إلي درجة انّه تأثرت بها طوائف من المسلمين خاصة في مجال أسماء اللّه و صفاته، و أحوال الأَنبياء و موقف البشر من أفعاله و أعماله.

______________________________

(1) الاحتجاج للطبرسي، كما في البحار: 2- 5.

تذكرة الأعيان، ص: 333

فكان ذلك الامام الطاهر يبدد بما أُوتي من علم جم، و مدد إلهي شبهاتهم و يبطل أقاوليهم ببياناته الشافية، و كلماته الرائعة التي سجلها التاريخ و حفظها في ثناياه، و نقلها رواة الاخبار، و حفاظ الآثار.

علي أنّ هذا الدور لم يكن مختصاً بالإِمام الرضا- عليه السلام- فحسب بل شمل الأَئمّة الهداة في عهودهم، كل حسب الامكانيات المتاحة، و

الظروف المهيّأة له.

و قد اقتدي بهم بعد عصر الغيبة علماء الإِسلام و في طليعتهم علماء الشيعة، إذ قاموا بصيانة الدين من إخطار الشبهات المقيتة و حفظه من كيد التيارات المنحرفة، فكانوا بحقّ حفظة لدين اللّه و رعاة لكتابة و مصاديق بارزة لقوله- صلي الله عليه و آله و سلم-: «في كلّ خلوف من أُمّتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين، و انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين» «1».

و لم يكن جهد هؤلاء العلماء الافذاذ ليقتصر علي علم دون علم، و مجال دون مجال، بل سلكوا سبل البرهنة و الاستدلال للحفاظ علي أُصول الاعتقاد، و المعارف الإِسلامية، كما بذلوا جهوداً جبّارة في حفظ آثار النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- و أحاديثه، و علي صعيد آخر عملوا علي إقامة صرح التشريع الإِسلامي في كلّ عصر و مصر، باذلين جهوداً كبري في سبيل تنميته، و تعميقه، بغية تلبية كافة الاحتياجات المستجدة.

فكانوا بحق حصوناً للدين، و أُمناء علي الشريعة، يخدمون الإِسلام، و يربون الجهابذة من العلماء، و يحذرون قومهم بعد أن تفقهوا في الدين و يبصرونهم بالشريعة بعد أن استوعبوها جيداً.

فإذا كان الدين الإِسلامي عقيدة و شريعة، و الشريعة هي الثمرة العملية

______________________________

(1) دعائم الإِسلام: 1- 81 كما في مستدرك الوسائل: 17- 312؛ و ذخائر العقبي 17؛ و الصواعق 141 مع اختلافات يسيرة.

تذكرة الأعيان، ص: 334

للعقيدة، بل تجسيد حيّ و صادق لها في واقع الحياة، و إبقاء عليها في أعماق الفكر و الضمير، إذ العقيدة بلا تطبيق للشريعة تتعرض للزوال شيئاً فشيئاً إلي أن لا يبقي أثر لها و لا خبر، كانت العقيدة هي الأُخري ذات تأثير علي سلوك الإِنسان و نمط حياته.

و صفوة

القول أنّ العقيدة و الشريعة يشكلان معاً حقيقة الدين الإِسلامي، و كما أنّ للعقيدة أثراً فاعلًا في سلوك الإِنسان، كذلك التعبد العملي بالشريعة و القيام بالواجبات و الفرائض الدينية يوجب ترسيخ العقيدة، و تجذيرها في العقول و النفوس.

الاجتهاد سر خلود الدين:

عقيدة و شريعة إنّ ممّا لا يقبل الإنكار أنّ بقاء الدين في كلا حقليه العقائدي و التشريعي، إنّما هو نتيجة الجهود المبذولة في سبيل صقل العقيدة، و تنمية الشريعة، فلو كان المسلمون يقتصرون علي أخذ ما وصل إليهم عن طريق الوحي من دون تكرير و تقرير، و من دون تدبر و إمعان، و بحث و نقاش لزال الدين و اندرس و لم يبق منه خبر و لا أثر.

و لقد كان سيدنا الأُستاذ الامام الخميني قدَّس سرَّه يقول في خلال أبحاثه و دروسه: لقد كانت البحوث و المناقشات العلمية الدائرة بين العلماء هي أحد العوامل التي ساعدت علي بقاء الشريعة، و رسوخ العقيدة.

و كان يضيف قائلًا: و لو أنّ أحد الأَئمّة قدم الواجبات و المحرمات مدونة في كتاب إلي الأُمّة، و حذّر الناس من البحث و المناقشة، و التدبّر و التأمّل في ذلك المكتوب، لمات الدين و اندثرت الشريعة.

و قال المحقّق الكبير شيخ الشريعة الأصفهاني: إنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم المزايا التي أعظم اللّه بها النعمة عليهم، حيث حفظهم

تذكرة الأعيان، ص: 335

عن وصمة محاباة أهل الكتابين المؤَدية إلي تحريف ما فيها، و اندراس تينك الملتين، فلم يتركوا لقائل قولًا فيه أدني دخل إلّا بينوه، و لفاعل فيه تحريف إلّا قوّموه، حيث اتضحت الآراء، و انعدمت الأَهواء، و دامت الشريعة البيضاء علي مل ء الآفاق بأضوائها، و شفاء القلوب بها من أدوائها، مأمونة عن التحريف، مصونة عن

التصحيف «1».

الثروة الفقهية عند الشيعة

تعد الثروة الفقهية الهائلة عند الشيعة من أعظم الثروات العلمية الإِسلامية التي أنتجتها جهود كبار الفقهاء من عصر الأَئمّة إلي يومنا هذا، تلك الجهود التي بذلوها ليل نهار في سبيل تنمية الشريعة، و إغناء الأُمّة عن كلّ ما سوي الكتاب و السنّة، فازدهر علي أثر ذلك فقه الشيعة في مختلف المجالات و المستويات و الفروع التي تطورت عبر الزمن تطوراً عظيماً، مع الأَخذ بنظر الاعتبار عنصري الزمان و المكان.

أنّ مدخلية عنصري الزمان و المكان في استنباط الأَحكام الشرعية من الأُمور الواضحة التي لا يمكن لفقيه واع تجاهله و إنكاره.

فحرمة بيع الدم مثلًا كانت أمراً مسلماً بين الفقهاء سابقاً، لأَنّ الغاية من ورائه هو الأَكل و الشرب كما هو المتبادر من قوله تعالي: (إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّٰهِ) «2».

و لكن لما أثبتت الحضارة الحديثة للدم فوائد أُخري حيوية غير الأَكل و الشرب و تغير الموضوع، تغير بتبعه الحكم، و قس عليه غير الدم ممّا قلبته

______________________________

(1) شيخ الشريعة الأصفهاني: ابانة المختار: 5.

(2) البقرة: 173.

تذكرة الأعيان، ص: 336

الحضارة الصناعية من فقدان المنفعة المحلّلة إلي وجدانها، و هذا هو المراد من مدخلية العنصرين: الزمان و المكان في تغير الحكم و تبدل الحكم لأَجل تبدل مصداق الموضوع، و كم له من نظير في الفقه الإِسلامي، إذا نظرنا إليه بدقة و إمعان، فما أكثر القيميات صارت مثليات كالأَواني.

و من أراد أن يلمس مدخلية عنصري الزمان و المكان بالمعني الذي ذكرناه، فعليه أن يقارن بين ما كتبه والد الصدوق (المتوفّي 329 ه) في كتاب الشرائع، و الصدوق (306 381) ه في المقنع و الهداية، و الشيخ الطوسي (385 460 ه)

في أوائل نشاطه الفقهي الاجتهادي في كتاب «النهاية» و بين ما كتبه المحقّق صاحب الشرائع (المتوفّي 676 ه) و العلّامة الحلي (648 726 ه) و ما أنتجه يراعه كالتحرير، و التذكرة، و ممن جاء بعدهما كالشهيدين و المحقّق الثاني، فإنّه يري بوناً شاسعاً و فرقاً كبيراً.

و ما هذا إلّا لمدخلية الزمان و المكان في العملية الفقهية و الحركة الاستنباطية.

و لهذا نري الفقه الشيعي المعاصر كالجواهر للشيخ محمد حسن النجفي (1200 1266 ه)، و المتاجر للشيخ الأَنصاري (1212 1281 ه) و ما صنف بعدهما في القرن الرابع عشر علي أيدي جهابذة الفقه، يتمتع بآفاق أوسع، و أبعاد أعمق.

القواعد الفقهية في فقه الشيعة

و لقد أثر عن أئمّة أهل البيت- عليهم السلام- أنّهم كانوا يلقون علي أصحابهم أُصولًا و قواعد و يأمرونهم بالتفريع علي ضوئها، فها هو الامام الصادق- عليه السلام-، يقول: «إنّما علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع» «1».

______________________________

(1) الحرّ العاملي: وسائل الشيعة: ج 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 51.

تذكرة الأعيان، ص: 337

و يقول الامام الرضا- عليه السلام-: «علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع» «1».

و قد كانت هذه الأصول تسمي بالأُصول المتلقاة عن الأَئمّة- عليهم السلام- «2».

و لقد ظهر علي ضوء هذه الأصول لون جديد من الفقه عند الشيعة سمّي فيما بعد بالقواعد الفقهية حيث أُلّفت حولها كتب و مصنفات كثيرة.

و ممن عرف باهتمامه بهذا النمط من الفقه: الشهيد السعيد محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأَوّل (734 787 ه)، حيث ألّف كتاب «القواعد».

ثمّ جاء بعده تلميذه الفاضل المقداد (المتوفّي 808 ه) فرتب هذه القواعد في كتاب أسماه «نضد القواعد الفقهيّة» و كان بحق ترتيباً باهراً.

و توالت حركة التأليف علي هذا المنوال فيما بعد علي يد العالم الفاضل

الشيخ محمد باقر اليزدي الحائري الذي توفي في مطلع القرن الرابع عشر، و منهم السيد الأَجل السيد مهدي القزويني المتوفّي سنة 1300 ه.

إلي غير ذلك ممن ألّفوا في هذا المضمار.

و ممّن خطا علي هذا النهج: الفقيه الكبير و المحقّق البارع السيد عبد الفتاح المراغي (قدّس اللّه سرّه).

فقد قام المحقّق المذكور بتأليف كتاب في هذا المجال، و قال في مقدمته: و هذه عناوين الأصول المتلقاة التي أمرنا أن نفرع عليها، و قوانين الفصول التي ينبغي أن يستند إليها، امتثالًا لأَمر الملك المنّان، و قضاءً لحقّ الاخوان من أهل الإِيمان، مراعياً في ذلك كلمة الأَصحاب، و الذين هم أهل الديار المتّصلون بأهل

______________________________

(1) الحرّ العاملي: وسائل الشيعة: ج 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 52.

(2) و كان السيد الأُستاذ، السيد حسين البروجردي (1292 1380 ه) يقسم الفقه الموروث إلي الأصول المتلقاة و المسائل التفريعية، و كان هذا التقسيم كثير التداول علي لسانه و في درسه الشريف، و كان يري لهذا القسم مكانة خاصة لا يحظي بها القسم الثاني.

تذكرة الأعيان، ص: 338

بيت الحكمة و الأَسرار، راجياً من اللّه أن يجعلها كلمة باقية، و تعيها أُذن واعية «1».

ترجمة المؤَلّف

اشارة

إنّ خير ما يعرّف شخصية المترجم له، ما تركه من آثار علمية و خلفه من تلامذة جهابذة.

فالجهود التي بذلها المترجم له في هذين الحقلين، دليل واضح و قاطع علي انّه كان رجل علم و تحقيق، و همة و براعة، و لذلك ترك في مجال العلم و الفقه آثاراً و قدم للأُمّة الإِسلامية فطاحلًا.

و يكفي للوقوف علي هذه الحقائق أن نلقي نظرة عابرة علي كتاب «العناوين» و هو نموذج واحد ممّا انتجه فكر هذا المحقّق البارع و دبجه يراعه الشريف، إذ

انّنا نري في هذا المؤَلف أفكاراً جديدة و آراء سديدة و براعة مشهودة في التفريع علي الأصول المتلقاة، قلما نجد نظيرها في ما سواه من المؤَلفات المشابهة.

و يكفيك أنّ هذا الكتاب هو أحد المصادر التي استند إليها الشيخ الأَنصاري في أبحاثه حول أحكام البيع و الخيارات و احتج بآرائه، كما اهتم بآرائه، معاصروه نظير الشيخ أحمد النراقي مؤَلف «العوائد»، و كأنّ العلمين كانا كوكبين زاهرين في مجال هذا النوع من التأليف.

علي أنّ كتاب «العناوين» جاء علي غرار كتاب «العوائد» تأليفاً و تنسيقاً، و إن كان الفضل لصاحب العوائد لسبقه في هذا الميدان، و قد نقل عنه مؤَلفنا في موارد عديدة.

______________________________

(1) مقدمة كتاب «العناوين» للسيد عبد الفتاح المراغي.

تذكرة الأعيان، ص: 339

كلمات الاعلام في حقّ المؤَلّف

يقول المحقّق الطهراني في موسوعته حول طبقات الشيعة: هو السيد عبد الفتاح بن علي الحسيني المراغي المتوفّي عام 1246 ه، و يصفه بقوله: فقيه كبير و عالم جليل، كان من الأَجلّاء الأَعلام و الحجج العظام «1».

و يصفه سيد أعيان الشيعة في موسوعته بقوله: «الفقيه النجفي، ثمّ يذكر مشايخه و آثاره العلمية» «2».

و يعرفه شيخنا المدرس في كتابه و يصفه بقوله: المتبحّر في الفقه و الحديث «3».

و قد أطراه الباحث العلّامة جعفر الشيخ باقر آل محبوبه و يصف أثره المعروف، بقوله: إنّ كتابه هذا مشحون بالتدقيق و التحقيق «4».

نظير سائر ما يذكره المترجمون في حقّه و شأنه رحمه اللّه.

أساتذته

لقد تخرج المترجم له علي يد لفيف من علماء النجف الأَشرف، منهم: 1- الشيخ موسي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء (المتوفّي 1241 ه) الذي تخرّج عليه كثير من العلماء المشاهير، الذين حازوا الرئاسة الدينية و الزعامة العلمية، نظير: الشيخ محمد شريف العلماء (المتوفّي 1246 ه) و السيد إبراهيم

______________________________

(1) الطهراني: الكرام البررة: 2- 755 رقم الترجمة 1394.

(2) السيد الأَمين: أعيان الشيعة: 8- 31.

(3) المدرس التبريزي: ريحانة الأَدب: 3- 379.

(4) جعفر الشيخ باقر آل محبوبه: ماضي النجف و حاضرها: 3- 169.

تذكرة الأعيان، ص: 340

صاحب الضوابط (1214 1262 ه).

2- الشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء (المتوفّي 1251 ه) الذي كان يحضر مجلس درسه ما يزيد علي الالف من فضلاء العرب و العجم «1».

إلي غير ذلك من كبار العلماء من مشايخه العظام.

آثاره العلمية

ترك المترجم له مؤَلفات قيمة هي كالتالي: 1- العناوين، و قد عرفت مكانته.

و الحقّ أنّه كتاب مشحون بالتدقيق و التحقيق، اللّذين يعرفهما كل من سبر غوره.

و قد فرغ منه سنة 1246 ه كما جاء في آخر الكتاب، إذ يقول: وقع الفراغ من تصنيف هذه النسخة بيد مؤَلفها المفتقر إلي رحمة اللّه، المتحسر علي ما فرط في جنب مولاه: عبد الفتاح بن علي المراغي الحسيني في عصر اليوم الثامن و العشرين من شهر رمضان المبارك من سنة ست و أربعين بعد ألف و مائتين من الهجرة النبوية علي مهاجرها السلام و التحية، في أرض الغري مشهد أمير المؤمنين علي- عليه السلام- لا فرّق اللّه بيني و بينه في الدارين.

و الكتاب مرتب علي أربعة و تسعين عنواناً، ابتدأ العنوان الأَوّل بالكلام في أدلّة اشتراك التكليف مورداً و دليلًا و بين المراد بقضايا الأَحوال، و ختم الكتاب بالعنوان الرابع

و التسعين طرح فيه، الأَصل المحكم في فعل المسلم أعني: الصحّة و ذكر أدلّتها و عقبها بحل الشبه، و جعل للكتاب خاتمة بحث فيها عن القاعدة المعروفة في الرضاع من أنّه كالنسب.

______________________________

(1) ماضي النجف و حاضرها: 3- 169.

تذكرة الأعيان، ص: 341

و في العنوان الرابع و السبعين بحث قيم عن ولاية الفقيه و ضبط مواردها و الإِشارة إلي ثمراتها.

و أنت تري في غضون الكتاب، عناوين لعدة من القواعد الفقهية التي هي بحاجة إلي بحث ضاف، و كلام حاسم.

فالكتاب مصباح الفقيه، و حجّة المجتهد، و وسيلة المستنبط.

إنّ شيخنا المجيز، المحقّق الطهراني يذكر انّ الكتاب تقرير لبحث أُستاذيه العلمين الجليلين المذكورين، و قد تبعه في ذلك مؤَلّف «ماضي النجف و حاضرها» و لكننا لم نجد في نفس الكتاب ما يشير إلي ذلك حسب.

و قد طبع هذا الكتاب بالطبعة الحجرية مرّة في تبريز عام 1274 ه.

ق، و أُخري عام 1297 ه.

2- مباحث الأَلفاظ في فن الأصول في مجلد واحد.

3- الخيارات.

4- الإِجارة.

5- الغصب.

6- تعليقات علي الشرائع.

7- تعليقة علي اللمعة الدمشقية.

8- رسالة في الموثقين، ذكر فيها ما يقرب عن خمسين رجلًا ممن قطع بوثاقتهم باجتهاده.

9- رسالة في عمل الدائرة الهندية «1».

______________________________

(1) لاحظ الذريعة في مختلف مواضعها، و الكرام البررة: 2- 755، و مصفي المقال: 232.

تذكرة الأعيان، ص: 342

و يذكر شيخنا المجيز الطهراني أنّ هذه الكتب و المؤلفات توجد في مكتبة الشيخ هادي كاشف الغطاء في النجف الأَشرف، و يظهر من مجموعها أنّ مؤَلفها كان من حجج العلم الإثبات «1».

عصره

لقد تميّز عصر المترجم بانكماش الاتجاه الاخباري، بعد ازدهاره، أثر جهود العالم الكبير المجتهد البهبهاني (1118 1208 ه) الذي واجه ذلك الاتجاه بحزم و قوّة، و قام بجهد كبير في توعية الأُمّة،

و تحذيرها من مغبة الوقوع في شراك هذا الاتجاه.

ترك المسلك الاخباري، مضاعفات خطيرة علي الفقه أسفرت عن عرقلة نشاطه الاستنباطي فقامت سلسلة من المحاولات داخل الكيان الفقهي الشيعي للحد من نشاطه.

و لهذا كان تأليف المترجم للكتاب الحاضر و نظائره خطوة مباركة و جبارة في سبيل تصعيد نشاط العملية الاستنباطية و الحركة الاجتهادية، و دعمها بالأُسس الرصينة و القواعد المتينة.

______________________________

(1) الكرام البررة: 2- 755.

تذكرة الأعيان، ص: 343

15- مرتضي بن محمد أمين التستري الشيخ الأَنصاري (1214- 1281 ه)

الشيخ الأَنصاري رائد النهضة العلمية الحديثة

اشارة

ارتحل النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم- و قد خلّف في أُمّته الثقلين و الوديعتين العظيمتين، و هما الكتاب و العترة، و أمر بالتمسّك بهما إلي يوم القيامة، و قال: «إِنِّي تارِكٌ فِيكُمُ الثقْلَين: كِتاب اللّه و عِترتي ما إِن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً».

و لقد بلغ إيصاء الرسول- صلي الله عليه و آله و سلم- بالكتاب و أهل بيته- عليهم السلام- من الاستفاضة بل التواتر بين الأُمّة مبلغاً لا ينكره إلّا مكابرٌ للحقيقة، و معاندٌ للحقّ، و الحديث يعرب عن حقيقةٍ ناصعة، و هي أنّ الملجأ للأُمّة الإِسلاميّة في حلّ المشاكل و المعضلات، بعد النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم- هو الكتاب و العترة.

و قد قامت العترة الطاهرة في الظروف التي أُتيح لها الإِجهار بالحقيقة، بتفسير الكتاب الكريم، و بيان فرائضه و مندوباته، و تبيين متشابهه و معضلاته، كما قامت بنشر سنّة النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم-، كلُّ ذلك عند سنوح الفرص.

لقد تعلّقت مشيئة اللّه النافذة بانبثاق أنوار الهداية من هذه

تذكرة الأعيان، ص: 344

البيوت الرفيعة «1» في هذه الظروف القاسية، حتّي تخرج من جامعتهم العديد من المحدّثين و الفقهاء ممّن بلغوا الذروة و القمّة في علم الشريعة و فهم الكتاب،

و قد سُجِّلت أسماؤهم و حياتهم في معاجم الرجال و كتب التاريخ، كيف و قد أدرك الحسن بن عليّ بن زياد الوشّاء الكوفي من أصحاب الإِمام الرضا- عليه السلام- في عصرٍ واحد (900) رجل في مسجد الكوفة كلّهم يقولون: حدّثني جعفر بن محمّد و قد أحصي الشيخ أبو العبّاس بن عقدة (المتوفّي 333 ه) الثقات من أصحاب الإِمام الصادق- عليه السلام- فبلغوا أربعة آلاف «2».

و قد قامت الشيعة الإِماميّة في تلك العصور بتدوين كلّ ما أُثِر عن النبيّ صلي الله عليه و آله و سلم- عن طريق الصحابة العدول و التابعين الثقات في كتب الحديث، كما قاموا بتسجيل أحاديث العترة في مجالي العقيدة و العمل و بذلك قدّموا إلي الأُمّة الإِسلاميّة خدمةً جليلةً، مشكورة، كيف لا، و قد قاموا بذلك في عصر عدت فيه كتابة الحديث عملًا إجراميّاً يُعاقَب عليه فاعله، و كانت كتب الحديث تُحرق علي رءوس الاشهاد «3».

و لقد اهتمّوا بتسجيل أحاديث العترة بإيصاءٍ من النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم- و لكون أقوالهم و أفعالهم برمّتها حاكيةً عن قول الرسول و فعله، فهم لا يقولون إلّا بما قاله الرسول صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم و لا يصدرون إلّا عمّا صدر عنه.

و قد روي سماعة عن الامام الطاهر موسي الكاظم- عليه السلام- قال: قلت

______________________________

(1) اقرأ تفسير قوله سبحانه: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ..) (النور: 36)، في «الدرّ المنثور» للحافظ جلال الدين السيوطي.

(2) رجال النجاشي «ترجمة الحسن الوشّاء» رقم: 80، و قد لقي الرضا- عليه السلام في خراسان، فيكون وفاته بعد المائتين من الهجرة.

(3) تقييد العلم، للخطيب البغدادي: 52.

تذكرة الأعيان، ص: 345

له: أ كلُّ شي ء في كتاب اللّه و

سنّة نبيّه أو تقولون فيه؟ «1» قال: «بل كلّ شي ء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه» «2».

فجامعة العترة الطاهرة هي جامعة الكتاب العزيز و السنّة النبويّة، فهم ورّاث الكتاب «3» فلا يحتجّ به في مجال الفقه و الأَحكام إلّا بعد الرجوع إلي أحاديثهم، إذ عندهم مخصِّصُ الكتاب و مقيّده، كما هم ترجمان السنّة و خزنتها، و لأَجل ذلك جعلهم الرسول قرناء الكتاب و أعداله، و أسباباً للهداية، و الصيانة عنالضلالة و الغواية.

و لم يكن عمل الشيعة في مجال ضبط الحديث و تقييد العلم، إلّا اقتداءً بإمامهم أمير المؤمنين- عليه السلام- حيث إنّه صلوات اللّه عليه قام بضبط ما أملي عليه رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- من الأَحكام الكثيرة و تبعه في ذلك أصحابه و تلاميذه و شيعته، و هذا «أبو رافع» خازن الأَمير- عليه السلام- صنّف كتاب السنن و الأَحكام، و القضايا، و هذا عليّ ابن أبي رافع كاتب الامام عليّ عليه السلام- صنّف كتباً في فنون من الفقه «4».

و لقد استمرّ تقييد العلم و ضبط الحديث بين الشيعة من حياة الرسول إلي غيبة الإِمام الثاني عشر فألّفوا في الحديث، جوامع كبري معروفة عندهم بالجوامع الأَوّليّة، ثمّ تلتهم طائفة أُخري بعد الغيبة فألّفوا الجوامع الثانويّة المعروفة بالكتب الأَربعة، و بذلك حازت الشيعة قصب السبق في مضمار تدوين الحديث الشريف، كما و قدّموا بذلك إلي الاجيال المتلاحقة خدمةً جليلة، و حفظوا سنّة

______________________________

(1) أي تقولون فيه بقولكم.

(2) الكافي: 1- 62، الحديث 1.

(3) لاحظ تفسير قوله سبحانه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتٰابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنٰا مِنْ عِبٰادِنٰا) (فاطر: 32).

(4) رجال النجاشي، برقم 1 و 2.

تذكرة الأعيان، ص: 346

الرسول من الاندراس و الزوال، و امتثلوا قول صادقهم: «احتفظوا

بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها» «1».

الاجتهاد في عصر الباقرين عليهما السَّلام

لم يكن الهدف من تخريج الأَحاديث و ضبطها و تسجيلها في الجوامع، هو نقلها بحرفيّتها فقط، من دون إمعانٍ و دقّة في الأصول الكلّيّة المتلقّاة من الأَئمّة، بل كان الرواة بين راوٍ حافظٍ لمتن الحديث و سنده، و راوٍ واعٍ يردُّ الفروع إلي الأصول المرويّة و يُفتي الناس بما فهم من كلامهم و أحاديثهم عليهم السلام- امتثالًا لقول الإِمام الصادق- عليه السلام-: «إنّما علينا أن نُلقي إليكم الأصول و عليكم أن تُفرّعوا» «2».

و قال الامام الرضا- عليه السلام-: «علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع» «3».

و ليس التفريع إلّا استخراج الفروع من الأصول الكلّيّة و تطبيق الكُبريات علي الصغريات، و لا يعني من الاجتهاد إلّا هذا.

و هذه الروايات و أضرابها التي لو أراد الباحث أن يجمعها لكلّفه ذلك تأليف رسالةٍ مفردةٍ في ذلك المجال تعرب عن وجود عملية الاجتهاد و الإِفتاء في عصر الباقرين و بعده لو لم نقل بوجودها قبله.

كيف لا و قد قال أبو جعفر الباقر- عليه السلام- مخاطباً أبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة و أفت الناس فإنّي

______________________________

(1) الكافي: 1- 52، الحديث 10- و بهذا المضمون أحاديث أُخَر، فراجع.

(2) وسائل الشيعة 18: 40، الحديث 51 من الباب السادس من أبواب صفات القاضي.

(3) وسائل الشيعة 18: 40، الحديث 52 من الباب السادس من أبواب صفات القاضي.

تذكرة الأعيان، ص: 347

أُحبّ أن يُري في شيعتي مثلك».

و قد توفي «أبان» «1» في سنة 141 ه قبل وفاة الامام الصادق- عليه السلام- بسبع سنين.

كان الأَئمّة- عليهم السلام- يقومون بدور تعليم كيفيّة التفريع علي الأصول و استخراج الاحكام من الكتاب و السنّة لأَصحابهم، فهذا هو الامام الباقر عليه السَّلام يُجيب «زرارة» بعد

ما سأله بقوله: «من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس؟»، بقوله بعد كلام طويل: «لمكان الباء في قوله سبحانه: (وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ») «2».

و هذا هو عبد الأَعلي مولي آل سام سأل الإِمام الصادق- عليه السلام- و قال: عثرت فانقطع ظفري و جعلت علي إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء، قال: يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّه عزّ و جلّ، قال اللّه تعالي: (وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) «3»، امسح عليها «4».

إلي غير ذلك من الأَحاديث العديدة التي قام الأَئمّة- عليهم السلام- فيها بتعليم خريجي مدرستهم طريقة الاجتهاد، و كيفيّة الاستدلال و استنباط الأصول من الفروع، و لم يكن موقفهم في هذا المقام إلّا موقِفَ المعلِّم المرشِد الذي يقوم بوظيفة إرشاد المتعلّم إلي دلائل المطلب و براهينه و قد جمعنا قسماً من هذه الأَحاديث في موسوعتنا القرآنيّة عند البحث عن الخاتميّة «5».

و علي ضوء هذا، فالاجتهاد بمعناه الوسيع هو: إعمال الدقّة و النظر في

______________________________

(1) رجال النجاشي برقم 7.

(2) وسائل الشيعة 1: 290، الباب 23 من أبواب الوضوء، الحديث 1- و الآية 6 من سورة المائدة.

(3) الحجّ: 78.

(4) وسائل الشيعة: 1- 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5.

(5) مفاهيم القرآن: 3 310- 306.

تذكرة الأعيان، ص: 348

الروايات، و ترجيح بعضها علي بعض، كان موجوداً و معمولًا به في عصر الأَئمّة عليهم السلام- بعد وفاة النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم-.

نعم كلّما بَعُدَ العهد عن زمن الرسالة و تكثّرت الآراء و الأَحاديث و الروايات، و دخل فيها الدسُّ و الوضع، و توفّرت دواعي الكذب فيها، أخذ الاجتهاد و معرفة الحكم الشرعي يصعب و يحتاج إلي مزيدٍ من المئونة، و استفراغ الوسع، و لأَجل

ذلك تري بوناً شاسعاً بين الاجتهاد الرائج في عصر الأَئمّة من بعد الغيبة بقرنٍ أو قرنين، و الاجتهاد الرائج في هذه الأَعصار، و الجيلان يشتركان في بذل الجهد في استنباط الاحكام عن أدلّتها الشرعيّة، و يفترقان في أنّ الاجتهاد بعد عصر الرسالة إلي قرون، كان خفيف المئونة لقرب العهد و توفّر القرائن، و الاستغناء عنه في كثير من الموارد، لإِمكان السؤال المفيد للعلم، بخلافه في العصور المتأخّرة حيث اتّخذ الاجتهاد لأَجل بُعد العهد لنفسه صفة فنّيّة فلا يمكن أن يقوم به إلّا الأَمثل فالأَمثل من الواعين المتدبّرين في الكتاب و السنّة، حتّي لا يعمل بالعامّ في مكان الخاصّ.

و لا بالمطلق عند وجود المقيّد، و لا بالأَصل العملي عند وجود الدليل الاجتهادي، و لا بالدليل المرجوح عند وجود الراجح، إلي غير ذلك من الخصوصيّات التي فرضها بُعدنا عن عهد المعصومين.

و هذا إن دلّ علي شي ء فإنّما يدلّ علي أنّ الاجتهاد ليس من البدع المحدثة، فقد كان بابه مفتوحاً علي مصراعيه في وجه العلماء منذ زمن قديم.

الاجتهاد رمز خلود الدين

إنّ التشريع الإِسلامي تشريع خالد، و قد أغني البشر عن كافة التشريعات غير الإِلهيّة، هذا من جانب، و من جانبٍ آخر كلّما تكاملت نواحي الحضارة،

تذكرة الأعيان، ص: 349

و تشابكت و تعدّدت ألوانها، و واجه المجتمع أوضاعاً جديدة و قضايا مستحدثة، و طرحت عليه مشاكل طارئة لا عهد للأَزمنة السابقة بها؛ ازدادت حاجة المجتمع إلي قوانين و تشريعات جديدة و لم تزل تتزايد هذه الحاجة يوماً بعد يوم تبعاً لذلك.

فما هو العلاج؟ و كيف يجمع بين هذين الأَمرين الثابتين؟ أ يصحّ لمسلم الخضوع لتشريعات بشريّة لا تمت إلي تشريع السماء بصلة؟ أو أنّه لا مناص له من بذل الجهود في الكتاب

و السنّة حتّي يقف علي حكم هذه القضايا المستجدة من هذين المصدرين الاسلاميّين المهمّين، كيف لا، و قد أخبر سبحانه عن اكتمال الدين عند ما قرب عهد لحوق النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم- بالرفيق الأَعلي، قال سبحانه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً) «1».

إنّ خلود التشريع و بقاءه في جميع الاجيال، و استغناءه عن كلّ تشريع سواه، يتوقّف علي أن يكون التشريع ذا مادّة حيويّة خلّاقة للتفاصيل، بحيث يقدر معها علماء الأُمّة علي مواكبة الزمن باستنباط كلّ حكم يحتاج إليه المجتمع الإِسلامي في جميع الأَعصار.

و لأَجل ذلك يجب أن يكون باب الاجتهاد مفتوحاً ليتسنّي للحاكم الإِسلامي الوقوف علي حكم الموضوعات الحديثية بذلك فيحفظ للدين طراوته، و يصونه عن الاندراس، و بالتالي يُغني المسلمين عن التطفل علي موائد الأَجانب بإعطاء كلّ موضوعٍ ما يقتضيه من حكم، و لا أظنّ أنّ أحداً يشكّ في لزوم الاجتهاد في أصل المذهب و انفتاحه في جميع الأَعصار إذا ما فتح عينيه علي كثيرٍ من الموضوعات التي طُرحت اليوم علي صعيد التشريع

______________________________

(1) المائدة: 3.

تذكرة الأعيان، ص: 350

و لم تزل تطرح و ليس في النصوص ما يدلّ علي حكمها بالخصوص.

و من الموسف جدّاً أنّه استحوذ الشكّ في لزوم دوام انفتاحه علي عقول كثير من فقهاء السنّة، فأقفلوا هذا الباب بكلا مصراعيه في أواسط القرن السابع «1» ثمّ واجهوا مشاكل في جميع الأَعصار لا سيّما العصر الحديث.

و أمّا نحن معاشر الشيعة فنعتزّ علي دوام انفتاحه، استلهاماً من قول الامام الصادق- عليه السلام- لتلميذه حمّاد: «ما من شي ءٍ إلّا و فيه كتاب أو سنّة» «2».

و من الواضح أنّ استخراج حكم كلّ شي ءٍ من ذينك

المصدرين يحتاج إلي بذل جهدٍ و سعي حثيث في التفريع و التطبيق علي ما هو دأب المجتهد.

المراحل التي مرّ بها الفقه الشيعي

اشارة

و لقد مرّ الفقه الشيعي بمراحل عديدة تعدّ كلّ مرحلةٍ تطوّراً لما قبلها.

1- الإِفتاء بنقل الروايات مع أسنادها

كان الرائج في عصر الأَئمة نقل الروايات بأسنادها في كتبهم و الإِفتاء بها، فكانوا يدوّنون الأَحاديث في أبواب خاصّة كالطهارة و الصلاة و الزكاة و الحجّ إلي آخر أبواب الفقه، و لم يكن المقصود من نقلها بأسنادها هو تسجيل الروايات فقط، بل كان المؤَلّفون بين راوٍ لها و جامعٍ للأَحاديث، و واعٍ لها مراعٍ لضوابط الفتيا، فالفقهاء من خريجي جامعة الامام الباقر و الصادق و الكاظم و الرضا عليهم السَّلام كانوا يسجّلون الأَحاديث علي النمط الثاني بينما كانت الطبقة الوسطي أو

______________________________

(1) الخطط المقريزيّة: 2- 333 و 334 و 344.

(2) الكافي: 1- 59.

تذكرة الأعيان، ص: 351

الأَدني منهم يدوّنونها علي حسب الرواية.

2- تجريد المتون عن الأَسانيد

و في أوائل القرن الرابع ظهر لونٌ جديدٌ في الفُتيا و هو تجريد الروايات عن أسانيدها، و كتابة الفقه بنفس النصوص الواردة فيها، و لعلّ أوّل من بادر إلي ذلك هو والد الصدوق عليّ بن بابويه (المتوفّي 329 ه)، فألّف كتاب الشرائع علي هذا النمط، كما كتب ولده الصدوق (المتوفّي 381 ه) «المقنع و الهداية» علي غرار كتاب الشرائع للوالد.

ثمّ استمرّ التأليف علي هذا النحو إلي أواسط القرن الخامس فألّف الشيخ المفيد (المتوفّي 413 ه) «المقنعة»، و تلميذه شيخ الطائفة الطوسي (المتوفّي 460 ه) «النهاية» علي غرار ما كتب الصدوق، و كان سيّدنا الأُستاذ آية اللّه البروجردي (المتوفّي 1380 ه) يطلق علي: هذا النوع من الكتب ب «المسائل المتلقّاة من الأَئمّة»، و إن شئت فسمّه بالفقه المنصوص.

و لمّا لم يكن هذا النوع من الكتابة رافعاً للحاجة و سادّاً للفراغ لطروء مسائل مستحدثة و موضوعات جديدة لم ترد فيها سنّة استدعي الحال إلي ظهور نمط آخر يختلف عن سابقيه.

3- مرحلة التفريع و استخراج الفروع من الأصول

و قد قام في أوائل القرن الرابع لفيف من فقهاء الشيعة بإبداع منهج ثالث و هو الخروج عن حدود النصوص، و عرض المسائل علي القواعد الكلّيّة الواردة في الكتاب و السنّة.

و أوّل من فتح هذا الباب في وجه الشيعة هو «الحسن بن علي بن أبي عقيل» المعاصر للكليني (المتوفّي 329 ه) و يظهر من النجاشي في ترجمته أنّ كتابه «المتمسّك بحبل آل الرسول» كان مرجعاً فقهيّا للشيعة يعمل به الناس

تذكرة الأعيان، ص: 352

كعملهم بالرسائل العمليّة في يومنا الحاضر.

يقول النجاشي في حقّ هذا الكتاب: «ما ورد الحاجّ من خراسان إلّا طلب و اشتري منه نسخاً» «1».

ثمّ اقتدي به: محمّد بن أحمد بن جنيد (المتوفّي 381 ه) فألّف كتابين

في هذا المضمار «تهذيب الشيعة لأَحكام الشريعة» و كتاب «الأَحمدي للفقه المحمّدي» «2».

و قد اتُّهم ابن جنيد باستعمال القياس غفلة عن حقيقة الحال، فإنّه لم يستعمل القياس إلّا علي وجه المحاجّة علي الخصم و لم يكن ذلك اعتقاده و منهجه «3».

غير أنّ عمل الفقيهين الجليلين، و إن كان مشكوراً و جديراً بالاهتمام في تلك الظروف، و لكن لرسوخ التعبّد بالنصوص في أذهان كثيرٍ من الأَصحاب، لم يؤَثّر تأثيراً كبيراً في العمليّة الفقهيّة إلي أن قام شيخ الطائفة بتأليف كتاب «المبسوط»؛ فأزاح العراقيل الماثلة أمام هذا النوع من التأليف إلي درجة أنّه نسخ به النمط الآخر، و أقبل الفقهاء علي كتابة الفقه علي نحو تفريع الفروع و استنباط أحكامها من الأصول من دون الالتزام بنفس النصوص، و يظهر ممّا ذكره الشيخ في المقدّمة، أنّه ردّ بذلك علي تعبير قومٍ من المخالفين علي فقه الشيعة بأنّه غير كافٍ لرفع الحاجة في مختلف المجالات لِاعراضهم عن القواعد الرائجة عندهم، كالقياس و الاستحسان و سدّ الذرائع إلي غير ذلك من الأصول التي رفضتها الشيعة، فأثبت الشيخ بمشروعه الكبير هذا، أنّ الأصول و القواعد الفقهيّة الموروثة عن أئمّة أهل البيت كافية للإِجابة عن كافة التساولات، يقول: «فإنّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقّهة و المنتسبين إلي علم و لاحظ ما حقّقه السيّد بحر العلوم في فوائده 3: 213 215.

______________________________

(1) رجال النجاشي، رقم 100.

(2) رجال النجاشي، رقم 1047.

(3) عدّة الأصول: 1- 339.

تذكرة الأعيان، ص: 353

الفروع، يستحقرون فقه أصحابنا الإِماميّة و ينسبونهم إلي قلّة الفروع، و قلّة المسائل، و يقولون: إنّ من ينفي القياس و الاجتهاد لا طريق له إلي كثرة المسائل و لا التفريع علي الأصول، و هذا جهلٌ منهم

بمذاهبنا، و قلّة تأمّل لأُصولنا، و لو نظروا في أخبارنا و فقهنا، لعلموا أنّ جلّ ما ذكروه من المسائل موجودٌ في أخبارنا و منصوص عليه تلويحاً عن أئمّتنا، إمّا خصوصاً أو عموماً أو تصريحاً أو تلويحاً.

ثمّ قال: و كنت علي قديم الوقت و حديثه متشوّق النفس إلي عمل كتاب يشتمل علي ذلك، تتوق نفسي إليه فيقطعني عن ذلك، القواطع، و تشغلني الشواغل، و تضعف نيّتي أيضاً فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه، و ترك عنايتهم به، لأَنّهم ألِفوا الاخبار و ما رووها من صريح الأَلفاظ حتّي أنّ مسألة لو غُيّر لفظها و عبر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم، لَعجبوا منها، و قَصُرَ فهمهم عنها، و كنت عملت علي قديم الوقت كتاب «النهاية» و ذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم بأُصولها من المسائل و فرقوها في كتبهم و رتّبته ترتيب الفقه، و جمعت من النظائر، و رتّبت فيه الكتب علي ما رتّبت للعلّة التي بيّنتها هناك، و لم أتعرّض للتفريع علي المسائل و لا لتعقيد الأَبواب و ترتيب المسائل و تعليقها و الجمع بين نظائرها، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالأَلفاظ المنقولة حتّي لا يستوحشوا من ذلك» «1».

و قد نال هذا الكتاب شهرة واسعة في أوساط العلماء، و هو أحد الكتب النفيسة للشيعة الإِماميّة في الفقه، و طبع في ثمانية أجزاء و صار عمله هذا بداية خير للفقهاء العظام بعده، فقد ألّف زميله عبد العزيز بن البراج (المتوفّي 481 ه) «المهذّب» علي غراره، ثمّ تتابع التأليف بعدهما إلي عصرنا هذا.

و من ألمّ بتاريخ الفقه الشيعي من عصر الأَئمّة إلي القرن العاشر يجد أنّ علماء الشيعة كانوا ميّالين إلي أحد المنهجين التاليَين:

______________________________

(1) المبسوط: 21-

1.

تذكرة الأعيان، ص: 354

«منهج جمع الحديث الفقهي و ضبطه و نقله و نشره، و منهج تفريع الفروع و استنباط الاحكام عن أدلّتها الشرعيّة و لكلٍّ عمله و جزيل أجره، فشكر اللّه مساعي الجميع».

و هذا واضح لمن سبر تاريخ فقه الشيعة، و درس طبقات فقهائهم و محدّثيهم، و لم يكن للمحدّثين مذهب فقهي خاص بهم، و للفقهاء و المجتهدين مذهبٌ آخر يضادّ المنهج الأَوّل، بل كان لكلّ مسئوليّة معيّنة، و وظيفة خاصّة تجاه الدين.

الاخباريّة منهج مبتدع

اشارة

قد تعرّفت علي أنّه لم يكن بين علماء الشيعة منهجان متقابلان متضادّان في مجال الفروع، حتّي يكون لكلّ منهج مبادي مستقلّة، و يناقض أحدهما الآخر، بل كان الجميع علي خطّ واحد، و كان الاختلاف في لون الخدمة و كيفيّة أداء الوظيفة إلي أن ظهر في أواخر القرن العاشر و أوائل القرن الحادي عشر الشيخ محمّد أمين ابن محمّد شريف الأسترآبادي الذي جاور المدينة المنوّرة و مكّة المشرّفة، و تتلمذ فيها علي الشيخ محمّد بن علي الأسترآبادي صاحب كتاب: «منهج المقال في تحقيق أحوال الرجال» عشر سنين «1» و توفّي (عام 1033 ه) «2» فابتدع مسلكاً خاصّاً أسماه بالاخبارية.

و قد هاجم في تأليفاته المجتهدين العظام أمثال ابن أبي عقيل و ابن الجنيد و الشيخ الطوسي و من اقتفي آثارهم، حتّي زعم أنّ مسلك «الاخباريّة» الذي ابتدعه كان موجوداً في القرون السابقة غير أنّه كانت تمرّ عليها مراحل من نشاطٍ و فتور، و انتعاشٍ و خمول.

______________________________

(1) الفوائد المدنيّة لمحمّد أمين الأسترآبادي: 18، و توفّي أُستاذه عام 1028 ه.

(2) لؤلؤَة البحرين للشيخ يوسف البحراني: 119.

تذكرة الأعيان، ص: 355

و العجب أنّه استدلّ علي انقسام علماء الإِماميّة إلي الأَخباريّين و الأُصوليّين بأمرين:

1- ما ذكره شارح المواقف حيث

قال: كانت الإِماميّة أوّلًا علي مذهب أئمّتهم حتّي تمادي بهم الزمان فاختلفوا و تشعّب متأخّروهم إلي المعتزلة و إلي الأَخباريّين، و ما ذكره الشهرستاني في أوّل كتاب الملل و النحل من أنّ الإِماميّة كانوا في الأَوّل علي مذهب أئمّتهم في الأصول ثمّ اختلفوا في الروايات عن أئمّتهم، حتّي تمادي بهم الزمان فاختارت كلّ فرقةٍ طريقةً، فصارت الإِماميّة إلي معتزلة (إمّا وعيديّة) أو تفضيليّة، و إلي أخباريّة امّا (مشبّهة) أو سلفيّة «1».

2- ما ذكره العلّامة في نهايته عند البحث عن جواز العمل بخبر الواحد، فقال: أمّا الإِماميّة فالأَخباريّون منهم لم يعوّلوا في أُصول الدين و فروعه الأعلي أخبار الآحاد، و الأُصوليّون منهم كأبي جعفر الطوسي و غيره وافقوا علي خبر الواحد و لم ينكره سوي المرتضي و أتباعه «2».

يلاحظ عليه: أنّ كلا الشاهدين أجنبيّان عمّا يرومه الأَمين.

أمّا الشاهد الأَوّل: فهو نقله بالمعني، و لو نقل النصّ بلفظه لظهر للقاريَ الكريم ما رامه شارح المواقف، و إليك نصّه:.. و تشعّب متأخروهم إلي «المعتزلة» إمّا وعيديّة أو تفضيليّة (ظ. تفضلية) و إلي «أخباريّة» يعتقدون ظاهر ما ورد به الاخبار المتشابهة، و هؤلاء ينقسمون إلي «مشبّهة» يجرون المتشابهات علي أنّ المراد بها ظواهرها، و «سلفيّة» يعتقدون أنّما أراد اللّه بها حقّ بلا تشبيه كما عليه السلف و إلي ملتحقة بالفرقة الضالّة «3».

______________________________

(1) لاحظ شرح المواقف 8: 392.

و لم نجد النصّ في الملل و النحل.

و الفوائد المدنيّة: 43 و 44.

(2) الفوائد المدنيّة: 43 و 44.

(3) المواقف 8: 392.

يريد من الفرقة الضالّة، فرقة المعتزلة، و هذا التعبير الجارح بعيد عن أدب شارح المواقف السيّد شريف الجرجاني.

تذكرة الأعيان، ص: 356

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّ مسلك الاخباريّة الذي ابتدعه الشيخ الأَمين ليس إلّا مسلكاً

فقهيّا يشكل سُداه و لحمته عدم حجّيّة ظواهر الكتاب أوّلًا و لزوم العمل بالأَخبار قاطبة من دون إمعان النظر في الإسناد و علاج التعارض بالحمل علي التقيّة و غيرها ثانياً، و عدم حجّيّة العقل في استنباط الاحكام ثالثاً.

و ما ذكره شارح «المواقف» فهو راجع إلي المسائل العقائديّة دون الفرعيّة و من بين هذه المسائل يخصّ الصفات الخبريّة بالبحث كاليد و الاستواء و الوجه و غير ذلك ممّا ورد في الاخبار بل الآيات و اتّهم الإِماميّة بأنّهم يعتقدون بظواهر الاخبار المتشابهة و ينقسمون في التعبّد بها إلي طوائف ثلاث: مشبّهة، و سلفيّة، و ملتحقة بالفرق الضالّة.

و الحكم بأنّ ما ذكره شارح المواقف راجع إلي المسلك الذي ابتدعه الأسترآبادي عجيب جدّاً مع اختلافهما في موضوع البحث و ابتناء المسلك الاخباري علي أُسس و قوائم لم تكن معروفة بها عند الطائفة الأُولي.

و أمّا ما ذكره العلّامة فهو أيضاً لا يمتّ إلي مسلك الاخباريّة المبتدع بصلة، بل هو راجع إلي مسألة خلافيّة بين علماء الإِماميّة من زمن قديم، و هو هل الخبر الواحد حجّة في الأصول كما هو حجّة في الفروع أو لا؟ فالمحدّثون و الممارسون للَاخبار و الذين ليس لهم شأن إلّا الغور في الاخبار ذهبوا إلي القول الأَوّل، و الممارسون لعلم الأصول الذين يحكِّمون العقل في مجال العقائد يقولون بالثاني.

فتفسير الاخباري في كلام العلّامة الذي لا يقصد إلا من يمارس الاخبار و يدوّنها و ينقلها كما يفعله كلّ المحدّثين، بمسلك الاخباري الذي هو مسلك فكري اجتماعي عجيب جدّاً.

و لسنا متفرّدين بتوصيف مسلكه بالابتداع لو لم نقل أنّه كان حركة رجعيّة

تذكرة الأعيان، ص: 357

عرقلت خطي الأُمّة عن التقدّم و التطوّر و أقفلت باب البحث في الأَسانيد و المتون

كما سدّت البحث حول كثير من المسائل الأصوليّة حتّي أنّ المحدّث البحراني الذي كان أخباريّا معتدلًا جدّاً و يعدّ كتابه الحدائق من أنفس الكتب الفقهيّة لا سيما في جمع الاخبار و تفسيرها يعترف بذلك و يقول في ترجمة الأَمين الأسترآبادي: «و كان فاضلًا محقّقاً مدقّقاً ماهراً في الأُصولَيْن و الحديث، أخباريّا صلباً، و هو أوّل من فتح باب الطعن علي المجتهدين، و تقسيم الفرقة الناجية إلي أخباريّ و مجتهد، و أكثر في كتابه الفوائد المدنيّة من التشنيع علي المجتهدين، بل ربّما نسبهم إلي تخريب الدين، و ما أحسن و ما أجاد، و لا وافق الصواب و السداد، لما قد ترتّب علي ذلك، من عظيم الفساد، و قد أوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه في كتابنا «الدرر النجفيّة» و في كتابنا «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة» إلّا أنّ الأَوّل منهما استوفي البحث في ذلك بما لم يشتمل عليه الثاني» «1».

و قد ترجمه صاحب «الروضات» ترجمةً مفصّلة و ذكر الموارد التي طعن فيها علي المجتهدين و ذكر ردود المجتهدين عليه بما لا مزيد عليه «2».

و ممّا يدعو إلي العجب أنّ الأَمين: ينهي مسلكه إلي أُستاذه محمّد بن إبراهيم مؤَلّف كتاب «منهج المقال في تحقيق أحوال الرجال» مع أنّ العناية بعلم الرجال و الدقّة في الأَسانيد التي كرّس الأُستاذ عمرة فيها لا يجتمع مع مسلك الاخباريّة القائل بقطعيّة الأَخبار، التي تُغني عن الرجوع إلي علم الرجال.

______________________________

(1) لؤلؤَة البحرين: 177118، تحقيق السيّد محمّد صادق بحر العلوم.

(2) روضات الجنّات: 1 139- 120.

و ذكر أنّ الفوارق بين المنهجين ترتقي إلي ثلاثين أصلًا، ثمّ ذكر رءوسها.

فلاحظ الصفحات 130127، الطبعة الحديثة، و بسط الكلام في ترجمته في مادّة «أمين» قائلًا: بأنّ تصديره

ب «محمّد» للتبرّك و ليس جزءاً من الاسم، و علي تلك الضابطة مشي في جميع الكتاب، و تبعه غيره في بعض تآليفه.

تذكرة الأعيان، ص: 358

حَنَّ قِدْحٌ ليس منها

هذا و لقد قام في هذه الآونة الأَخيرة «علي حسين الجابري» من طلّاب كليّة الآداب في جامعة بغداد بتأليف رسالةٍ أسماها ب «الفكر السلفي عند الشيعة الاثنا عشريّة»، حاول فيه أن يثبت أنّ الفكر السلفي هو الفكر الإِمامي الاثنا عشري الأَصيل قبل أن تتداخل فيه الأَهواء، و تتجاذبه الرياح العواصف، و قد طبع الكتاب ببيروت عام 1977 م، و نال بهذا المؤَلّف درجة الماجستير من نفس الكليّة، و قد أطراه أُستاذه المشرف علي تلك الرسالة «كامل مصطفي الشيبي» بقوله: لقد خاض الجابري في بحر مائج، و جهد كثيراً حتّي أخرج منه صيداً شهيّاً يتمثّل في هذا الكتاب الذي يغبطه كلّ باحث.

و نحن نقدّر جهد المؤَلّف حيث إنّه أعدّ العدّة اللازمة لكتابة هذه المواضيع من تاريخ فقهنا المشرق، و لكن نؤاخذ عليه أُموراً:

1- إنّ السلفيّة لم تكن مذهباً خاصّاً و لا منهجاً معيّناً دارجاً بين المسلمين من غير فرق بين السنّة و الشيعة، و إنّما هو من مبدعات ابن تيمية (المتوفّي 728 ه) و مَن تبعه في القرن الثاني عشر كمحمّد بن عبد الوهاب (المتوفّي 1206 ه) و كانت الغاية من اختراع هذه الكلمة هو تبرير عقائدهما، فالتشبيه و التجسيم و الجمود علي حرفيّة الصفات الخبريّة كاليد و الوجه للّه سبحانه تعدّ جميعها أساساً لمذهب الأَوّل، و المنع عن السفر إلي زيارة النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- و طلب الشفاعة منه يُعدّ أساساً آخر لمذهب الثاني، فأبدعا ذلك المصطلح في كتبهم أو نسبا ما ابتدعاه إلي السلف، و

لمّا أخذت الدعوة الوهابيّة تنتشر في الأَراضي المقدّسة تحت وطأه الترهيب و الترغيب راج تداول لفظ السلفيّة بين أصحاب القلم و وسائل الاعلام.

و في هذا الصدد يقول بعض المفكّرين من أهل السنّة: إنّ اختراع هذا

تذكرة الأعيان، ص: 359

المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها بدعة طارئة في الدين، لم يعرفها السلف الصالح لهذه الأُمّة، و لا الخلف الملتزم بنهجه «1».

2- إنّ الكاتب حاول أن يثبت أنّ مسلك الاخباريّة الذي ابتدعه محمّد أمين الأسترآبادي في أوائل القرن الحادي عشر كان استمراراً للسلفيّة التي كانت تغلب علي الشيعة في عصر الأَئمّة و حتّي بعد الغيبة إلي أن انتهت إلي عصر أمين الاخباري، ثمّ إنّه لدعم ذلك أثبت لمعلّم الأُمّة «الشيخ المفيد» جانباً سلفيّاً و جانباً عقليّاً، و زعم أنّ تلميذه المرتضي طوّر جانبه العقلي إلي أن وصل إلي ذروته، كما أثبت نظير ذلك لتلميذه الشيخ الطوسي، و لم يكتفِ بذلك حتّي قال في حقّ المحقّق: إنّه بغضّ النظر عن كلّ ما قيل عن دور المحقّق في ميدان التشريع الأصولي و العقلي، تبقي مسألة المحافظة السلفيّة عنده علي الأَحاديث واضحة، ربّما بتأثير بعض شيوخه، و قد حلّ كتابه «شرائع الإِسلام» في حلقات الدرس الأصولي الاثني عشرية بدلًا من كتاب «النهاية» للطوسي، و هذا يعني الكثير بالنسبة للفكر السلفي «2».

و ما ذكره لا يبتني علي أساس رصين، إذ كيف يتّهم الشيخ المفيد بجانب سلفي مع أنّه المتكلّم الذي يعتمد في إثبات الأصول و العقائد علي «العقل» و «البرهان» و يقضي في الأَحاديث بالضوابط التي يقدّرها الأصوليّون في أبحاثهم، و ليس كتابه «المقنعة» دليلًا علي كونه سلفيّاً.

و قد عرفت أنّ مشاهير الفقهاء كانت لهم ألوانٌ مختلفةٌ من الكتابة، فللشيخ الطوسي كتاب

«النهاية»، و في الوقت نفسه كتاب «الخلاف» و «المبسوط»، كما إنّ تأليف «شرائع الإِسلام» للمحقّق لا يمتّ إلي كونه سلفيّاً بصلة، بشهادة أنّه كتب «المعتبر» أيضاً فالأَوّل من المتون الفقهيّة الخالية

______________________________

(1) السلفيّة مرحلة زمنيّة: 13.

و لاحظ: بحوث في الملل و النحل: 1 329- 318.

(2) لاحظ: الفكر السلفي: 212 و 213 و 237.

تذكرة الأعيان، ص: 360

عن الاستدلال إلّا قليلًا و الثاني كتاب استدلالي مبني علي الضوابط المقرّرة.

و العجب أنّ الكاتب يصرّ علي أنّ الفكرة السلفيّة الرائجة بين أصحاب الأَئمّة في القرون الثلاثة، و التي روّجها الأَمين، لم تزل رائجة بين علماء الشيعة عبر القرون من عصر الكليني إلي زمان الأَمين، مع أنّه يصرّح بانقطاع الفكرة بعد رحيل الكليني إلي زمانه، و أنّه هو الذي أعاد الفكرة علي الساحة بفضل إرشاد أُستاذه الشيخ محمّد الأسترآبادي مؤَلّف الرجال الكبير و المتوسّط و الصغير و إليك نصّ عبارته: و أوّل من عقل عن طريقة أصحاب الأَئمّة- عليهم السلام- و اعتمد علي فن الكلام و علي أُصول الفقه المبنيَّين علي الأَفكار العقليّة المتداولة بين العامّة فيما أعلم محمّد بن أحمد بن الجنيد (المتوفّي 385 ه) العامل بالقياس و حسن بن علي ابن أبي عقيل العماني المتكلّم، و لمّا أظهر الشيخ المفيد حسن الظنّ بتصانيفهما بين يدي أصحابه و منهم السيّد الأَجلّ المرتضي و شيخ الطائفة شاعت طريقتهما بين متأخّري أصحابنا قرناً فقرناً حتّي وصلت النوبة إلي العلّامة الحلّي فالتزم في تصانيفه أكثر القواعد الأصوليّة للعامّة ثمّ تبعه الشهيدان و الفاضل الشيخ علي (يريد المحقّق الكركي) (المتوفّي 940 ه) رحمهمُ اللّه «1».

و لو لاحظ الإِنسان ذلك الكتاب «الفكر السلفي» لرأي أنّ المؤَلّف أتي بمصادر جمّة في الهوامش، و ربّما يتخيّل للقاريَ

معها أنّ الكاتب برهن علي ما كتبه و سطّره بالمصادر و المآخذ، غير أنّه لا يجد في جميع ما كتبه حول القرون العشرة إلي زمان الشيخ محمّد أمين الأسترآبادي دليلًا واضحاً علي أنّ المسلك الاخباري بالمعني الذي تبنّاه الأسترآبادي كان امتداداً لما كان عليه السلف في العصور السابقة، بل إنّ كلّ ما قاله الكاتب ليس سوي استنتاجات و نظريّات

______________________________

(1) الفوائد المدنيّة: 30، ط دار النشر لأَهل البيت- عليهم السلام-.

تذكرة الأعيان، ص: 361

شخصيّة تقصُر عن إثباتها، المصادر و المآخذ، و لأَجل ذلك لا مناص للقاريَ الكريم من أن يتّهم الأسترآبادي باختراع هذا المسلك، لَانّه لا يري له جذوراً بصورة منهج فقهي رسمي بين الأَصحاب المتقدّمين علي الأسترآبادي، كما علي القاريَ أن يتّهم الكاتب بأنّه يحاول إقصاء الشيعة عن مجال العقل و التعقّل، و الفكر و التفكير، عبرَ رميهم بالسلفيّة و اتّباع الظواهر من دون دراستها و تقييمها في عقليّة استنباطيّة اجتهاديّة، و بخاصّة أنّ الكتاب طبع في عهد النظام البعثي الذي يتبنّي محاربة هذه الطائفة و توجيه الضربات إليها، و هو يهيمن علي مراكز الثقافة و الفكر كالمعاهد و الجامعات.

كيف لا و قد عرفت في ما أسلفنا علي أنّ انقسام العلماء إلي أهل الحديث و أصحاب الاجتهاد لا يدلّ علي كون الأَوّل مسلكاً فقهيّا أو عقائديّاً تبنّاه فحول الشيعة و أكابرهم، و إنّما كان ذلك تقسيماً للمسئوليّات الدينيّة، و كلّ يختار ما يميل إليه ذوقه و تدعوه إليه فطرته.

[في بيان المسلك الذي تبنّاه الأَمين الأسترآبادي]
اشارة

بقي هنا شي ء و هو تبيين المسلك الذي تبنّاه الأَمين الأسترآبادي، و أوجد ضجّة كبري في العواصم الشيعيّة حتّي يكون القاريَ علي بصيرة من وهن هذا المسلك فنقول: إنّ مسلك الأَمين الأسترآبادي يتكوّن من الأُمور التالية: «1»

- عدم حجّيّة ظواهر الكتاب و السنّة

إنّ الأَصل الأَوّل من أُصول هذا المسلك هو عدم حجّيّة الكتاب الذي يعرفه سبحانه بأنّه: (تِبيان كلّ شي ء) «2» يقول الأَمين الأسترآبادي: إنّ القرآن في الأَكثر ورد علي وجه التعمية بالنسبة إلي أذهان الرعيّة، و كذلك كثير من السنن

______________________________

(1) ما جاء في المتن هو أُمّهات الفروق و أُصولها، و إلّا فقد عرفت أنّ الفوارق تنتهي إلي ثلاثين أصلًا.

(2) النحل: 89.

تذكرة الأعيان، ص: 362

النبويّة، و أنّه لا سبيل لنا في ما لا نعلمه من الأَحكام النظريّة الشرعيّة أصليّة كانت أو فرعيّة إلّا السماع من الصادقين- عليهم السلام-، و أنّه لا يجوز استنباط الأَحكام النظريّة من ظواهر كتاب اللّه و لا من ظواهر السنّة النبويّة ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر- عليهم السلام- بل يجب التوقّف و الاحتياط فيهما «1».

و قال في موضعٍ آخر: فإن قال قائل: كيف عملكم معاشر الأَخباريّين في الظواهر القرآنيّة مثل قوله تعالي: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) «2» و قوله تعالي: (أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ)* «3»، و قوله تعالي: (إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) «4».

و في ظواهر السنّة النبويّة مثل قوله- صلي الله عليه و آله و سلم-: «لا ضرر و لا ضرار في الإِسلام».

قلنا: بأنّا نوجب الفحص في أحوالهما بالرجوع إلي كلام العترة الطاهرة- عليهم السلام- فإذا ظفرنا بالمقصود و علمنا حقيقة الحال عملنا بها، و إلّا أوجبنا التوقّف و التثبيت «5».

يلاحظ عليه بأنّه إذا دار الأَمر بين الأَخذ بقول الأسترآبادي في توصيف القرآن بأنّه

ورد في الأَكثر علي وجه التعمية بالنسبة إلي أذهان الرعيّة، و بين قول الرسول و عترته.

فنحن نأخذ بالثاني.

فقد قال رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم-: «و إنّ علي كلّ حقّ حقيقةً، و علي كلّ صوابٍ نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فدعوه» «6».

و قال- صلي الله عليه و آله و سلم-: «أيّها الناس ما جاءكم عني يوافق كتابَ اللّه فأنا قلته، و ما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله» «7».

______________________________

(1) الفوائد المدنيّة: 47.

(2) المائدة: 1، 6.

(3) المائدة: 1، 6.

(4) المائدة: 1، 6.

(5) الفوائد المدنيّة: 164.

(6) الكافي: 1- 55.

(7) الكافي: 1- 56.

تذكرة الأعيان، ص: 363

و قال الامام الصادق- عليه السلام-: «كلّ شي ء مردود إلي الكتاب و السنّة، و كلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف» «1».

و إذا لم يكن الكتاب حجّة في مجال الإِفتاء، فلما ذا أرجع الأَئمّة عليهم السَّلام الرواة، في تمييز الشروط الصحيحة عن غيرها، إلي موافقة الكتاب و مخالفته، و قد تضافر عنهم قولهم: «المسلمون عند شروطهم»، إلّا كلّ شرط خالف كتاب اللّه عزّ و جل فلا يجوز «2».

إنّ توصيف الكتاب بعدم الحجّيّة في مجال العمل و العقيدة، إهانة كبيرة لحجّة النبيّ- صلي الله عليه و آله و سلم- و معجزته الكبري، و قد وصفه سبحانه بأنّ فيه هديً و بياناً و موعظة للمتّقين، قال سبحانه: (هٰذٰا بَيٰانٌ لِلنّٰاسِ وَ هُديً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) «3».

فلو لم يكن الكتاب مقياساً لتمييز الحقّ عن الباطل، و مرجعاً لاستنباط الاحكام، فلما ذا قام الامام الرضا- عليه السلام- بإفحام أبو قرّة المحدّث العامي حيث قال: رُوينا أنّ اللّه قسّم الرؤيَة و الكلام، فلموسي- عليه السلام- الكلام، و لمحمّد-

صلي الله عليه و آله و سلم- الرؤيَة.

فقال أبو الحسن- عليه السلام-: «فَمنِ المبلّغ عن اللّه إلي الثقلين من الجنّ و الإِنس (قوله تعالي) (لٰا تُدْرِكُهُ الْأَبْصٰارُ) «4»، (وَ لٰا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) «5» و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ) «6» أ ليس محمّد صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم؟ قال أبو قرّة: بلي.

فقال الامام- عليه السلام-: «كيف يجي ء رجل إلي الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللّه، و أنّه يدعوهم إلي اللّه بأمر اللّه، فيقول:

______________________________

(1) الكافي: 1- 55.

(2) وسائل الشيعة 12: 323، كتاب التجارة، الباب السادس من أبواب الخيار، الحديث 2، و في الباب أحاديث كثيرة في هذا المجال، فلاحظ.

(3) آل عمران: 138.

(4) الانعام: 103.

(5) طه: 110.

(6) الشوري: 11.

تذكرة الأعيان، ص: 364

(لٰا تُدْرِكُهُ الْأَبْصٰارُ)، (وَ لٰا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ)، ثمّ يقول: «أنا رأيته بعيني، و أحطت به علماً، و هو علي صورة البشر» «1».

و هذا هو حسن الصيقل يقول: قلت لأَبي عبد اللّه: رجل طلّق امرأته طلاقاً لا تحلّله حتّي تنكح زوجاً غيره، فتزوّجها رجل متعة أ تحلّ للَاوّل؟ قال- عليه السلام-: لا، لأَنّ اللّه يقول: (فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلٰا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهٰا) «2»، و المتعة ليس فيها طلاق «3» هذا و من تتبّع أحاديث العترة الطاهرة، يجدها تسير جنباً إلي جنب مع القرآن، تتمسّك بإشاراته فضلًا عن تصريحاته و ظواهره، و لأَجل ذلك كان أبو حنيفة يقول عن الامام الصادق- عليه السلام-: «لقد كان كلامه انتزاعات من القرآن».

و لتعلم أنّ التمسّك بالظواهر لا يمتّ إلي تفسير القرآن بالرأي بصلة.

2- ادّعاء قطعيّة أحاديث الكتب الأَربعة:

هذا هو الأَصل الثاني الذي ذهب إليه الأَخباريّون حيث جعلوا البحث عن حال الراوي

من حيث الوثاقة و عدمها، أمراً لا طائل تحته، كما يكون تقسيم الاخبار من جانب الأصوليّين إلي الأَقسام الأَربعة المعروفة، علي طرف النقيض من هذا الأَصل.

يلاحظ عليه: أنّ دعوي القطعيّة دعوي بلا دليل، كيف لا؟ و مؤَلّفو الكتب الأَربعة لم يدّعوا ذلك، و أقصي ما يمكن أن ينسب إليهم أنّهم ادّعوا صحّة الاخبار المودعة فيها، و هي غير كونها متواترة أو محفوفة بالقرائن، و المراد من الصحّة في

______________________________

(1) الكافي: 1- 74.

(2) البقرة: 230.

(3) وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الطلاق، الباب التاسع من أبواب أقسام الطلاق، الحديث 4.

تذكرة الأعيان، ص: 365

مصطلحهم اقترانها بقرائن تفيد الاطمئنان بصدورها عن الأَئمّة، و لكن هل هذه الشهادة من المشايخ الثلاثة علي صحّة روايات كتبهم حجّة لنا أو لا؟ التحقيق لا، لَانّ خبر العدل و شهادته إنّما يكون حجّة إذا أخبر عن الشي ء عن حسٍّ لا عن حدس، و الإِخبار عن الشي ء بالحدس لا يكون حجّة إلّا علي نفس المخبِر، و لا يعدُو غيره إلّا في موارد خاصّة.

و لأَجل هذه النكتة نري أنّ المشايخ نقلوا الروايات بأسنادها حتّي يتدبّر الآخرون فيما ينقلونه ممّا صحّ لديهم، و لو كانت شهادتهم علي الصحّة حجّة علي الكلّ لما كان وجه لتحمّل هذا العب ء الثقيل، أعني نقل الروايات بأسنادها.

3- إنكار حجّيّة العقل في مجال الاستنباط

هذا هو الأَصل الركين عند الأَخباريّين و قد طعنوا به الأصوليّين الذين ذهبوا إلي حجّيّة العقل في مجال الاستنباط، و سمّاه محمّد أمين الأسترآبادي «الاعتماد علي الدليل الظنّي في أحكامه تعالي» و قد استنبط ذلك من مقدّمة وصفها بأنّها دقيقة و شريفة و قال: العلوم النظريّة قسمان، قسم ينتهي إلي مادّة هي قريبة من الإِحساس، و من هذا القسم علم الهندسة و الحساب، و أكثر أبواب

المنطق، و هذا القسم لا يقع فيه الاختلاف، و قسم ينتهي إلي مادّة بعيدة عن الإِحساس و من هذا القسم الحكمة الإِلهيّة و الطبيعيّة و علم الكلام، و علم أُصول الفقه، و المسائل النظريّة الفقهيّة، و بعض القواعد المذكورة في علم المنطق، و من ثمّ وقع الاختلاف بين الفلاسفة، في الحكمة الإِلهيّة و الطبيعيّة، و بين علماء الإِسلام في أُصول الفقه و المسائل النظريّة الفقهيّة، و بعض القواعد المذكورة في علم المنطق، و السبب في ذلك هو أنّ القواعد المنطقيّة إنّما هي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادّة، و ليس في المنطق قاعدة بها نعلم أنّ كلّ مادّة

تذكرة الأعيان، ص: 366

مخصوصة داخلة في أيّ قسم من أقسام مواد الأَقيسة، بل من المعلوم عند أُولي الأَلباب امتناع وضع قاعدة تتكفّل بذلك «1».

يلاحظ عليه أوّلًا: بأنّ الأصوليّين لا يعتمدون علي الدليل العقلي الظنّي، بل يعتمدون علي الأَحكام العقليّة القاطعة التي اتّفقت عليها عقول الناس و فِطَرُهُم السليمة، و لا يخالف فيه أحد، إلّا إذا كان متأثّراً بفكرةٍ مسبقة، و هي عبارة عن الأَحكام القطعيّة التي يستقلّ العقل بها كما يستقلّ بوجود الصانع و صفاته، أو قبح إعطاء المعجزة للمتنبي الكاذب، أو لزوم عصمة النبيّ صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم.

و الاستلزامات العقليّة في أُصول الفقه لها دور خاصّ في استنباط الأَحكام الكلّيّة، و الكلّ ينبع من مسألة واحدة، و هي إدراك العقل للحسن و القبح العقليّين، و ليس هذا شيئاً مبتدعاً، بل هو أمر يعتمد الكتاب و السنّة عليه في احتجاجاتهما و مناظراتهما، و يتّخذانها أصلًا مسلّماً.

أمّا الكتاب فاللّه سبحانه يقول: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ

نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّٰارِ) «2» و يقول: (أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) «3» و يقول: (هَلْ جَزٰاءُ الْإِحْسٰانِ إِلَّا الْإِحْسٰانُ) «4» و يقول: (وَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً قٰالُوا وَجَدْنٰا عَلَيْهٰا آبٰاءَنٰا وَ اللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا قُلْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ) «5».

______________________________

(1) الفوائد المدنيّة: 129 و 130، و لكلامه بقيّة مَن أرادها فليرجع إليه، و كلامه يُعرب عن أنّه كان يعتمد علي الحسّ و ما هو قريب منه لا علي العقل البَحت و ما هو بعيد عن الحسّ، و العَجَب أنّ تلك الفكرة نفسها كانت تنمو في المغرب آن ذاك، من دون أن تكون بين المفكّرين صلة حسب الظاهر كما سيوافيك فيما بعد.

(2) سورة ص: 28.

(3) القلم: 35.

(4) الرحمن: 60.

(5) الأَعراف: 28.

تذكرة الأعيان، ص: 367

و هذه الآيات تستنطق فطرة كلّ إنسان ونبّهها علي أنّ هناك أُصولًا مسلّمة عند جميع أصحاب الفطرة و العقول، و هي حسنُ بعضِ الأَشياء و قُبح البعض الآخر، و إنّ القرآن يعتمد في محاوراته عليها.

و أمّا السنّة: فيكفي في ذلك قول الامام الطاهر موسي بن جعفر عليمها السَّلام لتلميذه هشام بن الحكم في حديث مفصّل: يا هشام، إنّ للّه علي الناس حجّتين، حجّة ظاهرة و حجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل و الأَنبياء و الأَئمّة، و أمّا الباطنة فالعقول» «1».

و هذا الحديث و غيره يعرب عن موقف الإِسلام السامي من الاحكام التي يستقلّ بها العقل شريطة أن يتجرّد عن الأَفكار المسبقة، و يحكم حكماً باتّاً عقلانيّاً محضاً غير منبعث عن هذا الجانب، و يحترز عن بعض الأَساليب التي منع الشارع من إعمالها عند استنباط الحكم الشرعي كالاقيسة و الاستحسانات و غير ذلك من الظنون المحظورة الممنوعة، و عند ذلك يتلخّص دور العقل في مجال

الاستنباط في الموارد التالية: 1- قبح العقاب بلا بيان، فتكون النتيجة الشرعيّة عدم لزوم الاحتياط.

2- الاشتغال اليقيني يستلزم البراءة اليقينيّة، فتكون الوظيفة في مجال العلم الإِجمالي هو الاحتياط.

3- الملازمات التي يدركها العقل في عدّة موارد لو قلنا بها، كالملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدّمته أو حرمة ضدّه إلي غير ذلك ممّا للعقل إليه سبيل.

و ثانياً: إنّ ما ذهب إليه الأسترآبادي من إفاضة الحجّيّة علي الحسّ، و إقصاء العقل عن مجال النظر هو نفس ما ذهب إليه الحسّيّون من الاوربيّين،

______________________________

(1) الكافي: 1 16- 13، و الحديث مفصّل مسهب، فراجعه.

تذكرة الأعيان، ص: 368

و ممّا يثير العجب أنّ هذه النظريّة اختارها الأسترآبادي في حين كانت النظريّة الحسّيّة رائجة في أوربا، و قد توفّي الأسترآبادي عام (1033 ه)، (1623 م)، و قد توفّي ديكارت عام (1650 م).

و قد كان هذا العصر عصر النهضة العلميّة المبنيّة علي الحسّ و التجربة، و الفيلسوف الفرنسي «ديكارت» و إن لم يعتمد علي الحسّ من باب أنّه من أدوات المعرفة، غير أنّ النهضة العلميّة التي أيّدها «ديكارت»، و بعده «جان لوك» (1704 م)، كان عصر النهضة العلميّة الحسّيّة المبنيّة علي الايمان بالمحسوسات، و رفض المغيّبات و العقليّات، و لا أدّعي أنّ الشيخ الأسترآبادي تأثّر بتلك الموجة و إنّما هو من باب تداعي الخواطر.

هذه هي الأصول المهمّة التي اعتمد عليها الأَخباريّون و في طليعتهم الأَمين الأسترآبادي في مسلكه المبتدع الذي لا يمتّ إلي مذهب السلف الصالح من علماء الإِماميّة بصلة.

ازدهار المسلك الاخباري بعد الأَمين

و لقد أخذ المسلك الذي ابتدعه الشيخ الأَخباري في الانتشار و الذيوع، و اشتهر خلال قرنين في المحافل العلميّة، حتّي تأثّر به عددٌ كبيرٌ من علماء الشيعة إلي عصر الأُستاذ الأَكبر المحقّق البهبهاني (1118 1206

ه)، و كانت الظروف آن ذاك مناسبة لتنامي هذا المنهج لعللٍ لا يسع المجال لذكرها.

غير أنّ الأُستاذ الأَكبر البهبهاني قد قضي علي تلك الفكرة، بفكره الناضج، و حججه الباهرة القاهرة، و جهاده المتواصل إلي أن رجع كثير من المتأثّرين بالمسلك إلي الطريقة الحقّة و المنهج الصحيح، و علي الرغم من ذلك فقد بقيت من المسلك المذكور مخلّفات و آثار غير محمودة عند المتأخّرين من العلماء، فقام الشيخ مرتضي الأَنصاري قدَّس سرَّه بإزالة ما بقي من تلك الرواسب في

تذكرة الأعيان، ص: 369

الأَذهان بكتبه القيّمة، و أفكاره الناضجة، و بحوثه الرائعة التي ألقاها في النجف الأَشرف، فاستتبّ الأَمر للأُصوليّين، و لم يبق من أتباع المذهب المبتدع إلّا صبابة كصبابة الإِناء، تظهر بين آونةٍ و أُخري.

و نحن علي يقينٍ بأنّ إعادة هذه الفكرة إلي حيز الوجود في الحوزات العلمية ما هي إلّا مؤَامرة حيكت لِافراغ التشيّع عن طابعه العلمي، الذي كان سلاحه في مواجهة أعداء الدين عبر القرون، و من الواضح بمكان أنّ أيّ أُمّة إن لم تعر أهمية للعقل و البرهان لَاضحت فريسة سائغة للاستعمار، فتذهب ثقافتها و ثرواتها إدراج الرياح، و تصبح أُمّة مضطهدة مستعمرة لا تملك حولًا و لا قوة و لا، و لا.

حياة الشيخ الأَنصاري و شخصيّته

اشارة

قد صبَّ الشيخ الأَعظم الأَنصاري جهوده العلميّة لِارساء قواعد الفقه و الأُصول في ضوء الكتاب و السنّة و العقل، و اجتثاث أُصول المسلك الاخباري من خلال بحوثه و كتبه، فأداء لبعض حقّه، نقوم بترجمة موجزة لحياته و شخصيّته.

ولد قدَّس سرَّه غدير عام (1214 ه) ينتهي نسبه إلي جابر بن عبد اللّه الأَنصاري، و قد سرد بعض شخصيّات أُسرته هكذا: الشيخ مرتضي بن الشيخ محمّد أمين بن الشيخ مرتضي بن الشيخ شمس

الدين بن الشيخ محمّد شريف بن الشيخ أحمد بن الشيخ جمال الدين بن الشيخ حسن بن الشيخ يوسف بن الشيخ عبيد اللّه بن الشيخ قطب الدين محمّد ابن زيد بن أبي طالب بن عبد الرزّاق بن جميل بن جليل بن نذير بن جابر ابن عبد اللّه الأَنصاري.

و كأنّه يرومه الشاعر المفلِق و يقول:

شرفٌ تتابع كابر عن كابر كالرمح أنبوب علي أنبوب

تذكرة الأعيان، ص: 370

فهو وليد الطاهر، ذو المجد الأَصيل، يشهد نسبه علي شرف أرومته.

فنذير ابن جابر انتقل إلي مدينة «تُستر» إبّان افتتاحها علي يد عساكر الإِسلام فألقي رحل إقامته هناك و أسّس هذه الأسرة العلميّة التي لم تزل تتلألأ في كلّ قرن بمحدّث بارع، أو فقيه متضلّع، أو خطيب مِصْقَع رضوان اللّه عليهم أجمعين.

و أمّا الشيخ الأَعلم فهو النجم اللامع بل الشمس البازغة في سماء هذه الأُسرة الجليلة و هو من الفطاحل العظام الذين يضنّ بهم الدهر إلّا في فترات متقطّعة متباعدة، قد قرأ الآليات «1» و السطوح العالية في موطنه «دزفول» و تخرج علي يد عمّه الشيخ حسين الأَنصاري من أفاضل الأسرة، و لكن لم تقنع نفسه بما أخذ و تعلّم فيه فأعدّ العدّة مع والده لزيارة العتبات المقدّسة عام (1232) و له من العمر (18) سنة فورد كربلاء المقدّسة يوم كانت تزدحم حوزتها بفضلاء كبار، و علماء فطاحل، و علي رأسه العلمان الجليلان: 1- السيّد محمّد بن السيّد علي المعروف بالسيّد المجاهد مؤَلّف «المناهل في الفقه» كما أنّ والده هو مؤَلّف «الرياض»، و اشتهر بالمجاهد لأَنّه أفتي بالجهاد ضدّ الاحتلال الروسي لبعض مدن إيران الشماليّة و توفّي عام (1243 ه).

2- الشيخ محمّد شريف الآملي المازندراني المعروف بشريف العلماء المتوفّي عام (1245 ه).

و قد

زار الشيخ بعد ما وصل كربلاء مع والده، السيّد المجاهد، بإيصاء من عمّه و أُستاذه، لما كان بينهما من صلة وثيقة أيّام دراسته في العراق، فلمّا تعرّف السيّد المجاهد علي الوالد و الولد رحّب بهما، ثمّ انتهي الكلام بينهم إلي مسألة فقهيّة تكلّم فيها الشيخ بإذن والده، فظهر نبوغه و توقُّد فطنته للسيّد المجاهد، و عند ذلك طلب من والده أن يتركه في كربلاء المقدّسة للدراسة و عليه

______________________________

(1) المراد من العلوم الآلية ما يستخدم آلة لفهم الكتاب و السنّة أو إقامة البرهنة كالنحو و الصرف و البلاغة و المنطق.

تذكرة الأعيان، ص: 371

رعايته، فقبل الوالد، فأقام الشيخ أربع سنين فيها تردّد خلالها إلي حلقات دروسا لعلمين الجليلين، إلي أن احتلّ والي بغداد مدينة كربلاء المقدّسة بأمر من الخليفة العثماني، فغادر الشيخ مهجره و نزل الكاظميّة، فوجد هناك بعض مواطنيه فرجع معهم إلي موطنه دزفول فأقام هناك حوالي سنة، و لكن كيف تستقرّ نفس الشيخ في موطنه و قد ذاقت حلاوة العلم، و تعرّف علي آفاقه المشرقة، فغادر الموطن لمواصلة الدراسة في كربلاء، فأقام بها سنة هاجر بعدها إلي النجف الأَشرف، فحضر هناك دروس المحقّق الشيخ موسي كاشف الغطاء قرابة سنتين، ثمّ أحسّ في قرار ضميره أنّه أخذ ما يجب أخذه من أساتذة العراق و لا بدّ من التجوّل في المدن الأُخري لعلّه يجد فيها بغيته، فرجع إلي إيران قاصداً موطنه «دزفول» و حدّث أهله بما يرومه و يقصده، فواجه المنع من جانب والدته، إلي أن استقرّ رأيهما علي الاستخارة، و لمّا فتح الشيخ المصحف الشريف بطلب الهداية و الخيرة وافاه في صدر الصفحة قوله سبحانه: (لٰا تَخٰافِي وَ لٰا تَحْزَنِي إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ

الْمُرْسَلِينَ) «1».

فعند ذلك لم تجد الأُمّ الحَنون بُدّاً من التسليم و النزول عند رغبته فودّعت ولدها داعية له بالسلامة و التوفيق، و قد شدّت عضده بأخيه الشيخ منصور و قد مثّلت بعملها هذا قوله سبحانه: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ..) «2».

و كان ذلك في عام (1240 ه).

رحلته العلميّة و تجوّله في البلدان

بدأ الشيخ برحلته العلميّة حتّي نزل بلدة «بروجرد» يوم كانت الرئاسة العلميّة فيها للشيخ أسد اللّه البروجردي مؤَلّف «فوائد الاحكام» المتوفّي

______________________________

(1) القصص: 7.

(2) القصص: 35.

تذكرة الأعيان، ص: 372

عام (1270 ه).

فأقام هناك شهراً تامّاً لم يجد فيها بُغْيَتَه فغادرها و نزل مدينة أصفهان يوم كانت الزعامة العلميّة لعالمها الوحيد السيّد محمّد باقر الشفتي المعروف بحجّة الإِسلام و هو الرجل الورع الذي لم يكن تأخذه في اللّه لومة لائم، و قد لبّي دعوة ربّه عام (1260 ه).

و قد جرت بينه و بين الشيخ مباحثات و مناظرات طلب منه علي أثرها الإِقامة و الاشتغال بالتدريس هناك، و لكنّ الشيخ اختار المغادرة و مواصلة رحلته العلميّة حتّي هبط بلدة «كاشان» فنزل في بعض مدارسها و كان الزعيم العلمي فيها يومذاك، الشيخ أحمد النراقي مؤَلّف «مستند الشيعة في أحكام الشريعة» الذي يعدّ خيرَ دليلٍ علي براعته العلميّة و نبوغه في التفريع و البرهنة علي الفروع و قد توفّي عام (1245 ه) فوجد الشيخ أُمنيته هناك فأقام فيها أربع سنين حضر خلالها دروسه و نبغ في الفقه و الأُصول علي يديه كما اشتغل بالتأليف و التصنيف مضافاً إلي التدريس.

و لمّا عزم الشيخ علي أن يغادر كاشان عام (1244 ه) نال من أُستاذه الرؤوف إجازة مفصّلة أدّي فيها حقّ الشيخ حيث وصفه بألقاب بديعة تُعرب عن إعجابه الشديد بتلميذه، و سيوافيك نزرٌ منها، ثمّ إنّ الشيخ ودّع

أُستاذه و ترك المدينة إلي أن نزل مشهد الرضا- عليه السلام- فأقام هناك أشهراً قلائل ثمّ رجع إلي طهران و منها إلي دزفول و قد استغرقت رحلته العلميّة ستّ سنوات، ثمّ وجد في نفسه شوقاً مؤَكّداً للرحيل إلي العراق مرّة ثالثة، بعد ما واجه بعض الاحداث المريرة في بلده، فهاجر إلي النجف عام (1246 ه) و كانت يومذاك، المدرسة الكبري للشيعة و التي تزدحم بآلاف الطلّاب و الفضلاء الاساتذة و كانت الرئاسة العلميّة علي عاتق العلمين الكبيرين: 1- الشيخ عليّ بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفّي عام (1254 ه).

2- الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر المتوفّي عام (1266 ه).

تذكرة الأعيان، ص: 373

فقد تتلمذ الشيخ في رحلته هذه علي يد كاشف الغطاء، إلي أن استقلّ بالتدريس و طار صيته في أوساط النجف و أقبل علي بحوثه العلميّة لفيف من العلماء و الفضلاء، و اشتهر بالنبوغ و التفوّق العقليّ إلي حدّ عرفه الصغير و الكبير بالعلم و الفضل و التعمّق و الدقّة.

صاحب الجواهر يختار الشيخ للزعامة

كان الشيخ محمّد حسن مؤَلّف «الجواهر» الذي يعد أكبر موسوعة فقهيّة في فقه الإِماميّة كتبت لحدّ الآن زعيماً علميّاً لا ينازعه أحد، و كان قد طعن في السنّ فلمّا أحسّ باقتراب أجله و أنّه يوشك أن يُلَبّي دعوة ربّه، أحضر انطلاقاً من المسئوليّة الكبري التي كان يتحمّلها طوال سنين أكابر الحوزة و علماءها في بيته حتّي يتّخذوا قراراً بشأن زعامة الحوزة، و المرجعيّة الكبري للشيعة من بعده، فلمّا حضر العلماء تصفّح وجوههم فلم يرَ بينهم الشيخ الأَنصاري، فأمر بإحضار الشيخ، فلمّا دخل مجلسه أخذ بيده و أحلّه إلي جنبه و وضع يده علي قلبه و قال: الآن طاب لي الموت، ثمّ أقبل علي الحاضرين و قال:

هذا مرجعكم بعدي.

ثمَّ خاطب الشيخ و قال: قلّل من احتياطاتك فإنّ الشريعة سمحة سهلة.

و بذلك انتخب الشيخ بإيصاءٍ من مرجع رسميّ خضعت له القلوب و الأَفكار، للزعامة العلميّة و المرجعيّة، ثمّ بعد انفضاض المجلس، قام الشيخ إلي حرم الإِمام أمير المؤمنين- عليه السلام مبتهلًا عنده إلي اللّه سبحانه أن يعينه في هذه المسئوليّة الخطيرة و يصونه من الزلل.

و لمّا لبّي صاحب الجواهر دعوة ربّه، انتقلت إليه الزعامة بلا منازع، و قام بأعبائها بقلب سليم، و استمرّ في تسيير أُمور الجماعة، بحزم و حكمة و بإرادة صلبة لا تعرف الضعف و الكلل، و لم يكن رائده إلّا رضاه سبحانه و تعالي إلي أن لَقِيَ ربّه

تذكرة الأعيان، ص: 374

في ليلة السبت المصادفة ليلة الثامنة عشرة من شهر جمادي الأُخري من شهور عام (1281 ه)، و شيّع جثمانه الطاهر جميع العلماء، و في طليعتهم تلاميذه الأَكابر، و دفن في حجرة من حجرات الصحن الحيدري الشريف، و تقع مقبرته علي يسار الخارج من الباب الجنوبي للحضرة العلويّة المقدّسة.

هذه هي إلمامة عابرة و عرض خاطف عن حياة الشيخ الأَنصاري الذي كرّس حياته في التدريس و التأليف و إعداد الفضلاء و تربية المجتهدين، و إرساء دعائم النهضة العلميّة الدينيّة الحديثة التي تُعدّ بحقٍّ ثورة علميّة كبري قلّما اتّفق نظيرها في العصور السابقة.

و لكي يقف القاريَ علي عظمة الشيخ في مجال العلم و الفضل، و علوّ كعبه في صعيد الزهد و التُّقي، نأتي ببعض الكلمات الصادرة من أساتذته و تلامذته حتّي يكون كالمستشف للحقيقة عن كثب.

كلمات الإِطراء و جُمَل الثّناء في حقّه

كتب الشيخ النراقي إجازة مفصّلة له، وصفه فيها بقوله: «و ممّن جدّ في الطلب و بذل الجهد في هذا المطلب، و فاز بالحظّ الأَوفر الاسني، و

حظا بالنصيب المتكاثر الاهني، مع ذهن ثاقب، و فهم صائب، و تدقيق و تحقيق، و درك غائر رشيق، و الورع و التقوي و التمسّك بتلك العروة الوثقي، العالم النبيل و المهذّب الأَصيل، الفاضل الكامل و العالم العامل، حاوي المكارم و المناقب، و الغائر بأسني المواهب، الالمعيّ المؤَيّد، و السالك طرق الكمال للأَبد، ذو الفضل و النُّهي و العلم، الشيخ مرتضي بن الشيخ محمد أمين الأَنصاري التستري أيّده اللّه بتأييده، و جعله من كُمّلِ عبيده، و زاد اللّه في علمه و تقاه و حيّاه بما يرضاه، و قد استجاز بعد ما تردّد إليَّ و قرأ عليَّ و تبيّنت فضيلته لديَّ، و لمّا كان أيّده اللّه سبحانه

تذكرة الأعيان، ص: 375

لذلك أهلًا، و إنجاح مسئوله فرضاً لا نفلًا، فأجزت له أسعد اللّه جدّه و ضاعف كدّه و جدّه أن يروي عنّي كتاب نهج البلاغة» «1».

و قال عنه المحدّث النوري (المتوفّي 1320 ه)، بعد ما ذكر أنّ نسبه ينتهي إلي جابر بن عبد اللّه الأَنصاري: و من آثار إخلاص إيمان «جابر» و علائم صدق ولائه أن تفضّل اللّه تعالي عليه و أخرج من صلبه مَنْ نَصَرَ الملّة و الدين بالعلم و التحقيق و الدقّة، و الزهد و الورع و العبادة و الكياسة، بما لم يبلغه من تقدّم عليه و لا يحوم حوله من تأخّر عنه.

و قد عكف علي كتبه و مؤَلّفاته و تحقيقاته، كلّ من نشأ بعده من العلماء الاعلام و الفقهاء الكرام، و صرفوا هممهم، و بذلوا مجهودهم، و حبسوا أفكارهم و أنظارهم فيها و عليها، و بعد ذلك معترفون بالعجز عن بلوغ مرامه فضلًا عن الوصول إلي مقامه جزاه اللّه تعالي عن الإِسلام و المسلمين خير جزاء

المحسنين «2».

و وصفه سيّدنا العلّامة السيّد محسن الأَمين (المتوفّي 1373 ه) في أعيان الشيعة بقوله: الأُستاذ الامام المؤَسس، شيخ مشايخ الإِماميّة، و قد انتهت إليه رئاستهم العامّة في شرق الأَرض، و غربها، و صار علي كتبه و دراسته، معوّل أهل العلم، لم يبق أحد لم يستفد منها، و إليها يعود الفضل في تكوين النهضة العلميّة الأَخيرة في النجف الأَشرف، و كان يملي دروسه في الفقه و الأُصول، صباح كلّ يوم و أصيله في الجامع الهندي، حيث يغصّ فضاؤه بما ينيف علي الأَربعمائة من العلماء «3».

______________________________

(1) الإِجازة مذكورة برمّتها في كتاب شخصيّة الشيخ الأَنصاري: 130120.

و المؤلّف من أحفاد أخي الشيخ الأَنصاري المعروف بالشيخ منصور الذي شدَّت أُمّ الشيخ عضده به.

(2) مستدرك الوسائل 3: 383 و 384.

(3) أعيان الشيعة 10: 118.

تذكرة الأعيان، ص: 376

و لو أردنا سرد كلمات الإِطراء في حقّه لطال بنا الموقف هنا مع القاريَ الكريم مع أنّ المقام لا يسع، و لأَجل ذلك نكتفي بكلمات درّيّة و جمل مضيئة نختارها من الشخصيّات الكبيرة من أعلام الشيعة و السنّة.

1- قال عنه الشيخ علي كاشف الغطاء (المتوفّي 1251 ه) أُستاذ الشيخ: كلّ شي ء سماعه أعظم من عيانه إلّا الشيخ مرتضي فإنّ عيانه أعظم من سماعه.

2- و قال عنه السيّد حسين البروجردي (المتوفّي 1267 ه) المعاصر للشيخ في أُرجوزته المعروفة ب «نخبة المقال في علم الرجال»:

و ابن أمين مرتضي الأَنصاري شمس الشموس قدوة الأَخيار

3- و قال أُستاذي الكبير السيّد محمّد الحجّة الكوه كمري (1301 1372 ه) في درسه الشريف ما ترجمته: قد أشعل الشيخ مشعلًا منيراً في طريق العلم، و هو أعزّ ما تركه بعده، و الكلّ من بعده، علي ضوء ذلك المشعل المنير، يسيرون، و بضوئه يستنيرون.

4- و

نقل عن الدكتور عبد الرزّاق السنهوري، مؤَلّف «الوسيط» في عشرة أجزاء، الذي شرح فيه القانون المدني لمصر، و بدأ بتأليفه عام (1936 م) و قد تجاوب هذا الكتاب مع حاجات العصر و نال شهرة كبيرة في البلاد العربيّة حتّي صار يضرب به المثل في الدقّة و العمق، أنّه قال: كما حدّثني الثقات نقلًا عن بعض أساتذة كليّة الحقوق ببغداد: «لو كنت اطّلعت علي كتاب المكاسب للشيخ الأَنصاري قبل تأليف «الوسيط» لغيّرت الكثير من آرائي في ما كتبته حول المعاملات».

إلي غير ذلك من جمل الإِطراء، و كلم الثناء التي لا تستطيع تحديد شخصيّة عظيمة مثل الشيخ الأَعظم و كأنّي بأبي الفتح البستي الشاعر المفلق يريد الشيخ

تذكرة الأعيان، ص: 377

الأَعظم بقوله:

لا يُدرك الواصف المُطْري خصائصَه و إن يكن سابقاً في كلّما وصفا

نعم هو الجوهر الفرد الذي لا ينتج له الزمان مثيلًا إلّا في البرهة بعد البرهة، أو في القرن بعد القرن و كان قدَّس سرَّه مركز الدائرة للفضائل، فخطوط المكارم المنتهية إليه سواء لا توصف بالطول و لا بالقصر كيف و هو حسب قول الإِمام أمير المؤمنين- عليه السلام- قد أحيي عقله، و أمات نفسه حتّي دقّ جليلة و لطُف غليظة «1».

تآليفه و تصانيفه

قد ترك الشيخ آثاراً جليلة لم يزل بعضها مدار الدراسة و البحث في جامعات الشيعة، و هو يعطي لكلّ موضوع في كلّ تأليف صبغته الجديدة و قد طبع أكثرها، و نحن نشير إلي أسمائها علي وجه الإِجمال: 1- رسالة في الإِرث، 2- رسالة في التقيّة، 3- رسالة في التيمّم، 4- رسالة في الخمس، 5- رسالة في قاعدة الضرر و الضرار، 6- رسالة في القضاء عن الميّت، 7- رسالة في المواسعة و المضايقة، 8- رسالة في

التسامح في أدلّة السنن (طبعت أيضاً في ضمن حاشية الاوثق علي الرسائل، 9- رسالة في قاعدة من ملك شيئاً ملك الإِقرار به «2» 1- رسالة في مناسك الحجّ، 11- تعليقة علي استصحاب القوانين، 12- تعليقة علي نجاة العباد، 13- تعليقة علي بغية الطالب، 14- رسالة في علم الرجال، و هي تقرب في الحجم من خلاصة العلّامة في ذلك العلم و توجد نسخة منها في مكتبة الامام الرضا- عليه السلام- و قد فرغ منها الكاتب عام وفاة

______________________________

(1) نهج البلاغة، شرح محمّد عبده، الخطبة 215.

(2) هذه الرسائل طبعت إمّا في آخر المكاسب بعنوان الملحقات أو مع «مطارح الانظار» لتلميذها المعروف بالكلانتري.

تذكرة الأعيان، ص: 378

الشيخ (1281 ه).

15- رسالة في الردّ علي القائلين بقطعيّة الاخبار، و قد أشار إليه الشيخ في رسالة الظنّ من فرائده، 16- رسالة في القرعة، 17- تعليقات علي «عوائد» أُستاذه النراقي، 18- كتاب الطهارة، و هو كتاب استدلالي مبسوط مطبوع منتشر و قد علّق عليها تعليقات منها تعليقات شيخنا الوالد الشيخ محمّد حسين السبحاني المتوفّي عام (1392 ه) و في هذه الرسائل شواهد جليّة علي نضوج رأيه، و صفاء ذهنه.

و علي أنّه كان لا يترك في كلّ مسألة فقهيّة أو رجاليّة سؤَالًا لسائل، و لا مجالًا لقائل، و تغلبُ علي جميعها روح التحقيق و الإِمعان و إقناع القاريَ فيما يرومه و يهدف إليه.

و قد أفرغها الشيخ في قالب التأليف بقلم سيّال من غير إيجاز مخلّ إطناب مملّ.

و لكن السبب الذي جعلا لشيخ في زمرة القلائل من العلماء هو ما نذكره من آثاره الجليلة.

19- الفرائد: المشهور بالرسائل، هذا الكتاب مؤَلّف من رسائل مختلفة، طبعت في مجلّد واحد تبحث عن أحكام القطع و الظنّ، و تحدِّد مجري

أصل البراءة و الاشتغال، و تبحث عن الاستصحاب و عن أحكام التعادل و التراجيح، و قد صار هذا الكتاب منذ اشتهاره في الحوزات العلميّة، مداراً للدراسة و قد أكبّ علي تدريسها و تحشيتها كثير من تلامذة الشيخ و تلامذة تلامذته و ربّما يربو عدد التعاليق علي (65) تعليقة «1».

و الحقّ أنّ الشيخ خدم العلم و أهله بهذا الكتاب القيّم خدمة عظيمة، و ذلك لَانّه قام: أوّلًا: بتحرير أحكام القطع و الظنّ، و قد قسّم الظنّ إلي ظنّ خاصّ و ظنّ

______________________________

(1) الذريعة إلي تصانيف الشيعة: 6- 152، فما بعد مادّة «الحاشية» و قد سقط من قلمه الشريف بعض التعاليق الموجودة في خزائن الكتب كما أنّه لم تسجل فيها التعاليق التي أُلّفت في الاعصار المتأخّرة و ممّا سقط من قلمه الشريف حاشية «إرشاد الأَفاضل» للوالد قدَّس سرَّه.

تذكرة الأعيان، ص: 379

مطلق و أعطي الكلّ حكمه.

و ثانياً: قام في رسالة البراءة و الاشتغال بتبيين مجاريهما و قد كانت غير منقَّحة في كلمات السابقين فربّما كانوا يتمسّكون بالبراءة في موضع الاشتغال، كما يتمسّكون به في موضع البراءة أضف إلي ذلك أنّه قرّر موقف الدليل الاجتهادي من الأَصل العملي فاستنتج أنّه لا يمكن أن يحتجّ بهما معاً لحكومة الدليل الاجتهادي علي الأَصل العملي.

و ثالثاً: قام في رسالة الاستصحاب بعقد تنبيهات بعد الفراغ من إثبات حجّيته بالاخبار.

أودع الشيخ فيها أفكاره الناضجة و آراءه البديعة، فمن راجعها رأي أنّه المؤَسّس للكثير من القواعد الواردة فيها و إن كان لبعضها جذور في كلمات من تقدّم عليه فلاحظ ما دبّجه بقلمه الشريف حول الاستصحاب الكلّي بأقسامه، و الاستصحاب التعليقي و عدم حجّيّة الأَصل المثبت «1» و الاستصحاب السببي و المسبّبي علي وجه تجدها برمّتها أفكاراً

لم تقرط بها أذن الدهر قبل ذلك قطّ.

20- المتاجر المعروفة بالمكاسب: هو الكتاب الثاني الذي عليه مدار الدراسة و البحث في الحوزات العلميّة، و هو كتاب عظيم جليل لم يسمح الدهر بمثله، يبحث عن أحكام المكاسب المحرّمة أوّلًا، ثمّ عن أحكام البيع ثانياً، ثمّ عن أحكام الخيارات و الشروط ثالثاً، ثمّ عن أحكام القبض و النقد و النسيئة رابعاً، و هناك بحوث طرحها الشيخ خلال الكتاب لمناسبات اقتضاها المقام، ففيها دقائق علميّة تعرب عن كون الكتاب وليد فكر خارق للعادة، و المؤلّف لا يغوص

______________________________

(1) ربّما يشير صاحب الجواهر إلي عدم حجّيّة الأَصل المثبت، لاحظ 31: 134 و 364 من كتاب «جواهر الكلام»، و لهذه المسائل جلّها أو كلّها جذور في كلمات الأَصحاب، إلّا أنّه حقّقها و حرّرها بنحو بديع و بمثال غير سابق.

تذكرة الأعيان، ص: 380

في بحار الفقه إلّا و يخرج بالدرر و الدراري و الجواهر الثمينة و قد تعرّفت علي كلام الدكتور عبد الرزاق السنهوري مؤَلّف: الوسيط: في حقّ الكتاب و لأَجل ذلك يعدّه المحقّق المامقاني من أحسن كتب الشيخ و أثمنها «1».

و للكتاب تعاليق قيّمة ذكرها الشيخ الطهراني في ذريعته «2» و ربّما تربو علي 30 تعليقة، و أحسن التعاليق تعليقة السيّد الطباطبائي قدَّس سرَّه.

21- رسالة في الاجتهاد و التقليد، طبعت في مجموعة رسائل فقهيّة و أُصوليّة عام 1404 ه.

ق.

و من الطريف أنّ الشيخ الأَعظم مع أنّه كان ضعيف البصر و ربّما كانت المطالعة في الليالي أمراً صعباً عليه، قد كتب مصحفاً كاملًا بخطّه الشريف و هو موجود بين أحفاده، حشره اللّه مع القرآن و العترة.

تلامذته

قد تعرّفت من كلام سيّد الأَعيان علي أنّ الشيخ كان يلقي دروسه في الجامع الهندي في النجف

الأَشرف و يغصّ فضاؤه بما ينيف علي الأَربعمائة من العلماء و الطلّاب، فقد تخرّج عليه كثير من الفقهاء و المجتهدين الذين تسنّموا منصة الزعامة العلميّة و الرياسة الدينيّة بعد رحلة الشيخ نظراء: الميرزا الشيرازي (المتوفّي 1312 ه)، و السيّد حسين الكوهكمري (المتوفّي 1299 ه)، و الشيخ موسي التبريزي مؤَلّف «أوثق الوسائل» (المتوفّي 1307 ه)، و الحاج ميرزا حبيب اللّه الرشتي (المتوفّي 1312 ه)، و الشيخ حسن المامقاني (المتوفّي 1323 ه)، و الشيخ محمّد الشربياني (المتوفّي 1322 ه)، و الشيخ علي النهاوندي (المتوفّي 1317 ه)، و الشيخ علي العلياري (المتوفّي 1327 ه)، و الشيخ محمّد كاظم

______________________________

(1) غاية الآمال، للشيخ حسن المامقاني المتوفّي 1323.

(2) الذريعة 3 221: 216.

تذكرة الأعيان، ص: 381

الخراساني (المتوفّي 1329 ه)، إلي غير ذلك من علماء أجلّاء قدَّس سرَّهم.

و قد أتي صديقنا الحجّة الشيخ مرتضي الأَنصاري (دام مجده) في كتابه بأسماء كثير من تلامذة الشيخ مع تراجمهم فبلغ (315) تلميذاً بارعا «1» و قد أغنانا كتابه عن الايعاز إلي أسمائهم فضلًا عن الإِشارة بفضائلهم.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

______________________________

(1) لاحظ شخصيّة الشيخ الأَنصاري: 168 315.

تذكرة الأعيان، ص: 382

16- زين العابدين الگلپايگاني المعروف ب «حجة الإِسلام» (1218- 1289 ه)

اشارة

العلم شمس طالعة، تبدد الظلم الحالكة، و تمزق أستار الغياهب المدلهمّة، و العلماء حملة مشاعل النور بين الأُمّة، يضيئون العقول بأنوار المعرفة، و يكشفون عن الطرق المثلي لبناء حياة سعيدة رغيدة تُحيي فيها الفضائل و تموت الرذائل.

إنّ بين العلماء نوابغ قلائل يضنُّ بهم الدهر إلّا في فترات متقطّعة و متباعدة و هؤلاء يُعدّون من حملة مشاعل النور و نبارسه و مصابيحه.

و من تلك الزمرة و النموذج الأَمثل لهؤَلاء شيخنا العلّامة الحجّة آية اللّه العظمي الآخوند ملّا زين العابدين الكلبايكاني المعروف ب «حجّة الإِسلام» فقد

كان من نوابغ عصره و فطاحل زمانه، و قد حقّت له العبقريّة و النبوغ.

ولد رحمه اللّه في موطنه كلبايكان عام 1218 ه.

ق و أخذ هناك الأَوّليات و تعلّم السطوح العالية ثمّ انتقل لتكميل دروسه إلي مدينة أصفهان فتلقّي فيها دروساً علي يد المحقّق الشيخ محمّد تقي صاحب الحاشية (المتوفّي 1248 ه) و لم تقنع نفسه الكريمة بما اكتسبه من العلوم فغادر أصفهان إلي المدرسة الكبري للشيعة: النجف الأَشرف و أخذ هناك عن أعلام عصره مثل الشيخ علي كاشف الغطاء نجل الشيخ جعفر الكبير و الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر

تذكرة الأعيان، ص: 383

(المتوفّي 1266 ه) و غيرهما من أساتذة الوقت و أعاظم العصر إلي أن استقلّ بالتدريس و تخرّج علي يديه لفيف من المحقّقين الكبار، نظراء: السيّد حسين الكوهكمري (المتوفّي 1299 ه) و السيّد ميرزا حسن الشيرازي (المتوفّي 1312 ه) إلي غيرهما من الأَكابر الاعلام، ثمّ انتقل إلي موطنه قائماً بالوظائف الدينيّة و مكبّاً علي الدراسة و الكتابة حتّي انتقل إلي جوار ربّه عام 1289 «1» و ترك ثروة علميّة كبيرة ما زالت مخطوطة كالكنوز الثمينة تحت أطباق الثري.

ما قيل في حقه:

1- مجتهد فحل و مرجع لجميع أهل الفضل، و كان جميع أفاضل عصره و مجتهدي زمانه يعدّون أنفسهم دونه في الفقاهة و الاجتهاد، كان رحمه اللّه علي ما حكي متخصّصاً في اثني عشر فنّاً، كما كان البعض يعتقد بأنّه كان صاحب الكرامات و المكاشفات، غير أنّ نطاق التحرير في هذه الرسالة لَاضيق من أن يحيط بترجمة هذا الفقيه الأَعظم، و أقصر من أن يقوم بالواجب نحوه، فليس عندنا عبارة تفي بحقّ أمثال هؤلاء من الرجال مع رعاية الاختصار.

توفّي قدّس اللّه روحه عام ألف و مائتين و تسعة

و ثمانين «2».

2- النحرير الصمداني ملّا زين العابدين الجرفادقاني «3» كان في العلوم بحراً خِضَمّاً، و بين العلماء فقيهاً معظّماً، أعلم الفقهاء علي اليقين، رئيس الملّة

______________________________

(1) حكي العلامة الحجّة السيد أحمد الحسيني الاشكوري في حاشية النسخة المطبوعة من «الكرام البررة» للمحقّق آقا بزرگ الطهراني عن الورقة الأولي من كتاب شرح الشرائع للمولي علي بن عبد الغفار الموجودة في مكتبة المرعشي: انّ الشيخ زين العابدين الگلپايگاني توفي بعد مضي ساعتين من يوم الثلاثاء 11 ربيع الثاني سنة 1289.

(2) المآثر و الآثار: الباب العاشر، ص 146 باللغة الفارسية، و قمنا بترجمته حرفياً.

(3) معرب گلپايگان.

تذكرة الأعيان، ص: 384

و الدين و أورع المتورعين، و أزهد الزاهدين عقمت الأَرحام عن مثله، و لم يسمع الدهر بنظيره، و قد تشرفت في سالف السنوات بعد أن رجعت من العتبات العاليات بخدمته، و ساعدني التوفيق علي إدراك فيض حضرته، و قد كتبت إليه بعد وفاة الشيخ مرتضي الأَنصاري جماعة من أكابر تلامذته، منهم الحاج ميرزا حسن الشيرازي و الحاج السيّد حسين الترك يلتمسون منه الهجرة من جرفادقان إلي النجف الأَشرف، ليستفيدوا من علومه و أفكاره، فلم يجب سولهم معتذراً بأنّه قد طعن في السن، و لا تساعده الحال علي البحث و التدريس.

و قد كان زاهداً بعيداً عن زخارف الدنيا، مجتنباً عن معاشرة أرباب القيل و القال، و قد أوصاني قدَّس سرَّه بإقلال المعارف، و ترك التصدي للمرافعة و القضاء و الابتلاء بمخالطة أبناء الزمان، و لا سيّما الحكّام و الأُمراء، و له مصنّفات كثيرة في الفقه و الأُصول و المعارف و المنقول من جملتها كتاب «الأَنوار القدسيّة» و قد تلقّاها الفحول بالقبول «1».

3- العلّامة المشهور في گلپايگان، هاجر إلي أصبهان، و أخذ عن

الشيخ محمد تقي صاحب حاشية المعالم، ثمّ ارتحل إلي كربلاء و تتلمذ علي شريف العلماء و صاحب الفصول، ثمّ هاجر إلي النجف و أخذ الفقه عن الشيخ علي بن الشيخ جعفر، ثمّ عن صاحب الجواهر، ثمّ عاد إلي بلده، و تصدر التدريس.

له من المؤَلّفات: 1- شرح الدرة النجفيّة لبحر العلوم، 2- صلاة المسافر، 3 صلاة الجماعة، و لم تكن الدرة مشتملة عليهما.

4- شرح أسماء اللّه الحسني، 5- روح البيان، باللغة الفارسيّة، 6- كتاب النكاح و المتاجر، 7- الأَنوار القدسيّة في الفضائل الاحمديّة، 8- تفسير قوله سبحانه: (إِنَّ اللّٰهَ وَ مَلٰائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ).

______________________________

(1) لبّ الأَلقاب في ألقاب الأَطياب للشيخ العارف حبيب اللّه الشريف الكاشاني: 106.

تذكرة الأعيان، ص: 385

يروي عن صاحب الجواهر، و يروي عنه جماعة منهم المجدد الميرزا الشيرازي «1».

4- عالم و فقيه جليل، كان من أعاظم رجال الدين و أكابر فقهاء الطائفة، ولد في سنة 1218، و اشتغل في أصفهان علي الشيخ محمّد تقي صاحب «حاشية المعالم» و بعد وفاته تشرف إلي العتبات المقدسة في العراق فحضر في النجف الأَشرف علي الشيخ علي كاشف الغطاء صاحب «الخيارات» و الشيخ محمّد حسين الأصفهاني صاحب «الفصول» و الشيخ محمّد حسن صاحب «الجواهر» حتّي بلغ في الفقه و أُصوله مكانة سامية و أصبح علي جانب عظيم من التحقّق و التبحّر.

عاد إلي گلپايگان فرأس و أصبح من مراجع الدين و أعلام المسلمين، و اشتغل بالتدريس و التأليف و ترويج الدين و نشر لواء المذهب إلي أن انتقل إلي رحمة اللّه في الحادي عشر من ربيع الأَوّل سنة 1289.

له آثار جليلة منها: «شرح الدرة» للسيّد مهدي بحر العلوم و هو مبسوط، و قد ضمّ إليه بابي صلاة المسافر و

صلاة الجماعة غير الموجودين في الدرة، و قد تمّا في قرب مائة ألف بيت، و له «كتاب النكاح» و «كتاب المتاجر» و «روح الإِيمان» فارسي و «الأَنوار القدسيّة» و مجموعة علي نهج الكشكول ذات فوائد كثيرة و «الوارد» في الغيبة، إلي غيرها، و الجميع عند ولده العالم الجليل الميرزا محمّد مهدي المدعو ب «آقا زاده» و يروي عن مشايخه المذكورين و يروي عنه شيخنا العلّامة الميرزا حسين الخليلي بالإِجازة منه، فقد أدركه في سفره إلي إيران في گلپايگان كما حكاه عنه السيّد حسن الصدر في إجازته لي «2».

هذا بعض ما قيل في حقّه، غير أنّه كما اعترف به معاصره صاحب المآثر

______________________________

(1) أعيان الشيعة: 7- 164.

(2) الكرام البررة للمحقّق الشيخ آقا بزرگ الطهراني: 2- 587.

تذكرة الأعيان، ص: 386

و الآثار فوق هذه الأَوصاف و التحديدات، كيف لا و آثاره الباقية الخالدة علي جبين الدهر تدلّ علي أنّ شيخنا المترجم له كان أوحديّ عصره و إن عاقد سمطها هو الّذي استحلب صفو درتها، و استخرج إليهم من درتها.

تجاوز حدّ المدح حتّي كأنّه بأحسن ما يثني عليه يعاب

و لأَجل ذلك نطوي الكلام و الإيعاز إلي سماته و نكتفي بنقل هذه الحكاية: حدّثنا شيخنا آية اللّه الصافي عن الآية العظمي الحاج السيّد أحمد الخونساري (المتوفّي 1405 ه) عن العلّامة الحجّة الحاج روح اللّه كمالوند الخرّم آبادي (المتوفّي 1397 ه) عن فقيه الطائفة و فقيد الإِسلام آية اللّه العظمي السيّد حسين البروجردي (المتوفّي 1380 ه) هذه الحكاية البديعة: في إحدي الحروب الداخليّة الّتي وقعت في عهد الملك الايراني «ناصر الدين شاه» كانت قواته تواجه الفشل و الإخفاق، و رغم سعي جيوشه للظفر علي أعدائه كانت الخيبة حليفة لهم فطلبت القيادة العسكريّة الأمداد

من الملك، فسأل الملك عن سبب إخفاق قواته و فشلها، فوافاه الجواب بأنّ جنوده الّذين يقاتلون في هذه المعركة من مقلّدي حجّة الإِسلام الشيخ زين العابدين الگلپايگاني و هو يحرم هذا القتال.

فاستدعاه الشاة إلي طهران حتّي يعاتبه علي هذا التحريم، فلمّا قدمها نزل علي العالم الكبير الطائر الصيت الحاج ملّا علي الكني (المتوفّي 1306 ه) و كان آن ذاك كبير علماء طهران، و لقي عنده حفاوة بالغة، ثمّ تقرر أن يتمّ لقاء بين الشيخ زين العابدين و الشاه، و قد كان من نيّة الشاه أن يعترض عليه بشدّة و عنف، و لمّا رأي رجال البلاط أنّ «الكني» رافقه عند مجيئه إلي الشاة قام الملك بترحيب حارّ به.

فلمّا انتهي المجلس و خرج الضيوف من البلاط سأل بعض المقربين من الشاه عن سرّ عدوله عمّا نواه أوّلًا، فأجاب الملك بأنّي رأيت عند دخوله إلي قصري كأنّ رجلًا قد شهر سيفه يمشي

تذكرة الأعيان، ص: 387

إلي جانبه، فقلت في نفسي سيأخذه شرطة القصر مهما كان، و يقبضون عليه، إلّا أنّني لم أر أحداً يتعرض له قط، فقد كان يمرّ علي الحرس من دون أن يقابله أحد، حتّي دخل عليّ بهذه الهيئة، ثمّ قال أي ذلك الرجل الحامل للسيف لي: إيّاك أن تسي ء إلي هذا الشيخ، أو قال: إن تعرضت إليه بإساءة قتلتك بسيفي هذا أو قطعت عنقك، و لهذا لم أجرأ علي المساس بالشيخ، أو الازدراء به، و قمت له بالاحترام اللازم و عاملته بأحسن ما يليق به من الأَدب.

و من أشهر تصانيفه كتاب «أنوار الولاية» الذي يشتمل علي ثمان رسائل: الرسالة الأولي: في شرح حديث ما روي عن رسول اللّه صلَّي اللّه عليه و آله و سلَّم: «لو

اجتمع الناس علي حبّ عليّ- عليه السلام- ما خلق اللّه النار» و قد ألّفها في الحائر الشريف الحسيني ثمّ أكملها بعد أعوام.

الرسالة الثانية: في تحقيق الصراط.

الرسالة الثالثة: في شرح حديث الضبّ، و فيها الحثّ علي التشبّه بأولياء اللّه المعصومين.

الرسالة الرابعة: في علم المعصومين- عليهم السلام- و سعة علومهم.

الرسالة الخامسة: في شرح حديث المعرفة.

الرسالة السادسة: في بيان معني الحبّ لأَمير المؤمنين عليّ- عليه السلام-.

الرسالة السابعة: في تحقيق القول في علم المعصومين- عليهم السلام-.

الرسالة الثامنة: في شرح الخطبة النبويّة في فضيلة شهر رمضان.

و قد طبع الكتاب عام 1409 ه نشرته مؤَسسة دار النشر الإِسلامي و أرجو من اللّه سبحانه أن يوفق الدار لنشر سائر مؤلفاته فشكراً للدار، و لآية اللّه الصافي دام ظله علي بذل جهوده المشكورة في التفحص عن آثار فقيدنا الراحل و تشجيع الدار علي نشرها.

تذكرة الأعيان، ص: 388

17- الشيخ عبد الصمد بن محمد باقر الخامنئي (1220- 1311 ه)

رسالة الشعر و الشعراء

اشارة

لا يخفي علي أحد ما للشعر من تأثير خاص في نفسيّة كل إنسان، يلمسه عند قراءته و استماعه له بحيث يتفاعل معه و ينقاد لما يريده، و لهذا نري بوضوح كيف إنّ السلطات الظالمة كانت تجعل منه أداة طيّعة لخدمة أغراضها و توجّهاتها، فقد كانوا يستخدمون الشعراء لغايات ماديّة و أغراضٍ سياسيّة، فيرسلون قصائدهم لكل صقع و ناحية في سبيل جلب الناس إليهم، فكان الشعر إلي جنب الخطابة وسيلتين اعلاميتين في تلك العصور.

إلّا أنّ استخدام الشعر و الشعراء لم يكن مختصّاً بأهل الهوي في أهدافهم فحسب، بل كان رجال الوحي و الدين يستخدمون ذلك السلاح في تحقيق أهدافهم الاصلاحيّة.

حيث يحدثنا التاريخ أنّ النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- كان يأمر شعراء عصر الرسالة كحسان بن ثابت، و كعب بن مالك، و عبد اللّه بن

رواحة و غيرهم بالرد علي الشعراء الذين كانوا يهاجمون الإِسلام و أهله بقصائدهم، كما حصل حينما قال ابن الزبعري في غزوة أُحد قصيدته التي مطلعها:

يا غراب البين أسمعتَ فقل إنّما تنطُق شيئاً قد فعل

تذكرة الأعيان، ص: 389

أجابه حسّان بن ثابت بقصيدة بمثل تلك القافية و مستهلّها:

ذهبت بابن الزبعري وقعة كان منّا الفضلُ فيها لو عدل

إلي غير ذلك من الشعراء المواكبين لهذا الخط في عصر الرسالة، الملتفّين حول الرسول- صلي الله عليه و آله و سلم- يعينونه في مجال الجهاد بالسيف و الرمح، و في مجال الكلام بالشعر و الأَدب، يبطلون بذلك حبائل شعراء المشركين و كذبهم، و يأخذون بمجامع قلوب المسلمين.

فكان الأَدب في اسلاك القريض، يدبُّ مع السيف و الرمح جنباً إلي جنب.

لقد كان رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- يري أنّ تقدير الشعراء الصالحين، أحد الوسائل لنصرة الإِسلام، حيث كانوا ينضحون الكفّار بنبل أكثر تأثيراً من نبلهم، و قد أصدر النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- كلمته المعروفة في حقّ هؤلاء و قال: «اهجوا بالشعر: إنّ المؤمن يجاهد بنفسه و ماله، و الذي نفس محمد بيده كأنّما تنضحونهم بالنبل و في لفظ آخر و الذي نفس محمد بيده فكأنّما تنضحونهم بالنبل فيما تقولون لهم من الشعر» «1» و قد اقتدت بالنبي- صلي الله عليه و آله و سلم- عترته الطاهرة، فكانوا يقدّرون شعر الشعراء إذا كان فيه إجهار بالولاء و إصحار بالحقيقة، و يكسونهم، و يهبون لهم الصلات، فعند ما أنشأ الفرزدق (20 114 ه) ميميّته المعروفة في عصر تسرّبت فيه الروح الأَموية إلي المجتمع، و كانت علي الأَلسن سدود، اهتزَّ لها عرش الدولة الأَموية لما كان في شعره

من بلاغة كاملة، و نكات بديعة ترشد الأُمّة إلي مراكز المثل و الفضيلة و منابع الحق و مصادره، و قد أحسَّ بذلك هشام بن عبد الملك الوالي علي الحجِّ أيَّام خلافة

______________________________

(1) مسند أحمد: 3، 456- 460، و ج 2- 387.

تذكرة الأعيان، ص: 390

أخيه الوليد، فحبس الفرزدق «1» و شدّد عليه الأَمر، و لما بلغ الأَمر إلي الامام زين العابدين- عليه السلام- قدّره و أرسل إليه أموالًا كثيرة.

هذا هو الرجالي المعروف في القرن الرابع «الكشي» يحكي لنا تقدير الامام الباقر لقصيدة الكميت حيث دخل علي أبي جعفر و قرأ قصيدته المعروفة التي مطلعها:

مَنْ لقلبٍ متيّمٍ مستهام غير ما صبوةٍ و لا أحلام

فلما فرغ منها قال للكميت: لا تزال مؤَيّداً بروح القدس ما دمت تقول فينا «2».

إلي غير ذلك ممّا نري في حياة الامام الصادق و الإِمام علي بن موسي الرضا عليمها السَّلام من استماعهما إلي شعر الشعراء المجاهرين بالولاء، و المخلصين في طريق الحق، المستعدِّين للبلاء، و قد احتفل بهم التاريخ و بكلماتهم، فمن أراد فليرجع إلي حياة السيد الحميري، و دعبل الخزاعي، و بذلك تعرف قيمة ما أثر عن رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم-: «إنّ من الشعر لحكمة» «و انّ من البيان لسحرا» «3» نعم الشعر الذي لا يهدف إلّا إلي التحليق في عالم الخيال، و لا يقصد به إلّا المجون، و لا يقال إلّا لأَن يُغنّي به في أنديه الفجور و الفسوق، أو يُعظَّم به الطواغيت، هو ذلك الشعر الذي ذمّه اللّه تعالي في كتابه الكريم حيث

______________________________

(1) عمر فرّوخ: تاريخ الأَدب العربي: 1- 662.

(2) رجال الكشي: 136، رواه عن زرارة.

(3) صحيح البخاري: كتاب الطب باب من البيان سحراً و غيرها.

لاحظ

مسند أحمد 1، 273- 269؛ سنن الدارمي 2- 296.

تذكرة الأعيان، ص: 391

قال: (وَ الشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغٰاوُونَ. أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وٰادٍ يَهِيمُونَ. وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لٰا يَفْعَلُونَ).

كما أنّ الاستثناء الوارد بعد هذه الآية ينظر إلي الطائفة الأولي من المصلحين، و يقول: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ وَ ذَكَرُوا اللّٰهَ كَثِيراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مٰا ظُلِمُوا) «1»

الأَدب الشيعي و الولاء للعترة:

إنّ الشعر قريحة إنسانية أو موهبة إلهية خصّ بها سبحانه لفيفاً من عباده، فهي أشبه بنفائس مكنوزة تحت الأَرض، أو معادن مستورة بركام من التراب، حيث تخرجها من الخفاء إلي الظهور الحوادث التي تواجه الشاعر في حياته.

و تؤَثّر في روحه و عقله، فعند ذلك تتوقّد القريحة و تتوجّه إلي صوب خاص.

فالذي يوجِّه الشاعر إلي صوب أو ناحية صالحه أو فاسدة هي الروحية الخاصة التي يحملها الشاعر وراثة أو يكتسبها في حياته، فإن كان يحمل روحاً دينية أو عاطفة إنسانية تصبو نفسه إلي تلك الجهة، و يكون شعره هادفاً إلي ذلك المرمي، فتجد في شعره المعارف العليا من الكتاب و السنّة، أو الدروس العالية من الفلسفة و الأَخلاق و العبر، أو عواطف ثائرة في فقدان الأَحبّة و نزول الكوارث و الحوادث المؤلمة، إلي غير ذلك من الحوافز و العوامل التي تعد زنداً لتأجيج تلك القوّة أو إشعال ذلك المصباح.

______________________________

(1) الشعراء: 224 227.

تذكرة الأعيان، ص: 392

و إن كانت الروحية التي يحملها الشاعر روحية ساقطة تحِنُّ إلي المجون و الدعارة أو جلب الأَموال و الثروات أو الارتقاء إلي مناصب مادية أو كسب الشهرة فتري شعره علي أعتاب المغنّيات و الجواري و الملوك و الطواغيت، و مدح أصحاب الثروة و القوّة.

و لمّا كان الشاعر الشيعي يحمل بين جنبيه

ولاء للعترة، و حناناً و عطفاً لآل الرسول- صلي الله عليه و آله و سلم- فقد كان لتلك الروحية أثر بارز لظهور شعر تلك الطائفة علي ذلك الصعيد، فقلَّما نري شيعياً رُزِقَ موهبة الشعر إلّا و له قصيدة أو قصائد في مدائح العترة أو ذكر مصايبها.

و لقد كان لحديث الطف أثر خاصّ لهداية قرائحهم إلي إنشاء قصائد في مصايب آل البيت- عليهم السلام-، و بالأَخص فيما جري عليهم في أرض كربلاء، و لأَجل ذلك تري في الأَدب الشيعي و بالأَخص في شعرهم، عاطفة ثائرة بالنسبة إلي صاحب الثورة الامام الطاهر: حسين العظمة و أولاده و أصحابه سلام اللّه عليهم.

يقول الدكتور عمر فرّوخ تحت عنوان: «التشيّع و أثره في الأَدب»: إنّ الاضطهاد الذي تحمّله آل البيت، و تحمّله معهم أنصارهم و أتباعهم الشيعة، زاد في العنصر الوجداني في ذلك الأَدب.

أضف إلي هذا كلّه أنّ أدب الشيعة اكتسب مع الأَيام نفحة دينية لما اعتقد الشيعة أنّ منصب الخلافة ليس أمراً دنيوياً و لكنّه جزء لا ينفصل من العقيدة الدينية نفسها.

و منذ العصر الأَموي تبلور عدد من أوجه العقيدة الشيعية في السياسة كالقول بالحق الشرعي في الخلافة في مقابل الانتخاب و الشوري في اختيار الخليفة إلي أن يقول: فمن الدلالة السياسية في شعر الشيعة في العصر الأَموي قول كثير عزة، يخاطب عمر بن عبد العزيز، و قد كان عمر بن عبد العزيز قد أبطل لعن علي بن أبي طالب علي المنابر في صلاة الجمعة.

تذكرة الأعيان، ص: 393

ولّيت فلم تشتم عليّاً و لم تُخِفْ بريّاً و لم تقبل اشارة مجرم

و صدّقت بالفعل المقال مع الّذي أتيت فأضحي راضياً كلّ مسلم «1»

عناية المسلمين بالأَدب العربي:

إنّ القرآن الكريم نزل بلغة الضاد، فصار ذلك

سبباً لعناية المسلمين بالأَدب العربي ليتيسّر لهم فهم الكتاب العزيز، و لأَجل ذلك نري أنّ غير العرب من المسلمين قاموا بإحياء اللغة العربية و تدوين قواعدها، و تبيين إسرارها في مجالات مختلفة جنباً إلي جنب مع العرب.

فتجد فيهم أدباء شامخين، و شعراء مجيدين و محقّقين في اللغة، و عارفين بأسرارها كأنّهم أبناء تلك اللغة.

يقف علي ذلك من سبر تاريخ العلوم الإِسلامية، مثلًا ففي حقل الشعر هذا بشّار بن بُرد، و مهيار الديلمي تلميذ السيد الرضي، و الوزير الصاحب بن عبّاد، إلي غير ذلك

______________________________

(1) الدكتور عمر فرّوخ: تاريخ الأَدب العربي: 1- 373. و يطيب لي في المقام أن أنقل كلمة منه حول الشيعة فقد أعجبني خضوعه للحقيقة و إجهاره بها و ابتعاده عن التعصّب يقول: الشيعة اسم جامع للذين اتّبعوا علي بن أبي طالب، و فرّعوا الآراء السياسية و الدينية حسب ذلك.

غير أنّ الآراء المتطرّفة جاءت من فرق من غلاة الشيعة كالكيسانية مثلًا ممّن لا وجود لهم اليوم.

أمّا الجماعة المعروفة عندنا اليوم باسم «الشيعة» فهم الشيعة الإِمامية أو الاثنا عشرية أو الجعفرية، و هم أهل مذهب إسلامي كالمذهب الشافعي و المذهب الحنفي من مذاهب أهل السنّة.

و ليس بين المذهب الجعفري و بين المذهب الحنفي من الخلاف في الفقه، أكثر ممّا بين المذهب الشافعي و المذهب الحنفي.

علي أنّ الفارق النظري الباقي إلي اليوم بين السنّة و الشيعة هو اعتقاد الشيعة أنّ الإِمام عليّاً كان أحقّ من جميع الذين تقدّموه في الخلافة و أنّه كان يجب أن يتولّي الخلافة قبلهم، ثمّ إنّ الاعتقاد بذلك جزء لا ينفصل من المذهب.

و أين هذا ممّا تنشره الأَقلام المستأجرة اليوم في نجد و تهامة حول الشيعة من تكفيرهم و سبّهم بحجّة أنّهم

لا يقولون بعدالة كل من صحب النبي أو رآه، أو غير ذلك من الفروع التي شهّروا بها الشيعة من دون أن ينظروا إلي المعارف العليا التي تركها الشيعة؟! و إلي اللّه المشتكي.

تذكرة الأعيان، ص: 394

من عباقرة الشعراء فكلّهم كانوا في مصاف الشعراء الكبار.

و لا غرو أن يقوم هؤلاء بما يقوم به أهل اللسان، إن عاشوا زمناً طويلًا بين أهل تلك اللغة، سواء في العراق أو الشام، إنّما العجب من أُناس كانوا بعيدين عن مراكز الأَدب العربي، و لم يقيموا في تلك البلاد إلّا أيّاماً قلائل و مع ذلك نبغوا في الشعر العربي نبوغاً يُغبطون عليه، و نظّموا أسلاكاً بغير لغتهم الأُمّ حتي كأنّ العربية هي لغتهم الأُمّ التي درجوا عليها منذ نعومة أظفارهم إلي أن اشتدت قواهم.

و نذكر هنا شاعرنا المجيد الذي اقتطفنا من ديوانه القسم الأَكبر في المدائح و المراثي ألا و هو العلّامة الحجّة الشيخ عبد الصمد الخامنئي المتوفّي عام 1311 في مسقط رأسه.

أنّ منطقة أذربيجان منطقة خصبة حافلة بكل ما ينمي القدرات الذاتية للَافراد المتميّزين، و تربتها صالحة لتربية و إعداد الكثير من الكفاءات و العقول الكبيرة، في مجالات مختلفة، و من قرأ تاريخها و تاريخ علمائها و رجالها يقف علي صدق ما أقول.

و مع أنّ اللغة السائدة في تلك المنطقة هي اللغة التركية الآذرية إلّا أنّه نبغ فيهم أُدباء و كتّاب كبار في الادبين: الفارسي و العربي.

و كاتب هذه المقدمة، قد عاش في تلك المنطقة فترة من عمره فشاهد في عصره أُدباء بارعين في اللغة، و محقّقين في الاشتقاق، و عارفين بقواعد الصرف و النحو عرفاناً دقيقاً، فكانوا يدرّسون اللغة كما يدرِّسها الازهريّون ممّن ارتضع هذه اللغة منذ الولادة.

و بحق كانوا

يتقنون اللغة العربية قراءة و كتابة نظماً و نثراً، و يجيدون إنشاء الشعر و إنشاده، فتركوا ثروة كبيرة من الأَدب العربي في تلك الناحية يعلو عليها تراب النسيان.

تذكرة الأعيان، ص: 395

فلأَجل الإِشادة بفضلهم قمنا بطبع ديوان العلّامة الأَديب الشيخ عبد الصمد الخامنئي، مع نماذج رائعة ممّا جادت به قرائح شعراء تلك المنطقة في القرن الرابع عشر في مراثي أهل البيت و مدائحهم، و نذكر لكل شاعرا نموذجاً من شعره، منهم: 1- العلّامة الأَديب الكبير الشيخ محمد تقي المعروف بحجة الإِسلام التبريزي المامقاني، (1247 1312 ه).

2- العلّامة الحجّة نابغة عصره الشيخ مصطفي التبريزي (1297 1337 ه).

3- المرجع الديني الكبير آية اللّه ميرزا صادق التبريزي (1274 1351 ه).

4- العلّامة الحجة ميرزا يوسف بن الفقيه ميرزا علي بن العلّامة محمد علي القرجه داغي (1279 1327 ه) مؤَلف لسان الحق أو مظالم المسيحيين.

إلي غير ذلك من أجلّة الشخصيات الذين جاءوا إلي الدنيا و أدّوا رسالتهم الدينية و سجّل لهم التاريخ بعض مواقفهم و لكنّهم فوق ما سُجِّل.

و لا تفوتني الإشارة إلي ذكر علمين كبيرين في الأَدب و اللغة إشادة بمنزلتهما السامية، و أداء لبعض حقوقهما.

أحدهما: الأَديب الاريب الشيخ علي أكبر الاهري (1296 1383 ه) من تلاميذ المرجع الديني السيد أبو الحسن الانگجي (1282 1357 ه) قدّس سرّه كان آية في الأَدب، و بصيراً في اللغة، و حافظاً للقواعد، قرأ كل ما وصل إليه من الأَدب و الدواوين، و كان يقرأ القاموس بسهولة، و يدرِّسه بحذاقة.

و قد درسنا

تذكرة الأعيان، ص: 396

عليه كتاب المغني و كان يُدرّسه مع التعليق، نقداً و تصحيحاً و تحقيقاً.

ثانيهما: العلّامة الحجة المتتبع الخبير البصير الميرزا عبد اللّه المجتهدي (1320 1396 ه) ابن العلّامة الميرزا مصطفي التبريزي أحد

النوابغ القلائل، و الذي نورد له قصيدة رائعة في هذا الكتاب.

كان رحمه اللّه من نوابغ عصره، و نوادر دهره، و كل من شاهده و جلس معه و حضر ناديه، تعجّب من إحاطته باللغة و التاريخ و الأَدب، كان يتقِن اللغة العربية إتقاناً كاملًا، ضمن إتقانه للغات كثيرة كالتركية الآذرية، و الاناضولية، و الفرنسية، و الإنگليزية، و الروسية، و كان أديباً في اللغة الفرنسية.

زار الشيخ محمد جواد مغنية (1321 1400 ه) مدينة تبريز و نزل في بيته ضيفاً، و قضي معه قرابة شهر، و كان من كلامه في حق المضيِّف: «و اللّه إنّ ميرزا عبد اللّه المجتهدي اسطورة التاريخ، يحكي لنا حوادث من لبنان، يعرف شخصيات أنا أجهلها شخصياً مع أنّي وليد لبنان و من مواطنيه».

و لا أنسي أن أُسجّل هنا جانباً من الحوار الذي دار بين هذين العلمين البارزين، و من ذلك أنّ الحديث كان يدور حول ظلم الكثير من الحكومات لمواطنيها و ما يترتب علي ذلك من ضرر مباشر عليهم، و أنّهم أي تلك الحكومات أضر من الذئب علي الغنم، فعندها انبري الشيخ مغنية رحمه اللّه منشداً هذه الأَبيات:

قولوا عن الذئب ما شئتم فسامعكم بمثل شرِّ ذئاب الناس ما سمعا

الذئبُ يتركُ شيئاً من فريسته للجائعين من الذئبان إن شبعا

و المرء و هو يداوي المرء من بشم «1» يسعي ليسلب طاوي «2» البطن ما جمعا

______________________________

(1) بشم من الطعام: أُتخِم.

(2) الطاوي: الجائع.

تذكرة الأعيان، ص: 397

هذه الأبيات يبدو أنّها لأَحد الشعراء الجدد.

فإذا بالعلّامة المجتهدي يقول: إنّ هذا المضمون جاء في شعر الشنفري الأَزدي أحد الشعراء الجاهليين في لاميته المعروفة بلامية العرب و أنشد منها الأَبيات التالية: «1»

أقيموا بني أُمّي صدور مطيكم فانّي إلي قومٍ سواكم لَاميل

و لي

دونكم أهلون سيّد عملَّس و ارقط زهلول و عرفاء جيأل «2»

هم الأَهل لا مستودع السر ذائع لديهم و لا الجاني بما جرّ يخذل

«3» زار القصاص العراقي «خضر عباس الصالحي» العلّامة المجتهدي في داره بتبريز فكنت معهما فدار الكلام عن مهيار الديلمي و أدبه و شعره، فإذا رأيت العلّامة المجتهدي قرأ فصولًا من ديوانه و استشهد علي مقاصده ثم انتهي الكلام إلي شخصيات أدبية في الإِسلام، فما زال الزائر العراقي يتعجّب من تبحّره فيما يرجع إلي الأَدب و التاريخ، و انّه كيف أنجبت هذه البلاد شخصيات لامعة في الأَدب العربي، مع البعد بين البلدين، و لمّا غادر تبريز إلي طهران كتب مقالًا نشره في مجلة الإخاء يوم ذاك تحت عنوان «الشيخ عبد اللّه مجتهدي الذي رأيته»، فأعرب عن إعجابه بإحاطته بأسرار اللغة، و دواوين الشعر، و قال: إنّه من الشخصيات التي قلّما يسمح بمثلهم الدهر إلّا في فترات خاصة.

______________________________

(1) الدكتور عمر فرّوخ: تاريخ الأَدبي العربي: 1- 103.

(2)» سيد»: الذئب.

«عملس»: القوي علي السير.

«أرقط»: من كان في جلده قطع ملوّنة متجاورة و المقصود: النمر.

«الزهلول»: الأَملس.

«عرفاء»: وحش ضار له شبه العرف.

«جيأل»: الضبع التي تجمع صوفها.

(3) الجاني: المعتدي.

«جر»: اعتدي.

تذكرة الأعيان، ص: 398

هذا ما يرجع إلي حديث الأَمس و أما حديث اليوم؟ فقد خلت الديار من أمثال هؤلاء الأُدباء و لم يبق منهم إلّا ظل، و من تلك المصابيح إلّا ضوء، و أصبحت المنطقة كما قال الشاعر الذبياني:

أمست خلاء، و أمسي أهلها احتملوا أخني عليها الذي أخني علي لبد «1»

عبد الصمد الخامنئي:

الحق كما قيل إنّ شخصية المرء بآرائه و أفكاره أوّلًا، و بآثاره التي خلّفها ثانياً، و هي أحسن دليل علي وجود تلك الصدور المائجة بإشكال متعددة من علم مكنون، و أدب

مفطور، و قريحة و قادة و مثل عليا، و فضائل رابية، بل أثر كل إنسان عمر ثان له، و «جميل صنع المرء عمر ثان».

إنّ المؤَرّخين و مؤَلّفي كتب التراجم للعلماء و الأُدباء و إن لم يسجّلوا عن حياة شيخنا المترجم و أساتذته، و تلاميذه و سائر آثاره العلمية و تاريخ ولادته شيئاً يذكر تقصيراً أو قصوراً لكن ديوانه الماثل بين يدي القرّاء الكرام لخير مترجم لقريحته الوقّادة، و توغّله في الأَدب العربي: الجاهلي و الإِسلامي، و مقدرته علي إبداع المعاني، و أنّه كان يداني أُدباء و شعراء القرون الإِسلامية.

و في الوقت نفسه ربّما يجري مجري الشاعر الجاهلي في غزله و مراثيه، فتجد شعره يحكي عن حياته الساذجة و كأنّه إنسان عاش في البادية، و لم ير الحضر، فكان شعره بعيداً عن التكلّف و التعقيد، ينطق بوجدانه، و يعلو شعره الصدق و البساطة، و يتبع خياله اتساع أُفق الصحراء، و بذلك جمع بين خصائص

______________________________

(1) ديوان النابغة الذبياني: المكتبة الثقافية- 30- أخني عليها: غيّرها و أفسدها.

«لبد»: زعموا أنّه نسر كان للقمان بن عاد عمّر طويلًا.

تذكرة الأعيان، ص: 399

الشعر الجاهلي و مزايا الشعر الإِسلامي.

و مع هذا فقد ترجمه لفيف من الاعلام نذكرهم و نذكر نصوصهم حول حياته: 1- يقول الموَرّخ الشهير: محمد حسن اعتماد السلطنة: «ميرزا عبد الصمد الخامنئي: أُستاذ الأَدب، و حجّة لغة العرب، و هو ينظم الشعر بطبع مستقيم، قريحة صافية، و هو نزيل «خامنه» في هذه الأَيّام» «1» 2- و يعرّفه شيخنا المجيز الطهراني بقوله: «عالم كبير، و فقيه بارع، كان من الأَجلّاء في تبريز، و هو خامنئي الأَصل، له في العلوم الشرعية قدم راسخة، و في الشعر و الأَدب العربي و اللغة يد طولي،

و براعة فائقة، و تبحّر غريب» «2» 3- و يذكره السيد حسن الصدر في تكملته لَامل الآمل و يعرفه بقوله: «أُستاذ عصره في علوم الأَدب، و الحجة في لغة العرب» «3» 4- يقول الواعظ الخياباني: الشيخ عبد الصمد إمام الجمعة في «خامنه» (والد الشيخ علي إمام الجمعة الذي هو من معاصرينا)، يعد من العلماء و الفضلاء و من أُدباء أذربيجان المعروف ب «البنود الاثنا عشر» جري فيها علي طريقة بنود العلّامة بحر العلوم المعروف باثني عشر، سوي انّ كل بند من بنوده في موضوع واحد بخلاف البنود المعروفة لبحر العلوم.

و أضاف انّه ذكر قسماً من إشعاره في أجزاء كتابه المعروف بوقائع الأَيام ثم ذكر قصيدته اللامية في مدح النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- و قصيدته النونية في مدح الامام الرضا- عليه السلام-.

______________________________

(1) المآثر و الآثار: الطبع الحجري 120 و 1- 297، الطبع الحديث و الكتاب أُلّف حوالي عام 1305 ه.

(2) الطهراني: نقباء البشر: 3- 1131.

(3) المصدر نفسه.

تذكرة الأعيان، ص: 400

و قال: و قد ناولني هذه القصائد سنة 1308 و انتقل إلي رحمة اللّه عام 1311 «1».

5- و قد ذكر ديوانه شيخنا الطهراني في ذريعته و قال: ديوان الشيخ عبد الصمد أو شعره و هو الخامنئي مولداً، التبريزي منشأ، النجفي مقطناً، الأَديب الماهر، و الفقيه الشاعر، له تقريظ كتاب «فرهنگ خدا پرستي» لمحرم المطبوع 1281 بقصيدة هائية في عشرين بيتاً في غاية الفصاحة «2» و كلامه هذا يعرب عن أنّه كان قاطناً في النجف، و لعلّه يشير إلي الظروف التي حلّ بها، و ألقي رحله فيها للدراسة و كسب المعالي، و إلّا فهو كان نزيل مسقط رأسه و مولده إلي أن لبّي دعوة

ربّه، و كفي في هذا شاهداً ما ذكره صاحب الآثار و المآثر و قد ألّفه حوالي 1305، و توفي المترجم عام 1311.

فهو في تلك الفترة كان نزيل موطنه، و قد وقفت علي ما ذكره «الواعظ الخياباني» من أنّه رآه في تبريز أيّام كهولته.

نعم كان لإِقامته في النجف تأثير خاص لتوقّد ذكائه، و تأجيج قريحته، فأخذ بإنشاء الشعر في نواحي مختلفة، ثم رجع إلي مسقط رأسه قائماً بوظائفه الرسالية، و مقيماً لصلاة الجمعة، و إماماً للجماعة، و مرجعاً للمسائل الفقهية في تلك الناحية.

و هو بعد ما غادر النجف، و أقفل عائداً إلي «خامنه» يتشوّق لصاحب

______________________________

(1) نقلًا عن كتاب «علماي معاصر» للميرزا علي الخياباني (1281 1367 ه).

و كان المؤَلف من خطباء تبريز و من أبرز المؤَلفين فيها له كتاب «وقائع الأَيام» في أربعة أجزاء، و قد أُعيد طبع الجزء الأَوّل مع تقديم منّا.

(2) الطهراني: الذريعة ج 9: القسم الثالث- 689 برقم 4794.

تذكرة الأعيان، ص: 401

النجف صاحب الولاية الكبري و يقول:

يا سَيّداً فاقَ أربابَ النُّهي شَرفاً و سادَ أهلَ المعالي الغُرِّ و الشُّرَفا

لم أنسَ عَهدَك بالوادي المقدَّسِ يا لَهفي علي العَهدِ و الوادي و ما سَلفا

قَدْ فاضَ جَفناي حتي جفَّ دمعُهما بعدَ النوي عن صُحَيبٍ اسكنوا النَّجفا

يا راكبي ناقةٍ وجناءَ ناشطة «1» عُوجا «2» بأرضِ غريٍّ ساعة و قِفا

عليكَ منّي سلامي ما حييتُ فها وادي السلام يباهي مروةً و صفا

و هو يعرّف شعره و أدبه بقوله:

هذا و دونك شعر صيغ من كلم كأنّه لؤلؤ قد راق منضود

للخود «3» إن أنشد الراوي قوافيه تكاد ترقص من إنشاده الخود

و يقول في مخمسته الغرّاء التي نظمها أصلًا و تخميساً في مدح علي عليه السَّلام:

من مرتقي الشعر أرقي اليوم أصعبه لكن أري

مشرب الأَخلاق أعذبه

أخذت من بعض من عاشرت مذهبه لو أن وعاه ابن عباد لَاطربه

و طار منه الحجي من خفّة الطرب

و يقول أيضاً مفتخراً:

و انّني رجل لا الفقه ينكرني و لا القصائد تشطيراً و تضميناً

______________________________

(1) ناشطة: وصف للناقة: و هي الشديدة في سيرها.

(2) عوجا: قفا، عوج: وقف.

(3) الخود علي وزن «الحوت»: النساء الشابات.

تذكرة الأعيان، ص: 402

إلماع إلي وطن الشاعر:

«خامنه»: ناحية في أذربيجان الشرقية، بينها و بين تبريز 72 كيلو متراً.

و هي من توابع مدينة «شبستر» تبعد عنها ثمانية كيلو مترات، و تقع في الشمال الشرقي من بحيرة أرومية تتبعها قري و أرياف، و هي منطقة كثيرة الأَشجار و المياه، و فيها أنواع الفواكه و تربتها تربة طيّبة خصبة.

يتمتّع أهلها بالذكاء و الثقافة و لهم أعرافهم و تقاليدهم الخاصة.

كانت «خامنه» في العصور السابقة مركزاً للتجارة و حلقة وصل تجاري بين روسيا و تركيا و إيران و سوقها الموجودة فيها حالياً، يكشف عن النشاط التجاري فيها سابقاً.

نبغ منها تجّار خبراء، و رجال مثقّفون، و علماء كبار، تري ذكرهم في كتب التاريخ و السير، و لا يسمح المقام هنا بذكرهم، و لكن نشير إلي بعض شخصياتها وراء الشيخ عبد الصمد شاعرنا المجيد و ولده البار: 1- الشيخ نجم الدين العارف الطائر الصيت.

و هو أُستاذ الشاه إسماعيل الصفوي في الطريقة، توفّي فيها عام 915 ه، و له مقبرة معروفة.

2- الميرزا جعفر الخامنئي بن الحاج الشيخ علي أكبر، كان شاعراً، و هو أوّل من فتح باب الشعر الحرّ في الأَدب الفارسي و هو متقدم علي الشاعر المعاصر المعروف ب «نيما» ولد عام 1304 ه، و لم نقف علي تاريخ وفاته، ذكر ترجمته غير واحد من المؤَرخين المعاصرين.

3 الشيخ محمد بن الحاج عبد الحميد

الخياباني (1297 1339 ه) ذلك الخطيب الماهر المناضل الشهير الذي كان لمواقفه البطولية، دور هام في إيقاظ الجماهير المسلمة الايرانية في كفاحها ضدّ الاستعمار، و قد كان الشيخ الخياباني

تذكرة الأعيان، ص: 403

زميلًا لوالدي في الدراسة «1» و أُستاذاً ماهراً في الرياضيات و الهيئة، و خطيباً بارعاً، و الجمل و الكلمات بيده في منصَّة الخطابة كأنّها شمعة يتصرّف فيها كيفما يشاء.

و ممّا تجدر الإِشارة إليه أنّه تزوّج كريمة العلّامة السيد حسين الخامنئي عام 1325 ه الآتي ذكره، و كان ينوب عنه في الإِمامة أثناء غيابه.

4- العلّامة الحجة السيد حسين الخامنئي قدّس سرّه و هو جد قائد الثورة الإِسلامية في إيران سماحة آية اللّه السيد علي الخامنئي دام ظلّه.

كان المترجم أكبر شخصية نبغ من تلك الناحية، و كان رجلًا فقيهاً مطاعاً في تبريز، يقيم الجماعة في جامعه، و كانت الألوف المحتشدة من الناس يقتدون به كما كان الوالد يحكي لنا ذلك.

قال شيخنا المجيز الطهراني في ترجمته: عالم كبير و جامع بارع.

كان اشتغاله في النجف الأَشرف، قرأ فيها الفقه و الأُصول علي مشاهير علماء ذلك العصر و مدرّسيه، و ألّف في الفقه و الأُصول و له فيهما تقريرات كثيرة، و أخذ المعقول عن الفيلسوف الميرزا باقر الشكي الذي ذكرناه في القسم الأَوّل من «الكرام البررة» ص 163 و قد ذكر اسمه السيد الصدر في عداد تلاميذ الشكي عند ذكره في «التكملة»؛ عاد إلي «خامنه» فقام فيها بالوظائف الشرعية و سائر الأُمور، و كان مقدراً، مرعي الجانب، معظماً عند سائر الطبقات لصلاحه و تقواه و نزاهته و إنزوائه، و كان متفنناً له يد طولي في المعقول و المنقول، و مهارة في علوم الدين، قام بأعباء الهداية و الإِرشاد و

لم يفتر عن التأليف إلي أن توفي في «1325 ه» كما ذكره لنا ولده العالم السيد محمد المعروف ب «پيغمبر» المتوفي في النجف و الموقوفة كتبه ل «مكتبة حسينية التسترية» في النجف.

و قد حدثنا العلّامة الحجة السيد موسي الزنجاني: أنّه هاجر إلي النجف عام

______________________________

(1) و هو الفقيه العلّامة الحاج الشيخ محمد حسين الخياباني التبريزي قدَّس سرَّه (1299 1391 ه).

تذكرة الأعيان، ص: 404

1309 ه و غادرها عائداً إلي تبريز عام 1314 ه «1» 5- آية اللّه السيد جواد الخامنئي (1313 1406 ه) ابن السيد حسين الخامنئي قدّس سرّهما.

و قد انتقل من تبريز إلي المشهد الرضوي و استوطن فيها إماماً و مدرّساً «2» و كان بينه و بين الوالد توادد و تراحم.

6- و زاد هذا البيت فخراً أنّ قائد الثورة الإِسلامية من هذه الأسرة الكريمة، و لا يسع المقام للِاشادة ببعض ما لهذا البيت الرفيع، من الفضل و الفخر و كفانا في ذلك ما انتشر في هذه الأَيام عنهم في الكتب و الجرائد.

و في الختام نلفت نظر القاريَ الكريم إلي أمر هام و هو: أنّه قد جاء القسم الأَكبر من قصائد العلّامة الشيخ عبد الصمد الخامنئي في هذا الجزء، و أمّا غيره فقد اقتطفنا من ديوان كل شاعر قصيدة أو قصيدتين، و لعل أهل الخير من عشاق الأَدب يقومون بطبع دواوينهم كاملة.

و هناك أُدباء في منطقة أذربيجان نظموا القريض بلغة الضاد، و لهم قصائد و مدائح و تغزّلات نذكر منهم ما يلي: 1- العلّامة الحاج ميرزا علي التبريزي ابن المولي بن عبد العظيم و له تخميس قصيدة علي بن أبي عبد اللّه الخوافي المعروف، مستهلّها:

يا زائراً لرسول اللّه بضعتهُ و قاصداً لغريب الطوس تربته

إن جئته قل إذا

شاهدت قبّته يا قبر طوس سقاك اللّه رحمته

ما ذا ضمنت من الخيرات يا طوس

______________________________

(1) نقباء البشر: 2 641- 640 برقم 1073.

(2) اقرأ ترجمته الضافية في «كنجينه دانشوران» للعلّامة الرازي.

تذكرة الأعيان، ص: 405

توفي رحمه اللّه في المشهد الرضوي عام 1340 ه.

2- العلّامة المتبحّر الشيخ علي الخوئي، صاحب المؤَلفات الكثيرة، له ديوان و له تخميس قصيدة أبي الفتح البُستي.

مستهلّها:

لأول القول باسم اللّه بنيان محامد العبد للرحمن شكران

تجاهلُ الشخص للنعماء كفران زيادة المرء في دنياه نقصان

و ربحه غير محض الخير خسران

توفي رحمه اللّه عام 1350 ه.

3- العلّامة القدير، و الشاعر المفلق السيد هادي، المعروف ب (سينا).

أُستاذ في جامعة طهران، و هو أحد الشعراء البارزين، و الأُدباء المعروفين، و له ديوان كبير.

و لأَخيه العلّامة الحجّة السيد إبراهيم قدّس سرّه قصيدة في التوسّل ببقية اللّه الحجّة بن الحسن العسكري، يقول:

يا حجّة الرحمن يا ابن العسكري يا مَن بيُمن وجوده رُزق الوري

مَن للشريعة و الهدي و من الذي نشكو إليه سواك يا خير الوري

إلي غير ذلك من شعراء مخلصين، و مجاهرين بالولاء، و الذين يضيق المجال بذكر أسمائهم، و نماذج من قصائدهم.

عسي أن يقوم أحد أبناء الوطن الغياري بتأليف جزء ثان لهذا المشروع، يستدرك به ما فاتنا ذكره، أو لم نذكره لضيق المجال.

كما يتحتّم علي أن أذكر ما بذل من الجهود صديقنا الشيخ الجليل و العالم

تذكرة الأعيان، ص: 406

الكبير الشيخ سلمان الخاقاني قدّس سرّه الشريف «1» في استنساخ ديوان الشيخ من قصاصات متفرقة، و قدم له مقدمة مفصّله ذكر فيها ما كان النجف يوم ذاك يتمتّع به من نوادي الأَدب، و أندية الشعر، و جهابذة القريض، و لعل اللّه تبارك و تعالي يوفقنا لنشر تقديمه في آونة أُخري إنّه علي كل

شي ء قدير.

كما أتقدم بالشكر إلي الصديق الوفي العلّامة السيد محمود البغدادي دام علاه فقد قرأ الديوان و أبدي ملاحظاته القيمة فجزاه اللّه خير الجزاء.

______________________________

(1) كان الشيخ من أساتذة الفقه و الأُصول و في الوقت نفسه من أساطين الأَدب في مجالي النثر و النظم و كان يتمتع بحسن الخلق و دماثة الطبع و كان يجسد سلوكه، سلوك رجال أهل البيت، و خلقُه خلقَ رسول اللّه- صلي الله عليه و آله و سلم- و له آثار علمية، كلامية و أدبية منشورة و غير منشورة و آخر أثره مناظرته مع كتّاب ثلاثة من الذين بخسوا حق الشيعة بأقلام مسمومة.

رحمه اللّه تعالي برحمته الواسعة.

تذكرة الأعيان، ص: 407

18- الشيخ فضل اللّه النوري قدَّس سرَّه رجل العلم و الجهاد (1254- 1327 ه)

اشارة

علم الشهادة و الكرامة و العلي و حليف علم الدين و الآثار

الحمد للّه الذي خصّ أصحاب الشهادة بالسعادة، و اصطفاهم لدار العزِّ و الكرامة، ثم الصلاة و السلام علي نبيّه و آله الطيبين الطاهرين، و علي عباد اللّه الصالحين، لا سيّما الشهداء و الصدّيقين.

أمّا بعد: فإنّ العالم العامل، يضي ء الطريق للسائر، و الشهيد يكتسح العقبات و العراقيل للسالك، فالعالم بمداده و حبره ينير العقول، و يزيل الظلمات و الأَوهام عن البصائر و الأَفكار، و الشهيد بتضحيته يزيل الموانع، و يقطع أيدي المتطاولين علي شرف الأُمة و دينها، و ثروتها، فالشهيد و العالم يسيران معاً علي طريق واحد، يهدفان إلي هدف فأرد، بجهادهما و جهودهما أُنيط بقاء الإِسلام لئلا يتهافت الكفر و الإِلحاد.

هذا إذا جرّدت الشهادة، عن العلم، فما ظنّك بمن كرّس حياته بالعلم و الدراسة و كلّلها بالشهادة في سبيل اللّه فقد حاز حينئذ فضيلة الميزتين، و فاز بالقدحِ المعلّي.

تذكرة الأعيان، ص: 408

إنّ الإِنسان يتصوّر في باديَ الأَمر: أنّ الشهداء هم وحدهم

رواد في ميدان الدفاع و الجهاد، دون حملة الفكر و القلم، و قادة البيان و الخطابة، الذين يخوضون الوعظ و الإِرشاد و لا يقتحمون لجج المعارك الدامية، و لا تعرفهم ساحات الوغي.

هذا هو الذي يتصوّره البعض من مفهومي العالم و الشهيد، و لكن عند ما يسبر الإِنسان تاريخ العلم و الشهادة و يقرأه بإمعان، ينتبه إلي عدم صواب الفكرة، لَانّه يجد في ثنايا التاريخ طائفة كبيرة من العلماء و المفكّرين بين متضرّج بدمائه في ساحات القتال و بين مصلوب علي المشانق و الأَعواد، و بين مكبّل في قعر السجون إلي أن يلفظ أنفاسه الأَخيرة في ظلماتها، و بين مسموم تقطعت أحشاؤه و أمعاؤه إلي غير ذلك من ألوان التعذيب.

و كأنَّ شاعرنا المبجّل المفلق الفقيه السيّد محمود البغدادي يشير بقوله إلي هذا المعني و في حقِّ هذا النمط من العلماء الشهداء في قصيدة مطلعها:

رجلان في دنيا الثبات و هبا الحياةَ إلي الحياة

رجل الصراع المريع يعصف باللئام و بالطغاة

و العالم الوثّاب أُمنية الشعوب الناهضات

عاشا بلا ذات و ما ك العزَّ في سحق الذوات

فكانوا يمثّلون قول الإِمام الوصي أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين: «رهبان بالليل و أُسد بالنهار» «1» فلم يحجبهم الخوض في المفاهيم السامية و المعاني الدقيقة أو عكوفهم علي استنباط الاحكام من الكتاب و السنّة، عن خوض عباب الحروب و تحمّل قتام الغزوات، و مجابهة الاعداء، و في الحقيقة

______________________________

(1) بحار الأَنوار: 83- 207 من كلام الامام- عليه السلام- لنوف البكالي.

تذكرة الأعيان، ص: 409

هؤلاء هم الأُمة المثالية و الطبقة الوسطي في المجتمع أثني عليهم الذكر الحكيم «1» و بجّلتهم السنّة الكريمة، و أكبرتهم الشعوب الإِسلامية في كل عصر.

و ها نحن نوقفك علي حياة عالم كبير، و مصلح

عظيم من هذا النمط.. عالم كرّس حياته في مدارسة العلم، و إصلاح المجتمع، و ختمها بالشهادة، و كان أكبر قائدٍ روحيّ في حاضرة إيران طهران كافح الضلال و الإِلحاد، و جابه ضوضاء الباطل بلسانه و قلمه.

ألا و هو الشيخ العلّامة آية اللّه العظمي الشيخ فضل اللّه النوري قدَّس سرَّه: شهيد الصمود في طريق الحق و الفضيلة، و دفع التطاول علي المقدّسات الإِسلامية، بأيدي رجال متغرّبين، أرادوا القضاءَ علي الإِسلام و أهله، تحت غطاء الثورة علي الرجعية و التخلّف، و واجهة إنشاء نظام ديمقراطي برلماني، فكان شعارهم هذا، كلمة حق يراد بها باطل، فقد حاولوا إبعاد الإِسلام عن الساحة، و إحلال الكفر و الإِلحاد مكانه، تحت شعارات خدّاعة، و عناوين رنّانة، فكانوا يديفون السمّ بالعسل.

لقد ظهرت في العقد الثالث من القرن الرابع عشر في المنطقة فكرة الحرية و التخلص من السلطة الاستبدادية و القضاء علي حكومة الفرد علي الشعب، بإحلال الحكومة البرلمانية مكان الملكية، و قد ظهرت هذه الفكرة في المجتمع الايراني بعد ما كانت السلطة عبر القرون و الأَجيال هي السلطة الفردية المتمثلة في النظام الملكي، و لمّا برزت فكرة التحرّر بثوبها الرائع، و جمالها الخدّاع، انجذبت إليها القلوب، و تعلّقت بها النفوس، فصارت فاكهة المجالس و زينة العرائس، يتحدث عنها الناس في كل مناسبة، و كل مكان، حتي استهوت لفيفاً من العلماء و الآيات و المراجع في العراق، مثل الشيخ محمد كاظم الخراساني، و الشيخ حسين الطهراني و الشيخ عبد اللّه المازندراني قدس اللّه

______________________________

(1) حيث طبّقوا العلم علي العمل، دعوا للجهاد و القتال، فقدموا النفس و النفيس في ذلك المضمار.

تذكرة الأعيان، ص: 410

أسرارهم فصوّتوا مع الأُمة، و أفتوا بلزوم تطبيقها علي صعيد الحكومة و

الواقع.

و كان شيخنا المترجم له في حاضرة إيران، ممّن يدعم هذه الفكرة و يؤَيدها، فترة قليلة من الزمن، و لمّا أشرفت النظرية علي مرحلة النضوج، وقف علي أنّ الفكرة سراب لا ماء، و انّ الهدف من التظاهر بالحرية، هو الانحلال و التجرّد عن الضوابط الشرعية، و القوانين الإِلهية، و بالتالي إقصاء الإِسلام عن جميع المجالات: القضائية، الثقافية، و الاجتماعية، و الأَخذ بالانظمة الالحادية، و حصر الإِسلام في المنازل و البيوت، و قصرها علي الأَحوال الشخصية كالزواج و الطلاق و الميراث.

فلما وقف شيخنا المترجم المغفور له علي خطورة الموقف، ثارت ثائرته و أحسَّ أنّ هذا هو الوقت الذي عناه نبي العظمة- صلي الله عليه و آله و سلم- إذ قال: «إذا ظهرت البدع في أُمّتي فليظهر العالم علمه، و إلّا فعليه لعنة اللّه» «1» فشرع في إيقاظ الناس من الغفلة، و تنبيههم علي المؤامرات التي تحاك ضدهم، و استمرت مواجهته للفكرة سنوات عديدة، فلقي في ذلك ما يلاقي فيه كل مصلح غيور علي أُمته و دينه.

لقد كان لخطابات شيخنا و كتاباته إلي الزعماء و الرؤساء، تأثير بالغ في منع الأُمّة من التسرّع إلي التصويت مع أصحاب تلك الفكرة إلي أن بلغ السيلُ الزبي، و لم تجد الطُّغمة المعتدية علي شرف الشعب و دينه، مناصاً من المؤَامرة علي الشيخ و قتله بصورة بشعة تكون عبرة لغيره، فاختطفوه من داره بعد هجوم عنيف عليها في الثالث عشر من شهر رجب من شهور سنة 1327 ه، فساقوه وحيداً إلي المديرية العامة للشرطة و حاكموه محاكمة صوريّة، و أصدر القاضي حكماً بإعدامه شنقاً، و قد كان الحكم هذا مهيّئاً قبل المحاكمة، ثم أخرجوه من المديرية بعد المحاكمة و لم تمض

بضع دقائق حتي رؤي جثمانه الطاهر مشنوقاً و أعداؤه حوله يصفّقون و يظهرون المسرّة و الابتهاج، فلقي ربَّه بحياة مشرقة و جهاد متواصل،

______________________________

(1) الكافي: 1- 54، باب البدع و الرأي.

تذكرة الأعيان، ص: 411

و مضي شهيداً بيد الظلم و العدوان في سبيل الحمية و الديانة، و قد رثاه غير واحد من العلماء و الشعراء، نكتفي بأبيات من قصيدة للَاديب الاريب و الحكيم البارع السيد أحمد الرضوي البيشاوري نزيل طهران (المتوفّي 1349 ه) بقول:

لا زال من فضل الإِله و جوده جود يفيض علي ثراك همولا «1»

روّي عظامَك وابل من سيبه يعتاد لحدك بكرة و أصيلا

تلكم عظام كدن أن يأخذن من جوّ إلي عرش الإِله سبيلا

همّت عظامك أن تشايع روحها يوم الزماع «2» إلي الجنان رحيلا

فتصعدت معه قليلًا ثم ما وجدت لسنّة ربها تبديلا

فالروح ترقي و العظام تنزلت كالآية اليوحي بها تنزيلا

آمنتَ إذ حادوا بربّ محمد و صبرت في ذاتِ الإِله جميلا

خنقوك لا حنقاً عليك و إنّما خنقوك كي ما يخنقوا التهليلا

«3» و لعمر الحق أنّ القصيدة هي القصيدة الفريدة في باب الرثاء في علوّ المضمون، و بداعة المعاني، و رصانة الأَسلوب، و لو افتخر أبو الحسن التهامي عند رثاء ولده بقصيدته المعروفة التي تنوف علي سبعين بيتاً و كلها حكم و أمثال، فليفتخر شاعرنا المبجّل الأَديب البيشاوري بهذه القصيدة الزاهرة.

______________________________

(1) هملت السماء: دام مطرها.

(2) يوم الخوف و الذعر.

(3) و كأنّه اقتفي «الشاعر المعروف ب «ديك الجن» حيث يرثي الحسين سيد الشهداء بقوله:

و يكبِّرون بأن قتلت و إنّما قتلوا بك التكبير و التهليلا

تكملة أمل الآمل للسيد حسن الصدر: 260.

تذكرة الأعيان، ص: 412

لقد استقبلت قصيدة التهامي استقبالًا رائعاً و حلّت في القلوب حيث يقول:

حكم المنية في البرية جار ما

هذه الدنيا بدار قرار

بينا يري الإِنسان فيها مخبراً حتي يري خبراً من الاخبار

و ما أحسن قوله في تلك القصيدة:

جاورتُ أعدائي و جاور ربَّه شتّان بين جواره و جواري

«1» و ما ألطف و أرق قول شاعرنا المفلق:

همّت عظامك أن تشايع روحها يوم الزماع إلي الجنان رحيلًا

و يجدر بي أن أقول في حقها كلمة أُخري و هي: إنّ هذه القصيدة التي نقلنا منها عدة أبيات أشبه بقصيدة أبي الحسن الأَنباري في رثاء أبي طاهر بن بقية الذي صلبه عضد الدولة بقوله:

علو في الحياة و في الممات ثم لحقّ أنت إحدي المعجزات

يصف المشنوق وصفاً عجيباً و يقول:

و لم أر قبل جذعك قط جذعاً تمكن من عناق المكرماتِ

و مالك تربة فأقول تسقي لأَنك نصب هطل الهاطلاتِ

ركبت مطية من قبل زيد علاها في السنين الماضياتِ

و تلك قضية فيها تأس تباعد عنك تعيير العداة

«2»

______________________________

(1) القصيدة برمتها موجودة في جواهر الأَدب: 616.

(2) القصيدة موجودة في جواهر الأَدب: 624، توفّي أبو الحسن الأَنباري عام 328 ه.

تذكرة الأعيان، ص: 413

هكذا كان ختام حياة شيخنا المعظم و إليك لمحة عن أوّليات حياته و أواسطها إلي أوان شهادته، و هي تسلط الضوء علي مكارمه و فضائله.

ولد شيخنا في قرية «لا شك» من توابع كجور من مدن مازندران عام 1259 ه.

ق، و تلقّي الأَوّليات في منطقة نور، ثم غادر إلي طهران، و جدّ في دراسته، إلي أن نال بعض ما كان يتمنّاه و لم يكتف بما أخذه في البلدين، فأعدّ العدّة للسفر إلي النجف الأَشرف عاصمة العلم للشيعة و هو بعدُ في عنفوان الشباب و في أوائل العقد الثالث من عمره، فنزل مدينة النجف فحضر علي أساطين العلم، و في القمة منهم: 1- الفقيه الجليل الشيخ راضي

من آل خضر النجفي علم الفقه الخفّاق، و الزعيم الكبير في النجف الأَشرف (المتوفّي 1290 ه).

2- علم الفقه و التحقيق الشيخ حبيب اللّه الرشتي (1234 1312 ه)، و كان من كبار الفقهاء و المدرسين في عصره، حضر أبحاثه سنين متمادية و كتب من أبحاثه الشي ء الكثير، منها هذه الرسالة التي يزفّها الطبع للقرّاء، و قد عرضها بعد التأليف علي أُستاذه فكتب عليها كلمة قيمة نأتي برمتها عن قريب.

3- القائد المناضل الكبير و المرجع الأَعلي للشيعة في عصره السيد محمد حسن الشيرازي (1230 1312 ه) حضر أبحاثه في النجف الأَشرف، و لمّا غادر الامام الشيرازي ذلك البلد، و ألقي رحله في سامراء سنة 1291 ه، ارتحل شيخنا مصطحباً خاله العلّامة المحدّث الكبير الشيخ حسين النوري (المتوفّي 1320 ه) مؤَلف مستدرك الوسائل في السنة التالية (1292 ه)، و بقي بها إلي أوائل القرن الرابع عشر حتي غادرها سنة 1303 ه إلي عاصمة إيران طهران، كقائد روحي و أُستاذ كبير، و مرجع علمي، فقام بواجبه في مجالات العلم و خدمة المجتمع و إحياء القيم الإِسلامية إلي أن لقي ربه شهيداً.

تذكرة الأعيان، ص: 414

كلمات الثناء في حق المترجم

اشارة

1- يقول المحدّث الكبير خاله الشيخ حسين النوري في حقّه: عالم فاضل، و مجمع المحاسن و الفواضل، مالك أزمّة الفروع و الأُصول، و الآخذ بنواصي المعقول و المنقول، علم الاعلام، و الحبر القمقام، ابن أختنا المفخم الشيخ فضل اللّه النوري.. «1».

2- و يقول المجتهد الكبير أُستاذه الرشتي في تقريظه لرسالة المترجم له ما هذا نصه:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أيّها الواقف علي هذه الأَوراق، لو خضت زواجر البحار، و ضربت آباط الإِبل في مهامة القفار، لما وجدت أحسن ممّا فيها تحقيقاً، و أزيد منه تدقيقاً، فمن

الواجب أن ينادي بفضل صاحبها في كل نادٍ، و يحث إليها الركاب في كل بلاد، فقد سرّحت فيها لحظي فرأيتها ملحظاً وجيهاً، و أمعنت فيها نظري فوجدتها منظراً صبيحاً، فكم أودع فيها من الدّرر الفاخرة، و اللآلي الباكرة، فيليق أن يكتب بالتبر علي الاحداق، لا بالحبر علي الأَوراق، فللّه درّ مؤَلّفها و هو العالم الأَوّاه قرّة عيني، الشيخ فضل اللّه له فضله و علاه فقد أتعب نفسه، و عرّق جبينه، في تحصيل القواعد العلمية، و الأُصول الاجتهادية، التي يدور عليها مدار الاجتهاد و بها يصح أعمال العباد.

و حضر لديّ و لدي الأَساتيذ العظام، و الأَساطين الكرام، شطراً وافياً

______________________________

(1) مقدّمة «شجره طوبي» للمحدّث النوري.

تذكرة الأعيان، ص: 415

من الزمان، و دهراً طويلًا كافياً من الأَوان، فبلغ بحمد اللّه مناه، و صار عالماً ربّانياً، و علماً حقّانياً، مجتهداً ماهراً، متبحّراً كاملًا، جامعاً للمعقول و المنقول، فحقيق أن يرجع إليه عباد اللّه المؤمنون في أُمور دينهم، و ينقادون إليه فيما يتعلّق بآخرتهم و دنياهم، و في حقه و أمثاله ورد في الأَثر من سيّد البشر: الرّاد عليه راد علينا، و هو في حد الشرك، معاذ اللّه منه و من شرّ الشيطان، و سيئات الاعمال، و رجائي منه هو سلوك طريق الاحتياط في الأَحكام و الموضوعات، و أن لا ينساني عن الدعوات عند قاضي الحاجات، إنّه وليّ التوفيق.

حبيب اللّه الغروي الجيلاني 3- قال العلّامة الاميني عند سرد حياته: قفل شيخنا المترجم له إلي طهران، و لم يبرح بها إماماً، و قائداً روحياً، و زعيماً دينياً، يعظِّم شعائر اللّه، و ينشر مآثر دينه، و يرفع أعلام الحق، و يبرز كلمة الحقيقة حتي حكمت بواعث العيث و الفساد، بعد ما جابه الإِلحاد

و المنكر، زمناً طويلًا، فمضي شهيداً بيد الظلم و العدوان، ضحية الدعوة إلي اللّه، ضحية الدين، ضحية النهي عن المنكر، ضحية الحمية و الديانة، و دفن في دار المؤمنين بلدة قم «1».

و قد أثني الموافق و المخالف علي الشيخ و كثر عليه الثناء من مختلف الطبقات، حتي لم يجد المعاند منتدحاً من الاعتراف بدينه و صلابته في طريق عقيدته، و مسؤوليته أمام شعبه و دينه، و انّه هو الذي اختار الشهادة و القتل في سبيل اللّه، علي التعاون مع رجال العيث و الفساد.

و أنا أستميح الشيخ الشهيد عذراً حيث أعيي البيان و ضاق المجال عن

______________________________

(1) شهداء الفضيلة: 357.

و له في بلدة قم مقبرة عامرة، حيث دفن في إحدي حجرات الصحن الشريف حيث تزور تربته عامة الطبقات.

تذكرة الأعيان، ص: 416

ترجمته بجميع نواحيه العلمية و السياسية و خدماته الاجتماعية و زمالته لزعماء الدين، و أخص بالذكر السيد الكبير الشيرازي في مسألة تحريم التدخين الصادر عام 1308 ه، فقد ذكر غير واحد من المؤَرّخين مواقفه المشكورة في ذلك المجال، و لنكتف ببيان آثاره العلمية الواصلة إلينا.

آثاره العلمية
اشارة

خلّف الشيخ آثاراً و اشتغل بالتأليف من أيام شبابه إلي شيخوخته غير أنّ مؤَلفاته لم تزل مخطوطة لم تر النور إلّا القليل النادر منها.

و إليك بعض ما وقفنا علي أسمائه و خصوصياته.

1- درر التنظيم

منظومة حول القواعد الفقهية و قد طرح فيها خمساً و عشرين قاعدة فقهية مع الإِشارة إلي مبانيها، صاغها في بوتقة النظم، و هو في أواخر العقد الثاني من عمره أي شرع فيها عام 1279 ه، يقول فيها:

قد انقضي من سنّي العشرونا في سنة التاسعة و السبعونا

من بعد ألف و كذا المائتين من هجرة النبي دون المين

«1» و قد ختمه بقوله:

قد وقع الفراغ من تصنيف هذه النسخة بيد مؤَلفه الفقير فضل اللّه ابن

______________________________

(1) المين: الكذب.

تذكرة الأعيان، ص: 417

عباس النوري يوم الأَحد سابع عشر ذي القعدة الحرام سنة 1280 ه في دار الخلافة طهران، و يبلغ عدد الأَبيات خمسمائة بيت، و إليك القواعد التي طرحها الشيخ في تلك المنظومة:

1- الأَسباب الشرعية معرفات لا علل حقيقية.

2- الأَصل عدم تداخل الأَسباب.

3- في قاعدة لا ضرر و لا ضرار.

4- في قاعدة العقد ينحل إلي العقود.

5- القاعدة العقلية لا تخصص.

6- دلالة الأَلفاظ وضعية لا ذاتية.

7- الأَصل عدم جواز التوكيل إلّا ما خرج.

8- أصالة الطهارة في الشبهة الحدثية و الخبثية.

9- الأَصل في الدماء، النجاسة.

10- قاعدة الإِمكان في الحيض و بيان حدودها.

11- من جملة أسباب الضمان، اليد.

12- من جملة ما جعل الشرع سبباً للضمان، الإِتلاف.

13- من جملة أسباب الضمان، الأَخذ بالعقد الفاسد.

14- من جملة ما جعله في الشرع سبباً للضمان، الغرور.

15- من جملة ما جعله في الشرع سبباً للضمان، التعدّي و التفريط.

تذكرة الأعيان، ص: 418

في مسقطات الضمان: 16- من جملة المسقطات في الشرع، الإِحسان.

17- من جملة المسقطات في الشرع، الاقدام.

18- من

جملة المسقطات في الشرع، الاستيمان.

19- من جملة المسقطات في الشرع، الاذن من ذي السلطان.

20- قاعدة القرعة و تشخيص مواردها.

21- في أن الأَصل، وجوب القضاء، في ما وجب فيه الإِعادة.

22- في قاعدة من ملك شيئاً ملك الإِقرار به.

23- في بيان حرمة الإِسراف و مدركها.

24- عدم حجية عدم القول بالفصل «إذا كان البعض مثبتاً بالأَصل».

25- في شأن اشتراط العربية في العقود.

و المنظومة بعيدة عن التكلّف و التعسّف يقرأها الإِنسان بسهولة، و إليك نماذج منها و هو طرح دلالة الأَلفاظ علي المعاني و أنّها وضعية أو ذاتية:

و عن سليمان بن عباد حكي دلالة اللفظ لذاته فاتركِ

حجته لزوم ترجيح بلا مرجح، كذاك منه نقلا

لكنه مخالف المشهور مخالف لمذهب الجمهور

لأَنها وضعية تدور مدار وضع و هو المنصور

لو لم تكن، لم يكن المنقول لَانّ ما بالذات لا يزول

و قد أشار في البيت الأَخير إلي أنّ دلالتها وضعية لا ذاتية و إلّا لامتنع نقل لفظ من معني إلي معني، و السير في المنظومة يعرب عن أنّه قرأ «القواعد و الفوائد»

تذكرة الأعيان، ص: 419

للشهيد الأَوّل (734 786 ه) و «العوائد» للشيخ أحمد النراقي (المتوفّي 1248 ه)، و «العناوين» للعلّامة السيد فتاح المراغي الذي فرغ منه عام 1245 ه، و توفي عام 1250 ه.

فربما يردّ عليهم أو يقبل قول بعضهم و هو في أوائل العقد الثالث من عمره «1».

2- رسالة المشتق

هذه الرسالة تقرير لآراء أُستاذه الكبير السيد المجدّد الشيرازي طبعت عام 1305 ه ضمن رسائل للشيخ الأَنصاري و تلميذه الجليل الشيخ أبي القاسم الطهراني المعروف ب: كلانتر (المتوفّي 1313 ه) مؤَلف مطارح الأَنظار الذي هو تقرير لدرس أُستاذه الأَنصاري.

3- حرمة الاستطراق إلي مكة عن طريق جبل

هذه الرسالة ألّفها الشيخ بعد ما زار بيت اللّه الحرام من هذا الطريق و رأي فيها المخاوف التي تحدق بالزائر ذهاباً و إياباً و وجد فيه عدم الأَمن و عدم تخلية السرب، و قد أفتي بالحرمة غير واحد من مراجع ذلك العصر، و طبعت الرسالة عام 1320 ه.

4- الصحيفة المهدوية أو القائمية

جمع فيها أدعية الامام المنتظر و هي بعد غير مطبوعة ألّفها في أُخريات أيام إقامته في سامراء بالعراق عام 1302 ه.

و قد كتب عليها خاله العلّامة المحدث النوري تقريظاً، و أطري فيها علي

______________________________

(1) توجد نسخة من هذا الكتاب في المكتبة المركزية لجامعة طهران.

تذكرة الأعيان، ص: 420

المؤَلف ابن أُخته و أجازه في الرواية.

5- تذكرة الغافل و إرشاد الجاهل

كانت هذه الرسالة قارعة علي رءوس المخالفين الذين كانوا يؤَيدون الحركة الدستورية غير الشرعية و قد طبعت عام 1326 ه.

و قد فضح فيها أهداف أصحاب تلك الحركة المشبوهة، و أيقظ الناس علي ما يبيَّتُ لهم في تلك المؤَامرة الخطيرة.

ثم إنّ للشيخ خطباً و مكاتيب، و بيانات بليغة مدوّية، لو جمعت في موضع واحد لتكوّن منها سفر قيّم، و كتاب ثمين، تتجلّي فيه بلاغة الشيخ الشهيد، و قوة بيانه، و عمق تفكيره، و شجاعة جنانه، و بُعد نظره، و أصالة رأيه.

6- رسالة قاعدة ضمان اليد

هذه الرسالة هي التي يزفّها الطبع الآن إلي القرّاء و هي تعرب عن تضلّعه في الفقه، و إحاطته بالفروع، و هذه الرسالة موجودة بخطه الشريف في مكتبة المشهد الرضوي برقم 9632.

و بما أنّه غادر النجف الأَشرف عام 1292 ه يرجع تاريخ تأليفها إلي قبيل عام المغادرة، بشهادة أنّ المحقق الرشتي قرّظها و هو في النجف الأَشرف و كان يحضر أنديه دروس الأَكابر.

و لأَجل إحياء مآثر شهيدنا المبجّل و نظراً لما في تلك الرسالة من بدائع الأَفكار، قام الشيخ الفاضل العلّامة الشيخ قاسم شيرزاده بتحقيقها و تصحيحها و التعليق عليها حسبَ الحاجة، و قامت مؤَسسة الامام الصادق- عليه السلام بنشرها، فشكر اللّه مساعي المؤَلِّف و المعلِّق و شكر جهدَ الناشرين لَافكار علمائنا الأَبرار، و آثارهم.

تذكرة الأعيان، ص: 421

مصادر المقدمة
اشارة

لقد كثر التأليف و التحقيق حول شخصيّة و حياة شيخنا الشهيد النوري من الموافق و المخالف، ربما تربو علي العشرين كتاباً بين مختص به أو مشير إليه ضمن دراسات أُخري.

و ها نحن نشير إلي بعض تلكم المصادر:

المصادر باللغة العربية

1- أعيان الشيعة، للسيد محسن الأَمين العاملي (المتوفّي 1371 ه) ج 24، طبعة بيروت.

2- شهداء الفضيلة، للشيخ عبد الحسين الاميني (1320 1390 ه) ص 356 358.

3- معارف الرجال في تراجم العلماء و الأُدباء، للشيخ محمد حسين حرز الدين ج 2 ص 158.

4- أحسن الوديعة في تراجم مشاهير مجتهدي الشيعة، للسيد محمد مهدي الموسوي ج 2 ص 91.

5- نقباء البشر في علماء القرن الرابع عشر، للشيخ آقا بزرگ الطهراني (1293 1389 ه) مطبوع.

المصادر باللغة الفارسية:

(فهي كثيرة جدّاً نشير إلي بعضها) 1- المآثر و الآثار، تأليف اعتماد السلطنة، طبع في طهران 1306 ه.

2- مقال «عقائد و آراء شيخ فضل اللّه نوري» تأليف فريدون آدميت، نشره

تذكرة الأعيان، ص: 422

ضمن مجلة «جمعه».

3- «پايداري تا پاي دار»، تأليف المحقق البارع الشيخ علي أبو الحسني، طبع عام 1368 ه.

ش، و هذا الكتاب أوسع ما أُلّف حول حياة الشيخ و أهدافه.

4- «شيخ فضل اللّه نوري و مشروطيت؛ روياروئي دو انديشه»، تأليف المحقق الشيخ مهدي الأَنصاري طبع عام 1411 ه.

5- «ريحانة الأَدب»، لأُستاذنا الجليل الشيخ محمد علي المدرس التبريزي (1296 1373 ه).

6- «مكتوبات، اعلاميه ها.. پيرامون نقش شيخ شهيد فضل اللّه نوري»، بقلم محمد تركمان.

و من أراد التوسع في معرفة المصادر فليرجع إلي ما أُلّف حوله رحمه اللّه.

تذكرة الأعيان، ص: 423

19- آية اللّه الشيخ غلام رضا بن الحاج رجب علي القمي (1255- 1332 ه)

الفرائد و قلائدها

إنّ كتاب قلائد الفرائد، تعليقة قيّمة علي كتاب الفرائد في علم الأصول الذي هو محور الدراسة في الجامعات العلمية.

و قد أمرني من لا تسعني مخالفته «1» أن أُترجم حياة المعلِّق فامتثلت أمره أداءً لبعض حقوقه علي العلم و أهله، و قد ارتويت في سالف الزمان أي أيّام شبابي و زمان دراستي لكتاب الفرائد من هذه التعليقة التي هي رشحة من نمير علمه قدّ س اللّه سرّه.

أمّا الفرائد فهو للشيخ الأَعظم مرتضي الأَنصاري (1214 1281 ه) النجم اللامع، بل الشمس البازغة في سماء العلم و التحقيق في القرن الثالث عشر، و هو من الذين يضنُّ بهم الدهر إلّا في فترات متقطعة متباعدة، و له جهوده العلمية في إرساء قواعد الفقه و الأُصول في ضوء الكتاب و السنّة و العقل.

______________________________

(1) العلّامة الحجّة آية اللّه: الشيخ لطف اللّه الصافي ما زالت مدارس العلم و معالم الفضل عامرة بوجوده الشريف.

تذكرة

الأعيان، ص: 424

و قد ترك ثروة علمية كبيرة و ما زالت كتبه في الفقه و الأُصول محور الدراسة.

و هذا كتابه الفرائد في المباحث العقلية من الأصول، لم يزل مُشِعّاً في الجامعات العلمية الشيعية.

و التعليقات و الحواشي عليها تربو علي خمس و ستين «1»، و هذا أدلّ دليل علي أنّ الكتاب وقع موقع القبول.

الشيخ الأَعظم في غني عن الترجمة، و كفي ما كتبه أُستاذه المولي أحمد النراقي (المتوفّي 1245 ه) في حقّه قال: «و ممن جدّ في الطلب و بذل الجُهد في هذا المطلب، و فاز بالحظ الأَوفر الاسني، و حظي بالنصيب المتكاثر، مع ذهنٍ ثاقب، و فهم صائب، و تدقيق و تحقيق، و درك غائر رشيق، و الورع و التقوي، و التمسّك بتلك العروة الوثقي، العالم النبيل، و المهذّب الأَصيل، الفاضل الكامل، و العالم العامل، حاوي المكارم و المناقب، و الفائز بأسني المواهب، الالمعي المؤَيّد، و السالك طرق الكمال الأَسد، ذو الفضل و النهي و العلم، الشيخ مرتضي بن الشيخ محمد أمين الأَنصاري التستري أيّده اللّه بتأييده، و زاد اللّه في علمه و تقاه، و حباه بما يرضاه و قد استجاز بعد ما تردّد إليّ و قرأ عليّ و تبيّنت فضيلته لدي، و لمّا كان أيّده اللّه سبحانه لذلك أهلًا، و إنجاح مسئوله فرضاً لا نفلًا، فأجزتُ له أسعد اللّه جده و ضاعف كدَّه و جدَّه، أن يروي عنّي كتاب نهج البلاغة و..» «2».

و الحقّ أنّ الشيخ أرفع شأناً من أن تحوم فكرتي حول شخصيته و فقاهته، فلا محيص عن إيقاف القلم، و عطف عنانه إلي ترجمة شيخنا المحشي قدَّس سرَّه.

______________________________

(1) الطهراني، الذريعة: ج 6، مادة الحاشية و قد سقط من قلمه الشريف بعض التعليقات

مضافاً إلي أنّه لم يذكر فيها بعض ما ألّف بعد رحيله.

(2) الإِجازة مذكورة برمّتها في كتاب شخصية الشيخ الأَنصاري: 130120.

تذكرة الأعيان، ص: 425

لقد تعرّفت علي مكانة كتاب الفرائد و وقوعه محور الدراسة منذ زمن تأليفه إلي يومنا هذا، و قد علّقت علي هذا الكتاب ثلة جليلة من تلاميذ الشيخ الأَعظم و تلاميذ تلاميذه فأوضحوا مقاصده، و ذلّلوا معضلاته إلي أن وصلت النوبة إلي شيخنا المترجم، فألّف كتابه المعروف ب «قلائد الفرائد» أو «قلائد العقيان علي نحور الخُرَّد «1» الحسان» «2» و قد فرغ منه المؤَلّف عام 2131 و طبع عام 4131.

و هذا الكتاب من أشهر تآليفه، و له تآليف أُخري سنذكرها فيما بعد.

و أمّا حياته فقد ترجمها شيخنا المجيز الطهراني في نقباء البشر فقال: هو الشيخ غلام رضا بن الحاج رجب علي القمّي المعروف بالحاج آقا آخوند، عالم محقّق، و فقيه متبحّر من الأَعاظم، كان اشتغاله في النجف الأَشرف، حضر علي الشيخ المرتضي الأَنصاري سنتين، و بعده علي السيد محمد حسن المجدّد الشيرازي قليلًا، و الميرزا حبيب اللّه الرشتي، و ذهب إلي سامراء فبقي سنتين و رجع إلي قم.

و كان فيها أوان تشرّف أُستاذه الرشتي في طريق زيارته للمشهد الرضوي فجدّد به عهداً هناك، ثمَّ صار مرجعاً للأُمور مقيماً للجماعة و الوعظ، قائماً بالإِرشاد و التدريس إلي أن توفّي في 16 ذي الحجّة سنة 1332 ه «3».

و في «هدية الرازي إلي المجدد الشيرازي» ما هذا نصه: من أكابر علماء قم، و من تلاميذ الشيخ الأَنصاري و الميرزا الشيرازي في النجف الأَشرف، ثمّ غادر إلي قم رئيساً و مدرِّساً، و قد كتب حاشية علي رسائل العلّامة الأَنصاري «4».

______________________________

(1) جمع الخريدة: البكر لم تمس قط.

(2) و الاسم

الواقعي هو قلائد الفرائد و أمّا الثاني فهو مقتبس من قول بحر العلوم في منظومته: تزهو علي قلائد العقيان علي نحور الخُرّد الحسان

(3) نقباء البشر: 4- 1657 برقم 2221.

(4) هدية الرازي: 178 بتعريب منا.

تذكرة الأعيان، ص: 426

كما يذكره ناصر الشريعة في «تاريخ قم» فيقول: الحاج ملّا غلام رضا بن رجب علي المعروف ب (حاج آخوند) المتوفّي عام 1332 ه.

كان في الرعيل الأَوّل من علماء قم و أكابرها، ضمّ إلي علمه الجم قدسية نفسية، فصار مناراً للعلم و مثالًا للتقوي.

غادر بلدته (قم) عام 1279 ه مع زميله العلّامة السيد صادق الروحاني قدّس اللّه سرّهما إلي النجف الأَشرف فحضر درس الشيخ الأَنصاري قرابة سنتين، ثمَّ اختص بالعلمين الكبيرين: الميرزا الشيرازي و الميرزا الرشتي طيّب اللّه ثراهما فلما بلغ المرتبة العالية من الاجتهاد، و نال الشهادة الكبري من أُستاذه قفل عائداً إلي قم عام 1298، مشتغلًا بالتدريس إلي أن لبّي دعوة ربّه عام 1332 ه و دفن في الصحن الشريف: الايوان الزجاجية للحضرة الفاطمية «1».

و لم نقف علي تاريخ ولادته غير أنّه يبدو ولد حوالي عام 1255 و ذلك لَانّه كان قريناً و زميلًا و صديقاً من أوان عمره للعلّامة السيد صادق الروحاني طول حياته، و قد ولد السيد الروحاني في ذلك العام.

آثاره العلمية

و قد ترك شيخنا المؤَلّف ثروة علمية لا يستهان بها، غير أنّها لم تر النور إلّا هذا الأَثر.

______________________________

(1) ناصر الشريعة: تاريخ قم: 278.

تجد نظير هذه الكلمات في كتاب «مؤَلّفين كتب چاپي» لخان بابا مشار: 4- 295، و رجال قم: للسيد محمد مقدسي زاده، فلا حاجة لنقل كلماتهما لتشابهها مع ما ذكر لفظاً و معني.

تذكرة الأعيان، ص: 427

و إليك فهرس ما ألّف:

1- قلائد الفرائد: أو قلائد

العقيان، و قد أُعيد طبعه بالأُوفست و قرّظه يوم طبع، العلّامة السيد مهدي القمّي بأبيات:

كم ركبوا سفينة البراءة و راموا الاستصحاب بالقراءة

تحيّروا في لجج القواعد ما وصلوا حقيقة المقاصد

عليك في بلوغك الفوائد بهذه القلادة للفرائد

قد نزلت في كتب الأصول منزلة الربيع في الفصول

شاملة دقائق القوانين كاشفة الغطاء من العناوين

تملأَ من بدائع الدقيقة تميز المجاز عن حقيقة

قال لنا السادة ورّخوها أجبتهم «بديهة خذوها»

2- كتاب القضاء.

3- كتاب الصلاة.

4- صلاة المسافر «1».

5- قواعد الأصول، تشتمل علي مسألتي اجتماع الأَمر و النهي، و مسألة الضد «2».

6- كنوز الجواهر «3».

______________________________

(1) الطهراني: نقباء البشر: 4- 1657.

(2) الذريعة: 17- 178، و نقباء البشر: 4- 1657.

(3) الذريعة: 18- 171.

تذكرة الأعيان، ص: 428

تلاميذه

كان شيخنا المترجم مشتغلًا بالتدريس و الزعامة الدينية، ربّي لفيفاً من ذوي الفضل منهم العلّامة الحجّة الشيخ محمد علي الارجستاني الكجوئي مؤَلّف «أنوار المشعشعين في شرافة قم و القمّيين» «1» و كان رحمه اللّه ساعياً في رفع حوائج الناس برحابة صدر إلي أن لبّي دعوة ربّه كما عرفت في 16 ذي الحجة عام 1332 ه، فسلام اللّه عليه يوم ولد و يوم مات و يوم يبعث حيّاً.

أولاده

خلّف أولاداً صالحين و علماء كباراً قد عاصرنا بعضهم، نذكر منهم ما يلي: 1- آية اللّه الحاج الشيخ محمد جواد القمّي (1295 1373 ه) ولد في النجف الأَشرف و صحب أباه عند مغادرته النجف الأَشرف إلي قم، درس الآليات و المقدّمات فيها، و لما تمّ العقد الثاني من عمره هاجر إلي طهران بإيصاء من والده فحضر بحوث الأَمجاد الكبار: الشيخ محمد حسن الاشتياني، و الشيخ علي النوري، و الميرزا محمود الحكمي، و الشيخ عبد الكريم السبزواري، و لما ارتوي من نمير علمهم في المعقول و المنقول رجع إلي قم فأقام بها ثلاث سنوات إلي أن هاجر إلي النجف الأَشرف عام 1319 ه فحضر أبحاث العلمين الجليلين: السيد محمد كاظم اليزدي، و المحقّق الخراساني.

فلمّا توفّي والده رجع إلي قم في سنة 1333 ه.

مشتغلًا بالتدريس و الزعامة و التأليف و التصنيف، و من آثاره العلمية:

1- الصراط المستقيم.

2- سعادت بشري.

______________________________

(1) كتابشناسي آثار مربوط ب قم: 132.

تذكرة الأعيان، ص: 429

3- آينه حق نما.

4- توحيد قمي.

5- الكيمياء في المعاد «1».

و غير ذلك من الآثار الكلامية و الأَخلاقية التي تتجاوز العشرة و كان يقيم الجماعة في مسجد والده، إلي أن توفّي عام 1373 ه و قد أوصي بكتبه و كتب والده إلي المرجع الديني

الأَعلي آية اللّه العظمي البروجردي (1292 1380 ه) و هو قدّس اللّه سرّه أمر بإيداعها في مكتبة مدرسة الفيضية.

2- العلّامة الشيخ عبد الهادي القمّي: تتلمذ علي الفقيه الكبير الشيخ أبي القاسم القمّي، و آية اللّه الحائري، و آية اللّه العظمي البروجردي، و كانت حياته حياة طيّبة يعلو عليها الزهد و التجافي عن الدنيا، انتقل إلي رحمة ربّه عام 1384 ه.

3- الشيخ محمد القمّي: تتلمذ علي يد مؤَسّس الحوزة آية اللّه الحائري، و السيد الحجّة الكوه كمري، و السيد الزعيم البروجردي، و من خصائصه الممتازة صدق اللهجة و الصراحة في الكلام مضافاً إلي التجافي عن زخارف الدنيا إلي أن وافاه الأَجل عام 1378 ه.

4- العلّامة الحجّة الشيخ حسين القمّي من خريجي مدرسة آية اللّه الحائري، و الحجّة الكوه كمري، و السيد محمد تقي الخوانساري، و الزعيم البروجردي، و كان يعيش كسائر إخوانه في غاية البساطة إلي أن وافاه الأَجل عام 1379 ه.

هؤلاء ممّن يعبأ بهم من أولاده الفضلاء رحم اللّه الوالد و أولاده، و حفظ اللّه أحفاده و أسباطه، و لم يزل البيت زاهراً بالتقوي و الزهد و نور الولاية.

______________________________

(1) طبع عام 1364 ه، كما في نقباء البشر: 4- 1657.

تذكرة الأعيان، ص: 430

و في الختام أتقدّم بالشكر الجزيل إلي الشيخ ناصر الدين الأَنصاري و إلي حفيدي المترجم، الحاج علي الفقيهي الرضائي، و الحاج محسن الرضائي أبناء الشيخ عبد الهادي حيث قدّموا المعلومات الكافية عن حياة المترجم له و بيته الرفيع، و قاما بطبع كتاب «القلائد» و بذلا نفقة الطبع ليكون لهما ذخراً في الآخرة.

تذكرة الأعيان، ص: 431

20- محمد بن حسين بن محمد الطباطبائي (1321- 1402 ه)

اشارة

من ملامح الشخصيات الكبيرة انّ كلَّ واحد منهم أُمّة، لما يقومون به من انجازات كبيرة و يخلفون من الآثار التي من

شأنها أن تُنجزها أُمّة، و لأَجل ذلك نري انّه سبحانه يصف إبراهيم- عليه السلام- بأنّه أُمّة، و يقول: (إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ كٰانَ أُمَّةً قٰانِتاً لِلّٰهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) «1».

و ما هذا إلّا لأَنّ رائد التوحيد منذ ريعان شبابه إلي أن لقي ربّه أوجد ثورة عارمة ضد الشرك، و قاد نهضة توحيديّة كبيرة، و ترك آثاراً و منجزات عظيمة في المجتمع الإِنساني، فعمله في الظاهر عمل فردي و لكنّه في الواقع عمل أُمّة كبيرة و هذه من سمات الشخصيات الكبيرة.

هكذا كان العلّامة الطباطبائي، فهو بحقّ أُمّة، لما أنجزه من الآثار العلمية و الخدمات الجليلة التي تركت بصمات واضحة علي التراث الشيعي.

فيوم نُعِيَ لموته، كأنّه نُعي لموت أُمّة كبيرة، و الذكر الحكيم يعبِّر عن موت العالم و فقدانه بنقصان الأَرض و يقول: (أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهٰا مِنْ أَطْرٰافِهٰا وَ اللّٰهُ يَحْكُمُ لٰا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسٰابِ) «2».

______________________________

(1) النمل: 120.

(2) الرعد: 41.

تذكرة الأعيان، ص: 432

و قد فسَّرت الآية بموت العالم، روي أمين الإِسلام الطبرسي، عن عدّة من المفسرين أنّ المراد من الانقاص، نقصها بذهاب علمائها و فقهائها و خيار أهلها «1».

و ثمّة نكتة جديرة بالذكر، و هي انّ النبوغ تارة يتجلي في فن واحد كنابغة النحو سيبويه (المتوفي حوالي عام 190) مؤَلف «الكتاب» الذي لم يكتب نظيره في النحو، و أُخري يتجلي في أكثر من فن واحد فتكون شخصية ذات أبعاد مختلفة.

و هذا هو الشيخ الرئيس ابن سينا (384 427 ه) الذي ضرب في كلّ فن بسهم و تجلّي فيه نبوغه، ففي مضمار الفلسفة فيلسوف مبدع بلغت الفلسفة المشائية علي يده القمَّة، و في مضمار الطب طبيب ماهر و حاذق

ألّف كتاب «القانون» الذي لم يزل يُدرَّس في الجامعات العلمية عبْر قرون، كما أنّه أُستاذ الرياضيات و الهيئة في عصره و لم يكن الشيخ الرئيس نسيج وحده في ذلك المجال بل لاحت أسماء شخصيات أُخري في سماء العلم و النبوغ لا يسع المقال لذكرها.

و قد كان العلّامة الطباطبائي من تلك الثلة الذين تمتعوا بذهنية و قادة، و منفتحة علي أكثر العلوم، و ارتشف من معينها و نبغ فيها، فهو في مجال التفسير مفسّر بارع يفسّر القرآن بالقرآن و الآية بالآية، و في مجال الفلسفة، مفكر إسلامي كبير مؤَسس لأُصول فلسفية، و في العرفان و تهذيب النفس و التخلق بالمُثل العليا، عارف شامخ و أخلاقي مهذّب، ضمَّ العرفان النظري إلي العملي و بلغ شأواً عظيماً فخرق الحُجُب المادية بعيون برزخية، كما انّه في العلوم النقلية بلغ مرتبة الاجتهاد و كانت له أنظار في الفقه و الأُصول إلي غير ذلك من الفضائل و المآثر التي يضرب بها المثل، (ذلك من فضل اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)*.

______________________________

(1) مجمع البيان: 3- 30.

تذكرة الأعيان، ص: 433

لمحة من حياة السيد الطباطبائي

اشارة

ولد قدَّس سرَّه في مدينة «تبريز» في التاسع و العشرين من شهر ذي الحجة الحرام من شهور عام 1321، و عاش ثمانين سنة و ثمانية عشر يوماً، و خلّف تراثاً علمياً ضخماً، و ربّي جيلًا كبيراً من المفكرين أوجد من خلالها تحولات عظيمة في العلوم الإِسلامية، و لقي ربّه بنفس مطمئنة يوم الأَحد الثامن عشر من محرم الحرام من شهور عام 1402 ه، و وُرِيَ جثمانه الطاهر في حرم السيدة فاطمة بنت الامام الكاظم عليمها السَّلام تجد صخرة قبره إلي جنب قبر السيد النقي الورع السيد أحمد الخونساري قدّس اللّه

سرّهما فاقترن الكوكبان في مضجعهما كما كان بينهما أُلفة في حال حياتهما.

نشأ الأُستاذ و ترعرع في أُسره عريقة بالعلم و الثقافة و لها تاريخ وضّاح، يتصل نسبه إلي السيد الجليل مير عبد الوهاب الذي تقلَّد منصب «شيخ الإِسلام» في أذربيجان قبل ظهور السلسلة الصفوية، و لما اشتعل فتيل الحرب بين الدولتين: الصفوية و العثمانية، قام السيد بمساعي جميلة بغية إطفاء نيران الحرب و استتباب الأَمن و الاستقرار بين البلدين الشقيقين، فغادر إيران عام 920 ه لهذا الغرض و هبط آستانة حاضرة الدولة العثمانية إلّا أنّ محاولته باءت بالفشل فزُجَّ به في السجن و بقي فيه، إلي أن مضي السلطان سليم و قام مقامه ابنه السلطان سليمان، فأطلق سراحه و عامله بتكريم و تبجيل إلي أن وافته المنية عام 927 ه، و دفن في جوار الصحابي الكبير «أبي أيّوب الأَنصاري» في آستانه، فالمترجم له وليد ذلك البيت العريق و ثمرة تلك الشجرة الطيّبة التي أصلها ثابت و فرعها في السماء، فكم أنجبت علماء كباراً احتفل التاريخ بأسمائهم عبر قرون خمسة، و لا مجال لذكر أسمائهم فضلًا عن حياتهم، و كفانا عن إطناب الكلام فيذلك ما ألّفه نفس الأُستاذ في أنساب آل عبد الوهّاب و الرسالة بعدُ مخطوطة

تذكرة الأعيان، ص: 434

لم تر النور.

نشأ السيد الطباطبائي في حضن أبويه حتي وافتهما المنيّةُ و لم يتجاوز عمر السيد آن ذاك تسع سنين، و بعث إلي المدرسة و تعلم فيها القرآن و الأَدب الفارسي و الرياضيات فتهيأ إلي دخول الجامعة الإِسلامية في مدينة تبريز، و قرأ فيها الصرف و النحو و المعاني و البيان و الفقه و الأصول و الكلام و لم يترك شيئاً من العلوم الرائجة يومذاك إلّا و

قد انتهل منها حتي درس الخط و استغرق جميع ما درسه من الآداب و السطوح العالية تسع سنين و نال منها حظاً عظيماً.

و ثمّة نكتة جديرة بالذكر، و هي انّ الأُستاذ كتب رسالة موجزة في حياته نقتبس منها فيما يرجع إلي تلك الحقبة من حياته.

يقول: كنت في بداية دراستي غير راغب في الاستمرار فيها، و كنت علي هذا الحال سنين أربع إلي أن شملتني العناية الإِلهيّة و أوجدت تحولا جذرياً في نفسي، و أحسست بشوق منقطع النظير إلي الاستمرار فيها و عوّلت علي استسهال الصعب، فأكببت علي الدرس بعزم راسخ و نسيت كلّ شي ء سواه، و اقتصرت من الدنيا باليسير، و سهرت الليالي منكباً علي المطالعة و الدراسة، و كنت أُحضِّر المادة الدراسية قبل حضوري مجلس الدرس و أستوعبُ أكثر ما يلقيه الأُستاذ فيه، و كان جلّ سعي هو فهم المطالب و حل المشاكل العلمية التي أواجهها بالامعان و المطالعة دون أن استفسر عنها «1».

و قد مشي الأُستاذ علي هذا المنوال إلي أن غادر مسقط رأسه إلي النجف الأَشرف عام 1344 ه بغية إكمال دراساته العليا، فأخذ يختلف أنديه الدروس العالية لَاساتذة الوقت في الفقه و الأُصول أعني السيد أبو الحسن الأصفهاني (1284 1365 ه) و الشيخ محمد حسين النائيني (1274 1355 ه) و الشيخ

______________________________

(1) حياة الأُستاذ بقلم نفسه.

تذكرة الأعيان، ص: 435

محمد حسين الأصفهاني (1296 1361 ه) الذي نالت دروسه درجة كبيرة من الأَهمية عند السيد الطباطبائي، فكان يُثني عليه كثيراً و يسير علي نهجه في أُصول الفقه.

و أمّا أساتذته في العلوم العقلية، فقد حضر درس العرفان عند السيد علي القاضي، كما حضر دروس الفيلسوف الكبير السيد حسين البادكوبي (1293 1358 ه) الذي هو من

تلاميذ السيد أبو الحسن المعروف ب «جلوه» (1238 1314 ه) و كان المترجم له يُثني كثيراً علي أُستاذه البادكوبي و يذكره في المجالس و المحافل العلمية و يقول في رسالته: و قد حضرت دروس الحكيم البارع السيد حسين البادكوبي ست سنوات و قرأت عليه شرح «المنظومة» للسبزواري، و «الأسفار» لصدر المتألهين الشيرازي و «المشاعر» له أيضاً، و كتاب «الشفاء» لابن سينا، و كتاب «أثولوجيا» لأَرسطو، و «تمهيد القواعد» لابن تركة، و «طهارة الاعراق» لابن مسكويه.

و أضاف المترجم له في رسالته: أنّ السيد البادكوبي كانت له عناية خاصة بتعليمي و تربيتي و كان يصرَّ علي تعلم الرياضيات العالية حتي أقف علي كيفية إقامة البرهان علي المسائل الفلسفية و لأَجل ذلك حضرت دروس الرياضي الكبير السيد أبو القاسم الخونساري فقرأت عليه دورة كاملة في الحساب و الهندسة المسطحة و الفضائية و الجبر الاستدلالي.

و علي الرغم من انّ السيد الطباطبائي كان مكبّاً علي العلم و التعلم لكنّه لم ينس أبداً تهذيب النفس و تحليتها بالفضائل و تخليتها عن الرذائل و قد اقتدي في ذلك بأُستاذه العظيم السيد علي القاضي (1285 1365 ه) الذي بلغ في تهذيب النفس مقاماً شامخاً حتي صار صاحب كرامات.

نقل العلّامة الطباطبائي عنه هذه الحكاية الطريفة:

تذكرة الأعيان، ص: 436

حلّ السيّد القاضي ضيفاً عليّ و كانت بيننا و بينه صلة رحم و قرابة، و التفت إلي عقيلتي التي لم ترزق طفلًا إلّا و قد مات، مخاطباً إياها قائلًا: يا ابنة العم: هذا الذي يحتضنه رحمك يبقي و هو ذكر سمِّه «عبد الباقي»، قال ذلك و لم أكن أنا يومذاك مطلعاً علي حملها.

ثمّ إنّه سبحانه تبارك و تعالي رزقنا ذكراً اسميناه عبد الباقي و هو الآن حيٌّ

يرزق.

إنّ العلّامة الطباطبائي ضمّ إلي العرفان النظري، العرفان العملي و من له أدني إلمام بالعرفان النظري يقف علي انّه بمجرده لا ينوّر الضمير ما لم ينضم إليه العرفان العملي، فللعارف جناحان أحدهما علمه و الآخر عمله بهما يُحلِّق في سماء الكمال.

و من آثاره العلمية في ذلك الباب كتابه «المحاكمات» فقد حاكم فيها نظريتين إحداهما للعارف الطائر الصيت السيد أحمد الحائري (المتوفي عام 1332 ه) و الآخر لشيخه محمد حسين الأصفهاني، فقد اختلفا في تفسير بيتين منسوبين إلي العارف الكبير «العطار النيشابوري» أعني قوله:

دائماً او پادشاه مطلق است در كمال عزّ خود مستغرق است

او به سر نايد ز خود آنجا كه اوست كي رسد عقل وجود آنجا كه اوست

فقد دارت بين العارفين، مراجعات في تفسير البيتين إلي أن صار كتاباً باسم «المكاتبات» ثمّ إنّ السيد الطباطبائي كتب رسالة حاكم فيها النظريتين و حقق ما هو اللائق بمقام العارف في تفسيرهما.

تذكرة الأعيان، ص: 437

مغادرة الأُستاذ النجف الأَشرف

ظلّ الأُستاذ في جامعة النجف الأَشرف أحد عشر عاما غير انّ تدهور الأَوضاع الاقتصادية ألجأته إلي مغادرة النجف و أقفل عائداً إلي تبريز مسقط رأسه، و كان المترقب أن يشتغل بنشر المعارف و تعليم جيله لكن الأَوضاع السياسية السائدة آن ذاك عاقته عن نيل تلك الامنية، فألقي الرحل في قرية من قري تبريز تُعرف بقرية «شادباد» و اشتغل فيها بالفلاحة لسدّ حاجته المادية و دام هذا الوضع عشر سنين، و يصف فيها تلك الفترة عن مضض و يقول: إنّ تلك الفترة من عمري كانت خسارة جسيمة لي، فقد اضطررت إلي الاشتغال بالفلاحة لسدّ عيلتي، و كانت تأخذ مني قسطاً وافراً من الوقت.

و مهما يكن من أمر فقد ألف في تلك الفترة رسائل عرفانية

و فلسفية، منها: «الإِنسان قبل الدنيا» و «الإِنسان في الدنيا» و «الإِنسان بعد الدنيا» و الرسائل الأَربع، و غيرها من الرسائل، و طالع عامة أجزاء بحار الأَنوار، إلّا الأَجزاء الستة التي ترجع إلي الفقه و لم يغفل عن تهذيب النفس و سلوك مدارج الكمال لا سيما انّه كان منقطعاً عن معاشرة الناس شاغلًا بنفسه عن غيره.

كانت حياته تسير علي ذلك المنوال إلي أن فُوجي باضطراب الأَوضاع السياسية في آذربيجان عقب استيلاء جيوش الحلفاء علي إيران و جيوش الروس علي آذربيجان، فلم ير بُدّاً من ترك مسقط رأسه متوجهاً إلي قم المقدسة و ذلك عام 1364، و قد استخار اللّه تبارك و تعالي في هذه الهجرة و فتح القرآن فإذا بهذه الآية (هُنٰالِكَ الْوَلٰايَةُ لِلّٰهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوٰاباً وَ خَيْرٌ عُقْباً) «1».

و ظل يعيش تحت ولايته سبحانه في مهبط العلم ما يقرب عن 35 سنة،

______________________________

(1) الكهف: 44.

تذكرة الأعيان، ص: 438

و تخرج علي يده جيل كبير من أكابر الحوزة و علمائها و هم بين مفسّر لكتاب اللّه العزيز، و حكيم يشقِّق القواعد الفلسفية بحذاقته، و أخلاقي يعد أُسوة في المجتمع، و أُصولي له باع طويل إلي غير ذلك من البركات التي عمّت الحوزة عقب مجيئه.

[في أبعاد شخصية الطباطبائي العلمية في مجالات مختلفة]

اشارة

هذه لمحة خاطفة عن حياته، و إليك نزراً من أبعاد شخصيته العلمية في مجالات مختلفة:

1- العلّامة الطباطبائي و التفسير

نزل القرآن الكريم للتدبر و التفكر، قال سبحانه: (أَ فَلٰا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَليٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا) «1» غير انّ طائفة كبيرة من المسلمين اكتفوا من القرآن بالقراءة و التجويد غافلين انّ كلّ ذلك مقدمة لفهم القرآن و تطبيق مفاهيمه علي الحياة الاجتماعية.

فالقرآن يصف نفسه، بقوله: (وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ) «2» و إذا كان القرآن تبياناً لكلّ شي ء فحاشا أن لا يكون تبياناً لنفسه، فعلي المفسّر أن يستنطق القرآن و يرفع إجماله ببيّناته، و يفسّر متشابهه بمحكماته.

و إلي ذلك يشير الإِمام أمير المؤمنين- عليه السلام-: «كتاب اللّه تبصرون به و تنطقون به و تسمعون به و ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه علي بعض» «3».

و علي ضوء ذلك كان أئمّة أهل البيت- عليهم السلام- يفسرون القرآن بعضه ببعض، و لنأت بمثال: إنّ قوله سبحانه في صلاة المسافر:

______________________________

(1) محمد: 24.

(2) النحل: 89.

(3) نهج البلاغة، الخطبة 192.

تذكرة الأعيان، ص: 439

(وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ..) «1» ظاهر في جواز القصر لا وجوبه مع انّ أئمّة أهل البيت- عليهم السلام- أفتوا بوجوب القصر علي المسافر، و قد سأل زرارة و محمد بن مسلم أبا جعفر- عليه السلام- عن وجه الوجوب للمسافر مع انّ الآية ظاهرة في الجواز، فأجاب بقوله- عليه السلام-: «أو ليس قد قال اللّه عزّ و جلّ في الصفا و المروة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا) أ لا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض، لأَنّ اللّه عزّ و جلّ ذكره في كتابه و صنعه نبيه، و كذلك

التقصير في السفر شي ء صنعه النبي- صلي الله عليه و آله و سلم- و ذكره اللّه في كتابه «2».

و أمّا التعبير عن الوجوب بهذا اللفظ فله نكتة خاصّة بينت في موضعها.

تجد انّ الامام رفع إجمال إحدي الآيتين بالآية الأُخري و هذا النمط من التفسير شائع في أحاديث أئمّة أهل البيت- عليهم السلام- و قد اقتفي العلّامة الطباطبائي بهم، فوضع تفسير الميزان علي أساس تفسير القرآن بالقرآن و الآية بالآية و هو تفسير بديع ليس له مثيل.

نعم كان بعض المفسرين ربما يفسّرون الآية بالآية علي نطاق ضيِّق و لكن الأُستاذ ألّف كتاباً كبيراً في عشرين جزءاً جعل أساس تفسيره رفع إبهام القرآن بالقرآن.

ثمّ إنّ الأُستاذ في كتابه «الميزان» بعد ما ينتهي من تفسير الآيات يستعقبها ببحوث فلسفية و اجتماعية و أخلاقية و تاريخية علي وجه لا يخلطها بما سبق من تفسير الآيات حذراً من مغبّة التفسير بالرأي.

إنّ تفسير «الميزان» خدم الحديث علي وجه الإِطلاق، فعرض قسماً من الأَحاديث الواردة حول الآيات علي القرآن الكريم، و فَصَلَ الموافق عن المخالف،

______________________________

(1) النساء: 101.

(2) الوسائل: 5- 538، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.

تذكرة الأعيان، ص: 440

و هذا النوع من البحث جدير بالعناية لمن أعقبه من المفسرين.

و قد كان لتفسيره يوم انتشر بعض أجزائه صدي واسع في المحافل العلمية، و هذه هي مجلة «رسالة الإِسلام» الصادرة عن دار التقريب بين المذاهب الإِسلامية في القاهرة تصف الكتاب، و تقول: «الميزان في تفسير القرآن» تفسير جديد للقرآن الكريم لسماحة العلّامة السيد محمد حسين الطباطبائي من علماء الإِمامية الأَجلاء صدر منه جزءان يقع كلّ منهما في قرابة 500 من الصفحات الكبيرة، و قد طبع في طهران علي ورق جيّد و حروف

طباعية حديثة.

قرأنا مقدمة هذا التفسير و بعض موضوعاته و نحن علي نية أن نستوعب الجزءين قراءة و تدبراً إن شاء اللّه تعالي، و قد وجدنا فيما قرأناه قوة علمية متعمقة في البحث من السهولة و اليسر و البعد عن التشدد، و التخفف من المذهبية الخاصة إلي حدّ بعيد و الرجوع إلي القرآن نفسه بتفسير بعضه ببعض و النأي به عن الأَقوال التي لا تصح من الروايات الكثيرة المختلفة، و عن الآراء التي ترجع إلي تأويل آياته حتي توافق نظراً علمياً أو تقليداً مذهبياً أو أصلًا كلامياً أو فلسفة خاصة أو تجديداً حديثاً إلي غير ذلك ممّا نلمحه في بعض التفاسير.

ثمّ يقول: من أبرز مزايا هذا التفسير انّه يعني بعد شرح الآيات و بيان معناها يبحث في الموضوعات الهامة و القضايا التي كثيراً ما شغلت الأَذهان في القديم و الحديث بحثاً مستمداً من آيات القرآن نفسها، و قد قرأنا من هذا ما كتبه عند تفسيره لقوله: (وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَليٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ..) «1»، إذ بحث بحثاً جديداً في إعجاز القرآن من جهاته المختلفة في بلاغته و قوة أُسلوبه و تحديه بالعلم و بالإخبار عن الغيب و بمن أنزل عليه القرآن و بعدم الاختلاف فيه، ثمّ تحدث عمّا يثبته القرآن من قوانين و سنن كونية كتصديقه

______________________________

(1) البقرة: 23.

تذكرة الأعيان، ص: 441

لقانون العلية العامة و إثباته ما يخرق العادة و من كون المؤَثر الحقيقي في الأَشياء بتمام معني الكلمة ليس إلّا اللّه عزّ سلطانه، إلي أن قال: و إنّا لنحيّي المؤَلف و ندعو له بدوام التوفيق «1».

و قد نال التفسير إعجابَ السيد الراحل المحقق البروجردي (1292 1380 ه) و قد حضرت

شخصياً مجلس السيد و حوله علماء كبار و هو يتحدث عن تفسير السيد الطباطبائي و يذكره باعجاب و يصف المؤَلف بأنّه أحد علماء الإِسلام، و سيوافيك تفصيله.

2- العلّامة الطباطبائي و الفلسفة إذا كان المراد من الفلسفة هو التفكير في صحيفة الكون و الوقوف علي القوانين السائدة عليها فقد وقع هذا محط اهتمام القرآن الكريم و أحاديث العترة الطاهرة.

فإذا كانت الفلسفة تعني ذلك المعني فيستحيل أن يشجبه القرآن، كيف و هو يدعو إلي التفكير و التعقل و التدبر و النظر في ملكوت السماوات و الأَرض، يقول سبحانه: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْميٰ وَ الْبَصِيرُ أَ فَلٰا تَتَفَكَّرُونَ) «2» و قوله سبحانه: (يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ) «3» و قوله سبحانه: (قُلِ انْظُرُوا مٰا ذٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ) «4».

هذه الآيات و نظائرها و ما ورد في أحاديث العترة الطاهرة تحث الإِنسان علي التفكر في الكون و نبذ التقليد.

______________________________

(1) مجلة رسالة الإِسلام، السنة الثانية، العدد الثاني، ص 217 219.

(2) الانعام: 50.

(3) آل عمران: 191.

(4) يونس: 101.

تذكرة الأعيان، ص: 442

نعم لا يصحّ لمسلم أن يقلِّد منهجاً فلسفياً لإِنسان غير معصوم و يعتنق كلّ ما يقول دون فرق بين سقراطه و أرسطاطاليسه أو فارابيّه و سينائه، و الإِنسان الواعي يأخذ من كلّ منهج ما وافق البرهان و أورث اليقين، فله أن يرتشف من كلّ معين.

كان العلّامة الطباطبائي من تلك الثلة الأَخيرة، فكان ميّالًا بفطرته إلي التفكير في المسائل الكلية العائدة إلي الكون و قوانينه، و لأَجل هذا الميل الفطري طاف علي المناهج الفلسفية المختلفة المشائية و الإِشراقية، و لم يقتصر علي ذلك بل قرأ شيئاً كثيراً ممّا يرجع إلي الفلسفة الموروثة من حكماء اليونان و إيران و الهند فخرج

بحصيلة علمية ضخمة.

و لأَجل إحاطته بتلك المناهج الفكرية كان يقول شيئاً لا يصحّ أن يتفوه به غيره إلّا لمن له اطلاع واسع بالمناهج الفلسفية كان يقول: لا يوجد في المناهج الفلسفية الغابرة و الحاضرة من يقول بالشرك في الذات، و لو كان هناك شرك فإنّما هو في المراتب الدانية.

انّه قدَّس سرَّه كان متضلعاً في الفلسفة الإِسلامية قلما يتّفق نظيره، و هو يصف تكامل الفلسفة علي يد المسلمين و يقول: لم تكن المسائل الفلسفية الموروثة عن حكماء اليونان تتجاوز يوم ترجمت عن مائتي مسألة، و لكنّها تكاملت علي يد الفلاسفة المسلمين و بلغت أوجها حتي بلغت سبعمائة مسألة.

هذا نصّ ما قاله الأُستاذ في مقالة كتبها في الذكري المئوية الرابعة لميلاد صدر المتألهين الشيرازي و يا ليت الأُستاذ يشير في رسالته إلي ذينك الأَمرين: الأَوّل: تمييز المسائل الفلسفية الموروثة عن اليونان عن المسائل الفلسفية

تذكرة الأعيان، ص: 443

التي أسسها فلاسفة الإِسلام.

الثاني: الإِشارة إجمالًا إلي عناوين المسائل التي أسّسها حكماء الإِسلام ليقف عليها القاريَ عن كثب.

و كانت من أُمنيّاته ترتيب المسائل الفلسفية ترتيباً منطقياً بنحو تكون المسألة الأُولي أساساً للمسألة الثانية و تستنبط الثانية من المتقدمة، كما هو الحال في المسائل الرياضية و الهندسية.

و قد نجح إلي حدّ كبير في تحقيق أُمنيّته تلك، عبْر كتابيه «بداية الحكمة» و «نهاية الحكمة» و بذلك مهّد السبيل للمبتدي في الكتاب الأَوّل، و المنتهي في الكتاب الثاني.

2- مؤَسس نظريات فلسفية

إنّ شأن أكثر المتضلعين في فن هو الإِحاطة بمسائله و دقائقه دون أن يتعدّي جهودهم عن ذلك الشأن بيد انّ ثمة نوابغ قلائل يتجاوزون عن هذا الحدّ و يبلغ بهم نبوغهم بمكان إلي تأسيس نظريات و قواعد و أُصول في ذلك الفنّ لم تكن تعرف من

ذي قبل، و هذه الثلة لا يتجاوز عددها عدد الأَصابع و سيدنا الأُستاذ من تلك الثلة فهو وراء إحاطته بالمسائل الفلسفية المتداولة، قد طرح و كشف نظريات و قواعد فلسفية لم تكن تعرف قبله و إليك الإِشارة إلي بعض هذه الأصول:

أ- تفكيك الحقائق عن الاعتباريات الحقائق عبارة عمّا له عين في الخارج و واقعية، كما أن الاعتباريّات عبارة عن الأُمور الوضعية القائمة بذهن المعتبر من دون أن تكون لها أية واقعية في

تذكرة الأعيان، ص: 444

الخارج، و هذا يتجلي في قولنا زيد زوج لهند فكلّ من زيد و هند من الأُمور الحقيقية و يشار إلي كلّ واحد بالعين و البنان و لكن الزوجيّة التي تربطُهما ليست أمراً حقيقياً واقعياً بل أمراً اعتبارياً اعتبره المقنن لآثار اجتماعية و أخلاقية و غيرهما، و لذلك ربما يُلغي اعتبار الزوجية باعتبار آخر و هو طلاق الزوج زوجته.

و أمّا ما هو منشأ الاعتبار و من أين ينتقل الإِنسان إلي الأُمور الاعتبارية فهو ذو شجون لا يسع المقام لبيانه.

و من خصائص العلوم الحقيقية صحّة اقامة البرهان علي مسائلها و إنهاء الدليل إلي أُمّ القضايا كامتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما، بخلاف المسائل الاعتبارية فإنّها تأبي عن اقامة البرهان عليها، بل الملاك في صحّة الأُمور الاعتبارية اجتماع أمرين: أ- وجود الأَثر للاعتبار فلو لم يكن له أثر اجتماعي يكون أمراً لغواً.

ب- أن لا يكون المعتبر مناقضاً في اعتباره، لانّ التناقض يوجب سلب الاعتماد علي الاعتبار، هذا هو واقع الأَمر، غير انّا نري أنّ أكثر المتخصصين في العلوم الاعتبارية كالآداب و الفقه و الأُصول يعتمدون إلي حدّ بعيد علي البرهان الفلسفي فكم نري بين الاستدلالات علي مسألة صرفية أو نحوية أو فقهية، الاستدلال بالدور و

التسلسل و غير ذلك ممّا يختص بالأُمور الكونية.

و قد نجح سيدنا الأُستاذ نجاحاً باهراً في فصل الاعتباريات عن الحقائق فألف رسالة «الحقائق و الاعتباريات» و بحث في واقع الاعتبار و منشئه بحثاً عميقاً و بكراً، ثمّ نقلها إلي اللغة الفارسية و طبعت مع كتابة «أُصول الفلسفة».

و لم يقتصر علي ذلك فقد طرح المسائل الاعتبارية في الفصل العاشر من المرحلة الحادية عشرة في كتاب «نهاية الحكمة».

و نحن نوافق الأُستاذ في كلّما أفاده في تفكيك الحقائق عن الاعتباريات إلّا

تذكرة الأعيان، ص: 445

في مسألة التحسين و التقبيح العقليين فإنّهما عندنا ليسا من الأُمور الوضعية بل لحكم العقل هناك منشأ تكويني أوضحنا حاله في محاضراتنا «التحسين و التقبيح العقليين».

ب- استنتاج خمس و سبعين مسألة فلسفية ألّف الأُستاذ رسالة في القوة و الفعل، و كشف النقاب عن خمس و سبعين مسألة فلسفية لها صلة وثيقة بالقوة و الفعل، و من مزايا تلك الرسالة تبيين الحركة الجوهرية التي أسّسها صدر المتألهين ببيان رائع لم يسبق إليه أحد، و كشف في ثنايا بحثه عن كون الزمان بعداً رابعاً للجواهر، و هذه المسألة و إن سبقه صدر المتألهين في باب الحركة الجوهرية غير انّ الأُستاذ وصل إليها ببيان فلسفي دقيق يتضمن تبيين سيلان العالم و عدم ثباته و أثبت أن القرار و الثبات من خطأ الحس و ليس للعالم واقعية سوي الحركة و السيلان و الانصرام و انّ العالم بجواهره و أعراضه يسيران معاً إلي الغاية المنشودة من إيجاده، و هذا أمر لا مجال للخوض فيه في هذا المقال.

ج- تقرير برهان الصديقين بوجه رائع إنّ برهان الصديقين من أشرف البراهين الفلسفية التي اعتمد عليه أعاظم الحكماء نظراء ابن سينا و المحقّق الطوسي و

صدر المتألهين.

و لخصه المحقّق الطوسي بقوله: الموجود إن كان واجباً و إلّا استلزمه لاستحالة الدور و التسلسل «1».

تري انّ العلمين الأَوّلين اعتمدا في بيان البرهان علي إثبات الصانع علي استحالة الدور و التسلسل، و جاء بعدهما صدر المتألهين فنقدهما بأنّ هذا البيان

______________________________

(1) انظر شرح الإشارات للمحقّق الطوسي: 3- 18 و كشف المراد: المقصد الثالث في إثبات الصانع.

تذكرة الأعيان، ص: 446

غير برهان الصديقين، فانّ برهانهم لا يعتمد في إثبات الواجب علي شي ء وراء الوجود فإدخال الدور و التسلسل في بيان البرهان يضادّ ذلك البرهان ثمّ بيّن طريقته في إثبات اللّه سبحانه من دون أن يعتمد في إثباته علي وسائط.

و قد شحذ ذلك البيان عقول الحكماء فصاروا إلي بيان برهان الصديقين ببيان لائق لمقامهم، و هو الاستغناء في إثباته سبحانه عن الاعتماد علي غيره، أو شي ء من خلقه و فعله، فبيّنه الحكيم السبزواري ببيان أفضل ممّا بيّنه صدر المتألهين كما انّ سيدنا الأُستاذ استدرك علي الجميع فبيّنه في تعليقته علي الجزء السادس من الاسفار ببيان رائع يقف علي عظم بيانه و دقة تقريره كلّ من له إلمام.

د- حقائق لا تدخل تحت مقولة خاصة إنّ الكلام الموروث عن أرسطو هو أن الجواهر و الأَعراض يقعان تحت مقولات عشر فالجوهر مقولة واحدة و العرض مقولات تسع و هي الكم، الكيف، الوضع، الأَين، متي، الجدة، الفعل، الانفعال، الإضافة، و كلّ ما في الكون داخل تحت واحدة من هذه المقولات.

ثمَّ إنّهم جوّزوا الحركة في الأَقسام الأَربعة الأولي من العرض دون الباقي، و جوّز صدر المتألهين الحركة في الجوهر أيضاً، ثمّ إنّهم اختلفوا في حقيقة الحركة و انّها داخلة تحت أيّ مقولة من المقولات، فواصلوا البحث إلي أنّ الحركة في كلّ مقولة

نفس تلك المقولة، فالحركة في الكم من مقولة الكم و الحركة في الكيف من مقولته و هكذا.

إلّا أنّ سيّدنا الأُستاذ استنتج من هذه البحوث قاعدة فلسفية، و هي انّ كلّ ما يتحقّق في أكثر من مقولة فهو لا يدخل تحت مقولة خاصة، فالحركة بما انّها

تذكرة الأعيان، ص: 447

تتحقق في أزيد من مقولة واحدة لا يمكن تحديدها بمقولة من المقولات، ثمّ إنّه عطف علي ذلك «العلم» و «الوحدة».

فالعلم كما يتعلّق بالكيف يتعلق بالكم كما يتعلّق بالجوهر فمثل ذلك لا يمكن تحديده بحدّ خاص و جعله تحت مقولة خاصة، و هكذا الحال في حقيقة «الوحدة» في الواجب و الممكن، فهذه القاعدة و إن أشار إليها الحكيم السبزواري في مبحث الوجود الذهني و لكنّه لم يطرحها كقاعدة فلسفية شاملة.

ه- التقريب بين الفلسفتين: الإِسلامية و الغربية أنّ المسائل الفلسفية التي أقام دعائمها ديكارت، كانت، هيجل و غيرهم من عباقرة الغرب عبارة عن مسائل عامة لا تختص بعلم دون علم بل تَعُدّ نتائج كلية لجميع العلوم.

و أمّا الفلسفة الإِسلامية فهي تعتمد علي البراهين العقلية المستمدة من الأُمور البديهية و لا تعتمد في إثبات قواعدها علي نتائج العلوم أبداً، و لذلك تراءت الفلسفتان كأنّهما فلسفتان متباينتان ليس بينها صلة، و لكن الأُستاذ نجح في تقريب الفلسفتين في المسائل و الغايات علي وجه حصل التقارب بين الفلسفتين، و يظهر ذلك من خلال قراءة كتابة «أُصول الفلسفة الإِسلامية».

و ليس هذا أمراً غريباً فقد قام قبله صدر المتألهين بمحاولات للتقريب بين الفلسفة المشائية و الإِشراقية و التي تعتمد الأولي علي البرهان و اليقين، و الثانية علي الكشف و الشهود من خلال تهذيب النفس، فقد جمع صدر المتألهين بين الفلسفتين كما انّه نجح في الجمع

بينهما و بين ما جاء في الكتاب و السنّة.

تذكرة الأعيان، ص: 448

3- العلّامة الطباطبائي و الأَخلاق و العرفان

كان السيد الطباطبائي مفكّراً كبيراً و كان لتفكيره أبعاد مختلفة، و قد وقفت علي بُعْده في التفسير و الفلسفة فهلمّ معي نتناول البعد الثالث من أبعاد شخصيته الذي هو البعد العرفاني و الأَخلاقي.

فقد درس العرفان النظري من خلال كتاب «تمهيد القواعد» لابن تركة، و «الفتوحات» لمحيي الدين ابن عربي، و «شرح الفصوص» للقيصري إلي أن بلغ القمة في العرفان النظري و لكنّه ضم إليه العرفان العملي بتهذيب النفس و التقوي، و هو يروي كيفية صلته بأُستاذه في ذلك الفن.

يقول: هبطت النجف الأَشرف و لم أكن أشارك بعدُ في درس من الدروس، طرق ذات يوم البابَ طارق و إذا بالعارف الكبير السيد علي القاضي الطباطبائي، فدخل البيت و جلس في زاوية من الغرفة، ثمّ قال: انّ من يهبط النجف الأَشرف لطلب العلم يجب أن يتزامن سعيه مع تهذيب النفس و تكميلها، قال: تلك الجملة و ترك البيت، و قد أوجد كلامه هذا شوقاً كبيراً في قلبي و رغبة ملحّة إلي متابعة إرشاداته و نصائحه.

و بلغ في تهذيب النفس علي يد ذلك العارف مقاماً شامخاً تمكن من خلالها رؤية الحقائق الغائبة عن الحس.

فنقل يوماً انّه كان جالساً بعد إقامة صلاة الصبح فإذا تمثّل امامه النبي إدريس- عليه السلام- و رأيت انّه كان يتكلّم مع أخي الحكيم السيد حسن الإِلهي و كنت أفهم ما يلقيه النبي إدريس عن طريق أجوبة أخي.

و قد كان له من أمثال هذه المشاهدات أُمور يبخل بذكرها إلّا لمن وجده أهلًا لها.

تذكرة الأعيان، ص: 449

4- العلّامة الطباطبائي و الفقه و الأُصول

إنّ السيد الطباطبائي خاض في العلوم النقلية كما خاض في العلوم العقلية، و قد طوي من عمره الشريف مدّة مديدة في دراسة الفقه و الأُصول لدي عباقرة الفقه و

أساتذته كالميرزا النائيني و الشيخ محمد حسين الأصفهاني و السيد أبو الحسن الأصفهاني، و ترك أثراً في الأصول و هو «التعليقة علي الكفاية» ألَّفها عام 1368 عند دراسة الأصول علي يد لفيف من الفضلاء، و كان يُدرِّس كتاب الصوم بصورة استدلالية في الحوزة العلمية، و مع ذلك ترك دراسة ذينك العلمين و اشتغل بما هو الواجب من دراسة التفسير و الفلسفة و ذلك لوجود مدرسين كبار في الفقه و الأُصول.

5- العلّامة الطباطبائي و الرياضيات و الهيئة

قد سبق منّا القول بأنّ السيّد الأُستاذ قد درس الرياضيات و الهندسة المسطَّحة و الفضائيّة و الجبر الاستدلالي في النجف الأَشرف علي يد السيد أبي القاسم الخونساري بايصاء من قبل أُستاذه في الحكمة و الفلسفة السيد حسين البادكوبي، و أكّد علي أنّ تعلم تلك العلوم يهب الذهن استعداداً خاصاً في إقامة البرهان كما انّه جمع بين الهيئتين القديمة و الحديثة و قد قرأ شرح الچغميني و تشريح الأَفلاك في الهيئة القديمة كما قرأ هيئة «فانديك» في الهيئة الجديدة، و مع ذلك لم تكن صلته منقطعة بالهيئة الجديدة حسب تطورها.

6- العلّامة الطباطبائي و الأَدب العربي

قد أتقن السيد الطباطبائي القواعد الأَدبية إتقاناً رصيناً تعرب عنه كتاباته باللغة العربية و ما أكثرها، فإنّ قلم الأُستاذ و إن كان غير خال عن نوع من التعقيد

تذكرة الأعيان، ص: 450

شأن نوابغ العالم كالشيخ الرئيس و غيره إلّا أنّه كان يستخدم القواعد العربية في إنشائه و يأخذ بناصية اللغة، فيستعملها في مقالاته.

و من عجيب الشي ء أنّ له منظومات متنوعة في الصرف و النحو و المعاني و البيان و البديع غير انّ الزمان عبث بها و لم يبق إلّا الأَخير، و كانت له يد طولي في الأَدب الفارسي و تدلك علي براعته قصائدُه و غزلياته المعروفة و المنتشرة و ليس المقام مناسباً لنقلها.

7- العلّامة الطباطبائي و الحكومة الإِسلامية

إنّ العلّامة الطباطبائي هو تلميذ الميرزا النائيني الذي ألَّف كتاب «تنبيه الأُمّة» و هو أوّل كتاب نشر في القرن الرابع عشر في الأَوساط الشيعيّة حول لزوم تطبيق الشريعة الإِسلامية علي الصعيد العملي من خلال تأسيس دولة إسلامية تأخذ علي عاتقها القيام بتلك المسئولية، و لذلك نري انّ التلميذ تبع الأُستاذ فبحث بحثاً مسهباً في الحكومة الإِسلامية عند تفسير قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صٰابِرُوا وَ رٰابِطُوا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) «1».

و هذا البحث مشحون بالبحوث التالية: 1- الإِنسان و المجتمع.

2- الإِنسان و نموّه الاجتماعي.

3- الإِسلام و العناية بالمجتمع.

4- الإِسلام و تنظيم علاقة الإِنسان بالمجتمع.

5- الإِسلام و سننه الخالدة.

______________________________

(1) آل عمران: 200.

تذكرة الأعيان، ص: 451

6- مقومات المجتمع الإِسلامي.

7- منطق التعقل و منطق الإحساس.

8- الأَجر الأُخروي لا يهدف إلي الاعراض عن الدنيا.

9- الإِسلام و الحرية الاجتماعية.

10- سُبل تكامل المجتمع الإِسلامي.

11- الإِسلام و سعادة المجتمع.

12- خصوصيات الحاكم الإِسلامي.

13- الحدود العقائدية للدولة الإِسلامية.

14- الإِسلام مذهب اجتماعي.

15- الدين الحقّ هو الغالب «1».

و قد طرح

الأُستاذ في هذه البحوث الأسس الواقعية للحكومة الإِسلامية، و لم يقتصر علي ما ذكره في كتاب الميزان بل ألّف رسالة باللغة الفارسية في ذلك المضمار و طبعت تحت عنوان «مرجعيت و روحانيت».

ملامح شخصيته

اشارة

كان السيد الأُستاذ يتمتع بخصوصيات روحية و معنوية عالية نشير إلي بعضها: 1- كان السيد حريصاً علي حفظ المفاهيم الإِسلامية و صيانتها عن التصرّف فيها لغاية تطبيقها علي مناهج فلسفية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو أخلاقية،

______________________________

(1) الميزان: 4 132- 92.

تذكرة الأعيان، ص: 452

كما هو الرائج عند الجُدَد من الكُتّاب و نلمس تلك الخصوصية بوضوح في كتابه الميزان في عامة أجزائه، و لذلك يناقش نظريات المفسر المصريّ «عبده» في تأويله لآيات الذكر الحكيم فيما يرجع إلي عالم الغيب حيث يحاول تطبيقها علي المحسوسات من القوي الطبيعية «1».

كما حاور الأُستاذ مفكراً هندياً حاول أن يثبت أنّ النبوة من شئون النبوغ، و انّ الأَنبياء هم النوابغ القلائل غير انّهم نسبوا رسالاتهم إلي السماء بغية الحصول علي تأييد المجتمعات و دعمها، و نال ذلك الحوار يومذاك صديً واسعاً أعقبه تأليف الأُستاذ رسالة طبعت تحت عنوان «وحي يا شعور مرموز».

و تصدي السيد إلي نقد المحاولات المبذولة من قبل المتأثرين بالمناهج الغربية في محاولة التصرف في الأصول الإِسلامية بنحو تنطبق علي المناهج الغربية الالحادية لا سيما في مجال الاقتصاد و العقائد، و كلّ ذلك يشكل خطراً علي الإِسلام و المسلمين.

2- ولاؤَه لأَهل البيت- عليهم السلام- كيف و هو وليد ذلك البيت، و يظهر ولاؤَه بوضوح من خلال تفسيره الميزان حينما يصل إلي تفسير الآيات النازلة في أئمّة أهل البيت- عليهم السلام- فيشرحها بوضوح و يدعمها بأحاديث مروية في الصحاح و المسانيد، كما انّه يحاول فيما ورد عنهم من الروايات

في تفسير الآيات أن يرشد القاريَ إلي ما يدل علي مضمون الحديث في الآية.

و كان يشارك في مجالس العزاء لأَئمّة أهل البيت و دموعه تذرف علي وجناته، و له قصائد رائعة باللغة الفارسية في مدحهم و مراثيهم.

______________________________

(1) لاحظ الميزان، ج 1، الآيات 30 38 من سورة البقرة.

تذكرة الأعيان، ص: 453

منزلته عند المرجع الأَعلي السيد البروجردي

حظا السيّد الطباطبائي بمنزلة رفيعة عند كثير من علماء عصره و مراجع وقته، لا سيما السيد البروجردي مرجع الطائفة آن ذاك، حيث كان ينظر إليه بعين ملوها الاحترام و التكريم، و يشيد بتفسير «الميزان» و كان حريصاً علي قراءة أجزائه التي تطبع تباعاً، و أودّ أن أنقل حادثة تاريخية شاهدتها بأُم عيني و هي: حضر عام 1379 ه الأَمين العام لمؤتمر مكافحة المواد الكحولية التابعة لمنظمة الأُمم المتحدة مجلس السيد البروجردي، و كان المجلس غاصّاً بالعديد من علماء الحوزة العلمية و من بينهم السيد الطباطبائي، فخاطب الأَمين العام السيد البروجردي، قائلًا: سيُعقد مؤتمر دولي لمكافحة الكحول في «انقرة» بعد بضعة أشهر و يشارك فيها العديد من الخبراء من كافة بلدان العالم، و ممّا لا شكّ فيه انّ الإِسلام حرّم الخمر و الكحول و حرم تعاطيها، و نريد أن نقف علي الدواعي التي أدت إلي التحريم، و لو تفضل سماحتكم علي بيانها لكنّا شاكرين.

فأجاب السيد بجواب موجز و قال: الإِنسان يتميز عن سائر الحيوانات بالعقل، و المسكر يزيل العقل و يضاده.

و هذا الجواب علي الرغم من إيجازه أثارت دهشة الأَمين العالم و إعجابه ثمّ طرح سؤَالًا آخر.

و قال: ما تفضلتم به يرجع إذا تناول الكثير دون القليل مع أنّ الإِسلام حرّم كثيره و قليله؟ فأجاب سماحة السيد، و قال: الإِنسان طموح لا يقتنع بالقليل، فإذا أُجيز

له القليل فسوف يبتغي الكثير و يؤَول إلي الإدمان علي الشرب.

و هذه الأَجوبة المقنعة الموجزة نالت إعجاب الأَمين العام و مرافقيه مما حدا

تذكرة الأعيان، ص: 454

به إلي طرْح موضوع آخر و قال: لو تفضلتم بكتابة رسالة تُبيّن فيها تلك الدواعي و نحن علي استعداد لقراءتها في المؤتمر.

فعنذئذ نظر السيد البروجردي إلي من حوله فوقع نظره علي السيد الطباطبائي، و قال: إنّ السيد الطباطبائي من علماء الإِسلام مؤَلف تفسير القرآن الكريم هو جدير بكتابة رسالة في ذلك المضمار.

هكذا كان السيد البروجردي يولي اهتماماً كبيراً بالسيد الطباطبائي، و من حسن الحظ أنّه ألّف رسالة في ذلك الموضوع و بعثها إلي المؤتمر.

البصمات التي تركها علي الفكر الشيعي

تتجلي شخصية الإِنسان بأعماله و آثاره التي يتركها في جيله، و قد ترك السيّد الطباطبائي بصمات واضحة علي الفكر الشيعي و أوجد تحولا جَذرياً في الجامعة الإِسلامية و نحن نشير إلي أهمّها: 1- وضع أسسا بديعة لتفسير القرآن الكريم حتي صار أُسوة للآخرين.

2- إشاعة التفكير الفلسفي في الأَوساط العلمية.

3- السعي في تبيين المسائل الفلسفية بصورة واضحة و ملموسة.

4- السعي في نشر آثار أئمّة أهل البيت- عليهم السلام- و الحث علي مطالعتها بدقة و إمعان كما شارك في تحشية «بحار الأَنوار» في طبعتها الجديدة إلي الجزء الخامس إلي أن عاقته العوائق عن الإكمال.

و «ايمن اللّه» لو تمّ المشروع لكان كنزاً ثميناً للشيعة الإِمامية.

5- الجمع بين الحقائق القرآنية و ما أُثر عن أئمّة أهل البيت في تفسير

تذكرة الأعيان، ص: 455

الآيات، فقد قام باستخراج ما جاء في الروايات حول تفسير الآيات بعد الإمعان فيها عن نفسها.

6- إشاعة الفكر الشيعي في العالم، من خلال اللقاءات التي كان يجريها مع الشخصيات العالمية و مراسلتهم.

7- صبُّ الاهتمام لحلّ مشكلات الآثار.

8- الحثُّ علي

تهذيب النفس و تربية جيل مؤَهّل إلي كسب الفضائل الأَخلاقية.

9- تربية شخصيات علمية و فكرية عديدة بين مدرس و مفكر فهم عطائهم العلمي.

10- الآثار العلمية و التآليف القيمة و هي بين مطبوع و غير مطبوع، و إليك سرداً لأَسماء الآثار العلمية التي خلفها و التي أصبحت مثار اهتمام العلماء و المفكرين.

أ- الميزان في تفسير القرآن: في عشرين جزءاً و قد ترجم إلي اللغة الفارسية في 40 جزءاً كما ترجم إلي لغات أُخري.

ب- أُصول الفلسفة: دراسة المسائل الفلسفية مقارنة مع الفلسفة الغربية في خمسة أجزاء، و علَّق عليها الشهيد السعيد العلّامة المطهّري و نال الكتاب اهتماماً واسع النطاق و قد قمتُ بترجمة الجزء الأَوّل منه إلي اللغة العربية و أرجو من اللّه سبحانه أن يوفقني إلي ترجمة الأَجزاء الباقية.

ج- تعاليق الاسفار: و قد طبعت معها طرح فيها أفكاراً أبكاراً.

د- بداية الحكمة: و اسمه يحكي عن مسمّاه، ألّفه للمبتدئين في دراسة الفلسفة.

تذكرة الأعيان، ص: 456

ه- نهاية الحكمة: كتاب دراسي جامع للمسائل الفلسفية بأحدث أُسلوب.

و- تعليقة علي الكفاية: تعليقة موجزة علي الجزءين منها، فرغ عنها عام 1368 و هي مطبوعة.

ز- الرسائل التوحيدية: و هي رسائل أربع بالنحو التالي: رسالة التوحيد، رسالة الأَسماء، رسالة الافعال، رسالة الوسائط كتبها في قرية شادباد من أعمال تبريز.

و قد طبعت عام 1415 ه في مؤَسسة النشر الإِسلامي.

ح- الرسائل السبع: مجموعة تحتوي علي رسائل فلسفية: 1- البرهان، 2- المغالطة، 3- التركيب، 4- التحليل، 5- الاعتباريات، 6 المنامات و النبوات، 7- القوة و العقل، و الرسالة الأَخيرة تشتمل علي عشرة فصول، تتضمن نحواً من خمس و سبعين مسألة.

فرغ من تأليفها في جمادي الآخر من شهور عام 1373 و طبعت عام 1404 ه.

تلاميذه و خريجو منهجه

لقد مارس الأُستاذ

الدراسة و التدريس طيلة عمره و أكبّ عليها خصوصاً عند ما نزل قم و ظل فيها حوالي 35 سنة فتلمذ عليه لفيف من العلماء الكبار نشير إلي أسماء بعضهم: 1- الشيخ مرتضي المطهّري، 2- الشيخ حسينعلي المنتظري، 3- السيد محمّد البهشتي، 4- السيد موسي الصدر، 5- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، 6- السيد جلال الدين الآشتياني، 7- السيد محمد حسين الطهراني، 8- السيد عزّ الدين الزنجاني، 9 السيد محمد باقر الابطحي، 10- السيد محمد

تذكرة الأعيان، ص: 457

علي الابطحي، 11- الشيخ حسين النوري، 12- السيد مهدي الروحاني، 13- الشيخ حسن زاده الآملي، 14- الشيخ عبد اللّه جوادي الآملي، 15- الشيخ أبو طالب تجليل التبريزي، 16- الشيخ عبد الحميد الشربياني، 17- الشيخ إبراهيم الاميني، 18 الشيخ يحيي الأَنصاري، 19- السيد عبد الكريم الأَردبيلي، 20- الشيخ عباس الإيزدي الأصفهاني، 21- الشيخ محمد المفتح، 22- الشيخ علي الميانجي، 23- الشيخ محمد تقي المصباح، 24- و أقلّهم جعفر السبحاني.

إلي غير ذلك من شخصيات كبار حضروا درسه و انتهلوا من معين علمه رحم اللّه الماضين منهم و حفظ اللّه الباقين.

هذه لمحة خاطفة عن حياة و سيرة أُستاذنا الراحل إمام المفسّرين و أُستاذ المفكّرين.

فسلام عليه يوم ولد و يوم مات و يوم يبعث حيّاً حرّر في الخامس عشر من شهر رمضان المبارك يوم ميلاد الامام الطاهر الحسن المجتبي- عليه السلام من شهور عام 1419 ه.

و الحمد للّه رب العالمين

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.