مصادر الفقه الإسلامي و منابعه

اشارة

نام كتاب: مصادر الفقه الإسلامي و منابعه

موضوع: تاريخ فقه و تحولات آن

نويسنده: تبريزي، جعفر سبحاني

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 1

ناشر: دار الأضواء

تاريخ نشر: 1419 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: بيروت- لبنان

==========

نام كتابخانه: كتابخانه تخصصي فقه و اصول

پديدآورنده: سبحاني تبريزي، جعفر

موضوع: اصول فقه - نقد و تفسير = اصول فقه - مطالعات تطبيقي = فقه - ماخذ - مطالعات تطبيقي

تولد/وفات: 1308-

شرح پديدآور: جعفر السبحاني

ناشر: دارالاضواء

محل نشر: بيروت (لبنان)

سال نشر: 1419ق-1999م = 1385

رده كنگره: BP155/س2م6

زبان: عربي

يادداشت: كتابنامه به صورت زيرنويس

مشخصات ظاهري: 480ص .

فرم فيزيكي: وزيري

تعريف العموم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

تقديم إنّ التشريع السماوي فيض معنوي و نعمة إلهية أنزلها سبحانه لِاسعاد البشرية و تكاملها، فجعل خيرة خلائقه محطاً لنزول هذا الفيض، فابتدأه بشيخ الأَنبياء نوح- عليه السّلام- و ختمه بخاتم النبيين محمد- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، قال سبحانه: " شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مٰا وَصّٰي بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ وَ مٰا وَصَّيْنٰا بِهِ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسيٰ وَ عِيسيٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لٰا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَي الْمُشْرِكِينَ مٰا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللّٰهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ" (الشوري- 13).

و لم يقتصر سبحانه علي تعريف أنبيائه بحقائق أحكامه و معالم قضائه، بل أنزل معهم الكتاب حافظاً للتشريع، و صائناً له عن الزوال و الاندثار، قال سبحانه: " لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْمِيزٰانَ لِيَقُومَ النّٰاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ" (الحديد- 25).

و هكذا اقتضت العناية الإِلهية أن يكون لتلك الكتب دور هام في الحفاظ علي الشريعة.

كما اقتضت عنايته سبحانه تعزيز كتبه بسنن أنبيائه فعصمهم من الخطأ و الزلل

و جعلهم أُسوة للأُمم في القول و العمل، و صارت سننهم ملاكاً للهداية و الضلالة، فأخذوا بتبيين ما شرع اللّه إجمالًا، و غدت كلماتهم عدلًا لكتب اللّه و حجّة علي

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 6

العباد، قال سبحانه: " وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ إِلّٰا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُديً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (النحل- 64) فورث المسلمون بعد رحيل خاتم النبيين محمّد- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- شريعة بيضاء تعدّ معجزة من معاجزه بحيث لو لم يكن له سواها لكفي دليلًا علي أنّه مبعوث من قِبَل اللّه سبحانه.

و قد استأثر التشريع الإِسلامي باهتمام المسلمين، فأخذوا بإثارته و استنطاقه بغية تلبية حاجاتهم المستجدَّة، و بذلك ازداد التشريع الإِسلامي غني عبر الزمان بفضل الجهود التي بذلت علي هذا الصعيد.

فالتشريع الإِسلامي شجرة طيبة مترامية الأَغصان تؤتَي أُكلها كل حينٍ بإذن ربّها، فأغنت الأُمة الإِسلامية عن أيّ تشريع سواه، و عن أي تطفّل علي القوانين الوضعية.

و علي الباحث في هذا المضمار الوقوف علي المسار التكاملي للفقه و العناصر التي أغدقت عليه ثراءً و عطاءً من خلال التعرّف علي أمرين: أوّلًا: الوقوف علي تاريخ الفقه و منابعه و أدواره، و أنّه كيف نما و نضج علي مرِّ الزمان؟ و كيف لبّي حاجة المجتمع علي اختلاف ظروفه و شرائطه و أروي المسلمين من نميره العذب؟ و هذه المعرفة تسدي له نضوجاً في الفكر و عمقاً في النظر.

ثانياً: الوقوف علي روّاد هذا العلم الذين ساهموا مساهمة فعالة في تشييد معالمه، و بناء أركانه، و ما بذلوه من جهود حثيثة هادفة إلي رفع هذا الصرح الشامخ، ليكون ذلك تثميناً لجهودهم المضنية.

و كنت منذ زمن تخاطرني فكرة إنجاز هذين

الأَمرين، حتي ذلّل اللّه سبحانه لي الصعاب، و أتاح الفرصة بغية الوصول إلي منيتي القديمة فشمرت عن ساعد الجد و قمت بأعداد مشروعين كبيرين، أعني:

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 7

الأَوّل: تبيين منابع الفقه و تدوين تاريخه دون أن يختص بطائفة دون أُخري، ليكون مرجعاً لكافة الفقهاء علي اختلاف نِحَلهم.

و هو الذي بين يدي القارئ في جزأين.

الثاني: تأليف معجم يأخذ علي عاتقه تبيين سيرة أهل الفتيا و الاجتهاد عبر القرون.

و قد خرج منه إلي الآن ثمانية أجزاء و البقية قيد التأليف.

و قد قمت بفضل من اللّه سبحانه بإنجاز المشروع الأَوّل كما ساهمت و أشرفت علي المشروع الثاني الذي قام بتأليفه نخبة من الباحثين، و قد نوّهت بأسمائهم في الجزء الأَوّل من هذا المعجم و أسميتهما «موسوعة طبقات الفقهاء» و جعلت الأَوّل مقدمة للثاني.

و أرجو من الاخوة الباحثين أن يتحفونا بآرائهم القيّمة حول هذه الموسوعة، و ينبهونا علي ما فيها من الأَخطاء، فإنّ العصمة للّه سبحانه و لمن عصمهم.

و في الختام أتقدم بالشكر الجزيل إلي الشيخ الفاضل أنور الرصافي (وفقه اللّه لمرضاته) علي مساهمته في سبيل تأليف هذا الكتاب، فشكر اللّه مساعي الجميع، و جعل ما بذلناه من الجهود ذخراً يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون.

جعفر السبحاني قم مؤَسسة الامام الصادق- عليه السّلام- للبحوث و الدراسات الإِسلامية 17 شعبان المعظم من شهور عام 1418 ه

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 9

الفصل الأَوّل مصادر التشريع «1» المعتبرة أو منابع الفقه و الأَحكام

اشارة

مصادر التشريع هي التي يعتمد عليها المجتهد في مقام استنباط الأَحكام الشرعية، لأَنّ الفقه أمر توقيفي تعبّدي، و لا يصحّ الإِفتاء بشي ء إلّا إذا كان مستنداً إلي اللّه سبحانه، غير انّ الفقهاء اختلفوا في مصادر الفقه و الاستنباط.

فالشيعة الإِماميّة اتّفقوا علي أنّ منابع

الفقه عبارة عن الأَدلّة الأَربعة: 1- الكتاب.

2- السنّة.

3- الإِجماع.

4- العقل.

و ما سواها إمّا ليست من مصادر التشريع، أو ترجع إليها.

و قد اتّفق معهم

______________________________

(1) هذا المصطلح هو الدارج بين علماء أهل السنّة، و الأَولي حسب أُصولنا التعبير عنها بمنابع الفقه و الأَحكام، لَانّ التشريع منحصر باللّه سبحانه و هو فعله، و أمّا الكتاب و السنّة فهما أداة للِابلاغ و التبيين.

إلّا أن يكون المصدر بمعني اسمه، فلاحظ

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 10

أهل السنّة في الثلاثة الأُول؛ و أمّا العقل القطعي فلم يُعيروا له أهمية، و لكن أخذوا مكانه بالقياس، و الاستحسان، و المصالح المرسلة، و سدّ الذرائع، و فتحها، من الأَدلّة العقلية الظنيّة.

كما أخذوا بقول الصحابي و إجماع أهل المدينة، و هما من الأَدلّة النقلية علي اختلاف بينهم في اعتبار البعض منها.

و تحقيق الحال يقتضي البحث في مقامين: الأَوّل: ما اتّفق عليه الفريقان من مصادر التشريع أو منابع الفقه و الأَحكام.

الثاني: ما انفرد به أهل السنّة.

و إليك الكلام في المقام الأَوّل

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 11

مصادر التشريع 1

الكتاب

اشارة

إنّ من مراتب التوحيد حصر التشريع باللّه سبحانه و انّه لا مشرّع سواه، و كلّ تشريع دونه بحاجة إلي إذنه، و علي ذلك فالوحي الإِلهي المتجسّد في الكتاب و السنّة هو المصدر الوحيد للتشريع، و إليه ترجع سائر المصادر النقليّة.

يُعدُّ القرآن الحجر الأَساس للتشريع الإِسلامي، و تليه السنّة النبوية التي هي قرينة الكتاب، غير انّ القرآن وحي بلفظه و معناه، و السنّة وحي بمعناها و مضمونها دون لفظها، و هذا هو السبب الذي جعل النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يتحدّي بالقرآن دون السنّة.

إنّ القرآن أجلّ من أن يكون بحاجة إلي تعريف، إذ هو نور

ظاهر بنفسه، مظهر لغيره، فهو كالشمس المضيئة، يُنير ما حوله، و كلّ نور دونه فهو خافت لا يضي ء، و كفاك انّه سبحانه يُشيد بالقرآن بصور مختلفة، يقول تعالي: " إِنَّ هٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ" «1» و يقول عزّ من قائل: " وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ" «2» كما و يصرّح سبحانه بأنّه الفاصل بين الحقّ و الباطل، حيث قال: " تَبٰارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقٰانَ عَليٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعٰالَمِينَ نَذِيراً" «3» إلي غير ذلك ممّا أشار إليه في الذكر الحكيم.

يُعدُّ القرآن الكريم الدعامة الأولي للمسلمين و اللبنة الاساسية في بناء الحضارة الإِسلامية لا سيما الجانب الاخلاقي و الفلسفي و الفقهي و العلمي، بيد أنّ

______________________________

(1) الاسراء: 9.

(2) النحل: 89- 3.

(3) الفرقان: 1.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 12

الذي يهمّنا في الأَمر هو جانبه الفقهي، و الذي زود المسلمين بالتشريع حقبة زمنية طويلة.

ملامح التشريع في القرآن الكريم

1- التدرّج في التشريع

نزل القرآن تدريجيّاً قرابة ثلاث و عشرين سنة لأَسباب و دواع مختلفة اقتضت ذلك، و أشار إليها الذكر الحكيم في غير واحدة من الآيات: قال سبحانه: " وَ قُرْآناً فَرَقْنٰاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَي النّٰاسِ عَليٰ مُكْثٍ وَ نَزَّلْنٰاهُ تَنْزِيلًا" «1» أي فرقنا نزوله كي تقرأه علي الناس علي مهل و تريث.

كما أشار في آية أُخري إلي داع آخر، و قال سبحانه: " وَ قٰالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لٰا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وٰاحِدَةً كَذٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤٰادَكَ وَ رَتَّلْنٰاهُ تَرْتِيلًا" «2» فتثبيت فؤَاد النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أحد الأَسباب التي دعت إلي نزول القرآن بين الحين و الآخر و في غضون السنين، شاحذاً عزمه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- للمضيّ في طريق الدعوة بلا مبالاة لما

يتّهمونه به.

و الآية تعرب عن أنّ الكتب السماوية الأُخري كالتوراة و الإِنجيل و الزبور نزلت جملة واحدة، فرغب الكفار في أن ينزل القرآن مثلها دفعة واحدة.

و ليست الدواعي للنزول التدريجي منحصرة فيما سبق، بل أنّ هناك أسباباً و دواعي أُخري دعت إلي نزوله نجوماً، و هي مسايرة الكتاب للحوادث التي تستدعي لنفسها حكماً شرعياً، فإنّ المسلمين كانوا يواجهون الاحداث المستجدَّة

______________________________

(1) الاسراء: 106.

(2) الفرقان: 32.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 13

في حياتهم الفردية و الاجتماعية و لم يكن لهم محيص من طرحها علي النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) بغية الظفر بأجوبتها، و قد تكرر في الذكر الحكيم قوله سبحانه: " يَسْئَلُونَكَ*" قرابة خمس عشرة مرّة و تصدي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- للإِجابة عنها، و تختلف تلك المواضيع بين الاستفسار عن حكم شرعي، كحكم القتال في الشهر الحرام، و الخمر، و الميسر، و التصرف في أموال اليتامي، و الأَهلّة، و المحيض، و الأَنفال، و غير ذلك؛ أو الاستفسار عن أُمور كونية كالروح و الجبال و الساعة.

و هناك شي ء آخر ربما يؤَكد لزوم كون التشريع أمراً تدريجياً، و هو أنّ موقف النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- تجاه أُمته كموقف الطبيب من مريضه، فكما أنّ الطبيب يعالج المريض شيئاً فشيئاً حسب استعداده، فكذلك الطبيب الروحي يمارس نشاطه التربوي طبقاً لقابليات الأُمة الكامنة بغية الاستجابة، لئلا تُثبط عزائمُهم و يُطفأ نشاطهم و يُثقل كاهلهم.

و مع ذلك فإن كانت الظروف مهيَّأة لنزول تشريع أكثر تفصيلًا و أوسع تعقيداً وافاهم الوحي به، كما في قوله سبحانه: قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلّٰا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً وَ لٰا

تَقْتُلُوا أَوْلٰادَكُمْ مِنْ إِمْلٰاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ وَ لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ لٰا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ إِلّٰا بِالْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «1».

و قال سبحانه: " وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰي يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ لٰا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلّٰا وُسْعَهٰا وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبيٰ وَ بِعَهْدِ اللّٰهِ أَوْفُوا ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" «2».

حيث تجد أنّ الآيتين تتكفّلان تشريع عشرة أحكام تُعَدُّ من جوامع الكلم،

______________________________

(1) الانعام: 151.

(2) الانعام: 152.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 14

و قد روي أمين الإِسلام الطبرسي، قال: روي علي بن إبراهيم، قال: خرج أسعد بن زرارة و ذكوان إلي مكة في عمرةِ رجب يسألون الحلف علي الأَوس، و كان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه، فقال له: إنّه كان بيننا و بين قومنا حرب و قد جئناكم نطلب الحلف عليهم، فقال عتبة: بعُدت دارنا عن داركم و لنا شغل لا نتفرغ لشي ء، قال: و ما شغلكم و أنتم في حرمكم و أمنكم؟! قال له عتبة: خرج فينا رجل يدّعي انّه رسول اللّه، سفّه أحلامنا، و سبّ آلهتنا، و أفسد شبابنا، و فرّق جماعتنا، فقال له أسعد: من هو منكم؟ قال: ابن عبد اللّه بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفاً، و أعظمنا بيتاً؛ و كان أسعد و ذكوان و جميع الأَوس و الخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم أبناء «النضير» و «قريظة» و «قينقاع» انّ هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجرة بالمدينة لنقتلنَّكم به يا معشر العرب، فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في

قلبه ما كان سمعه من اليهود، قال: فأين هو؟ قال: جالس في الحِجْر، و انّهم لا يخرجون من شِعْبهم إلّا في الموسم، فلا تسمع منه و لا تُكلّمه، فإنّه ساحر يسحرك بكلامه، و كان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب، فقال له أسعد: فكيف أصنع و أنا معتمر لا بدّ لي أن أطوف بالبيت؟ فقال: ضع في أُذنيك القطن، فدخل أسعد المسجد و قد حشا أُذنيه من القطن، فطاف بالبيت و رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة، فجازه.

فلمّا كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل منّي، أ يكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أعرفه؟! حتي أرجع إلي قومي فأخبرهم، ثمّ أخذ القطن من أُذنيه و رمي به، و قال لرسول اللّه: أنعم صباحاً، فرفع رسول اللّه رأسه إليه و قال: «قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السّلام عليكم» فقال له أسعد: إنّ عهدك بهذا لقريب إلي مَ تدعو يا محمد؟ قال: «إلي شهادة أن لا إله إلّا اللّه و انّي

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 15

رسول اللّه، و أدعوكم: " أَلّٰا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً وَ لٰا تَقْتُلُوا أَوْلٰادَكُمْ مِنْ إِمْلٰاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ وَ لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ لٰا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ إِلّٰا بِالْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰي يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ لٰا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلّٰا وُسْعَهٰا وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ

كٰانَ ذٰا قُرْبيٰ وَ بِعَهْدِ اللّٰهِ أَوْفُوا ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" «1».

فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و انّك رسول اللّه.

يا رسول اللّه بأبي أنت و أُمّي أنا من أهل يثرب من الخزرج، و بيننا و بين إخواننا من الأَوس حبال مقطوعة، فإن وصلها اللّه بك فلا أجد أعزّ منك، و معي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأَمر رجوت أن يتمم اللّه لنا أمرنا فيك، و اللّه يا رسول اللّه لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك، و كانوا يبشّروننا بمخرجك، و يخبروننا بصفتك، و أرجو أن تكون دارُنا دارَ هجرتك، و عندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد للّه الذي ساقني إليك، و اللّه ما جئت إلّا لنطلب الحلف علي قومنا، و قد أتانا اللّه بأفضل ممّا أتيت له «2».

و مع ذلك كلّه فالتدرّج هو المخيِّم علي التشريع، خاصة فيما إذا كان الحكم الشرعي مخالفاً للحالة السائدة في المجتمع، كما في شرب الخمر الذي ولع به المجتمع الجاهلي آن ذاك، فمعالجة هذه الرذيلة المتجذّرة في المجتمع رهن طيّ خطوات تهيّئ الأَرضية اللازمة لقبولها في المجتمع.

______________________________

(1) الانعام: 152151.

(2) الطبرسي: إعلام الوري: 5755.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 16

و قد سلك القرآن في سبيل قلع جذور تلك الرذائل مسلك التدرّج.

فتارة جعل السكر مقابلًا للرزق الحسن، و قال: " وَ مِنْ ثَمَرٰاتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنٰابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً" «1».

فاعتبر اتّخاذ الخمر من التمور و الأَعناب في مجتمع كان تعاطي الخمر فيه جزءاً أساسياً من حياته مخالفاً للرزق الحسن، و بذلك أيقظ العقول.

و هذه الآية مهّدت و هيّأت العقول و الطبائع المنحرفة لخطوة أُخري

في سيرها نحو تحريم الخمر، فتلتها الآية الثانية معلنة بأنّ في الخمر و الميسر إثماً و نفعاً، و لكن إثمهما أكبر من نفعهما، قال سبحانه: " يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا" «2».

إنّ هذا البيان و إن كان كافياً إلّا أنّ جماهير الناس لا يقلعون عن عادتهم المتجذّرة ما لم يرد نهي صريح حتي وافتهم الآية الثالثة، قال سبحانه: " يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ حَتّٰي تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ" «3» الآية الكريمة جاءت بالنهي الصريح عن شرب الخمر في وقت محدّد، أي عند إرادة الصلاة بغية الوقوف علي ما يتلون من القرآن و الأَذكار.

فهذه الخطوات الثلاث هيّأت أرضية صالحة للتحريم القاطع الذي بيّنه سبحانه في قوله: " يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" «4».

و أدلّ دليل علي أنّ التشريع القرآني كان يتمتع بالتدرّج، تتابع الأَسئلة علي

______________________________

(1) النحل: 67.

(2) البقرة: 219.

(3) النساء: 43.

(4) المائدة: 90.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 17

النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في فترات مختلفة بغية إجابة الوحي عنها، قال سبحانه: 1-" يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ قُلْ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ" «1».

2-" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرٰامِ قِتٰالٍ فِيهِ قُلْ قِتٰالٌ فِيهِ كَبِيرٌ" «2».

3-" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ" «3».

4-" وَ يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ" «4».

5-" وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتٰاميٰ قُلْ إِصْلٰاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ" «5».

6-" وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذيً" «6».

7-" يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ" «7».

8-"

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُولِ" «8».

و قد جاء في بعض الآيات لفظ الاستفتاء بدل السؤال: قال سبحانه: 9-" وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسٰاءِ قُلِ اللّٰهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ" «9».

10-" يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّٰهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلٰالَةِ" «10».

______________________________

(1) البقرة: 215.

(2) البقرة: 217.

(3) البقرة: 219.

(4) البقرة: 219.

(5) البقرة: 220.

(6) البقرة: 222.

(7) المائدة: 4.

(8) الأَنفال: 1.

(9) النساء: 127.

(10) النساء: 176.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 18

و ممّا يدل أيضاً علي أنّ التشريع القرآني أخذ علي نفسه صورة التدرّج هو انّ الآيات المتضمّنة للأَحكام الشرعية منبثة في سؤر شتي غير مجتمعة في محل واحد، و هذا يوضح انّ التشريع لم يكن علي غرار التشريع في التوراة الذي نزل دفعة واحدة يقول سبحانه: " وَ كَتَبْنٰا لَهُ فِي الْأَلْوٰاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْهٰا بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهٰا سَأُرِيكُمْ دٰارَ الْفٰاسِقِينَ" «1».

و قال: " وَ لَمّٰا سَكَتَ عَنْ مُوسَي الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوٰاحَ وَ فِي نُسْخَتِهٰا هُديً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ" «2».

2- الاقتصار علي الأَحكام الكلية

يتميز التشريع القرآني في مجال العبادات و المعاملات و غيرهما بعرض أُصول كلية يترك تفاصيلها إلي السنّة الشريفة، فتري أنّ لفظة الصلاة قد ذكرت في القرآن قرابة 67 مرّة، و أكثرها حول الصلاة الواردة في الشريعة الإِسلامية، و بالرغم من ذلك نجد انّه لم يذكر شيئاً كثيراً من تفاصيلها إلّا قليلًا، كأوقات الصلاة، و نظيرها الصوم و الزكاة و الخمس، و ما هذا إلّا لأَنّ القرآن هو الدستور العام للمسلمين، و الدعامة الاساسية للتشريع، فطبيعة الحال تقتضي ترك التفاصيل إلي السنّة، و لكن مع اقتصاره علي الأصول، قلّما يتّفق لباب أو كتاب فقهي لم يستمد من آية قرآنية، فكأنّ آيات الاحكام

مع قلّتها لها مادة حيوية تعين الفقيه علي التطرّق إلي كافة الأَبواب الفقهية.

______________________________

(1) الأَعراف: 145.

(2) الأَعراف: 154.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 19

3- النظر إلي المعاني لا الظواهر

إنّ التشريع القرآني ينظر إلي الحقائق لا إلي القشور، فلا تجد في الإِسلام مظهراً خاصاً من مظاهر الحياة يكون له من القداسة ما يمنع من تغييره و يوجب حفظه إلي الأَبد بشكله الخاص، فليس هناك تناقض بين تعاليمه و التقدّم العلمي.

فلو كان التشريع الإِسلامي مصرّاً علي صورة خاصة من متطلبات الحياة لما انسجم مع الحياة، فمثلًا ينهي الإِسلام عن أكل الأَموال بالباطل، و علي هذا فرّع الفقهاء حرمة بيع الدم لعدم وجود منفعة محلّلة له في تلك الأَعصار الغابرة بيد انّ تقدّم العلوم و الحضارة أتاح للبشر أن يستخدم الدم في منافع محلّلة لم يكن لها نظير من قبل، فعادت المعاملة بالدم في هذه الأَعصار معاملة صحيحة لا بأس بها، و ليس هذا من قبيل نسخ الحكم، بل من باب تبدّل الحكم بتبدّل موضوعه كانقلاب الخمر خلًا.

فالإِسلام حرّم أكل المال بالباطل، فمادام بيع الدم مصداقاً لتلك الآية كان محكوماً بالحرمة، فلمّا أُتيح للبشر أن يستفيد منه في علاج المرضي خرج عن كونه مصداقاً للآية، و هذا هو الذي عبّرنا عنه في عنوان البحث بأنّ الإِسلام ينظر إلي المعاني لا إلي القشور.

4- مرونة التشريع

إنّ من ملامح التشريع القرآني مرونته و قابليته للانطباق علي جميع الحضارات الإِنسانية، و ما ذلك إلّا لأَنّه جاء بتشريعات خاصة لها دور التحديد و الرقابة علي سائر تشريعاته، و هذا التشريع أعطي للدين مرونة و منعطفاً جديداً

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 20

قال سبحانه: " وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" «1».

و قال: " مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" «2».

و قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و

سلم-: «لا ضرر و لا ضرار».

فحدّد كلَّ تشريع بعدم استلزامه الضرر و الضرار، فأوجب التيمم مكان الوضوء إذا كان استعمال الماء مضرّاً، كما أوجب الإِفطار علي المريض و المسافر لغاية اليسر، قال سبحانه: " وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَليٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" «3».

إلي غير ذلك من الآيات و الروايات التي لها دور التحديد و الرقابة.

و جاء في الحديث عن الصادع بالحقّ أنّه قال: «بعثت بالحنيفية السمحة» «4».

و قال الامام الصادق- عليه السّلام-: «إنّ هذا الدين لمتين، فأوغلوا فيه برفق، لا تكرّهوا عبادة اللّه لعباد اللّه» «5».

5- شمولية التشريع

أخذ القرآن الإِنسان محوراً لتشريعه، مجرّداً عن النزعات القومية و الوطنية و الطائفية و اللونية و اللسانية، فنظر إلي الموضوع بنظرة شمولية و قال:

______________________________

(1) الحج: 78.

(2) المائدة: 6.

(3) البقرة: 185.

(4) أحمد بن حنبل: المسند: 5- 266.

(5) الكافي: 2- 70 ح 1.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 21

" يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثيٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ إِنَّ اللّٰهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" «1».

التشريع القرآني تشريع من جانب ربِّ العالمين إلي نوع البشر، فالوطن و القوم و القبيلة لم تؤخَذ بنظر الاعتبار، و الكرامة للإِنسان وحده، و لا فضل لإِنسان علي آخر إلّا بالمُثُل و الأَخلاق.

فتري أنّه يخاطب المجتمع الإِنساني بقوله: " يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ*" أو" يٰا بَنِي آدَمَ*" أو" يا أَيُّهَا المؤمنون" و ما ضاهاها، فكسر جميع الحواجز و القيود التي يعتمد عليها المفكّر المادي في التقنين الوضعي، و الذي يقتفي أثر اليهود في مزعمة الشعب المختار.

إنّ النبيّ- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- هو القائل بأنّه

ليست العربية بأب والد، و إنّما هو لسان ناطق، و في الوقت نفسه لا يعني بكلامه هذا انّ العلائق الطبيعية، كالانتماء الوطني أو القومي بغيضة لا قيمة لها، و إنّما يندّد باتّخاذها محاور للتقنين، و سبباً للكرامة و المفخرة، أو سبيلًا لتحقير الآخرين، و إيثارها علي الدين و العقيدة، يقول سبحانه: " لٰا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوٰادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كٰانُوا آبٰاءَهُمْ أَوْ أَبْنٰاءَهُمْ أَوْ إِخْوٰانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمٰانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولٰئِكَ حِزْبُ اللّٰهِ أَلٰا إِنَّ حِزْبَ اللّٰهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" «2».

و العجب انّه قد صدر هذا من لدن إنسان أُمّي نشأ في بيئة تسودها خصلتان علي جانب الضد من هذا النمط من التشريع، و هما:

______________________________

(1) الحجرات: 13.

(2) المجادلة: 22.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 22

الأُمّية و التعصّب.

و هذا الإِنسان المثالي صان بأنظمته كرامة الإِنسان، و رفعه إلي الغاية القصوي من الكمال، و أخذ يخاطب ضميره الدفين، و مشاعره النبيلة، و يكلّفه بما فيه صلاحه، و يقول: " هٰذٰا بَيٰانٌ لِلنّٰاسِ" «1».

" هٰذٰا بَلٰاغٌ لِلنّٰاسِ" «2».

" بَصٰائِرَ لِلنّٰاسِ وَ هُديً وَ رَحْمَةً*" «3».

" يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ قَدْ جٰاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفٰاءٌ لِمٰا فِي الصُّدُورِ" «4».

و إذا قورن هذا النوع من التشريع الذي ينظر إلي الإِنسان بنظرة شمولية و برأفة و رحمة، دون فرق بين عنصر و آخر، بالتقنين الوضعي السائد في أعصارنا في الشرق و الغرب الناظر إلي الإِنسان من منظار القومية أو الطائفية و غيرهما من النزعات المقيتة، لبان انّ التشريع الأَوّل تشريع سماوي

لا صلة له بتلك النزعات، و الآخر تشريع بشري متأثر بنظرات ضيّقة تجود علي إنسان و تبخل علي آخر، و كفي في ذلك فرقاً بين التشريعين.

6- النظر إلي المادة و الروح علي حد سواء

آلف القرآن بتعاليمه القيّمة بينهما مؤَالفة تفي بحقّ كلّ منهما حيث يفسح

______________________________

(1) آل عمران: 138.

(2) إبراهيم: 52.

(3) القصص: 43.

(4) يونس: 57.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 23

للإِنسان أن يأخذ قسطه من كلّ منهما بقدر ما يصلحه.

لقد غالت المسيحية (الغابرة) بالاهتمام بالجانب الروحي للإِنسان حتي كادت أن تجعل كلّ مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبري، فدعت إلي الرهبانية و التعزب، و ترك ملاذّ الحياة، و الانعزال عن المجتمع، و العيش في الاديرة و قلل الجبال و التسامح مع المعتدين.

كما غالت اليهودية في الانكباب علي المادة حتي نسيت كلّ قيمة روحية، و جعلت الحصول علي المادة بأي وسيلة كانت، المقصد الاسني، و دعت إلي القومية الغاشمة.

لكن الإِسلام أخذ ينظر إلي واقع الإِنسان بما هو كائن ذو بعدين، فبالبعد المادي لا يستغني عن المادة، و بالبعد الروحي لا يستغني عن الحياة الروحية، فأولاهما عنايته، فدعا إلي المادة و الالتذاذ بها بشكل لا يؤَثرها علي حياته الروحية، كما دعا إلي الحياة الروحية بشكل لا يصادم فطرته و طبيعته؛ و هكذا فقد قرن بين عبادة اللّه و طلب الرزق و ترفيه النفس، فندب إلي القيام بالليل و إقامة النوافل، و في الوقت نفسه ندب إلي طلب المعاش و توخّي اللّذة، قال سبحانه: " وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِيٰاماً" «1» و قال أيضاً: " قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ" «2».

و قال علي أمير المؤمنين- عليه السّلام-: «للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، و ساعة

يروم فيها معاشه، و ساعة يخلّي بينه و بين لذاتها» «3».

______________________________

(1) الفرقان: 64.

(2) الأَعراف: 32.

(3) نهج البلاغة: باب الحكم، الحكمة 93.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 24

7- العدالة في التشريع

و من ملامح التشريع القرآني، العدالة حيث تراها متجلية في كافة تشريعاته، خاصة فيما يرجع إلي القانون و الحقوق، قال سبحانه: " وَ لٰا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ*" «1».

و قال تعالي: " فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ" «2».

و قال تعالي: " وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا فَمَنْ عَفٰا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَي اللّٰهِ إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الظّٰالِمِينَ" «3».

و قال سبحانه: " وَ لٰا تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْريٰ*" «4».

و قال سبحانه: " وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ" «5».

إلي غير ذلك من الآيات التي تدلّ علي أنّ هيكل التشريع الإِسلامي بُني علي أساس العدل و القسط.

8- الفطرة هي المقياس

أنّ للإِنسان مع قطع النظر عن الظروف الموضوعية المحيطة به شخصية تكوينية ثابتة لا تنفك عنه عبر الزمان، فالغرائز السفْلية و العلويّة هي التي تكوّن شخصيته و لا تنفك عنه ما دام الإِنسان إنساناً، فجعل الفطرة معياراً للتشريع، فكلّ

______________________________

(1) البقرة: 190.

(2) البقرة: 194.

(3) الشوري: 40.

(4) الانعام: 164.

(5) البقرة: 228.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 25

عمل يجاوب و ينساق مع الفطرة فقد أحلّها، و ما هو علي موضع الضدّ منها فقد حرّمها.

فقد ندب إلي الروابط العائلية و تنسيق الروابط الاجتماعية، كرابطة الولد بوالديه، و الأَخ بأخيه، و الإِنسان المؤمن بمثله، كما قد حذّر ممّا ينافي خلقه و إدراكه العقلي، كتحريمه الخمر و الميسر و السفاح، لما فيها من إفساد للعقل الفطري و النسل و الحرث.

فالأَحكام الثابتة في التشريع القرآني تشريع وفق الفطرة.

9- تشريعاته خاضعة للملاك

نعم ثمة ميزة أُخري للتشريع القرآني، و هو أنّه مبني علي المصالح و المفاسد الواقعية.

فلا واجب إلّا لمصلحة في فعله، و لا حرام إلّا لمصلحة في تركه، فلا يشوب التشريع القرآني فوضي، قال سبحانه: " إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ عَنِ الصَّلٰاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" «1».

و قال سبحانه: " وَ أَقِمِ الصَّلٰاةَ إِنَّ الصَّلٰاةَ تَنْهيٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ" «2».

و علي هذا الأَساس فقد عقد فقهاء الشيعة باباً خاصاً باسم تزاحم الاحكام في ملاكاتها حيث يقدّم الأَهم علي المهم، و يتوصل في تمييزهما بالقرائن المفيدة للاطمئنان.

10- سعة آفاق دلالته

إنّ من تمعّن في القرآن الكريم و تدبّر في معانيه و مفاهيمه، يقفُ علي سعة

______________________________

(1) المائدة: 91.

(2) العنكبوت: 45.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 26

آفاق دلالته علي مقاصده، غير انّ ثلّة من الفقهاء مرّوا علي القرآن مروراً عابراً مع أنّه سبحانه يعرّف القرآن بقوله: " وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُديً وَ رَحْمَةً وَ بُشْريٰ لِلْمُسْلِمِينَ" «1».

و علي ضوء ذلك لا غني للفقيه عن دراسة آيات الأَحكام دراسة معمّقة ثاقبة، ليجد فيها الجواب علي أكثر المسائل المطروحة، و لا ينظر إليها نظرة عابرة.

و قد استدل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالقرآن علي كثير من الاحكام التي غفل عنها فقهاء عصرهم، و نذكر هنا نموذجاً علي ذلك: قُدّم إلي المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحد، فأسلم، فقال يحيي بن أكثم: الايمان يمحو ما قبله، و قال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود.

فكتب المتوكل إلي الامام الهادي- عليه السّلام- يسأله، فلمّا قرأ الكتاب، كتب: «يضرب حتي يموت».

فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه

يسأله عن العلّة، فكتب: بسم اللّه الرّحمنِ الرَّحيم: " فَلَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا قٰالُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنٰا بِمٰا كُنّٰا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمٰانُهُمْ لَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا سُنَّتَ اللّٰهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبٰادِهِ وَ خَسِرَ هُنٰالِكَ الْكٰافِرُونَ" «2» فأمر به المتوكل، فضرب حتي مات «3».

تجد انّ الامام الهادي- عليه السّلام- استنبط حكم الموضوع من آية مباركة، لا يذكرها الفقهاء في عداد آيات الاحكام، غير انّ الامام لوقوفه علي سعة دلالة القرآن، استنبط حكم الموضوع من تلك الآية، و كم لها من نظير.

و لو أنّ القارئ الكريم جمع الروايات التي استشهد بها أئمّة أهل البيت علي مقاصدهم استشهاداً

______________________________

(1) النحل: 89.

(2) غافر: 84 85.

(3) ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب: 4054- 403-

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 27

تعليمياً لا تعبدياً لوقف علي سعة آفاق القرآن.

و ها نحن نذكر مثالين علي سعة آفاق دلالته: 1- إنّ الأصوليين تحمّلوا عبئاً ثقيلًا لإِثبات كون الأَمر موضوعاً للوجوب و مجازاً في الندب، فإذا ورد الأَمر في الكتاب احتاجوا في استفادة الوجوب منه إلي نفي المدلول المجازي، بإجراء أصالة الحقيقة.

و لكن هذا النمط جار في المحاورات العرفية، و القرآن في غني عنها في أغلب الموارد أو أجمعها، فإنّ لاستفادة الوجوب أو الندب في الأَوامر الواردة في القرآن طريقاً آخر، و هو الايعاز بالعذاب أو النار كما نجده في كثير من الواجبات مثل الصلاة و الزكاة و الأَمر بالمعروف و النهي عن المنكر، قال سبحانه: " مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ" «1».

قال سبحانه: " وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَي. الَّذِي يُؤْتِي مٰالَهُ يَتَزَكّٰي" «2» بل كل ما أوعد علي فعله أو تركه يستفاد منه الوجوب أو الحرمة.

2- اختلف الفقهاء

في وجوب الكتابة في التداين بدين و الاستشهاد بشاهدين الواردين في قوله سبحانه: " وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ.. وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ" «3».

فمن قائل بالوجوب أخذاً بأصالة الحقيقة، و قائل باستحبابه مستدلًا بالإِجماع، و معتذراً عن الأَصل المذكور بكثرة استعمال صيغة الأَمر في الندب، مع أنّ الرجوع إلي نفس الآية و ما ورد حولها من الحكمة يعطي بوضوح أنّ الأَمرين لا

______________________________

(1) المدثر: 42 43.

(2) الليل: 17- 18.

(3) البقرة: 282.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 28

للوجوب و لا للندب، بل الأَمران إرشاديان لئلّا يقع الاختلاف بين المتداينين فيسد باب النزاع و الجدال.

قال سبحانه: " ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّٰهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهٰادَةِ وَ أَدْنيٰ أَلّٰا تَرْتٰابُوا إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً حٰاضِرَةً تُدِيرُونَهٰا بَيْنَكُمْ" «1».

و يدلّ علي سعة دلالته أيضاً ما رواه المعلّي بن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللّه عزّ و جلّ، و لكن لا تبلغه عقول الرجال» «2».

و قال الإِمام أمير المؤمنين- عليه السّلام-: «ذلك القرآن فاستنطقوه و لن ينطق لكم، أُخبركم عنه انّ فيه علم ما مضي، و علم ما يأتي إلي يوم القيامة، و حكم ما بينكم، و بيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلّمتكم» «3».

و قال الصادق- عليه السّلام-: «كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم، و خبر ما بعدكم، و فصل ما بينكم، و نحن نعلمه» «4».

و السابر في روايات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) يقف علي أنّهم كانوا يستنبطون من الآيات نكاتٍ بديعة و معاني رفيعة عن مستوي الافهام.

و ربّما يتصوّر الساذج انّ هذا النوع من التفسير تفسير بالرأي و فرض علي الآية،

و لكن بعد الامعان في الرواية و الوقوف علي كيفية استدلالهم (عليهم السلام) يذعن بأنّ لها دلالة خفيّة علي ذلك المعني الرفيع الشامخ و قد غفل عنه الآخرون.

مثال ذلك ما رواه العياشي في تفسيره، عن زرقان صاحب ابن أبي داود: أنّ سارقاً أقرّ علي نفسه بالسرقة و سأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه و قد أحضر محمد بن علي (عليهما السلام) فسألنا عن القطع في أيّ

______________________________

(1) البقرة: 282.

(2) الكافي: 611- 60، باب الرد إلي الكتاب و السنّة، الحديث 6 و 7 و 9.

(3) الكافي: 611- 60، باب الرد إلي الكتاب و السنّة، الحديث 6 و 7 و 9.

(4) الكافي: 611- 60، باب الرد إلي الكتاب و السنّة، الحديث 6 و 7 و 9.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 29

موضع يجب أن يقطع، فقال الفقهاء: من الكرسوع، لقول اللّه في التيمم: " فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ*" «1».

فالتفت الخليفة إلي محمد بن علي فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فأجاب: «إنّهم أخطأوا فيه السنّة، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أُصول الأَصابع، و يترك الكف» قال: لِمَ؟ قال: «لقول رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: السجود علي سبعة أعضاء: الوجه، و اليدين، و الركبتين، و الرجلين؛ فإذا قطعت يده من الكرسوع لم يبق له يد يسجد عليها، و قال اللّه تبارك و تعالي: " وَ أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ" يعني به الأَعضاء السبعة التي يسجد عليها: " فَلٰا تَدْعُوا مَعَ اللّٰهِ أَحَداً" و ما كان للّه لم يقطع».

فأعجب المعتصم ذلك، فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأَصابع دون الكف «2».

و روي عن الإِمام أمير المؤمنين- عليه السّلام-

أنّه كان إذا قطع السارق ترك الإِبهام و الراحة، فقيل له: يا أمير المؤمنين تركت عليه يده؟ قال: فقال لهم: «فإن تاب فبأي شي ء يتوضأ؟ لأَنّ اللّه يقول: " وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا" إلي قوله: " فَمَنْ تٰابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللّٰهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" «3» «4».

فهذا النمط من الاستدلال يوقف القاريَ علي سعة دلالة الآيات القرآنية، و انّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم السابقون في هذا المضمار، يستنبطون من القرآن ما

______________________________

(1) النساء: 43.

(2) الوسائل: 18، الباب 4 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 5 و 6.

(3) المائدة: 3938.

(4) الوسائل: 18، الباب 4 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 5 و 6.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 30

لا تصل إليه الافهام.

و أمّا عدد آيات الاحكام فقد ذكر الفاضل المقداد في تفسيره «كنز العرفان» ما هذا نصّه: اشتهر بين القوم أنّ الآيات المبحوث عنها نحو خمسمائة آية، و ذلك إنّما هو بالمتكرر و المتداخل، و إلّا فهي لا تبلغ ذلك، فلا يظن من يقف علي كتابنا هذا و يضبط عدد ما فيه، انّا تركنا شيئاً من الآيات فيسي ء الظن به و لم يعلم انّ المعيار عند ذوي البصائر و الأَبصار، إنّما هو التحقيق و الاعتبار لا الكثرة و الاشتهار «1».

و يظهر من البعض أنّ عدد آيات الاحكام ربما تبلغ 330 آية، قال عبد الوهاب خلاف: ففي العبادات بأنواعها نحو 140 آية.

و في الأَحوال الشخصية من زواج و طلاق و إرث و وصية و حجر و غيرها نحو سبعين آية.

و في المجموعة المدنية من بيع و إجارة و رهن و شركة و تجارة و مداينة و غيرها نحو سبعين آية.

و

في المجموعة الجنائية من عقوبات و تحقيق جنايات نحو ثلاثين آية.

و في القضاء و الشهادة و ما يتعلق بها نحو عشرين آية «2».

و لكن بالنظر إلي ما ذكرنا من سعة آفاق دلالته يتبيّن انّ عددها ربّما يتجاوز

______________________________

(1) جمال الدين المقداد السيوري: كنز العرفان في فقه القرآن: 1- 5.

(2) عبد الوهاب خلاف: خلاصة تاريخ التشريع الإِسلامي: 28 29.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 31

الخمسمائة، إذ ربّ آية لا تمت إلي الأَحكام بصلة، و لكن بالدقة و الإِمعان يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي.

فمثلًا سورة المسد، أعني قوله سبحانه: " تَبَّتْ يَدٰا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ. مٰا أَغْنيٰ عَنْهُ مٰالُهُ وَ مٰا كَسَبَ.." «1» بظاهرها ليست من آيات الاحكام، و لكن للفقيه أن يستند إليها في استنباط بعض الأَحكام الشرعية، و قد حكي عن بعض الفقهاء انّه استنبط من سورة «المسد» قرابة عشرين حكماً فقهياً، كما استنبطوا من قوله سبحانه: " قٰالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَي ابْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ عَليٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمٰانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ.." «2» أحكاماً شرعية.

و هذا بالنسبة إلي ما ذكرناه من سعة آفاق دلالة القرآن ليس بغريب.

المدينة محط التشريع

بعث النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- برسالة كاملة في مجالي العقيدة و الشريعة، فوجه اهتمامه ابتداءً إلي بيان العقائد الصحيحة، و مكافحة ألوان الشرك في بيئة كان يسودها الشرك و الوثنية، فتجد انّ أكثر الآيات النازلة في هذا الصدد تستعرض العقيدة و ردّ ما كان عليه المشركون من عقائد باطلة، و تستعرض أيضاً أحوال أُمم حادوا عن جادة الحق بعبادة الآلهة و عاقبتهم ليكون عبرة للمخاطبين، و كان هذا أحد أسباب قلّة التشريع في تلك البيئة، فإنّ الأَحكام تُقنّن للمؤمنين

بالشريعة

______________________________

(1) المسد: 21.

(2) القصص: 27 28.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 32

المنصاعين لها، و أمّا المشركون فلا معني لمخاطبتهم بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة ما داموا لم يؤمنوا بها بعد.

نعم لمّا هاجر النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- إلي المدينة و التفّ حوله الأَوس و الخزرج و كثير من المهاجرين من مكة و تم إنشاء دولة و مجتمع علي دعامة الدين، اقتضت الحاجة إلي تشريع أحكام في كافة الجوانب لتسيير أُمور تلك الدولة و المجتمع.

و لذلك تجد انّ السور المكية لم تتناول التشريع و الأَحكام بينما تناولت السور المدنية هذا الجانب، و إليك أسماء السور التي نزلت بالمدينة.

ذكر السيوطي بسند خاص عن ابن عباس، بعد ما أنهي ذكر السور المكيّة قال: و أمّا ما أنزل بالمدينة: 1- سورة البقرة، ثمّ الأَنفال، ثمّ آل عمران، ثمَّ الأَحزاب، ثمَّ الممتحنة، ثمَّ النساء، ثمّ (إذا زلزلت)، ثمّ الحديد، ثمّ القتال، ثمَّ الرعد، ثمّ الإِنسان، ثمّ الطلاق، ثمّ (لم يكن)، ثمّ الحشر، ثمّ (إذا جاء نصر اللّه)، ثمّ النور، ثمَّ الحج، ثمّ المنافقون، ثمّ المجادلة، ثمَّ الحجرات، ثمّ التحريم، ثمّ الجمعة، ثمّ التغابن، ثمّ الصف، ثمَّ الفتح، ثمَّ المائدة، ثمَّ براءة «1».

و يمكن دراسة آيات الاحكام من جانبين

: الأَوّل: أن يبحث فيها حسب ترتيب السور كما عليه أكثر الكتب المؤَلّفة عند أهل السنّة، كالجصاص و ابن العربي و غيرهما، و هذا ما لا نستحسنه، لَانّ القرآن حينما يتناول بحث الجهاد لا يتطرق إليه في سورة واحدة، بل يبثّها في عدة سور،

______________________________

(1) الإِتقان: 1- 31.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 33

فالفقيه الذي يريد استنباط أحكام الجهاد من القرآن فلا بدّ له من المراجعة لتلك الآيات في عدة سور.

و هو يأخذ منه وقتاً كثيراً

و لا يصل إلي المقصد إلّا بعد جهد و مشقة.

الثاني: ما هو الدارج عند الشيعة، و هو دراستها حسب المواضيع الفقهية، فمثلًا يبحث عن كل من آيات الطهارة و الصلاة و الصوم و الزكاة و الخمس.. في باب علي حدة، و هذا ما يطلق عليه التفسير الموضوعي في إطار خاص.

قال عبد الوهاب خلاف: و أوّل واجب علي من يستأهل للاجتهاد أن يحصي آيات الاحكام في القرآن، و يجمع آيات كلّ نوع منها بحيث يكون بين يديه كلّ آيات القرآن في الطلاق، و كلّ آياته في الإِرث، و كلّ آياته في البيع، و كلّ آياته في العقوبات، و هكذا، ثمّ يدرس هذه الآيات دراسة عميقة و يقف علي أسباب نزولها، و علي ما ورد في تفسيرها من السنّة، و من آثار للصحابة أو التابعين، و علي ما فسّرها به المفسّرون، و يقف علي ما تدل عليه نصوصها، و ما تدل عليه ظواهرها، و علي المحكم منها، و المنسوخ و ما نسخه «1».

أقول: إنّ ما أوجبه الأُستاذ و هو جعل آيات كلّ باب علي حدة و دراستها قد قام بتحقيقه علماء الشيعة قبل قرون، و إليك بعض مؤَلفاتهم في هذا المجال: 1- أوّل من صنّف في هذا المجال هو محمد بن السائب بن بشر الكلبي.

قال عنه شيخنا الطهراني: هو أبو النضر محمد بن السائب بن بشر الكلبي، من أصحاب أبي جعفر الباقر و أبي عبد اللّه الصادق (عليهما السلام)، و (المتوفّي سنة 146 ه)، و هو والد

______________________________

(1) مصادر التشريع الإِسلامي: 14.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 34

هشام الكلبي النسّابة الشهير و صاحب التفسير الكبير الذي هو أبسط التفاسير كما أذعن به السيوطي في الإتقان.

قال ابن النديم في

«الفهرست» بعد ذكره للكتب المؤَلّفة في أحكام القرآن ما لفظه: كتاب أحكام القرآن للكلبي رواه عن ابن عباس «1».

و قد توالي التأليف بعد الكلبي علي أيدي أئمّة الفقه من الشيعة و ألّفوا كتباً كثيرة في هذا المضمار نشير إلي البعض منها: 2- «فقه القرآن» للشيخ الامام قطب الدين الراوندي (المتوفّي 573 ه) و قد طبع عام 1405 ه.

3- «كنز العرفان» للشيخ جمال الدين أبي عبد اللّه المقداد السيوري المتوفّي (826 ه) من تلامذة الشهيد الأَوّل، طبع في جزءين، عام 1384 ه.

4- «زبدة البيان في أحكام القرآن» للمولي أحمد بن محمد المعروف بالمحقّق الأَردبيلي (المتوفّي 993 ه)، صاحب مجمع الفائدة و البرهان، و قد طبعت غير مرّة.

5- «مسالك الافهام إلي آيات الاحكام» للشيخ الجواد الكاظمي، المتوفّي أواسط القرن الحادي عشر، و قد فرغ من تأليفه عام 1043 ه، طبع في أربعة أجزاء عام 1387 ه.

6- «قلائد الدرر في بيان آيات الأَحكام بالأَثر» تأليف الشيخ أحمد بن الشيخ إسماعيل بن الشيخ عبد النبي الجزائري النجفي (المتوفّي 1151 ه)، طبع عام 1327 ه.

هذه نماذج ممّا ألّفه أصحابنا حول آيات الاحكام، مراعين فيها ترتيب

______________________________

(1) الذريعة: 4- 311.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 35

الكتب الفقهية، جامعين آيات كلّ نوع في باب علي حدة.

و أمّا ما ألّفه أهل السنّة، فهو كالتالي: 1- «أحكام القرآن» لأَبي عبد اللّه محمد بن إدريس الشافعي المتوفّي عام (204 ه) بمصر.

2- «أحكام القرآن» تأليف أبي بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصاص (المتوفّي 370 ه).

طبع سنة 1325 ه، و أُعيد طبعه بالأُوفست عام 1406 ه.

و هو كتاب قيم استفاد منه أكثر من تأخر عنه.

3- «أحكام القرآن» لعماد الدين علي بن محمد الطبري المعروف بالكيا الهرّاسي

(المتوفّي 504 ه) طبع في جزءين، نشرته دار الكتب العلمية، ببيروت عام 1405 ه.

4- «أحكام القرآن» لأَبي بكر محمد بن عبد اللّه المعروف بابن العربي (543468 ه) طبع في دار المعرفة، بيروت عام 1392 ه، و قدّم له علي محمد البجاوي.

5- «تفسير آيات الاحكام» قام بتأليفه الشيخ السائس و قد جمع مادتها من أُمهات كتب التفسير و الحديث و الفقه، و قد أُعيد طبعه في دار ابن كثير و دار القادر.

إنّ الكتب المؤَلّفة حول آيات الأَحكام كثيرة اقتصرنا علي هذا المقدار، و من أراد المزيد فعليه الرجوع إلي المصادر، و قد سرد أسماء كثير منها السائس في مقدمة تفسيره.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 36

صيانة القرآن من التحريف

اشارة

القرآن هو المصدر الرئيسي و المنبع الأَوّل للتشريع و عنه صدر المسلمون منذ نزوله إلي يومنا هذا، و هو القول الفصل في الخلاف و الجدال، إلّا أنّ هنا نكتة جديرة بالاهتمام، هي انّ الاستنباط في الذكر الحكيم فرع عدم طروء التحريف إلي آياته بالزيادة و النقص، و صيانته و إن كانت أمراً مفروغاً منه عند جميع طوائف المسلمين، و لكن لأَجل دحض بعض الشبه التي تثار في هذا الصدد، نتناول موضوع صيانة القرآن بالبحث و الدراسة علي وجه الإِيجاز، فنقول:

التحريف لغة و اصطلاحاً

التحريف لغة تفسير الكلام علي غير وجهه، يقال: حرّف الشي ء عن وجهه: حرّفه و أماله، و به يفسر قوله تعالي: " يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوٰاضِعِهِ*" «1».

قال الطبرسي في تفسير الآية: يفسرونه علي ما أُنزّل، و المراد من المواضع هي المعاني و المقاصد.

و أمّا اصطلاحاً، فيطلق و يراد منه وجوه مختلفة: 1- تحريف مدلول الكلام، أي تفسيره علي وجه يوافق رأي المفسِّر سواء أ وافق الواقع أم لا، و التفسير بهذا المعني واقع في القرآن الكريم، و لا يمسُّ بكرامته أبداً، فإنّ الفرق الإِسلامية جمع اللّه شملهم عامة يصدرون عن القرآن و يستندون إليه، فكلّ صاحب هوي، يتظاهر بالأَخذ بالقرآن لكن بتفسير يُدْعِمُ عقيدته، فهو يأخذ بعنان الآية، و يميل بها إلي جانب هواه، و من أوضح مصاديق

______________________________

(1) النساء: 46.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 37

هذا النوع من التفسير، تفاسير الباطنية حيث وضعوا من عند أنفسهم لكلّ ظاهر، باطناً، نسبته إلي الثاني، كنسبة القشر إلي اللبّ و أنّ باطنه يؤَدّي إلي ترك العمل بظاهره، فقد فسّروا الاحتلام بإفشاء سرّ من أسرارهم، و الغسلَ بتجديد العهد لمن أفشاه من غير قصد، و الزكاة بتزكية النفس، و الصلاةَ

بالرسول الناطق لقوله سبحانه: " إِنَّ الصَّلٰاةَ تَنْهيٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ" «1» «2» 2- النقص و الزيادة في الحركة و الحرف مع حفظ القرآن و صيانته، مثاله قراءة «يطهرن» حيث قُرِئ بالتخفيف و التشديد؛ فلو صحّ تواتر القراءات عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و لن يصحَّ أبداً و انّ النبي هو الذي قرأ القرآن بها، يكون الجميع قرآناً بلا تحريف، و إن قلنا: إنّه نزل برواية واحد، فهي القرآن وحدها و غيرها كلّها تحريف اخترعتها عقول القرّاء و زيّنوا قرآنهم بالحجج التي ذكروها بعد كلّ قراءة، و علي هذا ينحصر القرآن بواحدة منها و غيرها لا صلة له بالقرآن، و الدليل الواضح علي أنّها من اختراعات القرّاء إقامتهم الحجّة علي قراءتهم و لو كان الجميع من صميم القرآن لما احتاجوا إلي إقامة الحجّة، و يكفيهم ذكر سند القراءة إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

و مع ذلك فالقرآن مصون عن هذا النوع من التحريف، لأَنّ القراءة المتواترة، هي القراءة المتداولة في كلّ عصر، أعني: قراءة عاصم برواية حفص، القراءة الموصولة إلي علي- عليه السّلام- و غيرها اجتهادات مبتدعة، لم يكن منها أثر في عصر النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، و لذاك صارت متروكة لا وجود لها إلّا في بطون كتب القراءات، و أحياناً في ألسن بعض القرّاء، لغاية إظهار التبحّر فيها.

روي الكليني عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: «إنّ القرآن واحد، نزل من عند واحد، و لكن الاختلاف يجي ء من قبل الرواة» «3» و لذلك لا نجيز القراءة غير المعروفة

______________________________

(1) العنكبوت: 45.

(2) المواقف: 8- 390.

(3) الكافي: 2- 630، الحديث 12.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص:

38

منها في الصلاة.

3- تبديل كلمة مكان كلمة مرادفة، كوضع «أسرعوا» مكان" امضوا" في قوله سبحانه: " وَ لٰا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ" «1».

و قد نسب ذلك إلي عبد اللّه بن مسعود و كان يقول: ليس الخطأ أن يقرأ مكان «العليم»، «الحكيم».

لكن أُجلّ ذلك الصحابي الجليل عن هذه التهمة، و أي غاية عقلائية يترتب علي ذاك التبديل؟! 4- التحريف في لهجة التعبير، انّ لهجات القبائل كانت تختلف عند النطق بالحرف أو الكلمة من حيث الحركات و الأَداء، كما هو كذلك في سائر اللغات، فإنّ «قاف» العربية، يتلفّظ بها في إيران الإِسلامية العزيزة علي أربعة أوجه، فكيف المفردات من حيث الحركات و الحروف؟! قال سبحانه: " وَ مَنْ أَرٰادَ الْآخِرَةَ وَ سَعيٰ لَهٰا سَعْيَهٰا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ كٰانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً" «2».

فكان بعض القرّاء تبعاً لبعض اللهجات يقرأ" و سعي" بالياء مكان الالف.

و هذا النوع من التحريف لم يتطرّق إلي القرآن، لَانّ المسلمين في عهد الخليفة الثالث لمّا رأوا اختلاف المسلمين في التلفّظ ببعض الكلمات، مثل ما ذكرناه أو تغيير بعضه ببعض مع عدم التغيّر في المعني، مثل امض، عجل، أسرع علي فرض الصحة قاموا بتوحيد المصاحف و غسل غير ما جمعوه، فارتفع بذلك التحريف بالمعني المذكور فاتفقوا علي لهجة قريش.

______________________________

(1) الحجر: 65.

(2) الاسراء: 19.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 39

5- التحريف بالزيادة لكنّه مجمع علي خلافه، نعم نسب إلي ابن مسعود أنّه قال: إنّ المعوذتين ليستا من القرآن، انّهما تعويذان، و انّهما ليستا من القرآن «1».

كما نسب إلي العجاردة من الخوارج انّهم أنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن، و كانوا يرون أنّها قصة عشق لا يجوز أن يكون من الوحي «2».

و لكن

النسبتين غير ثابتتين، و لو صحّ ما ذكره ابن مسعود لبطل تحدّي القرآن بالسورة، حيث أتي الإِنسان غير الموحي إليه بسورتين مثل سور القرآن القصار.

6- التحريف بالنقص و الإِسقاط عن عمد أو نسيان، سواء كان الساقط حرفاً، أو كلمة، أو جملة، أو آية، أو سورة، و هذا هو الذي دعانا إلي استعراض ذلك البحث

فنقول:

إنّ ادّعاء النقص في القرآن الكريم بالوجوه التي مرّ ذكرها أمر يكذبه العقل و النقل
اشارة

، و إليك بيانهما:

1- امتناع تطرّق التحريف إلي القرآن

إنّ القرآن الكريم كان موضع عناية المسلمين من أوّل يوم آمنوا به، فقد كان المرجع الأَوّل لهم، فيهتمون به قراءة و حفظاً، كتابة و ضبطاً، فتطرّق التحريف إلي مثل هذا الكتاب لا يمكن إلّا بقدرة قاهرة حتي تتلاعب بالقرآن بالنقص، و لم يكن للأُمويّين و لا للعباسيين تلك القدرة القاهرة، لَانّ انتشار القرآن بين القرّاء و الحفّاظ، و انتشار نسخه علي صعيد هائل قد جعل هذه الأُمنية الخبيثة في عداد المحالات.

إنّ للسيد الشريف المرتضي بياناً في المقام نأتي بنصِّه، يقول: إنّ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان و الحوادث الكبار، و الوقائع العظام، و الكتب

______________________________

(1) فتح الباري بشرح البخاري: 8- 571.

(2) الملل و النحل للشهرستاني: 1- 128.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 40

المشهورة، و أشعار العرب المسطورة، فإنّ العناية اشتدت و الدواعي توفّرت علي نقله و حراسته، و بلغت إلي حدّ لم يبلغه غيره فيما ذكرناه، لَانّ القرآن معجزة النبوّة، و مأخذ العلوم الشرعية، و الأَحكام الدينية، و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية، حتي عرفُوا كلّ شي ء اختلف فيه من إعرابه و قراءته و حروفه و آياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً و منقوصاً مع العناية الصادقة و الضبط الشديد؟! قال: و العلم بتفسير القرآن و أبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته، و جري ذلك مجري ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه و المُزَني، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما، و معلوم أنّ العناية بنقل القرآن و ضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه و دواوين الشعراء «1».

و هناك نكتة أُخري جديرة بالإِشارة، و هي إنّ تطرّق التحريف إلي

المصحف الشريف يعدُ من أفظع الجرائم التي لا يصحّ السكوت عنها، فكيف سكت الإِمام أمير المؤمنين- عليه السّلام- و خاصّته نظير سلمان و المقداد و أبي ذر و غيرهم مع انّا نري أنّ الامام و ريحانة الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قد اعترضا علي غصب فدك مع أنّه لا يبلغ عُشْرَ ما للقرآن من العظمة و الأَهمية؟! و يرشدك إلي صدق المقال أنّه قد اختلف أُبيّ بن كعب و الخليفة الثالث في قراءة قوله سبحانه: (وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ" «2» فأصرّ أُبيّ أنّه سمع عن النبي (بالواو) و كان نظر الخليفة إلي انّه خال منها، فتشاجرا عند كتابة المصحف الواحد و إرساله إلي العواصم، فهدّده أُبيّ و قال: لا بد و أن تكتب الآية بالواو و إلّا

______________________________

(1) مجمع البيان: 1- 15، قسم الفن الخامس، طبعة صيدا.

(2) التوبة: 34.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 41

لَاضع سيفي علي عاتقي فألحقوها «1».

كما نجد أنّ الامام- عليه السّلام- أمر بردّ قطائع عثمان إلي بيت المال، و قال: «و اللّه لو وجدته قد تُزوِّج به النساء، و مُلِكَ به الإِماء، لرددته، فإنّ في العدل سعة.

و من ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق» «2».

فلو كان هناك تحريف كان ردّ الآيات المزعوم حذفها من القرآن إلي محالِّها أوجب و ألزم.

نري أنّ علياً- عليه السّلام- بعد ما تقلّد الخلافة الظاهرية اعترض علي إقامة صلاة التراويح جماعة كما اعترض علي قراءة البسملة سرّاً في الصلوات الجهرية إلي غير ذلك من البدع المحدثة، فعارضها الامام و شدّد النكير عليها بحماس، فلو صدر أيّام الخلفاء شي ء من هذا القبيل حول القرآن لقام الامام بمواجهته، و ردّ ما حذف بلا واهمة.

و الحاصل:

من قرأ سيرة المسلمين في الصدر الأَوّل يقف علي أنّ نظرية التحريف بصورة النقص كان أمراً ممتنعاً عادة.

2- شهادة القرآن علي عدم تحريفه
: آية الحفظ

إنّ القرآن هو الكتاب النازل من عند اللّه سبحانه، و هو سبحانه تكفّل صيانة القرآن و حفظه عن أيِّ تلاعب، قال سبحانه: "

______________________________

(1) الدر المنثور: 4- 179.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 15، تحقيق صبحي الصالح.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 42

وَ قٰالُوا يٰا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ مٰا تَأْتِينٰا بِالْمَلٰائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّٰادِقِينَ. مٰا نُنَزِّلُ الْمَلٰائِكَةَ إِلّٰا بِالْحَقِّ وَ مٰا كٰانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ. إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ" «1».

إنّ المراد من الذكر في كلا الموردين هو القرآن الكريم بقرينة" نُزِّلَ) و" نَزَّلْنا" و الضمير في" لَهُ" يرجع إلي القرآن، و قد أورد المشركون اعتراضات ثلاثة علي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، أشار إليها القرآن مع نقدها، و هي: 1- أنّ محمّداً- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يتلقّي القرآن من لدن شخص مجهول، و يشير إلي هذا الاعتراض قولهم: " يٰا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ" بصيغة المجهول.

2- انّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- مختل الحواس لا اعتبار بما يتلقاه من القرآن و ينقله، فلا نُؤمن من تصرف مخيّلته و عقليّته في القرآن.

3- لو صحّ قوله: بأنّه ينزل عليه الملك و يأتي بالوحي ف: " لَوْ مٰا تَأْتِينٰا بِالْمَلٰائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّٰادِقِينَ".

فقد أجاب الوحي عن الاعتراضات الثلاثة، و نقدّم الجواب عن الثاني و الثالث بوجه موجز، ثمَّ نعطف النظر إلي الاعتراض الأَوّل لأَهميته.

أمّا الثاني، فقد ردّه بالتصريح بأنّه سبحانه هو المنزِّل دون غيره و قال: " إِنّٰا نَحْنُ".

كما رد الثالث بأنّ نزول الملائكة

موجب لهلاكهم و إبادتهم، و هو يخالف هدف البعثة، حيث قال: " وَ مٰا كٰانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ".

و أمّا الأَوّل، فقد صرّح سبحانه بأنّه الحافظ لذكره من تطرق أيّ خلل

______________________________

(1) الحجر: 6 9.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 43

و تحريف فيه، و هو لا تُغلب إرادته.

و بذلك ظهر عدم تمامية بعض الاحتمالات في تفسير الحفظ حيث قالوا المراد: 1- حفظه من قدح القادحين.

2- حفظه في اللوح المحفوظ.

3- حفظه في صدر النبي و الإِمام بعده.

فإنّ قدح القادحين ليس مطروحاً في الآية حتي تجيب الآية عنه، كما أنّ حفظه في اللوح المحفوظ أو في صدر النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- لا يرتبط باعتراض المشركين، فإنّ اعتراضهم كان مبنيّاً علي اتهام النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بالجنون الذي لا ينفك عن الخلط في إبلاغ الوحي، فالاجابة بأنّه محفوظ في اللوح المحفوظ أو ما أشبهه لا يكون قالعاً للإِشكال، فالحقّ الذي لا ريب فيه انّه سبحانه يخبر عن تعهده بحفظ القرآن و صيانته في عامّة المراحل، فالقول بالنقصان يضاد تعهده سبحانه.

فإن قلت: إنّ مدّعي التحريف يدّعي التحريف في نفس هذه الآية، لأَنّها بعض القرآن، فلا يكون الاستدلال بها صحيحاً، لاستلزامه الدور الواضح.

قلت: إنّ مصبّ التحريف علي فرض طروئه عبارة عن الآيات الراجعة إلي الخلافة و الزعامة لأَئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، أو ما يرجع إلي آيات الأَحكام، كآية الرجم، و آية الرضعات، و أمثالهما؛ و أمّا هذه الآية و نحوها فلم يتطرّق التحريف إليها باتّفاق المسلمين.

آية نفي الباطل

يصف سبحانه كتابه بأنّه المقتدر الذي لا يُغْلَب و لا يأتيه الباطل من أي

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 44

جانب، قال: " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّٰا جٰاءَهُمْ

وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ عَزِيزٌ. لٰا يَأْتِيهِ الْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لٰا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" «1».

و دلالة الآية رهن بيان أُمور: الأَوّل: المراد من الذكر هو القرآن، و يشهد عليه قوله: " وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ عَزِيزٌ) مضافاً إلي إطلاقه علي القرآن في غير واحد من الآيات، قال سبحانه: " يٰا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ" «2».

و قال سبحانه: " وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ" «3».

الثاني: انّ خبر «انّ» محذوف مقدّر و هو: سوف نجزيهم و ما شابهه.

الثالث: الباطل يقابل الحق، فالحق ثابت لا يُغْلب، و الباطل له جولة، لكنّه سوف يُغلب، مثلهما كمثل الماء و الزبد، فالماء يمكث في الأَرض و الزبد يذهب جفاء، قال سبحانه: " كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اللّٰهُ الْحَقَّ وَ الْبٰاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفٰاءً وَ أَمّٰا مٰا يَنْفَعُ النّٰاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اللّٰهُ الْأَمْثٰالَ" «4».

فالقرآن حقّ في مداليله و مفاهيمه، و أحكامه خالدة، و معارفه و أُصوله مطابقة للفطرة، و أخباره الغيبية حق لا زيغ فيه، كما أنّه نزيه عن التناقض بين دساتيره و أخباره" وَ لَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلٰافاً كَثِيراً" «5».

فكما أنّه حقّ من حيث المادة و المعني، حقّ من حيث الصورة و اللفظ أيضاً، فلا يتطرّق إليه التحريف، و نعم ما قاله الطبرسي: لا تناقض في ألفاظه، و لا كذب في

______________________________

(1) فصلت: 41- 42.

(2) الحجر: 6.

(3) الزخرف: 44.

(4) الرعد: 17.

(5) النساء: 82.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 45

أخباره، و لا يعارض، و لا يزداد، و لا ينقص «1».

و يؤَيّده قوله سبحانه: قبل هذه الآيات: " وَ إِمّٰا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطٰانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ إِنَّهُ

هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" «2».

و لعلّه إشارة إلي ما كان يدخله في نفسه من إمكان إبطال شريعته بعد مماته، فأمره بالاستعاذة باللّه السميع العليم.

و الحاصل أنّ تخصيص مفاد الآية (نفي الباطل) بطروء التناقض في أحكامه و تكاذب أخباره لا وجه له، فالقرآن مصون عن أيّ باطل يبطله، أو فاسد يفسده، بل هو غضّ طريّ لا يُبْلي وَ لا يفني.

آية الجمع

رُوي انّه كان إذا نزل القرآن، عجل النبي بقراءته، حرصاً منه علي ضبطه، فوافاه الوحي و نهاه عنه، و قال: " لٰا تُحَرِّكْ بِهِ لِسٰانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنٰا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ. فَإِذٰا قَرَأْنٰاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا بَيٰانَهُ" «3».

فعلي اللّه سبحانه الجمع و الحفظ و البيان.

كما ضمن في آية أُخري علي عدم نسيانه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- القرآن و قال: " سَنُقْرِئُكَ فَلٰا تَنْسيٰ. إِلّٰا مٰا شٰاءَ اللّٰهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ مٰا يَخْفيٰ" «4».

هذا بعض ما يمكن أن يستدل به، علي صيانة القرآن من التحريف بالقرآن، و الاستثناء في الآية الأَخيرة نظير الاستثناء في قوله: " وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ السَّمٰاوٰاتُ وَ الْأَرْضُ إِلّٰا مٰا شٰاءَ رَبُّكَ عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ" «5».

______________________________

(1) مجمع البيان: 9- 15، ط صيدا.

(2) فصّلت: 36.

(3) القيامة: 16- 19.

(4) الأَعلي: 6 7.

(5) هود: 108.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 46

و من المعلوم أنّ أهل السعادة محكومون بالخلود في الجنة و يشهد له ذيل الآية، أعني: قوله: " عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ" أي غير مقطوع، و مع ذلك فليس التقدير علي وجه يخرج الأَمر من يده سبحانه، فهو في كلّ حين قادر علي نقض الخلود.

و أمّا الروايات الدالّة علي كونه مصوناً منه
اشارة

، فنقتصر منها بما يلي:

1- أخبار العرض

قد تضافرت الروايات عن الأَئمّة (عليهم السلام) بعرض الروايات علي القرآن و الأَخذ بموافقة و ردّ مخالفه، و قد جمعها الشيخ الحر العاملي في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي.

روي الكليني عن السكوني، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: «قال رسول اللّه (صلي الله عليه و آله و سلم): إنّ علي كلّ حقّ حقيقة، و علي كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فدعوه» «1».

و روي أيّوب بن راشد، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف» «2».

و في رواية أيوب بن الحر، قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: «كلّ شي ء مردود إلي الكتاب و السنّة، و كلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف» «3».

وجه الدلالة من وجهين: ألف.

انّ المتبادر من أخبار العرض انّ القرآن مقياس سالم لم تنله يد

______________________________

(1) الوسائل: الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10، 12، 15 و غيرها.

(2) الوسائل: الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10، 12، 15 و غيرها.

(3) الوسائل: الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10، 12، 15 و غيرها.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 47

التبديل و التحريف و التصرف، و القول بالتحريف لا يلائم القول بسلامة المقيس عليه.

ب- انّ الامعان في مجموع روايات العرض يثبت انّ الشرط اللازم هو عدم المخالفة، لا وجود الموافقة، و إلّا لزم ردّ أخبار كثيرة لعدم تعرض القرآن إليها بالإِثبات و النفي، و لا تعلم المخالفة و عدمها إلّا إذا كان المقيس (القرآن) بعامة سوره و أجزائه موجوداً عندنا، و إلّا فيمكن أن يكون الخبر مخالفاً لما سقط

و حرّف.

2- حديث الثقلين

انّ حديث الثقلين يأمر بالتمسّك بالقرآن، مثل التمسّك بأقوال العترة، حيث قال- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، و عترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» و يستفاد منه عدم التحريف، و ذلك: ألف.

انّ الأَمر بالتمسّك بالقرآن، فرع وجود القرآن بين المتمسّكين.

ب- انّ القول بسقوط قسم من آياته و سُوَره، يوجب عدم الاطمئنان فيما يستفاد من القرآن الموجود، إذ من المحتمل أن يكون المحذوف قرينة علي المراد من الموجود.

أهل البيت (عليهم السلام) و صيانة القرآن

إنّ الامعان في خطب الإِمام أمير المؤمنين- عليه السّلام- و كلمات أوصيائه المعصومين (عليهم السلام) يعرب عن اعتبارهم القرآن الموجود بين ظهراني المسلمين، هو كتاب اللّه المنزل علي رسوله بلا زيادة و لا نقيصة، و يعرف ذلك من تصريحاتهم تارة، و إشاراتهم أُخري، و نذكر شيئاً قليلًا من ذلك: 1- قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: «أنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شي ء، و عمّر

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 48

فيكم نبيّه أزماناً، حتي أكمل له و لكم فيما أنزل من كتابه دينه الذي رضي لنفسه» «1».

و الخطبة صريحة في إكمال الدين تحت ظل كتابه، فكيف يكون الدين كاملًا و مصدره محرّفاً غير كامل؟! و يوضح ذلك انّ الامام يحثّ علي التمسّك بالدين الكامل بعد رحيله، و هو فرع كمال مصدره و سنده.

2- و قال- عليه السّلام-: «و كتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه، و بيت لا تهدم أركانه، و عزٌّ لا تهزم أعوانه» «2».

3- و قال- عليه السّلام-: «كأنّهم أئمة الكتاب و ليس الكتاب إمامهم» «3».

4- و في رسالة الامام الجواد- عليه السّلام- إلي سعد الخير «4»:» و كان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه، و

حرّفوا حدوده» «5».

و في هذا تصريح ببقاء القرآن بلفظه، و انّ التحريف في تطبيقه علي الحياة حيث لم يطبقوا أحكامه في حياتهم، و من أوضح مظاهرة منع بنت المصطفي (عليها السلام) من إرث والدها مع أنّه سبحانه يقول: " يُوصِيكُمُ اللّٰهُ فِي أَوْلٰادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ" «6».

و قال سبحانه: " وَ وَرِثَ سُلَيْمٰانُ دٰاوُدَ" «7».

______________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة: 86، 133، 147.

(2) نهج البلاغة: الخطبة: 86، 133، 147.

(3) نهج البلاغة: الخطبة: 86، 133، 147.

(4) هو من أولاد عمر بن عبد العزيز، و قد بكي عند أبي جعفر الجواد لاعتقاده انّه من الشجرة الملعونة في القرآن، فقال الامام- عليه السّلام- له: «لست منهم و أنت منّا، أما سمعت قوله تعالي: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)، (لاحظ قاموس الرجال: 5- 35) و منه يعلم وجه تسميته بالخير.

(5) الكافي: 8- 53 ح 16.

(6) النساء: 11.

(7) النمل: 16.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 49

و قال سبحانه عن لسان زكريا: " فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" «1».

و لعلّ فيما ذكرنا كفاية، فلنستعرض كلمات علمائنا.

الشيعة و صيانة القرآن

إنّ التتبع في كلمات علمائنا الكبار الذين كانوا هم القدوة و الأُسوة في جميع الاجيال، يكشف عن أنّهم كانوا يتبرّأون من القول بالتحريف، و ينسبون فكرة التحريف إلي روايات الآحاد، و لا يمكننا نقل كلمات علمائنا عبر القرون، بل نشير إلي كلمات بعضهم: 1- قال الشيخ الأَجل الفضل بن شاذان الأَزدي النيسابوري (المتوفّي 260 ه) في ضمن نقده مذهب أهل السنّة: إنّ عمر بن الخطاب قال: إنّي أخاف أن يقال زاد عمر في القرآن ثبتَ هذه الآية، فانّا كنّا نقرؤها علي عهد رسول اللّه: الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة

بما قضيا من الشهوة نكالًا من اللّه، و اللّه عزيز حكيم «2».

فلو كان التحريف من عقائد الشيعة، لما كان له التحامل علي أهل السنّة بالقول بالتحريف لاشتراكهما في ذلك القول.

2- قال أبو جعفر الصدوق (المتوفّي 381 ه): اعتقادنا أنّه كلام اللّه و وحيه تنزيلًا، و قوله في كتابه: (إِنَّهُ لَكِتٰابٌ عَزِيزٌ. لٰا يَأْتِيهِ الْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لٰا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" و انّه القصص الحق، و انّه لحقّ فصل، و ما هو

______________________________

(1) مريم: 5 6.

(2) الإِيضاح: 217- روي البخاري آية الرجم في صحيحه: 8- 208 باب رجم الحبلي.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 50

بالهزل، و انّ اللّه تبارك و تعالي مُحْدثه و منزله و ربّه و حافظه و المتكلّم به «1».

3- قال الشيخ المفيد (المتوفّي 413 ه): و قد قال جماعة من أهل الإِمامة انّه لم ينقص من كلمة و لا من آية و لا من سورة، و لكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين- عليه السّلام- من تأويل و تفسير معانيه علي حقيقة تنزيله، و ذلك كان ثابتاً منزلًا، و إن لم يكن من جملة كلام اللّه الذي هو القرآن المعجز، و قد يسمّي تأويل القرآن قرآناً، و عندي انّ هذا القول أشبه بالحقّ من مقال من ادّعي نقصان كلم من نفس القرآن علي الحقيقة دون التأويل و إليه أميل «2».

و قال أيضاً في أجوبة «المسائل السروية» في جواب من احتج علي التحريف بالروايات الواردة حيث ورد فيها «كنتم خير أئمّة أُخرجت للناس» مكان" أُمّة"، و ورد كذلك «جعلناكم أئمة وسطاً» مكان" أُمَّةً" و ورد «يسألونك الأَنفال» مكان" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ"، فأجاب: انّ الاخبار التي جاءت بذلك أخبار

آحاد لا يقطع علي اللّه تعالي بصحتها، فلذلك وقفنا فيها، و لم نعدل عمّا في المصحف الظاهر «3».

4- قال الشريف المرتضي (المتوفّي 436 ه): مضافاً إلي من نقلنا عنه في الدليل الأَوّل، انّ جماعة من الصحابة، مثل عبد اللّه بن مسعود و أُبيّ بن كعب و غيرهما ختموا القرآن علي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- عدّة ختمات، و كلّ ذلك يدلّ بأدني تأمّل علي أنّه كان مجموعاً مرتباً غير مستور و لا مبثوث «4».

5- قال الشيخ الطوسي (المتوفّي 460 ه): أمّا الكلام في زيادة القرآن و نقصه

______________________________

(1) اعتقادات الصدوق: 93.

(2) أوائل المقالات: 5453.

(3) مجموعة الرسائل للمفيد: 366.

(4) مجمع البيان: 1- 10، نقلًا عن جواب المسائل الطرابلسية للسيد المرتضي.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 51

فما لا يليق به أيضاً، لأَنّ الزيادة مجمع علي بطلانها، و أمّا النقصان فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، و هو الأَليق بالصحيح من مذهبنا، و هو الذي نصره المرتضي، و هو الظاهر من الرواية، ثمَّ وصف الروايات المخالفة بالآحاد «1».

6- قال أبو علي الطبرسي (المتوفّي 548 ه) الكلام في زيادة القرآن و نقصانه؛ أمّا الزيادة فيه فمجمع علي بطلانها، و أمّا النقصان منه فقد روي جماعة من أصحابنا و قوم من حشوية العامة انّ في القرآن تغييراً أو نقصاناً، و الصحيح من مذهب أصحابنا خلافه «2».

7- قال السيد علي بن طاوس الحلّي (المتوفّي 664 ه): إنّ رأي الإِمامية هو عدم التحريف «3».

8- قال العلّامة الحلّي (المتوفّي 726 ه) في جواب السيد الجليل المهنّا: الحق انّه لا تبديل و لا تأخير و لا تقديم، و انّه لم يزد و لم يُنْقَص، و نعوذ باللّه من أن يعتقد مثل ذلك

و أمثال ذلك، فإنّه يوجب تطرّق الشك إلي معجزة الرسول المنقولة بالتواتر.

9- قال المحقّق الأَردبيلي (المتوفّي 993 ه): يلزم تحصيل العلم بأنّما يقرأه هو القرآن، فينبغي تحصيله من التواتر الموجب للعلم، و عدم جواز الاكتفاء بالسماع حتي من عدل واحد إلي أن قال: و لما ثبت تواتره فهو مأمون من الاختلال.. مع أنّه مضبوط في الكتب حتي أنّه معدود حرفاً حرفاً، و حركة حركة، و كذا طريق الكتابة و غيرها ممّا يفيد الظن الغالب بل العلم بعدم الزيادة علي ذلك و النقص «4».

______________________________

(1) التبيان: 1- 269.

(2) مجمع البيان: 1- 10.

(3) سعد السعود: 144.

(4) مجمع الفائدة و البرهان: 2- 218، في محل النقاط كلمة «لفسقه» فتأمل.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 52

10- و قال القاضي السيد نور اللّه التستري (المتوفّي 1029 ه): ما نسب إلي الشيعة الإِمامية من وقوع التحريف في القرآن ليس ممّا يقول به جمهور الإِمامية، إنّما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد لهم فيما بينهم «1».

و لو استقصينا كلمات علمائنا في هذا المجال لطال بنا الموقف.

إلي هنا ظهر الحقّ بأجلي مظاهرة فلم يبق إلّا دراسة شبهات الأَخباريّين و دحضها.

شبهات مثارة حول صيانة القرآن
اشارة

اعتمد بعض الأَخباريين في قولهم بالتحريف بوجوه لا يصلح تسميتها بشي ء سوي كونها شُبهاً، و إليك بعض شبهاتهم.

الشبهة الأُولي: وجود مصحف لعلي- عليه السّلام
اشارة

- روي ابن النديم في «فهرسته» عن علي- عليه السّلام- انّه رأي من الناس طيرة عند وفاة النبي، فأقسم أن لا يضع عن ظهره رداءه حتي يجمع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيام حتي جمع القرآن «2».

روي اليعقوبي (المتوفّي 290 ه) في «تاريخه»: روي بعضهم أنّ علي بن أبي طالب- عليه السّلام- كان جمعه القرآن لمّا قبض رسول اللّه، و أتي و حمله علي جمل، فقال: هذا القرآن جمعته، و كان قد جزّأه سبعة أجزاء، ثمّ ذكر كلّ جزء، و السور الواردة فيه.

يلاحظ عليه: أنّ الامعان فيما ذكره اليعقوبي يظهر انّ مصحف علي- عليه السّلام-

______________________________

(1) آلاء الرحمن: 1- 25.

(2) فهرست ابن النديم، نقله الزنجاني في تاريخ القرآن: 76.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 53

لا يخالف المصحف الموجود في سوره و آياته، و إنّما يختلف في ترتيب السور، و هذا يثبت أنّ ترتيب السور كان باجتهاد الصحابة و الجامعين، بخلاف وضع الآيات و ترتيبها، فإنّه كان بإشارة النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، و ما ذكره ابن النديم يثبت انّ القرآن كان مكتوباً في عصر النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- كلّ سورة علي حدة و كان فاقداً للترتيب الذي رتّبه الامام علي سبعة أجزاء، و كلّ جزء يشتمل علي سور، و قد نقل المحقّق الزنجاني ترتيب سور مصحف الإِمام في ضمن جداول تعرب عن أنّ مصحَف عليّ- عليه السّلام- كان في سبعة أجزاء، و كلّ جزء يحتوي علي سور، فالجزء الأَوّل يسمّي بالبقرة و فيه سور، و الجزء الثاني يسمي جزء آل عمران

و فيه سور، و الثالث جزء النساء و فيه سور، و الرابع جزء المائدة و فيه سور، و الخامس جزء الانعام و فيه سور، و السادس جزء الأَعراف و فيه سور، و السابع جزء الأَنفال و فيه سور، و الظاهر منه انّ التنظيم لم يكن علي نسق تقديم الطوال علي القصار و لا علي حسب النزول، و إليك صورته:

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 54

ترتيب السور في مصحف علي- عليه السّلام

- الجزء الأَوّل الجزء الثاني الجزء الثالث الجزء الرابع البقرة يوسف العنكبوت الروم لقمان حم السجدة الذاريات هل أتي علي الإِنسان الم تنزيل السجدة النازعات إذا الشمس كورت إذا السماء انفطرت إذا السماء انشقت سبح اسم ربّك الأَعلي لم يكن فذلك جزء البقرة آل عمران هود الحج الحجر الأَحزاب الدُّخان الرحمن الحاقة سأل سائل عبس و تولي و الشمس و ضحيها إنا أنزلناه إذا زلزلت ويل لكل همزة أ لم تر كيف لإِيلاف قريش فذلك جزء آل عمران النساء النحل المؤمنون يس حمعسق الواقعة تبارك.. الملك يا أيُّها المدثر أ رأيت تبت قل هو اللّه أحد و العصر القارعة و السماء ذات البروج و التين و الزيتون طس النمل فذلك جزء النساء المائدة يونس مريم طسم الشعراء الزخرف الحجرات ق و القرآن المجيد اقتربت الساعة الممتحنة و السماء و الطارق لا أُقسم بهذا البلد أ لم نشرح لك و العاديات إنّا أعطيناك الكوثر قل يا أيها الكافرون فذلك جزء المائدة

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 55

الجزء الخامس الجزء السادس الجزء السابع الانعام سبحان اقترب الفرقان موسي فرعون حم المؤمن المجادلة الحشر الجمعة المنافقون ن و القلم إنّا أرسلنا نوحاً قل أوحي إليّ المرسلات و الضحي ألهيكم فذلك جزء الانعام الأَعراف

إبراهيم الكهف النور ص الزمر الشريعة الّذين كفروا الحديد المزمل لا أُقسم بيوم القيامة عمّ يتساءلون الغاشية و الفجر و الليل إذا يغشي إذا جاء نصر اللّه.. فذلك جزء الأَعراف الأَنفال براءة طه الملائكة الصافات الأَحقاف الفتح الطور النّجم الصَّف التغابن الطلاق المطففين المعوذتين.. فذلك جزء الأَنفال

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 56

فالامعان في هذه الجداول يثبت بأنّ السور الموجودة فيها، هي نفس السور في المصحف و إنّما الاختلاف في ترتيبها، و قد نقل الشهرستاني حسب ما نقله المحقّق الزنجاني ترتيب السور في مصحف عبد اللّه بن عباس، فترتيب السور فيها يخالف ترتيب المصحف و لكن السور، نفسها.

و ممّا يدل علي أنّ الفرق بين مصحفه- عليه السّلام- و سائر المصاحف كان منحصراً في كيفية ترتيب السور فقط، ما رواه الشيخ المفيد عن أبي جعفر الباقر- عليه السّلام- قال: «إذا قام قائم آل محمد- عليه السّلام- ضرب فساطيط لمن يعلّم الناس القرآن، علي ما أنزل اللّه جلّ جلاله فأصعب ما يكون علي من حفظه اليوم، لَانّه يخالف فيه التأليف» «1».

الشبهة الثانية: تشابه مصير الأُمّتين

روي الفريقان عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أنّه قال: «و الذي نفسي بيده لتركبن سنّة من قبلكم حذو النعل بالنعل، و القُذة بالقذة لا تخطئون طريقهم» «2» و قد حرّفت اليهود و النصاري كتبهم، فيلزم وقوع مثله في الأُمّة الإِسلامية.

يلاحظ عليه: مضافاً إلي أنّه خبر واحد لا يحتج به في العقائد، بأنّ الاستدلال لا يتم إلّا بتعيين وجه التشابه بين الأُمم السالفة و الأُمّة الإِسلامية، فهناك احتمالان: ألف: التشابه بين الأمتين، في جوهر الحوادث و خصوصياتها و لبها و كيفياتها.

______________________________

(1) الإِرشاد للمفيد: 365.

(2) صحيح مسلم: 8- 57، باب اتباع سنن اليهود و

النصاري؛ و صحيح البخاري: 9- 102، كتاب الاعتصام؛ و سنن الترمذي: 5- 26، كتاب الايمان.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 57

ب: التشابه في أُصولها و ذاتياتها، لا في ألوانها و صورها.

أمّا الأَوّل، فهو ممّا لا يمكن القول به، إذ لم تواجه الأُمّة الإِسلامية، ما واجهت اليهود في حياتهم، و ذلك: 1- انّهم عاندوا أنبياءهم فابتلوا بالتيه في وادي سيناء، لمّا أمرهم موسي- عليه السّلام- بدخول الأَرض المقدّسة و اعتذروا بأنّ فيها قوماً جبارين، و انّهم لن يدخلوها حتي يخرجوا منها، فوافاه الخطاب بأنّها" مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلٰا تَأْسَ عَلَي الْقَوْمِ الْفٰاسِقِينَ" «1».

مع أنّ المسلمين لم يبتلوا بالتيه.

2- انّهم عبدوا العجل في غياب موسي- عليه السّلام- اتّخذوه إلهاً قال سبحانه: " ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظٰالِمُونَ*" «2».

و المسلمون بفضل اللّه سبحانه استمروا علي نهج التوحيد و لم يعبدوا وثناً و لا صنماً.

3- عاش بنو إسرائيل في عصر عجَّ بالحوادث، أشار إليها القرآن و لم ير أثر منها في حياة المسلمين، كلّ ذلك يدلّ علي أنّ ليس المراد التشابه في الصور و الخصوصيات.

مثلًا انّ بني إسرائيل ظُلّلوا بالغمام و نُزّل عليهم المن و السلوي، و لم يُر ذلك في المسلمين.

و أمّا الثاني، فهو المراد إذا صحّت هذه الاخبار و لم نقل انّها أخبار آحاد غير مروية في الكتب المعتبرة و لا يُحتج بخبر الواحد في باب العقائد و يشهد التاريخ بابتلاء المسلمين بنفس ما ابتليت به الأُمم السالفة في الجوهر و الذات.

ألف.

فقد دبّ فيهم دبيبُ الاختلاف بعد رحيله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، و تفرّقوا إلي فرق

______________________________

(1) المائدة: 26.

(2) البقرة: 51.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 58

مختلفة كاختلاف

الأُمم السالفة، و لو انّهم افترقوا إلي إحدي و سبعين أو اثنتين و سبعين فرقة، فالمسلمون افترقوا إلي ثلاث و سبعين فرقة.

ب- ظهرت بين الأُمّة الإِسلامية ظاهرة الارتداد، مثلما ارتدّ بعض أصحاب المسيح و دلّ اليهودَ علي مكانه، و هذا هو البخاري يروي في حديث أنّ أصحاب النبي يُمنعون من الحوض، و يقول النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: لماذا يمنعون، مع أنّهم أصحابي، فيجاب أنّهم ليسوا من أصحابك، انّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، انّهم ارتدّوا علي أدبارهم القهقري «1».

ج- انّهم خصّوا العقوبات بالفقراء دون الأَغنياء، فإذا سرق الفقير منهم أجروا عليه الحد، و إذا سرق الغني، امتنعوا منه علي ما رواه مسلم في صحيحه «2» فقد ابتليت الأُمّة بهذه الظاهرة منذ رحيل النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، فقد عُطِّلَت الحدود في خلافة عثمان، كما نطق به التاريخ.

د- انّهم حرّفوا كتبهم، بتفسيرها علي غير وجهه، و يكفي في التشابه هذا المقدار من التحريف، و قد مرّ نصّ الامام الجواد- عليه السّلام- انّه قال: «المسلمون: أقاموا حروفه و حرّفوا حدوده، فهم يروونَه و لا يرعونه» «3» فقد ورد في العهدين أوصاف النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- علي وجه يعرفون بها النبي كما يعرفون أبناءهم قال سبحانه: " الَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ الْكِتٰابَ يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ*" «4» و قال سبحانه: " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ" «5» و مع ذلك كانوا يؤَوّلون البشائر

______________________________

(1) جامع الأصول: 11 121- 119.

(2) صحيح مسلم ج 5، باب قطع السارق ص 114.

(3) الكافي: 8- 53 ح 16.

(4) البقرة: 146.

(5) الأَعراف: 157.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص:

59

و يفسّرونها علي غير واقعها، و من قرأ تاريخ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- مع اليهود المعاصرين له يقف علي أنّهم كيف كانوا يضلّلون الناس بتحريف كتبهم، بتفسيرها علي غير وجهها؟ و لعلّ وجه التشابه ما أوردناه في الوجه الثاني، و معه لا يصحّ لأَحد أن يقول: إنّ التشابه بين الفريقين، هو انّ التحريف قد مس جوهر الكتاب المقدّس، فإنّ ما بأيدي اليهود إنّما كُتب بعد رحيل موسي- عليه السّلام- بخمسة قرون، و مثلها الإِنجيل فإنّه أشبه بكتاب روائيّ يتكفّل ببيان حياة المسيح إلي أن صُلِب و قُبر، و أين هو من الكتاب السماوي؟! نعوذ باللّه من الزلل في الرأي و القول و العمل.

الشبهة الثالثة: عدم الانسجام بين الآيات و الجمل
اشارة

و هذه الشبهة أبدعها الملاحدة حول آيات القرآن الكريم، و اتّخذها القائلون بالتحريف ذريعة لعقيدتهم و قد كتب «سائل الانكليزي» كتاباً في هذا الصدد، و نقله إلي العربية هاشم العربي و كأنّ الاسم اسم مستعار و ردّ عليه المحقّق البلاغي بكتاب أسماه «الهدي إلي دين المصطفي» و لنذكر نماذج:

1- آية الكرسي و تقديم السنة علي النوم

قال سبحانه: (لٰا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لٰا نَوْمٌ" «1» مع أنّ الصحيح أن يقول لا تأخذه نوم و لا سنة، فإنّ الرائج في هذه الموارد هو التدرّج من العالي إلي الداني كما يقال: لا يأخذني عند المطالعة، نوم و لا سنة.

و الجواب: إنّ الأَخذ في الآية بمعني الغلبة و اللازم عندئذٍ هو التدرّج من الداني إلي العالي كما هو واضح، و الآية بصدد تنزيهه سبحانه عن كلّ ما يوجب

______________________________

(1) البقرة: 255.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 60

الغفلة، مثلًا لو فرضنا انّ زيداً أقوي من عمرو و أراد المتكلِّم أن يصف شجاعته الفائقة يقول ما غلبني عمرو و لا زيد فيقدم الضعيف علي القوي، و لو عكس يكون مستهجناً و يكون ذكر الضعيف زائداً.

2- آية الخوف عن إقامة القسط

قال سبحانه: " وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا تُقْسِطُوا فِي الْيَتٰاميٰ فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ مَثْنيٰ وَ ثُلٰاثَ وَ رُبٰاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً" «1».

وجه الاستدلال: انّه لا صلة بين الشرط و الجزاء، فكيف يترتّب الاذن في نكاح النساء" مَثْنيٰ وَ ثُلٰاثَ وَ رُبٰاعَ) علي الخوف من عدم إقامة القسط في اليتامي؟ يلاحظ عليه: أنّ القرآن يعتمد في إفهام مقاصده علي القرائن الحالية بلا إيجاز مخلّ، و قد ذكر أمر اليتامي في نفس السورة في الآيات التالية: 1-" وَ آتُوا الْيَتٰاميٰ أَمْوٰالَهُمْ وَ لٰا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ" «2».

2-" وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا تُقْسِطُوا فِي الْيَتٰاميٰ فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ.." «3».

3-" إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰاميٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً" «4».

______________________________

(1) النساء: 3.

(2) النساء: 2.

(3) النساء: 3.

(4) النساء: 10.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 61

4-" وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسٰاءِ قُلِ اللّٰهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ مٰا يُتْليٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتٰابِ

فِي يَتٰامَي النِّسٰاءِ اللّٰاتِي لٰا تُؤْتُونَهُنَّ مٰا كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدٰانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتٰاميٰ بِالْقِسْطِ" «1».

فقد بيّن سبحانه في الآية الأَخيرة أحكام موضوعات ثلاثة: 1- النساء أي الكبار.

2- يتامي النساء، أي النساء اليتامي و الصغار اللاتي لا يُؤتَون ما كُتب لهن و يرغبون أن ينكحوهن.

3- المستضعفين من الولدان، أي الولدان الصغار.

فقد أفتي في النساء بما جاء في هذه السورة من الاحكام.

و أمّا البنات اليتامي و الولدان الصغار فقد أفتي فيهم بقوله: " وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتٰاميٰ بِالْقِسْطِ".

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يظهر من الآية الرابعة انّ القوم كانوا راغبين في نكاح النساء اليتامي لجمالهن أو أموالهن أو لكليهما، من دون أن يقوموا في حقّهم بالقسط، فأمر سبحانه بإقامة القسط لهم حيث قال: " وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتٰاميٰ بِالْقِسْطِ".

و بذلك تظهر صلة الجزاء بالشرط حيث إنّ «لا» في قوله: " وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا تُقْسِطُوا فِي الْيَتٰاميٰ" للعهد، إشارة إلي يتامي النساء اللّاتي لا يُؤتَونَ ما كتب لهنّ، و يرغبون أن ينكحوهنّ، فحث علي أنّهم إذا خافوا من عدم القيام بوظائفهم عند تزوجهن، فعليهم تزويج غيرهنّ، و اللّه سبحانه إذا أقفل باباً (تزويج النساء اليتامي)، يفتح باباً آخر، و هو تزويج غيرهنّ، فأي صلة أوضح من هذه الصلة؟

______________________________

(1) النساء: 127.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 62

3- آية التطهير و مشكلة السياق

قوله سبحانه: " إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً" «1».

حيث وقعت بين قوله: " وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لٰا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰاهِلِيَّةِ الْأُوليٰ وَ أَقِمْنَ الصَّلٰاةَ وَ آتِينَ الزَّكٰاةَ وَ أَطِعْنَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ.." «2» و قوله: " وَ اذْكُرْنَ مٰا يُتْليٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيٰاتِ اللّٰهِ

وَ الْحِكْمَةِ" «3» فهذا النوع من التعبير آية طروء التحريف علي ترتيب الآيات.

يلاحظ عليه: انّ القول بنزول الآية في آل الكساء لا توجد أي مشكلة في سياقها، شريطة الوقوف علي أُسلوب البلغاء في كلامهم و خطبهم؛ فإنّ من عادتهم الانتقال من خطاب إلي غيره ثمّ العود إليه مرّة أُخري.

قال صاحب المنار: إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالإِنسان من شأن إلي شأن ثمّ يعود إلي مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة «4».

و قد اعترف بعض أهل السنّة بهذه الحقيقة أيضاً عند بحثه في آية الولاية، حيث قال ما هذا نصه: الأَصل عند أهل السنّة انّ الآية تعتبر جزءاً من سياقها إلّا إذا وردت القرينة علي أنّها جملة اعتراضية تتعلّق بموضوع آخر علي سبيل الاستثناء و هو أُسلوب من أساليب البلاغة عند العرب جاءت في القرآن علي مستوي الاعجاز.

______________________________

(1) الأَحزاب: 33 34.

(2) الأَحزاب: 33 34.

(3) الأَحزاب: 33 34.

(4) المنار: 2- 451.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 63

و قال الامام جعفر الصادق- عليه السّلام-: «إنّ الآية من القرآن يكون أوّلها في شي ء و آخرها في شي ء» «1».

فعلي سبيل المثال، انّه سبحانه يقول في سورة يوسف حاكياً عن العزيز انّه بعد ما واجه الواقعة في بيته قال: " إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخٰاطِئِينَ" «2».

تري أنّ العزيز يخاطب زوجته بقوله: " إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ" و قبل أن يفرغ من كلامه معها يخاطب يوسف بقوله: " يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا" ثمّ يرجع إلي الموضوع الأَوّل، و يخاطب زوجته بقوله: " وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ" فقوله: " يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا" جملة معترضة، وقعت بين الخطابين، و المسوِّغ لوقوعها بينهما

كون المخاطب الثاني أحد المتخاصمين و كانت له صلة تامة بالواقعة التي رفعت إلي العزيز.

و الضابطة الكلية لهذا النوع من الخطاب هو وجود التناسب المقتضي للعدول من الأَوّل إلي الثاني ثمّ منه إلي الأَوّل، و هي موجودة في الآية، فإنّه سبحانه يخاطب نساء النبي بالعبارات التالية: 1-" يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضٰاعَفْ لَهَا الْعَذٰابُ ضِعْفَيْنِ" «3».

2-" يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسٰاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ" «4».

3-" وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لٰا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰاهِلِيَّةِ الْأُوليٰ" «5».

______________________________

(1) الكاشف: 6- 217.

(2) يوسف: 28 29.

(3) الأَحزاب: 30 و 32 و 33.

(4) الأَحزاب: 30 و 32 و 33.

(5) الأَحزاب: 30 و 32 و 33.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 64

فعند ذلك صحّ أن ينتقل إلي الكلام عن أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً، و ذلك لوجهين: 1- تعريفهنّ بجماعة بلغوا القمة في الورع و التقي، و في النزاهة عن الرذائل و المساوي، و بذلك استحقوا أن يكونوا أُسوة في الحياة و قدوة في العمل، فيلزم عليهنَّ أن يقتدينَّ بهم، و يستضئنَّ بنورهم.

2- يعد النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- محوراً لطائفتين مجتمعتين حوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

الأولي: أزواجه و نساؤه.

الثانية: ابنته و بعلها و بنوها.

فالنبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- هو الرابط الذي تنتهي إليه هاتان الطائفتان، فإذا نظرنا إلي كلّ طائفة مجرّدة عن الأُخري، فسوف ينقطع السياق.

و لكن لمّا كان المحور هو النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، و اللّه سبحانه يتحدّث عمّن له صلة بالنبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، فعند ذلك تتراءي الطائفتان كمجموعة واحدة، فيعطي

لكلّ منها حكمها، فيتحدّث عن نساء النبيّ- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بقوله: " يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ*"،" يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ"،" يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ" إلخ.

كما أنّه تعالي يتحدّث عن الطائفة الأُخري و هم أهل البيت بقوله: " إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ".

فالباعث للجمع بين الطائفتين في ثنايا آية واحدة، إنّما هو انتساب الجميع إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و حضورهما حوله، و ليس هناك أيّ مخالفة للسياق.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 65

إكمال

أثبتنا بما قدّمنا من الأَدلّة الناصعة أنّ كتاب اللّه العزيز مصون من التحريف لم تمسّ كرامتَه يدُ التغيير، كما ظهر ضعف ما استند إليه القائل به.

بقي الكلام فيما ورد في الصحاح و المسانيد من سقوط آيات من الكتاب و قد تبنّاها عمر بن الخطاب و عائشة، في زعم الأَوّل سقطت آيات أربع، و في زعم الثانية سقطت واحدة و هي آية الرضاع.

و العجب انّ أهل السنّة يتّهمون الشيعة بالقول بالتحريف و يشنّون الغارة عليهم، و هم يروون أحاديثه في أصح صحاحهم و مسانيدهم.

و الحقّ انّ أكابر الفريقين بريئون عن هذه الوصمة، غير انّ لفيفاً من حشوية أهل السنّة، و أخبارية الشيعة يدّعون التحريف و هم يستندون إلي روايات لا قيمة لها في سوق الاعتبار.

و لنذكر ما رواه أهل السنّة في كتبهم.

الآيات غير المكتوبة
اشارة

يري ابن الخطاب انّ آيات أربع سقطت من القرآن و هي: آية الرجم، و آية الفراش، و آية الرغبة، و آية الجهاد، و العجب انّ الصحاح و المسانيد احتفلت بنقلها، مع أنّ نصوصها تشهد علي أنّها ليست من القرآن و إن كانت مضامينها مطابقة للشريعة، و إليك الآيات الأَربع المزعومة:

1- آية الرجم

خطب عمر عند منصرفه من الحج و قال: إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرجم يقول قائل لا نجد حدّين في كتاب اللّه، فقد رجم رسول اللّه و رجمنا، و الذي

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 66

نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب اللّه تعالي لكتبتها: «الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» فإنّا قد قرأناها «1».

و لفظها ينادي بأنّها ليست من القرآن، و المضمون غير خال من الإِشكال، لأَنّ الموضوع للرجم هو المحصن و المحصنة سواء كانا شابين أو شيخين أو مختلفين.

2- آية الفراش

قال عمر بن الخطاب مخاطباً أُبيّ بن كعب: أو ليس كنّا نقرأ «الولد للفراش و للعاهر الحجر» فيما فقدنا من كتاب اللّه؛ فقال أُبيّ: بلي «2».

و اللفظ مع فصاحته أيضاً يأبي أن يكون من القرآن، لكن الخليفة زعم انّه من القرآن.

3- آية الرغبة

روي البخاري أنّ عمر قال: «إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه «أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» أو أن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم» «3».

4- آية الجهاد

روي السيوطي أنّ عمر قال لابن عوف: أ لم تجد فيما أُنزل علينا و إن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرة؟ قال: أُسقطت فيما أُسقط من القرآن» «4».

______________________________

(1) البخاري: الصحيح: 2118- 208.

(2) الدر المنثور: 1- 106.

(3) البخاري: الصحيح: 2118- 208، و مسلم: الصحيح: 4- 167 و ج 5- 116.

(4) الدر المنثور: 1- 106.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 67

5- آية الرضعات

روي مالك في الموطأ عن عائشة كانت فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثمّ نسخن ب «خمس معلومات» فتوفي رسول اللّه و هنّ فيما يقرأ من القرآن «1».

إنّ آيتها نظير آيات الخليفة تأبي أن تكون من صميم القرآن، و لو كان لكتب في المصاحف، و لا وجه لِاسقاطها.

روايات التحريف في كتب الحديث

و قد جمعها المحدّث النوري في كتابه «فصل الخطاب في تحريف الكتاب»، و الاستدلال بهذه الروايات موهون من جهات: الأولي: أنّها ليست متواترة، و ليست الكثرة آية التواتر إلّا إذا اشتركت في أحد المداليل الثلاثة من المطابقة، و التضمّن، و الالتزام، و هذه الروايات فاقدة لهذه الجهة، و لا تهدف إلي جهة خاصة، فتارة ناظرة إلي بيان تنزيلها، و أُخري إلي بيان تأويلها، و ثالثة إلي بيان قراءتها، و رابعة إلي تفسيرها، هذا هو الكثير، فحسب البعض انّه جزء من الآية، مثلًا قال سبحانه: " وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً" «2» رواه في «الكافي» أنّه قال: و إن تلووا «الأَمر» أو تعرضوا «عمّا أُمرتم به».

روي علي بن إبراهيم بسند صحيح عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: و قرأت عند

______________________________

(1) تنوير الحوالك: 2- 118، آخر كتاب الرضاع.

(2) النساء: 135.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 68

أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ" «1» فقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: خير أُمّة تقتلون أمير المؤمنين و الحسن و الحسين ابني علي (عليهم السلام)؟! فقال القاريَ: جعلت فداك كيف؟ قال: نزلت «كُنْتُمْ خَيْرَ أئمَّة أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ» أ لا تري مدح اللّه لهم" تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ" «2».

و الاستدلال دلّ علي أنّ المراد ليس

كلّ الأُمّة بل بعضها بشهادة قوله سبحانه: " وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَي الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" «3» و أراد الامام تنبيه القاريَ علي أن لا يغتر بإطلاق الآية، بل يتدبّر و يقف علي مصاديقها الواقعية، و انّ خير الأُمّة هم الأَئمّة و هم الأُسوة، و أولياء الدين، و المخلصون من العلماء الأَتقياء، لا كلّ الأُمّة بشهادة أنّ كثيراً منهم ارتكبوا أعمالًا إجرامية مشهودة.

و يقرب من ذلك قوله سبحانه: " وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَي النّٰاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" «4».

فإنّ ظاهر الآية أنّ كلّ الأُمّة: هم الأُمّة الوسطي، و الشعب الأَمثل، مع أنّا نجد بين الأُمّة من لا تقبل شهادته علي باقة بقل في الدنيا، فكيف تقبل شهادته في الآخرة علي سائر الأُمم؟! و هذا يهدينا إلي أن نتأمل في الآية، و نقف علي أنّ الإسناد إلي الكل مجاز بعلاقة كونها راجعة إلي أصفياء الأُمّة و كامليها.

يقول الامام الصادق- عليه السّلام- في هذا الشأن: «فإن ظننت أنّ اللّه عني بهذه الآية، جميع أهل القبلة من الموحّدين، أ فتري أن من لا تجوز شهادته في الدنيا علي صاع من تمر، يطلب اللّه شهادته يوم القيامة و يقبلها منه بحضرة الأُمم الماضية؟! كلا: لم

______________________________

(1) آل عمران: 110.

(2) آل عمران: 110.

(3) آل عمران: 104.

(4) البقرة: 143-

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 69

يعن اللّه مثل هذا من خلقه» «1».

و أنت إذا تدبّرت كتاب «فصل الخطاب» الذي جمع هذه الروايات، تقف علي أنّ الأَكثر فالأَكثر من قبيل التفسير.

مثلًا روي العياشي عن الامام الصادق- عليه السّلام- قال: «نزل جبرئيل علي رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بعرفات يوم

الجمعة فقال له: يا محمد إنّ اللّه يقرؤك السلام، و يقول لك: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بولاية علي بن أبي طالب وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً" «2» «3» فلا شكّ أنّه بيان لسبب إكمال الدين و إتمام النعمة لا أنّه جزء من القرآن.

مع أنّ قسماً كبيراً منها يرجع إلي الاختلاف في القراءة، المنقولة امّا من الأَئمّة بالآحاد لا بالتواتر، فلا حجية فيها أوّلًا و لا مساس لها بالتحريف ثانياً، أو من غيرهم من القرّاء و قد أخذ قراءتهم المختلفة من مجمع البيان و هو أخذها من كتب أهل السنّة في القراءة، و كلّها مراسيل أوّلًا، و الاختلاف في القراءة، غير التحريف ثانياً، لما عرفت من أنّها علي وجه، غير موصولة إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، و علي فرض صحة النسبة، لا صلة لها بالقرآن «4».

و هناك روايات ناظرة إلي تأويلها و بيان مصاديقها الواقعية، و هي أيضاً كثيرة، أو ناظرة إلي بيان شأن نزولها، إلي غير ذلك و بعد إخراج هذه الاقسام، تبقي روايات آحاد لا تفيد العلم و لا العمل.

الثانية: أنّ أكثر هذه الروايات التي يبلغ عددها 1122 حديث منقول من

______________________________

(1) تفسير العياشي: 1- 63 و يؤَيد ذلك أنّه سبحانه قال في حقّ بني إسرائيل: (وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً) (المائدة- 20) مع أنّ بعضهم كانوا ملوكاً لا كلّهم.

(2) المائدة: 3.

(3) المصدر نفسه: 1- 293 برقم 21.

(4) لاحظ ص 37.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 70

كتب ثلاثة: 1- كتاب «القراءات» لأَحمد بن محمد السياري (المتوفّي 286 ه)، الذي اتّفق الرجاليون علي فساد مذهبه.

قال الشيخ: أحمد بن محمد السياري الكاتب كان من كتاب آل طاهر، ضعيف الحديث، فاسد

المذهب، مجفو الرواية، كثير المراسيل «1».

2- كتاب علي بن أحمد الكوفي (المتوفّي 352 ه) الذي نص الرجاليون بأنّه كذّاب مبطل.

قال النجاشي: رجل من أهل الكوفة كان يقول: إنّه من آل أبي طالب، و غلا في آخر أمره و فسد مذهبه و صنّف كتباً كثيرة، أكثرها علي الفساد، ثمَّ يقول: هذا الرجل، تدّعي له الغلاة منازل عظيمة «2».

3- كتاب «تفسير القمي» الذي أوضحنا حاله في محلّه، و قلنا: إنّه ليس للقمي، بل قسم منه من إملاءاته علي تلميذه أبي الفضل العباس بن محمد بن العلوي، و قسم منه مأخوذ من تفسير أبي الجارود، ضمه إليها تلميذه، «3» و هو من المجاهيل، لَانّ العباس بن محمد غير معنون في الكتب الرجالية فهو مجهول، كما أنّ الراوي عنه في أوّل الكتاب يقول: «حدّثني أبو الفضل بن العباس، مجهول أيضاً، و أسوأ حالًا منهما أبو الجارود المعروف ب «زياد المنذر» فهو زيدي بتري وردت الرواية في ذمّه في رجال الكشي، «4» أ فيمكن الاعتماد علي روايات هذا الكتاب؟! و قس علي ذلك، سائر مصادره و منابعه التي لا يعبأ بها و لا يعتمد عليها.

______________________________

(1) فهرست الشيخ: 47 برقم 70؛ رجال النجاشي: 1- 211 برقم 190.

(2) رجال النجاشي: 2- 96 برقم 689.

(3) لاحظ كتاب «كليات في علم الرجال» حول تقييم تفسير القمي.

(4) رجال الكشي: 199.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 71

الثالثة: انّ هذه الروايات معارضة بأكثر منها و أوضح مثل حديث الثقلين و أخبار العرض و ما عن رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إذا التبست عليكم الفتن فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفع، و ماحل مصدق، و من جعله أمامه قاده إلي الجنة، و من جعله خلفه

ساقه إلي النار» «1»، و ما في النهج «2» حول القرآن من كلمات بديعة لا تصدر إلّا من سيد البشر أو وصيه، و عند التعارض يؤخذ بالموافق لكتابة و المطابق للذكر الحكيم، و هي الطائفة الثانية.

______________________________

(1) الكافي: 2- 599.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 81 و 110 و 147.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 72

ختامه مسك
اشارة

لمّا وقع كتاب «فصل الخطاب» ذريعة لكل من يحاول اتّهام الشيعة الإِمامية بالتحريف، و هم منه بُرآء براءة يوسف مما اتُّهم به، طلبت من فضيلة شيخنا الجليل «محمد هادي معرفة» «1» أمدَّ اللّه في حياته الكريمة، أن يوضِّح لنا واقع هذا الكتاب و قيمته في سوق العلم، و المصادر التي اعتمد المؤَلّف عليها، فتفضّل بمقال قيّم ننشره علي صفحات كتابنا مشفوعاً بالشكر و التقدير.

مع المحدّث النوري في كتابه «فصل الخطاب»

هو: الشيخ الحسين بن محمد تقي النوري.

ولد في قرية «نور» من ضواحي بلدة «آمل» في مقاطعة «مازندران»، في 18، شوال سنة 1254- و هاجر إلي العراق سنة 1278 ليواصل دراسته العلمية في حوزة النجف الأَشرف حتي سنة 1284 فرجع إلي إيران، و لم يلبث أن عاد إلي العراق عام 1286 و تشرّف بزيارة بيت اللّه الحرام، و بعد مدّة ارتحل إلي سامراء، حيث كان محطّ رحل زعيم الأُمّة الميرزا محمد حسن الشيرازي، الذي توفي سنة 1312 و بعده بمدة و في سنة 1314 قفل محدثنا النوري من سامراء، ليأخذ من النجف الأَشرف مقره الأَخير، حتي توفاه اللّه سنة 1320 ه ق.

______________________________

(1) و شيخنا العلّامة «معرفة» أحد العلماء المحقّقين في علوم القرآن تشهد بذلك موسوعته «التمهيد في علوم القرآن» و قد خرجت منها سبعة أجزاء، و له كتاب «التفسير و المفسّرون»، نسأله سبحانه أن يمدَّ في حياته الكريمة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 73

كان محدّثنا النوري مولَعاً بجمع الاخبار و تتبّع الآثار، و له في ذلك مواقف مشهودة، و مصنّفاته في هذا الشأن معروفة.

غير أنّ شغفه بذلك، ربّما حاد به عن منهج الإِتقان في النقل و التحديث، ممّا أوجب سلبَ الثقة به أحياناً و في بعض ما يرويه.

و لا سيّما عند أهل

التحقيق و أرباب النظر من فقهائنا الاعلام و العلماء العظام.

يقول عنه الامام الخميني (قدّس سرّه): «و هو أي الشيخ النوري شخص صالح متتبّع، إلّا أن اشتياقه بجمع الضعاف و الغرائب و العجائب، و ما لا يقبله العقل السليم و الرأي المستقيم، أكثر من الكلام النافع..» «1».

و يقول عنه العلّامة البلاغي شيخ العَلَمَين السيد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان، و الامام الخوئي صاحب كتاب البيان: «و إنّ صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المجدّين في التتبّع للشواذّ..» «2».

و تساهله هذا في جمع شوارد الاخبار، قد حطّ من قيمة تتبّعاته الواسعة و اضطلاعه بمعرفة أحاديث آل البيت (عليهم السلام) و التي كان مشغوفاً بها طيلة حياته العلميّة.

و قد غرّته ظواهر بعض النقول غير المعتمدة، المأثورة عن طرق الفريقين، مما حسبها تعني تحريفاً في كتاب اللّه العزيز الحميد.

فكان ذلك مما أثار رغبته في جمعها و ترصيفها، غير مكترث بضعف الأَسانيد، أو نكارة المتون، علي غِرار أهل الحشو في الحديث.

أضف إلي ذلك زعمه: أنّه لا بدّ من تنويه الكتاب بشأن الولاية صريحاً، التي

______________________________

(1) راجع: تعليقته الكريمة علي كفاية الأصول «أنوار الهداية»، ج 1، ص 245.

(2) راجع: مقدمة تفسيره آلاء الرحمن، ص 25.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 74

هي أهم الفرائض متغافلًا عن تصريح الامام الصادق- عليه السّلام- بأنّ ذلك قد تُرك إلي تبيين الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- كما في سائر الفرائض و غيره من أحاديث تنفي وجود أيّ تصريح في كتاب اللّه باسم الأَئمّة (عليهم السلام) «1» لكن محدّثنا النوري لم يُعر سمعه لأَمثال هذه الأَحاديث المضيئة، التي تنزّه ساحة قدس القرآن عن شبهة احتمال التحريف، و ذهب في غياهب أوهامه، راكضاً وراء شوارد الاخبار و

غرائب الآثار، ناشداً عن وثائق تربطه بمزعومته الكاسدة.

و قد وصف الامام البلاغي، مساعي المحدث النوري هذه بأنّه جَهَد في جمع الروايات و كثّر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل و في جملة ما أورده ما لا يتيسّر احتمال صدقه، و منها ما يؤَول إلي التنافي و التعارض، و إنّ قسماً وافراً منها ترجع إلي عدة أنفار، و قد وصف علماء الرجال كلا منهم، إمّا بأنّه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفوّ الرواية، و إمّا بأنّه مضطرب الحديث و المذهب، يعرف حديثه و ينكر و يروي عن الضعفاء، و إمّا بأنّه كذّاب متّهم لا يستحل أن يُروي من تفسيره حديث و أحد، و ربما كان معروفاً بالوقف شديد العداوة للإِمام علي بن موسي الرضا (عليهما السلام)، و إمّا بأنّه كان غالياً كذّاباً، و إمّا بأنّه ضعيف لا يلتفت إليه و لا يعوّل عليه و من الكذابين، و إمّا بأنّه فاسد الرواية يُرمي بالغلوّ.

قال (رحمه الله): و من الواضح أنّ أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئاً «2».

و هكذا تشبّث محدّثنا النوري بكل حشيش، و نسج منواله نسجَ العنكبوت.

______________________________

(1) راجع صحيحة أبي بصير (أصول الكافي: ج 1، ص 286).

(2) مقدّمة تفسيره «آلاء الرحمن»، ج 1، ص 26.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 75

أمّا كتابه الذي جمع فيه هذه الشوارد و الغرائب، و أسماه: «فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربّ الأَرباب»، فقد وضعه علي مقدّمات ثلاث، و اثني عشر فصلًا، و خاتمة.

ذكر في المقدمة الأُولي، ما ورد بشأن جمع القرآن و نظمه و تأليفه، مما يشي بزعمه علي ورود نقصٍ أو تغيير في نصّه الكريم.

و في الثانية: بيّن أنحاء التغيير الممكن حصوله في المصحف الشريف.

و في الثالثة: في سرد أقوال العلماء

في ذلك، إثباتاً أو رفضاً.

أمّا الفصول الاثنا عشر، فقد جعلها دلائل علي وقوع التحريف، بالترتيب التالي: 1- قد وقع التحريف في كتب السالفين، فلا بدّ أن يقع مثله في الإِسلام، حيث تشابه الأَحداث في الغابر و الحاضر.

2- إنّ أساليب جمع القرآن في عهد متأخر عن حياة الرسول، لتستدعي بطبيعة الحال أن يقع تغيير في نصّه الشريف.

3- محاولة علماء السنَّة توجيه روايات التحريف لديهم، بالانساء أو نسخ التلاوة غير سديدة.

4- مغايرة مصحف الإِمام أمير المؤمنين- عليه السّلام- مع المصحف الحاضر.

5- مغايرة مصحف الصحابي عبد اللّه بن مسعود مع المصحف الراهن.

6- مغايرة مصحف الصحابي أُبيّ بن كعب مع المصحف الرائج.

7- تلاعب عثمان بنصوص الآيات عند جمع المصاحف و توحيدها.

8- روايات عامّيّة رواها أهل الحشو من محدثي العامّة، ناصّة علي التحريف.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 76

9- إنّ أسامي أوصياء النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- كانت مذكورة في التوراة علي ما رواه كعب الأَحبار اليهودي فلا بدّ أنّها كانت مذكورة في القرآن، لمسيس الحاجة إلي ذكرها في القرآن، أكثر مما في كتب السالفين.

10- إنّ اختلاف القراءات، خير شاهد علي التلاعب بنصوص الكتاب.

11- روايات خاصّة، تدل دلالة بالعموم علي وقوع التحريف.

12- روايات ناصّة علي مواضع التحريف في الكتاب.

أمّا الخاتمة، فجعلها ردّاً علي دلائل القائلين بصيانة القرآن من التحريف.

أمّا الرّوايات الخاصة، و التي استند إليها لإِثبات التحريف، سواء أ كانت دالّة بالعموم علي وقوع التحريف، أم ناصّة علي مواضع التحريف، فهي تربو علي الالف و مائة حديث، (1122).

منها (61) رواية دالة بالعموم.

و (1061) ناصة بالخصوص، حسبما زعمه.

لكن أكثريّتها الساحقة نقلها من أُصول لا إسناد لها و لا اعتبار، من كتب و رسائل، إمّا مجهولة أو مبتورة أو

هي موضوعة لا أساس لها رأساً.

و المنقول من هذه الكتب تربو علي الثمانمائة حديث (815) و بقي الباقي (307).

و كثرة من هذا العدد، ترجع إلي اختلاف القراءات، مما لا مساس لها بمسألة التحريف، و هي (107) روايات، و البقية الباقية (200) رواية، رواها من كتب معتمدة، و هي صالحة للتأويل إلي وجه مقبول، أو هي غير دالة علي التحريف، و إنّما أقحمها النوري إقحاماً في أدلة التحريف.

و قد عالجنا هذه الروايات بالذات في كتابنا «صيانة القرآن من التحريف» فراجع.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 77

و قد تمّ تأليف «فصل الخطاب» علي يد مؤَلفه النوري سنة 1292، و طبع سنة 1298، و قد وَجَدَ المحدّث النوري منذ نشر كتابه نفسه في وحشة العزلة و في ضوضاء من نفرة العلماء و الطلبة في حوزة سامراء العلمية آن ذاك.

و قد قامت ضدّه نعرات، تتبعها شتائم و سبّات من نبهاء الأُمّة في جميع أرجاء البلاد الشيعيّة، و نهض في وجهه أصحاب الأَقلام من ذوي الحميّة علي الإِسلام، و لا يزال في متناوش أهل الإِيمان، يسلقونه بألسنة حداد، علي ما جاء في وصف العلّامة السيد هبة الدين الشهرستاني، عن موضع هذا الكتاب و مؤَلفه و ناشره، يوم كان طالباً شابّاً في حوزة سامراء.

يقول في رسالة بعثها تقريظاً علي رسالة «البرهان» التي كتبها الميرزا مهدي البروجردي بقم المقدّسة 1373 ه.

يقول فيها: كم أنت شاكر مولاك إذ أولاك بنعمة هذا التأليف المنيف، لعصمة المصحف الشريف عن وصمة التحريف.

تلك العقيدة الصحيحة التي آنستُ بها منذ الصغر أيّام مكوثي في سامرّاء، مسقط رأسي، حيث تمركز العلم و الدين تحت لواء الامام الشيرازي الكبير، فكنت أراها تموج ثائرة علي نزيلها المحدّث النوري، بشأن تأليفه كتاب

«فصل الخطاب» فلا ندخل مجلساً في الحوزة العلمية إلّا و نسمع الضجّة و العجّة ضدّ الكتاب و مؤَلّفه و ناشره، يسلقونه بالسنة حداد.

«1». و هكذا هبّ أرباب القلم يسارعون في الردّ عليه و نقض كتابه بأقسي كلمات و أعنف تعابير لاذعة، لم يدعوا لبثّ آرائه و نشر عقائده مجالًا و لا قيد شعرةٍ.

و ممّن كتب في الردّ عليه من معاصريه، الفقيه المحقّق الشيخ محمود بن

______________________________

(1) البرهان، ص 143- 144.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 78

أبي القاسم الشهير بالمعرّب الطهراني (المتوفّي 1313) في رسالة قيّمة أسماها «كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب» فرغ منها في (17 ج 2 1302) تقرب من أربعة آلاف بيت في 300 صفحة.

و فيها من الاستدلالات المتينة و البراهين القاطعة، ما ألجأ الشيخ النوري إلي التراجع عن رأيه بعض الشي ء، و تأثّر كثيراً بهذا الكتاب.

و أيضاً كتب في الردّ عليه معاصره العلّامة السيد محمد حسين الشهرستاني (المتوفّي 1315) في رسالة أسماها «حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف».

و قد أحسن الكلام في الدلالة علي صيانة القرآن عن التحريف و ردّ شبهات المخالف ببيان وافٍ شافٍ.

و الرسالة في واقعها ردّ علي فصل الخطاب، و لكن في أُسلوب ظريف بعيد عن التعسّف و التحمّس المقيت «1».

و هكذا كتب في الردّ عليه كلّ من كتب في شئون القرآن أو في التفسير، كالحجّة البلاغي (المتوفّي 1352) في مقدّمة تفسيره (آلاء الرحمن) قال تشنيعاً عليه: و إنّ صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المجدّين في التتبّع للشواذّ و إنّه ليعدّ هذا المنقول من «دبستان المذاهب» ضالّته المنشودة، مع اعترافه بأنّه لم يجد لهذا المنقول أثراً في كتب الشيعة «2».

قم، محمد هادي معرفة ليلة عيد الفطر المبارك سنة

1418 ه.

ق، 8- 11- 76 و الحمد للّه.

______________________________

(1) راجع البرهان: ص 142.

(2) آلاء الرحمن: ج 1، ص 25.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 79

مصادر التشريع 2

السنَّة

اشارة

السنّة في اللغة: الطريقة و السيرة، سواء كانت محمودة أو مذمومة.

روي أحمد أنّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «من سنّ في الإِسلام سنّة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها بعده، من غير أن ينتقص من أُجورهم شيئاً، و من سنّ في الإِسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً» «1».

و لكنّها في مصطلح الفقهاء: ما صدر عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- من قول أو فعل أو تقرير.

و السنّة هي الحجّة الثانية بعد الكتاب العزيز، سواء كان منقولًا باللفظ و المعني، أو منقولًا بالمعني إذا كان الناقل ضابطاً في النقل، و قد خص اللّه بها المسلمين دون سائر الأُمم، و اهتم المسلمون بنقل ما أُثِرَ عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- من السنّة و تحرّوا الدقة في نقلها.

و الأَدلّة علي أنّ السنة هي من مصادر التشريع الإِسلامي، كثيرة نشير إلي بعضها: الأَوّل: قوله سبحانه: " وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَويٰ. إِنْ هُوَ إِلّٰا وَحْيٌ يُوحيٰ" «2».

و النطق مطلق، ورد عليه النفي فيفيد العموم و الشمول و انّه لا ينطق عن الهوي مطلقاً في النطق بالقرآن و غيره.

نعم قوله: " إِنْ هُوَ إِلّٰا وَحْيٌ يُوحيٰ" و إنْ كان ناظراً إلي القرآن، لكنّه ليس تعليلًا للجملة المتقدمة حتي نخصه بمورد الوحي، بل هو من قبيل الصغري

______________________________

(1) مسند أحمد: 4- 362- 361.

(2) النجم: 3- 4.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه،

ص: 80

للجملة السابقة عليها، كأنّه يقول: إذا كان النبي لا ينطق عن الهوي، فلازم ذلك أن يكون صادقاً في قوله: إنّ القرآن ليس من كلامه، بل هو من كلامه سبحانه، و انّه أوحي إليه.

و يؤَيّد العموم، أنّ قوله: " مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَويٰ" آب عن الاستثناء و التخصص، فمثلًا لو قيل" وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَويٰ" إلّا في مورد غير القرآن لتعجب المخاطب من هذا الاستثناء.

الثاني: قوله سبحانه: " وَ أَنْزَلَ اللّٰهُ عَلَيْكَ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كٰانَ فَضْلُ اللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً" «1».

و الآية تتضمن مقاطع ثلاثة، و كلّ مقطع يشير إلي بُعد من أبعاد علم الرسول.

فالأَوّل، أعني قوله: " وَ أَنْزَلَ اللّٰهُ عَلَيْكَ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ" يشير إلي العلم الحاصل بنزول الملك علي قلبه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

و الثاني، أعني قوله: " وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ" يشير بقرينة المقابلة، إلي العلم غير المعتمد علي نزول الملك، فالمراد به هو الإِلقاء في القلب و الإِلهام الإِلهي الخفي.

كما أنّ الثالث، أعني قوله: " وَ كٰانَ فَضْلُ اللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً" يشير إلي سعة علمه.

و بما ذكرنا آنفاً تثبت عصمة النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في أقواله و أفعاله، فإنّ علمه مستند إمّا إلي نزول الملك، أو الإِلقاء في القلب من جانبه سبحانه فلا يعرض له الخطأ، و كيف يعرض له، و هو القائل: " وَ كٰانَ فَضْلُ اللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) و من فضله سبحانه تعليمه إيّاه و تأديبه.

و مردُّ سنّة النبي إلي العلم الواسع الذي تفضل به سبحانه عليه، فلا يخطأ الواقع قدر شعرة.

______________________________

(1) النساء: 113.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 81

و قد

أكّد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) علي أنّ السنّة الشريفة هي المصدر الرئيسي بعد الكتاب، و أنّ جميع ما يحتاج الناس إليه قد جاء فيه كتاب أو سنّة.

قال الامام الباقر- عليه السّلام-: «إنّ اللّه تبارك و تعالي لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله، و جعل لكلّ شي ء حداً، و جعل عليه دليلًا يدل عليه، و جعل علي من تعدّي ذلك الحد حداً» «1».

و قال الامام الصادق- عليه السّلام-: «ما مِنْ شي ءٍ إلّا و فيه كتاب أو سنّة» «2».

و روي سماعة عن الإِمام أبي الحسن موسي الكاظم- عليه السّلام-، قال: قلت له: أكل شي ء في كتاب اللّه و سنّة نبيه، أو تقولون فيه؟ قال: «بل كلّ شي ء في كتاب اللّه و سنّة نبيه» «3».

روي أُسامة، قال: كنت عند أبي عبد اللّه- عليه السّلام- و عنده رجل من المغيرية «4» فسأله عن شي ء من السنن فقال: «ما من شي ء يحتاج إليه ولد آدم إلّا و قد خرجت فيه سنّة من اللّه و من رسوله، و لو لا ذلك، ما احتج علينا بما احتج؟» فقال المغيري: و بما احتج؟.

فقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: «قوله: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً" «5» فلو لم يكمل سنّته و فرائضه و ما يحتاج إليه الناس، ما احتجّ به» «6».

روي أبو حمزة، عن أبي جعفر، قال: قال رسول اللّه في خطبته في حجّة الوداع: «أيّها الناس اتّقوا اللّه ما من شي ء يقرّبكم من الجنّة و يباعدكم من النار إلّا و قد نهيتكم عنه و أمرتكم به» «7».

إلي غير ذلك من النصوص المتضافرة عن أئمّة أهل البيت

(عليهم السلام) من التأكيد

______________________________

(1) الكليني: الكافي: 1، الحديث 2، 4، 10، باب الرد إلي الكتاب و السنة.

(2) الكليني: الكافي: 1، الحديث 2، 4، 10، باب الرد إلي الكتاب و السنة.

(3) الكليني: الكافي: 1، الحديث 2، 4، 10، باب الرد إلي الكتاب و السنة.

(4) هم أصحاب المغيرة بن سعيد، الذي تبرّأ منه الامام الصادق- عليه السّلام-.

(5) المائدة: 3.

(6) المجلسي: البحار: 2- 168 ح 3.

(7) البحار: 2- 171 ح 11.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 82

علي السنّة و الركون إليها.

أضف إلي ذلك، انّ موافقة السنّة هي الحد المائز بين الحقّ و الباطل عند تعارض تلك النصوص.

قال الامام الصادق- عليه السّلام-: «كلّ شي ء مردود إلي الكتاب و السنّة، و كلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف» «1».

و قال- عليه السّلام- أيضاً: «من خالف كتاب اللّه و سنّة محمد فقد كفر» «2».

إنّ موقف النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في بيان الاحكام و تبليغ الشريعة غير موقفه في مقام القضاء و إدارة دفّة الحكم، ففي الموقف الأَوّل هو معلم الأُمّة و مرشدها و رسولها يبلغ رسالات اللّه دون أن يكون له أمر أو نهي، خلافاً للمقام الثاني، فهو يتمتع فيه بمقام الإِمرة و علي الأُمّة إطاعة أوامره و نواهيه، و في هذا الصدد يقول سبحانه: " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخٰالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ" «3». و قال سبحانه: " وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَي اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" «4».

و قال عزّ من قائل: " فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰي يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ

وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" «5».

فالآية الأولي تحذّرنا عن مخالفته- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، و تسلب الآية الثانية أيَّ خيار للمؤمنين أمام قضائه، كما أنّ الآية الثالثة تعدّ التسليم أمام النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- ركن الايمان.

______________________________

(1) الكافي: 1- الحديث 3 و 6 باب الأَخذ بالسنّة.

(2) الكافي: 1- الحديث 3 و 6 باب الأَخذ بالسنّة.

(3) النور: 63.

(4) الأَحزاب: 36.

(5) النساء: 65.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 83

و مناصب النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- هي مناصب مهداة من قبل اللّه سبحانه إليه، فإطاعة النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- من شعب إطاعة اللّه سبحانه.

قال سبحانه: " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اللّٰهَ" «1».

فظهر ممّا تقدّم أنّ السنّة هي الحجّة الثانية في مقام التشريع و القضاء، و لا أظن أنّ من له أدني إلمام بالشريعة الإِسلامية أن ينكر حجية السنّة، كيف و القرآن الكريم يعدّ السنّة مبيّنة له؟ قال سبحانه: " وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" «2».

فالغاية من النزول هي تبيين النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- للناس ما نزّل إليهم، و التبيين غير القراءة و إلّا كان المناسب أن يقول: (لتقرأه عليهم)، فهو- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- مأمور بالقراءة و التبيين.

و قد أشار في سورة أُخري لكلتا الوظيفتين و قال: " لٰا تُحَرِّكْ بِهِ لِسٰانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنٰا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ. فَإِذٰا قَرَأْنٰاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا بَيٰانَهُ" «3».

و السنّة هي الكفيلة بتبيين الغاية.

و قد كلّف اللّه سبحانه الناس بعبادات كالصلاة و الصوم و الحج، و أمرهم بأداء ضرائب مالية كالزكاة و الخمس

و الأَنفال، كما أمضي لهم العقود و الإِيقاعات، و شرع لهم القضاء و السياسات.

و من المعلوم أنّ القرآن لم يتكفّل ببيان خصوصياتها و شرائطها و موانعها

______________________________

(1) النساء: 80.

(2) النحل: 44.

(3) القيامة: 1916.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 84

و قواطعها، و السنّة هي المتكفّلة ببيان تلك الأُمور، فلو تُركت السنّة و أهملت علي الإِطلاق أو اقتصرت علي المتواترة، لاندثرت الشريعة و مُحِيت أحكامها، و لم يبق من الشريعة اسم و لا رسم.

مكانة السنّة في التشريع

إنّ السنّة النبوية تارة تكون ناظرة إلي القرآن الكريم تبيّن مجملاته، أو تخصّص عموماته، أو تقيّد مطلقاته؛ و أُخري تكون مبتدِئة بالتقنين غير ناظرة إلي الذكر الحكيم.

و في كليهما تكون الصياغة و التعبير للرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، و لكن المعني و المضمون وحي من اللّه سبحانه، و لذلك تعد عدلًا للقرآن الكريم.

فالصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ أُمور توقيفية لا تعلم إلّا من قبل الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم)، فهو المبيّن لحقائقها و شروطها و موانعها، و قد صلّي مع المسلمين و قال: «صلّوا كما رأيتموني أُصلي» و بذلك رفع الاجمال عن ماهية الصلاة المأمور بها، و مثلها الزكاة و الحجّ.

هذا هو أبو هريرة يروي عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أنّه قال: «إذا قمت إلي الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثمّ استقبل القبلة، ثمّ اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثمّ اركع حتي تطمئن راكعاً، ثمّ ارفع حتي تعتدل قائماً، ثمّ اسجد حتي تطمئن ساجداً، ثمّ ارفع حتي تطمئن جالساً، ثمّ اسجد حتي تطمئن ساجداً، ثمّ افعل ذلك في صلاتك» «1».

و هذه هي الزكاة أمر بها سبحانه، و قد بيّنها الرسول- صلّي اللّه عليه

و آله و سلم- في سنّته، روي معاذ ابن جبل أنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بعثه إلي اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة،

______________________________

(1) ابن حجر: بلوغ المرام: باب صفة الصلاة، الحديث 278.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 85

تبيعاً أو تبيعة؛ و من كلّ أربعين مسنّة، و من كلّ حالم ديناراً، أو عدله معافريا «1».

إلي غير ذلك من الروايات الواردة في تفسير العبادات و المعاملات الواردة في الذكر الحكيم، و أمّا التخصيص و التقييد فحدث عنه و لا حرج، و لنذكر بعض الأَمثلة: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: «ليس بين الرجل و ولده ربا، و ليس بين السيد و عبده ربا» «2».

و قال الإِمام أبو جعفر الباقر- عليه السّلام-: «ليس بين الرجل و ولده و بينه و بين عبده و لا بين أهله ربا» «3».

فإنّ الروايتين المرويتين عن الإِمام أمير المؤمنين علي- عليه السّلام- و الإِمام الباقر (عليه السلام) يخصّصان إطلاق التحريم في آيات الربا.

و هما (عليهما السلام) يحكيان السنّة النبوية.

و أمّا التقييد فقال سبحانه: " السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا" «4» و لكن تقيّد السنّة إطلاقها بأُصول الأَصابع؛ روي الحلبي، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قلت له: من أين يجب القطع؟ فبسط أصابعه، قال: «من هاهنا».

(يعني من مفصل الكف) «5».

و في رواية أُخري، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-، قال: «القطع من وسط الكف، و لا يقطع الإِبهام، و إذا قطعت الرِّجْل تُرِك العقبُ لم يقطع» «6».

و لم تكن سنّة النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- منحصرة بتوضيح و تضييق ما ورد في القرآن الكريم، بل ربما تكون قائمة علي بيان الحكم

الشرعي من غير نظر إلي القرآن، و ما أكثر هذا

______________________________

(1) المصدر نفسه: باب الزكاة، حديث 623- و الحالم: البالغ.

(2) الوسائل: 12، الباب السابع من أبواب الربا، الحديث 1 و 2.

(3) الوسائل: 12، الباب السابع من أبواب الربا، الحديث 1 و 2.

(4) المائدة: 38.

(5) الوسائل: 18، الباب 4 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 1 و 2.

(6) الوسائل: 18، الباب 4 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 1 و 2.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 86

النوع من السنّة، و يكفيك الرجوع إلي كتاب «بلوغ المرام في أدلّة الأَحكام» للحافظ العسقلاني (المتوفّي 852 ه) لأَهل السنّة، و وسائل الشيعة لمحمد بن الحسن الحرّ العاملي (المتوفّي 1104 ه).

تمحيص السنة النبويّة و تدوينها

إذا وقفت علي مكانة السنة النبوية و أهميتها فاعلم أنّ تمتع السنّة بهذه الدرجة من الأَهمية مردّها إلي السنّة الواقعية من قول النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و فعله و تقريره، لا كلّ ما نسب إليه و أثر عنه من دون العلم بصحّة النسبة، فعلي الباحث تمحيص السنّة.

و ربما يقول القائل: إنّ السنّة النبوية وحي إلهي، فما معني تمحيص الوحي، أ وَ يصحّ لبشر خاطئ أن يمحّص الحق المحض؟ و نحن نوافق هذا القائل في أنّ السنّة النبوية الواقعية فوق التمحيص، و فوق إدراك البشر و قضائه، و لكن النقطة الجديرة بالاهتمام هي السنّة المتبلورة المحكية في الصحاح و المسانيد، فإنّها بحاجة إلي التمحيص لفرز صحيحها عن سقيمها، و واقعها عن زائفها، فليس كلّ من يتكلّم عن لسان النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بثقة، و علي فرض وثاقته فليس بمصون عن الخطأ و النسيان.

فتمحيص السنّة ليس لغاية التشكيك فيها، و إنّما يهدف من وراء ذلك إلي

إحقاق الحقّ و إبطال الباطل.

و لا ينبغي الاضفاء علي كتاب، طابَع القداسة و الصحّة غير كتاب اللّه سبحانه، فغيره و إن بلغ ما بلغ من الإِتقان خاضع للتمحيص و الإِمعان و البحث في السند و المتن.

فإذا كانت السنّة من الأَهمية بمكان فالجدير بها هو دراستها و كتابتها

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 87

و تدوينها حتي تنتقل السنّة الصحيحة من الصحابة إلي التابعين، و من ثمّ إلي الاجيال المتأخرة، و تكون كالكتاب العزيز مشعّة لطريق الهدي.

فإذن لا يتصور ما روي عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- من أنّه نهي عن كتابة السنَّة، و إن رواها أصحاب الصحاح في صحاحهم.

روي مسلم في «صحيحه» و أحمد في «مسنده»: انّ رسول اللّه قال: «لا تكتبوا عنّي، و من كتب عنّي غير القرآن فليمحه».

و في رواية: أنّهم استأذنوا النبي أن يكتبوا عنه، فلم يأذنهم.

و في «مسند أحمد» أنّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- نهي أن نكتب شيئاً من حديثه «1».

و أيضاً ورد في «مسند أحمد» عن أبي هريرة أنّه قال: كنّا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي، فخرج علينا فقال: «ما هذا تكتبون؟» فقلنا: ما نسمع منك، فقال: «أ كتاب مع كتاب اللّه؟» فقلنا: ما نسمع.

فقال: «اكتبوا كتاب اللّه، امحضوا كتاب اللّه، أ كتاب غير كتاب اللّه امحضوا أو خلصوه».

قال: فجعلنا ما كتبنا في صعيد واحد، ثمّ أحرقناه بالنار «2».

ثمَّ إنَّ المحدثين لم يكتفوا بما نسبوه إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في مجال كتابة الحديث، بل ذكروا هناك أحاديث موقوفة علي الصحابة و التابعين تنتهي إلي شخصيات بارزة كأبي سعيد الخدري، و أبي موسي الأَشعري، و عبد اللّه بن

مسعود، و عبد اللّه بن عباس، و عبد اللّه بن عمر، و عمر بن عبد العزيز، و عبيدة، و إدريس بن أبي إدريس، و مغيرة بن إبراهيم، إلي غير ذلك من الذين رووا منع الكتابة عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- «3».

و يظهر ممّا رواه البخاري انّ عمر بن الخطاب كان يتبنّي تلك الفكرة حتي

______________________________

(1) مسند أحمد: 5- 182.

(2) مسند أحمد: 3- 12.

(3) جمع الخطيب في «تقييد العلم»: 28- 49، الروايات المنسوبة إلي النبي، و الموقوفة علي الصحابة و التابعين.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 88

في عصر النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- روي ابن عباس، قال: لما اشتدّ بالنبي الوجع قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده».

قال عمر: إنّ النبي غلبه الوجع، و عندنا كتاب اللّه، حسبنا، فاختلفوا و كثر اللغط.

قال- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «قوموا عنّي و لا ينبغي عندي التنازع».

فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللّه و بين كتابه «1».

و لا أظن أحداً يوافق الخليفة فيما ادّعاه، و إنّما هي كلمة صدرت عنه للحيلولة دون كتاب النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، و لم يكن هذا المنع هو الموقف الأَخير من الخليفة، بل له مواقف أُخري أشدّ من ذلك، فقد منع كتابة الحديث و تدوينه بعد رحيل الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بوجه بات، و بذلك جسّد ما قاله أمام النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: حسبنا كتاب اللّه، و صار منعه فيما بعد سنّة رائجة إلي أواسط القرن الثاني.

روي عروة بن الزبير أنّ عمر بن الخطاب أراد أن

يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير اللّه فيها شهراً، ثمّ أصبح يوماً و قد عزم اللّه له، فقال: إنّي كنت أردت أن أكتب السنن و انّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها، و تركوا كتاب اللّه، و انّي و اللّه لا ألبس كتاب اللّه بشي ء أبداً «2».

و روي ابن جرير أنّ الخليفة عمر بن الخطاب كان كلّما أرسل حاكماً أو والياً إلي قطر أو بلد، يوصيه في جملة ما يوصيه: جرّدوا القرآن و أقلّوا الرواية عن محمد

______________________________

(1) البخاري: الصحيح: 1- 39، كتاب العلم، باب كتابة العلم.

(2) تقييد العلم: 49.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 89

و أنا شريككم «1».

و كان عمر قد شيّع قرظة بن كعب الأَنصاري و من معه إلي «صرار» علي ثلاثة أميال من المدينة، و أظهر لهم أنّ مشايعته لهم إنّما كانت لأَجل الوصية بهذا الأَمر، و قال لهم ذلك القول.

قال قرظة بن كعب الأَنصاري: أردنا الكوفة فشيّعنا عمر إلي «صرار» فتوضأ فغسل مرتين و قال: تدرون لم شيّعتكم؟ فقلنا: نعم، نحن أصحاب رسول اللّه ص، فقال: إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل، فلا تصدّوهم بالأَحاديث فتشغلوهم، جرّدوا القرآن، و أقلوا الرواية عن رسول اللّه، و امضوا و أنا شريككم «2».

و قد حفظ التاريخ أنّ الخليفة قال لأَبي ذر، و عبد اللّه بن مسعود، و أبي الدرداء: ما لهذا الحديث الذي تفشون عن محمد؟ «3» و ذكر الخطيب في «تقييد العلم» عن القاسم بن محمد: أنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّ في أيدي الناس كتباً، فاستنكرها و كرهها، و قال: «أيّها الناس

إنّه قد بلغني انّه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلي اللّه، أعدلها و أقومها، فلا يبقين أحد عنده كتاب إلّا أتاني به فأري فيه رأيي.

قال: فظنّوا أنّه يريد ينظر فيها و يقوّمها علي أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم، فأحرقها بالنار، ثمّ قال: أمنية كأمنية أهل الكتاب «4».

و قد صار عمل الخليفتين سنّة، فمشي عثمان مشيهما، و لكن بصورة

______________________________

(1) تاريخ الطبري: 3- 273، طبعة الاعلمي بالأُوفست.

(2) طبقات ابن سعد: 6- 7؛ و المستدرك للحاكم: 1- 102.

(3) كنز العمال: 10- 293 ح 29479.

(4) تقييد العلم: 52.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 90

محدودة، و قال علي المنبر: لا يحل لأَحد يروي حديثاً لم يُسمع به في عهد أبي بكر و لا عهد عمر «1».

كما أنّ معاوية اتبع طريقة الخليفتين أيضاً، فخطب و قال: يا ناس أقلّوا الرواية عن رسول اللّه، و إن كنتم تتحدّثون فتحدّثوا بما كان يتحدّث به في عهد عمر «2».

حتي أنّ عبيد اللّه بن زياد عامل يزيد بن معاوية علي الكوفة، نهي زيد بن أرقم الصحابي عن التحدّث بأحاديث رسول اللّه «3».

و بذلك أصبح ترك كتابة الحديث سنّة رائجة، و عدّت الكتابة شيئاً منكراً مخالفاً لها.

لا أظن أنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- ينهي عن تدوين المصدر الثاني للتشريع، بالرغم من أمره بكتابة ما هو أدون منه شأناً، بل لا يقاس به، ككتابة الدين، قال سبحانه: " وَ لٰا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِليٰ أَجَلِهِ ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّٰهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهٰادَةِ وَ أَدْنيٰ أَلّٰا تَرْتٰابُوا" «4».

أنّ الشريعة الإِسلامية شريعة خاتمة كنبوتها، و هي قائمة علي دعامتين: الكتاب و السنّة، فكيف يعقل أنّ النبي- صلّي اللّه عليه

و آله و سلم- أخذ بزمام أحدهما و ترك الآخر، مع أنّ في تركها تقويضاً لعري الدين.

فإذا كانت هذه عاقبة السنّة النبوية و ما آلت إليه من إجحاف الدهر عليها، أ فيصح قول ابن الأَثير في «جامع الأصول» حين الإِشارة إلي قيمة الحديث بين

______________________________

(1) كنز العمال: 10- 290 ح 29490.

(2) كنز العمال: 10- 291 ح 29473.

(3) فرقة السلفية: 14، نقلًا عن مسند الامام أحمد.

(4) البقرة: 282.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 91

الصحابة و التابعين: فما زال هذا العلم من عهد الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و الإِسلام غضّ طريّ، و الدين محكم الأَساس قوي أشرف العلوم و أجلّها لدي الصحابة رضي اللّه عنهم و التابعين بعدهم و تابعي التابعين، يعظمه و أهله الخلف بعد السلف، لا يشرف بينهم أحد بعد حفظه لكتاب اللّه عزّ و جلّ إلّا بقدر ما يحفظ منه، و لا يعظم في النفوس إلّا بحسب ما يسمع من الحديث عنه، فتوفرت الرغبات فيه، و انقطعت الهمم علي تعلّمه، حتي لقد كان أحدهم يرحل المراحل ذوات العدد، و يقطع الفيافي و المفاوز الخطيرة، و يجوب البلاد شرقاً و غرباً في طلب حديث واحد ليسمعه من راويه.

فمنهم من يكون الباعث له علي الرحلة: طلب ذلك الحديث لذاته.

و منهم من يقرن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوي بعينه، إمّا لثقته في نفسه، و صدقه في نقله، و إمّا لعلو إسناده، فانبعثت العزائم إلي تحصيله «1».

فإذا كان الحكم السائد في عصر الخلافة تقليل الرواية عن محمد- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و كانت مشايعة بعض الصحابة بغية تحقق تلك الغاية.

و إذا كانت مكانة كتابة السنّة و منزلتها إحراقَها أمام الصحابة و

علي رءوس الاشهاد، أ فهل يمكن أن يكون أشرف العلوم بعد حفظ كتاب اللّه كما وصفه ابن الأَثير إلي آخر ما وصفه؟!! نعم يصح ما ذكره في منتصف القرن الثاني بعد ما بلغ السيل الزبي، و اندرس العلم، و أُبيد معظم الصحابة و التابعين، فلم يبق إلّا صبابة كصبابة الإِناء، فعند ذلك وقفوا علي الرزية العظمي التي منوا بها، فعادوا يتداركونه ببذل جهود حثيثة في تقييد شوارد الحديث، يقول ابن الأَثير: لما انتشر الإِسلام، و اتسعت البلاد، و تفرقت الصحابة في الأَقطار، و كثرت الفتوح، و مات معظم الصحابة،

______________________________

(1) جامع الأصول: 1 15- 14.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 92

و تفرّق أصحابهم و أتباعهم، و قل الضبط، احتاج العلماء إلي تدوين الحديث و تقييده بالكتابة، و لعمري إنّها الأَصل، فإنّ الخاطر يغفل، و الذهن يغيب، و الذكر يهمل، و القلم يحفظ و لا ينسي.

فانتهي الأَمر إلي زمن جماعة من الأَئمّة مثل عبد الملك بن جريج الأُموي (80 150 ه) و مالك بن أنس (95 179 ه) و غيرهما ممّن كان في عصرهما فدوّنوا الحديث حتي قيل: إنّ أوّل ما صنّف في الإِسلام كتاب ابن جريج، و قيل: موطإ مالك، و قيل: إنّ أوّل من صنّف و بوّب، الربيع بن صبيح بالبصرة «1».

قال جلال الدين السيوطي: أخرج الهروي في ذم الكلام من طريق يحيي بن سعيد، عن عبد اللّه بن دينار، قال: لم يكن الصحابة و لا التابعون يكتبون الحديث، إنّما كانوا يؤَدّونها لفظاً، و يأخذونها حفظاً، إلّا كتاب الصدقات و الشي ء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتي خيف عليه الدروس، و أسرع في العلماء الموت، فأمر عمر بن عبد العزيز، أبا بكر الحزمي

فيما كتب إليه: ان انظر ما كان من سنّة أو حديث عمر فاكتبه.

و قال ابن حجر: اعلم أنّ آثار النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- لم يكن في عصر الصحابة و كبار تابعيهم مدونة في الجوامع و مرتّبة لأَمرين: أحدهما: انّهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك، كما ثبت في «صحيح مسلم» خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.

و الثاني: سعة حفظهم و سيلان أذهانهم، و لأَنّ أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، ثمَّ حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار و تبويب الاخبار، لما انتشر العلماء في الأَمصار، و كثر الابتداع من الخوارج و الروافض و مفكري الاقدار.

فأوّل من جمع ذلك الربيع بن صبيح، و سعد بن أبي عروبة، و غيرهما،

______________________________

(1) جامع الأصول: 1- 40.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 93

فكانوا يصنفون كلّ باب علي حدة إلي أن قام كبار الطبقة الثالثة في منتصف القرن الثاني، فدوّنوا الاحكام، فصنّف الامام مالك «الموطأ» و توخّي فيه القوي من حديث أهل الحجاز، و مزجه بأقوال الصحابة، و فتاوي التابعين و من بعدهم؛ و صنّف ابن جريج بمكة، و الأَوزاعي بالشام، و سفيان الثوري بالكوفة، و حماد بن سلمة بالبصرة، و هشيم بواسط، و معمر باليمن، و ابن المبارك بخراسان، و جرير بن عبد الحميد بالري، و كان هؤلاء في عصر واحد، فلا يدري أيّهم أسبق.

ثمَّ تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج علي منوالهم إلي أن رأي بعض الأَئمّة أن يفرد حديث النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- خاصة، و ذلك علي رأس المائتين، فصنّفوا المسانيد «1».

و لو أردنا أن نحدّد تاريخ التدوين عند أهل السنة بالضبط، فنقول: إنّ تاريخه يرجع

إلي ما ذكره الذهبي بقوله: و في سنة مائة و ثلاث و أربعين شرع علماء الإِسلام في هذا العصر في تدوين الحديث و الفقه و التفسير، فصنف ابن جريج بمكة، و مالك الموطأ بالمدينة، و الأَوزاعي بالشام، و ابن أبي عروبة و حماد بن سلمة و غيرهما في البصرة، و معمر باليمن، و سفيان الثوري بالكوفة، و صنف ابن إسحاق المغازي، و صنّف أبو حنيفة الفقه و الرأي، إلي أن قال: و قبل هذا العصر كان الأَئمّة يتكلّمون من حفظهم، أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة «2».

إلي هنا اتضح أنّ السنّة النبوية لم تلق من الاهتمام في عصر الخلفاء و الأُمويين و أوائل العصر العباسي حتي خلافة المنصور العباسي، فأمر بتدوين السنّة و تبويبها.

______________________________

(1) جلال الدين السيوطي: تنوير الحوالك: 71- 6.

(2) السيوطي: تاريخ الخلفاء: 316- و سيوافيك ذيله ص 97.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 94

أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) و تدوين الحديث

احتلّت السنة الشريفة عند أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) مقاماً شامخاً، نظراً إلي الدور الذي تمتعت به في تلبية كافة متطلبات الإِنسان الفردية و الاجتماعية و تغنيه بعد الكتاب عن أيّ تشريع.

قال الامام الباقر- عليه السّلام-: كلُّ من تعدّي السنّة ردّ إلي السنَّة «1».

و قال الامام الصادق- عليه السّلام-: ما من شي ء إلّا و فيه كتاب أو سنّة «2».

و قد مضي في هذا الفصل ما يدل علي مكانة السنة و منزلتها لدي أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

غير انّ المهم هو الإِشارة إلي العناية التي أولاها أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لتدوين الحديث.

فأوّل من دون حديث رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- هو الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد دونَ- عليه السّلام- صحيفةً

خاصةً بإملاء رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، أطلق عليها «الجامعة»، و قد سمعها- عليه السّلام- من فلق فمه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

قال الامام الصادق- عليه السّلام- في شأنها: فيها كلّما يحتاج الناس إليه و ليس من قضية إلّا فيها حتي أرش الخدش.

و كان الأَئمّة (عليهم السلام) يصدرون عن هذه الجامعة و يروون أحاديثها.

يقول سليمان بن خالد: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً، إملاء رسول اللّه و خطّ علي بيده، ما من حلال و لا حرام

______________________________

(1) الكافي: 1- 69، باب الأَخذ بالسنة و شواهد الكتاب، الحديث 11.

(2) الكافي: 1- 59، باب الرد إلي الكتاب و السنة، الحديث 4.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 95

إلّا و هو فيها حتي أرش الخدش «1».

و سيوافيك في الجزء الثاني من هذا الكتاب المزيد عن هذا الموضوع، إلّا انّ المهم هنا هو سرد الأَحاديث الواردة عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الحاثة علي تدوين الحديث.

1- روي الكليني، عن ابن أبي عمير، عن حسين الأحمسي عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-، قال: القلب يتّكل علي الكتابة «2».

2- روي الكليني، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: اكتبوا فإنّكم لا تحفظون حتّي تكتبوا «3».

3- روي الكليني، عن ابن بكير، عن عبيد بن زرارة، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): احتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها «4».

4- روي الكليني، عن المفضل بن عمر، قال: قال لي أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: اكتب و بُثّ علمك في إخوانك، فإن متّ فأورث كتبك بنيك،

فإنّه يأتي علي النّاس زمان هرج لا يأنسون فيه إلّا بكتبهم «5».

إلي غير ذلك من الأَحاديث الحاثة علي الكتابة.

و ممّا يؤسف له أنّ كثيراً من الكتّاب المعاصرين من أهل السنّة تصوّروا أنّ السنّة منحصرة في الصحاح و المسانيد.

و لكن هؤلاء بخسوا حق الشيعة و جهودهم في جمع الأَحاديث النبوية التي صدرت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فعندهم من السنّة ما لا يستهان بها، و خلو

______________________________

(1) جمع العلّامة المجلسي ما ورد من الأَثر حول كتاب علي- عليه السّلام- في موسوعته بحار الأَنوار تحت عنوان باب جهات علومهم و ما عندهم من الكتب، لاحظ بحار الأَنوار: 26- 18 ذلك الباب، الحديث 1، 10، 12 و 30.

(2) الكافي: 1- 52، كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب و الحديث، الحديث 8 11.

(3) الكافي: 1- 52، كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب و الحديث، الحديث 8 11.

(4) الكافي: 1- 52، كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب و الحديث، الحديث 8 11.

(5) الكافي: 1- 52، كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب و الحديث، الحديث 8 11.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 96

الصحاح و المسانيد منها لا يدل علي ضعفها لو لم يكن دليلًا علي العكس.

و الذي يؤَيد ذلك انّ شيعة أئمّة أهل البيت ما برحوا يكتبون الحديث بعد رحيل الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، و لم يقيموا لمنع الكتابة وزناً و لا قيمة، و أمّا غيرهم فقد تأخّروا عن تدوين السنّة بأزيد من قرن و بدءوا بالتدوين و الكتابة في عصر المنصور الدوانيقي.

مضاعفات منع التدوين

قد كان لمنع تدوين الحديث آثار سلبية نشير إلي بعضها: الأَوّل: فسح المجال للَاحبار و الرهبان للتحدّث عن العهدين، و نشر بدع يهودية، و

سخافات مسيحية، و أساطير مجوسية بين المسلمين، و ربّما نسبوها إلي الأَنبياء و المرسلين، و أُخري إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

قال الدكتور أحمد أمين: اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه و كعب الأَحبار و عبد اللّه بن سلام، و اتصل التابعون بابن جريج، و هؤلاء كانت لهم معلومات رووا عن التوراة و الإِنجيل و شروحها و حواشيها، فلم ير المسلمون بأساً من أن يقصّوها بجانب آيات القرآن فكانت منبعاً من منابع التضخيم «1».

فإذا كان بابُ التحدّث عن الرسول مؤصداً، فالناس بطبعهم يميلون إلي سماع أخبار من يماثل النبي كالأَنبياء و الأَوصياء، فإنّ إفشاء الاساطير بين المسلمين جاء كرد فعل طبيعي علي ظاهرة المنع من سماع الحديث الصحيح.

الثاني: لم يكن المنع مختصاً بالخليفة عمر، بل أخذ المنع لنفسه هالة من

______________________________

(1) ضحي الإِسلام: 2- 139.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 97

القداسة استمر إلي آخر العهد الأُموي، حتي أنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلي أبي بكر بن حزم بقوله: انظر ما كان من حديث رسول اللّه، فاكتبه، فأنّي خفت دروس العلم و ذهاب العلماء، و لا تقبل إلّا حديث النبي، و لتفشوا العلم، و لتجلسوا حتي يعلم من لا يعلم، فإنّ العلم لا يهلك حتي يكون سراً «1».

و مع هذا التأكيد و الحث من الخليفة الأَموي في نهاية القرن الأَوّل، كان للمنع أثره الباقي في نفوس المسلمين إلي عهد المنصور الدوانيقي، ففي عصره اندفع المسلمون إلي تدوين الحديث بعد ما بلغ السيل الزبي، قال الذهبي: في سنة 143 شرع علماء الإِسلام في هذا العصر في تدوين الحديث و الفقه و التفسير، فصنف ابن جريج بمكة، و مالك «الموطأ» بالمدينة، و الأَوزاعي بالشام، و

ابن أبي عروبة و حماد بن سلمة و غيرهما بالبصرة، و معمر باليمن، و سفيان الثوري بالكوفة، و صنّف ابن إسحاق المغازي، و صنف أبو حنيفة الفقه و الرأي، ثمَّ بعد يسير صنّف هشيم و الليث و ابن لهيعة، ثمّ ابن المبارك و أبو يوسف و ابن وهب، و كثر تدوين العلم و تبويبه و دوّنت كتب العربية و اللغة و التاريخ و أيام الناس، و قبل هذا العصر كان الأَئمّة يتكلّمون من حفظهم، أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة «2».

أ فبعد هذا يمكن حصر السنّة النبوية فيما جاء في الصحاح و المسانيد، فإنّ العالم الإِسلامي حسب ما يذكر الذهبي اندفع فجأة بعد مضي 143 سنة من هجرة النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- نحو التدوين، و من الطبيعي أن يفوتهم كثير من السنّة النبوية التي تركت دراستها و مكاتبتها و تدوينها تحت ضغط من الحكومة.

______________________________

(1) البخاري: الصحيح: باب كيف يقبض العلم، من أبواب كتاب العلم، ص 36.

(2) جلال الدين السيوطي، تاريخ الخلفاء: 261- مرّ صدره في ص 93.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 98

السنّة بين الإِفراط و التفريط

إنّ السنّة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع و لها منزلتها و مكانتها، بيد انّ هناك أُناساً خرجوا عن حد الاعتدال، فمن مفرط يمنع التحدّث بها إلي مفرّط يجعلها فوق الكتاب الكريم و يقول: السنّة قاضية علي الكتاب و ليس الكتاب بقاض علي السنّة «1».

حتي أنّ الامام الأَشعري الذي نظم عقائد أهل السنّة يقول في بيانها: السنّة لا تنسخ بالقرآن «2».

و قال أيضاً: إنّ السنّة تنسخ القرآن و تقضي عليه، و انّ القرآن لا ينسخ السنّة و لا يقضي عليها «3».

و لا يقصر عن ذلك ما نقله

ابن عبد البر عن مكحول و الأَوزاعي أنّهما قالا: القرآن أحوج إلي السنّة، من السنّة إلي القرآن الكريم «4».

و هذا المنهج يجعل القرآن في المرتبة الثانية بالنسبة إلي الحديث الذي يجعلونه أصلًا و الكتاب فرعاً، و ما هذا إلّا الإفراط في جانب السنّة.

جوامع التشريع في السنّة النبوية

اشتملت السنّة النبوية علي جوامع التشريع و صارت مبدأً فياضاً لاستنباط كثير من الاحكام، و نحن ننقل نماذج من هذا النوع من التشريع.

______________________________

(1) ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث: 199، و سنن الدارمي: 1- 145.

(2) مقالات الاسلاميين: 1- 324.

(3) مقالات الاسلاميين: 2- 251.

(4) جامع بيان العلم: 234.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 99

و قد استخرج ابن حجر العسقلاني الأَحاديث التي لها صلة بالأَحكام الشرعية و دوّنها في كتابه «بلوغ المرام في أدلّة الأَحكام» و نحن نستعرض بعض ما ورد في هذا الكتاب من الأصول و الكلّيات، و نذكر رقم الحديث إلي جانبه: 1- أبو سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إنّ الماء طهور لا ينجّسه شي ء».

(الحديث 2) 2- أبو أُمامة الباهلي، قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إنّ الماء لا ينجّسه شي ء إلّا ما غلب علي ريحه و طعمه و لونه».

(الحديث 3) 3- ابن عمر قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إذا كان الماء قلَّتين لم يحمل الخبث».

(الحديث 5) 4- أبو واقد الليثي قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: ما قُطِعَ من البهيمة و هي حيّة فهو ميّت».

(الحديث 17) 5- حذيفة بن اليمان قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا تشربوا في آنية الذهب و الفضة،

و لا تأكلوا في صحافهما».

(الحديث 18) 6- أبو ثعلبة الخُشَني قال: قلت يا رسول اللّه، إنّا بأرض قومٍ أهل كتاب، أ فنأكل في آنيتهم؟ قال: «لا تأكلوا فيها، إلّا أن لا تجدوا غيرها، فاغسلوها، و كلوا فيها».

(الحديث 24) 7- عن علي- عليه السّلام- أنّه قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخفّ أولي بالمسح من أعلاه».

(الحديث 65) 8- أبو هريرة قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه: أخرج منه شي ءٌ أم لا؟ فلا يخرجَنَّ من المسجد حتي يسمع صوتاً أو يجد

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 100

ريحاً».

(الحديث 77) 9- و عن عائشة قالت: كان رسول اللّه ص يذكر اللّه علي كلّ أحيانه.

(الحديث 84) 10- عن ابن عباس انّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «يأتي أحدكم الشيطان في صلاته، فينفخ في مقعدته فيخيّل إليه انّه أحدث، و لم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف حتي يسمع صوتاً أو يجد ريحاً».

(الحديث 89) 11- عن جابر بن عبد اللّه أنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «أُعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي.. و جعلت لي الأَرض مسجداً و طهوراً، فأيّما رجل أدركته الصلاة فليصل» (الحديث 136) 12- أبو هريرة قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «الصعيد وضوء المسلم، و إن لم يجد الماءَ عشر سنين.

فإذا وجد الماء فليتّق اللّه و ليمسَّه بشرته».

(الحديث 142) 13- أبو هريرة قال: إنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، و من أدرك ركعة

من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر».

(الحديث 173) 14- عن جبير بن مطعم قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «يا بني عبد منافٍ، لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت و صلّي أيّة ساعةٍ شاء من ليل أو نهار».

(الحديث 179) 15- عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «أفضل الأَعمال الصلاة في أوّل وقتها».

(الحديث 183) 16- أبو هريرة قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «ما بين المشرق و المغرب قبلة».

(الحديث 226)

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 101

17- عامر بن ربيعة قال: رأيت رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يصلّي علي راحلته حيث توجّهت به.

(الحديث 227) 18- أبو هريرة، قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إذا وطئ أحدكم الأَذي بخفّيه فطهورهما التراب».

(الحديث 233) 19- معاوية بن الحكم قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شي ء من كلام الناس، إنّما هو التسبيح و التكبير و قراءة القرآن».

(الحديث 234) 20- عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأُمّ القرآن».

(الحديث 294) 21- عمران بن حصين عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلي جنب، و إلّا فأوم».

(الحديث 347) 22- أبو سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلّي أثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك، و ليبن

علي ما استيقن.

ثمَّ يسجد سجدتين قبل أن يسلّم، فإن كان صلّي خمساً شفعن له صلاته، و إن كان صلّي تماماً كانتا ترغيماً للشيطان».

(الحديث 354) 23- عبد اللّه بن جعفر مرفوعاً: من شكّ في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم.

(الحديث 358) 24- عمر عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «ليس علي من خلف الامام سهو، فإن سها الامام فعليه و علي من خلفه».

(الحديث 360) 25- عن ثوبان، عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أنّه قال: «لكلّ سهو سجدتان بعد ما يسلّم».

(الحديث 361)

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 102

26- عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «صلّوا علي من قال لا إله إلّا اللّه، و صلّوا خلف من قال: لا إله إلّا اللّه».

(الحديث 450) 27- عن علي قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إذا أتي أحدكم الصلاة و الإِمام علي حالٍ فليصنع كما يصنع الامام».

(الحديث 451) 28- عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا تقصروا الصلاة في أقلّ من أربعة بُرُد، من مكة إلي عُسفان».

(الحديث 464) 29- و عن طارق بن شهاب أنّ رسول اللّه ص قال: «الجمعة حقّ واجب علي كلّ مسلم في جماعة إلّا أربعة: مملوك و امرأة و صبي و مريض».

(الحديث 494) 30- ابن عمر قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «ليس علي مسافر جُمُعة».

(الحديث 495) 31- عن عائشة قالت: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «الفطر يوم يُفطِر الناس، و الأَضحي يوم يُضحّي الناس».

(الحديث 509) 32- و

عن حذيفة قال: نهي رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أن نشرب في آنية الذهب و الفضة، و أن نأكل فيها، و عن لُبس الحرير و الديباج، و أن نجلس عليه».

(الحديث 546) 33- أبو موسي الأَشعري قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «أُحِلَّ الذهبُ و الحريرُ لِاناثِ أُمّتي و حُرِّم علي ذكورها».

(الحديث 550) 34- عن علي- عليه السّلام- قال: «ليس في البقر العوامل صدقة».

(الحديث 629) 35- جابر عن رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «ليس في ما دون خمس أواق من الورق صدقة، و ليس فيما دون خمس ذَوْدٍ من الإِبل صدقة، و ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة».

(الحديث 633)

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 103

36- سالم بن عبد اللّه عن أبيه عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «فيما سقت السماء و العيون أو كان عَثَرِيّاً، العُشر، و فيما سقي بالنضح نصف العشر».

(الحديث 635) 37- و عن أبي موسي الأَشعري و معاذ أنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال لهما: «لا تأخذا في الصدقة إلّا من هذه الأَصناف الأَربعة: الشعير، و الحنطة و الزبيب و التمر».

(الحديث 636) 38- أبو هريرة قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «و في الركاز الخمس».

(الحديث 643) 39- عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه انّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: في كنز وجده رجل في خربة «إن وجدته في قرية مسكونة فعرّفه، و إن وجدته في قرية غير مسكونة ففيه و في الركاز الخمس».

(الحديث 644) 40- ابن عمر قال:

فرض رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- زكاة الفطر صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من شعير: علي العبد و الحرّ و الذكر و الأُنثي و الصغير و الكبير من المسلمين، و أمر بها أن تؤَدّي قبل خروج الناس إلي الصلاة.

(الحديث 646) 41- أبو سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا تحلّ الصدقة لغني إلّا لخمسة: لعاملٍ عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارمٍ، أو غازٍ في سبيل اللّه، أو مسكينٍ تصدّق عليه منها، فأهدي منها لغنيّ».

(الحديث 662) 42- عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إنّ الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنّما هي أوساخ الناس».

(الحديث 665) 43- عمار بن ياسر قال: من صام اليوم الذي يُشَك فيه فقد عصي أبا القاسم- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

(الحديث 670) 44- ابن عمر قال: سمعت رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يقول: «إذا رأيتموه فصوموا،

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 104

و إذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمّ عليكم فاقدروا له».

(الحديث 671) 45- أبو هريرة قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «من نسي و هو صائم، فأكل أو شرب، فليتمّ صومه، فإنّما أطعمه اللّه و سقاه».

(الحديث 688) 46- و للحاكم: من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه و لا كفّارة.

(الحديث 689) 47- و عن عائشة أنّ النبي قال: «من مات و عليه صيام صام عنه وليّه».

(الحديث 697) 48- و عن أبي هريرة انّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «لا يحلّ للمرأة أن تصوم و

زوجها شاهد إلّا بإذنه».

(الحديث 703) 49- عن ابن عباس انّ امرأة من جهينة جاءت إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فقالت: إنّ أُمّي نذرت أن تحج، فلم تحجّ حتي ماتت، أ فأحجّ عنها؟ قال: «نعم، حجّي عنها، أ رأيت لو كان علي أُمّك دين، أ كنتِ قاضيته؟ اقضوا اللّه، فاللّه أحقّ بالوفاء».

(الحديث 733) 50- عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «أيّما صبيّ حج ثمّ بلغ الحنث، فعليه أن يحجّ حجّة أُخري، و أيّما عبد حجّ ثمّ أُعتق، فعليه أن يحجّ حجّةً أُخري».

(الحديث 734) 51- ابن عباس قال: خطبنا رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فقال: «إنّ اللّه كتب عليكم الحج» فقام الأَقرع بن حابس فقال: أ في كل عام يا رسول اللّه؟ قال: «لو قلتها لوجبت.

الحجّ مرّةً، فما زاد فهو تطوّع».

(الحديث 737) 52- و عن ابن عمر أنّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- سئل ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: «لا يلبس القميص و لا العمائم و لا السراويلات و لا البرانس و لا

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 105

الخفاف، إلّا أحدٌ لا يجد نعلين فليلبس الخُفّين و ليقطعهما أسفل من الكعبين، و لا تلبسوا شيئاً من الثياب مسّه الزعفران و لا الورس».

(الحديث 748) 53- جابر قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «نحرت هاهنا، و مني كلّها منحر، فانحروا في رحالكم؛ و وقفت هاهنا و عرفة كلّها موقف؛ و وقفت هاهنا و جمعٌ كلّها موقف».

(الحديث 761) 54- جابر قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إنّ اللّه حرّم

بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأَصنام».

(الحديث 801) 55- ابن مسعود قال: سمعت رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يقول: «إذا اختلف المتبايعان و ليس بينهما بيّنة، فالقول ما يقول ربّ السلعة أو يتتاركان».

(الحديث 802) 56- أبو مسعود الأَنصاري انّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- نهي عن ثمن الكلب، و مهر البغيّ، و حلوان الكاهن.

(الحديث 803) 57- أبو هريرة قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامداً فألقوها و ما حولها، و إن كان مائعاً فلا تقربوه.

(الحديث 807) 58- عائشة قالت: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-:».. ما كان من شرط ليس في كتاب اللّه فهو باطل، و إن كان مائة شرط، قضاء اللّه أحقّ، و شرط اللّه أوثق، و إنّما الولاء لمن أعتق».

(الحديث 809) 59- عن ابن عمر انّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- نهي عن بيع الولاء و عن هبته.

(الحديث 815) 60- عن أبي هريرة قال: نهي رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- عن بيع الحصاة و عن بيع الغرر.

(الحديث 816) 61- عن أبي هريرة: انّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «من اشتري طعاماً فلا يبعه

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 106

حتي يكتاله».

(الحديث 817) 62- عن أبي هريرة: نهي رسول اللّه ص عن بيعتين في بيعةٍ.

(الحديث 818) 63- عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا يحلّ سلفٌ و بيع، و لا شرطان في بيع، و لا

ربح ما لم يضمن، و لا بيع ما ليس عندك».

(الحديث 820) 64- عن جابر انّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- نهي عن المحاقلة و المزابنة و المخابرة و عن الثنيا، إلّا أن تُعلم.

(الحديث 825) 65- أبو سعيد الخدري انّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- نهي عن شراء ما في بطون الانعام حتي تضع، و عن بيع ما في ضروعها، و عن شراء العبد و هو آبق، و عن شراء المغانم حتي تقسم، و عن شراء الصدقات حتي تقبض، و عن ضربة الغائص.

(الحديث 841) 66- ابن مسعود قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا تشتروا السمك في الماء فإنّه غرر».

(الحديث 842) 67- أبو هريرة قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «من أقال مسلماً بيعته أقال اللّه عثرته».

(الحديث 845) 68- عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «البائع و المبتاع بالخيار حتي يتفرّقا إلّا أن تكون صفقة خيار».

(الحديث 847) 69- عن جابر قال: لعن رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- آكل الربا و موكله و كاتبه و شاهديه، و قال: هم سواء.

(الحديث 849) 70- عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «الذهب بالذهب، و الفضة بالفضة، و البرُّ بالبرّ، و الشعير بالشعير، و التمر بالتمر، و الملح بالملح، مثلًا بمثل، سواءً بسواءٍ، يداً بيدٍ فإذا اختلفت هذه الأَصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 107

يداً بيد».

(الحديث 853) 71- ابن عمر عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله

و سلم- أنّه قال: «من ابتاع نخلًا بعد أن تؤَبّر فثمرتها للبائع الذي باعها إلّا أن يشترط المبتاع».

(الحديث 873) 72- عن ابن عباس.. قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «من أسلف في تمرٍ فليسلف في كيل معلوم، و وزن معلوم، إلي أجل معلوم».

(الحديث 874) 73- عن علي- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «كلّ قرض جرّ منفعة فهو رباً».

(الحديث 881) 74- أبو هريرة قال: سمعنا رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يقول: «من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحقّ به من غيره».

(الحديث 884) 75- عمرو بن الشريد عن أبيه قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «ليّ الواجد يحلّ عرضه و عقوبته».

(الحديث 887) 76- عمرو بن عوف المزني انّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحاً حرّم حلالًا أو أحلّ حراماً، و المسلمون علي شروطهم إلّا شرطاً حرّم حلالًا أو أحلّ حراماً».

(الحديث 894) 77- أبو ذر قال: قال لي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «قل الحقّ و لو كان مُرّاً».

(الحديث 910) 78- سمرة بن جندب قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «علي اليد ما أخذت حتي تؤَدّيه». (الحديث 911) 79- أبو هريرة قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «أدّ الأَمانة إلي من ائتمنك، و لا تخن من خانك».

(الحديث 912) 80- عروة بن الزبير عن رجل من أصحاب رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.. و قال: «ليس لعِرقِ ظالمٍ حقّ».

(الحديث

919)

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 108

81- أبو بكرة، انّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال في خطبته يوم النحر بمني: «إنّ دماءكم و أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا».

(الحديث 921) 82- جابر بن عبد اللّه قال: قضي رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بالشفعة في كلّما لم يُقْسَم.

فإذا وقعت الحدود و صرّفت الطرق فلا شفعة.

(الحديث 922) 83- عائشة، قالت: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «من عمّر أرضاً ليست لأَحد فهو أحقّ بها».

(الحديث 941) 84- سعيد بن زيد عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له».

(الحديث 942) 85- عن ابن عباس.. انّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «لا حمي إلّا للّه و لرسوله».

(الحديث 943) 86- ابن عباس قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا ضرر و لا ضرار».

(الحديث 944) 87- عبد اللّه بن مغفّل انّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «من حفر بئراً فله أربعون ذراعاً عطناً لماشيته».

(الحديث 947) 88- عن رجل من الصحابة.. قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «الناس شركاء في ثلاثة: في الكلاء و الماء و النار».

(الحديث 950) 89- جابر عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «إذا استهلّ المولود ورث».

(الحديث 979) 90- عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «ليس للقاتل من الميراث شي ء».

(الحديث 980) 91- معاذ بن جبل قال: قال النبي- صلّي اللّه عليه و

آله و سلم-: «إنّ اللّه تصدّق عليكم بثلث

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 109

أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم».

(الحديث 989) 92- عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «من أودع وديعة فليس عليه ضمان».

(الحديث 992) 93- ابن عمر قال: نهي رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- عن الشغار.

(الحديث 1014) 94- ابن عباس عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «إنّ اللّه تعالي وضع عن أُمتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه».

(الحديث 1113) 95- عن جابر قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا طلاق إلّا بعد نكاح، و لا عتق إلّا بعد ملك».

(الحديث 1117) 96- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، و لا عتق له في ما لا يملك، و لا طلاق له في ما لا يملك».

(الحديث 1119) 97- عائشة عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتي يستيقظ، و عن الصغير حتي يكبر، و عن المجنون حتي يَعْقل أو يُفيق».

(الحديث 1120) 98- فاطمة بنت قيس عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في المطلقة ثلاثاً: ليس لها سكني و لا نفقة.

(الحديث 1137) 99- أبو هريرة عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «الولد للفراش و للعاهر الحجر».

(الحديث 1153) 100- و عن ابن عباس انّ النبي قال: «.. و يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب».

(الحديث 1162) 101- ابن عباس

قال: لا رضاع إلّا في الحولين.

(الحديث 1164)

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 110

102- ابن مسعود قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا رضاع إلّا ما أنشز العظم و أنبت اللحم».

(الحديث 1165) 103- ابن مسعود قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا اللّه و انّي رسول اللّه إلّا بإحدي ثلاث: الثيب الزاني، و النفس بالنفس، و التارك لدينه المفارق للجماعة».

(الحديث 1187) 104- عن علي- عليه السّلام-:».. المؤمنون تتكافأ دماؤهم، و يسعي بذّمتهم أدناهم، و هم يدٌ علي من سواهم، و لا يقتل مؤَمن بكافر، و لا ذو عهد في عهده».

(الحديث 1193) 105- ابن عباس قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «من قُتل في عميّاً أو رميّاً بحجر أو سوطٍ أو عصاً، فعقله عقل الخطأ، و من قتل عمداً فهو قودٌ، و من حال دونه فعليه لعنة اللّه».

(الحديث 1200) 106- عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه انّ النبي قال: «عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين.. و عقل المرأة مثل عقل الرجل حتي يبلغ الثلث من ديتها».

(الحديث 1213) 107- عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «من بدّل دينه فاقتلوه».

(الحديث 1229) 108- عن علي- عليه السّلام-: «ادرءوا الحدود بالشبهات».

(الحديث 1247) 109- عائشة قالت: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا تقطع يد سارق إلّا في ربع دينار فصاعداً».

(الحديث 1253) 110- جابر قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «ليس علي خائن و لا مختلس و لا منتهب قطع».

(الحديث

1257)

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 111

111- ابن عمر عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «كلّ مسكر خمر، و كلّ مسكر حرام».

(الحديث 1273) 112- جابر قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».

(الحديث 1274) 113- أُمّ سلمة عن النبي صقال: «إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم في ما حرّم عليكم».

(الحديث 1276) 114- أنس، انّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم و أنفسكم و ألسنتكم».

(الحديث 1284) 115- عائذ بن عمرو المزني عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «الإِسلام يعلو و لا يعلي».

(الحديث 1334) 116- أبو هريرة قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا سبق إلّا في خفٍّ أو نصل أو حافر».

(الحديث 1341) 117- أبو هريرة قال: قال النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «كلّ ذي ناب من السباع فأكله حرام».

(الحديث 1344) 118- ابن عباس عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «كلّ ذي مخلب من الطير فأكله حرام».

(الحديث 1345) 119- ابن عمر قال: نهي رسول اللّه عن الجلَّالة و ألبانها.

(الحديث 1352) 120- أبو سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «ذكاة الجنين ذكاة أُمّه».

(الحديث 1368) 121- ثابت بن الضحاك قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-:».. لا وفاء لنذر في معصية اللّه، و لا في قطيعة رحم، و لا فيما لا يملك ابن آدم».

(الحديث 1405)

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 112

122- عن أبي بكرة عن النبي صقال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة».

(الحديث 1422) 123- البيهقي بإسناد

صحيح: البيّنة علي المدّعي و اليمين علي من أنكر.

(الحديث 1437) 124- سمرة بن جندب قال: قال النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «من ملك ذا رحم محرم فهو حرّ».

(الحديث 1454) 125- أبو هريرة قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إيّاكم و الظن، فإنّ الظنّ أكذب الحديث».

(الحديث 1516) هذا ما روته أهل السنّة من جوامع الكلم للنبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في مجال التشريع، و قد فاتهم كثير من كلامه و أحاديثه في ذلك المجال، و لكن العترة الطاهرة الّذين هم حملة السنّة و عيبة علم الرسول، رووا جوامع كلم كثيرة عن الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في مضمار التشريع، سنستعرضها عند البحث في أدوار الفقه الشيعي.

النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و الاجتهاد

اشارة

الاجتهاد: هو استنباط الحكم من الأَدلّة الشرعية، كالكتاب و السنّة ببذل الجهد و التفكير، و المجتهد يخطئ و يصيب شأن كلّ إنسان غير معصوم، و إن كان المخطي مأجوراً كالمصيب، إنّما الكلام في أنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- هل كان مجتهداً في بيان الحكم الشرعي كالآخرين يخطئ و يصيب، أو أنّ علمه بعقائد الدين و أحكامه علي صعيد أغناه عن الاجتهاد؟ و الإِمعان فيما سنتلوه عليك من النصوص يدعم النظر الثاني: أ- قال سبحانه: " وَ لَوْ لٰا فَضْلُ اللّٰهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 113

يُضِلُّوكَ وَ مٰا يُضِلُّونَ إِلّٰا أَنْفُسَهُمْ وَ مٰا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْزَلَ اللّٰهُ عَلَيْكَ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كٰانَ فَضْلُ اللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً" «1».

و قد ذكر المفسّرون أسباب نزول متعدّدة لهذه الآية تجمعها

أنّها رفعت إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- واقعة كان الحق فيها غير واضح، فأراه اللّه سبحانه حقيقة الواقع الذي تخاصم فيها المتحاكمان و علّله بقوله: " وَ لَوْ لٰا فَضْلُ اللّٰهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ".

ففضل اللّه و رحمته صدّاه عن الحكم بالباطل، و هل كان فضله سبحانه و رحمته مختصين بهذه الواقعة، أو انّهما خيّما عليه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- طيلة عمره الشريف؟ مقتضي قوله سبحانه في ذيل الآية: " وَ كٰانَ فَضْلُ اللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) هو انّه حظي بهما طيلة عمره الشريف.

فهو في كلّ الحوادث و الوقائع يحكم بمرّ الحق و نفس الواقع مؤَيداً من قبل اللّه، و من اختص بهذه المنزلة الكبيرة فقد استغني عن الاجتهاد المصيب تارة و المخطئ أُخري.

ب- انّه سبحانه يخاطب النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بقوله: " ثُمَّ جَعَلْنٰاكَ عَليٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهٰا وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ" «2».

و الشريعة هي طريق ورود الماء، و الأَمر أمر الدين و معني الآية أنّه تبارك و تعالي أورد النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- علي طريق موصل للشريعة قطعاً، و من حظي بتلك المنزلة، فما يصدر عنه إنّما يصدر عن واقع الدين لا عن الدين المظنون الذي يخطئ و يصيب، و ليست تلك الخصيصة من خصائصه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فقط بل قد حظي بها معظم الأَنبياء، قال سبحانه: " لِكُلٍّ جَعَلْنٰا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهٰاجاً" «3».

______________________________

(1) النساء: 113.

(2) الجاثية: 18.

(3) المائدة: 48.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 114

ج- إنّ طبيعة الاجتهاد خاضعة للنقاش و النقد، فلو اجتهد النبي-

صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في بعض الاحكام فنظره كغيره قابل للنقد و النقاش، و معه كيف يكون حلال محمد حلالًا إلي يوم القيامة و حرامه حراماً إلي يوم القيامة، و كيف تكون شريعته خاتمة الشرائع؟! كلّ ذلك يعرب عن أنّ نسبة الاجتهاد إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بعيدة عن الصواب، و إنّما يتفوّه بها من ليس له أدني إلمام بمقامات الأَنبياء، لا سيما خاتم النبيين أفضل الخليقة.

قال الشوكاني: اختلفوا في جواز الاجتهاد للأَنبياء في الأَحكام الشرعية علي مذاهب: المذهب الأَوّل: ليس لهم ذلك لقدرتهم علي النص بنزول الوحي، و قد قال سبحانه: " إِنْ هُوَ إِلّٰا وَحْيٌ يُوحيٰ" «1».

و الضمير يرجع إلي النطق المذكور قبله بقوله: " وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَويٰ" و قد حكي هذا المذهب الأُستاذ أبو منصور عن أصحاب الرأي، و قال القاضي في «التقريب»: كلّ من نفي القياس أحال تعبّد النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بالاجتهاد.

قال الزركشي: و هو ظاهر اختيار ابن حزم.

و احتجّوا أيضاً بأنّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- كان إذا سُئل ينتظر الوحي و يقول: «ما أنزل عليَّ في هذا شي ء» كما قال لما سئل عن زكاة الحمير فقال: لم ينزل عليّ إلّا هذه الآية الجامعة: " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" «2».

و كذا انتظر الوحي في كثير ممّا سئل عنه، و من الذاهبين إلي هذا المذهب أبو علي و أبو هاشم «3».

______________________________

(1) النجم: 4.

(2) الزلزلة: 7 و 8.

(3) الشوكاني: إرشاد الفحول: 225.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 115

أقول: لقد لخّص الشوكاني ما ذكره ابن حزم في ذلك

المجال و قال: إنّ من ظنّ بأنّ الاجتهاد يجوز لهم في شرع شريعة لم يوح إليهم فيها فهو كفر عظيم، و يكفي في إبطال ذلك أمره تعالي نبيه أن يقول: " إِنْ أَتَّبِعُ إِلّٰا مٰا يُوحيٰ إِلَيَّ*" «1» و قوله: " وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَويٰ. إِنْ هُوَ إِلّٰا وَحْيٌ يُوحيٰ" «2».

و قوله: " وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ. لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ" «3».

و انّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- كان يسأل عن الشي ء، فينتظر الوحي، و يقول: «و ما نزل عليّ في هذا شي ء» ذلك في حديث زكاة الحمير و ميراث البنتين مع العم و الزوجة، و في أحاديث جمّة «4».

و قبل أن أذكر «المذهب الثاني الوارد في كلام الشوكاني» أُشير إلي كلمة للعلّامة الحلّي التي تعرب عن موقف الإِمامية في المسألة.

قال (رحمه الله) بعد تعريف الاجتهاد: و لا يصح (الاجتهاد) في حقّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و به قال: الجبائيان لقوله تعالي: " وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَويٰ" و لأَنّ الاجتهاد إنّما يفيد الظن، و هو- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قادر علي تلقّيه من الوحي، و انّه كان يتوقّف في كثير من الاحكام حتي يرد الوحي، فلو ساغ له الاجتهاد، لصار إليه، لأَنّه أكثر ثواباً، و لأَنّه لو جاز له (الاجتهاد) لجاز لجبرئيل- عليه السّلام-، و ذلك يسدّ باب الجزم بأنّ الشرع الذي جاء به محمد- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- من اللّه تعالي.

و لأَنّ الاجتهاد قد يخطئ و قد يصيب، و لا يجوز تعبّده ص به، لَانّه يرفع الثقة بقوله.

و كذلك لا يجوز لأَحد من الأَئمّة الاجتهاد

عندنا، لأَنّهم معصومون، و إنّما

______________________________

(1) الانعام: 50.

(2) النجم: 3 و 4.

(3) الحاقة: 4644.

(4) ابن حزم: الاحكام في أُصول الأَحكام: 5- 123-

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 116

أخذوا الاحكام بتعليم الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أو بإلهام من اللّه تعالي «1».

المذهب الثاني: انّه يجوز لنبينا- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و لغيره من الأَنبياء الاجتهاد و إليه ذهب الجمهور و احتجوا بالوجوه التالية: الأَوّل: انّ اللّه سبحانه خاطب نبيه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- كما خاطب عباده، و ضرب له الأَمثال و أمره بالتدبّر و الاعتبار، و هو من أجلّ المتفكّرين في آيات اللّه و أعظم المعتبرين.

أقول: إنّ ما ضرب به من الأَمثال جلّها من باب «إيّاك أعني و اسمعي يا جارة» و هل يصحّ أن يقال انّه سبحانه أراد بقوله: " لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخٰاسِرِينَ" «2» مع أنّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- ممّن هداه اللّه" وَ مَنْ يَهْدِ اللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ" «3».

علي أنّه سبحانه أمر بالتفكّر و التدبّر فيما يرجع إلي العوالم الغيبية و الأَسرار المكنونة في الطبيعة و أنّي ذلك من التفكّر في الأَحكام الشرعية.

الثاني: انّ المراد من قوله: " وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَويٰ. إِنْ هُوَ إِلّٰا وَحْيٌ يُوحيٰ) هو القرآن، لأَنّهم قالوا إنّما يعلّمه بشر، و لو سلم لم يدل علي نفي اجتهاده، لَانّه (صلي الله عليه و آله و سلم) إذا كان متعبّداً بالاجتهاد بالوحي لم يكن نطقاً عن الهوي، بل عن الوحي.

أقول: إنّ قوله سبحانه: " وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَويٰ" و إن كان وارداً في مورد القرآن، و لكنّه آب عن التخصيص بدلالة

انّ ورود التخصيص عليه يستلزم الاستهجان، فلو قيل النبي لا ينطق عن الهوي إلّا في غير مورد القرآن لرأيت التخصيص مستهجناً علي أنّ الدليل ليس منحصراً بهذه الآية، و قد استعرضنا

______________________________

(1) العلّامة الحلّي: مبادي الأصول: 51.

(2) الزمر: 65.

(3) الزمر: 37.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 117

الدلائل السابقة.

نعم لو ثبت انّ الوحي أمره بالاجتهاد، لكان ما يفتي به إفتاءً منتهياً إلي الوحي الإِجمالي، و لكن الكلام في صدور الترخيص له.

الثالث: إذا جاز لغيره من الأُمّة أن يجتهد بالإِجماع مع كونه معرضاً للخطإ، فلَان يجوز لمن هو معصوم عن الخطأ بالأَولي.

أقول: إنّ هذا الاستدلال من الوهن بمكان، لَانّ غير النبي يجتهد لانحصار باب المعرفة به، و هذا بخلاف النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فإنّ أمامه طرقاً كثيرة إلي الحقّ أوضحها الوحي.

الرابع: الاستدلال ببعض الأَمثلة التي تدلّ بظاهرها علي أنّ النبي اجتهد في الحكم الشرعي، و سيوافيك توضيح بعضها «1».

ثمّ إنّ هناك مذهباً ثالثاً يدعي مذهب الوقف عن القطع بشي ء في ذلك، و زعم الصيرفي في شرح الرسالة، انّه مذهب الشافعي، لأَنّه حكي الأَقوال و لم يختر شيئاً منها، و اختار هذا القاضي أبو بكر الباقلاني و الغزالي «2».

اجتهاد النبي و تسرّب الخطأ إليه

قد سبق انّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في غني عن الاجتهاد في الأَحكام و انّه سبحانه أورده علي منهل الشريعة، فأمر باتّباعها، و لو افترضنا جواز الاجتهاد عليه، فهل يمكن أن يتسرّب إليه الخطأ أو لا؟ ذهبت الإِمامية إلي صيانة اجتهاده (علي فرض جواز الاجتهاد له) عن

______________________________

(1) إرشاد الفحول: 225.

(2) المصدر السابق: 226.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 118

الخطأ، و استدل عليه المحقّق بوجوه: الأَوّل: انّه معصوم من الخطأ عمداً و نسياناً

بما ثبت في الكلام، و مع ذلك يستحيل عليه الغلط.

الثاني: إنّنا مأمورون باتّباعه، فلو وقع منه الخطأ في الأَحكام لزم الأَمر بالعمل بالخطإ و هو باطل.

الثالث: لو جاز ذلك الخطأ لم يبق وثوق بأوامره و نواهيه، فيؤدي ذلك إلي التنفير عن قبول قوله «1».

ثمَّ إنَّ المخالف استدل بوجوه، منها: الأَوّل: قوله تعالي: " إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحيٰ إِلَيَّ*" «2».

أقول: إنّ وجه المماثلة ليس تطرّق الخطأ بل عدم استطاعته- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- إلي تحقيق كلّ ما يقترحون عليه من المعاجز و الآيات حيث أرادوا منه أن يأتي لهم بكلّ ما يقترحون عليه من عجائب الأُمور، فوافته الآية بأنّه بشر مثلكم، و الفرق انّه يوحي إليه دونهم، فكيف يتمكّن من القيام بما يقترحون عليه من المعاجز و الآيات بلا إذن منه سبحانه.

الثاني: قوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «فمن قضيتُ له بشي ء من حقّ أخيه، فلا يأخذنّ إنّما أقطع له به قطعة من النار» و هذا يدلّ علي أنّه يجوز منه الغلط في الحكم «3».

أقول: إنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- كان مأموراً بالقضاء بما أدّي إليه البيّنة و اليمين، فما يقضي به هو نفس الحكم الشرعي في باب القضاء سواء أ كان مطابقاً للواقع أم لم يكن، فإنّه كان مأموراً في فصل الخصومات بالظواهر لا بالبواطن.

و بذلك يعلم انّه لو سوّغنا الاجتهاد للنبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- لم يخطئ في مجال الإِفتاء، بل ينتهي إلي نفس الواقع.

و أمّا باب القضاء، فاتّفق الجميع علي أنّه كان مأموراً بالظواهر دون البواطن سواء أ كانت الظواهر مطابقة للواقع أم لا مصالح في ذلك.

مع العلم بحقيقة الحال.

______________________________

(1)

المحقق الحلّي: معارج الأصول: 118 119.

(2) الكهف: 110.

(3) الوسائل: 18- 169 ح 3، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 119

العلم بالملاك غير الاجتهاد

قد تحدثنا آنفاً عن الاجتهاد، و عرفت أنّه عبارة عن استخراج الحكم من الكتاب و السنّة و هو قد يخطئ و قد يصيب، و ليس الحكم المستخرج مصيباً للواقع علي الإِطلاق.

نعم هناك أمر آخر اختصّ اللّه نبيّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بهذه الكرامة و هو انّه أدّب رسوله فأحسن تأديبه، و علّمه مصالح الاحكام و مفاسدها، و أوقفه علي ملاكاتها و مناطاتها، و لمّا كانت الأَحكام تابعة لمصالح و مفاسد كامنة في متعلّقاتها و قد أطلع اللّه نبيه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- عليها مع اختلاف درجاتها و مراتبها، لا يكون الاهتداء إلي أحكامه سبحانه عن طريق الوقوف علي عللها، بأقصر من الطرق التي وقف بها النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- علي حلاله و حرامه.

و إلي هذا يشير الإِمام أمير المؤمنين- عليه السّلام- بقوله: «و عقلوا الدين عقل وعائه و رعاية لا عقل سماع و رواية، فإنّ رواة العلم كثير و رعاته قليل» «1».

فما ورد عنه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- من التشريع، فإنّما هو تشريع بالعلم بالملاك، و بإذن خاص منه سبحانه، و قد ورد في السنّة الشريفة: 1- إنّ اللّه فرض الصلاة ركعتين ركعتين، ليكون المجموع عشر ركعات،

______________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة رقم 234.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 120

فأضاف رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- إلي الركعتين ركعتين، و إلي المغرب ركعة.

2- إنّ اللّه فرض في السنّة صوم شهر رمضان، و سنّ رسول اللّه- صلّي

اللّه عليه و آله و سلم- صوم شعبان، و ثلاثة أيام من كلّ شهر.

3- إنّ اللّه حرم الخمر بعينها، و حرّم رسول اللّه المسكر من كلّ شراب.

4- إنّ اللّه فرض الفرائض في الإِرث، و لم يقسم للجد شيئاً، و لكن رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أطعمه السدس «1».

و ليس هذا اللون من التشريع اجتهاداً منه و لا منافياً لاختصاص التشريع باللّه سبحانه، لما عرفت من أنّ التسنين في هذه المقامات إنّما هو بتعليم منه سبحانه بملاكات الاحكام و إذنه.

أسئلة و أجوبة

الأَوّل: ربما يتراءي من بعض تفسير الآيات و الروايات انّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- اجتهد في بعض الاحكام

ثمّ وافاه النص علي الخلاف.

قال سبحانه: " مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْريٰ حَتّٰي يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيٰا وَ اللّٰهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" «2».

" لَوْ لٰا كِتٰابٌ مِنَ اللّٰهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَخَذْتُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ" «3». فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلٰالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «4».

نزلت الآيات في غزوة بدر حيث استشار الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- صحابته في أمر

______________________________

(1) الكليني: أُصول الكافي: 1 210- 209.

(2) الأَنفال: 67.

(3) الأَنفال: 68 و 69.

(4) الأَنفال: 68 و 69.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 121

الاسري، فقال أبو بكر: عشيرتك فأرسلهم، و قال عمر: اقتلهم، ففاداهم رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، فأنزل اللّه معاتباً له و لصحابته بقوله: " مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْريٰ..".

رواه أهل السير، و أخرج مسلم و أحمد حديثاً في ذلك «1».

التحليل يتوقف علي توضيح مفاد الآيات، و هو انّ السنّة الجارية في الأَنبياء الماضين (عليهم السلام) هي انّهم إذا حاربوا أعداءهم، و ظفروا بهم ينكلونهم بالقتل ليعتبر من وراءهم، فيكفّوا عن معاداة اللّه و

رسوله، و كانوا لا يأخذون أسري حتي يثخنوا في الأَرض، و يستقر دينهم بين الناس، فإذا بلغوا تلك الغاية لم يكن مانع من الأَسر، ثمّ المن أو الفداء، كما قال تعالي في سورة أُخري مخاطباً المسلمين عند ما علا أمر الإِسلام و ضرب بجرانه بالحجاز و اليمن: " فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ حَتّٰي إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً" «2».

فعلم من ذلك انّ مقتضي الجمع بين الآيتين هو ممنوعية أخذ الاسري قبل الإِثخان في الأَرض و جوازه، ثمّ المن، أو الفداء بعد الإِثخان.

إذا عرفت ذلك فهلمّ معي نبحث في مفاد الآيات الثلاث، فنقول: أوّلًا: انّ اللوم انصبَّ علي أخذ الاسري لا علي الفداء.

ثانياً: انّ اللوم لم يتوجّه إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أبداً و إنّما توجّه إلي مَنْ أخذ الاسري.

و الشاهد علي الأَمر الأَوّل قوله: " مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْريٰ حَتّٰي يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ" أي الأَمر الممنوع هو أخذ الاسري فقط لا الفداء و المن، و إلّا لكان له عطف الفداء و المن عليه، و لو كان الممنوع هو الفداء لما قال سبحانه في الآية الثالثة: " فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلٰالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" و من الواضح

______________________________

(1) مناع القطان: تاريخ التشريع الإِسلامي: 99.

(2) محمد: 4.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 122

أنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- لم يكن له أيّ دور في أخذ الاسري، بل كان هو القائد و المجاهدون هم الذي يأخذون الاسري قبل الإِثخان في الأَرض بالقتل و التنكيل.

و الشاهد علي الأَمر الثاني قوله سبحانه: " لَوْ لٰا كِتٰابٌ مِنَ اللّٰهِ سَبَقَ

لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَخَذْتُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ".

و المخاطب هم المقاتلون لا النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

أضف إلي ذلك قوله: " تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيٰا وَ اللّٰهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ".

فملخّص القول: إنّ اللوم انصبَّ علي أخذ الاسري من قبل المقاتلين المجاهدين علي هذا العمل، و لم يكن للنبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أيّ دور في ذلك.

و أمّا الروايات الواردة، فهي مختلفة جدّاً لا يمكن الركون إلي الخصوصيات الواردة فيها.

و قد اختلفت التفاسير حسب اختلاف الروايات، فمن قائل بأنّ العتاب و التهديد متوجه إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و المؤمنين جميعاً، إلي آخر بأنّه متوجه إلي النبي و المؤمنين ما عدا عمر، إلي ثالث انّه متوجه إلي النبي و المؤمنين ما عدا عمر و سعد ابن معاذ، إلي رابع انّه متوجه إلي المؤمنين دون النبي، إلي خامس انّه متوجه إلي شخص أو أشخاص أشاروا إليه بالفداء بعد ما استشارهم.

و عليه لا يمكن الركون إلي تلك الروايات و الأَخذ بها، و الآيات الواردة في المقام محكمة ناصعة البيان ليست بحاجة إلي تفسيرها من قبل الروايات الآنفة الذكر.

فالاستدلال علي أنّ النبي كان مجتهداً و انّه اجتهد خطاءً في هذه الواقعة غريب جدّاً.

الثاني: إذا كان النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قد نهل من صميم الدين بإلهام منه سبحانه

دون أن يكون له اجتهاد في الأَحكام، فما معني قوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في حديث السواك:

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 123

«لولا أن أشقّ علي أُمّتي لأَمرتهم بالسواك».

و مثله قوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يوم فتح مكة: «إنّ هذا البلد حرّمه اللّه يوم خلق السماوات و الأَرض، فهو حرام بحرمة اللّه إلي يوم القيامة، و انّه لم يحلَّ القتال فيه لأَحد قبلي، و لم

يحلَّ لي إلّا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة اللّه إلي يوم القيامة لا يُعضد شوكة، و لا يُنفَّر صيده، و لا يلتقط لقطته إلّا من عرفها، و لا يُختلي خلاه».

فقال العباس: يا رسول اللّه إلّا الإذخر، فإنّه لقينهم و لبيوتهم.

فقال: «إلّا الإذخر» «1».

فاستثناء الإذخر بعد التعميم أخذاً برأي العباس كان اجتهاداً منه و الحديث أخرجه البخاري و مسلم و غيرهما من أهل السنن «2».

الجواب: أمّا الحديث الأَوّل فبيان النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- للحكم لم يصدر عن الاجتهاد و ضرب الأَدلّة بعضها ببعض، و إنّما وقف علي الحكم الشرعي و هو الاستحباب عن طريق الوحي و لمّا بيّن للأُمّة أهميته من الناحية الصحية، ظهر فيه ملاك الإِلزام، و لكن لم يتابعه التشريع، لما في الإِلزام من حرج و مشقة.

و أمّا الحديث الثاني فقد روي البخاري انّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «و لا يختلي خلاه».

قال ابن الأَثير: ففي حديث تحريم مكة «لا يختلي خلاها» الخلي: مقصور: النبات الرطب الرقيق ما دام رطباً، و اختلأَه قطعه، و أخلت الأَرض: كثر خلاها، فإذا يبس فهو حشيش «3».

______________________________

(1) البخاري: الصحيح: 4- 105، باب اسم الغادر للبر و الفاجر قبيل كتاب بدء الخلق.

(2) مناع القطان: تاريخ التشريع الإِسلامي: 3.

(3) ابن الأَثير: النهاية: 2- 74.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 124

و أمّا استثناء الإذخر فلم يكن اجتهاداً من النبي بل بياناً لواقع الحكم حيث كان قطعه مستثني في الشريعة، و كان للنبي أن يذكر العام دون المخصّص لمصلحة في التأخير، و لكن لمّا تكلّم العباس بالمخصِّص، صدّقه و بيّن المخصص فوراً.

و وجه الاستثناء ابتلاء الحدّاد و الصائغ و الناس في بيوتهم بهذا النبات

الطيب الرائحة قال الجزري: و في حديث العباس «إلّا الإذخر فإنّه لقيوننا» القيون: جمع قين، و هو الحدّاد و الصائغ «1».

الثالث: لما أمسي الناس في اليوم الذي فتحت عليهم يعني خيبر أوقدوا نيراناً كثيرة

، فقال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «ما هذه النيران؟ علي أي شي ء توقدون؟» قالوا: علي لحم، قال: «أي لحم؟» قالوا: الحمر الإنسية، فقال النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «أهريقوها و اكسروها» فقال رجل: أو يهرقوها و يغسلوها؟ قال: «أو ذاك» «2».

وجه الاستدلال: أنّ النبيّ أمر بكسر القدور أوّلًا، و لما طُلِب منه الاكتفاء بالإِهراق و الغسل اقتصر عليه.

فلو كان الكسر بوحي منه سبحانه لما كان له العدول عنه.

الجواب أوّلًا: إنّ الرواية نقلت بصور مختلفة حتي أنّ البخاري نقلها كالتالي: أ- فجاء منادي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: لا تأكلوا من لحوم الحمر شيئاً و أهريقوها.

ب- فنادي منادي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: اكفئوا القدور «3».

______________________________

(1) النهاية: 4- 135؛ و في بعض النصوص القين و تعني الزينة، و هو الأَظهر ممّا ذكره صاحب النهاية.

(2) صحيح مسلم: 5- 186، غزوة خيبر.

(3) صحيح البخاري: 5- 136، باب غزوة خيبر.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 125

و لم يُعلم أنّ النبي أمر بكسرها، و ثانياً: سلّمنا أنّه أمر بالكسر لكن لا مانع لَان يكون للكراهة الشديدة مراحل فالأَولي هو كسر القدور و طرحها جانباً، ثمّ الاولي إهراقها و غسلها، فبدأ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بما هو الاولي، و لمّا كان شاقاً علي الناس، أمضي الحكم الثاني، و هو إخلاؤها و إكفاؤها.

و لعمري ليس في تلك الأُمور أي دلالة علي أنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- كان يجتهد كاجتهاد

الآخرين، و العجب من ابن قيّم الجوزية انّه عقد فصلًا بيّن فيه فتاوي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و قال: و لنختم الكتاب بذكر فصول يسير قدرها، عظيم أمرها من فتاوي إمام المفتين و رسول ربّ العالمين تكون روحاً لهذا الكتاب، و رقماً علي جلة هذا التأليف «1».

فذكر أحاديثه و كلماته في العقائد و الأَحكام باسم الفتوي، فيتبادر إلي الذهن انّه كان يفتي كالآخرين مع أنّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- كان يرشد الناس لحكم اللّه سبحانه بطرق مختلفة، فالافتاء في كلامهم كالإِفتاء في قوله سبحانه: " يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّٰهُ يُفْتِيكُمْ" «2».

النبي و الأُمور الدنيوية

لا شكّ أنّ هناك أُموراً دنيوية كالزراعة و الطب و الحرب و فنونها يكتسبها الناس عبْر التجربة، و لم يزل المجتمع الإِنساني يتقدّم نحو الامام كلّما كثرت تجاربه و خبراته المادية، و الإِنسان يخطئ و يصيب في الوقوف علي أسرار الكون و نواميسه، و تلك الخطوات و إن أخفقت في بعض المراحل، لكنّها تنتهي إلي

______________________________

(1) ابن قيّم الجوزية: إعلام الموقعين: 4 414- 266.

(2) النساء: 176.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 126

كشف الحقائق و لمس الواقع، و هذه هي الأسس التي بنيت عليها الحضارات.

إنّما الكلام في أنّ سبيل النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- إلي هذه الأُمور هل هو كسبيل سائر الناس يجتهد و يخطئ أو أنّه لا يخطئ في تلك الأُمور بإلهام من اللّه سبحانه مسدِّد الخطي نحو الصواب؟ يقول أحد الكتاب المعاصرين: إنّ النبي يجتهد في شئون الزراعة و الطب اجتهاد غيره يخطئ و يصيب و ليس شرعاً، و لذا قال في تأبير النخل: «أنتم أعلم بأُمور دنياكم».

ففي الصحيحين انّ النبي- صلّي اللّه عليه و

آله و سلم- مرّ بقوم يلقحونه، فقال: «لو لم تعملوا لصلح» قال: فخرج شيصاً «1» فمرّ بهم، فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا و كذا، قال: «أنتم أعلم بأُمور دنياكم».

أقول: إنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أفضل الخليقة و أفضل من أبينا آدم أبي البشر، و قد علّمه سبحانه الأَسماء قال سبحانه: " وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلٰائِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلٰاءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ. قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لٰا عِلْمَ لَنٰا إِلّٰا مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قٰالَ يٰا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمٰائِهِمْ فَلَمّٰا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمٰائِهِمْ قٰالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ مٰا تُبْدُونَ وَ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ" «2».

قال صاحب المنار في تفسير تلك الآيات: أودع في نفسه علم جميع الأَشياء من غير تحديد و لا تعيين، فالمراد من الأَسماء المسمّيات عبّر عن المدلول بالدليل لشدّة الصلة بين المعني و اللفظ الموضوع له إلي أن قال: علّم اللّه آدم كلّ

______________________________

(1) يقال: شيّصت النخلة: فسدت و حملت الشيص، و هو تمر ردي ء.

(2) البقرة: 3331.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 127

شي ء، و لا فرق في ذلك بين أن يكون له هذا العلم في آن واحد، أو في آونة متعدّدة، و اللّه قادر علي كلّ شي ء.

و لأَجل تلك المكانة جعله اللّه خليفة في الأَرض، و أمر الملائكة بالسجود له «1».

فإذا كانت هذه مكانة آدم و منزلته من حيث العلم بحقائق الأَشياء و أسرار الكون، فكيف بأفضل الخليقة محمد- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فهل من المعقول أن لا يقف علي ما وقف عليه أبونا آدم؟! فالقرآن الكريم هو المهيمن علي الكتب السماوية، فليكن

مهيمناً علي كلّ المأثورات المعزوَّة إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال سبحانه: " وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ" «2».

و علي ضوء ذلك، فكل ما نُسب إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- من الجهل بأسرار الطبيعة و رموزها، فهو موضوع علي لسانه فضلًا عن جهله بأبسط الأُمور و أوضحها التي يعرفها صبيان العرب.

و لنتناول بعض الأَحاديث في هذا الصدد مع النقد و التعليق عليها: 1- روي مسلم، عن موسي بن طلحة، عن أبيه، قال: مررت و رسول اللّه (صلي الله عليه و آله و سلم) بقوم علي رءوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأُنثي فتلقح، فقال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «ما أظن يغني ذلك شيئاً»، فأخبروا بذلك، فتركوه، فأخبر رسول اللّه بذلك، فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنّي إنّما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، و لكن إذا حدّثتكم عن اللّه

______________________________

(1) المنار: 2651- 262.

(2) المائدة: 48.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 128

شيئاً فخذوا به، فإنّي لن أَكذب علي اللّه عزّ و جلّ» «1».

و روي عن رافع بن خديج، قال: قدم نبي اللّه المدينة و هم يأبرون النخل يقولون: يلقحون النخل فقال: «ما تصنعون؟» قالوا: كنّا نصنعه، قال: «لعلّكم لو لم تفعلوا كان خيراً» فتركوه، فنقصت قال: فذكروا ذلك له، فقال: «إنّما أنا بشر إذا أمرتكم بشي ء من دينكم فخذوا به، و إذا أمرتكم بشي ء من رأيي فإنّما أنا بشر» «2».

و العجب أنّ مسلماً النيسابوري مؤَلف الصحيح ذكر الحديث في باب أسماه ب «وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره-

صلّي اللّه عليه و آله و سلم- من معايش الدنيا علي سبيل الرأي» نحن نعلّق علي الحديث بشي ء بسيط، و نترك التفصيل إلي القاريَ.

أوّلًا: نفترض أنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- لم يكن نبياً، و لا أفضل الخليقة، و لا من أنزل عليه الكتاب و الحكمة، و لا من وصفه اللّه سبحانه بالخلق العظيم، بل كان عربيا صميماً ولد في أرض الحجاز، و عاش بين ظهراني قومه و غيرهم في الحضر و البادية، و قد توالي سفره إلي الشام، و كل من هذا شأنه يقف علي أنّ النخيل لا يثمر إلّا بالتلقيح، فما معني سؤَاله ما يصنع هؤلاء؟! فيجيبونه بقولهم: إنّهم «يلقحونه» أ فيمكن أن يكون هذا الشي ء البسيط خفياً علي النبي؟! ثانياً: كيف يمكن للنبي النهي عن التلقيح الذي هو سنّة من سنن اللّه أودعها في الطبيعة، و قال سبحانه: " فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّٰهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّٰهِ تَحْوِيلًا" «3» و مع ذلك فكيف يقول: «ما أظن يغني ذلك شيئاً»؟! ثالثاً: انّ الاعتذار الوارد في الرواية يسي ء الظن بكل ما يخبر به عن اللّه بلسانه و يخرج من شفتيه، و الأَسوأ من ذلك ما نسب إليه من الاعتذار بقوله: «و إذا

______________________________

(1) مسلم، الصحيح: 15- 125 و 126، الباب 38، كتاب الفضائل.

(2) مسلم، الصحيح: 15- 125 و 126، الباب 38، كتاب الفضائل.

(3) فاطر: 43.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 129

حدثتكم عن اللّه شيئاً فخذوا به، فإنّي لن أكذب علي اللّه عزّ و جلّ»، لَانّ فيه تلميحاً إلي أنّه و العياذ باللّه يكذب في مواضع أُخر.

فلو كانت الرواية و نظائرها مصدراً للعقيدة، فسيعقبها جهل النبي- صلّي اللّه عليه و آله

و سلم- بأبسط السنن الجارية في الحياة، فهل يصح التفوّه بذلك؟! 2- روي ابن هشام أنّ الحباب بن منذر بن الجموح قال لرسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في غزوة بدر: يا رسول اللّه أ رأيت هذا المنزل، أ منزلًا أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدّمه، و لا نتأخّر عنه، أم هو الرأي و الحرب و المكيدة؟ قال: «بل هو الرأي و الحرب و المكيدة؟» فقال: يا رسول اللّه، فإنّ هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتي نأتي أدني ماء من القوم، فننزله ثمّ نغور ما وراءه من القُلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثمَّ نقاتل القوم، فنشرب و لا يشربون.

فقال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لقد أشرت بالرأي».

فنهض رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و من معه من الناس، فسار حتي إذا أتي أدني ماء من القوم نزل عليه، ثمّ أمر بالقُلب فغوِّرت، و بني حوضاً علي القُلب الذي نزل عليه فمليَ ماء، ثمَّ قذفوا فيه الآنية «1».

أقول: إنّ متابعة قول الصحابي الحباب بن منذر لم ينشأ عن خطأ رأي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في المنزل الذي نزلوه، بل انّ كلا الرأيين كانا علي صواب، و لكن نزل عند رغبة الحباب بن منذر إجلالًا له و دعماً لمبدإ الشوري في الحرب ليتّخذوه أصلًا في أُمور دنياهم بغية استقطاب قلوب الناس إلي الإِسلام قال سبحانه:

______________________________

(1) ابن هشام: السيرة النبوية: 2- 620.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 130

" فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ

فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" «1».

هذا إذا صحّت الرواية و إلّا فتُطرح.

فلم تكن مشاورة النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في واحد من تلك المواقف نابعةً عن جهله (نعوذ باللّه) بما فيه مصلحة الأُمّة، بل كانت المصلحة يومذاك تقتضي المشاورة و الوقوف علي الآراء، ثمّ العزم علي ما تقتضيه المصلحة، فنري أنّه (صلي الله عليه و آله و سلم) استشارهم في غزوة بدر قائلًا: «أشيروا عليَّ أَيُّها الناس» و إنّما قال ذلك، لَانّه يريد به الأَنصار، و ذلك أنّهم كانوا يؤَلِّفون الأَكثرية و انّهم حين ما بايعوه بالعقبة فإنّما بايعوه علي أن يدافعوا عنه مثلما يدافعون عن أبنائهم و نسائهم و لم يبايعوه للهجوم و القتال، و لما كان المسير إلي وادي بدر بغية قتالهم، فلم يكن له بدّ من استشارتهم، فلمّا وقف علي استعدادهم لأَكثر ممّا بايعوه بالعقبة، قال: «سيروا و أبشروا».

روي ابن هشام: أنّ سعد بن معاذ، قام و قال: فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضنا معك، ما تخلّف منّا رجل واحد و ما نكره أن تلقي بنا عدونا غداً انّا لصبر في الحرب و صدق في اللقاء، لعل اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسِرْ بنا علي بركة اللّه.

فسرّ رسول اللّه بقول سعد و نشطه ذلك، ثمّ قال: «سيروا و أبشروا» «2».

و هذه هي الضابطة الكلية في كلّ ما شاور النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في الحروب و غيرها، و قد كمنت المصلحة في نفس المشاورة عن طريق استقطاب آراء الصحابة دون أن تكون الغاية من ورائها الوصول إلي الواقع و رفع أغشية الجهل نعوذ باللّه.

3- أخرج السيوطي

في «الدر المنثور» و قال: لمّا توفّي عبد اللّه بن أُبيّ أتي ابنه عبد اللّه رسول اللّه يسأله أن يعطيه قميصه و يكفّنه فيه، فأتاه، ثمّ سأله أن يصلّي عليه، فقام رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فقام عمر بن الخطاب فأخذ ثوبه، فقال: يا رسول

______________________________

(1) آل عمران: 159.

(2) السيرة النبوية: 2- 615.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 131

اللّه أ تصلّي عليه، و قد نهاك اللّه أن تصلّي علي المنافقين؟ فقال: «إنّ ربي خيّرني فقال: " اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لٰا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ" «1» و سأزيد علي السبعين» فقال: إنّه منافق فصلّي عليه، فأنزل اللّه تعالي: " وَ لٰا تُصَلِّ عَليٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَ لٰا تَقُمْ عَليٰ قَبْرِهِ" «2» فترك الصلاة عليهم «3».

و في هذا المعني روايات أُخري رواها أصحاب الجوامع، و رواة الحديث عن عمر بن الخطاب و جابر و قتادة، و في بعضها: انّه كفّنه بقميصه و نفث في جلده و نزل في قبره.

و في رواية أُخري قال عمر فيها: يا رسول اللّه قد عرفت عبد اللّه و نفاقه أ تصلّي عليه، و قد نهاك اللّه أن تصلّي عليه؟ فقال: و أين؟ فقال: " اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لٰا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ" قال: فإنّي سأزيد علي سبعين، فأنزل اللّه: " وَ لٰا تُصَلِّ عَليٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَ لٰا تَقُمْ عَليٰ قَبْرِهِ) الآية «4».

قال: فأرسل إلي عمر فأخبره بذلك، و أنزل اللّه: " سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ".

هذا و قد قسَّم ابن قيّم الجوزيّة الرأي المحمود إلي أنواع و

عدَّ منه رأي الصحابة، و عرّفه بأنّه رأي أفقه الأُمّة و أبر الأُمّة قلوباً و أعمقهم علماً.

ثمّ أيّد كلامه بما نقله عن الشافعي، انّه قال: البدعة ما خالفت كتاباً أو سنّة أو أثراً عن بعض أصحاب رسول اللّه، و جعل ما خالف قول الصحابي بدعة، ثمّ قال: لمّا توفي عبد اللّه بن أُبيّ

______________________________

(1) التوبة: 80.

(2) التوبة: 84.

(3) الدر المنثور: 4- 258.

(4) المصدر السابق: 4- 258.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 132

قام رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يصلّي عليه، فقام عمر فأخذ بثوبه فقال: يا رسول اللّه إنّه منافق، فصلّي عليه رسول اللّه، فأنزل اللّه عليه: " وَ لٰا تُصَلِّ عَليٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَ لٰا تَقُمْ عَليٰ قَبْرِهِ" «1».

أقول: إنّ العاطفة أخذت الراوي في جعل هذا الحديث و وضعه، فإنّ علائم الوضع فيه ظاهرة لوجوه: 1- فلأَنّ قوله سبحانه: " اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لٰا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.." ظاهر في أنّ المراد لغوية الاستغفار للمنافقين دون التحديد، و عدد السبعين كناية عن المبالغة، و النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أجلُّ من أن يجهل بمفهوم الآية و يحملها علي التحديد.

و يقول فإنّي سأزيد علي السبعين.

2- انّ الآيات الناهية عن الاستغفار للمنافقين و الصلاة عليهم تعلّل النهي بفسقهم و كفرهم. يقول سبحانه: " سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ" «2».

و قال سبحانه: " اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لٰا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ" «3».

و مثله قوله سبحانه: " مٰا كٰانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ

لَوْ كٰانُوا أُولِي قُرْبيٰ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ الْجَحِيمِ" «4».

فالآيات ظاهرة في أنّ الاستغفار أمر لغو، لكفر المستغفر له و فسقه، و عند ذلك فما معني الاستغفار الذي عزي إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

______________________________

(1) ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين: 1- 81.

(2) المنافقون: 6.

(3) التوبة: 80.

(4) التوبة: 113.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 133

ثم ما معني نزول قوله سبحانه: " سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ" في صلاة النبيّ- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- علي المنافق «عبد اللّه بن أُبيّ» مع أنّه نزل في غزوة بني المصطلق، و يرجع تاريخه إلي العام السادس من الهجرة في حين توفّي عبد اللّه بن أُبيّ في العام التاسع.

ثمّ إنّ هناك من حاول تصحيح تلك الروايات بقوله: إنّ النبي استغفر و صلّي علي عبد اللّه ليستميل قلوب رجال منافقين من الخزرج إلي الإِسلام «1».

و هذه المحاولة من الوهن بمكان إذ كيف يصحّ للنبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أن يخالف النص القرآني الصريح بغية استمالة قلوب المنافقين و المداهنة معهم، و قد ندّد اللّه سبحانه بمثل هذا العمل و توعد به و قال: " وَ إِنْ كٰادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنٰا غَيْرَهُ.. إِذاً لَأَذَقْنٰاكَ ضِعْفَ الْحَيٰاةِ وَ ضِعْفَ الْمَمٰاتِ ثُمَّ لٰا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنٰا نَصِيراً" «2».

و الحقّ انّ رواة هذا الحديث حاولوا تعظيم أمر الخليفة بما يمسّ كرامة النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- من حيث لا يشعرون، و ليس هذا بجديد، فقد رووا في غير واحد ما يشبهه حيث نقلوا: 1- أنّ الخليفة رأي ان تحجب نساء النبي- صلّي اللّه عليه

و آله و سلم- فنزل القرآن بموافقته «3».

2- رأي الخليفة أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلّي، فنزل القرآن بموافقته «4».

و قد مرّ أنّ عمر رأي في أُساري بدر أن تضرب أعناقهم، فنزل القرآن بموافقته كما مرّ و الدواعي من وراء جعل تلك الروايات هي العاطفة الدينية التي أخذتهم علي الخليفة.

______________________________

(1) تفسير المنار: 10- 669.

(2) الاسراء: 7573.

(3) الدر المنثور: 6- 639.

(4) الدر المنثور: 1- 290.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 134

مصادر التشريع 3

الإِجماع

اشارة

الإِجماع في اللغة هو العزم و الاتفاق، قال سبحانه: " فَلَمّٰا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيٰابَتِ الْجُبِّ" «1» و قال تعالي: " وَ مٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ" «2».

و أمّا اصطلاحاً فيستعمل في موردين: الأَوّل: ما عرف به الغزالي، و قال: فإنّما نعني به اتّفاق أُمّة محمّد- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- خاصة علي أمر من الأُمور الدينية، كما اتّفقت الأُمّة علي أنّ الصلوات خمس، و أنّ صوم رمضان واجب، إلي غير ذلك من الأَمثلة «3».

الثاني: اتّفاق مجتهدي عصر واحد علي أمر ديني، بمعني أن يتوافر الاتفاق من جميع المجتهدين المسلمين في وقت الحادثة من مختلف الأَمصار الإِسلامية، فلا ينعقد إجماع في بلد معين كالحجاز و الحرمين و مصر و العراق، و لا ينعقد بآل البيت (عليهم السلام) وحدهم، أو بأهل السنّة دون مجتهدي الشيعة «4».

______________________________

(1) يوسف: 15.

(2) يوسف: 102.

(3) المستصفي: 1- 173.

(4) عبد الوهاب خلاف: مصادر التشريع الإِسلامي: 119.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 135

و في جميع الموارد إمّا أن يكون إجماعهم علي الحكم مستنداً إلي نصّ قرآني، أو سنّة، أو غيرهما من مصادر التشريع، أو يكون مجرد اتّفاق دون أن يقترن بمستند

الحكم.

و علي جميع الصور فإمّا أن يعلم مستند اتّفاقهم علي الحكم بأن يصل إلينا دليل اتّفاقهم و مدركه، أو لا، بأن كان المنقول مجرد الاتّفاق دون أن يقترن بذكر الدليل، و قبل الخوض في بيان أحكام الصور نشير إلي أمر و هو:

مكانة الإِجماع في الفقه الشيعيّ

: ذهبت الشيعة إلي أنّ للّه سبحانه في كلّ واقعة حكماً شرعياً أمرنا باتّباعه و المضي عليه، بيد أنّ المستنبط تارة يصيب و أُخري يخطئ، فللمصيب أجران و للمخطئ أجر واحد، و لم يفوّض سبحانه أحكام الحوادث إلي آراء المجتهدين و المستنبطين بأن يكون حكم الواقع تابعاً لاستنباط المجتهد، فما رآه حقاً يكون حقاً، و ما رآه باطلًا يكون باطلًا، لَانّ هذا هو التصويب الباطل المحال عقلًا.

فإنّ بذل الجهد علي استنباط الحكم الشرعي فرع وجوده في الواقع، فلو كان حكم اللّه تابعاً لرأي المجتهد يلزم الدور الصريح بلا إشكال، و هذا بحث مسهب لخّصناه في المقام.

و علي ضوء ذلك فالإِجماع بما هو إجماع لا يصلح أن يكون دليلًا للحكم الشرعي، لأَنّه عبارة عن اجتهادات متراكمة منصبّة علي أمر واحد، و قد علمت أنّ اجتهاد المجتهد ليس من مصادر التشريع، و أنّ حكم اللّه لا يتبع ذوق المجتهد ورائه، فإذا كان هذا حال الاجتهاد المنفرد فلا تختلف عنه الاجتهادات المتراكمة، فلا يبقي هناك أمر سوي البحث عن مدي قابلية كشف الإِجماع عن الحكم الشرعي.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 136

و الحقّ انّها تتفاوت حسب اختلاف مراتب الإِجماع و صوره.

الصورة الأولي، أعني: اتّفاق جميع المسلمين، فلا شكّ انّه كاشف عن الحكم الشرعي، إذ يستحيل عادة أن يتفق المسلمون عالمهم و جاهلهم علي شي ء باطل من أصله.

و مثلها الصورة الثانية فإنّ اتّفاق جميع المجتهدين في كافة

الأَعصار و من جميع الطوائف علي حكم شرعي يكشف عادة عن إصابتهم الواقع و إحرازهم له، و يستحيل عادة تخلّفه عن الواقع دون فرق بين كون الإِجماع مقروناً بالدليل أو لا، و سواء أ كان دليلهم قابلًا للنقاش أم لا.

فإنّ نفس الاتّفاق من جميع المسلمين أو المجتهدين يلازم عادة إصابة الواقع و كاشف له و مفيد للعلم، فيصبح حجّة عقلًا.

و أمّا الصورة الثالثة، أعني: اتّفاق مجتهدي عصر واحد علي حكم شرعي، فهو علي نحوين: فتارة يكون اتّفاقهم مقروناً بذكر الدليل الشرعي و أُخري يكون مجرداً عنه.

فلو كان مقروناً بذكر الدليل و كان تاماً سنداً و دلالة يؤخذ به، و إن لم يكن مقروناً بالدليل، أو كان الدليل خاضعاً للنقاش و الرد، فيقع الكلام في أنّ اتّفاق علماء عصر واحد هل هو حجّة علي الغير أو لا؟ و حيث إنّك عرفت أنّ إفتاء المجتهد منفرداً، أو مجتمعاً، ليس من مصادر التشريع، و إنّما العبرة بكشفه عن الواقع و ملازمته الإِصابة فلا يكون الاتفاق حجّة إلّا إذا كان هناك ملازمة بينه و بين إصابة الواقع إذا لم يكن الإِجماع بما هو إجماع حجّة شرعية، كما عليه فقهاء أهل السنّة و سيوافيك تفصيله بل كانت العبرة بمدي إصابة رأي المجمعين للواقع و كشفه عن الدليل المعتبر، فعند ذلك يمكن أن نقول:

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 137

إنّ اتّفاق عدد كبير من أهل النظر و الفتوي علي حكم ربّما يوجب إحراز الحكم الشرعي و إصابة المجمعين الواقع و عثورهم علي الدليل الشرعي و إن لم نعثر عليه و ذلك بالبيان التالي: «إنّ فتوي الفقيه في مسألة شرعية بحتة تعتبر إخباراً حدسياً عن الدليل الشرعي، و الإِخبار الحدسي هو الخبر

المبنيّ علي النظر و الاجتهاد في مقابل الخبر الحسّي القائم علي أساس المدارك الحسيّة، و كما يكون الخبر الحسّي ذا قيمة احتمالية في إثبات مدلوله، كذلك فتوي الفقيه بوصفها خبراً حدسياً يحتمل فيه الإِصابة و الخطأ معاً، و كما أنّ تعدّد الإِخبارات الحسيّة يؤَدّي بحساب الاحتمالات إلي نموّ احتمال المطابقة و ضآلة احتمال المخالف، كذلك الحال في الإخبارات الحدسية حتي تصل إلي درجة توجب ضآلة الخطأ في الجميع جدّاً، و بالتالي زوال هذا الاحتمال عملياً أو واقعياً، و هذا ما يسمّي بالإِجماع» «1».

و الحق انّ الانتقال من إجماع المجمعين إلي الحكم الشرعي يختلف حسب اختلاف المسائل و ذكاء المجمعين و القرائن الحافّة بكلامهم، فربما يفيد اتّفاقهم العلم بالحكم الشرعي، و أُخري لا يفيد إلّا الظن.

إنّ احتمال الاشتباه في الاستنباط ممّا لا ينبغي إنكاره، و كم فرق بين الإِدراك ببصيرة العقل، و بين الإِدراك بالبصر، و مع الاعتراف بالفرق بين الحدسيات و الحسيات نقول: إنّ الحال يختلف حسب اختلاف أصحاب النظر في الذكاء و الدقة، و في الالمعية و الفطنة، و في اختلافهم في كثرة الممارسة و قلّتها، و اختلاف جوهر المسائل من حيث كونها عقلية محضة، ككيفية علمه سبحانه، أو قربها من المسائل العقلية الواضحة أو المحسوسة، و ربما يكون ذلك الاختلاف سبباً لمثول

______________________________

(1) السيد محمد باقر الصدر: دروس في علم الأصول: 171، الحلقة الثانية.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 138

خطأ المجمعين أمام بصيرتنا.

و ربما يكون علي العكس و يصل احتمال الخطأ إلي درجة ضئيلة لا تلتفت إليها النفس و يحصل اليقين بالإِصابة.

هذا هو مقتضي القاعدة العقلية في الإِجماع و قد مرّ أنّ قيمة الإِجماع في الفقه الإِمامي تكمن في مقدار كشفه عن الواقع، فلو

كان كاشفاً تاماً كما في الصورتين الأُوليين يؤخذ به، و إلّا فلا عبرة به لعدم الملازمة بينه و بين إصابة الواقع.

مكانة الإِجماع في الفقه السنّي

قد عرفت أنّ الإِجماع بما هو إجماع ليس من أدوات التشريع و مصادره و انّ حجّيته تكمن في كشفه عن الحكم الواقعي المكتوب علي الناس قبل إجماع المجتهدين و بعده.

و أمّا علي القول باختصاص الحكم الواقعي المشترك بما ورد فيه النص عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، و ترك التكليف فيما سواه إلي اجتهاد المجتهد فيصير الإِجماع من مصادر التشريع فيعادل الكتاب و السنّة في إضفاء المشروعية علي الحكم المتفق عليه و يصير بالاتفاق حكماً واقعياً إلهياً.

و يوضحه الأُستاذ السوري «الزحيلي» بقوله: و نوع المستند في رأي الأَكثر إمّا دليل قطعي من قرآن أو سنّة متواترة فيكون الإِجماع مؤَيّداً و معاضداً له، و إمّا دليل ظني و هو خبر الواحد و القياس، فيرتقي الحكم حينئذٍ من مرتبة الظن إلي مرتبة القطع و اليقين «1».

و معني ذلك انّه لا بدّ أن يكون للإِجماع من دليل ظني، فإذا اتّفق المجتهدون علي الحكم و لو لأَجل ذلك الدليل الظني يصبح الحكم قطعيّاً، و ما ذاك إلّا

______________________________

(1) الدكتور و هبة الزحيلي: الوجيز في أُصول الفقه: 49.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 139

لأَجل دوران الحكم مدار الاتفاق و عدمه.

يقول الشيخ عبد الوهاب خلّاف: من حقّق النظر في منشأ فكرة الإِجماع في التشريع الإِسلامي، و في كيفية الإِجماع الذي انعقد في أوّل مرحلة تشريعية بعد عهد الرسول، و في تقدير المجمعين لمن عقد عليه إجماعهم من الاحكام، يتحقّق أنّ الإِجماع أخصب مصدر تشريعي يكفل تجدّد التشريع و تستطيع به الأُمّة أن تواجه كلّ ما يقع فيها من

حوادث، و ما يحدث لها من وقائع، و إن تساير به الازمان و مختلف المصالح في مختلف البيئات.

ثمّ قاس فكرة الإِجماع بالشوري و قال: و منشأ فكرة الإِجماع انّ الإِسلام أساسه في تدبير شئون المسلمين، الشوري، و إن لا يستبد أُولي الأَمر منهم بتدبير شئونهم سواء أ كانت تشريعية، أم سياسية، أم اقتصادية، أم إدارية أم غيرها من الشئون، قال اللّه تعالي مخاطباً رسوله: " فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ" «1» و لم يخص سبحانه بالمشاورة أمراً دون أمر.. ليشعرهم انّ الشوري من عمد دينهم كإقامة الصلاة.

و علي هذا الأَساس كان الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يستشير رءوس صحابته في الأُمور التي لم ينزل وحي من ربه و ممّا كان يستشيرهم فيه التشريع فيما لم ينزل فيه قرآن، إلي أن قال: فلمّا توفي رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و واجهت أصحابه وقائع عديدة لم ينزل فيها قرآن و لم تمض فيها من الرسول سنّة سلكوا السبيل الذي أرشدهم إليه القرآن و هو الشوري، و الذي سلكه الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فيما لم ينزل فيه قرآن و هو الشوري.

إلي أن استنتج في كلامه المسهب ما هذا نصه: و من هنا يتبيّن انّ إجماع الصحابة ما كان إلّا اتّفاق من أمكن اجتماعهم من رءوسهم و خيارهم علي حكم

______________________________

(1) آل عمران: 159.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 140

واقعة لم يرد نص بحكمها، و انّ الذي دعاهم إلي اتّباع هذا السبيل هو العمل بالشوري التي أوجبها اللّه و سار عليها الرسول و تنظيم اجتهاد الافراد فيما لا نصّ فيه، فبدلًا من أن يستقل كلّ

فرد من خيارهم بالاجتهاد في هذه الوقائع اجتمعوا و تشاوروا و تبادلوا الآراء، و الخليفة ينفذ الحكم الذي اتّفقوا عليه «1».

و لا يخفي ما في كلمات الأُستاذ من الخلط.

أمّا أوّلًا: فقد تضافرت الآيات القرآنية علي أنّ التشريع حقّ مختص باللّه تبارك و تعالي، و انّ كلّ تشريع لم يكن بإذنه فهو افتراء علي اللّه و بدعة.

و ليس علي الناس إلّا الحكم بما أنزل اللّه، و من حكم بغيره فهو كافر و ظالم و فاسق «2».

قال سبحانه: " إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفٰاصِلِينَ" «3».

و مع هذا التصريح فكيف يكون للبشر الخاطيَ غير الواقف علي المصالح و المفاسد حقّ التشريع علي الإِنسان علي وجه يكون نافذاً، إلي يوم البعث؟! نفترض انّ لفيفاً من الصحابة بذلوا جهوداً فوصلوا إلي أنّ المصلحة تكمن في أن يكون حكم الواقعة هو هذا، أ فهل يكون إجماعهم علي ذلك الحكم دون أن يكون مستمداً من كتاب أو سنّة حجّة علي البشر إلي يوم القيامة لو لم نقل انّ اتّفاقهم علي الحكم عندئذٍ بدعة و افتراء علي اللّه؟! و ثانياً: انّ عطف الإِجماع علي المشورة من الغرائب، فإنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- كان يستشير أصحابه في الموضوعات العرفيّة التي ليس للشارع فيها حكم شرعي، و إنّما ترك حكمها إلي الظروف و الملابسات و إلي الناس أنفسهم، حتي نجد انّ

______________________________

(1) عبد الوهاب خلاف: مصادر التشريع الإِسلامي: 167166.

(2) راجع سورة المائدة: الآيات: 44 و 45 و 47.

(3) الأَنعام: 57.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 141

أكثر مشاورات النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- كانت تتم في كيفية القتال و الذبّ عن حياض الإِسلام.

فهذا هو رسول

اللّه يشاور المسلمين في غزوة بدر قبل اصطدامهم بالمشركين، و قال: أشيروا عليّ أيّها الناس، و كأنّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يريد أن يقف علي رأي أصحابه في السير إلي الامام و قتال المشركين، أو الرجوع إلي الوراء، و لم يكن في المقام أي حكم مجهول حاول النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أن يستكشفه عن طريق المشاورة، و كم فرق بين المشاورة في الموضوعات العرفية و المشاورة لكشف حكم شرعي منوط بالوحي؟ و هذه هي مشاورته الثانية في معركة أُحد حيث شاور أصحابه، ليقف علي كيفية مجابهة المشركين و أُسلوب الدفاع عن الإِسلام فأدلوا بآرائهم، فمن طائفة تصرّ علي أن لا يخرج المسلمون من المدينة و يدافعوا عنها متحصنين بها، إلي أُخري تري ضرورة مجابهة المشركين خارج المدينة «1».

إلي غير ذلك من مشاوراته المنقولة في كتب التاريخ كمشاورته في معركة الأَحزاب و غيرها.

و من تتبع المشاورات التي أجراها النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- مع أصحابه في التاريخ يقف علي حقيقة، و هي: انّنا لا نكاد نعثر علي وثيقة تاريخية تثبت انّ النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) شاورهم في أُمور الدين و الفتيا، بل كانت تلك المشاورات تتم في أُمور الدنيا و لما فيه صلاح أُمورهم.

______________________________

(1) الواقدي: المغازي: 1- 211.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 142

أدلّة عدِّ الإِجماع من مصادر التشريع

اشارة

ثمّ إنّك بعد الوقوف علي ما ذكرنا (من أنّ الإِجماع ليس من مصادر التشريع، و إنّما العبرة فيه قابلية كشفه عن الواقع و إصابته، و هذا يختلف باختلاف مراتب الإِجماع كما سبق) في غني عن البرهنة علي حجّية الإِجماع، و إنّما يقوم به من رأي أنّ نفس الإِجماع

بما هو إجماع من مصادر التشريع،

فاستدلوا بآيات
: الآية الأُولي: آية المشاقة

قال سبحانه: " وَ مَنْ يُشٰاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُديٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰي وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً" «1».

و هذه الآية هي التي تمسّك بها الشافعي علي حجّية الإِجماع في رسالته أُصول الفقه.

و وجه الاستدلال: هو انّ اللّه يعد اتباع غير سبيل المؤمنين نوعاً من مشاقة اللّه و رسوله و جعلَ جزاءهما واحداً و هو الوعيد حيث قال: " نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰي وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ" فإذا كانت مشاقّة اللّه و رسوله حراماً كان اتباعُ غير سبيل المؤمنين حراماً مثله و لو لم يكن حراماً لما اتحدا في الجزاء، فإذا حرم اتباع غير سبيلهم فاتباع سبيلهم واجب، إذ لا واسطة بينهما و يلزم من وجوبِ اتباع سبيلهم كونُ الإِجماع حجّة، لأَنّ سبيل الشخص ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد «2».

يلاحظ علي الاستدلال بوجوه: الأَوّل: انّ الإمعان في الآية يُرشدنا إلي أنّ ثمة طائفتين: الأولي: من يشاقق الرسول و يعانِدُه و يتبع سبيل الكافرين فاللّه سبحانه

______________________________

(1) النساء: 115.

(2) أُصول الفقه الإِسلامي: 1- 540.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 143

يولّه ما تولّي و يصله جهنم.

الثانية: من يحب الرسول و يتبع سبيل المؤمنين فيعامل معه علي خلاف الطائفة الأولي.

ثمّ إنّ سبيل الكافرين عبارة عن عدم الايمان به و معاندته و محاربته، و سبيل المؤمنين علي ضدّ سبيلهم فهم يؤمنون به و يحبّونه، و ينصرونه في سبيل أهدافه.

فاللّه سبحانه يذمُّ الطائفةَ الأُولي و يمدح الطائفةَ الثانية، و عندئذٍ أي صلة للآية بحجّية اتفاق المجتهد في مسألة من المسائل الفرعية.

و بعبارة أُخري: يجب علينا إمعان النظر في قوله سبحانه: " وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ

الْمُؤْمِنِينَ" بُغية تبيين سبيل المؤمن و الكافر، فسبيل الأَوّل هو الايمان باللّه و إطاعة الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و مناصرته، و سبيل الآخر هو الكفر باللّه و معاداة الرسول و مشاقته.

و هذا هو المستفاد من الآية و أمّا الزائد علي ذلك فالآية ساكتة عنه.

الثاني: ليس هنا موضوعان مستقلان لكل حكمة، بل الموضوع في الآية شي ء واحد مركب من أمرين: أ- معاداة الرسول.

ب- سلوك غير سبيل المؤمنين.

فجعل للأَمرين جزاء واحداً و هو إصلاءه النار، و بما أنّ معاداة الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) وحدها كافية في الجزاء، و هذا يكشف عن أنّ المعطوف عبارة أُخري للمعطوف عليه، و هو انّ المراد من اتباع غير سبيل المؤمنين هو شقاق الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) و معاداته و ليس أمراً ثانياً؛ فما ذكره المستدل من أنّ سبيل الشخص، هو ما يختاره من القول و الفعل، و إن كان في نفسه صحيحاً، لكنّه أجنبي عن مفاد الآية فإنّ المراد منه فيها، مناصرة الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و معاضدته.

الثالث: انّ اضفاء الحجّية علي اقتفاء سبيل المؤمنين في عصر الرسول (صلي الله عليه

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 144

و آله و سلم) لأَجل أنّ سبيلهم هو سبيل الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فلا يستفاد منه حجّية مطلق سبيل المؤمنين بعد مفارقته عنهم.

الآية الثانية: آية الوسط

قال سبحانه: " وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَي النّٰاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" «1».

وجه الاستدلال: أنّ الوسطَ من كلّ شي ء خياره، فيكون تعالي قد أخبر عن خيرية هذه الأُمّة فإذا أقدموا علي شي ء من المحظورات، لما اتصفوا بالخيرية

فيكون حينئذ قولهم حجّة «2».

يلاحظ علي الاستدلال: أوّلًا: انّ «الوسط» بمعني العدل، فالآية تصف الأُمّة الإِسلامية بالوسطية، إمّا لأَنّهم أُمّة متوسطة بين اليهود المفرّطين في حقّ الأَنبياء حيث قتلوا أنبياءهم، و النصاري الغلاة في حقّهم حتي اتّخذوا المسيح إلهاً أو انّهم أُمّة متوسطة بين اليهود المكبَّة علي الدنيا، و النصاري المعرضة عنها لأَجل الرهبانية المبتدعة و أيّ صلة لهذا المعني بحجّية رأي الأُمّة في مسألة فقهية.

ثانياً: نفترض انّ الأُمّة الإِسلامية خيار الأُمم و أفضلها لكنّه لا يدل علي أنّهم عدول، لا يعصون، و لا يدل علي أنّهم معصومون لا يُخطِئون، و المطلوب في المقام هو إثبات عصمة الأُمّة، كعصمة القرآن و النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- حتي يكون ما أجمعوا عليه دليلًا قطعيّا، مثلَ ما ينطِقُ به الكتابُ و النبيّ الأَعظم- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و الآية لا تدل علي عصمتهم.

______________________________

(1) البقرة: 143.

(2) أُصول الفقه الإِسلامي: 1- 540.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 145

و كون خبر العادل حجّة، غير كون الإِجماع حجّة، فإنّ الحجّة في الأَوّل بمعني كونه منجِّزاً إن أصاب، و معذِّراً إن أخطأ، لا كونه مصيباً للواقع علي كلّ حال، و هذا بخلاف كون الإِجماع حجّة فإنّ معناه بحكم عصمة الأُمّة أنّه مصيب للواقع بل نفسه و الحكم قطعي.

ثالثاً: انّ وصف الأُمّة جميعاً، بالخيار و العدل، مجاز قطعاً، فإنّ بين الأُمّة من بلغ من الصلاح و الرشاد إلي درجة يُستدرّ بهم الغمام، و من بلغ في الشقاء أعلي درجته فخضّب الأَرض بدماء الصالحين و المؤمنين و مع ذلك كيف تكون الأُمّة بلا استثناء خياراً و عدلًا و تكون بعامة أفرادها شهداء علي سائر الأُمم، مع أنّ كثيراً

منهم لا تقبل شهادتُهم في الدنيا فكيف في الآخرة؟! يقول الامام الصادق- عليه السّلام- في تفسير الآية: «فإن ظننت انّ اللّه عني بهذه الآية جميعَ أهل القبلة من الموحّدين، أ فتري أنّ من لا تجوز شهادتُه في الدنيا علي صاع من تمر، تُطلب شهادتُه يوم القيامة و تقبل منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟!» «1».

و هذا دليل علي أنّ الوسطية وصف لعدّة منهم، و لمّا كان الموصوفون بالوسطية جزءاً من الأُمّة الإِسلامية صحّت نسبة وصفهم، إلي الجميع نظير قوله سبحانه: " وَ إِذْ قٰالَ مُوسيٰ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيٰاءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً" «2» فقد وصف عامّة بني إسرائيل بكونهم ملوكاً، مع أنّ البعض منهم كان ملكاً.

و إذا كانت الوسطية لعدّة منهم دون الجميع، يكون هم الشهداء يوم القيامة لا جميع الأُمّة و إنّما نسب إلي الجميع مجازاً.

______________________________

(1) البرهان: 1- 160.

(2) المائدة: 20.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 146

الآية الثالثة: آية الخير

قال سبحانه: " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتٰابِ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفٰاسِقُونَ" «1» و تقريب الاستدلال انّ مقتضي كونهم خير أُمّة أُخرجت مع قيامهم بالأَمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو اجتنابهم المحرمات و إلّا لما وُصِفُوا بالخير، فيكون قولهم حجّة.

يلاحظ عليه، أوّلًا: أنّه من المحتمل أن يكون الاخبار بصدد الإِنشاء، أي كونوا كذلك لا أنّهم كذلك حين نزول الآية.

ثانياً: أنّ غاية ما تدل عليه الآية من كون الأُمّة عدولًا، لا يعصون و أمّا أنّهم معصومون لا يُخطِئون، فالآية ساكتة عنه، و قد تقدّم انّ حجّية الإِجماع دائرة مدار عصمة الأُمّة حتي يكون

الحكم قطعياً، و يخرج عن دائرة الظنية، و يكون من مصادر التشريع لا من حواكيه.

الآية الرابعة: آية أُولي الأمر

قال سبحانه: " يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا" «2».

استدلّ الرازي بالآية علي عصمة أولي الأَمر و قال: و نحن في زماننا عاجزون عن معرفة ذلك الامام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليه، و إذا كان

______________________________

(1) آل عمران: 110.

(2) النساء: 59.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 147

الأَمر كذلك علمنا أنّ المعصوم الذي أمر اللّه المؤمنين بطاعته، ليس بعضاً من أبعاض هذه الأُمّة و لا طائفة من طوائفهم، و لمّا بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم هو أهل الحلّ و العقد من الأُمّة، و ذلك يوجب القطع بأنّ إجماع الأُمّة حجّة «1».

يلاحظ عليه: أنّ الرازي قد أصاب الحقّ في الجملة و انّ الآية تدل علي عصمة أُولي الأَمر بالبيان الذي ذكره في تفسيره، و لكنّه قصر في التعرّف علي أُولي الأَمر بأعيانهم و زلّت قدماه ففسرها بأهل الحل و العقد.

فلو رجع إلي السنّة لعرف انّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قد عرّف ذلك الجمع المعصوم و كفي في ذلك ما رواه الأَصحاب في تفسير الآية عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يقول جابر بن عبد اللّه الأَنصاري لما نزل قوله سبحانه: " يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" قلت يا رسول اللّه: عرفنا اللّه و رسوله فمن أُولو الأَمر الذين قرن اللّه طاعتهم بطاعته؟ فقال- صلّي اللّه عليه و آله

و سلم-: «هم خلفائي يا جابر و أئمّة المسلمين من بعدي أوّلهم عليّ بن أبي طالب ثمّ الحسنُ ثمّ الحسين ثمَّ علي بن الحسين..» و قد أتي بأسماء الأَئمّة جميعهم.. «2».

ثمّ إنّهم استدلوا علي حجّية الإِجماع برواية: «لا تجتمع أُمّتي علي ضلالة» و هذا ما سنقوم بدراسته في الدليل الآتي.

نظرة عامة في حديث لا تجتمع
اشارة

ما روي عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- «إنّ أُمّتي لا تجتمع علي ضلالة» رواه أصحاب السنن، و لكن في طرق الجميع ضعفاً صرّح به المحقّقون.

______________________________

(1) مفاتيح الغيب: 3- 250، ط مصر.

(2) البحراني: البرهان في تفسير القرآن: 2- 381، الحديث 1 و غيره.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 148

قال الشيخ العراقي «1» في تخريج أحاديث البيضاوي: جاء الحديث بطرق في كلّها نظر.

و بما انّ الرواية تعد مصدراً في باب الإِمامة لخلافة الخلفاء كما عد مصدراً لحجّية الإِجماع و أنّها من مصادر التشريع، نبحث عنها من كلتا الجهتين سنداً و دلالة و إن طال بنا المقام.

أسانيد الحديث
اشارة

قد روي هذا الحديث في السنن و المسانيد، و غيرهما من كتب الحديث، و الأُصول، و الاستدلال فرع ثبوت الحديث سنداً، و دلالة، فلنتطرق إلي الحديث من كلا الجانبين.

1- سنن ابن ماجه

روي الحديث الحافظ أبو عبد اللّه محمد بن يزيد القزويني (275207 ه) في «سننه»، قال: حدّثنا العباس بن عثمان الدمشقي، حدّثنا الوليد بن مسلم، حدّثنا معان بن رفاعة السلامي، حدّثني أبو خلف الاعمي، قال: سمعت أنس ابن مالك، يقول: سمعت رسول اللّه ص يقول: «إنّ أُمّتي لا تجتمع علي الضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأَعظم».

و ينقل محقّق الكتاب عن كتاب مجمع الزوائد للهيثمي: في إسناده أبو خلف الاعمي، و اسمه حازم بن عطا، و هو ضعيف.

و قد جاء الحديث بطرق في كلّها نظر.

قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي «2».

______________________________

(1) لاحظ تعليقة محقق سنن ابن ماجه: 2- 1303.

(2) ابن ماجة: السنن: 2- 1303، الحديث 3950.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 149

أقول: أبو خلف الاعمي، قال عنه الذهبي: يروي عن أنس بن مالك، كذّبه يحيي بن معين، و قال أبو حاتم: منكر الحديث «1».

و أمّا السواد الأَعظم في متن الرواية فهو الجماعة الكثيرة، و إنّما أمر بالتمسّك بهم باعتبار أنّ اتّفاقهم أقرب إلي الإِجماع.

قال السيوطي في تفسير السواد الأَعظم: أي جماعة الناس و معظمهم.

و قد استعمله الامام علي- عليه السّلام- في هذا المعني في بعض خطبه، قال: «الزموا السواد الأَعظم، فإنّ يد اللّه مع الجماعة، و إيّاكم و الفرقة، فإنّ الشاذ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب، ألا مَن دعا إلي هذا الشعار فاقتلوه و لو كان تحت عمامتي هذه» «2».

2- سنن الترمذي

روي الترمذي (297209 ه) في «سننه»، قال: حدّثنا أبو بكر بن نافع البصري، حدّثني المعتمر بن سليمان، حدّثنا سليمان المدني، عن عبد اللّه بن دينار، عن ابن عمر، عن رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، قال: «إنّ اللّه

لا يجمع أُمتي، أو قال: أُمّة محمّد- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- علي ضلالة، و يد اللّه مع الجماعة و من شذَّ شذَّ إلي النار».

قال أبو عيسي (الترمذي): هذا حديث غريب من هذا الوجه، و سليمان المدني هو عندي سليمان بن سفيان، و قد روي عنه أبو داود الطيالسي، و أبو عامر العقدي، و غير واحد من أهل العلم.

ثمّ أضاف و قال: و تفسير الجماعة عند أهل العلم، هم أهل الفقه و العلم

______________________________

(1) ميزان الاعتدال: 4- 521، برقم 10156.

(2) نهج البلاغة، ط عبدة، الخطبة برقم 123، و في طبعة صبحي الصالح برقم 127.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 150

و الحديث، قال: و سمعت الجارود بن معاذ، يقول: سمعت علي بن الحسن، يقول: سألت عبد اللّه بن المبارك: مَن الجماعة؟ قال: أبو بكر و عمر، قيل له: قد مات أبو بكر و عمر؟ قال: فلان و فلان، قيل له: قد مات فلان و فلان؟ فقال عبد اللّه بن المبارك: أبو حمزة السّكري جماعة.

ثمّ أضاف: أبو حمزة، هو محمّد بن ميمون، و كان شيخاً صالحاً، و إنّما قال هذا في حياته عندنا «1».

أقول: فيما ذكره تأمل واضح.

أوّلًا: إنّ سليمان بن سفيان المدني قد عرّفه الذهبي قائلًا: قال ابن معين: ليس بشي ء، و قال مرّة: ليس بثقة، و كذا قال النسائي.

و قال أبو حاتم، و الدارقطني: ضعيف، و ليس له في السنن و المسانيد غير حديثين «2».

ثانياً: كيف يفسر الأُمّة بأهل الفقه و العلم و الحديث، مع أنّ الأُمّة تشمل جميع من آمن برسالة الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-؟! و أعجب منه تفسير عبد اللّه بن المبارك بالخليفتين أبي بكر و عمر، ثمَّ

تفسيره بفلان و فلان، و لم يعلم أنّه ماذا أراد منهما؟ و أشدّ عجباً تطبيقه علي أبي حمزة السكري، معلّلًا بأنّه جماعة و هل هذا إلّا الغلو؟! و قد صار الحديث ذريعة لتصويب خلافة الخلفاء.

______________________________

(1) الترمذي: السنن: 4- 466 برقم 2167، كتاب الفتن.

(2) ميزان الاعتدال: 2- 209، الحديث 3469.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 151

3- سنن أبي داود

روي أبو داود (275202 ه) قال: حدّثنا محمد بن عوف الطائي، حدّثنا محمد بن إسماعيل، حدثني أبي، قال ابن عوف: و قرأت في أصل إسماعيل، قال حدثني ضمضم عن شريح، عن أبي مالك يعني الأَشعري قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إنّ اللّه أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيّكم فتهلكوا جميعاً، و أن لا يظهر أهل الباطل علي أهل الحقّ، و أن لا تجتمعوا علي ضلالة» «1».

و في السند محمد بن عوف الطائي، ذكره الذهبي، قال: محمد بن عوف، عن سليمان بن عثمان، مجهول الحال «2».

و أيضاً فيه ضمضم، ذكره الذهبي، و قال: ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد.

وثّقه يحيي بن معين، و ضعّفه أبو حاتم، روي عنه جماعة «3».

و قد اتّفقت السنن الثلاث علي لفظ «ضلالة» دون لفظ خطأ.

4- مسند أحمد بن حنبل

روي أحمد بن حنبل (241164 ه) في مسنده، قال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا ابن عياش، عن البختري بن عبيد بن سليمان، عن أبيه، عن أبي ذر، عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، أنّه قال: «اثنان خير من واحد، و ثلاثة خير من اثنين، و أربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة، فإنّ اللّه عزّ و جلّ لن يجمع أُمّتي إلّا علي هدي» «4».

______________________________

(1) سنن أبي داود: 4- 98 برقم 4253.

(2) ميزان الاعتدال: 3- 676 برقم 8030.

(3) ميزان الاعتدال: 2- 331 برقم 3960.

(4) مسند أحمد بن حنبل: 5- 145.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 152

و في السند ابن عياش الحميري، قال عنه الذهبي: مجهول «1».

و في السند أيضاً البختري، و هو البختري بن عبيد، ذكره الذهبي، و قال: ضعّفه أبو حاتم، و غيره تركه، فأمّا

أبو حاتم فأنصف فيه، و أمّا أبو نعيم الحافظ فقال: روي عن أبيه موضوعات.

و قال ابن عدي: روي عن أبيه قدر عشرين حديثاً عامّتها مناكير، منها: اشربوا أعينكم الماء، و منها: الأُذنان من الرأس، ثمَّ قال: و له عند ابن ماجه حديث عن أبيه عن أبي هريرة: صلوا علي أولادكم «2».

و لعلّ الرواية منقولة بالمعني، و قد عرفت اتفاق السنن الثلاث علي لفظ «الضلالة» و عبّر عنها ب: لن تجتمع أُمّتي إلّا علي هديً.

5- مستدرك الحاكم

روي الحاكم النيسابوري (405321 ه)، في مستدركة علي الصحيحين هذا الحديث، بمسانيد تشترك في المعتمر بن سليمان قال: فيما احتجّ به العلماء علي أنّ الإِجماع حجّة، حديث مختلفٌ فيه علي المعتمر ابن سليمان قال: حدّثنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن تميم الأَصم ببغداد، حدّثنا جعفر بن محمد بن شاكر، حدّثنا خالد بن يزيد القرني، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن عبد اللّه بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا يجمع اللّه هذه الأُمّة علي الضلالة أبداً، و قال: يد اللّه علي الجماعة، فاتبعوا السواد الأَعظم، فإنّه مَن شذّ شذَّ في النار» «3».

______________________________

(1) ميزان الاعتدال: 4- 594 برقم 10821.

(2) ميزان الاعتدال: 1- 299 برقم 1133.

(3) المستدرك للحاكم: 1- 115.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 153

قال الحاكم بعد نقله للحديث بأسانيده السبعة: فقد استقر الخلاف في إسناد هذا الحديث علي المعتمر بن سليمان، و هو أحد أركان الحديث من سبعة أوجه، لا يسعنا أن نحكم انّ كلّها محمولة علي الخطأ بحكم الصواب، لقول من قال عن المعتمر عن سليمان بن سفيان المدني، عن عبد اللّه بن دينار، و نحن إذا قلنا

هذا القول، نسبنا الراوي إلي الجهالة فوهن به الحديث، و لكنّا نقول: إنّ المعتمر ابن سليمان، أحد أئمّة الحديث، و قد روي عنه هذا الحديث بأسانيد يصحّ بمثلها الحديث، فلا بدّ من أن يكون له أصل بأحد هذه الأَسانيد، ثمّ وجدنا للحديث شواهد من غير حديث المعتمر لا ادّعي صحتها و لا أحكم بتوهينها، بل يلزمني ذكرها لإِجماع أهل السنّة علي هذه القاعدة من قواعد الإِسلام.

فمن روي عنه هذا الحديث من الصحابة: عبد اللّه بن عباس، ثمّ ذكر حديث ابن عباس.

و أمّا معتمر الذي وقع في سند الحديث، ذكره الذهبي، و قال: معتمر بن سليمان التيمي البصري أحد الثقات الاعلام.

قال ابن خراش: صدوق يخطئ من حفظه، و إذا حدّث من كتابه فهو ثقة.

قلت: هو ثقة مطلقاً.

و نقل ابن دحية، عن ابن معين: ليس بحجّة «1».

هذا ما لدي أهل السنّة إذا اقتصرنا من الحديث علي صورة المسند منه، و أمّا نقله مرسلًا فقد تضافر نقله في كتبهم و أرسلوه إرسالًا مسلماً.

1- رواه الغزالي (450 505 ه) في «المستصفي»، قال: تضافرت الرواية عن رسول اللّه بألفاظ مختلفة مع اتّفاق المعني في عصمة هذه الأُمّة من الخطأ «2».

______________________________

(1) ميزان الاعتدال: 4- 143 برقم 8648.

(2) المستصفي: 1- 111.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 154

2- و قال في «المنخول»: و ممّا تمسّك به الأصوليون، قوله ص: «لا تجتمع أُمّتي علي ضلالة» و روي «علي خطأ» و لا طريق إلي ردّه بكونه من أخبار الآحاد، فانّ القواعد القطعية يجوز إثباتها بها، و إن كانت مظنونة.

فإن قيل: فما المختار عندكم في إثبات الإِجماع؟ قلنا: لا مطمع في مسلك عقلي إذ ليس فيه ما يدل عليه، و لم يشهد له من جهة السمع

خبر متواتر و لا نص كتاب، و إثبات الإِجماع بالإِجماع تهافت، و القياس المظنون لا مجال له في القطعيات «1».

يلاحظ علي ما ذكره: أوّلًا: أنّ الوارد في السنن و المسانيد هو لفظ «ضلالة» و لم نقف علي لفظ «علي خطأ» و علي ذلك فالرواية ترجع إلي الأصول و العقائد التي تدور عليها الهداية و الضلالة، لا المسائل الفقهية التي لا يعدّ المخالف للحكم الواقعي ضالّاً، فالتمسك به في إثبات حجّية الإِجماع كما تري.

و ثانياً: وجود التناقض في كلامه حيث قال: «إنّ القواعد القطعية يجوز إثباتها بأخبار الآحاد و إن كانت مظنونة» و هذا ينافي ما قاله أخيراً: «القياس المظنون لا مجال له في القطعيات».

وجه التناقض أنّ الخبر الواحد و القياس من حيث إفادة الظن سيّان، فكيف تثبت القواعد القطعية بالظن مستنداً إلي خبر الواحد، و لا يثبت بالقياس؟! و أعجب منه ثبوت القواعد القطعية بالظن، مع أنّ النتيجة تابعة لأَخس المقدمتين.

______________________________

(1) المنخول: 305 306، طبع دار الفكر.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 155

3- و قال تاج الدين السبكي عبد الوهاب بن علي (المتوفّي 771 ه) في كتابه «رفع الحاجب علي ابن الحاجب»، فإنّه بعد ذكر طرق الحديث و رواته قال: أمّا الحديث فلا أشك انّه اليوم غير متواتر، بل لا يصحّ، أعني لم يصح منه طريق علي السبيل الذي يرتضيه جهابذة الحفاظ، و لكني اعتقد صحّة القدر المشترك من كلّ طرقه، و الأَغلب علي الظن أنّه «عدم اجتماعها علي الخطأ».

و أقول: مع ذلك جاز أن يكون متواتراً في سالف الزمان ثمّ انقلب آحاداً «1».

الحديث في كتب الشيعة
اشارة

أمّا الشيعة فلم تنقله مسنداً، إلّا الصدوق في «خصاله»، و منه أخذ صاحب الاحتجاج و نقله فيه.

و روي أيضاً في رسالة

الامام الهادي- عليه السّلام- التي كتبها في الرد علي أهل الجبر و التفويض، نقلها ابن شعبة الحراني في «تحف العقول»، مرسلًا لا مسنداً؛ و نقله أيضاً الأصوليون من الشيعة عند البحث في الإِجماع، و إليك ما وقفنا علي نصوصهم بصدد هذا الحديث:

1- خصال الصدوق

روي الصدوق (381306 ه) في «الخصال» قال: حدّثنا أحمد بن الحسن القطان قال: حدّثنا عبد الرحمن بن محمد الحسني، قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن حفص الخثعمي، قال: حدّثنا الحسن بن عبد الواحد، قال حدّثني أحمد بن

______________________________

(1) رفع الحاجب عن ابن الحاجب: ورقة 176 ب، المخطوط في الأَزهر.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 156

التغلبي «1»، قال: حدّثني أحمد بن عبد الحميد، قال: حدّثني حفص بن منصور العطار، قال: حدّثنا أبو سعيد الورّاق، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، قال: «لمّا كان من أمر أبي بكر و بيعة الناس له، و فعلهم بعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط، و يري منه انقباضاً، فكبر ذلك علي أبي بكر، فأحب لقاءَه و استخراج ما عنده و المعذرة إليه لما اجتمع الناس عليه و تقليدهم إيّاه أمر الأُمّة، و قلة رغبته و زهده فيه.

أتاه في وقت غفلة، و طلب منه الخلوة ثمَّ نقل بعض ما دار بينهما من الكلام إلي أن قال: فقال له علي- عليه السّلام-: «فما حملك عليه إذا لم ترغب فيه، و لا حرصت عليه، و لا وثقت بنفسك في القيام به، و بما يحتاج منك فيه؟».

فقال أبو بكر: حديث سمعته من رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إنّ اللّه لا يجمع أُمتي علي ضلال» و لما رأيت اجتماعهم اتبعت

حديث النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، و أحلت أن يكون اجتماعهم علي خلاف الهدي، و أعطيتهم قود الإِجابة، و لو علمت أنّ أحداً يتخلّف لامتنعت.

فقال علي- عليه السّلام-: «أمّا ما ذكرت من حديث النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «إنّ اللّه لا يجمع أُمّتي علي ضلال» أ فكنت من الأُمّة أو لم أكن؟» قال: بلي، قال: «و كذلك العصابة الممتنعة عليك من سلمان و عمار و أبي ذر و المقداد و ابن عبادة و من معه من الأَنصار؟» قال: كلّ من الأُمّة.

فقال علي- عليه السّلام-: «فكيف تحتج بحديث النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و أمثال هؤلاء قد تخلّفوا عنك، و ليس للأُمّة فيهم طعن، و لا في صحبة الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و نصيحته منهم تقصير؟!» «2».

______________________________

(1) هو أحمد بن عبد اللّه بن ميمون التغلبي، قال ابن حجر: ثقة زاهد.

(2) الخصال: 2 549- 548، أبواب الأَربعين، الحديث 30.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 157

يلاحظ عليه: أنّ السند مشتمل علي رجال مجهولين، أو مهملين، فلا يمكن الاحتجاج بهذا الحديث علي صحّة ما ورد فيه.

أضف إلي ذلك أنّه من المحتمل أن يكون قبول الامام للحديث من باب الجدل و الرد علي الخليفة من الطريق الذي سلكه.

2- تحف العقول لابن شعبة الحراني

إنّ الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني من أعلام الشيعة في القرن الرابع الهجري، يروي عن أبي علي محمد بن همام، (المتوفّي 336 ه) المعاصر للصدوق (المتوفّي 381 ه)، أُستاذ الشيخ المفيد (336 413 ه) قد روي في كتابه القيّم «تحف العقول» رسالة الامام الهادي إلي الأَهوازيين في الردّ علي أهل الجبر و التفويض، و جاء فيها

ما نصّه: و قد اجتمعت الأُمّة قاطبة لا اختلاف بينهم أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق، و في حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب و تحقيقه، مصيبون، مهتدون، و ذلك بقول رسول اللّه: «لا تجتمع أُمّتي علي ضلالة» فأخبر أنّ جميع ما اجتمعت عليه الأُمّة كلّها حق، هذا إذا لم يخالف بعضها بعضاً «1».

و الرسالة مرسلة لم نجد لها سنداً، و نقلها الشيخ الطبرسي في «الاحتجاج» «2» بلا إسناد أيضاً، كما رواها المجلسي في «البحار» مرسلًا «3».

هذا ما يرجع إلي تلك الرواية في كتب الشيعة الحديثية، و قد عرفت أنّ المسند في «الخصال» مشتمل علي مجاهيل و مهملين، و المرسل منها لا ينفع ما لم

______________________________

(1) تحف العقول: 458، باب ما روي عن الإِمام الهادي- عليه السّلام-.

(2) الاحتجاج: 2- 478 برقم 328.

(3) البحار: 4- 15.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 158

يحرز ثبوت الرسالة إلي الامام.

و أمّا غير الكتب الحديثية فقد نقلها غير واحد في كتبه منهم: أ- الشيخ الطوسي (460385 ه) فقد نقل الحديث عند البحث عن حجّية الإِجماع في نظر أهل السنّة، فقال: و استدلوا أيضاً علي صحّة الإِجماع بما روي عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أنّه قال: «لا تجتمع أُمّتي علي خطأ» و بلفظ آخر «لم يكن اللّه ليجمع أُمّتي علي الخطأ» و بقوله: «كونوا مع الجماعة» و بقوله: «يد اللّه علي الجماعة» و ما أشبه ذلك من الأَلفاظ.

ثمّ أجاب عن الاستدلال بهذه الأَحاديث و قال: و هذه الاخبار لا يصحّ التعلّق بها لأَنّها كلّها أخبار آحاد لا توجب علماً، و هذه مسألة طريقها العلم.

و ليس لهم أن يقولوا إنّ الأُمّة قد تلقّتها بالقبول و عملت بها.

لأَنّا

أوّلًا: لا نسلّم أنّ الأُمّة كلّها تلقّتها بالقبول.

و لو سلّمنا ذلك لم يكن أيضاً فيها حجّة، لأَنّ كلامنا في صحّة الإِجماع الذي لا يثبت إلّا بعد ثبوت الخبر، و الخبر لا يصحّ حتي يثبت أنّهم لا يجمعون علي خطأ.

إلي أن قال: و لو سلم من جميع ذلك، لجاز أن يحمل علي طائفة من الأُمّة، و هم الأَئمة من آل محمد- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، لَانّ لفظ «الأُمّة» لا يفيد الاستغراق علي ما مضي القول فيه، و ذلك أولي من حيث دلت الدلالة علي عصمتهم من القبائح.

و إن قالوا: يجب حمله علي جميع الأُمّة لفقد الدلالة علي أنّ المراد بعض الأُمّة.

كان لغيرهم أن يقول: أنا أحمل الخبر علي جميع الأُمّة من لدن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) إلي أن تقوم الساعة، حيث إنّ لفظ الأُمّة يشملهم و يتناولهم، فمن أين أنّ إجماع

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 159

كلّ عصر حجّة؟ و أمّا الخبر الثاني من قوله: «لم يكن اللّه ليجمع أُمّتي علي خطأ» فصحيح و لا يجي ء من ذلك أنّه لا يجمعون علي خطأ.

و ليس لهم أن يقولوا: إنّ هذا لا اختصاص فيه لأُمّتنا بذلك دون سائر الأُمم، لأَنّ اللّه تعالي لا يجمع سائر الأُمم علي الخطأ.

و ذلك أنّه و إن كان الأَمر علي ما قالوه، فلا يمتنع أن يخص هؤلاء بالذكر و من عداهم يعلم أنّ حالهم كحالهم بدليل آخر، و لذلك نظائر كثيرة في القرآن و الأَخبار.

علي أنّ هذا هو القول بدليل الخطاب الذي لا يعتمده أكثر من خالفنا «1».

و قد عدّ العلّامة في فصل خصائص النبي من كتاب النكاح، أنّ من خصائصه أنّ أُمّته لا تجتمع علي

الضلالة «2».

و قد نقل المحقّق التستري أنّ العلّامة نقل الحديث في كتابيه «الأَلفين» و «المنتهي».

أقول: أمّا كتاب الأَلفين فقد ذكر أنّ من فوائد الامام عصمة الأُمة، قال ما نصه: امتناع الخطأ و الإِمامة «3» مع تمكن الامام من المكلف.. إلي آخر ما ذكره «4».

فهو يعدّ الأُمّة معصومة لأَجل وجود الامام من دون إشارة إلي الحديث.

و أمّا «المنتهي» فلم نعثر فيه علي الحديث.

______________________________

(1) عدّة الأصول: 2 626- 625، نقلناه بتلخيص، طبع عام 1417 ه.

(2) التذكرة: 2- 568، رقم الخصيصة- 17.

(3) كذا في النسخة المطبوعة في مؤَسسة دار الهجرة، و لعلّ الصحيح: (علي الأُمّة).

(4) الأَلفين: 211.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 160

و قال المحقّق التستري: و أقوي ما ينبغي أن يُعتمد عليه من النقل حديث: «لا تجتمع أُمّتي علي الخطأ» و ما في معناه لاشتهاره و قوّة دلالته.

و تعويل معظمهم و لا سيما أوائلهم عليه، و تلقّيهم له بالقبول لفظاً و معني و ادّعاء جماعة منهم تواتره معني..، إلي أن قال: حكي بعض المحدّثين من التحف مرسلًا عنه- عليه السّلام- انّه قال أيضاً: «إنّ اللّه قد احتج علي العباد بأُمور ثلاثة: الكتاب، و السنّة، و ما أجمع عليه المسلمون»، و قد روي في هذا الباب أخبار أُخر من طرقنا تقتضي حجّية الإِجماع الواقع علي الحكم بنفسه، و وجوب العمل بخبر أجمع علي العمل به أو علي روايته مع قبوله كما تقتضي إمكان وقوع الإِجماع و العلم به و هي أخبار شتي، إلي أن قال: مؤَيدة بما ورد في المنع من فراق الجماعة و غيره، و لتطلب جميعاً من كتاب المناهج، وفّق اللّه سبحانه لإِتمامه «1».

هذا ما وقفنا عليه في كتب أصحابنا إلي أواخر القرن الثالث عشر.

نعم جاء

ذكر هذا الحديث في الكتب الأصولية الاستدلالية لكلا الفريقين، و لا داعي للإِطالة بالنقل عنها.

حصيلة البحث

: إنّ للقاريَ أن يستنتج من هذا البحث الضافي حول الرواية الأُمور التالية: الأَوّل: أنّ الرواية من أخبار الآحاد، لم تنقل بسند صحيح في كتب الفريقين، و قد عرفت وجه الضعف عند نقلها عن كتب الصحاح و المسانيد.

الثاني: أنّ المنقول مسنداً هو لفظ «الضلالة» لا لفظ «الخطأ»، أو «علي غير هدي» كما في مسند الامام أحمد، و إنّما جاء الخطأ في غير الكتب الحديثية.

______________________________

(1) كشف القناع: 6 7، طبع عام 1316 ه.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 161

الثالث: أنّ الحديث علي فرض ثبوته يرجع إلي المسائل العقائدية التي عليها مدار الهداية و الضلالة، أو ما يرجع إلي صلاح الأُمّة من وحدة الكلمة و الاجتناب عن التشتّت فيما يمسّ وحدة المسلمين.

و أمّا المسائل الفقهية فلا يوصف المصيب و المخطئ فيها بالهداية و الضلالة، كما لا يكون مصير الشاذ فيها مصير النار، أو نصيب الشيطان.

و علي ذلك فالاستدلال به علي حجية الإِجماع في المسائل الفقهية غير تام.

الرابع: لو سلّمنا سعة دلالة الحديث فالمصون من الضلالة هو الأُمّة بما هي أُمّة، لا الفقهاء فقط، و لا أهل العلم، و لا أهل الحل و العقد، و علي ذلك ينحصر مفاد الحديث بما اتفقت عليه جميع الأُمّة في العقائد و الأُصول.

الخامس: أنّ مصونية الأُمّة كما يمكن أن يكون لكمال عقلها، يمكن أن يكون لوجود معصوم فيهم، و الرواية ساكتة عنه فلا يمكن أن يستدل بالرواية علي أنّ الأُمّة مع قطع النظر عن المعصوم مصونة عن الخطأ، بل لما ثبت في محلّه أنّ الزمان لا يخلو من إمام معصوم تكون عصمة الأُمّة بعصمة الإِمام.

قال أمير المؤمنين-

عليه السّلام-: «اللّهم بلي، لا تخلو الأَرض من قائم للّه بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً، و إمّا خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج اللّه و بيّناته» «1».

روي العياشي بإسناده إلي إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: «قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، و تحريف الغالين، و انتحال الجاهلين، كما ينفي الكير «2» خبث الحديد «3».

______________________________

(1) نهج البلاغة: قسم الحكم برقم 147.

(2) الكير: جلد غليظ ذو حافات ينفخ فيه الحداد.

(3) رجال الكشي: 10 برقم 5، فصل فضل الزيارة و الحديث.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 162

مصادر التشريع 4

العقل

حجّية العقل في مجالات خاصة

إنّ العقل أحد الحجج الأَربع التي اتّفقت فقهاء الشيعة إلّا قليلًا منهم علي حجّيته، و لأَجل إيضاح الحال نقدّم أُموراً: الأَوّل: الإِدراك العقلي ينقسم إلي إدراك نظري و إدراك عملي، فالأَوّل إدراك ما ينبغي أن يعلم، كإدراك وجود الصانع و صفاته و أفعاله و غير ذلك، و الثاني إدراك ما ينبغي أن يعمل، كإدراكه حسن العدل و قبح الظلم و وجوب ردّ الوديعة و ترك الخيانة فيها، و المقسم هو الإِدراك فهو ينقسم إلي نظري و عملي، و ربما يُتوسع فيقسم العقل إلي القسمين.

الثاني: انّ الاستدلال لا يتم إلّا بأحد طرق ثلاثة: 1- الاستقراء.

2- التمثيل.

3- القياس المنطقي.

و الاستقراء الناقص لا يحتج به، لَانّه لا يفيد إلّا الظنّ و لم يدلّ دليل علي حجّية مثله، و أمّا الاستقراء الكامل فلا يعدّ دليلًا، لَانّ المستقريَ يصل إلي النتيجة في ضمن الاستقراء، فلا تبقي حاجة للاستدلال به علي المدعي.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 163

و بعبارة أُخري: الاستقراء الكامل علوم جزئية تفصيلية تُصَبُّ في

قالب قضية كليّة عند الانتهاء من الاستقراء دون أن يكون هناك مجهول يُستدل به علي المعلوم.

و أمّا التمثيل، فهو عبارة عن القياس الأصولي الذي لا نقول به، كما سيوافيك تفصيله عند البحث عن مصادر التشريع غير المعتبرة عندنا، و المعتبرة عند أهل السنّة.

فتعيّن أن تكون الحجّة هي القياس المنطقي، و هو علي أقسام ثلاثة: أ- أن تكون الصغري و الكبري شرعيّتين و هذا ما يسمّي بالدليل الشرعي.

ب- أن تكون كلتاهما عقليّتين، كإدراك العقل حسن العدل و حكمه بوجوب العمل علي وفقه، و قبح الظلم و حكمه بالاجتناب عنه، و هذا ما يعبّر عنه بالمستقلّات العقلية، أو التحسين و التقبيح العقليين.

ج- أن تكون الصغري شرعية و الكبري عقلية.

أقسام الحكم العقلي: إنّ الاحكام الشرعية المستنبطة من الأَحكام العقلية تنقسم إلي قسمين: الأَوّل: ما يستنبط من مقدّمتين عقليّتين، و هذا كالحكم بحسن العدل و قبح الظلم، و حكمه بكونهما عند الشرع أيضاً كذلك، و هذا ما يسمّي بالمستقلات العقلية، فالدليل بعامة أجزائه عقلي فقد حكم بحسن العدل كما حكم بالملازمة بين العقل و الشرع.

الثاني: ما تكون إحدي المقدّمتين عقلية، و الأُخري شرعيّة و هذا كما في باب الملازمات العقلية كوجوب المقدّمة، فإنّ العقل يحكم بثبوت التلازم بين وجوب الشي ء و وجوب ما يتوقّف عليه، و أنّ طالب الشي ء طالب مقدّماته أيضاً،

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 164

أو يحكم بثبوت التلازم بين الأَمر بالشي ء و حرمة أضداده، و أيضاً يكشف عن أنّ حكم الشرع في كلا الموردين أيضاً كذلك.

و من الواضح انّه لا يمكن التوصل بهذا الحكم الكلّي إلي وجوب الوضوء إلّا بعد تنصيص الشارع بوجوب الصلاة و توقفها عليه، فيقال إذا أُريدَ ترتيبُ القياسِ و أخذُ النتيجة: الوضوء

ممّا يتوقف عليه الواجب (الصلاة) و هذه مقدّمة شرعية و كلّ ما يتوقف عليه الواجب فهو واجب عقلًا و هذه مقدمة عقلية فينتج: الوضوء واجب عقلًا.

و هذا ما يعبّر عنه بغير المستقلّات العقلية.

نعم يعلم وجوب الوضوء شرعاً بالملازمة بين حكمي العقل و الشرع.

الثالث: الفرق بين هذا المقام الباحث عن حجّية العقل و بين الدارج في الكتب الأصولية، أعني البحث عن وجود الملازمة العقلية بين وجوب الشي ء و وجوب مقدّمته، أو وجوب الشي ء و حرمة ضدّه إلي غير ذلك، هو أنّ البحث في الثاني يدور حول وجود الملازمة بين الإِرادتين أو الوجوبين عند العقل و عدمها؟ و لكن البحث في هذا المقام يدور حول كشفه عن كون الحكم كذلك عند الشرع أيضاً؟ و بعبارة أُخري: إنّ البحث في المقام الثاني، منصبّ علي إثبات الملازمة العقلية بين الوجوبين و عدمها، أو وجودها بين الوجوب و حرمة ضدّه و عدمها.

نعم بعد ثبوتها يبحث في المقام عن وجود الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع و أنّ الواجب عقلًا، واجب شرعاً أيضاً أو لا.

و علي ذلك فالبحث في الثاني مركّز علي كشف حكم العقل في باب المقدمة كما انّه مركّز في المقام علي كشفه عن حكم الشرع فيه.

الرابع: عرّف الدليل العقلي بأنّه حكم يتوصّل به إلي حكم شرعي، و ربما

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 165

يعرَّف بأنّه ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلي مطلوب نظري «1» مثلًا إذا حكم العقل بأنّ الإِتيان بالمأمور به علي ما هو عليه موجب لحصول الامتثال يُستدل به علي أنّه في الشرع أيضاً كذلك، فيترتّب عليه براءة الذمّة عن الإِعادة و القضاء، أو إذا حكم العقل عند التزاحم بلزوم تقديم الأَهم كالنفس المحترمة

علي المهم كالتصرف في مال الغير بلا إذنه، فيُستدل به علي الحكم الشرعي و هو وجوب إنقاذ الغريق، و جواز التصرف في مال الغير، كلّ ذلك توصلٌ بالحكم العقلي للاهتداء إلي الحكم الشرعي.

الخامس: انّ الاستدلال بالحكم العقلي علي الحكم الشرعي يتصور علي وجهين: أ- إذا أدرك العقلُ حكم الموضوع عند لحاظه بما هو هو مع قطع النظر عن سائر الجهات «2» من كونه ذا مصلحة أو مفسدة، موجب لبقاء النظام أو زواله، نافع للمزاج أو مضرّ به، بل استقلّ العقل بحكمه إذا نظر إلي الموضوع بما هو هو، من دون لحاظ أيّ ضميمة من الضمائم، و من أوضح أمثلة هذا القسم استقلاله بحسن العدل و حكمه بلزوم فعله، و قبح الظلم و حكمه بلزوم تركه.

نعم المورد لا ينحصر بالتحسين و التقبيح و سيوافيك أنّ كلّ ما يدركه العقل بوصف كونه حكماً عاما غير مقيّد بفاعل خاص، و لا ظرف معيّن، فهو من مصاديق هذا القسم، نظير إدراكه الملازمة بين الإِرادتين و الوجوبين، أو بين وجوب شي ء و حرمة ضدّه، و هكذا فإنّ المدرَك حكم عام غير مقيّد بشي ء.

غير انّ التحسين و التقبيح من المستقلات العقلية و غيرهما كباب الملازمات من غير المستقلات العقلية لكن يجمعهما استقلال العقل في إدراك الحكم العام الذي

______________________________

(1) القوانين: 2- 2؛ مطارح الانظار: 233.

(2) سيوافيك توضيحه في نهاية البحث.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 166

يشارك فيه الممكن و الواجب.

فيقع الكلام في أنّه هل يستكشف منه كون الحكم عند الشرع أيضاً كذلك.

ب- إذا استقل العقل بوجود المصلحة في الفعل أو المفسدة فيه و بلزوم حيازة الأولي و الاجتناب عن الثانية، فهل يُستكشف منه الوجوب أو الحرمة عند الشارع أيضاً بحيث يكون العلم

بالمصالح و المفاسد من مصادر التشريع الإِسلامي؟ إذا عرفت ذلك، فيقع البحث عن حجّية العقل في مقامين: المقام الأَوّل: استكشاف حكم الشرع عند استقلاله بالحكم بالنظر إلي ذات الموضوع، فنقول: إذا استقل العقل بالحكم علي الموضوع بما هو هو من غير التفات إلي ما وراء الموضوع من المصالح و المفاسد، و من أمثلته وراء ما مرّ استقلاله بقبح تكليف غير المميز و من لم يبلغه البيان، فهل يكون ذلك دليلًا علي كون الحكم عند الشارع أيضاً كذلك أو لا؟ فذهب الأصوليون إلي وجود الملازمة بين الحكمين، و ما ذلك إلّا لأَنّ العقل يدرك حكماً عاما غير مقيّد بشي ء.

مثلًا إذا أدرك العقل (حسن العدل) فقد أدرك انّه حسن مطلقاً أي سواء أ كان الفاعل واجب الوجود أم ممكن الوجود، و سواء أ كان الفعل في الدنيا أم في الآخرة، و سواء أ كان مقروناً بالمصلحة، فمثل هذا الحكم العقلي المدرَك يلازم كون الحكم الشرعي أيضاً كذلك و إلّا لما كان المدرَك عاما شاملًا لجميع تلك الخصوصيات.

و بذلك تتضح الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع في المستقلات العقلية.

هذا كلّه في المستقلات العقلية و به يظهر حكم غير المستقلات العقلية التي عرفت معناها، فمثلًا إذا أدرك العقل الملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدّمته، أو وجوب الشي ء و حرمة ضدّه، أو الملازمة بين ثبوت الجزاء عند ثبوت

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 167

العلّة المنحصرة و انتفائه عند انتفائها، يكشف ذلك انّ الحكم عند الشرع أيضاً كذلك، لَانّ الحكم المدرَك بالعقل حكم عام غير مقيّد بشي ء من القيود، فكما انّ العقل يدرك الملازمة بين الأَربعة و الزوجية بلا قيد فيكون حكماً صادقاً في جميع الازمان و الأَحوال، فكذلك

يدرك الملازمة بين الوجوبين أو بين الوجوب و الحرمة، فالقول بعدم كشفه عن حكم الشارع، كذلك ينافي إطلاق حكم العقل و عدم تقيّده بشي ء.

و بذلك يتّضح أنّ ادّعاء الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع يرجع إلي أنّ الحكم المدرك بالعقل حكم مطلق غير مقيد بشي ء، فيعمّ حكم الشارع أيضاً.

فالاحتجاجات في باب الملازمات مستقلة كانت أو غير مستقلة ترجع إلي أنّ الحكم المدرك حكم مطلق، شامل لكلّ فاعل و ظرف، فإخراج الواجب و حكمه عن تحت القاعدة خلاف ما يحكم به العقل علي وجه الجزم، فمن حاول نفي الملازمة، فعليه أن ينفي الإِدراك القطعي العام للعقل في تلك المجالات، و أنّي له ذلك؟! المقام الثاني: استكشاف الحكم الشرعي من المصالح و المفاسد في الموضوع دون نظر إلي حكم العقل بحسنه أو قبحه بما هو هو.

فنقول: إذا أدرك العقل المصلحة أو المفسدة في شي ء و كان إدراكه مستنداً إلي المصلحة أو المفسدة العامتين اللّتين يستوي في إدراكهما جميع العقلاء، ففي مثله يصحّ استنباط الحكم الشرعي من الحكم العقلي.

نعم لو أدرك المصلحة أو المفسدة و لم يكن إدراكه إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء، بل إدراكاً شخصياً حصل له بالسبر و التقسيم، فلا سبيل للعقل بأن يحكم بالملازمة فيه، و ذلك لَانّ الأَحكام الشرعية المولوية و إن كانت لا تنفك

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 168

عن المصالح أو المفاسد، و لكن أنّي للعقل أن يدركها كما هي عليها.

و بذلك يعلم أنّه لا يمكن للفقيه أن يجعل ما أدركه شخصيّاً من المصالح و المفاسد ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي، بل يجب عليه الرجوع إلي سائر الأَدلّة.

فخرجنا بالنتائج التالية: أوّلًا: انّ حكم العقل بشي ء في المستقلّات العقلية أو في غيرها

يكشف عن كون الحكم عند الشرع كذلك شريطة أن يكون العقل قاطعاً و يكون المدرَك حكماً عاما، كما هو الحال في الأَمثلة المتقدّمة.

ثانياً: إذا أدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في الأَفعال إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء، كوجود المفسدة في استعمال المخدرات، ففي مثله يكون حكم العقل ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي.

ثالثاً: استكشاف ملاكات الاحكام و استنباطها بالسبر و التقسيم، ثمّ استكشاف حكم الشرع علي وفقه أمر محظور، لعدم إحاطة العقل بمصالح الاحكام و مفاسدها، و سوف يوافيك عند البحث عن سائر مصادر الفقه عدم العبرة بالاستصلاح الذي عكف عليه مذهب المالكية.

يترتب علي حجّية العقل في المجالات الثلاثة، أعني: 1- الملازمات العقلية.

2- الحسن و القبح العقليين.

3- المصالح و المفاسد العامتين.

تترتب علي حجية العقل ثمرات فقهية كثيرة نستعرض بعضها بعد نظرة عامة في التحسين و التقبيح العقليين.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 169

نظرة عامة في التحسين و التقبيح العقليين

اشارة

إنّ القول بالتحسين و التقبيح العقليين من البديهيات في مجال العقل العملي، فالحكماء قسّموا الإِدراكات العقلية إلي نظرية و عملية، قال الحكيم السبزواري: إنّ العقل النظري و العقل العملي من شأنهما التعقّل؛ لكن النظري شأنه العلوم الصرفة غير المتعلّقة بالعمل، مثل اللّه واحد؛ و العملي شأن العلوم المتعلّقة بالعمل، مثل التوكل حسن و الرضا و التسليم و الصبر محمود، و هذا العقل هو المستعمل في علم الأَخلاق، فليس العقلان كقوتين متباينتين أو كضميمتين، بل هما كجهتين لشي ء واحد و هي الناطقة.

إنّ الحكمة النظرية قضايا نظرية تنتهي إلي قضايا بديهية، و لو لا ذلك لانهار صرح العلوم، و هكذا الحكمة العملية، ففيها قضايا غير معلومة لا تعرف إلّا بالانتهاء إلي قضايا عمليّة ضرورية و إلّا لما عرف الإِنسان شيئاً من قضايا الحكمة العملية، و

من تلك القضايا البديهية في العقل العملي مسألة التحسين و التقبيح العقليين الثابتين لجملة من القضايا، كقولنا: «العدل حسن» و «الظلم قبيح» و «جزاء الإِحسان بالإِحسان حسن، و جزاؤه بالإِساءة قبيح».

فهذه القضايا أوّلية في الحكمة العملية و العقل العملي يدركهما من صميم ذاته، و من ملاحظة تلك القضايا تعرف سائر الأَحكام العقلية العملية غير البديهية سواء كانت مربوطة بالأَخلاق أو تدبير المنزل أو سياسة المدن، فقضايا هذه العلوم الثلاثة إيجاباً و سلباً مبنية علي قضية بديهية نابعة من العقل العملي، و هي حسن الإِحسان و قبح الظلم، و لنمثل لذلك مثالًا: إنّ العالم الاخلاقي يحكم بلزوم تكريم الوالدين و المعلمين و أُولي النعمة،

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 170

لَانّ التكريم من مصاديق جزاء الإِحسان بالإِحسان، و هو حسن بالذات؛ و الإِهانة لهم من مصاديق جزاء الإِحسان بالإِساءة و هو قبيح بالذات.

كما أنّ الباحث عن أحكام تدبير المنزل يحكم بلزوم القيام بوظائف الزوجية من قبل الطرفين و قبح التخلّف عنها، لَانّ القيام بها عمل بالميثاق، و التخلّف عنها تخلّف عنه، و الأَوّل حسن بالذات، و الثاني قبيح بالذات.

و العالم الاجتماعي الذي يبحث عن حقوق الحاكم و الحكومة علي المجتمع يحكم بأنّه يجب أن تكون الضرائب متناسبة مع دخل الافراد، لَانّ الخروج عن تلك الضابطة ظلم للرعية، و هو قبيح بالذات.

و قس علي ذلك كلّ ما يرد عليك من الأَبحاث في الحكمة العملية سواء أ كانت راجعة إلي الفرد (الأَخلاق) أم إلي المجتمع الصغير (البيت) أم إلي المجتمع الكبير (السياسة) فكلّ ما يرد فيها و يبحث عنها الباحثون بما أنّه من شئون العقل العملي يجب أن ينتهي الحكم فيه إيجاباً و سلباً، صحّةً و بطلاناً إلي القضايا

الواضحة البديهية في مجال ذلك العقل.

إلي هنا انتهينا إلي أنّه يجب انتهاء الاحكام العملية غير الواضحة إلي أحكام عملية بديهية، فيصبح حسن العدل و قبح الظلم من الأَحكام الواضحة التي لا يحتاج العقل إلي شي ء آخر وراءها سوي ملاحظة نفس القضية: (العدل حسن) أو (الظلم قبيح).

ثمّ إنّ إدراك العقل لحسن الافعال أو قبحها لا يختص بالمدرك أو بصنف خاص أو بنوع الإِنسان، بل يدرك حسن صدوره أو قبحه لكلّ موجود عاقل مختار سواء كان الفاعل هو الإِنسان أو غيره، لَانّ المقوم لقضائه بأحد الوصفين نفس القضية بما هي قضية من غير خصوصية للمدرك و لا للفاعل، فهو يدرك أن العدل

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 171

حسن عند الجميع و من الجميع، و الظلم قبيح عند الجميع و من الجميع، و لا يختص حكمه بهما بزمان دون زمان.

و للرازي هنا كلمة قيّمة قال: إنّ العقلاء قبل علمهم بالشرائع و النبوّات مطبقون علي حسن مدح المحسن و حسن ذم المسي ء، فإنّ من أحسن إلي محتاج، فذلك المحتاج يجد من صريح عقله حسن مدحه و ذكره بالخير؛ و لو أساء رجل إليه، فإنّه يجد من صريح عقله حسن ذمه، و هذا الحكم حاصل سواء كان ذلك الإِنسان مؤَمناً يصدق بالأَنبياء، أو لم يكن كذلك، فعلمنا أنّ الحسن و القبح مقرر في عقولهم «1».

و ظهر ممّا ذكرنا انّ العدل حسن و الظلم قبيح عند اللّه سبحانه بمعني انّ العقل يدرك سعة الحكم و عدم اختصاصه بمدرك أو فاعل، فكلّ إنسان يجد من صميم ذاته حسن بعض الافعال أو قبحها من غير نظر إلي فاعل خاص.

و بذلك يثبت أمران: أ- استطاعة العقل إدراك حسن بعض الافعال أو قبحها.

ب- سعة إدراكه

و شموليته، و انّ ما يدركه لا يختص بفاعل دون فاعل، أو مدرك دون مدرك.

التحسين و التقبيح في الكتاب العزيز

إنّ التدبّر في آيات الذكر الحكيم يرشدنا إلي تسليمه لحكم العقل بالتحسين و التقبيح خارج إطار الوحي، و إليك بعض النماذج: 1- قال سبحانه:

______________________________

(1) الرازي: المطالب العالية: 3- 290.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 172

" إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي الْقُرْبيٰ وَ يَنْهيٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" «1».

2-" قُلْ إِنَّمٰا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوٰاحِشَ" «2».

3-" يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ" «3».

4-" وَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً قٰالُوا وَجَدْنٰا عَلَيْهٰا آبٰاءَنٰا وَ اللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا قُلْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ" «4».

فهذه الآيات تعرب بوضوح عن أنّ هناك أُموراً توصف بالإِحسان و الفحشاء و المنكر و البغي و المعروف قبل تعلّق الأَمر أو النهي بها و أنّ الإِنسان يجد انّ وصف الافعال بأحدها ناجم من صميم ذاته.

و ليس معرفة الإِنسان بها موقوفاً علي تعلّق أمر الشارع بها و لو تعلّق يكون تأكيداً لإِدراك العقل و أمره بالحسن و النهي عن القبيح.

أضف إلي ذلك أنّه سبحانه يتخذ وجدان الإِنسان سنداً لقضائه فيما يستقل به.

5- يقول تعالي: " أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّٰارِ" «5». 6- و يقول سبحانه: " أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" «6».

______________________________

(1) النحل: 90.

(2) الأَعراف: 33- 3.

(3) الأَعراف: 157.

(4) الأَعراف: 28.

(5) ص: 28.

(6) القلم: 35 36.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 173

7- و يقول سبحانه: " هَلْ جَزٰاءُ الْإِحْسٰانِ إِلَّا الْإِحْسٰانُ" «1».

فالتدبر في هذه الآيات لا يدع مجالًا لتشكيك المشكّكين في أنّ التحسين و التقبيح من الأُمور العقلية التي يدركها

الإِنسان بحجّة باطنية دون حاجة إلي حجّة ظاهرية.

فهذه الآيات التي تخاطب الإِنسان بلسان الفطرة، و توقفه علي ما يدركه من صميم ذاته، خير دليل و أجلي شاهد علي أنّ التحسين و التقبيح عقليان قبل أن يكونا شرعيين، و انّ الشرع في تحسينه بعض الأُمور أو تقبيحه لا يسلك طريق التعبد، بل يسلك طريق الإِرشاد إلي ما يحكم به العقل.

و علي ذلك فالعقل يدرك الحسن أو القبح المتفق عليه عند العقل و الشرع معاً.

معني حسن الفعل و قبحه

إذا وقفت علي أنّ العقل بفضل سعة آفاق إدراكه يدرك الحسن و القبح المشتركين عند العقل و الشرع، فلا بدّ من تفسير الحسن و القبح عندهما، و ليس لهما تفسير سوي أنّ العقل بإدراك الحسن يحكم بلزوم الإِتيان به و عدم الرضا بتركه، و بإدراك القبح يحكم بلزوم تركه و عدم جواز الإِتيان به، و كون الأَمر كذلك عند اللّه سبحانه، فيستكشف من حسن الفعل وجوبه و من قبحه حرمته، بذلك يصبح العقل من منابع التشريع و مصادره في إطار خاص، أي فيما إذا أدرك حسن الافعال و قبحها فقط.

______________________________

(1) الرحمن: 60.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 174

و اتّضح من خلال هذا البحث أمر آخر ربما يكون سبباً للخلط و الاشتباه، و هو أنّ مصدرية العقل للتشريع تحدّد بالاطار السابق و لا يعم استنباط العقل لمصالح الأَشياء أو مفاسدها حتي يستنبط بذلك حكم الشرع من الوجوب و الحرمة، و ما ذلك إلّا لقصور العقل عن الإِحاطة بمصالح الافعال و مفاسدها، إلّا إذا كانتا من المصالح و المفاسد النوعية التي اتّفق العقلاء عليهما، و هذا القسم خارج عن محط النقاش.

و من أراد تسوية إدراك المصالح بحسن الأَشياء و المفاسد بقبحها فقد خلط بين

البحثين.

فالعقل قادر علي إدراك حسن أو قبح بعض الافعال، و هو أمر وجداني كما عرفت، و أين هو من قيامه بتحليل الافعال و الوقوف علي مصالحها و مفاسدها، ثمّ استكشاف الحكم الشرعي من خلالها، فإنّ العقل أقصر من ذلك، و إلي ذلك يشير الامام الصادق- عليه السّلام- و يقول: «إنّ دين اللّه لا يصاب بالعقل».

و في ظله رفضنا القياس و الاستحسان.

يقول المحقّق الأصفهاني: أمّا استتباع حكم العقل النظري للحكم الشرعي المولوي، فمجمل القول فيه إنّ مصالح الأَحكام الشرعية المولوية التي هي ملاكات تلك الاحكام و مناطاتها لا تندرج تحت ضابطة، و لا تجب أن تكون هي بعينها المصالح العمومية المبني عليها حفظ النظام و إبقاء النوع، و عليه فلا سبيل للعقل بما هو إليها «1».

______________________________

(1) نهاية الدراية: 2- 130.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 175

الاستدلال علي الملازمة بالدليل النقلي

إنّ هناك آيات و أحاديث تعرب عن وجود الملازمة بين حسن الفعل و وجوبه، و قبحه و حرمته، و إليك بيانه: إنّ الظاهر من الآيات أنّ ألفاظ المعروف و المنكر و الطيبات و الخبائث و نظائرها كانت دارجة و مستعملة فكانت تدرك بالفطرة، و انّ الغاية من بعث الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- هو الأَمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و تحريم الخبائث و تحليل الطيبات، فهذه الآيات تدل علي الملازمة علي انّ المعروف عند العرف، مطلوب عند الشرع؛ و المبغوض عند العرف، مرفوض عند الشارع.

قال سبحانه في حقّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: " يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ" «1» و قال عزّ من قائل: " إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ

ذِي الْقُرْبيٰ وَ يَنْهيٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" «2».

و قال سبحانه حاكياً عن لقمان و هو يعظ ابنه: " يٰا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلٰاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَليٰ مٰا أَصٰابَكَ إِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" «3».

و قد روي عن أبي جعفر أنّه سأله رجل عن طول الجلوس في بيت الخلاء.. فقال: «و القبيح دعه لأَهله فإنّ لكلّ شي ء أهلًا» «4».

إنّ الامام أمير المؤمنين- عليه السّلام- يصف الأَنبياء بأنّهم مذكّرون لما تقضي به فطرة الإِنسان و يقول: «فبعث فيهم رسله، و واتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق

______________________________

(1) الأَعراف: 157.

(2) النحل: 90.

(3) لقمان: 17.

(4) روضة المتقين: 1- 80 برقم 177.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 176

فطرته، و يذكّروهم منسي نعمته، و يحتجوا عليهم بالتبليغ و يثيروا لهم دفائن العقول» «1».

و كم للإِمام و أولاده (عليهم السلام) من كلمات ناصعة دالّة علي أنّ كثيراً من تعاليم الشرائع شرح لما كتبه سبحانه بقلم قضائه علي صحيفة وجود الإِنسان و فطرته، و قد طوينا الكلام عن نقلها، و قد أشبعنا الكلام فيها في منشوراتنا التفسيرية «2».

حصيلة البحث

قد بان ممّا نقلنا من كلمات الاعلام و ما ذكرنا حولها من المناقشات، انّ أصل التحسين و التقبيح من البديهيات العقلية في مجال إدراكات العقل العملي، و أمّا كون الفعل كذلك عند اللّه، فهو أوضح من أن يخفي، لَانّ العقل يدرك قضية عامة و انّه كذلك لدي كلّ موجود حي مختار.

و بعبارة أُخري إنّ موضوع الحكم لدي العقل، هو نفس الموضوع عند اللّه سبحانه، فكان الحسن و القبح، و المدح و الذم، و البعث و الزجر من لوازم الفعل عنده، فلا وجه لتفكيك اللازم عن

الملزوم في موطن دون موطن.

و إن شئت قلت: إنّ العقل يدرك انّ هذا الفعل بما هو هو حسن أو قبيح، و إنّه مستحق للمدح أو الذم و إنّه يجب أن يفعل أو لا يفعل، فإذا كان المدرك بهذه السعة، فلا يصحّ التفكيك بين الخالق و المخلوق، و التفكيك أشبه بأن تكون زوايا المثلث مساوية لزاويتين قائمتين عند الإِنسان دون اللّه، فالحسن و القبح و المدح و الذم، و البعث و الزجر، من لوازم نفس الشي ء بما هو هو، عند الجميع.

______________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 1.

(2) لاحظ مفاهيم القرآن: 1- 35.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 177

الثمرات الفقهية للتحسين و التقبيح العقليين

قد مضي أنّ مصدرية العقل للتشريع خاص في إطار التحسين و التقبيح العقليين، فالفقيه ربما يتخذ الحكم العقلي ذريعة لاستنباط الحكم الشرعي، و نستعرض نماذج منها: 1- البراءة من الوجوب و التحريم: يدرك العقل قبح العقاب بلا بيان، فلو شك في وجوب واقعة أو حرمتها، و لم نعثر علي دليل في الكتاب و السنّة يدل علي وجوبه أو حرمته، فالعقل يستقل بعدمهما لقبح العقاب بلا بيان.

و يتضح بذلك انّ أصل البراءة من الأصول الاساسية الناتجة من حكم العقل و استقلاله علي قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

2- الاشتغال عند الشكّ في المكلّف به: كما أنّ العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان، يحكم أيضاً بحسنة فيها إذا علم التكليف و تردّد المكلّف به بين شيئين أو أشياء، قائلًا: بأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، و هي لا تحصل إلّا بالإِتيان بالجميع عند تردد الواجب بين شيئين، أو ترك الجميع عند تردّد الحرام بينهما فتصبح البراءة و الاشتغال من ثمرات تلك المسألة.

3- الإِتيان بالمأمور به مسقط للأَمر: إنّ الإِتيان بالمأمور به بالأَمر الواقعي

الاوّلي أو الثانوي أو الظاهري مجز عن الإِتيان به ثانياً لاستقلال العقل بقبح بقاء الأَمر مع الإِتيان بالمأمور به بأجزائه و شرائطه، و لو لا القول بالحسن و القبح و الملازمة بين حكمي العقل و الشرع، لما

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 178

استكشفنا كونه مجزياً عند الشارع.

4- جواز اجتماع الأَمر و النهي و عدم جوازه إذا كان هناك عنوانان، و مرجع النزاع لدي المشهور إلي الصغري و انّه هل هو من مصاديق الاجتماع أو لا؟ و أمّا حكمها أي الكبري فمعلوم، لأَجل قبح التكليف بغير المقدور.

5- الاحتجاج بالقيد في باب المفاهيم إذا أحرز انّه علّة منحصرة للحكم ضرورة عدم المعلول عند عدم علّته.

الثمرات الفقهية للقول بالملازمة

يترتب علي القول بالملازمة بين حكمي العقل و الشرع ثمرات فقهية نشير إلي بعضها: 1- وجوب المقدّمة عند وجوب ذيها علي القول بالملازمة بين الوجوبين.

2- حرمة ضدّ الواجب علي القول بالملازمة بين وجوب الشي ء و حرمة ضدّه.

3- فساد العبادة إذا تعلّق بها النهي.

4- فساد العبادة إذا تعلّق النهي بأجزائها أو شرائطها أو أوصافها.

5- فساد المعاملة إذا تعلق النهي بالتصرف في الثمن أو المثمن للملازمة بين مثل هذا النهي و فسادها.

الثمرات الفقهية المترتبة علي إدراك المصالح و المفاسد العامتين

المصالح و المفاسد النوعيتان اللّتان يستوي فيهما كافة العقلاء كاستعمال المخدرات فقد عرفت أنّه يمكن أن يقع ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي، و يحصل منه القطع بأنّ الحكم عند الشرع نفس الحكم عند العقل.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 179

نعم إدراك المصالح و المفاسد و مناطات الاحكام بالسبر و التقسيم فهو أمر مرغوب عنه و إن حصل القطع، فالقطع حجّة للقاطع لا لغيره، و ليس حجّة علي الغير فلا يكون حجّة علي المقلد لاستناده في استنباط الحكم الشرعي علي مصدر غير صالح، و سيوافيك توضيحه في فصل خاص.

و في الختام ننقل كلام المحقّق السيد علي القزويني في تعليقته علي القوانين، قال معلّقاً علي قول المحقّق القمي: «و منها ما يحكم به بواسطة خطاب الشرع، كالمفاهيم و الاستلزامات»: أي بملاحظته، كحكمه بوجوب المقدمة بملاحظة الخطاب بذي المقدمة، و بحرمة الضد بملاحظة الخطاب بالمأمور به المضيق، و بالانتفاء عند الانتفاء بملاحظة الخطاب المعلّق علي شرط أو وصف أو غيرهما، لئلّا يلغو التعليق و ذكر القيد، و يسمي الاستلزامات العقلية، لحكم العقل باستلزام إيجاب الشي ء، وجوب مقدماته، و استلزام الأَمر بالشي ء لحرمة ضدّه، و استلزام الوجود عند الوجود، الانتفاء عند الانتفاء، فالمفاهيم أيضاً مندرجة في الاستلزامات» «1».

و بذلك يعلم

أنّ فقه الشيعة قائم علي حجّية العقل القطعي الذي لا يشوبه شك، و هو منحصر بباب التحسين و التقبيح العقليين أو الملازمات القطعيّة أو المصالح و المفاسد النوعيتين الواضحتين.

و أمّا العمل بالقياس و الاستحسان و المصالح و المفاسد المستنبطة بالعقل، فهو عمل بالعقل الظنّي و لا يركن إليه و لا يصح نسبة نتائج هذه الأَدلّة إلي اللّه سبحانه.

إلي هنا فرغنا من أدلّة الفقه و تبيّن أنّها ترجع إلي أُمور أربعة: الكتاب،

______________________________

(1) القوانين: 2- 1.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 180

و السنّة، و الإِجماع في مظان خاصة، و العقل القطعي الذي لا يشوبه شك.

و تبيّن حدّ الاختلاف بين الفريقين في كيفية حجّية الإِجماع.

بقي الكلام في الأصول العملية

اشارة

كما اصطلح عليها فقهاء الشيعة و هي تستمد من الأَدلّة الأَربعة، و إليك البيان: الأصول العملية الأَدلّة الشرعية التي يتمسّك بها المستنبط علي قسمين: ألف: أدلّة اجتهادية.

ب- أُصول عملية.

و هذا التقسيم من خصائص الفقه الشيعي، و أمّا الفرق بينهما فهو: إنّ الدليل قد يكون طريقاً إلي الحكم الشرعي أمّا طريقاً قطعياً، كالخبر المتواتر؛ أو طريقاً مورثاً للاطمئنان، كالخبر المستفيض، و خبر الثقة، و هذا ما يسمّي بالدليل الاجتهادي أو الأَمارات الشرعية.

و أمّا إذا قصرت يد المجتهد عن الدليل الشرعي الموصل إلي الواقع، و صار شاكاً متحيراً في حكم الواقعة، فعند ذلك عالج الشارع تحيّر المجتهد بوضع قواعد لها جذور بين العقلاء، و هذا ما يسمّي بالأُصول العملية، أو الدليل الفقاهي، و هي بين أُصول خاصة بباب، أو عامة شاملة لجميع أبواب الفقه، فمن القسم الأَوّل القواعد التالية: 1- قاعدة الطهارة: كلّ شي ء طاهر حتي تعلم أنّه قذر.

2- أصالة الحلية: كلّ شي ء حلال حتي تعلم أنّه حرام.

3- أصالة الصحّة في فعل الغير.

مصادر الفقه الإسلامي

و منابعه، ص: 181

4- قاعدة التجاوز و الفراغ عند الشك في صحّة العمل بعد التجاوز عن محله.

و من القسم الثاني الأصول التالية:

1- أصالة البراءة

إذا شكّ في وجوب شي ء أو حرمته بعد الفحص عن مظانّه و لم يقف علي ما دلّ علي وجوبه أو علي حرمته، فالعقل و الشرع يحكمان بعدم صحّة العقاب علي مخالفته، و هذا ما يعبر عنه بالبراءة العقلية أو الشرعية.

أمّا العقلية فلاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان كما عرفت.

و أمّا الشرعية فلقوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «رفع عن أُمّتي تسعة: الخطاء و النسيان و ما أُكرهوا عليه و ما لا يعلمون و ما لا يطيقون و ما اضطروا إليه..» «1».

2- أصالة الاشتغال

إذا علم بوجوب شي ء مردّد بين أمرين أو حرمته كذلك، فالعقل يستقل بالاشتغال و الاحتياط بمعني الإِتيان بهما أو ترك كليهما، لَانّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة القطعية، فقد تضافر العقل و النقل علي الاحتياط.

أمّا العقل، فلما عرفت من استقلاله علي لزوم تحصيل البراءة بعد الاشتغال اليقيني.

و أمّا الشرع، فلما ورد في غير واحد من الروايات في أنّ المبتلي بإناءين مشتبهين إذا علم بنجاسة أحدهما يهريقهما و يتيمم «2».

______________________________

(1) الصدوق: الخصال: 417، باب التسعة، الحديث 9.

(2) الوسائل: الجزء 1، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 82.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 182

3- أصالة التخيير

إذا دار حكم الشي ء بين الوجوب و الحرمة؛ فبما أنّ التحصيل اليقيني أمر محال، فهو يتخير بين الأَخذ بأحد الحكمين إذا لم يكن أحدهما أهم من الآخر، و هذا ما يعبر عنه بأصالة التخيير.

4- الاستصحاب

إذا تيقن بوجوب شي ء، أو حرمته، أو طهارته، أو نجاسته، ثمَّ عرض له الشك في بقاء المتيقن السابق فيحكم بالبقاء و هو أصل عقلائي إجمالًا أمضاه الشارع و تضافرت روايات عن أئمّة أهل البيت علي حرمة نقض اليقين بالشك.

فهذه هي الأصول العملية الأَربعة المستمدة حكمها من العقل و الشرع.

فظهر انّ الأصول علي قسمين، إمّا خاصة ببعض الأَبواب، أو عامة شاملة لجميع أبواب الفقه.

و بما ذكرنا من أنّ الأصول العملية الخاصة أو العامة تستمد حكمها من الكتاب أو السنة أو العقل، فهي ليست من مصادر التشريع برأسها، و إنّما ترجع إلي المنابع الثلاثة الأُولي؛ و لو لا دلالة المنابع علي حجيتها لما صح التمسك بها و إن كانت أعمالها بعد اليأس عن العثور علي حكم الشرع من الأَدلة الاجتهادية خلافاً لما يتراءي من أهل السنّة، حيث جعلوا البراءة أو الاستصحاب في عرض الكتاب و السنّة، كما جعلوا القياس أيضاً كذلك.

إلي هنا تمّ بيان مصادر التشريع المتفق عليها بين الفريقين.

نعم ينفرد أهل السنّة بالقول بمصادر و منابع للتشريع تختص بهم و لا تعترف بها الشيعة علي الإِطلاق، و لو انّها اعترفت ببعضها، فإنّما ترجعه إلي المصادر الأَربعة، و حيث إنّها تختص بأهل السنّة خاصة، فنجعلها في فصل خاص و نتناولها بالبحث بعد بيان موضع العرف و السيرة في الفقه الإِسلامي.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 183

خاتمة المطاف العرف و السيرة

اشارة

إنّ العرف له دور في مجال الاستنباط أوّلًا، و فصل الخصومات ثانياً، حتي قيل في حقّه: «العادة شريعة محكمة»، أو «الثابت بالعرف كالثابت بالنص» «1» و لا بدّ للفقيه من تحديد دوره و تبيين مكانته حتي يتبين مدي صدق القولين.

أقول: العرف عبارة عن كلّ ما اعتاده الناس و ساروا عليه، من

فعل شاع بينهم، أو قول تعارفوا عليه، و لا شكّ انّ العرف هو المرجع في منطقة الفراغ، أي إذا لم يكن هناك نص من الشارع علي شي ء علي تفصيل سيوافيك و إلّا فالعرف سواء أ وافقه أم خالفه ساقط عن الاعتبار.

و علي ذلك فتتلخص مرجعية العرف في الأُمور التالية:

الأَمر الأَوّل: استكشاف الجواز وضعاً و تكليفاً

يستكشف الحكم من السيرة بشرطين: 1- أن لا تصادم النص الشرعي.

2- أن تكون متصلة بعصر المعصوم.

توضيحه: قد يطلق العرف و يراد به ما يتعارف بين المسلمين من دون أن

______________________________

(1) رسائل ابن عابدين: 2- 113، في رسالة نشر العرف التي فرغ منها عام 1243 ه.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 184

يدعمه دليل من الكتاب و السنّة، و هذا ما نلاحظه في الأَمثلة التالية: 1- العقود المعاطاتية من البيع و الإِجارة و الرهن و غيرها.

2- وقف الأَشجار و الأَبنية من دون وقف العقار.

3- دخول الحمام من دون تقدير مدة المكث فيه و مقدار المياه التي يصرفها.

4- استقلال الحافلة بأُجرة معيّنة من دون أن يعيّن حد المسافة.

إلي غير ذلك من السير المستمرة بين المسلمين.

و التمسك بالسيرة و استكشاف حكم الموضوع رهن اتّصالها إلي عصر المعصوم و سكوته عنها.

و الكلام الحاسم في السيرة، هي أنّها علي قسمين: تارة تصادم الكتاب و السنّة و تعارضهما، كاختلاط النساء بالرجال في الافراح و الأَعراس و شرب المسكرات فيها، و كاشتراط المرتهن الانتفاع من العين المرهونة، أو اشتراط ربّ المال في المضاربة قدراً معيناً من الربح لا بالنسبة، فلا شكّ انّ هذه السير باطلة لا يرتضيها الإِسلام و لا يحتج بها إلّا الجاهل.

و أُخري لا تصادم الدليل الشرعي و في الوقت نفسه لا يدعمها الدليل، فهذا النوع من السيرة إن اتصلت بزمان المعصوم و

كانت بمرأي و مسمع منه و مع ذلك سكت عنها تكون حجّة علي الاجيال الآتية كما في الأَمثلة المتقدّمة.

و بذلك يعلم أنّ السير الحادثة بين المسلمين بعد رحيل المعصوم لا يصح الاحتجاج بها و إن راجت بينهم كالأَمثلة التالية: 1- عقد التأمين: و هو عقد رائج بين العقلاء، عليه يدور رحي الحياة العصرية، فموافقة العرف له ليس دليلًا علي مشروعيته، بل يجب التماس دليل آخر عليه.

2- عقد حقّ الامتياز: قد شاع بين الناس شراء الامتيازات كامتياز الكهرباء

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 185

و الهاتف و الماء و غير ذلك التي تعد من متطلّبات الحياة العصرية، فيدفع حصة من المال بغية شرائها وراء ما يدفع في كلّ حين عند الاستفادة و الانتفاع بها، و حيث إنّ هذه السيرة استحدثت و لم تكن من قبل، فلا تكون دليلًا علي جوازها، فلا بدّ من طلب دليل آخر.

3- بيع السرقفلية: قد شاع بين الناس انّ المستأجر إذا استأجر مكاناً و مكث فيه مدّة فيصبح له حق الأَولوية و ربما يأخذ في مقابله شيئاً باسم «السرقفلية» حين التخلية.

4- عقود الشركات التجارية الرائجة في عصرنا هذا، و لكل منها تعريف يخصها، و لم يكن لها أثر في عصر الوحي، فتصويب كلّ هذه العقود بحاجة ماسَّة إلي دليل آخر وراء العرف.

فإن دلّ عليها دليل شرعي يؤخذ به و إلّا فلا يحتج بالعرف.

الأَمر الثاني: الرجوع إلي العرف في تبيين المفاهيم

1- إذا وقع البيع و الإِجارة و ما شابههما موضوعاً للحكم الشرعي ثمَّ شكّ في مدخلية شي ء أو مانعيته في صدق الموضوع شرعاً، فالصدق العرفي دليل علي أنّه هو الموضوع عند الشرع.

إذ لو كان المعتبر غير البيع بمعناه العرفي لما صحّ من الشارع إهماله مع تبادر غيره و كمال اهتمامه

ببيان الجزئيات من المندوبات و المكروهات إذ يكون تركه إغراءً بالجهل و هو لا يجوز.

يقول الشيخ الأَنصاري في نهاية تعريف البيع: إذا قلنا بأنّ أسماء المعاملات موضوعة للصحيح عند الشارع، فإذا شككنا في صحّة بيع أو إجارة أو رهن يصح

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 186

لنا أن نستكشف ما هو الصحيح عند الشارع ممّا هو الصحيح عند العرف بأن يكون الصحيح عند العرف طريقاً إلي ما هو الصحيح عند الشارع إلّا ما خرج بالدليل.

2- لو افترضنا الإِجمال في مفهوم الغبن أو العيب في المبيع فيحال في صدقهما إلي العرف.

قال المحقّق الأَردبيلي: قد تقرّر في الشرع انّ ما لم يثبت له الوضع الشرعي يحال إلي العرف جرياً علي العادة المعهودة من رد الناس إلي عرفهم «1».

3- لو افترضنا الإِجمال في حدّ الغناء فالمرجع هو العرف، فكلّ ما يسمّي الغناء عرفاً فهو حرام و إن لم يشتمل علي الترجيع و لا علي الطرب.

يقول صاحب مفتاح الكرامة: المستفاد من قواعدهم حمل الأَلفاظ الواردة في الاخبار علي عرفهم، فما علم حاله في عرفهم جري الحكم بذلك عليه، و ما لم يعلم يرجع فيه إلي العرف العام كما بيّن في الأصول «2».

يقول الامام الخميني (رحمه الله): أمّا الرجوع إلي العرف في تشخيص الموضوع و العنوان فصحيح لا محيص عنه إذا كان الموضوع مأخوذاً في دليل لفظي أو معقد الإِجماع «3».

الأَمر الثالث: الرجوع إلي العرف في تشخيص المصاديق

لقد اتّخذ الشرع مفاهيم كثيرة و جعلها موضوعاً لأَحكام، و لكن ربما

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان: 8- 304.

(2) مفتاح الكرامة: 4- 229.

(3) الامام الخميني: البيع: 1- 331.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 187

يعرض الاجمال علي مصاديقها و يتردّد بين كون الشي ء مصداقاً لها أو لا.

و هذا كالوطن و الصعيد و

المفازة و المعدن و الحرز في السرقة و الأَرض الموات إلي غير ذلك من الموضوعات التي ربما يشك الفقيه في مصاديقها، فيكون العرف هو المرجع في تطبيقها علي موردها.

يقول المحقّق الأَردبيلي في حفظ المال المودع: و كذا الحفظ بما جري الحفظ به عادة، فإنّ الأُمور المطلقة غير المعينة في الشرع يرجع فيها إلي العادة و العرف، فمع عدم تعيين كيفية الحفظ يجب أن يحفظها علي ما يقتضي العرف حفظه، مثل الوديعة بأن يحفظ الدراهم في الصندوق و كذا الثياب و الدابة في الإصطبل و نحو ذلك، ثمّ إنّ في بعض هذه الأَمثلة تأملًا، إذ الدراهم لا تحفظ دائماً في الصندوق، و لا الثياب و هو ظاهر «1».

الأَمر الرابع: الأَعراف الخاصة هي المرجع في الإِفتاء و القضاء

اشارة

إنّ لكلّ قوم و بلد أعرافاً خاصة بهم يتعاملون في إطارها و يتفقون علي ضوئها في كافة العقود و الإِيقاعات، فهذه الأَعراف تكوّن قرينة حالية لحل كثير من الاجمالات المتوهمة في أقوالهم و أفعالهم، و لنقدّم نماذج منها: 1- إذا باع دابة ثمّ اختلفا في مفهومه، فالمرجع ليس هو اللغة بل إلي ما هو المتبادر في عرف المتعاقدين و هو الفرس.

2- إذا باع اللحم ثمّ اختلفا في مفهومه، فالمرجع هو المتبادر في عرف المتبايعين و هو اللحم الأَحمر دون اللحم الأَبيض كلحم السمك.

3- إذا أوصي الوالد بشي ء لولده، فالمرجع في تفسير الولد هو العرف و لا

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان: 28010- 279.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 188

يطلق فيه الأعلي الذكر لا الأُنثي خلافاً للفقه و الكتاب العزيز، قال سبحانه: " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ*" «1».

4- إذا اختلفت البلدان في بيع شي ء بالكيل أو الوزن أو بالعدِّ، فالمتبع هو العرف الرائج في بلد البيع.

قال المحقّق الأَردبيلي: كلّما لم

يثبت فيه الكيل و لا الوزن و لا عدمهما في عهده- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فحكمه حكم البلدان، فإن اتّفق البلدان فالحكم واضح، و إن اختلفا ففي بلد الكيل أو الوزن يكون ربويا تحرم الزيادة و في غيره لا يكون ربويا فيجوز التفاضل، و الظاهر انّ الحكم للبلد لا لأَهله و إن كان في بلد غيره «2».

5- إذا اختلف الزوجان في أداء المهر، فالمرجع هو العرف الخاص، فلو جرت العادة علي تقديم المهر أو جزء منه قبل الزفاف و لكن ادّعت الزوجة بعده انّها لم تأخذه، و ادّعي الزوج دفعه إليها، فللحاكم أن يحكم علي وفق العرف الدارج في البلد.

و قد روي عن الامام الصادق- عليه السّلام- فيما إذا اختلف أحد الزوجين مع ورثة الزوج الآخر، انّه جعل متاع البيت للمرأة و قال للسائل: «أ رأيت إن أقامت بيّنة إلي كم كانت تحتاج؟» فقلت: شاهدين، فقال: «لو سألت من بين لابتيها يعني الجبلين و نحن يومئذٍ بمكة لأَخبروك أنّ الجهاز و المتاع يُهدي علانية، من بيت المرأة إلي بيت زوجها، فهي التي جاءت به و هذا المدّعي، فإن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البينة» «3».

6- إذا اختلف البائع و المشتري في دخول توابع المبيع في البيع فيما إذا لم

______________________________

(1) النساء: 11.

(2) مجمع الفائدة و البرهان: 8- 477، كتاب المتاجر، مبحث الربا.

(3) الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب ميراث الأَزواج، الحديث 1.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 189

يصرّحا به، كما إذا اختلفا في دخول اللجام و السرج في المبيع، فإذا جري العرف علي دخولهما في المبيع و إن لم يذكرا يكون قرينة علي أنّ المبيع هو المتبوع و التابع، و لذلك

قالوا: إنّ ما يتعارفه الناس من قول أو فعل عليه يسير نظام حياتهم و حاجاتهم، فإذا قالوا أو كتبوا فإنّما يعنون المعني المتعارف لهم، و إذا عملوا فإنّما يعملون علي وفق ما يتعارفونه و اعتادوه، و إذا سكتوا عن التصريح بشي ء فهو اكتفاء بما يقتضي به عرفهم و لهذا قال الفقهاء: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

إمضاء النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- لبعض الأَعراف

إنّ النبيّ- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أمضي بعض الأَعراف الموجودة بين العرب كما أمضي ما سنّه عبد المطلب من السنن، و لكن كان الجميع بإذن منه سبحانه، فلو وضع الدية علي العاقلة، أو جعل دية الإِنسان مائة من الإِبل و غير ذلك، فقد كان بأمر من اللّه سبحانه، كيف و قد أوحي إليه قوله سبحانه: " وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ- فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ- فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ" «1».

تفسير خاطئ

يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: إنّ الرسول لمّا وجد عرف أهل المدينة جارياً علي بيع السلم و علي بيع العرايا و أصبح هذان النوعان من البيوع التي لا يستغني عنهما المتعاملون أباحهما، فرخّص في السلم و رخّص في العرايا مع أنّ كلا منهما حسب الأَحكام الشرعية عقد غير صحيح، لَانّ السلم بيع مبيع غير موجود وقت البيع بثمن حالّ فهو عقد علي معدوم، و قد نهي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- عن بيع المعدوم.

______________________________

(1) المائدة: 44 و 45 و 47.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 190

و العرايا: عبارة عن بيع الرطب علي النخل بالتمر الجافّ، و هذا لا يمكن فيه التحقّق من تساوي البدلين، و قد نهي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- عن بيع الشي ء بجنسه متفاضلًا، و لكن ضرورات الناس دعتهم إلي هذا النوع من التعامل و جري عرفهم به، فراعي الرسول ضرورتهم و عرفهم و رخّص فيه «1».

أقول: من أين وقف الأُستاذ علي أنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- نهي عن بيع المعدوم مع أنّ الوارد هو قوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «و لا بيع ما ليس

عندك» «2».

و قوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- ناظر إلي بيع العين الشخصية التي ليست في ملك البائع و إنّما يبيعها ليشتريها من غيره ثمّ يدفعها إليه و مثله لا يشمل بيع السلم فهو علي وفق القاعدة، لا علي خلافها حتي يحتاج إلي الترخيص.

نعم أطبق العقلاء علي عدم اعتبار بيع المعدوم إلّا إذا كان للبائع ذمة معتبرة تجلب اعتماد الغير، و كان بيع السلف أمراً رائجاً بين العقلاء إلي يومنا هذا غير انّ الشارع جعلها في إطار خاص.

قال ابن عباس: قدم النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- المدينة و هم يسلفون في الثمار السنة و السنتين، فقال: «من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم و وزن معلوم إلي أجل معلوم» «3».

و أمّا بيع العرايا فلا مانع من أن يكون تخصيصاً لما نهي بيع الرطب بالجاف «4».

و قد قيل: ما من عام إلّا و قد خص.

______________________________

(1) عبد الوهاب خلاف: مصادر التشريع الإِسلامي: 146.

(2) بلوغ المرام: برقم 820، قال و رواه الخمسة.

(3) ابن حجر: بلوغ المرام: برقم 874.

(4) روي سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر إذا يبس، فقال: «أ ينقص الرطب إذا يبس؟» قالوا: نعم، فنهي عن ذلك (بلوغ المرام: برقم 865).

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 191

و لو افترضنا انّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- رخص هذه البيوع من باب الضرورة يجب الاقتصار علي وجودها.

نعم لمّا كان النبي واقفاً علي مصالح الاحكام و مفاسدها و ملاكاتها و مناطاتها، و كانت الأَحكام تابعة لمصالح و مفاسد في متعلّقاتها، كان للنبي (صلي الله عليه و آله

و سلم) أن ينص علي أحكامه عن طريق الوقوف علي عللها و ملاكاتها و لا يكون الاهتداء إلي أحكامه سبحانه عن طريق الوقوف علي مناطاتها بأقصر من الطرق الأُخري التي يقف بها النبي علي حلاله و حرامه.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 193

الفصل الثاني مصادر التشريع المعتبرة عند أهل السنة

اشارة

يلزم علي المجتهد أن يعتمد في فتياه علي دليل أمضاه الشارع لكي تصح له نسبة الحكم إليه، و قد مضي أنّ الكتاب و السنّة و الإِجماع و العقل من مصادر التشريع المشتركة بين الفريقين علي اختلاف بينهم في بعض الموارد.

بقي الكلام هنا في المصادر التي انفرد بها أهل السنّة عند إعواز النصوص، و هي كالتالي: 1- القياس.

2- الاستحسان.

3- المصالح المرسلة (الاستصلاح).

4- سد الذرائع.

5- الحيل (فتح الذرائع).

6- قول الصحابي.

7- اتّفاق أهل المدينة.

8- إجماع العترة (انفرد به الطوفي).

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 194

ما ذكرنا من المصادر هي المعروفة بين فقهاء المذاهب الأَربعة و إن كان بينهم اختلاف في حجية بعض دون بعض، فمثلًا القياس قد اتّفقوا علي حجّيته جميعاً، في حين انّ المصالح المرسلة قد انفرد بها مالك و إن نسب القول بها إلي غيره كما سيتضح فيما بعد، فنسبة هذه الأُمور إلي أهل السنّة لا تعني انّهم يعتبرون الجميع علي حد سواء، بل انّ بعضها محل خلاف بينهم.

و قبل أن نستعرض تلك الأُمور نذكر الضابطة الكلية في حجّية مشكوك الحجّية بمعني انّا إذا شككنا في حجّية شي ء في مقام الاستنباط كالاستحسان، فما هي الضابطة الكلية التي نتخذها في تلك الموارد بحيث لو لم نعثر علي دليل خاص علي اعتبار الاستحسان مثلًا نتمسك بهذه الضابطة.

الشكّ في الحجّية يساوق عدم الحجّية

إذا شككنا في حجّية شي ء من هذه الأُمور أو غيرها، فالأَصل الاوّلي يستدعي عدم حجّيته إلّا إذا ثبتت بالدليل القاطع حجّيته، لَانّ التعبد بشي ء مشكوك الحجّية داخل في البدع المحرمة، و ليست هي إلّا إدخال ما لم يعلم من الدين فيه، فمادام الأَمر كذلك و المجتهد شاك في حجّيته، فلو أفتي به فقد ابتدع إلّا إذا قام الدليل القطعي علي حجّيته.

و

من هنا يظهر انّ نافي حجّية واحد من تلك الأُمور في فسحة من الأَمر، إذ يكفيه الشكّ في الحجّية بدل أن يقيم الدليل علي عدم الحجّية و إنّما تجب إقامة الدليل علي من يعتمد عليه في مقام الاستنباط، فإذا أدعمه دليل قطعي يخرج عن دائرة البدعة و يكون من السنّة، فمثلًا انّ الاعتماد علي خبر الواحد المورث للظن بدعة ما لم يقم دليل قاطع علي حجّيته، فإذا قام الدليل يخرج عن إطار البدعة

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 195

و يكون من السنّة.

و هكذا الحال في سائر الأُمور، و هذا هو الأَصل المتبع في المقام الذي يدعمه القرآن و العقل.

قال سبحانه: " قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرٰاماً وَ حَلٰالًا قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللّٰهِ تَفْتَرُونَ" «1».

دلّت الآية بظاهرها علي أنّ إسناد ما لم يأذن به اللّه هو في الواقع افتراء علي اللّه و رسوله، فالعمل بالاستحسان و إسناد مضمون كلامه إلي الإِسلام و الشريعة ثمّ إلي اللّه سبحانه و التمسك به، لا يخلو من حالات ثلاث: أ- إمّا صدور إذن من اللّه سبحانه في العمل بالاستحسان.

ب- أو صدر النهي عن ذلك.

ج- أو الشك في الاذن و عدمه.

فالصورة الأُولي خارجة عن مفاد الآية و بقيت الأُخريان من مصاديقها، فيكون العمل بالاستحسان و إسناد مضمون قوله إلي الشريعة افتراء علي اللّه إلّا إذا كان دليل حاكم علي الحجّية.

و هذا الأَصل سائد علي كلّ الحجج المشكوكة، كالقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة و الأَخذ باتفاق أهل المدينة و غير ذلك.

فالاحتجاج بهذه الأُمور و إسناد مضمونها إلي اللّه و جعلها حكماً شرعياً يعد افتراءً، إلّا إذا قام دليل قاطع علي أنّ

الشارع قد اهتم بها و جعلها حجة.

يقول سبحانه: " وَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً قٰالُوا وَجَدْنٰا عَلَيْهٰا آبٰاءَنٰا وَ اللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا قُلْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَي اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ" «2».

______________________________

(1) يونس: 59.

(2) الأَعراف: 28.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 196

و ملاك الحرمة هو التقوّل بمالا يعلم كونه من اللّه سواء أ كان في الواقع إذن من اللّه سبحانه أم لا؟ فهذه الآية و نظائرها تفرض علي المجتهد أن يعتمد في استنباط الاحكام، علي أمر قام دليل قاطع علي حجّيته و إن كان ذلك الأَمر في حدّ نفسه ظنّياً، لكن صار حجّة في ظلِّ الدليل القطعي كالسنّة المحكيّة بقول الثقة، و علي هذا فلو شكّ في الحجّية أو ظن بها يكون عمله افتراءً علي اللّه أو تقوّلًا عليه سبحانه بغير علم.

هذا إجمال الكلام و سيوافيك تفصيله في الأَمر العاشر «1» فانتظر.

و لنذكر في المقام أمرين، ثمّ نأخذ كلّ واحد من تلك الأُمور بالبحث و النقاش.

الأَمر الأَوّل: انّ الكلام في حجّية تلك الأُمور فيما إذا لم يكن فيها نص قرآني و سنّة معتبرة، و من المعلوم انّه لا اجتهاد مع النص، و لا يحق لأَحد التقدم علي اللّه و رسوله، قال تعالي: " يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" «2» فما ربما يعزي إلي أبي حنيفة من أنّه كان يقدّم القياس علي السنّة، فإنّما هو فيما إذا لم تكن السنّة واجدة لشرائط الحجّية، و إلّا فمع ثبوتها لا يحق لأَحد أن يقدّم رأيه علي رأي اللّه و رسوله.

الأَمر الثاني: أنّ الداعي إلي اعتبار هذه المقاييس الظنية التي لم يقم علي

أكثرها دليل قاطع، هي قلّة النصوص في مجال الفقه، فإنّ آيات الاحكام آيات محدودة، و قسم منها مجملات صدرت لبيان أصل الحكم لا تفاصيله.

و أمّا السنّة فقد بلغ عدد الأَحاديث المروية في الاحكام ما يناهز 1596 حديثاً.

______________________________

(1) لاحظ ص 217 من هذا الجزء.

(2) الحجرات: 1.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 197

و هذا بعد جهد كبير بذله ابن حجر في العثور علي النصوص الفقهية بيد انّ قسماً منها أشبه بأحاديث أخلاقية كقوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «الحياء من الايمان» و كقوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «من ردّ عن عرض أخيه بالغيب رد اللّه عن وجهه النار يوم القيامة» «1» و أمثال ذلك.

و لأَجل ذلك أنهاها صاحب المنار إلي خمسمائة حديث، و هذا المقدار من النصوص لا يشيّد صرح هيكل فقهي له قابلية علي إغناء المجتمع الإِسلامي عن القوانين الوضعية، فما وجدوا حلولًا لتلك المشكلة إلّا باختراع قواعد ظنية تشبّثوا بها في استنباط الاحكام و بذلوا جهدهم بُغية إضفاء الحجية عليها.

إذا عرفت ذلك فلنستعرض كلّ واحد من تلك الأُمور علي حدة، لنهتدي إلي موقف الشارع منها:

______________________________

(1) بلوغ المرام: 308، برقم 1552 و 1555.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 198

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة

1 القياس

اشارة

ارتحل النبيّ الأَعظم- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- عن الدنيا، و ترك شريعة بيضاء ناصعة في أوساط المسلمين، فقاموا بنشرها بين الشعوب المختلفة، حتي واجهتهم حوادث مستجدّة، ما وجدوا فيها نصّاً في الكتاب و السنّة و لم يَقم عليها إجماع، و لا دليل عقلي قطعي فلم يجدوا بُدّاً من تحكيم العقل الظنّي و إعمال الرأي بُغية وضع الحلول لها، ففتحوا باب القياس

و اعتبروه أحد مصادر التشريع، و كان في الأُمّة من يردّ تلك الفكرة و يقاومها بحماس و في طليعتهم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم عيبة علم الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

و قد اعتمد علي القياس أئمّة المذاهب الفقهية الأَربعة بلا استثناء و إن اختلفوا في مرتبة حجّيته و تقدّم بعض الأَدلّة عليه، و هذا هو الإِمام الشافعي يقول في رسالته المعروفة: «ليس لأَحد أبداً أن يقول في شي ء: حَلّ و لا حُرُمَ إلّا من جهة العلم.

و جهة العلم، الخبر في الكتاب أو السنّة أو الإِجماع أو القياس» «1».

و اتّفاق أئمّة المذاهب يغنينا عن سرد كلماتهم أو كلمات أتباعهم الذين أشادوا بمذهب إمامهم؛ كأبي يوسف قاضي القضاة، و محمد بن الحسن الشيباني

______________________________

(1) الشافعي: الرسالة 39، ط تحقيق أحمد محمد شاكر.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 199

من تلاميذ شيخ القياس أبي حنيفة، و المزني من الشافعية و هكذا.

نعم رفضه إمام المذهب الظاهري داود الأصفهاني، و ناصر مذهبه أبو حزم و قد ألّف الأَخير رسالة في إبطال القياس ردّ فيها أدلّة مثبتي القياس، و بحث في كتابه الاحكام، حول القياس علي وجه الإِسهاب «1».

______________________________

(1) الأحكام: 7- الباب 38 في إبطال القياس في أحكام الدين، و قد خصّص الجزء السابع بالموضوع و شيئاً من الجزء الثامن مضافاً إلي الرسالة المستقلّة التي ألّفها في نفي القياس.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 200

أضواء علي الموضوع

اشارة

نسلّط أضواءً علي الموضوع بذكر أُمور:

الأَوّل: القياس لغة و اصطلاحاً

القياس في اللّغة هو التسوية، يقال: قاس هذا بهذا، أي سوّي بينهما.

قال علي- عليه السّلام-: «لا يُقاس بآل محمّد- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- من هذه الأُمّة أحد» «1» أي لا يسوّي بهم أحد.

و في الاصطلاح استنباط حكم واقعة لم يرد فيها نصّ، عن حكم واقعة ورد فيها نصّ لتساويهما في علّة الحكم، مناطه و ملاكه.

و ربّما يعرّف بتعاريف أُخر: 1- القياس: عبارة عن إثبات حكم الأَصل في الفرع لاشتراكهما في علّة الحكم «2».

2- القياس: تحصيل مثل حكم الأَصل في الفرع لاشتباههما في علّة الحكم في ظنّ المجتهد، و هو لأَبي الحسين البصري «3».

______________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 3.

(2) الغزالي: شفاء الغليل: 18.

(3) سراج الدين الارموي: التحصيل من المحصول: 2- 156.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 201

3- القياس: إثبات حكم معلوم لآخر لاشتباهها في علّة الحكم عند المثبت «1».

و قد نقل الارموي في التحصيل تعريفاً عن القاضي الباقلاني و استشكل عليه، و من أراد الاطّلاع فليرجع إلي المصدر «2».

و قد نقل محمد الخضري تعاريف أُخر للقياس عن البيضاوي و صدر الشريعة و ابن الحاجب و ابن الهمام و ناقشها «3».

الثاني: أركان القياس

إنّ أركان القياس أربعة و هي: 1- الأَصل: و هو المقيس عليه.

2- الفرع: و هو المقيس.

3- الحكم: و هو ما يحكم به علي الثاني.

4- العلّة: و هو الوصف الجامع بين المقيس و المقيس عليه، و يكون هو السبب للقياس «4».

فلنفرض أنّ الشارع قال: الخمر حرام و وقفنا علي أنّ المناط للحكم كونه مسكراً، فإذا شككنا في حكم سائر السوائل المسكرة كالنبيذ و الفُقّاع فيحكم عليها

______________________________

(1) المصدر السابق.

و قد عرّفه الغزالي أيضاً في المنخول: 324 بنفس ما عرّفه القاضي الباقلاني، كما عرّفه بنفس التعريف أبو

الفتح البغدادي في الوصول إلي الأصول: 2- 209.

(2) المصدر السابق.

و قد عرّفه الغزالي أيضاً في المنخول: 324 بنفس ما عرّفه القاضي الباقلاني، كما عرّفه بنفس التعريف أبو الفتح البغدادي في الوصول إلي الأصول: 2- 209.

(3) محمد الخضري: أُصول الفقه: 289.

(4) و قد ذكر الغزالي ركناً خامساً و هو: «طريق معرفة كون الوصف الجامع علّة للحكم» لاحظ شفاء الغليل: 22.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 202

بالحرمة، لاشتراكها في الجهة الجامعة، و الأَركان الأَربعة معلومة واضحة.

أمّا شروط القياس، فتنقسم إلي: شروط في الأَصل، و شروط في الفرع، و شروط في العلّة: أمّا شروط الأَصل، فهي: 1- أن يكون الأَصل حكماً شرعياً عملياً، فالقياس الفقهي لا يكون إلّا في الأَحكام العملية، لأَنّ هذه هي موضوع الفقه بشكل عام.

2- أن يكون الحكم قابلًا لَان يُدرك العقل سببَ شرعيته، أو يوميَ النص إلي سبب شرعيته كتحريم الخمر و الميسر و أكل الميتة «1» و بهذا الشرط لا يصحُّ القياس في الأَحكام التعبّدية لَانّ أساسه معرفة علّة الحكم و لا طريق لمعرفتها في الأَحكام التعبّدية، كمناسك الحجّ، بخلاف التوصّلية فيجري فيها القياس عند القائل به، لَانّه يمكن للعقل البشري أن يدرك علّتها و لو إدراكاً ظنّياً.

3- أن لا يكون الأَصل معدولًا به عن القياس و استثناءً منه، و لذلك لا يمكن قياس شي ء آخر علي هذا المستثني من القياس، لَانّ حكم الأَصل عندئذٍ علي خلاف القاعدة فيقتصر عليه.

4- أن لا يكون الحكم الذي جاء به الأَصل ثبت بدليل خاص، كشهادة خزيمة إذ جعل النبيّ شهادته بشهادة اثنين، و كتزويج النبيّ أكثر من أربعة «2» و لعلّ الشرط الثالث يغني عن الشرط الرابع، و ذلك لَانّ الحكم الثابت في

______________________________

(1) و سيوافيك في

المستقبل أنّ القياس عند تنصيص الشارع بالعلّة خارج عن محطّ البحث علي أنّه ليس بقياس واقعاً بل عمل بالضابطة الكلّية التي أملاها الشارع.

(2) شفاء الغليل: 635- 642، و قد ذكر شروطاً ثمانية اقتصرنا بالمهم منها، الارموي؛ التحصيل من المحصول: 2- 246؛ محمد أبو زهرة: أُصول الفقه: 218- 220.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 203

الموردين علي خلاف القاعدة فلا يقاس علي ما خرج عن الضابطة بدليل استثنائي أمر آخر.

و أمّا شروط الفرع، فهي: 1- أن يكون الفرع غير منصوص علي حكمه، إذ لا قياس في موضع النص.

2- أن تتحقّق العلّة في الفرع بأن تكون مساوية في تحقّقها بين الفرع و الأَصل، و وجه الاشتراط واضح «1».

و أمّا شروط العلّة، فهي: 1- أن تكون وصفاً ظاهراً، و هذه كالصغر فإنّه علّة لثبوت الولاية المالية.

2- أن تكون منضبطاً أي لا يختلف باختلاف الأَشخاص، و لا باختلاف الأَحوال، و لا باختلاف البيئات بحيث يكون محدود المعني في كلّ ما يتحقّق فيه كالسكر في تحريم الخمر.

3- أن تقوم سمة مناسبة أو ملائمة بين الحكم و الوصف الذي اعتبر علّة، فالقتل علّة مناسبة لمنع الميراث.

4- أن يكون الوصف علّة متعدّية غير مقصورة علي موضع الحكم، كالسفر مقصور علي الصيام من حيث إنّه يرخّص في الإِفطار و القضاء في أيام أُخر، فلا يصلح أن يكون علّة لعدم أداء الصلاة و القضاء في أيام أُخر.

5- أن لا يكون الوصف قد قام الدليل علي عدم اعتباره، و ذلك إذا كان مخالفاً لنصّ دينيّ فلا تكون صالحة للتعدّي، كالمصلحة التي رآها القاضي

______________________________

(1) شفاء الغليل: 673- 675، و قد ذكر للفرع شروطاً خمسة اقتصرنا علي المهم منها؛ و مثله محمد أبو زهرة: أُصول الفقه: 220- 221.

مصادر

الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 204

الأَندلسي الذي اعتبر الكفّارة من الملك صيام ستّين يوماً لا عتق رقبة، لأَنّ تلك المصلحة (عدم ردع الملك إلّا بإلزام صوم ستين يوماً) التي رآها القاضي مرفوضة بحكم الشارع «1».

الثالث: الفرق بين علّة الحكم و حكمته

«2» إنّ مناط الحكم و علّته غير حكمته، و الفرق بينهما هو أنّه لو كان الحكم دائراً مدار العلّة وجوداً و عدماً فهو علّة الحكم و مناطه، و أمّا إذا لم يكن كذلك بل كان الحكم أوسع ممّا تُصوّر أنّه علّة للحكم فهو من حِكَم الحُكم و مصالحه لا من مناطاته، فمثلًا: الأنجاب و تكوين الأسرة من فوائد النكاح و مصالحه، و مع ذلك ليس هو مداراً للحكم و مناطه، بشهادة أنّه يجوز تزويج المرأة العقيم، و اليائسة، و من لا يطلب ولداً بالعزل، إلي غير ذلك من أقسام النكاح الجائز التي تفقد المصلحة المزبورة، و هذا يدلّ علي أنّ ما زعمناه من أنّ «الأنجاب» مدار للحكم ليس كذلك.

و لنذكر مثالًا آخر: قال سبحانه: " وَ الْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلٰاثَةَ قُرُوءٍ وَ لٰا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ" «3».

ففرض علي المطلّقة التربّص، ثلاثة قروء بغية استعلام حالها من حيث الحمل و عدمه، فلو كانت حاملًا، فعدّتها أن تضع حملها، قال سبحانه: " وَ أُولٰاتُ الْأَحْمٰالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ" «4»

______________________________

(1) محمد أبو زهرة: أُصول الفقه: 223 225.

(2) و للغزالي بحث مسهب في هذا الصدد، لاحظ شفاء الغليل: 612.

(3) البقرة: 228.

(4) الطلاق: 4.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 205

و لكن استعلام حال المطلقة ليس ضابطاً للحكم و ملاكاً له، بل من حِكَمِه بشهادة أنّه إذا غاب الزوج عن الزوجة مدّة

سنة فطلَّقها، يجب عليها التربّص مع العلم بعدم حملها منه.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ بعض ما ورد في الشرع بصورة العلّة ربّما يكون حكمة و مصلحة.

قال أبو زهرة: الفارق بين العلّة و الحكمة، هو أنَّ الحكمة غير منضبطة بمعني أنّها وصف مناسب للحكم يتحقّق في أكثر الأَحوال، و أمّا العلّة فهي وصف ظاهر منضبط محدود أقامه الشارع إمارة علي الحكم «1».

الرابع: قياس الأَولوية

قياس الأَولوية خارج عن مصب النزاع و يسمّي أيضاً بمفهوم الموافقة، و فحوي الخطاب، و ذلك لَانّ المقصود منه فهم ما لا نصّفيه ممّا نصّ عليه بالأَولوية، كقوله سبحانه: " فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ" «2» الدالّ بالأَولوية علي النهي عن الشتم و الضرب و نحوهما، و ليس هذا من باب القياس، بل عملًا بالظاهر، و القياس يتوقّف علي بذل الجهد في الوقوف علي المناط و الملاك، ثمّ التسوية بين الفرع و الأَصل بحكم المشابهة، مع أنّا لا نحتاج في فهم حكم ما لا نصّ في المقام سوي إلي فهم الخطاب الوارد في قوله: " فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ".

و بالجملة: إذا كان استخراج الحكم غير متوقّف إلّا علي فهم النصّ بلا حاجة إلي اجتهاد، فهو عمل بالظاهر.

بخلاف ما إذا كان متوقّفاً وراء فهم النصّ إلي بذل جهد و الوقوف علي المناط ثمّ التسوية ثمّ الحكم، قال سبحانه:

______________________________

(1) لاحظ أُصول الفقه لمحمد أبو زهرة: 223 و 233.

(2) الاسراء: 23.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 206

" فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ" «1» فلا نحتاج في فهم حكم الخير الكثير إلّا إلي فهم مدلول الآية.

الخامس: المتشابهان غير المتماثلين

إنّ مصبّ القياس هو الأَمران المتشابهان لا الأَمران المتماثلان، فكم فرق بين المتماثلين و المتشابهين، فمثلًا إذا أثبتنا بالتجربة أنّ الفلز يتمدّد بالحرارة، فيكون ذلك معياراً كلّياً لكلّ فلز مماثل و أنّه يخضع لنفس الحكم، و هذا خارج عن مصبّ البحث، إنّما الكلام في القياس بين أمرين متغايرين نوعاً متشابهين في جهة خاصة، فهل يصحّ لنا تسرية حكم الأَصل إلي الفرع بذريعة وجود التشابه بينهما أو لا؟ فمثلًا شرب الخمر حرام بالنصّ، و الفقّاع نوع آخر، لَانّ الأَوّل مأخوذ من العنب، و الثاني

مأخوذ من الشعير، فهما نوعان، فهل يصحّ لنا أن نُسري حكم الخمر إلي الفقّاع لتساويهما في صفة الإِسكار؟ و كثيراً ما نري أنّ الباحثين لا يميّزون بين المتماثلين و المتشابهين، إذ مرجع الأَوّل غالباً إلي التجربة التي هي دليل عقليّ قطعيّ، بخلاف الثاني فإنّ الحكم فيه ظنّي لجهة المناسبة و المشابهة إلّا أن ينتهي إلي مرحلة القطع.

و قد أوضحنا ذلك في بحوثنا حول نظرية المعرفة.

السادس: تقسيمه إلي منصوص العلّة و مستنبطها

ينقسم القياس إلي منصوص العلّة و مستنبطها، و المراد من الأَوّل ما نصّ الشارع علي علّة الحكم، كما إذا قال: لا تشرب الخمر لَانّه مسكر، كما أنّ المراد من الثاني ما إذا قام الفقيه بتحصيلها بالجهد و الفكر.

______________________________

(1) الزلزلة: 7.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 207

ثمّ إنّ مستنبط العلّة علي قسمين، فتارة يصل الفقيه إلي حدّ القطع بأنّ ما استخرجه، علّة الحكم واقعاً، و مناطه؛ و أُخري لا يصل إلّا إلي حدّ الظنّ بأنّه مناطه و علّته، و الأَوّل يسمي بتنقيح المناط «1» و هو خارج عن محطّ البحث و إن كان تحصيله أمراً مشكلًا، و لكنّه لو حصل لكان حجّة، لأَنّ حجّية القطع ذاتية و لا يصحّ النهي عن العمل بالقطع إذا كان طريقاً إلي الحكم.

السابع: حكم القياس منصوص العلّة

إنّ العمل بالقياس في منصوص العلّة راجع في الحقيقة إلي العمل بالسنّة لا بالقياس، لَانّ الشارع شرّع ضابطة كلّية عند التعليل، نسير علي ضوئها في جميع الموارد التي تمتلك تلك العلّة و هذا خارج عن مصبّ البحث.

روي محمد بن إسماعيل، عن الامام الرضا- عليه السّلام- أنّه قال: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغيّر ريحه، أو طعمه، فيُنزح حتي يذهب الريح، و يطيب طعمه، لأَنّ له مادّة» «2».

فإنّ قوله: «لَانّ له مادّة» تعليل لقوله: «لا يفسده شي ء» ليكون حجّة في غير ماء البئر، فيشمل التعليل بعمومه ماء البئر، و ماء الحمام، و العيون، و حنفية الخزّان و غيرها، فلا ينجس الماء إذا كان له مادة قوية.

و عندئذٍ يكون العمل بالملاك المنصوص في المقيس عملًا بظاهر السنّة لا بالقياس، و أمّا المجتهد فيطبّق الضابطة التي حدّدها الشارع علي جميع الموارد

______________________________

(1) و هذا هو المصطلح عند الشيعة، و

أمّا السنّة فعندهم مصطلحات ثلاثة، هي: 1- تنقيح المناط 2- تخريج المناط 3- تحقيق المناط، و بينها فروق يسيرة، لاحظ أُصول الفقه لمحمد أبو زهرة: 229.

(2) الوسائل: الجزء 1، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 6.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 208

دفعة، فليس هناك أصل و لا فرع و لا انتقال من حكم الأَصل إلي الفرع، بل موضوع الحكم هي العلّة، و الفروع بأجمعها داخلة تحته.

و إن شئت قلت: هناك فرق بين استنباط الحكم عن طريق القياس، و بين استنباط الحكم عن طريق ضابطة كلّية تصدق علي مواردها، و قد جعلها الشارع هو الموضوع حقيقة.

ففي الأَوّل، أي استنباط الحكم من القياس، يتحمّل المجتهد جهداً في تخريج المناط، ثمّ يجعل المنصوص أصلًا و الآخر فرعاً، و أمّا إذا كانت العلّة منصوصة فيكفي فيها فهم النصّ لغة بلا حاجة إلي الاجتهاد، و لا إلي تخريج المناط، فيكون النصّ دالّا علي الحكمين بدلالة واحدة.

فقوله سبحانه: " وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذيً فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰي يَطْهُرْنَ" «1» دلّ علي وجوب الاعتزال في المحيض و علّله بكونه أذًي، فلو استكشفنا بأنّ التعليل مناط للحكم و ملاكه، فيتمسّك به في كلّ مورد دلّ علي أنّ المسّ أذًي، كالنفاس، و النزيف، و غير ذلك، و ليس هذا من باب القياس، بل من باب تطبيق النصّ علي موارده.

الثامن: في طرق استنباط العلّة
اشارة

قد عرفت انّ القياس في مورد لم يرد نصّ من الشارع علي مناط الحكم، و إلّا يكون العمل بالتعليل عملًا بالنص، حيث إنّ الشارع أعطي ضابطة كلّية تشمل جميع الموارد مرّة واحدة و يسير الفقيه علي ضوئها.

______________________________

(1) البقرة: 222.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 209

ثمّ إنّ القائلين

بالقياس ذكروا لاقتناص العلّة و استنباطها طُرقاً مختلفة غير مجدية غالباً إلّا القليل منها، و لأَجل ذلك نشير إلي كل عنوان فيها و نترك التفصيل إلي المصادر، فقالوا: إنّ ما يعرف به علّية الوصف أُمور: 1- النصّ: التصريح بالعلّية «1».

2- الإِيماء: كما قيل بعد قول السائل أفطرت في شهر رمضان: كفّر، فيعلم أنّ الإِفطار هو العلّة «2».

3- المناسبة: و يراد المناسبة بين الحكم و الموضوع، كحفظ النفس في تشريع القصاص و حفظ المال في تشريع الضمان.

4- المؤَثّر: و هو كون هذا الوصف مؤَثراً في جنس الحكم دون غيره، كقولهم: الأَخ من الأَبوين مقدّم في الميراث فيقدّم في النكاح.

5- الشبه: و هو الوصف المناسب للحكم لذاته، كتعليل الحرمة بالسكر «3».

6- الدوران: و هو ثبوت الحكم عند ثبوت الوصف و انتفاؤه عند انتفائه، كدوران حرمة المعتصر من العنب مع كونه مسكراً، فيحرم عند الإِسكار و يزول عند عدمه «4».

7- السبر و التقسيم: و السبر في اللغة هو الامتحان، و تقريره: أن يحصر الأَوصاف التي توجد في واقعة الحكم و تصلح لَان تكون العلّة واحداً منها،

______________________________

(1) قد عرفت انّه خارج عن محلّ النزاع.

(2) و هذا أيضاً خارج عن محلّ النزاع، لأَنّ الإِيماء إحدي الدلالات المعتبرة.

(3) و المثال فرضي لورود النصّ بالتعليل.

(4) لاحظ في تفصيل هذه الطرق شفاء الغليل: 627، فقد أطنب فيها الكلام؛ و التحصيل من المحصول: 2 208- 185.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 210

و يختبرها وصفاً وصفاً علي ضوء الشروط الواجب توفّرها في العلّة، و أنواع الاعتبار الذي تعتبر به، و بواسطة هذا الاختبار تُستبعد الأَوصاف التي لا يصحّ أن تكون علّة و يُستبقي ما يصحّ أن تكون علّة، و بهذا الاستبعاد و هذا الاستبقاء يتوصّل

إلي الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة.

فمثلًا ورد النصّ بتحريم شرب الخمر و لم يدلّ نصّ علي علّة الحكم، فالمجتهد يردّد العلّة بين كونه من العنب، أو كونه سائلًا، أو كونه ذا لون خاص، أو كونه مسكراً، و يستبعد كلّ واحدة من العلل إلّا الأَخيرة فيحكم بأنّها علّة، ثمّ يقيس كلّ مسكر عليه.

ثمّ إنّ التقسيم إذا كان دائراً بين النفي و الإِثبات يفيد اليقين، كقولك: العدد إمّا زوج أو فرد، و الحيوان إمّا ناطق أو غير ناطق.

و أمّا إذا كان بشكل التقسيم و السبر أي ملاحظة كلّ وصف خاصّ و صلاحيّته للحكم، فما استحسنه الذوق الفقهي يجعله مناطاً للحكم، و ما يستبعده يطرحه، فمثل هذا لا يكون دليلًا قطعياً بل ظنّياً و هذا شي ء أطبق عليه مثبتو القياس.

قال الشيخ عبد الوهاب خلّاف: و خلاصة هذا المسلك أنّ المجتهد، عليه أن يبحث في الأَوصاف الموجودة في الأَصل، و يستبعد ما لا يصلح أن يكون علّة منها، و يستبقي ما هو العلّة حسبَ رجحان ظنّه، و هاديه في الاستبعاد و الاستبقاء تحقيقُ شروط العلّة بحيث لا يستبقي إلّا وصفاً منضبطاً متعدّياً مناسباً معتبراً بنوع من أنواع الاعتبار، و في هذا تتفاوت عقول المجتهدين، لَانّ منهم من يري المناسب هذا الوصف، و منهم من يري المناسب وصفاً آخر.

فالحنفيّة رأوا المناسب في تعليل التحريم في الأَموال الربوية، القدر مع اتّحاد الجنس، و الشافعية رأوه الطعم مع اتّحاد الجنس، و المالكية رأوه القوت و الادّخار مع اتّحاد الجنس.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 211

و الحنفية رأوا المناسب في تعليل الولاية علي البكر الصغيرة، الصغر، و الشافعية رأوه البكارة «1»

استنباط العلّة عمل ظنّي

إنّ القياس دليل ظنّي يظهر وجهه ممّا ذكره «عبد الوهاب خلّاف»

من اختلاف العقول في تشخيص المناط، و نزيد عليه بأنّ هناك احتمالات أُخري تُخلّ بعملية المناط بالبيان التالي: أوّلًا: احتمال أن يكون الحكم في الأَصل معلّلًا عند اللّه بعلّة أُخري غير ما ظنّه القائس.

و هذا أمر غير بعيد، قال سبحانه: " وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّٰا قَلِيلًا" «2» فالإِنسان لم يزل في عالم الحس تنكشف له أخطاؤه فإذا كان هذا حال عالم المادة الملموسة، فكيف بملاكات الاحكام و مناطاتها المستورة علي العقل إلّا في موارد جزئية كالاسكار في الخمر، أو إيقاع العداء و البغضاء في الميسر، أو إيراث المرض في النهي عن النجاسات؟! و أمّا غيرها ممّا يرجع إلي العبادات و المعاملات خصوصاً فيما يرجع إلي أبواب الحدود و الديات فالعقل قاصر عن إدراك مناطاتها الحقيقية و إن كان يظنّ شيئاً.

قال ابن حزم: و إن كانت العلّة، غير منصوص عليها فمن أيّ طريق تُعرف و لم يوجد من الشارع نصّ يبيّن طريق تعرفها؟ و ترك هذا من غير دليل يعرِّف العلّة ينتهي إلي أحد أمرين: إمّا أنّ القياس ليس أصلًا معتبراً، و إمّا أنّه أصل عند اللّه معتبر و لكن أصل لا بيان له و ذلك يؤَدي إلي التلبيس، و تعالي اللّه عن ذلك علوّاً

______________________________

(1) مصادر التشريع الإِسلامي: 65.

(2) الاسراء: 85.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 212

كبيراً، فلم يبق إلّا نفي القياس «1».

ثانياً: لو افترضنا أنّ المقيس أصاب في أصل التعليل، و لكن من أين يعلم أنّها تمام العلّة، و لعلّها جزء العلّة و هناك جزء آخر منضمّ إليه في الواقع و لم يصل القائس إليه؟ ثالثاً: احتمال أن يكون القائس قد أضاف شيئاً أجنبيّا إلي العلّة الحقيقية لم يكن له دخل في المقيس

عليه.

رابعاً: احتمال أن تكون في الأَصل خصوصية في ثبوت الحكم، فمثلًا لو علمنا بأنّ الجهل بالثمن علّة موجبة شرعاً في إفساد البيع، و لكن نحتمل أن يكون الجهل بالثمن في خصوص البيع علّة، فلا يصحّ لنا قياس النكاح عليه إذا كان المهر فيه مجهولًا، فالعلّة، هي الجهل بالعوض لا الجهل بالمهر و مع هذه الاحتمالات لا يمكن القطع بالمناط.

نعم ربّما يتّفق للأَوحدي بعد الوقوف علي الأَشباه و النظائر أن يقطع بأنّ المناط هو الوجه الموجود بينها، و لكنّه نادر لا يتّفق إلّا في موارد خاصّة، فأين هو من القياس الذي هو مصدر التشريع بعد الكتاب و السنّة عند أكثر أهل السنّة؟ و قد ورد في رواية أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) النهي عن الخوض في تنقيح المناط، لقصور عقول الناس عن الإِحاطة بها و يشهد بذلك ما رواه أبان بن تغلب، عن الامام الصادق- عليه السّلام- يقول أبان: قلت لأَبي عبد اللّه- عليه السّلام-: ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: «عشر من الإِبل».

______________________________

(1) أبو زهرة: أُصول الفقه: 210 نقلًا عن الاحكام.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 213

قلت: قطع اثنتين؟ قال: «عشرون».

قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: «ثلاثون».

قلت: قطع أربعاً؟ قال: «عشرون».

قلت: سبحان اللّه، يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، و يقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! إن كان يبلغنا و نحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، و نقول: الذي جاء به شيطان.

فقال: «مهلًا يا أبان، هذا حكم رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- إنّ المرأة تعاقل الرجل إلي ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلي النصف.

يا أبان إنّك أخذتني بالقياس، و السنّة إذا قيست محق الدين» «1».

و ليس الامام الصادق- عليه

السّلام- متفرداً في نقل هذا الحكم، بل هذا ممّا أطبق عليه الفقهاء، و إليك ما يعرّف موقفهم في هذا المقام: قال الشيخ الطوسي: المرأة تعاقل الرجل إلي ثُلث ديتها في الأُروش المقدّرة، فإذا بلغتها فعلي النصف.

و به قال عمر بن الخطاب، و سعيد بن المسيّب، و الزهري، و مالك، و أحمد، و إسحاق.

و قال ربيعة: تعاقله ما لم يزد علي ثلث الدية أرش الجائفة و المأمومة، فإذا زاد فعلي النصف.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 19، الباب 44 من أبواب ديات الأَعضاء، الحديث 1.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 214

و ربيعة جعلها كالرجل في الجائفة، و جعلها علي النصف فيما زاد عليها.

و به قال الشافعي في القديم.

و قال الحسن البصري: تعاقله ما لم تبلغ نصف الدية أرش اليد و الرجل، فإذا بلغتها فعلي النصف.

و قال الشافعي في الجديد: لا تعاقله في شي ء منها بحال، بل معه علي النصف فيما قلّ أو كثر، في أنملة الرجل ثلاثة أبعرة و ثلث، و في أنملتها نصف هذا بعير و ثلثان، و كذلك فيما زاد علي هذا.

و رووا ذلك عن علي- عليه السّلام-، و ذهب إليه الليث بن سعد من أهل مصر، و به قال أهل الكوفة: ابن أبي ليلي، و ابن شبرمة، و الثوري، و أبو حنيفة و أصحابه.

و هو قول عبيد اللّه بن الحسن العنبري.

و قال قوم: تعاقله ما لم تبلغ نصف عشر الدية أرش السن و الموضحة، فإذا بلغتها فعلي النصف.

ذهب إليه ابن مسعود، و شريح.

و قال قوم: تعاقله ما لم تبلغ عشر أو نصف عشر الدية أرش المنقلة، فإذا بلغتها فعلي النصف.

ذهب إليه زيد بن ثابت، و سليمان بن يسار.

دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم.

و روي عمرو بن شعيب،

عن أبيه، عن جدّه: أنّ النبي- عليه السّلام- قال: «المرأة تعاقِلُ الرجل إلي ثلث ديتها».

و قال ربيعة: قلت لسعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ فقال: عشر، قلت: ففي إصبعين؟ قال: عشرون، قلت: ففي ثلاث؟ قال: ثلاثون، قلت: ففي أربع؟ قال: عشرون.

قلت له: لمّا عظمت مصيبتها قلّ عقلها.

قال: هكذا السنّة.

قوله: هكذا السنّة، دالّ علي أنّه أراد سنّة النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و إجماع الصحابة

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 215

و التابعين «1».

إنّ هذه الرواية و أمثالها التي اتّفق فقهاء كلا الفريقين علي صحّة مضمونها إجمالًا و إن اختلفوا في التفاصيل تصدّ الفقيه عن الخوض في المناط، و لو خاضة و أحرز المناط لم يقطع بأنّ الحكم دائر مداره، بل غاية ما في الباب يظنّ به، و ليس الظنّ ما لم يدعمه الدليل مغنياً عن الحقّ.

التاسع: الآراء في حجّية القياس

ذهبت الشيعة الإِمامية و الظاهرية من أهل السنّة إلي بطلان القياس في مستنبط العلّة، إلّا إذا وصل الفقيه إلي حدّ القطع بأنّ ما استنبطه هي العلّة الواقعية للحكم و قد سُمّي عندهم بتنقيح المناط، و أمّا غيرهم فخلاصة مذاهبهم لا يتجاوز عن ثلاثة: 1- أنّه حيث وجد النصّ فلا عمل للقياس مطلقاً، سواء أ كانت الظنّية في السند أم كانت في الدلالة لأَنّه لا قياس في موضع النصّ.

2- أنّ القياس قد تكون له معارضة للأَدلّة الظنّية دون الأَدلّة القطعية.

3- أنّ القياس الصحيح لا يمكن أن يكون معارضاً لنصّ شرعيّ قط «2».

و من كلماتهم: إنّ نظير الحقّ حقّ، و نظير الباطل باطل فلا يجوز لأَحد إنكار القياس، لَانّه تشبيه الأُمور و التمثيل عليها.

و قال ابن قيم الجوزية في هذا المعني أيضاً: مدار الاستدلال جميعه علي التسوية بين

المتماثلين و الفرق بين المختلفين، و لو جاز التفرقة بين المتماثلين

______________________________

(1) الخلاف: 5- 255، كتاب الديات، المسألة 64.

(2) محمد أبو زهرة: أُصول الفقه: 337.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 216

لخرق الاستدلال و غلقت أبوابه.

و ما ذكر من الكبري حقّ لا غبار عليه، إنّما الكلام في الصغري و أنّ ما زعمناه نظيراً، هل هو نظير له في الواقع أو بينهما فارق أو فوارق؟ فهذه هي النقطة الحسّاسة في المسألة، فالقائل بالقياس يتعامل مع ظنّه معاملة القطع، فلو دلَّ دليل قطعي علي حجيّة ظنّه فهو، و إلّا فلا يكون مغنياً عن الحق.

العاشر: إمكان العمل بالقياس و وقوعه
اشارة

يقع الكلام في حجّية القياس في مقامين: فتارة في مقام الثبوت، و أُخري في مقام الإِثبات، و المراد من الأَوّل كون التعبّد بالقياس أمراً ممكناً في مقابل كونه أمراً محالًا، كما أنّ المراد من الثاني وجود الدليل علي وقوع التعبّد بالشرع بعد ثبوت إمكانه.

أمّا الأَوّل، فالتعبّد بالقياس كالتعبّد بسائر الظنون من الخبر الواحد و الشهرة و قول اللغوي و غير ذلك من الأَدلّة الظنّية، أمر ممكن، لجواز أن يقتصر الشارع في امتثال أوامره و نواهيه علي الأَدلّة الظنّية و لا يطلب من المكلّف الامتثال بالأَدلّة القطعية لتسهيل الأَمر علي المكلّفين، و قد بسط علماؤَنا، الكلام في هذا الموضوع في علم الأصول عند تطرّقهم لمبحث إمكان التعبّد بالظنّ و عدم الاقتصار علي القطع.

و يعجبني أن أنقل كلمة لبعض علمائنا السابقين لمناسبتها المقام: يقول ابن زهرة الحلبي (511 585): و يجوز من جهة العقل التعبّد بالقياس في الشرعيات، لَانّه يمكن أن يكون طريقاً إلي معرفة الاحكام الشرعية و دليلًا عليها، أ لا تري أنّه لا فرق في العلم بتحريم النبيذ المسكر مثلًا بين أن ينصّ الشارع علي

تحريم جميع المسكر، و بين أن ينصّ علي تحريم الخمر بعينها، و ينصّ علي

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 217

أنّ العلّة في هذا التحريم، الشدّة، و لا فرق بين أن ينصّ علي العلّة، و بين أن يدلّ بغير النصّ علي أنّ تحريم الخمر لشدّتها أو ينصب لنا أمارة تغلب في الظن عندها أنّ تحريم الخمر لهذه العلّة مع إيجابه القياس علينا في هذه الوجوه كلّها، لَانّ كلّ طريق منها يوصل إلي العلم بتحريم النبيذ المسكر، و مَنْ منع مِن جواز ورود العبارة بأحدها كمَنْ منع مِن جواز ورودها بالباقي «1».

و أمّا الكلام في المقام الثاني، فيتوقّف علي بيان الضابطة الكلّية في العمل بالظنّ إذ ببيانها يعلم موقف الشريعة في العمل به و سيوافيك أنّ موقفها هو حرمة العمل بالظنّ إلّا إذا دلّ الدليل القطعي علي جواز العمل، فما لم يكن هناك دليل قاطع فالحقّ مع النافي، و إليك بيانه:

ما هي الضابطة في العمل بالظن؟

لا شكّ أنّ القياس دليل عقليّ ظنّي، و ليس دليلًا قطعيّاً.

فقبل نقل أدلّة المثبتين لا بدّ من تنقيح مقتضي القاعدة الأَوّلية في العمل بالظنّ.

فلو دلّ الدليل علي حرمة العمل بالظنّ، يجب علي القائل بالقياس إقامة الدليل علي تخصيص تلك القاعدة و إخراج العمل بالقياس عنها بالدليل، و إلّا فيكفي للنافي التمسّك بالقاعدة.

و المراد من القاعدة الأَوّلية هو مقتضي الكتاب و السنّة و العقل في العمل بالظنّ بما هو هو إذا لم يُدْعَم من جانب الشرع بالخصوص، فهل هو أمر محرّم أو جائز؟ و لا شكّ أنّه إذا دعمه الشارع و جوّز العمل به في الشريعة فلا غبار في جوازه، إنّما الكلام فيما إذا لم يثبت ترخيص من قبل الشارع و لا منع، فهل هو جائز أو

لا؟

______________________________

(1) ابن زهرة الحلبي: غنية النزوع: 386، قسم الأُصولين الطبعة الحديثة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 218

أقول: إنّ معني حجّية الظنّ هو التنجيز إذا أصاب الواقع و التعذير إذا أخطأ.

و بعبارة أُخري: إنّ معني حجّية الظنّ هو صحّة إسناد مؤَدّاة إلي اللّه سبحانه، و الاستناد إليه في مقام العمل.

فإذا كان هذا معني الحجّية فلا شكّ أنّه مترتّب علي العلم بحجّية الشي ء بأن يقوم دليل قطعيّ علي حجية الظنّ، من كتاب أو سنّة، فعند ذلك يُوصف الظنّ بالتنجيز أو التعذير، و يصحّ إسناد مؤَدّاة إلي اللّه سبحانه، كما يصحّ الاستناد إليه في مقام الامتثال و العمل.

و أمّا إذا لم يقم الدليل القطعي علي حجّية الظنّ، بل صار مظنون الحجّية أو محتملها، فلا يترتّب عليه الأَثران الأَوّلان: التنجيزُ و التعذيرُ، لَانّ العقل إنّما يحكم بتنجيز الواقع إذا كان هناك بيان من الشارع و إلّا فيستقلّ بقبح العقاب بلا بيان، و المفروض أنّه لم يثبت كون الظنّ بياناً للحكم الشرعي إذ لم يصل بيان من الشارع علي حجّية الظنّ، كما أنّه لا يعدّ المكلّف العامل بالظنّ معذوراً إذا لم يدعمه دليل قطعي.

فخرجنا بتلك النتيجة: أنّ الحجية بمعني التنجيز، و التعذير من آثار معلوم الحجّية لا مظنونها و لا محتملها.

هذه هي الضابطة في مطلق الظنّ، و منها يظهر حكم القياس و ذلك لَانّ المفروض وجود الشكّ في حجّية القياس حيث إنَّ البحث الآن فيما لم يدعمه دليل و لا نُهيَ عنه، و معه يكون الاحتجاج به غير صحيح إلّا إذا دلّ الدليل القطعي علي حجيّته.

كما أنّ إسناد مضمونه إلي الشارع و الاستناد إليه في مقام العمل من آثار ما علم كونه حجّة، و إلّا يكون الاسناد و الاستناد بدعة،

و تشريعاً محرّماً، حيث إنّ الاستناد إلي مشكوك الحجّية في مقام العمل و إسناد مؤَدّاة إلي الشارع تشريع

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 219

عملي و قولي دلّت علي حرمته الأَدلّة الأَربعة.

أمّا الكتاب فيكفي قوله سبحانه: " قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرٰاماً وَ حَلٰالًا قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللّٰهِ تَفْتَرُونَ" «1» حيث دلّ علي أنّ إسناد ما لم يأذن به اللّه إليه افتراء.

فالآية خطاب لمشركي مكّة حيث قسموا ما أحلّه اللّه إلي قسمين: حرام كالبحيرة و السائبة، و حلال كغيرهما، و لفظة «ما» في قوله: " مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ" في موضع نصبٍ، مفعول للفعل المتقدّم، و مفاد الآية أنّ كلّما لم يأذن به اللّه فإسناده إلي اللّه و الاستناد إليه في مقام العمل، افتراء علي اللّه، و المفروض أنّ الظنّ بما هو ظنّ لم يرد فيه إذن بالعمل به.

نعم لو ورد الاذن لخرج عن البدعة لكن الكلام في المقام الأَوّل.

و يدلّ عليه قوله سبحانه: " وَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً قٰالُوا وَجَدْنٰا عَلَيْهٰا آبٰاءَنٰا وَ اللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا قُلْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَي اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ" «2» و مفاد الآية أنّ التقوّل علي اللّه بما لا يعلم كونه من اللّه أمر محرّم سواء أمر بها في الواقع أم لم يأمر.

و يكفي في السنّة ما ورد عن أئمّة أهل البيت بسند صحيح عن باقر العِلْم (عليه السلام): من أفتي الناس بغير علمٍ و لا هدًي من اللّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بها «3».

و علي ضوء ذلك فتكفي لنفاة القياس هذه الضابطة الكلّية في العمل بالظنّ، قياساً كان

أو غيره.

و لا يلزم عليهم تجشّم الدليل علي بطلان القياس بعد ثبوت هذه القاعدة.

______________________________

(1) يونس: 59.

(2) الأَعراف: 28.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 220

نعم، يلزم علي القائل بالقياس إقامة الدليل علي ترخيص الشارع بالعمل به حتي يخرج عن تحت القاعدة خروجاً موضوعياً لا حكمياً، فإنّ القاعدة (حرمة العمل بالظنّ) في الظنّ الذي لم يرخّص الشارع العمل به فإذا رخّص يخرج عنه موضوعياً لا حكمياً.

و بذلك يعلم أنّ بعض ما ذكره الرازي في حرمة العمل بالقياس من أدلّة تلك الضابطة.

فاستدلّ من الكتاب بقوله: " وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَي اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ*" و قوله سبحانه: " وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" و قوله سبحانه: " وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ" «1».

وجه الاستدلال: أنّ القياس الشرعي لا بدّ و أن يكون بتعليل الحكم في الأَصل و ثبوت تلك العلّة في الفرع ظنّياً، و لو وجب العمل بالقياس لصدق علي ذلك الظن، أنّه أغني من الحقّ شيئاً و ذلك يناقض عموم النفي.

ثمّ استدلّ من السنّة بقوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: تعمل هذه الأُمّة برهة بالكتاب و برهة بالسنّة و برهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا.

كما استدلّ بإجماع العترة، فقال: إنّا نعلم بالضرورة أنّ مذهب أهل البيت كالباقر و الصادق (عليهما السلام) إنكار القياس، و قد تقدّم أنّ إجماع العترة و الصحابة حجّة «2».

كان الاولي علي الرازي دعم الضابطة الكلّية، من غير نظر إلي القياس و غيره، كما فعلنا لإِمكان المناقشة في صحّة بعض ما استدلّ به كالروايات.

______________________________

(1) الآيات: البقرة: 169؛ الاسراء: 49؛ المائدة: 40.

(2) الرازي: المحصول: 2 292-

290.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 221

و حصيلة الكلام: إنّ الضابطة هي حرمة العمل بالظنّ قياساً كان أو غيره، إلّا إذا قام دليل مفيد للقطع و اليقين بأنّ الشارع رخّص العمل به كما رخّص في العمل بقول الثقة و غيره.

و بما ذكرنا يعلم أنّ القضاء في جواز العمل بالقياس في مقام الإِثبات يتوقّف علي دراسة أدلّة المثبتين و هل هي بمكانة نرفع بها اليد عن الضابطة الكلّية أو لا؟ إذا عرفت هذه الضابطة فلنذكر أدلّة القائلين بالقياس لما عرفت من استغناء المخالف عن إقامة الدليل حيث استدلّوا بالكتاب و السنّة، و الإِجماع و العقل، و إليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 222

أدلّة القائلين بحجّية القياس

1- الاستدلال بالكتاب
اشارة

استدلّ القائلون بحجّية القياس بآيات نتناولها بالبحث واحدة تلو الأُخري.

1- آية الاعتبار

قال سبحانه في حادثة بني النضير: " هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ مِنْ دِيٰارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مٰا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مٰانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّٰهِ فَأَتٰاهُمُ اللّٰهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰارِ" «1» و الحشر هو الاجتماع قال سبحانه: " وَ أَنْ يُحْشَرَ النّٰاسُ ضُحًي" «2» و هو كناية عن اللقاء بين اليهود و المسلمين.

وجه الاستدلال: أنّ اللّه سبحانه بعد ما قصّ ما كان من بني النضير الذين كفروا، و ما حاق بهم من حيث لم يحتسبوا، قال: " فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰارِ" أي فَقِسُوا أنفسَكم بهم، لأَنّكم أُناسٌ مثلهم إن فعلتم مثلَ فعلهم حاق بكم مثل ما حاق

______________________________

(1) الحشر: 2.

(2) طه: 59.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 223

بهم، من غير فرق بين تفسير الاعتبار بالعبور و المرور، أو فُسِّرَ بالاتّعاظ، فهو تقرير، لبيان أنّ سنّة اللّه في ما جري علي بني النضير و غيرهم واحد «1».

يلاحظ علي الاستدلال: بأنّ الآية بصدد بيان سنّة اللّه في الظالمين، سواء فسّر الاعتبار بالتجاوز أو بالاتّعاظ، و أنّ أجلاء بني النضير من قلاعهم و تخريبهم بيوتَهم بأيديهم و أيدي المؤمنين كان جزاءً لَاعمالهم الاجرامية، و أنّ اللّه تبارك و تعالي يعذّب الكافر و المنافق و الظالم بأنحاء العذاب و لا يتركه، فليس هناك أصل متيقّن و لا فرع مشكوك حتي نستبين حكمَ الثاني من الأَوّل بواسطة المشابهة، بل كل ذلك فرض علي مدلول الآية، و كم لها من نظائر في القرآن الكريم، قال سبحانه: " فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا

كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هٰذٰا بَيٰانٌ لِلنّٰاسِ وَ هُديً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ" «2» هل تجد في نفسك أنّ الآية بصدد إضفاء الحجّية علي القياس؟ أو أنّها لبيان سنّة اللّه في المكذّبين؟ و قال سبحانه: " وَ إِنْ كٰادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهٰا وَ إِذاً لٰا يَلْبَثُونَ خِلٰافَكَ إِلّٰا قَلِيلًا. سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنٰا وَ لٰا تَجِدُ لِسُنَّتِنٰا تَحْوِيلًا" «3» قال سبحانه: " فَلَمّٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا جَعَلْنٰا عٰالِيَهٰا سٰافِلَهٰا وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهٰا حِجٰارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ مٰا هِيَ مِنَ الظّٰالِمِينَ بِبَعِيدٍ" «4» و أدلّ دليل علي أنّ الآية ليست بصدد بيان حجّية القياس، هو أنّك لو وضعت كلمة أهل القياس مكان قول: (أُولي الأبصار" فقلت: فاعتبروا يا أهل

______________________________

(1) أبو بكر الارموي: التحصيل من المحصول: 2- 162؛ فخر الدين الرازي: المحصول في علم الأصول: 2- 247.

(2) آل عمران: 137 138.

(3) الاسراء: 76 77.

(4) هود: 82 83.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 224

القياس، لعاد الكلام هزلًا غير منسجم.

باللّه عليك أيّها القاريَ العزيز أيّ صلة لأَمثال هذه الآيات بمسألة القياس، و التشبّث بهذه الآية و أمثالها أشبه بتشبّث الغريق بالطحلب.

2- آية الردّ إلي اللّه و الرسول

قوله سبحانه: " يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا" «1» وجه الاستدلال: أنّ اللّه سبحانه أمر المؤمنين إن تنازعوا و اختلفوا في شي ء ليس للّه و لا لرسوله و لا لأولي الأَمر منهم فيه حكم أن يردُّوه إلي اللّه و إلي الرسول، و ردّه أي إرجاعه إلي اللّه و إلي الرسول بإطلاقه يشمل

كلّ ما يصدق عليه أنّه ردّ إليهما، فردّه إلي قواعد الشرع الكلية ردّ إلي اللّه و رسوله، و ردّ ما لا نصّ فيه إلي ما فيه النصّ، و الحكم عليه بحكم النصّ لتساوي الواقعتين في العلّة التي بُني عليها الحكم، هو ردّ المتنازع فيه إلي اللّه و رسوله.

قال أبو زهرة: و ليس الردّ إلي اللّه و إلي الرسول إلّا بتعرّف الأَمارات الدالّة منهما علي ما يرميان إليه، و ذلك بتعليل أحكامهما و البناء عليها و ذلك هو القياس «2».

أقول: إنّ الردّ إلي اللّه و رسوله يتحقّق إمّا بالرجوع إليهم و سؤالهم عن حكم الواقعة قال سبحانه: " فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ*" «3»

______________________________

(1) النساء: 59.

(2) أُصول الفقه: 207.

(3) الأَنبياء: 7.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 225

أو إرجاعها إلي الضابطة الكلّية التي ذكرها الرسول، فمثلًا إذا شككنا في لزوم شرط ذكره المتعاقدون في العقد و عدمه، فنرجع إلي الضابطة التي ذكرها الرسول في باب الشروط و قال: إنّ المسلمين عند شروطهم، إلّا شرطاً حرّم حلالًا أو أحلّ حراماً «1».

و أمّا غير ذلك فليس رجوعاً إليهم، فإنّ قياس ما لا نصّ فيه علي ما نصّ فيه لأَجل تساوي الواقعتين في شي ء أو في أشياء نحتمل أن لا تكون جهة المشاركة هي العلّة لبناء الحكم، فليس ردا إلي اللّه و رسوله، بل هو بذل جهد من جانب السائل لئن يفهم حكم المشكوك بطريق من الطرق التي لم يثبت أنّ اللّه أذن به و ليس مثل ذلك ردّاً إلي اللّه و رسوله، خصوصاً إنّ العلّة، ليست منصوصة بل مستنبطة بطريق من الطرق التي لا نذعن بإصابتها، و بذلك يظهر ضعف ما استند إليه الشيخ أبو زهرة و

ذلك لَانّ الاهتداء بتعليل الاحكام إلي نفسها إنّما يصحّ إذا كانت العلّة مذكورة في كلامه سبحانه أو كلام رسوله، لا ما إذا قام العقل باستخراج العلّة بالسبر و التقسيم أو بغيرهما من الطرق.

3- آية الاستنباط

قال سبحانه: " وَ إِذٰا جٰاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذٰاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَ إِليٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لٰا فَضْلُ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطٰانَ إِلّٰا قَلِيلًا" «2» و قد استدلّ بها السرخسي في أُصوله، و قال: و الاستنباط استخراج المعني من المنصوص بالرأي، و قيل: المراد بأُولي الأَمر: أُمراء السرايا، و قيل: العلماء و هو

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث 5.

(2) النساء: 83.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 226

الأَظهر، فإنّ أُمراء السرايا إنّما يستنبطونه بالرأي إذا كانوا علماء «1».

و قد تفرّد السرخسي في الاستدلال بها، و المشهور هو الاستدلال بالآية السابقة، غير أنّ تفسير أُولي الأَمر بالعلماء تفسير علي خلاف الظاهر، و إلّا لقال: «أُولي العلم منهم»، كما قال سبحانه: " شَهِدَ اللّٰهُ أَنَّهُ لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ وَ الْمَلٰائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ" «2» يقول العلّامة الطباطبائي: و مورد قوله: " وَ إِذٰا جٰاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ" هي الأَخبار التي لها جذور سياسية ترتبط بأطراف شي ء ربّما أفضي قبولها، أو ردّها، أو إهمالها بما فيها من المفاسد و المضار الاجتماعية، إلي ما لا يمكن أن يستصلح بأيّ مصلح آخر، أو يبطل مساعي أُمّة في طريق سعادتها، أو يذهب بسؤددهم و يضرب بالذلّة و المسكنة و القتل و الأَسر عليهم، و أيّ خبرة للعلماء من حيث إنّهم محدّثون أو فقهاء أو قرّاء

أو نحوهم في هذه القضايا حتي يأمر اللّه سبحانه بإرجاعها و ردّها إليهم «3».

و أمّا من هم «أُولي الأَمر» في زمن نزول الآية، فلسنا بصدد بيانه، و علي أيّ حال لا صلة للآية بالقياس أبداً، بل هدف الآية الإِشارة إلي أنّ واجب المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول اللّه من أمن أو خوف أو سلامة و خلل، هو عدم إذاعة ما سمعوه، و ردّه إلي أُولي الأَمر الذين يستخرجون صحّة أو سقم ما وصل إليهم من الخبر بفطنتهم و تجاربهم، و هل تجويز الاستنباط في المسائل السياسيّة بالقرائن يكون دليلًا علي جواز استنباط الأَحكام الشرعيّة بالقياس؟

______________________________

(1) أُصول الفقه: 2- 128.

(2) آل عمران: 18.

(3) الميزان: 5- 23، طبع بيروت.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 227

4- آية النشأة الأُولي

قوله سبحانه: " وَ ضَرَبَ لَنٰا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قٰالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ" «1» فإنّ الآية الثانية جواب لما ورد في الآية الأولي من قوله: " مَنْ يُحْيِ الْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ" فأُجيب بالقياس، فإنّ اللّه سبحانه قاس مادّة المخلوقات بعد فنائها علي بدء خلقها و إنشائها أوّل مرّة، لِاقناع الجاحدين بأنّ من قدر علي خلق الشي ء و إنشائه أوّل مرّة قادر علي أن يعيده بل هذا أهون عليه.

يلاحظ عليه: إنّ اللّه سبحانه لم يدخل من باب القياس، و هو أجل من أن يقيس شيئاً علي شي ء، و إنّما دخل من باب البرهان، فأشار إلي سعة قدرته و وجود الملازمة بين القدرة علي إنشاء العظام و إيجادها أوّل مرّة بلا سابق وجوده، و بين القدرة علي إحيائها من جديد، بل القدرة علي الثاني أولي، فإذا

ثبتت الملازمة بين القدرتين و المفروض أنّ الملزوم و هي القدرة علي إنشائها أوّل مرّة موجودة، فلا بدّ أن يثبت اللازم، و هي القدرة علي إحيائها و هي رميم، فأين هو من القياس؟! و لو صحّت تسمية الاستدلال قياساً، فهو من باب القياس الاولوي الذي فرغنا من كونه خارجاً عن القياس الفقهي، و يدلّ علي ذلك أنّه سبحانه لم يقتصر بهذا البرهان، بل أشار إلي سعة قدرته بآية أُخري بعدها و قال: " أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ بِقٰادِرٍ عَليٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَليٰ وَ هُوَ الْخَلّٰاقُ الْعَلِيمُ" «2» و الآيات كسبيكة واحدة و الهدف من ورائها تنبيه المخاطب علي أنّ استبعاد

______________________________

(1) يس: 78 79.

(2) يس: 81.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 228

إحياء العظام الرميمة في غير محلّه، إذ لو كانت قدرته سبحانه محدودة لكان له وجه، و أمّا إذا وسعت قدرته كلَّ شي ء بشهادة أنّه خلق الإِنسان و لم يكن شيئاً مذكوراً، و خلق السماوات و الأَرض و هي خلق أعظم من الإِنسان، لكان أقدر علي معاد الإِنسان و إحياء عظامه الرميمة.

و ليس كلّ استدلال عقلي قياساً.

5- آية جزاء الصيد

قال اللّه تعالي: " لٰا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزٰاءٌ مِثْلُ مٰا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بٰالِغَ الْكَعْبَةِ" «1» قال الشافعي: فأمرهم بالمثْل، و جعل المثْل إلي عدلين يحكمان فيه فلمّا حُرِّم مأكولُ الصيد عامّاً كانت لدوابّ الصيد أمثال علي الأَبدان، فحكم مَنْ حكم من أصحاب رسول اللّه علي ذلك فقضي في الضَّبع بكبش و في الغزال بعنز، و في الأَرنب بعناق و في اليربوع بجفرة «2».

و العلم يحيط أنّهم أرادوا في هذا،

المثل بالبدن لا بالقيم، و لو حكموا علي القيم اختلفت أحكامهم لاختلاف أثمان الصيد في البلدان، و في الازمان و أحكامهم فيها واحدة.

و العلم يحيط أنّ اليربوع ليس مثل الجفرة في البدن، و لكنّها كانت أقرب الأَشياء منه شبهاً فجعلت مثله، و هذا من القياس، يتقارب تقارب العنز و الظبي،

______________________________

(1) المائدة: 95.

(2) العناق بفتح العين المهملة: هي الأُنثي من أولاد المعز ما لم يتمّ له سنة، و الجفرة: ما لم يبلغ أربعة أشهر و فصل عن أُمّه و أخذ في الرعي.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 229

و يبعد قليلًا بعد الجفرة من اليربوع «1».

يلاحظ عليه: أنّ حاصل مفاد الآية أنّه يشترط في الكفارة أن تكون مماثلة لما قتله من النعم إمّا مماثلة في الخلقة كما هو المشهور، أو المماثلة في القيمة كما هو المنقول عن إبراهيم النخعي، و علي أيّ تقدير فلا صلة له بحجّية القياس في استنباط الأَحكام الشرعية و كونه من مصادرها، لأَنّ أقصي ما يستفاد من الآية أنّ المحرم إذا قتل الصيد متعمّداً فجزاؤه هو ذبح ما يشبه الصيد في الخلقة كالبدنة في قتل النعامة، و البقرة في قتل الحمار الوحشي و هكذا، و هل اعتبار التشابه في مورد يكون دليلًا علي أنّ الشارع أخذ به في جميع الموارد، أو يقتصر بمورده و لا يصحّ التجاوز عن المورد إلّا بالقول بالقياس غير الثابت إلّا بهذه الآية، و هل هذا إلّا دور واضح؟ أضف إلي ذلك أنّ محطّ البحث هو كون القياس من مصادر التشريع للأَحكام الشرعية الكلّية، و أين هذا من كون التشابه معياراً في تشخيص مصداق الواجب علي الصائد؟ إنّ وزان التمسّك بالآية في حجّية القياس نظير الاستدلال عليها بقول الفقهاء

في ضمان المثلي بالمثلي و القيمي بالقيمي، حيث اقتصر في براءة الذمّة، بالمماثلة، في العين أو قيمتها.

ثمّ إنّه يظهر من الشيخ الطوسي أنّ وجه الاستدلال بالآية، هو أنّ طريق تشخيص المماثلة هو الظن.

و يرد عليه أنّ الظنّ في مورد لا يكون دليلًا علي اعتباره في سائر الموارد كما سيوافيك.

______________________________

(1) الشافعي: الرسالة: 491، ذكره في باب الاجتهاد، و هو عنده مساوٍ للقياس كما مرّ.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 230

6- آية القدر

و تعلّقوا أيضاً بقوله تعالي: " عَلَي الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَي الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ" «1».

قالوا: و المثلية و المقدار طريقة غالب الظن و بقوله: " فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ" «2».

قالوا: و ذلك طريقة غالب الظن «3».

يلاحظ عليه بأنّه إذا ثبتت حجّية الظنّ في مورد أو موردين لا يكون دليلًا علي حجّيته مطلقاً، و لو قيل بذلك يصير قياساً و كلامنا في مسألة القياس، فكيف يستدلّ به علي نفسه؟ و قد تمسّكوا بآيات أُخري ليس لها أيّ مساس بحجّية القياس، فلنذكر ما استدلّوا به علي صحّته من السنّة.

2- الاستدلال بالسنّة
اشارة

استدلّ القائلون بالقياس بروايات نذكر ما هو المهمّ منها:

1- حديث معاذ بن جبل
اشارة

احتجّ غير واحد من أصحاب القياس بحديث معاذ بن جبل و الاحتجاج فرع إتقان الرواية سنداً و متناً و إليك بيانها: عن الحرث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص:

______________________________

(1) البقرة: 236.

(2) النساء: 3.

(3) الطوسي: العدّة: 2- 276.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 231

إنّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- حين بعثه إلي اليمن، فقال: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب اللّه.

قال: فإن لم يكن في كتاب اللّه؟ قال: فبسنّة رسول اللّه.

قال: فإن لم يكن في سنّة رسول اللّه؟ قال: أجتهد رأيي، لا آلو.

قال: فضرب رسول اللّه صدري، ثمّ قال: الحمد للّه الذي وفّق رسول رسول اللّه لما يرضي رسول اللّه «1».

و قد استدلّ به الإِمام الشافعي، فقال بعد ما أفاد أنّ القياس حجّة فيما لم يكن في المورد نصّ كتاب أو سنّة: فما القياس؟ أ هو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ ثمّ أجاب: هما اسمان لمعني واحد «2».

و قال في موضع آخر: أمّا الكتاب و السنّة فيدلّان علي ذلك، لأَنّه إذا أمر النبي بالاجتهاد فالاجتهاد أبداً لا يكون إلّا علي طلب شي ء، و طلب الشي ء لا يكون إلّا بدلائل، و الدلائل هي القياس «3».

و قال أبو الحسين البصري: وجه الاستدلال به أنّ النبيّ- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- صوّبه في قوله: أجتهد رأيي عند الانتقال من الكتاب و السنّة، فعلمنا أنّ قوله: أجتهد رأيي، لم ينصرف إلي الحكم بالكتاب و السنّة «4».

______________________________

(1) مسند أحمد: 5- 230، و سنن الدارمي: 170 و سنن أبي داود: برقم 3593- و سنن

الترمذي: برقم 1328، ينتهي سند الجميع إلي حارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص.

(2) الشافعي: الرسالة: 477 و 505، طبع مصر، تحقيق أحمد محمد شاكر.

(3) الشافعي: الرسالة: 477 و 505، طبع مصر، تحقيق أحمد محمد شاكر.

(4) أبو الحسين البصري: المعتمد: 2- 222.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 232

و ثمّة كلمات متماثلة لما ذكرنا في تقريب الاستدلال به.

لكنّ الحديث ضعيف سنداً و غير تام دلالة.

أمّا السند، ففيه الأُمور التالية: 1- إنّ أبا عون محمد بن عبيد اللّه الثقفي الوارد في السند، مجهول لم يعرف.

2- إنّ الحارث بن عمرو، مجهول مثله و لم يعرف سوي أنّه ابن أخي المغيرة بن شعبة.

3- إنّ الحارث بن عمرو، ينقل عن أُناس من أهل حمص و هم مجهولون فتكون الرواية مرسلة.

و بعد هذه الأُمور أ فيصحّ الاستدلال بحديث يرويه مجهول عن مجهول عن مجاهيل؟! قال ابن حزم: و أمّا خبر معاذ، فإنّه لا يحلّ الاحتجاج به لسقوطه، و ذلك أنّه لم يرو قطّ إلّا من طريق الحارث بن عمرو و هو مجهول لا يدري أحد من هو: حدّثني أحمد بن محمد العذري، حدثنا أبو ذر الهروي، حدثنا زاهر بن أحمد الفقيه، حدثنا زنجويه بن محمد النيسابوري، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري فذكر سند هذا الحديث، و قال: رفعه في اجتهاد الرأي.

قال البخاري: و لا يعرف الحارث إلّا بهذا و لا يصحّ.

هذا نصّ كلام البخاري في تاريخه الأَوسط، ثمّ هو عن رجال من أهل حمص لا يدري من هم «1».

و قال الذهبي: الحارث بن عمرو، عن رجال، عن معاذ بحديث الاجتهاد، قال البخاري: لا يصحّ حديثه.

قلت: تفرّد به أبو عون (محمد بن عبيد اللّه الثقفي) عن الحارث بن

عمرو الثقفي ابن أخي المغيرة و ما روي عن الحارث، غير أبي عون و هو مجهول.

______________________________

(1) ابن حزم: الاحكام: 5- 207.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 233

و قال الترمذي: ليس إسناده عندي بمتّصل «1».

و قال السيد المرتضي: إنّ حديث معاذ خبر واحد و بمثله لا تثبت الأصول المعلومة، و لو ثبتت بأخبار الآحاد لم يجز ثبوتها بمثل خبر معاذ، لَانّ رُواته مجهولون.

و قيل: رواه جماعة من أصحاب معاذ و لم يُذكَروا «2».

و أمّا الدلالة، فهي مبنيّة علي مساواة الاجتهاد مع القياس أو شموله له و هو غير ثابت، قال المرتضي: و لا يُنكر أن يكون معني قوله: «أجتهد رأيي» أي أجتهد حتي أجد حكم اللّه تعالي في الحادثة، من الكتاب و السنّة، إذ كان في أحكام اللّه فيهما ما لا يتوصّل إليه إلّا بالاجتهاد، و لا يوجد في ظواهر النصوص، فادّعاوهم أنّ إلحاق الفروع بالأُصول في الحكم لعلّة يستخرجها القياس، هو الاجتهاد الذي عناه في الخبر، ممّا لا دليل عليه و لا سبيل إلي تصحيحه «3».

علي أنّ تجويز القياس في القضاء لا يكون دليلًا علي تجويزه في الإِفتاء، لأَنّ القضاء أمر لا يمكن تأخيره، بخلاف الإِفتاء، فالاستدلال بجواز القياس في القضاء علي جوازه في الإِفتاء، مبنيّ علي صحّة القياس و هو دور واضح.

ثمّ إنّ هناك نقطة جديرة بالذكر، و هي أنّ القضاء منصب خطير لا يشغله إلّا العارف بالكتاب و السنّة و الخبير في فضّ الخصومات، فالنبيّ- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- الذي نصبه للقضاء لا بدّ أن يعلِّمه الكتاب و السنّة أوّلًا و أن يكون واقفاً علي مدي إحاطته بهما، ثم يبعثه إلي القضاء و فصل الخصومات و مع المعرفة التامّة لحال

القاضي يكون السؤال بقوله: «فكيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب اللّه» أمراً لغواً، و هذا يعرب عن أنّ الحديث لم ينقل علي الوجه الصحيح،

______________________________

(1) الذهبي: ميزان الاعتدال: 1- 439 برقم 1635.

(2) المرتضي: الذريعة إلي أُصول الشريعة: 2- 773.

(3) الذريعة: 2- 776.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 234

و ستوافيك الصور الأُخري للرواية.

قال الفخر الرازي: إنّ الحديث يقتضي أنّه سأله عمّا به يقضي بعد أن نصبه للقضاء، و ذلك لا يجوز لَانّ جواز نصبه للقضاء مشروط بصلاحيته للقضاء، و هذه الصلاحية إنّما تثبت لو ثبت كونه عالماً بالشي ء الذي يجب أن يقضي به و الشي ء الذي لا يجب أن يقضي به «1».

علي أنّ الظاهر من سيرة «معاذ» أنّه لم يكن يجتهد برأيه في الاحكام و إنّما كان يتوقّف حتي يسأل النبيّ- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

روي يحيي بن الحكم أنّ معاذاً قال: بعثني رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أُصدِّق أهلَ اليمن، و أمرني أن آخذ من البقر من كلِّ ثلاثين تبيعاً، و من كلّ أربعين مُسِنَّةً قال: فعرضوا عليّ أن آخذ من الأَربعين فأبيت ذاك، و قلت لهم: حتي أسأل رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- عن ذلك.

فقدمتُ، فأخبرت النبيّ- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فأمرني أن آخذ من كلّ ثلاثين تبيعاً، و من كلّ أربعين مُسِنَّةً «2».

فإذا كانت هذه سيرته فكيف يقضي بالظنون و الاعتبارات؟ ثمّ إنّ المتمسّكين بالحديث لمّا رأوا ضعف الحديث سنداً و دلالة، حاولوا تصحيح التمسّك بقولهم بأنّ خبر معاذ خبر مشهور و لو كان مرسلًا، لكنّ الأُمّة تلقّته بالقبول «3».

و لنا هاهنا وقفة قصيرة، و هي

أنّ اشتهار الحديث نتيجة الاستدلال به

______________________________

(1) الرازي: المحصول: 2- 255.

(2) مسند أحمد بن حنبل: 5- 240؛ المسند الجامع: 15- 230 برقم (11518 41).

(3) الارموي: التحصيل من المحصول: 2- 163.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 235

للقياس و لو لا كونه مصدراً لمقالة أهل القياس لما نال تلك الشهرة.

يقول السيد المرتضي: أمّا تلقّي الأُمّة له بالقبول، فغير معلوم، فقد بيّنا أنّ قبول الأُمّة لأَمثال هذه الاخبار كقبولهم لمسّ الذكر، و ما جري مجراه ممّا لا يُقطع به و لا يُعلم صحّته «1».

إلي هنا تمّ مناقشة الحديث سنداً و دلالة، و تبيّن أنّ الحديث غير صالح للاحتجاج به.

الصور الأُخري للحديث
اشارة

إنّ الحديث قد ورد بصور مختلفة و بينها تضادّ كبير في المضمون، و إليك هذه الصور:

الصورة الأُولي: ما رواه ابن حزم

قال: حدثنا حمام و أبو عمر الطلمنكي قال حمام: حدثنا أبو محمد الباجي، حدثنا عبد اللّه بن يونس، قال: حدثنا بقيّ «2» حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة.

و قال الطلمنكي: حدثنا ابن مفرج، حدثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس، قال: حدثنا محمد بن علي بن زيد، حدثنا سعيد بن منصور، ثمّ اتّفق ابن أبي شيبة و سعيد كلاهما عن أبي معاوية الضرير.

حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد اللّه الثقفي أبو عون قال: لمّا بعث رسول اللّه معاذاً إلي اليمن، قال: يا معاذ بم تقضي؟ قال: أقضي بما في كتاب اللّه، قال: فإن جاءك أمر ليس في كتاب اللّه و لم يقض به نبيّه؟ قال: أقضي بما قضي به الصالحون.

قال: فإن جاءك أمر ليس في كتاب اللّه و لم يقض به نبيّه و لا قضي به الصالحون؟ قال: أومَّ الحقّ جهدي.

______________________________

(1) الذريعة إلي أُصول الشريعة: 2- 774.

(2) هكذا في المصدر.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 236

فقال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: الحمد للّه الذي جعل رسول رسول اللّه يقضي بما يُرضي به رسول اللّه «1».

تري أنّ معاذاً يقدّم ما قضي به الصالحون علي كلّ شي ء، بعد الكتاب و السنّة، و لعلّ مراده هي الأَعراف السائدة بين المجتمعات التي تكون مرجعاً للقضاء كما أوضحنا حالها عند دراسة حجّية العرف و الأَعراف.

كما أنّ مراده أومّ الحقّ هو التفكّر في الأصول و القواعد الواردة في الكتاب و السنّة.

أضف إلي ذلك أنّ الرواية مرسلة لأَنّ أبا عون لا يروي عن «معاذ» مباشرة لتأخر طبقته في الحديث عن «معاذ»

بطبقتين.

الصورة الثانية: عن عبد الرحمن بن غنم

، قال: حدثنا معاذ بن جبل، قال: لمّا بعثني رسول اللّه إلي اليمن، قال: لا تقضينّ و لا تفصِلنّ إلّا بما تعلم، و إن أشكل عليك أمر فقف حتي تبيّنه أو تكتب إليَّ فيه «2».

و هي: متّصلة السند و لكن المتن غير ما جاء في الحديث بل يغايره تماماً، و ينفي مقالة حماة القياس.

الصورة الثالثة: وردت في الكتب الأصولية صورة ثالثة للرواية

و لعلّها منقولة بالمعني.

قال أبو الحسين البصريّ: روي عن النبيّ، أنّه قال لمعاذ و أبي موسي الأَشعري، و قد أنفذهما إلي اليمن، بم تقضيان؟ قالا: إن لم نجد الحكم في السنّة، قسنا الأَمر بالأَمر، فما كان أقرب إلي الحقّ

______________________________

(1) ابن حزم: الاحكام: 5- 208.

(2) أخرجه ابن ماجه برقم 55.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 237

عملنا به «1».

كما نقله الرازي في المحصول، و قال: روي أنّه أنفذ معاذاً و أبا موسي الأَشعري إلي اليمن فقال- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- لهما: بما تقضيان، فقالا: إذا لم نجد الحكم في السنّة نقيس الأَمر بالأَمر فما كان أقرب إلي الحقّ عملنا به.

فقال- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: أصبتما «2».

و تبعه الارموي في التحصيل من المحصول «3».

و الظاهر أنّ الحديث نقل بالمعني حسب فهم الراوي و لم نعثر علي هذا النصّ في الصحاح و المسانيد.

نعم أخرج أحمد عن أبي بردة عن أبي موسي أنّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بعث معاذاً و أبا موسي إلي اليمن فأمرهما أن يعلّما الناس القرآن «4».

2- حديث عمر

عن جابر بن عبد اللّه، عن عمر بن الخطاب، قال: هششت فقبَّلتُ و أنا صائم، فقلت: يا رسول اللّه أتيت أمراً عظيماً قبّلتُ و أنا صائم، فقال: «أ رأيت لو تمضمضت من الماء و أنت صائم؟» فقلت: لا بأس بذلك، فقال رسول اللّه (صلي الله عليه و آله و سلم): «ففيم؟!» «5».

قال ابن القيم: و لو لا أنّ حكمَ المثل حكمُ مثلِه و أنّ المعاني و العلل مؤَثّرة في

______________________________

(1) أبو الحسين البصري: المعتمد: 2- 222.

(2) الفخر الرازي: المحصول: 2- 254.

(3) سراج الدين الارموي: التحصيل من المحصول: 2- 163.

(4) مسند

أحمد بن حنبل: 4- 397.

(5) سنن أبي داود، كتاب الصوم رقم 2385؛ و مسند أحمد: 1- 21.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 238

الاحكام نفياً و إثباتاً لم يكن لذكر هذا التشبيه معني، فذكره ليدلّ به علي أنّ حكم النظير حكمُ مثله، و أنّ نسبة القبلة التي هي وسيلة للوطء كنسبة وضع الماء في الفم الذي هو وسيلة إلي شربه، فكما أنّ هذا الأَمر لا يضرّ، فكذلك الآخر «1».

و قال السرخسي: هذا تعليم المقايسة، فإنّ بالقبلة يفتتح طريق اقتضاء الشهوة و لا يحصل بعينه اقتضاء الشهوة، كما أنّ بإدخال الماء في الفم يفتتح طريق الشرب و لا يحصل به الشرب «2» أقول: إنّ القياس عبارة عن استفادة حكم الفرع عن حكم الأَصل بحيث يعتمد أحدهما علي الآخر و ليس المقام كذلك، بل كلاهما كغصني شجرة أو كجدولي نهر، فالمبطل هو الأَكل و الجماع لا مقدّمتهما فبما أنّ المخاطب كان واقفاً علي ذلك الحكم في الأَكل دون الجماع، أرشده النبيّ- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- إلي تشبيه القبلة بالمضمضة إقناعاً للمخاطب لا استنباطاً للحكم من الأَصل و ليس الكلام في إقناع المخاطب، بل في استنباط الحكم و ليست الرواية ظاهرة، في الأَمر الثاني الذي هو المقصود بالاستدلال بها.

أضف إلي ذلك ما ذكره ابن حزم حولها حيث قال: لو لم يكن في إبطال القياس إلّا هذا الحديث لكفي، لَانّ عمر ظنّ أنّ القبلة تفطر الصائم قياساً علي الجماع، فأخبره- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أنّ الأَشياء المماثلة و المتقاربة لا تستوي أحكامها، و أنّ المضمضة لا تفطر، و لو تجاوز الماء الحلق عمداً لَافطر، و أنّ الجماع يفطر، و القبلة لا تفطر، و هذا

هو إبطال القياس حقاً «3».

______________________________

(1) ابن القيم: إعلام الموقعين: 1- 199.

(2) السرخسي: أُصول الفقه: 2- 130.

(3) الاحكام: 7- 409.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 239

3- حديث ابن عباس

عن سليمان بن يسار عن عبد اللّه بن عباس، أنّ رجلًا سأل النبيّ- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: إنّ أبي أدركه الحجّ و هو شيخ كبير لا يثبت علي راحلته فإن شددته خشيت أن يموت أ فأحجّ عنه ببب قال: أ فرأيت لو كان عليه دَين فقضيتَه أ كان مجزئاً ببب قال: نعم.

قال: فحجّ عن أبيك.

و رواه نافع بن جبير و سعيد بن جبير و عكرمة و أبو الشعثاء و عطاء عن ابن عباس بتعابير متقاربة، فالرواية واحدة لانتهاء إسنادها إلي ابن عباس و الرواة عنه متعدّدون «1» و لكن الرواية في الكتب الأصولية منسوبة، إلي جارية خثعميّة «2».

و الرواية المنسوبة إليها ليست مشتملة علي التشبيه، و إليك نصّها: عن سليمان بن يسار عن عبد اللّه بن عباس أنّه قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول اللّه ص فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها و تنظر إليه، فجعل رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يصرف وجه الفضل إلي الشقّ الآخر.

قالت: يا رسول اللّه إنّ فريضة اللّه في الحجّ علي عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت علي الراحلة، أ فأحجّ عنه ببب قال: نعم، و ذلك في حجّة الوداع «3».

و علي كلّ تقدير فقد استدلّ بهذه الرواية، يقول السرخسي: هذا تعليم

______________________________

(1) لاحظ في الوقوف علي صور الروايات: المسند الجامع: 9- 16 19، كتاب الحج.

(2) الغزالي: المنخول: 329، الرازي: المحصول: 2- 262.

(3) موطإ مالك: 236، و مسند أحمد: 1- 361 برقم

1893، و صحيح البخاري: 2- 163، و صحيح مسلم: 4- 101، و سنن النسائي: 5- 117، و سنن أبي داود: برقم 1809.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 240

المقايسة و بيان بطريق إعمال الرأي.

أقول: إنّ القياس الوارد في الحديث من باب القياس الاولوي، و قد مرّ أنّه خارج عن محلّ النزاع، و الشاهد عليه قوله: «أحقّ بالقضاء».

4- حديث الأَعرابي

عن أبي طاهر و حرملة بن يحيي قالا: أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: إنّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- جاءه أعرابي فقال: يا رسول اللّه إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود (و إنّي أنكرته)، فقال له رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «هل لك من إبل ببب» قال: نعم، قال: «ما ألوانها ببب»، قال: حمر، قال: «هل فيها من أورق ببب» قال: نعم، قال: «فأنّي كان ذلك ببب»، قال: أراه عرق نزعه، قال: «فلعلّ ابنك هذا عرق نزعه» «1».

يلاحظ عليه: أنّ الأَصل المقرّر في الشرع، هو أنّ الولد للفراش، و لم يكن للأَعرابي نفي الولد بحجّة عدم التوافق في اللون، و أراد النبيّ- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أن يبطل حجّته بأنّ عدم التوافق لا يكون دليلًا علي عدم الإِلحاق، و ليس ذلك بعجيب، لَانّه يوجد نظيره في الحيوانات فالابل الحمر ربّما تلد أورق بالرغم من حمرتها، و قد بيّن وجهه في الحديث.

علي أنّ تجويز المقايسة في الأُمور الطبيعية لا يصحّحها في الأَحكام الشرعية.

قال ابن حزم: و هذا من أقوي الحجج عليهم في إبطال القياس، و ذلك لَانّ الرجل جعل خلاف ولده في شبه اللون علّة لنفيه عن نفسه،

فأبطل رسول اللّه (صلي الله عليه و آله و سلم) حكم الشبه، و أخبره أنّ الإِبل الورق قد تلدها الإِبل الحمر، فأبطل- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أن

______________________________

(1) صحيح البخاري، كتاب الحدود: 8- 173.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 241

تتساوي المتشابهات في الحكم، و من المحال الممتنع أن يكون من له مسكة عقل يقيس ولادات الناس علي ولادات الإِبل، و القياس عندهم إنّما هو ردّ فرع إلي أصله و تشبيه ما لم ينصّ بمنصوص، و بالضرورة نعلم أنّه ليس الإِبل أولي الولادة من الناس، و لا الناس أولي من الإِبل و أنّ كلا النوعين في الإِيلاد، و الإِلقاح سواء، فأين هاهنا مجال للقياس ببب و هل من قال: إن توالد الناس مقيس علي توالد الإِبل، إلّا بمنزلة من قال: إنّ صلاة المغرب إنّما وجبت فرضاً لأَنّها قيست علي صلاة الظهر ببب و إنّ الزكاة إنّما وجبت قياساً علي الصلاة.

و هذه حماقة لا تأتي بها إلّا عضاريط أصحاب القياس، لا يرضون بها لأَنفسهم.

فكيف أن يضاف هذا إلي رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- الذي آتاه اللّه الحكمة و العلم دون معلّم للناس، و جعل كلامه علي لسانه ما أخوفنا أن يكون هذا استخفافاً بقدر النبوّة و كذباً عليه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- «1».

هذه هي الأَحاديث التي تشبّثوا بها في إثبات القياس، و قد عرفت قصور الجميع في الدلالة، و قصور بعضها في السند، و إليك دراسة بقية أدلّتهم.

3- الاستدلال بإجماع الصحابة

استدلّ الفخر الرازي علي حجّية القياس بالإِجماع و دليله مؤَلَّف من مقدمات ثلاث: المقدمة الأولي: إنّ بعض الصحابة ذهب إلي العمل بالقياس و القول به.

______________________________

(1) ابن حزم: الاحكام: 7- 413

414.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 242

المقدمة الثانية: إنّه لم يوجد من أحدهم إنكار أصل القياس، فلأَنّ القياس أصل عظيم في الشرع نفياً أو إثباتاً فلو أنكر بعضهم لكان ذلك الإِنكار أولي بالنقل من اختلافهم، و لو نقل لاشتهر، و لوصل إلينا فلمّا لم يصل إلينا علمنا أنّه لم يوجد.

المقدمة الثالثة: إنّه لمّا قال بالقياس بعضهم و لم ينكره أحد منهم فقد انعقد الإِجماع علي صحّته «1».

يلاحظ عليه: أنّ المقدمة الثانية التي هي روح الاستدلال باطلة، و كأنّ الرازي غضّ النظر عن الاختلاف الحاصل بين الصحابة و التابعين في العمل بالقياس، و ستوافيك نصوص المخالفين و استدلالهم علي عدم صحّته، و قد اشتهر بين المحدّثين قول الامام عليّ- عليه السّلام- بأنّه لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخُفّ أولي بالمسح من ظاهره.

و قد شاع بين التابعين نقد أدلّة القائلين بالقياس، بأنّ أوّل من قاس هو إبليس إذ قاس نفسه بآدم، و قال: خلقتني من نار و خلقته من طين.

و ربّما يتمسّك بأنّ الصحابة كانوا يفتون بالرأي و قد شاع بينهم «هذا رأي فلان» في الكلالة، أو بيع أُمّهات الأَولاد» و ليس الرأي إلّا الإِفتاء بالقياس.

يلاحظ عليه أمران: الأَوّل: لا شكّ أنّ بعض الصحابة كانوا يفتون بالرأي، و لكن لم يكن الرأي مساوقاً للعمل بالقياس بل لعلّهم اعتمدوا فيها علي ضرب من الاستدلال و التأمّل، و لو كان ديدنهم في الإِفتاء في غير ما نصّ عليه علي القياس، لبان و ارتفع الخلاف.

و يتّضح ذلك ممّا يذكره الشيخ المظفّر في المقام قائلًا:

______________________________

(1) الرازي: المحصول: 2- 262- 269. و قد صرح في ص 292: انّ مذهب أهل البيت إنكار القياس.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 243

و يجب الاعتراف

بأنّ بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأي و أكثروا بل حتي فيما خالف النصّ تصرّفاً في الشريعة باجتهاداتهم، و الإِنصاف أنّ ذلك لا ينبغي أن ينكر من طريقتهم، و لكن لم تكن الاجتهادات واضحة المعالم عندهم من كونها علي نحو القياس، أو الاستحسان، أو المصالح المرسلة و لم يعرف عنهم، علي أيّ كانت اجتهاداتهم، أ كانت تأويلًا للنصوص، أم جهلًا بها، أم استهانة بها؟ ربّما كان بعض هذا أو كلّه من بعضهم، و في الحقيقة إنّما تطوّر البحث عن الاجتهاد بالرأي في تنويعه و خصائصه في القرن الثاني و الثالث «1».

إنّ هنا اجتهادات من الصحابة لا يصحّ حملها علي القياس.

1 تحريم المتعتين: قال عمر بن الخطاب: متعتان كانتا علي عهد رسول اللّه أنا محرّمهما و معاقب عليهما.

2 جعل الطلاق الثلاث، ثلاثاً مع أنّه كان في عصر الرسول و خلافة أبي بكر و سنتين من خلافته، واحدة.

3 قطع سهم المؤَلّفة قلوبهم.

4 إلغاء الحيعلة و هو قول «حيّ علي خير العمل» من الأَذان «2».

و غيرها.

و ليس الاجتهاد فيها مبنيّاً علي القياس بل الاستحسان المطلق.

و قد ذكر الغزالي مواضع من اجتهادات الصحابة و حاول تطبيقها علي القياس بجهد بالغ غير ناجح، لأَنّ أكثرها بعيد عن القياس.

الثاني: لم يكن هناك إجماع من الصحابة علي العمل بالقياس، و لو كان هناك

______________________________

(1) المظفر: أُصول الفقه: 2- 172.

(2) لاحظ للوقوف علي تفصيل هذه الأُمور: كتاب «النص و الاجتهاد» للسيد شرف الدين، و كتاب «الاعتصام بالكتاب و السنّة» للمؤلّف، و غيرهما.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 244

شي ء فإنّما هو كقضية جزئية لا تكون سنداً للقاعدة.

علي أنَّ قول الصحابي ليس بحجّة ما لم يعلم استناده إلي الرسول، فكيف يكون فعله حجّة؟ و ستوافيك نصوص من

الصحابة و التابعين علي نفي القياس.

قال ابن حزم: «أين وجدتم هذا الإِجماع؟ و قد علمتم أنّ الصحابة أُلوف لا تحفظ الفتيا عنهم في أشخاص المسائل إلّا عن مائة و نيّف و ثلاثين نفراً منهم سبعة مكثرون، و ثلاثة عشر نفساً متوسطون، و الباقون مقلّون جدّاً تروي عنهم المسألة و المسألتان حاشا المسائل التي تيقن إجماعهم عليها، كالصلوات و صوم رمضان فأين الإِجماع علي القول؟ «1».

4 الاستدلال بدليل العقل

استدلّ علي حجّية القياس بوجوه:

1 إنّه سبحانه ما شرع حكماً إلّا لمصلحة، و أنّ مصالح العباد هي الغاية المقصودة من وراء تشريع الأَحكام، فإذا تساوت الواقعة المسكوتُ عنها، بالواقعة المنصوص عليها، في علّة الحكم التي هي مظنّة المصلحة، قضت الحكمة و العدالة أن تساويها في الحكم تحقيقاً للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع، و لا يتّفق و عدل اللّه و حكمته أن يحرّم الخمر لِاسكارها محافظة علي عقول عباده و يبيح نبيذاً آخر فيه خاصّية الخمر و هي الإِسكار، لأَنّ مآلها المحافظة علي العقول من مسكر و تركها عرضة للذهاب بمسكر آخر «2».

و لا يخفي ما في كلامه من المغالطة، فإنّ الكبري و هي أنّ أحكام الشرع

______________________________

(1) إبطال القياس: 19.

(2) عبد الوهاب خلاف: مصادر التشريع الإِسلامي: 34 35.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 245

تابعة للمصالح و المفاسد أمر مسلّم، إنّما الكلام في الوقوف علي مناط الحكم و علّته، و أمّا ما مثّله من قياس النبيذ علي الخمر فهو خارج عن محلّ الكلام، لأَنّا نعلم علماً قطعياً واضحاً بأنّ مناط التحريم هو الإِسكار، و لأَجل ذلك جاءت في روايات أئمّة أهل البيت: حرّم اللّه عزّ و جلّ الخمر بعينها و حرّم رسول اللّه المسكر من كلّ شارب فأجاز اللّه له

ذلك «1» و إنّما الكلام في أنّ الظنّ بالعلّة هل يغني عن مُرّ الحق شيئاً؟ و هل المظنون كونه علّة يكون علّة حقيقة أو أنّ هناك احتمالات أُخري قد مضي بيانها عند بيان استنباط العلّة؟

2 إنّ نصوص القرآن و السنّة محدودة و متناهية، و وقائع الناس و أقضيتهم غير محدود و لا متناهية، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية وحدها مصادر تشريعية لما لا يتناهي.

و بعبارة أُخري القياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة، و يكشف حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث و يوفّق بين التشريع و المصالح «2».

و لنا وقفة قصيرة مع هذا الدليل:

أوّلًا: أنّ عدم إيفاء النصوص عند أهل السنّة بالإِجابة علي جميع الأَسئلة المتكثّرة، لا يكون دليلًا علي حجّية القياس، فربّما تكون الحجّة غيره، إذ غاية ما في الباب أنّ عدم الوفاء يكون دليلًا علي أنّ الشارع قد أحلّ العقدة بطريق ما، و أمّا أنّ هذا الطريق هو القياس، فلا يكون دليلًا عليه.

و ثانياً: أنّ المستدلّ اتّخذ المدّعي دليلًا و قال: و القياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة، مع أنّ الكلام في أنّ القياس هل هو مصدر

______________________________

(1) الكافي: 1- 266.

(2) مصادر التشريع الإِسلامي: 35، و انظر: المنخول من تعليقات الأصول: 359 و 327.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 246

تشريعيّ حتي نأخذ به في مسايرته مع الوقائع المتجدّدة أو لا؟ و مجرد كونه يساير الاحداث لا يكون دليلًا علي كونه حجّة.

3 القياس يفيد الظنّ بالحكم و هو يلازم الظنّ بالضرر فيجب دفعه.

قال الرازي: إنّ من ظنّ أنّ الحكم في الأَصل معلّل بكذا و علم أو ظنّ حصول ذلك الوصف في الفرع، وجب أن يحصل له الظنّ بأنّ حكم الفرع مثل

حكم الأَصل و معه علم يقيني بأنّ مخالفة حكم اللّه تعالي سبب العقاب فتولد من ذلك الظن، و هذا العلم، ترك العمل به سبب للعقاب فثبت أنّ القياس يفيد ظن الضرر «1».

يلاحظ عليه: أنّ الرازي خلط بين القاعدتين العقليتين المحكمتين:

1 قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

2 وجوب دفع الضرر المظنون بل المحتمل.

أمّا القاعدة الأُولي فهي قاعدة محكمة دلّ العقل و النقل علي صحّتها أمّا العقل فواضح سواء أقلنا بالتحسين و التقبيح العقليين أم لم نقل فانّ استقلال العقل بالقبح في خصوص المقام شي ء لا ينكر و أمّا النقل فيكفي قوله سبحانه: " وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰي نَبْعَثَ رَسُولًا" «2».

فإذا لم يرد في واقعة دليل شرعي علي الحرمة أو الوجوب يستقل العقل بقبح عقاب المكلّف إذا ارتكب حتي و لو ظن بأحد الحكمين و ذلك إمّا لَانَّه لا يكون هناك ظنّ بالضرر أو يكون ظنّ به لكن لا يكون مثله واجب الاجتناب.

توضيحه: أنّه لو أُريد من الضرر، الضرر الأُخروي فهو مقطوع الانتفاء

______________________________

(1) الرازي: المحصول: 2- 288.

(2) الاسراء: 15.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 247

بحكم تقبيح العقل مثل ذلك العقاب و تأييد الشرع ففي مثل ذلك المورد لا يكون الظن بالحرمة أو الوجوب، ملازماً للظن بالضرر أبداً لعدم تمامية الحجّة علي المكلّف.

و لو أُريد من الضرر، الضرر الدنيوي فهو و إن كان ملازماً للظنِّ بالحكم غالباً نظراً إلي تبعية الأَحكام للمصالح و المفاسد، لكنّه ليس بواجب الدفع إلّا إذا كان ضرراً عظيماً لا يتحمل ففي مثله يستقل العقل بدفعه.

و حصيلة الكلام: انّ القياس لما لم تثبت حجّيته فالظن بالحكم لأَجله، لا يلازم الظن بالضرر الأُخرويّ أبداً و أمّا الضرر الدنيوي فهو و إن كان يلازمه لكنّه غير

واجب الدفع غالباً إلّا ما ذكرناه.

فخرجنا بتلك النتيجة: انّ الظن الحاصل بالحكم لأَجل القياس الذي لم تثبت حجّيته لا يكون ملازماً للظن بالعقوبة و لا يكون داخلًا في قاعدة «لزوم دفع الضرر المظنون».

و أمّا القاعدة الثانية التي زعم الرازي انّ المقام من مصاديقها و جزئياتها فموردها ما إذا قام الدليل علي الحكم الكلي، و علي وجود الموضوع له، فعندئذٍ يجب دفع الضرر بصورة الثلاث:

ألف- تارة يكون الضرر (العقاب) مقطوعاً كما إذا علم بأنّ الخمر حرام و انّ هذا المائع خمر.

ب- و أُخري يكون الضرر مظنوناً، كما إذا علم بأنّ الخمر حرام و علم أنّ أحد الإناءين خمر، فشرب أحدهما لا كليهما مظنة للضرر الأُخروي.

ج- و ثالثة يكون الضرر (العقاب) مشكوكاً، كما إذا تردد الخمر بين أوان عشرة فشرب أحدها، محتمل للضرر.

فالضرر الأخروي بتمام صوره واجب الدفع للعلم بالكبري، أعني: الحكم

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 248

الكلي، و العلم بالموضوع معيناً أو مردداً بين إناءين أو أواني كثيرة.

فاللازم علي الفقيه تنقيح مصاديق القاعدتين حتي لا يخلط مواردهما، كما خلط الرازي.

القياس في كلمات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام):

1- عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن أبيه- عليه السّلام- أنّ علياً- عليه السّلام- قال: «من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس، و من دان اللّه بالرأي لم يزل دهره في ارتماس».

2- كتب الامام الصادق- عليه السّلام- في رسالة إلي أصحابه أمرهم بالنظر فيها و تعاهدها و العمل بها، و قد جاء فيها: «لم يكن لأَحد بعد محمّد- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أن يأخذ بهواه و لا رأيه و لا مقاييسه، ثمّ قال: و اتبعوا آثار رسول اللّه و سنته فخذوا بها و لا تتبعوا أهواءكم ورائكم فتضلوا».

3- روي سماعة

بن مهران عن أبي الحسن- عليه السّلام-: «ما لكم و للقياس، إنّما هلك من هلك من قبلكم بالقياس».

4- دخل أبو حنيفة علي أبي عبد اللّه- عليه السّلام-، فقال له: «يا أبا حنيفة بلغني أنّك تقيس ببب» قال: نعم، قال: «لا تقس فإنّ أوّل من قاس إبليس».

5- عن أبي بصير قال: قلت لأَبي عبد اللّه- عليه السّلام-: ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب اللّه و لا سنته فننظر فيها ببب فقال: «لا، أما إنّك إن أصبت لم تؤجر، و إن أخطأت كذبت علي اللّه».

6- عن يونس بن عبد الرحمن، قال: قلت لأَبي الحسن الأَوّل- عليه السّلام-: بما أوحّد اللّه ببب فقال: «يا يونس لا تكونن مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، و من ترك أهل بيت نبيّه ضل، و من ترك كتاب اللّه و قول نبيّه كفر».

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 249

7- عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: «من شك أو ظنّ فأقام علي أحدهما فقط حبط عمله، انّ حجّة اللّه هي الحجّة الواضحة».

8- عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: «انّ السنّة لا تقاس، أ لا تري انّ المرأة تقضي صومها و لا تقضي صلاتها، يا أبان إنّ السنة إذا قيست محق الدين».

9- عن عثمان بن عيسي قال: سألت أبا الحسن موسي- عليه السّلام- عن القياس، فقال: «و ما لكم و للقياس، إنّ اللّه لا يسأل كيف أحلّ و كيف حرّم».

10- عن أبي شيبة الخراساني، قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: «إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلّا بعداً، و إنّ دين اللّه لا يصاب بالمقاييس».

11- عن

محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد اللّه- عليه السّلام- بمني إذ أقبل أبو حنيفة علي حمار له فلما جلس قال: إنّي أُريد أن أقايسك، فقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: «ليس في دين اللّه قياس».

12- عن زرارة بن أعين قال: قال لي أبو جعفر محمد بن علي- عليه السّلام-: «يا زرارة إيّاك و أصحاب القياس في الدين، فإنّهم تركوا علم ما وكلوا به و تكلفوا ما قد كفوه، يتأولون الأَخبار، و يكذبون علي اللّه عزّ و جلّ، و كأنّي بالرجل منهم ينادي من بين يديه فيجيب من خلفه، و ينادي من خلفه فيجيب من بين يديه، قد تاهوا و تحيروا في الأَرض و الدين».

13- عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: «لعن اللّه أصحاب القياس، فإنّهم غيّروا كتاب اللّه و سنّة رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- اتّهموا الصادقين في دين اللّه» «1».

______________________________

(1) راجع الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 250

القياس في كلمات الصحابة و التابعين

إنّ لفيفاً من الصحابة و التابعين ممن يؤخذ عنهم العلم قد خالفوا القياس بحماس و ندّدوا به، و إليك نزراً من كلماتهم ليعلم أنّ القياس لم يكن أمراً متفقاً عليه بين أوساط الصحابة و التابعين: 1- عن أبي الشعثاء عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء و يتركون أشياء تقذّراً، فبعث اللّه نبيّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و أنزل كتابه و أحل حلاله، و حرم حرامه، فما أحل فهو حلال، و ما حرم فهو حرام، و ما سكت عنه فهو عفو.

2- عن الشعبي عن مسروق عن عبد اللّه بن مسعود انّه قال: ليس عام إلّا و الذي

بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، و لا عام أخصب من عام، و لا أمير خير من أمير، و لكن ذهب خياركم و علماؤكم، ثمّ يحدث قوم يقيسون الأُمور برأيهم فينهدم الإِسلام و ينثلم.

3- عن جابر بن زيد، قال: لقيني ابن عمر قال: يا جابر إنّك من فقهاء البصرة و ستستفتي، فلا تفتينَّ إلّا بكتاب ناطق أو سنّة ماضية.

4- عن زيد بن عميرة عن معاذ بن جبل، قال: تكون فتن يكثر فيها الملل و يفتح فيها القرآن حتي يقرأه الرجل و المرأة و الصغير و الكبير و المؤمن و المنافق، فيقرؤه الرجل فلا يتبع، فيقول: و اللّه لَاقرأنّه علانية، فيقرؤه علانية فلا يتبع، فيتخذ مسجداً و يبتدع كلاماً ليس من كتاب اللّه و لا من سنة رسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فإيّاكم و إياه، فإنّها بدعة ضلالة، قالها ثلاث مرات.

هذا و قد ذكر ابن حزم أحاديث أُخري علي لسان الصحابة في ذم القياس أعرضنا عنها خوفاً من الإِطالة، و نقتصر علي سرد أسمائهم.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 251

أبو هريرة، سمرة بن جندب، عبد اللّه بن أبي أوفي، و معاوية «1».

و كذلك صرح أئمة التابعين علي ذم القياس و استنكاره و النهي عنه.

1- عن داود بن أبي هند قال: سمعت محمد بن سيرين، يقول: القياس شؤم و أوّل من قاس إبليس فهلك، و إنّما عبدت الشمس و القمر بالمقاييس.

2- قال ابن وهب: أخبرني مسلم بن علي انّ شريحاً القاضي قال: إنّ السنة سبقت قياسكم.

3- عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي، قال: السنّة لم توضع بالقياس.

4- و عن عامر الشعبي أيضاً: إنّما هلكتم حيث تركتم الآثار و أخذتم بالمقاييس.

5- عن

جابر عن الشعبي عن مسروق قال: لا أقيس شيئاً بشي ء قيل: لمَ ببب قال: أخشي أن تزل رجلي.

و كان يقول إيّاكم و القياس و الرأي، فانّ الرأي قد يزل.

إلي غير ذلك من الروايات التي يطول بذكرها الكلام، و نكتفي هنا بسرد أسماء التابعين الذين نالوا من القياس: إياس بن معاوية، مالك بن أنس، وكيع بن الجراح، حماد بن أبي حنيفة، ابن شبرمة، مطر الوراق، عطاء بن أبي رباح، أبو سلمة بن عبد الرحمن «2».

و بعد نقل هذه الطائفة الكبيرة من الأَحاديث من قبل أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)

______________________________

(1) أُنظر الاحكام في أُصول الأحكام لابن حزم: 6- 508، 511؛ اعلام الموقعين عن ربّ العالمين لابن قيم الجوزية: 1- 240 242، طبعة دار الكتاب العربي.

(2) انظر الاحكام في أُصول الأحكام لابن حزم: 6- 511 514؛ اعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: 1- 243 246؛ العدّة للشيخ الطوسي: 2- 688 690.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 252

و الصحابة و التابعين كيف يُدعي انّ الإِجماع قام علي صحّة القياس و لم يخالفه أحد، بل انّ الإِجماع قام علي نفي القياس.

و هذا يدل علي أنّ هذا العنصر قد دخل حيّز التشريع الإِسلامي بموافقة بعض و مخالفة البعض الآخر له، و انّ ادّعاء الإِجماع في مثل هذه المسألة أمر لا يليق بمن تتبع كلمات الفقهاء في هذا الصدد، و قد نقل ابن القيم كلمات الموافقين كما نقل كلمات المخالفين للقياس، و إن كان في كثير من المباحث عيالًا علي كتاب الاحكام لابن حزم الأَندلسيّ.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 253

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة 2

الاستحسان

اشارة

الاستحسان من مصادر التشريع لدي المالكيّة، و قد روي عن الامام مالك أنّه

قال: «الاستحسان تسعة أعشار العلم» خلافاً للشافعي حيث رفضه و قال: «من استحسن فقد شرّع» و ربما يُفصّل بين الاستحسان المبنيّ علي الدليل، و الاستحسان المبنيّ علي الهوي و الرأي، و مع كونه أصلًا معتبراً لدي المالكيّة و غيرهم، فلم يُعرَّف بوجه يكون مثل القياس، واضحَ المعالم، فإنّ الاستحسان ضد الاستقباح، و تعالي التشريع الإِسلامي أن يكون تابعاً لاستحسان إنسان أو استقباحه من دون أن يكون له رصيد من الشرع و العقل، و لا يصحّ الإِفتاء إلّا بما دلّ الدليل القطعي علي حجّيته، و الاستحسان بما هو هو، ليس علماً و لم يدل دليل قطعي علي حجّيته، كلّ ذلك يبعثنا إلي تحقيق مراد القائلين من كونه دليلًا فقهياً كسائر الأَدلّة، و اللازم هو الامعان في موارد استعماله.

أقول:

مع ما عُرّف الاستحسان بتعاريف كثيرة، لكنّه يُطلق و يراد منه أحد المعاني الخمسة

الأَوّل: العمل بالرأي و الظن

قد يطلق الاستحسان و يراد منه العمل بالرأي فيما جعله الشارع موكولًا إلي

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 254

آرائنا، و يظهر هذا من السرخسيّ في أُصول فقهه، كما في مورد تمتيع المطلقة غير المدخول بها قال سبحانه: " لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ مٰا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَي الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَي الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتٰاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي الْمُحْسِنِينَ" «1» و نظيره قوله سبحانه في مورد رزق الوالدات و كسوتهنّ، قال سبحانه: " وَ عَلَي الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" «2» فقد ترك الشارع تعيين كيفية التمتيع و تقدير المعروف بحسب اليسر و العسر إلي آرائنا «3».

و هو يختلف حسب اختلاف الأَزمنة و الأَمكنة.

و الاستحسان بهذا المعني، عمل بالظن في موضوع من الموضوعات، كالعمل به في سائر الموارد الذي جعل الظن فيه حجّة، فلو قام دليل علي حجّية مثل هذا الظن

يُتمسك به و يقتصر علي مورده سواء استحسنه المجتهد أم لا، و إلّا فلا.

و تسمية مثل هذا استحساناً أمر مورث للاشتباه.

الثاني: العدول عن قياس إلي قياس أقوي منه

و قد يطلق و يراد منه العدول عن مقتضي قياس ظاهر إلي مقتضي قياس أقوي منه، و هذا هو الذي نقله أبو الحسين البصري عن بعضهم، فقال: العدول عن موجب قياس إلي قياس أقوي منه «4».

______________________________

(1) البقرة: 236.

(2) البقرة: 233.

(3) السرخسي: أُصول الفقه: 2- 200.

(4) المعتمد: 2- 296.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 255

الثالث: العدول عن مقتضي قياس جلي إلي قياس خفي

يطلق الاستحسان و يراد منه، هو العدول عن مقتضي القياس الجلي إلي قياس خفي «1» و هذا هو الذي يظهر من الأصولي المعاصر الدكتور «و هبة الزحيلي» و غيره و الفرق بين التعريفين بعد اشتراكهما في أن المعدول عنه و المعدول إليه، قياس هو انّ المعدول إليه علي التعريف الثاني، هو القياس الأَقوي الأَعم من أن يكون جلياً أو خفياً، بخلاف التعريف الثالث فإنّ المعدول إليه قياس خفيّ.

الرابع: العدول عن مقتضي القياس بدليل

قد يطلق و يراد منه هو العدول عن مقتضي القياس بدليل شرعي سواء أ كان المعدول إليه قياساً أم غيره نعم يشترط في المعدول عنه كونه قياساً.

و هذا هو الذي يظهر أيضاً من السرخسي في أُصول فقهه قال: «هو الدليل يكون معارضاً للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأَوهام قبل إنعام التأمل فيه، و بعد إنعام التأمل في حكم الحادث و أشباهه من الأصول يظهر انّ الدليل الذي عارضه، فوقه في القوة و انّ العمل به هو الواجب «2».

و ظاهر هذا التعريف كما عرفت انّ العدول عن القياس بدليل شرعي هو الاستحسان، و علي ضوء هذا يختص الاستحسان بصورة العدول عن مقتضي القياس فحسب لا مطلق الدليل، فيشترط في المعدول عنه أن يكون قياساً دون المعدول إليه، لإِمكان أن يكون قياساً أو دليلًا غير القياس.

و هذا هو الظاهر من الكرخي أيضاً حيث عرفه بقوله: إثبات الحكم في

______________________________

(1) الوجيز في أُصول الفقه: 86.

(2) السرخسي: أُصول الفقه: 2- 200.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 256

صورة من الصور علي خلاف القياس من نظائرها مع انّ القياس يقتضي إثباته، بدليل خاص لا يوجد في غيرها «1».

و لنذكر مثالين للعدول من قياس إلي قياس آخر من دون التزام بكون الثاني قياساً أقوي أو

قياساً خفيّاً: 1- إذا ضاع شي ء تحت يد الصانع، فمقتضي القياس هو عدم ضمانه إذا ضاع أو تلف لديه من غير تقصير منه قياساً علي يد المودع، و لكن روي عن الامام علي بن أبي طالب- عليه السّلام- و القاضي أبي أُمية شريح بن الحارث الكندي بأنّهما يضمّنان الصنّاع، و ما هذا إلّا لأَنّ عدم تضمينهم ربما ينتهي إلي إهمالهم في حفظ أموال الناس «2».

و روي أنّ الامام الشافعي يذكر انّه قد ذهب شريح إلي تضمين القصّار فضمّن قصّاراً احترق بيته، فقال: تضمّنني و قد احترق بيتي، فقال شريح: أ رأيت لو احترق بيته كنت تترك له أجرك «3».

و علي ضوء هذا المثال ربما يفسر الاستحسان: بترك القياس و الأَخذ بما هو أرفق للناس.

أقول: المثال قابل للنقاش.

أوّلًا: ليس المورد من موارد القياس، لَانّ قياس الأَجير، بالودعي قياس مع الفارق، فإنّ الأَوّل يأخذ المال لصالحه بغية أخذ الأُجرة لعمله، و هذا بخلاف الودعي فإنّه يأخذ المال لصالح صاحب المال، فقياس الأَوّل بالثاني مع هذا الفارق، قياس مع الفارق.

______________________________

(1) أبو الفتح البغدادي: الوصول إلي الأصول: 2- 321؛ الغزالي: المنخول: 375، حيث قال: الصحيح في ضبط الاستحسان ما ذكره الكرخي.

(2) البيهقي: السنن الكبري: 3- 122.

(3) البيهقي: السنن الكبري: 3- 122.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 257

ثانياً: إذا كان المورد غير صالح لإعمال القياس لفقدان بعض شرائطه فيكون المرجع، الأَصلَ الاوّلي في الأَموال، و ليس هو إلّا الاحترام و الضمان حتي يثبت خلافه لا الاستحسان «أعني كون الضمان أرفق للناس، أو لئلا ينتهي إلي الإهمال في أموال الناس».

فإذا أتلفه الأَجير أو تلف عنده فمقتضي قوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «علي اليد ما أخذت حتي تؤَدّي» هو

الضمان ما لم يدل دليل علي خلافه كما دلّ في مورد الودعي حيث ليس لصاحب المال تغريم الودعي، نعم لصاحب المال إحلافه علي أنّ التلف لم يكن عن تعد أو تفريطٍ، و لذلك قالوا «ليس علي الأَمين إلّا اليمين».

2- إذا وقف أرضاً زراعية فهل يدخل فيه حقوق الري و المرور؟ قولان: أ- لا يدخل حقوق الريّ و المرور في الوقف قياساً علي البيع، فإنّ البيع، و الوقف يشتركان في خروج المبيع عن ملك الواقف و البائع، فلا يدخل في بيع الأَرض الزراعية حقوق ريّها و صرفها و المرور إليها بدون ذكرها، فكذلك في وقفها، و هذا هو العدول عن مقتضي القياس الظاهري.

ب- يدخل حقوق الري و المرور قياساً علي الإِجارة بجامع انّ المقصود من كلّ منهما الانتفاع بريع العين لا تملُّك رقبتها، و في إجارة الأَرض الزراعية تدخل حقوق ريّها و صرفها و المرور إليها بدون ذكرها، فكذلك في وقفها، و هذا هو العدول عن مقتضي القياس الظاهري إلي مقتضي القياس الخفي و سموه بالاستحسان «1».

أقول: إنّ دخول حقّ الري و المرور أو عدمه لا يبتني علي قياس الوقف بالبيع أو الإِجارة، بل هما مبنيان علي وجود الملازمة العرفية بين وقف الشي ء و دخول حقوق ريها و المرور إليها فيه أو عدمها، فلو قلنا بالملازمة العرفية بين

______________________________

(1) عبد الوهاب خلّاف: مصادر التشريع الإِسلامي: 72.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 258

إخراج الشي ء عن ملكه و إخراج ما يتوقف الانتفاع به عليه (كحقوق ريّها و صرفها و المرور إليها علي نحو إذا بيعت الأَرض الزراعية أو أوجرت أو أُوقفت يفهم منه نقل توابعها ممّا يتوقف الانتفاع بها عليها) فيدخل إلّا أن ينصَّ علي خلافه، و لو قلنا

بعدم الملازمة و انّه لا يفهم من نقل الأَصل، نقل التوابع، فلا يدخل واحد، فعلي الأَوّل يكونُ الدخول هو مقتضي القاعدة حتي يثبت خلافه بخلاف الثاني، فإنّه يكون عدم الدخول هو المطابق لمقتضي القاعدة حتي يثبت خلافه.

و نظير المقام توابع المبيع من اللجام و السرج و مفتاح الباب و غيرها، و بذلك تعرف انّه لا دور للقياس في حلّا لمسألتين خروجاً و عدمه، و إنّما يجب علي الفقيه أن يركز علي الملازمة العرفية بين النقلين و عدمها.

الخامس: العدول عن مقتضي الدليل إلي ما يستحسنه المجتهد

قد يطلق الاستحسان و يراد منه العدول عن مقتضي الدليل باستحسان المجتهد.

و هذا التعريف هو الظاهر من أكثر الأصوليين.

قال أبو الحسين البصري: الاستحسان هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الأَلفاظ لوجه أقوي منه، و هو في حكم الطاري علي الأَوّل «1».

و هذا هو الظاهر أيضاً من عبد الوهاب خلّاف حيث قال: الاستحسان في اصطلاح الأصوليين القائلين به هو العدول عن حكم اقتضاه دليل شرعي في واقعة إلي حكم آخر فيها لدليل شرعي اقتضي هذا العدول و هذا الدليل الشرعي المقتضي للعدول هو سند الاستحسان «2».

______________________________

(1) المعتمد في أُصول الفقه: 2- 296.

(2) عبد الوهاب خلّاف: مصادر التشريع الإِسلامي: 71.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 259

و علي هذا فلا يشترط في المعدول عنه كونه قياساً، كما لا يشترط في المعدول إليه كونه مثله بل يتلخص الاستحسان في العدول عن مضمون دليل إلي دليل آخر أقوي منه سواء أ كان المعدول عنه قياساً أم لا أو أ كان المعدول إليه قياساً أقوي أم لا.

و لنذكر مثالين: أ- انّ مقتضي قوله سبحانه: " وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا" «1» هو قطع يد السارق دون فرق بين عام الرخاء

و المجاعة، و لكن نقل عن عمر عدم العمل به في عام المجاعة.

ب- يقول سبحانه: " وَ الْوٰالِدٰاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلٰادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كٰامِلَيْنِ لِمَنْ أَرٰادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضٰاعَةَ" «2» و قد نقل عن الامام مالك إخراج الأُم الرفيعة المنزلة التي ليست من شأن مثلها أن ترضع ولدها، و علي هذا ينطبق تعريف الجرجاني: الاستحسان ترك القياس و الأَخذ بما هو أرفق للناس «3».

أقول: لا وجه للعدول عن إطلاق الآية الشامل لعام المجاعة و الأُم الرفيعة المنزلة و غيرهما إلّا بدليل، و يمكن أن يكون الدليل انصراف الآية عن الصورتين، و الانصراف يحدّد دلالة الدليل و يُتّبع الدليل في غير مورد الانصراف.

و لكن الذي يؤَاخذ علي هذا الاستعمال هو انّ تسمية الانصراف و أشباهه ممّا يوجب العدول عن الدليل الأَوّل بالاستحسان أمر غير صحيح.

و بعبارة أُخري: إذا كان هنا دليل علي العدول، و كان المورد يتمتع برصيد خاص، فما هو الوجه لاستعمال كلمة الاستحسان المريب، إذ من الواضح انّ استحسان شخص و استقباحه ما لم يعتمد علي دليل، لا يعدّان من مصادر التشريع؟

______________________________

(1) المائدة: 38.

(2) البقرة: 233.

(3) التعريفات: 13.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 260

و هنا نقطة جديرة بالإِشارة و هي انّ الاختلاف في تعريف الاستحسان الذي جعل من مصادر الفقه إلي هذا المستوي يعرب علي انّه لم يمتلك مفهوماً واضحاً حتي عرّف بتعاريف مختلفة.

إنّ الاختلاف في حجّية الاستحسان ناتج عن عدم دراسة مصادر التشريع حسب مراتبها، فإنّ تقديم دليل علي دليل آخر سواء كانا قياسين أو غيرهما فرع وجود الملاك للتقديم حتي تقدم إحدي الحجّتين علي الأُخري بملاك و ليس استحسان المجتهد منه أبداً، و علي القائلين بالاستحسان بالوجوه الأَربعة الأَخيرة أن يدرسوا ملاك تقدم الأَدلة

بعضها علي بعض.

مثلًا أن الخاص يقدم علي العام، و المقيّد علي المطلق، و النص علي الظاهر المخالف، و أحكام كل عنوان ثانوي كالضرر و الحرج علي أحكام كل عنوان أوّلي و غير ذلك فتقديم أيّ دليل علي آخر يجب أن يكون داخلًا تحت أحد هذه الملاكات و أمثالها ممّا قرّر في مبحث تعارض الأَدلّة و ترجيحها، لا تحت عنوان الاستحسان، و علي هذا لو فسروا الاستحسان بمعني تقدم أحد الدليلين علي الدليل الآخر بملاك موجب له، لاتفقت الشيعة أيضاً معهم.

و ممّا يرشد إلي ذلك انّ الأُستاذ «أبو زهرة» يعرف القياس و يقسمه إلي قسمين: أحدهما: استحسان القياس، و الآخر: استحسان سبب معارضة القياس، و يمثل للقسم الأَوّل بقوله: أن يكون في المسألة وصفان يقتضيان قياسين متباينين أحدهما ظاهر متبادر و هو القياس الاصطلاحي، و الثاني خفي يقتضي إلحاقها بأصل آخر فتسمي هنا استحساناً، مثل انّ المرأة عورة من قمة رأسها إلي قدميها، ثمّ أبيح النظر إلي بعض المواضع للحاجة، كرؤيَة الطبيب، فأعملت علة التيسير هنا في هذا الموضع «1».

______________________________

(1) أبو زهرة، أُصول الفقه: 247- 249.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 261

إنّ الأُستاذ و إن أصاب في تقديم الدليل الثاني علي الأَوّل و لكنّه لم يذكر وجهه، فانّ المقام داخل تحت العنوانات الثانوية فتقدم علي أحكام العنوانات الأَوّلية فقوله سبحانه: " وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" «1» يدلّ علي أنّ كلّ حكم حرجي مرفوع في الإِسلام و غير مشرّع فلو افترضنا انّ بدن المرأة عورة كله يجب عليها ستره، لكن هذا الحكم يختص بغير حالة الضرورة، و ذلك لتقدم أحكام العنوانات الثانوية كالضرورة و الاضطرار علي العنوانات الأَوّلية، فقوله (صلي الله عليه و

آله و سلم): «رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه» دليل علي إباحة الرؤيَة، فأي صلة لهذه المسألة بالاستحسان، و ما هذا إلّا لأَنّ القوم لم يقيّموا مصادر التشريع حسب مراتبها فأسموا مثل ذلك بالاستحسان.

و في الختام نذكر بعض ما استدل به علي حجّية الاستحسان

. الأَوّل: قوله سبحانه: " الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولٰئِكَ الَّذِينَ هَدٰاهُمُ اللّٰهُ وَ أُولٰئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبٰابِ" «2».

الثاني: قوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن «3».

يلاحظ علي الأَوّل: أنّه لا نزاع في الكبري و انّ عباد اللّه هم الذين يستمعون القول فيتّبعون ما هو الأَحسن، و لكن الكلام في أنّ الإِفتاء بشي ء ممّا لم يقم عليه دليل سوي استحسان المجتهد، هل هو اتّباع للَاحسن أو اتباع للهوي؟ و بعبارة أُخري القرآن يدعو إلي اقتفاء القول الأَحسن و هو الذي أدعمه العقل الصريح و الشرع المبين، و أين هذا من الإِفتاء بشي ء بمجرّد استحسان ذهن

______________________________

(1) الحج: 78.

(2) الزمر: 18.

(3) أبو الوليد الباجي: أحكام الفصول في أحكام الأصول: 688- 689؛ ابن حزم: الاحكام: 6- 196- 192.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 262

المجتهد ورائه من دون أن يقوم عليه دليل قطعي من عقل أو شرع؟! نعم إذا كان الإِفتاء مستنداً إلي دليل شرعي فهو حجّة قطعية و لا حاجة في جواز الإِفتاء إلي الاستدلال بالآية، بل يكفي دليل حجّيتها.

و منه يظهر انّ الحديث لا صلة له بالمقام، فإنّ المراد ما رآه المسلمون حسناً أي ما اتّفقت عليه عقولهم لا رأي واحد منهم.

بقي هنا أمر

: ربما يُمثّل للاستحسان بالموارد التالية و يدعي انّ النبي الأَعظم- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أفتي فيها به دون الوحي و انّه كان يجتهد كسائر الناس: أ- نهي رسول اللّه عن بيع المعدوم، و رخّص في السلم.

ب- نهي رسول اللّه عن بيع الرطب باليابس، و رخّص في العرايا.

ج- نهي رسول اللّه عن أن يخضد شجر مكة و أن يختلي خلاها و رخص

في الإِذخر.

يلاحظ علي المثال الأَوّل: أنّه لم يرد علي لسان الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قوله: «نهي رسول اللّه عن بيع المعدوم» و إنّما الوارد قوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا بيع ما ليس عندك» «1» و هو ناظر إلي بيع المبيع الشخصي الذي هو تحت يد الغير، فما لم يتملّكه البائع لا حق له في بيعه، لعدم جواز بيع ما لا يملك، و أين هو من بيع السلم الذي هو بيع شي ء في الذمة، فلم يكن ما صدر عن الرسول بنحو الضابطة شاملًا لبيع السلم حتي يكون الثاني استثناء من الأَوّل و مبنيّاً علي الاجتهاد و الاستحسان.

و منه يظهر حال المثال الثاني أعني: «نهي رسول اللّه عن بيع الرطب

______________________________

(1) لاحظ بلوغ المرام: 162، الحديث 820.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 263

باليابس».

فانّ نهي رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- إنّما كان منصبّاً علي المجنيّ من الثمرة، فنهي عن بيع الرطب باليابس، لئلا يلزم الربا، و إليك نصّ الحديث: عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر، فقال: «أ ينقص الرطب إذا يبس؟ قال: نعم، فنهي عن ذلك «1».

و علي ذلك فالنهي كان منصبّاً علي البيع الشخصي، أي تبديل الرطب المعيّن بعين يابس، و علي ضوء ذلك فلم يكن بيع العرايا داخلًا في النهي حتي يحتاج إلي الترخيص و يكون مبنياً علي الاستحسان.

و من ذلك يعلم انّ ما رواه زيد بن ثابت «انّ رسول اللّه رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلًا» «2» ليس بمعني انّه كان ممنوعاً، ثمّ رخصه رسول اللّه، بل بمعني

عدم تعلّق النهي به من بدء الأَمر، بخلاف المجنيّ.

و أمّا الثالث فلأَنّ استثناء الإِذخر من اختلاء خلاه ليس بمعني انّ النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) استثناه من تلقاء نفسه معتمداً علي الاستحسان، بل كان الحكم (لا يخضد شجر مكة و لا يختلي خلاها) غير شامل للِاذخر في الواقع إذ من المحتمل أنّ النبي كان مستعداً لبيان المخصص غير انّ عمه العباس لما سبقه و قال: إلّا الإِذخر، فأعقبه النبي و قال: إلّا الإِذخر، فزُعم انّ النبي قاله اجتهاداً أو استحساناً، و ما ذكرناه و إن كان احتمالًا، لكنّه يكفي في نقض الدليل و إسقاطه عن الصلاحية.

و قد مرّ الكلام فيه أيضاً عند البحث في اجتهاد النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- «3».

______________________________

(1) بلوغ المرام: 172، الحديث 865.

(2) بلوغ المرام: 173، الحديث 867.

(3) لاحظ صفحة 123 من هذا الجزء.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 264

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة 3

الاستصلاح أو المصالح المرسلة

اشارة

المصالح المرسلة عبارة «عن كلّ مصلحة لم يرد فيها نصّ يدعو إلي اعتبارها، أو عدم اعتبارها، و لكن في اعتبارها نفع أو دفع ضرر».

و هي من مصادر الفقه و الاستنباط عند المالكية و الحنابلة، دون الحنفية و الشافعية، فقد ذهب الأَوّلان إلي أنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه و لا إجماع، و انّ المصلحة المطلقة التي لا يوجد دليل من الشرع يدل علي اعتبارها و لا علي إلغائها مصلحة صالحة لأَن يبني عليها الاستنباط.

و المعروف من الحنفية انّهم لا يأخذون بالاستصلاح، و كذا الشافعية، حتي روي عن الشافعي انّه قال: من استصلح فقد شرّع، كما انّ من استحسن فقد شرّع، و الاستصلاح كالاستحسان

متابعة الهوي.

و قد اعتبرها الامام مالك بشروط ثلاثة: 1- أن لا تنافي إطلاق أُصول الشرع، و لا دليلًا من أدلّته.

2- أن تكون ضرورية للناس مفيدة لهم، أو دافعة ضرراً عنهم.

3- أن لا تمسّ العبادات، لأَنّ أغلبها لا يعقل لها معني علي التفسير.

و علي ذلك فالاستصلاح عبارة عن تشريع حكم في واقعة لا نصّ فيها و لا

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 265

إجماع، بناء علي مراعاة مصلحة مرسلة مطلقة «1».

و الفرق بين الأَدلة الثلاثة واضح.

فالقياس عبارة عن استنباط حكم الفرع عن الأَصل بحجّة اشتراكهما في العلّة.

و الاستحسان عبارة عن العدول عن مقتضي دليل إلي دليل آخر بوجه من الوجوه.

و أمّا الاستصلاح فهو عبارة عن حيازة المصلحة المطلقة في مورد، لم يرد من الشارع دليل لصيانتها و لا لِالقائها.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ الاستصلاح يتصوّر علي وجوه:

الأَوّل: تقديم المصلحة علي النصّ، و نبذ الآخر

إنّ الاستصلاح بهذا المعني تشريع محرّم و تقدّم علي اللّه و رسوله قال سبحانه: " يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ" «2» و الواجب علي كلّ مسلم، التجنّب عن هذا القسم من الاستصلاح فمن يتوهم المصلحة في سلب حق التطليق عن الزوج، أو منح الزوجة حق التطليق، لا يصحّ له التشريع، و لكن نجد مع الأَسف رواج هذا الأسلوب بين الخلفاء حيث كانوا يقدّمون المصلحة علي النص.

روي مسلم عن ابن عباس، قال: كان الطلاق علي عهد رسول اللّه و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد

______________________________

(1) الدكتور أحمد شلبي: تاريخ التشريع الإِسلامي: 172- 173.

(2) الحجرات: 1.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 266

استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.

2-

و روي عن ابن طاوس، عن أبيه: انّ أبا الصهباء قال لابن عباس: أ تعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة علي عهد النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و أبي بكر و ثلاثاً من خلافة عمر؟ فقال: نعم.

3- و روي أيضاً: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك «1» أ لم يكن الطلاق الثلاث علي عهد رسول اللّه و أبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم «2».

هذه النصوص تدل بوضوح علي أنّ عمل الخليفة لم ينطلق من الاجتهاد فيما لا نصّ فيه و لا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط، و إنّما كان عمله من الاجتهاد تجاه النص و نبذ الدليل الشرعي و السير وراء رأيه.

و من هذا القبيل: نهي الخليفة عن متعة الحجّ، و متعة النساء، و الحيعلة في الأَذان، و غير ذلك.

الثاني: تقييد النصّ بالمصلحة

روي أنّه جاء رجل إلي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و قال: هلكت يا رسول اللّه، قال: «ما أهلكك؟».

قال: وقعت علي امرأتي في رمضان، فقال: «هل تجد ما تعتق رقبته؟» قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، قال: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، ثمّ جلس فأُتي النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بعرق فيه تمر، فقال:

______________________________

(1) يقال في فلان هنات: أي خصلات شر، و لا يقال ذلك في الخير.

(2) صحيح مسلم 4، باب الطلاق ثلاثاً، الحديث 31.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 267

«تصدق بهذا» «1».

و مقتضي إطلاق الحديث كفاية كلّ من الخصال في مقام التكفير فالغني المفطر، له أن يكفر بالعتق كما

له التكفير بالأُخري، و لكن ربما يقال بتعيّن الصيام علي الغني، لأَنّه لا يكفّر ذنبه إلّا به، أي صوم شهرين متتابعين، لَانّه هو الرادع له عن العود إلي الإِفطار لا الإِطعام و لا عتق الرقبة، لعسر الأَوّل و يسر الثانيين.

و لكنّه تشريع تجاه النص و الاستصلاح في المقام، كالاستصلاح في القسم الأَوّل بدعة، غير انّه في الأَوّل بمعني نبذ النص من رأسه و في المقام نبذ لإِطلاقه.

إنّ هذا القسم من الاستصلاح ربما يعبر عنه بالأَخذ بروح القانون «2» و هو بذل الجهد للوقوف علي ملاك الحكم و مناطه الذي يقع التشريع وراءه و هو يكون أساساً لعملين: 1- إسراء الحكم ممّا فيه النصّ إلي ما ليس فيه إذا كان حائزاً للمناط، و هنا تلتقي المصالح المرسلة مع القياس.

2- تقييد إطلاق النص بالمناط و الاسترشاد بالمصلحة و الأَخذ بروح القانون لا بحرفيّته.

لكن تنقيح المناط في كلا الموردين محظور جدّاً سواء كان أساساً للقياس، أو كان سبباً لتقييد الدليل، فإنّ عقول الناس أقصر من أن تحيط بالمصالح و المفاسد فيكون الاستصلاح في كلا الموردين تشريعاً محرماً و باطلًا.

و علي هذا الأَساس المنهار، منع الخليفة إعطاء المؤَلّفة قلوبهم في أيّام خلافته قائلًا بأنّ مناط الحكم هو ضعف المسلمين و شوكة الكافرين فيصرف

______________________________

(1) بلوغ المرام: 136 برقم الحديث 695.

(2) أحمد أمين: فجر الإِسلام: 238، نشر دار الكتاب.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 268

شي ء من الزكاة فيهم، لكي يستعان بهم علي الكفار، و هو منتف الآن.

و بهذا، قيّد إطلاق الآية: " إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ الْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقٰابِ وَ الْغٰارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ

حَكِيمٌ" «1» و خصّصها بصورة الضعف.

و الاستصلاح بهذا المعني، فوق ما يرومه الأصوليون من أهل السنة و قد عرفت أنّ الامام مالكاً خصّ العمل به بما إذا توفّرت فيه الشروط الثلاثة التي منها أن لا تنافي إطلاق أُصول الشرع و لا دليلًا من أدلته.

فتلخص انّ الاستصلاح بالمعني الأَوّل و المعني الثاني بكلا قسميه خارج عمّا هو محط البحث لدي الأصوليين و إليك سائر الأَقسام.

الثالث: إنشاء الحكم فيما لا نصّ علي وفق المصلحة

إذا كان الموضوع ممّا لا نصّ فيه و لكن أدركنا بعقولنا وجود مصلحة فيه و إن لم يرد من الشارع أمر بالأَخذ، و لا بالرفض، فتشريع الحكم الشرعي علي وفقها هو الاستصلاح و لا مانع منه و يعلّله بعض المعاصرين بأنّ الحياة في تطوّر مستمرّ، و مصالح الناس تتجدّد و تتغير في كلّ زمن، فلو لم تشرع الاحكام المناسبة لتلك المصالح، لوقع الناس في حرج، و تعطّلت مصالحهم في كلّ الأَزمنة و الأَمكنة، و وقف التشريع عن مسايرة الزمن و مراعاة المصالح و التطوّرات، و هذا مصادم لمقصد التشريع في مراعاة مصالح الناس و تحقيقها «2».

يلاحظ عليه: أنّ لتشريع الحكم علي وفق المصلحة صوراً: الأولي: تشريعه في الأُمور العبادية التوقيفية، كتشريع الأَذان الثاني لصلاة

______________________________

(1) التوبة: 60.

(2) الزحيلي: الوجيز في أُصول الفقه: 94- و عبد الوهاب خلاف: مصادر التشريع الإِسلامي: 100.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 269

الجمعة لما كثر المسلمون و لم يكف الأَذان بين يدي الخطيب لِاعلامهم، فلا شكّ انّه تشريع محرّم و إدخال في الدين ما لم يأذن به اللّه، مع توفّر طرق أُخري لإِعلام المصلين، من دون لزوم التشريع كما هو واضح.

الثانية: إذا كان أصل الحكم منصوصاً بوجه كلي، و لكن فوّضت كيفية العمل به و تحقيقه علي صعيد

الحياة إلي الحاكم الشرعي، و ذلك مثل ما ذكروا من الأَمثلة، كإنشاء الدواوين أو سكّ النقود، و تكثير الجنود و غيرها فالمنصوص، هو حفظ بيضة الإِسلام، للحيلولة دون غلبة الكفار.

قال سبحانه: " وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ" «1» و قوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «الإِسلام يعلو و لا يعلي عليه» «2».

فعند ذلك فالحكم المنشأ علي وفق المصلحة ليس حكماً شرعياً أوّلياً، و لا حكماً شرعياً ثانوياً و إنّما هو حكم ولائي نابع من ولاية الحاكم علي اجراء القانون المنصوص عليه علي صعيد الحياة وفقاً للمصالح، و لذلك يدوم ما دام الحكم مقروناً بالمصلحة، فإذا فقد الملاك ينتفي.

و الأَولي تسمية هذا النوع من الاحكام، بالمقررات، لتمييزها عن الأَحكام الشرعية المجعولة الصادرة من ناحية الشرع.

فلو أُريد كون الاستصلاح مبدأ لهذا النوع من الحكم، فهو صحيح لكن يبدو انّه غير مراد للقائلين بكونه من مبادي التشريع و مصادره.

الثالثة: تشريع الحكم حسب المصالح و المفاسد العامة الذي اتفق عليه العقلاء، فلو افترضنا انّ موضوعاً مستجداً لم يكن له نظير في عصر النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-

______________________________

(1) الأَنفال: 60.

(2) الوسائل: الجزء 17، الباب 1 من أبواب موانع الإِرث، الحديث 11.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 270

و الأَئمّة المعصومين (عليهم السلام)، لكن وجد فيه مصلحة عامة للمسلمين أو مفسدة لهم، فالعقل يستقل بارتكاب الأولي و الاجتناب عن الثانية، فالعقل عندئذٍ لا يكون مشرِّعاً بل كاشفاً عن حكم شرعي دون أن يكون للمجتهد حقّ التشريع.

و ذلك كتعاطي المخدّرات فقد اتّفق العقلاء علي ضررها و إفسادها الجسم و الروح، فيكون الفعل كاشفاً عن حكم شرعي،

للملازمة بين الحكمين و عندئذ تكون قاعدة الاستصلاح من شعب حجّية العقل.

و مثله التلقيح الوقائي عند ظهور الأَمراض السارية كالجدري، و الحصبة و غيرهما فقد أصبح من الأُمور التي لا يتردد في صلاحيتها ذوو الاختصاص.

الرابعة: إذا استدعي العمل بالتشريع الإِسلامي حرجاً عاما أو مشقة للمجتمع الإِسلامي لأَجل ظروف و ملابسات مقطعية أو كان هناك تزاحم بين الحكمين الواقعيين، فللحاكم الإِسلامي رفع الحرج بتقديم أحكام العنوانات الثانوية علي أحكام العنوانات الأَوّلية ما دام الحرج باقياً أو تقديم الأَهم من الحكمين علي المهم، و هذا النوع من الاحكام ليست أوّلية، كوجوب الصلاة و لا ثانوية كالتيمم عند فقدان الماء، بل قوانين خوّلها الشارع إلي الحاكم الشرعي لما يتمتع به من ولاية علي الناس.

و علي ضوء ما ذكرنا ليس للفقيه، تصحيح الاستصلاح علي وجه الإِطلاق أو رفضه كذلك، بل لا بدّ من الإمعان في صورة و أقسامه.

و الذي تبين لي من إمعان النظر في قاعدة الاستصلاح انّ السبب من وراء جعلها من مصادر التشريع أُمور ثلاثة: الأَوّل: إهمال العقل كأحد مصادر التشريع بالمعني الذي أشرنا إليه أعني كونه كاشفاً عن التشريع الإلهي لا كونه مشرعاً بنفسه في مجالات خاصّة، هذا

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 271

من جانب و من جانب آخر واجه الفقهاء مصلحة حقيقية عامة أي ما ليست مصلحة شخصية فرأوا أنّ حيازتها أمر لازم فاخترعوا قاعدة الاستصلاح مع انّها في هذا المورد من شعب قاعدة حجّية العقل، فلو أضفوا علي العقل وصف الحجّية و اعتبروه من مصادر التشريع لاستغنوا عن تلك القاعدة.

الثاني: عدم دراسة أحكام العنوانات الأَوّلية و الثانوية كأدلّة الضرر و الحرج فإنّ الأَحكام الأَوّلية محددة بعدم استلزام إطلاقها الحرج و الضرر فإذا صارت موجبة

لأَحدهما يقدم حكمهما علي الأَحكام الأَوّلية.

و بذلك يستغني الفقيه عن قاعدة الاستصلاح مع مالها من الانطباعات المختلفة.

و بما ذكرنا يعلم ما في كلام الأُستاذ عبد الوهاب خلاف، حيث قال: إن الذين لا يحتجون بالمصلحة المرسلة إطلاقاً لا فيما لا نصّ علي حكمه و لا فيما ورد نص بحكمه قد سدوا باباً من أبواب اليسر و رفع الحرج في التشريع و أظهروا الشريعة قاصرة عن مصالح الناس و عن مسايرة التطورات «1».

و لنا معه وقفة قصيرة و هي انّ الذين قالوا بحجّية حكم العقل فيما له مجال القضاء فيه، قد فتحوا باباً من أبواب اليسر فيما لا نصّ علي حكمه و من وقف علي مكانة أحكام العنوانات الثانوية إلي أحكام العنوانات الأَوّلية فقد رفع الحرج في التشريع.

الثالث: انّ كلّ من كتب حول قاعدتي الاستصلاح و سد الذرائع لم يفرق بين الأَحكام الشرعية و الأَحكام الولائية الحكومية، فانّ الطائفة الأُولي أحكام شرعية جاء بها النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- لتبقي خالدة إلي يوم القيامة، و أمّا الطائفة الثانية

______________________________

(1) عبد الوهاب خلاف، مصادر التشريع الإِسلامي: 100.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 272

فإنّما هي أحكام مؤَقتة أو مقررات يضعها الحاكم الإِسلامي لرفع المشاكل العالقة في حياة المجتمع الإِسلامي.

و منه يتضح انّ ما مثلوا به لقاعدة الاستصلاح فإنّما هو في الواقع من صلاحيات الحاكم الشرعي، فمثلًا عدوا الأَمثلة التالية من مصاديق تلك القاعدة.

أ- إنشاء الدواوين.

ب- سكّ النقود.

ج- فرض الامام العادل علي الأَغنياء من المال ما لا بدّ منه كتكثير الجند و اعداد السلاح و حماية البلاد.

د.

سجن المتهم كي لا يفر.

إلي غير ذلك ممّا يعد من صلاحيات الحاكم الشرعي التي خوّلت إليه بغية تنظيم أُمور المجتمع في اطار

الاحكام الأَوّلية و الثانوية.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 273

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة 4

سدّ الذرائع

اشارة

الذريعة بمعني الوسيلة، و الذرائع جمعها، و هي من الأصول المعتبرة لدي المالكية و الحنابلة.

و قد عُرّف بتعاريف منها: «العمل الذي يعدّ حلالًا في الشرع، لكن الفاعل يتوصل به إلي فعل محظور».

أو: التذرّع بفعل جائز إلي عمل غير جائز.

إلي غير ذلك من التعاريف التي جمعها محمد هاشم البرهاني في كتابه «سد الذرائع في الشريعة الإِسلامية» «1».

و يوضحها الشاطبي بالمثال التالي: إذا اشتري شخص غنماً من رجل بعشرة إلي أجل، ثمّ باعها منه بثمانية نقداً، فقد صار مآل هذا العمل مقدمة لا كل الربا، لأنّ المشتري أخذ ثمانية و دفع عشرة عند حلول الأَجل.

فالقائل بسد الذرائع يمنع البيع الأَوّل تجنّباً عن الربا «2».

______________________________

(1) انظر ص 74.

(2) الشاطبي: الموافقات: 4- 112.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 274

يقول ابن قيم الجوزية في تقرير القاعدة: فإذا حرّم الربُّ تعالي شيئاً، و له طرق و وسائل تُفضي إليه، فإنّه يحرّمها و يمنع منها تحقيقاً لتحريمه و تثبيتاً له، و منعاً أن يقرب حماه، و لو أباح الوسائل و الذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم، و إغراءً للنفوس به، و حكمته تعالي و علمه يأبي ذلك كلّ الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبي ذلك، فإنّ أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شي ء ثمّ أباح لهم الطرق و الأَسباب و الذرائع الموصلة إليه لعدّ متناقضاً، و لحصل من رعيته و جنده ضدّ مقصوده، و كذلك الأَطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق و الذرائع الموصلة إليه، و إلّا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه

الشريعة الكاملة التي هي في أعلي درجات الحكمة و المصلحة و الكمال، و من تأمل مصادرها و مواردها علم أنّ اللّه تعالي و رسوله سدّ الذرائع المفضية إلي المحارم بأن حرّمها و نهي عنها.

ثمّ استدل بوجوه كثيرة علي إثبات تلك القاعدة بلغت تسعة و تسعين وجهاً «1» فمن أراد فليرجع إليها «2».

و قد أكثر الامام مالك العمل بهذه القاعدة حتي انّه أفتي لمن رأي هلال شوال وحده أن لا يفطر لئلا تقع ذريعة إلي إفطار الفسّاق، محتجين بما احتج به.

و لكن كان في وسع مالك أن يجوِّز له الإفطار عملًا بقول الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- «صوموا عند الرؤيَة و أفطروا عند الرؤية» «3» و في الوقت نفسه يمنعه عن التظاهر به، و يجمع بين القاعدتين.

______________________________

(1) إعلام الموقعين: 3- 147.

(2) إعلام الموقعين: 1713- 149.

(3) بلوغ المرام: برقم 271 باختلاف يسير.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 275

أدلّة القاعدة

اشارة

و قد استدلوا علي القاعدة بالكتاب و السنّة و الإِجماع:

الاستدلال بالكتاب
1- آية النهي عن سب الآلهة

قال سبحانه: " وَ لٰا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ فَيَسُبُّوا اللّٰهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ" «1».

" و قد نهي سبحانه عن سب آلهة المشركين لئلا يقع ذريعة لسبِّه سبحانه بغير علم.

2- آية النهي عن القول ب «راعنا»

قال سبحانه: " يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقُولُوا رٰاعِنٰا وَ قُولُوا انْظُرْنٰا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰابٌ أَلِيمٌ" «2».

و إنّما مُنعوا من مخاطبة الرسول بقولهم: «راعنا» لئلا يكون ذريعة لاستعمال اليهود إيّاه شتيمة له علي ما ذكره المفسرون.

قال الزمخشري في تفسير الآية: كان المسلمون يقولون لرسول اللّه (صلي الله عليه و آله و سلم) إذا ألقي إليهم شيئاً من العلم «راعنا» يا رسول اللّه، أي راقبنا و انتظرنا و تأنّي بنا حتي نفهمه و نحفظه، و كانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية، فلما سمعوا بقول المؤمنين «راعنا» افترصوه و خاطبوا به الرسول، و هم يعنون به تلك المسبَّة، فنُهي المؤمنون عنها و أمروا بما هو في معناه و هو انظرنا.

______________________________

(1) الانعام: 108.

(2) البقرة: 104.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 276

3- آية النهي عن حيازة الحيتان

قال سبحانه: " وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كٰانَتْ حٰاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتٰانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لٰا يَسْبِتُونَ لٰا تَأْتِيهِمْ كَذٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَفْسُقُونَ" «1».

نهاهم عن حيازة الحيتان يوم السبت لئلّا تقع ذريعة للاصطياد.

4- آية النهي عن التقرب من الشجرة

قال سبحانه: " وَ لٰا تَقْرَبٰا هٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونٰا مِنَ الظّٰالِمِينَ*" «2».

نهاهم عن التقرب، لأنّها ذريعة للأكل.

الاستدلال بالسنّة

قد استدلوا وراء الكتاب بما ورد في السنّة أوضحها: ما رواه معاذ بن جبل قال: كنت رديف رسول اللّه علي حمار يقال له عفير قال: فقال: «يا معاذ تدري ما حقّ اللّه علي العباد، و ما حقّ العباد علي اللّه؟» قلت: اللّه و رسوله أعلم، قال: «فانّ حقّ اللّه علي العباد أن يعبدوا اللّه، و لا يشركوا به شيئاً، و حقّ العباد علي اللّه عزّ و جلّ أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: قلت يا رسول اللّه: أ فلا أبشر الناس؟ قال: «لا تبشرهم فيتكلوا» «3».

الاستدلال بالإِجماع

اتّفقوا علي النهي عن إلقاء السم في أطعمة المسلمين المبذولة للتناول، بحيث يعلم أو يظن انّهم يأكلونها فيهلكون، و المنع عن حفر بئر خلف باب الدار في الظلام الدامس لئلا يقع فيها الداخل.

______________________________

(1) الأَعراف: 163.

(2) البقرة: 25.

(3) مسلم: الصحيح، شرح النووي: 1- 232.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 277

أقول:

يقع الكلام في مقامين

اشارة

: الأَوّل: تحليل القاعدة و تبيين مكانتها في علم الأصول.

الثاني: دراسة الأَمثلة الّتي فرّعوها عليها.

1- مكانة القاعدة في علم الأصول
اشارة

انّ قاعدة سدّ الذرائع ليست قاعدة مستقلة و إنّما ترجع لإحدي القاعدتين: الأولي: وجود الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة مقدمته (سد الذرائع).

فمغزي القاعدة عبارة عن أنّه إذا حُرِّم الشي ء، حرِّمت مقدماته و ذرائعه التي يتوصل الإِنسان بها، و هي مطروحة في كتب الأصول، فمنهم من حرّم مطلقَ المقدمة، و منهم من حرّم المقدمة الموصلة، و منهم من حرّم الجزء الأَخير من المقدمة بمعني العلّة التامة التي لا تنفك عن ذيها، و الأَخير هو المتعيّن، لانّ قبح الذريعة أو ممنوعيتها لأَجل كونها وسيلة للوصول إلي الحرام، فلا توصف بالحرام إلّا إذا كانت موصلة لا غير، و لا يتحقق الإيصال إلّا بالجزء الأَخير الذي يلازم وجود المبغوض.

و علي ضوء ذلك فلا يصحّ لنا الحكم بحرمة كلّ مقدمة للعمل المحظور، إلّا إذا انتهي إلي الجزء الأَخير من المقدمة الذي لا ينفك عن المحظور.

و إلي ذلك يرجع النهي عن حيازة الحيتان يوم السبت، أو النهي عن التقرب من الشجرة.

الثانية: الإعانة علي الإثم التي أفتي الفقهاء علي حرمتها، مستدلين بقوله سبحانه: " وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ" «1».

بناءً علي انّ التعاون يعمّ الإِعانة الجماعية و الفرديّة، و من هذا القبيل سبّ آلهة المشركين الذي يثير حفيظتهم إلي سبّ اللّه سبحانه، أو خطاب النبي بقولهم: «راعنا» و الذي يحرك الآخرين

______________________________

(1) المائدة: 2.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 278

لاستعماله في هتك حرمة النبي، فليس لنا أصل باسم سدّ الذرائع، و إنّما مرجعه إلي إحدي القاعدتين.

مناقشة حديث معاذ

بقي الكلام في الحديث الذي نقلناه عن معاذ، و لنا معه وقفة قصيرة.

أ- انّ ما نقله عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- من حقّ العباد علي اللّه و أمره بكتمانه، فقد

جاء في الذكر الحكيم و لم يكتمه سبحانه حيث قال: " إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ*" «1» قوله سبحانه: " قُلْ يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَليٰ أَنْفُسِهِمْ لٰا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" «2» و قوله تعالي: " وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّٰاسِ عَليٰ ظُلْمِهِمْ «3» حالة كونهم ظالمين و عاصين، إلي غير ذلك من الآيات الدالة علي غفرانه سبحانه لذنوب عباده.

ب- لو صحّ الحديث، فقد أمر النبي معاذاً بالكتمان، فلما ذا أفشي سره و ارتكب الحرام مع انّه كسائر الصحابة عدل؟

2- دراسة بعض الفروع المبنية عليها

ذكر بعض الكتّاب المعاصرين تطبيقات عملية لهذه القاعدة نسرد بعضها: 1- الاجتهاد لاستنباط أحكام الوقائع أمر مقرر مشروع، لكنَّ في الاجتهاد الفردي في هذه الأَيّام مفسدة ينبغي التحرّز عنها و سدّ أبوابها بأن تؤَلف مجالس تَضُم كبارَ العلماء المختصين في مختلف علوم الشريعة و أبوابها و يسند إليها أمر الاجتهاد.

______________________________

(1) النساء: 48.

(2) الزمر: 53.

(3) الرعد: 6.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 279

أقول: إنّ الحقيقة بنت البحث، و الاختلاف إذا نشأ عن نيّة صادقة يؤَدي إلي نضج العلم و تكامله، و لذلك يُعدّ الاجتهاد الجَماعي أوثقَ و أقوي، و لكن إذا بلغ الرجل مبلغَ الاجتهاد، فمنعه عن الاجتهاد و العمل برأيه و الإفتاء به، أمر بالمنكر و صدّ عن العمل بالواجب.

2- ترجمة القرآن إلي اللغات الأَجنبية فزعم القائل عدم جوازه سدّاً لذريعة التبديل و التغيير و التحريف.

مضافاً إلي أنّ اللغات الأَجنبية لا تسع لمعاني القرآن العميقة و الدقيقة.

يلاحظ عليه: لا شكّ انّ ترجمة القرآن بأيّ لغة كانت لا تواكب معاني القرآن العميقة، و هذا أمر ليس

بحاجة إلي برهنة، و لكن الحيلولة بين القرآن و ترجمته، يوجب سدَّ باب المعرفة للأُمم التي لا تجيد اللغة العربية، فإذا أقرّ المترجم في مقدمة ترجمته بما ذكرناه و انّ ترجمته اقتباس ممّا جاء في الذكر الحكيم فعندها سترتفع المفسدة، فتكون الترجمة ذات مصلحة خالية من المفسدة.

ثمّ إنّ النص القرآني محفوظ بين المسلمين فهو المرجع الأَصيل دون الترجمة.

3- تدخل الدولة في أيّام الازمات و الحروب لتحديد الأسعار، و الأُجور و الخدمات و تنظيم الحياة العامة علي نحو معين لحماية الضعفاء من أرباب الجشع و الطمع علي أن يتجاوز حدّ الضرورة.

أقول: المراد من مصادر التشريع، ما يقع في طريق استنباط الأَحكام الشرعية التي أمر النبي بابلاغها، للناس و هي أحكام ثابتة عبر الاجيال و القرون.

و أمّا جواز تحديد الأَسعار، فليس من الأَحكام الشرعية بالمعني المتقدّم، بل هو حكم حكومي، يعدّ من حقوق الحاكم و اختياره، فلو مسّت الحاجة إلي التسعير قام به، و إلّا ترك الناس و الأَجناس بحالها، فعدّ سدّ الذرائع من مصادر التشريع، و استنتاج جواز تحديد الأَسعار منه واقع في غير محلّه.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 280

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة 5

الحيل (فتح الذرائع)

اشارة

إنّ فتح الذرائع من أُصول الحنفية كما أنّ سدّ الذرائع من أُصول المالكية، و يسمّي الأَوّل بالمخارج من المضايق، و التحيّل علي إسقاط حكم شرعي، أو قلبه إلي حكم آخر.

و قد صارت هذه القاعدة مثاراً للنزاع و سبباً للطعن بالحنفية، حيث إنّ التحيّل لإِبطال المقاصد الشرعية لأَجل أحد أمرين: إمّا نفي الحكمة المقصودة من الأَحكام الشرعية حتي يصير المكلّف ناظراً إلي الصور، و الأَلفاظ لا إلي المقاصد و الأَغراض.

و أمّا الاجتراء علي إبطال الحكمة الشرعية بما

يُرضي العامة، و هذه نزعة إسرائيلية معروفة تشهد بها آية السبت في سؤر مختلفة «1».

إنّ ذهاب الحنفية إلي هذه القاعدة أثار حفيظة الآخرين، ممّا حدا بالبخاري

______________________________

(1) ذكر أهل السبت في خمسة مواضع من القرآن: البقرة- 65 66، النساء- 154- 155، الأَعراف- 163، النحل- 124، و قد جاء لعنهم في سورة النساء- 47 قال سبحانه: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمٰا لَعَنّٰا أَصْحٰابَ السَّبْتِ).

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 281

أن يعقد باباً خاصّاً للرد علي القاعدة معبّراً عن أبي حنيفة، بقوله: «قال بعض الناس» و إليك الباب و ما فيه: «باب» إذا غصب جارية فزعم أنّها ماتت، فقُضي بقيمة الجارية الميتة، ثمّ وجدها صاحبها فهي له و يرد القيمة، و لا تكون القيمة ثمناً ثمّ أضاف البخاري قائلًا: و قال بعض الناس: الجارية للغاصب لأَخذه القيمة، ثمّ أخذ البخاري بالردّ عليه بقوله: «و في هذا احتيال لمن اشتهي جارية رجل لا يبيعها فغصبها و اعتلّ بأنّها ماتت حتي يأخذ ربُّها قيمتها، فيطيب للغاصب جارية غيره، قال النبيّ- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «أموالكم عليكم حرام، و لكلّ غادر لواء يوم القيامة» «1».

و من أكثر الناس ردّاً للحيل الحنابلة، ثمّ المالكية، لأَنّهم يقولون بسدِّ الذرائع، و هو أصل مناقض للحيل تمام المناقضة.

يقول ابن قيم الجوزيّة: إنّ هؤلاء المحتالين الذين يُفتون بالحيل التي هي كفر أو حرام، ليسوا مقتدين بمذهب أحد من الأَئمّة، و انّ الأَئمّة أعلم باللّه و رسوله و دينه و أتقي له من أن يفتوا بهذه الحيل «2» فقد قال أبو داود في مسائله: سمعتُ أحمد و ذكر أصحاب الحيل يحتالون لنقض سنن رسول اللّه، و قال في رواية أبي الحارث الصانع: هذه هي الحيل التي

وضعوها، عَمِدوا إلي السنن و احتالوا لنقضها.

و الشي ء الذي قيل لهم انّه حرام احتالوا فيه حتي أحلُّوه، قالوا: الرهن لا يحلّ أن يستعمل، ثمّ قالوا: يحتال له حتي يستعمل فكيف يحل بحيلة ما حرم اللّه

______________________________

(1) البخاري: الصحيح: 9- 32، كتاب الإكراه.

(2) لا يخفي ما في كلامه من المبالغة فإنّ الحنفية و علي رأسهم أبو حنيفة قد ابتدع تلك القاعدة، فكيف نزّهه عنها؟.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 282

و رسوله؟ و قال- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم، فأذابوها، فباعوها، و أكلوا أثمانها، أذابوها حتي أزالوا عنها اسم الشحم» «1».

و لمّا كان ابن القيم من المتعصبين للمذهب الحنبلي خصّص الجزء الثالث و قسماً من الرابع في القاعدتين، فاستدل علي قاعدة سد الذرائع بتسعة و تسعين وجهاً «2».

كما بسط الكلام في قاعدة الحيل، و استوعب قسماً كبيراً من الجزء الثالث و قسماً من الجزء الرابع فخصص 361 صفحة لإبطال هذه القاعدة، و ضرب أمثلة كثيرة لها ناهزت 116 مثالًا.

و قد استدل المثبتون لها بالكتاب و السنّة

الاستدلال بالكتاب
1- قوله سبحانه: " وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لٰا تَحْنَثْ إِنّٰا وَجَدْنٰاهُ صٰابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّٰابٌ" «3»

. روي المفسرون أنّ أيّوب قد حلف علي ضرب امرأته بمائة سوط، فأمره سبحانه أن يجمع مائة من شماريخ «4» و يجعلها ضِغثاً، و يضربها مرة واحدة، و كأنّه ضربها مائة سوط، فذلك تحلة أيمانه.

______________________________

(1) ابن قيم الجوزية: اعلام الموقعين: 3- 191.

(2) اعلام الموقعين: 3 171- 147.

(3) سورة ص: 44.

(4) جمع الشمراخ غصن دقيق ينبت في أعلي الغصن الغليظ.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 283

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بالآية غير صحيح، لاحتمال أن يكون ذلك الحكم تخفيفاً من اللّه سبحانه في حقّ أيّوب لمّا صبر طيلة سنين متمادية حتي وصفه اللّه سبحانه بقوله: " إِنّٰا وَجَدْنٰاهُ صٰابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ" فهذا النوع

من التخفيف كان جزاءً له علي صبره، و تخفيفاً عن امرأته و رحمة بها.

و لو كان هذا الحكم عاما لما خفي علي أيوب- عليه السّلام- و هو نبي من أنبيائه سبحانه وسع اللّه صدره بالعلم.

و ما ربما يقال من أنّ الخصوصية لا تثبت إلّا بدليل «1»، و إن كان صحيحاً و لكن الدليل هو التعليل الوارد في الآية.

2- و قوله سبحانه: " وَ قٰالَ لِفِتْيٰانِهِ اجْعَلُوا بِضٰاعَتَهُمْ فِي رِحٰالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهٰا إِذَا انْقَلَبُوا إِليٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" «2»

. حيث جعل يوسف- عليه السّلام- صواعه في رحل أخيه ليتوصل بذلك إلي أخذه و كيد إخوته «3».

يلاحظ عليه: أنّ يوسف- عليه السّلام- توصّل بالحلال إلي الحلال، و هو أخذ الأَخ و لم يكن غير راض بذلك في الواقع كما و لم يكن قصده بذلك إيذاء إخوته و لا إيذاء أبيه.

أمّا الأَوّل فواضح إذ لو كان قاصداً ذلك لعاقبهم بغير هذا الأسلوب و أمّا الثاني فلأنّ الوالد كان واقفاً علي أنّ أخا يوسف سيحاصر، حيث قال لهم:

______________________________

(1) الحجوي الثعالبي: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإِسلامي: 2- 491.

(2) يوسف: 62.

(3) اعلام الموقعين: 3- 224.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 284

" قٰالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّٰي تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللّٰهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلّٰا أَنْ يُحٰاطَ بِكُمْ" «1».

و الظاهر من الكتاب العزيز أنّ يوسف قام بذلك بأمر من اللّه سبحانه حيث قال: " كَذٰلِكَ كِدْنٰا لِيُوسُفَ مٰا كٰانَ لِيَأْخُذَ أَخٰاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلّٰا أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ" «2» أمره سبحانه بذلك ليبلغ الكتاب أجله و يتم البلاء الذي أحاط بيعقوب و يوسف و تبلغ حكمة اللّه تعالي التي قضاها لهم نهايتها.

الاستدلال بالسنّة

استدلّوا من السنّة بما رواه البخاري، عن أبي هريرة، و أبي سعيد الخدري، أنّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- استعمل رجلًا علي خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: أ كلّ تمر خيبر هكذا؟» قال: لا و اللّه يا رسول اللّه ص انّا لنأخذ الصاعَ من هذا، بالصاعين، و الصاعين بالثلاثة، فقال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثمَّ ابتع بالدراهم جنيباً» «3».

و الجمع نوع من تمر خيبر

ردي ء، و الجنيب نوع جيد، و لم يفصّل بين أن يكون البيع من رجلين أو رجل واحد.

و سيوافيك الكلام عنها فانتظر.

______________________________

(1) يوسف: 66.

(2) يوسف: 76.

(3) اعلام الموقعين: 3- 202، لاحظ بلوغ المرام برقم 855.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 285

القول الحاسم في فتح الذرائع (الحيل)

انّ الموافق و المخالف لفتح الذرائع قد أطنبوا الكلام في المقام، و كلّ تمسك بوجوه من الأَمثلة الفقهية، فلنذكر ما يحسم الموقف و يزيل الخلاف فنقول: إنّ الحيل التي يثبت بها علي أقسام: 1- أن يكون التوصل بالوسيلة منصوصاً في الكتاب و السنة، و ليس المكلّف هو الذي يتحيّلها بل أنّ الشارع هو الذي جعلها سبباً للخروج عن المضايق، نظير تجويز السفر في شهر رمضان لغاية الإفطار، قال سبحانه: " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَليٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" «1».

فَخيَّر المكلّف بين البقاء في بلده فيصوم، و الخروج عنه فيفطر، فالخروج عن ضيق الصوم بالسفر ممّا أرشده إليه الشارع.

و ليس بايعاز من المكلّف نفسه.

و نظير تجويز نكاح المطلقة ثلاثاً بعد التحليل، إذ من المعلوم انّه من طلّق زوجته ثلاثاً حرمت عليه أبداً قال سبحانه: " فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلٰا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ" و في الوقت نفسه فانّ الشارع قد أرشده إلي الخروج من هذا المازق بقوله: " حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يَتَرٰاجَعٰا إِنْ ظَنّٰا أَنْ يُقِيمٰا حُدُودَ اللّٰهِ" «2».

______________________________

(1) البقرة: 185.

(2) البقرة: 230.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 286

فلا أظن فقيهاً من الحنابلة و المالكية يري مثل هذا التحيّل أمراً قبيحاً، أو علي خلاف المصلحة، فإنّ معني ذلك هو رفض التشريع الإِلهي، بل

يمكن أن يقال: انّ هذا القسم خارج عن محلّ الكلام، لاختلاف موضوعي الحكمين، فقد وجب الصوم علي الحاضر، و الإفطار علي المسافر، و مثله المطلقة ثلاثاً، إن تزوجت بعده و طُلقت.

2- إذا كان هناك أمر واحد له طريقان، أحلّ الشارع أحدهما و حرّم الآخر، فلو سلك الحلال لا يعدّ ذلك تمسكاً بالحيلة، لانّه اتخذ سبيلًا حلالًا إلي أمر حلال.

و مثاله: انّ مبادلة التمر الردي ء بالجيّد تفاضلًا ربا محرّم، و لكن بيعَ كلّ علي حدة أمر جائز، و إن كانت النتيجة في كلا الأَمرين واحدة، و لكن الحرام هو سلوك الطريق الثاني لا الأَوّل.

و هذا القسم خارج عن محلّ النزاع أيضاً، لأَنّه فيما إذا احتال و توصل بالحلال إلي الحرام، و أمّا هنا فقد توصل بالحلال إلي الحلال.

و قد مرّ في كلام النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

3- إذا كان السبب غير مؤَثر في حصول النتيجة شرعاً، فالتوصل في مثله محرّم غير ناتج، و ذلك كالمثال الذي نقله الإِمام البخاري ردّاً علي أبي حنيفة و إن لازم كلامه هو أنّه إذا غصب جارية، فزعم انّها ماتت فقضي القاضي بقيمة الجارية الميتة، فالجارية للغاصب و إن تبيّن بعدُ انّها حيّة، و ليس لصاحبها أخذها إذا وجدها حية».

و غير خفي انّ زعم الغاصب موت الجارية لا يخرجها عن ملك صاحبها، و لا يوجب اشتغال ذمة الغاصب بقيمتها، بل تبقي الجارية علي ملكية المالك، فلو

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 287

بان أنّها حيّة انكشف انّ القضاء بردّ القيمة كان باطلًا من أصله.

و من خلاله ظهر انّ السبب (زعم الغاصب موت الجارية) غير مؤَثر في الانتقال فلا تقع ذريعة لتملّكها، و هو الذي رتب عليها البخاري ردا علي

أبي حنيفة و قال: إنّه يحتال من اشتهي جارية رجل لا يبيعها، فغصبها و اعتلّ بأنّها ماتت حتي يأخذ ربّها قيمتها، فيطيب للغاصب جارية غيره.

لما عرفت من أنّ إخبار الغاصب بموت الجارية جازماً لا يكون سبباً لخروج الجارية عن ملك صاحبها و خروج قيمتها عن ملك الغاصب، فكيف إذا كان عالماً بالخلاف و كاذباً في الاخبار؟ فعدم جواز التحيّل في هذه المسألة يعزّي إلي انّ السبب حلالًا كان أو حراماً غير مؤَثر فيه.

4- إذا كانت الوسيلة حلالًا، و لكن الغاية هي الوصول إلي الحرام علي نحو لا تتعلّق إرادته الجدّية إلّا بالمحرم و لو تعلّقت بالسبب فإنّما تتعلق به صورياً لا جدياً، كما إذا باع ما يسوي عشرة بثمانية نقداً، ثمّ اشتراه بعد بعشرة نسيئة إلي شهرين فمن المعلوم أنّ إرادته الجدية تعلّقت باقتراض ثمانية و دفع عشرة، و حيث إنّ ظاهره ينطبق مع الربا، فاحتال ببيعين مختلفين مع عدم تعلّق الإِرادة الجدية بهما، فيكون عندها التحيّل أمراً محرماً، و إلي ذلك يشير قوله سبحانه في سورة الأَعراف: " وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كٰانَتْ حٰاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتٰانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لٰا يَسْبِتُونَ لٰا تَأْتِيهِمْ كَذٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَفْسُقُونَ" «1».

فانّ الغرض من تحريم الاصطياد في السبت هو امتحانهم في أُمور الدنيا، و لكنّهم توصلوا بحيلة مبطلة لغرضه سبحانه، و هي حبس الحيتان عن الخروج إلي

______________________________

(1) الأَعراف: 163.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 288

البحر يوم السبت لغاية الاصطياد يوم الأَحد، فكيف يمكن أن يكون مثل هذا التحيّل أمراً جائزاً؟ و منه يعلم أنّ أكثر الحيل المطروحة للمرابين أمر محرّم، لعدم تعلّق الإِرادة الجدّية بصورة المعاملة و إنّما

تعلقت بالنتيجة و هو أخذ الفائض.

هذا هو القول الحاسم في العمل بالحيل حسب ما طرحه علماء السنّة في المقام، و بذلك خرجنا بالنتائج التالية: 1- إذا كان الشارع هو الذي أرشد إلي الخروج عن المضايق، أو أنّه لم يُشِرْ إلي الخروج، و لكن جعل لأَمر واحد طريقين، حرّم أحدهما و أحلّ الآخر، فهاتان الصورتان خارجتان عن محطّا لبحث.

2- إذا كان السبب غير مؤَثر في حصول النتيجة، و التوصل به للوصول إلي الحلال توصلًا باطلًا لافتراض أنّه غير مؤَثر في نظر الشارع، كالجارية المغصوبة التي يزعم الغاصب موتها كذباً و يكتم حياتها، ففي مثله لا يكون الخروج عن الغرامة بدفع القيمة مؤَثراً في تملك الجارية.

3- إذا كانت الغاية من التوصّل بالأَمر الحلال صوريّاً و تعلّقت الإِرادة الجدية بالأَمر الحرام فالتوصل بها حرام، نظير توصل أصحاب السبت إلي اصطياد الحيتان بحفر جداول قرب البحر لحيازتها يوم السبت و اصطيادها يوم الأَحد، أو بيع الشي ء نقداً بثمانية و اشترائه نسيئة بعشرة.

و لذلك قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: قاتل اللّه اليهود انّ اللّه تعالي لما حرّم عليهم شحومها جملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه «1».

______________________________

(1) بلوغ المرام: برقم 801- و جملوه: أي جمعوه ثم أذابوه احتيالًا علي الوقوع في المحرم.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 289

ثمّ إنّ علماء الشيعة تطرّقوا لفتح الذرائع في آخر كتاب الطلاق، و أطنبوا القول فيه كالمحقّق في «الشرائع» «1» و الشهيد الثاني في «مسالك الافهام» «2» و المحدث البحراني في «الحدائق» «3» و لنذكر كلام شيخنا الشهيد الثاني، قال عند شرح قول المحقّق: يجوز التوصل بالحيل المباحة دون المحرمة في إسقاط ما لولا الحيلة تثبت.

هذا باب واسع في جميع أبواب

الفقه، و الفرق هو التوصل إلي تحصيل أسباب يترتب عليها أحكام شرعية، و تلك الأَسباب قد تكون محلّلة و قد تكون محرمة، (و ربما تكون محكومة بالأَحكام الخمسة) و الغرض من ذكرها تعليم الفقيه الأَسباب المباحة، و أمّا المحرمة فيذكرونها بالعرض، ليعلم حكمها علي تقدير وقوعها.

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 3- 31- 33.

(2) زين الدين العاملي: المسالك: 9- 203- 210.

(3) يوسف البحراني: الحدائق: 25- 375.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 290

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة 6

قول الصحابي

اشارة

يعدُّ الأَئمّة الثلاثة غير أبي حنيفة قولَ الصحابي من مصادر التشريع، و ربما ينقل عنه أيضاً خلافه، لكن المعروف انّه لا يعترف بحجية قول الصحابي.

و المهم في المقام هو تحرير محل النزاع و تعيين موضوعه، فإنّه غير منقّح في كلامهم.

لا شكّ انّه لو نقل الصحابي سنّة الرسول يؤخذ به بالإِجماع عندهم، و عندنا إذا اجتمعت فيه شرائط الحجّية.

و هذا خارج عن محل البحث.

كما إذا اتّفق سائر الصحابة علي رأي الصحابي؛ فمن قال بحجّية الإِجماع بما هو هو، أو لكشفه عن وجود الحجّة في البين، يكون قوله حجّة، لأَجل انعقاد الإِجماع عليه.

و هذا أيضاً خارج عن محل البحث.

فينحصر النزاع في الموارد الثلاثة التالية

1- قول الصحابي إذا نقل الصحابي قولًا

، و لم يُسْنده إلي الرسول، و دلّت القرائن علي انّه نقلُ قول لا نقلُ رأي فهل هو حجّة أو لا؟ لاحتمال كونه ناقلًا قول الرسول، أو قول

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 291

غيره، و هذا ما يطلق عليه «الموقوف» لوقف النقل علي الصحابي دون أن يتجاوز عنه إلي غيره.

2- رأي الصحابي إذا نقل رأيه و استنباطه

من الكتاب و السنّة و ما فهمه منهما، فهو حجّة له و لمقلِّديه، إنّما الكلام في كونه حجّة لسائر المجتهدين.

3- قوله المردّد بين النقل و الرأي

إذا تردّد بين كونه نقلَ قول أو نقلَ رأيٍ؛ فلو قلنا بحجّية قوله ورائه، يكون حجّةً في المقام بخلاف ما لو خصّصنا الحجّية بنقل القول دون الرأي، فيقع الكلام في حجّية النقل المردّد بين القول و الرأي.

هذه هي الصور الثلاث التي تصلح لَان تقع محلا لورود النفي و الإِثبات.

و أمّا الأَقوال، فمن قائل بحجّية ما روي عن الصحابي، إلي آخر ناف لها، إلي ثالث يفصّل بين كون المنقول موافقاً للقياس فليس بحجّة و كونه مخالفاً له فهو حجّة.

إذا وقفت علي الصور المتصوّرة لمحلّ النزاع و الأَقوال، فلنأخذها بالدراسة

1- الحجّة هو قول الصحابي لا رأيه

يظهر من السرخسي انّ محلّ النزاع هو الصورة الأُولي، فقد حاول في كلام مبسوط أن يثبت انّ قول الصحابي ظاهر في أنّ مستنده هو قول النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و إن لم يسنده إليه ظاهراً، يقول:

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 292

لا خلاف بين أصحابنا المتقدّمين و المتأخرين انّ قول الواحد من الصحابة حجّة فيما لا مدخل للقياس في معرفة الحكم فيه، و ذلك لأَنّ أحداً] منهم [لا يظن بهم المجازفة في القول، و لا يجوز أن يحمل قولهم في حكم الشرع علي الكذب؛ فإنّ طريق الدين من النصوص إنّما انتقل إلينا بروايتهم، و في حمل قولهم علي الكذب و الباطل قولٌ بفسقهم، و ذلك يبطل روايتهم.

فلم يبق إلّا الرأي أو السماع ممّن ينزل عليه الوحي، و لا مدخل للرأي (القياس) في هذا الباب، فتعيّن السماع و صار فتواه مطلقاً كروايته عن رسول اللّه، و لا شكّ انّه لو ذكر سماعه من رسول اللّه لكان ذلك حجّة لإِثبات الحكم به، فكذلك إذا أفتي به و لا طريق لفتواه إلّا السماع، و لهذا قلنا: إنّ قول الواحد منهم فيما لا يوافقه القياس يكون حجّة

في العمل به كالنص يترك القياس به «1» و خلاصة كلامه: أنّ قول الصحابي إن كان موافقاً للقياس نحدس بأنّه رأيه و نظره استند إلي القياس فلا يكون حجّة للمجتهد الآخر، و أمّا إذا كان مخالفاً للقياس، فلا يكون لقوله مبدأ سوي السماع عن الرسول و يكون حجّة.

يلاحظ علي كلامه بوجوه: الأَوّل: أنّ كلامه مبنيّ علي أنّ للاجتهاد دعامتين: إحداها: القياس، و الأُخري: النص.

فإذا كان قول الصحابي مخالفاً للقياس، فيكون دليلًا علي أنّه اعتمد علي النص و نقله، و لكنّك خبير بأنّ للاجتهاد دعامات أُخري، فمن الممكن أن يستند

______________________________

(1) أُصول السرخسي: 2- 110 بتلخيص.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 293

في قوله إلي إطلاق الآية و ليس لها إطلاق، أو عموم دليل و ليس بعام، و علي كلّ تقدير استنتج الحكم من دليل لو وصل إلينا لم نعتبره دليلًا، فمع هذا الاحتمال لم يبق وثوق بأنّه سبحانه أذن في الإِفتاء وفق قوله.

الثاني: أنّ أقصي ما يمكن أن يقال هو الظنّ بأنّه استند إلي النّص، لا القطع، و من المعلوم أنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، بل يجب أن يحرز أنّه استند إلي النص، فيكون ممّا أذن اللّه أن يفتي به، فما لم يحرز اعتماده علي النصّ إحرازاً علمياً، يدخل الإفتاء به تحت قوله سبحانه: " آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللّٰهِ تَفْتَرُونَ" «1».

الثالث: لو كان قول الصحابي مستنداً إلي سماعة عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، أو عمّن سمعه من النبي، لم يكن يترك ذكره، لما فيه من الشرف و المفخرة له، بشهادة أنا نجد اهتمام الصحابة بنقل كلّ ما يمتّ إلي النبي بصلة من دقيق و جليل و قول و فعل

و تقرير و تصديق.

فالافتاء بلا ذكر السماع يُشرف الفقيه علي القطع بأنّ ما نقله الصحابي هو في الواقع اجتهاد منه، و بذلك لا يبقي أيّ اطمئنان و وثوق بمثل هذا القول.

و هناك حقيقة مرّة، و هي انّ حذف قول الصحابي من الفقه السنّي يوجب انهيار صرح البناء الفقهي الذي أشادوه، و تغيّر القسم الأَعظم من فتاواهم، و حلول فتاوي أُخر محلّها ربما استتبع فقهاً جديداً لا أُنس لهم به.

و منه يظهر ضعف ما جاء به بعض المعاصرين حيث يقول في جملة كلامه:

______________________________

(1) يونس: 59.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 294

إنّ الصحابة هم الذين عاصروا رسول اللّه ص و نقلوا أقواله و أفعاله، فكانوا أعرف الناس بأسرار التشريع الإِسلامي و مصادره و موارده، فمن اتّبعهم فهو من الذين قال اللّه فيهم: " وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسٰانٍ" ثمّ نقل عن الإِمام أبي حنيفة، أنّه كان يقول: إذا لم أجد في كتاب اللّه و لا سنّة رسول اللّه، أخذت بقول من شئت من أصحابه، و تركت من شئت، و لا أخرج من قولهم إلي قول غيرهم «1».

يلاحظ عليه بأمرين: 1- كونهم أعرف بأسرار التشريع لا يلازم كون المنقول ممّا سمعه، إذ من المحتمل انّه استنبطه من الأَدلّة بحجّة أنّهم أعرف بأسرار التشريع.

2- انّما نقله من أبي حنيفة يدلّ علي حرمة الخروج عن أقوال الصحابة إذا علم إجمالًا أن الحقّ غير خارج عن أقوالهم المتعارضة، و أين هذا من الأَخذ بقول كلّ صحابي و إن لم ينحصر الحقّ في قوله؟! و هناك نكتة أُخري و هي انّ الصحابة لو كانوا مقتصرين في مقام الأَخذ، علي سنّة الرسول فقط كان لما ذكره وجه، و لكنّهم مع الأَسف لم يقتصروا عليها،

بل أخذوا من مستسلمة أهل الكتاب، فقد أخذ أبو هريرة و ابن عباس من كعب الأَحبار الذي عدّوه من أوعية العلم كثيراً، كما أخذ عنه و عن أضرابه كتميم الداري غيرهما من الصحابة.

و الحاصل: انّ الحجّة هو العلم بأنّه بصدد نقل سنة الرسول سواء أ كان مصيباً أم مخطئاً، و أمّا إذا ظنّ بأنّه كذلك فليس بحجّة و ما دلّت من الأَدلّة علي

______________________________

(1) الدكتور شعبان محمد إسماعيل: مصادر التشريع الإِسلامي: 269 277؛ و لاحظ كتاب الأمّ: 7- 24.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 295

حجّية قول الصحابي، منحصر بما إذا علم انّه بصدد بيان كلامه و قوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، أو عمله و فعله، أو تقريره و تصديقه.

2- الحجّة هو الأَعم من القول و الرأي
اشارة

يظهر من كلام ابن قيم الجوزيّة، انّ موضوع النزاع أعمّ من القول و الرأي فقد أقام علي حجّيته 46 دليلًا لا يسعنا ذكر معشارها، لأَنّ غالبها لا يخرج عن نطاق الحدس، و إنّما نقتصر علي دليلين:

الدليل الأَوّل إنّ قول الصحابي يحتمل أوجهاً لا تخرج عن ستة

: 1- أن يكون قد سمعها من النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

2- أن يكون سمعها ممّن سمعها منه.

3- أن يكون فهمها من آيات كتاب اللّه فهماً خفي علينا.

4- أن يكون قد اتّفق عليها مَلَؤُهم و لم ينقل إلينا إلّا قول المفتي بها وحده.

5- أن يكون لكمال علمه باللغة و دلالة اللفظ علي الوجه الذي انفرد به عنّا، أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب، أو لمجموع أُمور فهموها علي طول الزمان لأَجل معاشرة النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

6- أن يكون فهم ما لم يرده الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و أخطأ في فهمه، و المراد غير ما فهمه، و علي هذا التقدير لا يكون قوله حجّة، و معلوم قطعاً أنّ وقوع احتمال من خمسة أغلب علي الظن من وقوع احتمال واحد معين و ذلك يفيد ظنا غالباً قوياً

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 296

علي أنّ الصواب في قوله دون ما خالفه من أقوال مَن بعده و ليس المطلوب إلّا الظنّ الغالب و العمل به متعين، و يكفي العارف هذا الوجه «1».

أقول: يلاحظ عليه بوجوه: الأَوّل: أنّ أقصي ما يمكن أن يقال هو الظن الغالب بأنّه استند إلي الوجوه الخمسة الأولي لا القطع به، و قد دللنا في صدر الفصل علي أنّ الأَصل في الظن عدم الحجّية، إلّا إذا دلّ دليل قطعي علي حجّيته.

الثاني: من أين نعلم انّ فهمه من الكتاب كان فهماً

صحيحاً؟ أو انّ استفادته من اللغة كانت استفادة رصينة مع أنّ التابعين من العرب الاقحاح مثله؟ فما هو الفرق بين أن يكون قوله حجّة دون التابعين؟ الثالث: يحتمل أن يكون لفتواه مصادر ظنّية اعتمد عليها، كالقياس بشي ء لا يخطر في أذهاننا، أو الاعتماد علي وجوه و اعتبارات تبلورت في ذهنه، أو الاستناد إلي الإِطلاق و العموم مع انّه ليس من مواردها، لكون المورد شبهة مصداقية لهما.

قال الشوكاني: و الحقّ أنّه ليس بحجّة، فإنّ اللّه سبحانه لم يبعث إلي هذه الأُمّة إلّا نبيّنا محمّد- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، و ليس لنا إلّا رسول واحد و كتاب واحد، و جميع الأُمّة مأمورة باتّباع كتابه و سنّة نبيّه و لا فرق بين الصحابة و من بعدهم في ذلك، فكلّهم مكلّفون بالتكاليف الشرعية، و باتّباع الكتاب و السنّة، فمن قال: إنّه تقوم الحجّة في دين اللّه عزّ و جلّ بعد كتاب اللّه تعالي و سنّة رسوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و ما يرجع إليهما، فقد قال في دين اللّه بما لا يثبت «2».

______________________________

(1) ابن القيم: اعلام الموقعين: 4- 148 في ضمن الدليل الثالث و الأَربعين.

(2) الشوكاني: إرشاد الفحول: 214.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 297

الدليل الثاني قد ذكر ابن القيم في الوجه الرابع و الأَربعين

ما هذا لفظه: انّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: «لا تزال طائفة من أُمّتي ظاهرين بالحق».

و قال علي كرم اللّه وجهه: «لا تخلو الأَرضُ من قائم للّه بحجّة، لئلّا تبطل حججُ اللّه و بيناته» فلو جاز أن يخطئ الصحابي في حكم و لا يكون في ذلك العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم لم يكن في الأُمّة قائم بالحقّ في ذلك الحكم، لأَنّهم بين ساكت

و مخطئ، و لم يكن في الأَرض قائم للّه بحجّة في ذلك الأَمر، و لا من يأمر فيه بمعروف أو ينهي فيه عن منكر «1».

أقول: أمّا الحديث الأَوّل فيدلّ علي وجود طائفة ظاهرين بالحقّ من أُمّته، و لكن من أين نعلم أنّهم هم الصحابة؟ فإنّ الاخبار عن الكبري لا تثبت الصغري، أي كون القائمين بالحقّ هم الصحابة، فليكن القائمون هم التابعون لهم بإحسان.

و أمّا الحديث الثاني فيدلّ علي وجود القائم بالحقّ بين الأُمّة في كلّ الأَزمنة و الأَعصار لا الناطق بالحقّ، و شتان ما بين القائم بالحقّ و الناطق بالحقّ، و القائم بالحقّ بطبيعة الحال يكون ناطقاً، و لكن ربما يكون مضطراً إلي السكوت خوفاً من حكّام الجور، فلا يكون سكوت الأُمّة دليلًا علي إصابة الصحابي الناطق و كونه القائم بالحقّ.

وجود المخالفة بين الصحابة

أنّ تاريخ التشريع حافل بنماذج كثيرة من مخالفة صحابي لصحابي آخر

______________________________

(1) اعلام الموقعين: 4- 150، فصل جواز الأَخذ بفتاوي الصحابة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 298

حتي بعد سماع كلامه و قوله، فلو كان قول الصحابي نتاجاً للسماع لما جاز لآخر أن يخالفه و يقدّم رأيه علي قوله، فإنّه يكون من قبيل تقديم الرأي علي النصّ، و هذا يعرب علي أنّ قول الصحابي لا يساوق سماعه عن النبي، بل أعمّ منه بكثير، و هذا هو الذي يسوغ وجود المخالفة بينهم، فمثلًا: كان أبو بكر و عمر و عبد اللّه بن عباس يرون قول الرجل لامرأته: أنت عليّ حرام إيلاء و يميناً، و في الوقت نفسه كان ابن مسعود يراه طلقة واحدة، و كان زيد ابن ثابت يراه طلاق ثلاث، فلم يقل أحد انّ قول الخليفتين حجّة علي الآخرين.

و ذلك لَانّ كلّ واحد كان مجتهداً و

مستنبطاً، و ليس رأي المستنبط حجّة علي الآخرين، فإذا كان هذا هو الحال بين الصحابة، فليكن كذلك بعدهم، فإنّ التكليف واحد، و التشريع فأرد، فلا معني أن يكون تكليف الصحابة مغايراً لتكليف التابعين لهم بإحسان، أي لا يكون رأي الصحابي حجّة علي مثله، و لكنّه حجّة علي التابعين.

اجتهاد الصحابي بين الردّ و القبول

كان اجتهاد الصحابة عند غيبتهم عن الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- حجّة لهم لعدم تمكنهم من الرجوع إليه، فإذا ما رجعوا إليه، إمّا يقرّهم علي ما رأوا، و إمّا أن يبيّن لهم خطّ الصواب، فلم يكن اجتهاد الصحابي بما هو اجتهاد من مصادر التشريع، و هو ظاهر لمن رجع إلي اجتهادات الصحابة و طرحها علي الرسول و هو- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- بين مصوب لهم و مخطئ، و لنذكر نموذجين:

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 299

1- كان علي- عليه السّلام- باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام، فقال كلّ واحد منهم هو ابني، فجعل علي- عليه السّلام- يخبرهم واحداً واحداً أ ترضي أن يكون الولد لهذا؟ فأبوا، فقال: «أنتم شركاء متشاكسون» فأقرع بينهم، فجعل الولد للذي خرجت له القرعة، و جعل عليه للرجلين الآخرين ثلثي الدية، فبلغ ذلك النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فضحك حتي بدت نواجذه، من قضاء علي- عليه السّلام-.

روي ذلك الخطيب البغدادي في كتاب «الفقيه و المتفقّه» «1».

و قد اعتبر علي- عليه السّلام- في هذا الحكم أنّه بالنسبة للقارع بمنزلة الإِتلاف للآخرين، كمن أتلف رقيقاً بينه و بين شريكين له، فإنّه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه، فإتلاف الولد الحر بحكم القرعة، كإتلاف الرقيق الذي بينهم.

2- روي مسلم، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي، عن

أبيه انّ رجلًا أتي عمر، فقال: إنّي أجنبت فلم أجد ماء؟ قال: لا تصلّ، فقال عمار: ما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا و أنت في سرية، فأجنبنا فلم نجد ماء، فأمّا أنت فلم تصلّ، و أمّا أنا فتمعكت في التراب و صليت.

فقال النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: إنّما يكفيك أن تضرب بيديك الأَرض، ثمَّ تنفخ، ثمَّ تمسح بهما وجهك و كفيك.

فقال عمر: اتّق اللّه يا عمار، قال: إن شئت لم أُحدّث به «2».

أحاديث الاقتداء بالصحابة

قد ذكرنا انّ ابن قيم الجوزية استدل علي أنّ رأي الصحابة و التابعين حجّة

______________________________

(1) اعلام الموقعين: 1- 203.

(2) صحيح مسلم: 1- 193، باب التيمّم.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 300

بأنفسهما، و استدل علي ذلك بوجوه كثيرة لا دلالة فيها لما يروم إليه.

و إليك بعض ما استدلّ به من الروايات: 1- ما رواه الترمذي من حديث الثوري، عن عبد الملك بن عمير، عن هلال مولي رِبْعي بن حِرَاش، عن رِبْعي، عن حذيفة، قال: قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر و عمر» «1».

و فيه أنّ الحديث مخدوش سنداً و دلالةً.

أمّا سنداً فبعبد الملك بن عمير، حيث روي إسحاق الكوسج، عن يحيي بن معين قال: مخلط.

و قال علي بن الحسن الهسنجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: عبد الملك ابن عمير مضطرب الحديث جدّاً مع قلّة روايته.

و ذكر إسحاق الكوسج عن أحمد، أنّه ضعفه جدّاً «2».

و قد نقل هذا الحديث بسند ثان عن أحمد بن محمد بن الجسور، حدّثنا أحمد ابن الفضل الدينوري، حدّثنا محمد بن جبير، حدّثنا عبد الرحمن بن الأَسود الطفاوي، حدّثنا محمد بن كثير الملائي، حدّثنا المفضل الضبي عن

ضرارة بن مرة، عن عبد اللّه بن أبي الهذيل العتري، عن جدته.

و هو مخدوش أيضاً، لأَنّه مروي عن مولي لربعي مجهول، كما أنّ المفضل بن محمد الضبي متروك الحديث، متروك القراءة «3».

كما نقل هذا الحديث بسند ثالث عن القاضي أبي الوليد بن الفرضي، عن

______________________________

(1) اعلام الموقعين: 4- 140.

(2) سير أعلام النبلاء: 5- 439.

(3) الرازي، الجرح و التعديل: 8- 318 برقم 1466، لسان الميزان: 6- 81 برقم 293.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 301

ابن الدخيل، عن العقيلي، عن محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا وكيع، حدثنا سالم المرادي، عن عمرو بن هرم، عن ربعي بن حرث و أبي عبد اللّه رجل من أصحاب حذيفة عن حذيفة.

و فيه أنّ هلال مولي ربعي مجهول، كما أنّ سالم المرادي قد ضعَّفه ابن معين و النسائي «1».

و أمّا دلالةً، فقد قال ابن حزم: و أمّا رواية: «اقتدوا باللّذين من بعدي» فحديث لا يصح.

و لو صحّ لكان عليهم لا لهم، لأَنّهم أصحاب مالك و أبي حنيفة و الشافعي أترك الناس لأَبي بكر و عمر، و قد بيّنا انّ أصحاب مالك خالفوا أبا بكر ممّا رووا في الموطأ خاصة في خمسة مواضع، و خالفوا عمر في نحو ثلاثين قضية ممّا رووا في الموطأ خاصة، و قد ذكرنا انّ عمر و أبا بكر اختلفا، و إن أتباعهما فيما اختلفا فيه متعذر ممتنع لا يقدر عليه أحد «2».

2- ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد اللّه بن رباح عن أبي قتادة انّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قال: إن يطع القوم أبا بكر و عمر يرشدوا «3».

أقول: لو صحّت الرواية، و قلنا بأنّ المراد من القوم هم المسلمون

بأجمعهم إلي يوم القيامة، لدلّت علي وجوب طاعتهما فيما لهما فيه أمر و نهي، و أين هما من لزوم الأَخذ بآرائهما و فتاواهما في الأَحكام الشرعية التي ليس لهما فيه أي أمر و نهي؟! 3- ما روي عن طريق عبد اللّه بن روح، عن سلام بن سلم، قال: حدثنا الحارث بن غصين، عن الأَعمش، عن أبي سفيان، عن جابر مرفوعاً انّ النبي (صلي الله عليه

______________________________

(1) كتاب الضعفاء الكبير: 2- 150 برقم 651، لسان الميزان: 3- 7 برقم 21.

(2) ابن حزم الأَندلسي: الاحكام: 5- 243.

(3) ابن قيم الجوزية: اعلام الموقعين: 4- 140.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 302

و آله و سلم) قال: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم «1».

و هذا الحديث مخدوش سنداً و دلالة.

أمّا سنداً: فبالحارث بن غصين، قال عنه ابن عبد البر في كتاب العلم: مجهول.

«2» كما أنّ في السند المذكور سلام بن سلم المدائني، و قيل: سلام بن سليمان المدائني، قال عنه يحيي: كان ضعيفاً.

و قال الأَعين: سمعت أبا نعيم ضعّف سلام بن سلم «3».

و قال عنه البخاري: سلام بن سلم المدائني: متروك.

و ذكره ابن حبان في المجروحين «4».

كما روي هذا الحديث أيضاً عن طريق عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر.

و عن طريق حمزة الجزري، عن نافع، عن ابن عمر.

و فيه أنّ عبد الرحيم بن زيد و أبوه متروكان «5» و حمزة الجزري مجهول.

و أمّا دلالة: فلما قاله ابن حزم: قد ظهر أنّ هذه الرواية لا تثبت أصلًا إذ من المحال أن يأمر رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- باتباع كلّ قائل من الصحابة، و فيهم من يحلل الشي ء، و غيره منهم يحرّمه

«6».

و لقد أجاد الشوكاني حينما قال: و أمّا ما تمسّك به بعض القائلين بحجيّة

______________________________

(1) ابن عبد البر: جامع العلم: 2- 91، ابن الأَثير: جامع الأصول: 8- 556، رقم الحديث 6369.

(2) لسان الميزان: 2- 156.

(3) العقيلي: الضعفاء الكبير: 2- 158.

(4) ابن حبان: المجروحين: 2- 339.

(5) سير أعلام النبلاء: 8- 358، التاريخ الكبير: 6- 137، ميزان الاعتدال: 2- 605.

(6) ابن حزم الأَندلسي: الأحكام: 5- 244.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 303

قول الصحابي ممّا روي عنه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أنّه قال: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم، فهذا ممّا لم يثبت قط، و الكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن بحيث لا يصحّ العمل بمثله في أدني حكم من أحكام الشرع، فكيف مثل هذا الأَمر العظيم و الخطب الجليل؟! «1» و حاصل الكلام: أنّ الفقيه يجب أن يعتمد علي كتاب اللّه و سنّة رسوله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و ان يحتج بما جعله اللّه حجّة بينه و بين اللّه تبارك و تعالي، كخبر العدل المتصل إلي المعصوم، أو العقل فيما له فيه قضاء و حكم، و أمّا في غير هذه الموارد كآراء الصحابة أو التابعين و سنتهم و سيرتهم فكلّها أُمور ظنية لا دليل علي الاحتجاج بها إلّا إذا ثبت أنّها أقوال الرسول و سننه، و أنّي لنا إثبات ذلك.

و بذلك يعلم أنّ الفقه ليس هو نقل آراء الصحابة و التابعين، أو الفقهاء الذين جاءوا بعدهم، فإنّ مرد ذلك إلي سرد آراء أُناس غير مصونين عن الخطأ و الزلل.

رؤيا الصحابي و التشريع

قد وقفت علي أنّ التشريع الإِلهي أعلي و أجل من أن تناله يد الاجتهاد، فالتشريع فيض إلهي جارٍ من ينبوع فياض لا يشوبه

خطأ و لا و هم و لا ظن و لا خرص و لا تخمين، و النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- هو المبين للتشريع، و ليس بمجتهد فيه يضرب الآراء بعضها ببعض كي يصل إلي حكم اللّه سبحانه.

و أسوأ من ذلك أن تكون رؤيا الصحابة أو تصويبهم مصدراً للتشريع، و مع الأَسف نري نماذج كثيرة منها مروية في الصحاح و المسانيد، فلنقتصر علي ذكر نموذجين علي سبيل المثال:

______________________________

(1) الشوكاني: إرشاد الفحول: 214.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 304

1- اهتم النبي للصلاة كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكر له القنع يعني الشبَّور قال زياد: شبور اليهود، فلم يُعجبه ذلك، و قال: هو من أمر اليهود.

قال: فذكر له الناقوس، فقال: هو من أمر النصاري.

فانصرف عبد اللّه بن زيد بن عبد ربه و هو مهتم لهمِّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فأُري الأَذان في منامه، قال: فغدا علي رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فأخبره، فقال له: يا رسول اللّه، إنّي لبين نائم و يقظان، إذ أتاني آت فأراني الأَذان.

قال: و كان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوماً، ثمّ أخبر النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، فقال له- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد اللّه بن زيد، فاستحييت.

فقال رسول اللّه: يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد اللّه بن زيد فافعله، قال: فأذّن بلال، قال أبو بشر: فأخبرني أبو عمير أن الأَنصار تزعم أنّ عبد اللّه بن زيد لولا

انّه كان يومئذٍ مريضاً لجعله رسول اللّه مؤَذنا «1».

إنّ هذه الرواية و ما شاكلها لا تتفق مع مقام النبوة، لأَنّه سبحانه بعث رسوله لإِقامة الصلاة مع المؤمنين في أوقات مختلفة، و طبيعة الحال تستدعي أن يعلمه سبحانه كيفية تحقّق هذه الأُمنية، فلا معني لتحيّر النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أياماً طويلة، و هو لا يدري كيف يحقّق المسئولية الملقاة علي عاتقه!!

______________________________

(1) أبو داود: السنن: 1- 134- 135 برقم 498- 499، تحقيق محمد محيي الدين.

لاحظ ابن ماجه: السنن: 1- 232- 233، باب بدء الأَذان برقم 706- 707، الترمذي؛ السنن: 1- 358 باب ما جاء في بدء الأَذان برقم 189.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 305

إنّ الصلاة و الصيام من الأُمور العبادية و ليست من الأُمور الطبيعية العادية حتي يشاور النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فيها أصحابه، أ و ليس من الوهن في أمر الدين أن تكون رُؤيا و أحلام أشخاص عاديين مصدراً لأَمر عبادي في غاية الأَهمية كالأَذان و الإِقامة.

إنّ هذا يدفعنا إلي القول بأن كون الرؤيا مصدراً للأَذان أمر مكذوب و مجعول علي الشريعة، و انّ الكذّابين المنتمين إلي بيت عبد اللّه بن زيد هم الذين أشاعوا هذه الأُكذوبة طلباً لعلو المنزلة و الجاه.

إنّ البحث عن اسناد الروايات الواردة في هذا الموضوع و ما فيها من التناقض لا يناسب وضع الكتاب «1».

2- روي الامام أحمد أنّ الصحابة كانوا يأتون الصلاة، و قد سبقهم النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) ببعضها، فكان الرجل يشير إلي الرجل إن جاءكم صلي، فيقول: واحدة أو اثنتين، فيصلّيها، ثمّ يدخل مع القوم في صلاتهم.

قال: فجاء معاذ، فقال: لا أجده علي حال أبداً

إلّا كنت عليها، ثمّ قضيت ما سبقني.

قال: فجاء و قد سبقه النبي ببعضها، قال: فثبت معه، فلمّا قضي رسول اللّه (صلي الله عليه و آله و سلم) صلاته قام فقضي.

فقال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: قد سنَّ لكم معاذ فهكذا فاصنعوا «2».

قد سبق انّ الصلاة عبادة إلهية و ليس في الإِسلام عبادة أعظم منها، فكيف

______________________________

(1) انظر الاعتصام بالكتاب و السنّة: 25- 48.

(2) مسند أحمد بن حنبل: 5- 246.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 306

تخضع لسنّة صحابي مقطوع عن الوحي، و قد سنَّ شيئاً اعتباطياً دون أن يستأذن من النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فكان عمله أشبه بالبدعة و إدخال شي ء في الدين ما لم يأذن به اللّه؟! و معاذ أجلُّ من أن لا يعرف حد البدعة و السنّة و يدخل في الصلاة مع النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و قد سبقه النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- ثمّ يقضي ما فاته.

و أنت إذا تصفحت الصحاح و المسانيد تعثر علي نماذج كثيرة لهذا النوع من التشريع.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 307

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة 7

إجماع أهل المدينة

اشارة

قد نقل انّ مالك بن أنس اعتمد في فقهه علي أحد عشر دليلًا: 1- القرآن، 2- السنّة، 3- الإِجماع، 4- إجماع أهل المدينة، 5- القياس، 6- قول الصحابي، 7- المصلحة المرسلة، 8- العرف و العادة، 9- سد الذرائع، 10- الاستصحاب، 11- الاستحسان.

غير انّ الشاطبي في الموافقات أرجع هذه الأَدلّة إلي أربعة، و هي: الكتاب و السنّة و الإِجماع و الرأي، فإنّ إجماع أهل المدينة و قول الصحابي كاشفان عن السنّة فهما من شعبها،

و الأَدلة الباقية من شعب الرأي و من وجوهه.

و علي كلّ تقدير فقد ذهب مالك إلي حجّية اتفاق أهل المدينة قائلًا: بأنّ المدينة دار الهجرة، و بها نزل القرآن و أقام رسول اللّه و أقام صحابته، و أهل المدينة أعرف الناس بالتنزيل ربما كان من بيان رسول اللّه للوحي، و هذه ميزات ليست لغيرهم، و علي هذا فالحقّ لا يخرج عمّا يذهبون إليه، فيكون عملهم حجّة يقدّم علي القياس و خبر الواحد.

و قد أوجد مشربه هذا ضجة كبيرة بين معاصريه، فردّ عليه فقيه عصره اللّيث بن سعد في رسالة مفصلة نقد فيها قسماً من آراء مالك التي أفتي بها نظراً

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 308

لاتفاق أهل المدينة عليها و إن كان موضع خلاف بينهم و بين من خرجوا من دار الهجرة إلي غيرها من أمصار الإِسلام، و هذه المسائل عبارة عن: 1- الجمع بين الصلاتين ليلة المطر.

2- القضاء بشهادة واحد و يمين صاحب الحق.

3- طلب المرأة مؤَخر صداقها حال قيام الزوجية.

4- الإِيلاء و وقوع الطلاق به.

5- الحكم إذا ملّك الزوج امرأته أمرها.

6- ترتيب أعمال صلاة الاستسقاء.

7- زكاة أموال الخليطين.

8- المفلس و قد باعه رجل سلعة.

9- الأسهام في الجهاد لفرس واحد أو لفرسين.

و قد نقل ابن القيم رسالة الليث بن سعد إلي مالك بن أنس في كتاب اعلام الموقعين عن رب العالمين «1».

و قد سبقه في النقل أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي (المتوفّي 277 ه) في كتابه «المعرفة و التاريخ» «2» و بسط الدكتور محمد يوسف موسي الكلام حول هذه المسائل من و جهة نظر الفقه السنّي، فمن أراد التفصيل فليرجع إليه «3».

و لمّا وصلت رسالة الليث إلي مالك ردّ عليها و كتب رسالة

نقلها القاضي

______________________________

(1) اعلام الموقعين: 1003- 94، طبع دار الفكر.

(2) أبو يوسف يعقوب الفسوي: المعرفة و التاريخ: 6971- 687.

(3) الدكتور محمد يوسف موسي: تاريخ الفقه الإِسلامي: 2 101- 90.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 309

عياض (المتوفّي 544 ه) في كتابه «ترتيب المدارك و تقريب المسالك لمعرفة اعلام مذهب مالك» و حيث إنّ هذه الرسالة موجزة ننقلها بنصها، و كان الأَحري أن ننقل رسالة الليث أيضاً، لكن إسهابها عاقنا عن إثباتها بنصها:

رسالة مالك إلي الليث بن سعد

من مالك بن أنس إلي الليث بن سعد.

سلام عليكم! فإنّي أحمد اللّه إليك الذي لا إله إلّا هو.

أمّا بعد عصمنا اللّه و إيّاك بطاعته في السر و العلانية، و عافانا و إيّاك من كل مكروه.

اعلم رحمك اللّه أنّه بلغني أنّك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا و ببلدنا الذي نحن فيه و أنت في إمامتك و فضلك و منزلتك من أهل بلدك، و حاجة من قبلك إليك، و اعتمادهم علي ما جاءهم منك، حقيق بأن تخاف علي نفسك و تتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإنّ اللّه تعالي يقول في كتابه: " وَ السّٰابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهٰاجِرِينَ وَ الْأَنْصٰارِ" «1» الآية.

و قال تعالي: " فَبَشِّرْ عِبٰادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ" «2» الآية.

فإنّما الناس تبع لأَهل المدينة، إليها كانت الهجرة، و بها نزل القرآن، و أحلّ الحلال و حرّم الحرام، إذ رسول اللّه بين أظهرهم يحضرون الوحي و التنزيل، و يأمرهم فيطيعونه، و يسنّ لهم فيتبعونه، حتي توفّاه اللّه، و اختار له ما عنده صلوات اللّه عليه و رحمته و بركاته.

ثمّ قام من بعده أتبع الناس له من أُمته ممّن ولي الأَمر من بعده، فما نزل بهم ممّا علموا أنفذوه، و ما لم

يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثمّ أخذوا بأقوي ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم و حداثة عهدهم،

______________________________

(1) التوبة: 100.

(2) الزمر: 17 18.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 310

و إن خالفهم مخالف أو قال امرؤ غيره أقوي منه أو أولي، ترك قوله و عمل بغيره، ثمّ كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبل و يتبعون تلك السنن، فإذا كان الأَمر بالمدينة ظاهراً معمولًا به لم أر لأَحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأَحد انتحالها و لا ادّعاؤها، و لو ذهب أهل الأَمصار يقولون هذا العمل ببلدنا، و هذا الذي مضي عليه من مضي منّا، لم يكونوا من ذلك علي ثقة، و لم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم.

فانظر رحمك اللّه فيما كتبت إليك فيه لنفسك، و اعلم إنّي أرجو أن لا يكون دعاني إلي ما كتبت به إليك إلّا النصيحة للّه تعالي وحده، و النظر لك و الضن بك، فانزل كتابي منك منزلته، فإنّك إن فعلت تعلم أنّي لم آلك نصحاً.

وفقنا اللّه و إيّاك لطاعته و طاعة رسوله في كلّ أمر و علي كلّ حال.

و السلام عليك و رحمة اللّه، و كتب يوم الأَحد لتسع مضين من صفر «1».

و لم تكن رسالة مالك إلي الليث مقنعة لمن أتي بعده، فقد رد عليه ابن حزم الظاهري قائلًا في إبطال قول من قال: الإِجماع هو إجماع أهل المدينة، فإنّ هذا قول لهج به المالكيون قديماً و حديثاً، و هو في غاية الفساد، لَانّ قولهم: إنّ أهل المدينة أعلم بأحكام رسول اللّه من سواهم كذب و باطل، و إنّما الحقّ انّ أصحاب رسول اللّه و هم العالمون بأحكامه سواء بقي منهم من

بقي بالمدينة، أو خرج منهم من خرج لم يزد «2» الباقي بالمدينة بقاؤه فيها درجة في علمه و فضله و لا حطّ «3» الخارج منهم عن المدينة خروجه عنها درجة من علمه و فضله.

و أمّا قولهم: شهدوا آخر حكمه و علموا ما نسخ ممّا لم ينسخ، فتمويه

______________________________

(1) القاضي عياض: ترتيب المدارك: 651- 64.

(2) في المطبوع: لم يرد، و هو تصحيف.

(3) في المطبوع: لاحظ، و هو تصحيف.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 311

فاحش و كذب ظاهر، بل الخارجون من الصحابة من المدينة شهدوا من ذلك كالذي شهده المقيم لها منهم سواء، كعلي و ابن مسعود و أنس و غيرهم، و الكذب عار في الدنيا و نار في الآخرة.

فظهر فساد كلّما موّهوا به، و بنوه علي هذا الأَصل الفاسد، و أسموه بهذا الأَساس المنهار «1».

كما رد عليه الإِمام الآمدي أيضاً بقوله: اتّفق الأَكثرون علي أنّ إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجّة علي من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم، خلافاً لمالك، فإنّه قال: يكون حجّة.

و من أصحابه من قال: إنّما أراد بذلك ترجيح روايتهم علي رواية غيرهم.

و منهم من قال: أراد به أن يكون إجماعهم أولي، و لا تمتنع مخالفته.

و منهم من قال: أراد بذلك أصحاب رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-.

و المختار مذهب الأَكثرين، و ذلك انّ الأَدلّة الدالّة علي أنّ الإِجماع حجّة، ليست ناظرة إلي أهل المدينة دون سواهم لا سيما و انّهم لا يؤَلّفون كل الأُمة، فلا يكون إجماعهم حجة.

ثمَّ ذكر من نصر مذهب مالك بالنص و العقل، و ذكر من الثاني ثلاثة أوجه، ثمّ أخذ بالرد علي جميع الوجوه، و خرج بالنتيجة التالية: لا يكون إجماع أهل الحرمين مكة و

المدينة، و المصرين: الكوفة و البصرة حجّة علي مخالفيهم، و إن خالف فيه قوم لما ذكرناه من الدليل «2».

إنّ اتّفاق أهل المدينة علي حكم شرعي ليس بأقوي من إجماع علماء عصر

______________________________

(1) ابن حزم، الاحكام: 5874- 586- و لكلامه صلة، فراجع.

(2) الآمدي: الاحكام في أُصول الأَحكام: 1 305- 302.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 312

واحد علي حكم شرعي، فكما أنّ الثاني لا يكون حجّة علي المجتهد و لا يمكن أن يستدل به علي الحكم الشرعي، فهكذا اتفاق أهل المدينة، خاصة أنّ عنصر الاتّفاق تم علي تقليد بعضهم البعض، فالاحتجاج بهذا الاتفاق و نسبته إلي الشارع بدعة و إفتاء بما لم يعلم انّه من دين اللّه.

نعم لو كان اتفاقهم ملازماً لِاصابة الواقع خاصة في العصور الأولي، فيؤخذ به لحصول العلم، و أنّي للمجتهد إثبات تلك الملازمة، أو لو كشف اتّفاقهم عن وجود دليل معتبر وصل إليهم و لم يصل إلينا يمكن أن يحتج به.

و حصيلة البحث: أنّ اتّفاق أهل المدينة أو اتفاق المصرين الكوفة و البصرة رهن وجود الملازمة العادية بين الاتفاق و إصابته الواقع، أو بين الاتفاق و وجود دليل معتبر و إلّا فلا قيمة لاتفاق غير المعصوم قليلًا كان أو كثيراً.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 313

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة 8

إجماع العترة

«1» كلّ من كتب في تاريخ الفقه الإِسلامي و تعرض لمنابع الفقه و الأَحكام غفل عن ذكر أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) و حجّية أقوالهم فضلًا عن حجّية اتّفاقهم، و ذلك بعين اللّه بخس لحقوقهم، و حيث إنّ المقام يقتضي الاختصار نستعرض المهم من الأَدلّة الدالة علي حجّية أقوالهم فضلًا عن اتّفاقهم علي حكم من الاحكام، كقوله سبحانه: "

إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً" «2».

و الاستدلال بالآية علي عصمة أهل البيت و بالتالي حجية أقوالهم رهن أُمور:

الأَوّل: الإِرادة في الآية إرادة تكوينية لا تشريعية، و الفرق بين الإِرادتين واضح، فإنّ إرادة التطهير بصورة التقنين تعلقت بعامة المكلّفين من غير اختصاص بأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) قال سبحانه: " وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ" «3».

فلو كانت الإِرادة المشار إليها في الآية إرادة تشريعية لما كان للتخصيص و الحصر وجه مع انّا نجد فيها تخصيصاً بوجوه خمسة:

أ: بدأ قوله سبحانه بحرف" إِنَّما" المفيد للحصر.

______________________________

(1) و هو نفس تعبير الطوفي في رسالته.

(2) الأَحزاب: 33.

(3) المائدة: 6.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 314

ب: قدّم الظرف" عَنْكُمُ" و قال: " لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ" و لم يقل ليذهب الرجس عنكم لأَجل التخصيص.

ج: بيّن من تعلّقت إرادته بتطهيرهم بصيغة الاختصاص، و قال: " أَهْلَ الْبَيْتِ" أي أخصّكم.

د: أكد المطلوب بتكرير الفعل، و قال: " وَ يُطَهِّرَكُمْ" تأكيداً" لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ".

ه: أرفقه بالمفعول المطلق، و قال: " تَطْهِيراً".

كلّ ذلك يؤَكد انّ الإِرادة التي تعلّقت بتطهير أهل البيت غير الإِرادة التي تعلّقت بعامة المكلّفين.

و نري مثل هذا التخصيص في مريم البتول قال سبحانه: " إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفٰاكِ عَليٰ نِسٰاءِ الْعٰالَمِينَ" «1».

الثاني: المراد من الرجس كل قذارة باطنية و نفسية، كالشرك، و النفاق، و فقد الايمان، و مساوي الأَخلاق، و الصفات السيئة، و الأَفعال القبيحة التي يجمعها الكفر و النفاق و العصيان، فالرجس بهذا المعني أذهبه اللّه عن أهل البيت، و لا شكّ انّ المنزّه عن الرجس بهذا المعني يكون معصوماً من الذنب بإرادة منه سبحانه، كيف و قد ربّاهم اللّه

سبحانه و جعلهم هداة للأُمة كما بعث أنبياءه و رسله لتلك الغاية.

الثالث: المراد من أهل البيت هو علي و فاطمة و أولادهما، لأَنّ أهل البيت و إن كان يطلق علي النساء و الزوجات بلا شك كقوله سبحانه: " أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّٰهِ رَحْمَتُ اللّٰهِ وَ بَرَكٰاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ" «2».

لكن دلّ الدليل القاطع علي أنّ المراد

______________________________

(1) آل عمران: 42.

(2) هود: 73.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 315

في الآية غير نساء النبي و أزواجه و ذلك بوجهين: أ: نجد انّه سبحانه عند ما يتحدّث عن أزواج النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- يذكرهن بصيغة جمع المؤَنث و لا يذكرهن بصيغة الجمع المذكر، فإنّه سبحانه أتي في تلك السورة (الأَحزاب) من الآية 28 إلي الآية 34 باثنين و عشرين ضميراً مؤَنثاً مخاطباً بها نساء النبي، و إليك الايعاز بها: 1- كُنْتُنَّ، 2- تُرِدْنَ، 3- تَعالَيْنَ، 4- أُمَتِّعْكُنَّ، 5- أُسَرِّحْكُنَّ.

«1» 6- كُنْتُنَّ، 7- تُرِدْنَ، 8- مِنْكُنَّ «2».

9- مِنْكُنَّ «3».

10- مِنْكُنَّ «4».

11- لَسْتُنَّ، 12- إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، 13- فَلٰا تَخْضَعْنَ، 14- قُلْنَ «5».

15- قَرْنَ، 16- فِي بُيُوتِكُنَّ، 17- تَبَرَّجْنَ، 18- أَقِمْنَ، 19- آتِينَ، 20- أَطِعْنَ اللّٰهَ «6».

21- اذْكُرْنَ، 22- فِي بُيُوتِكُنَّ «7».

و في الوقت نفسه عند ما يذكر أئمة أهل البيت في آخر الآية 33 يأتي بضمائر مذكّرة و يقول: " ليذهب عنكم.. و يطهّركم" فإنّ هذا العدول دليل علي أنّ الذكر

______________________________

(1) الأَحزاب: 28.

(2) الأَحزاب: 29.

(3) الأَحزاب: 30.

(4) الأَحزاب: 31.

(5) الأَحزاب: 32.

(6) الأَحزاب: 33.

(7) الأَحزاب: 34.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 316

الحكيم انتقل من موضوع إلي موضوع آخر، أي من نساء النبي إلي أهل بيته، فلا بدّ أن يكون المراد منه غير نسائه.

ب: انّ النبي- صلّي اللّه

عليه و آله و سلم- أماط الستر عن وجه الحقيقة، فقد صرّح بأسماء من نزلت الآية بحقّهم حتي يتعيّن المقصود منه باسمه و رسمه و لم يكتف بذلك، بل أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء و منع من دخول غيرهم.

و لم يقتصر علي هذين الأَمرين (ذكر الأَسماء و جعل الجميع تحت كساء واحد) بل كان كلّما يمرّ ببيت فاطمة إلي ثمانية أشهر يقول: الصلاة، أهل البيت" إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً".

و قد تضافرت الروايات علي ذلك، و لو لا خوف الاطناب لأَتينا بكلِّ ما روي عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-، و لكن نذكر من كلّ طائفة نموذجاً.

أمّا الطائفة الأُولي: أخرج الطبري في تفسير الآية عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- نزلت الآية في خمسة: فيوفّي علي رضي اللّه عنه و حسن رضي اللّه عنه، و حسين رضي اللّه عنه، و فاطمة رضي اللّه عنها،" إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً".

و قد رويت روايات كثيرة في هذا المجال، فمن أراد فليرجع إلي تفسير الطبري و الدر المنثور للسيوطي.

و أمّا الطائفة الثانية: فقد روي السيوطي و أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم عن عائشة رضي اللّه عنها، قالت: خرج رسول اللّه غداة و عليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما فأدخلهما معه، ثمّ جاء علي فأدخله معه، ثمّ قال: " إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً".

مصادر الفقه الإسلامي

و منابعه، ص: 317

و لو لم يرد ذكر فاطمة في هذا الحديث، فقد جاء في حديث آخر، حيث روي السيوطي، قال: و اخرج ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه عن سعد، قال: نزل علي رسول اللّه الوحي، فأدخل علياً و فاطمة و ابنيهما تحت ثوبه، قال: اللّهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي.

و في حديث آخر جاء رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- إلي فاطمة و معه حسن و حسين، و علي حتي دخل، فأدني علياً و فاطمة فأجلسهما بين يديه و أجلس حسناً و حسيناً كلّ واحد منهما علي فخذه، ثمّ لفّ عليهم ثوبه و أنا مستدبرهم، ثمّ تلا هذه الآية: " إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً".

و أمّا الطائفة الثالثة: فقد أخرج الطبري عن أنس أنّ النبي كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلي الصلاة فيقول: الصلاة أهل البيت" إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً" «1».

و الروايات تربو علي أربع و ثلاثين رواية، رواها من عيون الصحابة؛ أبو سعيد الخدري، أنس بن مالك، ابن عباس، أبو هريرة الدوسي، سعد بن أبي وقاص، واثلة بن الاسقع، أبو الحمراء، أعني: هلال بن حارث، أُمهات المؤمنين: عائشة و أُمّ سلمة «2».

فعلي ضوء هذا فأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) معصومون من الذنب، قولًا و فعلًا فيكون قولهم كاتفاقهم حجّة و إن غاب هذا الأَمر عن أكثر إخواننا أهل السنّة.

نعم قد عدّ نجم الدين الطوفي (المتوفّي 716 ه) إجماع العترة الطاهرة من مصادر التشريع الإِسلامي كما أنهاها إلي 19 مصدراً، و إليك رءوسها:

______________________________

(1) و للوقوف علي مصادر هذه الروايات لاحظ: تفسير الطبري؛ ج 22-

75، و الدر المنثور: ج 5- 198 199.

(2) و رواه من أصحاب الصحاح: مسلم في صحيحه: 7- 123122، و الترمذي في سننه.

و لاحظ جامع الأصول لابن الأَثير: 10- 103.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 318

1- الكتاب.

2- السنّة.

3- إجماع الأُمّة.

4- إجماع أهل المدينة.

5- القياس.

6- قول الصحابي.

7- المصلحة المرسلة.

8- الاستصحاب.

9- البراءة الشرعية.

10- العوائد.

11- الاستقراء.

12- سد الذرائع.

13- الاستدلال.

14- الاستحسان.

15- الأَخذ بالأَخف.

16- العصمة.

17- إجماع أهل الكوفة.

18- إجماع العترة.

19- إجماع الخلفاء الأَربعة «1».

و لا يخفي انّ بعضها متفق عليه و بعضها مختلف فيه، و انّ كثيراً ممّا عدّه من مصادر التشريع قابل للِادغام في البعض الآخر، كما مرّ في بعض الفصول.

إلي هنا تمّ بيان منابع الفقه و الأَحكام، و قد عرفت أنّها لا تتجاوز عندنا الأَربعة و أنّ قسماً منها داخل في الأَدلّة الأَربعة، و قسم منها ليس بحجة.

______________________________

(1) رسالة الطوفي، كما في مصادر التشريع الإِسلامي لعبد الوهاب خلاف: 109.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 319

الفصل الثالث تأثير الزمان و المكان في الاستنباط

اشارة

قد يُطرح الزمان و المكان بما انّهما ظرفان للحوادث و الطواري الحادثة فيهما، و قد يطرحان و يراد منهما المظروف، أي تغيّر أساليب الحياة و الظروف الاجتماعية حسب تقدّم الحضارة و تغيرها، و الثاني هو المراد من المقام.

ثمّ إنّه يجب أن تفسر مدخلية الزمان و المكان بالمعني المذكور في الاجتهاد، علي وجه لا تعارض الأصول المسلّمة في التشريع الإِسلامي، و نشير إلي أصلين منها: الأَوّل: انّ من مراتب التوحيد هو التوحيد في التقنين و التشريع، فلا مشرّع و لا مقنّن سواه، قال تعالي: " إِنِ الحُكْمُ إِلّا للّهِ أَمَرَ أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُون" «1» و المراد من الحكم هو الحكم التشريعي بقرينة قوله: " أَمَرَ

أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ".

و قال سبحانه: " قالَ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرآنٍ غَيْرِ هذا أَو بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلقاءِ نَفْسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلّا ما يُوحي إِلَيَّ إِنّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ

______________________________

(1) يوسف: 40.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 320

رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيم" «1».

الثاني: انّ الرسول خاتم الأَنبياء، و كتابه خاتم الكتب، و شريعته خاتمة الشرائع، فحلاله حلال إلي يوم القيامة، و حرامه حرام إلي يوم القيامة.

روي زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن الحلال و الحرام، قال: «حلال محمد حلال أبداً إلي يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجي ء غيره، و حرامه حرام أبداً إلي يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجي ء غيره» و قال: قال علي- عليه السّلام-: «ما أحد ابتدع بدعة إلّا ترك بها سنّة».

«2» و لعلّ أوّل من أشار إلي هذه المسألة من علمائنا هو المحقّق الأَردبيلي، حيث قال: و لا يمكن القول بكلية شي ء بل تختلف الاحكام باعتبار الخصوصيات و الأَحوال و الأَزمان و الأَمكنة و الأَشخاص و هو ظاهر، و باستخراج هذه الاختلافات و الانطباق علي الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف امتياز أهل العلم و الفقهاء، شكر اللّه سعيهم و رفع درجاتهم.

«3» و هناك كلمة مأثورة عن الامام السيد الخميني (قدّس سرّه) حيث قال: إنّي علي اعتقاد بالفقه الدارج بين فقهائنا و بالاجتهاد علي النهج الجواهري، و هذا أمر لا بدّ منه، لكن لا يعني ذلك انّ الفقه الإِسلامي لا يواكب حاجات العصر، بل انّ لعنصري الزمان و المكان تأثيراً في الاجتهاد، فقد يكون لواقعة حكمٌ لكنّها تتخذ حكماً آخر علي ضوء الأصول الحاكمة علي المجتمع و سياسته و اقتصاده.

«4»

إنّ القول بأنّ عنصري الزمان و المكان لا تمسّان كرامة الاحكام المنصوصة في الشريعة مما اتفقت عليه أيضاً كلمة أهل السنّة حيث إنّهم صرّحوا بأنّ العاملين

______________________________

(1) يونس: 15.

(2) الكافي: 1- 58، الحديث 19؛ و بهذا المضمون أحاديث كثيرة.

(3) مجمع الفائدة و البرهان: 3- 436.

(4) صحيفة النور: 21- 98.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 321

المذكورين يؤَثران في الأَحكام المستنبطة عن طريق القياس و المصالح المرسلة و الاستحسان و غيرها، فتغيير المصالح ألجأهم إلي تغيير الأَحكام الاجتهادية لا المنصوصة، يقول الأستاذ مصطفي أحمد الزرقاء: و قد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب علي أنّ الاحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان و أخلاق الناس هي الأَحكام الاجتهادية من قياسية و مصلحية، أي التي قررها الاجتهاد بناء علي القياس أو علي دواعي المصلحة، و هي المقصودة من القاعدة المقررة «تغيير الاحكام بتغيّر الزمان».

أمّا الأَحكام الاساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها و توطيدها بنصوصها الأَصلية الآمرة، الناهية كحرمة المحرمات المطلقة و كوجوب التراضي في العقود، و التزام الإِنسان بعقده، و ضمان الضرر الذي يُلحقه بغيره، و سريان إقراره علي نفسه دون غيره، و وجوب منع الأَذي و قمع الأجرام، و سد الذرائع إلي الفساد و حماية الحقوق المكتسبة، و مسؤولية كل مكلّف عن عمله و تقصيره، و عدم مؤَاخذة بري ء بذنب غيره، إلي غير ذلك من الاحكام و المبادي الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها و مقاومة خلافها، فهذه لا تتبدّل بتبدّل الازمان، بل هي الأُصول التي جاءت بها الشريعة لإِصلاح الازمان و الأَجيال، و لكن وسائل تحقيقها و أساليب تطبيقها قد تتبدل باختلاف الأَزمنة المحدثة «1» و علي هذا فيجب أن يفسر تأثير العاملين بشكل لا يمسُّ الأَصلين المتقدمين، أي أن نحترز أوّلًا

عن تشريع الحكم و جعله، و ثانياً عن مسّ كرامة تأبيد الاحكام:

و بما انّ للزمان و المكان تأثيراً في استنباط الأَحكام الشرعية أوّلًا، و الأَحكام الحكومية ثانياً نبحث عن كلا الأَمرين في مبحثين مستقلين

اشارة

______________________________

(1) المدخل الفقهي العام: 2- 924 925.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 322

المبحث الأَوّل: تأثير الزمان و المكان في استنباط الأَحكام الشرعية

اشارة

إنّ لتغير الأَوضاع و الأَحوال الزمنية تأثيراً كبيراً في استنباط الأَحكام الشرعية، و التأثير يرجع تارة إلي ناحية الموضوع و أُخري إلي جانب الحكم، و إليك البيان:

الأَوّل: تأثير الزمان و المكان في صدق الموضوعات

قد يراد من تبدّل الموضوع تارة انقلابه إلي موضوع آخر كصيرورة الخمر خلًا و النجس تراباً، و هذا غير مراد في المقام قطعاً.

و أُخري صدق الموضوع علي مورد في زمان و مكان، و عدم صدقه علي ذلك المورد في زمان و مكان آخر، و ما هذا إلّا لمدخلية الظروف و الملابسات فيها.

و يظهر ذلك بالتأمّل في الموضوعات التالية: 1- الاستطاعة.

2- الفقر.

3- الغني.

4- بذل النفقة للزوجة.

5- و إمساكها بالمعروف حسب قوله سبحانه: " فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف) «1» فإن هذه العناوين موضوعات لأحكام شرعية واضحة و لكن تختلف محقّقاتها حسب اختلاف الزمان و المكان، فمثلًا:

1- التمكّن من الزاد و الراحلة التي هي عبارة أُخري عن الاستطاعة و له محقّقات مختلفة عبر الزمان، فربما تصدق علي مورد في ظرف و لا تصدق عليه في

______________________________

(1) البقرة: 231.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 323

ظرف آخر، كما هو الحال في الإِمساك بالمعروف فإنّها تختلف حسب الظروف الاجتماعية، و تبدّل أساليب الحياة و لا بُعد إذا قلنا انّ فقير اليوم غنيّ الأَمس.

2- في صدق المثلي و القيميّ، فقد جعل الفقهاء ضوابط للمثلي و القيمي، ففي ظلها عدّوا الحبوب من قبيل المثليات، و الأَواني و الأَلبسة من قبيل القيميات، و ذلك لكثرة وجود المماثل في الأُولي و ندرته في الثانية، و كان ذلك الحكم سائداً حتي تطوّرت الصناعة تطوراً ملحوظاً، فأصحبت تنتج كميات هائلة من الأَواني و المنسوجات لا تختلف واحدة عن الأُخري قيد شعرة، فأصبحت القيميات بفضل الازدهار الصناعي مثليات.

3- في صدق المكيل

و الموزون علي شي ء حيث إنّ الحكم الشرعي هو بيع المكيل بالكيل، و الموزون بالوزن، لا بالعدّ، و لكن هذا يختلف حسب اختلاف البيئات و المجتمعات، و يلحق بكلّ حكمه.

4- و من أحكامهما انّه لا تجوز معاوضة المتجانسين متفاضلًا إلّا مثلًا بمثل، إذا كانا من المكيل و الموزون، دون المعدود، و هذا يختلف حسب اختلاف الزمان و المكان، فرب جنس يباع بالكيل و الوزن في بلد و بالعدّ في بلد آخر، و هكذا يلحق بكل حكمه.

هذا كلّه حول تأثير عنصري الزمان و المكان في صدق الموضوع.

الثاني: تأثيرهما في ملاكات الاحكام

لا شكّ انّ الاحكام الشرعية تابعة للملاكات و المصالح و المفاسد، فربما يكون مناط الحكم مجهولًا و مبهماً و أُخري يكون معلوماً بتصريح من الشارع، و القسم الأَوّل خارج عن محل البحث، و أما القسم الثاني فالحكم دائر مدار مناطه و ملاكه

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 324

فلو كان المناط باقياً فالحكم ثابت، و أمّا إذا تغيّر المناط حسب الظروف و الملابسات يتغير الحكم قطعاً، مثلًا: 1. لا خلاف في حرمة بيع الدم بملاك عدم وجود منفعة محلّلة فيه، و لم يزل حكم الدم كذلك حتي اكتشف العلم له منفعة محلّلة تقوم عليها رحي الحياة، و أصبح التبرع بالدم إلي المرضي كإهداء الحياة لهم، و بذلك حاز الدم علي ملاك آخر فحلّ بيعه و شراؤه «1».

2 انّ قطع أعضاء الميت أمر محرّم في الإِسلام، قال رسول اللّه (صلي الله عليه و آله و سلم): «إيّاكم و المثلة و لو بالكلب العقور» «2».

و من الواضح انّ ملاك التحريم هو قطع الأَعضاء لغاية الانتقام و التشفّي، و لم يكن يومذاك أي فائدة تترتّب علي قطع أعضاء الميت سوي تلبية للرغبة النفسية

الانتقام و لكن اليوم ظهرت فوائد جمّة من وراء قطع أعضاء الميت، حيث صارت عملية زرع الأَعضاء أمراً ضرورياً يستفاد منها لنجاة حياة المشرفين علي الموت.

3 دلّت الروايات علي أنّ دية النفس تؤَدّي بالانعام الثلاثة، و الحلّة اليمانية، و الدرهم و الدينار، و مقتضي الجمود علي النص عدم التجاوز عن النقدين إلي الأَوراق النقدية، غير انّ الوقوف علي دور النقود في النظام الاقتصادي، و انتشار أنواع كثيرة منها في دنيا اليوم، و النظر في الظروف المحيطة بصدور تلك الروايات، يشرف الفقيه علي أنّ ذكر النقدين بعنوان انّه أحد النقود الرائجة آن ذاك، و لذلك يجزي دفعها من الأَوراق النقدية المعادلة للنقدين الرائجة في زمانهم، و قد وقف الفقهاء علي ملاك الحكم عبر تقدّم الزمان.

______________________________

(1) قال السيد الامام الخميني (قدّس سرّه): لم تكن في تلك الأَعصار للدم منفعة غير الأَكل، فالتحريم منصرف إليه.

(2) لاحظ نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 47.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 325

الثالث: تأثيرهما في كيفية تنفيذ الحكم

1 تضافرت النصوص علي حلِّية الفي ء و الأَنفال للشيعة في عصر الغيبة، و من الأَنفال المعادن و الآجام و أراضي الموات، و قد كان الانتفاع بها في الأَزمنة الماضية محدوداً ما كان يثير مشكلة، و أمّا اليوم و مع تطوّر الأَساليب الصناعية و انتشارها بين الناس أصبح الانتفاع بها غير محدود، فلو لم يتخذ أُسلوباً خاصاً في تنفيذ الحكم لأَدّي إلي انقراضها أوّلًا، و خلق طبقة اجتماعية مرفّهة و أُخري بائسة فقيرة ثانياً.

فالظروف الزمانية و المكانية تفرض قيوداً علي إجراء ذلك الحكم بشكل جامع يتكفّل إجراء أصل الحكم، أي حلّية الأَنفال للشيعة أوّلًا، و حفظ النظام و بسط العدل و القسط بين الناس ثانياً، بتقسيم الثروات العامة عن طريق الحاكم

الإِسلامي الذي يشرف علي جميع الشئون لينتفع الجميع علي حدٍ سواء.

2 اتّفق الفقهاء علي أنّ الغنائم الحربية تقسّم بين المقاتلين علي نسق خاص بعد إخراج خمسها لَاصحابها، لكن الغنائم الحربية في عصر صدور الروايات كانت تدور بين السيف و الرمح و السهم و الفرس و غير ذلك، و من المعلوم أنّ تقسيمها بين المقاتلين كان أمراً ميسراً آن ذاك، أمّا اليوم و في ظل التقدّم العلمي الهائل، فقد أصبحت الغنائم الحربية تدور حول الدبابات و المدرّعات و الحافلات و الطائرات المقاتلة و البوارج الحربية، و من الواضح عدم إمكان تقسيمها بين المقاتلين بل هو أمر متعسر، فعلي الفقيه أن يتّخذ أُسلوباً في كيفية تطبيق الحكم علي صعيد العمل ليجمع فيه بين العمل بأصل الحكم و الابتعاد عن المضاعفات الناجمة عنها.

3 انّ الناظر في فتاوي الفقهاء السابقين فيما يرجع إلي الحج من الطواف

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 326

حول البيت و السعي بين الصفا و المروة و رمي الجمار و الذبح في مني يحسّ حرجاً شديداً في تطبيق عمل الحج علي هذه الفتاوي، و لكن تزايد وفود حجاج بيت اللّه عبر الزمان يوماً بعد يوم أعطي للفقهاء روَي وسيعة في تنفيذ تلك الاحكام علي موضوعاتها، فأفتوا بجواز التوسع في الموضوع لا من باب الضرورة و الحرج، بل لانفتاح آفاق جديدة إمامهم في الاستنباط.

الرابع: تأثيرهما في منح نظرة جديدة نحو المسائل

إنّ تغير الأَوضاع و الأَحوال الزمنية تضفي للمجتهد نظرة جديدة نحو المسائل المطروحة في الفقه قديماً و حديثاً.

و لنذكر بعض الأَمثلة:

1 كان القدماء ينظرون إلي البيع بمنظار ضيّق و يفسرونه بنقل الأَعيان و انتقالها، و لا يجيزون علي ضوئها بيع المنافع و الحقوق، غير انّ تطور الحياة و ظهور حقوق جديدة في المجتمع

الإِنساني و رواج بيعها و شرائها، حدا بالفقهاء إلي إعادة النظر في حقيقة البيع، فجوّزوا بيع الامتيازات و الحقوق عامة.

2 أفتي القدماء بأنّ الإِنسان يملك المعدن المركوز في أرضه تبعاً لها دون أيّ قيد أو شرط، و كان الداعي من وراء تلك الفتوي هو بساطة الوسائل المستخدمة لذلك، و لم يكن بمقدور الإِنسان الانتفاع إلّا بمقدار ما يعدّ تبعاً لأَرضه، و لكن مع تقدم الوسائل المستخدمة للاستخراج، استطاع أن يتسلّط علي أوسع مما يُعد تبعاً لأَرضه، فعلي ضوئه لا مجال للإِفتاء بأنّ صاحب الأَرض يملك المعدن المركوز تبعاً لأَرضه بلا قيد أو شرط، بل يحدد بما يعد تبعاً لها، و أمّا الخارج عنها فهو إمّا من الأَنفال أو من المباحات التي يتوقف تملّكها علي إجازة الامام.

و ليست هذه النظرة الشمولية مختصة بالفقه بل تعم أكثر العلوم.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 327

الخامس: تأثيرهما في تعيين الأَساليب

: إنّ هناك أحكاماً شرعية لم يحدّد الشارع أساليبها بل تركها مطلقة كي يختار منها في كل زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجاً و أنجع في التقويم علاجاً، و إليك بعض الأَمثلة علي ذلك: 1- الدفاع عن بيضة الإِسلام قانون ثابت لا يتغيّر و لكن الأَساليب المتخذة لتنفيذ هذا القانون موكولة إلي مقتضيات الزمان التي تتغير بتغيّره، و لكن في إطار القوانين العامة فليس هناك في الإِسلام أصل ثابت إلّا أمر واحد و هو قوله سبحانه: " وَ أَعِدُّوا لَهُم ما اسْتَطَعْتُم مِن قُوّة" «1» و أمّا غيرها فكلّها أساليب لهذا القانون تتغيّر حسب تغيّر الزمان.

2- نشر العلم و الثقافة أصل ثابت في الإِسلام، و أمّا تحقيق ذلك و تعيين كيفيته فهو موكول إلي الزمان، فعنصر الزمان دخيل في تطبيق الأَصل الكلّي

حسب مقتضيات الزمان.

3- التشبّه بالكفار أمر مرغوب عنه حتي إنّ الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أمر بخضب الشيب و قال: «غيّروا الشيب و لا تشبهوا باليهود»، و الأَصل الثابت هو صيانة المسلمين من التشبّه بالكافرين، و لما اتسعت دائرة الإِسلام و اعتنقته شعوب مختلفة و كثر فيهم الشيب تغير الأسلوب، و لمّا سُئِلَ علي- عليه السّلام- عن ذلك، فقال: «إنّما قال- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- ذلك و الدين قلّ، فأمّا الآن فقد اتسع نطاقه و ضرب بجرانه فامرؤٌ و ما اختار» «2»

______________________________

(1) الأَنفال: 60.

(2) نهج البلاغة: قسم الحكم، رقم 16.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 328

4- انّ روح القضاء الإِسلامي هو حماية الحقوق و صيانتها، و كان الأسلوب المتبع في العصور السابقة هو أسلوب القاضي الفرد، و قضاؤه علي درجة واحدة قطعية، و كان هذا النوع من القضاء مؤَمِّناً لهدف القضاء، و لكن اليوم لمّا دبّ الفساد إلي المحاكم و قلَّ الورع اقتضي الزمان أن يتبدل أسلوب القضاء إلي أسلوب محكمة القضاة الجمع، و تعّدد درجات المحاكم حسب المصلحة الزمانية التي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط، و قد ذكرنا كيفية ذلك في بحوثنا الفقهية «1» فزبدة القول هي: 1- انّ عنصري الزمان و المكان لا تَمسَانِ حصر التشريع في اللّه سبحانه أولًا، و لا كرامة الكبريات و الأصول الشرعية ثانياً.

2- تأثير عنصري الزمان و المكان في محقّقات الموضوع.

3- تأثيرهما في الوقوف علي ملاكات الأَحكام.

4- تأثيرهما في كيفية إجراء الحكم.

5- تأثيرهما في منح نظرة جديدة نحو المسائل.

6- تأثيرهما في تعيين الأَساليب.

هذا كلّه في تأثيرهما في الاجتهاد و استنباط الاحكام الأَوّلية، و أمّا تأثيرهما في الأَحكام الحكومية فسيوافيك البحث عنه في الفصل

الثاني:

التفسير الخاطيَ أو تغيير الاحكام حسب المصالح

قد ظهر ممّا ذكرنا انّ القول بتأثير عنصري الزمان و المكان يجب أن يحدّد بمالا يمس كرامة الأَصلين السابقين: حصر التقنين باللّه سبحانه و تعالي، تأبيد الاحكام

______________________________

(1) انظر نظام القضاء في الشريعة الإِسلامية الغرّاء حيث ذكرنا فيه أنّ تعدّد درجات المحاكم لا ينافي كون القضاء الأَوّل لازم الاجراء.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 329

الشرعية غير انّه ربّما يفسر التأثير بنحو خاطئ و هو تغيير الأَحكام الشرعية حسب المصالح الزمنية و بهذا يبرّر مخالفة بعض الخلفاء للكتاب و السنّة قائلًا بأنّ للحاكم الأَخذ بالمصالح و تفسير الاحكام علي ضوئها، و لنقدّم نموذجاً.

دلّ الكتاب و السنّة علي بطلان الطلاق ثلاثاً، و انّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخري، يتخلّل بينها رجوع أو نكاح، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة أو كرّر الصيغة فلا يحتسب إلّا طلاقاً واحداً.

و قد جري عليه رسول اللّه و الخليفة الأَوّل و كان- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- لا يمضي من الطلاق الثلاث إلّا واحدة منها، و كان الأَمر علي هذا إلي سنتين من خلافة عمر، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم «1».

إنّ من المعلوم انّ استخدام الرأي فيما فيه نص من كتاب أو سنة، أمر خاطئ، و لو صحّ استخدامه فإنّما هو فيما لا نصّفيه، و لمّا كان ذلك يمسّ كرامة الخليفة جاء الآخرون يبرّرون عمله بتغيّر الاحكام، بالمصالح و المفاسد، و يُعد ابن القيم أحد المتحمّسين لهذا التبرير، قال: لمّا رأي عمر بن الخطاب انّ مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق لا تندفع إلّا بإمضائها علي الناس، و رأي مصلحة الإِمضاء أقوي من مفسدة

الإِيقاع، أمضي عمل الناس و جعل الطلاق ثلاثاً ثلاثاً «2».

يلاحظ عليه: أنّ إبطال الشريعة أمر محرّم لا يستباح بأي عنوان، فلا يصحّ لنا تغيير الشريعة بالمعايير الاجتماعية من الصلاح و الفساد، و أمّا مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق الثلاث فيجب أن تدفع عن طريق آخر لا عن طريق إمضاء ما ليس بمشروع مشروعاً.

______________________________

(1) مسلم: الصحيح: باب الطلاق الثلاث، الحديث 1.

(2) إعلام الموقعين: 3- 48.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 330

و العجب انّ ابن القيم توجه إلي ذلك و قال: كان أسهل من ذلك (تصويب الطلقات ثلاثاً) أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث، و يحرّمه عليهم، و يعاقب بالضرب و التأديب من فعله لئلّا يقع المحذور الذي يترتّب عليه، ثمّ نقل عن عمر ابن الخطاب ندامته علي التصويب، قال: قال عمر بن الخطاب: ما ندمت علي شي ء مثل ندامتي علي ثلاث «1».

______________________________

(1) إعلام الموقعين: 3- 36، و أشار إليه في كتابه الآخر إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان: 1- 336.

و قد مرّ الكلام في تصويب الخليفة في ص 242 فلاحظ.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 331

المبحث الثاني: دور الزمان و المكان في الأَحكام الحكومية

ثم إنّ ما ذكرناه يرجع إلي دور الزمان و المكان في عملية الاجتهاد و الإِفتاء، و أمّا دورهما في الأَحكام الحكومية التي تدور مدار المصالح و المفاسد و ليست من قبيل الأَحكام الواقعية و لا الظاهرية، فلها باب واسع نأتي بكلام موجز فيه. إنّ تقدّم العنوانات الثانوية علي الأَوّلية يحلّ العُقَد و المشاكل في مقامين: الأَوّل: إذا كان هناك تزاحم بين الحكم الواقعيّ الأَوّلي و الحكم الثانوي، فيقدّم الثاني علي الأَوّل، إمّا من باب الحكومة أو من باب التوفيق العرفيّ، كتقدّم لا ضرر و لا حرج علي الأَحكام الضررية و

الحرجية، و هذا النوع من التقدّم يرجع إلي باب الإِفتاء و الاستنباط. الثاني: إذا كان هناك تزاحم بين نفس الأَحكام الواقعيّة بعضها مع بعض بحيث لو لم يتدخَّل في فك العُقَد، و حفظ الحقوق لحصلت مفاسد، و هنا يأتي دور الحاكم و الفقيه الجامع للشرائط، المتصدي لمنصب الولاء، بتقديم بعض الأَحكام الواقعيّة علي بعض بمعني تعيين أنّ المورد من صغريات أيّ واحد من الحكمين الواقعيين، و لا يحكم الحاكم في المقام إلّا بعد دقة و إمعان و دراسة للظروف الزمانية و المكانية و مشاورة العقلاء و الخبراء. و بعبارة أُخري: إذا وقع التزاحم بين الأَحكام الأَوليّة فيقدّم بعضها علي

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 332

بعض في ظلّ هذه العنوانات الثانوية «1» و يقوم الحاكم الإِسلاميّ بهذه المهام بفضل الولاية المعطاة له، فتصير هذه العنوانات مفاتيح بيد الحاكم، يرفع بها التزاحم و التنافي، فمعني مدخليّة الزمان و المكان في حكم الحاكم عبارة عن تأثيرهما في تعيين أنّ المقام صغري لأَي كبري من الكبريات، و أيّ حكم من الأَحكام الواقعية، فيكون حكمه بتقديم إحدي الكبريين شكلًا إجرائيّاً للأَحكام الواقعية و مراعاة لحفظ الأَهمّ و تخطيطاً لحفظ النظام و عدم اختلاله.

و بذلك يظهر أنّ حكم الحاكم الإِسلامي يتمتّع بميزتين:

الأولي: إنّ حكمه بتقديم إحدي الكبريين، ليس حكماً مستنبطاً من الكتاب و السنّة مباشرة و إن كان أساس الولاية و أصلها مستنبطاً و مستخرجاً منهما، إلّا أنّ الحاكم لمّا اعتلي منصّة الحكم و وقف علي أنّ المقام من صغريات ذلك الحكم الواقعيّ دون الآخر للمقاييس التي عرفتها، يصير حكمه حكوميّاً و ولائياً في طول الاحكام الأَوّلية و الثانوية و ليس الهدف من وراء تسويغ الحكم له إلّا الحفاظ علي الأَحكام

الواقعيّة برفع التزاحم، و لذلك سمّيناه حكماً إجرائيّاً، ولائيّاً حكوميّاً لا شرعيّاً، لما عرفت من أنّ حكمه علاجيّ يعالج به تزاحم الأَحكام الواقعية في ظلّ العنوانات الثانوية، و ما يعالج به حكم لا من سنخ المعالَج، و لو جعلناه في عرض الحكمين لزم انخرام توحيد التقنين و التشريع.

الثانية: إنّ حكم الحاكم لمّا كان نابعاً عن المصالح العامّة و صيانة القوانين الإِسلامية لا يخرج حكمه عن إطار الاحكام الأَوّليّة و الثانويّة، و إن لم يكن منهما

______________________________

(1) العناوين الثانوية عبارة عن: 1- الضرورة و الاضطرار.

2- الضرر و الضرار.

3- العسر و الحرج.

4- الأَهم فالأَهم.

5- التقيّة.

6- الذرائع للواجبات و المحرمات.

7- المصالح العامّة للمسلمين.

و هذه العنوانات أدوات بيد الحاكم، يحل بها مشكلة التزاحم بين الأَحكام الواقعية و الأَزمات الاجتماعية.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 333

بل في طولهما و لأَجل ذلك قلنا إنّه يعالج التزاحم فيها، في ظلّ العنوانات الثانويّة.

و بالجملة الفقيه الحاكم بفضل الولاية الإلهية يرفع جميع المشاكل الماثلة في حياتنا، فإنّ العنوانات الثانوية التي تلوناها عليك أدوات بيد الفقيه يسد بها كل فراغ حاصل في المجتمع، و هي في الوقت نفسه تغيّر الصغريات و لا تمس كرامة الكبريات.

و لأَجل توضيح المقام، نأتي بأمثلة نبين فيها مدخليّة المصالح الزمانية و المكانية في حكم الحاكم وراء دخالتهما في فتوي المفتي.

الأَوّل: لا شكّ أنّ تقوية الإِسلام و المسلمين من الوظائف الهامّة، و تضعيف و كسر شوكتهم من المحرّمات الموبقة، هذا من جانب، و من جانب آخر أنّ بيع و شراء التبغ أمر محلّل في الشرع، و الحكمان من الأَحكام الأَوّلية و لم يكن أيّ تزاحم بينهما إلّا في فترة خاصة عند ما أعطي الحاكم العرفيّ امتيازاً للشركة الأَجنبية، فصار بيعه و شراؤه

بيدها، و لمّا أحسّ الحاكم الشرعي آن ذاك السيد الميرزا الشيرازي (قدّس سرّه) انّ استعماله يوجب نشوب مخالب الكفّار في هيكل المجتمع الإِسلامي، حكم (قدّس سرّه) بأنّ استعماله بكافة أنواعه كمحاربة وليّ العصر- عليه السّلام- «1» فلم يكن حكمه نابعاً إلّا من تقديم الأَهمّ علي المهمّ أو من نظائره، و لم يكن الهدف من الحكم إلّا بيان أنّ المورد من صغريات حفظ مصالح الإِسلام و استقلال البلاد، و لا يحصل إلّا بترك استعمال التبغ بكافة صوره، فاضطرت الشركة حينئذ إلي فسخ العقد.

الثاني: إنّ حفظ النفوس من الأُمور الواجبة، و تسلّط الناس علي أموالهم و حرمة التصرّف في أموالهم أمر مسلّم في الإِسلام أيضاً، إلّا أنّه علي سبيل المثال

______________________________

(1) صدر هذا الحكم عام 1891 م و حكمه كالتالي: بسم اللّه الرحمن الرحيم: «اليوم استعمال التبغ (التنباك) و التتن، بأي نحو كان، بمنزلة محاربة إمام الزمان عجل اللّه تعالي فرجه الشريف».

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 334

ربّما يتوقّف فتح الشوارع في داخل البلاد و خارجها علي التصرّف في الأَراضي و الأَملاك، فلو استعدّ مالكها بطيب نفس منه فهو و إلّا فللحاكم ملاحظة الأَهمّ بتقديمه علي المهمّ، و يحكم بجواز التصرّف بلا إذن، غاية الأَمر يضمن لصاحب الأَراضي قيمتها السوقية.

الثالث: إنّ إشاعة القسط و العدل ممّا ندب إليه الإِسلام و جعله غاية لبعث الرسل، قال سبحانه: " لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْمِيزٰانَ لِيَقُومَ النّٰاسُ بِالْقِسْطِ" «1» و من جانب إنّ الناس مسلّطون علي أموالهم يتقلّبون فيها كيفما شاءوا، فإذا كان هناك تزاحم بين الحكمين الواقعيين، كما في احتكار المحتكر أيّام الغلاء أو إجحاف أصحاب الحرف و الصنعة و غيرهم، فللحاكم الإِسلامي حسب الولاية

الإِلهيّة الامعان و الدقة و الاستشارة و المشورة في حلّ الازمة الاجتماعية حتي يتبيّن له أنّ المقام من صغريات أيّ حكم من الحكمين، فلو لم تحلّ العقد بالوعظ و النصيحة، فآخر الدواء الكيّ، أي: فتح المخازن و بيع ما احتكر بقيمة عادلة و تسعير الأَجناس و غير ذلك.

الرابع: لا شكّ أنّ الناس أحرار في تجاراتهم مع الشركات الداخلية و الخارجية، إلّا أنّ إجراء ذلك، إن كان موجباً لخلل في النظام الاقتصاديّ أو ضعف في البنية الماليّة للمسلمين، فللحاكم تقديم أهمّ الحكمين علي الآخر حسب ما يري من المصالح.

الخامس: لو رأي الحاكمُ أنّ بيع العنب إلي جماعة لا يستعملونه إلّا لصنع الخمر و توزيعه بالخفاء، أورث فساداً عند بعض أفراد المجتمع و انحلالًا في شخصيّتهم، فله أن يمنع بيع العنب إلي هؤلاء.

______________________________

(1) الحديد: 25.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 335

إلي غير ذلك من المواضع الكثيرة التي لا يمكن للفقيه الحاكم غضّ النظر عن الظروف المحيطة به، حتي يتضح له أنّ المجال مناسب لتقديم أي الحكمين علي الآخر و تشخيص الصغري كما لا يخفي.

هذا كلّه حول مدخلية الزمان و المكان في الاجتهاد في مقام الإِفتاء أوّلًا و منصة الحكم ثانياً، و أمّا سائر ما يرجع إلي ولاية الفقيه فنتركه إلي محلّه.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 336

دراسة في تأثير الزمان و المكان في الفقه السنّي

اشارة

طرحت هذه المسألة من قبل بعض فقهاء السنّة قديماً و حديثاً، و إليك التنويه بأسمائهم و ببعض كلماتهم: 1- ابن القيم الحنبلي (المتوفّي 751 ه) يقول في فصل «تغيّر الفتوي و اختلافها بحسب تغيّر الأَزمنة و الأَمكنة و الأَحوال و النيّات و العوائد»: هذا فصل عظيم النفع، و قد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم علي الشريعة أوجب من الحرج

و المشقّة، و تكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم انّ الشريعة الباهرة التي في أعلي رتب المصالح لا تأتي به، فإنّ الشريعة مبناها و أساسها علي الحِكَم و مصالح العباد في المعاش و المعاد، و هي عدل كلّها، و رحمة كلّها، و مصالح كلّها، و حكمة كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلي الجور، و عن الرحمة إلي ضدها، و عن المصلحة إلي المفسدة، و عن الحكمة إلي العبث فليست من الشريعة «1».

2- السيد محمد أمين أفندي الشهير ب «ابن عابدين» «2» مؤَلّف كتاب

______________________________

(1) اعلام الموقعين: 3- 14 ط دار الفكر و قد شغل بحثه 56 صفحة فلاحظ.

(2) هو محمد أمين الدمشقي، فقيه الديار الشامية و إمام الحنفية في عصره، ولد عام 1198 ه و توفي عام 1292 ه، له من الآثار «مجموعة رسائل» مطبوعة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 337

«مجموعة رسائل» قال ما نصّه: اعلم أنّ المسائل الفقهية إمّا أن تكون ثابتة بصريح النص، و إمّا أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد و رأي، و كثيراً منها ما يُبيّنه المجتهد علي ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أوّلًا، و لهذا قالوا في شروط الاجتهاد انّه لا بدّ فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الاحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم علي ما كان عليه أوّلًا، للزم منه المشقة و الضرر بالناس، و لخالف قواعدَ الشريعة المبنيّة علي التخفيف و التيسير و دفع الضرر و الفساد لبقاء العالم علي أتم نظام و أحسن أحكام، و لهذا تري مشايخ المذهب خالفوا ما نصّ عليه

المجتهد في مواضع كثيرة بناها علي ما كان في زمنه لعلمِهم بأنّه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً في قواعد مذهبه.

ثمَّ إنَّ ابن عابدين ذكر أمثلة كثيرة لما ذكره من الكبري تستغرق عدّة صحائف «1» و لنذكر بعض الأَمثلة: أ- إفتاؤهم بجواز الاستئجار علي تعليم القرآن و نحوه لانقطاع عطايا المعلِّمين التي كانت في الصدر الأَوّل، و لو اشتغل المعلِّمون بالتعليم بلا أُجرة يلزم ضياعهم و ضياع عيالهم، و لو اشتغلوا بالاكتساب في حرفة و صناعة، يلزم ضياع القرآن و الدين، فأفتوا بأخذ الأُجرة علي التعليم و كذا علي الإِمامة و الأَذان كذلك، مع أنّ ذلك مخالف لما اتّفق عليه أبو حنيفة و أبو يوسف و محمد بن الحسن الشيباني من عدم جواز الاستئجار و أخذ الأُجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم و الصلاة و الحج و قراءة القرآن و نحو ذلك.

______________________________

(1) انظر رسائل ابن عابدين: 1452- 123.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 338

ب- قول الإِمامين «1» بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفته لما نصّ عليه أبو حنيفة بناء علي ما كان في زمنه من غلبة العدالة، لأَنّه كان في الزمن الذي شهد له رسول اللّه بالخيريّة، و هما أدركا الزمن الذي فشا فيه الكذب، و قد نصّ العلماء علي أنّ هذا الاختلاف اختلاف عصر و أوان، لا اختلاف حجّة و برهان.

ج- تحقّق الإِكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول الامام «أبي حنيفة» بناء علي ما كان في زمنه من أنّ غير السلطان لا يمكنه الإِكراه ثمَّ كثر الفساد فصار يتحقّق الإِكراه من غيره، فقال محمد (ابن الحسن الشيباني) باعتباره، و أفتي به المتأخّرون لذلك.

و قد ساق الأَمثلة علي هذا

النمط إلي آخر الرسالة.

3- و قد طرق هذا البحث أيضاً الأُستاذ مصطفي أحمد الزرقاء في كتابه القيّم «المدخل الفقهي العام» و قال ما نصّه: الحقيقة انّ الاحكام الشرعية التي تتبدّل بتبدّل الزمان مهما تغيرت باختلاف الزمن، فإنّ المبدأ الشرعي فيها واحد و ليس تبدّل الاحكام إلّا تبدّل الوسائل و الأَساليب الموصلة إلي غاية الشارع، فإنّ تلك الوسائل و الأَساليب في الغالب لم تُحددها الشريعة الإِسلامية بل تركتها مطلقة لكي يُختار منها في كلّ زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجاً و أنجح في التقويم علاجاً «2».

______________________________

(1) الظاهر انّه يريد تلميذي أبي حنيفة: أبي يوسف و محمد بن الحسن الشيباني و لم يكن الفصل بين الإِمام أبي حنيفة و بينهم طويلًا، فقد توفّي أبو حنيفة عام 150 ه و توفّي أبو يوسف عام 182 ه و توفي الشيباني عام 189 ه و إذا كان كذلك فلما ذا يعدّون القرون الثلاثة الأُولي خير القرون، و الحقّ انّ بين السلف و الخلف رجالًا صالحين و أشخاصاً طالحين، و لم يكن السلف خيراً من الخلف، و لا الخلف أكثر شرّاً من السلف فقد شهد القرن الأَوّل وقعة الطفّ و الحرّة في المدينة.

(2) المدخل الفقهي العام: 2- 925.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 339

ثمّ إنّ الأُستاذ جعل المنشأ لتغير الاحكام أحد أمرين: أ- فساد الأَخلاق، و فقدان الورع و ضعف الوازع، و أسماه بفساد الزمان.

ب- حدوث أوضاع تنظيمية، و وسائل فرضية، و أساليب اقتصادية.

ثمّ إنّه مثّل لكل من النوعين بأمثلة مختلفة اقتبس بعضها من رسالة «نشر العرف» للشيخ ابن عابدين، و لكنّه صاغ الأَمثلة في ثوب جديد، و لنذكر كلا الأَمرين و أمثلتهما.

أ- تغيير الأَحكام الاجتهادية لفساد الزمان

1- من المقرر في أصل المذهب الحنفي

أنّ المدين تنفذ تصرفاته في أمواله بالهبة و الوقف و سائر وجوه التبرّع، و لو كانت ديونه مستغرقة أمواله كلّها، باعتبار انّ الديون تتعلّق بذمّته فتبقي أعيان أمواله حرة، فينفذ فيها تصرّفه، و هذا مقتضي القواعد القياسية.

ثمّ لما فسدت ذمم الناس و كثر الطمع و قلّ الورعُ و أصبح المدينون يعمدون إلي تهريب أموالهم من وجه الدائنين عن طريق وقفها، أو هبتها لمن يثقون به من قريب أو صديق، أفتي المتأخرون من فقهاء المذهبين الحنبلي و الحنفي بعدم نفاذ هذه التصرفات من المدين إلّا فيما يزيد عن وفاء الدين من أمواله» «1» هذا في الفقه السنّي، و لكن في الفقه الإِمامي ليس هناك أي مشكلة حتي نتوصل بعنصر الزمان و نلتزم بتغيّر الاحكام في ظلّه، لَانّ للمحجور حالتين: الأُولي: إذا حجر عليه الحاكم و حكم بإفلاسه فعند ذاك يتعلّق حقّ الغرماء بأمواله لا بذمَّته، نظير تعلّق حقّ المرتهن بالعين المرهونة فلا يجوز له التصرف

______________________________

(1) مصطفي الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2، برقم 543.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 340

فيها بعوض كالبيع و الإِجارة، و بغير عوض كالوقف و الهبة إلّا بإذنهم و إجازتهم.

الثانية: إذا لم يُحجر عليه فتصرفاته علي قسمين: قسم لا يريد الفرار من أداء الديون و لا يلازم حرمان الديّان، فيجوز له التصرّف بأمواله كيفما شاء، و القسم الآخر يريد من الصلح أو الهبة الفرار من أداء الديون، فالحكم بصحة تصرفاته فيما إذا لم يرج حصول مال آخر له باكتساب و نحوه مشكل «1».

وجهه: انّ الحكم بلزوم تنفيذها حكم ضرري يلحق بأصحاب الديون فلا يكون نافذاً، أضف إلي ذلك انصراف عمومات الصلح و الهبة و سائر العقود عن مثل هذه العقود.

و علي ذلك فلا

داعي لتبنّي تغير الحكم الشرعي بالعنصرين.

بل الحكم الشرعي السائر مع الزمان موجود في أصل الشرع بلا حاجة إلي التوصل بعنصر «فساد الزمان».

2- في أصل المذهب الحنفي انّ الغاصب لا يضمن قيمة منافع المغصوب في مدة الغصب بل يضمن العين فقط إذا هلكت أو تعيَّبت، لَانّ المنافع عندهم ليست متقوّمة في ذاتها و إنّما تقوم بعقد الإِجارة و لا عقد في الغصب.

و لكن المتأخرين من فقهاء المذهب الحنفي نظروا تجرّؤ الناس علي الغصب و ضعف الوازع الديني في نفوسهم، فأفتوا بتضمين الغاصب أُجرة المثل عن منافع المغصوب إذا كان المغصوب مال وقف أو مال يتيم أو معداً للاستغلال علي خلاف الأَصل القياسي في المذهب زجراً للناس عن العدوان لفساد الزمان.

ثمّ أضاف إليها في التعليقة بأنّ الأَئمّة الثلاثة ذهبوا إلي عكس ما ذهب إليه الاجتهاد الحنفي، فاعتبروا المنافع متقوّمة في ذاتها، كالأَعيان، و أوجبوا تضمين الغاصب أُجرة المثل عن المال المغصوب مدة الغصب، سواء استعرض الغاصب منافعه أو عطّلها ثمّ قال: و هذا الاجتهاد أوجه و أصلح «2».

______________________________

(1) لاحظ وسيلة النجاة: 133، كتاب الحجر، المسألة الأُولي؛ و تحرير الوسيلة: 2- 16.

(2) مصطفي الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2، برقم 544.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 341

أقول: إنّ القول بعدم ضمان الغاصب المنافع المستوفاة مستند إلي ما تفرّد بنقله عروة بن الزبير عن عائشة أنّ رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- قضي أنّ الخراج بالضمان «1».

فزعمت الحنفية انّ ضمان قيمة المغصوب لا يجتمع مع ضمان المنافع، و ذلك لَانّ ضمان العين في مقابل كون الخراج له، و لكن الاجتهاد غير صحيح جدّاً، لَانّ الحديث ناظر إلي البيوع الصحيحة، مثلًا: إذا اشتري عبداً أو غيره فيستغلّه زماناً

ثمّ يعثر منه علي عيب كان فيه عند البائع، فله ردّ العين المبيعة و أخذ الثمن، و يكون للمشتري ما استغله، لَانّ المبيع لو تلف في يده لكان في ضمانه و لم يكن له علي البائع شي ء، و الباء في قوله بالضمان متعلّق بمحذوف تقديره: الخراج مستحق بالضمان، أي في مقابلة الضمان، أي منافع المبيع بعد القبض تبقي للمشتري في مقابلة الضمان اللازم عليه بطرف المبيع.

هذا هو معني الحديث، و عليه شرّاح الحديث «2» و لا صلة له بغصب الغاصب مال الغير و استغلال منافعه.

و الذي يفسّر الحديث وراء فهم الشرّاح أنّ عروة بن الزبير نقل عن عائشة أنّ رجلًا اشتري عبداً، فاستغلّه ثمّ وجد به عيباً فردّه، فقال: يا رسول اللّه إنّه قد استغلّ غلامي، فقال رسول اللّه: «الخراج بالضمان» «3».

و قد ورد من طرقنا أنّ الامام الصادق- عليه السّلام- لمّا سمع فتوي أبي حنيفة بعدم ضمان الغاصب قيمة المنافع التي استوفاها، قال: «في مثل هذا القضاء و شبهه تحبس السماء ماءَها و تمنع الأَرضُ بركتها» «4».

______________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل: 6- 49؛ و سنن الترمذي: 3، كتاب البيوع برقم 1286؛ و سنن النسائي: 7- 254، باب الخراج بالضمان.

(2) لاحظ شرح الحافظ جلال الدين السيوطي و حاشية الامام السندي علي سنن النسائي و غيره.

(3) سنن ابن ماجه: 2، برقم 2243.

(4) وسائل الشيعة: الجزء 13، الباب 17 من أبواب أحكام الإِجارة، الحديث 1 و الحديث طويل جدير بالمطالعة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 342

ثمّ إنّه يدل علي ضمان المنافع المستوفاة عموم قوله- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «لا يحل مال امرئ مسلم لأَخيه إلّا عن طيب نفسه» و المنافع مال، و لأَجل ذلك

يجعل ثمناً في البيع و صداقاً في النكاح، مضافاً إلي السيرة العقلائية في تضمين الغاصب المنافع المستوفاة، و علي ذلك فليس هاهنا مشكلة حتي تعالج بعنصر الزمان، و لم يكن الحكم المزعوم حكماً شرعيّاً حتي يتغير لأَجل فساد أهل الزمان.

3- في أصل المذهب الحنفي انّ الزوجة إذا قبضت مؤَجّل مهرها تُلْزم بمتابعة زوجها حيث شاء، و لكن المتأخّرين لحظوا انقلاب الأَخلاق و غلبة الجور، و انّ كثيراً من الرجال يسافرون بزوجاتهم إلي بلاد نائية ليس لهنّ فيها أهل و لا نصير، فيسيئون معاملتهنّ و يجورون عليهنّ، فأفتي المتأخرون بأنّ المرأة لو قبضت مؤَجل مهرها لا تجبر علي متابعة زوجها، إلي مكان إلّا إذا كان وطناً لها و قد جري فيه عقد الزواج بينهما، و ذلك لفساد الزمان و أخلاق الناس، و علي هذا استقرت الفتوي و القضاء في المذهب «1».

أقول: إنّ لحلّ هذا النوع من المشاكل طريقاً شرعياً في باب النكاح، و هو اشتراط عدم إخراجها من وطنها أو أن يسكنها في بلد خاص، أو منزل مخصوص في عقد النكاح، فيجب علي الزوج الالتزام به.

و ليس مثل هذا الاشتراط مخالفاً للكتاب و السنّة.

كما هو مبيّن في محله «2» و لو افترضنا غفلة أولياء العقد عن الاشتراط و أراد الزوج إخراجها إلي بلاد نائية يصعب عليها العيش فيها و يعد حرجيّا لها، فللزوجة رفع الشكوي إلي الحاكم بغية عدم إخراجها من وطنها، فيحكم بعد تبيّن الحال بعدم الإِخراج نتيجة طروء العنوانات الثانوية كالحرج و الضرر، فليس للزمان هنا أي مدخلية في تغيير الحكم، بل يكمن الحكم الشرعي في نفس الشرع.

______________________________

(1) مصطفي الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2، برقم 546.

(2) لاحظ «المختار في أحكام الخيار» للمؤلف.

مصادر الفقه الإسلامي

و منابعه، ص: 343

4- في أصل المذهب الحنفي و غيره انّ القاضي يقضي بعلمه الشخصي في الحوادث، أي أنّ علمه بالوقائع المتنازع فيها يصح مستنداً لقضائه، و يغني المدّعي عن إثبات مدّعاه بالبيّنة، فيكون علم القاضي بواقع الحال هو البيّنة، و في ذلك أقضية مأثورة عن عمر و غيره، و لكن لوحظ فيما بعد أن القضاة قد غلب عليهم الفساد و السوء و أخذ الرشا، و لم يعد يختار للقضاء الأَوفر ثقة و عفة و كفاية بل الأَكثر تزلّفاً إلي الولاة و سعياً في استرضائهم و إلحافاً في الطلب.

لذلك أفتي المتأخّرون بأنّه لا يصحّ أن يقضي القاضي بعلمه الشخصي في القضاء بل لا بدّ أن يستند قضاؤَه إلي البيّنات المثبتة في مجلس القضاء حتي لو شاهد القاضي بنفسه عقداً أو قرضاً أو واقعة ما بين اثنين خارج مجلس القضاء ثمّ ادّعي به أحدهما و جحدها الآخر، فليس للقاضي أن يقضي للمدّعي بلا بيّنة، إذ لو ساغ ذلك بعد ما فسدت ذمم كثير من القضاة، لزعموا العلم بالوقائع زوراً، و ميلًا إلي الأَقوي وسيلة من الخصمين، فهذا المنع و إن أضاع بعض الحقوق لفقدان الإِثبات لكنّه يدفع باطلًا كثيراً، و هكذا استقر عمل المتأخرين علي عدم نفاذ قضاء القاضي بعلمه.

علي أنّ للقاضي أن يعتمد علي علمه في غير القضاء من أُمور الحسبة و التدابير الادارية الاحتياطية، كما لو علم ببينونة امرأة مع استمرار الخلطة بينها و بين زوجها، أو علم بغصب مال؛ فإنّ له أن يحول بين الرجل و مطلقته، و أن يضع المال المغصوب عند أمين إلي حين الإِثبات «1».

أقول: يشترط المذهب الإِمامي في القاضي: العدالة و الاجتهاد المطلق، فالقاضي الجائر لا يستحق القضاء و

لا ينفذ حكمه.

و علي ضوء ذلك فلا يترتب علي عمل القاضي بعلمه أي فساد، لأَنّ العدالة

______________________________

(1) مصطفي الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2، برقم 546.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 344

تصدّه عن ارتكاب الآثام.

و لو افترضنا إشغال منصة القضاء بالفرد الجائر فليس للقاضي العمل بعلمه في حقوق اللّه سبحانه، كما إذا علم أنّ زيداً زني أو شرب الخمر أو غير ذلك، فلا يصحّ له إقامة الدعوي و إجراء الحدود لاستلزامه وحدة القاضي و المدعي من غير فرق بين كونه عادلًا أو غيره.

و أمّا العمل بعلمه في حقوق الناس فلا يعمل بعلم غير قابل للانتقال إلي الغير بل يقتصر في العمل بعلمه بنحو لو طولب بالدليل لعرضه و إلّا فلا يجوز، و قد حقّق ذلك في كتاب القضاء.

و تخصيص جواز العمل بهذا النوع من العلم، يصدّه عن ادّعاء العلم بالوقائع زوراً.

5- من المبادي المقرّرة في أصل المذهب انّ العمل الواجب علي شخص شرعاً لا يصحّ استئجاره فيه و لا يجوز له أخذ أُجرة عليه، و من فروع هذا المذهب الفقهي انّ القيام بالعبادات و الأَعمال الدينية الواجبة كالامامة و خطبة الجمعة و تعليم القرآن و العلم لا يجوز أخذ الأُجرة عليه في أصل المذهب بل علي المقتدر أن يقوم بذلك مجاناً لَانّه واجب ديني.

غير انّ المتأخّرين من فقهاء المذهب لحظوا قعود الهمم عن هذه الواجبات، و انقطاع الجرايات من بيت المال عن العلماء ممّا اضطرهم إلي التماس الكسب، حتي أصبح القيام بهذه الواجبات غير مضمون إلّا بالأَجر، و لذلك أفتي المتأخّرون بجواز أخذ الأجور عليها حرصاً علي تعليم القرآن و نشر العلم و إقامة الشعائر الدينية بين الناس «1».

أمّا الفقه الإِمامي، فالمشكلة فيه مرتفعة بوجهين: الأَوّل: إذا

كان هناك بيت مال معدّاً لهذه الأَغراض لا تبذل الأُجرة في مقابل

______________________________

(1) مصطفي الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2، برقم 547.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 345

العمل، بل الحاكم يؤَمّن له وسائل الحياة حتي يتفرّغ للواجب.

الثاني: امّا إذا لم يكن هناك بيت مال فإذا كان أخذ الأُجرة حراماً منصوصاً عليه و كان من صلب الشريعة فلا يمسّه عنصر الزمان و لكن يمكن الجمع بين الأَمرين و تحليله عن طريق آخر، و هو أن يجتمع أولياء الصبيان أو غيرهم ممّن لهم حاجة إلي إقامة القضاء و الأَذان و الإِفتاء فيشاركون في سد حاجة المفتي و القاضي و المؤذن و المعلم حتي يتفرّغوا لَاعمالهم العبادية بلا هوادة و تقاعس، علي أنّ ما يبذلون لا يعد أُجرة لهم و إنّما هو لتحسين وضعهم المعاشي.

و بعبارة أُخري: القاضي و المفتي و المؤذّن و المعلم يمارس كلّ أعماله للّه سبحانه، و لكن بما انّ الاشتغال بهذه المهمة يتوقّف علي سد عيلتهم و رفع حاجتهم فالمعنيّون من المؤمنين يسدّون عيلتهم حتي يقوموا بواجبهم و إلّا فكما أنّ الإِفتاء واجب، فكذلك تحصيل الضروريات لهم و لعيالهم أيضاً واجب.

و عند التزاحم يقدّم الثاني علي الأَوّل إذ في خلافه، خوف هلاك النفوس و انحلال الأسرة، و لكن يمكن الجمع بين الحكمين علي الطريق الذي أشرنا إليه.

6- انّ الشهود الذين يقضي بشهادتهم في الحوادث يجب أن يكونوا عدولًا، أي ثقات، و هم المحافظون علي الواجبات الدينية المعروفون بالسرّ و الأَمانة، و انّ عدالة الشهود شريطة اشترطها القرآن لقبول شهادتهم و أيّدتها السنّة و أجمع عليها فقهاء الإِسلام.

غير أنّ المتأخّرين من فقهائنا لحظوا ندرة العدالة الكاملة التي فسّرت بها النصوص لفساد الزمن و ضعف الذمم و فتور

الحس الديني الوازع، فإذا تطلب القضاة دائماً نصاب العدالة الشرعية في الشهود ضاعت الحقوق لامتناع الإِثبات، فلذا أفتوا بقبول شهادة الأَمثل فالأَمثل من القوم حيث تقلّ العدالة الكاملة.

و معني الأَمثل فالأَمثل: الأَحسن فالأَحسن حالًا بين الموجودين، و لو كان

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 346

في ذاته غير كامل العدالة بحدها الشرعي، أي إنّهم تنازلوا عن اشتراط العدالة المطلقة إلي العدالة النسبية «1».

أقول: إنّ القرآن كما تفضّل به الكاتب صريح في شريطة العدالة في تنفيذ شهادته، يقول سبحانه: " وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ" «2» و قال سبحانه: " وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ" «3» مضافاً إلي الروايات الواردة في ذلك المضمار، فتنفيذ شهادة غير العدل تنفيذ بلا دليل أو مخالف لصريح الكتاب، و لكن يمكن للقاضي تحصيل القرائن و الشواهد التي منها شهادة الأَمثل فالأَمثل التي تثبت أحد الطرفين علي وجه يفيد العلم للقاضي، و يكون علمه قابلًا للانتقال إلي الآخرين من دون حاجة إلي العمل بقول الأَمثل فالأَمثل.

ثمّ إنّ ترك العمل بشهادة غير العدول كما هو مظنّة إضاعة الحقوق، فكذلك هو مظنّة الإِضرار علي المحكوم عليه لعدم وجود العدالة في الشاهد حتّي تصونه عن الكذب عليه، فالأَمر يدور بين المحذورين.

لو فسّر القائل العدالة بالتحرّز عن الكذب و إن كان فاسقاً في سائر الجوارح لكان أحسن من تفسيره بالعدالة المطلقة ثمّ العدول عنها لأَجل فساد الزمان.

7- أفتي المتأخّرون في إثبات الأَهلّة لصيام رمضان و للعيدين بقبول رؤية شخصين، و لو لم يكن في السماء علّة تمنع الرؤيَة من غيم أو ضباب أو غبار بعد أن كان في أصل المذهب الحنفي، لا يثبت إهلال الهلال عند صفاء السماء إلّا

______________________________

(1) مصطفي الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 9342- 933

برقم 551.

(2) البقرة: 282.

(3) الطلاق: 2.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 347

برؤية جمع عظيم، لَانّ معظم الناس يلتمسون الرؤيَة، فانفراد اثنين بادّعاء الرؤيَة مظنّة الغلط أو الشبهة.

و قد علّل المتأخّرون قبول رؤية الاثنين بقعود الناس عن التماس رؤية الهلال، فلم تبق رؤية اثنين منهم مظنّة الغلط إذا لم يكن في شهادتهما شبهة أو تهمة تدعو إلي الشك و الريبة «1».

و أمّا في الفقه الإِمامي، فلا يعتبر قول العدلين عند صفاء السماء إذا اجتمع الناس للروية و حصل الخلاف و التكاذب بينهم بحيث يقوي احتمال اشتباه العدلين.

و أمّا إذا لم يكن هناك اجتماع للروية كما هو مورد نظر الكاتب حيث قال: لقعود الناس عن التماس رؤية الهلال، فقبول قول العدلين علي وفاق القاعدة لا علي خلافها، فليس للزمان هناك تأثير في الحكم الشرعي.

و بعبارة أُخري: ليس في المقام دليل شرعي علي وجه الإِطلاق يدل علي عدم قبول قول العدلين عند صفاء السماء حتّي يؤخذ بإطلاقه في كلتا الصورتين: كان هناك اجتماع للروية أم لم يكن، بل حجّية دليل البيّنة منصرف عن بعض الصور، و هو ما إذا كان هناك اجتماع من الناس للروية و حصل الخلاف و التكاذب بحيث قوي احتمال الاشتباه في العدلين، و أمّا في غير هذه الصورة فإطلاق حجّية أدلّة البيّنة باق بحاله، و منها ما إذا ادّعي العدلان و لم يكن اجتماع و لا تكاذب و لا مظنّة اشتباه.

هذه هي المسائل التي طرحها الأُستاذ مصطفي أحمد الزرقاء مثالًا لتغيّر الآراء الفقهية و الفتاوي لأَجل فساد الزمان، و قد عرفت أنّه لا حاجة لنا في العدول عن الحكم الشرعي، و ذلك لأَحد الأَمرين:

______________________________

(1) مصطفي الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2- 934 برقم 549.

مصادر الفقه

الإسلامي و منابعه، ص: 348

أ- إمّا لعدم ثبوت الحكم الاوّلي كما في عدم ضمان الغاصب للمنافع المستوفاة.

ب- أو لعدم الحاجة إلي العدول عن الحكم الشرعي، بل يمكن حل المشكل عن طريق آخر مع صيانة الحكم الاوّلي، كما في الأَمثلة الباقية.

ب. تغيير الأَحكام الاجتهادية لتطوّر الوسائل و الأَوضاع

قد سبق من هذا الكاتب انّ عوامل التغيير علي قسمين: أحدهما: ما يكون ناشئاً من فساد الأَخلاق، و فقدان الورع، و ضعف الوازع، و أسماه بفساد الزمان، و قد مرّ عليك أمثلته كما مرّت مناقشاتنا.

و الآخر: ما يكون ناشئاً عن أوضاع تنظيمية، و وسائل زمنية جديدة من أوامر قانونية مصلحية و ترتيبات إدارية، و أساليب اقتصادية و نحو ذلك، و هذا النوع عند الكاتب كالأَوّل موجب لتغيير الأَحكام الفقهية الاجتهادية المقرّرة قبله إذا أصبحت لا تتلاءم معه، لأَنّها تصبح عندئذ عبثاً أو ضرراً، و الشريعة منزّهة عن ذلك، و قد قال الامام الشاطبي (المتوفّي 790 ه) في الموافقات: لا عبث في الشريعة.

ثمّ طرح لها أمثلة و إليك بيانها: 1- ثبت عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أنّه نهي عن كتابة أحاديثه، و قال لأَصحابه: «من كتب عني غير القرآن فليمحه» و استمر الصحابة و التابعون يتناقلون السنّة النبوية حفظاً و شفاهاً لا يكتبونها حتي آخر القرن الهجري الأَول عملًا بهذا النهي.

ثمّ انصرف العلماء في مطلع القرن الثاني بأمر من الخليفة العادل عمر بن

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 349

عبد العزيز، إلي تدوين السنّة النبوية، لأَنّهم خافوا ضياعها بموت حفظتها و رأوا أنّ سبب نهي النبي- عليه السّلام- عن كتابتها إنّما هو خشية أن تختلط بالقرآن، إذ كان الصحابة يكتبون ما ينزل منه علي رقاع، فلمّا عمَّ القرآن و شاع حفظاً و كتابة،

و لم يبق هناك خشية من اختلاطه بالحديث النبوي، لم يبق موجب لعدم كتابة السنّة، بل أصبحت كتابتها واجبة لأَنّها الطريقة الوحيدة لصيانتها من الضياع «1».

أقول: إنّ ما ذكره من أنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- نهي عن كتابة حديثه غير صحيح من وجوه: أوّلًا: روي البخاري أنّ رجلًا من أهل اليمن طلب من النبي أن يكتب له خطبته فقال: اكتب لي يا رسول اللّه، فقال: اكتبوا لأَبي فلان إلي أن قال: كتبت له هذه الخطبة «2».

أضف إلي ذلك أنّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أمر في غير واحد من الموارد كتابة حديثه، يجدها المتفحص في مصادرها «3».

و مع هذه الموارد الكثيرة التي رخّص النبيّ فيها كتابة الحديث، و العمل به، لا يبقي أيُّ شك في مجعولية ما روي عنه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم-: «من كتب عنّي غير القرآن فليمحه».

ثانياً: هل يصحّ أن يأمر اللّه سبحانه بكتابة الدين حفظاً له، و احتياطاً عليه، و في الوقت نفسه ينهي نبيّه عن كتابة الحديث الذي يعادل القرآن في الحجّية؟!

______________________________

(1) المدخل الفقهي العام: 2- 933، و في الطبعة العاشرة في ترقيم الصفحات في المقام تصحيف.

(2) البخاري: الصحيح: 29، باب كتابة العلم.

(3) سنن الترمذي: 5- 39، باب كتابة العلم، الحديث 2666؛ سنن الدارمي: 1- 125، باب من رخص في كتابة العلم؛ سنن أبي داود: 2- 318، باب في كتابة العلم، و مسند أحمد: 2- 215 و ج: 3- 162.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 350

ثالثاً: العجب من الأُستاذ أنّه سلّم وجه المنع، و هو أن لا يختلط الحديث بالقرآن، و قد نحته الخطيب البغدادي «1» في كتاب «تقييد العلم» «2»

مع انّه غير تام، لَانّ القرآن الكريم في أُسلوبه و بلاغته يغاير أُسلوب الحديث و بلاغته، فلا يخاف علي القرآن الاختلاط بغيره مهما بلغ من الفصاحة و البلاغة، فقبول هذا التبرير يلازم إبطال إعجاز القرآن الكريم، و هدم أُصوله.

و الكلمة الفصل أنّ المنع من كتابة الحديث كان منعاً سياسيّاً صدر عن الخلفاء لغايات و أهداف خاصّة، و الخسارة التي مُني الإِسلام و المسلمون بها من جرّاء هذا المنع لا تجبر أبداً، و قد فصلنا الكلام في فصل خاص من كتابنا بحوث في الملل و النحل «3».

2- قبل إنشاء السجلات العقارية الرسميّة التي تحدد العقارات، و تعطي كلا منها رقماً خاصّاً، كان التعاقد علي العقار الغائب عن مجلس العقد لا بدّ لصحّته من ذكر حدود العقار، أي ما يلاصقه من الجهات الأَربع ليُتميّز العقار المعقود عليه عن غيره، وفقاً لما تقضي به القواعد العامة من معلومية محل العقد.

و لكن بعد إنشاء السجلات العقارية في كثير من الممالك و البلدان أصبح يكتفي قانوناً في العقود بذكر رقم محضر العقار، دون ذكر حدوده، و هذا ما يوجبه فقه الشريعة، لأَنّ الأَوضاع و التنظيمات الزمنية أوجدت وسيلة جديدة أسهل و أتم تعييناً و تمييزاً للعقار من ذكر الحدود في العقود العقارية، فأصبح اشتراط ذكر الحدود عبثاً، و قد قدّمنا أنّه لا عبث في الشريعة.

أقول: إنّ الحكم الشرعي الاوّلي هو معلومية المبيع، و هذا هو لُبُّ الشريعة،

______________________________

(1) أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (392- 463 ه) مؤَلّف تاريخ بغداد.

(2) تقييد العلم: 57.

(3) لاحظ: الجزء الأَوّل من الكتاب المذكور: 60- 76.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 351

و أمّا الباقي فهو ثوب يتغير بتغير الازمان، فلا تحديد العقارات من الجهات الأَربع

حكم أصلي، و لا ذكر رقم محضر العقار، فالجميع طريق إلي الحكم الشرعي و هو معلومية المبيع و خروجه عن كونه مجهولًا، و الشرط يحصل بكلا الوجهين و تغيير الثوب ليس له صلة بتغيير الحكم.

3- كذلك كان تسليم العقار المبيع إلي المشتري لا يتم إلّا بتفريغ العقار و تسليمه فعلًا إلي المشتري، أو تمكينه منه بتسليم مفتاحه و نحو ذلك، فإذا لم يتمّ هذا التسليم يبقي العقار معتبراً في يد البائع، فيكون هلاكه علي ضمانه هو و مسؤوليته، وفقاً للَاحكام الفقهية العامّة في ضمان المبيع قبل التسليم.

و لكن بعد وجود الاحكام القانونية التي تخضع العقود العقارية للتسجيل في السجل العقاري.

استقر الاجتهاد القضائي أخيراً لدينا علي اعتبار التسليم حاصلًا بمجرد تسجيل العقد في السجلّ العقاري، فمن تاريخ التسجيل ينتقل ضمان هلاك المبيع من عهدة البائع إلي عهدة المشتري، لأَنّ تسجيل المبيع فيه تمكين للمشتري أكثر ممّا في التسليم الفعلي، إذ العبرة في الملكية العقارية قانوناً، لقيود السجلّ العقاري، لا للَايدي و التصرفات، و بتسجيل المبيع لم يبق البائع متمكناً أن يتصرف في العقار المبيع بعقد آخر استناداً إلي وجوده في يده، و جميع الحقوق و الدعاوي المتفرعة عن الملكية، كطلب نزع اليد، و طلب الأجرة، و غير ذلك تنتقل إلي المشتري بمجرّد التسجيل.

فبناء علي ذلك يصبح من الضروري في فقه الشريعة أن يعتبر لتسجيل العقد العقاري حكم التسليم الفعلي للعقار في ظل هذه الأَوضاع القانونية التنظيمية الجديدة «1».

أقول: اتّفق الفقهاء علي أنّه إذا تلف المبيع الشخصي قبل قبضه بآفة سماوية

______________________________

(1) مصطفي الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2- 931.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 352

فهو من مال بائعه، و الدليل عليه من طرقنا هو قوله- صلّي اللّه عليه

و آله و سلم-: «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» «1».

و روي عقبة بن خالد عن الامام الصادق- عليه السّلام- في رجل اشتري متاعاً من رجل و أوجبه غير أنّه ترك المتاع عنده و لم يقبضه، قال: آتيك غداً إن شاء اللّه فسرق المتاع، من مال من يكون؟ قال: «من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتي يُقبض المتاع و يخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه حتي يرد ماله إليه» «2».

و أمّا من طرق أهل السنّة، روي البيهقي عن محمد بن عبيد اللّه الثقفي أنّه اشتري من رجل سلعة فنقده بعض الثمن و بقي بعض، فقال: ادفعها إليّ فأبي البائع، فانطلق المشتري و تعجّل له بقية الثمن فدفعه إليه، فقال: ادخل و اقبض سلعتك، فوجدها ميتة، فقال له: رد عليَّ مالي، فأبي، فاختصما إلي شريح، فقال شريح: رد علي الرجل ماله و ارجع إلي جيفتك فادفنها «3».

و علي هذا فالميزان في رفع الضمان علي البائع هو تسليم المبيع و تسليم كلّ شي ء بحسبه، و الجامع هو رفع المانع من تسليط المشتري علي المبيع و إن كان مشغولًا بأموال البائع أيضاً إذ لم يكن هنا أي مانع من الاستيلاء و الاستغلال.

و علي ضوء ذلك فتسليم البيت و الحانوت مثلًا بإعطاء مفتاحهما، و أمّا جعل مجرّد تسجيل العقد في السجل العقاري رافعاً للضمان بحجة إنّ تسجيل البيع فيه تمكين للمشتري أكثر ممّا للتسليم الفعلي اجتهاد في مقابل النص بلا ضرورة ما لم يكن تسجيل العقد في السجل العقاري متزامناً مع رفع الموانع من

______________________________

(1) النوري: مستدرك الوسائل: 13، الباب 1 من أبواب الخيار، الحديث 1.

(2) الوسائل: 12، الباب 10 من

أبواب الخيار، الحديث 1.

(3) البيهقي: السنن: 5- 334، باب المبيع يتلف في يد البائع قبل القبض.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 353

تسلّط المشتري علي المبيع، إذ في وسع المتبايعين تأخير التسجيل إلي رفع الموانع.

و بعبارة أُخري: الميزان في رفع الضمان هو تحقّق التسليم بالمعني العرفي، و هو قد يزامن التسجيل في السجل العقاري و قد لا يزامن، كما لو سجل العقد في السجل و لكن البائع أوجد موانع عاقت المشتري عن التسلّط علي المبيع، فما لم يكن هناك إمكان التسلّط فلا يصدق التسليم.

علي أنّ المشتري بالتسجيل و إن كان يستطيع أن يبيع العقار و لكنّه يعجز عن الانتفاع بالمبيع الذي هو المهم له ما لم يكن هناك تسليم فعلي.

4- أوجب الشرع الإِسلامي علي كلّ زوجة تطلّق من زوجها عدّة تعتدها، و هي أن تمكث مدة معيّنة يمنع فيها زواجها برجل آخر، و ذلك لمقاصد شرعية تعتبر من النظام العام في الإِسلام، أهمها، تحقّق فراغ رحمها من الحمل منعاً لاختلاط الأَنساب.

و كان في الحالات التي يقضي فيها القاضي بالتطليق أو بفسخ النكاح، تعتبر المرأة داخلة في العدّة، و يُبدأ حساب عدّتها من فور قضاء القاضي بالفرقة، لأَنّ حكم القاضي في الماضي كان يصدر مبرماً واجبَ التنفيذ فوراً، لَانّ القضاء كان مؤَسساً شرعاً علي درجة واحدة، و ليس فوق القاضي أحد له حق النظر في قضائه.

لكن اليوم قد أصبح النظام القضائي لدينا يجعل قضاء القاضي خاضعاً للطعن بطريق الاستئناف، أو بطريق النقض، أو بكليهما.

و هذا التنظيم القضائي الجديد لا ينافي الشرع، لَانّه من الأُمور الاستصلاحية الخاضعة لقاعدة المصالح المرسلة.

فإذا قضي القاضي اليوم بالفرقة بين الزوجين وجب أن لا تدخل المرأة في العدّة إلّا بعد أن يصبح قضاؤَه

مبرماً غير خاضع لطريق من طرق الطعن القضائي.

و ذلك إمّا بانقضاء المهل القانونية دون طعن من الخصم، أو بإبرام الحكم المطعون

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 354

فيه، لدي المحكمة المطعون لديها و رفضها للطعن حين تري الحكم موافقاً للأُصول.

فمن هذا الوقت يجب اليوم أن تدخل المرأة في العدة و يبدأ حسابها لا من وقت صدور الحكم الابتدائي، لأَنّها لو اعتدت منذ صدور الحكم الابتدائي لربما تنقضي عدتها و تتحرّر من آثار الزوجية قبل الفصل في الطعن المرفوع علي حكم القاضي الأَوّل بانحلال الزوجية ثمّ ينقض هذا الحكم لخلل تراه المحكمة العليا فيه، و هذا النقض يرفع الحكم السابق و يوجب عودة الزوجية «1».

أقول: إنّ الحكم الاوّلي في الإِسلام هو انّ الطلاق بيد من أخذ بالساق «2» فللزوج أن يطلّق علي الشروط المقرّرة قال سبحانه: " يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ رَبَّكُمْ" «3» نعم لو اشترط الزوجان في سجل العقد أن يكون الطلاق بيد المحكمة بمعني انّه إذا أدركت انّ الطلاق لصالح الزوجين فله أن يحكم بالفرقة و الانفصال، و المراد من الحكم بالفرقة أمران: أوّلًا: انّ الطلاق لصالح الزوجين.

ثانياً: تولّي إجراء صيغة الطلاق.

فلو كان قضاء القاضي بالفرقة علي درجة واحدة، و ليس فوقه أحد له حقّ النظر في قضائه فيقوم بكلا الأَمرين: حق الانفصال و تنفيذه بإجراء صيغة الطلاق و يكون الحكم بالفرقة مبدأً للاعتداد.

و لو كان النظام القضائي يجعل قضاء القاضي خاضعاً للطعن بطريق

______________________________

(1) مصطفي الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2- 936.

(2) مجمع الزوائد: 4- 334، باب لا طلاق قبل النكاح.

(3) الطلاق: 1.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 355

الاستئناف، أو بطريق النقض أو بكليهما، فلأَجل اجتناب

بعض المضاعفات التي أُشير إليها تقتصر المحكمة الأُولي علي الأَمر الأَوّل إنّ الطلاق لصالح الزوجين و يؤَخر الأَمر الثاني إلي إبرامه، فعند ذلك تجري صيغة الطلاق من قبل المحكمة الثانية و تدخل المرأة في العدة و يبدأ حسابها.

و بذلك يعلم أنّ ما ضربت من الأَمثلة لتأثير الزمان و المكان بعيدة عمّا يروم إليه، سواء كان عامل التأثير هو فساد الأَخلاق و فقدان الورع و ضعف الوازع، أو حدوث أوضاع تنظيمية و وسائل زمنية، فليس لنا في هذه الأَمثلة أيُّ حافز من العدول عمّا عليه الشرع.

و حصيلة الكلام: أنّ الأُستاذ قد صرّح بأنّ العاملين الانحلال الاخلاقي و الاختلاف في وسائل التنظيم يجعلان من الاحكام التي أسّسها الاجتهاد في ظروف مختلفة خاضعة للتغيير، لأَنّها صدرت في ظروف تختلف عن الظروف الجديدة.

و لكنّه في أثناء التطبيق تعدّي تارة إلي التصرّف في الأَحكام الاساسية المؤَبدة التي لا يصحّ للفقيه الاجتهاد فيها، و لا أن يحدث بها أيَّ خدشة، و أُخري ضرب أمثلة لم يكن للزمان أيُّ تأثير في تغيير الحكم المستنبط.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 357

الفصل الرابع التراث الحديثي للشيعة و السنّة

التراث الحديثي للشيعة

اشارة

قد تعرّفت علي مكانة السنّة بين الفريقين و انّها إحدي مصادر التشريع و منابع الفقه، و قد اهتمت بها الشيعة من لدن رحيل النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- إلي يومنا هذا، فألّفوا مجاميع حديثية كثيرة عبْر القرون، و بذلك صانوا السنّة النبوية المروية عن طريق أئمّة أهل البيت- عليه السّلام- من الضياع و الاندثار، و لذكر تاريخ الحديث عند الشيعة مقام آخر ربّما نذكر بعض جوانبه عند التطرّق إلي أدوار الفقه لدي الشيعة الإِمامية، و لذلك نقتصر في هذا الفصل علي ذكر المجاميع الحديثية المؤَلّفة في القرن الثاني و

الثالث باسم الجوامع الأَوّلية، و المؤلّفة في القرن الرابع و الخامس باسم الجوامع الثانوية، و المؤلّفة في العصور المتأخّرة باسم الجوامع الأَخيرة.

و ليعذرني القاريَ الكريم من إيجاز الكلام في هذا الفصل عن ذكر منزلة الحديث عند الشيعة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 358

الجوامع الأَوّلية

1- المحاسن

ألّفه أحمد بن محمد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي البرقي (المتوفّي 274 ه)، أصله كوفي، و كان جده محمد بن علي حبسه يوسف بن عمر الثقفي بعد قتل زيد- عليه السّلام- ثمّ قتله و كان خالد صغير السن فهرب مع أبيه عبد الرحمن إلي برق رود، و كان ثقة.

و صنف كتباً منها: «المحاسن» و كتاب «التّهاني» و كتاب «التعازي» و كتاب «أخبار الأَصم» و غيرها.

و كتابه المحاسن يشتمل علي تسعين كتاباً أوّله كتاب التبليغ و الرسالة و آخره كتاب النوادر.

و قد طبع في جزءين.

2- نوادر الحكمة

صنّفه محمد بن أحمد بن يحيي الأَشعري القمي، قال النجاشي: كان ثقة في الحديث.

و له كتب، منها: نوادر الحكمة و وصفه بأنّه كتاب حسن كبير، كتاب الملاحم، كتاب الطب، كتاب مقتل الحسين- عليه السّلام-، كتاب الإِمامة، و كتاب المزار «1».

توفي في أواخر القرن الثالث نحو 293 ه.

______________________________

(1) رجال النجاشي: 2، برقم 940.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 359

3- الجامع

ألّفه أحمد بن محمد بن عمرو بن أبي نصر مولي السكوني «أبو جعفر» المعروف ب «البزنطي»، كوفي، لقي الرضا و أبا جعفر (عليهما السلام)، و كان عظيم المنزلة عندهما، و له كتب منها: الجامع، و كتاب النوادر.

توفّي عام 221 ه.

4- كتاب «الثلاثون»

صنّفه الاخوان الحسن و الحسين ابنا سعيد بن حماد الأَهوازي من أصحاب الإِمامين الرضا و الجواد (عليهما السلام)، قال ابن النديم في فهرسته: إنّهما من أوسع أهل زمانهما علماً بالفقه و الآثار و المناقب و غير ذلك من علوم الشيعة.

و قد ذكر النجاشي فهرس كتب الثلاثين في رجاله أوّلها كتاب الوضوء و ختمها بكتاب الحدود و كتاب الديات و كتاب اعلام و كتاب الدعاء «1».

______________________________

(1) رجال النجاشي: 1- 171، برقم 135.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 360

الجوامع الثانوية

1- الكافي

فقد قام بتصنيفه الحافظ الكبير، و المحدّث الجليل محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي البغدادي، أبو جعفر (329260 ه) ينسب إلي بيت عريق في كلين، و جمع فيه أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد استخدم في تأليفه الأسلوب الكامل، و هو توزيع الأَحاديث بعد جمعها علي مجموعة من الكتب، و الكتب علي مجموعة من الأَبواب، و الأَبواب علي عدد من الأَحاديث؛ شريطة أن تكون الأَحاديث مناسبة لأَبوابها، و الأَبواب لكتبها، و قد حقّق الكليني هذا المطلب علي أحسن ما يرام، إذ قسّم كتابه «الكافي» ثلاثة أقسام رئيسية، و هي: 1- أُصول الكافي.

2- فروع الكافي.

3- روضة الكافي.

ثمّ قسّم أُصول الكافي ثمانية كتب، اشتمل علي 499 باباً، و أخرج فيها 3881 حديثاً.

و تجد هذا التصنيف نفسه مع فروع الكافي أيضاً، إذ اشتمل علي 26 كتاباً، فيها 1744 باباً، و مجموع أحاديثها 11021-

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 361

و أمّا قسم الروضة فلم يخضعه إلي هذا المنهج من التصنيف، بل ساق أحاديثه تباعاً من غير كتب أو أبواب، بل جعله كتاباً واحداً، و قد احتوي علي 606 أحاديث.

و علي ضوء ما ذكرنا يبلغ عدد أحاديثه (15508) و لكن

المشهور أنّ عدد أحاديثه بلغ (16199) حديثاً، و لعلّ الإِحصاء الثاني مبني علي عدّ أجوبة الإِمام (عليه السلام) في مجلس واحد علي أكثر من سؤَال بمنزلة الأَحاديث المستقلة خصوصاً إذا تحمل أجوبة مختلفة تبعاً لاختلاف الأَسئلة الموجهة للإِمام.

قال بعض مشايخنا المتأخّرين: أمّا الكافي فجميع أحاديثه حصرت في ستة عشر ألف حديث و مائة و تسعة و تسعين حديثاً، و الصحيح فيها خمسة آلاف و اثنان و سبعون حديثاً، و الحسن مائة و أربعة و أربعون حديثاً، و الموثق مائة حديث و ألف حديث و ثمانية عشر حديثاً، و القوي منها اثنان و ثلاثمائة حديث، و الضعيف منها أربعمائة و تسعة آلاف و خمسة و ثمانون حديثاً «1».

كما و صنّف تصانيف عديدة، منها: كتاب الردّ علي القرامطة، كتاب رسائل الأَئمّة (عليهم السلام)، كتاب تعبير الرؤيا، كتاب الرجال، و كتاب ما قيل في الأَئمة (عليهم السلام) من شعر.

2- من لا يحضره الفقيه

هو للمحدّث الكبير محمد بن علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمي (381306 ه) أبو جعفر نزيل الري.

ينتمي إلي أُسره ابن بابويه، و هي من الأسر العريقة التي ذاع صيتها بالعلم و الفضيلة.

______________________________

(1) لؤلؤَة البحرين: 395.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 362

و أمّا جامعه المعروف، أعني: «من لا يحضره الفقيه» فهو أحد الأصول الأَربعة التي يدور عليها رحي الاستنباط لدي الشيعة، و هو أصحّ الكتب بعد «الكافي» و أتقنها، و قد أحصي بعض علمائنا أحاديث الفقيه، فكانت خمسة آلاف و تسعمائة و ثلاثة و ستين حديثاً.

يقول المحدّث البحراني: و أمّا «الفقيه» فيشتمل مجموعة علي أربعة مجلدات، يشتمل علي خمسمائة و ستة و ستين باباً.

الأَوّل منها يشتمل علي سبعة و ثمانين باباً، و الثاني علي مائتين و ثمانية و

عشرين باباً، و الثالث علي ثمانية و سبعين باباً، و الرابع علي مائة و ثلاثة و سبعين باباً.

فجميع الأَحاديث المسندة ثلاثة آلاف و تسعمائة و ثلاثة عشر حديثاً، و المراسيل ألفان و خمسون حديثاً «1».

و من تصانيفه الأُخري: دعائم الإِسلام في معرفة الحلال و الحرام، كتاب التوحيد المطبوع المنتشر، كتاب المصابيح يشتمل علي خمسة عشر مصباحاً و هو كتاب رجالي كبير، معاني الأَخبار، علل الشرائع، عيون أخبار الرضا- عليه السّلام-، و إلي غير ذلك من الكتب التي تنوف علي المائتين، ذكرها النجاشي في رجاله عند ترجمته.

3- التهذيب و الاستبصار

هما للشيخ أبي جعفر محمد بن حسن بن علي بن حسن الطوسي (460385 ه) ينسب إلي طوس من مدن خراسان التي هي من أقدم بلاد فارس و أشهرها.

______________________________

(1) لؤلؤَة البحرين: 395.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 363

فكتاب التهذيب يحوي علي ثلاثمائة و ثلاثة و تسعين باباً، و أُحصيت أحاديثه إلي ثلاثة عشر ألفاً و خمسمائة و تسعين حديثاً، و قد ألّفه قبل الاستبصار، كما صرّح بذلك هو في مقدّمة الاستبصار.

و للكتاب شروح تربو علي 16 شرحاً، و تعاليق تناهز العشرين، و هناك كتب حول أسانيده باسم: «ترتيب التهذيب» و «تصحيح الأَسانيد» و «تنبيه الاريب في إيضاح رجال التهذيب».

و أمّا «الاستبصار» فقد ألّفه لغاية الجمع بين الروايات المتعارضة في باديَ النظر، و قد طبع في أربعة أجزاء.

و قد أحصيت أبوابه في 925 أو 915 باباً و أحاديثه 5511 حديثاً.

و له كتب أُخري في الفقه و أُصوله و رجاله، منها: كتاب النهاية دورة فقهية، العدة في أُصول الفقه، كتاب الرجال جمع فيه أسماء من روي عن النبي و الأَئمّة (عليهم السلام)، كتاب فهرست كتب الشيعة و أسماء المصنفين، كتاب المبسوط في

الفقه، و كتاب التبيان في تفسير القرآن، إلي غير ذلك ممّا ذكره معاصره النجاشي في فهرسته.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 364

الجوامع الأَخيرة

1- الوافي

لمحمد بن محسن بن فيض الكاشاني (1007- 1091 ه).

و يعد كتاب الوافي من أحسن كتبه فقد جمع فيه أحاديث الكتب الأَربعة القديمة، و فرغ منه سنة 1068 ه، قال في مقدمته: قد رتبت هذا الكتاب (علي مقدمة) و أربعة عشر جزءاً و خاتمة، و كل جزء علي حدة «1» أقول: المقدمة تحتوي علي ثلاث مقدّمات و ثلاثة تمهيدات و الخاتمة في بيان الأَسانيد، و لكلّ جزء من هذه الأَجزاء الأَربعة عشر: خطبة و ديباجة و خاتمة.

و فهرس الأَربعة عشر يبدأ من كتاب العقل و الجهل و التوحيد و ينتهي بكتاب الروضة.

ذكر شيخنا الطهراني في الذريعة: و قد أحصيت أبوابه مع البابين في الخاتمة، فكانت 273 باباً.

و من تصانيفه الأُخري: الشافي، المحجّة البيضاء في إحياء الاحياء، الصافي في تفسير القرآن، أُصول الفقه، و أنوار الحكمة.

و بلغ عدد تصانيفه 114 مصنفاً.

2- وسائل الشيعة

للعالم المتبحّر الشيخ محمد بن حسن بن علي بن حسين الحرّ العاملي

______________________________

(1) الوافي: 1- 42، الطبعة المحققة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 365

المشغري (1033 1104 ه)، صاحب التصانيف الرائعة التي منها كتاب وسائل الشيعة إلي تحصيل مسائل الشريعة.

و قد ألّف موسوعته الكبيرة تلك في ستة أجزاء تشتمل علي جميع أحاديث الأَحكام الشرعية الموجودة في الكتب الأَربعة و سائر الكتب المعتمدة التي بلغت أكثر من سبعين كتاباً مع ذكر الأَسانيد و أسماء الكتب و حسن الترتيب، و ذكر وجوه الجمع مع الاختصار و جعل لكلّ مسألة باباً علي حدة.

له تآليف كثيرة أوردها في كتابه (أمل الآمل) عند ترجمة نفسه، فقال: له كتب منها: الجواهر السنية في الأَحاديث القدسية، هداية الأُمة إلي أحكام الأَئمّة (عليهم السلام)، الفوائد الطوسية، إثبات الهداة «1».

و قد أحصيت مؤَلّفاته فكانت 27 مصنفاً.

3- بحار الأَنوار

لمحيي السنة و ناشر آثار الأَئمّة الشيخ محمد باقر بن العالم الجليل محمد تقي ابن مقصود علي المجلسي (1037 1110 ه) صاحب الموسوعة الكبري، أعني: «بحار الأَنوار» في خمسة و عشرين مجلداً ضخماً، يشتمل علي 25 كتاباً، يبتديَ بكتاب العقل و الجهل و ينتهي بالاجازات، و قد طبع مؤَخراً في 110 أجزاء محققاً.

أخرج فيه من الأَحاديث المروية عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و آله المعصومين (عليهم السلام) جملة وافية، مما أوقفه البحث و السبر عليها من أُصول السلف الصالح القيمة و الكتب القديمة الثمينة ممّا قصرت عن نيله أيدي الكثيرين.

و من أفضل تآليفه: مرآة العقول و هو شرح لكتاب الكافي طبع في ستة و عشرين جزءاً.

______________________________

(1) أمل الآمل: 20.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 366

4- جوامع الكلم

و هو أحد المجاميع الحديثية المتأخّرة، صنّفه السيد محمد بن السيد شرف الدين الشهير بالسيد ميرزا الجزائري، من مشايخ العلّامة المجلسي و الشيخ الحر العاملي و السيد المحدث الجزائري، سكن برهة في حيدرآباد، و تلمذ فيها عند الشيخ محمد بن علي بن خاتون، جمع في مصنّفه هذا إخبار الأصول الدينية و الفقه و المواعظ و التفسير و الآداب و الأَخلاق الصحاح منها و الموثقات و الحسان «1».

5- عوالم المعالم

للمولي عبد اللّه بن نور الدين البحراني المعاصر لصاحب البحار، و كتابه العوالم الموسوم «جامع العلوم و المعارف و الأَحوال في الآيات و الأَخبار و الأَقوال» هو الكتاب الكبير الذي يزيد علي مجلدات البحار بكثير، بل قيل: انّه يبلغ مائة مجلد، و قد طبع في عام 1318 بعض مجلداته «2».

6- الشفا في أخبار آل المصطفي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم

- لمحمد رضا بن عبد اللطيف التبريزي، (المتوفّي 1157 ه) جمع فيه الاخبار و بوّبها نظير البحار في مجلدات، و قد فرغ من بعض مجلداته 17 رجب سنة 1178 ه، و الكتاب في الحقيقة مجمع بين البحار و الوافي، فيذكر في أوّل كلّ حديث انّه صحيح أو حسن أو ضعيف مسند أو مرسل، و يذكر بعد اسم كلّ رجل في السند انّه ثقة أو مجهول أو ضعيف أو غيرها كلّ ذلك بعلامات من الحمرة.

______________________________

(1) الذريعة: 5- 253.

(2) الذريعة: 15- 356، برقم 2282.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 367

و مع الأَسف انّ هذا الجامع لم ير النور و هو بعد مخطوط.

7- مستدرك الوسائل

و هو سابع المجاميع الحديثية، صنفه حسين بن محمد تقي الطبرسي النوري (1254 1320 ه) و الكتاب يحتوي علي 23 ألف حديث عن الأَئمّة الأَطهار، و قد رتّبه علي ترتيب أبواب الوسائل، و جعل لها فهرساً مبسوطاً كفهرس الوسائل، و ذيّله بخاتمة، و فيها من النكات في دراية الحديث و الرجال ما لا يوجد في كتاب غيره «1».

و الكتاب كما يعرب اسمه استدراك علي وسائل الشيعة، و ذكر فيه ما لم يعثر عليه صاحب الوسائل، فشكر اللّه مساعي الجميع، و قد طبع الكتاب في أزيد من عشرين جزءاً.

8- جامع أحاديث الشيعة

تأليف لجنة مؤَلّفة من فضلاء الحوزة العلمية تحت إشراف المرجع الديني الكبير و المحقق الخبير السيد حسين الطباطبائي البروجردي (1292 1380 ه)، و يعدّ هذا الجامع من حسنات الدهر، و أضخم جامع فقهي للشيعة ظهر في الفترة الأَخيرة، يتفوّق علي سائر الجوامع بحسن التبويب و الترتيب و التنظيم و التنسيق، يحتوي علي كلّ ما ورد في الكتب الأَربعة و وسائل الشيعة و مستدرك الوسائل و غيرها من كتب الحديث علي وجه يغني الفقيه عن سائر الجوامع الفقهية.

فشكر اللّه مساعي أُستاذنا الكبير السيد حسين البروجردي و سائر تلامذته علي هذا المشروع الضخم و نقدّم الشكر إلي العالم المحقق المتتبّع الحاج الشيخ

______________________________

(1) الذريعة: 21- 7، برقم 3687.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 368

إسماعيل الملايري حيث بذل جهوداً مضنية في إخراج هذا الجامع بحلة قشيبة في ستة و عشرين جزءاً، ينوف علي خمسين ألف حديث.

التراث الحديثي للسنّة

اشارة

راج علم الحديث بعد ما أُصيب بنكسات و محن، و ذلك بجمع السنّة بصورتين مختلفتين: الأولي: تبويب الأَحاديث بصورة المسانيد بجعل مرويات كلّ صحابي علي حدة، و أشهرها مسند الامام أحمد، و عدد الصحابة الذين لهم مسانيد في كتاب الإِمام أحمد (904) أصحاب «1».

الثانية: تبويب الأَحاديث حسب الموضوعات، يقول أبو نعيم في «الحلية»: أوّل من جمع ذلك، الربيع بن صبيح، و سعيد بن أبي عروبة، فكانوا يصنفون كلّ باب علي حدة «2».

و علي ذلك درج أصحاب الصحاح و السنن، إلّا أنّه يمكن تصنيف الجوامع الحديثية عند السنّة إلي: 1- جوامع أوّلية.

2- جوامع ثانوية.

3- جوامع مؤَلّفة في العصور المتأخّرة.

و هلمّ بنا إلي ذكر شي ء من خصوصيات الصحاح و السنن مع لمحة موجزة عن أحوال مؤَلّفيها.

______________________________

(1) المسند: 1- 48، طبعة المكتب الإِسلامي الأولي عام 1389

ه.

(2) تنوير الحوالك شرح موطإ مالك: 1- 7.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 369

الجوامع الأَوّلية

1- صحيح البخاري

صنّفه أبو عبد اللّه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري الجعفي (194 256 ه).

ولد في وطنه الأَوّل «بخاري» يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة (194 ه)، و كان له ولع بحفظ الحديث منذ صغره.

و قد صنّف تصانيف عديدة منها: «الجامع الصحيح» المعروف بصحيح البخاري و «التاريخ» و «الضعفاء» في رجال الحديث و «خلق أفعال العباد» و «الأَدب المفرد».

و قام برحلة طويلة (سنة 210 ه) في طلب الحديث، فزار خراسان و العراق و مصر و الشام، و جمع نحو ستمائة ألف حديث اختار منها في صحيحه ما وثق برواته.

و كتابه في الحديث أوثق الكتب الستة المعوّل عليها عند أهل السنّة، و هي: صحيح البخاري (194 256 ه) و صحيح مسلم (201 261 ه) و سنن أبي داود (202 275 ه) و سنن الترمذي (209 279 ه) و سنن ابن ماجه (209 273 ه) و سنن النسائي (215 303 ه) «1».

______________________________

(1) الزركلي: الاعلام: 6- 34.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 370

و جملة ما في البخاري سبعة آلاف و مائتان و خمسة و سبعون حديثاً مع المكررة و بحذف المكررة أربعة آلاف حديث.

توفي في ليلة السبت ليلة عيد الفطر سنة (256 ه) في قرية خرتنك من قري سمرقند «1».

و قبره الآن موجود.

و قد صنّف «الصحيح» في ست عشرة سنة «2».

2- صحيح مسلم

صنّفه أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري (201 261 ه) من بني قشير قبيلة من العرب النيسابوري، إمام أهل الحديث، ولد بنيسابور، و رحل إلي الحجاز و مصر و الشام و العراق.

أشهر كتبه «الصحيح» جمع فيه اثني عشر ألف حديث، كتبها في خمس عشرة سنة، و هو أحد الصحيحين

المعوّل عليهما عند أهل السنّة في الحديث، و قد شرحه كثيرون.

و من كتبه: «المسند الكبير» و «الجامع» و «الكني و الأَسماء» و له أيضاً «الافراد و الوحدان» و «الإقران» و «مشايخ الثوري» و «تسمية شيوخ مالك و سفيان و شعبة» و كتاب «المخضرمين» و كتاب «أولاد الصحابة» و «أوهام المحدّثين» و «الطبقات» و «افراد الشاميين» و «التمييز».

توفي بنيسابور سنة إحدي و ستين و مائتين، قال الحاكم أبو عبد اللّه بن البيع في كتاب المزكّين لرواة الاخبار: سمعت أبا عبد اللّه بن الاحزم الحافظ يقول: توفي مسلم بن الحجاج عشية الأَحد، و دفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدي و ستين و مائتين، و هو ابن خمس و خمسين سنة.

______________________________

(1) الجامع الصحيح: 1- 8، المقدمة.

(2) سير أعلام النبلاء: 12- 391، برقم 171.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 371

و يعد صحيحه من الشهرة بمكان، و هو متواتر عنه، و قد اتّفق علماء أهل السنّة علي أنّ أصح الكتب الصحيحان البخاري و مسلم و تلقّوه بالقبول.

و قد انفرد صحيح مسلم بفائدة حسنة، و هي كونه أسهل متناولًا من حيث إنّه جعل لكلّ حديث موضعاً واحداً يليق به جمع فيه طرقه التي ارتضاها و اختار ذكرها، و أورد فيه أسانيده المتعدّدة، و ألفاظه المختلفة، فيسهل علي الطالب النظر في وجوهه و استثمارها بخلاف البخاري فإنّه يذكر تلك الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة، و كثير منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إلي الفهم انّه أولي به، فيصعب علي الطالب جمع طرقه، و حصول الثقة بجميع ما ذكره البخاري من طرق هذا الحديث «1».

و قد شرط مسلم في صحيحه أن يكون الحديث متصل الاسناد بنقل الثقة عن

الثقة من أوّله إلي منتهاه، سالماً عن الشذوذ و العلة، و هذا هو الحديث الصحيح في نفس الأَمر، فالبخاري و مسلم التزما أن لا يرويا إلّا حديثاً صحيحاً بهذا المعني إلّا أنّ مسلماً اكتفي في الراوي و المروي عنه أن يكونا في عصر واحد و إن لم يجتمعا بخلاف البخاري فإنّه اشترط اجتماعهما زيادة احتياط، لذا تجد انّ عدد من أخرجهم البخاري في الجامع الصحيح و لم يخرجه مسلم أربعمائة و أربعة و ثلاثون شيخاً، و عدد من احتج بهم مسلم في المسند الصحيح و لم يحتج بهم البخاري ستمائة و خمسة و عشرون شيخاً «2».

و جملة أحاديث صحيح مسلم بإسقاط المكرّر أربعة آلاف حديث.

و مع المكرر 7581 حديثاً كما في مفتاح كنوز السنّة.

______________________________

(1) صحيح مسلم بشرح النووي: 151- 14، المقدمة.

(2) جامع المسانيد و السنن: 9392، المقدمة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 372

3- سنن النسائي

صنّفه عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر بن سنان بن دينار النسائي (215 303 ه) ولد ب «نساء» و هي بلدة مشهورة بخراسان.

و سبب تسميتها بهذا الاسم انّ المسلمين الفاتحين لمّا وردوا أرض خراسان قصدوها، فبلغ أهلها ذلك، فهربوا و لم يتخلّف بها غير النساء، فلمّا أتاها المسلمون لم يروا بها رجلًا واحداً، فقالوا: هؤلاء نساء، و النساء لا يقاتلن فنُسيَ أمرها الآن إلي أن يعود رجالها، فتركوها و مضوا، فسميت نِساء.

و نقل عن الحافظ الذهبي أنّ أبا عبد الرحمن النسائي أحفظ من مسلم صاحب الصحيح، و أنّ سننه أقل السنن حديثاً ضعيفاً بعد الصحيحين.

قال السيد جمال الدين: صنّف النسائي في أوّل الأَمر كتاباً يقال له «السنن الكبري» و هو كتاب جليل ضخم الحجم لم يكتب مثله في جمع

طرق الحديث و بيان مخرجه «1».

جال في طلب العلم في خراسان و الحجاز و مصر و العراق و الجزيرة و الشام و الثغور، ثمّ استوطن مصر.

و توفي بفلسطين في يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر، سنة ثلاث و ثلاثمائة بعد أن عمّر تسعاً أو ثماني و ثمانين سنة.

و قد صنّف تصانيف كثيرة، منها: كتاب «السنن الكبير» و «التفسير» في مجلد و كتاب «الضعفاء» «2».

______________________________

(1) سنن النسائي: 51- 2، المقدمة.

(2) سير أعلام النبلاء: 13514- 125، برقم 67.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 373

4- سنن أبي داود السجستاني

صنّفه أبو داود سليمان بن الأَشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو ابن عمران الأَزدي السجستاني (202 275 ه) إمام أهل الحديث في زمانه له كتاب «السنن» جزءان، و هو أحد الكتب الستة جمع فيه (5274) حديثاً انتخبها من خمسمائة ألف حديث، و له «المراسيل» في الحديث، و كتاب «الزهد» و رسالة «البعث» و رسالة «تسمية الاخوة» «1».

توفي لأَربع عشرة بقيت من شوال سنة خمس و سبعين و مائتين «2».

و قد عني العناية كلّها بأحاديث الاحكام التي تدور عليها رحي الشريعة الإِسلامية، و قد عمد إلي ما كتبه عن رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- فانتخب منه ما وافق عنايته، ثمّ ضمنه كتابه، و هو لا يروي في كتابه من بين ما كتبه كلّ حديث يجري مع رغبته، بل يتخيّر من بينها الصحيح و ما يشبهه، و قد ذكر مع ذلك أحاديث فيها وهن و ضعف «3».

و قال محمد بن مخلد: كان أبو داود يفي بمذاكرة مائة ألف حديث و لما صنّف كتاب «السنن» و قرأه علي الناس، صار كتابه لأَصحاب الحديث كالمصحف، يتبعونه و لا يخالفونه.

و

كان علي مذهب أهل الحديث في اتّباع السنّة و التسليم لها، و ترك الخوض في مضايق الكلام «4».

______________________________

(1) الزركلي: الاعلام: 3- 122.

(2) تاريخ بغداد: 9- 58.

(3) سنن أبي داود: 1- 11، المقدمة.

(4) سير أعلام النبلاء: 13 221- 203، برقم 117.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 374

5- سنن الترمذي

صنفه أبو عيسي محمد بن عيسي بن سورة بن موسي الضحاك السلمي البوغي الترمذي الضرير (209 279 ه).

ولد سنة (209 ه) و هو أحد المحدّثين الذين يقتدي بهم في علم الحديث عند أهل السنّة، و له تصانيف منها: «الجامع الصحيح» و كتاب «الشمائل».

و قال الحافظ أبو الفضل المقدسي: و أمّا أبو عيسي الترمذي وحده فكتابه علي أربعة أقسام: قسم صحيح مقطوع به، و هو ما وافق فيه البخاري و مسلم، و قسم علي شرط الثلاثة دونهما، كما بيناه، و قسم آخر للضدية، أبان عن علته و لم يغفله، و قسم رابع أبان هو عنه «1».

و الترمذي تلميذ البخاري و خريجه، و عنه أخذ علم الحديث، و تفقّه فيه، و مرن بين يديه، و سأله، و استفاد منه، و ناظره فوافقه و خالفه.

و يبلغ عدد أحاديث الترمذي نحو (4000) حديث، و قد ألّفه علي أبواب الفقه، و اشتمل علي الصحيح و الحسن و الضعيف، مع بيان درجة كلّ حديث في موضعه و بيان وجه ضعفه، و بين مذاهب الصحابة و علماء الأَمصار في كلّ المسائل التي عقد لها أبواباً، و من ميزاته أنّه أفرد في آخره فصلًا للعلل.

توفي بترمذ سنة (279 ه) «2».

______________________________

(1) سنن الترمذي: 1- 88، المقدمة.

(2) سير أعلام النبلاء: 13- 277- 270 برقم 132، وفيات الأَعيان: 4- 278، البداية و النهاية: 11- 66.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص:

375

6- سنن ابن ماجه

صنّفه الحافظ أبو عبد اللّه محمد بن يزيد القزويني (207- 273 ه)، من أهل قزوين.

رحل إلي البصرة و بغداد و الشام و مصر و الحجاز و الري في طلب الحديث، و صنّف كتابه «السنن» و هو أحد الكتب الستة المعتمدة، و له «تفسير القرآن» و كتاب في «تاريخ قزوين».

توفي لثمان بقين من رمضان سنة ثلاث و سبعين و مائتين.

و أمّا كتابه السنن فقد قال ابن حجر عنه: كتابه في السنن جامع جيد، كثير الأَبواب و الغرائب، و فيه أحاديث ضعيفة جدّاً حتي بلغني أنّ السري كان يقول مهما انفرد بخبر فيه فهو ضعيف غالباً، و ليس الأَمر في ذلك علي إطلاقه باستقرائي، و في الجملة ففيه أحاديث كثيرة منكرة «1».

و قال الحافظ ابن كثير في «البداية و النهاية»: ابن ماجه صاحب السنن المشهورة.. و تشتمل سننه علي اثنين و ثلاثين كتاباً و ألف و خمسمائة باب و علي أربعة آلاف حديث كلّها جياد سوي اليسيرة.

و في «السنن» ألف و خمسمائة باب، و جملة ما فيه» (4341) حديثاً «2».

كتاب الموطأ لمالك بن أنس

و هو لأَبي عبد اللّه مالك بن أنس الاصبحي (93 169 ه)، و الأَصبحي نسبة إلي ذي أصبح قبيلة يمنية.

______________________________

(1) تهذيب التهذيب: 9 532- 530، برقم 870.

(2) سير أعلام النبلاء: 13- 277- 281، برقم 133.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 376

ولد بالمدينة سنة (93 ه) و عاش حياته بها، و لم يعرف أنّه رحل عنها إلّا إلي مكة حاجّاً، ذكره ابن سعد في الطبقة السادسة من تابعي أهل المدينة، و أقام مفتياً بالمدينة بين أظهرهم ستين عاما.

توفي يوم الأَحد لعشر خلون من ربيع الأَوّل سنة تسع و ستين و مائة، و هو ابن سبع و ثمانين سنة،

صنف كتاب «الموطأ» و ذكر ابن الحباب أنّ مالكاً روي مائة ألف حديث، جمع منه في الموطأ عشرة آلاف، ثمّ لم يزل يعرضها علي الكتاب و السنّة، و يخبرها «1» بالآثار و الأَخبار حتي رجعت إلي خمسمائة.

و قال الكيا الهراسي في تعليقته علي الأصول: إنّ موطأ مالك كان اشتمل علي تسعة آلاف حديث ثمّ لم يزل ينتقي حتي رجع إلي سبعمائة «2».

و قد توخّي مالك فيه الفتوي من حديث أهل الحجاز، و مزجه بأقوال الصحابة و فتاوي التابعين، و مكث في تأليفه و تهذيبه نحو أربعين سنة.

و قد ذاع الموطأ و انتشر في بلاد الإِسلام، و سمّي بذلك لأَنّه وطّأ و مهّد للناس ما اشتمل عليه من الحديث، أو لأَنّ العلماء المعاصرين له في المدينة واطئوه و وافقوه عليه.

و قد تميّزت طريقته بالنسبة لأَخذ الحديث، كان عمدته فيه ما رواه أهل الحجاز و خاصة أهل المدينة، و كان يري أنّ عملهم حجّة مقدمة علي خبر الواحد، لَانّ عملهم بمنزلة روايتهم عن رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و رواية جماعة عن جماعة أولي بالتقديم من رواية فرد عن فرد، و قد نازعه في ذلك أكثر فقهاء الأَمصار و لم يروا في عمل أهل المدينة حجّة، لأَنّهم ليسوا كل الأُمّة، و ممّن ناظرة ليث بن سعد و قد كتب إليه رسالة طويلة في الرد عليه، و ناقش الشافعي هذه المسألة في كتاب «الأم» «3».

______________________________

(1) أي يختبرها.

(2) السيوطي: تنوير الحوالك: 7، المقدمة.

(3) أحمد فراج حسين: تاريخ الفقه الإِسلامي: 197186- و مرّ الحديث عنه ص 307.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 377

قال أبو بكر الأَبهري: جملة ما في «الموطأ» من الآثار عن النبي- صلّي اللّه

عليه و آله و سلم- و عن الصحابة و التابعين ألف و سبعمائة و عشرون حديثاً، المسند منها ستمائة حديث، و المرسل مائتان و اثنان و عشرون حديثاً، و الموقوف ستمائة و ثلاثة عشر، و من قول التابعين مائتان و خمسة و ثمانون «1».

مسند أحمد بن حنبل

صنّفه أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني الذهلي، ثمّ البغدادي (164 241 ه) أحد الأَئمّة الأَربعة، أصله من مرو، و كان أبوه والي سرخس.

ولد ببغداد، و سافر في طلب الحديث أسفاراً كثيرة إلي الكوفة و البصرة و مكة و المدينة و اليمن و الشام و المغرب و الجزائر و العراقين و فارس و خراسان.

و صنّف «المسند» في ستة مجلدات، يحتوي علي نيف و أربعين ألف حديث، و له كتب: «التاريخ» و «الناسخ و المنسوخ» و «الرد علي الزنادقة» فيما ادّعت به من متشابه القرآن و «فضائل الصحابة» و «التفسير» و «المناسك» و «المسائل» «2».

توفي ببغداد سنة إحدي و أربعين و مائتين، و دفن بباب حرب، و قبره مشهود.

و هو أحد رواة حديث الغدير من العلماء، و قد رواه في مواضع كثيرة من مسنده.

قال محمد بن منصور الطوسي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما روي لأَحد من الفضائل أكثر ممّا روي لعلي بن أبي طالب «3».

______________________________

(1) تنوير الحوالك: 8، المقدمة.

(2) الزركلي: الاعلام: 1- 203- و ما ذكره من احتوائه علي نيّف و أربعين ألف حديث غير صحيح، فراجع.

(3) القاضي محمد بن أبي يعلي: طبقات الحنابلة: 1- 319.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 378

يقول أحمد بن حنبل عن كتابه «المسند»: إنّ هذا الكتاب قد جمعته و انتقيته من أكثر من سبعمائة و خمسين ألف.

كما و اشتمل مسنده علي:

مسند بني هاشم: خمسة و سبعون حديثاً.

مسند أهل البيت: خمسة و أربعون حديثاً.

مسند عائشة: ألف حديث و ثلاثمائة و أربعون حديثاً.

مسند النساء: تسعمائة و ستة و ثلاثون حديثاً.

مسند ابن مسعود: ثمانمائة و خمسة و سبعون حديثاً.

مسند أنس: ألفان و ثمانمائة و ثمانون حديثاً.

و جملته سبع آلاف و مائة و أحد و سبعون حديثاً، و بقي مسند العشرة، و مسند أبي هريرة، و مسند أبي سعيد الخدري، و مسند جابر بن عبد اللّه، و مسند عبد اللّه ابن عمر، و مسند عبد اللّه بن عباس، و مسند عبد اللّه بن عمرو بن العاص، و في آخره مسند أبي رمثة، و مسند الأَنصار، و مسند المكيّين و المدنيّين، و مسند الكوفيّين، و مسند البصريّين، و مسند الشاميّين، فهذه جميع مسانيد مسند أحمد بن حنبل «1».

سنن سعيد بن منصور

صنّفه سعيد بن منصور بن شعبة أبو عثمان المروزي، و يقال: الطالقاني (المتوفّي 227 ه).

ولد بجوزجان.

طاف و جال و وسع في الطلب المجال، مات بمكة في رمضان سنة سبع و عشرين و مائتين، و هو في عشر التسعين.

______________________________

(1) جامع المسانيد و السنن: 76، المقدمة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 379

و من تلامذته: أحمد بن حنبل، و مسلم، و أبو داود، و غيرهم.

له كتاب «السنن» و من أهم ميزاته انّه يذكر كثيراً من آثار الصحابة بالإِضافة إلي الأَحاديث النبوية لا سيّما تلك الحوادث التي جرت في عصر عمر، قضايا وقعت حقيقة و ليست مفروضة كما هو الحال في كتب الفقه، و هذه القضايا و الحوادث مصدر مهم لتاريخ الحياة اليومية و الاجتماعية في عصر الصحابة، و فيها أيضاً نقل حوادث لا نجدها في كتب التاريخ المتداولة «1».

و يحتوي هذا الكتاب علي 2978 حديثاً.

سنن الدارمي

هو لأَبي محمد عبد اللّه بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد الصمد التميمي السمرقندي الدارمي (181 255 ه).

نسبة إلي دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم أحد بطونه.

ولد سنة 181 ه، رحل في طلب الحديث، فدخل مصر و الشام و العراق و الحرمين، و أظهر علم الحديث و الآثار بسمرقند، و تقلّد القضاء فيها.

توفي سنة 255 ه يوم التروية، و هو ابن 75 سنة، و دفن بمرو.

و من أهم مصنفاته: كتاب «السنن» و «الجامع» و «التفسير».

قال السيوطي في «تدريب الراوي»: و مسند الدارمي ليس بمسند، بل هو مرتّب علي الأَبواب.

و الفرق بين المسند و السنن انّ المسند يكون مرتباً علي أسماء الصحابة،

______________________________

(1) سنن سعيد بن منصور: 231- 22، قسم المقدمة.

انظر ترجمته في تهذيب التهذيب: 4- 89، برقم

147.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 380

كمسند أحمد بن حنبل، فتذكر الأَحاديث التي رواها الصحابي مجموعة إلي بعضها و إن كانت مختلفة الأَبواب.

و السنن: هو الكتاب المرتّب علي الأَبواب الفقهية، كسنن الدارمي.

و ذكر المغلطائي انّه ينبغي أن يجعل مسند الدارمي سادساً للخمسة بدل ابن ماجه، فإنّه قليل الرجال الضعفاء، و ليس فيه الأَحاديث المنكرة و الشاذة، و إن كان فيه أحاديث مرسلة موقوفة، فهو مع ذلك أولي من سنن ابن ماجه «1».

هؤلاء هم أعلام الصحاح و المسانيد عند أهل السنّة، و لا يسوغ لأَحد أن ينكر جهود مؤَلّفيها و سعيهم الحثيث وراء الحديث الصحيح، و انّهم حفظوا السنّة النبوية حسب إمكانيّاتهم.

و بالرغم من ذلك كلّه نجد أنّ أصحّ الكتب تشتمل علي روايات يقطع كلّ إنسان بعيداً عن التعصب ببطلانها و ضعفها، و انّها مدسوسة بين الروايات.

و إليك نموذجاً من هذه الروايات: أخرج الشيخان في صحيحيهما بالإسناد إلي أبي هريرة قال: لما جاء ملك الموت إلي موسي- عليه السّلام- فقال له: أجب دعوة ربّك، فلطم موسي عين ملك الموت ففقأها.

قال: فرجع الملك إلي اللّه تبارك و تعالي، فقال: إنّك أرسلتني إلي عبد لك لا يريد الموت ففقأ عيني، فقال: فرد اللّه عليه عينه، و قال: ارجع إلي عبدي، فقل: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة، فضع يدك علي متن ثور فما توارت بيدك من شعرة، فإنّك تعيش بها سنة.

______________________________

(1) سنن الدارمي: 1، المقدمة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 381

و أخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه، و قال: إنّ ملك الموت كان يأتي الناس عياناً حتي أتي موسي، فلطمه ففقأ عينه إلي أن قال: إنّ ملك الموت جاء إلي الناس خفياً بعد وفاة موسي «1».

و الحديث غني

عن التعليق، و لا يوافق الكتاب، و لا سنّة الأَنبياء، و لا العقل السليم من جهات.

الأولي: انّه سبحانه يقول: " إِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ فَلٰا يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لٰا يَسْتَقْدِمُونَ" «2».

فظاهر قوله: «أجب ربّك» انّه كان ممّن كتب عليه الموت، و جاء أجله، و مع ذلك تأخّر.

الثانية: من درس سيرة الأَنبياء بشكل عام يقف علي أنّهم (عليهم السلام) ما كانوا يكرهون الموت كراهة الجاهلين، و هل كانت الدنيا عند الكليم أعز من الآخرة، و هل كان يخفي عليه نعيمها و درجاتها؟! الثالثة: ما ذنب ملك الموت إن هو إلّا رسول من اللّه مجند له، يعمل بإمرته، فهل كان يستحق مثل هذا الضرب؟! الرابعة: كيف ترك القصاص من موسي مع أنّه سبحانه يقول: " وَ كَتَبْنٰا عَلَيْهِمْ فِيهٰا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصٰاصٌ" «3».

الخامسة: و هل كان ملك الموت أضعف من موسي حتي غلب عليه و فقأ عينه، و لم يتمكن من الدفاع عن نفسه، و لم يزهق روحه مع كونه مأموراً به من ربه؟ أنا لا أدري، و نظن أنّ القارئ يشاطرنا الرأي بأنّنا في غني عن هذه التعليقات، فإنّ مضمون الحديث يصرخ بأعلي صوته انّه مكذوب و إن رواه الشيخان.

______________________________

(1) الطبري: التاريخ: 1- 305، باب وفاة موسي- عليه السّلام-.

(2) يونس: 49.

(3) المائدة: 45.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 382

هذه الرواية و أمثالها تعج بها كتب الصحاح و المسانيد، و تعد من الطامات التي أدخلتها يد الدس في الأَحاديث الإِسلامية، و المسئولية في هذا المجال تقع علي عاتق من منع كتابة أحاديث الرسول و تدوينها ما يربو علي قرن و نصف، ففسح المجال

للَاحبار و الرهبان بأن يتحدّثوا في مسجد الرسول بما ورثوه من الاساطير الواردة في العهدين القديمين.

فإذا كان هذا مكانة الصحيحين اللّذين يعدّان أصح الكتب بعد القرآن الكريم، فما ظنّك بغيرهما.

فعلي أعلام الأُمّة و من يهتم بهمومها الكبري تمحيص ما روي عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) باسم السنّة لا تمحيص السنّة النبوية، فإنّها عدل القرآن لا تمس كرامتها يد المحرّفين، و الذي هو بحاجة إلي التمحيص هو ما نسب إلي الرسول- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و ألصق به في كتب الصحاح و المسانيد.

فتمحيص السنّة فريضة علي المفكرين لكي يقضوا بذلك علي البدع التي ما انفكت تتلاعب بالدين، و لا يقوم بذلك إلّا من امتحن اللّه قلبه بالتقوي، و لا تأخذه في اللّه لومة لائم، و إن رماه المتطفّلون بأنواع التهم و الأَباطيل، و لا غرو فإنّ المصلحين في جميع الاجيال كانوا أغراضاً لنبال الجهّال.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 383

تدوين الجوامع الحديثية الثانوية عند السنّة

اشارة

ما مرّ عليك من الصحاح و المسانيد تعدّ جوامع حديثية أوّلية، بيد أنّ هناك جوامع حديثية ثانوية جمع فيها المحدّث ما وقف عليه من الأَحاديث مرتبة علي ترتيب الأَبواب، كما عليه الصحيحان و السنن الأَربع، أو علي ترتيب المسانيد كمسند الامام أحمد، غير أنّ تسهيل الأَمر يستدعي كتاباً يجمع أحاديث الصحاح و المسانيد، فقامت ثلّة من الشخصيات البارزة من أهل السنّة بتصنيف جوامع حديثية نذكر منها ما يلي:

1- جامع الأصول في أحاديث الرسول

هذا هو أحد الجوامع الحديثية التي ظهرت في القرن السابع، و قد صنّفه أبو السعادات المبارك بن أبي الكرم محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المولود بجزيرة ابن عمر «1» من أحد الربيعين سنة (445 ه) و نشأ بها، ثمّ انتقل إلي الموصل.

توفي عام (606 ه).

و أمّا جامعه هذا فقد بيّن كيفية جمعه بالنحو التالي: قال: إنّني حذفت الأَسانيد، لأَنّ الغرض من ذكرها كان أوّلًا لإِثبات الحديث و تصحيحه، و هذه كانت وظيفة الأَوّلين رحمة اللّه عليهم و قد كفونا تلك المئونة فلا حاجة بنا إلي ذكر ما قد فرغوا منه و أغنونا عنه، فلم أثبت إلّا اسم

______________________________

(1) مدينة فوق الموصل، و سمّيت جزيرة، لَانّ نهر دجلة محيط بها.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 384

الصحابي الذي روي الحديث عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- إن كان خبراً أو اسم من يرويه عن الصحابي إن كان أثراً.

اللّهمّ إلّا أن يعرض في الحديث ذكر اسم رواته فيما تمس الحاجة إليه، فاذكره لتوقف فهم المعني المذكور في الحديث عليه.

و أمّا متون الحديث فإنّي لم أثبت إلّا ما كان حديثاً عن رسول اللّه- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- أو أثراً عن صحابي، و ما

كان من أقوال التابعين و من بعدهم من مذاهب الفقهاء و الأَئمّة فلم أذكره إلّا نادراً.

و اعتمدت في النقل من كتابي البخاري و مسلم علي ما جمعه أبو عبد اللّه الحميدي في كتابه، فإنّه أحسن في ذكر طرقه و استقصي في إيراد رواياته و إليه المنتهي في جمع هذين الكتابين.

و أمّا باقي الكتب الأَربعة، فإنّي نقلتها من الأصول التي قرأتها و سمعتها و جمعت بينها و بين نسخ أُخري منها.

(انتهي).

ثمّ إنّه رتّب الأَحاديث علي ترتيب الأَبواب، و بني الأَبواب علي المعاني التي دلّت عليها الأَحاديث، فكلّ حديث انفرد بمعني أفرده في باب يخصّه.

ثمّ إنّه جعل ترتيب الأَبواب علي ترتيب الحروف الهجائية طلباً لتسهيل كلفة الطلب، فأودع كتاب الايمان و الإِسلام، و كتاب الإِيلاء، و كتاب الآنية، في حرف الهمزة.

و هكذا جميع الكتب علي هذا الوضع، فمثلًا كتاب الجهاد جعله في حرف الجيم، و في جملة أحكام الجهاد أبواب عدة لا يجوز أن تنفرد عنه، مثل الغنائم و الغلول و النفل و الخمس و الشهادة و كلّ واحد من هذه يختص بحرف غير حرف الجيم، فإنّه ذكره في حرف تقسيم كتاب الجهاد، فذكر الجميع في كتاب الجهاد حرف الجيم.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 385

و قد بلغ عدد أحاديث ذلك الجامع ما يربو علي تسعة آلاف و خمسمائة و ثلاثة و عشرين (9523) حديثاً.

و قد طبع لأَوّل مرّة بإشراف شيخ الأَزهر عبد المجيد سليم، و حقّقه محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنّة المحمدية.

ثمّ طبع ثانياً بتحقيق عبد القادر الأَرناؤوط و نشرته مكتبة الحلواني، و مطبعة الملاح، و مكتبة دار البيان، و طبع في سنة 1389 ه، و قد تمت طباعته في أحد عشر مجلداً.

و مع

التقدير لجهود المؤَلّف خاصة ما تصدّي به من شرح الأَحاديث الغريبة، لكن يؤَاخذ عليه أمران: الأَوّل: أنّه حذف الأَسانيد، و ابتدأ باسم الصحابي معتذراً بأنّ الغرض من ذكر الأَحاديث إثباتها، و قد كفانا عن ذلك مؤَلّفو الصحاح و السنن، و لكنّه اعتذار غير ناجع، لَانّ ثبوت الحديث عند مؤَلّف السنن لا يلازم ثبوته عند القاريَ، إذ كم من ضعاف في السنن لو لم نقل، و كم من ضعاف في الصحيحين؟ فإنّ دراسة الحديث رهن الوقوف علي سنده.

الثاني: إنّه و إن رتّب الأَحاديث علي الأَبواب، و لكنّه رتّب الأَبواب علي الحروف الهجائية، و ذلك ممّا أوجد صعوبة في العثور علي الحديث، لَانّ الوقوف علي الباب في طيات الأَجزاء العشرة أمر ليس بيسير، و لو رتّب الأَبواب علي وفق الأَبواب الفقهية المعروفة، ثمَّ ذكر سائر الأَبواب وفق ما هو المتعارف بين من تقدّم عليه من بدء الخلق، و الايمان، و العلم، و السنّة، و التفسير، و أخبار الأَنبياء، و المناقب، و السيرة النبوية، و المغازي، و الخلفاء، و الآداب، و الأَدعية، و الزهد، و الرقائق، و الفتن، و التعبير، و البعث، و الحشر، لكان أوفق و أسهل بالعثور علي الحديث.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 386

2- مشكاة المصابيح

ألّف الامام حسين بن مسعود الفرّاء البغوي الشافعي المتوفّي (516 ه) كتاباً باسم «مصابيح السنّة» بلغ عدد أحاديثه 4719 حديثاً، و قد أخذ 325 حديثاً من صحيح البخاري، و 875 حديثاً من صحيح مسلم، و 1051 حديثاً من كلا الصحيحين المصطلح عليه بالمتفق عليه، و الباقي من كتب أُخري.

و اعتني العلماء بشأن هذا الكتاب بالقراءة و التعليق، منهم ولي الدين أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه الخطيب التبريزي حيث أكمل

المصابيح و ذيّل أبوابه، فذكر الصحابي الذي روي الحديث عنه، و ذكر الكتاب الذي أخرجه عنه، أو زاد علي كلّ باب في صحاحه و حسانه إلّا نادراً فصلًا ثالثاً و سمّاه «مشكاة المصابيح» فصار كتاباً كاملًا فرغ من تأليفه آخر يوم الجمعة من رمضان سنة 737 ه «1».

و قد طبع المشكاة عدّة طبعات، و آخر من طبعه دار الكتاب الإِسلامي في دمشق في ثلاثة مجلدات، و قد حقّقه ناصر الدين الالباني و بلغت أحاديثه (6285) حديثاً.

3- جامع المسانيد و السنن

ألّفه الحافظ المحدّث الموَرّخ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير القرشي الدمشقي الشافعي، ولد عام 700 ه، و توفي عام 774 ه.

______________________________

(1) كاتب جلبي: كشف الظنون: 2- 1699- 1698.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 387

و قد وصف الكتاب تلميذه الحافظ شمس الدين بن الجزري (751 833 ه) في كتابه «المصعد الاحمد».

بقوله: إنّ شيخنا موَرّخ الإِسلام و حافظ الشام عماد الدين أبا الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير أخذ هذا الكتاب «يعني ترتيب مسند الامام أحمد» من مؤَلّفه و أضاف إليه أحاديث الكتب الستة، و معجم الطبراني الكبير، و مسند البزار، و مسند أبي يعلي الموصلي، و أجهد نفسه كثيراً، و تعب فيه تعباً عظيماً، فجاء لا نظير له في العالم، و أكمله إلّا بعض مسند أبي هريرة، فإنّه مات قبل أن يكمل، فإنّه عوجل بكف بصره، و قال لي، لا زلت أكب فيه في الليل و السراج ينوص حتي ذهب بصري معه، و لعل اللّه يقيض له من يكمله مع انّه سهل، فإنّ معجم الطبراني الكبير لم يكن فيه شي ء من مسند أبي هريرة «1».

و قد قسّم المصنّف جميع أحاديث الكتب الستة مسندها و مرسلها و

عددها 19595 مع المكررات إلي 1395 مسنداً، منها 995 منسوباً إلي الصحابة رجالًا و نساءً و مرتباً أسماؤهم علي حروف المعجم، عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و الباقي من المراسيل و عددها 400 منسوب إلي أئمّة التابعين و من بعدهم علي نسق حروف المعجم أيضاً.

و هذه الكتب تشتمل علي ما يربو علي مائة ألف حديث بالمكرّرة، و فيه الصحيح و الحسن و الضعيف و الموضوع أيضاً، و تشتمل أيضاً علي أحاديث كثيرة في الأَحكام، و في التفسير، و في التاريخ، و الرقائق، و الفضائل، و غير ذلك من فنون العلم «2».

و الظاهر أنّ عدد الأَحاديث التي احتواها كتاب جامع المسانيد و السنن أقل

______________________________

(1) جامع المسانيد و السنن: 5، المقدمة.

(2) جامع المسانيد و السنن،: 227، المقدمة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 388

ممّا ذكر في المقدمة، و ذلك لَانّ عدد الأَحاديث الموجودة في الكتب التي أشار إليها بالنحو التالي: مسند أحمد: 40000 مع المكرّرات أو أقلّ.

الصحاح الستة: 19595- معجم الطبراني: 25000- مسند البزار: 3698- مسند أبي يعلي: 2000- فيبلغ المجموع ما يقارب 90293 حديثاً و اللّه العالم.

4- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية

هذا ما قام به الحافظ الكبير ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني (773 852 ه) و هو عسقلاني الأَصل، ولد و توفي في مدينة القاهرة، و قد شرح مشروعة في المقدمة و قال: قد جمع أئمتنا من الحديث، الشتات علي المسانيد و الأَبواب المرتبات، فرأيت جمع جميع ما وقفت عليه من ذلك في كتاب واحد، ليسهل الكشف منه علي أولي الرغبات، ثمَّ عدلت إلي جمع الأَحاديث الزائدة علي الكتب المشهورات «في الكتب المسندات»، و عنيت ب «المشهورات» الأصول الخمسة و مسند أحمد، و ب «المسندات» ما

رتب علي مسانيد الصحابة، و وقع منها ثمانية كاملات: 1- مسند أبي داود الطيالسي.

2- مسند الحميدي.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 389

3- مسند ابن أبي عمر.

4- مسند مسدَّد.

5- مسند أحمد بن منيع.

6- مسند أبي بكر بن أبي شيبة.

7- مسند عبد بن حُميد.

8- مسند الحارث بن أبي أُسامة.

و حاصل كلامه: أنّه جمع فيه أحاديث المسانيد الثمانية، إلّا الموجود في الصحاح و مسند الامام أحمد بن حنبل.

و قد طبع الكتاب بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الاعظمي في دار المعرفة سنة 1414 ه.

5- كنز العمال في سنن الأَقوال و الأَفعال

و قد صنّفه علي بن عبد الملك حسام الدين بن قاضي خان القادري الشاذلي الهندي، ثمّ المدني فالمكي، علاء الدين الشهير بالمتقي، فقيه من علماء الحديث ولد في برهانفور من بلاد الدكن بالهند عام 888 ه.

سكن المدينة، ثمّ أقام بمكة مدة طويلة، و توفي فيها عام 975 ه «1».

و كتابه هذا مرتب كتابين للسيوطي، أحدهما: الجامع الصغير، و ثانيهما: زوائد الجامع الصغير، و أمّا كيفية ترتيبه فقد ذكره في مقدمة الكتاب، و هو جامع عظيم طبع في 16 جزءاً في 16 مجلداً، و قد بلغت عدد الأَحاديث و الآثار و الأَقوال و الأَفعال المروية عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و الصحابة ما يربو علي 46624 حديثاً و أثراً و قولًا و فعلًا.

______________________________

(1) الزركلي: الاعلام: 4- 309.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 390

الجوامع الحديثية في العصور المتأخرة

1- التاج الجامع للأُصول

ألّفه الشيخ منصور علي ناصف، أحد العلماء الازهريين، كان مدرساً في الجامع الزينبي في القاهرة و شرحه أيضاً و أسماه ب «غاية المأمول شرح التاج الجامع للأُصول» طبع جامعه هذا في خمسة مجلدات و يشتمل علي (5887) حديثاً، توفي عام 1371 ه «1».

قد بدأ بتأليفه في شهر رجب سنة 1431 ه، و أتمّه في شهر ذي القعدة 1347 ه، و قد طبع الكتاب غير مرّة و قرّظه جماعة من العلماء، منهم مفتي الديار المصرية محمد بخيت، و قد كتب تقريظاً علي الكتاب موَرخاً ب 28 رجب سنة 1351 ه.

و أمّا الكتاب فقد شرحه المؤَلف في خطبة الكتاب و قال: و شرعت في تأليفه علي بركة اللّه، فاستحضرت أصح كتب الحديث و أعلاها سنداً؛ و هي: صحيح البخاري، و صحيح مسلم، و سنن أبي داود، و جامع الترمذي، و المجتبي

للنسائي.

و هذه في الأصول الخمسة التي اشتهرت في الأُمّة و ارتضتها لمالها من المكانة العليا في الحديث، و لأَنّها جمعت من الشريعة ما عزّ و غلا ثمنه، بل هي الشريعة كلّها، كما قال النووي: ما شذ عن الأصول الخمسة من صحيح حديث الرسول إلّا النزر اليسير، و لا شكّ ففيها حاجة الإِنسان لسعادة الدنيا و الآخرة.. إلي

______________________________

(1) الزركلي: الاعلام: 7- 301.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 391

أن قال: رغبة في الاختصار المألوف اكتفيت من الروايات المكرّرة بأجمعها للأَحكام كما اكتفيت من السند براوي الحديث (الصحابي الذي سمعه من النبي)؛ في أوّله و مخرجه في آخره (الذي خرجه بالسند في كتابه) إلي آخر ما ذكر «1».

2- المسند الجامع

و هو كتاب جامع لأَحاديث الكتب الستة، و موطأ مالك، و مسانيد: الحميدي، و أحمد بن حنبل و عبد بن حُميد، و سنن الدارمي، و صحيح ابن خزيمة، و قد قام بتحقيقه و ترتيبه و ضبط نصوصه ثلّة من العلماء يتصدّرهم الدكتور بشار عواد معروف.

و قد طبع الكتاب عام 1413 ه حيث جمعت فيه أحاديث كلّ صحابي علي حدة، و رتبت أسماء الصحابة علي حروف المعجم.

ثمّ رتبت أحاديث كلّ صحابي علي أبواب الفقه المعروفة في كتب الجوامع و السنن.

يبتديَ الكتاب بحديث الصحابي أبي اللحم الغفاري، و ينتهي بحديث الصحابية حفصة بنت سيرين، كما و بلغت عدد أحاديثه (17802) في عشرين مجلداً.

و ظهر لي بعد التتبع و الفحص أنّ هذا الكتاب ليس جامعاً لأَحاديث الصحاح و المسانيد.

______________________________

(1) منصور علي ناصف: التاج، 1 18- 16، خطبة الكتاب.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 393

الفصل الخامس التراث الفقهي للمذاهب الخمسة

الجوامع و المتون الفقهية للمذهب الشيعي

اشارة

عكفت الشيعة بعد رحيل النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- علي دراسة الفقه و جمع مسائله و تبويب أبوابه، و ضم شوارده، و أقبلوا عليه إقبالًا قلّ نظيره لدي الطوائف الإِسلامية الأُخري حتي أنجبت مدرسة أهل البيت و علي يد أئمّة الهدي، و خاصة الإِمامين الباقر و الصادق (عليهما السلام) ثلّة من الفقهاء الافذاذ، فبلغوا الذروة في الاجتهاد و استنباط الاحكام، و قد كفانا في سرد أسمائهم، و شي ء من تراجمهم كتاب «موسوعة طبقات الفقهاء».

بيد أنّ الذي يجب أن ننوّه به هو

ظهور أساليب ثلاثة في تدوين الفقه وفقاً للظروف الزمانية و المكانية

اشارة

، و إليك سرد تلك الأَساليب:

أ- تدوين الفقه عن طريق عرض الروايات بأسانيدها

كانت السنّة الرائجة في عصر الإِمامين الباقر و الصادق (عليهما السلام) إلي أواسط القرن الثالث هي تدوين الفقه بأُسلوب الرواية عن المعصوم سنداً و متناً، و كان

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 394

الاجتهاد يتم عبر تمييز الصحيح عن غيره و الاقتصار علي نقل ما يعتمد عليه، و علي ضوء ذلك جري فقهاء القرون الثلاثة في عصر الأَئمّة فألّفوا كتباً بهذا الأسلوب أضحت فيما بعد مادة للجوامع الحديثية، و ما ذكره الرجاليّان الكبيران النجاشي و الشيخ الطوسي في فهرستيهما من الكتب الفقهية لأَبناء مدرسة الأَئمّة كانت علي هذا الغرار إلّا ما شذ، فلم يكن للمجتهد دور إلّا تمييز الصحيح عن السقيم، و تبويب الأَحاديث وفق الأَبواب الفقهية.

و من الكتب التي ألّفت علي هذا النمط في تلك الفترة ما يلي: 1- كتاب «الصلاة» لحريز بن عبد اللّه السجستاني، من فقهاء أواخر القرن الثاني، له مصنّفات منها: «كتاب الصلاة».

يقول النجاشي فيه: هو كتاب كبير، و آخر ألطف منه، و له كتاب «النوادر» و كتاب «الزكاة» و «الصوم»، و كان هذا الكتاب مرجعاً للشيعة في تلك الفترة حتي تجد أنّ كبار الفقهاء قد حفظوه عن ظهر قلب، فهذا حماد بن عيسي الجهمي (119 209 ه) يقول للإِمام الصادق بأنّه يحفظ كتاب حريز «1».

2- كتاب «يوم و ليلة» ليونس بن عبد الرحمن مولي آل يقطين (المتوفّي 208 ه) كان وجهاً متقدماً عظيم المنزلة، و كان الامام الرضا يشير إليه بالعلم و الفتيا، و من كتبه المعروفة ما تقدّم، قال أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري (رحمه الله): عرضت علي أبي محمد صاحب العسكر- عليه السّلام- كتاب يوم و ليلة ليونس، فقال لي: تصنيف من؟

فقلت: تصنيف يونس مولي آل يقطين، فقال: آتاه اللّه بكلّ حرف نوراً يوم القيامة، و له أكثر من ثلاثين كتاباً، منها: كتاب «جامع الآثار» و كتاب «الشرائع» و كتاب «الزكاة» و كتاب «الصلاة» و كتاب «العلل الكبير» و كتاب «اختلاف الحج» و كتاب «الاحتجاج في الطلاق» و كتاب «الجامع الكبير في الفقه»

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 1- 340 برقم 373.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 395

و كتاب «التجارات» و كتاب «الوضوء» و كتاب «النكاح» و كتاب «المتعة» «1».

نعم أنّه من المحتمل أن يكون ما ألّفه باسم كتاب «يوم و ليلة» بصورة صب ما استنبطه من الأَحاديث في قوالب لفظية مبتكرة.

و هذا ليس ببعيد في كتب زرارة و يونس و سيوافيك نصوص فتاواهم في الجزء الثاني «تاريخ الفقه الإِسلامي و أدواره».

كل هذه الكتب علي غرار ما وصفنا، و كم للشيعة في هذين القرنين من كتب فقهية علي هذا النمط احتفل بذكرها الرجاليان الكبيران: النجاشي و الطوسي في فهرستيهما.

ب- تجريد المتون الفقهية عن أسانيدها

و مع إطلالة القرن الرابع ظهر أُسلوب آخر في تدوين الفقه اعتمد علي تجريد متون الأَحاديث الفقهية عن أسانيدها، و ذكر الفروع الفقهية بألفاظ الحديث مع التمحيص بين الصحيح و السقيم، و قد ظهرت كتب فقهية علي هذا النمط نشير إلي بعضها: 1- كتاب «الفقه الرضوي» المطبوع المنتشر، و ليس هو من تصانيف الامام الرضا- عليه السّلام-، و إنّما تصدّي لتأليفه فقيه عارف بمتون الاخبار مطّلع علي مطلقها و مقيّدها، عامّها و خاصّها، فجرّد المتون عن الأَحاديث، و أفتي بنفس لفظ الحديث، و أمّا مؤَلّفه فهو مردّد بين كونه محمد بن علي الشلمغاني المعروف ب «ابن أبي العزاقر» المقتول عام 322 ه.

أو تأليف والد الصدوق علي بن الحسين بن بابويه

القمي (المتوفّي 329 ه).

2- كتابي «المقنع» و «الهداية» للشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (306 381 ه) من شيوخ الشيعة في عصره، و قد ألّف في

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 2- 420 برقم 1209- و لاحظ فهرست الشيخ: 211 برقم 810.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 396

الحديث و الفقه و الكلام قرابة مائتي مصنّف.

يقول النجاشي: أبو جعفر القمي، نزيل الري، شيخنا، و فقيهنا، و وجه الطائفة بخراسان، و كان ورد بغداد سنة 355 ه، و سمع منه شيوخ الطائفة و هو حدث السن، ثمّ ذكر فهرس تآليفه منها: «دعائم الإِسلام في معرفة الحلال و الحرام» و كتاب «جامع الحج» و كتاب «التجارات» «1».

3- «النهاية» للشيخ محمد بن الحسن الطوسي (385 460 ه) شيخ الشيعة في وقته، خليفة السيد المرتضي بعد رحيله، مؤَسس و مشيّد أركان الحوزة العلمية في النجف الأَشرف عام 448 ه، صاحب التصانيف الكثيرة في الحديث و الفقه و الكلام و الأَدعية و غير ذلك، غني عن التعريف و التوصيف، و كتابه هذا آخر كتاب ظهر بهذا الأسلوب، و ختم بكتابه هذا المنهج.

ج- تحرير المسائل بأساليب جديدة

ما مرّ ذكرهما من الأُسلوبين كانا يناسبان الظروف الزمانية و المكانية آن ذاك، و لما اشتدت الحاجات، و كثرت المتطلبات إلي تفريعات لم يرد فيها نص و إنّما وردت ضوابط و قواعد كلّية يمكن استنباط تلك التفريعات منها، عمد الفقهاء إلي إبداع أسلوب آخر، و هو عدم الالتزام في تدوين الفقه بنفس ألفاظ المتون الحديثية، بل تحرّروا من تلك القيود و انطلقوا إلي إفراغ المعاني و الفروع في قوالب خاصة مناسبة لتلك الظروف مع الاحتجاج عليها بالكتاب و السنّة.

و قد قام بعض الافذاذ من فقهاء الشيعة في القرنين

الرابع و الخامس الهجري بتصنيف كتب علي هذا النمط، فلنذكر نماذج من تلك الكتب: 1- «المستمسك بحبل آل الرسول» للحسن بن علي بن أبي عقيل العماني

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 2- 311 برقم 1050، فهرست الشيخ: 184 برقم 709.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 397

(المتوفي نحو 329 ه) المعاصر للكليني.

يقول النجاشي: ما ورد الحاج من خراسان إلّا طلب و اشتري منه نسخاً و سمعت شيخنا أبا عبد اللّه المفيد يكثر الثناء علي هذا الرجل.

و قال عنه الشيخ الطوسي: هو من جملة المتكلّمين، إمامي المذهب، و من كتبه كتاب «المستمسك بحبل آل الرسول» في الفقه و غيره، و هو كتاب كبير حسن «1».

و قد كان الكتاب موجوداً إلي القرن الثامن، لأَنّ العلّامة ينقل آراءه في «مختلف الشيعة».

2- «تهذيب الشيعة لأَحكام الشريعة» لمحمد بن أحمد بن الجنيد أبي علي الكاتب الإِسكافي (المتوفي 381 ه) تحدّث النجاشي عنه و قال: وجه في أصحابنا، ثقة، جليل، صنّف فأكثر، ثمّ ذكر فهرست كتبه، منها: كتاب «الأَحمدي للفقه المحمدي» و كتاب «النصرة في أحكام العترة» و كان له نحو ألفي مسألة في نحو ألفين و خمسمائة ورقة إلي غير ذلك من التصانيف الفقهية «2».

يقول الشيخ الطوسي: كتاب «تهذيب الشيعة لأَحكام الشريعة» كتاب كبير في عشرين مجلداً، يشتمل علي عدد كتب الفقه علي طريقة الفقهاء «3».

قد مرّت الأَساليب الثلاثة لتدوين الفقه عند الشيعة الإِمامية، و حان الوقت لذكر جوامعهم و متونهم الفقهية، و قد صنّف منذ القرن الرابع إلي نهاية القرن الرابع عشر جوامع و متون كثيرة لا نستطيع الإِشارة إلي أكثرها فضلًا عن الإِحاطة بها، و نكتفي بذكر نماذج منها، و نستعرض الجوامع أوّلًا ثمّ المتون، فنقول:

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: 1- 153 برقم 99،

الطوسي: الفهرست: 79 برقم 204.

(2) النجاشي: الرجال: 2- 306 برقم 1048.

(3) الطوسي: الفهرست: 160 برقم 602.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 398

1- «المبسوط» لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي (385 460 ه) فقيه الشيعة و زعيمهم بعد رحيل الشريف المرتضي، فقد ألّف جامعاً باسم «المبسوط» و طبع في ثمانية أجزاء، و تعرّض فيه لكثير من التفريعات غير المنصوصة، و استنبط حكمها من القواعد و الضوابط الكلية، و قد ألّف كتابه هذا في رد من زعم أنّ المقتصرين في استنباط الاحكام علي الكتاب و السنّة، و المعرضين عن الاحتجاج بالقياس و الاستحسان و سائر الظنون، ليس بإمكانهم استنباط أحكام غير منصوصة.

فقام الشيخ بتأليف هذا الكتاب و أثبت أنّ النصوص عند الشيعة الإِمامية أكثر ممّا عند أهل السنّة، بل و أثبت أنّ بإمكانها الإِجابة علي الحاجات المستجدة من دون الاستعانة بالمعايير التي ما أنزل اللّه بها من سلطان، و للشيخ في مجال الفقه و الحديث و الكلام تصانيف كثيرة تتمتع بالعمق و الغزارة و حسن العرض.

2- «المهذب» للفقيه البارع سعد الدين أبي القاسم عبد العزيز بن البراج الطرابلسي (400 481 ه) طبع في جزءين، و هو شاهد صدق علي إحاطته بالأُصول و الفروع، و قد ألّفه بعد ما شغل منصّة القضاء سنين متمادية، فاشتمل الكتاب علي مسائل ابتلي بها المؤَلّف أيام قضائه، و قد طبع الكتاب بتقديم منّا و له تصانيف أُخري في الفقه ك «الكامل» و هو غير مطبوع و «الجواهر» و هو مطبوع بتقديم منّا.

3- «غنية النزوع إلي علمي الأصول و الفروع» تأليف الفقيه المحقّق السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي (511- 585 ه) وليد بيت العلم و الفضل، رئيس

الشيعة في حلب و ما والاها، تدور بحوث الكتاب علي محاور ثلاثة: أ- الفقه الأَكبر: و هو مشتمل علي مهمات المسائل الكلامية التي جري عليها البحث و التحقيق في الأَوساط الكلامية.

ب- أُصول الفقه: قد طرح في هذا القسم القواعد الأصولية التي يستنبط بها

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 399

الأَحكام الشرعية، ألّفه علي غرار كتاب «الذريعة» في أُصول الفقه للسيد المرتضي و «عدّة الأصول» لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي، و من فصوله النافعة بحثه في القياس و الاستدلال علي عدم حجيته.

ج- «الفروع»: و هي دورة فقهية استدلالية تشتمل علي جميع أبواب الفقه، و قد طبع الكتاب مرتين و طبع أخيراً محققاً بتقديم منّا علي كلا الجزءين.

4- «السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي» تأليف الشيخ أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (543 598 ه) و كتابه هذا دورة فقهية.

أرسي من خلال كتابه هذا قواعد النهضة الفقهية بعد فتورها برحيل الشيخ الطوسي، و إكباب تلاميذه علي دراسة كتبه دون أي نقاش لآرائه إلّا يسيراً.

حتي فتح ابن إدريس آفاقاً جديدة في الحركة الفقهية الاستنباطية، و استمرت الحركة بعد رحيله تنمو و تتسع و تزداد ثراءً عبر الاجيال، و قد طبع الكتاب غير مرة، و أخيراً محققاً في أجزاء ثلاثة.

5- «المعتبر» تأليف المحقّق نجم الدين جعفر بن الحسن المعروف ب «المحقّق الحلي» (602 676 ه) و كتابه هذا يتمتع بعمق في التفكر و رصانة في الاستدلال، و كان سيد مشايخنا المحقق البروجردي (قدّس سرّه) يُثني عليه كثيراً في درسه الشريف.

بيد أنّ الأَجل المحتوم حال دون إكماله.

فوصل إلي كتاب الحج و للمحقّق كتب فقهية أُخري، نشير إليها في قسم المتون.

6- «تذكرة الفقهاء» تأليف نابغة العراق و نادرة الآفاق،

الشيخ حسن بن يوسف بن المطهر الأَسدي الحلّي المعروف ب «العلّامة الحلّي» (648 726 ه) و قد ألّف دورات فقهية كبيرة أهمها من حيث الاستدلال و البحث هذا الكتاب، و الموجود منه بأيدينا إلي أواخر كتاب النكاح.

و الحقّ أنّها ثروة فقهية غنية لم ير مثلها في المتقدمين و المتأخرين يطرح

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 400

المسألة علي صعيد الفقه المقارن، و يستدل علي كلّ مذهب بدليل، ثمّ يخرج بالترجيح.

و يليه في الإِتقان و الرصانة و الاستيعاب كتاب «منتهي المطلب في تحقيق المذهب» غير أنّ العوائق منعته عن إنهاء مشروعة، و الموجود بين أيدينا لا يتجاوز كتاب الجهاد.

و قد طبع الكتابان بالطبعة الحجرية، و أُعيد طبعهما محققين في أجزاء.

7- «مسالك الأفهام في شرح شرائع الإِسلام» تأليف المحقّق الكبير زين الدين الجبعي العاملي المعروف ب «الشهيد الثاني» (911 966 ه) و كتابه هذا شرح للمتن المشهور عند الشيعة في الفقه باسم «شرائع الإِسلام» و هذا الشرح جامع بين الدقة و الاختصار، و هو كتاب نافع جدّاً ينم عن طول باعه في العلوم الإِسلامية لا سيما في الحديث و الرجال، كما ينم عن إلمامه بالهيئة و الرياضيات، و لا أُغالي إذا قلت لم يؤَلّف مثله، و طبع الكتاب أكثر من مرّة، و طبع أخيراً محقّقاً في عشرين جزءاً.

8- «مجمع الفائدة و البرهان» تأليف المقدس المحقّق أحمد بن محمد الأَردبيلي (المتوفي 993 ه) يتمتع كتابه هذا بالنظرة الجديدة إلي الفقه، و تجديد آراء و أفكار لم يسبقه إليها أحد، و قد أكثر النقاش في الإِجماعات المدعاة في المسائل، كما أكثر النقاش في أسانيد الروايات، و هو كتاب جليل عميق، طبع غير مرّة، و طبع أخيراً في أربعة عشر جزءاً،

و له مصنفات أُخري منها: «زبدة البيان في تفسير آيات الاحكام».

9- «كشف اللثام عن قواعد الأَحكام» تأليف بهاء الدين محمد بن الحسن الأصفهاني المشهور ب «الفاضل الهندي» (1062 1137 ه) و هو من الشخصيات البارزة في العهد الصفوي الأَخير، و يعد في عداد فقهاء الإِمامية العظام في تلك الحقبة الزمنية، و بتأليفه كتاب «كشف اللثام عن قواعد الاحكام» رسخ موقعه كفقيه

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 401

بارع في تاريخ الاجتهاد عند الشيعة، و كتابه هذا شرح لقواعد الاحكام للعلّامة الحلّي.

جليل في بابه، و قد اعتمد عليه كلّ الاعتماد صاحب الجواهر.

و قد طبع مرتين أخيرتها طبعة محقّقة في عدة أجزاء.

10- «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة» تأليف العالم البارع الفقيه المحدّث الشيخ يوسف البحراني (1107 1186 ه) هو كتاب جامع مبسوط، يضم في طيّاته الأَقوال، و الآراء، و أُصول الدلائل و جميع ما ورد من الأَحاديث عن النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- و العترة الطاهرة، و الكتاب غني عن التعريف، طبع في 25 جزءاً و عاقته العوائق عن إكماله، فأوصل العمل إلي كتاب الطلاق، و أكمله نجله، و له أيضاً كتاب «الدرر النجفية».

11- «رياض المسائل في بيان الأَحكام بالدلائل» المشتهر بالشرح الكبير لمؤَلّفه السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي الحائري (1161 1231 ه)، و شرحه هذا شرح مزجي علي المختصر متين دقيق متداول بين الفقهاء فرغ مؤَلّفه من تسويده عام 1192 ه، و قد اعتمد عليه صاحب الجواهر.

12- «مستند الشيعة لأَحكام الشريعة» تأليف العلّامة الفقيه أحمد بن محمد مهدي النراقي (1185 1245 ه) و يمتاز الكتاب بالدقة البليغة، و الأُسلوب البديع، و بيان تعارض الآراء بالنقد و الإِبرام، كلّ ذلك بعبارات مختصرة،

و هو لا يدع برهاناً أو دليلًا إلّا و استقرأه و استقصاه إثباتاً لمختاره، و الكتاب يعرب عن إلمام المؤَلِّف بالفلكيات و الرياضيات، و تري آثار هذه المقدرة الفذة ظاهرة في كتاب القبلة و كتاب الفرائض و المواريث، و كان سيد الطائفة السيد محمد كاظم اليزدي الطباطبائي صاحب الأَثر الجليل كتاب «العروة الوثقي» يرجع إلي ذلك الكتاب، و يوصي تلامذته بالرجوع إليه، كما أنّ الفقيه السيد محسناً الحكيم (قدّس سرّه) في كتابه «المستمسك في شرح العروة الوثقي» ينهل من هذا النمير الفوار كثيراً.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 402

13- «جواهر الكلام في شرح شرائع الإِسلام» للفقيه الكبير الشيخ محمد حسن النجفي (1200 1266 ه) و الكتاب دورة فقهية كاملة، طبع أخيراً في 42 جزءاً، مشحون بالتحقيقات و الفروع النادرة، و قد أضحي الكتاب مرجعاً للفقهاء المتأخرين بحيث لا يستغني عنه كلّ عالم بالفقه.

14- «مصباح الفقيه» تأليف المحقّق الشيخ رضا الهمداني (المتوفي 1322 ه) و هو أبسط دورة فقهية بعد «جواهر الكلام» و قد طبع في ثلاثة أجزاء كبار من القطع الرحلي، يشتمل علي كتاب: الطهارة، و الصلاة، و الزكاة، و الصوم، و الرهن، و كتابه ينم عن نبوغه و تفكيره العميق و قلمه السيّال بحيث لا يترك للقاريَ أيّة صعوبة في مطالعة الكتاب.

و قد اكتفينا بهذا المقدار من المجاميع الفقهية و تركنا ذكر الباقي إلي كتب التراجم و طبقات الفقهاء، فإنّ المجاميع الفقهية أكثر بكثير مما ذكرنا، و إنّما أردنا إراءة نماذج، و أمّا المتون الفقهية، فإليك بيانها.

المتون الفقهية

قد ألّف غير واحد من فقهائنا الأَجلّاء متوناً فقهية للدراسة نشير إلي بعضها: 1- «النهاية» لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي، و لم يزل الكتاب محور الدراسة

و الشروح و التعاليق إلي عصر المحقّق الحلّي، أي قرابة ثلاثة قرون، و قد علّق عليه المحقّق و أسماه ب «نكت النهاية» و قد طبع مع المتن في ثلاثة أجزاء، كما طبع المتن في جزء واحد.

2- «شرائع الإِسلام في مسائل الحلال و الحرام» تأليف المحقّق الحلّي (602 676 ه) و هو كتاب جميل تلقّاه العلماء بالدراسة و الشرح، و قد ترجم إلي

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 403

مختلف اللغات، و هو أحسن متن فقهي خرج للشيعة، و في الوقت نفسه فيه إشارات إلي أدلّة المسائل، و المؤلّف آية في التعبير، أُستاذ في الأسلوب، بارع في التبويب و التدوين، فكثر الإِقبال عليه بوجه لم يتفق لكتاب غيره، ثمّ إنّه لخّصه و أسماه باسم «المختصر النافع» و هو أيضاً من المتون الفقهية التي أكبَّ عليه العلماء بالشرح، فقد شرحه تلميذه المحقّق «الآبي» و أسماه «كاشف الرموز» و قد طبع في ثلاثة أجزاء، كما شرحه الفقيه المعاصر السيد أحمد الخوانساري (1309 1405 ه) و أسماه «جامع المدارك» و قد طبع في سبعة أجزاء ضخام.

3- «تبصرة المتعلّمين» تأليف الفقيه حسن بن يوسف بن المطهر الأَسدي و هو كأخيه «إرشاد الأَذهان» من المتون الفقهية و قد أكبَّ العلماء عليهما بالدراسة و البحث.

4- «اللمعة الدمشقية» تأليف الشهيد السعيد محمد بن مكي بن محمد بن حامد بن أحمد الدمشقي النبطي العاملي (734 786 ه) و هو من أجلّة الفقهاء و أئمّة الفقه، و كتابه هذا من المتون الفقهية الذي شرحه الشهيد الثاني، و أسماه «بالروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية» و طبع في عشرة أجزاء، و يعد الكتاب من الكتب الدراسية في الجامعات الفقهية.

هذه لمحة خاطفة عن المجاميع و المتون الفقهية، و

من أراد التفصيل فعليه الرجوع إلي مظانّها.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 404

الجوامع و المتون الفقهية للمذهب الحنفي

تمتّع المذهب الحنفي بالانتشار أكثر من سائر المذاهب، و يعزي ذلك إلي أنّ أصحاب أبي حنيفة، و لا سيما تلميذيه تمتعا بنفوذ كبير في الدولة العباسية و بحظ وافر من الدعم، و هما: 1- القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم (113 182 ه) تفقّه بالحديث و الرواية، و لزم أبا حنيفة و غلب عليه الرأي، و ولي القضاء ببغداد أيام المهدي و الهادي و الرشيد، و مات في خلافته ببغداد و هو علي القضاء، و هو أوّل من دُعي «بقاضي القضاة» و أوّل من ألّف الكتاب في أُصول الفقه علي مذهب أبي حنيفة، و قد طبع منه كتابان: أ- الخراج، ب- الآثار.

و ذكر له من المؤَلّفات ما يلي: «النوادر» و «اختلاف الأَمصار» و «أدب القاضي» و «الأَمالي في الفقه» و «الرد علي مالك بن أنس» و «الفرائض» و «الوصايا» و «الوكالة» و «البيوع» و «الصيد» و «الذبائح» و «الغصب» و «الاستبراء» و «الجوامع في أربعين فصلًا».

و قد ألّف كتابه «الخراج» باقتراح من هارون الرشيد الخليفة العباسي.

يقول القاضي في مقدّمة كتابه: إنّ أمير المؤمنين يعني به هارون الرشيد سألني أن أضع له كتاباً جامعاً يعمل به في جباية الخراج و العشور و الصدقات

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 405

و الجوالي «1»، و غير ذلك ممّا يجب النظر فيه و العمل به «2».

و قد ألّف الشيخ محمد زاهد الكوثري (1296 1371 ه) كتاباً باسم «حسن التقاضي في سيرة الإِمام أبي يوسف القاضي» «3».

2- محمد بن الحسن الشيباني (131 189 ه) مؤَلّف كتاب «المبسوط» في فروع الفقه و «الزيادات» و كلاهما مخطوطان، و طبع منه

«الجامع الكبير» و «الجامع الصغير» و «الآثار» و «السير» و «الموطأ» و «الأَمالي» و «المخارج في الحيل» و «الأَصل» و «الحجة علي أهل المدينة» و قد ألّف الشيخ محمد زاهد الكوثري كتاباً في ترجمة الشيباني أسماه «بلوغ الأَماني في سيرة الشيباني» «4».

و عدّ ما ألّفه التلميذان المنبع الرئيسي للفقه الحنفي، و قد اختصر كتب الشيباني، محمد بن أحمد المروزي (المتوفي 334 ه) و أسماه ب «الكافي» بعد حذف المكرّرات.

و قد ألّف الاحناف بعده مصنّفات كثيرة في الفقه الحنفي بين جوامع و متون، فمن الصنف الأَوّل: أ- «المبسوط في الفقه» لأَبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي المتوفّي (490 ه) و هو في 14 مجلداً، و له كتاب ضخم في أُصول الفقه و «شرح السير الكبير» في جزءين ضخمين، كما و شرح مختصر الطحاوي «5».

ب- «تحفة الفقهاء» لمحمد بن أحمد بن أبي أحمد الامام علاء الدين أبي

______________________________

(1) جمع جالية، و أصلها الجماعة التي تفارق و تنهي و تنزل وطناً آخر.

(2) القاضي أبو يوسف: كتاب الخراج: 3.

(3) الزركلي: الاعلام: 7- 193.

(4) الزركلي: الاعلام: 6- 80.

(5) مفتاح السعادة: 552- 54.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 406

منصور السمرقندي «1» (المتوفّي 485 ه).

ج- «بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع» لعلاء الدين ملك العلماء أبي بكر ابن مسعود بن أحمد الكاساني «2» (المتوفّي 785 ه) و له شرح علي كتاب «التحفة» للسمرقندي.

و من الصنف الثاني: أ- «مختصر القدوري» لأَبي الحسن أحمد بن محمد القدوري (362 428 ه) انتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق صنّف «المختصر» و شرح «مختصر الكرخي» و صنّف «التجريد» في سبعة أسفار شرع في إملائه سنة 405 ه و كتاب «التقريب» في مسائل الخلاف بين أبي حنيفة و

أصحابه «3».

و قد شرح ذلك المختصر أبو الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل بن برهان الدين المرغيناني الراشداني (المتوفّي 593 ه) حيث جمع بين مسائل القدوري و الجامع الصغير لمحمد بن الحسن، ثمّ شرحها شرحاً في نحو ثمانين مجلداً و سمّاه «كفاية المنتهي» و لمّا تبيّن فيه الاطناب، و خشي أن يهجر لأَجله الكتاب، شرحه شرحاً مختصراً سمّاه «الهداية» «4».

ب- «وقاية الرواية في مسائل الهداية» لبرهان الشريعة محمود بن أحمد بن صدر الشريعة الأَوّل عبيد اللّه المحبوبي الحنفي (المتوفّي 673 ه).

صنّفه لابن بنته

______________________________

(1) ترجم له في الجواهر المضيّة: 2- 6.

(2) ترجم له في الجواهر المضيّة: 2- 244، تاج التراجم: 84، مفتاح السعادة: 2- 138.

(3) مفتاح السعادة: 2- 145- له ترجمة في تاريخ بغداد: 4- 377، وفيات الأَعيان: 1- 26، النجوم الزاهرة: 5- 24، شذرات الذهب: 3- 223، مرآة الجنات: 3- 47، الجواهر المضيّة: 1- 93، تاج التراجم: 7.

(4) مفتاح السعادة: 2- 128- له ترجمة في الإعلام للزركلي: 4- 266.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 407

صدر الشريعة الثاني، و له شروح كثيرة، أشهرها شرح الامام صدر الشريعة الثاني عبيد اللّه بن مسعود المحبوبي الحنفي المتوفّي سنة 750 ه «1».

ج- «المختار» لعبد اللّه بن محمود بن مودود بن محمود حجة الدين أبي الفضل الموصلي (599- 683 ه) «2».

و كان فقيهاً عارفاً بالمذهب، درس في مشهد أبي حنيفة، و له كتاب آخر هو كتاب «الاختيار لتعليل المختار» «3».

د- «مجمع البحرين» لأَحمد بن علي بن تغلب بن أبي الضياء الحنفي المعروف ب «ابن الساعاتي» (المتوفّي 694 ه) و قد جمع فيه بين مختصر القدوري و المنظومة مع زوائد، و أبدع في اختصاره، و شرحه في مجلدين كبيرين،

و له «البديع في أُصول الفقه» جمع فيه بين أُصول البرذوي و الأحكام للآمدي «4». ه- «كنز الدقائق» للنسفي (المتوفي 701 ه) و هو عبد اللّه بن أحمد بن محمود أبو البركات حافظ الدين النسفي.

له كتاب «المستصفي» في شرح المنظومة، و كتاب «المنافع في شرح النافع» و كتاب «الكافي في شرح الوافي» و هذه كلّها في الفقه، و كتاب «المنار» في أُصول الفقه، و قد شرحه و سمّاه «الكشف» «5».

______________________________

(1) كشف الظنون: 2- 2020.

(2) له ترجمة في الجواهر المضيّة: 1- 291، تاج التراجم: 3.

(3) مفتاح السعادة: 2 147- 146.

(4) الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية: 1- 80 برقم 148، مجمع المؤَلفين: 2- 4.

(5) الجواهر المضيّة: 1- 270، تاج التراجم: 22- و ترجم له في الدرر الكامنة: 2- 247.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 408

الجوامع و المتون الفقهية للمذهب المالكي

المذهب المالكي هو المذهب المأثور عن الامام مالك بن أنس إمام دار الهجرة و محدّثها، و المعروف أنّه لم يترك كتاباً فقهياً و إنّما ألّف الموطأ، و هو كتاب حديث مزيج بالفقه، و يعد المصدر الأَوّل للمذهب المالكي، و أخذ المذهب يتكامل علي أيدي تلامذته فأرسوا أركان المذهب و قواعده.

لقد ألّف في المذهب المالكي مؤَلّفات كثيرة و بأساليب مختلفة، فمن مدوّنات تهدف إلي جمع ما عثر عن الامام مالك من الفتاوي المبعثرة، إلي مجاميع و أُصول تهتم بإرساء قواعد المذهب و نضجها و تطبيقها علي المستجدات عبر الزمان، إلي متون للدراسة و التربية.

أمّا المدوّنات فهي كما يلي: 1- الاسدية: دوّنها أسد بن فرات (145 204 ه) «1» تلميذ مالك و محمد ابن الحسن صاحب أبي حنيفة في ستين باباً من أبواب العلم من إجابات عن أسئلة، أجابه بها عبد الرحمن بن القاسم

أعظم تلاميذ مالك المصريين.

2- مدونة سحنون: نسخ سحنون «2» (المتوفّي 042 ه) في إفريقية «الاسدية» و بعث بها إلي ابن القاسم فراجعها، فأسماها «مدونة سحنون» فسمّيت

______________________________

(1) محمد مخلوف: شجرة النور الزكية: 62 برقم 37.

(2) محمد مخلوف: شجرة النور الزكية: 70 برقم 80.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 409

بالمدونة، و هي مجموعة فقهية.

3- «الواضحة في السنن و الفقه» لابن مروان عبد الملك بن حبيب السلمي القرطبي (المتوفّي 238 ه) و له كتاب في تفسير الموطأ «1».

4- «المستخرجة العتبية علي الموطأ» لأَبي عبد اللّه محمد العتبي بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة القرطبي (المتوفّي 254 ه) «2».

5- «الموازية» تأليف أبي عبد اللّه محمد بن سعيد المعروف بابن المواز القرطبي (المتوفّي 281 ه) «3».

تعدّ هذه المدونات من الأصول الأُولي للمذهب المالكي، أعقبها تصنيف مجاميع كثيرة بعد الموطأ، نذكر منها ما يلي: 1- «التمهيد لما في الموطأ من المعاني و الأَسانيد»: تأليف أبي عمر يوسف بن عبد اللّه بن محمد بن عبد البر النمري، شيخ علماء الأَندلس، و كبير محدّثيها (368 436 ه) ألّف في الموطأ كتباً مفيدة، و له «الاستذكار لمذهب علماء الأَمصار» «4».

2- «المنتقي» تأليف أبي الوليد الباجي سليمان بن خلف التميمي (403 474 ه) ألّف كتباً كثيرةً منها «شرح الموطأ» و هي نسختان إحداهما «الاستيفاء» ثم انتقي منها فوائد سمّاها «المنتقي» في سبع مجلدات، و هو أحسن كتاب أُلّف في مذهب مالك، و له «الإِملاء» مختصر المنتقي «5».

______________________________

(1) محمد مخلوف: شجرة النور الزكية: 75 برقم 109.

(2) محمد مخلوف: شجرة النور الزكية: 75 برقم 110.

(3) محمد مخلوف: شجرة النور الزكية: 76 برقم 118.

(4) محمد مخلوف: شجرة النور الزكية: 119 برقم 337.

(5) محمد مخلوف: شجرة النور الزكية:

121 برقم 341.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 410

3- «تنوير الحوالك شرح موطإ مالك» تأليف جلال الدين عبد الرحمن السيوطي الشافعي (848 911 ه) ألّفه تعليقاً علي الموطأ و طبعا معاً، و له «إسعاف الموطأ برجا ل الموطأ» و قد طبع في جزءين «1».

4- «شرح الزرقاني علي موطإ الامام مالك» لمحمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني (1055- 1122 ه).

له مصنّفات، منها: شرح علي «المواهب اللدنية» و شرح علي «الموطأ» و اختصر المقاصد الحسنة للسخاوي «2».

و أمّا المتون الفقهية، نذكر منها: 1- رسالة ابن أبي زيد القيرواني، لأَبي زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر (160 234 ه) و قد اختصر رسالة «الاسدية» «3».

كما و تمّ شرحها من قبل أبي الحسن علي بن محمد بن خلف (857 939 ه).

2- «مختصر الشيخ خليل» لخليل بن إسحاق الجندي (المتوفّي 767 ه) و ربما قيل توفّي (769 ه).

و له مختصر في المذهب المالكي أقبل عليه الطلبة و اعتنوا بشرحه و حفظه و درسه.

كما له التوضيح في شرح مختصري ابن الحاجب الأَصلي و الفرعي «4».

و لهذا المختصر شروح كثيرة عند المالكية.

______________________________

(1) انظر مقدمة تنوير الحوالك.

(2) محمد مخلوف: شجرة النور الزكية: 318 برقم 1237.

(3) محمد مخلوف: شجرة النور الزكية: 66 برقم 61.

(4) محمد مخلوف: شجرة النور الزكية: 223 برقم 794.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 411

الجوامع و المتون الفقهية للمذهب الشافعي

فقه الامام الشافعي من أكثر المذاهب انتشاراً في مصر و الشام و العراق و خراسان و ديار بكر، و سببه أنّ كبار أئمّة أهل الحديث، إمّا من جملة أصحابه أو أتباعه، كالترمذي و النسائي و ابن ماجه و ابن حبان و البيهقي و الحاكم، و كانت للمحدّثين كلمة نافذة في الأَوساط الإِسلامية حتي أنّ الشيخ

أبا الحسن الأَشعري و ابن فورك من المتكلّمين من أتباع الإِمام الشافعي.

و لما انتقل الامام الشافعي من المدينة إلي بغداد عام 195 ه، فأقام بها حولين صنّف فيها كتابه القديم، و إليه ينسب كلّ رأي يوصف بالقديم للشافعي.

ثمّ خرج إلي مصر و صنّف بها كتبه الجديدة، و إليه ينسب كلّ رأي يوصف بالجديد للشافعي، انّ ما كتبه الامام الشافعي حول الفقه قديمه و جديده يعد البذرة الأولي، و المنبع الاساسي لفقهه، و لنبدأ أوّلًا بذكر كتب الشافعي، فنقول: من كتب الشافعي: «الأَمالي» و «مجمع الكافي» و «عيون المسائل» و «البحر المحيط» هذه من القديم.

و «الأُم» و «الإِملاء» و «المختصرات» و «الرسالة» و «الجامع الكبير» من الجديد، و له كتاب آخر غير مشهور قريب من المحرر نظماً و حجماً، ألّفه المزني بعد الشافعي من مسوداته و سمّاه «الاختصار».

و جاء بعده أصحابه و تلامذته فأرسوا قواعد المذهب و حقّقوه حتي صار مذهباً متكاملًا كسائر المذاهب، و قد انصبّ اهتمام الشافعي بالحديث و السنّة أكثر

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 412

من اهتمام أبي حنيفة بهما، ممّا حدا بالمحدّثين و رواة السنّة الوقوف علي فقهه.

و أمّا الكتب المشهورة في الفقه الشافعي، فهي بين أُصول تهتم بإرساء قواعد المذهب و نضجها و متون، فنذكر منها ما يلي: 1- «المهذب» لأَبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الشافعي «1» (693- 674 ه) له تصانيف معروفة منها «المهذّب» و «التنبيه» و «اللمع و شرحها في أُصول الفقه» و «النكت في الخلاف» و «المعونة في الجدال» و للمهذّب شروح أهمها شرح النووي باسم «المجموع» كما أنّ للتنبيه شروحاً كثيرة أيضاً.

2- «نهاية المطلب في دراية المذهب» لضياء الدين أبي المعالي عبد الملك إمام

الحرمين ابن الشيخ أبي محمد الجويني «2» (419- 478 ه) و من تصانيفه «الأَساليب في الخلاف» و «مختصر النهاية» و «الرسالة النظامية».

3- «المحرر» تأليف الرافعي (المتوفّي 623 ه) هو أبو القاسم بن عبد الكريم بن محمد بن الفضل القزويني الرافعي «3» له مصنّفات منها: «العزيز» و يوصف بأنّه لم يصنّف مثله في المذهب، و قد طبع أخيراً كتابه «التدوين في ذكر أخبار قزوين» و له «فتح العزيز في شرح الوجيز» للغزالي.

4- «المجموع» لأَبي زكريا محيي الدين يحيي بن شرف الخرامي النووي «4»

______________________________

(1) له ترجمة في طبقات الشافعية للَاسنوي 2- 7 برقم 672، طبقات الشافعية للسبكي: 4- 215.

(2) ترجم له في طبقات الشافعية للَاسنوي: 1- 197، و طبقات الشافعية للسبكي: 5- 165 برقم 475.

(3) له ترجمة في طبقات الشافعية لهبة اللّه الحسيني: 219، و طبقات الشافعية للَاسنوي: 1- 281 برقم 524.

(4) له ترجمة في طبقات الشافعية للَاسنوي: 1- 266 برقم 1162.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 413

(1 63- 676 ه).

و هو محرر المذهب، و منقّحه، و مرتّبه، و سار في الآفاق ذكره، صاحب التصانيف المعروفة، و «المجموع» هو شرح المهذّب لأَبي إسحاق الشيرازي، و قد طبع «المجموع» كما طبع منه منهاج الطالبين، و هو مختصر المحرر للرافعي، و قد كتب لها شروحاً.

كما أنّ للمذهب الشافعي متوناً هي كالتالي: 1- «مختصر المزني» لأَبي إبراهيم إسماعيل بن يحيي المعروف بالمزني «1» (175- 264 ه).

حدّث عن: الشافعي و نعيم بن حماد، و له مصنّفات كثيرة، منها: «المختصر» و «الجامع الكبير» و «الجامع الصغير» و «المنثور» و «المسائل المعتبرة» و «الترغيب في العلم» و هو أوّل من صنّف في مذهب الامام الشافعي و شيّد أركان مذهبه، و قد شرح غير

واحد كتابه المختصر منهم أبو إسحاق المروزي (المتوفّي 340 ه) فقد شرحه شرحاً مبسوطاً.

2- «الوجيز» للإِمام الغزالي (450- 505 ه) حجة الإِسلام زين الدين محمد ابن محمد بن محمد الطوسي الغزالي، له كتب كثيرة في مجالات مختلفة، خصوصاً في الأَخلاق و الفلسفة.

و من كتبه الفقهية: «الوجيز» في فقه الامام الشافعي، كما أنّ له «الوسيط» في فروع المذهب الشافعي، و هو مختصر كتابه الثالث البسيط في فروع الفقه، و قد اعتني بترجمته كثير من الشرقيين و المستشرقين، و ألّف بعضهم كتاباً خاصاً في ترجمته «2».

______________________________

(1) له ترجمة في طبقات الشافعية للسبكي: 2- 93، طبقات الفقهاء لأَبي إسحاق الشيرازي: 97، طبقات الشافعية لأَبي بكر هداية اللّه الحسيني (ت 1014): 20.

(2) ترجم له في طبقات الشافعية للَاسنوي: 2- 111 برقم 860؛ الزركلي: الاعلام: 7- 22.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 414

و من أراد الوقوف علي الكتب الفقهية التي أُلّفت في المذهب الشافعي فيمكنه الرجوع إلي كتاب «طبقات الشافعية» لأَبي بكر بن هداية اللّه الحسيني حيث خصّص في آخره باباً لذكرها «1».

______________________________

(1) طبقات الشافعية: 245- 251.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 415

الجوامع و المتون الفقهية للمذهب الحنبلي

لم يكن للإِمام أحمد بن حنبل فقه مدوّن، و إنّما جمعه أبو بكر الخلّال من فتاواه المتشتتة الموجودة بين أيدي الناس حتي جعله مذهباً فقهياً لأَحمد، و جاء من جاء بعده فاستثمرها و استغلّها حتي صار مذهباً من المذاهب.

قال الذهبي: و قد دوّن عند كبار تلامذته مسائل وافرة في عدّة مجلدات، ثمَّ ذكر أسامي عدّة من تلاميذه الذين جمعوا مسائل الامام و فتاواه، و قال: جمع أبو بكر الخلّال سائر ما عند هؤلاء من أقوال أحمد و فتاويه و كلامه في العلل و الرجال و السند و

الفروع حتي حصل عنده من ذلك ما لا يوصف كثرة، و رحل إلي النواحي في تحصيله، و كتب عن نحو من مائة نفس من أصحاب الإِمام، ثمَّ كتب كثيراً من ذلك عن أصحاب أصحابه، و بعضه عن رجل، عن آخر، عن آخر، عن الامام ثمّ أخذ في ترتيب ذلك و تهذيبه و تبويبه، و عمل كتاب «العلم»، و كتاب «العلل» و كتاب «السنّة»، كل واحد من الثلاثة في ثلاثة مجلدات «1».

فلو صحّ ما ذكره الذهبي، فهو يعرب عن أنّ الإِمام أحمد لم يكن رجلًا متربعاً علي منصة الفقه و أُصوله و قائماً علي تربية الفقهاء، و أقصي ما كان يتمتع به هو الإِجابة عن الأَسئلة التي كانت ترد عليه من العراق و خارجه علي ضوء النصوص الموجودة عنده، فتفرّقت الأَجوبة طبق الأَسئلة في البلاد و جمعها

______________________________

(1) سير أعلام النبلاء: 11- 330.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 416

«الخلّال» في كتاب خاص.

هذا ما ذكره الذهبي، و لكن الظاهر عن غير واحد ممّن ترجم الامام أنّه كان يتحفّظ عن الفتيا و يتزهّد عنها، و لعلّه يري مقام الإِفتاء أرفع و أعلي من نفسه.

روي الخطيب في «تاريخه» بالإسناد قال: «كنت عند أحمد بن حنبل فسأله رجل عن الحلال و الحرام، فقال له أحمد: سل عافاك اللّه غيرنا.

قال الرجل: إنّما نريد جوابك يا أبا عبد اللّه.

قال: سل عافاك اللّه غيرنا سل الفقهاء، سل أبا ثور «1».

و هذا يعرب عن أنّ ديدن الإِمام في حياته هو التحفّظ و التجنّب عن الإِفتاء إلّا إذا قامت الضرورة، أو كان هناك نصوص واضحة في الموضوع و هذا لا يجتمع مع ما نسب إليه الذهبي من أنّ «الخلّال» كتب عنه الكتب التي ذكرها.

و قال ابن

الجوزي: لمّا تُوفي محمد بن جرير الطبري عام 310، دُفن بداره ليلًا و قد تعصّب عليه الحنابلة لأَنّه جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء، و لم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فسُئل في ذلك فقال: «لم يكن فقيهاً و إنّما كان محدثاً» «2».

و هناك كلام للشيخ أبي زهرة في كتابه حول حياة ابن حنبل نذكر خلاصة ما جاء فيه: «إنّ أحمد لم يصنّف كتاباً في الفقه يعد أصلًا يؤخذ منه مذهبه و يعد مرجعه، و لم يكتب إلّا الحديث، و قد ذكر العلماء أنّ له بعض كتابات في موضوعات فقهية، منها: المناسك الكبير، و المناسك الصغير، و رسالة صغيرة في الصلاة، كتبها إلي إمام صلّي هو وراءه فأساء في صلاته.

و هذه الكتابات هي أبواب قد توافر فيها الأَثر، و ليس فيها رأي، أو قياس، أو استنباط فقهي، بل اتباع لعمل،

______________________________

(1) تاريخ بغداد: 2- 66.

(2) ابن الجوزي: المنتظم: في حوادث عام 310.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 417

و فهم لنصوص.

و رسالته في الصلاة و المناسك الكبير و الصغير هي كتب حديث، و كتبه التي كتبها كلّها في الحديث في الجملة، و هي المسند و التاريخ و الناسخ و المنسوخ و المقدم و المؤخر في كتاب اللّه و فضائل الصحابة و المناسك الكبير و الصغير و الزهد، و له رسائل يبيّن مذهبه في القرآن، و الردّ علي الجهمية، و الردّ علي الزنادقة.

و إذا كان أحمد لم يدوّن في الفقه كتاباً، و لم تنشر آراؤه، و لم يملها علي تلامذته كما كان يفعل أبو حنيفة، فإنّ الاعتماد في نقل فقهه إنّما هو علي عمل تلاميذه فقط، و هنا تجد أنّ الغبار يثأر حول ذلك النقل من نواح متعدّدة.

إنّ

المروي عن ذلك الامام الاثري الذي كان يتحفّظ في الفتيا فيقيّد نفسه بالأَثر، و يتوقّف حيث لا أثر و لا نص شاملًا عاما، و لا يلجأ إلي الرأي إلّا حين الضرورة القصوي التي تلجئه إلي الإِفتاء كثير جدّاً، و الأَقوال المروية عنه متضاربة، و ذلك لا يتفق مع ما عرف عنه من عدم الفتوي إلّا فيما يقع من المسائل، و لا يفرض الفروض، و لا يشقّق الفروع، و لا يطرد العلل، و لقد كان يكثر من قول: «لا أدري»، فهذه الكثرة لا تتفق مع المعروف عنه من الإِقلال في الفتيا، و المعروف عنه من قول: «لا أدري» و مع المشهور عنه من أنّه لا يفتي بالرأي إلّا للضرورة القصوي.

إنّ الفقه المنقول عنه أحمد قد تضاربت أقواله فيه تضارباً يصعب علي العقل أن يقبل نسبة كلّ هذه الأَقوال إليه.

و افتَتِحْ أيّ كتاب من كتب الحنابلة و اعمِد إلي باب من أبوابه تجده لا يخلو من عدّة مسائل اختلفت فيها الرواية بين لا و نعم أي بين النفي المجرّد و الإِثبات المجرّد.

هذه نواح قد أثارت غباراً حول الفقه الحنبلي و إذا أُضيف إليها أنّ كثيراً من القدامي لم يعدّوا «أحمد» من الفقهاء، ف «ابن جرير الطبري» لم يعدّه منهم، و «ابن قتيبة» الذي كان قريباً من عصره جدّاً لم يذكره في عصابة الفقهاء، بل عدّه في

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 418

جماعة المحدّثين، و لو كانت تلك المجموعة الفقهية من أحمد ما ساغ لأُولئك أن يحذفوا أحمد عن سجل الفقهاء «1».

قال الكوثري: لقد ترك ابن حنبل التحديث قبل وفاته بنحو ثلاث عشرة سنة، و قبل تهذيب مسنده، كما نص علي ذلك أبو طالب و الذهبي و غيرهما،

و كان ينهي أصحابه أشدّ النهي عن تدوين فتياه، فضلًا عن أن يؤَلّف في علم الكلام: و كتاب «الرد علي الجهمية» المنسوب إليه غير ثابت عنه.

و أمّا ابنه عبد اللّه، فهو الذي أخرج للناس كتاب المسند، و عبد اللّه هذا لم يرو عنه أصحاب الأصول الستة غير النسائي مع أنّهم يروون عمّن هو أصغر سناً منه، و النسائي حينما روي عنه لم يرو عنه إلّا حديثين.

و عبد اللّه بن أحمد قد ورث من أبيه مكانته في قلوب الرواة، إلّا أنّه لم يتمكّن من المضي علي سيرة أبيه من عدم التدخل فيما لا يعنيه حتي ألّف هذا الكتاب «2» " ث تحت ضغط تيار الحشوية بعد وفاة والده، و أدخل فيه بكل أسف ما يجافي دين اللّه، و ينافي الايمان باللّه من وصف اللّه بما لا يجوز فضّل به أصحابه «3».

و قد نجد في الفقه الحنبلي مصنّفات نشير إلي البعض منها: «مختصر الخرقي» لأَبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد اللّه بن أحمد الخرقي (المتوفّي 343 ه).

قرأ عند أبي بكر المروزي و حرب الكرماني، له مصنفات كثيرة في المذهب لم ينتشر منها إلّا «المختصر في الفقه» و عدد مسائل المختصر ألفان و ثلاثمائة مسألة «4».

و قد شرحه عدّة من الحنابلة، أهمها:

______________________________

(1) محمد أبو زهرة: ابن حنبل، حياته و عصره: 168- 171.

(2) يريد كتاب السنَّة.

(3) المقالات الكوثرية: 399- 400.

(4) طبقات الحنابلة: 2- 75، سير أعلام النبلاء: 15- 363 برقم 186.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 419

1- «المغني» لعبد اللّه بن أحمد بن محمد بن قُدامة المقدسي ثمّ الدمشقي الصالحي (541 620 ه) و قد أسهب فيه الكلام في الفقه المقارن و رجح رأي الحنابلة، و قد طبع

مرتين.

2- «التذكرة» لأَبي الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد البغدادي (431 513 ه) له تصانيف كثيرة في أنواع العلم، و أكبر تصانيفه كتاب «الفنون» و هو كتاب كبير جدّاً، فيه فوائد كثيرة، و له في الفقه كتاب «الفصول» و يسمّي «كفاية المفتي» في عشرة مجلّدات، كتاب «عمدة الأَدلّة»، كتاب «المفردات»، كتاب «المجالس النظريات» و كتاب «الإِشارة» و هو مختصر كتاب «الروايتين و الوجهين» و كتاب «المنثور» «1».

3- «الهداية» لمحفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني، (432 510 ه) أبي الخطاب البغدادي، الفقيه أحد أئمّة المذهب و أعيانه من تصانيفه: «الخلاف الكبير» المسمّي، ب «الانتصار في مسائل الكبار»، و «الخلاف الصغير» المسمّي ب «رءوس المسائل» و له أيضاً كتاب «التهذيب» في الفرائض، و «التمهيد» في أُصول الفقه، و كتاب «العبادات الخمس» و «مناسك الحج» «2».

4- «المستوعب» لمحمد بن عبد اللّه بن محمد بن الحسين السامري (535 616 ه) و يلقّب نصير الدين، و يعرف ب «ابن سُنَيْنَة» ولد بسامراء، و سمع من ابن البطي و أبي حكيم النهرواني ببغداد، و تفقّه علي ابن حكيم و لازمه مدّة، و برع في الفقه و الفرائض، و صنّف فيها تصانيف مشهورة، منها: كتاب «الفروق»، و كتاب «البستان» في الفرائض «3».

______________________________

(1) الاعلام: 7- 320، شذرات الذهب: 8- 327، الكواكب السائرة: 3- 215، ذيل طبقات الحنابلة: 84.

(2) انظر لترجمته: ذيل طبقات الحنابلة: 3- 116 برقم 60.

(3) انظر لترجمته: ذيل طبقات الحنابلة: 4- 121 برقم 262، الاعلام: 6- 231.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 420

5- «المحرّر» لمجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي القاسم بن تيمية (المتوفّي 652 ه) الحرّاني، الفقيه، شيخ الحنابلة، و قد ألّف

«المحرر» في الفقه بطلب من قاضي حلب بهاء الدين بن شداد، و له تصانيف أُخري، منها: «أطراف أحاديث التفسير» و «أُرجوزة» في علم القراءات، «الاحكام الكبري» في عدّة مجلّدات «المنتقي من أحاديث الاحكام» و «منتهي الغاية في شرح الهداية» بيّض منه أربعة مجلدات كبار إلي أوائل الحج، و الباقي لم يبيّضه «مسودة» في أُصول الفقه «1».

6- «الإِقناع» في فقه الامام أحمد بن حنبل، لموسي بن أحمد بن موسي بن سالم ابن عيسي الحجاوي المقدسي (المتوفّي 968 ه) فقيه حنبلي، و كان مفتي الحنابلة في دمشق، له كتب، منها: «زاد المستقنع في اختصار المقنع» في الفقه، و «شرح منظومة الآداب الشرعية للمرداوي».

و يعد كتابه «الإِقناع» المطبوع في أربعة أجزاء في مجلدين من أجلِّ كتب الفقه عند الحنابلة، و امتاز بتحرير النقول، و كثرة المسائل «2».

7- «منتهي الإِرادات في جمع المقنع مع التنقيح و زيادات» لمحمد بن أحمد ابن عبد العزيز الفتوحي، الشهير ب «ابن النجار» (898 972 ه) «3».

______________________________

(1) طبقات الحنابلة: 4- 252 برقم 359، سير أعلام النبلاء: 23، برقم 198، شذرات الذهب: 5- 257، طبقات القرّاء: 1- 385، دول الإِسلام: 2- 119، العبرة: 212، البداية و النهاية: 13- 185.

(2) الاعلام: 7- 320، شذرات الذهب: 8- 327، الكواكب السائرة: 3- 215، مختصر طبقات الحنابلة: 84.

(3) انظر لترجمته: مختصر طبقات الحنابلة: 87، الاعلام: 6- 6، معجم المؤَلفين: 8- 276.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 421

الفصل السادس تاريخ أُصول الفقه

اشارة

الإِسلام عقيدة و شريعة، و العقيدة هي الايمان باللّه سبحانه و صفاتِه و التعرّفُ علي أفعاله.

و الشريعة هي الاحكام و القوانين الكفيلة ببيان وظيفة الفرد و المجتمع في حقول مختلفة تجمعها العبادات، و المعاملات، و الإِيقاعات، و السياسات.

فالمتكلِّم الإِسلامي من تكفّل ببيانِ

العقيدة و برهن علي الايمان باللّه سبحانه و صفاتِه الجمالية و الجلالية، و أفعاله من لزوم بعث الأَنبياء و الأَوصياء لهداية الناس و حشرهم يوم المعاد.

كما انّ الفقيه من قام ببيان الأَحكام الشرعية الكفيلة بإدارة الفرد و المجتمع، و التنويه بوظيفتهما أمام اللّه سبحانه و وظيفة كلّ منهما بالنسبة إلي الآخر.

بيد انّ لفيفاً من العلماء أخذوا علي عاتقهم بكلتا الوظيفتين، فهم في مجال العقيدة أبطال الفكر و سنامه، و في مجال التشريع أساطين الفقه و أعلامه، و لهم الرئاسة التامة في فهم الدين علي مختلف الاصعِدة.

إنّ علم أُصول الفقه يعرِّف لنا القواعدَ الممهدة لاستنباط الأَحكام الشرعية أو ما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل، و قد سُمِّي بهذا الاسم لصلته الوثيقة بعلم

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 422

الفقه فهو أساس ذلك العلم و ركنه، و عماد الاجتهاد و سناده.

الاجتهاد: عبارة عن بذل الوسع في استنباط الأَحكام الشرعية من مصادرها و هو رمز خلود الدين و حياته، و جعله غضّاً، طريّاً، مصوناً من الاندراس عبْر القرون و مغنياً المسلمينَ عن التطفّل علي موائد الأَجانب، و يتضح ذلك من خلال أُمور: 1- أنّ طبيعة الدين الإِسلامي و انّه خاتم الشرائع إلي يوم القيامة تقتضي فتح باب الاجتهاد لما سيواجه الدين في مسيرته من أحداث و تحدّيات مستجدة، و موضوعات جديدة لم يكن لها مثيل أو نظير في عصر النص، فلا محيص عن معالجتها إمّا من خلال بذل الجهود الكافية في فهم الكتاب و السنة و غيرهما من مصادر التشريع و استنباط حكمها، و إمّا باللجوء إلي القوانين الوضعية، أو عدم الفحص عن حكمها و إهمالها.

و الأَوّل هو المطلوب و الثاني يكوّن نقصاً في التشريع الإِسلامي و هو

سبحانه قد أكمل دينه بقوله: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" و الثالث لا ينسجم مع طبيعة الحياة و نواميسها.

2- لم يكن كل واحدٍ من أصحاب النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- متمكناً من دوامِ الحضورِ عنده- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- لأَخذ الاحكام عنه، بل كان في مدّة حياته يحضره بعضهم دون بعض، و في وقت دون وقت، و كان يسمع جواب النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- عن كلّ مسألة يسأل عنها بعض الأَصحاب و يفوت عن الآخرين، فلما تفرق الأَصحاب بعد وفاته- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في البلدان، تفرقت الاحكام المروية عنه ص فيها، فتُروي في كلّ بلدة منها جملة، و تُروي عنه في غير تلك البلدة جُملة أُخري، حيث إنّه قد حضر المدنيّ من الاحكام، ما لم يحضره المصري و حضر المصريّ ما لم يحضره الشاميّ، و حضر الشاميّ ما لم يحضره البصري، و حضر البصري ما لم يحضره

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 423

الكوفي إلي غير ذلك، و كان كل منهم يجتهد فيما لم يحضره من الاحكام «1».

إنّ الصحابي قد يسمع من النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- في واقعة، حكماً و يسمع الآخر في مثلها خلافه، و تكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير الحكمين غفل أحدهما عن الخصوصية أو التفت إليها و غفل عن نقلها مع الحديث، فيحصل التعارض في الأَحاديث ظاهراً، و لا تنافي واقعاً.

و من هذه الأَسباب و أضعافِ أمثالها احتاج حتي نفس الصحابة الذين فازوا بشرف الحضور، في معرفة الاحكام إلي الاجتهاد و النظر في الحديث، و ضمّ بعضه إلي بعض، و الالتفات إلي القرائن

الحالية فقد يكون للكلام ظاهر و مراد النبي خلافه اعتماداً علي قرينة في المقام، و الحديث نُقِلَ و القرينة لم تنقل.

و كل واحدٍ من الصحابة، ممن كان من أهل الرأي و الرواية، تارة يروي نفس ألفاظ الحديث، للسامع من بعيد أو قريب، فهو في هذا الحال راوٍ و محدثٍ، و تارة يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية، أو الروايات بحسب نظره و اجتهاده فهو في هذا الحال، مفت و صاحب رأي «2».

3- و هناك وجه ثالث و هو انّ صاحبَ الشريعة ما عُني بالتفاصيل و الجزئيات لعدم سنوح الفرص ببيانها، أو تعذر بيان حكم موضوعات لم يكن لها نظير في حياتهم بل كان تصورها لعدم وجودها أمراً صعباً علي المخاطبين فلا محيص لصاحبِ الشريعةِ عن إلقاء أُصول كلية ذات مادة حيويّة قابلة لاستنباط الاحكام وفقاً للظروفِ و الأَزمنة.

4- انّ حياة الدين مرهونة بمدارسته و مذاكرته و لو افترضنا انّ النبي- صلّي اللّه عليه و آله و سلم- ذكر التفاصيل و الجزئيات و أودعها بين دفّتي كتاب، لاستولي الركود الفكري علي

______________________________

(1) المقريزي: الخطط: 2- 333.

(2) كاشف الغطاء: أصل الشيعة: 147، طبعة القاهرة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 424

عقلية الأُمة، و لانحسر كثير من المفاهيم و القِيَم الإِسلامية عن ذهنيّتها، و أوجب ضياع العلم و تطرق التحريف إلي أُصوله و فروعه حتي إلي الكتاب الذي فيه تلك التفاصيل.

علي هذا، لم تقم للإِسلام دعامة، و لا حُفِظَ كِيانُه و نظامه، إلّا علي ضوء هذه البحوث العلمية و النقاشات الدارجة بين العلماء أو ردّ صاحب فكر علي ذي فكر آخر بلا محاباة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 425

تاريخ أُصول الفقه عند الشيعة

اشارة

لم يكن علم الأصول بمحتواه أمراً مغفولًا عنه، فقد أملي الامام

الباقر- عليه السّلام- و أعقبه الامام الصادق- عليه السّلام- علي أصحابهما قواعد كلية في الاستنباط، رتّبها بعض الأَصحاب علي ترتيب مباحث أُصول الفقه.

و ممن ألّف في ذلك المضمار: 1- المحدّث الحرّ العاملي (المتوفّي 1104 ه) مؤَلف كتاب: «الفصول المهمة في أُصول الأَئمّة» و هذا الكتاب يشتمل علي القواعد الكلية المنصوصة في أُصول الفقه و غيرها.

2- السيد العلّامة شبّر: عبد اللّه بن محمد الرضا الحسيني الغروي (المتوفّي 1242 ه) له كتاب «الأصول الأَصلية».

3- السيد الشريف الموسوي، هاشم بن زين العابدين الخوانساري الأصفهاني، له كتاب: «أُصول آل الرسول»، و قد وافته المنية عام 1318 ه.

فهذه الكتب الحاوية علي النصوص المروية عن أئمة أهل البيت في القواعد و الأُصول الكلية في مجال أُصول الفقه، تعرِبُ عن العناية التي يوليها أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لهذا العلم.

و قد تبعهم أصحابهم، منهم

اشارة

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 426

1- يونس بن عبد الرحمن (المتوفّي 208 ه)

يقول النجاشي: كان يونس بن عبد الرحمن وجهاً في أصحابنا متقدماً عظيم المنزلة، روي عن أبي الحسن موسي و الرضا (عليهما السلام).

فقد صنف كتابَ: «اختلاف الحديث و مسائله» «1» و هو قريب من باب التعادل و الترجيح في الكتب الأصولية.

2- أبو سهل النوبختي إسماعيل بن علي (237 311 ه)

يقول النجاشي: كان شيخَ المتكلمين من أصحابنا و غيرهم له جلالة في الدنيا و الدين، إلي أن قال: له كتاب «الخصوص و العموم»، و «الأَسماء و الأَحكام» «2».

و يقول ابن النديم: هو من كبار الشيعة، و كان فاضلًا عالماً متكلماً، و له مجلس يحضره جماعة من المتكلّمين، إلي أن قال: له كتاب «إبطال القياس» «3».

3- الحسن بن موسي النوبختي

عرفه النجاشي بقوله: شيخنا المتكلم المبرز علي نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة و بعدها.

و ذكر من كتبه «خبر الواحد و العمل به» «4».

يقولُ ابن النديم: الحسن بن موسي ابن أخت أبي سهل بن نوبخت، متكلّم

______________________________

(1) رجال النجاشي 211 برقم 810.

(2) المصدر نفسه: 121 برقم 67.

(3) ابن النديم: الفهرست: 225.

(4) النجاشي: الرجال: برقم 146.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 427

فيلسوف، كان يجتمع إليه جماعة من النَّقَلة لكتب الفلسفة «1».

يقول ابن حجر: الحسن بن موسي النوبختي، أبو محمد من متكلّمي الإِمامية، و له تصانيف كثيرة «2».

أصول الفقه و أدواره

اشارة

اجتاز علم الأصول من لدن تأسيسه إلي زماننا هذا مرحلتين، و امتازت المرحلة الثانية بالإبداع و الابتكار و طرح مسائل مستجدة لم تكن مذكورة في كتب الفريقين.

المرحلة الأولي: مرحلة النشوء و الازدهار
اشارة

ابتدأتْ المرحلةُ الأولي منذُ أوائل القرن الثالث إلي عصر العلّامة الحلي (648- 726) و قد اجتازت أدواراً ثلاثة.

الدور الأَوّل (دور النشوء)

و قد بُدئَ بأفراد بعض المسائل الأصولية بالتأليف دون أن يعمَّ كافة المسائل المعنونة في هذا العلم يومذاك، و لم نقف في هذا الدور علي كتاب عام يشمل جميع مسائله و قد عرفت أنّ يونس بن عبد الرحمن صنف كتابَ «علل الحديث»، و أبا سهل النوبختي كتابَ «الخصوص و العموم» و «إبطال القياس»، و الحسن بن موسي النوبختي كتاب «خبر الواحد و العمل به» و علي الرغم من ذلك فقد ازدهرتْ حركة الاستنباط و الاجتهاد بين أصحابنا في هذا الدور، فهذا هو «الحسن ابن علي العماني» شيخ فقهاء الشيعة، المعاصر للشيخ الكليني (المتوفّي 329 ه)

______________________________

(1) ابن النديم: الفهرست: 225.

(2) ابن حجر: لسان الميزان: 2- 258، برقم 175.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 428

ألّف كتاب «المتمسك بحبل آل الرسول».

يقول النجاشي: أبو محمد العماني فقيه متكلم ثقة له كتب في الفقه و الكلام، منها كتاب «المتمسك بحبل آل الرسول» كتابٌ مشهورٌ في الطائفة.

و قيل: ما ورد الحاج من خراسان إلّا طلَب و اشتري منه نسخاً «1».

كما ألّف الشيخ الكبير أبو علي الكاتب الإسكافي (المتوفّي 381 ه) كتاب «تهذيب الشيعة لأَحكام الشريعة» في الفقه، و هو كتابٌ كبيرٌ جامعٌ، ذكر فهرس كتبه، الشيخ النجاشي في رجاله، و له كتاب «الأَحمدي في الفقه المحمدي».

يقول النجاشي: وجهٌ في أصحابنا ثقةٌ جليلُ القدرِ صنّف فأكثر «2».

الدور الثاني (دور النمو)
اشارة

أنّ حاجة المستنبط في علم الأصول لم تكن مقصورة علي عصر دون عصر، بل كلما تقدّمتْ عجلة الحضارة نحوَ الامام، ازدادت الحاجة إلي تدوين قواعد الاستنباط للإِجابة علي الحوادث المستجدة و ملابساتها التي كان الفقهاء يواجهونها طيّ الزمان، مما ترك تأثيراً إيجابياً علي علم الأصول و ساهم في نموّه، فأفردوا جميع المسائل (بدل البعض كما

في الدور الأَوّل) بالتأليف، و قد تحمل ذلك العب ء ثلة من أساطين العلم و سنامه، منهم:

4- محمد بن محمد بن النعمان المفيد (336- 413)

هو شيخنا و شيخ الأُمّة محمد بن محمد بن النعمان المشهور بالمفيد، صنف كتاباً باسم «التذكرة بأصول الفقه» و طبع في ضمن مصنّفاته «3» و نقل خلاصته شيخنا الكراجكي (المتوفّي 449 ه) في كتابه «كنز الفوائد».

______________________________

(1) النجاشي: الرجال: برقم 99.

(2) المصدر السابق: برقم 1048.

(3) المؤتمر العالمي بمناسبة الذكري الأَلفيّة لوفاة الشيخ المفيد، المصنّفات: 9- 5.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 429

5- الشريف المرتضي (355- 436)

هو السيد الشريف علي بن الحسين المعروف بالمرتضي.

قال عنه النجاشي: حاز من العلوم ما لم يدانه أحد في زمانه، و سمع من الحديث فأكثر، و كان متكلماً شاعراً أديباً عظيم المنزلة في العلم و الدين و الدنيا، و عدّ من كتبه «الذريعة» و قد طبع الكتاب في جزءين طباعة منقّحة، و قد عثرت علي نسخة خطية منها في مدينة «قزوين» جاء في آخرها إنّ المؤَلف فرغ من تأليفها عام 400 ه، و قد نقل عنه جلُّ من تأخّر من السنة و الشيعة.

6- سلّار الديلمي (المتوفّي 448 ه)

هو سلّار بن عبد العزيز الديلمي.

يعرّفه العلّامة بقوله: شيخنا المقدم في الفقه و الأَدب و غيرهما، كان ثقة وجهاً الّف «التقريب في أصول الفقه»، ذكره في الذريعة «1».

7- الشيخ الطوسي (385 460)

هو محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي يقول عنه النجاشي: أبو جعفر، جليل من أصحابنا، ثقةٌ، عينٌ، من تلامذة شيخنا أبي عبد اللّه المفيد، و عدَّ من كتبه كتاب «العدّة في أُصول الفقه» «2» و قد طُبِع غير مرّة، و هو كتابٌ مفصلٌ مبسوطٌ يحتوي علي الآراء الأصولية المطروحة في عصره.

______________________________

(1) الطهراني: الذريعة: 4- 365 و ذكر أنّه توفّي في السفر سنة 448.

(2) النجاشي: الرجال: برقم 1069.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 430

الدور الثالث (دور الازدهار)

بدأ هذا الدور منذ أواخر القرن السادس إلي أواسط القرن الثامن، و قد صنف أصحابنا كتباً خاصة في أُصول الفقه تعرب عن الانجازات الضخمة، و المنزلة الراقية التي بلغها علمُ الأصول من خلال دراسة مسائله باسهاب و دقة و إمعان أكثر، و من المصنفين في هذا الحقل: 8- ابن زهرة الحلبي (511 558) هو الفقيه البارع السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي مؤَلف كتاب «غنية النزوع إلي علمي الأصول و الفروع» و كتابه هذا يدور علي محاور ثلاثة، العقائد و المعارف، أُصول الفقه، و الفروع.

و قد طبع الكتاب محقّقاً في مؤَسسة الامام الصادق- عليه السّلام- في جزءين، و الناظر في قسم أُصول الفقه يري فيه التفتح و الازدهار بالنسبة إلي ما سبقه.

9- سديد الدين الحمصي (المتوفي نحو 600 ه) هو الشيخ سديد الدين محمود بن علي بن حسن الحمصي الرازي و قد صنف «كتابه المنقذ من التقليد، و المرشد إلي التوحيد» عام 581 في الحلة الفيحاء عند منصرفه من زيارة الحرمين بالحجاز «1».

قال منتجب الدين الرازي: الشيخ الامام سديد الدين علّامة زمانه في الأصوليين، ورع ثقة، و ذكر مصنفاته الّتي منها: «المصادر في أُصول الفقه» و

______________________________

(1) لاحظ المنقذ من التقليد: 17،

مقدمة المؤَلف.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 431

«التبيين و التنقيح في التحسين و التقبيح» «1».

10- نجم الدين الحلي (602 676)

هو نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا الهذلي الحلي، المكني بأبي القاسم، الملقب بنجم الدين، و المشتهر بالمحقّق.

قال ابن داود في رجاله: جعفر بن الحسن، المحقّق المدقق، الإِمام، العلّامة، واحد عصره كان ألسَنَ أهل زمانه، و أقومهم بالحجة، و أسرعهم استحضاراً، قرأت عليه و ربّاني صغيراً، و كان له عليّ إحسان عظيم، و ذكر من تأليفه: «المعارج في أُصول الفقه» «2» و قد طبع غير مرّة، و هو و إن كان صغير الحجم، لكنه كثير المعني شأنُ كل ما جادت به قريحتُه في عالم التأليف، فهذا كتابه «شرائع الإِسلام» عكف عليه العلماء في جميع الأَعصار، و كتبوا عليه شروحاً و تعاليق و قد طبع في إيران و لبنان.

و قال في أعيان الشيعة: و من كتبه «نهج الوصول إلي معرفة علم الأصول» «3».

11- العلامة الحلي (648 726)

الحسن بن يوسف بن المطهر المعروف بالعلّامة الحلّي و هو غنيٌّ عن التعريف برع في المعقول و المنقول، و تقدم علي العلماء الفحول و هو في عصر الصبا، أخذ عن فقيه أهل البيت الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن،

______________________________

(1) منتجب الدين: الفهرست: برقم 389.

(2) ابن داود: الرجال: 83.

(3) السيد الأَمين: أعيان الشيعة: 4- 92- لاحظ الذريعة: 24- 426.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 432

خاله، و من أبيه سديد الدين يوسف بن مطهر الحلي، و أخذ العلوم العقلية عن نصير الدين الطوسي و غيره.

و قد ألف في غير واحد من الموضوعات النقلية و العقلية، كما ألّف في أُصول الفقه تصانيف عديدة ذكرها السيد الأَمين في «أعيان الشيعة» نشير إليها: 1- النكت البديعة في تحرير الذريعة للسيد المرتضي.

2- غاية الوصول و إيضاح السبل في شرح مختصر منتهي الوصول لابن الحاجب.

3- «مبادي

الوصول إلي علم الأصول» مطبوع في ذيل المعارج للمحقّق.

4- «نهاية الوصول إلي علم الأصول» في أربعة أجزاء «1».

5- «تهذيب الوصول في علم الأصول» صنفه باسم ولده فخر الدين، و هو مطبوع.

و قد كتب عليه شروح و تعاليق مذكورة في أعيان الشيعة «2».

12- عميد الدين الأَعرجي (المتوفّي عام 754 ه)

عبد المطلب بن أبي الفوارس بن محمد بن علي بن محمد الأَعرجي الحسيني ابن أُخت العلّامة الحلّي.

وصفه الشهيد الأَوّل بقوله: السيد، الامام، فقيه أهل البيت (عليهم السلام) في زمانه، عميد الحقّ و الدين، أبو عبد اللّه عبد المطلب بن الأَعرج الحسيني.

______________________________

(1) نحتفظ بنسخة منها في مكتبة مؤَسسة الامام الصادق- عليه السّلام- في قم المقدّسة.

(2) السيد الأَمين: أعيان الشيعة: 5- 404.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 433

كما وصفه غيره بقوله: درة الفخر و فريد الدهر، مولانا الإِمام الرباني و هو ابن أُخت العلّامة الحلّي (رحمه الله) و قد ألف كتباً كثيرة في الفقه و غيره، كما ألّف في أُصول الفقه كتابه «منية اللبيب في شرح التهذيب» «1» لخاله العلّامة الحلي و قد فرغ منه في الخامس عشر من رجب سنة 740 ه «2».

13- ضياء الدين الأَعرجي (كان حياً 740 ه)

هو السيد ضياء الدين عبد اللّه بن أبي الفوارس بن محمد بن علي بن محمد الأَعرجي الحسيني ابن أُخت العلّامة الحلّي فقد شرح كتاب تهذيب الأصول لخاله و أسماه «النقول في تهذيب الأُصول»، و قام الشهيد بالجمع بين الشرحين و أسماه جامع البين، الجامع بين شرحي الأَخوين.

14- فخر المحقّقين (682 771 ه)

هو محمد بن الحسن نجل العلامة الحلي، فقد شرح تهذيب والده و أسماه «غاية السؤول في شرح تهذيب الأُصول».

كان الأَمل أن يواكب التأليفُ تقدمَ العصر و لكن الركب توقف عن متابعة هذا التطور و أخلد إلي الركود، فلا نكاد نعثر علي تصانيف أُصولية بعد شيخنا عميد الدين إلّا ما ندر كمقدّمة المعالم للمحقق الشيخ حسن صاحب المعالم، نجل الشهيد الثاني (المتوفي 1011 ه).

نعم انصبّت الجهود علي تدوين القواعد الفقهية و تنظيمها بشكل بديع نستعرض بعضها:

______________________________

(1) نحتفظ بنسخة من هذا الكتاب في مكتبة مؤَسسة الامام الصادق- عليه السّلام- في قم المقدّسة.

و ربما ينسب المنية لأَخيه ضياء الدين الأَعرجي و النقول في تهذيب الأُصول لعميد الدين.

(2) السيد الخوانساري: روضات الجنات: 4- 261 برقم 394.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 434

1- ألّف محمد بن مكي المعروف ب «الشهيد الأَوّل» (786734) كتاب «القواعد و الفوائد» و قد استعرض فيه 302 قاعدة، و مع الاعتراف بفضله و تقدّمه في التأليف، لم يفصل القواعد الفقهية عن الأصولية أو العربية، كما لم يرتِّب القواعد الفقهية علي أبواب الفقه المشهورة مما حدا بتلميذه المقداد عبد اللّه السيوري بترتيب تلك القواعد كما سيوافيك.

2- الفقيه المتبحر و الأصولي المتكلّم مقداد بن عبد اللّه السيوري (المتوفّي 826 ه) من أكابر رجال العلم و التحقيق، فقد قام بترتيب كتاب القواعد لشيخه الشهيد و سماه ب «نضد القواعد الفقهية علي مذهب

الإِمامية» و قد طبع محقّقاً عام (1404 ه).

3- الشيخ الأَجل زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد المعروف ب «الشهيد الثاني» (911 966 ه)، ولد في عائلة نذرت نفسها للدين و العلم، و قد ألّف في غير واحد من الموضوعات و من آثاره كتابه: «تمهيد القواعد» جمع في هذا الكتاب بين فني تخريج الفروع علي الأصول و تخريج الفروع علي القواعد العربية، و هو كتاب قلّ نظيره عظيم المنزلة، طبع مرّة مع كتاب الذكري للشهيد الأَوّل، كما طبع أخيراً محقّقاً في مشهد الامام الرضا استعرض المؤَلِّف فيه مائتي قاعدة و فرغ منه في مستهل عام 958 ه.

إلي هنا تمت المرحلة الأُولي التي طواها علم الأصول، و حان الآن استعراض المرحلة الثانية.

المرحلة الثانية: مرحلة الإبداع و الابتكار

اشارة

ظهرت الاخبارية في أواخر القرن العاشر و بداية القرن الحادي عشر علي

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 435

يد الشيخ محمد أمين الأسترآبادي (المتوفي 1033 ه) فشن حملة شعواء علي الأصول و الأصوليين و زيّف مسلك الاجتهاد المبني علي القواعد الأصولية، و زعم انّ طريقة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) و أصحابه تخالف ذلك المسلك، فممّا قاله في ذم الاجتهاد: و أوّل من غفل عن طريقة أصحاب الأَئمّة (عليهم السلام) و اعتمد علي فن الكلام، و علي أُصول الفقه المبنيّين علي الأَفكار العقلية المتداولة بين العامة، محمد بن أحمد ابن الجنيد العامل بالقياس، و حسن بن علي بن أبي عقيل العماني المتكلم، و لما أظهر الشيخ المفيد حسنَ الظن بتصانيفهما بين أصحابه منهم السيد الأَجل المرتضي، و شيخ الطائفة شاعت طريقتهما بين متأخري أصحابنا، حتي وصلت النوبة إلي العلّامة الحلّي، فالتزم في تصانيفه أكثرَ القواعد الأصولية من العامة، ثمّ تبعه الشهيدان و الفاضل الشيخ

علي رحمهم اللّه تعالي «1».

أقول: الاخبارية منهج مبتدع، و لم يكن بين علماء الشيعة إلي زمان ظهورها منهجان متقابلان متضادان في مجال الفروع باسم المنهج الأصولي و الاخباري حتي يكون لكل منهج، مبادي مستقلة يناقض أحدهما الآخر، بل كان الجميع علي خطّ واحد، و كان الاختلاف في لون الخدمة و كيفية أداء الوظيفة.

يقول شيخنا البحراني: إنّ العصر الأَوّل كان مملوءاً من المجتهدين و المحدثين مع انّه لم يرتفع بينهم مثل هذا الخلاف و لم يطعن أحد منهم علي الآخر بالاتصاف بهذه الأَوصاف و إن ناقش بعضهم بعضاً في جزئيات المسائل «2».

و العجب انّه استدل علي انقسام علماء الإِمامية إلي أخباريين و أُصوليين بأمرين واهيين:

______________________________

(1) الأسترآبادي، الفوائد المدنيّة: 44، الطبعة الحجريّة.

(2) الحدائق الناضرة: 1701- 167، المقدمة الثانية عشرة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 436

1- ما ذكره شارح المواقف، حيث قال: كانت الإِمامية أوّلًا علي مذهب أئمّتهم حتي تمادي بهم الزمان فاختلفوا و تشعّب متأخروهم إلي المعتزلة و إلي الأَخباريين، و ما ذكره الشهرستاني في أوّل كتاب الملل و النحل: من أنّ الإِمامية كانوا في الأَوّل علي مذهب أئمّتهم في الأصول ثمَّ اختلفوا في الروايات عن أئمّتهم حتي تمادي بهم الزمان، فاختارت كلّ فرقة طريقة، فصارت الإِمامية بعضها معتزلة امّا وعيدية و امّا تفضليّة، بعضها أخبارية مشبِّهة و امّا سلفية.

2- ما ذكره العلّامة في «نهاية الوصول إلي علم الأُصول» عند البحث عن جواز العمل بخبر الواحد، فقال: امّا الإِمامية فالأَخباريون منهم لم يعولوا في أُصول الدين و فروعه إلّا علي أخبار الآحاد، و الأصوليون منهم كأبي جعفر الطوسي و غيره وافقوا علي خبر الواحد و لم ينكره سوي المرتضي و أتباعه.

و لا بدّ هنا من تعليقة مختصرة،

و هي: إنّ كلا الشاهدين أجنبيان عمّا يرومه الأَمين.

أمّا الشاهد الأَوّل: فهو نقله بالمعني، و لو نقل النصّ بلفظه لظهر للقاريَ الكريم ما رامه شارح المواقف، و إليك نصه:.. و تشعب متأخروهم إلي «المعتزلة»: إمّا وعيدية أو تفضيلية (ظ.

تفضلية) و إلي «أخبارية» يعتقدون ظاهر ما ورد به الاخبار المتشابهة، و هؤلاء ينقسمون إلي «مشبّهة» يجرون المتشابهات علي أنّ المراد بها ظواهرها، و «سلفية» يعتقدون أنّ ما أراد اللّه بها حقّ بلا تشبيه كما عليه السلف و إلي ملتحقة بالفرقة الضالة.

و بالتأمل في نصّ كتاب المواقف يظهر فساد الاستنتاج و ذلك لَانّ مسلك

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 437

الاخبارية الذي ابتدعه الشيخ الأَمين ليس إلّا مسلكاً فقهياً قوامه عدم حجّية ظواهر الكتاب أوّلًا، و لزوم العمل بالأَخبار قاطبة من دون إمعان النظر في الإسناد، و علاج التعارض بالحمل علي التقية و غيرها ثانياً، و عدم حجّية العقل في استنباط الاحكام ثالثاً.

و ما ذكره شارح «المواقف» و «الشهرستاني» من تقسيم الشيعة إلي أخبارية و غيرها راجع إلي المسائل العقائدية دون الفقهية، فعلي ما ذكراه فالشيعة تشعبت في تفسير الصفات الخبرية كاليد و الاستواء و الوجه و غير ذلك ممّا ورد في الاخبار بل الآيات إلي طوائف ثلاث: مشبِّهة، و سلفية، و ملتحقة بالفرق الضالة.

و الحكم بأنّ ما ذكره شارح المواقف راجع إلي المسلك الذي ابتدعه الأسترآبادي عجيب جدّاً مع اختلافهما في موضوع البحث، فأين العمل بظواهر الاخبار في صفاته سبحانه، عن الاخبارية التي ابتدعها الأَمين الأسترآبادي في سبيل استخراج الأَحكام الشرعية من الكتاب و السنة، مضافاً إلي أنّ مسلكه مبني علي أسس و قوائم لم تكن معروفة عند غيره.

و أمّا الشاهد الثاني أعني ما ذكره العلّامة، فهو

أيضاً لا يمت بصلةٍ إلي مسلك الاخبارية المبتدع، بل هو راجع إلي مسألة خلافية بين علماء الإِمامية منذ زمن بعيد، و هل انّ الخبر الواحد حجّة في الأصول كما هو حجّة في الفروع أو لا؟ فالمحدثون و الذين سبروا غور الاخبار، ذهبوا إلي القول الأَوّل، و الأصوليون الذين حكَّموا العقل في مجال العقائد قالوا بالثاني.

فالأَخباري في كلام العلّامة هو ما يمارس الخبر و يدوّنه شأن كل محدث، لا من يسلك مسلك الأَخباريين في استنباط الأَحكام الشرعية.

إنّ هذه الفكرة الخاطئة الشاذة عن الكتاب و السنة و إجماع الأَصحاب الأَوائل شغلت بال العلماء من أصحابنا ما يقرب من قرنين، و أضحت تلك البرهة

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 438

فترة ركود الأُصول و تألق نجم الاخبارية، فتري أنّ أكثر مؤَلفاتها تعلو عليها صبغة الاخبارية، و هم بين متطرِّف كالأَمين الأسترآبادي، و معتدل كالشيخ يوسف البحراني (المتوفّي 1186 ه) صاحب الحدائق الناضرة.

و من سوء الحظ انّ النزاع بين أصحاب المسلكين لم يقتصر علي نطاق المحافل العلمية، بل تسرّب إلي الأَوساط العامة و المجتمعات، فأُريقت دماء طاهرة و هتكت أعراض من جرّاء ذلك، و قتل فيها الشيخ أبو أحمد الشريف محمد بن عبد النبي المحدِّث النيسابوري المعروف بميرزا محمد الاخباري (1178- 1233) لما تجاهر بذمِّ الأُصوليين قاطبة و النيل منهم، فلقي حتفه عند هجوم العامة عليه عن عمر يناهز 55 عاما.

بالرغم من الهجوم العنيف الذي شنّه الأَمين الأسترآبادي و أتباعه علي الحركة الأصولية، نري

انّ هناك جماعة أخذوا بزمام الحركة بتأليف كتب استطاعت حينها أن تصمد بوجه الاخبارية
اشارة

و تذود عن كيانها، و قاموا بمحاولات:

15- الفاضل التوني (المتوفّي 1071 ه)

هو عبد اللّه بن محمد التوني البشروي.

وصفه الحر العاملي بقوله: عالم، فاضل، ماهر، فقيه.

صنّف «الوافية» في أُصول الفقه فرغ منها عام 1059 ه، و له حاشية علي معالم الأصول.

16- حسين الخوانساري (المتوفّي 1098 ه)

هو المحقق الجليل السيد حسين بن محمد الخوانساري مؤَلف كتاب «مشارق الشموس في شرح الدروس» و كتابه هذا يشتمل علي أغلب القواعد

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 439

الأُصولية و الضوابط الاجتهادية، طرح فيه أفكاراً أصولية بلون فلسفي.

17- محمد الشيرواني (المتوفّي 1098 ه)

هو محمد بن الحسن الشيرواني.

له مصنفات جمة مثل حاشية علي «شرح المطالع» و أُخري علي «شرح المختصر» للعضدي.

18- جمال الدين الخوانساري (المتوفّي عام 1121 ه أو 1125)

هو المحقق الكبير جمال الدين محمد بن الحسين الخوانساري، له تعليقة علي شرح مختصر الأصول للعضدي كما هو مذكور في ترجمته.

و هذه الكتب المؤَلفة في فترة انقضاض الحركة الاخبارية علي المدرسة الأصولية مهدت لظهور حركة أُصولية جديدة تبنّاها المحقّق الوحيد البهبهاني (1118- 1206) الذي فتح بأفكاره آفاقاً جديدة في علم الأصول.

19- المحقق البهبهاني (1118- 1206)

و كان للأُستاذ الأَكبر الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني دور فعال في إخماد نائرة الفتنة، بالرد القاطع علي الأَخباريين، و تزييف أفكارهم، و تربية جيل من العلماء و المفكرين علي أُسس مستقاة من الكتاب و السنة و العقل الصريح، و اتّفاق الأَصحاب، و استطاع أن يشيِّدَ للأُصولِ أركاناً جديدةً، و دعامات رصينة، فنهض بالأُصول من خموله الذي دام قرنين، مذعناً بانتهاء عصر الركود و ابتداء عصر الإبداع و الابتكار.

و بلغت تصانيفه 103 ما بين رسائل مختصرة و كتب مفصلة، منها: الرسائل

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 440

الأصولية، إبطال القياس؛ إثبات التحسين و التقبيح العقليين؛ الاجتهاد و التقليد، و الفوائد الحائرية، و غيرها.

و بذر البذرة الأُولي التي تلقّفها العلماء بعده بالرعاية حتي أ ينعت و أثمرت ثمارها علي يد أساطين من العلماء في غضون الأَدوار: و بها امتازت هذه المرحلة عمّا سبقها من المرحلة الأولي:

1- الدور الأَوّل (دور الانفتاح)
اشارة

ابتُدئَ هذا الدور بنخبة من تلامذة الوحيد البهبهاني و في طليعتهم:

20- جعفر كاشف الغطاء (1156- 1228)

هو الشيخ الأَكبر جعفر بن خضر بن يحيي النجفي المعروف بكاشف الغطاء، تلمذ عند الشيخ محمد مهدي الفتوني و المحقّق البهبهاني.

قال عنه شيخنا الطهراني: و هو من الشخصيات العلمية النادرة المثيل، و انّ القلم لقاصر عن وصفه و تحديد مكانته و إن بلغ الغاية في التحليل، و في شهرته و سطوع فضله غني عن إطراء الواصفين.

و من جملة تصانيفه الأصولية «كشف الغطاء» و «غاية المأمول في علم الأصول» «1».

21- أبو القاسم القمي (1151 1231)

هو أبو القاسم بن محمد حسن الجيلاني القمي، تلمذ عند المحقّق البهبهاني و الشيخ محمد مهدي الفتوني و محمد باقر الهزارجريبي.

______________________________

(1) الطهراني: الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة: 1- 248 برقم 506.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 441

حط الرحال في قم، و عكف فيها علي التدريس و التصنيف حتي أصبح من كبار المحقّقين و أعاظم الفقهاء المتبحّرين، و اشتهر أمره و طار صيته و لقب بالمحقّق القمي.

من تصانيفه الأصولية «القوانين».

22- السيد علي الطباطبائي (1161- 1231)

هو السيد علي بن محمد بن علي الطباطبائي، يعرفه الرجالي الحائري بقوله: ثقة، عالم، جليل القدر، وحيد العصر، و من تآليفه في الأصول: «رسالة في الإِجماع و الاستصحاب» و تعليقة علي معالم الدين، و تعليقة علي مبادي الوصول إلي علم الأصول «1».

2- الدور الثاني (دور النضوج)
اشارة

ابتدأ هذا الدور بتلاميذ خريجي مدرسة البهبهاني، فقاموا بوضع صياغة جديدة للأُسس الأصولية من منظار جديد و علي رأسهم:

23- محمد تقي بن عبد الرحيم الأصفهاني (المتوفّي 1248 ه)

هو محمد تقي بن عبد الرحيم الطهراني الأصفهاني عالم جليل، محقّق، له «شرح الوافية» و له «شرح طهارة الوافي» من تقرير أُستاذه بحر العلوم و «حاشية علي المعالم» «2».

______________________________

(1) راجع ترجمته في مقدمة كتاب «رياض المسائل» الذي طبع عام 1412 ه.

(2) أعيان الشيعة: 9- 198.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 442

24- محمد حسين بن عبد الرحيم الأصفهاني (المتوفّي 1261 ه)

الفقيه الأصولي الشهير، أخذ عن أخيه الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين، و عن الشيخ علي بن الشيخ جعفر، قطن كربلاء فرحل إليه الطلاب.

له مؤَلفات في الأصول منها «الفصول» و هي من كتب القراءة في هذا الفن، أورد فيه مطالب القوانين و حلها و اعترض عليها، و هو مشهور «1».

25- شريف العلماء (المتوفّي 1245 ه)

هو الشيخ الجليل محمد شريف الآملي المازندراني المعروف بشريف العلماء، و كفي به فخراً انّ الشيخ مرتضي الأَنصاري ذلك النجم اللامع في سماء الأصول، ممن استقي من فيض علمه، و قد بقيت من آثاره العلمية رسالة «جواز أمر الأَمر مع العلم بانتفاء الشرط».

3- الدور الثالث (دور التكامل)
اشارة

بلغ فيه علم الأصول الذروةَ في التحقيق و التعميق و البحث و تطرّقت إليه مسائل جديدة لم تكن مألوفة فيما سبق، و يُعتبر الشيخ مرتضي الأَنصاري هو البطل المِقْدام في هذا الحقل حيث استطاع بعقليّته الفذّة أن يشيّد أركاناً جديدة لعلم الأصول بلغ بها قمةَ التطور و التكامل.

و أنت إذا قارنت المؤَلفات الأصولية في هذه البرهة مع ما ألّف في المرحلة الأولي و حتي مستهل المرحلة الثانية تجد بينهما بوناً شاسعاً يُتراءي في باديَ النظر

______________________________

(1) أعيان الشيعة: 9- 233.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 443

كعلمين، و ما هذا إلّا بفضل التطور و التكامل الذي طرأ علي بِنْية الأصول بيد هذا العبقري الفذّ و لم يزل ينبوعه فيّاضاً إلي يومنا هذا.

26- مرتضي الأَنصاري (1214 1281)

هو مرتضي بن محمد أمين الدزفولي الأَنصاري، مؤَسس النهضة الأصولية المعاصرة، قرأ أوائل عمره علي عمه الشيخ حسين من وجوه علماء دزفول، ثمَّ مكث في كربلاء و تلمذ عند السيد محمد المجاهد و شريف العلماء، ثمّ عزم علي الطواف في البلاد للقاء علمائها، فخرج إلي خراسان ماراً بكاشان حيث فاز بلقاء النراقي صاحب المناهج و تلمذ عنده نحو ثلاث سنين، ثمّ إلي أصفهان، ثمّ إلي دزفول، و منها إلي النجف، فحط الرحال فيها، و قد انتهت الرئاسة العلمية فيها آن ذاك إلي الشيخ علي بن الشيخ جعفر و صاحب الجواهر، فتلمذ عندهما إلي أن انتهت إليه الرئاسة الإِمامية العامة بعد وفاتهما، و كان درسه يغص بالفقهاء، و قد تخرّج به أكثر الفحول من بعده، مثل: الميرزا الشيرازي و الميرزا الرشتي و السيد حسين الكوهكمري و المامقاني و الخراساني، و قد ذاع صيته و انتشرت آثاره في الآفاق.

أمّا مصنّفاته الأصولية فيعد كتابه «فرائد الأصول» من أهم

الكتب الأصولية التي عليها معول الأصوليين من الإِمامية في كلّ زمان و مكان، و هذا الكتاب يضم في طياته خمس رسائل أُصولية هي: 1- رسالة حجّية الظنّ.

2- أصل البراءة.

3- الاستصحاب.

4- التعادل و الترجيح.

5- رسالة الإِجماع.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 444

و قد طبعت مراراً، و علق عليها مشاهير العلماء بعده، أخص منهم بالذكر: موسي التبريزي و الشيخ حسن الآشتياني و الشيخ حسن المامقاني و الشيخ كاظم الخراساني و الشيخ رضا الهمداني «1».

إنّ عصر الشيخ الأَنصاري كوّن منعطفاً رائعاً في تاريخ علم الأصول، و قد تخرج في مدرسته مئات المحقّقين، و أُلّفت عشرات الكتب في الأصول التي تحمل في طياتها الفكر الأصولي الذي صاغه الأَنصاري، و هذه الكتب بين تأليف مستقل أو تعليقة أو تحشية علي فرائد الشيخ الأَنصاري، أو علي كفاية الأصول لتلميذه المحقّق الخراساني أو بين تقرير يمليه الأُستاذ و يكتبه التلميذ أثناء الدرس أو خارجه.

و بما أنّ الإِفاضة في هذا المجال علي ما هو حقّه تورث الاطناب، فلنقتصر علي سرد أسماء المشاهير من الأصوليين في هذا العصر اعتماداً علي ما سيوافيك من ترجمتهم و ترجمة تلاميذهم إلي نهاية القرن الرابع عشر في آخر الجزء الثاني من هذه المقدمة أو في طيات معجم طبقات الفقهاء.

و خرج من مدرسته العديد من الفطاحل و العباقرة، و أخص بالذكر منهم:

27- السيد المجدد الشيرازي (1224 1312)

هو السيد محمد حسن بن محمود بن إسماعيل الحسيني الشيرازي، كان فقيهاً، عالماً، ماهراً، محقّقاً، مدققاً، ورعاً، تقياً، انتهت إليه رئاسة الإِمامية العامة في عصره و طار صيته و اشتهر ذكره و وصلت رسائله التقليدية و فتاواه إلي جميع الأَصقاع.

من مؤَلّفاته الأصولية: رسالة في اجتماع الأَمر و النهي، و تلخيص إفادات أُستاذه الأَنصاري، و رسالة في المشتق

«2».

______________________________

(1) أعيان الشيعة: 10 118- 117

(2) أعيان الشيعة: 5- 304-

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 445

28- المحقّق الكبير الشيخ محمد كاظم الخراساني (1255 1329)

مؤَلف كتاب «كفاية الأصول» و يُعد كتابه هذا محور البحوث الأصولية في الحوزات العلمية إلي يومنا هذا.

و قد تخرج علي يده، نخبة من رجال الفكر و العلماء البارعين في علم الأصول.

29- المحقّق البارع الميرزا حسين النائيني (1274- 1355)

و هو من أكابر الفقهاء و الأُصوليّين في القرن الرابع عشر و قد دون آراءه تلميذه البارع الشيخ محمد علي الكاظمي (1309- 1365) و قد نشر كتابه باسم «فوائد الأصول» كما دوّن تلك الآراء أيضاً تلميذه الآخر المرجع الديني السيد أبو القاسم الخوئي (1317- 1413).

30- الشيخ المحقّق ضياء الدين العراقي (1278- 1361)

و هو من مشاهير المدرسين في الفقه و الأُصول في جامعة النجف الأَشرف صاحب كتاب «المقالات في علم الأصول» و قد دون أفكاره العلّامة الحجّة الشيخ محمد تقي البروجردي و نشرها تحت عنوان «نهاية الأَفكار» طبعت في ثلاثة أجزاء، و العالم البارع الشيخ هاشم الآملي (1322- 1412) في كتاب «بدائع الأَفكار».

31- المحقّق الكبير الشيخ محمد حسين الأصفهاني (1296- 1361)

و هو صاحب الآثار الفقهية و الأُصولية، تخرّج عليه طليعة من العلماء، منهم: المحقّق العلّامة السيد محمد حسين الطباطبائي (1321- 1401) و السيد المحقّق محمد هادي الميلاني (1313- 1395) و من مصنفاته كتاب «نهاية الدراية في التعليقة علي الكفاية» طبعت في أجزاء ثلاثة.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 446

32- سيد مشايخنا السيد المحقّق حسين البروجردي (1292- 1380)

قضي السيد البروجردي عشرة أعوام من عمره الشريف في درس المحقّق الخراساني، و دوّن شيئاً من أفكار أُستاذه و ناقشها في موارد خاصة تتجلّي في تعليقته الثمينة علي «كفاية الأصول» في جزءين.

33- الشيخ عبد الكريم الحائري (1274- 1355)

شيخنا المؤَسس للحوزة العلمية في قم المحمية الشيخ عبد الكريم بن محمد جعفر اليزدي الحائري، مؤَلّف كتاب «درر الفوائد» و كان محوراً لمحاضراته التي كان يلقيها في الحوزة العلمية علي فضلائها، و تخرج علي يديه نخبة من الفطاحل و في طليعتهم المحقّق الكبير الذي ساهم في تطوير الأصول مساهمة فعالة ألا و هو الامام السيد روح اللّه بن السيد مصطفي الخميني (1320- 1409 ه) قائد الثورة الإِسلامية المباركة، فقد ألقي محاضرات في أُصول الفقه دورة بعد دورة نشير إلي ما برز منها بقلمه المبارك «مناهج الوصول إلي علم الأصول» في المباحث اللفظية و «الرسائل» تبحث عن قاعدة الاستصحاب و التعادل و الترجيح و الاجتهاد و التقليد و «التعليقة علي الجزء الثاني من الكفاية» إلي قاعدة لا ضرر.

و قد قمنا بتدوين محاضراته الأصولية و نشرناها في ثلاثة أجزاء تحت عنوان «تهذيب الأصول» و قد طبع مكرراً.

و في الختام أرفع أسمي آيات الاعتذار إلي المشايخ الذين لعبوا دوراً فعالًا في تصعيد نشاط الحركة الأصولية علي أمل أن نذكر أسماءهم في الجزء الثاني من هذه المقدمة، و العذر عند كرام الناس مقبول.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 447

تاريخ أُصول الفقه عند السنَّة

اشارة

إنّ حاجة الفقه السنّي إلي أُصول الفقه حاجة ملحة، لَانّ إعواز النصوص في الأَحكام الشرعية عندهم دعت إلي اللجوء إلي القواعد الأصولية الكلية بغية تلبية الحاجة و استخراج الأَحكام الشرعية، فأُسِّسَتْ علي طول الزمان قواعد و ضوابط للاستنباط مبعثرة في طيات الكتب و الرسائل، و قد ألمحنا إليها عند البحث في منابع الفقه الإِسلامي في المذهب الفقهي السنّي، و أظهر تلك القواعد بعد الكتاب و السنّة و الإِجماع، هي القياس و الاستحسان و سد الذرائع و فتحها و إجماع أهل

المدينة و حجّية قول الصحابي.

و أوّل من دون في أُصول الفقه هو الإِمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي (150 204 ه) فأملي في ذلك رسالته التي جعلت كمقدمة لما أملاه في الفقه في كتابه الموسوم ب «الأُمّ».

افتتح ما أملاه بالبيان ما هو، ثمَّ شعبه إلي بيان القرآن، و بيان السنّة للقرآن، و البيان بالاجتهاد و هو القياس.

ثم ذكر أنّ في القرآن عامّاً من أمر اللّه الذي أراد به العام، و العام الذي أراد به الخاص، ثم ذكر سنّته فيما ليس فيه نص.

ثمَّ تكلّم عن الناسخ و المنسوخ و عن علل الأَحاديث و الاحتجاج بخبر

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 448

الواحد و الإِجماع و القياس و الاستحسان و اختلاف العلماء «1».

أضحت هذه الرسالة فيما بعدُ النواة الأولي للنشاط الأصولي في الأَوساط السنّية، توالت الشروح عليها من قبل أتباعه بالايجاز تارة و الإِسهاب أُخري، فقد شرحها الإِمام أبو بكر الصيرفي (المتوفّي 330 ه) و أبو الوليد حسان بن محمد النيسابوري (المتوفّي 349 ه) و محمد بن علي القفال الشاشي الكبير (المتوفّي 365 ه) و أبو بكر الجوزقي الشيباني (المتوفّي 388 ه) و أبو محمد الجويني (المتوفّي 438 ه) والد إمام الحرمين.

و المهم في المقام هو الايحاء إلي وجود طرق مختلفة في التأليف لكلّ ميزتها الخاصة و لكلّ طريقة أتباع.

طريقة المتكلّمين

اشارة

«2» قام بتدوين علم الأصول في أوّل الأَمر طائفتان هما المتكلمون و الفقهاء.

فالطائفة الأُولي كانت تمثل مذهب الامام الشافعي الذي ألف في أُصول الفقه رسالته المعروفة.

و الطائفة الثانية: كانت تمثل المذهب الحنفي في الفقه.

و لأَجل ذلك تميز تأليف كلّ طائفة عن الأُخري ببعض الوجوه، و إليك بعض الميزات التي تمتعت بها طريقة المتكلّمين.

أ- النظر إلي أُصول الفقه نظرة

استقلالية حتي تكون ذريعة لاستنباط الفروع الفقهية، فأخذوا بالفروع لما وافق الأصول و تركوا ما لم يوافق، و بذلك صار أُصول الفقه علماً مستقلا غير خاضع للفروع التي ربما يستنبطها الفقيه من دون رعاية

______________________________

(1) الرسالة الشافعية: 105 تحقيق أحمد محمد شاكر.

(2) تأتي طريقة الفقهاء صفحة 460.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 449

الأصول.

ب- تميزت كتب هذه الطريقة بطابع عقلي و استدلالي استخدمت فيها أُصول مسلمة في علم الكلام، فتري فيها البحث عن الحسن و القبح العقليين و جواز تكليف ما لا يطاق و عدمه إلي غير ذلك.

ج- ظهر التأليف علي هذه الطريقة في أوائل القرن الرابع.

و من العلماء الذين صنفوا علي هذه الطريقة:

1- أبو بكر الصيرفي (المتوفّي 330 ه)

هو محمد بن عبد اللّه البغدادي المكنّي بأبي بكر الملقب بالصيرفي روي عن أحمد بن منصور الرمادي و تفقه علي ابن العباس بن سريج و كان قوياً في المناظرة و الجدل متبحراً في الفقه و علم الأصول، و قد قال القفال في حقّه: ما رأيت أعلم في الأصول بعد الشافعي من أبي بكر الصيرفي و له في الأصول كتاب: «البيان في دلائل الاعلام علي أُصول الأَحكام» و كتاب في «الإِجماع» «1».

2- محمد بن سعيد القاضي (المتوفّي 346 ه)

هو محمد بن سعيد بن محمد بن عبد اللّه بن أبي القاضي المكنّي بأبي أحمد الخوارزمي، تفقّه ببغداد علي أبي إسحاق المروزي و أبي بكر الصيرفي و غيرهما من أفاضل العلماء، صنف في الأصول كتاب «الهداية» و هو كتاب حسن نافع كان علماء خوارزم يتداولونه و ينتفعون به «2».

______________________________

(1) الفتح المبين: 1- 180.

(2) الفتح المبين: 1- 189.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 450

3- القاضي أبو بكر الباقلاني (المتوفّي 403 ه)

هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد القاضي المعروف بابن الباقلاني، وليد البصرة، يعرّفه الخطيب بقوله: المتكلم علي مذهب الأَشعري و سكن بغداد و سمع بها الحديث و كان ثقة، فأمّا الكلام فكان أعرف الناس به و أحسنهم خاطراً و أجودهم لساناً و أوضحهم بياناً.

و له في أُصول الفقه «التقريب و الإِرشاد في ترتيب طرق الاجتهاد» «1».

4- قاضي القضاة عبد الجبار (324 415 ه)

هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الملقب ب (قاضي القضاة) شيخ المعتزلة في عصره.

يعرفه الخطيب بقوله كان ينتحل مذهب الشافعي في الفروع و مذاهب المعتزلة في الأصول و له في ذلك مصنفات «2».

و من مصنفاته في أُصول الفقه «النهاية» و «العمد» و شرحها.

5- أبو الحسين البصري محمد بن علي بن الطيب (المتوفّي 436 ه)

هو شيخ المعتزلة و عدّه الحاكم أبو السعد الجشمي في الطبقة الثانية عشرة من المعتزلة، كان جيد الكلام، مليح العبارة، غزير المادة، إمام وقته، سكن بغداد، و توفي بها يوم الثلاثاء خامس ربيع الآخر سنة 436 ه «3».

______________________________

(1) وفيات الأَعيان: 4- 269 برقم 608.

(2) تاريخ بغداد: 11- 13- اقرأ سيرته و تآليفه في كتابنا بحوث في الملل و النحل: 2553- 248.

(3) تاريخ بغداد: 3- 100.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 451

و من تصانيفه في أُصول الفقه شرحه لكتاب «العمد» للقاضي عبد الجبار شيخه في المسلك و الطريقة، و لم يصل إلينا ذلك الكتاب، و إنّما المطبوع و المنتشر هو كتابه الآخر باسم «المعتمد» في جزءين.

يقول في مقدمته: ثمّ الذي دعاني إلي تأليف هذا الكتاب في أُصول الفقه بعد شرحي كتاب العمد و استقصاء القول فيه، أنّي سلكت في الشرح، مسلك الكتاب في ترتيب أبوابه و تكرار كثير من مسائله و شرح أبواب لا تليق بأُصول الفقه من دقيق الكلام، نحو القول في أقسام العلوم و حدّ الضروري منها، و المكتسب و توليد النظر العلم و نفي توليده النظر إلي غير ذلك، فطال الكتاب بذلك، و بذكر ألفاظ العمد علي وجهها و تأويل كثير منها، فأحببت أن أؤَلف كتاباً مرتبة أبوابه غير مكررة و أعدل فيه عن ذكر ما لا يليق بأُصول الفقه من دقيق الكلام، إذ كان ذلك من علم

آخر لا يجوز خلطه بهذا العلم.

إلي أن قال: فإنّ القاريَ لهذه الأَبواب (الكلامية) في أُصول الفقه، إن كان عارفاً بالكلام فقد عرفها علي أتم استقصاء و ليس يستفيد من هذه الأَبواب شيئاً، و إن كان غير عارف بالكلام صعب عليه فهمها، و إن شرحت له فيعظم زجره و مَلله.

إلي أن خرج بالنتيجة التالية: فكان الاولي حذف هذه الأَبواب من أُصول الفقه، و انّه ألف كتابه «المعتمد» في ذلك المضمار «1».

و هذه هي الميزة التي أشرنا إليها في مقدمة البحث عند التعرض لميزان هذه الطريقة.

______________________________

(1) المعتمد: 1- 3.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 452

6- أبو الوليد الباجي المتوفّي (403 474 ه)

هو سليمان بن خلف بن سعد التجيبي، الفقيه الأصولي، الحافظ النظار.

من كتبه «أحكام الفصول في أحكام الأصول» حققه الدكتور عبد المجيد تركي، و قامت دار الغرب الإِسلامي بنشره عام 1407 ه «1».

7- أبو إسحاق الشيرازي (393 476 ه)

إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد اللّه، المكني بأبي إسحاق، الفقيه، الشافعي، الأصولي.

ولد بفيروزآباد بلدة قريبة من شيراز، و أخذ الفقه عن أبي عبد اللّه البيضاوي و الزجاج، و أخذ الأصول عن أبي حاتم القزويني.

و تتلمذ له أبو عبد اللّه محمد بن أبي نصر الحميدي، و أبو القاسم بن السمرقندي.

و قد ألف في الأصول: اللمع، و كتاب التبصرة، الذي طبع في دار الفكر عام 1980 م، بتحقيق الدكتور محمد حسن هيتو.

و من مؤَلفاته الأُخري: التنبيه و هو من الكتب الشهيرة في مذهب الشافعي، و «طبقات الفقهاء» «2».

8- أبو نصر أحمد بن جعفر بن الصباغ (400 477 ه)

عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد، كنيته أبو نصر، و عرف بابن

______________________________

(1) محمد مخلوف: شجرة النور الزكية: 120، برقم 341

(2) وفيات الأَعيان: 1- 5؛ طبقات السبكي: 3- 88-

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 453

الصباغ لأنّ أحد أجداده كان صباغاً.

تتلمذ عند أبي علي بن شاذان، و أبي الحسين بن الفضل، و أبي الطيب الطبري.

و أخذ عنه الخطيب البغدادي، و أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأَنصاري، و أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي.

كان ابن الصباغ بارعاً في الفقه و الأصول، ألف «العدة» في أُصول الفقه و «تذكرة العالم و الطريق السالم» في الأصول أيضاً.

و هو أوّل من درس بنظامية بغداد، و قد كف بصره في كبره.

9- إمام الحرمين عبد الملك بن عبد اللّه الجويني (419 478 ه)

يعرفه ابن خلكان بقوله: أعلم المتأخرين من أصحاب الإِمام الشافعي علي الإِطلاق، المجمع علي إمامته المتفق علي غزارة مادته و تفننه في العلوم من الأصول و الفروع و الأَدب، من مؤَلفاته كتاب: «الورقات» في أُصول الفقه و الأَدلة «1».

مطبوع و كتاب البرهان في أُصول الفقه، شرحه الإِمام أبو عبد اللّه المازري المالكي المتوفّي عام 536 ه، و اسم الكتاب «إيضاح المحصول في برهان الأصول» و شرح هذا الكتاب أبو الحسن بن الابياري المالكي المتوفّي 616 ه، شرحه للشريف ابن يحيي زكريا بن يحيي الحسني المغربي جمع بين كلامي المازري و الابياري و زاد عليهما.

10- أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الشافعي (450 505 ه)

هو الامام زين الدين حجّة الإِسلام أبو حامد محمد بن محمد الطوسي

______________________________

(1) سير اعلام النبلاء: 18- 475؛ الاعلام للزركلي: 4- 160.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 454

الشافعي، تلمذ عند إمام الحرمين، ثمَّ ولاه نظام الملك التدريس في مدرسة بغداد، و خرج له أصحاب و صنف التصانيف، و توفي في الرابع عشر من جمادَي الآخرة في الطابران قصبة بلاد الطوس و له 55 سنة.

و من تآليفه كتاب «المستصفي» في أُصول الفقه و هو رصين التعبير، واضح البيان، يطلق عنان القلم حتي يبلغ الغاية مما يريد، طبع في مصر في جزءين، و كتاب «المنخول من تعليقات الأصول»، طبع بتحقيق الدكتور محمد حسن هيتو عام 1980 م و كتاب «شفاء الغليل في بيان مسالك التعليل» طبع بتحقيق الدكتور حمد عبيد الكبيسي عام 1390 ه.

11- أحمد بن علي بن برهان البغدادي (المتوفّي 518 ه)

هو أبو الفتح أحمد بن علي بن محمد الوكيل البغدادي المعروف بابن برهان، ترجم له عماد الدين في شذرات الذهب و ابن السبكي في طبقات الشافعية، من مصنفاته كتاب «الوصول إلي علم الأصول» في جزءين، طبع بتحقيق الدكتور عبد الحميد علي أبو زنيد، نشرته مكتبة المعارف.

12- فخر الدين محمد بن عمر الرازي (543 606 ه)

يعرفه ابن خلكان بقوله: فريد عصره و نسيج وحده فاق أهل زمانه في علم الكلام و المعقول و علم الأَوائل، و له التصانيف المفيدة في حقول عديدة «1».

و الرازي من أئمّة الأَشاعرة في عصره، و قد نصر المذهب الأَشعري في تآليفه، و من تآليفه الأصولية «المحصول في علم أُصول الفقه» و قد طبع في جزءين عام 1408 ه في بيروت.

______________________________

(1) وفيات الأَعيان: 4- 248 برقم 600.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 455

قام بتلخيصه عالمان كبيران هما: الأَوّل: تاج الدين محمد بن الحسن الآرموي المتوفّي عام 656 ه، و اختصره و سماه «الحاصل»، بإشارة أبي حفص عمر بن الصدر الشهيد الوزان.

الثاني: محمود بن أبي بكر الارموي المتوفّي عام 682 ه اختصره و سماه «التحصيل من المحصول» ذكر في أوّله أنّ الهمم قد قصرت عن هذه المطالب العالية، حتي أن المحصول مع نظافة نظمه و لطافة حجمه يستكثره أكثرهم، فالتمس فيّ بعضهم اختصاره مع زيادات من قبلي فأجبت «1».

و قد جاء في الفصل العاشر في ضبط أبواب أُصول الفقه، و قصر أبوابها بالأَدلّة السمعية، فقال: قد عرفت انّ أُصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه، و كيفية الاستدلال بها، و كيفية حال المستدل بها، أن الطرق فامّا أن تكون عقلية أو سمعية.

أمّا العقلية فلا مجال لها عندنا في الأَحكام، لما بينا انّها لا تثبت إلّا بالشرع، و أمّا عند المعتزلة فلها

مجال لانّ حكم العقل في المنافع الإِباحة، و في المضار الحظر.

و أمّا السمعية فإمّا أن تكون منصوصة أو مستنبطة «2».

ثمَّ إنّه ذكر أبوابها بالشكل التالي: أوّلها: اللغات، و ثانيها: الأَمر و النهي، و ثالثها: العموم و الخصوص، و رابعها: المجمل و المبين، و خامسها: الافعال، و سادسها: الناسخ و المنسوخ، و سابعها: الإِجماع، و ثامنها: الاخبار، و تاسعها: القياس، و عاشرها: التراجيح، و حادي عشرها: الاجتهاد، و ثاني عشرها: الاستفتاء، و ثالث عشرها: الأُمور التي اختلف المجتهدون في أنّها هل هي طرق للأَحكام الشرعية أم لا؟ «3»

______________________________

(1) لاحظ التحصيل من المحصول: 162.

(2) الرازي: المحصول: 1- 51 و 53.

(3) الرازي: المحصول: 1- 51 و 53.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 456

أقول: إنّ الأصولي لو اقتصر في تبيين مباني الفقه و أُصوله علي الأَدلة السمعية لعرقلت خطأه في كثير من المباحث العقلية.

13- سيف الدين الآمدي (551 631 ه)

أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي، الفقيه الأصولي الملقب سيف الدين الآمدي، كان حنبلي المذهب ثمّ انتقل إلي المذهب الشافعي، و انتقل من بغداد إلي الشام و اشتغل بفنون المعقول و ظهرت عليه بوادر النبوغ.

و من تآليفه في أُصول الفقه «الاحكام في أُصول الأَحكام» طبع مكرراً، و أخيراً بتحقيق السيد الجميلي في أربعة أجزاء في مجلدين نشرته دار الكتاب العربي عام 1404 ه و هو أبسط كتاب في أُصول الفقه نظير الذريعة للسيد المرتضي و العدة للشيخ الطوسي، و قد أورد فيه كثيراً من المباحث الأَدبية و الكلامية في أُصول الفقه، و مما طرحه فيه للبحث هو التعرف علي مبدأ اللغات و طرق معرفتها «1».

كما طرح فيه أيضاً الخلاف في الحسن و القبح، و التكليف بما لا يطاق، و تكليف

المعدوم، إلي غير ذلك من المسائل الكلامية.

14- ابن الحاجب المالكي (المتوفّي 646 ه)

هو أبو عمرو عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب المالكي، برع في الأصول و العربية، و له في الأصول الكتابان التاليان: 1- «منتهي السئول و الأَمل في علمي الأصول و الجدل» و هو تلخيص كتاب «الاحكام» للآمدي.

______________________________

(1) الآمدي: الاحكام: 1- 109.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 457

2- «مختصر المنتهي» المعروف بمختصر الحاجبي و هو تلخيص كتاب «منتهي السَّئول»، و هو و «منهاج الأصول» للبيضاوي متقاربي العبارة.

و شرحه عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي (المتوفّي 756 ه) صاحب المواقف.

15- عبد اللّه بن عمر البيضاوي (المتوفّي 685 ه)

هو الامام ناصر الدين قاضي القضاة أبو الخير و أبو سعيد عبد اللّه بن عمر ابن محمد بن علي البيضاوي (نسبه إلي بيضاء قرية من اعمال شيراز) الشافعي المتوفّي بتبريز سنة 685 ه.

و من تآليفه في أُصول الفقه «منهاج الوصول إلي علم الأصول».

اختصر فيه كتاب «الحاصل» لتاج الدين محمد بن الحسين الارموي الشافعي المتوفّي سنة 656 ه، المختصر من كتاب «المحصول» لشيخه الامام محمد بن عمر بن الحسين الفخر الرازي المتقدم ذكره، و علي ذلك فالكتاب تلخيص التلخيص، و لأَجل ذلك بلغ الاختصار حده حتي كاد الكلام يكون ألغازاً، و كأنّهم لم يكونوا يؤَلفون ليفهموا، و لذلك احتاجت كتبهم إلي الشروح حتي تحل ألغازها و تبين معناها.

و قد طبع «منهاج الأصول» مع شرحه «نهاية الأصول» غير مرّة في مصر.

16- جمال الدين الاسنوي (772704)

هو الشيخ الامام شيخ الإِسلام و رئيس الشافعية بالديار المصرية الفقيه الأصولي، العروضي النحوي جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي ابن عمر بن علي بن إبراهيم القرشي الشافعي الاسنوي، ولد بأسنا بفتح

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 458

الهمزة و كسرها بلدة بصعيد مصر الأَعلي سنة 704 ه.

و من تصانيفه الأصولية كتاب «نهاية السَّئول» في شرح «منهاج الوصول إلي علم الأصول».

و له أيضاً كتاب «زوائد» و هو حصيلة «محصول الفخر الرازي و أحكام السيف الآمدي و مختصر ابن الحاجب الأصولي» علي منهاج البيضاوي.

و قد علق عليه الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية تعاليق اسماها «سُلّم الوصول لشرح نهاية السَّئول» و طبع الجميع في جزءين.

و قد مشي في هذا الكتاب كأقرانه و أدخل لفيفاً من المسائل الكلامية في علم الأصول.

و له كتاب «التمهيد في تخريج الفروع علي الأصول» طبع بتحقيق الدكتور محمد حسن

هيتو، و قد ألّفه علي غرار الكتب الأصولية للفقهاء، و هو آية في التخريج.

و ثمة نكتة جديرة بالإِشارة و هي انّ أكثر هذه الكتب هي في الواقع تلخيص لكتب ثلاثة هي كتاب «المعتمد» لأَبي الحسين البصري (المتوفّي 436 ه)، و كتاب «البرهان» لإِمام الحرمين الجويني (المتوفّي 478 ه)، و كتاب «المستصفي» للغزالي (المتوفّي 505 ه).

و أمّا دور العلماء بعدهم فهو تلخيص لهذه الكتب و تلخيص التلخيصات و شرحها، و قد لخص الكتب الثلاثة المذكورة آنفاً و زاد عليها فخر الدين الرازي في كتابه «المحصول» و جمعها و زاد عليها أبو الحسين المعروف بالآمدي في كتاب «الاحكام في أُصول الاحكام.»

نعم

كتب غير واحد من المتكلّمين رسائل في مسألة خاصة من علم الأصول
اشارة

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 459

نذكر بعضهم:

1- أحمد بن عمر بن سريج العباس (249 306 ه)

هو أحمد بن عمر بن سريج، كنيته أبو العباس، ولد ببغداد، تتلمذ في الفقه علي المزني و أبي القاسم الأنماطي، و قد ناظر أبا بكرّ محمد بن داود الظاهري، و كان شيخ الشافعية في عصره، و قد شرح مذهب الشافعي و اختصره، و قام بمناصرته و الذب عنه، ألف في الأصول «الرد علي ابن داود في إبطال القياس» «1».

2- ابن المنذر الشافعي (المتوفّي 309 ه)

هو محمد بن إبراهيم بن المنذر الشافعي النيسابوري المكني بأبي بكر، كان علماً من أعلام الشافعية، و حافظاً من حفاظ الحديث، له في الأصول كتاب «إثبات القياس»، و كتاب «الإِجماع» «2».

3- أبو الحسن الأَشعري (260- 324 ه)

هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق، ينتهي نسبه إلي أبي موسي الأَشعري، تخرج في الكلام علي أبي علي الجبائي (المتوفّي 303 ه) ثمَّ عدل عن الاعتزال و التحق بمنهج أحمد بن حنبل، فله في الكلام مذهب معدل بين الاعتزال و أهل الحديث، و له «إثبات القياس» و «اختلاف الناس في الأَسماء و الأحكام» و «الخاص و العام».

______________________________

(1) الفتح المبين: 1 166- 165.

(2) وفيات الأَعيان: 4- 207 برقم 580.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 460

طريقة الفقهاء

اشارة

و من أبرز سمات هذه الطريقة: أ- النظر إلي أُصول الفقه نظرة آلية، بمعني انّ الملاك في صحة الأصول و عدمها هو مطابقتها للفروع التي عليها إمام المذهب، فكانوا يقررون القواعد الأصولية طبقاً لما قرره أئمة المذهب في فروعهم الاجتهادية الفقهية، و تكون القاعدة الأصولية منسجمة مع الفروع الفقهية، فلو خالفتها لما قام له وزن و إن أيده البرهان و عضده الدليل؛ فتجد كثرة التخريج تؤَلِّف الطابع العام في كتبهم التي ألفت علي هذه الطريقة.

ب- خلو هذه الطريقة من الأَساليب العقلية و القواعد الكلامية.

ج- ظهور هذه الطريقة في أوائل القرن الثالث، و أوّل من ألّف علي هذا الأسلوب هو عيسي بن أبان بن صدقة الحنفي (المتوفي 220 ه).

و من الفقهاء الذين كتبوا علي هذه الطريقة.

1- أبو الحسن الكرخي (260 340 ه)

عبيد اللّه بن الحسن بن دلال المكني بأبي الحسن من فقهاء العراق، و له في الأصول رسالة مطبوعة ذكر فيها الأصول التي عليها مدار كتب أصحاب أبي حنيفة و قد عني بها الامام نجم الدين أبو حفص عمر بن أحمد النسفي، و ذكر أمثلتها و نظائرها توضيحاً لما حوته من الأصول «1».

______________________________

(1) الفتح المبين: 1- 186-

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 461

2- أبو منصور الماتريدي (المتوفّي 333 ه)

محمد بن محمد بن محمود، كنيته أبو منصور الماتريدي نسبة إلي «ما تريد» محلة بسمرقند.

تفقه علي الإِمام أبي نصر العياضي، و الامام أبي بكر أحمد بن إسحاق بن صالح الجوزجاني صاحب «الفرق و التمييز»، و كان إمام المتكلّمين، و كان له رأي وسط بين المعتزلة و الأَشعرية في القول بحسن الافعال و قبحها.

تفقه عليه أبو القاسم إسحاق بن محمد السمرقندي، و أبو الليث البخاري، و الامام عبد الكريم بن موسي البزدوي، له من التأليف «مآخذ الشرائع في الأصول» «1».

3- أبو زيد عبيد اللّه بن عمر القاضي (المتوفّي 340 ه)

هو أبو زيد الدبوسي، نسبة إلي دبوسية بليدة من أعمال الصغد التي قاعدتها سمرقند، له كتاب «تقويم الأَدلة» (مخطوط) و له كتاب آخر «تأسيس النظر» و هو مطبوع.

4- أبو بكر الجصاص (305 370)

هو أبو بكر أحمد بن علي الجصاص الرازي، صاحب التفسير المعروف «أحكام القرآن» له كتاب في أُصول الفقه باسم «أُصول الجصاص» و قد تتلمذ عند أبي الحسن الكرخي.

______________________________

(1) لاحظ بحوث في الملل و النحل: 3- 11.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 462

5- فخر الإِسلام البزدوي (400 482 ه)

علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسي بن عيسي بن مجاهد، الفقيه الحنفي الأصولي، يكني بأبي الحسن، و يلقب بفخر الإِسلام.

و بزدوي نسبة إلي بزدوة بالواو المفتوحة بعد الدال و هي قلعة حصينة علي بعد ستة فراسخ من نسف.

تلقي العلم بسمرقند و اشتهر بتبحره في الفقه و الأصول، و روي عنه صاحبه أبو المعالي محمد بن نصر بن منصور.

ألف في الأصول كتاب: «كنز الوصول إلي معرفة الأصول» و هو كتاب سهل العبارة موجزها، و يعد بحق أوضح كتاب ألّف علي طريقة الحنفية، و قد شرحه شرحاً جميلًا، علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري المتوفّي سنة 730 ه.

6- شمس الأَئمّة السرخسي (المتوفّي 482 ه)

هو محمد بن أحمد بن أبي سهل، المعروف بشمس الأَئمّة السرخسي، الفقيه الحنفي الأصولي، و كنيته أبو بكر، و السرخسي نسبة إلي سرخس بفتح السين و الراء المهملتين و سكون الخاء المعجمة بلدة قديمة من بلاد خراسان.

تفقه عند أبي بكر محمد بن إبراهيم الحصيري، و أبي عمرو عثمان بن علي بن محمد البيكندي، و أبي حفص عمر بن حبيب.

كان متكلماً و محدثاً مناظراً، و أُصولياً مجتهداً، و له كتاب في أُصول الفقه يسمّي «تمهيد الفصول في الأصول» «1».

و تعبيره يماثل كتاب البزدوي و لكنّه أوسع عبارة و أكثر تفصيلًا.

______________________________

(1) الفوائد البهية: 158؛ الجواهر المضية: 2- 28.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 463

7- الحافظ النسفي (المتوفّي 701 ه)

عبد اللّه بن أحمد المعروف بحافظ الدين النسفي، الحنفي (حافظ الدين، أبو البركات) فقيه، أُصولي، مفسر، متكلّم توفي في بلدة ايذج.

تفقه علي شمس الأَئمّة الكردري، و روي الزيارات عن أحمد بن محمد العتّابي.

من تصانيفه الأصولية «منار الأَنوار في أُصول الفقه» «1» و له شروح أحسنها «مشكاة الأَنوار» و حاشية «نسمات الأَسحار» لابن عابدين.

طريقة المتأخرين

اشارة

قد تعرفت علي طريقة، المتكلّمين و الفقهاء من الاحناف و المالكية و هناك من المتأخرين من جمع بين الطريقتين، فكتب الأصول مجرّدة ثمّ تولي طريقة تطبيقها و لهذا جمع كلتا المزيتين.

و قد ظهرت هذه الطريقة في القرن السابع، فحاولوا تطبيق القواعد الأصولية و إثباتها بالأَدلّة، ثمّ تطبيقها علي الفروع الفقهية دون فرق بين الحنفية و الشافعية، و نشير هنا إلي أبرز المؤَلفين الذين كتبوا علي هذه الطريقة.

1- ابن الساعاتي (المتوفّي 694 ه)

هو أحمد بن علي بن ثعلب المعروف بالساعاتي، ولد ببغداد، و اشتغل بالعلم.

أخذ عن تاج الدين علي بن سنجر، و ظهير الدين محمد البخاري، و أتقن

______________________________

(1) معجم المؤَلفين: 6- 32؛ الجواهر المضية: 1- 270 برقم 719.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 464

الأصول و الفروع، له مصنفات في الفقه و الأصول منها «كتاب البديع» في أُصول الفقه.

جمع فيه بين طريقتي الآمدي في كتابه «الأحكام» الذي عني فيه بالقواعد الكليّة.

و طريقة فخر الإِسلام البزدوي في كتابه الذي عني فيه بالشواهد الجزئية الفرعية و قد أشار المؤَلف إلي هذه الطريقة في ديباجة الكتاب و قال: قد منحتك أيّها الطالب نهاية الوصول إلي علم الأصول هذا الكتاب البديع في معناه المطابق اسمه لمسماه، لخصته لك من كتاب «الاحكام» و رصعته بالجواهر النقية من أُصول فخر الإِسلام.

فإنّهما البحران المحيطان بجوامع الأصول الجامعان لقواعد المعقول و المنقول؛ هذا حاوٍ للقواعد الكلية الأصولية و ذاك مشمول بالشواهد الجزئية الفرعية.

2- صدر الشريعة عبيد اللّه بن مسعود البخاري (المتوفّي 747 ه)

هو عبيد اللّه الملقب بصدر الشريعة الفقيه الحنفي اشتهر بذلك بين أقرانه و شيوخه و تلاميذه، تتلمذ علي جدّه تاج الشريعة محمود.

و له في الأصول «تنقيح الأصول» و شرح عليه يسمي «بالتوضيح» جمع فيه بين ثلاثة كتب هي «أُصول البزدوي» الحنفي و «المحصول» للرازي الشافعي و «منتهي السؤال و الأَمل» أو مختصر ابن الحاجب المالكي، و قد علّق علي التوضيح سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني الشافعي (المتوفي 793 ه) في كتاب «التلويح» «1».

______________________________

(1) محمد الخضري: أُصول الفقه: 9.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 465

3- تاج الدين السبكي (727- 771 ه)

عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي ولد بالقاهرة و سمع من علمائها ثمّ رحل إلي دمشق مع والده و اشتغل بالقضاء سنة 756 ه.

تتلمذ علي والده علي بن عبد الكافي و الحافظ المزي و الذهبي، و من تآليفه المعروفة طبقات الفقهاء الكبري التي طبعت في عشرة أجزاء.

و من تآليفه في الأصول شرح مختصر ابن الحاجب في مجلدين سمّاه «رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب» و شرح منهاج البيضاوي في الأصول، و جمع الجوامع في أُصول الفقه و شرحه باسم «منع الموانع» «1».

4- كمال الدين بن الهمام (790 861 ه)

محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السيواسي ثمّ الاسكندري، كمال الدين المعروف بابن الهمام، متكلم حنفي، و من شيوخه قاضي القضاة جمال الدين الحميدي و العز بن عبد السلام البغدادي.

و قد تخرج علي يديه: بدر الدين العراقي المالكي، و شرف الدين المنادي الشافعي.

و من تآليفه في الأصول «التحرير في أُصول الفقه» «2» و شرحه تلميذه محمد بن محمد بن أمير الحلبي المتوفّي سنة 879 ه.

______________________________

(1) شذرات الذهب: 6- 610.

(2) لاحظ الملل و النحل: 3- 63؛ الجواهر المضية: 2- 86.

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 466

5- محب اللّه بن عبد الشكور الهندي (المتوفّي 1119 ه)

هو محب اللّه بن عبد الشكور البهاري الفقيه الحنفي، الأصولي المنطقي.

تتلمذ علي يد الشيخ قطب الدين الشهيد و قطب الدين الشمس آبادي المولوي.

و من مؤَلفاته في الأصول «مسلّم الثبوت في أُصول الفقه» و قد شرحه عبد العلي محمد بن نظام الدين الأَنصاري تحت اسم «فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت».

توفّي عام 1119 ه.

هذه هي أُمّهات الكتب الأصولية إلي أواخر القرن الحادي عشر، و لكن توقف الركب الأصولي فترة طويلة، فلا نكاد نعثر علي أثر أُصولي قويم، و لذلك يقول الشيخ الخضري: اقتصر الكاتبون في هذا العلم علي شرح الكتب السابقة لا يزيدون شيئاً من عند أنفسهم و عملهم ينحصر في نظر المؤَلفات التي لخص منها ما يشرحونه من الكتب ليحلوا به عبارتها و يفتحوا مغلقها.

و انتهي عندهم التفكير و الاختيار، لَانّ هذا العلم قد عاد أثراً من الآثار، إذ لا فائدة كانت لهم منه، لَانّ الاجتهاد قد أقفل بابه، فلم تعد ثمة حاجة إلي بذل المجهود في القواعد التي هي أُصول الاستنباط «1».

و علي الرغم من ذلك فقد ظهرت مصنفات كثيرة حديثة سارت علي نهج طريقة المتكلمين مثل «أُصول

الفقه» للشيخ محمد الخضري، و كتاب «تسهيل

______________________________

(1) أُصول الفقه للخضري: 10-

مصادر الفقه الإسلامي و منابعه، ص: 467

الوصول إلي علم الأصول» للشيخ عبد الرحمن المحلاوي، و كتاب «علم أُصول الفقه» للشيخ عبد الوهاب خلّاف، و «أُصول الفقه» للشيخ محمد أبو زهرة، و «أُصول الفقه الإِسلامي» للشيخ زكي الدين شعبان، و «أُصول الفقه الإِسلامي» للدكتور و هبة الزحيلي.

شكر اللّه مساعي علمائنا الربانيين إلي هنا تم الكلام في بيان مصادر الفقه الإِسلامي و منابعه عند الفريقين و الحمد للّه ربّ العالمين

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.