أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)

اشارة

نام كتاب: أدوار الفقه الإمامي

موضوع: تاريخ فقه و تحولات آن

نويسنده: تبريزي، جعفر سبحاني

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 1

ناشر: مؤسسه امام صادق عليه السلام

تاريخ نشر: 1424 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

شابك: - 072- 357- 964

[مقدمات التحقيق]

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ*

الحمد للّه الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسٰانَ مٰا لَمْ يَعْلَمْ، و الصلاة و السلام علي نبيّه الخاتم و علي الأئمّة الهداة قادة الأُمم.

انّ الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، خالدة إلي يوم القيامة و رسولها خاتم الرسل، و كتابه خاتم الكتب و قد أخذت الشريعة الإنسانَ محوراً للتشريع مجرداً عن النزعات القومية و الطائفية و اللونية و اللسانية، و أمرت مبلغها أن يقول: (يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً).

و شريعة كهذه يجب أن تكون منطوية علي مادة حيوية قادرة علي تلبية حاجات الأُمّة إلي يوم القيامة و من المعلوم انّ المادة الحيوية تحتاج إلي من يرعاها و يستثمرها وفقاً للمصالح و المستجدات.

ثمّ إنّ هؤلاء الذين قاموا باستنطاق الشريعة هم الفقهاء الواعون الذين كرّسوا أعمارهم في إرساء قواعد الفقه علي مرّ العصور، و قد مرّ علي الفقه الإسلامي أدوار مختلفة لكلّ ميزته الخاصة، فالوقوف علي ميزان تلك الأدوار يعد تعريفاً للشريعة بنحو خاص، فانّ تاريخ العلم لا ينفك عن العلم نفسه.

قد ألفت في سالف الزمان كتاباً في أدوار الفقه الإسلامي عند كلا

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 6

الفريقين، و فصلنا الكلام في الأدوار التي مرّ بها الفقه الإسلامي، و قد بذلنا الوسع في تبيين المحطات المهمة فيه. كما استعرضنا سير و تراجم فطاحل العلماء الذين تركوا بصمات واضحة علي مسيرة الفقه التاريخية و ساهموا مساهمة فعالة في دفع عجلة الفقه نحو الإمام.

و قد طلب منّي

غير واحد من روّاد العلم أن أفرِّد كتاباً يتناول خصوص تاريخ الفقه الشيعي الإمامي و أدواره، فنزلت عند رغبتهم، و أفرزت المباحث المتعلقة بالفقه الشيعي عن غيرها و دونتها في هذا الكتاب بتلخيص و إيجاز.

و هذا هو الذي نقدمه إلي القراء الكرام عسي أن يقع موقع القبول.

المؤلف

21 صفر المظفر من شهور عام 1423 ه-

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 7

تمهيد

أدوار الفقه الإسلامي

إنّ لكلّ علم هيكلًا عاماً له تعريفه و موضوعه و مسائله و غايته، و هذا ما يُتطرّق إليه في نفس العلم، و هناك جانب آخر يُدعي بتاريخ العلم، و يُهدف من وراء دراسته بيان مرحلة نشوئه و نضوجه و تكامله و ما أُصيب به من نكسات علي طول تاريخه.

و قد قام الباحثون ذوو الاختصاص بدراسة تاريخ أكثر العلوم، حتي تكامل و أصبح تاريخُ كلّ علم موضوعاً مستقلًا وراء ذلك العلم، فهناك من يبحث في علم الطب مثلًا من منظار داخلي، و تثمر جهوده في نفس ذلك العلم، و لا تتجاوز عن حدوده، و هناك من يبحث فيه من منظار خارجي، و تنصبُّ جهوده في تاريخه، و المراحل التي مرّ بها و ما أعقبه من نضوج و تكامل، و هذا ما يسمّي بتاريخ العلم.

إنّ التتبع في تاريخ العلوم يثبت أنّ كلّ علم يوم نشوئه لم يكن سوي مسائل معدودة، لا تتجاوز عدد الأصابع، ثمّ كثرت و تشعبت عبر الزمان تحت ظل عوامل كثيرة ساهمت في ازدهاره.

و قد انصبَّ الاهتمام في العصور الأخيرة علي تاريخ العلوم، و استعراض سيرها التكاملي، فأصبح لكلّ علم بل لكل مسألة تاريخ خاص بها.

و الباحث السابر في تاريخ العلوم حينما يواكب مراحلها التكاملية يقف علي

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 8

حقيقة و هي انّ

البحث في العلوم و الفهم العميق لها أمر لا ينفك عن دراسة تاريخها، إذ بها يقف علي كافة أسرارها و خفاياها.

و التشريع الإسلامي و الفقه كغيره من العلوم لا يشذّ عن هذه القاعدة، فدراسة التشريع و الفقه الإسلامي غير دراسة تاريخهما.

نعم ثمة فرق بين التشريع و الفقه، و إن غفل عنه معظم من كتب في تاريخهما.

أمّا الأوّل، فيختص بما شُرّع في العهد النبوي من الأحكام طيلة 23 سنة، عن طريق الكتاب و السنّة في مجالي الأحكام و الأخلاق ممّا يحتاج إليه الفرد المسلم، و الأُسرة المسلمة، و المجتمع المسلم في إطار العمل.

و أمّا الثاني، فهو حصيلة الجهود المضنية التي بذلها الفقهاء بعد رحيل النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) فيما له صلة بالتشريع، فخلّفوا وراءهم ثروة علمية فكرية تمثلت في فتاواهم و آرائهم.

و بما أنّ التشريع الإسلامي كان منحصراً بفترة خاصة، فلا غرو أن يُقتصر تاريخ التشريع علي تلك الفترة القصيرة، ما بين بعثة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) إلي رحيله التي لا تتجاوز عن 23 عاماً، و التي أعقبها غلقُ باب الوحي و التشريع.

فعلي الباحث في تاريخ التشريع الإسلامي أن يفصل بين تاريخ التشريع و تاريخ الفقه، و يُعطي لكلّ حقّه، ففي تاريخ التشريع يستعرض الآيات و الأحاديث الكفيلة ببيان الأحكام و أسباب النزول، و ما يرجع إليهما من مختلف الجوانب.

و أمّا تاريخ الفقه، فقد بدأ في الفترة التي أعقبت وفاة رسول اللّه (صلي الله عليه و آله و سلم)، و مرّ بأدوار مختلفة منذ عصر الصحابة و التابعين إلي عصر الفقهاء، و امتد إلي يومنا هذا.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 9

الحاجة إلي تاريخ الفقه

قد ذكرت لدراسة تاريخ الفقه فوائد علمية

جمّة، منها:

أ. الاطّلاع علي الأساليب الفقهية التي سار علي ضوئها الفقهاء، و تنوعت بها مناهجهم و مسالكهم، فلا شكّ انّ الفقه بمختلف أساليبه يهدف إلي أمر واحد، و إنّما الاختلاف في المناهج المتّخذة في الاستنباط و الاجتهاد للوصول إليه.

ب. معرفة العوامل التي ساهمت في تقدّم العلم و تطوّره.

ج. الوقوف علي الأسباب المُعيقة لتطوّر الركب الفقهي، كظهور الأخبارية في القرن الحادي عشر و الثاني عشر عند الشيعة، و كإقفال باب الاجتهاد في أواسط القرن السابع عند السنّة، بيد أنّ العوامل المُعيقة عند الطائفة الأُولي لم تدم طويلًا، بل زالت بجهاد جهابذة فقهائهم، و لكن ما زالت الآثار السلبية للعامل الثاني باقية بين أهل السنّة إلي يومنا هذا.

و ثمة ميزة خاصة لتاريخ الفقه، و هو انّ تاريخه غير منفصل عن تاريخ التفسير و الحديث، فإنّ الفقه الإسلامي يستمد مادته من المصدرين الأساسيين: الكتاب و السنّة، فعلي من يدوّن تاريخ الفقه الإسلامي، الإلمام بتاريخ نزول القرآن الكريم و أسبابه، و تصنيفه إلي آيات تهدف إلي بيان المعارف العقلية، إلي أُخري تستعرض قصص الأنبياء و سيرتهم و جهادهم ضدّ المشركين، إلي ثالثة تبيّن الأحكام الشرعية التي تدور عليها رحي الفقه.

ثمّ إنّ مصادر التشريع و المنابع التي يستنبط منها الفقه ليست أمراً متفقاً عليه بين كلا الفريقين، فهناك منابع و مصادر اتّفقت عليها الكلمة، و هناك منابع تعد مصدراً عند طائفة دون أُخري، فالسنّة تعتمد علي القياس و الاستحسان و غيرهما، مع أنّ الشيعة تُنكرها، فصار هذا باعثاً للباحثين في تاريخ التشريع

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 10

الإسلامي إلي تخصيص فصول بغية بيان مصادر التشريع الأصلية و التبعية. و قد أفردنا لها تأليفاً مفرداً.

المناهج المتّبعة في تاريخ الفقه

و هناك منهجان متّبعان في تاريخ الفقه:

المنهج

الأوّل: و هو النظر إلي الفقه بما أنّه كائن حي يمر بأطوار مختلفة:

و هي: 1. طور الطفولية، 2. طور الشباب، 3. طور الكهولة، 4. طور الشيخوخة و الهرم.

و هذه النظرة إلي الفقه تتناسب مع الفقه السني الذي أوصد باب الاجتهاد منذ أواسط القرن السابع فأخذ الفقه يمر بطور الشيخوخة و الهرم و استنزاف قواه.

المنهج الثاني: تصنيف أطوار الفقه طبقاً للاسباب و الاحداث التي رافقت تكامله و ارتقاءه و التي اقترنت بأسماء جهابذة من الفقهاء الذين لعبوا دوراً هاماً في اغناء التراث الفقهي، و هذا النوع من التدوين الفقهي يتناسب مع الفقه الشيعي الذي لم يوصد باب الاجتهاد منذ ظهوره إلي يومنا هذا.

الفقه الإمامي الاثنا عشري

الفقه الإمامي تراث فكري فقهي تمتد جذوره إلي عصر الرسالة، و هو حصيلة جهود أُمّة كبيرة من شيعة آل البيت، الذين لم يألوا جهداً في استنباط الأحكام من الكتاب و السنّة، و من أهمِّ ما يُمتاز به هو سعة منابعه الحديثية بفضل العطاء الوافر للعترة الطاهرة و الذي استمرّ من عصر الرسول إلي عام 260 ه-، فيما يفقد الفقه السني هذا المنبع الواسع الزاخر المستمر.

كما أنّ من أهمّ ميزاته هو صدوره عن لسان أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 11

هم عيبة علم الرسول. و من هذه الشجرة الطيبة، الراسخة الجذور، أثمر الفقه الإمامي، و امتاز عن غيره بأمرين:

أ. السعة و الشمول من جهة المنبع.

ب. النقاوة وصفاء المصدر.

فقد صنّف فقهاؤهم طيلة 14 قرناً موسوعات و كتباً و رسائل فقهية لا يحصيها إلّا اللّه سبحانه، فكان علي كُتّاب تاريخ الفقه الإسلامي أن ينظروا إلي الفقه من منظار واسع حتي يقفوا علي الفقه الشيعي و ميزاته و تاريخه و تطوّره و أدواره.

و

قد مرّ الفقه الإمامي بأدوار سبعة لكلّ ميزتُه الخاصة به و إليك الإشارة إلي عناوينها:

الدور الأوّل: عصر النشاط الحديثي و الاجتهادي (11- 260 ه-).

الدور الثاني: عصر تبويب الحديث و منهجة الاجتهاد (260- 460 ه-).

الدور الثالث: عصر الركود (460- نحو 600 ه-).

الدور الرابع: تجديد الحياة الفقهية (600- 1030 ه-).

الدور الخامس: ظهور الحركة الأخبارية (1030- 1180 ه-).

الدور السادس: تصعيد النشاط الفقهي (1180- 1260 ه-).

الدور السابع: عصر الإبداع الفقهي (1260- إلي وقتنا الحاضر).

و قبل الخوض في بيان أدوار الفقه الإمامي نذكر العهد التأسيسي للفقه و نفرزه عن سائر الأدوار.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 12

العهد التأسيسي للفقه

بُعث النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) وسط مجتمع أُمّي، و الأُمّي من لا يُحسن القراءة و الكتابة، منسوباً إلي الأُم باقياً علي الحالة منذ يوم ولدته أُمّه، و كان عدد من يجيد القراءة و الكتابة من قريش عند ظهور الإسلام لا يتجاوز سبعة عشر شخصاً، كما لا يتجاوز أحد عشر شخصاً بين الأوس و الخزرج في المدينة. («1»)

و هذا هو الإمام علي (عليه السلام) يصف التخلّف الثقافي الذي فشا في تلك البيئة، بقوله: «إنّ اللّه بعث محمداً (صلي الله عليه و آله و سلم) و ليس أحد من العرب يقرأ كتاباً و لا يدّعي نبوّة، فَسَاق الناس حتي بوّأهم محلّتهم، و بلّغهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم، و اطمأنّت صفاتهم». («2»)

و لم يقتصر التخلّف علي الصعيد الثقافي، بل شملت كافة الأصعدة الأخلاقية و الاجتماعية، و كانت حياتُهم حياة قَبَليّة لا يحكمهم القانون، و لا يسود بينهم العدل، فهذا هو التاريخ يحكي لنا انّ رجلًا من زبيد دخل مكة المكرمة في شهر ذي القعدة، و عرض بضاعة له للبيع، فاشتراها منه العاص بن وائل،

و حبس عنه حقّه، فاستعدي عليه الزبيدي قريشاً، فطلب منهم أن ينصروه علي العاص، و قريش آنذاك في أنديتهم حول الكعبة، فنادي المشتكي بأعلي صوته و قال:

______________________________

(1) البلاذري: فتوح البلدان: 457.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 33.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 13

يا آل فهر لمظلوم بضاعته*** ببطن مكة نائي الدار و النفر

و محرم أشعث لم يقض عمرتَه*** يا للرجال و بين الحِجْر و الحجَر

انّ الحرام لِمَنْ تمّتْ كرامته*** و لا حرام لثوب الفاجر القذر («1»)

و تَكْمُن عظمةُ النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) في أنّه صَنَعَ من هذه الأُمّة المتخلّفة، أُمّة متحضّرة سائرة في ركاب الحضارة، و أوجد مدينة فاضلة قلّما يشهد التاريخ لها من نظير.

كانت الجزيرة العربية غاصّة بالفساد من كافة الجوانب، فكان يسودهم الشرك و عبادة الأوثان، و وأد البنات، و قتل الأولاد، و الإغارة، و قتل النفس، و البخس في الميزان، إلي غير ذلك من مساوي الأخلاق و رذائلها.

و إصلاح أُمّة كهذه، رهن أمرين:

الأوّل: التشريع الكامل.

الثاني: المنفِّذ الحاذق الذي يكون في مستوي ذلك التشريع الكامل.

و ما هذا الانقلاب الحضاري الذي طرأ عليهم إلّا بفضل هذين الأمرين.

و من وقف علي آيات الأحكام في القرآن يجد فيها غزارة المادة، و روعة التشريع، و شمولها للعبادات و المعاملات و الإيقاعات و السياسات، فنستعرض الموضوعات التي تبنّاها القرآن بالتشريع.

فمن العبادات: الصلاة، و الصوم، و الحج، و العمرة.

و من المعاملات: البيع، و الربا، و العقود كلّها.

و من الإيقاعات: الطلاق، و الإيلاء، و الظهار، و الوصية.

و من السياسات: القصاص، و الحدود، كحد الزاني و القاذف و السارق و قطّاع

______________________________

(1) البداية و النهاية: 1/ 290؛ السيرة الحلبية: 1/ 132.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 14

الطرق، و يلحق بها الجهاد بشتّي

أقسامه، و العهود، و المواثيق المنعقدة بين الحاكم الإسلامي و خصومه، و أسري الحرب، و غنائمها.

هذه نماذج من نظام التشريع القرآني الذي عدّ رصيداً في بناء الحضارة الإسلامية و إعادة الإنسان إلي الحياة الحرّة الكريمة، و قد اعترف أعداء الإسلام بهذه الحقيقة، قال الدوزي: «و بعد ظهور الذي جمع قبائل العرب أُمّة واحدة، تقصد مقصداً واحداً، ظهرت للعيان أُمّة كبيرة، مدّت جناح ملكها من نهر تاج إسبانيا إلي نهر الجانج في الهند، و رفعت علي منار الإشادة أعلام التمدّن في أقطار الأرض، أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة، ثمّ قال: إنّهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الأُمم، و انقشعت بسببهم سحائب البربرية التي امتدت إلي أُوربا حين اختلّ نظامها بفتوحات المتوحشين».

هذه هي لمحة خاطفة للعهد التأسيسي و تعقبه الأدوار الفقهية واحداً تلو الآخر.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 17

أدوار الفقه الإمامي

1

الدور الأوّل: عصر النشاط الحديثي و الاجتهادي (11- 260 ه-)

اشارة

النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) هو المرجع في الأحكام

النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) هو المرجع الأوّل في الأحكام الشرعية، لأنّه (صلي الله عليه و آله و سلم) يفتي عن اللّه بوحيه المبين، فكلامه هو فصل الخطاب، و الخطاب الفاصل، يجب اتّباعه، و الأخذ بأوامره و نواهيه، سواء كان ذلك في مجال التشريع و بيان الأحكام، أو في مجال القضاء و فصل الخصومات، قال سبحانه: (مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) («1»).

و قال سبحانه: (فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰي يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) («2»).

فالآية الأُولي تشير إلي ضرورة اتباعه في الأحكام بما لها من أوامر و نواهي، و

الآية الثانية تشير إلي ضرورة التسليم لما قضي به في المخاصمات و المشاجرات و النزاعات.

و بكلمة جامعة لا يجوز التقدّم علي النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) مطلقاً و الّذي يشمل التقدّم في الرأي أيضاً، قال سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ

______________________________

(1) الحشر: 7.

(2) النساء: 65.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 18

وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) («1»).

إنّ قوله سبحانه: (أَ فَحُكْمَ الْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، («2») دلّ علي أنّ الحكم يُصنَّف إلي صنفين: حكم جاهلي، و حكم إلهي. فما لم يكن بإذن من اللّه سبحانه، فهو جاهلي، و لا يعلم ذلك الإذن إلّا عن طريق النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) الذي يتولّي الوحيُ مهمةَ إيصاله إليه من ربه، و جاء في موارد ثلاثة لزوم الحكم بما أنزل اللّه دون غيره، و أنّ مَن لم يمتثل ذلك فهو كافر و ظالم و فاسق، كما يقول سبحانه: (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ) («3») و في مكان آخر: (فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ) («4») و في موضع ثالث: (فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ). («5»)

و هذا ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين، و الآيات الواردة في هذا الهدف كثيرة، نكتفي بهذا المقدار منها.

العترة هم المرجع في الأحكام بعد رحيله (صلي الله عليه و آله و سلم)

إذا كان النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) هو المرجع العلمي للمسلمين في المعارف و الأحكام، فطبيعة الحال تقتضي أن يكون هناك من يملأ هذا الفراغ بعد رحيله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و لا يصحّ في منطق العقل ترك الأُمّة سديً، لئلّا يأخذوا بحكم الجاهلية مكان الحكم الإلهي.

و هذا المرجع هو العترة

الطاهرة، قرناءُ القرآن بتنصيص من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) كما في حديثه (صلي الله عليه و آله و سلم) حيث قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، و عترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».

و حديث الثقلين، حديث متواتر، رواه الفريقان في كتبهم، و ألّف غير واحد

______________________________

(1) الحجرات: 1.

(2) المائدة: الآيات: 50، 44، 45، 47.

(3) المائدة: الآيات: 50، 44، 45، 47.

(4) المائدة: الآيات: 50، 44، 45، 47.

(5) المائدة: الآيات: 50، 44، 45، 47.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 19

رسائل و كتباً مستقلة في طرقه و اسناده و مفاده. («1»)

و الجدير بالمسلمين التركيز علي مسألة تعيين المرجع العلمي بعد رحيل النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، إذ لا يسوغ في منطق العقل أن يترك صاحب الرسالة، الأُمّةَ المرحومة بلا راع، و هو يعلم أنّه (صلي الله عليه و آله و سلم) برحيله سوف يواجه المسلمون حوادث مستجدة و وقائع جديدة تتطلب أحكاماً غير مبيّنة في الكتاب و السنّة، فلا محيص عن وجود مرجع علمي يُحلّ مشاكلها و يذلّل أمامها الصعاب، و قد قام (صلي الله عليه و آله و سلم) ببيان من يتصدّي لهذا المنصب بحديث الثقلين الذي ألقاه في غير موقف من المواقف.

و من العجب انّ كثيراً من المسلمين يطرقون كلَّ باب إلّا باب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) مع أنّه (صلي الله عليه و آله و سلم) لم يذكر شيئاً ممّا يرجع إلي غير هؤلاء، فلا أدري ما هو وجه الإقبال علي غيرهم و الإعراض عنهم؟!

أُولو الأمر

أمر سبحانه بإطاعة الرسول و أُولي الأمر، بأمر واحد، قال: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ

فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا). («2»)

تأمر الآية بإطاعة اللّه كما تأمر بإطاعة الرسول، و أُولي الأمر، لكن بتكرار الفعل، أعني: (وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ) و ما هذا إلّا لأنّ سنخ الإطاعتين مختلف،

______________________________

(1) لاحظ صحيح مسلم: 7/ 122 و 123، باب فضائل علي، طبعة محمد علي صبيح، مصر؛ سنن الترمذي: 2/ 308؛ مستدرك الصحيحين: 3/ 109 و 148؛ مسند أحمد: 3/ 17 و 26 و ج 4/ 371 و ج 5/ 181؛ الطبقات الكبري لابن سعد: 2/ 2، القسم 2؛ حلية الأولياء لأبي نعيم: 1/ 355 و ج 9/ 64؛ كنز العمال: 1/ 47 و 96، و غيرها.

(2) النساء: 59.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 20

فإطاعته سبحانه واجبة بالذات، و إطاعة النبي و أُولي الأمر واجبة بإيجابه سبحانه.

و المهم في الآية هو التعرّف علي المراد من أُولي الأمر، فقد اختلف فيه المفسّرون علي أقوال ثلاثة:

أ. الأُمراء.

ب. العلماء.

ج. صنف خاصّ من الأُمّة، و هم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

و بما أنّه سبحانه أمر بإطاعة أُولي الأمر إطاعة مطلقة غير مقيّدة بما إذا لم يأمر بالمعصية، فيمكن استظهار أنّ أُولي الأمر- المشار إليهم في الآية و الذين وجبت طاعتهم علي الإطلاق- معصومون من المعصية و الزلل كالنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) حتي صارا مقترنين بالطاعة في الآية.

و بعبارة أُخري: إنّه سبحانه أوجب طاعتهم علي الإطلاق، كما أوجب طاعة نفسه، و طاعة رسوله، و لا يجوز أن تُوجَب طاعة أحد علي الإطلاق إلّا من ثبتت عصمتُه، و علم أنّ باطنه كظاهره، و أُمن منه الغلط و الأمر بالقبيح، و ليس ذلك بحاصل

في الأُمراء، و لا العلماء سواهم. جلَّ سبحانه عن أن يأمر بطاعة من يعصيه، أو بالانقياد للمختلفين في القول و الفعل، لأنّه محال أن يُطاع المختلفون، كما أنّه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه. («1»)

و قد أوضحه الرازي في تفسيره، و ذهب إلي أنّ المقصود من أُولي الأمر، هم المعصومون من الأُمّة و إن لم يخض في التفاصيل، و لم يستعرض مصاديقهم، لكنّه

______________________________

(1) مجمع البيان: 3/ 64، ط صيدا.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 21

بيّنه بصورة واضحة، و قال:

و الدليل علي ذلك، أنّ اللّه تعالي أمر بطاعة أُولي الأمر علي سبيل الجزم في هذه الآية، و من أمر اللّه بطاعته علي سبيل الجزم و القطع لا بدَّ و أن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير اقدامه علي الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، و الخطأ لكونه خطأً منهي عنه، فهذا يفضي إلي اجتماع الأمر و النهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، و أنّه محال.

فثبت أنّ اللّه تعالي أمر بطاعة أُولي الأمر علي سبيل الجزم، و ثبت أنّ كلَّ من أمر اللّه بطاعته علي سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية، لا بدّ و أن يكون معصوماً. («1»)

روي ابن شهرآشوب عن تفسير مجاهد، أنّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين حين خلفه رسول اللّه في المدينة، فقال: «يا رسول اللّه، تخلفني علي النساء و الصبيان؟» فقال: «يا عليّ، أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي، إلّا أنّه لا نبي بعدي، حين قال: اخلفني في قومي و أصلح، فقال اللّه: (وَ أُولِي الْأَمْرِ

مِنْكُمْ)».

و قد أخذت الأُمّة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) خصوصاً الصادق و الباقر (عليهما السلام) في مجال المعارف و الأحكام ما ملأ كتب الفريقين، أمّا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فحدِّث عنه و لا حرج، و أمّا الحسنان فقد قسا عليهما الزمان، و حالت الحكومة الأُموية بينهما و بين الأُمّة، و بالتالي فقد قلَّت الرواية عنهما، و عن علي بن الحسين (عليهم السلام) أيضاً.

______________________________

(1) الفخر الرازي: التفسير الكبير: 1/ 144.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 22

العترة عيبة علم الكتاب و السنّة

اشارة

ترك النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) الكتاب العزيز، و قد رسمت فيه الخطوط العريضة للأحكام التي كانت بحاجة إلي تبيين و تفسير إذ فيها المجمل و المطلق و العام، و لا يُطّلع علي حقيقتها إلّا ببيان شارح، كما أنّه ترك السنّة و هي في صدور الحفاظ الذين تفرّقوا في البلاد، و قد أكلت حروب الردة جماعة منهم. أضف إلي ذلك أنّ قسماً من السنّة وضعت المبادئ العامة دون تفسيرها و بيانها.

كان الوضع علي هذا المنوال حتي مُنعت كتابة الحديث و تدوينه و التحدّث به، و لا شك انّ المنع لم يكن لدوافع شرعية، بل كان لدوافع سياسية، و قد مُني من جرّاء ذلك، جمهور المسلمين بخسارة جسيمة، إلّا أنّ الشيعة لم يعيروا أهمية لهذا الحظر، بل دأبوا علي كتابة السنّة و تدوينها و نشرها بين أبنائهم، علماً منهم بأنّ السنّة وحي كالقرآن الكريم لا يمكن التساهل فيها دون نشرها و إلّا تذهب أدراج الرياح، و المسلمون خلال الأعصار المتعاقبة لمسوا الحاجة إلي تدوين السنّة و الاطّلاع عليها، لأنّ ما في الصدور يذهب بذهاب أصحابها.

قامت أئمّة الشيعة و أتباعهم بوجه منع كتابة السنّة،

و دوّنوا الحديث من غير اكتراث بحظر المنع، منهم:

1. الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)

قال النجاشي في ترجمة محمد بن عذافر الصيرفي، عن أبيه، قال: كنت مع الحكم بن عتيبة، عند أبي جعفر، فجعل يسأله، و كان أبو جعفر (عليه السلام) له مُكْرِماً، فاختلفا في شي ء، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «يا بُنيّ قم فأخرج كتاب علي (عليه السلام)»

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 23

فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً، ففتحه و جعل ينظر حتي أخرج المسألة، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «هذا خط علي (عليه السلام) و إملاء رسول اللّه (صلي الله عليه و آله و سلم)» و أقبل علي الحكم و قال: «يا أبا محمد اذهب أنت و سلمة (بن كهيل) و «أبو المقدام» حيث شئتم يميناً و شمالًا، فو الله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل (عليه السلام)».

و («1») قد أخرج العلّامة الشيخ علي الأحمدي في موسوعته قسماً من الروايات المنتهية إلي كتاب علي (عليه السلام) المبثوثة في الكتب الحديثية لا سيما كتاب الوسائل. («2»)

و كان للإمام كتاب آخر يدعي «الصحيفة» جمع فيه ما يرجع إلي الديات، و قد قام أيضاً الشيخ الأحمدي بجمع ما روي عن تلك الصحيفة في غير واحد من الصحاح و المسانيد.

و بذلك يظهر («3») انّ ما رواه البخاري في باب كتابة العلم،- عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلّا كتاب اللّه، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة» قال: قلت: و ما في هذه الصحيفة؟ قال: «العقل، و فكاك الأسير، و لا يقتل مسلم بكافر» («4»)- ليس علي صواب لوجهين:

أوّلًا: فقد كان للإمام كتاب وراء الصحيفة جاءت ميزاته و خصوصياته في رواية

أئمة أهل البيت و كان طوله 70 ذراعاً و ضخامته كفخذ الإبل و كان الكتاب مدروجاً.

ثانياً: أنّ الصحيفة اشتملت علي أحكام كثيرة في باب القصاص و الديات،

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: الترجمة 967.

(2) لاحظ مكاتيب الرسول: 1/ 72- 89.

(3) لاحظ مكاتيب الرسول: 1/ 66- 71.

(4) البخاري: الصحيح: 1/ 38، باب كتابة العلم، الحديث الأوّل.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 24

و لم تكن مقتصرة علي هذه الجمل الثلاث.

2. أبو رافع الصحابي

و قد تبعت الشيعةُ الإمامَ علي بن أبي طالب (عليه السلام) في تدوين السنّة و لم يعيروا للمنع وزناً، و هذا أبو رافع الصحابي الجليل من شيعة علي بن أبي طالب، الذي أعتقه رسول اللّه عند ما بشّر بإسلام العباس، يقول النجاشي:

و لأبي رافع كتاب السنن و الأحكام و القضايا. («1»)

و يظهر من النجاشي انّ الكتاب كان مشتملًا علي أبواب الصلاة و الصيام و الحج و الزكاة و القضايا.

3. علي بن أبي رافع التابعي

و قد اقتفي أثر أبيه في تدوين السنّة، ابنه علي بن أبي رافع ذلك التابعي الذي كان من خيار الشيعة، و كان له صحبة مع أمير المؤمنين، و كان كاتباً له، و حفظ كثيراً، و جمع كتاباً في فنون من الفقه، الوضوء و الصلاة و سائر الأبواب. («2»)

4. عبيد اللّه بن أبي رافع التابعي

فقد ألّف عبيد اللّه بن أبي رافع كتاباً في أقضية أمير المؤمنين، ذكره الشيخ في «الفهرست» و ذكر سنده إليه. («3») فإذن أبو رافع و ولداه: علي و عبيد اللّه حفظوا السنّة النبوية التي ورثوها عن الإمام أمير المؤمنين و الصحابة و التابعين.

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 1/ 65، الترجمة 1.

(2) النجاشي: الرجال: 1/ 65، الترجمة 1.

(3) الطوسي: الفهرست: برقم 441.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 25

نعم زعم شيخنا التستري انّ هناك كتاباً واحداً نسبه النجاشي إلي علي بن أبي رافع، و الشيخ إلي عبيد اللّه بن أبي رافع و اللّه العالم. («1»)

و لم يعلم مدركه لهذا الادّعاء إذ لا مانع من وجود كتابين، أحدهما يرجع إلي أبواب الفقه كما هو صريح النجاشي، و الآخر يرجع إلي باب أقضية الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

5. ربيعة بن سُميع التابعي

قال النجاشي عند ذكر الطبقة الأُولي من مؤلّفي الحديث: ربيعة بن سميع عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، له كتاب في زكوات النعم. («2»)

ثمّ ذكر سنده إلي الكتاب ناقلًا عن ربيعة بن سميع، عن أمير المؤمنين أنّه كتب له في صدقات النعم و ما يؤخذ من ذلك، و هذا صريح في أنّ الإمام أملاه و كتبه ربيعة، أو كتبه نفس الإمام و دفعه إليه.

6. عبيد اللّه بن الحر الجعفي، الفارس الفاتك، الشاعر التابعي

قال النجاشي: له نسخة يرويها عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

و روي النجاشي أيضاً بسنده عنه انّه سئل الحسين بن علي عن خضابه، فقال (عليه السلام): «أما إنّه ليس كما ترون إنّما هو حناء و كتم». («3»)

هذه هي الطبقة التي دونت السنّة النبوية المأخوذة عن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) و سائر الصحابة و التابعين.

______________________________

(1) التستري: قاموس الرجال: 6، ترجمة علي بن أبي رافع.

(2) النجاشي: الفهرست: برقم 2.

(3) النجاشي: 1/ 71 برقم 5، و الكتم بالتحريك نبت يخلط بالحناء، و يختضب به الشعر، فيبقي لونه.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 26

بيد انّ هذا الوضع لم يدم طويلًا، فقد كثرت الضغوط علي الشيعة في عهد الأُمويين خاصة في عهد معاوية و عبد الملك بن مروان و ابنائه، فقام الأئمّة الثلاثة الّذين أعقبوا الإمام أمير المؤمنين علياً (عليه السلام)، أعني: الحسن بن علي، و الحسين بن علي، و علي بن الحسين (عليهم السلام)، بأعباء الإمامة و إرشاد الأُمّة في أجواء مشحونة بالعداء و البغض لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، فلم تسنح الفرصُ للشيعة من أن ينهلوا من معين علوم الأئمّة (عليهم السلام) إلّا قليلًا منهم، و سيوافيك أسماء من أخذ الفتيا عنهم في تلك الظروف العصيبة.

و مع هذا الضغط، فقد ذكر الشيخ الطوسي أصحاباً للإمام الحسن

(عليه السلام) الذين صاحبوه و رووا عنه، فبلغوا 52 بين صحابي و تابعي ارتوَوا من معين علمه الفيّاض.

كما ذكر أصحاب الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) وفق الحروف الهجائية، فبلغوا 109 بين صحابي و تابعي، و قد رووا عنه في مختلف المجالات من العقائد و الفقه و التفسير.

و علي الرغم من أنّ الإمام السجاد كان محاطاً بالعيون و علي مرأي و مسمع من حكّام بني أُميّة، لكنّه ترك تراثاً علمياً في العقائد و الحقوق تتجسد في «الصحيفة السجادية» و رسالة «الحقوق».

أمّا الصحيفة، فهي في فصاحة ألفاظها، و بلاغة معانيها، و الأساليب العجيبة في طلب عفوه و كرمه سبحانه، فريدة في بابها ليس لها مثيل.

و أمّا الرسالة، فقد رواها الحسن بن شعبة في «تحف العقول» كما رواها الصدوق في «خصاله»، و هي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق، فيذكر الإمام فيها حقوق اللّه سبحانه علي الإنسان، و حقوق نفسه عليه، و حقوق أعضائه من

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 27

اللسان و السمع و البصر و الرجلين و اليدين و البطن و الفرج، ثمّ يذكر حقوق الأفعال من الصلاة و الصوم و الحج و الصدقة و الهدي، ثمّ يذكر حقوق الأئمّة، و الرعية و حقّ الرحم حتي بلغت 50 حقاً آخرها حقّ الذمة. («1»)

و قد ذكر الطوسي في رجاله الرواة عنه (عليه السلام) و رتّبها علي حروف المعجم، فبلغ 175 شخصاً، و هم بين صحابي و تابعي. («2»)

***

عصر الإمامين الباقر و الصادق (عليهما السلام)

اشارة

و لمّا ضعفت الدولة الأُموية، و ازدادت القلاقل و الفتن ضدها سنحت الفرصة للإمامين الباقر و الصادق (عليهما السلام)، لبثِّ السنّة النبوية، و تزويد الأُمّة بالعلوم الإلهية، فصارت الشيعة تتحمل عناء السفر و الحضور عند الأئمّة بغية النهل من معين

علومهم العذب، و ضبط كلّ ما سمعوه في كتبهم ما دامت الفرصة متاحة، فبثّا من العلوم ما يشدّ إليه الركبان.

يقول البحّاثة الكبير شيخنا الطهراني:

كانت الشيعة تتوصّل بكلّ طريقة للتشرّف بحضرتهم، و أخذ معالم دينهم عنهم، و تدوينها في كتبهم، و الفاحص في أحوال الرواة و أخبارهم يعرف مبلغ اهتمامهم في تلقّي أنواع المعارف و العلوم من معادنها في السر و العلانية حسب الاقتضاءات الزمنيّة، و يطّلع علي مقدار رعايتهم للآداب في حالات حضور مجالس أئمتهم، و عرض المسائل عليهم و سماع الأجوبة عنهم، و إعدادهم ما يلزمهم لذلك من الأدوات بوضع الألواح من آبنوس و الاميال في أكمامهم، ثمّ

______________________________

(1) انظر تحف العقول: 184- 195؛ الخصال: 564- 570، في أبواب الخمسين.

(2) الطوسي: الرجال: 81- 102.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 28

مبادرتهم إلي كتابة ما سمعوه عنهم بعينه صيانة من وقوع السهو، أو عروض نسيان، أو حصول تغيير في المعني بتغيير اللفظ، ثمّ كيفيّة تحفّظهم علي كتبهم بعدم إخراجها إلي من لا يثقون به خوفاً من دسّه شيئاً فيها، و عدم جعل سبيلها كسائر التركة، ثمّ يخرجونها عنهم في حياتهم إلي من يثقون بديانته و صلاحه و أهليّته أو يوصون بها إليه، كلّ ذلك منهم طوعاً و انقياداً لطلبات مواليهم المعصومين (عليهم السلام). («1»)

قال ابن حجر في ترجمة الإمام الباقر (عليه السلام): سُمي بذلك لأنّه من بقر الأرض، أي شقّها، و إثارة مخبئاتها و مكامنها، فكذلك هو أظهر من مخبئات كنوز المعارف و حقائق الأحكام، و الحكم و اللطائف ما لا يخفي إلّا علي منطمس البصيرة أو فاسد الطوية و السريرة، و من ثمّ قيل فيه هو باقر العلم و جامعه و شاهر علمه و رافعه. («2»)

و قال

ابن كثير: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وسمي بالباقر لبقره العلوم، و استنباطه الحكم، كان ذاكراً خاشعاً صابراً، و كان من سلالة النبوة، رفيع النسب، عالي الحسب، و كان عارفاً بالخطرات، كثير البكاء و العبرات، معرضاً عن الجدال و الخصومات. («3»)

و قال ابن خلكان: أبو جعفر محمد بن زين العابدين، الملقّب بالباقر، أحد الأئمة الاثني عشر في اعتقاد الإمامية، و هو والد جعفر الصادق. كان الباقر عالماً سيداً كبيراً، و إنّما قيل له الباقر لأنّه تبقّر في العلم أي توسّع، و فيه يقول الشاعر:

يا باقر العلم لأهل التقي*** و خير مَنْ لبّي علي الأجْبُلِ («4»)

______________________________

(1) الطهراني: الذريعة: 1/ 15- 16، المقدّمة.

(2) الصواعق المحرقة: 201.

(3) البداية و النهاية: 9/ 309.

(4) وفيات الأعيان: 4/ 174.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 29

و هذا هو محمد بن طلحة، يعرّف الإمام الصادق بقوله: هو من عظماء أهل البيت و ساداتهم ذو علوم جمّة، و عبادة موفورة، و زهادة بيّنة، و طراوة كثيرة، يتبع معاني القرآن الكريم، و يستخرج من جواهره، و يستنتج عجائبه، و يقسم أوقاته علي أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليها نفسه، رؤيته تذكِّر بالآخرة، و استماع كلامه يُزهد في الدنيا، و الاقتداء بهداه يورث الجنة، نور قسماته شاهد أنّه من سلالة النبوّة، و طهارة أفعاله تصدع أنّه من ذرّية الرسالة: نقل عنه الحديث و استفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمّة و أعلامهم، مثل: يحيي بن سعيد الأنصاري، و ابن جريج، و مالك بن أنس، و الثوري، و ابن عيينة، و أبي حنيفة، و شعبة، و أبي أيوب السجستاني و غيرهم، و عدّوا أخذهم عنه منقبة شُرّفوا بها و فضيلة اكتسبوها. («1»)

و

لقد امتدّ عصر الإمام الصادق (عليه السلام) من نهاية خلافة عبد الملك بن مروان إلي منتصف خلافة المنصور الدوانيقي، أي من سنة 83 ه- إلي سنة 148 ه-. فقد أدرك فترة طويلة من العصر الأُموي، و عاصر كثيراً من ملوكهم و شاهد من جورهم أعنف أشكاله، و قضي شطراً من حياته حتي الحادية عشرة مع جدّه زين العابدين، و حتّي الثانية و الثلاثين مع أبيه الباقر، و نشأ في ظلّهما يتغذّي من تعاليمهما حتي تكاملت تربيته الدينية، و تخرّج من تلك المدرسة الجامعة، فاختصَّ بعد وفاة أبيه بالزعامة سنة 114 ه-، و اتسع نشاط مدرسته في المدينة و مكة و الكوفة و غيرها من الأمصار الإسلامية.

و قد اتّسم العصر المذكور الذي عاشه الإمام بظهور الحركات الفكريّة، و وفود الآراء الاعتقادية الغريبة إلي المجتمع الإسلامي، لا سيما حركة الغلاة الهدّامة، الذين تطلّعت رءوسهم في تلك العاصفة الهوجاء إلي بث روح التفرقة بين

______________________________

(1) كشف الغمة: 2/ 368، و فيه أيوب السختياني، و الصحيح ما ذكرناه.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 30

المسلمين، و ترعرع بُناة أفكارهم في ذلك العصر ليقوموا بمهمّة الانتصار لمبادئهم التي قضي عليها الإسلام، فقد اغتنموا الفرصة في بث تلك الآراء الفاسدة في المجتمع الاسلامي، فكانوا يبثّون الأحاديث الكاذبة و يسندونها إلي حملة العلم من آل محمد، ليُغروا به العامّة، فكان المغيرة بن سعيد يدّعي الاتّصال بأبي جعفر الباقر، و يروي عنه الأحاديث المكذوبة، فأعلن الإمام الصادق (عليه السلام) كذبه و البراءة منه، و أعطي لأصحابه قاعدة في الأحاديث التي تُروي عنه فقال: «لا تقبلوا علينا حديثاً إلّا ما وافق القرآن و السنّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة».

لقد أضمر الخصوم لا سيما حكام بني

أُمية و بني العباس العداء لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وسعوا إلي تضييق الخناق عليهم للحد من اختلاف الناس إليهم، إلّا أنّه شاءت الأقدار الالهية كسر هذا الطوق الذي فرضوه حيث سنحت الفرصة لهم (عليهم السلام) لنشر السنّة النبوية و بثها في أوساط المسلمين، و لما كان ذلك ثقيلًا علي خصومهم عمدوا إلي بث الأكاذيب علي لسان الأئمّة (عليهم السلام) بغية تشويه سمعتهم و التقليل من شأنهم.

إنّ الإمام (عليه السلام) شرع بالرواية عن جدّه و آبائه عند ما اندفع المسلمون إلي تدوين أحاديث النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) بعد الغفلة التي استمرت إلي عام 143 ه- حيث اختلط آنذاك الحديث الصحيح بالضعيف، و تسرّبت إلي السنّة، العديد من الروايات الإسرائيلية و الموضوعة من قبل أعداء الإسلام من الصليبيّين و المجوس بالإضافة إلي المختلقات و المجعولات علي يد علماء السلطة و مرتزقة البلاط الأُموي.

و من هنا فقد وجد الإمام (عليه السلام) أن أمر السنّة النبوية قد بدأ يأخذ اتجاهات خطيرة و انحرافات واضحة، فعمد (عليه السلام) للتصدّي لهذه الظاهرة الخطيرة، و تفنيد الآراء الدخيلة علي الإسلام، و التي تسرّب الكثير منها نتيجة الاحتكاك الفكري

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 31

و العقائدي بين المسلمين و غيرهم.

إنّ تلك الفترة شكّلت تحدّياً خطيراً لوجود السنّة النبوية، و خلطاً واضحاً في كثير من المعتقدات، لذا فإنّ الإمام (عليه السلام) كان بحق سفينة النجاة في هذا المعترك العسير.

إنّ علوم أهل البيت (عليهم السلام) متوارثة عن جدّهم المصطفي محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) الذي أخذها عن اللّه تعالي بواسطة الأمين جبرئيل (عليه السلام) فلا غرو أن تجد الأُمّة ضالّتها فيهم (عليهم السلام) و تجدهم مرفأ أمان في

هذه اللجج العظيمة، ففي ذلك الوقت حيث أخذ كلٌّ يحدّث عن مجاهيل و نكرات، و رموز ضعيفة، و مطعونة أو أسانيد مشوشة، تجد أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «حديثي حديث أبي، و حديث أبي حديث جدّي، و حديث جدّي حديث علي بن أبي طالب، و حديث علي حديث رسول اللّه (صلي الله عليه و آله و سلم) و حديث رسول اللّه قول اللّه عزّ و جلّ». («1»)

هذا غيض من فيض و قليل من كثير ممّا قيل في حقّ الإمامين الباقر و الصادق (عليهما السلام) و لو أردنا أن نستعرض كلمات المؤرّخين و المحدّثين حول الأئمّة الاثني عشر لضاق بنا المجال، فلنكتفِ بهذا المقدار، و من أراد التفصيل فعليه مراجعة الكتب المؤلّفة في هذا الخصوص.

لقد أسّس الإمامان جامعة علمية كبيرة في مهد الحديث تخرج منها الآلاف من المحدّثين حفظوا السنّة النبوية، و هذا ممّا أذعن به التاريخ، و صرّح به المؤرّخون.

و نأتي هنا بنصين:

1. ما ذكره النجاشي في ترجمة «الحسن بن علي بن زياد الوشاء البجلي

______________________________

(1) الوسائل: 18/ 58، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 26.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 32

الكوفي» من أصحاب الرضا، قال- ناقلًا عن أحمد بن محمد بن عيسي-: خرجت إلي الكوفة في طلب الحديث، فلقيت بها الحسن بن علي الوشّاء، فسألته أن يُخرج لي كتاب العلاء بن رزين القلاء و أبان بن عثمان الأحمر، فأخرجهما إليّ، فقلت له: أُحب أن تجيزهما لي، فقال لي: يا رحمك اللّه، و ما عجلتك، اذهب فاكتبهما و اسمع من بعد، فقلت: لا آمن الحدثان، فقال: لو علمت أنّ هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه، فإنّي أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ، كلّ

يقول حدّثني جعفر بن محمد (عليه السلام) و كان هذا الشيخ عيناً من عيون هذه الطائفة، و له كتب، منها: ثواب الحج، و المناسك، و النوادر. («1»)

2. ما ذكره المفيد في «إرشاده» و قال: نقل الناس عن الصادق (عليه السلام) من العلوم ما سارت به الركبان، و انتشر ذكره في البلدان، و لم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نقل عنه، و لا لقي أحد منهم من أهل الآثار و نقلة الأخبار و لا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد اللّه، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات علي اختلافهم في الآراء و المقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل. («2»)

و قال ابن شهرآشوب في «مناقبه»: و نقل عن الصادق (عليه السلام) من العلوم ما لم ينقل عن أحد، و قد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من الثقات علي اختلافهم في الآراء و المقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل. («3»)

و قال شيخنا الفتّال: قد جمع أصحاب الحديث أسماءَ الرواة عن الصادق (عليه السلام) من الثقات علي اختلافهم في الآراء و المقالات، فكانوا أربعة آلاف. («4»)

______________________________

(1) رجال النجاشي: 1/ 138- 139.

(2) المفيد: الإرشاد: 288.

(3) ابن شهرآشوب: المناقب: 4/ 247.

(4) محمد بن علي الفتّال: روضة الواعظين: 177.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 33

و قد قام أبو العباس المعروف ب- «ابن عقدة» (المتوفّي 333 ه-) بضبط أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب خاص له قال النجاشي في ترجمته: له كتاب الرجال، و هو كتاب من روي عن جعفر بن محمد. («1»)

و قال بمثله الشيخ في «الفهرست». («2»)

و ممّا يؤسف له انّ «رجال ابن عقدة» قد تلاعبت به يد الأقدار، فلم يصل إلينا شي ء منه بعد

الفحص عنه في فهارس المكتبات، و قد اتصلنا بعلماء اليمن، فلم يحدّثوا عنه شيئاً.

نعم قام الشيخ الطوسي بإخراج أسماء الذين رووا عن الإمام الصادق (عليه السلام) مع أنّ المذكور في رجاله لا يتجاوز عن ثلاثة آلاف و خمسين رجلًا.

و علي أيّة حال فجهاد الإمام الصادق (عليه السلام) يُعرب عن بث السنّة و نشرها في عصره علي كافة الأصعدة حيث لم يقتصر مجلسه علي الشيعة فحسب، بل عمّ حتي المخالفين في العقائد.

***

الأُصول و المصنّفات

كان لأصحابنا في عصر الصادقين (عليهما السلام) و ما تلاه لونان من التأليف، يسمّي أحدهما بالأُصول، و الآخر بالتصنيف، و يعرب عن ذلك تعبير الشيخ الطوسي في ديباجة الفهرست، قال: «أمّا بعد فإنّي لمّا رأيت جماعة من شيوخ طائفتنا من أصحاب الحديث عملوا فهرست كتب أصحابنا و ما صنّفوه من التصنيفات و رووه

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: رقم 233.

(2) الشيخ: الفهرست: 53.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 34

من الأُصول، و لم يتعرّض أحد منهم لاستيفاء جميعه إلّا ما قصده أبو الحسين أحمد ابن الحسين بن عبيد اللّه (رحمه الله)، فإنّه قد صنّف كتابين ذكر في أحدهما المصنّفات و في الآخر، الأُصول، و استعرضهما علي مبلغ ما وجد و قدر عليه».

و الفرق بين الأُصول و المصنّفات هو انّ احتمال الخطأ و الغلط و السهو و النسيان أقل بكثير منها في المصنّفات، و ذلك لأنّ الأصل يمتاز عن المصنّف بأنّه يشمل الأحاديث التي رواها الراوي عن المعصوم مباشرة أو بواسطة واحدة، بخلاف المصنّف، فإنّه في سعة من ذلك الالتزام.

و قام تلامذة أئمّة أهل البيت بتأليف أُصول أربعمائة ما بين عصر الإمام الصادق (عليه السلام) إلي نهاية عصر الإمام الرضا (عليه السلام)، و هذه الأُصول هي المعروفة بالأُصول الأربعمائة، فلها

من الاعتبار و المكانة ما ليس لغيرها.

قال: السيد رضي الدين علي بن طاوس (المتوفّي 664 ه-): حدّثني أبي قال: كان جماعة من أصحاب أبي الحسن من أهل بيته و شيعته يحضرون مجلسه، و معهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف و أميال، فإذا نطق أبو الحسن (عليه السلام) بكلمة، أو أفتي في نازلة، أثبت القوم ما سمعوه منه في ذلك. («1»)

قال شيخنا بهاء الدين العاملي في «مشرق الشمسين»: إنّه قد بلغنا من مشايخنا قدّس سرّهم انّه كان من دأب أصحاب الأُصول انّهم إذا سمعوا عن أحد من الأئمّة حديثاً بادروا إلي إثباته في أُصولهم، لئلّا يعرض لهم نسيان لبعضه أو كله بتمادي الأيام. («2»)

و بمثله قال السيد الداماد في «رواشحه». («3»)

______________________________

(1) ابن طاوس: مهج الدعوات: 224، الطبعة الحجرية.

(2) بهاء الدين العاملي: مشرق الشمسين. كما في الذريعة: 2/ 128.

(3) السيد الداماد: الرواشح: 98، الراشحة 29.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 35

قال المحقّق الحلّي: كتب من أجوبة مسائله- أي جعفر بن محمد (عليهما السلام)- أربعمائة مصنّف سمّوها أُصولًا. («1»)

قال الطبرسي في «إعلام الوري بأعلام الهدي»: روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) من مشهور أهل العلم أربعة آلاف إنسان، و صُنّف من جواباته في المسائل أربعمائة كتاب تسمي «الأُصول» رواها أصحابه و أصحاب ابنه موسي الكاظم (عليه السلام). («2»)

و قال الشهيد الثاني في «شرح الدراية»: و كان قد استقر أمر المتقدّمين علي أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنّف سمّوها الأُصول، فكان عليها اعتمادهم. («3»)

إلي غير ذلك من كلمات أصحابنا التي جاءت حولَ الأُصول الأربعمائة.

و بما انّ معظم أصحاب الأُصول من أصحاب الباقر و الصادق و الكاظم و الرضا (عليهم السلام)، يمكن الحدس بأنّ أكثرها أُلّفت في فترة ظهور الضعف في الدولة الأُموية

عام 125 ه- إلي عصر هارون الرشيد عام 170 ه- الذي بلغت فيه الدولة العباسية من القوة بمكان.

و لمّا لم يكن للأُصول ترتيب خاص إذ أنّ جلّها إملاءات المجالس و أجوبة المسائل النازلة المختلفة، عمد أصحاب الجوامع إلي نقل رواياتها مرتبة مبوبة منقحة تسهيلًا للتناول و الانتفاع، فما كان في هذه الأُصول انتقل إلي الجوامع الحديثية لا سيما الكتب الأربعة، و لكن بترتيب خاص، و باشتهارها قلّت الرغبات في استنساخ الأُصول و الصيانة علي أعيانها.

______________________________

(1) نجم الدين الحلّي: المعتبر: 1/ 26.

(2) اعلام الوري: 166.

(3) زين الدين العاملي: شرح الدراية: 17. ط النجف.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 36

و قد كان قسم من تلك الأُصول باقياً إلي عهد ابن إدريس (543- 598 ه-) حيث قام بنقل جملة منها في كتابه «السرائر» و أطلق عليها المستطرفات، كما نقل جملة منها عنه السيد رضي الدين بن طاوس كما ذكرها في «كشف المحجة» و قد وقف أُستاذنا السيد محمد الحجة الكوه كمري (1301- 1372) علي ستة عشر من تلك الأُصول و قام بطبعها.

و هذا لا يعني انّ كتابة الحديث قد انحصرت بهذه الأُصول، بل ثمة ألوان أُخر للتأليف في مجال الحديث يطلق عليها الكتاب، و المصنف، و لكلّ خصوصياته و ميزاته.

و قد أكثر جملة من أصحاب الأئمّة في التأليف.

فهذا هو هشام الكلبي ألّف أكثر من 200 كتاب، و ألّف ابن شاذان 180 كتاباً، و لابن دوئل مائة كتاب، و لابن أبي عمير 94 كتاباً، و للحسن و للحسين الأهوازيين 30 كتاباً، و قد ذكر المحدث الحرّ العاملي انّه أُلّف بعد رحيل الرسول إلي عصر الغيبة الصغري (11- 360 ه-) ما يقارب عشرة آلاف كتاب. («1»)

و قد قام غير واحد من أصحابنا

بترجمة رجال الحديث، و بيان منزلتهم في القوة و الضعف نظير:

أ. كتاب الرجال لعبد اللّه بن جبلة الكناني (المتوفّي 219 ه-).

ب. مشيخة الحسن بن محبوب (المتوفّي 224 ه-).

ج. رجال الحسن بن فضال (المتوفّي 224 ه-).

د. رجال ولده علي بن الحسن بن فضال.

______________________________

(1) شرف الدين: المراجعات: 308.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 37

ه-. رجال العقيقي (المتوفّي 280 ه-).

و هذا غير ما قام به المتأخّرون بترجمة رجال الحديث، نظير:

أ. رجال الكشي، المتوفّي نحو سنة (329 ه-).

ب. رجال أبي العباس بن عقدة (249- 333 ه-).

ج. رجال النجاشي (372- 450 ه-).

د. الفهرست و الرجال للشيخ الطوسي (385- 460 ه-).

ثمّ تلتهم طبقة أُخري من مشاهير علماء الرجال، كابن داود و العلّامة الحلّي.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ الفترة بين رحيل الرسول و غياب الحجة كان عصر بسط السنّة، و تبيين الأحكام، و تفسير القرآن علي أيدي أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم عيبة علم الرسول و حفظة سنّته.

إنّ صاحب الجامع الحديثي الشيخ الحر العاملي ذكر في الفائدة الرابعة من خاتمة الكتاب، المصادر التي نقل عنها الأحاديث بلا واسطة، فبلغت ثمانين كتاباً، ثمّ ذكر أسماء الكتب التي نقل عنها بواسطة، فقال في آخر المبحث: و أمّا ما نقلوا منه و لم يصرّحوا باسمه فكثير جداً مذكور في كتب الرجال يزيد علي ستة آلاف و ستمائة كتاب علي ما ضبطناه. («1») و جلّ هذه الكتب مؤلّفة في عصر الأئمّة إلي نهاية القرن الثالث.

يقول العلّامة شرف الدين في «المراجعات»: و كان أصحاب هذين الإمامين العابدين الباقرين من سلف الإمامية أُلوفاً مؤلّفة لا يمكن إحصاؤهم، لكن الذين دوّنت أسماؤهم و أحوالهم في كتب التراجم من حملة العلم عنهما يقاربون أربعة

______________________________

(1) الوسائل: 20/ 49، الفائدة الرابعة.

أدوار

الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 38

آلاف بطل، و مصنفاتهم تقارب عشرة آلاف كتاب، أو تزيد رواها أصحابنا في كلّ خلف عنهم بالأسانيد الصحيحة، و فاز جماعة من أعلام أُولئك الأبطال بخدمتهما و بخدمة بقيّتهما.

ثمّ ذكر أسماء عدّة منهم:

1. أبو سعيد أبان بن تغلب بن رباح الجريري، و ذكر ترجمته علي وجه التفصيل.

2. أبو حمزة الثمالي ثابت بن دينار، و فصّل الكلام في ترجمته و كتبه. («1»)

إلي غير ذلك من الأبطال الأخيار الذين قام صرح التشيّع علي وجودهم.

نعم لم يدم بسط السنّة علي وتيرة واحدة، بل أعقبته نجاحات و إخفاقات تبعاً للظروف السياسية السائدة آنذاك، فكلّما سنحت الفرصة للشيعة للاتصال بأئمتهم أخذوا منهم الحديث، و سجّلوا ما سمعوه، و عند اشتداد الضغط و التنكيل من قبل السلطات الحاكمة نحت الشيعة منحًي آخر، و هو أخذ الأحكام و الأحاديث عن بطانة علومهم من أصحابهم.

و أخيراً نقول: إنّ الشيخ الطوسي ذكر في كتاب «الفهرست» أسماء 900 من المصنّفين، و ربما كان لمصنّف مصنّفات كثيرة، كما هو ظاهر لمن راجع.

و يعرب عن اهتمام الشيعة ببسط السنّة في تلك الفترة، هو كثرة عدد المحدّثين و الرواة، و هذا هو العلّامة المامقاني ترجم في «تنقيح المقال» 13365 محدّثاً. («2»)

و قد استدرك عليه المحقّق السيد الخوئي في «معجمه»، فترجم 15128

______________________________

(1) شرف الدين العاملي: المراجعات: المراجعة رقم 110.

(2) المامقاني: تنقيح المقال: 3/ 344.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 39

محدثاً. («1»)

و ناهز عدد الرواة في دليل معجم رجال الحديث 15676 محدّثاً.

و لو افترضنا أنّ بعض من جاءت ترجمته في الكتابين من غير الشيعة الإمامية، أو أنّ بعض التراجم يتحد بعضها مع بعض، فلا يضر بالعدد الهائل الذي نشاهده في هذين المعجمين بعد استثناء ما ذكرنا من

الدخلاء أو المتحدين.

هذا و قد أخذ عن أئمّة أهل البيت جيل كبير من الفقهاء و المجتهدين قد سجلت أسماءهم معاجم الرجال، و من حاول أن يقف علي أسماء كثير منهم فعليه بالرجوع إلي فهرست الشيخ الطوسي و رجاله و رجال النجاشي و أخيراً معجم رجال الحديث مضافاً إلي ما جاء في معاجم الرجال من أهل السنة كميزان الاعتدال و لسان الميزان و تهذيب التهذيب.

______________________________

(1) الخوئي: معجم رجال الحديث: 22/ 200.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 40

الشيعة و تدوين السنة

اشارة

قد عرفت انّ السنة هي المصدر الثاني للتشريع فلها من الأهمية ما للقرآن الكريم غير انّ القرآن وحي بلفظه و معناه، و السنة وحي بمعناها دون لفظها، و لأجل هذه الأهمية قام غير واحد من أصحاب النبي و الأئمة بتدوين الحديث نشير إليهم علي وجه الايجاز حسب تسلسلهم الزمني:

الطبقة الأُولي

1. أبو رافع، صحابي، له كتاب «السنن و الأحكام و القضايا».

2. سلمان الفارسي، قال الشيخ الطوسي: سلمان الفارسي (رحمه الله) روي حديث الجاثليق الذي بعثه ملك الروم بعد النبي. توفي بالمدائن سنة 35 ه-. («1»)

و قد روي له البخاري و مسلم 60 حديثاً.

3. أبو ذر الغفاري، (المتوفّي 32 ه-) له خطبة يشرح فيها الأُمور بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). («2»)

و أمّا الذين تربّوا علي يد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فنخبة من التابعين منهم:

______________________________

(1) الطوسي: الفهرست: 106 برقم 340.

(2) الطوسي: الفهرست: 70، برقم 160.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 41

4. الأصبغ بن نباتة المجاشعي، و الذي هو من خواص أمير المؤمنين (عليه السلام)، روي عنه (عليه السلام) عهده إلي مالك الأشتر و وصيته إلي ابنه محمد.

5. سليم بن قيس الهلالي، أبو صادق، له كتاب باسم أصل «سليم بن قيس».

6. زيد بن وهب الجهني، له كتاب خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) علي المنابر في الجمع و الأعياد و غيرها. («1»)

و قد مرّ ذكر الابطال الأربعة في عصر الإمام علي (عليه السلام) أعني علي بن أبي رافع و عبيد اللّه بن رافع، و عبيد اللّه بن حرّ الجعفي و ربيعة بن سميع («2») الذين دَونوا الحديث في عصر الإمام (عليه السلام).

الطبقة الثانية

ارتحل الوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذه الدنيا فتوجهت أنظار الشيعة نحو الحسن (عليه السلام) خليفته الشرعي، و لكن الضغوط المتزايدة التي مارسها معاوية بحق الإمامين الحسن و الحسين (عليهما السلام) و شيعتهما حالت دون تدوين الأحاديث المروية عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) فلم يتسنّ لهما تربية جيل يأخذ علي عاتقه تدوين الأحاديث، إلي أن وصل الأمر

إلي ابن الحسين الإمام السجاد (عليه السلام) صاحب «الصحيفة الكاملة» فربّي جيلًا واعياً، منهم:

1. جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي، أبو عبد اللّه (المتوفّي 128 ه-).

2. زياد بن المنذر، كان مستقيماً ثمّ انحرف، له أصل و كتاب التفسير.

______________________________

(1) الطوسي: الفهرست: 97، برقم 303.

(2) لاحظ ص 18- 19 من هذا الكتاب.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 42

3. لوط بن يحيي بن سعيد، شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة، له كتب كثيرة ذكر أسماءها النجاشي في «رجاله». («1»)

4. جارود بن المنذر الثقة، أورده الشيخ في أصحاب الباقر و الصادق (عليهما السلام)، له كتب. («2»)

الطبقة الثالثة

ثمّ جاء دور الباقر و الصادق (عليهما السلام) بعد وفاة الإمام زين العابدين (عليه السلام) في ظروف مهيَّأة بعد ما أصاب كيان بني أُميّة الضعف و الانهيار تحت وطأة النزاعات التي نشبت مع خصومها و خاصة بني العباس، فوجد الإمامان فرصة ذهبية لإشاعة حديث الرسول، فشيّدوا أُسس جامعة إسلامية قلّ نظيرها، قصدها رواد العلم من كل صوب و حدب.

قال المفيد: لم يظهر من أحد من ولد الحسن و الحسين ما ظهر في علم الدين و الآثار و السنّة و علم القرآن و السيرة و فنون الآداب ما ظهر من أبي جعفر الباقر (عليه السلام). («3»)

و روي عنه معالم الدين بقايا الصحابة و وجوه التابعين و فقهاء المسلمين، و سارت بذكر علومه الأخبار، و أُنشدت في مدائحه الأشعار. («4»)

و أمّا الإمام الصادق (عليه السلام) فحدّث عنه و لا حرج، فقد ذاع صيته في جميع الأمصار الإسلامية، و أصبح قدوة لرواد العلم، روي عنه جماعة من أعيان الأُمّة،

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 191 برقم 873 و الشيخ في فهرسته برقم 584.

(2) الطوسي: الرجال: 112 في أصحاب الباقر (عليه السلام).

(3) المفيد:

الإرشاد: 261.

(4) ابن الصباغ المالكي: الفصول المهمة: 210.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 43

منهم: يحيي بن سعيد، و ابن جريج، و مالك بن أنس، و الثوري، و ابن عيينة، و أبو حنيفة، و شعبة، و أبو أيوب السجستاني، و غيرهم. («1»)

قام الإمام بهداية الأُمّة إلي النهج الصواب في عصر تضاربت فيه الآراء، و الأفكار، و اشتعلت فيه نار الحرب بين الأُمويين و معارضيهم من العباسيين، ففي تلك الظروف الصعبة و القاسية استغل الإمام الفرصة لنشر أحاديث جدّه و علوم آبائه ما سارت إليه الركبان، و تربّي علي يديه آلاف من المحدّثين و الفقهاء.

و ليس بإمكاننا أن نذكر قائمة بأسماء المحدّثين الذين رووا عن الإمام الصادق (عليه السلام) و تربّوا في مدرسته، و كفانا في ذلك ما كتبه علماء الرجال في ذلك المضمار. («2»)

و تعاقبت أئمّة أهل البيت بعد الصادق (عليه السلام)، فغدوا قمماً شامخة في سماء الحديث، و عنهم أخذت شيعتهم أحاديث الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) فدوّنوها في جوامعهم الحديثية واحداً تلو الآخر.

و ثمّة نقطة جديرة بالبحث، و هي انّ الجهود لم تقتصر علي نشر السنّة و تبيين الأحكام و الإجابة علي المستجدات، بل تعدتها إلي نهج إحياء الفكر، و بث الوعي في الأُمّة الإسلامية خصوصاً بين شيعتهم و حواريّيهم الّذين أناخوا ركائبهم عند عتبة أبواب الأئمّة (عليهم السلام)، فنُهلوا من العلم الناجع حتي بلغوا مكانة سامية في الذب عن حياض العقائد جعلتهم سدّاً منيعاً أمام شبهات المعاندين و المغرضين، و في الإحاطة بالفروع جعلتهم محنكين في رد الفروع إلي الأُصول، و استنباط الأحكام من الكتاب و السنّة.

و هكذا نشأ المنهجان في أحضان الأئمّة (عليهم السلام) منذ عهد الصادقين إلي عهد

______________________________

(1) المصدر

السابق: 222.

(2) لاحظ ص 26.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 44

الإمام العسكري (عليه السلام)، فلم تمنعهم العناية بالحديث و نشر السنّة عن تربية جيل واع في مجالي العقائد و الأُصول، و ها نحن نذكر أسماء ثلّة من متكلّمي تلك العصور و فقهائهم.

فمن المتكلّمين:

1. زرارة بن أعين (80- 150 ه-): كان فقيها، متكلما، شاعراً، أديباً، قد اجتمعت فيه خصال الفضل و الدين.

2. أبو جعفر محمد بن علي بن النعمان، مؤمن الطاق: توفّي نحو 160 ه-، من متكلّمي عصر الإمام الصادق (عليه السلام)، قال ابن النديم: كان متكلّماً حاذقاً، ثمّ ذكر كتبه. («1»)

3. هشام بن الحكم: هو من متكلّمي الشيعة الإمامية و بطانتهم، و أكبر شخصية في الكلام، توفّي عام 199 ه-.

4. عيسي بن روضة، حاجب المنصور: كان متكلّماً، و له كتاب في الإمامة، من متكلّمي القرن الثاني.

5. الضحاك أبو مالك الحضرمي: كوفي عربي أدرك أبا عبد اللّه (عليه السلام) و روي عن أبي الحسن (عليه السلام) و كان متكلماً، ثقة ثقة في الحديث، و له كتاب في التوحيد. («2»)

6. علي بن محمد بن حسن الطائي: عدّه ابن النديم من متكلّمي الشيعة، و له من الكتب كتاب «الإمامة» كما ذكره ابن النديم.

7. الحسن بن علي بن يقطين بن موسي: كان فقيهاً، متكلّماً، روي عن أبي الحسن و الرضا (عليهما السلام)، ذكره الشيخ في «رجاله» في أصحاب الرضا (عليه السلام). («3»)

______________________________

(1) ابن النديم: الفهرست: 264.

(2) النجاشي: الرجال: برقم 544.

(3) الطوسي: الرجال: برقم 7.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 45

8. حديد بن حكيم، أبو علي الأزدي المدائني: متكلّم، جليل، يروي عن الصادق و الكاظم (عليهما السلام). («1»)

9. فضال بن الحسن بن فضال: من متكلّمي عصر الصادق (عليه السلام)، و له مناظرات مع

أبي حنيفة.

إلي غير ذلك من متكلّمي الشيعة الكبار، كحمران بن أعين الشيباني، و هشام بن سالم الجواليقي، و السيد الحميري، و الكميت الأسدي. («2»)

هذه نظرة عابرة حول مفكّري الشيعة و متكلّميهم في العقائد في عهد الأئمّة.

و أمّا الفقهاء الكبار الّذين رزقوا ملكة الاستنباط في عهد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) حتي صاروا أئمّة في الفقه، متضلّعين في استنباط الفروع، فنذكر منهم علي سبيل المثال ما يلي:

الطبقة الأُولي من الفقهاء

1. سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب القرشي المدني الفقيه: أحد الفقهاء الثمانية، ولد في أيام خلافة عمر بن الخطاب، و توفّي عام 94 ه-.

2. القاسم بن محمد بن أبي بكر: أحد الفقهاء في المدينة، توفّي عام 106 ه-.

3. أبو خالد الكابلي: روي الكليني عن إسحاق بن جرير، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «كان سعيد بن المسيب، و القاسم بن محمد بن أبي بكر، و أبو خالد الكابلي، من ثقات علي بن الحسين». («3»)

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: برقم 383.

(2) لاحظ أعيان الشيعة: 1/ 134- 135.

(3) الكليني، الكافي: 1/ 472، باب مولد أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام).

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 46

الطبقة الثانية

ثمّ أعقبتهم طبقة أُخري كانوا من فقهاء عصر الصادقين (عليهما السلام) و من بعدهم من الأئمّة، و قد تربّي جلّهم في أحضان الأئمّة حتي بلغوا القمة في رد الفروع إلي الأُصول. نذكر أسماءهم علي وجه الإيجاز، فإنّ التفصيل يحوجنا إلي تأليف مفرد، و الأصل في هذا ما ذكره الرجالي الكبير الكشي المتوفّي نحو (320 ه-) في كتابه القيّم المعروف الذي لخّصه الشيخ الطوسي.

عقد الكشي باباً أسماه «تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام)» قال: أجمعت العصابة علي تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) و أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السلام) و انقادوا لهم بالفقه فقالوا:

أفقه الأوّلين ستة:

1. زرارة، 2. معروف بن خرّبوذ، 3. بريد بن معاوية، 4. أبو بصير الأسدي، 5. الفضيل بن يسار، 6. محمد بن مسلم الطائفي.

قالوا: أفقه الستة زرارة.

هؤلاء الستة تخرجوا علي يدي الصادقين (عليهما السلام).

و هناك طبقة أُخري تلتهم، و هم خرّيجو مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) و

لم يدركوا عهد الباقر (عليه السلام)، ذكرهم الكشي في باب أسماه «تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السلام)»:

أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء، و تصديقهم بما يقولون، و أقرّوا لهم بالفقه، من دون أُولئك الستة الذين عددناهم و سمّيناهم، و هم ستة:

1. جميل بن دُرّاج، 2. عبد اللّه بن مسكان، 3. عبد اللّه بن بكير، 4. حماد ابن عثمان، 5. حماد بن عيسي، 6. أبان بن عثمان.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 47

و قال أبو إسحاق الفقيه، و هو ثعلبة بن ميمون: إنّ أفقه هؤلاء جميل بن درّاج، و هم أحداث أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السلام).

الطبقة الثالثة

و هناك طبقة ثالثة تربّوا علي يدي الإمام موسي بن جعفر و علي بن موسي الرضا (عليهما السلام) ذكرهم الكشي في باب أسماه «تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم و أبي الحسن (عليهما السلام)» قال:

أجمع أصحابنا علي تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء و تصديقهم، و أقرّوا لهم بالفقه و العلم، و هم ستة:

1. يونس بن عبد الرحمن، 2. صفوان بن يحيي بياع السابري، 3. محمد بن أبي عمير، 4. عبد اللّه بن المغيرة، 5. الحسن بن محبوب، 6. أحمد بن محمد بن أبي نصر.

و قال بعضهم مكان الحسن بن محبوب، الحسن بن علي بن فضال، و فضالة ابن أيوب.

و قال بعضهم مكان فضالة بن أيوب، عثمان بن عيسي، و علي كلّ تقدير، فأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن، و صفوان بن يحيي بيّاع السابري.

هؤلاء هم أقطاب الاجتهاد في عهد الأئمّة الأربعة: الباقر و الصادق و الكاظم و الرضا (عليهم السلام) و استمرّ الركب سارياً علي هذا المنوال في عصر الأئمّة الآخرين.

و من النجوم اللامعة في

هذه الطبقة هو الفضل بن شاذان بن الخليل، أبو محمد الأزدي النيسابوري (المتوفّي 260 ه-) كان أبوه من أصحاب يونس، و روي

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 48

عن أبي جعفر الثاني، و قيل الرضا أيضاً، و كان ثقة، أخذ عنه أصحابنا الفقهاء و المتكلمون، و له جلالة في هذه الطائفة، و هو في قدره أشهر من أن يوصف، و نقل الكشي أنّه صنّف 160 كتاباً. («1»)

و قد ألّف في الفقه غير واحد من الكتب، منها: كتاب «الطلاق»، و منها كتاب «الفرائض الكبير» و كتاب «الفرائض الأوسط» و كتاب «الفرائض الصغير» إلي غير ذلك من الكتب.

و كتبه هذه و إن لم تصل إلينا، و لكن نقل الشيخ الكليني شطراً وافراً من كتاب الطلاق و الفرائض، و المتتبع في ما نقله يقف علي أنّ الفقه الشيعي قد استقل بالتأليف في عصره، و انّهم لم يكونوا ملتزمين بالإفتاء بنفس النص، أو التأليف بتجريد الأسانيد عن المتون، و تخصيص المتن بالذكر، بل قام الفضل بالتأليف علي غير هذا النمط، فلاحظ المصادر أدناه («2») لتقف بجلاء علي ما قلناه.

فقد نقل في كتاب المواريث- باب ميراث ولد الولد- شيئاً كثيراً من كتاب الفرائض للفضل.

و باب («3») ميراث ولد الولد مع الأبوين، فنقل فيه شيئاً كثيراً عن الفضل. («4»)

و أيضاً باب ميراث الأبوين مع الزوج، فنقل شيئاً من عبارات الفضل. («5»)

و قد وصل إلينا من كتب الفضل كتاب «الإيضاح» و هو مطبوع منتشر، و قد وردت فيه مسائل فقهية، استدلّ عليها و بحث عنها علي نمط المتأخرين.

______________________________

(1) رجال الكشي: 456، و رجال النجاشي رقم 838.

(2) الكافي: 6/ 92- 96، كتاب الطلاق، باب الفرق بين من طلّق علي غير السنّة.

(3) لاحظ الكافي: 7/ 88-

90، كتاب المواريث، باب ميراث ولد الولد.

(4) لاحظ الكافي: 7/ 90- 96، كتاب المواريث، باب ميراث ولد الولد.

(5) لاحظ الكافي: 7/ 98، كتاب المواريث، باب ميراث الأبوين مع الزوج.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 49

و لا نستبعد أن يكون كتب بعض الفقهاء المتقدّمين علي الفضل، علي هذا النمط أيضاً، فإنّ يونس بن عبد الرحمن أحد الفقهاء الكبار من أصحاب الرضا و ألّف في الفقه شيئاً كثيراً، كما سيوافيك.

و لو أردنا استعراض أسمائهم إلي عصر الإمام الحجّة لطال بنا الكلام.

و الغرض من استعراض أسماء هؤلاء الايعاز إلي أنّ الجهود لم تكن منصبَّة علي نشر السنّة النبوية و تربية المحدّثين فحسب، بل كان يواكبه خط آخر و هو تربية أهل الفكر في كلا المجالين، و هذا من خصائص الشيعة الإمامية، خصوصاً عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي أخرج في خطبه كثيراً من المعارف و المسائل التي صار لها دور مؤثر في العصور المتأخّرة، و من قارن كتاب «التوحيد» للشيخ الصدوق (306- 381 ه-) و كتاب «التوحيد» لابن خزيمة الذي تنشره السلفية، لرأي بوناً شاسعاً بين الكتابين، فالثاني يركز علي النقل، و فيه من الإسرائيليات و المسيحيات و المجوسيات ما لا يحصي بخلاف الأوّل، فإنّه يركز علي القرآن و السنّة القطعية و الفكر و التفكير و يدعم العقيدة بالبرهان.

الاجتهاد الصحيح عند الشيعة هو استنطاق الكتاب و السنّة، و ليس الاجتهاد شريعة لكل وارد، و إنّما يطّلع عليه من رُزق ملكة الاستنطاق و ها نحن نذكر نماذج لكيفية تعليمهم ردّ الفروع إلي الأُصول، و قد كان هتافهم علي رءوس أصحابهم: «إنّما علينا إلقاء الأُصول و عليكم التفريع … ». («1»)

كان الأئمّة ينهضون همم أصحابهم في إعمال التدبّر و

الفكر في فهم السنّة، و هذا هو الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، انّ الكلمة لتصرف علي وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء و لا

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 52.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 50

يكذب». («1»)

و لأجل إيقاظ روح التفكير في صفوف أصحابهم كانوا يرشدونهم بالقول: «إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن، و متشابهاً كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلي محكمها، و لا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا». («2»)

و قد أنهضت هذه الكلمات روح الاجتهاد، و أوجدت نشاط الاستنباط، فبلغت رتبة بعض أصحابهم درجة عالية صالحة للإفتاء، فهذا أبو جعفر الباقر (عليه السلام) يقول لأبان بن تغلب: «اجلس في المسجد و افتِ الناس، فإنّي أُحب أن يري في شيعتي مثلك». («3»)

تدريب أصحابهم علي الاجتهاد

1. اختلفت كلمة الفقهاء في مقدار المسح الواجب علي الرأس عند الوضوء، و قد سأل زرارة الإمام الصادق (عليه السلام) عن مقدار المسح، فقال له: أ لا تخبرني من أين علمت، و قلت إنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين؟ فضحك، و قال: «يا زرارة، قاله رسول اللّه (صلي الله عليه و آله و سلم)، و نزل به الكتاب عن اللّه عزّ و جلّ قال: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثمّ قال: (وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ) فوصل اليدين إلي المرافق بالوجه، فعرفنا انّه ينبغي لهما أن يغسلا إلي المرفقين، ثمّ فصل بين الكلام فقال: (وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا حين قال: بِرُؤُسِكُمْ أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال: (وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ) فعرفنا حين

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 9

من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.

(2) الوسائل: ج 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 22.

(3) النجاشي: 1/ 73، في ترجمة أبان بن تغلب.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 51

وصلهما بالرأس انّ المسح علي بعضها، ثمّ فسّر ذلك رسول اللّه فضيّعوه». («1»)

2. سأل عبد الأعلي، مولي آل سام، الإمام الصادق عن كيفية المسح علي الظفر الذي أصابه الجرح و جعل عليه جبيرة؟ قال: «هذا و أشباهه يعرف من كتاب اللّه، قال اللّه تعالي: (مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) «2» امسح علي المرارة». «3»

فقد أوضح للسائل كيفية الاستنباط و ردّ الفرع إلي الأصل.

3. روي زرارة و بكير، انّهما سألا أبا جعفر عن وضوء رسول اللّه، فدعا بطست، إلي أن قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ) فليس له أن يدع شيئاً من وجهه إلّا غسله، و أمر أن يغسل اليدين إلي المرفقين، فليس له أن يدع شيئاً من يديه إلي المرفقين إلّا غسله، لأنّ اللّه تعالي يقول: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ)». («4»)

4. عن حكم بن الحكم، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول، و سئل عن الصلاة في البيع و الكنائس، فقال: «صل فيها قد رأيتها ما أنظفها» قلت: أ يصلّي فيها و إن كانوا يصلّون فيها؟ فقال: «نعم أما تقرأ القرآن (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَليٰ شٰاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْديٰ سَبِيلًا) «5» صل إلي القبلة و غرّبهم». («6»)

______________________________

(1) الوسائل: 1، الباب 23 من أبواب الوضوء، الحديث 1. و الآية 6 من سورة المائدة.

(2) الحج: 78.

(3) الوسائل: 1/ 290 ح 1، الباب 23 من أبواب الوضوء.

(4)

الوسائل: 1، الباب 15 من أبواب الوضوء، الحديث 3، و الآية 6 من سورة المائدة.

(5) الإسراء: 84.

(6) الوسائل: 3، الباب 13 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 3.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 52

5. روي سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إنّ اللّه فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلّا بأدائها، و هي الزكاة بها حقنوا دماءهم و بها سمّوا مسلمين، و لكن اللّه فرض في أموال الأغنياء حقوقاً غير الزكاة، فقال عزّ و جلّ: (وَ الَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّٰائِلِ) («1») فالحقّ المعلوم غير الزكاة، و هو شي ء يفرضه الرجل علي نفسه في ماله يجب عليه أن يفرضه علي قدر طاقته و سعة («2») ماله».

6. روي سماعة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك، يدخل عليّ شهر رمضان فأصوم بعضه فتحضرني نيّة زيارة قبر أبي عبد اللّه (عليه السلام) فأزوره و أفطر ذاهباً و جائياً، أو أُقيم حتي أفطر و أزوره بعد ما أفطر بيوم أو يومين؟

فقال: «أقم حتي تفطر» فقلت له: جعلت فداك فهو أفضل، قال: «نعم، أما تقرأ في كتاب اللّه (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)» («3»). («4»)

و كيفية الاستدلال واضحة حيث إنّ الكتاب لم يوجب شهود الشهر، و إنّما علّق الصيام علي من شهد اختياراً، و أمّا من لم يشهد و لو بالسفر، فلم تكتب عليه الصيام و إن كتب عليه القضاء.

7. روي أبو حمزة، عن أبي جعفر في حديث قال: إنّ اللّه جعل لنا أهل البيت سهاماً ثلاثة في جميع الفي ء، فقال تبارك و تعالي: (وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبيٰ وَ الْيَتٰاميٰ

وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ) («5») فنحن أصحاب الخمس و الفي ء، و قد حرمنا علي جميع الناس ما خلا

______________________________

(1) المعارج: 25.

(2) الوسائل: 6، الباب 7 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 2.

(3) البقرة: 185.

(4) الوسائل: 7/ 130، الباب 3 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 7.

(5) الأنفال: 41.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 53

شيعتنا». («1»)

و قد استفاد الإمام من اللام الواردة في قوله: (وَ لِذِي الْقُرْبيٰ) انّ اختيار الخمس بيدهم، فلهم أن يبيحوه أو يحرّموه لمن شاءوا.

8. روي الكليني في «الكافي» مرفوعاً، انّه خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) و قال: «يا أيّها الناس إنّ آدم لم يلد عبداً و لا أمة، و إنّ الناس كلّهم أحرار، و لكن اللّه خوّل بعضكم بعضاً، فمن كان له بلاء فصبر في الخير، فلا يمن به علي اللّه عزّ و جلّ، ألا و قد حضر شي ء و نحن مسوُّون فيه بين الأسود و الأحمر، فقال مروان لطلحة و الزبير: ما أراد بهذا غيركما، قال: فأعطي كلّ واحد ثلاثة دنانير و أعطي رجلًا من الأنصار ثلاثة دنانير، و جاء بعد غلام أسود فأعطاه ثلاثة دنانير، فقال الأنصاري: يا أمير المؤمنين هذا غلام اعتقته بالأمس تجعلني و إياه سواءً، فقال (عليه السلام): «إنّي نظرت في كتاب اللّه، فلم أجد لولد إسماعيل علي ولد إسحاق فضلًا». («2»)

هذه نماذج من الأساليب التعليمية التي علم بها الأئمّة (عليهم السلام) أصحابهم نهج الاستنباط و الاجتهاد، و لو أردنا استقصاء ما ورد في ذلك المضمار لطال فيها الكلام، و يكفيك النظر في الروايات الواردة في أبواب الحيض حيث إنّ الإمام يستدل في كثير من الروايات علي أحكام الحيض عن طريق السنّة. («3»)

فخرجنا من هذا الدور

بميزتين:

الأُولي: انّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) صرفوا همهم إلي نشر السنّة النبوية في مجال تفسير الكتاب و بيان الأحكام و الحقوق و العقائد بعد التحاق الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم)

______________________________

(1) الوسائل: 6/ 385، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 19.

(2) الكليني: الكافي: 8/ 69.

(3) لاحظ الوسائل: 2، الباب 3 من أبواب الحيض، الحديث 3 و 4، و الباب 5، الحديث 1 من تلك الأبواب أيضاً.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 54

بالرفيق الأعلي، و قد ألّفت لتلك الغاية آلاف من الكتب و الرسائل بألوان مختلفة.

الثانية: قد و اكب الخطُ الحديثي خط إنهاض الفكر و اعماله في الكتاب و السنّة بُغية استنباط الأحكام من مظانّها، و لم يكن بين أصحاب المنهجين أي تعارض، كل يمارس ما يوافق ذوقه و يتجاوب مع سليقته و نزعته النفسية، و ليس الناس علي وتيرة واحدة في الحفظ و التعقّل.

فأصحاب المنهج الأوّل يهتمون بنقل النصوص و ضبطها في كتبهم و رسائلهم، بيد انّ أصحاب المنهج الثاني يهتمون بالتفكّر و التعقّل فيما روي عنهم (عليهم السلام).

و لم يول الأئمّة (عليهم السلام) اهتماماً لمنهج دون آخر، بل قد شجّعوا علي كلا المنهجين علي حدّ سواء.

الأساليب المختلفة لتدوين الفقه

اشارة

و بالسبر في الكتب المؤلّفة في تلك الفترة من لدن رحيل الرسول إلي عصر الغيبة يقف الباحث علي أنّه كانت لهم في تدوين الفقه أساليب مختلفة، منها:

أ. تدوين الفقه عن طريق جمع الأحاديث بلا ترتيب و تنظيم، كالأُصول الأربعمائة، فإنّ صاحب كلّ أصل يذكر جميع الروايات التي سمعها من الإمام، أو ممّن سمعه منه، دون التزام بذكر كلّ رواية في باب خاص، كما هو المشاهد من النماذج الباقية من الأُصول الأربعمائة المطبوعة، و هذا كان تدويناً

للحديث من جانب، و تدويناً للفقه من جانب آخر، لما عرفت انّ بين تاريخي العلمين صلة وثيقة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 55

ب. تدوين الفقه عن طريق ترتيب الأحاديث و تنظيمها في أبوابها الخاصة بنقل كلّ ما يمتُّ إلي الطهارة بصلة في بابها و إلي الصلاة في بابها، و هذه هي الصورة الغالبة علي تأليفات تلك الفترة.

ج. الفقه الروائي بحذف الأسانيد و حفظ تعبير الحديث غالباً و أحياناً ممزوجاً بتعابير المؤلّف، و هذا هو الفقه المنصوص.

إنّ هناك نمطاً آخر لعرض الفقه هو الاستمداد من ألفاظ الروايات، لكن بإنشاء من المؤلّف فلا يعد الكتاب فقهاً منصوصاً، («1») كالمقنع للشيخ الصدوق، و لا فقهاً تفريعياً علي الأُصول و القواعد، بل كتاباً يستمد من النصوص و يستعرض المسائل بتعبير المؤلّف، و أظن أنّ الكتب المعروضة علي أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، أُلّفت علي هذا النمط نظير:

1. كتاب عبيد اللّه الحلبي

عرض عبيد اللّه بن أبي شعبة الحلبي كتابه علي أبي عبد اللّه (عليه السلام) و صحّحه، و قال عند قراءته: «أ تري لهؤلاء مثل هذا؟». («2»)

2. كتاب يونس بن عبد الرحمن

قال أحمد بن أبي خلف: كنت مريضاً فدخل عليَّ أبو جعفر يعودني عند مرضي، فإذا عند رأسي كتاب «يوم و ليلة» فجعل يصفح ورقه حتي أتي عليه من

______________________________

(1) سيوافيك أنّ أوّل من جرّد المتون عن الأسانيد و صنّف علي هذا النمط كتاباً فقهياً هو علي بن بابويه القمي المتوفّي (329 ه-).

(2) النجاشي: الرجال: برقم 610.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 56

أوّله إلي آخره، و جعل يقول: «رحم اللّه يونس، رحم اللّه يونس، رحم اللّه يونس». («1»)

و روي أيضاً عن أبي هاشم الجعفري قال: أدخلت كتاب «يوم و ليلة» الذي ألّفه يونس بن عبد الرحمن علي أبي محمد الحسن العسكري فنظر فيه و تصفّحه، ثمّ قال: «هذا ديني و دين آبائي و هو الحقّ كلّه». («2»)

روي محمد بن إبراهيم الورّاق السمرقندي في حديثه مع بورق قال: فقال بورق: فخرجت إلي سرّمن رأي و معي كتاب «يوم و ليلة» فدخلت علي أبي محمد و أريته ذلك الكتاب، فقلت له: جعلت فداك إنّي رأيت أن تنظر فيه، فلما نظر فيه و تصفّحه ورقة ورقة، قال: «هذا صحيح ينبغي أن يعمل به». («3»)

و الذي يؤيد كون هذه الكتب إما من هذا اللون من التأليف، أو من النمط الرابع، ما ذكره الكشي حيث قال: كان ليونس بن عبد الرحمن أربعون أخاً يدور عليهم في كلّ يوم مسلِّماً ثمّ يرجع إلي منزله فيأكل و يتهيأ للصلاة ثمّ يجلس للتصنيف و تأليف الكتب. («4»)

3. كتاب الفضل بن شاذان

روي الكشي أنّ أبا محمد الفضل بن شاذان (رحمه الله) كان وجّه حامد بن محمد الأزدي إلي حيث به أبو محمد الحسن بن علي، فذكر أنّه دخل علي أبي محمّد،

______________________________

(1) الكشي: الرجال: برقم 351.

(2) الكشي: الرجال: برقم 351.

(3) الكشي: الرجال:

451، برقم 416.

(4) الكشي: الرجال: برقم 351.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 57

فلمّا أراد أن يخرج سقط منه كتاب في حضنه ملفوف في ردائه، فتناوله أبو محمد و نظر فيه، و كان الكتاب من تصنيف الفضل بن شاذان و ترحّم عليه و ذكر انّه قال: «اغبط أهل خراسان بمكان الفضل بن شاذان و كونه بين أظهرهم». («1»)

د. إفراغ المسائل الفقهية في قوالب خاصة و تخريج الفروع غير المنصوصة، و يدل علي وجود هذا النمط من التأليف في عصر الأئمّة ما رواه «الكافي» عن زرارة، و الفضل بن شاذان، و ما رواه الشيخ، عن عبد اللّه بن بكير، و نحن نستعرض النصوص الباقية من هؤلاء الأقطاب في هذا الصدد.

نماذج من فتاوي أصحاب الأئمّة

اشارة

قد أوقفك البحث علي أنّ أئمّة أهل البيت ساهموا في تربية محدّثين كبار و فقهاء عظام، يرجع الناس إليهم في الأخذ بالأحكام الشرعية، و سنقوم بذكر مقتطفات من فتاواهم، و نحيل القارئ الكريم في الهامش إلي مواضع أُخري من فتاواهم ممّا لم نذكرها:

أ. فتاوي زرارة (المتوفّي عام 150 ه-)

يعد زرارة بن أعين أحد الفقهاء العظام، ممّن يؤخذ عنه الحلال و الحرام و الفتيا و الأحكام، و كفي في حقّه قول الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ زرارة من أُمناء اللّه علي حلاله و حرامه، و من الذين ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين و تأويل الغالين، و من القوّامين بالقسط، و السابقين إلينا في الدنيا، و السابقين إلينا في

______________________________

(1) الكشي: الرجال: 451، برقم 416.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 58

الآخرة، و هو أحب الناس إليّ أحياءً و أمواتاً، و لولاه لظننت انّ أحاديث أبي ستذهب». («1»)

قال ابن النديم: و زرارة أكبر رجال الشيعة فقهاً و حديثاً و معرفة بالكلام و التشيع. («2»)

و قال النجاشي: شيخ أصحابنا في زمانه و متقدّمهم، و كان قارئاً فقيهاً متكلماً شاعراً أديباً، قد اجتمعت فيه خلال الفضل و الدين، صادقاً فيما يرويه. («3»)

و قد كان مرجعاً في عصره لتمييز الصحيح من الروايات عن سقيمها.

روي الكليني عن عمر بن أُذينة، أنّه قال: قلت لزرارة: إنّ أُناساً حدّثوني عنه- يعني الصادق (عليه السلام)- و عن أبيه (عليه السلام) بأشياء في الفرائض، فأعرضها عليك، فما كان منها باطلًا فقل هذا باطل، و ما كان منها حقاً فقل هذا حقّ، و لا تروِهِ و اسكت، فحدّثته بما حدّثني به محمد بن مسلم، عن أبي جعفر في الابنة و الأب، و الابنة و الأُم، و الابنة و الأبوين، فقال: «هو و اللّه

الحق». («4»)

و إليك نماذج من فتاواه:

1. عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن جميل بن دراج، عن زرارة، قال: إذا ترك الرجل أُمّه أو أباه أو ابنه أو ابنته، فإذا ترك واحداً من الأربعة فليس بالذي عني اللّه عزّ و جلّ في كتابه: (قُلِ اللّٰهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلٰالَةِ) («5») و لا يرث مع الأُم و لا مع الأب و لا مع الابن و لا مع الابنة أحد خلقه اللّه عزّ و جلّ، غير زوج أو زوجة. («6»)

______________________________

(1) الكشي: الرجال: برقم 431.

(2) ابن النديم: الفهرست: 323.

(3) النجاشي: الرجال: برقم 463.

(4) الكافي: 7/ 95، 98.

(5) النساء: 176.

(6) وسائل الشيعة: 17/ 428، الحديث 8، كتاب الفرائض، باب 7 من أبواب موجبات الإرث؛ مسند زرارة بن أعين، الحديث 1682.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 59

2. علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أُذينة قال: قال زرارة: إذا أردت أن تلقي العول، فإنّما يدخل النقصان علي الذين لهم الزيادة من الولد و الإخوة من الأب، و أمّا الزوج و الإخوة من الأُم، فإنّهم لا ينقصون ممّا سمّي لهم اللّه شيئاً. («1»)

3. محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن عبد اللّه بن المغيرة، عن موسي بن بكر قال: قلت لزرارة: إنّ بكيراً حدّثني عن أبي جعفر (عليه السلام)، انّ الإخوة للأب و الأخوات للأب و الأُمّ يُزادون و ينقصون لأنهنَّ لا يكنَّ أكثر نصيباً من الإخوة و الأخوات للأب و الأُمّ لو كانوا مكانهن لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ) («2»)

يقول: يرث جميع مالها إن لم يكن لها ولد، فاعطَوا من سمّي اللّه له النصف كملًا، و عمدوا فاعطوا الذي سمّي اللّه له المال كلّه أقل من النصف، و المرأة لا تكون أبداً أكثر نصيباً من رجل لو كان مكانها، قال: فقال زرارة: و هذا قائم عند أصحابنا لا يختلفون فيه. («3»)

ب. فتاوي محمد بن مسلم الثقفي (المتوفّي عام 150 ه-)

يذكر النجاشي لمحمد بن مسلم كتاباً باسم «الأربعمائة مسألة في أبواب الحلال و الحرام» و حيث إنّ محمد بن مسلم قد حفظ عن الصادقين آلافاً من الأحاديث، كما ذكرت في ترجمته، يبدو انّ هذا الكتاب كان جامعاً لأحاديث

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 17/ 425، الحديث 1، كتاب الفرائض و المواريث، باب 7 من أبواب موجبات الارث.

(2) النساء: 176.

(3) الكافي: 7/ 104، و لاحظ أيضاً ص 91، 92، 93، 94، 96، 97، 100.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 60

جامعة متضمّنة لقواعد كلية، و إلّا فلما خصص هذا العدد القليل بالنسبة إلي ما حفظه بالتأليف، و قد كان مرجعاً للأحكام، و كان القضاة يرجعون إليه فيما لا يعلمون، و نذكر هنا القضيتين التاليتين:

1. روي الشيخ في «التهذيب» أنّه قَدَّم إلي ابن أبي ليلي رجلٌ خصماً له فقال:

إنّ هذا باعني هذه الجارية، فلم أجد علي ركبها («1») حين كشفتها شعراً، و زعمت انّه لم يكن لها قط، فقال ابن أبي ليلي: إنّ الناس ليحتالون لهذا بالحيل حتي يذهب به، فما الذي كرهت؟! قال: أيّها القاضي إن كان عيباً فاقض لي به، قال: حتي أخرج إليك، فإنّي أجد أذي في بطني، ثمّ إنّه دخل فخرج من باب آخر، فأتي محمد بن مسلم الثقفي فقال: أيّ شي ء تروون عن أبي جعفر (عليه السلام) في المرأة لا يكون علي ركبها شعر أ

يكون ذلك عيباً؟ فقال له محمد بن مسلم: أمّا هذا نصاً فلا أعرفه، و لكن حدّثني أبو جعفر، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: كلّ ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب، فقال له ابن أبي ليلي: حسبك، ثمّ رجع إلي القوم فقضي لهم بالعيب. («2»)

2. روي الكشي عن محمد بن مسلم، قال: ما شجر في رأيي شي ء قط إلّا سألت عنه أبا جعفر، حتي سألته عن ثلاثين ألف حديث، و سألت أبا عبد اللّه عن ستة عشر ألف حديث.

روي م («3») حمد بن مسلم قال: إنّي لنائم ذات ليلة علي السطح، إذ طرق الباب طارق، فقلت: من هذا؟ فقال: شريك رحمك اللّه، فأشرفت فإذا امرأة، فقالت: لي بنت عروس ضربها الطلق، فما زالت تطلق حتي ماتت و الولد يتحرك في بطنها

______________________________

(1) الركب: موضع العانة.

(2) التهذيب: 7/ 65، ح 282، الكافي: 5/ 215 ح 12.

(3) الكشي: الرجال: 147 برقم 67، و لاحظ أيضاً الكافي: 7/ 93.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 61

و يذهب و يجي ء فما أصنع؟ فقلت: يا أمة اللّه سئل محمد بن علي بن الحسين الباقر (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال: يشق بطن الميت و يستخرج الولد، يا أمة اللّه افعلي مثل ذلك، انا يا أمة اللّه رجل في ستر، من وجّهك، إليّ؟ قال: قالت لي: رحمك اللّه جئت إلي أبي حنيفة صاحب الرأي، فقال: ما عندي في هذا شي ء، و لكن عليك بمحمد بن مسلم الثقفي، فإنّه يخبر، فما أفتاك به من شي ء فعودي إليّ فاعلمينيه، فقلت لها: امضي بسلام.

فلمّا كان الغد خرجت إلي المسجد، و أبو حنيفة

يسأل عنها أصحابه فتنحنحت، فقال: اللّهمّ اغفر دعنا نعيش. («1»)

ج. فتاوي عبد اللّه بن بكير بن أعين الشيباني

قال عنه المفيد في رسالته العددية: من الفقهاء الأعلام و الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال و الحرام و الفتيا و الأحكام الذين لا يطعن عليهم و لا طريق إلي ذم واحد منهم.

روي محمد بن أبي عبد اللّه، عن معاوية بن حكيم، عن عبد اللّه بن المغيرة، قال: سألت عبد اللّه بن بكير عن رجل طلّق امرأته واحدة ثمّ تركها حتي بانت منه ثمّ تزوجها؟ قال: هي معه كما كانت في التزويج.

قال: قلت: فإنّ رواية رفاعة إذا كان بينهما زوج؟ فقال لي عبد اللّه: هذا زوج و هذا ممّا رزق اللّه من الرأي. («2») و للفقهاء حول رأيه هذا كلام في كتاب الطلاق فراجعه.

______________________________

(1) الكشي: الرجال: 147 برقم 67، و لاحظ أيضاً الكافي: 7/ 93.

(2) الكافي: 2/ 103، تهذيب الأحكام: 8/ 30 ح 8، الاستبصار: 3/ 271 ح 6.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 62

د. فتاوي يونس بن عبد الرحمن (المتوفّي 208 ه-)

كان يونس بن عبد الرحمن وجهاً في أصحابنا، متقدّماً، عظيم المنزلة، روي الفضل بن شاذان قال: حدثني عبد العزيز بن المهتدي- و كان خير قمي رأيته، و كان وكيل الرضا (عليه السلام) و خاصته- فقال: إنّي سألته و قلت: لا أقدر علي لقائك في كلّ وقت فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال: «خذ عن يونس بن عبد الرحمن».

يقول النجاشي بعد نقل هذه الرواية: «و هذه منزلة عظيمة» و يظهر في غير واحد من مواضع في «الكافي» انّه كان يفتي الناس، و إليك نموذجين منها:

1. علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسي، عن يونس قال: العلّة في وضع السهام علي ستة لا أقل و لا أكثر لعلة وجوه أهل الميراث، لأنّ الوجوه التي منها سهام المواريث ستة جهات، لكلّ جهة سهم، فأوّل جهاتها: سهم الولد،

و الثاني: سهم الأب، و الثالث: سهم الأُم، و الرابع: سهم الكلالة- كلالة الأب- و الخامس: سهم كلالة الأُم، و السادس: سهم الزوج و الزوجة؛ فخمسة أسهم من هذه السهام الستة، سهام القرابات، و السهم السادس هو سهم الزوج و الزوجة من جهة البيّنة و الشهود، فهذه علّة مجاري السهام و إجرائها من ستة أسهم لا يجوز أن يُزاد عليها و لا يجوز أن ينقص منها إلّا علي جهة الرد، لأنّه لا حاجة إلي زيادة في السهام، لأنّ السهام قد استغرقها سهام القرابة و لا قرابة غير من جعل اللّه عزّ و جلّ لهم سهماً، فصارت سهام المواريث مجموعة في ستة أسهم، مخرج كلّ ميراث منها، فإذا اجتمعت السهام الستة للّذين سمّي اللّه لهم سهماً، فكان لكلّ مسمّي له سهم علي جهة ما سُمّي له، فكان في استغراقه سهمه، استغراق لجميع السهام لاجتماع جميع الورثة الذين يستحقون جميع السهام الستة، و حضورهم في الوقت الذي فرض اللّه لهم في مثل ابنتين و أبوين فكان للابنتين أربعة أسهم و كان للأبوين سهمان،

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 63

فاستغرقوا السهام كلّها و لم يحتج أن يزاد في السهام و لا ينقص في هذا الموضع، إذ لا وارث في هذا الوقت غير هؤلاء مع هؤلاء، و كذلك كلّ ورثة يجتمعون في الميراث فيستغرقونه، يتم سهامهم باستغراقهم تمامَ السهام، و إذا تمت سهامهم و مواريثهم لم يجز أن يكون هناك وارث يرث بعدَ استغراق سهام الورثة كملًا التي عليها المواريث، فإذا لم يحضر بعض الورثة كان من حضر من الورثة يأخذ سهمه المفروض ثمّ يردّ ما بقي من بقية السهام علي سهام الورثة الذين حضروا بقدرهم، لأنّه لا وارث معهم

في هذا الوقت غيرهم.

2. علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس قال: إنّما جعلت المواريث من ستة أسهم علي خلقة الإنسان، لأنّ اللّه عزّ و جلّ بحكمته خلق الإنسان من ستة أجزاء، فوضع المواريث علي ستة أسهم، و هو قوله عزّ و جلّ: (وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنْ سُلٰالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ) ففي النطفة دية، (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) ففي العلقة دية، (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) و فيها دية، (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظٰاماً) و فيها دية، (فَكَسَوْنَا الْعِظٰامَ لَحْماً) و فيه دية أُخري، (ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ) («1») و فيه دية أُخري، فهذا ذكر آخر المخلوق. («2»)

ه-. فتاوي الفضل بن شاذان (المتوفّي 260 ه-)

إنّ الفضل بن شاذان أحد أصحابنا الفقهاء و المتكلّمين، يصفه النجاشي بقوله: و له جلالة في هذه الطائفة، و هو في قدره أشهر من أن نصفه، و كان أبوه من أصحاب يونس، فلو تبع الفضل بن شاذان الخط الموروث من يونس لما كان به

______________________________

(1) المؤمنون: 12- 14.

(2) الكافي: 7/ 83، 84. و لاحظ أيضاً ص 115، 116- 121، 125.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 64

عجب، و قد جاء قسم من فتاواه في كتابه المطبوع باسم «الإيضاح» و ها نحن نستعرض بعض فتاواه التي نقلها الكليني في «الكافي»:

قال الفضل بن شاذان: لو انّ رجلًا ضرب ابنه غير مسرف في ذلك يريد تأديبه، فقُتل الابن من ذلك الضرب ورثه الأب و لم تلزمه الكفّارة، لأنّ ذلك للأب، لأنّه مأمور بتأديب ولده، لأنّه في ذلك بمنزلة الإمام يقيم حدّاً علي رجل فمات، فلا دية عليه و لا يسمّي الإمام قاتلًا؛ و إن ضربه ضرباً مسرفاً لم يرثه الأب، فإن كان بالابن جرح أو خراج، فبطّه الأب،

فمات من ذلك، فإنّ هذا ليس بقاتل و لا كفّارة عليه، و هو يرثه، لأنّ هذا بمنزلة الأدب و الاستصلاح و الحاجة من الولد إلي ذلك و إلي شبهه من المعالجات.

و لو أنّ رجلًا كان راكباً علي دابة، فأوطأت الدابة أباه أو أخاه، فمات لم يرثه، و لو كان يسوق الدابة أو يقودها، فوطئت الدابة أباه أو أخاه فمات، ورثه و كانت الدية علي عاقلته لغيره من الورثة، و لم تلزمه الكفارة.

و لو انّه حفر بئراً في غير حقّه أو أخرج كنيفاً أو ظلّة، فأصاب شي ء منها وارثاً له فقتله لم تلزمه الكفارة، و كانت الدية علي العاقلة و ورثه، لأنّ هذا ليس بقاتل، أ لا تري أنّه لو كان فعل ذلك في حقّه لم يكن بقاتل و لا وجب في ذلك دية و لا كفارة، فإخراجه ذلك الشي ء في غير حقّه ليس هو بقتل، لأنّ ذلك بعينه يكون في حقّه فلا يكون قتلًا، و إنّما أُلزم الدية في ذلك إذا كان في غير حقّه احتياطاً للدماء، و لئلّا يبطل دم امرئ مسلم، وكيلا يتعدّي الناس حقوقهم إلي ما لا حقّ لهم فيه، و كذلك الصبي و المجنون لو قتلا لورثا، و كانت الدية علي العاقلة، و القاتل يحجب و إن لم يرث.

قال: و لا يرث القاتل من المال شيئاً؛ لأنّه إن قتل عمداً، فقد أجمعوا انّه لا

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 65

يرث؛ و إن قتل خطأً، فكيف يرث و هو تُؤخذ منه الدية؟ و إنّما منع القاتل من الميراث احتياطاً لدماء المسلمين، كيلا يقتل أهل الميراث بعضهم بعضاً طمعاً في المواريث. («1»)

هذه نماذج من فقهاء أصحاب الأئمّة (عليهم السلام)، و نماذج من فتاواهم، و

كم لهم من نظير كجميل بن درّاج و ابن أبي عمير، اللّذين نقلت فتاواهم في ثنايا الأحاديث المروية في الكتب الأربعة و رجال الكشي.

إنّ اجتهاد هؤلاء كان يدور حول استخراج الفروع من النصوص و الأُصول الكلّية بعد تخصيص العام بخاصّة، و المطلق بمقيّده، و تمييز الصحيح عن السقيم دون أن يتجاوزوا تلك القواعد و النصوص الكلية، و أمّا الاجتهاد في الدور الثاني الآتي فقد اتخذ لنفسه منهجا خاصا ميّزه عن الدور الأوّل ألا و هو الاستفادة في بعض الأحيان من القواعد العقلية بغية الإجابة علي المستجدات.

نعم بذرت بذرة الاجتهاد في الدور الأوّل علي يد هؤلاء الأعاظم من أصحاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) و نمت و تعالت حسب الإمكانات و الظروف المتاحة علي مرِّ العصور.

المراكز الفقهية التي ازدهرت في هذا الدور

اشارة

الإسلام دين العلم و المعرفة، رفع الإنسان من حضيض الجهل و الأُميّة إلي أعلي مستويات العلم و الكمال من خلال تشجيعه للقراءة و الكتابة و التدبر في آثار الكون و مظاهر الطبيعة، و نبذ التقليد في العقيدة، فأراد للإنسان حياة كريمة نابضة

______________________________

(1) الكافي: 7/ 142؛ و لاحظ أيضاً: 88، 90- 95، 96- 98، 99- 105، 108- 116، 118- 120، 121، 142- 145، 146- 148، 149- 161- 162، 166- 168.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 66

بالفكر و الثقافة.

و قد كانت للشيعة مراكز علمية مهمة خلال القرون الماضية، نشير في كلّ دور إلي أبرزها، ففي هذا الدور نشأت الجامعات التالية:

1. جامعة المدينة المنورة.

2. جامعة الكوفة و جامعها الكبير.

3. جامعة قم و الري.

و إليك لمحة خاطفة عن تلك الجامعات:

1. المدينة المنوّرة

إنّ المدينة المنورة هي المنطلق العلمي الأوّل، نشأ فيها عدّة من الأعلام من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام)، و علي رأسهم ابن عباس حبر الأُمّة، و سلمان الفارسي، و أبو ذر الغفاري، و أبو رافع، الذي هو من خيار شيعة الإمام علي، مؤلّف كتاب السنن و الأحكام و القضاء، («1») و غيرهم.

ثمّ أعقبتهم طبقة من التابعين، تخرّجوا من تلك المدرسة علي يد الإمام علي ابن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) و لقد روي الكليني عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «كان سعيد بن المسيب و القاسم بن محمد بن أبي بكر و أبو خالد الكابلي من ثقات علي بن الحسين (عليهما السلام). («2»)

و ازدهرت تلك المدرسة في عصر الإمامين الصادق و الباقر (عليهما السلام)، و زخرت بطلاب العلوم، و وفود الأقطار الإسلامية، حتي أضحت جامعة إسلامية مكتظة برجال العلم و حملة الحديث.

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 64 برقم 1.

(2) الكليني: الكافي،

كما في تأسيس الشيعة: 299.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 67

2. الكوفة و جامعها الكبير

قد سبق أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هاجر من المدينة إلي الكوفة، و استوطن معه خيار شيعته و من تربّي علي يديه من الصحابة و التابعين.

و لقد أتي ابن سعد في «طبقاته الكبري» علي ذكر جماعة من التابعين الّذين سكنوا الكوفة. («1») و لقد أعان علي ازدهار مدرسة الكوفة مغادرة الإمام الصادق (عليه السلام) المدينة المنورة إليها أيام أبي العباس السفاح، حيث بقي فيها سنتين.

اغتنم الإمام فرصة ذهبية أوجدتها الظروف السياسية آنذاك، و هي أنّ الدولة العباسية جاءت علي أنقاض الدولة الأموية و كانت جديدة العهد، فلم يكن للعباسيّين يومذاك قدرة علي الوقوف في وجه الإمام لانشغالهم بأُمور الدولة، بالإضافة إلي أنّهم كانوا قد رفعوا شعار العلويين للوصول إلي السلطة، و قد نشر زمن إقامته بها علوماً جمّة.

و قد انتشر نبأ وروده الحيرة، فتقاطرت وفود للارتواء من منهله العذب، و قد حكي الحسن بن علي بن زياد الوشّاء ازدهار مدرسة الكوفة في تلك الظروف، في كلامه السابق. («2»)

و كان من خريجي هذه المدرسة لفيف من الفقهاء الكوفيين، نظير: أبان بن تغلب بن رباح الكوفي، و محمد بن مسلم الطائفي، و زرارة بن أعين، إلي غير ذلك ممّن تكفّلت كتب الرجال بذكرهم، و قد وقفت علي أسماء عدّة منهم عند ذكر تلاميذ الإمام الباقر و الصادق (عليهما السلام). («3»)

لقد ألّف فقهاء الشيعة و محدّثوهم في تلك الظروف في الكوفة 6600 كتاب،

______________________________

(1) الطبقات الكبري: 6، و قسّمهم علي تسع طبقات.

(2) النجاشي: الرجال: 1/ 137، رقم 79 و ص 32 من هذا الكتاب.

(3) لاحظ ص 46 من هذا الكتاب.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 68

و لقد امتاز من

بينها 400 كتاب اشتهرت بالأُصول الأربعمائة («1»)، فهذه الكتب هي التي أدرجها أصحاب الجوامع الحديثية في كتبهم كما مرّ آنفاً.

و لم تقتصر الدراسة آنذاك علي الحديث و التفسير و الفقه بل شملت علوماً أُخري، فأنجبت مؤلّفين كباراً صنّفوا كتباً كثيرة في علوم شتّي، كهشام بن محمد بن السائب الكلبي ألّف أكثر من مائتي كتاب، و ابن شاذان ألّف 280 كتاباً، و ابن أبي عمير صنّف 194 كتاباً، و ابن دؤل الذي صنّف 100 كتاب («2»)، و جابر بن حيان أُستاذ الكيمياء و العلوم الطبيعية، إلي غير ذلك من المؤلّفين.

3. مدرسة قم و الري

اشارة

دخل الفرس الإسلام و كان أكثرهم علي غير مذهب الشيعة، نعم كانت قم و الري و كاشان و قسم من خراسان مركزاً للشيعة، و قد هاجر الأشعريون- خوفاً من الحجاج- إلي قم و جعلوها موطنهم و مهجرهم، و كانت تلك الهجرة نواة للشيعة في إيران.

كانت مدرسة الكوفة مزدهرة بالعلم و الثقافة، إلّا انّها عانت الويلات من الظلم العباسي ممّا حدا بكبار الفقهاء و المحدثين إلي النزوح عنها، ففي هذه الفترة نحو سنة 250 ه- هاجر إبراهيم بن هاشم الكوفي تلميذ يونس بن عبد الرحمن، و هو من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) إلي قم، و نشر فيها حديث الكوفيين، فصارت مدرسة قم و الري مزدهرة بعد ذاك بالمحدّثين و الرواة الكبار.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 20، الفائدة الرابعة، و قد بيّنا الفرق بين الكتاب و الأصل في كتابنا «كليات في علم الرجال».

(2) الطهراني: الذريعة: 1/ 17.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 69

و قد أضحت مدينة قم مركزاً نشطاً للحديث، و مأوي لموالي أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) و نخبة من المحدّثين و الفقهاء، أمثال:

أ. زكريا بن آدم

قال النجاشي: زكريا بن آدم بن عبد اللّه بن سعد الأشعري القمي، ثقة جليل، عظيم القدر، و كان له وجه عند الرضا، و له كتاب.

يروي محمد بن الحسن الصفار (المتوفّي 290 ه-)، عن أحمد بن محمد بن عيسي (المتوفّي نحو 280 ه-)، عن محمد بن خالد، عن زكريا بن آدم، و له كتاب مسائله للرضا (عليه السلام). («1»)

و علي أيّة حال فالرجل من أصحاب الأئمة: الصادق و الرضا و الجواد (عليهم السلام).

ب. سعد بن سعد بن الأحوص بن سعد بن مالك الأشعري القمي.

قال النجاشي: ثقة، روي عن الرضا و أبي جعفر (عليهما السلام) كتابه المبوب، يروي عنه محمد بن خالد البرقي. («2»)

و ذكره الشيخ في «رجاله» في أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام)، و قال: سعد بن سعد الأحوص القمّي، ثقة. («3»)

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 393 برقم 456.

(2) النجاشي: الرجال: برقم 468.

(3) الطوسي: الرجال: 378، فصل أصحاب الرضا، و ذكره الكشي في الرجال: 423، برقم 362.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 70

ج. العباس بن معروف، أبو الفضل، مولي جعفر بن عبد اللّه الأشعري.

قمّي، ثقة، له كتاب الآداب، و له نوادر. ذكره النجاشي، ثمّ ذكر سنده بجميع أحاديثه و مصنّفاته. («1»)

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: برقم 741، و ذكره الشيخ في «رجاله» برقم 34، في أصحاب الرضا.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 71

أدوار الفقه الإمامي

2

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 73

الدور الثاني عصر تبويب الحديث و منهجة الاجتهاد (260- 460 ه-)

اشارة

قد عرفت أنّ النهج السائد في عصر الأئمّة هو نشر الحديث بين الأُمّة و دعم- م النشاط الاجتهادي، فإنّ أصحابهم بين محدّث يهمّه سماع الحديث و نقله و كتابته دون أن يولي اهتماماً إلي استخراج ما طوي- فيه من أحكام و فروع و هم يشكّلون الأغلبية من أصحاب الأئمّة (عليهم السلام)، و محدّث واع يتدبّر في الكتاب و السنّة و كلمات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) و يستخرج منها ما تحتاج إليه الأُمّة، فهم يروون أحاديث المعصومين و في الوقت نفسه يظهرون إبداعاتهم و انطباعاتهم عنها، و قد نشأ هذا النهج منذ زمان الإمام سيد الساجدين (عليه السلام) إلي أن بلغ ذروته في عهد الصادقين و الكاظمين إلي عهد الإمام العسكري (عليه السلام)، و في طليعة الذين تبنّوا هذا المنهج محمد بن مسلم، و زرارة بن أعين، و ابن أبي عمير، و يونس بن عبد الرحمن، و الفضل بن شاذان، و غيرهم ممّن قد سبق نقل أسمائهم.

ورثت الشيعةُ هذين المنهجين عن أئمتهم (عليهم السلام) بعد غيبة الإمام الثاني عشر، فأخذوا ببسط الحديث و نشره و جمعه و تدوينه بأحسن ما يرام علي نحو يجاوب روح

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 74

العصر، كما أخذوا ببث الاجتهاد و إضفاء المنهجية عليه، و السعي وراء المنهج الذي ورثوه عن فقهاء عصر الأئمّة (عليهم السلام).

و أثمرت الجهود عن ارتقاء المنهجين و تكاملهما علي النحو الذي سنستعرضه

لك.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 75

1 تبويب الحديث

اشارة

أمّا المنهج الحديثي، فقد ورثت الشيعة الأُصول الأربعمائة، و قد كانت مدوّنة بصورة مسانيد حيث قام كلّ راو بتدوين ما سمعه من الإمام، أو عمّن سمعه من الإمام، و قد كان أكثر رواجاً من سائر صور التأليف، فكلّ راو كان يسجّل ما سمعه من الإمام مباشرة، أو بواسطة راو واحد، في كتابه من دون أن يبوّب الروايات و ينظمها كما هو الملموس في ما بقي من تلك الأُصول في عصرنا هذا.

و لا شكّ انّ هذا اللون من تدوين الحديث و إن كان له شأن من التقدير، و لكنّه لا يجاوب روح العصر، و لا يبلغ مكانة تدوين الحديث حسب المواضيع و الأبواب.

فأكثر الكتب التي دوّنت في عهد الأئمّة كانت في الترتيب و النظم أشبه بمسانيد أهل السنّة، كمسند أحمد بن حنبل و مسند ابن أبي شيبة و غيرهما، فإنّ دأب المؤلف من وراء تأليف المسند كان منصبّاً علي جمع روايات راو واحد في موضع واحد، سواء أ كان بين الروايات تناسب في الموضوع أم لا، لذا فقد أطلق علي هذا النوع من التأليف اسم «المسند».

و هذا بخلاف جمع الروايات علي حسب المواضيع، فإنّ الذي يروي غلّة

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 76

الفقيه هو العثور علي كتاب يشمل روايات موضوع واحد في مكان واحد، و قد سبق إلي تأليف هذا اللون من التصنيف نخبة من أصحاب الأئمّة في عهدهم، كالبزنطي في جامعه، و الأشعري في نوادره (نوادر الحكمة) و لكن التأليف علي هذا الغرار لم يكن علي نطاق و اسع.

هذا ممّا حدا بالمحدّثين الذين أعقبوه في عصر الغيبة إلي الاستمرار علي ذلك النهج، و إليك سرد أسمائهم:

1. محمد بن يعقوب الكليني (260- 329 ه-)

اشارة

الحافظ الكبير، و المحدّث الجليل محمد بن يعقوب بن إسحاق

الكليني الرازي البغدادي، أبو جعفر، ينسب إلي بيت طيب الأصل في «كلين».

تخرّج علي يده عدّة من أفاضل رجالات الفقه و الحديث، منهم: خاله علّان الكليني.

كان شيخ الشيعة في وقته في الري و وجههم، ثمّ سكن بغداد بباب الكوفة، و حدّث بها سنة (327 ه-). بعد ما طاف الشام و نزل بعلبك و حدث بها كما ذكره ابن الجوزي في المنتظم و قد أدرك زمان سفراء المهدي، و جمع الحديث من شِرَعه و موردِه، و قد انفرد بتأليف كتاب «الكافي» في أيامهم، ألّفه في مدّة قاربت العشرين سنة، و كان مجلسه مثابة أكابر العلماء الراحلين في طلب العلم، كانوا يحضرون حلقته لمذاكرته و مفاوضته و التفقّه عليه، و قد قام بترجمته كثير من الرجاليين و المؤلّفين في التراجم. («1»)

هذا و قد تضافر الثناء علي الكليني منذ عصره إلي يومنا هذا من السنّة و الشيعة، و إليك بعض ما قيل فيه:

______________________________

(1) و تجد له ترجمة في الكامل لابن الأثير: 8/ 127؛ لسان الميزان: 5/ 433.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 77

قال الشيخ الصدوق في ترجمته: الشيخ الفقيه محمد بن يعقوب الكليني. («1»)

و قال النجاشي: شيخ أصحابنا في وقته بالري و وجههم، و كان أوثق الناس في الحديث و أثبتهم. («2»)

و قال الطوسي: ثقة عارف بالأخبار، جليل القدر. («3»)

و أثني عليه الذهبي بقوله: شيخ الشيعة و عالم الإمامية، صاحب التصانيف، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني. («4»)

و للإيعاز إلي مكانة الشيخ الكليني و تأثيره في الجيل اللاحق، نأتي بمشايخه و الرواة عنه.

مشايخه

روي الكليني عن عدد كثير جداً من علماء أهل البيت و رجالهم و محدّثيهم بما يضيق المجال بذكرهم، و نقتصر علي مشاهيرهم:

1. أبو جعفر محمد بن الحسن

بن فروخ الصفّار القمّي، صاحب كتاب: «بصائر الدرجات» (المتوفّي 290 ه-).

2. أبو علي أحمد بن إدريس بن أحمد الأشعري القمّي (المتوفّي عام 306 ه-).

3. أبو الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم، صاحب التفسير المعروف (المتوفّي نحو عام 308 ه-).

______________________________

(1) الفقيه: 4/ 165، برقم 578.

(2) النجاشي: الرجال: برقم 1026.

(3) الشيخ: الفهرست: برقم 591.

(4) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 15/ 280.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 78

4. أبو جعفر محمد بن يحيي العطار الأشعري (المتوفّي نحو عام 300 ه-).

إلي غير ذلك من مشايخ الحديث و فطاحله.

تلاميذه و الرواة عنه

و أمّا تلاميذه و الرواة عنه فحدث عنهم و لا حرج، فمنهم علي سبيل المثال:

1. أبو الحسين أحمد بن علي بن سعيد الكوفي، المعروف ب- «ابن عقدة» (المتوفّي عام 333 ه-).

2. أبو غالب أحمد بن محمد بن محمد بن سليمان بن الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين بن سنسن الزراري (285- 368 ه-).

3. أبو القاسم جعفر بن محمد بن جعفر بن موسي بن قولويه، صاحب «كامل الزيارات» (المتوفّي عام 367 ه-).

4. أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب النعماني (المتوفّي عام 340 ه-)، المعروف ب- «ابن أبي زينب» كان خصيصاً به يكتب كتابه «الكافي».

إلي غير ذلك ممّن يروي عنه تجد أسماءهم مبسوطة في مقدّمة كتاب «الكافي» بقلم الأُستاذ حسين علي محفوظ البغدادي.

و كفاك في جلالة هذا الجامع انّ الشيخ المفيد يصفه بقوله: من أجلّ كتب الشيعة و أكثرها فائدة. («1»)

و قال الشهيد محمد بن مكي في إجازته لابن الخازن: كتاب الكافي في الحديث الذي لم يعمل للإمامية مثله. («2»)

______________________________

(1) المفيد: تصحيح الاعتقاد: 27.

(2) بحار الأنوار: 104- 190، الإجازات.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 79

و قد شرحه كثير من العلماء، و هو

بين مطبوع و مخطوط، كما و ترجم إلي لغات مختلفة.

قال النجاشي: مات (رحمه الله) ببغداد سنة (329 ه-) سنة تناثر النجوم، و صلّي عليه محمد بن جعفر الحسني و دفن في باب الكوفة. («1»)

2. محمد بن بابويه القمي (306- 381 ه-)

اشارة

المحدّث الكبير محمد بن علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمي، أبو جعفر، نزيل الري، مصنّف كتاب «من لا يحضره الفقيه».

و ينتمي إلي أُسرة بني بابويه، و هي من بيوتات القمّيين الّذين ذاع صيتهم بالعلم و الفضيلة، و أنجبت أفذاذاً مصلحين، و عباقرة مرشدين، أدّوا رسالاتهم علي أحسن وجه، و خدموا مبدأهم بأمانة و إخلاص، فاستحقوا بذلك كلّ تعظيم و تبجيل، و خلّدهم التاريخ بإكبار، و حفظ آثارهم بكلّ فخر.

قال العلّامة السيد بحر العلوم في «الفوائد الرجالية»: ولد بعد وفاة العمري في أوائل سفارة الحسين بن روح، و قد كانت وفاة العمري سنة 305 ه-، فيكون قد أدرك من الطبقة السابعة فوق الأربعين، و من الثامنة إحدي و ثلاثين، و يكون عمره نيفاً و سبعين سنة، و مقامه مع والده و مع شيخه الكليني في الغيبة الصغري نيفاً و عشرين سنة، فإنّ وفاتهما سنة 329 ه- و هي سنة وفاة السمري آخر السفراء. («2»)

و علي هذا فقد عاصر الشيخ الصدوق سفيرين من السفراء الأربعة هما: الحسين بن روح و السمري، و علي أيّة حال فمحدثنا الكبير شخصية فذّة ورث المجد و العلي من بيت عريق في العلم و الورع، و قد عرّفه العلماء بإجلال و إكبار.

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 2/ 292.

(2) بحر العلوم: الفوائد الرجالية: 3/ 301.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 80

قال النجاشي: شيخنا و فقيهنا و وجه الطائفة بخراسان، كان ورد بغداد سنة 355 ه-، و سمع منه شيوخ الطائفة

و هو حدث السن، ثمّ ذكر فهرست كتبه.

يقول العلّامة: كان جليلًا، حافظاً للأحاديث، بصيراً بالرجال، ناقلًا للأخبار، لم يُر في القمّيين مثله في حفظه و كثرة علمه، و له نحو من ثلاثمائة مصنّف.

مشايخه

و قد شدّ الرحال لتحمّل الرواية و الحديث إلي مختلف الحواضر العلمية في القرن الرابع كبغداد، و الكوفة و الري و قم و نيسابور و طوس و بخاري، و هو و إن سافر إلي تلك البلدان لأخذ الحديث، لكنّه أيضاً حدّث بها، و قد أحصي شيخنا النوري في خاتمة «مستدركه» مشايخه الذين أخذ منهم الحديث فبلغ 211 محدثاً، و إليك أسماء بعضهم:

1. أبو علي أحمد بن الحسن بن عبد ربّه القطان الرازي عرّفه المترجم له في كتابه «كمال الدين» ص 40 بقوله: و هو شيخ كبير من أصحاب الحديث.

2. أحمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي.

3. أحمد بن محمد بن يحيي العطار الأشعري القمي.

4. جعفر بن محمد بن موسي بن قولويه القمي المتوفّي (367 ه-).

5. الحسين بن أحمد الحاكم البيهقي.

6. علي بن أحمد بن مهزيار.

7. محمد بن حسن بن أحمد بن الوليد القمي (المتوفّي 343 ه-) و هو من أكبر مشايخه. إلي غير ذلك.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 81

تلاميذه و الرواة عنه

1. الحسين بن علي بن موسي بن بابويه القمّي- أخو المترجم-.

2. محمد بن محمد بن النعمان المفيد.

3. علي بن أحمد بن العباس- والد الشيخ النجاشي-.

4. أبو القاسم علي بن محمد بن علي الخزاز، صاحب كتاب «كفاية الأثر».

5. أبو عبد اللّه الحسين بن عبيد اللّه بن إبراهيم الغضائري.

6. أبو الحسن جعفر بن الحسن حسكة القمي.

7. أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن شاذان القمّي.

كما أنّه روي عن شيخنا المترجم أفذاذ من أهل الحديث الّذين أصفقت معاجم التراجم علي ذكرهم بكلّ جميل، و قد أنهاهم محقّق كتاب «الفقيه» إلي عشرين. («1»)

توفي في الري عام 381 ه-، و قبره هناك معروف يزار.

3. محمد بن الحسن الطوسي (385- 460 ه-)

اشارة

الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي، نسبة إلي طوس من مدن خراسان التي هي من أقدم بلاد فارس و أشهرها، و كانت- و لا تزال- من مراكز العلم و الثقافة، و أنّ فيها قبر الإمام علي الرضا (عليه السلام) ثامن أئمة الشيعة الاثني عشرية، فصارت مهوي أفئدتهم يقصدونها من الأماكن الشاسعة و البلدان النائية.

______________________________

(1) انظر مقدّمة «من لا يحضره الفقيه».

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 82

ولد الشيخ في طوس في شهر رمضان سنة 385 ه- أي بعد أربع سنين من وفاة الشيخ الصدوق، و هاجر إلي العراق فهبط بغداد سنة 408 ه- و هو ابن 23 عاماً، و كان زعيم الشيعة آنذاك، شيخ الأُمّة محمد بن محمد بن النعمان الشهير ب- «المفيد» فلازمه ملازمة الظل لذي الظلّ، و عكف علي الاستفادة منه إلي حدّ توفّق لشرح كتاب أُستاذه «المقنعة» و هو بعد لم يناهز الثلاثين.

و لما انتقل الشيخ المفيد إلي رحمة اللّه، عكف علي بحوث السيد المرتضي، و لازم حضوره طيلة

23 سنة حتي توفي السيد لخمس بقين من شهر ربيع الأوّل عام 436 ه-، فاستقل شيخ الطائفة بالإمامة، و ظهر علي منصَّة الزعامة، و كانت داره في «الكرخ» مأوي الأُمّة و ملجأ روّاد العلم، يأتونها لحلّ المشاكل، و إيضاح المسائل، و قد ذاع صيته، و علا مقامه، ممّا حدا بخليفة عصره القائم بأمر اللّه أن يجعل كرسي الكلام له، و كان لهذا الكرسي يومذاك عظمة و قدر فوق ما يوصف.

و كان الشيخ يدرّس و يربّي إلي أن ضاقت به الأُمور، و ثارت القلاقل بشن طغرل بيك أوّل ملوك السلاجقة حملة شعواء علي الشيعة، و أمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة البويهي، و كانت يومذاك من دور العلم المهمة في بغداد، و نافت كتبها علي عشرة آلاف من جلائل الآثار.

حتي توسّعت الفتنة و اتجهت إلي بيت الشيخ الطوسي و أصحابه، فأحرقوا كتبه و كرسيّه الذي كان يجلس عليه، فلم يجد الشيخ بداً إلّا مغادرة بغداد إلي النجف الأشرف لائذاً بجوار مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأسّس فيها حوزة علمية كبيرة، تقاطر إليها الفضلاء من شتّي الأقطار، و بقيت تلك الحوزة علي مرّ الدهور إلي يومنا هذا تشع نوراً، و تربّي جيلًا بعد جيل من العلماء لا يحصي عددهم إلّا اللّه سبحانه.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 83

و قد ترك الطوسي تراثاً علمياً في شتي الموضوعات، كالكلام و الفقه و الرجال و الحديث.

و كتاباه الجامعان: «التهذيب» و «الاستبصار» هما من الأُصول الثانوية الأربعة.

مشايخه

فقد تخرّج علي يد عدّة من جهابذة العلم الذين كانت تشد إليهم الرحال لتحمّل الرواية من مختلف الحواضر الإسلامية، حتي أنهاهم السيد المحقّق البروجردي في مقدّمته علي

كتاب «الخلاف» إلي قرابة ثلاثين شيخاً. و من بين شيوخه يعد الشيخ المفيد من أعاظمهم، فقد ارتشف من معين علمه سنين طوالا.

و إليك سرد أسماء جملة منهم:

1. أحمد بن عبد الواحد، المعروف ب- «ابن الحاشر» و «ابن عبدون» (330- 423 ه-).

2. أحمد بن محمد بن موسي المعروف ب- «ابن الصلت» المتوسط بينه و بين ابن عقدة (317- 409 ه-).

3. أبو الحسن جعفر بن الحسين بن حسكة القمّي المتوسط بينه و بين ابن بابويه.

4. الحسن بن إبراهيم بن أحمد بن الحسن بن محمد بن شاذان، أبو علي البزاز المتكلّم.

5. أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيي الفحام السامرائي (المتوفّي 408 ه-).

6. الشيخ أبو عبد اللّه الحسين بن عبيد اللّه الغضائري (المتوفّي 411 ه-).

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 84

7. أبو عمرو عبد الواحد بن محمد بن عبد اللّه بن محمد بن مهدي بن خشنام (318- 410 ه-).

8. أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقري، المعروف ب- «ابن الحمامي» (328- 417 ه-).

9. أبو الحسين علي بن أحمد بن محمد بن طاهر بن الحسن بن أبي عبيد الأشعري القمّي، الراوي عن ابن الوليد و أحمد بن محمد بن يحيي.

10. الشريف الطاهر ذو المجدين أبو القاسم علي بن الحسين المعروف بالسيد المرتضي (355- 436 ه-).

11. أبو الحسين علي بن محمد بن عبد اللّه بن بشران.

12. أبو الحسين محمد بن أحمد بن شاذان القمي.

13. أبو زكريا محمد بن سليمان الحمراني، المتوسط بينه و بين أبي جعفر ابن بابويه (الصدوق).

14. أبو الحسن محمد بن محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد البزاز البغدادي (329- 419 ه-).

15. أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالمفيد (336- 413 ه-).

16.

أبو الفتح هلال بن محمد بن جعفر (322- 414 ه-).

تلاميذه و الرواة عنه

استقطب شيخنا الطوسي روّاد العلم بعد رحيل السيد المرتضي حتي أخذ يحضر مجلس درسه جهابذة العلم من كلا الفريقين، و لا يمكننا سرد أسماء جميع

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 85

من تتلمذ عليه، بل نشير إلي أسماء المشاهير منهم:

1. أحمد بن الحسين بن أحمد النيسابوري الخزاعي، جد والد أبي الفتوح الرازي.

2. الشيخ تقي بن النجم أبو الصلاح الحلبي، صاحب كتاب «الكافي».

3. الحسن بن الحسين بن علي بن بابويه، المعروف ب- «حسكا».

4. القاضي عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج، صاحب كتاب: «الكامل» و «المهذب» و «الموجز» و «الجواهر» في الفقه.

5. الشيخ الإمام الثقة أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي.

6. شهرآشوب بن أبي نصر المازندراني، جدّ محمد بن علي بن شهرآشوب مؤلّف «المناقب». إلي غير ذلك ممّن قرأ عليه و تخرّج علي يديه، و قد ذكر الشيخ منتجب الدين في «فهرسته» و غيره أسماء الكثير منهم.

إلي هنا تمّ الكلام حول تدوين الحديث بصورة منهجية و لا أقول إنّ المدوّن علي هذا النمط منحصر بالكتب الأربعة، و لكن المعروف بهذه الصبغة هي الكتب الأربعة.

بقيت هنا نكتة جديرة بالإشارة، و هي انّ المحدّثين- كما أوعزنا إليهم في صدر البحث- لم يسيروا علي نمط واحد، بل انقسموا علي أنفسهم إلي قسمين، فمنهم من صبَّ اهتمامه علي الجمع و التدوين فقط دون التعمّق و إعمال النظر، و منهم من ضم إلي التدوين إعمال الفكر و النظر في تمحيص السنّة الصحيحة عن الموضوعة، و قد دام النزاع بينهما مدّة لا يستهان بها إلي أن أطفأ جذوتها الشيخ المفيد (336- 413 ه-) في عصره و قلع فكرة الجمود علي نقل الخبر

من دون أي تمحيص و نظر.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 86

مدرسة أهل الحديث

كلّما أطلق أهل الحديث أو أهل الخبر أو الأخبارية يراد منه من يمارس تدوين و نقل السنن النبوية و أخبار العترة الطاهرة، و لم يكن لهم مذهب خاص باسم مذهب أهل الحديث، بل نهج أصحابنا نهجين:

1. نقل الحديث من كلّ مَن هبّ و دب دون فرق بين الثقة و غيره، و هم المعروفون بالإكثار عن الضعفاء.

2. نقل الحديث عن الثقة دون الضعيف مع إعمال النظر في السند، و هم مشايخ الشيعة و كبار مراجعهم في الحديث.

فمن الصنف الأوّل:

1. سهل بن زياد، أبو سعيد الآدمي الرازي، كان ضعيفاً في الحديث، غير معتمد فيه، و كان أحمد بن محمد بن عيسي يشهد عليه بالغلو و الكذب، و أخرجه من قم إلي الري، و كان يسكنها و قد كاتب أبا محمد العسكري (عليه السلام) علي يد محمد ابن عبد الحميد العطار للنصف من شهر ربيع الآخر سنة 255 ه-، ذكر ذلك أحمد بن علي بن نوح و أحمد بن الحسين رحمهما اللّه. («1»)

2. أحمد بن محمد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي البرقي، أبو جعفر، أصله كوفي. و كان ثقة في نفسه يروي عن الضعفاء و اعتمد المراسيل، توفّي عام 274 ه-.

و نقل العلّامة الحلّي عن ابن الغضائري: طعن عليه القمّيون، و ليس الطعن فيه و إنّما الطعن فيمن يروي عنه، فإنّه كان لا يبالي عمّن أخذ علي طريقة أهل

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: ترجمة 488.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 87

الأخبار، و كان أحمد بن محمد بن عيسي أبعده عن قم، ثمّ أعاده إليها و اعتذر إليه، و لمّا توفي مشي أحمد بن محمد بن عيسي

في جنازته حافياً حاسراً، ليبرئ نفسه ممّا قذفه به. («1»)

3. عبد العزيز بن يحيي بن أحمد بن عيسي الجلودي البصري، أبو أحمد شيخ البصرة و أخباريّها، و كان عيسي الجلودي من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام)، ثمّ ذكر أسماء كتبه الكثيرة. («2»)

4. محمد بن زكريا بن دينار مولي بني غلّاب، قال النجاشي: و كان هذا الرجل وجهاً من وجوه أصحابنا في البصرة، و كان أخبارياً، واسع العلم، و صنّف كتباً كثيرة، توفّي عام 298 ه-. («3»)

5. أحمد بن إبراهيم بن المعلي بن أسد العمّي، قال النجاشي: كان ثقة في حديثه، حسن التصنيف، و أكثر الرواية عن عامة الأخباريّين. («4»)

هذه نماذج من الصنف الأوّل، و إليك نماذج من الصنف الثاني ممّن كانوا لا يروون إلّا بعد إتقان الحديث، نخص منهم بالذكر ما يلي:

1. أحمد بن محمد بن عيسي، يقول النجاشي: أوّل من سكن قم من آبائه، سعد بن مالك بن الأحوص- إلي أن قال: - و أبو جعفر (رحمه الله) شيخ القمّيين و وجههم و فقيههم غير مدافع و له كتب. و لقي الرضا، و لقي أبا جعفر الثاني و أبا الحسن العسكري (عليهما السلام). و («5») قد عرفت أنّ الرجل أخرج بعض المحدّثين من قم، لكثرة

______________________________

(1) ابن المطهر: الرجال: قسم المعتمدين، باب أحمد، برقم 7.

(2) النجاشي: الرجال: برقم 638.

(3) النجاشي: الرجال: برقم 937.

(4) النجاشي: الرجال: برقم 237.

(5) النجاشي: الرجال: برقم 196.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 88

روايتهم عن الضعفاء.

2. محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، أبو جعفر شيخ القمّيين، و فقيههم، و متقدّمهم و وجههم، و يقال انّه نزيل قم، و ما كان أصله منها، ثقة، عين مسكون إليه، له كتب، منها: تفسير القرآن، و

كتاب الجامع، توفي سنة 343 ه-. («1»)

و قد اعتمد الصدوق علي تصحيحه و تجريحه، و قال في ذيل خبر صلاة الغدير: إنّ شيخنا محمد بن الحسن كان لا يصحّحه، و يقول: إنّه من طريق محمد ابن يونس الهمداني و كان غير ثقة، و كلّ ما لم يصحّحه ذلك الشيخ و لم يحكم بصحته من الأخبار، فهو عندنا متروك غير صحيح. («2»)

3. علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمي، أبو الحسن شيخ القميين في عصره و متقدّمهم و فقيههم و ثقتهم، توفّي عام 329 ه-.

إنّ من تصفّح كتب الشيخ الصدوق يجد انّه يروي عن أبيه أكثر من غيره، و انّ ما يرويه عن أبيه قد يقرب من مجموع ما رواه عن غيره.

هذه نماذج من الصنف الثاني، و كم له من نظير:

كسعد بن عبد اللّه القمي (المتوفّي 301 ه-) و الشيخ الكليني (المتوفّي 329 ه-) و جعفر بن محمد بن قولويه (المتوفّي 367 ه-) و الصدوق الثاني (المتوفّي 381 ه-) إلي غير ذلك من كبار المحدّثين.

هذا موجز الكلام في المنهجين السائدين عند المحدّثين.

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: برقم 1043.

(2) المامقاني: تنقيح المقال: 3/ 100.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 89

2 مدرسة الاجتهاد

اشارة

قد ذكرنا سابقاً انّ الإمامية ورثت خطين، خطَّ ممارسة الحديث و تدوينه و نشره دون منهجية، و خطَّ ممارسة الاجتهاد الذي بذرت بذرته في عصر الإمام السجاد (عليه السلام) ثمّ نمت في عصر الصادقين (عليهما السلام) فنبغ فقهاء كبار، كزرارة، و ابن أبي عمير، و يونس بن عبد الرحمن، و الفضل بن شاذان، و غيرهم من المجتهدين المفتين، كما عرفت أنّ للفضل بن شاذان بل لشيخه يونس بن عبد الرحمن إبداعاً في كتابة الفقه، كما أنّ لزرارة ذلك النمط

أيضاً، فلم يكونوا ملتزمين في مقام الإفتاء بنقل نص الرواية، و هذا هو الكليني يذكر فتاوي زرارة في «الكافي» («1») و قد مرّت نصوصها. («2»)

و قد ورثت الإمامية ذينك الخطّين من أسلافهم فبرعوا في إضفاء المنهجية علي نقل الحديث و نقده، كما برعوا في اضفائها علي أُسس الاجتهاد و تطويره، فقد استمر خط الاجتهاد باستمرار الحديث، و يكفيك في ذلك ما ذكره المحقّق في «المعتبر» حيث يعطف فقهاء الدور الثاني علي فقهاء الدور الأوّل و يقول:

لمّا كان فقهاؤنا رضي اللّه عنهم في الكثرة إلي حدّ يعسر ضبط عددهم، و يتعذّر حصر أقوالهم لاتساعها و انتشارها و كثرة ما صنّفوه، و كانت مع ذلك

______________________________

(1) الكليني: الكافي: 7/ 97 و 100.

(2) مرّت فتاوي زرارة ص 58- 59.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 90

منحصرة في أقوال جماعة من فضلاء المتأخّرين، اجتزأت بإيراد كلام من اشتهر فضله و عرف تقدّمه في الأخبار و صحّة الاختيار و جودة الاعتبار، و اقتصرت من كتب هؤلاء الأفاضل علي ما بان فيه اجتهادهم و عرف به اهتمامهم و عليه اعتمادهم، ممّن اخترت نقله: الحسن بن محبوب، و محمد بن أبي نصر البزنطي، و الحسين بن سعيد، و الفضل بن شاذان، و يونس بن عبد الرحمن؛ و من المتأخّرين: أبو جعفر محمد بن بابويه القمي رضي اللّه عنه، و محمد بن يعقوب الكليني.

و من أصحاب كتب الفتاوي: علي بن بابويه، و أبو علي بن الجنيد، و الحسن ابن أبي عقيل العماني، و المفيد محمد بن محمد بن النعمان، و علم الهدي، و الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي. («1»)

تجد أنّ المحقّق يصف جميع من سمّاهم بالفقاهة، نعم خصّ طائفة منهم بأهل الفتوي الّذين يرجع

إليهم الشيعة في أخذ الحكم، كعلي بن بابويه الذي ألّف رسالة «الشرائع»، و الحسن بن أبي عقيل العماني الذي ألّف رسالة عملية، يقول النجاشي في حقّها: ما ورد الحاج من خراسان إلّا و اشتراها، و المفيد محمد بن محمد ابن النعمان مؤلّف «المقنعة» و غيرهم.

و هذه الوثيقة التاريخية تؤكد لنا وجود الاجتهاد بين أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) و انّه لم يكن وليد الصدفة.

نعم صارت الغيبة سبباً لحرمانهم من زيارة الإمام عن كثب ممّا حدا إلي إنهاض الهمم بغية إعمال الفكر و تقوية ملكة الاجتهاد للإجابة علي المستجدّات من الأحكام، فقد قيل: إنّ الفقر أبو الصنائع، و الحاجة أُمّ الاختراع.

و ها نقوم الآن باستعراض

طائفة من المجتهدين عقب عصر الغيبة إلي عصر الشيخ الطوسي.

اشارة

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: المعتبر: 1/ 33.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 91

1. إبراهيم بن محمد الثقفي (المتوفّي 283 ه-)

يعرّفه النجاشي بقوله: «إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي، أصله كوفي. و سعد بن مسعود أخو أبو عبيد بن مسعود، عمّ المختار، كان زيدياً أوّلًا، ثمّ انتقل إلينا، و يقال انّ جماعة من القمّيين، كأحمد ابن محمد بن خالد وفدوا إليه و سألوه الانتقال إلي قم فأبي، ثمّ ذكر سبب خروجه من الكوفة و أسماء تأليفاته، منها: الجامع الكبير في الفقه، توفي عام 283 ه-. («1») و طبع من كتبه «الغارات» و هو كتاب قيّم.

2. سعد بن عبد اللّه القمي (المتوفّي 299 ه-)

سعد بن عبد اللّه بن أبي خلف الأشعري القمّي، المكنّي بأبي القاسم، شيخ هذه الطائفة و فقيهها و وجهها، كان قد سمع من حديث العامة شيئاً كثيراً، و سافر لطلب الحديث، لقي من وجوههم، و صنّف كتباً كثيرة. («2»)

و قال الشيخ: فمن كتبه: كتاب «الرحمة» و هو يشتمل علي كتب، منها: كتاب الطهارة، و كتاب الصلاة، و كتاب الزكاة، و كتاب الصوم، و كتاب جوامع الحج. («3») و قد قرأ عليه أبو القاسم جعفر بن قولويه.

نقل النجاشي، عن الحسين بن عبيد اللّه (ابن الغضائري) قال: جئت بالمنتخبات إلي أبي القاسم بن قولويه أقرأها عليه، فقلت: حدّثك سعد، فقال: لا، بل حدّثني أبي و أخي عنه، و أنا لم أسمع من سعد إلّا حديثين. («4»)

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: برقم 18.

(2) النجاشي: الرجال: برقم 465.

(3) الطوسي: الفهرست: برقم 318.

(4) النجاشي: الرجال: برقم 465.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 92

3. محمد بن أحمد الصابوني (المتوفّي نحو 320 ه-)

محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليم الجعفي الكوفي، المعروف ب- «أبي الفضل الصابوني» و المشهور بين الفقهاء ب- «صاحب الفاخر» و «الجعفي» أيضاً علي الإطلاق من قدماء أصحابنا و أعلام فقهائنا من أصحاب كتب الفتوي، و من كبار الطبقة السابعة، ممّن أدرك الغيبتين الصغري و الكبري، عالم فاضل فقيه، عارف، له كتب، منها: كتاب «الفاخر» المذكور، و هو كتاب كبير يشتمل علي الأُصول و الفروع و الخطب و غيرها، و كتاب «تفسير معاني القرآن» و كتاب «المحبر» و كتاب «التحبير». («1»)

قال النجاشي بعد ذكر اسمه: سكن مصر و كان زيدياً ثمّ عاد إلينا، و كانت له منزلة بمصر، ثمّ ذكر سنده إلي كتبه، و قال: أخبرنا أحمد بن علي بن نوح، عن جعفر بن محمد (المتوفّي 367 ه-) قال:

حدّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ببعض كتبه. («2»)

و أمّا طبقته، فقد عرفت أنّ النجاشي نقل كتبه عنه عن طريق جعفر بن محمد ابن قولويه المتوفّي عام 367 ه-، فيكون في طبقة مشايخه، كالكليني و علي بن بابويه و غيرهما.

نعم عدّه الشيخ في «رجاله» من أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام) المتوفّي عام 254 ه-، و علي ذلك («3») فيكون متقدّماً علي الكليني بقليل، فلو افترضنا انّه من مواليد 240 ه- يكفي في عدّه من أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام) لقاؤه غير مرّة، و توفّي عام 320 ه-، فيكون له من العمر 80 عاماً، و اللّه العالم.

______________________________

(1) بحر العلوم: الفوائد الرجالية: 3/ 199.

(2) النجاشي: الرجال: برقم 1023.

(3) الطوسي: الرجال: 422.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 93

و قال الشيخ: له كتب كثيرة، فمنها كتاب «المتخير»، و كتاب «التخيير»، («1») و كتاب «الفاخر» و كان من أهل مصر، أخبرنا بجميع كتبه أحمد بن عبدون عن أبي علي كرامة بن أحمد بن كرامة البزاز و أبي محمد الحسن بن محمد الخيزراني المعروف بابن أبي العسّاف المغافري عنه بجميع رواياته. («2»)

و قد نقل السيد بحر العلوم بعض فتاويه عن غاية المراد، منها: القول بالمواسعة في قضاء الصلاة اليومية.

و منها: القول بالتفصيل في البئر، و الفرق فيها بين القليل و الكثير، و تحديد الكثرة بالذراعين في الأبعاد الثلاثة.

و منها: الاجتزاء بالشهادة الواحدة في التشهد الأوّل و بالتسليم الأوّل من التسليم الواجب.

و يظهر م («3») ن الفتاوي المنقولة عنه انّه كان يفرغ الفتاوي في قوالب خاصة، و لم يكن ملتزماً بالمنصوص، و كان ذلك استمراراً لما رسمه زرارة و يونس بن عبد الرحمن و الفضل بن شاذان.

4. الحسن بن أبي عقيل (المتوفّي نحو 329 ه-)

الحسن بن علي بن أبي عقيل،

أبو محمد العماني («4») وصفه النجاشي بقوله: الحذّاء، فقيه متكلّم ثقة، له كتب في الفقه و الكلام، منها: كتاب «المتمسك بحبل آل الرسول» كتاب مشهور في الطائفة، و قيل ما ورد الحاج من خراسان إلّا طلبه

______________________________

(1) و قد مرّ ص 92 انّ النجاشي عبّر عنه بالمحبرة و التحبير.

(2) الطوسي: الفهرست، باب من عرف بكنيته، برقم 898.

(3) بحر العلوم: الفوائد الرجالية: 3/ 203.

(4) عمان كغراب المعروفة في هذه الأيام بسلطنة عمان.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 94

و اشتري منه نسخاً، و سمعت شيخنا أبا عبد اللّه (رحمه الله) يكثر الثناء علي هذا الرجل.

و قرأت كتابه المسمي كتاب «الكرّ و الفرّ» علي شيخنا أبي عبد اللّه.

و أمّا طبقته فهو في طبقة الكليني (المتوفّي عام 329 ه-) لأنّ ابن قولويه المتوفّي عام 367 ه- من تلامذة الكليني ينقل عنه بالإجازة، قال النجاشي (عن أبي القاسم جعفر بن محمد): كتب إليَّ الحسن بن أبي عقيل يجيز لي كتاب «المتمسك» و سائر كتبه. («1»)

و يحتمل تقدم طبقته علي الكليني بشي ء يسير، و ذلك لانّ ابن قولويه ممّن يروي عن سعد كما تقدّم، فيكون ابن أبي عقيل في طبقة سعد بن عبد اللّه القمي الذي توفّي في عام 301 ه- أو 299 ه-، فمن المحتمل أن يكون متقدّماً علي الكليني بقليل.

و يصفه العلّامة الحلّي بقوله: فقيه ثقة متكلّم، له كتب في الفقه و الكلام، منها: كتاب «المتمسك بحبل آل الرسول» كتاب مشهور عندنا، و نحن نقلنا أقواله في كتبنا الفقهية، و هو من جملة المتكلّمين و فضلاء الإمامية. («2»)

ثمّ إنّ كتبه و إن لم تبق بصورتها، و لكن بقيت بمادّتها، فقد أورد العلّامة الحلّي و غيره أقواله في كتبهم الفقهية، و أخص

بالذكر كتاب «المختلف» للعلّامة الحلّي، و لأجل ذلك قام مركز المعجم الفقهي في مدينة قم باستخراج آرائه من الكتب الفقهية المتوفرة و نشرها في مجلد واحد.

ثمّ إنّ المعروف أنّ ابن أبي عقيل أوّل من هذّب الفقه و استعمل النظر و فتق البحث عن الأُصول و الفروع في ابتداء الغيبة الكبري، و بعده الشيخ الفاضل ابن

______________________________

(1) رجال النجاشي: 1/ 154 برقم 99.

(2) ابن المطهر: الخلاصة: 40.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 95

الجنيد، و قد ذكره غير واحد من العلماء. («1»)

و نقله أيضاً مؤلّف «الكني و الألقاب». («2»)

و لكنّك عرفت أنّ ذلك أمر لا واقع له، بل كان خط الاجتهاد رائجاً منذ عصر الصادقين (عليهما السلام) إلي يومنا هذا، و ذكرنا أيضاً أسماء الفقهاء ممّن تقدّموا عليه كالفضل بن شاذان و من بعده.

و مع الأسف انّ سيرة ابن أبي عقيل قد اكتنفها كثير من الغموض، فلا نعرف بالضبط أسماء أساتذته و تلامذته، و الظاهر انّه كان فقيهاً بعمان، و كانت الصلة بينه و بين الحواضر العلمية ضعيفة، و لأجل ذلك ينقل عنه فتويان شاذتان ما أفتي بهما غيره إلّا القليل، كعدم انفعال الماء القليل بمجرّد الملاقاة، و من قرأ في صلاة السنن في الركعة الأُولي ببعض السورة و قام في الركعة الأُخري ابتدأ من حيث قرأ و لم يقرأ بالفاتحة. («3»)

إنّ لابن أبي عقيل فتاوي أُخري شاذّة، كالتالي:

أ. عدم وجوب طواف النساء.

ب. عدم اشتراط رضي المرأة في نكاح بنت أخيها و بنت أُختها عليها.

و لعلّ مرجع الأخير هو العمل بعموم قوله: (وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ) («4») في نكاح بنت الأخ و الأُخت، و لا شكّ انّ الفقه المبني علي الأخذ بالعموم و الغفلة عن المخصص و

المقيّد يخلق فجوة عميقة فيه.

______________________________

(1) الأفندي التبريزي: رياض العلماء: 1/ 203.

(2) الكني و الألقاب: 1/ 190.

(3) بحر العلوم: الرجال: 2/ 214.

(4) النساء: 24.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 96

و من مبانيه الفقهية أيضاً عدم الأخذ بخبر الواحد، يقول المحقّق التستري: و كان لا يعمل إلّا بالأخبار المتواترة إلّا أنّه كالمفيد و المرتضي يدّعي التواتر كثيراً في ما لا تواتر فيه، كادّعاء الإجماع في ما لا إجماع فيه. («1»)

5. علي بن أحمد الكوفي (المتوفّي 352 ه-)

علي بن أحمد، أبو القاسم الكوفي صنّف كتباً كثيرة، منها: كتاب «الفقه» علي ترتيب المزني. («2»)

قال الشيخ الطوسي: علي بن أحمد الكوفي يكنّي أبا القاسم، كان إماميّاً، مستقيم الطريقة، و صنّف كتباً كثيرة سديدة، منها: كتاب «الأوصياء» و كتاب في الفقه علي ترتيب المزني، ثمّ خلط. («3»)

6. علي بن بابويه الصدوق الأوّل (المتوفّي 329 ه-)

عرّفه النجاشي بقوله: «علي بن بابويه القمّي، أبو الحسن شيخ القمّيين في عصره و متقدّمهم، و فقيههم و ثقتهم، ثمّ ذكر أسماء كتبه التي منها: كتاب «الشرائع» و هي الرسالة إلي ابنه» («4»)، و من المحتمل جداً انّه نفس كتاب فقه الرضا، و هو متن فقهي يشتمل علي أكثر الأبواب و المسائل، و هو كتاب بديع يعرب عن أنّ المؤلف كان خبيراً بالأخبار، فقد استخرج الفتاوي منها بعد تخصيص العام

______________________________

(1) التستري: قاموس الرجال: 3/ 198.

(2) رجال النجاشي: برقم 689، و المزني تلميذ الشافعي.

(3) فهرست الشيخ: برقم 391.

(4) الرجال: النجاشي: 2، رقم 682.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 97

بالخاص، و تقييد المطلق بالمقيد، إلي غير ذلك من شئون الجمع بين الروايات و الخروج بالفتوي، مات عام تسع و عشرين و ثلاثمائة.

إنّ علي بن بابويه أوّل من أعدّ متناً فقهياً من متون الروايات بحذف أسانيدها و أسماه بكتاب «الشرائع» و قد حذا ولدُه حذوه في تأليف «المقنع» («1»)، يقول في مقدّمة كتابه: إنّي صنّفت كتابي هذا و سمّيته كتاب «المقنع» لقنوع من يقرأه بما فيه، و حذفت الأسناد فيه لئلّا يثقل حمله، و لا يصعب حفظه، و لا يملَّ قارئه إذ كان ما أبيّنه فيه، في الكتب الأُصولية موجوداً مبيناً علي المشايخ العلماء الفقهاء، الثقات. («2»)

لقد عاش شيخنا في العصر العباسي قبل تسلم البويهيّين منصَّة الحكم في العراق سنة 334 ه-،

و قد استوطن قم المحمية التي كانت في أوان عصر الغيبة و عهد نيابة الأبواب الأربعة، مركزاً فقهياً من مراكز البحث الفقهي استقطبت الفقهاء و المحدّثين من بلاد الشيعة.

روي الشيخ الطوسي قال: أنفذ الشيخ حسين بن روح كتاب «التأديب» («3») إلي قم، و كتب إلي جماعة الفقهاء بها، و قال لهم: انظروا في هذا الكتاب، و انظروا هل فيه شي ء يخالفكم؛ فكتبوا إليه أنّه كلّه صحيح، و ما فيه شي ء يخالف إلّا قوله في الصاع في الفطرة نصف صاع من طعام، و الطعام عندنا مثل الشعير من كلّ واحد صاع. («4»)

فهذا يعرب عن مكانة قم في عصر النائب الثالث، المتوفّي عام 326 ه-.

و كما أنّ الشيخ الحسين بن روح يستمد من علماء قم و فقهائهم، كذلك

______________________________

(1) البحار: 107/ 30.

(2) الصدوق: المقنع: 5.

(3) كتاب التأديب تأليف نفس الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح. راجع الذريعة: 3/ 210.

(4) الطوسي: الغيبة: 390، الحديث 357.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 98

يستمد فقهاء تلك البلدة من علوم الشيخ.

روي الشيخ الطوسي بسنده عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود القمّي، قال: وجدت بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي و إملاء أبي القاسم الحسين بن روح رضي اللّه عنه علي ظهر كتاب فيه جوابات و مسائل انفذت من قم يسأل عنها هل هي جوابات الفقيه (عليه السلام) أو جوابات محمد بن علي الشلمغاني، لأنّه حكي عنه انّه قال: هذه المسائل أنا أجبت عنها.

فكتب إليهم علي ظهر كتابهم: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ*، قد وقفنا علي هذه الرقعة و ما تضمّنته، فجميعه جوابنا عن المسائل، و لا مدخل للمخذول الضال المضل المعروف بالعزاقري لعنه اللّه في حروف منه … («1»)

7. أبو الحسين الناشئ (271- 366 ه-)

علي بن عبد اللّه بن

وصيف، من أهل بغداد، المكنّي بأبي الحسين الناشئ، كان متكلماً شاعراً مجوداً، و له كتب، و كان يتكلم علي مذهب أهل الظاهر في الفقه أخبرنا عنه الشيخ المفيد (رحمه الله). («2»)

و قال محقق فهرس الشيخ الطوسي: قصد سيف الدولة و أهداه شعره في مسجد الكوفة، فحضر مجلسه المتنبي و هو صغير. ولد سنة 271 و توفي ببغداد سنة 366.

و قال الأفندي التبريزي: هو الشيخ أبو الحسن علي بن عبد اللّه بن وصيف الناشئ الأصغر الحلّاء المتكلّم البغدادي. الفاضل العالم الكامل الشاعر الأديب، من مشايخ الشيخ المفيد، كما هو الظاهر من عبارة الفهرست.

______________________________

(1) الطوسي: الغيبة: 373 برقم 345.

(2) الطوسي: الفهرست، برقم 385، و له ترجمة في وفيات الأعيان: 3/ 369، و في الرياض: 4/ 137.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 99

و لعلّ النمط الذي اختاره في الفقه هو تجريد النصوص عن الأسانيد، و عدم الخروج عن حرفيتها في ضمن عدم الاعتقاد بالقواعد العقلية.

8. محمد بن أحمد بن الجنيد (المتوفّي 381 ه-)

محمد بن أحمد بن الجنيد، أبو علي الكاتب الاسكافي، قال النجاشي: وجه في أصحابنا، ثقة، جليل القدر، صنّف فأكثر، و سمعت بعض شيوخنا يذكر انّه كان عنده مال للصاحب (عليه السلام) و سيف أيضاً. ثمّ ذكر فهرست كتبه، منها: «تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة». («1»)

قال الشيخ الطوسي: كان جيد التصنيف حَسَناً، إلّا أنّه كان يري القول بالقياس، فتركت لذلك كتبه و لم يعوَّل عليها، و له كتب كثيرة، منها: كتاب «تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة» كبير نحو من عشرين مجلداً، يشتمل علي عدد كتب الفقه علي طريق الفقهاء، و كتاب «المختصر الأحمدي للفقه المحمدي» في الفقه مجرّداً، ثمّ ذكر أسماء بقية كتبه. («2»)

و يظهر من الشيخ انّ التهذيب كان كتاباً استدلالياً، و المختصر الأحمدي يتضمن فتاواه.

و

قال العلّامة بحر العلوم في «الفوائد الرجالية»: أبو علي الكاتب الاسكافي من أعيان الطائفة، و أعاظم الفرقة، و أفاضل قدماء الإمامية، و أكثرهم علماً و فقهاً و أدباً، و أكثرهم تصنيفاً، و أحسنهم تحريراً، و أدقّهم نظراً، متكلم فقيه، محدّث، أديب، واسع العلم، صنّف في الفقه و الكلام و الأُصول و الأدب و الكتابة و غيرها،

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: برقم 1048.

(2) الطوسي: الفهرست: برقم 602.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 100

تبلغ مصنّفاته عدا أجوبة مسائله نحواً من خمسين كتاباً، ثمّ ذكر كتبه. («1»)

و قد أطراه العلّامة في «خلاصته». («2»)

أقول: إنّ القياس علي أقسام أربعة:

1. العمل به فيما إذا كانت العلّة منصوصة، كما إذا قال: لا تشرب الخمر، لأنّه مسكر.

2. قياس الأولوية، و هو قياس الأقوي غير المنصوص علي الأضعف المنصوص، كما إذا قال: لا تأكل ذبيحة أهل الكتاب، فيعلم منه حرمة أكل ذبيحة المشرك بوجه أولي.

3. المناط القطعي فيما إذا وقف المجتهد علي وجه القطع و اليقين انّ مناط الحكم هو هذا، كما إذا قال: لا تأكل ذبيحة اليهودي و وقف علي انّ المناط كونه كافراً فيقيس عليه ذبيحة النصراني. فالعمل بالقياس في هذه الصور الثلاث جائز. و إن كان الخوض في تحصيل مناطات الأحكام أمراً محظوراً.

4. المناط الظني و تحصيله بالوجوه و الاعتبارات و هذا النوع من القياس الناتج عن التخرصات الظنية من غير حصول القطع هو الممنوع.

و لم يعلم أنّ ابن الجنيد قد عمل بالقياس في القسم الأخير، و لعلّ عمله كان في الأقسام الثلاثة الأُول.

و هناك احتمال آخر و هو أن يكون عمله لأجل الاستدلال بالقياس علي المخالف.

و علي كلّ تقدير فالإطراء الذي يذكره العلّامة عن صفي الدين محمد بن معد، و ما يذكره

هو نفسه يعرب عن كونه علي جلالة في الفقه.

______________________________

(1) بحر العلوم: القواعد الرجالية: 2/ 205.

(2) خلاصة الرجال: 145.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 101

قال العلّامة: وجدت بخط السعيد صفي الدين محمد بن معد ما صورته: وقع إليّ من هذا الكتاب مجلد واحد، و قد ذهب من أوّله أوراق، تصفّحته و لمحت مضمونه، فلم أر لأحد من الطائفة كتاباً أجود منه، و لا أبلغ، و لا أحسن عبارة، و لا أدق معني، و قد استعرض فيه الفروع و الأُصول، و ذكر الخلاف في المسائل و استدل بطريق الإمامية و طريق مخالفيهم. («1») و هذا الكتاب إذا أُمعن النظر فيه، و حصلت معانيه، و أُديمت الإطالة فيه، علم قدره و موقعه، و حصل به نفع كثير لا يحصل من غيره.

و قال العلّامة: و أقول قد وقع إليّ من كتب هذا الشيخ المعظّم الشأن كتاب «الأحمدي في الفقه المحمدي» و هو كتاب جيد، يدل علي فضل هذا الرجل و كماله و بلوغه الغاية القصوي في الفقه و جودة نظره، و أنا ذكرت خلافه و أقواله في كتاب «مختلف الشيعة في أحكام الشريعة». («2»)

و قد اعتني بأقواله و فتاويه كثير من المحقّقين، كالسيد المرتضي، و ابن إدريس في «السرائر» و المحقّق الحلّي في «المعتبر»، و الشهيدين، و السيوري، و ابن فهد، و الصيمري، و المحقّق الكركي، و غيرهم و كلّ ذلك يجلب الاعتماد إلي المؤلِّف و المؤلَّف.

هذا ما يمكن الدفاع عن الرجل و منهجه و كتبه، و لكن هناك ما يصدّنا عن التصديق ببعض ما ذكرنا، فإنّ مسلك الرجل لم يكن مورد الرضا لأعلام الأُمّة، كالمرتضي و المفيد الذي أفرد علي نقد مسلكه رسالتين ذكرهما النجاشي عند ترجمة المفيد.

1. نقض

رسالة الجنيدي إلي أهل مصر.

______________________________

(1) و هذا يعرب عن أنّ الاستدلال بالقياس و نحوه لأجل إقناع المخالف.

(2) بحر العلوم: الفوائد الرجالية: 3/ 209- 210، نقلًا عن إيضاح الاشتباه للعلّامة الحلّي.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 102

2. النقض علي ابن الجنيد في اجتهاد الرأي. («1»)

و لم يصل إلينا شي ء من تينك الرسالتين.

كما انّه ردّ عليه في ثنايا كتابيه «المسائل الصاغانية» و «المسائل السروية» المطبوعتين، فقال في المسائل الصاغانية: («2»)

قال هذا الشيخ الجاهل (يريد الشيخ الحنفي المتحامل علي الشيعة): قد وصل إلي نيسابور في سنة 340 ه- («3») رجل من هؤلاء الرافضة يعرف بالجنيدي يدّعي معرفة بفقههم و يتصنّع بالنفاق لهم … ثمّ إنّ الشيخ المفيد بعد كلام طويل ردّ به علي الفقيه الحنفي، قال في حقّ ابن الجنيد ما يلي: فأمّا شهادتك بجهل الجنيدي فقد أسرفت بما قلت في معناه و زدت في الإسراف و لم يكن كذلك في النقصان، و إن كان عندنا غير سديد فيما يتحلّي به من الفقه و معرفة الآثار، لكنّه مع ذلك أمثل من جمهور أئمتك، و أقرب منهم إلي الفطنة و الذكاء.

فأمّا قوله بالقياس في الأحكام الشرعية و اختياره مذاهب لأبي حنيفة و غيره من فقهاء العامة لم يأت بها أثر عن الصادقين (عليهم السلام)، فقد كنّا ننكره عليه غاية الإنكار، و لذلك أهمل جماعة من أصحابنا أمره و اطَّرحوه، و لم يلتفت أحد منهم إلي مصنّف له و لا كلام. («4»)

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: برقم 1048.

(2) هذا الكتاب جملة مسائل وردت علي شيخنا المفيد، و هي عشر مسائل من مختلف أبواب الفقه شنّع بها فقيه حنفي علي الشيعة الإمامية، و ادّعي انّهم خارجون بها عن الإيمان، مخالفون لنصوص القرآن. فأجاب عنها

الشيخ المفيد و سمّاها بالمسائل الصاغانيّة.

(3) هذا يعرب عن أنّ ابن الجنيد كان في تلك السنة في نيسابور.

(4) المفيد: المسائل الصاغانية: 56- 59، في ذيل المسألة الأُولي، و لاحظ أيضاً ص 61، و لاحظ من الطبعة القديمة ص 249- 250.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 103

و قال في المسائل السروية: و أجبت عن المسائل التي كان ابن الجنيد جمعها و كتبها إلي أهل مصر، و لقبها ب- «المسائل المصرية» و جعل الأخبار فيها أبواباً، و ظنّ أنّها مختلفة في معانيها، و نسب ذلك إلي قول الأئمّة (عليهم السلام) فيها، بالرأي.

و أبطلت ما ظنّه في ذلك و تخيّله، و جمعت بين جميع معانيها، حتي لم يحصل فيها اختلاف، فمن ظفر بهذه الأجوبة و تأمّلها بإنصاف، و فكر فيها فكراً شافياً، سهل عليه معرفة الحقّ في جميع من يظن انّه مختلف، و يتيقن ذلك ممّا يختص بالأخبار المروية عن أئمّتنا (عليهم السلام). («1»)

فهذه النصوص من الشيخ المفيد توقفنا علي أنّ ابن الجنيد كان متأثراً بالأساليب الفقهية للعامة.

ثمّ الأعجب من العمل بالقياس هو جعل سبب الاختلاف في الأخبار المروية عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هو إفتاء الأئمّة بالرأي كما هو صريح كلام الشيخ المفيد، أعني قوله: «و ظنّ أنّها مختلفة في معانيها، و نسب ذلك إلي قول الأئمّة (عليهم السلام) فيها بالرأي».

ثمّ إنّ السيد بحر العلوم اعتذر عن زلّته بعدم بلوغ الأمر فيه إلي حد الضرورة، فإنّ المسائل قد تختلف وضوحاً و خفاء باختلاف الأزمنة و الأوقات، فكم من أمر جلي ظاهر عند القدماء قد اعتراه الخفاء في زماننا، لبعد العهد و ضياع الأدلّة؟ و كم من شي ء خفي في ذلك الزمان قد اكتسي ثوب الوضوح و الجلاء

باجتماع الأدلّة المنتشرة في الصدر الأوّل، أو تجدّد الإجماع عليه في الزمان المتأخر، و لعلّ أمر القياس من هذا القبيل؟ («2»)

______________________________

(1) المفيد: المسائل السروية: 75- 76، الطبعة الحديثة.

(2) بحر العلوم: الرجال: 3/ 215.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 104

و قال النجاشي: توفي ابن الجنيد بالري سنة 381 ه-، و قد اتّفق موته و موت الصدوق الثاني في سنة واحدة، و يظهر من رسالة الشيخ الحنفي انّه زار نيسابور عام 340 ه- كما مرّ.

9. محمد بن مسعود العياشي (المتوفّي نحو 320 ه-)

محمد بن مسعود بن محمد بن عياش السلميّ السمرقندي، أبو النضر المعروف ب- «العياشي».

قال النجاشي: ثقة، صدوق، عين من عيون هذه الطائفة، و كان يروي عن الضعفاء كثيراً، و كان في أوّل أمره عامّي المذهب، و سمع حديث العامة فأكثر منه، ثمّ تبصّر و عاد إلينا، سمع أصحاب الحسن بن علي بن فضّال و عبد اللّه بن محمد ابن خالد الطيالسي و جماعة من شيوخ الكوفيّين و البغداديّين و القمّيين.

قال أبو جعفر الزاهد (أحمد بن عيسي بن جعفر العلوي العمري و كان من أصحاب العياشي): أنفق أبو النضر علي العلم و الحديث تركة أبيه سائرها و كانت ثلاثمائة ألف دينار، و كانت داره كالمسجد بين ناسخ أو مقابل أو قارئ أو معلّق مملوءة من الناس، ثمّ ذكر أسماء كتبه في مختلف المجالات و في الفقه كثيراً. («1»)

و عرّفه الشيخ الطوسي بقوله: محمد بن مسعود العياشي من أهل سمرقند، و قيل انّه من بني تميم، يكنّي أبا النضر، جليل القدر، واسع الأخبار، بصير بالروايات مطّلع عليها، له كتب كثيرة تزيد علي مائتي مصنّف ذكر فهرست كتبه التي ذكرها ابن إسحاق النديم. («2»)

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: برقم 945.

(2) الطوسي: الفهرست: 163، برقم 605.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)،

ص: 105

أقول: لعب الزمان بعامة ما كتبه إلّا تفسيره المعروف ب- «تفسير العياشي» يشتمل المطبوع منه علي تفسير القرآن من أوّله إلي آخر سورة الكهف و لم يطبع الجزء الثاني، و مع ذلك فقد أُصيب الموجود منه بأضرار كبيرة، و ذلك لأنّ جلّ رواياته كانت مسندة، فاختصرها بعض النساخ بحذف الأسانيد.

10. جعفر بن محمد بن قولويه القمي (المتوفّي 367 ه-)

جعفر بن قولويه القمي من مشايخ الإمامية و أعيانها، قال النجاشي: أبو القاسم من خيار أصحاب سعد، و كان من ثقات أصحابنا و أجلّائهم في الحديث و الفقه، روي عن: أبيه و أخيه عن سعد، و عليه قرأ شيخنا أبو عبد اللّه (المفيد) الفقه، و منه حمل، و كلّ ما يوصف به الناس من جميل وفقه فهو فوقه، ثمّ ذكر أسماء كتبه، و قال: قرأت أكثر هذه الكتب علي شيخنا أبي عبد اللّه المفيد (رحمه الله) و علي الحسين ابن عبيد اللّه (رحمه الله). («1»)

و كفي في فضله انّ شيخنا المفيد من تلامذته و خريجي مدرسته في الفقه، و قد وصفه النجاشي بما لم يصف به أحداً في رجاله.

يقول الشيخ الطوسي: جعفر بن محمد بن قولويه القمّي يكنّي (أبا القاسم) ثقة، له تصانيف كثيرة علي عدد أبواب الفقه. («2»)

و يتبادر من تعبير الشيخ انّ تصانيفه كانت إمّا بتجريد المتون عن الأُصول كما هو الرائج في تلك الأزمنة، أو صب الفقه في قوالب خاصة.

و علي أية حال فهو من الفقهاء العظام ممّن كان لهم دور عظيم في منهجة الفقه، كيف و هو ممّن ألّف كتباً كثيرة علي عدد أبواب الفقه كما صرّح به الشيخ

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: برقم 316.

(2) الطوسي: الفهرست: برقم 141.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 106

في «الفهرست»؟!

و ترجمه الشيخ في «رجاله» في باب من

لم يرو عنهم (عليهم السلام) برقم 5، فلاحظ.

و في خلاصة العلّامة انّ وفاته كانت في سنة 369 ه-، و في «الفهرست»: 368 ه-، و لعلّ الصحيح هو 367، لوجود التشابه بين لفظ «التسعين» و «السبعين». («1»)

و يظهر من اتصاله بابن أبي عقيل نزيل عمان انّه كان علي اتصالات وثيقة مع مراكز العلم و الفتيا آنذاك.

و قد قصد الحج و وصل بغداد عام 337 ه- في السنة التي ردّ القرامطة فيها الحجر إلي مكانه من البيت. («2»)

11. محمد بن علي بن الحسين الصدوق (306- 381 ه-)

رئيس المحدّثين علي الإطلاق، و فقيه الإمامية و وجههم، و صدوق الطائفة، المولود بدعوة صاحب الأمر، المخصوص بحقّ رعايته و ألطافه، الشيخ الفقيه المحدّث أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمّي، ولد في محتد طيب و بلدة عريقة أي مدينة قم، و تربّي في بيت رفيع عرف بالصلاح و العلم و زعامة الدين، و قد تتلمذ علي أبيه و تخرّج علي يديه، ثمّ هاجر من قم و اختلف إلي حواضر العلم لتبادل السماع و الاسماع مع المحدّثين و أئمّة العلم.

قال النجاشي بعد ذكر اسمه: أبو جعفر، نزيل الري، شيخنا و فقيهنا، و وجه الطائفة بخراسان، و كان ورد بغداد سنة 355 ه-، و سمع منه شيوخ الطائفة و هو حدث السن، ثمّ ذكر أسماء كتبه و ذكر أنّه ينقل كتب الصدوق عن طريق والده و هو علي بن أحمد بن العباس النجاشي، و هو الواسطة الوحيدة بينه و بين

______________________________

(1) لاحظ المستدرك للعلّامة النوري: 3/ 524، الفائدة الثالثة.

(2) لاحظ المستدرك للعلّامة النوري: 3/ 524، الفائدة الثالثة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 107

الصدوق، فإنّ الوالد قد تتلمذ علي الصدوق و سمع كتبه، و مات الصدوق بالري سنة

(381 ه-). («1»)

و يقول شيخ الطائفة في «رجاله»: جليل القدر، حفظة، بصير بالفقه و الأخبار و الرجال، له مصنّفات كثيرة. («2»)

و قال في «فهرسته»: محمد بن علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمّي، يكنّي أبا جعفر، كان جليلًا، حافظاً للأحاديث، بصيراً بالرجال، ناقداً للأخبار، لم ير في القمّيين مثله في حفظه و كثرة علمه، له نحو من ثلاثمائة مصنّف و فهرست كتبه معروف. («3»)

ثمّ ذكر أسماء كتبه.

قال الخطيب البغدادي: كان من شيوخ الشيعة و مشهوري الرافضة، حدّثنا عنه محمد بن طلحة النعالي. («4»)

و قال الذهبي: رئيس الإمامية، أبو جعفر محمد بن العلّامة علي بن الحسين ابن موسي بن بابويه القمّي، صاحب التصانيف السائرة بين الرافضة، يضرب في حفظه المثل، يقال له (300) مصنف. («5»)

و كفي في جلالته انّه تخرّج عليه شيخنا المفيد، قال ابن إدريس: كان ثقة، جليل القدر، بصيراً بالأخبار، ناقداً للآثار، عالماً بالرجال، حفظة، و هو أُستاذ شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان. («6»)

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 311، برقم 1050.

(2) الطوسي: الرجال: 495، برقم 25، في باب «من لم يرو عن الأئمّة».

(3) الطوسي: الفهرست: 184، برقم 709.

(4) الخطيب: تاريخ بغداد: 3/ 89.

(5) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 16/ 303.

(6) ابن إدريس: السرائر: 2/ 529.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 108

و قد سبق منّا ذكر أسماء مشايخه و تلامذته.

يظهر من التدبّر في الكتب الفقهية المؤلّفة في القرن الرابع أنّه كانت الفتاوي في ذلك العصر تستعرض علي نحوين.

أحدهما: ما كان عليه الصدوق و والده و غيرهم من الإفتاء بنصوص الروايات تقريباً، مع تجريدها عن الأسانيد، و علي ذلك ألّف الوالد كتاب «الشرائع» الذي هو الكتاب المعروف ب- «فقه الرضا» في هذه الأيام. و ألّف الولد كتاب

«الهداية» و «المقنع»، فهما و من تبعهما كانوا مجتهدين مستنبطين يستعملون النظر في استنباط الأحكام بتميز الصحيح عن غيره بعد تقييد المطلق بقيده و تخصيص العام بخاصّة دون الخروج عن النصوص الواردة في السنّة، و قد دام هذا النمط من الاجتهاد بعد مضيهما و ألّف الشيخ الطوسي «النهاية» علي غرار ذلك النمط.

و يظهر من مقدّمة المبسوط انّ هذا النمط كان أكثر رواجاً في القرن الرابع. («1»)

و الثاني: استنباط الأحكام من الكتاب و السنّة و القواعد العقلية التي دلّ عليها العقل الصريح و طبيعة ذلك الاجتهاد هو الخروج عن دائرة النصوص، و علي ذلك جري ابن أبي عقيل في كتابه «المتمسك بحبل آل الرسول»، و ابن الجنيد في «تهذيبه»، و المرتضي في «انتصاره»، و الشيخ في «مبسوطه».

قد مضي أنّ النمطين كانا موروثين من فقهاء عصر الحضور، فقد عرفت أنّ زرارة و يونس بن عبد الرحمن و الفضل بن شاذان كانوا مستنبطين و مفتين لا بلفظ النصوص بل كانوا يصبّون ما استنبطوه من الأدلّة في قالب التعبير.

و بذلك نقف علي أنّ الدور الثاني كان امتداداً للدور الأوّل بإضافة

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 12/ 1.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 109

المنهجية في مجالي الحديث و الاجتهاد، فظاهرة الاجتهاد بمعناه الحقيقي كانت سائدة في الدور الأوّل، و لكنّها ارتقت و تكاملت عبر الدور الثاني بكلا النمطين: الإفتاء بلفظ النصوص و هو الذي كان سيدنا البروجردي يعبّر عنه بالفقه المتلقّي عن أئمّة أهل البيت و الأولي التعبير عنه بالفقه المنصوص، و الفقه الخارج عن نطاق النصوص معتمداً علي الأدلّة الشرعية.

12. محمد بن محمد بن النعمان المفيد (336- 413 ه-)
اشارة

لا عتب علي اليراع إذا وقف عاجزاً أمام تحديد معالم شخصية إسلامية فذّة كشخصية الشيخ المفيد، فهو كالنجم اللامع في سماء العلم و

الحديث، و كقطب الرحي لكافة الفضائل الإنسانية، فقد آلت إليه زعامة الشيعة في بغداد أواخر القرن الرابع التي كانت تعجّ بالتيارات الفكرية المختلفة، فمن سلفي لا همّ له سوي أخذ الحديث و جمعه من كلّ من هبّ و دب، إلي معتزلي لا يقيم للسنّة وزناً و يعتمد علي العقل في كافة المجالات، إلي أشعري يحاول صياغة السلفية بأُطر عقلية، إلي زيدي يقتفي إثر المعتزلة في الأُصول، و الحنفية في الفروع، إلي غير ذلك من التيارات الفكرية التي كانت رائجة في تلك الأزمنة. التي حاولت القضاء علي الفكر الشيعي الإمامي.

فوسط هذا العجاج بزغ نجم شيخنا المفيد (رحمه الله) فقام خير قيام بتثبيت الهوية الفكرية الشيعية، و تصدّي للمخالفين خصوصاً من يتّهمون المذهب الإمامي بأقاويل فاسدة و ينسبون إليه آراءً زائغة قصداً للتشنيع و التنكيل، كالقول بالجبر و التشبيه و التجسيم التي هي علي جانب النقيض من عقائد الشيعة.

و قد كان ليراعه و بيانه أثر بالغ في إخضاع المخالف للعقيدة الحقّة و تبكيته علي وجه اعترف به الموافق و المخالف، فهذا هو اليافعي يعرّفه في «تاريخه» في

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 110

حوادث سنة 413 ه- بقوله:

توفي فيه عالم الشيعة و عالم الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة، شيخهم المعروف بالمفيد و بابن المعلم أيضاً البارع في الكلام و الجدل و الفقه، و كان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة و العظمة في الدولة البويهية.

قال ابن أبي طي: و كان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة و الصوم، خشن اللباس.

و قال غيره: كان عضد الدولة ربما زار الشيخ المفيد و كان ربعة نحيفاً أسمر، عاش ستاً و سبعين سنة، و له أكثر من مائتي مصنّف، و كانت جنازته مشهودة، و

شيّعه ثمانون ألفاً من الرافضة و الشيعة، و أراح اللّه منه، و كان موته في رمضان. («1»)

أقول: إنّ كلام اليافعي خير شاهد علي جلالة الشيخ، و وفور علمه، و عظمة منزلته عند الموافق و المخالف و إنّه ببيانه و بيراعه ضيّق الخناق علي أعدائه حتي تُلقّيتْ وفاته بالراحة لهم.

و قال ابن كثير: المفيد شيخ الإمامية الروافض، و المصنّف لهم، و المحامي عن حوزتهم، كانت له وجاهة عند ملوك الأطراف لميل كثير من أهل ذلك الزمان إلي التشيّع. («2»)

و كم للموافق و المخالف من جمل درّية في حقّ شيخنا المفيد، فلنذكر كلمتين من تلميذيه (و كم له من تلامذة برعوا في مجالات شتّي).

يقول النجاشي- بعد ما يسوق نسبه إلي يعرب بن قحطان-: شيخنا و أُستاذنا رضي اللّه عنه، فضله أشهر من أن يوصف في الفقه و الكلام و الرواية و الثقة

______________________________

(1) اليافعي: التاريخ: 3/ 28، طبعة 1338 ه-.

(2) ابن كثير: البداية و النهاية: 12/ 15.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 111

و العلم، ثمّ ذكر أسماء كتبه الهائلة و قال: مات (رحمه الله) ليلة الجمعة لثلاث ليال خلون من شهر رمضان سنة 413 ه-، و كان مولده يوم الحادي عشر من ذي القعدة سنة 336 ه-، و صلّي عليه الشريف المرتضي بميدان الاشنان و ضاق علي الناس مع كبره، و دفن في داره سنين، و نقل إلي مقابر قريش بالقرب من السيد أبي جعفر (عليه السلام). («1»)

و قال تلميذه الآخر الشيخ الطوسي: من أجلّة متكلّمي الإمامية، انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته، و كان مقدّماً في العلم و صناعة الكلام، و كان فقيهاً متقدماً فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، و له قريب من مائتي مصنّف كبار

و صغار، و كان يوم وفاته يوماً لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه و كثرة البكاء من المخالف و المؤالف. («2»)

«المقنعة» أثره الخالد في الفقه

لقد ترك شيخنا المفيد تراثاً فقهياً حيث انتهج منهجاً وسطاً بين الجمود علي النصوص و التوسّع في التفريعات المستمدة من القياس و الاستحسان، و كتابه المقنعة قد سبك علي هذا السبك، فليس كتابه متناً حديثياً فقهياً محضاً لا يخرج عن حيطة الروايات، و لا كتاباً تفريعياً تخريجياً يتوسّع في الاستدلال، و يحتوي كتابه علي أبواب الفقه جميعاً، و أنت إذا قارنت بين هذا الكتاب و ما ألّفه أُستاذه قبله كالمقنع للصدوق و ما نقل عن القديمين (ابن أبي عقيل و ابن الجنيد) من الفتاوي لوجدته كتاباً متوسطاً بينهما.

إنّ شيخنا المفيد بتأليفه هذا الكتاب و غيره أضفي للفقه الإمامي ثوباً

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: برقم 1068.

(2) الطوسي: الفهرست: برقم 710.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 112

جديداً، فأخرج الفقه من حصار الوقوف علي النصوص كما كان عليه الصدوقان كما حدّده بقواعد لها رصيد في الكتاب و السنّة، من دون أن يتعبّد بما لم ينزل بها من سلطان كالقياس و الاستحسان، و كأنّه تبع نهج ابن أبي عقيل الذي كان يثني عليه و يطريه ثناءً علي شخصيته و منهج فقهه، فما هو المعروف انّ المقنعة فقه منصوص فليس علي صواب.

نعم ليس هو كتاباً تفريعياً تخريجياً كالمبسوط و غيره.

و أمّا سائر مؤلّفاته الفقهية فقد ذكر أسماءها تلميذه النجاشي في «رجاله»، فلاحظ. («1»)

البصمات التي تركها المفيد علي الفقه الإمامي

1. نحل الشيخ المفيد للفقه الإمامي منهجية موضوعية بعيدة عن الجمود و التزمّت الذي كان عليه المحدّثون، و عن الأساليب التي كانت علي الخلاف من أُصول أئمّة أهل البيت كالعمل بالقياس و الاستحسان

و غيرهما، ففي هذا الجو المشحون بالتفريط و الإفراط أخذ الشيخ بزمام الفقه و نفض عنه غبار الجمود و جعله في منحي التكامل و الازدهار.

فبينما تجد أنّه كان يندّد بكل محدث لا يأبي بما أخذ و عمّن أخذ و يعمل بخبر الواحد دون اكتراث في جميع المجالات، كان يندّد أيضاً بمن حاول تبسيط الفقه وفق القياس و الاستحسان، و أثبت بذلك الهوية الفكرية و الفقهية للشيعة الإمامية و حدّد معالمها بعد ما تعرّض الفقه لمنعطفات ح- رجة كادت تقوِّض كيانه.

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: برقم 1068.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 113

و قد كان شيخنا الوالد الشيخ محمد حسين السبحاني (1299- 1392 ه-) يحكي عن أُستاذه شيخ الشريعة الاصفهاني (1266- 1339 ه-) أنّه قال: إنّ لبعض الفقهاء حقاً عظيماً في تثبيت الهوية الفكرية للشيعة في سالف الزمان، منهم: الشيخ المفيد فقد جعل الفقه ينحو منهج أهل البيت (عليهم السلام) صائناً له عن التحريف و الإضلال.

2. انّ لأكثر فقهائنا مع تثبتهم في الفقه فتاوي شاذة تخالف فتاوي مشاهير الفقهاء، و لكن شيخنا المفيد في منأي عن هذه الوصمة، فمع أنّه تتلمذ علي أيدي أهل القياس و الاستحسان، و لكنّه لم يتأثر بأفكارهم قيد أنملة، و قد أبعد القياس و الاستحسان و الاستصلاح عن فقهه.

3. يعد الشيخ المفيد أوّل من صنّف كتاباً جامعاً في أُصول الفقه مشتملًا علي جميع الأبواب، فإنّ من تقدّمه من العلماء ألّفوا رسائل خاصة في بعض موضوعات علم الأُصول و لم يصل إلينا كتاب جامع لجميع أبوابه، و من هؤلاء:

أ. هشام بن الحكم صنّف كتاب «الألفاظ».

ب. يونس بن عبد الرحمن صنّف كتاب «اختلاف الحديث».

ج. أبو سهل النوبختي صنّف كتاب «الخصوص و العموم».

د. الحسن بن موسي النوبختي

ألّف كتاب «خبر الواحد و العمل به»، و كتاب «الخصوص و العموم».

ه-. ابن الجنيد له كتاب «كشف التمويه و الالباس علي اعمال («1») الشيعة في أمر القياس».

و. أبو منصور السرام النيسابوري له كتاب في إبطال القياس.

______________________________

(1) و في نسخة: اعمار.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 114

ز. محمد بن أحمد بن داود المعروف ب- «ابن داود» له كتاب مسائل الحديثين المختلفين.

لكنّها لا تعدو أن تكون في نطاق مسائل خاصة من علم أُصول الفقه، و قد قام المفيد بتأليف كتاب جامع لمباحث علم الأُصول الدارجة في تلك الأزمنة سمّاه ب- «التذكرة بأُصول الفقه» («1»)، و قد ذكره النجاشي باسم كتاب «أُصول الفقه» و قام تلميذه الكراجكي بتلخيصه في كتابه «كنز الفوائد» المطبوع قديماً و حديثاً.

ثمّ توالي التأليف في أُصول الفقه بعد شيخنا المفيد، فألّف تلميذه المرتضي «الذريعة» في جزءين، كما ألّف تلميذه الآخر الطوسي كتاب «العدّة» و ألّف تلميذه الآخر سلّار الديلمي كتاب «التقريب في أُصول الفقه» إلي غير ذلك.

المفيد و ابتكاره للفقه المقارن

إنّ الفقيه تارةً يستعرض آراءه الشخصية أو آراء إمام نحلته و يستدل عليها دون أن يستعرض آراء فقهاء بقية النِّحَلْ و هذا هو النمط السائد في أكثر الكتب الفقهية.

و أُخري يستعرض آراءه الشخصية و آراء إمامه مع ذكر آراء فقهاء سائر النحل و ذكر حججهم و المناقشة فيها، و هذا اللون من التأليف يتوقف علي مقدرة علمية فائقة ليكون الممارس لها قادراً علي عرض الآراء و ترجيح بعضها علي بعض.

و شيخنا المفيد أوّل من فتح هذا الباب علي مصراعيه فألّف كتابه «الإعلام فيما اتفقت عليه الإمامية من الأحكام» و جعله ذيلًا لكتاب أوائل المقالات الذي

______________________________

(1) طبع في ضمن مصنفاته لاحظ الجزء 9/ 5، نشره المؤتمر العالمي بمناسبة الذكري

الألفية لوفاة الشيخ المفيد.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 115

ذكر فيه ما اتّفقت عليه الإمامية من الأُصول مع الإشارة إلي آراء المخالفين، فبالإمعان في هذين الكتابين يقف القارئ علي آراء الإمامية في الفقه و العقائد.

و قد ورث تلميذاه هذا اللون من التأليف عنه في الفقه.

فألّف السيد المرتضي «الانتصار» في ما انفردت به الإمامية مع ذكر آراء الآخرين، كما تبع الشيخ الطوسي أثر أُستاذه فألّف كتاب «الخلاف» حيث ذكر فيه آراء الفقهاء الإسلاميين و ناقشها و رجح منها المذهب المختار.

نعم تكامل ما ابتكره الشيخ المفيد علي يد تلميذه الشيخ الطوسي بتأليف كتاب «الخلاف» الذي تمتع بالدقة و العمق و الأمانة في نقل الأقوال الفقهية من مصادرها الموثوقة حتي أنّ وفداً مصرياً من الجامع الأزهر زار سيدنا المحقّق البروجردي نحو سنة 1377 ه- فأهدي السيد لهم كتاب «الخلاف» ليكون رمزاً للوحدة.

و قد أعربوا عن رأيهم و إعجابهم بالكتاب بعد مطالعته بدقة و إمعان و أذعنوا بأمانة الشيخ في نقل أقوالهم و الأُسلوب الدقيق المتبع فيه.

إنّ النهج الذي اختطه الشيخ المفيد في الفقه و الأُصول و الكلام بقي يفيض عطاءً علي يد تلاميذه و تلامذة تلاميذه، و كأنّها صارت كلمة باقية في عقبه، فقد استنار من علومه أكابر العلماء و الفضلاء عبر الزمان، و ما زالت كتبه اليوم مصدر إلهام و إشعاع تنير الدرب امام رواد العلم و المعرفة.

13. السيد المرتضي (355- 436 ه-)
اشارة

كان لمدرسة المفيد التي أسّسها في حاضرة العالم الإسلامي معطيات جمة و ثمرات يانعة، حيث أنجبت أعلاماً و أفذاذاً للأُمّة يضنُّ بهم الدهر إلّا في فترات خاصة، منهم: السيد علي بن الحسين بن محمد، الذي ينتهي نسبه إلي الإمام موسي

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 116

ابن جعفر بخمس وسائط، يعرّفه تلميذه

النجاشي بقوله:

حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه، و سمع من الحديث فأكثر، و كان متكلماً شاعراً أديباً، عظيم المنزلة في العلم و الدين و الدنيا، ثمّ ذكر أسماء كتبه و قال: إنّه مات (رض) لخمس بقين من شهر ربيع الأوّل سنة 436 ه-. و صلّي عليه ابنه في داره، و تولّيتُ غسله و معي الشريف أبو يعلي محمد بن الحسن الجعفري و سلار بن عبد العزيز.

و يقول («1») تلميذه الآخر الشيخ الطوسي: كنيته أبو القاسم، لقبه علم الهدي، الأجل المرتضي، متوحّد في علوم كثيرة، مجمع علي فضله، مقدّم في العلوم، مثل علم الكلام و الفقه و أُصول الفقه و الأدب و النحو و الشعر و معاني الشعر و اللغة و غير ذلك؛ له ديوان شعر يزيد علي عشرين ألف بيت، ثمّ ذكر أسماء تصانيفه.

إنّ نواحي فضل سيدنا المبجّل لا تنحصر بواحدة و لا انّ مآثره معدودة فإلي أي فضيلة نحوت فله فيها الموقف الأسمي، فهو إمام الفقه، و مؤسس أُصوله، و أُستاذ الكلام، و نابغة الشعر، و راوية الحديث، و بطل المناظرة، و القدوة في اللغة، و الأُسوة في العلوم العربية كلّها، و هو المرجع في تفسير كتاب اللّه العزيز، و جماع القول إنّك لا تجد فضيلة إلّا و هو ابن بجدتها. («2»)

و قد ترك سيدنا الجليل آثاراً و تآليف عديدة تصل إلي 86 كتاباً أو موسوعة أو رسالة، و إليك بعض ما ألّف في الفقه و أُصوله:

1. الذريعة في أُصول الفقه في جزءين.

2. مسائل المفردات في أُصول الفقه.

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: برقم 706.

(2) الأميني: الغدير: 4/ 264- 265.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 117

3. مسائل الخلاف في أُصول الفقه.

هذا ما ألّفه في

الأُصول؛ و أمّا في الفقه، فقد ألّف الكتب التالية:

1. إبطال القول بالعدد.

2. مسائل الخلاف في الفقه.

3. الناصرية في الفقه، و هي عبارة عن 207 مسائل استلّها الشريف المرتضي من فقه الناصر الكبير (جدّه لأُمّه) و شرحها و صحّحها، و استدل علي صحتها من الكتاب و السنّة و الإجماع.

4. الديلمية في الفقه.

5. الرد علي أصحاب العدد في شهر رمضان.

6. المصباح في الفقه. («1»)

إلي غير ذلك من المسائل التي ألّفها في جواب الأسئلة و الاستفسارات التي كانت ترد إليه من نواحي شتّي. و كفي في فضله انّ المعرّي لمّا خرج من العراق سئل عن السيد المرتضي، فقال:

يا سائلي عنه لما جئت تسأله*** ألا هو الرجل العاري من العار

لو جئته لرأيت الناس في رجل*** و الدهر في ساعة و الأرض في دار («2»)

انّ كتاب «الانتصار» من تصانيفه المعروفة، و قد ذكر في مقدّمته الداعي إلي تأليف هذا الكتاب فقال: فإنّي ممتثل ما رسمته الحضرة السامية الوزيرية

______________________________

(1) الطوسي: الفهرست: برقم 433، الغدير: 4/ 265- 266.

(2) المجلسي: بحار الأنوار: 10/ 408.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 118

العميدية («1») أدام اللّه سلطانها، و أعلي أبداً شأنها و مكانها، من بيان المسائل الفقهية التي شُنع بها علي الشيعة الإمامية، و ادّعي عليهم مخالفة الإجماع و أكثرها موافق فيه الشيعة غيرهم من العلماء و الفقهاء المتقدّمين و المتأخّرين، و ما ليس لهم فيه موافق من غيرهم فعليه من الأدلّة الواضحة و الحجج اللامعة ما يغني عن وفاق الموافق، و لا يوحش معه خلاف المخالف، و ان أُبيّن ذلك و أُفصّله و أُزيل الشبهة المعترضة فيه. («2»)

ميزات فقهه

قد تعرفت أنّ لسيدنا المرتضي تآليف عديدة في الفقه، و حيث إنّ كتاب «الانتصار» من أشهر تآليفه، فنستعرض

ميزات الكتاب، و بها يعلم ميزات فقهه.

1. قد ذكر السيد في مقدّمة كتابه: أنّ الداعي وراء تأليفه هو تشنيع المخالفين علي الشيعة بانفرادهم بمسائل تخالف الإجماع، و ذكر انّ المسائل التي صارت سبباً للتشنيع علي صنفين، فصنف انفردت بها الإمامية و ليس لهم موافق من أتباع سائر المذاهب، و صنف آخر وافق فيها بعض الفقهاء من المتقدّمين و المتأخّرين.

فالثاني لا يخالف الإجماع لوجود الموافق، و أمّا الصنف الأوّل فلا غرو فيه إذا عضده الدليل.

إنّما الشناعة علي المذهب الذي لا يعاضده الدليل و لا تؤيده الحجة.

______________________________

(1) المراد هو أبو نصر محمد بن منصور، الملقّب ب- «عميد الملك» الكندري النيسابوري، استوزره السلطان طغرل بك السلجوقي و الب أرسلان، و قتل بتفتين نظام الملك الطوسي يوم الأحد 16 ذي الحجة سنة 456 ه- كما ذكره محقّق الكتاب.

(2) الانتصار: 1.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 119

2. قد اشتمل كتاب «الانتصار» علي 334 مسألة، فالمسائل التي انفردت بها الإمامية هي 252 مسألة، و المسائل التي ظن الانفراد بها و لهم موافق في المذاهب الأُخري 82 مسألة، فيكون مجموع المسائل المبحوث عنها 334 مسألة.

3. ينقل عند استعراض المسائل آراء سائر المذاهب. («1») و بذلك أصبح كتابه فقهاً مقارناً، فهو يجمع الآراء الفقهية المختلفة لسائر المذاهب و يقيمها و يوازن بينها بالتماس أدلّتها، و ترجيح بعضها علي بعض، فهذا هو الفقه المقارن أو علم الخلاف أو علم الخلافيات، و قد كان العلم بالخلافيات معدوداً من مبادئ الاجتهاد، و عرف بأنّه علم يقتدر به علي حفظ الأحكام الفرعية المختلف فيها بين الأئمّة، أو هدمها بتقرير الحجج الشرعية و قوادح الأدلّة.

و قد تبع السيد في ذلك أُستاذه الشيخ المفيد في كتابه «الإعلام بما اتفقت عليه

الإمامية من الأحكام» و قد ألّفه الشيخ المفيد بطلب من الشريف فقال في أوّله:

أدام اللّه للسيد الشريف التأييد، و وصل له التوفيق و التسديد، فإنّي ممتثل ما رسمه من جمع ما اتفقت عليه الإمامية من الأحكام الشرعية علي الآثار المجتمعة عليها بينهم عن الأئمّة المهدية من آل محمد صلوات اللّه عليهم ممّن اتفقت العامة علي خلافهم فيه.

من جملة ما طابقهم عليه جماعتهم أو فريق منهم علي حسب اختلافهم في ذلك لاختلافهم في الآراء و المذاهب لتنضاف إلي كتاب أوائل المقالات في المذاهب المختارات، و يجتمع بهما للناظر فيهما علم خواص الأُصول و الفروع، و يحصل له منهما ما لم يسبق أحد إلي ترتيبه علي النظام في المعقول. («2»)

______________________________

(1) و قد ورد فيها من أعلام الرأي و الفقه ما يناهز 54 شخصاً. ذكره محقّق الكتاب ص 46.

(2) الاعلام بما اتفقت عليه الإمامية من الأحكام: 16.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 120

و بالمقارنة بين الكتابين يظهر انّ المفيد سلك مسلك الاقتضاب بخلاف تلميذه فقد استعرض المسائل بإسهاب.

4. يستدل السيد في بعض المسائل بالإجماع، و قال: و ممّا يجب علمه انّ حجّة الإمامية في صواب جميع ما انفردت به أو شاركت فيه غيرها من الفقهاء، هي إجماعها عليه، لأنّ إجماعها حجّة قاطعة، و دلالة موجبة للعلم، فإن انضاف إلي ذلك ظاهر كتاب اللّه تعالي أو طريقة أُخري توجب العلم و تثمر اليقين فهي فضيلة و دلالة تنضاف إلي أُخري و إلّا ففي إجماعهم كفاية. («1»)

و يظهر من الإمعان في الإجماعات التي استدل بها انّه يقول بحجّية الإجماع من باب دخول الإمام المعصوم في المجمعين، و أمّا أنّه كيف يمكن أن يستحصل العلم بدخول المعصوم في هذه المسائل الكثيرة، فهو

موكول إلي مكان آخر.

و لما كان وجود الإمام هو السبب لحجّية الإجماع و ليس للإجماع قيمة علمية إلّا كونه كاشفاً عن وجود الحجّة الشرعية بين المجمعين، فلا يري لمخالفة بعض العلماء قيمة تذكر، ففي مسألة لا تجب الزكاة إلّا في تسعة أصناف، يقول:

فإن قيل: كيف تدّعون إجماع الإمامية و ابن الجنيد يخالف في ذلك و يذهب إلي أنّ الزكاة واجبة في جميع الحبوب التي تخرجها الأرض و إن زادت علي التسعة أصناف التي ذكرتموها، و روي في ذلك أخباراً عن أئمتهم، و ذكر انّ يونس كان يذهب إلي ذلك؟

فأجاب بقوله: قد تقدّم إجماع الإمامية و تأخّر عن ابن الجنيد و يونس، و الأخبار التي تعلّق ابن الجنيد بها الواردة من طرق الشيعة الإمامية معارضة بأكثر و أقوي منها في رواياتهم المعروفة المشهورة. («2»)

______________________________

(1) الانتصار: 6.

(2) الانتصار: 77.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 121

و صرّح بما ذكرنا (عدم قدح مخالفة معلوم النسب) في عدّة من المسائل كبعض نصب الإبل، و في مسألة الفرار من الزكاة، أو عدم الشفعة مع تعدّد الشركاء.

و قال بتقدّم الإجماع علي ابن الجنيد و ابن بابويه و عدم العبرة بخلافهما لمعلومية نسبهما. («1»)

و هكذا في غير تلك المواضع:

5. قد يستمد السيد في تحقيق المسألة بالبحوث الأدبية و اللغوية و يعطي لها قسطاً وافراً، نظير:

أ. تحقيق في الاعراب بالمجاورة في آية الوضوء.

ب. تحقيق في معني المسح و الغسل.

ج. تحقيق في معني القرء.

د. تحقيق في معني النذر.

ه-. تحقيق في معني قوله تعالي: (مُكَلِّبِينَ).

و. تحقيق لغوي في معني الغبيراء، و الفقاع.

ز. تحقيق في معني الباغي. («2»)

و لا غرو في ذلك، فإنّ السيد هو اللغوي الباحث الذي يكون قوله حجّة كغيره من أعلام اللغة، و هذا ما

أذعن به الموافق و المخالف.

6. انّ السيد لا يعمل إلّا بالسنّة المتواترة أو المحفوفة بالقرائن دون أخبار الآحاد، و لكنّه يدّعي انّ أكثر ما نسمّيه خبر الواحد فهو خبر متواتر.

______________________________

(1) لاحظ الانتصار: 80 و 83 و 216.

(2) لاحظ الانتصار: 21، 22، 151، 164، 183، 198، 232.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 122

هذا كلّ ما يمكن أن يقال في ملامح فقهه إذا نظرنا إليه من منظار كتاب «الانتصار» و لا يفوتنا القول بأنّ هناك ملامح أُخر لفقهه لم نستعرضها خوفاً من الإطالة.

و قد طبع «الانتصار» طبعة جديدة بتحقيق السيد محمد رضا الخرسان في النجف الأشرف، قدّم له مقدّمة نافعة شكر اللّه مساعيه، و مع الاعتراف بذلك فالكتاب بحاجة إلي تخريج الأحاديث.

و يظهر ممّا ذكره السيد في صفحة 6 من مقدّمة الكتاب انّه ألّفه بعد سنة 420 ه-، عن عمر يتراوح بين 60 و 70 عاماً أي في أوج نضوجه العلمي.

آراؤه في غير الانتصار

و للسيد آراء في الأُصول و الفقه نشير إليها بوجه موجز:

1. يقول بجواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معني واحد، فإذا قال: لا تنكح ما نكح أبوك، يعم المعقودة و الموطوءة، و إذا قال: إن كنت محدثاً فتوضّأ يعم الحدثين.

2. يعد الاستعمال علامة للحقيقة، حتي جعل صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب و الندب.

3. يذهب إلي: أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع كما هم مكلّفون بالأُصول.

4. القضاء بأمر جديد.

5. يذهب إلي أنّ الجمل الشرطية و الغائية فاقدة للمفهوم.

6. لم يثبت حجية الاستصحاب عنده. («1»)

______________________________

(1) انظر في الوقوف علي مصادر هذه الآراء و الآراء الأُخر كتاب الذريعة في أُصول الفقه: 17، 250، 78، 116، 406- 407، 829.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 123

14. أبو الصلاح الحلبي (374- 447 ه-)

تقي الدين بن نجم الدين بن

عبيد اللّه بن عبد اللّه بن محمد الحلبي، و كنيته أبو الصلاح، علم من أعلام الطائفة، و فقيه متبحّر، قرأ علي الشيخ الطوسي، و من الأمر الطريف، أن يقوم أُستاذ بترجمة تلميذه.

قال أُستاذه الشيخ الطوسي في رجاله: تقي بن نجم الحلبي، ثقة، له كتب، قرأ علينا و علي المرتضي. («1»)

و قد أطراه غير واحد من المتأخّرين، كابن شهرآشوب في «معالمه» («2»)، و منتجب الدين في «فهرسته» («3»)، و ابن إدريس في «سرائره» («4»)، قال الأخير في مسألة من مسائل المزارعة: و ما اخترناه مذهب السيد المرتضي و خيرته في «الناصريات» في مسألة المائتين و مذهب أبي الصلاح الحلبي في كتابه «الكافي» و هو كتاب حسن فيه تحقيق مواضع، و كان هذا المصنف من أصحابنا الحلبيّين من تلامذة المرتضي.

كما أطراه أيضاً غير واحد من علماء أهل السنّة.

قال ابن حجر في «لسان الميزان»: تقي الدين عمر («5») بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن محمد الحلبي، أبو الصلاح مشهور بكنيته من علماء الإمامية ولد لسنة أربع و سبعين و ثلاثمائة و طلب و تمهّر و صنّف، و أخذ عن أبي جعفر الطوسي و غيره و رحل إلي العراق فحمل عن الشريف المرتضي، و مات سنة 447 ه-. («6»)

______________________________

(1) الطوسي: الرجال: 457، باب من لم يرو عن الأئمّة.

(2) ابن شهرآشوب: معالم العلماء: 29.

(3) منتجب الدين: الفهرست: 30 برقم 60، باب التاء.

(4) ابن إدريس: السرائر: 266، الطبعة القديمة.

(5) هو مصحف نجم.

(6) ابن حجر: لسان الميزان: 2/ 71.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 124

آثاره في الفقه

1. البداية ذكره ابن شهرآشوب في معالم العلماء.

2. الكافي في الفقه، و قد طبع و انتشر.

3. اللوامع في الفقه.

4. مختصر الفرائض الشرعية.

و له في غير الفقه

تآليف أشهرها: «تقريب المعارف» في الكلام، و تجد له ترجمة وافية في مقدمة كتاب «الكافي»، و يعرب كتابه هذا عن استقلاله في الفكر و اعتماده علي تفكيره الذاتي.

15. أبو يعلي حمزة بن عبد العزيز الديلمي (المتوفّي 448 ه-)

لقد كانت مدرسة شيخنا المفيد ذات عطاء وافر و من خرّيجيها شيخنا أبو يعلي حمزة بن عبد العزيز المعروف ب- «سلّار الديلمي».

قال العلّامة في «الخلاصة»: سلّار بن عبد العزيز الديلمي أبو يعلي (قدس سره) شيخنا المقدّم في الفقه و الأدب و غيرهما، و كان ثقة وجهاً، له: «المقنع» في المذهب، و «التقريب» في أُصول الفقه، و المراسم، و الرد علي أبي الحسين البصري في نقض الشافي، و التذكرة في حقيقة الجوهر و العرض، قرأ علي المفيد و علي السيد المرتضي قدّس سرّهما. («1»)

و عن الشيخ بهاء الدين العاملي انّ السيد المرتضي أمر سلّاراً بنقض نقض الشافي فنقضه. («2»)

______________________________

(1) ابن المطهر: الخلاصة: 86 برقم 10، طبع النجف.

(2) بحر العلوم في رجاله: 3/ 11.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 125

ألّف القاضي عبد الجبار المتوفّي (415 ه-) كتاباً في إبطال مذهب الشيعة و سمّاه الكافي، فألّف السيد المرتضي المتوفّي (436 ه-) كتاباً سمّاه الشافي في نقض الكافي.

ثمّ صنّف أبو الحسين البصري المتوفّي (436 ه-) كتاباً في نقض الشافي، فألّف سلّار كتاباً في نقض نقض الشافي بأمر من أُستاذه، و ترجمه منتجب الدين في «فهرسته» («1»)، و ابن شهرآشوب في «معالم العلماء». («2»)

مشايخه و تلامذته

تخرّج كما عرفت علي يدي الشيخ المفيد و السيد المرتضي كما نص به العلّامة في «خلاصته».

و قال الخوانساري: إنّه كان من أخص خواص سيدنا المرتضي و معتمداً علي فقهه و فهمه و جلالته عنده في الغاية، فعيّنه في جملة من عيّنه للنيابة عنه في البلاد الحلبية باعتبار مناصب

الحكام، بل ربما كان يدرّس الفقه نيابة عنه ببغداد كما حكي عن خط الشهيد، و أضاف بأنّ أبا الحسين البصري لما كتب نقض الشافي لسيدنا المرتضي أمر السيد سلّاراً بنقض نقضه فنقضه. («3»)

و ممّن تخرّج علي يده لفيف من أعلام الطائفة، نذكر جملة منهم:

1. الفقيه شمس الإسلام الحسن بن الحسين بن بابويه، ذكره الشيخ منتجب الدين في «الفهرست». («4»)

______________________________

(1) منتجب الدين: الفهرست: 84 برقم 183.

(2) ابن شهرآشوب: معالم العلماء: 135، باب الكني.

(3) الخوانساري: روضات الجنات: 2/ 371.

(4) منتجب الدين: الفهرست: 46.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 126

2. أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين النيسابوري الخزاعي شيخ الأصحاب. («1»)

3. عبد الجبار بن عبد اللّه المقري الرازي. («2»)

4. عبيد اللّه بن الحسن بن الحسين بن بابويه. («3»)

5. الشيخ أبو علي الطوسي، و هو ابن شيخ الطائفة الطوسي المتوفّي (515 ه-) فإنّه يروي عن سلّار. («4»)

6. أبو الكرم المبارك بن فاخر النحوي، قال الصفدي: كما في بغية الوعاة للسيوطي بأنّه قرأ علي المترجم له. («5»)

و قد عصفت الحوادث بآثاره، فلم يصل إلينا سوي كتاب واحد، و هو «المراسم العلوية في الأحكام النبوية» و قد اختصره المحقّق الحلّي بالتماس بعض أصحابه. («6»)

و قد طبع الكتاب عدّة مرّات أفضلها ما قام بها المجمع العالمي لأهل البيت مع مقدّمة للسيد محسن الحسيني الأميني شكر اللّه مساعيه.

16. محمد بن الحسن الطوسي (385- 460 ه-)
اشارة

يمتاز الشيخ محمد بن الحسن الطوسي عن أكثر معاصريه بأنّه كان ذا مواهب كثيرة، ففي حين أنّه محدّث كبير، و ألّف للشيعة الإمامية الجامعين

______________________________

(1) منتجب الدين: الفهرست: برقم 219.

(2) منتجب الدين: الفهرست: برقم 220.

(3) بحر العلوم: الفوائد الرجالية: 3/ 5.

(4) الحر العاملي: أمل الآمل: 2/ 127.

(5) السيوطي: بغية الوعاة: 594.

(6) رياض العلماء: 2/ 443.

أدوار

الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 127

الكبيرين «التهذيب» و «الاستبصار» فهو فقيه متضلّع في الفقه.

و لقد مرّتْ ترجمته في هذا الدور عند ذكر كبار المحدّثين الذين دوّنوا جوامع الحديث، فلا حاجة إلي تكرار ما سبق، إلّا أنّه نشير إلي شخصيته الفقهية، و كفي في حقّه انّه تتلمذ علي علمين كبيرين هما: المفيد و المرتضي، فصار علماً للفقه، و مرجعاً للشيعة علي الإطلاق بعد رحيل أُستاذه الشريف المرتضي عام 436 ه-، و صارت كتبه مرجعاً و مصدراً لروّاد العلم، حتي أضحي كتابه «النهاية» في مجرّد الفقه كتاباً دراسياً عدّة قرون.

يقول الشيخ النجاشي في حقّه: محمد بن الحسن بن علي الطوسي، أبو جعفر، جليل من أصحابنا، ثقة، عين، من تلامذة شيخنا أبي عبد اللّه، ثمّ ذكر أسماء كتبه.

و قد ترجم الشيخ نفسه في كتاب «الفهرست» و قال: محمد بن الحسن الطوسي مصنّف هذا الفهرست، له مصنّفات، ثمّ ذكر أسماء ما ألّفه بوجه مبسوط.

و قال العلّامة: شيخ الإمامية، و رئيس الطائفة، جليل القدر، عظيم المنزلة، ثقة، عين، صدوق، عارف بالأخبار و الرجال و الفقه و الأُصول و الكلام و الأدب، و جميع الفضائل تنسب إليه.

صنف في كلّ فنون الإسلام، و هو المهذّب للعقائد في الأُصول و الفروع، و الجامع لكمالات النفس في العلم و العمل. («1»)

و قد أثني عليه أعلام الفريقين عبر القرون، و يطول بنا الكلام عند ذكر إطراءاتهم، فمن أراد الوقوف علي ترجمته، فليرجع إلي مقدمة كتابيه «التبيان»

______________________________

(1) الخلاصة: 148.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 128

و «الرجال».

و قد ذاع صيته في آفاق واسعة، و علت منزلته حتي نري أنّ الخليفة القائم بأمر اللّه بن القادر باللّه، جعل للشيخ الطوسي كرسي الإفادة و البحث، و كان لكرسي الإفادة و الكلام

مقام كبير يومذاك.

و قد خدم الشيخ الطوسي علم الفقه بأساليب شتي، فتارة ألّف في الفقه علي مسلك الأخباريين و أصحاب الحديث، فجرّد النصوص عن الأسانيد و أسماه ب- «النهاية» في مجرّد الفتاوي، و كان الكتاب كتاباً دراسياً إلي زمن المحقّق الحلّي قبل تأليف الشرائع.

كما ألّف في الفقه علي مسلك المجتهدين و أسماه ب- «المبسوط» و آثر فيه طريق المجتهدين، و قال في مقدمته: إنّه كتاب لم يصنف مثله، و لا نظير له بين كتب الأصحاب، و لا في كتب المخالفين، إلي أن قال:

إنّ أصحابنا ألفوا الأخبار و ما رووه من صريح الألفاظ، حتي أنّ مسألة لو غيّر لفظها و عبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم، تعجبوا منها، و قصر فهمهم عنها. («1»)

كما انّه خدم الفقه بتأليف كتاب علي نمط ثالث، و هو العلم بالمسائل الخلافية، فكتابه «الخلاف» يعد فقهاً مقارناً يوقف القارئ علي آراء فقهاء مختلف النحل، و هو ليس ممّن يجمع الآراء المختلفة في المسائل الفقهية دون إجراء موازنة بينها، بل يذكر الآراء و يقوّمها و يوازنها بترجيح ما اختاره علي غيره من الآراء.

و قد ألّف في مضمار الفقه كتباً و رسائل كثيرة ذكرت أسماؤها في ترجمته، و لا نطيل بها الكلام، و إنّما نلفت نظر القارئ الكريم إلي نكتة مهمة و هي: انّ الشيخ

______________________________

(1) المبسوط: 1/ 2.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 129

ألّف «تهذيب الأحكام» شرحاً لكتاب «المقنعة» في حال حياة أُستاذه، و لم يتجاوز عمره 27 سنة، و لكنّه عند ما يستدل علي المسألة يستدل كأنّه فقيه متبحّر أفني قسماً كبيراً من عمره في دراسة الفقه.

يقول سيد مشايخنا المحقّق البروجردي: و أنت إذا نظرت إلي كلماته في الكتابين (الطهارة و الصلاة) و

ما جادل به المخالفين في المسائل الخلافية، كمسألة مسح الرجلين، و ما أفاده في مقام الجمع بين الأخبار و اختياراته في المسائل، و ما يستند فيه إليها، و ما يورده من الأخبار في كلّ مسألة، تخيّلته من أبناء السبعين و أنّه صرف عمره الطويل في تحصيل العلوم الأدبية و الأُصولين و القراءات و التفسير و مسائل الخلاف و الوفاق، و طاف البلاد في طلب أحاديث الفريقين و ما يتعلّق بها من الجرح و التعديل، حتّي صارت له قدم راسخة في جميع العلوم الدينية، و لو قيل لك إنّه كان شاباً حدثاً من أبناء أربع أو ثمان و عشرين لأنكرت ذلك و قلت انّ هذا لشي ء عجاب. («1»)

آثاره الأُصولية و الرجالية

إنّ الاجتهاد المنهجي يعتمد علي قواعد أُصولية تمهّد للمجتهد طريق الاستنباط، و ليس لمن يريد وضع الحلول للتفريعات إلّا دراسة تلك القواعد بدقة و إمعان، فلولاها لما قام للفقه عمود و لا اخضرَّ له عود، فالمستنبط يعتمد في استنباطه علي الإجماع و خبر الواحد، فلولا إثبات حجيتهما في علم آخر لما صحّ له الاستناد إليها، كما انّه يفتي بالإجزاء عند امتثال الأوامر الواقعية الأوّلية أو الثانوية أو الظاهرية، فلولا إثبات الإجزاء في علم آخر لعرقلت خطاه في الفقه، و هكذا في سائر المسائل الفقهية.

______________________________

(1) الخلاف: مقدّمة السيد المحقّق البروجردي، ص 2، الطبعة الأُولي.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 130

و قد خدم الشيخ الفقه بتأليف كتاب ثالث أوسع ممّا ألّفه أُستاذاه المفيد و المرتضي، فقد ألّف كتاب «العدّة» و هو كتاب مبسوط حاو لجميع المسائل الأُصولية، و فيه بعض المسائل الكلامية التي كانت تدرس في الأُصول، و يظهر إخلاص الشيخ في منهجه العلمي بأنّه ما ترك باباً إلّا و طرقه،

و لا ثغراً إلّا و سدّه.

و قد كان لأصحابنا مؤلّفات كثيرة متعدّدة في الرجال و لكنّها دون المستوي المطلوب فأخذ الشيخ بزمام المبادرة و ألّف كتباً رجالية مختلفة منها:

1. الرجال: ألّف هذا الكتاب بصورة الطبقات، فذكر أصحاب النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، ثمّ أصحاب كلّ واحد من الأئمّة علي حسب الحروف الهجائية، و هو أحد الأُصول الأربعة الرجالية المعتمد عليها عند علمائنا يتضمن زهاء ثمانية آلاف و تسعمائة اسم، و الغرض من وراء هذا التأليف تمييز طبقاتهم لا تمييز الممدوح من المذموم، و لو وثّق بعضهم في خلال ترجمته فإنّما كان استطراديّاً.

2. اختيار الرجال: و هو تلخيص رجال الكشي الموسوم بمعرفة الناقلين عن الأئمّة الصادقين. فقد عمد الشيخ الطوسي إلي تهذيبه و تجريده من الزيادات و الأغلاط و أملاه علي تلاميذه في المشهد الغروي، و كان بدء إملائه يوم الثلاثاء 26 من صفر سنة 456 ه-، كما حكاه السيد رضي الدين علي بن طاوس في «فرج المهموم» عن نسخة خط الشيخ.

3. الفهرست: ذكر فيه أصحاب الكتب و الأُصول و أنهي إليهم و إليها أسانيده عن مشايخه، و هو يحتوي علي ما يقارب التسعمائة اسم من أسماء المصنّفين، و هو من الآثار الثمينة الخالدة.

و قد ألّف «الفهرست» بعد تأليفه لكتاب الرجال، و يشهد عليه أنّه ذكر كتاب «الرجال» في فهرسته. («1»)

______________________________

(1) الفهرست: برقم 713.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 131

كان الشيخ الطوسي فيّاضاً في العلم، سبّاقاً في حلبة البحث، فلم يقتصر علي التأليف و التدريس في الفقه و أُصوله و رجاله، بل ألّف أيضاً كتاب «التبيان» في التفسير، و هو كتاب جامع لعلوم القرآن، يصدر عنه شيخنا الطبرسي في «مجمع البيان» و يغترف منه.

كان

درس الشيخ يعجّ بعلماء كلا الفريقين، و لكن في عام 448 ه- تعرضت بغداد لأزمات شديدة رافقتها فتن طائفية، و لم ينج الشيخ الطوسي من شرارتها، فلم يجد بدّاً من مغادرة بغداد إلي النجف الأشرف.

لم يكن إحراق مكتبة الشيخ و كرسيّه و نهب داره أمراً سهلًا، فقد ترك مضاعفات خطيرة أدناها تشتّت أصحابه في الأمصار الإسلامية؛ فهاجر سلّار إلي إيران، و توفي في قرية «خسرو شاه» من اعمال تبريز، و له هناك مزار؛ كما هاجر النجاشي إلي «مطيرآباد» من اعمال سامراء؛ و هاجر لفيف مع الشيخ إلي النجف الأشرف. و توفّي الشيخ في مهجره في محرم عام 460 ه-، و قبره هناك مزار يقصده الخاص و العام و هو في المسجد الذي سمّي باسمه.

لقد بلغ الشيخ الذروة في مختلف العلوم الإسلامية اعترف بفضله القريب و البعيد حتي اتخذت كتبه مصدراً للفتيا قرابة قرن واحد، و ما هذا إلّا لغزارة علمه و تألّق نجمه في حياته و بعد مماته.

خصائص فقه الشيخ الطوسي

1. اتبع الشيخ الطوسي في فتاواه و تآليفه الفقهية نهج أُستاذيه المفيد و المرتضي، و قد أُتيحت له فرصة الوقوف علي الكتب الفقهية أكثر ممّا وقف عليه أُستاذاه، فأحاط بآراء المذاهب الأُخري إحاطة تامة لا نجد مثيلها في كتب المفيد و المرتضي.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 132

2. بلغ التفريع و التخريج علي يده القمة، فما ترك فرعاً إلّا خاضه و يعد كتابه «المبسوط» خير شاهد علي ذلك، و قد مضي علي تأليفه قرابة عشرة قرون و مع ذلك لم يؤلّف كتاب مثله، و الكتاب مع كونه يحتوي علي دورة فقهية كاملة، لكنّه سلس الألفاظ، سهل التناول، موجز في النقل، مختصر في الاستدلال، علي خلاف ما نراه في

كتابي «التذكرة» و «المنتهي» فإنّهما في غاية البسط خصوصاً الأخير.

3. استخرج قواعد عقلية و اعتمد عليها في مقام التفريع، و بذلك ردّ علي خصوم الشيعة وصمة العار التي ألصقوها بهم، قال في أوّل «المبسوط»:

«إنّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهة و المنتسبين إلي علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الإمامية، و يستنزرونه، و ينسبونهم إلي قلّة الفروع و قلّة المسائل، و يقولون: إنّهم أهل حشو و مناقضة، و إنّ من ينفي القياس و الاجتهاد لا طريق له إلي كثرة المسائل و لا التفريع علي الأُصول، لأنّ جل ذلك و جمهوره مأخوذ من هذين الطريقين؛ و هذا جهل منهم بمذهبنا، و قلّة تأمل لأُصولنا، و لو نظروا في أخبارنا و فقهنا لعلموا أنّ جلّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا و منصوص عليه تلويحاً عن أئمتنا الذين قولهم في الحجة يجري مجري قول النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) إمّا خصوصاً، أو عموماً، أو تصريحاً، أو تلويحاً.

و أمّا ما كثّروا به كتبهم من مسائل الفروع، فلا فرع من ذلك إلّا و له مدخل في أُصولنا و مخرج علي مذهبنا لا علي وجه القياس، بل علي طريقة يوجب علماً و يجب العمل عليها و يسوغ الوصول إليها من البناء علي الأصل، و براءة الذمة، و غير ذلك مع أنّ أكثر الفروع لها مدخل فيما نص عليه أصحابنا، و إنّما كثر عددها عند الفقهاء لتركيبهم المسائل بعضها علي بعض و تعليقها و التدقيق فيها، حتي أنّ كثيراً من المسائل الواضحة دق لضرب من الصناعة و إن كانت المسألة معلومة واضحة».

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 133

إنّ الشيخ الطوسي كان يعمل بخبر الواحد تحت شروط خاصّة، و

قد أعرب عن رأيه في كتاب «العدّة» و بذلك خالف أُستاذيه المفيد و المرتضي، و قال بحجية الإجماع كأُستاذيه، و يظهر انّ الإجماع عنده حجّة لكشفه عن قول المعصوم فقط، و له آراء خاصة في الأُصول يظهر ذلك لمن راجع كتاب «العدّة».

ميزات هذا الدور

قد مرّ آنفاً انّ هذا الدور ابتدأ من عام 260 إلي 460 ه- أي قرابة مائتي سنة، و هذا الدور من الفقه من أخصب الأدوار عطاءً في تاريخ المذهب الإمامي، و المهم هو تناول الميزات التي تمتع بها هذا الدور:

مرّ الفكر الشيعي بأزمات حادة خصوصاً بعد غيبة الإمام الثاني عشر عجّل اللّه فرجه الشريف، فقد انتهز مخالفوه الفرصة للانقضاض عليه ببث الشبهات في الإمامة، و قد أوجدت تلك الشبهات أصداءً واسعة في الأجواء الشيعية حتي كادت تؤثر، لو لا قيام أفذاذ من العلماء في تلك الحقبة، و في طليعتهم: الصدوق و المفيد و المرتضي و الطوسي، بأخذ زمام الأُمور و تثبيت الهوية الفكرية للشيعة في مختلف المجالات من خلال القيام بأُمور:

1. كبح جماح الانتهازيين الذين ادّعوا النيابة الخاصة للإمام الثاني عشر امام النواب الأربعة الذين كانت لهم النيابة الخاصة، فحفظوا الشيعة من الانخراط في صفوفهم.

2. الرد علي المشكّكين و أصحاب المقالات الضالّة في أمر الإمامة و الغيبة إذ أنكروا إمكان الغيبة، و أنكروا إمكان حياة الإمام فترة طويلة.

3. تثبيت الهوية الفكرية العقائدية للشيعة حيث خلّصوا العقائد من

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 134

رواسب الروايات الضعيفة و سبكوها بسبكة علمية فكرية بعيداً عن الغلو و التقصير، و قد عقدوا أندية فكرية للمناظرة مع أصحاب المقالات، كالزيدية و الإسماعيلية و الواقفة، الذين كانوا علي نهج الإمامة ثمّ انحرفوا، كما عقدوا أندية مناظرات مع غيرهم من المذاهب.

4.

تأليف جوامع فقهية و غربلة الأحاديث، لتمييز الصحيح منها من السقيم.

5. إقامة الصلة بين الحوزات الشيعية التي أُنشِئت آنذاك في بغداد و قم و خراسان، و التي ازدهرت في هذا الدور، و إليك لمحة خاطفة عنها:

المراكز الفقهية التي ازدهرت في هذا الدور

إنّ أهم المراكز الفقهية للشيعة في هذا الدور عبارة عن:

1. جامعة الكوفة و جامعها الكبير.

2. جامعة قم.

3. جامعة بغداد.

ارتحل الإمام الحادي عشر الإمام العسكري (عليه السلام) عام 260 ه-، و قد اتخذ خلفاء بني العباس لا سيما عصر المأمون سياسة الحذر و الحيطة حيال الأئمّة، لئلّا يثيروا حفيظة شيعتهم فاستقدموهم من المدينة المنوّرة إلي العراق بغية الإشراف علي نشاطاتهم و تحركاتهم السياسية، هذا و غيره صار سبباً لتقلص نشاط مدرسة الحديث و الفقه للشيعة في المدينة المنوّرة، و قد ازدهرت جامعة بغداد في الدور الثاني بفضل علماء الشيعة و فقهائهم بعد أن دبَّ الضعف في كيان الدولة العباسية

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 135

و أخذ آل بويه بزمام الأُمور في أكثر مناطق العراق لا سيما بغداد حاضرة العالم الإسلامي يومذاك، و قد تألّق نجمها علي يد نابغة العراق الشيخ المفيد (336- 413 ه-) و السيد المرتضي علم الهدي (355- 436 ه-) و الشريف الرضي (359- 406 ه-).

و لما توفّي السيد المرتضي آلت زعامة حوزة بغداد إلي الشيخ الطوسي و دام هذا الأمر إلي أن ضعفت و اضمحلّت سلطة البويهيين و دخل طغرل بك الحاكم التركي بغداد، و أشعل نار الفتنة فيها بين الطائفتين، و أحرق دوراً في الكرخ، و لم يقتصر علي ذلك بل قصد دار الشيخ و أخذ ما وجد فيها من دفاتر و كتب و أحرقها، و أحرق كرسي الكلام، عندها هاجر إلي النجف الأشرف فأسّس حوزة علمية

فيها تقاطر إليها الفقهاء و رواد العلم من كلّ صوب و حدب و اكتظت بهم، فصارت جامعة النجف الأشرف بديلًا عن جامعة بغداد.

4. مدرسة النجف الأشرف

إنّ هذه الحادثة المؤلمة التي أدّت إلي ضياع التراث الفقهي الشيعي و قتل الأبرياء، دفعت بالشيخ إلي مغادرة بغداد و اللجوء إلي النجف الأشرف و تأسيس مدرسة علمية شيعية في جوار قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، و شاء اللّه تبارك و تعالي أن تكون هذه المدرسة مشعلًا منيراً لروّاد العلم علي مر العصور.

المعروف أنّ الشيخ هو المؤسس لتلك الجامعة العلمية المباركة، و هذا أظهر من الشمس في رائعة النهار، بيد أنّه يظهر من النجاشي و غيره أنّ الشيخ ورد عليها و كان النشاط العلمي يدبُّ فيها يومذاك حيث يقول في ترجمة الحسين بن أحمد بن المغيرة: له كتاب «عمل السلطان». أجازنا بروايته أبو عبد اللّه بن الخمري الشيخ

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 136

صالح في مشهد مولانا أمير المؤمنين سنة 400 ه- عنه. («1»)

و لقد استغل الشيخ تلك الأرضية العلمية، و أعانه علي ذلك الهجرة العلمية الواسعة التي شملت معظم الأقطار الشيعية، فتقاطرت الوفود إليها، من كلّ فج، فصارت حوزة علمية و كلية جامعة في جوار النبأ العظيم علي أمير المؤمنين منذ عصر تأسيسها عام 448 ه- إلي يومنا هذا، و قد مضي علي عمرها قرابة 1000 سنة، و هي بحق شجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها.

إنّ لجامعة النجف الأشرف حقاً كبيراً علي الإسلام و المسلمين عبر القرون، فمن أراد الوقوف علي تاريخها و البيوتات العلمية التي أنجبتها، فعليه الرجوع إلي كتاب «ماضي النجف و حاضرها» في ثلاثة أجزاء، كما أنّه قد قام

الشيخ هادي الأميني بتخريج أسماء لفيف من العلماء الذين تخرّجوا من تلك المدرسة الكبري.

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 1/ 190، برقم 163.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 137

أدوار الفقه الإمامي

3

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 139

الدور الثالث عصر الركود (460- 600 ه-) («1»)

اشارة

خدم شيخ الطائفة الفقه الشيعي خدمة جليلة عظيمة، فلم يترك موضعاً إلّا ولجه، و لا ثغراً إلّا سدّه، و لا حاجة إلّا رفعها، فبزغ نجمه في شتي المجالات الفكرية، ففي مجال الحديث له الحظ الوافر و القدح المعلّي، و يشهد علي ذلك جامعاه «التهذيب» و «الاستبصار».

و أشاد أُسس الأُصول بتأليفه القيم «العدّة» كما بلغ الذروة في تأليف الفقه بألوان شتّي، فألّف «النهاية» في مجرد الفتاوي، و «الخلاف» في علم الخلافيات، و «المبسوط» في التفريعات، و سدّ الفراغ في التفسير بتأليفه كتاب «التبيان في تفسير القرآن» في عشرة أجزاء، و ترك ميراثاً رجالياً ضخماً بتآليفه الثلاثة، أعني:

______________________________

(1) استمر الركود إلي عصر الفقيه المجدّد المعروف بابن إدريس (542- 598 ه-) الذي نفض غبار الركود عن كاهل الفقه بتأليفه الرائع المسمّي بالسرائر، الذي فرغ من تأليف كتاب الميراث منه سنة 588 ه-، و علي ضوء ذلك ينتهي الدور الثالث بظهور أفكار الفقيه المجدد إلي الساحة الفكرية، و لمّا كان ما بذله من الجهود و ما طرحه من أفكار تعد أُولي الخطوات لدخول الفقه مرحلة جديدة فلا يكون لها تأثير ملموس إلّا بمرور زمان تستقطب فيها أفكار العلماء و تقع تحت شريحة النقد، فآثرنا تحديد نهاية الدور الثالث بتمامية القرن السادس، فيكون تحديد نهاية الدور السابق و بداية الدور اللاحق تحديداً تقريبياً.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 140

الرجال، و الفهرست، و تلخيص الكشي (اختيار معرفة الرجال)، إلي غير ذلك من مصنّفاته.

و قد استأثر الشيخ بعواطف تلاميذه و معاصريه،

و استطاع أن يحتل في قلوبهم مكانة رفيعة أهالت عليه حالة من القداسة، جعلت مخالفته، و نقاش آرائه إهانة لشخصيته الفذة.

نعم كان ذلك هو الطابَع العام السائد، و إن وجد هناك من ناقش آراءه و خالفها، و لكن كانوا نزراً يسيراً.

و هذا هو الشيخ سديد الدين محمود الحمصي من علماء القرن السادس يصف تلك الفترة من الركود قائلًا: بأنّه لم يبق للإمامية مفت علي التحقيق بل كلّهم حاك.

و قال السيد ابن طاوس (المتوفّي 664 ه-) بعد نقل كلام الحمصي: فقد ظهر لي انّ الذي يفتي به و يجاب علي سبيل ما حفظ من كلام العلماء المتقدّمين.

و يقول الشهيد الثاني زين الدين الجبعي العاملي (911- 966 ه-) في كتابه «الرعاية» الذي ألّفه في دراية الحديث ما هذا لفظه: إنّ أكثر الفقهاء الذين نشئوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوي تقليداً له، لكثرة اعتقادهم فيه، و حسن ظنّهم به، فلمّا جاء المتأخرون وجدوا أحكاماً مشهورة قد عمل بها الشيخ و متابعوه، فحسبوها شهرة بين العلماء، و ما دروا انّ مرجعها إلي الشيخ، و انّ الشهرة إنّما حصلت بمتابعته. ثمّ ذكر كلام الحمصي و السيد ابن طاوس. («1»)

يقول المحقّق التستري: و لعلّ الحكمة الإلهية فيما اتّفق للشيخ تجرّده للاشتغال بما تفرّد به من تأسيس العلوم الشرعية و لا سيما المسائل الفقهية، فإنّ

______________________________

(1) مقدّمة معالم الدين: 408، مبحث الإجماع؛ روضات الجنات: 7/ 161.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 141

كتبه فيها هي المرجع لمن بعده غالباً، حتي أنّ كثيراً ما يذكر مثل المحقّق أو العلّامة أو غيرهما فتاوي الشيخ من دون نسبتها إليه، ثمّ يذكرون ما يقتضي التردّد أو المخالفة فيها، فيتوهّم التنافي بين الكلامين مع أنّ الوجه فيهما ما قلناه

جزاه اللّه و إيّاهم عنّا خير الجزاء. («1»)

و الذي يدفعنا إلي اتّهام الفترة بالركود هو ما نجده في الكتب المؤلّفة في الدور الرابع من الشكوي من وصف فقهاء هذه الفترة بالمقلدة تارة و بالمتفقّهة أُخري:

يقول ابن إدريس في مقدّمة السرائر: إنّي لمّا رأيت زهد أهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية و الأحكام الإسلامية، و تثاقلهم طلبها، و عداوتهم لما يجهلون، و تضييعهم لما يعلمون، و رأيت ذا السن من أهل دهرنا هذا، لغلبة الغباوة عليه، و ملكة الجهل لقياده، مضيِّعاً لما استودعته الأيام، مقصِّراً في البحث عمّا يجب عليه علمه، حتي كأنّه ابن يومه و نتيج ساعته … و رأيت العلم عنانه في يد الامتهان، و ميدانه قد عطل من الرهان، تداركت منه الذماء الباقي، و تلافيت نفساً بلغت التراقي. («2»)

ثمّ يقول: فإنّ الحقّ لا يعدو أربعة طرق؛ إمّا كتاب اللّه سبحانه، أو سنّة رسوله (صلي الله عليه و آله و سلم) المتواترة المتفق عليها، أو الإجماع، أو دليل العقل. فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة، التمسّكُ بدليل العقل فيها، فإنّها مبقاة عليه و موكولة إليه، فمن هذا الطريق يوصل إلي العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه فيجب الاعتماد عليها و التمسّك بها، فمن تنكَّب عنها عسف، و خبط خبط عشواء، و فارق قوله من المذهب.

______________________________

(1) التستري: مقابس الأنوار: 5.

(2) السرائر: 41، المقدمة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 142

ثمّ قال في آخر مقدّمته: فعلي الأدلّة المتقدمة أعمل، و بها آخذ و أُفتي و أدين اللّه تعالي، و لا ألتفت إلي سواد مسطور، و قول بعيد عن الحقّ مهجور، و لا أقلّد إلّا الدليل الواضح و

البرهان اللائح، و لا أُعرِّج إلي أخبار الآحاد، فهل هدم الإسلام إلّا هي، و هذه المقدّمة أيضاً من جملة بواعثي علي وضع كتابي هذا. («1»)

ثمّ إنّه يظهر من غير موضع من كتاب «السرائر» انّه عند ما يفتي علي خلاف ما كان عليه فقهاء عصره المنتمون إلي الشيخ كان يتربص اتهامه بمخالفته للرأي العام في مسألة نزح ماء البئر، قال: فما يوجب نزح الجميع أو المراوحة، عشرة أشياء علي هذه الطريقة، و عدّ منها كلّ نجاسة لم يرد في مقدار النزح منها نص، و منها الكافر، فهذا التحرير علي هذه الطريقة صحيح. («2»)

ففي مسألة تحديد مقدار الواجب من النزح إذا مات في البئر كافر، يري ابن إدريس أنّ الواجب نزح جميع ما في البئر، بدليل أنّ الكافر إذا باشر ماء البئر و هو حي وجب نزحها جميعاً اتفاقاً، فوجوب نزح الجميع إذا مات فيها أولي. («3»)

و حينما أضفي علي هذا الاستدلال طابع العقل و خالف فيها الرأي السائد أعقب عليه بقوله: و كأنّي بمن يسمع هذا الكلام ينفر منه و يستبعده، و يقول: من قال هذا؟! و من سطره في كتابه؟! و من أشار من أهل هذا الفن الذين هم القدوة في هذا إليه؟ ثمّ أشار إلي دليل المسألة. («4»)

فقهاء الدور الثالث

اشارة

و قد اتسمت هذه الفترة بالركود، و لكن أنجبت في أحضانها فقهاء كباراً،

______________________________

(1) السرائر: 51، المقدمة.

(2) السرائر: 1/ 71- 73.

(3) السرائر: 1/ 71- 73.

(4) السرائر: 1/ 71- 73.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 143

نشير إلي أسماء بعضهم أداءً للحق الذي لهم علينا:

1. ابن البراج الطرابلسي (400- 481 ه-)

الشيخ سعد الدين أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير الشهير ب- «ابن البراج» الطرابلسي، فقيه عصره، و قاضي زمانه، و خليفة الشيخ الطوسي في الشامات، و قد أطراه منتجب الدين في «فهرسته» («1»)، و ابن شهرآشوب في «معالمه» («2»)، و العلّامة الحلّي في إجازته لبني زهرة («3»)، إلي غير ذلك ممّن ترجم له ترجمة وافية. و قصاري الكلام انّه كان زميلًا للشيخ من جهة و تلميذاً له من جهة أُخري، و بما انّهما قرءا علي المرتضي و جلسا مجلساً واحداً، فهما زميلان، و في الوقت نفسه حضر مجلس الشيخ الطوسي أيضاً حتي أنّ الشيخ الطوسي ألّف بعض كتبه باستدعاء منه.

قال التستري: هو من غلمان المرتضي، و كان خصيصاً بالشيخ، و تلمذ عليه، و صار خليفته في البلاد الشامية، و روي عنه و عن الحلبي. («4»)

و قال المحدّث النوري بعد إطرائه: تلميذ علم الهدي و شيخ الطائفة، و كان يجري السيد عليه في كلّ شهر ثمانية دنانير، و هو مؤلّف «المهذب» و «الكامل» و «الجواهر» و «شرح الجمل». («5»)

و مع أنّ العصر الذي أعقب الشيخ قد اتّسم بالركود، لكنا نجد انّه خرج علي آراء شيخه الطوسي، فقد يذكر مناظرته في مسائل فقهية في كتاب «المهذب».

______________________________

(1) منتجب الدين: الفهرست: 107 برقم 218.

(2) ابن شهرآشوب: معالم العلماء: 80.

(3) البحار: 105/ 265.

(4) التستري: مقابس الأنوار: 7.

(5) المستدرك: 3/ 481.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 144

قال: و كان الشيخ أبو

جعفر الطوسي (رحمه الله) قال لي يوماً في الدرس: هذا الماء («1») يجوز استعماله في الطهارة و إزالة النجاسة.

فقلت له: و لم أجزت ذلك مع تساويهما؟

فقال: إنّما أجزت ذلك، لأنّ الأصل الإباحة.

فقلت له: الأصل و إن كان هو الإباحة، فأنت تعلم أنّ المكلّف مأخوذ بأن لا يرفع الحدث و لا يزيل النجاسة عن بدنه أو ثوبه إلّا بالماء المطلق، فتقول أنت بأنّ هذا الماء مطلق؟!

فقال: أ فتقول أنت بأنّه غير مطلق؟

فقلت له: أنت تعلم أنّ الواجب أن تجيبني عمّا سألتك عنه قبل أن تسألني ب- «لا» أو «نعم» ثمّ تسألني عمّا أردت، ثمّ إنّني أقول بأنّه غير مطلق.

فقال: أ لست تقول فيهما إذا اختلطا و كان الأغلب و الأكثر المطلق، فهما مع التساوي كذلك؟

فقلت له: إنّما أقول بأنّه مطلق إذا كان المطلق هو الأكثر و الأغلب، لأنّ ما ليس بمطلق لم يؤثر في إطلاق اسم الماء عليه، و مع التساوي قد أثّر في إطلاق هذا الاسم عليه، فلا أقول فيه بأنّه مطلق، و لهذا لم تقل أنت بأنّه مطلق، و قلت فيه بذلك إذا كان المطلق هو الأكثر و الأغلب، ثمّ إنّ دليل الاحتياط تناول ما ذكرته، فعاد إلي الدرس و لم يذكر في ذلك شيئاً. («2»)

و له مناظرة أُخري مع شيخه الطوسي ذكرها في «المهذّب». («3»)

______________________________

(1) اختلط المضاف بالماء المطلق، و كانا متساويين في المقدار.

(2) المهذب: 1/ 24- 25، كتاب الطهارة.

(3) المهذب: 2/ 419 و 420، كتاب الكفارات.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 145

نعم انّ شيخنا ابن البراج أدرك كلتا الدورتين، فبات مستقلًا في التفكير مناظراً مع الأبطال.

و قد ترجمناه في تقديمنا لكتابه المهذب، فمن أراد التبسط فليرجع إليه.

2. أبو علي الطوسي (المتوفّي نحو 515 ه-)

هو الشيخ الجليل أبو علي بن

شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المجاز عن والده في سنة 455 ه-.

قرأ علي أبيه جميع تصانيفه، و روي عنه، و عن سلّار بن عبد العزيز الديلمي و غيره، و كان من كبار العلماء، فقيهاً، محدّثاً، راوية للأخبار، و أثني عليه ابن حجر و قال:

الحسن بن محمد بن الحسن بن علي الطوسي، أبو علي سمع من والده و أبي الطيب الطبري و الخلّال و التنوخي، ثمّ صار فقيه الشيعة و إمامهم بمشهد علي (رض). سمع منه: أبو الفضل بن عطاف، وهبة اللّه السقطي، و محمد بن محمد النسفي، و هو في نفسه صدوق مات في حدود 500 ه- كان متديناً. («1»)

و لكن الظاهر انّه كان حيّاً عام 515 ه- كما حُكي عن مواضع من «بشارة المصطفي» لتلميذه العماد الطبري.

و له ترجمة ضافية في «أعيان الشيعة».

و من آثاره الفقهية:

1. شرح النهاية لأبيه أبي جعفر.

______________________________

(1) لسان الميزان: ج 2 الترجمة 1046.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 146

2. المرشد إلي سبيل التعبّد.

3. رسالة في الجمعة.

4. كتاب الأنوار. («1»)

3. الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي (471- 548 ه-)

الشيخ الإمام أمين الدين أبو علي الطبرسي، ثقة، فاضل، دين، عين، له تصانيف، منها: «مجمع البيان» في تفسير القرآن في عشرة أجزاء، «الوسيط» في التفسير في أربعة أجزاء، «الوجيز» في التفسير أيضاً، «إعلام الوري بأعلام الهدي»، إلي غير ذلك من الآثار ذكرها منتجب الدين قال: شاهدته و قرأت بعضها عليه، يروي عن الشيخ أبي الوفاء المقري الرازي، و عن الشيخ أبي علي الطوسي، و الشيخ حسكا جد منتجب الدين، إلي غير ذلك من الأسانيد. («2»)

و أودُّ أن أنقل ما ذكره الذهبي الحاقد علي الشيعة في حق الطبرسي إذ يقول: و الحقّ انّ تفسير الطبرسي، بصرف النظر عمّا فيه من

نزعات تشيعية، و آراء اعتزالية، كتاب عظيم في بابه، يدل علي تبحّر صاحبه في فنون مختلفة من العلم و المعرفة، و الكتاب يجري علي الطريقة التي أوضحها لنا صاحبه في تناسق تام، و ترتيب جميل، و هو يجيد في كل ناحية من النواحي التي يتكلّم عنها، فإذا تكلّم عن القراءات و وجوهها أجاد، و إذا تكلم عن المعاني اللغوية للمفردات أجاد، و إذا تكلّم عن أسباب النزول و شرح القصص استعرض الأقوال و أفاض، و إذا تكلّم عن الأحكام، تعرض لمذاهب الفقهاء و جهر بمذهبه و نصره إن كانت هناك مخالفة

______________________________

(1) لاحظ أعيان الشيعة: 5/ 246.

(2) انظر ترجمته في روضات الجنات: 5/ 357، أعيان الشيعة: 8/ 398، طبقات أعلام الشيعة؛ مستدرك الوسائل: 3/ 387، الذريعة: 20/ 24، و قد ترجم له في مقدمة تفسير «مجمع البيان».

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 147

منه للفقهاء، و إذا ربط بين الآيات آخي بين الجمل، و أوضح لنا عن حسن السبك و جمال النظم، و إذا عرض لمشكلات القرآن أذهب الإشكال و أراح البال، و هو ينقل أقوال من تقدّمه من المفسّرين معزوة لأصحابها و يرجح و يوجه ما يختار منها … إلي أن قال: و الحقّ أن يقال انّه ليس مغالياً في تشيّعه، و لا متطرّفاً في عقيدته. («1»)

ثمّ إنّ لشيخنا الطبرسي آراء فقهية ذكرها في ذيل آيات الأحكام، فمن حاول أن يطّلع علي آرائه الفقهية، فليرجع إلي الآيات التي تضمّنت أحكاماً شرعية.

و له في الرضاع و غيره آراء خاصة مذكورة في الكتب الفقهية.

4. قطب الدين الراوندي (المتوفّي 573 ه-)

سعيد بن هبة اللّه بن الحسن الراوندي مؤلف «فقه القرآن، في بيان آيات الأحكام» و ربما يسمّي بأُمّ القرآن، و الكتاب مرتب علي ترتيب كتب

الفقه، ابتدأ فيه بكتاب الطهارة، ثمّ الصلاة، و هكذا إلي كتاب الديات، فرغ منه سنة 563 ه-، و له كتاب «أسباب النزول».

قرأ علي: شيخنا أبي علي الطبرسي المفسّر، و عماد الدين الطبري، و الأخوين المرتضي و المجتبي ابني الداعي القاسم الرازي، و أبي السعادات هبة اللّه بن علي الشجري، و غيرهم. («2»)

______________________________

(1) التفسير و المفسرون للذهبي: 2/ 104.

(2) انظر ترجمته في روضات الجنات: 4/ 5 برقم 314، و مستدرك الوسائل: 3/ 448، طبقات أعلام الشيعة: 3/ 124، معالم العلماء برقم 368، الذريعة: 7/ 145 برقم 802.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 148

5. جمال الدين أبو الفتوح الرازي المتوفّي (نحو 550 ه-)

هو الشيخ الجليل قدوة المفسّرين، ترجمان كلام اللّه، جمال الدين أبو الفتوح الحسين بن علي بن محمد بن أحمد بن الحسين بن أحمد الخزاعي الرازي يصل نسبه إلي نافع بن هذيل بن ورقاء الخزاعي من صحابة الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم).

يعرّفه تلميذه الشيخ منتجب الدين في «فهرسته» بقوله: الشيخ الإمام جمال الدين أبو الفتوح الحسين بن علي بن محمد الخزاعي، عالم، واعظ، مفسّر، دين، له تصانيف منها التفسير المسمي «روض الجنان و روح الجنان» في تفسير القرآن في 20 مجلداً، و «روح الأحباب و روح الألباب» في شرح الشهاب قرأتهما عليه. («1»)

و ترجمه تلميذه الآخر ابن شهرآشوب في «معالمه» و قال: شيخي أبو الفتوح ابن علي الرازي، عالم، له كتاب «روض الجنان و روح الجنان» في تفسير القرآن فارسي إلّا أنّه عجيب، و شرح الشهاب. («2»)

و قد ذكر المحدّث النوري أنّ شيخنا أبا الفتوح يروي عن جماعة، منهم:

أ. الشيخ أبو الوفاء عبد الجبار الرازي.

ب. والده الشيخ علي بن محمد، الذي كان من أجلّة العلماء.

ج. الشيخ أبو علي الطوسي (المتوفّي نحو 515

ه-).

د. القاضي الفاضل الحسن الاسترابادي.

إلي غير ذلك من المشايخ. («3»)

______________________________

(1) منتجب الدين: الفهرست: 45 برقم 78.

(2) معالم العلماء: 141 برقم 987؛ و انظر ترجمته في أعيان الشيعة: 6/ 124، و طبقات أعلام الشيعة: 2/ 79، و الذريعة: 11/ 274 برقم 1694، و مستدرك علم رجال الحديث: 3/ 170 برقم 4549، و معجم رجال الحديث: 6/ 50 برقم 3539.

(3) مستدرك الوسائل: 3/ 448، الفائدة الثالثة من الخاتمة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 149

6. أبو جعفر محمد بن علي الطوسي المعروف ب- «ابن حمزة» (المتوفّي نحو 550 ه-)

هو الشيخ الفقيه المتكلّم الأمين، أبو جعفر الرابع، عماد الدين محمد بن علي الطوسي المشهدي المشتهر بالعماد الطوسي المشهدي، و المكنّي عند فقهائنا ب- «ابن حمزة».

قال منتجب الدين في «الفهرست»: الشيخ الإمام عماد الدين، أبو جعفر محمد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي، فقيه، عالم، واعظ، له تصانيف. («1»)

و قال الخوانساري في «الروضات»: الإمام جمال الدين، أبو جعفر الطوسي، المشهدي، شيخ، إمام، فقيه، واعظ، عالم، له تصانيف، منها: كتاب «الوسيلة». («2»)

و قد أطراه غير واحد من المترجمين بكلمات مماثلة لا حاجة إلي نقلها.

بعض أساتذته و تلاميذه

ذكر الخوانساري انّه كان يروي عن أبي علي ابن الشيخ الطوسي (المتوفّي نحو 515 ه-)، كما يروي عن محمد بن الحسن الشوهاني، حيث يروي عنه في كتابه «الثاقب في المناقب». («3»)

كما يروي عنه السيد عبد الحميد بن فخار، كما ورد ذكره في إجازة المحقّق الكركي للقاضي صفي الدين، حيث ذكر ابن حمزة و قال: رويت جميع مصنفاته

______________________________

(1) منتجب الدين: الفهرست: 164 برقم 390.

(2) روضات الجنات: 6/ 267.

(3) روضات الجنات: 6/ 263 و 266.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 150

و مروياته بالأسانيد الكثيرة و الطرق المتعدّدة، فمنها الطرق المتعدّدة إلي الشيخ السعيد جمال الدين أحمد بن فهد، عن السيد العالم النسابة

الحسيني، عن والده السيد عبد الحميد، عن ابن حمزة. («1»)

و قد انتشر من تصانيفه كتاب «الوسيلة إلي نيل الفضيلة» و هو دورة فقهية تشتمل علي قليل من الاستدلال، طبع مستقلًا عام 1400 ه- بعد ما طبع في ضمن الجوامع الفقهية، و في موسوعة الينابيع الفقهية.

7. أبو الحسن علي بن الحسن بن أبي المجد الحلبي (المتوفّي بعد 566 ه-)

قال المحقّق التستري: الشيخ الفقيه المتكلّم النبيه، علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي الفضل بن الحسن بن أبي المجد الحلبي- نور اللّه مرقده- و هو صاحب كتاب «إشارة السبق إلي معرفة الحق» في أُصول الدين و فروعه إلي الأمر بالمعروف، و عندي نسخة منها يعود تاريخ كتابتها إلي سنة 807 ه-. («2»)

و أطراه الخوانساري في «روضاته» («3») و شيخنا الطهراني في «طبقاته». («4»)

و الكتاب يتضمن مجموعة من المعارف و الأحكام، و قد بسط الكلام في الأوّل و اختصر في الثاني، فحرّر أحكام الطهارة و الزكاة و الصوم و الحج و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ختم الكلام مشعراً بأنّه قد فرغ عمّا قصده، و يعرب انّ الكتاب كان رسالة عملية للمؤلّف، و قد كتبه بصورة واضحة و إن كانت براهينه في المعارف مشرقة، عالية لا يتحمّلها إلّا الأمثل فالأمثل.

و قد طبع كتابه «إشارة السبق» عام 1414 ه- مع تقديم منّا.

______________________________

(1) بحار الأنوار: 108/ 76.

(2) مقابس الأنوار: 12.

(3) روضات الجنات: 2/ 114.

(4) طبقات أعلام الشيعة في القرن الخامس: 119، و كان عليه أن يذكره في قسم القرن السادس.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 151

8. السيد ابن زهرة الحلبي (511- 585 ه-)

هو السيد عز الدين أبو المكارم حمزة بن علي بن أبي المحاسن زهرة يصل نسبه إلي الإمام الصادق باثنتي عشرة واسطة.

يعرّفه ابن شهرآشوب في كتابه و يقول: حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي له كتاب «قبس الأنوار في نصرة العترة الأخيار» و «غنية النزوع» حسن. («1»)

و قال العلّامة الحلّي: حمزة بن علي بن زهرة الحسيني، قال السيد السعيد صفي الدين معد: إنّ له كتاب «قبس الأنوار في نصرة العترة الأطهار» و كتاب «غنية النزوع». («2»)

و ينقل الزبيدي عن ابن

العديم في تاريخ «حلب» أنّه قال: كان فقيهاً أُصولياً نظاراً علي مذهب الإمامية؛ و قال ابن سعد الجواني: الشريف الطاهر عز الدين أبو المكارم حمزة، ولد في شهر رمضان سنة 511 ه-، و توفي بحلب سنة 585 ه-. («3»)

إلي غير ذلك من الكلمات المتماثلة التي نقلناها برمّتها عند تقديمنا لكتابه «غنية النزوع» و قد طبع و انتشر عام 1417 ه- و طبع قبل ذلك أيضاً.

يروي عنه: الشيخ معين الدين المصري، و الشيخ شاذان بن جبرئيل القمي الذي كان حيّاً سنة 584 ه-، و الشيخ محمد بن جعفر المشهدي صاحب المزار المشهور، و أخيرهم لا آخرهم محمد بن إدريس الحلي، و قد دارت بينهما مكاتبات و مساجلات. («4»)

______________________________

(1) معالم العلماء: 26 برقم 303.

(2) إيضاح الاشتباه: 168.

(3) الزبيدي: تاج العروس: 3/ 249، مادة «زهر».

(4) لاحظ للوقوف علي مصادر روايتهم عنه و المناظرات التي دارت بينه و بين ابن إدريس تقديمنا لكتاب غنية النزوع.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 152

تعريف بكتاب غنية النزوع

يشتمل هذا الكتاب علي الأُصولين و الفروع و في الحقيقة البحث فيه يدور علي محاور ثلاثة:

أ. الفقه الأكبر: و هذا القسم مشتمل علي مهمات المسائل الكلامية من التوحيد إلي المعاد.

ب. أُصول الفقه: و هو حاو لبيان القواعد الأُصولية التي يستنبط منها الأحكام الشرعية، ألّفه علي غرار أُصول القدماء، و من فصوله النافعة بحثه عن القياس و آثاره السلبية في الفقه، و قد خلت كتب المتأخرين من أصحابنا من طرح هذه المسألة، و دراسة أدلّة المثبتين و النافين، و ما هذا إلّا لأنّ عدم حجّيته هو الأصل المسلم في فقه أهل البيت.

ج. الفروع و الأحكام الشرعية: و هي دورة فقهية استدلالية كاملة يستدل بالكتاب و السنّة النبوية و

أحاديث العترة الطاهرة و الإجماع، و هذا القسم من محاسن الكتب و جلائلها.

و هو في كتابه هذا يستمد من الكتاب العزيز في مسائل كثيرة، فقد استدل بقرابة مائتين و خمسين آية، كما اعتمد علي أحاديث نبوية وافرة إمّا استدلالًا علي المطلوب، أو احتجاجاً علي المخالف كما اعتمد علي الإجماع في مسائل كثيرة قرابة 650 مسألة، و هو في كتابه يسير علي ضوء كتاب الانتصار و الناصريات للسيد الشريف المرتضي و كتاب الخلاف و المبسوط لشيخ الطائفة.

9. محمد بن الحسن الكيدري من علماء القرن السادس

وصفه شيخه ابن حمزة في إجازته له بقوله: الإمام الأجل العالم الزاهد المحقّق المدقّق، قطب الدين، تاج الإسلام، فخر العلماء، مرجع الأفاضل، محمد بن

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 153

الحسين بن الحسن الكيدري البيهقي. («1»)

و قال صاحب الروضات: كان من أكمل علماء زمانه في أكثر الأفنان، و أكثرهم إفادة لدقائق العربية في جموعه الملاح الحسان. («2»)

يروي عن جماعة من مشايخنا، منهم:

1. الشيخ الإمام نصير الدين أبو طالب عبد اللّه بن حمزة بن عبد اللّه الطوسي الشارحي المشهور الذي عرّفه منتجب الدين بقوله: فقيه، ثقة، وجه؛ و هو غير محمد بن علي بن حمزة الطوسي صاحب الوسيلة، و إن كانا معاصرين، و إن زعم المحقّق السيد عبد العزيز الطباطبائي- المغفور له- كونهما شخصاً واحداً. («3»)

2. المفسّر الكبير الفضل بن الحسن الطبرسي. («4»)

3. محمد بن هبة الدين الراوندي.

و لشيخنا المترجم تآليف قيمة أشهرها «إصباح الشيعة بمصباح الشريعة» الذي ربما ينسب إلي الفقيه الصهرشتي، و هو غير صحيح و قد طبع مع تقديم منّا.

10. الإمام سديد الدين الحمصي الرازي (المتوفّي قبل 589 ه-)

يعرّفه منتجب الدين في «فهرسته» بقوله: علّامة زمانه في الأُصولين، ورع، ثقة، له تصانيف، و ذكر كتبه، ثمّ قال: حضرت مجلس درسه سنين، و سمعت أكثر هذه الكتب في قراءة من قرأ عليه. («5»)

______________________________

(1) إصباح الشيعة: 15، المقدمة.

(2) روضات الجنات: 6/ 295 برقم 587.

(3) منتجب الدين: الفهرست: 125 برقم 272. و راجع تراثنا: العدد: 39/ 303.

(4) الذريعة: 2/ 431 برقم 1697 تحت عنوان أنوار العقول.

(5) منتجب الدين الرازي: الفهرست: 164 برقم 399.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 154

و يقول التستري: عمدة المحقّقين، و نخبة المدقّقين، علّامة زمانه في الأُصولين، الشيخ سديد الدين محمود بن علي الحمصي الرازي الحلي قدس اللّه روحه و نوّر ضريحه. («1»)

و شيخنا

هو أحد أساتذة علم الأُصول، فقد ألّف كتاباً في علم الأُصول باسم «المصادر في أُصول الفقه» فيكون هو الكتاب السادس في علم الأُصول من زمن المفيد إلي عصره؛ فقد ألّف الشيخ المفيد أوّلًا رسالة في ذلك العلم سمّاها ب- «التذكرة»، و أكمله ثانياً تلميذه المرتضي باسم «الذريعة»، و تابعه في البسط و التحقيق ثالثاً تلميذه الآخر الطوسي باسم «العدة»، كما ألّف أبو يعلي المعروف ب- «سلّار» كتاباً رابعاً باسم «التقريب في أُصول الفقه»، إلي أن جاء دور ابن حمزة فألّف كتاباً خامساً مستقلًا أسماه «غنية النزوع في علمي الأُصول و الفروع» و تلاه الحمصي فألّف كتاباً أسماه «المصادر في أُصول الفقه».

و قد ذكر أسماء تصانيفه تلميذه منتجب الدين في «فهرسته» و من تآليفه المعروفة: «المنقذ من التقليد» يذكر في مقدّمته انّه وصل إلي العراق عند منصرفه من الحرمين بالحجاز حماها اللّه، فورد الحلّة، فلقيه جماعة من فقهائها مستبشرين بوصوله إليهم، فأصرّوا عليه بالإقامة، فلبّي دعوتهم و عزم علي الإقامة، و في القلب النزوع إلي الأهل و الولد، و في الخاطر التفات إلي المورد و البلد، و اشتغل بالمذاكرة و المدارسة، فأقام عندهم مدرساً و مؤلّفاً، كتب كتاباً باسم «المنقذ من التقليد و المرشد إلي التوحيد» فرغ منه عام 581 ه-، و قد طبع الكتاب في جزءين، و هو ذو مادّة كلامية مبسطة.

ثمّ إنّ ابن إدريس يذكره في «السرائر» بإكبار و إجلال ممّا يدل علي تقدّمه عليه في السن. («2»)

______________________________

(1) مقابس الأنوار: 11.

(2) السرائر: 2/ 443، كتاب المزارعة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 155

11. محمد بن علي بن شهرآشوب (488- 588 ه-)

فخر الشيعة، و تاج الشريعة، رشيد الملة و الدين، شمس الإسلام و المسلمين أبو عبد اللّه محمد بن علي بن شهرآشوب السروي المازندراني

الفقيه المحدّث المفسّر المحقّق الجامع لفنون الفضائل.

يعرّفه صلاح الدين الصفدي في «الوافي بالوفيات» بقوله: محمد بن شهرآشوب، أبو جعفر السروي المازندراني، رشيد الدين الشيعي، أحد شيوخ الشيعة، حفظ أكثر القرآن، و له ثمان سنين، و بلغ النهاية في أُصول الشيعة، كان يرحل إليه من البلاد ثمّ تقدّم في علم القرآن و الغريب و النحو، و وعظ علي المنبر أيام المقتفي ببغداد فأعجبه و خلع عليه، و كان بهي المنظر، حسن الوجه و الشيبة، صدوق اللهجة، مليح المحاورة، واسع العلم، كثير الخشوع و العبادة و التهجد، لا يكون إلّا علي وضوء، أثني عليه ابن أبي طي في «تاريخه» ثناءً كثيراً، توفي سنة ثمان و ثمانين و خمسمائة.

و قال الفيروزآبادي في كتاب «البلغة في تراجم أئمة النحو و اللغة»: محمد ابن علي بن شهرآشوب، أبو جعفر المازندراني رشيد الدين الشيعي، بلغ النهاية في أُصول الشيعة، تقدّم في علم القرآن و اللغة و النحو، و وعظ أيّام المقتفي فأعجبه و خلع عليه، و كان واسع العلم، كثير العبادة، دائم الوضوء، له: كتاب «الفصول» في النحو، و كتاب «المكنون و المخزون»، و كتاب «أسباب نزول القرآن»، و كتاب «متشابه القرآن»، و كتاب «الأعلام و الطرائق في الحدود و الحقائق»، و كتاب «الجديدة» جمع فيها فوائد و فرائد جمّة. («1»)

و قال شمس الدين محمد بن علي بن أحمد الداودي المالكي تلميذ عبد

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: 3/ 485.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 156

الرحمن السيوطي في «طبقات المفسّرين»: محمد بن علي بن شهرآشوب، أحد شيوخ الشيعة، اشتغل بالحديث، و لقي الرجال، ثمّ تفقّه و بلغ النهاية في فقه أهل مذهبه، و نبغ في الأُصول حتي صار رُحلة، ثمّ تقدّم في علم القراءات و

الغريب، و التفسير، و النحو.

كان إمام عصره، و واحد دهره، و الغالب عليه علم القرآن و الحديث. («1»)

و قد ترجم لنفسه في كتابه «معالم العلماء» و ذكر تصانيفه بالأسماء التالية:

1. «مناقب آل أبي طالب» طبع في أربعة أجزاء.

2. مثالب النواصب.

3. المخزون و المكنون في عيون الفنون.

4. الطرائق في الحدود و الحقائق.

5. مائدة الفائدة.

6. المثال في الأمثال.

7. «معالم العلماء» و هو ذيل لفهرست الشيخ الطوسي، طبع في العراق و إيران.

8. الأسباب و النزول علي مذهب آل الرسول.

9. الحاوي.

10. «متشابه القرآن و مختلفه» و هو كتاب قيّم، طبع في إيران.

11. الأوصاف.

12. المنهاج. («2»)

______________________________

(1) الداودي: طبقات المفسرين: 2/ 201 برقم 538.

(2) معالم العلماء: 119.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 157

و هو يروي عن المشايخ العظام يقول: أنبأني الطبرسي ب- «مجمع البيان لعلوم القرآن»، و بكتاب «اعلام الوري باعلام الهدي»، و أجاز لي أبو الفتوح رواية «روض الجنان و روح الجنان» في تفسير القرآن، و ناولني أبو الحسن البيهقي «حلية الأشراف» و قد أذن لي الآمدي في «غرر الحكم»، و وجدت بخط أبي طالب الطبرسي كتابه «الاحتجاج» إلي آخر ما ذكره. («1»)

و العجب انّ علمين جليلين معاصرين ألّفا كتابين في موضوع واحد، أعني بهما: محمد بن شهرآشوب (المتوفّي 585 ه-) و الشيخ منتجب الدين الرازي (و كان حيّاً إلي عام 600 ه-). فألّف الأوّل «معالم العلماء» ذيلًا لفهرست الشيخ، و ألّف الثاني «الفهرست» في هذا المضمار أيضاً، و لم يكن بينهما صلة و اطّلاع عن عمل كلّ منهما.

أسباب الركود

إنّ لكلّ ظاهرة سبباً، فظاهرة الركود لم تكن اعتباطية بل نشأت لأسباب و دواعي أدّت إليه، منها:

أ. الضغط و الكبت من قبل السلطات الحاكمة آنذاك علي الشيعة، كالسلاجقة في العراق، و الغزنويّين

في الشرق، و الأيوبيّين في الشام و مصر، و أخذوا ينظرون إليهم بنظرة ملؤها الحقد و الغضب، و كانوا بصدد الانقضاض علي الكيان الشيعي و استئصاله، و قد حفظ لنا التاريخ بعض الأعمال التي قام بها السلاجقة ممّا يندي لها جبين الإنسانية، فقد أحرق طغرل بك مكتبة بغداد التي كانت عامرة بالكتب، و إليك هذه الوثيقة التاريخية التي تعكس لنا صورة عن المأساة التي حلّت بالشيعة:

______________________________

(1) الخوانساري: روضات الجنات: 6/ 290 برقم 585، نقله عن البحار في مقدّمته عن كتابه المناقب.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 158

يقول ابن الجوزي: و في هذه السنة- يعني: سنة 448- أُقيم الأذان في المشهد بمقابر قريش، و مشهد العتيقة، و مساجد الكرخ ب- «الصلاة خير من النوم» و أُزيل ما كانوا يستعملونه في الأذان «حي علي خير العمل» و قلع جميع ما كان علي أبواب الدور و الدروب من «محمد و علي خير البشر» و دخل إلي الكرخ منشدو أهل السنّة من باب البصرة، فأنشدوا الأشعار في مدح الصحابة، و تقدّم رئيس الرؤساء إلي ابن النسوي بقتل أبي عبد اللّه بن الجلّاب شيخ البزازين بباب الطاق، لما كان يتظاهر به من الغلو في الرفض، فقتل و صلب علي باب دكانه، و هرب أبو جعفر الطوسي و نهبت داره. («1»)

و يقول أيضاً في حوادث سنة 449 ه-: و في صفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلّم الشيعة بالكرخ، و أخذ ما وجد من دفاتره، و كرسي كان يجلس عليه للكلام، و أخرج ذلك إلي الكرخ، و أُضيف إليه ثلاثة مجانيق بيض كان الزوار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة، فأُحرق الجميع. («2»)

و قال الجزري: و

فيها (أي في هذه السنة) نهبت دار أبي جعفر الطوسي بالكرخ، و هو فقيه الإمامية، و أُخذ ما فيها، و كان قد فارقها إلي المشهد الغربي («3»). («4»)

و قال الخفاجي: لمّا دخل صلاح الدين الأيوبي إلي حلب عام 579 ه- حمل الناس علي التسنّن و عقيدة الأشعري، و لا يقدّم للخطابة و لا للتدريس إلّا من كان

______________________________

(1) ابن الجوزي: المنتظم: 16/ 7 و 8.

(2) ابن الجوزي: المنتظم: 16/ 16.

(3) و لعل الصحيح: الغرويّ.

(4) ابن الأثير: الكامل في التاريخ: 9/ 637 و 638.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 159

مقلّداً لأحد المذاهب الأربعة، و وضع السيف علي الشيعة و قتلهم و أبادهم مثل عمله في مصر إلي حد يقول الخفاجي في كتابه.

فقد غالي الأيوبيون في القضاء علي كلّ أثر للشيعة. («1»)

و في هذا الجو المشحون بالعداء و البغضاء لا تسنح الفرصة لأي نشاط علمي، بل يغيب عندها النتاج الفكري، فالحياة الفقهية رهن وجود ظروف مناسبة وبيئة صالحة لتنمية الأفكار.

ب. و أمّا السبب الثاني، فهو انّ الشيخ الطوسي قد حَظِيَ بتقدير عظيم في نفوس تلامذته و معاصريه علي وجه رفعته عن مستوي النقد، لما قدّمه من خدمات جليلة للحوزة الشيعية من إتحافها بأنواع العلوم و التآليف و تربية جيل كبير من العلماء و المفكّرين.

و قد حظيت آراؤه الشخصية بقدسية نزّهته عن النقد، فاستمرت تلك النظرة إلي الشيخ مدة مديدة بعده، و قد خلفه في إدارة شئون الحوزة نجله أبو علي الطوسي الذي كان حيّاً إلي سنة 515 ه-.

فهذان العاملان أدّيا إلي الركود و الخضوع لكل ما ورثوه عن الشيخ الطوسي.

و ربّما يذكر عامل آخر للركود و هو: انّ الشيخ بهجرته إلي النجف قد انفصل في أكبر الظن عن تلامذته

و حوزته العلمية في بغداد، و بدأ ينشئ في النجف حوزة فتية حوله من أولاده أو الراغبين في الالتحاق بالدراسات الفقهية من مجاوري القبر الشريف أو أبناء البلاد القريبة منه كالحلّة و نحوها، و نمت الحوزة علي عهده بالتدريج، و علي هذا الأساس فإنّ الشيخ الطوسي بهجرته إلي النجف انفصل عن حوزته الأساسية في بغداد و أنشأ حوزة جديدة حوله في النجف، و من الطبيعي

______________________________

(1) الخفاجي: الأزهر في ألف عام: 1/ 58.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 160

انّ الحوزة الفتية التي نشأت حول الشيخ في النجف أن لا ترقي إلي مستوي التفاعل المبدع مع التطور الذي أنجزه الطوسي في الفكر العلمي لحداثتها، و أمّا الحوزة الأساسية ذات الجذور في بغداد فلم تتفاعل مع أفكار الشيخ و لم يهاجر منهم إلي النجف إلّا القليل، و لهذا لم يتسرّب الإبداع الفقهي العلمي من الشيخ إلي تلك الحوزة التي كان ينتج و يبدع بعيداً عنها، و فرق كبير بين المبدع الذي يمارس إبداعه العلمي داخل نطاق الحوزة و يتفاعل معها باستمرار و تواكب الحوزة إبداعه بوعي و تفتّح، و بين المبدع الذي يمارس إبداعه خارج نطاقها و بعيداً عنها. («1»)

و لنا مع هذا الكلام وقفة قصيرة و هي:

1. انّ الشيخ قام بجهد علمي كبير في مهجره، و هو تأليف كتاب «المبسوط» الذي يعتبر من أوسع الموسوعات الفقهية للشيعة الإمامية التي ذكر فيها فروعاً و تخريجات لم يكن لها حلول في كتب السابقين، فلو كان الجو العلمي في مهجره غير بالغ إلي هذا المستوي فالقيام بهذا الجهد يكون أمراً غريباً.

2. انّ لازم ذلك طروء الركود في بعض الحوزات دون بعض، و قد كانت للشيعة آنذاك حوزة في الكوفة و في

قم و الري و خراسان لا سيما في منطقة «بيهق» و «كيدر» و «نيسابور»، فلو كان هذا مبرراً لطروء الركود فيجب أن يختص بحوزة دون أُخري.

و مهما يكن من أمر فإنّ ظاهرة الركود قد تفشّت في كافة الحوزات و كان النتاج الفقهي في تلك الفترة أقلّ بكثير ممّا كان عليه في الدور المتقدّم.

______________________________

(1) الشهيد محمد باقر الصدر: المعالم الجديدة: 65- 66.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 161

ميزات هذا الدور

القضاء الحاسم في نتائج الجهود التي بذلها فقهاؤنا في هذه الفترة بحاجة إلي دراسة الكتب المدوّنة فيها و هي بين مسهب و مقتضب، و هي فوق ما نرومه في هذا المقال، و يمكن أن نلخّص نتائج الجهود العلمية في هذه الفترة بالأُمور التالية:

الأوّل: الموسوعة الفقهية

قد ألّف ابن البرّاج الطرابلسي (400- 481 ه-) موسوعة علي ضوء المبسوط للشيخ الطوسي، و لكن بإيجاز و تلخيص، و قد فرغ من تأليفها عام 467 ه-، و هي موسوعة دون «المبسوط» و فوق ما ألّف قبله.

الثاني: تدوين المتون الفقهية

قد أُلّفت في هذه الفترة متون فقهية علي صعيد عال فوق ما تحظي به المتون السابقة كالمقنعة و النهاية للمفيد و الشيخ.

1. فقد ألّف الفقيه أبو جعفر محمد بن علي الطوسي المعروف ب- «ابن حمزة» (المتوفّي نحو 550 ه-) كتاب «الوسيلة» و هو كتاب فقهي يشتمل علي جميع الأبواب الفقهية مقروناً بالاستدلال الموجز.

2. كما ألّف السيد حمزة بن علي بن زهرة كتاب «غنية النزوع إلي علمي الأُصول و الفروع» و مع أنّه كتاب واحد إلّا أنّه يشتمل علي متون في العقائد، و أُصول الفقه، و الفقه.

و قد أسهب في الاستدلال أكثر ممّن سبقه.

3. كما ألّف محمد بن الحسن الكيدري «إصباح الشيعة بمصباح الشريعة» و قد مشي

علي ضوء غنية النزوع، و هو مع اشتماله علي جميع الأبواب لا يسهب في

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 162

الاستدلال.

و هناك متون فقهية أُخري أُلّفت في تلك الفترة، فمن أراد فليرجع إلي طبقات الفقهاء في القرن الخامس و السادس.

الثالث: العناية بعلم الأُصول

نجد في هذه الفترة عناية بعلم الأُصول لا سيما العنصر العقلي و إدخاله في مصب الاستدلال، فقد جعله ابن زهرة قسماً من كتاب «الغنية» في علم الأُصول، و القارئ يجد فيه الاعتماد الواضح علي العقل في مجالات خاصة كما يعتمد علي سائر الأدلّة.

كما ألّف الإمام سديد الدين الحمصي الرازي كتاباً باسم «المصادر في أُصول الفقه» تناول فيه العنصر العقلي أكثر ممّن سبقه لضلوعه في المسائل العقلية كما يظهر ذلك من كتابه القيّم «المنقذ من التقليد».

الرابع: العناية بفقه القرآن

يعد القرآن أساس التشريع الإسلامي، ففيه آيات تعدّ أُسساً للتشريع، و قد أفردها قطب الدين الراوندي بالتأليف أسماه «فقه القرآن» و قد طبع في ثلاثة أجزاء، و هو كتاب ممتع جداً.

نعم بحث عنها غيره في ثنايا تفسير القرآن الكريم كالطبرسي في «مجمع البيان»، و أبي الفتوح الرازي في «روض الجنان».

هذا بعض ما يمكن أن يعد ميزة لهذا الدور، و استيعاب الميزات رهن الإحاطة بكافة تصانيف هذا الدور من الكتب لا سيّما الفقهية و الأُصولية منها.

و هدفنا من هذه الدراسة تمهيد السبيل أمام المعنيين بتاريخ علم الفقه كي يتناولوا تلك التصانيف بشي ء من الدقة و العناية و الإحاطة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 163

أدوار الفقه الإمامي

4

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 165

الدور الرابع تجديد الحياة الفقهية (600- 1030 ه-)

القرن السابع

اشارة

الضابطة في تمييز كلّ دور عمّا سبقه وجود تفاوت جوهري بين الدورين، ففي الفترة التي سبقت هذا الدور كان الركود سائداً علي ربوع التفكير الفقهي لكن بإبداع في العرض

و تغيير في البيان، و لم يكن ثمّة تطور جوهري طرأ علي التفكير الفقهي، و هذا بخلاف ما سنستعرضه في هذا الدور ففيه تجديد للحياة الفقهية بأساليب مبتكرة، و قواعد غير مذكورة في كتب السابقين و عناية وافرة بأُصول الفقه و تنوّع في التأليف.

و قد سبق انّ مشايخنا انقادوا و أذعنوا لفتاوي الشيخ و استدلالاته فلم يخرجوا عن ذلك الطور إلّا قليلًا، حتي ظهر علي مسرح الفكر الفقهي فقيه فذ، ذو فكر وقّاد، و ذهن جوّال، آب عن التقليد تابع لما يقوده إليه فكره ألا و هو محمد بن إدريس الحلّي، فإنّه وقف و هو في العقد الرابع من عمره علي توقف الركب الفقهي عن السير، و انّ كلّ ما تمخّضت عنه الساحة الفكرية كان في الواقع تقليداً للشيخ الطوسي ليس إلّا، فشمّر عن ساعد الجدّ و أحدث انقلاباً عارماً في حقل الاجتهاد و الاستنباط، و إليك البيان.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 166

[فقهاء القرن السابع]

1. ابن إدريس مجدّد الحياة الفقهية (543- 598 ه-)

يعد ابن إدريس أوّل من خطا بالفقه خطوات واسعة، فلنبدأ بذكر سيرته.

يعرّفه التستري بقوله: الشيخ الفاضل، الكامل، المحقّق المدقّق، عين الأعيان، و نادرة الزمان، فخر الدين، أبو عبد اللّه محمد بن إدريس أو أحمد بن إدريس العجلي الربعي الحلّي نور اللّه مرقده.

روي عنه: الشيخ النبيل الجليل، قدوة المذهب، صاحب المصنّفات، نجيب الدين أبو إبراهيم محمد بن نما الربعي، و السيد السند قدوة الأدباء و النسابة و الفقهاء صاحب المصنّفات شمس الدين أبو علي فخار بن معد الموسوي الحائري. («1»)

يقول المحدّث النوري: الشيخ الفقيه، و المحقّق النبيه، فخر الدين أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن إدريس الحلّي العجلي، العالم الجليل، المعروف الذي أذعن بعلو مقامه في العلم و الفهم و التحقيق و

الفقاهة أعاظم الفقهاء في إجازاتهم و تراجمهم، ثمّ ذكر وصف العلماء إيّاه في إجازاتهم. («2»)

و لأجل أن يقف القارئ علي مدي الجهود العلمية التي بذلها ابن إدريس في رفع المستوي العلمي و الفقهي نذكر نصّ عبارته في أوّل «السرائر»، و إن مرّ ذكره في الدور السابق أيضاً.

إنّي لمّا رأيت زهد أهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية و الأحكام الإسلامية، و تثاقلهم عن طلبها، و عداوتهم لما يجهلون، و تضييعهم لما يعلمون، و رأيت ذا السن من أهل دهرنا هذا لغلبة الغباوة عليه، و ملكه الجهل لقياده،

______________________________

(1) مقابس الأنوار: 11.

(2) مستدرك الوسائل: 3/ 481.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 167

مضيعاً لما استودعته الأيام، مقصراً في البحث عمّا يجب عليه علمه حتي كأنّه ابن يومه و نتيج ساعته … و رأيت العلم عنانه في يد الامتهان، و ميدانه قد عطل من الرهان، تداركت منه الذماء الباقي، و تلافيت نفساً بلغت التراقي. («1»)

فابن إدريس بكتابه هذا أوّل من نفض غبار الركود عن كاهل الفقه الشيعي، و اقتفاه جلّ من تأخّروا عنه و إن اختلفوا معه في أشياء و أشياء، و لكن الضجة التي أثارها تركت أثرها في شحذ الهمم نحو عرض الفقه بأُسلوب أكثر علميّة.

و قد أُصيب في جهاده العلمي بوابل من الطعنات اللاذعة، لكنّها لم تؤثر في عزمه الراسخ نحو ما تصبو إليه نفسه، و هو بتأليف كتابه الرائع «السرائر» قد قضي علي التقليد الفكري، و أطاح به، و أخذ بطرح أفكاره في ثنايا كتابه، مندداً بالمتفقّهة و المقلّدة، و هو مع إجلاله للشيخ الطوسي أخذ ببيان المواضع التي يخالفه فيها مدعومة بالبرهان.

و أخذ يدافع عن وجهة نظره بأمرين:

الأوّل: بإقامة البراهين الدامغة علي رأيه وفق منهجه، و

هو عدم حجّية خبر الواحد، و انحصار الحجية بالكتاب و الخبر المتواتر و الإجماع و العقل.

الثاني: محاولة عدم الانفراد بالرأي و تعزيزه بموافقة الشيخ الطوسي له علي هذا الرأي في بعض كتبه، أو أنّ ما ذكره الشيخ إنّما ذكره إيراداً لا اعتقاداً، إلي غير ذلك من المحاولات التي كان الهدف من ورائها استقطاب موافقة من تقدّم عليه حتي ربما يقتصر علي الموافقة التي ربما تلوح من عبارة الشيخ.

يقول هو في حكم الماء النجس المتمم كراً: الشيخ أبو جعفر الطوسي (رحمه الله)

______________________________

(1) مقدّمة المؤلّف علي كتابه السرائر: 1/ 41.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 168

الذي يُتمسّك بخلافه، و يُقلّد في هذه المسألة و يُجعل دليلًا، يقوِّي القول و الفتيا بطهارة هذا الماء في كثير من أقواله، و أنا أُبيّن إن شاء اللّه انّ أبا جعفر (رحمه الله) يفوح من فيه رائحة تسليم المسألة بالكلية، إذا تؤمّل كلامه و تصنيفه حقّ التأمّل، و أُبصر بالعين الصحيحة، و أحضر له الفكر الصافي فانّه فيه نظر و لبس، و لتفهم عني ما أقول. («1»)

مراسلاته مع فقهاء عصره

كان ابن إدريس فقيهاً دءوباً في العمل، و كانت له صلة وثيقة بمعاصريه من فقهاء كلا الفريقين، و ثمة وثيقتان تاريخيتان تؤكّدان ذلك.

1. قال في كتاب المزارعة: و انّ الزكاة علي المزارع أو العامل. و قال بعض أصحابنا المتأخرين في تصنيف له: كلّ ما كان البذر منه وجب عليه الزكاة، و لا يجب الزكاة علي من لا يكون البذر منه، قال: لأنّ ما يأخذه كالأُجرة (فعلي ما ذكره، الزكاة علي المزارع دون العامل) ثمّ قال: و القائل بهذا هو السيد العلوي أبو المكارم ابن زهرة الحلبي (رحمه الله) شاهدته و رأيته و كاتبته و كاتبني و

عرّفته ما ذكره في تصنيفه من الخطأ، فاعتذر (رحمه الله) بأعذار غير واضحة، و أبان بها انّه ثقل عليه الرد، و لعمري انّ الحق ثقيل كلّه، و من جملة معاذيره و معارضاته لي في جوابه، انّ المزارع مثل الغاصب للحب إذا زرعه، فإنّ الزكاة تجب علي ربّ الحب دون الغاصب.

و هذا من أقبح المعارضات و أعجب التشبيهات، و إنّما كانت مشورتي عليه أن يطالع تصنيفه و ينظر في المسألة و يغيّرها قبل موته، لئلّا يستدرك عليه مستدرك بعد موته، فيكون هو المستدرك علي نفسه، فعلت ذلك، علم اللّه شفقة و سترة عليه

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 1/ 66، أحكام المياه.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 169

و نصيحة له، لأنّ هذا خلاف مذهب أهل البيت. («1»)

2. يقول في مسألة الطلاق ثلاثاً: و قد كتب إليّ بعض فقهاء الشافعية و كانت بيني و بينه مؤانسة و مكاتبة: هل يقع الطلاق الثلاث عندكم، و ما القول عند فقهاء أهل البيت (عليهم السلام)؟

فأجبته أمّا مذهب أهل البيت فإنّهم يرون أنّ الطلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس واحد و حالة واحدة و من دون تخلّل المراجعة لا يقع منه إلّا واحدة، و من طلق امرأته تطليقة واحدة و كانت مدخولًا بها كان له مراجعتها بغير خلاف بين المسلمين، إلي آخر ما ذكره من المطالب الشيقة، و قد استغرق عدّة صحائف. («2»)

توفي ابن إدريس و ترك تراثاً علمياً و ربّي جيلًا من روّاد العلم، انتهلوا من معين علمه، و نذكر الآن أسماء لفيف من المشاهير الذين لم تخمد جذوة الإبداع التي أوجدها ابن إدريس في قلوبهم، بل واصلوا النهج الذي اختطّه لهم و بثّوا أفكاره في جميع المحافل العلمية.

2. الفقيه معين الدين المصري (كان حيّاً عام 629 ه-)

سالم بن بدران بن

علي المصري المازني صاحب كتاب «التحرير» الحاوي علي أحكام المواريث، و قد ذكر بعض كلماته المحقّق الطوسي في «الفرائض النصيرية» معبّراً عنه: شيخنا الإمام معين الدين، و قد قرأ عليه المحقّق الطوسي كتاب «إصباح الشيعة بمصباح الشريعة» و أجاز له عام 629 ه-، و الإجازة مطبوعة في تقديمنا علي كتاب الغنية. («3»)

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 443.

(2) ابن إدريس: السرائر: 2/ 678- 685.

(3) مقابس الأنوار: 12، و له ترجمة في رياض العلماء: 2/ 408- 411 و أعيان الشيعة: 7/ 172- 173.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 170

3. شمس الدين فخار بن معد بن فخار (المتوفّي 630 ه-)

شمس الدين فخار بن معد بن فخار الموسوي الحائري، قال الشيخ الحر العاملي: كان عالماً، فاضلًا، أديباً، محدثاً، له كتب، منها: كتاب «الرد علي الذاهب إلي تكفير أبي طالب» حسن جيد، و غير ذلك، يروي عنه المحقّق المتوفّي (676 ه-) و يروي هو عن ابن إدريس الحلّي، و عن ابن شاذان بن جبرئيل القمي و غيرهما. («1»)

و وصفه شيخنا الشهيد الثاني في إجازته: بإمام الأُدباء و الفقهاء.

و يروي عنه من علماء أهل السنّة ابن أبي الحديد (المتوفّي 655 ه-) و أبو الفرج الجوزي، و القاضي أبو الفتح محمد بن أحمد المنداني الواسطي، الذي يروي هو عن ابن الجواليقي و غيره. («2»)

4. نجيب الدين محمد بن جعفر بن نما الحلي (565- 645 ه-)

إنّ بيت ابن نما من أعرق البيوت العلمية في الحلّة الفيحاء، التي انجبت العديد من العلماء الفطاحل الذين ضنّ بهم الدهر إلّا في فترات يسيرة، فلنقتصر علي ترجمة الوالد و الولد.

أمّا الوالد، فهو نجيب الدين أبو إبراهيم محمد بن جعفر بن هبة اللّه بن نما ابن علي بن حمدون الحلّي، شيخ الفقهاء في عصره، أحد مشايخ المحقّق الحلّي المتوفّي (676 ه-) و الشيخ سديد الدين، والد العلّامة الحلّي، و السيد أحمد بن طاوس، و السيد رضي الدين بن طاوس.

______________________________

(1) أمل الآمل: 2/ 214 برقم 646.

(2) و قد ترجمه الخوانساري في «روضات الجنات»: 5/ 346 برقم 540، و البحراني في لؤلؤة البحرين: 280، و النوري في مستدرك الوسائل: 3/ 479.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 171

قال المحقّق الكركي في وصف المحقّق الحلّي: و أعْلَمُ مشايخه بفقه أهل البيت الشيخ الفقيه السعيد الأوحد محمد بن نما الحلّي، و أجلّ أشياخه الإمام المحقّق قدوة المتأخرين فخر الدين محمد بن إدريس الحلّي العجلي برّد اللّه مضجعه.

فالمترجَم من خريجي مدرسة

ابن إدريس.

و أمّا الولد، فهو الشيخ الفقيه نجم الدين جعفر بن محمد بن هبة اللّه بن نما الحلي، كان عظيم الشأن، جليل القدر، من مشايخ آية اللّه العلّامة الحلّي المتوفّي (726 ه-) و صاحب المقتل الموسوم ب- «مثير الأحزان».

فالوالد من مشايخ المحقّق الحلّي، و الولد من مشايخ العلّامة الحلّي، و يظهر من القصيدة التي نظمها جواباً لبعض الحاسدين انّ بيت ابن نما كان بيتاً رفيعاً مرموقاً مشهوراً بالفضائل، قال:

أنا ابن نما إن نطقت فمنطقي*** فصيح إذا ما مصقع القوم اعجما

بني والدي نهجاً إلي ذلك العلي*** بأفعاله كانت إلي المجد سلّما

كبنيان جدي جعفر خير ماجد*** فقد كان بالإحسان و الفضل مغرماً

و جدي أبا الخير الفقيه أبي البقا*** فما زال في نقل العلوم مقدما («1»)

5. المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيي بن سعيد الحلّي (602- 676 ه-)

هو الشيخ أبو القاسم نجم الملة و الدين، الملقّب بالمحقّق علي الإطلاق،

______________________________

(1) اقرأ ترجمة الوالد و الولد في روضات الجنات: 6/ 294 برقم 586، 2/ 179 برقم 169، و الكني و الألقاب: 1/ 441، و غيرها.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 172

الغني عن الإطراء، المشهور بالآفاق بتلاميذه و تآليفه، و يكفي في مقامه انّ كتابه «شرائع الإسلام» أصبح كتاباً دراسياً منذ تأليفه إلي يومنا هذا، و صار محطاً للشرح و التعليق عبر القرون، و قد وصفه العلّامة الحلّي في إجازته لبني زهرة من أنّه كان أفضل أهل عصره في الفقه، و استدركه الشيخ حسن صاحب المعالم بقوله: لو كان ترك التقييد بأهل زمانه كان أصوب إذ لا أري في فقهائنا مثله علي الإطلاق.

و ذكره ابن داود في «رجاله» بقوله: جعفر بن الحسن بن يحيي بن سعيد الحلّي، شيخنا نجم الدين، أبو القاسم المحقّق المدقّق الإمام العلّامة، واحد عصره، كان ألسَن أهل زمانه، و

أقومَهم بالحجة، و أسرعهم استحضاراً، و قرأت عليه، و ربّاني صغيراً، و كان له عليّ إحسان عظيم و التفات، و أجاز لي جميع ما صنّفه و قرأه و رواه، و كلّ ما يصح روايته عنه. توفي في شهر ربيع الآخر سنة 676 ه-، و له تصانيف حسنة محقّقة محررة عذبة، فمنها: كتاب «شرائع الإسلام» مجلدان، و كتاب «المختصر النافع» مجلد، و كتاب «المعتبر في شرح المختصر» لم يتم مجلدان، و كتاب «نكت النهاية» مجلدان، و كتاب: «المسائل الغرية» مجلد، و كتاب «المسائل المصرية» مجلد، و كتاب «المسلك» في أُصول الدين مجلد، و كتاب «الكهنة» في المنطق مجلد، و له كتب أُخري ليس هذا موضع استيفائها فأمرها ظاهر، و له تلاميذ فقهاء فضلاء. («1»)

حكي أنّ المحقّق نصير الدين الطوسي حضر درس المحقّق و طلب منه إكمال الدرس، فجري البحث في مسألة استحباب التياسر (يعني في العراق) فقال المحقّق الطوسي: لا وجه للاستحباب، لأنّ التياسر إن كان من القبلة إلي غيرها

______________________________

(1) ابن داود: الرجال: 1 برقم 300؛ و انظر ترجمته في روضات الجنات: 2/ 183، برقم 170. و لشيخنا المحقّق ترجمة وافية في غير واحد من الكتب، فلاحظ رجال ابن داود: القسم الأوّل برقم 300، و أعيان الشيعة: 4/ 89، مقابس الأنوار: 12، و الكني و الألقاب: 2/ 154.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 173

فهو حرام، و إن كان من غيرها إليها فواجب، فقال المحقّق في الحال: بل منها إليها، فسكت المحقّق الطوسي.

ثمّ ألّف المحقّق في ذلك رسالة لطيفة أوردها الشيخ أحمد بن فهد في «المهذّب» بتمامها، و أرسلها إلي المحقّق الطوسي فاستحسنها، و كان مرجع أهل عصره في الفقه، يروي عن أبيه عن جده يحيي الأكبر. («1»)

إنّ

كلّ ما انتج يراع شيخنا المحقّق أثر خالد علي جبين الدهر، لا سيّما كتابيه «شرائع الإسلام» و «المعتبر»، فإنّ لهما قيمة علمية كبيرة لم تتطاول يد الزمان عليهما.

فكتاب شرائع الإسلام في مسائل الحلال و الحرام، و هو من أحسن المتون الفقهية ترتيباً، و أجمعها للفروع، و قد ولع به الأصحاب من لدن عصر مؤلّفه إلي الآن، و لا يزال من الكتب الدراسية في حواضر العلم الشيعية، و قد اعتمد عليه الفقهاء خلال هذه القرون العديدة فاتخذوه محوراً لبحوثهم و دراساتهم، و كتبوا عليه شروحاً و حواشي كثيرة، و يكفيك انّ معظم الموسوعات الفقهية الضخمة التي أُلّفت بعد عصر المحقّق كلّها شروح له، و قد ذكر أسامي تلك الشروح شيخنا المجيز في «الذريعة إلي تصانيف الشيعة». («2») و أمّا كتاب «المعتبر في شرح المختصر» فقد شرح فيه كتابه الآخر «المختصر النافع» الذي هو مختصر كتابه «شرائع الإسلام» خرج منه العبادات إلي كتاب الحج و بعض التجارات، و طبع أخيراً في جزءين.

و الكتاب من أنفس الكتب الفقهية الاستدلالية لا يقاس بغيره، و قد كان السيد المحقّق البروجردي (1292- 1380 ه-) يذكره في دروسه الشريفة بإجلال و إكبار، و يقول لم يؤلّف علي غراره تأليف.

______________________________

(1) الكني و الألقاب: 2/ 154.

(2) الذريعة: 13/ 47 برقم 161.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 174

6. أحمد بن موسي بن جعفر بن طاوس (المتوفّي 673 ه-)

يعرفه تلميذه ابن داود بقوله: سيدنا الطاهر، الإمام المعظّم، فقيه أهل البيت جمال الدين أبو الفضائل، مات سنة ثلاث و سبعين و ستمائة، مصنف، مجتهد، كان أورع فضلاء زمانه، قرأت عليه أكثر «البشري» و «الملاذ» و غير ذلك من تصانيفه، و أجاز لي جميع تصانيفه و رواياته، و كان شاعراً مصقعاً، بليغاً منشئاً مجيداً، من تصانيفه: كتاب «بشري

المحقّقين» في الفقه ستة مجلدات، و كتاب «الملاذ» في الفقه أربعة مجلدات، كتاب «الكر» مجلد، كتاب «السهم السريع» في تحليل المبايعة مع القرض مجلد، كتاب «الفوائد العدة» في أُصول الفقه مجلد، كتاب «الثاقب المسخر علي نقض المشجر» في أُصول الدين، كتاب «الروح» نقضاً علي ابن أبي الحديد، كتاب «شواهد القرآن» مجلدان، كتاب «بناء المقالة العلوية في نقض الرسالة العثمانية» مجلد، كتاب «المسائل» في أُصول الدين مجلد، كتاب «عين العبرة في غبن العترة» مجلد، كتاب «زهرة الرياض» في المواعظ مجلد، كتاب «الاختيار في أدعية الليل و النهار» مجلد، كتاب «الازهار» في شرح لامية مهيار مجلدان، كتاب «عمل اليوم و الليلة» مجلد، و حقق الرجال و الرواية و التفسير تحقيقاً لا مزيد عليه، رباني و علمني و أحسن إليّ، و أكثر فوائد هذا الكتاب من إشاراته و تحقيقاته جزاه اللّه عنّي أفضل جزاء المحسنين. («1»)

و ممّا يجب إلفات نظر القارئ إليه هو انّه (قدس سره) أوّل من اخترع تفريع الخبر إلي أقسامه الأربعة المشهورة: الصحيح، الحسن، الموثق، و الضعيف، بعد ما كان الصحيح عند القدماء بغير المعني الذي اصطلحه هو عليه، و قد ذكرنا وجه الفرق

______________________________

(1) ابن داود الحلي: الرجال، برقم 137؛ و انظر ترجمته في روضات الجنات: 7/ 66 برقم 15، و الكني و الألقاب: 1/ 340، إلي غير ذلك من الكتب.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 175

و سبب تنويع الأخبار إلي الأقسام الأربعة في كتابنا «كليات في علم الرجال». («1»)

و ممّا يؤسف له انّ موسوعاته الفقهية باسم «بشري المحقّقين» في ستة أجزاء، و كتاب «ملاذ العلماء» في أربعة أجزاء ممّا لعب به الزمان، فلم نعثر علي نسخة منها.

ثمّ إنّ من تآليفه «حلّ الإشكال في معرفة الرجال»

و كانت نسخة الكتاب موجودة عند الشهيد الثاني، ثمّ انتقلت إلي ولده الشيخ حسن صاحب المعالم، فجدّد صياغة الكتاب و أسماه ب- «التحرير الطاووسي».

و قد صبت الحركة الأخبارية- التي ظهرت في أوائل القرن الحادي عشر- حمم غضبها علي ابن طاوس و تلميذه العلّامة الحلّي من جرّاء تنويعهما الأخبار بهذا النحو الذي ذكرناه.

7. الفقيه البارع يحيي بن سعيد الحلي (601- 689)

عرّفه ابن داود في رجاله بقوله: يحيي بن أحمد بن سعيد، شيخنا الإمام الورع القدوة، كان جامعاً لفنون العلم الأدبية و الفقهية و الأُصولية، و كان أورع الفضلاء و أزهدهم، له تصانيف جامعة للفوائد، منها: كتاب «الجامع للشرائع» في الفقه، كتاب «المدخل» في أُصول الفقه، و غير ذلك، مات سنة 689 ه-. («2»)

و قال الأفندي التبريزي في كتابه القيم «رياض العلماء»: كان (قدس سره) مجمعاً علي فضله و علمه بين الشيعة و عظماء أهل السنّة. («3»)

______________________________

(1) كليات في علم الرجال: 359.

(2) ابن داود: الرجال: برقم 1660.

(3) رياض العلماء: 5/ 336.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 176

قال السيوطي في «بغية الوعاة» في طبقات اللغويين و النحاة نقلًا عن الذهبي انّه قال: لغوي، أديب، حافظ للآثار، بصير باللغة و الأدب، من كبار الرافضة. («1»)

و قد ترجمنا له ترجمة وافية في تقديمنا لكتابه «الجامع للشرائع».

و من لطائف آثاره كتابه «نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه و النظائر» و قد غفل عن ذكره ابن داود في «رجاله» و هو كتاب سيق في الفقه يذكر لمسألة واحدة نظائرها و أشباهها.

و قد طبع من آثاره: «الجامع للشرائع» بتقديم منّا و «نزهة الناظر».

8. غياث الدين عبد الكريم بن أحمد بن طاوس (648- 693 ه-)

يعرّفه المحدّث النوري في «المستدرك» بقوله: نادرة الزمان، و أُعجوبة الدهر، صاحب المقامات و الكرامات.

و يعرّفه أيضاً تلميذه ابن داود في «رجاله»: سيدنا الإمام المعظّم، غياث الدين، الفقيه النسّابة النحوي العروضي الزاهد العابد أبو المظفر، انتهت رئاسة السادات و ذوي النواميس إليه، و كان أوحد زمانه، حائري المولد، حلّي المنشأ، بغدادي التحصيل، كاظمي الخاتمة، ولد في شعبان سنة 648 ه-، و توفي في شوال سنة 693 ه-، و كان عمره خمساً و أربعين سنة و شهرين و أياماً، كنت قرينه

طفلين، إلي أن توفّي قدس اللّه روحه، ما رأيت قبله و لا بعده بخلقه و جميل قاعدته و حلو معاشرته ثانياً، و لا لذكائه و قوة حافظته مماثلًا، ما دخل في ذهنه شي ء فكاد ينساه، حفظ القرآن في مدّة يسيرة و له إحدي عشرة سنة، استقل بالكتابة و استغني عن المعلم في أربعين يوماً و عمره إذ ذاك أربع سنين، و لا تحصي مناقبه و فضائله.

______________________________

(1) بغية الوعاة: 2/ 331.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 177

له كتب، منها: كتاب «الشمل المنظوم في مصنفي العلوم» ما لأصحابنا مثله، و كتاب «فرحة الغري» و غير ذلك. («1»)

9. سديد الدين يوسف بن المطهّر الحلّي

هو الشيخ يوسف بن الشيخ شرف الدين علي بن مطهّر الحلّي، والد العلّامة الحلّي، و أُستاذه الأقدم في الفقه و الأدب و الأُصول، يعرفه ابن داود في «رجاله» بقوله: كان فقيهاً، محقّقاً، مدرساً، عظيم الشأن. («2»)

و قال الحر العاملي: فاضل، فقيه، متبحر، نقل ولده العلّامة أقواله في كتبه. («3»)

و يكفي في عظمته وسعة آفاق علمه انّ ولده العلّامة تتلمذ عليه.

و يظهر من أجوبة العلّامة لأسئلة السيد المهنا انّ والده كان فقيهاً فحلًا، حيث يذكر هناك ما دار بينه و بين والده من الاختلاف في مسألة، فمن أراد فليرجع إليه. («4»)

10. الحسن بن أبي طالب اليوسفي الآبي (كان حيّاً عام 673 ه-)

هو عز الدين الحسن بن أبي طالب اليوسفي المكنّي ب- «أبي زينب» المعروف بالفاضل الآبي، وصفه العلّامة المامقاني بقوله: عالم، فاضل.

ترجمه العلّامة الطباطبائي بقوله: أحد تلامذة المحقّق الحلّي و شارح كتابه «النافع» المسمّي «كشف الرموز» و هو أوّل من شرح هذا الكتاب، عالم، فاضل،

______________________________

(1) ابن داود: الرجال: برقم 947.

(2) ابن داود: الرجال: برقم 461.

(3) أمل الآمل: 2/ برقم 1081.

(4) أجوبة المسائل المهنائية.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 178

محقّق، فقيه، قوي الفقاهة، حكي الأصحاب كالشهيدين و السيوري و غيرهم أقواله و مذاهبه في كتبهم، و يعبرون عنه بالآبي و أبي زينب، و شارح النافع، و تلميذ المحقّق. و شهرة هذا الرجل دون فضله و علمه أكثر من ذكره و نقله، و كتابه «كشف الرموز» كتاب حسن مشتمل علي فوائد كثيرة و تنبيهات جيدة مع ذكر الأقوال و الأدلّة علي سبيل الإيجاز و الاختصار، و يختص بالنقل عن السيد ابن طاوس أبي الفضائل في كثير من المسائل، و له مع شيخه المحقّق مخالفات و مباحثات في كثير من المواضع؛ و هو ممّن اختار المضايقة في القضاء، و تحريم

الجمعة في زمان الغيبة، و حرمان الزوجة من الرباع و إن كانت ذات ولد، و قد فرغ من كتابه سنة 672 ه-. («1»)

و قد توفي المحقّق الماتن عام 676 ه- و شيخنا الآبي قد فرغ من شرح الكتاب و الماتن علي قيد الحياة.

يقول في مقدّمة الكتاب: بعد ذكر توجهه إلي الحلة السيفية، يعرّفها بقوله: فكم بها من أعيان العلماء بهم التقيت، و المعارف الفقهاء، بأيّهم اقتديت اهتديت؛ و كان صدر جريدتها، و بيت قصيدتها، جمال كمالها، و كمال جمالها، الشيخ الفاضل الكامل، عين أعيان العلماء، و رأس رؤساء الفضلاء، نجم الدين حجّة الإسلام أبا القاسم جعفر بن الحسن بن سعيد عظّم اللّه قدره و طوّل عمره.

فاستسعدت بهاء طلعته، و استفدت من جَني ثمرته في كلّ فصل من كلّ فنّ، و صرفت أكثر همي و سابق فهمي إلي العلوم الدينية الفقهية و الكلامية، إذ لا تدرك إلّا بكمال العقل وصفاء الذهن، و عليها مدار الدين و تحقيق اليقين. («2»)

______________________________

(1) انظر إلي الفوائد الرجالية: 2/ 179 و ترجمه أيضاً المامقاني في تنقيح المقال: 1/ 267.

و الحقّ انّ فضل الرجل قد اختفي، لأجل عدم توفر ترجمة وافية له في المعاجم.

(2) المحقّق الآبي: مقدّمة كشف الرموز: 1/ 38.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 179

ثمّ يذكر انّ لأُستاذه المحقّق كتابين: 1. شرائع الإسلام، 2. منتخبه النافع.

فيقول: التمس منّي بعض إخواني في الدين أن أكشف قناع الإشكال عن رموزات كتاب «النافع» أعني: كتاب «مختصر الشرائع» إلي أن يقول: فوجدت طاعته راحة، و إجابته طاعة، فقمت به مستعيناً بمسبّب الأسباب و مسهّل الصعاب.

و يقول في آخر الكتاب: و اتّفق فراغ مصنّفه في سنة 672 ه-، و كلّما يذكر قول الماتن يردفه بقوله دام

ظله إلي آخر الكتاب، و هو يدل علي أنّ التلميذ برع في عهد أُستاذه حتي صنّف دورة فقهية استدلالية في زمن المؤلّف، و قد طبع الكتاب في جزءين طبعة محقّقة.

11. الشيخ عماد الدين علي بن محمد الطبري (كان حيّاً عام 698 ه-)

عماد الدين الحسن بن علي بن محمد بن علي بن حسن الطبري المعروف ب- «عماد الدين الطبري» كان حيّاً سنة 698 ه-.

يعرّفه سيدنا الأمين بقوله: متكلّم، فقيه، معاصر للمحقّق الطوسي و المحقّق الحلّي، و أقواله منقولة في كتب الفقه، و يعبّرون عنه فيها بالعماد الطبري، و بعماد الدين الطبري، و قد نقل شيخنا الشهيد الثاني رأيه في رسالة الجمعة، و ليس رأيه إلّا أنّ وجوب الجمعة موقوف علي حضور السلطان العادل المبسوط اليد. («1»)

و قال الأفندي التبريزي: هو عالم، فاضل، متبحّر، جامع، دين، كان من أفاضل علماء طبرستان، و من المعاصرين لنصير الدين الطوسي.

و قد ألّف في غير واحد من الموضوعات تربو علي 17 كتاباً، ففي الفقه ألّف

______________________________

(1) السيد الأمين: أعيان الشيعة: 5/ 212.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 180

«المنهج» في فقه العبادات، و الأدعية و الآداب الدينية، و كتاب «العمدة» في أُصول الدين و فروعه الفرضية و النقلية، و «نهج الإيمان إلي هداية الإيمان» و هو أيضاً في الفروع الفقهية.

إلي غير ذلك من التآليف.

و يظهر من كتابه «أسرار الإمامة» انّه كان حيّاً إلي سنة 698 ه- فقال: حين البحث عن الإمام المهدي عجّل اللّه تعالي فرجه الشريف: فإن قيل ألا يمكن أن يعيش أحد من سنة 255 إلي سنة 698 … («1»)

حصيلة الجهود الفقهية في القرن السابع

اشارة

إنّ هذا القرن يؤلِّف جزءاً من الدور الرابع، و لكنّه بالنسبة إلي سائر القرون قرن زاهر بالفقهاء العظام الذين يضنَّ بهم الدهر إلّا في فترات يسيرة، فقد ساهموا مساهمة فعّالة في تنشيط الحركة الفقهية و الأخذ بزمامها نحو الامام، و تمخضت جهودهم المبذولة في هذا القرن بالأُمور التالية:

1. تأليف متون فقهية

فقد أُلّفت في هذا القرن متون فقهية لم تزل تحتفظ بصدارتها إلي عصرنا الحاضر بين مسهب كشرائع الإسلام، و متوسط كالجامع للشرائع لابن سعيد الحلّي، و مقتضب كالمختصر النافع.

2. تأليف موسوعات فقهية

شهد هذا القرن تأليف موسوعات فقهية علي غرار مبسوط الشيخ الطوسي،

______________________________

(1) اقرأ ترجمته الوافية في روضات الجنات برقم 194، و رياض العلماء.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 181

كالمعتبر للمحقّق الحلّي و إن لم يتم.

و كتاب «بشري المحقّقين» في ستة أجزاء، و كتاب «الملاذ» في أربعة أجزاء لأحمد بن موسي بن طاوس، و «كشف الرموز» للمحقّق الآبي.

3. الاهتمام بأُصول الفقه

اهتم المحقّقون في هذا القرن بأُصول الفقه أيضاً، فقد أُلّفت كتب في هذا المضمار، نذكر علي سبيل الاختصار:

أ. «المعارج» للمحقّق الحلّي، و هو مطبوع منتشر.

ب. «المدخل في أُصول الفقه» ليحيي بن سعيد الحلّي.

ج. «الفوائد العدة» في أُصول الفقه لأحمد بن طاوس.

4. إبداع نهج جديد في الفقه الشيعي

يبتني الفقه الشيعي علي رفض القياس و الأخذ بالسنّة و ترك العمل بالاستحسان، و لربّما تشترك مسائل كثيرة في أصل واحد و تتفرع عليه، و يعبّر عنه بالأشباه و النظائر و بالاطلاع علي شبيه المسألة و نظيرها يكسب الفقيه خبرة و إحاطة بالفقه، و قد كان هذا اللون من الاستنباط شائعاً بين مشايخنا، فإذا طرحت مسألة استدل عليها بطرح أشباهها و نظائرها بوجه يكشف عن تضلّعه في الفقه، و قد تبع هذا النهج- الذي وضع لبناته الأُولي الفقيه البارع يحيي بن سعيد بتأليف كتابه «نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه و النظائر» و الحسن بن علي بن داود الحلي فألّف كتابه «عقد الجواهر في الأشباه و النظائر»، و الحافظ جلال الدين السيوطي فألّف كتابه الرائج «الأشباه و النظائر».

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 182

و ممّا يؤسف له انّ هذا النوع من التأليف لم يدم طويلًا، فلا نكاد نعثر علي كتب فقهية أُلّفت علي هذا الغرار بين فقهائنا. و قد كان بعض مشايخنا العظام- قدس اللّه سرهم- يسلك هذا المنهج في دراساته الفقهية العليا.

5. تهذيب الأخبار

قد كان الحديث الصحيح عند القدماء هو الخبر الذي دلّت القرائن علي صحّته و صدوره عن المعصوم، و قد كان الوقوف علي تلك القرائن متوفراً في القرون الأُولي، و كلّما ابتعد الفقهاء عن عصر النصّ، أخذ الغموض يكتنف تلك القرائن، فمسّت الحاجة إلي إبداع أساليب يعرف بها الصحيح عن غيره، فأوّل من شمّر عن ساعد الجد لهذا الأمر هو السيد أحمد بن طاوس، فأخذ بتنويع الأحاديث إلي أربعة أنواع حسب القواعد الرجالية التي أبدعها، فصار التنويع أمراً متبعاً إلي يومنا هذا، غير انّ الأخبارية التي ظهرت في أوائل القرن الحادي عشر شنّت حملات

شعواء علي هذا التنويع، و سيوافيك تفصيله.

و ثمة نكتة جديرة بالإشارة و هي انّ الحملة الشرسة التي قادها الوثنيون المغول في غضون القرن السادس بدءاً من خراسان و انتهاءً ببغداد تركت مضاعفات خطيرة علي الحوزات الإسلامية، لا سيما الحوزات التي كانت في مسيرهم نحو بغداد، كحوزة نيسابور و بيهق. و لمّا انتهي الأمر إلي سقوط بغداد و القضاء علي الخلافة العباسية حاول المغول تدمير سائر المدن العراقية، ككربلاء و النجف الأشرف و الحلّة الفيحاء، و لكنّه سبحانه صانها عن شرّهم و كيدهم بتدبير من علمائها، و قد ذكر العلّامة الحلّي بعض تلك التدابير في كتابه «كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين» فمن أراد فليرجع إليه. («1»)

______________________________

(1) نقلها الخوانساري في روضات الجنات: 8/ برقم 749 عن كتاب «كشف اليقين» للعلّامة الحلّي.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 183

الدور الرابع

الجهود الفقهية في القرن الثامن

اشارة

قد اطّلعت علي الجهود التي بذلت في الارتقاء بالمستوي الفقهي و علي أسماء نخبة من الفقهاء الشامخين و كتبهم في القرن السابع.

فهلمّ معي نبحث عن تقدّم الركب الفقهي في القرن الثامن، و سيرة الفقهاء الذين برزوا فيه، و الجهود التي بذلوها بغية إنعاش هذا العلم.

و الجهود العلمية التي انصبّت في هذا القرن ليس إلّا إكمالًا للجهود التي بذلت في القرن السابع، فالأساليب المتبعة هي نفس الأساليب السابقة دون أن يطرأ عليها أي جديد، و لو كان هناك تطور فإنّما هو في العرض و البيان كما سيوافيك.

[فقهاء القرن الثامن]

1. الحسن بن علي بن داود الحلّي (647- 707 ه-)

الشيخ تقي الدين الحسن بن علي بن داود الحلي المعروف ب- «ابن داود» من العلماء البارعين في الفقه و الأُصول و الرجال و الكلام.

يصفه الشهيد الثاني بقوله: صاحب التصانيف الغزيرة، و التحقيقات الكثيرة، التي من جملتها كتاب «رجاله» سلك فيه مسلكاً لم يسلكه فيه أحد من

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 184

الأصحاب، و له من التصنيفات في الفقه نظماً و نثراً مختصراً و مطولًا و في العربية و المنطق و العروض و أُصول الدين نحوٌ من ثلاثين مصنفاً. («1»)

و قد قرأ علي المحقّق نجم الدين الحلّي و السيد جمال الدين بن طاوس كما مرّ في ترجمة المحقّق و ابن طاوس.

و هو (قدس سره) يعرّف نفسه في رجاله كعادة الرجاليين قائلًا: الحسن بن علي بن داود مصنف هذا الكتاب، مولده خامس جمادي الآخرة من سنة سبع و أربعين و ستمائة.

له كتب، منها في الفقه: كتاب «تحصيل المنافع» و كتاب «التحفة السعدية» و كتاب «المقتصر من المختصر» و كتاب «الكافي» و كتاب «النكت» و كتاب «الرائع» و كتاب «خلاف المذاهب الخمسة» و كتاب «تكملة المعتبر» لم يتم، و كتاب «الجوهرة في نظم

التبصرة» و كتاب «اللمعة» في فقه الصلاة نظماً، و كتاب «عقد الجواهر في الأشباه و النظائر» نظماً، و كتاب «اللؤلؤة» في خلاف أصحابنا لم يتم نظماً، و كتاب «الرائض في الفرائض» نظماً، و كتاب «عدة الناسك في قضاء المناسك» نظماً، و كتاب «الرجال» و هو هذا الكتاب، و له في الفقه غير ذلك.

و منها في أُصول الدين و غيره: «الدر الثمين في أُصول الدين» نظماً، و كتاب «الخريدة العذراء في العقيدة الغرّاء» نظماً، و كتاب «الدرج» و كتاب «إحكام القضية في أحكام القضية» في المنطق، و كتاب «حل الإشكال في عقد الاشكال» في المنطق، و كتاب «البغية» في القضايا، و كتاب «الإكليل التاجي» في العروض، و كتاب «قوة عين الخليل في شرح النظم الجليل» لابن الحاجب في العروض أيضاً، و كتاب «شرح قصيدة صدر الدين الساوي» في العروض أيضاً، و كتاب «مختصر الإيضاح» في النحو، و كتاب «حروف المعجم» في النحو، و كتاب «مختصر أسرار

______________________________

(1) الخوانساري: روضات الجنات: 2/ 287، نقلًا عن إجازات الشهيد الثاني.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 185

العربية» في النحو. («1»)

و من جميل ما ألّفه هو كتابه «خلاف المذاهب الخمسة»، و هو فقه مقارن و قد تبع فيه خلاف الشيخ الطوسي إلّا أنّ الثاني أعمّ منه من حيث بيان المذاهب.

و أمّا سلوكه في الرجال فرتّبه علي الحروف، فالأوّل في الأسماء و أسماء الآباء و الأجداد، و جمع في كتابه ما وصل إليه من كتب الرجال مع حسن الترتيب و زيادة التهذيب، فنقل فيه ما في رجال النجاشي و فهرست الشيخ و رجاله و رجال الكشي و كتاب ابن الغضائري و البرقي و ابن عقدة و الفضل بن شاذان و ابن عبدون و غيرها.

(«2»)

و هذه ميزة لا توجد في سائر الكتب الرجالية المؤلّفة إلي عصره.

2. العلّامة الحلّي (648- 726 ه-)

هو الشيخ الأجل، العلّامة علي الإطلاق، أبو منصور جمال الدين الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلّي، قدس اللّه نفسه و روح رمسه.

تتلمذ علي عدد كبير من علماء عصره، كما تتلمذ عليه جمع غفير من العلماء. فمشاهير أساتذته: المحقّق الحلّي، نصير الدين محمد بن حسن الطوسي، والده سديد الدين يوسف بن مطهر الحلّي، و الشيخ كمال الدين ميثم البحراني، و الشيخ نجم الدين علي بن عمر الكاتب القزويني الشافعي، و الشيخ شمس الدين محمد ابن محمد بن أحمد الكيشي.

و من تلامذته: ولده فخر المحقّقين، و السيد عميد الدين، و السيد ضياء الدين، و محمد بن علي الجرجاني، و الشيخ قطب الدين محمد بن محمد الرازي

______________________________

(1) ابن داود الحلي: الرجال: برقم 434.

(2) الطهراني: الحقائق الراهنة: 53.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 186

البويهي.

هذه نماذج من تلامذته، و إلّا فقد تخرج علي يديه و استجاز منه أُناس كثيرون يطول بنا المقام بذكرهم. كيف و قد كان في عصره في الحلّة أربعمائة و أربعون مجتهداً؟! («1»)

و يصفه ولده في شرحه علي القواعد بقوله: المؤيد بالنفس القدسية و الأخلاق النبوية. («2»)

و يعرفه الحسن بن داود الذي كان معاصراً له في رجاله و يقول: الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي، شيخ الطائفة، و علّامة وقته، صاحب التحقيق و التدقيق، كثير التصانيف، انتهت رئاسة الإمامية إليه في المعقول و المنقول. («3»)

و قد حفلت كتب الرجال و التراجم بترجمة العلّامة ترجمة وافية، و قام بذلك غير واحد من المحقّقين في تقديماتهم علي كتبه المنتشرة.

فنحن لا نري حاجة في التبسط في المقام، و الذي يجدر بنا ذكره هو (قدس سره) انّه قد

ألّف ست دورات فقهية لكلّ ميزتها الخاصة، و قد ذكرها في ترجمته في رجاله (الخلاصة)، و قال فيها:

1. «منتهي المطلب في تحقيق المذهب» لم يعمل مثله، ذكرنا فيه جميع مذاهب المسلمين في الفقه، و رجحنا ما نعتقده بعد إبطال حجج من خالفنا فيه يتم إن شاء اللّه تعالي عملنا منه إلي هذا التاريخ، و هو شهر ربيع الآخر سنة ثلاث و تسعين و ستمائة في سبعة مجلدات.

2. كتاب «تلخيص المرام في معرفة الأحكام».

______________________________

(1) رياض العلماء: 1/ 361، أعيان الشيعة: 5/ 401 في ترجمة العلامة الحلّي.

(2) إيضاح الفوائد في شرح القواعد: 1/ 10.

(3) ابن داود الحلّي: الرجال: 119 برقم 461.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 187

3. كتاب «غاية الأحكام في تصحيح تلخيص المرام».

4. كتاب «تحرير الأحكام الشرعية علي مذهب الإمامية» حسن جيد، استخرجنا فيه فروعاً لم نسبق إليها مع اختصاره.

5. كتاب «مختلف الشيعة في أحكام الشريعة» ذكرنا فيه خلاف علمائنا خاصة، و حجّة كلّ منهم و الترجيح لما نصير إليه.

6. كتاب «تبصرة المتعلّمين في أحكام الدين». («1»)

و نقل محقّق «غاية المراد» في تقديمه عليه عن إحدي مخطوطات كتاب «الإرشاد» للعلّامة الحلّي انّه جاء في هامشه ما يلي:

«قدّس اللّه نفس العلّامة حيث صنف في كلّ فنون الفقه، كتب في الخلاف مع الجمهور «التذكرة»، و في الخلاف بين الخاصة «المختلف»، و في فنّ التفريع «التحرير»، و في كليات قواعده «القواعد»، و في فروع الروايات «الإرشاد»، و في الاستدلال «المنتهي»، و في النتائج «النهاية». («2»)

و الكتاب الأخير لم يذكره العلّامة عند تطرّقه لترجمة نفسه، و قد طبع أخيراً، و بهذا يبلغ عدد الدورات الفقهية الناجزة بيراعه إلي سبع.

كما ألّف في الأُصول كتباً متعدّدة، بين موجز ك- «مبادئ الوصول إلي علم

الأُصول»، و متوسط ك- «تهذيب الوصول إلي علم الأُصول»، و مسهب ك- «نهاية العقول إلي علم الأُصول» و قد طبع الأوّلان، و الثالث لم ير النور و نحتفظ منه بنسخة.

______________________________

(1) رجال العلّامة الحلّي: 45 برقم 52.

(2) غاية المراد: 51، مقدمة المحقّق، نقلًا عن مخطوطة المكتبة الرضوية المقدّسة المرقّمة 2689 الورقة 95.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 188

و قد ذكر شيخنا في «ريحانة الأدب» انّ العلّامة الحلّي ألّف خمسة عشر كتاباً في الفقه، و عشرة كتب في أُصوله، و ربما ناهزت أجزاء بعض كتبه في الفقه عشرين جزءاً كما هو واضح لمن طالع تذكرة الفقهاء.

و حصيلة الجهود التي بذلها العلّامة الحلّي في رفع المستوي الفقهي هو انّه ألّف كتباً مختلفة لغايات مختلفة، فلو ألّف الشيخ الخلاف بين المذاهب فقد ألّف هو مختلف الشيعة في اختلافات فقهاء الشيعة.

كما أنّه ألّف في الفقه المقارن دورتين:

إحداهما: «منتهي المطلب في تحرير المذهب» بدأ بتأليفه و له من العمر اثنان و ثلاثون عاماً، أي في عام 680 ه-، و كان المرجو أن يتم تأليفه و لكن الحوادث عاقته عن الإتمام.

و الثاني: «تذكرة الفقهاء» فقد فرغ من الجزء الأخير منه عام 720 ه- و لم يتجاوز عن كتاب النكاح، و مع ذلك فهو أيضاً لم يتم.

فعلي من حاول الوقوف علي تخريجاته و تفريعاته الرجوع إلي كتاب «تحرير الأحكام» حيث اشتمل علي فروع كثيرة، و فرغ من تأليفه عام 697 ه-.

و نرجو من اللّه سبحانه أن يوفّقنا لتحقيق هذا الكتاب و نشره في الأوساط الإسلامية. («1»)

3. فخر المحقّقين (682- 771 ه-)

محمد بن الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلّي الشهير ب- «فخر المحقّقين» وصفه الشهيد الأوّل بقوله: الشيخ الإمام، سلطان العلماء، منتهي

______________________________

(1) قد حققه ولدنا المحقق الشيخ

ابراهيم «بهادري» حفظه اللّه و نشر في ستة أجزاء سادسها فهارسه الفقيه.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 189

الفضلاء، و النبلاء، خاتمة المجتهدين، فخر الملّة و الدين، أبو طالب محمد بن الشيخ الإمام السعيد جمال الدين بن المطهر مدّ اللّه في عمره مدّاً، و جعل بينه و بين الحادثات سدّاً.

و وصفه والده في أوّل كتابه الموسوم ب- «الألفين»: «أجبت سؤال ولدي العزيز عليّ «محمد» أصلح اللّه أمر داريه كما هو بار بوالديه، و رزقه أسباب السعادات الدنيوية و الأُخروية كما أطاعني في استعمال قواه العقلية و الحسية، و أسعفه ببلوغ آماله كما أرضاني بأقواله و أفعاله، و جمع له بين الرئاستين كما لم يعصني طرفة عين. («1»)

و عرّفه شيخنا الحر العاملي في كتابه «أمل الآمل»، بقوله: كان فاضلًا، محقّقاً، فقيهاً، ثقة، جليلًا، يروي عن أبيه العلّامة و غيره.

له كتب، منها: شرح القواعد سمّاه «إيضاح الفوائد في حلّ مشكلات القواعد» و له شرح خطبة القواعد سمّاه «إيضاح القلوب» و «الفخرية في النية»، و «حاشية الإرشاد»، و «الكافية الوافية» في الكلام، و غير ذلك. و يروي عنه الشهيد و أثني عليه في بعض إجازاته ثناءً بليغاً جداً.

و ذكره السيد مصطفي التفريشي، فقال: من وجوه هذه الطائفة و ثقاتها و فقهائها، جليل القدر، عظيم المنزلة، رفيع الشأن، حاله في علو قدره، و سمو رتبته و كثرة علومه أشهر من أن يذكر، روي عن أبيه، و روي عنه شيخنا الشهيد، له كتب جيدة منها «الإيضاح». («2»)

و من تآليفه الفقهية: «إيضاح الفوائد في حل مشكلات القواعد» و هو شرح كتاب القواعد لوالده العلّامة، و قد طبع في ثلاثة أجزاء.

______________________________

(1) روضات الجنات: 6/ 331.

(2) أمل الآمل: 2/ 260 برقم 768.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)،

ص: 190

و من آثاره الأُصولية: «شرح مبادئ الأُصول»، المتن للوالد و الشرح له، و مثله كتابه الآخر «غاية السئول في شرح تهذيب الأُصول».

و من آرائه التي انفرد بها بين الإمامية انّ النهي في العبادات يقتضي الصحّة بدل اقتضائه للفساد، هذا و قد سأله العارف الجليل السيد حيدر الآملي عن مسائل فأجابه، فقال السيد: بعد الحمد و الصلاة، هذه مسائل سألتها جناب الشيخ الأعظم سلطان العلماء في العالم مفخر العرب و العجم قدوة المحقّقين، مقتدي الخلائق أجمعين، أفضل المتأخرين و المتقدمين، المخصوص بعناية ربّ العالمين، الإمام العلّامة في الملّة و الحقّ و الدين، ابن المطهر، مد اللّه ظلال إفضاله، و شيّد أركان الدين ببقائه، مشافهة في مجالس متفرقة علي سبيل الفتوي، و كان ذلك في سلخ رجب المرجب سنة 759 هجرية نبوية هلالية ببلدة حلة السيفية حماها اللّه عن الحدثان، و أنا العبد الفقير حيدر بن علي بن حيدر العلوي الحسيني الآملي، أصلح اللّه حاله و جعل الجنة مآله. («1»)

4. قطب الدين الرازي (المتوفّي عام 776 ه-)

الحكيم، الفقيه، المتألّه، تلميذ العلّامة الحلّي، و قد قرأ قواعده عليه و كتب علي ظهر الكتاب العبارة التالية- يعلم منها مكانة التلميذ- قال: قرأ عليَّ هذا الكتاب الشيخ العالم، الكبير، الفقيه، الفاضل، المحقّق، المدقّق، ملك العلماء و الأفاضل قطب الملّة و الدين، محمد بن محمد الرازي أدام اللّه أيّامه، قراءة بحث و تدقيق، و تحرير و تحقيق، و سأل عن مشكلاته، و استوضح معظم مشتبهاته، فبيّنت له ذلك بياناً شافياً، و أجزت له رواية هذا الكتاب بأجمعه و رواية جميع مصنفاتي و رواياتي و ما أُجيز لي روايته و جميع كتب أصحابنا السالفين (رضوان اللّه تعالي

______________________________

(1) المستدرك: 3/ 459، الفائدة الثالثة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 191

عليهم

أجمعين) بالطرق المتصلة مني إليهم، فليرو ذلك لمن شاء و أحبَّ علي الشروط المعتبرة في الإجازة، فهو أهل لذلك، أحسن اللّه عاقبته، و كتب العبد الفقير إلي اللّه تعالي حسن بن يوسف بن المطهر الحلّي مصنّف الكتاب في ثالث شعبان المبارك من سنة 713 بناحية ورامين، و الحمد للّه وحده و صلي اللّه علي محمّد النبي و آله.

و عرّفه الشهيد الأوّل بقوله: اتفق اجتماعي به بدمشق أُخريات شعبان سنة 776 ه-، فإذا هو بحر لا ينزف، و أجازني جميع ما يجوز عني روايته، ثمّ توفي في 12 ذي القعدة من السنة المذكورة بدمشق، و دفن في الصالحية، ثمّ نقل إلي موضع آخر، و صلّي عليه برحبة القلعة، و حضر الأكثر من معتبري دمشق للصلاة عليه، (رحمه الله) و قدّس روحه، و كان إمامي المذهب بغير شك و ريبة، صرّح بذلك و سمعته منه و انقطاعه إلي بقية أهل البيت معلوم.

و يقول الشهيد: إنّه كان من ذرية الصدوق ابن بابويه.

و قد وصفه غير واحد من علمائنا بما يعرف عن مكانته في العلوم العقلية و النقلية.

و كفاك انّ كتابيه: شرح الشمسية، و شرح المطالع من الكتب الدراسية في الحوزات العلمية.

و قد نقل الشيخ الأنصاري آراءه الفقهية في متاجره، فمن أراد الوقوف، فليرجع إلي مستدرك الوسائل. («1»)

______________________________

(1) المستدرك: 3/ 451، الفائدة الثالثة. و انظر ترجمته في طبقات أعلام الشيعة: القرن الثامن: 200.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 192

5. محمد بن مكي العاملي (734- 786 ه-)

هو المحقّق الجليل، المتضلّع في الفقه، المعروف بإمام الفقه، فضله أشهر من أن يذكر، و جماع القول فيه انّه تاج الشيعة، و فخر الشريعة، صاحب النفس الزكية القدسية القوية، ولد بجزين سنة 734 ه-.

و يعرّفه الشيخ الحر العاملي بقوله: كان عالماً،

ماهراً، فقيهاً، محدّثاً، مدقّقاً، ثقة، متبحّراً، كاملًا، جامعاً لفنون العقليات و النقليات، زاهداً، عابداً، ورعاً، شاعراً، أديباً، منشئاً، فريد دهره، عديم النظير في زمانه.

و قد استجاز عن مشايخ الفريقين، و روي مصنّفات أهل السنّة عن نحو أربعين شيخاً، كما روي عنه جماعة كثيرة، و يعد شيخ الإجازات في القرن الثامن، و إليه تنتهي أكثر الإجازات.

و أمّا آثاره الفقهية:

1. كتاب «الذكري»، خرج منه كتاب الطهارة و الصلاة.

2. كتاب «الدروس الشرعية في فقه الإمامية» خرج منه أكثر الفقه.

3. «غاية المراد في شرح نكت الإرشاد».

4. كتاب «جامع البين من فوائد الشرحين» جمع فيه شرحي تهذيب الأُصول للسيد عميد الدين و السيد ضياء الدين.

5. كتاب «البيان» في الفقه.

6. رسالة «الباقيات الصالحات».

7. «اللمعة الدمشقية» دورة فقهية كتب بصورة المتن و عليها شروح كثيرة، أحسنها شرح الشيخ زين الدين الشهيد الثاني المسمّي ب- «الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية». و قد ألّفه شيخنا الشهيد بطلب من علي بن المؤيد ملك

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 193

خراسان و ما والاها و الذي توفي عام 795 ه-، ألّفه عام 782 ه-، و ذلك قبل شهادته بأربع سنوات. و بذلك يعلم أنّ ما هو المشهور من أنّ الشهيد ألّفه في سبعة أيّام في محبسه غير صحيح، و كان الرسول بين الشهيد و المؤيد هو محمد الآبي النقيب شمس الدين. («1»)

8. «الألفية في فقه الصلاة اليومية».

9. رسالة في قصر من سافر بقصد الإفطار و التقصير.

10. «النفلية في مستحبات الصلاة اليومية».

11. «خلاصة الاعتبار في الحج و الاعتمار».

12. «القواعد».

13. «الدرّة المضيئة».

14. رسالة «التكليف».

15. و له عدّة إجازات.

و من ألطف كتبه كتاب «القواعد و الفوائد»، فإنّ الشهيد الأوّل يعد أوّل من صنّف في هذا المضمار، و قد احتوي الكتاب

علي ما يقرب من 330 قاعدة، إضافة إلي فوائد تقرب من 100 فائدة، عدا التنبيهات و الفروع؛ و هذه القواعد و الفوائد ليست فقهية خالصة، و إنّما فيها بعض القواعد الأُصولية و العربية، لكن الطابع الفقهي هو الغالب عليها، و لم يتبع الشهيد منهجاً معيناً في ترتيب ما أورده من قواعد و فوائد، حيث لم يفصل القواعد الفقهية عن الأُصولية أو العربية، و هذا ممّا حدا بتلميذه المقداد بن عبد اللّه السيوري بترتيب تلكم القواعد و تهذيبها، و أسماها ب- «نضد القواعد الفقهية».

______________________________

(1) الطهراني: طبقات أعلام الشيعة: 3/ 175، القرن الثامن. و له ترجمة ضافية في مقابس الأنوار: 13، روضات الجنات: 7/ 3 برقم 592، و أمل الآمل: 1/ 181 برقم 188.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 194

و من أعجب ما حظي به الشهيد هو ما كتبه أُستاذه فخر المحقّقين في حقّه و قال: قرأ عليّ مولانا الإمام العلّامة الأعظم، أفضل علماء العالم، سيد فضلاء بني آدم، مولانا شمس الحق و الدين محمد بن مكي بن محمد بن حامد أدام اللّه أيّامه من هذا الكتاب مشكلاته، و أجزت له رواية جميع كتب والدي (قدس سره)، و جميع ما صنّفه أصحابنا المتقدّمون- رضي اللّه عنهم- عن والدي عنهم الطرق المذكورة. («1»)

6. عميد الدين عبد المطلب بن محمد («2») بن علي الأعرج (681- 754 ه-)

يعرّفه الشهيد الأوّل بقوله: المولي السعيد، الإمام المرتضي علم الهدي، شيخ أهل البيت في زمانه، عميد الحق و الدين، يروي عن خاله العلّامة الحلّي، له شرح تهذيب الأُصول.

و يعرّفه («3») أيضاً الخوانساري، بقوله: كان من أجلّة العلماء الثقات، و مشايخ الروايات، فاضلًا، محقّقاً، أُصولياً، ماهراً، حسن التصرّف و التصنيف، و كفاه فخراً انّ مثل شيخنا الشهيد الأوّل يعتني بشأنه كثيراً، و ينقل عن ابن معين انّه

عرّفه بقوله: درّة الفخر، و فريدة الدهر، مولانا الإمام الرباني، و هو ابن أُخت العلّامة (رحمه الله)، و قد شرح كتاب خاله العلّامة الحلّي باسم «تهذيب الأُصول» و أسماه «منية اللبيب في شرح التهذيب» فرغ منه عام 740 ه-. («4»)

______________________________

(1) رياض المسائل: 71، قسم المقدمة.

(2) هذا هو المكنّي بأبي الفوارس، صهر والد العلّامة سديد الدين، و قد أنجبت زوجته أولاداً ذكوراً خمسة، و هم: جلال الدين علي، عميد الدين عبد المطلب، ضياء الدين عبد اللّه، نظام الدين الفاضل العلّامة عبد الحميد، غياث الدين عبد الكريم.

(3) أمل الآمل: 2/ 165 برقم 484، و انظر ترجمته في روضات الجنات: 4/ 265 برقم 394.

(4) نحتفظ منه بنسخة في مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، و حكي شيخنا المدرس في «ريحانة الأدب» انّه طبع في بلاد الهند.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 195

و له من الكتب الفقهية: «كنز الفوائد في حل مشكلات القواعد».

و علي ذلك فالعميدي أوّل من شرح كتاب القواعد للعلّامة الحلّي، ثمّ أعقبه شرح آخر لأخيه كما يأتي، و ثالث لفخر المحقّقين.

7. عبد اللّه بن محمد بن علي الأعرج

يعرّفه الحر العاملي في كتابه «أمل الآمل» بقوله: عالم، فاضل، جليل القدر، من مشايخ الشهيد، يروي عن العلّامة، له كتب، منها «شرح التهذيب» للعلّامة، و غير ذلك.

و ربما يقال: إنّ «منية اللبيب» لهذا الأخ، و أمّا ما ألّفه عميد الدين فليس له اسم خاص. («1»)

و قد مضي انّ الشهيد الأوّل جمع بين فوائد شرح الأخوين و زاد عليهما فوائد أُخر، و أسماه «جامع البين من فوائد الشرحين». و ميّز ما اختص به شرح الضياء بعلامة (ض) و ما اختص به شرح العميدي بعلامة (ع)، و أجري شيخنا عز الدين الحسين بن عبد الصمد والد الشيخ بهاء الدين

العاملي تعميمات مفيدة في آخره. («2»)

و يعرّفه صاحب الرياض بقوله: هو الفقيه الجليل، الأعظم، الأكمل، الأعلم، الأفضل، الكامل، المعروف بالسيد ضياء الدين الأعرج الحسيني.

______________________________

(1) انظر ترجمته في أمل الآمل: 2/ 164 برقم 479، و طبقات أعلام الشيعة: 124، القرن الثامن.

(2) الطهراني: الذريعة: 4/ 435، و لاحظ المستدرك: 3/ 459، الفائدة الثالثة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 196

8. عبد اللّه بن سعيد بن المتوج البحراني

هو عبد اللّه بن سعيد بن المتوج البحراني، أحد كبار الفقهاء في القرن الثامن.

يعرّفه الأفندي بقوله: عالم، فاضل، فقيه، جليل، أديب، شاعر، نبيل، و كان من أكابر العلماء و الفقهاء المتأخرين، و يعرف ب- «ابن المتوج» و ربما يطلق علي ابنه الشيخ أحمد فخر الدين.

و له مؤلّفات في الفقه، منها:

1. كتاب «المقاصد».

2. كتاب «الناسخ و المنسوخ» من الآيات علي طريقة الإمامية و مذهبهم.

3. كتاب «النهاية في تفسير خمسمائة آية» التي عليها مدار الفقه.

و حيث إنّ مصدر الترجمة هو «رياض العلماء» للفاضل الأفندي التبريزي («1») فقد عدّ «المقاصد» من تأليف الوالد لا الولد علي خلاف ما جعله شيخنا المجيز الطهراني في «الذريعة» («2») فجعله تأليفاً للولد و في الوقت نفسه احتمل أن يكون للوالد.

و ستوافيك ترجمة ولده في زمرة فقهاء القرن التاسع.

9. مهنا بن سنان بن عبد الوهاب المدني (المتوفّي 754 ه-)

أحد الفقهاء الإمامية القاطنين في المدينة المنوّرة، أذعن بفضله الفريقان،

______________________________

(1) رياض العلماء: 3/ 220.

(2) الذريعة: 21/ 378 برقم 5546؛ و طبقات أعلام الشيعة: 128، القرن الثامن.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 197

يعرّفه ابن حجر العسقلاني بقوله: مهنا بن سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الحسيني الإمامي المدني، قاضي المدينة، اشتغل كثيراً، و كان حسن الفهم، جيد النظم، و لأُمراء المدينة فيه اعتقاد، و كانوا لا يقطعون أمراً دونه، و كان كثير التفقّه، إلي أن قال: مات سنة 754 ه-. («1»)

و قد بعث مسائل إلي العلّامة الحلّي يستفهمه في مسائل، فأجاب عنها العلّامة و وصفه في صدر الرسالة بقوله: السيد الكبير، النقيب، الحسيب، النسيب، المعظم المرتضي، عز السادة، زين السيادة، معدن المجد و الفخار، و الحكم و الآثار، الجامع للقصد الأوفي من فضائل الأخلاق، و الفائز بالسهم المعلّي من طيب الأعراق، مزين ديوان القضاء بإظهار الحقّ

علي الحجّة البيضاء عند ترافع الخصم، نجم الحق و الملّة و الدين مهنا بن سنان الحسيني، القاطن بمدينة جدّه. («2»)

و تعرب المسائل عن توغّله في الفقه، و كونه مرجعاً و ملاذاً للعامة في أحكام الدين.

و يكفي في جلالته في الفقه انّ فخر المحقّقين يصفه بقوله: أفضل علماء الآفاق، و أعلم الفقهاء علي الإطلاق.

حصيلة الجهود الفقهية في القرن الثامن

كان النظام السائد في المناهج الفقهية في القرن الثامن هو نفس النظام المتبع في القرن السابع استمراراً لما خطّه المحقّق و تلاميذه بيد انّ الجهود المبذولة في هذا القرن انتهت إلي إبداع أُسلوب جديد في عرض الأبحاث الفقهية.

______________________________

(1) العسقلاني: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة.

(2) أجوبة المسائل المهنائية: 20.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 198

فقد كان إطار البحث في المسائل الخلافية هو البحث عن الخلافيات الموجودة بين أئمّة المذاهب الفقهية، و لم يؤلّف كتاب في خلافيات مذهب واحد، و ما ذلك إلّا لقلّة الاختلاف بين فقهاء المذهب الواحد نتيجة إقفال باب الاجتهاد.

و أمّا الشيعة منذ عصر الرسول إلي يومنا هذا فقد اختلفت كلمات فقهائهم في مسائل كثيرة عقب فتح باب الاجتهاد.

1. فألّف العلّامة الحلّي لأوّل مرة كتاب «مختلف الشيعة» و ذكر خلافيات فقهائهم في المسائل الفقهية من الطهارة إلي الديات.

2. ظهور موسوعة فقهية تحمل في طيّاتها فقهاً مقارناً بين المذاهب الإسلامية لم ير مثلها إلي الآن و هو كتاب «التذكرة» للعلّامة الحلّي، و قد اتّبع المؤلّف النهج الذي اختطه الشيخ المفيد ثمّ المرتضي ثمّ الطوسي.

3. ظهور كتب رجالية تحليلية تجمع نصوص الرجاليين المتقدّمين مع شي ء من التحليل و التفسير، و هذا النمط قد ابتكر لأوّل مرة في «رجال ابن داود» و «خلاصة العلامة» و «إيضاح الاشتباه» له أيضاً.

فالناظر في هذه الكتب الثلاثة إذا

قارنها مع ما أُلّف في القرن الرابع و الخامس من الكتب الرجالية يقف علي وجود لون من الاجتهاد في علم الرجال، و البحث فيه بحثاً مفصلًا.

4. انّ تنويع الحديث إلي الأقسام الأربعة الذي ابتكره السيد ابن طاوس في القرن السابع لم يدخل حيّز التطبيق إلّا بفضل تلميذيه ابن داود و العلّامة الحلّي، فإنّ الثاني قد طبق الاصطلاح الموروث عن أُستاذه في كتبه الفقهية، فتجد انّه يفتي بالحديث لكونه صحيحاً، و يردّه لكونه ضعيفاً، و يحتج بهما فتبعه الفقهاء إلي يومنا هذا.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 199

و أمّا الحافز علي تنويع الحديث- مع أنّ الحديث بين القدماء كان بين صحيح و ضعيف- فهو انّ الصحيح عند القدماء كان كل حديث يثقون بصدوره عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بالقرائن المتوفرة في ذلك الحين- و إن اختفت فيما بعد-، و إن كان الراوي غير ثقة في نفسه.

غير انّ مرور الزمان و انتقال الأحاديث من الأُصول الأربعمائة التي كانت لها مكانة من الصحّة إلي الجوامع الأوّلية و الثانوية صارت سبباً لاختفاء القرائن التي كانت تورث الثقة بالحديث، فلم يكن بدّ من معالجة تلك الأحاديث بشكل آخر، و هو الذي اقترحه السيد ابن طاوس و ثبَّت أركانه العلّامة الحلّي، و قد أوضحنا ذلك بإسهاب في كتابنا الموسوم ب- «كليات في علم الرجال».

5. الاهتمام بعلم الأُصول و تطويره بتآليف متعاقبة، و قد علمت أنّ العلّامة الحلّي ألّف كتباً في علم الأُصول، كما ألّف ابنا أُخته شرحين لكتابه «تهذيب الأُصول» و ألّف ابنه فخر المحقّقين كتاباً في علم الأُصول.

إضافة إلي أنّ الشهيد الأوّل جمع نكات الشرحين للعلمين الجليلين: عميد الدين و ضياء الدين في كتاب واحد.

6. إبداع نمط جديد في الفقه

بتحرير قواعده، و أوّل من شيّد صرحه هو العلّامة الحلّي في كتابه «القواعد» و هو إن كان لا يشمل القواعد الفقهية برمّتها و لكنه خط هذا الطريق و تبعه الشهيد الأوّل بتأليفه كتاب «الفوائد و القواعد».

7. كان للحلّة يومذاك الحظ الأوفر لظهور الفقهاء الأفذاذ، كما كان في البحرين حوزة علمية فقهية عامرة في القرن السابع و الثامن تخرّج منها: المحقّق

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 200

ميثم البحراني صاحب «شرح نهج البلاغة» و أُستاذ العلّامة المتوفّي عام 699 ه-، و ابنا المتوج، و غيرهم.

نعم ازدهرت في هذا القرن و ما يتلوه مدرسة جبل عامل الذي شيد أركانها الشهيد الأوّل، و قد تخرّج منها نخبة من الفقهاء سنذكر أسماء بعض منهم في القرن التاسع.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 201

الدور الرابع

الجهود الفقهية في القرن التاسع

اشارة

و قبل استعراض السير الفقهي في هذا القرن لا بدّ من استعراض الظروف التاريخية و السياسية التي كانت سائدة في الأمصار الإسلامية لما لها من تأثير مهم علي سير التحولات الفقهية علي سبيل الإيجاز.

الأوضاع السياسية في القرن التاسع

بسط المغول نفوذهم من الشرق الإسلامي إلي حاضرة البلاد الإسلامية (بغداد) بعد حروب طاحنة شهدت قتل عدد هائل من المسلمين، فسقطت الدولة العباسية علي يد هولاكو عام 656 ه-، و استقر حكم الوثنيّين علي بلاد الإسلام و المسلمين إلي أن اعتنق بعضهم الإسلام، و يعدُّ محمود غازان خان الذي جلس للحكم من عام (694- 704 ه-) أوّل من اعتنق الإسلام، ثمّ أعقبه محمد خدابنده أولجايتو فتسلم زمام الأُمور عام (704- 716 ه-) و قد انتحل التشيع بفضل رجل العلم و الفضيلة العلّامة الحلّي لمناظرات جرت بينه و بين علماء المذاهب الأربعة في مسائل فقهية في محضر السلطان و حاشيته و وزرائه، فبان قوة منطقه علي كلّ من حضر، فطلب السلطان منه أن يلازمه في السفر و الحضر، و هكذا أخذ العلّامة يصاحبه مع تلاميذه و كتبه، فأسّس مدرسة سيّارة تقام كلّما حط

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 202

السلطان بمكان، حتّي انّ العلّامة الحلّي قد فرغ من تأليف بعض كتبه في مدينة «سلطانية» من اعمال زنجان. كما كتب اجازته لقطب الدين في ناحية ورامين كما مرّ.

و لمّا استتب الأمر للمغول و اعتنقوا الإسلام و التشيّع و انصهروا في الكيان الإسلامي أخذوا يروّجون العلم لا سيّما العلوم الطبيعية كالفلك و النجوم و الحساب، و في ظل استتباب الأمن و الاستقرار، نري أنّ الركب الحضاري بدأ يتقدّم بعد نكسته التي أُصيب بها من جرّاء استيلاء المغول، و لم تمض مدة حتي بدأ المسلمون الذين غلبوا

في عقر دارهم بأخذ زمام المبادرة من يد المغول من خلال رسم الخطوط العريضة لهم في السياسة و الثقافة و الاقتصاد بل في كافة جوانب الحياة، و هذا إن دلّ علي شي ء فإنّما يدلّ علي قوة منطق الإسلام و صلابته، إذ جعل من الأعداء أنصاراً للحق.

كان الأمن سائداً و مستتباً في البقاع الإسلامية إلي عصر السلطان أبي سعيد بهادر خان (716- 736 ه-).

و قد تدهور وضع الدولة الإيلخانية المغولية بعد وفاته، و تسلّم أزمة الأُمور أشخاص كانت تعوزهم الكفاءة و الحزم، فعادت الفوضي إلي البلاد حتي تجد تولّي عدة سلاطين لمنصة الحكم في سنة واحدة فقد مات أبو سعيد بهادر خان و أعقبه السلطان ارباكاون سنة 736 ه- و بقي عدّة شهور علي منصة الحكم، ثمّ أعقبه السلطان موسي خان و لم يدم طويلًا بل أمضي هو الآخر عدّة شهور أيضاً، ثمّ حلّ محلّه السلطان محمد خان (736- 738 ه-).

و استمر الوضع علي هذا المنوال حتي انقراض الدولة الإيلخانية في عهد آخر سلاطينهم المسمّي ب- «أنوشيروان العادل» (744- 756 ه-) و كأنّه قدّر لهم

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 203

الحكم قرابة قرن واحد.

ثمّ عادت الفوضي أكثر من ذي قبل، و تمزّقت البلاد أشلاءً، و استبدّ بكل جزء منها أمير من الأُمراء تعوزهم الكفاءة، منهم:

1. سلسلة أُمراء آل جلاير (740- 813 ه-).

2. سلسلة أُمراء جوباني (744- 759 ه-).

3. سلسلة أُمراء آل مظفر (740- 795 ه-).

4. سلسلة أُمراء أ ينجو (742- 758 ه-).

5. السربدارية (738- 788 ه-).

التيمورية علي منصة الحكم

و في تلك الأوضاع المضطربة و المتدهورة ظهر تيمور لنك و بسط نفوذه علي أصقاع شاسعة بعد أن أراق دماءً كثيرة حتي استتب له الأمر أواخر القرن الثامن، و دام حكمهم

127 سنة شهدت فيها البلاد المزيد من الدمار و الهلاك و السفك و القتل حتي انقراضهم في عهد سلطانهم المدعو سلطان حسين بايقرا عام 911 ه-.

و قد خلفت التيمورية خلال مدة حكمها مضاعفات خطيرة علي الصعيد العلمي و الثقافي، فقد كان تيمور لنك و أولاده لا يهمّهم سوي الركوب علي رقاب الناس و الإغارة علي ثرواتهم مهما بلغ من ثمن، فانعكست آثارها السيئة و تبلورت في قلّة الانتاجات العلمية و الموسوعات الفقهية.

و لا شكّ انّ الحضارة تزدهر و العلم ينمو في ربوع يسودها العدل و الأمن و الاستقرار.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 204

هذه لمحة خاطفة عن الأوضاع السياسية السائدة في القرن التاسع، ذكرناها علي وجه موجز، ليقف القارئ علي الأوضاع المزرية التي أُصيب بها المسلمون، و تركت من جراء ذلك آثاراً سيئة علي الحركة الفقهية ممّا أعقب ذلك فتور النشاط الفقهي و قلّة الانتاج فيه.

و إليك

أسماء نخبة من فقهاء هذا القرن:

1. الحسن بن سليمان بن خالد الحلّي (كان حيّاً عام 802 ه-)

هو الحسن بن سليمان بن خالد الحلّي يعرّفه الحر العاملي بقوله: فاضل، عالم، فقيه، له «مختصر بصائر الدرجات» لسعد بن عبد اللّه، يروي عنه الشهيد.

و يعرّفه الخوانساري بقوله: فقيه، فاضل، من تلامذة شيخنا الشهيد الأوّل، صاحب المصنّفات الكثيرة الفقهية.

و له أيضاً كتاب لطيف يسمّي «الرجعة».

و قد نقل الخوانساري صورة إجازته للشيخ العالم الموفّق عز الدين حسين بن محمد بن الحسن الحموياني و في آخرها كتب عبد اللّه حسن بن سليمان بن محمد في الثالث و العشرين من شهر محرم الحرام سنة 802 ه-. («1»)

2. فخر الدين أحمد بن عبد اللّه بن المتوج

هو الشيخ فخر الدين أحمد بن عبد اللّه بن سعيد بن المتوج، المشهور ب- «ابن المتوج» البحراني، المعروف بالعلم و الفضل و التقوي في أسانيد أصحابنا، يوصف

______________________________

(1) الأفندي التبريزي: رياض العلماء: 1/ 193، الخوانساري: روضات الجنات: 2/ 293 برقم 202، طبقات أعلام الشيعة: القرن التاسع.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 205

ب-: خاتمة المجتهدين، شيخ مشايخ الإسلام، و قدوة أهل النقض و الإبرام و من تلامذة الشهيد و فخر المحقّقين، و مرّت ترجمة والده في فقهاء القرن الثامن.

و في الروضات: و هو شيخ أبي العباس بن فهد الحلّي («1») و الشيخ فخر الدين أحمد بن محمد بن عبد اللّه السبعي الفقيه المشهور المتوطّن بلاد الهند، و من أجلِّ تلامذة الشهيد و فخر المحقّقين.

آثاره الفقهية

1. الوسيلة.

2. رسالة «الناسخ و المنسوخ».

3. كتاب «ما يجب علي المكلّفين».

4. كتاب «غرائب المسائل».

5. «النهاية» في تفسير 500 آية، و هي آيات الاحكام في القرآن، و ينقل فيه عن كنز العرفان معبراً عنه: قال المعاصر. («2»)

3. جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري الحلّي (المتوفّي 826 ه-)

هو الفقيه الفاضل المحقّق أبو عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه بن محمد بن

______________________________

(1) يعرّفه صاحب الرياض بقوله: الشيخ شهاب الدين أحمد بن فهد بن إدريس المقري الأحسائي، المعروف بابن فهد، و هو غير ابن فهد المعروف صاحب «المهذب البارع» و «عدة الداعي».

و يدل علي ذلك ما ذكره ابن أبي جمهور في أوّل كتاب «غوالي اللآلي»، يقول: أروي عن أحمد بن فهد المذكور (شهاب الدين) عن شيخه خاتمة المجتهدين، المشهورة فتاواه في جميع العالمين، فخر الدين أحمد بن متوج بن عبد اللّه.

(2) لاحظ رياض العلماء: 1/ 44، روضات الجنات: 1/ 68، طبقات أعلام الشيعة: 4، القرن التاسع.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 206

حسن بن محمد السيوري الحلّي الأسدي الغروي،

المعروف ب- «الفاضل السيوري» و «الفاضل المقداد» عند الفقهاء المتأخرين، كان من أجلّاء الأصحاب، و عظماء مشايخ الرجال، جامعاً بين المعقول و المنقول، عالماً، فاضلًا، متكلّماً، محقّقاً، مدقّقاً، من أعاظم الفقهاء، قد أثني عليه كلّ من عنونه بالثناء الجميل و الذكر النبيل، أفاض اللّه علي تربته سجال لطفه.

يعرّفه الأفندي التبريزي بعد وصفه بالعلم و الفضل و التحقيق و التدقيق: له كتب، منها: شرح نهج المسترشدين في أُصول الدين، و كنز العرفان في فقه القرآن، و التنقيح الرائع في شرح مختصر الشرائع، و شرح الباب الحادي عشر، و شرح مبادئ الأُصول، يروي عن الشهيد محمد بن مكي العاملي. («1»)

و يروي عنه: شرف الدين المكي، و الحسين بن علاء الدين مظفر بن فخر الدين بن نصر اللّه القمي، و تاج الدين الحسن بن راشد الحلي صاحب «الجمانة البهية في نظم الألفية»، و محمد بن شجاع القطان الحلّي، و أحمد بن فهد الحلي المتوفّي عام 841 ه-، و قاسم الدين. («2»)

و له في الفقه الكتب التالية:

1. «التنقيح الرائع لمختصر شرح الشرائع» و هي دورة فقهية استدلالية من الطهارة إلي الديات، ابتدأ في أوّله بتعريف الفقه و تحصيله، و الأدلّة العقلية، و العمل بخبر الواحد و أقسامه، و تفسير الأشهر و الأظهر و الأشبه، و غير ذلك من المصطلحات. («3»)

______________________________

(1) رياض العلماء: 5/ 216؛ أمل الآمل: 2/ 325 برقم 1002.

(2) طبقات الشيعة: 139، القرن التاسع.

(3) لاحظ التنقيح الرائع: 1/ 36- 37، و طبع الكتاب في أجزاء أربعة ضخام.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 207

2. «كنز العرفان في فقه القرآن»: و هو بين الكتب المؤلّفة حول فقه القرآن، كتفسير «مجمع البيان» في تفسير القرآن، في جودة نسقه و ترتيبه، و قد

ذكره الذهبي المصري في كتاب «التفسير و المفسّرون» حيث قال:

يتعرّض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط، و هو لا يفسر الآيات سورة فسورة علي حسب ترتيب المصحف، ذاكراً ما في كلّ سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصاص و ابن العربي مثلًا، بل طريقته في تفسيره انّه يعقد أبواباً كأبواب الفقه، و يدرج في كلّ باب منها الآيات التي تدخل تحت موضوع واحد، فمثلًا يقول: باب الطهارة ثمّ يذكر ما ورد في الطهارة من الآيات القرآنية، شارحاً كلّ آية منها علي حدة، مبيناً ما فيها من الأحكام، علي حسب ما يذهب إليه الإمامية الاثنا عشرية في فروعهم مع تعرّضه للمذاهب الأُخري، و ردّه علي من يخالف ما يذهب إليه الإمامية الاثنا عشرية. («1»)

3. «آداب الحج».

4. «نضد القواعد الفقهية علي مذهب الإمامية» و هو ترتيب للقواعد الفقهية للشهيد الأوّل.

و أمّا تآليفه في الكلام و العقائد فحدّث عنها و لا حرج.

فقد أصبح شرحه علي الباب الحادي عشر من الكتب الدراسية إلي يومنا هذا.

______________________________

(1) انظر التفسير و المفسّرون: 2/ 465.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 208

4. ابن فهد الحلي (757- 841 ه-)

جمال الدين أبو العباس أحمد بن فهد الأسدي الحلّي.

يعرّفه الشيخ الحر العاملي بقوله: فاضل، عالم، ثقة، صالح، زاهد، عابد، ورع، جليل القدر، له كتب. («1»)

و يعرّفه العلّامة المامقاني بقوله: له من الاشتهار بالفضل و العرفان و الزهد و التقوي و الأخلاق و الخوف و الإشفاق ما يغنينا عن البيان، و قد جمع بين المعقول و المنقول و الفروع و الأُصول و اللفظ و المعني و الحديث و الفقه و الظاهر و الباطن و العمل بأحسن ما كان يجمع. («2»)

و قد أطبق المتأخّرون علي علمه و دقّته و فقهه.

و أمّا تآليفه الفقهية، فهي:

1. «المهذّب البارع

إلي شرح النافع» و هو شرح للمختصر النافع للمحقّق من أوّله إلي آخره، أورد في كلّ مسألة أقوال الأصحاب و أدلّة كلّ قول، و بيّن الخلاف في كلّ مسألة خلافية، و عيّن المخالف و إن كان نادراً متروكاً، و أشار إلي وجه التردّد من المصنّف لدليل انقدح في خاطره، و قال: و سمّيته ب- «المهذب البارع في شرح المختصر النافع» و إن شئت فسمّه جامع الدقائق و كاشف الحقائق. («3»)

لأنّه لا يمر بمسألة مشكلة، إلّا جلّاها غاية الجلاء، و لا لمعضلة إلّا و شفي من بحثها غاية الشفاء، و رتب في أوّل كلّ كتاب، مقدّمة أو مقدّمات، ذكر فيها

______________________________

(1) أمل الآمل: 2/ 21.

(2) تنقيح المقال: 1/ 92 برقم 510، باب أحمد.

(3) المهذب البارع: 1/ 63- 65، ثمّ قدّم مقدّمات أربع.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 209

تعريفه و سند مشروعيته من الكتاب و السنّة و الإجماع، و ما يليق به من التمهيد، فكان كالدستور يرجع إليه في المشكلات، و يعتمد عليه في المعضلات و يتفكه منه بالتفريعات. («1»)

2. «شرح الإرشاد» للعلّامة الحلي.

3. «فقه الصلاة».

4. «شرح الألفية».

5. «كفاية المحتاج في مسائل الحاج».

إلي غير ذلك من التآليف الفقهية و قد بلغ الشيخ الفقيه من الكمال ما بلغ بفضل جمعه بين العلم و العمل و محافظته علي الظواهر الشرعية و مراقبته للنفس.

و في كتبه التالية دلالات واضحة علي ذلك، منها:

1. «عدة الداعي و نجاح الساعي».

2. «أسرار الصلاة».

3. «التحصين و صفات العارفين».

توفّي بكربلاء عن عمر ناهز 84 سنة، و له هناك قبر يزار.

و يعد من شيوخ الإجازة كشيخه الشهيد الأوّل، يروي عن الشيخ ظهير الدين علي بن يوسف بن عبد الجليل النيلي، و الشيخ نظام الدين علي بن عبد الحميد النيلي

الحائري، و الشيخ فخر الدين ولد العلّامة، و يروي عنه جماعة، منهم: الشيخ رضي الدين حسين الشهير ب- «ابن راشد القطيفي»، كما يظهر من أوّل غوالي اللآلي. («2»)

______________________________

(1) المهذب البارع: 1/ 70- 71.

(2) رياض العلماء: 1/ 65.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 210

5. ناصر الدين بن جمال الدين أحمد بن متوج (المتوفّي 856 ه-)

هو ناصر الدين بن جمال الدين أحمد بن عبد اللّه بن محمد بن علي بن الحسن بن متوج البحراني.

يعرّفه الشيخ الحر العاملي بقوله: الشيخ ناصر بن أحمد بن عبد اللّه بن المتوج البحراني، صاحب الذهن الوقّاد، فاضل، محقّق، فقيه، حافظ، نقل أنّه ما نظر شيئاً و نسيه. («1»)

6. الشيخ شهاب الدين أحمد بن فهد بن إدريس المقري الأحسائي

هو الشيخ شهاب الدين أحمد بن إدريس المقري الأحسائي من أجلّة علماء الإمامية و فقهائهم، يروي عن: الشيخ فخر الدين أحمد بن عبد اللّه المشهور ب- «ابن المتوّج البحراني» عن الشيخ فخر الدين ولد العلّامة.

و يروي عنه الشيخ جمال الدين حسن الشهير ب- «المطوع الجرواني الأحسائي» كما ذكره ابن أبي جمهور في أوّل غوالي اللآلي.

ثمّ إنّ ابن فهد هذا غير ابن فهد الأسدي الحلّي فهما معاصران، و من العجب انّ لكلّ واحد منهما شرحاً علي إرشاد العلّامة، و كلاهما في طبقة واحدة حيث يرويان عن فخر المحقّقين بواسطة واحدة. («2»)

______________________________

(1) أمل الآمل: 2/ 333 برقم 1026. و انظر ترجمته في طبقات أعلام الشيعة: 142، القرن التاسع؛ رياض العلماء: 5/ 236.

(2) رياض العلماء: 1/ 55، و الترجمة منقولة عن كشكول البحراني، و حيث إنّ محقّق الكتاب لم يعثر علي الجزء الأوّل من الرياض، جمع ما يرجع إليه من هنا و هناك، فالترجمة أولي بالانتساب إلي محقّق الكتاب، أعني: السيد أحمد الحسيني الاشكوري- دام مجده-.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 211

7. محمد الأنصاري بن شجاع الحلّي

محمد الأنصاري بن شجاع الحلّي القطان، عالم، فقيه، فاضل، يروي عن الفاضل المقداد، و له من الكتب:

1. «معالم الدين في فقه آل ياسين».

و يروي فيه أيضاً عن أبي الحسن علي بن الحسن الاسترآبادي الراوي عن حسن بن سليمان تلميذ الشهيد.

يقول شيخنا المجيز الطهراني في وصف الكتاب الأوّل: و قد رتّبه علي أربعة أقسام، و هي دورة فقهية كاملة، فرغ منه في عاشر شعبان سنة 832 ه-. («1»)

و قد حُقِّق الكتاب في مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) و طبع مع تقديم منّا.

2. «أحكام الإيمان» الموسوم بنهج العرفان، فرغ من تصنيفه في التاسع عشر من شعبان عام 819 ه-

يروي فيه عن الفاضل المقداد و يدعو له بقوله: متعنا اللّه بطول بقائه.

8. مفلح الصيمري (كان حيّاً عام 878 ه-)

هو الشيخ مفلح بن حسن بن رشيد بن صالح الصيمري، من تلاميذ أحمد ابن فهد الحلّي (المتوفّي 841 ه-).

و له من المؤلّفات الفقهية ما يلي:

1. «غاية المرام في شرح شرائع الإسلام» في مجلد واحد، و قد طبع أخيراً في بيروت في عدّة أجزاء، و قد اختار فيه الفرق بين الرطلين في الزكاتين، كما اختاره ابن فهد في «المهذب البارع» أو العلّامة الحلّي في «التحرير».

______________________________

(1) لاحظ ترجمته في رياض العلماء: 4/ 108؛ طبقات أعلام الشيعة: القرن التاسع: 118؛ الذريعة: 24/ 422، و ج 21/ 199.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 212

2. «جواهر الكلمات في صيغ العقود و الإيقاعات» فرغ من تصنيفه عام 870 ه-، و هي رسالة عملية تدل علي غزارة علم مؤلفها؛ مليح، كثير المباحث، غزير العلم.

3. «التنبيهات في الإرث و التوريثات» ذكره شيخنا الطهراني في «الذريعة». («1») رسالة في الفرائض مرتبة علي ثلاثة أبواب و خاتمة.

4. «تلخيص الخلاف» هو تلخيص كتاب «الخلاف» لشيخ الطائفة، و قد طبع التلخيص في ثلاثة أجزاء عام 1408 ه-.

5. «التنبيه علي غرائب من لا يحضره الفقيه» جمع فيه المؤلّف فتاوي الشيخ الصدوق المخالفة للإجماع و المسائل المرفوضة عند فقهائنا المتقدمين.

6. «كشف الالتباس» و هو شرح استدلالي لتمام رسالة الموجز الحاوي، ينتهي إلي آخر كتاب الزكاة؛ و الموجز من تآليف أحمد بن فهد الحلّي، و قد طبع الكتاب عام 1417 ه-.

و سيأتي ترجمة ولده حسين بن مفلح عند استعراض علماء القرن العاشر. («2»)

9. الحسن بن محمد بن الحسن الاسترآبادي

هو الشيخ كمال الدين (تاج الدين) حسن بن شمس الدين محمد بن حسن الاسترآبادي مولداً، و النجفي موطناً.

يعرّفه الأفندي التبريزي بقوله: كان من أكابر علماء متأخّري أصحابنا، و له

______________________________

(1) الذريعة: 3/ 335؛ كشف الالتباس، مقدمة المحقّق، و قد

كتب له ترجمة ضافية.

(2) طبقات أعلام الشيعة: القرن التاسع، ص 137؛ و انظر مخطوط كتاب مشايخ الشيعة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 213

تآليف قيّمة، منها:

1. «معارج السئول و مدارج المأمول» في مجلدين، و هو كتاب جامع في معناه حسن كاسمه، كثير الفوائد، كبير، فرغ من تأليفه 891 ه-، و قد ألّفه علي غرار كتاب «كنز العرفان» للشيخ مقداد السيوري، و زاد عليه بفوائد نفيسة جليلة كثيرة.

2. «عيون التفاسير» و قد صرّح به في أوّل المعارج.

يقول شيخنا المجيز: عيون التفاسير للشيخ كمال الدين الحسن بن محمد بن حسن الاسترآبادي النجفي.

3. «شرح الفصول النصيرية».

أقول: صرّح في أوّل «معارج الأُصول» بأنّ اللّه منَّ عليه بتأليف عيون التفاسير و استخرج منه المعارج علي نهج ما ألّفه شيخه المقداد.

و بما أنّه فرغ من تأليف «عيون التفاسير» سنة 891 ه-، و في الوقت نفسه يروي عن الفاضل المقداد المتوفي عام 828 ه-، فهو من المعمّرين. («1»)

10. الحسن بن راشد الحلّي

هو تاج الدين الحسن بن راشد الحلّي، تلميذ الفاضل المقداد صاحب «الجمانة البهية في نظم الألفية الشهيدية».

يعرّفه الشيخ الحرّ العاملي بقوله: فاضل، فقيه، شاعر، أديب، له شعر كثير

______________________________

(1) انظر ترجمته في رياض العلماء: 1/ 319؛ الذريعة: 15، برقم 2375؛ طبقات أعلام الشيعة: 91، القرن التاسع.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 214

في مدح المهدي و سائر الأئمّة (عليهم السلام)، و مرثية الحسين (عليه السلام)، و أُرجوزة في تاريخ الملوك و الخلفاء، و أُرجوزة في تاريخ القاهرة، و أُرجوزة في نظم ألفية الشهيد.

و وصفه الشيخ إبراهيم الكفعمي المتوفّي عام 905 ه- بقوله: الشيخ الإمام، الفاضل، نادرة الزمان، و ذكر انّه يروي الألفية عن شيخه المقداد، و هو يرويها عن مؤلّفها الشهيد.

و أوّل الأُرجوزة:

قال الفقير الحسن بن راشد*** مبتدأ باسم

الإله الماجدِ («1»)

11. ابن أبي جمهور الأحسائي

هو المحقّق الفاضل محمد بن الشيخ زين الدين أبي الحسن علي بن حسام الدين بن إبراهيم بن حسين بن إبراهيم بن أبي جمهور الهجري الأحسائي، يعرّفه الشيخ الحر العاملي بقوله: كان عالماً، فاضلًا، راوية، له كتب، ثمّ ذكر أسماء كتبه.

و يعرّفه المحدّث البحراني بقوله: كان فاضلًا، مجتهداً، متكلماً، له كتاب غوالي اللآلي.

و يذكره العلّامة المجلسي و يقول: و مؤلّفه بالفضل معروف.

و أمّا آثاره الفقهية، فقد ألّف:

1. «الأقطاب الفقهية و الوظائف الدينية علي مذهب الإمامية»، و هو علي

______________________________

(1) أمل الآمل: 2/ 65 برقم 178. و انظر الذريعة: 5/ 131 برقم 542، تاريخ طبقات أعلام الشيعة: 41، القرن التاسع.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 215

غرار قواعد الشهيد.

2. «الأنوار المشهدية في شرح الرسالة البرمكية» في فقه الصلاة اليومية، و الظاهر انّ الرسالة البرمكية قد كتبها بنفسه.

3. «التحفة الحسينية في شرح الألفية» كتبه شرحاً لألفية الشهيد الأوّل.

و أمّا تآليفه في الأحاديث و الأخبار، فمن أشهر كتبه «غوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية»، و قد فرغ منه سنة 899 ه- كما ذكره شيخنا النوري في «المستدرك»، و قد طبع الكتاب في أربعة أجزاء.

و حيث إنّه قضي أكثر عمره في القرن التاسع، و قد توفي في مستهل القرن العاشر (بعد سنة 901) ذكرناه في فقهاء هذا القرن. («1»)

هذه نخبة من أسماء الأعلام من فقهاء القرن التاسع تلوناها عليكم كنماذج من الفقهاء الأفذاذ الذين برزوا في تلك الحقبة من الزمان، و الذين أنعشوا الحركة الاجتهادية بتآليفهم، و من أراد الوقوف علي مزيد ممّا ذكرنا فليرجع إلي طبقات الفقهاء و سائر الكتب.

حصيلة الجهود العلمية في القرن التاسع

قد مرّ عليك في صدر البحث انّه لم تكن توجد سلطة مركزية تحكم البلاد الإسلامية، بل كانت ثمة دويلات صغيرة تحكم في

إطار المناطق التي تخضع لنفوذها.

______________________________

(1) المستدرك: 3/ 361- 365، الفائدة الثالثة؛ ريحانة الأدب: 7/ 339؛ أمل الآمل: 2/ 253 برقم 749؛ روضات الجنات: 7/ 26 برقم 594.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 216

و من الواضح انّ في مثل تلك الظروف القلقة تنعدم الطمأنينة و الثبات المطلوب لعرض الأفكار و مناقشتها خصوصاً في مجال الفقه.

و قد احتفل التاريخ في هذا القرن بأسماء جمع غفير من الفقهاء مع قلّة الانتاجات العلمية.

فبعد الإيعاز إلي هذه المقدّمة نستعرض حصيلة الجهود التي أُنجزت في هذا القرن:

ألف. ظهور ثلة من الفقهاء العظام الذين أخذوا علي عاتقهم إنعاش الفقه و تطويره علي ضوء ما ورثوه من أساتذتهم، و في طليعتهم:

1. المقداد السيوري (المتوفّي 828 ه-).

2. الشيخ ابن فهد الحلّي (775- 841 ه-).

3. مفلح الصيمري (كان حيّاً عام 878 ه-).

4. شهاب الدين أحمد بن فهد الأحسائي.

ب. العناية الوافرة بتفسير آيات الأحكام التي هي أُسس التشريع الإسلامي، فقد ألّف الفاضل المقداد كتاب «كنز العرفان» و يعد مصدر إشعاع و إلهام إلي يومنا هذا.

كما ألّف الحسن بن محمد بن الحسن الاسترآبادي كتابه «معارج السئول و مدارج المأمول» في مجلدين سار فيه علي ضوء كتاب كنز العرفان لأُستاذه.

ج. العناية الوافرة بالقواعد الفقهية علي غرار ما أُلّف في القرن الثامن لكن بنظم و منهجية أكثر، و قد وقفت علي أنّ الفاضل المقداد ألّف «نضد القواعد» تنظيماً لما ألّفه الشهيد الأوّل.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 217

الدور الرابع

الجهود الفقهية في القرن العاشر و أوائل الحادي عشر

اشارة

عند إطلالة القرن العاشر سادت الربوع الإسلامية دولتان عظيمتان هما: الدولة الصفوية و العثمانية؛ حيث حكمت الأُولي أصقاعاً من الشرق الإسلامي من عام (905- 1135 ه-) و حكمت الثانية أصقاعاً من الغرب الإسلامي و أكثر البلاد العربية، و قد استأثر الفقهاء باهتمام

كلا الدولتين بغية إضفاء الشرعية علي حكمهما خصوصاً الدولة الصفوية التي قامت علي دعامة التشيّع و ولاية الأئمّة الاثني عشر التي فوضت الأُمور بعد غيبة الإمام الثاني عشر إلي الفقهاء العظام الجامعين لشرائط الإفتاء، فازدهرت العلوم الإسلامية لا سيما الفقه في عهد الصفوية إلي حد بعيد، فلنذكر نخبة من العلماء الذين أنجبتهم هذه الحقبة.

[فقهاء القرن العاشر]

1. الشيخ حسين الصيمري (المتوفّي عام 933 ه-)

هو الشيخ حسين بن مفلح بن حسن الصيمري

يعرّفه الحر العاملي بقوله: فاضل، عالم، محدّث، عابد، كثير التلاوة و الصوم و الصلاة و الحج، حسن الخلق، واسع العلم، توفي سنة 933 ه-، و عمره يزيد علي الثمانين.

و أمّا تآليفه، فقد فصّلها شيخنا المجيز و عدَّ منها:

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 218

1. «محاسن الكلمات في معرفة النيات».

2. «مناسك الحج».

3. «جواز الحكومة الشرعية».

و رسائل أُخري لم تذكر بعنوانها، و قد مرَّ انّ والده مفلحاً تلميذ ابن فهد له «جواهر الكلمات في صيغ العقود و الإيقاعات»، و «غاية المرام في شرح شرائع الإسلام». («1»)

2. الحسن الأعرج الحسيني (المتوفّي عام 933 ه-)

هو بدر الدين بن جعفر بن فخر الدين بن الحسن بن نجم الدين الأعرج الحسيني.

يصفه الحر العاملي بأنّه كان فاضلًا، جليل القدر، و من جملة مشايخ شيخنا الشهيد الثاني، قرأ عليه في الكرك، و توفي سنة 933 ه-.

يقول في إجازته للشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي: و أرويها عن شيخنا الأجل الأعلم، الأكمل ذي النفس الطاهرة الزكية أفضل المتأخّرين في قوتيه العلمية و العملية.

مؤلّفاته

1. كتاب «المحجة البيضاء و الحجّة الغراء» جمع فيه بين فروع الشريعة و الحديث و التفسير في الآيات الفقهية.

______________________________

(1) أمل الآمل: 2/ 103 برقم 285؛ و طبقات أعلام الشيعة: 66، القرن العاشر؛ و له ترجمة في أعيان الشيعة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 219

2. «العمدة الجلية في الأُصول الفقهية».

3. «شرح الطيبة الجزرية في القراءات العشر».

4. «مقنع الطلاب فيما يتعلّق بكلام الاعراب». («1»)

3. علي بن عبد العالي العاملي الكركي (المتوفّي عام 940 ه-)

هو الشيخ علي الكركي المعروف ب- «المحقّق الثاني» نور الدين علي بن الحسين بن علي بن محمد بن عبد العالي العاملي الكركي، المتوفي عام 940 ه- في النجف يوم الغدير.

يعرّفه الشيخ الحر العاملي بقوله: الشيخ الجليل علي بن عبد العالي العاملي الكركي، أمره في الثقة و العلم و الفضل و جلالة القدر و عظم الشأن و كثرة التحقيق أشهر من أن يذكر، و مصنّفاته كثيرة مشهورة، ثمّ ذكر فهرس كتبه.

و ذكره السيد التفرشي في «نقد الرجال» و قال: شيخ الطائفة، و علّامة وقته، صاحب التحقيق و التدقيق، كثير العلم، نقي الكلام، جيد التصانيف من أجلّاء هذه الطائفة، يروي عن الشيخ شمس الدين محمد بن داود عن ابن الشهيد عن أبيه، و كفي في فضله انّ الشهيد الثاني يثني عليه بقوله: الشيخ الإمام المحقّق المنقح نادرة الزمان و يتيمة الأوان.

و من تآليفه

1.

«جامع المقاصد في شرح القواعد» في خمسة مجلدات كبار إلي بحث التفويض من النكاح، و هو كتاب مشحون بالتحقيق و الاستدلال ينقح مباني

______________________________

(1) أمل الآمل: 1/ 57 برقم 44؛ و انظر ترجمته في روضات الجنات: 2/ 294 برقم 203؛ طبقات أعلام الشيعة: القرن العاشر، ص 49.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 220

الأحكام، و هو من الكتب الممتعة و من حسنات الدهر.

و يحكي عن الشيخ محمد حسن النجفي صاحب «جواهر الكلام» أنّه قال: إنّ الفقيه إذا كان بين يديه «جامع المقاصد» و «وسائل الشيعة» و «الجواهر» استغني عن أي مصدر آخر، و كان بإمكانه استنباط الحكم الفقهي اعتماداً علي هذه المصادر الثلاثة. («1»)

و نقل عن صاحب العروة أنّه يكفي للمجتهد في استنباطه للأحكام أن يكون عنده كتاب «جامع المقاصد» و «الوسائل» و «مستند الشيعة».

و أمّا سائر آثاره الفقهية فتنتهي إلي 32 كتاباً و رسالة نذكر بعضها، و من أراد التفصيل فليرجع إلي مقدّمة «جامع المقاصد». («2»)

نعم انّ الشيخ أوّل من أورد المسائل الحكومية إلي الساحة الفقهية، لما تمتع به من منصب في الدولة الصفوية، و سيأتي الحديث عنه عند البحث عن حصيلة الجهود التي بذلت في القرن العاشر.

2. الرسالة الخراجية المسمّاة ب- «قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج».

3. رسالة الجمعة.

4. الرسالة الرضاعية.

و غيرها من التأليفات التي نافت علي 32 تأليفاً.

4. إبراهيم القطيفي (المتوفّي عام 945 ه-)

هو كما يعرّفه صاحب الرياض: الإمام، الفقيه، الفاضل، العالم، الكامل،

______________________________

(1) جواهر الكلام: 1/ 14؛ لاحظ المستدرك: 3/ 431، الفائدة الثالثة.

(2) مقدّمة جامع المقاصد: 41- 43.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 221

المحقّق، المدقّق، المعاصر للشيخ علي الكركي العاملي، المعروف ب- «المحقّق الثاني»، و كان هو و الشيخ عز الدين الآملي و الشيخ علي الكركي شركاء الدرس عند الشيخ علي

بن هلال الجزائري، و كان زاهداً، عابداً، ورعاً، مشهوراً، تاركاً للدنيا برمّتها.

و قد دارت بينه و بين زميله الشيخ علي الكركي مساجلات و مناظرات في مسائل فقهية أهمها مسألة الخراج كما سيوافيك.

و ذكر صاحب الروضات أسماء تآليفه الفقهية بالنحو التالي:

1. «الهادي إلي سبيل الرشاد في شرح الإرشاد».

2. «نفحات الفوائد و مفردات الزوائد».

3. رسالة في أحكام الرضاع.

4. رسالة في محرّمات الذبيحة.

5. رسالة في الصوم ينقل عنه الأردبيلي في «مجمع الفائدة».

6. رسالة في أحكام الشكوك.

7. شرحه علي ألفية الشهيد.

8. تعليقات كثيرة علي الشرائع. («1»)

و من المسائل التي خالف فيها المحقّق الكركي هو مسألة حل الخراج، ففي الواقع كان المحقّق الكركي يؤيد الحكومة الصفوية لا سيما الشاه طهماسب، و كان القطيفي علي خلافه.

فألّف المحقّق كتابه «قاطعة اللجاج في تحقيق الخراج» عام 916 ه-، رتّبه

______________________________

(1) رياض العلماء: 1/ 15، روضات الجنات: 1/ 25- 27 برقم 3.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 222

علي مقدّمة في أقسام الأرضين و خمس مقالات، و قد طبعت مع الرسائل الرضاعيات.

و نقضها الشيخ إبراهيم القطيفي بكتاب أسماه «السراج الوهّاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج».

و صارت المسألة موضع نقاش حاد بين العلماء، فألّف المحقّق الأردبيلي رسالة دافع فيها عن القطيفي، كما ألّف ماجد الشيباني رسالة دافع فيها عن الكركي، و الكتابان الأوّلان مطبوعان.

و من فتاواه حرمة صلاة الجمعة في عصر الغيبة مطلقاً ردّاً علي المحقّق الكركي القائل بوجوبها مع وجود المجتهد الجامع لشرائط الفتوي.

إنّ الخلاف بين المحقّق الكركي و القطيفي لم يكن سياسياً كما زعمه بعض، بل انّ منشأه انّ الخراج إنّما يؤخذ من الأراضي التي فتحت عنوة بإذن الإمام و كانت معمورة عند الفتح و لم يثبت وقفيتها أو لم يدّع أحد انّ بيده ملكيّتها، ففي مثل

تلك الأراضي يؤخذ الخراج و يصرف في مصالح المسلمين.

فالقطيفي و من أيّده كالأردبيلي يدعون عدم ثبوت هذه الشروط في الأراضي التي يؤخذ منها الخراج. («1»)

5. زين الدين الجبعي العاملي (911- 966 ه-)

هو الشيخ الأجل زين الدين بن علي بن أحمد بن محمد بن جمال الدين بن نقي الدين بن صالح (تلميذ العلّامة) العاملي، الجبعي، المعروف ب- «الشهيد الثاني».

______________________________

(1) لاحظ الرسالتين الخراجيتين للأردبيلي، المطبوعتين مع سائر رسائله.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 223

يعرّفه الحر العاملي بقوله: أمره في الثقة و العلم و الفضل و الزهد و العبادة و الورع و التحقيق و التبحّر و جلالة القدر و عظم الشأن و جمع الفضائل و الكمالات أشهر من أن يذكر، و محاسنه و أوصافه الحميدة أكثر من أن تحصي و تحصر، و مصنّفاته كثيرة مشهورة.

كان (رحمه الله) فقيهاً، محدثاً، نحوياً، قارئاً، متكلماً، حكيماً، جامعاً لفنون العلم، و قد ألّف تلميذه محمد العودي العاملي رسالة في ترجمة الشهيد منذ ولادته إلي شهادته بالقسطنطينية سنة 966 ه-.

و أمّا تصانيفه المفعمة بالتحقيق فكثيرة، نذكر منها علي سبيل المثال:

1. «مسالك الافهام في شرح شرائع الإسلام» و قد طبع قديماً في جزءين كبيرين، و أُعيد طبعه بصف جديد في خمسة عشر جزءاً فرغ المؤلف عنه عام 964، و هو أحسن كتاب جمع بين التلخيص في التعبير و التحقيق في المادة و المعني، و ليس له نظير بين المتقدّمين و المتأخرين.

2. «الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية» و هي دورة فقهية تضم جميع أبواب الفقه، و بما أنّه جمع بين حسن التعبير و الاختصار في الاستدلال علي الحدّ اللازم صار كتاباً دراسياً منذ قرون و ما زال يدرّس في الجامعات الإسلامية الشيعية إلي يومنا هذا، و عليها تعليقات كثيرة.

و أمّا سائر

تآليفه الفقهية فحدث عنها و لا حرج، و قد سرد أسماءها الحر العاملي في كتابه القيم «أمل الآمل». («1»)

يروي عنه: السيد علي بن الصائغ الفقيه المشهور صاحب شرح الشرائع، و السيد نور الدين عبد الحميد الكركي العاملي، و المولي محمود بن محمد بن علي

______________________________

(1) أمل الآمل: 1/ 85، و روضات الجنات: 3/ 352 برقم 306، رياض العلماء: 2/ 365.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 224

الجيلاني، و الشيخ محيي الدين بن أحمد بن تاج الدين الميسي العاملي، و الشيخ تاج الدين بن هلال الجزائري، و الشيخ بهاء الدين بن العودي و هو من خواص تلامذته، و الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي والدُ الشيخ بهاء الدين العاملي، و السيد علي بن أبي الحسن الموسوي العاملي الجبعي و هو صهره الذي كان والد سبطه السيد محمد صاحب المدارك. («1»)

و قد يتصوّر المرء في بدو الأمر انّ الشهادة كتبت علي أبطال رفعوا السلاح في ميادين الجهاد و ساحات الوغي، و لكن عند ما يتصفّح صفحات التاريخ و يقف علي سيرة علمائنا الأبرار يجد انّهم جمعوا بين اللسان و الحسام، و خدموا الشريعة بيراعهم و أقلامهم و بدمائهم و أرواحهم، و شيخنا هذا من أبرز مصاديق تلك الزمرة. فقد استعرض التاريخ لنا كيفية شهادته المفجعة. («2»)

6. الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي (918- 984 ه-)

الشيخ عز الدين حسين بن عبد الصمد الجبعي العاملي، والد شيخنا بهاء الدين العاملي، يصفه أُستاذه زين الدين الشهيد الثاني، بقوله: الشيخ الإمام العالم الأوحد، المرقي عن حضيض التقليد إلي أوج اليقين، عضد الإسلام و المسلمين في الدنيا و الدين، حسين بن الشيخ الصالح العالم العامل المتقي، خلاصة الأخيار، الشيخ عبد الصمد بن الشيخ الإمام شمس الدين محمد الشهير بالجبعي الحارثي الهمداني. («3»)

و لعلّ

هذه الكلمة من أُستاذه تعرب عن مكانة الرجل في العلم و الفقه

______________________________

(1) رياض العلماء: 2/ 366.

(2) أمل الآمل: 1/ 88- 99.

(3) طبقات أعلام الشيعة: 62، القرن العاشر.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 225

و الأمانة، و آثاره تدل علي تضلّعه في الفقه، و قد ترك آثاراً فقهية نذكر منها ما يلي:

1. رسالة في تعارض اليد و الشياع و تقديمه علي اليد.

2. رسالة في المسح علي الرجلين.

3. رسالة في تحقيق تسع مسائل مهمة في الصلاة، المعبّر عنه ب- «الرسالة التساعية».

4. مسائل الصلاة، أو الرسالة الطهماسبية، في بعض المسائل الفقهية.

و لمّا توفي (قدس سره)، رثاه ولده الأكبر شيخنا بهاء الدين العاملي بقصيدة مطلعها:

قف بالطلول و سلها أين سلماها و روِّ من جرع الأجفان جرعاها («1»)

7. علي بن الحسين الصائغ العاملي (المتوفّي عام 980 ه-)

هو علي بن الحسين بن محمد الشهير ب- «الصائغ» الحسيني العاملي الجزيني.

عرّفه الحر العاملي بقوله: كان فاضلًا، عابداً، فقيهاً، محدّثاً، محقّقاً، و من تلامذة الشهيد الثاني، له كتاب «شرح الشرائع» رأيته بخطه و كتاب «شرح الإرشاد» و غير ذلك.

قرأ عنده الشيخ حسن (صاحب المعالم) ابن الشهيد الثاني، و السيد محمد بن علي بن أبي الحسن الموسوي العاملي (صاحب المدارك) و رويا عنه.

و لمّا توفي رثاه الشييخ حسن المذكور بقصيدة تتألّف من 24 بيتاً مطلعها:

______________________________

(1) و لشيخنا المترجم ترجمة وافية في الغدير، ذكر فيه مشايخه و تلاميذه، فمن أراد فليرجع إلي الجزء 11/ 217- 231.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 226

داعي الغواية بين العالمين دعا*** من شاب نجم الهدي من بعد ما سطعا («1»)

يقول الأفندي: يروي عنه المحقّق الأردبيلي، و انّ شرحه علي الإرشاد موسوم ب- «مجمع البيان في شرح إرشاد الأذهان» و قد رأيت منه نسخة بقصبة «ده خارقان»، و قد قُرئت تلك النسخة عليه، و

كان تاريخ تأليفه سنة 979 ه-.

و كفي في جلالته انّه من مشايخ الأردبيلي، الذي تربّي في أحضانه العلمان الجليلان صاحبا المعالم و المدارك.

8. عبد العالي الكركي (926- 993 ه-)

هو الشيخ عبد العالي بن نور الدين علي بن عبد العالي العاملي الكركي.

يعرّفه الحر العاملي بقوله: كان فاضلًا، فقيهاً، محقّقاً، محدّثاً، متكلماً، عابداً، من المشايخ الأجلّاء، يروي عن أبيه و غيره من المعاصرين.

و ذكره التفرشي في «رجاله» و قال: جليل القدر، عظيم المنزلة، رفيع الشأن، نقيّ الكلام، كثير الحفظ، كان من تلامذة أبيه، تشرّفت بخدمته، و قد توفي باصبهان عام 993 ه-. («2»)

و أمّا آثاره العلمية

1. «اللمعة في عدم عينية الجمعة».

2. رسالة في القبلة عموماً، و قبلة خراسان خصوصاً.

إلي غير ذلك من التآليف.

______________________________

(1) أمل الآمل: 1/ 119 برقم 123.

(2) أمل الآمل: 1/ 110 برقم 100. و انظر ترجمته في نقد الرجال: 188- 189؛ طبقات أعلام الشيعة: 122، القرن العاشر؛ روضات الجنات: 4/ 199.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 227

9. المحقّق أحمد الأردبيلي (المتوفّي عام 993 ه-)

المولي أحمد بن محمد الأردبيلي، أمره في الجلالة و الثقة و الأمانة أشهر من أن يذكر، و فوق ما تحوم حوله عبارة، كان متكلّماً، فقيهاً عظيم الشأن، جليل القدر، رفيع المنزلة، أورع أهل زمانه، و أعبدهم و أتقاهم. («1»)

يعرّفه المحدّث البحراني بقوله: لم يسمع بمثله في الزهد و الورع، له مقامات و كرامات لا مجال لذكرها.

و كانت السلطة الصفوية آنذاك بيد الشاه عباس الصفوي، و كان يبالغ في تعظيمه و تمجيده، و يرسل إليه بكلّ جميل، و يستدعي من جنابه القدوم إلي إيران، و هو يتحاشي عن قبول ذلك.

و قد خلّف أثرين عظيمين في الفقه قلّما يوجد لهما مثيل هما:

1. «مجمع الفائدة و البرهان في شرح إرشاد الأذهان» و قد طبع في اثني عشر جزءاً، و هو مفعم بالتحقيق و مشحون بالدّقة، و هو دورة فقهية كاملة، و موسوعة كبيرة تشمل جميع أبواب الفقه، إلّا كتاب النكاح،

و قد اعترف بدقته و فضله كلُّ من تأخّر عنه، و هو المجدّد في أكثر المسائل الفقهية و مع أنّه كان يرجع إلي كلمات الفقهاء، و لكن لا يصدر عنها تقليداً، فرغ من الجزء الأوّل عام 978 ه-، قال في آخر هذا الجزء: وقع اختتامه في عاشر ربيع الأوّل المنتظم في شهور سنة 978 ه- في مشهد أمير المؤمنين، أمير الأُمراء عليه و علي حبيبه سيد الأنبياء، و أولاده سادات الأتقياء أفضل التحية و الثناء، في زمن الاختفاء من الأعداء. («2»)

______________________________

(1) الأفندي التبريزي: الرياض: 1/ 56؛ طبقات أعلام الشيعة: 8، القرن العاشر.

(2) لاحظ مجمع الفائدة: 3/ 445.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 228

إنّ للمحقّق الأردبيلي في هذا الكتاب آراءً خاصّة، خالف فيها الرأي المشهور بين العلماء، و قد نشرت مجموعة من هذه الآراء في الجزء الثاني من المقالات التي طبعت بمناسبة انعقاد مؤتمر احياء الذكري المئوية علي وفاة المحقّق الأردبيلي.

و تعرب آراؤه عن دقّته و حريته في الرأي، و عمق تفكيره، و نظرته الفاحصة نحو المسائل الفقهية.

2. «فقه القرآن»: المسمّي ب- «زبدة البيان في أحكام القرآن» فسّر فيه آيات الأحكام الواردة في القرآن المجيد، و هو- بعد كنز العرفان- أبسط كتاب حول الموضوع، و قد فرغ من تأليفه سنة 989 ه-، و وقع موضع العناية من قبل العلماء، فشرحه بعضهم، و علّق عليه آخرون.

و هو ككتابه السابق مشحون بالتحقيق، و أمّا منهج المؤلّف في هذا الكتاب، يشرح اللّغات المشكلة، ثمّ يبيّن النكات الأدبيّة، و يفسّر الآيات علي ضوئهما، ثمّ يتطرّق إلي الأحكام التي تدل عليها الآية، و هو في تأليفه هذا متأثر بكتاب «مجمع البيان» للشيخ الطبرسي.

و قد شهد القرن العاشر محقّقين كبيرين علي صعيد الفقه،

أحدهما المحقّق الكبير الشيخ أحمد الأردبيلي، و الثاني الشيخ علي الكركي المعروف ب- «المحقّق الكركي» صاحب جامع المقاصد كما مرّ ذكره.

كما يكفيه من الفضل انّه ربّي فقيهين جليلين، هما: الشيخ حسن صاحب المعالم، و السيد محمد صاحب المدارك، و كلاهما من أعلام الفقه و حملة الأقلام. («1»)

______________________________

(1) طبقات أعلام الشيعة: 8، القرن العاشر.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 229

10. الحسين المجتهد الكركي (المتوفّي عام 1001 ه-)

هو السيد الحسين المجتهد الكركي ابن السيد ضياء الدين أبي تراب الحسن ابن أبي جعفر محمد الموسوي الكركي.

يعرّفه الأفندي التبريزي بقوله: الفقيه، الفاضل، الجليل، الكامل، المعروف بالأمير السيد حسين المجتهد، و قد يعرف بالأمير السيد حسين المفتي، والد الميرزا حبيب اللّه المشهور، الذي تسلم مناصب رفيعة في عهد الصفوية، و هو ابن أُخت الشيخ عبد العالي بن الشيخ علي الكركي المشهور، و كان والده من جملة مشايخ الشهيد الثاني، و من أكابر العلماء، و من مشايخ الشيخ حسين بن عبد الصمد، والد شيخنا بهاء الدين العاملي، و قد تخرّج عليه الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ ظهير الدين إبراهيم البحراني.

و أمّا آثاره العلمية الفقهية، فهي:

1. «رفع البدعة في حل المتعة» وصفه الأفندي بقوله: و هي رسالة طويلة الذيل، حسنة الفوائد، و عندنا منها نسخة، و قد ألّفها لكمال الدين شيخ أويس.

2. رسالة «اللمعة في أمر صلاة الجمعة» فرغ من تأليفها سنة 966 ه- و قد ألّفها للسلطان شاه طهماسب، و يذهب فيها إلي وجوب صلاة الجمعة تخييراً لكن شريطة أن يكون إمام الجمعة فقيهاً مجتهداً جامعاً لشرائط الفتوي، و ردَّ فيها علي ما ذكره الشهيد الثاني من الأدلّة علي وجوبها عيناً.

3. «النفحات القدسية في أجوبة المسائل الطبرسية».

4. «الاقتصاد».

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 230

5. «شرح الشرائع» خرج منه

كتاب الطهارة.

إلي غير ذلك من الرسائل و المصنّفات في الفقه و العقائد و غيرها. («1»)

يقول شيخنا المجيز: توفي بأردبيل بالطاعون، و حمل إلي العتبات المقدسة سنة 1001 ه-، ثمّ اعتذر عن ذكره في عداد فقهاء القرن العاشر بقوله: و ذكرنا المترجم له هاهنا مع أنّه توفي عام 1001 ه- لشدّة احتكاك ترجمته مع أهل المائة العاشرة.

11. الشيخ جمال الدين الحسن صاحب المعالم (959- 1011 ه-)

هو الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن الشيخ زين الدين الشهيد الثاني العاملي الجبعي.

يعرّفه الشيخ الحر العاملي بقوله: كان عالماً، فاضلًا، عاملًا، كاملًا، متبحراً، محقّقاً، ثقة، فقيهاً، وجيهاً، نبيهاً، محدثاً، جامعاً للفنون، أديباً، شاعراً، زاهداً، عابداً، ورعاً، جليل القدر، عظيم الشأن، كثير المحاسن، وحيد دهره، أعرف أهل زمانه بالفقه و الحديث و الرجال. («2»)

و لا أجد عبارة أجمع في الإشادة بفضله كتلك التي ذكرها الحرّ العاملي. انتقل الشيخ حسن و ابن أُخته السيد محمد صاحب المدارك إلي النجف، و تتلمذا علي يد المحقّق الأردبيلي، و كان يخصّهما بالتدريس وراء ما يلقيه علي سائر الطلاب، و كان يتنبّأ لهما بمستقبل زاهر و زاخر بالعطاء العلمي.

______________________________

(1) لاحظ، طبقات أعلام الشيعة: 71، القرن العاشر، فقد ذكر فهرس تآليفه علي وجه التفصيل، الأفندي التبريزي: الرياض: 2/ 62- 69؛ و أمل الآمل: 1/ 69 برقم 63.

(2) الحر العاملي: أمل الآمل: 1/ 57، روضات الجنات: 2/ 296، رياض العلماء: 1/ 225.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 231

و قد انتج قلم شيخنا كتباً، منها:

1. «منتقي الجمان في الأحاديث الصحاح و الحسان» خرج منه كتب العبادات إلي الحج، و هو كتاب قليل النظير، و فيه نكات و إفادات لا توجد في غيره.

2. «معالم الدين و ملاذ المجتهدين» خرج منه مقدمة في الأُصول و قسم من كتاب الطهارة،

و لم تزل مقدمته في الأُصول كتاباً دراسياً منذ تأليفه إلي يومنا هذا.

3. «مناسك الحج».

4. الرسالة الاثنا عشرية في الصلاة.

5. «حاشية علي مختلف الشيعة» مجلد واحد.

6. «التحرير الطاووسي» في الرجال.

7. كتاب «مشكاة القول السديد في تحقيق معني الاجتهاد و التقليد».

8. رسالة في المنع من تقليد الميّت.

و في ظنّي انّ شيخنا أبا منصور صاحب المعالم ألّف الكتابين الأخيرين ردّاً لما ظهر في الأوساط العلمية من بوادر الحركة الأخبارية، التي كانت تحرّم الاجتهاد و لا تجوّز التقليد، و تجوّز أخذ الحكم من الحيّ و الميّت.

و هذا إن دلّ علي شي ء فإنّما يدل علي ظهور الحركة الرجعية في مستهلِّ القرن الحادي عشر، قبل أن ينادي بها محمد أمين الاسترآبادي من مكة المكرمة عن طريق تأليف كتابه «الفوائد المدنية» و سيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن الحركة الاخبارية.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 232

12. السيد محمد صاحب المدارك (946- 1009 ه-)

هو السيد محمد بن علي بن الحسين بن أبي الحسن الموسوي العاملي الجبعي. («1»)

يعرّفه الحرّ العاملي بقوله: كان عالماً، فاضلًا، متبحراً، ماهراً، محقّقاً، مدقّقاً، زاهداً، عابداً، ورعاً، فقيهاً، محدّثاً، كاملًا، جامعاً للفنون و العلوم، جليل القدر، عظيم المنزلة، قرأ علي: أبيه، و علي مولانا أحمد الأردبيلي، و تلامذة جدّه لأُمّه الشهيد الثاني، كان شريك خاله الشيخ حسن في الدرس، و كان كل يقتدي بالآخر في الصلاة و يحضر درسه، و قد رأيت جماعة من تلامذتهما.

و هذا التعبير يعرب عن مكانة الرجل و ورعه، غير انّ سيدنا المترجم له قليل التأليف، و لكنّه كثير التحقيق و التدقيق، ردّ أكثر الأشياء المشهورة بين المتأخرين في الأُصول و الفقه، كما فعله خاله الشيخ حسن.

و من تآليفه:

1. «مدارك الاحكام في شرح شرائع الإسلام»، طُبعت في ثمانية أجزاء، و فرغ منه

سنة 998 ه-.

2. «شرح المختصر النافع».

3. و له حواش علي الاستبصار، و التهذيب، و ألفية الشهيد.

و كان يقول بوجوب صلاة الجمعة.

______________________________

(1) له ترجمة في أعيان الشيعة: 46/ 103، أمل الآمل: 1/ 167، الذريعة 44، ريحانة الأدب: 2/ 388، لؤلؤة البحرين: 44، نقد الرجال: 321، هدية الأحباب: 189، روضات الجنات: 7/ 45، و له ترجمة وافية في مقدّمة مدارك الأحكام.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 233

و من مميّزات كتاب المدارك متانة الاستدلال، و الاعتماد علي الروايات المسلّمة، فينتقي منها ما كانت واضحة الدلالة، و من الأدلّة العقلية ما كانت متسالمة، و هو في الوقت نفسه ينقل الرواية بكاملها مع الدقة في نقلها، و يضعف ما يرويه غير الإمامي الاثني عشري.

13. القاضي نور اللّه التستري المرعشي (956- 1019 ه-)

هو السيد نور اللّه بن السيد شرف الدين الحسيني المرعشي التستري («1»)، متكلم كبير، فقيه متبحّر، أُصولي بارع، كان يقضي في بلاد الهند بالمذاهب الخمسة، يصفه الشيخ الحرّ العاملي بقوله: فاضل، عالم، محقّق، علّامة، محدِّث، له كتب، منها: «إحقاق الحقّ في جواب من ردّ نهج الحقّ» للعلّامة، و كتاب «الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة»، و كتاب «مصائب النواصب»، و «رسالة في نجاسة الماء القليل بالملاقاة» و له «حاشية علي شرح المختصر للعضدي»، و «حاشية علي تفسير البيضاوي».

كما أنّ له كتاب «مجالس المؤمنين» في القضايا و التراجم.

ألّف العلّامة الحلّي كتاب «نهج الحق و كشف الصدق» للسلطان محمد خدابنده، مرتّباً علي مسائل في التوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة، و مسائل أُصول الفقه، و المسائل الفرعية.

و قد قام الفضل بن روزبهان بنقض هذا الكتاب و فرغ من النقض عام 909 ه- و سمّاه «إبطال الباطل و إهمال كشف العاطل» أورد فيه جميع نهج الحق بألفاظه غير خطبته،

ثمّ قام القاضي نور اللّه، بنقض كتاب روزبهان بكتاب

______________________________

(1) له ترجمة ضافية في روضات الجنات: 8/ 159 برقم 727؛ أمل الآمل: 2/ 336 برقم 1037؛ و ترجمه السيد المرعشي في مقدمته علي كتاب إحقاق الحقّ.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 234

أسماه «إحقاق الحقّ» فلمّا علمت به السلطات الجائرة في الهند أُلقي القبض عليه و زُجَّ في السجن و عذِّب حتي استشهد علي أثرها عام 1019 ه-.

و قد طبع «إحقاق الحقّ» بعدّة طبعات، و طبع أخيراً بتعليقات وافرة للسيد العلامة المرعشي (رحمه الله).

14. عناية اللّه القهبائي (كان حيّاً عام 1016 ه-)

هو الشيخ عناية اللّه القهبائي من تلامذة المحقّق الأردبيلي و الشيخ عبد اللّه التستري الاصفهاني و بهاء الدين العاملي، صاحب «مجمع الرجال في علم الرجال» جمع فيه تمام ما في الأُصول الخمسة الرجالية، أعني: رجال النجاشي، و الكشي، و رجال شيخ الطائفة، و فهرسته، و رجال ابن الغضائري؛ و هو في الوقت نفسه إعادة لتأليف «حل الإشكال في معرفة الرجال» للسيد ابن طاوس، و قد طبع الكتاب في سبعة أجزاء في ثلاثة مجلدات («1») و يعد كتابه هذا من أدقّ الكتب الرجالية و أعمقها.

15. الشيخ عبد النبي بن الشيخ سعد الجزائري («2») (المتوفّي 1021 ه-)

يصفه الحرّ العاملي بقوله: كان عالماً، محقّقاً، جليلًا، له كتب منها: شرح التهذيب.

و يعرّفه الخوانساري: كان فاضلًا، محقّقاً، جليلًا، قرأ في الأُصولين، و الفقه،

______________________________

(1) روضات الجنات: 4/ 410؛ طبقات أعلام الشيعة، القرن الحادي عشر: 420.

(2) الجزائر عبارة عن ناحية كبيرة، و قري متّصلة واقعة علي شفير نهر تستر، بينها و بين البصرة، حسنة الرباع و الاقطاع، خرج منه جمع كثير من علماء الشيعة. كما في الروضات لاحظ أيضاً مقدمة حاوي الأقوال: 8.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 235

و الحديث و الرجال، و كتابه «حاوي الأقوال في معرفة الرجال» جليل معروف معتمد عليه بين الطائفة.

قرأ علي شيخنا بهاء الدين العاملي، و صاحب المعالم، و المدارك، و ما في أمل الآمل من أنّه قرأ علي المحقّق الكركي بعيد عن الصحة، لأنّ الثاني توفي عام 940 ه- و المترجم له توفي عام 1021 ه-. («1»)

16. عبد اللّه بن الحسين التستري شيخ الرجاليين (المتوفّي 1021 ه-)

يعرّفه تلميذه في «نقد الرجال» بقوله: عبد اللّه بن الحسين التستري مدّ ظلّه- شيخنا و أُستاذنا، الإمام، العلّامة، المحقّق، المدقّق، جليل القدر، عظيم المنزلة، دقيق الفطنة، كثير الحفظ، وحيد عصره، فريد دهره، أورع أهل زمانه، ما رأيت أحداً أوثق منه، لا تحصي مناقبه و فضائله، قائم الليل، صائم النهار، و أكثر فوائد هذا الكتاب (نقد الرجال) من تحقيقاته، جزاه اللّه عنّي أفضل جزاء المحسنين، ثمّ ذكر كتبه. («2»)

و يروي عنه محمد تقي المجلسي الأوّل و غيره.

و هو الذي وقف علي كتاب «حل الإشكال في معرفة الرجال» للسيد أحمد ابن طاوس الحلّي الذي جمع فيه عبارات الكتب الرجالية الخمسة: رجال الطوسي، فهرسته، اختيار الكشي، و فهرست النجاشي، و كتاب الضعفاء المنسوب إلي ابن الغضائري؛ ثمّ جرّد ما نقله السيد في ذلك الكتاب عن ابن الغضائري

______________________________

(1)

له ترجمة في أمل الآمل: 2/ 165 برقم 488، روضات الجنات: 4/ 268 برقم 395، رياض العلماء: 3/ 272.

(2) التفرشي: نقد الرجال: 197 برقم 92؛ لاحظ كليات في علم الرجال: 83.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 236

و جعله في رسالة، و الطريق الوحيد إلي كلّ ما ينقل عن ابن الغضائري هي تلك الرسالة المجردة من كتاب «حل الإشكال في معرفة الرجال».

17. ميرزا محمد الاسترآبادي (المتوفّي 1028 ه-)

هو الشيخ محمد الاسترآبادي بن علي بن إبراهيم الحسيني (المتوفّي 1028 ه-) و قد ألّف في الرجال كتباً ثلاثة تقدّمت أسماؤها.

و هو أُستاذ محمد الأمين الاسترآبادي الأخباري و أبو عقيلته، و له وراء كتبه الثلاثة، شرح آيات الأحكام، و حاشية التهذيب للشيخ الطوسي، و رسائل أُخري متعددة؛ توفي بمكة في 13 ذي الحجة، أو ثالث ذي القعدة سنة 1028 ه-.

يروي عن: إبراهيم بن علي بن عبد العالي الميسي، و أبي محمد محسن بن غياث الدين منصور.

و يروي عنه: محمد أمين الاسترآبادي (المتوفّي 1036 ه-). («1») ترجمه غير واحد من الرجاليين، كالأردبيلي في «جامع الرواة» و التفرشي في «نقد الرجال» هؤلاء هم الأقطاب الثلاثة لعلم الرجال في أوائل القرن الحادي عشر.

18. الشيخ محمد بهاء الدين (953- 1030 ه-)

هو الشيخ الجليل بهاء الدّين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي الجبعي، منسوب إلي الحارث الهمداني، الذي كان من خواص أمير المؤمنين (عليه السلام)

يعرّفه الحرّ العاملي بقوله: حاله في الفقه و العلم، و الفضل و التحقيق،

______________________________

(1) الطهراني: طبقات أعلام الشيعة: القرن الحادي عشر: 497.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 237

و التدقيق، و جلالة القدر، و عظم الشأن، و حسن التصنيف، و رشاقة العبارة، و جمع المحاسن، أظهر من أن يذكر، و فضائله أكثر من أن تحصي، و كان ماهراً، متبحراً، جامعاً، كاملًا، شاعراً، أديباً، مُنْشِئاً، ثقة، عدم النظير في زمانه في الفقه و الحديث و المعاني و البيان و الرياضي و غيرها. («1»)

يقول شيخنا المجيز بعد مدحه و إطرائه ما هذه خلاصته: ورد المترجم له بلاد إيران مع والده في عصر طهماسب، و اشتغل علي العلماء، كوالده، و عبد اللّه بن شهاب الدين اليزدي، و محمد باقر اليزدي و غيرهم، حتي برع في فنون

عصره، بشهادة تصانيفه في التفسير و الفقه و الأُصول و الأدب و الرجال و التاريخ و العلوم، فانتسب إلي مقام شيخ الإسلام، ثمّ استعفي، و ساح في البلاد ثلاثين سنة، و حصلت عنده خزانة كتب كبيرة. («2»)

أساتذته

1. والده الشيخ حسين بن عبد الصمد (المتوفّي عام 985 ه-).

2. الشيخ عبد العالي الكركي ابن المحقّق الكركي (المتوفّي عام 993 ه-).

3. الشيخ محمد بن محمد بن أبي اللطيف المقدّس الشافعي، و له منه إجازة توجد ضمن إجازات البحار مؤرخة بسنة 992 ه-.

4. الشيخ المولي عبد اللّه اليزدي (المتوفّي عام 981 ه-).

5. المولي علي المذهب المدرس، تتلمذ عنده في العلوم الرياضية.

6. النطاسي المحنّك، عماد الدين محمد، قرأ عليه في الطب.

______________________________

(1) أمل الآمل: 1/ 155 برقم 158.

(2) طبقات أعلام الشيعة: 86، القرن الحادي عشر. نقل بتصرف يسير.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 238

و أمّا انتاجاته الفقهيّة

1. «الجامع العباسي» و هو رسالة عمليّة كتبها باللّغة الفارسية، و لعلّها أوّل رسالة عملية ظهرت بين فقهاء الشيعة، و قد عملت للمقلّدين، و لم يوفّق لإتمامها فأكملها غيره.

2. حاشية علي الفقيه.

3. حاشية علي القواعد.

4. «الحبل المتين» و قد طبع.

5. رسالتان كريتان.

6. رسالة في الصلاة.

7. رسالة في المواريث، و قد طبعت.

8. رسالة في القبلة.

9. رسالة في الحج.

10. شرح الفرائض النصيرية للمحقّق الطوسي.

11. رسالة في ذبائح أهل الكتاب، و قد طبعت.

يقول في مقدّمتها: إنّ الباعث علي تأليف هذه الرسالة أنّ رسول ملك الروم، لمّا ورد بالرسالة من تلك المملكة إلي هذه البلاد، ذكر في بعض الأيام أنّ من أعظم ما يشنّع به علماء الروم علي علمائكم، بعد مسألة الإمامة، حكمهم بتحريم ذبائح أهل الكتاب، مع أنّ القرآن المجيد نطق بتحليلها في آية لا مجال لتأويلها، و هي

قوله تعالي: (وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ). («1»)

______________________________

(1) المائدة: 5.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 239

فأمرني السلطان … أن أكتب رسالة قامعة للجاجهم، قاطعة لاحتجاجهم بحيث يرتفع تشنيعهم علينا، فكتبت علي سبيل الاستعجال ما منح به قلم الارتجال، مع توزّع البال، و أمر بإرسال هذه الرسالة إلي بلاد الروم مع رسوله ليرتفع حجاب الاحتجاب في هذا الباب، و يتضح عذرنا عند أُولي الألباب. («1»)

إلي غير ذلك من الرسائل، و أمّا تأليفه في سائر العلوم، و حتي الأُصول، فليس هناك موضوع إلّا و قد ولجه، و قد ألّف في الأُصول كتابه «زبدة الأُصول»، و هو مطبوع. («2»)

19. الشيخ جواد بن سعيد بن جواد الكاظمي (كان حيّاً عام 1029 ه-)

هو الشيخ محمد جواد الكاظمي، ثمّ الأصفهاني، قرأ المقدّمات في الكاظمية، ثمّ ارتحل إلي بلدة أصفهان، فتخرّج علي شيخنا البهائي، إلي أن صار من أخصّ خواصه، و أعزّ ندمائه، فصنّف بأمره كتابه المسمي ب- «غاية المأمول في شرح زبدة الأُصول».

كما شرح كتابه الآخر باسم «خلاصة الحساب» و أمّا كتابه الثالث فهو «مسالك الأفهام في شرح آيات الأحكام» طبع في جزءين عام 1387 ه-.

و له في الفقه كتاب آخر و هو «شرح كتاب الدروس» للشهيد الأوّل، خرج منه إلي كتاب الحجّ، و فرغ منه عام 1029 ه- في المشهد الكاظمي، و المطبوع

______________________________

(1) رسالة ذبائح أهل الكتاب: 58، المقدّمة.

(2) و قد ترجمه شيخنا الأميني في «الغدير»: 11/ 249- 284، و قد ذكر عدداً من مشايخه و تلامذته و جلّ تآليفه، و مقتطفات من شعره، و أسماء المعاجم التي له فيها ترجمة؛ روضات الجنات: 7/ 56 برقم 599، أمل الآمل: 1/ 155؛ ريحانة الأدب: 3/ 301؛ الذريعة: 2/ 29.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 240

من كتبه هو شرحه علي آيات الأحكام، الذي

يصفه الشيخ حسن بن عباس البلاغي النجفي في كتابه «تنقيح المقال» بأنّه كتاب كبير من أكبر ما كتب في شأنه. («1»)

20. محمد باقر بن محمد مؤمن السبزواري (1017- 1090)

هو الشيخ محمد باقر بن محمد مؤمن الخراساني السبزواري ثمّ الاصفهاني أحد أعيان الإمامية، وصفه الحرّ العاملي بقوله: عالم فاضل، محقّق، متكلّم، حكيم، فقيه، محدّث، جليل القدر.

تلمذ علي جماعة منهم السيد أبو القاسم الفندرسكي (المتوفّي 1050) و القاضي معز الدين الاصفهاني، قرأ عليهما في المعقول و حيدر علي الاصفهاني، و حسن علي بن عبد اللّه التستري قرأ عليهما في المنقول، و مهر في غالب العلوم و حقق و صنّف و ارتفع شأنه عند السلطان عباس الثاني الصفوي، فاسند إليه منصب شيخوخة الإسلام- يعني قاضي القضاة- و قلَّده إمامة الجمعة و الجماعة و فوض إليه الوزير الكبير السيد الحسين بن رفيع الدين محمد المرعشي التدريس في مدرسة عبد اللّه التستري باصفهان و اشتهر و صار من كبار مجتهدي عصره.

تلمذ عليه جماعة منهم عبد اللّه الأفندي التبريزي و محمد شفيع بن فرج الجيلاني و المحقّق حسين الخوانساري، و محمد بن عبد الفتاح التنكابني و عبد اللّه الأردبيلي و غيرهم.

صنّف كتباً، منها: «ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد» و «الكفاية في الفقه» إلي غير ذلك.

______________________________

(1) انظر ترجمته في رياض العلماء: 1/ 118، روضات الجنات: 2/ 216 برقم 179، و الكني و الألقاب: 3/ 9، و قد كتب السيّد المرعشي (قدس سره) مقدّمة علي كتاب «مسالك الأفهام» أدّي فيه حق المقال.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 241

توفي باصفهان سنة تسعين و ألف و نقل نعشه إلي المشهد الرضوي. («1»)

هذه أسماء ثلّة من الفقهاء الذين أنجبتهم هذه الحقبة من الزمان، و لو أردنا الإطناب بسرد أسماء الفقهاء في هذا القرن لطال

بنا الكلام، فإنّ السابر في تاريخ الفقه الشيعي خاصة في هذا القرن يجد أمامه أسماء طائفة كبيرة من الفقهاء خصوصاً في منطقة جبل عامل و الشام.

حصيلة الجهود الفقهية في القرن العاشر

يتمتع هذا القرن بغزارة الانتاج الفقهي، و كثرة الفقهاء، و ذلك لأنّه قد تأسّست في مستهلّ القرن العاشر (905 ه-) دولة شيعية علي يد السلطان إسماعيل الصفوي، و استطاع أن يقضي علي الدويلات الصغيرة، و يبسط نفوذه علي المراقد المقدسة في العراق، و بذلك اتسعت رقعة دولته، حتي شملت «هراة» من الشرق إلي غربي العراق، و علي صعيد آخر فقد تزامن ظهور الدولة الصفوية مع الدولة العثمانية، و اتسعت رقعتها علي يد السلطان سليم العثماني، فلم يكن لسلاطين الصفوية بدٌّ من إضفاء الشرعية علي حكمهم عن طريق التقرّب إلي الفقهاء، امتثالًا لواجبهم الديني و رغبة في الحيلولة دون وصول النفوذ العثماني إلي المناطق الخاضعة لنفوذهم، و ممّن لبّي دعوتهم الشيخ المحقّق علي بن عبد العالي الكركي، فقد التقي بالسلطان إسماعيل في هراة و دارت بينهما مناظرات ظهرت فيها كفاءته، و لمّا توفي السلطان إسماعيل، قام مقامه السلطان طهماسب فكان للشيخ المحقّق منزلة عظيمة عنده، و نصبه حاكماً في الأُمور الشرعية لكافة بلاد إيران، و أعطاه بذلك حكماً ذكره شيخنا النوري في المستدرك. و قد حرّر الحكم عام 939 ه-. («2»)

______________________________

(1) موسوعة طبقات الفقهاء: 11/ 318 برقم 3531.

(2) المستدرك: 3/ 433- 434.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 242

لا شكّ أنّ الفقيه الجامع للشرائط هو الذي يتكفّل بالنصب و العزل، لا السلطان، و أمّا المرونة التي أظهرها الشيخ بقبول أوامر السلطان فلم تكن إلّا لمصالح اقتضت قبوله لصالح الشيعة.

و قد تمتع علماء الشيعة في الشام في عصر المماليك بحرّية نسبية أتاحت لهم

فرصة ممارسة النشاط العلمي الفقهي في الشام و جبل عامل و سائر النقاط المكتظة بالشيعة.

و سرعان ما أخذ هذا النشاط الفقهي بالفتور إثر تسلم الدولة العثمانية زمام الأُمور في الشام خصوصاً جبل عامل، و عاد الاضطهاد علي الشيعة مرّة أُخري، ممّا حدا بفقهاء جبل عامل إلي الهجرة نحو إيران، لمّا وجدوا فيها ضالّتهم المنشودة، فقد رحّبت بهم الدولة الصفوية ترحيباً حارّاً، فأخذت الأبحاث الفقهية تزدهر في إيران و العراق خصوصاً فيما يرجع إلي الفقه الحكومي، و صار من حصيلة هذا القرن أنّه كثرت التآليف في هذا المضمار، و مرّ فيما سبق أنّ المحقّق الكركي كتب رسالة في حل الخراج، و نازعه الشيخ إبراهيم القطيفي برسالة أُخري، و كان الأردبيلي يدعم موقف القطيفي في المسألة، و الشيباني يدعم موقف المحقّق الكركي.

و هكذا نجد رسائل كثيرة أُلّفت حول وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة و حرمتها، و وجوبها تخييراً، و ما ذلك إلّا لأنّ صلاة الجمعة لها أهميتها لا سيما جانبها السياسي، ففي زمان الحضور لا يقيمها إلّا الإمام، أو من نصبه، و أمّا في زمان الغيبة فقد اختلفت كلمة الفقهاء، و احتدم الجدل و النقاش حولها منذ ظهور الصفوية علي مسرح الصراع، و قد أفتي بوجوبها في عصر الغيبة فقيه جامع للشرائط كالمحقّق الكركي، و أخذ ينصب أئمّة لإقامة الجمعة، حتّي صار ذلك

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 243

سبباً لطرح المسألة من رأس، فهل للمجتهد الجامع للشرائط كما للإمام المعصوم من النصب أو العزل أو لا، و هذا الذي نعبّر عنه في زماننا بولاية الفقيه؟

فبعد الإيعاز إلي هذه المقدّمة نستعرض حصيلة الجهود التي أُنجزت في هذا القرن:

1. ظهور مؤلّفات في الفقه الحكومي حول الخراج و صلاة الجمعة و

غيرها.

2. اكتظت الساحة الفقهية بندوات تدور أكثرها حول المسائل الحكوميّة أو المساجلات التحريرية، و ما ذلك إلّا لظهور أبحاث كان الفقهاء بأمس الحاجة إلي وضع الحلول المناسبة لها خاصة بعد قيام الدولة الصفوية الشيعية.

3. ظهور موسوعات فقهية كبيرة لم ير الدهر لها من نظير، ك- «جامع المقاصد» لشيخنا المحقّق الكركي، و «مجمع الفائدة و البرهان» للمحقّق الأردبيلي.

4. العناية بعلم الرجال، و تصحيح الأسانيد، و الإفتاء علي ضوء الروايات الصحيحة، و تطبيق التنويع الموروث عن ابن طاوس علي الفقه، كما هو المشاهد من فقه المحقّق الأردبيلي، و تلميذيه صاحب المعالم و المدارك.

5. العناية بفقه القرآن عناية وافرة، فقد ألّف في ذلك القرن عدّة كتب حول آيات الأحكام، من جملتها:

1. «معارج السئول في مدارج المأمول» في تفسير آيات الأحكام في مجلدين، للمولي كمال الدين الحسن بن شمس الدين محمد بن الحسن الاسترآبادي النجفي، فرغ من مجلده الأوّل عام 891 ه-، و قال في مقدمته: لمّا منّ اللّه عليه بتأليف كتاب «عيون التفاسير» سأله من طاعته فرض أن يستخرج منه تفسير

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 244

آيات الأحكام علي نهج ما ألّفه شيخه الفاضل المقداد.

و يعرّفه الشيخ النوري بأنّه أحسن ما أُلّف في تفسير آيات الأحكام و أبسطها. («1»)

2. «زبدة البيان في فقه القرآن» ألّفه المحقّق الأردبيلي كما مرّ.

3. «مسالك الافهام» للشيخ جواد الكاظمي و قد مرّ.

4. «التفسير الشاهي» ألّفه أبو الفتح بن الأمير المخدوم، ابن الأمير شمس الدين محمد الحسيني، المتوفّي عام 986 ه-، و قد ألّفه للسلطان طهماسب الأوّل باللّغة الفارسية، و طبع بإشراف الشيخ ولي اللّه الاشراقي السرابي (قدس سره).

***

ميزات الدور الرابع

ابتدأ هذا الدور منذ أوائل القرن السابع، و استمر إلي أواخر القرن العاشر و شي ء من

أوائل الحادي عشر، و قد ذكرنا في مختتم كل قرن حصيلة الجهود التي انتهت إلي تطوّر الفقه علي كافة الأصعدة، فلو قمنا بجمعها لوقفنا علي حصيلة المميزات التي يتميز بها هذا الدور عمّا سبقه من الأدوار الثلاثة.

و خوفاً من إطالة الكلام نذكر موجزاً لما تقدّم.

1. تأليف المتون الفقهية علي أصعدة ثلاثة: مقتضب و متوسط و مسهب.

2. تأليف موسوعات فقهية و دورات كبيرة، خاصّة في القرن السابع و العاشر.

3. الاهتمام بأُصول الفقه من قبل فقهاء الشيعة، فقد شهدت الكتب الأُصولية تطوّراً ملحوظاً كمّاً و كيفاً.

______________________________

(1) الذريعة: 21/ برقم 4512.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 245

4. ظهور لون جديد من التأليف في فقه الشيعة، و هو جمع الخلافيات بين فقهاء الشيعة، و يعد العلّامة الحلّي أوّل من فتح الباب علي مصراعيه في هذا المضمار.

5. ظهور موسوعات فقهية في الفقه المقارن، أشهرها و أجمعها كتاب «التذكرة».

6. ظهور كتب رجاليّة ك- «حل الإشكال في معرفة الرجال» للسيد جمال الدين الطاووسي، و صنّف علي غراره تلميذاه: العلّامة الحلّي، و ابن داود، و ظهور موسوعات رجالية للقُهبائي و الاسترابادي علي ما مرّت.

7. تنويع الحديث بابتكار ابن طاوس، و إدخالها حيّز التطبيق في الفقه.

8. ظهور لون خاصّ من الفقه باسم القواعد، و أوّل من ألّف فيه هو الشهيد الأوّل.

9. العناية بفقه القرآن، فقد ألّف شيخنا الفاضل المقداد كتاب «كنز العرفان» و أعقبه الحسن بن محمد بن الحسن الاسترآبادي بتأليف كتابه «معارج السئول في مدارج المأمول» في مجلدين، و أعقبه الأردبيلي بتأليف كتابه «زبدة البيان» و شيخنا الفاضل الجواد بكتابه «مسالك الأفهام إلي آيات الأحكام».

10. العناية بالأحكام السلطانية و الفقه الحكومي، و ظهور مساجلات تحريرية بين العلماء في مسائل صارت موضعاً للابتلاء بعد ظهور

الدولة الصفوية.

و بذلك انتهي هذا الدور باختتام القرن العاشر.

المراكز العلمية التي نشطت في هذا الدور

اشارة

قد احتفل هذا الدور بنشاط مراكز علمية مختلفة، غير انّ القسط الأوفر

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 246

كان لمدرستين عظيمتين، هما: مدرسة الحلّة، و مدرسة جبل عامل، اللّتان أنجبتا عباقرة من الفقهاء.

1. مدرسة الحلّة

فقد بدأت مدرسة الحلّة نشاطها في مختتم القرن السادس يوم قام ابن إدريس بنفض غبار التقليد عن كاهل الفقه و رفع راية الاجتهاد، فالتف حوله نخبة من الفضلاء الأفذاذ حتي أضحت مدرسته النواة الأُولي لمدرسة الحلّة فيما بعد.

ثمّ أعقبه آخرون ساروا علي نهج الاجتهاد الحر (أي غير الملتزم برأي من قبله)، ك-: ابن نما الحلي، و ابن طاوس، و المحقّق الحلّي، و ابن سعيد الحلّي.

و قد استمر نشاطها في القرون المتتابعة حتي أواخر القرن التاسع.

و مع أنّ الحملة المغولية محت كثيراً من الآثار العلمية في حاضرة العراق و دمّرتها، إلّا أنّ الحوزة العلمية في الحلّة بقيت مصونة عن شرهم و استمر نشاطها إلي مختتم القرن التاسع، و كان أحمد بن فهد الحلّي (المتوفّي 841 ه-) من أعلام ذلك القرن.

2. مدرسة جبل عامل

راج التشيع في بلاد الشام منذ إقصاء أبي ذر الغفاري ذلك الصحابي الجليل إلي الشام، ثمّ انتعش في أيام الفاطميين حتي أُصيب بنكسة في زمن الأيوبيّين، و لمّا استولي المغول و أعقبتهم دولة المماليك تنفست الشيعة الصعداء في تلك المنطقة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 247

و في تلك الظروف بادر الشهيد الأوّل إلي إنشاء مدرسة علمية في جزّين، فأثمرت و اتسعت و تلتها حوزات علمية أُخري، كحوزة بعلبك و الكرك و جبع.

و استمر الوضع علي هذا المنوال حتي سقوط دولة المماليك علي يد السلطان سليم العثماني الذي امتد نفوذه إلي بلاد الشام في العقد الثالث من القرن العاشر (930 ه-)، و هناك عاد الضغط علي الشيعة مرّة أُخري، و بلغ القمة حين استشهاد الشهيد الثاني من جراء نشوب الاضطرابات و الفتن عام 965 ه-، فأخذ النشاط الفقهي في جبل عامل بالتقلّص شيئاً فشيئاً، ممّا حدا بكثير من

الفقهاء إلي الهجرة صوب إيران و العراق

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 249

أدوار الفقه الإمامي

5

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 251

الدور الخامس ظهور الحركة الأخبارية («1») (1030- 1185 ه-)

اشارة

كان مطلع القرن الحادي عشر مسرحاً للتيارات الفكرية المختلفة، فمن مكبّ علي العلوم الطبيعية كالنجوم و الرياضيات و الطب التي معيارها التجربة، إلي آخر متوغّل في الحكمة و العرفان و المعارف العقلية التي لا تدرك إلّا بقسطاس العقل، إلي ثالث مقبل علي علم الشريعة كالفقه و الأُصول و مبادئهما.

و في تلك الأجواء المشحونة ظهرت المدرسة الأخبارية التي شطبت علي العلوم العقلية بقلم عريض و لم تر للعقل أيّ وزن و اعتبار لا في العلوم العقلية و لا في العلوم النقلية، و نادت ببطلان الاجتهاد و التقليد، و خطّأت طريقتهما.

و قد رفع رايتها الشيخ محمد أمين بن محمد شريف الاسترآبادي الأخباري في

______________________________

(1) إنّ الحركة الأخبارية ابتدأت منذ أوائل القرن الحادي عشر و دامت حتي مقتل آخر زعيمهم، أعني: الشيخ الشريف محمد بن عبد النبي بن عبد الصانع المحدّث النيسابوري المعروف ب- «ميرزا محمد الأخباري» في الكاظمية عام 1232 ه-، و الواقع أنّ ظهور أفكار الوحيد البهبهاني (1118- 1206 ه-) استطاعت أن تقضي علي تلك الحركة و تضعضع أركانها، فلم يعد هناك من يتحمّس لتلك الفكرة و يدافع عنها، فتجد انّ الوحيد البهبهاني قد صلّي علي جنازة الشيخ يوسف البحراني أكبر شخصية أخبارية لمّا توفي عام 1186 ه-، و هذا يعرب عن اضمحلال الفكرة الأخبارية و إعادة النشاط الاجتهادي إلي الساحة الفكرية مرة أُخري.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 252

كتابه الموسوم ب- «الفوائد المدنية» الذي ألّفه في المدينة المنورة أيام إقامته بها و تتلخّص فكرته في الأُمور التالية:

1. عدم حجّية ظواهر الكتاب إلّا بعد ورود التفسير عن أئمّة أهل

البيت (عليهم السلام)، لما ورد من الأحاديث الناهية عن تفسير القرآن بالرأي أوّلًا، و طروء مخصّصات و مقيّدات علي عمومه و خصوصه ثانياً.

2. نفي حجّية حكم العقل في المسائل الأُصولية و عدم الملازمة بين حكم العقل و النقل.

3. نفي حجّية الإجماع من دون فرق بين المحصل و المنقول.

4. ادّعاء قطعية صدور كلّ ما ورد في الكتب الحديثية الأربعة من الروايات لاهتمام أصحابها بتلك الروايات، فلا يحتاج الفقيه إلي دراسة أسنادها أو تنويعها إلي الأقسام الأربعة المشهورة، كما قام بها ابن طاوس و تبعه العلّامة.

5. التوقّف عن الحكم إذا لم يدل دليل من السنّة علي حكم الموضوع، و الاحتياط في مقام العمل، فالتدخين الذي كان موضوعاً جديداً آنذاك تُوقف عن الحكم فيه و روعي الاحتياط في مقام العمل بتركه.

هذه هي الأُسس التي قامت عليها المدرسة الأخبارية.

نعم نقل الخوانساري في «الروضات» عن المحدّث الصالح الشيخ عبد اللّه ابن الحاج صالح السماهيجي البحراني الذي هو أحد الأخباريين في القرن الثاني عشر انّه ألّف رسالة في المسائل الضرورية و أنهي ما بين الأخباريين و المجتهدين من الفروق إلي أربعين فرقاً. ثمّ نقلها («1») صاحب الروضات برمّتها في ترجمة محمد

______________________________

(1) روضات الجنات: 4/ 250.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 253

أمين الأخباري. («1»)

و الحقّ أنّ جوهر الفروق هي التي استعرضناها، و أمّا الفروق الأُخر الباقية، فإمّا تعود إلي تلك الفروق الخمسة، أو إلي أُمور جزئية لا صلة لها بالمنهج كجواز تقليد الميت و عدمه.

الجذور المزعومة للحركة الأخبارية

إنّ المهم هو بيان السبب الذي أدّي إلي نشوء تلك الفكرة، و هناك عدّة فروض مطروحة علي مائدة النقاش لا يسندها الدليل سنذكرها علي وجه موجز.

الأوّل: انّ السبب في ظهور تلك الفكرة هو الشيخ الرجالي الكبير المعروف بميرزا

محمد الاسترآبادي مؤلّف كتب الرجال الثلاثة:

1. نهج المقال، المطبوع و هو أضخمها.

2. الوسيط، و قد طبع أيضاً.

3. الوجيز، الذي لم يطبع غير انّ نسخته موجودة في المكتبة الرضوية.

و قد زوّج كريمته لمحمد أمين الاسترآبادي، و توفي 1028 ه- في مكة المكرمة، و دفن بالمعلّي.

يقول محمد أمين الاسترآبادي في كتابه الموسوم «دانشنامه شاهي»: («2»)

إلي أن وصل المطاف إلي أعلم علماء المتأخرين في علم الحديث و الرجال و أورعهم، أُستاذ الكل في الكل ميرزا محمد استرآبادي- نور اللّه مرقده الشريف-

______________________________

(1) روضات الجنات: 1/ 127.

(2) دانشنامه شاهي مخطوط تتوفر نسخة منه في مكتبة المرعشي في قم، يظهر منها انّه ألّفه بالفارسية في مكة المكرمة يضم أربعين فائدة، و ذكر في أوّلها انّه بمنزلة الأربعين للفخر الرازي، و نقل الخوانساري نص لفظه بالفارسية، لاحظ روضات الجنات: 1/ 121.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 254

و بعد ان قرأت عنده علم الحديث أشار إليّ قائلًا: جدّد طريقة الأخباريين و ارفع الشبهات المعارضة لها، ثمّ أشار الأُستاذ بقوله: بأنّ هذا المعني كان يدور في خاطري و لكن اللّه قدّر أن يكون علي يدك».

«و بعد أن أخذت العلوم المتعارفة من أعظم علمائها، و كنت بالمدينة المنورة أعواماً علي هذه الحال، و بعد تورّعي لوجه اللّه و توسّلي بأرواح أهل العصمة، فجدّدت النظر في الأحاديث و كتب العامة و الخاصة بنظرة دقيقة متعمّقة حتي وفّقني اللّه ببركات سيد المرسلين و الأئمّة الطاهرين، فأجبته مؤتمراً طائعاً، فألّفت «الفوائد المدنية» و لمّا عرضته عليه أجابني مستحسناً لما جاء فيه، و أثني عليّ بالجميل (رحمه الله)». («1»)

و لنا هنا وقفة قصيرة فعلي فرض صحّة نسبة هذا الكتاب إلي الأمين الاسترآبادي أنّه كيف يمكن أن يكون المشير و الآمر

هو الميرزا الاسترآبادي الذي أفني عمره في تأليف كتبه الرجالية الثلاثة، و الغاية من تدوين علم الرجال: الوقوف علي أحوال الراوي و العمل بقول الثقة و ترك غيره، بينما يري الأخباري قطعية الروايات المروية في الكتب الأربعة، و انّه لا حاجة إلي دراسة أحوال الراوي و تنويع الحديث إلي الأقسام الأربعة و يعدّها من بدع العلّامة الحلّي.

و أقصي ما يمكن أن يقال إنّه أشار إلي نوع دراسة الأخبار، و أين هي من الأخبارية المنهجية التي شيّدت أركانها علي الأُسس الخمسة أو أكثر؟!

و علي أية حال فالنفس لا تقنع بما نُقِلَ.

الثاني: ما ذكره أحد الكتاب المعاصرين انّ الجذور السياسية لنشأة الحركة الأخبارية يعود إلي الصراع الشديد الذي كان يجري في العصر الصفوي بصورة مكتومة بين المؤسسة السياسية و المؤسسة الفقهية، فقد أخذ الصفويون يتضايقون

______________________________

(1) مقدّمة كتاب الفوائد المدنية: 12- 13 بقلم محققه.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 255

من سعة دائرة نفوذ المؤسسة الفقهية، و التحوّل التدريجي الذي جري داخل المؤسسة الفقهية من سلطة روحية إلي سلطة زمنية تتدخل في شئون الناس و تزاحم السلطة الرسمية في شئونها و اهتماماتها.

و رغم حاجة المؤسسة السياسية الصفوية إلي دعم و اسناد المؤسسة الفقهية و إلي وقوفها إلي جانبها في صراعها مع العثمانيين، إلّا أنّهم كانوا يتضايقون من توسع دائرة نفوذ الفقهاء، و في هذه الفترة بالذات ظهرت الحركة الأخبارية ابتداءً من سنة 985 ه-، ثمّ اتسعت هذه الحركة و تمكّنت من شق المدرسة الفقهية عند الشيعة الإمامية إلي شطرين متصارعين، و إضعاف مؤسسة الاجتهاد إلي حد بعيد. («1»)

أقول: إنّ ما زعم سبباً لظهور الفكرة الأخبارية لا يمت إلي الموضوع بصلة، بل أقصي ما يثبت انّ السلطات كانت ترجّح الأخبارية علي

الأُصولية.

و لكن الكلام في بيان ما هو السبب لظهور تلك الفكرة، و نظير ذلك ما ذكره «علي نقي المنزوي» في تعليقته علي كتاب والده «الذريعة»: إنّه وصل كتاب معزّ الدّين الأردستاني المقيم بحيدرآباد الهند إلي إيران في عصر أدبرت الحكومة الصفوية عن التصوّف و العرفان، و كانت تنتخب شيوخ الإسلام في البلاد من بين رجال أكثرهم أخباريون غير إيرانيين بعيدين عن العرفان الصوفي الشيعي. («2»)

الثالث: ما ذكره الكاتب أيضاً في تقديمه علي كتاب «طبقات أعلام الشيعة في القرن الحادي عشر» انّ التيار الأخباري جاء به المهاجرون من البلاد العثمانية إلي إيران، فانتشر في شيراز لأوّل مرّة و في البحرين، و بقيت الأخبارية بإيران إلي القرن

______________________________

(1) جودت القزويني: التاريخ السياسي للفقه الإمامي.

(2) طبقات أعلام الشيعة، القرن الحادي عشر: 571، ترجمه معز الدين الاردستاني.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 256

الثالث عشر. («1»)

أقول: إنّ ما ذكره هذا الكاتب لا يدعمه دليل فمَنْ هؤلاء المهاجرون الذين قدموا إلي إيران فنشروا تلك الفكرة، و لما ذا لم يحدثنا التاريخ عنهم؟!

الرابع: ما نقله العلّامة المطهري عن سيد المحقّقين السيد حسين البروجردي (رضوان اللّه عليه) انّه قد بدأت في القرن الحادي عشر فكرة الإعراض عن العقل و الانكباب علي الحس في الشرق و الغرب، و رفع رايته في الشرق الأمين الاسترآبادي، و في الغرب علماء تجربيون أمثال فرنسيس بيكون و ديكارت.

و ما ذكره و إن كان صحيحاً، لكنّه لا يحكي إلّا عن التقارن بينهما و لا يبين السبب.

الخامس: ما ذكره بعض الأساتذة من أنّ الحجاز كان معقل الحديث كما كان العراق معقل الرأي و الفكر، و لا شكّ انّ تلك البيئة المشحونة بالأفكار الحديثية قد تركت انطباعها و آثارها علي الاسترآبادي الذي كان

قاطناً في المدينة المنورة سنين طوالًا و ألّف كتابه «الفوائد المدنية» فيها.

أقول: إنّه حدس بلا دليل و رجم بالغيب، إذ انّ الانطباعات التي تتركها البيئة علي أفكار الأمين الاسترآبادي تجعله يصنف كتاباً كالوسائل و الكافي لا أن يؤسس منهجاً فكرياً يضاد كلّ ما كان عليه علماء الشيعة قرابة ثمانية قرون.

السادس: ما ذكره السيد المدرسي الطباطبائي في كتابه «المدخل إلي الفقه الشيعي» و حاصل ما قاله: إنّ الأرضية لظهور تلك الفكرة كانت موجودة في القرن العاشر أيام حياة الشهيد الثاني و تلميذه الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي، فألّف الأوّل رسالة في التنديد بالتقليد عن الميت، كما انّ الشهيد الثاني ألّف كتاباً نقد فيه السيرة السائدة بين فقهاء الشيعة من الاعتناء بأقوال السالفين، و أعقبه

______________________________

(1) مقدّمة طبقات أعلام الشيعة، القرن الحادي عشر، و المقدمة غير مرقمة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 257

الشيخ عبد النبي بن سعد الجزائري فنقد الأُسلوب الأُصولي في الفقه في كتابه «الاقتصاد في شرح الإرشاد» الذي ألّفه عام 1115 ه-، و ادّعي ميرزا حبيب اللّه الصدر بأنّه لم يبق أيّ مجتهد في إيران و العراق، و كأنّ الكل مقلّدة السلف، ثمّ ذكر بعده سيرة المحقّق الأردبيلي و صاحب المدارك و منتقي الجمان في الاستنباط مشيراً إلي حرية الفكر الذي تمتعوا به و ما كانوا يعتقدون بآراء السلف.

أقول: إنّ أقصي ما يثبت انّه يجب علي المستنبط إعمال الدقة و رفض التقليد و عدم الاعتناء بالإجماعات المنقولة بل المحصلة عن السلف.

و هذا شي ء يدرك بوضوح لمن وقف علي فقه شيخنا الشهيد الثاني، خصوصاً فقه المحقّق الأردبيلي و تلميذيه صاحبي المدارك و المعالم.

و أين هذا من الفكرة الأخبارية الهادفة إلي تحريم العمل بالكتاب إلّا بعد ورود التفسير،

و العمل بكلّ ما جاء في الكتب الأربعة، و لزوم الاحتياط فيما لم يرد فيه نصّ إفتاءً و عملًا؟!

السابع: ما أوعزنا إليه فيما سبق من وجود تيارين فكريين بين أصحاب الأئمّة، فهم بين مكبّ علي الأخبار، مدبر عن العقل و بين آخذ بالنقل و العقل أمثال زرارة بن أعين و عبد اللّه بن يونس و الفضل بن شاذان و تبعهم القديمان و من تلاهم إلي عصر الشيخ المفيد و تلميذيه المرتضي و الشيخ الطوسي، فجعلوا الجميع علي نهج واحد، و هو الجمع بين النقل و العقل، و انّه عند التعارض يقدّم العقل القطعي علي النقل الظنّي.

نعم يكمن هناك فرق جوهري بين الأخبارية التي نادي بها الأمين الاسترآبادي، و بين الأخبارية في عصر الأئمّة، و هو انّ الأخبارية في عصر الأئمّة كانت تعني ممارسة الأخبار و تدوينها و نقلها، دون اعمال الدقة بين صحيحها و سقيمها.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 258

و أمّا الأخبارية التي ابتدعها الأمين الاسترآبادي، فهي أخبارية منهجية، لها أُسسها و دعائمها، و قد ألقي الفكرة بصورة البرهان و النقد علي الأُسس التي اعتمد عليها الأُصوليون، فلذلك لا يمكن عدّ الأخبارية الحديثة امتداداً جوهرياً للأخبارية في عصر الأئمّة.

نعم كانت الأخبارية البدائية ملهمة للشيخ الأمين علي أن يصبغها بصبغة علمية.

*** و السبر في كتابه «الفوائد المدنية» يوقفنا علي أنّه أخذ علم الأُصول عن تقي الدين محمد النسابة، و علم الحديث عن السيد محمد صاحب المدارك، يقول: قد قرأت شرح العضدي للمختصر الحاجبي في أوائل سنّي في دار العلم شيراز علي أعظم العلماء المحقّقين، وحيد عصره، و فريد دهره، الشاه تقي الدين محمد النسابة. في مدّة أربع سنين قراءة بحث و تحقيق و تدقيق. («1»)

و يقول

في موضع آخر: أوّل مشايخي في علم الحديث و الرجال و من تشرّفت بالاستفادة و أخذ الإجازة منه في عنفوان شبابي في المشهد المقدس الغروي، هو السيد السند، و العلّامة الأوحد، صاحب مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام. («2»)

و قرأ أيضاً علي يد الرجالي المعروف ميرزا محمد الاسترآبادي كما تقدّم، و بذلك يعلم أنّه أظهر الفكرة الأخبارية بعد ما درس الأُصول و الرجال و الحديث كما يظهر من نفس الكتاب انّه قرأ الرياضيات و الفلكيات و الحكمة.

______________________________

(1) الخوانساري: روضات الجنات: 1/ 121- 122.

(2) لاحظ الفوائد المدنية، المقدّمة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 259

و قد عرفت الأُسس التي بني عليها منهجه و لسنا بصدد النقد.

إنّما الكلام في أنّ منهجه الذي اختطه لم يكن سوي منهج إبداعي لم تتأصل جذوره في التاريخ و إن زعم بتأصّلها بين علماء السلف من الإمامية.

نعم زعم صاحب المسلك انّ الأخبارية التي ابتدعها قد ظهرت بوادرها في القرون السالفة بين الشيعة الإمامية، غير انّها مرّت بمراحل نشاط و فتور و انتعاش و خمول، و استدل عليه بأمرين نقلناهما عند تقديمنا علي طبقات الفقهاء. («1»)

كانت الحركة الاخباريّة حركة رجعية عرقلت خطا الحركة الاجتهادية عن التقدّم و التطوّر، و أقفلت باب البحث في الأسانيد و المتون، كما أقفلت باب البحث حول كثير من المسائل الأُصولية حتي تجد انّ المحدّث البحراني الذي كان أخبارياً معتدلًا جداً، و يعد كتابه «الحدائق» من الكتب الفقهية القيمة، خصوصاً في جمع الأخبار و تفسيرها، يعترف بذلك و يقول في ترجمة الأمين الاسترآبادي: كان فاضلًا، محقّقاً، مدقّقاً، ماهراً في الأُصولين و الحديث، أخبارياً صلباً، و هو أوّل من فتح باب الطعن علي المجتهدين، و تقسيم الفرقة الناجية إلي أخباري و مجتهد،

و أكثر في كتابه «الفوائد المدنية» من التشنيع علي المجتهدين، بل ربما نسبهم إلي تخريب الدين، و ما أحسن و ما أجاد، و لا وافق الصواب و السداد، لما قد ترتب علي ذلك من عظيم الفساد، و قد أوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه في كتابنا: «الدرر النجفية» و في كتابنا «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة» إلّا أنّ الأوّل منهما استوفي البحث في ذلك بما لم يشتمل عليه الثاني. («2»)

و مهما يكن من أمر فيظهر من خلال الرجوع إلي تاريخ الفقه في تلك البرهة

______________________________

(1) مصادر الفقه الإسلامي و منابعه: 436.

(2) لؤلؤة البحرين: 118، شرح المواقف.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 260

انّ الفكرة الأخبارية شاعت في المراكز العلمية الفقهية، و راجت خصوصاً في النجف الأشرف و كربلاء.

يقول محمد تقي المجلسي (المتوفّي 1070 ه-) في شرحه علي «الفقيه» باللغة الفارسية: ألّف مولانا محمد أمين الاسترآبادي كتاباً باسم «الفوائد المدنية» ألّفها بعد الاشتغال بمطالعته الأخبار المروية عن الأئمّة المعصومين، ثمّ أرسل كتابه هذا إلي معظم البلاد، و قد تلقّاه أكثر علماء النجف و كربلاء بالتحسين و القبول و مضوا علي نهجه، و الحقّ انّ أكثر ما أفاده مولانا محمد أمين حقّ لا مرية فيه.

و هذا الاعتراف من أوّل المجلسيّين دليل واضح علي انتشار الفكرة الأخبارية بين الأوساط العلمية و امتدادها إلي أكثر الأصقاع الإسلامية.

الأخبارية بين التطرّف و الاعتدال

تأثرت الأوساط العلمية بالتيار الأخباري، و ذاع صيته و كثر أتباعه، و هم بين متطرّف كالأمين الاسترآبادي الذي يطعن العلماء و يتّهمهم بأُمور شنيعة، و بين معتدل يتبنّي نفس الفكرة، مع التبجيل و التكريم للمخالف.

و لأجل عرض نماذج من كلام المتطرّف منهم نذكر عبارة الأمين الاسترآبادي في حقّ علمائنا الذين تبعوا أُسلوب الأُصوليين و

تركوا- حسب زعمه- طريقة أئمّة أهل البيت و تلاميذهم حيث قال:

و أوّل من غفل عن طريقة أصحاب الأئمة و اعتمد علي فنّ الكلام و علي أُصول الفقه المبنيين علي الأفكار العقلية، المتداولين بين العامة فيما أعلم محمد بن أحمد بن الجنيد العامل بالقياس، و حسن بن علي بن أبي عقيل العماني المتكلم؛ و لما أظهر الشيخ المفيد حسن الظن بتصانيفهما بين يدي أصحابه، و منهم السيد الأجل

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 261

المرتضي و رئيس الطائفة، شاعت طريقتهما بين متأخري أصحابنا قرناً فقرناً، حتي وصلت النوبة إلي العلّامة الحلّي فالتزم في تصانيفه أكثر القواعد الأُصولية للعامة، ثمّ تبعه الشهيدان و الفاضل الشيخ علي رحمهم اللّه تعالي.

و أوّل من زعم فيما أعلم أنّ أكثر أحاديث أصحابنا المأخوذة من الأُصول- التي ألّفوها بأمر أصحاب العصمة (عليهم السلام) و كانت متداولة بينهم و كانوا مأمورين بحفظها و نشرها بين أصحابنا لتعمل بها الطائفة لا سيما في زمن الغيبة الكبري- أخبار آحاد خالية من القرائن الموجبة للقطع بورودها عن أصحاب العصمة (عليهم السلام) محمد بن إدريس الحلّي تجاوز اللّه عن تقصيراتي و تقصيراته، و لأجل ذلك تكلم علي أكثر فتاوي رئيس الطائفة المأخوذة من تلك الأُصول. («1»)

و لنذكر جملة ممّن تأثّروا بهذا المنهج علي وجه الإيجاز- و التفصيل يطلب من كتب التراجم و طبقات الفقهاء- من غير تعرّض للمتطرّف منهم، بل نذكر الجميع علي حدّ سواء حسب وفياتهم.

[أعيان الأخبارية]

1. زين الدين علي بن سليمان (المتوفّي 1064 ه-)

هو الشيخ علي بن سليمان بن حسن بن سليمان البحراني القدمي الملقب ب- «زين الدين».

يقول الشيخ البحراني: هو أوّل من نشر علم الحديث في بلاد البحرين، و قد كان قبله لا أثر له و لا عين، و روّجه و هذّبه و كتب

الحواشي و القيود علي كتابي التهذيب و الاستبصار، و لشدة ملازمته للحديث و ممارسته له اشتهر في ديار العجم

______________________________

(1) الفوائد المدنية: 30.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 262

بأُمّ الحديث، و كان رئيساً في بلاد البحرين مشاراً إليه، توفي في السنة الرابعة و الستين بعد الألف، و من مصنفاته: رسالة في الصلاة، و رسالة في جواز التقليد، و حاشية علي كتاب المختصر النافع صغيرة مختصرة.

روي عن: بهاء الدين العاملي، و الشيخ محمد بن حسن بن رجب. («1»)

2. المجلسي الأوّل (1003- 1070 ه-)

مولانا الأجل محمد تقي المجلسي، و هو في غني عن الوصف و التعريف، يعرّفه الحر العاملي: كان فاضلًا، عالماً، محقّقاً، متبحراً، زاهداً، عابداً، ثقة، متكلماً، فقيهاً.

له كتب منها: شرح الصحيفة، و حديقة المتقين، و شرح من لا يحضره الفقيه فارسي، و شرح آخر عربي، و رسالة في الرضاع، و غير ذلك.

أقول: يعد شرحه علي الفقيه باسم «روضة المتقين» من أفضل الشروح الذي يعرب عن تضلّع الشارح بالأدب و الرجال و الفقه و الحديث، و قد طبع في اثني عشر جزءاً.

و قد عرفت كلامه في حقّ الأمين. («2»)

و يقول المحدّث النوري: البحر الخِضَمّ، المولي محمد تقي المستغني عن الإطراء و المدح.

قال النقّاد الخبير محمد الأردبيلي في «جامع الرواة»: محمد تقي بن المقصود

______________________________

(1) لؤلؤة البحرين: 14 برقم 4.

(2) أمل الآمل: 2/ 252 برقم 742.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 263

علي الملقّب بالمجلسي، وحيد عصره، و فريد دهره، أمره في الجلالة و الثقة و الأمانة و علو القدر و عظم الشأن و سمو الرتبة و التبحّر في العلوم أشهر من أن يذكر، و فوق ما تحوم حوله العبارة، أورع أهل زمانه و أزهدهم و أتقاهم و أعبدهم، بلغ فيضه ديناً و دنيا. («1»)

3. خليل بن غازي القزويني (1001- 1089 ه-)

هو العالم المتبحّر الجليل خليل بن غازي القزويني، شرح تمام الكافي بالفارسية المسمّي بالصافي، و إلي أواسط كتاب الطهارة بالعربية.

يعرّفه صاحب رياض العلماء بقوله: كان دقيق النظر، قوي الفكر، حسن التقرير، جيد التحبير، من أجلّ مشاهير علماء عصرنا، و أكمل نحارير فضلاء دهرنا، قرأ في أوائل أمره علي شيخنا البهائي و السيد الداماد، و كان شريك الدرس مع الوزير خليفة سلطان حين القراءة علي المولي الشيخ حسين اليزدي شارح خلاصة الحساب و المولي محمود الرّناني.

و كان

يتظاهر بالأخبارية، و له كتاب في تحريم الجمعة، و قد ردّ الشيخ طاهر القمي شيخ الإسلام علي رسالته في تحريم الجمعة، و مع ذلك له تأليف في الأُصول و الفلسفة.

قال شيخنا المجيز: و تحريمه الجمعة التي أدّت إلي عزله، و كذلك تأليفاته الأُصولية و الفلسفية يجعلنا نشك علي أنّ تظاهره بالأخبارية كان تقية منه، و تماشياً مع الحكومة التي كانت تعارض الفلاسفة و حرية الاجتهاد. («2»)

______________________________

(1) خاتمة المستدرك: الفائدة الثالثة: 416؛ و نقل عبارات المترجمين له في كتابه، فمن أراد فليرجع إليه.

(2) خاتمة المستدرك: الفائدة الثالثة: 413؛ روضات الجنات: 3/ 269 برقم 287؛ طبقات اعلام الشيعة، القرن الحادي عشر: 203.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 264

4. الفيض الكاشاني (1007- 1091 ه-)

هو محمد بن الشاه مرتضي بن الشاه محمود، الملقب بالفيض الكاشاني، العارف، الحكيم، الشاعر، المتوفي عن عمر ناهز 84 عاماً.

أخذ الحديث عن السيد ماجد بن هاشم الصادقي البحراني، و يروي عنه و عن الشيخ بهاء الدين العاملي، و أخذ الحكمة و الفلسفة عن أُستاذه صدر المتألّهين الشيرازي و هو صهر له.

يقول السيد الخوانساري: أمره في الفضل و الفهم و النبالة في الفروع و الأُصول و الإحاطة بالمعقول و المنقول و كثرة التأليف و التصنيف مع جودة التعبير و الترصيف أشهر من أن يخفي، كان بيته بيتاً جليلًا رفيعاً من كبار بيوتات العلم و العمل، و من أحسن كتبه كتاب «الوافي» فقد جمع فيه أحاديث الكتب الأربعة القديمة، و فرغ منه سنة 1068 ه-.

كما انّ من أحسن تصانيفه في الفقه «مفاتيح الشرائع» الذي شرحه المحقّق البهبهاني.

كما انّ له «المحجة البيضاء في إحياء كتاب الإحياء» و هو تهذيب و تنوير لإحياء علوم الدين، إلي غير ذلك من الكتب.

و الحقّ انّ الفيض يعد

من الشخصيات التي حام حولها غموض كثير، فمن جانب نجد انّه يميل إلي التصوّف و العرفان، و من جانب آخر انّه يكب علي الحديث و جمعه.

5. عبد علي العروسي (كان حيّاً عام 1073 ه-)

هو عبد علي العروسي ابن جمعة الحويزي.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 265

يعرّفه الحر العاملي بقوله: كان عالماً، فاضلًا، فقيهاً، محدثاً، ثقة، ورعاً، شاعراً، أديباً، جامعاً للعلوم و الفنون، معاصراً، له كتاب «نور الثقلين في تفسير القرآن» في أربعة مجلدات، أحسن فيه و أجاد، نقل فيه أحاديث النبي و الأئمّة في تفسير الآيات، من أكثر كتب الحديث، و لم ينقل فيه عن غيرهم. («1»)

و حيث إنّ «أمل الآمل» ألّف عام 1097 ه-، فيظهر منه انّه توفي قبل تأليفه، و صرّح في الرياض بأنّه كان معاصراً لسميه ابن ناصر الذي كان حيّاً في 1063 ه-، و هذا المفسّر كان حيّاً في 1073 ه-.

6. محمد بن الحسن الحر العاملي (1033- 1104 ه-)

هو العالم المتبحّر الشيخ محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسين الحر العاملي المشغري، صاحب التصانيف الرائعة التي منها كتاب «الوسائل» الذي هو كالبحر الذي ليس له ساحل، و قد ألّفه في المشهد الرضوي، و منح له منصب قاضي القضاة و شيخوخة الإسلام. («2»)

و قد ترجم لنفسه في «أمل الآمل»، قائلًا: قرأ في قرية مشغري علي: أبيه، و عمه الشيخ محمد الحر، و جدّه لأُمه الشيخ عبد السلام بن محمد الحر، و خال أبيه الشيخ علي بن محمود، و غيرهم، و قرأ في قرية جبع علي عمه أيضاً، و علي الشيخ زين الدين بن محمد بن الحسن بن زين الدين، و علي الشيخ حسين الظهيري و غيرهم.

و أقام في البلاد أربعين سنة، و حجَّ فيها مرتين، ثمّ سافر إلي العراق فزار الأئمّة (عليهم السلام) ثمّ زار الرضا (عليه السلام) بطوس. («3»)

______________________________

(1) أمل الآمل: 2/ 154 برقم 449.

(2) خاتمة المستدرك: الفائدة الثالثة: 391.

(3) أمل الآمل: 1/ 141- 142 برقم 1049. له ترجمة في

روضات الجنات: 7/ 96 برقم 605.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 266

و له ترجمة ضافية في مقدمة وسائل الشيعة، و لذلك اقتصرنا علي هذا المقدار، و من أراد المزيد فليرجع إليها.

7. السيد هاشم بن سليمان البحراني التوبلي (المتوفّي 1107 ه-)

هو السيد هاشم بن السيد سليمان بن السيد إسماعيل بن السيد عبد الجواد الكتكاني.

يعرّفه المحدّث البحراني بقوله: و كان فاضلًا، محدثاً، جامعاً، متتبعاً للأخبار بما لم يسبق إليه سابق سوي شيخنا المجلسي، إلي أن قال: و انتهت إليه رئاسة البلد، فقام بالقضاء في البلاد و تولّي الأُمور الحسبية أحسن قيام، و نشر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و كان من الأتقياء المتورّعين، و من مصنفاته «البرهان في تفسير القرآن» في ستة مجلدات، ثمّ ذكر سائر تآليفه و من أحسنها كتاب «ترتيب التهذيب» و قد رتبت فيها الأخبار كلًا في الباب المناسب، و له كتاب آخر باسم «تنبيهات الأديب في رجال التهذيب» و قد نبّه فيه علي أغلاط عديدة ممّا وقع للشيخ (رحمه الله) في أسانيد أخبار الكتاب المذكور. («1»)

و يعرّفه المحدّث النوري بنفس ما ذكره الشيخ البحراني.

أقول: إنّه خدم الحديث علي وجه الإطلاق خدمات جليلة، فكتابه «معالم الزلفي في النشأة الأُخري» خير شاهد علي تبحّره و تضلّعه في الحديث، و كتابه الآخر المسمي «غاية المرام» في فضائل أمير المؤمنين و الأئمّة (عليهم السلام)، يذكر فيه أحاديث الفريقين الواردة في هذا المجال، و يعرب عن تضلّعه بالحديث، و إحاطته بما في الصحاح و السنن و المسانيد من الروايات في فضائل أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

______________________________

(1) لؤلؤة البحرين: 63 برقم 19، أمل الآمل: 2/ 341 برقم 149.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 267

و لو أُتيحت له الفرصة مثلما أُتيحت لشيخنا المجلسي الثاني لصنَّف موسوعة كبيرة علي غرار

البحار، أو أحسن منها.

8. المجلسي الثاني (1037- 1110 ه-)

محيي السنّة، و ناشر آثار أهل البيت، الشيخ محمد باقر بن العالم الجليل محمد تقي بن الورع البصير المولي مقصود علي، المتخلّص في أشعاره بالمجلسي.

هو أجلّ من أن يعرّف، و قد ألّف شيخنا المحدّث النوري رسالة في ترجمته أسماها «الفيض القدسي في ترجمة المجلسي» ذكر فيها جملًا من مناقبه و فضائله و مشايخه و تلامذته و ذريته و ذرية والده.

و كفاه فخراً انّه ألّف دائرة معارف للشيعة يوم لم يكن أيّ أثر لهذا اللون من التأليف بين الأوساط الإسلامية، و يتلوه في المكانة كتابه الآخر المسمّي «مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول» و هو شرح للكافي، شرح فيه أحاديثه طبعت في ستة و عشرين جزءاً و له كتاب ثالث و إن لم يكن بمنزلة السابقين و هو كتاب «ملاذ الأخيار في شرح تهذيب الأخبار» و قد طبع في اثني عشر جزءاً.

و أمّا موسوعته الكبري، أعني: «بحار الأنوار» فقد طبعت في 110 أجزاء.

و في الجملة فهو أُستاذ فنّ الحديث، و سناده، و عماده، و هو في غني عن تعريفه و إطرائه و إفاضة القول فيه.

و شيخنا هذا أوّل من ألّف بالفارسية في القرون الأخيرة، و لم يكن التأليف بها أمراً معهوداً بين العلماء إلّا القليل. («1»)

______________________________

(1) روضات الجنات: 2/ 8، لؤلؤة البحرين: 55.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 268

9. السيد نعمة اللّه بن عبد اللّه الموسوي الجزائري (المتوفّي 1113 ه-)

يعرّفه الشيخ الحر العاملي، بقوله: عالم، فاضل، محقّق، علّامة، جليل القدر، مدرّس، من المعاصرين. له كتب، منها: «شرح التهذيب»، و «حواشي الاستبصار» إلي آخر ما ذكر.

و شرحه علي التهذيب في نحو 12 مجلداً، و هو من الكتب الممتعة. («1»)

و قد أخذ عنه جماعة كثيرون منهم:

1. السيد محمود الميمندي.

2. علي بن الحسين بن محيي الدين بن عبد اللطيف

الهمداني العاملي.

3. الشيخ الورع الفقيه محمد بن يوسف بن علي بن كنبار.

10. سليمان بن عبد اللّه البحراني (1075- 1121 ه-)

هو الشيخ أبو الحسن سليمان بن الشيخ عبد اللّه بن علي بن حسن بن أحمد ابن يوسف بن عمّار البحراني.

يعرّفه شيخنا النوري في كتابه: علّامة الزمان، و نادرة الأوان، الشيخ سليمان ابن الشيخ عبد اللّه الماحوزي البحراني، المحقّق، المدقّق، صاحب المؤلّفات الأنيقة التي منها: كتاب «الأربعين في الإمامة» و هو صاحب «المعراج» شرح فيه فهرست الشيخ إلي آخر باب التاء، و قد أكثر النقل عنه المحقّق البهبهاني في التعليقة، توفي و عمره يقرب من خمسين سنة، في السابع عشر من شهر رجب سنة 1121 ه-.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: 3/ 404، روضات الجنات: 8/ 150 برقم 726، أمل الآمل: 2/ 336 برقم 1035.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 269

و يعرّفه تلميذه الشيخ عبد اللّه بن صالح البحراني، بقوله: و كان هذا الشيخ أُعجوبة في الحفظ و الدقة، و سرعة الانتقال في الجواب، و المناظرات و طلاقة اللسان، لم أر مثله قط، و كان ثقة في النقل، ضابطاً، إماماً في عصره، وحيداً في دهره، إلي أن قال: و كان أعظم علومه، الحديث و الرجال و التواريخ. («1»)

11. عبد اللّه بن صالح البحراني السماهيجي (1086- 1130 ه-)

هو الشيخ عبد اللّه بن الحاج صالح بن جمعة بن علي السماهيجي، ترجمه السيد عبد اللّه حفيد السيد نصر اللّه الجزائري، في إجازته الكبيرة لبعض علماء الحويزة، قال: كان عالماً، فاضلًا، محدّثاً، متبحراً في الأخبار، عارفاً بأساليبها و وجوهها، بصيراً في أغوارها، خبيراً بالجمع بين متنافياتها و تطبيق بعضها علي بعض، له سليقة حسنة في فهم الروايات، و أُنس تام بمعانيها، كثير الاحتياط علي طريقة الأخباريين، شديد الإنكار علي أهل الاجتهاد، و من إفراطه و غلوّه في هذا الباب منعه من العمل بظواهر الكتاب، و دعواه أنّ القرآن كلّه متشابه علي الرعية،

و هذه المقالة نقلها العلّامة في «النهاية الأُصولية» عن بعض الحشوية، و اقتفي أثرهم طائفة من الأخباريين من المتأخرين.

و من تأليفاته:

1. «جواهر البحرين في أحكام الثقلين».

2. كتاب «منية الممارسين في جوابات مسائل الشيخ ياسين».

إلي غير ذلك من التآليف، و يروي عن جماعة من فضلاء البحرين أعظمهم شأناً الشيخ سليمان بن عبد اللّه المتقدم ذكره. («2»)

______________________________

(1) انظر ترجمته في لؤلؤة البحرين: 8، روضات الجنات: 4/ 160 برقم 319، مستدرك الوسائل: 3/ 388.

(2) الإجازة الكبيرة: 200، روضات الجنات: 4/ 247 برقم 390، لؤلؤة البحرين: 96 برقم 38.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 270

12. الشيخ يوسف البحراني (1107- 1186 ه-)

هو المحدّث الكبير، و الفقيه المتبحّر، الجامع بين التوغّل في الحديث و الإحاطة بالفروع.

يصفه تلميذه أبو علي الحائري مؤلّف «منتهي المقال»، بقوله: عالم، فاضل، متبحر، ماهر، متتبّع، محدّث، ورع، عابد، صدوق، دين، من أجلّة مشايخنا و أفاضل علمائنا المتبحّرين.

و قال تلميذه الأمير عبد الباقي سبط العلّامة المجلسي في «منتخب لؤلؤة البحرين»: كان فاضلًا، عالماً، محقّقاً، نحريراً، مستجمعاً للعلوم العقلية و النقلية، إلي غير ذلك من جمل الثناء و حلل الإطراء ممّا ذكره المحقق السيد عبد العزيز الطباطبائي (رحمه الله) في مقدّمته علي كتاب «الحدائق الناضرة».

و شيخنا هذا انتهت إليه سلسلة الإجازات و حلقات الروايات، يروي عنه لفيف من العلماء أشهرهم: المولي محمد مهدي النراقي صاحب «المستند»، و السيد مهدي بحر العلوم و يوجد نص الإجازة في ذيل فوائده الرجالية.

و قد ألّف كتباً كثيرة أشهرها: «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة» و قد طبع في 25 جزءاً.

يقول المؤلف في حقّ هذا الكتاب: لم يعمل مثله في كتب الأصحاب، و لم يسبق إليه سابق في هذا الباب، لاشتماله علي جميع النصوص المتعلّقة بكل مسألة و جميع الأقوال،

و جملة الفروع التي ترتبط بكلّ مسألة إلّا ما زاغ عنه البصر و حاد عنه النظر.

إلي أن قال: و بالجملة، فإنّ قصدنا فيه إلي أنّ الناظر فيه لا يحتاج إلي مراجعة غيره من الأخبار، و لا كتب الاستدلال، و لهذا صار كتاباً كبيراً واسعاً كالبحر الزاخر

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 271

باللؤلؤ الفاخر.

و قال الخوانساري: كان هو أخبارياً صرفاً، ثمّ رجع إلي الطريقة الوسطي، و كان يقول: إنّها طريقة العلّامة المجلسي.

توفي (رحمه الله) سنة 1186 ه-، و تولّي غسله الشيخ محمد علي الشهير بابن سلطان و هو من أجلِّ تلاميذه، و صلّي عليه المحقّق البهبهاني.

و قد ذكر المحدّث النوري أسماء من روي عنهم كالشيخ حسين بن الشيخ محمد جعفر الماحوزي البحراني. («1»)

13. محمد بن عبد النبي بن عبد الصانع النيسابوري (1178- 1235 ه-)

هو أبو أحمد الشريف محمد بن عبد النبي بن عبد الصانع المحدّث النيسابوري المعروف بميرزا محمد الأخباري.

يذكره في «الروضات» و يقول: لا شبهة في غاية فضله و وفور علمه و جامعيته لفنون المعقول و المنقول، إلّا أنّه لما تجاهر بتحقير علمائنا الأعلام، صرف اللّه عنه قلوب أهل القلوب، و هو من المتطرّفين في الأخبارية. و له آثار كثيرة تدل علي توقّده و ذكائه.

و قد ذكر النيسابوري سلسلة مشايخ الأخبارية بقوله: مولانا محمد أمين الاسترآبادي الأخباري هو أوّل من تكلّم علي المتأخّرين لمخالفتهم طريقة قدماء الأصحاب و أحسن و أتقن، ثمّ تكلّم المحدّث القاساني في «سفينة النجاة» بقليل لا يشفي العليل، ثمّ المحدّث العاملي في «الفوائد الطوسية» أتي بما يروي الغليل،

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: 1، المقدمة، بقلم السيد عبد العزيز الطباطبائي (رحمه الله)؛ مستدرك الوسائل: 3/ 387؛ روضات الجنات: 8/ 203، و قد ترجم لنفسه في لؤلؤة البحرين: 442.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 272

ثمّ الشيخ حسين

بن شهاب الدين العاملي في «هداية الأبرار» أشبع التفصيل، ثمّ الشيخ أبو الحسن الغروي أراد التكميل، و سادسهم مولانا رضي الدين القزويني في «لسان الخواص» أقام الدليل، و السابع هذا العبد الذليل، انتهي. («1»)

و من تأليفه «قبسة العجول في الأخبار و الأُصول» و قد رد عليه المحقّق القمّي في كتاب أسماه «عين العين»، فلمّا وصل إلي يد الشيخ الأخباري رد عليه بكتاب آخر أسماه «إنسان العين في ردّ كتاب عين العين»، و قد ألّف دورة فقهية من الطهارة إلي الديات أسماه «التحفة».

و مهما يكن في أمره غمة فقد تجاهر في الطعن بالعلماء و التشنيع بهم، ممّا حدا العوام إلي الهجوم عليه انتهت بقتله في الكاظمية عام 1235 ه-.

*** هذه لمحة خاطفة عن سيرة أقطاب الحركة الأخبارية منذ أن رفع رايتها الأمين الاسترآبادي إلي محمد بن عبد النبي الأخباري بعد أن دامت ما يقرب القرنين؛ و انتهت بظهور الوحيد البهبهاني الذي هدم أركانها بمعوله، و قضي عليها بفكره الوقّاد، و حججه الباهرة القاهرة و براهينه الساطعة القانعة، و جهاده المتواصل، فدحض حججها و استطاع أن يوقفها عند حدها، و منذ ذلك الوقت بدأ النشاط الأخباري بالفتور، و لم يبق من معالمه شي ء إلّا أنّه ترك مخلّفات و آثاراً غير محمودة عند المتأخّرين من العلماء.

ثمّ قام تلميذ منهجه الشيخ مرتضي الأنصاري (قدس سره) في مواصلة منهج أُستاده بإزالة ما بقي من تلك الرواسب في الأذهان بكتبه القيّمة، و أفكاره

______________________________

(1) روضات الجنات: 7/ 138- 139.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 273

الناضجة، و بحوثه الرائعة التي ألقاها في النجف الأشرف، فاستتب الأمر للأُصوليين، و لم يبق من أتباع المذهب المبتدع إلّا كصبابة الإناء تظهر بين فترة و أُخري.

و نحن علي

يقين بأنّ بث هذه الفكرة في هذه الأيّام في الحوزات مؤامرة حيكت لإفراغ التشيّع من طابعه العلمي الذي هو سلاحه في مواجهة الأعداء عبر القرون، و من الواضح بمكان انّ كلّ أُمّة إذا تخلّت عن العقل و البرهان السليم أصبحت فريسة سائغة للاستعمار.

روّاد الاجتهاد في العصر الأخباري

اشارة

ثمّة علماء مفكّرون لم ينخرطوا في تيار الأخبارية الجارف بل صمدوا أمامه و أخذوا يدافعون عن منهج الاجتهاد بالأدلّة القاطعة علي الرغم من قلّة عددهم، و نشير هنا إلي أسماء أكابرهم:

1. سلطان العلماء (المتوفّي 1064 ه-)

هو السيد حسين بن رفيع الدين محمد بن الأمير شجاع الدين محمود الآملي الاصفهاني الملقب ب- «سلطان العلماء».

يعرّفه الخوانساري بقوله: كان من أعاظم الفقهاء الأعيان، محقّقاً، مدقّقاً، بديع التصرّف في العلوم، تقلّد الوزارة للسلطان شاه عباس الصفوي، و تزوج بابنته، فرُزق منها أولاداً، كلّهم فضلاء أذكياء، علماء أصفياء، قرأ علي والده، و شارك المولي خليلًا القزويني في التتلمذ علي شيخنا البهائي، و من أشهر تآليفه: تعليقته علي أُصول المعالم، و علي شرح مختصر العضدي، و علي زبدة الشيخ البهائي.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 274

و توفي عند عودته من فتح قندهار، ثمّ نقل جثمانه إلي النجف الأشرف، و قبره بها معروف يزار. («1»)

2. الفاضل التوني (المتوفّي 1071 ه-)

هو الشيخ عبد اللّه بن محمد التوني البشروي الرضوي.

يعرّفه الحر العاملي بقوله: عالم، فاضل، فقيه، زاهد، عابد، معاصر، له كتاب شرح الإرشاد في الفقه، و رسالة في الأُصول، و رسالة في الجمعة، و من أشهر تآليفه «الوافية» التي فرغ منها سنة 1059 ه-، و هو كما يصفه الخوانساري نقلًا عن خط أخي صاحب الترجمة: جمعت بدائع التحقيق و ودائع التدقيق، و طبع عام 1412 ه-، و هو كتاب في أُصول الفقه.

و تظهر قوة عارضته من المنهجية الجديدة التي مشي عليها في كتاب «الوافية» حيث وضع للمباحث الأُصولية تبويباً غير معهود عند المتقدّمين عليه، و انفرد بعدة آراء لم يسبقه إليها أحد.

و قد اهتم الشيخ الأنصاري بأفكاره و تحقيقاته، فيذكر نصه ثمّ يناقش في غير واحد من فرائد الأُصول. («2»)

3. حسام الدين محمد صالح المازندراني (المتوفّي 1080 ه-)

هو مولانا حسام الدين محمد صالح بن أحمد المازندراني، أحد الأُصوليين في

______________________________

(1) روضات الجنات: 2/ 346 برقم 218، و قد ترجمه المدني في سلافة العصر: 499، أمل الآمل: 2/ 92 برقم 249.

(2) له ترجمة ضافية في روضات الجنات: 4/ 244 برقم 389؛ أمل الآمل: 2/ 163 برقم 477؛ رياض العلماء: 3/ 237، و قد استوفي ترجمته محقّق كتاب «الوافية» السيد محمد حسين الرضوي الكشميري في المقدّمة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 275

العهد الأخباري يصفه الحر العاملي بقوله: فاضل، عالم، محقّق، له كتب، منها: شرح الكافي، كبير حسن، و شرح الفقيه، و شرح المعالم، و حاشية شرح اللمعة.

و تعرب تعليقته علي أُصول الكافي عن تضلّعه في المعقول و الحكمة الإلهية، كما يكشف شرحه علي مقدمة «المعالم» عن توغله في الأُصول و تمتعه بذهنية وقّادة، و فكر ثاقب.

قرأ علي المولي عبد اللّه التستري الرجالي المعروف و المولي محمد تقي

المجلسي.

يقول الخوانساري في روضاته: و من لاحظ شرح معالم الأُصول علم مهارته في قواعد الاجتهاد و له شرح مزجي علي زبدة الأُصول لشيخنا بهاء الدين العاملي. («1»)

4. فخر الدين الطريحي (المتوفّي 1085 ه-)

هو الشيخ فخر الدين بن محمد بن علي بن أحمد بن طريح.

يعرّفه الحر العاملي بقوله: فاضل، زاهد، ورع، فقيه، شاعر، جليل القدر، له كتب، منها: «مجمع البحرين» و هو عند الشيعة كالنهاية عند السنة، فقد استعرض فيه اللغات الواردة في الكتاب و السنّة؛ و «الفخرية» في الفقه؛ و «المنتخب» في المقتل.

و له كتاب آخر في بيان لغات القرآن سماه «نزهة الخاطر و سرور الناظر».

و له في أُصول الفقه شرح المبادئ الأُصولية للعلّامة، و منها فوائد الأُصول. («2»)

______________________________

(1) أمل الآمل: 2/ 276 برقم 816؛ و له ترجمة ضافية في روضات الجنات: 4/ 118 برقم 355؛ مستدرك الوسائل: 3/ 412.

(2) لاحظ ترجمته في أمل الآمل: 2/ 215 برقم 648، روضات الجنات: 5/ 349 برقم 541، رياض العلماء: 4/ 332.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 276

5. أبو القاسم الجرفادقاني (المتوفّي حدود 1092 ه-)

هو أبو القاسم بن محمد الجرفادقاني الاصفهاني العالم الإمامي، من خريجي مدرسة لطف اللّه العاملي في أصفهان تقدم في الفقه و الحديث و تبحر في الحكمة و الكلام و ارتحل إلي الهند في عصر شاه جهان و ناظر هناك جمعاً من العلماء مثل الحكيم السيالكوئي (المتوفّي 1067 ه-) ثمّ عاد إلي بلاده.

و قال في روضات الجنات انّ للمترجم مصنفات كثيرة في الحكمة و الكلام و الفقه و الأُصول و حواشي و تعليقات لطيفة علي كثير من كتب المعقول و المنقول. («1»)

6. محمد باقر السبزواري و قد مرّت ترجمته في ص 240.

7. حسين الخوانساري (1016- 1098 ه-)

هو الحسين بن جمال الدين محمد الخوانساري.

يعرّفه الحر العاملي بقوله: فاضل، عالم، حكيم، متكلم، محقّق، مدقّق، ثقة ثقة، جليل القدر، عظيم الشأن، علّامة العلماء، فريد العصر، له مؤلفات، منها: «شرح الدروس» حسن لم يتم. و له كتب في الكلام و الحكمة.

و قد ترجمه السيد علي المدني في «سلافة العصر في محاسن أعيان العصر».

و له رسالة في مقدّمة الواجب تعرض فيها للرد علي الفاضل القزويني و الفاضل النائيني، و قد ذكر أسماء تآليفه ولده جمال الدين محمد. («2»)

______________________________

(1) رياض العلماء: 5/ 496؛ روضات الجنات: 3/ 351.

(2) لاحظ ترجمته في أمل الآمل: 2/ 101 برقم 276، رياض العلماء: 2/ 57، روضات الجنات: 2/ 349 برقم 219.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 277

8. جمال الدين الخوانساري (المتوفّي 1125 ه-)

هو جمال الدين محمّد بن الفاضل المحقّق حسين الخوانساري الذي تقدّم ذكره.

يعرفه مؤلّف «جامع الرواة» المعاصر له، بقوله: جمال الدين الحسين بن جمال الدين الخوانساري جليل القدر، عظيم المنزلة، رفيع الشأن، ثقة، ثبت عين، صدوق، عارف بالأخبار و الفقه و الأُصول و الحكمة، له تأليفات، منها «شرح مفتاح الفلاح» و حاشية علي «شرح مختصر الأُصول».

و يعرّفه الأفندي بقوله: عالم، فاضل، حكيم، محقّق، مدقّق، معاصر، له مؤلفات، توفّي عام 1125 ه-. («1») و له تعليقة علي الروضة البهية المطبوعة معها.

9. محمد بن الحسن الشيرواني (المتوفّي 1099 ه-)

هو المولي الشيخ محمد حسن الشيرواني مولداً، و الاصفهاني مسكناً، له حاشية علي أُصول المعالم ماهر في الأُصولين و الفقه و الحديث، و له مصنّفات، منها: شرحه علي شرائع المحقّق، و غير ذلك. («2»)

10. بهاء الدين محمد بن الحسن المعروف بالفاضل الهندي (1062- 1137 ه-)

هو الشيخ محمد بن تاج الدين حسن بن محمد الأصفهاني المشهور بالفاضل الهندي، تاج المحقّقين و الفقهاء، فخر المدقّقين و العلماء، وحيد عصره، و أُعجوبة دهره، مروج الأحكام صاحب «كشف اللثام عن قواعد الأحكام» الذي

______________________________

(1) انظر ترجمته في روضات الجنات: 2/ 214 برقم 177؛ رياض العلماء: 1/ 114.

(2) انظر ترجمته في روضات الجنات: 7/ 93 برقم 604؛ تنقيح المقال: 3/ 103؛ جامع الرواة: 2/ 92.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 278

حكي عن صاحب الجواهر انّه كان له اعتماد عجيب فيه، و في فقه مؤلفه و انّه كان لا يكتب شيئاً من الجواهر لو لم يحضره ذلك الكتاب.

و كتابه هذا شرح علي قواعد العلّامة الحلّي، و أنهي الشرح إلي ختام القواعد شرحاً مبسطاً أقرب إلي الاختصار، و طبع في جزءين كبيرين ثمّ أُعيد طبعه محقّقاً في اجزاء بالصف الجديد.

ثمّ ابتدأ من أوّل القواعد مستوفياً مستقصياً للأدلّة و الأقوال، خرج منه كتاب الطهارة و الصلاة و الحج، فرغ من الكتاب عام 1105 ه-، و توفي عام 1137 ه-. («1»)

ميزات الدور الخامس

اشارة

لقد ترك التيار الأخباري مضاعفات خطيرة علي الصعيد الفقهي أدّت إلي فتور النشاط الاجتهادي، و تصاعد النشاط الأخباري الحديثي، و لا يخفي انّه إلي جانب تلك الآثار السلبية، وجدت آثار إيجابية سنشير إلي الجميع علي حد سواء، و نترك فرز الأثر الإيجابي عن السلبي إلي القارئ الكريم.

1. تشتّت الصف الفقهي

كانت الحركة الأخبارية عنصرَ إثارة في الأجواء الفقهية الشيعية، و كان النشاط الاجتهادي في تصاعد مستمر نحو الامام، و إذا به يُهاجم من قبل التيار الأخباري بغتة، و لم يكن له أي اطّلاع عن واقع الحركة و خلفياتها، فوقف أمامها في بداية الأمر عاجزاً مخلوع السلاح، فتكتل العلماء إلي تكتلات بين أخباري لا

______________________________

(1) لاحظ ترجمته في روضات الجنات: 7/ 111 برقم 608؛ الكني و الألقاب: 3/ 11 و غيره.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 279

يقيم للأُصولي وزناً و يتّهمه بالتطفّل علي موائد الآخرين، و أُصولي يتهم الأخباري بالجمود و الركود، و لا شكّ انّ الوحدة بشارة الرحمة و التشتت آية العذاب.

قال سبحانه: (قُلْ هُوَ الْقٰادِرُ عَليٰ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذٰاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ). («1»)

كان الوضع سائداً علي هذا المنوال إلي أن قيّض اللّه رجل العلم و الفكر الوحيد البهبهاني (1118- 1206 ه-) فقام بمناهضة التيار الأخباري بالدليل القاطع و البرهان الساطع، و ربّي جيلًا كبيراً من الفقهاء ساروا علي نهج أُستاذهم في دحض حجج ذلك التيار المناوئ، حتي انجلي وجه الحقيقة، و اتضح زيف الأدلّة التي أقامها الأمين الاسترآبادي و من لفَّ لفّه، فرجع الكثير منهم إلي صف الاجتهاد، و أعقبه فتور النشاط الأخباري، و هدأت الزوبعة الفكرية التي قادتها الأخبارية ما

يقارب القرنين.

2. كثرة المناظرات الفقهية

تزامنت الحركة الأخبارية مع ظهور مستجدات لم يكن لها نظير فيما سبق، كشرب التتن، و بما انّ الأصل عندهم فيما لا نصّ فيه في الشبهة التحريمية هو الاحتياط، فصار ترك شرب التتن شعاراً لهم، كما انّ تجويز استعماله أضحي شعاراً للأُصوليين، و ألَّف ذلك منعطفاً في تاريخ الفقه حيث طرحت لأوّل مرّة مسائل لم يرد فيها نص في الكتاب و السنّة، و كثرت المناظرات حولها بغية وضع الحلول المناسبة لها.

______________________________

(1) الأنعام: 65.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 280

و قد تناول الشيخ الأنصاري هذا الموضوع بتقسيم ما لا نص فيه إلي شبهة حكمية، و أُخري موضوعية، و الأُولي إلي شبهة تحريمية و وجوبية، إلي غير ذلك من الأقسام.

3. تأليف جوامع حديثية

ألّف المحمدون الثلاثة كتباً أربعة هي: الكافي، و الفقيه، و التهذيب، و الاستبصار، فصارت المرجع الوحيد للفقهاء فيما بعد منذ أواسط القرن الخامس إلي أواخر القرن الحادي عشر.

و لا شكّ انّ الاستنباط فرع الإحاطة بالأحكام، و هذا يستدعي رجوع الفقيه في مسألة واحدة إلي تلك الكتب بأبوابها المختلفة، ممّا يؤلِّف صعوبة في الاستنباط و عثرة أمامه.

و لمّا كانت الأجواء مناسبة لتدوين الحديث و نشره عاد لفيف من كبار الأخباريين إلي تأليف جوامع حديثية تضم كل ما يحتاج إليه الفقيه في مقام الاستنباط، فألّفوا جوامع حديثية أُخري تتمتع بمنهجية و تبويب رائع فاقت الجوامع السابقة و نشير إلي بعض منها:

1. «وسائل الشيعة إلي تحصيل مسائل الشريعة» في الفروع و الأحكام و السنن، تأليف محمد بن الحسن الحر العاملي (المتوفّي 1104 ه-).

2. «الوافي» لوفائه بالمهمات و كشف المبهمات، للمحدّث العارف محمد بن مرتضي المعروف بالفيض الكاشاني (1007- 1091 ه-) جمع فيه روايات الكتب الأربعة، فرغ منه عام 1086 ه-.

3. «بحار الأنوار

في درر الأخبار» للعلّامة المجلسي (1037- 1110 ه-)

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 281

و يعد كتابه هذا موسوعة كبيرة في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) في مختلف المجالات، و قد غصت الأجزاء الأخيرة بالروايات الفقهية، ثمّ سلسلة الإجازات، و قد طبع في 110 أجزاء.

4. «عوالم المعالم» للشيخ عبد اللّه بن نور اللّه البحراني، تلميذ العلّامة المجلسي، و كتابه هذا في مائة جزء، طبع بعض أجزائه، و الباقي لم يزل مخطوطاً.

5. «الشفا في أحاديث آل المصطفي» تأليف العلّامة الشيخ محمد رضا بن عبد اللطيف التبريزي، المتوفي عام 1158 ه-.

إلي غير ذلك من الجوامع الحديثية التي حازت علي منزلة كبيرة، لما تمتعت به من جودة الترتيب و حسن العرض.

4. إعادة التفسير الروائي

كان التفسير بالأثر هو المنهج السائد منذ عصر الأئمّة إلي زمان الشريف الرضي (395- 406 ه-) حيث تذكر الآية ثمّ تتبع بالآثار الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، و النموذج البارز لهذا النمط من التفسير هو «تفسير علي بن إبراهيم القمّي» المطبوع المنتشر، ثمّ ترك هذا النوع من التفسير، وحل محلّه التفسير العلمي ك- «التبيان» للشيخ الطوسي، و «مجمع البيان» للشيخ الطبرسي، و دام هذا النمط إلي أواخر القرن الحادي عشر حيث عاد التفسير بالأثر إلي الساحة من جديد، فألّف السيد هاشم البحراني (المتوفّي 1107 ه-) كتابه «البرهان في تفسير القرآن» المطبوع في ستة أجزاء، و الشيخ عبد علي العروسي الحويزي كتابه «نور الثقلين» إلي غير ذلك من التفاسير بالأثر التي هي من حسنات تلك الحقبة.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 282

5. قلّة الاهتمام بعلم الأُصول

إنّ المصدر الوحيد للاستنباط لدي الأخباريين هو الكتاب و السنّة، و لا قيمة للعقل، و لا اعتبار للأُصول العقلية لديهم، و قد تطرق أُصول الفقه في قسم من مباحثه إلي العقل و أحكامه مما حدا إلي قلة الاهتمام به، حتي بين المجتهدين أنفسهم، فتجد أنّ أكثر التآليف تدور حول كتاب «زبدة الأُصول» للشيخ بهاء الدين العاملي، و قد كثرت عليه الشروح و التعاليق، و لم نجد كتاباً مستقلًا في علم الأُصول دوّن في هذه الحقبة سوي «الوافية» للفاضل التوني.

6. تطوير الفقه في المرحلة اللاحقة

نادت الحركة الأخبارية بنبذ كلّ ألوان التفكير العقلي الأُصولي، و في تلك الأجواء المشحونة ظهر رواد أدركوا خطورة الموقف و انّ علم الأُصول بثوبه القديم لا يصمد امام التيار الأخباري المناهض، و انّ الواجب يحتم عليهم الأخذ بزمام المبادرة و إعادة النظر فيما ورثوه من سلفهم الصالح من أُصول و طوروا الفقه بمسائل أُصولية جديدة لم تكن معنونة في كتب الماضين استطاعت أن تعالج المشاكل العالقة التي دخل منها الأخباري، و بالتالي تم إنعاش الحركة الفقهية في المرحلة اللاحقة كما سنستعرضه إن شاء اللّه.

المراكز العلمية التي نشطت في الدور الخامس

قد مر آنفاً انّ أوّل من نادي بالفكرة الأخبارية هو محمد أمين الاسترآبادي، فقد ألّف كتابه «الفوائد المدنية» في المدينة المنورة، و مكث بها طيلة عمره، إلي أن وافاه الأجل عام 1036 ه-، و قد أرسل كتابه هذا إلي كافة المراكز العلمية التي كان

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 283

لها نشاط فعال، كالنجف الأشرف و كربلاء و اصفهان، ثمّ البحرين، فأوجد صدي واسعاً في تلك المراكز، و عقد حوله مناظرات كثيرة كانت حصيلتها موافقة بعض و رفض بعض آخر، إلّا انّ أنصار الحركة الاجتهادية و بفضل الجهود الحثيثة التي بذلوها علي هذا الصعيد استطاعوا أن يسددوا الضربات للحركة الأخبارية و يفنّدوا جميع مزاعمها.

و أخيراً تمّ القضاء عليها، و لم يبق منها شي ء يذكر إلّا صبابة كصبابة الإناء توجد في مناطق مختلفة كالبحرين و في بعض نواحي القطيف.

رحم اللّه الماضين من علمائنا و حفظ اللّه الباقين منهم و جمع كلمتهم، و شملهم.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 285

أدوار الفقه الإمامي

6

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 287

الدور السادس عصر تصعيد الاجتهاد و النشاط الفقهي (1180- 1260 ه-)

اشارة

لقد بلغ النشاط الأخباري ذرْوته، و عمّت أفكاره كافة المراكز علي الرغم من بذل محاولات جادَّة للحد من نشاطه، و الحيلولة دون انتشاره من قبل لفيف من المحقّقين أمثال: سلطان العلماء (المتوفّي 1064 ه-)، و الفاضل التوني صاحب الوافية (المتوفّي 1071 ه-)، و المحقّق الشيرواني صاحب الحاشية علي المعالم، و لم تتكلّل جهودهم بالنجاح، إلي أن قام رجل العلم و القلم، و التحقيق و التدقيق، المحقّ- ق البهبهاني (1118- 1206 ه-) و أحسَّ بخطورة الموقف، فانتقل من النجف الأشرف إلي كربلاء، و هي يومئذ معقل الأخباريين يتزعمها الفقيه الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق، فحضر أبحاثه أياماً، ثمّ وقف يوماً في الصحن الشريف، و

نادي بأعلي صوته: أنا حجة اللّه عليكم، فاجتمعوا عليه، و قالوا ما تريد: فقال: أُريد من الشيخ يوسف يمكّنني من منبره و يأمر تلامذته أن يحضروا تحت منبري، فأخبروا الشيخ يوسف بذلك، و حيث إنّه كان يومئذ عادلًا عن مذهب الأخبارية، خائفاً من إظهار ذلك من جُهّالهم، طابت نفسه بالإجابة. («1»)

______________________________

(1) المامقاني: تنقيح المقال: 2/ 85.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 288

و ألَّفت هذه الحادثة منعطفاً تاريخياً في قلب الموازين لصالح الأُصوليين، حيث وضع المحقّق البهبهاني أصابعه علي النقاط الحسّاسة التي كانت الأخبارية تتشدّق بها.

و قبل أن ندخل في صلب الموضوع نسلط الأضواء علي سيرة المحقّق البهبهاني، و الدور الذي لعبه في إحياء التيار الاجتهادي، و إخراج المجتمع من ورطة الأخبارية.

حياة المحقّق البهبهاني و سيرته

ولد المحقّق محمد باقر بن محمد أكمل البهبهاني سنة 1118 ه- في أصفهان، و قرأ المقدّمات فيها، ثمّ انتقل إلي النجف من جرّاء نشوب القلاقل و الفتن و أكمل فيها دروسه عند العلمين الجليلين: السيد محمد الطباطبائي البروجردي- جدّ السيد بحر العلوم- و السيد صدر الدين القمي المشهور بالهمداني شارح كتاب «وافية الأُصول» و لمّا تزوّد من معين تلك الحوزة و صاهر أُستاذه السيد محمداً الطباطبائي، انتقل حينها إلي بهبهان معقل الأخباريين في ذلك الزمان، و مكث هناك ما يربو علي ثلاثين سنة، لعب فيها دوراً هاماً في التعليم و التربية و التأليف و التصنيف، و قد أحسَّ بعد حقبة من الزمن انّه لو هاجر إلي الأماكن المقدسة لبذل عطاءً ضخماً.

فنزل النجف الأشرف، و لم يلبث فيها إلّا قليلًا، ثمّ انتقل إلي كربلاء حيث كانت تعجّ بالأخباريين يومذاك.

يقول شيخنا المجيز الطهراني: لما ورد المترجم كربلاء المشرّفة قام بأعباء الخلافة، و نهض بتكاليف الزعامة و الإمامة،

و نشر العلم بها، و اشتهر تحقيقه و تدقيقه، و بانت للملأ مكانته السامية، و علمه الكثير، فانتهت إليه زعامة الشيعة

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 289

و رئاسة المذهب الإمامي في سائر الأقطار، و خضع له جميع علماء عصره، و شهدوا له بالتفوّق و العظمة و الجلالة، و لذا اعتبر مجدّداً للمذهب علي رأس هذه المائة، و قد ثنيَّت له الوسادة زمناً، استطاع خلاله أن يعمل و يفيد، و قد كانت في أيامه للأخبارية صولة، و كان لجهّالهم جولة، و فلتات و جسارات و تظاهرات أُشير إلي بعضها في «منتهي المقال» و غيره، فوقف المترجم آنذاك موقفاً جليلًا كسر به شوكتهم، فهو الوحيد من شيوخ الشيعة الأعاظم، الناهضين بنشر العلم و المعارف، و له في التاريخ صحيفة بيضاء يقف عليها المتتبع في غضون كتب السير و معاجم الرجال. («1»)

و الذي يعرب عن خطورة الموقف و انّه بلغ الأمر إلي الطعن بالعلماء و التشنيع بهم، هو ما ذكره المحقّق البهبهاني و تلميذه.

أمّا الأوّل فيشتكي المحقّق في رسالة «الاجتهاد و الأخبار» من الأخباريين و يخاطبهم بقوله: ما الوجه في مطاعنكم الشديدة المنكرة بالنسبة إلي المجتهدين، و التشنيعات المتكثّرة الركيكة علي هؤلاء المتقين الورعين، و ما المحلّل لهتك حرمة الأحياء و الأموات من المؤمنين، و إيذائهم مع كونهم من أزهد الزاهدين، و أصلح المتدينين؟! بل ربما تأمّلتم في عدالة من يقرأ كتبهم و يسلك سبيلهم؟!

و لم هذه التفرقة بين المؤمنين؟ و ممّ هذه المعركة المهيّأة بين العالمين؟ و ما هذه البغضاء و النفرة الحادثة بين الشيعة؟ و من أين اجترأ الجهلة علي الطعن في الأعاظم و الأجلّة بنسبتهم إلي متابعة أهل السنّة و أبي حنيفة؟! و غيرها من الأُمور

السخيفة؟! و أدخلوا أنفسهم بين العلماء و آرائهم في الآراء مع أنّهم لا يعرفون الهرّ من البرّ، مهدوا لأنفسهم قواعد مضحكة، و يفتون بفتاوي ركيكة، يدّعون أنّهم

______________________________

(1) الطهراني: الكرام البررة: 1/ 171.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 290

أخباريون و انّكم لو اطّلعتم علي فتاويهم و قواعدهم لتنفّرتم عنهم، و حذرتم منهم و وجدتم إياهم لا هم منكم و لا أنتم منهم. («1»)

و أمّا تلميذه فقال: و قد كانت بلدان العراق لا سيّما المشهدين الشريفين مملوءة قبل قدومه من معاشر الأخباريين، بل و من جاهليهم و القاصرين، حتي أنّ الرجل منهم إذا أراد حمل كتاب من كتب فقهائنا- رضي اللّه عنهم- حمله مع منديل، و قد أخلي اللّه البلاد منهم ببركة قدومه، و اهتدي المتحيِّر في الاهتمام بأنوار علومه. («2»)

هذه إلمامة عابرة عن اتساع نفوذ الأخبارية في الربوع العلمية، فحان الوقت الآن لبيان أنّه كيف عولج هذا الداء المستعصي علي يد المحقّق البهبهاني.

فقد قام (قدس سره) بذلك عن طريق تقويض الأُصول التي ركن إليها الأخباريون، و قد أوعزنا إلي تلك الأُصول سابقاً، و نعود إليها الآن لغاية التوضيح، و لمعرفة الأساليب التي اتخذها البهبهاني لمعالجة الموقف.

1. ذهبت الأخبارية إلي أنّ العمل بظواهر القرآن تفسير بالرأي تشمله الروايات المستفيضة الواردة في النهي عن تفسير القرآن بالرأي، كقولهم: من فسّر القرآن برأيه فقد افتري علي اللّه الكذب. («3»)

و أجاب المحقّق: انّ التمسّك بظواهر القرآن بعد الفحص عن مخصصها و مقيدها و ناسخها و ما ورد حولها من أئمّة أهل البيت ليس إلّا عملًا بالقرآن و تدبّراً فيه، و أين هو من تفسير القرآن بالرأي؟! فشتّان بين من ينظر إلي القرآن

______________________________

(1) الرسائل الأُصولية: رسالة الاجتهاد و الأخبار: 216.

(2) أبو علي

الحائري: منتهي المقال في أحوال الرجال: 6/ 178 برقم 2852.

(3) الصدوق: إكمال الدين و تمام النعمة: 256 الحديث 1.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 291

بذهن صاف و خال من كل الشوائب يستهدي به، و من اتخذ موقفاً خاصاً حياله، فينظر إليه ليستخرج منه الدليل الدال علي معتقده و إن لم يكن علي صواب.

2. زعمت الأخبارية انّ الحجّة عبارة عن الكتاب و السنّة و ليس للعقل دور في استنباط الأحكام الشرعية فيما له مجال، و استدلوا علي ذلك بأنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول. («1»)

و قد قام المحقّق البهبهاني بتأليف رسالة في الحسن و القبح العقليين، و أثبت فيها حجّية حكم العقل في المستقلات العقلية، و انّه لا صلة لقولهم إنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول إلي هذا النمط من الاستدلال، فإنّ ما ورد في الحديث عبارة عن الظنون المتراكمة من هنا و هناك باسم القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة فانّ دين اللّه لا يصاب بهذه الظنون دون الأحكام العقلية القطعية التي لا يشكّ فيها ذو فطرة سليمة كاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، أو حكمه بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، إلي غير ذلك من الأحكام الفطرية الواضحة.

3. اتخذت الأخبارية سنداً علي الأُصوليين بأنّهم يعتمدون علي الإجماع مع أنّ الإجماع أصل لأهل السنّة، و هم أصل له يستعملونه في الفقه و يستدلّون عليه. غير انّ محقّقنا البهبهاني نبه علي أنّ الاشتراك في اللفظ لا يكون سنداً لصالح الأخباريين، فإنّ الإجماع عند الأُصوليين يختلف جوهراً عن الإجماع عند أهل السنّة، إذ انّ الطائفة الثانية يتّكلون علي الإجماع بما هو إجماع، فالإجماع بما هو هو حجّة عندهم، و الشيعة تري أنّ الإجماع طريق إلي تحصيل قول المعصوم

علي الأساليب المقررة في علم الأُصول.

4. لقد أفرط الأخباريون إذ قالوا بقطعية تمام الأحاديث الواردة عن أئمّة

______________________________

(1) الفوائد المدنية: 162.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 292

أهل البيت (عليهم السلام)، و بذلك استغنوا عن علم الرجال.

قال الأمين الاسترآبادي: إنّ العلم بأحوال الرجال غير محتاج إليه، لأنّ أحاديثنا كلّها قطعية الصدور عن المعصوم، فلا نحتاج إلي ملاحظة سنده، و أمّا الكبري فظاهر، و أمّا الصغري فلأنّ أحاديثنا محفوفة بالقرائن المفيدة للقطع بصدورها عن المعصوم، ثمّ ذكر القرائن المدعاة. («1»)

ثمّ إنّ المحقّق البهبهاني أخذ بتفنيد تلك القرائن التي اعتمد عليها الأخباري في قطعية الأخبار في رسالة الاجتهاد و الأخبار. («2»)

و بما انّ نقل كلامه في المقام يخرجنا عن إطار البحث، فنحيل القارئ الكريم إلي رسالة الاجتهاد و الأخبار.

ابتكاراته الأُصولية

لقد تمتع البهبهاني بذهن وقّاد، و ذكاء مفرط ساعده علي ابتكار قواعد و أساليب جديدة في علم الأُصول، منها:

1. إذا تعلّق الشكّ بأصل التكليف فالأصل هو البراءة، و قد استدل عليه بحكم عقلي فطري من قبح العقاب بلا بيان، و عزّزها بآيات و روايات قد ذكرت في مبحث البراءة من فرائد الشيخ الأنصاري.

2. كان الأصل عند العلماء هو تقديم الجمع علي الترجيح في تعارض الأخبار و عليه سار شيخنا الطوسي في كتابيه حتي اشتهر بأنّ الجمع أولي من الطرح، إلي أن جاء المحقّق البهبهاني فعين للجمع و الترجيح ضابطة كلية، و هي

______________________________

(1) الفوائد المدنية: 89.

(2) لاحظ الرسائل الأُصولية، رسالة الاجتهاد و الاخبار: 115- 162.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 293

انّ الجمع لو كان أمراً مقبولًا عند العقلاء و سائداً بينهم، فالجمع مقدَّم علي الترجيح، كما هو الحال في العام و الخاص و المطلق و المقيد.

و أمّا إذا لم يكن الجمع مقبولًا فهو

من موارد الترجيح، و بذلك أثبت انّ الجمع التبرعي أي الجمع بلا شاهد لا دليل عليه، و قد كان لهذه الضابطة آثار مهمة في الاستنباط و التحقيق.

3. إذا تعارضت الرواية مع القاعدة القطعية العامة، فالمشهور هو تقديم النصّ علي القاعدة، علي خلاف ما عليه المحقّق البهبهاني فقدم القطعي علي النص الظني.

فمثلًا انّ مقتضي القاعدة القطعية هي حرمة التصرّف في مال الغير بلا رضاه، و إليه يشير قوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه» لكن وردت الرواية علي أنّ العابر يجوز له أن يأكل من ثمار الأشجار حين اجتيازه من دون أن يحوز منها.

فعلي قول البهبهاني لا يعمل بالرواية أمام القاعدة القطعية و لا يمكن الصمود أمامها.

و علي ذلك بنينا في بحوثنا الأُصولية بأنّ القرآن لا يخصص بالخبر الواحد، و التفصيل في محله.

4. كان الطابع العام السائد علي فقه القدماء هو جعل الأُصول العملية في رتبة الأمارات، و لذا يستدلّون علي المسألة بالخبر الواحد، و في الوقت نفسه يستدلّون بالأصل.

و قد جاء المحقّق البهبهاني و فرّق بين الأمارات و الأُصول، و جعل لكلّ حداً، و أثبت انّ الأصل دليل حيث لا دليل (الأمارة).

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 294

و علي ضوء ذلك قسم الأدلّة إلي الاجتهادية و الفقاهية، كما نقله الشيخ عنه في أوائل أصل البراءة من الفرائد.

إلي غير ذلك من الأفكار الرائعة و التحليلات الرائقة، التي استطاع بها تصعيد النشاط الاجتهادي.

***

تلاميذه

غاب نجم العلم و توفي المحقّق البهبهاني عام 1205 ه-، و لكن الركب الفقهي الذي أشاد معالمه لم يزل سائراً نحو الإمام بفضل تلامذة مدرسته و هم:

1. السيد محمد التستري (المتوفّي 1206 ه-).

2. السيد أحمد الطالقاني

النجفي (المتوفّي 1208 ه-).

3. المولي مهدي النراقي (المتوفّي 1209 ه-).

4. السيد محمد مهدي بحر العلوم (المتوفّي 1212 ه-) مؤلف «الفوائد الرجالية» في ثلاثة أجزاء و غيرها.

5. السيد أحمد العطار البغدادي (المتوفّي 1215 ه-).

6. الشيخ أبو علي الحائري صاحب «منتهي المقال» (المتوفّي 1216 ه-).

7. الشيخ عبد الصمد الهمداني الشهيد (المتوفّي 1216 ه-).

8. ولد المحقّق البهبهاني الأكبر محمد علي (المتوفّي 1216 ه-).

9. المولي محمد كاظم الهزار جريبي الشهيد في كربلاء عند هجوم الوهابيّين

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 295

عام 1234 ه-، مؤلّف كتاب «إرشاد المنصفين».

10. الشيخ محمد هادي الشهرستاني (المتوفّي 1216 ه-).

11. الميرزا مهدي بن هداية اللّه بن طاهر الخراساني الشهيد (المتوفّي 1218 ه-).

12. السيد ميرزا مهدي القاضي الطباطبائي (المتوفّي 1222 ه-).

13. السيد جواد العاملي (المتوفّي 1226 ه-) مؤلّف الموسوعة الفقهية الشهيرة المسمّاة «مفتاح الكرامة» في عشرة أجزاء.

14. الشيخ جعفر كاشف الغطاء (المتوفّي 1227 ه-) مؤلّف «كشف الغطاء».

15. الميرزا أبو القاسم القمي (المتوفّي 1231 ه-) مؤلّف كتاب «قوانين الأُصول».

16. السيد علي الطباطبائي صاحب الموسوعة الفقهية المسمّاة ب- «رياض المسائل» (المتوفّي 1231 ه-).

17. السيد مير محمد حسين بن مير عبد الباقي (المتوفّي 1233 ه-).

18. السيد دلدار علي نصرآبادي الهندي (المتوفّي 1235 ه-) صاحب كتاب «مسكن الفؤاد» و «دعائم الإسلام» و «الشهاب الثاقب».

19. الشيخ أسد اللّه التستري الدزفولي الكاظمي صاحب كتاب «كشف القناع» و «المقابس» (المتوفّي 1237 ه-).

20. عبد الحسين الابن الثاني للوحيد (المتوفّي 1240 ه-).

21. السيد ميرزا يوسف التبريزي (المتوفّي 1242 ه-).

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 296

22. السيد محمد حسن الزنوزي الخوئي (المتوفّي 1246 ه-) مؤلّف كتاب «رياض الجنة» و «دوائر العلوم».

23. شمس الدين بن جمال الدين البهبهاني (المتوفّي 1247 ه-).

24. السيد محمد القصير الخراساني (المتوفّي 1255 ه-).

هذه كوكبة

زاهرة من تلاميذ المحقّق البهبهاني.

ثمّ أعقبهم جيل آخر كانوا من تلامذة تلاميذه أمثال:

1. السيد محسن الأعرجي (المتوفّي 1227 ه-) مؤلّف كتاب «المحصول في الأُصول».

2. شريف العلماء محمد شريف بن حسن علي (المتوفّي 1245 ه-).

3. المولي أحمد النراقي (المتوفّي 1245 ه-) صاحب الموسوعة الفقهية المسمّاة ب- «مستند الشيعة».

4. الشيخ محمد نقي عبد الرحيم (المتوفّي 1248 ه-) مؤلّف كتاب «هداية المسترشدين في شرح أُصول معالم الدين».

5. السيد عبد الفتاح المراغي (المتوفّي نحو 1250 ه-) مؤلّف «عناوين الأُصول» في القواعد الفقهية في جزءين.

6. السيد محمد باقر الشفتي الاصفهاني (المتوفّي 1260 ه-) مؤلّف كتاب «مطالع الأنوار في شرح شرائع الإسلام» المطبوع.

7. الشيخ محمد إبراهيم بن محمد حسن الخراساني الأصفهاني المعروف بالكلباسي (1180- 1261 ه-) مؤلّف كتاب «إشارات الأُصول» في مجلدين.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 297

8. السيد إبراهيم القزويني (المتوفّي 1264 ه-) صاحب «ضوابط الأُصول».

9. الشيخ محمد حسن بن محمد باقر (المتوفّي 1266 ه-) صاحب «جواهر الكلام».

إلي غير ذلك من الأعلام الذين بذلوا جهودهم في إرساء دعائم الفقه و إحياء النهج الاجتهادي، و لكلّ آثار و كتب و موسوعات.

و قد اقتصرنا علي ذكر أسمائهم محيلين ترجمتهم إلي كتاب طبقات الفقهاء الذي أخذ علي عاتقه ترجمة هؤلاء الأعلام.

ميزات الدور السادس

لقد تبيّن ممّا ذكرنا ميزات هذا الدور و أهمها:

1. تصعيد النشاط الفقهي، و مكافحة الرجعية و الجمود، و إعادة العقل إلي ساحة الاستدلال، و إحياء الدور الذي قام به المحقّق الأوّل و من أعقبه خصوصاً المحقّق الثاني و المحقّق الأردبيلي- قدّس اللّه سرّهم-.

2. ظهور ابتكارات أُصولية علي يد الوحيد البهبهاني، سار علي ضوئها تلامذته في كتبهم الأُصولية و الفقهية ك- «رياض المسائل» للسيد علي الطباطبائي و «قوانين الأُصول» للميرزا القمي و «المستند» لأحمد

النراقي.

3. تم في هذا الدور القضاء علي الأخبارية و أفكارها و تقلّص نشاطها و لم يبق منهم إلّا النزر اليسير.

و استطاع المحقّق البهبهاني أن يغيّر وجهة نظر زعيم الأخباريين في عصره،

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 298

فقد بدأ الشيخ يوسف البحراني يميل إلي مدرسة الأُصوليّين شيئاً فشيئاً حتي أنّه أخذ يقول في المقدمة الثانية عشرة من مقدّمات الحدائق:

و قد كنت في أوّل الأمر انتصر لمذهب الأخباريين، و قد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين، إلّا أنّ الذي ظهر لي بعد إعطاء التأمل حقّه في المقام، و إمعان النظر في كلام علمائنا الأعلام هو إغماض النظر عن هذا الباب و إرخاء الستر دونه و الحجاب، و إن كان قد فتحه أقوام و أوسعوا فيه دائرة النقض و الإبرام.

أمّا أوّلًا: فلاستلزامه القدح في علماء الطرفين.

و أمّا ثانياً: فلأنّ ما ذكروه في وجوه الفرق بينهما جلّه بل كلّه عند التأمل لا يثمر فرقاً.

و أمّا ثالثاً: فلأنّ العصر الأوّل كان مملوءاً من المحدّثين و المجتهدين، مع أنّه لم يرتفع بينهم صيت هذا الخلاف، و لم يطعن أحد منهم علي الآخر بالاتصاف بهذه الأوصاف.

و لم يرتفع صيت هذا الخلاف و لا وقوع هذا الاعتساف إلّا من زمن صاحب «الفوائد المدنية» سامحه اللّه تعالي برحمته المرضية، فإنّه قد جرّد لسان التشنيع علي الأصحاب، و أسهب في ذلك أيّ إسهاب، و أكثر من التعصبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب.

و لأجل الوقوف («1») علي العناية التي أولاها المحقّق البهبهاني علي إزالة الفكرة، فقد كانت المناظرة بينه و بين صاحب الحدائق علي قدم و ساق، يحكي المحدّث القمي عن الحاج كريم أحد سدنة الروضة الحسينية المقدسة انّه كان يقوم بخدمة

______________________________

(1)

الحدائق الناضرة: 1/ 167- 170.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 299

الحرم في شبابه، و ذات ليلة التقي بالشيخ يوسف البحراني و الوحيد البهبهاني داخل الحرم و هما واقفان يتحاوران، و طال حوارهما حتي حان وقت إغلاق أبواب الحرم، فانتقلا إلي الرواق المحيط بالحرم، و استمرا في حوارهما و هما واقفان، فلمّا أراد السدنة إغلاق أبواب الرواق انتقلا إلي الصحن و هما يتحاوران، فلما حان وقت إغلاق أبواب الصحن انتقلا خارج الصحن من الباب الذي ينفتح علي القبلة، و استمرا في حوارهما و هما واقفان، فتركهما و ذهب إلي بيته و نام، فلمّا حلّ الفجر و رجع إلي الحرم صباح اليوم الثاني سمع صوت حوار الشيخين من بعيد، فلمّا اقترب منهما وجدهما علي نفس الهيئة التي تركهما عليها في الليلة الماضية مستمرين في الحوار و النقاش، فلمّا أذّن المؤذن لصلاة الصبح رجع الشيخ يوسف إلي الحرم ليقيم الصلاة جماعة، و رجع الوحيد البهبهاني إلي الصحن و افترش عباءته علي طرف مدخل باب القبلة، و أذّن و أقام و صلّي صلاة الصبح.

4. تأليف موسوعات في علم الأُصول قام بها جملة من فطاحل العلماء كالميرزا القمي صاحب «قوانين الأُصول» و الشيخ محمد تقي الأصفهاني صاحب «الحاشية علي المعالم». و السيّد إبراهيم القزويني صاحب «الضوابط»، و الشيخ محمد إبراهيم الكلباسي مؤلّف «إشارات الأُصول».

5. ظهور موسوعات فقهية كبيرة ك- «معتمد الشيعة في أحكام الشريعة» للشيخ مهدي النراقي و «مستند الشيعة في أحكام الشريعة» للشيخ أحمد النراقي و «جواهر الكلام» للشيخ محمد حسن النجفي، و بعين اللّه انّ ما ألّفه هؤلاء الأقطاب الثلاثة تعد موسوعات فقهية لم ير الزمن مثلها إلي أعصارهم، فقد طبع الجواهر في 42 جزءاً، كما طبع «مستند الشيعة»

يناهز عشرين جزءاً، و أمّا «المعتمد» فقد طبع في جزءين كبيرين رحليّين عسي أن يقيض اللّه سبحانه أصحاب الهمم لتحقيقه و عرضه في أُسلوب أنيق.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 300

المراكز العلمية في الدور السادس

كانت للشيعة يومذاك حوزات علمية عامرة في مناطق مختلفة، فكانت حوزة أصفهان ذات نشاط كبير، تخرّج منها علماء أفذاذ، ذوو اختصاصات مختلفة، و قد مر انّ المحقّق البهبهاني كان أصفهانياً، و إنّما أُطلق عليه البهبهاني نظراً لمكثه الطويل في مدينة بهبهان أحد معاقل الأخباريين يومذاك.

و قد انقرضت الدولة الصفوية عام 1135 ه- في هذا الدور علي يد الأفاغنة، و أوجدت قلاقل و اضطرابات لم تدم طويلًا حتي تسلمت الدولة الزندية زمام الأُمور، و دامت إلي أواخر القرن الثاني عشر.

و تليها حوزة شيراز حيث عجّت بالأُصوليين و الأخباريين و الرياضيين و الحكماء و الفلاسفة.

و مع أنّ نور العلم لم يطفأ في سائر المراكز كجبل عامل و حلب و خراسان، إلّا أنّ حوزة كربلاء و النجف قد نشطت من بينها و صعّدت من جهودها.

و قد تقلّص النشاط الأخباري و انحصر في البحرين و القطيف و الأحساء حيث يشاركون الأُصوليين في جميع المواقف و ينتفعون بوسائل الحياة العصرية كما ينتفع منها الأُصوليون مع أنّ الأصل عندهم هو الحظر إلّا أن يقوم دليل علي الحلية.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 301

أدوار الفقه الإمامي

7

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 303

الدور السابع عصر الإبداع و التطور الفقهي (1260- 1414 ه-)

مرتضي الأنصاري رائد الحركة الفكرية

اشارة

إنّ الحركة العلمية التي قادها رائد الفكر و التحقيق المحقّق البهبهاني خلفت وراءها أجيالًا من العلماء الفطاحل، و تراثاً علمياً ضخماً في مجالي الفقه و الأُصول، و قد مرّ انّ ثلّة من تلامذته ألّفوا موسوعات فقهية و أُصولية دحضوا بها حجج الأخباريين الباطلة، و مهّدوا الطريق لظهور حركة علمية جديدة تتمتع بالاستضاءة من التراث العلمي الذي خلّفه المحقّق البهبهاني و تلامذته مع إبداع أُسلوب جديد في الأُصول و الفقه، و رائد هذه الحركة الجديدة- و إن كان في الحقيقة استمراراً للنهج العلمي

الذي قاده البهبهاني- هو الشيخ المحقّق المدقّق مرتضي بن محمد أمين المعروف بالأنصاري، الذي ولد عام 1214 ه- في بلدة دزفول، و تعلّم الدروس الابتدائية في موطنه، ثمّ شرع في الأُصول و الفقه، و نال مرتبة سامية فيها، و لم تقنع نفسه بما تعلّم فيه، فأعدّ العدّة مع والده لزيارة العتبات المقدّسة عام 1232 ه- و له من العمر آنذاك 18 سنة، فورد كربلاء المقدّسة يوم كانت تعجّ حوزتها العلمية بفضلاء و علماء كبار و علي رأسهم العلمان الجليلان:

1. السيد محمد بن السيد علي المعروف ب- «السيد المجاهد» (المتوفّي

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 304

1243 ه-) مؤلّف كتاب «المناهل في الفقه».

2. الشيخ محمد شريف العاملي المازندراني المعروف ب- «شريف العلماء» (المتوفّي 1245 ه-).

فمكث الشيخ في كربلاء أربع سنين تردّد خلالها إلي حلقات دروس العلمين الجليلين إلي أن احتل والي بغداد مدينة كربلاء المقدّسة، فغادر الشيخ مهجره و نزل الكاظمية، و بقي فيها سنة واحدة، ثمّ هاجر إلي النجف الأشرف، فحضر هناك دروس المحقّق الشيخ موسي كاشف الغطاء قرابة سنتين.

ثمّ غادر العراق متوجهاً إلي موطنه عام 1239 ه-، فمكث فيها مدّة قليلة، ثمّ جاب مدن إيران للاستفادة من علمائها.

ينقل لنا التاريخ انّه بدأ برحلته العلمية من دزفول و نزل في مدينة بروجرد، فحضر بحث الشيخ أسد اللّه البروجردي (المتوفّي 1270 ه-) مؤلّف كتاب «فوائد الأحكام» فأقام فيها شهراً تامّاً لم يجد فيها بغيته، فغادرها متوجهاً إلي أصفهان يوم كان زعيمها العلمي هو السيد محمد باقر الشفتي (المتوفّي 1260 ه-) و قد جرت بينه و بين الشيخ مباحثات و مناظرات وقف من خلالها السيّد، علي عظمة الشيخ و مكانته و سمو منزلته، فطلب منه الإقامة في أصفهان و

إلقاء المحاضرات فيها، لكن الشيخ رجح أن يغادرها ليواصل رحلته العلمية حتي هبط بلدة كاشان التي كان زعيمها العلمي يومذاك هو الشيخ أحمد النراقي (المتوفّي 1245 ه-) مؤلّف كتاب «مستند الشيعة في أحكام الشريعة» و قد وجد في محاضراته ضالّته، فمكث فيها أربع سنين حضر خلالها دروسه و نبغ في الفقه و الأُصول علي يديه.

كما اشتغل بالتأليف و التصنيف.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 305

و لما عزم الشيخ علي مغادرة كاشان عام 1244 ه- نال من أُستاذه الرءوف إجازة مفصلة أدّي فيها حقّ الشيخ، ثمّ واصل رحلته العلمية إلي مشهد الرضا (عليه السلام)، فبقي هناك مدّة ثمّ رجع قافلًا إلي العراق، فهبط النجف الأشرف عام 1246 ه-، و كانت يومذاك المدرسة الكبري للشيعة، و كانت الرئاسة العلمية علي عاتق العلمين الجليلين الكبيرين:

1. الشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء (المتوفّي 1254 ه-).

2. الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر (المتوفّي 1266 ه-).

و قد حضر دروس الشيخ كاشف الغطاء إلي أن استقل بالتدريس و طار صيته في أوساط النجف العلمية، و أقبل علي دروسه بشغف، العديد من العلماء و الفضلاء، و اشتهر بالنبوغ و التفوق العقلي.

و لما لبّي الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر نداء ربه عام 1266 انتخب الشيخ بإيصاء منه مرجعاً للشيعة خضعت له القلوب و الأفكار، و انتقلت الزعامة العلمية إليه بلا منازع، و قام بأعبائها بحزم و حكمة و إرادة صلبة إلي أن لبّي نداء ربه ليلة الثامن عشر من شهر جمادي الأُولي من شهور عام 1281 ه-.

هذه إلمامة عابرة، و عرض خاطف لحياة الشيخ الأعظم الذي كرّس حياته في التدريس و التأليف، و إعداد الفضلاء، و تربية المجتهدين، و إرساء دعائم النهضة العلمية الحديثة التي

تعد بحق ثورة علمية كبري قلّما اتّفق نظيرها في العصور السابقة، و قد حفلت كتب التراجم بالثناء عليه و إطرائه و خدماته الجليلة، و تلامذته، و التراث الذي تركه و قد أفردنا رسالة في ترجمته (قدس سره).

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 306

إبداعاته العلمية

ترك الشيخ آثاراً جليلة لم يزل بعضها مداراً للتدريس في الحوزات العلمية، و أخص بالذكر كتابين قيمين وهبا للشيخ خلوداً في التاريخ، هما:

الأوّل: كتاب «الفرائد» المشهور بالرسائل، و هو يضم رسائل مختلفة تبحث عن أحكام القطع و الظن، ثمّ تحدّد مجري أصل البراءة و الاشتغال، و تتطرّق إلي مبحث الاستصحاب، ثمّ إلي أحكام التعادل و التراجيح، و قد علّق عليه تعاليق كثيرة تربو علي سبعين تعليقة.

و الحقّ انّ الشيخ خدم العلم و أهله بهذا الكتاب القيّم خدمة عظيمة لما قدم لأبناء جيله من أفكار.

1. تحرير أحكام القطع و الظن، و قد قسّم الظن إلي ظن خاص و ظن مطلق، و أعطي لكلّ حكمه.

2. قام في رسالة البراءة و الاشتغال بتبيين مجاريهما، و قد كانت غير منقّحة و مهذّبة في كلمات السابقين، و انّهم ربما كانوا يحتجون بالبراءة بدل الاشتغال مع أنّ المحل كان مجري للثاني و بالعكس. فهذّب الشيخ مجاري الأصلين بوجه لا يختلط أحدها بالآخر.

3. قرّر موقف الدليل الاجتهادي من الأصل العملي و بالعكس، و انّهما لا يُحتَجّان بهما معاً و إن كان مضمونهما واحداً.

و هذا الأمر و إن كان موروثاً عن المحقّق البهبهاني إلّا أنّ الشيخ بعقليّته الخلّاقة طرح تقسيماً جديداً لتقديم الدليل الاجتهادي علي الأصل العملي، و أسماها بالشكل التالي: التخصيص و التقييد، الحكومة، الورود.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 307

4. قام في رسالة الاستصحاب بعقد تنبيهات بعد الفراغ من إثبات

حجيته عن طريق الأخبار، أودع فيها أفكاره الأبكار و آراءه البديعة، فمن راجعها يقف علي أنّه المؤسس لكثير من القواعد الواردة فيها و إن كان لبعضها خلفيات في كلمات المتقدمين عليه.

و خلاصة الكلام أنّه (قدس سره) أحدث الإبداعات التالية:

1. مبحث الاستصحاب الكلي.

2. مبحث الاستصحاب التعليقي.

3. مبحث الأصل المثبت.

4. مبحث بقاء الموضوع في المستصحب.

5. مبحث دوران الأمر بين التمسك بالعام أو استصحاب حكم المخصّص.

6. مبحث تقدّم الأصل السببي علي المسببي.

و بعين اللّه انّ ما استعرضه في هذه الفصول الستة تعد أفكاراً أبكاراً لم تقرط بها اذن الدهر قبل ذلك.

الثاني: كتاب «المكاسب»، هذا هو الكتاب الثاني الذي تدور حوله حلقات الدراسة و البحث في الحوزات العلمية الشيعية.

يبحث فيه عن أحكام المكاسب المحرّمة بأنواعها المختلفة:

ثمّ عن أحكام البيع بمختلف فصوله.

ثمّ عن أحكام الخيارات بأقسامها المختلفة.

ثمّ عن الشروط الشرعية و غيرها.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 308

ثمّ عن أحكام القبض و النقد و النسيئة.

ففيها دقائق علمية تعرب عن أنّ الكتاب وليد فكر خارق العادة، و المؤلف لا يغوص في بحار الفقه إلّا و يخرج بالدرر و الدراري و الجواهر الثمينة، و قد قال الدكتور السنهوري في حقّه: لو وقفت علي كتاب «المكاسب» للشيخ الأنصاري قبل تأليفي لكتاب الوسيط لغيّرت كثيراً من الأُسس التي بنيت عليها، و للكتاب تعاليق ربما تربو علي 30 تعليقة، أفضلها تعليقة السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (المتوفّي 1337 ه-).

و الكتاب لم يزل محور الدراسات في الأُصول و المعاملات إلي يومنا هذا أودع فيه حصيلة أفكاره و إبداعاته.

قال المحدّث النوري و هو أحد تلاميذه: قد عكف علي كتبه و مؤلّفاته و تحقيقاته كلّ من نشأ بعده من العلماء الأعلام و الفقهاء الكرام الذين صرفوا هممهم و بذلوا

جهودهم و حبسوا أفكارهم فيها و عليها. («1»)

تلاميذه

اشارة

كان الشيخ يلقي دروسه في الجامع الهندي في النجف الأشرف، و يغص فضاؤه بما ينوف علي الأربعمائة من العلماء و الطلاب، و قد تخرج عليه عدد كبير من الفقهاء و المجتهدين الذين تسلّموا منصة الرئاسة العلمية و الزعامة الدينية فيما بعد، و قد أنهي بعضهم أسماء تلاميذه فبلغوا 315 مجتهداً عالماً، و سنشير هنا إلي أسماء مشاهيرهم الذين لعبوا دوراً هاماً في حفظ التراث الفكري الذي خلّفه الشيخ الأنصاري و تطويره و إكماله و هم كثيرون.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: 3/ 392.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 309

1. السيد حسين الكوهكمري (المتوفّي 1299 ه-)

هو السيد حسين بن السيد محمد بن السيد حسن بن السيّد حيدر التبريزي الكوهكمري، تلقّي المقدّمات في بلدة تبريز، و حضر بحوث العلّامة الميرزا أحمد المجتهد التبريزي، ثمّ غادرها صوب النجف الأشرف فحضر بحث الأعلام الثلاثة:

أ. الشييخ محمد حسين الاصفهاني (المتوفّي 1261 ه-) المعروف بصاحب «الفصول».

ب. السيد إبراهيم القزويني (المتوفّي 1264 ه-) صاحب «الضوابط».

ج. الشيخ محمد حسن النجفي (المتوفّي 1266 ه-) صاحب «الجواهر».

ثمّ لازم بحوث شيخنا الأنصاري و صار من أقرب تلامذته و قد استقل بالتدريس بعد رحيل أُستاذه إلي أن صار مشاراً إليه بالبنان و كان يحضر مجلس درسه عدد غفير من العلماء الفضلاء يتجاوز 600، بين فاضل و عالم، و من أفاضل تلامذته العلّامة الشيخ موسي التبريزي (المتوفّي 1307 ه-) مؤلف كتاب «أوثق الوسائل في شرح الرسائل» و العلّامة الشيخ محمد حسن المامقاني (المتوفّي 1323 ه-) مصنف «الذرائع» و التعليقة علي المكاسب.

تُوفِّي السيد الكوهكمري عام 1299 ه- و له من الآثار: كتاب «الإجارة»، كتاب «الإرث»، «الحج»، «الزكاة»، «الصلاة»، «القضاء»، «مقدّمة الواجب»، و «الاستصحاب».

2. السيد المجدّد الشيرازي (1230- 1312 ه-)

السيد المجدّد ميرزا حسن الشيرازي الذي كان من أشهر تلامذة شيخنا

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 310

الأنصاري، و صار زعيماً للطائفة بعد رحيله، ولد في مدينة شيراز عام 1230 ه- بدأ فيها بتعلم المقدّمات، ثمّ غادر مسقط رأسه متوجهاً إلي أصفهان عام 1248 ه-، و حضر هناك درس الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب «هداية المسترشدين» و الشيخ محمد إبراهيم الكلباسي مؤلّف كتاب «الإشارات»، ثمّ غادرها إلي النجف الأشرف عام 1259 ه-، فحضر بحوث الشيخ حسن كاشف الغطاء و الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، و لمّا لبّي صاحب الجواهر دعوة ربّه عام 1266 ه- اتجهت الأنظار صوب الشيخ الأنصاري فالتحق به و

حضر دروسه و لازمه حتي ارتحل الشيخ إلي جوار ربّه عام 1281 ه-، و لم يلبث حتي صار مرجعاً دينياً و أُستاذاً في الفقه و الأُصول، التف حوله عدد غفير من الفضلاء و من يشار إليهم بالبنان، و علي أثر نشوب القلاقل و الفتن غادر السيد النجف الأشرف و ألقي الرحل في سامراء، فأسس فيها حوزة علمية كبيرة تقاطر إليها الفضلاء و العلماء من كل صوب و حدب، و ذاع صيته في الأوساط الإسلامية.

تخرّج علي يديه لفيف من المجتهدين الذين ساروا علي نهجه و صاروا مراجع للفتيا و أساتذة للفقه و الأُصول فيما بعد.

و لم يترك تأليفاً في الفقه و الأُصول، و اعتذر عن ذلك بأنّ في كتب أُستاذه الشيخ الأنصاري غني و كفاية، و لكن دوّنت له تقريرات و محاضرات نشرت بعضها.

3. ميرزا أبو القاسم النوري الطهراني (1236- 1292 ه-)

هو الشيخ أبو القاسم النوري الطهراني، رجل العلم و الفضيلة، و القلم و البيان، الأوحدي في تلاميذ شيخنا الأنصاري، حضر مبحثه سنين متمادية إلي أن بعثه أُستاذه إلي طهران بغية إقامة الدروس و المحاضرات فيها، و لمّا هبط العاصمة

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 311

اشتغل بمهمته و ربّي جيلًا فيها، و له من الآثار «مطارح الأنظار» الذي هو تقرير لبحوث أُستاذه الأُصولية في مباحث الألفاظ.

و كوَّن هذا الكتاب إذا ضم إلي كتاب «الفرائد» دورة أُصولية كاملة، توفي عام 1292 ه-، ورثاه ولده العلّامة الميرزا أبو الفضل الطهراني بقصيدة مطلعها:

دع العبث و الآمال و اطو الأمانيا*** فما أنت طول الدهر و اللّه باقيا

رمي الدهر من سهم النوائب ماجداً*** أعز كريماً طاهر الأصل زاكيا

4. ميرزا حبيب اللّه الرشتي (1234- 1312 ه-)

هو الشيخ حبيب اللّه بن محمد علي الرشتي، أحد الأكابر من تلاميذ شيخنا الأنصاري، تلقّي دروسه في مسقط رأسه رشت، ثمّ ارتحل إلي قزوين، فمكث فيها مدّة حتي برز في الفقه و الأُصول، ثمّ غادرها إلي النجف الأشرف فحضر درس صاحب الجواهر، و لمّا توفي أُستاذه تردّد إلي أندية دروس شيخنا الأنصاري، و قد وقف علي منزلته و مكانته في العلم و لازمه طيلة عمره، و لما لبّي شيخنا الأنصاري دعوة ربّه استقل بالتدريس و التأليف، و له آثار في الفقه و الأُصول أهمها:

1. «بدائع الأُصول» في أُصول الفقه مطبوع.

2. «المشتق» مطبوع أيضاً.

3. «القضاء و الشهادات» طبع في جزءين.

4. «الإجارة» طبع في جزء واحد. («1»)

______________________________

(1) له ترجمة ضافية في مقدّمة كتابه «القضاء» بقلم السيد أحمد الحسيني.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 312

5. الشيخ محمد حسن الآشتياني (1248- 1320 ه-)

هو الشيخ محمد حسن بن جعفر الآشتياني الطهراني من تلامذة شيخنا الأنصاري، و من مشاهير علماء طهران و أعلمهم في عصره.

ولد في ناحية آشتيان حدود 1248 ه-، فتعلم القراءة و الكتابة، ثمّ انتقل إلي بروجرد و كانت يومذاك دار العلم، و بقي فيها أربع سنين، ثمّ غادرها إلي النجف الأشرف، و حضر هناك دروس العلّامة الأنصاري و لازمه طيلة عمره.

و لما ارتحل أُستاذه غادر النجف الأشرف و هبط طهران العاصمة، و أصبح فيها زعيماً و مدرّساً كبيراً، عكف علي دروسه عدد غفير من روّاد العلم.

و من آثاره العلمية: تعليقته علي الرسائل المطبوع باسم «بحر الفوائد» و هو أحد الثلاثة- بعد الشيخ أبي القاسم كلانتر و المجدّد الشيرازي- الذين نشروا أفكار شيخنا الأنصاري و حقّقوها و بيّنوها.

6. الشيخ محمد رضا الهمداني (1250- 1322 ه-)

الشيخ محمد رضا بن الشيخ محمد هادي الهمداني النجفي، من أجلّة الفقهاء الورعين، و من الأُصوليين المحقّقين، و من مشاهير فقهائنا العظام، أخذ المبادئ و السطوح في مدينة همدان، ثمّ غادرها إلي النجف الأشرف، فحضر دروس شيخنا المحقّق الأنصاري، ثمّ السيد محمد حسن المجدّد الشيرازي.

يعرّفه شيخنا الطهراني بقوله: كان من أجلّة الفقهاء، هاجر إلي سامراء، فلازم درس السيد المجدّد الشيرازي سنين طوال إلي أن عاد إلي النجف في حياة أُستاذه، فالتف حوله جمع من أهل الفضل و اشتغل بالتدريس و التأليف، و كان ذا

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 313

اطّلاع واسع في الفقه و أُصوله. («1»)

و يعد كتابه «مصباح الفقيه» الذي كتبه شرحاً مزجياً علي كتاب «شرائع الإسلام» للمحقّق الحلّي، من جلائل الكتب في الفقه الاستدلالي في القرن الرابع عشر، و لا تجد له مثيلًا بين ما أُلّف في هذا القرن؛ خرج منه كتاب الطهارة و الصلاة و الزكاة و

الخمس و كتاب الصوم و الرهن، و هو في باب العبادات يعادل كتاب المكاسب في المعاملات.

و لعمر القارئ انّ شيخنا المحقّق الهمداني جمع بين عذوبة القلم و وضوحه، و الدقة و العمق في الموضوع، فالقارئ كلّما يسبر في رياضه و يسبح في حياضه لا يكلّ و لا يمل، و كأنّه يتكلّم مع القارئ بلسان ذلق و بيان واضح مع التدقيق و التحقيق، و الكتاب من حسنات الدهر، يعد محوراً للبحوث العليا في الفقه. و كان سيدنا المحقّق البروجردي يعظّمه و يجلّله و يثني عليه في دروسه. و له وراء المصباح كتب أُخري أهمها تعليقته علي الفرائد، و قد طبع في جزء واحد.

7. السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي («2») (1247- 1337 ه-)

هو السيد محمد كاظم بن السيد عبد العظيم الطباطبائي اليزدي النجفي، أحد الفقهاء الكبار في القرن الرابع عشر، و المرجع الديني الأعلي بعد رحيل شيخنا المحقّق الخراساني، تتلمذ علي يد الشيخ محمد باقر بن الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية علي المعالم في أصفهان إلي أن غادرها عام 1381 ه- إلي النجف الأشرف، و قد وصل إليه نعي شيخنا الأنصاري و هو في طريقه إلي النجف، فحضر بحث

______________________________

(1) نقباء البشر: 2/ 776.

(2) كان المفروض تأخير ترجمته علي ترجمة المحقّق الخراساني، و لمّا كان للثاني دور فعال في تخريج جيل من العلماء الفطاحل آثرنا تأخير ترجمة الثاني ليتسلسل ترجمة الأُستاذ و تلاميذه.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 314

السيد المجدّد الشيرازي، و استقل بالتدريس بعد رحيله، و كان معاصراً للشيخ الهمداني، و قد تألّق نجمهما في سماء الفقه.

و قد ترك في الفقه تراثاً فكرياً قيّماً، نشير إلي قسم من تآليفه:

أ. تعليقته علي مكاسب الشيخ الأنصاري، طافحة بالتحقيق و التدقيق، و قد صدر عنه أكثر من علق بعده

علي مكاسب الشيخ.

ب. العروة الوثقي المشتملة علي الفروع التخريجية في الكتب التالية: الطهارة، الصلاة، الصوم، الخمس، الزكاة، الحج، النكاح لم يؤلف مثله، و قد علق عليه كلّ من جاء بعده.

ج. التكملة علي العروة الوثقي في جزءين، و هو كتاب استدلالي يبحث في القضاء علي وجه التفصيل و يشتمل علي كتب فقهية أُخري من كتب المعاملات.

توفي (رحمه الله) عام 1337 ه- في النجف الأشرف، و دفن في الصحن الحيدري.

8. المحقّق الخراساني (1255- 1329 ه-)

هو الشيخ محمد كاظم الخراساني الهروي، ولد عام 1255 ه-، و اشتغل في خراسان بتعلم المقدّمات، ثمّ انتقل إلي مدينة سبزوار للاستضاءة من دروس الحكيم المتألّه الشيخ محمد هادي السبزواري (المتوفّي 1278 ه-)، فبقي هناك مدة إلي أن أعدّ العدّة للسفر إلي النجف الأشرف، فحضر بحوث العلّامة الأنصاري، و لمّا لبّي الأُستاذ دعوة ربّه حضر بحوث السيد المجدّد الشيرازي.

و يعد شيخنا هذا الحلقة الأخيرة من تلامذة الشيخ الأنصاري، و هو في الوقت نفسه أضاف إلي ما استفاده من أفكار شيخه الأنصاري، إبداعات و ابتكارات جديدة جعلته صاحب منهج متكامل في الأُصول، و صاحب مدرسة

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 315

خاصة به، و لو لا انّ إبداعاته قد اقتصرت علي الأُصول و لم تشمل الفقه إلّا شيئاً يسيراً لجعلناه مبدأ دور جديد.

كان شيخنا المحقّق الخراساني من أعاظم المدرسين يحضر في محاضراته أكثر من ألف طالب، كما ذكره شيخنا الطهراني في «الذريعة» («1») حيث قال: و قد سمعت ممّن أحصي تلاميذ شيخنا الأُستاذ الأعظم المولي محمد كاظم الخراساني في الدورة الأخيرة انّه زادت عدّتهم علي الألف و المائتين، و كان كثير منهم يكتب تقريراته، و رأيت تقريراتهم الكثيرة في الكراريس و المجلدات.

و لقد خلّف شيخنا الخراساني ثروة علمية، منها: «كفاية

الأُصول» الذي عليه محور البحث و الدراسة في الحوزات العلمية، و قد كتب عليها تعليقات و شروح كثيرة.

و تلاه تعليقته علي الرسائل، و تعليقته علي المكاسب، و الكتاب الثالث يتمتع بتحقيق رائع و عمق واسع.

ابداعاته الأُصولية

ثمّ إنّ شيخنا المحقّق الخراساني يتفق مع شيخه الأنصاري في قسم من المسائل فمثلًا: اتفق معه في عدم صحّة أخذ قصد الأمر في متعلّقه، لمشاكل في الأخذ، و لكن يختلف معه في كثير من المباحث الآتية:

1. انّ الشرط في الواجب المشروط قيد للهيئة عند المحقّق الخراساني، و هو قيد للمادة عند شيخنا الأنصاري.

2. العام بعد التخصيص مجاز عند الشيخ الأنصاري، و هو حقيقة عند

______________________________

(1) الذريعة: 4/ 366، مادة التقريرات.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 316

المحقّق الخراساني.

3. تقوم الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي بنفس دليل حجّيتها عند الشيخ الأنصاري، و ليس كذلك عند المحقّق الخراساني.

4. الأُصول العملية لا تجري في أطراف العلم الإجمالي عند الشيخ الأنصاري لاستلزامه وجود التناقض في دليلها، أعني قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك و لكن انقضه بيقين آخر».

و ليس كذلك عند المحقّق الخراساني، فهو يشاركه في عدم الشمول، لكن لا لأجل التناقض في مدلول دليل الاستصحاب بل لأجل تعارض الأصلين.

5. يفسّر الشيخ الأنصاري الإمكان في قولهم إمكان التعبّد بالأمارات بالإمكان الاحتمالي، بينما المحقّق الخراساني يفسّره بالإمكان الوقوعي بمعني عدم ترتب المفسدة علي إمكان التعبد به.

6. الاستصحاب عند الشيخ الأنصاري حجّة في الشكّ في الرافع، و ليس حجّة في الشك في المقتضي، و لكنّه حجّة مطلقاً عند المحقّق الخراساني.

7. الأحكام الوضعية انتزاعية عند شيخنا الأنصاري كالسببية و الشرطية و الجزئية و المانعية، و لكنّها علي أقسام ثلاثة عند المحقّق الخراساني.

8. انّ الشيخ الأنصاري يقسم المكلّف الملتفت إلي

أقسام ثلاثة: قاطع، و ظان، و شاك في الحكم؛ بينما المحقّق الخراساني جعل التقسيم ثنائياً لا ثلاثياً، و ذلك لأنّ الظن لو كان حجّة يدخل تحت القطع بالحكم الظاهري، و إن لم يكن حجّة فيدخل تحت الشك.

إلي غير ذلك من الفروق بين الأُستاذ و التلميذ في الآراء و المباني.

***

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 317

انتقل شيخنا المحقّق الخراساني إلي رحمة الباري أواخر عام 1329 ه-، و لكنّه ربّي جيلًا كبيراً من فطاحل الفقه و الأُصول، و لكلّ دور فعّال في تطوير الفقه و الأُصول.

9. ميرزا محمد حسين النائيني (1274- 1355 ه-)

أحد أقطاب العلم في النجف الأشرف، و رافع راية الاجتهاد بعد رحيل أُستاذه المحقّق الخراساني، و قد استقل بالتدريس و إلقاء المحاضرات بعد رحيله قرابة ربع قرن، فتخرج علي يديه جمع غفير حملوا أفكاره و صاروا مراجع للعلم و الفكر بعده.

ترك شيخنا النائيني تراثاً علمياً إمّا بقلمه الشريف، كرسالة «في حكم اللباس المشكوك» أو بقلم تلامذته، فإنّ أكثر أفكاره في الفقه و الأُصول دوّنت بقلم لفيف منهم، و من تلك الآثار:

أ. «فوائد الأُصول» بقلم الشيخ محمد علي الكاظمي (1309- 1365 ه-) في أربعة أجزاء.

ب. «أجود التقريرات» بقلم المرجع الديني الأعلي السيد أبو القاسم الخوئي (1317- 1413 ه-) في جزءين.

ج. «منية الطالب في أحكام المكاسب» في جزءين بقلم العلّامة الشيخ موسي الخوانساري (1303- 1365 ه-).

و قد كانت الحوزات العلمية الشيعية عامرة بفضل أفكار مترجمنا و تلاميذه، و كان السيد الخوئي أحد أبرز تلاميذه إذا جلس علي منصة التدريس لا يبدأ بالدرس إلّا بعد قراءة الحمد علي روح أُستاذه المحقّق النائيني أداءً لبعض حقوقه.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 318

10. ضياء الدين العراقي (1278- 1361 ه-)

هو الشيخ ضياء الدين بن محمد العراقي النجفي، من أكابر تلاميذ شيخنا المحقّق الخراساني، قد عرف بالذكاء المفرط منذ صباه، حضر بحوث أُستاذه المحقّق الخراساني و علا أمره، و عرف بالتحقيق و التدقيق، تخرج علي يده عدد كبير من المجتهدين العظام، منهم: العلّامة المرجع الأعلي السيد محسن الحكيم (1306- 1390 ه-)، و السيد المحقّق العلّامة السيد حسن البجنوردي (1316- 1396 ه-) صاحب كتاب القواعد الفقهية.

ترك شيخنا ثروة علمية في الأُصول باسم «المقالات الأُصولية»، و دورة فقهية استدلالية، و قد طبع بعض أجزائها، و هو أحد الأعاظم القلائل الذين دوّنوا دورة كاملة في الفقه.

و قد دوّن تلاميذه أفكاره باسم

التقريرات، أذكر منهم:

1. «بدائع الأفكار» للعلّامة الشيخ ميرزا هاشم الآملي (1323- 1414 ه-) في أربعة أجزاء.

2. «نهاية الأفكار» للعلّامة الشيخ محمد تقي البروجردي (1316- 1391 ه-) و هي دورة كاملة لدروس أُستاذه العراقي في الأُصول، و طبع منه في حياته المباحث العقلية ضمن الجزءين الثالث و الرابع من الكتاب، ثمّ طبع الجزءان الأوّلان في مجلد واحد.

11. الشيخ محمد حسين الأصفهاني (1296- 1361 ه-)

هو الشيخ محمد حسين بن محمد حسن الاصفهاني النجفي من تلامذة شيخنا المحقّق الخراساني، و هو حكيم متألّه، و أُصولي بارع، و فقيه مدقّق، عكف

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 319

علي كتبه و دروسه لفيف من الفضلاء العلماء، و ربّي جيلًا كبيراً، منهم:

الف. السيد العلّامة محمد حسين الطباطبائي (1321- 1402 ه-) الغنيّ عن الاطراء و التعريف صاحب كتاب «الميزان في تفسير القرآن».

ب. العلّامة السيد محمد هادي الميلاني (1313- 1394 ه-): كان (رحمه الله) آية في الذكاء و الدقّة، و له آثار فقهية مطبوعة و غير مطبوعة، و كان زعيماً علمياً في خراسان منذ هبوطه بها عام 1371 ه-.

ج. الشيخ محمد رضا المظفر (1322- 1384 ه-).

و قد ترك ثروة علمية نذكر منها ما يلي:

1. «نهاية الدراية في شرح الكفاية» طبع في جزءين.

2. التعليقة علي مكاسب الشيخ الأنصاري في جزء واحد.

3. الاجتهاد و التقليد و العدالة.

إلي غير ذلك من الآثار العلمية المذكورة في ترجمته. («1»)

12. السيد أبو الحسن الأصفهاني (1284- 1365 ه-)

هو السيد أبو الحسن الأصفهاني زعيم الشيعة في وقته، و من أشهر مراجعهم و فقهائهم، أتقن المقدّمات في أصفهان، ثمّ هاجر إلي النجف الأشرف، و حضر بحث شيخنا المحقّق الخراساني، و استقل بالتدريس بعده، و رزق ذاكرة وقّادة قلّما ير مثله عند أقرانه.

و يعد كتابه «وسيلة النجاة» دورة فقهية كاملة، يشمل عامة الكتب الفقهية

______________________________

(1) له ترجمة ضافية في مقدمة كتابه «تحفة الحكيم» و «الأنوار القدسية» و «تعليقته علي المكاسب»، فقد قام الشيخ محمد علي الأردوبادي، و الشيخ المظفر بترجمة أُستاذهما.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 320

غير القضاء و الشهادات و الحدود و الديات، و له حقّ عظيم علي الحوزة العلمية في النجف الأشرف، و قد تسلّم مقاليد الزعامة في عصر عصيب و زمان كثرت

فيه الاضطرابات.

13. الشيخ عبد الكريم الحائري (1274- 1355 ه-)
اشارة

هو الشيخ عبد الكريم بن محمد جعفر اليزدي الحائري، تلقّي المقدّمات في مدينة يزد، ثمّ غادرها إلي النجف الأشرف، فحضر بحث أُستاذه السيد محمد الفشاركي (المتوفّي 1315 ه-) و المحقّق الخراساني، ثمّ استقل بالتدريس.

ثمّ إنّه (قدس سره) غادر العراق و نزل مدينة أراك عام 1316 ه-، فمكث فيها إلي سنة 1324 ه-، و قد كان لإقامته في تلك المدينة أثر بالغ في تربية جيل جديد للفقه و الأُصول، و لكنّه سرعان ما انتقل إلي النجف الأشرف عام 1324 ه-، و لما قامت الحركة الدستورية انشقت عصا الوحدة بين العلماء، فآثر شيخنا مغادرة النجف و الإقامة في كربلاء المقدسة البعيدة عن هذه الأجواء السياسية، و لما كثرت عليه الطلبات للعودة إلي «أراك» و القيام بوظيفته الرسالية السابقة غادر الحائر الشريف عام 1332 ه- فهبط مدينة «أراك» و أخذ بالتدريس و التربية إلي عام 1340 ه-، و في هذه السنة غادر المدينة فهبط مدينة قم حيث عزم الإقامة فيها.

***

جامعة قم و عطاؤها

إنّ مدينة قم المقدسة كانت بلدة عامرة بالعلم و الفقه منذ القرن الثاني إلي أواخر القرن الرابع، حيث اكتظت بعباقرة الحديث و الفقه و الرجال، و منها انتشر العلم إلي سائر الأمصار.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 321

فالمحدّثون القميّون عرفوا في سماء الحديث و الفقه، و كفاك أنّ إبراهيم بن هاشم، و ابنه علي بن إبراهيم، و أحمد بن محمد بن خالد البرقي، و أحمد بن محمد بن عيسي الأشعري، و محمد بن أحمد بن عمران الأشعري، و غيرهم من جهابذة الحديث و الفقه خرّيجو مدرسة قم، و تركوا مصنّفات ثمينة بقيت مصونة عن حوادث الزمان.

لم يبق تألّق نجم العلم في هذه البلدة علي منوال واحد، بل كان له

طلوع و غروب مرّة تلو أُخري، إلي أن ساق القضاء رجل العلم و الفضيلة، مثال الزهد و التقوي، آية اللّه العظمي الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي- قدّس اللّه سرّه- إليها عام 1340 ه-، فقام بتأسيس الحوزة العلمية فيها، و نفض الغبار عن كاهل حوزتها، و نفث روحاً جديدة في عروقها، في حين كانت رياح الضلال تعصف في أرجاء العالم كلّه، و وقعت إيران العزيزة في مهب رياحه، لكن شاءت الأقدار الإلهية أن تكون تلك الحوزة العلمية سدّاً منيعاً أمام التيارات الإلحادية، و وتداً راسخاً يحول دون الهزة العلمانية، فأضحت مناراً فيّاضاً يشع نوراً و هداية في قلب الأُمّة الإسلامية علي وجه تمثل قول أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في حقّ هذه البلدة الطيبة: «منها يفيض العلم».

هبط المؤسس آية اللّه الحائري مدينة قم في 22 من شهر رجب المرجب من شهور عام 1340 ه-، و تقاطر روّاد العلم إليها من كلّ فجّ عميق، فانتعش العلم ببركته، و خرّج طليعة من روّاد العلم و العلماء إلي أن لبّي نداء ربّه في أواخر سنة 1355 ه-، و بذلك فقدت الحوزة العلمية زعيمها و مؤسسها، و لكن دام عطاء الحوزة العلمية علي يد تلامذته، فقاموا برعاية الجامعة العلمية بعد رحيله علي أحسن ما يرام، و أخذوا بزمام الأُمور بعزم سديد، و يد من حديد في جو مشحون بأنواع من المحن و الشدائد التي كادت أن تقلع جذور تلك الشجرة المباركة

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 322

الطيبة، و لا غرو أن نذكر أسماءهم إجلالًا للجهود الثمينة التي بذلوها و العناية التي أولوها:

1. آية اللّه السيد محمد الحجة (1301- 1372 ه-).

2. آية اللّه السيد صدر الدين الصدر (1299- 1373 ه-).

3. آية اللّه

السيد محمد تقي الخوانساري (1306- 1371 ه-).

و هؤلاء الأقطاب الثلاثة كانوا مراجع العلم و أساتذة الحوزة و زعماءها، صابرين علي المحن و الكوارث، غير مكترثين بما ينتابهم من صروف الدهر، و غير الزمان، مجابهين ضوضاء الباطل بحكمة عملية و عظة بالغة. و في الختام نذكر ما تركه شيخنا- المترجم له- من آثار علمية في الفقه و الأُصول، و نخص منها بالذكر كتابين مهمين:

أ. «درر الفوائد» و هي دورة أُصولية كاملة كان عليه مدار تدريسه، و قد طبع في جزءين، و للمؤلّف علي الكتاب تعليقات علّقها حسب ما بدا له من الآراء الجديدة في خلال دوراته الأُصولية.

ب. كتاب «الصلاة» و هو و إن اختص بكتاب الصلاة، و لكنّ فيه بحوثاً علميةً تتمتع بالعمق، يستفيد منها القارئ في أبواب أُخر، و قد كان سيدنا البروجردي- حسب ما سمعته منه شفهياً- يثني عليه بأنّه مع الاختصار قل نظيره بين مؤلّفات المعاصرين متضمن لمطالب كثيرة.

ثمّ أُتيحت لشيخنا المترجم فرصة تربية جيل كبير من الفقهاء الذين أضحوا فيما بعد عمد الدين، و أساطين الحوزة، و مراجع للفقه و الأُصول، و لا يمكن في هذه العجالة الإشارة إلي أسمائهم، و كفانا في ذلك ما أُلّف في هذا المجال من الرسائل و الكتب، و قد غطي البلاد جل المتخرّجين من هذه الحوزة، فما من مدينة

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 323

إلّا و فيها خريج من هذه الحوزة المباركة من تلامذته، أو من المتخرجين علي يدي تلامذته، منهم: الإمام الخميني، و سيد الطائفة آية اللّه الكلبايكاني، و شيخ الفقهاء آية اللّه الأراكي (قدس سره) م.

14. السيد حسين البروجردي (1292- 1380 ه-)

هو السيد حسين بن السيد علي بن السيد أحمد بن السيد علي نقي بن السيد جواد، أخو بحر العلوم،

ولد في بيت عريق في العلم و الفضل، و تلقّي المقدّمات في موطنه ثمّ غادر إلي أصفهان يوم كانت حوزة علمية كبيرة تكتظ بأساتذة ذوي اختصاص في المعقول و المنقول عام 1309 ه-، فبقي فيها إلي سنة 1318 ه- ثمّ غادرها متوجّهاً إلي النجف الأشرف، فحضر بحث المحقّق الخراساني ما يقرب من عشر سنين.

و قد شهد له أُستاذه بالعلم و الفقاهة، فلمّا هبط سيدنا المترجم موطنه، عكف علي دراسة الفقه و الأُصول و الرجال و غيرها بعيداً عن الأجواء المتواترة، فصار ذا منهج في استنباط الأحكام و علم الرجال، ذا أفكار رائعة في المسائل الأُصولية، قام (قدس سره) بتدوين الرجال علي حسب الطبقات، فهو أوّل من أحيا ذلك المنهج بعد صاحب «جامع الرواة» و إن كان هناك فرق بينهما في الإحاطة و كيفية العرض، و في مستهل سنة 1364 ه- غادر مسقط رأسه إلي قم بعد فترة قصيرة قضاها في طهران لتدهور حالته الصحية، فاستقبله العلماء بحفاوة بالغة، فعادت روح جديدة في عروق الحوزة، و تجسّدت الآمال الكبيرة في شخصه و شخصيته و زعامته.

قام السيد بإلقاء الدروس و رعاية الحوزة إلي أن هزّ البلاد الإسلامية نبأ وفاة زعيم الشيعة آية اللّه العظمي السيد أبو الحسن الأصفهاني، في الثامن من ذي الحجة الحرام من شهور عام 1365 ه- (رضوان اللّه عليه) و منذ ذلك الحين

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 324

استقطب أنظار الشيعة في كل أرجاء المعمورة، و تجسدت فيه الزعامة الدينية للشيعة الإمامية.

و كان ذا ولع خاص بإلقاء الدروس و المحاضرات، و تربية الفقهاء بالرغم من قيامه بأعباء الزعامة.

و تعبّر محاضراته الفقهية عن نتاج أفكاره، فتطرق في غير واحد من أبواب الفقه، كالإجازة، و الوصية، و

الصلاة، و الخمس، و الطهارة، و غير ذلك.

و أمّا أُصول الفقه فقد جعل محور دراستها كتاب «كفاية الأُصول» لأُستاذه المحقّق الخراساني، فألقي محاضرات في معظم مباحث الألفاظ، ثمّ في المباحث العقلية، فأكمل البحث في القطع و الظن و البراءة، و شيئاً من مباحث الاشتغال، حتي عاقته أُمور الزعامة عن مواصلتها.

كان السيد البروجردي آية في جل العلوم الإسلامية، فما منعه سبر الغور في الفقه و أُصوله، عن دراسة المعقول و الكلام و التاريخ و الرجال، و كان هو الدافع الرئيسي لانكباب الفضلاء و علماء الحوزة علي محاضراته، مع أنّهم كانوا في الرعيل الأوّل من الأساتذة.

15. السيد الإمام روح اللّه الموسوي الخميني (رحمه الله) (1320- 1409 ه-)

هو السيد روح اللّه بن السيد مصطفي، الزعيم الأكبر، و الإمام الأعظم، أحد الشخصيات القلائل التي يضنّ بهم الدهر إلّا في فترات يسيرة.

و الكلام عنه و خدماته الجليلة و آثاره و معطياته للأُمّة خاصة رهن مقال مسهب بل كتاب مفرد.

تلقي المقدّمات في موطنه «خمين» ثمّ انتقل إلي أراك عام 1339 ه- يوم كان شيخه المحقّق الحائري زعيماً لحوزة أراك، و لمّا انتقل الأُستاذ إلي مدينة قم غادرها

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 325

الإمام الخميني إلي قم، فأقام فيها قرابة 43 سنة أي إلي عام 1383 ه-، فحضر دروس أُستاذه الحائري في الفقه و الأُصول، كما حضر دروس الشيخ محمد علي الشاه آبادي في المعقول و العرفان، و لم يقتصر نشاطه العلمي علي هذين الأُستاذين بل أخذ عن غيرهما و إن كان أكثر استفادته منهما.

و لمّا لبّي المحقّق الحائري نداء ربّه عام 1355 ه- استقل بالتدريس في كلا المجالين المعقول و المنقول، و ربّي جيلًا كبيراً في هذه البرهة، و لمّا حلّ السيد البروجردي بمدينة قم و أضفي علي الحوزة نشاطاً علمياً خاصاً، حضر

سيدنا الإمام الخميني أندية دروسه حضوراً فعالًا للاستفادة من منهل علمه و رحيق فكره، و قد كتب من دروس السيد البروجردي شيئاً كثيراً. فكتب محاضراته في علم الأُصول من أوّله إلي حجّية الظن، و في الوقت نفسه كان يلقي محاضرات في الفقه و أُصوله، و كانت له حوزة فقهية كبيرة تضم عدداً كبيراً من الفضلاء.

ترك سيدنا الإمام الخميني ثروة فقهية كبيرة نشير إلي بعضها:

1. «المكاسب» في خمسة أجزاء تبحث عن: المكاسب المحرّمة، و أحكام البيع، و الخيارات. و هي من جلائل آثاره تتمتع بقوة التعبير، و عمق الفكر.

2. «تحرير الوسيلة»، و الأصل للسيد الاصفهاني و قد أكملها السيد الإمام الخميني بتحرير جديد، و صارت رسالة عملية له، و هي تكشف عن إحاطته بالفروع، و قوة عارضه في إرجاعها إلي الأُصول.

3. «دورات أُصولية» ألقاها في حوزة قم دورة بعد دورة، أوسطها ما حررناها و نشرناها تحت عنوان: «تهذيب الأُصول» في جزءين، و قد أشرف علي عامة ما حررته، فصحّح ما طغي عليه الفكر أو زاغ عنه البصر.

4. و للسيد الإمام الخميني رسائل فقهية و أُصولية أُخري مذكورة في ترجمته.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 326

و له (قدس سره) وراء ما ألّفه في الفقه و الأُصول تآليف أُخري في الفلسفة و العرفان و الأخلاق و ذبِّ الشبهات عن حياض الإسلام، فقد كان لكتابه «كشف الأسرار» صدي واسع في المحافل العلمية و الشعبية، ألّفه رداً علي بعض الشبهات المطروحة حول الإسلام و التشيّع.

كما انّ لكتابه «مصباح الهداية إلي الخلافة و الولاية» مكانة عالية في سماء العرفان قلَّ نظيره.

و قد قام السيد الإمام بقيادة الثورة الإسلامية بعد الإطاحة بنظام الشاه ما يربو علي 11 سنة ألقي خلالها العديد من المحاضرات

السياسية و الاجتماعية و الأخلاقية و قد طبع الجميع باسم «صحيفة النور» في أزيد من عشرين جزءاً.

إنّ شخصية الإمام الخميني شخصية لامعة أثبت بثورته انّ الإسلام دين للماضي و الحاضر و المستقبل، و انّه ليس للإنسان المتحضر بدٌّ إلّا التمسك بأهداب ذلك الدين القيم.

و ظل الإمام قائماً بأعباء الزعامة الدينية و السياسية إلي أن وافاه الأجل في 29 من شهر شوال المكرم عام 1409 ه-، و قد شُيع جثمانه الطاهر تشييعاً جماهيرياً حاشداً قلّما شهد التاريخ مثله.

و أنا شخصياً أرفع أسمي آيات الاعتذار إلي سماحة أُستاذي الكبير الإمام الخميني (قدس سره) فإنّ ما ذكرته هنا ليست ترجمة لحياته أو إشارة إلي جانب من خدماته، فإنّ هذا رهن كتاب مفرد، و قد قمت بترجمته في مقال مسهب نشر في مجلة «مكتب إسلام» أيام رحيله قد استوفيت فيه بعض الحقّ.

فَسَلام اللّه عليه يوم ولد و يوم مات و يوم يبعث حيّاً.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 327

16. السيد أبو القاسم الخوئي (1317- 1413 ه-)

هو السيد الفقيه الكبير، و الأُصولي البارع، السيد أبو القاسم بن السيد علي أكبر الخوئي، ولد في مدينة «خوي» إحدي مدن إيران، و انتقل مع والده إلي النجف الأشرف عام 1330 ه-، فقرأ المقدّمات و السطوح العالية عند أساتذة الفن حتي حضر بحث الشيخ المحقّق شيخ الشريعة الأصفهاني عام 1338 ه-، و لمّا التحق شيخ الشريعة بالرفيق الأعلي عام 1339 ه- اختص بشيخيه الجليلين:

أ. الشيخ محمد حسين النائيني (المتوفّي 1355 ه-).

ب. الشيخ محمد حسين الأصفهاني (المتوفّي 1361 ه-).

فقد عكف علي دروسهما، و كتب شيئاً كثيراً منها، حتي أصبح أُستاذاً بارزاً يشار إليه بالبنان في الفقه و الأُصول، و اكتظت دروسه برواد العلم و المعرفة، و أصبح مرجعاً علمياً، و زعيماً دينياً

للطائفة الشيعية بعد رحيل السيد محسن الحكيم (قدس سره).

إنّ السيد الخوئي كان صاحب مدرسة في الفقه و الأُصول، و قد انتشرت عنه تقريرات و محاضرات كثيرة لم ينتشر عن أحد قبله، و هذا يعرب عن أنّه كان أُستاذاً مربياً للجيل، حنوناً، و عطوفاً علي التلاميذ، يرعاهم و يرشدهم إلي معالم العلم، و يذاكرهم، و لا يمل، و يباحثهم و لا يكل.

أمّا ما انتشر بقلمه، فهو عبارة عن الكتب التالية:

1. «أجود التقريرات» في جزءين، تقريراً لمحاضرات أُستاذه المحقّق النائيني.

2. رسالة في «اللباس المشكوك» نشر عام 1361، و هي مفعمة بالتحقيق.

3. «البيان في تفسير القرآن» و هو أحد المصادر لمن يكتب عن علوم القرآن.

4. معجم رجال الحديث في 23 جزءاً و هو من حسنات الدهر.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 328

و أمّا ما انتشر بقلم تلامذته فحدث عنها و لا حرج، فقد انتشر منها:

أ. «التنقيح» في سبعة أجزاء، لتلميذه المحقّق ميرزا علي الغروي التبريزي قدّس اللّه سرّه الشريف.

ب. «مستند العروة» و هو شرح استدلالي علي العروة الوثقي.

و أمّا ما انتشر عنه في الأُصول فكثير ك- «مصباح الأُصول»، «المحاضرات» في خمسة أجزاء، و غيرها.

توفي (رحمه الله) عام 1413 ه- في مدينة النجف الأشرف.

يعد السيد الخوئي أحد الأعلام الكبار الذين يقف القلم عند تحليل شخصيتهم، و لنقتصر بما ذكره تلميذه الطائر الصيت الشيخ محمد جواد مغنية حيث يقول:

السيد الخوئي: عالم لم يقف عند جهة واحدة من جهات العلم و الفكر، بل أتقن منها ما أتقن، و ألمّ بما ألمّ، و أحاط و تعمّق في أشرفها و أعظمها حتي أصبح علماً من أعلامها الأمثلين، و رائداً من روّادها المقلدين، فقد لبث زمناً يدنو من السبعين يتعلم و يعلم و يؤلّف و

يخرج العلماء و يناقش الجدد منهم و القدماء.

أمّا أُسلوبه في الجدال و النقاش، فهو أُسلوب سقراط يتجاهل و يتظاهر بتسليم قول الطرف المقابل ثمّ يعرض عليه الشكوك و التساؤلات، و يتصنّع الاستفادة و الاسترشاد، و شأن الطالب و التلميذ، حتي إذا أجاب المسكين ببراءة و سذاجة انقض عليه، و انتقل به إلي حقائق تلزم أقواله، و لا يستطيع التخلص منها، و يوقعه في التناقض من حيث لا يشعر، و يحمله قهراً علي الاعتراف بالخطإ و الجهل.

أمّا الّذين تخرّجوا عليه فلا يعلم عددهم إلّا اللّه وحده، و لكنّي علي علم اليقين انّهم يعدون بالمئات و انّهم يملئون جامعة كبري و ما زالوا علي ازدياد، و الآن

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 329

تنضوي المئات تحت منبره، و فيهم الشيوخ و الشباب و الأساتذة و الطلاب و الكثير منهم يهضم أفكاره و آراءه بل و يلتهمها بشوق. («1»)

17. السيد محمد رضا الكلبايكاني (1316- 1414 ه-)

هو السيد محمد رضا بن السيد محمد الكلبايكاني، أحد أكابر تلامذة الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية و أحد المراجع الكبار في عصره، قرأ المقدمات في موطنه، ثمّ انتقل إلي مدينة «أراك» عام 1336 ه- و هو في نهاية العقد الثاني من عمره، و حضر هناك دروس الشيخ الحائري و الشيخ محمد تقي الگوگدي، و لما غادر شيخنا المؤسس إلي مدينة قم المقدسة و حط الرحال فيها، التحق به سيدنا المترجم مستفيضاً من دروس أُستاذه الكبير، إلي أن قضي شيخنا الحائري نحبه، فاستقل سيدنا بالتدريس و التأليف.

و لما نزل السيد البروجردي في مدينة قم بدعوة من علمائها لا سيما سيدنا المترجم، أخذ السيّد يتردد إلي اندية دروسه فقهاً و أُصولًا مدّة مديدة و لمّا وافي السيد البروجردي الأجل، عُيّن للمرجعيّة

و زعامة الحوزة الدينية و تربية الأفاضل و المجتهدين، و قد تزامنت مرجعيته مع ظهور النهضة الإسلامية الكبري فساهم فيها مع أُستاذنا الكبير الإمام الخميني (قدس سره) مساهمة فعالة بغية ارساء قواعدها، و قد تحمل في هذا السبيل الكثير من الصعاب و المشاق من قبل السلطات الغاشمة.

و لسيدنا المترجم مصنفات و مشاريع خيرية كثيرة، منها:

1. كتاب الحج، 2. ولاية الفقيه، 3. الشهادات، 4. الدر المنضود في أحكام الحدود، 5. نتائج الأفكار، 6. كتاب الطهارة.

و هذه كلّها محاضرات ألقاها في أندية دروسه و حرّرها تلامذته الأفاضل.

______________________________

(1) محمد جواد مغنية: من هنا و هناك: 155- 156.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 330

و أما ما يرجع إلي ما ألّفه بقلمه فهو تعليقته علي درر الفوائد في علم الأُصول و قد طبع في جزءين.

و من مشاريعه الخيرية:

1. تأسيس دار القرآن الكريم، 2. إنشاء مستشفي كبير في مدينة قم، 3. إنشاء مركز ديني للجاليات الإسلامية في لندن، 4. إنشاء مساجد عديدة في أنحاء إيران.

كان سيدنا قائماً بأعباء الزعامة إلي أن وافاه الأجل يوم الخميس، الرابع و العشرين من جمادي الآخرة من شهور عام 1414 ه-

و قد شيّع جثمانه الطاهر تشييعاً جماهيرياً حاشداً، و دفن- قدس اللّه سرّه- في حرم السيدة معصومة (عليها السلام).

ميزات الدور السابع

1. كان الدور السابع في الحقيقة إكمالًا للأُسس التي ورثها الشيخ الأنصاري و تلاميذه عن المحقّق البهبهاني و من أعقبه، فإنّ أكثر ما ورد في كلمات علماء هذا الدور تجد لها جذوراً في كتب المحقّق البهبهاني و تلاميذه، و لكن مع فارق جليّ، و هو إعطاء منهجية لتلك الأُصول و تنظيمها بشكل أضفي عليها شكلًا جديداً أصبح بذلك يمثل دوراً علي حدة.

2. انّ الفقه و إن كان ذا

أبواب متعدّدة، كالعبادات و المعاملات و العقود و الإيقاعات و السياسات، و لكن فقهاء هذا الدور صبّوا اهتماماتهم علي العبادات و العقود بالأخص المعاملات منها، و تجلّي هذا بشكل واضح في كتاب «المكاسب» للشيخ الأنصاري، و «مصباح الفقيه» للمحقّق الهمداني، و تعليقة السيد الفقيه

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 331

اليزدي علي المكاسب، و كتاب «العروة الوثقي» و لا تجد فقيهاً إلّا و له تأليف في أحدهما.

و بذلك قلّ التصنيف في الأحوال الشخصية مقارنة بهما و أقل منه ما يرجع إلي الأحكام و السياسات، و ذلك لأنّ الفقهاء في أكثر هذه الفترة كانوا بمعزل عن السياسات و الأحكام و إجراء الحدود.

نعم بعد ما قامت الثورة الإسلامية المباركة في إيران كثر التأليف حول السياسات و الأحكام، و الركب بعد سائر.

3. تبويب المسائل الأُصولية بشكل قلّ نظيره في الأدوار السابقة، ثمّ تقسيمها إلي مباحث الألفاظ و المباحث العقلية، و أشبعوا الكلام في الثاني علي وجه لم يكن له نظير في السابق.

نعم بعض ما عدّ من مباحث الألفاظ، كباب الملازمات العقلية يلزم أن يعد من المباحث العقلية كما حقّقناه في محله.

4. ظهور نمط من التأليف في الفقه و الأُصول باسم التقريرات، و هو كالأمالي بين القدماء، فإنّ الأُستاذ كان يملي دروسه فيحرره التلميذ، ثمّ ينشر باسم الأُستاذ، كأكثر الأمالي الموروثة من القدماء، و هذا بخلاف التقريرات، فإنّ الأُستاذ يملي و التلميذ يكتب، و ينتشر باسم التلميذ مضيفاً إلي أنّ المحتوي من الأُستاذ.

و أمّا عدد التقريرات التي دونت من عصر شيخنا الأنصاري إلي يومنا هذا ممّا لا يحصيه إلّا اللّه سبحانه، كما ذكره شيخنا الطهراني في «الذريعة».

5. ظهور رسائل عملية بلغات مختلفة ليرجع إليها المسلمون في أعمالهم الدينية و الدنيوية، و

أفضل ما أُلّف في هذا المضمار هو:

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 332

أ. «العروة الوثقي» للسيد الفقيه محمد كاظم اليزدي الطباطبائي (قدس سره).

ب. «وسيلة النجاة» للسيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره).

ج. «منهاج الصالحين» للسيد الحكيم (قدس سره).

د. «تحرير الوسيلة» للسيد الإمام الخميني (قدس سره).

ه-. «تكملة منهاج الصالحين» للسيد الخوئي (قدس سره).

و. «توضيح المسائل» و عليها التعليقات.

و خصوصية هذه الرسائل انّها تشتمل علي آراء الفقيه بصورة مختصرة دون أن يتطرّق إلي الاستدلال في كافة الجوانب المادية و المعنوية.

الميزة الجامعة بينها هي الدقة و العمق و كثرة التفريع ممّا خلف تراثاً فقهياً ضخماً تفتخر به الشيعة قلّ نظيره عند المذاهب المختلفة.

المراكز العلمية في هذا الدور

تمتعت أكثر البلدان في هذا الدور بحوزات علمية فقهية كبري، إلّا أنّ المراكز المهمة التي نشطت فيها عبارة عن الحوزات التالية:

1. حوزة النجف الأشرف المدرسة الكبري للشيعة.

2. حوزة كربلاء المقدسة.

3. حوزة سامراء.

4. حوزة أصفهان.

5. حوزة خراسان.

6. حوزة تبريز.

أدوار الفقه الإمامي (للسبحاني)، ص: 333

و أخيراً حوزة قم التي أسّسها الزعيم الديني الأكبر الشيخ عبد الكريم الحائري (قدس سره) مضافاً إلي الحوزات العلمية للشيعة في الهند و باكستان و لبنان و الشام و غيرها التي كانت عامرة بعلمائها و فضلائها، و بذلك لا يتمكن أي أحد من أداء حق هذا الدور علي وجه يليق به.

هذه إلمامة عابرة بالأدوار الفقهية للشيعة الإمامية، و كان الطريق وعراً غير مذلّل و لا معبّد لكن سلكناه- بفضل اللّه سبحانه- بعزم راسخ، آملين أن يقع مورد القبول.

تمّ الكتاب بقلم مؤلفه جعفر السبحاني

في صبيحة يوم الأحد المصادف خامس ربيع الثاني عام 1418 ه-

في مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)

للدراسات و الأبحاث الإسلامية

في مدينة قم المقدسة صانها اللّه من عوائد الدهر.

و آخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ

الْعٰالَمِينَ

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.