لمحات من تاریخ القرآن

اشارة

نام كتاب: لمحات من تاریخ القرآن
نویسنده: محمد علی الاشیقر
موضوع: تاریخ قرآن
تاریخ وفات مؤلف: معاصر
زبان: عربی
تعداد جلد: 1
ناشر: موسسة الاعلمی
مكان چاپ: بیروت
سال چاپ: 1408 / 1988
نوبت چاپ: دوم‌

حكمة الكتاب‌

انی رأیت أنه لا یكتب إنسان كتابا فی یومه إلا قال فی غده، لو غیّر هذا لكان أحسن و لو زید كذا لكان یستحسن و لو قدّم هذا لكان أفضل و لو ترك هذا لكان أجمل ..
و هذا من أعظم العبر، و هو دلیل علی استیلاء النقص علی جملة البشر ...
العماد الأصبهانی
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 4

الاهداء

ارفع هذه الدراسة الموجزة إلی قائد الثورة الإسلامیة و رائد الحق و العدل و الحریة الرسول محمد (ص) تثمینا و إعجابا بالجهود و المساعی التی أبداها فی سبیل إیصال رسالة السماء إلی الناس كافة من أجل أن ینقلهم من جور الكفر و أسر الجهل و ضیق الأفق إلی عدل الشریعة و حریة الفكر وسعة الدنیا و الآخرة ..
راجین منه (ص) الرضاء و القبول ....
كربلاء محمد علی یوسف الأشیقر
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 5

تقریض‌

هذه باقة عطرة تفضل بها الشاعر الملهم السید مرتضی الوهاب «1» مؤرخا صدور الطبعة الأولی من الكتاب
و مشمر عن ساعدیه مفجّربمصادر الذكر الحكیم مواهبه
فأماط وجه البحر عن أصدافه‌و أنار من ثبج الطریق جوانبه
فتوسط المیدان صحب یراعه‌و انصاع منتصرا و نال مآربه
مذ جال فیه شبل یوسف كاشفابالبحث من جیش الضلال كتائبه
(لمحت بجنح الطف فی تاریخها)(لمحات فن للأشیقر صائبه) 1968 م 478+ 183+ 90+ 1217/ 1388 ه 609+ 671+ 108 كربلاء* السید مرتضی الوهاب
______________________________
(1) توفی الشاعر المبدع السید مرتضی الوهاب فی 2/ 8/ 1973 و دفن فی مقبرة السادة آل خیر الدین فی الروضة العباسیة بكربلاء.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 6

المقدمة

للدكتور جابر العطا بسم اللّه الرّحمن الرّحیم تمر علی الأمة الإسلامیة عواصف كاسحة من تیارات الفكر الأجنبی الذی یتناقض مع الفكر الإسلامی المستنیر جملة و تفصیلا ..
و لو أن المسلمین قد تدبّروا هذه الأفكار الوافدة و درسوها دراسة موضوعیة مستفیضة و آمنوا بها عن وعی و إدراك لهان الأمر، و لكنهم أخذوها أخذا ببغاویا و طبقوها تطبیقا آلیا غیر مدركین للآثار السیئة و العواقب الوخیمة الناجمة عن هذه الأفكار و هذه المفاهیم ..
و ان هذه النتیجة المؤسفة لم تك فی یوم من الأیام نتیجة طبیعیة و اصالة حقیقیة للأمة الإسلامیة، و لكن الاستعمار الكافر حینما هیمن و سیطر علی أرضنا مستغلا نفوذه و كل ما لدیه من وسائل و انظمة و قوانین، تمكن ان یركّز هذه الأفكار المستوردة و الشعارات الزائفة و النظم الجائرة لا فی عشیة و ضحاها بل بأعوام عدیدة و ظروف عصیبة حتی أصبحت هذه و كأنها من بنات أفكارنا و طبیعة كیاننا ..
و لم یك هذا الانهیار و هذا التدهور مقتصرا علی جانب من جوانب الحیاة أو ناحیة من نواحی المجتمع، و لكنه تدهور فی السلوك و انهیار فی المثل و المفاهیم و تخلف و انحطاط فی النظم و القوانین ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 7
و من هنا بات لا ینفع الاصلاح السطحی و العمل الترقیعی بل لا بد أن یكون العلاج جذریا و التغییر شاملا ..
و ان هذا التغییر لا بد و ان یستوعب النفس حتی یكون السلوك اسلامیا و تكون مناهج الحیاة كلها علی أساس الاسلام استجابة لقوله تعالی إِنَّ اللَّهَ لا یُغَیِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ «1».
فالتغییر بالإسلام هو الأخذ بكافة تعالیمه و ارشاداته لأنه نظام كامل فیه من المرونة و الحیویة ما یجعله صالحا للتطبیق فی كل زمان و مكان تلبیة لقوله تعالی: الْیَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِینَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْكُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِیناً «2».
و الاسلام مرّ بمرحلة تطبیقیة رائعة و عاشت الأمة فی ظله حتی غدت أرقی أمم العالم جمیعا و أسماها، و لكن حینما تخلت الأمة عن الاسلام فی مجاله العملی تدهور أمرها إلی أسوأ مما كانت علیه قبل الاسلام، و ان هذا الشی‌ء لیدل دلالة واضحة و اكیدة علی انه لا سعادة للبشریة إلا بالشریعة الاسلامیة التی قال عنها الامام علی- علیه السلام- «لا یسعد أحد إلا باتباعها و لا یشقی أحد إلا مع جحودها و اضاعتها».
هذا و نشیر بهذه المناسبة إلی ان مصادر هذه الشریعة هی أربعة:
1- القرآن الكریم.
2- السنة النبویة الطاهرة.
3- الاجماع.
4- العقل.
لذا كان لا بد أن یكون المصدر الأول و هو كتاب اللّه موضع اهتمامنا نهتدی بهدیه و نستضی‌ء بنور علمه وفقا لقوله سبحانه أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً كَثِیراً «3» ..
______________________________
(1) الرعد: 11.
(2) المائدة: 3.
(3) النساء: 82.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 8
و الاستاذ- الأشیقر- قد عرض فی مؤلفه هذا عرضا موجزا لعدة جوانب من كتاب اللّه و بالخصوص الكیفیة بها حتی صار بالشكل الذی نراه الیوم و كما أنزله اللّه تعالی من دون زیادة أو نقصان مثلما قرّر فی محكم كتابه الكریم إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «4» اضافة إلی تفسیره و اعجازه و نزوله و مكیّه و مدنیه و ناسخه و منسوخه و محكمه و متشابهه و حروفه و العنایة به .... الخ و هو عرض جمیل فی بابه و شیق فی اسلوبه و بدیع فی عرضه و نشره ..
و ختاما نسأله تعالی ان یوفقنا جمیعا لما یحب و یرضی انه المولی و نعم الوكیل ..
الدكتور جابر العطا البصرة 1385 ه- 1965 م
______________________________
(4) الحجر: 9.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 9

تصدیر

لست أدری انی سیكون موقع كلمتی هذه من الكتاب و لست اعرف ما هو ترتیبها عند التبویب لأننی اجهل ماهیتها حقا، فهی لم تكن تقریضا لتحتل مكان الصدارة و لم تكن مقدمة لتأتی تمهیدا للبحث، أضف إلی ذلك ان التقریض قد سبر غوره الدكتور العطار و المقدمة قد فرغ منها المؤلف ..
لذا ارانی ملزما بالاعتراف و اقولها كلمة جریئة بانی طارئ علی الكتاب دخلت فیه فضولیا رغبة فی الظهور علی مسرح التألیف و طمعا بالشهرة و الجاه و ارضاء الغرور العارم ..
كان هذا شعوری عند ما طلبت إلی الأخ الأستاذ الأشیقر (و هذا خلاف المعتاد) حشر كلمتی فی كتابه الأول، و اعتقد أن الصراحة التی برزت من بین سطورها ستكون شفیعا لدی القارئ الكریم و مبررا یجد فیه الاستمرار بقراءتها لیولینی من عطفه بعض ما اصبو إلیه و لیمنحنی من ثقته قلیلا مما ارنو إلیه ..
و من حقك أیها القارئ العزیز ان تسأل عن سبب هذا الإلحاف و تعرف هذا الالحاح سواء إلی المؤلف أو إلیك أنت بالذات، و علیّ أن أجیب بنفسی الصراحة و الجرأة، فالكتاب الذی بین یدیك لم یك جدیدا
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 10
فی هذا الباب و لا الأول فی الموضوع فقد كتب فیه العدید من المؤلفین قدیما و حدیثا و تناولوا موضوعاته بالبحث و التمحیص منهم المسهب المطنب و منهم المختصر المختزل، و نظرة عابرة إلی مصادر البحث فی خاتمة الكتاب تغنی عن الدلیل ..
فالقرآن وجد مع بعثة الرسول القائد و استمر حدیثا یردده الزمن و تصغی إلیه الأجیال خالدا خلود الدهر و یرسم للبشریة طریقها المشرق و یجدّد ابعاد سعادتها المنشودة و یوضّح أسباب شقائها المتوقع فهو الدلیل علی الخیر و الدال علی سبل النجاة وفقا لقوله تعالی إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ یَهْدِی لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ «1» ..
و موضوع هذا فحواه و ذلك محتواه هو جدیر بالكتابة و الدرس و الإعادة و التكرار و حری بی خاصة و انا ارید ان اجرّب حظی فی الكتابة ان اسهم بكتابة بعض السطور مسترشدا بهدی القرآن و مستهدیا بنور محمد (ص) فأقول ان المؤلف و هو یهدی باكورة انتاجه قد حالفه التوفیق فی اختیار الموضوع و قد جاء كتابه هذا تحقیقا للرغبة التی خامرته منذ زمن بعید، فخوضه فی هذا البحث لم یجد فیه صعوبة أو كبیر عناء كما یدعی- أو بالغ فی تقدیر الصعوبة لأن تربیته الدینیة الخاصة و ملازمته لرجال العلم منذ نعومة اظفاره و شغفه بقراءة القرآن و حفظه لمعظم سوره فضلا عن آیاته استظهارا كانت كلها اسبابا و مبررات كما اعتقد یسّرت علیه الخوض فی هذا الموضوع و مهّدت السبیل للولوج فیه، فهو شاب مؤمن نشأ فی طاعة ورع تقی یبتغی مرضاة اللّه فلا عجب إذا أحسن الاختیار و لا غرابة إذا اختار الأحسن ..
و قد كان فی میسوری و انا القارئ الأول تبیان مواقع الاستحسان و الاشادة بها أو مواضع الانتقاد و الاشارة الیها لو تمهلت فی قراءة مسودات الكتاب، و لكنی آثرت السرعة ایفاء بوعدی للمؤلف معتقدا أن
______________________________
(1) الإسراء: 9.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 11
القارئ الكریم سینوبنی فی هذه المهمة و ستولی هو تقدیم كشف الحساب بأسلوب رفیع مجرد من العاطفة و الذاتیة إذا ما رغب فی ارتقاء منبر النقد أو اعتلاء اعواد التقریض و احسب ان المؤلف سیقابل كل ذلك برحابة صدر ..
فالیك یا أخی الكریم و أنت تقدم كتابك الأول الف تحیة و ألف سلام راجیا لك كل خیر، و اللّه سبحانه ولی التوفیق ..
عبد الأمیر ذیاب بكالوریوس فی الحقوق كربلاء 1385 ه/ 1965 م
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 12

استهلال «1»

الحمد للّه رب العالمین و الصلاة و السلام علی الرسول الأمین و علی آله الطاهرین و صحبه المنتجبین و بعد:
فعند ما خامرتنی فكرة أو محاولة الكتابة عن القرآن الكریم الذی هو أحد مصادر الشریعة المهمة و اصل الفقه الاسلامی كنت أظن و اتصور جازما بأن الخوض فی مثل هذا المیدان سیكون سهلا و یسیرا و ستكلل بالنجاح و من دون تحمل كبیر عناء أو عظیم مشقة، و ذلك اعتمادا علی ان الابحاث و الدراسات الاسلامیة و خصوصا ما یتعلق منها بالقرآن الكریم كانت قد مرّت علیّ كثیرا سواء فی خضم الحیاة الدراسیة أو غمرة المطالعات و التتبعات المستمرة فی بطون الكتب و زوایا المؤلفات التی تركها لنا المؤرخون الراحلون أو تلك التی خطتها أقلام الكتاب المعاصرین، و ان الأمر بعد هذا لا یتجاوز أو یخرج عن تسجیل كل أو بعض ما علق فی الواح الفكر عن الموضوع فی الأوراق و المسودات لیمكن بعد ذلك طیّها و حملها إلی المطبعة لتصبح بعد حین كتابا أو دراسة یوضع بین یدی القراء أو فی دوالیب المكتبات و دور الكتب ..
كانت كل هذه التصورات و الأفكار تطوف فی مخیلتی قبل الانقطاع لاعداد هذه الدراسة الموجزة عن القرآن المجید، و لكن تجلی لی ذلك
______________________________
(1) هذه هی مقدمة المؤلف علی الطبعة الأولی من كتابه، و قد وضع لها هذا العنوان بسبب تولی الدكتور العطا كتابة المقدمة ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 13
و بوضوح و عند البدء و الشروع فی اعداد هذا البحث ان كل الأفكار المعقودة قد تبخرت و تلاشت و أن كافة التصورات و الظنون المرجوة قد سقطت من علیائها، و ان كل ما امكن حفظه و جمعه من معلومات لم تكد تتجاوز عند ترجمتها إلی أوراق التسوید عن عدة صفحات من دون ان یجمعها نظام خاص أو یوحدها تنسیق معین.
و طبیعی ان هذه النتیجة المؤلمة التی عشتها لفترة طویلة قد بعثت فی النفس الیأس و الجزع و اوشكت ان تعصف بالمحاولة و تردیها لو لا ان تداركها اللّه سبحانه فی اللحظة الأخیرة فبعث فیها شیئا من الرجاء و الأمل فقلب المحاولة إلی تصمیم و التجربة إلی إرادة و الفكرة إلی تنفیذ.
هذا و فی الحقیقة ان المصادر و المراجع التی تبحث فی موضوع القرآن الكریم قد كانت لنا عونا كبیرا فی طریق اعداد و تهیئة هذه الدراسة، إلا انه لا یمكن- فی نفس الوقت تناسی أو تجاهل الجهد و العذاب البالغین الذین یلقاهما المرء عند جمع مواد القرآن و توحیدها و تنسیقها و ربما شرحها و التصرف بها بما یناسب و یماشی خطة الكتاب، لا سیما إذا ما عرفنا بان كثیرا من المصادر و المراجع المذكورة هی قدیمة و طویلة حیث تستنزف من المرء جهدا و وقتا و عناء طویلا للحصول و العثور علی رأی معین أو نقطة صغیرة، فكیف هو الحال سیكون عند السعی للوقوف علی آراء العشرات من المؤرخین و الكتاب أو توحید مواضیع و أبحاث عدیدة لابراز الرأی و الاتجاه المفضل و المقبول ..
ان الصعاب و المشاق التی نتحدث عنها الآن قد تنعدم أو تخف بلا شك بوجه الأدباء و الكتاب العظام عند الكتابة عن مثل هذا البحث أو غیره، و لكنها- الصعاب و المشاق- تفرض وجودها حتما أمام كل شاب مبتدئ لم یعرّك میدان التألیف و الكتابة من قبل إلا من بعض المقالات و الكلمات العابرة التی حررت علی عجل لتأخذ مكانها علی احدی
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 14
النشرات المدرسیة أو فی احدی المجلات الفصلیة أو لتلقی فی مناسبات دینیة و وطنیة ...
و رغم كل هذا و ذاك فقد تمكنت- بعون اللّه- من وضع هذه الدراسة الوجیزة التی تبحث عن القرآن الكریم ابتداء من ساعة نزوله علی الرسول الكریم (ص) إلی لحظة اختتامه فضلا عن الاشارة العابرة إلی بعض الابحاث المتعلقة و المرتبطة به مثل جمعه و تفسیره و اعجازه و حروفه و أسباب نزوله ... «الخ» لغرض تقریب كل ذلك من اذهان المسلمین، لأن المام و احاطة المسلمین بذلك سیمكّنهم من الذود عن أنفسهم و افشال خطط اعدائهم فی الطعن بكتاب اللّه و بالتالی القضاء علی عقیدتهم و مبادئهم ..
و اشیر بعد هذا بانی قد راجعت أو وقفت- فی سبیل اعداد هذه الدراسة- علی أكثر من مائتین كتاب و مصدر تخص مختلف الطوائف و الملل الإسلامیة و قد تم الاشارة إلی بعضها فی ثنایا هذا الكتاب كما و تم سرد قسم كبیر منها فی نهایة الكتاب لغرض الرجوع إلیها عند طلب المزید من التتبع و الاطلاع و التوسع ..
ان غالبیة المراجع و المصادر المشار إلیها متوفرة فی المكتبات المركزیة بالمحافظات العراقیة فضلا عن المكتبات الحكومیة أو الأهلیة الأخری، كما أن مكتبتی المتواضعة هی الأخری تضم كل هذه المراجع و المصادر و أرجو من اللّه أن یقیّض لها المكان المناسب لیمكن قلبها إلی مكتبة عامة لیتاح لجمهور القراء الاستفادة من كتبها التی تبلغ عدة آلاف و تبحث فی كل علم و فن ..
هذا و انی عند اعدادی لهذه الدراسة عن القرآن الكریم لم افكر قط فی كسب نفع مادی أو بلوغ هدف دنیوی بعد ان اسبغ اللّه تعالی علیّ بركاته، و انما آثرت منه و من الكتاب الآخر الذی سیعقبه
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 15
مباشرة «2» ان یكونا خالصین لوجه اللّه تعالی و ان یسهما مع بقیة الكتب الاسلامیة الهادفة فی خدمة الفكر و توعیة المسلمین و توجیههم مع تذكیرهم بأن الغد سیكون لهذه العقیدة و المستقبل لهذا الدین ..
و بعد فانی حین أطوی هذه المسودات و الأوراق و التی كتبتها علی عجل و بمنتهی الایجاز و الاختصار فی غضون ستة أشهر، كما و كلفنی استنساخها و تهذیبها لعدة مرات ما یقرب من السنة حین اطویها لانقلها من قعر مكتبتی إلی مكانها المقرر من المطبعة لأشعر حقا بمدی التقصیر و الاضطراب الذی یلمّ بها و یحیطها احاطة السوار بالمعصم سواء أ كان ذلك فی الاسلوب أو فی ضعف المستوی أو فی الاغلاط و الهفوات و التی سوف لا تخفی حتما علی فطنة القارئ الكریم عند طوافه و تجواله
______________________________
(2) یحمل الكتاب الآخر عنوان «اضواء علی شبه القارة الهندیة- دراسة موجزة للأوضاع الاجتماعیة و الطبیعیة و الاقتصادیة و السیاسیة و السیاحیة فی الهند، الباكستان، بنغلادش، سریلانكا، النیبال بوتان» و یقع فی 500 صفحة و قد فرغ المؤلف من اعداده منذ أمد طویل و هو جاهز للطبع فی أی لحظة و الكتاب هذا معزز بالخرائط و الصور المختلفة التی تقرّب المواضیع الواردة فیه إلی ذهن القارئ لتسهّل هضمها و استیعابها ..
كما أن الكتاب یضم (30) فصلا منها «فی الطریق إلی شبه القارة الهندیة، الأرض و تضاریسها السكان و اصلهم، المناخ و الغابات، الأنهار و البحیرات، الزراعة و الری، الثروة الحیوانیة، الصناعة و المعادن، الطرق و المواصلات، اللغات و اللهجات، الأدیان و المعتقدات، صور من العادات و الطبائع الغریبة، مسیرة الإسلام إلی شبه القارة، الدولة الغزنویة و الغوریة و المغولیة، الاستعمار الأوربی یطرق أبواب شبه القارة، الثورة الهندیة الكبری، نهضة المسلمین بعد كبوتهم، اعلام الحریة ......» علما بأن الدوافع التی حدت لإعداد هذه الدراسة عن شبه القارة فقد عدّدها المؤلف فی مقدمته و یمكن إیجازها فی النقاط التالیة:
1- كون شبه القارة هی موئل الغرائب و محیط العجائب و لما تضم بعد ذلك من الآثار التاریخیة و الفلسفات و العقائد و العادات و الأعراف البشریة و الطبائع المختلفة و المفارقات العجیبة ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 16
بأجواء هذا الكتاب، آملا منه مشكورا تعریفی عن كل ذلك لیتاح لی تلافیه مستقبلا فیما إذا قدر لهذا الكتاب أن یری وجه النور للمرة الثانیة أو عند التهیؤ لكتابة بحث أو دراسة أخری ..
و إذا كان لی مجال هنا لشكر أحد علی مساعدتی فی اخراج هذا الكتاب أو الایحاء لی بفكرته فهو أستاذی الكبیر الشیخ عبد الزهراء الكعبی و الطبیب الانسانی الخالد الذكر الأخ جابر العطا فی البصرة (فی بعقوبة حالیا) و الزمیل المحامی الحاج محمد علی النصراوی، و فی
______________________________
2- موقف أقطار شبه القارة المساند لقضایا العرب و العروبة و لا سیما قضیة فلسطین ..
3- العلاقات الوثیقة التی تربط شبه القارة بكثیر من الأقطار العربیة و منها العراق و دول الخلیج ..
4- طبیعة أخلاق ابناء المجتمع فی شبه القارة و سلوكه و تصرفاته ازاء السواح و القادمین إلی دیارهم ..
5- انتشار اللغة العربیة و تواجدها و المنتجات المعروضة فی مخازن و أسواق المدن هناك و تواجدها بصورة و فیرة علی مدار السنة و من دون شحة بعضها أو نفادها ..
5- انتشار اللغة العربیة و تواجدها فی تلك الدیار و لا سیما عند سكانها من المسلمین و علمائهم ..
6- رخص المواد و البضائع و المنتجات المعروضة فی مخازن و أسواق المدن هناك و تواجدها بصورة وفیرة علی مدار السنة و من دون شحة بعضها أو نفاذها ..
7- ما جاء علی لسان الكاتب الهندی الكبیر السید عبد العلی الحسینی الندوی من أن شبه القارة الهندیة العامرة بالرجال و الماضی لم تنل من عنایة الكتّاب العرب .. لذا قمت باشعار هذا الكاتب العظیم بأن العرب لم یألوا جهدا بالكتابة عن شبه القارة و أحوالها و شئونها المختلفة ..
نأمل أن یری هذا الكتاب وجه النور فی وقت قریب لیتمكن القارئ من الاطلاع علیّ عصارة و حصیلة أكثر من (25) رحلة قام بها المؤلف إلی تلك الدیار و من شمال سرینكر و إلی جنوب كولمبو و من كراجی إلی جنوب شیتا كونغ عند الحدود البرمیة ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 17
الحق فإن هذه الدراسة هی من بنات أفكارهم و وحی توجیهاتهم و ارشاداتهم ..
و ختاما اشیر- للمرة الثانیة- إلی ان هذه التجربة فی الكتابة هی الأولی التی نمتحن فیها و لست أدری هل ستكون هذه حافزا للوثوب إلی تجارب أخری أم أن خط سیرنا و مسار سفینتنا سیقف عندها ..
و اللّه أسأل- و له الحمد- ان یتقبل هذا الجهد المتواضع و یوفقنا و سائر المسلمین للسداد و الصواب انه ولی النجاح و التوفیق ..
محمد علی یوسف الأشیقر كربلاء 1386 ه/ 1966 م
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 18

هذا الكتاب فی طبعته الثانیة

موضوع القرآن بحر مترامی الأطراف و متلاطم الأمواج لیس فی مكنة المرء و لا فی قدرته أن یسیر غوره أو أن یدرك كنهه من غیر أن یحسب له ألف حساب و من دون أن یتجهز له و یستعین بمختلف الأسلحة و العدد الكافیة ..
و هذه الأسلحة و تلك العدد لا یمكن أن تنال أو تكسب بجرة قلم كما و لا یمكن أن تتهیأ بالسهولة و الیسر الذی قد یتصوره البعض و كما هو الحال فی سائر المواضیع و الأبحاث، و انما دونها مراحل طویلة و فواصل كبیرة محفوفة بالأتعاب و محاطة بالتضحیات ینبغی علی كل فرد أن یطرقها و أن یمر عبرها قبل أن تصل أو یقع فی یده شیئا منها ..
و لیس فی ابحاث هذا الكتاب و مواضیعه ما یستشف أو توحی من قریب أو بعید إلی أنها تنحو إلی كشف ماهیة القرآن أو حقیقة أسراره و مرامیه القصیّة بسبب أن كشف هذه الماهیة و ازاحة الغطاء عن هذه الأسرار و الابعاد یتطلب حتما اجتیاز و تخطی بعض أو معظم المراحل و الفواصل المتقدمة، و هذا ما لم نحقّقه بعد و هو ما لم نوفق إلیه أیضا بعد علی الرغم من وجود بعض المحاولات و التشبثات البدائیة و الأولیة فی هذا السبیل و هی إلی الفشل و الاخفاق أقرب منها إلی النجاح و التحقیق ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 19
و هذا الكلام یفرض علینا- حتما- التساؤل التالی و هو انه إذا لم تكن فی ابحاث هذا الكتاب و لا فی مواضیعه المتعددة ما یشیر إلی بعض أو كل ماهیة القرآن أو حقیقة أسراره، فبأی شی‌ء اذن- تبحث سطوره و لأی هدف رتبت صفحاته و ضمت بین دفّتی هذا الكتاب ..
ان جوابنا القاطع علی مثل هذا التساؤل لا یخرج عن القول و الاشارة إلی أن مواضیع هذا الكتاب و فصوله انما كتبت و حررت فمن أجل أن تؤرخ للقرآن من الدقیقة الأولی التی نزل بها علی صدر الرسول العربی (ص) إلی اللحظة التی تقرر فیها أن تكون ختامه، و من ثم فهی قد تتجاوز علی ذلك شیئا لتتولی تعریفه لیمكن تمییزه- القرآن- عن بقیة الكتب و الدراسات، و انها بعد هذا و ذاك قد تتقدم خطوة أخری إلی الأمام لترشد القارئ الكریم إلی العلامات و النقط الموصلة إلی أبوابه المختلفة و أبحاثه المتعددة ..
و رغم ان هذا الكتاب هو تاریخ موجز لمراحل نزول القرآن الكریم و تعریف بصفاته و اسمائه- كما تقدم- و هذا لا یتطلب ممن یكتب من ذلك أن یكون ذا باع طویل أو نصیب وافر فی العلم و التدقیق كالتی یحتاج إلیها عند البحث فی ماهیة القرآن الكریم و أسراره الخفیة و مقاصده الحكیمة ..
لذا لم أغفل عن احاطة القراء الكرام- عبر الطبعة الأولی للكتاب- بضرورة اشعاری و تنبیهی إلی كافة ما سیجدوه فی هذه الدراسة من مثالب و نواقص ربما وقعت فیها عن سهو أو نسیان أو عدم التفات أو جهل ..
كما و أشرت مرارا فی نفس الوقت إلی اننی كاتب ناشئ و ان هذا الجهد المتواضع الذی اقدمه هو باكورة ما قمت به فی میدان التألیف و عالم النشر مما یدعو لوجود و بروز مآخذ و مثالب لا یمكن تجاوزها و تلافیها من دون التنبیه إلیها أو الاشارة لها من أجل أن یغدو هذا البحث و هذا الجهد
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 20
الصغیر متكاملا أو علی الأقل قائما علی قدمیه فیما إذا قدّر له ان یری النور مرة ثانیة ..
ان كثیرین من القراء و الأصدقاء الكرام قد كانوا عند حسن الظن، حیث تكرّموا باشعاری بتفصیل أو ایجاز عن سائر نواقص الكتاب و مثالبه فضلا عن الملاحظات التی یجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار عند الطبعة الثانیة، و دوری فقد تولیت بوضع كل ما جاءنی من هؤلاء الأخوة موضع التنفیذ و العمل و تجلی أثرها ساطعا علی صفحات هذه الطبعة الجدیدة للكتاب ..
و إذا كان و لا بد من الاشارة أو الاستشهاد بواحد أو أكثر من هؤلاء الأصدقاء فهو استاذی الجلیل و خطیب كربلاء الشیخ عبد الزهراء الكعبی «1» الذی غمرنی بلطفه فقدم لی كشفا مفصلا عن الكتاب برمته و قد توجه بمقدمة موجزة شكر فیها المتاعب و المساعی التی صرفت لاعداد هذا البحث الذی یحتاج إلیه المجتمع- ایما احتیاج- فی هذا الوقت و الذی تكالبت فیه القوی المادیة الكافرة للاجهاز علی دیار المسلمین و النیل من مقدساتهم و تراثهم ..
كما و اشیر إلی رسالة الأخ الفاضل السید جواد آل بحر العلوم من كربلاء و التی یقول فیها بالحرف: «...... و قد طالعت كتابكم القیم فوجدته طبقا للواقع حیث انه لمحة من لمحات القرآن الكریم و انتهلت
______________________________
(1) بالرغم من شهرة الشیخ الكعبی فی أكثر من میدان و مجال، إلا أن شهرته فی العالم الإسلامی جاءت عن طریق قراءته لمقتل الإمام الحسین- ع- فی العاشر من محرم من كل عام و تتولی اذاعة الجمهوریة العراقیة نقله، و لقد توفی الأستاذ الكعبی فی لیلة وفاة الصدیقة فاطمة- ع- و ذلك مساء الخمیس 6/ 6/ 1974 ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 21
من نمیركم العذب و تنوّر بصری بنور بصیرتكم الفیاضة و استحسنت كثیرا تلك الاسالیب التی اهتدیتم إلیها فی نظم هذا العقد الثمین من الشرح فی مناسبات السور و البیان عن حكمها و اعجازها و كبّرت فیكم تلك الروح السامیة و عظمت فیكم العبقریة الراقیة التی كانت حصیدها هذه اللمحات من النور و حسن الارشاد و التی برهنت بانها جوهرة فی لجة المعروف، و لقد جری علی لسانی و أنا مطرق فی المطالعة هذه العبارات الوجیزة:
كتاب قد حوی أسمی المعالی‌یفوق المسك من حسن البیان
فشكرا یا أخا العلیاء شكرالقد اتحفتنی روض الجنان و من كربلاء أیضا وردتنا الرسالة التالیة من السید عباس هاشم الطباطبائی نقتطف منها الأسطر التالیة: «.... لقد سبرت غور هذا السفر الجلیل و الكتاب القیم الجدیر بالذكر و التبجیل الموسوم ب «لمحات من تاریخ القرآن» لمؤلفه جناب السید الشاب المفضال و المؤمن الحق الأستاذ السید محمد علی الأشیقر- حفظه اللّه تعالی- علی عجل فالفیته بحثا مستفیضا شاملا جامعا مستوعبا لمعظم المعلومات التی لا بد لكل مسلم أن یتطلّع الیها، و لا یشك ذو درایة بان السید الاشیقر- وفقه اللّه لمرضاته- قد انفق أیاما من عمره الشریف المدید فی انتقاء أفضل المعلومات و اوثقها من بطون الكتب القدیمة و الحدیثة و حاول بلباقته و منطقه السدید أن یضفی علیها صبغة من البساطة و التدرج بحیث تغنی الباحث و عثاء البحث و عناء السهر و التنقیب، و حاول بكل جدارة الموافقة بینها بحیث یجد كل مستفید بغیته، و اعجبنی من ذلك أیضا طراوة اسلوبه و عذوبة عرضه و حلو حدیثه حتی سحرنی بیانه- و ایم الحق- ان اقضی سهرة ممتعة مع بحثه المستفیض من دون أن أشعر بالساعات و هی تمضی سراعا، فتضرم ساعات اللیل مدبرة علی غرة و یطالعنی الصبح
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 22
بضوئه فجأة و بدون سابق انذار، و باختصار فان الكتاب یستحق التبجیل و التقدیر و الاعجاب و هو بعد ذلك باكورة عمل السید الاشیقر و أول خطوة یخطوها فی میدان التألیف و التصنیف، فبوركت یا سیدی الاشیقر علی اداء هذه المهمة و اسداء هذه الخدمة ..
و قد خطر ببالی و انا اختم كلمتی ان اسجل لك هذه الابیات:
طاب ذكر لك ما فیه هنات‌لم یكن یطوی لما فیه صفات
انما الانسان فان و تری‌بعده الأعمال تبقی صالحات
فكتاب یورث الناس هدی‌ثم نجل صالح أو صدقات
فخلو المرء منها دائم‌و سوی هذا فقد یعفی الممات
فذر الغفلة فی دنیا الهوی‌و اكتسب علما ففی العلم حیاة
إنما الجهل لسجن مظلم‌و به الانسان یلقی العثرات
فأتی من آل طه كاتب‌اشرقت بالفكر منه الظلمات
لمحات من كتاب اللّه قدجاء فی شرح له بالبینات
فجزاه اللّه خیرا إذ أتی‌بكتاب هو للفكر نواة
فی بحوث لم تكن قد طرقت‌مثل هذا بوركت من خطوات
هذه الأفكار تبقی ارخو«طبعت فخرا فهاؤم لمحات» (- 1968-) و من كربلاء كتب لنا الأخ الأستاذ علی عبود أبو لحمة یقول:
«.... لقد طالعت كتابكم القیم الخالد- لمحات من تاریخ القرآن- فاعجبنی جدا تنظیمه و تبویبه و اسلوبه فضلا عما یضم بین طیاته من تاریخ موجز للآیات الكریمة و اسباب نزولها و تفسیرها و جمعها و المحكم و المتشابه منها و إلی غیر ذلك من الابحاث و المواضیع الغامضة التی نجهل معظمها نحن ابناء الاسلام، و لا سیما فی هذا العصر الذی
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 23
تكالبت فیه القوی المادیة و البدع و الضلالات للاجهاز علی جوهر الرسالات السماویة، و حری بی- أیها الأخ- ان اشكر لك هذه الجهود الجبارة التی بذلتها فی هذا السبیل و التی لم تتوخی منه إلا رضاء اللّه و طاعته، علما بان القارئ الكریم سوف لا یستكثر علیك هذا الجهد إذا ما علم بانك من الدعاة الأوائل لحركة الوعی الاسلامی المعاصر فی كربلاء ....».
و من كربلاء أیضا وردتنا من الأخ الحاج محمد علی الشاوی النجفی الكلمة التالیة و قد جاء فی شطرها الأخیر «..... ان كتابكم (اللمحات) قد جاء تحفة فنیة رائعة و لقد بذلتم مجهودا عظیما فی اخراجه إلی حیز الوجود، سائلا المولی تعالی أن تبذلوا قصاری جهودكم فی المستقبل القریب لإخراج السفر الثانی ألا و هو- اضواء علی شبه القارة الهندیة- لكیما یطلع ابناء محمد (ص) علی الأوضاع فی اقطار شبه القارة الصدیقة و التی وقفت جنبا إلی جنب معنا أیام محنتنا بل شاركتنا السراء و الضراء فی قضایانا المصیریة .. و لا زلتم موفقین بدعاء أخیكم (البار ...).
و من كربلاء جاءتنا رسالتین ثمینتین من السیدین سلمان هادی الطعمة و حمید مجید هدوّ و قد تولیت نشرهما مع فصلین مستقلین لأهمیتهما لا سیما و ان محرریهما من رواد الفكر و الأدب المعاصر فی كربلاء.
أما من النجف الأشرف فقد طالعتنا كلمة العلامة المجاهد السید محمد علی الحمامی و قد قمت بدرجها فی الفصل التالی لما تضم من
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 24
ارشادات و هدایة للمسلمین عامة و لواضع هذه الدراسة خاصة.
كما و تلقیت من النجف الأشرف كلمة أخری حررها یراع الأخ السید عبد الجبار كاظم الهاشمی حیث یقول فیها بعد التحیة و السلام:
«.... لقد ضم كتابكم الكریم- لمحات من تاریخ القرآن- بین جوانبه كما یبدو من عنوانه، و انی عند ما تفرّغت لمطالعة الكتاب و دراسته وجدتنی منهمك بدراسة الفقه و اصوله و الفلسفة و ابعادها، ثم رأیتنی أخوض تاریخ العصور السالفة و معالم الأمم الماضیة بما تضم من قصص الأنبیاء و المرسلین و كیف قام هؤلاء بایصال رسالة السماء إلی الأرض، و سرنی فی الكتاب كثیرا هوامشه و ما تضم هذه من معلومات لا یستغنی عنها كل باحث و كل أدیب مثقف، وفقت یا أخی الاشیقر فی مسعاك و جزاك عنه خیر الجزاء و حفظ امتنا الكریمة من كل مكروه و قادها تلقاء النصر و السؤدد.
اما من ثغر العراق الباسم البصرة الفیحاء فقد أطلّت علیّ رسائل عدیدة كانت فی طلیعتها رسالة الامام المجاهد السید أمیر محمد القزوینی الكاظمی و مما جاء فیها «.... لقد اطلّ علیّ كتابكم «لمحات من تاریخ القرآن» فطالعت جمله من فصوله فحمدت اللّه تعالی علی ما أولاكم من قوة و جودة فی الاسلوب و عمق فی التحقیق و رصانة فی الكلام و متانة فی التدقیق فحیاك اللّه علما للفضیلة و مثالا للأدب و دعوته أن یمدكم بعونه و یرعاكم بعینه و یجعلكم من الدعاة إلی طاعته و القادة إلی سبیله بمنه و كرمه انه بالإجابة جدیر و السلام علیكم و علی من لدیكم من اخواننا المؤمنین ....».
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 25
و من قضاء المدینة بمحافظة البصرة اشرقت علینا الرسالة الكریمة التی دبجتها یراع عالم البلدة الكبیر و خطیبها المصقع العلامة الشیخ علی آل حیدر «3» و مما جاء فی رسالة الشیخ علی: «.... انها لسعادة غامرة أن یقع فی یدیّ كتابكم القیم- لمحات من تاریخ القرآن- هذا الكتاب الذی طالما رجوت منی قبل طبعه أن استعرض مسوداته و ملازمه من أجل تصحیح ما وقع فیها من اخطاء و هفوات، و الحقیقة انی لم اعثر فی تلك المسودات ما یستحق التصلیح بل خرجت منها شاكرا لك همتك القعساء فی اعدادها و مكبرا فیك الجهد الذی بذلته فی تنظیمها و جمعها فجزاك اللّه عن الاسلام خیرا مع تحیاتنا لسائر الأخوان المؤمنین فی بلد الامام الحسین- ع- .....».
و من بغداد دار السلام وردتنا الرسالة التالیة من السید محمد الحیدری معتمد مكتبة أهل البیت العامة و قد جاء فیها «.... تلقینا- بكل اعجاب و شكر و تقدیر- هدیتكم الثمینة و كتابكم النفیس «لمحات من تاریخ القرآن» فتصفحناه فاكبرنا ما بذلته من جهد و عناء و ما قدّمته من دراسة قیمة و احاطة شاملة و هو ان دل علی شی‌ء فانما یدل علی ما تتمتع
______________________________
(3) الشیخ علی آل حیدر امام قضاء المدینة و قد عرفته خلال عملی فی ذلك القضاء- الناحیة سابقا- كمدیر لها، و هو اضافة لكونه عالما للبلدة هو أحد خطباء المنبر الحسینی، له عدة مخطوطات وقفت علیه فضلا عن قصائد عدیدة فی الأدب الحسینی و غیره و منها القصیدة التی جاء فی مطلعها:
جعل اللّه بین قبر حسین‌و أخیه مسعی علی التحقیق
فهو بیت و الناس تأتی إلیه‌كل عام من كل فج عمیق و الشیخ حیدر هو شقیق الشیخ أسد حیدر مؤلف كتاب «الإمام الصادق و المذاهب الأربعة» و شقیق الشیخ طالب حیدر عالم و امام الدیوانیة، و قد توفاه اللّه یوم 5 صفر عام 1387 المصادف لسنة 1967 عن خمسة أولاد و نقل جثمانه لیدفن فی النجف الأشرف- رحمه اللّه-.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 26
به من فضل كبیر و أدب جم و مثابرة فی سبیل البحث و التمحیص، بارك اللّه فیك و سدد خطاك» ..
أما من الدیوانیة فقد حمل الینا البرید رسالة رقیقة من زمیلنا المحامی محمد جواد عطا و ها نحن أولا نورد بعض ما تضم من عبارات، یقول الاستاذ عطا: «... تصفحت كتابك و سررت بالغ السرور بهذا النتاج البكر الذی یضم خلاصة تتبعاتك الفكریة و ما تؤمن به و تلتزم ... عرفتك یا أخی مؤمنا تخاف اللّه و تخاف عصیانه علی جانب عال من الخلق المتین و الایمان باللّه و اسلامه متحلیا باخلاق الاسلام مقتدیا بزعیمه النبی العربی الامی- ص- الذی قاد الأمة من دیاجیر الظلام إلی نور الاسلام ... أننی لا أقول قرأت كل الكتاب و لكننی أشعر أنك موفق بهذا المؤلف، و وفاء الزمالة و العلاقة الطیبة حررت هذه الرسالة سائلا اللّه أن یوفقك ....».
هذا و اكتفی بالقدر الذی ذكرته من الرسائل و الكلمات من أجل طرق زاویة أخری تخص العقبات و الصعاب التی تقف بوجه الكتاب فی القطر، فقد كنت أظن فیما مضی أن كل كتاب- لا سیما إذا كان یحمل عنوانا دینیا- لا یكاد یصل إلی الأسواق حتی تتلاقفه الأیدی و یختفی من المكتبات، لذا لم افكر سلفا- اعتمادا علی هذه التصورات- فی مفاتحة دور النشر و الطبع لتتولی بنفسها مهمة طبع الكتاب و نشره.
و لكن عند قیامی بدفع المسودات إلی احدی المطابع الأهلیة فی النجف و هی «مطبعة النعمان» اتصلت ببعض الزملاء و الأصدقاء ممن سبقونی بمراحل فی میدان النشر و التألیف كالأستاذ حمید مجید هدّو و غیره لمعرفة صحة معلوماتی و تصوراتی عن مراحل طبع الكتاب و نشره ...
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 27
و لئن اختلف هؤلاء الزملاء و الأصدقاء فی شی‌ء إلا انهم كانوا متفقین عند ما اشعرونی بان توزیع الكتب لدینا فضلا عن طبعها هو من اشق الأمور و أصعبها و ان المؤلف عند طبعه لا حدی كتبه سیتعذر علیه الحصول علی تكالیف الطبع، هذا إلا إذا كان المؤلف من الكتاب البارزین فحینذاك سیربح شیئا من توزیع كتابه ..
و قد سمعت مرارا من الأخ هدوّ- حینما كنا نخوض هذا الموضوع- هذین البیتین من الشعر و هما لشاعر اندلسی قدیم:
ان الوراقة لهی انكد حرفةاوراقها و ثمارها الحرمان
شبهت صاحبها بابرة حائطتكسو العراة و جسمها عریان لذا فقد تغیّر فكری عن الموضوع فقمت بالبحث عن جهة تتولی طبع الكتاب و نشره، و وقع الاختیار فی الأخیر علی احدی دور النشر فی كربلاء و هی- دار المحیط للمطبوعات- حیث قامت هذه الدار- مشكورة- باكمال طبع الكتاب و نشره داخل العراق و خارجه و قد كان هذا العمل باكورة الكتب التی اضطلعت هذه الدار بنشرها.
و یظهر ان عملها هذا قد كان فاتحة خیر و بارقة أمل لها حیث لم یمض علی طبع هذا الكتاب عام واحد، و إذا بها تتولی طبع و نشر ما یقرب من عشرة كتب تاریخیة و اسلامیة و من أهمها كتاب- نحن و الیهود للسید كاظم محمد النقیب، فتحیة من الأعماق لجهود صاحبی هذه الدار السیدین عبد الجبار و محمد الموسوی ..
هذا ما كان من أمر و ملابسات الطبعة الأولی لهذا الكتاب و التی تمت فی عام 1966 م ..
أما ما كان من حال الطبعة الثانیة للكتاب، فقد آثرت ان اتولی بنفسی عب‌ء الطبع و التوزیع و ان اضع لها ثمنا لا یتجاوز كلفة الورق و الطبع ان لم یكن دونه بعد ان وضعت فی الحسبان كافة الاتعاب
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 28
و المشاكل و العراقیل التی ستصادفنی، و رائدی من تحمل كل ذلك هو خدمة هذه العقیدة و الانتصار لهذا الحق. حیث لا خسران إذا كان ذلك سبیلا لرسوخ العقیدة فی نفوس الناس و لا ضرر إذا كان طریقا لازدهار الحق و انتصاره «4».
فلیرتفع علم العقیدة سامیا و لیخفق لواء الحق فی الاعالی فلا مكان الیوم أو فی المستقبل لخصومهما و الحمد للّه رب العالمین ....
محمد علی یوسف الاشیقر كربلاء 1988 م- 1408 ه
______________________________
(4) كان فی ذهنی سلفا طبع هذا الكتاب علی نفقتی الخاصة، إلا أن وقوفی و اطلاعی علی كثیر من الكتب العلمیة و التراثیة و التاریخیة التی تولت «مؤسسة الأعلمی للمطبوعات» طبعها و نشرها فی أقطار العالم العربی و الإسلامی، دفعنی لایداع هذا الكتاب لدیها لطبعه و نشره، راجیا لها التقدم و التوفیق فی عملها ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 29

الإمام الحمامی «1» فی تعقیبه علی الكتاب‌

الحمد للّه رب العالمین و الصلاة و السلام علی محمد و آله الطاهرین ..
و بعد فإن فضیلة التألیف- بنظر الاعتبار- ظاهرة علمیة تحفز حملتها إلی البروز فوق صعید كوكب الوجود نتیجة تفاعل القوی المتجاذبة المودعة فی جهاز الهیكل الانسانی الروحیة و المادیة أو العقل و العاطفة، فإذا هیمنت القوی الروحیة یتولد منها نتاج ثمرات العلم فی اطار التألیف و یتكوّن منها الریع النافع لغذاء الروح، و لا زال یتطلب الغذاء الروحی كما یتطلب الجسم الغذاء المادی ما دام العلم فی خدمة النوع البشری، فان العلم یهدف إلی انارة السبیل امام العقل لیتسنی له التوسع فی مجال الوعی و التقدم لتصاعد الإدراك و لا تزال- علی هذا المنهج- تتحفنا أقلام المؤلفین بما تجود به معارفهم مما یصقل و یشحذ الأذهان نحو التصاعد فی مدارج الارتقاء للتوسع فی اطار الاحاطة العلمیة المتسعة الاطراف و الابعاد.
و لا ریب ان قداسة شرف العلم تتجسّد فی مواقع موضوعه و غایاته و ما یترتب علی ذلك من الثمرات و هذا ما نجد اثره فی علم التفسیر لأن
______________________________
(1) وردتنا هذه الكلمة القیمة عن طریق استاذنا الشیخ عباس الحائری فی كربلاء ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 30
موضوع قداسة الوحی فی القرآن الكریم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ هُدیً لِلْمُتَّقِینَ «2» و هو الدستور الخالد المتكفل لسعادة البشر فی معاشه و معاده الذی اعجز البلغاء من الوصول إلی اسلوب محاسن تعبیره و اخرس النصحاء إنشاء بیانه و تبیانه و كفاه معجزة لرسالة الرسول الأعظم الصادق الأمین (صلی اللّه علیه و آله و سلّم) و من أجل ما یشتمل علیه و ما یحیط به من العلوم الكثیرة التی لا یعلم بها إلا اللّه تعالی و الراسخون فی العلم أصبح الناس بحاجة ملحة تدفعهم إلی الوقوف علی معانی الآیات الشریفة و هذا العلم یطلب من معدنه و معدن معارف القرآن هو مهبط الروح الأمین الرسول الأعظم و أهل البیت- علیهم السلام- و قد أوضح النبی (ص) ما خفی من الأسرار القرآنیة و فسّر المحكم منها و المتشابه و الناسخ و المنسوخ و اظهر الأحكام الشرعیة المنطویة فی الآیات مما یحتاجها الناس و اودع بقیة الاسرار الغیبیة فی القرآن عند أهل البیت- علیهم السلام- فأنهم الأوصیاء من بعده الأمر الذی من أجله كان الصحابة و التابعون و بقیة المسلمین یرجعون الیهم فیما یشكل علیهم من معارف القرآن بعد النبی (ص) و قد عكف حفّاظ الأحادیث و رواة الأخبار علی نشر ما عرفوه من التفسیر مما تلقوه عن معدن الرسالة و بیت النبوة و من الصحابة المقربین، و هكذا بقی علم التفسیر فی وعاء حفظة الحدیث و الرواة الثقات و الصحابة العلماء مدة من الزمن إلی أن جاء دور المفسرین من علماء التألیف و التدوین فدوّنوا و كتبوا ما وصل الیهم من طریق رواة الأحادیث، و قد مضت قرون متطاولة علی الأمة الاسلامیة و حكم الاسلام هو الحكم النافذ و السلطان العادل بین جمیع الدول و الشعوب الشرقیة و الغربیة، حینما كان القرآن هو دستور الدولة الاسلامیة و هو قانونها الشرعی الحكومی.
و لما غزت الدول الاستعماریة الكافرة بلدان المسلمین و الشعوب
______________________________
(2) البقرة: 2.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 31
العربیة الآمنة فعاث المستعمرون فی البلاد و اكثروا فیها الفساد حینما عرفوا ضعف جانب المسلمین لضعف تمسكهم بمبادئ القرآن و تعالیمه فحدثت الحروب الطاحنة بین فرق المسلمین التی قطعت ملایین الأیدی و اطاحت بعشرات الآلاف من الرءوس تنازعا علی الملك و الخلافة من یوم اخذها من أهل البیت- ع- إلی أن أخذها المستعمر منهم، و لما استولی سلطان الكافر علی البلدان الاسلامیة اخذ یعبث فی مقدرات المسلمین فنشر سمومه الفتاكة الإلحادیة و استورد المبادئ المتطرفة اللادینیة و جعل یبثها عن طریق الثقافة و التمدن الحدیث، فتسربت تعالیم دول الغرب عن طریق مناهج التربیة و التعلیم و غیرها، فقل المتمسكون بتعالیم القرآن و ابتعدت الناس عن الاخلاق الفاضلة التی جاء بها نبی الرحمة الصادق الأمین- ص- فانهارت قوی المسلمین المادیة و المعنویة من جراء ذلك ..
و لو عملت الدول الاسلامیة بمناهج و تعالیم القرآن و بما جاء به الرسول (ص) كما كان علیه المسلمون فی عهد النبی و الخلفاء من بعده- حینما فتحوا امبراطوریة كسری و قیصر، و لم یملك المسلمون آنذاك من العدة و العدد ما یؤهلهم لمصادمة تلك الجیوش التی تملأ الرحاب سوی ایمانهم باللّه تعالی و دفاعهم عن العقیدة و المبدأ الصحیح و هذا هو سلام المسلمین الوحید فی جمیع فتوحاتهم و غزواتهم، فلو كانت الدول العربیة الاسلامیة علی مناهج الدین الاسلامی لما وقعت فی شراك هذا التدهور و الانهیار، حتی اطمعت فیهم دویلة العصابات المجرمة اللقیطة اسرائیل ركیزة الاستعمار الامبریالی فاغتصبت منها ارض فلسطین و القدس الطاهرة فتلوثت تلك البقاع الطاهرة الزكیة بجرائم العصابة الصهیونیة، و الذی یحز بنفوس المسلمین عامة و بقلوب العرب خاصة لهب النكسة التی تأججت نارها فی یوم الخامس من حزیران عام 1967 حینما شنت الغارة الاستعماریة الامبریالیة الإسرائیلیة بقنابلها
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 32
السامة المحرقة قنابل «النابالم» علی البلدان و الاریاف العربیة الاسلامیة الآمنة فاحرقت و قتلت و دمرت و فعلت ما لا یفعله المجرمون المتوحشون، هذا و الدول العربیة الاسلامیة تملك من آلیات الحرب ما یؤهلها فی الوقوف و الصمود أمام الدول الكبری، فكیف لم تصمد امام عدو حقیر مثل عصابة الیهود الذین لا یتجاوزون عن الملیونین فی العدد مع ان نفوس الدول العربیة مائة و خمسون ملیون نسمة أو أكثر مع قطع النظر عن بقیة الدول الاسلامیة الغیر العربیة، و لو كانت صرخة نداء الدول العربیة باسم الدول الاسلامیة لكان النداء یجمع فی حدود الأكثر من ألف ملیون نسمة، و لو لا الخیانات و بیع الضمائر و ضعف التمسك بالدین بین رجالنا المسئولین لما حدث ما حدث من العدوان الغادر كما كشفته الظروف المتأخرة عن النكسة الحزیرانیة ..
و لعل اللّه تعالی ان یوقظ المسلمین و الدول العربیة من سبات نومهم فیغسلوا العار و یزیلوا آثار العدوان، و ان الكرة تنفی الغرة، و لیس ذلك علی اللّه ببعید.
و نسأله تعالی أن یجمع كلمة المسلمین و یلم شعثهم علی صعید الایمان باللّه و الدفاع عن الوطن المقدس لاعادة الجزء السلیب و نبذ تعالیم و آثار المستعمر الكافر التی خلفها من بعد ان تقلص سلطانه عن الدول العربیة الاسلامیة و نشر تعالیم الاسلام و التمسك بمناهج القرآن و بذلك تزول آثار العدوان.
نقول هذا: ثم نفتح الحدیث مع الأستاذ الاشیقر حیث تلطّف علینا باهداء مؤلفه «لمحات من تاریخ القرآن» و نحن اذ نشكر له هذه الید البیضاء نجد ان موضوع الكتاب الذی جعله میدان قلمه یسع لإخراج موسوعة ضخمة متعددة الأجزاء، لأن مفاهیم تاریخ القرآن من حیث تألیفه و جمعه و من حیث نزول آیاته المكیة و المدنیة و من حیث تاریخ من تصدی لجمعه من الصحابة هل كان علی عهد النبی (ص) ام كان من
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 33
بعد وفاته و رحیله إلی الآخرة، و هذه الجهات تتكفل بتدوین كتاب دائرة معارف قرآنیة، لأن القرآن هو المعجزة السماویة التی منحها اللّه للصادق الأمین تلك المعجزة التی یتصاغر أمامها كل معجز لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلی أَنْ یَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا یَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِیراً «4» .. و لم تتلاعب بمقدرات قداسته اصابع العابثین من الملحدین كما عبثت فی غیره من الكتب السماویة إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «5» .. و قد جمع فیه من العلوم و المعارف ما جمع فی غیره و زیادة بلا عكس، و من تتبع ما دوّنه المستشرقون حول قداسة القرآن و شأنه لوقف علی العجاب مع انهم لا یدینون برسالة الاسلام مع أنهم یعتبرونه أول كتاب دینی اجتماعی یدعو إلی الخیر و السعادة البشریة و ان قوانینه تتمشی مع جمیع الظروف فی مختلف الاصقاع و لمختلف طبقات البشر ...
و من أجل ما ذكرناه نقول: ان قلم الباحث مهما أوتی من حول و طول فإن كل جهة یتناولها الكاتب مما یتعلق بقداسة القرآن یصلح ان یدوّن مؤلفا مستقلا و هكذا .. و مع هذا فإن الاستاذ الاشیقر اعرب عن سعة اطلاع و دقة بحث و حسن تعبیر و قوة اسلوب، و كتابه علی صغر حجمه كثیر الفوائد مما لا یستغنی عنه الباحث، و قد سدّ فراغا فی المكتبة العربیة الاسلامیة كانت المكتبة بحاجة إلیه.
و انی شخصیا اعتبر كل نتاج علمی یخرج إلی میدان الوجود هو ثمرة غرس علمی توجیهی یؤول إلی النفع و الانتفاع «خیر الناس من نفع الناس» و ان النتاج الفكری مهما یكون اخراجه بمثابة النبتة المثمرة الیانعة فی حقل الحیاة.
______________________________
(4) الإسراء: 88.
(5) الحجر: 9.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 34
سائلین من المولی تعالی أن یأخذ بید الجمیع للاستمرار فی العمل بقدر ما یحسنه القلم و ان كانت تعتبر تجربة أولی- علی حد تعبیر الاستاذ الاشیقر- فلعلها تحفز للوثوب إلی الخطوة الثانیة و الثالثة فإننا علی قارعة الطریق و نحن بحاجة إلی التوجیه و اللّه تعالی ولی التوفیق.
محمد علی الموسوی الحمامی 1388 ه
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 35

كلمة فی تقریض هذا الكتاب «1»

القرآن المجید كتاب اللّه العظیم و معجزة الرسول الكبری و دستور الاسلام الذی حوی جمیع التعالیم المقدسة و القیم الرفیعة التی تأخذ بأیدی الانسانیة نحو مدارج العلی و السؤدد و تفتح أمام البشریة أبواب السعادة و تنیر الدرب. درب الخیر و الصلاح للتائهین فی صحاری التیه و العمی.
و لذلك لم یك غریبا ان یتصدی الدارسون و الباحثون للكتابة عن القرآن من جمیع الجوانب منذ نزوله و إلی عصرنا الحاضر و ذلك لاهمیته القصوی فی بناء المجتمع الانسانی الفاضل و ارساء القواعد الحضاریة و محاربة الرذیلة و الفساد و رفع لواء الحق و العدل عالیا ..
و من المؤلفین الافاضل الذین تصدوا لدراسة القرآن و الإلمام بتاریخه السید الجلیل المحامی محمد علی الاشیقر فقد عرف منذ نعومة اظفاره باتجاهه الدینی و شغفه البالغ بتلاوة القرآن و حفظه عن ظهر قلب
______________________________
(1) نشرت هذه الكلمة فی مجلة «الثقافة» الأسبوعیة الدمشقیة فی العدد 3 الصادر بتاریخ 18/ 1/ 1975 ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 36
و الكشف عن معانیه العمیقة و مدلولاتها حتی بات من الذین یشار الیهم بالبنان فی هذه الناحیة ناحیة التعریف بالقرآن المجید، و كان الحلم الذی یراود مخیلته دوما و هو التفرغ للكتابة عن القرآن المجید و اخراج كتاب قیم بهذا الصدد، حتی استطاع بكفاحه و جلده و صبره ان یخرج كتابه الرائع «لمحات من تاریخ القرآن» و تظهر اهمیته العلمیة و قیمته الأدبیة من المواضیع التی تناولها المؤلف الفاضل بالدرس و الاستقصاء و هی «التعریف بالقرآن و اسماء القرآن و صفاته و اضواء علی المجتمع العربی فی عصر النبوة و نزول القرآن و الجمع الأول للقرآن و الجمع الثانی للقرآن و الجمع الثالث للقرآن و ضبط القرآن و القرآن المكی و القرآن المدنی و الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه من الآیات و تفسیر القرآن و اعجاز القرآن و العنایة بالقرآن و القرآن فی نظر غیر المسلمین و حروف القرآن و الحروف المتقطعة فی أوائل السور و خلق القرآن و قدمه .......... فالخاتمة».
من كل هذا یتضح علی ان الكتاب قد سدّ فراغا فی المكتبة العربیة كما له من أهمیة كبری فی عالم الفكر و العلم ..
أما اسلوب المؤلف فهو یمتاز برصانة الألفاظ و وضوح المعانی و رشاقة التعابیر مما جعله یستأثر باهتمام القارئ و یستلفت انظاره ..
و نحن لم نكتب هذا التقریض اعتباطا فان طبعته الأولی تكاد تنفذ بأسرع وقت مما یعطی دلیلا ساطعا علی قیمة الكتاب العلمیة، و لذا یضطر المؤلف الجلیل ان یعاود طبعه للمرة الثانیة و ذلك خدمة للمواطنین و دعما للدین الاسلامی الحنیف و تثمینا للقرآن الكریم الذی سیبقی هدی للضالین و منهلا عذبا لطلاب المعرفة و قانونا خالدا ینظم العلاقات بین الانسان و أخیه الانسان ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 37
و أخیرا فأنا اقدم خالص تهنئتی للمؤلف الفاضل علی ما بذله من جهد صادق و ما ناله من توفیق كبیر و ما احرزه من نجاح مطرد فی اخراج هذا السفر النفیس من ناحیتی الشكل و المضمون و ان اللّه لا یضیع أجر من أحسن عملا ...
كربلاء سلمان هادی الطعمة عضو رابطة الأدب الحدیث فی القاهرة
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 38

تعلیق علی المؤلف و المؤلف «1»

اولعت بالدراسات القرآنیة منذ أن اصطفیت الكتاب فی حیاتی فرحت اصطاد كل بحث أو دراسة فی هذا المجال الروحی الخصب، هذا اضافة إلی الابحاث الأدبیة الرصینة و الدراسات التاریخیة الأصیلة التی لا غنی للمثقف عنها ..
و منذ البدایات الأولی لعلاقاتی الودیة مع الصدیق الأدیب الاستاذ السید محمد علی الأشیقر التی اربت علی العقدین من السنین علمت بانه یشاركنی رغباتی فی تعشق الكتاب و اصطفائه من بین الناس حتی هام فی حب الكتب و التعشق لها حد الجنون (لأن العشق ضرب من الجنون) ..
و الكتب داء و بیل علی اولئك الذین یبتلون بها و خاصة المتزوجین منهم، و زوجات المصابین بهذا المرض الفكری المحبوب یعانین المتاعب و الآلام النفسیة أكثر من غیرهن، حتی ان زوجة الفقیه الزهری
______________________________
(1) لقد تفضل الأستاذ الأدیب السید حمید مجید هدّو، مدیر ثانویة الكرخ بكتابة هذا التعلیق الطریف عن الكتاب و صاحبه، و نحن بدورنا نثبته علی صفحات هذا الكتاب لیطلع القارئ الكریم علی ما تضمنه من طرافة و حسن أدب ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 39
العالم و الأدیب كانت تقول لزوجها: «ان كتبك هذه أشد علیّ من عشر ضرائر» و یروی انه بعد وفاته احرقت كتبه و ذرت رمادها فی الهواء أو یقال سكبت الماء علی رمادها و قالت: ارید أن اؤذیه و انتقم منه و هو راقد فی قبره كما كان یؤذینی بهذه الكتب خلال حیاته ..
هذه حادثة واحدة من حوادث عدیدة یرویها لنا التاریخ من مشاكل الكتب و الزواج و اننی اسوق عبارتی هذه للمتزوجین من الأدباء تسلیة لزوجاتهم اللاتی ابتلین بهذا البلاء الذی لا ینفك عن أزواجهم و عنهن حتی القبر ..
و الحاج- الاشیقر- هو ممن جنّ جنونه فی شراء الكتب و بذل الأموال الطائلة فی سبیلها حتی ان أحد المكتبیین الظرفاء فی بغداد و علی ما اذكر (الأخ حسین الفلفلی) الذی یتعامل بیع الكتب القدیمة و المستعملة قال لی مرة: هل تعرف الحاج محمد علی الاشیقر قلت له بلی، قال این هو الآن ..؟ قلت له فی كربلاء قال: لم یراجعنی منذ أكثر من شهرین، قلت له ما ذا ترید منه، قال كلما مرّ من امامی أو من هذا السوق فلا بد و ان یشتری كمیة من الكتب، قلت له: انه تزوج و لا حاجة له فی الكتب الآن، فصفق علی یدیه (ای الفلفلی) و قال:
خسرت زبونا سخیا كریما فی الشراء ..
و شاء الحظ ان اكون أحد مجانین شراء الكتب و جمعها و انتقائها و الحمد للّه مقتدیا بقول المتنبی:
اعز مكان فی الدنا سرج سابح‌و خیر جلیس فی الزمان كتاب أو قول احمد شوقی:
انا من بدّل بالكتب الصحابالم أجد لی وافیا إلا الكتابا أو قول الامام علی- ع-.
«الكتب بساتین العلماء من تسلی بالكتاب لم تفته السلوی».
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 40
و اننی لا أرید ان اكرر كلامی آنف الذكر و اتطرق إلی المشاكل العدیدة التی حدثت مع أهل بیتی من جراء جمع الكتب لأنها طبیعیة و تحدث مع كل هاو لهذا الشی‌ء إلا انه من اطرفها هو اننی كنت جالسا اطالع فی مكتبتی عصر أحد الأیام و إذا بی أفاجئ بامرأة تدخل علیّ فی المكتبة و تطلب منی ان آخذ لها فألا فقلت لها: معاذ اللّه اننی لست فواّلا أو قارئ كف أو منجم، فقالت: و ما ذا تصنع بهذه الكتب المصفّفة علی الرفوف إذا لم تعرف ان تأخذ بها فألا، فقلت لها: هذه لیست كتب «الفوالین» فقالت: انك جاهل و لا تعرف القراءة و الكتابة ان الذی یجمع الكتب الكثیرة هو إما فوّال أو منجم أو حكیم ..
هذه قصة من عدة قصص و وقائع طریفة حدثت لی من جراء جمع الكتب و اقتنائها لا مجال لتعدادها و لكننی سوف اخرجها فی كراس مستقل فی المستقبل ان شاء اللّه ..
و علی ای حال اننی انصح هواة جمع الكتب و رجال الأدب ان یختاروا أحد الطریقین:
إما ترك الكتاب و عندها یجوز له الاقتران ببنت الحلال و الدخول فی القفص المغری و الحكم علی نفسه بالسجن المؤبد الذی لا مفر منه ..
أو الاقتران بالكتاب و الابتعاد عن الزواج لأن الجمع بین الزواج و الكتب غیر صحیح و غیر طبیعی، فعلیه اختیار أحد الطریقین اقتداء بالأدیب الراحل المرحوم عباس محمود العقاد عند ما سئل مرة: لما ذا لم تتزوج ..؟ فأجاب علی الفور: أ لم یكفی التزوج بسبعین ألف كتاب، مشیرا بذلك إلی خزانة كتبه الخاصة ..
و لا أرید أن اتوسع فی بحث هذا الموضوع الطریف المتشعب المسالك لأننی اخشی من اثارة بنات حواء علیّ أو ان أكون سببا فی احداث المشاكل بین المتزوجین من الأدباء لا سمح اللّه ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 41
نعود إلی موضوعنا الأول و العود أحمد و هو موضوع الكتاب البكر الذی دبجته یراع الاستاذ الاشیقر و الموسوم ب «لمحات من تاریخ القرآن» حیث غمرنی السید الاشیقر بالطافه و اهدی إلیّ نتاجه القیم فطالعته من الفه إلی یائه فوجدته جامعا شاملا لكل ما یتعلق بكتاب اللّه العظیم فهو یغنی القارئ المبتدئ عناء المتاعب و البحث فی المظان و المراجع المطوّلة التی تبحث فی القرآن الكریم ..
و لعل البعض یقول ان القدامی و المحدثین و المعاصرین قد اشبعوا هذا الموضوع بحثا و تمحیصا و درسا و لم یتركوا مزیدا لمستزید و ان كل ما فعله السید- الاشیقر- ما هو إلا اجترار و تكرار لما جاء به السابقون، و لكنی اقول: ان المؤلف ضغط تلك المواد فی قالب یلائم الوقت و قراء الوقت- حفظهم اللّه- الذین لا یقرءون إلا الخفیف القلیل و الحمد للّه، و هذا ما یبشر بسطحیة الثقافة التی اضحت سمة من سمات الجیل المعاصر ..
و لو رجع القارئ الكریم إلی قائمة المراجع التی اعتمد علیها المؤلف فی بحثه آنف الذكر لعلم عظم الطاقة و جسامة الاتعاب التی بذلها فی سبیل مؤلفه، و قد قال الشاعر:
لا یعرف الوجد إلا من یكابده‌و لا الصبابة إلا من یعانیها و اننی فی الواقع اكبّر هذه البادرة الطیبة من لون الصدیق المؤمن الذی اختار الأدب طریقا له فی هذه الحیاة الزائلة و الفكر السلیم سراجا منیرا یهتدی به، آملا منه ان لا ینفك عن هذا السبیل الواضح و المنهج الرشید و ان یتحف القراء و المكتبة الاسلامیة بمؤلفات نافعة و ابحاث دسمة اخری.
كما و نحن بانتظار مؤلفه القادم الذی اشار الیه فی نهایة كتابه- اضواء علی شبه القارة الهندیة- المتضمن انطباعاته عن شبه القارة من
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 42
خلال اسفاره المتعددة لتلك الاصقاع البعیدة و لا غرابة فی ذلك لأنه ولع السفر و الترحال كولعه باقتناء الكتب فهو- سندباد بری- ان جاز لی ان اضفی علیه هذه التسمیة ..
و اللّه نسأل ان یأخذ بیده نحو خدمة امته و دینه و احیاء تراث السلف الصالح و دفع عجلة الفكر و الأدب نحو الامام انه سمیع الدعاء ...
كربلاء حمید مجید هدّو
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 43

التعریف بالقرآن‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 45
«القرآن هو كلام اللّه المعجز المنزل وحیا علی قلب الرسول الأمین (ص) بالفاظه العربیة و معانیه الحقة لیكون معجزة له و دستورا له و لامته و هو الموجود ما بین الدفتین المنقول عنه بالتواتر جملة و تفصیلا و المتعبد بتلاوته المبتدأ بسورة الفاتحة و المختتم بسورة الناس و هو خاتم الكتب السماویة» «1».
و من عبر هذا التعریف الموجز للقرآن «2» یمكننا تلمس امور كثیرة فیه سنشیر الیها فی ادناه و بالتتابع ان شاء اللّه ..
1- فالقرآن أولا هو كلام اللّه تعالی و قوله و لا صنعة فیه لمحمد (ص) و لا لأحد من الخلق بتاتا و إذا ما كان القرآن كلامه تعالی لزوم علی الناس كافة اذن العمل به و الانصیاع له و السیر أبدا و دوما علی هداه و سبیله، و هذا العمل و السیر یلزم ان یمتد إلی كافة و سائر سوره بما تضم من تفصیلات و فروع، حیث لا یستحسن للمرء هنا العمل و الانصیاع
______________________________
(1) الوجیز فی أصول الفقه و تاریخ التشریع- حسین علی الأعظمی، مباحث فی علوم القرآن- الدكتور صبحی الصالح، النبأ العظیم- الدكتور محمد عبد اللّه دراز، أصول الفقه- الشیخ محمد الخضری، التشریع الجنائی الإسلامی- عبد القادر عودة ..
(2) ذهب البعض إلی تعذر تحدید القرآن بالتعاریف المنطقیة ذات الأجناس و الفصول و الخواص بحیث یكون تعریفه حدا حقیقیا و ان التعریف أعلاه ما هو إلا تقریب للمعنی و تمیزه عن غیره (مباحث فی علوم القرآن- مناع القطان) ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 46
لشی‌ء منها دون الآخر أو ان یؤمن ببعضها دون البعض ..
و هذا الكلام یقودنا للقول بان الفقه الاسلامی بشقیه الاثنین العبادات و المعاملات و ما یتفرع منهما من احكام و فرائض و عقوبات و قوانین .... الخ ان كل هذه ینبغی ان تؤخذ من كتاب اللّه و یلتمس احكامها فیه لأنه لا حكم إلا للّه ..
و لا یفهم من هذا الحدیث بانه لیس هناك غیر القرآن من مصدر آخر للفقه الاسلامی یمكن ان یغترف منه أو یستنجد به عند عدم العثور فی القرآن علی حكم لمسألة أو جواب لتساؤل أو غیر ذلك .. بل هناك مصادر أخری بعد القرآن الكریم مثل السنة النبویة «3» و الاجماع «4» متفق علیهما بین المسلمین كافة یمكن الرجوع الیهما و العمل بهما، كما و هناك مصادر أخری و لكنها دون الأولی حجیة و رتبة نجد من یلتزم بها و من لا یلتزم بها و هی:
العقل «5»، القیاس «6»، المصالح المرسلة «7»، الاستحسان «8»، العرف «9»، الاستصحاب «10»، شرع من قبلنا «11»، و مذهب
______________________________
(3) سیرد تعریف السنة و الحدیث و ما إذا كان هناك فرق بینهما بعد قلیل ..
(4) الإجماع هو اجتماع علماء العصر فی وقت معین علی حكم شرعی قولا أو فعلا (و بعد قول المعصوم) ..
(5) العقل: هو قدرة أو قوة یمیز بها المرء الحق عن الباطل ..
(6) القیاس: هو الحاق ما لم یرد به نص بما ورد فیه نص لتشابه العلة ..
(7) المصالح المرسلة: هی المحافظة علی مقصود الشارع من جلب المنافع للناس و درء المفاسد عنهم من دون أن تستند علی نص شرعی ..
(8) الاستحسان: هو عدول المجتهد من أن یحكم فی المسألة بمثل ما حكم فی نظائرها لوجه أقوی یقتضی العدول عن الأول ..
(9) العرف: هو ما تعارفه الناس و ساروا علیه من فعل أو قول ..
(10) الاستصحاب: هو بقاء الحكم مستمرا ما لم یوجد ما یغیّره، أو الحكم ببقاء أمر محقق لم یتحقق عدمه ..
(11) شرع من قبلنا: هی أحكام الشرائع التی سبقت الإسلام من دون أن یؤكّدها الإسلام أو ینسخها.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 47
الصحابی «12» ... و طبیعی ان بعض أو غالبیة هذه المصادر ما وضعت أو ما وجدت إلا لكشف الغطاء و انارة الطریق الموصل إلی تلمس حكم اللّه تعالی الصحیح و مراده الحقیقی فیما تعرض من قضایا أو مسائل ..
2- و القرآن ثانیا هو دستور دائم و قانون أزلی و نظام كامل یتناسب و یتجاوب مع دوام الدعوة الاسلامیة و استمرارها إلی آخر یوم فی التاریخ، لأن اللّه سبحانه حین انزله علی الرسول (ص) و قام الرسول بدوره بتبلیغه إلی الناس كافة لم یقصّره علی مجرد كتاب خاص یحدد أو یشیر إلی بعض الأحكام دون البعض أو یتولی تنظیم جانب من الحیاة تاركا الجوانب الأخری فی غمرة الفوضی و الاضطراب، أو خطاب لجیل واحد من الناس دون الأجیال التالیة، كما «و لم یجی‌ء القرآن لیكون متاع عقلی و لا كتاب أدب و فن و لا كتاب قصة و تاریخ- و ان كان هذا كله من محتویاته- و انما جاء لیكون منهاج حیاة» «13» و لیغدو الدستور الخالد للبشریة كلها منذ اشراقة انوار الاسلام علی بطاح الأرض حتی نهایة البشریة و ختام الحیاة علی هذا الكوكب، لكونه- القرآن- فخر الماضی و سلوی الحاضر و أمل المستقبل، و قد اودع سبحانه فیه كافة الأنظمة و القوانین و التشریعات و المبادئ التی تكفل للانسان اینما كان مكانه و سكنه علی الأرض المزید من التقدم و تمهد له الأسباب الموصلة إلی الحریة و الوحدة و الإزدهار، بل لا نعدو الحقیقة و لا نخالف الواقع إذا ما قلنا هنا «لو ان القرآن الكریم قد نزل فی هذا العصر لما تغیّرت نظرته إلی الكون و لا وصایاه و لا ارشاداته إلی سكانه» «14».
______________________________
(12) مذهب الصحابی: هی فتاوی صحابة رسول اللّه (ص) بعد وفاته و الذین عرفوا بالفقه و فهم القرآن و أحكامه ..
(13) معالم فی الطریق- سید قطب.
(14) نظرات فی القرآن- محمد الغزالی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 48
و لو «ان الرسول (ص) جاء للإنسانیة فی امسها القریب أو یومها الحاضر أو لو أن عشرات الأنبیاء انطلقوا من بعده بین المدائن و القری مبشرین و منذرین ما عدوا حدود القرآن فی هدیهم و لا تجاوزوا حلوله السمحة فی المشاكل التی تعترضهم» «15».
و من هذا المنطلق یمكن تمییز القرآن المجید عن الدساتیر و القوانین الوضعیة، فهذه الدساتیر و القوانین رغم نظرتها الضیقة للحیاة و ضیق محیط عملها و انها من صنع و وضع نفس الانسان و حصیلة فكره القاصر، رغم هذه و تلك فهی مادیة و نفعیة فی روحها و جوهرها بعیدة عن الفضیلة و عن الأخلاق فی كثیر من بنودها و احكامها تشوبها المثالب و المآخذ من كل جانب و مكان فضلا عن عدم مسایرتها لركب المجتمع و قافلة التاریخ إلا لفترة جد قصیرة و محدودة تتعرض خلالها و علی الدوام للتنقیح و الاضافة و الحذف ثم لا تلبث اثر ذلك ان تسقط تحت ثقل اوزارها، و بعد ذلك یتداعی الانسان القاصر لیملأ الفراغ الذی حصل عن فشلها و سقوطها فیسعی من أجل أن یقیم علی انقاضها دساتیر و قوانین لتنظیم مسیرة الحیاة لفترة محدودة أخری و علی غرار الأولی، مما سیؤدی بالثانیة دون شك للوصول إلی النتیجة التی آلت إلیها الأولی من قبل و الدرك الذی هوت فیه غیر مأسوف علیها ..
و إذا ما أراد المرء لهذه الدساتیر الثبات و البقاء فضلا عن مواكبتها لروح العصر و حاجات الانسانیة المتطورة فما علیه إلا ان یفرض علی مشرعیها طوعا أو كرها اعادة النظر فیها فورا من أجل سحق و محق كل شی‌ء جاء فیها یتعارض مع روح القرآن الكریم أو یخالف أحد اصوله أو فروعه حتی و لو تطلب الحال التضحیة بها جمیعا، مع الأخذ بنظر الاعتبار استبعاد فكرة التطعیم و الترقیع جملة و تفصیلا كأن یؤخذ شیئا من أحكام اللّه تعالی لتضاف أو تضم إلی هذه القوانین و الدساتیر «لأن
______________________________
(15) تأملات فی الدین و الحیاة- محمد الغزالی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 49
احكام الشریعة لا تتجزأ و لا تقبل الانفصال لیس فقط لما ذكرناه آنفا و انما لأن نصوص الشریعة نفسها تمنع من العمل ببعضها و اهمال البعض الآخر، كما تمنع من الایمان ببعضها و الكفر ببعض و توجب العمل بكل احكامها و الایمان بكل ما جاءت به» «16» و علی أن یتم بعد ذلك نقل احكام اللّه و شریعته من كتابه الكریم و نقل سیرة رسوله الكریم (ص) و أهل البیت- ع- و اصحابه الأخیار بعد صیاغتها فی شكل و قالب خاص بما یلائم روح العصر، أجل نقل كل ذلك إلی مكانه الخاص المقرر لتصبح هذه الشریعة و السنة الدستور الخالد للأمة و القانون الذی یفزع إلیه و النظام الذی یوجّه حركتها و یجدد طریق سیرها و نهضتها، مع التأكید مرة أخری بضرورة تعویض و نسف كل ترقیع أو تطعیم مقصودا كان أو غیر مقصود، و ذلك لأن الشریعة الاسلامیة یرتبط أولها بآخرها و صغیرها بكبیرها فهی إما أن تؤخذ كلها أو لا تؤخذ «فنظام اللّه خیر فی ذاته لأنه من شرع اللّه و لن یكون شرع العبید یوما كشرع اللّه» «17».
و الحقیقة اننا حین نكتب كل هذا أو عند ما نؤكد و نردد كل الذی سطرناه لم نجری وراء العاطفة أو نتعصب تعصبا أعمی لما نؤمن به و نعتقده، كما و لم نتأثر أو نسترشد بقول القائل:
و لست براء عیب ذی الود كله‌و لو بعض ما فیه إذا كنت راضیا
و عین الرضا عن كل عیب كلیلةكما ان عین السخط تبدی المساویا
كلانا غنی عن أخیه حیاته‌و نحن إذا متنا أشد تغانیا أو قول من یقول:
یا عمرو أنت امامناو خلیفة النفر الأوائل أجل لم نستهدی أو نستنیر بكل هذا كما قد یتصور البعض من
______________________________
(16) التشریع الجنائی الإسلامی- عبد القادر عودة.
(17) معالم فی الطریق- سید قطب.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 50
المغفلین، و انما الذی قلناه هو الحق الذی لا ینازع و الحقیقة التی لا یمكن تجاهلها أو طمسها بتاتا، و قد أقرّ هذا و اثبته التاریخ و أكّدته الوقائع و الأحداث الماضیة بما لا یقبل الشك أو النقاش ..
3- و القرآن ثالثا هو عربی نزل بالفاظه العربیة و معانیه الحقة من دون أن یتلوّن منها شی‌ء أو یتغیر، بل نجده مسطورا بین دفتی المصحف علی الهیئة و الشكل الذی نزل علی الرسول (ص) من قبل عن طریق الوحی الأمین، حیث أن كل نبی جاء إلی قومه بلسانهم، لذا جاء القرآن بلغة الضاد التی هی لغة الأمة العربیة و قد آثر اللّه تعالی أن یكون خاتم رسله من بین صفوفها ..
لذا فیمكننا هنا تمییز القرآن المجید عما ورد عن الرسول (ص) من مواعظ و ادعیة و من خطب و سنن و أحادیث و التی تدعی بالأحادیث القدسیة و السنة النبویة علی التوالی «18».
______________________________
(18) نحیط القارئ الكریم بأن هناك فروقا بسیطة بین كلمة الحدیث و كلمة السنة رغم سعی الكثیرین للتوحید ما بینهما و اعتبارهما شیئا واحدا ..
فالحدیث: هو ما حدث به عن النبی (ص).
أما السنة: فهی (بقطع النظر عن كون هذا التحدیث موجودا أو غیر موجود) هی العادة الدینیة أو القانونیة التی كانت جاریة فعلا عند المسلمین فی عصر النبوة، فقد تكون السنة كالحدیث قولا كما و قد تكون فعلا و قد تكون تقریرا ..
لذا فكل حدیث هو سنة و لیس كل سنة حدیثا أما الأحادیث القدسیة و عددها أكثر من مائة فإن تعریفها هی: المواعظ التی كان الرسول (ص) یلقیها أحیانا علی أصحابه و یحكیها عن اللّه تعالی و مثال ذلك ما یروی عن النبی (ص) فیما یرویه عن اللّه تعالی: «یا عبادی انی حرّمت الظلم علی نفسی و جعلته بینكم محرما فلا تظالموا، یا عبادی كلكم ضال إلا من هدیته فاستهدونی اهدكم، یا عبادی كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعمونی اطعمكم، یا عبادی كلكم عار إلا من كسوته فاستكسونی اكسكم، یا عبادی لو أن أولكم و آخركم و انسكم و جنكم كانوا علی أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكی شیئا، یا عبادی لو أن أولكم و آخركم
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 51
فهذه الأحادیث القدسیة، و هذه السنن النبویة و ان كان مصدرها و معناها و منشؤها و فكرتها و حیا من عند اللّه تعالی لأن الرسول (ص) لا ینطق عن الهوی، إلا ان صیاغتها الحرفیة و تعابیرها و قالبها و لفظها قد تم علی ید الرسول و لسانه «19» ..
و قد تمیّز الحدیث القدسی عن الحدیث النبوی بهذه التسمیة فنسب إلی القدس انشاء لأن الرسول الكریم یحكیه عن اللّه تعالی ..
4- و القرآن رابعا هو متواتر لأنه جاء عن طریق التواتر جملة و تفصیلا فلیست فیه آیة واحدة و لا حرفا و لا نقطة قد اختلف فی شأنها اثنان من المسلمین منذ صدور الاسلام حتی هذه اللحظة من عمر الزمن، بل ان كل القرآن من أوله إلی آخره (و هو الموجود ما بین الدفتین) هو نفسه الذی هبط علی الرسول (ص) «من دون زیادة أو نقصان و دون أی تغییر أو تحریف» «20» فیها «و قد ظلت آیاته منیرة لأجل احتفاظها بكل خصائصها و بقائها بنصها دون تغییر» «21» منذ نزولها حتی هذا الوقت و ستظل كذلك حتی نهایة الكون و زوال الحیاة عن سطح الأرض، حیث تتغیّر الكتب و الدراسات بمرور الزمن و تنقح بمضی الأیام و تحرّف بتلاحق
______________________________
و انسكم و جنكم قاموا علی صعید فسألونی فاعطیت كل انسان مسألته ما نقص ذلك مما عندی إلا كما ینقص البحر إذا دخل فیه المخیط» ..
و منها أیضا «عش ما شئت فإنك میت، و أحبب من أحببت فإنك مفارقه و امتلك ما امتلكت فإنه للخراب، و اعمل ما عملت فإن عملك مصاحبك ..» و منها «انا عند ظن عبدی بی، و أنا معه إذا ذكرنی، فإن ذكرنی فی نفسه ذكرته فی نفسی و ان ذكرنی فی ملأ ذكرته فی ملأ خیر منه».
(19) مباحث فی علوم القرآن- الدكتور صبحی الصالح، مباحث فی علوم القرآن- مناع القطان.
(20) تفسیر التبیان- أبو جعفر الطوسی، آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن، محمد جواد البلاغی، مجمع البیان فی تفسیر القرآن- الطبرسی، الإسلام علی ضوء التشیع- الشیخ محمد حسن الخراسانی، مصائب النواصب- نور اللّه التستری.
(21) محاضرات فی تفسیر القرآن- السید اسماعیل الصدر.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 52
الوقت، و یبقی القرآن ثابتا و صامدا و بعیدا عن الزیادة و النقصان و التحریف و التغییر بسبب انه نقل إلی هذا الیوم خلفا عن سلف و آخرا عن أول نقلا مستفیضا منتشرا متواترا» «22» ..
و ان كل ما یسمع من الروایات الشاذة بأن هناك بعض التحریف فی القرآن أو ضیاع بعضه فلا تقام لتلك الروایات و زنا و لا تؤخذ بنظر الاعتبار و لا یحسب لها أی حساب ..
فكل كلمة فی القرآن اذن موضوعة فی مكانها المطلوب و لیست فیه كلمة واحدة تغیّرت و لا أخری تبدّلت و لو لأجل الفاصلة «23» .. لأن رعایة الفواصل یتطلب اثبات للضرورة كما هو علیه الأمر فی السجع و الشعر حیث یقدم هذا و یؤخر ذاك لأجل السجع أو لأجل القافیة، و القرآن لیس بشعر و لا التزام فیه للسجع «24» فضلا عن نزوله من عند اللّه تعالی و الذی لا تعرض له الضرورة فهو- سبحانه- یضع كل شی‌ء فی محله و مكانه ..
و التواتر معناه ان یتلقی الجمع الكبیر من الناس و الذی لا یمكن تواطؤهم و اجتماعهم علی الكذب لكثرتهم و تباین اماكنهم، یتلقی عن النبی (ص) ثم ینقله جمع آخر مثلهم عن هذا الجمع و هكذا حتی یصل الینا كما نطق به النبی من غیر تحریف و لا تبدیل و لا نقص و لا زیادة ..
لذا فیمكننا هنا من تمییز القرآن الكریم الذی جاء متواترا و آمن به الجمیع عن بعض القراءات الشاذة و الضعیفة كقراءة عبد اللّه بن مسعود «و السارق فاقطعوا ایمانهما» و قراءة جابر بن عبد اللّه الانصاری «فان اللّه من بعد اكراههن لهن غفور رحیم» و قراءة امهات المؤمنین عائشة و حفصة «حافظوا علی الصلوات و الصلاة الوسطی صلاة العصر» و قراءة
______________________________
(22) آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن- محمد جواد البلاغی.
(23) سیرد شرح الفاصلة فی الفصل القادم.
(24) سنشیر فی الفصل القادم الی ما یقوله الفقهاء و المؤرخون بصدد وجود السجع فی القرآن من عدمه.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 53
سعد «و له أخ أو أخت لأم فلكل واحد منهما السدس» و قراءة عبد اللّه بن مسعود «فمن لم یجد فصیام ثلاثة أیام متتابعات» .....
و غیرها ..
كما و یمكننا هنا أیضا تمییز القرآن المجید عن الأحادیث و السنن النبویة التی لم تصل إلا عن طریق الارسال و الانقطاع و الآحاد و الشهرة و ذلك من جهة الاسناد ..
فبصدد القراءات الشاذة أو الضعیفة كما مرّ فی الفاظ «ایمانهما، لهن، صلاة العصر، لأم، متتابعات» فإنها لا تعد قرآنا بتاتا، لذا لا تصح صلاة من یقرأها أو صلاة من یقتدی بإمام یتلوها فی صلاته.
اما بشأن الأحادیث المرسلة و المقطوعة و الآحاد و المشهورة «25» فنری ان قسما من المسلمین یضعفها و لا یعتد بها بالمرة، بینما نری قسما آخر منهم یرجحها و یعمل بها، و علة هذا الأمر یعود إلی ان السنة النبویة قد تأخر تدوینها رسمیا عن القرآن، حیث یروی ان الرسول (ص) و الخلفاء من بعده كانوا یمنعون من كتابة الحدیث و كلما كانوا یعثرون علی ورقة أو لوحة كتب فیها شی‌ء من الحدیث كانت تحرق «26» و استمر هذا المنع لمدة تقرب من (90) سنة و إلی عهد الخلیفة الزاهد عمر بن
______________________________
(25) بصدد شرح طرق الأسناد هذه أقول:
الحدیث المرسل هو الذی یذكره التابعی منسوبا إلی النبی (ص) من غیر أن یذكر الصحابی الذی روی عنه، و سیرد تعریف التابعی فی فصل قادم هو تفسیر القرآن.
أما الحدیث المنقطع فهو ما لم یذكر فیه التابعی و لا الصحابی ..
و حدیث الآحاد هو الذی ینقله و یرویه تابعی واحد عن صحابی واحد عن النبی (ص) ..
أما الأحادیث المشهورة فهی التی تكون الطبقة الأولی و الثانیة منها آحادا ثم تنتشر بعد ذلك و ینقلها قوم لا یتوهم تواطؤهم علی الكذب.
(26) القرآن فی الإسلام- السید محمد حسین الطباطبائی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 54
عبد العزیز «27» ( (رض) عند ما كتب الأخیر إلی أبی بكر محمد بن عمر ابن حزام التابعی فی المدینة المنورة طالبا منه النظر إلی ما كان من حدیث رسول اللّه أو سنة أو نحو هذا فلیكتبه إلیه (إلی عمرو) لأنه خاف دروس
______________________________
(27) نشأ الخلیفة الزاهد عمر بن عبد العزیز فی المدینة و ترعرع فی كنف البیت الأموی الحاكم و امتاز منذ صباه بالترف و الأناقة و الزینة اضافة إلی العفة، حتی قال عنه الفقیه اللیث بن سعد «كان عمر بن عبد العزیز اعظم أموی ترفا و تملكا» ..
و امه ام عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب و أبوه عبد العزیز بن مروان بن الحكم، و كان عمر أمیرا للمدینة فی عهد ابن عمه الولید، و لم یستشف من سیرته و سلوكه حینئذ انه سیكون یوما خلیفة للمسلمین أو ذا شأن فی الخلافة الأمویة ..
و لم یكن لسلیمان بن عبد الملك عند وفاته إلا طفل صغیر لم یجده مؤهلا لتسنم الخلافة بعده فتشاور مع بعض ذوی الحل و العقد فاشاروا إلیه بابن عمه و زوج اخته عمر، فجعله و ریثا للخلافة ..
و عند تولیه الخلافة- و التی قال عنها انها ما سألوها فی سر و لا علانیة- تغیّرت سیرته فی تلك الساعة فمارس الزهد و التقشف و الورع اسوة بالخلفاء الراشدین و عزل الولاة الجائرین كما رفع مظاهر الأبهة و العظمة التی مارسها الخلفاء الأمویین من قبله و اعاد الجواری و الخدم إلی اهلهم و بلدانهم ورد المظالم و سمح للمسلمین بالمثول أمامه من دون حرج ورد أمواله إلی بیت المال و خیّر زوجته فاطمة بنت عبد الملك بین رد أموالها و حلیها إلی بیت المال و البقاء معه و الالتحاق بأهلها مع أموالها فآثرت الإجراء الأول، و اسقط الجزیة عمن أسلم من أهل الكتاب و له القولة المشهورة: «إن اللّه جل ثناؤه بعث محمدا هادیا و لم یبعثه جابیا» و رفع المكس و الغی الضرائب و حرم السخرة و اعاد الأراضی التی قطعت للبیت الأموی الی بیت المال و وضع المكافئات لمن یخبره أو یشیر علیه بأمر فیه مصلحة للمسلمین، و منع شرب الخمر و ضرب الدفوف و كتب الی ملوك الهند و ما وراء النهر یدعوهم الی الاسلام و أعاد فدك الی ولد فاطمة و رفع السب و الشتم عن البیت العلوی و عن علی بالذات- لما سمع من أبیه بحقه من قوله: یا بنی إن الذین حولنا لو یعلمون من علی ما نعلم تفرقوا عنا إلی أولاده.
و بقدر ما سعدت به الأمة الاسلامیة حینئذ شقی به اقرباؤه الأمویون لأنه وقف
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 55
العلم و ذهاب العلماء و لكن عمرو ما لبث ان انتقل إلی دار الخلود قبل ان یتم هذا التدوین الرسمی للسنة «28» ..
كما و قیل هنا أیضا ان عمر بن عبد العزیز قد كتب إلی غیره من علماء الآفاق بصدد النظر إلی أحادیث الرسول و جمعها ..
و هذا التأخیر فی الكتابة سبب شكوكا مضاعفة بین الأحادیث الصحیحة و غیرها كما و التحق بها ما لیس منها، فاجتهد الأئمة و الفقهاء علی غربلتها و نقد طرقها و متونها و اختلفت لذلك أنظارهم و آرائهم بین التصحیح و التضعیف و القبول و الرد، و هذا كله بعكس القرآن الذی جاء متواترا و بات فوق الشبهات و فوق الشك و الریبة، بالاضافة إلی استمرارها هذا التواتر- للقرآن- بین المسلمین «جیلا بعد جیل و عهدا بعد عهد تری له فی كل زمان مئات الملایین من المصاحف و مئات الملایین من الحفاظ و لا تزال المصاحف ینسخ بعضها علی بعض و المسلمون یقرأ بعضهم علی بعض و یسمع بعضهم من بعض حیث تكون ملایین المصاحف رقیبة علی الحفاظ و ملایین الحفاظ رقباء علی المصاحف و تكون الملایین من كلا الجانبین رقیبة علی المتجدد منهما» «29» ..
______________________________
حائلا بینهم و بین أموال و دماء المسلمین.
توفی- رحمه اللّه- عام 101 للهجرة و دفن فی دیر سمعان بالشام و كان عمره عند الوفاة 39 سنة بینما كانت مدة خلافته 5، 2 سنة أی 30 شهرا ..
و قد رثاه الشریف الرضی بقوله:
یا ابن عبد العزیز لو بكت العین‌فتی من أمیة لبكیتك
انت نزهتنا من السب و الشتم‌فلو أمكن الجزاء جزیتك
و عجیب انی قلیت بنی مروان‌طرا و اننی ما قلیتك
دیر سمعان لا عدتك الغوادی‌خیر میت من آل مروان میتك
(28) علوم الحدیث و مصطلحه- الدكتور صبحی الصالح.
(29) آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن- محمد جواد البلاغی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 56
اضافة إلی ان القرآن «قد كتب و حفظ فی صدور جمع كبیر من الصحابة لا یمكن تواطؤهم علی الكذب و نقله من هذه الجموع جموع أخری فلم یختلفوا فی حرف أو لفظ علی تعدد البلاد و تباعد الأقطار و اختلاف الأجناس» «30» ..
فهل هناك تواتر لكتاب أو لشی‌ء آخر فی التاریخ كهذا التواتر الذی نجده ساطعا و جلیا فی القرآن الكریم ..
5- و القرآن خامسا هو معجز لأنه ما جاء إلا معجزة لثبوت صحة دعوة و نبوة الرسول (ص) و انه (ص) رسول من عند اللّه تعالی یوحی إلیه هذا القرآن، ذلك لأن فی طاقة و مكنة كل فرد ان یدعی النبوة أو الرسالة «31» كما جری فعلا بعد وفاة الرسول (ص) مباشرة أو فی العصور المختلفة، و لكن لیس فی قدرة و سلطان أی منهم أن یثبت هذه الدعوة أو یدعم هذه الرسالة بشی‌ء أو بدلیل یعجز أو لا یستطیع الآخرون من الاتیان بمثله أو نظیره أو ابطاله هذا إلا فی حالة واحدة فقط و هو إذا ما كان المدعی مدعما بسند الهی و تأیید ربانی، لأن فی طاقة اللّه سبحانه وحده أن یمطر الأرض بانواع المعجزات و الدلائل التی لا یملك الانسان ازائها إلا الانحناء و الخضوع و الاستسلام طوعا أو كرها ...
لذا فقد جاء القرآن الكریم لیدعم موقف الرسول (ص) و یعزز مكانته و نبوته عن طریق فتح أبواب التحدی علی مصاریعها بوجه الناس كافة مناشدهم الاتیان بمثل هذا القرآن أو بسورة مثله فقط علی الأقل و لو من قصار السّور إذا لم یمكنهم من الإتیان بمثل هذا القرآن ..
و رغم ان أبواب التحدی كانت و لا تزال مفتوحة علی مصاریعها أمام الجمیع إلا اننا لم نسمع منذ منطلق الدعوة الاسلامیة حتی هذه
______________________________
(30) التشریع الجنائی الإسلامی- عبد القادر عودة.
(31) فی التفریق بین النبوة و الرسالة یراجع فصل «القرآن فی طریقه إلی الأرض».
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 57
اللحظة من عمر الزمن، و لم نسمع أو نری من قریب أو بعید من تقدم خطوة جدیة واحدة باتجاه هذا الباب أو مجرد التفكیر المحض فی الاقتراب منه علی الرغم من انتشار و سیطرة ملكة الخطابة و البیان و اللغة علی نفوس أبناء المجتمع العربی قدیما و حدیثا ..
هذا و إذا ما كان هناك من ادعی النبوة بعد وفاة الرسول (ص) أو فی العصور اللاحقة الأخری فان معجزاتهم التی ارادوا ان یظاهر بها القرآن الكریم- ان وجدت- كانت لو تتعدی ان تخرج عن هذیان محموم و أقوال مضطربة و كلمات جافة و جمل هزیلة لا تقف علی قدمیها و لا تصل و لا ترقی حتی إلی مستوی أوطأ الناس ثقافة و علما و فهما، كما سنری مصداقه- أیها القارئ العزیز- فی فصل لا حق یحمل اسم- اعجاز القرآن ..
و من كل ما تقدم نخلص إلی القول بان معجزة القرآن كانت معجزة قاطعة و باتة و باقیة علی مر الدهر تدل علی صدق من جاء بها من عند اللّه تعالی و وضعها فی میدان التحدی و المبارزة.
و هذا الكلام بدوره یقودنا لاثبات و دلالة ان القرآن المعجز هو البرهان القاطع علی صحة النبوة، اما صحة النبوة فلیست برهانا علی اعجاز القرآن، اضافة إلی ان قلیل القرآن و كثیره یستوی فی الاعجاز و علی النحو الذی تقدم.
6- و القرآن سادسا متعبد بتلاوته لأنه كلام اللّه تعالی و نداءه الصادق إلی الناس كافة، و لیس كلام اللّه بمشابه أو مناظر لكلام أحد من الناس، و قد دعا- سبحانه- فی مواضع كثیرة من كتابه إلی حفظه و تلاوته و قراءته «32» بامعان و تؤدة لیكون فی المستطاع تدبر آیاته و تأملها و الایقاظ
______________________________
(32) لقد ورد فی الخبر «إن البیت الذی یقرأ فیه القرآن و یذكر اللّه تعالی فیه تكثر بركته و تحضره الملائكة و تهجره الشیاطین و یضی‌ء لأهل السماء كما تضی‌ء الكواكب لأهل الأرض» كما و جاء فی خبر آخر «داووا مرضاكم بالصدقة و استشفوا بالقرآن فمن لم یشفه القرآن فلا شفاء له» ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 58
بما جاء فیه من حوادث الأیام الخالیة و قصص الأنبیاء و المرسلین فضلا عن العمل باحكامه و الاتصاف بمحاسن آدابه و الاعتبار بحكمه و امثاله و الوقوف علی علومه و معارفه.
و طبیعی أن تنفیذ كل هذه الإرشادات و تطبیقها بصورة كاملة سیؤدی بالمرء إلی جلاء فكره و استقرار سریرته و نیله لرضاء اللّه و بركاته فی الحیاة الدنیا و الآخرة.
لذا كانت تلاوة كتاب اللّه عبادة و طاعة و حسنة تسجل للفرد فی میزان الصالحات، كما أن آیات الكتاب ملأت كل الفرائض و العبادات، و أن غالبیه هذه الفرائض- و لا سیما الصلاة- لا تقبل و لا یقام لها وزن إن هی خلت من الآیات القرآنیة الكریمة.
7- و القرآن سابعا هو خاتم الكتب السماویة لأنه لما لم یكن بعد الرسول محمد (ص) من رسول و لا نبی، لذا فلیس بعد القرآن الحكیم من كتاب أو بیان «33» أو أقدس أو قرآن آخر ..
______________________________
(33) البیان هو كتاب الطائفة التی كانت تسمی بالبابیة و التی انقلبت (الطائفة) فیما بعد إلی الطریقة أو العقیدة البهائیة، و كان الباب و الذی اعدم فی تبریز فی 9/ 7/ 1949 قد زعم أن البیان قد نزل علیه من سماء المشیئة الإلهیة، و لم یتقید الباب فی كتابه البیان و لا فی كتبه الأخری بقواعد اللغة و الصرف و النحو و برّر عمله هذا بقوله:
إن اللغة العربیة مقیّدة و إنه أطلق سراحها و اخرج عنها.
و العقیدة أو الحركة البهائیة- بقول أتباعها- قد نسخت الشریعة الإسلامیة علی النحو الذی نسخ الإسلام الدیانات التی سبقته، حیث كوّن بهاء اللّه (و هو حسین علی النوری المتوفی فی 28/ 5/ 1892 و دفن فی عكا) من القرآن الكریم أولا و من بیان الباب (و هو علی محمد رضا الشیرازی) ثانیا و من الوحی الذی ادعی نزوله علیه ثالثا كوّن فكرة دین عالمی جدید یجمع الأدیان كلها و الأجناس كلها و یوحّد الجنس البشری و یصهره فی بوتقة واحدة حیث یمحو الإقلیمیة و الوطنیة لأن الأرض هی للناس كافة ..
و حیث ان البهائیة قد خرجت عن حظیرة الإسلام و ابتعدت عن رسالته الخالدة، إلا انها- البهائیة- استمدت فی الحقیقة أكثر فرائضها و أحكامها من الشریعة الإسلامیة
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 59
و قد أشار إلی هذه الحقیقة القرآن نفسه بقوله تعالی: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِیِّینَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَیْ‌ءٍ عَلِیماً «34» .. كما كرر ذلك النبی محمد (ص) نفسه و فی كل مناسبة و واقعة بقوله «لا نبی بعدی» و أنه خاتم المرسلین و آخر صوت نبوی سماوی یرسل إلی الأرض حتی یرثها اللّه و من علیها ..
هذا و ان إنهاء اللّه تعالی للكتب السماویة بالقرآن الكریم و ما یترتب علی ذلك من بقاء مفعوله و حكمه ساریا و نافذا إلی آخر یوم فی تاریخ الأرض، تطلّب الحال بطبیعة الأمر أن یضع اللّه سبحانه فی القرآن الكریم و یضمّنه بكافة التشریعات و الأنظمة و الأحكام و النواهی و الأوامر و التعلیمات التی یحتاجها الإنسان لتنظیم شئونه و حل مشاكله و مطالیبه حتی الیوم الأخیر من عمر الحیاة علی سطح الأرض ..
و طبیعی أن هذه التشریعات و الأنظمة و الأحكام ستكون من الرحابة و المرونة و السماح ما یجنبها فی كل عهد و مكان أن تكون عقبة فی طریق المرء و مسیرة الحیاة نحو الأفضل. حیث سنری مصداق ذلك جلیا علی صفحات هذا الكتاب القادمة.
و بعد فالنقاط السبع التی مررنا علیها آنفا مرور الأقمار الصناعیة فی سماء الأرض أو فی طریقها إلی كوكب آخر ستستوعب معظم مواضیع هذا الكتاب و ستملأ معظم فصوله و سطوره ..
______________________________
و لكن مع التحویر و التغییر وفقا لما آثره مؤسسها (البهاء) مما رآه یتلاءم و روح العصر و متطلبات الحضارة و تطور المدنیة ..
و البهائیة محدودة العدد إلا انها منتشرة فی كافة انحاء العالم و یتولی توجیهها حالیا «المجلس البهائی الأعلی» من مقره فی شیكاغو بامیركا و یصدر المجلس مجلة باسم «نجمة الغرب» تترجم فیها آراء و افكار هذه العقیدة.
و للاطلاع علی المزید من هذه العقیدة یراجع كتابنا «أضواء علی شبه القارة الهندیة» الذی سیری النور قریبا ..
(34) الأحزاب: 40.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 60
و بدورنا فقد حرصنا علی ألا یكون هذا الانتشار و التوزیع عشوائیا و من دونما نظام أو خطة رشیدة. و إنما سنعطی كل موضوع و فصل ما یستحقه من شرح أو إیجاز تبعا لأهمیته و حاجة الناس الملحة إلیه، متوخین من كل ذلك أن نترك لدی القراء الكرام فكرة عامة و كاملة عن القرآن و معارفه و علومه، هذا القرآن الذی ظل نبراسا یضی‌ء البشریة الطریق المعبد و الموصل للنهضة و العمران، هذا القرآن الذی دفع و مدّ حدود و سلطان المسلمین من شواطئ المحیط الأطلسی حتی جدار الصین العظیم و اسبغ علی جموع المسلمین علی هذه الرقعة الواسعة من الأرض العدالة و الحریة و الكرامة، هذا القرآن الذی ضمّ من التشریعات و القوانین و الأنظمة ما قصرت القوانین الوضعیة حتی بعد تطورها و تقویمها من اللحاق بها أو مضاهاتها حتی فی التفصیلات، هذا القرآن الذی اعترف العدو قبل الصدیق من أنه السبب الرئیسی و الأوحد فی وحدة كلمة العرب و المسلمین و سبب قوتهم و انتصارهم علی الأعداء و المناوئین لهم.
اذن فلنبدأ رحلتنا التاریخیة إلیه من الآن و لنحط أولا عند بحث یتولی الإشارة إلی أسماء القرآن و صفاته ثم ننتقل بعد ذلك إلی الأبحاث و المواضیع الأخری و بالتتابع ان شاء اللّه ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 61

أسماء القرآن و صفاته‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 63
اختلف جمهور الفقهاء و المؤرخین بصدد لفظ القرآن و سب تسمیته بهذا الاسم الذی لم یكن متداولا فی الجاهلیة و لم یسبق له ذكر و وجود قبل نزوله، و هل هو لفظ أصیل أو مشتق و ما إذا كان مهموزا- أی أن الهمزة هی فی أصل اشتقاقه- أو هو غیر مهموز بالمرة.
فی البدایة اتفق كل هؤلاء الفقهاء و المؤرخین و من دونما أی خلاف یذكر إلی أن لفظ القرآن و الذی جاء فی نحو من (70) آیة قد وضعه اللّه سبحانه علما علی كتابه المنزل- أو علی كل جزء من أجزائه- مخالفا بذلك لما یسمی به العرب كلامهم و أحادیثهم المتداولة، فقد سمّی تعالی «جملته قرآنا كما سمّی العرب جملة كلامهم دیوانا و سمّی بعضه سورة كقصیدة و سمّی بعض السورة آیة كالبیت و سمّی آخر السورة فاصلة كقافیة» «1».
و بعد هذه البدایة المتفق علیها بین الجمیع، تفرّق الفقهاء و الأدباء بصدد الاجابة علی التساؤل اعلاه و الخاص بأصل لفظ القرآن، و یمكن هذا حصر أقوالهم ازاء ذلك و جمعها فی قولین اثنین هما:
1- ذهبت الغالبیة من هؤلاء الفقهاء و فی طلیعتهم الأشعری و أبو إسحاق الزجاج و الفراء إلی أن القرآن المعرّف ب ال لیس هو لفظا أصیلا و إنما هو مشتق، و اشتقاقه هذا قد جاء من قرن الشی‌ء إذا ضمه إلیه، و إنما سمّی القرآن بذلك و ذلك بسبب قران السور و الآیات و الحروف
______________________________
(1) الأتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 64
المتفرقة و ضمها بعضها إلی بعض ..
و قیل هنا أیضا أن اشتقاقه هذا قد جاء من القرائن لأن آیاته یصدّق بعضها بعضا و یشابه بعضها للبعض الآخر فكأن بعضها قرینة علی بعض ..
و قال كثیر من قادة هذه الفئة و فی مقدمتهم الزجاج و اللحیانی بأن لفظ القرآن مهموز و ذلك لأنه مشتق من القرء و هو الجمع، و إنما سمّی الكلام المنزل علی النبی (ص) قرآنا لأنه جمع السور أو جمع ثمرات الكتب المقدسة السالفة أو أنه مشتق من قرأ و معناه تلا مثل الغفران المشتق من غفر و الكفران المشتق من كفر.
2- أما الأقلیة من هؤلاء الفقهاء و علی رأسهم الإمام الشافعی «2»
______________________________
(2) الإمام الشافعی هو محمد بن إدریس الشافعی ولد عام 50 ه فی غزة و نشأ فقیرا و رحل إلی مكة المكرمة و هو ابن عشرة سنوات أو سنتین- بقول آخر- طلبا للعلم علی ید من كان فیها من الفقهاء و المحدثین فتفقّه فیه و بلغ شأنا عظیما، ثم رحل إلی المدینة المنورة فی طلب العلم أیضا حیث درس و تفقّه علی ید امام دار الهجرة مالك بن أنس، و قد ترك كتاب الأم الذی ضمّنه آرائه و آثاره ..
و قد طاف فی كثیر من الأقطار الإسلامیة منها الیمن و العراق لغرض بث و نشر فقهه و علمه فیها إلی أن استقر به المقام فی مصر حیث توفی فیها فی آخر لیلة من شهر رجب سنة 204 ه عن عمر 54 سنة و قبره یقع الآن فی القاهرة و هو یغص بالزوار و عارفی فضله- رحمه اللّه-.
و قد اتهم الإمام الشافعی بالتشیّع و موالاة العلویین بسبب أن نسبه یرجع إلی المطلب بن عبد مناف و هو أخ هاشم، حیث كان بنو المطلب و بنو هاشم كتلة واحدة ضد بنی عبد شمس فی الجاهلیة، و كان لهذا التكتل اثره الواضح علی ابنائهما فی مطلع الإسلام و بعده، و مما ینسب له من الشعر فی التشیّع و حب آل علی قوله:
یا راكبا قف بالمحصب من منی‌و اهتف بقاعد خیفها و الناهض
سحرا إذا فاض الحجیج إلی منی‌فیضا كملتطم الفرات الفائض
اعلمهموا انی من النفر الذی‌لولاء أهل البیت لست بناقض
ان كان رفضا حب آل محمدفلیشهد الثقلان انی رافضی
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 65
فذهبوا إلی رأی مخالف لزملائهم أصحاب الرأی الأول بخصوص لفظ القرآن، حیث أعلنوا أن لفظ القرآن اسم غیر مشتق جملة و تفصیلا، كما و أنه- القرآن- فی نفس الوقت غیر مهموز و لم یؤخذ من قراءة بل هو خاص بالكلام المنزل و حیا علی الرسول (ص) أسوة بالتوراة و الانجیل و الزبور «3» ..
و اری هنا أن القول الأول هو المفضل و المقبول لأنه یلائم المنطق و یتفق و الاستدلال الواقعی و اللغوی و قواعد الاشتقاق، لذا فقد كسب أصوات الغالبیة العظمی من فقهاء و ادباء المسلمین فی الحاضر و الغابر.
ننتقل بعد هذا مع القراء الكرام الی موضوع أسماء القرآن الكریم، فنشیر إلی أن اللّه سبحانه قد سمی القرآن بأسماء عدیدة بلغت فی التعداد عن البعض إلی (55) اسما و غالبیتها هی صفات له «4» أما الأسماء المجردة فهی حوالی النصف أی (27) اسم منها القرآن و الكتاب و الفرقان و الكلام و المثانی و البلاغ و الذكر ... الخ.
و سنستعرض فیما یلی من سطور اسماء القرآن و صفاته مع تبیان الأسباب و العلل التی حدت إلی تسمیته بهذه الأسماء و وصفه بهذه الصفات ..
فالقرآن یسمی أولا بالمصحف، و علة وضع هذا الاسم علیه ترجع إلی صدر الإسلام حین جمع الخلیفة أبو بكر (ر ض) القرآن- فی الجمع الثانی كما سیرد تفصیله فی فصل قادم- حیث ضمت الصحاف إلی بعضها و شدّت بخیط واحد حتی لا تضیع أو لا یفقد أو یقع منها شی‌ء ثم قال لمن حوله: [التمسوا له اسما نسمیه به فقال بعض من حضر ندعوه ب «السفر» فأجابهم بأن هذا الاسم متداول بین الیهود فصرف النظر
______________________________
(3) الاتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
(4) الاتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی، البرهان فی علوم القرآن- بدر الدین الزركشی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 66
عنه، كما و اقترح غیرهم دعوته ب «الانجیل» فصرف النظر عنه أیضا لأن هذا الاسم یطلق علی كتاب المسیحیین، أما عبد اللّه بن مسعود و الذی كان أحد من حضر اقترح ان یوضع له اسم «مصحف» لأنه شاهد فی الحبشة أن أبنائها یطلقون علی كل ما جمع من الصحاف اسم «المصحف» فاستحسن الجمیع الفكرة وقر رأیهم حینئذ علی هذا الاسم، و لا زال القرآن الكریم یحمل هذا الاسم حتی الآن رغم أنه قد قصد به فی وقته الصحف المجموعة] «5».
اما عن علة عدم تسمیة هذه الصحاف المجموعة بالقرآن فمرده هو أن القرآن الكریم ما هو موجود بین الدفتین، أما هذه الصحاف المجموعة فهی مجموعة فی مكان واحد و دون ان تجمعها الدفتین تباعا، لذا فلو كان قد اطلق علیها لفظ القرآن فإن هذه التسمیة ستؤدی شبه المعنی و لیس كل المعنی ..
لذا فقد اقترح لها لفظ جدید هو «المصحف» لیمكن تمییزها عن القرآن و الذی قد یجمع فی وقت لا حق ما بین الدفتین تباعا، و هو ما حصل بالفعل فی وقت لا حق ..
و المراد بالمصحف العثمانی هو مصحف عثمان بن عفان الذی طلب كتابته بعدة نسخ و قام بتوزیعها فی حواضر العالم الإسلامی- و هو ما یدعی بالجمع الثالث كما سنری تفصیله فی بحث قادم- و كانت نسخ هذا المصحف خالیة من النقط و الحركات (الشكل) و ارقام الآیات و الأحزاب و الأجزاء، حیث أن كافة هذه المحسنات و الأمور قد وضعت فیما بعد و بمرور الزمن لتكون فی الختام القرآن الكریم الذی هو الآن فی أیدی المسلمین.
______________________________
(5) تاریخ القرآن- محمد طاهر الكردی، الاتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 67
كما و كان المصحف العثمانی یدعی ب «المصحف الإمام» أیضا لسبب خاص سوف نتناوله فی فصل الجمع الثالث للقرآن.
أما بصدد تسمیة القرآن الكریم بالكتاب فهذا یرجع إلی جمعه و كتابته فی مكان واحد، لأن الكتابة هی جمع للحروف و رسم للألفاظ، و لا یطلق الكتاب علی المكتوب إذا كان مجزأ أو غیر مجموع أو محفوظ فی الصدور و القلوب، و قیل أنه «روعی فی تسمیته كتابا كونه مدوّنا بالأقلام» «6» و مجموعا فی السطور ..
أما بخصوص السبب الرئیسی فی تسمیة القرآن بالاسم الأكثر شیوعا و الأغلب تداولا بین الناس هو لفظ «الكریم» فیعود إلی أن القرآن- فی الحق- ینظم الحیاة الاقتصادیة و المعاشیة لعموم أبناء البشر عن طریق بیان مجالات التكسب و العمل المباحة و الأخری المحظورة، فضلا عن تبیان الالتزامات و التكالیف و الأعباء المالیة التی تلتزم بها كل فئة ازاء الأخری، فكل هذه التنظیمات و التشریعات التی حفلت بها سور القرآن و آیاته لو عمل بها بعد نقلها إلی عالم التطبیق و الممارسة العملیة، لانبثق و تكوّن بسببها مجتمع حر و سعید یخفق علی جنباته لواء العدالة و الحق و المساواة و لساد أوساطه الشعبیة روح التعاون و التضامن و التآلف و لزال منه و إلی الأبد كل ألوان الاستغلال و الاستعباد و الفساد ..
ان أی جهة أو فرد لو كان فی امكانهما صنع أو ترتیب هذا الشی‌ء أو شطرا منه لغدا كریمین و محسنین، و هكذا الحال فی القرآن الكریم فإنه لنفس السبب و العلة دعاه اللّه تعالی بالكریم، و هو وصف جاء فی مكانه أو هو طبیعی بعد أن وجدنا شریعة القرآن كیف تولّت تنظیم المجتمع الانسانی فی صدر الإسلام و كفلت له سبیل الرقی و النجاح بعیدا عن الاستغلال و الاستعباد ..
______________________________
(6) النبأ العظیم- الدكتور محمد عبد اللّه دراز.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 68
أما سبب تسمیته بالفرقان فیعود إلی كون الكلمة هذه هی مصدر من فعل فرق، و الفرقان هو ما یفرق و یفصل بین الشیئین، و إنما سمّی القرآن به لأنه یفصل بین الحق و الباطل و الهدی و الضلال ..
أما علة تسمیة القرآن بالمجید و العزیز فهو أن هذه الصفات مشتقة من المجد و العزة علی التوالی و هذا وصف طبیعی و خلیق أن یحمله القرآن إذا ما علمنا بأنه كلام اللّه تعالی و قد جعله أسمی الكتب السماویة منزلة و اوفرها علما و اعذبها نظما و فصاحة، كما و اودع فیه علم كل شی‌ء و ضمنه بكل رطب و یابس بقوله سبحانه وَ كُلُّ صَغِیرٍ وَ كَبِیرٍ مُسْتَطَرٌ «7» و قوله: وَ لا رَطْبٍ وَ لا یابِسٍ إِلَّا فِی كِتابٍ مُبِینٍ «8» هذا فضلا عن أن القرآن هو الحبل الذی یربط الأرض بالسماء و النور الذی یضی‌ء دیاجیر الظلمات فی الخافقین.
لذا كان حقا أن یكون مجیدا و عزیزا بل و فوق ذلك أن كان هناك فوق أو علو أو سمو ..
أما لفظ المبین الذی یلحق بالقرآن مرارا فهو مأخوذ من البیّنة أو البیان و ذلك لأن حجة القرآن بیّنة و دلیله ساطع و جلی، أو هو یبین الحق من الباطل و الرشاد من الغوایة و الضلال ..
و أما لفظ الذكر فسمیّ به القرآن لأنه ذكّر الناس بآخرتهم و ما كانوا غافلین عنه، و قیل أیضا أنه سمّی بذلك لأنه ذكر أحوال الأمم السالفة و العصور البائدة، اضافة إلی ذكره للأنبیاء و المرسلین.
أما لفظ الحكیم فقیل أنه جاء من الحكمة لأن الحكمة و الحكم من مادة واحدة كما یقول أهل اللغة و لما كان القرآن هو منبع الحكمة و مصدرها، الیه یفزع الناس للاغتراف و الاستزادة من فیض حكمته
______________________________
(7) القمر: 53.
(8) الأنعام: 59.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 69
و بیانه، و منه تنحدر الوصایا و الحكم و الأمثال و العظاة و القصص، لذابات حكیما ان لم یكن أعلم منه و اسمی ..
و بصدد السورة فإن معناها اللغوی هی المنزلة الرفیعة و المكانة السامیة، و فی هذا المعنی أورد النابغة الذبیانی للنعمان بن المنذر هذا البیت من الشعر فی قصیدته البائیة المشهورة:
أ لم تر أن اللّه أعطاك سورةتری كل ملك دونها یتذبذب و قیل فی معنی السورة أیضا أنها قد جاءت من سور البلدة و جدارها بسبب احاطتها بآیاتها كإحاطة الجدار و السور بالمدینة، و قیل كذلك أنها مأخوذة من التسوّر و هو التصاعد و التركب بسبب أن تركیبها قد جاء بعضا علی بعض ..
و بصدد تعریف السورة فإنها توصف ب «قطعة من القرآن مستقلة تشمل آیات ذات فاتحة و خاتمة و اقلها ثلاث آیات بالإضافة إلی البسملة» «9».
و السورة یمكن اعتبارها اصغر الوحدات التی یتألف منها القرآن الكریم ..
و الحكمة فی تقطیع القرآن سورا هی الحكمة فی تقطیع السّور آیات معدودة، و نری لكل سورة خاتمة و مطلعا حیث تكون كل واحدة منها- بل كل آیة- فنا مستقلا و قرآنا معتبرا ..
و قیل هنا أیضا أن الحكمة فی تسویر القرآن سورا هو اثبات و «دلیل علی كون السورة بمجردها معجزة و آیة من آیات اللّه» «10» اضافة إلی أن تقسیم القرآن إلی سور له أثر كبیر فی میدان تعلّمه و استظهاره و انه
______________________________
(9) تفسیر التبیان- أبو جعفر الطوسی، تاریخ التشریع الإسلامی- الشیخ محمد الخضری.
(10) الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 70
یسدد الأنظار و یلفتها إلی كل جزء من أجزائه ..
و سورت السور طوالا و أوساطا و قصارا إشارة إلی أن الطول لیس من شرط الإعجاز فضلا عن أن كل سورة لها نمط مستقل و بحث خاص كبرت أو صغرت ..
و السورة مهما تعددت قضایاها و أهدافها فهی: «كلام یتعلق آخره بأوله و أوله بآخره و أنه لا غنی لمتفهم السورة و نظمها من استیفاء النظر فی جمیعها كما لا غنی عن ذلك فی أجزائها» «11» ..
و السورة قد تكون ذات موضوع واحد تبحث عنه و لا تتعداه إلی سواه مثل كثیر من السور القصیرة كسورة اللهب و الفیل ... الخ، كما و قد تتناول السورة اغراضا عدیدة مثل معظم السور فی القرآن الكریم و لا سیما السور الطویلة ..
و لن ینتقل القرآن بین الأغراض المختلفة فی السور الأخیرة- الطویلة- اعتباطا أو عفوا و إنما لصلات الوثیقة التی تربط بین هذه الأغراض بحیث تتضافر سائرها للوصول الی هدف السورة و حینما یستوفی الغرض الخاص تنتهی السورة، فسورة التوبة تحدّد علاقة المسلمین بالكافرین و المشركین و أهل الكتاب بینما تتجه سورة اخری و هی الأعراف إلی الإنذار و الاتعاظ بقصص الأولین و أخبارهم، و سورة الشعراء تشیر إلی التخویف و الإرهاب و انذار قریش و بقیة المشركین، بینما توشك سورة طه أن تستغرق قصة النبی موسی، و كذلك سورة یوسف توشك أن تقتصر علی موضوع النبی یوسف الصدیق و أبیه و اخوته و أحوالهم بالتفصیل ..
و سور القرآن بالنظر إلی اختلاف عدد آیاتها تنقسم الی ثلاثة اقسام هی «12»:
______________________________
(11) النبأ العظیم- الدكتور محمد عبد اللّه دراز.
(12) تاریخ القرآن- إبراهیم الابیاری.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 71
1- قسم لم یختلف فیه إجمالا و لا تفصیلا 2- قسم اختلف فیه تفصیلا لا اجمالا 3- قسم اختلف فیه تفصیلا و اجمالا و اسم السورة جاء توقیفا أی باشارة و تعلیم من الرسول (ص) فی أشهر الأقوال و أصحها، كما و ان الضابط و القاعدة العامة فی تسمیة السور القرآنیة. علی ما یبدو من اسمائها- هو تسمیة السورة بمطالعها أو بكلمة أو موضوع بارز فیها أو باشتقاق كلمة أو حادثة معینة واردة فیها كقصة تدور حولها أو حكم أو بما تحدثت عنه من حیوان أو انسان أو فاكهة ..
و قد یكون للسورة الواحدة اسم واحد فقط و علیه غالبیة سور القرآن الكریم كما و قد یكون لها اسمان أو أكثر .. فمن السور التی لها أكثر من اسم واحد هی:
1- سورة الفاتحة و تسمی سورة الحمد و أم الكتاب و السبع المثانی 2- سورة غافر و تسمی سورة المؤمن 3- سورة تبارك و تسمی سورة الملك 4- سورة عم و تسمی سورة النبأ 5- سورة فصلت و تسمی سورة السجدة 6- سورة براءة و تسمی سورة التوبة و الفاضحة و الحافرة و العذاب 7- سورة الإسراء و تسمی سورة بنی إسرائیل 8- سورة فاطر و تسمی سورة الملائكة 9- سورة محمد و تسمی سورة القتال 10- سورة الفلق و الناس و تسمی المعوذتان 11- سورة البقرة و آل عمران و تسمی الزهراوان كما و هناك اسماء خاصة لآیة واحدة أو جملة آیات متتابعة، و قد تكون هذه الأسماء- كما هو الحال فی السور- توقیفیة أو غیر توقیفیة عن
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 72
طریق تسمیتها باسم كلمة بارزة أو عبارة رئیسیة موجودة فی نفس الآیة أو الآیات المتتالیة.
و من امثلة ذلك هی آیة الكرسی فی سورة البقرة و آیة النجوی فی سورة المجادلة و آیة المباهلة فی سورة آل عمران و آیة التطهیر فی سورة الأحزاب و آیة النور فی سورة النور و غیر ذلك ..
أما بشأن الآیة فإن معناها هو العلامة و المعجزة و العبرة و الدلیل و البرهان، و إنما سمیت بذلك لأن كل آیة هی دلیل و علامة علی صحة النبوة، فضلا عن أن اجتماع و التقاء عدة آیات تكون منها معجزة قائمة بذاتها و یعجز الآخرون عن محاكاتها أو الإتیان بمثلها «13» ..
أما فی الاصطلاح فالآیة هی طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها و ما بعدها و لیس بینها شبه بما سواها ..
أن أطول آیة فی القرآن هی آیة الدین و هی قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا تَدایَنْتُمْ بِدَیْنٍ إِلی أَجَلٍ مُسَمًّی فَاكْتُبُوهُ ... وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَیْ‌ءٍ عَلِیمٌ «14» و تضم هذه الآیة مائة و عشرون كلمة ...
و أما الكلمة فهی اللفظة الواحدة و قد تتكون من حرفین مثل «ما»، «لی»، «له» و «لك»، و قد تتكون من أكثر من ذلك، و أكثر ما تكون الكلمة فی القرآن عشرة أو أحد عشر حرف مثل «لیستخلفنهم» و «أ نلزمكموها» و «فاسقیناكموه» و «اقترفتموها» ...
______________________________
(13) بصدد القدر المعجز من القرآن، فقد قیل ان أقل ما یعجز عنه من القرآن هو السورة الواحدة قصیرة كانت أو طویلة، كما جاء مصداق ذلك فی عدة آیات من القرآن منها قوله تعالی فی سورة البقرة/ الآیة 23 فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ و قوله فی سورة یونس/ الآیة 38 قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ..
و قال آخرون أنه إذا كانت الآیة أو الآیات بقدر حروف السورة و ان كانت كسورة الكوثر- و هی أصغر سورة فی تاریخ القرآن- فذلك معجز، بینما اشترط البعض كون هذه الآیات كثیرة لیقوم الإعجاز بها (اعجاز القرآن- أبو بكر الباقلانی) ..
(14) البقرة: 282.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 73
و قد تكون الكلمة آیة مثل «و الفجر» و «و العصر» و «طه» و «یاسین» و «حم» أو قد تكون دونها كما سبق بیانه «15» ...
أما الفاصلة فهی تطلق علی الكلمة التی تختم بها الآیة من القرآن كما و تطلق أیضا علی رأس الآیة و «مكانتها من الآیة مكان القافیة من البیت اذ تصبح الآیة لبنة متمیزة فی بناء هیكل السورة» «16» ..
و یقال عن معنی الفاصلة أنها جاءت من التفصیل و إنما سمیّت بذلك لأن بها یتم بیان المعنی و یزداد وضوحه جلاء و قوة، كما قیل أنها سمیت بذلك لأنه ینفصل عندها كلامان، لأن آخر الآیة فصل بینها و بین ما بعدها، و السر فی عدم تسمیتها اسجاعا فیعود إلی خلق القرآن من السجع و لأن السجع نقص و عیب بینما الفواصل بلاغة و بیان «17» ..
و الفاصلة تكمل معنی الآیة و یتم بها النغم الموسیقی لها فهی أكثر ما تنتهی بالنون و المیم و حروف المد و هی كلها من الحروف الطبیعیة فی الموسیقی نفسها «18» ..
و یتعلق معنی الفاصلة بمعنی الآیة كلها تعلقا كبیرا بحیث اننا لو ابعدناها لاختل المعنی أو اضطرب الفهم، فهی تؤدی فی محلها جزءا من معنی الآیة ینتقص و یرتبك بطرحها و استبعادها و قد یتضاعف تمكن الفاصلة من مكانها حتی لتشیر إلیها قبل التفوّه بها ..
______________________________
(15) البرهان فی علوم القرآن: بدر الدین الزركشی.
(16) من بلاغة القرآن- الدكتور أحمد أحمد بدوی.
(17) لقد ذهب البعض من الأدباء و البلغاء إلی اثبات ان السجع موجود فی القرآن، إلا أنه افصح مما قد اعتاده الناس من أسجاعهم، و ان سجع القرآن- عند هؤلاء- یتخذ منهجا خاصا به لا یشركه فیه سواه، ذلك مما یبین به فضل الكلام و أنه من الأجناس التی یقع فیها التفاضل فی البیان و الفصاحة كالتجنیس و الالتفات ....
الخ من الوجوه التی تعرف الفصاحة بها ..
(18) من بلاغة القرآن- الدكتور أحمد أحمد بدوی ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 74
و یروی هنا إثباتا لهذا القول ما نقل عن زید بن ثابت «19» أنه قال:
«املی علیّ رسول اللّه (ص) هذه الآیة: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِینٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِی قَرارٍ مَكِینٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ «20»، و هنا قال معاذ بن جبل فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِینَ فضحك رسول اللّه (ص) فقال له معاذ: لم ضحكت یا رسول اللّه ..؟ قال: بها ختمت. و هناك أمثلة أخری لا مجال لإیرادها هاهنا ..
______________________________
(19) الاتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
(20) المؤمنون: 12 و ما بعدها.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 75

طبیعة المجتمع العربی فی عصر النبوة

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 77
كانت غالبیة الناس فی الدیار الحجازیة حین نزول القرآن الكریم علی صدر الرسول (ص) كانت أمیة و جاهلة و لا تجید القراءة و الكتابة، و إنما قلنا هنا الغالبیة فمن اجل أن نخرج منهم فئات قلیلة كانت تتقن القراءة و الكتابة و هی فی مجموعها نسبة لا یستهان بها عند الحساب ..
و سنشیر فیما یلی من سطور عن مدی انتشار التعلیم (القراءة و الكتابة) فی المدن الحجازیة أولا ثم نعرج من بعد علی شئونها و أحوالها الأخری ثانیا فأقول بعد الاتكال علی اللّه:
بصدد نسبة المتعلمین و عددهم عند بدء نزول الوحی فقد ذهب معظم الرواة و المؤرخین السابقین و اللاحقین إلی نفی و استبعاد وجود أی لون من ألوان التعلیم و الثقافة أو وجودهما و لكن بنسبة جد صغیرة حیث لا یتجاوز عدد المتعلمین- لدی هؤلاء عن عدد اصابع الید الواحدة فی كل بلد من بلدان الحجاز و حواضره ..
أما القلة من الرواة و المؤرخین فتنحوا و تشیر إلی «وجود فئات قلیلة من المتعلمین و بنسب لا یمكن تجاهلها فی المدن الحجازیة» «1» ..
و هذه القلة من الرواة لم تطلق قولها هذا جزافا أو علی عواهنه و إنما تورد أدلة و إثباتات قاطعة فی دعم قولها و تأییده ..
______________________________
(1) القرآن المجید- محمد عزة دروزة.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 78
و إنی اذ أضم صوتی إلی هذه الفئة القلیلة من الرواة و المؤرخین لأورد فی أدناه و بتصرف بعض النقاط و الأدلة الواردة فی تعزیز هذا الرأی و تأیید هذا الإتجاه فأقول:
ان البیئة الحجازیة و لا سیما مكة المكرمة و المدینة المنورة كانت بیئة تجاریة قبل كل شی‌ء (وفقا لما أشار إلیه القرآن الكریم فی سورة قریش)، و كانت هذه البیئة بحكم عملها و طبیعتها علی اتصال وثیق و مستمر مادیا مع البلاد المجاورة و هی الشام و الیمن و العراق و التی كانت علی جانب لا بأس به من العلم و الثقافة ..
و كانت البیئة الحجازیة أیضا تضم فئات و جالیات كتابیة مسیحیة و یهودیة أصیلة و نازحة من البلاد المجاورة و التی كانت تتداول فیما بینها الكتب الدینیة أو غیر الدینیة قراءة و كتابة ..
فلا یتصور فی كل هذه الحالات أن یبقی العرب فی مكة و المدینة جامدین و غافلین عن اقتباس أصول القراءة و الكتابة من هؤلاء لاستعمالها فی معاملاتهم الیومیة و حیاتهم التجاریة و التی لا یمكن تصور قیامها بدون كتابة أو تدوین، و لاستعمالها أیضا فی تسجیل معلقاتهم و اشعارهم و أیامهم التی ملئت الخافقین و تحدث بها الركبان و سمعها القاصی و الدانی ..
هذا من جهة و من الجهة الأخری فإن فی القرآن آیات عدیدة تشیر إلی فضل العلم و منزلة العلماء و درجتهم و تطلب من سائر الناس تسجیل كافة المعاملات و التصرفات و كتابتها نقدا أو دینا صغیرة أو كبیرة، فكیف تطلب هذه الآیات من الناس تحقیق كل ذلك دون وجود قسم من المتعلمین بین صفوفهم و دون وجود كتاب یكتبون و یدونون لأنفسهم أو عن الآخرین «2» ..
______________________________
(2) القرآن المجید- محمد عزة دروزة.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 79
هذا بالإضافة إلی أن كتبة الوحی بین یدیّ الرسول (ص) بلغ عددهم أكثر من 40 رجلا- كما سنری بعد قلیل- و ان كثیرا منهم كانوا مكیّین و هم الذین كتبوا القسم المكی من القرآن قبل هجرة الرسول (ص) إلی المدینة، و هذا دلیل ساطع علی وجود المتعلمین فی مكة و ان كانوا قلیلین سواء من كتب و سجل الوحی كهؤلاء أو ممن لم یسلم بعد و یدخل فی رحاب الإیمان و العقیدة.
كما و نشیر هنا إلی أن الأسری الفقراء من قریش الذین وقعوا فی قبضة المسلمین فی معركة بدر الكبری عام 2 للهجرة و الذین لم یستطیعوا أن یقدّموا فدیة نقدیة لإطلاق سراحهم كلف كل واحد منهم ممن یجید القراءة و الكتابة تعلیم عشرة من أطفال المسلمین فی المدینة القراءة و الكتابة لقاء اطلاق سراحهم و عودتهم بالتالی إلی دیارهم و أهلیهم «3» ..
و یحدثنا التاریخ أن كثیرا من هؤلاء قد قاموا بما كلفوا به من تعلیم كل واحد لعشرة من الأطفال فی المدینة و اصبحوا بعدها أحرارا و عادوا إلی مكة المكرمة، كما و اسلم بعضهم عند ما لمسوا بجلاء عدالة الشریعة و سماحتها و رحابة افقها.
فكیف یعقل هنا أن یجید قسم من الفقراء و معدمی القرشیین القراءة و الكتابة و لا یتقنها اغنیاؤهم و تجارهم و أرباب السلطان منهم ..
لذا نری جازمین مما تقدم أن التعلیم كان منتشرا عند بدء الرسالة و انطلاق نداء الوحی فی المدن الحجازیة بأكثر مما یورده الرواة
______________________________
(3) یمكن هنا اعتبار هؤلاء الأسری بتعلیم أطفال المسلمین أو غیرهم من الأمیین أول مدرسة قامت فی العصر الإسلامی إن صح تسمیتها مدرسة .. و هناك من عدّ الدار التی كان یختبی‌ء فیها الرسول (ص) مع المسلمین فی مكة المكرمة عند الصفا عند بدأ علنیة الدعوة و التی حفظ فیها الصحابة الأوائل الكثیر من الآیات الكریمة عد هذه الدار المدرسة الأولی للقرآن الكریم فی الإسلام ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 80
و المؤرخین فی كتبهم و تواریخهم و ان نسبتهم العددیة و ان كانت قلیلة بالنسبة إلی عموم الناس و سوادهم إلا أنها نسبة لا یستهان بها و أنها قد لا تكون بأقل من نسبة المتعلمین فی هذا العهد فی بعض الدول الأفریقیة الاستوائیة.
هذا و ان زیادة و ارتفاع نسبة المتعلمین بین الناس عند بعثة الرسول (ص)- كما تقدم- و خلافا لما أورده غالبیة الرواة و المؤرخین- لا یمكن أن یحمل علی غیر محمله فظن بأن هذا الأمر یخفف أو یقلل أو یصطدم مع معجزة الإسلام الخالدة- أو أی أصل أو فرع دینی آخر. بل أن العكس هو الصحیح، حیث أری- جازما- بأن وجود هذه الفئة القلیلة من المتعلمین عند نزول القرآن علی الرسول (ص) یعزز من قوة هذه المعجزة التی تحدت القوم و جابهتهم فی المیدان الذی یصولون فیه و یجولون و فی نفس السلاح الذی یحملونه فی أیدیهم و فی اللسان و المنطق الذی یجیدونه ..
بل اضیف إلی كل هذا بالقول بأنه لو لم یكن هناك فی البیئة الحجازیة أی متعلم أو كاتب أو كان و لكن بقدر أصابع الید الواحدة- كما یقول البعض- لكان وقع و صدی معجزة القرآن أقل و أدنی مما لو كانت أعداد المتعلمین كبیرة و نسبتهم العددیة عالیة ..
أما بصدد اجادة الرسول (ص) نفسه للقراءة و الكتابة، فقد ذهبت الغالبیة العظمی من المؤرخین و الرواة و كتاب السیر من تقدم منهم أو تأخر، ذهب كل هؤلاء إلی أن النبی محمد (ص) كان أمیا لا یعرف أن یكتب و لا اشتغل بمدارسه و لا بمثاقبه و لم یدخل مدرسة و لم یمارس تعلما «4» ..
______________________________
(4) المعجزة الخالدة- هبة الدین الشهرستانی، اعجاز القرآن- أبو بكر الباقلانی، آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن- محمد جواد البلاغی، تاریخ القرآن- إبراهیم الابیاری، تفسیر شبر- السید عبد اللّه شبّر، تاریخ التشریع الإسلامی- محمد
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 81
و إنی إذ أضم صوتی إلی أصواتهم لأورد مختصرا بعض النقاط و الملاحظات المتعلقة بذلك فأقول:
ان النبی (ص) كان أمیا بسبب اتخاذه بعد بعثته كتابا للوحی یسجّلون كلما أوحی إلیها- علی التفصیل الذی سنشیر إلیه فی فصل قادم- كما و لم نسمع بأن الرسول (ص) كتب شیئا أو دوّن رسالة أو خطا طیلة مدة حیاته، بل أن هذا العمل كان منوطا و مفوضا إلی الكتّاب الذین كانوا یدوّنون عنه كلما یطلب الرسول (ص) منهم ثم یوشّحه من بعد بختمه (مهره) إذا ما كانت هذه رسالة موجهة إلی جهة معلومة أو خطابا لفئة معینة ..
كما و ننقل هنا حادثتین طریفتین یتداولها المؤرخون فی بطون كتبهم تخصان هذا الموضوع هما:
الأولی و ملخصها هو أن العباس بن عبد المطلب عم النبی (ص) و هو بمكة كان قد كتب إلی النبی كتابا یخبره فیه بتجمع ذیول و فئات قریش و خروجهم لمنازلته (فی معركة أحد)، و ان العباس كان قد أرسل هذا الكتاب رفقة فتی من غفار، و ان النبی (ص) حین و رده هذا الغفاری استدعی علی الفور أبی كعب- و كان أحد كتّابه- و دفع إلیه الكتاب لیقرأه علیه، و حین فرغ- أبی- من قراءة الكتاب استكتمه النبی، و لو كان النبی (ص) غیر أمیّ لكفی نفسه مئونة دعوة أبی لقراءة كتاب العباس و لقرأه بنفسه «5» ..
أما الحادثة الثانیة فمفادها ان الإمام علی بن أبی طالب- ع- كان
______________________________
الخضری، تاریخ القرآن- ابی عبد اللّه الزنجانی، التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین، الدین و الإسلام- الشیخ محمد حسین كاشف الغطاء، دراسات فی علوم القرآن- الدكتور عبد القهار العانی، مباحث فی علوم القرآن- مناع القطان، موجز علوم القرآن- إبراهیم الأبیاری ..
(5) تاریخ القرآن- إبراهیم الابیاری.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 82
كاتبا لرسول اللّه (ص) فی عقد صلح الحدیبیة الذی تم عام 6 للهجرة، فكتب الإمام: «هذا ما صالح علیه محمد رسول اللّه» و لكن سهیل رسول القرشیین فی مكة أجاب: أنه لو علم بأنه رسول اللّه لما قاتلناه فطلب محوها، فقال رسول اللّه لعلی: أمحها فأمتنع علی عن محو جملة «رسول اللّه» فقال (ص) لعلی: أرنیه، فمسها النبی (ص) بیده و هذا العمل یدل علی أنه (ص) كان لا یقرأ و لا یكتب ..
هذا علما بأن هناك فئة من الذین یذهبون إلی أمیة الرسول (ص) تقصر و تصرف هذه الأمیة علی الفترة التی سبقت نزول الوحی و القرآن، لأن هذه الفترة فی نظرهم هی الموجبة لبقاء النبی امیا و هی التی ترفع الشك و الشبهة فی نسبة القرآن إلی غیر منزله، أما بعد هذه الفترة فلا وجوب و لا حكمة لبقاء النبی امیا، فضلا عن أنه لیس هناك شك أو شبهة حول القرآن بعد ان نزل إلی الأرض و قرأه الناس .. و تحتج هذه الفئة بأن لفظ «من قبله» فی الآیة الكریمة «و ما كنت تتلو من قبله ...» «6» یقصد به من قبل نزول الوحی و القرآن. كما و تحتج بأدلة و وقائع لا مجال لإیرادها فی هذا الموجز ..
و بعد فلا یمكن هنا و بحال من الأحوال أن یتصوّر بأن الأمیة هی اساءة للرسول (ص) أو منقصة له، بل هی فی الحق «من وجوه اعجازه و الإعجاب به صدوره من قبل النبی- الأمی- ربیب البادیة البعید عن حظائر الفنون النائی عن حواضر الحكماء و محاضر العلماء» «7» ..
و لو كان النبی (ص) غیر أمی (جدلا) فلربما ستثور بوجهه التقوّلات و الأراجیف بأن هذا القرآن أو بعضه من صنع یده و أن كافة ما جاء فیه من قصص الماضین و أحوال الغابرین هی مما تعلمها و سجّلها
______________________________
(6) مجمع البیان فی تفسیر القرآن- ابی علی الفضل الطبرسی.
(7) المعجزة الخالدة- هبة الدین الشهرستانی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 83
و أخذها من أبناء الیهود و المسیحیین فی خلال سفراته العدیدة إلی دیار الشام و إلی المدینة المنورة، و مما اطلع علیه من كتب الیهود القدیمة و مخلّفات القرون الأولی و من دون أن یبعثه اللّه تعالی إلی العالمین رسولا و نبیا ..
لذا جاء حكم اللّه الصارم فی القرآن بنفی اجادة الرسول (ص) للقراءة و الكتابة، و قد جاء حكم اللّه هذا فلأجل أن یقطع الطریق علی كل ما قد یتصور أو یشك أو یثار بصدد القرآن و نسبته إلی غیر خالقه اجل جاء حكم اللّه تعالی هذا القول: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِیَمِینِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ «8» لیؤكد كل ما قلناه آنفا من أمیة الرسول و عدم اجادته للقراءة و الكتابة ..
هذا و قد كان فی وسع أی شخص فی عصر النبوة أن یتعلم القراءة و الكتابة فی بحر فترة قصیرة من الزمن، و قد كان- من باب أولی- فی مكنة الرسول (ص) ان یتقنها فی فترة قیاسیة إذا رغب فی ذلك و لكن اللّه سبحانه آثر له البقاء بعیدا عن عالم القراءة و دنیا الحروف و الأرقام لیكون وقع معجزة القرآن علی الناس شدیدا و اثرها علیهم كبیرا، فضلا عن كشف كافة التقولات و التخرصات التی قد تثار بشأن مصدر القرآن إلی غیر منزله و موجده و هو اللّه تعالی ..
و رغم كل البراهین و الحجج الآنفة الذكر الخاصة بأمیة الرسول و عدم إجادته القراءة و الكتابة نجد هناك قلائل یذهبون إلی أن النبی (ص) كان یقرأ و یكتب بدعوی أن الأمیة هی نقص للفرد العادی فكیف الحال بالنسبة للرسول الكریم و الذی یلزم- بنظرهم- أن یكون ممن یقرأ و یكتب.
و قد قام هؤلاء بتأویل الآیات الكریمة الخاصة بأمیة الرسول (ص) تأویلا یتفق و وجهة نظرهم كما أشاروا إلی ما حصل له (ص) عند قرب
______________________________
(8) العنكبوت: 48.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 84
وفاته حینما قال (ص) «لو آتونی بدواة و قلم اكتب لكم شیئا لن تضلوا بعدی أبدا» حیث أن هذا القول یوحی بإجادة الرسول للكتابة ..
و الحقیقة هنا هو ان لفظ- اكتب- هو أمر بالكتابة أی یطلب من أحد الحاضرین كتابة ما یملیه علیه (ص) لا أن یكتب (ص) بنفسه و هو مسجی علی فراش الخلود فی انتظار لقاء ربه تعالی ..
هذا و قد حاولت فئة ثالثة- برزت هنا- التوفیق بین الرأیین المتضاربین الآنفین بخصوص امیة أو عدم امیة الرسول (ص) حیث خلصت للقول بأن الرسول (ص) كان فی الحق امیا لا یقرأ و لا یكتب و لكن كان فی مكنته ان شاء ان یقرأ و یكتب، أو یقول آخر قریب منه هو: ان الرسول (ص) كان یعرف أن یقرأ و یكتب و لكنه لم یباشر ذلك أبدا طیلة مدة حیاته ...
و لیس لدینا ما نقوله تعقیبا علی الرأیین الأخیرین غیر توجیه القارئ الكریم إلی الأدلة و الحجج الواردة آنفا و الخاصة بأمیة الرسول (ص) لكونها دلائل و براهین تتلقی مع المنطق و تتجاوب مع الواقع لذا فقد اعتمدتها الغالبیة الساحقة من المؤرخین و كتّاب السیر و الرواة و علی اختلاف طوائفهم و مشاربهم.
و قبل أن نترك هذا البحث نشیر إلی أن ما ورد فی القرآن الكریم من وصف للنبی (ص) بالأمی أو بعثه فی الأمیین فهو إما ان النبی كان أمیا- كما تقدم- و إما أن الغالبیة من أهل مكة كانوا امیین فنسب النبی إلیهم أو أن مكة المكرمة كانت أم القری فنسب النبی لها، كما و قیل هنا أیضا أنه یراد بالأمی: «ما یقابل أهل الكتاب الذین یحوزون الكتب المقدسة و یعرفونها، فالرسول (ص) لم یكن له علم بهذه الكتب المقدسة و لم یتلق منها و إنما جاءه العلم من عند اللّه تعالی و عن طریق الوحی» «9» ..
______________________________
(9) نظرة عامة فی تاریخ الفقه الإسلامی- الدكتور علی حسن عبد القادر.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 85
أما فی اللغة فأن اللفظ الأمی «فأصله المنسوب لأمه و أرید به من لا یقرأ من كتاب و لا یكتب لأنه كیوم ولدته أمه» «10» ..
أما عن الأحوال الاجتماعیة و الشئون الأخری التی كان یعیشها الإنسان العربی فی أرض الحجاز عند بدء الرسالة و مطلع النور فنشیر إلی أن الحالة التی كانت سائدة عند العرب حینذاك لا یمكن أن نعتبرها بسیطة ساذجة كما یقول الكثیر من الرواة و المؤرخین حیث «لم یكن فی الحقیقة ساذجا و فطریا سوی أحوال البدو فی الصحراء» «11» لأن ارتباط كل من مكة و المدینة بسوریا الرومانیة و بالعراق الساسانی و بالیمن فی الجنوب و بالیهود فی أطراف المدینة بل فی قلب المدینة نفسها جعلتهما- مكة و المدینة- «متأثرین بالقانون الرومانی و القانون الساسانی الفارسی و القانون الیهودی فیما كان معمولا به المعاملات المدنیة فی البلدان» «12» فضلا عن تأثرهم قبل ذلك أو بعده ببعض العادات و الطبائع و الأعراف الأخری ..
كما و كان هناك فی كل من مكة و المدینة بعض النظم الاجتماعیة التی تعود إلی النظام العربی الخالص و النظام القبلی القح و هی الأنظمة و الروابط و المواثیق المتعلقة بالأسرة و المواریث و الجنایات و القصاص فضلا عن القواعد التی كانت تطبق علی العقود و بعض أشكال معینة للشركات و المعاملات المالیة و الزراعیة فی المدینة و الطائف، و كل هذه «كانت تنمو و تزدهر و تتطور بالعلاقات التجاریة التی كانت تغذیها و تنعشها الأشهر الحرم «13» و الأسواق الكبری «14» و رحلات الشتاء و الصیف إلی
______________________________
(10) المصحف المیسر- الشیخ عبد الجلیل عیسی.
(11)،
(12) نظرة عامة فی تاریخ الفقه الإسلامی- الدكتور علی حسن عبد القادر.
(13) الأشهر الحرم هی أربعة: ثلاث منها متوالیات هی ذو القعدة و ذو الحجة و محرم، و الرابع هو شهر رجب الذی یقع بین جمادی و شعبان ..
(14) اهم الأسواق عند العرب هی: سوق عكاظ، المربد، ذی المجاز، هجر،
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 86
الیمن و الشام» «15» ..
و إلی جانب كل هذه كانت هناك أیضا «عادات و تقالید ظالمة و جائرة لا تتلاءم مع أبسط قواعد العدل و الإنصاف و لا تتفق مع أدنی و أبسط حقوق الإنسان» «15» و هذه العادات البالیة و إن لم تكن شائعة بین صفوف أبناء كافة القبائل و سكان المدن إلا أنها كانت منتشرة بین بعض أمهات هذه القبائل، و من هذه التقالید الغابرة الربا و شرب الخمر و المیسر و الدعارة و وأد البنات و تملیكها كجزء من تركة المتوفی و اشعال نیران الحروب لسبب بسیط أو بدونه كحرب الفجار و داحس و الغبراء و البسوس و التی قامت بین قبیلتی تغلب و بكر و امتدت إلی أربعین عاما هلك فیها الآلاف من أبناء القبیلتین، هذا بالإضافة إلی انتشار عبادة الأوثان و الأصنام «17» بین كثرتهم الكاثرة إلا من بعض الأفراد ممن یدعی بالحنفاء حیث كانوا یعبدون اللّه سبحانه و یكفرون بما سواه مثل ورقة بن نوفل و غیره من القرشیین ..
هذه هی حالة المجتمع العربی و هذا هو تاریخه واضحا و ساطعا و موجزا عند بدء نزول الوحی الأمین علی صدر الرسول (ص) و بدء ساعة الصفر فی الثورة الإسلامیة المباركة ..
______________________________
مجنة، دومة الجندل و هذه كلها اسواق سنویة «حولیة» كما و هناك أسواق أسبوعیه مثل «سوق الخمیس و الاثنین و الثلاثاء».
و كانت الأسواق تزخر بالناس من تجار و صناع و ادباء و خطباء و شعراء و ساسة و أشراف للبحث و التداول فی الشئون التجاریة و الاقتصادیة و الخطابیة و السیاسیة .... الخ.
(15) نظرة عامة فی تاریخ الفقه الإسلامی- الدكتور علی حسن عبد القادر ..
(17) قیل فی التفریق بین الأصنام و الأوثان ان الصنم هو ما عمل من خشب أو ذهب أو فضة علی صورة انسان و إذا عمل هذا من حجارة فیصبح وثن ..
و هناك من لا یفرق بینهما: انه إذا كان ما یعبد حجرا علی غیر صورة فهو نصب و ان كان تمثالا سمّی صنما و وثنا ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 87
فكیف- یا تری- سیكون وقع صوت الوحی و نداء الحق علی مسامع أفراد هذا المجتمع و كیف سیغدو اثره و انعكاساته علی أفكارهم و أحلامهم و كیف ستكون استجابتهم له ..
ان كل الإجابات علی التساؤلات الآنفة ستكون مواضیع الفصول التالیة بإذن اللّه ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 89

القرآن فی طریقه إلی الأرض‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 91
نزل القرآن الكریم علی الرسول (ص) نجوما «نجما» فی مدة 23 سنة و هی «الفترة التی تكامل فیه الكتاب العظیم نزولا و ترتیبا بین سوره و آیاته» «1» و ذلك استنادا إلی بقاء و اقامة الرسول (ص) فی مكة المكرمة قبل الهجرة مدة 13 «2» سنة و اقامته فی المدینة المنورة من بعدها مدة 10 سنوات حتی لحق برحاب ربه راضیا مرضیا ..
و قیل إنه نزل فی أقل من ذلك و علی وجه التحدید و الحصر فی مدة 22 سنة و 3 شهر و 22 یوم «3».
و كان أول ما نزل من القرآن هو ما جاء فی دعوته سبحانه لرسوله و ابناء الأمة كافة للقراءة و التعلیم و تذكیرهم بخلقتهم الأولی و أصل نشأتهم اضافة للإشارة إلی وحدانیته و عطفه علی الخلق بقوله تعالی: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِی خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِی عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ یَعْلَمْ «4» ..
لقد كان نزول هذه الآیات الكریمة یوم الاثنین 17 رمضان للسنة
______________________________
(1) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(2) و فی هذا المعنی قال الشاعر:
ثوی فی قریش بضع عشرة حجةیذكّر لو یلقی صدیقا مواتیا
(3) الاتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
(4) سورة العلق- الآیة الأولی و ما بعدها.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 92
40 من میلاد الرسول (ص) المصادف 1 شباط أو 6 آب (بقول آخر) من سنة 610 میلادیة، و فی غار حراء فی أعلی جبل النور الذی یقع علی بعد 5 كیلومتر من مكة و علی یسار الشخص المتجه إلی منی و عرفات من مكة، و الذی كان الرسول (ص) یتعبّد فیه و یخلو به قبل أن یبعثه اللّه بالرسالة و یصطفیه بالنبوة ..
كانت ساعة الصفر فی قیام الثورة الإسلامیة قد دقت عند ما دوّی جنبات غار حراء صوت عال متسم بالوضوح و الجلاء و قاضیا علی سكون الغار و صمته مخاطبا الرسول (ص) ب: اقرأ فیجیبه ما أنا بقارئ ...؟ و هكذا یتكرر النداء ثلاثا حتی یعود الصوت لینشد البیان الأول لقیام الثورة و بدء مرحلة القضاء علی أوكار الوثنیة و قلاع الكفر و تصفیة جیوب الانحراف و المقاومة، و هذا البیان التاریخی كان: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِی خَلَقَ ... الخ.
و ما كان علی الرسول (ص) بعد أن أصبح الثائر الأول علی الأرض العربیة إلا أن یردد فی تؤدة و هدوء كلمات هذا البیان الذی سمعه لتوه مرة و مرة و مرات بعد أن یكون الطارق الجدید قد أنهی مهمته الأولی فی نقل البیان الأول و انصرف عائدا لا یلوی علی شی‌ء ..
و ما هی إلا لحظات قلیلة حتی یغادر الرسول (ص) موقع الغار مسرعا تلقاء داره لیخفّف عن كاهله وطأة هذا الحدث الجبار الذی ألمّ به، و لیری فیه من یفسر له حقیقة ما سمعه لتوه، و ما أن یتوسط الجبل و إذا به (ص) یسمع من أعالی السماء نداء مماثلا للذی سمعه قبل قلیل یقول له: «یا محمد أنت رسول اللّه إلی الناس كافة و أنا الأمین جبرائیل» و ینقطع الصوت و یغیب الوحی لیخیم علی جنبات المنطقة و الودیان التی تتخللها صمت رهیب كصمت القبور ..
لقد عرف الرسول (ص) اثر هذا و ذاك أن الأمر لم یكن إلا حقیقة و واقعا و أنه غدا من هذه اللحظة رسول الثورة إلی الناس كافة. و ان علیه
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 93
الآن أن یكون فی مستوی المهمة التی أوكلت له، و أن كل الذی حصل له فی سواد یومه لم یكن من خیالات النفس و أوهام الیقظة بل الحقیقة الواضحة و الواقع الجلی وضوح الشمس و جلاء النور لذی عینین ...
جاء النبی (ص) بعد كل هذه الأحداث المتتابعة إلی داره من أقصر الطرق، و من دون أن یعرّج أو یمر بأحد و حال وصوله إلی أرض الدار یلقی بنفسه إلی حجر زوجته خدیجة بنت خویلد «5» طالبا منها أن تدثره علی الفور، فما عتمت هذه الزوجة البارة أن لمست من خلال قسمات جبین زوجها أن شیئا جدیدا قد حدث له فی یومه هذا، فقادها تفكیرها إلی أن أمرا خطیرا قد كلف زوجها (ص) به، و لكن- یا تری- ما هو حقیقة كل ذلك حیث لا أحد یعرف سر ذلك إلا شخص واحد فقط علی وجه البسیطة و هو زوجها (ص) ..
لذا استجمعت قواها و صممت علی الوقوف علی حقیقة الأمر، فاقتربت منه (ص) و سألته عما شاهد أو سمع فی سحابة یومه، و لكنه (ص) طلب منها التریث قلیلا لیقصّ علیها بعد حین حقیقة الوحی الذی نزل علیه و الرسالة التی كلف القیام بها و البیان الأول الذی سمعه لتوه ..
و بعد صمت مطبق خیّم علی أرجاء الغرفة اثر نقل حركة الدعوة الإسلامیة إلی أسماع المرأة التی أصبحت المسلمة الأولی فی التاریخ، فإذا بها تجیب زوجها بكلام یطمئن قلبه و یبعث فیه السكینة و الهدوء بقولها: «كلا و اللّه ما یخزیك اللّه أبدا، انك لتصل الرحم و تحمل الكل
______________________________
(5) خدیجة بنت خویلد (الكبری) هی الزوجة الأولی للرسول (ص) حیث تزوجها بعد وفاة زوجها و عمرها (40) سنة بینما كان عمر الرسول (25) سنة، و لم یتزوج الرسول علیها حتی انتقالها إلی جوار اللّه تعالی، و لأموالها- رحمها اللّه- دخل كبیر فی انتصار الإسلام و نشر رسالته حتی قیل فی الأمثال: لم یقم للإسلام قائمة إلا بكفاح النبی (ص) و أموال خدیجة و سیف علی- ع- و كانت أول مسلمة فی الإسلام، توفیت فی السنة التی توفی فیها أبو طالب عم النبی فكان عاما للأحزان و نكسة للمسلمین و هی السنة الثالثة قبل الهجرة ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 94
و تكسب المعدوم و تقری الضیف و تعین علی نوائب الحق، فابشر یا ابن العم و اثبت فو الذی نفس خدیجة بیده انی لأرجو أن تكون نبی هذه الأمة» ..
فوضعت یدها فی یده (ص) لتصبح أول من یلبی دعوة السماء و نداء الثورة من النساء، ثم یدخل بعد فترة صهرها امام الهدی علی بن أبی طالب- ع- لیضع هو الآخر یده فی ید ابن عمه (ص) لیكون أول من یسلم من الرجال، ثم یلیها بعد ذلك أبو بكر الصدیق (رض) لیصبح المسلم الثالث علی وجه الأرض ..
لم یهدأ روع خدیجة من كل الذی سمعته و لم یقر لها قرار و باتت فی انتظار من یطمئن لها قلبها و یزید فی یقینها و ما آمنت به، فلم تجد بدا من الإسراع تلقاء الدار التی كانت تقیم فیها سابقا حیث یقطنها قریبها ورقة بن نوفل بن عبد العزی «6» ففاتحته بالقصة كاملة فی انتظار ما سیجیب علیها من أجل أن یطمئن قلبها و تزداد قوة و مضاء فی دعم الرسالة الجدیدة ..
فما كاد ورقة یفرغ من سماع حدیث خدیجة حتی انتفض قائما و كأنه عثر علی ما كان یبحث عنه و أجاب خدیجة بقولته الشهیرة التی تحدث بها الركبان و التی جاء فیها: «لئن كنت قد صدقتینی یا خدیجة فیما قلتیه لی- و ما أظنك إلا صادقة- فقد جاء زوجك أمین الوحی (الناموس) الذی اتی موسی من قبل و أنه لنبی هذه الأمة، فقولی له
______________________________
(6) ورقة بن نوفل ینتسب إلی قریش و هو حكیم جاهلی، اعتزل الأصنام و الأوثان و تنصر قبل الإسلام و كان شیخا كبیرا قد كف بصره، و قد قرأ كتب الأدیان و اطّلع علی ما ورد فیها بصدد النبی الموعود و الرسول المنتظر، و كان یكتب اللغة العربیة بالحروف اللاتینیة، أدرك عصر النبوة و لم یدرك الدعوة، و هناك من یعده من الصحابة و له شعر جمیل سلك فیه مسلك الحكماء، توفی- رحمه اللّه- نحو سنة 12 قبل الهجرة ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 95
فلیثبت فإنه ذائق من قومه ما ذاقه اخوانه موسی و عیسی من قبله، فطوبی لمن یؤمن به و من یصدّقه» «7» ..
و عادت خدیجة و هی مثقلة بالأقوال التی سمعتها آنفا إلی زوجها لتروی له كل ذلك من أجل مضاعفة عزیمته و تصمیمه علی النضال و الكفاح، فحكت له (ص) كل ما سمعته، فما كان منه (ص) إلا أن حمد اللّه تعالی علی ما اصفاه لأداء الرسالة و آثره لتبلیغها إلی الناس كافة رغم ما سینتظره فی سبیل ذلك من عقبات و مكاره و هو أمر طبیعی عند طرح أیة فكرة جدیدة و نشرها بین صفوف أناس یؤمنون بسواها ..
هذا و أن الوحی الذی جاء الرسول (ص) كان قد انقطع عن النزول علیه مدة قیل أنها (40) یوم و قیل ثلاث سنوات و هی المدة التی تدعی ب «فترة انقطاع الوحی» و هی الفترة التی اتخذت الدعوة و الثورة فیها جانب السریة و التكتم و لم تصل أنباؤها و أخبارها إلی صفوف قریش و أقطابها، لذا لم تلق الدعوة فی طریقها أیة عقبة أو معارضة من قبل طواغیت مكة و طغاتها ..
ثم یعود الوحی بعد مضی هذه الفترة- و هی ثلاث سنوات علی أصح الأقوال- و بعد أن «تركه خلالها فی حیرة یزرع دروب الصحراء الملتهبة یكاد یجزع من أمر هذا الصوت الذی نزل علیه ثم انقطع عنه» «8» یعود لیستأنف نزوله كرة أخری لمتابعة تبلیغ البیانات الإعلانات التالیة للثورة حیث كان البلاغ و البیان الثانی و التالی هو: یا أَیُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ وَ ثِیابَكَ فَطَهِّرْ وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ «9».
و عند الفراغ من اذاعة هذا البیان شعر الرسول (ص) بمبدإ أو
______________________________
(7) القرآن- محمد صبیح.
(8) القرآن- محاولة لفهم عصری- مصطفی محمود.
(9) المدثر: 10 و ما بعدها.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 96
انتقال الدعوة و الثورة من عهد السكون و التخفی إلی عهد الحركة و المجابهة، لذا فقد توجه الرسول (ص) إلی جبل الصفا بمكة و وقف علی قمته ثم هتف برفیع صوته: «یا معشر قریش .. یا معشر قریش ...» فاجتمعت جموع البلد و فرسان قریش من كل حدب و صوب، ثم استأنف الرسول (ص) قوله: «یا معشر قریش أ رأیتم لو أخبرتكم أن خیلا بسفح هذا الجبل ترید أن تغیر علیكم أ كنتم تصدقونی ..؟» فأجابت جموع قریش المحتشدة: «نعم أنت عندنا غیر متهم و ما جرّبنا علیك كذبا قط» فقال النبی (ص): «إذن فاسمعوا أنی نذیركم بین یدیّ عذاب شدید، إن اللّه أمرنی أن أنذركم و عشیرتی الأقربین و انی لا أملك من الدنیا منفعة و لا من الآخرة إلا أن تقولوا لا إله إلا اللّه» ..
و كان عمه أبو لهب «10» من الحاضرین فأجاب غاضبا: «أ لهذا جمعتنا هذا الیوم تبا لك، تفرّقوا أیها الناس عن هذا الضال و لا تعیروا لقوله أذنا واعیة أو كبیر أهمیة» فتفرّق القوم هنا و هناك ..
و مرة ثانیة یدعو (ص) عشیرته و أقاربه لمأدبة اعدها الإمام علی- ع- فی بیت أبیه أبی طالب و بعد اكتمال نصابهم و انتظام جمعهم الذی بلغ الأربعین فردا خطبهم الرسول (ص) فقال: «ألا و ان الرائد لا یكذب أهله، و اللّه لتموتن كما تنامون و لتبعثن كما تستیقظون و لتحاسبن كما تعملون و لتجزون بالإحسان احسانا و بالسوء سوءا و أنها لجنة أبدا أو نارا أبدا ..» ثم أضاف (ص): «یا بنی عبد المطلب إنی و اللّه ما اعلم
______________________________
(10) رغم ان أبا لهب هو عم الرسول (ص) إلا أن هذه القرابة لا تغنی عن اسلامه شیئا، فالإسلام هو المعول علیه فی الإكرام و القرابة و هو الحجر الأساس فی رفعة الفرد و عزته لا أی اعتبار آخر و فی هذا المعنی قال الشاعر:
لقد رفع الإسلام سلمان فارس‌و قد وضع الشرك الشریف أبا لهب كما و قال شاعر آخر فی هذا المعنی:
كانت مودة سلمان لهم رحماو لم یكن بین نوح و ابنه رحم
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 97
إنسانا فی العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، لقد جئتكم بخیر الدنیا و الآخرة و قد أمرنی ربی ان أدعوكم إلیه فأیكم یؤمن به و یؤازرنی علی هذا الأمر علی أن یكون أخی و وصی و وزیری و خلیفتی فیكم».
فسكت الجمیع ثم ضحك البعض ساخرین من هذه القولة، بینما نهض من بینهم الإمام علی- ع- و قال: «أنا یا نبی اللّه أكون وزیرك علی ما بعثك اللّه به و حرب علی من حاربت و سلم لمن سالمت» ..
فقال الرسول (ص) بعد أن أخذ برقبة الإمام علی- ع-: «هذا أخی و وصیی و وزیری و خلیفتی من بعدی فیكم فاسمعوا له و اطیعوا» «11» ..
و بعد هذه الواقعة اخذت الآیات الكریمة تأخذ طریقها تباعا إلی صدر الرسول (ص) من دونما انقطاع أو تأخیر حیث مضی إلی غیر رجعة عهد سریة الدعوة و انقلبت هذه إلی معركة علنیة، و أخذ أفراد المسلمین یزدادون و یتضاعفون بمرور الوقت و شیئا فشیئا، كما أخذت فی نفس الوقت مقاومة قریش و عدوانها هو الآخر یزداد و ینمو من أجل الحد من اندفاع حركة الدین الجدید و إیقاف زخم تقدمه و تفشیه و بالتالی محاولة القضاء علیه و هو عقر داره ..
و لكن حكم اللّه تعالی و امره كان قد تقرر و صدر و مفاده هو أن یكون النصر و الفلاح فی النهایة حلیفا لهذا الدین الجدید و ثواره البواسل، و أن تكون جهود و مساعی اعدائه من القرشیین و طواغیت الكفر و من شایعهم إلی بوار و فشل، فكان كما أراد اللّه تعالی إذ انتصرت الدعوة الجدیدة و عم الدین الحنیف بطاح الأرض و تمزق أعدائه بین مشهر لإسلامه و بین صریع تحت سنابك خیول المسلمین و سیوفهم تلاحقهم لعنة التاریخ و البشریة ..
أما عن آخر ما نزل من القرآن الكریم فهو قوله تعالی: الْیَوْمَ
______________________________
(11) حیاة محمد- الدكتور محمد حسین هیكل (الطبعة الأولی)، الإسلام علی ضوء التشیع- الشیخ حسین الخراسانی، بحار الأنوار- محمد باقر المجلسی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 98
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِینَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْكُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِیناً «12» و لم ینزل علی النبی (ص) بعد هذه الآیة شی‌ء من الفرائض و لا تحلیل و لا تحریم شی‌ء ..
و قد هبطت هذه الآیة فی غدیر خم بین مكة و المدینة بعد الخطبة الشهیرة التی ألقاها الرسول (ص) علی جموع المسلمین الذین تجاوز عددهم علی المائة ألف نسمة، و حین الفراغ من حجة الوداع عام 10 هجریة و قبل أن یتفرّق هؤلاء المسلمون و ینطلقوا إلی أمصارهم و دیارهم و هی الخطبة المسماة ب «خطبة الوداع» حیث أحاط بها الرسول (ص) المسلمین علما بأحكام دینهم و شئون دنیاهم فخوّفهم من عذاب اللّه و رغبهم فی رضوانه و عبّد لهم السبیل موصل للوحدة و الحریة و العدالة الاجتماعیة، كما و حذرهم منها من ارتیاد و سلوك الطرق المفضیة للخلاف و الشقاق و النزاع و مؤكدا فیها بلزوم التمسك بالثقلین كتاب اللّه و عترته الطاهرة حیث انهما لن یفترقا حتی یردا علیه الحوض یوم القیامة، و قد حرص (ص) بعد كل أمر أو نهی علی تردید العبارة الخالدة: «ألا هل بلغت اللهم اشهد» «13».
و قد كان تاریخ إلقاء هذه الخطبة علی وجه الحصر فی 18 ذی الحجة من السنة العاشرة للهجرة حیث كان عمره الشریف (ص) حینذاك 63 سنة و قبل ارتحاله إلی رحاب اللّه بفترة قصیرة ..
كما و قد قیل هنا أن آخر ما نزل من القرآن هو قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِیَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ «14»، و قیل كذلك هو قوله تعالی: یَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ یُفْتِیكُمْ
______________________________
(12) المائدة: 3.
(13) الغدیر فی الكتاب و السنة- الشیخ عبد الحسین الأمینی.
(14) البقرة: 278. لمحات من تاریخ القرآن 99 القرآن فی طریقه إلی الأرض
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 99
فِی الْكَلالَةِ «15»، كما و قیل أن آخر ما نزل هو قوله سبحانه: وَ اتَّقُوا یَوْماً تُرْجَعُونَ فِیهِ إِلَی اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّی كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا یُظْلَمُونَ «16».
و السر فی اختلاف الروایات فی آخر ما نزل من القرآن هو غلبة ظن الرواة و اجتهاداتهم، فكل واحد یروی ما سمعه من الرسول (ص) قبل مرضه ثم فارقه ..
هذا ما كان من حال آخر آیة نزلت من القرآن، أما بشأن نزول آخر سورة كاملة علی الرسول (ص) فقد قیل «17» هی سورة براءة كما و قال آخرون أنها سورة الأنعام و التی ذكر أنه «قد شیّعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبیح و التحمید حتی نزلت علی الرسول (ص) «18»» ..
أما عن أول أول سورة نزلت بتمامها علی الرسول (ص) فقد قیل أنها سورة الفاتحة «19» و قیل غیرها ..
و نشیر بعد ذلك إلی أنه سبق أن قلنا فی مطلع هذا الفصل إلی أن القرآن الكریم كان قد نزل نجوما أی متفرقا و دفعة دفعة، فكیف- یا تری- یمكن أن نوفق بین قولنا هذا و بین ما جاء فی قوله تعالی: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِی أُنْزِلَ فِیهِ الْقُرْآنُ هُدیً لِلنَّاسِ وَ بَیِّناتٍ مِنَ الْهُدی وَ الْفُرْقانِ «20» و قوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ ..
أن الجواب علی هذا التساؤل یتلخص فی أن المقصود من الآیات الكریمة الآنفة الذكر هو أن اللّه تعالی كان قد أنزل القرآن الكریم جملة واحدة فی لیلة القدر من شهر رمضان المبارك أنزله إلی اللوح المحفوظ ثم إلی بیت العزة من السماء الدنیا، ثم تولی سبحانه إنزال الآیات تباعا
______________________________
(15) النساء: 176.
(16) البقرة: 281، التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(17) البرهان فی تفسیر القرآن- السید هاشم البحرانی.
(18) مقدمتان فی علوم القرآن- آرثر جفری.
(19) مجلة منبر الإسلام- العدد العاشر تفسیر سورة الفاتحة.
(20) البقرة: 185.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 100
و متفرقة من المكان الأخیر إلی صدر الرسول (ص) مدة بعثته و بحسب الحاجة و الطلب، و هذا یعنی «أن هناك ثلاثة تنزلات للقرآن الكریم» «21» ..
و یرتب البعض «22» علی تعدد التنزلات هذه هو «ان الرسول (ص) حین تنزل علیه الآیات و السور كان علی علم سابق بمحكم القرآن لنزوله علیه جملة دفعة واحدة و هو ما یلوح من قوله تعالی: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ یُقْضی إِلَیْكَ وَحْیُهُ «23» ..
لقد أشرنا آنفا إلی أن القرآن الكریم لم ینزل علی الرسول (ص) من السماء الدنیا جملة واحدة و دفعة واحدة لأنه لو فرضنا- جدلا- أنه نزل بهذه الكیفیة- جملة واحدة- لتحوّل عاجلا إلی كلمة مقدسة ساكنة و فكرة هادئة و مجرد وثیقة دینیة، و لیس مصدر و سبب لبعث الأمل و الحیاة فی الفكرة الناشئة و الدعوة الجدیدة، إضافة إلی ذلك فإن نزوله جملة واحدة سیكون «للكافرین وجه من العذر یلبس الحق بالباطل و ینفّس علیهم أمر الإعجاز و یهوّن فی أنفسهم من الجملة بعض ما لا یهون من التفصیل» «24» ..
أجل لم ینزل القرآن جملة واحدة علی صدر الرسول (ص) و إنما نزوله هذا كان مفرقا كل بضع آیات معا و دفعة دفعة و ذلك لأسباب عدیدة منها تسهیل حفظه و ضبطه و لیكون أقرب للفهم و القبول و أبعد عن النسیان، و كان «نزوله نجوما حسب مقتضیات حوادث المجتمع الإسلامی، لذا سمیت هذه الحوادث بأسباب النزول» «25» نحو جواب
______________________________
(21) دراسات فی علوم القرآن- عبد القهار العانی.
(22) موجز علوم القرآن- داود العطار.
(23) طه: 114.
(24) اعجاز القرآن و البلاغة النبویة- مصطفی صادق الرافعی.
(25) تاریخ التشریع الإسلامی- الشیخ محمد الخضری، فلسفة التشریع فی
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 101
علی بعض الأسئلة و الاستفسارات التی یسأل عنها الرسول الأمین أو بیان لأنواع التكالیف الدینیة و الأخبار عن الحوادث و الأحداث السابقة و الإشعار عن المغیبات و الوقائع القادمة، اضافة إلی ذلك فإن نزوله بهذه الطریقة كان یراعی فیه «الحاجات المتجددة و وفق النمو المطّرد فی الأفكار و التصورات و النمو المطّرد فی المجتمع و الحیاة و وفق المشكلات العملیة التی تواجهها الجماعة المسلمة فی حیاتها الواقعیة» «26» ..
كما أن نزوله بهذه الكیفیة كان یبتغی منه العزاء العاجل لكل ألم أو مصیبة تلم بالرسول و آله و أصحابه و الجزاء لكل تضحیة و الأمل لكل هزیمة و الدرس لكل نصر و الجهد لكل عقبة و اسباب التشجیع لكل خطر أو عقبة، فضلا عن أن نزوله بهذا السبیل كان یراعی فیه أیضا تقبل العرب لاستبدال عاداتهم القدیمة بالأحكام الجدیدة.
هذا و یمكن هنا اجمال و حصر كافة الأسباب الحقیقیة فی نزول القرآن منجما علی الرسول (ص) و التی أشرنا إلیها آنفا، یمكن اجمالها فی نقاط عدة لیتاح للقارئ حفظها عند اللزوم و هی.
1- أن نزول القرآن منجما هو من أجل أن یقوی قلب الرسول (ص) عند محاجة قومه و تحدیهم بأن یأتوا بمثله، لأن الوحی إذا كان یتجدد فی كل حادثة و فی كل واقعة كان أقوی و أثبت للقلب و اشد عنایة و رعایة بالرسول ..
2- أن نزوله مفرقا و شیئا فشیئا هو أقرب و أسهل للحفظ و الاستظهار و التدوین فیما إذا هبط جملة واحدة، و لا سیما و انه لیس لدی غالبیة العرب من الوسائل الكتابیة ما یضبط أو یحفظ كل ما ینزل من الوحی إلا وسیلة التكرار و الحفظ ..
______________________________
الإسلام- الدكتور صبحی المحمصانی لقد تم اعداد فصل خاص بأسباب النزول فی نهایة الكتاب.
(26) معالم فی الطریق- سید قطب.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 102
3- آثر اللّه سبحانه أن یكون هناك ناسخ و منسوخ فی الآیات المنزلة فربما حكم كانت المصلحة و الرحمة بالناس تتطلب اخذهم به علی مراحل كتحریم الخمر مثلا، و لا یمكن أن یتصور حصول هذا الأمر بدون أن ینزل القرآن متفرقا ..
4- تطلّبت الحكمة و أسالیب الدعوة بأن یكون من القرآن أجوبة لاستفسارات و حلا لمشكلات واقعة و بیان الحوادث و وقائع و انكار علی قول لیكون أقرب للقبول و أبعث للیقین و لا یكون ذلك إلا إذا جاء القرآن دفعة دفعة و أثر كل استفسار و بعد كل قول أو طلب ..
علما بأن قلیلا ما كانت تنزل الأحكام مبتدئة بغیر سؤال من أحد الناس، أما الأحكام التی أنزلت بدون حادث أو سؤال فهی آیات تقل كثیرا جدا عما جاء اجابات علی أسئلة متصلة بأحداث معینة ..
5- لو أن القرآن الكریم نزل كله جملة واحدة لكان لانقطاع الوحی عنه (ص) بعد ذلك اثر كبیر فی استشعاره الوحشة و الغربة، و مهما یكن الرسول قد اوتی من العزیمة و الصبر فإن لبشریته أیضا أثرا بینا فی حیاته ما دام بشر «27» ..
6- أن فی التفریق رحمة و لطفا للعباد، فلو نزل القرآن دفعة واحدة لثقلت التكالیف و الأعباء فتنفر لذلك قلوبهم و ترفض نفوسهم عن قبول كافة الأوامر و النواهی فی آن واحد و دفعة واحدة ..
لذا جاء التشریع متدرجا مع الوقائع الفردیة و الأحداث الاجتماعیة تبعا لنزول القرآن و هبوطه متفرقا و نجوما لأن التدرج مع التنظیم خیر من العجلة و السرعة مع الفوضی و الارتباك ..
هذا و لو لا أن الحكمة الإلهیة و الرغبة الربانیة قد آثرت نزول القرآن إلی الأرض منجما بحسب الوقائع و المناسبات لأهبطه اللّه علی الرسول
______________________________
(27) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 103
(ص) جملة واحدة كأغلب الكتب الدینیة المنزلة من قبل، و لكن اللّه تعالی اختصّ و میّز القرآن عنها فجعل لها الحسنیین، فی إنزاله جملة واحدة إلی سماء الدنیا ثم إنزاله من المحل الأخیر إلی الأرض مفرّقا، و هذا هو تشریفا و تكریما من اللّه تعالی للمنزل علیه و المنزل به و تعظیما لهما ..
و بصدد عدد و كمیة الآیات التی كانت تنزل فی كل دفعة علی الرسول (ص) فالحق أنها كانت تنزل نجوما الواحدة و الاثنان و الأكثر، كما و قیل «28» أنه صح نزول بعض آیة علی الرسول (ص) كما فی قوله تعالی: «غَیْرُ أُولِی الضَّرَرِ» «29» و كذلك فی قوله سبحانه: «وَ إِنْ خِفْتُمْ عَیْلَةً» «30» ..
كما و قد كانت تنزل تارة سورة بجملتها كما فی الفاتحة و المدثر و یوسف و الأنعام، و یقال عن السورة الأخیرة أنها نزلت كلا فی مكة المكرمة دفعة واحدة عدا ثلاث آیات منها نزلت فی المدینة المنورة.
«كانت هذه الآیات و السور تنزل علیه (ص) بین وقت تتابع أحیانا و تبطئ أحیانا أخری» «31» ..
و القاعدة العامة بخصوص نزول السور كاملة هو أن كل سورة یتّحد موضوعها أو تتداعی مواضیعها تداعیا كبیرا و یلتزم فیها نسق معین فیرجح أنها نزلت جملة واحدة بینما نجد أن السور التی تختلف مواضیعها و تتباعد و لا تتداعی و لا تلتزم بآیاتها نسق معین فیرجح نزولها متفرقة ..
و هكذا و علی الترتیب و السبیل المتقدم كان نزول الآیات علی الرسول «ص» حتی أكملت الشریعة الإسلامیة الغراء بتمام نزول القرآن.
______________________________
(28) مباحث فی علوم القرآن- الدكتور صبحی الصالح، تاریخ القرآن- ابی عبد اللّه الزنجانی.
(29) النساء: 95.
(30) التوبة: 28.
(31) المصحف الشریف- الدكتور محمد عبد العزیز مرزوق.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 104
أما أساس هذه الشریعة فی القرآن فقد روعی فیه الأمور الثلاثة التالیة و هی «32»:
1- عدم الحرج: و هو عدم تكلیف الإنسان فوق طاقته، اضافة إلی التسهیلات التی یجدها عند الضرورات.
2- تقلیل التكالیف: و ذلك إلی أدنی حد ممكن لقوله (ص):
«جئتكم بالشریعة السهلة السمحاء» ..
3- التدرج فی التشریع: و ذلك حتی تتقبل للأحكام البدائیة و الأولیة و تعتاد علی ممارستها لیمكن استجابتهم بعد ذلك و بسهولة لأحكام رئیسیة اخری، فضلا عن أن عملیة تغییر الإنسانیة و بنائها- و الذی جاء القرآن من أجلها- یستدعی و یتطلب هذا التدرج ..
هذا و قد استعمل القرآن الكریم فی أسلوبه و بیانه الحقیقة و المجاز و العموم و الخصوص و الإطلاق و التقیید و التصریح و الكنایة و الإیجاز و الإسهاب علی نمط العرب فی لغتهم و كلامهم مع علوّه و سموّه علی اللغة العربیة بفنونه و علومه و قصصه و تعابیره علی النحو الذی سنراه مفصلا فی الفصول القادمة ..
أما عن كیفیة مجی‌ء الوحی إلی الرسول (ص) أو بتعبیر آخر كیف كان الرسول أو غیره من الأنبیاء و المرسلین یتلقون آیات اللّه البینات المنزلة علیهم، فأشیر إلی أن هذا الأمر كان یتم علی واحد أو أكثر من الوسائل و الطرق التالیة:
1- أن یسمع الرسول أو النبی كلام الملك (الوحی) من وراء حاجز دون أن یشاهده أو یراه بعینه ..
2- أن یسمع الرسول كلام الملك كما و یراه أمامه جلیا، و هذا
______________________________
(32) تاریخ التشریع الإسلامی- الشیخ محمد الخضری.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 105
الوضع هو الذی یفرّق و یمیز بین درجة الرسول و درجة النبوة (الرسالة و النبوة) فالرسول وحده هو الذی فی استطاعته و مكنته مشاهدة الملك و سماع قوله فضلا عن أن دعوته تكون عامة و شاملة، بینما النبی الذی تكون دعوته محدودة و محصورة ببلده أو قومه أو ربما بأهل بیته یكون اتصاله و ارتباطه بالملك محدودا أیضا و فی إطار و حدود السماع فقط دون الرؤیة و المشاهدة ..
3- أن یأتی الملك للرسول أو النبی فی النوم (الیقظة) فیكلمه حول الآیات المنزلة، علما بأن رؤیا الرسول أو النبی لا تأتی إلا كمثل فلق الصبح أو الشمس فی رابعة النهار وضوحا و جلاء و كما هو الحال فی رؤیا الخلیل إبراهیم و مشاهدته و هو یذبح ولده إسماعیل و رؤیا الرسول محمد (ص) حول دخوله البیت الحرام آمنا ..
و قیل أن هناك علاوة علی ما تقدم طرق و سبل أخری للاتصال و التلقی من الوحی منها أن ینفث الوحی فی روع الرسول الكلام المنزل نفثا و منها أن یأتیه كصلصلة الجرس أو أن یكلمه من وراء حجاب «33» ..
كما و نود أن نشیر هنا أیضا إلی أمر آخر و هو هل سبق و ان نزلت سور أو آیات لأكثر من مرة واحدة علی صدر الرسول (ص) عند تجدد نفس الحادثة أو السبب الذی نزلت من أجله السورة أو الآیة، و هو المعبر عنه ب «تعدد النازل و السبب واحد» أو عند عدم تجدده ..
لقد قیل بصدد هذه الحالة أنه لا یمنع من ذلك، فهناك آیات و سور عدیدة فی القرآن الكریم نزلت مرتین فیقال بأن «سورة الفاتحة نزلت علی الرسول مرتین» «34» و أنها مكیة مدنیة معا، فقد «نزلت بمكة حین فرضت الصلاة ثم نزلت بالمدینة حین حوّلت القبلة إلی الكعبة» «35» ..
______________________________
(33) روح الدین الإسلامی- عفیف عبد الفتاح طبارة.
(34) البرهان فی علوم القرآن- بدر الدین الزركشی.
(35) تفسیر النسفی- عبد اللّه النسفی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 106
و قیل أیضا أن الآیة وَ یَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّی وَ ما أُوتِیتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِیلًا «36» هی الأخری نزلت مرتین فی مكة و المدینة «37» ..
أما علة نزول السور أو الآیات لمرتین أو أكثر فیقال أنها لأجل التعظیم و التذكیر و «لحكمة أرادها اللّه» «38» ..
هذا و مثلما هناك سور أو آیات نزلت مرتین فهناك أیضا آیة أو آیات تتشابه فیما بینها باللفظ أو مع وجود فرق بسیط بینهما فی بعض الكلمات أو التراكیب ..
و من هذا النوع هو قوله تعالی: وَ اتَّقُوا یَوْماً لا تَجْزِی نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَیْئاً وَ لا یُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا یُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ یُنْصَرُونَ «39» و قوله سبحانه: وَ اتَّقُوا یَوْماً لا تَجْزِی نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَیْئاً وَ لا یُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ یُنْصَرُونَ «40» و هكذا فی آیات أخری «41» ..
و قیل هنا بصدد هذا التشابه النسبی فی الآیات هو أن نزول الآیة الثانیة المماثلة للأولی نسبیا إلا فی بعض الكلمات و الألفاظ هو بسبب تجدد نفس الواقعة السابقة التی نزلت من أجلها الآیة الأولی عدا تغییر
______________________________
(36) الإسراء: 85.
(37) البرهان فی علوم القرآن- بدر الدین الزركشی.
(38) دراسات فی علوم القرآن- عبد القهار العانی.
(39) البقرة: 48.
(40) البقرة: 123.
(41) مثل قوله تعالی فی سورة التوبة الآیة: 55 «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما یُرِیدُ اللَّهُ لِیُعَذِّبَهُمْ بِها فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ» و قوله سبحانه فی نفس السورة الآیة: 85 «وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما یُرِیدُ اللَّهُ أَنْ یُعَذِّبَهُمْ بِها فِی الدُّنْیا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ» ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 107
بسیط فی بعض ظروفها و وقائعها مما تطلب الحال تغییر بعض الألفاظ فی الآیة الثانیة بما یناسب و یلائم الواقع الجدید.
كما و هناك اضافة لما تقدم آیات صغیرة فی القرآن الكریم مكررة لعدة مرات مثل قوله تعالی: فَوَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِینَ «42» و قوله تعالی:
فَبِأَیِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «43» و قوله سبحانه: فَكَیْفَ كانَ عَذابِی وَ نُذُرِ «44» ..
و هذه الآیات المكررة هی- دون شك- نوع طریف من الإبداع لم یكن معروفا من قبل و قد شاع استعمال هذه الطریقة «التكرار» فی اللغة العربیة بعد نزول القرآن الكریم. فنجد فی المخمسات تكرر بیت واحد كما و نلاحظ ذلك فی «الأناشید القومیة و الوطنیة و التی تتكرر فیها بعض المقاطع الحماسیة المثیرة» «45» لمرات عدیدة فضلا عن أن «تكرر هذه الآیات ما یثیر فی نفس سامعیه الیقین بأنه لیس من الصواب نكران نعم تكررت و آلاء توالت» «46» ثم «أنه فی ذاته قد یكون اسلوبا من الأسالیب البلیغة فی كلام العرب حینما یكون مظهرا من مظاهر الإطناب البلیغ» «47» ..
و فی ختام هذا الفصل أشیر إلی موضوع قد یكون خارج محیطه إلا أن بحثه قد یكون ذا منفعة لمن أحب الاستزادة من معارف القرآن و معالمه، و هو أن القرآن الحكیم ینقل إلی البشر فی خلال و عبر آیاته و سوره- فیما ینقل- كلمات و أقوال و محادثات سبق أن نطقت من قبل
______________________________
(42) المرسلات.
(43) الرحمن.
(44) القمر.
(45) القرآن و العلم الحدیث- عبد الرزاق نوفل.
(46) من بلاغة القرآن- أحمد أحمد بدوی.
(47) التفسیر العلمی للآیات الكونیة فی القرآن- حنفی أحمد.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 108
الأنبیاء و الملائكة أو الجن أو الحیوانات أو جهنم .... الخ و ثابت هنا أن لسان و لغة كثیر من هؤلاء لم یكن عربیا فقد كان إغریقیا أو رومیا أو مسماریا أو عبریة أو هیروغلوفیا أو لغة خاصة لم تكشف أسرارها بعد ..
فیا لیت شعری ما هی علاقة و ارتباط تلك الأقوال التی نطقت فی وقتها و بغیر العربیة بما جاء فی القرآن من إشارة لها تفصیلا أو إیجازا و بلسان عربی مبین هو فی منتهی البلاغة و البیان ..
الظاهر أن من تكلم عن حقیقة ذلك انقسم إلی مذهبین:
1- ان ما جاء فی القرآن الكریم علی لسان كل هؤلاء إنما هو الترجمة الكاملة الأمینة لها من دونما زیادة أو نقص ..
2- أن ما جاء علی لسان هؤلاء لا یتعدی أن یخرج عن معانیه الحقیقیة، و قد یكون هذا المعنی موجزا كما و قد یكون مسهبا تبعا لما یتطلبه المقام عند نزول الآیات علی الرسول (ص) ..
فقد تكون هذه المعانی مفصلة و مسهبة إذا كان الحال یتطلب مزیدا من الموعظة و الهدایة و الإرشاد، كما و قد تكون مختصرة و موجزة إذا لم یتطلب المقام الاطناب كرد مفحم قصیر علی ادعاء أو جواب علی سؤال عابر أو نحو ذلك ..
و أخیرا أود أن أعقب علی كل ما أكتبه آنفا حول نزول القرآن الكریم فأقول هل ذهبت- یا تری- الآیات النازلة یمنة و یسرة و تفرّقت هنا و هناك و حفظ و دوّن قسم منها دون الآخر، أم أن أمرها كان علی عكس ذلك حیث التقت الآیات الكریمة برمتها فی مكان واحد و انتظمت تباعا و حفظت و دوّنت جمیعها من دون فقدان حرف أو سقوط نقطة ..
إن الجواب الشافی علی كل هذه التساؤلات سیكون مادة الفصول الثلاثة القادمة، فلنبدأ مسیرتنا الهادئة شطرها بعد الاتكال علی اللّه و الاستعانة به ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 109

الجمع الأول للقرآن‌

اشارة

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 111
یؤثر عن النبی الكریم صلی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال «1»: «لا تكتبوا عنی شیئا غیر القرآن، و من كتب فلیمحه و حدّثوا عنی و لا حرج، و من كذّب علیّ متعمدا فلیتبوأ مقعده من النار» «2».
و قوله (ص) هذا ما جاء إلا لكی یحفظ للقرآن صفته و ارتباطه المباشر باللّه تعالی و لیحول دون اختلاطه بشی‌ء له هذه الرابطة و هذه الصفة و السمة القدسیة و دون أن تلتبس أقواله و شروحه و سیرته (ص) بآیات القرآن الكریم «3» ..
______________________________
(1) یروی بهذا الصدد أن الرسول (ص) قد أذن فی السنوات الأخیرة من حیاته فی كتابة الحدیث و ذلك بعد أن نزل أكثر القرآن و حفظه الكثیر و اشربوا حبه و ذاقوا حلاوته و بلاغته و بعد أن سمعوا كلام الرسول (ص) و عرفوا مرتبته من القرآن ..
و هناك من قال بأن هذا الإذن كان خاصا و من قال بأنه كان عاما ..
و استنادا إلی كل هذا فقد كتب الأصحاب و دوّن الحدیث فی عهد النبی (ص) و منهم من كانت له مجموعة خاصة اشتهر بها، فقد كان للإمام علی- ع- صحیفة و كان لأنس بن مالك صحیفة، فضلا عن صحائف حبر الأمة عبد اللّه بن عباس و عبد اللّه بن مسعود و جابر بن عبد اللّه الأنصاری، و لم تكن هذه الصحائف تألیفا جامعا بل كان تدوینا لأبواب متفرقة غیر مجمعة، علما بأن التجمیع و التدوین الرسمی للأحادیث النبویة كان فی مطلع القرن الثانی الهجری و فی عهد الخلیفة الزاهد عمر بن عبد العزیز كما مرّ الاشارة إلیه من قبل ..
(2) صحیح مسلم، فضائل القرآن- اسماعیل بن كثیر القرشی.
(3) ان عدم اختلاط السنة بالقرآن هذا لا یعنی البتة عدم حفظ السنة، بل إن السنة النبویة حفظت فی الصدور فی صدر الإسلام كآیات القرآن ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 112
لذا فعند ما كان الوحی ینزل علی النبی (ص) و الذی- كان یترقّب نزوله بشوق عارم- عند ما كان ینزل علیه بشی‌ء من الآیات الكریمة كان یستدعی علی الفور بعض من كان یكتب له بالخط المقرر حینذاك و هو (الخط المكی) و هم كتاب و امناء الوحی «الذین كانوا یلازمون النبی حیثما ذهب و انی قام لكی یؤدوا هذا العمل الذی تفرغوا له لا یشغلهم عنه شاغل» «4» فیملی علیهم كل ما كان ینزل علیه و ذلك «مبالغة فی تسجیله و تقییده و زیادة فی التوثق و الضبط و الاحتیاط الشدید» «5» ..
و إذا فرغ (ص) من ذلك طلب من الكاتب اعادة ما كتبه، فإن كان فیه سقط أو زیادة أو نقصان صلّحه و أقامه لهم، و كان «كثیر من المؤمنین بعد ذلك ینقلون الآیات من الألواح المكتوبة بید كتاب الوحی» «6» فیجمعوها بعد أن یحفظوها ..
كما و كان (ص) یقرئ الفائزین بشرف الصحبة و یحفظهم كل ما كان ینزل علیه من الآیات اولا بأول «و یوما فیوما حتی لا تضیع، و اعفی هؤلاء من الحضور فی جبهات القتال» «7» لما فی الآیة الكریمة «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا كَافَّةً» «8» ..
هذا فضلا عن أنه (ص) كان یبعث إلی من كان بعید الدار منهم من یعلمه و یقرؤه، و كان «یحرّض امته علی أن یبلغ الشاهد منهم الغائب و لو آیة من القرآن فقال: بلغوا عنی و لو آیة من القرآن» «9»، و أنه (ص) قد خصص سیدة لتعلیم النساء القرآن، إضافة إلی «أن النبی كان
______________________________
(4) المصحف الشریف- الدكتور محمد عبد العزیز مرزوق.
(5) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(6) الاعتذار (محمد و القرآن) جان دیون بورت، ترجمة عباس الخلیلی.
(7) القرآن فی الإسلام- السید محمد حسین الطباطبائی.
(8) التوبة: 122.
(9) التعریف بالقرآن و الحدیث- محمد الزفزاف.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 113
یحتفظ بنسخة مما كتب فی داره» «10» و أنه (ص) كان یؤم الصحابة و المصلین خلال الصلوات فیقرأ القرآن و هم ورائه یسمعون فیحفظ القرآن فی صدورهم «11» ..
كما و ان العرب عشاق الفصاحة و البلاغة كانوا ینجذبون لآیات اللّه لما فیها من البیان و الأدب فیأتون من بلاد بعیدة لاستماع بعض هذه الآیات من فم الرسول (ص) «12»، و كانوا یأتون فی اللیالی الظلماء خفیة إلی قرب دار النبی و یستمعون إلی الآیات التی كان یقرأها النبی (ص) ..
أما الأصحاب فكانوا یتنافسون فی استظهار آیات اللّه و حفظها و مدارستها لأجل قراءتها فی الصلوات و النوافل و یتسابقون إلی فهمها و هضمها، و كانوا كلما نزل شی‌ء من الآیات تهفو قلوبهم إلیها و تنشرح صدورهم و تلقوها بالغبطة و الفرحة الغامرة حیث كان «شعار الإسلام و سمة المسلم حینئذ هو التجمل و التكمل بحفظ ما ینزل من القرآن الكریم لكی یتبصر بحججه و یتنوّر بمعارفه و شرائعه» «13» لأنه الینبوع الأول للتشریع و الحبل المتین و الدستور الشامل، علی النحو الذی نجده حالیا عند حملة المبادئ المختلفة حیث نراهم یحفظون نظریاتها و فلسفتها و نشراتها لغرض التثقف بها و وعیها و الاحتجاج بها و الذود عن حیاضها ..
و یتفاوت حفظ هؤلاء الأصحاب للآیات الكریمة تبعا لمدی حضورهم و وجودهم عند الرسول (ص) حال املاء الآیات علی كتّاب الوحی حیث «ان كثیرا منهم كان یخرج فی السرایا التی یبعث بها
______________________________
(10) روح الدین الإسلامی- عفیف عبد الفتاح طبارة.
(11) المصحف الشریف- الدكتور محمد عبد العزیز مرزوق.
(12) القرآن فی الإسلام- السید محمد حسین الطباطبائی.
(13) آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن- الشیخ محمد جواد البلاغی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 114
الرسول لجهاد أعدائه فیشغلون بهذا عن بعض ما ینزل» «14» و علی درجة فطنتهم و ملكتهم فی الحفظ و الاستظهار فی لوح القلب و سعة خبرتهم بأسالیب اللغة و طرق البیان و البدیع ..
و كان هؤلاء أیضا إذا حفظوا شیئا أو عشرا من الآیات لم یتجاوزوها إلی غیرها أو إلی العشر الأخری حتی یعلموا ما فیها من العلم و العمل ..
و بالنظر لعدم وجود المشاغل و انتفاء المتاعب لدی هؤلاء لبساطة الحیاة الاجتماعیة التی كانوا یحیوها و سهولتها و ذلك علی خلاف ما هی علیها الحیاة الآن من التعقید و التّطور و المشقة، نری أنه شذ أن نجد أحدا منهم أو من بقیة رجالات المسلمین أو نسائهم یخلو من حفظ قسم كبیر أو صغیر من آیات القرآن، و هذا وضع طبیعی إذا ما أضفنا إلی بساطة الحیاة ما امتازت به العرب و عرفوا به من خصائص العروبة الكاملة و فیها قوة الحافظة الفطریة- و التی قد تصل عند البعض منهم إلی درجة النقش فی الحجر- و سیلان الأذهان و قوة الذاكرة و صفاء الذهن، و هذه نتیجة طبیعیة للأمیة التی كانت تحیاها غالبیة العرب، حیث أن هذه الأمیة قد وجهتهم للاهتمام بالحفظ فقویت لدیهم الذاكرة قوة خارقة علی النحو الذی نجده فی الأعمی، فالأخیر أقوی حفظا من البصیر إذ جعل كل اعتماده علی الحفظ، أما البصیر فإن ركونه إلی الكتابة و اعتماده علیه یضعف ذاكرته عن غیره، لذا نری من ذلك «أنه كانت عنایة الصحابة بحفظ القرآن أكثر منهم من عنایته بكتابته» «15» ..
و كتاب الوحی موضوعی البحث و الذین كانوا یكتبون للرسول (ص) الآیات المنزلة «لا یحصون» «16» و قیل یصل عددهم إلی 43 نفر «17»،
______________________________
(14) التعریف بالقرآن و الحدیث- محمد الزفزاف.
(15) التعریف بالقرآن و الحدیث- محمد الزفزاف.
(16) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(17) الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی، تاریخ القرآن- أبی عبد اللّه الزنجانی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 115
و اشهرهم و أقدمهم إمام الهدی علی- ع- و منهم الخلفاء أبو بكر و عمر و عثمان (ر ض) و كذلك زید بن ثابت أبی بن كعب و ثابت بن قیس و الزبیر ابن العوام و حذیفة بن الیمان و عبد اللّه بن رواحة و سعید بن العاص و معاذ ابن جبل ..
و كان ألزم كتاب الوحی للنبی (ص) و أكثرهم كتابة و تدوینا هو الإمام علی- ع- و یأتی من بعده زید بن ثابت ..
نخلص هنا مما تقدم بیانه أن حفظ القرآن و جمعه الأول (و یطلق الجمع علی حفظ القرآن و علی كتبته) قد تم فی عهد الرسول (ص) بصورتین و طریقتین هما «18»:

1- الصورة الصوتیة:

و هو حفظه فی صدور المسلمین حفظا لم یهمل حرفا «19» و لا حركة و لا سكونا و لا اثباتا و لا حذفا و لا دخل علیهم فی شی‌ء منه شك و لا و هم، و قد كان البعض یحفظه كله و البعض الآخر شطرا منه قل أو كثر و سواء أ كانت سور كاملة أم آیات عدیدة من مختلف السور ..
و كان شغف المسلمین بحفظه و تلاوته حینئذ عظیما، فقد كانوا یتداولون ما استجد منه فی نوادیهم و مجتمعاتهم لأنه بات یملك علیهم سویداء قلوبهم و غدا همهم الأوحد قراءة و كتابة الكتاب أو الاستماع إلیه لأنه قاعدة الدین و الدنیا و به تتأید السلطة و الحكم، حتی أن منازلهم كانت تدوی لیلا من أصواتهم بالقرآن كدویّ النحل حیث كانوا یهجرون لذة النوم و راحة الهجود إیثارا للذة القیام به فی اللیل متفرقین أو مجتمعین ..
______________________________
(18) كان «لزاما ان یتطابق القرآن عن هذین المصدرین و الصورتین حیث كان كل
(19) نشیر إلی أن زیادة أو نقصان أی حرف كان أمرا مهتما به و لو مثل حرف «واو» مع أن ذلك قد لا یغیّر المعنی كثیرا ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 116
كما و كان یسمع لمسجد رسول اللّه (ص) ضجة بتلاوة القرآن حتی امرهم الرسول (ص) أن یخفضوا و یخففوا من أصواتهم لئلا یتغالطوا ما بینهم ..
كما و كانت سور القتال تتلی أحیانا فی نشید جماعی تهدر به الكتائب الغازیة فتملأ نفوسها روعة و قلوبها إیمانا مما یدفعها لأن تفعل الأعاجیب و تقوم بالمستحیلات و تحقق المعجزات علی النحو الذی نجده فی عصرنا هذا «من هتاف بالنشید القومی و الوطنی خلال فترات الحماسة و الشجاعة و المناسبات الأخری» «20» خصوصا عند بدء هجوم القوات لتزید من حماسة الجند و تفانیهم فی القتال ..
هذا فضلا عن أن المرأة قد تجعل مهرها سورة من القرآن «21» أو أكثر و ذلك من أجل العنایة به و الحث علی تعهده، و هذا عكس ما نلمسه
______________________________
خلاف فیه یذكر یرجع فیه إلی الرسول (ص) كی یزیله» علوم القرآن- أحمد عادل كمال.
(20) نظرات فی القرآن- محمد الغزالی.
(21) یروی ان امرأة أدت إلی النبی (ص) فقالت: انها قد وهبت نفسها للّه و لرسوله فقال (ص) ما لی فی النساء من حاجة، فقال رجل زوجنیها، قال (ص):
اعطها ثوبا، قال: لا أجد، قال: اعطها و لو خاتما من حدید، فاعتل له فقال (ص): ما معك من القرآن، قال: كذا و كذا، قال (ص): زوجتكها بما معك من القرآن ..
و لقد ذهب البعض إلی كراهیة أخذ الأجرة علی تعلیم القرآن فیقول العلامة الحلی فی الحدائق: «الأقرب إباحته علی كراهیة، الأصل الإباحة لأن فیه منفعة تعلیم القرآن و تعمیم اشاعة معجزة النبی (ص) و لأنه یجوز جعله مهرا فیجوز اخذ الأجرة علیه اذ لو حرمت الأجرة لحرم جعله مهرا» و قال الشیخ الطوسی فی النهایة: «نكره أخذ الأجرة علی تعلیم شی‌ء من القرآن و كذلك علی نسخ المصاحف و لیس بمحظور و انما یكره إذا كان هناك شرط فان لم یكن شرط لم یكن به بأس» ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 117
الآن من المشاكل و العقبات التی توضع فی طریق الزواج بمضاعفة مهور الفتیات أو اشتراط أشیاء من غیر الممكن تنفیذها بسهولة و یسر خلافا لحدیث الرسول (ص) حین قال: «إذا أتاكم من ترضون دینه و خلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة فی الأرض و فساد كبیر» ..
و طبیعی أن انتشار الفكر الإسلامی النیر سیزیل هذه العقبات من الطریق و سیبعد العادات و الأعراف العشائریة و الضالّة و التی تقف فی طریق بناء الأعشاش الزوجیة و اقامة مجتمع العدل و الكفایة ..
هذا و ان أشهر من حفظ القرآن كله أو قسم كبیر منه من آل و أصحاب رسول اللّه (ص) هو الإمام علی- ع- و الخلفاء أبو بكر و عمر و عثمان (رض) و حبر الأمة و ترجمان القرآن عبد اللّه بن عباس «22» و أبی بن
______________________________
(22) هو عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ولد فی مكة المكرمة قبل الهجرة بثلاث سنین و فی خلال حصار بنی هاشم فی شعبهم، و كان له منزلة ممیزة بین الصحابة بعلمه و فهمه علی صغر سنه، حیث دعا له الرسول (ص): بقوله «اللهم فقّهه فی الدین و علّمه التأویل» ..
و ینقل عن لسان- ابن عباس- قوله: «ما أخذت من تفسیر القرآن فعن علی بن أبی طالب» و قد قیل له مرة: «این علمك من علم ابن عمك-؟» فأجاب:
«نقطة من بحر» ..
و قد روی عنه ما لا یحصی كثرة فلا تكاد تخلو آیة من آیات القرآن إلا و له فیها قوله أو أقوال، كما و كثر الرواة عنه كثرة جاوز الحد و المعقول ..
توفی- رحمه اللّه- فی مدینة الطائف عام 68 من الهجرة عن عمر 71 سنة و قبره هناك یزار، و حین سوی علیه التراب قام ابن الحنفیة و قال قولته المشهورة:
«مات و اللّه هذا الیوم حبر هذه الأمة» ..
لابن عباس عدة اخوة هم قتم الذی توفی و دفن فی سمرقند بالصین و الفضل الذی توفی و دفن بالیمن و عبید اللّه و من الأمثال أو الطرائف التی تروی عند ذكر عبد اللّه و عبید اللّه ابنا العباس هو أن الرسول (ص) كان قد أشعر عمه العباس بالویلات و المصائب التی سیذوقها ابناؤه من أبنائه بقوله: «ویل لابنائی من أبنائك» فأجاب العباس: «و هل اترك الزواج» فقال النبی: «أبعد عبد اللّه و عبید اللّه» ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 118
كعب و زید بن ثابت و عبد اللّه بن مسعود و أبو الدرداء و أبو موسی الأشعری و معاذ بن جبل و حذیفة بن الیمان و سالم بن معقل و أبو زید (قیس) بن السكن و أبو هریرة و طلحة و سعد و عبد اللّه بن عمر و عبید اللّه بن السائب و عبادة بن الصامت ... الخ.
و طبیعی أن هؤلاء لیسوا هم كل الحفاظ للقرآن الكریم و إنما هناك آخرون من المسلمین ممن حفظ من القرآن كثیرا أو قلیلا مما لا یسع المقام لا یراد أسمائهم جمیعا ..
و یكفی أن نشیر هنا إلی (70) صحابیا من حفاظ القرآن و رواته قد استشهدوا فی واقعة الیمامة و مثلهم فی العدد قد قتلوا فی عصر النبی (ص) عند بئر مؤتة و غیرهم قد قتل بعد وفاة الرسول (ص) فی الوقائع المختلفة و كلهم كانوا ممن استوعب القرآن حفظا و استظهارا ..
و یروی بهذا الصدد أن القبائل فی صدر الإسلام كانت تفاخر فیما بینها علی كثرة ما بین أفرادها من حفاظ القرآن كله، فیقال أن الخزرج كانت تفاخر الأوس بوجود أربعة أشخاص من قبیلتها ممن حفظ القرآن كله و هم زید بن ثابت و معاذ بن جبل و أبی بن كعب و أبو زید، بینما لا تملك الأوس هنا إلا أن تفاخر بأفراد منها لهم مناقب أخری مثل ذو الشهادتین و غیره «23» ..
و نحب ان نورد هنا إلی أنه قد حفظ القرآن عند فجر النبوة الإسلامیة أیضا جملة و زمرة من أقطاب الكفر و فرسان الشرك بأمل الرد علیه و معارضته، فمن أشهر إسلامه منهم فیما بعد- و فعلا قد أسلم معظمهم- كان ما حفظوه من الآیات فی عهد شركهم عونا و مددا لهم فی تفهّم أصول الشریعة و مبادئ العقیدة بعد أن وضّح لهم النبی (ص) المعنی الحقیقی و الغرض الصحیح للآیات المحفوظة فی صدورهم ..
______________________________
(23) تاریخ القرآن- محمد طاهر الكردی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 119
أما القلة القلیلة التی أخذتها العزة بالإثم و لم توفق للدخول فی رحاب الدعوة الجدیدة ثم ماتت و هی بعیدة عن أنوار الحق و الهدایة فقد كانت الآیات المحفوظة فی صدورهم حجة علیهم عند الحساب ..

2- الصورة المكتوبة:

و هی الطریقة الثانیة التی تم بواسطتها حفظ و جمع القرآن الكریم و هذا الأمر جری عن طریق تدوینه و تسجیله «24» بواسطة الكتابة و التسجیل علی الوسائل المتیسرة و الموجودة فی ذلك العهد و هی «25»:
أ- العسب: «جمع عسیب و هی اضلاع و جرید النخل حیث كانوا یكشفون عنه الخوص و یكتبون فی الطرف العریض، و قیل أنه ما لم ینبت علیه الخوص من جرید النخل».
ب- اللخاف: «جمع لخفة و هی صفائح الحجارة الرقاق».
ج- الرقاع: «جمع رقعة و هی القطعة من الجلد أو الورق».
د- الأقتاب: «جمع قتب و هو الخشب الذی یوضع علی ظهر البعیر لیركب علیه» و یستعمل لنقش الكتابة علیه.
ه- الأكتاف: «جمع كتف و هو العظم بالبعیر أو الشاة و إذا جف كتب علیه».
و- الكرانیف: «جمع كرنافة و هی أصول سعف النخل الغلاظ» ز- اضافة إلی العظام المختلفة و الحریر و الكتان و قطع الأدیم و القراطیس و الأوراق الأولیة و الرقوق الناعمة المسواة ..
فقد حرص كثیر من الصحابة فی حیاة الرسول (ص) و بإشراف مباشر منه و استجابة لقوله (ص): «قیّدوا العلم بالكتاب» علی الاحتفاظ و جمع كل أو قسم من الآیات الكریمة و التی دوّنوها علی الوسائل
______________________________
(24) إن الفرق بین الجمع و التدوین هو ان الأول عبارة عن تألیف مصحف و ترتیبه بینما الثانی فلا یخرج عن التسجیل دون السیر أو الالتزام بنظام ثابت ..
(25) الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 120
المتقدمة جمعها فی مكان واحد «و لیس فی مصحف واحد» بسبب أن الوحی لم ینقطع نزوله علی الأرض طیلة حیاة الرسول (ص)، و قبل هذا الانقطاع لا یمكن إتمام جمع المصحف، فضلا عن ترقب ورود ناسخ لبعض الأحكام و الآیات ..
و المقصود من حفظ و جمع الآیات فی مكان واحد هنا هو أن یسجل و یحرّر الحافظ أو الصحابی الآیات تباعا ثم یدعها فی غرفة واحدة أو صندوق خاص أو مكان أمین متفرقة و لیست علی هیئة الكتب المجلدة، كما و كان هناك من أكمل منهم هذا الجمع عقب وفاة الرسول (ص) مباشرة ..
و یؤكد قولنا هذا ما یروی من أن أكثر الصحابة كان معتادا علی الختم، و معنی ختمه هو أن یقرأه من أوله إلی آخره «فلو لم یكن القرآن مسجلا و مجموعا و مرتبا من الأول إلی الآخر و محفوظا فی مكان خاص لما اطلق علی قراءته عنوان الختم» «26» ...
كما و یؤكد هذا القول أیضا ما یروی عن زید بن ثابت بقوله:
«بأننا كنا نجمع آیات القرآن الكریم بحضور النبی (ص) من قصاصات من الورق .... الخ» ..
أما بصدد ترتیب آیات السور فإن الرسول (ص) لم یكن ینتظر فی ترتیب الآیات المنزلة نجوما حتی یكمل نزولها، و لم یتریث فی تألیف سورة واحدة حتی تتم كافة فصولها، بل كان كلما القیت علیه آیة أو أكثر یأمر حالا بوضعها فی مكان یحدده لهم من سورة معینة، كما و یعیّن موضعها من بعضها طبقا لما أخبر به الوحی الأمین فیقول (ص): ضعوا آیة كذا فی موضع كذا أو فی سورة كذا ...
و فی بعض الأحیان كان یحدث أن تنزل آیتان لسورتین مختلفتین
______________________________
(26) مجلة الإیمان النجفیة- مقال السید جمال الهاشمی حول جمع القرآن.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 121
فی آن واحد فیطلب الرسول (ص) تدوینهما منفصلتین تفادیا لأی لبس أو خلط بینهما «ثم یدلهم (ص) علی موضع كل آیة من سورتها المطلوبة» «27» و علی مكانهما المقرر ..
فالتتابع الخاص بین الآیات فی كل سورة اذن هو تصمیم ربانی لا یجوز تغییره أو استبداله بترتیب مغایر آخر الآیات، كما و ان الصحابة (رض) لم یرتبوا الآیات ترتیبا سمعوا النبی (ص) یقرأ علی خلافه ..
و علی هذا یمكن التأكید و الجزم بأن جمیع الآیات قد نسقت و وضعت فی أماكنها المطلوبة و الثانیة ضمن السورة كما و تم ترتیب السور «28» فی المصحف قبیل وفاة الرسول (ص) و سمیت السور بإذنه و توجیهه ..
علما بأن هذه الآیات و هذه السور فی القرآن الكریم لم تتخذ فی ورودها التنزیلی سبیلها التی اتبعته فی وضعها الترتیبی، فما أكثر السور التی نزلت جمیعا أو اشتاتا فی الفترات التی نزلت بها سور اخری، و كم آیة فی السورة الواحدة تقدمت فیها نزولا و تأخرت ترتیبا، و كم آیة هی علی عكس ذلك ..
و لهذه الطریقة كما یری البعض «29» سر خاص مفاده أن جمیع القرآن و آیاته و أحكامه و تشریعاته و ان اختلفت أماكنها و تعدّدت مواقعها فهی وحدة كاملة لا یجوز التفریق بینهما فی العمل أو التمسك ببعضها دون البعض فهی إما أن تؤخذ كلها أو تترك كلها و لا وسط بین ذلك قط ..
هذا و عند ما كان الوحیّ ینزل بالبسملة فی أول سورة كان یعرف
______________________________
(27) روح الدین الإسلامی- عفیف عبد الفتاح طبارة.
(28) نشیر إلی أن هناك من یذهب إلی أن ترتیب السور كان باجتهاد من الصحابة و ان غیرهم یذهب إلی أن ترتیب بعض السور توقیفی و بعضه باجتهاد من الصحابة كما سیلی تفصیله فی فصل الجمع الثالث للقرآن.
(29) نظرات فی القرآن- محمد الغزالی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 122
الجمیع أنها سورة جدیدة فتوضع فی محلها، فضلا عن أن الرسول (ص) أو المسلمین بقول آخر لا یعلم ختم السورة حتی تنزل البسملة فإذا نزلت علم بان السورة قد انتهت، لذا اعتبرت البسملة- فی الحق- «آیة أصیلة و جزءا من كل سورة لا تتجزأ» «30» عدا سورة براءة، و دلیل ذلك هو أن الرسول (ص) كان یقرأها و لو لم تكن جزءا من القرآن لوجب علیه (ص) ان یصرّح بذلك، فان قراءته لها- و هو فی مقام البیان- دلیل علی أنها من القرآن، فضلا عن أن السلف الصالح قد جری علی اثباتها فی المصحف مع استقرار السیرة و استمرارها علی قراءتها فی أول كل سورة، فضلا عن اشتمال جمیع المصاحف منذ صدر الإسلام حتی الآن علی ذكرها فی أول كل سورة مع حرصهم الشدید- المسلمین- علی عدم ادخال ما لیس فی القرآن فیه «حتی أن بعض الصحابة عارض فی تنقیط المصحف و تشكیله لكی لا یدخل فی المصحف أی عنصر جدید» «31» ..
أما سورة براءة فقد قیل فی سبب حذف البسملة منها أن هذه قد جاءت تقریعا و عذابا ألیما علی الكافرین و المشركین فلا تتفق و الحالة هذه مع فحوی البسملة و فلسفتها و التی سداها الأمان و لحمتها الرحمة و الرضوان ..
و قد قیل فی سبب حذفها من سورة التوبة أیضا أنه قد جاء عن طریق الشك الذی نجم عند جمع القرآن- الجمع الثالث- و هو ما إذا كانت كل سورة الأنفال التی تسبق سورة التوبة و سورة التوبة هما سورة واحدة أو سورتان لأنه ورد فی الأثر أن النبی (ص) كان قد قرأهما بدون الإتیان بالبسملة بینهما، لذا حذفت البسملة عند الجمع من سورة التوبة أولا و وضعت الأخیرة- التوبة- مستقلة بعد الانفال لیصدّق علیها
______________________________
(30) تفسیر المنار- محمد رشید رضا، تفسیر الرازی- فخر الدین الرازی.
(31) محاضرات فی تفسیر القرآن- السید اسماعیل الصدر.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 123
الوجهان و الاحتمالان، وجه أنها سورة مستقلة و وجه آخر هو أنها من سورة الأنفال «32» ..
علما بأن التعلیل الأول هو المأخوذ به و المقبول لدی الكثیرین من المؤرخین و الرواة «33» ..
لقد ذهبنا آنفا إلی «أن البسملة آیة من الفاتحة و من كل سورة عدا سورة براءة» «34» و قد أوردنا الأخبار المتضافرة المأثورة عن النبی (ص) و أهل البیت و الأصحاب، و لكن رغم هذا فلا نعدم من یقول بأن البسملة لیست أصیلة فی السورة بسبب أن «اثبات السلف لها فی المصاحف- كما تقدم- كان لأجل التبرك» «35» فیكون الافتتاح بها فی الصلاة أو فی كل عمل ذی شأن هو ثواب و خیر و بركة ..
أما سورة الفاتحة فإن بسملتها- لدی الجمیع- هی جزء من الفاتحة لا تتجزأ و لا یعد من قرأ سورة الفاتحة بدون الإتیان بها سرا أو جهرا أنه قد قرأ سورة كاملة من القرآن الكریم ..
هذا و لم نعدم أیضا وجود فئة صغیرة أخری تذهب فی البسملة مذهبا جدیدا و هو أنها مستقلة بنفسها و لیست جزءا من أی سورة و ان رجح- لدیها- هنا قراءتها فی مطلع كل سورة ..
و نشیر بعد ذلك إلی أن الرسول (ص) كان یعرض ما نزل علیه من الآیات فی كل شهر رمضان من كل عام هجری علی الوحی الأمین،
______________________________
(32) الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
(33) من الطریف أن نذكر هنا ان الصبیان فی مكاتب جمهوریة مصر العربیة یتنادرون فیما بینهم بأن النمل من عادته سرقة ما یجده، و من أجل ذلك فقد تولی سرقة بسملة براءة و وضعها فی قلب سورته- سورة النمل- عند ذكر حوادث النبی سلیمان و زوجته الملكة بلقیس ..
(34) منهج البیان فی تفسیر القرآن- السید ابن الحسن الرضوی.
(35) البیان فی آداب حملة القرآن- یحیی شرف الدین.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 124
و ان الوحی طلب منه فی السنة العاشرة من الهجرة عرضها علیه مرتین و هی التی تسمی ب- العرضة الأخیرة- فعرف الرسول بأن هذا الأمر قرینة و إشارة إلی أن أجله قد حان و ان اللّه سبحانه قد آثره لجواره و اختار له دار كرامته «36».
و كان الرسول (ص) بدوره أیضا یستعید قراءة- كتاب الوحی- و غیرهم من الحفاظ فی كل فرصة و مناسبة سانحة من أجل التثبت من سلامة كتابتهم و استظهارهم و لتصحیح الأغلاط و السقطات التی قد تشوب بعض ما حفظوه فی صدورهم أو ما كتبوه فی أوراقهم ..
و قد فعل الرسول (ص) هذا و أكّد علیه حتی لا یضیع الإسلام بضیاع دستوره و كتابه الخالد و لأن «القرآن أمانة فی عنق الرسول (ص) علیه حتما أن یؤدیه كاملا و یسلّمه مجموعا لئلا تناله أیدی العابثین» «37» و تتطاوله ألسنة المغرضین فی كل زمان ..
و الاستعاذة الأخیرة هذه تختلف عن الأولی- و المماثلة لها فی الطریقة- تختلف عنها فی الوقت فقط حیث كانت الأولی تتم حال الفراغ من كتابة الآیة التی أنزلها الوحی الأمین علی النبی (ص) أو بعد حفظها فی الصدور مباشرة، إما الثانیة- موضوعة البحث- فتتم فی المناسبات و الفرص و الأوقات المؤاتیة تقاربت أو تباعدت ..
أما بصدد وسائل التدوین التی كانت مستعملة فی عصر النبوة و التی تم بواسطتها تحریر و تسجیل الآیات القرآنیة المنزلة، فلنا تعقیب موجز حولها، و كان المؤمل أن اشیر إلیها فی فصل سابق هو- طبیعة المجتمع العربی فی عصر النبوة- إلا انی آثرت إرجاءها إلی هذا المكان لأتناولها مفصلا بعد أن أكون قد فرغت من الإشارة إلیها و تعریفها عند
______________________________
(36) صحیح البخاری- محمد بن إسماعیل البخاری.
(37) الإمام الصادق- عبد اللّه السبیتی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 125
البحث فی السورة الثانیة لكتابة القرآن و هی (الصورة المكتوبة)، لیتاح للقارئ أن یأخذ صورة عامة عنها قبل الولوج إلی سویدائها ..
فبصدد هذه الوسائل أقول أن الغالبیة من الرواة و المؤرخین ذهبت إلی أن التدوین فی عهد النبوة كان قد تم علی الوسائل البدائیة المشار إلیها قبل قلیل و هی الأكتاف و العظام و رقاق الحجارة و الخشب و الكرانیف ... الخ.
و طبیعی أن ما ذهب إلیه هؤلاء لیس هو كل الحقیقة و الواقع عن وسائل التدوین، بل أری مع نفر قلیل من المؤرخین و الرواة أن التدوین فی عصر النبوة تم بالإضافة إلی كل ذلك علی الوسائل المتطورة كالقراطیس و الأوراق البدائیة و الرقوق الناعمة المسواة بدلیل هو أن الرسول (ص) حرصا منه علی حفظ اعظم مظاهر النبوة و معجزته الخالدة «كان یكتب كل ما ینزل علیه فی رقاع منفردة ثم تنقل هذه الرقاع إلی صحف معدة لها كالسجل «38» فتلحق فصولها ببعضها وفق ما كان یشیر إلیه النبی (ص) و یطلبه» «39».
و قد تكتب الآیات المنزلة علی الصحف مباشرة إلا فی الحالات القلیلة التی لم تتیسّر فیها الصحف فتكتب علی الأكتاف و العظام و دلیل ذلك هو «ان القرآن الذی هبط فی مكة یكوّن ثلثی آیات المصحف قد سجل و دوّن كله، فلو أن هذا القدر من القرآن كان قد كتب علی الوسائل البدائیة كرقاق الحجارة و الخشب ... و نحوه لاحتاج إلی 20 بعیر لحمله، و لم نسمع من أخبار الهجرة أن قافلة من الأحجار قد هربت إلی
______________________________
(38) و فی هذا المعنی قال الشاعر فی الشطر الأول من بیته:
كل علم لیس فی القرطاس ضاع‌كل سر جاوز الاثنین شاع
(39) القرآن المجید- محمد عزة دروزة.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 126
المدینة قبل النبی أو بعده و هی تحمل هذه الحمولات الكبیرة و الغریبة» «40».
كما و أن وجود القراطیس و الصحف فی عهد النبوة لیس مستبعدا بعد أن جاء ذكرها مرارا عدیدة فی القرآن الكریم فی قوله تعالی: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَیْكَ كِتاباً فِی قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَیْدِیهِمْ «41» و قوله سبحانه: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِی جاءَ بِهِ مُوسی نُوراً وَ هُدیً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِیسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِیراً «42» و قوله تعالی: فِی صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ «43» و قوله عز من قائل: إِنَّ هذا لَفِی الصُّحُفِ الْأُولی صُحُفِ إِبْراهِیمَ وَ مُوسی «44» ..
ان القراطیس و الصحف المشار إلیها فی القرآن الكریم لا یمكن- فی الحق- ان تدل أو تنصرف لتلك الوسائل الأولیة و البدائیة المعروفة، بل تطلق عادة علی ما كان شائعا حینئذ من وسائل الكتابة و موادها التی تبسط و تطوی و تحمل و یكتب علیها بسهولة و یسر و التی قد یكون لها شبه كبیر أو صغیر بالورق المستعمل حالیا فی الكتابة و ان كان دونه- طبعا- فی الإتقان و الجودة «45» ..
هذا من جهة و من الجهة الأخری فقد سبق ان نوّهنا فی فصل سابق بانتشار التعلیم بصورة محدودة بین صفوف الناس داخل المدن الحجازیة، فلا یمكن و الحالة هذه ان تقتصر كتابات هؤلاء و مراسلاتهم علی الوسائل البدائیة فی الكتابة و إلی جوارهم و بقربهم الدول و الجالیات
______________________________
(40) القرآن- محمد صبیح.
(41) الأنعام: 7.
(42) الأنعام: 91.
(43) عبس: 13، 14.
(44) الأعلی: 18، 19.
(45) القرآن المجید- محمد عزة دروزة.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 127
التی عرفت و استعملت القراطیس و الأوراق و سجلت علیها بعض مقاطع و أجزاء من التوراة و الإنجیل اضافة إلی فصول قلیلة من التواریخ و الأخبار و القوانین و المعلقات ..
فطبیعی كان العرب سبّاقین فی اقتباس هذه القراطیس و الأوراق من أجل أن یدوّنوا علیها كتاباتهم و معاملاتهم التجاریة لیسهل علیهم حفظها و حملها معهم فی رحلاتهم الصیفیة و الشتویة إلی دیار الشام و أرض الیمن السعیدة لأجل التكسب و الارتزاق و التجارة ..
كما و لا یمكن هنا أن نتصور أو نعتقد بأن احراق عثمان بن عفان للآیات القرآنیة بعد جمعه القرآن- الجمع الثالث- و إحراق مروان بن الحكم بعد ذلك للآیات التی استنسخت فی خلال الجمع الثانی فی عهد أبی بكر الصدیق و التی كانت محفوظة لدی أم المؤمنین حفصة بنت عمر بعد ارتحالها إلی جوار ربها. كما سیرد بیانه بعد قلیل- لا یمكن أن نتصور ان كل هذا الإحراق كان علی الأحجار و اللخاف و الأكتاف و العظام و هذه كلها لا یمكن أن ینالها لهیب النار بطبیعتها، و إنما جاء الحرق علی القراطیس و الصحف و الرقاع التی دوّنت علیها الآیات القرآنیة فی حیاة الرسول (ص) و بعده ..
كما و لا یمكن أن نعقل قیام أبو بكر الصدیق بشد الصحاف ببعضها بخیط واحد بعد ثقبها أو بدونه- كما تقدم- لا یمكن أن نعقل هذا إلا أن الأمر و الفعل كان قد تم علی القراطیس و الصحف و الرقوق الناعمة المسواة و التی لا یمكن جمعها إلی بعض و شدها بخیط بعد ثقبها أو بدونه ..
هذا و أضیف إلی كل هذا أنه لا یمكن أن نتصور ان تكون الصحیفة التی وضعها القرشیون فی أصل الكعبة عند منطلق الوحی و بدء الرسالة الإسلامیة بصورتها العلنیة و التی امتد مكوثها داخل الكعبة لما یقرب من ثلاث سنوات و التی سوّدوها بالقرارات الجائرة و الأحكام
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 128
الظالمة المتعلقة بمقاطعة أهل البیت و حصرهم فی شعب أبی طالب و عدم السماح لأحد من الناس بالاتصال بهم أو اعانتهم أو تزویجهم أو أخذ شی‌ء منهم أو إعطائهم أی شی‌ء، لا یمكن أن نتصور ان هذه الصحیفة قد كتبت علی الرقاع أو العظام أو الأكتاف، بل أنها سطّرت فی الحقیقة- كما یفید اسمها أیضا- علی صحیفة منتظمة الأطراف أو علی قرطاس أو جلد غزال ناصع و منتظم و الذی مزّقته الأرضة بعد ذلك كل ممزّق و لم تترك منه سالما إلا ما ورد فیه من أسماء اللّه تعالی أو صفات له، مما حد بقریش عقب ذلك إلی رفعها و شقها و ابطال احكامها و هم یجرون أذیال الخیبة و الفشل الذریع غیر مأسوف علیهم ..
و أخیرا و لیس آخرا نشیر هنا إلی ما ورد ذكره قبل قلیل من قول ینسب إلی كتاب الوحی زید بن ثابت و مفاده هو أنه مع السلف الصالح كانوا یجمعون آیات القرآن الكریم بحضور الرسول (ص) من قصاصات من الورق، و لفظ الورق هذا و ان لم یشبه الورق الذی نستعمله الآن إلا أنه لا یقل عنه إلا فی الجودة و الإتقان و التطور «46» ...
______________________________
(46) إن الورق الذی نستعمله الآن كان قد اكتشفه الصینیون، و لكنه لم یدخل الغرب و لم تعرفه اوربا إلّا عن طریق المسلمین، و ذلك أن زیاد بن صالح حاكم سمرقند من قبل العباسیین (عام 751 م) لاحظ ان القبائل التركستانیة علی الحدود الشرقیة للدولة الإسلامیة كانت تهاجم هذه الحدود بدعم من الصین و تأیید منها.
و بصدد تأدیب هذه القبائل بعث حملة قویة علیها بقیادة خالد بن إبراهیم حیث دخلت بلادها و مزّقت جموعها و اخذ أعدادا كبیرة منها كأسری حرب كان منهم كثیر من الصینیین و جاء بهم إلی حواضر البلاد الإسلامیة و هؤلاء هم الذین بدءوا یصنعون الورق الصینی و ادخلوا الورق و صناعته فی الوطن الإسلامی ..
و قد ازدهرت و انتعشت هذه الصناعة بشكل خاص فی خراسان فی عهد الفضل ابن یحیی البرمكی عامل الرشید علی خراسان، و قد عنی الرشید نفسه بصناعة الورق و طلب تدوین المصاحف علی هذا الورق بدلا من الورق و القراطیس
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 129
و بعد هذا نلتمس من القارئ الكریم أن یستعد و یتهیأ لنقله إلی الفصل التالی لذی كیف أمكن جمع القرآن فی مصحف واحد، و ان هذا المصحف لم ینقص منه حرفا واحدا و لم یزد فیه حرفا، و ما علة ذلك إلا لأن اللّه تعالی آثر حفظ كتابه الكریم من الزیادة و النقصان، و لأن المسلمین عامة و العرب خاصة عند ما تمسكوا بالعقیدة بقوة و جعلوها أساس حیاتهم و مدار تفكیرهم فأن هذا قد منعهم من نسیان آیة أو إقحام ما لیس من القرآن فیه و ان كان هذا حرفا واحدا و نقطة واحدة ..
و من استعد من القراء الكرام للرحلة فلیشرع فی قراءة و الفصل القادم حیث سیجد مصداق كل ما أشرنا إلیه آنفا بشكل ساطع و جلی سطوع الشمس و جلاء القمر لذی عینین ..
______________________________
و الصحف لنصاعته و جودته علی تلك «دور العرب فی تكوین الفكر الاروبی- الدكتور عبد الرحمن بدوی» ..
هذا و قد انتشرت صناعة الورق انتشارا كبیرا فی طول العالم الإسلامی منذ القرن الثانی للهجرة (الثانی للمیلاد) و عن طریق المسلمین العرب فی الاندلس هذا الورق إلی أوربا، و كان قد دخلها قبل ذلك و بعده عن هذا الطریق و عن طریق جزیرة صقلیة و الحروب الصلیبیة مختلف الصناعات و العلوم و الفنون و الآداب التی كانت عند المسلمین العرب، فاوربا إذن مدینة للمسلمین فی حضارتها الراهنة و مدنیتها المعاصرة التی تعیشها بقدر ما مدین به المسلمون للإسلام و رسوله الكریم الكریم (ص) ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 131

الجمع الثانی للقرآن‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 133
لا یخفی علی القارئ العزیز مما مرّ ذكره بان القرآن الكریم كان «مؤلفا فی زمن النبی (ص) علی ما هو علیه فی المصاحف الیوم و لكن لم یكن مجموعا فی مصحف واحد» «1» و كتاب واحد و لم تربط آیاته خیط أو بین دفتین و لم یلزم القراء توالی سوره، لأن الوحی كان لا ینقطع نزوله ما دام النبی (ص) حیا، و كان ما أوحی به إلیه (ص) مجموعا- كما تقدم- فی قلوب المسلمین و كتاباتهم له، و ذلك علی خلاف ما یذهب إلیه البعض من المستشرقین ممن تصدّوا للكتابة عن القرآن أو الاشارة إلیه «2» و خصوصا فی موضوع جمعه، حیث ذهب هذا البعض إلی ان سور القرآن و آیاته ظلت مبعثرة و مفككة فی حیاة الرسول ثم جمعت بعد وفاته تحت رحمة الأسانید الشفویة للصحابة مما جعل اصل القرآن- برأیهم- مثارا للقیل و القال و التساؤل
______________________________
(1) التبیان فی آداب حملة القرآن- یحیی بن شرف.
(2) بصدد مصدر القرآن یذهب قسم من المستشرقین و غیرهم إلی أن القرآن هو من تألیف محمد (ص) و طبیعی أن هذا القول مخالف للحق و مجانب للواقع، و هو أن القرآن الكریم كلام اللّه تعالی و إنه وحی أنزله علی رسوله و لا یمكن أن یكون له أصل من البشر. حیث لو أن محمدا «هو الذی وضع القرآن لبث فیه أشجانه و حالاته النفسیة و أزماته و احزانه، و القرآن هو غیر هذا تماما فهو یبدو من البدء حتی النهایة معزولا عن النفس المحمدیة بما فیها من مشاغل و هموم بل أن الآیة لتنزل مناقضة للإدارة المحمدیة» القرآن- محاولة لفهم عصری- مصطفی محمود.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 134
و الاستفسار «3» .. كما ذهب الآخرون من هؤلاء إلی ان قسما من القرآن قد ضاع و نسی بعضه و ان القرآن غیر كامل الأجزاء .... الخ و هذا الزعم- ان صح- فلا یصلح إلا لاظهار مدی جهل الذین ابتدعوه و خلقوه، فلیس ابعد عن الحقیقة و الواقع من ان یقال ان آیات القرآن و سوره جمعت بعد وفاة الرسول (ص) لأن هناك الف دلیل و دلیل یشیر إلی أن آیات القرآن قد جمعت كلها فی عهد الرسول (ص) حفظا فی الصدور و تلاوة علی الألسن و كتابة فی الرقاع و الصحف، كما ان السور القرآنیة قد سمیت كلها تحت إشرافه و نظره «3»، فضلا عن ان «العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان و الحوادث الكبار و الوقائع العظام و الكتب المشهورة و اشعار العرب المسطورة، حیث ان العنایة اشتدت و الدواعی توفرت علی نقله و حراسته و بلغت إلی حد لم یبلغه ما ذكرناه، لأنه معجزة النبوة و مأخذ العلوم الشرعیة و الاحكام الدینیة ...
الخ» «5».
و لما اختار اللّه تعالی لرسوله دار الكرامة و السعادة و انقطع اثر ذلك نزول الوحی إلی الأرض فلا یرجی بعد ذلك للقرآن نزول تتمة له، رأی المسلمون حینئذ وفاء بوعد اللّه بضمان حفظه علی الأمة أن یسجلوه فی مصحف جامع واحد» «6».
أما قبل ذلك- أی قبل وفاته (ص)- فإن عدم جمع القرآن فی مصحف واحد یعود إلی الأسباب التالیة «7»:
1- لم یوجد من دواعی كتابته فی مصحف واحد مثل ما وجد فی عهد الخلفاء الراشدین حیث المسلمون بخیر و القراء كثیرون و الفتنة مأمونة الجانب ..
______________________________
(3) التاریخ الجغرافی للقرآن- مظفر نادفی.
(5) المسائل الطرابلسیات- الشریف المرتضی.
(6) آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن- الشیخ محمد جواد البلاغی.
(7) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 135
2- ان النبی (ص) كان بصدد استمرار نزول الوحی علیه و احتمال نزول ناسخ لآیة أو آیات ..
3- ان القرآن لم ینزل مرة واحدة و إنما نزل منجما و انه لم یكن بین نزول آخر آیة و وفاته (ص) إلا مدة قصیرة ..
4- ان ترتیب آیات القرآن و سوره لیس علی ترتیب نزوله حیث ان نزوله كان حسب الأسباب، بینما ترتیبه فلغیر ذلك من الاعتبارات و الأسباب ..
هذا و قیل ان الدافع الرئیسی فی جمع القرآن- بعد وفاته (ص)- قد جاء بعد ان أشتد القتل باصحاب الرسول (ص) من القراء و حفظة القرآن فی واقعة الیمامة و التی حدثت فی أواخر سنة 11 هجریة و أوائل عام 12 ه- تقریبا، و هی الواقعة التی جرت مع مسیلمة بن ثمامة الكذاب الذی قتل عام 12 ه- و الذی ادعی النبوة بعد وفاة الرسول- و قیل قبل وفاته (ص) فی قومه بنی حنیفة، كما و كانت ساحة المعركة فی أرض نجد و فیها استشهد سبعون نفرا من الحفاظ و ما یقرب من خمسمائة من القراء «8» و قیل «قتل فیها وحدها 1200 شخص من المسلمین فیهم 700 شخص من القراء» «9» من الذین صحبوا رسول اللّه (ص) و سمعوا حدیثه و قوله ..
و قیل أیضا ان الخلیفة عمر بن الخطاب (ر ض) سأل عن آیة من الكتاب فقیل له كانت مع فلان الذی قتل فی یوم الیمامة، فقال انا للّه و راجع اثرها أبا بكر الصدیق (ر ض) بصدد جمع القرآن فی مكان واحد ..
______________________________
(8) كان یطلق لفظ القارئ قدیما علی الذین یحفظون القرآن عن ظهر قلب و یساویه الآن لفظ الحافظ، أما لفظ المقرئ المتداول بیننا الآن فهو یطلق علی من یقرأ القرآن بالمصحف، و سیمر شرح كل ذلك فی فصل قادم هو- العنایة بالقرآن ..
(9) منهج البیان فی تفسیر القرآن- السید ابن الحسن الرضوی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 136
و الظاهر هنا من قول عمر و مخاطبه هو ان غیر فلان- فی الحق- كان یحفظ الآیة المطلوبة، بل كان هناك من یحفظ سائر القرآن- كما تقدم شرحه- و لكن الخلیفة عمر عند ما نما إلی سمعه قتل فلان خاف من قتل بقیة الحفاظ و القراء لكلام اللّه تعالی فی المعارك التی استعرّ لظاها بعد وفاة الرسول (ص) مباشرة و التی كان القراء و الحفاظ یشكلون قسما كبیرا من جنودها فیضیع بفقدهم و استشهادهم القرآن الكریم أو علی الأقل شطر منه قد یصعب بعد ذلك تلافیه بسهولة.
لذا فقد راجع عمر أبا بكر (رض)- و قد اصبح الأخیر خلیفة للمسلمین- بصدد جمع القرآن «فی صحف توضع بین دفتین و تكون اصلا مكتوبا للقرآن یحفظ النص من دون أن ینقص أو یزید منه شی‌ء» «10» و مشیرا علیه من مغبة ان تذهب كل الملاحم و المعارك التالیة بالبقیة الباقیة من القراء فیذهب كثیر من القرآن بذهابهم و استشهادهم فی سبیل اللّه أو «یتسرب إلیه- القرآن- ما یغیّر فی الصورة الصادقة التی نقلها الوحی عن اللّه و نقلها الرسول عن الوحی و نقلها الصحابة عن النبی بدقة و امانة» «10».
و لكن أبا بكر لم یوافق عمر علی رأیه مبدئیا كما و لم یفكر أو یبحث فیه بل اجابه بقوله: كیف افعل شیئا لم یفعله رسول اللّه من قبل و لم یعهد الینا عهدا «12» متصورا بأن جمع القرآن فی مكان واحد قد تكون سابقة خطیرة قد تقترب أو تصل إلی حدود البدعة التی نهی الرسول (ص) عنها و حاربها بكل هوادة و شدة ..
اضافة إلی انه «لیس هناك من نص صریح یحله و لا سابقة تعین علی معالجته» «13».
______________________________
(10) المصحف الشریف- الدكتور محمد عبد العزیز مرزوق.
(12) الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی- فضائل القرآن- إسماعیل بن كثیر القرشی.
(13) تاریخ القرآن- الدكتور عبد الصبور شاهین.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 137
و قد دأب عمر بن الخطاب (رض) علی مراجعة أبی بكر (ر ض) بهذا الشأن مرارا كما و دار حول الموضوع حوار طویل بینهما «لا سیما فیما یتعلق بتهافت أصحاب الرسول فی المعارك تهافت الفراش فی النار و خشیة ألا یشهدوا موطنا إلا فعلوا ذلك حتی یقتلوا» «14» حتی انتهی الحال أخیرا إلی انتزاع الموافقة علی جمع القرآن، حیث ادرك أبو بكر- فی الأخیر- الفوائد المترتبة من ذلك فضلا عما ثبت لدیه من ان مثل هذه الخطوة لیست ببدعة فی كثیر أو قلیل ان لم تكن حسنة یثاب علیها المرء و یجزی عنها أحسن الثواب فی یوم الحساب، و انها أیضا تتفق مع روح التشریع الاسلامی و المصالح العامة و لا تعارض نصا شرعیا أو حكما دینیا ..
علما بأن هذه الموافقة كانت- كما یری البعض- هی «اخطر قرار اتخذه أبو بكر فی حیاته و أعظم الخطوات التی تمت فی تاریخ هذه الأمة» «15» لأنها ستحفظ القرآن من التحریف و تبعده عن الزیادة و النقصان.
و فی سبیل تحقیق هذا الأمر الذی تم المصادقة علیه، استدعی أبو بكر الصدیق الیه زید بن ثابت و كان الأخیر من أبرز كتاب الوحی و قال له: بانی قد عزمت علی أمر خطیر و جسیم آمل ان تعیننی علیه فإنك:
«رجل شاب عاقل لا نتهمك فی شی‌ء و قد كنت تكتب الوحی لرسول اللّه (ص) فتتبع القرآن و اجمعه» «16» فی مكان واحد ..
و قد كان وقوع هذا القول علی رأس زید كوقوع الصاعقة، حیث استثقل الأمر فی البدایة و استبعده و شعر بجسامة التبعة التی كلف بحملها لأسباب مختلفة، منها انه لم یسبق له ان تلقی طلبا كهذا فی عهد رسول
______________________________
(14) إعجاز القرآن و البلاغة المحمدیة- مصطفی صادق الرافعی.
(15) تاریخ القرآن- الدكتور عبد الصبور شاهین.
(16) البرهان فی علوم القرآن- بدر الدین الزركشی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 138
اللّه (ص) فضلا إلی ما یكلفه هذا العمل من الأتعاب و المشاكل التی هو فی غنی عنها، اضافة إلی أنه صحابی عاصر رسول اللّه و سمع حدیثه لا یحب أن یقوم بعمل أو محاولة لم یفعلها النبی و لم یأمر بها- و انه كمسلم یتحاشی مثل هذا العمل خشیة ان یقع- عند تنفیذه له- فی بعض الأخطاء و ما قد یترتب علی هذه الأخطاء من المحاذیر الدینیة و الأدبیة التی قد تهدد مكانته الدینیة و تعصف بها.
و حسب زید حینئذ انه لو كلف بنقل جبل- كجبل أبی قبیس المطل علی قلب مكة- بصخوره و حصاه و ترابه ما كان اثقل علیه من تنفیذ هذا الطلب و اتمام هذا العمل المكلف به ...
و لكن لم تمضی إلا فترة قصیرة من الوقت إلا و شرح اللّه صدر زید لقبوله تنفیذ هذا العمل كما شرح اللّه تعالی صدر أبی بكر بصدده من قبل، فوافق علی القیام باعباء العمل طواعیة و ابتدأ فی تنفیذه و تحقیقه فی الحال بعد أن توسل الی اللّه تعالی فی ان یختم مهمته بالنجاح و الخیر ..
لقد قام زید بالأمر- بعد ان أمر أبو بكر منادیا لینادی فی الناس، بأن كل من عنده شی‌ء من القرآن فلیجئ به إلی زید- قام علی خیر وجه حیث سار وفق خطه حكیمة و سلیمة فهو لم یعتمد فقط علی ملكة الحفظ عند العرب بل اشترط اضافة الیها ان تعززها و تدعمها الكتابة، كما قرر ان لا یقبل أیة آیة مكتوبة من آیات القرآن «إلا من بعد شهادة شاهدین عادلین یفیدان علی انها كتبت و حررت فی حضرة الرسول (ص) و انها سمعت من فمه» «17».
و الحقیقة ان كل هذه الاجراءات و التعقیدات انما وضعت أو اخذت بنظر الاعتبار فلأجل المبالغة فی الاحتیاط و الامانة فی الجمع و الحرص علی صحة و سلامة نقل الآیات الكریمة ..
______________________________
(17) الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 139
و هكذا تتبع زید بن ثابت القرآن باجمعه یجمعه من العسف و اللخاف و الصحف و القراطیس و صدور الرجال، فوجد قرب الفراغ من العمل ان آخر سورة التوبة «18» كانت لدی أبی خزیمة الانصاری أو خزیمة بن ثابت الانصاری فی روایة أخری و هی قوله تعالی: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْكُمْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُفٌ رَحِیمٌ فوافق علی كتابتها دون تأخیر أو ابطاء «19» ذلك لأن رسول اللّه (ص) كان قد جعل شهادته مساویة لشهادة رجلین من المسلمین «20» ..
كما ان عمر بن الخطاب (رض) كان قد جاء زید بن ثابت بآیة
______________________________
(18) فی الحقیقة أن زید بن ثابت لم یجد هذه الآیة مسجلة عند غیر المسلمین ممن راجعهم، لا انه لم یكن یحفظها غیره بل كان یحفظها الكثیرون و یتلونها فی الصلوات و فی غیرها ..
كما و أن الروایات و المصادر التی تروی أو تأتی علی هذه الواقعة قد وقعت فی الخلط و الالتباس بین خزیمة بن ثابت و ابی خزیمة الأنصاری فمنها من تعد الأول هو ذو الشهادتین و غیرها تعد الثانیة ..
إن علة هذا الخلط ما بینهما یرجع إلی تكرر لفظ خزیمة فی الاسمین و ان الاثنین هما من الأنصار ..
(19) فضائل القرآن- إسماعیل بن كثیر القرشی، الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
(20) إن سبب جعل شهادة خزیمة أو أبی خزیمة معادلة لشهادة رجلین هو ان النبی (ص) كان قد اشتری یوما فرسا من سواد بن الحارث فاستتبعه لا عطائه ثمن الفرس، فاسرع النبی (ص) لمشی و أبطأ البائع المذكور، فاعترضه بعض الرجال و ساوموه علی الفرس باكثر من الثمن الذی باعه و هم لا یعلمون ان النبی (ص) قد اشتراه منه، ثم انكر الاعرابی عند جلب النبی للثمن بیعه الفرس له، فشهد للنبی (ص) ابی خزیمة أو خزیمة فقال له الرسول: بم تشهد و لم تكن حاضرا فأجاب بتصدیقك و إنك لا تقول إلّا حقا، فقال (ص): «من شهد له أبی خزیمة أو خزیمة أو علیه فحسبه».
و ابی خزیمة هو صحابی جلیل و من اشراف الأوس و شجعانهم و قد حمل رایتهم یوم فتح مكة و شهد معركة صفین مع الإمام علی بن أبی طالب- ع- و فی هذه المعركة استشهد و كان فی عام 37 ه.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 140
الرجم و هی: «الشیخ و الشیخة إذا زنیا فأرجموهما البتة نكالا من اللّه و اللّه عزیز حكیم» فلم یكتبها زید بسبب أن نقل هذه الآیة- أو العبارة علی وجه الدقة- كان منحصرا به فقط و لم یشهد له علی صحتها أحد من المسلمین «21» ..
و ینقل عن لسان عمر بن الخطاب بصدد ما جاء به من آیة الرجم قوله: «لو لا ان یقول الناس ان عمر قد اضاف إلی كتاب اللّه شیئا لاضفت هذه الآیة إلی القرآن» ...
و قیل بعد هذا ان أبا بكر (رض) حرصا منه علی سرعة و سهولة اتمام جمع القرآن طلب من عمر بن الخطاب و زید بن ثابت ان «یجلسا عند باب المسجد النبوی فمن جاءهم بشاهدین علی شی‌ء من كتاب اللّه فلیكتبوه» «22».
و المقصود من الشاهدین هنا هو الحفظ و الكتابة أو بأن یشهدا بأن ما أتوا به كان مما عرض علی النبی (ص) عام وفاته فی العرضة الأخیرة و انه كذلك قد سمع منه و كتب بین یدیه وجها لوجه ..
و طبیعی ان هذا السبیل الذی مورس فی جمع القرآن كان هو السبیل المثالی الذی لم یشوبه شی‌ء من شبهة أو مثلبة، و قد ثمّن أحد الكتاب المتأخرین هذا السبیل فی الحفظ و الجمع فقال: «تستطیع أن تقول من غیر تردد انه اتبع طریقة التحقیق العلمی المألوفة فی عهدنا الحاضر، و قد اتبع هذه الطریقة بدقة دونها كل دقة» «23».
و قد تم لأبی بكر الصدیق جمع القرآن كله فی مكان واحد مرتب الآیات و السور فی بحر سنة كاملة بسبب ان طلبه من زید بن ثابت كان
______________________________
(21) الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
(22) تاریخ القرآن- إبراهیم الابیاری، تاریخ القرآن- محمد طاهر الكردی.
(23) الصدیق أبو بكر- الدكتور محمد حسین هیكل.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 141
عقب واقعة الیمامة «و المدة الفاصلة بین هذه الواقعة و بین ارتحاله لجوار ربه أو قرب هذا الارتحال هی سنة واحدة تقریبا» «24».
و هناك من قال بان عملیة الجمع هذه استغرقت حوالی السنتین أو الثلاث «25» ..
هذا و قد كتب زید القرآن كله بجمیع أجزائه و اوجهه المعبّر عنها بالأحرف السبعة «26». كما «و لم یسجل فی المصحف إلا ما ثبت عدم نسخ تلاوته» «27» و قد كتبه كما صرّح هو به علی قطع الأدیم و كسر الاكتاف و السعف و القراطیس ...... الخ.
و یمكن هنا تلخیص مهمة زید بن ثابت التی تولی القیام بها فی مهد أبی بكر فنقول انها «لا تعدو عن ضم ما تفرق هنا و هناك علی نسق معهود له و لغیره من جمهور الحفظة» «28» من الصحابة و القراء ..
و السؤال الذی یفرض نفسه هنا هو عن السبب الذی من أجله اختیر زید بن ثابت للقیام بالمهمة التی اضطلع بها بجمع القرآن دون غیره من كتاب الوحی و الصحابة ..
ان الجواب علی هذا التساؤل قد كفانی مئونة الإجابة علیه أحد الكتاب المتأخرین حیث یقول: «لما كان زید شابا فهو أقدر علی العمل من غیره، و هو لشبابه أقل تعصبا لرأیه و اعتزازا بعمله و ذلك یدعوه للاستماع لكبار الصحابة من القراء و الحفاظ و التدقیق فی الجمع دون ایثار لما حفظه هو، و انه كذلك حضر العرضة الأخیرة للقرآن» «29».
______________________________
(24) مباحث فی علوم القرآن- الدكتور صبحی الصالح.
(25) دراسات فی علوم القرآن- عبد القهار العانی.
(26) سیرد شرح الحروف السبعة فی القرآن فی نهایة هذا الكتاب.
(27) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(28) نظرات فی القرآن- محمد الغزالی.
(29) الصدیق ابو بكر- الدكتور محمد حسین هیكل.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 142
هذا و سنلقی بعض الضوء علی شخصیة هذا الصحابی الجلیل فی الفصل القادم ..
أما عن السبب الرئیسی الذی حدا بأبی بكر أو عمر (رض) إلی عدم نسخ صور كثیرة مما كتب زید بن ثابت فهو ان الصحف التی اضطلع بكتابتهما زید ارید منها ان تكون وثیقة للتسجیل لیمكن بعد ذلك و حین الفراغ من حروب الردة و حرب الروم و الفرس- أو عند الضرورة- من نسخها بأكثر من صورة، و قد تم ذلك بالفعل فی عهد عثمان بن عفان، اضافة إلی عدم وجود خلاف یذكر فی القراءات فی ذلك الوقت یتطلب العجلة فی النسخ أو الإسراع فی الجمع ..
ان الصحف التی جمعت فیها آیات القرآن الكریم قد وضعت لدی أبی بكر الصدیق انتظارا لحلول وقتها و ساعتها بعد أن شدّت بخیط خشیة سقوط أو فقدان شی‌ء منها، و بعد وفاته (رض) سنة 13 ه انتقلت هذه الصحف إلی خلفه عمر بن الخطاب و ظلت لدیه حتی قرب انتقاله إلی جوار ربه حیث ودعها حینذاك عند ابنته حفصة زوجة الرسول (ص) و لم تحفظ لدی الخلیفة الثالث عثمان بن عفان (ذی النورین) ..
و الحقیقة بصدد الفقرة الأخیرة هو أن عمر بن الخطاب كان قد وضع الصحف فی أواخر حیاته لدی ابنته حفصة و لیس لدی خلفه عثمان بسبب ان انتخاب هذا الخلف لم یتم بعد لأنه آثر ان یجعل أمر الخلافة شوری من بعده، و لاعتقاده كذلك بأن هذا الخلف- كائنا من كان- فی وسعه ان یستردها و یطلبها منها إذا تطلبت الحاجة الیها لأن الصحف هی ملك لكل المسلمین و لیس فی وسع أحد أن یستأثر بها دونهم، و لو كانت ملكا لأبی بكر- كما یقول البعض- لورثها ابناؤه من بعده و لم تصل إلی عمر بن الخطاب أو تحفظ لدیه، فضلا عن ان حفصة بنت عمر هی زوجة رسول اللّه (ص) و انها كانت تعرف القراءة و الكتابة «30» ..
______________________________
(30) القرآن- محمد صبیح.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 143
هذا و ان إمام الهدی علی بن أبی طالب- ع- قال بصدد جمعه للقرآن: بان حبیبی رسول اللّه (ص) كان قد «أوصانی انه إذا ما واریته فی حفرته ان لا أخرج من بیتی حتی أؤلف كتاب اللّه فإنه فی جرائد النخل و اكتاف الإبل ..» «31» و انه أقسم ألا یضع ردائه علی ظهره حتی یجمع القرآن ..
و فی روایة أخری ورد ان رسول اللّه (ص) قال لعلی: «یا علی ان القرآن خلق فراشی فی الصحف و الحریر و القراطیس فخذوه و اجمعوه و لا تضیعوه كما ضیّعت الیهود للتوراة» «32» ..
كما و ینسب للامام علی قوله انه لو ثنیت له الوسادة و عرف حقه لأخرج مصحفا كتبه بیدیه و املاه علیه رسول اللّه (ص) ..
لذا فما ان اكمل الامام مواراة ابن عمه (ص) و الناس منصرفون إلی شئون البیعة و الخلافة حتی آلی علی نفسه «ألا یرتدی برداء إلا للصلاة حتی یجمع القرآن فی مصحف واحد ففعل» «33» و كان الرجل لیأتیه فیخرج من غیر رداء حتی جمعه فی مصحف واحد من الرقاع المتنوعة غیر المنتظمة ..
و قد تم جمعه فی ثلاثة أیام- و ربما كان أكثر- و بأوراق مترابطة تشكل كتابا بترابطها و تتابعها المنظم، و قد وضعه- ع- فی ثوب أصفر ثم ختم علیه فكان بذلك «أول مصحف فی دنیا الاسلام جمع فیه القرآن من قلبه» «34» و من تدوینه أیضا، بینما كان أبو بكر (رض) أول من جمع القرآن من الصحف و الخشب و العسب و الاكتاف ..
______________________________
(31) تاریخ القرآن- أبی عبد اللّه الزنجانی، تفسیر العیاشی- محمد بن مسعود العیاشی.
(32) تاریخ القرآن- أبی عبد اللّه الزنجانی.
(33) آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن- الشیخ محمد جواد البلاغی، الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
(34) الفهرست- ابن الندیم.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 144
و لم یحفظ الامام علی بهذا المصحف فی بیته أو یستأثره لنفسه دون جمهور المسلمین بل «أتی به علی جمل فقال لجماعة المسلمین هذا القرآن قد جمعته» «35» و كان- ع- قد «جزأ المصحف سبعة أجزاء» «36» و وضعه (جمعه) علی ترتیب نزوله و تقدم منسوخه علی ناسخه كما و قد كتب فیه تأویل بعض الآیات و تفسیرها بالتفصیل فضلا عن الاشارة إلی عامه و خاصه و مطلقه و مقیّده و مجمله و بیّنه و محكمه و متشابهه و رخصه و عزائمه و آدابه و سننه و أسباب نزوله ..
لذا فمصحف الامام علی- ع- لم یكن فی الحق و الحقیقة «أول مصحف جمع فیه القرآن» «37» فی عالم الاسلام فقط بل هو أول تفسیر له، و لیس هذا بمستكثر علی الامام إذا ما علمنا بأنه- ع- كان قد «آمن بالاسلام و لما یمضی علی نزول الوحی 24 ساعة و انه شارك النبی (ص) فی أول صلاة صلاها للّه، و كان معه فی حله و ترحاله عدا غزوة تبوك التی استخلفه فیها علی المدینة» «38».
فلیس غریبا و لا عجیبا ان نری الرسول (ص) یثمن كل هذه الجهود و یشكر كافة هذه المساعی فیوشّح صدر الامام بوسام رفیع و كبیر و هو و سام العلم و العمل خاطّا علیه و باحرف من نور مقولته الشهیرة التی تحدث بها الركبان و حفظها القاصی و الدانی و هی «انا مدینة العلم و علی بابها» ناهیك عن الأوسمة و الأنواط المختلفة الأخری و التی یتعذر احصائها و یشق استقصائها .. لذا لم یعد بعیدا و لا مستغربا ان نسمع الامام یخطب جماهیر المسلمین و هو مل‌ء الثقة و الیقین و الاعتزاز یخطبهم بقوله: «انی لا عرف ناسخه من منسوخه- یقصد القرآن- و محكمه من
______________________________
(35) البحار- محمد باقر المجلسی.
(36) تاریخ القرآن- أبی عبد اللّه الزنجانی.
(37) موجز علوم القرآن- داود العطار.
(38) علی و القرآن- محمد جواد مغنیة.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 145
متشابهه و فصله من فصاله و حروفه من معانیه و اللّه ما من حروف نزل علی محمد (ص) إلا و انی اعرف فیمن نزل و فی أی یوم و فی أی موضع».
كما و لیس عجیبا أن نسمع حبر الأمة عبد اللّه بن عباس یقول:
اعطی علی تسعة اعشار العلم و شارك الناس فی العشر العاشر ..
أو ما جاء عن عبد اللّه بن مسعود من ان الرسول (ص) استدعی علیا- ع- فخلا به فلما خرج الینا سألناه ما الذی عهد به الیك یا علی فقال: علمنی الف باب فتح لی من كل باب الف باب ..
و ما روی عن أبی الطفیل انه قال: شاهدت علیا یخطب و هو یقول: سلونی قبل ان تفقدونی فو اللّه لا تسألونی عن شی‌ء إلا أخبرتكم و سلونی عن كتاب اللّه فو اللّه ما من آیة إلا و انا أعلم بلیل نزلت ام بنهار ام سهل ام فی جبل ..
و ما نقل عن غیره من انه سمع الامام علی یخطب فی مكان آخر و یقول: «انه لو تكلم فی الفاتحة من القرآن لحمل منها سبعین وقرا».
و قد سأله مرة بعض الأصحاب بعد ما لمس منه- ع- من نبوات صادقة و من فنون الأدب و البلاغة و الوان العلم و الفقه ما اطاح بلبه و أخذ بمجامع قلبه سأله: لقد اعطیت یا أمیر المؤمنین علم الغیب فضحك الامام و قال: لیس هو علم غیب و انما هو تعلّم من ذی علم ..
هذا علما بأن الصحابة كانوا «متفقین علی ان علم القرآن مخصوص لأهل البیت، إذ كانوا یسألون علی بن أبی طالب- ع- هل خصصتم أهل البیت دوننا بشی‌ء سوی القرآن، فاستثناء القرآن بالتخصیص دلیل علی اجماعهم بأن القرآن و علمه و تنزیله و تأویله و تفسیره مخصوص بهم» «39».
______________________________
(39) مقدمة فی تفسیر الشهرستانی- هبة الدین الشهرستانی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 146
اضافة إلی ان «التفسیر بالأثر و الحدیث النبوی من العلوم التی تفرّد بها البیت النبوی و عرف بها الأئمة قبل غیرهم» «40».
لذا فكل «أحد من الناس ادعی انه جمع القرآن كله كما انزل إلا كذب، و ما جمعه و حفظه كما نزله اللّه تعالی إلا علی بن أبی طالب- ع- و الأئمة من بعده» «41».
و مما تقدم یظهر بان مصحف الامام علی كان أول مصحف فی عالم الاسلام و قد طالما تأسف الأصحاب بعد ذلك علی عدم اطلاعهم علیه أو تقبلهم له بعد ان عرض علیهم و وضع امامهم وجها لوجه ..
فهذا عبد الرحمن بن عوف یقول: «سألت عكرمة عن ذلك الكتاب فلم یعرف» «42».
و بعده قال محمد بن سیرین: «لو اصبت ذلك الكتاب كان فیه العلم» ..
فرحمك اللّه یا أبا الحسن و طبت حیا و میتا و الیك منی و من ملایین المسلمین الذین تمنوا بلوغ العصر الذی عشته لیغترفوا من فیض علمك و بلاغتك و سیرتك الف تحیة اكرام و اعجاب و تقدیر ..
هذا و كان هناك آخرون أیضا بالاضافة إلی الامام علی قد نجحوا و وفقوا فی جمع القرآن فی مصحف واحد و مكان واحد بعد وفاة الرسول (ص) منهم أبیّ بن كعب و عبد اللّه بن مسعود و عبد اللّه بن عباس و أبو موسی الاشعری و المقداد بن الأسود و معاذ بن جبل و سالم بن معقل مولی أبی حذیفة ... و سنشیر إلی بعضها بعد الفصل القادم.
ان المصاحف الآنفة الذكر كانت موزعة فی الامصار و المدن
______________________________
(40) مقدمة تفسیر شبّر- للدكتور حامد حفنی داود.
(41) الكافی- محمد بن یعقوب الكلینی.
(42) آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن- الشیخ محمد جواد البلاغی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 147
الإسلامیة «فأهل الكوفة كانوا یقرءون علی مصحف عبد اللّه بن مسعود و أهل البصرة علی مصحف أبی موسی الأشعری و أهل الشام بما فیهم أهل حمص علی مصحف أبیّ بن كعب و أهل دمشق علی مصحف المقداد ابن الأسود» «43» ..
كما و قد كان ثمة خلاف بین هذه المصاحف «من جهة الأسلوب و الترتیب و القراءة» «44» و ذلك لاجازة النبی (ص) لأصحابه تلاوة القرآن باللهجات التی درجوا علیها و أقرأهم بهذه اللهجات أو بعبارة أخری بهذه القراءات وفقا لما تستطیعه السنتهم، و كان (ص) یطمئن خواطرهم عند الاستفسار منه عن حقیقة قراءة غیرهم بقوله: «كلكم علی صواب» «45»، فضلا عن ان أهل كل قطر و مصر كان یشعر لمصاحفهم بقوة علی حساب المصاحف الأخری و یؤید قراءاتهم علی ما عداها ..
و هذا الخلاف الذی استفحل و نما بمرور الأیام هو الذی أدركه الصحابی الجلیل و القائد المشهور حذیفة بن الیمان «46» حین كان یجاهد فی سبیل اللّه بین صفوف القوات الاسلامیة فی جبهة آذربایجان (شمال غرب ایران) و ارمینیا، فعند اوبة هذا الصحابی- رحمه اللّه- إلی الكوفة احاط أمیرها و كان حینئذ هو سعید بن العاص احاطه بالخطر الذی سیلحق ببیضة الاسلام من جراء اختلاف المسلمین فی المصاحف و قراءاتها ..
______________________________
(43) الكامل فی التاریخ- ابن الأثیر.
(44) تاریخ المصاحف العثمانیة- محمد هادی معرفة.
(45) المصحف الشریف- الدكتور محمد عبد العزیز مرزوق.
(46) كان حذیفة بن الیمان العبسی صاحب سر رسول اللّه و من أزهد الناس فی الدنیا، و یروی أن الرسول (ص) كان قد اجتره بما كان و ما یكون إلی أن تقوم الساعة بما فی ذلك واقع و حقیقة كل صحابی و عاقبته المنتظرة ..
توفی- رحمه اللّه- فی العراق عام 36 ه و دفن إلی جوار قبر الصحابی الجلیل سلمان الفارسی فی المدائن قرب بغداد و قبره هناك عامر و مفتوح للزوار ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 148
ثم توجه بعدها إلی المدینة المنورة لیفاتح الخلیفة عثمان بن عفان واقع الأمر، فنهض الخلیفة لهذا السبب و لغیره من الأسباب- كما سنشیر إلیه فی الفصل القادم- نهض بجمع القرآن (و هو الجمع الثالث)، كما و قام بعدها بتوزیع نسخ متشابهة منه علی الامصار الاسلامیة لتحل محل المصاحف المتداولة بهدف وضع حد لكل خصومة قد تطرأ أو خلاف قد یثار من جراء اختلاف المصاحف، هذا الخلاف «47» الذی برز بسبب طول عهد الناس بالرسول (ص) و الوحی و التنزیل وادی إلی ظهور ناشئة جدیدة سببت الاختلاف فی حروف الأداء و وجوه القراء ..
فلنری فی الفصل التالی كیف قام عثمان بن عفان بهذه المهمة و كیف كان موقف المسلمین منها و كیف تقبّلها الناس برحابة صدر و بسرور بالغ ..
______________________________
(47) نشیر هنا إلی أن البعض یری أن اختلاف المصاحف یعود إلی اجازة عثمان بن عفان لإعلام قریش من المهاجرین و الانصار بالخروج إلی الامصار و البلدان بعد أن حظر علیهم عمر بن الخطاب هذا الخروج فی حیاته حیث «تفرّق الصحابة فی الامصار و اشتدوا فی ذلك، فقرأ أهل كل مصر بقراءة من نزل بینهم من الصاحبة و القراء» تاریخ الطبری- محمد بن جریر الطبری.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 149

الجمع الثالث للقرآن‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 151
قلنا فی الفصل السابق ان حذیفة بن الیمان عند ما عاد من حرب ارمینیا و آذربایجان دخل علی عثمان بن عفان قبل دخوله لبیته لیخبره بمخاوفه من اختلاف المسلمین فی قراءة القرآن لأنه سمع أهل الشام الذین كانوا یقاتلون معه فی صفوف الجیش الاسلامی سمعهم یقرءون بقراءة أبیّ بن كعب بینما كان یقرأ أهل العراق بقراءة عبد اللّه بن مسعود و غیرهم ممن كان معه یقرءون بقراءة أبی موسی الأشعری فتقرأ كل فئة بما لا تسمع به الأخری من جهة حروف الأداء و وجوه القراءات حتی ان الرجل لیقول لصاحبه: إن قراءتی خیر من قراءتك و افضل من قراءتك مما سبب و دعا إلی ان یكفّر بعضهم البعض و یلعن أحدهم الآخر ..
و طلب حذیفة من عثمان- بعد ان وصل الحال إلی هذه الدرجة من الحراجة و الخطورة أن یدرك الأمة قبل أن تختلف فی القرآن و تتشتت بسببه أیدی سبأ و علی غرار اختلاف الیهود و النصاری «1» من قبلهم فی كتبهم الدینیة المنزلة علیهم «2» ..
______________________________
(1) صحیح البخاری- محمد بن إسماعیل البخاری، الفهرست- ابن الندیم.
(2) بصدد كتب الیهود و المسیحیین الدینیة و أنواعها نقول:
«أ- المعروف عن أسفار العهد القدیم عند الیهود إنها تنقسم إلی أربعة أقسام هی:
1- القسم الأول: و هی كتب موسی (الاسفار الخمسة) و هی سفر التكوین أو الخلق و فیه ذكر خلق العالم و قصة آدم و حواء و أولادهما و نوح و الطوفان و إبراهیم و إسحاق و یعقوب و یوسف ... و سفر الخروج أی خروج الیهود من
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 152
و بعد مضی فترة وجیزة علی طلب حذیفة و التماسه هذا تسرّبت إلی عثمان أخبار مقلقة و مفزعة مفادها ان أهل حمص یزعمون ان قراءتهم خیر من قراءة غیرهم و ان أهل دمشق بدورهم یصوبون قراءتهم علی ما سواها و هكذا الحال مع أهل الكوفة و البصرة حیث كان الرجل من أهل
______________________________
مصر و فیه قصة موسی منذ ولادته و بعثته و فرعون و خروج الیهود من مصر و صعود موسی إلی الجبل و إرسال الألواح و سفر الاحبار (اللاویین) و فیه أحكام الفرائض و الحدود و سفر العدد و بعضه فی الشرائع و البعض فی أخبار موسی و بنی إسرائیل فی القبة و قصته البقرة و سفر تثنیة الاشتراع أی إعادة الناموس ..
2- القسم الثانی: و تسمی الاسفار التاریخیة و عددها (12) سفر و هی أسفار یوشع و القضاة و راعوث و صموئیل (اثنان) و الملوك (اثنان) و أخبار الأیام (اثنان) و عزرا و تحمیا و استیر ..
3- القسم الثالث: و تسمی أسفار الأناشید (الشعریة) و عددها (5) و هی سفر أیوب و مزامیر داود و أمثال سلیمان و الجامعة من كلام سلیمان و نشید الأناشید لسلیمان ..
4- القسم الرابع: و تسمی أسفار الأنبیاء و عددها (17) و هی أسفار أشعیاء و أرمیاء و مراثی أرمیاء و حذقیال و دانیال و یوشع و یوئیل و عاموس و عوبدیا و یونس و میخا و ناحوم و حبقوق و صفینا و حجی و زكریا و ملاحی.
أما التلموذ فهو مجموعة من المناقشات الدینیة و تاریخ لبعض رجال الدین و یضم أیضا كثیرا من القوانین المدنیة و العقوبات لفترة تمتد إلی ألف سنة و یقسم إلی قسمین:
1- المشنا و كتبت باللغة العبریة.
2- الجیمارا و كتبت باللغة الآرامیة.
ب- أما الاناجیل المعتمدة لدی المسیحیة فهی (4): إنجیل متی و إنجیل مرقص و إنجیل لوقا و إنجیل یوحنا.
أما الاناجیل التی لا تعتمدها الأكثریة و یوثقها البعض فهی: إنجیل برنابا و إنجیل الحواری یعقوب و إنجیل الحواری توماس و إنجیل القدیس نیكودیم و إنجیل نلامس (السبعین) و إنجیل الاثنی عشر و إنجیل التذكرة و انجیل العبریین (الناصریین) و إنجیل دیصان و إنجیل مانی و إنجیل مرقیون (مرسیون) و إنجیل الأبیونیین، الأسفار المقدسة فی الأدیان السابقة للإسلام- الدكتور عبد الواحد وافی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 153
هذه المدن یقرأ القرآن الكریم فیقول له الآخر: كفرت بما تقول و تقرأ ..
فكرّ عثمان بن عفان فی الأمر ملیا و قلّبه علی كافة وجوهه، و لما یمضی إلا أیام و لیالی و هو فی غمرة دراسة الموضوع و ما یمكن اتخاذه من حلول جذریة لقطع دابر الفتنة و الحفاظ علی القرآن دون ان یتطرق إلیه شی‌ء من التحریف أو الزیادة أو النقصان «لا سیما و انه ادرك ان العرب لا یستمرون عربا علی الاختلاط و الفتوح و ان الالسنة تنتقل و اللغات تختلف فان أمن فی عصره لم یدر ما یكون بعد عصره» «3».
أجل إذ هو فی غمرة دراسة الموضوع و إذا بمعلومات و أنباء جدیدة و مفزعة ترده و تطرق اسماعه و خلاصتها هو اختلاف المعلمین مع طلابهم من قلب المدینة المنورة نفسها و تطور هذا الاختلاف إلی نزاع و قتال مسلح شهرت فیه المدی و استعملت السكاكین.
و عند البحث و التحقیق فی الأمر ظهر له واضحا و تجلی «ان الدافع الرئیسی و الأوحد فی هذا النزاع هو قراءة القرآن و حرص كل فئة من اطراف النزاع علی تصویب قراءتها و ترجیحها علی الأخری» «4».
و بعد كل هذه الوقائع و الأحداث المتتالیة و التی استأثرت من عثمان ابن عفان كل تفكیره و وقته وطّد العزم علی أمر هام- و قبل ان یستفحل الداء و یعز الدواء- و هو جمع الناس علی مصحف واحد بلغة قریش و هی التی نزل بها القرآن مفصحا عن هذا بقولته الشهیرة: «انتم عندی فی المدینة مختلفون فیه فتلحنون فمن نأی عنی من الامصار كان أشد اختلافا و أكثر لحنا یا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس اماما» ..
و لهذا السبب سمّی مصحف عثمان بعد نسخه ب « «المصحف الامام» ..
______________________________
(3) إعجاز القرآن و البلاغة النبویة- مصطفی صادق الرافعی.
(4) تاریخ القرآن- محمد طاهر الكردی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 154
هذا و لم یكن عثمان لینفرد بجمع القرآن أو یتخذ بشأنه هذا القرار الخطیر من دون استشارة أو مشاركة كبار الصحابة و أصحاب الحل و العقد ممن عاصر الرسول (ص) و سمع حدیثه و خصوصا امام الهدی علی بن أبی طالب و الذی سبق لسلفه- أی عمر- ان كان یفزع إلیه و یشاوره فی كل أمر خطیر فكان یجد فی الامام الاستجابة الكاملة و النصح و العون التامین ..
لذا فقد دعا عثمان جمهورا من أصحاب رسول اللّه و فی طلیعتهم الامام علی و تدارس الموضوع معهم و من كافة اطرافه و طلب منهم الحل و المشورة ازاء توحید القرآن الكریم لیكون اصلا للقراءة و الكتابة یرجع إلیه عند الحاجة و لقطع دابر كل خلاف أو نزاع قد یحدث بین المسلمین فی اقطار الأرض بشأن قراءته ..
و لم یكن جواب الأصحاب إلا الاستحسان و التأیید المطلق لهذه الفكرة و مشیرین علیه بفكرة الرجوع إلی الصحف الأولی التی جمعت فی عهد أبی بكر الصدیق (رض) و انتقلت أخیرا إلی ید حفصة بنت عمر لاعتمادها عند النسخ و ان یأخذ الناس بها و یجمعها علیها، فضلا عما اظهره الأصحاب من استعدادهم الكامل لوضع كل امكانیاتهم من أجل تحقیق هذه الفكرة و ابرازها إلی عالم النور و الواقع ..
لذا فقد عدّ جمهور من الرواة و المؤرخین «ان جمع القرآن هذا- الجمع الثالث- و استنساخه فی المصاحف و الذی تولاه عثمان كان بتشجیع من الامام علی- ع- و بموافقته» «5» و «باتفاق منه» «6» حتی ان قسما من هؤلاء الرواة قد نقلوا عن لسان الامام علی قوله: «لو لم یفعل عثمان هذا الشی‌ء لفعلته انا، فو اللّه ما فعل الذی فعل (عثمان) فی المصاحف إلا عن ملأ منا» «7».
______________________________
(5) تاریخ القرآن- أبی عبد اللّه الزنجانی.
(6) التبیان فی آداب حملة القرآن- یحیی شرف الدین النووی.
(7) المصاحف- السجستانی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 155
فموقف الامام علی هذا ما هو فی الحقیقة و الواقع إلا «حرص منه- ع- علی الالتزام بالمقرر وفق الرسم العثمانی تحفظا و ابقاء علی الترابط الإسلامی المتوحد فی ظل وحدة الكتاب الأمر الذی ینبئ عن بعد نظر الامام علی و غور فكره عند دروس القضایا العامة لیختار الوجه الأصلح مهما كلف الأمر من تضحیات» «8».
بعد ارفضاض المشاورات و المداولات الآنفة الذكر و التی انتهت بدعم فكرة توحید المصاحف، بادر عثمان بن عفان بطلب الصحف المحفوظة لدی حفصة بنت عمر لغرض استنساخها فی المصاحف و قطع لها عهدا باعادتها إلیها حال الفراغ منها و من دونما ابطاء أو تأخیر ..
لبت حفصة الأمر و ارسلت الصحف برمتها إلی الخلیفة عثمان، فأمر الخلیفة بتألیف لجنة رباعیة برئاسة زید بن ثابت (من الأنصار) و عضویة كل من عبد اللّه بن الزبیر و سعید بن العاص و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (الثلاثة من قریش- المهاجرین) و خوّلها صلاحیة ممارسة كافة الحقوق و الصلاحیات من أجل «اخراج نص مكتوب- للقرآن الكریم- من الصحف المحفوظة لدی حفصة أم المؤمنین» «9» و بعدة نسخ ...
بدأت اللجنة مهمتها علی الفور مستعینة باللّه تعالی و مستمدة العزم و الدعم من جموع المسلمین و علی الخصوص أهل الحل و العقد منهم ..
و قیل هنا أن عثمان بن عفان سأل عن اكتب أعضاء اللجنة و اعربهم فقیل له: ان أكتبهم هو زید و اعربهم سعید، فقال لیكتب زید و لیملل سعید ..
______________________________
(8) تاریخ المصاحف العثمانیة- محمد هادی معرفة.
(9) المصحف الشریف- الدكتور محمد عبد العزیز مرزوق.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 156
و المقصود من الكتابة هنا هو معرفة قواعد الكتابة و حسن الخط، كما و ان المقصود من الاعراب هو الفصاحة و البلاغة ..
كما و كان عثمان بن عفان قد أشعر القرشیین الثلاثة من أعضاء اللجنة عند بدأ النسخ بانه اذا ما اختلفوا و زید بن ثابت فی شی‌ء من رسم كتابة القرآن فلیكتبوه بلسان قریش لأن القرآن نزل بلسانهم ففعلوا ذلك.
و یروی هنا- انه خلال عملیة النسخ- «لم یختلف زید بن ثابت و سعید بن العاص فی شی‌ء من القرآن إلا فی حرف واحد من سورة البقرة عند قوله «إِنَّ آیَةَ مُلْكِهِ أَنْ یَأْتِیَكُمُ التَّابُوتُ» «10» فقال زید نكتب «التابوة» بینما أصرّ الآخرون علی كتابة «التابوت» و عند عرض الحال علی عثمان آثر كتابة اللفظ الثانی لأنه بلسان قریش فثبت فی المصحف» «11» ..
هذا و بعد انتهاء اعمال اللجنة ظهر انها نسخت خمسة أو أربع أو سبع «12» مصاحف متشابهة حیث ارسل عثمان بمصحف واحد إلی كل بلد و مصر اسلامی و قد فصلّها البعض فقالوا: بان عثمان «قد احتفظ بواحد من هذه المصاحف فی المدینة بینما ارسل البقیة إلی البصرة و الكوفة و مكة و الشام، و من قال بأن اللجنة نسخت سبع مصاحف فقد ارسلت خمسة إلی الامصار السابقة و ارسلت بالاضافة إلی ذلك نسخة إلی الیمن و أخری إلی مصر» «13» و قیل إلی البحرین أیضا.
______________________________
(10) البقرة- 248.
(11) الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
(12) إن العلة فی اختلاف عود المصاحف یرجع إلی الرواة حیث اعتمدوا تعداد المصاحف علی الامصار التی أرسلت إلیها هذه المصاحف، حیث ربما أرسل مصحف واحد إلی مصرین مثلا، فالراجح أن المصاحف خمسة بعدد الحفاظ الذین أرسلوا معها ..
(13) تاریخ القرآن- محمد طاهر الكردی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 157
و یقال ان عثمان قد ارسل مع كل مصحف صحابی یرشد الناس إلی قراءته و ما یحتمله رسمه منها مما صح و تواتر فكان «عبد اللّه بن السائب مع المصحف المكی و المغیرة بن شهاب مع المصحف الشامی و أبو عبد الرحمن السلمی مع المصحف الكوفی و عامر بن عبد القیس مع المصحف البصری، بینما طلب زید بن ثابت ان یقرأ الناس بالمصحف المدنی» «14».
و هكذا «تلقت الامصار الاسلامیة المذكورة المصحف مكتوبا و معه صحابی یتلوه علی الناس، صحابی تلقاه بدوره من فم النبی- ص-» «15».
و بقدر تعلق الأمر بعدد المصاحف التی استنسخت و الجهات التی ارسلت الیها فلا نعرف علی وجه الدقة السبب الحقیقی الذی من أجله لم یرسل عثمان لكل بلد اسلامی بمصحف أو بأكثر من مصحف ..
و الظاهر هنا ان عدم ارسال اعداد كثیرة من المصاحف إلی كافة البلدان الاسلامیة و انما اكتفی عثمان بن عفان ارسال نسخة واحدة منه فقط إلی بلدان معدودة یعود إلی قلة النساخ أولا و إلی عدم توفر الورق لدیهم بكثرة ثانیا.
اما بصدد اللجنة و كیفیة تشكیلها و رئاستها و التی سبق ان شكلت- كما قلنا- علی النحو التالی:
زید بن ثابت/ رئیسا (الأنصار) عبد اللّه بن الزبیر/ عضوا (المهاجرون) سعید بن العاص/ عضوا (المهاجرون) عبد الرحمن بن الحارث بن هشام/ عضوا (المهاجرون)
______________________________
(14) تاریخ القرآن- محمد طاهر الكردی.
(15) المصحف الشریف- الدكتور محمد عبد العزیز مرزوق.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 158
فیظهر انه لم تتوفر الأسباب الخفیة و «الحقیقیة التی دعت عثمان لاختیار القرشیین الثلاثة إلی جانب زید بن ثابت فی اللجنة» «16» اذا ما علمنا بان هذا الجمع للقرآن لا یعدوا عن كونه كتابة ما فی الصحف المحفوظة لدی حفصة أم المؤمنین فی المصاحف المتعددة فقط ..
فبصدد سعید بن العاص فقد كان منذ عام 29 هجریة أمیرا علی الكوفة و لا نعلم هل استدعی إلی المدینة للمهمة المذكورة ام كان وجوده فیها صدفة فاختیر لعضویة اللجنة، كما لو نعلم عن القرشیین الآخرین سببا وجیها لدعوتهم للاشتراك فی هذه اللجنة ..
و كلما قیل بشأن هؤلاء الثلاثة هو ان السبب الرئیسی لاختیارهم یرجع لمعرفتهم بلسان قریش أو أنه یعود لأجل مساعدة زید فی الكتابة و النسخ، فضلا عن ان اعضاء اللجنة یجمعون بین الشباب و الكهولة فالشباب یمثلون العزیمة و النشاط، و الكهول یختارون للتجارب و الخبرة و نضوج الفكر ..
هذا و ان «المادة التی نسخت علیها المصاحف فهی الرقوق المصنوعة من الجلد الذی یهذب و یعالج بالصناعة حتی یصلح لما یراد له من الكتابة علیه، و فی ذلك یقول القلقشندی فی صبح الاعشی و اجمع الصحابة علی كتابة القرآن فی الرق لطول بقائه و لأنه الموجود عندهم حینئذ أكثر من غیره» «17» ..
و بعد هذا یمكن اختصار و حصر المراحل و الادوار الثلاثة لجمع القرآن من صدور المسلمین و كتاباتهم إلی المصحف العثمانی فنقول:
انه قد تم فی المرحلة الأولی الجمع و هو عبارة عن «كتابة الآیات و ترتیبها و وضعها فی مكانها الخاص من سورها مع بعثرة هذه الكتابة
______________________________
(16) نظرة عامة فی تاریخ الفقه الإسلامی- الدكتور علی حسن عبد القادر.
(17) المصحف الشریف- الدكتور محمد عبد العزیز مرزوق.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 159
و تفرّقها فی العسف و العظام و الجلود و الصحف» «18» و قد تم كل ذلك و جری فی عهد الرسول (ص) ..
اما المرحلة الثانیة فقد تم فیها التنسیف و التبویب (فی كتاب) و هو عبارة عن نقل القرآن و كتابته فی مصحف مرتّب الآیات مع الوثوق من تواترها، و قد جری هذا فی عهد أبی بكر الصدیق (رض) ..
و المرحلة الثالثة و الأخیرة فقد كانت مرحلة الالتزام و النشر بعد نقل ما فی الصحف المشار الیها فی مصحف امام واحد مع ترتیب سوره و آیاته و استنساخ مصاحف عدیدة ارسلت إلی الاطراف الاسلامیة و كانت كل هذه قد جرت فی عهد عثمان بن عفان و فی حوالی عام 25 للهجرة ..
هذا و قیل بصدد المصاحف التی استنسخت- فی عهد عثمان- انه قد وجد اختلاف بسیط ما بین حروفها و انها «لم تكن متشابهة 100%» «19» و «لا متطابقة تماما» «20» و ان اتفقت فی المعنی ..
و لتعلیل هذه الظاهرة قیل ان عثمان بن عفان لما جمع القرآن فی المصاحف و نسخها علی شكل واحد و آثر فی رسمها لغة قریش دون غیرها، برزت بوجهه مشكلة حروف القرآن- و لما ثبت لدیه ان هذه الحروف هی من عند اللّه تعالی و ان جمعها فی مصحف واحد غیر ممكن إلا باعادة الكلمة لاكثر من مرة، لذا آثر توزیعها و تفریقها فی المصاحف المرسلة إلی الأقطار الاسلامیة فجاءت مثبتة فی بعضها و محذوفة من البعض الآخر و ذلك لكی تحفظها الأمة «21» كما نزلت من عند اللّه تعالی و علی ما سمعت من فم رسول اللّه (ص) ..
______________________________
(18) نظرات فی القرآن- محمد الغزالی.
(19) تاریخ القرآن- محمد طاهر الكردی.
(20) تاریخ القرآن- الدكتور عبد الصبور شاهین.
(21) قیل أن عثمان كان یتحاشی أن یكتب أكثر من رسم واحد فی مصحف واحد خشیة أن یتوهم بأن اللفظ قد نزل مكررا، أو أن یكتب أحد الالفاظ فی الأصل
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 160
كما و قد ذهب البعض إلی خلاف هذا القول حیث اشاروا «22» إلی ان جمع عثمان بن عفان كان بحروف واحد و هو لغة قریش بینما كان جمع أبی بكر الصدیق من قبل بجمیع الأحرف السبعة ..
كما و نجد هناك رأی ثالث یذهب إلی ان: «تسجیل ما سجل من القرآن فی عهد النبی (ص) باملائه علی كتاب الوحی- فی أكثر النص ان لم یكن فی جمیعه- كان بحرف واحد و بصورة واحدة خالیة من الزیادة أو النقص أو التبدیل أو التناقض مما تحتمله أو لا تحتمله رخصة الأحرف السبعة أو ترتب علی فهم بعضهم لها أو استند الیها» «23» و سنشیر إلی حروف القرآن فی فصل خاص بنهایة الكتاب ..
هذا و بعد ان أرسل عثمان بن عفان المصاحف إلی الحواضر الاسلامیة طلب من الولاة و المسلمین فیها ألا یعتمدوا علی شی‌ء من آیات اللّه البینات إلا علی ما ورد فی هذه النسخ الرسمیة المرسلة الیهم، كما و أعلمهم بانه قد محا و احرق ما عداها من الصحف و الآیات فعلیهم بدورهم إما ان یرسلوا الیه المصاحف المتواجدة عندهم لاحراقها أو محوها و إما ان یتولوا هم بأنفسهم مهمة محوها أو احراقها ..
و قد لبی المسلمون هذا النداء «فأحرق كل امرئ ما كان عنده مما یخالفها- المصاحف- ترتیبا أو قراءة و اطبق المسلمون علی ذلك النسق و ذلك الحرف» «24» ..
و بشأن حرق عثمان للصحف و المصاحف- عدا تلك الصحف التی استنسخ من علیها و اعادها إلی أم المؤمنین حفصة- فقد اعترض
______________________________
و البقیة فی الحاشیة لئلا یتوهم أن الثانی هو تصحیح للأول أو أنه ترجیح فی حین أنه بلا مرجح- علوم القرآن- أحمد عادل كمال.
(22) مباحث فی علوم القرآن- مناع القطان.
(23) تاریخ القرآن- الدكتور عبد الصبور شاهین.
(24) إعجاز القرآن و البلاغة النبویة- مصطفی صادق الرافعی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 161
علی خطوته هذه جملة كبیرة من رجالات المسلمین و سمّوه بسببها «حراق القرآن» و كانت وجهة نظرهم انه اذا كان لا بد من اتلاف هذه الصحف و المصاحف فلا أقل من ان تمحی و تغسل بالماء أو یتولی قارب صغیر نقلها إلی عرض البحر الأحمر (القلزم) المجاور لالقائها هناك لتختفی إلی الأبد فی أعماقه ..
و رغم وجاهة هذه النظرة إلا اننا نری هنا و فی نفس الوقت من تقبّل هذه الفعلة- الحرق- و باركها لانها برأیهم أحسن وسیلة لجعل آیات القرآن لا تستعمل و ما فی هذا الاجراء من قطع و استئصال لدابر ما قد یحدث مستقبلا من خلاف أو نزاع فی حالة بقاء شی‌ء من هذه الآیات مسجلة و سالمة ..
و أضاف هؤلاء حجة أخری هو انه إذا كان قول الفئة الأولی و هو حرمة حرق القرآن لكونه یضم آیات اللّه الحسنی و اسماء انبیائه و رسله فإن غسل هذه الصحف أو محّوها- كما طالبت به- هو كالحرق من جهة ازالة هذه الاسماء و مسحها، و اذا كان الحرق هنا اشد وطأة و وقعا- كما تقول الفئة الأولی- إلا ان المعصیة و الإثم هما حرامان عند اللّه سواء كان هذا كبیرا أو دونه حیث ان الرسول (ص) كان یقول فی أكثر من مرة:
«لا تنظر إلی نوع المعصیة و لكن انظر إلی من تعصیه» ..
و للفئتین المتقدمتین بصدد الحرق أو الغسل مبررات و حجج و اثباتات اخری ینتصران بها و لا مجال لإیرادها بعد ان تم سرد اهمها و أوجهها ..
أما بصدد الصحف التی اعیدت إلی أم المؤمنین حفصة بنت عمر بعد ان جری استنساخ القرآن الكریم من علیها، فهذه الصحف تعد- بحق- مرجعا من مراجع المصحف العثمانی و سنده الأول ان لم یكن الأوحد و لم یمسها عثمان بن عفان بشی‌ء بل بقیت محفوظة لدیها- حفصة- حتی ولایة مروان بن الحكم علی المدینة عام 47 أو 48 هجریة
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 162
حیث طلبها الأخیر منها فأبت باصدار و قوة ان تعطیه و لو بعضها خشیة احراقها أو إتلافها .. و لكن لما انتقلت إلی جوار ربها عام 49 هجریة تنفس مروان الصعداء و ارسل علی الفور من یأتی بها إلیه، فقام عبد اللّه ابن عمر باستخراجها جمیعها من بیت أخته حفصة و سلّمها إلیه، و قام مروان بدوره باحراق هذه الصحف أو بشقها ..
و ینقل عن لسان مروان قوله بهذا الشأن انه «انما فعل هذا لأن ما فیها قد كتب و حفظ بالمصحف فخشی ان طال بالناس زمان ان یرتاب فی شأن هذه الصحف مرتاب و یقول انه قد كان شی‌ء منها لم یكتب» «25».
هذا و قد انصاع المسلمون فی كافة الامصار لمصحف عثمان و تلقوه بالقبول و اتفقوا علی العمل به رغم ان عثمان لم یكن عنیفا و لا شدیدا كسلفه، و ما هذا الانصیاع و الرضاء التام إلا «لأن المصاحف المرسلة من قبله قد خرجت عن اجماع و اتفاق اطمأنت إلیه القلوب و العقول» «26» و ارتضته النفوس و باركه الأصحاب و رجالات المسلمین حتی ان الجمیع قد اتفقوا علی ان «من نقّص حرفا واحدا قاصدا لذلك أو بدله بحرف آخر مكانه أو زاد فیه حرفا مما لم یشتمل علیه المصحف فقد كفر» «27».
هذا و نحب هنا ان نسجّل و لو شیئا یسیرا عن الصحابی الجلیل زید بن ثابت «28»، فنحن إذ نثمن جهود هذا الصحابی الكبیر و ارادته التی لا
______________________________
(25) المصاحف- السجستانی.
(26) تاریخ القرآن- إبراهیم الأبیاری.
(27) القراءات و اللهجات- عبد الوهاب حمودة.
(28) هو زید بن ثابت بن الضحاك الأنصاری الخزرجی ولد فی المدینة و نشأ بمكة و هاجر مع النبی (ص) و عمره 11 سنة، و یقال إنه شهد واقعة أحد و استصغر یوم بدر، و قیل إن أول مشاهده الخندق و قد كتب الوحی و غیره للرسول (ص)، استخلفه عمر بن الخطاب علی المدینة ثلاث مرات، فكان عمره عند الجمع
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 163
تقل عند جمع القرآن من صدور الناس و كتاباتهم (الجمع الثانی) أو عند استنساخ المصاحف التی وزعت علی الامصار (الجمع الثالث) من دون ان یؤثر علیه أحد أو یفرض علیه اتجاه خاص بل نراه سار فی طریق مستقیم حددت له معالمه الشریعة الغراء من دون أن ینحاز لهذه الفئة أو یعادی تلك ..
فنراه- مثلا- یقبل و یرحب بحرارة ما جاء به خزیمة بن ثابت الانصاری أو أبو خزیمة (ذو الشهادتین) من آیة أو آیات، بینما یرفض باصرار و عناد ما أورده الخلیفة عمر (رض) بصدد آیة الرجم المشار ذكرها آنفا. رغم ان الأخیر هو الآمر و الناهی و بیده السلطة و السلطان، و ان الأول لا یتعدی عن ان یكون فردا من سواد المسلمین لا تتجه إلیه الأنظار و لا یملك من أسباب القوة و الإكراه ما یمكنه من فرض حرف واحد ناهیك من آیة كاملة أو عدة آیات ..
و نحن إذ نثمن هنا كل هذه المآتی و المآثر التی اتصف بها زید بن ثابت الانصاری لنعتقد جازمین بأن المجتمع الاسلامی فی كل عصر و مصر- و لا سیما فی هذا العصر الموسوم بعصر النور و الالكترون- لا یعدم أشخاصا كثیرین و یعدون بالمئات- بل بالآلاف- یناظرون زیدا و یضاهونه فی صلب العقیدة و عمق الفكرة و یحملون بین ثنایا صدورهم افئدة و قلوبا نابضة لها نفس الطاقة و الحیویة التی كانت له، و فی مكنتهم ان یقوموا بنفس دور زید و زیادة ..
ان هذه الطاقات و هذه العزائم ستتحرك- لا محالة- عند ما تدق ساعة العمل و متی ما وجدت الطرق و السبل امامها ممهدة و سالكة فحینئذ ستأتی بالمستحیل و تبنی المعجزات بسبب ان الایمان و الیقین یصنع
______________________________
الثانی 22 سنة و عمره عند الجمع الثالث 35 سنة- توفی- رحمه اللّه- فی المدینة عام 45 هجریة عن عمر 56 أو 54 سنة.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 164
العجائب و یخلق رسائل النجاح و لو من بین طیات العدم و الیأس «29» ..
اننا هنا عند ما ذهبنا إلی الاشادة بجهود زید بن ثابت و تثمین اتعابه فی جمع القرآن لم نعدم فی نفس الوقت من یؤاخذه و من لا یتفق أو یلتقی معه فی بعض الأمور .. و نحمد اللّه- الذی لا یحمد علی مكروه سواه- علی أن هذه المؤاخذة لا تمتد إلا إلی أمر جانبی واحد أو اثنین لا ثالث معهما، و هو أمر- من بعد ذلك- لا منفذ من ورائه للنزاع أو الصید فی الماء العكر.
فمن یؤاخذ زید علی شی‌ء یتفق معه و مع عامة المسلمین فی المشرق و المغرب أولا بان القرآن الكریم هو الذی نجده بین الدفتین بدون زیادة من سورة و لا آیة من بسملة و غیرها و لا كلمة و لا حرف واحد «30» و لكن هذا الاتفاق و اللقاء لا یبرر- لدیهم- عدم وجود تقدیم أو تأخیر فی بعض الآیات- لا كلها- أی نقل بعض الآیات من اماكنها الطبیعیة و اتمامها بین آیات أخری من القرآن لسبب مقصود أو بدونه ..
ان خیر مثل یورده هؤلاء هنا بصدد التقدیم أو التأخیر هو قوله تعالی فی سورة الأحزاب إِنَّما یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَكُمْ تَطْهِیراً «31».
فآیة التطهیر هذه قد اقحمت عند جمع القرآن- برأی هؤلاء- بین
______________________________
(29) نشیر هنا إلی أن العرب عند نزول الرسالة الإسلامیة رغم قلة عددهم و شحة أسلحتهم و ذخیرتهم تمكنوا بالإیمان و العقیدة الراسخة من تحریر الامبراطوریتین الفارسیة و الرومیة و تقویض أركانها و تمزیق جیوشها و إدخال الدین الحق إلی ربوعهما لیحل مكان العقائد و الأدیان السائدة فیهما ..
(30) من الطبیعی أنه رغم تعدد المذاهب الإسلامیة بل تعدد المذهب الواحد و ما بین بعضها من فروق كبیرة أو صغیرة إلّا أنه لو لا حفظ اللّه تعالی لكتابه و كونه المعجزة الدائمة لما بقی منه بعد ذلك من حرف واحد فضلا عن ان یبقی بكامله علی الحرف الواحد الذی لا یمسه الباطل من بعید أو قریب ..
(31) الأحزاب: 33.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 165
آیات یخاطب اللّه تعالی فیها النساء- نساء النبی- موردا فیها جمیعا صیغ و علامات التأنیث نحو «كنتن، تعالین، امتعكن، منكن، اتقیتن، تخضعن، قلن، قرن، اقمن، آتین، اذكرن» بینما آیة التطهیر المتقدمة تدل من الفاظها و جملها انها تخاطب الذكور دون الاناث و انها لا تنسجم مع طبیعة و شكل الآیات التی تتقدمها أو تلیها مباشرة ..
علما بأن آیة التطهیر هذه سواء أ كان محلها فی غیر هذا المكان أو هذا المكان فی القرآن الكریم لا تعنی من صیاغتها- كما یظن- انها تنصرف فقط إلی الرجال دون النساء بل هی عند الجمیع تخص الطرفین لأن أهل البیت- ع- منهم الرجال و منهم النساء. و انما الخلاف فیها یكمن فی محلها الصحیح من القرآن ..
كما یورد هؤلاء أیضا مثلا آخر هو أن الآیات الكریمة (20 إلی 25) من سورة الروم تبدأ كلها بقوله تعالی «وَ مِنْ آیاتِهِ ...» ثم تأتی بعدها الآیة (46) من نفس السورة لتحمل قوله تعالی «وَ مِنْ آیاتِهِ» حیث یقولون ان الآیة الأخیرة كان مكانها عقب الآیات الستة الأولی المتتالیة إلا انها أخّرت إلی هذا المكان عند الجمع الثالث ..
و أما بصدد تقدیم بعض السور أو تأخیرها فیقول البعض بان «ترتیب السور فی المصاحف العثمانیة كان بأمر و اجتهاد ممن جمعها» «32» و ان «نزول السور لم یكن وفقا لترتیب المصحف الیوم» «33» حتی ان أحد الكتاب المعاصرین تمنی «لو أن عثمان كان قد جمع القرآن حسب تاریخ نزول السّور لكان ذلك مفیدا و نافعا» «34» ..
______________________________
(32) البرهان فی علوم القرآن- بدر الدین الزركشی، علوم القرآن- أحمد عادل كمال، إعجاز القرآن- مصطفی صادق الرافعی.
(33) فوائد قرآنیة- أحمد خیری.
(34) القرآن- محمد صبیح.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 166
و كل هؤلاء یتخذون من اختلاف ترتیب السور فی مصاحف كبار الصحابة كإمام الهدی علی بن أبی طالب- ع- و عبد اللّه بن عباس و أبیّ ابن كعب و عبد اللّه بن مسعود و معاذ بن جبل و غیرهم، اختلاف ترتیب سور هذه المصاحف عن المصاحف العثمانیة خیر دلیل یعزز قولهم، حیث ان ترتیب السور كان عند الامام علی اساس التنزیل حیث تبدأ بسورة اقرأ و المدثر و المزمل .... الخ و عند ابن مسعود یبدأ المصحف بسورة البقرة ثم النساء فآل عمران، و عند أبیّ بن كعب یبدأ بسورة الفاتحة فالبقرة فالنساء و آل عمران .... الخ ....
«و سواء أ كان ترتیب السور فی المصحف العثمانی توقیفیا أم اجتهادیا فإنه ینبغی احترامه و الالتزام به و لا سیما فی كتابة المصحف لأنه اجماع منذ عهد الصحابة إلی الآن- و الاجماع حجة- و لأن خلافه یجر إلی فتنة و درؤها واجب، اما ترتیب السور فی التلاوة فهو مندوب- مستحب- و لیس بواجب» «35».
هذا و سنلقی الضوء فی الفصل القادم علی بعض مصاحف كبار الصحابة ممن عاصر رسول اللّه (ص) و سمع قوله لمكانتها التاریخیة و لنری مدی مطابقتها للمصحف العثمانی و الذی فرغنا من تبیانه فی هذا الفصل ..
______________________________
(35) علوم القرآن- أحمد عادل كمال، تاریخ القرآن و التفسیر- الدكتور عبد اللّه محمود شحاتة.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 167

مصاحف فی التاریخ‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 169
اشرنا فی فصل الجمع الأول للقرآن إلی ان الأصحاب كانوا یتنافسون فی استظهار آیات اللّه و حفظها و مدارستها و یتسابقون إلی فهمها و هضمها و جمع كل أو قسم من الآیات الكریمة فی مكان واحد، و بوفاة الرسول (ص) و انقطاع الوحی سعی بعض هؤلاء لجمع كل ما سمعوه فی مصحف واحد، لذا جاء كل مصحف مرتبا وفقا لما سمعه صاحبه من رسول اللّه (ص) أو لما ارتآه موافقا للحقیقة و الواقع ..
و حیث ان هذه المصاحف لیست بأیدینا الآن- لیمكن تبیانها بصورة واضحة- بل هی فی رحاب التاریخ لذا آثرنا ان نمرّ علیها و نتناولها بعض الشی‌ء- عبر الكتب التی تناولتها- لنری واقعها و مدی موافقتها أو اختلافها عن المصاحف العثمانیة ..
فبقدر تعلق الأمر بمصحف الامام علی فقد اشرنا من قبل الی ان الامام- ع- كان قد اعتكف بعد وفاة الرسول (ص) فی بیته یجمع القرآن فی مصحف واحد بعد أن أقسم ألا یضع ردائه علی ظهره حتی یجمع القرآن و انه قد انهی هذه المهمة فی فترة جد قصیرة و فی هذا یقول ابن أبی الحدید المعتزلی بان «الكل اتفق علی ان علی كان یحفظ القرآن علی عهد رسول اللّه (ص) و لم یكن غیره یحفظه ثم أول من جمعه» و ان المصحف الذی نسخه و عدد آیاته لا یكاد یختلف فی كثیر أو قلیل من ذاك الذی نسخه عثمان فیما بعد، حیث ان الامام علی- ع- كان
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 170
«حریصا علی سلامة النص القرآنی علی ما هو علیه فی رسم عثمان زاجرا كل من یرید المساس بهذا الرسم» «1».
ان الدلیل القاطع علی صحة هذا القول- عدم اختلاف مصحف علیّ عن مصحف عثمان- هو انه لو كان هناك ادنی تحریف أو نقص أو زیادة أو تغییر فی مصحف عثمان لما سكت عنه الامام- ع- سواء أ كان ذلك قبل ان یصل إلی الخلافة أو عند تشرفها به و حین باتت كافة الامصار الاسلامیة تدین له بالولاء و الطاعة عدا زمرة الانفصال فی الشام بقیادة معاویة بن أبی سفیان ..
اقول لما سكت الامام و هو الذی یعرفه العدو قبل الصدیق انه الفارس المقدام و المواطن المسلم الأول الذی یجهر بالقول و لا یهمس به و من ثم فهو لا یصبر علی ضیم و لا یهادن فی دینه ابدا، حیث نراه قد أمر بارجاع كافة القطائع التی اقطعها عثمان و قال فی هذا المعنی:
«و اللّه لو وجدته قد تزوج به النساء و ملك به الإماء لرددته فان فی العدل سعة و من ضاق علیه العدل فالجور علیه اضیق» ..
فإذا كان موقف الامام من الأموال كما سمعنا، فكیف سیكون موقفه من القرآن لو كان فیه شی‌ء من التحریف، فموافقته علی القرآن الذی جمعه عثمان بن عفان هو خیر دلیل علی عدم وقوع التحریف فیه.
اضافة إلی اننا لم نسمع من الامام علی- ع- من بعید أو قریب صراحة أو تلمیحا ما یشیر إلی شكوكه أو عدم اطمئنانه بمصحف عثمان، رغم ان كلماته العصماء و خطبه البلیغة و التی جمعت فیما بعد من قبل الشریف الرضی «2» باسم «نهج البلاغة» قد ملئت الخافقین و لم تترك میدانا أو فنا أو بحثا دون ان تشیر إلیه أو تتناوله بالتفصیل ..
______________________________
(1) تاریخ القرآن- الدكتور عبد الصبور شاهین.
(2) هو ابو الحسن محمد بن أحمد الطاهر الحسین بن موسی بن محمد بن
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 171
بل ان الذی سمعناه هنا عن حفید الامام و هو الامام جعفر الصادق- ع- «انه قرأ رجل علیه- علی الصادق- حروفا من القرآن لیس علی ما یقرأه الناس فقال له الامام- ع- مه مه كف عن هذه القراءة و اقرأ
______________________________
موسی بن إبراهیم بن موسی بن جعفر الصادق- ع- ولد عام 359 و قیل 361 ه و فی عهد المطیع للّه العباسی و قال الشعر و عمره لا یزید علی العشر حتی فاق شعراء عصره علی صغر سنه و اشتغل بالعلم علی ید استاذه الشیخ المفید ففاق فی الفقه و الفرائض و بز أهل زمانه فی العلم و الأدب، و قد أتخذ فی أیامه دارا أسماها «دار العلم» و كان یجتمع بهذه الدار طلبة العلم الملازمون له، و قد عیّن لهم كافة ما یحتاجونه، و كان فی الدار خزانة كبیرة للكتب لها مفاتیح عدیدة أعطی كل طالب علم مفتاحا خاصا یفتح به الخزانة فی أی وقت یشاء و یأخذ ما یشاء من دونما حسیب أو رقیب ..
خلف أباه فی نقابة الطالبیین و هی رئاسة آل البیت العلوی و الحكم فیهم أجمعین فی العراق و فارس و عمره 29 سنة ..
و كان مشهورا بالإباء و العزة حیث تنسب إلیه الأبیات التالیة و التی مدح فیها الخلفاء الفاطمیین فی مصر و ذم الحكام العباسیین فی بغداد و هی:
ما مقامی علی الهواة و عندی‌مقول صارم و أنف حمی
أ ألبس الذل فی بلاد الأعادی‌و بمصر الخلیفة الفاطمی
من أبوه أبی و كولاه‌مولای إذا ضامنی البعید القصی
لف عرقی بعرقة سیداالخلق جمیعا محمد و علی و یقال إن الخلیفة العباسی القادر باللّه بعد سماعه لهذه القصیدة استدعی الشریف المرتضی (أخ الرضی) و أشار إلی إفضاله و إحسانه علی الشریف الرضی و أنه قد أجاب علی كل ذلك بهذه الأبیات، و أجاب المرتضی الخلیفة بانه سیستدعی أخاه و یستفسر منه عن صحة ذلك، و بالفعل استدعی المرتضی أخاه الرضی و استفسر منه عن صحة هذه القصیدة فأجابه بانها فعلا تعود له و أنه نظمها خشیة ما قد یصیبه من عملاء و عیون الفاطمیین بالعراق. لمحات من تاریخ القرآن 171 مصاحف فی التاریخ
فأجابه المرتضی: بانك لا تخشی عملاء و عیون الخلیفة و الذی لا یفصلهم عنك إلّا خطوات عدیدة بینما تخشی الذی تفصلك عنهم مئات الفراسخ ..
و علی كل اتفق علی أن یخبر المرتضی الخلیفة علی أن القصیدة منسوبة إلی الرضی و له أیضا هذه الأبیات فی الإباء و الفخر بوجه الخلفاء العباسیین فی بغداد:
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 172
كما یقرأ الناس» «3» ففی «ترك النقل بخلاف ما نقل عنه ادل الدلیل علی صحة ما ذكرناه» «4».
لذا فأئمة أهل البیت- ع- «قد ارجعوا الناس إلی إتباع هذا القرآن الموجود بین ایدینا فی ارشاداتهم الكریمة و احادیثهم المأثورة علی انه بصفته هذه هو الوحی الصادق الكامل الذی نزل به الوحی الأمین» «5»، و ان الشیخ الصدوق محمد بن بابویه فی كتابه الاعتقادات قال حول الموضوع: «اعتقادنا ان القرآن الذی انزله اللّه علی نبیه محمد (ص) هو ما بین الدفتین و هو ما بین ایدی الناس لیس بأكثر من ذلك و من نسب الینا انا نقول انه أكثر من ذلك فهو كاذب ...».
و قد زاد المتأخرون علی ذلك بالقول انه «لا زیادة فی القرآن من سورة و لا آیة من بسملة و غیرها و لا كلمة و لا حرف و جمیع ما بین الدفتین مما یتلی كلام اللّه بالضرورة من المذهب بل الدین و اجماع المسلمین و اخبار النبی (ص) و الأئمة الطاهرین- ع-» «6» ..
هذا و إذا ما كان هناك شی‌ء یستحق التسجیل عن مصحف الامام-
______________________________ مهلا أمیر المؤمنین فإننامن دوحة العلیاء لا نتفرق
ما بیننا یوم الفخار تفاوت‌أبدا كلانا فی المعالی معرق
إلا الخلافة میزتك فإننی‌أنا عاطل عنها و أنت مطوق و عند سماع الخلیفة العباسی القادر باللّه لهذه الأبیات أجاب بحدة «و علی رغم أنف الشریف الرضی» .. توفی الرضی عام 406 ه و دفن فی الكاظمیة و قیل نقل رفاته بعد ذلك لیواری الثری عند حرم الإمام الحسین- ع- فی كربلاء هذا و قال كثیر من العلماء أن الرضی كان عالما غلب شعره علی علمه و المرتضی كان شاعرا غلب علمه علی شعره ..
(3) تفسیر الصافی- الفیض الكاشانی، بحار الأنوار- محمد باقر المجلسی.
(4) مقدمتان فی علوم القرآن- أرثر جفری.
(5) الإسلام علی ضوء التشیع- الشیخ حسن الخراسانی.
(6) كشف الغطاء- الشیخ جعفر كاشف الغطاء.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 173
ع- بصدد اختلافه عن المصحف العثمانی فهو اختلافه فی شی‌ء جانبی و ثانوی و هو ان جمع الامام علی- ع- للقرآن «كان علی ترتیب نزوله و تقدم منسوخه علی ناسخه» «7» فضلا عن كتابة تأویل بعض الآیات و تفسیرها علی حاشیة المصحف و علی النحو الذی اشرنا إلیه فی الفصل السابق.
و لو صح هذا القول فان جمع القرآن بهذه الطریقة یعكس وقائع الوحی و حوادثه متسلسلة یوما فیوم و أولا فأول و ساعة فساعة من دون أن یسبق هذا الیوم للذی قبله أو یتأخر عن الذی یلیه ..
اما من یقول بان مصحف الامام علی- ع- كان یختلف عن المصحف الذی هو الآن فی أیدی المسلمین أو انه یشتمل علی ابعاض لیست موجودة فی القرآن الكریم فهو قول مردود و شبهة لا ظل لها من الواقع و لا سند لها من الحقیقة فالصحیح هنا هو ان «تلك الزیادات كانت تفسیرا بعنوان التأویل» «8» فیما اذا فرض انه قد وجدت فیه ..
و لعل مصحف الامام علی- ع- هذا هو المصحف الوحید الذی لم یذق طعم النیران و لم یناله المسح و الغسل حیث احتفظ به الامام عنده و من بعده توارثته ذریته الطاهرة، و لا نعلم علی وجه الدقة این استقر به المقام فی الوقت الحاضر.
فقد شاهدنا مرة فی متحف الامام علی الرضا- ع- فی مشهد بایران قرآنا بدیعا من جلد الغزال الأبیض یقال عنه انه بخط الامام علی- ع- و مثل هذا القرآن رأیناه فی متحف الآثار الاسلامیة فی اسطنبول و هو بخط الامام علی- ع- أیضا، و قرآن ثالث شبیهه وجدناه فی المتحف الوطنی فی لاهور بالباكستان ینسب إلی الامام علی- ع-.
______________________________
(7) الفهرست- ابن الندیم.
(8) البیان فی تفسیر القرآن- السید أبو القاسم الخوئی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 174
كما و قیل عنه انه محفوظ فی خزانة الامام علی فی الروضة الحیدریة بالنجف الأشرف حیث ینقل الزنجانی فی كتابه تاریخ القرآن انه شاهد عام 1353 ه فی دار الكتب العلویة فی النجف الأشرف مصحفا بالخط الكوفی كتب فی آخره «كتبه علی بن أبی طالب فی سنة 40 من الهجرة» و هی السنة التی استشهد فیها الامام- ع- فی مدینة الكوفة بالعراق.
هذا و إذ نخوض الآن فی مصیر مصحف الامام علی- ع- نود أن نلقی بعض الضوء علی مصیر المصاحف العدیدة التی ارسلها عثمان بن عفان إلی الامصار الاسلامیة و این استقر بها المقام الآن و ذلك قبل ان ننتقل بالكلام عن بقیة المصاحف المنسوبة إلی كبار الصحابة كمصحف عبد اللّه بن مسعود و أبیّ بن كعب ..
ان غالبیة الرواة و المؤرخین الذین كتبوا عن المصاحف العثمانیة لم یستطیعوا ان یحددوا مكان تواجد هذه المصاحف و لا مصیرها رغم ان عددها كان خمسة أو سبعة مصاحف ..
ان ما یقال عن ان «المصاحف العثمانیة بخزائن الكتب و الآثار بمصر من انها مصاحف عثمان فهو قول عار عن الصحة، بسبب ما تضم هذه من زخرفة و نقوش وضعت كعلامات و اشارات للفصل بین السور و اظهار اعشار القرآن، حیث كانت المصاحف العثمانیة خالیة من كل هذا» «9» جملة و تفصیلا و ربما كانت هذه المصاحف منقولة من المصاحف العثمانیة و لیست تلك التی استنسخها عثمان بن عفان و وزعت علی الامصار ..
و الظاهر هنا هو ان للأحداث السیاسیة و التقلبات
______________________________
(9) علوم القرآن- أحمد عادل كمال.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 175
الثوریة «10» و الحركات الطائفیة و المذهبیة التی عصفت بالعالم الاسلامی فی العصرین الأموی و العباسی، و كذلك للحرائق التی اصابت المكتبات و المساجد و غیرها فی خلال هذه الفترة و منها الحریق الأول الذی حصل فی المسجد النبوی عام 154 هجریة حیث احترقت الكتب و المصاحف و السجاد و غیرها اثرا كبیرا فی فقدان هذه المصاحف و تلفها رغم كونها ثروة ثقافیة و دینیة و قومیة لا تعوض بشی‌ء ..
كما ان بعض الباحثین و المؤرخین «11» القی وزر فقدان هذه المصاحف علی عاتق الحجاج بن یوسف الثقفی «12» لأنه حین ولایته علی
______________________________
(10) فی الحقیقة أن دخول هولاكو حفید جنكیز خان إلی بغداد عام 656 ه المصادف لعام 1258 م و فی عهد الخلیفة المستعصم و بقیة الأمصار الإسلامیة و قضاءه علی الأخضر و الیابس و وضعه السیف فی رقاب الناس و رمیه الكتب فی الأنهار و الآبار هو من أهم الأسباب فی فقد المصاحف العثمانیة بل و مئات الألوف من خیرة الكتب و أثمنها و أندرها ..
(11) المصاحف- السجستانی.
(12) الحجاج هو امیر العراقیین الذی حكم العراق بالحدید و النار، و إلیه تنسب الخطبة الناریة التی أفتتح بها عهده فی العراق حیث أشعر العراقیین عند وصوله من علی المنبر بقوله: «إن أمیر المؤمنین عبد الملك بن مروان قد أعطانی سیفین، سیف الرحمة و سیف العذاب، أما سیف الرحمة فقد فقد منی فی الطریق و إما سیف العذاب فهذا هو بیدی و اللّه لأضعن سیفی فی رقابكم حتی لا یری أحدكم الآخر إلّا قال أهرب یا سعد فقد هلك سعید ..
و قد كان له سجن كبیر فی حاضرة ملكه «واسط» لا یتعدی عن أن یكون جدارا عالیا یلقی بداخله المعذّبین و لا یسترهم من لهیب الشمس شیئا، حیث وضع جلاوزته علی أعلی جدار السجن و بایدیهم الحجارة لرمی كل سجین یقترب من الظل مما یدعهم- السجناء- واقفین علی الدوام فی الشمس و علی رمضاء الأرض المواجهة لها ..
و قد جی‌ء إلیه مرة باعرابی كان قد خرق منع التجول فی اللیلة الأولی لاعلانه، و ادعی الأعرابی الذی كان قادما إلی واسط أنه لم یسمع بمنع التجول لأنه كان خارج البلدة عند اعلانه، فطلب الحجاج قتله قائلا له: «و اللّه إنی
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 176
العراق فی عهد عبد الملك بن مروان ان استنسخ مصحفا جدیدا علی غرار المصحف العثمانی و قد ادخل فیه- كما یدّعی هؤلاء- عدة تغییرات و تصحیحات تخص الحروف و القراءة فی أحد عشر حرف أو فی اثنا عشر كلمة بقول آخر، و بعدها أمرّ باعدام و احراق كافة المصاحف العثمانیة اینما كانت و الابقاء علی المصحف الذی استنسخه و الذی علیه فقط أمر ان یكون الاستنساخ التالی لأی نسخة أخری من القرآن ..
و هذا المصحف- وفق هذا الادعاء- هو الذی یتداوله المسلمون منذ عهد ولایته إلی هذا الوقت ..
و طبیعی ان هذا الادعاء الذی ینقله بعض المؤرخین لا یقف علی قدمیه و لا ظل له من الحقیقة لأن- الحجاج- اقصر باعا و أقل قدرا من ان ینال من القرآن شیئا و ذلك لعدة أسباب «13» منها ان سلطان الحجاج و حكمه لم یمتدّ فی خلال ولایته إلا علی العراق بحدوده الطبیعیة. كما و لیس فی مقدوره القیام بمثل هذا الفعل الخطیر و سیده فی الشام یحصی علیه انفاسه و تحركاته، فضلا عن عدم سكوت المسلمین الذین كانوا أقرب إلی فجر الاسلام و الصق بروحه و تعالیمه، عدم سكوتهم أو إذعانهم لهذا الفعل و غیر ذلك من الأسباب .. نعود بعد ذلك للاشارة إلی المصاحف الأخری التی جمعت فی صدر الاسلام ..
______________________________
لأعلم أنك لصادق و لكن فی قتلك صلاح الأمة». و هكذا كان حاله فی المواقف و الحالات الأخری ..
و قد قال الخلیفة الزاهد عمر بن عبد العزیز فی شأن الحجاج: إنه لو أخرجت كل أمة خبیثها و أخرجنا الحجاج لغلبناهم و لما بلغه موته خرّ للّه ساجدا، و قد كان یدعو اللّه أن یكون موت الحجاج علی فراشه لیكون أشد لعذابه فی الآخرة ..
(13) القرآن المجید- محمد عزة دروزة، مباحث فی علوم القرآن- الدكتور صبحی الصالح، تاریخ القرآن- إبراهیم الأبیاری، البیان فی تفسیر القرآن- السید أبو القاسم الخوئی ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 177
فبقدر تعلق الأمر بمصحف عبد اللّه بن مسعود «14» فیقال عنه انه كان یضم 112 سورة (و لیس 114 سورة) كما هو علیه الحال فی كافة المصاحف المتداولة، و ان السورتین اللتین كان مصحفه خالیا منها هی «المعوذتان» «15» و هما- قل اعوذ برب الفلق- السورة، و قل اعوذ برب الناس- السورة.
و یروون عن لسان ابن مسعود بصدد المعوّذتین قوله: انها لیست من القرآن لأن الرسول (ص) أمرّ ان یتعوذ بهما، و انه قد رأی ان النبی (ص) یعوّذ بهما الحسن و الحسین- ع- مرارا عدیدة و ینفث بهما بدنه اذا نام فیمسح بهما جسده ..
و طبیعی ان هذا ظنا من ابن مسعود و هو یخالف ما نقل تواترا عن ان السورتین هما من القرآن لذا لم یأخذ برأیه أحد من المسلمین ..
و یقال هنا أیضا «إن عبد اللّه بن مسعود لم یسجل سورة الفاتحة فی مصحفه» «16» و ذلك لا لأنها من غیر القرآن و انما بسبب ان القرآن الكریم انما كتب و جمع بین اللوحین مخافة الشك و النسیان و الزیادة و النقصان و كل هذا مأمون فی سورة الفاتحة لقصرها و لأنه لا یجوز لأحد من المسلمین ترك تعلمها كما یجوز ترك تعلم غیرها و حفظه لحاجتهم الماسة الیها فی الصلاة حیث تثنی فی كل صلاة و تقرأ فی غیرها من الأمور و المناسبات الدینیة، فلما أمن علیها العلة التی من اجلها كتب
______________________________
(14) هو عبد اللّه بن مسعود بن غافل الهذلی كان خادم رسول اللّه (ص) و رفیقه فی حله و ترحاله و غزواته، و قد هاجر الهجرتین و صلی إلی القبلتین، توفی فی المدینة سنة 32 هجریة، و هی السنة التی توفی فیها العباس عم النبی و عبد الرحمن بن عوف، و قال عنه عمر بن الخطاب: ان عبد اللّه وعاء ملئ علما ..
(15) الفهرست- ابن الندیم، تاریخ القرآن- محمد طاهر الكردی.
(16) القرآن- محمد صبیح.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 178
المصحف ترك كتابتها و هو یعلم انها من المصحف بالتأكید، حیث لو أن رجلا كتب من القرآن سورا و ترك سورا لم یكتبها لم یر علیه فی ذلك حرج أبدا «17».
اما عن مصیر هذا المصحف فنقول انه قد طلب عثمان من عبد اللّه ابن مسعود هذا المصحف و لكن الأخیر أبی باصرار ان یبعث بمصحفه إلی المدینة و یسلّمه إلی عثمان خشیة ان یحرقه أو یغسله و بذلك تذهب اتعابه و جهوده فی جمعه سدی ..
كما و ساء ابن مسعود الطلب الملح و العنیف لمصحفه من قبل عثمان، فاوعز ابن مسعود إلی أصحابه فی الكوفة بان یتمسكوا بمصاحفهم و یحفظوها من الملاحقة و الاحراق و قال لهم: بأنه من استطاع منكم ان یغل مصحفه فلیفعل (فلیغلل) فإن من غلّ شیئا جاء بما غلّ یوم القیامة، ثم قال أیضا: بانه قد قرأ القرآن من فم رسول اللّه (ص) سبعین سورة أو مرة و زید بن ثابت ذو ذؤابتین یلعب مع الأطفال، أ فأترك ما أخذت من فم رسول اللّه (ص).
و لما وصلت هذه الأخبار إلی عثمان أمر الأخیر باشخاص ابن مسعود الیه ثم أمر بان یجر برجله حتی كسر له ضلعان، و رغم هذا لم یدفع بمصحفه إلی عثمان و اصرّ علی ذلك حتی وفاته فی المدینة ..
و عند وفاة ابن مسعود طلب عثمان مصحفه مجددا، و عند وصول المصحف الیه الحقه بالمصاحف السابقة حرقا أو غسلا من دون ابقاء شی‌ء منه قطعا لدابر كل اختلاف أو فتنة قد تثار ..
اما بقدر تعلق الأمر بمصحف أبیّ بن كعب فیقال انه قد «كتب فی مصحفه سورتین تسمیان (الخلع و الحفد) و كان یقنت بهما» «18».
______________________________
(17) تأویل مشكل القرآن- ابن قتیبة الدینوری.
(18) القرآن- محمد صبیح، الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 179
و الظاهر هنا ان أبیّ كان قد ذهب فی دعاء القنوت إلی انه من القرآن لأنه رأی رسول اللّه (ص) یدعو به فی الصلاة دائما، فتصوّر انه من القرآن و اقام علی ظنه و مخالفة عامة الصحابة حیث لم تقم الحجة علیه بانه قرآن منزل، بل هو لا یتعدی عن ضرب من الدعاء لا غیر ..
و الحاق (الخلع و الحفد) بمصحف أبی بن كعب- ان صح القول- فربما هو كإلحاق دعاء ختم القرآن بالمصاحف الموجودة فی أیدینا- لأنه لو كان قرآنا لنقل الینا بالتواتر نقل بقیة الآیات و السور و لحصل العلم بصحته ..
و یروی أیضا هنا ان أبیّ بن كعب كان یظن ان قول الرسول (ص): «لو كان لابن آدم و ادیان من ذهب لتمنی الیهما ثالثا، و لو اعطی ثلاثا لتمنی أربعة، و لا یملأ جوف ابن آدم إلا التراب و یتوب اللّه علی من تاب» هو من القرآن، اذ كان قد سمع الرسول (ص) یقرأ ما و یذكر عنها انها من القرآن، فظن أبیّ انها من القرآن «19» ..
و طبیعی ان الحجة أو الاجماع لا یؤید أبیّ فیما ذهب إلیه من قریب أو بعید ..
و سور مصحف أبیّ بن كعب كما هو الحال فی سور مصحف عبد اللّه بن مسعود و مصحف الامام علی- ع- تختلف فی ترتیبها عن المصحف العثمانی ..
______________________________
و سورة الخلع هی: بسم اللّه الرحمن الرحیم، اللهم انا نستعینك و نستغفرك و نثنی علیك و لا نكفرك و نخلع و نترك من یفجرك.
أما سورة الحفد فهی: بسم اللّه الرحمن الرحیم اللهم إیاك نعبد و لك نصلی و نسجد و إلیك نسعی و نحفد و نرجو رحمتك و نخشی نقمتك، إن عذابك بالكافرین ملحق.
(19) مقدمتان فی علوم القرآن- أرثر جفری.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 180
و من رغب من القراء الكرام الاطلاع علی تسلسل السور فی المصاحف المتقدمة فعلیه بالرجوع إلی المصادر المثبتة فی نهایة هذه الدراسة و أهمها كتاب تاریخ القرآن للزنجانی المطبوع فی قاهرة المعز عاصمة مصر العربیة ..
أما عن مصیر مصحف أبیّ بن كعب فإن صاحبه- أبیّ- كان قد توفی فی المدینة المنورة عام 20 أو 22 هجریة و فی أواخر خلافة عمر ابن الخطاب (رض) «20»، و لم تكن حینذاك قد برزت عادة غسل أو احراق القرآن، و لكن عند ما تولی عثمان الخلافة و بادر بجمع القرآن (الجمع الثالث) و عزم علی إحراق كل مصحف یقع فی یده عدا المصاحف المستنسخة، طلب حینئذ مصحف أبیّ بن كعب فغسله أو احرقه اسوة بغیره من المصاحف خشیة الخلاف أو الفتنة ..
هذا و مهما یكن من شی‌ء فقد عم المصحف الذی جمعه عثمان ابن عفان بین سائر المسلمین و توحّدت بسببه المصاحف و زالت الخلافات كما و كان كل مصحف من هذه المصاحف هو الامام فی رجوع الناس إلیه و تعویلهم فی استنساخ مصاحفهم» «21».
و قد اعترف بهذه الحقیقة أحد المستشرقین الاجانب حیث قال:
«و مع ما أدی إلیه مقتل عثمان نفسه بعد ربع قرن من وفاة محمد (ص) من قیام مغضبة ثائرة زعزعت وحدة العالم الاسلامی و لا تزال تزعزعه فقد ظل للجمیع قرآن واحد یظلهم أجمعین بلغ من الحرص علی العنایة به
______________________________
(20) یروی أنه عند ما سمع عمر بن الخطاب بوفاة أبی بن كعب قال: «الیوم مات سید المسلمین» و أبی هو صحابی و أنصاری، كان قبل الإسلام حبرا من أحبار الیهود، و كان یتقن القراءة و الكتابة، شهد بدرا و المشاهد كلها مع رسول اللّه (ص) و كان أقرأ الصحابة بعد علی- ع- و سید القراء و قد جمع بین العلم و العمل ..
(21) روح الدین الإسلامی- عفیف عبد الفتاح طبارة.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 181
ان وصلنا كاملا حتی اننا لا نجد بین النسخ الكثیرة التی لا عداد لها و المنشرة فی انحاء العالم الاسلامی الیوم أی اختلاف» «22» صغیرا كان أم كبیرا.
فالقرآن «منذ نزوله علی النبی إلی وصوله الینا كان سلسلة من التدوین الكتابی الدقیق و التلقی الشفهی السلیم ما فیه حلقة مفقودة أو ثغرة ینفذ منها شك أو اختلاف یبعث علی الریبة» «23».
فكل هذه- وحدة المصاحف و زوال الاختلاف- كان نصرا مؤزرا و كبیرا للاسلام و كتابه الخالد و اثباتا لقوله تعالی إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «24» و قول الامام- ع- «القرآن لا یهاج و لا یحول» و بذلك طاشت سهام أعداء الاسلام من غربیین و ملحدین و یهود «25» و عادت إلی
______________________________
(22) حیاة محمد- السیر ولیم مویر نقلا عن كتاب حیاة محمد لمحمد حسین هیكل.
(23) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(24) الحجر: 9.
(25) نشیر بهذه المناسبة إلی أنه قد حاولت بعض الجهات المناوئة للإسلام فی العصر الحدیث بعد أن أدركت أعجاز القرآن و ان لا سبیل لمحاكاته أو نقضه، حاولت تلك الجهات المریبة (و منها بعض الزمر الصهیونیة) أن تتجاوز علی القرآن و تتصدی له عن طریق آخر و هو طریق التبدیل و التحریف و التغییر متصورین أن هذا العمل و الفعل قد یحقق لهم بعض أغراضهم الدنیویة الدنیئة و اهدافهم الملتویة و معتقدین فی نفس الوقت أن هذا التحریف سهل و یسیر و لیس هناك من یشعر بفعلتهم أو یحس باحابیلهم أو یفضح تخرصاتهم ..
إن محاولات هؤلاء بصدد تحریف القرآن و مثلهم الصادق فی ذلك لا یتعدی قول القائل:
كناطح صخرة یوما لیوهنهاو لم یهنها و اوهی قرنه الوعل أجل قامت تلك الزمر فی سبیل تحقیق أغراضهم بطبع نسخ عدیدة محرّفة من القرآن فی المانیة الغربیة و أرسلوها إلی كافة بلاد العالم التی تظن انها أسواق رائجة لأباطیلها و ضلالاتها و التی تجهل اللغة العربیة و اسرارها مثل أقطار غانا
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 182
نحورهم و انهارت كافة آمالهم بشأن التشكیك فی القرآن الكریم أو الطعن فی طریقة جمعه و نسخه أو اللمز من بعد ذلك باعجازه و كونه تشریعا و منهاج حیاة، و هذا هو مصیر اعداء اللّه و مناوئوه فی الحیاة الدنیا و فی الآخرة عذاب ألیم و لعنة دائمة.
و فی ختام هذا الفصل نشیر إلی ما یردّده بعض الأشخاص من المحسوبین علی الاسلام (اسما و جنسیة) باتهامهم لبعض الطوائف الاسلامیة بان لهم قرآنا آخر یزید و ینقص عن قرآننا المعروف، و لیس
______________________________
و غینیا و مالی و السنغال و نیجیریا و المغرب و بعض الأقطار الأفریقیة و الأسیویة الأخری ..
و ما دری هؤلاء ان للقرآن اسلوبا و نظما إلهیا عجیبا أعجز الأولین و الآخرین عن ان یأتوا بمثله أو یبدلوا أو یحرّفوا بعض آیاته- كما سنری فی فصل «إعجاز القرآن، و ان محاولاتهم ستلتقی و تؤول مع محاولات السابقین إلی الإنهیار و الفشل الذریع ..
هذا و قد أهتز و تنبه المسلمون فی حینه لهذه اللعبة السیئة فأذاعت فی وقته مشیخة الأزهر الشریف و الحوزة الدینیة فی مدینة النجف الأشرف بالعراق شخصیات إسلامیة عدیدة و صحف و مجلات عقائدیة كثیرة بیانات و تحذیرات كشفت فیها النوایا السیئة و العدوانیة التی تختبئ وراء هذه الأعمال و التصرفات. و ما یترتب علیها من عواقب و خیمة و مضاعفات خطیرة ستضر بالمسلمین- ایما ضرر-.
و قد طالبت هذه الجهات المسئولین فی أنحاء الأرض بضرورة التحرك من أجل تدارك الأمر بحزم و سرعة و قبل أن یستفحل الداء و یعز الدواء ..
و قد لبی كثیر من هؤلاء المسلمین فی شرق العالم الإسلامی و مغربه هذا النداء فبادروا فورا بجمع كافة النسخ المحرّفة و أبعدوها عن التداول و الأنظار، و هكذا نكرّر مرة أخری قوله تعالی «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ».
(بتصرف عن الیهودیة بین المسیحیة و الإسلام- خلف محمد الحسینی) و لا ضیر هنا من أن نورد بعض الآیات الكریمة- علی سبیل المثال لا الحصر و التی حرفتها الصهیونیة المجرمة.
فقد جاء فی سورة آل عمران الآیة 85 «وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ» فاصبحت «و من یبتغ غیر الإسلام دینا یقبل منه» و جاء فی سورة الأنفال
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 183
لدیّ ما أقوله لهؤلاء بعد كل الذی سجّلته عبر هذه الدراسة، بل اترك الأستاذ محمد الغزالی لیرد علیهم فی كتابه دفاع عن العقیدة و الشریعة حیث یقول الأستاذ الغزالی بالحرف الواحد: «ان العالم الاسلامی الذی امتدت رقعته فی ثلاث قارات ظل من بعثة محمد (ص) إلی یومنا هذا بعد ان سلخ من عمر الزمن أربعة عشر قرنا لا یعرف إلا مصحفا واحدا مضبوط البدایة و النهایة معدود السور و الآیات و الألفاظ فأین هذا القرآن الآخر، و لما ذا لم یطّلع الإنس و الجن علی نسخة منه خلال هذا الدهر الطویل، لما ذا یساق هذا الافتراء، و لحساب من تفتعل هذه الاشاعات و تلقی بین الأغرار لیسوء ظنهم باخوانهم و قد یسوء ظنهم بكتابهم.
ان المصحف واحد یطبع فی القاهرة فیقدسه الشیعة فی النجف أو
______________________________
الآیة 42 «لِیَقْضِیَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» بالضاد فاصبحت «لیقصی اللّه أمرا كان مفعولا» بالصاد .. الخ.
هذا و ان غالبیة الحكومات فی الأقطار الإسلامیة قد منعت أی شخص أو جهة خاصة من طبع القرآن الكریم و نشره إلّا بعد مراجعته و تدقیقه من قبل لجان دینیة و حكومیة خاصة. و حین التأكد لدیها من سلامة الطبعة من أی خطأ أو تحریف أو تغییر یصرّح بالموافقة علی طبع القرآن و وضعه فی التداول ..
و فی جمهوریة مصر العربیة- حیث تطبع فی مطابعها غالبیة و أدق المصاحف فی العالم العربی و الإسلامی نجد أن مراحل طبع المصاحف یتطلب الحصول علی اذن وزارة الداخلیة أولا ثم یحوّل الطلب إلی مشیخة المقارئ العربیة و التی تقوم بدورها بمراجعة المصاحف و تبیان ما إذا كانت هناك أخطاء مطبعیة أو أغلاط و فی حالة خلوها من أی شی‌ء تعطی الموافقة اللازمة بنشر هذه المصاحف و تداولها ..
و فی جمهوریة الباكستان الإسلامیة تتولی «شركة تاج الأهلیة المحدودة»- تاج كبنی لمیتد- مهمة طبع أحدث و أبدع أشكال المصاحف و بمختلف الأحجام و الألوان.
و طبیعی أن طبع أی مصحف هناك سواء من قبل الشركة المذكورة أو غیرها من المؤسسات الأهلیة و الدینیة یتطلب المرور بمراحل عدیدة للتأكد من صحة الطبع و ضبطه و سلامته من كل لبس أو سهو ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 184
فی طهران و یتداولون نسخه بین أیدیهم و فی بیوتهم دون أن یخطر ببالهم شی‌ء بتة إلا توقیر الكتاب و منزله- جل شأنه- و مبلغه (ص) فلم الكذب علی الناس و علی الوحی؟؟» ..
______________________________
و بعد فان كل هذه المراحل و الاجراءات الطویلة المتخذة هنا و هناك هی- فی الحق- من أجل أن لا ینال القرآن الكریم أی تحریف أو تبدیل و لیبقی كما أراده اللّه سبحانه خالدا و ثابتا خلود الزمن و ثبوت الرواسی، و كأن الشاعر كان یقصد هذا المعنی حین نظم:
و علی رغم المعاند و المعادی‌لواء محمدا أبدا یرف
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 185

ضبط آیات القرآن‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 187
عند ما فرغ زید بن ثابت من كتابة المصحف علی الوجه الذی تقدم بیانه راجعه ثلاث مرات، و یشیر الرواة و المؤرخون هنا أنه فی خلال المراجعة الأولی للقرآن افتقد فیه آیة طالما كان رسول اللّه (ص) یرددها و هو قوله تعالی: مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلًا «1» ..
و قد وجدها بعد التحری عنها بین المهاجرین و الأنصار وجدها لدی خزیمة بن ثابت (ذی الشهادتین) و الذی تقدم ذكره فألحقها بمكانها من القرآن الكریم ..
كما أنه فی خلال المراجعة الثانیة لم یجد فی المصحف آیة اخری سبق أن سجلها عند الجمع الثانی للقرآن و هی قوله تعالی لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْكُمْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُفٌ رَحِیمٌ «2» ففتش عنها بین المهاجرین و الأنصار حتی وجدها لدی أبی خزیمة الأنصاری فوضع الآیة كذلك فی مكانها الصحیح فی المصحف «3» ..
و فی المراجعة الثالثة و الأخیرة لم یجد شیئا من القرآن لم یدوّن فی المصحف بتاتا ..
و بصدد الفقرات المتقدمة نود أن نستفهم عن السبب الذی لم یدع زیدا لیثبت الآیتین المفقودتین المشار إلیها آنفا من تلقاء نفسه من دون
______________________________
(1) الأحزاب: 23.
(2) التوبة: 128.
(3) تاریخ القرآن- محمد طاهر الكردی، إعجاز القرآن و البلاغة النبویة- مصطفی صادق الرافعی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 188
الحاجة للبحث عنهما فی صدور المسلمین و أوراقهم، طالما انه متأكد من صحتهما و نزولهما و انه من بعد ذلك یحفظهما حفظه لبقیة آیات اللّه الأخری، فضلا عن انه سبق له ان سجّلهما فی الجمع الثانی للقرآن ..
ان السبب الرئیس فی عدم تسجیل هاتین الآیتین یعود- كما نری- إلی رغبة زید لتنفیذ التصلیحات و الوصایا التی سبق ان تلقاها من قبل و هی عدم تسجیل أی شی‌ء و تدوینه من دون وجود شاهدین، و لما كان خزیمة یمثل شاهدین فقد سجّل زید الآیة التی وجدت محفوظة لدیه ..
اما كیف امكن له تدوین ما جاء به ابو خزیمة الانصاری مع انه شاهد واحد، فالواقع هنا هو ان زیدا كان واثقا من الآیة وثوقه من غیرها و انه سبق له ان سجلها عند الجمع الثانی، و لو لم یجدها- جدلا- لطلب من عثمان بن عفان علی الأقوی تسجیلها أو علی الأقل مفاتحته بشأنها ..
و حین عثر علیها لدی أبی خزیمة كانت شهادة الأخیر مضافة إلی تسجیله لها سابقا و یقینه التام من نزولها بمثابة شهادتین، لذا سجلت الآیة و وضعت فی مكانها المقرر من القرآن ..
اشرنا قبل قلیل بان زید بن ثابت لم یجد فی خلال المراجعة الثالثة و الأخیرة للمصحف العثمانی شیئا لم یسجله، لذا فقد قدّمه إلی عثمان برفقة مذكرة صغیرة جاء فیها انه قد انهی و رتّب المصحف علی النحو الذی طلب منه و انه لم یترك شیئا من آیات اللّه المنزلة علی رسوله الكریم (ص) دون ان یثبتها.
و المذكرة هذه تشبه إلی حد كبیر المذكرات التفسیریة التی تصحب صدور القوانین و المراسیم المشرّعة و التی تكشف الأسباب الموجبة لصدورها مع شرح موجز لهذه القوانین و مراحل تطورها و ربما المقارنة ما بینها و بین تلك التی یجری العمل بها فی بقیة الأقطار و مدی تقدمها علیها ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 189
و قد قام عثمان بن عفان بدوره بمراجعة المصحف فالفاه كاملا و تاما فأمر بتوزیع نسخة واحدة منه علی كل الأمصار الاسلامیة و علی النحو الذی أشرنا إلیه فی الفصل السابق.
ان مراجعة عثمان للمصحف و مراجعة زید له من قبل ما هو إلا حرص منهما علی عدم وقوع الاشتباه فی المصحف أو حدوث زیادة أو نقصان فیه، و بذا خرج المصحف العثمانی عن اجماع ارتضاه كافة المسلمین فی المشرق و المغرب حیث لا زیادة فیه من سورة و لا آیة و لا كلمة و لا حرف و لا نقطة، و قد أدرك هذه الحقیقة المستشرق المعروف السیر ولیم مویر، و رغم كونه من أشد خصوم الاسلام إلا انه اعترف و قال: «و النتیجة التی تستطیع الاطمئنان إلی ذكرها هی ان مصحف زید و عثمان لم یكن دقیقا فحسب، بل كان كما تدل الوقائع علیه كاملا، و ان جامعیه لم یتعمدوا اغفال أی شی‌ء من الوحی، و نستطیع كذلك ان نؤید- استنادا علی أقوی الأدلة- ان كل آیة من القرآن دقیقة كما تلاه محمد» «4» و أضاف السیر مویر بالحرف الواحد: «اذن فالقرآن الذی بین أیدینا هو نص مصحف عثمان لم یتغیّر و لم یتبدّل و لیس فی الأنباء القدیمة أو الجدیدة بالتصدیق ما یلقی علی عثمان أیة شبهة بانه قصد إلی تحریف القرآن لتأیید أغراضه حیث كان بمرأی و منظر من كتاب الوحی و حملته و حفظته فهو لم یزل و لا یزال صورة مضبوطة كما جمعه زید بن ثابت مع مزید العنایة فی التوفیق بین الروایات السابقة له» «5» ..
لقد سبق ان اشرنا فیما مضی إلی ان المصحف العثمانی كان خالیا من النقط و الحركات (الشكل) لأن كل هذه لم تكن معروفة منذ خلق اللغة لأن الحاجة إلیها حینئذ لم تكن ملحة و لا ضروریة نظرا لأن الناس فی الأمصار كانوا یهتدون إلی النطق السلیم و یمیزون و یقرءون
______________________________
(4) حیاة محمد- الدكتور محمد حسین هیكل.
(5) الإسلام علی ضوء التشیع- الشیخ حسین الخراسانی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 190
الحروف بالسلیقة و الفطرة و الأصالة اللغویة و لا یحتاجون لقراءتها قراءة صحیحة إلی استعمال الحركات و لا إلی وضع النقط علی الحروف ..
اضافة إلی ان «اسلوب التلقی و المشافهة الذی كان الناس یعتمدون علیه فی ضبط القرآن و حفظه ساعدهم علی قراءة القرآن فی المصاحف بكل سهولة و یسر» «6» ..
لذا ظل الناس فی مختلف الامصار الاسلامیة یقرءون القرآن فی مصحف عثمان و لمدة طویلة امتدت إلی ما یقرب من الأربعین سنة بدون نقط و بدون حركات، و كانت قراءتهم هذه سلیمة و صحیحة لقربهم من عهد الوحی و اعتمادهم الأول علی الحفظ لا علی مجرد الخط، كما اعتبروا الرسم القرآنی رسما قائما بذاته و لا مبرر لتغییره طالما انه قد وصلهم بالتواتر بهذا الشكل ..
و لكن عند ما امتدت الفتوحات الاسلامیة فی المشرق و المغرب و دخلت فی الاسلام طوائف و أمم غیر عربیة یجهلون اللغة و أسالیبها، اختلط هؤلاء المسلمون الجدد باخوانهم من الفاتحین العرب فأدی هذا الاختلاط و الامتزاج بالسلیقة العربیة ان تفقد شیئا فشیئا مكانتها و منزلتها فی نفوس العرب، حتی بات الالتباس و اللحن علی لسان القراء العرب یظهر جلیا و مكشوفا و خصوصا فی قراءة الحروف المتشابهة الشكل و التی لا یفرّقها عن بعض إلا النقط مثل «نشزها» بالزای و «نشرها» بالراء و نحو «لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آیَةً» «7» بالفاء و «لتكون لمن خلقك آیة» بالقاف و «فتبینوا» بالباء و «فتثبتوا» بالتاء و «ننجیك» بالجیم و «ننحیك» بالحاء .. و كذلك فی التفریق بین الحروف المتشابهة الأخری مثل «ب ت ث» و «ج ح خ» و «ع غ» و «ص ض» و «ط ظ» و «س ش» ..... الخ.
______________________________
(6) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(7) یونس: 92.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 191
هذا و اذا ما كان الالتباس و اللحن قد ظهر جلیا و سافرا علی لسان العرب فی التفریق بین الحروف المتشابهة فهو علی لسان المسلمین من غیر العرب كان أشد وطأة و أعظم سبیلا، حیث كان هؤلاء المسلمون یلاقون صعوبات هائلة فی قراءة القرآن مما تطلب الحال السعی الحثیث لوضع نقط للحروف لتمییزها عن بعضها عن بعضها علی النحو الذی سیرد بیانه بعد قلیل ..
و بهذا الصدد نشیر إلی ان عامة المسلمین فی الصدر الأول من الاسلام كانت تكره ان یزید أحد شیئا علی ما فی مصحف عثمان أو تطویره و لو بقصد الاصلاح و التحسین و ذلك مبالغة منهم فی المحافظة علی اداء القرآن كما رسمه المصحف أولا و خشیة الابتداع و الاضافة و التغییر فیه ثانیا، و كانوا یوافقون المصحف المذكور أیضا فی كل ما كانوا یكتبون و ینسخون من مصاحف مستندین إلی أقوال بعض الصحابة و خصوصا عبد اللّه بن مسعود فی هذا الصدد بقوله: «جرّدوا القرآن و لا تخلطوه بشی‌ء» ..
إلا ان الضرورة و الحاجة بعد ذلك- و الضرورة تقدر بقدرها- خففت أو ازالت من غلواء هذه الكراهة و هذه الحرمة و بات أمر وضع النقط و الحركات فی القرآن شیئا محمودا و مباركا و حتی وصل الحال إلی درجة انه خیف ان یؤدی تجرد المصحف من هذه العلامات إلی التغییر و التحریف فیه ..
لذا فلا یمكن تصور وجود مصحف كتب منذ أكثر من ألف سنة حتی هذه الساعة خالیا من النقط و الحركات التی أصبح وجودهما و كتابتهما فرضا و واجبا كوجوب الحروف نفسها فی المصحف الشریف، بل انه یمنع طبع المصاحف و استنساخها فی كافة أرجاء العالم حالیا من دون وجود النقط و الحركات فیه ..
علما بأن الحركات التی وضعت فی المصحف قدیما كانت أولیة
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 192
و بسیطة و انها تطوّرت بمرور الزمن حتی أخذت وضعها الحالی الذی علیه الآن ..
هذا و ان فضل ایجاد الحركات (الشكل) و وضعها و كیفیة ذلك یعود إلی أبی الأسود الدؤلی «8» بعد واقعة طریفة جرت بینه و بین الحجاج ابن یوسف أو زیاد بن أبیه- بقول- آخر- حینما كان الأخیر والیا علی البصرة.
و خلاصتها هو ان الوالی المذكور كان قد أوعز إلی شخص من أتباعه بالوقوف فی طریق أبی الأسود لیسمعه قوله تعالی أَنَّ اللَّهَ بَرِی‌ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِینَ وَ رَسُولُهُ «9» بكسر لام رسوله، فما كاد یسمع أبو الأسود هذا اللحن الصارخ حتی فزع و غضب و قال: «عز وجه اللّه ان یبرأ من رسوله، و ما ظننت ان امر الناس سیئول إلی هذا» فآلی علی نفسه حینئذ مراجعة الوالی من أجل التهیؤ لوضع طریقة جدیدة و علامات معینة لتشكل حروف القرآن لیمكن القضاء علی اللحن عند قراءتها من قبل الناس ..
و أبو الأسود الذی نؤرخه لوضعه (الشكل) فی القرآن الكریم و ینسب أیضا إلی تلامیذه وضع النقاط فیه بعد ذلك، هو غنی عن التعریف فهو أحد تلامذة الامام علی- ع- و له الفضل فی وضع- اضافة للحركات- مسائل عدیدة فی العربیة كالمسائل المتعلقة بتقسیم الكلمة إلی اسم و فعل و حرف و وضعها تحت باب جدید اطلق علیه اسم «النحو» و الذی لا زال مستعملا حتی الیوم ..
و قد سئل أبو الأسود مرة عن المصدر و الجهة التی استقی منها هذا
______________________________
(8) إن الاسم الحقیقی لأبی الأسود هو ظالم بن عمرو الدؤلی، و لكن كنیته غلبت علی أسمه فسمیّ بأبی الأسود كما هو الحال فی أسماء الاعلام الآخرین كأبو طالب و أبو حنیفة و أبو یوسف و ابو الطیب و أبو فراس و أبو تمام.
و هو أول من وضع قواعد العربیة و أول من نقط فی المصحف.
توفی- رحمه اللّه- فی البصرة عام 69 ه و دفن فی ثراها ..
(9) التوبة: 3.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 193
العلم- النحو- فأجاب بانه لقن حدوده و مبادئه من علی ..
و قیل هنا بان أبا الأسود كان قد دخل علی أمیر المؤمنین علی- ع- فوجد فی یده رقعة فقال: ما هذا یا أمیر المؤمنین ..؟ فأجاب الامام:
تأملت كلام العرب فوجدته قد فسر بمخالطة هذه الحمراء- الأعاجم- فأردت ان أصنع شیئا یرجعون إلیه و یعتمدون علیه، ثم القی إلی أبی الأسود رقعة و فیها مكتوب الكلام كله اسم و فعل و حرف، فالاسم ما انبأ عن المسمی و الفعل ما انبئ به و الحرف ما افاد معنی، ثم قال له:
انح هذا النحو و اضف إلیه ما وقع إلیك، ثم خاطبه: و أعلم یا أبا الأسود ان الأسماء ثلاثة: ظاهر و مضمر و اسم لا ظاهر و لا مضمر و إنما یتفاضل الناس فیما لیس بظاهر و لا مضمر ... الخ.
أما كیفیة تشكیل أبی الأسود للقرآن الكریم- حیث سبق الشكل النقط فی القرآن- فقد طلب من أحد تلامیذه أخذ المصحف المبارك و صبغا یخالف لون مداده، و اخبره بانه «اذا رآه یفتح شفتیه بالحرف فلینقط نقطة واحدة من فوقه، و إذا كسرها فلینقط واحدة من أسفله و إذا ضمها فلیجعل النقطة بین یدی- جانب- الحرف و إذا اتبعت شیئا من هذه غنة (التنوین) فلینقط نقطتین» «10».
و طبیعی ان هذا تعبیر ساذج یتفق و زمن أبی الأسود «11». و هكذا أخذ أبو الأسود یقرأ بتؤدة و التلمیذ یضع النقط علی الحروف، و كلما أتم صحیفة القی أبو الأسود علیها نظرة عامة قبل الشروع فی الصفحة التالیة، و أستمر الحال علی هذا المنوال حتی اعرب المصحف كله، بینما ترك السكون بلا علامة و لا إشارة تذكر ..
و قد أخذ الناس هذه الطریقة عن أبی الأسود و كانوا یسمّون هذه النقط شكلا حتی تفننوا فی هیئة و شكل النقط هذه، فمنهم من وضعها
______________________________
(10) الفهرست: ابن الندیم.
(11) ضحی الإسلام- أحمد أمین.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 194
مربعة و منهم من وضعها مدوّرة، ثم زادوا علامات فی الشكل إلی ان وصلت الینا علی الوضع الذی نستعمله الآن «12».
اما عن تفصیل و تطور علامات الشكل منذ عهد أبی الأسود حتی الآن كما ینقل مؤرخ آخر «13» فهو أن الناس فی عهد أبی الأسود جروا علی طریقته فكانوا إذا رأوا حرفا بعد التنوین من أحرف الحلق وضعوا احدی النقطتین فوق الأخری علامة علی ان النون مظهرة و إلا وضعوها بجانب الأخری علامة علی ان النون مدغمة خفیفة ..
ثم اخترع أهل المدینة للحرف المشدّد علامة خاصة علی شكل قوس طرفاه إلی الأعلی هكذا () ثم زاد اتباع و تلامیذ أبی الأسود علامات أخری فی الشكل فوضعوا للسكون جرة أفقیة فوق الحرف منفصلة عنه سواء أ كانت همزة أو غیر همزة، و لألف الوصل جرة فی أعلاها متصلة به ان كان قبلها فتحة و فی أسفلها ان كان قبلها كسرة و فی وسطها ان كان قبلها ضمة هكذا (T+T (.
و كل هذه العلامات ابتداء من النقط التی وضعها أبو الأسود حتی هذه الخطوط التی تطورت الیها، ان كل هذه كانت تسمی شكلا حتی تطوّرت بعد ذلك و وصلت إلینا بالصورة و الحالة التی نستعملها الآن فی القراءة و الكتابة ..
أما بشأن النقط (التنقیط) فقد قام بوضعها و خلق فكرتها كل من یحیی بن یعمر العدوانی المتوفی فی خراسان عام 129 ه و نصر بن عاصم اللیثی المتوفی فی عام 89 ه- و هما ممن أخذ كل ذلك و تتلمذا علی ید استاذهم القدیر أبی الأسود الدؤلی ..
و كیفیة وضع النقط فی القرآن هو انهما احضرا مصحفا «و وضعا فیه النقط افرادا و أزواجا لتمییز الأحرف المتشابهة كالدال و الذال و الطاء
______________________________
(12) تاریخ القرآن- محمد طاهر الكردی.
(13) تاریخ القرآن- أبی عبد اللّه الزنجانی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 195
و الظاء و العین و الغین فاهملت الأولی و عجمّت الثانیة من فوق بنقطة واحدة و هكذا الحال فی بقیة الحروف» «14».
هذا و ان «التحسین الذی قام به أبو الأسود بوضع النقط علی الحروف لم یقصد به تمییز الحروف المهملة من المعجمة كما هی وظیفة النقط، و انما كان یراد به الشكل الذی یقوم مقام الفتح و الكسر و الضم» «15» ثم جاء من بعد ذلك الخلیل بن أحمد الفراهیدی «16» فأكمل رسم المصحف بصورة نهائیة حیث «استبان مما ذكرنا ان الحروف لم تعجم كلها فی وقت واحد، بل تدرّجوا فی ذلك حسب الحاجة و الاستعداد فی ازمنة مختلفة» «17» و إلی ان وصلت إلی ما هی علیه الآن من اتقان و تنظیم ..
و بصدد علامات الوقف و الوصل فانهما (كالنقط و الشكل) محدثة و لیست اصیلة و قد وضعت فی القرآن علی أكبر الاحتمالات فی خلال القرنین الثانی و الثالث الهجریین من قبل اعلام القراء و النحویین لأجل
______________________________
(14) تاریخ القرآن- أبی عبد اللّه الزنجانی.
(15) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(16) الفراهیدی هو أبو عبد الرحمن الخلیل بن أحمد بن فراهید بن الأزد، ولد فی عمان و علی شاطئ خلیج عمان و نشأ فی البصرة و ترعرع فیها، لذا یلقب أحیانا بالبصری، و كان مولده عام 100 هجریة، بینما كانت وفاته فی البصرة عام 175 أو 170 ه. علما بأن هو أول من سمّی بهذا الاسم «أحمد» فی دنیا الإسلام.
و الخلیل هو أول مبتكر للمعاجم العربیة و أول مبتكر لوضع العروض و حصر كل أشعار العرب فی بحوره، و هو الذی رتب النحو علی الشكل الذی نعرفه الآن، و كان الفراهیدی علوی الهوی و قد سئل عن فضائل علی فقال: «ما أقول فی حق من أخفی الأحباء فضائله من خوف الأعداء و سعی أعداؤه فی إخفائها من الحسد و البغضاء و ظهر من فضائله مع ذلك كله ما ملأ المشرق و المغرب».
(17) منهج البیان فی تفسیر القرآن- السید ابن الحسن الرضوی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 196
ضبط تلاوة القرآن و اتقان اداء جمله و معانیه ..
ان تأخر وضع هذه العلامات (الوقف و الوصل) لعدة قرون لا یعنی ان النبی (ص) و الأصحاب و التابعین فی عصورهم لم یكونوا لیقفوا فی مواضع الوقف أو یوصلوا فی مكانات الوصل، بل كانوا یعطون الآیات الكریمة خلال قراءاتهم و تلاواتهم كل ما تستحقها من وقف أو وصل أو سكون و كل هذا كان اعتمادا علی السلیقة و الفطرة و كما هو الحال فی الشكل و النقط قبل وضعهما ..
لذا فقد جاء وضع هذه العلامات «الوقف و الوصل» علی المصاحف من باب تذكیر القارئ للقرآن بدلالاتها التی كانت تعتمد سابقا علی السمع و السلیقة و الفطرة.
اما بشأن ارقام الآیات و التی وضعت هی الأخری متأخرة فهی لأجل ان تفصل كل آیة عن التی قبلها أو بعدها، و هذه تسهّل الأمر علی القارئ للعثور علی آیة مطلوبة أو لمعرفة عدد آیات كل سورة.
و من المحدثات الأخری هو تقسیم القرآن إلی ثلاثین جزء و كل جزء إلی حزبین و الحزب إلی أربعة ارباع و الربع- و هو جزء من مائتین و أربعین جزءا من القرآن إلی قسمین یسمی كل قسم بالثمن مع الاشارة إلی كل ذلك برسوم و اشكال هندسیة و فنیة و هی تسهّل الحفظ و تیسیر العثور علی السور و الآیات المطلوبة «18» ..
و سیجد القارئ المزید من هذه المحدثات و التحسینات التی ادخلت علی القرآن فی فصل مقبل هو «العنایة بالقرآن» ..
______________________________
(18) لقد لقیت هذه الرسوم و الاشكال بعض المعارضة فی أول الأمر، إلّا أنه سرعان ما تلاشت هذه المعارضة عند ما ظهر للناس ما تؤدیه هذه الزخارف من خدمات جلیلة لمن یقرءون القرآن، لأنها تحدّد الآیات و السور و اجزائها و ترشد القارئ إلی المواضع التی ینبغی علیه أن یسجد عند تلاوتها كما تعرّفه بأحزاب القرآن و أجزائه- المصحف الشریف- الدكتور عبد العزیز مرزوق ..
هذا و قد ذهب بعضهم إلی وجوبها إن كان تركها مدعاة للتحریف و التغییر ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 197

القرآن المكی و القرآن المدنی‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 199
فی الحق انه لم یقتصر نزول القرآن الكریم علی مكان واحد و لا بلد واحد فهناك آیات نزلت فی مكة المكرمة و أخری هبطت فی المدینة المنورة و غیرها نزلت فی الجحفة و الطائف و الحدیبیة و منی و قبا و عرفات و غدیر خم ... و غیرها من الأماكن ..
و فی سبیل دراسة و فهم هذه الآیات و العثور علی مواقع نزولها و أسبابها و اغراضها و تواریخ الحوادث التی عرضت لها الآیات وضعت- أو بقول آخر- وجدت هناك قواعد و اسس مختلفة تشبه إلی حد كبیر تلك التی نجدها فی اللغة العربیة و دعت إلی تقسیم الجمل و الأفعال إلی عدة أقسام أو تلك التی نراها فی عالم الكیمیاء و دعت إلی تقسیم المعادن إلی فلزات و غیر فلزات (لا فلزات) و المواد إلی صلبة و سائلة و غازیة ..
و كل التقسیمات المتقدمة و سواها انما وجدت أو استحدثت فلغرض سهولة و تیسیر دراسة المواضیع المتقدمة و بأقل ما یمكن من الجهد و العناء ..
و هكذا الحال فی آیات اللّه البینات حیث قسّمت أو وجدت فیها آیات مكیة و أخری مدنیة اضافة إلی وجود الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه و المطلق و المقیّد و الخاص حیث سنتناول معظمها فی هذا الفصل و الفصول اللاحقة ..
لذا ینبغی- و الحالة هذه- علی كل من یتصدی للكتابة عن القرآن
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 200
من قریب أو بعید ان یلم سلفا بكل هذه الحالات و التقسیمات و ان یأخذ عنها فكرة كاملة قبل أن یخوض فیها أو یبحث فی دقائقها ..
ان تنكبّ هذا السبیل و البحث فی مواضیع القرآن من دون الالمام بالحالات و التقسیمات الآنفة قد تؤدی بالمرء لأن ینحرف عن الحقیقة و یخبط فی الاحكام خبط عشواء و بالتالی الوقوع فی التناقضات و الابتعاد عن جادة الحق مما یعرضه لغضب اللّه تعالی و نزول اللعنة الدائمة علیه ..
و لو جاز ان نورد هنا مثلا بسیطا علی مثل هذا الانحراف و الشطط و البعد عن الحق و الحقیقة فهو انحراف من لم یسبّر غور القرآن فقام بخلط آیات مدنیة بأخری مكیة عند قوله تعالی: ما كانَ لِلنَّبِیِّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا أَنْ یَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِینَ وَ لَوْ كانُوا أُولِی قُرْبی مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِیمِ «1» حیث تولی نسبة و الصاق هذه الآیة الكریمة من سورة التوبة و التی هی سورة مدنیة نزلت فی السنة الثامنة من الهجرة و تعد من أواخر ما نزل من القرآن نسبتها إلی أبی طالب- عم الرسول (ص)- و الادعاء انها نزلت حال احتضاره علی فراش الموت و استغفار الرسول نفسه له ..
و سندرك مدی بعد هذه النسبة و هذا الادعاء الباطل اذا ما علمنا بأن وفاة أبی طالب كانت قبل الهجرة بثلاث سنوات أو أكثر و ان المدة الفاصلة بین رحیله و بین نزول هذه الآیة علی الرسول تزید علی أحد عشر سنة.
هذا اضافة إلی الدلائل و البینات التی تشیر إلی ایمان أبی طالب ایمانا عمیقا لا شائبة فیه و انه قد تظاهر امام القرشیین بعدم اسلامه- كمؤمن آل فرعون- للحفاظ علی الرسول (ص) و علی الدعوة الجدیدة
______________________________
(1) التوبة: 113.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 201
التی بشّر بها، حیث كانوا یهابونه فلم یجرءوا علی القیام بكثیر مما كانوا یرغبون عمله ازاء الرسالة و الرسول ..
و قد تجلی مصداق هذا الحال جلیا عند وفاته حیث غدا مركز الرسول (ص) و أصحابه ضعیفا و حرجا ازاء القرشیین مما دعاه للتفكیر و التعجیل فی ترك مكة إلی المدینة المنورة لأنه لم یعد فیها من كان یذود عنه و یقف بوجه جبابرة الكفر و الضلال ..
لهذا حرص اقطاب أهل البیت و الصحابة و التابعین و من جاء بعدهم من العلماء و الفقهاء و أرباب السیرة علی دراسة القرآن بصورة موضوعیة و كشف أسباب النزول للوقوف و التفریق بین الآیات التی نزلت فی مكة المكرمة أو فی المدینة المنورة فضلا عن الوقوف علی كل ناسخ و منسوخ فی القرآن و الاهتداء إلی المحكم من الآیات و المتشابهة منها ... الخ و ذلك من أجل استیعاب معانی الآیات الكریمة و مغبة الوقوع فی التناقضات و الأخطاء سواء فی الأحكام و التشریعات أو فی غیرها كحادثة وفاة أبی طالب المتقدمة ..
هذا و لقد تمكن هؤلاء الصحابة و التابعین و من تبعهم، و بقدر تعلق الأمر بالمكی و المدنی و هو موضوع هذا الفصل- من استخلاص طریقتین للعثور و الوقوف علی الآیات المكیة و المدنیة و هما «2».
1- الطریقة الاستقرائیة: و هی التی تعتمد علی النقل و تسمی «السماعیة» أیضا.
2- الطریقة الاستنباطیة: و هی التی تعتمد علی العقل و تسمی القیاسیة أیضا.
و لعل ارجح الطریقتین هو الجمع ما بینهما لتصبح النتائج أقرب
______________________________
(2) موجز علوم القرآن- داود العطار.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 202
إلی العلم و أبعد عن الظن و التخمین و هو ما نذهب إلیه فی هذا البحث ..
لقد اشرنا فی مطلع هذا الفصل بأن الآیات الكریمة لم تنزل كلها فی مكة المكرمة أو فی المدینة المنورة بل انها نزلت أیضا فی أماكن و مواقع أخری، حیث ان أول ما نزل من القرآن و آخر ما هبط منه قد نزلا خارج مدینتی مكة و المدینة و بالتحدید فی غار حراء قرب مكة و غدیر خم قرب المدینة علی التوالی ..
و اذا كانت كافة الآیات الكریمة لم تهبط فی مكة أو المدینة فلا یمكن هنا تجاهل الواقع و هو ان الغالبیة العظمی من هذه الآیات قد نزلت فی المدینتین المذكورتین ..
كما و لا یمكن أیضا تجاهل أو تناسی وجود حدث دولی هام و لحظة حاسمة و خطیرة و نقطة تحول رئیسیة تقف فاصلة بین عهدین و وضعین هما حالة و طبیعة عمل الرسول (ص) و أصحابه و اسلوب الدعوة و مراحلها و انعكاساتها فی مكة المكرمة و تلك التی غدت فی المدینة المنورة ألا و هی الهجرة النبویة «3» التی هی فی الواقع اهم یوم فی حیاة الرسول (ص) بل و فی تاریخ الاسلام و دعوته ..
______________________________
(3) أحببت فی هذا المكان الاشارة بصورة عابرة إلی سبب اتخاذ المسلمین للهجرة النبویة دون المولد أو المبعث أو غیر ذلك تاریخا لهم و ابتدءوا من عندها (بعد أن كانوا قبل ذلك یؤرخون لعام الفیل أو عام الفجار، فكان العرب یقولون حدث ذلك عام الفیل و ولد فلان بعد عام الفجار أو قبله بسنة أو أكثر و هی أحداث لم تعد تتفق و عظمة الإسلام و لا تصلح أن تكون تاریخ أمة توسعت فتوحاتها و مست الحاجة لضبط شئونها و أحوالها).
فیروی هنا أن السبب فی ذلك یعود إلی أنه رفع إلی عمر بن الخطاب (رض) صك كان وقته فی شعبان فقال: أی شعبان المقصود فیه هل هو الذی نحن فیه أو الذی هو آت ..
كما أن أبا موسی الأشعری كتب إلی عمر أنه تأتینا من عندك كتب لیس لها
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 203
فقد كان الرسول (ص) و المسلمون قبل الهجرة فی كنف عدو جبار لا یرحم و لا تلین له قناة یتربص بهم الدوائر و یحصی علیهم انفاسهم و لا یملكون إزاءه إلا المسالمة و الاختفاء و الترقب و انتظار فرج السماء ..
اما بعد الهجرة المباركة فقد اتسع نطاق الدعوة و لاح فی الأفق الأمل و الرجاء، و اصبح المسلمون فی المدینة هم اسیاد الموقف و فرسان المیدان بتضاعف انصارهم و اشیاعهم، كما و بدءوا العمل لاقامة اسس
______________________________
تاریخ فكیف نعمل بها فی هذه الحالة ..
لذا جمع عمر بن الخطاب أصحاب رسول اللّه (ص) سنة 17 هجریة و استشارهم (كعادته) فیما دهمه من الحیرة و الارتباك فی صدد الوقت، و طلب منهم وضع تاریخ للمسلمین یتعاملون علیه، فقال بعضهم نكتب علی تاریخ الرومان فقیل أنه یطول علینا و قال الآخرون بل نكتب علی تاریخ الفرس فقیل ان الفرس كانوا كلما قام منهم ملك طرح التاریخ الذی قبله و سار علی تاریخ جدید، فاختلفوا بصدد التاریخ أشدّ الاختلاف و أعظمه ..
و فی الأخیر اتفق الجمیع من دونما استثناء علی الاقتراح المقدم من قبل الإمام علی بن أبی طالب- ع- و الذی أشار فیه إلی أن أظهر الأوقات و أبعدها عن الاختلاف هو اتخاذ الهجرة النبویة و موافاة الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم المدینة كبدایة للتاریخ الإسلامی، و حیث أن الهجرة كانت فی شهر ربیع الأول لذا أضافوا الأشهر التی تسبق الربیع لیبدءوا بما اعتادوا به السنة و هو شهر المحرم و قد ارخ منه ..
أما عن علة ترك المولد و المبعث و الوفاة و بقیة الوقائع و الحوادث كبدایة للتاریخ الإسلامی، فذكر أن كلا من المولد و المبعث فیهما خلاف عن وقتهما الصحیح، أما عن وفاته (ص) فإنه و إن كان معلوما لدی الجمیع إلّا أنه رؤی أنه من غیر المستحسن أن یؤرخ التاریخ به و ذلك خشیة أن یصبح یوم وفاته (ص) عیدا و فرحا للمسلمین یحتفلون به فی كل عام ..
لذا اتفق الجمیع علی اتخاذ الهجرة النبویة كتاریخ للمسلمین لانها أدت إلی ارتفاع كلمة الإسلام و إدبار الكفر و نجاة الرسول (ص) من طغیان و جبروت مشركی مكة، و قد توالت بعدها مباشرة الفتوحات و الانتصارات حتی فتحت أبواب مكة بوجه الرسالة الجدیدة و دخل أهلها فی ظل الإسلام و خفق علم الإسلام فی المشرق و المغرب. (بتصرف عن عدة كتب و أهمها كتاب الآثار الباقیة عن القرون الخالیة- لأبی الریحان البیرونی).
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 204
الدولة الفتیة و تثبیت دعائمها و اركانها، و قد تطور حالهم بمرور الوقت إلی القوة و الكثرة و الایمان حیث لم یجد المكیون ازائه إلا الانحناء و تسلیم مفاتیح بلدهم لهم و هم صاغرون ..
لهذا كان أمرا طبیعیا ان تتجاوب الآیات المنزلة علی الرسول (ص) و تتفق مع سیر هذه الأحداث و تطوّرها من بدء الدعوة فی مكة المكرمة إلی رحیله (ص) إلی المدینة و إلی الوقت الذی توقف الوحی من النزول إلی الأرض بعد اكمال الرسالة و اتمام النعمة ..
فما نزل فی مكة المكرمة و حالة المسلمین یرثی لها و الدعوة لا تزال فی منطلقها فی حاجة إلی الناصر و المعین تختلف عن الآیات النازلة فی المدینة المنورة حیث تنفس فیها المسلمون الصعداء حیث اصبحت لهم ملجأ و مأوی و اخذوا من هناك فی بناء امة و بعث دولة قدر لها ان تمتد فی بحر سنوات معدودة إلی كل ما كان معروفا من المعمورة حیث ترفع علما فی أقصی المشرق عند تخوم الصین و آخر فی أقصی المغرب عند شواطئ المحیط الأطلسی.
و علی هذا الأساس امكن تصنیف و ترتیب الآیات الكریمة إلی قسمین دعی أحدهما بالمكی بینما وضع للثانی اسم المدنی و امكن أیضا هنا تبیان خصائص و ممیزات كل منهما فی نقاط عدة حیث فی الامكان معرفة مكان نزول الآیة بمجرد قراءتها أو الوقوف علیها عن كثب ..
______________________________
هذا و اذا امكن تلمس الخطوط العریضة لمواقع نزول الآیات إلا ان الرواة و المؤرخین اختلفوا من بعد فی سبب تسمیة الآیات بالمكیة أو المدنیة فضلا فی تحدیدها الدقیق حیث افترقت آراؤهم- من أجل الوصول إلی الحقیقة و لیس هذا هو دأبهم هنا- إلی عدة اتجاهات امكن ایجازها و حصرها فی أربعة نقاط رغم ان الأولی هی التی تحظی بأكثر الأصوات و غالبیة الآراء .. و النقاط الأربعة هی:
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 205
1- ان المشهور بین الناس و المتعارف ما بینهم هو «ان المكی ما نزل قبل الهجرة المباركة سواء انزل فی مكة أو فی خارج مكة» «4» و هی المدة التی امتدت إلی 13 سنة كاملة أو علی وجه التحدید 12 سنة و 5 اشهر و 3 أیام و تكوّن الآیات المكیة ما یقرب من 63% من عموم القرآن أی 19/ 30 منه فی 91 سورة منه أیضا ..
و ان المدنی من القرآن هو «ما نزل بعد الهجرة سواء نزل فی المدینة ذاتها أو فی مكة أو الجحفة أو غدیر خم» «4» و هی المدة التی امتدت إلی 9 سنوات أو علی وجه الحصر 9 سنوات و 9 أشهر و 9 أیام و تكوّن 37% أی 11/ 30 من عموم القرآن الكریم و هو مجموع 23 سورة ..
و هناك من «اعتبر السور المكیة (85) سورة و المدنیة (29) سورة» «6» وفقا للتقسیم اعلاه.
و علی هذا الرأی- كما قلنا- تسیر الغالبیة العظمی من رواة المسلمین و مؤرخیهم و هو المعوّل علیه فی المصاحف المتداولة من ان السورة الفلانیة مكیة أو مدنیة ..
كما و نشیر هنا إلی ان «السورة هی مكیة اذا نزل أولها فی مكة قبل الهجرة و ان تخلّلتها آیات مدنیة أو كان تمامها بالمدینة، و المدنیة اذا نزل أولها بعد الهجرة بالمدینة و ان تخللتها آیات مكیة» «7».
و لا عبرة فی هذه الحالة لرجحان الآیات المكیة علی المدنیة أو بالعكس فی داخل السور علی صفتها، و انما العبرة علی اوائل السور، فسورة الماعون- مثلا- نزلت آیاتها الثلاثة الأولی فی مكة بینما نزلت
______________________________
(4) الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
(6) دراسات فی علوم القرآن- عبد القهار العانی.
(7) علوم القرآن- أحمد عادل كمال.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 206
البقیة و هی أربع آیات فی المدینة، و رغم ذلك فقد سمیّت مكیة و هكذا الحال فی بقیة السور ..
و هناك من یخالف هذا الرأی حیث ان لدیهم «ان وصف السورة بالمكیة أو المدنیة ان كانت آیاتها كذلك و یجوز ان تضم السورة المكیة آیات مدنیة أو بالعكس، و العبرة هنا عندهم بحسب اكثر الآیات فی السورة فان كانت مدنیة اصبحت مدنیة و إلا فمكیة .. و یأتی الوصف هنا للسورة بأنها مكیة إلا الآیات كذا فمدنیة .. و بالعكس «8» ..
2- و قیل ان المكی ما نزل بمكة و ضواحیها كمنی و عرفات و الحدیبیة و لو بعد الهجرة، أما المدنی من القرآن- لدیهم- فهو ما نزل بالمدنیة و ضواحیها كاحد و قبا، و أما ما نزل بین المدینتین فینسب إلی أقربهما مسافة.
3- و قیل أیضا ان المكی ما جاء خطابا لأهل مكة بینما المدنی ما وقع خطابا لأهل المدینة، و هذا قول ضعیف لأن آیات القرآن موجهة و متخصصة للخلق كافة و لیس لسكان مدینة معینة لیصح هذا التمییز ..
4- و قیل أخیرا ان المكی ما نزل بمكة و المدنی ما نزل بالمدینة، و حینئذ یكون ما نزل فی غیرهما لیس بمكی و لا مدنی و انما هو قسم مستقل عنهما یحمل اسم المكان أو المنطقة الذی نزل به.
اما عن الفائدة و الغایة فی تقسیم آیات القرآن الكریم إلی مكیة و مدنیة فهی:
1- معرفة ما یوجد فی القرآن من ناسخ و منسوخ لیمكن الأخذ و العمل بالناسخ و اطراح العمل بالمنسوخ و خصوصا فی مجالات الاحكام و التشریع ..
______________________________
(8) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین، مباحث فی علوم القرآن- مناع القطان.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 207
علما بان نسخ الحكم فی آیة معینة لا یعنی ان قرآنیتها قد سقطت بذلك، بل تظل قرآنا یتلی و یتعبد به و هی من كلام اللّه و لكن یبطل العمل بها لمكان الآیة التی نسختها «9» ..
2- الاطلاع علی المراحل و الخطوات التدریجیة التی قطعها التشریع و الوقوف علی كیفیة و طریقة نزول الاحكام و تكاملها و اسلوب الدعوة ..
3- الاستعانة علی تفسیر القرآن لأن معرفة مواقع النزول تساعد علی فهم الآیة و تفسیرها بصورة صحیحة «10» ..
4- الوقوف علی السیرة النبویة من خلال الآیات القرآنیة، لأن تتابع الوحی علی النبی سایر تاریخ الدعوة بأحداثها منذ بدأ الوحی حتی نزول آخر آیة «10» ..
اما عن الفروق و الممیزات بین كل من الآیات المكیة و المدنیة و خصائص كل منهما فهی:
1- ان الناظر إلی الآیات المكیة یراها بصورة عامة قصار الحجم و ذات حرارة فی التعبیر و تجانس فی الصوت بالتزامها بنغمات موسیقیة معینة للآیات المدنیة التی تكون عموما طویلة و ذات أسلوب تشریعی هادئ، و دلیل القصر و الطول هو «ان الصور المدنیة التی تزید علی 37% من القرآن بقلیل یبلغ مجموع آیاتها 1456 آیة، أی أقل من ربع القرآن «12» و هذه المیزة هی الغالبة فی الآیات هذه و ان كان لها شذوذ و استثناءات قلیلة ..
2- ان خطاب اللّه تعالی للجمهور فی الآیات المدنیة یغلب علیها قوله
______________________________
(9) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(10) مباحث فی علوم القرآن- مناع القطان.
(12) تاریخ التشریع الإسلامی- الشیخ محمد الخضری.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 208
«یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا» و هذا وضع طبیعی إذا ما علمنا بأن غالبیة الناس فی البیئة الحجازیة فی العهد المدنی قد تحوّلت إلی الاسلام أو هی فی الطریق إلیه ..
أما السور المكیة فلا نشاهد فیها قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا بل تطالعنا عوضها قوله تعالی: یا أَیُّهَا النَّاسُ و كلما ورد فی الآیات المدنیة من و قوله: یا أَیُّهَا النَّاسُ لا یتجاوز السبع مرات فقط ..
و علة ورود «یا أَیُّهَا النَّاسُ» فی الآیات المكیة هو ان عدد المسلمین فی العهد المكی كان یعد علی الأصابع و لما كانت الآیات تهبط لتخاطب الأكثریة (و هم الكفار حینئذ) لتمهد لهم طریق الایمان و الاسلام كان أمرا مسلما ان تخاطبهم بلفظ الناس، و هذا اللفظ یستوعب الكفار كما یستوعب و یسع فی نفس الوقت المسلمین فی المخاطبة ..
3- لیس فی معظم الآیات المكیة تفصیلات التشریعات و القوانین بل هی تدعو دوما للتمسك بالاخلاق الكریمة و الاستقامة علی الخیر و نبذ عادة عبادة الأوثان ثم الایمان بالبعث بعد الموت و الحساب فی یوم الجزاء، بسبب ان الاسلام لم یزل حینئذ غضا طریا و ان الحاجة الملحة كانت تدعو أولا لتصحیح الاعتقاد عن طریق انتزاع عقیدة الشرك و تثبیت عقیدة التوحید و اقامة مختلف الأدلة و البراهین علی اثباتها فضلا عن تحذیر العصاة و الكافرین من العذاب الألیم و العقاب الجسیم بعد الموت ..
______________________________
اما التشریع التفصیلی كالمعاملات و القوانین الاجتماعیة و الدولیة و الحدود و الفرائض و تفاصیلها فتحفل بها الآیات المدنیة، بسبب ان سلطان الاسلام قد استتب علی أطراف البلاد، كما و أخذت أنواره و اشعته تتجه إلی خارج الجزیرة العربیة، و هذا الحال یتطلب بیان
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 209
الأحكام التفصیلیة فی تنظیم المجتمع و تسییر دفته إلی شاطئ السلامة فضلا عن كشف أنواع الروابط التی تنظم العائلة و الفرد و الذی یتألف منها هذا المجتمع ..
و من عبر كل هذا یمكن ان یقال بان الآیات المكیة عالجت شئون الدعوة بوصفها تعبیرا عن عقیدة، بینما الآیات المدنیة عالجتها بوصفها تعبیرا عن عقیدة مجسدة فی دولة و مجتمع ..
هذا و لیس كلما ذكر آنفا هو كل الخصائص و الفوارق بین المكی من الآیات و المدنی منها. بل سعی البعض من أهل العلم فی البحث عن معاییر و نقاط أخری تمیّز المكی من الآیات عن المدنی، حیث امكن لهم استخراج الفروق التالیة لتضاف إلی السابقة و هی لذلك تعقب السابقة فی التسلسل العددی ..
4- ان كل سورة فیها سجدة هی مكیة.
5- ان كل سورة فیها لفظ «كلا» هی مكیة أیضا، و قد ذكرت هذه اللفظة 33 مرة فی 15 سورة، و كلها تقع فی النصف الأخیر من القرآن، و لیس فی النصف الأول منها شی‌ء، و حكمة ذلك هو ان «النصف الأخیر نزل اكثره فی مكة و اكثر أهلها و سكانها من الطغاة و الجبابرة فتكرّرت هذه اللفظة علی وجه التهدید و التعنیف لهم و الانكار علیهم بخلاف النصف الأول و ما نزل منه فی الیهود لم یحتج إلی ایرادها فیه لذلهم و ضعفهم» «13».
و بصدد نزولها فی مكة و مكانها من القرآن قال الشاعر:
و ما نزلت «كلا» بیثرب فاعلمن‌و لم تأت فی القرآن فی نصفه الأعلی 6- ان كل سورة فیها قسم یترجح مكیّتها و هی تأتی فاتحة للسور المكیة نحو الصافات و الذاریات و الضحی و العصر.
______________________________
(13) البرهان فی علوم القرآن- بدر الدین الزركشی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 210
و یأتی القسم لأجل تنبیه اذهان السامعین و تعظیم المقسم به و للتأكید علی وحدانیة اللّه تعالی و اثباته ..
7- ان كل سورة فیها قصة أبی آدم و زوجته حواء و قصة ابلیس هی مكیة عدا سورة البقرة ..
8- ان كل سورة تفتح بالحروف المتقطعة «14» مثل «الر» و نحوهما هی مكیة عدا الزهراوان (البقرة و آل عمران) و فی الرعد خلاف ..
9- ان كل سورة فیها ذكر للمنافقین فهی مدنیة عدا سورة العنكبوت ..
10- ان كل سورة ذكرت فیها الحدود و الفرائض فهی مدنیة ..
11- ان كل سورة فیها اذن و دعوة للجهاد أو ذكر له أو بیان لاحكامه فهی سورة مدنیة ..
12- ان كل سورة فیها احوال القرون و الأمم الماضیة و قصص الأنبیاء و المرسلین فهی مكیة عدا البقرة ..
13- ان كل سورة فیها مجادلة أهل الكتاب فهی مدنیة ..
هذا و نشیر هنا إلی انه قد تنزل سورة مدنیة و هی تحمل بعض خصائص الأسلوب الشائع فی السور المكیة أو تنزل سورة مكیة و هی تحمل بعض خصائص الاسلوب الشائع فی السور المدنیة «15» إلا ان هذه هی من الاستثناءات و الشواذ التی تلتصق بكل قاعدة، و الراجح المشهور ان الخصائص اعلاه هی التی تمیّز الآیات المكیة عن المدنیة ..
______________________________
(14) سیرد شرح هذه الحروف فی فصل لاحق ..
(15) موجز علوم القرآن- داود العطار.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 211

الناسخ و المنسوخ فی القرآن‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 213
النسخ فی اللغة و القاموس هو بمعنی الإزالة و التغییر و التبدیل و التحویر و ابطال الشی‌ء و رفعه و اقامة شی‌ء مقام شی‌ء، فیقال نسخت الشمس الظل: أی ازالته.
و تعریفه هو رفع حكم شرعی سابق بنص شرعی لا حق مع التراخی و الزمان بینهما، أی یكون بین الناسخ و المنسوخ زمن یكون المنسوخ ثابتا و ملزما بحیث لو لم یكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق و كان حكمه قائما «1» ..
و باختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعی بخطاب قطعی للدلالة و متأخر عنه أو هو بیان انتهاء امده و النسخ «جائز عقلا و واقع سمعا فی شرائع ینسخ اللاحق منها السابق و فی شریعة واحدة» «2».
و حكم الناسخ و المنسوخ یلزم ان یتقنه و یتعلمه كل من یتصدی لتفسیر القرآن أو لبیان الاحكام التشریعیة و الفقهیة من المفسرین و الفقهاء و أهل الحل و العقد حتی یكون فی مكنتهم الوقوف علی الاحكام التی یعمل بها من القرآن من تلك المنسوخة التی لا یعمل بها ..
و بهذه المناسبة نورد كلمة موجزة للامام علی- ع- بصدد الناسخ و المنسوخ و ضرورة تعلمها فإنه- الامام- مرّ علی قاض من القضاة فقال
______________________________
(1) الشافعی- محمد أبو زهرة.
(2) أصول الفقه- الشیخ محمد الخضری.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 214
له: أ تعرف الناسخ من المنسوخ فأجاب بقوله: لا بل اللّه اعلم فبادره الامام بقوله: هلكت و اهلكت .... الخ «3».
و طبیعی هنا ان القاضی- أی قاضی- یلزم ان یكون سبّاقا فی معرفة الناسخ و المنسوخ لئلا یطبق حكما كان قد نسخ مفعوله فیهلك هو و یهلك معه ضحیته ..
و یروی بهذا الصدد أیضا عن ابن عباس انه قال فی قوله تعالی:
وَ مَنْ یُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِیَ خَیْراً كَثِیراً «4» قال: المقصود من ذلك ناسخه و منسوخه و محكمه و متشابهه و مقدمه و مؤخره و حرامه و حلاله ..
و النسخ فی اصطلاح الفقهاء یطلق علی معنیین اثنین هما:
1- «ابطال الحكم المستفاد من نص سابق بنص لا حق» «5» و مثال ذلك یتجلی ساطعا و واضحا فی آیة النجوی بقوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا ناجَیْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَیْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ «6».
فالآیة المتقدمة قد نسخت بالآیة التالیة و هی قوله تعالی:
أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَیْكُمْ فَأَقِیمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِیعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللَّهُ خَبِیرٌ بِما تَعْمَلُونَ «7».
و الآیة الكریمة الأولی المنسوخة لو فتشنا عنها فی بطون الكتب و زوایاه بقصد معرفة من الذی عمل بها من الخلق قبل ان ینالها النسخ
______________________________
(3) الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی، البرهان فی علوم القرآن- بدر الدین الزركشی.
(4) البقرة- 269.
(5) تاریخ التشریع الإسلامی- الشیخ محمد الخضری.
(6) المجادلة- 12.
(7) المجادلة- 13.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 215
بالآیة التالیة لألفینا جلیا انه لم یعمل بها أحد فی التاریخ- من حین نزولها حتی نسخها- إلا شخص واحد فقط هو امام الهدی علی بن أبی طالب- ع- حیث ما ان أطلت بشائر هذه الآیة علی قلب الرسول (ص) و تداولت بین الأصحاب حتی اسرع الإمام بتفریق دینار كان لدیه إلی عشرة دراهم كان یدفع منها درهما واحدا إلی الفقراء و المساكین عند كل لقاء یسجله مع الرسول (ص)، بینما تقاعس أو تخلف غیره عن ذلك مما حدا اللّه سبحانه عطفا و رحمة بهؤلاء النفر و تخفیفا عنهم إلی ان یوعز للأمین جبرائیل لینقل الآیة الثانیة إلی صدر الرسول لتنسخ حكم و مفعول الأولی و لتجعل مواجهة الرسول (ص) أو زیارته مجانا و من دون مقابل یذكر ..
لذا ینقل عن الامام علی- ع- فی احدی خطبه قوله: «ان فی كتاب اللّه آیة لم یعمل بها أحد سوای» و یعنی الامام بذلك آیة النجوی المتقدم ذكرها ..
و من هذا النوع من النسخ أیضا قوله تعالی: وَ الَّذِینَ یُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ یَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِیَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَی الْحَوْلِ «8» فهذه الآیة تشیر إلی ان عدة المتوفی عنها زوجها یمتد إلی حول كامل (سنة كاملة) ثم نسخ هذا الحكم بالآیة الثانیة و هی قوله: وَ الَّذِینَ یُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ یَذَرُونَ أَزْواجاً یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً «9» و هذه الآیة تدل علی أن عدة المتوفی عنها زوجها هی أربعة أشهر و عشرة أیام فقط أی «130» یوم و هو الحكم المعمول به حالیا عند الناس و المعمول به فی المحاكم الشرعیة ..
2- «رفع عموم نص أو تقیید مطلقه» «10»، و مثال الشطر الأول
______________________________
(8) البقرة- 240.
(9) البقرة- 234.
(10) تاریخ التشریع الإسلامی- الشیخ محمد الخضری.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 216
«رفع العموم» هو قوله تعالی: وَ الْمُطَلَّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «11» و هذا نص عام یسری علی من دخل بها و من لم یدخل بها و لكن نزلت بعد ذلك آیة أخری اعطیت المرأة غیر المدخول بها حكما خاصا و هو قوله: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَیْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «12».
اما امثال الشطر الثانی «تقیید المطلق» فهو قوله سبحانه حُرِّمَتْ عَلَیْكُمُ الْمَیْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِیرِ «13» فالنص المتعلق بالدم هنا نص مطلق للدم المرم بینما قیّدت آیة تالیة ذلك و جعلته الدم المسفوح فقط و هو قوله تعالی: قُلْ لا أَجِدُ فِی ما أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّماً عَلی طاعِمٍ یَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ یَكُونَ مَیْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِیرٍ «14».
هذا و نشیر إلی انه لم ترد فی القرآن الكریم قواعد صریحة و ضوابط واضحة فی مسائل النسخ أو الاشارة إلی الآیات الناسخة و المنسوخة عدا التلمیح العابر الیها فی عدة مواضع فیه و دونما أی تفصیل أو شرح و هو قوله تعالی: ما نَنْسَخْ مِنْ آیَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَیْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها «15» و قوله تعالی: وَ إِذا بَدَّلْنا آیَةً مَكانَ آیَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما یُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا یَعْلَمُونَ «16» ..
اضافة إلی الاشارة الیها فی بعض الأحادیث النبویة المنقولة عن
______________________________
(11) البقرة: 228، و القرء هو الطهر الذی یقع ما بین الحیضتین، و قیل ان القرء هو الحیضة و هی العادة الشهریة التی تنتاب المرأة لأیام معدودة فی الشهر و عند ما تكون غیر حامل و غالبا غیر مرضع ..
(12) الأحزاب: 49.
(13) المائدة: 3.
(14) الأنعام: 45.
(15) البقرة: 106.
(16) النحل: 101.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 217
الرسول (ص) و فی الكلمات و الأخبار الواردة عن طریق أهل بیت النبوة و عن طریق الصحابة ..
لذا فالأصل فی آیات القرآن الكریم برمتها هی الاحكام لا النسخ و حتی یقوم الدلیل الصریح و القرینة الواضحة علی النسخ فیؤخذ به فی العمل ..
علما بأن النسخ لا یكون إلا فی الاحكام الفرعیة العملیة من اوامر و نواهی- و لو بلفظ الخبر- و لا یكون فی أصول العقائد و امهات الفضائل و الأخبار «17» و التاریخ و الوعد و الوعید و القصص و المواعظ و غیرها ..
هذا و یمكن اجمال طرق معرفة الناسخ و المنسوخ فی القرآن الكریم بالنقاط التالیة:
1- النقل الصریح عن الرسول (ص) أو عن صحابی.
2- اجماع الأمة علی ذلك ..
3- معرفة المتقدم من المتأخر فی التاریخ مع وجود التعارض بین النصین، و لا یمكن معه التوفیق بینهما «17».
لذا لا یعتمد فی النسخ علی الاجتهاد أو أقوال المفسرین أو التعارض ما بین الأدلة ظاهرا.
اما شروط النسخ فهی ستة «19» و ها نحن أولاء نوردها أدناه مختصرة ..
1- نزول الناسخ بعد المنسوخ.
2- ألا یكون المنسوخ خبرا بل حكما شرعیا.
3- أن یكون هناك تخالف فی الحكم بین النصین.
______________________________
(17) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(19) النسخ فی الشریعة الإسلامیة- عبد المتعال الجبری.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 218
4- أن یكون المنسوخ غیر متعلق بوقت معین.
5- أن یكون الناسخ موجبا للعلم و العمل.
6- أن ینسخ الحكم الأخف الأثقل أو المساوی له.
و ذكر هنا فی أسباب النسخ الحقیقة و علته انها تعود لمصلحة و حكمة یراها اللّه سبحانه و لأجل التخفیف عن كاهل الناس و التیسیر علیهم تمشیا مع التدرج فی التشریع حتی تطمئن إلیه النفوس و یستقر علی الوضع الأخیر و النهائی و الذی لا یمكن أن یناله التغییر أو التعدیل لیكوّن بذلك القاعدة الفقهیة المشهورة و هی «لا ینكر تغییر الاحكام بتغییر الزمان» «20».
هذا و قد بحث العلماء و الفقهاء بعد ذلك فی مدی و سلطان الآیات الكریمة و السنة النبویة المطهرة فی نسخ أحدهما للأخری أو النسخ فیما بینها و قد امكن جمع أقوالهم و اختصارها فیما یلی:
لقد اتفق الجمیع و كل من خاض فی بحث الناسخ و المنسوخ إلی ان النص لا ینسخه إلا نص فی قوته أو أقوی منه، و النص الأقل قوة لا ینسخ الأقوی، و حیث ان المصدرین الأساسیین للشریعة هما القرآن و السنة و ان بقیة المصادر هی تابعة للقرآن و السنة، فمن المحال هنا ان ینسخ القرآن أو السنة أی قیاس أو اجتهاد «21»، و انما یكون النسخ علی الوجه التالی:
______________________________
(20) هذه هی قاعدة فقهیة تأخذ بها المحاكم المدنیة و غیرها من المعاملات و الدعاوی المقامة فیها و هی إحدی القواعد التی كانت تضمها (المجلة) قبل الغائها و نقلها مع كثیر من الأحكام إلی القوانین المدنیة الساریة فی الوقت الحاضر.
(21) التشریع الجنائی الإسلامی- عبد القادر عودة.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 219
1- لا ینسخ القرآن إلا بقرآن مثله «22» و ذلك استنادا لآیات النسخ المنوه عنها قبل قلیل، و طبیعی ان المراد هنا من القرآن هو آیاته الكریمة ..
2- ینسخ القرآن بالسنة النبویة «22»: و ذلك لأن السنة هی أیضا من عند اللّه تعالی و ان كل ما یرویه أو ینطق به الرسول (ص) من الأحادیث یجب اتباعها و الالتزام بها كاتباع آیات القرآن الكریم و الإذعان لها لأن الرسول (ص) معصوم من الزلل و السهو و النسیان بقوله تعالی: وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحی «24» و لأن تفسیر آیات القرآن و بیان اغراضها و معانیها هو من أولی مهام الرسول (ص) و واجباته، فطبیعی ان یلتزم الفرد بكل هذا و ان یعمل به كالتزامه و عمله بالآیات الكریمة نفسها ..
و السنة هنا یجب أن تكون متواترة و قطعیة، أما خبر الواحد (الآحاد) فلا یصلح أن یكون ناسخا للقرآن باجماع المسلمین، لأن القرآن متواتر یفید الیقین، و خبر الآحاد مظنون و لا یصح رفع المعلوم بالمظنون و انما یقوم خبر الآحاد بنسخ بعضه بعضا ..
هذا و لم نعدم هنا افرادا قلائل و منهم الامام الشافعی یذهبون إلی قصر نسخ القرآن علی القرآن فقط و ان السنة لا یمكن ان تكون ناسخة للقرآن و انما هی تبع للكتاب بمثل ما نزل به نصا و مفسرة ما انزل اللّه سبحانه منه جملا، و ان السنة انما تنسخ السنة فقط و كل ما وجد من نسخ للقرآن بالسنة فمعها قرآن یعضده، و حیث وقع نسخ فی السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له ..
و أدلة هؤلاء القلة بصدد عدم امكان نسخ القرآن بالسنة و ان كانت
______________________________
(22) البرهان فی علوم القرآن- بدر الدین الزركشی.
(24) النجم: 403.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 220
الأخیرة متواترة و قطعیة هی «25»:
1- ان القرآن أصل و لفظه معجزة فی حین ان السنة فرع من القرآن و انها لیست بمعجزة مثله ..
2- إن معنی قوله تعالی: قُلْ ما یَكُونُ لِی أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِی إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما یُوحی إِلَیَّ إِنِّی أَخافُ إِنْ عَصَیْتُ رَبِّی عَذابَ یَوْمٍ عَظِیمٍ «26» هو أن اللّه تعالی فرض علی رسوله إتباع ما یوحی إلیه و إن النبی (ص) مأمور بان لا یبدل أحكام القرآن من تلقاء نفسه ..
3- ان الآیة الأخری و هی قوله تعالی ما نَنْسَخْ مِنْ آیَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَیْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها «27» معناها أن نسخ الآیة لا یكون إلا بآیة من عند اللّه تعالی و لا یكون ذلك لأحد من الخلق ..
و كل هذه الحجج و غیرها و ان كانت ظاهرة الوجاهة و القبول إلا انها لا تقف بوجه و ازاء ما ذهبنا إلیه آنفا من ان اقوال الرسول (ص) و احادیثه هی من عند اللّه تعالی و لا یمكن ان یشوبها شی‌ء من الهدی أو الضلال و انها ملزمة لزوم الآیات نفسها ..
كما و لم نعدم افراد قلائل یعدّون علی الأصابع ان لم یكونوا دونها و منهم أبو مسلم الاصفهانی المعتزلی صاحب كتاب (جامع التأویل فی التفسیر) و المتوفی عام 322 هجریة ینسفون و یبطلون النسخ مهما كان لونه و شكل جملة و تفصیلا «28» مؤیدین دعاواهم بأدلة واهیة لا تقف علی قدمیها و هی أوهی من بیت العنكبوت منها ان القرآن الكریم سجل الشریعة و هو الباقی الخالد إلی یوم الدین و ما یدعی نسخه منه یمكن
______________________________
(25) النسخ فی الشریعة الإسلامیة- عبد المتعال الجیری.
(26) یونس: 15.
(27) البقرة: 106.
(28) النسخ فی الشریعة الإسلامیة- عبد المتعال الجبری.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 221
التوفیق و الملائمة ما بینه و بین ما یدعی ناسخه بایسر سبیل، و لا یصار إلی النسخ إلا إذا تعذر التوفیق ...... الخ.
و طبیعی ان هذا الادعاء أو غیره لا یذهب إلیه إلا القلیل من المسلمین و هی ادعاءات و حجج لا تقف علی قدمیها و انها من بعد تصطدم مع حجج الغالبیة العظمی من المسلمین و المدعمة بأوثق الأدلة و أسطع البراهین «29» ..
لذا فالنسخ قد اجمع كافة المسلمین علی وقوعه فی القرآن علی معنی رفع الوحی و تبدیله، اما من یذهب إلی انه لا یجوز النسخ فی شریعة واحدة فهو ادعاء غریب و عجیب لأن انكار النسخ مع صحة الاسلام أمر غیر متصور و لا مقبول ..
هذا و بصدد تحدید موقع الناسخ و المنسوخ فی القرآن فان القاعدة العامة و الأصل العام فی النسخ هو أن السّور التی لم یحدث فی آیاتها تعدیل أو نسخ فهی السور المكیة، بینما حدث النسخ فی السور التی كثرت فیها احكام التشریع و هی السور المدنیة و ان كانت هناك بعض الاستثناءات القلیلة ..
و علی هذا فالسور التی وجد فیها ناسخا و منسوخا هی (25) سورة منها سورة البقرة و آل عمران و النساء و المائدة .... الخ و كلها و (40) سورة فی القرآن- من غیر ما ذكر- فیها احكام منسوخة فقط [و (6) سورة فی القرآن من غیر ما ذكر فیها احكام ناسخة فقط منها سورة الفتح و الحشر و المنافقون ... الخ اما ما بقی من السور و عددها (44) سورة ورد انها خلیت من أی ناسخ أو منسوخ.
______________________________
(29) البرهان فی علوم القرآن- بدر الدین الزركشی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 222
و نشیر بعد هذا إلی ان الحكمة من نزول آیات النسخ یمكن اجمالها فی النقاط التالیة «30».
1- مراعاة مصالح العباد ..
2- تطور التشریع إلی مرتبة الدعوة وفقا لسیر و تطور الدعوة و حال الناس ..
3- تقییم الأفراد و اختیارهم بالامتثال للاحكام من عدمه ..
4- إرادة الخیر للأمة و التیسیر علیها، لأن النسخ ان كان إلی اشق ففیه زیادة فی الثواب و ان كان إلی اخف ففیه تیسیر و رأفة بهم ..
و أخیرا فقد قسم البعض أنواع المنسوخ من الآیات إلی ثلاثة أقسام هی: «31» 1- ما نسخ حكمه و بقی خطه (تلاوته، لفظه): و هذا القسم هو المشهور بین العلماء و المفسرین و قد الفت حوله أنواع مختلف البحوث و الدراسات، و من هذا القسم آیة النجوی و آیة العدة فی المتوفی عنها زوجها كما تقدم بیانه ..
2- ما نسخ خطه (تلاوته) و بقی حكمه و منه آیة الرجم حیث ان وجوب الرجم علی المحصنة الزانیة لا خلاف فیه بین الفقهاء، و ان بعضهم قال ان الآیة التی كانت متضمنة لهذا الحكم منسوخة بلا خلاف و هی قوله: «الشیخ و الشیخة إذا زنیا فارجموهما البتة نكالا من اللّه و اللّه عزیز حكیم» ..
3- ما نسخ خطه (تلاوته) و حكمه معا: و منه ما روی عن أم
______________________________
(30) مباحث فی علوم القرآن- مناع القطان.
(31) تفسیر التبیان- أبو جعفر الطوسی، النسخ فی الشریعة الإسلامیة- عبد المتعال الجبری، البرهان فی علوم القرآن- بدر الدین الزركشی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 223
المؤمنین عائشة قولها: انه كان فیما انزل اللّه من القرآن أن عشر رضعات معلومات یحرّمن، و نسخ ذلك بخمسة معلومات فتوفی رسول اللّه (ص) و هن فیما یقرأ من القرآن «32» فنسخت التلاوة و الحكم ..
و بصدد هذه الأقسام فإن بعض المسلمین یدعمها كلها بینما یذهب البعض إلی عدم تأیید و دعم القسمین الثانی و الثالث أو الثالث فقط لأن «بعضها قد جاء عن طریق و آیات الآحاد و التی لا یحتج بها فی اثبات النسخ» «33» ..
كما و لخص البعض بطلان نسخ التلاوة بالأسباب التالیة: «34» 1- لكون الأخبار الخاصة بها آحاد غیر متواترة ..
2- ان الأخبار هذه متعارضة فی نفسها من جهات شتی ..
3- وجود الاختلاف و التعارض بین الأخبار و الروایات من جهة تعیین لفظ الآیات و السور التی یقال بنسخ تلاوتها ..
______________________________
(32) صحیح مسلم- أبو الحسین مسلم بن الحجاج النیشابوری.
(33) البرهان فی علوم القرآن- بدر الدین الزركشی.
(34) منهج البیان فی تفسیر القرآن- ابن الحسن الرضوی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 225

محكم القرآن و متشابهه‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 227
یعرف المحكم بانه الاتقان و عدم تطرّق الاختلاف و الالتباس الیه و ما یحتمل وجها واحدا و بقول آخر ان معناه یدل علیه بوضوح لا خفاء فیه و یشمل النص و الظاهر ..
فالنص و الظاهر یدلان علی المعنی البارز المطلوب، و من هذا النوع أصول الدین و اصول الاحكام ..
اما المتشابه فهو ما یحتمل وجوها عدة أو ان یشابه بعضه بعضا أو ان یشبه اللفظ و اللفظ فی الظاهر و المعنیان مختلفان، و المتشابه یفتقر إلی الدلالة الراجحة علی معناه و یشمل المجمل و المؤول و المشكل ..
و فی كتاب اللّه العزیز آیات محكمة و متشابهة اشارت الیها آیات عدة بكل صراحة و وضوح منها قوله تعالی: هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ عَلَیْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آیاتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِیلِهِ، وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما یَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ «1».
و هناك من قال بأن القرآن كله محكم لقوله تعالی: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آیاتُهُ «2» و آخرون یرون بأن كله (القرآن) متشابها لقوله تعالی: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِیثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِیَ «3».
______________________________
(1) آل عمران: 7.
(2) هود: 1.
(3) الزمر: 23.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 228
ان الرأی الأول- و المتعلق بوجود المحكم و المتشابه- هو المعوّل علیه و به یأخذ الغالبیة من الفقهاء و المجتهدین قدیما و حدیثا ..
اما الحكمة و الفلسفة فی انزال المتشابه من الآیات فهو «حث الناس علی المثابرة و السعی و العمل علی كشفها و بالتالی لیرتقی المتعلم فیها رتبة بعد رتبة حتی یبلغ منتهاه و یدرك اقصاه، و لتكون للعالم فضیلة النظر و حسن الاستخراج و لتقع المثوبة من اللّه جل شأنه علی قدر العنایة، و لو كان كل العلوم أو كل القرآن شیئا واحدا لم یكن عالم و لا متعلم و لا خفی و لا جلی» «4» و «لبطل التفاضل بین الناس و سقطت المحنة و ماتت الخواطر» «5».
اما السیوطی فی الاتقان فیوجز الحكمة فی انزال المتشابه بالنقاط التالیة:
1- الحث للعلماء علی النظر الموجب للعلم بغوامضه و البحث فی دقائقه ..
2- ظهور التفاضل و تفاوت الدرجات ..
3- ابتلاء العباد بالوقوف عنده و التوقف فیه و التفویض و التسلیم و التعبد بالاشتغال به ..
هذا و لا یمكن لأحد ان یتصور بتاتا بان المتشابه من القرآن یحمل نوعا أو شیئا من الضعف أو الخلل أو عدم القدسیة أو شیئا من ذلك. بل الأمر هو علی عكس ذلك حیث ان كلا من المحكم و المتشابه من الآیات هو متقن و ذو نظم جمیل و بدیع لا یتسرب الیه الضعف و الخلل فی اللفظ أو المعنی، و ان الاثنین قد نزلا من عبد اللّه علی طریقة واحدة و كیفیّة مماثلة و لهما نفس القدسیة و الدرجة و الاحترام ..
______________________________
(4) الدین و الإسلام- الشیخ محمد حسین كاشف الغطاء.
(5) تأویل مشكل القرآن- ابن قتیبة الدینوری.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 229
و رغم ما بین الاثنین- المحكم و المتشابه- من هذا الالتقاء و الاتفاق إلا ان هناك ممیزات خاصة یحتفظ كل منهما لنفسه، و هذه الممیزات و الاختلافات هی التی اوحت و دعت إلی تقسیم آیات القرآن إلی آیات محكمة و أخری متشابهة ..
اما عن هذه الممیزات و الفروق فیمكن تلخیصها بالنقاط التالیة:
1- ان المحكم لا یعرف المراد منه إلا بالظهور أو التأویل، و المتشابه هو ما احتفظ اللّه سبحانه و استأثر بعلمه دون خلقه كالحروف المتقطعة فی أوائل السور و علم الساعة و استواء الرحمن علی العرش و حمل العرش و خروج عیسی و طبیعة الأرواح ..... الخ 2- ان المحكم ما ظهر و وضح معناه و مقصده بینما المتشابه هو ما غم و خفی معناه و هدفه. علما بان المتشابه من الآیات واضحة من ناحیة المفهوم و انما جاء الخفاء و الغموض من مصداق هذا المفهوم ..
3- ان المحكم لا یحتمل تأویله إلا وجها واحدا فالحكم فیه واضح الدلالة و قطعی و المتشابه ما احتمل عدة وجوه.
4- المحكم ما استقل بنفسه و لم یحتج إلی البیان و المتشابه ما لا یستقل بنفسه و احتاج إلی البیان برده إلی غیره.
بقی بعد هذا ان نعرف نقطتین اثنین یرتبطان بالمحكم و المتشابه غایة الارتباط و اوثقه هما:
1- ما هو مدی العمل و الالتزام بكل من المحكم و المتشابه.
2- ما هو مدی و قدرة الراسخین فی العلم فی بیان و كشف معنی و أغراض الآیات المتشابهة من القرآن.
فبقدر تعلق الأمر بالنقطة الأولی فالمتعارف بین جموع المسلمین هو «ان المحكم من القرآن یلزم علینا ان نؤمن و نعمل و ندین به، بینما
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 230
المتشابه منه علینا ان نؤمن به كالمحكم و لكن لا نعمل به» «6» ..
اما عن النقطة الثانیة فقد اختلف المسلمون حولها، فقد ذهب قسم من علمائهم إلی ان الفئات و الجماعات التی تتجلی بالخصال و المزایا التی تؤهلهم للوصول إلی درجة و مكانة الراسخین فی العلم و هی كثیرة منها التفقّه فی العلم و التقوی و الاستقامة و الخلق الحسن و الاستقصاء ..... الخ ففی مكنتهم و وسعهم- بتأیید اللّه تعالی- من ادراك كنه و حقیقة كل أو بعض معانی و اغراض المتشابه من الآیات الكریمة ..
اما البقیة فهی تنحو إلی قول فصل لا یتفق و ما یذهب الیه زملاؤهم و مفاده هو استحالة كل شخص أو فئة مهما أوتیت من علم و ادراك، معرفة حكم المتشابه و مقاصده بدعوی هو أن المتشابه من الآیات قد اختص اللّه تعالی فقط بمعرفة حقیقتها دون عباده و مهما كانت منزلة هؤلاء العلمیة.
و رغم هذا الاختلاف بین الطرفین حول مدی صلاحیة علماء المسلمین فی كشف حقیقة المتشابه من الآیات- رغم ان الشارع المقدس قد نهی من الخوض فی المتشابهات أو التعرض لها- فقد امكن جمع و توحید كافة اقوالهم بخصوص الموضوع و من ثم استخراج حلول مشتركة تحضی بتأیید الجمیع و دعمهم و هی:
1- ان هناك نوعا من المتشابه لا سبیل للوقوف علیه بتاتا و بأی حال من الأحوال كقیام الساعة و خروج الدابة أو معرفة أجل الموت و مكانه و سببه و ما فی الأرحام و ظهور المهدی «7»- ع- فضلا عن
______________________________
(6) تفسیر العیاشی- محمد بن مسعود العیاشی.
(7) لقد استفاضت الأحادیث و تواترت الأخبار و تعدد مخرجیها من مختلف أئمة الحدیث و الحفاظ و الاعلام علی اختلاف طبقاتهم و مذاهبهم فی مسألة ظهور المهدی ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 231
الأوصاف المتعلقة بالعرش و كیفیة استواء الرحمن حیث ان اللّه تعالی وحده دون سواه ینفرد و یحتفظ بعلم كل ذلك ..
2- كما و هناك نوع من المتشابه للفقیه المتعلم الفطن البصیر سبیل لمعرفته و تفسیره كالأحكام المغلقة و الألفاظ الغریبة و غیرها ..
______________________________
ففی صحیح الترمذی جاء عن النبی (ص): «لو لم یبق من الدنیا إلّا یوم واحد لطوّل اللّه ذلك الیوم حتی یلی رجل من أهل بیتی» ..
و فی كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر العسقلانی أنه: «قد تواترت الأخبار و استفاضت بكثرة رواتها عن المصطفی بخروج المهدی و أنه من أهل البیت» ..
و فی كتاب نور الابصار للشبلنجی جاء انه: «تواترت الأخبار عن النبی (ص) أن المهدی من أهل البیت و أنه یملأ الأرض عدلا» و «عن النبی (ص) أنه لو لم یبق من الدنیا إلّا یوم لبعث اللّه تعالی رجلا من أهل بیتی» ..
و جاء فی الفتوحات الإسلامیة لمؤلفه زینی دحلان: «و الأحادیث التی جاء ذكر ظهور المهدی كثیرة متواترة فیها ما هو صحیح و فیها ما هو حسن و فیها ما هو ضعیف و هو الأكثر، و لكن لكثرتها و كثرة رواتها و كثرة مخرجیها یقوی بعضها بعضا حتی صارت تفید القطع» ..
و یقول فی مكان آخر من الفتوحات: «تواترت الأخبار التی جاءت فیها ذكر المهدی و أنه من المقطوع به و أنه من ولد فاطمة و أنه یملأ الأرض عدلا» ..
هذا إضافة إلی اجماع كتب الإمامیة و إیمانهم بظهور المهدی و أنه الإمام الثانی عشر و من ولد علی و فاطمة و أنه- عند ظهوره- سیملأ الأرض قسطا و عدلا بعد أن ملئت ظلما و جورا ..
كما و أن كثیرا من المفسرین و الرواة یشیر فی تفسیر قوله تعالی فی الآیة (5) من سورة القصص: «وَ نُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِینَ» و قوله تعالی فی الآیة (105) من سورة الأنبیاء: «وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِی الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ یَرِثُها عِبادِیَ الصَّالِحُونَ» انهما وردت فی واقعة و حادثة ظهور المهدی المنتظر فی آخر الزمان ..
و عن حیاة المهدی المنتظر (مختصرة) فإنه ولد فی منتصف شهر شعبان من عام 256 ه و كان عمره عند وفاة أبیه الحسن العسكری 5 سنوات ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 232
3- و هناك أخیرا لون ثالث من المتشابه یقع بین الأمرین السابقین یخفی معناه علی بعض الراسخین بینما یدركه البعض الآخر ممن هم اسمی منهم و فهما و تقوی و صلاح ..
و نؤكد أخیرا ما سبق ان قلناه فیما مضی من ان اشتمال القرآن الكریم علی الآیات المتشابهة و عدم اقتصاره علی الآیات المحكمة
______________________________
و للإمام المهدی- وفقا للروایة الإمامیة- غیبتان هی الغیبة الصغری و الغیبة الكبری ..
فالأول تبدأ من حین وفاة والده الإمام الحسن العسكری- ع- فی عام 260 ه إلی وقت انقطاع السفارة الخاصة بوفاة السفیر الرابع علی بن محمد الصیمری عام 329 ه و هی بحدود 70 سنة.
أما الغیبة الثانیة (الكبری) فتبدأ بعد الأولی مباشرة حتی ظهوره و قیامه- ع- علی وجه الأرض لیملأها قسطا و عدلا بعد أن ملئت ظلما و جورا ..
أما وكلاؤه و سفراؤه فی عهد غیبته الصغری و الذین كانوا یتشرفون بلقائه كما و تخرج التواقیع الشریفة بواسطتهم فهم أربعة توارثها اللاحق بعد وفاة السابق و هم:
1- عثمان بن سعید العمری.
2- محمد بن عثمان بن سعید العمری.
3- الحسین بن روح النوبختی.
4- علی بن محمد الصیمری.
و بعد انتقال الأخیر إلی جوار ربه بدأت الغیبة الكبری و باتت النیابة عامة و هی تحت شروط و قیود أوضحها المهدی المنتظر نفسه- ع- منها قوله: «لا عذر لأحد من موالینا فی التشكیك فیما یرویه عنا ثقاتنا و قد علموا أنا نفاوضهم سرنا و نجمله إلیهم» ..
و قوله: «و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا فإنهم حجتی علیكم و أنا حجة اللّه علیهم» ..
و قوله- ع: «و أما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدینه مخالفا لهواه مطیعا لأمر مولاه فللعوام أن یقلدوه» ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 233
وحدها فهو من أجل ان یكون حافزا للمسلمین و علمائهم و مفكریهم لتكریس جهودهم لتعلم العلوم و المعارف المختلفة و الوقوف علی أسالیب اللغة و البیان و الاستزادة من الدراسات و البحوث المتنوعة، لأن كل ذلك ستعینهم علی فهم و تدبر الآیات المتشابهة و الوقوف علی مرادها و اغراضها الحقیقیة ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 235

تفسیر القرآن‌

اشارة

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 237
التفسیر تفصیل من الفسر و هو البیان و كشف المغطی و الایضاح و التبیین و كلمة تفسیر فی أصلها لیست خاصة بتفسیر القرآن و لكنها شاعت و اشتهرت فی تفسیر القرآن الكریم بمعنی الایضاح «1».
و یراد بتفسیر القرآن بیان مراد اللّه تعالی و قصده من كتابه العزیز بدون الاعتماد علی الظنون و الرأی و الهدی و القیاس و الاستحسان و لا علی شی‌ء لم یثبت حجیته عقلا أو شرعا للنهی الوارد فیها ..
أو بقول آخر یراد بالتفسیر «بیان معانی الآیات القرآنیة و الكشف عن مقاصدها و مدلولها» «2» ..
اما التأویل فاصله من الأول و هو الرجوع أی رجوع الآیة الكریمة لما تحتمله من المعانی و الأغراض ..
و قیل أیضا انه یراد منه العاقبة و ما یؤول الیه الأمر لأن تأویل القرآن هو ما یرجع الیه الكلام و ما هو عاقبته سواء أ كان ذلك ظاهرا أم خفیا لا یعرفه إلا الراسخون فی العلم ..
و قیل كذلك انه قد جاء من الإیالة و هی السیاسة لأن المؤول یسوس الكلام و یضعه فی موضعه ..
______________________________
(1) أحكام من القرآن و السنة- عبد العظیم معانی و الدكتور أحمد الغندور.
(2) محاضرات فی تفسیر القرآن- السید إسماعیل الصدر.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 238
اما الفرق بین التفسیر و التأویل فقد اختلف فیه العلماء حیث ذهب كل واحد منهم إلی رأی أو أكثر من الآراء التالیة و هی: «3».
1- قیل ان التفسیر و التأویل هما بمعنی واحد، فكل تفسیر هو تأویل و كل تأویل هو تفسیر ..
2- و قیل ان التفسیر اعم من التأویل و أكثر ما یستعمل التفسیر فی الألفاظ و التأویل فی المعانی.
3- و قیل ان التفسیر هو القطع علی مراد اللفظ و معناه، بینما التأویل هو ترجیح أحد الاحتمالات بدون القطع.
4- و قیل التفسیر هو بیان وضع اللفظ إما حقیقة أو مجازا و التأویل هو تفسیر باطن اللفظ ..
5- و قیل التفسیر هو ما یتعلق بالروایة و التأویل ما یتعلق بالدرایة.
6- و قیل التفسیر هو بیان المعانی التی یستفاد من وضع العبارة، و التأویل هو بیان المعانی التی تستفاد بطریق الإشارة ..
7- و قیل أیضا ان التفسیر هو الكلام فی أسباب نزول الآیة و شأنها و وقتها و التأویل هو صرف الآیة إلی معنی محتمل یتلاءم مع ما سبقها و تأخر عنها ..
و رغم ما بین التفسیر و التأویل من فروق أو التقاءات، فقد اجمع علماء التفسیر فی كل عصر و مصر علی ان الأصل فی تفسیر القرآن ان یقوم علی ظاهر معنی الفاظه دون تأویل اذا لم یمنع منه مانع من العقل أو الشرع، و لكن اذا منع من ظاهر المعنی مانع فیكون بیان معناه وفقا لأحد الاتجاهین التالیین:
______________________________
(3) التفسیر و المفسرون- محمد حسین الذهبی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 239
1- مذهب السلف الصالح الذی ینحو للأخذ بظاهر المعنی و التصدیق به مع تفویض معرفة حقیقته إلیه تعالی.
2- مذهب الخلف من العلماء الذین جاءوا من بعدهم- بعد السلف- حیث نادوا بلزوم التأویل عند الضرورة منعا من الوقوع فی التشبیه و قطعا لدابر كل شبهة قد تعلق بالقلوب «4» ..
و بصدد التفسیر فقد وردت عن الرسول (ص) أحادیث عدیدة بالنهی عن التفسیر من غیر علم به و منها قوله (ص): «من قال فی القرآن بغیر علم فلیتبوأ مقعده من النار» و قوله (ص): «من فسّر القرآن برأیه فاصاب الحق فقد اخطأ» ..
كما ورد عن الامام علی- ع- بهذا الخصوص قوله: «انما یعرف القرآن من خوطب به و لیس شی‌ء ابعد عن عقول الرجال من تفسیر القرآن، ان الآیة تنزل أولها فی شی‌ء و اوسطها فی شی‌ء و آخرها فی شی‌ء».
كما و له- ع- كلام آخر فی هذا المعنی هو قوله: «ایاك ان تفسّر القرآن برأیك حتی تفقهه عن العلماء، فان رب تنزیل یشبه بكلام البشر كله و هو كلام اللّه و تأویله لا یشبه بكلام البشر كما لیس شی‌ء من خلقه یشبهه، و كذلك لا یشبه فعله تعالی شیئا من افعال البشر و لا یشبه شی‌ء من كلامه بكلام البشر و كلام اللّه تبارك و تعالی صفته و كلام البشر افعالهم، فلا یشبه كلام اللّه بكلام البشر فتهلك و تضل» ..
و له أیضا- ع- «من فسر القرآن برأیه إن اصاب لم یؤجر و ان اخطأ ضل».
و یروی عن الخلیفة أبی بكر الصدیق (رض) قوله حول
______________________________
(4) التفسیر العلمی للأدیان الكونیة فی القرآن- حنفی أحمد.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 240
الموضوع: «أی ارض تقلّنی و أی سماء تظلنی اذا قلت فی حرف من كتاب اللّه عز و جل بغیر علم ما اراده ربی» كما و یؤثر عن عمر بن الخطاب (رض) قوله فی هذا الشأن:
«أقلّوا الروایة عن رسول اللّه (ص) و أنا شریككم» ..
و یروی عن سعید بن المسیب انه كان اذا سئل عن شی‌ء من القرآن قال «انا لا اقول فی القرآن شیئا» و یؤثر عن سعید بن جبیر «5» التابعی المعروف انه قال لرجل طلب الیه تفسیر بعض آیات القرآن: «لأن تقع جوانبی خیر لك من ذلك» ..
و قال الشعبی: «ثلاث لا أقول فیهن حتی اموت، القرآن و الروح و الرأی» ..
و قال ابن سیرین: «سألت عبیدة عن شی‌ء من القرآن فقال: اتق اللّه و علیك بالسداد فقد ذهب الذین یعلمون فیم انزل القرآن» ..
و ینقل عن هشام بن عروة بن الزبیر قوله: «ما سمعت أبی تأوّل آیة من كتاب اللّه» ..
كما و یروی عن إبراهیم النخعی قوله: «لقد كان اصحابنا یكرهون تفسیر القرآن و یهابونه» ..
و من عبر كل هذه الأقوال و الحكم نفهم بانه ینبغی علی كل من یتصدی لتفسیر القرآن ان یحیط به من كافة اطرافه فیعرف ناسخه من منسوخه و مطلقه من مقیده و عامه من خاصه و مجمله «6» من مبیّنه فضلا عن
______________________________
(5) سترد سیرة حیاة هذا التابعی فی نهایة هذا الفصل.
(6) المجمل هو لفظ تتضح دلالته علی معناه لاسباب عدیدة منها وضع اللفظ لمعانی متعددة و منها كون اللفظ له حقیقة مع قیام الدلیل علی عدم إرادتها و له مجازات متعددة متساویة بالنسبة للمعنی الحقیقی و منها كون اللفظ مشتركا معنویا له أفراد متعددة، و المراد فرد منها معین لم یقم الدلیل علی تعینه ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 241
الإحاطة و العلم بالروایات و الأحادیث و الأقوال المتعلقة به و كذلك أسباب النزول لارتباطها مع المعانی القرآنیة و لأن فهم القرآن معتمد علی معرفتها حیث ان «الالمام بالتاریخ المفصل لفترة نزوله و الجو الذی اكتنف هذا النزول ضروری لأن تاریخ النزول و سببه جزء ان لا یمكن تجاهلها فی تكوین المعنی و ایضاح القصد، بل لا یمكن تجاهلها فی تربیة الناس بالقرآن و اخذهم بآدابه» «7».
و قد امكن بعد هذا حصر الخصال و المزایا التی ینبغی ان یتحلی بها المرء لیكون قادرا علی خوض بحر التفسیر فكانت عند البعض عشرة و عند غیرهم أقل من ذلك و عند الآخرین اكثر من ذلك، و ها نحن أولا نورد بعضها و أهمها فی الأسطر التالیة و بتصرف: «8» 1- العلم بظاهر التنزیل و اختلاف القراءات ..
2- المعرفة بلغة العرب و نظامها و طریقة النحو و الأعراب و شرح المفردات و مدلولاتها ..
3- معرفة احكام الشریعة من العبادات و المعاملات و السنن و اصول الدین المتعلقة بذات اللّه و صفاته و افعاله.
4- معرفة القصص و الأخبار و أسباب نزول الآیات و الناسخ و المنسوخ ..
5- حفظ أقوال المفسرین من المتقدمین و المتأخرین ..
6- جودة القریحة و ذكاء الفهم و قوة الفكر.
7- تفویض الأمر إلی اللّه تعالی و عدم الإعجاب بالنفس و الغرور بها و التجرد عن الهوی ..
______________________________
(7) نظرات فی القرآن- محمد الغزالی.
(8) مقدمتان فی علوم القرآن- آرثر جفری، التفسیر و المفسرون- محمد حسین الذهبی، علوم القرآن- محمد باقر الحكیم.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 242
8- عدم التقیّد المسبق باتجاه أو مذهب معین مخالف للقرآن عند التفسیر ..
9- الزهد فی الدنیا و الرغبة فی الآخرة و مرضاة اللّه ..
10- الاستئناس بالأخبار التی تروی عن أهل البیت- ع- لأن القرآن قد نزل فی بیوتهم و هبط بساحتهم فهم اعرف به من غیرهم و الصق به من سواهم ..
11- اجادة التصریف و الاشتقاق و هی معرفة ابنیة الكلمات و كیفیة تصریفها و المصدر الذی صدرت عنه الكلمات ..
12- و أخیرا- و لیس آخرا- ینبغی علی من یتصدی للتفسیر ان یفسّره بعقلیة و نظرة إسلامیة و داخل المحیط و الفكرة الإسلامیة بعیدا عن التعصب أو الانحیاز المذهبی أو العرقی أو القطری ..
هذا و ان كل من یفتقد أو یفتقر إلی شی‌ء مما تقدم بیانه كان السكوت له أولی لأنه لیس مؤهلا لدخول میدان التفسیر، و ان دخله- فرضا- فهو ان لم یصبح حینئذ ضال و هالك فهو غیر مثاب أو مأجور علی شی‌ء حتی و ان أصاب الحقیقة و بلغ الهدف ..
و قبل ان ندخل فی صلب موضوع التفسیر نشیر إلی ان القرآن الكریم رغم انه نزل بلغة العرب و علی اسالیب بلاغتهم فلم یكن جمیعه فی متناول الصحابة كلهم من ناحیة فهمه و تلمس حقائقه جملة و تفصیلا ..
فلیس كل كتاب مؤلف بلغة قوم یستطیع ابناؤه ان ینهموه و یقرؤه- إلا بقدر ما یدخل فی حیاتهم الاعتیادیة الیومیة- فكم كتب ألّفت بالانكلیزیة و الالمانیة و التركیة و الفارسیة و الاوردیة لا یتمكن الانكلیز و الالمان و الاتراك و الایرانیون و الهنود انفسهم ان یفهموه جملة و تفصیلا، لأن كل كتاب لا یتطلب معرفة اللغة فقط بل یتطلب استعدادا فكریا معینا
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 243
و درجة عقلیة خاصة تتناسب و درجة رقی الكتاب و منزلته «9» ..
و تأسیا علی ما سبق فالعرب عامة و الصحابة خاصة كانت «لا تستوی فی المعرفة بجمع القرآن من الغریب و المتشابه بل ان بعضهم كان یفضل فی ذلك علی بعض» «10» حیث یغیب عن واحد منهم ما لا یغیب عن الآخر ..
ففی صدر الاسلام كان الامام علی- ع- و عبد اللّه بن عباس ممن فهم القرآن و ادركه، و كان هناك آخرون فی عصرهم دونهم فی هذا الفهم و العلم بقلیل أو كثیر «و هؤلاء اتعبهم القرآن الكریم فی معرفة و ادراك واقعه و اصبح لكل واحد منهم نصیب فی فهم الآیة الواحدة علی اختلاف مذاهبهم و قدرتهم و نهجهم» «11» علما بان وجوه التفسیر و مدی معرفة هؤلاء أو غیرهم له قد قسمت إلی أربعة أقسام كما یرویها حبر الأمة عبد اللّه بن عباس و هذه الأقسام هی: «12» 1- تفسیر لا یعذر أحد بحالته: و هو ما كان ظاهره مطابقا لمعناه و هو ما یلزم الجمیع من الشرائع و الفرائض و التعلیمات التی تزخر بها آیات كثیرة من القرآن ..
2- تفسیر تعرفه العرب بكلامها: و هو حقائق اللغة و الأدب و موضوع كلامهم ..
3- تفسیر یعلمه العلماء: و هو تأویل المتشابه و فروع الأحكام.
4- تفسیر لا یعلمه إلا اللّه تعالی فلا یجوز لأحد تكلف القول فیه
______________________________
(9) فجر الإسلام- أحمد أمین.
(10) المسائل و الأجوبة- ابن قتیبة الدینوری.
(11) القرآن و العقلیة العربیة- نعمة هادی الساعدی.
(12) مجمع البیان فی تفسیر القرآن- أبی علی الطبرسی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 244
و لا تعاطی معرفته و هو ما یجری كجری الغیب كالآیات الخاصة بقیام الساعة و غیرها ..
اما بصدد تفسیر القرآن و تطوره منذ صدر الاسلام حتی الآن فنقول أولا ان الغایة و السبب المرجو من التفسیر هو مراد اللّه تعالی الحقیقی من كلامه، و هذا المراد قد یخفی علی كثیر من الناس للأسباب التالیة مما یدعو إلی تفسیرها لیتضح معناها الحقیقی و هذه الأسباب هی: «13» 1- ان من الألفاظ ما یكون محتملا لعدة معان مع ان المطلوب واحد منها و كثیرا ما یترك بیان ذلك اعتمادا علی القرائن و التی یخفی معناها علی بعض الناس ..
2- ان القرآن من أعلی درجات البلاغة فیجمع المعانی الكثیرة فی الألفاظ القلیلة و هذا یحوج الناس لبسط ما أوجز و كشف ما أجمل ..
3- ان القرآن قد یشتمل علی مقاصد غیر المعانی الظاهرة فیحتاج ذلك إلی من یبینها ..
4- ان الآیات قد نزلت لأسباب لا یمكن ان یعرف معناها الصحیح إلا إذا عرف هذا السبب ..
5- ان فی القرآن من الأحكام ما لا یفهم علی الوجه الصحیح إلا بمعرفة السنة، إذ قد یكون مجملا فتفصله أو عاما فتخصصه أو مطلقا فتقیده ..
ثم ان التفسیر ثانیا كان قد نشأ مبكرا فی عهد الرسول (ص) فقد كان الرسول نفسه أول رائد و شارح و موضّح للقرآن، لأن القرآن نزل علیه و هو أعرف بصغیره و كبیره و محكمه و متشابهه و خاصه و عامه- ........ الخ من أی شخص آخر ..
______________________________
(13) التعریف بالقرآن و السنة- محمد الزفزاف.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 245
و كان الرسول (ص) بدوره یكشف هذه الأمور لجموع المسلمین و یجیبهم عن كل شی‌ء یسألونه سواء تعلق الأمر و السؤال باحكام الآیات المنزلة أم باغراضها و مقاصدها فضلا عن تبیانه للمجمل من القرآن و تمییزه الناسخ من المنسوخ، لأنه (ص) كان قد اعد اعدادا إلهیا لتحمل هذه المهمة، و ان اللّه تعالی بعد ذلك كان دائما و أبدا معه (ص) فی شرحه هذا للقرآن و فی تبیانه لأهداف الآیات النازلة و اسرارها عملا بقوله تعالی وَ أَنْزَلْنا إِلَیْكَ الذِّكْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ «14».
لذا فالسنة النبویة ترجع بمدلولاتها التفصیلیة و اصلها إلی القرآن لأن القرآن هو الذی الزم العمل بالسنة و جعل العمل بها عملا بالقرآن و لهذا قیل «الكتاب احوج إلی السنة من السنة إلی الكتاب».
و ما كان أحد من الصحابة فی عهد الرسول (ص) من یجرأ علی تفسیر شی‌ء من القرآن طالما ان الرسول كان بین ظهرانیهم بل كانوا هم بدورهم یفزعون إلیه (ص) عند كل مشكل یحیق بهم أو أمر یغم علیهم أو غموض فی بعض الألفاظ أو تراكیب منه، فیشرح لهم الرسول كلما طلب منه و یجیب علی كل استفسار یوجه إلیه بسبب «انما یعرف القرآن من خوطب به» كما قال الامام علی فی احدی خطبه العصماء ..
و لكن بعد انتقال الرسول الأعظم إلی رحاب الخلد و انقطاع الوحی عن الأرض لم یكن بد بعد ذلك امام ائمة أهل البیت و اقطابهم كالامام علی و حبر الأمة و معجزة التفسیر بحر العلم و ترجمان القرآن عبد اللّه بن عباس و سواهم من الصحابة الكرام ممن وقف علی اسرار القرآن و سمع شرحه و تفصیله من فم الرسول (ص) لم یك بد امام كل هؤلاء جمیعا من ان یرووا للناس و یفسروا لهم كل ما كان یغم علیهم من معانی الآیات
______________________________
(14) النحل: 44.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 246
الكریمة وفقا لما سمعوه من أقوال الرسول (ص) «15» أو شاهدوه من الظروف و الأسباب التی نزل بها القرآن، أو بتفسیر القرآن بالقرآن نفسه لأن القرآن ینطق بعضه ببعض كما قال الامام علی- ع- كأن یشرح ما جاء موجزا فی القرآن بما جاء فی موضع آخر مفصلا، و ان یحمل المجمل علی المبین لیفسر به و یحمل المطلق علی المقید و العام علی الخاص أو وفقا لاجتهاداتهم و استنباطاتهم ان لم یكن هناك شی‌ء مما سلف بیانه ..
و الاجتهادات و الاستنباطات الآنفة لا یمكن ان تصدر أو تخرج إلا ممن كان ذا معرفة بأوضاع اللغة و اسالیبها و ان تكون لدیه أیضا قوة الفهم و سعة الادراك فضلا عن الاحاطة بعادات العرب: افعالهم و اقوالهم و مجاری احوالهم و احوال أهل الكتاب فی الجزیرة العربیة حین نزول القرآن و غیر ذلك بسبب ان القرآن الكریم یرتبط و یغلق نزوله و معانیه بكل هذه الأحوال و الأمور ..
و ممن تصدی للتفسیر فی صدر الاسلام ممن هضم كل أو بعض الحالات المتقدمة كثیرون و یأتی علی رأسهم الامام علی- ع- و منهم عبد اللّه بن عباس و عبد اللّه بن مسعود و أبی بن كعب و زید بن ثابت
______________________________
(15) اختلف العلماء فی المقدار الذی شرحه الرسول (ص) من القرآن لأصحابه، فبعضهم ذهب إلی القول بان الرسول شرح لأصحابه كل معانی القرآن و أغراضه و الفاظه، و منهم من ذهب إلی أن الرسول (ص) لم یشرح لأصحابه من القرآن إلّا القلیل و هو الذی طلب منه شرحه أو تطلب الحال تبیان معناه. لمحات من تاریخ القرآن 246 تفسیر القرآن
و أری أن الرأی الوسط بین الاثنین هو المفضل و المقبول، و هو أن الرسول (ص) قد شرح كثیرا من معانی القرآن لأصحابه و لكنه لم یبین لهم كافة معانیه و حقائقه بالنظر للفترة القصیرة نسبیا التی عاشها (ص) و ما حفلت من أحداث و أزمات تخص نشر الدعوة و تعضید الدولة و مسائل الحرب و السلم فی تفصیل لا مجال لسرده فی هذا الموجز.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 247
و انس بن مالك «16» و جابر بن عبد اللّه الانصاری «17» و معاذ بن جبل «18» و أبو موسی الأشعری و عبد اللّه بن الزبیر ... الخ و یختلف هؤلاء فی كثرة تفسیرهم و قلته و فی قدرتهم علیه اختلافا كثیرا و ذلك تبعا لفترة مصاحبتهم للرسول و سماعهم التفسیر منه (ص) و لمقدار ما شاهدوه و ادركوه من أسباب التنزیل و لمدی ما فتح اللّه علیهم من طریق الاجتهاد و الفهم، و یبقی الامام علی- ع- ثم ابن عباس ثم ابن مسعود فی الطلیعة ..
و لم یكن ایراد الامام علی أو وجوده فی المقدمة عفوا بل هو اتفاق آراء كافة المؤرخین و الرواة و التی اجمعت علی ان الامام- ع- كان صدر المفسرین و المؤید فیهم و أكثر ما روی عنه من الخلفاء الراشدین و أصحاب رسول اللّه (ص)، و ان الروایة عن غیره فنزرة و قلیلة بالقیاس الیه ..
و لو اردنا هنا ان نكشف علة ذلك فسنری ان ذلك یعود إلی ان الامام كان الصق الناس برسول اللّه (ص) بل حسنة من حسناته، و ان
______________________________
(16) أنس بن مالك هو صحابی فاضل صاحب الرسول و خادمه و قد روی عنه مئات الأحادیث، أسلم صغیرا و خدم النبی (ص) إلی أن لبّی نداء ربه، ثم رحل إلی الشام و منها إلی البصرة و فی المدینة الأخیرة قبض و دفن فیها و كان ذلك فی عام 93 هجریة ..
(17) جابر بن عبد اللّه الأنصاری صحابی جلیل و هو من أواخر من بقی من أصحاب رسول اللّه (ص) و قد كف بصره و أدرك الإمام الخامس محمد بن علی الباقر و أبلغه سلام جده الرسول (ص) له.
شهد العقبة الثانیة مع السبعین من الأنصار الذین بایعوا الرسول علی نصرته و نشر دینه كما و شهد الغزوات كلها مع النبی عدا بدر و أحد، قدم مصر و الشام فكان الناس یأخذون عنه العلم، و فی مسجد رسول اللّه كانت له حلقة یجتمع علیه الناس فیها و ینتفعون بعلمه و تقواه توفی بالمدینة عام 74 هجریة.
(18) معاذ بن جبل صحابی فاضل و هو ممن جمع القرآن فی عهد رسول اللّه و قد اسلّم و هو فتی و آخی النبی (ص) بینه و بین ابن عمه جعفر بن أبی طالب فی المدینة، و شهد كثیرا من الوقائع و المشاهد مع النبی، و قد بعثه الرسول لأهل الیمن قاضیا، توفی فی الأردن عام 18 هجریة.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 248
الرسول لم یكن لیخفی علیه شی‌ء مما كان ینزل علیه لأنه منه بمنزلة هارون من موسی، و انه أیضا كان موضع سره و حامل اختامه و وارث علمه و اقرب الخلق الیه و أولهم اسلاما و اقدمهم بدین اللّه، اضافة إلی «تفرغه من مهام الخلافة مدة طویلة حتی نهایة خلافة عثمان و تأخر وفاته- ع- إلی زمن كثرت فیه حاجة الناس إلی من یفسر لهم ما خفی عنهم من معانی القرآن» «19».
و قد تجلی مصداق كل ذلك فی اقوال و خطب الامام نفسه فنراه یقول حول القرآن: «انی لأعرف ناسخه من منسوخه و محكمه من متشابهه و فصله من فصاله و حروفه من معانیه و اللّه ما من حرف نزل علی محمد (ص) إلا انی اعرف فیم نزل و فی أی یوم و فی أی موضوع و لو اعلم مكان أحد أعلم بكتاب اللّه منی تناله المطایا لأتیته» ..
كما و للامام- ع- كلمة أخری «20» فی نفس المعنی جاء فی بعضها «علینا نزل القرآن قبل الناس و لنا فسر قبل ان یفسر فی الناس، فنحن نعلم حلاله من حرامه و ناسخه من منسوخه و سفریّه و حضریّه و فی أی لیلة نزلت و فیمن نزلت» ..
هذا و قد تلقی أقوال و شروح أهل البیت- ع- و الصحابة نفر كثیر من تلامذتهم و هم كرام التابعین «21» من الامصار الاسلامیة و من ابرزهم
______________________________
(19) التفسیر و المفسرون- محمد حسین الذهبی.
(20) لم نسمع عبر التاریخ أو نقرأ فی مكان آخر أن هناك من قال عن القرآن و أحكامه و علومه ما قاله الإمام بل إن الإمام زاد علی ذلك بقوله عند اقتراب أجله «سلونی قبل أن تفقدونی» و هذا شی‌ء لم نجده فی كل عهد سبق الإسلام أو تلاه، و طبیعی أن هذا یدل بوضوح علی أن شخصیة الإمام تختلف عن غیرها، حیث صاغها اللّه تعالی علی شكل لیجعل منها الوریث الشرعی لعلوم الرسالة و آدابها .. الخ ..
لذا جاءت الحكمة أو الكلمة التی تفید «استغناءه عن الكل و احتیاج الكل إلیه دلیل علی أنه الكل فی الكل».
(21) لقد اختلف العلماء فی تعریف التابعی، فقال بعضهم أنه من لقی الصحابی
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 249
سعید بن جبیر «22» و مجاهد و عكرمة و الحسن البصری و طاوس الیمانی و یحیی بن یعمر و الضحاك و عطاء بن أبی رباح و عطاء بن أبی مسلم و أبی العالیة و محمد بن كعب القرطبی و قتادة و عطیة و زید بن اسلم .....
الخ.
و فی عصر هؤلاء التابعین نما التفسیر نموا مضطردا و واسعا، و لكنهم (التابعین) كانوا یقتصرون فی تفسیر الآیة علی «توضیح المعنی اللغوی الذی فهموه من الآیة بأخصر لفظ» «23» مثل قولهم «غیر متجانف لإثم» أی غیر متعرض لمعصیة و قولهم «الودق» أی المطر و «لا خلاق» أی لا نصیب و «قاسمهم» أی اقسم لهم و «الموقوذة» أی المضروبة حتی الموت و «حین البأس» أی القتال و «الانفال» أی غنائم الحرب و «العاملین علیها» أی جباتها و «لا وزر» أی لا ملجأ و «قسورة» أی الاسد و «الكلالة» أی المتوفی الذی لیس له من یرثه من أب أو ابن و «العهن» أی الصوف و «للوطیس» أی التنور و «الوهن» أی الضعف ..
و من توسع من التابعین و زاد فی التفسیر فإنه «لا یتجاوز فی ذلك
______________________________
و ان لم یصحبه فمجرد الرؤیة علی هذا الرأی- تجعل الشخص تابعیا ..
أما بعض العلماء فلا یكتفی فی تعریف التابعی بمجرد الرؤیة للصحابی بل لا بد أن یكون قد صحبه و تلقی منه شیئا ..
(22) سعید بن جبیر تابعی جلیل حیث یروی عن سفیان الثوری قوله «خذوا التفسیر عن أربعة: سعید بن جبیر و مجاهد و عكرمة و الضحاك» و لسعید كتاب فی التفسیر هو أول كتاب ظهر فی هذا الموضوع ..
و قد قتله الحجاج بن یوسف فی واسط عام 64 ه و قبره یقع الآن فی قضاء الحی و هو بناء كبیر و یرتاده الزوار. و قد كبّه الحجاج حین أراد قتله حیث قال له من أنت قال: أنا سعید بن جبیر، فقال الحجاج له أنت شقی بن كسیر، و هكذا هی أرواح عباد اللّه یقتلها أعداء اللّه من دون وزر أو جریرة إلّا مناهضة الظلم ..
(23) فجر الإسلام- أحمد أمین.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 250
عن نطاق الحدیث أو بما نقل عن الصحابة الذین شاهدوا الوحی و وعوا عن الرسول (ص) شیئا من تفسیره فهم بذلك یقفون فی استنباطاتهم التشریعیة و تفسیرهم عند المأثور و لا یتجاوزونه إلا لما یتصل به» «24».
فنشأت لذلك و فی كل بلد اسلامی طبقة من المفسّرین مثل مدن مكة و المدینة و الكوفة و البصرة و الشام و الیمن یشرحون للناس معنی الآیات الكریمة و أسباب نزولها و اغراضها ..
علما بأن أول كتاب ظهر فی التفسیر كان فی هذا الوقت و هو للتابعی سعید بن جبیر المار ذكره .. هذا و یمكن هنا المقارنة بین التفسیر فی عهد الصحابة و عهد التابعین فی الجدول التالی: «25» التفسیر فی عهد الصحابة/ التفسیر فی عهد التابعین 1- لم یفسر القرآن جمیعه و إنما فسر ما/ 1- ظهرت تفاسیر شاملة لغالبیة غمض منه./ آیات القرآن.
2- قلة الاختلاف فی فهم معانی/ 2- زاد الخلاف نسبیا فی فهم معانی القرآن./ القرآن عن العهد السابق.
3- الاكتفاء بالمعانی الإجمالیة للآیات./ 3- ظهر تفسیر لكل آیة و لكل لفظ.
4- زاد الخلاف المذهبی.
4- قلة الخلاف المذهبی حول الآیات.
5- لم یدوّن التفسیر.
5- دوّن التفسیر.
6- استقل التفسیر فی كتب مستقلة 6- اتخذ التفسیر شكل الحدیث./ و ان ظل شكل روایة الحدیث.
7- قلة الرجوع إلی أهل الكتاب ../ 7- كثر الرجوع إلی أهل الكتاب الكتاب ../ و دخول الإسرائیلیات فیه.
______________________________
(24) نشأت التفسیر فی الكتب المقدسة و القرآن- الدكتور السید أحمد خلیل ..
(25) تاریخ القرآن و التفسیر- الدكتور عبد اللّه محمود شحاتة.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 251
هذا و عن هؤلاء التابعین المنتشرین فی طول الامصار الاسلامیة و عرضها أخذ تابعی التابعین كربیع بن انس و عبد الرحمن بن زید و أبو صالح الكلبی و سفیان بن عیینة و وكیع بن الجراح و شعبة بن الحجاج و عید بن حمید و أبان بن تغلب و سفیان الثوری .... و غیرهم فجمعوا هؤلاء أقوال من تقدمهم و اضافوا الیها، فضلا عن بدأهم فی تصنیف التفاسیر و توحیدها ...
و هكذا كانت كل طبقة تروی عمن سبقها و تضیف إلی ذلك ما تجتهد فیه و تسنبطه و ما یعرض لها «متأثرة فی ذلك بالحركة العلمیة فی عصرهم و ما استجد من آراء و نظریات علمیة و مذاهب دینیة حتی لنستطیع اذا ما لاحظنا تفسیرا ألّف فی عصر من العصور ان تتبین فیه مقدار الحركة العلمیة و أی المذاهب كان سائدا و شائعا» «26» فیه ..
هذا و كان یتصل افراد كل طبقة بكثیر من الیهود و المجوس و النصاری أو ممن اسلم منهم، و كانت لدی هؤلاء معلومات وافیة عن شروح التوراة و الانجیل، فلم یر هؤلاء الافراد بأسا من ان یوردوها عند شرح الآیات المتعلقة بها، و كانت هذه سببا فی وسعة التفاسیر و ضخامتها «27» ..
و علی هذا السبیل تكوّنت لدی العلماء و أرباب الفكر تفاسیر عدیدة و مختلفة و التی جمعت و وحّدت فی مؤلفات و مجلدات خاصة سنشیر إلی اهمها فی الفصل القادم ..
اما بصدد مفردات الفاظ القرآن و بیان معناها فی العربیة و تقریبها إلی آذان الكافة فقد فسّر قسم كبیر منها علی النحو المتقدم ذكره، عدا بقیة منها لم یتناوله الاقدمون بالشرح و البیان و ذلك بسبب ان القرآن
______________________________
(26) فجر الإسلام- أحمد أمین.
(27) ضحی الإسلام- أحمد أمین.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 252
الكریم كان «قد نزل علی أفصح لغات العرب و اكثرها تداولا و علی اسالیب بلاغتهم فلم تكن تخفی كثیر من معانی مفرداته و الفاظه علی العرب إلا نادرا «28» و ان خفیت علی قسم منهم قل أو كثر ..
لذا لم یحاول الاصحاب أو التابعون تفسیرها لأنها واضحة و جلیة لهم و لغیرهم من جهة و لعدم مراجعة أحد من المسلمین لهم لیسأل أو یستفسر عن معناها من الجهة الأخری ..
و لكن لما دخلت فی حظیرة الاسلام امم عدیدة غیر عربیة و اختلط هؤلاء مع العرب و تزاوجوا معهم، تطوّرت لذلك اللغة العربیة بسبب هذا الاختلاط الجدید أولا و لمرور الزمان علی صدر الاسلام ثانیا مما أدی إلی أن تصبح هذه الألفاظ و التی كانت متداولة و مفهومة و مأنوسة فی عصر النزول تصبح غامضة و غریبة لا فقط عند غیر العرب من المسلمین بل عند قسم كبیر من العرب أنفسهم ..
و هكذا أخذ مرور الزمن یفعل فعله فی الألفاظ و الكلمات حتی ان الصفوة من العرب باتت تلاقی منها ما یلاقیه السواد منهم ..
و كل هذه الأسباب و الأحوال الزمت و دعت جماعة من رجالات الأدب و اللغة إلی التفرغ لدراسة اللغة و الأدب القدیم و الحدیث بما یضم من شعر و نثر جاهلی و اسلامی، لأن غریب اللغة یلتمس فی الشعر و لا سیما الجاهلی منه حیث ان الشعر هو دیوان العرب «29» و كل ذلك هو من
______________________________
(28) مقدمة ابن خلدون- ابن خلدون، آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن- الشیخ محمد جواد البلاغی.
(29) ینقل هنا عن ابن عباس قوله: الشعر دیوان العرب. فإذا خفی علینا الحرف من القرآن الذی أنزله بلغة العرب رجعنا إلی دیوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه، و كان یستشهد بأبیات شعریة فی فهم معانی الآیات حیث استشهد فی أكثر من مائتی مورد من الآیات .. و قد سئل مرة عن قول اللّه تعالی «عَنِ الْیَمِینِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِینَ». قال: عزین الخلق الرقاق و قد قال عبید بن الأبرص:
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 253
أجل استخراج معانی الكلمات و كشف مفرداتها و مشتقاتها لیتاح لهم بذلك بیان و شرح الألفاظ و الجمل الغامضة فی القرآن، فضلا عن ضبط علوم القرآن و وضع الأسس و السبل لصیانته و ضبطه من التحریف و التغییر، و كل هذا تم بمنتهی العنایة و التتبع كی لا یغم الحال أو یقع فی الخطأ ..
و من أجل هذا فقد ضربوا أكباد الابل البادیة للاستفسار عن لفظ أو تعبیر أو جملة ..
ان الدراسات الأدبیة و اللغویة هذه قد التقت مع اخواتها من الدراسات الفقهیة و ما روی عن رسول اللّه (ص) و أهل بیته و أصحابه- علی الشكل الذی اشرنا الیه من قبل- التقت كل هذه لتكوّن التفاسیر التی نجدها الآن فی أیدی المسلمین ..
اما بقدر تعلق الأمر بترجمة القرآن الكریم فنشیر إلی ان الترجمة تقسم إلی قسمین:
1- الحرفیة 2- التفسیریة فالترجمة الحرفیة معناها «نقل الكلمات واحدة واحدة بدون النظر إلی المعنی» «30» أی تستبدل كل لفظة بما یقابلها و یشابهها فی اللغة الأخری.
______________________________
فجاءوا یهرعون إلیه حتی یكونوا حول منبره عزینا كما و یؤثر عن عمر بن الخطاب أو عن غیره قوله: علیكم باشعار الجاهلیة فإن فیها تفسیر كتابكم ..
و قال الجاحظ بهذا الصدد: «ان من یجهل أمور الجاهلیة لا یستطیع أن یفهم الكتاب و السنة».
و ینقل عن الطبری بهذا الشأن قوله: «إذا تعاجم شی‌ء من القرآن فانظروا فی الشعر فإن الشعر عربی».
(30) ترجمة القرآن- عبد الوكیل الدروبی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 254
و قد اتفقت أقوال كافة علماء المسلمین و رجالاتهم علی خطر و عدم شرعیة ترجمة القرآن حرفیا و الذی هو روح و نور لا یترجمان، و كذلك عدم كتابته بغیر العربیة خوفا من التغییر و التبدیل و لأنه یفقد بالترجمة الحرفیة تصویره الغنی و جماله و اعجازه البلاغی و وقعه فی النفوس و ان ادت معانیه كاملة «31».
اضافة إلی انه لا توجد فی اللغات مفردات تقابل بعضها بعضا و ان وجد فانه تختلف طریقة ترتیب الكلام من لغة إلی أخری، و ان الألفاظ فی الترجمة لا تكون متساویة المعنی من كل وجه فضلا عن التراكیب ..
اما الترجمة التفسیریة للمعانی و الاحكام- و التی تنقل معانی الكلام المترجم إلی اللغة الثانیة و غیر متقیدة بالالفاظ- التی یدل علیها القرآن فلیس هناك ادنی ضرر أو حرمة منها لأنها ترجمة لتفسیر القرآن- علی ان یكون المترجم ضلیعا بالعربیة و اللغة التی یترجم الیها أیضا ..
و ما اكثر ما نجد من هذا النوع الیوم فی المصاحف التی تطبع فی الأقطار الاسلامیة غیر العربیة، حیث نجد الترجمة التفسیریة باللغات
______________________________
(31) و كمثل بسیط علی فقدان القرآن لاعجازه و جماله عند ترجمته إلی لغة أخری نورد أدناه أدق و أشهر ترجمة للقرآن الكریم باللغة الفرنسیة فقد ترجمت هذه الآیة من سورة البقرة و هی «احل لكم لیلة الصیام الرفث إلی نسائكم هن لباس لكم و أنتم لباس لهن» فكانت الترجمة هكذا «... هن بنطلونات لكم و أنتم بنطلونات لهن» فتأمل الفارق الكبیر بین الآیة الكریمة و ترجمتها ..
كما و نشیر إلی أن غالبیة فقهاء و علماء المسلمین تمنع القراءة فی الصلاة بغیر اللغة العربیة سواء كان المصلی قادرا علی العربیة أم عاجزا لأن ترجمة القرآن لیست قرآنا ..
بینما یجیز البعض القلیل من هؤلاء الصلاة باللغة الفارسیة أو غیرها لأنهم یرون أن القرآن اسم للمعانی التی تدل علیها الألفاظ العربیة و المعانی و لا تختلف بإختلاف الألفاظ و اللغات ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 255
التركیة أو الاوردیة أو الفارسیة أو الكجراتیة تتخلل سطور تلك المصاحف ..
هذا و فی حالة وقوع الترجمة فی القرآن- جدلا- سواء كانت حرفیة أم لا فهذه الترجمة لا تسمی قرآنا بالمرة بل تدعی تفسیرا و له حكم التفسیر و اثره و تتبع فیه المصلحة الشرعیة المقدرة بقدرها ..
و هناك من یذهب إلی ان الترجمة الحرفیة لیست تفسیرا للقرآن لأنها لا تتعدی عن ابدال لفظ بلفظ آخر یقوم مقامه فی تأدیة بعض معناه و لیس فیه شی‌ء من الكشف أو البیان «32» ..
______________________________
(32) التفسیر و المفسرون- محمد حسین الذهبی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 257

ضوء علی بعض التفاسیر المتداولة

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 259
قبل ان نتولی شرح أو الاشارة إلی بعض التفاسیر المتداولة فی أیدی المسلمین و مؤلفیها نود الاشارة إلی ان التفاسیر- كل التفاسیر- یمكن ارجاعها إلی قسمین هما:
1- التفسیر بالمأثور: و یدعوه البعض بالتفسیر بالروایة و یعتمد هذا علی صحیح المنقول و یشمل تفسیر القرآن أو بما ورد عن الرسول (ص) و ما نقل عن أهل البیت و الصحابة و التابعین- لدی البعض- و ذلك فیما یتعلق من بیان أو توضیح لمراد اللّه تعالی فی آیاته الكریمة ..
2- التفسیر بالرأی: و یدعوه البعض بالتفسیر بالدرایة و یعتمد هذا علی الفهم الخاص و الاستنباط بالرأی المجرد، و هو تفسیر القرآن الكریم بالاجتهاد بعد الإلمام بكلام العرب كالنحو و الصرف و البلاغة و ان یكون متمكنا من اصول الدین و من مبادئ الفقه و اصوله، فضلا عن الادراك الكامل لأسباب النزول و الناسخ و المنسوخ .... الخ من الأمور التی یحتاجها المفسر عند الخوض فی بحر التفسیر ..
و لكل مفسر طریقته فی الكتابة فهو إما ان یأخذ بالمأثور (الأثر) أو بالرأی أو بكلامهما، و قد سبق ان قلنا فی الفصل السابق تباین نظرة المفسرین إلی الرأی فمنهم من یعتمد علیه و منهم من لا یجوزه و لكل واحد منهم حججه و آراؤه ازاء ذلك ..
و نشیر بعد هذا إلی ان المؤلفات المصنّفة فی التفسیر من حیث السعة و الحجم هی علی أنواع ثلاثة:
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 260
1- الوجیز: كتفسیر الجلالین و القمی و الصافی و شبّر ..
2- الوسیط: كتفسیر الكشاف و البیضاوی و النسفی و مجمع البیان ..
3- البسیط: كتفسیر الرازی و الطبری و الآلوسی و أبی السعود.
و سنتناول من الأسطر التالیة إلی التفاسیر المتداولة فی العالم و هویات مؤلفیها «1» و ما اذا كانت من التفسیر بالمأثور أو الرأی، و لم نشر
______________________________
(1) من الواضح إلی أنه رغم أن العرب هم حملة مشعل الإسلام و دعاة رسالة السماء و هم الذین تولوا فتح الامصار و تحریر الأمم و الشعوب المختلفة من أجل نشر معالم هذه الرسالة و بث مفاهیمها و قواعدها و أسسها، حتی أمكن القول- بحق- أن العرب هم مادة الإسلام و أن نجاحهم هو نجاح للإسلام و انتكاستهم هو انتكاس له ..
رغم كل هذه الحقائق و الوقائع نجد أن حملة هذا الدین و شراح أحكامه و جامعی آثاره و أخباره بعید الصدر الأول للإسلام مباشرة هم من المسلمین الذین یرجعون إلی عروق غیر عربیة حیث نجد فیهم الفارسی و الأفغانی و الكردی و التركی و الهندی و البلوجی و التبتی و البربری ..
و ینقل عن النبی (ص) فی هذا المعنی قوله: «لو كان العلم فی الثریا لناله رجال من فارس».
كما و یؤید هذه الحقیقة ابن خلدون فی مقدمته حیث یصرّح بقوله: «إن حملة العلم فی الملة الإسلامیة أكثرهم من العجم» ..
كما و ینسب للبكری قوله: «أكثر من نصف محدثی الدنیا من أهل خراسان و منهم معظم مؤلفی الصحاح الستة المعتمدة فی الحدیث» ..
و إن الاستاذ الكبیر علی الطنطاوی یقول فی مقدمته علی كتاب «المسلمون فی الهند» بالحرف «قد یشتغل غیر العربی بعلوم العربیة حتی یكون إماما فیها، فی اللغة و النحو و الصرف و الاشتقاق و فی سعة الروایة .. بل أن أكثر علماء العربیة كانوا- فی الواقع- من غیر العرب» ..
و یقال أن هشام بن عبد الملك و هو من أشد الأمویین تعصبا لم یتمالك نفسه حین قال: «عجبا لهؤلاء الأعاجم كان الملك فیهم فلم یحتاجوا إلینا فلما صار الملك فینا احتجنا إلیهم حتی فی تعلم لغتنا منهم» ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 261
إلی تفاسیر كثیرة مخطوطة كتفسیر الماوردی و البرهان لعلی بن إبراهیم الحوفی و «نظم الدرر فی تناسب الآیات و السّور» لبرهان الدین بن عمر البقاعی و بحر العلوم للسمرقندی و التفسیر الكبیر لمقاتل بن سلیمان ...... الخ أما التفاسیر المتداولة فهی:
______________________________
و یكفی أن نشیر هنا إلی أن جامعی الصحاح المعتمدة عند السنة و الشیعة و هی بالنسبة للأولی:
1- صحیح البخاری (محمد بن إسماعیل بن إبراهیم الجعفی البخاری).
2- صحیح مسلم (أبو الحسین مسلم بن الحجاج بن مسلم القشیری النیشابوری).
3- صحیح الترمذی (محمد بن عیسی بن سورة الترمذی).
4- صحیح النسائی (أبو عبد الرحمن أحمد بن شعیب بن علی بن بحر النسائی).
5- صحیح ابن ماجة (ابن ماجة القزوینی).
6- صحیح أبی داود (سلیمان بن الأشعث بن إسحاق السجستانی).
و بالنسبة للثانیة هی:
1- الكافی (محمد بن یعقوب الكلینی).
2- التهذیب (محمد بن الحسن الطوسی).
3- الاستبصار (محمد بن الحسن الطوسی).
4- من لا یحضره الفقیه (محمد بن علی بن بابویه القمی).
إن جامعی هذه الصحاح كلها- و التی تضم كافة أخبار و سیرة النبی (ص) و أصحابه و التابعین و أئمة أهل البیت ... الخ- هم من دونما استناد من المسلمین و من عروق غیر عربیة، هذا عدا غیرهم من المؤرخین و كتاب السیر و التواریخ و التفاسیر و العلوم الطبیة و الأدبیة مثل الطبری، الزمخشری، الطبرسی، ابن سینا، الرازی، البیرونی، القمی، أبو إسحاق الشیرازی، الشهرستانی، الفیروزآبادی، الفارابی، ابو الفرج الأصفهانی، أبو نعیم الأصبهانی، الكسائی، التفتازانی، أبو حامد الغزالی، السجستانی، الجرجانی، الفارسی، الیعقوبی، العیاشی، البیضاوی، المجلسی، البیهقی، الدینوری، سیبویه، ابن شهرآشوب، النیشابوری، الماوردی، و الكرمانی، الخوارزمی، القندوزی، النوبختی، الطبرانی، البلخی، ابن المقفع، الإربلی، الجهشیاری، الاصطخری، نافع، عطاء، مجاهد،
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 262
1- تفسیر «مجمع البیان فی تفسیر القرآن» لأبی علی الفضل بن الحسن ابن الفضل الطبرسی المولود عام 462 هجریة و المتوفی فی طوس فی لیلة النحر عام 548 ه و یقع قبره- الذی شید حدیثا- عند مدخل شارع الطبرسی من الجهة الیسری فی مدینة مشهد «2» بشمال شرق إیران ..
______________________________
طاوس و قتادة .... الخ.
و أری أن مرد ذلك- كما یراه البعض أیضا- هو أن العرب فی صدر الإسلام كانوا یعتبرون أنفسهم أنهم أهل السلطة و السلطان و انهم المؤهلون- وحدهم و بجدارة- لقیادة الشعوب المحررة و توجیه زمام القومیات التی دخلت فی الإسلام، و انهم عند ما حرروا الأقطار و الأمصار غیر العربیة من نیر الظلم و التعسف اتجهوا صوب تثبیت سلطانهم السیاسی و الاداری دون فسح المجال لغیرهم من ابناء القومیات الأخری لمشاركتهم فی تحمل مسئولیة الاداریة، و دون الاتجاه إلی سبیل آخر عدا الادارة و الحكم إلّا نادرا ..
و حین شعرت ابناء القومیات غیر العربیة التی دخلت فی دین اللّه أفواجا أن أبواب الحكم و السلطان موصدة بوجوههم بعد أن احتكرها العرب رغم كفاءة و لیاقة الكثیرین منهم لسنمها، أرتأوا- ابناء القومیات غیر العربیة- الانصراف و التوجه شطر طریق آخر قد یضاهی- بنظرهم- الحكم و السلطان فی المنزلة و هو طریق بعث و تدوین و متابعة العلوم الدینیة و التاریخیة و الأدبیة و الفلسفیة حتی بزوا فیها و أصبحوا أعلاما و أئمة و قادة یشار لهم بالبنان كهؤلاء الذین وردت اسماؤهم قبل قلیل ..
و لیس معنی هذا إن الكافة من غیر العرب آثرت الانصراف لنیل العلوم الدینیة و الأدبیة للسبب المتقدم فقط، بل ربما وجدت هناك أسباب أخری كالقربة إلی اللّه تعالی أو تیسّر الوسط و المحیط أو بروز قابلیات خاصة أو غیر ذلك سهلت لهم ولوج هذا المیدان ..
كما و لیس معنی هذا أن العرب لم یلجئوا میدان العلوم الدینیة و التاریخیة، بل برز منهم علماء و قادة لهم مكانتهم الممیزة فی عالم الدین و الأدب و الفن و إن كانوا قلة بالنسبة لإخوتهم من أبناء القومیات الأخری ..
(2) تقع مدینة مشهد علی بعد 100 كم إلی الشرق من طهران و تضم قبر الإمام الثامن علی بن موسی الرضا- ع- المولود بالمدینة عام 148 ه و المتوفی عام 203 ه ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 263
و هذا التفسیر لم یقتصر علی التفسیر الفقهی فقط بل عمد مؤلفه إلی الكلمات اللغویة الغامضة فجلاها و إلی القراءات المختلفة فذكر حجة كل واحد منهم، و إذا ما اعترضته آیة أو أكثر تضم حدثا تاریخیا فانه یسرد القصة بكاملها ..
و قد نقل المأثور عن ائمة أهل البیت و غیرهم من غیر تعرض لنقد من تصحیح أو تضعیف بل ترك ذلك لحكم القراء.
و اثبت الطبرسی فی تفسیره عقائد الامامیة و شرائعها رغم انه غیر مغال فی ذلك و بعید عن التعصب كما أنه كان متبحرا فی عدد كبیر من العلوم و المعارف حیث لم یتكلم فی موضوع إلا و اجاده اجادة كاملة.
2- «مفاتیح الغیب» و المشتهر بالتفسیر الكبیر لفخر الدین الرازی و هو ابو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسین بن الحسن بن علی الطبرستانی الرازی ..
و یقع هذا التفسیر فی (8) أجزاء، و قد اثرت العلوم العقلیة علی الرازی فی تفسیره فمزجه بخلیط من المنطق و الطب و الفلسفة و الحكمة و بذلك خرج به عن معانی القرآن و روح آیاته حتی قال البعض عنه «فیه كل شی‌ء وصل الیه المسلمون إلا شیئا واحدا هو شرح روح القرآن» «3».
و یقال ان فخر الدین الرازی مات قبل ان یتم التفسیر فاكمله من
______________________________
و قد عهد الخلیفة المأمون بولایة العهد إلی الإمام الرضا، إلّا أن الإمام رفضها، فاستعمل الشدة فی ذلك إلی أن قبلها مكرها إلّا أنه- ع- توفی فی حیاة المأمون فلم ینتفع بولایة العهد، و للشاعر أبی نؤاس الحسن بن هانی المولود عام 141 و المتوفی عام 199 ه قصیدة أو أكثر فی مدح الإمام- ع- منها القصیدة التی مطلعها:
قیل لی أنت أوحد الناس طرافی المعانی و الكلام النبیه
فلما ذا تركت مدح ابن موسی‌و الخصال التی تجمعن فیه
قلت لا أستطیع مدح إمام‌كان جبریل خادما لأبیه
(3) ضحی الإسلام- أحمد أمین.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 264
بعده تلمیذه شمس الدین أحمد بن خلیل الحوبی قاضی قضاة دمشق و المتوفی فی عام 637 هجریة.
و التفسیر هذا یعتمد علی الرأی بالدرجة الأولی ..
ولد الرازی- و الذی كان فرید عصره و الامام فی التفسیر و علوم الكلام و العقل و اللغة فی مدینة (ری) قرب طهران فی عام 543 هجریة و توفی مسموما علی ید الفرقة الكرامیة فی یوم عید الفطر من عام 606 ه فی مدینة هرات غرب افغانستان ..
و قد زرت قبره و الذی یقع فی قلب مقبرة البلدة و التی تقع فی غرب البلدة- هرات- و قد شیّد علی قبره المتواضع نصب تذكاری علی شكل أیوان هلالی من الآجر و الجص حیث دوّن علی واجهته و بالفارسیة سیرة حیاة الرازی و آثاره التی تركها من بعده .... الخ.
3- التفسیر الكبیر المسمی «جامع البیان فی تفسیر القرآن» لأبی جعفر محمد بن جریر الطبری و یقع فی ثلاثین جزءا من الحجم الكبیر و هو تفسیر ضخم یعتمد علی المأثور غالبا و هو المرجع للمفسرین بالأثر «و قد جمع فیه كثیرا من مجموعات التفاسیر التی سبقته و ما فیها و فاضل بین روایاتها و اختار امثلها» «4» ..
و نجد فی هذا التفسیر أیضا آثار الكوفیین و البصریین فی الصرف و النحو و تطبیقها علی القرآن، حتی ان النوری فی تهذیبه قال عنه «اجمعت الأمة علی انه لم یصنف فی التفسیر مثل تفسیر الطبری».
و قد كان هذا التفسیر حتی عهد قریب یكاد یعتبر مفقودا إلا أنه وجد فی حیازة أمیر حائل السابق الأمیر حمود بن الأمیر عبد الرشید نسخة مخطوطة كاملة منه، و قد طبع علیها التفسیر المتداول حالیا فی الأسواق و ذلك فی مطبعة بولاق بالقاهرة عام 1330 هجریة المصادف لعام 1912 م، و قد اعید طبعة عدة مرات بعد ذلك ..
______________________________
(4) ضحی الإسلام- أحمد أمین.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 265
و الطبری هو نفسه صاحب التاریخ المشهور، لذا عد «أبو التفسیر و أبو التاریخ» و له مؤلفات أخری لم یصل منها إلا تفسیره و تاریخه ..
ولد الطبری- و كان علامة زمانه فی التاریخ و الحدیث- فی مدینة آمل بطبرستان (شمال ایران) فی عام 224 هجریة و توفی فی بغداد عام 303 أو 310 هجریة «5» ..
4- تفسیر «التبیان فی تفسیر القرآن» للشیخ الكبیر و مرجع الطائفة أبی جعفر محمد بن الحسن الطوسی، لقد تتلمذ الطوسی لدی الشیخ المفید محمد بن محمد بن النعمان و من بعده تتلمذ لدی السید المرتضی علم الهدی، و عند وفاة الأخیر انتقلت الیه الزعامة الدینیة فی بغداد، و فی عام 448 ه و بعد حوادث بغداد المشهورة انتقل مع تلامیذه إلی النجف الأشرف لیقیم فیها الحوزة العلمیة المباركة و التی لا زالت قائمة حیة حتی الآن و هی الآن برعایة المرجع الأعلی السید أبو القاسم الخوئی حیث انتقلت الیه بعد وفاة الامام الحكیم فی 6/ 6/ 1970 ..
و تفسیر التبیان یعتمد علی المأثور (الأثر) دون الرأی حیث ورد فیه بالنص: «ان تفسیر القرآن لا یجوز إلا بالأثر الصحیح و عن النبی (ص) و عن الأئمة (ع) الذین قولهم حجة كقول النبی (ص) و ان القول فیه بالرأی لا یجوز، و روی العامة ذلك عن النبی (ص) انه قال: «من نسر القرآن و اصاب الحق فقد اخطأ، و كره جماعة من التابعین و فقهاء المدینة القول فی القرآن بالرأی كسعید بن المسیب و نافع و محمد بن القاسم بن عبد اللّه و غیرهم» ..
______________________________
(5) دفن الطبری بعد وفاته فی داره لیلا، بسبب ان أنصار أحمد بن حنبل قد اجتمعت أمام داره و منعت دفنه نهارا لأن الطبری جمع كتابا ذكر فیه اختلاف الفقهاء و لم یذكر فیه أحمد بن حنبل فسئل عن ذلك فقال: لم یكن أحمد بن حنبل فقیها و إنما كان محدثا (الكامل- ابن الاثیر).
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 266
ولد الطوسی فی شهر رمضان عام 385 هجریة و توفی فی محرم الحرام سنة 460 هجریة و قبره الذی شید حدیثا یقع عند مدخل شارع الطوسی من الجهة الیسری بمدینة النجف الأشرف بالعراق.
و قد ارخ تاریخ وفاته بهذه الأبیات
اودی بشهر محرم فاضافه‌حزنا بفاجع رزئه المتجدد
بك شیخ طائفة الدعاة إلی الهدی‌و مجمع الاحكام بعد تبدد
و بكی الشرع الشریف مؤرخا«ابكی الهدی و الدین فقد محمد» «6» [460 ه] 5- «تفسیر الكشاف» و اسمه الكامل «الكشاف عن حقائق التنزیل و عیون الأقاویل فی وجوه التأویل» لأبی القاسم محمود بن عمر الخوارزمی الزمخشری المعتزلی و الملقب بجار اللّه.
و هذا التفسیر هو من خیر التفاسیر التی یرجع الیها من ناحیة خصائص الاسلوب القرآنی و بلاغته حیث ان معظم التفاسیر التی جاءت من بعده اخذت منه و اعتمدت علیه من هذه الناحیة .. و هو یقع فی (4) أجزاء و یعتمد علی الرأی ..
لقد تحدث الزمخشری عن تفسیره بهذین البیتین من الشعر اعجابا و اعتزازا به و هما:
______________________________
(6) إن لكل حرف فی اللغة العربیة رقم خاص به، و یقوم هذا الحساب علی الحروف الابجدیة و علیه تبنی التواریخ الشعریة و مواقع البروج، و إتماما للفائدة ندرج فیما یلی الحروف الابجدیة و أرقامها:
أ 1، ب 2، ج 3، د 4، ه 5، و 6، ز 7، ح 8، ط 9، ی 10، ك 20، ل 30، م 40، ن 50، س 60، ع 70، ف 80، ص 90، ق 100، ر 200، ش 300، ت 400، ث 500، خ 600، ذ 700، ض 800، ظ 900، غ 1000.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 267 ان التفاسیر فی الدنیا بلا عددو لیس فیها لعمری مثل كشافی
ان كنت تبغی الهدی فالزم قراءته‌فالجهل كالداء و الكشاف كالشافی ولد الزمخشری عام 467 ه و توفی لیلة عرفة عام 538 ه فی خوارزم من اعمال خراسان ..
6- تفسیر القمی للحافظ علی بن إبراهیم القمی و هو من علماء القرن الرابع عشر الهجری ..
7- تفسیر الصافی لمحمد حسن بن المرتضی المحسن الفیض الكاشانی المتوفی عام 1091 هجریة عن عمر امتد إلی ما یقرب من 84 سنة ..
8- تفسیر العیاشی لمحمد بن مسعود الكوفی السمرقندی و هو من علماء القرن الرابع الهجری ..
9- تفسیر القرطبی المسمی «الجامع لأحكام القرآن» لأبی عبد اللّه محمد بن أحمد الأنصاری الخزرجی الأندلسی، توفی بمدینة المینا بصعید مصر فی 9 شوال عام 671 ه ..
10- تفسیر ابن كثیر للحافظ عماد الدین أبی الفداء اسماعیل بن عمرو بن كثیر القرشی البصری ثم الدمشقی ..
یعتمد هذا التفسیر علی المأثور كتفسیر الطبری، حیث التزم ابن كثیر تفسیر القرآن بالقرآن و ان لم یجد قصد إلی السنة الشارحة للقرآن و الموضحة لها و ان لم یجد قصد إلی اقوال اصحاب رسول اللّه ثم التابعین ..
ولد ابن كثیر عام 700 ه أو 705 ه و توفی عام 774 ه بعد ان كف بصره، و دفن فی المقبرة الصوفیة عند شیخه ابن تیمیة ..
11- تفسیر الخازن الموسوم ب «لباب التأویل فی معانی التنزیل» لعلاء الدین أبی الحسن علی بن إبراهیم البغدادی الخازن و هو تفسیر یعتمد
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 268
علی الرأی فضلا عن انه لا یذكر فیه السند كما و یتوسع فی الروایات و القصص الواردة فیه ..
ولد الخازن فی بغداد عام 678 ه و توفی عام 741 ه و دفن فی مدینة حلب الشهباء فی شمال سوریة ..
12- تفسیر البیضاوی: الموسوم ب «انوار التنزیل و أسرار التأویل» للقاضی ناصر الدین أبی الخیر عبد اللّه بن عمرو بن محمد بن علی الأذربایجانی البیضاوی، و هذا التفسیر یعتمد علی الرأی كتفسیر الرازی و رغم انه تفسیر مختصر إلا أنه دقیق فی عباراته یصل إلی المعنی من أقرب الطرق ..
توفی البیضاوی فی مدینة تبریز شمال غرب ایران عام 691 ه ..
13- تفسیر أبی السعود المسمی «ارشاد العقل السلیم إلی مزایا القرآن الكریم» لمحمد بن مصطفی العمادی، و هذا التفسیر یعتمد علی الرأی و هو تفسیر رائع من حیث حسن تعبیره و سلامة تفكیره.
ولد أبو السعود عام 893 هجریة و توفی فی مدینة اسطنبول عام 982 ه و دفن بجوار قبر الصحابی أبی أیوب الانصاری «7» حیث حظینا بزیارتهما هناك ..
14- تفسیر النسفی المسمی «مدارك التنزیل و حقائق التأویل» لأبی البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفی، یعتمد هذا التفسیر علی الرأی، و قد اختصر النسفی تفسیره من تفسیری البیضاوی و الكشاف و هو
______________________________
(7) أبو أیوب الأنصاری صاحب رسول اللّه، و فی الخبر أنه عند وصول النبی (ص) إلی المدینة بعد هجرته من مكة رفقة الخلیفة أبی بكر الصدیق، أشعر قادة أهل المدینة بانه سینزل فی الدار التی ستحط ناقته أمامه، و فعلا بركت أمام دار أبی أیوب الأنصاری حیث أقام عنده الرسول، اشترك مع احدی وحدات الجیش الإسلامی فی غزوها للروم فقتل قرب اسطنبول و دفن هناك.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 269
تفسیر وسط بین الطول و القصر جمع فیه بین وجوه الاعراب و القراءات ..
توفی النسفی عام 710 هجریة.
15- تفسیر الطنطاوی: للاستاذ الحكیم الشیخ طنطاوی جوهر و یسمی «الجواهر فی تفسیر القرآن» و قد عنی المفسر بالعلوم الكونیة و عجائب الخلق حتی قیل فیه- كما قیل فی تفسیر الرازی- «فیه كل شی‌ء إلا التفسیر».
ولد الطنطاوی عام 1287 ه و توفی عام 1358 ه الموافق لعام 1940 ..
16- تفسیر المیزان للسید محمد حسین الطباطبائی .. ولد عام 1902 م فی مدینة تبریز بشمال غرب ایران ثم رحل إلی النجف الأشرف عام 1925 للدراسة فی حوزتها العلمیة، ثم ترك النجف عائدا إلی وطنه عام 1935 و تولی عام 1946 التدریس فی مدینة قم المقدسة إلی أن وافاه الأجل فی 15/ 11/ 1981- رحمه اللّه ..
17- تفسیر المنار للسید محمد رشید رضا، و هو تفسیر یعتمد علی المأثور، ولد محمد رشید رضا عام 1282 هجریة و توفی عام 1354 ه و قبل ان یفرغ من اكمال تفسیره.
18- تفسیر الآلوسی الموسوم ب «روح المعانی فی تفسیر القرآن العظیم و السبع المثانی» لأبی الثناء شهاب الدین محمود شكری الآلوسی، و هو تفسیر یعتمد علی الرأی و هو من أوسع التفاسیر و اجمعها و قد تأثر المؤلف بتفاسیر الرازی و السیوطی و البیضاوی و الزمخشری باسطا كل ذلك باسلوبه الأدبی الرفیع ..
ولد الآلوسی فی جانب الكرخ عام 1217 ه و توفی عام 1270 أو 1269 ه و دفن فی مقبرة الشیخ معروف الكرخی بجانب الكرخ ببغداد.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 270
19- تفسیر البلاغی المسمی «آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن» للشیخ محمد جواد حسن البلاغی، و قد توفی البلاغی فی مدینة النجف الأشرف عام 1352 ه، و قد صدر الجزء الأول من التفسیر فقط حیث عاجلته المنیة قبل اتمامه ..
20- تفسیر شبّر: للعلامة المحقق الجلیل السید عبد اللّه بن محمد رضا شبّر، و للمؤلف كتب و مؤلفات عدیدة و مهمة تبلغ السبعین كتابا و لو قسمت أجزاؤها علی سنی حیاته لبلغت نحو كراسة واحدة عن كل یوم لذا لقبه أهل زمانه بالمجلسی الثانی ..
ولد العلامة شبر فی النجف الأشرف عام 1188 هجریة و توفی فی مدینة الكاظمیة عام 1242 و دفن فی رواق الامامین الكاظمین- ع- 21- تفسیر الخوئی الموسوم ب «البیان فی تفسیر القرآن» للعلامة المجتهد زعیم الحوزة العلمیة السید أبو القاسم بن السید علی أكبر الموسوی الخوئی، و قد صور الجزء الأول منه فقط و الذی یضم مقدمة مهمة لا یستغنی عنها كل واع أو مثقف، و نحن الآن فی انتظار صدور الأجزاء الأخری حتی یسهم هذا التفسیر العظیم مع بقیة التفاسیر الحیة فی توعیة المسلمین و تقریب حقائق القرآن و علومه من اذهانهم من أجل بناء جیل القرآن و الاسلام ..
22- تفسیر فی ظلال القرآن «للكاتب الإسلامی المجاهد و العبقری الفذ سید قطب و هو صاحب الدراسات الإسلامیة العدیدة كالعدالة الاجتماعیة فی الإسلام و السلام العالمی و الإسلام و معركة الإسلام و الرأسمالیة و معالم فی الطریق و التی ملأت فراغا كبیرا فی المكتبة الإسلامیة، و كان الكتاب الأخیر- معالم فی الطریق- هو آخر
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 271
الكتب التی دبجها یراع الكاتب الفذ قبل استشهاده فی صیف عام 1966 م، و هذا الكتاب- بحق- مثل كتاب «شبهات حول الإسلام» لأخیه محمد قطب مؤلف ثوری و إسلامی محض یلقی الأضواء علی دور و مهمة البعث الإسلامی و نقطة البدء فیه إذا ما أرید انقاذ البشریة من شقوة الجهالة و الجاهلیة ..
اما عن تفسیره فان الغرض الأول منه هو «تبسیط المبادئ القرآنیة للنش‌ء فهو إلی التوجیه اقرب منه إلی التعلیم» «8» و هو بعد هذا یعد «احدث تفسیر صدر فی العالم العربی، و إلی جانب هذا التفسیر له كتابان أولهما- التصویر الفنی فی القرآن- و ثانیهما- مشاهد القیامة فی القرآن- و كلها تنبع من روح واحدة و تتجه وجهة واحدة و هی محاولة فهم الصورة الفنیة فی القرآن» «9».
كما و ان تفسیره هو «تفسیر كامل للحیاة فی ضوء القرآن و هدی الاسلام انتهی فیه إلی ان الانسانیة الیوم فی شقائها بالمذاهب الهدامة و صراعها الدامی من حین لآخر لا خلاص لها إلا بالاسلام، كما و انه لا صلاح لهذه الأرض و لا راحة لهذه البشریة و لا طمأنینة لهذا الانسان و لا رفعة و لا بركة و لا طهارة و لا تناسق مع سنن الكون و فطرة الحیاة إلا بالرجوع إلی اللّه، و الرجوع إلی اللّه له صورة واحدة و طریق واحد ...
واحد لا سواه انه العودة بالحیاة كلها إلی منهج اللّه الذی رسمه للبشریة فی كتابه الكریم، انه تحكیم هذا الكتاب وحده فی حیاتها و التحاكم الیه وحده فی شئونها، و إلا فهو الفساد فی الأرض و الشقاوة للناس و الارتكاس فی الحمأة و الجاهلیة التی تعبد الهوی من دون اللّه» «10».
______________________________
(8) مباحث فی علوم القرآن- الدكتور صبحی الصالح.
(9) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(10) مباحث فی علوم القرآن- مناع القطان.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 272
و هو من بعد ذلك یعد بحق «ثروة فكریة اجتماعیة لا یستغنی عنها المسلم المعاصر» «11».
23- تفسیر القنوجی: و الموسوم ب «فتح البیان فی تفسیر القرآن» و مؤلفه هو أبو الطیب محمد صدیق حسن خان البخاری القنوجی الحسینی أمیر ولایة بهوبال «12» فی وسط الهند، و هذا التفسیر هو ملخص من تفسیر ابن كثیر و یمتاز بسلامته من التطویل و الحشو ..
______________________________
(11) من الطبیعی أن الاستعمار البریطانی لم یكن فی وسعه أن یحكم بلدا كالهند (قبل الاستقلال) تزید مساحته علی ال 4 ملایین كیلومتر مربع و یزید نفوسه- حینذاك- علی ال 400 ملیون نسمة و یدینون بمذاهب و أدیان مختلفة و ینطقون بأكثر من 200 لغة و لهجة، لو أنه- الاستعمار- لجأ إلی الأسالیب الدیموقراطیة و الطبیعیة المألوفة فی الحكم و الإدارة ..
لذا لم یجد هذا الاستعمار وسیلة ممكنة و محكمة لإدارة هذه البلاد المترامیة أجدی من تفریقها و تقسیمها إلی ولایات و إمارات عدیدة بقصد تفتیت قدراتها المادیة و البشریة و مذكین فی نفس الوقت الخصومة و البغضاء بین الطائفتین الأكثر انتشارا و نفوسا و قوة فی البلاد و هم الهندوس و المسلمون ..
و وفقا لذلك فقد قسّم المستعمرون البلاد (شبه القارة الهندیة) و من حیث الإدارة و الحكم إلی قسمین كبیرین أحدهما حكموه حكما مطلقا و مباشرا و بحكام و موظفین بریطانیین و هو ما یسمی بالهند البریطانیة و یبلغ عدد أقالیمه
(12) إقلیم و هی أكثر و أكبر و أغنی الأقالیم الهندیة نفوسا و صناعة و ثراء و هذه الأقالیم هی «السند، بلوجستان، البنجاب، الحدود الشمالیة الغربیة، الأقالیم المتحدة (بوبی)، بیهار، البنغال، آسام، أوریسه، الأقالیم الوسطی، مهرا شترا (بومبای)» ..
اما القسم الآخر و هو ما یسمی بهند الأمراء فعبارة عن عدة مئات من الولایات و الإمارات قد تكون هذه صغیرة بحجم مدینة واحدة أو كبیرة تزید مساحتها علی بریطانیة و قد بلغ عددها عن الاستقلال فی منتصف آب 1947 (562) إمارة و ولایة مساحتها جمیعا فی حدود 2، 1 ملیون كم 2 و یقطنها حینذاك ما یقرب من 140 ملیون نسمة و كانت تحكمها الأسر الأقطاعیة و أبناء البیوتات و الشخصیات الموالیة للانكلیز، و هذا القسم و إن كان یحمل فی الظاهر لافتة الاستقلال و الحریة إلّا أنه- فی الحقیقة- لا یقل عن القسم الأول
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 273
ولد القنوجی عام 1248 هجریة و توفی فی عام 1307 ه ..
24- تفسیر الجلالین: لجلال الدین محمد المحلی و جلال الدین عبد الرحمن السیوطی، حیث ابتدأ الأول فی التفسیر من أول سورة الكهف إلی آخر سورة الناس ثم بدأ بتفسیر الفاتحة و عند اتمامها آثره اللّه لجواره، فجاء الثانی فأكمل تفسیر بقیة القرآن ..
و هذا التفسیر یعتمد علی الرأی و هو قیم مختصر العبارة سهل المأخذ، و هو لهذا أكثر التفاسیر انتشارا فی العالم الاسلامی رغم انه اصغرها شرحا و حجما ..
ولد الأول فی مصر سنة 791 ه و توفی فی أول یوم من عام 864 ه.
اما الثانی فقد ولد فی سنة 849 ه و توفی فی سنة 911 ه.
25- تفسیر النیشابوری: المسمی «غرائب القرآن و رغائب الفرقان» لنظام الدین الحسن بن محمد النیشابوری، یمتاز هذا التفسیر بسهولة عباراته و هو مختصر لتفسیر الفخر الرازی مع تهذیب كبیر فیه ..
______________________________
فی ولاء حكامه لإدارة المستعمرین و رغباته ..
و كان المستعمرون قد وضعوا عند كل حاكم أو أمیر أو نواب أو مهراجا أو راجا أو خان (و هی اسماء حكام الولایات) مقیما بریطانیا له حق التدخل فی كل صغیرة و كبیرة، و علی كل حاكم أن ینفذ نصائح المقیم و إلّا فقد عرشه و حكمه، و لم یكن یهم- هذا المقیم- سوء الإدارة فی الولایة أو الامارة أو الخسف الذی ینزله الحكام بأبناء جیلهم بقدر ما یهمه من استنزاف لثروة الأمارة و ضمان ولاء الحكام فیها للعصا البریطانیة الغلیظة ..
و من هذه الولایات و الامارات «حیدرآباد، كشمیر، بهویال، بهاولبور، خیربور، قلات، جنرال سوات، مكران، لسبیلا، هنزا، جونا كاد، محمود كباد .. الخ» ..
و للمزید من المعلومات یمكن الرجوع إلی كتابنا «أضواء علی شبه القارة الهندیة» الذی سیری وجه النور قریبا ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 274
توفی النیشابوری فی عام 728 هجریة ..
26- تفسیر البحر المحیط: لأبی حیان الأندلسی و هو أثیر الدین أبو عبد اللّه محمد بن یوسف بن علی بن یوسف بن حیان الأندلسی الغرناطی ..
یضم هذا التفسیر كثیر من مسائل النحو و مسائل الخلاف بین النحویین حتی قیل انه «اقرب إلی كتب النحو منه إلی كتب التفسیر» ..
ولد الأندلسی عام 654 هجریة و توفی فی مصر عام 745 ه.
27- تفسیر الخطیب الشربینی: و الموسوم ب «السراج المنیر فی الاعانة علی معرفة بعض معانی كلام ربنا الحكیم الخبیر» و مؤلفه هو شمس الدین محمد بن محمد الشربینی القاهری الشافعی الخطیب.
و هذا التفسیر هو خلاصة التفاسیر التی سبقته مع الدقة و الایجاز، كما و قد قام المؤلف بتفسیر كل بسملة من القرآن غیر تفسیر سابقتها ..
توفی الشربینی عام 977 هجریة ..
28- تفسیر ابن العربی: و صاحبه و هو الشیخ محی الدین محمد بن علی الطائی الأندلسی ..
و هذا التفسیر هو علی طریقة أهل التصوف و ینتهی إلی سورة الكهف، توفی المؤلف فی عام 628 ه.
29- تفسیر «روح البیان فی تفسیر القرآن» لأبی الفداء اسماعیل حقی ..
و التفسیر هذا و الذی اكمله عام 1117 هجریة هو تلخیص لما فی تفسیری البیضاوی و أبی السعود و المؤلف یتبع تفسیر الآیة باللغة العربیة تفسیرها باللغة الفارسیة- توفی أبو الفداء عام 1127 ه.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 275
30- تفسیر «تنویر المقباس فی تفسیر ابن عباس» للفیروزبادی الشیرازی، و هذا التفسیر ینسب إلی حبر الأمة ابن عباس و قیل انه للفیروزآبادی نفسه ..
31- تفسیر البرغانی: و المسمی «مفتاح الجنان فی حل رموز القرآن» لمؤلفه العالم الفاضل الحاج الملا محمد صالح بن محمد البرغانی القزوینی الكربلائی ..
ان التفسیر المذكور یعتمد علی المأثور (الأثر) و لم یألوا مؤلفه جهده فی ضم و جمع الأخبار من بطون الكتب، و لكنه، كعادته- لم یبرز نوعا من الاجتهاد الفنی فی تفسیر الآیة أو مناقشتها بل كان یقتصر علی التفسیر ضمن مفاهیم الأحادیث و الأخبار المنقولة، اضافة إلی ایراده لآراء كثیر من المفسرین و المؤرخین عند تفسیر كل آیة ..
و المؤلف و هو أخ الفقیه الكبیر الحاج الملا محمد تقی البرغانی المعروف ب (الشهید الرابع) «13» و كان (المؤلف) قد ولد فی مدینة
______________________________
(13) ولد الشهید الرابع فی برغان و بعدها استقر فی قزوین ثم رحل إلی النجف الأشرف حیث تتلمذ علی ید السید علی صاحب الریاض و شارك مع الشیخ جعفر كاشف الغطاء فی حمل لواء الجهاد ضد أعداء الإسلام ..
و بعد ذلك ترك النجف و عاد إلی قزوین فی عهد السلطان فتح علی شاه القاجاری و مارس فیها التدریس و التألیف، و عند استفحال أمر الشیخیة و البابیة حینذاك شمرّ الشیخ عن ساعد الجهاد و قام بمحاربتهم و تكفیرهم ..
و عند ما كان الشیخ فی مساء أحد الأیام متفرغا للصلاة و الدعاء فی محراب المسجد دخل علیه بعض البابیین و طعنوه بالسكاكین و المدی حتی الموت، و دفن فی قزوین فی مقبرة كبیرة عام 1264 هجریة ..
و علی ذكر الشهید الرابع فلا ضیر من أن نأتی بسرعة علی حیاة من سبقوه فی الشهادة فی سبیل اللّه.
فالشهید الثالث هو القاضی ضیاء الدین نور اللّه بن شریف الدین المرعشی الحسینی الشوشتری، ولد عام 956 هجریة و تتلمذ فی مدینة «تستر» فی
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 276
برغان قرب قزوین عام 1200 ه و قضی عمره فی قزوین ثم هاجر إلی كربلاء و توفی فیها فجأة و هو فی حال الدعاء عند ضریح الإمام الحسین- ع- و دفن بالحرم الحسینی و ذلك عام 1283 ه و قیل 1270 ه.
32- تفسیر الثعالبی: و الموسوم ب «الجواهر الحسان فی تفسیر القرآن» للإمام أبی زید عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبی الجزائری المغربی ..
______________________________
خوزستان فنسب إلیها و عاصر الشیخ البهائی، تم یمم وجهه شطر الهند فی عهد الأمبراطور أكبر المغولی فقلّده القضاء لیصبح قاضی القضاة و بعد وفاة الأمبراطور و تولی ابنه جهانكیر السلطة سعی الوشاة عنده بأن القاضی یحكم بموجب الأحكام الإمامیة فقط و لم یلتفت الأمبراطور لدعواهم و استمر الحساد بوشایتهم إلی أن رضخ الامبراطور لدعواهم فجلده علماء السوء وعاظ السلاطین مائة جلدة سقط شهیدا تحتها عام 1019 ه و له كتب ثمینة أهمها إحقاق الحق، كما و له مقبرة ضخمة فی مدینة اكرا جنوب دلهی یرتادها الزوار ..
أما الشهید الثانی فهو الشیخ زین الدین بن نور الدین العاملی، ولد عام 911 ه و طاف مختلف الأقطار الإسلامیة حیث عقد صداقات مع علماء الدین فی هذه الأقطار، و قد كتب رسالة دینیة إلی قاضی القضاة فی اسطنبول استرعت اعجابه و ثنائه. و عیّنه إثر ذلك كمسئول عن إحدی المدارس الدینیة فی مدینة بعلبك بلبنان و طلب منه التدریس وفقا للمذاهب الخمسة، و إثر وشایة بعض وعاظ السلاطین أمر الخلیفة العثمانی بالقبض علیه و فعلا قبض علیه و نقل إلی اسطنبول حیث حكم علیه بالموت علی ساحل البسفور عام 965 ه، و شید له فیما بعد و فی موقع إعدامه و دفنه مزار كبیر، و من مؤلفاته شرح اللمعة الدمشقیة للشهید الأول ..
اما الشهید الأول فهو شمس الدین أبو عبد اللّه محمد بن جمال المكی الدمشقی ولد عام 734 ه و مارس الدرس و التدریس فی مكة و المدینة و دمشق و لمدة 40 سنة، سجن فی قلعة دمشق لولائه لأهل البیت- ع- فی خلال سجنه ألّف «اللمعة الدمشقیة» و صدر حكم الموت علیه لإنكاره العلویة، و طلب منه التوبة لیرفع عنه حكم الموت، إلّا أنه أصرّ علی عقیدته، لذا ضرب عنقه بالسیف فی دمشق عام 786 ه و قبره هناك ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 277
ان هذا التفسیر هو خلاصة مفیدة لعدد كبیر من التفاسیر السابقة، و قد جعل المؤلف رمزا لكل تفسیر ینقل عنه، توفی الثعالبی بمدینة الجزائر عام 876 هجریة ..
33- تفسیر «بصائر ذوی التمییز فی لطائف الكتاب العزیز» لمجد الدین أبی طاهر محمد بن یعقوب الفیروزآبادی الشیرازی ..
فی هذا التفسیر یشاهد عدد كلمات كل سورة و مجموع فواصل آیاتها .. توفی الفیروزآبادی عام 840 ه ..
34- تفسیر «معالم التنزیل» لأبی محمد الحسن بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء و البغوی.
یعتمد هذا التفسیر علی المأثور، و توفی البغوی عام 516 ه.
35- تفسیر «الدر المنثور فی التفسیر بالمأثور» للسیوطی و هو الحافظ جلال الدین عبد الرحمن بن أبی بكر بن محمد السیوطی، و هو تفسیر یعتمد علی المأثور كما ورد فی اسمه و قد اهتم المفسر بالنقل و الجمع من دون التمییز بین الغث و السمین .. ولد السیوطی عام 849 ه و توفی عام 911 هجریة.
36- تفسیر «فتح القدیر» للشوكانی لمحمد بن علی بن محمد بن عبد اللّه الشوكانی الیمانی.
لقد جمع المؤلف فی تفسیره هذا بین الروایة و الدرایة حیث نقل كثیرا من الروایات الواردة عن السلف و آراء من سبقه من المفسرین ..
ولد الشوكانی عام 1173 ه و توفی فی عام 1250 ه ..
37- تفسیر القاسمی: الموسوم ب «محاسن التأویل» لمحمد جمال الدین القاسمی ..
ینقل المفسر بأمانة عن السابقین و یمتاز بوضوح عباراته و بساطة بحثه ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 278
ولد القاسمی عام 1283 ه و توفی عام 1332 ه.
38- « «منهج البیان فی تفسیر القرآن» لمؤلفه حجة الإسلام السید ابن الحسن بن العلامة الحجة آیة اللّه العظمی السید محمد حسن الرضوی.
ان هذا التفسیر یعد أحدث تفسیر صدر إلی الوجود حیث طبع عام 1406 ه- 1986 م فی احدی المطابع العربیة بمدینة كراجی بالباكستان، و قد صدر الجزء الأول منه و ینتظر ان تعقبه الأجزاء الأخری بالتعاقب.
و هذا الجزء یضم التعریف بالقرآن الكریم و تاریخه و علومه و اسرار بلاغته و اعجازه و محكمه و متشابهه و غیر ذلك حیث یمكن اعتباره مقدمة جلیلة للتفسیر، كما ان هذا الجزء یضم اضافة للمقدمة تفسیر سورة الفاتحة و أربع آیات من مطلع سورة البقرة، و یعتمد هذا التفسیر علی المأثور دون الرأی و الذی لم یجوّز الأخذ به ..
39- تفسیر البرهان: للسید هاشم البحرانی- و یعتمد هذا التفسیر علی المأثور دون الرأی أیضا.
40- تفسیر الفرقان: للشیخ محمد الصادقی، یقع فی عدة مجلدات، و صدر منه حتی الیوم عشرة اجزاء.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 279

إعجاز القرآن‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 281
الاعجاز هو حدث خارق للعادة و لقوانین الطبیعة مقرون بالتحدی و سالم من المعارضة و شاهد علی صدق دعواه.
و لیس الاعجاز وحده هو خارق للعادة بل هناك (6) أقسام خارقة للعادة و للفائدة نوردها جمیعا و هی: «1» 1- الارهاص: و هو الذی یسبق البعثة و دعوی النبوة كإشارة أو تلمیح لهما ..
2- المعجز: و هو ما یقدّمه الأنبیاء و المرسلون كدعوی لنبوتهم دون استطاعة أحد علی الاتیان بمثلها أو ردها و یكون مع الدعوی بلا تهیئة و لا مهلة.
3- الكرامة: و هی استجابة الدعاء فی الصالحین و الأبرار من الناس ..
4- الاستدراج: و هو مكر اللّه ازاء الفارق بالمعاصی حیث یعطی بعض ما یتمنی خرقا للعادة فیغتر و یزعم ان ذلك من كراماته و فضائله ..
5- المكذبة: و هی ما تكون مخالفة للدعوی فتكذب دعوی المدعی لوقوعها علی خلاف ما أراد، كما وقع لمسیلمة حیث دعا لأعور فعمیت العین الصحیحة و دعا لجریان ماء البئر فجف ماؤها ..
______________________________
(1) منهج البیان فی تفسیر القرآن- السید ابن الحسن الرضوی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 282
6- السحر: و هو عمل خارق یكون بعد تهیئة أسبابه علی مهلة بدون الدعوی حیث ان سحرة فرعون طلبوا الحبال و التمسوا المهلة للتهیئة ..
و حیث ان المجال لا یسع هنا لشرح كل فقرة و مقارنتها بالاعجاز لبیان مدی الاختلاف بینهما، لذا نكتفی هنا بشرح الاعجاز و انواعه و امده و أسبابه لارتباطه الوثیق بموضوع هذه الدراسة ان لم یكن أهم موضوع فیها .. «فالمعجز- اصطلاحا- هو الأمر الذی یأتی به مدعی النبوة أو الامامة بعنایة اللّه الخاصة خارقا للعادة و خارجا عن القدرة البشریة و نوامیس الطبیعة مع مطابقته للدعوی و اقترافه بالتحدی لیكون ذلك دلیلا علی صدق دعواه» «2».
و المعجزة إما تكون محدودة و حسیة تشاهد بالعین و البصر یراها من حضرها فقط و لا یمكن لغیرهم مشاهدتها كما و تزول بزوال وقتها مثل معجزة النبی موسی أو النبی عیسی- علیهما السلام.
و إما ان تكون- المعجزة- عقلیة تدرك و تشاهد بالبصیرة و یستمر مفعولها و تحدیها إلی النهایة كما هی الحال فی معجزة الرسول محمد (ص) و هی القرآن الكریم ..
و المعجزة متی ما كانت محدودة و قصیرة الأمد و لم یتسنی للبعید ان یراها أو ان یلمسها قد تنقطع اخبارها المتواترة فلا یمكن لهذا البعید لا سیما بعد مرور فترة طویلة ان تحصل له القناعة الكافیة علی صدقها و صحتها ..
فاذا ما كلفه اللّه تعالی- جدلا- بالایمان بها كان ذلك من نوع التكلیف بالممتنع و هو مستحیل علی اللّه سبحانه فلا بد «اذن للنبوة و الرسالة الدائمة المستمرة من معجزة تتجاوب معها فی الدیمومة و الاستمرار و البقاء» «3».
______________________________
(2) منهج البیان فی تفسیر القرآن- السید ابن الحسن الرضوی.
(3) البیان فی تفسیر القرآن- السید ابو القاسم الخوئی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 283
لذا فتأسیا علی ما سبق نخلص للقول بان الشرائع التی سبقت الاسلام قد باتت منتهیة المفعول و منقطعة الأثر بسبب انتهاء امد دلیلها و معجزتها، و بقول آخر لزوال و مضی المعجزة التی شهدت علی صحة تلك الشرائع و الرسالات ..
بینما نری الشریعة الاسلامیة هنا تتفوق و تسبق ما عداها بسبب ان معجزتها و هی- القرآن- باقیة و خالدة إلی آخر الزمان و كون التحدی و الاعجاز فیها ظاهرة و مستمرة بوجه كل جیل و فی كل وقت و زمان لأنها من عند اللّه تعالی و لا صنعة لمحمد (ص) و لا لغیره فیها ..
أجل ان معجزة القرآن هی ابدیة و هی بین أیدینا كما كانت فی عهد اجدادنا و ستظل امام احفادنا تطاول الخلود و لن تكون اسطورة فی یوم ما و لن تصبح موضع الشك أبدا و سیتحطم علی صخرتها و یتناثر كل قلم یحاول التصدی لها أو یتحداها من قریب أو بعید ..
و بصدد بیان وجه اعجاز القرآن فقد تكلم فیه فطاحل الكتاب و العلماء مشیرین إلی شتی أنواع و ألوان الاعجاز و اشكاله سواء ما كان منه فی البلاغة و القصص و العلوم و الفنون و التشریع و التصویر و الفلسفة و الاخلاق و السیاسة و الاقتصاد و فی غیرها ..
هذا و إذا لم نجد فروع هذه العلوم و الفنون و الآداب مبوبة و مفصلة فی القرآن الكریم كما هی فی الكتب الموضوعة لهذه الغایة، فاننا نجد فیه جمیع اصولها و اسسها و مبادئها و التی لا تشذ عنها مسألة واحدة یفرضها الواقع، و قد تجلت هذه الحقیقة شیئا فشیئا و بمرور الأیام و تطور العلوم ..
فكلما اكتشف جدید وجدنا له اساسا فی القرآن و لهذا قال ابن عباس «ان فی القرآن معان سوف یفسرها الزمن» «4».
______________________________
(4) علی و القرآن- محمد جواد مغنیة.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 284
و بشأن سبب الاعجاز فی القرآن الكریم و مصدره و ما اذا كان قد جاء عن طریق صرف اللّه سبحانه للناس و منعهم عن الإتیان بمثله حین استعدادهم و شروعهم فی محاولة التحدی، ام ان هذا الاعجاز قائم علی خلاف ذلك أی نجده ساطعا و جلیا فی نفس القرآن و فی بلاغته و تشریعاته و علومه و قصصه و أحكامه و صحة معانیه و سلامته من جمیع العیوب .. الخ و ان اللّه تعالی لا یصرف و لا یعیق أحدا ممن یقبل أو یسعی للتحدی.
لقد ذهب إلی الرأی الأول و المسمی «الصرفة» نفر قلیل من الأدباء و ارباب الفكر منهم النظام «5» و عبادة بن سلیمان و هشام الفوطی و هم فی عالم الارقام و الحساب لا یتجاوزون عدد اصابع الید الواحدة ..
و قد كتب هؤلاء فی سبیل الانتصار و الدفاع عن فكرتهم و آرائهم فی الصرفة ما یلی: انهم «لا یرون ان القرآن معجز لبلاغته أو فصاحته أو أی شی‌ء آخر فیه حیث ان العرب و غیرهم قد كانوا قادرین و لا زالوا علی ان یأتوا بمثله، و لكن اللّه تعالی صرفهم و سیصرفهم و منعهم من كل ذلك تصدیقا منه لنبیه المرسل (ص)- فلیس القرآن عندهم هو المعجز و انما المعجز عندهم هو صرف اللّه الناس عن الاتیان بمثله أو محاكاته» «6» أی ان المنع- لدی هؤلاء- هو المعجز ..
كما و اضاف هؤلاء فی تأیید رأیهم ان اللّه تعالی «ما انزل القرآن
______________________________
(5) النظام هو أبو إسحاق إبراهیم بن سیار بن هانی البصری شیخ المتكلمین و حجة المعتزلة، و قد عاصر كل من الرشید و المأمون و مات فی خلافة المعتصم العباسی شابا و فی سنة 231 هجریة عن عمر 36 سنة، و من تلامیذه الجاحظ الأدیب المعروف و إلیه- النظام- تنسب المدرسة أو الفرقة النظامیة و قد لقی هشام بن الحكم و أفاد منه كما و أخذ عن أبی هذیل العلاف ثم استقل عنه ..
(6) تجدید ذكری أبی العلاء- الدكتور طه حسین.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 285
لیكون حجة علی النبوة، بل هو مثل بقیة الكتب المنزلة من قبل، انزل لبیان الاحكام و التعالیم من الحلال و الحرام، و العرب انما لم یعارضوه مع قدرتهم علیه لأن اللّه تعالی صرفهم عن ذلك» «7».
و فی الحقیقة ان هذه الحجج و الدعاوی هی هزیلة و واهیة و لا تقف علی قدمیها و لا تصمد امام الحقیقة و الواقع و لیس لها وزن یقام كما سنری قریبا .. اما الأكثریة من الأدباء و ارباب القلم و الفكر و التی تذهب إلی ان الصرفة لیست هی سبب الاعجاز و ان الاعجاز قائم فی نفس الكتاب «8» فی فصاحته و بلاغته و فنونه و علومه و انظمته فتورد ادلة و حقائق عدیدة من أجل اثبات رأیهم و قولهم و منها ان اللّه تعالی لا یلیق به ان یصرف الناس عن الاتیان بمثله- القرآن- و هو الذی یخاطبهم و یتحداهم فیه و بكل صدق و صراحة بقوله «قل فأتوا بسورة مثله» «9» فلا یمكن هنا و الحالة هذه التوفیق و الملائمة بین تحدی اللّه الناس بالاتیان بمثل هذا القرآن أو سورة من مثله و بین صرفهم عنه و هو ما تقوله الفئة الأولی لأن هذا الفعل یوقع فی التناقض و التصادم و محال علی اللّه تعالی ذلك أبدا ..
و منها أیضا انه اذا لم یكن القرآن معجزا لما فیه من الوان البلاغة و فنون الأدب و البیان لكان نزوله عن مرتبة البلاغة و درجة الفصاحة ابلغ فی الاعجوبة و الاعجاز و التحدی و الاتیان بشی‌ء منه ..
و منها لو أن العرب كانوا قد صرفوا عن معارضة القرآن فلم یكن من قبلهم من العرب مصروفین عنه بسبب انهم لم یتحدوا به، فربما كان من الطبیعی ان نجد و نقف علی ما یناظر القرآن و یشبهه فی كلام العرب السالفین و هذا ما لم نجده فی الأدب العربی الخاص بهم ..
______________________________
(7) من بلاغة القرآن- الدكتور أحمد أحمد بدوی.
(8) الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
(9) یونس: 38.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 286
و منها ما قرأنا فی خضم التاریخ- كما سیرد بیانه- من ان هناك كثیرین منذ فجر الاسلام حتی العصور المتأخرة حاولوا تقلید القرآن و الاتیان بمثله أو شی‌ء من مثله، إلا ان حصیلة اعمالهم و ثمرة اتعابهم هذه لم تتعدی عن ان تكون كلمات و جمل هزیلة و جافة و غیر منسجمة و لا منسقة و لا تقف ابدا بجانب اقل مستویات الأدب و الثقافة و البیان ..
لذا فان اللّه سبحانه لم یصرف هؤلاء عن عملهم و الذی تمخض عن عبارات و جمل و مقالات متداعیة و ضعیفة، بل فتح امامهم أبواب التحدی و لا زال علی مصراعیه ..
و منها كذلك انه لو كان عجز العرب عن المعارضة و الصرفة غیر صحیح لما استعظموا بلاغة القرآن و تعجبوا من بیانه و بلاغته- كما سیرد بیانه- و كما جاء علی لسان بعض اعداء الاسلام كالولید بن المغیرة و عتبة ابن ربیعة و غیرهم.
و لسنا الآن فی صدد الاسهاب فی هذا الموضوع أو ایراد كل ما كتب عن اعجاز القرآن و لو علی وجه الایجاز و الاختصار لأن الاشارة إلی اكثر من ذلك سیتطلب المزید من البیان و الوقت و هو یتعارض و اسلوب هذه الدراسة ..
هذا فضلا عن ان موضوع اعجاز القرآن قد أصبح امرا و شیئا مفروغا منه بعد ان فلّت اسلحة المتحدین و باءت محاولاتهم و جهودهم بالفشل و الخسران ..
علما بانه لو كان هناك شی‌ء من التحدی- جدلا- و لو بسورة واحدة فقط «لذكره و لرفعه الضالین نارا علی علم و لاحتفلت فیه الملایین من اعداء الاسلام و القرآن و لسجّل فی كتبهم و موسوعاتهم التی ملئت الخافقین و لتلقوه بالفرحة و الغبطة لأنها الحجة التی ما وراءها حجة» «10».
______________________________
(10) آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن- الشیخ محمد جواد البلاغی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 287
فضلا عن انه «قد مضت علی نزول القرآن أربعة عشر قرنا و دخل القرن الخامس عشر باكتشافات جدیدة و مخترعات مدهشة و هذه سنة ثلاث و اربعمائة بعد الألف و لم یقدر أحد علی معارضته، فلو كان فی وسع أحد الاتیان بمثل هذا القرآن أو بمثل سورة منه لأتی به، و هذا من أعظم الدلائل علی اعجاز القرآن و انه وحی الهی لا یشبه كلام الانس و لا كلام الجان» «11» ..
لذا فلیس لدینا ما نقوله هنا إلا ان نذهب و نشد علی عضد من صرّح بان «نفس موسی و عیسی- علیهما السلام- و سائر الأنبیاء الآخرین لو جاءوا الآن لما وسعهم إلا الایمان القاطع بهذه المعجزة و الاعتراف بصحتها و بقاءها» «12» مدی الزمن و الدهر ..
اذن «فاعجازه- القرآن- من حیث الآیة بدایة و نهایة و مسافة و قافیة و قد یكون الروی واحد و مقاطع صوتیة متشابهة، و اعجازه فی السورة من حیث تعدد فصولها و الصورة الفنیة فیها، فسورة طویلة و اخری صغیرة و سورة بدأت بدعوی ثم اعقبتها بادلة و براهین ثم بصیغ متقاربة و حدیث و آخر و قصة و اخری» «13» و رغم كل هذا و ذاك فإنه نری انه لیس من المنطقی أو المعقول فی شی‌ء ان نمر علی موضوع اعجاز القرآن- و الذی هو من أهم مواضیع هذه الدراسة- من دون ان نشیر و لو بایجاز إلی بعض وجوه هذا الاعجاز و اشكاله علی ان نتولی أولا تعداد بعض الأوجه المهمة فی الاعجاز ثم نعرج علی تبیان و كشف وجه واحد أو أكثر منه و الذی له ارتباط وثیق بروح العصر و بالتقدم العلمی الذی تعیشه البشریة، علی ان نتوج كل
______________________________
(11) منهج البیان فی تفسیر القرآن- السید ابن الحسن الرضوی.
(12) القرآن و العلم الحدیث- عبد الرزاق نوفل.
(13) القرآن و العقلیة العربیة- نعمة هادی الساعدی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 288
ذلك بمقدمة قصیرة تبحث فی موقف اعداء القرآن منه، و كیف امكن للقرآن ان یأسر الباب و عقول كثیر من هؤلاء فیعیدهم إلی صفوف المسلمین لیكونوا من انصار و دعاة الدین الجدید بعد ان كانوا من اشد الخصوم له ....
لقد نزل القرآن فی بلد عربی و بین عوائل عربیة كانت تعانی و تشكو من التأخر و الانحطاط و التخلف فی غالبیة النواحی و المیادین إلا فی الفصاحة و البلاغة و البیان و التدوین، لذا نری ان اللّه تعالی قد بعث لهؤلاء القوم كتابا بلغتهم و «علی المستوی الفنی و البلاغی الذی كان علیه هؤلاء و لم یتخذ فنا أو صیاغة أو اسلوبا أو نهجا فی الخطاب غیر مألوف عندهم» «14» لیكون حجة لصدق نبوة الرسول (ص) ..
و رغم المعارضة المستمیتة التی وجهها القرشیون للحط من اشراقة النبوة و طمس معالم الرسالة و رغم التهم و الافتراءات الباطلة التی نثروها هؤلاء بسخاء فی طریق الرسول (ص) و انطلاقة الدعوة، رغم كل هذه و تلك لم تسمع قط بمحاولة جدیة أو تصمیم صادق من قبلهم للاتیان بمثل هذا القرآن أو بشی‌ء یسیر منه و لو بمقدار سورة صغیرة واحدة عدا كلمات مضطربة لا یوحّدها نظام أو هدف محدد ..
لقد اراد نفر من المشركین- فی عهد الرسول- ان یطعنوا بالقرآن عن طریق استخراج ما به من آیات غیر فصیحة أو كلمات غیر متداولة لیعلنوا عدم اعجاز القرآن- و قد قاموا باستخراج الكلمات الثلاثة و هی (یستهزئ، كبار، عجاب) و جاءوا إلی الرسول لیشعروه بما عثروا علیه، و ان هذا سیذهب باعجاز القرآن و روعته، فأجابهم الرسول باحضار فصحائهم و بلغائهم التباحث معهم فی أمر هذه الكلمات، و فعلا قدم هؤلاء علی الرسول (ص) و عند دخولهم قام لهم الرسول
______________________________
(14) القرآن و العقلیة العربیة- نعمة هادی السعدی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 289
فقاموا ثم جلس فجلسوا معه ثم قام الرسول مرة أخری فقاموا معه و جلس فجلسوا و هكذا إلی عدة مرات فما كان من كبیرهم إلا ان یخاطب الرسول بقوله: «أ تستهزئ بی و انا شیخ كبار ان هذا یا محمد لشی‌ء عجاب» فأجاب الرسول بأن هذا الكلام هو جواب هؤلاء فانصرفوا ..
و اذا ما كانت هناك و بعد وفاة الرسول (ص) أو قبلها بقلیل، اذا كانت هناك محاولات مشبوهة من قبل ادعیاء النبوة كمسیلمة بن حبیب النجدی الكذاب فی بنی حنیفة بالیمامة أو طلیحة بن خویلد الأسدی فی قبیلة بنی سعید أو سجاح بنت الحارث فی بنی تغلب أو الأسود العنسی فی الیمن لمحاكاة القرآن أو الاتیان بمثله فان ما أورده هؤلاء من كلمات و أقوال لا یتعدی عن ان یكون هذیان محموم و سقطات مضطربة و غیر مرتبطة بالقواعد النحویة و البلاغیة ..
و باختصار فانها لا تصل إلی ألف باء الأدب و اللغة فضلا عن مستوی ارفع منه بقلیل، لذا آثرنا هنا ألا ننقل منها إلا نتفا قلیلة لأنها لا تستحق النظرة العابرة فضلا عن قراءتها و دراستها بامعان و تدبر «15» ..
لقد أورد مسیلمة الكذاب الذی زعم ان له قرآنا نزل علیه من
______________________________
(15) ربما یظن البعض بان نجاح الإسلام و انتشاره و قهر مناوئیه قد طمس علی آثار هؤلاء المناوئین له سواء الفكریة أو الأدبیة أو غیرها، و ذلك لما نری فی عصرنا الحاضر من أن الكلمة المطاعة و الأخیرة هی للغالب و ان المغلوب سیناله الویل و الثبور، إلّا أن الذی أوردناه عن آثار هؤلاء المناوئین للإسلام هو الحقیقة و الواقع و ذلك لسببین هما:
1- إن للإسلام و رسالته حالیا أعداء كثیرون و هدفهم الأوحد تشویه معالم هذا الدین بقلب الحق إلی باطل و بالعكس. فلو كان هناك أدب و فكر، لمناوئی الإسلام لا برزوه و أذاعوه و هذا ما لم نجده فی الكتب أو مكان آخر ..
2- إن التاریخ یضم كل صغیرة و كبیرة و كل غث و سمین حیث هو سجل ناصع للحیاة، و لم نشاهد فی هذا السجل ما یشیر إلی وجود تراث لاعداء الإسلام و مناوئیه ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 290
السماء و یأتی به الیه ملك یدعی «رحمن» أورد فی قرآنه المزعوم ما یلی: «الباذرات زرعا، و الحاصدات حصدا، و الذاریات قمحا، و الطاحنات طحنا، و العاجنات عجنا، و الخابزات خبزا، و الثاردات تردا، و اللاقمات لقما، اهالة و سمنا، لقد فضّلتم علی أهل الوبر، و ما سبقكم أهل المدر، ریفكم فأمنعوه، و المنعتر فآووه، و الباغی فناوئوه ..... الخ.
و قال أو أورد فی مكان آخر من هذا القرآن المزعوم: «الفیل ما الفیل، و ما ادراك ما الفیل، له ذنب قصیر و خرطوم طویل ...».
كما ورد فیه أیضا «یا ضفدع بنت ضفدعین، نقی ما تنقین، نصفك فی الماء و نصفك فی الطین، لا الماء تكدرین، و لا الشارب تمنعین».
هذا «و كل كلامه علی هذا النمط واه سخیف لا ینهض و لا یتماسك، بل هو مضطرب النسج مبتذل المعنی مستهلك من جهتیه» «16».
اما الأسود العنسی الملقب بذی الخمار فله غریب و عجیب و نورد فی أدناه احدی سوره التی یباری بها «سورة الأعلی» اذ یقول: «سبح اسم ربك الأعلی الذی یسر علی الحبلی فاخرج منها نسمة تسعی بین اضلاع وحشی فمنهم من یموت و یدس فی الثری و منهم من یعیش و یبقی ...»
هذا و ان آیات القرآن الكریم لم تشل أیدی و قلوب و السنة العرب عامة و القرشیین خاصة و تتحداهم فی ان یأتوا بمثلها فقط و انما اسرت قلوب بعض هؤلاء و اخذت بالبابهم و اجرت علی افواههم و السنتهم الحق
______________________________
(16) إعجاز القرآن و البلاغة المحمدیة- مصطفی صادق الرافعی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 291
و الصدق عند ما ادركوا ما فیها من البلاغة و البیان و الحكمة .... الخ فضلا عن ان «هذه الآیات كانت العامل الحاسم أو أحد هذه العوامل الحاسمة فی ایمان من آمنوا فی أوائل أیام الدعوة یوم لم یكن للرسول (ص) حول و لا طول و یوم لم یكن للاسلام قوة و لا منعة» «17».
فهذا الولید بن المغیرة الذی عاش و مات علی كفره لما سمع من النبی (ص) قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «18» یجیب قومه عند ما سألوه عن حقیقة ما سمع من محمد (ص) بقوله: «انه سمع من محمد آنفا كلاما لا یشبه شیئا من كلامنا، انه لیس من كلام الانس و الجن، ان له لحلاوة و ان علیه لطلاوة و ان اعلاه لمثمر و ان اسفله لمغدق و ان اصله لعذق و ان فرعه لجناة و انه لیحطم ما تحته و انه لیعلو و لا یعلی علیه».
و لما طلبوا منه- و هو الشیخ الكبیر المجرب الداهیة- ان یصفه لهم قال: «قولوا ساحر جاء بقول یفرّق بین المرء و أبیه و بین المرء و أخیه و بین المرء و زوجته و بین المرء و عشیرته» «19».
ف «انظر إلی هذا الرجل المعاند كیف اعترف الحق فی أول أمره بحسب ذوقه العربی الذی كان مفطورا علیه، و لكن لما اعترته الحمیة و غلبت علیه الشقوة عدل عن مقاله و عاد إلی ضلاله» «20».
و ذاك هو عتبة بن ربیعة الذی تبعثه قریش لیفاوض و یساوم النبی (ص) فی ترك دعوته لقاء مغانم و منافع هائلة و مغریة لا یكاد یعود من عنده بعد ان یسمع كلامه حتی یجیب قریش و هم بانتظار قدومه بقوله:
______________________________
(17) التصویر الفنی فی القرآن- سید قطب.
(18) النحل: 90.
(19) القرآن- محاولة فهم عصری- مصطفی محمود.
(20) منهج البیان فی تفسیر القرآن- السید ابن الحسن الرضوی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 292
«... انی سمعت قولا و اللّه ما سمعت مثله قط و اللّه ما هو بالشعر و لا بالسحر و لا بالكهانة، یا معشر قریش اطیعونی و اجعلوها بی و خلوا بین هذا الرجل و بین ما هو فیه فاعتزلوه فو اللّه لیكونن لقوله الذی سمعت منه نبأ عظیم فان تصبه العرب فقد كفیتموه بغیركم و ان یظهر علی العرب فملكه ملككم و عزه عزكم و كنتم اسعد الناس به».
و هذا مثل ثالث هو الخلیفة عمر بن الخطاب (رض) قبل ان یشهر اسلامه تطرق اسماعه اخبار مقلقة مفادها ان شقیقته (فاطمة) قد اشهرت اسلامها- أو صبأت بمفهوم القرشیین حینئذ- فیذهب لتوه إلی دارها و هو یتمیز من الغیظ مصمما علی الاجهاز علیها- ان ثبت لدیه إسلامها- لیجعل منها عبرة لكل من یحاول أو یفكر فی تبدیل دین آبائه و اجداده و الدخول فی الدعوة الجدیدة التی جاء بها محمد (ص) ..
و عند ما یقترب من دارها و یلجه یبطش بصهره (ختنه) سعید و یلطم اخته لطمة یشج بها وجهها ثم یخطف من ید أخته- التی كانت ترتجف امامه- صحیفة خاصة لیری حقیقتها و ما هو مسطّر فیها ..
و لكن ما ان یمرر بصره عبر هذه الصحیفة و یبدأ بقراءة ما تضم من كلمات و جمل تأخذه سنة من التفكیر و التأمل العمیق یتمخضان عن استیقاظ الضمیر و حركة الوجدان بعد ان یدرك بان الذی قرأه لیس من صنع بنی قومه و لا نظمهم و لا یشبه ما سمعه من كلام العرب و اشعارهم فینطق لسانه بقولته الشهیرة: «ما احسن هذا الكلام و اكرمه».
لذا فیسأل بعد ذلك عن الدار التی یختبی‌ء بها الرسول (ص) فیتجه صوبه مسرعا و فی وسطه یشهر اسلامه بین صفوف الرسول و من معه من المسلمین فیرتفع التكبیر فی اطراف الدار حتی خیف ان یصل التكبیر إلی سماع القرشیین التی لا تبعد مساكنهم عن هذه الدار إلا بمسافة قصیرة، و لكن الفرح الذی غمرهم و الأمل الذی اصابهم كان اقوی من الخوف و من بطش القرشیین بعد ان انضم إلی صفوفهم نصیر
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 293
جدید له فی قلوب المكیین رهبة و خشیة عظیمین ..
و هذه الأسطر القلیلة التی فصلت فی نفس عمر بن الخطاب و نقلته من صفوف المشركین إلی لواء الاسلام كانت آیات معدودة من سورة طه ..
و تمضی السنون و تتلاحق الأیام فتتظافر تبعا لها الجهود المریبة و تلتقی الآمال المشبوهة النیل من القرآن أو محاكاته، و لكن كل ذلك كان ینتهی إلی الفشل الذریع و الخسران المبین ..
و لا ضیر هنا من ان نورد لونا آخر من هذه المساعی البائسة لنری كیف بائت آمال ابطالها بالخسران و كیف أعترف فرسانها بالفشل و عجزهم عن محاكاة القرآن أو التصدی له.
و هذا اللون الجدید من هذه الجهود و المساعی المریبة تلخص فی الروایة التالیة و التی ننقلها بتصرف «21». یروی انه قد التقی فی بیت اللّه الحرام عند مطلع الدولة العباسیة أربعة من اقطاب الأدب و فرسان الزندقة و الالحاد و هم عبد الكریم بن أبی العوجاء و أبو شاكر میمون بن دیصان و عبد اللّه بن المقفع «22»
______________________________
(21) المعجزة الخالدة- السید هبة الدین الشهرستانی.
(22) ولد عبد اللّه بن المقفع فی البصرة فی النصف الأول من القرآن الثانی الهجری (عام 106 ه) و كانت- البصرة- حافلة بالأدباء و الشعراء فبرع باللغة العربیة و آدابها و أصبح كاتبا للخلیفة أبی جعفر المنصور، و نشأ ابن المقفع- كأبیه- زرادشتیا و أسلم علی ید عیسی بن علی عم المنصور و أصبح كاتبا عنده ..
و یرجع نسبه إلی الفرس، لذا كان عریقا فی الفارسیة عالما بآدابها متمكنا من أسالیبها لأنها لغته و لغة آبائه ..
لذا فعند ما أقدم علی ترجمة كتاب (كلیلة و دمنة) من الفهلویة (الفارسیة القدیمة) إلی العربیة كانت ترجمته أمینة و صادقة ..
قتله عامل المنصور فی البصرة فی عام 142 أو 143 ه و عمره لا یتجاوز الأربعین سنة .. و سبب قتله هو تشدّده فی كتابة صیغة الأمان التی وضعها لیوقع علیها المنصور أمانا إلی عبد اللّه بن علی حیث أفرط ابن المقفع فی الاحتیاط بها حتی لا یجد المنصور منفذا فیها للاخلال بعهده، حیث غاظ المنصور ذلك فأوعز إلی عامله لقتله، و من آثاره الأدبیة هو «الأدب الصغیر و الأدب الكبیر و الیتیمة و رسالة الصحابة و كلیلة و دمنة» ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 294
و عبد الملك البصری، فخاضوا فی مسائل الحج و مناسكه و الدعوة الاسلامیة و ما یذوقون فی ظلها من صنوف التنكیل و المقاومة، و قد استقرت آراؤهم و التقت افكارهم فی معارضة القرآن و محاكاته و كشف ما به من اخطاء لأنه لو تحقق لهم ذلك تمكنوا من اسقاط الشریعة و ابطال مفعولها، لأن هذه الشریعة تعتمد علی القرآن، فلو سقط القرآن- برأیهم- لسقطت الشریعة و انهدمت الدعوة ..
و لقد اتفق الأربعة علی ان یتولی كل واحد منهم القیام بعب‌ء نقض ربع من القرآن إلی نهایة السنة القادمة، و بجمع الأرباع الأربعة إلی بعضها فسیكون كل القرآن قد تم نقضه و بذلك سیریحوا انفسهم و جماهیر المسلمین من تكالیف الاسلام و اعباءه من صلاة و صیام و زكاة و حج و جهاد .... الخ و ستتحقق بذلك مبادئهم و اهدافهم المتهرئة ..
فتفرق الأربعة كل إلی داره و مصره حاملا كل منهم ربع القرآن الذی وقع من نصیبه علی ان یكون لقاءهم القادم فی مثل هذا الوقت و المكان من السنة القادمة ..
و لما حان الوقت المحدد حضر الجمیع، و بعد ان استقر مكانهم و اخذوا فی التداول فیما بینهم عن اتفاقهم السابق حول نقض و استخراج القرآن كان ابن أبی العوجاء أول من رفع یده بالكلام حیث قال لرفاقه:
«انه لیأسف ان یقدم اعتذاره الحار عما كلف به لأنه عند ما راجع بعض الآیات التی كلف بنقضها ادهشته و سلبت افكاره و اصمت سمعه و بصره عند مروره بالآیة: لَوْ كانَ فِیهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا، فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا یَصِفُونَ «23» فانقطع عن اتمام عمله ..
______________________________
(23) الأنبیاء: 22.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 295
و جاء من بعده دور الثانی میمون بن دیصان فاعتذر هو بدوره و قال: «إنه قد افزعته و اذهلته الآیة: یا أَیُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ یَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ یَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَیْئاً لا یَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ «24» فشغل بها عن القیام بعمله المكلف به من قبل ..
و عند ما جاء دور الثالث و هو عبد اللّه بن المقفع فإنه ابدی اعتذاره لأنه شعر بنفس ما شعر به زملائه عند ما مرت من أمامه الآیة: وَ قِیلَ یا أَرْضُ ابْلَعِی ماءَكِ وَ یا سَماءُ أَقْلِعِی وَ غِیضَ الْماءُ وَ قُضِیَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَی الْجُودِیِّ وَ قِیلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِینَ «25» فاشغلته آیة نوح هذه عن المضی فی الأمر الذی اتفق علیه ..
اما الأخیر و هو عبد الملك البصری فكانت آیة یوسف و هی قوله تعالی: فَلَمَّا اسْتَیْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِیًّا قالَ كَبِیرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَیْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِی یُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّی یَأْذَنَ لِی أَبِی أَوْ یَحْكُمَ اللَّهُ لِی وَ هُوَ خَیْرُ الْحاكِمِینَ «26» هی التی ذهبت بلبه و صرفته عن الشروع فی إنجاز العمل الموكل إلیه ..
و هكذا «سمع العرب آیات التحدی و اشتهرت فیما بینهم و دارت علی السنتهم و لكن عجزوا عن معارضة القرآن و لو بمثل اقصر سورة منه مع انهم كانوا ائمة الفصاحة و البیان» «27».
و دار الزمن من بعد ذلك دورته و سار الفلك لیقطع القرون
______________________________
(24) الحج: 73.
(25) هود: 44.
(26) یوسف: 8.
(27) منهج البیان فی تفسیر القرآن- السید ابن الحسن الرضوی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 296
و السنوات حیث اوصلنا إلی عهد المبشرین و المتشككین و اعداء الدین، هؤلاء الذین نراهم یتعبون أنفسهم و ینفقون الأموال الطائلة فی الحط من منزلة الاسلام و مكانة الرسول الكریم (ص) و عظمة القرآن المجید، فلو كان فی مكنة هؤلاء ان یعارضوا القرآن و لو بقدر سورة واحدة لما تخلفوا أو تأخروا لحظة واحدة و لكان هذا أعظم الحجج بیدهم لتقویض دعائم الاسلام و اقرب الطرق لنسف و تحطیم حقائقه و معالمه و لما كلفوا انفسهم عناء انفاق و صرف الأموال و الاتعاب و الجهود بدون طائل أو بدون نتیجة مثمرة و مضمونة «28» ..
و علی الرغم من كل ذلك نجد هناك و فی نفس الوقت افرادا بل جماعات كثیرة من غیر المسلمین سواء من المستشرقین أو من غیرهم من حكّموا ضمائرهم و حرّكوا وجدانهم و استیقظت قلوبهم فقالوا و كتبوا عن القرآن و اعجازه و فنونه و معارفه الكثیر و قد تم جمع بعض أقوالهم و كتاباتهم فی فصل مستقل باسم «القرآن فی نظر غیر المسلمین» فی نهایة هذه الدراسة ..
______________________________
(28) البیان فی تفسیر القرآن- السید أبو القاسم الخوئی، الإسلام علی ضوء التشیع- الشیخ حسین الخراسانی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 297

صور من الإعجاز الفنی فی القرآن‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 299
لقد سبق ان قلنا فی الفصل السابق ان اعجاز القرآن الكریم لم یقتصر علی وجه أو لون واحد و انما یقوم علی وجوه و نواحی عدیدة قد تعتبر كل واحدة منها معجزة قائمة بذاتها، و من أجل ایفاء الموضوع حقه سنشیر فی أدناه إلی غالبیة وجوه الاعجاز فی القرآن ثم نتناول واحدا أو أكثر منها بالشرح و التحلیل من لها رابطة و علاقة بروح العصر و بالتقدم العلمی و التقنی الذی یعیشه المرء .. و هذه الوجوه هی:
1- فصاحة الألفاظ و الجمل و بلاغتها «1» و سمو معناها و بیانها و جزالة منطقها و عذوبتها و بداعة نظمها و عجیب تألیفها و تناهیها فی الكمال مما یجعل وقعها فی النفوس كبیرا و تأثیرها فی القلوب عظیما «2»، كما لا یوجد فی العربیة أثر یجاریها فی بلاغتها بحیث یحفظ جمال الاسلوب
______________________________
(1) یقال أن الاصمعی سمع فتاة تقول قولا بلیغا فتعجّب من حسن حدیثها و عذوبة منطقها و قوة فصاحتها فقال لها: قاتلك اللّه ما أفصحك ...؟ فأجابته ما أفصحنی، أین فصاحتی من فصاحة القرآن الكریم حین یقول فی سورة القصص الآیة 7: «وَ أَوْحَیْنا إِلی أُمِّ مُوسی أَنْ أَرْضِعِیهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَیْهِ فَأَلْقِیهِ فِی الْیَمِّ وَ لا تَخافِی وَ لا تَحْزَنِی إِنَّا رَادُّوهُ إِلَیْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِینَ» ..
فقد جمع اللّه تعالی فی هذه الآیة بین أمرین و نهیین و بشارتین و خبرین ..
(2) نشیر إلی أن قادة قریش حینما كانوا یتفقون علی أن لا یسمعوا كلام اللّه فی مكة فإنهم كانوا لا یستطیعون صبرا علی ذلك، فإذا أصبح اللیل تخفی كل واحد منهم و سار خلف جدران البیوت و جلس فی الظلام لیسمع آیات اللّه یرتلها النبی (ص) و هو جالس فی داره ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 300
مع هذا المقدار من الطول و الاشتمال علی الموضوعات المختلفة من الأوامر و النواهی و الوعد و الوعید و القصص و غیرها ..
2- القوانین الحكیمة و التشریعات المفصلة و الانظمة الكاملة و الاحكام العادلة الرحیمة لكل ناحیة من نواحی الحیاة و لكل العلاقات القائمة بین الأفراد ..
3- الأسرار العلمیة و الفلكیة التی لم تكشف وقائعها و لم تفتح أبوابها إلا فی هذا الوقت و بعد اختراع المراصد و المجاهر الكبیرة ..
4- أنباؤه الغیبیة و اعلانه عن حوادث الزمان المستقبلیة و خفایا الوقائع اللاحقة مما لا یقدر البشر علیه و لا سبیل لهم إلیه، و قد ظهر بعد ذلك صدقها و تحققها مائة فی المائة ..
5- سلامته من أی نوع أو لون من التعارض و التناقض و الاختلاف و الاغلاط و السهو و الاشتباه «3».
6- ابتعاده عن الخرافات و الاساطیر التی من شأنها ان تسقط أمام العلم و تنحنی بوجه تیار المعرفة و الثقافة مع حملته الشعواء علی هذه الاساطیر و هذه الخرافات ..
7- قصصه البدیعة و حوادثه التاریخیة عن الایام الماضیة و العصور البائدة التی عفا علیها الزمن و اصبحت نسیا منسیا «فالاكتشافات التی تظهر فی كل وقت تضیف حقائق تثبت أن القرآن هو أول تفصیل لما لم یكن معروفا كالحفریات التی حققت قصة النبی یوسف و ما قام به و قصة الطوفان و فلك النبی نوح و ملكة سبأ» «4».
______________________________
(3) المعجزة الخالدة- السید هبة الدین الشهرستانی.
(4) القرآن و العلم الحدیث- عبد الرزاق نوفل.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 301
8- امثاله الشیقة و الجمیلة التی تقلب الغائب إلی حاضر و المعقول محسوسا و الخیال واقعا و الخفی ظاهرا.
9- طراوته فی كل زمان و مكان و كونه غضا طریا كلما تلی و اینما قرئ من دون ان یجلب للمقرئ أو المستمع الملل و النفور .. و بهذه المناسبة نذكر أنه قیل للإمام جعفر الصادق ع- «5» لم صار الشعر و الخطب یمل ما أعید منها و القرآن لا یمل ...؟
فأجاب: لأن القرآن حجة علی أهل الدهر الثانی كما هو حجة علی أهل الدهر الأول، فكل طائفة تتلقاه غضا جدیدا، و لأن كل امرئ متی اعاده و فكر فیه تلقی منه فی كل مدة علوما غضة، و لیس هذا كله فی الشعر و الخطب ..
10- مباحثه الإلهیة كأحسن و أكمل دراسة و بحث فی علوم اللاهوت و فی كشف و بیان اسرار السماوات و فلسفة المبدأ و المعاد و قیام الساعة و وصف الجنة و النار و الصراط و المیزان ..
______________________________
(5) الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علی زین العابدین بن الحسین السبط ابن علی بن أبی طالب- ع- و أمه أم فروة فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبی بكر و هو سادس الأئمة عند الإمامیة.
ولد بالمدینة عام 83 هجریة، و كان من عظماء العباد و أكابر الزهاد حتی قال فیه الإمام مالك: «ما رأیت عینیّ أفضل من جعفر بن محمد فضلا و علما و ورعا»، كما و قال الإمام أبو حنیفة فیه: «ما رأیت أفقه من جعفر بن محمد».
و كان الإمام كالبحر من أی النواحی أتیته، و كانت أیامه فی نهایة الدولة الأمویة و بدایة الدولة العباسیة، حیث أتیحت له فی هذه الفترة ما لم یتهیأ لإمام قبله أو بعده لتبلیغ رسالته العلمیة و الأخلاقیة للناس حتی بات هناك (4) آلاف راویة یقول كل واحد منهم «حدثنی جعفر بن محمد» لذا نسب المذهب إلیه .. توفی بالمدینة عام 148 ه و دفن فی البقیع مع أبیه وجده- علیهم السلام ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 302
11- «سهولة طریقه فهو خارج عن الوحشی المستكره و الغریب المستنكر و عن الصنعة المتكلفة و كونه قریبا إلی الافهام و واضحا للأنام و هو مع ذلك ممتنع المطلب و عسیر المنال» «6».
12- كونه آخر الكتاب غنیا عن غیره و كون غیره من الكتب المتقدمة قد تحتاج إلی بیان یرجع فیه إلیه» «7» ..
هذا و ان كل ما اوردناه آنفا عن وجوه الاعجاز و التی امكن جمعها من مصادر و مؤلفات عدیدة یعدها السیوطی فی الاتقان بانها جزا واحدا من عشر معشار وجوه الاعجاز فی القرآن الكریم، و سواء أ كانت وجوه الاعجاز بالعدد الذی ذهبنا الیه أو أكثر من ذلك باضعاف مضاعفة، فاننی اری بان كل وجه واحد قد یعتبر معجزة قائمة بذاتها لیس فی امكان الغیر الاتیان بمثله و ان ذهبت البعض كالزركشی فی البرهان من ان الاعجاز فی القرآن وقع بجمیع ما سبق من الوجوه لا بكل واحد علی انفراده لأنه جمع ذلك كله، فلا معنی لنسبته إلی واحد منها بمفرده مع اشتماله علی الجمیع الخ ..
و كیفما كان الحال فإننا هنا سنقتصر فی البحث و الاشارة إلی وجهین فقط من الاعجاز و اللتین وردتا فی الفقرتین (3 و 4) و المتعلقتان بالابحاث العلمیة و الغیبیة و ذلك لارتباطهما بروح العصر ارتباطا قد یفوق ما عداهما، تاركین الوجوه الأخری فی مظانها و مصادرها ..
فبقدر تعلق الأمر بالمیدان العلمی فنقول بان القرآن الكریم یشیر فی اماكن عدیدة منه إلی ظواهر علمیة و فلكیة لم یتفهمها الناس حق فهمها إلا فی العصور المتأخرة و بعد ان تطوّرت الاختراعات و الابحاث العلمیة و وصلت إلی درجة عالیة من الرقی و الإزدهار ..
______________________________
(6) إعجاز القرآن- أبو بكر الباقلانی.
(7) الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 303
فمثلا نأمل قوله تعالی وَ الْخَیْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِیرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِینَةً وَ یَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ «8» ففی هذه الآیة یعدّد القرآن الكریم وسائل النقل المعروفة منذ السنوات الغابرة إلی وقت قریب، فلو وقفت هذه الآیة عند ذكر الخیل و البغال و الحمیر لاصطدمت لا محالة مع الوسائط النقلیة التی نجدها الآن و بعد ان اوشكت الوسائط القدیمة علی الانقراض، و لكن اللّه تعالی أعقبها بقوله: وَ یَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ فجعلت الآیة تتفق و كافة وسائط النقل الجدیدة من طائرات و قطارات و بواخر و سیارات و غیرها «9» ..
و انظر إلی قوله تعالی: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ «10» فان القدامی عند ملاحظتهم للشطر الأخیر من الآیة «ما لا تُبْصِرُونَ» لم یتجاوز مدی تفسیرهم و تأویلهم لها عن معنی الجن و الأرواح و الأشباح إلا انها الآن تستوعب كافة الأشیاء التی اثبت العلم وجودها دون التمكن من رؤیتها بالعین المجردة كالإلكترونات و البروتونات و الجراثیم و الذرة «11» ..... الخ ..
و تدبّر كذلك قوله تعالی وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آیاتِها مُعْرِضُونَ «12» ألا تعنی السماء هنا سماء الأرض و هو الجو المحیط بالأرض من كافة اطرافه، و هذا الجو یحمی الناس من الشهب و النیازك التی تتساقط منها یومیا مئات الأطنان ..
و لو كتب لهذه الشهب و النیازك و المكوّنة من الصخور و المعادن و الاحجار السقوط علی الأرض لدمّرت غالبیة مناطق الأرض و لجعلت
______________________________
(8) النحل: 8.
(9) فی الإیمان و الإسلام- أحمد حسین.
(10) الحاقة: 38.
(11) فی الإیمان و الإسلام- أحمد حسین.
(12) الأنبیاء: 32.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 304
الحیاة علیها قلقة و مربكة ان لم تكن معدومة، و لكن عند مرور هذه الشهب بجو الأرض و احتكاكها بالهواء (تحترق نتیجة سرعة هذا الاحتكاك) قبل وصولها إلی سطح الأرض، و تتحول أثر ذلك إلی ذرات و غبار تسبح فی الجو.
كما و یحمی جو الأرض الانسان من الاشعاعات الكونیة المهلكة و القادمة من الفضاء و یحمیه أیضا من الكهارب و الاجسام الكهربائیة الصغیرة الواردة من الأعلی ..
اذن هل سبقت هذه الآیة العلم الحدیث بألف و ثلاثمائة سنة و هل هی- الآیة- إلا انعكاس لأحدث النظریات العلمیة التی تشیر إلی وقایة الجو المحیط بالأرض لسطح الأرض من فتك و تدمیر الشهب و النیازك الساقطة علیه من الفضاء یومیا و التی تقدر بآلاف الاطنان من الصخور و الأحجار كل یوم ..
و لاحظ أیضا قوله تعالی خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ «13» ألا یتفق مفهوم الآیة و روح العصر- بعد اختراع المجاهر- و الذی اثبت ان الماء الذی ینقل من الذكر إلی الأنثی عند الاتصال الجنسی ما هو إلا عدة ملایین (300- 400) ملیون من الحویمنات المنویة التی تشبه العلق فی شكلها و هیئتها بان لها رأس و رقبة و ذیل، و عند التقاء أحد الحویمنات و هو الذی یفوز بقصب السبق بالبویضة الجاهزة عند المرأة تنقسم البویضة الملقحة علی نفسها عدة انقسامات لتكوّن بعد ذلك الجنین الذی سیستقر فی قعر الرحم، و من الجنین هذا یتكون الانسان بینما تهلك الملایین العدیدة من تلك الحویمنات المنویة.
و تأمل قوله تعالی: وَ أَرْسَلْنَا الرِّیاحَ لَواقِحَ «14» أ لم تسبق هذه الآیة الزمن بوقت طویل، حیث ان العالم إلی ما قبل وقت قصیر لم یكن
______________________________
(13) العلق: 2.
(14) الحجر: 22.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 305
لیعرف ان النبات كبقیة الكائنات له عضو مذكر و آخر مؤنث و انه یتلاقح كما یتلاقح الانسان و ان الریاح هی الواسطة الرئیسیة فی كثیر منها ..
و انظر الآن إلی الآیة الأخری و هی قوله تعالی: وَ تَرَی الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِیَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِی أَتْقَنَ كُلَّ شَیْ‌ءٍ «15» أ لا تشیر هذه الآیة الكریمة بكل صراحة و وضوح إلی أن الجبال تتحرك رغم ان رؤیتنا لها تدل علی انها جامدة و ثابتة فی محلها، و اذا ما تحركت هذه الجبال و هی متصلة بالأرض فهل یعقل ان تبقی الأرض تحتها ثابتة أم انها تأخذ نفس حركتها و دورانها.
اذن ألا توحی هذه الآیة و تشیر بجلاء إلی حركة الأرض و هی الحركة التی لم یدركها علماء الغرب إلا فی العصور المتأخرة.
و بعد هذا تدبّر هذه الآیة «الَّذِی جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» «16» ألا یشیر الوصف هنا إلی المهد الذی یصنع للطفل الرضیع لیهتز تحته لینام بكل سكینة و هدوء.
و ان الأرض هذه ذات الطول و العرض هی كالمهد فی حركتها الوضعیة و الانتقالیة «17» ..
و لاحظ أیضا قوله تعالی: یُكَوِّرُ اللَّیْلَ عَلَی النَّهارِ وَ یُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَی اللَّیْلِ «18» أ لا تری ان مفهوم و وصف الآیة للیل و النهار (الذی ینزلق الواحد منها علی الآخر بفعل دوران الأرض المستمرة» المحیطین بالأرض من كل الأطراف و الجهات احاطة السوار بالمعصم و هو وصف التكوّر، و هل تكورهما هذا قد جاء إلا من شكل الأرض التی تحیط بها من الداخل حیث ان تكویرهما یقتضی تكویر ما انبسط علیها «19» كما هو
______________________________
(16) طه: 53.
(15) النمل: 88.
(17) البیان فی تفسیر القرآن- السید أبو القاسم الخوئی.
(18) الزمر: 5.
(19) الإسلام روح المدنیة- مصطفی الغلایینی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 306
الحال علیه فی السوائل التی تأخذ شكل و هیئة قعر و جدران الاناء الذی تنسكب فیه ..
و الآن هل للتكوّر معنی غیر التحدب و هل التحدب إلا الكرویة، و هل هذه الآیة إلا دلیل ناطق علی كرویة الأرض و عدم تسطحها علی عكس ما تصوّره الأقدمون و إلی وقت قریب من ان الأرض مسطحة و مستویة ..
و تأمل بعد الآن قوله تعالی أَ وَ لَمْ یَرَ الَّذِینَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما «20» أ لا تنطبق هذه الآیة علی النظریة العلمیة الحدیثة لخلق المجموعات الشمسیة و اصل الكون، هذه النظریة التی تذهب إلی ان كافة النجوم و الكواكب و المجرات كانت كلها منذ ملایین السنین كتلة واحدة تدعی «السدیم اللولبی» و بطریقة غیر معلومة و غیر واضحة جرت علیه عدة انقسامات متتالیة مكونة من ذلك المجموعات الشمسیة و منها (مجموعتنا الشمسیة) و النجوم و الكواكب التی تملأ سماء الدنیا.
و تدبر بعد هذا قوله سبحانه: أَ یَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلی قادِرِینَ عَلی أَنْ نُسَوِّیَ بَنانَهُ «21» و هل البنان هنا إلا نهایة الأصابع و هی البصمات التی یستعملها الناس فی التواقیع ..
ان هذه البصمات لا یمكن ان تتشابه بین شخصین اثنین رغم التشابه النسبی الملاحظ علی بعض الاعضاء كالأعین و الأنوف و الآذان و غیرها، لذا اشار اللّه تعالی إلی ان قدرته و سلطته تتمكن من اعادة و انشاء ادق شی‌ء فی الانسان و هی البصمات.
ان هذه البصمات لم یدرك الانسان كنهها و حقیقتها إلا منذ مدة قریبة و فی سنة 1884 م علی وجه التحدید عند ما استعملت بریطانیا
______________________________
(20) الأنبیاء: 3.
(21) القیامة: 3.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 307
بصمات الأصابع لمعرفة هویات الناس و للتمییز ما بینهم ..
و انظر بعد هذا إلی قوله تعالی وَ الشَّمْسُ تَجْرِی لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِیرُ الْعَزِیزِ الْعَلِیمِ «22» ألا تتفق هذه الآیة مع ما اثبته العلم الحدیث اذ كشف ان الشمس تتحرك مع مجموعتها بسرعة 19 كم فی الثانیة فی اتجاه نقطة معینة ..
و تأمل قوله تعالی أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ یَنابِیعَ فِی الْأَرْضِ «23» فهل توحی هذه الآیة إلی شرح دورة المیاه الجوفیة من السماء إلی سطح الأرض و جوفها و إلی الخزانات الجوفیة ثم إلی نافورات و ینابیع تعود إلی سطح الأرض من جدید» «24».
ثم انظر إلی قوله عز و جل وَ جَعَلْنَا اللَّیْلَ وَ النَّهارَ آیَتَیْنِ فَمَحَوْنا آیَةَ اللَّیْلِ وَ جَعَلْنا آیَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً «25» فهل تشیر هذه الآیة إلی ان القمر و هو آیة اللیل مظلم و ان الشمس و التی هی آیة النهار مضیئة حیث ان محو آیة اللیل هو جعلها مظلمة بنفسها و ان نورها مكتسب من الشمس، كما و ان جعل آیة النهار مبصرة أی مضیئة بنفسها لأن النور ذاتی لها «26» ..
و لاحظ أیضا قوله تعالی: وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ «27» فالسماء فی هذه الآیة توصف بانها ترجع ما یصعد الیها، و كلنا یری بخار الماء یرجع الینا مطرا، كما ان الأمواج اللاسلكیة و التلفزیونیة ترتد الینا هی الأخری من السماء اذا ارسلت إلیها بسبب انعكاسها علی الطبقات العلیا الأیونیة، لذا نستطیع التقاط كافة الاذاعات و المحطات من الأرض بعد انعكاسها و لو لا ذلك لضاعت الأمواج
______________________________
(22) یس: 38.
(23) الزمر: 21.
(24) القرآن- محاولة لفهم عصری- مصطفی محمود.
(25) الاسراء: 12.
(26) الإسلام روح المدنیة- مصطفی الغلایینی.
(27) الطارق: 11.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 308
و تشتت، فالسماء اشبه بمرآة عاكسة ترجع ما یبث إلیها، كما ان الأرض هی الأخری ذات الصدع أی تنصدع لیخرج منها النبات و نافورات البترول و المیاه المعدنیة و العیون و البراكین «28» ..
تعال معی لنری سویا هذه الآیة و هی قوله تعالی: فَمَنْ یُرِدِ اللَّهُ ... أَنْ یُضِلَّهُ یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما یَصَّعَّدُ فِی السَّماءِ «29» .. أ لا تدل هذه الآیة علی ان الصعود إلی الأعلی فی السماء یسبب ضیقا فی الصدر و هو نتیجة طبیعیة لنقص كمیة الأوكسجین و انخفاض الضغط فی طبقات الجو العلیا، و كل هذه الأمور لم تعرف إلا من مدة قریبة «30» ..
لذا نری رواد الفضاء یرتدون ملابسا خاصة تجعل كمیة الأوكسجین و الضغط دائما و ابدا فی داخلها فی الوضع الطبیعی و كما هو علی سطح الأرض، و إلا فالموت المحقق سیكون فی انتظارهم لا محالة ..
و أخیرا و لیس آخرا نذكّر القارئ ببعض الآیات العلمیة التی تشیر إلی الحدید و استعمالاته و خلقة الانسان منذ استقرار النطفة فی الرحم إلی ان یصبح سویا و طبیعة الكون و خلقة كل حی من ذكر و انثی من أجل البقاء و استمرار الحیاة و كون هذه الخلقة منذ جاءت من الماء و طبیعة الأرض و مسالكها .... الخ ..
و أما فیما یتعلق الأمر بالفقرة الأخری و هی المیدان الغیبی فنجد فی القرآن الكریم تنبؤات عدیدة تشیر إلی حتمیة وقوع حوادث فی المستقبل القریب أو البعید ثم یدور الزمن دورته لنری صدق و تحقق هذه التنبؤات و الحوادث مائة فی المائة ..
و أول هذه التنبؤات تلك التی یشیر الیها المؤرخون دوما فی كتبهم و اخبارهم و هی الواقعة (المعركة) التی جرت بین الفرس و الروم
______________________________
(28) القرآن- محاولة لفهم عصری- مصطفی محمود.
(29) الأنعام: 125.
(30) الإسلام روح المدنیة- مصطفی الغلایینی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 309
(الرومان) و التی انتصر فیها الفرس سلفا و كانت فی سنة 618 م، كما و كانت قیادة جیوش الفرس بید ملكهم (خسرو الثانی) و هذا الانتصار الذی تم للفرس أولا ادی- حین وصول خبره إلی مكة- ادی إلی فرح و غبطة و تشمت القرشیین بالمسلمین، لأن الرومان و هم اصحاب دین سماوی قد هزموا و اندحروا امام جیوش الفرس الذین لا یدینون بدین سماوی و كذلك الأمر سیكون فی مكة حیث سینتصر القرشیون و هم غیر مرتبطین بدین سماوی علی المسلمین الذین یدعّون (بزعم القرشیین) انهم اهل دین جاء من السماء كالرومان ..
و لكن الوحی لم یكن لیترك الرسول (ص) و المسلمین فریسة هذه الشماتة و هذا الفرح الغامر و السرور الذی عاشه الكفار من قریش بل جاء لیخبرهم أمر اللّه و حكمه الذی لا مرد له و هو ان الرومان سیعیدون الكرة علی الفرس و ینتزعون منهم النصر فی غضون و بحر عدة سنین «31» ..
فما هی إلا سنوات معدودات و اذا بالرومان بقیادة امبراطورهم هرقل ینزلون بساحة جیوش الفرس بقیادة كسری برویز «32» الهزیمة و الخسران فی الواقعة المعروفة باسم الزاب أو (نینوی) عام 627 م ...
و الآیة أو الآیات التی نزلت فی هذا الصدد هو قوله تعالی: الم، غُلِبَتِ الرُّومُ فِی أَدْنَی الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَیَغْلِبُونَ فِی بِضْعِ سِنِینَ «33» ..
______________________________
(31) یروی هنا أن الخلیفة أبا بكر الصدیق كان قد راهن مشركی مكة علی تحقق هذا التنبؤ فكسب الرهان بطبیعة الحال و أنفقه كله فی الصدقة ..
(32) كسری برویز هو نفسه الذی أرسل إلیه الرسول (ص) كتابا یطلب فیه إشهار إسلامه و لكنه عرض أن یلبی نداء الإسلام مزّق الكتاب و طلب من عامله علی الیمن إیفاد من یجلب الرسول إلیه، و حین علم النبی (ص) بذلك قال: مزّق اللّه ملكه. فكان كما قال النبی ..
و برویز هذا هو حفید كسری أنو شروان العادل و الذی ولد الرسول (ص) فی عهده و قد طالما ردد الرسول أنه ولد فی عهد كسری العادل ..
(33) الروم: 201.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 310
و من هذه الغیبیات ما جاء فی سورة اللهب و هی قوله تعالی:
تَبَّتْ یَدا أَبِی لَهَبٍ وَ تَبَّ ما أَغْنی عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ، سَیَصْلی ناراً ذاتَ لَهَبٍ، وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِی جِیدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ.
فهذه السورة مكیة نزلت فی بدء الدعوة الاسلامیة و هی تعبّر بوضوح و جلاء عن السخط و اللعنة الدائمة التی تصب علی رأس هذا القرشی و زوجته فضلا عن الاشارة إلی ان مصیرهما فی الآخرة سیكون قطعا إلی العذاب و النار ..
هذا و قد شاهدنا فی خلال احداث التاریخ الاسلامی ان كثیرین من ألد اعداء الاسلام قد تحوّلوا فیما بعد إلی اشد مدافع و ذائد عنه بعد اسلامهم و انضمامهم إلی صفوف المسلمین.
فیا تری ما هو الحال الذی سینجم فیما اذا كان ابو لهب أو زوجته كأحد هؤلاء الذین اشهروا اسلامهم فیما بعد و انضموا إلی جماعة المسلمین ..
ان اللّه تعالی علم بأن هذا الشخص و زوجته سوف یبقیان إلی الأبد علی كفرهما و حربهما للرسول و لن یتشرفا مطلقا بالدخول إلی الاسلام و ان اللعنة ستلحقهما حتی حتفهما و بعده ..
و هكذا تحقق صدق الآیة حیث لم یزل أبو لهب ینقلب علی أمواج الكفر و یظهر عداءه و بغضه للاسلام حتی هلك بعد واقعة بدر الكبری عام 2 للهجرة و التی لم یشهدها بنفسه، فذهب مع زوجته یشیعهما العار و الشنار إلی العذاب و العقاب الشدید «34» ..
و من الغیبیات أیضا قوله تعالی إِنَّ عَلَیْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ «35» و قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «36». فقد اشارت هاتان الآیتان
______________________________
(34) فی الإیمان و الإسلام- أحمد حسین ..
(35) القیامة: 17.
(36) الحجر: 9.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 311
إلی ان القرآن الكریم فی حرز حریز و محفوظ من التحریف و الضیاع و التبدیل، و ان كل ید مهما علت و سمعت لا یمكنها ان تتلاعب فیه، و هكذا تحقق فیما بعد صدق الآیتین عن طریق عدم ضیاع أو فقدان أیة آیة من كتاب اللّه و الذی تم جمعه فیما بعد فی المصحف الذی هو بأیدی المسلمین الآن و علی الترتیب و الطریقة التی اشرنا الیها من قبل ..
و من المغیبات كذلك قوله تعالی لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِینَ مُحَلِّقِینَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِینَ لا تَخافُونَ «37» فهذا الذی وعد به القرآن قد تحقق فعلا فیما بعد و دخل المسلمون مكة المكرمة معتمرین و حاجین أولا ثم دخلوها فاتحین و منتصرین و تمت بذلك إرادة اللّه و صدق كلامه و وعده الذی لا مبدل له «38» ..
هذا علما بان قریش كانت هی القبیلة الواسعة النفوذ و السلطان فی الجزیرة العربیة بما فیها مكة و الحرم الشریف، و كانت هی السبب فی ایقاف حركة الدعوة الاسلامیة فی انحاء الجزیرة، و لما رأت العرب هذا الموقف الحازم من قریش ازاء الدین الجدید تریثت فی الدخول و الانضمام تحت لواءه لحین ظهور الحقیقة ..
و لكن لما تحقق وعد اللّه بانتصار المسلمین علی قریش و دخولهم المسجد الحرام فاتحین دخلت القبائل العربیة تتری فی الدین الجدید، حتی لم یبقی أحد- فی عهد الخلیفة عمر بن الخطاب- من لا یعتنق هذا الدین فی طول الجزیرة العربیة و عرضها ..
و من المغیبات أیضا قوله تعالی علی لسان كفار قریش فی یوم بدر أَمْ یَقُولُونَ نَحْنُ جَمِیعٌ مُنْتَصِرٌ، سَیُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ یُوَلُّونَ الدُّبُرَ «39» ..
______________________________
(37) الفتح: 27.
(38) فی الإیمان و الإسلام- أحمد حسین.
(39) القمر: 44.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 312
و كان هذا عند ما تقدم قائد قوات جیش الكفر فی بدر (ابو جهل) نحو الصفوف الأولی من جیشه منادیا أو صارخا بكل غرور و علی مسمع من الرسول (ص) و اصحابه منادیا: بأنه سینتصر الیوم حتما علی محمد و أصحابه، فانزل اللّه سبحانه الآیات المذكورة لیطمئن قلوب المسلمین و التی اوشكت بعضها ان تضطرب و تهلع عند سماع تهدیدات أبی جهل المتقدمة و وعیده بتزاحم عدد جیشه و كثرته ..
فلم تمضی علی هذه التهدیدات إلا ساعات معدودة و اذا بتلك الجموع الهائلة المحتشدة لقتال المسلمین تنكص علی اعقابها و تتراكض مسرعة إلی الخلف لا تلوی علی شی‌ء طلبا للنجاة و السلامة تاركة علی ارض المعركة عددا كبیرا من القتلی و الجرحی منهم بعض قادتها و زهرات شبابها و علی رأسهم صاحبه الوعد و الوعید «أبو جهل» نفسه الذی قتل فی المعركة و ذهبت روحه مشیعة بالذلة و الهوان إلی السعیر و بئس المصیر ..
هذا اضافة إلی آیات غیبیة كثیرة كرؤیا الرسول أو الشجرة الملعونة أو ارسال الرسول بالهدی لا ظهاره علی الدین كله، أو الأذی الذی سیلاقیه الرسول .... الخ حیث تحقق كل ذلك جملة و تفصیلا ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 313

العنایة بالقرآن‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 315
كانت العنایة بالقرآن و رعایته و لا زالت واجبا و فرضا أدبیا و دینیا علی كل مسلم و مسلمة لأنه كتاب اللّه العظیم الذی لا یشوبه الباطل أو یأتیه الضلال و هو أیضا معجزة الرسول (ص) و الأساس الذی یقوم علیه الاسلام، اضافة إلی ما یضم من علوم و فنون و آداب و تشریعات و افكار تضمن البشریة- عند العمل بها- التقدم و الرقی و الإزدهار ..
لذا فقد اولاه المسلمون ما یستحقه من المكانة الرفیعة و الدرجة السامیة و اسبغوا علیه كل أسباب التكریم و التعظیم بما فی ذلك حفظه و كتابته و طبعه و تحسینه و استخراج فرائده .. الخ.
فبصدد حفظه و تعلمه فقد كان المسلمون- قدیما و حدیثا- لا یألون جهدا فی حفظ و استظهار شی‌ء من القرآن قل أو كثر طلبا للثواب «1» و العظة و التماسا للعبرة و التبرك و تقویما للغة و اللسان تأكیدا
______________________________
(1) دوّن بعض المؤرخین فی كتبهم اسماء كافة السور القرآنیة و وضعوا أمام كل سورة مقدار الثواب و الجزاء الذی سیناله المرء عند إتمام قراءتها مثل مائة حجة مقبولة أو صیام مائة شهر أو قیام ألف لیلة أو وزن كل سحاب مضی و كل سحاب أتی أو عشر حسنات بعدد المؤمنین و المنافقین أو عشر حسنات بعدد كل رملة علی وجه الأرض أو كمن بایع تحت الشجرة مع الرسول (ص) أو حاسبه اللّه حسابا یسیرا أو سقاه اللّه من الرحیق المختوم أو لم یكتب من الغافلین .. الخ (مقدمتان فی علوم القرآن- آرثر جفری) و الحقیقة إن كل هذا هو مبالغة قبل أن یكون واقعا، فلكل سورة أجر و ثواب عظیمین و لكن لیس كما هو مدوّن عند هؤلاء الناس ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 316
و استجابة لما ورد عن الرسول (ص) بقوله: «خیركم من تعلم القرآن و علّمه» و قوله (ص): «حملة القرآن فی ظل اللّه یوم لا ظل إلا ظله» و قوله أیضا (ص): «القرآن خیر دواء» و قوله: «ما اجتمع قوم فی بیت من بیوت اللّه یتلون كتاب اللّه و یتدارسونه بینهم إلا نزلت علیهم السكینة و غشیتهم الرحمة و حفتهم الملائكة و ذكرهم اللّه فیمن عنده» و قوله (ص): «اعربوا القرآن و التمسوا غرائبه» ..
و من أجل تعمیم و نشر القرآن الكریم فقد ورد فی الأخبار كراهیة أخذ الأجرة علی تعلیم شی‌ء منه و كذلك علی نسخه ذهب البعض إلی إباحته لأن فیه منفعة بتعلیم القرآن و تعمیمه و حیث انه یجوز جعله مهرا فإنه یجوز أخذ الأجرة علیه- اذ لو حرمت الأجرة لحرم جعله مهرا ..
لذا كان المسلمون یتنافسون و یتسابقون فیما بینهم فی عدد المرات التی انهوا (ختموا) بها قراءة القرآن كله، كما و كانت تقام فی المكاتب و المدارس و إلی عهد قریب مسیرات و حفلات خاصة علی شرف الطالب الذی فرغ لتوه من ختم القرآن، حیث تطوف المسیرة طرقات البلدة و هی تضم كافة الطلبة و یتقدمها الطالب الفائز بشرف الختم و توزع علیه و علیهم الهدایا و الأموال و التی ترد من أهل الطالب و معلمیه و اصدقائه و أهل الخیر.
و لغرض الحرص علی حفظ القرآن الكریم و دراسته فقد تم تقسیم القرآن إلی احزاب و أجزاء و ارباع حیث الأحزاب ستون و الأجزاء ثلاثون و الأرباع (240) و تم تقسیم كل سورة إلی خمسیات (خمس آیات) و عشرات (عشر آیات) اضافة إلی تقسیم القرآن إلی:
1- الطوال و هی سبع.
______________________________
و الظاهر هنا انها وضعت حسبة من قبل واحد أو أكثر (بعد ان انقطع الناس إلی صحیح البخاری و صحیح مسلم و تركوا القرآن) لأجل حث و ترغیب الأفراد علی قراءة القرآن و تفضیله علی ما عداه فأخذها المؤرخون كحقیقة مسلم بها.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 317
2- المئین و هی التی تزید علی المائة.
3- المثانی و هی التی تزید تلیها فی عدد الآیات.
4- المفصّل لكثرة الفصل بین سوره بالبسملة و تبدأ من سورة (ق) أو الحجرات إلی نهایة القرآن ..
هذا و قد اصطلح الناس الآن علی ان یسمّوا من یقرأ القرآن عن ظهر قلب و وفق قواعد التجوید ب «الحافظ» و لمن یقرأ من المصحف وفق تلك القواعد ب «القارئ» أو «المقرئ» ..
علما بان «القراءة فی المصحف تعتبر اكثر أجرا و اجزل ثوابا من القراءة عن ظهر قلب» «2» لأن الأولی تجمع بالاضافة إلی القراءة النظر إلی القرآن، بینما تفتقر الثانیة علی القراءة فقط «3»، لأن النظر إلی القرآن أو (فی القرآن) عبادة ..
و طبیعی ان مجرد النظر الی القرآن لیس هو فقط سبب الثواب و علة الأجر و انما هو وسیلة و طریقة للاحتفاظ بالمصحف و الاعتناء به و ربما نسخه، بینما القراءة عن ظهر قلب قد تؤدی إلی قلة الحاجة إلی نسخ القرآن و بالتالی ندرتها و فقدانها بمرور الزمن ..
و یذكر هنا ان الصحابة كانوا یقرءون فی المصحف و یكرهون ان یمر یوم و لم یمتّعوا انظارهم برؤیة المصحف الشریف «4» ..
______________________________
(2) البیان فی تفسیر القرآن- السید ابو القاسم الخوئی، التبیان فی آداب حملة القرآن- یحیی شرف الدین النووی.
(3) البرهان فی علوم القرآن- بدر الدین الزركشی.
(4) یروی عن الرسول (ص) بهذا الصدد قوله: «فضل قراءة القرآن نظرا علی من یقرؤه ظهرا كفضل الفریضة علی النافلة».
و یروی أن إسحاق بن عمار سأل الإمام الصادق- ع- و قال له: جعلت فداك إنی أحفظ القرآن عن ظهر قلبی، فأقرؤه عن ظهر قلبی أفضل أو أنظر فی المصحف، فأجابه الإمام: لا بل أقرأه و انظر فی المصحف فهو أفضل أما علمت أن النظر فی المصحف عبادة ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 318
كما و كانوا یقرءون الآیات تجویدا و التجوید هو «اعطاء الحروف حقوقها و ترتیبها و رد الحرف إلی مخرجه و اصله و تلطیف النطق به علی كمال هیئة من غیر اسراف و لا تعسف و لا افراط و لا تكلف» «5».
و قد تطورت طریقة تلاوة القرآن بمرور الزمن و اتجهت نحو التحسین و الكمال، و قد امكن بذلك جمع القواعد و الضوابط و المحسنات لهذه القراءة الكاملة فی باب خاص دعی ب «علم التجوید» ..
ان هذا العلم و ان كان غیر واجب الالمام بتفاصیله و دقائقه لمن یقرأ فی القرآن أو یقرأ بعض سوره فی الصلوات، إلا ان معرفة و دراسة قواعده العامة و اوّلیاته- أی مراعاة الوقف التام و الحسن و الاتیان بالحروف علی الهیئات المعتبرة ... الخ- واجب و ضروری لكل هؤلاء ..
و قد ذهب البعض إلی انه یجب الامتناع عن قراءة القرآن الكریم دون العلم المسبق بالف باء و قواعد التجوید العامة، لأن الالمام بذلك سیجنّب القارئ الأخطاء و المزالق عند القراءة و التجوید حیث سیقف فی محلات الوقوف و یعطی كل حرف حقه فضلا عن الادغام فی حروف «یرملون» «6» ... الخ و فی الحقیقة فان خیر قراءة للقرآن تلك التی تكون اشد تأثیرا فی
______________________________
(5) مباحث فی علوم القرآن- مناع القطان.
(6) من الأمثلة التی تعم فیها البلوی فی القراءة نورد بعض النقاط التی ینبغی الالتزام بها و التقید بمضمونها ..
علی القارئ الكریم عند القراءة أن یسكن الحرف الذی یقع فی نهایة كل لفظ أو جملة یقف عندها، كما و علیه أیضا إذا التقی لدیه حرفان من حروف (یرملون) الستة أن یدغم الحرف الأول (فلا یقرءوه) فی الحرف الثانی الذی علیه أن یقرأه و یظهر صوته، و كمثل بسیط علی ذلك هو أنه قد قرأ الآیة «وَ لَمْ یَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» أن یدغم النون باللام لتقرأ الآیة هكذا «و لم یكل له كفوا أحد» ... و هكذا فی بقیة الحالات المماثلة ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 319
النفس و خشوعا فی الفكر و البصیرة و هذه لا تتم إلا بحضور القلب و تدبر لمعانی الكلمات و التفكر فی مقاصدها و اهدافها و الانفصال فی مضامینها بعد الكون علی الطهارة و الاستعاذة من الشیطان الرجیم ..
علما بان «الاستعاذة عند التلاوة مستحبة غیر واجبة بلا خلاف فی الصلاة و خارج الصلاة» «7» و ان «لا یقرأ العبد القرآن اذا كان علی غیر طهور حتی یتطهر» «8» ..
و نشیر إلی ان القراءة المثلی للقرآن و سبیلها الصحیح ینبغی ان تكون وفقا لما قاله الشاعر الباكستانی المسلم الدكتور محمد اقبال «9» و هو «اذا اردت ان تفقه القرآن، علیك ان تقرأه كأنه نزل علیك و كأنك أنت الخاطب الرئیسی فیه و المعنی به» ..
______________________________
(7) مجمع البیان فی تفسیر القرآن- أبو علی الفضل بن الحسن الطبرسی.
(8) وسائل الشیعة- الشیخ محمد بن الحسن الحر العاملی.
(9) العلامة محمد إقبال علم من أعلام الإسلام فی هذا القرن و قائد من قادة الفكر النیّر فی الشرق و رائد من رواد الإنسانیة أوقف عقله و قلبه للمسلمین و للناس جمیعا ..
ولد فی مدینة سیالكوت عام 1876 م، و یرجع نسبه إلی سلالة و ثنیة أسلم أحد أجداده قبل 3 قرون، و بعد إنهائه للدراسة الثانویة فی 1895 م انتقل إلی لاهور لیدخل فی جامعتها (جامعة البنجاب) ثم التحق بجامعة كمبردج عام 1905 فنال منها شهادة الفلسفة الاخلاقیة. ثم تابع دراسته فی جامعة میونیخ حیث نال فیها شهادة الدكتوراة عام 1908 م و كانت رسالته «تطور المیتافیزیقیا- ما وراء الطبیعة- فی بلاد فارس» ..
و كان إقبال من الدعاة الأوائل لقیام الباكستان من الولایات و الأقالیم التی تقطنها الأكثریة المسلمة سواء فی شعره أو نثره أو خطبه، و كان أول ما صرّح به بصدد قیام الباكستان هو ما جاء فی الخطاب المسهب الذی ألقاه عام 1930 م فی اجتماع الرابطة الإسلامیة الذی انعقد فی مدینة اللّه‌آباد، إلّا أن هذه الفكرة لم تؤیدها الرابطة و لم تتبناها إلّا بعد عشر سنوات أی فی عام 1940 و فی خلال اجتماع الرابطة فی لاهور و صدور البیان الختامی فی 23/ 3/ 1940 م
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 320
أو كما قال الامام محمد عبده «10»- رحمه اللّه- حاكیا عن نفسه:
«انی عند ما أسمع القرآن أو اتلوه أحسب انی فی زمن الوحی و ان الرسول (ص) ینطق به كما انزل علیه- أو نزل به علیه» ....
أما بصدد كتابة و طبع المصاحف فقد تطوّرت و تدرّجت منذ القدم- حیث یحتاج الكاتب حینئذاك الی مدة طویلة لكتابة مصحف واحد- حتی هذا الوقت و الذی یمكن فیه طبع آلاف النسخ كل یوم و هذا التطور و التدرج قد تم علی الوجه التالی:
______________________________
بضرورة إیجاد حكومة دیموقراطیة إسلامیة تجمع بین الولایات و الأقالیم التی للمسلمین فیها أكثریة ..
اشترك إقبال فی مؤتمر الطاولة المستدیرة الذی عقد فی لندن عامی 1931 و 1932 لتقریر مستقبل الهند.
توفی فی 21/ 4/ 1938 و كان آخر ما قاله قبل رحیله «إن المسلم یلقی الموت مسرورا و إن المسلم لا یرهب الموت و إذا جاءه لقیه مسرورا» .. و دفن فی مقبرة ضخمة تقع قرب مسجد البادشاهی فی لاهور .. لمحات من تاریخ القرآن 320 العنایة بالقرآن
توفی إقبال دون أن یری الباكستان الذی كان أول من دعا إلیها و حرص علی قیامها ..
و لقد تم الإشارة إلی حیاة هذا المفكر الإسلامی بصورة مفصلة فی كتابنا «أضواء علی شبه القارة الهندیة» ..
(10) ولد محمد عبده فی مصر عام 1848 و یرجع نسبه إلی الترك، تعلم القراءة فی منزله ثم دخل فی المسجد الأحمدی بطنطا لتعلم تجوید القرآن ثم انتقل إلی مجالس العلم بنفس المسجد، ثم انقطع عن طلب العلم لتردی طریقة التعلیم و عاد إلی مدینته لیمارس الزراعة فیها، و یلتقی به أحد أقاربه فیحبّب له العودة لطلب العلم فیعود إلی طنطا لتلقی العلم فیها حیث اشتهر بین الطلاب بذكائه، ثم التحق بالأزهر من عام 1865 إلی 1877 لیصبح بعد ذلك مدرسا فیه و قد قال عن نفسه- فیما بعد- یصف تلك المرحلة «أنه قضی أثنی عشر عاما فی الأزهر و لكنه قضی حیاته كلها بعد ذلك یحاول تنظیف عقله مما حفظه فی هذه السنوات الاثنی عشرة» و كان خلال وجوده فی الأزهر یطالب بإصلاحه و تجدید مناهج التعلیم فیه و الخروج علی طرق التدریس العقیمة
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 321
لقد كانت المصاحف فی صدر الاسلام لا تباع بالمرة «11» و انما یأتی الرجل بورقة بیضاء عند المنبر فی المسجد فیقوم المحتسب فیكتب له من أول سورة البقرة حتی یأتی غیره لإكمال ما ابتدأه الأول و هكذا حتی یتم تدوین المصحف «12» ..
و علی هذه الطریقة سار الحال لفترة قصیرة حتی تطلب الوضع الجدید وجود كثیرین من المؤمنین و الصالحین یتفرغون للكتابة المصاحف نظرا لعدم اختراع المصاحف بعد ..
______________________________
السائدة، ثم عمل علی إیقاظ الأمة و توعیتها و دعا لتكوین نش‌ء جدید یصارع الطغیان و الاستبداد و یعمل لاقرار العدل و السلام، و اثرها حكم علیه و فی عام 1882 بالنفی من مصر ثلاث سنوات فرحل إلی بیروت ثم إلی باریس حیث التقی فی باریس بجمال الدین الافغانی و أسس معه جمعیة العروة الوثقی و مجلتها، ثم رحل إلی بیروت لیتعد عن العمل السیاسی إلی التألیف حیث كتب شرح نهج البلاغة و مقامات بدیع الزمان و بدأ فی شرح القرآن إلّا أنه تركه لحصوله علی السماح بالعودة إلی مصر، فعاد إلیها عام 1888، و تقلّد فیها مناصب مختلفة كمستشار فی محكمة الاستئناف ثم عضوا فی مجلس الشوری ثم مفتیا للدیار المصریة و عضوا فی مجلس إدارة الأزهر، فقام بإصلاح المحاكم الشرعیة و الأزهر بإدخال العلوم الحدیثة فی مناهج التعلیم فیه، إلّا أنه جوبه بمعارضة الخدیوی عباس حلمی و المشایخ و خصومه التقلیدیین، فحورب محاربة شعواء، و قد قاوم الشیخ ذلك إلی أن تحطمت أعصابه و أصبح نهبا للیأس و القنوط، ثم أخذت قواه تتحطم شیئا فشیئا حتی اعترضه المرض ثم ما لبث أن رحل إلی جوار ربه فی 21/ 7/ 1905 كشهید الإصلاح و الحریة و كثائر و مجاهد ضد الاستبداد و التسلط و الاستعمار ..
و علی فراش الموت نظم هذین البیتین:
و لست أبالی أن یقال محمدابلّ ام اكتظت علیه المآتم
و لكن دنیا قد أردت صلاحه‌مخافة أن تقضی علیه العمائم
(11) بصدد بیع و شراء المصاحف ورد فی الخبر أنه إذا أردت أن تشتری مصحفا فقل اشتری منك ورقه و أدیمه و الدفتین و عمل یدك بكذا و كذا ..
(12) تاریخ القرآن- محمد طاهر الكردی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 322
و قد كان البعض من هؤلاء یكتب مصحفا واحدا أو خمسة أو عشرة فی العمر، كما و تمكن قلائل من كتابة مائة مصحف فی حیاتهم، حیث كان الواحد منهم یحتفظ لنفسه بنسخة من هذه المصاحف و یقدم البقیة كهدیة إلی المساجد و التكایا و دور العلم و معاهد التدریس طلبا للأجر و التماسا للثواب من عند اللّه تعالی ..
و طبیعی ان هذا العمل- الكتابة- كان یحتاج إلی صبر طویل و مجهود شاق فضلا عن الأموال و الامكانیات المطلوبة لتغطیة نفقات الصرف طیلة سنوات الكتابة و التدوین ..
و لو لا ان قلوب هؤلاء الكتاب كانت عامرة بالتقوی و الأمل برحمة اللّه تعالی و رضوانه لما كان فی مكنة الواحد منهم خط أو كتابة هذا القدر من المصاحف الكریمة و مراجعتها من بعد ذلك من أجل تصحیح كل ما قد یقع فیها من أغلاط كتابیة و التباسات وردت سهوا عند الكتابة ..
كما و قد اسهم الخطاطون المسلمون بدورهم فی تجوید القرآن و تحسین خطه و كتابته، فقد ظهر جملة من هؤلاء الخطاطین ممن اشتهر بجمال الخط و بدیع الرسم و براعة التصویر، مما اكسب الخط القرآنی جمالا و روعة ..
و لا یخفی هنا ان الخط هو من الصنائع المدنیة و التقدمیة و انه یتطور بتطور المجتمع و عمرانه و ثقافته و فنونه، لذا كان امرا طبیعیا ان یتطور الخط و الكتابة بتطور المجتمع العربی و الاسلامی و ان یواكب مسیره و تقدمه ..
لقد كان العرب قبیل الاسلام یكتبون بالخط الحیری- نسبة إلی الحیرة- و هو الخط السریانی ثم سمّی هذا الخط أو نشأ عنه بعد الاسلام ما یسمی بالخط الكوفی «13» (أو النبطی)، و قد ظل الخطاطون یكتبون
______________________________
(13) الفهرست- ابن الندیم.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 323
المصاحف بالخط الكوفی هذا حتی مطلع القرن الخامس الهجری، ثم صاروا یكتبونها بخط الثلث حتی القرن الثامن أو التاسع الهجریین علی الأكثر، و لما ظهر خط النسخ الذی هو أجمل الخطوط و هو اساس الخط العربی إلی الیوم صاروا یكتبونها به إلی عصرنا الحاضر ..
و كان القرآن یضم حینئذ كافة النقط و الحركات التی لا نزال نستعملها حتی الآن فی كتاباتنا من دونما زیادة أو نقصان «14» ..
هذا و قد كان الملوك و السلاطین و ارباب المال فی السابق ینفقون المبالغ بسخاء و كرم فی سبیل اقتناء أندر المصاحف الخطیة و التی كتبها عظماء الخطاطین و مشهوریهم، كما و كانوا یوعزون الیهم أو لغیرهم بتذهیب المسافات و المساحات التی تفصل ما بین السطور أو التی تقع ما بین الكتابة و اطراف الورقة ..
كما و حرص هؤلاء و غیرهم من المسلمین علی تجلید هذه المصاحف تجلیدا فنیا و دقیقا محافظة علی الأوراق داخلها من ان تسقط أو تتمزق، فضلا عن اعطاء المصاحف منظرا جمیلا و جذابا ..
و كان هؤلاء ینفقون علی هذا التجلید- أو التفسیر كما یعرف فی بلاد المغرب- و خصوصا فی رسم اللوحات و التقاسیم الهندسیة و الفنیة علی اغلفة المصاحف الخارجیة هذه و التی لا تقل روعة و جمالا عن تلك اللوحات التی نجدها الآن علی واجهة السجاد الكاشانی و الكرمانی، كانوا ینفقون علی كل هذه مبالغ جسیمة من المال ..
كما وادی تبرّك المسلمین بتلاوة المصحف إلی ابتكار وسیلة تتفق مع جلستهم الشرقیة و تجعل المصحف فی وضع مكرم له و مریح لهم إلی صنع الرحلة- كرسی المصحف- و ذلك من لوحین من الخشب متداخلین بطریقة التعشیق من الوسط كأنهما كفان قد شبكت اصابعهما و تفننوا فی
______________________________
(14) تاریخ القرآن- أبی عبد اللّه الزنجانی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 324
زخرفة هاتین اللوحتین بالزخاریف النباتیة و الكتابات المختلفة «15» ..
و لأجل حفظ المصحف فی مكان أمین و نظیف عند عدم الحاجة إلی قراءته- ای بعد الفراغ من قراءته- صنع المسلمون صنادیق من الخشب المطعم بالنحاس أو الفضة أو بالزخاریف المختلفة حتی اصبحت تحفة فنیة یشار لها بالبنان «15» ..
و كان الملوك و السلاطین و ارباب المال المشار الیهم و غیرهم من رجال المسلمین حین كانت المصاحف خطیة و لم تطبع بعد یحرصون علی مراجعة مصاحفهم بانفسهم أو عن طریق الآخرین لأجل تصحیح أو التثبت من عدم وجود أیة غلطة نحویة قد ترد فیها أو نتیجة سهو أو غفلة قد یقع فیه الكاتب أو الخطاط عند كتابته لهذه المصاحف ..
و نذكر بهذه المناسبة هنا ان أحد الملوك السالفین كان قد وضع جائزة ثمینة تدفع علی الفور لكل شخص یعثر علی غلطة كتبت فی مصحفه الخطی سهوا، و كان قد وضع هذا المصحف فی متناول كل شخص یطلبه لقراءته و ملاحظته للفوز بالجائزة الموعودة ..
و قد تعب جمع كبیر من الناس فی تصفّحه و تلاوته من دونما طائل، حتی تمكن أحد المخطوطین من العثور- بعد جهد جهید- علی التباس بسیط كان قد جری عند كتابة الآیة التالیة من قبل الكاتب، و الآیة الكریمة كاملة هی: إِنَّ هذا أَخِی لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِیَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِیها وَ عَزَّنِی فِی الْخِطابِ «17» ..
و الالتباس هذا قد ورد عن طریق تقدیم الجیم علی العین فی لفظة «النعجة» الثانیة فكانت «نجعة» فنال بسببها صاحب الحظ السعید هذا علی الجائزة كاملة مع تقدیر الملك و اعجاب المسلمین به ..
______________________________
(15) المصحف الشریف- الدكتور محمد عبد العزیز مرزوق.
(17) ص: 23.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 325
و لم یكتفی هذا المحظوظ بجائزته بل اعاد الكرة لعل طموحه یوصله إلی نیل جائزة أخری، إلا ان جهوده مع جهود غیره بائت بالفشل و الخسران ..
و قد كان هؤلاء الملوك و السلاطین و الأمراء یحتفظون بمثل هذه المصاحف الثمینة لدیهم لتبقی اثرا خالدا و ذكرا حمیدا، و قلیل منهم من كان یبغی القربة- من وراء ذلك- أو الفوز برضوان اللّه. بینما البقیة كانت تفعل ذلك لیقال بان الملك الفلانی یحتفظ بأثمن و اندر مصحف فی العالم و ان الأمیر الفلانی عنده أجمل و ابدع مصحف فی البلد من دون ان یقوم هذا أو ذاك بقراءته یومیا «18» أو تطبیق احكامه علیه و علی رعیته.
علما بان اختراع المطابع- كما سیرد تفصیله بعد قلیل- و ضبط طباعة المصاحف عند الطبع قد أراحت المسلمین و الحكام من الاحتفاظ بالمصاحف الخطیة إلا ما ندر، فضلا عن انتفاء الجهد و العناء لمراجعتها و تحسین خطها و تذهیبها ..
و بصدد لمس القرآن و حروفه فالوارد انه لا یجوز لغیر المتطهر أن یلمس كتابة القرآن و لو كانت هذه الكتابة حرفا واحدا فقط، و لا ضیر علیه هنا من لمس جلد القرآن و اطراف صفحاته دون حروفه، كما و له القراءة فیه أو عن ظهر قلب و ان كان یستحسن له و یفضل ان یكون علی طهارة ..
و بصدد المجنب- سواء من الحلال أو الحرام- فیكره له القراءة
______________________________
(18) فی الأثر: هناك ثلاثة یشكون إلی اللّه تعالی:
1- مسجد خراب لا یصلی فیه أهله.
2- عالم بین جهال.
3- مصحف معلق قد وقع علیه الغبار لا یقرأ فیه.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 326
فی القرآن مطلقا حتی یتطهّر بالغسل و ذهب كثیرا إلی حرمة ذلك «19» ..
كما و یكره له قراءة اكثر من سبع آیات عن ظهر قلب و كلما زاد فی القراءة علی ذلك تضاعفت هذه الكراهة ..
اما آیات السجدة فلا یجوز للمجنب قراءة أی شی‌ء منها بتاتا، و عند قراءتها من قبل غیر المجنب فعلیه ان یسجد علی الأرض أو الفراش و علی كل من یسمع هذه الآیات تتلی ان یقوم بدوره بالسجود علی الأرض، حیث ان حكم القارئ و المستمع لها فی السجود سواء «20» ..
و قیل هنا ان حكم آیات السجدة تسری حتی علی اولئك الذین یسمعون تلاوتها من المذیاع أو مكبرة الصوت و نحوهما.
اما عن طباعة المصحف الشریف فنشیر إلی ان اختراع المطابع تم فی المانیة عام 1431 م «21»، و كانت حینئذ بصورتها البدائیة و الأولیة، و قد مضی علیها فترة طویلة حتی تطورت و تحسنت، ثم دخلت بعد ذلك إلی ایطالیة و فرنسة و بریطانیة و بعد ذلك بفترة طویلة انتشرت فی سائر انحاء العالم ..
و أول ما طبع القرآن الكریم كان فی مدینة البندقیة (فینیسیة)
______________________________
(19) علوم القرآن- أحمد عادل كمال، آداب حملة القرآن- یحیی شرف الدین
(20) هناك دعاء خاص یقرأ عند السجود استحبابا و هو «لا إله إلّا اللّه حقا حقا، لا إله إلّا اللّه إیمانا و تصدیقا، لا إله إلّا اللّه عبودیة و رقا، سجدت لك ربی تعبدا و رقا لا مستكبرا و لا مستنكفا، و ها أنا ذا عبد ذلیل فقیر مسكین بك مستجیر» كما و هناك أدعیة أخری یخیّر المرء بقراءة أحدها ..
(21) كان فن الطباعة معروفا فی شرق آسیا قبل مدة طویلة من اختراع المطابع خلال القرن الخامس عشر فی اوربا، و قد كان أهل الصین فی القرن الحادی عشر یستخدمون مطبعة مصنوعة من الخزف الصینی، كما أنهم طبعوا كتابا للصلاة فی سنة 898 م ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 327
بایطالیة عام 1530 م و لكن السلطات الكنسیة التی كانت تتمتع حینئذ بسلطات و نفوذ مطلق اصدرت حكما قاسیا و شدیدا یقضی باعدام نسخه و اتلافها و هی لا تزال فی المهد و لم یر النور بعد، لذا لم تتسرب منه أیة نسخة إلی ای بقعة من اطراف العالم «22» ..
و بعد ذلك بحوالی قرن و نصف ای فی سنة 1694 الموافق لسنة 1113 هجریة تمكنت احدی مطابع هامبورغ بالمانیة من طبع المصحف الشریف، ثم بعد ذلك باربع سنوات طبع المصحف فی مدینة باردو فی فرنسة ..
و یقال بصدد نسخ المصحفین الانفین انه لم یعد لهما ذكر و لا وجود فی كافة انحاء العالم الاسلامی و غیر الاسلامی أیضا عدا نسخة واحدة منهما قیل انها موجودة الآن فی دوالیب دار الكتب المصریة بالقاهرة، و لا نعلم علی وجه الیقین كیف تسربت هذه النسخة إلی هناك و لم تصل إلی هناك و لم تصل إلی أیة مكتبة اخری فی العالم ..
و الظاهر هنا مما تقدم ان الطبعات الأولی للقرآن كانت فی محیط اوروبا و فی نطاق محدود بسبب عدم وصول المطابع و انتشارها فی العالم الاسلامی، فضلا عن ان طبعه هناك لم یكن لهدف أو غرض روحی أو دینی و انما كانت تطبع هناك نسخ محدودة بقصد الاحتفاظ بقسم منها كأثر تاریخی ثمین أو تقدیم بعضها إلی أحد سلاطین و ملوك المسلمین فی ذلك الوقت بقصد ضمان امتیازات خاصة فی بلادهم أو أمل الحصول علی مبالغ طائلة من المال ..
لذا نری انقراض أو ندرة هذه الطبعات من القرآن الكریم من الوجود ..
اما عن طباعة المصاحف فی العالم الاسلامی أو بقول آخر عن
______________________________
(22) تاریخ القرآن- محمد طاهر الكردی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 328
الطباعة التی تولاها المسلمون فنشیر إلی ان أول طبعة اسلامیة خالصة للقرآن قد قام بها مولای عثمان فی مدینة لینغراد فی روسیا القیصریة عام 1787 م، و ظهرت اثرها طبعة تماثلها فی مدینة قزان بجنوب روسیا، ثم طبع القرآن بعد ذلك طبعة هجریة فی طهران عام 1828 م و ذلك فی عهد الملك فتح علی شاه القاجاری «23» ..
ثم ظهرت اثر ذلك طبعات عدیدة للقرآن الكریم فی مدینة حیدرآباد بالهند، و بعد ذلك طبع المصحف فی مدینة الآستانة (اسطنبول) حاضرة الخلافة العثمانیة عام 1877 م «24» و بعدها انتشرت
______________________________
(23) القاجاریون هی العائلة التی حكمت إیران للفترة من (1795- 1924) و من أشهر ملوكها هو فتح علی شاه (1797- 1834) و محمد شاه و ناصر الدین شاه (1847- 1896) و مظفر الدین شاه (1896- 1907) و محمد علی شاه (1907- 1908) و أحمد شاه و الذی أطاح به رضا شاه الكبیر (والد الشاه محمد رضا بهلوی) سنة 1923 و توّج نفسه ملكا علی ایران عام 1926، و قد اتخذوا جمیعا طهران عاصمة لملكهم، علما بأن عائلة الزندیون هم الذین كانوا یحكمون إیران قبل القاجاریین و للفترة من (1750- 1794) و رئیسها هو كریم خان زند الذی اتخذ مدینة شیراز حاضرة لملكه ..
و قبل الزندیین حكم الأفشاریون إیران و للفترة من (1736- 1747) برئاسة مؤسسها نادر شاه الذی فتح غزنة و كابل و دلهی و استولی علی كنوز الأخیرة و من غنائمه هناك عرش الطاوس الموجود حالیا فی قصر كلستان بطهران و كثیر من مخلفات العائلة المغولیة الحاكمة فی الهند، و قد اتخذ مدینة مشهد عاصمة له، و لنادرشاه قلی قبر و نصب جمیل فی عاصمة ملكه مشهد ..
و قبل الافشاریین كان الصفویون هم الحاكم لإیران و للفترة (1502- 1736) و مؤسس هذه العائلة هو الشاه إسماعیل الصفوی (1502- 1524) و الشاه عباس الكبیر (1587) و قد اتخذوا أصفهان عاصمة لهم بعد أن كانت قزوین و قبلها تبریز هی العاصمة ..
أما غالبیة قبورهم فتضمها مدینة أردبیل لأنها مسقط رأسهم ..
(24) دخلت المطابع إلی تركیة فی عهد السلطان أحمد الثالث، و قد منع الأخیر طبع المصاحف بالمطبعة لأسباب لا نعرف حقیقتها علی الرغم من إفتاء مشیخة الإسلام بجواز استعمال المطابع للطبع ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 329
طباعة المصاحف فی مصر و بقیة اطراف العالم الاسلامی و بشكل موسّع و متقن ..
و لعل اجمل الطبعات الحدیثة للقرآن الكریم و ادقها هی التی ظهرت عام 1342 ه المصادف لعام 1923 م بمصر و باشراف مشیخة الأزهر و اقرار اللجنة المؤلفة من قبل الملك فؤاد الأول «25» (ملك مصر السابق) و قد كتب و ضبط علی ما یوافق روایة حفص لقراءة عاصم، حیث تلقی المسلمون هذه الطبعة بالقبول و الاستحسان و اوشكت النسخ التی تطبع و تصوّر من علیها ان تكون اكثر و اوسع من ای طبعة اخری متداولة بین المسلمین، لاجماع العلماء و الفقهاء فی مشارق الأرض و مغاربها علی الدقة و الضبط الذی یتحلی بها فی رسمه و كتابته ..
كما و هناك طبعات دقیقة و انیقة لمصاحف تم طبعها فی بغداد و دمشق و بیروت و طرابلس و طهران و كراجی و حیدرآباد بالهند ...
و غیرها.
و احدثها هو «مصحف المدینة النبویة» و الذی طبع فی المملكة العربیة السعودیة بتوجیه و ایعاز من خادم الحرمین فهد بن عبد العزیز آل سعود ...
______________________________
و فی عهد خلفه السلطان عبد الحمید الأول أجیز طبع المصاحف بالمطبعة، و فی عهد خلفه السلطان محمود الأول زاد الاهتمام و العنایة الكبیرة بطبعها ..
(25) توفی الملك فؤاد الأول عام 1936 و خلفه علی العرش ولده الملك فاروق الذی أطاح به الجیش المصری صبیحة یوم 23 تموز 1952 ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 331

طرائف الإحصائیات و الفرائد فی القرآن‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 333
لما كان القرآن الكریم كتاب المسلمین الأول و دستورهم فی الدنیا و املهم فی الحیاة، لذا فقد حرص هؤلاء منذ فجر الاسلام حتی الآن علی دراسته و سبر اغواره للوقوف علی احكامه و تشریعاته للاستعانة بها فی اداء عباداتهم بصورة تامة و الاهتداء بها فی معترك حیاتهم ..
و قد زاد البعض علی ذلك فقام بمسعی آخر هو استخراج و جمع ما یضم القرآن من فرائد و غرائب و نوادر و ارقام من أجل استیعاب معانیها و التفاعل معها و استظهارها ..
و بقدر تعلق الأمر بالارقام أو الاحصائیات فنشیر إلی ان هذه تشبه إلی حد كبیر تلك التی نجدها فی عالم الاقتصاد و المال و التخطیط و الانتاج الزراعی و الصناعی و التی تسهّل الوقوف عن كثب علی تزاید أو نقصان كل مادة عبر السنوات أو علی اعواد أو حجم ما موجود من امور اخری كعدد الحیوانات فی قطاع معین أو عدد اشجار جنس معین كالنخیل فی العراق مثلا .. حیث ان الاطلاع علی هذه الاحصائیات و الارقام ستساعد علی حل كثیر من المعضلات الاقتصادیة و التجاریة و بالتالی تلافی كل الاخطاء التی قد تقع فی هذا المیدان أو ذاك ..
و قبل ان ندخل فی میدان الاحصائیات فی القرآن الكریم نشیر إلی احصاء اسلامی قدیم قدم التاریخ الاسلامی كان هذا قد جری فی السنوات الأولی للهجرة و لعله أول احصاء فی العالم الاسلامی ذلك انه حدث ان اراد الرسول (ص) احصاء عدد المسلمین فقال: (ص) «اكتبوا إلی كل من تلفظ بالاسلام» فكتبوا ذلك فكان الف و خمسمائة رجل و هو عدد كافة الرجال من المسلمین، و كان اذا نودی للزحف یعرف من تخلف عنه (ص) بعد احصاء الحاضرین فیلومه اذا كان تخلفه قد تم
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 334
بدون عذر شرعی أو سبب معقول ..
ان الاحصائیات أو الأرقام التی سنسجلها عن القرآن الكریم و ان كانت لا تضر من یجهلها و لا تنفع من علمها نفعا هائلا، إلا انها تسجّل مدی أو ارتباط المسلمین بكتابهم الكریم و مدی العناد و الجلد الذی تحملوه فی استخراج مثل هذه الاحصائیات من القرآن الكریم ..
ان هذه الاحصائیات تخص نواحی عدیدة و مختلفة من القرآن مثل عدد سوره و آیاته و عدد المرات التی ذكرت فیه فریضة معینة كالصلاة أو الزكاة أو الجهاد أو عدد المرات التی ذكر فیه لفظ الجلالة (اللّه) أو اسماء الأنبیاء أو عدد الحروف أو النقط .... الخ .. و حیث أن أسلوبنا فی البحث بهذه الدراسة هو الایجاز و ان ایراد كل ما وقع بأیدینا من الأرقام قد یأخذ حیزا كبیرا قد یتعارض مع اسلوب البحث، لذا آثرنا هنا ایراد بعضها و هو ما یتعلق بالطریف و اللذیذ منها و هی هذه: ان عدد آیات القرآن الكریم هی ان عدد آیات القرآن الكریم هی/ 6236/ آیة ان عدد الآیات المكیة هی/ 4613/ آیة و قیل 4780 آیة ان عدد الآیات المدنیة هی/ 1623/ آیة و قیل/ 1456/ آیة ان عدد كلمات القرآن هی/ 77934/ كلمة ان عدد نقط القرآن هی/ 1025030/ نقطة ان عدد حروف القرآن هی/ 323670/ حرف و قیل/ 321250/ حرف ان عدد الفات (جمع الف) فی القرآن هی/ 48800/ حرف ان عدد الباء فی القرآن هو/ 11201/ حرف ان عدد التاء فی القرآن هو/ 10199/ حرف ان عدد الثاء فی القرآن هو/ 1276/ حرف ان عدد الجیم فی القرآن هو/ 3273/ حرف ان عدد الحاء فی القرآن هو/ 3993/ حرف ان عدد الخاء فی القرآن هو/ 2416/ حرف
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 335
و هكذا ترد اعداد الحروف تباعا حتی آخرها و هو حرف الیاء حیث ان عدد الیاءات فی القرآن هی 25919 حرف:
و إن عدد فتحات القرآن/ 53243/ فتحة و عدد كسرات القرآن/ 39582/ كسرة و عدد ضمات القرآن/ 8804/ ضمة و عدد مدات القرآن/ 1771/ ضمة و عدد شدات القرآن/ 1253/ شدة و قد احصی البعض بعد هذا لفظ الجلالة (اللّه) فی القرآن فظهر انه قد ورد فیه (980) مرة ..
و یروی هنا ان الحجاج بن یوسف الثقفی أو غیره كان قد «جمع القراء و الحفاظ و الكتاب لدیه و قال لهم: اخبرونی عن القرآن كم حرف هو ...؟ فحسبوا فقالوا بعدده (كما جاء آنفا) ثم سألهم عن نصفه فاذا بالقرآن ینتهی فی سورة الكهف فی فاء أو تاء (و لیتلطف) ثم سألهم عن أثلاثه فاذا الثلث الأول یقع فی رأس مائة من سورة براءة و الثلث الثانی یقع فی رأس مائة و واحد من سورة طسم الشعراء و الثلث الثالث ما بقی من القرآن، ثم سألهم عن أسباعه فاخبروه بذلك» «1».
و هناك من درس و تتبع الآیات القرآنیة الكریمة لمعرفة الآیة التی هی اشد ما تكون وطأة علی الكافرین و تلك التی هی ارحم آیة فی القرآن فضلا عن الآیة التی تجمع خصال الخیر و النهی عن الشر .. الخ فظهر من ذلك ان اشد آیة فی القرآن هی قوله تعالی: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِیدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» «2».
بینما ظهر أن أرحم آیة فیه هو قوله تعالی: قُلْ یا عِبادِیَ الَّذِینَ
______________________________
(1) علوم القرآن- أحمد عادل كمال.
(2) النبأ: 30.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 336
أَسْرَفُوا عَلی أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ «3».
أما أجمع آیة فی القرآن فهو قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «4».
كما و قام فریق آخر باحصاء اسماء الأنبیاء و الرسل الذین ورد ذكرهم فی القرآن الكریم لمرة واحدة أو أكثر علی وجه الصراحة (لا الاشارة) حیث ادخلهم فی رجز بدیع لیمكن حفظه بسرعة و هو:
الرسل الذین فی القرآن‌خمس و عشرون فخذ بیانی
هم آدم ادریس نوح هودیونس الیاس الیسع داود
ثم شعیب صالح أیوب‌هارون ثم یوسف یعقوب
إسحاق إبراهیم لوط موسی‌ذو الكفل یحیی زكریا عیسی
ثم سلیمان و اسماعیل‌خاتمهم محمد جلیل و اذ نحن بصدد الشعر، فقد قام البعض بتضمین القرآن فی الشعر و هذا یعد من انواع البدیع مثل:
انلنی بالذی استقرضت خطاو اشهد معشرا قد شاهدوه
فان اللّه خلّاق البرایاعنت لجلال هیبته الوجود یقول: «إِذا تَدایَنْتُمْ بِدَیْنٍ إِلی أَجَلٍ مُسَمًّی فَاكْتُبُوهُ» «5» أو مثل القائل:
قد قلت لما حاولوا سلوتی«هَیْهاتَ هَیْهاتَ لِما تُوعَدُونَ» «6».
و كذلك قول من قال:
و فتیة فی مجلس وجوههم‌ریحانهم قد عدموا التثقیلا
«دانیة علیهم ظلالهم‌وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِیلًا» «7».
______________________________
(3) الزمر: 53.
(4) النحل: 90.
(5) البقرة: 282.
(6) المؤمنون: 36.
(7) الإنسان: 14.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 337
هذا و هناك الكثیر من الأدباء و الكتاب ممن یدخل الآیات الكریمة أو مقاطع منها بین سطور أو ثنایا كتاباتهم أو ان یصدّروا بها مؤلفاتهم، مما یكسبونها طابعا جمیلا و تصویرا بدیعا فضلا عن وقعها الحسن علی الاسماع و النفوس.
كما و نشاهد أیضا من یسجل بعض الآیات كتلك التی تأمر بالعدل و الدعوة إلی الكفاح و الجهاد «8» و العمل الصالح أو تجری مجری الحكمة و المثل أو القول الحسن أو الإنفاق فی سبیل اللّه أو تجنب الظلم و البغی أو الحكم بالعدل و الانصاف أو امهال المدین و المعسر ... الخ اجل نشاهد من یسجل كل أو بعض هذه الآیات علی لوحات فنیة و بخط بارز و جمیل لتوضع علی جدران البیوت و الدكاكین و المحلات العامة لتبقی معانیها علی تماس و ارتباط دائم باعمال و سلوك الناس ..
و نجد أیضا فی صدر الاسلام و بعده من یحفظ شیئا من القرآن لأجل ان ینطق به عوضا عن الكلام الاعتیادی مؤدیا نفس المعنی و المقصد أو ما یشیر الیه ..
و هذا ان دل علی شی‌ء فانما یدل علی مدی حفظ هؤلاء المسلمین و سرعة ایرادهم أو تذكرهم الآیة أو الآیات المطلوبة من خضم آیات القرآن التی تتجاوز الستة آلاف آیة.
و لا ضیر فی ختام هذا الفصل من ایراد قصة طریفة قامت باداء دور البطولة فیها فتاة مسلمة و مهما قام الشك فی صحتها (القصة) إلا انها
______________________________
(8) و من هذا النوع ما یشاهد فی قاهرة المعز قرب ساحة التحریر من جهة الكوبری، حیث أقیم قوس كبیر قرب الكوبری و قد وضع فوقه صورة مجسمة كبیرة تمثل جندیا مصریا و بیده رشاشته و هو فی وضع الاستعداد و دوّنت تحت الصورة هذه الآیة من سورة (ق) و هی: «یَوْمَ یَسْمَعُونَ الصَّیْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ یَوْمُ الْخُرُوجِ» ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 338
تشیر إلی المدی الذی ارتبط القرآن بحیاة الناس و سلوكهم و معاشهم سواء الرجال منهم أو من یطلق علیهم بالجنس الناعم.
و بهذه المناسبة و قبل الولوج إلی اصل القصة نقول بان الاسلام لا یفرق بین الجنسین فی شی‌ء منهما متساویان فی كافة الحقوق و الواجبات و التكالیف الدینیة و المالیة- و اذا ما كان هناك فرق او خلاف یذكر ما بینهما فهو ذلك الذی یخص طبیعة عمل المرأة و یحس وضعها و شكل حیاتها.
و كم كان بودنا ان نضع النقاط علی الحروف فیما یتعلق بالمساواة التی اشرنا الیها، إلا ان ذلك سینقل البحث من قصة طریفة لامرأة تحفظ الكثیر من القرآن و لا تتكلم إلا به إلی موضوع حقوق المرأة فی الاسلام و الذی كتب فیه المئات من المفكرین المسلمین و اهم من كتب عنه هو الأخ محمد قطب فی كتابه شبهات حول الاسلام و لم یدع فیه زیادة لمستزید ..
اما القصة الفریدة و التی نكتب عنها بتصرف فهی: «9» قال بعضهم: انقطعت عن طریق القافلة المتجهة صوب الدیار المقدسة مرة بمسافة قصیرة فوجدت سوادة، فاقتربت منها فتجلب لی انها امرأة فقلت لها من انت، فأجابت: «وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ یَعْلَمُونَ» فسلّمت علیها ثم استفسرت منها عما تعمل فی هذا المكان النائی عن الطریق فقالت: «من یهدی اللّه فلا مضل له» فقلت لها هل انت من بنی الانسان ام من غیره فأجابت: «یا بَنِی آدَمَ خُذُوا زِینَتَكُمْ» فقلت لها من این اقبلت إلی هذا المكان فأجابت: «یُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِیدٍ» فقلت لها إلی أی مكان متوجهة فقالت: «وَ لِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ» فقلت لها متی انقطعت عن طریق القافلة فقالت: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ
______________________________
(9) زینب الكبری- الشیخ جعفر النقدی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 339
وَ الْأَرْضَ وَ ما بَیْنَهُما فِی سِتَّةِ أَیَّامٍ» فقلت لها هل ترغبین فی تناول شی‌ء من الطعام فأجابت: «وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا یَأْكُلُونَ الطَّعامَ» فاطعمتها مما كنت احمل من الزاد ثم قلت لها استعدی للرحیل للحاق بالقافلة فقالت: «لا یُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» فقلت هل احملك معی علی الناقة فقالت:
«لَوْ كانَ فِیهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» فنزلت من الناقة و اركبتها علیها فسمعتها تقول عند الجری: «سُبْحانَ الَّذِی سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِینَ» .. و لما ادركنا مشارف القافلة قلت لها هل لك أحد من قریب أو عزیز فیها فأجابت: «یا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِیفَةً فِی الْأَرْضِ، وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، یا یَحْیی خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ، یا مُوسی إِنِّی أَنَا اللَّهُ» فنادیت برفیع صوتی بالأسماء الأربعة (داود، محمد، یحیی، موسی) فإذا بأربع شباب برزوا من قلب القافلة و توجهوا نحونا فقلت لها هل لهؤلاء القادمین قرابة منك فقالت: «الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِینَةُ الْحَیاةِ الدُّنْیا» فلما وصلوا إلی جوارها قالت لهم: «یا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَیْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِیُّ الْأَمِینُ» فاعطونی شیئا من المال ثم قالت لهم: «وَ اللَّهُ یُضاعِفُ لِمَنْ یَشاءُ» فزادوا فی العطاء، ثم سألتهم قبل ان اودعهم عن قرابة المرأة منهم فقال كبیرهم هی والدتنا، ما تكلمت معنا و مع غیرنا منذ عشرین سنة إلا بالقرآن الكریم و علی النحو الذی سمعت باذنك منها ..
و أخیرا- و لیس آخرا- نشیر إلی احجام المصاحف التی خطّت فی العالم حتی الآن.
فبصدد اكبر مصاحف العالم فیقال انه المصحف الموجود فی خزانة دار الكتب بمیدان باب الخلق بالقاهرة و یبلغ وزنه طنین كما و ان حجم الصفحة الواحدة منه تبلغ 175* 120 سم و یتألف من 7 أجزاء و محرر بخط النسخ و علی الجلد و مستعمل فیه الذهب فی أجزاء مختلفة من صفحاته و وقفاته، و له غلاف جمیل هو آیة فی الروعة و الفن یتسع
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 340
للأجزاء السبعة و هو من الفضة الخالصة و محلی بالیاقوت، و قد كتب فی القرآن الحادی عشر الهجری «10» ..
و قد قدّمه إلی مصر نواب «أمیر» مقاطعة (ولایة) بهوبال «11» و هی احدی الولایات التی كانت تتشكل منها الهند قبل الاستقلال و الذی تم فی منتصف شهر آب 1947 ..
اما عن اصغر المصاحف فی العالم فهناك مصاحف لا تتعدی عن أن تخرج عن حجم نواة التمر سعة، و كما یشاهد فی العلب الذهبیة التی توضع علی الصدور و غیرها لغرض التبرك و ذلك لتعذر وضع مصاحف كبیرة فی هذه المواقع ..
و بین حجم هذا المصحف و ذاك نجد العشرات من المصاحف و باحجام و قیاسات مختلفة تلبی كل طلب و تتلاءم مع كل نظر ..
______________________________
(10) مجلة الوعی الإسلامی العدد 37 مقال السید صلاح عزام حول المصاحف النادرة فی العالم ..
(11) أشرنا فی فصل «بعض التفاسیر المتداولة» إلی حقیقة هذه الولایات و الإمارات و كیف قام المستعمرون الإنكلیز بإیجادها من أجل إحكام سیطرتهم علی كل التراب الهندی و قمع كل تمرد و عصیان قد یعلن ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 341

القرآن فی نظر غیر المسلمین‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 343
قلنا فی فصل سابق ان الدنیا لم تعدم اناسا منصفین و عادلین من غیر المسلمین- سواء أ كانوا مستشرقین أو غیرهم- ممن كتب الحقیقة و سجل الواقع عن القرآن و عن الاسلام و عن الرسول محمد (ص) بل ما اكثر هؤلاء فی هذا العصر الذی غلبت و طغت فیه الابحاث العلمیة و الحقائق التاریخیة علی الاهواء و نزوات النفس و كل المفتریات التی لیس لها ظل من الحقیقة و لا سند من الواقع و التی كانت تزدهر و تنتعش فی عهود التخلف و الجهل و فقدان الوازع الروحی و الاخلاقی، و هی العهود التی عفا علیها الزمن و ان كانت بعض رواسبها تعمل فی ادمغة البعض، إلا انها- بمرور الوقت- ستتطهر الأرض منها و تذهب إلی العدم غیر مأسوف علیها ..
و لیس فی استطاعتنا هنا- و نحن نسعی دوما للایجاز و الاختصار- ان نورد قائمة باسماء كل هؤلاء المنصفین و أرباب القلم الحر أو ان نسطّر كل ما خطت أقلامهم عن القرآن أو الاسلام أو النبی الكریم (ص)، حیث ان ما كتبه هؤلاء عن القرآن فقط و احكامه و علومه و كیف انه یضم القانون الجزائی و المدنی و النظام الاجتماعی التی یوجّه مسیرة المسلمین من كل لون أو قومیة أو جنس فضلا عن تحدید واجبات و صلاحیات السلطات فی الدولة و علاقاتها بالفرد و تنظیم وسائل الانتاج و توزیع
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 344
الثروة «1» ... الخ اجل ان ما كتبه هؤلاء عن القرآن فقط یملأ كتبا و مجلدات یمكن لأی فرد الرجوع الیها عند الحاجة ...
و حیث ان بحثنا فی هذا الفصل یتناول هذا الذی كتبه هؤلاء عن القرآن الكریم و انه بعد هذا لا یمكن ان نورد كل ما كتبوه، لأن ایراد ذلك یتطلب دمج كتبهم و مجلداتهم بهذا الكتاب، و حیث ان ما لا یدرك جله لا یترك كله» و هی ما نقوله القاعدة الفقهیة المعروفة، لذا آثرنا هنا ان نختار و نقدم شذرات و عبقات عما صح قوله عن هؤلاء إزاء القرآن الكریم .. لیقف المسلمون علی حقیقة ما یقوله غیرهم عن كتابهم لیزدادوا یقینا و ثباتا، و لیراجع ضعاف العقیدة منهم أنفسهم من أجل تصحیح افكارهم و تقویم سلوكهم .. و اذا كانت هناك كلمة قصیرة توجه لهؤلاء- ضعاف العقیدة- فهو انهم اذا ما وجهوا نشاطهم لدراسة الاسلام دراسة موضوعیة و ما یضم من تشریعات و انظمة بالقدر الذی وجهوه لدراسة سواه من الأنظمة و المبادئ الوضعیة الرائجة لكانت لهم نظرة اخری فی هذه المبادئ و الأنظمة- و لأقروا بعد ما بان فی مكنة الاسلام و دستوره الخالد ان یرضی طموحاتهم بحل مشاكل المجتمع الاجتماعیة و الاقتصادیة و السیاسیة حیث لا یجدون فی ظله- عند التطبیق- من یعیش فی القمم و بكدح المستضعفین و من یعیش فی الحضیض تحت أسواط المستكبرین، بل الجمیع فی كنفه سواء و لا یأكل أحد إلا من سعیه و جهده ....
______________________________
(1) نشیر بهذه المناسبة إلی أن الكاتب الفرنسی الشهیر فكتور هیجو صاحب كتاب «البؤساء» قال بعد أن تجلی له بكل وضوح ما یضم القرآن من علوم و فنون و آداب و تشریع ... الخ قال كلمته المشهورة «إن القرآن شبیه بالسوق التی یمكن أن تزودك بكل شی‌ء» ..
كما و نذكر أیضا أن مؤتمر متشرعی العالم الذی جمع أهل الرأی و الفقه من مختلف البلدان و الذی عقد فی لا های عاصمة هولندة قد قرر: «إن الشریعة الإسلامیة المنبثقة من القرآن تحمل العناصر الكافیة التی تجعلها صالحة للتطبیق و التطور مع حاجات الزمن و العصر» ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 345
هذا و نضع امام هؤلاء و سواهم بعض ما قاله غیر المسلمین عن القرآن و فنونه و آدابه تفیدهم و ایانا من اجل الزیادة فی الیقین و الایمان، و هی مجموعة من كتب و مصادر كثیرة و مختلفة «2» و هی علی التوالی:
1- قال الأستاذ سنایس: «ان القرآن هو القانون العام الذی لا یأتیه الباطل من بین یدیه و لا من خلفه فهو صالح لكل زمان و مكان فلو تمسك به المسلمون حقا و عملوا بموجب تعالیمه و احكامه لا صبحوا سادة الأمم كما كانوا أو بالأقل لصار حالهم حال الأقوام المتمدنة» ..
2- و قال المستیر بورسوت سمیث: «من حسن الحظ الوحید فی التاریخ ان محمدا اتی بكتاب هو آیة فی البلاغة و دستور للشرائع و الصلاة و الدین فی آن واحد» ..
3- و قال المستشرق الألمانی الدكتور سومبس: «یقول بعض الناس ان القرآن كلام محمد- و هو خطأ محض- فالقرآن كلام اللّه تعالی الموحی علی لسان محمد، فلیس فی استطاعة محمد ذلك الرجل الأمی فی تلك العصور الغابرة ان یأتینا بكلام تحار فیه عقول الحكماء و یهدی من الظلمات إلی النور، و ربما تعجبون من اعتراف رجل أوروبی بهذه الحقیقة» ..
«انی درست القرآن فوجدت فیه تلك المعانی العالیة و الأنظمة المحكمة و تلك البلاغة التی لم اجد مثلها قط فی حیاتی جملة واحدة منها تغنی عن مؤلفات، و هذا و لا شك اكبر معجزة اتی بها محمد عن ربه».
______________________________
(2) محمد و القرآن- الشیخ كاظم آل نوح، المعجزة الخالدة- السید هبة الدین الشهرستانی، لما ذا اخترنا الدین الإسلامی- السید محمد الرضی الرضوی، قالوا فی الإسلام- الشیخ حسین خضر الظالمی، الإسلام روح المدنیة- مصطفی الغلایینی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 346
4- و قال المستشرق ماكس مننی: «ان مرشد المسلمین هو القرآن وحده و القرآن لیس بكتاب دینی فقط بل هو یرشد الإنسان إلی وظائفه الیومیة، و الاحكام الإسلامیة التی لا توجد فی القرآن و لا فی السنة توجد فی الفقه الواسع الذی هو علم الحقوق الإسلامی» ..
5- و قال الدكتور غوستاف لوبون الفرنسی الجنسیة: «التعالیم الاخلاقیة التی جاء بها القرآن هی صفوة الآداب العالیة و خلاصة المبادئ الخلقیة الكریمة و هی اسمی بكثیر من آداب الانجیل» ..
6- و قال ادوار لوهارت: «اشرق القرآن بصعقهم نورا یا له من نور و هو نور حكمة القرآن الذی انزله علی صدر نبیه المبعوث لا محالة لإرشاد البشر و ابقی لهم دستورا لن یضلوا ابدا و هو القرآن الجامع لمصالح دنیاهم و لخیر اخراهم» ..
7- و قال الفیلسوف الفرنسی الشهیر رنیان: «ان فی دین الإسلام تعالیم و مبادئ عالیة القیمة رفیعة المقام و ما دخلت فی حیاتی مسجدا من مساجد المسلمین إلا شعرت بجاذبیة نحو الاسلام، بل تأسفت ألا اكون مسلما .... و یلوح لی ان الشیخ جمال الدین «3» الذی زودنی بطائفة من
______________________________
(3) جمال الدین الافغانی من قادة الاصلاح فی العصر الحدیث، ولد فی قریة أسدآباد قرب همدان عام 1839 (1254 ه) و یرجع نسبه إلی الإمام علی- ع-، رحل مع أبیه و هو صبی إلی أفغانستان و دخل المدارس الشرعیة فی كابل لدراسة الآداب العربیة و علوم الشریعة و الحكمة و المنطق ثم هاجر إلی العتبات المقدسة و سكن كربلاء و واصل دراسته فی تحصیل العلوم الدینیة فی مدرسة السردار حسن خان الدینیة فی كربلاء ثم رحل إلی الهند للوقوف علی أحوالها الاجتماعیة ثم تركها إلی البلاد العربیة لیستقر عام 1857 فی مكة المكرمة، فشاهد تجمع المسلمین ففكر فی إنشاء جامعة كبری لهم فأسس جمعیة أم القری و هی أشبه ببرلمان اسلامی كبیر ..
ثم عاد إلی الافغان بعد أن استوزره ملكها شیر علی خان إلّا أن المؤامرات و الفتن التی حیكت ضده دعته عام 1869 للخروج منها شطر الهند، و فی الهند
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 347
الآراء الهامة تعیننی علی نظریتی الاساسیة و هی ان الاسلام (فی النصف الأول من وجوده) لم یحل دون استقرار الحركة العلمیة فی الأراضی الاسلامیة» ..
______________________________
أخذ یشحذ أبنائها بروح الوطنیة و الدفاع عن حقوقهم، مما دعت حكومة الهند لأن تضعه فی احدی البواخر المتجهة إلی السویس تخلصا منه، و بعد وصوله إلی مصر مكث فیها قلیلا ثم توجه عام 1870 إلی اسطنبول استجابة لنداء السلطان العثمانی عبد العزیز الذی سمع بدعوة جمال الدین الإسلامیة و مكانته المدنیة فی نفوس الناس لغرض الاستفادة منها فی استقرار سلطانه و ثبات ملكه ..
و فی الآستانة (اسطنبول) أختلف جمال الدین مع شیخ الإسلام حسن أفندی بخصوص محاضرة ألقاها جمال الدین فی دار الفنون أشار فیها إلی: «أن المعیشة الإنسانیة أشبه شی‌ء ببدن الحی و إن كل صناعة بمنزلة العضو فالملك كالمخ و الحدادة كالعضو و الزراعة كالكبد .. الخ و لا حیاة للجسم إلّا بالروح و روح المعیشة الإنسانیة النبوة و الحكمة ..» و قد حرّض- شیخ الإسلام- الوعاظ للنیل منه و اتهامه بالإلحاد و المروق من العقیدة ..
و قد انقسم الناس فریقین احدهما معه و الآخر ضده، لذا طلب السلطان منه مغادرة البلد فغادرها إلی القاهرة عام 1871 و مكث فیها (8) سنوات أنشأ خلالها مدرسة سخّرها لخدمة الشعب و قد حرّض المصریین للمطالبة بحقوقهم و الدفاع عن كرامتهم و سحق أعدائهم، مما دعا السلطات المختصة للقبض علیه فی 28/ 4/ 1879 حیث حمل إلی السویس و منها إلی الهند، و من الهند اتجه إلی بریطانیة و تعرّف فیها علی كثیر من مفكریها، ثم توجه إلی باریس حیث احتل فیها منزلة سامیة و مكانة رفیعة فی نفوس المسلمین ..
و لقد كتب إلی تلمیذه و صدیقه محمد عبده الذی كان فی بیروت لیوافیه فی باریس و جاءه بعد ذلك حیث أسسا معا جمعیة العروة الوثقی و مجلتها، و كان الهدف منها إیقاظ الشرق و حثه علی النهوض و تحریره من الاستعمار و تشكیل الحكومات الدستوریة و تحقیق الاصلاحات الاجتماعیة و القضاء علی الفساد و المرض.
ثم غادر باریس إلی إیران بعد أن سبقته شهرته إلیها و منها إلی موسكو و لینغراد (عاصمة القیاصرة) حیث مكث فی اخیره (4) سنوات ثم غادرها إلی اوربا ثم عاد إلی ایران بعد ذلك حیث حرّض علی وضع دستور للبلاد للحد من سلطات
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 348
8- و قال الكونت هنری دكاستری: «لو لم یكن فی القرآن غیر بهاء معانیه و جمال مبانیه لكفی بذلك ان یستولی علی الأفكار و یأخذ بمجامع القلوب ..
9- و قال رینورت: «یجب أن نعترف بان العلوم الطبیعیة و الفلسفة و الریاضیات التی انتعش فی أوروبا فی القرن العاشر مقتبسة من القرآن بل ان أوروبا مدینة للإسلام» ..
10- أما جویت فقد قال: «القرآن یجذب القارئ بمحاسنه و یولع فیه ولعا زائدا لكثرة فصاحته و بلاغته».
11- و قال الدكتور موریس الفرنسی: «إن القرآن أفضل كتاب أخرجته الصناعة الأزلیة للبشر».
12- و قال المستر كوزان دی بیرسونال: «أما مسألة الوحی بالقرآن فهی أكثر اشكالا و أكبر تعقیدا لأن الباحثین لم یهتدوا إلی حلها حلا مرضیا، و العقل حار كیف یتأتی ان تصدر الآیات من رجل أمی و قد اعترف الشرق
______________________________
الحاكم مما أوعز صدر السلطان ناصر الدین شاه قاجار، فغادر إیران إلی البصرة ثم إلی لندن فاسطنبول ..
و قد طلب منه السلطان عبد الحمید الموافقة علی ترشیحه لمنصب شیخ الإسلام إلّا أنه رفض ذلك و طلب منه منصبا یستطیع من خلاله تغییر النظام القائم و فسح المجال للمواطنین لسماع شكاواهم، لذا فقد فترت العلاقات ما بینهما و تراخت و وصلت إلی حد الصدام ..
ثم أصیب جمال الدین عام 1897 م بالسرطان، و ظل المرض یسری فی جسده حتی وافاه الأجل فی 9/ 3/ 1897 و قد أمر السلطان عبد الحمید بأن یدفن جثمانه من غیر احتفال و أن تصادر أوراقه و كتبه و منع الصحف من كتابة شی‌ء عنه كما و دفن فی مقبرة مجهولة ..
و فی كانون الأول من عام 1944 تم نقل رفات جمال الدین فی احتفال عظیم إلی كابل عاصمة الافغان لیواری فی مقبرة تتناسب و الخدمة التی قدمها للمسلمین ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 349
قاطبة انها آیات یعجز بنی البشر عن الاتیان بمثلها لفظا أو معنی، آیات لما سمعها عقبة بن ربیعة (المقصود هو عتبة بن ربیعة أو الولید بن المغیرة كما تقدم ذكره) حار فی جمالها، و كفی رفیع عباراتها لاقناع عمر بن الخطاب فآمن برب قائلها، و فاضت اعین النجاشی ملك الحبشة كما تلا جعفر بن ابی طالب سورة زكریا (المقصود هی سورة مریم) و ما جاء فی ولادة یحیی صاح القس ان هذا الكلام وارد فی موارد عیسی- ع- 13- و قال الدكتور شبلی شمیل: «إن فی القرآن یحمل بین طیاته عوامل عامة و فیها من المرونة ما یجعلها صالحة للأخذ بها فی كل زمان و مكان، ان القرآن یحمل بین طیاته عوامل النجاح فنراه یصف العلم و یحث علیه و یصف الجهل و یحذر منه و یتحدث عن الصلاح و یأمر به، و لم یترك فضیلة إلا أوجبها و حث علیها.
و له شعر طریف بهذا المعنی ننقل منه هذه الأبیات:
انی و ان انكرت دین محمدهل اكفرن بمحكم الآیات
و بما حوت من ناصح الألفاظ من‌حكم و رادع للهوی و عظات
و شرائع لو انهم عملوا بهاما قیّدوا العمران بالعادات
نعم المدبر و الحكیم و انه‌رب الفصاحة مصطفی الكلمات
رجل الحجاز رجل الفصاحة و العلم‌بطل حلیف النصر فی الغایات
ببلاغة القرآن قد جلب النهی‌و بسیفه انحی علی الهامات 14- أما بولاتیتلر فقد قال: «من الصعب أن یظن الإنسان فی أمره أن قوة الفصاحة الإنسانیة تؤثر ذلك التأثیر القرآنی خصوصا و أنها تصدر عالیة بغیر ضعف ابدا و تتجدد رفیعة إذ تقصر دون تمثیلها رجال الأرض و ملائكة السماء» ..
15- و قال المستر جان تودثون كرو الفرنسی: «و قذف فی نفس
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 350
محمد (ص) مجموع كتاب مملوء بالاسرار الإلهیة و اوحی إلیه حقائق تجتاز مسافة عقله الطبیعی لذلك علّم الإنسان بالقلم علّمه ما لم یعلم، هذا هو سر الوحی و هو سر الكلمة المكتوبة و كانت الكلمة المكتوبة وحیا إلهیا» ..
16- و قال الاستاذ دی منته من أهالی سویسرا فی كتابه محمد و القرآن: «لقد منع القرآن الذبائح البشریة و وأد البنات و الخمر و المیسر و كان لهذه الاصلاحات تأثیر غیر متناه فی الخلق بحیث ینبغی ان یعد محمد (ص) فی صف اعاظم المحسنین للبشریة» ..
و قال فی مكان آخر «ان الانقیاد لارادة اللّه یتجلی فی القرآن بقوة لا تعرفها النصرانیة» ..
17- و قال الاستاذ جونسون بصدد القرآن: «هو صیحة نبویة تسمو إلی شفاف القلب له من المعانی ما یناسب الجمع و یصلح لكل زمان آنست الیه و تعالت فیه جمیع الأصوات فی مختلف العصور راضیة أو مكرهة و كان له صداه فی القلوب المختارة فدفعها إلی الغلبة و النصر فی الدنیا و تكوین قوة جدیدة استطاعت ان تدفع شعاع الحضارات الاغریقیة الأسیویة عبر الظلام المخیّم فوق أوروبا المسیحیة عند ما كانت المسیحیة فی ذلك الوقت ملكة الظلام».
18- و قال المستشرق الأمریكی ر. ف. بودلی فی كتابه الرسول حیاة محمد و الذی طبع فی اللغة العربیة لأكثر من مرة: «بین ایدینا كتاب معاصر فرید فی اصالته و فی سلامته لم یشك فی صحته كما انزل أی شك جدی، و هذا الكتاب هو القرآن و هو الیوم كما كان یوم كتب لأول مرة تحت اشراف محمد و علی الرغم من ان الافكار قد دوّنت فی الرقاع و سعف النخیل و العظام فی لحظات غریبة فالسور و الآیات الأصیلة قد حفظت ..
و هذا الكتاب لیس مجموع أحادیث أو تقاریر یفترض منها أن
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 351
محمدا قد قالها، فهی نفس الآیات التی أملاها بنفسه یوما بعد یوم و شهرا بعد شهر خلال حیاته، و ان الحسنة الوحیدة فی طریقة زید انها كانت أمینة فوق الشبهات فلم یفعل شیئا لیضیف فقرات أو یضع جمل ربط أو یحذف أو ینسخ تفاصیل تشین الاسلام ..
لقد عمل باخلاص لا یمكن تصوره، و حتی انه لما انتهی من نشر القرآن كان الكتاب من عمل مؤلفه (اللّه) و مؤلفه فقط ..
و المهم ان القرآن هو العمل الوحید الذی عاش اكثر من اثنی عشر قرنا دون ان یبدل فیه و لا یوجد شی‌ء یمكن ان یقارن بهذا ادنی مقارنة لا فی الدیانة الیهودیة و لا فی الدیانة المسیحیة».
19- و قال دفرجة فی كتابه (العالم- جزیرة العرب): «فی القرآن اصول دینیة و اخلاقیة و فلسفیة و قوانین سیاسیة و حربیة و قانون مدنی ینظم سیر علاقات الناس بینهم، و فی كل وجه من وجوه الحیاة العظیمة» ..
20- كما و قال ادوار جیبون: «إن دین محمد خال من الشكوی و الظنون و القرآن أكبر دلیل علی وحدانیة اللّه بعد أن نهی النبی عن عبادة الأصنام و الكواكب و هذا الدین أكبر من أن تدرك اسراره عقولنا الحالیة» ..
21- و قال المؤرخ الشهیر دوانبورت: «ان القرآن اعنی القانون الإسلامی العمومی حافل بالقوانین مدنیة و تجاریة و حربیة و قضائیة و جنائیة و جزائیة و انه یبحث عن الأمور الدینیة و شئون البشر فی الحیاة من الحقوق الشخصیة و الاجتماعیة و الأمور الصحیة و یبحث عن الفضیلة و الأمانة و العصیان و القصاص عن الجنایة فی هذه الحیاة و الحیاة الآخرة» ..
22- و قال الأستاذ بثورت سمیت فی كتابه المسمی «حیاة محمد» بالحرف الواحد: «ان محمدا (ص) لمؤسس امة و مملكة و دیانة و هذا
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 352
امر لم یوجد له سبق مثال و لن یوجد و هو امی لا یعرف القراءة و الكتابة و قد جاء بكتاب مشتمل علی دستور الشرائع و العبادات و اخبار الأمم و هو نقی العبارة من الألفاظ المستهجنة باهر الحكمة و الحقائق و هو انظم معجزة له (ص) و الحق یقال انه لمعجزة».
23- و قال واشنطون ایرفیج: «القرآن فیه قوانین زكیة سنیة».
24- و أخیرا- و لیس آخرا- قال جیبون: «القرآن مسلّم به من حدود الاقیانوس الأتلانتیكی إلی نهر الیغانغستی بانه الدستور الاساسی لیس لاصول الدین فقط بل للاحكام الجنائیة و المدنیة و الشرائع التی علیها مدار حیاة نظام النوع الانسانی و ترتیب شئونه» ..
هذا و لا حاجة هنا لا یراد أقوال و كلمات للكتاب شرقیین غیر مسلمین مثل جورج جرداق و بولس سلامة و فیلیب حتی و جورجی زیدان و سلیمان كتانی .............. الخ بصدد القرآن و علومه و فنونه و ذلك لأن كتبهم و مؤلفاتهم هی فی متناول الجمیع و ان بعضها قد طبع لعدة مرات.
و اشیر بعد هذا إلی بعض الأفراد من غیر المسلمین و الذین اطّلعوا علی الاسلام و القرآن عن كثب حیث تجلی لهم حقیقتهما فما كان منهم فی هذه الحالة إلا أن یتخلوا عن عقیدتهم السابقة و ینضموا تحت لواء الاسلام و منهم الدكتور محمد أسد الذی نجد افكاره معكوسة فی كتبه العدیدة مثل كتابی الاسلام علی مفترق الطرق و فی الطریق إلی مكة و منهم الدكتور أحمد سوسة الذی اشهر اسلامه و كشف علة ذلك فی كتابه فی طریقی إلی الاسلام ..
و منهم الكاتب الكبیر الاستاذ علی بن ربن الطبری الذی اشهر اسلامه و قال بعد ذلك بالحرف الواحد: «حینما كنت مسیحیا كنا أقول كما یقول عم لی متعلم بلیغ بأن اسلوب القرآن لیس معجزا و لیس من
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 353
علامات النبوة لأنه فی استطاعة الناس كلهم، و لكن عند ما حاولت تقلیده و أطلعت علی مدلول كلماته علمت بان اتباع القرآن علی حق فیما یدعون له لأنی لم أطّلع علی كتاب یأمر الخیر و ینهی عن الشر كالقرآن فعند ما یحمل لنا شخص كتابا یحمل نفس الممیزات و یوحی الینا بهذه الطلاوة و تلك الروعة فی القلوب و یجوز مثل هذا النجاح و یكون فی نفس الوقت أمیا لم یتعلم أبدا فنّی الكتابة و البلاغة فهذا الكتاب یكون بلا شك من علامات النبوة» ..
و منهم الدكتور جرینه المسلم الفرنسی الشهیر الذی كان عضوا فی البرلمان و الذی قال حینما سئل عن سبب دخوله فی الاسلام: «لقد تتبعت كل الآیات القرآنیة التی لها ارتباط بالعلوم الطبیعیة و الصحیة و الطبیة فوجدتها منطبقة كل الانطباق علی معارفنا الحدیثة فاسلمت لأنی تیقنت ان محمدا اتی بالحق الصراح قبل الف سنة من غیر ان یكون له مدرس من البشر، و لو ان صاحب كل فن من الفنون أو علم من العلوم قارن كل الآیات القرآنیة المرتبطة بما یعلمه حسیا كما قارنت انا لأسلم دون ریب ان كان خالیا من الأغراض».
و منهم المستر ر. دی كری المسیحی الانكلیزی الذی اشهر اسلامه و كان قد سئل بعد ذلك عن علة اسلامه فأجاب: «انی قد نشأت علی الدیانة المسیحیة و اجریت علیّ جمیع آدابه و رسومه و لكن عند ما ظهرت لی هذه الحقیقة الواقعیة و هی تطابق ما ساقتنی الیه نظریاتی الشخصیة و جمیع ما قرأته حول الدین الاسلامی و ما اجده فی أقوال النبی محمد و تعالیمه من الأجوبة الكافیة علی جمیع مسائلی العویصة عند ذلك غمرتنی حالة بهجة و سرور أترك تصویرها إلی فكرة القارئ ..
و كلما قرأت سورة من القرآن كانت الحقائق الواقعیة تتجلی لی واحدة اثر اخری فاحمد اللّه تعالی حیث تقبل بلطفه و كرمه استسلامی للدیانة الاسلامیة» ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 354
و منهم اللورد هیدلی رئیس الجمعیة الاسلامیة حیث نری انه بعید اشهار اسلامه ألّف كتابا یحمل اسم «ایقاظ العرب للاسلام» و ما ورد فیه بحق القرآن كثیر ننقل منه هذه الأسطر و هی: «اذا قارنا الطرق المتخذة عند المسلمین عند ابداء آرائهم بالطرق المتبعة بین ناشری الدین المسیحی دهشنا من الفرق البین بینهما اذ الأول یتسنم عن روح الحب و التسامح بینما الآخر یظهر كثیرا من الإكراه و اللعنة، فالتعلیمات التی وردت فی القرآن سهلة المأخذ جدا و قد بیّنت بأسهل لغة، و اضاف انه لیس هناك ای ابهام أو غموض فی الآیات القرآنیة، فما اعظم الفرق بین الطریقة التی ینشر بها المسلمون الذین یتبعون تعالیم القرآن دینهم، و تلك الطریقة البغیضة التی اتخذها هؤلاء الذین یسعون فی ان یوزعوا جذوات نار و سیوفا شتی من الدین المسیحی».
هذا و نورد هنا محاورة طریفة لرجل انكلیزی كان یعرف اللغة العربیة و كان یعمل ربانا لا حدی السفن التجاریة حیث سمع قوله تعالی:
أَوْ كَظُلُماتٍ فِی بَحْرٍ لُجِّیٍّ یَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ یَدَهُ لَمْ یَكَدْ یَراها وَ مَنْ لَمْ یَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ «4» ..
فسأل هذا الرجل عن القائل لهذا الكلام فقالوا له ان هذا هو من القرآن الكریم الذی أوحی إلی النبی محمد (ص) فقال: هل ركب محمد البحار فأجابوه: لا فقال: ان هذه الصورة الحقیقیة لا یعرفها إلا من عاش فی البحار عشرات السنین و لا تحدث إلا نادرا، و لو حدثت لما كان فی مستطاع أحد ان یصوّرها هذا التصویر الفنی البدیع الذی صوّرها به القرآن، فلیس هذا القول بقول بشر بل هو قول اللّه سبحانه» ..
و أخیرا- و لیس آخرا- نشیر إلی ظاهرة ملموسة عاصرها ابناء هذا
______________________________
(4) النور: 40.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 355
الجیل تتعلق بالأثر الذی تركه القرآن و الاسلام فی نفوس شعب صدیق و كبیر فی العالم حیث اضاء لهم سبیل الهدایة و الرشاد فتركوا ما كانوا یؤمنون به من عقائد و افكار لیدخلوا فی دین اللّه افواجا ..
و هذه الظاهرة نجدها ساطعة فی اقطار شبه القارة الهندیة، فالمعروف ان عدد المسلمین فی شبه القارة عند الاستقلال فی آب من عام 1947 كان بحدود 95 ملیون نسمة، إلا ان هدایة القرآن و أنوار الاسلام امكن لهذا الرقم من ان یتضاعف إلی ما یقرب من أربع مرات- من دون استعمال العنف و القوة بل ان المسلمین فی بعض هذه الاقطار هم ضحیة العنف و الارهاب- لیصبح العدد حالیا كما یلی:
1- الباكستان/ 95 ملیون 2- بنغلادش/ 100 ملیون 3- الهند/ 150 ملیون و قیل أكثر من ذلك المجموع/ 345 و طبیعی ان زیادة السكان فی العالم أو فی المنطقة بمرور الوقت لها دخل كبیر فی تضاعف السكان و ان كانت هذه بحدود 100% خلال 38 سنة و لیست بحدود 400% كما هو حال نفوس المسلمین فی اقطار القارة- و الذی یرجع- كما قلنا إلی فعل القرآن و هدایته للناس، و اخراجهم من الظلمات إلی النور ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 357

الحروف المتقطعة فی أوائل السور

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 359
ان كل فرد یختم القرآن الكریم ستمر علیه و فی مطلع 29 سورة من سوره البالغة 114 سورة ستمر علیه حروف متقطعة یتعذر علی غالبیة الناس معرفة مغزاها و فلسفتها ..
و هذه الغالبیة عند ما تطالعهم هذه الحروف قد لا یكلفون انفسهم مئونة الوقوف عندها لأجل تدبّرها و استیعابها بل یمرّون علیها مرّ الكرام، و إذا ما لفتت هذه الحروف تساءل البعض منهم فلا یكلف هذا البعض نفسه للوقوف علی ماهیتها، و من كلف نفسه منهم فهو لا یتلقی ممن یستفسر منهم إلا جوابا جاهزا و كاملا لا یضیف إلی معلوماته شیئا و هو «ان اللّه تعالی هو اعلم بمراده منها و انه لا یعلم تأویلها إلا هو» ..
و الحقیقة هنا هو ان هذا الجواب الموجز هو الذی تلتقی عنده كافة اقوال الفقهاء و الأدباء و هو جواب مرن و شامل یستوعب كل معانی هذه الحروف مهما تعدّدت و اختلفت ...
و رغم هذا فإن البعض من هؤلاء الأدباء و الفقهاء لم یكتفوا بهذا الجواب الشامل للحروف هذه، و هذا هو دأبهم دوما- بل انطلقوا مسرعین للبحث و الاستقصاء فی بطون الكتب و وراء الروایات و الأخبار علهم یقفون علی خیط رفیع یوصلهم للعثور علی المزید من المعانی و الأغراض الخفیة لهذه الحروف و التی لا یمكن- بحال من الأحوال- ان تنزل علی الرسول (ص) عبثا من دون ان تكون مثقلة و حبلی بالأغراض و المعانی المختلفة- و لأنهم أیضا: «انكروا ان یكون فی كتاب اللّه
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 360
تعالی ما لیس مفهوما، و ان هذا یتنافی مع ما وصف به القرآن الكریم من انه نزل بلسان عربی مبین» «1» و انه لا یجوز ان یرد فی كتاب اللّه تعالی شی‌ء لا یفهمه الناس تبعا لما جاءت به الآیات الكریمة و الأخبار و العقل بذلك ..
ان الحروف المتقطعة فی أوائل السور مثل «الم، المص، ق، ص، كهیعص، حم» هی فی الحق من الآیات المتشابهة التی لا سبیل للوقوف علی معناها و ان اللّه و رسوله و الراسخین فی العلم هم وحدهم ینفردون بمعرفة حقیقتها و اسرارها دون سائر الناس لأنها «سر هذا القرآن» كما ینقل عن الشعبی «2» .. او كما یروی عن الامام علی- ع- بقوله: «ان لكل كتاب صفوة و صفوة هذا الكتاب حروف التهجی». أو كما یؤثر عن أبی بكر الصدیق (ص) بقوله: «فی كل كتاب سر و سره فی القرآن أوائل السور» ..
أو قول ابن مسعود: «ان هذه الحروف علم مستور و سر محجوب استأثر اللّه سبحانه به».
و لكن هؤلاء القسم من الأدباء و الفقهاء حاولوا عند وصولهم عند هذه الحروف التخفیف من حدة و غلواء تشابهها بالبحث فی كافة المظان
______________________________
(1) مجلة الوعی الإسلامی الكویتیة- العدد 23.
(2) الشعبی هو ابو عمرو عامر بن شراحیل الشعبی الكوفی ولد عام 20 للهجرة و هو من التابعین، روی عن عمر و علی و ابن مسعود و لم یسمع منهم، اصبح قاضیا للكوفة و كان یفتی رغم وجود كثیر من الصحابة، و یجلس له كثیر من أهل العلم یأخذون عنه مما یدل علی مبلغ علمه و عظیم حظه و علوم منزلته بین أتباعه و معاصریه ..
و یقال عنه أنه كان یتحرّج عن الاجابة فی كتاب اللّه إذا لم یكن لدیه شی‌ء من السلف، حیث یروی عنه قوله: «ثلاث لا أقول فیهن حتی أموت: القرآن و الروح و الرأی» ..
توفی عام 109 للهجرة ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 361
و المصادر عن اسرارها و معانیها ..
و حیث ان كل هؤلاء لم یرتادوا سبیلا واحدا- فی البحث و التقصی- لذا فقد تمكن كل واحد منهم من العثور و الوقوف علی معنی واحد لهذه الحروف أو أكثر ..
و من جمع المعانی إلی بعضها سیظهر انها «تزید علی 20 معنی» «3» و ان اهمها هی:
1- قیل انها تدل علی اسماء السور حیث تعرف كل سورة بما افتتحت به منها، فلو قال القائل قرأت سورة «كهیعص» أو سورة (ص) عرف الناس ما قرأ هذا القائل ..
و حین تتكرر هذه الحروف فی أكثر من سورة فحینئذ تضاف هذه الحروف إلی اسم السورة الثانی فیقال «حم السجدة» أو «الم البقرة» و هكذا، و ذلك علی النحو الذی نجده عند الناس حین تتشابه اسماؤهم فتتمیز فی هذه الحالة باضافة لفظ الأب أو اللقب الیها فیرتفع التشابه ما بینها ..
2- و قیل انها اسماء القرآن ..
3- و قیل ان اسماء اللّه تعالی منقطعة و لو أحسن الناس من تألیفها لعلموا منها اسم اللّه العظیم ..
4- و یجعلها البعض حروفا مأخوذة من صفات اللّه تعالی، حیث یجتمع بها فی المفتتح صفات كثیرة و یكون هذا فنا من فنون الاختصار عند العرب، و هذا الاختصار نجده عند العرب بكثرة.
فقد قال الولید بن عقبة فی رجزه:
قلت لها قفی‌فقالت قاف
______________________________
(3) منهج البیان فی تفسیر القرآن- السید ابن الحسن الرضوی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 362
أی انها قالت وقفت و قد اقتصرها علی القاف فقط.
كما و قال زهیر:
بالخیر خیرات و ان شرا فاو لا ارید الشر إلا ان تا أی و ان شرا فشر و إلا ان تشاء.
و كما قال الآخر:
نادوهموا ألا الجموا ألاتاقالوا جمیعا كلهم ألا فا أی أ لا تركبون و الا فاركبوا.
و قوله (ص): «كفی بالسیف شا» أی شافیا.
و علی هذا الرأی فان كل حرف من هذه الحروف إشارة خاصة لصفة من صفات اللّه تعالی.
5- و یذهب البعض إلی أن هذه الحروف هی ثناء اثنی اللّه تعالی به علی نفسه ..
6- و قیل انه قد أرید بها القسم، و كأن اللّه سبحانه قد أقسم بالحروف المتقطعة كلها و اقتصر علی ذكر بعضها من ذكر جمیعها ..
و هذا یشبه قول القائل عند ما یقول تعلّمت «ا ب ت ث» حیث ان معنی هذا القول انه قد تعلم كافة الحروف الثمانیة و العشرین «4» لا الأحرف (الحروف) الأربعة فقط ..
______________________________
(4) إن الحروف فی اللغة العربیة هی (28) حرف كما هو معروف و فی اللغة الانكلیزیة (26) حرف و فی اللغة الاوردیة (الهندیة) 53 حرف و فی اللغة السندیة 52 حرف ... الخ ..
و بهذه المناسبة نشیر إلی واقعة طریفة حول عدد حروف العربیة، و هو أن أحد الأدباء كان قد كلف أحد الصبیان الأذكیاء بالذهاب إلی الشاعر أبی العلاء المعری (المولود عام 973 و المتوفی عام 1058 م) لیخبره بأنه القائل لهذا البیت:
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 363
7- و قیل أیضا أنها وردت فی صدر السور لتكون أول ما یقرع الأسماء و تثیر الأذهان للاصغاء و الانصات كحروف التنبیه و الافتتاح، و انه سبحانه لم یستعمل الكلمات المتداولة و المشهورة فی التنبیه و الافتتاح مثل ألا و أما لأنها تستعمل بكثرة فی كلام الناس و متعارفة ما بینهم ..
و حیث ان القرآن لا یشبه كلام الناس، لذا جیئت بالفاظ تنبیه و افتتاح لم تعهد من قبل لتكون ابلغ فی قرع الاسماع و اشد اثارة لاستماعها و تقبلها ..
8- و قیل ان الحروف التی جاءت فی فواتح السور إنما هی رموز لحركة السورة الموسیقیة و النغم الصوتی.
9- و یری آخرون ان المراد بها- بعد حذف المكرر- هو مدة بقاء هذه الأمة أو آجال الآخرون ..
10- و قیل انها تدل علی انقطاع كلام و استئناف كلام آخر، حیث ان العرب اذا استأنفوا كلاما فمن شأنهم ان یأتوا بشی‌ء غیر الكلام الذی یریدون استئنافه فیجعلونه تنبیها للمخاطبین علی قطع الأول و استئناف الكلام الجدید ..
______________________________ و أنی و ان كنت الأخیر زمانه‌لآت بما لم تستطعه الأوائل فإن أجاب بالإیجاب فلیقل له: إن الاوائل قد جعلوا الحروف العربیة (28) حرفا فهل لك أن تزید علیها بحرف واحد، و إن سألك من أرسلك فقل له أخی الصغیر .. و فعلا جاءه الصبی و أخبر أبا العلاء بالشعر فأجاب بالإیجاب فطلب منه الزیادة فتعثر الشاعر و قال لن أتمكن و لكن أخبرنی من بعثك، فأجابه الصبی: أخی الصغیر فرد الشاعر: بل استاذك الكبیر. و بروایة أخری، فلما أنصرف الصبی، سأل عنه أبو العلاء فقیل له هو ابن فلان، فقال: قریبا یموت، فلم تمضی أیام حتی مات الصبی، فقال أبو العلا: ذكاؤه قتله ..
و كان الصبی هنا قد ذهب من تلقاء نفسه من دون توصیة أحد وفقا للروایة الأخیرة ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 364
11- و یری البعض أن كل واحد من هذه الحروف یدل علی فعل من الأفعال فالألف معناه الف اللّه محمدا فبعثه نبیا و اللام لأمة الجاحدین ... الخ.
12- و هناك من قال بأنه لو جمعت هذه الحروف كلها فی مكان واحد و حذف ما تكرر منها لوجد أن الحروف المتبقیة هی 14 حرف نورانی یجمعها قولك «صراط علی حق نمسكه».
13- و من قال ان مجموع حروف هذه الفواتح بعد حذف المكرر یفید العبارة «صح طریقك مع السنة».
14- و قیل أن القرآن مؤلف من حروف التهجی المعروفة و التی جاء بعضها مقطعا منفردا و جاء تمامها مؤلفا مجتمعا لیتبین العرب ان القرآن نزل بالحروف التی یعرفونها فیكون ذلك نداء لهم و دلالة علی عجزهم ان یأتوا بمثله و انه من عند اللّه لا من البشر ..
15- و قیل اخیرا- و لیس آخرا- انها تشمل علی اشارات و معانی لا یفهمها إلا الرسول الأعظم (ص) و الغرض منها هو اعلام الناس بأن القرآن المعجز مركب من هذه الحروف و الذی یتألف منها كلامهم فعجزهم رغم ذلك عن تحدیه دلیل علی انه من عند اللّه تعالی ..
و نحن هنا و بعد استعراض كل ما امكن جمعه عن المعانی الخاصة بهذه الحروف لا نستطیع ان نضع اصبعنا علی أی من هذه الفقرات لنقول انها هی المراد بها و ان ما عداها لیس كذلك، فقد تكون كلها صحیحة و قد یكون آخرها هو القول الفصل و قد یكون غیر هذا و ذاك ..
و كل الذی نستطیع ان نقوله بثبات هو ان نعود كرة اخری الی مطلع هذا الفصل لنضم صوتنا إلی اصوات الأكثریة الساحقة من الفقهاء و الأدباء و التی تذهب- فی تفسیر هذه الحروف- الی ان اللّه سبحانه هو
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 365
الذی یعلم سر هذه الحروف و مغزاها الحقیقی لأنها من الآیات المتشابهة التی تحتمل اكثر من تأویل و تفسیر.
و فی ختام هذا الفصل نورد اتماما للفائدة جدولا توضیحیا للسور القرآنیة المفتتحة بالحروف المتقطعة لیسهل علی القارئ الكریم معرفة كل سورة منها و الحروف المبتدأة بها ..
جدول احصائی للسور القرآنیة المبتدأة بالحروف المتقطعة و عددها 29 سورة التسلسل/ الحروف/ اسماء السور التی وردت فیها/ عدد السور 1-/ الم/ البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة/ 6 2-/ المص/ الأعراف/ 1 3-/ الر/ یونس، هود، یوسف إبراهیم، الحجر/ 5 4-/ المر/ الرعد/ 1 5-/ كهیعص/ مریم/ 1 6-/ طه/ طه/ 1 7-/ طسم/ الشعراء، القصص/ 2 8-/ طس/ النمل/ 1 9-/ یس/ یس/ 1 10-/ ص/ صاد (ص)/ 1 11-/ حم/ غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثیة، الأحقاف 12-/ حمعسق/ الشوری 1 13-/ ق/ قاف (ق)/ 1 14-/ ن/ القلم/ 1 المجموع/ 29
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 367

خلق القرآن و قدمه‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 369
قصة خلق القرآن و قدمه محزنة و مؤلمة و مشوبة بمزید من الدموع و الدماء، فهی و ان كانت لا تتعلق بأی اصل من اصول الدین أو فروعه إلا انها اقامت العالم الاسلامی و اقعدته لفترة طویلة من الزمن و أحدثت بین ابنائه من الفرقة و الخلاف و رغم اشتراكهم فی الشهادتین و الكتاب و القبلة و الفرائض و الامور الأخری- احدثت من الفرقة ما بینهم ما یتعذر علی الاستعمار و اعداء المسلمین بامكانیاتهم المادیة و العسكریة من احداث شطرا منه فی بحر عشرات السنین ..
ان هذا الخلاف الذی استعر بین المسلمین حول هذا الموضوع لم یكن لیرتضیه الاسلام أو القرآن نفسه فی شی‌ء، بل انه قد جاء من خلف ظهورهما و عبر النظرة الضیقة التی كان یحملها أولئك الذین اشعلوا هذه الحرب و اوقدوا هذه الفتنة ..
و لو ادرك هؤلاء ملیا حقیقة المفاهیم الاسلامیة و ما تدعو الیه من تسامح و تساهل لما حدث الذی كان و لما تلطخ التاریخ بالدماء و العنف و لعاش الجمیع اخوة متحابین كالجسد الواحد و الید الواحدة ..
و الحقیقة ان مأساة حكایة خلق القرآن و قدمه قد اصبحت فی ذمة التاریخ و لیس لها مكان الآن أو فی المستقبل لا سیما بعد ان طغت الافكار و التیارات السیاسیة المختلفة علی عقول غیر قلیل من المسلمین و غدت هذه الافكار هی المفرّقة بینهم دون سواها غالبا ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 370
هذا و قد بلغت فتنة خلق القرآن و قدمه ذروتها القصوی فی أواخر القرن الثانی للهجرة عند ما تولی المأمون العباسی «1» زمام الحكم و قیامه ببذل التسهیلات بوجه ترجمة الكتب الیونانیة و الفلسفیة إلی اللغة العربیة و وضعها فی متناول ابناء الشعب، اضافة لمباركة الخلیفة للمناظرات و المناقشات التی تحدث بین الناس و التی تخص مواضیع الطبیعة و ما وراءها و مسائل العدم و الوجود و غیرها ..
و لو ان الأمر قد وقف عند حدود المطالعات و المباحثات البحتة فی مسائل ما وراء الطبیعة أو فی المواضیع الفلسفیة لهان الأمر و لمرّ مرورا سریعا من دون ان یحس به أحد ..
و لكن تدخل بعض الخلفاء و الحكام السافر و دس انوفهم فی خضم هذه المناقشات و الانتصار لهذه الفكرة تارة و لتلك تارة اخری مع استعمال العنف فی اشاعة الفكرة التی ینتصر لها قد زاد فی الطین بلة و اخرج هذه المناظرات من مجرد بحث و جدل منطقی و فكری إلی حرب مستعرة الأوار تلتهم الأخضر و الیابس من دون ان تترك شیئا ..
______________________________
(1) ولد المأمون عام 170 ه و قد تولی الخلافة بعد قتل أخیه الأمین عام 198 ه، حیث قال الأخیر قبل ذلك و عند تولّیه الخلافة بعد وفاة الرشید بخلع المأمون عن ولایة العهد و إسنادها إلی ابنه موسی، مما أدی إلی نشوب الحرب بین الأخوین و استعانة المأمون بالقوات الفارسیة لاجتیاح بغداد عاصمة الخلافة و قتل أخیه الأمین ..
و كان المأمون من عظماء الخلفاء العباسیین حیث قرّب الحكماء و الشعراء و طلب ترجمة الكتب المختلفة إلی العربیة، و كان سمحا یمیل إلی الإقناع و المناقشة و احتمال آراء المتناظرین و إن كانت هذه لا تتفق مع آرائه و میوله ..
اسند المأمون ولایة العهد إلی الإمام علی بن موسی الرضا- ع- إلّا أن الإمام توفی فی عهد المأمون مما أضطره إلی تولیة أخیه محمد المعتصم محل الإمام الرضا، أمه فارسیة و كذلك زوجته ..
توفی فی بلاد بیزنطیة شمال طرسوس عام 218 ه ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 371
و عن حقیقة خلق القرآن و قدمه نشیر فی البدایة إلی ان المسلمین جمیعا قد اتفقوا من دون خلاف یذكر علی ان اللّه تعالی یتصف بالكلام و انه متكلم، و ان القرآن الكریم هو كلام اللّه سبحانه و لكنهم بعد هذا اختلفوا حول ماهیة هذا الكلام و أساسه ..
فتری فئة من المسلمین ان القرآن الكریم هو قدیم بدلیل هو «ان اللّه تعالی متكلم بكلام نفسی ازلی قدیم زائد عن ذاته و غیر منفك عنها و ان القرآن معنی قائم بذات اللّه و قدیم بقدمه» «2» و انه احدی صفاته الذاتیة ..
بینما تری الفئة الثانیة من المسلمین و تذهب إلی فكرة خلق القرآن و حدوثه بدلیل تورده مفاده «ان اللّه تعالی متكلم بذاته بدون كلام زائد عنها و انه یخلق الحروف و الاصوات فی الأغراض فتقرأ و تسمع، و ان القرآن باعتبار انه متصف بما هو صفات المخلوق و سمات الحدوث من تألیف و تنظیم و انزال و كتابة و سماع و حفظ و ناسخ و منسوخ هو مخلوق» «2» و لا یصح ان یكون قدیما و ازلیا، اضافة إلی ذلك فإن القرآن «مؤلف من الحروف و الكلمات و لا بد ان یكون لها و لتألیفها بدایة و نهایة و لا بد من ان یكون له علة فی ایجاده و وجوده لأنه لیس بواجب الوجود فان واجب الوجود واحد هو اللّه تعالی و لیست علة وجود الموحی منه إلا خلق اللّه خالق كل شی‌ء، فقد قال سبحانه- انا جعلناه قرآنا عربیا- و الجعل هو الخلق و كل مجعول و مخلوق له بدایة» «4».
و هذا الذی قیل فی خلق القرآن و قدمه لو اردنا ان نترجمه و نقلبه إلی اسلوب سهل و بسیط لیمكن فهمه من قبل القراء الكرام لا صبح كما یلی:
تذهب الفئة الأولی من المسلمین الی ان اللّه تعالی قدیم (و هذا
______________________________
(2) القرآن المجید- محمد عزة دروزة.
(4) آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن- محمد جواد البلاغی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 372
امر مسلّم به عند الفئة الثانیة أیضا) و لهذا یجب أو یلزم ان یكون كلامه النفسی المقبل به ابدا و لا یمكن سلبه عنه مثله قدیما ..
بینما ذهبت الفئة الثانیة إلی ان كلام اللّه تعالی مخلوق كخلقه تعالی لبقیة الأشیاء و الحاجات متی اراد و حین یشاء لأنه كلام لفظی و التكلم من الصفات الفعلیة ..
و فی الحق اذا كان لی ان ادلو بدلوی فی هذا الموضوع فإنی اری- بعد المرور علی حجج الطرفین و استعراض آرائهم- ان دلائل و تعلیلات الفئة الثانیة بصدد خلق القرآن تتفق مع المنطق و العقل و تتلاءم مع العلم و تطور الفكر الحدیث ..
لذا فإنها أقوی حجة و اثباتا- لدیّ- من الأولی مما لا مجال للتفصیل أو للایضاح باكثر من هذا و سواء أضمّ القارئ الكریم صوته إلی صوت الفئة الثانیة فی تأیید خلق القرآن أو انتصر لمن قال بقدمه، فلیس لصوته أو صوت غیره كبیر اهمیة أو عظیم اثر بعد ان اصبحت القضیة برمتها فی ذمة التاریخ و بات امرها نسیا منسیا.
كما و لم یكن لیخطر علی بالی قط ان أشیر إلی هذا الموضوع فی هذه الدراسة لو لا الرغبة و الحرص منی علی تسجیل لون من الوان التفكیر الاسلامی اشغل صفحات طویلة و عریضة من التاریخ فی العصر العباسی الأول وادی إلی تعذیب و سجن و ازهاق ارواح كثیرة من الناس كان المفروض فیهم ان یتموا حیاتهم بسلام و ان یسهموا فی انعاش الحركة الفكریة و الثقافیة فی العالم ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 373

الاسراء و المعراج فی القرآن‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 375
فی القرآن الكریم و علی وجه التحدید فی سورتی الاسراء و النجم اشارات واضحة و ظاهرة إلی إسراء و معراج الرسول (ص)، رغبنا و نحن علی الأبواب الأخیرة للكتاب ان نلقی بعض الضوء علیها لنری مدی مطابقتهما و ارتباطهما بروح هذا العصر، عصر الذرة و الأقمار الصناعیة كما یسمونه ..
و المقصود من الاسراء هنا هو سیر و سفر الرسول (ص) لیلا من مكة المكرمة شطر المسجد الأقصی فی مدینة القدس حاضرة فلسطین «1». و المسجد الأقصی- كما هو معروف- كان القبلة الأولی للمسلمین قبل ان یغیّرها اللّه و یجعل اتجاه الصلاة شطر المسجد الحرام بمكة المكرمة بعد الهجرة المباركة ..
______________________________
(1) نشیر هنا إلی أنه لیس للیهود و لا لغیرهم من القومیات و الأدیان ممن حكم فلسطین أی حق بها یضاهی حق العرب و المسلمین أو یضارعه بها للاسباب التالیة:
1- إن الیهود لم یحكموا فلسطین باكملها إلّا لمدة جد قصیرة و فی جزء من حكم النبی داود و ولده سلیمان- ع- و البالغة 73 سنة من عام (1000- 927) ق. م.
2- إن الیهود لم یحكموا إلّا مناطق صغیرة من فلسطین و فی مدة قصیرة و متفرقة قبل حكم النبی داود و خلال حكمه و بعد حكم النبی سلیمان و فی مدة 341 سنة ..
3- إن الحكم الیهودی لأرض فلسطین قد زال منذ سنة 135 م زوالا تاما
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 376
اما المراد من المعراج فهو صعود و ارتقاء الرسول (ص) من المكان الأخیر- قبة الصخرة فی القدس- تلقاء السماوات العلیا ..
اما موعد و وقت الاسراء و المعراج فقد اختلف الرواة و المؤرخون بشأنهما، إلا أن القولین المرجحین عنهما هو انهما قد تما فی مكة المكرمة بالتأكید و قبل الهجرة، و فی السنة الثانیة عشر أو العاشرة من بعثة سید المرسلین (ص) ..
و كانت واقعة الاسراء و المعراج محك لایمان بعض المسلمین، كما و كانت- فی نفس الوقت- تحدی صارخ و مجابهة مكشوفة مع القرشیین ممن كان یعبد الاصنام و الأوثان و لم یر نور الاسلام و هدایته بعد ..
فالقلیل من المسلمین ممن لم یتجاوز الاسلام ما وراء السنتهم و ممن كانوا یعبدون اللّه علی حرف قد ارتدوا إلی ظلمات ضلالاتهم السابقة حین سمعوا بقصة اسراء الرسول (ص) و معراجه، حیث ظن هؤلاء القلة من المرتدین ان كل شی‌ء یری بالعین المجردة أو یمسك بالید یحكم بصحته و وجوده، و ان ما دون ذلك لا یعدوا عن ان یكون خیالا و اوهاما أو حدیث خرافة .. و لم یصل إلی فكرهم بعد ان هناك اشیاء و امور لا تعد و لا تحصی لا یمكن ان تری بالعین المجردة رغم انها موجودة و ثابتة امامنا وجود الانسان نفسه و ثبات القلاع و الرواسی ..
______________________________
و حتی تقسیم فلسطین فی عام 1948 (و هی مدة تمتد لمدة 1813 سنة) ..
4- إن العرب و المسلمین حكموا فلسطین لمدة طویلة تزید علی 1240 سنة عدا- فترة حكم الصلیبیین- عند غزوهم لها و التی تبلغ 192 سنة ..
و لم یحدثنا التاریخ أن أمة من الأمم استوطنت هذه البلاد و حكمتها بمثل المدة التی استوطن بها العرب و المسلمون و حكموها و لا بما یقاربها، و إن حكم العرب و المسلمین لفلسطین لم یأتی نتیجة لغزوها أو الاستیلاء علیها لنهب خیراتها، و إنما بقصد نشر رسالة السماء العادلة و تحریر سكانها من جور الحكام و الظالمین و التشریعات التعسفیة السائدة فی تلك البلاد ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 377
اما بقدر تعلق الأمر بالفئة الضالة الأخری و هم القرشیون الذین لا زالوا علی دین آبائهم و اجدادهم فقد اتخذ هؤلاء من واقعة الاسراء و المعراج نقطة ضعف و و ثوب لشن المزید من التضلیل و الافتراء بوجه الدعوة الاسلامیة مشیرین إلی ان قوافلهم و سائر ابناء البشر یحتاجون إلی شهر كامل لیصلوا إلی مشارف الشام أو شهرا للعودة إلی اماكن انطلاقهم من هناك، فكیف- یا تری- تمكن محمد بن عبد اللّه (ص) من الوصول إلی تلك الدیار و الارتقاء إلی السماء و العودة إلی عقر داره فی بحر لیلة واحدة أو دونها .. فهذا الشی‌ء- بزعمهم- هو منتهی الضلال و الكذب ..
و لكل هؤلاء جاءهم الرسول (ص) بآیات و بینات قاطعة تشیر إلی صدق و یقین اسرائه و معراجه، منها انه قد شاهد فی طریقه- فیما شاهد- و فی اماكن و مواقع معینة حددها لهم بدقة، شاهد قوافل متعددة تعود ملكیتها لهم و اشعرهم أیضا بعدد جمال كل قافلة و اتجاه سیرها ..
و لكنهم- بعد وقوفهم علی حقیقة هذه المشاهدات عند وصول القوافل الیهم- و التی كان المفروض ان تكون هذه سببا لانضمامهم تحت لواء الدین الجدید و حمل مشعله و رسالته، لم یزدادوا إلا تصلبا فی عنادهم و انغماسا فی غیهم مبررین كل الذی سمعوه من الرسول (ص) بأنه السحر المبین بعینه و الباطل الذی لا حق وراءه ..
و لیس هذا القول من هؤلاء الضالین بغریب أو عجیب علینا اذا ما علمنا بان هذا السلوك هو نفس سلوك اعداء الحقیقة و خصوم العقیدة فی كل زمان و مكان ..
اما عن كیفیة اسراء الرسول (ص) و هل كان ذلك بالجسم و الروح و بما علیه من ملابس ام انه كان بالروح فقط و هو ما یشبه الرؤیا التی تمر علی الانسان حین النوم .. لقد ذهب القسم الأكبر من علماء و فقهاء المسلمین إلی ان الاسراء كان بجسد الرسول و روحه و ملابسه بل
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 378
و بخفه و عمامته و ذلك بدلیل ثابت و قاطع و هو انه لا شی‌ء یحول دون اسمائه (ص) بهذه الكیفیة طالما ان رغبة اللّه و ارادته آثرت له ذلك ..
و ان هذه الرغبة و الارادة الإلهیة حین ارادت سابقا ان تكون الملكة بلقیس مع عرشها و الذی كان یربض علی مرتفعات الیمن السعیدة و علی بعد عدة آلاف من الكیلومترات، ان یكون كلاهما بین یدی النبی سلیمان- ع- فی حاضرة ملكه القدس لم یقف أی شی‌ء حائلا دون وصولهما فی طرفة عین ..
أضف إلی ذلك ان الاسراء لو كان بالروح- و هو كالرؤیا فی المنام- كما یذهب الیه بعض علماء المسلمین لما قامت قیامة قریش ضد النبی أو لما ارتد من المسلمین من ارتد حین سماع الواقعة، لأن الرؤیا فی المنام لیست بحدث خارق أو معجزة كبیرة یحسب له حساب، بل هی (الرؤیا) تمر علی كل الناس عند المنام ..
لذا فان «استنكار و معارضة كل هؤلاء لواقعة الاسراء انما جاء لأنهم علموا و سمعوا بانها تمت بجسد الرسول (ص) و روحه و ملابسه و علی خلاف ما تقضی به السنن الطبیعیة المتعارفة» «2».
ان هذا الرأی عن كیفیة الاسراء هو الذی یذهب الیه الغالبیة من علماء المسلمین و هو ما نعتقده أنه الصحیح، و سوف لن نمر علی رأی من یقول خلاف ذلك، لأن ادلتهم لا تقف امام حجج الأكثریة ..
اما بیت القصید فی بحث الاسراء و المعراج «3» فهو ان الاسراء- فی الحقیقة- كان علی خلاف السنن و القوانین الطبیعیة إلا انه ارید به ان
______________________________
(2) الإسلام ظهوره و انتشاره فی العالم- حامد عبد القادر.
(3) لقد ذكر الاسراء قبل المعراج لیكون دلیلا علی صحة قوله (ص) بصعوده إلی السماء و التقاؤه مع الأنبیاء السابقین و رؤیته لنعیم الجنة و نیران الجحیم و ذلك تدرجا فی وقع الخبر علی نفوس الناس و هو ما یعرف ب «التدرج فی المعجزة» ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 379
یكون معجزة اخری للرسول (ص) تدعم معجزته الأولی و هو القرآن الكریم.
و المعجزة بطبیعتها تسیر علی خلاف القوانین و السنن الطبیعیة كما هو معروف طبعا و إلا لم تكن معجزة و لم تكن تحدیا، بل ستكون حادثا بسیطا أو واقعة عابرة فی مقدور كل فرد الاتیان بمثلها أو خیرا منها ..
و اننا حین نؤمن بالغیب و مقدرته علی الاتیان بالخوارق و المستحیلات لاثبات دعوة خاصة أو حادث خطیر، لا نملك إلا الإیمان- إیمان العجائز- و بعناد بآیة الإسراء و هی قوله تعالی: سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الْأَقْصَی الَّذِی بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِیَهُ مِنْ آیاتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ «4». و بآیات المعراج و هی قوله تعالی: ... وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلی، ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّی، فَكانَ قابَ قَوْسَیْنِ أَوْ أَدْنی فَأَوْحی إِلی عَبْدِهِ ما أَوْحی ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأی ..... و لَقَدْ رَأی مِنْ آیاتِ رَبِّهِ الْكُبْری «5» .. إیمانا یستوعب كل نتیجة تترتب علیها و یسع كل ما فیها من معالی و من دون أن یداخل هذا الإیمان القویم و الراسخ قلیل شك أو ریبة «6» ..
______________________________
(4) الاسراء: 1.
(5) النجم: 18.
(6) نشیر بهذه المناسبة إلی أن دانتی فی الكومیدیا الإلهیة قد تأثر بالإسلام و بمعراج الرسول (ص) علی الخصوص تأثرا هائلا واسع المدی یتغلغل حتی فی تفاصیل تصویره للجحیم ..
فمن یقرأ الكومیدیا الإلهیة یری بام عینیه بان ثمة مشابهات وثیقة و تامة بین ما جاء فی بعض الكتب الإسلامیة عن معراج النبی (ص) و ما فی «رسالة الغفران» لأبی العلاء المعری و بعض كتابات محی الدین محمد بن علی بن محمد بن العربی الاندلسی المولود عام 560 ه و المتوفی فی عام 638 ه فی دمشق و المدفون فیها من ناحیة و بین ما فی الكومیدیا الإلهیة ..
و هذه المشابهات الدقیقة و الكاملة لم تكن أمرا عارضا أو تولد خواطر بل هی تأثر مباشر بالتصویرات الإسلامیة للآخرة بما فیها تفاصیل و وقائع المعراج الذی قام به الرسول (ص) ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 381

الحروف السبعة فی القرآن‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 383
جاء فی الروایات المختلفة بأن القرآن الكریم قد نزل علی سبعة حروف، و من یروی عنه هذا الخبر یسند الأدلة و البراهین إلی وقائع تخص وجود الحروف السبعة فی القرآن جرت فی عهد الرسول (ص) فأیّدها بنفسه و لم یعارضها أو ینفیها ..
كما و یسند هؤلاء إلی الرسول (ص) أیضا احادیث و اقوال توحی بوجود هذه الحروف فی القرآن منها قوله (ص) لقد «نزل القرآن علیّ علی سبعة احرف فمن قرأ علی حرف منها فلا یتحول إلی غیره رغبة عنه» ..
و قوله (ص) أیضا: «ان هذا القرآن نزل علی سبعة احرف فاقرءوا ما تیسر منه».
و قوله (ص) كذلك: «انزل القرآن علی سبعة احرف كل كاف شاف ما لم تختم آیة عذاب بآیة رحمة، أو آیة رحمة بآیة عذاب» ..
و كذلك أیضا ما ورد فی الخبر «ان اللّه یأمرك ان تقرأ امتك القرآن علی سبعة أحرف فأیما حرف قرءوا فقد اصابوا» ..
و قبل ان ننتقل إلی ما یقوله الآخرون فی الرد علی من یقول بوجود الحروف السبعة فی القرآن نحب ان نوضّح ما هو المقصود من احرف القرآن السبعة عند من یقول بوجودها ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 384
لقد اختلف الرواة و المؤرخین فی تعلیل هذه الحروف و معناها «بسبب ان الرسول (ص) لم یفسر المقصود منها و كذلك لم یفعل أحد من الصحابة لأن امرها كان واضحا إلی حد لا یحتاج إلی تفسیر، و قد جاء التابعون من بعدهم و ارادوا تفسیرها فذهبوا فیها مذاهب شتی» «1» حیث وصلت إلی اربعین قولا «2» فیها من التناقض العجب العجاب، و ها نحن أولاء نشیر إلی أهم المعانی للحروف هذه:
1- قیل انه یراد منها سبعة أوجه من المعانی المتقاربة بألفاظ متقاربة مثل عجل و اسرع واسع، و مثل اقبل و تعالی و هلّم ..
2- و یرجح البعض معنی الأحرف السبعة ما یشتمل اختلاف اللهجات و تباین مستویات الاداء الناشئة عن اختلاف الألسن و تفاوت التعلیم و كذلك ما یشمل اختلاف بعض الالفاظ و ترتیب الجمل بما لا یتغیر به المعنی المراد «3» ..
3- و قیل ان الأحرف السبعة هی القراءات السبع و التی كانت موجودة و باقیة فی القرآن إلی عهد عثمان فحصرها الأخیر فی حرف واحد و احرق بقیتها ای (الحرف الستة) اما «الحرف الذی ابقاه فهو حرف قریش و الذی اختلفت لهجات القراء فیه فمدّ بعضها و قصر البعض و فخم فریق ورق فریق و نقلت طائفة و اثبتت اخری» «4» أو وزع قسم من الأحرف السبعة علی المصاحف أی وضع فی كل مصحف من المصاحف التی استنسخها قراءة خاصة علی الترتیب الذی اشرنا الیه من قبل فی فصل الجمع الثانی و الثالث للقرآن ..
______________________________
(1) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(2) الإتقان فی علوم القرآن- جلال الدین السیوطی، فضائل القرآن- إسماعیل بن كثیر القرشی.
(3) تاریخ القرآن- الدكتور عبد الصبور شاهین.
(4) القرآن- محمد صبیح.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 385
4- و ذهب البعض إلی أن معناها هی الأبواب السبعة التی نزل منها القرآن و هی الأمر و الزجر و الحلال و الحرام و المحكم و المتشابه و الأمثال ..
5- و قیل ان المراد منها هی الأسالیب و الأغراض السبعة الموجودة فی القرآن و هی الأمر و الزجر و الترغیب و الترهیب و الجدل و القصص و المثل ..
6- و قیل كذلك انها تشیر إلی اللغات الفصیحة من لغات العرب و المتوزعة فی القرآن، فالبعض بلغة قریش و البعض بلغات هذیل و هوازن و الیمن و كنانة و تمیم و ثقیف ..
7- و قیل ان الحروف السبعة معناها لغات سبعة غیر عربیة جاءت فی القرآن لكنها اتفقت فی لفظها و معناها فی العربیة و اللغة الاعجمیة كالفارسیة و الهندیة و العبریة و الرومیة و الیونانیة و الحبشیة و القبطیة ..
8- و قیل هی لغة الكعبین و هما كعب بن عمرو و كعب بن لؤی و لهما سبعة لغات ..
9- و قیل أیضا أن الأحرف تشیر إلی أن القرآن له معنی ظاهر و سبعة معانی باطنة ..
10- و قیل ان الأحرف السبعة هی وجوه الاختلاف فی القراءات ..
11- و قیل انها الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه و المجمل و المفصل و التأویل ..
12- و قیل ان المقصود بالأحرف السبعة مجرد التوسعة أما العدد فغیر مقصود ..
13- و قیل ان المقصود هو طریق التلاوة و كیفیة النطق بها من اظهار و إدغام و تفخیم و ترقیق و إمالة و إشباع و مد و قصر و تخفیف و تلیین.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 386
14- و قیل أخیرا- و لیس آخرا- هی سبع لهجات أو لغات من لغات مضر التی كانت فصیحة كل الفصاحة و لغاتها سلیمة كل السلامة من الدخل و الشوائب و كانت لغة مضر تنتظم سبع لغات لقبائل سبع هی هذیل و كنانة و قیس و ضبة و تمیم و الأزد و قریش ..
هذا و ان الرأی الأخیر (الرابع عشر) هو الذی یحضی بغالبیة الأصوات عند من یقول أو یذهب إلی وجود الأحرف السبعة فی القرآن الكریم ..
علما انه بسبب وجود هذه الحروف فی المصاحف اضافة إلی عدم وجود النقط و الحركات فی القرآن فی صدر الاسلام هی التی سببت الخلافات و المنازعات بین فئات المسلمین فی المدینة المنورة أو فی الامصار الاسلامیة حیث تمسكت كل فئة بصحة قراءتها علی حساب القراءات الأخری، و التی تطورت (الخلافات) إلی عراك مسلح ما بینهم مما دفع الخلیفة عثمان بن عفان إلی حصر الحروف السبعة فی حرف واحد فقط فی المصاحف التی استنسخها و من ثم توزیع هذه المصاحف علی الامصار الاسلامیة و احراق ما عداها علی التفصیل الذی سبق بیانه فی مكانه.
كان كل هذا هو ما یقوله البعض من علماء و فقهاء المسلمین بصدد وجود الحروف السبعة فی القرآن و معانیها.
اما البعض الآخر من هؤلاء فتذهب إلی خلاف هذا القول عن حقیقة هذه الحروف و اساسها فی القرآن الكریم حیث تذهب استبعاد وجود هذه الحروف فی القرآن «لأن القرآن لم ینزل علی سبعة حروف و انما نزل بحرف واحد علی نبی واحد، و انه یجوز القراءة بما یتداوله القراء بینهم من القراءات و ان الانسان مخیّر بأی قراءة منها شاء قرأ و یكره
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 387
تجرید قراءة بعینها» «5» رغم ان البعض منهم قد «قیّدها بكون القراءة هذه یلزم ان تكون متعارفة فی زمان أهل البیت- ع-» «6» ..
اما ادلة هذه الفئة و حجمها التی تقدمها فی نفی وجود الحروف السبعة فكثیرة منها عدم التواتر فی نزول القراءات السبع و وجود التناقض الكبیر فی معنی و حقیقة هذه الحروف السبعة ..
فمن تناقض أحد تلك الروایات- كما تقول هذه الفئة علی سبیل المثال- هو ان الوحی (جبرائیل) كان قد أقرأ الرسول (ص) علی حرف واحد فاستزاده النبی فزاده حتی انتهی إلی سبعة حروف و هذه الروایة تدل علی ان الزیادة كانت علی التدریج، بینما تشیر بعض الروایات إلی ان هذه الزیادة كانت فی المرة الثالثة حیث ان اللّه تعالی أمر الرسول (ص) فی المرة الثالثة ان یقرأ القرآن علی ثلاثة احرف بینما الأمر بقراءة السبع كان فی المرة الرابعة و هكذا فی بقیة الروایات ..
فهذا التناقض- لدیهم- یدعو إلی ترك هذه الحروف و التسلیم بضعف موردها و بالتالی رفض روایتها عن الرسول (ص) ..
اما الدلیل الآخر- لدیها- فهو الاختلاف الكبیر و الواضح فی معنی و حقیقة هذه الحروف السبعة و ما تقصده و تهدف الیه علی وجه الدقة و التحدید و تفرّق العلماء و الفقهاء ما بینهم فی معانیها الحقیقیة علی النحو الذی اشرنا الیه من قبل ..
و من عبر اقوال و حجج كلا الفئتین نخلص إلی القول بان وجود الحروف السبعة فی القرآن شی‌ء ثابت و مسلم به لدیها، إلا ان قسما
______________________________
(5) الكافی- محمد بن یعقوب الكلینی، آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن- محمد جواد البلاغی، البیان فی تفسیر القرآن- السید أبو القاسم الخوئی، تفسیر التبیان- أبو جعفر الطوسی، مجمع البیان فی تفسیر القرآن- أبو علی الفضل الطبرسی، موجز علوم القرآن- داود العطار ..
(6) البیان فی تفسیر القرآن- السید أبو القاسم الخوئی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 388
منهم یذهب إلی انها فی اصل التنزیل بینما ینحو القسم الثانی إلی ان هذه الحروف لم تكن فی اصل التنزیل و انما استحدثت و وجدت بعد ذلك و علی ید الرواة و المؤرخین ..
ان الغالبیة العظمی من المسلمین تری و تذهب- و ربما كان رأیی موافقا لها- إلی تأیید و دعم موقف من یقول بوجود هذه الحروف فی القرآن سواء أ كانت سبعة حروف أم كانت أقل من ذلك، و انها وجدت فی أصل التنزیل و لم تكن عارضة علی القرآن أو من صنع أیدی الرواة و المؤرخین «حیث أن كل قراءة وافقت العربیة و لو بوجه و وافقت أحد المصاحف العثمانیة و لو احتمالا و صح سندها فهی القراءة الصحیحة التی لا تجوز ردها و لا یحل انكارها بل هی من الأحرف السبعة التی نزل بها القرآن» «7».
اما حجج هؤلاء فی اثبات موقفهم من وجود الحروف فی القرآن فهی كثیرة و عدیدة ..
منها ان هذه الحروف هی من وجود الاعجاب بالقرآن و اعجازه و ذلك لأن القرآن لم یأت لفئة دون اخری أو لقوم دون آخر، بل جاء لكل قوم و لكل شعب فحری به (القرآن) و الحالة هذه ان یسع كل الفئات و الشعوب و ان یستوعب لغاتها و لهجاتها ..
لذا نری ان القرآن الكریم یجمع لغات العرب فضلا عن بعض الكلمات الغریبة التی ترجع فی اصلها إلی لغات مختلفة كاللغة الفارسیة و العبریة و البربریة و السریانیة و الهندیة و الحبشیة و النبطیة و التی تبلغ تعدادها اكثر من مائة لفظ و هی «كلمات اخرجتها العرب علی اوزان لغتها و اجرتها علی فصیحها فصارت بذلك عربیة» «8» ..
______________________________
(7) النشر فی القراءات العشر- الحافظ بن محمد بن محمد الدمشقی الشهیر بابن الجزری.
(8) إعجاز القرآن و البلاغة النبویة- مصطفی صادق الرافعی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 389
فمن هذه الكلمات- و لا زال الحدیث لهذه الفئة- التی یجمعها القرآن- علی سبیل المثال- نشیر إلی كلمات السجل و الإستبرق و الدینار و التنور و الكافور و الیاقوت و السرادق المأخوذات من الفارسیة و القسطاس و الرقیم من الرومیة، و السندس من الهندیة و هدنا و طه و مرقوم من العبرانیة و السری من الیونانیة و المشكاة و القسورة و الطاغوت من الحبشیة و الیم و بطائنها من القبطیة ..
و كل هذه الكلمات المختلفة تزید فی روعة القرآن و تبعث الاعجاب و الایمان به «حیث ان بلاغتها فی نفسها و انه لا یوجد غیرها یغنی عنها فی مواقعها من نظم الآیات لا افرادا و لا تركیبا» «9» ..
و من حجج هؤلاء أیضا هو ما ورد فی الروایات و الاخبار المختلفة من جواز قراءة القرآن فی الصلاة و غیرها بأی حرف مقرر و معتبر من حروفه ..
ففی سورة الفاتحة یجوز قراءة هذه الآیة «مالِكِ یَوْمِ الدِّینِ» قراءتها «ملك یوم الدین» و كذلك قراءة «بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها» قراءتها «بسم اللّه مجریها و مرسیها» و قراءة «وَ یَبْقی وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ» قراءتها «و یبقه وجه ربك ذو الجلال و الإكرام» ..
و منها أیضا- حجج هذه الفئة- انه فی حالة تعدد القراءات فی القرآن الكریم فكانه سبحانه یشیر إلی عدة كتب منزلة لا كتاب واحد، و خصوصا اذا كان فی كثیر من هذه القراءات ان لم یكن فی اكثرها ثروة جدیدة فی التشریع أو الحكمة أو نحو ذلك، و هذه ناحیة من نواحی الاعجاز الذی اختفی به القرآن الكریم ..
و منها كذلك ان وجود الحروف السبعة هو لأجل التخفیف عن هذه
______________________________
(9) إعجاز القرآن و البلاغة النبویة- مصطفی صادق الرافعی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 390
الأمة و إرادة الیسر بها و التهوین علیها بان یقرئ كل أمة بلغتها و ما جرت به عاداتها ..
اما ائمة القراءات ممن حازوا تأیید العلماء و القراء من مختلف الامصار و اشتهروا بالثقة و الأمانة و طول الوقت فی ملازمة القراءة و تجردوا لها و اعتنوا بضبطها و تنقیتها اتم عنایة للحاجة الماسة لذلك (بعد ما اخذ یتسلل إلی الناس من اضطراب السلائق و مظاهر العجمة و بوادر اللحن و اختلاف القراء فی كیفیة القراءة بسبب تنوع اجتهاداتهم أو اختلاف الروایات و الأخبار التی یعتمدون علیها) و جعلوها علما خاصا كما فعلوا مثل ذلك بالحدیث و علم التفسیر فهم عشرة نورد أسمائهم فی أدناه بالتسلسل:
1- أبو عمرو زیاد بن العلاء المازنی البصری (شیخ الرواة) المتوفی فی الكوفة عام 154 ه ..
2- عبد اللّه بن كثیر المكی الداری المتوفی بمكة عام 120 ه ..
3- نافع بن عبد الرحمن بن أبی نعیم الأصفهانی المدنی المتوفی فی المدینة عام 169 ه ..
4- عبد اللّه بن عامر الیحصبی الدمشقی المتوفی بدمشق یوم عاشوراء عام 118 ه ..
5- أبو بكر عاصم به بهدلة الأسدی الكوفی المتوفی فی الكوفة عام 128 ه ..
6- أبو عمارة حمزة بن حبیب بن عمارة الزیات العجلی الكوفی المتوفی بحلوان عام 156 ه ..
7- أبو الحسن علی بن حمزة بن عبد اللّه بن بهمن بن فیروز الكسائی الفارسی (إمام النحاة) المتوفی فی الری عام 189 ه .. و دفن و القاضی أبو یوسف فی یوم واحد ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 391
8- أبو جعفر یزید بن القعقاع المخزومی المدنی المتوفی عام 132 ه .. و قیل 128 ه ..
9- أبو محمد یعقوب بن إسحاق بن زید الحضرمی المتوفی بالبصرة عام 185 و قیل 205 ه ..
10- أبو محمد خلف بن هشام بن طالب البزاز المتوفی عام 229 ه.
و أما ما عدا قراءة هؤلاء فهو شاذ و آحاد «10» كقراءة ابن محیص المكی و یحیی بن المبارك البصری الیزیدی و ابن جبیر و الحسن البصری «11» و الأعمش و محمد بن احمد البغدادی و الشنبوذی و غیرهم «12» ..
علما بأن «أول من صنف فی القراءة و دوّن علمها هو أبان بن
______________________________
(10) لئن كانت القراءات العشر أعلاه متفق علیها إجماعا و لكل منها سند فی الروایة إلّا أنها لا تخلو من الشواذ و إن قل بالنسبة للقراءات الأخری ..
(11) الحسن البصری هو أبو سعید الحسن بن أبی الحسن یسار البصری و أبو مولی زید بن ثابت، و أمه خیرة مولاة أم سلمة زوج الرسول (ص) و قد نشأ فی بیتها و لقی جماعة من الصحابة و سمع منهم، ولد عام 22 أو 21 للهجرة، و تدل ثقافته فی مسائل التفسیر و الحدیث أنه كان عمیق الصلة بتراث عصر الصحابة، حیث أكسبه ذلك فصاحة اللسان و صدق العاطفة فاجتمع الناس إلی حلقته فی مسجد البصرة، و لقد روی عن علی و ابن عمر و أنس و كان ورعا و بارعا فی الوعظ و عالم بكتاب اللّه و سنة رسوله (ص) و أحكام الحلال من الحرام. لذا سمّی شیخ أهل البصرة، عاش الحسن البصری حیاة زهد و تقشف ارتبط مع الزهد و التقشف الذی كان علیه المسلمون فی صدر الإسلام. لذا كان أحد رواد الحركة الكلامیة و النزعة الصوفیة و التی انطلقت من البصرة لتجذب إلیها عددا كبیرا من الاتباع فی كافة أنحاء العالم الإسلامی ..
مات الحسن البصری عام 110 ه و كان دفنه فی البصرة بعد صلاة الجمعة و لا تزال سیرته حمیدة فی عالم التصوف ..
(12) إعجاز القرآن و البلاغة النبویة- مصطفی صادق الرافعی، مباحث فی علوم القرآن- مناع القطان.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 392
تغلب (تلمیذ الامام علی بن الحسین- ع-) «13» المتوفی سنة 141 ه» «14» و بعده جاء غالبیة القراء العشرة المتقدم ذكرهم ..
هذا و أن لكل واحد من هؤلاء القراء رواة كثیرین من أهل التقوی و الضبط و الاتقان یروی بعضهم عن امامهم مباشرة و بغیر واسطة و بعضهم یروی عن امامه بواسطة ..
و نشیر ختاما حسما لموضوع الحروف فی القرآن إلی ان كل قراءة «صح سندها إلی رسول اللّه (ص) و وافقت خط المصحف العثمانی- و لو احتمالا- و وافقت العربیة بوجه من الوجوه المعتبرة أو عن غیرهم، صحیحة و ما لم تجتمع هذه الشروط الثلاثة فهی شاذة و مردودة لا یقرأ بها أیا كان الإمام الذی نقلت عنه» «15».
فاذا «اجتمعت فیه- القراءة- هذه الخلال الثلاث قرئ به و قطع علی مغیبه و صحته لأنه أخذ عن اجماع من جهة موافقته خط المصحف و كفر من جحده» «16» ..
______________________________
(13) علی بن الحسین زین العابدین هو الإمام الرابع (لدی الإمامیة) و عمه الحسن وجده علی- ع- و أمه سلمة بنت یزدجرد آخر ملوك الفرس حیث تزوج الحسین- ع- بها بعد أن جاءت رفقة سبی فارس فی عهد الخلیفة عمر بن الخطاب (رضی) كما و تزوج أختها عبد اللّه بن عمر و تزوج أختها الأخری محمد بن أبی بكر الصدیق فأولدت الأخیرة القاسم بن محمد و الوسطی سالم ابن عبد اللّه ..
ولد زین العابدین عام 38 من الهجرة بالمدینة و مناقبه و فضائله أكثر من أن تحصی حتی قال الزهری: ما رأیت أفضل منه، و قال الشاعر فیه:
و أن ولیدا بین كسری و هاشم‌لأكرم من نیطت علیه التمائم توفی- ع- فی عام 94 ه و دفن فی البقیع مع عمه الحسن- ع-.
(14) تأسیس الشیعة لعلوم الإسلام- السید محمد حسن الصدر.
(15) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(16) الابانة فی القراءات- مكی بن أبی طالب.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 393

أسباب النزول‌

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 395
كنا قد أشرنا فی فصل «القرآن فی طریقه إلی الأرض» إلی ان غیر قلیل من السور و الآیات القرآنیة ترتبط ارتباطا وثیقا و عمیقا بالأحداث و الحوادث التی وقعت غداة نزولها ..
و هذه الحوادث و الأحداث التی دعت إلی نزول هذه السور و الآیات متحدثة عنها أو مبنیة لحكمها هی التی تسمی ب «اسباب النزول» ..
ان الوقوف علی هذه الأسباب و معرفتها یساعد كثیرا علی معرفة السورة أو الآیة و ما تضم من المعانی و الأسرار و الاخبار اضافة إلی تفسیرها التفسیر الصحیح و استخراج الاحكام الشرعیة- حیث لا یمكن معرفة تفسیر الآیة دون الوقوف علی قصتها و بیان نزولها- فهی تشبه إلی حد كبیر المذكرات التفسیریة التی تصاحب التشریعات الحدیثة ..
و نشیر هنا «1» إلی ان هنالك نوعین من الآیات فیما یخص معرفة أسباب نزولها هما: «2» 1- نوع یتحتم معرفة أسباب النزول كآیات الاحكام بسبب ان معرفة هذه الأسباب سیساعد الباحث بالوقوف علی التشریع ..
2- نوع لا یتحتم فیه معرفة أسباب النزول كآیات غالبیة القصص
______________________________
(1) لم یكن هذا الفصل و لا الذی یلیه ضمن الطبعة الأولی للكتاب و قد أضیف إلی هذه الطبعة للفائدة ..
(2) علوم القرآن- أحمد عادل كمال.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 396
لكونها جاءت للعبرة و العظمة، و آیات العبادة و الوعد و الوعید و الموعظة أو وصف الجنة أو النار أو القیامة لأنها من نوع الوصف و الاخبار ..
لقد اهتم كثیر من الصحابة و التابعین بحوادث و احداث و اسباب النزول فنقلوا احادیث عدیدة عنها و هی كثیرة لدی فئة من المسلمین و قلیلة لدی اخری، كما و یوثقها قسم من المسلمین حتی انهم حرّموا الاقدام علی تفسیر القرآن لمن جهلها حیث قال ابو الحسن علی بن احمد الواحدی «لا یمكن معرفة تفسیر الآیة دون الوقوف علی قصتها و بیان نزولها».
و قال ابن تیمیة «3»: «معرفة النزول تعین علی فهم الآیة فان العلم بالسبب یورث العلم بالمسبب» بینما یضعّفها- احادیث النزول- البعض الآخر منهم لأنها- برأیهم- لیست مسندة و صحیحة بل فیها المرسل و الضعیف أیضا، اضافة إلی ان «الراوی لا ینقل السبب بطریق المشافهة و التحمل و الحفظ بل ینقل قصة أو واقعة ما ثم یحمل الآیات علیها حملا و یربطها ربطا» «4» ..
و یری هؤلاء: «ان سبب النزول حول آیة أو سورة ان لم یكن متواترا أو قطعی فیجب عرضه فی القرآن فما وافقه یؤخذ به» «4» ..
و هذا القول یوحی بان الحدیث هو الذی یعرض دائما علی القرآن و لیس العكس ..
______________________________
(3) ولد أحمد تقی الدین أبو العباس ابن تیمیة فی مدینة حران عام 661 ه و قد هاجر مع أسرته إلی دمشق، و فی دمشق حفظ القرآن و الحدیث و اللغة، تولی بعد ذلك التدریس فی الجامع الكبیر بدمشق، و قد خالف الاشاعرة و الصوفیة و بقیة الطوائف لاعتماده علی الكتاب و السنة و سیرة السلف الصالح و لمحاربته البدع و الضلالات مما أدی إلی سجنه مرارا، توفی فی 20 شوال عام 728 ه فی السجن بدمشق الشام ..
(4) القرآن فی الإسلام- محمد حسین الطباطبائی.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 397
و یمكن بعد هذا جمع القولین السالفین- بصدد احادیث النزول- و استخراج القول الصحیح و المقبول من بینهما و مفاده: «اذا روی سبب النزول بحدیث مرسل سقط سنده الصحابی و انتهی إلی التابعی فحكمه انه لا یقبل إلا اذا صح بمرسل» «6» أو بقول آخر قریب منه هو «ان اسباب النزول لا یمكن ان تدرك بالرأی و لا بد فیها من الروایة الصحیحة و السماع ممن شاهدوا التنزیل أو وقفوا علی الأسباب» «7» ..
هذا و نورد فی ادناه مثلین لأسباب النزول لنری مدی الحاجة القصوی للوقوف علیها حیث لو لا ذلك لحرم ما ابیح أو لاطلق ما قیّد أو لترك ما فرض ..... الخ و هذان المثلان هما:
1- انه لو لا بیان سبب النزول فی الآیة التالیة لظل الناس إلی الآن یبیحون شرب الخمر اخذا منهم بظاهر هذه الآیة «لَیْسَ عَلَی الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِیما طَعِمُوا» «8».
حیث روی ان البعض كان یبیحون شرب الخمر و یحتجون بهذه الآیة و خفی علیهم ان سبب نزولها یمنعهم من تناول ذلك مطلقا، بسبب انه عند ما نزلت آیة تحریم شرب الخمر قال قسم من الصحابة للرسول (ص) كیف الحال باخواننا الذین ماتوا و هی فی بطونهم و قد اخبرنا اللّه انها رجس، فانزل اللّه تعالی الآیة المذكورة ..
2- كما و انه لو لا أسباب النزول لأباح الناس لأنفسهم التوجه فی صلاتهم تلقاء الجهة التی یرغبون فیها عملا بظاهر الآیة: وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِیمٌ» «9» ..
______________________________
(6) علوم القرآن- أحمد عادل كمال.
(7) التعبیر الفنی فی القرآن- الدكتور بكری شیخ أمین.
(8) المائدة: 93.
(9) البقرة: 115.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 398
بینما الحقیقة ان سبب نزول هذه الآیة هو معالجة احوال فئة من المسلمین صلوا مع الرسول (ص) فی لیلة مظلمة فلم یعرفوا اتجاه القبلة حیث صلی كل واحد منهم إلی جهة خاصة وفقا لاجتهادهم، فلم یضیّع اللّه تعالی لأحد منهم عمله «10» ..
هذا و نشیر هنا إلی انه یمكن ان یتعدّد ما ینزل من الآیات الكریمة و لكن السبب واحد و هو ما یعبرون عنه بقولهم «تعدد النازل و السبب واحد» كما و لا یمنع من ان تتقدم نزول الآیة علی الحكم ..
اما فوائد معرفة اسباب النزول فیمكن جمعها فیما یلی: «11» 1- معرفة حكمة اللّه تعالی التی دعت إلی تشریع الأحكام و من نزلت فیه الآیة علی التعیین كأسماء الأعلام أو الأماكن أو الاتجاهات ... الخ.
2- انارة السبیل للمرء فی الوصول إلی المعنی المراد لأن العلم بالسبب یسهّل العلم بالمسبب.
3- ابعاد فكرة الحصر أو ابعاد فكرة العموم بالسبب ..
4- الاستفادة فی قیاس أمر علی أمر آخر نزلت الآیة فیه بجامع العلة فی كل من الأمرین ..
5- تیسیر الحفظ و الفهم لربط الآیات بالحوادث ..
6- عدم حمل الآیات علی غیر من وردت فیه بدافع الخصومة أو التحامل «12» ..
و نشیر اخیرا هنا إلی ان العبرة بعموم اللفظ القرآنی لا بخصوص
______________________________
(10) مباحث فی علوم القرآن- الدكتور صبحی الصالح.
(11) دراسات فی علوم القرآن- عبد القهار العانی.
(12) مباحث فی علوم القرآن- مناع القطان.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 399
السبب الذی استدعی نزوله حیث ان «السبب الذی نزل اثره الوحی لا یحبس التشریع العام و لا یقیده، و انما یكون ذلك السبب مجرد مثیر لنزول الوحی فیشمله الحكم النازل و یبقی هذا الحكم علی عمومه ساریا علی كل الوقائع و الأحداث المماثلة لذلك السبب» «13» ..
و یؤكد هذا المعنی قول الامام محمد الباقر- ع- «14»: «ان القرآن حی لا یموت و ان الآیة حیّة لا تموت فلو كانت الآیة اذا نزلت فی الاقوام و ماتوا ماتت الآیة لمات القرآن، و لكن هی جاریة فی الباقین كما جرت فی الماضین» ..
______________________________
(13) موجز علوم القرآن- داود العطار.
(14) الإمام محمد الباقر هو الإمام الخامس (عند الامامیة) و هو ابن الإمام علی زین العابدین بن الحسین بن علی- ع- ..
ولد عام 57 من الهجرة سمّی الباقر لأنه تبقر فی العلم أی توسع فیه، و فیه یقول الشاعر:
یا باقر العلم لأهل التقی‌و خیر من سما علی الأجبل و كان عمره یوم استشهاد جده الحسین- ع- بكربلاء ثلاث سنوات.
توفی عام 113 ه و قیل 117 ه و دفن فی مقبرة البقیع بالمدینة المنورة إلی جوار والده- ع- ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 401

أثر القرآن فی اللغة العربیة

لمحات من تاریخ القرآن، ص: 402
یذهب كثیر من الكتاب و المؤرخین عند بحثهم فی أسس القومیة و عواملها إلی ان العناصر الرئیسیة التی تكوّن القومیة و تؤلف الأمة و تمیز بعضها عن بعض هی: «1».
1- اللغة: لأنها بمثابة محور القومیة و عمودها الفقری ..
2- التاریخ: لانه بمثابة شعور الأمة و ذاكرتها ..
اضافة إلی وجود عوامل اخری تؤثر فی تكوین الأمم فتقوی تأثیر العاملین الاساسیین المذكورین اعلاه تارة و تضعف ذلك التأثیر طورا و هی:
1- الدین: لأنه من أهم الروابط الاجتماعیة التی تربط الأفراد بعضهم ببعض و تؤثر فی سیر السیاسة و التاریخ.
2- الاتصال الجغرافی: لأنه یؤدی إلی عدم بقاء اجزاء الأمة الواحدة منفصل بعضها عن بعض ..
3- وحدة الأصل و الدم: حیث ان الاعتقاد بوحدة الأصل و الشعور بالقرابة یعمل عملا هاما فی تكوین الأمم ..
4- الآمال و الآلام المشركة: لأنها بمثابة الدافع لتضامنها و اتحادها.
5- العادات و الأعراف: لأنها تبعد ما یسبب تنازعها و اختلافها ..
كما توجد عوامل اخری دون هذه قوة و مضاء فی بناء القومیة لا مجال لایرادها فی هذا الوجیز ..
______________________________
(1) آراء و أحادیث فی الوطنیة و القومیة- ساطع الحصری.
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 403
و هناك أیضا من ذهب إلی ان بعض العناصر و العوامل الخمسة الأخری اعلاه هی كالعناصر الرئیسیة (اللغة و التاریخ) فی قوتها و تأثیرها، لما تسببه من اثر فعال فی تكوین الأمم و تمیزها عن غیرها ..
و لقد رغبت فی ختام هذا الكتاب ان اشیر باختصار إلی انه فی القرآن «جانبا عربیا كما اعترف به علماء اللغة و مؤرخو الأدب و المفسرون المعنیون باللغة و فیه اكثر من آیة تدل علی عروبة القرآن لغة و صیاغة و فنا و اعجازا بلاغیا ساحرا» «2» و إلی أثر ذلك فی اللغة العربیة «3» العنصر الرئیسی فی القومیة العربیة یحفظ هذه اللغة و ابعاد ما قد تتعرض له من لحن أو عجمة، و لما بث فیها من روح الحیویة و نشرها فی الآفاق- كما سیلی تفصیله- و ما سببه هذا الأمر (فی السابق علی الأقل) من توثیق لعری الوحدة العربیة بین الجماهیر العربیة فی كافة امصارهم و دیارهم، و ما یمكن ان یؤدیه فی الوقت الحاضر أو فی المستقبل من حوافز لبلوغ هذه الوحدة و التی یمكن الاستعانة بها بعد ذلك لبلوغ وحدة المسلمین و هی الوحدة الانسانیة التی ستضم تحت جناحها- فیما تضم- شعوبا و أمما و قومیات مختلفة حیث ستعمل هذه لا سعاد الانسان العربی و المسلم و تحقق اهدافه الخیرة و النبیلة ..
______________________________
(2) القرآن و العقلیة العربیة- نعمة هادی الساعدی.
(3) تعد اللغة العربیة من أرقی اللغات السامیة فلا تصل إلیها اللغة الآرامیة و لا العبریة و لا غیرهما، فضلا عن أنها أرقی لغات العالم طرا و أولها و كل لغة سواها حدثت فیما بعد، فهی تقدم علی اللغات الآرامیة إضافة إلی السامیة بسعة اشتقاقاتها و كثرة مرونتها و المعانی المجازیة التی تستعمل فیها الكلمة .. الخ حتی قال الأوائل: «العربیة خیر اللغات و الالسنة و الاقبال علی تفهمها من الدیانة إذ هی أداة العلم و مفتاح التفقه فی الدین .. الخ».
و كل هذه مكنت اللغة العربیة لأن تكون لغة القرآن الكریم و الحدیث الشریف بما یضمان من معانی و أغراض هی فی منتهی السمو و النبل» ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 404
علما بأن تحقیق هذه الوحدة كم سیكون سهلا و مسیرا اذا ما علمنا بأن العامل الرئیسی الثانی فی بناء القومیة و هو- التاریخ- بدوره مشترك و مترابط ما بین العرب و المسلمین ایما ترابط .. بسبب ان التاریخ العربی ما هو- فی الحقیقة- إلا صورة مصغرة للتاریخ الاسلامی لأن الامجاد و المآثر التی سطرها العرب فی تاریخهم و تراثهم هی نفس امجاد المسلمین و مآثرهم، كما و ان كل مصیبة قد حلت بالعرب أو لحقت بدیارهم قد اصابت المسلمین و حلت بأرضهم.
لذا فلسنا مغالین اذا قلنا انه لا اسلام بغیر عرب كما و انه لا عرب بغیر اسلام، فالعرب مادة الاسلام و الاسلام سبیل عزة العرب و رقیهم.
هذا فضلا إلی ان بعض العوامل الثانویة الأخری فی بناء القومیة كالدین و الاتصال الجغرافی و الآمال و العادات هی- كالعنصرین الرئیسین- مشتركة بین الاثنین و یصعب فرزها أو فصلها ..
نعود إلی صلب الموضوع و هو أثر القرآن فی اللغة العربیة و ادبها و فنونها حیث نشیر إلی الأثر الكبیر الذی تركه القرآن فی هذه اللغة و كیف تولی الحفاظ علیها و نشرها فی بقاع الأرض عبر النقاط التالیة:
1- اعتبرت اللغة العربیة الرسمیة للدولة الإسلامیة الفتیة التی امتدت حدودها من أقصی المشرق إلی أقصی المغرب و التی ضمت مختلف الشعوب و الأمم و من دونما طمس أو محو للغات المحلیة أو الحط منها- فكانت هناك فی البلاد الاسلامیة- غیر العربیة- لغتان احداهما الرسمیة و هی اللغة العربیة التی یكلم بها المحررون العرب و صفوة أهل البلاد و من اتقنها من غیرهم ..
و الأخری هی لغة الأمم و البیت و ینطق بها سواء الناس من الفرس و الاكراد و الاتراك و الهنود و الافغانیین و الصینیین ...........
و غیرهم ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 405
2- التقاء ابناء العروبة علی لغة (لهجة) واحدة و هی لغة قریش فی مكة المكرمة حاضرة الحجاز و اعتبارها لغة التدوال و السلطة و الحكم و السیاسة و الإدارة و الحیاة، بینما كنا نری قبل الإسلام ان لكل قبیلة و بلدة لهجة خاصة بها و لحن تعرف به من غیرها ..
3- كانت اللغة العربیة هی لغة سكان الجزیرة العربیة و التی لا تعدو اغراضها مطالب الحیاة الضیّقة التی كانوا یحیونها، و لكن عند بزوغ فجر الاسلام و اندفاع العرب إلی خارج جزیرتهم من أجل تحریر البلدان المجاورة و البعیدة من نیر الظلم و الطغیان و من أجل نشر مبادئ الاسلام و شریعته الغراء، انتقلت معهم- بالطبع- لغتهم العربیة فانتشرت فی هذه البلدان شرقا و غربا من جنوب فرنسة إلی تخوم الصین فی الشرق و أخذ المسلمون و كثیر من سكان هذه البلدان و من كل لون و لغة یتعلمون و یتحدثون بها و ذلك إما من أجل اداء بعض الفرائض الدینیة و التی لا تصح إلا باللغة العربیة كالصلاة مثلا، أو من أجل دراسة القرآن الكریم و احادیث الرسول (ص) أو التفاهم بعد ذلك مع أفراد القوات العربیة المحررة لأمصارهم و دیارهم ..
4- لقد كان للقرآن الكریم أثر كبیر و خطیر فی نشوء عدة علوم و فنون لم تكن موجودة من قبل ذلك لأن حرص المسلمین علی صیانة كتابهم المجید من اللحن و التحریف اضطرهم و دفعهم لاختراع و ایجاد علوم مختلفة كالنحو و الصرف و الاشتقاق و البیان و البدیع و المعانی و البلاغة و اللغة «4»، اضافة إلی العلوم الأخری المرتبطة به من قریب أو بعید كعلم
______________________________
(4) قال الراغب الاصفهانی فی محاضراته یصف القرآن: «الفاظ القرآن هی لب كلام العرب و زبدته و واسطته و كرائمه و علیها اعتماد الفقهاء و الحكماء فی أحكامهم و إلیها مفزع حذاق الشعراء و البلغاء فی نظمهم و نثرهم و ما عداها الالفاظ المتفرعات عنها و المنتقاة منها هو بالاضافة إلیها كالقشور و النوی بالاضافة إلی أطایب الثمرة و كالحثالة و التبن بالنسبة إلی لبوب الحنطة».
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 406
الشریعة و الاجتماع و الأخلاق و التاریخ و القصص و الحكم و التفسیر و الفقه ..
5- بعد الاختلاط و التمازج الكبیر الذی جری بین العرب و بین سكان البلدان الأخری من المسلمین كان لا بد للغة العربیة ان تنصهر أو تختلط مع اللغات المحلیة فتفقد- لذلك، بل ان العرب انفسهم بعد ان توزعوا فی مختلف اقطارهم قد اختلفت لهجاتهم ما بینهم حیث نری (22) لهجة عربیة محلیة ل (22) قطر عربی مستقل، ناهیك عن اللهجات المختلفة داخل القطر العربی الواحد ..
إلا ان اللغة العربیة الفصحی المشتركة ما بینهم و هی لغة القرآن واحدة و هی التی جمعتهم و تجمعهم علی مائدة العروبة، كما و ظلت اللغة الأدبیة و العلمیة بینهم مشتركة و هی لغة لا یمكن ان تتبدل أو تتغیر إلا بتبدل القرآن و تغیّره، و هذا هو منتهی الاستحالة و ابعد الاحتمالات.
6- هذّب القرآن الكریم اللغة العربیة بما ورد فیه من الأسالیب البدیعة و الألفاظ الكریمة و الجمل الجمیلة مما دعا ابناء الضاد إلی استعمال هذه الأسالیب و الالتزام بهذه الألفاظ و الجمل عند الكتابة و الخطابة، فذهب غریب اللغة و أدبر غیر مأنوسها و مألوفها لیحل محله الاسلوب النبیه و المعانی الحمیدة و الألفاظ الرقیقة العذبة المأنوسة ..
و كان لهذا الاسلوب الجدید و المعانی الجمیلة أیضا أثر كبیر فی تقویم اخلاق العرب و تصحیح بعض طباعهم و عاداتهم ...... الخ.
7- وسع القرآن اغراض اللغة فاصبحت وسیلة للتعبیر عن عقائد الدین عند البحث عن توحید اللّه و النبوة و ما تتطلبه هذه من الإیمان بالبعث و الدار الآخرة ..
8- كما وسّع القرآن الكریم مادة الفاظ اللغة بالتوسع فی دلالاتها و اخراجها من معنی الی معنی بینه و بین الأول مشابهة و رابطة، كما فعل
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 407
فی الفاظ الصلاة و الصیام و الزكاة و المسلم و الكافر .. الخ حیث ان المعنی اللغوی لهذه الكلمات هو غیر المعنی الاصطلاحی لها ..
9- اتخذ الأدباء و ارباب القلم و البیان اسلوب القرآن هادیا و أما ما فی طریقته البیانیة و اسلوبه البدیع فاغترفوا من معانیه و حفظوا روائعه فكان لهم منه معین فیاض (بما لمسوا فیه من نماذج البیان و صور الجمال) ظهر ساطعا و جلیا فی خطبهم و شعرهم و ادبهم و رسائلهم علی مدی الأیام و الدهور .....
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 408

الخاتمة

عند ما یطلّ القارئ العزیز علی مشارف هذا الفصل یكون قد ودع الكتاب بفصوله و ابحاثه الوداع الأخیر ..
و طبیعی ان كل من یفرغ من مراسیم هذا التودیع من القراء یكون قد كوّن فی ذهنه فكرة خاصة و رأیا معینا عن الكتاب و محرره ..
و اذا حق لی هنا ان التمس من أولئك القراء الذین و اكبوا رحلة القراءة و استعراض فصوله من البدایة شیئا فلا أقل من ان یتفضلوا- مشكورین- بموافاتی بشی‌ء مما علق فی اذهانهم من آراء و افكار عن الكتاب و الكاتب، لیمكن الاستعانة بها اذا ما حاول هذا القلم القاصر ان یستأنف مسیرته من جدید أو قدّر لهذا الكتاب ان یولد للمرة الثالثة «1».
و اری انه لو قدّر و ان التقی القراء علی مائدة تلبیة هذه الدعوة و الاستجابة لهذا النداء لراهنت و لجزمت سلفا علی حقیقة ما ستضم هذه الاجابات و ما سیرد فیها من ملاحظات و انطباعات ..
______________________________
(1) لقد شاء اللّه سبحانه لهذا الكتاب أن یطبع مرة ثانیة- و هی هذه الطبعة- و طبیعی أن القارئ الكریم قد لمس بیدیه الفارق الهائل بین الطبعة هذه و الأخری التی سبقتها سواء فی المادة أو الاسلوب أو الابواب الجدیدة أو فی حذف بعض الافكار و المواضیع التی هی غیر جدیرة بالتسجیل ..
و كما قلت- و لا زلت- فإن الفضل فی كل ذلك یرجع إلی أولئك الذین تولّوا الكتابة إلیّ مشیرین عبرها إلی المآخذ و التی قمت بتلاقیها أو المآتی و التی أكدت علیها، راجیا لهم جمیعا دوام الخیر و التوفیق ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 409
و كل هذه الأجوبة و الملاحظات التی خطت عن الكاتب و الكتاب اذا هی اختلفت فی شی‌ء فإنها ستلتقی- كما اظن- فی الاشارة إلی ما فی هذا الكتاب من ضعف فی الاسلوب و ارتباك فی المعانی و ربما تطفّل الكاتب علی الكتابة و الأدب و محاولته اقحام نفسه من دونما جدارة أو استحقاق بین صفوف أهل الفكر و ارباب القلم و البیان.
و انی ازاء هذه الأجوبة الصریحة و الواضحة- لا املك- إلا ان اقدّر و اثمن صراحة كتابها لأنها جاءت معبرة بصدق عن الحقیقة و الواقع و من دون ان یشوبها طائف من النفاق أو المراهنة ..
و انی فی الوقت الذی اقدر هؤلاء القراء علی رسائلهم لارجو منهم مرة اخری التكرم بإتمام جمیلهم باشعاری بالوسائل و الطرق التی ینبغی سلوكها لكی نجعل اسلوب الكتاب أكثر تقدما و حیویة و معانی الكتاب أكثر جلاء و وضوحا، حتی لا یكون بعد ذلك تطفل من صاحب هذا القلم علی الأدب و الفكر ..
و فی الحق ان تسجیلی لهذه الحقیقة لم یكن تواضعا أو تصغیرا بل هو كل الحقیقة عن الكتاب و الواقع عن الكاتب و التی ادركها القراء فجاءت ساطعة و واضحة عبر أجوبتهم الآنفة الذكر ..
بقیّ ان اشیر بعد هذا انه اذا ما كان هناك من عاصم أو شفیع یحمینی من أوزار ما یشوب اسلوب هذا الكتاب من تردی أو سقط فهو ان هذا الانتاج ما هو فی الحق إلا باكورة ما قمت به فی میدان الكتابة و التدوین فضلا عن انی بعد ذلك لست كاتبا محترفا و لا مؤلفا ممارسا أو ممن یطمع فی ان یكون فی یوم ما كذلك و ذلك حرصا علی ألا ینضم إلی صفوف هؤلاء الكتاب و المؤلفین- فی الوقت الحاضر علی الأقل- من لا یملك اسباب الكتابة و اولیات التألیف ..
و الآن تقضی- ایها القارئ الحبیب- اللحظات الأخیرة عبر رحلتنا
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 410
التاریخیة معك عبر اجواء هذا الكتاب، و بعد عدة سطور لا تتجاوز قراءتها عدة دقائق ستدع هذه الصفحة لتطبق علی اخواتها تمهیدا لطیها جمیعا و وضعها فی مكانها بالمكتبة.
و قبل ان تختم هذه الدقائق المعدودة احببت ان استعید بعض ما كتب آنفا عن القرآن و فنونه و آدابه ..
ان كل ما كتب عن القرآن آنفا لا یمكن ان نورده فی هذه السطور لأن ایراده هنا لا یكلفنا اكثر من أن نوجه القارئ الكریم لقراءة الكتاب من بدایته، و لكن لو امكن ایجاز هذه الدراسة فی هذه السطور فلا أقل من ان نقول بأن القرآن، فی الحق، لیس كتابا كسائر الكتب التی تقرأ للتسلیة و قضاء الوقت و قتل الفراغ و انما ینبغی ان یقرن العمل مع القراءة و التضحیة مع المطالعة ..
و كم یا تری سیكون هذا العمل مثمرا و هذا العطاء مضمونا اذا ما علمنا بان القرآن الكریم لیس هو فقط دستور خالد انزله اللّه سبحانه من أجل قیادة البشریة و ارشادها نحو العزة و المنعة و ارتقاء و انما هو بالاضافة إلی ذلك علم و نظام و فن و أدب و ریاضة و تصویر و ثقافة و اخلاق و عبادة ..
ان المرء منا یتعب نفسه السنین الطوال ببردها و حرها فی المعاهد و الجامعات من أجل الحصول علی تخصص فی لون أو فرع واحد من فروع العلم و الأدب و الفن أو غیر ذلك و قد یخفق فی النهایة او ان ینال شیئا منها ..
و لكن اذا ما ولی وجهه شطر الدراسات القرآنیة لدراستها لتمكن فی نفس تلك الفترة من الوقوف و الاطلاع علی قلیل أو كثیر من علوم القرآن و فنونه و آدابه و اخلاقه و التی ستنفعه لیس فقط فی هذه الدنیا بل و فی الآخرة حیث لا ینفع فیها أی مركز أو سلطان أو نفوذ ..
لمحات من تاریخ القرآن، ص: 411
هذا و ان المجتمع الانسانی یمر الآن بمرحلة حاسمة و حرجة من عمره و انه لا سبیل له فی بلوغ اهدافه و غایاته فی التقدم و الإزدهار من دون ان یسیر فی طریق الایمان و یحكم إرادة اللّه و تعالیمه و نظمه ..
و غیرها فیما ینشأ بین افراد هذا المجتمع من علاقات و معاملات ..
علما بأن كل محاولة یراد من ورائها النهوض بهذا المجتمع مع تنكب هذا السبیل القویم سیكون مصیرها المحتم هو الفشل الذریع و ستبعث فیه مزیدا من الفوضی و الارتباك و الهزات ..
و لو قام هذا المجتمع علی قدمیه بدون ذلك- جدلا- فوقوفه هذا سیكون علی قاعدة واهیة و مضطربة و لفترة جد قصیرة حیث لا تلبث هذه الفوضی و هذه الهزات ان تعصف فیه لتسقطه من علیائه لیصبح اثرا بعد عین و نسیا منسیا.
هذا هو ما احببت ان اسجله فی آخر فصل من هذه الدراسة و هو نفسه الذی آثرت ان یكون مسك الختام ..
و الحمد للّه رب العالمین نهایة لا تزال تبدأ و بدء لا ینتهی ..
محمد علی یوسف الأشیقر كربلاء 1966 م- 1386 ه

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.