لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر

اشارة

نام كتاب: لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر
نویسنده: محمد بن لطفی الصباغ
موضوع: علوم قرآنی
تاریخ وفات مؤلف: معاصر
زبان: عربی
تعداد جلد: 1
ناشر: المكتب الاسلامی
مكان چاپ: بیروت
سال چاپ: 1410 / 1990
نوبت چاپ: دوم
لمحات فی علوم القرآن واتجاهات التفسیر
lmhat fi a'loum alkra'n watjahat altfsir
تألیف: محمد بن لطفی الصباغ تاریخ النشر: 01/01/1990
الناشر: المكتب الإسلامی للطباعة و النشر
النوع: ورقی غلاف فنی،
حجم: 24×17،
عدد الصفحات: 360
صفحة الطبعة: 1 مجلدات: 1

مقدمة المؤلف‌

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحیم إن الحمد للّه نحمده و نستعینه و نستغفره، و نعوذ باللّه من شرور أنفسنا، و من سیئات أعمالنا، من یهد اللّه فلا مضلّ له، و من یضلل فلن تجد له ولیا مرشدا. و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شریك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالهدی و دین الحق لیظهره علی الدین كله، و أنزل علیه القرآن هدی للناس و كتابا مبینا، فأعجز هذا الكتاب العربیّ الخالد بلغاء الدنیا و فصحاءها، و قامت علی هداه حضارة انسانیة عالمیة ملأت ربوع الأرض عدلا و نورا و سموا، و ستبقی آیات القرآن مصدرا لكل خیر و سعادة حتی تقوم الساعة. و صلاة اللّه و سلامه علی هذا الرسول النبیّ العربیّ الأمیّ و علی آله و صحبه و من دعا بدعوته و اهتدی بهداه إلی یوم الدین.

أمّا بعد

فهذه بحوث فی القرآن و علومه، حاولت فیها دراسة تاریخ القرآن الكریم، و التعریف بإعجازه و قراءاته و علومه، و بأهم مناهج التفسیر، مع التعریف ببعض الكتب المهمة التی تمثل هذه المناهج. بإیجاز شدید یمكننی من إعطاء فكرة واضحة عن أبرز معالم هذه الموضوعات المهمة.
و لا بد لی من تنبیه قراء هذا الكتاب- و لا سیما إخوانی الطلبة- إلی أن هذه المباحث النظریة التی ضمها هذا الكتاب تمثل جانبا، و هناك جانب آخر لا یقل عنه أهمیة و شأنا .. إنه دراسة نصوص من القرآن الكریم.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 6
إنّ علیهم أن یعیشوا فی رحاب القرآن، و فی ظلال نصه الجمیل، و أن یعنوا بتلاوته و دراسته دراسة أدبیة تتیح لهم أن یتعرفوا مواضع الجمال الفنی، و أن یتوصلوا إلی إدراك أسرار الإعجاز. و إن علیهم أن یتوجوا هذه الدراسة بحفظ آیات و سور منه.
و فی هذه الدراسة التطبیقیة لآیات القرآن الكریم فوائد من أهمها:
* العیش الكریم فی ظلال هذا القرآن، و الشعور بالسمو و الارتفاع، ذلك أنك- عند تلاوتك للقرآن- تقرأ كلام اللّه الذی أنزله علی رسوله محمد صلی اللّه علیه و سلم لیبلغه للناس. إن النفس المسلمة لتشعر بكثیر من السمو و الارتفاع عند ما تتصور أن اللّه العلی القدیر مالك الملك یرسل إلیها هذا الكلام، و یحمله إلیها خیر الخلق محمد صلّی اللّه علیه و سلّم.
* و منها تذوق الجمال و تعرف أسرار البلاغة و دلائل الإعجاز و فی ذلك تقدیر للقرآن الكریم حق قدره، و فیه متعة دونها كل متع الدنیا.
* و منها صقل الأسلوب، و الارتفاع به، و التمكن فی اللغة العربیة، و ذلك بسبب الاتصال بأعلی مستوی فی البلاغة و البیان.
و قد سمیت هذا الكتاب‌

«لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر».

و قسمته قسمین:
القسم الأول: فی القرآن و علومه. و یتألف من ثلاثة أبواب، هی:
الباب الأول: فی القرآن. و فیه سبعة فصول.
الباب الثانی: فی تاریخ القرآن. و فیه أربعة فصول.
و الباب الثالث: فی علوم القرآن. و فیه ثلاثة فصول.
و القسم الثانی: فی التفسیر و اتجاهاته. و یتألف من ثلاثة أبواب، هی:
الباب الأول: فی أصول التفسیر.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 7
الباب الثانی: فی تاریخ التفسیر، و فیه أربعة فصول.
الباب الثالث: فی مناهج التفسیر، و فیه ستة فصول.
و أنا اسأل اللّه أن یسدد خطانا علی طریق الحق، و أن یجعلنا ممن یعیش وفق أحكام القرآن، و ممن یجاهد بالغالی و الثمین لیحكم القرآن. و یسود حیاتنا فی جوانبها جمیعا، و یومئذ تعود لنا عزتنا السابقة، و تتبدل أوضاعنا من فرقة إلی اجتماع، و من ضعف إلی قوة، و من هزیمة إلی نصر، و من تخلّف إلی تقدم، و أسأله تعالی أن یجعل أعمالنا خالصة لوجهه، و الحمد للّه رب العالمین.
الریاض فی 27/ 5/ 1393 ه 28/ 6/ 1973 م محمّد بن لطیفی بن عبد اللطیف یاسین الصبّاغ أعدت النظر فی الكتاب و قدمته للطبع مرة ثانیة 16/ 7/ 1405 ه 6/ 4/ 1985 م***
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 9

مقدّمة

بقلم الأستاذ الكبیر الشیخ علی الطنطاوی كانت العنایة علی عهدنا بالطلب بالفقه و بالنحو، یرون أن الفقه ثمرة علوم الدین، لأنه یبین الحلال من الحرام، و النحو خلاصة علوم العربیة، لأنه یعصم الانسان من الخطأ فی الكلام.
و كان الفقه یلقی علینا أحكاما بلا دلیل كمواد القانون، و النحو قواعد بلا شواهد، و كان ذلك هو القاعدة فی مناهج المدارس، و فی طرق القراءة علی المشایخ، و هما أسلوبان كنت أنا أول- أو من أوائل- من جمع بینهما فی الشام، ثم إذا تقدم الطالب قرأ مع النحو البلاغة، و مع الفقه الأصول، و ربما قرأ رسالة فی المصطلح، و كانوا فی ذلك كله یفضلون (لا سیما فی الدراسة علی المشایخ علی الطریقة الازهریة) یفضلون الأراجیز كالألفیة، و الزبد، و الجوهرة، یحفظها الطالب غالبا بلا فهم.
أما علوم القرآن فلم یكن لها ساعة مخصوصة، و لا كتاب معین نقرؤه، و إنما هی أشتات من المسائل، تأتی عرضا فی درس التجوید أو الحدیث، و أكثر ما استفدته منها كان من المشایخ الذین جودت علیهم تلاوتی، و لا أقول: إننی صرت من المجودین أو إننی ممن جمع القراءات، و إنما وصلت بحمد اللّه إلی أن اقرأ قراءة صحیحة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 10
كان منهم شیخ القراء الجامع علی الشاطبیة و هو الشیخ محمد الحلوانی، و كان فی جامع التوبة، فی حینا فی العقیبة، و الشیخ عبد اللّه المنجد الجامع علی الطیّبة، و الشیخ عبد الرحیم دبس و زیت، و ولده تلمیذ أبی و شیخی الشیخ عبد الوهاب، و عما استفدناه من أساتذتنا و مشایخنا كالشیخ صالح التونسی فی دروسه العامة فی الجامع الأموی، و حینما كان یعلمنا فی المدرسة الجقمقیة عند الشیخ عید السفرجلانی معلم الشام نحو سنة 1337.
و أول كتاب فی علوم القرآن وقعت یدی علیه، هو كتاب التبیان لشیخ مشایخنا الشیخ طاهر الجزائری مربی الطبقة التی سبقتنا من أساتذتنا و الذی كان من تلامیذه المقربین محمد كرد علی، و محب الدین الخطیب، و الشیخ سعید البانی.
و كان من ثمرات جهده و إخلاصه فی عمله المكتبة الظاهریة، و المدارس الابتدائیة الرسمیة، و الذی علی یده و بمسعاه تم فتح مدارس البنات فی الشام، و كانت أول فتاة درست فیها و نالت الشهادة الرشدیة و هی فوق الابتدائیة و تحت الكفایة (الكفاءة) و من أوائل من تعلم فی هذه المدارس و أخذت منها شهادتها عمتی، و كانت شهادتها عندی و تاریخها سنة 1300 ه فی مطلع القرن الماضی، و كان مما تدرسه البنات رسالة صغیرة كانوا یدعونها (علم حال) كما سماها الاتراك، و هی لمفتی الشام الشیخ محمود الحمزاوی، أو محمود أفندی الحمزاوی، كما كنا نلقب من یلی القضاء او ینصب للافتاء.
و بقیت عمتی رحمها اللّه الی آخر عمرها تحفظ هذه الرسالة غیبا، فاذا سألتها ما الفرض؟ قالت: الفرض ما ثبت بدلیل قطعی متنا و سندا.
و الواجب .... تكرّها كرا.
و فی هذه الرسالة مسائل من الأصول قلیلة، و مسائل كثیرة من الفقه علی المذهب الحنفی الذی كان المذهب الرسمی للدولة العثمانیة.
ثم رجعت الی الأصل الذی استمد منه الشیخ طاهر و كل من ألّف فی
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 11
هذا الموضوع من بعده و هو «الإتقان» للسیوطی.
و «الاتقان» لیس معرضا فیه سلع مرتبة مصفوفة، مصنفة یمتاز جیدها من ردیئها، و لكنه مستودع فیه البضائع مركومة ركما من كل نوع و كل صنف.
و تلك كانت سنة التألیف علی عهد السیوطی، فقد بدأت العلوم كما یبدأ كل شی‌ء صغیرا: مسائل تضم الی مسائل، كالسواقی التی تأتی من الینابیع، ثم تكون جدولا، ثم تصیر الجداول نهرا، ثم یتجمع ماء النهر فی بحیرة كبیرة.
تألفت من هذه المسائل فصول، و من الفصول كتب، و لو صنعنا صنیع الریاضیین، فصورنا ذلك بخط بیانی لرأیناه یصعد و یصعد حتی اذا كان القرن الرابع و الخامس كان قد بلغ غایة صعوده، ثم مشی مستقیما لا یرتفع و لكن لا ینخفض ثم بدأ النزول و الانخفاض.
و لكن اللّه قیض لهذه العلوم قبل أن تبدأ بالانحطاط من یجمع متفرقها و یحشد مسائلها، فی كتب شاملة، فكان عصر ما یسمی ب (دوائر المعارف) أو (المعلمات) و أنا اقول لدائرة المعارف (Encyclopedea(: معلم علی وزن معجم و أراه أفضل من قولنا معلمة و معلمات.
فكان منها «الاتقان فی علوم القرآن»، و «المزهر فی علوم اللغة»، و «نهایة الأرب»، و «صبح الأعشی» و امثالها. كتب كبیرة یختار منها، و لا تؤخذ كلها كمعرض للثیاب فیه الأزیاء العربیة و الأفرنجیة، و ملابس البدو و الحضر، و الرجال و النساء، فی هذه الكتب الرأی و نقیضه، همّ مؤلفیها الجمع لا التحقیق و التمییز و التصنیف، و استمرت الحال كذلك حتی انقضی ما یسمونه بعصور الانحطاط، و بدأ عصر النهضة الجدیدة فرأینا فی الشام من یؤلف الكتب الكثیرة لكن علی طریقة «الاتقان» و «المزهر» ككتب شیخ مشایخنا الشیخ جمال الدین القاسمی.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 12
و من قرأ كتابه «قواعد التحدیث» مثلا أو رجع الی مقدمة تفسیره وجد نقولا نادرة قید أوابدها، و جمع شواردها، لكن لم یؤلف بینها و لم یتخیر أرجحها و أقواها، فكأنّ عصره امتداد لعصر السیوطی، و أسلوبه فی التصنیف استمرار لأسلوبه، و هو جمع المعلومات فی كتاب واحد، كما یجمع التاجر فی المستودع أكبر قدر من السلع و البضائع.
و من المؤلفین طبقة أعلی من هذه الطبقة، و إن جمع أصحابها قدرا أقل من المعلومات، فرتبوها و صنفوها و میزوا الأصیل منها من المقلد، و فرقوا بین المؤتلف و المختلف.
و درجة أعلی من المصنفین هم الذین یأخذون هذه المعلومات و هذه الأخبار و المرویات فیدخلها أحدهم ذهنه كما تدخل إبّالات القطن (البالات) الی مصنع النسیج فتخرج منه قماشا علیه شارة المصنع، و ذلك مثل الغزالی.
و إن كان الغزالی فی «الإحیاء» قد خلط الصوفیة التی انتهی الیها بالطریقة الفكریة التی عاش علیها، فكأنّ الواحد فیه صار اثنین: الغزالی العالم الذی یحكّم عقله فی ترجیح الروایات، و فهم النصوص، و هذا هو عمل العقل فیها، كما قال ابن خلدون.
و الغزالی الصوفی الذی یدع الحقیقة الشرعیة التی یعرفها، و یعتمد مشاعر قلبه، و ما تلقفه عمن جعلهم مشایخه من الصوفیة، و هو أعلم و أجل منهم، و العجب كما قلت من قدیم أن الغزالی كتب هذا الكلام فی الاحیاء فی القرن الذی توالت علینا فیه المصائب من الشرق و الغرب، و جاءنا العدوان القویان الهمجیان یفسدان دیننا و یقوضان أركان حضارتنا: التتار و المغول الشرقیون، و الصلیبیون الاوربیون، یوم كانت أوروبة یعیش اهلها كالذئاب، فی أعماق الغاب، و أتصور أحیانا ما ذا یكون حال المسلمین لو أنهم أخذوا بما جاء فی «إحیاء علوم الدین» فقللوا الاكل حتی أصابهم
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 13
الهزال. و ربما أدی بهم الی السل، و قصد كلّ ركنا مظلما فعاش فیه عیشة الخمول!! من كان یجاهد فی سبیل اللّه؟ و من كان یرد هذا العدوان عن دین اللّه؟ «1»*** و لقد كان فی عصر الشیخ طاهر من نحا فی التألیف منحی الغزالی «2» و ان لم یجاره و لم یدانه، و هو العالم الذی لا یتنبه الیه و یعرف فضله الا القلیل، كان له كتابان، من قرأهما ادرك صحة ما قلت عن مؤلفهما، هما كتابه «عمدة التحقیق» «3» و كتابه الذی ألفه عن حكم لبس الحریر، و هو شیخنا الشیخ سعید البانی، جاء به الاستاذ محمد كرد علی لما فتحت مدرسة الآداب العلیا التی دعیت من بعد كلیة الآداب سنة 1930 م جاءنا به بعد ما ذهب شبابه و ضعفت همته، فلم یجد الطلاب فیه ما كانوا ینتظرونه منه، و لعلكم تعجبون إذا قلت لكم: إنه كان معنا بین الطلاب من هم اساتذتنا، و من هم فی السن مثل آبائنا، كالشیخ زین العابدین التونسی، و الاستاذ عبد الغنی الباجقنی. جاءوا لا لیحصلوا علما و لكن لیحملوا شهادة تنفعهم فی وظائفهم.
و الشیخ سعید لم یتزوج، و لم یخلف ولدا، و لكن له ابن أخ یتمنی كل عالم ان یشرف بأن یكون عمه ذلكم هو العالم العامل الصالح الاستاذ عبد الرحمن البانی.
ثم كثرت المصنفات فی علوم القرآن، فكان من أجمعها كتاب العالم الذی صحبته فی مصر حینا، الشیخ عبد العظیم الزرقانی مؤلف «مناهل
______________________________
(1) و لا یزال الغزالی- لو لا هذا- المفكر الإسلامی الأول.
(2) نحا منحی الغزالی فی تفكیره العلمی لا فی اتجاهه الصوفی.
(3) طبعه المكتب الاسلامی مجددا.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 14
العرفان فی علوم القرآن» و هو كتاب جلیل، و لكنه لا یخلو من استطراد و تطویل، و ربما اختار فی الامور الخلافیة القول المرجوح و ترك الراجح، و ان كانت هذه الهنات الهینات لا تسلب الكتاب قدره و لا تحط مؤلفه عن منزلته.
و الذی یكتب فی الأدب یكون حرا فی اختیار الموضوع، حرا فی اسلوب عرضه، یقول ما یشاء، و یمشی من حیث یشاء، أما الذی یكتب فی موضوع دینی فإنه لا یستطیع أن یخرج فیما یكتب عن الجادة المرسومة، و لا ان یجدد فی الموضوع لأنه دین، و التجدید فیه رد علی صاحبه، فلم یبق من مجال أمام مؤلفی هذه الكتب الا التفاوت فی جودة الفهم و حسن العرض.
و لیس ذلك سهلا، و ما كل من فهم مسألة استطاع أن یفهمها، و تبسیط العلم «1» میزة اختص اللّه بها قلیلا من العلماء، أعرف منهم فی عصرنا صدیقنا بل استاذنا الشیخ عبد الوهاب خلاف، أول من عبّد للطلبة طریق الوصول الی علم الاصول، و سهله و وضحه، و منهم صدیقنا بل استاذنا أیضا الشیخ شلتوت، و اذا انت رأیت معلما یلقی المسألة فلا یفهمها التلامیذ فیستوضحونه فیحاول التوضیح فلا یأتی بأكثر مما قال فاعلم انه حفظ المسألة و ما فهمها أو هو (بالتعبیر الجدید) ما هضمها.
و من فهم المسألة حقا استطاع أن یفهمها الناس جمیعا لأنها تصیر ملكا له یتصرف فیها تصرف المالك بملكه. و ألفاظ اللغة بین یدیه یختار منها ما شاء بارادته، فلا یزال یبدل لفظا بلفظ و عبارة بعبارة، حتی یجد العبارة التی یوصل بها المسألة الی افهام التلامیذ. كبائع الثیاب یأتیك بالثوب لتقیسه، فاذا وجدته عریضا جاءك بأضیق منه، و اذا كان طویلا اتاك بأقصر، حتی تجد الثوب الذی یلائمك و یصلح لك، و من الامثلة علی هذا الطراز من المدرسین الشیخ الشعراوی فی احادیثه فی التفسیر و فی الاعجاز
______________________________
(1) أی جعله بسیطا بالمعنی العامی لا الفصیح، لأن البسیط فی اللغة هو الواسع المبسوط.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 15
و ممن اوتوا هذه القدرة علی التوضیح، و علی حل المعقدات، حتی لیعجب السامع منها كیف انحلت عقدها، منهم فی مجال الریاضیات و العلوم رجل اذا انا ذكرت الحق فی الثناء علیه اتهمت و صرت كالذی یمدح نفسه، رجل یدرس الریاضیات فی الجامعة من أربعین سنة یحملون الیه أصعب المسائل فی الریاضیات بل و فی العلوم الطبیعیة، فیرجعون و قد سهل صعبها و عم فهمها، عنده فی ذلك طاقة نادرة، و لكن لا یدری بها الا قلیل، لأنه لا یمشی فی ضوء الشهرة، بل یختار الممرات المظلمة و الحارات الضیقة، هو أخی الدكتور عبد الغنی الطنطاوی، جاء المملكة متعاقدا معه، بعد ما أحیل علی التقاعد (علی المعاش) یدرس فی جامعة مكة، من أربع سنین، و لكنهم لم یأخذوا منه الا عشرة فی المائة مما معه من علم، لا هو یعرض علمه و لا هم یدرون به فیسألونه عنه. و قریب منه فی القدرة علی الشرح و التوضیح الدكتور محمد الهواری، و من هذه الزمرة من الاساتذة مؤلف هذا الكتاب الذی اقدم له.
انه أحد (الفرسان الثلاثة) الذین عرفتهم تلامیذ صغارا و أراهم الیوم و یراهم الناس اساتذة كبارا، عصام العطار، و زهیر الشاویش، و محمد لطفی الصباغ مؤلف هذا الكتاب، و لم ألقبه بعد بالدكتور لأنه ان كان (فی الدكاترة) كثرة أخذوا الشهادة بحق و استغلوها لنصرة الحق و ضموا الیها العلم، فإن منهم من شهادته كشهادة الزور فی المحكمة، تدرّج آلیا فی مراحل الدراسة حتی وصل الیها، فانتهی عندها و اكتفی بها، و صارت له مثل الصحیفة الصفراء، التی تجدون خبرها فی الكتاب الخالد، و الخلود فی الدنیا مجازی لا حقیقی، و هو كتاب (كلیلة و دمنة).
ان بدأ كثیر من الدكاترة بهذه الورقة دخلوا الی الحصول علیها من
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 16
الباب فأخذوها بالحق ثم جعلوها بدایة طریق العلم، فثابروا علی المسیر فیه و الصعود فی مدارجه، فإن منهم من دخل فی اللیل من النافذة لا من الباب، فاستولوا علیها بالباطل.
أما الشیخ محمد الصباغ فقد نالها بعد ما حمل من العلم ما یغنیه عنها، درس كما یدرس الطلاب فی المدارس الی آخر الجامعة، و قرأ علی المشایخ فی الشام، و صحب الفقیه المفكر (الشیخ صالح العقاد) و كذلك صنع اخونا الدكتور أمین المصری رحمه اللّه، ذهب یطلبها و هو عالم ازهری، و مدرس ألمعی، فكانت الدكتوراة للمصری و للصباغ قطعة حلوی علی مائدته، ان وجدت نفعت و لذت، و ان فقدت ما ضرت و ما جوعت.
و رب دكتوریة (دكتوراه) هی خبز المائدة و ادامها لیس علیها غیرها.
*** علوم القرآن مما ینبغی لكل مسلم متعلم ان یطلع علیها، أو علی كبریات مسائلها، و الكتب العصریة فیها كثیرة و فیرة، و مؤلفوها اخوان لی أحبهم و أقدرهم، و أشهد مع ذلك للأستاذ الصباغ من غیر أن أشهد علیهم، أدل من یسألنی علی كتابه و لا أسلب تلك الكتب فضلها، و لا أذم أهلها، لأن كتاب الصباغ ان لم یكن خیر هذه الكتب فهو من خیرها، إیجازا فی غیر اخلال، و توضیحا بلا املال، و فیه الشواهد و الامثال، و مما سرنی منه أنه اختار فی المسائل الخلافیة ما أری انا (علی قلة علمی) انه الحق، كالخلاف فی مسألة رسم القرآن. فالذی أذهب الیه من القدیم، و أدعو الیه، و ألح علیه، هو أن یكتب المصحف للطلبة و للعامة بالكتابة المعروفة (أی بالرسم المألوف).
و لا أقول: إنه أخذ ذلك منی، بل أحمد اللّه علی أن رأیه وافق رأیی، و لقد كتبت من قریب فصلا طویلا فیما كنت أنشر كل اسبوع فی جریدة الشرق الأوسط بعنوان (فتاوی) و هذا الفصل ستقرءونه إن شاء اللّه قریبا، حینما تجمع هذه الفتاوی فی كتاب، و العجب من اتفاق العلماء الآن
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 17
من غیر دلیل لهم من كتاب و لا سنة، و لا نقل عن معصوم، و انما هی أقوال لأئمة یخطئون و یصیبون، علی التزام هذا الرسم العثمانی، و هم یرون الطلاب یخطئون فی قراءة القرآن، و اللّه انزله متلوا لا مكتوبا، و أوجب علینا فی بعض الحالات (فی الصلاة مثلا) قراءة شی‌ء منه، و لم یلزمنا أبدا بكتابة شی‌ء، حتی ان أحد الاساتذة الكبار، و المحدثین المشهورین، و قد مر ذكره قبل أسطر معدودة قال: إن كتابته توقیفیة.
و أنا لم أفهم الی الآن ما معنی هذا الكلام؟ لأن التوقیف هو الوحی، و الذین كانوا یكتبون لا یوحی الیهم، و الذی كان یوحی الیه صلی اللّه علیه و سلم لا یكتب، فكیف صارت الكتابة توقیفیة؟ هذا و فی الفتوی ادلة كثیرة لا مجال الآن لذكرها. علی أن الاستاذ الصباغ جزاه اللّه خیرا وفّی هذا الموضوع حقه، فأفاض فیه و أفاد.
و من مزایا هذا الكتاب انه لم یدع مؤلفه فیه غامضا إلا وضحه، و لا شیئا یتعسر فهمه علی الطلاب إلا شرحه، فكان كتابه مفیدا فی اللغة و الأدب فوق فائدته القراء فی موضوعه الذی ألف له.
و من مزایاه انه ان نقل عن كتاب دل القارئ علی الجزء و الصفحة المنقول منها، فعرفهم بالمراجع، و معرفة المراجع علم ربما أخصی (أی تخصص فیه) بعض الباحثین.
حقق الأحادیث و بین درجتها، و آفة كثیر من الكتب العصریة انهم یثبتون فی كتبهم أحادیث لا یتبینون درجتها، و لا یسمون مخرجها؛ و لا یتثبتون من صحتها.
و كنت أرجو منه لما تكلم فی الاعجاز ان یشیر الی كتاب الاستاذ الحمصی الذی قدم له شیخنا الشیخ بهجة البیطار، و طبعه المجمع العلمی (مجمع اللغة العربیة فی دمشق) إذ لخص فی هذا الكتاب مذاهب الأولین فی
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 18
بیان أسباب الاعجاز، و كنت أرجو أن یشیر الی الشیخ الشعراوی و ما أعطاه اللّه من موهبة فی الكلام فی التفسیر و فی وجوه الاعجاز، و انه یجی‌ء بما لم یسبق الیه و لم یلحق فیه، و ان كانت له كما یكون لكل انسان زلات، كادعائه أنّ الهواء جزء من الأرض لقوله تعالی: (فَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ و لم یقل: (سیروا علیها)، و ان كان فی هذا استدلال فالقاعدة انه لا عبرة بالدلالة فی مقابلة النص، و اللّه قد نص فی كتابه علی السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَیْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ و معلوم أن السحاب فی الهواء، فكان ذلك نصا علی أن الهواء لیس من الأرض، علی أن أصل الاستدلال غیر مسلم، فاذا نازعك جارك و ادعی انك تسیر علی أرضه، قلت له: بل انا أسیر فی أرضی، فلا فرق فی الاستعمال بین قولی (سرت فی الارض) و (سرت علی الأرض) و إلا فهم من قولنا (یسیر فی الأرض) انه یحفر فیها جحرا و یدخل فی باطنها، كما تدخل الجرذان.
و مما یؤخذ علیه ذهابه إلی أن آزر عم إبراهیم و لیس أباه، كما ذهب الی ذلك كثیر من المفسرین، لتأثیر الاسرائیلیات علیهم، و هذا قول لا سبیل إلی قبوله بعد أن صرح اللّه بقوله: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِیمُ لِأَبِیهِ آزَرَ.
و مما كنت أرجوه من الاستاذ المؤلف لما كتب عن مصیر المصاحف العثمانیة ان یشیر الی ما كتب الكوثری عن مصحف دمشق و غیره، و اذا كان الاستاذ الصباغ و الاستاذ الشاویش و الاستاذ الشیخ ناصر الدین یخالفون الكوثری فی مسائل فلا تمنع هذه المخالفة أن یأخذوا ما عنده من الصواب، لأن الحكمة ضالة المؤمن. أما مصحف الشیخ عبد الحكیم الافغانی الذی اشار الیه فقد لبثت دهرا من عمری اظن انه قد نسخه عن المصحف العثمانی نسخا كاملا، و ما زلت ابحث عنه حتی وجدته عند آل الدوجی (و هم فرع من أسرة الصواف) و كانوا یلازمون الشیخ عبد الحكیم و یخدمونه، فوجدته مكتوبا بالخط العادی.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 19
و لما نشرت مجلة العربی استطلاعا (ریبورتاج) مصورا عن استامبول «1»، رأینا صورا لمصحف عثمان الذی كان فی جامع دمشق فی قبة الخزانة فی صحن الجامع من الجهة الغربیة، و هی غرفة عالیة تحت قبة قائمة علی أعمدة ثمانیة، ما لها إلا باب صغیر، كنا و نحن صغار نسمع ان فیها كنوزا و أموالا للجامع الاموی، ثم علمنا أن جمال باشا قد فتح بابها و نقل ما فیها إلی استامبول.
و لصدیقنا الذی هو بمنزلة أستاذنا الشیخ راغب الطباخ بحث جید عن مصیر هذه المصاحف العثمانیة فی كتابه (الثقافة الاسلامیة).
و كنت أتمنی علی الاستاذ الصباغ لما تكلم عن التفسیر و التأویل، و ذكر أقوال من سوی بینهما و من فرق، أن یذكر شیئا ادركته انا علی ضعفی و عجزی و قلة علمی هو أن التفسیر بیان للمعنی المراد، من فسر بمعنی سفر أی ظهر، و هو باب معروف عند العرب كقولهم یئس و أیس و جذب و جبذ، فان عدّیت فعل فسر أی ظهر بالتضعیف قلت: فسّرته تفسیرا، أی كشفته و بینته.
و التأویل من آل الأمر الی كذا أی رجع الیه، فإن عدیته قلت: أولته تأویلا. و التأویل تأویلان:
تأویل حال، و تأویل مقال.
و الأول أكثر ورودا فی القرآن یَوْمَ یَأْتِی تَأْوِیلُهُ أی تحقیق الحال الذی یصیر الیه.
و الثانی ما استقر علیه الاصطلاح حین یفرقون عند الكلام علی آیات الصفات بین من یؤول، أی ینقل الكلمات عن معناها الأصلی الظاهری الی
______________________________
(1) و الذی سماها اسلامبول أی مدینة الاسلام هو السلطان محمد الفاتح، و (بول): مدینة فهی بمعنی اسلام‌آباد التی صارت عاصمة باكستان.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 20
معنی آخر، و بین من لا یؤول. ان نؤمن بما جاء من عند اللّه الا فی المواطن التی لا بد فیها من شی‌ء ربما دعی التأویل علی توسع فی معنی الكلمة، كقوله تعالی فی آیة واحدة: اسْتَوی عَلَی الْعَرْشِ و قوله:
وَ هُوَ مَعَكُمْ أَیْنَ ما كُنْتُمْ فالاجماع علی انها لیست معیة ذات، تعالی اللّه عن ذلك، و لكنها معیة علم و بصر و سمع، و مثلها: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِیَهُمْ یمنع إرادة المعنی الأصلی، أی القاموسی فی كلمة فَنَسِیَهُمْ ان النسیان مستحیل علی اللّه وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِیًّا.
و لعل منشأ الخلاف ان هذه الكلمات وضعت فی لسان العرب قبل نزول القرآن، و أن القرآن نزل بهذا اللسان، و انها وضعت لمعان بشریة أرضیة، فلا یجوز ان نفهمها بهذه المعانی لأن اللّه لیس كمثله شی‌ء، و لأن الخالق لا یشبه المخلوق، و لا یجوز أن نخرجها عن معانیها كلها فنجعلها ألفاظا معطلة لا تدل علی شی‌ء. و فی كتابی «تعریف عام بدین الاسلام» بیان لهذا الذی اقول.
*** و بعد فما كان بی حاجة الی كتابة هذه المقدمة، لأن المقدمات انما تكون تعریفا بكاتب مجهول، أو بحث جدید غیر معروف.
و الكاتب هنا الاستاذ الصباغ، معروف بفضله الذی یبدو فی آثار قلمه، و فی بیانه، الذی یظهر دائما علی لسانه، و فی علمه الذی یشهد به عارفوه، و یستفید منه تلامیذه، فهو رجل قد جمع سعة الاطلاع، و جودة الالقاء، و سلامة اللغة، و البعد عن اللحن، و هو محدث موفق فی الاذاعة و الرائی، و مدرس ناجح فی الجامعة و فی الجامع، ظاهر المكان، متمیز الرأی فی الندوات الاسلامیة، عامل دائب فی حقل الدعوة الی اللّه، قادر علی توضیح المسائل و تقریبها الی الشبان، و هو سلیم العقیدة، سلفی المشرب، مثل أخویه عصام و زهیر، وفقهم اللّه جمیعا و قواهم و أكثر من امثالهم.
علی الطنطاوی
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 21

القسم الأول القرآن و علومه‌

اشارة

لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 23

الباب الأول القرآن‌

اشارة

سنتحدث فی هذا الباب عن القرآن و تعریفه، و وصفه، و خلوده، و دوره فی حفظ لغتنا و الابقاء علی أمتنا و إصلاح أوضاعنا و نهضتنا، و كونه دستور المسلمین و عن أسماء القرآن و عن ظاهرة الوحی و عن نزوله منجما و عن آیاته و سوره و إعجازه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 25

الفصل الأول فی تعریف القرآن و وصفه و دوره فی ماضینا و مستقبلنا

تعریف القرآن الكریم:

القرآن هو كلام اللّه المعجز، و وحیه المنزل علی نبیه محمد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و سلم، المكتوب فی المصاحف، المنقول عنه بالتواتر، المتعبّد بتلاوته.
و یقتضینا فهم هذا التعریف شرح بعض الأمور:
* فقولنا (كلام اللّه) إشارة إلی أن هذا القرآن كلام اللّه. فخرج بهذا القید سواه من كلام البشر و الجن و الملائكة.
* و قولنا (المعجز) إشارة إلی أن هذا الكلام أعجز البشر و الجنّ أن یأتوا بمثله، و سنفرد موضوع الإعجاز بفصل خاص إن شاء اللّه. و خرج بهذا القید كلام اللّه الذی عبّر عنه الرسول بلفظه.
* و قولنا (وحیه المنزل علی محمد) مخرج للكلام الإلهی الذی نزل علی الأنبیاء السابقین، و الكلام الالهی الذی ألقاه اللّه إلی ملائكته لیعملوا به، لا لینزلوه علی أحد من البشر. و سنفرد موضوع الوحی بفصل خاص.
و وحی اللّه كثیر، و كلماته لا حصر لها. قال تعالی: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّی لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّی وَ لَوْ جِئْنا
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 26
بِمِثْلِهِ مَدَداً «1» و قال تعالی: وَ لَوْ أَنَّ ما فِی الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَ الْبَحْرُ یَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ «2».
* و قولنا (المكتوب فی المصاحف، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته) مخرج للأحادیث القدسیة، و الأحادیث النبویة التی كانت وحیا من اللّه «3»، و للآیات التی نسخت تلاوتها فلم تعد مكتوبة فی المصحف، و لبعض القراءات التی نقلت إلینا بطریق الآحاد.
و مما ینبغی شرحه كلمة (التواتر) التی وردت فی التعریف، فالمتواتر هو ما یرویه جمع یستحیل عادة تواطؤهم علی الكذب عن جمع مثلهم فی كل مراحل السند من أوله إلی آخره «4».

وصف القرآن الكریم:

القرآن- كما أسلفنا- هو كلام اللّه المعجز و وحیه المنزل، نزل به الروح الأمین علی قلب محمد صلی اللّه علیه و سلم بلسان عربی مبین، و هو كما جاء فی الحدیث الضعیف التالی:
«كتاب اللّه تعالی فیه نبأ ما قبلكم، و خبر ما بعدكم، و حكم ما بینكم، هو الفصل لیس بالهزل، من تركه من جبار قصمه اللّه، و من ابتغی الهدی فی غیره أضله اللّه، و هو حبل اللّه المتین، و هو الذكر الحكیم، و هو الصراط المستقیم، و هو الذی لا تزیغ به الأهواء، و لا تلتبس به الألسنة، و لا تشبع
______________________________
(1) الكهف: 109.
(2) لقمان: 27.
(3) ذكرت فی كتابی «الحدیث النبوی» 163- 165 أن حدیث رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم ینقسم الی قسمین: قسم أوحی اللّه الیه معناه و لكنه لم ینسبه الرسول الی ربه، و قسم قاله الرسول اجتهادا. و ذكرت أنه لا فرق بینهما من الناحیة العملیة، لأن علی المسلم أن یمتثل أمر الرسول سواء أ كان الحدیث من هذا القسم أم من ذاك. إذ أنه علیه الصلاة و السلام متصل بالوحی یقره علی الصحیح و ینبهه علی الخطأ.
(4) انظر تفصیل ذلك فی كتابی «الحدیث النبوی» ص 236- 243.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 27
منه العلماء، و لا یخلق علی كثرة الرد، و لا تنقضی عجائبه، و هو الذی لم تنته الجن إذ سمعته حتی قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً یَهْدِی إِلَی الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ «1» من قال به صدق، و من عمل به أجر، و من حكم به عدل، و من دعی إلیه هدی إلی صراط مستقیم» «2».

خلود القرآن الكریم:

و القرآن الكریم باق ما بقیت الدنیا، یتحدی كل عوامل الافناء و الفناء، و ذلك بحفظ اللّه له. فلقد تولی اللّه تبارك و تعالی حفظه. قال تعالی: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «3» و لم یكله إلی الناس یحفظونه كما فعل سبحانه بالكتب السابقة قال تعالی: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِیها هُدیً وَ نُورٌ، یَحْكُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ الَّذِینَ أَسْلَمُوا لِلَّذِینَ هادُوا، وَ الرَّبَّانِیُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَیْهِ شُهَداءَ «4».
و بما تضمنه من الحلول المحكمة لكل مشكلات الانسان فی كل زمان و مكان، و ذلك لكمال شریعته، إذ كان آخر الكتب السماویة الْیَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِینَكُمْ، وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْكُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِیناً «5».
و من أدلة خلود هذا الكتاب الكریم أن الانسانیة رأت كثیرا من الروائع أعجب بها الناس حینا من الدهر، ثم لم تلبث هذه الروائع أن بلیت،
______________________________
(1) سورة الجن: 1- 2.
(2) أخرج هذا الحدیث الدارمی 2/ 435- 436 و الترمذی 4/ 52 عن علی مرفوعا، و سبب ضعفه وجود الحارث بن عبد اللّه الأعور فی سنده، و هو ضعیف. توفی سنة 65 ه.
انظر مقدمة صحیح مسلم فقد أورد تجریحا له كبیرا 1/ 19 ط عبد الباقی و 1/ 14 ط استانبول و «میزان الاعتدال» 1/ 435 و انظر «الفوائد المجموعة» 296 و تعلیق العلّامة المعلمی الیمانی علی هذا الحدیث.
(3) سورة الحجر: 9.
(4) سورة المائدة: 44.
(5) سورة المائدة: 3.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 28
و استنفدت أغراضها، و أصبحت قطعة من الماضی لا تتصل بحاضر الناس بسبب، أو أن یكون قد سحب علیها النسیان بذیله فلم یعد لها وجود علی الاطلاق.
كم طرحت حلول! و كم عرضت نظریات! و كم أعلنت مبادئ ادّعت قدرتها علی حل معضلات الحیاة!!. و لم تلبث أن عجزت و أفلست و توارت، و لم یعد یذكرها أحد.
أما القرآن فهو الخالد إلی أبد الدهر، الجدید الذی لا تبلی جدته مهما تقدم الزمان.

دور القرآن فی حفظ لغتنا و الابقاء علی أمتنا:

لقد مرّت علی أمتنا خلال عصور تاریخها الحافل أیام قاسیة، و نكبات سود، و كانت بلادها هدفا لموجات همجیة و وحشیة، أهلكت الحرث و النسل، و دمرت كل مظهر من مظاهر الحضارة. و كانت هذه البلاد مسرحا لفتن طائشة عمیاء روّعت الآمنین، و قضت علی أسباب الازدهار و الاستقرار، و آل الحكم فیها خلال أحقاب طویلة الی عناصر أعجمیة لا تعرف العربیة و لا یستریح كثیر منها الی العرب، و عمّ أبناء الأمة جهل مطبق و أمیة بشعة، فصارت أمتنا الی التفرق و الهوان، و تعرضت لغتنا الی الضعف و الانحلال.
و لو أن هذا الذی ذكرناه حدث فی أمة أخری لذهب ریحها، و لانقرضت لغتها، و لكن هذا القرآن الكریم بقی الحارس الأمین الذی حفظ علی هذه الأمة كیانها، و مقومات وجودها و ذاتیتها، و حمی لغتها من الضیاع، و لولاه لانقرضت العربیة و ذابت خلال هاتیك الكوارث التی غشیت هذه البلاد و سكانها أوقاتا طویلة.
إننا لنستطیع أن نقرر بكل ثقة و قوة أن العرب لما ارتقوا فی سلم الحضارة
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 29
و أبدعوا ما أبدعوا فی جوانبها، و أن اللغة العربیة هی لغة القرآن، و أن القرآن سبب خلود لغة العرب و استمرار وجودهم.
هذا و قد أدرك أعداؤنا ذلك فجعلوا مهمتهم الأولی أن یصرفوا أبناء المسلمین عن القرآن. جاء فی كتاب «الغارة علی العالم الاسلامی» قول بالكراف الآتی: (متی تواری القرآن و مدینة مكة عن بلاد العرب یمكننا حینئذ أن نری العربی یتدرج فی سبیل الحضارة التی لم یبعده عنها إلا محمد و كتابه) «1».

القرآن أساس الاصلاح و سبب النهضة و المجد و هو دستور المسلمین:

كان القرآن الكریم المشعل الوقاد، و المنار المضی‌ء، ینیر لأجیال أمتنا الطریق نحو المجد و الرفعة و السعادة و قیادة الدنیا الی الخیر و الحق.
بل لقد كان القرآن هو الذی یربی الأمة علی الأنفة و إباء الضیم، و ینفخ فی أفرادها روح التمرد علی الظلم و الفساد، و یدفع الأمة الی سلوك السبیل المستقیم إِنَّ الَّذِینَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ قالُوا: فِیمَ كُنْتُمْ. قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِینَ فِی الْأَرْضِ. قالُوا: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِیها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِیراً «2» و مهما تقدمت الأیام، و كرت اللیالی فسیبقی القرآن ملاذ هذه الأمة تفزع إلیه فی الأزمات، فیأخذ بیدها إلی الخیر و التقدم و الصلاح، و یبلغها السعادة و المجد و الفلاح .. بل یبقی الملاذ الأوحد الذی لا تجد سواه فی مدلهمات الخطوب.
أنزل اللّه علی عبده و رسوله محمد بن عبد اللّه هذا الكتاب لیهدی الناس الی الحق، و یخرجهم من الظلمات الی النور، و یسلك بهم طریق الرشاد، فكانت فیه الأسس الفكریة و الاجتماعیة و السیاسیة و الاقتصادیة و الروحیة و الخلقیة التی یقوم علیها المجتمع الاسلامی.
______________________________
(1) «الغارة علی العالم الاسلامی» ط جدّة صفحة 93- 94.
(2) سورة النساء: 97.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 30
* ففی هذا الكتاب الكریم العقیدة الصحیحة السلیمة التی حلت للانسان أعظم مشكلة تلح علی وجدانه متمثلة بالسؤال التالی: لما ذا خلقت؟
قال اللّه تعالی: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ «1».
و وضعت هذه العقیدة نظرة متمیزة للانسان و الكون و الحیاة، فهذا الكون من صنع اللّه إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ كُنْ فَیَكُونُ «2» الَّذِی خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَری فِی خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَری مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَیْنِ یَنْقَلِبْ إِلَیْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِیرٌ «3».
فلیس الكون عدوا للانسان، و لیست الطبیعة خصما له یصارعه و یغالبه، انما هی من خلق اللّه، و هی صدیق، فالارض مذللة للانسان، و كل ما فیها مخلوق له هُوَ الَّذِی جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِی مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ «4» خَلَقَ لَكُمْ ما فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً «5».
و قرر القرآن أن الناس مخلوقون من ذكر و أنثی، و موزعون إلی أمم متعددة لتتعارف یا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «6».
و الانسان مخلوق من مخلوقات اللّه، أصله من تراب وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ «7».
و هو یشارك الحیوان بأنواعه فی كثیر من صفاته و غرائزه:
______________________________
(1) سورة الذاریات: 56.
(2) سورة یس: 82.
(3) سورة الملك: 3- 4.
(4) سورة الملك: 15.
(5) سورة البقرة: 29.
(6) سورة الحجرات: 13.
(7) سورة فاطر: 11.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 31
وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِی الْأَرْضِ، وَ لا طائِرٍ یَطِیرُ بِجَناحَیْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ «1» و لكنه مكرم وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِی آدَمَ «2» و خلق فی أحسن تقویم لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِی أَحْسَنِ تَقْوِیمٍ «3».
و الناس متساوون و لا یتفاضلون إلا بالتقوی إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «4».
و الحیاة الدّنیا هی وحدها الطریق الی الآخرة وَ مَنْ یَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثی وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا یُظْلَمُونَ نَقِیراً «5» فَذُوقُوا بِما نَسِیتُمْ لِقاءَ یَوْمِكُمْ هذا، إِنَّا نَسِیناكُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «6».
و قرر القرآن العقیدة السلیمة فی اللّه و ملائكته و كتبه و رسله و الیوم الآخر فاللّه جل جلاله واحد قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ یَلِدْ وَ لَمْ یُولَدْ. وَ لَمْ یَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «7» هُوَ اللَّهُ الَّذِی لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَیْمِنُ الْعَزِیزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا یُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنی یُسَبِّحُ لَهُ ما فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِیزُ الْحَكِیمُ «8» لَوْ كانَ فِیهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «9».
______________________________
(1) سورة الانعام: 38.
(2) سورة الاسراء: 70.
(3) سورة التین: 4.
(4) سورة الحجرات 13.
(5) سورة النساء: 124.
(6) سورة السجدة: 14.
(7) سورة الاخلاص 1- 4.
(8) سورة الحشر: 23- 24.
(9) سورة الانبیاء: 22.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 32
و من یكفر بركن من أركان الایمان فهو كافر وَ مَنْ یَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِیداً «1».
و البعث حقّ آت لا ریب فیه و هو هین علی اللّه أَ یَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلی قادِرِینَ عَلی أَنْ نُسَوِّیَ بَنانَهُ «2».
إلی آخر جوانب هذه العقیدة «3».
* و فی هذا الكتاب الكریم أسس النظام الروحی التی حققت للمرءان یمد شطر ذاته بغذاء مستمر، یتمثل بعبادة اللّه و ذكره و الاتصال به «4»، تبارك و تعالی: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِی عَنِّی فَإِنِّی قَرِیبٌ أُجِیبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ. فَلْیَسْتَجِیبُوا لِی وَ لْیُؤْمِنُوا بِی لَعَلَّهُمْ یَرْشُدُونَ «5» فَاذْكُرُونِی أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِی وَ لا تَكْفُرُونِ «6».
* و فی هذا الكتاب الكریم أسس النظام الاخلاقی العظیم الذی جاء به الاسلام، فلم یتجاهل طبیعة النفس الانسانیة، و لكنه فی الوقت نفسه أخذ بهذه النفس الی ان جعلها تحقق المثل التی كانت تتراءی لكثیر من الفلاسفة و المصلحین أهدافا بعیدة.
فقد دعا الی مكارم الاخلاق، و حذر من مساوئ الاقوال و الأفعال و لنقرأ قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی،
______________________________
(1) سورة النساء: 136.
(2) سورة القیامة: 3- 4.
(3) انظر تفصیل ذلك فی «الحضارة الاسلامیة» للمودودی. و «مبادئ الاسلام» له و «عقیدة المسلم» للغزالی و «تعریف عام بدین الاسلام» للطنطاوی و «نظام الاسلام» لمحمد المبارك و «العقائد الاسلامیة» لسید سابق و «خصائص التصور الاسلامی» و «العدالة الاجتماعیة فی الاسلام» لسید قطب.
(4) انظر كتاب «الاركان الاربعة» لأبی الحسن الندوی.
(5) سورة البقرة: 186.
(6) سورة البقرة: 152.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 33
وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «1». و قوله:
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَیْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَیْئاً، وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً، وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِیَّاهُمْ، وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ، وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْیَتِیمِ إِلَّا بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ حَتَّی یَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَیْلَ وَ الْمِیزانَ بِالْقِسْطِ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبی، وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «2».
و هذه الأخلاق التی دعا الیها القرآن أخلاق إیجابیة و عملیة و شاملة «3».
* و فی هذا الكتاب الكریم أسس النظام الاجتماعی الذی یصوغ الفرد و المجتمع صیاغة متكاملة لا یجور احدهما علی الآخر «4».
و الذی یقیم الأسرة علی قواعد متینة من التراحم و التعاون و التكافل مما یحقق لكل فرد من أفرادها السعادة الحقیقیة «5».
و الذی یقیم المجتمع علی أسس العدالة و التكافل الاجتماعی و المساواة و التراحم و التعاون «6» و الذی یحدد القواعد العامة فی قضایا المعاملات من
______________________________
(1) سورة النحل: 90.
(2) سورة الانعام: 151- 152.
(3) انظر فی ذلك: «خلق المسلم» لمحمد الغزالی و «الأسس الاخلاقیة» للمودودی و «نظریة الاسلام الخلقیة» له و كتاب «الاخلاق فی القرآن» لمحمد عبد اللّه دراز.
(4) انظر القسم الاول من كتاب «الحجاب» لأبی الاعلی المودودی. و «تنظیم الاسلام للمجتمع» لمحمد أبو زهرة.
(5) انظر «نظام الاسرة فی الاسلام» لمناع القطان و «تفسیر سورة النور» للمودودی.
و «الأسرة و المجتمع» لعلی عبد الواحد وافی. و «نظرات فی الأسرة المسلمة» لمحمد الصباغ.
(6) انظر فی تفصیل ذلك كتاب «العدالة الاجتماعیة فی الاسلام» لسید قطب و «التكافل الاجتماعی فی الاسلام» لمحمد أبو زهرة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 34
تجارة و قرض و بیع و مداینة و ما الی ذلك «1» من تلك القواعد التی لا تستقیم الحیاة إلا بها.
* و فی هذا الكتاب الكریم أسس النظام الاقتصادی الذی یحرم الاستغلال و الظلم و العدوان، و یحقق الكفایة و العدالة و الرفاهیة «2».
* و فی هذا الكتاب أسس النظام السیاسی الذی تقوم علیه دولة الاسلام معتمدة علی الشوری و العدل و المساواة و إحقاق الحق و إبطال الباطل، و هدف هذه الدولة إقامة معالم الاسلام و العمل علی نشره فی الارض «3» الَّذِینَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِی الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ. وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ «4».
و هكذا فإن القرآن هو الدستور الذی حوی كل هذه الأسس، و قد أثبتت الأیام و التجارب أنه الدستور الصالح لكل زمان و مكان، و أن أحكامه هی العلاج الناجع لأمراض الحیاة، لا اختلاف فیه و لا تناقض و صدق اللّه العظیم: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً كَثِیراً «5» إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ یَهْدِی لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ وَ یُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِینَ الَّذِینَ یَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِیراً «6».
و من المفید أن نشیر الی أن القرآن بحكم كونه دستورا، فقد وردت
______________________________
(1) انظر «المجتمع الانسانی فی ظل الاسلام» لمحمد أبو زهرة و «فی المجتمع الاسلامی» له و «تنظیم الاسلام للمجتمع» له أیضا. و «التشریع الاسلامی و حاجتنا الیه» لمحمد الصباغ.
(2) انظر «أسس الاقتصاد فی الاسلام و النظم المعاصرة» للمودودی و «معضلات الاقتصاد و حلها فی الاسلام» له.
(3) انظر «نظریة الاسلام و هدیه فی السیاسة و القانون و الدستور» للمودودی.
(4) سورة الحج: 41.
(5) سورة النساء: 82.
(6) سورة الاسراء: 9.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 35
آیاته مجملة، و قد تركت كثیرا من التفصیلات الجزئیة للسنة، علی أن القرآن الكریم فی بعض الأمور الهامة یذكر التفصیلات حسما للنزاع و الاختلاف كالإرث «1» و اللعان «2» و الطلاق «3» و ما شابهها من الأمور حتی لا یدع مجالا للفرقة فی المجتمع الاسلامی «4».

أثر القرآن فی البیان و الفكر:

* كان المستوی الرفیع الذی بلغه القرآن فی البیان مثلا یحتذی بالنسبة لأدباء العربیة و بلغائها، فكانت آیاته سببا فی النهوض بأسالیبهم نهوضا عظیما، كما كان لتردید المسلمین لآیاته آناء اللیل و أطراف النهار أثر كبیر فی ارتقاء البیان العربی.
* أما أثره فی الفكر فلقد كانت آیاته البینات سباقة فی كل ما یعود علی الانسانیة و الحضارة بالتقدم و الرفاهیة و السعادة. و ما خلت حركة ظهرت بعده من التأثر بذراه السامقة.
و أودّ ان أختم هذا الفصل بكلمة للاستاذ الزرقانی قال فیها: (و هو- أی القرآن- أولا و آخرا القوة التی غیرت صورة العالم، و نقلت حدود الممالك، و حولت مجری التاریخ، و أنقذت الانسانیة العاثرة، فكأنما خلقت الوجود خلقا جدیدا) «5».
______________________________
(1) انظر سورة النساء فقد تعرضت آیات منها لتقسیم الارث و هی الآیات 11 و 12 و 176.
(2) انظر الآیات 6 و 7 و 8 و 9 من سورة النور.
(3) انظر الآیات المتعلقة بالطلاق فی السور الآتیة: البقرة الآیات 227 و 232 و 236 و 237 و 241 و الاحزاب الآیة: 49 و الطلاق الآیات من 1 حتی 7.
(4) انظر كتابنا «الحدیث النبوی» ص 19- 21.
(5) انظر «مناهل العرفان» 1/ 3.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 36

الفصل الثانی فی أسماء القرآن‌

اشارة

لهذا الكتاب الكریم أسماء ثلاثة مشهورة و هی: القرآن و الكتاب و الفرقان، و أشهرها الاسمان الأولان.
و قد أورد أبو المعالی عزیزی بن عبد الملك المعروف بشیذلة «1» المتوفی سنة 494 ه فی كتابه «البرهان فی مشكلات القرآن»- كما نقل ذلك السیوطی- خمسة و خمسین اسما «2». و بالغ بعضهم فأوصل عددها إلی نیف و تسعین «3».
و عند ما ینظر المرء فی هذه الأسماء الكثیرة التی ذكروها یتبین له أن معظمها أوصاف مثل: كریم، و مبارك ... الخ ...
و سنقتصر علی ذكر الأسماء الثلاثة التی أوردناها آنفا و نخصها بالبحث:
***______________________________
(1) انظر ترجمته فی «وفیات الأعیان» لابن خلكان 3/ 258 ط احسان عباس و «طبقات الشافعیة» للسبكی 3/ 287 «و كشف الظنون» لحاجی خلیفة 1/ 241 و «شذرات الذهب» لابن العماد 3/ 401 و «المنتظم» 9/ 126. و ضبط ابن خلكان اسمه بفتح العین. و قال عن (شیذلة): و هو لقب علیه، و لا أعرف معناه مع كثرة كشفی عنه.
(2) انظر «الاتقان فی علوم القرآن» للسیوطی 1/ 50 و «البرهان» للزركشی 1/ 273.
(3) انظر «البرهان» 1/ 273 و «مناهل العرفان» 1/ 8.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 37

القرآن:

و ینطق بهذه الكلمة علی وجهین: مهموزة و غیر مهموزة.
1- القرآن (مهموزة): مصدر علی وزن (فعلان)- بالضم- كالغفران و الرجحان و الشكران.
و فعل هذا المصدر هو (قرأ). و هناك مصادر أخری غیر (قرآن) تقول: قرأ (قراءة) و (قرءا) و (قرآنا) و هذه المصادر الثلاثة بمعنی واحد.
و لكلمة (قرآن) معنیان:
أحدهما: مصدری، بمعنی القراءة كما ذكرنا، و قد جاء استعمال (القرآن) بهذا المعنی المصدری فی القرآن الكریم و ذلك فی قوله تعالی:
إِنَّ عَلَیْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «1».
و ثانیهما: علم شخصی علی ذلك الكتاب الكریم. و هذا هو الاستعمال الغالب، و منه قوله تعالی: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ یَهْدِی لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ «2» و هذا العلم الشخصی مشتق من القراءة و عندئذ یكون المصدر قد أطلق علی اسم المفعول (قرآن) ای (مقروء). و أصل معنی (قرأ) فی اللغة: (جمع).
و منه: قرأ الماء فی الحوض إذا جمعه، و منه قولهم: قرأت الناقة إذا حملت «3».
و إذا أردنا معرفة العلاقة بین المعنی الاصلی، و المعنی العلمی فإن كلمة (قرآن) یمكن أن تكون مصدرا استعملت بمعنی اسم المفعول (مجموع) أو أن تكون مصدرا استعمل بمعنی اسم الفاعل (جامع).
______________________________
(1) سورة القیامة: 17 و ما بعدها. و انظر «نكت الانتصار» للصیرفی و هو اختصار «الانتصار» للباقلانی ص 56 تحقیق الدكتور محمد زغلول سلام.
(2) سورة الاسراء: 9.
(3) «نكت الانتصار» للصیرفی ص 57 و انظر «الكلیات» لأبی البقاء 4/ 35 ط دمشق.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 38
أما كونه مجموعا فلأنه مجموع السور و الآیات، أو مجموع المعانی السامیة و الحقائق العظیمة، و الحلول المحكمة لكل مشكلات الانسانیة، و صنوف الخیر و البر و العدالة، أو لأن الحفظة یحفظونه فهو مجموع. و هكذا فإن المصدر بمعنی التلاوة اطلق علی اسم المفعول.
و أما كونه جامعا فلأنه جامع للسور و الآیات، أو جامع للمعانی السامیة، و الحلول المحكمة، و صنوف الخیر.
و بمعنی الجمع و الضم اطلق علی اسم المفعول او علی اسم الفاعل «1». قال البغوی: [و سمّی الكتاب قرآنا؛ لأنه جمع فیه الأمر و النهی، و الوعد و الوعید، و القصص. و كل شی‌ء جمعته فقد قرأته، و منه قوله تعالی: إِنَّ عَلَیْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ و قد تحذف الهمزة فیقال: قریت الماء فی الحوض، أی جمعته] «2».
2- و القران (غیر مهموزة):
و هناك ثلاثة تخریجات لهذه الكلمة:
أحدها: أن تكون مسهلة من (القرآن) فیرجع القول فیها الی ما سبق ذكره.
ثانیها: أنها لیست مأخوذة من شی‌ء، و من القائلین بهذا القول الإمام الشافعی رضی اللّه عنه، الذی كان یری أنها علم علی الكلام المنزل علی النبی محمد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و سلم و أنها لیست مأخوذة من شی‌ء، و یری أن هذه الكلمة فی علمیتها مثل التوراة و الانجیل.
و قد روی البیهقی و الخطیب البغدادی و العبادی و ابن الجزری و السیوطی أن الشافعی قرأ علی إسماعیل بن عبد اللّه بن قسطنطین و كان یقول: القران
______________________________
(1) انظر «النبأ العظیم» للدكتور محمد عبد اللّه دراز ص 5.
(2) «شرح السنة» 4/ 428.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 39
اسم و لیس بمهموز و لو أخذ من قرأت لكان كل ما یقرأ قرآنا. بل هو اسم كالتوراة «1».
ثالثها: أنها مشتقة من (قرن)، و ذكروا فی العلاقة بین المعنی اللغوی و المعنی العلمی أنها اشتقت من (قرن)، لاقتران السور و الآیات و الحروف فیه، و من القائلین بذلك الأشعری.
و قال الفراء فی العلاقة بین هذین المعنیین: إن كلمة (القران) اشتقت من (قرن)، لأن الآیات قرائن، یصدق بعضها بعضا، و یشابه بعضها بعضا.

ملاحظة اولی:

نون (القران) بلا همز نون أصلیة، سواء قلنا: إنها علم غیر مشتق من شی‌ء أم قلنا هی مشتقة من (قرن). أما نون (القرآن) المهموزة فمزیدة.

ملاحظة ثانیة:

تطلق كلمة (القرآن) و (القرآن) علی القرآن كله، و علی بعضه.
فیقال لمن قرأ المصحف كله: إنه قرأ قرآنا.
و یقال لمن قرأ آیة منه أو آیات: إنه قرأ قرآنا «2».
***______________________________
(1) انظر «المستدرك» 2/ 230 و «مناقب الشافعی» 1/ 277 تحقیق صقر و «تاریخ بغداد» 2/ 62 و «طبقات الشافعیة» للعبادی ص 21 و «غایة النهایة فی طبقات القراء» لابن الجزری ص 166 و «الاتقان» 1/ 50 و انظر فیه الآراء و التخریجات الاخری، و انظر تعلیق أحمد شاكر علی «الرسالة» للشافعی ص 14 و 15 و انظر «الكلیات» 4/ 34 و ما بعدها.
(2) مناهل العرفان 1/ 15.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 40

الكتاب:

و هو اسم آخر للقرآن، ورد فی عدد من الآیات الكریمة. كما فی قوله تعالی: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی أَنْزَلَ عَلی عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ یَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً «1» و قوله: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ هُدیً لِلْمُتَّقِینَ «2» و قوله سبحانه:
تِلْكَ آیاتُ الْكِتابِ «3».
و كلمة (الكتاب) مصدر (كتب یكتب). تقول: كتب یكتب كتبا و كتابة و كتابا.
و هذا المصدر علی خلاف القیاس، و المصدر المقیس الكتب، و قیل:
الكتاب اسم مصدر كاللباس «4» ثم أصبحت كلمة (كتاب) علما علی القرآن.
و إذا أردنا ان نربط بین معناها اللغوی المعروف و المعنی العلمی كانت هذه الكلمة (الكتاب) مصدرا استعمل بمعنی اسم المفعول (مكتوب).
و الكلمة (كتب) فی أصل معناها اللغوی تدل علی الجمع، و منه: كتب الكتیبة، أی جمعها، و كتب النعل و القربة، أی خرزها بسیرین «5» أی جمعها.
و إذا أردنا معرفة العلاقة بین المعنی الاصلی و المعنی العلمی فإنّ كلمة (كتاب) یمكن ان تكون مصدرا استعمل بمعنی اسم المفعول (مجموع). أو أن تكون مصدرا استعمل بمعنی اسم الفاعل (جامع).
______________________________
(1) سورة الكهف: 1.
(2) سورة البقرة: 2.
(3) سورة الشعراء: 2.
(4) تاج العروس: مادة كتب.
(5) اساس البلاغة: مادة كتب.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 41
و ترد العلاقة نفسها التی ذكرناها فی (القرآن):
فهذا الكتاب جامع للسور و الآیات، بل و للمعانی و الحقائق و الحلول التی یتطلع الیها البشر.
و هذا الكتاب أیضا مجموعة فیه السور و الآیات، بل و تلك المعانی و الحلول.

*** لما ذا سمی القرآن (قرآنا) و (كتابا)؟

هناك حكمة فی إطلاق هذین العلمین (القرآن و الكتاب) علی كلام اللّه تعالی ذكرها العلامة الدكتور محمد عبد اللّه دراز فقال «1»:
[روعی فی تسمیته (قرآنا) كونه متلوا بالألسن، كما روعی فی تسمیته (كتابا) كونه مدونا بالأقلام. فكلتا التسمیتین من تسمیة الشی‌ء بالمعنی الواقع علیه. و فی تسمیته بهذین الاسمین إشارة إلی أن من حقه العنایة بحفظه فی موضعین لا فی موضع واحد، أعنی أنه یجب حفظه فی الصدور و السطور جمیعا .. فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتی یوافق الرسم المجمع علیه من الأصحاب المنقول إلینا جیلا بعد جیل علی هیئته التی وضع علیها أول مرة.
و لا ثقة لنا بكتابة كاتب حتی یوافق ما هو عند الحفاظ بالاسناد الصحیح المتواتر.
و بهذه العنایة المزدوجة التی بعثها اللّه فی نفوس الأمة المحمدیة بقی القرآن محفوظا فی حرز حریز، إنجازا لوعد اللّه الذی تكفل بحفظه حیث یقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «2» و لم یصبه ما أصاب
______________________________
(1) «النبأ العظیم»: ص 5- 7.
(2) سورة الحجر: 9.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 42
الكتب السابقة من التحریف و التبدیل و انقطاع السند حیث لم یتكفل اللّه بحفظها، بل و كلها إلی حفظ الناس فقال تعالی: وَ الرَّبَّانِیُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ «1»].

الفرقان:

أما (الفرقان) فهو اسم للقرآن أیضا. و هو مصدر أطلق علی القرآن فأضحی علما.
و قد استعمل بهذا المعنی العلمی فی قوله تعالی: تَبارَكَ الَّذِی نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلی عَبْدِهِ لِیَكُونَ لِلْعالَمِینَ نَذِیراً «2».
و هذا المصدر استعمل بمعنی اسم الفاعل، أی أنه كلام فارق بین الحق و الباطل «3». أو استعمل بمعنی اسم المفعول، أی أنه كلام مفروق بعضه عن بعض فی النزول أو فی السور و الآیات «4».
***______________________________
(1) سورة المائدة: 44.
(2) سورة الفرقان: 1.
(3) انظر «نكت الانتصار» للصیرفی ص 57.
(4) مناهل العرفان: 1/ 7- 8.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 43

الفصل الثالث فی الوحی‌

الوحی فی اللغة:

قال ابن فارس فی «مقاییس اللغة»:
الواو و الحاء و الحرف المعتل أصل یدل علی إلقاء علم فی إخفاء إلی غیرك، فالوحی الاشارة، و الوحی الكتاب و الرسالة، و كل ما ألقیته إلی غیرك حتی علمه فهو وحی كیف كان. و كل ما فی باب الوحی فراجع الی هذا الأصل الذی ذكرناه.
و قال الراغب الاصفهانی:
أصل الوحی الاشارة السریعة، و لتضمن السرعة قیل: أمر وحی، و شی‌ء وحی، أی عجل مسرع، و ذلك یكون بالكلام علی سبیل الرمز و التعریض، و قد یكون بصوت مجرد عن التركیب، و باشارة ببعض الجوارح، و بالكتابة. «1»
قال تعالی: فَخَرَجَ عَلی قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحی إِلَیْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا
______________________________
(1) انظر «مذكرة التوحید» لعبد الرزاق عفیفی ص 34 و «نظام الاسلام العقیدة و العبادة» لمحمد المبارك ص 101- 104 و «النبوة اصلاح تقتضیه رحمة اللّه» لسعدی یاسین و «النبوة و الأنبیاء» للندوی.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 44
بُكْرَةً وَ عَشِیًّا «1» أی أشار إلیهم و لم یتكلم.
إذن فمعنی الوحی من الناحیة اللغویة: الإعلام الخفی السریع الخاص بمن یوجه إلیه. بحیث یخفی علی غیره «2»، و یدخل تحت ذلك أنواع عدیدة من الإعلام:
* منها: الإلهام الغریزی، كالوحی إلی النحل وَ أَوْحی رَبُّكَ إِلَی النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِی مِنَ الْجِبالِ بُیُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا یَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِی مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِی سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا یَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِیهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ. إِنَّ فِی ذلِكَ لَآیَةً لِقَوْمٍ یَتَفَكَّرُونَ «3».
* و منها: إلهام الخواطر بما یلقیه اللّه فی روع الانسان السلیم الفطرة الطاهر الروح كالوحی إلی أم موسی وَ أَوْحَیْنا إِلی أُمِّ مُوسی أَنْ أَرْضِعِیهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَیْهِ فَأَلْقِیهِ فِی الْیَمِّ، وَ لا تَخافِی وَ لا تَحْزَنِی، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَیْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِینَ «4».
* و منها: وسوسة الشیطان وَ إِنَّ الشَّیاطِینَ لَیُوحُونَ إِلی أَوْلِیائِهِمْ لِیُجادِلُوكُمْ «5» وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِیٍّ عَدُوًّا شَیاطِینَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ یُوحِی بَعْضُهُمْ إِلی بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً «6».
و قد تأتی كلمة (الوحی) بمعنی الأمر «7» كما فی قوله تعالی: وَ إِذْ أَوْحَیْتُ إِلَی الْحَوارِیِّینَ أَنْ آمِنُوا بِی وَ بِرَسُولِی «8».
______________________________
(1) سورة مریم: 11.
(2) انظر «الكلیات» لأبی البقاء 5/ 3 و 35 ط دمشق.
(3) سورة النحل: 68- 69.
(4) سورة القصص: 7.
(5) سورة الانعام: 121.
(6) سورة الانعام: 112.
(7) «تحفة الأحوزی» 4/ 301.
(8) سورة المائدة: 111.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 45
و وحی اللّه تبارك و تعالی إلی أنبیائه قد روعی فیه المعنیان الأصلیان لهذه المادة: و هما: الخفاء و السرعة «1».
و أوحی، و وحی لغتان، و الأولی أفصح و بها ورد القرآن، و قد یطلق الوحی و یراد به اسم المفعول أی (الموحی) «2».

الوحی فی الشرع:

و معنی الوحی فی الشرع تكلیم اللّه سبحانه واحدا من عباده بطریقة من طرق الوحی. و الوحی أمر غیبی لا نستطیع أن نفصل القول فیه إلا بحدود ما ورد فی شأنه من النصوص الشرعیة.
إن كل من آمن بوجود اللّه و قدرته لزمه أن یسلم بموضوع الوحی علی انه بدیهیة مسلمة لا یحتاج إلی مزید من الأدلة علیه، فلا بدّ لنا إذا آمنا بوجود الخالق المدبر من أن نتبع هذا الایمان بالایمان بضرورة رعایته لخلقه، و تدبیره المستمر للكون علی ما یرضی، و لا یمكن أن یتأتی ذلك إلا بالوحی.
أما إمكانیة الوحی فإن العقل السلیم لا یستبعدها، لأن الذی یؤمن بوجود اللّه- سبحانه- و كماله لا یصعب علیه الاقتناع عقلیا بإمكانیة الوحی من الناحیة الواقعیة، ذلك أننا نجد فی دنیا الواقع أن الانسان العاجز المحدود الطاقة استطاع أن یصل بواسطة بعض التصرفات و البحوث و الآلات إلی أن یؤثر فی إنسان مثله .. فما القول فی قدرة اللّه تبارك و تعالی علی ذلك و علی أكبر من ذلك؟.
ففی التنویم المغناطیسی نجد إنسانا عاجزا یقوی علی الإیحاء إلی إنسان آخر، و فی محطات الاذاعة یستطیع رجال الاعلام الموهوبون أن یوحوا إلی
______________________________
(1) «الوحی المحمدی» لمحمد رشید رضا: 37.
(2) «عمدة القاری» للعینی 1/ 14 و «تحفة الأحوذی» 4/ 301.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 46
نماذج عدیدة من الناس ما یشاءون من الأفكار و الآراء. إذا كان ذلك كذلك فإن إیحاء اللّه إلی عبد من عباده اختاره لهدایة الناس لا یمنع العقل السلیم إمكان وقوعه، إذا كان صاحب هذا العقل مؤمنا بقدرة اللّه سبحانه و كماله.

*** صور الوحی:

هناك صور للوحی حددتها الآیات الكریمة و الأحادیث الصحیحة، نورد بعضها فیما یأتی:
قال اللّه تعالی: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ یُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْیاً، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، أَوْ یُرْسِلَ رَسُولًا فَیُوحِیَ بِإِذْنِهِ ما یَشاءُ. إِنَّهُ عَلِیٌّ حَكِیمٌ «1».
و جاء فی الصحیحین عن أول بدء الوحی الحدیث الآتی:
عن عائشة قالت: «أول ما بدئ به رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم من الوحی الرؤیا الصادقة فی النوم، فكان لا یری رؤیا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إلیه الخلاء، و كان یخلو بغار حراء، فیتحنث فیه- و هو التعبد- اللیالی ذوات العدد قبل أن ینزع «2» إلی أهله، و یتزود لذلك، ثم یرجع إلی خدیجة فیتزود لمثلها، حتی جاءه الحق و هو فی غار حراء فجاءه الملك فقال:
اقرأ. قال: «ما أنا بقارئ».
قال: «فأخذنی فغطنی حتی بلغ منی الجهد، ثم أرسلنی فقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارئ. فأخذنی فغطنی الثانیة حتی بلغ منی الجهد، ثم أرسلنی
______________________________
(1) سورة الشوری: 51.
(2) أی یرجع.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 47
فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذنی فغطنی الثالثة، ثم أرسلنی فقال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِی خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ فرجع بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم یرجف فؤاده، فدخل علی خدیجة فقال:
«زملونی زملونی» ... الحدیث «1».
و سنعدد هذه الصور التی یكون الوحی علیها:
1- یكون الوحی بالرؤیا الصادقة:
و ذلك كما فی حدیث عائشة الذی أوردناه قبل قلیل: (أول ما بدئ به رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم من الوحی الرؤیا الصادقة فی النوم).
و كما فی قوله تعالی عن إبراهیم علیه السلام قالَ یا بُنَیَّ إِنِّی أَری فِی الْمَنامِ أَنِّی أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَری «2».
2- و یكون بإلهام النبی فی حالة الیقظة و إلقاء المعنی فی قلبه من غیر أن یری الملك، كما قال صلی اللّه علیه و سلم: «إنّ روح القدس نفث فی روعی انّه لن تموت نفس حتی تستكمل رزقها فاتقوا اللّه و أجملوا فی الطلب» «3».
______________________________
(1) «صحیح البخاری» 1/ 3 و «صحیح مسلم» 1/ 97 و «الترمذی» 4/ 301 و «سنن النسائی» و «المسند» 6/ 153 و 232 و انظر شرح الحدیث فی «فتح الباری» 1/ 22 و انظر «اللؤلؤ و المرجان» 1/ 32 و «الإتقان» 1/ 23 النوع السابع.
(2) سورة الصافات: 102. و فی «صحیح البخاری» 1/ 33: [قال عمرو: سمعت عبید بن عمیر یقول: رؤیا الأنبیاء وحی. ثم قرأ: إِنِّی أَری فِی الْمَنامِ أَنِّی أَذْبَحُكَ].
(3) «المستدرك» للحاكم 2/ 4 و «الفقیه و المتفقه» للخطیب 1/ 92- 93 و «مناقب الشافعی» للبیهقی 1/ 324 و «سنن ابن ماجة» 2/ 3 و «الحلیة» لأبی نعیم 3/ 156 و 7/ 158 و 10/ 27 و «ابن حبان» رقم 1084 و «الرسالة» للشافعی ص 93 و «الترغیب و الترهیب» للمنذری 2/ 231 و «مجمع الزوائد» 4/ 72 و «فیض القدیر» 2/ 450 و «الإتقان» 1/ 44 و قال ابن حجر: أخرجه ابن أبی الدنیا فی «القناعة» و صححه الحاكم من طریق ابن مسعود. و انظر «فتح الباری» 1/ 20 و ذكره العجلونی فی «كشف الخفاء» 1/ 231 و قال: رواه فی «مسند الفردوس» عن جابر ... و أبو نعیم و الطبرانی عن
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 48
3- و یكون بتكلیم النبی من وراء حجاب و بشكل مباشر و یسمع النبی الكلام، كما كلم اللّه سبحانه موسی علیه السلام من وراء الشجرة كما نص علی ذلك القرآن: فَلَمَّا أَتاها نُودِیَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَیْمَنِ فِی الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ: أَنْ یا مُوسی إِنِّی أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِینَ «1».
4- و یكون بتكلیم النبی بواسطة جبریل، و هذه الصورة لها شكلان:
الشكل الأول: ان یأتیه الملك فی مثل صلصلة الجرس «2» و كان أشده علیه، حتی إن جبینه لیعرق «3» و حتی تبرك راحلته «4». و قد جاء الوحی مرة كذلك و فخذه صلی اللّه علیه و سلم علی فخذ زید بن ثابت فثقلت علی فخذ زید حتی كادت ترضها «5».
الشكل الثانی: أن یأتیه جبریل و یتمثل له رجلا، فیخاطبه. كما قال صلی اللّه علیه و سلم: «أحیانا یتمثّل لی الملك رجلا فیكلمنی فأعی ما یقول» «6».
و زاد أبو عوانة فی «صحیحه»: «و هو أهونه علی» «7».
و كما فی حدیث جبریل عند ما جاء لیعلم المسلمین أمور دینهم، و ذلك عن
______________________________
أبی أمامة، و البزار عن حذیفة، و أخرجه ابن أبی الدنیا، و صححه الحاكم عن ابن مسعود. و صححه الألبانی فی تخریجه لكتاب «فقه السیرة» للغزالی ص 96 و انظر «عمدة القاری» 1/ 14.
(1) سورة القصص: 30.
(2) قال الخطابی: و المراد أنه صوت متدارك یسمعه و لا یتثبته أول ما یسمعه حتی یفهمه بعد (انظر «الإتقان» 1/ 44).
(3) انظر الحدیث فی «صحیح البخاری» 1/ 3 و «صحیح مسلم» 7/ 82 و «الترمذی» 4/ 301 و «النسائی» 2/ 113 و 114 و «الموطأ» 1/ 202 و «مسند أحمد» 6/ 158 و 163 و 257.
(4) انظر «مسند أحمد» 6/ 118 و 455 و «المستدرك» 2/ 505 و وافقه الذهبی.
(5) انظر «صحیح البخاری» 6/ 40 و «سنن أبی داود» 3/ 17.
(6) انظر «صحیح البخاری» 1/ 3 و «صحیح مسلم» 7/ 82 و «الترمذی» 4/ 301.
(7) «الإتقان» 1/ 44.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 49
طریق سؤال النبی صلی اللّه علیه و سلم عن الإسلام و الإیمان و الإحسان و الساعة «1».
و قد یری الملك فی صورته التی خلقه اللّه علیها، فیوحی الیه ما شاء اللّه ان یوحیه. و هذا وقع مرتین كما ذكر اللّه سبحانه فی سورة النجم و فی سورة التكویر «2». ففی صحیح مسلم «3» عن مسروق قال:
كنت متكئا عند عائشة، فقالت: یا أبا عائشة (و هی كنیة مسروق) «4» ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم علی اللّه الفریة.
قلت: ما هن؟.
قالت: من زعم أن محمدا رأی ربه فقد أعظم علی اللّه الفریة.
قال: و كنت متكئا فجلست، فقلت: یا أم المؤمنین انظرینی و لا تعجلینی، أ لم یقل اللّه عز و جل: وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِینِ «5» وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْری «6».
فقالت: أنا أول هذه الأمة من سأل ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم فقال: «انما هو جبریل لم أره علی صورته التی خلق علیها غیر هاتین المرتین، رأیته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بین السماء و الارض».
و قالت: أو لم تسمع أن اللّه عز و جل یقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ
______________________________
(1) انظر الحدیث فی «صحیح مسلم» 1/ 29 و «ریاض الصالحین» باب المراقبة.
(2) قال ابن القیم فی «الزاد» 2/ 48: [و هذا هو جبریل رآه محمد صلی اللّه علیه و سلم مرتین: مرّة فی الأرض، و مرّة عند سدرة المنتهی] و انظر «تفسیر ابن كثیر» 3/ 23 و 4/ 251- 252 عند تفسیر سورة النجم.
(3) «صحیح مسلم» 1/ 110 و برقم 177 فی ط عبد الباقی و انظر «صحیح البخاری» 6/ 117 و «الفتح» 8/ 606 و انظر «الاجابة» للزركشی ط 1 ص 96 و ط 2 ص 85.
(4) هو مسروق بن الأجدع الهمدانی الكوفی. تابعی ثقة فقیه عابد. روی عن عدد من الصحابة. توفی سنة 63 ه.
(5) سورة التكویر: 23.
(6) سورة النجم: 13.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 50
یُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ «1» أو لم تسمع أن اللّه عز و جل یقول: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ یُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْیاً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ یُرْسِلَ رَسُولًا «2».
قالت: و من زعم أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم كتم شیئا من كتاب اللّه فقد أعظم علی اللّه الفریة، و اللّه تعالی یقول: یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ «3».
قالت: و من زعم أنه یخبر بما یكون فی غد فقد أعظم علی اللّه الفریة و اللّه تعالی یقول: قُلْ لا یَعْلَمُ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَیْبَ إِلَّا اللَّهُ «4».
و هذه الصورة الرابعة و أعنی الشكل الأول هی التی نزل بواسطتها القرآن.

آثار الوحی علی الرسول:

صور لنا الصحابة فیما أوردوا من وصف الرسول صلی اللّه علیه و سلم آثار هذه الظاهرة: ظاهرة الوحی، فذكروا ان الرسول صلی اللّه علیه و سلم كانت تبدو علی وجهه الكریم أمارات معینة فی كل مرة ینزل علیه القرآن.
و كان أمر هذه الظاهرة لا یخفی علی أحد ممن ینظرون الیه، فكانوا- كما تروی الأحادیث الصحیحة ذلك- یرونه قد احمرّ وجهه فجأة، و أخذته البرحاء «5» حتی یتفصّد جبینه عرقا فی الیوم البارد، و ثقل جسمه
______________________________
(1) سورة الانعام: 103.
(2) سورة الشوری: 51.
(3) سورة المائدة: 67.
(4) سورة النمل: 65.
(5) برحاء الحمی: شدة أذاها.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 51
حتی كاد یرض فخذه فخذ الجالس الی جانبه «1»، و حتی لو كان راكبا لبركت راحلته كما سبق أن مر بنا.
و كانوا مع ذلك یسمعون عند وجهه صلی اللّه علیه و سلم أصواتا مختلطة تشبه دوی النحل «2» .. ثم لا یلبث أن تسری عنه تلك الشدة فاذا هو یتلو قرآنا جدیدا و ذكرا للعالمین «3».
و قد ذكر الاستاذ الدكتور محمد عبد اللّه دراز رحمه اللّه أن هذه الاوصاف كلها ثابتة فی الأحادیث الصحیحة عند الشیخین و أبی داود و الترمذی «3».

*** صدق ظاهرة الوحی:

ان هذه الظاهرة العجیبة لا یمكن ان تكون متكلفة و لا مصنوعة لا سیما إذا تأملنا تلك الأصوات المختلطة التی كانت تسمع عند الوجه النبوی الشریف.
و لو كانت صناعة و تكلفا لكانت طوع یمینه، فكان لا یشاء یوما أن یأتی بقرآن جدید إلا جاء به من هذا الطریق الذی اعتاد فی تحضیره «5».
و إلیك بعض الأدلة علی أن الوحی أمر لا یعود إلی النبی صلّی اللّه علیه و سلّم:
______________________________
(1) و هذا حدیث زید بن ثابت أورده البخاریّ معلقا فی أول كتاب الصلاة فی باب الصلاة بغیر رداء و أورده موصولا فی «صحیحه» 6/ 40 فی تفسیر سورة النساء فی نزول قوله تعالی لا یَسْتَوِی الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ و انظر «فتح الباری» 1/ 479 و «أبو داود» 3/ 17 و «الترمذی» 4/ 92 و «النسائی» 6/ 9 و انظر «معالم السنن» للخطابی 3/ 368.
(2) أخرجه أحمد 1/ 34 و الترمذی 4/ 151 و الحاكم 1/ 535 و 2/ 392 و انظر «شرح السنة» للبغوی 5/ 177.
(3) انظر «النبأ العظیم» ص 71.
(5) «النبأ العظیم» ص 72.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 52
1- كانت تنزل بالنبی نوازل یتطلب لها حلا، و كذلك كل من حوله، و لكنه لا یجد فی شأنها قرآنا یقرؤه علی الناس «1».
و من هذه النوازل و الأزمات حدیث الإفك عن زوجته السیدة المصونة عائشة رضی اللّه عنها، فلقد أبطأ الوحی، و طال الانتظار، و الناس یخوضون فی هذا الحدیث المؤذی، و یلوكون عرض النبی النقی، حتی بلغت القلوب الحناجر. و هو لا یستطیع أن ینهی هذه المشكلة، و یحسم هذا الموضوع، و مضی شهر بأكمله و هو ینتظر رأی السماء، و ما زاد علی أن قال لها آخر الأمر:
«یا عائشة أما إنه بلغنی كذا و كذا، فإن كنت بریئة فسیبرئك اللّه، و ان كنت ألممت بذنب فاستغفری اللّه» «2».
هذا كلام رجل من البشر لا یعلم الغیب. و كلام المتثبت الذی لا یتبع الظن و لا یقول ما لیس له به علم. علی أنه لم یغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتی نزل صدر سورة النور معلنا براءتها و مصدرا الحكم المبرم بشرفها و طهارتها.
فما ذا كان یمنعه- لو أن أمر القرآن الیه- أن یتقول هذه الكلمة الحاسمة من قبل لیحمی بها عرضه، و یذب بها عن عرینه، و یقطع بها ألسنة القاذفین المتخرصین و ینسبها إلی الوحی؟
و لكنه ما كان لیذر الكذب علی الناس و یكذب علی اللّه «3».
2- و فی مرات أخری كان یجیئه القول فیها علی غیر ما یحبه و یهواه و یخطئه فی الرأی یراه، و یأذن له فی الشی‌ء لا یمیل إلیه، فمن ذلك قوله
______________________________
(1) «النبأ العظیم» ص 16.
(2) انظر حدیث الإفك فی «البخاری» 5/ 96 و 6/ 88 و «مسلم» 8/ 112 و «الترمذی» 4/ 155- 157 و «تفسیر ابن كثیر» 3/ 268 و كتب السیرة.
(3) «النبأ العظیم»: ص 17.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 53
تعالی: وَ تُخْفِی فِی نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِیهِ وَ تَخْشَی النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ «1» و قوله تعالی: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَكَ الَّذِینَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِینَ «2» و قوله تعالی: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنی فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّی. وَ ما عَلَیْكَ أَلَّا یَزَّكَّی. وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ یَسْعی. وَ هُوَ یَخْشی. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّی. كَلَّا «3».
لو كانت هذه التقریعات المؤلمة صادرة عن وجدانه، معبرة عن ندمه حین بدا له خلاف ما فرط من رأیه: أ كان یعلنها عن نفسه بهذا التهویل؟
أ لم یكن له فی السكوت عنها ستر علی نفسه و استبقاء لحرمة آرائه «4»؟؟.
3- و لقد كان یجیئه الأمر أحیانا بالقول المجمل، أو الأمر المشكل الذی لا یستبین هو و لا أصحابه تأویله حتی ینزل اللّه علیهم بیانه بعد.
فهل هناك انسان توحی الیه نفسه كلاما لا یفهم هو معناه؟ و تأمر أمرا لا یعقل هو حكمته؟
أ لیس ذلك من الأدلة الواضحة علی أنه ناقل لا قائل، و أنه مأمور لا آمر؟ «5».
نزل قوله تعالی: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِی أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ یُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ «6» فأزعجت الصحابة إزعاجا شدیدا، و داخل قلوبهم منها شی‌ء لم
______________________________
(1) سورة الاحزاب: 37. روی ابن جریر عن عائشة انها قالت: لو كتم محمد صلی اللّه علیه و سلم شیئا مما أوحی الیه من كتاب اللّه تعالی لكتم وَ تُخْفِی فِی نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِیهِ انظر «تفسیر الطبری» 22/ 13 و ابن كثیر 3/ 491.
(2) سورة التوبة: 43.
(3) سورة عبس: 5- 10.
(4) انظر «النبأ العظیم» ص 18.
(5) انظر «النبأ العظیم» ص 21.
(6) سورة البقرة: 284.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 54
یداخلها من شی‌ء آخر، لأنهم فهموا منها أنهم سیحاسبون علی كل شی‌ء حتی حركات القلوب و خطراتها، فقالوا:
- یا رسول اللّه أنزلت علینا هذه الآیة و لا نطیقها.
- فقال لهم النبی صلی اللّه علیه و سلم: «أ تریدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابین من قبلكم سمعنا و عصینا؟ بل قولوا: سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إلیك المصیر» فجعلوا یتضرعون بهذه الدعوات حتی أنزل اللّه بیانها بقوله: لا یُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَیْها مَا اكْتَسَبَتْ .. «1».
فلو كان النبی صلی اللّه علیه و سلم یعلم تأویلها من أول الامر لبیّن لهم خطأهم و لأزال اشتباههم من فوره، لأنه لم یكن لیكتم عنهم هذا العلم و هم فی أشد الحاجة الیه «2».

الخلاصة:

و خلاصة ما یمكن أن نذكره فی ظاهرة الوحی ما یأتی:
1- انها حالة غیر اختیاریة.
2- و هی عارض غیر عادی.
3- و هی قوة خارجیة: لأنها لا تتصل بنفس النبی صلی اللّه علیه و سلم إلا حینا بعد حین.
4- و هی قوة عالمة: لأنها توحی إلیه علما.
5- و هی قوة أعلی من قوة النبی صلی اللّه علیه و سلم: لأنها تحدث فی نفسه و فی بدنه تلك الآثار العظیمة.
______________________________
(1) سورة البقرة الآیة 286. و انظر «صحیح مسلم» 1/ 80- 81 باب بیان قوله تعالی وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِی أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ و «المسند» 2/ 412 و «المستدرك» 2/ 286 و «تفسیر الطبری» 6/ 104- 123 ط محمود شاكر.
(2) «النبأ العظیم» ص 22.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 55
6- و هی قوة خیرة معصومة: لأنها لا توحی إلا بالحق و لا تأمر إلا بالرشد «1».
***______________________________
(1) «النبأ العظیم» ص 72- 74 و ینبغی ان یقف القارئ علی كلام سید قطب رحمه اللّه عن الوحی فی «ظلال القرآن» 25/ 53- 57 من المجلد السابع.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 56

الفصل الرابع فی تنجیم القرآن‌

معنی التنجیم:

التنجیم فی اللغة: التفریق. یقال: نجم المال تنجیما: إذا أدّاه نجوما.
و تنجیم القرآن أی نزوله مفرقا علی دفعات.

مدة التنجیم:

نزل القرآن منجما فی مدة ثلاث و عشرین سنة.
و قدرها الاستاذ الخضری باثنتین و عشرین سنة و شهرین و اثنین و عشرین یوما معتبرا بدایته فی 17 رمضان و نهایته فی 9 ذی الحجة للسنة العاشرة للهجرة «1».
و قد ردّ علیه الأستاذ الزرقانی ردا رفیقا فی «مناهل العرفان» فقال:
(لكن هذا التحقیق لا یزال فی حاجة إلی تحقیقات ثلاثة لأنه ..) «2».

كمیة النازل فی كل نجم:

و كانت كمیة الآیات تتفاوت فی النزول، فأحیانا كانت تنزل آیة من
______________________________
(1) تاریخ التشریع الاسلامی ص 5.
(2) انظر تفصیل ذلك فی «مناهل العرفان» 1/ 45.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 57
القرآن علی النبی صلی اللّه علیه و سلم، و أحیانا ینزل بعض آیة كما فی قوله تعالی: غَیْرُ أُولِی الضَّرَرِ «1» حیث نزلت وحدها فی قوله تعالی: لا یَسْتَوِی الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ غَیْرُ أُولِی الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ «2».
و كما فی قوله تعالی: وَ إِنْ خِفْتُمْ عَیْلَةً فَسَوْفَ یُغْنِیكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ حَكِیمٌ «3» بعد قوله تعالی: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا یَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «3».
و أحیانا كانت تنزل علیه الآیتان و الخمس و العشر فقد نزل فی موضوع الإفك عشر آیات جملة واحدة من أول سورة النور «5».
و قد ذكر السیوطی فی «الاتقان» أن من السور التی نزلت جملة واحدة (الفاتحة) و (الكوثر) و (تبت) و (لم یكن) و (النصر) و (المعوذتان) و (المرسلات) «6» و ...

*** موقف المشركین من التنجیم:

كان تنجیم القرآن مثار الاعتراض من المشركین. و قد ذكر ذلك القرآن الكریم و أجاب عنه.
قال تعالی: وَ قالَ الَّذِینَ كَفَرُوا: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَیْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً.
______________________________
(1) انظر تفصیل ذلك فی «مناهل العرفان» 1/ 45.
(2) سورة النساء: 95 و انظر الحدیث فی «صحیح البخاری» 6/ 40 و «سنن أبی داود» 3/ 17 و «الترمذی» 4/ 91- 92.
(3) سورة التوبة: 28.
(5) من الآیة 11 حتی الآیة 21.
(6) «الاتقان» 1/ 37.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 58
كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِیلًا «1».
و من المفید ان ننقل تعلیق أبی شامة «2» علی الآیة كما أورده السیوطی فی «الاتقان» قال أبو شامة:
(فإن قیل: ما السر فی نزوله منجما؟ و هلا أنزل كسائر الكتب جملة؟
قلنا: هذا سؤال قد تولی اللّه جوابه فقال تعالی: وَ قالَ الَّذِینَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَیْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1» یعنون: كما أنزل علی من قبله من الرسل فأجابهم اللّه تعالی بقوله كَذلِكَ أی أنزلناه كذلك مفرقا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أی لنقوی به قلبك، فإن الوحی إذا كان یتجدد فی كل حادثة كان أقوی للقلب و أشد عنایة بالمرسل إلیه و یستلزم ذلك كثرة نزول الملك، و تجدد العهد به و بما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزیز فیحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، و لهذا كان أجود ما یكون فی رمضان لكثرة لقیاه جبریل) «4».

حكم التنجیم و أسراره:

و نستطیع ان نذكر من حكم التنجیم و أسراره ما یأتی:
1- تثبیت فؤاد النبی صلی اللّه علیه و سلم: لأن فی تجدد الوحی قوة لقلبه صلی اللّه علیه و سلم و استشعارا لعنایة اللّه برسوله، هذا فضلا عن مضمون الآیات المشجعة للرسول صلی اللّه علیه و سلم المعزیة له كما فی قوله تعالی: وَ اصْبِرْ عَلی ما یَقُولُونَ
______________________________
(1) سورة الفرقان: 32.
(2) هو عبد الرحمن بن اسماعیل المقدسی الدمشقی أبو القاسم شهاب الدین، مؤرخ محدث باحث ولد فی دمشق سنة 599 و فیها نشأ و ولی مشیخة دار الحدیث الاشرفیة. دخل علیه اثنان فی صورة مستفتیین فضرباه فمات فی دمشق سنة 665. لقب أبا شامة لشامة كبیرة كانت فوق حاجبه الأیسر. و انظر كلام أبی شامة فی كتابه «المرشد الوجیز» ص 28. و قد طبع فی بیروت 1395 (1975) بتحقیق طیار آلتی قولاج.
(4) الاتقان 1/ 41.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 59
وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِیلًا «1» و قوله: فَلا یَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما یُسِرُّونَ وَ ما یُعْلِنُونَ «2» و قوله: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلی آثارِهِمْ إِنْ لَمْ یُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِیثِ أَسَفاً «3» و قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَیَحْزُنُكَ الَّذِی یَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا یُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِینَ بِآیاتِ اللَّهِ یَجْحَدُونَ «4» و قوله:
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَیْهِمْ حَسَراتٍ «5».
2- تسهیل حفظه علی الرسول و المسلمین و تسهیل فهمه:
فإنه علیه الصلاة و السلام أمی لا یقرأ و لا یكتب، و كذلك كان العرب المسلمون، و قد سماهم اللّه أمیین هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولًا مِنْهُمْ «6».
و لئن كان النبی صلی اللّه علیه و سلم قد وعد بأنه سیعان علی الحفظ بحیث لا ینسی كما قال تعالی: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسی «7» إن المسلمین بحاجة إلی زمن یساعدهم علی الحفظ، و من أجل ذلك كان نزوله منجما.
3- موالاة تقریع الكفار بالحجة بعد الحجة، و تجدید تذكیرهم بانحرافهم و سوء عقیدتهم: لو نزل القرآن دفعة واحدة لواجه الكفار هذه التقریعات، و تألموا لها أول مرة، ثم ألفوها، و نسیها الناس.
4- استغلال الحوادث و الوقائع للرد علی المشركین و فضح المنافقین:
و هذه حكمة عظیمة من حكم التنجیم، فقد كانت الآیات القرآنیة
______________________________
(1) سورة المزمل: 10.
(2) سورة یس: 76.
(3) سورة الكهف: 6.
(4) سورة الانعام: 33.
(5) سورة فاطر: 8.
(6) سورة الجمعة: 2.
(7) سورة الاعلی: 6.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 60
النازلة فی حادثة معینة ترد علی المشركین و تفحمهم، و تفضح المنافقین و تكتشف خفایاهم، و هذا یجعلهم یتخوفون أبدا ان یكشفوا كما قال تعالی:
یَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَیْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِی قُلُوبِهِمْ. قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ «1».
5- تعمیق التأثیر فی النفس و التذكر:
ان ربط الآیة بالحادثة و الواقعة أدعی الی ان یتذكر الناس جمیعا هذه الآیة، و أعمق تأثیرا فی النفس البشریة.
لأن الآیة عندئذ تعالج جانبا من حیاة الناس عاشوه، و مثل ذلك من البعید ان ینسی.
و من الامثلة علی ذلك ربط آیة القذف بحادثة الإفك. و الأمثلة علی ذلك كثیرة.
6- رعایة المجتمع الاسلامی و الأخذ بیده فی الحیاة الجدیدة علی ضوء هدایة اللّه: ذلك لأن كثیرا من الآیات التشریعیة كانت تنزل فی الغالب جوابا عن سؤال كما فی قوله تعالی: یَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِیهِ قُلْ قِتالٌ فِیهِ كَبِیرٌ «2» أو حلا لاشكال لیس فی الكتاب الكریم رأی فیه. كما فی قصة مرثد الغنوی الذی عرضت علیه امرأة مشركة الرواج، فقبل و وقف ذاك علی إذن الرسول صلی اللّه علیه و سلم له، فلما عرض قضیته علی النبی صلی اللّه علیه و سلم نزل «3» قوله سبحانه: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّی یُؤْمِنَ «4».
______________________________
(1) سورة التوبة: 64.
(2) سورة البقرة: 217.
(3) هذا قول ابن عباس ذكره ابن الجوزی فی «زاد المسیر» 1/ 245 و قد روی هذه القصة بسیاق آخر الترمذیّ (4/ 153 من تحفة الاحوذی) و ذكر انها سبب لنزول الآیة التی فی أول سورة النور و هی قوله تعالی: الزَّانِی لا یَنْكِحُ إِلَّا زانِیَةً أَوْ مُشْرِكَةً و كذا رواه ابو داود 2/ 298 و النسائی 6/ 54- 55 و الطبری 18/ 56 و ابن كثیر 3/ 262.
(4) سورة البقرة: 221.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 61
و قد جلا هذه الناحیة علی خیر وجه الأستاذ سید قطب فقال:
(لقد جاء هذا القرآن لیربی أمة و ینشئ مجتمعا، و یقیم نظاما، و التربیة تحتاج إلی زمن، و إلی تأثیر و انفعال بالكلمة، و الی حركة تترجم التأثر و الانفعال إلی واقع. و النفس البشریة لا تتحول تحولا كاملا شاملا بین یوم و لیلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجدید. إنما تتأثر یوما بعد یوم بطرف من هذا المنهج و تتدرج فی مراقیه رویدا رویدا. و تعتاد علی حمل تكالیفه شیئا فشیئا. فلا تجفل كما تجفل لو قدّم لها ضخما ثقیلا عسیرا، و هی تنمو فی كل یوم بالوجبة المغذیة فتصبح بالتالی أكثر استعدادا للانتفاع بالوجبة التالیة، و أشد قابلیة لها و التذاذا بها.
و لقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحیاة كلها، و جاء فی الوقت ذاته بمنهاج للتربیة یوافق الفطرة البشریة عن علم بها من خالقها، فجاء لذلك منجما وفق الحاجات الحیة للجماعة المسلمة، و هی فی طریق نشأتها و نموها و وفق استعدادها الذی ینمو یوما بعد یوم فی ظل المنهج التربوی الالهی الدقیق، جاء لیكون منهج تربیة و منهاج حیاة، لا لیكون كتاب ثقافة یقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة .. جاء لینفذ حرفا حرفا، و كلمة كلمة و تكلیفا تكلیفا، جاء لتكون آیاته هی (الأوامر الیومیة) التی یتلقاها المسلمون فی حینها لیعملوا بها فور تلقیها، كما یتلقی الجندی فی ثكنته او فی المیدان (الأمر الیومی) مع التأثر و الفهم و الرغبة فی التنفیذ، و مع الانطباع و التكلیف وفق ما یتلقاه ... من أجل هذا كله نزل القرآن مفصلا) «1».
لقد كان الناس فی جزیرة العرب قبل الاسلام فی شرك و جهالة، و بعد عن ذاك المستوی الرفیع الذی جاء فی القرآن من توحید اللّه و عبادته وحده، و إرادة الخیر للناس، و تحریرهم من الظلم، و كان العالم كله فی حالة
______________________________
(1) «فی ظلال القرآن» 19/ 34.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 62
انحلال و جور و جهل، و كان أهل الكتاب قد حرّفوا كتبهم، و أحلوا الخرافات و الباطل مكان الحق .. فكان طبیعیا جدا ان یكون الكتاب الأخیر آخذا بمنهج التدرج فی التشریع لإصلاح ذلك الواقع قال تعالی:
وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَی النَّاسِ عَلی مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِیلًا «1».
و التدرج فی التشریع وسیلة رعایة المجتمع الاسلامی، و الأخذ بیده كما رأینا، و من أبرز الامثلة علی التدرج فی التشریع الآیات التی ذكر فیها الخمر.
فلقد حرمت الخمر بعد ان امتلأت نفوس المسلمین مخافة من اللّه و رغبة فی ثوابه، و حبا فی التزام هدیه.
و كان تحریم الخمر علی مراحل كما هو معروف:
- نزل أولا قوله تعالی: یَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَیْسِرِ قُلْ: فِیهِما إِثْمٌ كَبِیرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما «2».
فلم تصرح الآیة بطلب الكف عنهما، و لكنها اكتفت بذكر ان اثمهما اكبر من نفعهما، و فی ذلك تهیئة النفس لقبول ما سینزل من الآیات بحقهما.
- ثم نزل قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكاری حَتَّی تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ «3».
و فی هذه الآیة نجد المنع مؤقتا بحالة السكر. و معلوم ان المسلم مكلف بالصلاة فی أوقات متقاربة، لا یذهب خلالها أثر السكر، فكان ذلك سببا فی تركها سحابة النهار، و كانوا اذا صلوا العشاء سكر من أراد منهم السكر. و فی ذلك تدریب علی تركها مدة طویلة من یقظة الانسان.
______________________________
(1) سورة الاسراء: 106. لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر 62 حكم التنجیم و أسراره: ..... ص : 58
(2) سورة البقرة: 219 و انظر «تفسیر القرطبی» 3/ 52.
(3) سورة النساء: 43.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 63
- ثم نزل قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَیْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما یُرِیدُ الشَّیْطانُ أَنْ یُوقِعَ بَیْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِی الْخَمْرِ وَ الْمَیْسِرِ وَ یَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ. فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «1».
فانتهی المسلمون، و تركوا الخمر، و أهرقوا ما فی دورهم منها.
روی البخاری عن عائشة قالت:
(إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فیها ذكر الجنة و النار، حتی اذا ثاب الناس الی الاسلام نزل الحلال و الحرام. و لو نزل أول شی‌ء (لا تشربوا الخمر) لقالوا: لا ندع الخمر أبدا. و لو نزل (لا تزنوا) لقالوا:
(لا ندع الزنا أبدا) «2».
و كذلك فإنّ التدرج كان فی عقوبة الزنا أیضا، اذ كان الحبس فی البیوت حتی الموت للزانیات أو یجعل اللّه لهن سبیلا، ثم نزل الحد. جاء فی تفسیر الجلالین فی تفسیر قوله تعالی: وَ اللَّاتِی یَأْتِینَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَیْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِی الْبُیُوتِ حَتَّی یَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ یَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِیلًا «3»: [أمروا بذلك أول الإسلام، ثم جعل لهن سبیلا بجلد البكر مائة و تغریبها عاما و رجم المحصنة] و روی مسلم انه صلی اللّه علیه و سلم قال: «خذوا عنی، قد جعل اللّه لهن سبیلا البكر بالبكر جلد مائة و نفی سنة، و الثیب بالثیب جلد مائة و الرجم» «4».
______________________________
(1) سورة المائدة: 90- 91.
(2) «صحیح البخاری» 6/ 152 و انظر «الاتقان» 1/ 42 أقول: بهذا التدرج و الاعتماد علی العقیدة نجح الاسلام فی تحریم الخمر و القضاء علیه كما تقول السیدة عائشة، بینما أخفقت حكومة أمریكا عند ما أرادت منعه علی الرغم من الأموال و الجهود الكثیرة التی بذلتها و اضطرت إلی إباحته مرة اخری سنة 1933 و انظر «ما ذا خسر العالم» ص 91.
(3) سورة النساء: 15.
(4) «صحیح مسلم» 3/ 1316 ط عبد الباقی.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 64
7- اثبات الاعجاز:
فی التنجیم دلیل قاطع علی الاعجاز، و ذلك من وجهین:
الأول: فی كونه محافظا علی المستوی الرفیع فی البیان، و الدرجة العالیة فی البلاغة، ذلك لأننا لا نعرف فی مجال الأدب و البیان فصیحا استطاع ان یبقی محافظا علی مستوی سام فی نتاجه الادبی مدة طویلة. بل إننا لنجد ان للنابغین من أئمة البیان سقطات، و كلما زاد أحدهم تفوقا عظمت سقطته، فالمتنبی الذی ملأ الدنیا و شغل الناس و الذی ترك دویّا فی دنیا الفكر و الأدب كبیرا جدا نجد له عددا من الهفوات التی أخذت علیه «1» و كذلك شأن أبی تمام «2» و أبی نواس «3» و هما- كما یقول الجرجانی- سیدا المطبوعین و إماما أهل الصنعة «4» و كذلك شأن امرئ القیس و هو كبیر شعراء الجاهلیة فما اكثر الابیات التی عیبت علیه و أطال النقاد فی ذكرها.
قال الباقلانی:
(و متی تأملت شعر الشاعر البلیغ رأیت التفاوت فی شعره علی حسب الاحوال التی یتصرف فیها، فیأتی بالغایة فی البراعة فی معنی، فاذا جاء إلی غیره قصر عنه و وقف دونه، و بان الاختلاف علی شعره، و لذلك ضرب المثل بالذین سمیتهم «5»، لأنه لا خلاف فی تقدمهم فی صنعة الشعر و لا شك فی تبریزهم فی مذهب النظم، فإذا كان الاختلال یتأتی فی شعرهم لاختلاف ما یتصرفون فیه استغنینا عن ذكر من هو دونهم، و كذلك
______________________________
(1) انظر «الوساطة» للجرجانی ص 64- 77.
(2) انظر «الوساطة» للجرجانی ص 51- 62.
(3) انظر «الوساطة» للجرجانی ص 42- 51.
(4) انظر «الوساطة» للجرجانی ص 64.
(5) سمّی الباقلانی قبل هذا الكلام عددا من الشعراء و هم: امرؤ القیس و النابغة و زهیر فقال: [و لذلك ضرب المثل بامرئ القیس إذا ركب، و النابغة إذا رهب، و بزهیر اذا رغب.]
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 65
یستغنی به عن تفصیل نحو هذا فی الخطب و الرسائل و نحوها ... و قد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جمیع ما یتصرف فیه من الوجوه التی قدمنا ذكرها علی حد واحد فی حسن النظم و بدیع التألیف و الرصف لا تفاوت فیه، و لا انحطاط عن المنزلة العلیا، و لا إسفاف فیه إلی الرتبة الدنیا) «1».
و القرآن ادب كلما أمعنت نظرا فیه أطلعك علی نواح جدیدة من الجمال، و كلما تقدم الزمان بدا من روعة اسلوبه و سحر بیانه ما لم یكن بادیا. هذا فی القرآن علی طول المدة التی نجم فیها.
و كذلك فإن مما یتصل بهذا المعنی بسبب هو ان التنجیم یبرز معنی الإعجاز فی كون القرآن یعالج الموضوع الواحد اكثر من مرة، و یتكرر عرضه فی ظروف متعددة متباعدة و یبقی الاسلوب فی كل مرة رائعا معجزا.
قال الباقلانی:
(و كذلك قد یتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتا بینا، و یختلف اختلافا كبیرا، و نظرنا القرآن فیما یعاد ذكره من القصة الواحدة فرأیناه غیر مختلف و لا متفاوت، بل هو علی نهایة البلاغة، و غایة البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا یقدر علیه البشر لأن الذی یقدرون علیه قد بینّا فیه التفاوت الكثیر، عند التكرار و عند تباین الوجوه و اختلاف الأسباب) «2».
الثانی: فی كون الآیات نزلت فی أوقات متباعدة، و استجابة لأسباب معینة، و علی الرغم من ذلك فقد بدت السورة ذات موضوعات متماسكة، كل موضوع یمسك برقبة الذی بعده، و یسود السورة انسجام و ائتلاف
______________________________
(1) «إعجاز القرآن» ص 37 طبع دار المعارف تحقیق السید صقر.
(2) «إعجاز القرآن» تحقیق الصقر طبع دار المعارف ص 37- 38.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 66
و كأنها أنزلت مرة واحدة، و قد یكون أول السورة قد نزل بعد آخرها.
و قد حلل هذه الناحیة الدكتور محمد عبد اللّه دراز علی أحسن وجه فقال:
(اعمد إلی سورة من تلك السور التی تتناول اكثر من معنی واحد، و ما أكثرها فی القرآن، فهی جمهرته، و تنقل بفكرتك معها مرحلة مرحلة، ثم ارجع البصر كرتین: كیف بدأت؟ و كیف ختمت؟ و كیف تقابلت أوضاعها و تعادلت؟ و كیف تلاقت أركانها و تعانقت؟ و كیف ازدوجت مقدماتها بنتائجها؟ و وطأت أولاها لأخراها؟ و أنا لك زعیم بأنك لن تجد البتة فی نظام معانیها او مبانیها ما تعرف به أ كانت هذه السورة قد نزلت فی نجم واحد ام فی نجوم شتی، و لسوف تحسب ان السبع الطول من سور القرآن قد نزلت كل واحدة منها دفعة، حتی یحدثك التاریخ أنها قد نزلت نجوما) «1».
______________________________
(1) «النبأ العظیم» ص 173 و انظر ما كتب الدكتور دراز حول هذا الموضوع ص 161- 180.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 67

الفصل الخامس فی الآیة و السّورة

1- الآیة:

1- الآیة فی اللغة:

اشارة

تدل كلمة الآیة علی معان عدة، نذكر أهمها فیما یأتی:
1- المعجزة: و منه قوله تعالی: سَلْ بَنِی إِسْرائِیلَ كَمْ آتَیْناهُمْ مِنْ آیَةٍ بَیِّنَةٍ «1».
2- العلامة الظاهرة: و منه قوله تعالی: إِنَّ آیَةَ مُلْكِهِ أَنْ یَأْتِیَكُمُ التَّابُوتُ فِیهِ سَكِینَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «2». و قوله: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِی آیَةً قالَ آیَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَیَّامٍ إِلَّا رَمْزاً «3».
و منه قول العرب: بینی و بین فلان آیة، ای علامة. و منه قول النابغة:
توهمت آیات لها فعرفتهالستة أعوام و ذا العام سابع «4» 3- الامر العجیب: و منه قوله تعالی: وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْیَمَ وَ أُمَّهُ
______________________________
(1) سورة البقرة: 211.
(2) سورة البقرة: 248 و التابوت: الصندوق.
(3) سورة آل عمران: 41.
(4) دیوان النابغة ص 72.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 68
آیَةً «1». قال الراغب: (و انما قال: و جعلنا ابن مریم و أمه آیة و لم یقل:
آیتین. لأنّ كل واحد صار آیة بالآخر) «2».
4- العبرة: و منه قوله تعالی: إِنَّ فِی ذلِكَ لَآیَةً «3».
5- البرهان و الدلیل: و منه قوله تعالی: وَ مِنْ آیاتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ «4».
6- الجماعة: و منه قولهم: خرج القوم بآیتهم، او بآیاتهم أی بجماعتهم.
قال برج بن مسهر الطائی «5»:
خرجنا من النقبین لا حیّ مثلنا بآیاتنا نزجی اللقاح المطافلا***

وزنها:

اختلف علماء العربیة فی أصل (آیة) و وزنها.
- فقال سیبویه: (أییة) علی وزن (فعلة) مثل (أكمة) و (شجرة) فلما تحركت الیاء و انفتح ما قبلها انقلبت ألفا فصارت (آیة).
- و قال الكسائی: أصلها (آییة) علی وزن (فاعلة) مثل (آمنة) فقلبت الیاء ألفا لتحركها و انفتاح ما قبلها، ثم حذفت لالتباسها بالجمع.
- و قیل: غیر ذلك.
***______________________________
(1) سورة المؤمنون: 50.
(2) «مفردات الراغب» ص 32.
(3) سورة آل عمران: 49.
(4) سورة الروم: 22.
(5) شاعر جاهلی من المعمرین، كانت إقامته فی دیار طی بنجد و ذكر الزركلی فی «الاعلام» انه توفی نحو 30 قبل الهجرة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 69

اشتقاقها:

ذكر العلماء أقوالا فی اشتقاقها غیر أن أقربها للصواب القول بأنها مشتقة من (التأیّی) الذی هو التثبت و الاقامة علی الشی‌ء. یقال: تأیّ، أی ارفق.

*** جمعها:

آی، و آیات، و آیاء.

*** الآیة فی القرآن:

هی طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها و عما بعدها، لها مبدأ و مقطع، و هی مندرجة فی سورة و معرفتها توقیفیة علی القول الراجح.

*** كیف تعرف الآیات:

القول الراجح أن معرفة الآیات لا یكون إلا بخبر عن النبی صلی اللّه علیه و سلّم و هذا معنی قولنا (معرفة الآیات توقیفی). و قد سبق فی تعریف الآیة.
*** و هناك من یذهب إلی أن من الآیات ما معرفته سماعیة توقیفیة، و منها ما معرفته اجتهادیة، یقولون: ما ثبت أن النبی صلی اللّه علیه و سلّم وقف علیه دائما تحققنا أنه نهایة آیة، و ما وصله دائما تحققنا أنه لیس نهایة آیة، و ما وقف علیه مرة و وصله أخری احتمل الوقف أن یكون تعریف الفاصلة او للاستراحة، و بالاجتهاد نستطیع تحدید نهایة الآیة فی مثل ذلك.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 70

العلاقة بین المعنی اللغوی و القرآنی:

- سمیت الآیة آیة لأنها علامة لانقطاع الكلام الذی قبلها عن الذی بعدها و انفصاله. أی هی بائنة من أختها و منفردة.
و قالوا: الآیة من القرآن كأنها العلامة ینتقل منها الی غیرها كأعلام الطریق المنصوبة للهدایة.
- و قیل: سمیت آیة لأنها جماعة حروف من القرآن و طائفة منه.
- و قیل: سمیت آیة لأنها عجب یعجز البشر عن الاتیان بمثلها «1».

2- السورة:

اشارة

قال ابن فارس: السین و الواو و الراء أصل واحد یدلّ علی علوّ و ارتفاع «2».
فی نطقها لغتان: أولاهما (السؤرة) مهموزة، و الثانیة: (السورة) بلا همز، و هی الأشهر.
- أما الاولی- أی التی تهمز- فمشتقة من (أسأر) أی أبقی منها بقیة.
و (السؤر) البقیة التی تزید عن شرب الشارب فی الاناء.
و سمیت السؤرة سؤرة لأنها قطعت من القرآن علی حدة، فهی قطعة من القرآن.
- و أما الثانیة- أی التی لا تهمز- فقد قالوا فی اشتقاقها أقوالا كثیرة «3».
فقد قیل: إن أصلها (سؤرة) ثم سهلت الهمزة، و تكون العلاقة بین معناها اللغوی و القرآنی هی التی ذكرناها آنفا.
______________________________
(1) انظر «البرهان» 1/ 266 و «الاتقان» 1/ 68.
(2) «معجم مقاییس اللغة» 3/ 115.
(3) انظر «الاتقان» 1/ 52 و «نكت الانتصار» ص 57 و «البرهان» للزركشی 1/ 263.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 71
و قیل: هی من السورة التی تعنی فی كلام العرب المنزلة الرفیعة.
قال النابغة:
أ لم تر أن اللّه أعطاك سورةتری كل ملك دونها یتذبذب «1» أی منزلة شریفة ارتفعت الیها عن منزلة الملوك. و قال الحطیئة:
لعمری لنعم المرء لا متهاون‌عن السورة العلیا و لا متخاذل «2» و قال:
و أبناؤه بیض كرام نما بهم‌إلی السورة العلیا أب غیر توأم «3» و سمیت السورة سورة لارتفاعها و شرفها.
و قیل: هی من السور، و سور المدینة حائطها المشتمل علیها.
فالسورة تضم آیات من القرآن تحیط بها إحاطة السور و تشتمل علیها.
و قیل: سمیت بذلك لأن قارئها یشرف علی ما لم یكن عنده كسور البناء.
و قیل: سمیت بذلك لتمامها و كمالها، من قول العرب للناقة التامة:
سورة.

جمعها:

و جمع السورة سور، و سورات، و سورات.

السورة خاصة بالقرآن:

قال العلماء فی تعریف السورة: هی طائفة من آیات القرآن، مسمّاة باسم خاصّ، لها فاتحة و خاتمة، و أقلها ثلاث آیات.
و نقل السیوطی عن الجاحظ قوله:
______________________________
(1) «دیوان النابغة» ص 31.
(2) «دیوان الحطیئة» ص 24.
(3) «دیوان الحطیئة» ص 89.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 72
(سمی اللّه كتابه اسما مخالفا لما سمی العرب كلامهم علی الجمل و التفصیل:
سمّی جملته قرآنا كما سموا دیوانا، و بعضه سورة كقصیدة، و بعضها آیة كالبیت، و آخرها فاصلة كقافیة.) «1»

من سمی سور القرآن؟

ذهب السیوطی إلی أنها مسماة بتوقیف من النبی صلی اللّه علیه و سلّم و قال: (و قد ثبت جمیع أسماء السور بالتوقیف من الأحادیث و الآثار، و لو لا خشیة الاطالة لبینت ذلك) «2».
هذا، و قد یكون للسورة اسمان فأكثر، و الغالب أن لها اسما واحدا.
______________________________
(1) «الاتقان» 1/ 50 النوع السابع عشر.
(2) «الاتقان» 1/ 52.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 73

الفصل السّادس فی ترتیب آیات القرآن و سوره‌

1- ترتیب آیات السورة:

اشارة

أما ترتیب الآیات فی السورة الواحدة فقد كان فی عهد النبی صلی اللّه علیه و سلّم و باشارة منه، و هذا مدلول قول زید بن ثابت الذی رواه الحاكم بسند علی شرط الشیخین قال: «كنا عند رسول اللّه نؤلف القرآن من الرقاع» «1».
قال البیهقی: شبیه أن یكون المراد به تألیف ما نزل من الآیات المتفرقة فی سورها و جمعها فیه باشارة النبی صلی اللّه علیه و سلّم، فقد جاء فی حدیث عثمان الذی أخرجه أحمد و أبو داود و الترمذی و النسائی و ابن حبان أنه قال: كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلّم تنزل علیه السورة ذات العدد فكان إذا نزل علیه الشی‌ء دعا بعض من كان یكتب فیقول: ضعوا هؤلاء الآیات فی السورة التی یذكر فیها كذا و كذا. و فی روایة عنه قال: كان النبی صلی اللّه علیه و سلّم مما تنزل علیه الآیات فیدعو بعض من كان یكتب له و یقول له: «ضع هذه الآیة فی السورة التی یذكر فیها كذا و كذا، و تنزل علیه الآیة و الآیتان فیقول مثل ذلك» «2».
______________________________
(1) «المستدرك» 2/ 229 و 611.
(2) «أبو داود» 1/ 290 و «الترمذی» 4/ 113- 114 و «المسند» 1/ 57 و «المستدرك» 2/ 221 و 330 و «السنن الكبری» 2/ 42. و انظر «المرشد الوجیز» ص 33.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 74
و من الأدلة علی أن ترتیب الآیات توقیفی حدیث حذیفة الذی رواه مسلم فی «صحیحه» قال: صلیت مع النبی صلی اللّه علیه و سلم ذات لیلة فافتتح البقرة، فقلت: یركع عند المائة، ثم مضی، فقلت: یصلی بها فی ركعة، فمضی، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها «1» ... و هناك إجماع علی أنه توقیفی. لا خلاف فیه بین المسلمین.
قال الباقلانی:
(ترتیب الآیات أمر واجب و حكم لازم، فقد كان جبریل یقول:
ضعوا آیة كذا فی موضع كذا) «2» و قال أیضا:
(ان ترتیبه و نظمه ثابت علی ما نظمه اللّه تعالی و رتبه علیه رسوله من آی السور، لم یقدم من ذلك مؤخر، و لا أخر منه مقدم، و إن الأمة ضبطت عن النبی صلی اللّه علیه و سلم ترتیب آیات كل سورة و مواضعها و عرفت مواقعها كما ضبطت عنه نفس القراءة و ذات التلاوة) «3».
و قال شیخ الاسلام ابن تیمیة فی هذا الصدد:
(و أما ترتیب آیات السور فهو منزل منصوص علیه، فلم یكن لهم أن یقدموا آیة علی آیة فی الرسم كما قدموا سورة علی سورة لأن ترتیب الآیات مأمور به نصا و أما ترتیب السور فمفوض الی اجتهادهم) «4».
قال الاستاذ سید قطب رحمه اللّه:
إنّ وضع الآیات فی السور و ترتیبها فی مواضعها كان یتم بأمر رسول
______________________________
(1) «صحیح مسلم» 2/ 186 ط استانبول و 1/ 536 ط عبد الباقی. و انظر «ریاض الصالحین» باب المجاهدة ص 67.
(2) «الاتقان» 1/ 61 و انظر «عنوان البیان» لمخلوف 72.
(3) «الاتقان» 1/ 61 و انظر «المرشد الوجیز» ص 45.
(4) «مجموع الفتاوی» 13/ 396.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 75
اللّه صلی اللّه علیه و سلم فی حیاته، و إن سورا متعددة كانت تظل مفتوحة فی الوقت الواحد فاذا نزلت آیة أو آیات فی مناسبة واقعة تواجه واقعا قائما أو تكمل حكما او تعدله وفق المنهج الحركی الواقعی لهذا الدین أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم أن توضع فی موضعها من سورتها، و بذلك كانت هناك حكمة فی أن تتضمن كل سورة ما تضمنته من الآیات، و حكمة معینة كذلك فی ترتیبها فی مواضعها من السورة.
و لقد لاحظنا- كما أثبتنا ذلك مرارا فی التعریف بالسور- أن هناك «شخصیة» خاصة لكل سورة، و سمات معینة تحدد ملامح هذه الشخصیة، كما أن هناك جوا معینا و ظلالا معینة ثم تعبیرات بعینها فی السورة الواحدة تؤكد هذه الملامح و تبرز تلك الشخصیة) «1».

لما ذا لم ترتب الآیات حسب نزولها؟

شاءت إرادة اللّه أن یوحی الی الرسول صلی اللّه علیه و سلم بموضع الآیة من السورة كما رأینا، و أن یجمع علی غیر ترتیب نزوله لیظل معجزة الی أبد الآبدین.
و فی ذلك یقول الأستاذ محمد المدنی فی كتابه «المجتمع الاسلامی كما تصوره سورة النساء»:
(لو أنه جمع علی حسب ترتیب نزوله لفهم بعض الناس أن آیاته خاصة بحوادثها، أو أنه حلول وقتیة للمشكلات التی كانت علی عهد الرسول فحسب، و اللّه تعالی یرید كتابه عاما خالدا لا یختص بعصر دون عصر، و لا بقوم دون قوم. لذلك اقتضت الحكمة بأن یرتب ترتیبا یحقق هذا العموم و هذا الخلود، و یبتعد عن الترتیب الزمنی الذی نزل به لحكمة كانت مناسبة حین نزوله) «2».
______________________________
(1) «فی ظلال القرآن» 10/ 111.
(2) نقلا عن كتاب «القرآن و العلم الحدیث» لعبد الرزاق نوفل ص 14.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 76

2- ترتیب سور القرآن:

أما ترتیب السور فأمر مختلف فیه. فبعضهم یقول: إنّه توقیفی «1». و بعضهم یری أنه اجتهاد من الصحابة. و یستدلّ كل فریق بأدلة. فأما الذین یذهبون إلی انه باجتهاد من الصحابة، فقد قالوا: مما یدل علی ذلك اختلاف مصاحف السلف من الصحابة كعلی و ابن مسعود و أبی بن كعب و غیرهم فی هذه المصاحف من ناحیة ترتیب السور. و قد أشار الی هذا الخلاف القرطبی فی «التفسیر» «2» و السیوطی فی «الاتقان» «3». قال الباقلانی:
(یمكن ان یكون الرسول صلی اللّه علیه و سلم قد رتب سوره، و ان یكون قد وكل ذلك إلی الأمة بعده. و لم یتولّ ذلك بنفسه، و هذا الثانی أقرب) «4».
و ذكر أبو بكر الطرطوشی أنه قیل لمالك: كیف قدمت السور الكبار فی التألیف و قد نزل بعضه قبل بعض؟ قال: أجل، و لكن أراهم أنما ألفوه علی ما كانوا یسمعون من قراءة النبی صلّی اللّه علیه و سلّم «5».
و یری شیخ الاسلام ابن تیمیة أن ترتیب السور لم یكن واجبا علیهم منصوصا، بل كان مفوضا الی اجتهادهم، و لهذا كان ترتیب مصحف عبد اللّه علی غیر ترتیب مصحف زید و كذلك مصحف غیره «6».
و قد نقل السیوطی فی «الاتقان» أن جمهور العلماء علی ان ترتیب السور اجتهادی من الصحابة «7» و أورد رأیا لابن حجر یقول فیه: ترتیب بعض
______________________________
(1) «تناسق الدرر فی تناسب السور» للسیوطی 68 و 69 و «عنوان البیان» 73- 77.
(2) «تفسیر القرطبی» 1/ 51.
(3) «الاتقان» 1/ 62.
(4) «الاتقان» 1/ 61.
(5) «الحوادث و البدع» 97.
(6) «مجموع الفتاوی» 13/ 396.
(7) «الاتقان» 1/ 62.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 77
السور أو معظمها لا یمتنع أن یكون توقیفیا ثم ذكر أدلته علی ذلك «1».
و نقل السیوطی عن أبی عطیة أنه مال إلی أن كثیرا من السور كان قد علم ترتیبها فی حیاته صلی اللّه علیه و سلم كالسبع الطوال، و الحوامیم، و المفصّل. و أنّ ما سوی ذلك یمكن أن یكون فوّض الأمر فیه إلی الأمة بعده «2».
و مهما یكن من أمر فالذی أراه فی هذا الموضوع هو:
ان ترتیب السور كما هو فی المصحف واجب الاتباع، و ان كان فی بعضه أو معظمه یعود إلی ترتیب الصحابة. و لا یجوز أن ترتّب سور المصحف علی خلاف الترتیب الذی ارتضاه الصحابة رضوان اللّه علیهم، و انعقد الاجماع علیه فی الأجیال المتتالیة التی جاءت من بعدهم حتی عصرنا هذا، و ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن، و لذلك فإن ترتیب السور ترتیبا جدیدا یراعی فیه النزول أمر مخالف للإجماع و لا یجوز، و هو غیر ممكن، ذلك لأن هناك سورا نزل آخرها قبل أولها و استغرق نزولها مدة من الزمن.
أما ترتیب آیات السورة ترتیبا جدیدا فالأمر فیه أشد و هو محظور بإجماع المسلمین، بل قد حكم بعض العلماء بكفر من یفعل ذلك، لأن ترتیب آیات السورة- كما رأینا آنفا- كان بأمر من النبی صلی اللّه علیه و سلم بناء علی أمر جبریل.
و اللّه أعلم.
***______________________________
(1) «الاتقان» 1/ 63 و «تناسق الدرر» 70 و 71.
(2) «تناسق الدرر» 69 و «مقدمتان فی التفسیر» 276 و «البرهان» 1/ 257.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 78

الفصل السّابع فی إعجاز القرآن‌

اشارة

القرآن الكریم هو المعجزة الكبری لرسول اللّه محمد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و سلم.
و هذا یقتضینا ان نقدم بین یدی بحثنا فی الاعجاز حدیثا عن المعجزة.

المعجزة:

«1» المعجزة ظاهرة تكررت فی حیاة الأنبیاء صلوات اللّه علیهم، لتكون دلیلا علی صدق دعواهم النبوة. و قد قص القرآن الكریم علینا كثیرا من أنباء المعجزات التی جاءت مصدقة لرسل اللّه المتقدمین من أمثال ناقة صالح و عصا موسی، و ركوبه البحر، و إحیاء عیسی الموتی، و إبرائه الأكمه و الأبرص.
و لا بد فی المعجزة من أن تتوافر فیها أمور ثلاثة:
1- انها أمر خارق للعادة غیر جار علی ما اعتاد الناس من سنن الكون و الظواهر الطبیعیة. و لذا فهی غیر قابلة لتفسیرها علی نحو ما یجری عادة فی الحیاة.
2- انها أمر مقرون بالتحدی، تحدی المكذبین أو الشاكین، و لا بد
______________________________
(1) انظر «تعریف عام بدین الاسلام» 195- 211 و «نظام الاسلام: العقیدة و العبادة» 105- 108.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 79
أن یكون الذین یتحدون من القادرین علی إتیان مثل المعجزة إن لم تكن من عند اللّه، و إلا فإن التحدی لا یتصور، إذ أننا لا نستطیع ان نتصور بطلا فی الملاكمة یتحدی طفلا، لأن هذا الطفل عاجز عن مقابلته «1».
3- انها أمر سالم عن المعارضة، فمتی أمكن لأحد أن یعارض هذا الأمر و یأتی بمثله بطل أن یكون معجزة.
و المعجزة علی نوعین: حسیة و عقلیة.
و الملاحظ أن أكثر معجزات الأنبیاء السابقین كانت حسیة، بینما نجد ان المعجزة الكبری التی جاء بها نبینا محمد صلی اللّه علیه و سلم عقلیة، و نعنی بهذه المعجزة القرآن، و هناك معجزات أخری للنبی صلی اللّه علیه و سلم جاء فی الصحیح أخبارها و هی كثیرة «2».
و لعل مرد ذلك الی أن هذه الشریعة آخر الشرائع و ستبقی الی أبد الدهر الی یوم القیامة، و من أجل ذلك فقد خصت بالمعجزة العقلیة الباقیة، لیراها ذوو البصائر فی كل العصور و مهما تقدم الزمان.
... و هكذا فإن معجزات الانبیاء السابقین- علیهم السلام- قد انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم یشاهدها إلا من حضرها، بینما معجزة القرآن مستمرة الی یوم القیامة.
و بنحو من هذا الذی ذكرنا فسّر العلماء قوله صلی اللّه علیه و سلم فیما أخرجه البخاری و مسلم و غیرهما عن أبی هریرة:
______________________________
(1) و فی ذلك رد لزعم أبی إسحاق النظام من أن العرب سلبوا القدرة علی الاتیان بالقرآن مع امكانهم ذلك.
(2) و قد استوفی الكلام علیها القاضی عیاض فی كتابه القیم «الشفا فی حقوق المصطفی» و ابن كثیر فی «البدایة و النهایة» 6/ 65- 301 و ولید الأعظمی فی «المعجزات المحمدیة».
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 80
«ما من الأنبیاء نبی إلا أعطی ما مثله آمن علیه البشر، و إنما كان الذی أوتیته وحیا أوحاه اللّه الیّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تبعا یوم القیامة» «1».

*** الاعجاز:

كان القرآن معجزا للعرب ذوی الفصاحة و أولی البلاغة، تحداهم فلم یقدر أحد منهم علی معارضته، و قد قرّر القرآن ان مجرد سماع العرب لآیاته حجة كبری علیهم، و كفی هذا دلیلا علی إعجازه. قال تعالی فی صدد الرد علی طلبهم المعجزات مشیرا إلی أن هذا الكتاب یغنی عن كل معجزة: وَ قالُوا: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَیْهِ آیاتٌ مِنْ رَبِّهِ. قُلْ إِنَّمَا الْآیاتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَ إِنَّما أَنَا نَذِیرٌ مُبِینٌ. أَ وَ لَمْ یَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَیْكَ الْكِتابَ یُتْلی عَلَیْهِمْ «2».
فأخبر سبحانه: ان الكتاب الكریم الذی أنزله اللّه و الذی یتلی علیهم آیة من آیات اللّه كاف فی الدلالة علی صدق نبوته، قائم مقام معجزات كثیرة. فلما ذا یطلب هؤلاء القوم الآیات؟ أولا یكفیهم هذا الكتاب الذی یفوق كل معجزات الأنبیاء السابقة فی الدلالة علی نبوته؟
و یقول تعالی: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِینَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّی یَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ «3».
______________________________
(1) رواه البخاری فی كتاب فضائل القرآن فی باب كیف نزل الوحی و أول ما نزل 6/ 150 و فی كتاب الاعتصام فی باب قول النبی صلی اللّه علیه و سلم «بعثت بجوامع الكلم» 9/ 75 و رواه مسلم فی كتاب الایمان فی باب وجوب الایمان برسالة نبینا محمد صلی اللّه علیه و سلم 1/ 92 و انظر «اللؤلؤ و المرجان» 1/ 30 و انظر شرح الحدیث فی «فتح الباری» 9/ 6 و فی «شرح مسلم» للنووی 2/ 186 و «البدایة و النهایة» 6/ 69 و «الاتقان» 2/ 116 حیث نقل عن شراح الحدیث كلاما وافیا. و انظر «مبارق الازهار فی شرح مشارق الأنوار» لابن الملك 1/ 303.
(2) سورة العنكبوت: 50- 51.
(3) سورة التوبة: 6.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 81
و إذا سمع كلام اللّه و تذوقه قاده ذلك إلی الإیمان ان كان من المنصفین، لأنه لا یسمعه متذوق منصف إلا و ینتهی به إلی الإیمان.
هذا و قد أید الواقع التاریخی ذلك، فقد حدثتنا كتب السیرة انّ مجرد سماع العربی للقرآن كان یوقفه علی المعجزة العظمی، و یحمله ذلك علی الایمان. و أدرك ذلك كفار قریش، فكانوا ینهون عن سماع القرآن، كما حكی اللّه سبحانه ذلك عنهم: وَ قالَ الَّذِینَ كَفَرُوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِیهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «1».
و كانوا یسعون جهدهم للحیلولة بین رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم و بین من یأتی من وفود العرب الی مكة. و من ذلك ما جاء فی «سیرة ابن هشام» عن اسلام الطفیل بن عمرو الدوسی:
(قدم الطفیل مكة، و رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم بها، فمشی إلیه رجال من قریش، و كان الطفیل شریفا شاعرا لبیبا. فقالوا له: یا طفیل إنك قدمت بلادنا، و هذا الرجل الذی بین اظهرنا قد أعضل بنا «2»، و قد فرق جماعتنا، و شتت أمرنا، و إنما قوله كالسحر، یفرق بین الرجل و بین أبیه، و بین الرجل و بین زوجته، و إنما نخشی علیك و علی قومك ما قد دخل علینا. فلا تكلمنّه و لا تسمعن منه شیئا. قال الطفیل: فو اللّه ما زالوا بی حتی أجمعت ان لا اسمع منه شیئا، و لا أكلمه، حتی حشوت فی أذنی حین غدوت إلی المسجد كرسفا «3» فرقا من أن یبلغنی شی‌ء من قوله و أنا لا أرید أن أسمعه.
فغدوت إلی المسجد، فاذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم قائم یصلی عند الكعبة، فقمت منه قریبا، فأبی اللّه إلا أن یسمعنی بعض قوله، فسمعت كلاما
______________________________
(1) سورة فصلت: 26.
(2) أی اشتد أمره بنا.
(3) الكرسف: القطن.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 82
حسنا، فقلت فی نفسی: وا ثكل أمی، و اللّه انی لرجل لبیب شاعر، ما یخفی علیّ الحسن من القبیح، فما یمنعنی أن أسمع من هذا الرجل ما یقول؟
فإن كان الذی یأتی به حسنا قبلته، و ان كان قبیحا تركته.
فمكثت حتی انصرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم الی بیته، فاتبعته، حتی اذا دخل بیته دخلت علیه، فقلت: یا محمد إن قومك قد قالوا لی كذا و كذا ..
فو اللّه ما برحوا یخوفوننی امرك حتی سددت اذنی بكرسف لئلا اسمع قولك، ثم أبی اللّه إلا أن یسمعنی قولك، فسمعت قولا حسنا، فاعرض علیّ أمرك. فعرض علیّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم، و تلا علیّ القرآن. فلا و اللّه ما سمعت قولا قط أحسن منه، و لا أمرا أعدل منه، فأسلمت و شهدت شهادة الحق) «1».
و من أشهر الذین دخلوا فی الاسلام بسبب إعجابهم باعجاز القرآن:
عمر بن الخطاب و أسید بن حضیر و سعد بن معاذ و غیرهم.
قال الاستاذ سید قطب:
(سحر العرب منذ اللحظة الأولی، سواء منهم فی ذلك من شرح اللّه صدره للاسلام، و من جعل علی بصره غشاوة.
و إذا تجاوزنا عن النفر القلیل الذین كانت شخصیة محمد صلی اللّه علیه و سلم وحدها هی داعیتهم إلی الایمان فی أول الأمر. كزوجه خدیجة. و صدیقه أبی بكر.
و ابن عمه علی، و مولاه زید، و أمثالهم، فإننا نجد القرآن كان العامل الحاسم، أو أحد العوامل الحاسمة فی ایمان من آمنوا أوائل أیام الدعوة، یوم لم یكن لمحمد صلی اللّه علیه و سلم حول و لا طول، و یوم لم یكن للاسلام قوة و لا منعة.
______________________________
(1) «سیرة ابن هشام» 2/ 130 المطبوعة مع الروض الأنف و «البدایة و النهایة» 3/ 98- 101 و «تقریب السیرة النبویة لابن هشام» تصنیف محمد الشبراوی ص 145 و ما بعدها، و انظر تتمة القصة هناك و كیف كان هذا الرجل داعیة إلی الاسلام بعد ذلك.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 83
و قصة ایمان عمر بن الخطاب و تولی الولید بن المغیرة نموذجان من قصص كثیرة للایمان و التولی، و كلتاهما تكشف عن هذا السحر القرآنی الذی أخذ العرب منذ اللحظة الأولی، و تبینان فی اتجاهین مختلفین عن مدی هذا السحر القاهر الذی یستوی فی الاقرار به المؤمنون و الكافرون) «1».
و قصة ایمان عمر معروفة «2»، و أما قصة تولی ابن المغیرة فیحسن أن نذكر بها:
و موضوع الشاهد منها أن قریشا أوفدت أبا جهل الیه یطلب منه أن یقول فی القرآن قولا یعلم منه الناس جمیعا أنه كاره له، فأجابه الجواب الآتی الذی یدل علی تأثره بجمال القرآن: (ما ذا أقول فیه؟ فو اللّه ما منكم رجل أعلم منی بالشعر و لا برجزه و لا بقصیده، و لا بأشعار الجن، و اللّه ما یشبه الذی یقوله شیئا من هذا، و اللّه إن لقوله لحلاوة، و إن علیه لطلاوة، و انه لیحطم ما تحته، و إنه لیعلو و ما یعلی علیه).
قال ابو جهل: و اللّه لا یرضی قومك حتی تقول فیه.
قال: فدعنی افكر فیه.
فلما فكر قال: (إن هذا إلا سحر یؤثر، أما رأیتموه یفرق بین الرجل و أهله و موالیه).
و فی ذلك یقول القرآن الكریم: إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ، فَقُتِلَ كَیْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَیْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ، فَقالَ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ یُؤْثَرُ «3».
______________________________
(1) «التصویر الفنی فی القرآن» ص 11.
(2) أنظرها فی «سیرة ابن هشام» 2/ 95 و «البدایة و النهایة» 3/ 79 و «تقریب السیرة» ص 124- 130.
(3) سورة المدثر: 18- 24 و قد أخرج هذه القصة الحاكم عن ابن عباس و انظر «الاتقان» 2/ 117 و «تفسیر القرطبی» 19/ 74 و «سیرة ابن هشام» 2/ 11 و «البدایة و النهایة» 3/ 61 و «تقریب السیرة» ص 94.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 84
و قد كتب الجاحظ مقالة فی موضوع الاعجاز أری أن اوردها هنا، فإنها مقالة جدیرة بالاهتمام، قال الجاحظ:
(بعث اللّه محمدا صلی اللّه علیه و سلم أكثر ما كانت العرب شاعرا و خطیبا، و احكم ما كانت لغة، و أشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها و أدناها إلی توحید اللّه، و تصدیق رسالته، فدعاهم بالحجة، فلما قطع العذر، و أزال الشبهة، و صار الذی یمنعهم من الاقرار الهوی و الحمیة دون الجهل و الحیرة، حملهم علی حظهم بالسیف. فنصب لهم الحرب، و نصبوا له و قتل من علیتهم و أعلامهم و أعمامهم و بنی أعمامهم، و هو فی ذلك یحتج علیهم بالقرآن، و یدعوهم صباحا و مساء الی أن یعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة، أو بآیات یسیرة، فكلما ازداد تحدیا لهم بها، و تقریعا لعجزهم عنها، تكشف عن نقصهم ما كان مستورا، و ظهر منه ما كان خفیا، فحین لم یجدوا حیلة و لا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك یمكنك ما لا یمكننا، قال: فهاتوها مفتریات.
فلم یرم ذلك خطیب، و لا طمع فیه شاعر ... فدل ذلك العاقل علی عجز القوم مع كثرة كلامهم، و سهولة ذلك علیهم، و كثرة شعرائهم، و كثرة من هجاه منهم، و عارض شعراء أصحابه و خطباء أمته، لأن سورة واحدة و آیات یسیرة كانت أنقض لقوله، و أفسد لأمره، و أبلغ فی تكذیبه، و أسرع فی تفریق أتباعه من بذل النفوس، و الخروج من الأوطان، و إنفاق الأموال. و هذا من جلیل التدبیر الذی لا یخفی علی من هو دون قریش و العرب فی الرأی و العقل بطبقات، و لهم القصید العجیب، و الرجز الفاخر، و الخطب الطوال البلیغة، و القصار الموجزة، و لهم الاسجاع و المزدوج، و اللفظ المنثور، ثم یتحدی به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم. فمحال- أكرمك اللّه- أن یجتمع هؤلاء كلهم علی الغلط فی الأمر الظاهر، و الخطأ المكشوف البین، مع التقریع بالنقص، و التوقیف علی العجز، و هم أشد الخلق أنفة، و أكثرهم مفاخرة، و الكلام سید عملهم، و قد احتاجوا الیه،
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 85
و الحاجة تبعث علی الحیلة فی الأمر الغامض فكیف بالظاهر الجلیل المنفعة؟
فكذلك محال أن یتركوه و هم یعرفونه و یجدون السبیل الیه و هم یبذلون أكثر منه) «1».

*** مدار الاعجاز:

الاعجاز دلیل النبی صلی اللّه علیه و سلم علی صدق نبوته، و علی أن هذا القرآن تنزیل من حكیم حمید، و مدار الاعجاز الذی رافقه التحدی إنما كان اسلوب القرآن و نظمه و بیانه، و لم یكن لشی‌ء خارج عن ذلك و آیات التحدی كثیرة.
لقد تحدی الانس و الجن أن یأتوا بمثله فعجزوا عن ذلك مع توافر دواعی اعدائه علی معارضته و فصاحتهم و بلاغتهم.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلی أَنْ یَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا یَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِیراً «2». أَمْ یَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا یُؤْمِنُونَ. فَلْیَأْتُوا بِحَدِیثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِینَ «3».
ثم تحداهم أن یأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا:
أَمْ یَقُولُونَ افْتَراهُ. قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَیاتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِینَ. فَإِلَّمْ یَسْتَجِیبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «4».
ثم تنازل الی التحدی بسورة من مثله فعجزوا عنه و هم یعلمون عجزهم
______________________________
(1) الاتقان» 2/ 117.
(2) سورة الاسراء: 88.
(3) سورة الطور: 34.
(4) سورة هود: 13- 14.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 86
و تقصیرهم عن ذلك، و أن هذا ما لا سبیل لأحد إلیه أبدا: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِی رَیْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلی عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِینَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِی وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِینَ «1».
قال الامام ابن كثیر رحمه اللّه:
(و مثل هذا التحدی انما یصدر عن واثق بأن ما جاء به لا یمكن للبشر معارضته و لا الاتیان بمثله، و لو كان من متقول من عند نفسه لخاف أن یعارض فیفتضح، و یعود علیه نقیض ما قصده من متابعة الناس له.
و معلوم لكل ذی لب أن محمدا صلی اللّه علیه و سلم من أعقل خلق اللّه، بل أعقلهم و أكملهم علی الاطلاق، فما كان لیقدم علی هذا الامر إلّا و هو عالم بأنه لا یمكن معارضته.
و هكذا وقع، فانه من لدن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم و الی زماننا هذا لم یستطع أحد أن یأتی بنظیره و لا نظیر سورة منه، و هذا لا سبیل إلیه أبدا) «2».
* أما إخبار القرآن عن الأمم السابقة فدلیل علی صدق نبوة الرسول صلی اللّه علیه و سلم، و لكنه لیس هو موضع الاعجاز الذی رافقه التحدی، و ذلك كاخباره عن نوح و عاد و ثمود و فرعون و غیرهم: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَیْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ، وَ قَدْ آتَیْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً «3».
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُری نَقُصُّهُ عَلَیْكَ، مِنْها قائِمٌ وَ حَصِیدٌ «4».
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَیْبِ نُوحِیها إِلَیْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِینَ «5» و قال تعالی مخبرا عن
______________________________
(1) سورة البقرة: 23 و ما بعدها.
(2) «البدایة و النهایة»: 6/ 65.
(3) سورة طه: 99.
(4) سورة هود: 100.
(5) سورة هود: 49.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 87
بهتان الیهود: وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلی مَرْیَمَ بُهْتاناً عَظِیماً وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِیحَ عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ رَسُولَ اللَّهِ، وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ، وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِینَ اخْتَلَفُوا فِیهِ لَفِی شَكٍّ مِنْهُ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ، وَ ما قَتَلُوهُ یَقِیناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَیْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِیزاً حَكِیماً «1».
* و كذلك فان إخبار القرآن عن الغیوب المستقبلة یقوم دلیلا علی صدق نبوة محمد صلی اللّه علیه و سلم «2»، و علی أن هذا القرآن من عند اللّه، و لكنه لیس موضع الاعجاز الذی رافقه التحدی، و ذلك كاخباره عن انتصار الروم علی الفرس الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِی أَدْنَی الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَیَغْلِبُونَ فِی بِضْعِ سِنِینَ «3». و كاخباره عما سیكون علیه الصحابة عَلِمَ أَنْ سَیَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضی وَ آخَرُونَ یَضْرِبُونَ فِی الْأَرْضِ یَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ «4» و هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة. و كاخباره عن انتصار المسلمین فی المستقبل أَمْ یَقُولُونَ نَحْنُ جَمِیعٌ مُنْتَصِرٌ سَیُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ یُوَلُّونَ الدُّبُرَ «5» و قد وقع مصداق هذه الهزیمة یوم بدر بعد ذلك. و كإخباره بدخولهم المسجد الحرام محلقین رءوسهم لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْیا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِینَ مُحَلِّقِینَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِینَ لا تَخافُونَ «6» فدخلوه بعد سنة معتمرین، و دخلوه بعد سنتین فاتحین. و كاخباره بالاشارة الموحیة عن حدوث وسائط
______________________________
(1) سورة النساء: 157- 158.
(2) ذكر البغدادی فی «الفرق بین الفرق» ص 128 أنّ من فضائح أبی الهذیل قوله: إن نظم القرآن و حسن تألیف كلماته لیس بمعجزة للنبی صلی اللّه علیه و سلم و لا دلالة علی صدقه فی دعواه النبوة، و إنما وجه الدلالة منه علی صدقه ما فیه من الاخبار عن الغیوب.
(3) سورة الروم: 1- 2 و انظر تفصیل هذا الإخبار فی كتاب «الاسلام یتحدی» لوحید الدین خان من ص 194 حتی ص 204.
(4) سورة المزمل: 20.
(5) سورة القمر: 44- 45.
(6) سورة الفتح: 27.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 88
للنقل جدیدة غیر الوسائل المعروفة و ذلك فی قوله سبحانه وَ الْخَیْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِیرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِینَةً وَ یَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ «1».
* و كذلك فان ما تضمنه القرآن من الاخبار عن السرائر و دخائل النفوس من غیر ان یظهر منهم بقول أو فعل دلیل علی صدق نبوته، و علی ان هذا القرآن من عند اللّه و لكنه لیس موضع الاعجاز الذی رافقه التحدی، و ذلك كاخباره عن حدیث نفس خطر ببالهم، فأطلع اللّه علیه نبیه صلی اللّه علیه و سلم و أنزل قوله: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا «2» وَ اللَّهُ وَلِیُّهُما وَ عَلَی اللَّهِ فَلْیَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ «3» و الطائفتان هما بنو حارثة و بنو سلمة اللتان همتا بالتقاعد عن الخروج یوم أحد. و كاخباره عن قول قاله الیهود فی أنفسهم: وَ یَقُولُونَ فِی أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا یُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ. حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ یَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِیرُ «4».
* و كذلك فان احتواء القرآن علی شریعة كاملة صالحة لكل زمان و مكان امر یدل علی صدق نبوة محمد صلی اللّه علیه و سلم، و علی أن هذا القرآن من عند اللّه، و لكنه لیس هو موضع الاعجاز الذی رافقه التحدی.
* و كذلك فان اشتمال القرآن علی نظرات صائبة الی حقائق الكون، و إشارات صادقة الی بعض الامور العلمیة فی الكون و الانسان التی كشف عنها العلم الحدیث «5» .. ان ذلك یدل علی صدق نبوة محمد صلی اللّه علیه و سلم، و علی ان
______________________________
(1) سورة النحل: 8 و أنظر أخبارا أخری أوردها محمد بن إبراهیم الوزیر المتوفی 840 فی كتابه «البرهان القاطع فی إثبات الصانع و جمیع ما جاءت به الشرائع» ص 32- 33 ط المطبعة السلفیة بمصر 1349.
(2) أی أن تجبنا و تضعفا.
(3) سورة آل عمران: 122.
(4) سورة المجادلة: 8.
(5) أنظر امثلة علیها فی كتب التفسیر العلمی. و منها ما نقره و منها ما نرده و نأباه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 89
هذا القرآن من عند اللّه، و لكنه لیس هو موضع الاعجاز الذی رافقه التحدی.
* إذن فالاعجاز الذی رافقه التحدی إنما هو فی اسلوب القرآن و نظمه، و لیس فی شی‌ء خارج عن ذلك مما أشرنا الیه آنفا و إن كانت كلها ممّا یعجز البشر عن ان یأتوا بمثلها و هی دلیل علی صدق النبی صلی اللّه علیه و سلم و لكن بحثنا عن الإعجاز الذی رافقه التحدی، و قد جلا هذه الفكرة الكاتب الكبیر الاستاذ سید قطب رحمه اللّه تعالی فقال:
(كیف استحوذ القرآن علی العرب هذا الاستحواذ؟ و كیف اجتمع علی الاقرار بسحره المؤمنون و الكافرون سواء؟
بعض الباحثین ینظر الی القرآن جملة ثم یجیب. و بعضهم یذكر غیر النسق الفنی للقرآن أسبابا اخری یستمدها من موضوعاته بعد أن صار كاملا:
* من تشریع دقیق صالح لكل زمان و مكان.
* و من إخبار عن الغیب یتحقق بعد أعوام.
* و من علوم كونیة فی خلق الكون و الانسان.
و لكن البحث علی هذا النحو انما یثبت المزیة للقرآن مكتملا، فما القول فی السور القلائل التی لا تشریع فیها و لا غیب و لا علوم، و لا تجمع بطبیعة الحال كل المزایا المتفرقة فی القرآن.
ان هذه السور القلائل قد سحر العرب بها منذ اللحظة الاولی، و فی وقت لم یكن التشریع المحكم، و لا الاغراض الكبری هی التی تسترعی إحساسهم و تستحق منهم الاعجاب.
لا بدّ إذن ان تلك السور القلائل كانت تحتوی علی العنصر الذی
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 90
یسحر المستمعین و یستحوذ علی المؤمنین و الكافرین، و إذا حسب الاثر القرآنی فی اسلام المسلمین فهذه السور الاولی تفوز منه بالنصیب الأوفی مهما یكن عدد المسلمین من القلة فی ذاك الاوان، ذلك أنهم إذ ذاك تأثروا بهذا القرآن وحده .... یجب إذن ان نبحث عن منبع السحر فی القرآن قبل التشریع المحكم، و قبل النبوءة الغیبیة، و قبل العلوم الكونیة.
فقلیل القرآن الذی كان فی أیام الدعوة الاولی كان مجردا من هذه الأشیاء التی جاءت فیما بعد، و كان مع ذلك محتویا علی هذا النبع الأصیل الذی تذوقه العرب فقالوا: إن هذا إلّا سحر یؤثر) «1».
و قال أیضا:
(قصة تولی الولید بن المغیرة واردة فی سورة المدثر، و هی السورة الثالثة غالبا فی ترتیب النزول، سبقتها العلق و سورة المزمل، أو هی علی العموم من السور الأولی فی القرآن. فلننظر فی هذه السور، إننا نقرأ الآیات المكیة فی هذه السور فلا نجد تشریعا محكما و لا علوما كونیة و لا نجد إخبارا بالغیب. فأین هو السحر الذی تحدث عنه ابن المغیرة بعد التفكیر و التقدیر؟) «2».
ثم أخذ الاستاذ سید قطب فی تحلیل سورة العلق و سورة المزمل لیؤكد ما ذكره من أن موضوع الجمال الفنی هو الذی سحر العرب، و هو بالتالی الذی كان موضع الإعجاز.
ثم عمد إلی النظر بشكل عام و إجمالی فی الآیات و السور التی سبقت فی النزول سورة طه، ذلك لان آیات من هذه السورة كانت السبب فی إیمان عمر بن الخطاب الذی سحر بالقرآن و جماله.
______________________________
(1) «التصویر الفنی فی القرآن» ص 17- 18.
(2) «التصویر الفنی فی القرآن» ص 18- 19.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 91
قال الاستاذ سید قطب:
(و اننا لننظر فلا نجد فیها جمیعا الا القلیل من تلك الاغراض التی یراها بعض الباحثین أكبر مزایا القرآن، و لكننا نجد فی هذه السور جمالا فی العرض، و قوة فی الاداء، و ایقاعا فی العبارة، و إیحاء فی الاشارة، علی نحو فرید.
و نجد القضیة الاعتقادیة التی تتولی عرضها معروضة فی إطار من مشاهد الكون و مشاعر النفس تستجیش الحسّ و تستنهض الخیال) «1».
و هكذا أثبت الاستاذ سید بالدلیل الملزم أن إعجاز القرآن الذی رافقه التحدی، و كان معه هذا الاعجاب و السحر إنما كان بلفظه و نسقه و بیانه و نظمه، و لیس بشی‌ء خارج عن ذلك «2».
و من المعلوم أن العرب لم یستطیعوا أن یأتوا بشی‌ء مما تحداهم، مع ما نعلم من حرصهم علی ان یقطعوا حجته، و من لددهم فی الخصومة، و مع ما نعرف من فصاحتهم و قدرتهم علی البیان فلمّا عجزوا عن معارضته و الاتیان بسورة تشبهه علی كثرة الخطباء فیهم و البلغاء، نادی علیهم باظهار العجز بالآیة التی سبق أن اوردناها، و هی قوله تعالی: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلی أَنْ یَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا یَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِیراً «3».
بل لم ینقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه بشی‌ء من ذلك، لأنهم كانوا من المعرفة علی جانب یصدهم عن مثل هذه المحاولة الحمقاء، و كذلك كانوا أمناء علی البلاغة لا یغالطون فیها و لا یكابرون، فعدلوا الی المعاندة
______________________________
(1) «التصویر الفنی فی القرآن» ص 23.
(2) و انظر أیضا مقدمة استاذنا محمود محمد شاكر لكتاب «الظاهرة القرآنیة» لمالك بن نبی رحمه اللّه.
(3) سورة الاسراء: 88.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 92
و الاستهزاء، و الی أن یقولوا: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِیرُ الْأَوَّلِینَ «1» أو أن یقولوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ یُؤْثَرُ «2».
ثم بعد ذلك ارتضوا أن یحكموا السیف فی أعناقهم، و سبی ذراریهم و حرمهم، و استباحة أموالهم .. فلو علموا أن الاتیان بمثله فی قدرتهم لبادروا إلیه لأنه كان أهون علیهم.

القول بالصرفة:

زعم النظّام «3»، و هو من ائمة المعتزلة فی العصر العباسی، أن اللّه تعالی صرف العرب عن معارضته، و كان مقدورا لهم.
و قد أنكر هذا القول الباطل «4» جمهرة علماء اللغة و الدین، و تولوا الرد علیه منذ أیام الجاحظ ثم القاضی عبد الجبار المعتزلی «5» حتی العصر الحاضر، و نورد فیما یأتی طائفة من أقوال العلماء فی استنكار هذا الرأی.
* قال الباقلانی رحمه اللّه:
(علی أن ذلك لو لم یكن معجزا علی ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع لكان مهما حط من رتبة البلاغة فیه، و وضع من مقدار الفصاحة فی نظمه، كان أبلغ فی الأعجوبة إذا صرفوا عن الاتیان بمثله، و منعوا عن معارضته، و عدلت دواعیهم عنه، فكان یستغنی عن انزاله علی النظم البدیع، و اخراجه
______________________________
(1) سورة الانفال: 31.
(2) سورة المدثر: 25.
(3) هو إبراهیم بن سیار، أبو اسحاق النظام، توفی سنة 231 ه.
(4) بل نقل الإمام عبد الواحد التمیمی فی كتابه «اعتقاد الإمام المنبل أبی عبد اللّه أحمد ابن حنبل» أنّ الإمام أحمد [كان یكفر من یقول: إن القرآن مقدور علی مثله، و لكنّ اللّه تعالی منع من قدرتهم. بل هو معجز فی نفسه، و العجز قد شمل الخلق] انظر «طبقات الحنابلة» 2/ 302.
(5) قال محمود محمد شاكر فی مقدمته لكتاب «دلائل الاعجاز» ص 5:
[لأن القاضی عبد الجبار نفسه، و هو إمام المعتزلة فی زمانه، ردّ مقالة «الصرفة» و نقضها فی كتاب «المغنی» 16/ 323- 328].
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 93
فی المعرض الفصیح العجیب، علی أنه لو كانوا صرفوا لم یكن من قبلهم من أهل الجاهلیة مصروفین عما كان یعدل به فی الفصاحة و البلاغة و حسن النظم و عجیب الرصف .. فلما لم یوجد فی كلام من قبله مثله علم أن ما ادعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان ... و مما یبطل ما ذكروه من القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة، و إنما منع منها الصرفة لم یكن الكلام معجزا، و إنما یكون المنع هو المعجز، فلا یتضمن الكلام فضیلة علی غیره فی نفسه) «1».
* و قال ابن تیمیة رحمه اللّه:
(و من أضعف الاقوال قول من یقول من أهل الكلام: إنه معجز بصرف الدواعی مع قیام الموجب لها، أو بسلب القدرة الجازمة، و هو أن اللّه صرف قلوب الامم عن معارضته مع قیام المقتضی التام، أو سلبهم القدرة المعتادة فی مثله سلبا عاما) «2» ثم قال: (الصواب المقطوع به ان الخلق كلهم عاجزون عن معارضته لا یقدرون علی ذلك، و لا یقدر محمد نفسه من تلقاء نفسه علی أن یبدل سورة من القرآن، بل یظهر الفرق بین القرآن و بین سائر كلامه لكل من له أدنی تدبر) «2».
* و قال ابن كثیر رحمه اللّه:
(و أما من زعم من المتكلمین ان الإعجاز إنما هو من صرف دواعی الكفرة عن معارضته مع امكان «4» ذلك، أو هو سلب قدرتهم علی ذلك فقول باطل) «5» ثم قال:
(فالخلق كلهم عاجزون حقیقة و فی نفس الأمر عن الإتیان بمثله، و لو تعاضدوا و تناصروا علی ذلك، لا تقدر الرسل الذین هم أفصح الخلق
______________________________
(1) «اعجاز القرآن» تحقیق السید صقر ص 29- 30.
(2) «الجواب الصحیح» 4/ 76.
(4) فی الاصل: (مع انكار ذلك) و هو تصحیف.
(5) «البدایة و النهایة» 6/ 69.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 94
و أعظم الخلق و أكملهم أن یتكلموا بمثل كلام اللّه. و هذا القرآن الذی یبلغه الرسول صلی اللّه علیه و سلم عن اللّه أسلوب كلامه لا یشبه أسالیب كلام رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم ...) «1».
* و قال الدكتور محمد عبد اللّه دراز رحمه اللّه:
(هذا هو القول بالصرفة الذی اشتهر عن النظام من المعتزلة، و هو و ان كان اعترافا فی الجملة بصحة الإعجاز إلا أنه لا یقول به إلا أعجمی و شبهه ممن لم یذق للبلاغة طعما، و لذلك لم یتابعه علیه تلمیذه الجاحظ، و لا أحد من علماء العربیة، و هو یعد خلاف ما عرف العرب من أنفسهم كما سنبینه) «2».
* و قال الاستاذ سید قطب رحمه اللّه:
(أما الرأی القائل بصرفهم عن المحاولة فلیس له وزن یقام) «3».
* و قد لخص السیوطی الأفكار التی یتضمنها الرد بأربعة:
1- قوله تعالی: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ ... «4» یدل علی عجزهم مع بقاء قدرتهم، و لو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم، لأنهم عندئذ یكونون كالموتی، و لیس عجز الموتی مما یحتفل بذكره.
2- أجمع العلماء علی ان الإعجاز مضاف إلی القرآن. فكیف یكون معجزا و لیس فیه صفة إعجاز؟ بل المعجز هو اللّه تعالی حیث سلبهم القدرة.
3- یلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال زمن التحدی.
______________________________
(1) «البدایة و النهایة» 6/ 69.
(2) «النبأ العظیم» ص 89 و اقرأ الرد علی هذا القول ص 62 من المصدر نفسه.
(3) «التصویر الفنی فی القرآن» ص 15.
(4) سورة الاسراء: 88.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 95
و یخلو القرآن عندئذ من الإعجاز. و فی ذلك خرق لإجماع الأمة ان معجزة الرسول العظمی باقیة، و لا معجزة له باقیة سوی القرآن.
4- لو كانت المعارضة ممكنة و انما منع منها الصرفة لم یكن الكلام معجزا، و إنما یكون بالمنع معجزا، فلا یتضمن الكلام فضیلة علی غیره فی نفسه «1».

*** تلخیص:

و نستطیع أن نلخص- فیما یأتی- الأمور التی لا بد من معرفتها فی موضوع الإعجاز:
1- قلیل القرآن و كثیره فی شأن الإعجاز سواء.
2- الإعجاز فی أسلوب القرآن و نظمه و بیانه. و خصائصه الفنیة مباینة للمعهود من خصائص البیان البشری.
3- ما فی القرآن من إخبار بالغیب و حدیث عن الماضی بدقائقه و تفصیلاته، و إخبار بدخائل النفس و أسرارها، و كشف عن حقائق علمیة و كونیة، و إحكام فی التشریع یضمن مصالح الناس ... كل ذلك بمعزل عن هذا التحدی المفضی إلی الإعجاز و إن كان دلیلا علی انه من عند اللّه، و لكنه لا یدل علی ان نظمه و بیانه مباین لنظم كلام البشر و انه بهذه المباینة كلام رب العالمین «2».
4- العرب الذین تحداهم القرآن هم أئمة البیان و الفصاحة، و لدیهم
______________________________
(1) «الاتقان» 2/ 118 و انظر فی الرد علی القائلین بالصرفة «نكت الانتصار» للصیرفی ص 286 و كتاب «لوامع الانوار البهیة» للسفارینی 1/ 174.
(2) انظر مقدمة محمود محمّد شاكر لكتاب «الظاهرة القرآنیة».
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 96
القدرة علی تمییز ما كان من كلام البشر، و ما لیس من كلامهم، و قد أدركوا أنهم بالتحدی طولبوا بأن یأتوا بمثل هذا الكلام.
5- إن هذا التحدی لم یقصد به الإتیان بمثل معانی القرآن، بل قصد أن یأتوا بما یستطیعون افتراءه و اختلاقه من كل معنی أو غرض مما یعتلج فی نفوس البشر.
6- هذا التحدی مستمر إلی یوم القیامة و موجه الی الثقلین أیضا.
7- و أخیرا فإن العرب الذین نزل علیهم هذا القرآن كانوا یحسون بجماله و یدركون إعجازه، و استمر الأمر كذلك جیلین من الناس الی أن داخلت العجمة سواد الناس فأفسدت سلائقهم، و بدأت العلوم و المعارف الدخیلة تتسرب إلی حیاتهم، و قام دجالون مغرضون یریدون تشویه حقیقة الإسلام و ساعدهم علی تحقیق غرضهم بعد الناس عن تذوق القرآن و كان من هؤلاء الجعد بن درهم «1» الذی كان یقول بخلق القرآن و ینفی عن اللّه ما أثبت لنفسه من صفات فی القرآن، ثم جاء النظام إبراهیم بن سیار فقال بالصرفة. ورد علیه الجاحظ فی كتابه «نظم القرآن».
و قد أكثر المعتزلة من إثارة قضیة إعجاز القرآن، و كذلك فإن عددا من علماء أهل السنة المتذوقین للبیان العربی كتبوا فی ذلك من أمثال الإمام عبد القاهر الجرجانی «2» و الرازی «3» و الزملكانی «4».
***______________________________
(1) هو مبتدع له آراء ضالة و ذكره بعضهم فی الزنادقة. قتله خالد بن عبد اللّه القسری سنة 118 ه. و انظر «المیزان» 1/ 399 و «البدایة و النهایة» 9/ 350 و «لسان المیزان» 2/ 105 و «تاریخ الجهمیة و المعتزلة» لجمال الدین القاسمی ص 36- 37 ط مؤسسة الرسالة 1401 (1981).
(2) هو الامام الكبیر واضح اسس البلاغة، و الذواقة عبد القاهر الجرجانی المتوفی سنة 471 ه.
(3) هو محمد بن عمر التیمی البكری المتوفی سنة 606 ه صاحب التفسیر.
(4) هو عبد الواحد بن عبد الكریم بن خلف الانصاری الزملكانی المتوفی سنة 651 ه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 97
و من الكتب المؤلفة فی القرنین الرابع و الخامس عن إعجاز القرآن:
كتاب الرمانی و هو «النكت فی إعجاز القرآن» «1» و مؤلفه هو علی بن عیسی الرمانی المتوفی 384 ه، و كتاب الخطابی و هو «بیان إعجاز القرآن» «1» و مؤلفه هو حمد بن محمد الخطّابی المتوفی سنة 388 ه و كتاب الباقلانی و هو «إعجاز القرآن» «3» و مؤلفه هو أبو بكر محمد بن الطیب الباقلانی المتوفی سنة 403 ه. و كتب الجرجانی و هی «الرسالة الشافیة فی إعجاز القرآن» «1» و «دلائل الإعجاز» «5» و «اسرار البلاغة» «5» و مؤلفها هو الامام المشهور عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانی المتوفی سنة 471.

ترجمة القرآن:

هذا و إن مما یتصل بموضوع إعجاز القرآن و سمو بیانه موضوع ترجمة القرآن و الحق فی هذه المسألة التی كثر الأخذ و الرد فیها ان نقرر ان ترجمة القرآن أمر مستحیل، لأن أی نص بلیغ تتعذر ترجمته فی أی لغة من لغات الأرض فما القول بالكلام الآلهی المعجز؟
أما تفسیر معانی آیاته بغیر اللغة العربیة فأمر لا مانع منه، بل إنه واجب، و لكنه لا یسمی قرآنا بحال من الأحوال «7».
______________________________
(1) طبع هذا الكتاب فی دار المعارف بمصر تحت عنوان «ثلاث رسائل فی إعجاز القرآن» بتحقیق محمد خلف اللّه و محمد زغلول سلام. ثم أعاد تحقیق هذا الكتاب محمود محمد شاكر و ألحقه بنشرته لكتاب «دلائل الاعجاز» للجرجانی من 575 إلی 628.
(3) طبع أكثر من مرة، و من أجود طبعاته طبعة السید صقر.
(5) طبع أكثر من مرة، و أجود طبعاته طبعة محمود محمد شاكر التی صدرت عام 1404.
(7) انظر فی ترجمة القرآن: «تفسیر الرازی» 1/ 209 و «الموافقات» للشاطبی و مقال محمد الخضر حسین فی ترجمة القرآن مجلة نور الاسلام السنة الثانیة 1350 (1931 م) و «بلاغة القرآن» لمحمد الخضر حسین جمع علی الرضا التونسی طبع دمشق (1391) 12- 21 و 60- 63 و «الفرقدان النیران فی بعض المباحث المتعلقة بالقرآن» للشیخ محمد سعید البانی و «القول الفصل فی ترجمة القرآن إلی اللغات الاعجمیة» للشیخ محمد شاكر طبع مصر سنة 1343 ه و «مسألة ترجمة القرآن» لمصطفی صبری، و «حدث الاحداث
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 98
______________________________
فی الاسلام الاقدام علی ترجمة القرآن» لمحمد سلیمان و «الادلة العلمیة علی جواز ترجمة معانی القرآن إلی اللغات الأجنبیة» لمحمد فرید و جدی و «مناهل العرفان» 2/ 3- 69 و انظر ما كتبه محمد مصطفی المراغی شیخ الجامع الازهر فی كراسة أعاد نشرها فی بیروت سنة 1401 ه (1981 م) صلاح الدین المنجد بعنوان «بحث فی ترجمة القرآن و أحكامها» و انظر «مجلة الأزهر» المجلد السابع و «المعجزة الكبری» لمحمد أبو زهرة 611- 619 و «ترجمة القرآن الكریم غرض للسیاسة و فتنة فی الدین» لمحمد الههیاوی و «ترجمة القرآن» لعبد اللّه شحادة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 99

الباب الثانی تاریخ جمع القرآن‌

اشارة

سنتحدث فی هذا الباب عن كتابة القرآن فی عهد النبی صلی اللّه علیه و سلم، ثم عن جمعه فی صحف، أیام أبی بكر، ثم عن نسخه فی مصاحف أئمة، أیام عثمان، و سنتحدث أیضا عن كتابة المصحف و تطورها، و عن جواز كتابته بالإملاء المصطلح علیه بین الناس، و عن نشره و طباعته.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 101

الفصل الأول فی كتابة القرآن فی عهد النبیّ صلی اللّه علیه و سلم‌

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم أمیا لا یقرأ و لا یكتب، و قد وصفه القرآن الكریم بأنه أمی فقال عز و جل: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِیِّ الْأُمِّیِ «1».
و كان صلی اللّه علیه و سلم حریصا علی حفظ ما ینزل علیه حرصا جعله یسابق الملك و یعجل بتلاوة ما انزل علیه قبل أن یفرغ و یحرك به لسانه و شفتیه «2» حتی نزل علیه قوله تعالی: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَیْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَیْنا بَیانَهُ «3» جاء فی صحیحی البخاری و مسلم و غیرهما عن ابن عباس: (ان علینا أن نبینه بلسانك. قال:
و كان إذا أتاه جبریل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده اللّه) «2». و قال تعالی: فَتَعالَی اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ یُقْضی إِلَیْكَ وَحْیُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِی عِلْماً «5».
و كان صلی اللّه علیه و سلم یخشی أن ینسی شیئا منه حتی تعهد اللّه له بعدم نسیان شی‌ء منه و ذلك بقوله سبحانه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسی «6» أی لا تتعب
______________________________
(1) سورة الأعراف: 158.
(2) رواه البخاری 6/ 160 و مسلم 2/ 35 و الترمذی 4/ 209 من «تحفة الاحوذی».
(3) سورة القیامة: 16- 19.
(5) سورة طه: 114.
(6) سورة الأعلی: 6.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 102
نفسك و لا تعجل بالقراءة انك لا تنسی «1».
و كان صلی اللّه علیه و سلم إذا ما انتهی الوحی تلا الآیات التی أنزلت و أمر كتبة الوحی بكتابتها بین یدیه فیكتبونها. و كانوا یكتبون علی الرقاع و العسب و اللخاف و العظام «2».
و كتاب الوحی عدیدون أحصی أسماءهم عدد من العلماء و كان من أكثرهم استیعابا الحافظ العراقی إذ ذكر اثنین و أربعین كاتبا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم «3» وعدهم البرهان الحلبی فی (حواشی الشفا) فأوصلهم الی ثلاثة و أربعین «4». و من أشهرهم الخلفاء الأربعة و معاویة بن أبی سفیان و زید بن ثابت و أبی بن كعب. و لیس من شك فی أن كتبة الوحی فی مكة كانوا أقل عددا من كتبة الوحی فی المدینة، كما كانت مهمة الكتابة ذاتها لم تأخذ طابعها الرسمی الذی أخذته فی المدینة. و مهما یكن من أمر فمن المقطوع به أن الكتابة بدأت مع تنزل الوحی، و أن الصحابة كانوا یكتبون الآیات القرآنیة فی رقاع و مخطوطات شخصیة لاستعمالهم، و إننا لنقرأ فی
______________________________
(1) انظر «المرشد الوجیز» ص 29- 30 و «تفسیر الجلالین» سورة الأعلی.
(2) الرقاع: تكون من الجلد و الرق و الكاغد. و العسب: الاطراف العریضة من جرید النخل كانوا یكشفون الخوص و یكتبون فی الطرف العریض. و اللخاف: صفائح الحجارة و هی جمع لخفة. و العظام معروفة و أشهرها الاكتاف كما جاء فی روایة أخری. و انظر شرحها فی «فتح الباری» 9/ 22 و «الإتقان» 1/ 58.
(3) انظر «شرح الالفیة فی السیرة» ص 44 و «التراتیب الإداریة» للكتانی 1/ 116.
(4) «التراتیب الاداریة» للكتانی 1/ 117 و انظر فی كتاب الوحی «تاریخ دمشق» لابن عساكر و «بهجة المحافل» لابن عبد البر، و «الاستیعاب» له عند ترجمة زید، و «عیون الأثر» لابن سید الناس 1/ 315 ط القدسی 1351 و «إمتاع الاسماع» للمقریزی 1/ 101 و «فتح الباری» 9/ 23 و «تهذیب الأسماء و اللغات» للنووی 1/ 29 و «المرشد الوجیز» 46 و «كتاب النبی» لمحمد مصطفی الأعظمی و «تفسیر القرطبی» 13/ 353 و «حاشیة الشبراملسی علی المنهج» عند كتاب القضاء و «حواشی الشفا» للبرهان الحلبی و «المطالع النصریة» للهورینی ص 14 و «عنوان البیان فی علوم التبیان» لمحمد حسنین مخلوف ص 68.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 103
السیرة ان إسلام عمر كان بسبب قراءته آیات وجدها مكتوبة عند اخته «1».
إن عدد كتبة الوحی قلیل بالنسبة الی جماهیر المسلمین القراء الذین كانوا یحفظون القرآن بعد أن یتلقوه مشافهة من الرسول صلی اللّه علیه و سلم، و الذین كانوا یرددون آیاته آناء اللیل و أطراف النهار، فنحن نقرأ فی أخبارهم أن القرآن ملأ حیاتهم كلها، فإذا أووا إلی المسجد كانت تلاوة القرآن دیدنهم، و إذا سحب اللیل بثیابه السود علی الأرض قاموا فی هدوء اللیل یتهجدون بالقرآن تسمع لهم دویا به و حنینا.
إنّ من المؤكد المقطوع به أنّ القرآن كتب كله فی عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم لكنه لم یكن مجموعا فی موضع واحد. قال زید بن ثابت عن القرآن:
(و قبض النبی صلی اللّه علیه و سلم و لم یكن جمع فی شی‌ء) «2» و ذلك لما نعلم من أن سور القرآن كان معظمها مفتوحا و معرضا لأن تنزل آیات توضع فی بعضها، إذ ثبت كما مر أن الرسول صلی اللّه علیه و سلم كان یأمر الكتبة أن: «ضعوا الآیة بعد آیة كذا من السورة التی یذكر فیها كذا و كذا» «3» و لما كان یتوقع من ورود ناسخ لبعض احكامه أو تلاوته. فلما انقضی نزوله بوفاته ألهم اللّه الخلفاء الراشدین ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه علی هذه الأمة «4».
***______________________________
(1) انظر «سیرة ابن هشام» 2/ 95 و «البدایة و النهایة» 3/ 79 و انظر «مدخل الی القرآن الكریم» لمحمد عبد اللّه دراز ص 34- 35.
(2) انظر «فتح الباری» 9/ 9 و «الاتقان» 1/ 57.
(3) انظر «السنن الكبری» 2/ 42 و المراجع التی سبق أن ذكرتها فی الفصل السادس فی ترتیب آیات القرآن و سوره. و انظر مقدمة تفسیر سورة التوبة فی «ظلال القرآن» 10/ 111 من المجلد الرابع.
(4) هذا قول الخطابی. و انظره فی «الاتقان» 1/ 57.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 104

الفصل الثانی كتابته فی عهد أبی بكر

كان جمع القرآن فی موضع واحد فی عهد أبی بكر الصدیق رضی اللّه عنه، و ذلك بعد معركة الیمامة التی كانت سنة 12 ه «1»، و قد قتل فیها كثیرون كان عدد كبیر منهم من القراء، جاء فی خبر هذه المعركة- كما یروی الطبری- أنه (قتل من المهاجرین و الأنصار من أهل قصبة المدینة یومئذ ثلاثمائة و ستون. قال سهل: و من المهاجرین من غیر أهل المدینة و التابعین ثلاثمائة) «2» و قال: زید بن طلحة: قتل یوم الیمامة من قریش سبعون، و من الأنصار سبعون، و من سائر العرب خمسمائة «3». و فی البخاری عن قتادة قال:
(ما نعلم حیا من أحیاء العرب أكثر شهیدا و أعز یوم القیامة من الأنصار).
قال قتادة: (حدثنا أنس أنه قتل منهم یوم أحد سبعون، و یوم بئر معونة سبعون و یوم الیمامة سبعون) «4».
______________________________
(1) هذا قول، و هناك قول آخر أنها كانت سنة 11 و الجمع بینهما ان ابتداءها كان فی سنة 11 و الفراغ منها كان فی سنة 12.
(2) انظر «تاریخ الطبری» 3/ 296 و «البدایة و النهایة» 6/ 325.
(3) «مختصر السیرة» لعبد اللّه بن محمد بن عبد الوهاب ص 475.
(4) و انظر «البدایة و النهایة» 6/ 323 و ما بعدها. و انظر «صحیح البخاری».
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 105
و یروی لنا قصة جمع القرآن زید بن ثابت فیقول:
(أرسل إلیّ أبو بكر بعد مقتل أهل الیمامة، فإذا عمر عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتانی فقال: إن القتل استحرّ «1» یوم الیمامة بقراء القرآن و إنی أخشی أن یستحرّ القتل بالقراء فی المواطن، فیذهب كثیر من القرآن).
فقلت لعمر: كیف نفعل شیئا لم یفعله رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم؟.
قال عمر: هو و اللّه خیر.
فلم یزل یراجعنی حتی شرح اللّه صدری لذلك. قال أبو بكر یخاطب زیدا:
إنك شاب عاقل لا نتهمك، و قد كنت تكتب الوحی لرسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم فتتبع القرآن فاجمعه.
فو اللّه «2» كلفونی نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علیّ مما أمرنی به من جمع القر قلت: كیف یفعلون شیئا لم یفعله رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم؟.
قال: هو و اللّه خیر.
فلم یزل یراجعنی حتی شرح اللّه صدری للذی شرح اللّه له صدر أبی بكر و عمر. قال زید: فتتّبعت القرآن أجمعه من العسب و اللخاف و صدور الرجال ... و كانت الصحف عند أبی بكر حتی توفاه اللّه، ثم عند عمر حیاته، ثم عند حفصة بنت عمر) «3».
______________________________
(1) أی اشتد.
(2) هذا من كلام زید.
(3) الحدیث رواه البخاری فی «صحیحه» 6/ 150 و الترمذی 4/ 122 و البیهقی فی «السنن الكبری» 2/ 41 و قد نقله الزركشی فی «البرهان» 1/ 233 و السیوطی فی «الاتقان»
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 106
و فی كلام أبی بكر رضی اللّه عنه ذكر للدوافع التی حملته علی ترشیح زید لهذا العمل. و قد ذكرها ابن حجر فی «الفتح» فقال:
(ذكر له أربع صفات مقتضیة خصوصیته بذلك:
1- كونه شابا، فیكون أنشط لما یطلب منه.
2- و كونه عاقلا، فیكون أوعی له.
3- و كونه لا یتهم، فتركن النفس إلیه.
4- و كونه كان یكتب الوحی، فیكون أكثر ممارسة له.
و هذه الصفات التی اجتمعت له قد توجد فی غیره لكن مفرقة) «1».
و تدل الروایات العدیدة أن عمر بن الخطاب ساعد زیدا مساعدة تامة فی هذا الموضوع، و لا عجب فی ذلك، فانه صاحب الفكرة و هو الذی اقترحها علی أبی بكر رضی اللّه عنهما. جاء فی «كتاب المصاحف» «2» لابن أبی داود أنّ أبا بكر قال لعمر و زید: اقعدا علی باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدین علی شی‌ء من كتاب اللّه فاكتباه «3».
و قد فسره الشیخ علم الدین أبو الحسن علی بن محمد بن عبد الصمد السخاوی المتوفی سنة 643 ه فی كتابه «جمال القراء و كمال الاقراء» بأن المراد أنهما یشهدان علی أن ذلك المكتوب كتب بین یدی رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم.
______________________________
عنه 1/ 57 و انظر أیضا فی «جامع الاصول» 3/ 53. و ذكر محمد عبد اللّه دراز رحمه اللّه فی كتابه «مدخل الی القرآن الكریم» ص 36 هذه الروایة و علق علیها قائلا: (بعد أن أورد لوبلواLEBLOIS هذه الروایة أردف قائلا: من ذا الذی لم یتمن لو أن أحدا من تلامیذ عیسی الذین عاصروه قام بتدوین تعالیمه بعد وفاته مباشرة) قال ذلك فی كتابه «القرآن و التوراة العبریة» ص 47 مذكرة 5.
(1) «فتح الباری» 9/ 13.
(2) كتاب «المصاحف» ص 6.
(3) قال ابن حجر فی «فتح الباری» 9/ 15: و رجاله ثقات مع انقطاعه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 107
و كان غرضهم- علی ما یقول ابو شامة- أن لا یكتب إلا من عین ما كتب بین یدی النبی صلی اللّه علیه و سلم لا من مجرد الحفظ «1».
و یدل هذا علی زیادة فی التحری، و مبالغة فی الاحتیاط، فزید حافظ للقرآن و قد أوتی حظا كبیرا من المعرفة بكتاب اللّه، و مع ذلك فلم یكن یكتفی بأن یوافق حفظ غیره حفظه، بل كان یطلب مع ذلك شیئا مكتوبا، و یطلب من یشهد له علی أن هذه الكتابة كانت بین یدی النبی صلی اللّه علیه و سلم أی لم یكن یكتفی بمجرد وجدانه مكتوبا حتی یشهد به من تلقاه سماعا «2».
قال اللیث بن سعد: «أول من جمع القرآن أبو بكر، و كتبه زید.
و كان الناس یأتون زید بن ثابت، فكان لا یكتب آیة إلا بشاهدی عدل» «3» و نقل السیوطی عن كتاب «المصاحف» أن عمر قال: من كان تلقی من رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم شیئا من القرآن فلیأت به و كانوا یكتبون ذلك فی الصحف و الألواح و العسب، و كان لا یقبل من أحد شیئا حتی یشهد شهیدان و هذا یدل علی أنّ زیدا كان لا یكتفی بمجرد وجدانه مكتوبا حتی یشهد به من تلقاه سماعا مع كون زید كان یحفظ القرآن، فكان یفعل ذلك مبالغة فی الاحتیاط «4».
و نقل ابن حجر فی «فتح الباری» «5» عن كتاب «المصاحف» «6» ثناء علی بن أبی طالب علی صنیع أبی بكر رضی اللّه عنهما فقال: (و یؤیده ما
______________________________
(1) «الاتقان» 1/ 58 و انظر «المرشد الوجیز» 57.
(2) انظر «المصاحف» لابن ابی داود ص 5 و قد نقل ذلك عنه السیوطی فی «الاتقان» 1/ 57.
(3) «الاتقان» 1/ 58.
(4) «الاتقان» 1/ 58.
(5) «فتح الباری» 9/ 12.
(6) انظر «كتاب المصاحف» ص 5.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 108
أخرجه ابن أبی داود فی «المصاحف» باسناد حسن عن عبد خیر قال:
سمعت علیا یقول: أعظم الناس أجرا أبو بكر رحمة اللّه علی أبی بكر، هو أول من جمع كتاب اللّه).
إذن فقد تولی أمر الجمع أحد كتاب الوحی الثقات العارفین، و هو زید ابن ثابت الأنصاری، الذی كان من أكثر الناس حفظا للقرآن، و كان یساعده فی ذلك عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، و كانت خطتهما التوثق من نقل ما كتب بین یدی النبی صلی اللّه علیه و سلم مما یحفظانه، و أن یشهد الثقات العدول بأن الكتابة كانت علی مرأی من الرسول صلّی اللّه علیه و سلّم.
و كانت الكتابة علی قراطیس و صحف كما جاء فی «الاتقان» «1» (عن ابن عمر قال: جمع أبو بكر القرآن فی قراطیس). و جمعت هذه الصحف فی مكان واحد بعد أن كانت علی عسب و لخاف و رقاع و أكتاف فی أمكنة متعددة. و قد بذل زید جهودا ضخمة إذ أنه استطاع انجاز ذلك فی سنة و فی خلافة أبی بكر رضی اللّه عنه.
و یظهر أنه كان الی جانب هذا العمل الرسمی الذی تولته الدولة محاولات فردیة من قبل بعض الصحابة، فقد جمع القرآن فی صحف الصحابی الجلیل أبی بن كعب، و كذلك فعل المقداد بن عمرو، و عبد اللّه ابن مسعود، و أبو موسی الأشعری.
فقرأ أهل دمشق علی نسخة أبی و أهل حمص علی نسخة المقداد و أهل الكوفة و البصرة علی نسختی عبد اللّه بن مسعود و أبی موسی الأشعری.
و بعد أن انتهی زید من عملیة الجمع سلم ما جمعه الی الخلیفة أبی بكر الذی احتفظ به الی أن توفی فآلت هذه الصحف الی الخلیفة عمر لأن أبا
______________________________
(1) «الاتقان» 1/ 59 و «الفتح» 9/ 16 و أورد أبو شامة قریبا من هذا الخبر فی «المرشد الوجیز» 59- 62- 64- 70.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 109
بكر عهد بها إلیه لأنه المرشح للخلافة، ثم قام عمر بتسلیمها الی ابنته حفصة أم المؤمنین فی آخر حیاته لأن الخلیفة الثالث لم یكن قد بویع فی ذلك الوقت «1».
***______________________________
(1) «المدخل الی القرآن الكریم» ص 37.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 110

الفصل الثالث نسخ المصاحف أیام عثمان رضی اللّه عنه‌

كلمة المصحف:

المصحف مثلثة المیم. و قیل: ان الفتح لا یعرف إلا من قبل الكسائی.
و المصحف: مأخوذ من أصحف، أی جعلت فیه الصحف المكتوبة بین دفتین جمعت فیه «1».
و هناك خبر فی «كتاب المصاحف» لابن اشته، ذكره السیوطی فی «الاتقان» «2» یدل علی أن هذه الكلمة كانت قبل زمان عثمان. و هو:
عن ابن بریدة قال: أول من جمع القرآن فی مصحف سالم مولی أبی حذیفة، أقسم لا یرتدی برداء حتی یجمعه، فجمعه، ثم ائتمروا ما یسمونه، فقال بعضهم: سموه السفر قال: ذلك تسمیة الیهود، فكرهوه. فقال: رأیت مثله بالحبشة یسمی: المصحف، فاجتمع رأیهم علی أن یسموه المصحف. و قال السیوطی تعلیقا علی هذا الخبر: اسناده منقطع. و أخرج ابن أبی شیبة فی كتاب «المصاحف» أن أول من سمّی المصحف مصحفا هو أبو بكر «3».
______________________________
(1) انظر «مختار الصحاح» «و القاموس» و «تاج العروس» و «لسان العرب».
(2) انظر «الاتقان» 1/ 58.
(3) «التراتیب الإداریة» 2/ 281 نقلا عن السیوطی فی كتابه «الوسائل إلی معرفة الأوائل» و ذكر عبد السلام هارون فی «تحقیق النصوص و نشرها» ص 11 [أنّ عمر أول من جمع
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 111

سبب نسخ المصاحف و طریقة النسخ:

یبدو أن خلافا وقع بین المسلمین فی قراءتهم للقرآن و مردّه الی أمرین:
1- اختلاف الحروف و اللهجات و الروایات.
2- اختلاف ما بین أیدیهم من الصحف التی جمعها ناس من الصحابة أشرنا الی بعضهم فی الفصل السابق. و الأمر الثانی مترتب علی الأمر الأول، فإنّ اختلاف الصحف التی یقرأ بها الناس مقصور علی اختلاف الحروف و اللهجات.
یدل علی ذلك الاختلاف ما رواه البخاری عن أنس قال:
(قدم حذیفة بن الیمان علی عثمان- و كان یغازی أهل الشام فی فتح ارمینیة و أذربیجان مع أهل العراق فأفزع حذیفة اختلافهم فی القراءة- فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن یختلفوا اختلاف الیهود و النصاری.
فأرسل الی حفصة ان ارسلی الینا الصحف ننسخها فی المصاحف، ثم نردها الیك، فأرسلت بها حفصة الی عثمان فأمر زید بن ثابت «1» و عبد اللّه بن الزبیر «2» و سعید بن العاص «3» و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام «4» فنسخوها فی المصاحف، و قال عثمان للرهط القرشیین الثلاثة: إذا اختلفتم انتم و زید بن ثابت فی شی‌ء من القرآن فاكتبوه بلسان قریش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتی إذا نسخوا الصحف فی المصاحف ردّها عثمان الی
______________________________
القرآن فی مصحف، و تعددت مصاحف المسلمین حتی جمعهم علی مصحف واحد] و لم یذكر مصدره فی ذلك.
(1) هو زید بن ثابت الأنصاری ولد سنة 11 ق ه و توفی سنة 45 ه.
(2) هو عبد اللّه بن الزبیر الأسدی القرشی ولد سنة 1 ه و قتل سنة 73 ه.
(3) هو سعید بن العاص الأموی القرشی ولد سنة 3 ه و توفی سنة 59 ه. و انظر الرسالة التی كتبناها فی دراسة حیاته.
(4) هو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومی القرشی ولد سنة 1 ه و توفی سنة 43 ه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 112
حفصة، و أرسل الی كل أفق بمصحف مما نسخوا و أمر بما سواه من القرآن المكتوب فی كل صحیفة أو مصحف أن یحرق) «1».
و جاء فی «الاتقان» نقلا عن ابن أشتة ان أنس بن مالك قال:
اختلفوا فی القرآن علی عهد عثمان حتی اقتتل الغلمان و المعلمون «2»، أی لم یقتصر الأمر علی الجند كما فی حدیث البخاری السابق بل جاوز ذلك الی المعلمین و الغلمان.
و ذكر ابن كثیر انه (اجتمع خلق من أهل الشام ممن یقرأ علی قراءة المقداد بن الأسود «3» و أبی الدرداء، و جماعة من أهل العراق ممن یقرأ علی قراءة عبد اللّه بن مسعود و أبی موسی و جعل من لا یعلم بسوغان القراءة علی سبعة أحرف یفضل قراءته علی قراءة غیره، و ربما خطأ الآخر أو كفّره فأدی ذلك الی اختلاف شدید، و انتشار الكلام السیئ بین الناس) «4».
و أخرج البغوی عن مصعب بن سعد قال: لما كثر اختلاف الناس فی القرآن قالوا: قراءة ابن مسعود، و قراءة أبیّ، و قراءة سالم مولی أبی حذیفة. قال:
فجمع عثمان أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم فقال: إنی رأیت أن اكتب مصاحف علی حرف زید بن ثابت، ثم ابعث بها إلی الأمصار. قالوا: نعم ما رأیت.
قال: فأی الناس أعرب؟ قالوا: سعید بن العاص. قال: فأی الناس
______________________________
(1) «صحیح البخاری» 6/ 151 و «الترمذی» 4/ 123 و «السنن الكبری» للبیهقی 2/ 41 و «شرح السنة» للبغوی 4/ 520 و «المقنع» 5- 6 أقول: هذه هی الروایة الصحیحة التی تجعل رجال اللجنة أربعة و حسبنا أن البخاری أخرجها. و هناك روایات نجد فیها زیادة و نقصا. و من ذلك ما جاء فی «المقنع» 4.
(2) «المقنع» 7 و «الاتقان» 1/ 61.
(3) و هو المقداد بن عمرو و انظر خبره فی «الاصابة» 3/ 433- 434 توفی سنة 33 و هو ابن سبعین سنة.
(4) «البدایة و النهایة» 7/ 217 و «السنن الكبری» 2/ 42 و انظر قریبا منه فی «فتح الباری» 9/ 18.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 113
اكتب؟ قالوا: زید بن ثابت كاتب الوحی. قال: فلیمل سعید و لیكتب زید بن ثابت «1».
فكان عمل عثمان رضی اللّه عنه جمعا للناس علی مصحف واحد، و درءا لفتنة و مفسدة. أما الصحف التی اعتمدتها اللجنة الرباعیة فقد أعادها عثمان الی حفصة بعد الانتهاء من النسخ، و بقیت عندها حتی وفاتها. جاء فی «المصاحف» لابن أبی داود ما یأتی: (حاول مروان بن الحكم أن یأخذها منها لیحرقها، فأبت، حتی إذا توفیت أخذ مروان الصحف و أحرقها، و قال: انما فعلت هذا لأن ما فیها قد كتب و حفظ بالمصحف الامام، فخشیت إن طال بالناس زمان أن یرتاب فی شأن هذه الصحف مرتاب) «2».
ذكر السیوطی نقلا عن كتاب ابن اشته انهم عند ما اجتمعوا للكتابة كان عملهم انهم إذا اختلفوا و تدارءوا فی أی آیة قالوا: هذه اقرأها رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم فلانا، فیرسل الیه و هو علی رأس ثلاث من المدینة. فیقال له:
كیف اقرأك رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم آیة كذا و كذا؟ فیقول: كذا و كذا.
فیكتبونها «3». و یبدو انه قد اتبع فی هذا الجمع ما اتبع فی الجمع الأول أیام أبی بكر من البحث عن الآیات مكتوبة فی عصر النبی صلی اللّه علیه و سلم و أن یشهد اثنان بكتابتها فی عصره «4».
و لقد بذلت هذه اللجنة الرباعیة قصاری جهودها فی سبیل اتقان العمل و تحری الصواب فیه حتی كان عملها كاملا تاما.
______________________________
(1) «شرح السنة» 4/ 523- 524 و «المصاحف» 23- 24 و «فضائل القرآن» لابن كثیر ص 21.
(2) «المصاحف» ص 24.
(3) «الاتقان» 1/ 95 و «فتح الباری».
(4) المعجزة الكبری القرآن» لمحمد أبو زهرة ص 33 و انظر «تفسیر القرطبی» 1/ 51.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 114
قال ابن حجر: و كان ذلك فی حدود سنة 25 ه و غفل بعض من أدركناه فزعم أنه كان فی حدود سنة 30 و لم یذكر له مستندا «1».
و نستطیع أن نقرر الأمور التالیة عن عمل عثمان رضی اللّه عنه:
1- اختیرت اللجنة اختیارا موفقا من الأنصار و المهاجرین، و كان نصیب قریش فیها كبیرا لأن القرآن نزل بلغة قریش كما قال عثمان «2».
و أفرادها من الصلاح و الحفظ و المعرفة بمكان كبیر، و مع ذلك فقد كانت لا تدخر وسعا فی السؤال و البحث و التثبت ما استطاعت الی ذلك سبیلا، و كان افرادها یحفظون القرآن فی صدورهم.
و لا بد من التنبیه الی أنّ أحد أعضائها و هو زید بن ثابت هو الذی قام بالجمع فی المرة الأولی أیام أبی بكر الصدیق.
2- جردت المصاحف مما لیس قرآنا كالشروح و التفاسیر التی كان یثبتها بعض الصحابة علی مصاحفهم.
3- اعتمدت اللجنة علی صحف أبی بكر رضی اللّه عنه اعتمادا رئیسیا، حیث جعلتها الأصل، ثم استعملت كل ما أمكنها من وسائل التثبت و الاستیثاق.
4- كتب القرآن بشكل یجمع القراءات التی نزل بها القرآن، و قد ساعد علی ذلك عدم التشكیل و عدم التنقیط «3».
______________________________
(1) «فتح الباری» 9/ 17.
(2) «الاتقان» 1/ 59. و هذا القول مروی عن عمر رضی اللّه عنه. قال ابن تیمیة: (ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال لابن مسعود: أقرئ الناس بلغة قریش فإنّ القرآن نزل بلسانهم) «الفتاوی» 19/ 28 و «فتح الباری» 9/ 9. و قال أبو شامة ص 69: (و معنی قول عثمان «إن القرآن أنزل بلسان قریش» أی معظمه بلسانهم ... أو المراد نزل فی الابتداء بلسانهم ثم أبیح بعد ذلك أن یقرأ بسبعة أحرف).
(3) أقول: و هناك من یزعم أنّ القرآن كان منقوطا مشكولا، و یعتمدون فی زعمهم الباطل هذا علی نصّ ورد فی «النشر» 1/ 33.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 115
5- استطاعت هذه اللجنة أن تنجح فی عملها خیر نجاح، فلقد حسمت هذه المصاحف الخلاف، و حالت دون فرقة المسلمین حول كتاب اللّه الخالد الكریم.
قال ابن تیمیة یلخص عملیة جمع القرآن:
(... فلما كان العام الذی قبض فیه عارضه جبریل به (أی بالقرآن) مرتین، و العرضة الاخیرة هی قراءة زید بن ثابت و غیره، و هی التی أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر و عمر و عثمان و علی بكتابتها فی المصاحف، و كتبها أبو بكر ... ثم أمر عثمان فی خلافته بكتابتها فی المصاحف، و ارسالها الی الأمصار باتفاق من الصحابة) «1».
***______________________________
و لو كان ذلك كذلك لاستفاض النقل فی ذلك و لم یقتصر الأمر علی هذا الخبر الواهی و لما كان هذا التورع الشدید من استعمال النقط و التشكیل من عدد من علماء السلف كما سیمرّ معنا.
هذا شی‌ء و معرفة الناس للنقط فی وقت مبكر شی‌ء آخر، و یعتمد من یری مثل هذا الرأی علی النص المشار إلیه آنفا و علی ورقة من أوراق البردی زعموا فی تقدیرهم أن تاریخها یعود إلی سنة 27 ه و وجدوا فیها هذه النقط. و هذا محل نظر كبیر و دون ثبوته خرط القتاد.
هذا و قد قرّر- خطأ- القلقشندی فی «صبح الأعشی» 3/ 151 (أن الإعجام موضوع مع وضع الحروف) قرّر هذا بعد ما أورد أسطورة تدّعی أنّ أول من وضع الحروف العربیة ثلاثة رجال من قبیلة بولان و هم: مرارة بن مرة الذی وضع الصور، و أسلم بن سدرة الذی فصل و وصل، و عامر بن جدرة الذی وضع الإعجام. و قال مرجحا ما تقتضیه هذه الأسطورة الباطلة المضحكة: (إذ یبعد أن الحروف قبل ذلك- أی قبل إعجام المصحف- مع تشابه صورها كانت عریّة عن النقط إلی حین نقط المصحف) أقول:
و هذا الذی استبعده هو الذی تقتضیه طبیعة نشأة العلوم و الفنون و المخترعات تبدأ بسیطة ثم تدخل علیها إضافات. و انظر فی هذا أیضا «مصادر الشعر الجاهلی» لناصر الدین الأسد الذی ذهب مثل هذا المذهب الباطل معتمدا علی حجج باطلة و أدلة واهیة.
و اللّه أعلم.
(1) «فتاوی ابن تیمیة» 13/ 395.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 116

عدد المصاحف العثمانیة:

* المشهور انها خمسة مصاحف، ارسل بها عثمان رضی اللّه عنه الی الآفاق الخمسة و هی: مكة، و الشام، و البصرة، و الكوفة، و احتفظ بواحد منها لأهل المدینة.
* و هناك قول آخر أنها سبعة، و لكن هناك خبران فی أسماء البلاد التی ارسلت الیها فالأول أورده ابن كثیر فی «البدایة و النهایة» «1» فحواه أن عثمان رضی اللّه عنه كتب سبعة مصاحف: ارسل الی مكة مصحفا، و الی أهل مصر آخر، و بعث الی البصرة مصحفا و الی الكوفة بآخر، و أرسل الی الشام مصحفا، و الی الیمن مثله، و أقر بالمدینة مصحفا. لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر 116 عدد المصاحف العثمانیة: ..... ص : 116
الثانی أورده ابن أبی داود فی «المصاحف» «2» و ذكره أبو شامة فی «المرشد» «3» و السیوطی فی «الاتقان» «4» فحواه أن عثمان رضی اللّه عنه وجه بسبعة مصاحف، هذه الخمسة المشهورة (أی لمكة و المدینة و الشام و البصرة و الكوفة) و أرسل مصحفا الی الیمن و مصحفا الی البحرین. قال أبو علی الأهوازی: و وجه بمصحف الی الیمن، و بمصحف الی البحرین فلم نسمع لهما خبرا، و لا رأینا لهما أثرا «5». قال السیوطی: و لكن لم یسمع لهذین المصحفین خبر.
و الفرق بین الخبرین هو المصحف السابع، أ أرسل إلی مصر أم إلی البحرین.
* و لم یكتف عثمان رضی اللّه عنه بتوجیه هذه المصاحف الی هذه البلاد
______________________________
(1) «البدایة و النهایة» 7/ 217.
(2) «المصاحف» ص 24.
(3) «المرشد الوجیز» ص 73 و ص 158.
(4) «الاتقان» 1/ 81.
(5) «المرشد الوجیز» ص 159.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 117
و انما اختار حفاظا یثق بهم و أنفذهم الی الأقطار الاسلامیة التی أرسل الیها المصاحف لیقرئوا أهل البلد المرسل الیهم، فأرسل مع كل مصحف قارئا متقنا یقوم بمهمة التعلیم و الاقراء «1».
* و یقال لهذه المصاحف الائمة، و لیست مكتوبة بخط عثمان، و انما یقال لها المصاحف العثمانیة نسبة الی أمره و زمانه و امارته «2».

رأی الصحابة فی صنیع عثمان:

كان جمع الناس علی مصحف واحد من مناقب عثمان الجلیلة، و حسناته العظیمة، و قد ذكر ابن كثیر أن حذیفة بن الیمان عند ما جاء عثمان و أخبره بما أخبره مما أشرنا الیه آنفا قال: (فعند ذلك جمع عثمان الصحابة، و شاورهم فی ذلك، و رأی أن یكتب المصحف علی حرف واحد، و أن یجمع الناس فی سائر الاقالیم علی القراءة به دون سواه) «3».
و ذكر ابن أبی داود عن علی رضی اللّه عنه انه قال:
(لا تقولوا فی عثمان إلا خیرا، فو اللّه ما فعل الذی فعل فی المصاحف إلا عن ملأ منا. قال عثمان: ما تقولون فی هذه القراءة، فقد بلغنی أن بعضهم یقول: إن قراءتی خیر من قراءتك، و هذا یكاد یكون كفرا؟ قلنا:
فما تری؟ قال: أری أن یجمع الناس علی مصحف واحد فلا تكون فرقة و لا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأیت «4»).
إذن فما كان صنیع عثمان إلا عن موافقة من الصحابة و بعد استشارتهم.
______________________________
(1) «مناهل العرفان» 1/ 396.
(2) «البدایة و النهایة» 7/ 217 و انظر «فضائل القرآن» لابن كثیر ص 15 طبعة عیسی البابی الحلبی الملحقة بالتفسیر.
(3) «البدایة و النهایة» 7/ 217، و انظر «فضائل القرآن» ص 15.
(4) «المصاحف» ص 22. و نقله عنه السیوطی فی «الاتقان» 1/ 59.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 118
و نقل ابن كثیر عن البیهقی و غیره أنهم رووا عن علی رضی اللّه عنه أنه قال:
(أیها الناس إیاكم و الغلو فی عثمان تقولون: حرق المصاحف، و اللّه ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب محمد صلی اللّه علیه و سلم و لو ولیت مثلما ولی لفعلت مثل الذی فعل «1»).
و روی الطبری عن علی قوله:
(لا تسموا عثمان شقاق المصاحف، فو اللّه ما شقها إلا عن ملأ منا أصحاب محمد و لو ولیتها لعملت مثل الذی عمل «2»).

الفرق بین جمع أبی بكر و عثمان:

* كان جمع أبی بكر الصدیق للقرآن خشیة أن یذهب من القرآن شی‌ء بذهاب حملته، لأنه لم یكن مجموعا فی موضع واحد، فجمعه- جزاه اللّه عن الاسلام خیرا- فی صحف مرتبا لآیات سوره علی ما وقفهم علیه النبی صلّی اللّه علیه و سلّم.
* و كان جمع عثمان حسما لخلاف ذر قرنه فی صفوف المسلمین، و جمعا للمسلمین علی نسخة موحدة من المصحف، ذلك أنه كثر اختلافهم فی وجوه القراءة، فأدی ذلك بهم الی أن یخطئ بعضهم بعضا، فخشی من تفاقم الأمر فی ذلك، فنسخ تلك الصحف فی مصحف واحد، مرتبا لسوره الترتیب النهائی «3» و اقتصر فی الكتابة من سائر اللغات علی لغة قریش محتجا بأنه نزل بلغتهم كما قال للقرشیین الثلاثة: (إذا اختلفتم أنتم و زید بن ثابت فی شی‌ء من القرآن فاكتبوه بلسان قریش؛ فانه انما نزل بلسانهم)،
______________________________
(1) «البدایة و النهایة» 7/ 218، و «المقنع» ص 8.
(2) «تاریخ الطبری» 6/ 114.
(3) «الاتقان» 1/ 59.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 119
و انه ان كان قد وسع فی قراءته بلغة غیرهم فی بادئ الأمر دفعا للحرج و المشقة، فإنّ الحاجة الی ذلك قد انتهت، فاقتصر علی لغة قریش «1» و كذلك فقد حذف عثمان من المصاحف كل الشروح و التأویلات و ما نسخت تلاوته «2».
قال الباقلانی: (لم یقصد عثمان قصد أبی بكر فی جمع نفس القرآن بین لوحین، و انما قصد جمعهم علی القراءات الثابتة المعروفة عن النبی صلی اللّه علیه و سلم و إلغاء ما لیس كذلك، و أخذهم بمصحف لا تقدیم فیه و لا تأخیر، و لا تأویل أثبت مع تنزیل، و منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه و مفروض قراءته و حفظه خشیة دخول الفساد و الشبهة علی من یأتی بعد) «3».

أین المصاحف العثمانیة الآن؟

لا یعرف لهذه المصاحف الآن مكان توجد فیه علی وجه الیقین. علی أنّ هذه المصاحف العثمانیة كانت موجودة طوال العصور السابقة.
فقد ذكر ابن جبیر المتوفی سنة 614 ه فی رحلته عند حدیثه عن جامع دمشق أنّ (فی الركن الشرقی من المقصورة الحدیثة فی المحراب خزانة كبیرة فیها مصحف من مصاحف عثمان رضی اللّه عنه، و هو المصحف الذی وجّه به إلی الشام، و تفتح الخزانة كل یوم إثر الصلاة، فیتبرك الناس بلمسه و تقبیله) «4».
و قد رأی ابن فضل اللّه العمری (أحمد بن یحیی بن محمد أبو العباس) المتوفی سنة 749 ه مصحفا فی دمشق وصفه بأنه أحد المصاحف العثمانیة.
______________________________
(1) «عنوان البیان فی علوم التبیان» لمحمد حسنین مخلوف ص 97.
(2) «الاتقان» 1/ 60.
(3) «البرهان» 1/ 235 و «الاتقان» 1/ 60.
(4) «رحلة ابن جبیر» تحقیق حسین نصار ص 257.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 120
قال: (.. و إلی جانبه الأیسر المصحف العثمانی بخط أمیر المؤمنین عثمان ابن عفان رضی اللّه عنه) «1».
و ذكر ابن كثیر المتوفی سنة 774 ه فی كتابه «فضائل القرآن» أنّ فی دمشق مصحفا من هذه المصاحف فقال:
أما المصاحف العثمانیة الأئمة فأشهرها الیوم الذی فی الشام بجامع دمشق، عند الركن شرقی المقصورة المعمورة بذكر اللّه، و قد كان قدیما بمدینة طبریة، ثم نقل منها إلی دمشق فی حدود «2» سنة 518 ه. و قد رأیته كتابا عزیزا جلیلا عظیما فخما بخط حسن مبین قویّ، بحبر محكم فی رق «3» أظنه من جلود الابل) «4».
كما ذكر ابن بطوطة المتوفی سنة 779 فی «رحلته» هذا المصحف الشامی فقال: (و فی الركن الشرقی منها إزاء المحراب خزانة كبیرة فیها المصحف الكریم الذی وجّهه أمیر المؤمنین عثمان بن عفان رضی اللّه عنه إلی الشام، و تفتح تلك الخزانة كل یوم جمعة، بعد الصلاة، فیزدحم الناس علی لثم ذلك المصحف الكریم ..) «5».
______________________________
(1) «مسالك الأبصار فی ممالك الأمصار» لابن فضل اللّه العمری تحقیق أحمد زكی باشا صفحة 195. و قوله (بخط أمیر المؤمنین) تجوّز منه. و الأقرب للصواب (بأمر أمیر المؤمنین).
(2) قال السیوطی فی «تاریخ الخلفاء» صفحة 428: (و فیها- أی فی سنة 492 ه- نقل المصحف العثمانی من طبریة إلی دمشق خوفا علیه، و خرج الناس لتلقیه، فآووه فی خزانة بمقصورة الجامع).
(3) جاء فی «صبح الأعشی» للقلقشندی 2/ 486 ما یأتی: (و أجمع رأی الصحابة رضی اللّه عنهم علی كتابة القرآن فی الرّق لطول بقائه، أو لأنه الموجود عندهم حینئذ، و بقی الناس علی ذلك إلی أن ولی الرشید الخلافة، و قد كثر الورق، و فشا عمله بین الناس أمر ألّا یكتب الناس إلا فی الكاغد ..).
(4) «فضائل القرآن» لابن كثیر ص 15 طبعة عیسی البابی الحلبی 1371 ه- 1952 م، الملحقة بالجزء الرابع من «تفسیر ابن كثیر».
(5) «رحلة ابن بطوطة» 1/ 54.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 121
و ذكر ابن بطوطة أیضا أنه رأی مصحفا من المصاحف العثمانیة عند ما دخل البصرة فی رحلته فقال:
و أهل البصرة لهم مكارم أخلاق، و إیناس للغریب و قیام بحقه، فلا یستوحش فیما بینهم غریب، و هم یصلون الجمعة فی مسجد أمیر المؤمنین علی رضی اللّه عنه الذی ذكرته ... و هذا المسجد من أحسن المساجد، و صحنه متناهی الانفساح، مفروش بالحصباء الحمراء ... و فیه المصحف الكریم الذی كان عثمان رضی اللّه عنه یقرأ فیه لما قتل، و أثر تغییر الدم فی الورقة التی فیها قوله تعالی فَسَیَكْفِیكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ «1».
و ذكر ابن بطوطة أنه رأی بعض تلك المصاحف العثمانیة أو بعض صحائف منها خلال رحلته فی مراكش و غرناطة و بعض المدن الاخری «2».
و اللّه أعلم.
و یبدو أن ابن الجزری المتوفی سنة 833 ه قد رأی المصحف الشامیّ الذی تحدثنا عنه آنفا «3».
و استمرّ هذا المصحف الشامیّ محفوظا فی الجامع الأموی إلی مطلع القرن الرابع عشر، ثم فقد هذا المصحف. فبعضهم یری أنه نقل الی استامبول، ثم لم یعرف مكان وجوده، و بعضهم یری أنه موجود فی مكتبة من مكتباتها. و بعضهم یری أنه احترق.
قال الأستاذ محمد كرد علی خلال حدیثه عن الجامع الأموی:
(حتی إذا كانت سنة 1310 ه سرت النار إلی جذوع سقوفه فالتهمتها فی أقل من ثلاث ساعات .. و حرق فیه مصحف كبیر بالخط
______________________________
(1) «رحلة ابن بطوطة» 1/ 116.
(2) نقل ذلك صبحی الصالح عن المستشرق كازانوفا. و انظر «مباحث فی علوم القرآن» ص 87.
(3) «مباحث فی علوم القرآن» لصبحی الصالح 88- 89.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 122
الكوفی، كان جی‌ء به من مسجد عتیق فی بصری، و كان الناس یقولون:
إنه المصحف العثمانی) «1».
و قال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر:
(و كان لدمشق الشام أن حصلت علی نسخة من هذه المصاحف العثمانیة، و لكنها یا للأسف أتلفتها النار فی الحریق الذی التهم الجامع الأموی منذ ثلاثین سنة) «2» و قد كتب هذا الكلام فی شهر نیسان سنة 1922 م.
و نقل الدكتور صبحی الصالح عن الدكتور یوسف العش عن الشیخ عبد المحسن الأسطوانی «3» أنه قد رأی هذا المصحف قبل احتراقه و كان محفوظا بالمقصورة و له بیت خشب «4».
و ذكر الأستاذ الكوثری أن الشیخ عبد الحكیم الأفغانی المتوفی سنة 1326 ه (1908 م) نسخ مصحفا مطابقا لرسم هذا المصحف العثمانی قبل وفاته و زعم الكوثری أن هذا المصحف العثمانی نقل فی أثناء الحرب العامة الی استامبول «5». أما مصحف الأفغانی فذكر أنه محفوظ عند بعض أصحابه بدمشق «5».
و ذكر الكوثری أیضا أن مصحف الكوفة كان فی حمص و أنه نقل إلی العاصمة استامبول فی أثناء الحرب العامة «5» و لم یذكر فی أی مسجد كان فی حمص.
و كذلك فقد ذكر أن مصحف المدینة كان فی المدینة و انه نقل أیضا
______________________________
(1) «خطط الشام» لمحمد كرد علی 5/ 279.
(2) «مذكرات عبد الرحمن الشهبندر» صفحة 34 طبع دار الإرشاد.
(3) انظر ترجمته فی «الأعلام» للزركلی و فی كتاب «عشرة من الناس» لزهیر الماردینی.
(4) «مباحث فی علوم القرآن» ص 88- 89.
(5) «مقالات الكوثری» ص 12.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 123
الی استامبول فی أثناء الحرب «1».
و ذكر الكوثری أن كثیرا (من الماكرین یجترئون علی تلطیخ بعض المصاحف القدیمة بالدم، لیظن أنه الذی كان بید عثمان رضی اللّه عنه حینما قتل، و كم من مصاحف ملطخة بالدم فی خزانات الكتب، و اللّه ینتقم منهم) «2».
و هناك الآن مصاحف أثریة فی دار الكتب المصریة یقال عنها: إنها مصاحف عثمانیة، و لكنّا نستبعد أن تكون كذلك لوجود الزركشة و الزینة و النقوش الفاصلة بین السور، و لوجود علامات لبیان أعشار القرآن.
قال الزرقانی: (و معلوم أن المصاحف العثمانیة كانت خالیة من كل هذا و من النقط و الشكل أیضا) «3».
______________________________
(1) «مقالات الكوثری» ص 12 و إن صحّ هذا الخبر فلعلّه هو الذی ذكره منیر نصیف فی مجلة العربی العدد 110 (شهر كانون الثانی سنة 1968) فی استطلاع قام به عن استامبول قال ص 42 من العدد المذكور: (شاهدنا القرآن الكریم المخطوط علی جلد الغزال، الذی كان یتلوه ثالث الخلفاء عثمان بن عفان رضی اللّه عنه عند ما استشهد فی منزله، و علی صفحة منه رأینا آثار دمائه الطاهرة).
(2) «مقالات الكوثری» ص 13.
(3) «مناهل العرفان» 1/ 397.
و انظر خبر المصاحف العثمانیة فی الكتب التی ذكرناها فی حواشی هذا البحث و انظر ما ذكره المقری فی «نفح الطیب» 2/ 86 و 99 و 135. و مما یتصل بالمصاحف القدیمة الخبر الذی نشرته جریدة الأهرام القاهریة بعددها الصادر بتاریخ 8/ 4/ 1976 صفحة 5.
و جاء فی الخبر ما یأتی: (یدور الآن تحقیق حول المصحف الذی اختفی من دار الكتب، و تمّ العثور علیه بالصدفة عند ما اشتری الدكتور هنری عوض من بائع (روبابیكا)- أی بائع الملابس و الأمتعة العتیقة- بسبعین جنیها فی حین یؤكد وكیل الآثار بأن قیمته لا تقدر بثمن. و المصحف- موضوع الحدیث- مكوّن من 141 ورقة من الرّق، كتبه أبو سعید الحسن البصری فی عام سبعة و سبعین هجریة .. خلال خلافة عبد الملك ابن مروان، و قد كتبه بالخط الكوفی الدقیق و فی كل صفحة 30 سطرا. و فاتحة الكتاب و رءوس السور و فواصل الآیات بها زخارف مذهبة. و هو أول مصحف مؤرخ موجود الآن فی العالم).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 124

خاتمة

و بذلك فاننا نستطیع الجزم بأن النقل للقرآن كان متواترا و یقول هذا بعض أعداء الاسلام أو بعض الناس الذین لیسوا مسلمین، فقد نقل الأستاذ الدكتور محمد عبد اللّه دراز ما یلی:
(قال لو بلوا: إن القرآن هو الیوم الكتاب الربانی الوحید الذی لیس فیه تغییر یذكر) (و قال مویر: إن المصحف الذی جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من ید لید حتی وصل إلینا بدون أی تحریف و لقد حفظ بعنایة شدیدة بحیث لم یطرأ علیه أی تغییر یذكر، بل نستطیع أن نقول إنه لم یطرأ علیه أی تغییر علی الاطلاق فی النسخ التی لا حصر لها و المتداولة فی البلاد الاسلامیة الواسعة فلم یوجد إلا قرآن واحد لجمیع الفرق الاسلامیة المتنازعة، و هذا الاستعمال الاجماعی لنفس النص المقبول من الجمیع حتی الیوم یعدّ أكبر حجة و دلیل علی صحة النص المنزل الموجود معنا) «1».
***______________________________
(1) «مدخل الی القرآن» ص 40.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 125

الفصل الرابع كتابة المصاحف و تطوّرها

الاملاء العثمانی:

الاملاء الذی كتبت به اللجنة املاء خاص بعصر الصحابة، و هو مختلف عن املائنا، فهو خال من النقط و الشكل و الزخرفة، و هو مخالف فی عدد من كلماته لقواعد الاملاء المعروفة، و ذكر السیوطی القواعد الستة التی ینحصر أمر الرسم فیها فقال:
(و ینحصر أمر الرسم فی ست قواعد: الحذف، و الزیادة، و الهمز، و البدل، و الوصل، و الفصل، و ما فیه قراءتان فكتب علی إحداهما) «1».
ثم فصل القول فی كل قاعدة، و ذكر ما لم یدخل تحت هذه القواعد منها.
و قد اكتسب هذا الرسم الذی سمی بالرسم العثمانی كثیرا من القدسیة، بسبب إجماع المسلمین علی استحسان عمل عثمان رضی اللّه عنه.
ان هذه المبالغة فی احترام هذا الرسم لتمثل لنا الامعان فی المحافظة علی هذا الكتاب الكریم من كل زیادة أو نقصان من قبل المسلمین، حتی اننا ما زلنا الی الآن نری المصاحف مكتوبة بالرسم العثمانی الذی كتبت به
______________________________
(1) «الاتقان» 2/ 167.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 126
المصاحف أیام عثمان رضی اللّه عنه، و هذا ما لم یحظ به أی كتاب فی تاریخ الفكر الانسانی علی الاطلاق «1».

تطور هذه الكتابة:

ان موضوع رسم المصحف علم قائم بذاته، و قد ألفت فیه المؤلفات قدیما و حدیثا.
فمن المؤلفین القدامی أبو حاتم السجستانی المتوفی سنة 248 ه (أو 255 ه) الذی ألف كتاب «رسم القرآن» و أبو عمرو الدانی المتوفی سنة 444 ه الذی ألف فی هذا الفن كتاب «المقنع» «2» و أبو العباس أحمد بن محمد الازدی المراكشی المعروف بابن البنا المتوفی سنة 721 ه الذی ألف كتاب «عنوان الدلیل فی مرسوم خط التنزیل».
و من المؤلفین المحدثین الشیخ علی محمد الضباع الذی ألف «سمیر الطالبین فی رسم و ضبط الكتاب المبین». و الشیخ محمد خلف الحسینی الذی شرح أرجوزة المتولی، و ذیل الشرح بكتاب سماه: «مرشد الحیران الی معرفة ما یجب اتباعه فی رسم القرآن» «3».
هذا و قد تعرضت كتابة المصحف الی تطور تناول منها الاعجام و الشكل و ما الی ذلك، أما هیكل حروف الكلمة فقد بقی علی حالته الاولی.
و الذی یذكره العلماء أن شخصیات مشهورة قامت بدور طیب فی
______________________________
(1) انظر رأینا فی وجوب التزام كتابته تحت عنوان «كتابة المصحف و الرسم العثمانی» من هذا الفصل.
(2) «كشف الظنون» 2/ 1809 و «مناهل العرفان» 1/ 362 و قد نشر «المقنع» المستشرق أوتو برتزل عام 1932 فی ألمانیا، و أعاد نشره محمد أحمد دهمان فی سنة 1359 ه بدمشق.
(3) «مناهل العرفان» 1/ 362.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 127
ادخال بعض التحسینات الاضافیة علی كتابة القرآن، و هذه الشخصیات هی:
أبو الاسود الدؤلی «1» و نصر بن عاصم «2» أو یحیی بن یعمر «3»، و الخلیل ابن أحمد «4» و هناك اختلاف فی نسبة الأولویة لبعض هؤلاء دون بعض.
و یبدو أن أقرب الأقوال للصواب فی تحدید دور كل منهم كالآتی:
1- ذهب بعضهم الی أن أبا الاسود الدؤلی المتوفی سنة 69 ه أراد أن یعمل كتابا فی العربیة یقوّم الناس به ما فسد من كلامهم، اذ كان ذلك قد فشا فی الناس. فقال:
أری أن أبتدئ بإعراب القرآن أولا. فأحضر من یمسك المصحف، و أحضر صبغا یخالف لون المداد و قال للذی یمسك المصحف علیه:
اذا فتحت فمی «5» فاجعل نقطة فوق الحرف.
و اذا كسرت فمی «5» فاجعل نقطة تحت الحرف.
و اذا ضممت فمی «5» فاجعل نقطة أمام الحرف.
______________________________
(1) هو ظالم بن عمر الدؤلی البصری أول من أسس النحو كان شاعرا من سادات التابعین توفی سنة 67 أو سنة 69 ه.
(2) هو نصر بن عاصم اللیثی النحوی، كان فقیها من كبار التابعین توفی سنة 89 ه.
(3) هو یحیی بن یعمر العدوانی من علماء التابعین، كان فصیحا كاتبا ولی قضاء مرو، و توفی سنة 129 ه.
(4) هو الخلیل بن أحمد الفراهیدی الازدی واضع علم العروض ولد فی البصرة سنة 100 ه و توفی فیها سنة 170 ه.
(5) وردت هكذا: (فمی) فی «الفهرست» لابن الندیم 66 و «نور القبس المختصر من المقتبس» للیغموری ص 4 و «المطالع النصریة» ص 205 و وردت هكذا: (فتحت شفتی) فی «نزهة الألباء» لابن الأنباری ص 20. لكن وردت هذه الكلمة فی روایة الدانی لهذه القصة هكذا: (فای) و ذلك فی أول كتاب «النقط» المطبوع بعد «المقنع» ص 124 و كذلك وردت فی «صبح الأعشی 3/ 156.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 128
فإن أتبعت شیئا من هذه الحركة غنة (یعنی تنوینا) فاجعل نقطتین.
ففعل ذلك حتی أتی علی آخر المصحف «1».
اذن فعمل أبی الاسود هو وضع علامات تشیر الی الفتحة و الكسرة و الضمة و التنوین. و كانت هذه الاشارات تكتب بمداد یخالف المداد الذی كتب به الاصل.
2- و استمر الناس یقرءون فی مصحف عثمان و فی بعض المصاحف اشارات أبی الاسود، فلما كثر التصحیف و اللحن و انتشر بالعراق فزع الحجاج بن یوسف الی كتابه، و سألهم أن یضعوا لهذه الحروف المتشابهة علامات، فیقال: أن نصر بن عاصم اللیثی أو یحیی بن یعمر قام بإعجام الحروف المتشابهة و وضع النقط افرادا و ازواجا و خالف بین أماكنها «2».
و ذكر ابن حجر عن هارون بن موسی أن أول من نقط المصاحف یحیی بن یعمر «3». اذن فالعمل الثانی الذی تمّ زمن الحجاج هو تنقیط الحروف المتشابهة أزواجا و افرادا من فوق و من تحت.
3- و جاء الخلیل بن أحمد المتوفی سنة 170 ه فكان أول من وضع
______________________________
و هذه الروایة الأخیرة مخالفة لما ذكره النحویون من أنّ الأسماء الخمسة تعرب بالحروف إن لم تضف إلی یاء المتكلم.
و قد تكون روایة (فای) علی لغة القصر، و إن كانوا ذكروا أن القصر ورد فی ثلاثة أسماء فقط و هی (أب و أخ و حم).
و انظر «المحكم فی نقط المصاحف».
(1) ذكرنا المصادر التی أوردت هذه القصة فی التعلیق السابق.
(2) «التنبیه علی حدوث التصحیف» لحمزة الأصفهانی طبع دمشق صفحة 27 و «وفیات الأعیان» 1/ 344 و «مقدمتان فی علوم القرآن» 276 و «نقط المصحف» للدانی طبع استانبول صفحة 132 و «كتاب التصحیف» لأبی أحمد العسكری و «ضحی الإسلام» 2/ 286.
(3) «تهذیب التهذیب» 11/ 305.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 129
الهمزة و التشدید و الروم و الاشمام «1».
و یقال: إن الخلیل اخترع أیضا ضبط الحروف بالحركات فاستغنی الناس عن ضبط أبی الاسود «2»، و كان العلماء یسمون ضبط الخلیل شكل الشعر، و كان كثیر منهم یكرهون استعماله «3».
*** و ما زال كل ذی موهبة فنیة فی الخط یبذل قصاری جهده لیبدع فی كتابة المصاحف. و قد قامت مهنة خاصة عرفت بكتابة المصاحف، یقوم رجالها بنسخ المصاحف لقاء أجر، و كان بعض أهل العلم یتخذها مورد عیش له.
و اختلف العلماء فی الحكم علی هذه الزیادات و التطورات.
* فمنهم من تشدد فحظرها، فقد ذكروا عن النخعی و ابن سیرین انهما كرها نقط المصاحف «2» و روی عن الشعبی و إبراهیم كراهیة النقط حتی بالحمرة «5».
و كانوا یقولون: جرّدوا القرآن «6».
قال الغزالی: و الظن بهؤلاء انهم كرهوا فتح هذا الباب خوفا من أن
______________________________
(1) «الاتقان» 2/ 171 و «تهذیب اللغة» للأزهری 1/ 50 و الروم: حركة مختلسة مختفیة و هی أكثر من الاشمام لأنها تسمع، و الاشمام: ضم الشفتین كمن یرید النطق بضمة إشارة إلی أن الحركة المحذوفة ضمة من غیر أن یظهر لذلك أثر فی النطق. (أنظر فی ذلك كتب التجوید و مباحث بناء الفعل للمجهول و الوقف فی كتب قواعد اللغة العربیة و كتب المعاجم مادة (روم) و مادة (شمم)).
(2) «المحكم» للدانی ص 7 و «الاتقان» 2/ 171 و انظر ص 26 من كتاب «سمیر الطالبین فی رسم و ضبط الكتاب المبین» للشیخ علی محمد الضباع.
(3) «المحكم» للدانی.
(5) «احیاء علوم الدین» 1/ 284 و انظر «المدخل» لابن الحاج 1/ 74.
(6) «احیاء علوم الدین» 1/ 284.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 130
یؤدی الی احداث زیادات و حسما للباب، و تشوقا الی حراسة القرآن عما یطرق الیه تغییرا «1».
* و منهم من منع شكل المصحف إلا إذا احتاجت الكلمة الی شكل، فقد نقل عن ابن مجاهد أنه قال: ینبغی الا یشكل الا ما یشكل «2».
* و منهم من أجازها بشرط أن تكتب بلون مخالف. قال الدانی: لا استجیز النقط بالسواد لما فیه من التغییر لصورة الرسم، و أری أن تكون الحركات و التنوین و التشدید و السكون و المد بالحمرة، و الهمزات بالصفرة «3».
* و منهم من استحبها، و هو الصواب. قال النووی:
نقط المصحف و شكله مستحب لانه صیانة له من اللحن و التحریف «2».
و قال الغزالی:
یستحب تحسین كتابة القرآن و تبیینه، و لا بأس بالنقط و العلامات بالحمرة و غیرها، فانها تزیین و تبیین، و صد عن الخطأ و اللحن لمن یقرؤه.
ثم قال: و اذا لم یؤد الی محظور و استقر أمر الأمة فیه علی ما یحصل به مزید معرفة فلا بأس به «1».
* و مما یندرج تحت عنوان تطور كتابة المصحف تلك الاشارات التی وضعوها عند انتهاء كل آیة. و قد أخرج ابن ابی داود عن یحیی بن أبی كثیر انه قال: كانوا لا یقرون شیئا مما فی هذه المصاحف الا هذه النقط الثلاث التی عند رءوس الآی «6».
______________________________
(1) «احیاء علوم الدین» 1/ 284.
(2) «الاتقان» 2/ 171.
(3) «النقط» المنشور مع «المقنع» ص 125- 126 و «الاتقان» 2/ 171.
(6) «المصاحف» 143.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 131
و كذلك فان مما استحدث فی المصاحف الفواتح و الخواتم و التعشیر و التحزیب و التجزئة و كتابة اسماء السور و عدد الآیات و السجدات و اشارات الوقوف و أرقام الآیات.
و قال الاستاذ علی محمد الضباع: (و أما النقط و الشكل و ما فی حكمه من علامات الفواصل و السجدات و الاجزاء و الاحزاب و أقسامها و الخموس و العشور و المواقف و الفواتح و الخواتم فقد اختلف العلماء فیها علی ثلاثة أقوال:
1- الجواز مطلقا.
2- الكراهة مطلقا.
3- الجواز فی المصاحف التی یتعلم فیها الغلمان و من فی حكمهم دون المصاحف الامهات و قد نسب الامام الدانی فی «المحكم» «1» هذه الأقوال الی أربابها. و العمل فی وقتنا هذا علی الترخص فی ذلك دفعا للالتباس و منعا للتحریف و الخطأ فی كلام رب العالمین «2».

*** كتابة المصحف و الرسم العثمانی:

هناك آراء ثلاثة فی كتابة المصاحف:
1- تحریم مخالفة مصحف عثمان فی حرف، و وجوب كتابته علی الكتبة الأولی.
2- جواز مخالفته.
______________________________
(1) «المحكم» للدانی تحقیق عزة حسن.
(2) «سمیر الطالبین فی رسم و ضبط الكتاب المبین» ص 26 و انظر كتاب «الحوادث و البدع» للطرطوشی ص 97 و انظر أیضا «مقدمتان فی علوم القرآن» ص 276.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 132
3- وجوب كتابته بالاملاء الشائع عند الناس و لا سیما للعامة و الطلبة الصغار.
* أما الرأی الأول فهو الرأی الذی مال الیه الكثرة من العلماء، و لیس الحق دائما مع الكثرة، و لا شك فی أن الدافع الیه الحرص علی توفیر السلامة لنص القرآن و المحافظة علیه من كل عوادی الزمان.
و من القائلین بهذا الرأی الامام مالك الذی حكی عنه وجوب الكتابة علی الكتبة الأولی «1».
و منهم الامام أحمد الذی كان یقول: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان فی واو أو ألف أو یاء أو غیر ذلك «2». و قد كتب الاستاذ علی محمد الضباع فصلا ضافیا فی كتابه «سمیر الطالبین» «3» و لم یأت بحجة شافیة و لا دلیل مقنع، و قد ذكر شیئا لا دلیل علیه و هو أن النبی صلی اللّه علیه و سلم أملاه علی الكتبة من تلقین جبریل ثم قال: «و یشهد لكونه من املائه صلی اللّه علیه و سلم ما ذكره صاحب «الإبریز» عن شیخه العارف باللّه سیدی عبد العزیز الدباغ انه قال: رسم القرآن سر من أسرار المشاهدة و كمال الرفعة و هو صادر من النبی صلی اللّه علیه و سلم و لیس للصحابة و لا لغیرهم فی رسم القرآن و لا شعرة واحدة، و انما هو بتوقیف من النبی صلی اللّه علیه و سلم و هو الذی أمرهم أن یكتبوا علی الهیئة المعروفة بزیادة الألف و نقصانها و نحو ذلك، لأسرار لا تهتدی الیها العقول إلا بفتح ربانی، و هو سر من الاسرار خص اللّه به كتابه العزیز دون سائر
______________________________
(1) «الحوادث و البدع» ص 97 و «المقنع» 9- 10 و «الاتقان» 2/ 167.
(2) «الاتقان» 2/ 167 و «البرهان» 1/ 379 و قال أبو عمرو الدانی فی «المقنع» ص 28:
یعنی الواو و الألف المزیدتین فی الرسم لمعنی المعدومتین فی اللفظ نحو الواو فی (أولوا الالباب) و (أولات) و (الربوا) و نحوه.
(3) انظر «سمیر الطالبین فی رسم و ضبط الكتاب المبین» ص 23- 24 و یعتمد مؤلفه علی أن الرسم كان بإجماع الصحابة. و هذه دعوی یصعب علی مدعیها أن یأتی علیها بدلیل.
و انظر «عنوان البیان فی علوم التبیان» لمحمد حسنین مخلوف ص 64- 66.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 133
الكتب السماویة فكما أن نظم القرآن معجز فرسمه معجز أیضا، و هذا الكلام لیس علیه أی دلیل و هو غایة فی مباعدة الحق.
* أما الرأی الثانی فقد قال به جماعة من أهل العلم و حجتهم فی ذلك أن رسم المصحف اصطلاحی لا توقیفی. قال أبو شامة: (.. و أما ما یرجع إلی الهجاء و تصویر الحروف فلا اعتبار بذلك فی الرسم، فانه مظنة الاختلاف، و أكثره اصطلاح) «1».
و من القائلین بهذا الرأی القاضی أبو بكر الباقلانی المتوفی سنة 403 ه و ابن خلدون المتوفی سنة 808 ه و سنورد قول كل منهما فیما یأتی:
قال القاضی الباقلانی: (و أما الكتابة فلم یفرض اللّه علی الأمة فیها شیئا اذ لم یأخذ علی كتّاب القرآن و خطاطی المصاحف رسما بعینه دون غیره أوجبه علیهم و ترك ما عداه. اذ وجوب ذلك لا یدرك الا بالسمع و التوقیف، و لیس فی نصوص الكتاب و لا مفهومه أن رسم القرآن و ضبطه لا یجوز الا علی وجه مخصوص، و حد محدود، لا یجوز تجاوزه، و لا فی نص السنة ما یوجب ذلك و یدل علیه، و لا فی اجماع الأمة ما یوجب ذلك، و لا دلت علیه القیاسات الشرعیة.
بل السنّة دلت علی جواز رسمه بأی وجه سهل، لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم كان یأمر برسمه، و لم یبین لهم وجها معینا، و لا نهی عن كتابته بغیره، و لذلك اختلفت خطوط المصاحف «2»، فمنهم من كان یكتب الكلمة علی مخرج اللفظ، و منهم من كان یزید أو ینقص لعلمه ان ذلك اصطلاح،
______________________________
(1) «المرشد الوجیز» 173 و انظر الأدلة الخمسة التی أوردها الكردی فی كتابه «تاریخ القرآن و غرائب رسمه» ص 101- ص 105.
(2) قال ابن تیمیة فی «الفتاوی» 13/ 420: (فإن مالكا كان یقول عن أهل الشوری ان لكل منهم مصحفا یخالف رسم مصحف عثمان) و انظر «المقنع» 92 و «تاریخ القرآن و غرائب رسمه» لمحمد طاهر الكردی ص 98.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 134
و ان الناس لا یخفی علیهم الحال، و لأجل هذا بعینه جاز أن یكتب بالحروف الكوفیة و الخط الاول، و أن تجعل اللام علی صورة الكاف، و أن تعوج الألفات، و أن یكتب علی غیر هذه الوجوه، و جاز أن یكتب المصحف بالخط و الهجاء القدیمین، و جاز أن یكتب بالخطوط و الهجاء المحدثة، و جاز أن یكتب بین ذلك.
و إذا كانت خطوط المصاحف و كثیر من حروفها مختلفة متغایرة الصورة و كان الناس قد أجازوا ذلك، و أجازوا أن یكتب كل واحد منهم بما هو عادته، و ما هو أسهل و أشهر و أولی من غیر تأثیم و لا تناكر، علم أنه لم یؤخذ فی ذلك علی الناس حد محدود مخصوص، كما أخذ علیهم فی القراءة و الأذان.
و السبب فی ذلك أن الخطوط إنما هی علامات و رسوم تجری مجری الاشارات و العقود و الرموز، فكل رسم دال علی الكلمة مفید لوجه قراءتها تجب صحته و تصویب الكتابة به علی أی صورة كانت.
و بالجملة فكل من ادعی أنه یجب علی الناس رسم مخصوص وجب ان یقیم الحجة علی دعواه. و انی له ذلك؟) «1».
و قال ابن خلدون: (كان الخط العربی لأول الاسلام غیر بالغ الی الغایة من الاحكام و الاتقان و الإجادة، و لا الی التوسط، لمكان العرب من البداوة و التوحش و بعدهم عن الصنائع، و انظر ما وقع لاجل ذلك فی رسمهم المصحف، حیث رسمه الصحابة بخطوطهم، و كانت غیر مستحكمة فی الإجادة، فخالف الكثیر من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفی التابعون من السلف رسمهم فیها تبركا بما رسمه أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم و خیر الخلق من بعده، المتلقون لوحیه من كتاب اللّه
______________________________
(1) «الانتصار» للباقلانی و قد نقلت هذا الكلام من مقدمة «تفسیر المراغی» 1/ 13- 14.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 135
و كلامه ... و لا تلتفتن فی ذلك الی ما یزعمه بعض المغفلین من أنهم كانوا محكمین لصناعة الخط، و ان ما یتخیل من مخالفة خطوطهم لاصول الرسم لیس كما یتخیل، بل لكلها وجه. و یقولون فی مثل زیادة الألف فی (لا اذبحنه) «1» أنه تنبیه علی أن الذبح لم یقع. و فی زیادة الیاء فی (بأیید) «2» أنه تنبیه علی كمال القدرة الربانیة .. و أمثال ذلك مما لا أصل له الا التحكم المحض.
و ما حملهم علی ذلك الا اعتقادهم أن فی ذلك تنزیها للصحابة عن توهم النقص فی قلة اجادة الخط، و حسبوا أن الخط كمال، فنزهوهم عن نقصه، و نسبوا الیهم الكمال بإجادته، و طلبوا تعلیل ما خالف الإجادة من رسمه. و لیس ذلك بصحیح) «3».
* و أما الرأی الثالث فان أشهر القائلین به الامام العز بن عبد السلام رحمه اللّه المتوفی سنة 660 ه الذی یری أنه لا تجوز كتابة المصحف للعامة بالرسم العثمانی الاول لئلا توقع هذه الكتابة فی تغییر من الجهال.
و إلیك كلامه كما نقله عنه الزركشی. قال الشیخ عز الدین بن عبد السلام: (لا تجوز كتابة المصحف الآن علی الرسوم الاولی باصطلاح الأئمة لئلا یوقع فی تغییر من الجهال) «4».
و من القائلین به من المعاصرین عدد من العلماء منهم العلامة الشیخ أحمد
______________________________
(1) سورة النمل: 21.
(2) سورة الذاریات: 47.
(3) «مقدمة ابن خلدون» ط وافی 3/ 1086- 1089 ط 2، و فی طبعة بولاق 396، و فی طبعة عبد الرحمن محمد فی المطبعة البهیة المصریة 365، و فی طبعة بیروت 419 و جاء كلام ابن خلدون هذا فی الفصل الثلاثین فی أن الخط و الكتابة من عداد الصنائع الانسانیة.
(4) «البرهان» 1/ 379 و «إتحاف فضلاء البشر» ص 9 و قد نقله أیضا المراغی فی «تفسیره» 1/ 15.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 136
مصطفی المراغی الذی قال فی مقدمة تفسیره: (و قد جرینا علی الرأی الذی أوجبه العز بن عبد السلام فی كتابة الآیات أثناء التفسیر للعلة التی ذكرها، و هی فی عصرنا أشد حاجة إلیها من تلك العصور) «1».
و قد جری الاستاذ سید قطب- رحمه اللّه- علی هذا الرأی فكتب الآیات فی «الظلال» بالاملاء الحدیث فی الطبعة الأولی.
و یبدو أنه لا مانع عند أصحاب هذا الرأی من المحافظة علی الرسم العثمانی للخاصة باعتبار أنه من الآثار النفیسة التی ینبغی أن تبقی فی أیدی العارفین.
و رأینا أن القول الأول غیر صحیح، و أن أقرب هذه الأقوال للصواب هو القول الثالث و لئن قال العز بن عبد السلام: إن كتابة القرآن علی الرسم العثمانی توقع الجهال فی زمانه فی تغییر إن هذه الكتابة الآن توقع جمهور المثقفین و عامة الناس فی هذا التغییر و التبدیل، ذلك لأن الناس فی زمانه كانوا یتلقون القرآن عن طریق المشافهة و الأخذ من الاستاذ فی الكتاتیب، و الكتّاب مدرسة قائمة علی القرآن بشكل أصیل. و قد انقرضت هذه الكتاتیب الیوم من جمیع انحاء العالم الاسلامی، و زاحمتها المدارس العصریة التی تقوم علی مناهج متأثرة بحضارة الغرب، وضعت فی معظم بلاد المسلمین من قبل الاجانب أو تلامذتهم و عملائهم. و إذا نظرنا الی واقع المسلمین فقلما نجد مثقفا ممن خرّجتهم هذه المدارس و لم یتلق ثقافته من مصدر آخر قلما نجده یستطیع أن یقرأ القرآن قراءة سلیمة.
و من أجل ذلك فاننا نری أن یكتب القرآن للتعلیم بالاملاء المعاصر و یحتفظ بالكتابة العثمانیة أثرا نفیسا من آثار السلف. اننا بذلك نقرب القرآن للناس، و نحول دون أن تكون هناك هوة سحیقة بین الناس و بین
______________________________
(1) «تفسیر المراغی» 1/ 15.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 137
القرآن، و تبقی المصاحف المكتوبة علی الكتبة الأولی دلیلا علی الاتصال باملاء السلف، و تطبع من أجل كثیر ممن تعلموا القراءة فی المصحف المكتوب تلك الكتابة، و من أجل معرفة القراءة الثابتة التی جعلوا من شروطها موافقة المصحف الامام.
أما أولئك الذین یظنون أنهم بمنعهم أی كتابة غیر الكتابة الأولی یبقون علی الكتابة ذاتها فهم مخطئون لأن الكتابة التی تجدها فی المصاحف مشكولة منقوطة و لیست كذلك الكتابة الأولی، أضف الی ذلك أن عددا من طبعات المصاحف قد دخلها كثیر أو قلیل من التعدیل فی الاملاء.
و قد أحسن الاستاذ إبراهیم الابیاری عند ما قال:
(و اخشی ما نخشاه نحن الیوم، أو بعد الیوم، أن یبقی القرآن برسمه القدیم الذی یختلف و املاء العصر، فیخلق بلبلة علی الالسن. و ما نحن فی كل بیئة نملك حفاظا یضبطون الألسنة عن أن تلتوی، و إن ملكنا فی كل بیئة حفاظا فمحال أن یجد كل قارئ حافظا الی جواره.
یجب ان نخاف ما خافه السلف، و ان نحتاط كما احتاط السلف. و یجب أن نفصل بین وحی اللّه و اقلام الكتاب) «1».

*** نشر المصحف و طبعه فی العصر الحاضر:

ما ان جاء العصر الحاضر و ظهرت الطباعة حتی شرعت المطابع تطبع المصحف و تعنی به عنایة كبری، و الطبعات الاولی طبعات اوربیة اشرف علیها مستشرقون.
______________________________
(1) «تاریخ القرآن» لابراهیم الابیاری ص 139 و انظر فی رسم القرآن كتاب «تاریخ القرآن» لمحمد طاهر الكردی ص 101 و ما بعدها و كتاب «القرآن المجید» لمحمد عزة دروزة ص 128 و ما بعدها و كتاب «الفرقان» لابن الخطیب ص 60- 90.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 138
1- فقد طبع للمرة الأولی فی البندقیة من ایطالیا سنة 937 ه/ 1530 م.
2- ثم طبع فی (هامبورغ) من المانیا سنة 1106 ه/ 1694 م.
3- ثم طبع فی (بادوا) من ایطالیا سنة 1110 ه/ 1698 م.
4- و الطبعة الاسلامیة الأولی كانت فی روسیا فی مدینة (سانت بترس بورغ) سنة 1202 ه/ 1787 م قام بها مولای عثمان.
5- ثم طبع فی ایران طبعتین حجریتین: الاولی فی طهران سنة 1244 ه/ 1828 م و الثانیة فی تبریز سنة 1249 ه/ 1833 م.
6- ثم توالت الطبعات المختلفة فی اوربا، و من ذلك طبعة (فلوجل) للقرآن فی (لیبزیغ) من المانیا سنة 1250 ه/ 1834 م.
7- و طبع مرات فی الهند و الآستانة و البلاد العربیة.
8- و فی سنة 1337 ه/ 1918 م. طبع المصحف طبعة جمیلة مشرفة رائعة دقیقة دقة متناهیة عرفت بطبعة الملك فؤاد. و قد أشرفت علی طباعته لجنة مؤلفة من الاساتذة:
محمد علی خلف الحسینی المتوفی سنة 1357 ه/ 1939 م شیخ المقارئ المصریة.
و حفنی ناصف المتوفی سنة 1338 ه/ 1919 م المفتش الأول للغة العربیة.
و مصطفی عنانی المتوفی سنة 1362 ه/ 1943 م المدرس بمدرسة المعلمین الناصریة.
و احمد بن علی الاسكندری المتوفی سنة 1357 ه/ 1938 م المدرس بمدرسة المعلمین الناصریة.
و فی الطبعة الثانیة للمصحف قام بتصحیحه و مراجعته مراجعة دقیقة علی
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 139
المصحف الذی ظهر فی عهد الملك فؤاد شیخ المقارئ المصریة الشیخ علی محمد الضباع مراجع المصاحف الشریفة بمشیخة المقارئ.
9- و ما زالت المطابع تنشر الملایین من نسخ المصاحف، و لم تستطع طبعة أخری أن تزاحم طبعة مصحف الملك فؤاد حتی الآن فی دقتها و جودتها.
***
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 141

الباب الثالث علوم القرآن‌

اشارة

علوم القرآن هی المباحث التی تتعلق بالقرآن و جوانب منه. و یبدو أن عددا من الائمة المتقدمین ألفوا كتبا فی موضوعات تتصل بالقرآن، ذكر بعضها ابن الندیم فی «الفهرست» «1».
و هذه هی المرحلة الاولی فی نشوء ما عرف بعلوم القرآن.
ثم جمعت هذه المباحث تحت عنوان (علوم القرآن)، ثم لم یلبث أن أصبح هذا العنوان علما علی علم بذاته، أرادوه أن یكون نظیرا لعلم المصطلح أو علوم الحدیث.
و من المفید أن نذكر فیما یأتی بعض أسماء المؤلفین المتقدمین، و ما ألفوا من كتب فی هذا الموضوع.
فمن أقدم هؤلاء المؤلفین أولئك الذین تركوا كتبا فی التفسیر، من أشهرهم سعید بن جبیر المتوفی سنة 95 ه و شعبة بن الحجاج المتوفی سنة 160 ه، و ابن جریر الطبری المتوفی سنة 310 ه.
و منهم ابو عبیدة المتوفی سنة 209 ه الذی ألف كتاب «غریب القرآن».
______________________________
(1) «الفهرست» من ص 56- 64.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 142
و مؤرج السدوسی المتوفی سنة 195 ه الذی ألف كتاب «غریب القرآن».
و الأصمعی المتوفی سنة 214 ه الذی ألف كتاب «لغات القرآن».
و محمد بن ایوب الضریس المتوفی سنة 294 ه الذی ألف فی موضوع المكی و المدنی «1».
و خلف بن هشام البزار المتوفی سنة 229 ه الذی ألف «كتاب القراءات».
و ابو حاتم السجستانی المتوفی سنة 248 ه أو 255 ه الذی ألف كتاب «رسم القرآن» و كتاب «النقط و الشكل».
و محمود بن الحسن الذی ألف كتاب «متشابه القرآن».
و أبو عبید القاسم بن سلام المتوفی سنة 224 ه الذی ألف كتاب «ناسخ القرآن و منسوخه».
و الإمام الشافعی المتوفی سنة 204 ه الذی ألف كتاب «أحكام القرآن».
و علی بن المدینی المتوفی سنة 234 ه الذی ألف كتاب «أسباب النزول».
و ابن قتیبة المتوفی سنة 276 ه الذی ألف كتاب «مشكل القرآن».
الی غیر ذلك من موضوعات لا یكاد یحصیها العد.
أما أول من جمع هذه العلوم فی كتاب واحد فمن الصعب الجزم
______________________________
(1) حقق هذا الكتاب مسفر سعید دماس بإشرافی و نال به شهادة الماجستیر فی جامعة الملك سعود سنة 1403 ه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 143
بتحدیده، و یذكر الاستاذ الزرقانی «1» أن أول من ألف فی علوم القرآن هو علی بن إبراهیم بن سعید المشهور بالحوفی المتوفی سنة 430 ه و قد ترك كتاب «البرهان فی علوم القرآن». و هذا غلط، و قد اوقع الزرقانی فی هذا الغلط الخطأ فی عنوان الكتاب، فلیس اسمه كما ذكره، بل اسمه كما فی «كشف الظنون» «2»: «البرهان فی تفسیر القرآن» و هو كتاب فی التفسیر لا فی علوم القرآن.
ثم ألف ابن الجوزی المتوفی سنة 597 ه كتابین فی علوم القرآن هما:
«فنون الافنان فی علوم القرآن» «3» و «المجتبی فی علوم تتعلق بالقرآن» «4».
ثم ألف أبو شامة المتوفی سنة 665 ه كتاب «المرشد الوجیز إلی علوم تتعلق بالكتاب العزیز» «5».
ثم جاء الزركشی المتوفی سنة 794 ه و ألف كتابه المشهور: «البرهان
______________________________
(1) انظر «مناهل العرفان»: 1/ 27- 28.
(2) «كشف الظنون» 1/ 242. أقول: و مخطوطة الكتاب موجودة، و قد بلغنی ان جامعة من الجامعات العربیة تعتزم طبعه. و انظر كتاب «المدخل لدراسة القرآن» لمحمد أبو شهبة ص 35.
(3) قال صلاح المنجد فی «معجم المخطوطات المطبوعة» 3/ 17: [نشره أحمد الشرقاوی و إقبال المراكشی فی الدار البیضاء سنة 1970 م]. و لم أر هذه النشرة، ثم وقفت علی طبعة سیئة جدا للكتاب نشرته مكتبة ابن سینا فی القاهرة سنة 1408 (1988) و علی غلاف الكتاب ما یأتی:
فنون الأفنان فی عجائب علوم القرآن للحافظ ... ابن الجوزی- دراسة و تحقیق محمد إبراهیم سلیم. و قد أفسد الكتاب إفسادا كبیرا، و جاء بما لم نعهده فی التحقیق. و إنا للّه و إنا إلیه راجعون. و انظر ما ذكره العلوجی فی «مؤلفات ابن الجوزی» حول هذا الكتاب ص 40 و ص 130.
(4) ذكر العلوجی فی ص 158 اماكن وجود مخطوطات لهذا الكتاب.
(5) و قد حققه طیار آلتی قولاج و نشرته دار صادر فی بیروت سنة 1395 ه (1975 م).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 144
فی علوم القرآن» «1».
ثم جاء البلقینی المتوفی سنة 842 و ألف كتابه «مواقع العلوم من مواقع النجوم».
و أخیرا جاء السیوطی المتوفی سنة 911 ه و ألف كتابه الجامع:
«الاتقان فی علوم القرآن».
هذا و للمعاصرین كتب عدة فی علوم القرآن، منها الموجز و منها ما فوق ذلك و منها الجید و منها ما دون ذلك.
و سندرس فی هذا الباب موضوعات ثلاثة هی: المكی و المدنی، و المحكم و المتشابه، و القراءات. و نرد القراء الراغبین فی الاطلاع علی العلوم الاخری من علوم القرآن، إلی مطالعة كتب علوم القرآن المطولة.
______________________________
(1) طبعه محمد أبو الفضل إبراهیم و صدر فی أجزاء أربعة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 145

الفصل الأول المكیّ و المدنیّ‌

اشارة

استمر نزول القرآن ثلاثا و عشرین سنة. و قد وقع خلال هذه المدة حادث عظیم لعله أعظم الأحداث فی حیاة النبی صلی اللّه علیه و سلم بعد البعثة. هذا الحادث هو الهجرة الی المدینة المنورة.
و كان هذا القرآن الكریم یتنزل فی مكة علی النبی صلی اللّه علیه و سلم لیواجه به مجتمع الجاهلیة العنید، و لیوجه القلة المستضعفة المغلوبة علی أمرها ممن آمن و اهتدی.
و لكنه فی المدینة كان یواجه مجتمعا قائما علی أساس الایمان و الانقیاد لتعالیم هذا الدین، فكان من الطبیعی أن یكون هناك اختلاف بین موضوعات كل من المرحلتین، و یتبع هذا الاختلاف فی الموضوع الاختلاف فی خصائص الاسلوب.
لقد نزل القرآن لیربی أمة العقیدة، التی تبقی مهمتها ما بقیت علی الأرض حیاة ... فلا عجب إذن أن یتبین العلماء نوعین فی هذا القرآن.
و إن مما یكاد یأخذ بالألباب هذه العنایة التی لقیها هذا الكتاب الكریم، فلقد نقل المسلمون عن آیاته: متی نزلت؟ حتی إننا لنستطیع القول: إنه لیست هناك آیة إلا و قد ورد ما یدل علی تاریخ نزولها. بل اننا لنجد أكثر من ذلك دلالة علی العنایة بالكتاب الكریم، فلقد ذكر المؤلفون فی
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 146
علوم القرآن الحضری منه و السفری، و اللیلی منه و النهاری، و الصیفی منه و الشتائی، و الفراشی و النومی، و ما الی ذلك من علوم تجدها فی كتب علوم القرآن مما یؤكد هذه العنایة، التی لم یعرفها تاریخ الفكر الانسانی بالنسبة الی كتاب آخر سماوی أو ارضی.

*** تعریف المكی و المدنی:

القول الصحیح الراجح أن المكی ما نزل من القرآن قبل الهجرة، و أن المدنی ما نزل بعدها.
و هناك قولان آخران فی تعریفهما لا یصحان و لا یطردان و هما:
1- المكی ما خوطب به أهل مكة، و المدنی ما خوطب به أهل المدینة.
2- المكی ما نزل فی مكة، و المدنی ما نزل فی المدینة.

*** خصائص المكی:

1- نری المكی غالبا یعالج موضوع بناء العقیدة بطریقة وجدانیة و عقلیة. و موضوعه الأساسی فی اختصار كما یقول الاستاذ سید قطب (حقیقة الألوهیة و حقیقة العبودیة و حقیقة العلاقات بینهما، و تعریف الناس بربهم الحق الذی ینبغی أن یدینوا له و یعبدوه، و یتبعوا أمره و شرعه، و تنحیة كل ما أدخل علی العقیدة الفطریة الصحیحة من غبش و دخل و انحراف و التواء، ورد الناس الی إلههم الحق الذی یستحق الدینونة لربوبیته) «1».
______________________________
(1) «فی ظلال القرآن» 11/ 89 و انظر أیضا 29/ 7.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 147
2- و نری فی هذا النوع من القرآن جدالا للمشركین یبین خطأهم الواضح، و الغاءهم العقل، و اتباعهم العادات المألوفة، التی وجدوا علیها آباءهم، و نری فیه هجوما عنیفا علی الشرك و الوثنیة و العادات القبیحة، و زجرا و تهدیدا و وعیدا للكافرین الذین یصدون عن ذكر اللّه و یعرضون عن آیاته.
3- و نری أن القرآن المكیّ یكثر من عرض قصص المكذبین.
4- و نری ان المكی یغلب علی آیاته القصر، و تكثر فیه كلمة (كلا) التی فیها زجر، و یكثر فیه افتتاح السور بالحروف من امثال (ق) و (حم) و (كهیعص). قال الزركشی: (و كل سورة فیها حروف المعجم فهی مكیة إلا البقرة و آل عمران. و فی الرعد خلاف) «1».
و أسلوب عرضه أسلوب موح عمیق الایقاع، بالغ التأثیر حیث تشترك فی أداء هذا الغرض كل خصائص التعبیر من البناء اللفظی إلی المؤثرات الموضوعیة «2».

خصائص المدنی:

1- نری المدنی غالبا یعالج بناء المجتمع المسلم، قال ابن القیم: (خاطبهم بقوله یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا و الخطاب بذلك كله مدنی، فأما الخطاب ب یا أَیُّهَا النَّاسُ فمشترك) «3»، و یعالج بناء الاسرة المسلمة بتفصیل احكام الشریعة فی نواحی الحیاة المختلفة، من معاملات و زواج و طلاق و میراث، كما نری فی سورة البقرة و سورة النساء المدنیتین. و كانت هذه الاحكام معتمدة علی العقیدة و منبثقة عنها. و لا یعنی هذا خلوّ المكیّ من أحكام
______________________________
(1) «البرهان» 1/ 188.
(2) «فی ظلال القرآن» 11/ 89 و ج 29 ص 7.
(3) «زاد المعاد» 2/ 58.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 148
تشریعیة، بل هناك أحكام ترجع إلی العبادات و المعاملات، لكن كلامنا عن الغالب «1».
2- و نری فی هذا النوع من القرآن فضحا للمنافقین، و كشفا لمؤامراتهم، و عرضا لتناقضاتهم و تسفیها لشعاراتهم المخادعة التی یطرحونها، كما نری فی سورة النساء و سورة المائدة و سورة المنافقین.
3- و نری فیه مجادلة لاهل الكتاب، و مناقشة لآرائهم التی تعارض أحیانا حقائق التاریخ و إلیك المثال الآتی: كان الیهود یدعون ان إبراهیم یهودی و كانت النصاری تدعی انه نصرانی، فنزل قوله تعالی: یا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِی إِبْراهِیمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِیلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ «2».
4- و نری فیه ذكرا لاحكام الجهاد و الحرب و السلم و الهدنة مما یتصل بشئون الدولة المسلمة و علاقاتها الدولیة كما فی الأنفال و التوبة و محمد.
5- و نلاحظ أن هذه الاغراض و غیرها عرضت بأسلوب یناسبها، فلیس من شك فی ان موضوع النص یحدد لون الاسلوب و طریقته، و لهذا فاننا نری ان الآیات فی القرآن المدنی یغلب علیها الطول.
و لكن اسلوب القرآن فی النوعین: المكی و المدنی یبقی هو الاسلوب المعجز الذی تمیز عن اسالیب البشر، و یبقی هو الاسلوب الذی بلغ الذروة فی الجمال و البیان و الروعة.

كیف نعرف المكی من المدنی؟

نرجع فی ذلك الی ما ورد عن الصحابة الذین عاصروا الوحی و شهدوا
______________________________
(1) انظر كتاب شیخنا محمد الخضر حسین «محمد رسول اللّه» ص 165.
(2) سورة آل عمران: 66.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 149
مكانه، و عاشوا أسباب نزوله. جاء فی صحیحی البخاری و مسلم «1» عن ابن مسعود رضی اللّه عنه قال: (و اللّه الذی لا إله غیره ما أنزلت سورة من كتاب اللّه إلا أنا أعلم أین أنزلت؟ و لا أنزلت آیة من كتاب اللّه إلا أنا أعلم فیم أنزلت؟ و لو أعلم أحدا أعلم منی بكتاب اللّه تبلغه الابل لركبت الیه) و قد أورد السیوطی فی «الاتقان» السور المدنیة و السور المكیة و السور التی اختلف فی تحدیدها العلماء، و فصل فی ذلك تفصیلا جیدا. و ینبغی أن نشیر الی أن بعض السور كان مؤلفا من النوعین المكی و المدنی.
و قد اشارت معظم المصاحف المطبوعة الی المكی و المدنی منه، اعتمادا علی ما ذكره العلماء.

*** فوائد معرفة المكی و المدنی:

1- معرفة الناسخ و المنسوخ علی وجه یحدد لنا الحكم الباقی الواجب اتباعه.
2- معرفة طریقة القرآن التی سلكها فی تنشئة الأمة المسلمة و تربیتها و الخطوات التی خطاها فی اقامة الدولة الاسلامیة حتی یكون فی ذلك عبرة لدعاة الاصلاح، و قادة الفكر الاسلامی الذین یتطلعون الی استئناف الحیاة الاسلامیة من جدید.
3- التعرف علی مدی الخدمة الفائقة و العنایة البالغة التی حظی بها القرآن الكریم من المسلمین من عهد الصحابة حتی یومنا هذا.
______________________________
(1) انظر باب القراء من اصحاب النبی صلی اللّه علیه و سلم من «صحیح البخاری» 6/ 154 و انظر باب فضائل عبد اللّه بن مسعود و أمه من «صحیح مسلم» 7/ 148 و انظر «الكفایة» للخطیب ص 569.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 150
4- و اخیرا فاننا نستفید من معرفتنا للمكی و المدنی من القرآن فی فهم الآیة و تفسیرها علی وجه افضل و اكمل، و لا سیما ان وقفنا مع ذلك علی اسباب النزول. و من أوضح الأمثلة علی ذلك آیات الجهاد التی نزلت علی مراحل «1».
***______________________________
(1) انظر «زاد المعاد» ط الأرناءوط بدمشق 3/ 158 و «معالم فی الطریق» ط وهبة بمصر لسید قطب: فصل الجهاد فی سبیل اللّه ص 75.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 151

الفصل الثانی المحكم و المتشابه‌

اشارة

ذكر القرآن الكریم نفسه أنّ منه آیات محكمات، و أنّ منه آیات متشابهات، و ذلك فی قوله تعالی: هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ عَلَیْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آیاتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِیلِهِ. وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلَّا اللَّهُ. وَ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ. كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما یَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ «1» و سنعرف المراد من (المحكم) و (المتشابه)، و لكنّنا نودّ قبل ذلك أن نشیر إلی أنّ هاتین الكلمتین وردتا بمعنی آخر فی آیات أخر من كتاب اللّه. من ذلك قوله تعالی: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آیاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِیمٍ خَبِیرٍ «2» أی أحكمت فی النظم و الرصف.
و من ذلك قوله تعالی: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِیثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِیَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِینَ یَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلی ذِكْرِ اللَّهِ. ذلِكَ هُدَی اللَّهِ یَهْدِی بِهِ مَنْ یَشاءُ. وَ مَنْ یُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ «3».
______________________________
(1) سورة آل عمران: 7.
(2) سورة هود: 1.
(3) سورة الزمر: 23.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 152
أی یشبه بعضه بعضا فی الهدایة و البلاغة و السلامة من التناقض و التفاوت و یصدّق بعضه بعضا.
و هاتان الكلمتان: (المحكم و المتشابه) جاءتا فی آیتی هود و الزمر علی أنهما وصف للقرآن كله، فهو كتاب أحكمت آیاته كلها فی النظم، و تشابهت آیاته كلها فی الحسن و البلاغة و التأثیر.
بینما تدلّ آیة آل عمران التی أوردنا فی مطلع هذا البحث علی أن بعض آیات القرآن محكم و بعضها متشابه. فما تعریفهما؟

تعریف المحكم و المتشابه‌

المحكم- لغة-: اسم مفعول من أحكم؛ أی أتقن. یقال: بناء محكم، أی متقن لا وهن فیه و لا خلل.
و المتشابه- لغة- اسم فاعل من تشابه أی أشبه بعضه بعضا.
أما من ناحیة الاصطلاح فللعلماء تعریفات عدة لهما. و أحسن هذه التعریفات التعریف الآتی:
المحكم: ما عرف المراد منه إمّا بالظهور و إمّا بالتأویل «1».
و المتشابه: ما تعذّر ذلك. و استأثر اللّه بعلمه، كقیام الساعة، و الحروف المقطعة فی أوائل السور «1».
قال القرطبیّ: هذا أحسن ما قیل فی المتشابه.
و قیل فی تعریفهما: المحكم: ما لا یحتمل إلا وجها واحدا و المتشابه: ما احتمل أوجها فاشتبه منه مراد المتكلم علی السامع «3».
______________________________
(1) «تفسیر القرطبی» 4/ 10 و «الاتقان» 2/ 2 و «الكلیات» 4/ 257.
(3) «الكلیات» 4/ 257 و انظر تعریفات أخری أوردها السیوطی فی «الاتقان» و انظر «الاحكام فی أصول الأحكام» للآمدی طبع الریاض 1/ 165 سنة 1387 ه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 153
إذن فالمحكم و المتشابه نوعان موجودان فی القرآن، و یتعلقان- كما رأیت- بوضوح المعنی و عدمه.
و هذا أمر طبیعی فالتفاوت فی الوضوح یوجد فی كل كلام، فهناك الواضح الذی لا غموض فیه و لا یحتاج إلی جهد فی فهمه و تفسیره، بل معناه مفهوم یتبادر الی الذهن مباشرة، و هناك نصوص محتملة لیست فی تلك الدرجة من الوضوح، و لا یقوی الناس جمیعا علی فهمها و إدراك مغزاها.
و الآیة المتقدمة تشیر إلی أنّ الذین یریدون الحق لا یذهبون الی تلك النصوص المتشابهة و یحمّلونها ما لا تحمل، و لا یستغلون غموضها لتأویلها.
بما یتناسب و اغراضهم، فذلك فعل الذین فی قلوبهم زیغ، و أما المؤمنون العلماء فانهم یلتزمون الواضح فیعملون به و یؤمنون بالمتشابه انه من عند اللّه، و یدعون محاولة التعسف فی فهمه و تأویله.

*** هل المتشابه مما یمكن معرفته؟

اختلف العلماء فی ذلك علی قولین:
الأول: انه یمكن الاطلاع علی علم المتشابه للراسخین فی العلم الذین یعلمون تأویله، و اختار هذا القول الامام النووی فقال فی «شرح مسلم»:
إنه الاصح، لانه یبعد أن یخاطب اللّه عباده بما لا سبیل لاحد من الخلق إلی معرفته.
الثانی: أنه لا یمكن لأحد الاطلاع علی علمه و لا یعلمه الا اللّه، و أما الراسخون فی العلم فانهم یقولون: آمنا به كل من عند ربنا.
و أید السیوطی هذا القول بأنه قول اكثر الصحابة و التابعین.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 154
و هذا الرأی الذی نرجحه، و هو الصواب إن شاء اللّه تعالی.
و قد اختصّ اللّه بمعرفته كما قال عزّ من قائل: فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِیلِهِ. وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلَّا اللَّهُ. وَ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما یَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.
و هذا القول یقتضی الوقوف علی قوله وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلَّا اللَّهُ ثم تأتی واو الاستئناف و یبدأ كلام جدید هو: وَ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا. و مما یدل علی ذلك ما ذكر ابن قدامة فی «روضة الناظر» حیث قال:
[... لأنّ فی الآیة قرائن تدلّ علی أنّ اللّه سبحانه متفرّد بعلم المتشابه، و أن الوقوف الصحیح عند قوله تعالی وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلَّا اللَّهُ لفظا و معنی:
أما اللفظ فلأنه لو أراد عطف (الراسخین) لقال: (و یقولون آمنا به) بالواو.
و أما المعنی فلأنه ذمّ مبتغی التأویل، و لو كان ذلك للراسخین معلوما لكان مبتغیه ممدوحا لا مذموما.
و لأنّ قولهم آمَنَّا بِهِ یدل علی نوع تفویض و تسلیم لشی‌ء لم یقفوا علی معناه، سیما إذا أتبعوه بقولهم كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فذكرهم ربّهم هاهنا یعطی الثقة به و التسلیم لأمره، و أنّه صدر من عنده كما جاء من عنده المحكم.
و لأنّ لفظة (أمّا) لتفصیل المجمل. فذكره لها فی الذین فی قلوبهم زیغ مع وصفه إیّاهم باتباع المتشابه و ابتغاء تأویله یدلّ علی قسم آخر یخالفهم فی هذه الصفة و هم الراسخون.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 155
و لو كانوا یعلمون تأویله لم یخالفوا القسم الأول فی ابتغاء التأویل و إذ قد ثبت أنّه غیر معلوم التأویل لأحد فلا یجوز حمله علی غیر ما ذكرنا] «1».
و ممّا یؤید أنّ الواو استئنافیة لا عاطفة دلالة الاستقراء فی القرآن ذلك أنه تعالی إذا نفی عن الخلق شیئا و أثبته لنفسه فقد دلّ الاستقراء- كما یقول الأستاذ الشنقیطی فی «أضواء البیان»- [أنه لا یكون له فی ذلك الاثبات شریك كقوله تعالی قُلْ لا یَعْلَمُ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَیْبَ إِلَّا اللَّهُ «2».
و قوله لا یُجَلِّیها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ «3».
و قوله كُلُّ شَیْ‌ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «4».
فالمطابق لذلك أن یكون قوله وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلَّا اللَّهُ معناه أنه لا یعلمه إلّا هو وحده كما قاله الخطابی و قال: لو كانت الواو فی قوله وَ الرَّاسِخُونَ للنسق- أی للعطف- لم یكن لقوله كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فائدة.
و القول بأنّ الوقف تام علی قوله إِلَّا اللَّهُ و أن قوله وَ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ ابتداء كلام هو قول جمهور العلماء للأدلة القرآنیة التی ذكرنا.
و ممن قال بذلك عمر و ابن عبّاس و عائشة و عروة بن الزبیر و عمر بن عبد العزیز و ابن مسعود و أبی بن كعب و غیرهم كثیر] «5».

أنواع المحكم:

المحكم درجات فی وضوحه، و من أجل ذلك یتفاوت الناس فی
______________________________
(1) روضة الناظر 1/ 186- 189 طبع مكتبة المعارف بالریاض سنة 1404 ه (1984).
(2) سورة النمل: 65.
(3) سورة الأعراف: 187.
(4) سورة القصص: 88.
(5) «أضواء البیان» 2/ 236.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 156
استیعابه كله و فهمه و الإحاطة بمعانیه و مدلولاته.
فهناك آیات واضحات جدا یستطیع أن یفهمها الناس العادیون الذین عرفوا اللغة العربیة و وعوها.
* و هناك آیات لا یفهمها إلّا العلماء الواقفون علی أسرار العربیة القادرون علی الإفادة من قواعد الاستنباط و أصول الفقه و قواعد البلاغة و الذین أوتوا موهبة التذوّق للكلام الجمیل، و هذا التفاوت فی الوضوح أمر مشاهد معروف حتی فی كلام البشر، فهذه مواد القوانین لا یستوی الخاصّة من القضاة فی فهمها، و هذه القصائد الشعریة، و النصوص النثریة متفاوتة فی وضوحها و فیها نصوص لا یفهمها و لا یتذوقها إلا من أوتی حظا حسنا من الثروة اللغویة و الحسّ الجمالی.
و إدخال الآیات التی من هذا القبیل فی المتشابه غلط دون شك.

أنواع المتشابه:

المتشابه أنواع بحسب موضوعه، و ذلك كالحروف المقطعة و معرفة وقت الساعة «1»، و معرفة حقیقة ما تدل علیه الأسماء و الصفات و ما إلی ذلك.
و كل ذلك مما لا یعلم تأویله إلا اللّه تبارك و تعالی. و هو درجات فبعضها أشدّ تشابها من بعض. هذا ما نراه فی أنواع المتشابه. أما العلماء الذین یقولون: إنّ المتشابه یمكن أن یعرف فقد ذكروا أنواعا عدة له، و معظمها من المحكم الذی لا یعرفه إلا العلماء المتذوقون مما سبق ذكره آنفا.
و توسعوا فی ذلك توسعا كبیرا حتی جعلوا الكلمة الغریبة التی یكشف عن معناها فی كتب غریب القرآن أو معجمات اللغة جعلوها من المتشابه.
و قسموا المتشابه تقسیمات متعددة، و سنلمّ بهذه التقسیمات إلماما سریعا، و إن كنّا لا نسلّم بصحتها كلها.
______________________________
(1) أنظر مقدمة الطبری لتفسیره 1/ 74 تحقیق محمود شاكر.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 157

التقسیم الأول:

ذكروا أنّ المتشابه ثلاثة أنواع:
1- متشابه من جهة اللفظ: و هو الذی أصابه الغموض بسبب اللفظ و هو نوعان:
أ- نوع یرجع إلی الألفاظ المفردة: و ذكروا له ضربین:
ضربا یرجع إلی الغرابة مثل (الأب) فی قوله تعالی: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا «1».
و ضربا یرجع إلی الاشتراك «2».
ب- نوع یرجع إلی جملة الكلام المركب: و ذكروا لذلك ثلاثة أضرب:
ضرب ینشأ عن اختصار الكلام.
و ضرب ینشأ عن بسط الكلام.
و ضرب ینشأ بسبب نظم الكلام.
و ذكروا لكل من هذه الأنواع أمثلة تقنع المرء بأن الذی ذهبوا إلیه فی تفسیر المتشابه غیر صحیح.
2- و متشابه من جهة المعنی: و هو الذی أصابه الغموض بسبب المعنی نفسه. و ذكر الراغب فی «مفرداته» أنّ منه أوصاف اللّه تعالی و أوصاف القیامة؛ إذ هو سبحانه لیس كمثله شی‌ء، و أحوال القیامة ممّا لا نستطیع تصورها، لأن فیها ما لا عین رأت و لا أذن سمعت و لا خطر علی قلب بشر.
و قد ذهب ابن تیمیة رحمه اللّه إلی أن اعتبار آیات الصفات من المتشابه
______________________________
(1) سورة عبس: 31.
(2) أنظر فی الاشتراك «المزهر» 1/ 369 و «فقه اللغة» لمحمد المبارك 198 و كتب فقه اللغة الأخری.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 158
غلط، و ردّ علی القائلین بذلك ردّا مفصلا «1»، و إن كان قد قرّر أنّ حقیقة ما تدلّ علیه الآیات من حقائق الأسماء و الصفات من المتشابه الذی لا یعلمه إلا اللّه، قال: (و أما حقیقة ما دلّ علیه ذلك من حقائق الأسماء و الصفات فهذا من تأویل المتشابه الذی لا یعلمه إلا اللّه) «2».
3- و متشابه من جهتهما- أی من جهة اللفظ و المعنی- و ذكروا له خمسة أنواع «3».

التقسیم الثانی:

و ذكروا للمتشابه تقسیما آخر من حیث إمكانیة معرفته فقالوا: إنه ینقسم إلی ثلاثة أقسام «4»:
1- قسم لا سبیل إلی الوقوف علیه كوقت الساعة و خروج الدابة.
2- و قسم للانسان سبیل إلی معرفته كالألفاظ الغریبة.
3- و قسم متردد بین الأمرین، یختصّ بمعرفته بعض الراسخین فی العلم و یخفی علی من دونهم.
قلت: و المتشابه من هذه الأضرب هو الأول. أما الألفاظ الغریبة و الضرب الذی یستطیع إدراكه الراسخون فی العلم فهو من المحكم، لأنّ المحكم- كما ذكرنا آنفا- یتفاوت وضوحا و سهولة، فمنه ما یحتاج إلی مزید نظر و تأمل لیقف المرء علی معناه و حقیقته.

المنحرفون و المتشابه:

المؤمنون یتبعون المحكم و یؤمنون بالمتشابه و یقولون: آمنا به كل من
______________________________
(1) «الفتاوی» 13/ 294.
(2) «الفتاوی» 3/ 65.
(3) أنظرها فی «المفردات» 261 و «الاتقان» 2/ 5
(4) و انظر «المفردات» و «الاتقان» و «الكلیات» 4/ 259.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 159
عند ربنا، و الذین فی قلوبهم زیغ یتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة.
هذه حقیقة قررتها الآیة الكریمة، و جاء التاریخ تطبیقا واقعیا لمضمونها، فما من فرقة ضالة أرادت كسب الأنصار إلی آرائها إلا و لجأت إلی المتشابه تؤوله علی الوجه الذی یروق لها و یتفق مع أصولها و مبادئها ...
و فی ذلك تشویه لصورة هذا الدین و نیل منه و إخراج للآیات عن حقیقتها.
و یبدو أنّ هذا مسلك طبیعی للمنحرفین، ذلك لأن المحكم من آیات القرآن الواضح الدلالة لا مجال فیه للدس و الافتراء و التحریف ... أما الكلام الذی یكون غیر واضح المعنی ففیه المجال الرحب أمام تلك الفرق المنحرفة لتقول: إن المراد بهذه الآیة هو كذا و كذا. و تأتی بضلالاتها و تقررها.
و إذا كان المنحرفون قد أقدموا علی تفسیر المحكم تفسیرا باطلا فإنهم فی المتشابه أشدّ إفسادا و تحریفا.
ذكر ابن الجوزی نقلا عن غلاة الشیعة الذین یعتقدون بعقیدة التناسخ الباطلة و ینكرون القیامة، فنقل عنهم قولهم: (و أما النفوس المنكوسة المغموسة فی عالم الطبیعة المعرضة عن طلب رشدها من الأئمة المعصومین فإنها أبدا فی النار، علی معنی أنها تتناسخ فی الأبدان الجسمانیة و كلما فارقت جسدا تلقاها آخر و استدلوا بقوله تعالی: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَیْرَها «1») «2».
و نقل ابن الجوزی عنهم أنهم یفسرون الصیام بالامساك عن كشف السر، و یفسرون البعث یوم القیامة بالاهتداء إلی مذاهبهم «3». و هذا كله
______________________________
(1) النساء: 56.
(2) القرامطة لابن الجوزی بتحقیقنا ص 61.
(3) القرامطة لابن الجوزی بتحقیقنا ص 64.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 160
باطل من القول و تعطیل للنصوص، و تضییع للواجبات. إذا كان صنیعهم بالنصوص المحكمة هكذا فما ذا یكون موقفهم من المتشابه؟.
إنهم دون شك سیجدون فیه بغیتهم، فیذهبون فی تحریف النص و تأویله المذاهب التی تنصر باطلهم.
و سأضرب مثلا واحدا علی اتباع المتشابه من قبل بعض الفرق الزائغة و هذا المثل هو الحروف المقطعة التی تأتی فی أوائل بعض السور.
و الموقف السلیم فی تفسیرها أنّ اللّه أعلم بمراده.
و لكنّ الناس المنحرفین وقفوا منها مواقف غریبة أذكر منها موقفین منكرین:
* فقد ذهب فریق منهم یفسرون هذه الحروف علی أنها رموز لكلمات یستدلون منها علی أحقیة سیدنا علی بالخلافة ... بل استدل بها بعضهم علی أن علیا كان أحقّ بالرسالة من محمد صلی اللّه علیه و سلم كما ذكر ذلك السید محمد رشید رضا «1»، و هذا باطل دون شك.
* و ذهب فریق ثان یفسرون هذه الحروف بحساب الجمل و یستنتجون من ذلك وقت قیام الساعة، و یهذون بهذیانات باطلة «2».
و هكذا فإن الاتجاه إلی تأویل المتشابه علی النحو المذكور لیس له دلیل من عقل و لا نقل، و هو وسیلة من وسائل نشر الزیغ و الانحراف.
***______________________________
(1) أنظر كتابه «الوحدة الاسلامیة» من ص 26 حتی 29 طبع المكتب الاسلامی.
(2) و انظر «تفسیر البیضاوی» 1/ 44 و «البحر المحیط» 1/ 34 و «الدر المنثور» 1/ 23 و 2/ 5. و (الجمل) علی وزن (سكر) و انظر «تاج العروس» 7/ 264.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 161

فوائد المتشابه:

قد یرد سؤال هو: ما الحكمة فی إنزال المتشابه و وجوده فی الكتاب العزیز؟ و الجواب علی ذلك أن فوائد المتشابه تختلف بالنسبة إلی ما یمكن علمه و إلی ما لا یمكن علمه «1».
أولا: فوائد المتشابه الذی یمكن علمه عدیدة نذكر منها أربعا هی:
1- حث العلماء علی النظر الموجب للعلم بغوامضه و البحث عن دقائقه.
2- ظهور التفاضل و تفاوت الدرجات إذ لو كان القرآن كله محكما لا یحتاج الی تأویل لاستوت منازل الخلق و لم یظهر فضل العالم علی غیره.
3- الحصول علی الثواب الأكبر، ذلك لأن المتشابه یوجب مزید المشقة فی الوصول الی المراد، و زیادة المشقة توجب مزید الثواب.
4- تحصیل العلوم الكثیرة، ذلك لأن المتشابه یوجب فهمه التعمق فی معرفة النحو و المعانی و غیرهما و الوقوف علی أسالیب العرب و العلوم الأخری.
هذا علی رأی الذین یسمون هذا النوع من الكلام متشابها و قد ذكرنا رأینا فی ذلك واضحا.
ثانیا: فوائد المتشابه الذی لا یمكن علمه عدیدة نذكر منها أربعا و هی:
1- ابتلاء العباد بالوقوف عنده، و التوقف فیه، و التفویض و التسلیم، و التعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ و ان لم یجز العمل بما فیه.
و فی ذلك اختبار إیمان المؤمن الذی یستسلم لكل ما جاءه عن اللّه فهو یؤمن بما جاء من عند اللّه، فهمه أم لم یفهمه، و یردد عند قراءته: آمنا به كل من عند ربنا.
______________________________
(1) أنظر «البرهان» للزركشی 2/ 75.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 162
2- و من حكم وجود المتشابه الذی استأثر اللّه بعلمه فی القرآن استكمال جوانب التأثیر فی العقیدة، و ذلك لتتوافر للعقیدة الصفة المهمة التی تجعلها عقیدة تملأ النفس، و تحوز الإعجاب. قال الأستاذ سید قطب رحمه اللّه: [إنّ العقیدة التی لا غیب فیها و لا مجهول، و لا حقیقة أكبر من الإدراك البشری المحدود لیست عقیدة، و لا تجد فیها النفس ما یلبی فطرتها و أشواقها الخفیة إلی المجهول المستتر وراء الحجب المسدلة] «1».
و هذا أمر مشاهد یدركه الواعون المتتبعون لأحوال الناس الشباب خاصة فی دیار الغرب، الذین یندفع عدد منهم إلی تبنی عدد من الأفكار التی تدعو إلی أمور غیبیة بعیدة عن دنیا الواقع.
إنها فطرة اللّه .. من أجل ذلك كان المتشابه فی القرآن یؤدی دورا ضخما فی مل‌ء هذا الجانب فی النفس الإنسانیة.
3- إقامة الحجة علی الناس جمیعا بهذا الكتاب، الذی جاء بكل ما یتطلع الناس إلیه أفرادا و جماعات، سواء كان فی العقیدة التی تنأی عن الخرافة و الباطل، و تدعو إلی الإیمان بحقائق یدرك الناس بعضها و یعجز العقل البشری عن إدراك بعضها، أو كان فی التشریع المتكامل أو فی الحیاة الروحیة السامیة التی أقامها بین الناس.
4- و ذكر العلماء أیضا أنّ من حكم المتشابه إقامة الحجة علی العرب البلغاء الأبیناء حیث نزل القرآن بلغتهم، و مع ذلك فقد عجزوا عن الوقوف علی معنی بعض الآیات، فدل ذلك علی أنه منزل من عند اللّه تبارك و تعالی.
*** هذا و مبحث المحكم و المتشابه من المباحث التی كثر الكلام فیها
______________________________
(1) خصائص التصور الاسلامی ص 114 (فی أول كلامه عن التوازن).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 163
و التألیف و قد یجعل بعضهم المحكم قسیما للمنسوخ. و نحسب أن ما ذكرنا فی هذا الفصل یمكن أن یعدّ من معالم هذا المبحث الواسع، و للقارئ الراغب فی التوسع ان یرجع إلی المراجع التی ذكرت فی حواشی هذا البحث «1».
______________________________
(1) أنظر فی المحكم و المتشابه كتب أصول الفقه و نذكر منها:
«الموافقات» 3/ 56 و «المستصفی» و «البرهان» للجوینی 1/ 422 و «الاحكام» للآمدی 1/ 165 و «إرشاد الفحول» 31 و «أصول الفقه» لخلاف و «اصول الفقه» للخضری 141- 156 و «أصول الفقه» لمحمد أبی زهرة و كتب التفسیر، و نذكر منها:
«تفسیر الطبری» 6/ 169 و «تفسیر القرطبی» 4/ 9 و «فتح القدیر» للشوكانی و «تفسیر القاسمی» و «أضواء البیان» 1/ 233 و «تفسیر المنار» 3/ 163- 230 و «تفسیر سورة الاخلاص» لابن تیمیة، و الكتب المؤلفة فی هذا الموضوع، و نذكر منها «الاكلیل فی المتشابه و التأویل» لابن تیمیة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 164

الفصل الثالث القراءات‌

تعریفها:

القراءات: جمع قراءة، و هی فی اللغة مصدر قرأ.
و فی الاصطلاح: علم بكیفیة أداء كلمات القرآن من تخفیف و تشدید و غیرهما، و اختلاف ألفاظ الوحی فی الحروف.
و قال الزركشی فی «البرهان»:
القرآن و القراءات حقیقتان متغایرتان، فالقرآن هو الوحی المنزل علی محمد صلی اللّه علیه و سلم للبیان و الاعجاز، و القراءات هی اختلاف ألفاظ الوحی المذكور فی الحروف و كیفیتها من تخفیف و تشدید و غیرهما «1».
و لا بد فیها من التلقی و المشافهة، لأن فی القراءات أشیاء لا تحكم إلا بالسماع و المشافهة.

شروط القراءة الصحیحة:

اشترط القراء شروطا ثلاثة لصحة القراءة و اعتبارها، و هی:
1- موافقتها لرسم المصحف الامام «2».
______________________________
(1) «البرهان» 1/ 318 و انظر «الاتقان» 1/ 80.
(2) أنظر النقول التی ساقها السیوطی فی اشتراط موافقة مصحف من مصاحف عثمان. فی الاتقان» 1/ 75.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 165
2- نقلها بالتواتر: هذا مذهب الاصولیین و فقهاء المذاهب الأربعة و المحدثین، و بناء علی ذلك فلا تثبت القراءة بالسند الصحیح غیر المتواتر و لو وافقت رسم المصحف و وافقت وجها من وجوه العربیة «1».
3- موافقتها لوجه من وجوه العربیة.
و متی اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق علیها شاذة، و قد یطلقون علیها ضعیفة أو باطلة. قال ابن الجزری فی أول كتابه «النشر» بعد أن ذكر هذه الشروط: «و متی اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة اطلق علیها ضعیفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم. و هذا هو الصحیح عند ائمة التحقیق من السلف و الخلف» «2».
و قال الكواشی: (و متی فقد شرط من الثلاثة فهو من الشاذ) «3».
أما إذا توافرت هذه الأركان فهی القراءة الصحیحة التی لا یجوز ردها و لا یحل إنكارها، بل هی من الأحرف السبعة التی نزل بها القرآن، و وجب علی الناس قبولها سواء أ كانت عن الائمة السبعة أم عن غیرهم من الائمة المشهورین «4»

القراءات وحی:

و القراءات وحی تلقاه الرسول صلی اللّه علیه و سلم من جبریل، و قرأه الرسول علی
______________________________
(1) انظر «غیث النفع» للصفاقسی ص 17 المطبوع مع «شرح الشاطبیة» لابن القاصح المسمی «سراج القارئ المبتدی و تذكار المقرئ المنتهی» و انظر «النشر» لابن الجزری و انظر تعلیق سعید الافغانی حول هذه النقطة فی كتابه «اصول النحو» ص 59 و انظر «البرهان» 1/ 319 و «الاتقان» 1/ 76 و 80.
(2) «النشر» لابن الجزری.
(3) «الاتقان» 1/ 81.
(4) انظر «النشر» لابن الجزری 1/ 9.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 166
الصحابة، و نقلت عنه بالتواتر كما ذكرنا آنفا.
فقد ثبت فی الصحاح عن عائشة و ابن عباس أن جبریل كان یعارض النبی صلی اللّه علیه و سلم بالقرآن فی كل عام مرة، فلما كان العام الذی قبض فیه عارضه مرتین «1»:
عن عائشة رضی اللّه عنها قالت: كان أزواج النبی صلی اللّه علیه و سلم عنده، فأقبلت فاطمة تمشی، ما تخطئ مشیتها من مشیة رسول اللّه شیئا، فلما رآها رحب بها و قال: «مرحبا بابنتی» ثم أجلسها عن یمینه- أو عن شماله- و سارّها، فبكت بكاء شدیدا، فلما رأی جزعها سارّها الثانیة فضحكت. فقلت لها:
خصك رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم من بین نسائه بالسرار ثم أنت تبكین؟
فلما قام رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم سألتها: ما قال لك رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم؟ قالت:
ما كنت أفشی علی رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم سرّه. فلما توفی رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم قالت:
عزمت علیك بما لی علیك من الحق لما حدثتنی ما قال لك رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم.
فقالت: أما الآن فنعم، أما حین سارنی فی المرة الأولی، فأخبرنی أن جبریل كان یعارضه القرآن فی كل سنة مرة، و أنه عارضه الآن مرتین «و إنی لا أری الأجل إلا قد اقترب فاتقی اللّه و اصبری، فإنه نعم السلف أنا لك» فبكیت بكائی الذی رأیت، فلما رأی جزعی سارنی الثانیة فقال:
«یا فاطمة أما ترضین أن تكونی سیدة نساء المؤمنین؟ أو سیدة نساء هذه الأمة؟» فضحكت ضحكی الذی رأیت «2».
______________________________
(1) انظر «فتاوی ابن تیمیة» 13/ 395 و «النشر» 1/ 32.
(2) متفق علیه، و هذا لفظ مسلم. و انظره فی «صحیح مسلم» 7/ 142 و فی «صحیح البخاری» 4/ 163. و انظره فی «ریاض الصالحین» باب حفظ السر ص 303، و انظر الحدیث من روایة أبی هریرة أیضا فی «مسند أحمد» 2/ 336 و 355 و «ابن ماجة» 1/ 562 و «الدارمی» 2/ 27.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 167
و كانت هذه العرضة الأخیرة تتضمن طرقا مختلفة لاداء بعض الكلمات، كما كانت تتضمن اختلافات بعض ألفاظ الوحی.
و من المعلوم أن الصحابة قد اختلف أخذهم عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم، فمنهم من أخذ عنه طریقة ما، و منهم من أخذ طریقة أخری، ثم تفرقوا فی البلاد و هم علی هذا الحال، فاختلف بسبب ذلك أخذ التابعین عنهم، و أخذ تابعی التابعین عن التابعین و هلم جرا .. حتی وصل الأمر علی هذا النحو إلی الأئمة القراء الذین سجلوا هذه القراءات ... و كانت القراءات المختلفة.

*** حدیث الأحرف السبعة:

لمس المسلمون أثر هذا الاختلاف فی القراءة الذی أشرنا الیه فی عهد النبوة، كما فی حدیث عمر و هشام الآتی، و هو حدیث الاحرف السبعة.
و قد التبس أمر هذا الحدیث علی كثیر من الناس، حیث ظن بعضهم ان المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع، و هو وهم أشار الیه الامام الحافظ أبو شامة بقوله:
(ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هی التی أریدت فی الحدیث، و هو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، و إنما یظن ذلك بعض أهل الجهل) «1».
و قال ابن عمار أیضا:
(لقد فعل مسبّع هذه السبعة ما لا ینبغی له، و أشكل الأمر علی العامة بإیهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هی المذكورة فی الخبر، ولیته اذ
______________________________
(1) ذكر ذلك ابن حجر فی «فتح الباری» 9/ 30 و انظر «تفسیر الطبری» 1/ 65 و تعلیق محمود محمد شاكر.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 168
اقتصر نقص علی السبعة أو زاد لیزیل الشبهة) «1».
و قد ذهب بعض أهل العلم الی أن حدیث الأحرف السبعة تواتر عن النبی صلی اللّه علیه و سلم، و ألف فیه كثیر من العلماء رسائل خاصة «2». و ممن ألف فی الحدیث المذكور الامام الحافظ أبو شامة المتوفی سنة 665 ه و ابن الجزری المتوفی سنة 833 ه الذی ألف فیه جزءا تتبع روایاته لیدل علی أنه متواتر.
و نصّ الحدیث كما أخرجه البخاری و مسلم عن عمر بن الخطاب قال:
سمعت هشام بن حكیم یقرأ سورة الفرقان فی حیاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم فاستمعت لقراءته فإذا هو یقرؤها علی حروف كثیرة لم یقرئنیها رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم فكدت أساوره «3» فی الصلاة، فانتظرته حتی سلم، ثم لببته بردائه «4» فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنیها رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم.
قلت له: كذبت، فو اللّه ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم أقرأنی هذه السورة التی سمعتك تقرؤها. فانطلقت أقوده إلی رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم. فقلت: یا رسول اللّه إنی سمعت هذا یقرأ بسورة الفرقان علی حروف لم تقرئنیها، و أنت أقرأتنی سورة الفرقان.
فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم: «أرسله یا عمر. اقرأ یا هشام».
فقرأ هذه القراءة التی سمعته یقرؤها، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم: «هكذا أنزلت» ثم قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم: «ان هذا القرآن انزل علی سبعة أحرف.
فاقرءوا ما تیسر منه» و اللفظ للبخاری «5».
______________________________
(1) انظر «فتح الباری» 9/ 30.
(2) انظر «غیث النفع» للصفاقسی ص 4.
(3) أی أعاجله و أواثبه.
(4) أی جمعت الرداء فی موضع لبته أی عنقه و امسكته به و جذبته به.
(5) انظر «صحیح البخاری» 6/ 152 و «صحیح مسلم» 2/ 202 و أخرجه معهما الترمذی
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 169
و أخرج مسلم «1» عن أبی بن كعب أن النبی صلی اللّه علیه و سلم كان عند أضاة «2» بنی غفار فأتاه جبریل علیه السلام فقال: إن اللّه یأمرك أن تقرأ أمتك القرآن علی حرف.
فقال: أسأل اللّه معافاته و مغفرته، و إن أمتی لا تطیق ذلك.
ثم أتاه الثانیة فقال: إن اللّه یأمرك أن تقرأ أمتك القرآن علی حرفین.
فقال: أسأل اللّه معافاته و مغفرته و إن أمتی لا تطیق ذلك. لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر 169 حدیث الأحرف السبعة: ..... ص : 167
جاءه الثالثة فقال: إن اللّه یأمرك أن تقرأ امتك القرآن علی ثلاثة أحرف.
فقال: أسأل اللّه معافاته و مغفرته و إن أمتی لا تطیق ذلك.
ثم جاء الرابعة فقال: إن اللّه یأمرك أن تقرأ أمتك القرآن علی سبعة أحرف، فأیما حرف قرءوا علیه فقد أصابوا».
و من الجدیر بالذكر التنبیه الی أن السبعة هنا یراد بها مدلولها الرقمی، و لو لا التدرج الوارد فی هذا الحدیث لما كان هناك مانع من أن یكون قد أرید بها التعدد، لأن من عادة العرب أن تستعمل السبعة لتدل علی التعدد فی الآحاد، و السبعین فی العشرات، و السبعمائة فی المئات «3».
______________________________
4/ 62 و أبو داود 2/ 101 و النسائی 2/ 115 و مالك فی «الموطأ». 1/ 201 و انظر الحدیث فی «جامع الأصول» لابن الاثیر 3/ 31 و «تفسیر ابن جریر» طبعة دار المعارف تحقیق محمود شاكر 1/ 24 و رقم الحدیث 25. و رواه الشافعی فی «الرسالة» فقرة رقم 752.
(1) انظر «صحیح مسلم» 2/ 203 و أخرجه أیضا أبو داود 2/ 102 و أحمد 5/ 128 و الترمذی 4/ 61 و النسائی 2/ 152 و انظره فی «جامع الأصول» 3/ 35.
(2) الاضاة: الماء المستنقع كالغدیر جمعها أضا مثل حصاة حصی، و جاء فی «معجم البلدان»؛ هو موضع قریب من مكة.
(3) انظر «النشر» لابن الجزری 1/ 26.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 170
و قد أجمع العلماء «1» المعتد بهم علی أن حدیث الأحرف السبعة لیس المراد به القراءات السبع المشهورة. قال ابن الجزری فی «النشر»:
(و انما أطلنا فی هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءات الصحیحة هی التی عند هؤلاء السبعة، و أن الأحرف السبعة التی أشار الیها النبی صلی اللّه علیه و سلّم هی قراءة هؤلاء السبعة. بل غلب علی كثیر من الجهال أن القراءات الصحیحة هی التی فی «الشاطبیة» و «التیسیر») «2» و یرید بالجملة الأخیرة أن القراءات الصحیحة أكثر من التی توجد فی هذین الكتابین.
و قد نقلنا قول الامام أبی شامة فی ذلك قبل قلیل.
و لیس المراد بالحدیث أن كل كلمة تقرأ علی سبعة أوجه:
و اختلفوا فی المراد به علی أقوال متعددة، و قد أورد السیوطی خمسة و ثلاثین قولا ذكرها فی «الاتقان» «3» و قال: إنها أربعون. و نقل الأستاذ الزرقانی أن هذه الأقوال تصل الی أربعین، و فصل القول فی أحد عشر قولا، و أورد بایجاز تسعة أقوال أخری «4».
و قال ابن حجر فی «فتح الباری»: «و ذكر القرطبی عن ابن حبان انه بلغ الاختلاف فی معنی الأحرف السبعة الی خمسة و ثلاثین قولا و لم یذكر القرطبی منها سوی خمسة و قال المنذری: أكثرها غیر مختار. و لم أقف علی كلام ابن حبان فی هذا بعد تتبعی مظانه من «صحیحه») «5».
______________________________
(1) نص علی هذا الاجماع ابن تیمیة فی «الفتاوی» 13/ 390 و ابن الجزری فی «النشر» 1/ 24.
(2) «النشر» 1/ 36.
(3) «الاتقان» 1/ 45 النوع السادس عشر و انظر «شرح السنة» 4/ 506- 512.
(4) «مناهل العرفان» 1/ 148- 177.
(5) «فتح الباری» 9/ 23.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 171
و لن نستطیع استقصاء هذه الأقوال كلها هنا، و لكننا سنورد القول الذی نرجحه، و یمكن لمن یرید التوسع فی ذلك أن یرجع إلی المراجع المذكورة فی حواشی البحث.
و هذا الرأی الذی سنورده منسوب الی الجمهور من أهل الفقه و الحدیث «1».
و قد ذهب الیه ابن جریر و غیره فقالوا: ان القراءة علی الأحرف السبعة یراد بها سبع لغات، أی سبع لغات من لغات العرب المشهورة فی كلمة واحدة و معنی واحد، أی أوجه من الألفاظ المختلفة فی كلمة واحدة و معنی واحد.
نحو (هلم، و أقبل، و تعال، و عجل، و أسرع، و قصدی، و نحوی) فهذه ألفاظ سبعة معناها واحد و هو طلب الاقبال.
و قد حكی هذا القول ابن تیمیة فقال:
(یقول ابن جریر و غیره: ان القراءة علی الأحرف السبعة لم تكن واجبة علی الأمة، و انما كان جائزا لهم، مرخصا لهم فیه، و قد جعل الیهم الاختیار فی أی حرف اختاروه) «2».
ثم قال: (و من هؤلاء من یقول: إن الترخیص فی الأحرف السبعة كان فی أول الاسلام لما فی المحافظة علی حرف واحد من المشقة علیهم، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة، و كان اتفاقهم علی حرف واحد یسیرا علیهم و هو أرفق بهم، جمعوا علی الحرف الذی كان فی العرضة الأخیرة و یقولون: إنه نسخ ما سوی ذلك) «3».
______________________________
(1) «مناهل العرفان» 1/ 167.
(2) «فتاوی ابن تیمیة» 13/ 396.
(3) «فتاوی ابن تیمیة» 13/ 397.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 172

هل الأحرف السبعة موجودة فی المصاحف العثمانیة؟

الجواب علی ذلك مرتبط بالمراد من الأحرف السبعة:
فعلی قول ابن جریر الذی اخترناه و ذكرناه قبل قلیل أن الذی فی المصاحف العثمانیة انما هو الحرف الذی ارتضته الأمة زمن عثمان و هو الذی وافق العرضة الأخیرة. و أما الأحرف الأخری فقد اندثرت، لأن القراءة بها لم تكن علی سبیل الالزام، و انما كانت علی سبیل الرخصة. قال ابو عمر ابن عبد البر: (الا ان مصحف عثمان الذی بأیدی الناس الیوم هو حرف واحد، و علی هذا أهل العلم) «1».
أما القراءات فمن الجلی الواضح أن أكثرها موجود فی المصحف، بل لقد اشترط القراء كما سبق ان ذكرنا موافقة القراءة لرسم مصحف عثمان حتی تكون قراءة صحیحة و هذا القول هو الأرجح و اللّه أعلم.
و هناك قول آخر نقله العلامة أبو شامة المقدسی عن أحمد بن عمار المقرئ و هو من رجال القرن الخامس نشیر إلیه كما رواه عنه أبو شامة، قال ابن عمار:
[أصحّ ما علیه الحذّاق من أهل النظر فی معنی ذلك أنّ ما نحن علیه فی وقتنا هذا من هذه القراءات هو بعض الحروف السبعة التی نزل علیها القرآن]. و تفسیر ذلك أنّ الحروف السبعة التی أخبر النبیّ صلی اللّه علیه و سلّم أنّ القرآن نزل علیها تجری علی ضربین:
أحدهما: زیادة كلمة و نقص أخری، و إبدال كلمة مكان أخری، و تقدیم كلمة علی أخری،
______________________________
(1) «البرهان» 1/ 221 و انظر فی هذا الموضوع «الاتقان» 1/ 49 هذا و قد أنكر ابن حزم هذا القول فی «الفصل» 2/ 77- 78 قال: [و أما قول من قال أبطل الأحرف الستة فقد كذب من قال ذلك. و لو فعل ذلك عثمان أو أراده لخرج عن الإسلام] و ابن حزم مخطئ فی قوله. سامحه اللّه و إیانا.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 173
و ذلك نحو ما روی ... «1» فهذا الضرب و ما أشبهه متروك لا تجوز القراءة به ... و الضرب الثانی: ما اختلف القراء فیه من إظهار، و إدغام، و روم، و إشمام، و قصر، و مدّ، و تخفیف، و شدّ، و إبدال حركة بأخری و یاء بتاء، و واو بفاء، و ما أشبه ذلك من الاختلاف المتقارب. فهذا الضرب هو المستعمل فی زماننا هذا، و هو الذی علیه خط مصاحف الأمصار، سوی ما وقع فیه من اختلاف فی حروف یسیرة.
فثبت بهذا أنّ هذه القراءات التی نقرؤها هی بعض من الحروف السبعة التی نزل علیها القرآن، استعملت لموافقتها المصحف الذی اجتمعت علیه الأمة، و ترك ما سواها من الحروف السبعة لمخالفته لمرسوم خط المصحف، إذ لیس بواجب علینا القراءة بجمیع الحروف السبعة التی نزل علیها القرآن، و إذ قد أباح النبی صلی اللّه علیه و سلّم لنا القراءة ببعضها دون بعض لقوله تعالی فَاقْرَؤُا ما تَیَسَّرَ مِنْهُ «2» فصارت هذه القراءة المستعملة فی وقتنا هذا هی التی تیسرت لنا بسبب ما رواه سلف الأمة، رضوان اللّه علیهم من جمع الناس علی هذا المصحف، لقطع ما وقع بین الناس من الاختلاف و تكفیر بعضهم لبعض] «3».

تاریخ القراءات:

كان موضوع القراءات من أهم الموضوعات التی واجهت اللجنة الكریمة المكلفة بهذه المهمة العظیمة: مهمة كتابة المصحف.
و قد وجدت هذه اللجنة فی عدم نقط المصحف و عدم شكله حلا جیدا لمشكلة استیعاب معظم القراءات، اذ أصبح المصحف فی كتابته هذه متسعا لعدد كبیر من القراءات المتناقلة فی عصرهم.
______________________________
(1) و ذكر أمثلة علی الزیادة، و النقص و الإبدال، و التقدیم.
(2) سورة المزمل: 20.
(3) «المرشد الوجیز» 140- 142.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 174
یقول ابن الجزری الدمشقی المتوفی سنة 833 ه:
(و جردت هذه المصاحف جمیعها من النقط و الشكل «1» لیحتملها ما صح نقله، و ثبتت تلاوته عن النبی صلی اللّه علیه و سلّم، إذ كان الاعتماد علی الحفظ لا علی مجرد الخط. و كان من جملة الأحرف التی أشار النبی صلی اللّه علیه و سلّم بقوله: «أنزل هذا القرآن علی سبعة أحرف» فكتبت المصاحف علی اللفظ الذی استقرّ علیه فی العرضة الأخیرة عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم كما صرح به غیر واحد من ائمة السلف كمحمد بن سیرین و غیره) «1».
و من المعلوم أن الصحابة رضوان اللّه علیهم تفرقوا فی الامصار المفتوحة فكان منهم فریق فی العراق، و فریق فی الشام، و فریق فی الیمن ... و هكذا.
و كان الصحابی یقرئ أهل المصر الذین یقیم فیهم القراءة التی تلقاها عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلّم فی مصحف عثمان. قال ابن الجزری: (و قرأ كل أهل مصر بما فی مصحفهم، و تلقوا ما فیه عن الصحابة الذین تلقوه من فی رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلّم ثم قاموا بذلك مقام الصحابة الذین تلقوه عن النبی صلّی اللّه علیه و سلّم) «3».
و نبغ عدد من التابعین یؤدون هذه المهمة فی المدینة و مكة و البصرة و الكوفة و الشام.
قال ابن تیمیة: (فانه- أی ابن مجاهد- أحب أن یجمع المشهور من قراءات الحرمین و العراقین و الشام، اذ هذه الأمصار الخمسة هی التی خرج منها علم النبوة من القرآن و تفسیره، و الحدیث و الفقه من الأعمال الباطنة و الظاهرة و سائر العلوم الدینیة) «4».
و یقول ابن الجزری:
______________________________
(1) «النشر» 1/ 7- 8.
(3) «النشر» 1/ 8.
(4) «فتاوی ابن تیمیة» 13/ 390.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 175
(ثم تجرد قوم للقراءة و الأخذ، و اعتنوا بضبط القراءة أتم عنایة، حتی صاروا فی ذلك أئمة یقتدی بهم و یرحل الیهم و یؤخذ عنهم، أجمع أهل بلدهم علی تلقی قراءتهم بالقبول، و لم یختلف علیهم فیها اثنان و لتصدّیهم للقراءة نسبت إلیهم:
* فكان بالمدینة أبو جعفر یزید بن القعقاع ت 130 ه، ثم شیبة بن نصاح ت 130 ه ثم نافع بن أبی نعیم ت 169 ه.
* و كان بمكة عبد اللّه بن كثیر ت 120 ه، و حمید بن قیس الأعرج ت 130 ه، و محمد بن محیصن.
* و كان بالكوفة یحیی بن وثاب ت 103 ه، و عاصم بن أبی النجود ت 156 ه، و سلیمان الأعمش ت 148 ه، ثم حمزة ت 156 ه ثم الكسائی ت 189 ه.
* و كان بالبصرة عبد اللّه بن أبی اسحاق ت 117 ه، و عیسی بن عمر ت 149 ه، و أبو عمرو ابن العلاء ت 154 ه، ثم عاصم الجحدری ت 128 ه، ثم یعقوب الحضرمی ت 205 ه.
* و كان بالشام عبد اللّه بن عامر ت 118 ه، و عطیة بن قیس الكلابی ت 121 ه، و اسماعیل بن عبد اللّه بن المهاجر، ثم یحیی بن الحارث الذماری ت 145 ه، ثم شریح بن یزید الحضرمی ت 230 ه.
ثم إنّ القراء بعد هؤلاء المذكورین كثروا و تفرقوا فی البلاد و انتشروا و خلفهم أمم بعد أمم عرفت طبقاتهم ...) «1».
ثم جاء أبو عبید القاسم بن سلام المتوفی 224 ه فجمع القراءات فی كتاب، و كان أول أمام معتبر یقوم بهذه المهمة، و كان عدد القراء الذین
______________________________
(1) «النشر» 1/ 9.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 176
تعرض لهم فی كتابه قرابة 25 قارئا مع السبعة المشهورین «1».
ثم قامت بعده محاولات عدیدة قام بها أعلام من القراء، فمن ذلك ما جمعه أحمد بن جبیر بن محمد الكوفی نزیل انطاكیة و المتوفی 258 ه.
و جاء بعده القاضی إسماعیل بن اسحاق المالكی ت 282 ه صاحب قالون الذی ألف كتابا فی القراءات جمع فیه قراءة عشرین، منهم هؤلاء السبعة.
و كان بعده محمد بن جریر الطبری ت 310 ه الذی جمع كتابا حافلا سماه «الجامع» فیه نیف و عشرون قراءة.
و جاء بعده أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الداجونی ت 324 ه الذی جمع أیضا كتابا فی القراءات.
و كان أبو بكر أحمد بن موسی بن العباس بن مجاهد التمیمی أول من اقتصر علی قراءات هؤلاء السبعة فقط «2». و كان ابن مجاهد حافظا مقدما فی علم القراءات، ولد فی بغداد سنة 245 ه و كان كثیر التلامیذ، شدید الورع، راغبا فی الخیر، توفی یوم الأربعاء فی 20 شعبان سنة 324 ه «3».

قال ابن تیمیة:

(فلما أراد ابن مجاهد ذلك جمع قراءات سبعة مشاهیر من ائمة قراء هذه الأمصار لیكون ذلك موافقا لعدد الحروف التی أنزل علیها القرآن، لا لاعتقاده أو اعتقاد غیره من العلماء أن القراءات السبع هی الحروف السبعة، أو أنّ هؤلاء السبعة هم الذین لا یجوز أن یقرأ بغیر قراءاتهم) «4».
______________________________
(1) «النشر» 1/ 33- 34.
(2) انظر «النشر» 1/ 34 فقد ذكر ابن الجزری هناك أسماء الكتب التی ألفت فی القراءات و قد أحصی و استقصی، جزاه اللّه خیرا.
(3) انظر ترجمته فی «غایة النهایة فی طبقات القراء» 1/ 139.
(4) «فتاوی ابن تیمیة» 13/ 390.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 177
و قال مكی:
(من ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع و عاصم هی الأحرف السبعة التی فی الحدیث فقد غلط غلطا عظیما) «1» و قال: (و یلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة و وافق خط المصحف أن لا یكون قرآنا و هذا غلط عظیم) «1» و قال: (و السبب فی الاقتصار علی السبعة مع ان فی ائمة القراء من هو أجل منهم قدرا، أو مثلهم، أكثر من عددهم، ان الرواة عن الائمة كانوا كثیرا جدا فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما یوافق خط المصحف علی ما یسهل حفظه و تنضبط القراءة به، فنظروا الی من اشتهر بالثقة، و الأمانة، و طول العمر فی ملازمة القراءة به، و الاتفاق علی الأخذ عنه، فأفردوا من كل مصر إماما واحدا) «3».

*** ملاحظات:

و نختم هذا العرض السریع بملاحظات هامة:
1- القراءات الصحیحة الثابتة كثیرة، و لیست محصورة بالقراءات السبع التی جمعها ابن مجاهد، بل ربما كان كثیر مما یروی عن غیر هؤلاء السبعة أصح من كثیر مما فیها «4» و الجهلة هم الذین یظنون أن كل ما لم یأت فی قراءات هؤلاء السبعة شاذ. و انما أوقع هؤلاء فی الشبهة سوء فهمهم لحدیث الأحرف. یقول ابن الجزری: (و لذلك كره كثیر من الائمة المتقدمین اقتصار ابن مجاهد علی سبعة من القراء و خطئوه فی ذلك) «4».
2- لا خلاف بین المسلمین فی أن القراءات المشهورة الصحیحة الثابتة
______________________________
(1) «الاتقان» 1/ 80- 81. و انظر «الابانة عن معانی القراءات» لمكی ص 36.
(3) «الاتقان» 1/ 81.
(4) انظر «النشر» 1/ 36 و «المرشد الوجیز» 150 و ما بعدها.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 178
بالشروط المعروفة لا یمكن أن تتناقض بحال من الأحوال «1».
و رأی العلماء ان اختلافها واحد من أمرین:
أ- إما أن یكون عائدا للفظ، و المعنی واحد، مثل، الامالة و عدمها، و الادغام و عدمه. و ترقیق اللامات و تغلیظها.
ب- و إما أن یكون اختلافها فی المعنی و لكن بشكل لا تناقض فیه مثل (باعد) و (بعد) «2» و هذه القراءات الثابتة التی یتغایر فیها المعنی، كلها حق، یجب الایمان بها كلها، و اتباع ما تضمنته من المعنی علما و عملا، و لا یجوز ترك موجب احداها لأجل الأخری.
3- القراءات كلها من الحرف الذی وصل إلینا، و لكن كثیرا من القراءات الصحیحة لم تستوعبه القراءات السبع أو العشر.

*** حكم تعدد القراءات «3»:

1- التخفیف و التیسیر علی هذه الامة فی قراءة القرآن: ففی الناس المرأة و الشیخ و الانسان العادی ممن لا یقدرون علی النطق بغیر لهجاتهم و قد آنس الرسول صلی اللّه علیه و سلم ذلك، فطلب من ربه المعافاة فاستجاب له، و خفف علی أمته، و انزل القرآن علی قراءات متعددة.
2- شرح الالفاظ: فمثلا القراءة التی وردت الآیة فیها كما یأتی:
______________________________
(1) و كذلك الأحرف السبعة أیا كان تفسیرها، لا یمكن أن تتناقض أبدا.
(2) الآیة 19 من سورة سبأ. و الآیة بتمامها: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَیْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِیثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِی ذلِكَ لَآیاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ و انظر القراءات فی كلمة (باعد) فی «البحر المحیط» 7/ 272- 273. و «النشر» 2/ 350.
(3) انظر تفصیل ذلك فی «النشر» 1/ 52 و «الاتقان» 1/ 82 و «مناهل العرفان» 1/ 138.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 179
(و تكون الجبال كالصوف المنفوش) «1» أفادت فی شرح كلمة (العهن) الواردة فی القراءة الأخری المعروفة: وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ «1».
3- بیان حكم من الاحكام: مثل قوله تعالی وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ یُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ «3».
قرأ سعد بن أبی وقاص رضی اللّه عنه «و له أخ أو اخت من أمه» بزیادة (من أمه) «4».
و كذلك قوله تعالی فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِی الْمَحِیضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّی یَطْهُرْنَ «5» فقراءة (یطهرن) بالتشدید مبینة لمعنی قراءة التخفیف.
4- دفع توهم ما لیس مرادا: مثل قوله تعالی یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا نُودِیَ لِلصَّلاةِ مِنْ یَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلی ذِكْرِ اللَّهِ «6» قرئ «فامضوا الی ذكر اللّه» فالقراءة الأولی توهم وجوب السرعة فی المشی إلی صلاة الجمعة، و لكن القراءة الثانیة رفعت هذا التوهم.
5- تحدی القرآن جمیع العرب، فلو أتی بلغة دون لغة لقال الذین لم یأت بلغتهم: لو أتی بلغتنا لأتینا بمثله.
6- ان وجود القراءات حمل النحویین علی توجیهها، فأغنی هذا التوجیه العربیة. قال الزركشی: (و قد اعتنی بتوجیه القراءات الأئمة، و أفردوا فیه كتبا. منها كتاب «الحجة» لأبی علی الفارسی و كتاب
______________________________
(1) سورة القارعة: 5.
(3) سورة النساء 12.
(4) انظر «تفسیر الطبری» 8/ 62.
(5) سورة البقرة: 222.
(6) سورة الجمعة: 9.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 180
«الكشف» لمكی و كتاب «المحتسب فی توجیه الشواذ» لابن جنی) «1».
7- و من فوائد تعدد القراءات اظهار سر اللّه فی كتابه و صیانته له عن التبدیل و الاختلاف مع كونه علی هذه الأوجه الكثیرة.

القراء العشرة و رواتهم:

القراء العشرة هم القراء الذین عنی العلماء بنقل قراءاتهم و هم علی قسمین:
* سبعة اختارهم ابن مجاهد.
* و ثلاثة اختارهم ابن الجزری فكملوا العشرة.
و سنورد فیما یأتی أسماء هؤلاء القراء و أسماء رواتهم و سنوات وفیاتهم فی جدولین نلحق بكل منهما بعض الملاحظات:

1- جدول بأسماء القراء السبعة و رواتهم:

اشارة

1- نافع بن عبد الرحمن المدنی/ و راویاه هما:
(ت 169)/ 1- قالون: عیسی بن میناء ت 220 2- ورش: عثمان بن سعید ت 197 2 عبد اللّه بن كثیر المكی/ و راویاه هما:
(ت 120)/ 1- قنبل: محمد بن عبد الرحمن ت بعد 280 2- البزری: احمد بن محمد ت 240 3- أبو عمرو بن العلاء البصری/ و راویاه هما:
(ت 154)/ 1- الدوری: حفص بن عمر ت 250.
______________________________
(1) «البرهان» 1/ 339 و «الاتقان» 1/ 82- 83 و قد حقق «الكشف» محیی الدین رمضان و نشره مجمع اللغة العربیة بدمشق. 1974 ثم نشرته مؤسسة الرسالة ببیروت 1981.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 181
2- السوسی: صالح بن زیاد ت 261.
4- عبد اللّه بن عامر الشامی/ و راویاه هما:
(ت 118)/ 1- ابن ذكوان: عبد اللّه بن أحمد ت 242.
2- ابن عمار: هشام بن عمار ت 245.
5- عاصم بن أبی النجود الكوفی/ و راویاه هما:
(ت 127 ه)/ 1- شعبة بن عیاش ت 194 2- حفص بن سلیمان ت قریبا من 190 6- حمزة بن حبیب الزیات الكوفی/ و راویاه هما:
(ت 156)/ 1- خلف بن هشام البزار ت 229 2- خلاد بن خالد ت 220 7- علی بن حمزة الكسائی الكوفی/ و راویاه هما:
(ت 189)/ 1- الدوری: (انظره عند أبی عمرو ابن العلاء) 2- اللیث بن خالد أبو الحارث ت 240.

الملاحظات حول القراء السبعة:

1- ان هؤلاء القراء السبعة من أمصار العلم المعروفة التی انبثق منها علم النبوة- كما یقول ابن تیمیة- و هی: مكة و المدینة، و الكوفة و البصرة، و الشام، و یلاحظ من معرفة أحوال هؤلاء القراء ان حظ الكوفة أكبر من غیرها من الأمصار اذ كان منها ثلاثة من سبعة و هم: عاصم و حمزة و الكسائی.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 182
2- ان هؤلاء القراء جمیعا كانوا من رجال القرن الثانی الهجری، أدرك معظمهم القرن الأول، و تلقوا عن الصحابة، و لذلك فقد كان معظمهم من التابعین، و أولهم وفاة هو ابن عامر توفی سنة 118 و آخرهم وفاة الكسائی توفی سنة 189.
3- ان هؤلاء القراء من الموالی باستثناء قارئین و هما ابو عمرو بن العلاء و عبد اللّه بن عامر.
4- ان هؤلاء القراء جمیعا كانوا من المعمرین الذین أتیح لهم أن یقرءوا الناس القرآن مدة طویلة، و تخرجت علیهم أجیال.
5- ان هؤلاء القراء كانوا جمیعا من العلم و الورع و الاستقامة و الخلق بالمكان الأسمی.
6- یلاحظ ان بعض القراء تلقی رواتهم القراءة عنهم مباشرة، و بعضهم تلقی الرواة المذكورون القراءة عنهم بالواسطة.

ب- جدول بأسماء القراء الثلاثة المكملین للعشرة:

اشارة

1- ابو جعفر یزید بن القعقاع/ و راویاه هما:
المخزومی المدنی (ت 130)/ 1- عیسی بن وردان (ت 160) 2- سلیمان بن حجاز (ت بعد 170) 2- یعقوب بن اسحاق الحضرمی/ و راویاه هما:
البصری (ت 205)/ 1- رویس محمد بن المتوكل (ت 238) 2- روح بن عبد المؤمن الهذیلی (ت 235)
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 183
3- خلف بن هشام البزار/ و راویاه هما:
البغدادی (ت 229) و انظره عند حمزة الكوفی فی الجدول السابق./ 1- اسحاق بن إبراهیم بن عثمان الوراق (ت 286) 2- ادریس بن عبد الكریم الحداد (ت 292)

الملاحظات حول القراء الثلاثة:

1- هؤلاء القراء الثلاثة من رجال القرن الثانی الهجری فآخرهم وفاة توفی بالربع الثانی من القرن الثالث الهجری.
2- یلاحظ ان فی هؤلاء القراء من ینتسب الی المدینة و البصرة بالاضافة الی خلف الذی كان راویا لحمزة الكوفی.
3- كذلك كان هؤلاء القراء الثلاثة من الفضل و التقوی و المعرفة بمكانة عالیة شأنهم شأن سابقیهم.
***
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 185

القسم الثانی التفسیر و اتجاهاته‌

اشارة

لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 187
كلامنا عن التفسیر سیكون فی أبواب ثلاثة: واحد فی أصوله و آخر فی تاریخه و ثالث فی اتجاهاته.
و نقدم بین یدی كلامنا هذا بحثا فی التفسیر لغة و اصطلاحا و الفرق بینه و بین التأویل.

التفسیر:

- التفسیر فی اللغة: الایضاح و التبیین. و وزنه تفعیل من الفسر، و هو البیان و الكشف. قال اللّه تعالی: وَ لا یَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِیراً «1».
- التفسیر فی الاصطلاح: هو علم یفهم به كتاب اللّه و ذلك ببیان معانیه و استخراج أحكامه و حكمه و قد یدعی التفسیر تأویلا.
و قالوا فی تعریفه: هو علم باحث عن معنی نظم القرآن بحسب الطاقة البشریة، و بحسب ما تقتضیه القواعد العربیة.
و الغرض منه: معرفة معانی النظم.
______________________________
(1) سورة الفرقان: 33.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 188
و فائدته: حصول القدرة علی استنباط الأحكام الشرعیة علی وجه الصحة.
و موضوعه: كلام اللّه سبحانه الذی هو منبع كل حكمة و معدن كل فضیلة.
و غایته: التوصل إلی فهم معانی القرآن و استنباط حكمه لیفاز به إلی السعادة الدنیویة و الأخرویة «1».
و قال أبو حیان فی تعریفه: هو علم یبحث فیه عن كیفیة النطق بألفاظ القرآن و مدلولاتها و أحكامها الإفرادیة و التركیبیة و معانیها التی تحمل علیها حالة التركیب و تتمات لذلك «2».

التفسیر و التأویل:

اختلف العلماء فی تحدید معناهما:
فقال قوم: إنهما بمعنی واحد. و قال آخرون: التفسیر أعم من التأویل لأنه یستعمل فی الكتب الإلهیة و غیرها، و أما التأویل فأكثر ما یستعمل فی الكتب الإلهیة «3»، تقول: فسرت الكلمة الواردة فی بیت الشعر، و لا تقول:
أولت ذلك.
و قالوا: أكثر ما یستعمل التفسیر فی الألفاظ و المفردات، أما التأویل فأكثر ما یستعمل فی المعانی و الجمل «4».
______________________________
(1) «كشف الظنون» 1/ 427.
(2) «البحر المحیط» 1/ 13- 14 و انظر شرحه لمفردات هذا التعریف هناك.
(3) نقل ذلك الزركشی فی «البرهان» 2/ ص 149 و السیوطی فی «الاتقان» 2/ 173 عن الراغب، و انظر مقدمة التفسیر للراغب 402 و هو ملحق بكتاب «تنزیه القرآن» للقاضی عبد الجبار.
(4) «الاتقان» 2/ 173.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 189
و قد حقق شیخ الاسلام ابن تیمیة رحمه اللّه القول فی كلمة (التأویل) فی استعمال السلف و المتأخرین تحقیقا جیدا ننقل فحواه فیما یأتی:
- قرر- رحمه اللّه- أن السلف استعملوا هذا اللفظ فی معنیین:
* أحدهما: تفسیر الكلام و بیان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالفه فیكون التأویل و التفسیر عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا.
* و ثانیهما: هو نفس المراد بالكلام فان كان الكلام طلبا كان تأویله نفس الفعل المطلوب، و إن كان خبرا كان تأویله نفس الشی‌ء المخبر به.
و من ذلك قوله تعالی:
هَلْ یَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِیلَهُ یَوْمَ یَأْتِی تَأْوِیلُهُ یَقُولُ الَّذِینَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَیَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَیْرَ الَّذِی كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا یَفْتَرُونَ «1».
و قرر أن (التأویل) فی عرف المتأخرین هو صرف اللفظ عن المعنی الراجح الی المعنی المرجوح لدلیل یقترن به كقولهم: هذا الحدیث مؤول، أی مصروف عن كذا محمول علی غیره. و لا بد من دلیل یعتمده المؤول «2».
و قد أورد السیوطی فی «الاتقان» نقولا كثیرة عن العلماء فی التفریق بینهما «3».
______________________________
(1) سورة الأعراف: 53.
(2) انظر «مجموع فتاوی ابن تیمیة» 13/ 283.
(3) «الاتقان» 2/ 173.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 191

الباب الأول أصول التفسیر

اشارة

أصول التفسیر مبحث مهم تفرقت موضوعاته فی مقدمات بعض المفسرین و فی كتب أصول الفقه. و من أشهر الذین أفردوه من المتقدمین ابن تیمیة فی رسالة خاصة طبعت بعنوان «مقدمة فی أصول التفسیر»، و أفرده بالتألیف من المتأخرین العلامة الشیخ عبد الحمید الفراهی من علماء الهند و ترك رسالة عنوانها: «التكمیل فی أصول التأویل» یقول فی مقدمتها:
(و لم نحتج الی تأسیس هذا الفن لترك العلماء ایاه بالكلیة، فانك تجد طرفا منه فی أصول الفقه و لكنه غیر تمام «1»).
و البحث فی أصول التفسیر ما زال متسعا لمزید من الدراسة و التألیف.
و سنلمس هذا المبحث لمسات تتناول النقاط الثلاث الآتیة:
1- سنذكر أولا العلوم التی لا بد من تحصیلها لیتسنی لنا أن نفسر القرآن.
2- كما نذكر ما یشترطه العلماء عادة فی المفسر.
3- و نشیر الی أهم قواعد أصول التفسیر.
***______________________________
(1) «التكمیل فی أصول التأویل» ص 1.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 192

أولا: العلوم التی یحتاج الیها المفسر عدیدة أهمها:

1- اللغة و الاشتقاق: لأننا باللغة نعرف معانی المفردات، و فهم حقائق الألفاظ المفردة یكون باستقصاء المعانی التی دلت علیها هذه الكلمة فی آیات القرآن. و لا بد للوصول الی هذا المقصد من الاطلاع علی معانی المفردات زمن التنزیل، إذ كلما استطعنا تحدید مدلول هذه الكلمة فی ذاك الزمن كنا أقدر علی فهم معنی الكلمة المراد.
قال مجاهد:
(لا یحل لأحد یؤمن باللّه و الیوم الآخر أن یتكلم فی كتاب اللّه إذا لم یكن عالما بلغات العرب) «1».
و مما یتصل بمعرفة المفردات معرفة المترادف و المشترك و ما الی ذلك من أنواع اللغة. و كذلك فان معرفة الاشتقاق تعین علی الفهم الدقیق للآیة.
2- النحو و الصرف: لأن فهم المعنی یتوقف فی أحیان كثیرة علی معرفة الاعراب، و یقع الذین یجهلون هذین العلمین و یتصدون للتفسیر فی أغلاط شنیعة كما حدث لبعضهم فی شرح الآیة: یَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ «2» فقد فهموا الامام أنه جمع أم، و أن الناس یدعون یوم القیامة بامهاتهم دون آبائهم قال الزمخشری: (و هذا غلط أوجبه جهله بالتصریف، فإن (أما) لا تجمع علی (إمام)) «3».
3- الأدب و علوم البلاغة: ذلك لأن مراعاة ما یقتضیه الاعجاز أمر لازم فی التفسیر، فلا بد من إشارة الی نواحی الجمال الفنی فی الآیة و تحلیلها.
______________________________
(1) «الاتقان» 2/ 181.
(2) سورة الاسراء: 71.
(3) انظر «الاتقان» 2/ 181 و انظر «الأسرار المرفوعة» 495- 496.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 193
و من أجل ذلك كله كان التذوق الأدبی أمرا ضروریا لكل من یتصدی للتفسیر، و لا ینمو هذا التذوق إلا بعد طول معاناة لكلام البلغاء و قراءة آثارهم و حفظ مختارات منها، و اطلاع علی نتاج النقاد، و دراسة للشعر و الرسائل و الخطب و اشتغال بالكتابة، قال الزمخشری:
(من حق مفسر كتاب اللّه الباهر، و كلامه المعجز، ان یتعاهد بقاء النظم علی حسنه، و البلاغة علی كمالها، و ما وقع به التحدی سلیما من القادح) «1».
4- علوم القرآن: ذلك لأن معرفة هذه العلوم من أهم الأدوات التی لا بد منها لعملیة التفسیر.
فمعرفة أسباب النزول تساعد كثیرا علی فهم الآیات الفهم الصحیح الدقیق، و تجنب المفسر أغلاطا كان من المحتمل أن یقع فیها.
و كذلك فان معرفة المكی و المدنی تعین فی ادراك معانی الآیات، و لنأخذ علی ذلك مثلا آیات الجهاد، فاننا- عند ما نعرف المكی و المدنی منها- نتصور الجهاد علی الوجه الصحیح السلیم «2».
و كذلك فان معرفة الناسخ و المنسوخ لها أهمیتها القصوی فی تفسیر الآیات التی تقرر حكمین مختلفین فی موضوع واحد.
و كذلك فان المحكم و المتشابه من الأمور الأساسیة فی التفسیر، حتی نتخلص من عناء الدخول فی متاهات المتشابه، و لنصرف جهدنا و طاقاتنا فی تفسیر المحكم.
5- علم أصول الدین و التوحید: و ذلك لأن هذا الكتاب الكریم- كما
______________________________
(1) «الاتقان» 2/ 181.
(2) انظر «زاد المعاد» 3/ 158 و «معالم فی الطریق» 75 و تفسیر سورة الأنفال و سورة براءة من كتاب «فی ظلال القرآن».
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 194
سبق أن أسلفنا- یتضمن نظرة جدیدة الی الكون و الحیاة و الانسان متمثلة فی العقیدة الاسلامیة، فادراك أصول هذه العقیدة یساعد مساعدة تامة فی شرح الآیات الكریمة المتعلقة بذلك.
6- علم أصول الفقه: لأننا بواسطة هذا العلم نستطیع أن نعرف استنباط الاحكام من النص، و وجه الاستدلال علی الأحكام.
و لعل هذا العلم من أهم العلوم التی نستفید منها فی قواعد أصول التفسیر.
7- الحدیث النبوی و الفقه و السیرة:
أما الحدیث ففیه تفسیر لعدد من آیات القرآن، إذ كانت مهمة النبی صلی اللّه علیه و سلم الأولی تبیان ما نزل إلیه، و فیه تفصیل للمجمل و بیان للمبهم.
و أما الفقه الاسلامی فانه یعرض الأحكام الاسلامیة التی ذكرها القرآن مبوبة مجموعة، فیساعد استحضارها علی تصور دقیق لمعانی آیات الأحكام.
و أما السیرة ففیها تجلیة لكثیر من الآیات، و ذلك كما فی آیات الأنفال التی تتحدث عن غزوة بدر، و آیات آل عمران التی تتحدث عن غزوة أحد.
8- علوم أخری: كالعلوم الاجتماعیة و العقلیة و الكونیة و ما یتصل بالثقافة العامة، فالتاریخ و الجغرافیا و الاجتماع و علم النفس و الفلك .. كل هذه العلوم مما یساعد علی تفسیر القرآن تفسیرا یتصل بحیاة الناس.

ثانیا: الشروط التی یشترطها العلماء فی المفسر:

و نستطیع أن نقسمها الی ثلاثة أقسام:
1- شروط عملیة: تتلخص باتقان المفسر قدرا جیدا من العلوم التی ذكرناها آنفا.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 195
2- شروط عقلیة: و هی أن یكون المفسر موهوبا ذا قدرات عقلیة ممتازة، قوی الاستدلال حسن الاستنباط، قادرا علی الترجیح إن تعارضت الأدلة، عارفا اختلاف الأقوال علی حقیقته، اذ كثیرا ما یكون الاختلاف اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد «1».
3- شروط دینیة و خلقیة: و هی أن یكون صحیح العقیدة، مؤدیا للواجبات الدینیة، ملتزما الآداب و الأخلاق الاسلامیة التی دعا الیها الاسلام و أن یكون محررا من سلطان الهوی، شدید الخشیة للّه.

*** ثالثا: قواعد أصول التفسیر:

و سنقتصر علی الاشارة الی أهمها، لأننی أری ان محل ذكرها كتب أصول التفسیر ذاتها. قال الفراهی:
(و هذه الأصول تقسم الی قسمین: الأول ما یعصم عن الزیغ فی التأویل، و الثانی ما یهدی إلی الحكم التی یتضمنها كتاب اللّه) «2».
* و من أهم الاصول التی یجب مراعاتها أن تكون خطوات التفسیر متدرجة كما یلی:
1- تفسیر القرآن بالقرآن:
لاننا نجد أحیانا ان ما اجمل فی موضع قد فصّل فی موضع آخر كما سنذكر ذلك بالتفصیل فی موضعه إن شاء اللّه.
2- تفسیر القرآن بالسنة:
______________________________
(1) و قد فصل ابن تیمیة هذا فی رسالته تفصیلا حسنا انظر ص 38 من رسالة ابن تیمیة و انظر «توجیه النظر» ص 2 و انظر ص 210 من هذا الكتاب.
(2) «التكمیل فی أصول «التأویل» ص 13.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 196
لأنها الشارحة للقرآن الموضحة له.
3- تفسیر القرآن بما قاله الصحابة:
لأنهم شاهدوا من القرائن و الأحوال التی رافقت نزول القرآن ما یجعل فهمهم أدق و أتم، و لأن لغة القرآن هی لغتهم یدركون من أسرارها بالفطرة ما لا یدركه المتأخرون بالتعلم.
* و من القواعد ما یذكره الأصولیون من أنّ صیغة الأمر إذا جاءت بعد حظر دلت علی الاباحة و ذلك كقوله تعالی فی سورة الجمعة: وَ ذَرُوا الْبَیْعَ ذلِكُمْ خَیْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِذا قُضِیَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِی الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «1».
فقوله تعالی فَانْتَشِرُوا فِی الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ إنما هو للاباحة لا للوجوب.
* و من القواعد ما ذكره ابن القیم فی كتابه «بدائع الفوائد» «2». و من ذلك قوله: (و تستفاد الإباحة من لفظ الإحلال، و رفع الجناح، و الإذن، و العفو، و إن شئت فافعل و إن شئت فلا تفعل، و من الامتنان بما فی الأعیان من المنافع و ما یتعلق بها من الأفعال نحو مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً «3» و نحو وَ بِالنَّجْمِ هُمْ یَهْتَدُونَ «4» و من السكوت عن التحریم) «5».
______________________________
(1) سورة الجمعة: 9- 10.
(2) انظر «بدائع الفوائد» 4/ 2- 10 و قد نقل معظمها عبد الرحمن السعدی فی كتابه «فوائد قرآنیة» 105- 113.
(3) سورة النحل: 80 و الآیة بتمامها: وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُیُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُیُوتاً تَسْتَخِفُّونَها یَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ یَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً وَ مَتاعاً إِلی حِینٍ.
(4) سورة النحل: 16.
(5) «بدائع الفوائد» 4/ 6.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 197

الباب الثانی تاریخ التفسیر

اشارة

سنلم فی فصول هذا الباب المامة سریعة بتاریخ التفسیر، نستعرض نشوءه أیام النبی صلی اللّه علیه و سلم و نموه فی عهد الصحابة و التابعین، ثم نتحدث عن توسعه فیما بعد ذلك حتی ننتهی فی استعراضنا الی العصر الحدیث، و سنقسم كلامنا حول تاریخ التفسیر الی أربعة فصول:
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 199

الفصل الأول التفسیر فی عهد النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم‌

القرآن كتاب عربی مبین، نزل علی الرسول الكریم صلی اللّه علیه و سلم لیبلغه قومه العرب الفصحاء البلغاء، فلم یستغلق فهمه بالاجمال علی معظمهم، إذا استثنینا ما تشابه منه هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ عَلَیْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آیاتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ، وَ ابْتِغاءَ تَأْوِیلِهِ، وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلَّا اللَّهُ «1».
فهمه العرب، و كان سببا فی دخول عدد كبیر منهم فی الاسلام، و لكن معانی القرآن لا تحد و لا یحاط بها، و لما كان الرسول صلی اللّه علیه و سلم أكثر الخلق فهما لهذا الكتاب كان من مهماته الأساسیة ان یبین للناس ما نزل الیهم، قال تعالی: وَ أَنْزَلْنا إِلَیْكَ الذِّكْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ «2».
و القرآن یحوی- كما سبق أن أشرنا لذلك- نظرة إلی الحیاة و الكون و الانسان جدیدة علی العرب، و من أجل ذلك فهم محتاجون الی مزید من الشرح و البیان لها حتی یقفوا علیها، و یعوها حق الوعی، لا سیما و أن فی القرآن المجمل، و العام، و المشكل، و فیه مفردات لا یفهمها بعضهم، فقد كان بعض الصحابة یكتفی بفهم المعنی الاجمالی لآیات القرآن و یؤخذ
______________________________
(1) سورة آل عمران: 7.
(2) سورة النحل: 44.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 200
بسحرها و جمالها، و إننا لنقرأ فی أخبارهم أن عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه لم یعرف معنی كلمة (الأب) فی قوله تعالی: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا «1» و نقرأ ان ابن عباس لم یعرف معنی كلمة (فاطر) حتی سمع أعرابیا یوردها فی جملة: اخرج أبو عبید فی «الفضائل» من طریق مجاهد عن ابن عباس قال: كنت لا أدری ما فاطر السموات حتی أتانی اعرابیان یختصمان فی بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها. یقول: أنا ابتدأتها «2».
و نقرأ أن عدی بن حاتم فهم الخیط الأبیض و الخیط الاسود بالمعنی المادی، فجاء بعقالین احدهما أبیض و الآخر أسود، و ظن أنه ما لم یتبینا فللانسان الصائم أن یأكل و یشرب، فهم ذلك من قوله تعالی: وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَكُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ «3».
إذن فقد كان الصحابة یتفاوتون فی فهم القرآن تبعا لما یأتی:
1- یتفاوتون تبعا لمواهبهم.
2- یتفاوتون تبعا لاطلاعهم علی لغتهم و أدبها و لهجاتها.
3- یتفاوتون تبعا لمعرفتهم أسباب النزول.
و هكذا فإن كثیرا من مواضع القرآن كانت تثیر بعض الاسئلة عند بعض الصحابة فیتوجهون بها إلی الرسول صلی اللّه علیه و سلم فی حیاته. و كان یسأل بعضهم بعضا عن معانی المفردات الغامضة و الآیات بعد وفاته صلّی اللّه علیه و سلّم.
______________________________
(1) سورة عبس: 31 و هذا الخبر مروی عن أبی بكر أیضا و انظر «تفسیر ابن كثیر» 1/ 5 و «فتح الباری» 13/ 270- 272 و انظر «الاتقان» 1/ 113. و الأب: المرعی المتهیئ للرعی و الجزّ.
(2) «الاتقان» 1/ 113 و انظر كلامنا علی التفسیر اللغوی. و انظر «البرهان» للزركشی 2/ 162 و «تأویل مختلف الحدیث» ص 20 و «الباعث علی الخلاص» 149.
(3) سورة البقرة: 187 و انظر الخبر فی «صحیح البخاری» 6/ 22. أقول: و فهم عدیّ رضی اللّه عنه غیر صحیح: و قد نبهه رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم الی الحق فی الموضوع.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 201

الفصل الثانی التفسیر فی عهد الصحابة

اشارة

كانت مادة التفسیر فی عهد الصحابة قائمة علی ما یأتی:
1- تفسیر القرآن بالقرآن: و سنتحدث عن ذلك مفصلا عند كلامنا علی التفسیر بالمأثور.
2- ما كان یحفظه الصحابة من تفسیرات النبی صلی اللّه علیه و سلم: و قد نقلت لنا كتب السنة ما كان الصحابة یحفظونه من تفسیر رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم لبعض الآیات.
أما كمیة ما فسره النبی صلی اللّه علیه و سلم و تناقلته الصحابة فمختلف بها عند العلماء، فمنهم من یذهب إلی أنه صلی اللّه علیه و سلم فسر القرآن كله، و منهم من یذهب إلی أن الذی فسره قلیل جدا، و الحق فی الوسط فلیس ما فسره النبی صلی اللّه علیه و سلم قلیلا، فهذه أبواب التفسیر فی كتب السنة حافلة، كما أنه لم یستوعب القرآن كله.
3- ما كانوا یستنبطونه من الآیات: و كان یعتمد ذلك علی قوة فهمهم وسعة إدراكهم، و علی معرفتهم بأوضاع اللغة و أسرارها، و أحوال الناس و عاداتهم فی جزیرة العرب.
4- ما كانوا یسمعونه من أنباء أهل الكتاب الذین دخلوا فی الاسلام
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 202
و حسن إسلامهم، و هذا المصدر تجده أكثر ما تجده فی قصص الأنبیاء، و هو مصدر هین یسیر.
*** و من المفید أن نذكر أشهر الصحابة فی التفسیر:
أشهرهم عشرة هم:
1- عبد اللّه بن عباس 6- عمر بن الخطاب 2- عبد اللّه بن مسعود 7- عثمان بن عفان 3 علی بن أبی طالب 8- زید بن ثابت 4- أبی بن كعب 9- أبو موسی الأشعری 5- أبو بكر الصدیق 10- عبد اللّه بن الزبیر و أهم هؤلاء فی التفسیر الاربعة الاوائل، و قد رتبتهم حسب أهمیتهم فی التفسیر و كثرة ممارستهم له، فأوسع الصحابة اشتغالا بالتفسیر هو عبد اللّه ابن عباس رضی اللّه عنهما.
ابن عباس «1»:
هو عبد اللّه بن عباس الذی كان یلقب بحبر الأمة، ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات، و غزا فی افریقیة، و توفی بالطائف سنة 68 ه، و كان من العلماء الكبار فی التفسیر، و كان ذلك ببركة دعاء الرسول صلی اللّه علیه و سلم حیث قال:
«اللهم فقهه فی الدین و علمه التأویل» «2»، و بنشأته فی بیت النبوة، و ملازمته
______________________________
(1) أنظر ترجمته فی «سیر أعلام النبلاء» 3/ 331 و «وفیات الأعیان» 3/ 62 و «البدایة و النهایة» 8/ 295 و «الإصابة» 2/ 330 و «تهذیب التهذیب» 5/ 276 و «أعلام الموقعین» 1/ 18 و ما بعدها. و «تهذیب الأسماء و اللغات» 1/ 274.
(2) أورده البخاری فی «صحیحه» 1/ 22 عن ابن عبّاس قال: ضمّنی رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم و قال: «اللهم علمه الكتاب»، و أخرجه البخاریّ أیضا بلفظ: «اللهم فقهه فی الدین»
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 203
الصحابة، و بمعرفته للعربیة و آدابها و الوقوف علی اسرارها، و بسبب جمعه عددا من المزایا التی قل ان تجتمع فی واحد من الذكاء النادر، و الذهن الجوال، و القریحة الوقادة، و الرأی الصائب، و الدین المتین، و الایمان الراسخ.
و قد أثنی علیه ابن مسعود و كان یقول: «نعم ترجمان القرآن ابن عباس» «1».
و قد كثرت الروایات عن ابن عباس كثرة كبیرة.
و هناك طرق عدیدة نقلت عن ابن عباس، و هی متفاوتة فی القوة، و قد ذكر بعضها السیوطی فی «الاتقان» و سأقتصر علی ذكر ثلاث طرق إحداها واهیة جدا.
* أجود الطرق هی طریق معاویة بن صالح «2» عن علی بن ابی طلحة «3» عن ابن عباس. و ابن أبی طلحة یروی عن مجاهد عن ابن عباس
______________________________
1/ 34، و أخرجه مسلم 4/ 1927 بلفظ «اللهم فقهه ...»، و الخطیب فی «الكفایة» 384 و انظر ابن ماجة 1/ 58 و الترمذی 4/ 351. و ذكر ابن حجر فی «فتح الباری» 1/ 170 أنّ هذا الحدیث أخرجه أحمد و ابن حبّان و الطبرانی و ابن سعد و البغوی فی «معجم الصحابة»، و أورده ابن حجر أیضا فی «الإصابة» 2/ 322.
(1) أخرجه أبو شیبة زهیر بن حرب فی «كتاب العلم» ص 120 رقم الحدیث 48. و قال الشیخ ناصر الالبانی فی تعلیقه علیه: (و السند الیه صحیح علی شرط الشیخین). و أخرجه ابن كثیر فی مقدّمة «تفسیره» 1/ 4 و قال: (فهذا إسناد صحیح الی ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة و قد مات ابن مسعود رضی اللّه عنه فی سنة 32 و عمر بعده عبد اللّه بن عباس ستا و ثلاثین سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود.) و قد نقل هذا الكلام بحروفه الزركشی فی «البرهان» 1/ 8 و هو تلمیذ ابن كثیر و لم یعزه لأحد، و أخرجه أیضا ابن حجر فی «الإصابة» 2/ 324.
(2) هو معاویة بن صالح بن حدیر الحضرمی الحمصی، أحد الأعلام، و قاضی الأندلس.
مات سنة 158 ه أخرج له مسلم و الأربعة.
(3) روی ابن أبی طلحة عن ابن عباس مرسلا؛ لأنه لم یسمع منه. أصله من الجزیرة، و انتقل إلی حمص. قال ابن حجر فی «تهذیب التهذیب» 7/ 340: [و نقل البخاری من تفسیره روایة معاویة بن صالح عنه عن ابن عباس شیئا كثیرا فی التراجم و غیرها، و لكنه
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 204
و هذه الطریق اعتمد رجالها مسلم و أحمد و أصحاب السنن.
* و هناك طریق أخری صحیحة و هی: قیس بن مسلم الكوفی «1»، عن عطاء بن السائب «2»، عن سعید بن جبیر «3»، عن ابن عباس. و هذه الطریق یعتمدها الحاكم فی «مستدركه» و ذكر أنها صحیحة علی شرط الشیخین.
* أما الطریق الواهیة الضعیفة فهی:
محمد بن السائب الكلبی، عن أبی صالح «4»، عن ابن عباس، و ممن یروی عن الكلبی محمد بن مروان السدی الصغیر.
قال السیوطی: فان انضم الی ذلك روایة محمد بن مروان السدی الصغیر فهی سلسلة الكذب «5».
أما تفسیر ابن عباس المطبوع بعنوان «تنویر المقباس من تفسیر ابن
______________________________
لا یسمیه، و یقول: (قال ابن عباس) أو [یذكر عن ابن عباس] و أخرج له مسلم و أبو داود و النسائی و ابن ماجة.
(1) هو قیس بن مسلم الكوفی. موثق. مات سنة 120 ه و أخرج له البخاری و مسلم و الأربعة.
(2) هو أحد الأئمة كان یختم كل لیلة. و أخرج له البخاری حدیثا واحدا متابعة فی ذكر الحوض، و أخرج له الأربعة و قد اختلط فی آخر عمره. مات سنة 136 و انظر ترجمته فی «تهذیب التهذیب» 7/ 203.
(3) هو سعید بن جبیر و انظر ترجمته فی مبحث التفسیر فی عهد التابعین.
(4) محمد بن السائب الكلبی كذاب ساقط سبئیّ و قد نقل سفیان الثوری عنه انه قال: ما حدثت عن أبی صالح عن ابن عباس فهو كذب فلا ترووه. قال السیوطی فی «الدر المنثور» 6/ 423: [و الكلبی اتهموه بالكذب. و قد مرض فقال لأصحابه فی مرضه: كل شی‌ء حدثتكم به عن أبی صالح كذب] مات سنة 146. و أما أبو صالح المعروف بباذان أو باذام فأكثر علماء الرجال یطعن فیه و من اعتدل قال: لیس به بأس و اذا روی عنه الكلبی فلیس بشی‌ء. و أبو صالح لم یسمع من ابن عباس. أنظر «التاریخ الكبیر» للبخاری 2/ 144 و «المیزان» 1/ 296 و «المجروحین» لابن حبان 1/ 185.
(5) «الاتقان» 2/ 189.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 205
عباس» «1» و الذی جمعه الفیروزآبادی صاحب «القاموس» فإن روایته كلها تدور حول الشخص الذی ذكرناه قبل قلیل و هو: محمد بن مروان السدی الصغیر، و من أجل ذلك فلا یطمأن بحال من الأحوال إلی ما انفرد به هذا الكتاب.
*** و شأن عبد اللّه بن مسعود «2» و علی بن أبی طالب و ابی بن كعب شأن كبیر فی التفسیر و لا نستطیع أن نفصل القول فی ذلك، فنكتفی بما أوردناه عن ابن عباس رضی اللّه عنهم جمیعا.
و لیس هؤلاء الصحابة المذكورون هم الذین اشتغلوا بالتفسیر فقط، بل إن عددا كبیرا من الصحابة رضوان اللّه علیهم كانوا یفسرون فی بعض الأحیان، و لكن هؤلاء الذین نوهنا بهم هم المكثرون. و قد انتشروا فی الآفاق.

*** قیمة تفسیر الصحابة «3»:

ننظر فی التفسیر المنقول عن الصحابة:
1- فان كان مرفوعا الی النبی صلی اللّه علیه و سلم فهو حدیث، له حكم الحدیث أی یكون حجة ان صح سنده.
2- و ان لم یكن مرفوعا ننظر فیه فان كان متعلقا بأسباب النزول أو
______________________________
(1) طبع فی مصر فی المطبعة الازهریة سنة 1316 ه و بهامشه «أسباب النزول» للسیوطی و «الناسخ و المنسوخ» لابن حزم و قد طبع طبعات أخری أنظر «معجم المطبوعات» 1/ 158.
(2) تتضح منزلة ابن مسعود فی التفسیر من قوله الذی مرّ معنا فی مبحث المكی و المدنی.
(3) و سنذكر هذا التفسیر مرة أخری فی التفسیر بالمأثور.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 206
بما لا یكون من قبیل الرأی و الاجتهاد أعطی حكم المرفوع و كان حجة إن صح سنده.
3- أما اذا كان من قبیل الاجتهاد و الاستنباط أو لیس متعلقا بأسباب النزول كان موقوفا علی الصحابی. و قد اختلف العلماء بالنسبة إلی الموقوف هذا: فمنهم من یقول: إنه رأی لا یلزم، و منهم من یقول: إنه رأی یلزم.
قال الزركشی فی «البرهان» «1»:
ینظر فی تفسیر الصحابی فإن فسره من حیث اللغة فهم أهل اللسان.
فلا شك فی اعتماده، و إن فسره بما شاهده من الأسباب و القرائن فلا شك فیه.
و جاء فی مقدمة «تفسیر ابن كثیر» «2»:
«اذا لم نجد التفسیر فی القرآن، و لا فی السنة رجعنا فی ذلك الی أقوال الصحابة فإنهم أدری بذلك لما شاهدوه من القرائن و الأحوال التی اختصوا بها، و لما لهم من الفهم التام و العلم الصحیح و العمل الصالح لا سیما علماؤهم و كبراؤهم».
و إن اختلفوا اخترنا من أقوالهم ما یكون أكثر انسجاما مع السیاق، و إن أجمعوا علی رأی لزمنا الأخذ به.
*** و یتحصل من ذلك ان التفسیر المروی عن الصحابی إن كان متعلقا بأسباب النزول او بما لا یمكن ان یكون من قبیل الرأی و الاجتهاد كان
______________________________
(1) «البرهان» 2/ 172.
(2) «تفسیر ابن كثیر» 1/ 3.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 207
ملزما، و كذلك إن كان تفسیرا یعتمد علی اللغة التی هم أدری الناس بها فهو ملزم أیضا.
أما الشی‌ء الذی لیس داخلا فیما ذكرناه فهو بشكل عام غیر ملزم.
و ینظر الی كل رأی علی حدة.
***
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 208

الفصل الثالث التفسیر فی عهد التابعین‌

اشارة

جاء التابعون فنقلوا روایات التفسیر عن الصحابة، و زادوا فیها ما استنبطوه بأنفسهم، و ما زال التفسیر یتضخم فی عهدهم حتی اجتمع منه الشی‌ء الكثیر.
و لكن هذه الأقوال فی التفسیر لم تكن مجموعة و لا مرتبة بشكل منظم وفق ترتیب المصحف، بل كانت تروی منثورة تفسیرا لآیات متفرقة بین روایات لا علاقة لها بالتفسیر، أی إن التفسیر كان مختلطا بالحدیث غیر ممیز عنه.
و كان التابعون من أهل كل قطر یعنون بروایة ما سمعوه و ما ورد من التفسیر عن الصحابی الذی یقیم فی بلدهم.
* فاختص المكیون بروایة ما ورد من التفسیر عن ابن عباس. و أشهر المكیین الذین قاموا بذلك مجاهد «1» و عكرمة «2» و سعید بن جبیر «3».
______________________________
(1) هو مجاهد بن جبر المكی، المخزومی بالولاء، ابو الحجاج، ولد سنة 21 ه شیخ القراء و المفسرین، عرض القرآن علی ابن عباس ثلاثین مرة، و كان من أئمة الحدیث و الفقه و كان ثقة عابدا مجمعا علی فضله، توفی سنة 104 ه. هذا و قد حقق عبد الرحمن الطاهر السورتی كتابا مخطوطا جمعه جامع بعنوان «تفسیر مجاهد» و طبع فی قطر سنة 1396 ه (1976 م).
(2) هو عكرمة مولی ابن عباس، أبو عبد اللّه المدنی البربری، ولد سنة 25 ه أثنی علیه ابن عباس فقال: ما حدثكم عكرمة عنی فصدقوه فانه لم یكذب علی، توفی سنة 105 ه.
(3) هو سعید بن جبیر، الأسدی بالولاء، تابعی من كبار العلماء، أخذ عن عبد اللّه بن
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 209
* و اختص المدنیون بروایة ما ورد من التفسیر عن أبی بن كعب «1».
و أشهر المدنیین الذین قاموا بذلك: أبو العالیة «2»، و زید بن أسلم «3».
* و عنی التابعون الكوفیون بروایة ما ورد من التفسیر عن ابن مسعود.
و أشهر الكوفیین الذین قاموا بذلك: علقمة بن قیس «4» و إبراهیم النخعی «5» و الشعبی «6».
و هذه المدارس الثلاث أهم مدارس التفسیر عند التابعین.
***______________________________
عباس، و قتله الحجاج بواسط سنة 95 ه. و قیل: إن قتله كان آخر سنة 94 ه و انظر «تهذیب التهذیب» 4/ 11- 14.
(1) هو الصحابی الجلیل أبی بن كعب بن قیس الانصاری الخزرجی، سید القراء، شهد بدرا و المشاهد كلها، و كان من كتبة النبی صلی اللّه علیه و سلم و كان من أصحاب الفتیا، یسأله عمر عن النوازل و یرجع الیه فی المعضلات، توفی بالمدینة سنة 31 ه.
(2) هو رفیع بن مهران، ابو العالیة، البصری الفقیه المقرئ، رأی أبا بكر، و قرأ القرآن علی أبیّ و غیره، و سمع من عمر و ابن مسعود و علی و عائشة. و روی عنه قتادة و أبو العلاء، كان ابن عباس یرفعه علی سریره و قریش اسفل منه یقول: هكذا العلم یزید الشریف شرفا و یجلس المملوك علی الاسرة. توفی سنة 93 ه. و انظر «الفقیه و المتفقه» 1/ 31 و «تهذیب التهذیب» 3/ 284 و «ابن الجزری» 1/ 284 و «معرفة القراء» للذهبی 1/ 49 و «اللباب» 2/ 46 و «طبقات المفسرین» للداودی 1/ 172 و «الحلیة» 2/ 217 و «الخلاصة».
(3) هو زید بن أسلم العدوی بالولاء المدنی الفقیه المفسر، ذكروا انه ترك كتابا فی التفسیر رواه ابنه عبد الرحمن. توفی سنة 136 ه.
(4) هو علقمة بن قیس، أبو شبیل، ولد فی حیاة النبی صلی اللّه علیه و سلم، و اشتهر بالقراءات، و كان قوی الذاكرة. قال: ما حفظت و أنا شاب فكأنما أقرؤه من ورقة. كان فقیه العراق، و هو من اهل الكوفة، توفی سنة 64 ه علی الارجح.
(5) هو إبراهیم بن یزید النخعی الكوفی، فقیه العراق، روی عن بعض الصحابة. كان یصوم یوما و یفطر یوما. مات سنة 95 ه.
(6) هو عامر بن شراحبیل ابو عمرو الهمدانی الكوفی، من أكابر التابعین، ولد فی خلافة عمر، سمع من ابن عمر، و ولی قضاء الكوفة. كان جوادا سریع الحفظ، جریئا فی الحق توفی سنة 103 ه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 210

قیمه تفسیر التابعین:

اختلف العلماء فی الأخذ بأقوال التابعین فی التفسیر، فمنهم من ذهب إلی الأخذ بأقوالهم. و منهم من لم یر ذلك.
یروی عن أبی حنیفة أنه قال: (ما جاء عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم فعلی الرأس و العین، و ما جاء عن الصحابة تخیرنا، و ما جاء عن التابعین فهم رجال و نحن رجال).
و هذا القول یدل علی أننا غیر ملزمین بأخذ أقوال التابعین فهم رجال و نحن رجال- كما یقول ابو حنیفة- و هذا القول هو الصواب.
أما القول الذی یلزم بالأخذ بما ورد عن التابعین فهو موضع نظر ..
نعم اذا اجمع التابعون علی رأی فعندئذ یتوجب الأخذ به لأن إجماعهم یدل علی وجود نص ملزم و اللّه أعلم.

*** ملاحظة:

یبدو فی كثیر من الروایات فی المسألة الواحدة عن الصحابة أو التابعین أو عن صحابی واحد اختلاف أو تعارض.
و لكن التعمق فی هذه الأقوال یقنع بأنها غیر متناقضة و لا متعارضة و أنها تعود الی أصل واحد، و بینها عموم و خصوص، و كثیرا ما بیّن ابن جریر فی تفسیره انها غیر متعارضة.
و قد نبه علی مثل هذا الاختلاف الموهوم ابن تیمیة فی رسالته فی أصول التفسیر «1» و نقله عنه الشیخ طاهر الجزائری بتلخیص جید «2» فقال:
______________________________
(1) «مقدمة فی أصول التفسیر» ص 38.
(2) «توجیه النظر» ص 2.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 211
(الخلاف بین السلف فی التفسیر قلیل، و غالب ما یصح عنهم من الخلاف یرجع الی اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ...) و قال ابن كثیر: (یقع فی عباراتهم- أی التابعین- تباین فی الألفاظ یحسبها من لا علم عنده اختلافا فیحكیها أقوالا و لیس كذلك، فإن منهم من یعبر عن الشی‌ء بلازمه أو بنظیره و منهم من ینص علی الشی‌ء بعینه، و الكل بمعنی واحد فی أكثر الأماكن فلیتفطن اللبیب لذلك و اللّه الهادی) «1».
أما إذا لم نستطع التوفیق بینها، فینظر فی أسانیدها، فإن وجدت بدرجة من الصحة متقاربة نظر فیها و أخذ ما یكون أقرب لنص الآیة و اللّه أعلم.
***______________________________
(1) «تفسیر ابن كثیر» 1/ 5.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 212

الفصل الرابع تاریخ التفسیر فیما بعد عهد التابعین‌

هذا الفصل یتناول موضوع تاریخ التفسیر خلال اثنی عشر قرنا، أی منذ منتصف القرن الثانی الهجری حتی العصر الحاضر، و لیس ذلك مما یتسع له وقت الدراسة و لا منهاجها، و من أجل ذلك، فسنقتصر علی ذكر خطوط عریضة فی غایة الایجاز.
بعد عصر التابعین قام تابعو التابعین بجمع أقوال الصحابة و التابعین فی التفسیر التی وصلت الیهم، و غالبا ما كان أبناء القطر یجمعون أقوال من سكن قطرهم من الصحابة و التابعین.
و وجد أناس كانوا یرحلون الی الأقطار المختلفة لیجمعوا ما قیل فی التفسیر علی انه باب من أبواب الحدیث، لأن هؤلاء الائمة كانوا علماء فی الحدیث، و من الواضح أن الحدیث كان یجمع العلوم الاسلامیة كلها، و كان التفسیر من أهم أبوابه، و یشبه الاستاذ أحمد أمین الحدیث من حیث جمعه للعلوم بالفلسفة عند الاقوام الأخری فیقول:
(و هكذا فمنزلة الحدیث بالنسبة للعلوم الدینیة كمنزلة الفلسفة للعلوم العقلیة كانت الفلسفة شاملة لكل فروع البحث العقلی، ثم أخذ ینفصل عنها علم النفس و علم الطبیعة و علم الاجتماع) «1».
______________________________
(1) «ضحی الاسلام» 2/ 138.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 213
* ثم كانت بعد ذلك الخطوة الأخیرة و هی انفصال التفسیر عن الحدیث، و اعتباره علما قائما بنفسه، و وضعت التفاسیر المستقلة لكل آیات القرآن مرتبة حسب ترتیب المصحف.
**** ثم تأثر التفسیر باتجاهات متعددة خلال العصور المختلفة، و سنخص هذه الاتجاهات بباب طویل هو الباب الثالث، و سیكون ذلك بمثابة عرض تاریخی للتألیف فی التفسیر. و لا بد من أن یتأثر المفسر بالسمات العامة لعصره، فالكتب التی ألفت فی القرون الأولی حتی القرن الخامس تغلب علیها الأصالة، بینما كتب المتأخرین یغلب علیها الجمع.
*** أما الكتاب الاول فی مجال التفسیر فهذا ما یزال مجال بحث و دراسة و الشی‌ء المؤكد أن القرن الأول ألفت فیه بعض كتب التفسیر، و لكننا لا نستطیع الجزم فی الاولیة فی هذا الموضوع، و قد وصل الینا نبأ تألیف تفسیر فی وقت مبكر، فقد قرأنا فی كتب الرجال و التراجم «1» أن عبد الملك ابن مروان المتوفی سنة 86 ه طلب من سعید بن جبیر المتوفی سنة 94 ه أو سنة 95 ه أن یكتب له تفسیرا للقرآن و أن سعیدا هذا قد استجاب و كتب تفسیرا، و قد وجده عطاء بن دینار المتوفی سنة 126 ه.
و بناء علی هذا الخبر فإننا نستطیع أن نقرر ان كتابا فی تفسیر القرآن كان موجودا قبل سنة 86 ه و لا یبعد أن یكون هذا الكتاب هو أول كتاب فی التفسیر، و اللّه أعلم.
*** أما القرن الثانی فیبدو انه كان حافلا بكتب التفسیر:
______________________________
(1) «الجرح و التعدیل» لابن ابی حاتم 3/ 332 و «تهذیب التهذیب» 7/ 198.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 214
فابن خلكان «1» یذكر ان عمرو بن عبید المتوفی سنة 144 ه كتب تفسیرا للقرآن قدمه للحسن البصری المتوفی سنة 110 ه. و أخبار الكتب المؤلفة فی هذا القرن مستفیضة.
و لعل من أقدم ما وصل إلینا من كتب التفسیر كتاب «معانی القرآن» للفراء المتوفی سنة 207 ه. و سنتحدث عنه بشی‌ء من التفصیل فیما بعد، و قد قوبل عمله باستحسان كبیر لا سیما من الكوفیین، فقد نقل ابن الندیم فی «الفهرست» «2» كلمة عن ثعلب یقول فیها:
(كان السبب فی إملاء كتاب الفراء فی المعانی أن عمر بن بكیر من أصحابه و كان منقطعا إلی الحسن بن سهل «3». فكتب إلی الفراء أن الأمیر الحسن بن سهل ربما سألنی عن الشی‌ء بعد الشی‌ء من القرآن فلا یحضرنی، فإن رأیت أن تجمع لی أصولا أو تجعل فی ذلك كتابا أرجع الیه فعلت.
فقال الفراء لأصحابه: اجتمعوا حتی أمل علیكم كتابا فی القرآن و جعل لهم یوما. فلما حضروا خرج إلیهم، و كان فی المسجد، رجل یؤذن و یقرأ بالناس فی الصلاة، فالتفت الیه الفراء فقال له:
اقرأ بفاتحة الكتاب نفسرها، ثم نوفی الكتاب كله. فقرأ الرجل، و یفسر الفراء. فقال ابو العباس ثعلب: لم یعمل أحد قبله مثله و لا أحسب أن أحدا یزید علیه).
و یبدو ان كلمة ثعلب إنما تعنی الثناء علی صنیع الفراء، و لا تعنی البدء بكتابة التفسیر «4». یرید أن یقول: لم یسبقه بهذه الإجادة أحد. و تتمة الجملة تؤكد ذلك و هی (و لا أحسب أن أحدا یزید علیه).
______________________________
(1) «وفیات الاعیان» 1/ 486 طبع بولاق.
(2) «الفهرست» ص 105.
(3) هو وزیر المأمون، و أحد كبار القادة، و هو والد بوران زوجة المأمون، سنة 236 ه.
(4) و قد أخطأ أحمد أمین عند ما مال الی هذا الرأی (انظر «ضحی الاسلام» 2/ 141).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 215
اذن فقد كانت هناك مؤلفات فی التفسیر قبل كتاب الفراء، و لكن لم یصل إلینا إلا أنباؤها «1».
*** و ما زالت كتب التفسیر تتوالی، یستفید المتأخر من الذین سبقوه، و یأتی بجدید فی فهم كتاب اللّه، و تدبر معانیه، حتی جاء ابن جریر الطبری، و وضع تفسیره الذی ضم كثیرا مما فی الكتب التی ألفت فی التفسیر قبله علی غالب الظن.
*** و هكذا یتبین لنا أن التفسیر قد كتب فی وقت مبكر، ثم عند ما ازدهر التدوین فی القرنین الثانی و الثالث كانت حركة نشیطة للتألیف فی التفسیر، و قد وصل إلینا كثیر من هذه الآثار.
و دخلت فی التفسیر شوائب غریبة عنه من الأحادیث الموضوعة، و الاسرائیلیات.
و كانت علی مر العصور غزارة فی مؤلفات التفسیر، و تنوع فی مناهج المفسرین، تبعا للتنوع فی اختصاص كل منهم. و قد حاول كل صاحب فن أن یجعل من تفسیر القرآن مجالا لإظهار براعته فی فنه، و أضحی التفسیر إطارا یتباری فیه المختصون فی الشئون العلمیة المختلفة لیصبوا فیه المعلومات التی تتعلق باختصاصهم، فالنحوی یكتب فی التفسیر فإذا تفسیره كتاب نحو، و الفیلسوف یكتب فی التفسیر فإذا تفسیره كتاب فی علم الكلام، و الفقیه یكتب فی التفسیر فیخرج تفسیره كتابا فی الفقه، و البلاغی
______________________________
(1) نشرت مجلة أضواء الشریعة فی العدد الخامس أنّ كتاب تفسیر القرآن لسفیان الثوری المتوفی سنة 161 ه طبع بتحقیق السید امتیاز علی عرشی فی رامبور بالهند فی مجلد واحد یضمّ ما وجد من أصول الكتاب من أول القرآن حتی سورة الطور. و فیه فهارس.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 216
یكتب فی التفسیر فیضحی تفسیره مرجعا فی البلاغة، و المحدث یكتب فی التفسیر فیكون كتاب تفسیره كتاب حدیث ... و هكذا .. قال السیوطی: (ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا فی علوم، فكان كل منهم یقتصر فی تفسیره علی الفن الذی یغلب علیه، فالنحوی تراه لیس له هم إلا الإعراب و تكثیر الأوجه المحتملة فیه، و نقل قواعد النحو و مسائله و فروعه و خلافیاته، كالزجاج و الواحدی فی «البسیط» و أبی حیان فی «البحر» و «النهر»؛ و الاخباری لیس له شغل إلا القصص و استیفاؤها، و الاخبار عمن سلف سواء كانت صحیحة أو باطلة كالثعلبی؛ و الفقیه یكاد یسرد فیه الفقه من باب الطهارة إلی أمهات الأولاد، و ربما استطرد إلی إقامة أدلة الفروع الفقهیة التی لا تعلق لها بالآیة و الجواب من أدلة المخالفین، كالقرطبی، و صاحب العلوم العقلیة خصوصا الإمام فخر الدین قد ملأ تفسیره بأقوال الحكماء و الفلاسفة ..) «1» و ما زال كل ذی موهبة و علم یسهم فی التفسیر و یكشف عن شی‌ء جدید من أسرار هذا الكتاب الكریم التی لا تنتهی.
______________________________
(1) «الاتقان» 2/ 190.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 217

الباب الثالث اتجاهات التفسیر

اشارة

ظهرت اتجاهات متعددة فی التفسیر. و غرضنا فی هذا الباب بحث أهم هذه الاتجاهات و دراسة خصائصها. و سنخصّ بالذكر و الدراسة فی كل اتجاه كتابا هاما من كتب التفسیر یمثل هذا الاتجاه.
و قد أولیت الاتجاه اللغوی شیئا من العنایة مراعاة للمختصین باللغة العربیة الذین كتبت لهم بحوث هذا الكتاب.
أما هذه الاتجاهات التی سنفرد كل واحد منها بفصل فی هذا الباب فهی الاتجاه اللغوی. و التفسیر بالأثر، و التفسیر بالرأی، و التفسیر العلمی، و التفسیر الاصلاحی، و سنشیر بعد ذلك فی فصل واحد إلی اتجاهات اخری مثل التفسیر الموضوعی و الفقهی و الاشاری. و لیس من شك فی أن أهم هذه المدارس التفسیریة مدرستان قامتا منذ وقت مبكر هما مدرسة التفسیر بالمأثور و مدرسة التفسیر بالرأی.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 219

الفصل الأول الإتجاه اللغویّ فی تفسیر القرآن‌

اشارة

إن هذا الاتجاه من أقدم الاتجاهات التی وجدت فی التفسیر، كما سنری من استعراض كتب غریب القرآن و إعرابه. و لتیسیر بحثه سنقسمه ثلاثة أقسام، و ان كانت هذه الأقسام متداخلة أحیانا:
1- القسم الأول: ما یتعلق بمفردات اللغة: و قد ترك لنا العلماء المتقدمون طائفة من المؤلفات عرفت بكتب غریب القرآن.
2- القسم الثانی: ما یتعلق بالنحو و القضایا الإعرابیة.
3- القسم الثالث: ما یتعلق بالبلاغة و الاسالیب البیانیة.
و لعل هذا الاتجاه بأقسامه هذه من أهم الاتجاهات التی تعنی دارسی العربیة فی دراستهم للتفسیر لاتصالها بدراستهم الاختصاصیة.

1- القسم المتعلق بمفردات اللغة أو (كتب غریب القرآن):

اشارة

فی القرآن كلمات غریبة، و هی اما أن یكون معناها غامضا، لا یفهم إلا بعد بحث و تنقیب و جهد، و اما أن یكون معناها معروفا لدی قوم دون غیرهم، لأنها مستعملة فی لغتهم.
و یبدو أن وجود كلمات فی القرآن لا یعرف بعض الناس معناها أمر قدیم، ففی أخبار الصحابة ما یدل علی ذلك، و قد ذكرنا فی مبحث
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 220
التفسیر فی عهد النبی صلی اللّه علیه و سلم أن عمر بن الخطاب لم یعرف معنی كلمة (الأب).
قال السیوطی: (فهذه الصحابة و هم العرب العرباء، و أصحاب اللغة الفصحاء، و من نزل القرآن علیهم بلغتهم، توقفوا فی ألفاظ لم یعرفوا معناها فلم یقولوا شیئا، فاخرج أبو عبید فی «الفضائل» عن إبراهیم التیمی: أن أبا بكر الصدیق سئل عن قوله تعالی: (وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا) «1» فقال:
أی سماء تظلنی، و أی أرض تقلنی إن أنا قلت فی كتاب اللّه ما لا أعلم؟
و اخرج عن أنس: أن عمر بن الخطاب قرأ علی المنبر (وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا) فقال:
هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب؟ ثم رجع إلی نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف یا عمر) «2».
و الكتب التی عالجت إیضاح هذه المفردات دعیت بكتب غریب القرآن.
و یحسن أن نورد قول الخطابی الذی یشرح كلمة الغریب قال أبو سلیمان الخطابی:
(الغریب من الكلام إنما هو الغامض البعید عن الفهم، كما أن الغریب من الناس إنما هو البعید عن الوطن المنقطع عن الأهل.
و الغریب من الكلام یقال به علی وجهین:
أحدهما: أن یراد به أنه بعید المعنی غامضه، لا یتناوله الفهم إلا عن بعد و معاناة فكر. و الآخر: أن یراد به كلام من بعدت به الدار من شواذ قبائل العرب، فإذا وقعت إلینا الكلمة من لغاتهم استغربناها) «3».
و التألیف فی غریب القرآن قدیم. و أول من یعزی إلیه كتاب فی غریب
______________________________
(1) سورة عبس: 31.
(2) «الاتقان»: 1/ 113 و انظر الفصل الأول المتعلق بالتفسیر فی عهد النبی صلّی اللّه علیه و سلّم.
(3) «كشف الظنون»: 2/ 1203.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 221
القرآن هو الصحابی عبد اللّه بن عباس. و كانت هناك- كما یذكر بروكلمان- نسخة من كتابه فی برلین قبل الحرب العالمیة الثانیة، و تدور شكوك عدیدة حول صحة نسبته إلی ابن عباس.
و یری الدكتور حسین نصار «1» ان هذا الكتاب كان یضم بعض الأقوال التی ادلی بها ابن عباس فی تفسیر الغریب من الفاظ القرآن، و انه لم یكن هو الذی دونها فی كتاب، و إنما جمعها بعض رواة هذه الأقوال، و یحتج لرأیه هذا بأن أحدا من مترجمی ابن عباس لم ینسب إلیه مثل هذا الكتاب.
و ذكر السیوطی فی «الاتقان» ما رآه صحیحا عنه فقال:
(و أولی ما یرجع إلیه فی ذلك ما یثبت عن ابن عباس و اصحابه الآخذین عنه، فإنه ورد عنهم ما یستوعب تفسیر غریب القرآن بالاسانید الصحیحة الثابتة، و ها أنا أسوق هنا ما ورد من ذلك عن ابن عباس عن طریق ابن أبی طلحة خاصة فإنها من أصح الطرق عنه، و علیها اعتمد البخاری مرتبا علی السور) «2» و لا یبعد أن یكون أحد العلماء استخرج هذه النقول و وضع لها عنوانا هو (غریب القرآن) لابن عباس.
و ألف الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقی كتابا عنوانه: «معجم غریب القرآن مستخرجا من صحیح البخاری» و أورد فیه ما ورد عن ابن عباس من طریق ابن أبی طلحة خاصة، و طبعه سنة 1369 ه (1950 م).
و تذكر المصادر ان من العلماء المتقدمین الذین ألفوا فی هذا الموضوع أبان بن تغلب البكری المتوفی سنة 141 ه الذی دون كتابا فی غریب القرآن، و ذكر یاقوت فی «معجم الأدباء» «3» أن أبان كان یذكر فی كتابه
______________________________
(1) «المعجم العربی»: 1/ 44.
(2) «الاتقان» 1/ 114.
(3) «معجم الادباء» 1/ 108.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 222
شواهد من الشعر، فجاء فیما بعد عبد الرحمن بن محمد الأزدی، فجمع من كتاب أبان و محمد بن السائب و أبی روق عطیة بن الحارث فجعله كتابا ذكر ما اختلفوا فیه و ما اتفقوا علیه.
و سنذكر فیما یلی اسماء نفر من العلماء المتقدمین الذین ألفوا فی غریب القرآن:
* منهم محمد بن السائب الكلبی الكوفی المتوفی سنة 146 ه.
* و منهم أبو فید مؤرج بن عمرو السدوسی البصری المتوفی سنة 174 ه أو 190 ه* و منهم علی بن حمزة الكسائی المتوفی سنة 182 ه.
* و منهم یحیی بن المبارك الیزیدی المتوفی سنة 202 ه.
* و منهم النضر بن شمیل المتوفی سنة 203 ه.
* و منهم قطرب محمد بن المستنیر المتوفی سنة 206 ه.
* و منهم یحیی بن زیاد الفراء المتوفی سنة 207 ه.
* و منهم أبو عبیدة معمر بن المثنی المتوفی سنة 210 ه.
* و منهم الاخفش الأوسط سعید بن مسعدة المتوفی سنة 216 ه.
* و منهم أبو عبید القاسم بن سلام المتوفی سنة 223 ه، و كتاب أبی عبید صار هو القدوة فی هذا الشأن.
و جاء بعد أبی عبید محمد بن سلام الجمحی المتوفی سنة 231 ه و ابن قتیبة المتوفی سنة 276 ه و ثعلب أحمد بن یحیی المتوفی سنة 291 ه و ألف كل منهم كتابا فی «غریب القرآن» و قد فقدت معظم هذه الكتب و سلم لنا كتاب ابن قتیبة الذی سنخصه بشی‌ء من الحدیث فیما یأتی:

غریب القرآن لابن قتیبة

: و ابن قتیبة هو أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتیبة. ولد فی الكوفة سنة 213 ه ثم سكن بغداد، و عدّه العلماء امام مدرسة بغداد النحویة، ترك
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 223
مؤلفات كثیرة قیمة، من أهمها «عیون الأخبار»، و «أدب الكاتب».
توفی ببغداد سنة 276 ه و كتابه من أهم كتب الغریب.
- ذكر فی المقدمة انه قصر بحثه علی غریب القرآن (دون تأویل مشكله إذ كنا قد أفردنا للمشكل كتابا جامعا كافیا بحمد اللّه).
- و أشار فی هذه المقدمة إلی مراجعه و خطته بإزائها، و ذلك فی قوله:
(و كتابنا هذا مستنبط من كتب المفسرین، و كتب أصحاب اللغة العالمین، لم نخرج فیه عن مذهبهم، و لا تكلفنا فی شی‌ء منه بآرائنا غیر معانیهم، بعد اختیارنا فی الحرف أولی الأقاویل فی اللغة، و أشبهها بقصة الآیة، و نبذنا منكر التأویل و منحول التفسیر).
- ثم ذكر غرضه الذی امتثله فی هذا الكتاب، و منهجه فی تألیفه فقال:
(و غرضنا الذی امتثلناه فی كتابنا هذا أن نختصر و نكمل، و ان نوضح و نجمل، و ان لا نستشهد علی اللفظ المبتذل، و لا نكثر الدلالة علی الحرف المستعمل، و أن لا نحشو كتابنا بالنحو و الحدیث و الأسانید، فإنا لو فعلنا ذلك فی نقل الحدیث لاحتجنا إلی أن نأتی بتفسیر السلف رحمة اللّه علیهم بعینه، و لو أتینا بتلك الألفاظ كان كتابنا كسائر الكتب التی ألفها نقلة الحدیث) «1» ثم یقرر أنه لو نقل أقوالهم و اختار منها أصحها فی نظره.
و أقام الدلائل علیه لأسهب فی القول، و أطال الكتاب، و باعده من بغیة المتأدب.
- و أورد فی المقدمة نبذة عن التأویل المنكر و التفسیر المنحول.
- أما كتابه فثلاثة أقسام:
1- ذكر فی القسم الأول منها أسماء اللّه الحسنی، و تأویلها و اشتقاقها، و قد استغرق هذا القسم من صفحة 6 حتی صفحة 20. و قد ذكر ستة
______________________________
(1) مقدمة «غریب القرآن» ص 3.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 224
و عشرین لفظا تتصل باسماء اللّه الحسنی من أمثال (الرحمن، الرحیم، السلام، القیوم ...).
2- و ذكر فی القسم الثانی ألفاظا كثر تردادها فی القرآن الكریم، و فسرها، و قد استغرق هذا القسم من صفحة 21 حتی صفحة 37، و قد ذكر أربعین لفظا من أمثال (الجن، الناس، ابلیس .. الأنفس).
3- و القسم الثالث هو الغریب فی القرآن. و هو یشكل معظم الكتاب، و یستغرق من صفحة 37 حتی 544 و هی نهایة الكتاب.
و قد جعل الغریب أقساما وفقا للسور مرتبة علی ترتیبها فی المصحف.
- و من الملاحظ ان ابن قتیبة اعتمد علی كتابین من كتب القرآن المؤلفة قبله و هما: (كتاب «مجاز القرآن» لأبی عبیدة، و كتاب «معانی القرآن» للفراء) اعتمد علیهما أكبر اعتماد، حتی أنه فی بعض المواطن كان ینقل لفظهما نفسه، و لم یكن مجرد ناقل لا شخصیة له، بل انك لتحس بشخصیته واضحة، و قد ینتقد من نقل عنه.
- و قد كان لهذا الكتاب أثر فی الذین ألفوا فی التفسیر و الغریب من بعد.
- طبع هذا الكتاب أكثر من مرة. و طبع فی مطبعة البابی الحلبی طبعة جیدة بتحقیق السید أحمد صقر سنة 1378 ه الموافق 1958 م. و علی الكتاب تعلیقات جیدة و وضع له فهارس نافعة. و هذه الطبعة هی التی اعتمدت علیها فی هذه الالمامة.

*** غریب القرآن للسجستانی:

و السجستانی هو أبو بكر محمد بن عزیز السجستانی المتوفی سنة 330 ه 1- و كتابه غریب القرآن یسمی أیضا «نزهة القلوب».
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 225
2- قال السیوطی فی هذا الكتاب: (و من اشهرها كتاب العزیزی، فقد أقام فی تألیفه خمس عشرة سنة، یحرره هو و شیخه أبو بكر بن الأنباری) «1» و ذكر أبو البركات الأنباری: (أن السجستانی صنف كتابه فی خمس عشرة سنة و كان یقرؤه علی شیخه أبی بكر بن الأنباری فكان یصلح له فیه مواضع) «2».
3- مقدمته موجزة جدا، و هی بعد الحمدلة: (و بعد فهذا تفسیر غریب القرآن ألف علی حروف المعجم، لیقرب تناوله، و یسهل حفظه علی من أراده، و باللّه التوفیق و العون).
4- رتبه علی حروف المعجم، و لم یرجع الكلمة الی أصل مادتها، و إنما راعی نطقها مراعاة تامة، و لم یفصل بین الزائد و الأصلی، فمثلا كلمة (أثقال) فی باب الهمزة لا فی باب الثاء.
5- قسم كل حرف من الحروف إلی ثلاثة أبواب: فمثلا حرف الباء نجد فیه الأبواب الثلاثة الآتیة:
(باب الباء المفتوحة) (باب الباء المضمومة) (باب الباء المكسورة).
6- الكلمات فی الباب لا یراعی فیها ترتیب الحروف بعد الحرف الأول، بل یراعی ورودها فی المصحف و فی السور.
7- یستشهد المؤلف بأبیات من الشعر المحتج به.
8- یغلب علی شرحه للألفاظ الغریبة الإیجاز، و قد یقتصر فی شرحه علی كلمة واحدة.
9- اعجب به الباحثون و أثنوا علی مؤلفه و قرروا أنه أجاد، و قد شرح شواهده أبو العباس أحمد بن عبد الجلیل التدمیری «3» المتوفی سنة 555 ه.
______________________________
(1) «الاتقان» 1/ 113 و انظر «بغیة الوعاة» ص 73.
(2) «نزهة الألباء» ص 386.
(3) التدمیری نسبة إلی تدمیر بضم التاء، و هی بلدة فی شرق قرطبة. انظر ترجمته فی «الاعلام».
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 226
طبع هذا الكتاب أكثر من مرة: طبعه الأستاذ مصطفی عنانی، و طبعه أیضا محمد علی صبیح. ثم رأیت طبعة أصدرتها دار التراث فی القاهرة بعنوان «تفسیر غریب القرآن» لیس فیها مقدمة الطبع و لا اسم المحقق و لا تاریخ الطبع، و قد رتبت المفردات علی سور القرآن حسب ترتیب المصحف. و قد یكون أقدم رجل علی ترتیب الكتاب ترتیبا أقرب للتناول، و لكنّ هذا العمل لا یجوز فی كتب السابقین مع بقاء نسبتها إلی أصحابها.

*** المفردات فی غریب القرآن:

و یمثل هذا الكتاب الذروة فی التألیف فی الغریب.
و مؤلفه هو أبو القاسم الحسین بن محمد، المعروف بالراغب الأصبهانی من رجال القرن الخامس و المتوفی سنة 502 ه كما رجح الزركلی فی «الاعلام» «1» ترك مؤلفات عدیدة منها «جامع التفاسیر» و «حل متشابه القرآن» و «محاضرات الأدباء» «2».
و كتابه من أهم كتب الغریب و أنفعها، و سنحاول التعریف به فیما یأتی:
- یبدو من مقدمته أن للمؤلف اشتغالا بالدراسات القرآنیة، فقد ذكر فیها بعض رسائله عن القرآن.
- ذكر فی المقدمة منهج كتابه فقال:
(و قد استخرت اللّه تعالی فی إملاء كتاب مستوفی، فیه مفردات الفاظ القرآن علی حروف التهجی، فنقدم ما أوله الألف، ثم الباء، علی ترتیب حروف المعجم، معتبرا فیه أوائل حروفه الأصلیة دون الزائد، و الإشارة
______________________________
(1) أورد الزركلی فی الهامش أقوالا عدة فی وفاته و یبدو أن حیاته یكتنفها غیر قلیل من الغموض فقد اختلف فی اسمه أیضا. (أنظر «الاعلام» 2/ 279).
(2) و قد طبع أكثر من مرة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 227
فیه إلی المناسبات التی بین الألفاظ، المستعارات منها و المشتقات، حسما یحتمل التوسع فی هذا الكتاب) «1».
- أشار فی المقدمة إلی أهمیة معرفة مفردات القرآن لإدراك معانی الكتاب الكریم فقال:
(إن أول ما یحتاج أن یشتغل به من علوم القرآن العلوم اللفظیة، و من العلوم اللفظیة تحقیق الألفاظ المفردة، فتحصیل معانی مفردات القرآن ..
لمن یرید أن یدرك معانیه، كتحصیل اللبن فی بناء ما یرید أن یبنیه.
و لیس ذلك نافعا فی علم القرآن فقط، بل هو نافع فی كل علم من علوم الشرع. فألفاظ القرآن هی لب كلام العرب و زبدته، و واسطته و كرائمه، و علیها اعتماد الفقهاء و الحكماء فی أحكامهم و حكمهم، و إلیها مفزع حذاق الشعراء و البلغاء فی نظمهم و نثرهم) «2».
- راعی فی كتابه هذه المشتقات، و تعد من أبرز خصائص هذا الكتاب النفیس هذه المراعاة التی بدت بوضوح فی الكتاب كله.
و قد یورد الاشتقاق الكبیر أحیانا، فمثلا فی مادة (فكر) قال:
(قال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك، لكن یستعمل الفكر فی المعانی، و هو فرك الأمور و بحثها، طلبا للوصول إلی حقیقتها).
- راعی أیضا دوران اللفظ فی الآیات المختلفة، و هذه خاصة ممتازة، ذلك لأن للقرآن الكریم فی استخدام ألفاظ اللغة العربیة طریقة خاصة فتتبع المفردة فی القرآن كله یساعد مساعدة تامة علی فهم الكلمة فهما سلیما صحیحا «3».
______________________________
(1) «المفردات» ص 4 طبعة المطبعة المیمنیة.
(2) «المفردات» ص 3 طبعة المطبعة المیمنیة.
(3) انظر «التفسیر البیانی» لبنت الشاطئ 1/ 14 و «دراسات فی التفسیر» لمصطفی زید صفحة (ص).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 228
التزم ایراد ما یؤخذ من اللفظ من مجاز و تشبیه.
لم یورد فی أقواله التی یسوقها أسماء لغویین و لا مفسرین إلا نادرا، رغبة فی الإیجاز.
- كتابه أشبه ما یكون بمعجم كامل للألفاظ القرآنیة، و لیس مقتصرا علی الغریب فقط. فهو یتناول معظم مفردات القرآن لا تكاد تفوته كلمة.
- و من أهم خصائص هذا الكتاب أنه یورد الفروق بین المعانی الدقیقة التی یظنها كثیر من الناس سواء. فهو مثلا یفرق بین الحمد و الشكر و المدح «1»، فقد قرر أن الحمد للّه تعالی یعنی الثناء علیه بالفضیلة، و هو أخص من المدح، و أعم من الشكر، فإن المدح یقال فیما یكون من الانسان باختیاره، و فیما یكون فی الانسان بالتسخیر، فقد یمدح الانسان بطول قامته و صباحة وجهه، كما یمدح ببذل ماله و سخائه و علمه. و الحمد یكون فی الثانی دون الأول. و الشكر لا یقال إلا فی مقابلة نعمة. فكل شكر حمد، و لیس كل حمد شكرا. و كل حمد مدح و لیس كل مدح حمدا «2».
- اهتم بالإتیان بشواهد من الحدیث الشریف و الشعر. اما استشهاده بالشعر فلبیان المعنی للكلمة، لا للدلالة علی أن الكلمة عربیة، فقد ذكر فی مادة (فلح) مثلا أن الفلاح الدنیوی الظفر بالسعادات التی تطیب بها حیاة الدنیا، و هو البقاء و الغنی و العز، و إیاه قصد الشاعر بقوله:
أفلح بما شئت فقد یدرك بالضعف و قد یخدع الأریب - طبع هذا الكتاب عدة طبعات فی مصر: ففی سنة 1324 ه طبع بالمطبعة المیمنیة علی نفقة مصطفی البابی الحلبی، و طبع علی هامش «النهایة» فی المطبعة الخیریة للسید عمر الخشاب، و أعید طبعه مؤخرا بتحقیق الأستاذ محمد سید كیلانی.
***______________________________
(1) انظر ذلك فی مادة «حمد».
(2) انظر تفریق ابن تیمیة بین الكلمتین فی «مجموع الفتاوی» 11/ 133.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 229
و فی ختام حدیثنا عن القسم المتعلق بالمفردات نود أن نشیر إلی «معجم ألفاظ القرآن» الذی أصدره مجمع اللغة العربیة بمصر و یقع فی مجلدین كبیرین عدد صفحات الأول منهما 641 و عدد صفحات الثانی 918 صفحة و قد ذكر- فی التمهید الذی صدّر به الجزء الأول- أنّ هذا الكتاب كان نتیجة لاقتراح الدكتور محمد حسین هیكل و ذلك فی 6 من شهر المحرم سنة 1360 ه (الموافق 2/ 2/ 1941 م) و قد عمل علی إنجاز هذا المعجم عدد من أهل العلم بلغوا كما جاء فی التمهید تسعة عشر رجلا. لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر 229 المفردات فی غریب القرآن: ..... ص : 226
د شكّلت لجنة لتألیف هذا الكتاب، و ما زالت تنمو هذه اللجنة حتی أصبحت فی سنة 1368 ه (1949 م) مكونة من أعضاء المجمع:
الشیخ إبراهیم حمروش، و الأستاذ إبراهیم مصطفی، و الشیخ عبد الوهاب خلّاف، و الأستاذ علی عبد الرازق، و الدكتور محمد حسین هیكل، و الشیخ محمد الخضر حسین، و الشیخ محمود شلتوت، و الشیخ عبد القادر المغربی (عند حضوره إلی مصر).
و من قبل شارك فی العمل بوضع المبادئ أو النماذج أو الإعداد أعضاء المجمع: ه. أ. ر. جب، و الشیخ أحمد إبراهیم، و الأستاذ علی الجارم، و الشیخ مصطفی عبد الرازق. و قسمت موادّ القرآن الكریم علی لجان فرعیة، كل لجنة منها مكونة من عضو من أعضاء المجمع و أستاذ منتدب من غیر أعضائه مساعدا لعضو المجمع. و كان الأساتذة المساعدون هم:
الدكتور سید نوفل، و الأستاذ عبد المنعم محمد خلّاف، و الشیخ علی حسب اللّه، و الشیخ محمد الزفزاف، و الشیخ محمد علی النجار، و الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقی، و الشیخ محمد المدنی.
و الطریقة التی انتهی الیها المجمع للسیر علیها بوضع المعجم:
أولا: إذا كانت الكلمة القرآنیة ترد فی القرآن بمعنی واحد:
أ- تشرح الكلمة شرحا لغویا أولا.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 230
فإن كانت فعلا مجردا ذكر بابه و مصدره و مشتقاته إن كان لهذه المشتقات ورود فی القرآن الكریم.
و إن كانت فعلا مزیدا ذكر معناه، ثم ذكرت مشتقاته علی النحو السابق.
و إن كانت اسما اكتفی بمعناه.
و إن كانت مصدرا ذكر معناه و فعله.
ب- یبین أنّ الكلمة وردت فی القرآن الكریم فی كذا موضعا، و أنها جاءت فی كل هذه المواضع بالمعنی الذی ذكر آنفا.
ثانیا: إذا كانت للكلمة القرآنیة معان لغویة مختلفة:
أ- ینصّ علی المعانی اللغویة كلها، و یبیّن نوع الفعل و المصدر، و تذكر المشتقات التی وردت من هذه المادّة.
ب- یؤخذ أولا أكثر المعانی دورانا فی القرآن الكریم، و ینصّ علی أنّ الكلمة وردت بهذا المعنی فی كذا و كذا موضعا. و یذكر مثالان من الآیات مع اسم السورة و رقم الآیة. ثم یكتفی بعد ذلك بما جاء من هذا المعنی بذكر السورة و رقم الآیة.
ج- تذكر المعانی الأخری معنی بعد آخر.
و یذكر بعد كل معنی عدد الآیات التی جاءت فیها الكلمة بهذا المعنی.
و یكتفی بمثال، ثم تذكر السور و أرقام الآیات الأخری.
ثالثا: قد یسهل أحیانا- إذا كان للكلمة أكثر من معنی- أن یبدأ بالمعانی التی وردت فی قلیل من الآیات، ثم یذكر المعنی الذی ورد به كثیر من الآیات، و یقال: ما عدا ذلك فهو بمعنی كذا فی باقی الآیات.
رابعا: إذا كان للكلمة معنی لغوی واحد و لكنها استعملت فی القرآن الكریم بألوان مختلفة بسبب المجاز أو نحوه نصّ علی المعنی اللغوی البحت،
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 231
و قیل: إنها تستعمل أو قد ترد بمعنی كذا، ثم تذكر الآیات و أرقامها علی النحو السابق.
علی ضوء هذه الخطة سارت اللجنة فی وضع المعجم بعد أن رتبت ألفاظ القرآن حسب حروف الهجاء مسترشدة بالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن.
هذا و قد اعتمدت علی الطبعة الثانیة لهذا الكتاب التی اصدرتها الهیئة المصریة العامة للتألیف و النشر فی سنة 1390 ه- 1970 م).

*** 2- القسم المتعلق بالنحو و القضایا الاعرابیة:

اشارة

كان التألیف فی التفسیر من زاویة النحو یسایر التألیف فی غریب القرآن الذی تقدم ذكره. و یبدو أن معظم العلماء الذین غلب علیهم الاشتغال بالنحو كانوا یضعون تفسیرا للقرآن الكریم، لأن هذا الكتاب الكریم مدار بحثهم، و علیه یعتمدون فی تأیید القواعد، فلا بد لهم من فهم آیاته، و تفسیرها، و عرض و جهات نظرهم الاختصاصیة خلال ذلك.
و من أشهر من كتب فی ذلك الإمام النحوی الكبیر الفراء المتوفی سنة 207 ه، و أبو العباس محمد بن یزید المبرّد المتوفی سنة 286 ه، و ثعلب أحمد بن یحیی المتوفی سنة 291 ه، و یحیی بن علی التبریزی المتوفی سنة 508 ه، و عبد الرحمن بن محمد أبو البركات الأنباری المتوفی سنة 577 ه و غیرهم.
و نستطیع أن نصنف الكتب التی درست القرآن من وجهة النظر النحویة فی زمرتین:
1- كتب فسرت القرآن أو المشكل منه، و عنیت بالنحو. و سندرس كتابین من هذه الزمرة هما «معانی القرآن» و «البحر المحیط».
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 232
2- كتب عرفت بكتب إعراب القرآن و هی كثیرة، عرض لطائفة جیدة منها صاحب «كشف الظنون»، و السیوطی فی «الإتقان». و سندرس بعضها بعد قلیل:
1- من أقدم الكتب التی وصلت إلینا من كتب الزمرة الأولی- أی كتب التفسیر المهتمة بالنحو- كتاب «معانی القرآن» للفراء الذی سنتحدث عنه فیما یلی:

كتاب «معانی القرآن» للفراء:

یذكرنا هذا الكتاب بكتب المعانی التی نجدها فی جوانب الثقافة الإسلامیة، فهناك كتب المعانی فی الأبیات الشهیرة مثل «كتاب المعانی» لابن قتیبة. و هناك كتب المعانی فی مشكل الحدیث مثل كتاب «معانی الآثار» للطحاوی. و هناك كتب المعانی فی القرآن مثل كتابنا الذی نحن بصدد دراسته الآن.
قال ابن الصلاح:
(و حیث رأیت فی كتب التفسیر (قال أهل المعانی) فالمراد به مصنفو الكتب فی معنی القرآن كالزجاج، و الفراء، و الأخفش، و ابن الأنباری) «1».
إذن فهناك عدد كبیر من العلماء الاعلام قد ألفوا فی معانی القرآن و من أبرزهم هؤلاء الذین ذكرهم ابن الصلاح.
و ربما كانت كتب المعانی هی النواة الأولی فی التفسیر، و الفرق بینها و بین كتب التفسیر: ان كتب المعانی كانت تختار بعض الآیات لتجلو معناها. أما كتب التفسیر فكانت تحاول ألا تترك شیئا من القرآن دون أن تشرحه.
______________________________
(1) «الاتقان» 1/ 113.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 233
أما أول من صنف فی معانی القرآن فیذكر الخطیب البغدادی فی، «تاریخ بغداد» أنه أبو عبیدة معمر بن المثنی، ثم قطرب بن المستنیر «1»، و أول من صنف من الكوفیین الكسائی ثم الفراء. فجمع أبو عبید من كتبهم و جاء فیها بالآثار و اسانیدها و تفاسیر الصحابة و التابعین و الفقهاء «2».
الفراء: أما الفراء فهو أبو زكریا، یحیی بن زیاد الفراء الدیلمی، من موالی بنی أسد. أخذ عن الكسائی، و كان إماما ثقة ذا حظوة عند المأمون، و قد عهد إلیه بتعلیم ابنیه النحو. و اقترح علیه أن یؤلف ما یجمع به أصول النحو و ما سمع من العربیة، و أمر أن تفرد له حجرة من الدار، و وكل بها خدما للقیام بما یحتاج إلیه، و عین له نفرا من الوراقین، یكتبون ما یملیه حتی صنف كتاب «الحدود» فی سنتین، ثم خرج للناس، و أملی كتاب «المعانی» و قد تقدم ذكر سبب إملائه «3»، و هو ورود كتاب من أحد أصحابه، و هو عمر بن بكیر، یطلب إلیه كتابة تفسیر للقرآن حتی یعتمده فی الإجابة عند ما یسأل «4». توفی الفراء سنة 207 ه.
أما كتاب «معانی القرآن» فنستطیع تسجیل الملاحظات الآتیة حوله:
1- معانی القرآن هذا هو العنوان الشائع بین المشتغلین بالعلم، أما الفراء فقد ذكر العنوان فی مقدمة كتابه كما یأتی:
«تفسیر مشكل إعراب القرآن و معانیه».
______________________________
(1) هو محمد بن المستنیر. و قطرب لقبه.
(2) «تاریخ بغداد». 12/ 405 و أبو عبید هو القاسم بن سلام المتوفی 224 ه.
(3) انظر ص 214 و ذلك عند كلامنا علی تاریخ التفسیر فیما بعد عهد التابعین.
(4) «الفهرست» لابن الندیم ص 105 و انظر «معجم الأدباء» 20/ 12 و انظر ترجمته فی:
«وفیات الأعیان» و «البدایة و النهایة» 10/ 261 و «تهذیب التهذیب» 11/ 212 و «غایة النهایة» 2/ 371 و «نزهة الألباء» 81 و «بغیة الوعاة» 411 و «تاریخ بغداد» 14/ 149 و «شذرات الذهب» 2/ 19 و انظر أیضا فی ترجمته فصلا وافیا كتبه رمضان عبد التواب فی مقدمته لكتاب الفراء «المذكر و المؤنث» الذی حققه و نشره سنة 1975 و قد استقصی هناك ذكر كتبه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 234
و هذا العنوان بهذه الصیغة یلقی ضوءا ساطعا علی واقع الكتاب، فالإعراب- و لا سیما المشكل- هو هم المؤلف الأول، لیس معنی هذا خلو الكتاب من شرح المعنی، بل إن تفسیر المعنی مقصد سعی إلیه المؤلف، كما یدل علی ذلك العنوان، غیر أنه لا یشكل حیزا كبیرا إذا قیس بالإعراب و القضایا النحویة.
2- یدل الكتاب علی الثقافة النحویة الواسعة، التی كان یتمتع بها المؤلف كما یدل علی معرفته الممتازة بلهجات الأعراب و لغاتهم.
3- یدل الكتاب علی ان مؤلفه من القراء العارفین المتقنین.
4- یدل الكتاب علی المنهج الذی كانت تنتهجه مدرسة الكوفة النحویة فی بحثها لقضایا النحو و فی التألیف. و لا بد من الإشارة إلی أن هذا الكتاب هو المرجع الكبیر الذی ضم آراء هذه المدرسة بقلم أحد أئمتها.
و نستطیع الآن بعد أن نشر و طبع أن نتعرف علی آراء الكوفیین من خلاله، و كنا قبل ظهوره نتعرف علی آرائهم من خلال كتب خصومهم البصریین. و قد أحدث نشره تغییرا كبیرا فی نظرتنا للنحو الكوفی.
5- قد یعنی المؤلف بالنواحی الاملائیة. و المثل علی ذلك بحثه فی كتابه (باسم ربك) و (بسم اللّه) فقرر أنّ كلمة (اسم) إذا جاءت مع لفظة الرب أثبتت الفها، و إذا جاءت مع لفظ الجلالة حذفت الألف و یعلل كتابتها فی موضع و حذفها فی الموضع الآخر «1».
6- یحظی الاعراب بالقدر الأوفی من العنایة عند المؤلف، و هو لا یكتفی بتقریر الاعراب علی الوجه الذی وردت علیه الآیة، و إنما یجاوز ذلك إلی توجیه أقوال الاعراب البداة و تخریجها وفقا لقواعد العربیة، بل انه یذكر أحیانا قراءات القراء و اجماعهم، و لكنه جریا وراء الرغبة فی
______________________________
(1) «معانی القرآن» 1/ 2 و 337.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 235
الاعراب یقلب الآیة علی الوجوه التی یحتملها الاعراب «1».
7- یأتی المؤلف بالنكت البیانیة فیشرحها مستدلا علیها بما روی عن العرب من الاشعار، (انظر تفسیره لقوله تعالی: فما ربحت تجارتهم) «2».
طبع هذا الكتاب فی دار الكتب المصریة لأول مرة، و قد تم الجزء الأول منه سنة 1374 ه/ 1955 م و قد حققه الاستاذان أحمد یوسف نجاتی و محمد علی النجار و قد ردا الآیات التی استشهد بها المؤلف الی مواضعها فی المصحف كما نسبا الشواهد إلی أصحابها، و شرحا المصطلحات النحویة الخاصة بمدرسة الكوفة، و وضعا فهرسا تفصیلیا نافعا.
و طبع الجزء الثانی بتحقیق محمد علی النجار سنة 1386 ه (1966 م) و الجزء الثالث بتحقیق عبد الفتاح شلبی و علی النجدی سنة 1392 ه (1972 م).
و تم الكتاب طباعة و تحقیقا، و هو من أنفس كتب التفسیر و النحو.

*** تفسیر «البحر المحیط» لأبی حیان:

أبو حیان هو أثیر الدین، محمد بن یوسف بن علی بن یوسف بن حیان الأندلسی الغرناطی الجیانی. ولد فی الأندلس سنة 654 ه، و تلقی العلوم العربیة عن أكابر رجالها فی الأندلس و افریقیة. و كان یكثر نظم الأشعار و الموشحات «3». ثم قدم الاسكندریة، فقرأ القراءات، و كان یعظم سیبویه جدا، و كان بینه و بین ابن تیمیة ود، و قد مدحه بقصیدة ثم انحرف عنه و نال منه، و قیل: إن سبب ذلك انه بحث معه فی العربیة، فخالف ابن تیمیة سیبویه، و ذكر ان له أخطاء، فكان ذلك سبب انحراف ابی حیان عنه.
______________________________
(1) «معانی القرآن» 1/ 17.
(2) «معانی القرآن» 1/ 14.
(3) نشرت خدیجة الحدیثی و أحمد مطلوب دیوانه سنة 1388 ه- 1969 م ببغداد.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 236
كان ثبتا فیما ینقله، عارفا باللغة، أما النحو و التصریف فهو الامام المطلق فیهما، خدم هذا الفن أكثر عمره، حتی صار لا یذكر فی أقطار الأرض فیهما غیره. كان ظاهریا ثم تحول إلی مذهب الشافعی، و كان من كبار العلماء بالتفسیر و الحدیث و التراجم و اللغات «1». و توفی سنة 745 ه.
أما تفسیره «البحر المحیط» فسنورد عنه الملاحظات الآتیة:
1- هذا التفسیر كبیر یقع فی 8 مجلدات كبار.
2- یكثر أبو حیان فیه من التعرض للمسائل النحویة و یتوسع فی ذكر الخلاف بین النحویین و فی إعراب الكلمات.
3- یتكلم عن المعانی اللغویة للمفردات أولا. و إذا كان للكلمة معنیان أو معان شرح ذلك فی أول موضع ترد فیه الكلمة.
4- یذكر القراءات الواردة فی الآیة، و یوجهها نحویا، و یذكر الشاذ و المستعمل.
5- یعنی بالناحیة البلاغیة بیانا و بدیعا.
6- یحیل علی المصادر التی نقل منها قضایا الإعراب و الاحكام الفقهیة. و قد أحصی فی مقدمته المصادر الكثیرة التی استقی منها محتوی الكتاب و تتصل بعلوم كثیرة، و أورد سبعة وجوه یكون تفسیر كتاب اللّه علیها «2».
______________________________
(1) أنظر ترجمته فی «نفح الطیب» للمقری 3/ 289- 341 و «بغیة الوعاة» للسیوطی ص 121 و «الرد الوافر» لابن ناصر الدین الدمشقی ص 62 و «الطبقات للسبكی» 9/ 276 و «الوافی بالوفیات» 5/ 267 و «نكت الهمیان» 280 و «الدرر الكامنة» 5/ 70 و «شذرات الذهب» 6/ 145 و «البدر الطالع» 2/ 288 و «حسن المحاضرة» 1/ 534 و «ذیول تذكرة الحفاظ» 23 و «طبقات القراء» لابن الجزری 2/ 285 و «طبقات المفسرین» للداودی 2/ 286 و «فوات الوفیات» 2/ 555 و انظر فی ترجمة أبی حیان و تفسیره مقالا قیما لمحمد عبد الخالق عضیمة فی مجلة كلیة اللغة بالریاض العدد السابع سنة 1397.
(2) انظر «البحر المحیط» 1/ 6- 7.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 237
7- یذكر أسباب النزول، و الناسخ و المنسوخ، و ارتباط الآیة بما قبلها و ما بعدها.
8- یتحدث عن الأحكام الفقهیة عند ما یمر بآیات الأحكام، فینقل أقوال الفقهاء من الأئمة الأربعة و غیرهم.
9- یذكر ما جاء فی كلام المتقدمین من السلف و الخلف.
10- یتبع آخر الآیات بكلام منثور یشرح به مضمون تلك الآیات علی ما یختاره من تلك المعانی.
11- ربما ألم بشی‌ء من كلام الصوفیة بما فیه بعض مناسبة لمدلول اللفظ. یقول فی المقدمة: (و تجنبت كثیرا من أقاویلهم و معانیهم التی یحملونها الألفاظ، و تركت أقوال الملحدین الباطنیة المخرجین الألفاظ العربیة عن مدلولاتها فی اللغة الی هذیان افتروه علی اللّه و علی علی رضی اللّه عنه و علی ذریته و یسمونه علم التأویل) «1».
12- ینقل أبو حیان من تفسیر الزمخشری كثیرا، و من تفسیر ابن عطیة أیضا، و یتعقبهما فی آرائهما النحویة، و من الجدیر بالذكر ان أبا حیان یقف من الزمخشری مواقف عنیفة، و یسخر منه سخریة شدیدة، من أجل آرائه الاعتزالیة و إن كان یثنی علی مقدرته فی الناحیة البلاغیة.
و قد طبع هذا الكتاب و اعید تصویره بعد حین و ما یزال بحاجة إلی من یحققه و ینشره نشرا حدیثا.

*** 2- كتب إعراب القرآن:

هذه الكتب كثیرة كثرة تستلفت النظر حتی قال السیوطی «2»:
______________________________
(1) «البحر المحیط» 1/ 5.
(2) «الاتقان» 1/ 179.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 238
(أفرده بالتصنیف خلائق. منهم مكی «1» و كتابه فی المشكل خاصة، و الحوفی «2» و هو أوضحها، و أبو البقاء العكبری «3» و هو أشهرها، و السمین «4» و هو أجلها علی ما فیه من حشو و تطویل «5» و لخصه السفاقسی) «6».
و هناك كتب كثیرة فی هذا الموضوع لمؤلفین قدامی و متأخرین من أشهرها:
1- كتاب «إعراب القرآن» للزجاج المتوفی سنة 311 ه و طبعه بهذا الاسم الاستاذ الأبیاری «7» فی ثلاثة مجلدات. و ذكره ابن الندیم فی «الفهرست» «8» بعنوان «معانی القرآن».
2- كتاب «إعراب ثلاثین سورة من القرآن» لابن خالویه النحوی المتوفی سنة 370 ه، و اسمه الحسین بن أحمد. و قد نشرته دار الكتب المصریة سنة 1360 ه (1941 م).
______________________________
(1) هو مكی بن حموش (355- 437 ه) الاندلسی، مقرئ عالم بالتفسیر و العربیة من أهل القیروان سكن قرطبة و توفی فیها له كتاب «مشكل إعراب القرآن».
(2) هو علی بن إبراهیم الحوفی المتوفی سنة 430 ه. نحوی عالم باللغة و التفسیر.
(3) هو عبد اللّه بن الحسین (538- 616 ه) عالم بالأدب و اللغة و الحساب، أصله من عكبرة بلیدة علی دجلة. ولد و توفی ببغداد، و عمی فی صباه و سنتحدث عن كتابه.
(4) هو أحمد بن یوسف بن عبد الدائم الحلبی، مفسر عالم بالعربیة و القراءات، شافعی من أهل حلب، استقر فی القاهرة، و توفی سنة 756 ه.
(5) و قد تعقب حاجی خلیفة فی كتابه «كشف الظنون» 1/ 122 السیوطی فقال: (انه أجل ما صنف فیه، لأنه جمع العلوم الخمسة: الإعراب و التصریف و اللغة و المعانی و البیان، و أما قول السیوطی فیه: (هو مشتمل علی حشو و تطویل لخصه السفاقسی فجوده) فوهم منه، لأن السفاقسی ما لخص إعرابه منه، بل من «البحر» .. و السمین لخصه أیضا من «البحر» فی حیاة شیخه أبی حیان و ناقشه فیه كثیرا).
(6) هو إبراهیم بن محمد السفاقسی ولد سنة 697 ه أخذ عن أبی حیان بالقاهرة و قدم دمشق فسمع من المزی و توفی سنة 742 ه.
(7) و قد كتب صدیقنا أحمد راتب النفاخ مقالین قیمین حول هذه الطبعة فی مجلة مجمع دمشق ج 4 م 48 و ج 1 م 49.
(8) «الفهرست» ص 96.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 239
3- «التبیان فی اعراب القرآن المجید» «1» لأبی البقاء العكبری المتوفی سنة 616 ه. و هو كتاب من أشهر كتب إعراب القرآن، غیر ان أبا حیان كان یتعقب أبا البقاء فی كثیر من مواضع تفسیره «البحر».
و قد طبع مرات عدیدة و طبع مؤخرا طبعة حدیثة.
4- «المجید فی إعراب القرآن المجید» للسفاقسی المتوفی سنة 742 ه.
و كتابه أحسن من الكتاب السابق، و هو كما یقول صاحب «كشف الظنون» فی مجلدات. و قد ذكر فی هذا الكتاب شیخه أبا حیان و كتابه «البحر»، و مدحه كثیرا غیر أنه قال فیه: (لكنه سلك سبیل المفسرین فی الجمع بین التفسیر و الاعراب فتفرق فیه المقصود) «2» فاستخار اللّه فی تلخیصه، و جمع ما بقی فی كتاب أبی البقاء من إعرابه لكونه كتابا قد عكف الناس علیه، فضمه إلیه بعلامة المیم. و أورد ما كان له بعد كلمة:
(قلت).

*** القواعد التی علی معرب القرآن أن یراعیها:

یجب علی معرب القرآن مراعاة ما یأتی:
1- أن یفهم معنی ما یرید أن یعربه، مفردا أو مركبا قبل الإعراب.
و قد قرّر ابن هشام «3» أنه قد زلّت أقدام كثیر من المعربین راعوا فی الإعراب ظاهر اللفظ و لم ینظروا فی موجب المعنی من ذلك قوله تعالی:
أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما یَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِی أَمْوالِنا ما نَشؤُا «4» فانه یتبادر إلی الذهن عطف (أن نفعل) علی (أن نترك)، و ذلك باطل لأنه لم یأمرهم أن یفعلوا فی أموالهم ما یشاءون، و إنما هو
______________________________
(1) و هو «إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب و القراءات فی جمیع القرآن».
(2) انظر «كشف الظنون» 2/ 1607.
(3) «مغنی اللبیب» 2/ 527- 529.
(4) سورة هود: 87.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 240
عطف علی (ما) فهو معمول للترك. و المعنی: أن نترك أن نفعل فی أموالنا ما نشاء.
2- أن یراعی ما تقتضیه الصناعة و أن یكون ملما إلماما جیدا بقواعد النحو و الصرف و الأسلوب الأفضل عند العرب.
3- أن یتجنب الأمور البعیدة، و الاوجه الضعیفة، و اللغات الشاذة، و یخرج علی القوی و القریب و الفصیح.
4- أن یراعی الرسم، و من ثم خطّأ من قال فی (سلسبیلا) الواردة فی قوله تعالی: وَ یُسْقَوْنَ فِیها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِیلًا. عَیْناً فِیها تُسَمَّی سَلْسَبِیلًا «1»: إنها جملة أمریة، أی سل طریقا.
5- أن یتأمل عند ورود المشتبهات، و من ثم خطّأ من قال فی أَحْصی لِما لَبِثُوا أَمَداً «2»: إنه أفعل تفضیل، و المنصوب تمییز، و هو باطل. فإن الأمد لیس محصیا بل یحصی.
و شرط التمییز المنصوب بعد (أفعل) كونه فاعلا فی المعنی. فالصواب فی اعراب الآیة أن (أحصی) فعل. و أن (أمدا) مفعول. مثل: وَ أَحْصی كُلَّ شَیْ‌ءٍ عَدَداً «3».
6- ان لا یخرج علی خلاف الأصل أو خلاف الظاهر بغیر مقتض.
- أن یبحث عن الأصلی و الزائد.
8- أن یجتنب اطلاق لفظ (الزائد) فی كتاب اللّه، فإن الزائد قد یفهم منه أنه لا معنی له. و كتاب اللّه منزه عن ذلك، و لذا فر بعضهم إلی
______________________________
(1) الانسان: 17- 18.
(2) الكهف: 12 و انظر خلاف البصریین و الكوفیین فی إعرابها فی «البحر المحیط» 6/ 104- 105 و «أضواء البیان» 4/ 24- 27.
(3) الجن: 28.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 241
التعبیر عوضا عن ذلك بالتأكید، و الصلة و المقحم).

*** 3- القسم المتعلق بالأسالیب البیانیة:

اشارة

رأینا فیما سبق أن التفسیر بدأ فی القرن الأول، ثم أخذ ینمو و یتضخم ابتداء من أواخر القرن الثانی، حتی أصبحت المؤلفات فیه لا یكاد یحصیها العد.
و لكن بدلا من أن یبحث عن الجمال الفنی فی القرآن و تناسقه و انسجامه مع الجمال الموضوعی البالغ حد الكمال، أخذ التفسیر یخوض فی مباحث كلامیة و فقهیة قائمة علی الجدل، و فی موضوعات نحویة و صرفیة و لغویة.
و قد رأینا مثالا علی ذلك فیما مضی.
و بذلك لم یستطع التفسیر أن یحقق الغرض الذی من أجله قام، لأننا رأینا أن الغرض من التفسیر هو الوقوف علی معانی القرآن و إدراك أسرار اعجازه.
أما التألیف فی التفسیر البیانی الذی یكشف عن وجوه الجمال و الإعجاز، و الذی یولی هذا الجانب الاهتمام الأكبر فقد كان متأخرا من جهة، و كان محصورا فی حقلین من جهة أخری:
* الحقل الاول: حقل إعجاز القرآن، و قد تقدم البحث فیه فی صدر الكتاب «1».
* الحقل الثانی: حقل المتكلمین و البلاغیین، و هذا ما نود أن نتحدث فیه الآن:
كان المعتزلة- و هم المشتغلون فی علم الكلام- یحاولون أن یحتكروا
______________________________
(1) أنظر الفصل السابع من الباب الأول من قسم القرآن و علومه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 242
العنایة بدراسة البلاغة القرآنیة فی القرنین الثانی و الثالث. و كان من أهم أعلامهم و اصل بن عطاء، و الجاحظ، و محمد بن یزید الواسطی المعتزلی و غیرهم، و لكنهم لم یفلحوا فی أن یبقی البحث فی البلاغة القرآنیة وقفا علیهم، إذ كان یقوم الی جانبهم دائما عمالقة من أهل السنة یشاركونهم البحث فی بلاغة القرآن بأصالة و عمق.
و فی القرن الخامس نجد أن شافعیا من أهل السنة، و من عباقرة علماء العربیة و هو عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانی المتوفی سنة 471 ه یأخذ علی عاتقه هذه المهمة و ینتزع الرایة من أیدی المعتزلة و قد بلغ غایة التوفیق المقدر لباحث فی عصره، فلقد أوشك ان یصل إلی اكتشاف سر الجمال الفنی، بصورة كاملة فی كتابه «دلائل الإعجاز».
قال الاستاذ سید قطب: (لو لا أن قصة المعانی و الألفاظ ظلت تخایل له من أول الكتاب إلی آخره، فصرفته عن كثیر مما كان وشیكا أن یصل إلیه، و لكنه علی الرغم من ذلك كله كان أنفذ حسا من كل من كتبوا فی هذا الباب) «1» و یستحق أن یدرس دور عبد القاهر فی الدراسات القرآنیة مفصلا و مفردا.
و قال الاستاذ سید: (و أیا ما كانت تلك الجهود التی بذلت فی التفسیر و فی مباحث البلاغة و الإعجاز، فإنها وقفت عند حدود عقلیة النقد العربی القدیمة: تلك العقلیة الجزئیة التی تتناول كل نص علی حدة، فتحلله و تبرز الجمال الفنی فیه- الی الحد الذی تستطیع- دون أن تتجاوز هذا إلی إدراك الخصائص العامة فی العمل كله.
هذه الظاهرة قد برزت فی البحث عن بلاغة القرآن، فلم یحاول أحد أن یجاوز النص الواحد إلی الخصائص الفنیة العامة، اللهم إلا ما قیل فی تناسق تركیب القرآن و ألفاظه، أو استیفاء نظمه لشروط الفصاحة و البلاغة المعروفة، و هذه میزات- كما قال عبد القاهر بحق- لا تذكر فی مجال
______________________________
(1) أنظر «التصویر الفنی» ص 59.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 243
الاعجاز، لأنها میسرة لكل شاعر و كاتب شب عن الطوق.
و بوقوف الباحثین فی بلاغة القرآن عند خصائص النصوص المفردة، و عدم تجاوزها الی الخصائص العامة، وصلوا الی المرحلة الثانیة من مراحل النظر فی الآثار الفنیة، و هی مرحلة الادراك لمواضع الجمال المتفرقة، و تعلیل كل موضع منها تعلیلا منفردا. ذلك مع ما قدمنا من أن هذا الادراك كان بدائیا ناقصا.
أما المرحلة الثالثة- مرحلة إدراك الخصائص العامة- فلم یصلوا إلیها أبدا لا فی الأدب، و لا فی القرآن، و بذلك بقی أهم مزایا القرآن مقفلا خالیا) «1».
اما الكتب التی وصلت الینا فی هذا المجال فی تفسیر القرآن فأهمها كتاب «الكشاف» للزمخشری. و فی العصر الحاضر الذی نهضت فیه الآداب و تقدم النقد قامت بعض الطاقات تخوض فی هذا المیدان تحاول أن تستدرك ما فات الأقدمین، و سندرس محاولة الاستاذ سید قطب الناجحة التی تدل علی أصالة و ذوق و إبداع.
فلنتعرف اذن الی «الكشاف» و «ظلال القرآن».

1- الكشاف للزمخشری:

اشارة

الزمخشری هو محمود بن عمر أبو القاسم. و قد عرف بجار اللّه، لأنه جاور فی مكة مدة من الزمان. ولد فی زمخشر سنة 467 ه، و توفی فی جرجانیة من قری خوارزم سنة 538 ه. كان من أكبر رءوس الاعتزال فی عصره، و كان حنفی المذهب، و ترك عدة كتب نافعة، من أشهرها:
«أساس البلاغة» فی مفردات اللغة التی تستعمل فی المجاز، و «المفصل» فی النحو و «الفائق» فی غریب الحدیث «2».
______________________________
(1) «التصویر الفنی» ص 22.
(2) أنظر ترجمته فی «وفیات الأعیان» و «انباه الرواة» 3/ 265 و «البدایة و النهایة» 12/ 219 و «شذرات الذهب» 4/ 118 و «المیزان» 4/ 78 و «لسان المیزان» 6/ 4
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 244
أما تفسیره فله مكانة كبیرة، و ممّا یدل علی هذه المكانة مدحه من قبل كل من وقفوا علیه، و معظمهم من خصوم الزمخشری و خصوم المعتزلة كابن بشكوال و الشیخ الهروی و أبی حیان و التاج السبكی و ابن حجر. و لكل ممن ذكرنا أقوال فی الثناء علی «الكشاف».
* و سنذكر بعض الملاحظات حول هذا الكتاب:
1- سبب تألیفه هو طلب جماعة من المعتزلة إلی الزمخشری أن یؤلف لهم تفسیرا، فكان یعتذر فی بادئ الامر، إلی أن جاور فی مكة، فطلب إلیه أمیرها أبو الحسن علی بن حمزة أن یكتب تفسیرا فاستجاب لذلك بعد أن كان قد بلغ من الكبر عتیا، و قد استطاع انجازه بسرعة كبیرة، ببركة هذا الحرم المعظم كما یقول فی المقدمة:
(... و وفق اللّه و سدد، ففرغ منه فی مقدار مدة خلافة ابی بكر الصدیق رضی اللّه عنه، و كان یقدر تمامه فی أكثر من ثلاثین سنة و ما هی إلا آیة من آیات هذا البیت المحرم، و بركة أفیضت علی من بركات هذا الحرم المعظم) و معلوم ان خلافة ابی بكر سنتان و أربعة أشهر.
2- و كان الزمخشری معتدا بهذا الكتاب فخورا به الی حد بعید حتی نسب الیه السیوطی و صاحب «كشف الظنون» «1» و غیرهما البیتین الآتیین:
ان التفاسیر فی الدنیا بلا عددو لیس فیها لعمری مثل كشافی
ان كنت تبغی الهدی فالزم قراءته‌فالجهل كالداء و «الكشاف» كالشافی 3- و عنوان الكتاب هو: «الكشاف عن حقائق التنزیل، و عیون الأقاویل فی وجوه التأویل».
______________________________
و «المنتظم» 10/ 112 و «معجم الأدباء» 19/ 126 و «تذكرة الحفاظ» 4/ 1238 و «بغیة الوعاة» 388 و «طبقات المفسرین» للسیوطی 41 و «طبقات المفسرین» للداودی 2/ 314 و «مفتاح السعادة» 2/ 97.
(1) «بغیة الوعاة» ص 388 و «كشف الظنون» 2/ 1476.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 245
4- اللغة التی كتب بها الزمخشری كتابه لغة رفیعة سامیة بلیغة واضحة و قد خلا هذا التفسیر من الحشو و التطویل، علی أنّ هذا الایجاز و التركیز لم یورث الكلام غموضا و لا تعقیدا.
5- جمع هذا الكتاب خاصتین اثنتین لم توجدا فی غیره:
أولاهما: انه أوسع كتاب فی استجلاء نواحی الجمال فی القرآن و الكشف عن وجوه الاعجاز.
و هو تفسیر لم یسبق مؤلفه الیه، لإبانته عن وجوه الاعجاز فی آیات القرآن و بلاغته. و قد أعانه علی تحقیق ذلك معرفته بلغة العرب، و إحاطته بعلوم البیان و النحو و اللغة. قال فی المقدمة:
(و لا یغوص علی شی‌ء من تلك الحقائق الا رجل قد برع فی علمین مختصین بالقرآن. و هما: علم المعانی، و علم البیان، و تمهل فی ارتیادهما آونة، و تعب فی التنقیر عنهما أزمنة، بعد أن یكون آخذا من سائر العلوم بحظ، جامعا بین أمرین: تحقیق و حفظ).
و قد أثبت الزمخشری فی «كشافه» أنه ممن اتصفوا بهذه الصفات إذ كان یعتمد فی بیان المعنی علی أسالیب لغة العرب المعهودة فی مأثور كلامهم.
ثانیهما: انه أضخم تفسیر للمعتزلة وصل إلی أیدینا و هو یعبر عن عقائدهم من خلال شرحه للآیات، و یمكننا أن نقول: إنه جمع أقوال أئمة الاعتزال المتقدمین مثل الجاحظ و القاضی عبد الجبار و غیرهما من كبار المعتزلة.
و لا بد من الاشارة إلی أن الزمخشری قد یخالف المعتزلة فی مواضع قلیلة، ذهب فیها إلی خلاف الرأی الذی یتجه الیه علماء الاعتزال، فمن ذلك موضوع عذاب القبر الذی یذهب إلی إثباته و یناقش فیه المخالفین علی طریقته (فان قلت ... قلت) «1».
______________________________
(1) «الكشاف» 1/ 339.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 246
و فی مثل هذه المواضع نجد ابن المنیر یثنی علیه و علی صنیعه الثناء المستطاب، فیقول مثلا فی تعلیقه علی تفسیر الزمخشری للآیة وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ «1».
یقول ابن المنیر: (و لقد أحسن الزمخشری فی مخالفة أصحابه فی هذه العقیدة، فإنهم یجحدون عذاب القبر، و ها هو قد اعترف به) «2».
6- بنی المؤلف مناقشته علی طریقة افتراض السؤال، ثم وضع الجواب عنه. یبدأ بعرض السؤال بقوله: (فان قلت) ثم یأتی بالجواب مصدرا بقوله: (قلت).
7- یقل من ذكر الروایات الإسرائیلیة، و یناقش ما یورده منها، و غالبا ما یردها، و لذا فاننا نستطیع أن نعد تفسیره «الكشاف» خالیا من الاسرائیلیات نسبیا.
8- الأحادیث النبویة قلیلة فیه أیضا، و قلما یعتمد المؤلف علی الحدیث فی شرحه لمعنی الآیة، و مع ذلك فان فیه عددا وافرا من الأحادیث الموضوعة دون أن ینبه علی ذلك، و لا سیما فی فضائل السور، إذ كان یورد فی آخر كل سورة الأحادیث التی تشیر الی فضلها و ثواب قراءتها، و معظمها موضوع.
9- یشتد علی أهل السنة و الجماعة و یذكرهم بعبارات فاحشة، و قد ینسبهم الی أهل الأوهام و الخرافات، و قد ینسبهم- علی سبیل التعریض- الی الكفر.
و من أجل ذلك قال الرازی فی «تفسیره»:
(خاض صاحب «الكشاف» فی هذا المقام فی الطعن فی أولیاء اللّه، و كتب فیها ما لا یلیق بعاقل ان یكتب مثله فی الفحش. فهب انه اجترأ علی
______________________________
(1) آل عمران: 185.
(2) «الانتصاف» (المطبوع بهامش الكشاف) 1/ 339.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 247
الطعن فی أولیاء اللّه تعالی فكیف اجتراؤه علی كتبه ذلك الكلام الفاحش فی تفسیر كلام اللّه المجید؟).
10- الطابع العقلی و المذهب الكلامی واضحان فی منهج الزمخشری فی الكتاب، و لذلك فان اعتباره ممثلا لاتجاه التفسیر بالرأی أمر مقبول.
11- و هو یؤول الآیات بما یتناسب مع نحلته، و یصرفها عن ظاهرها بتكلف و تعسف. أنظر مثلا تفسیره لقوله تعالی: «ناظرة» فی الآیة الواردة فی سورة القیامة. كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ، وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ، وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلی رَبِّها ناظِرَةٌ «1» لتری مدی التعسف، و تحمیل النصوص ما لا تحمل، ذلك لأن المعتزلة یرون أنه لا یمكن رؤیة اللّه أبدا.
و هو كذلك فی كل آیات الصفات یصرف الآیة عن ظاهرها، و یعتمد علی المجاز و الاستعارة.
12- و قد یلجأ فی رد دلالة الآیة التی لا توافق مذهبه یلجأ إلی ادعاء انها من المتشابه، یقف ذلك الموقف أمام النصوص التی تصادم مذهبه، إن لم یمكنه تأویلها.
13- یحسن عرض فكرته علی الوجه المناسب حتی ان كثیرا من المغالطات لتخفی علی كثیر من الناس، و لا سیما أن عددا من هذه الموضوعات شائك، لیس لدی جمهور الناس فكرة واضحة عنها، و لذا فقد أحسن طابعوه الذین طبعوه مذیلا برد علیه لابن المنیر سنذكره بعد قلیل.

*** تأثیر «الكشاف»:

كان لكتاب «الكشاف» تأثیر كبیر علی علماء المسلمین، یدلنا علی هذا التأثیر:
______________________________
(1) سورة القیامة: 20- 23. و انظر «ترتیب المدارك» للقاضی عیاض 1/ 172- 173.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 248
أ- الكتب الكثیرة: التی ألفت حول «الكشاف»، فقد كان منها كتب فی الرد علی الافكار المنحرفة التی وردت فی الكتاب، و كان منها كتب تتعلق بتخریج الاحادیث، و كان منها كتب تتصل بالشواهد شرحا و اعرابا و اتماما، و كان منها كتب تعد شرحا للكشاف، و كان منها كتب، تعد تلخیصا له. و قد ألف هذه الكتب رجال من أهل السنة، بل و من ائمة أهل السنة كما سنری.
و سنذكر كتبا اربعة هی:
1- «الانتصاف» للشیخ احمد بن محمد بن منصور المنیّر الاسكندری المالكی المتوفی سنة 680 ه، و قد تعقبه فی اعتزالیاته تعقبا عجیبا، و لم یدع له إشارة و لا تصریحا دون أن یأتی علیه بالمناقشة و الرد، و قد فنّد حججه، و قابل عنفه بعنف مثله أو أشد.
2- «الكافی الشاف فی تخریج أحادیث الكشاف» لأمیر المؤمنین فی الحدیث الامام ابن حجر العسقلانی المتوفی سنة 852 ه، و هو كتاب نافع جدا، لانه یوقف القارئ علی درجة الحدیث الذی یمر معه.
3- «حاشیة الشیخ محمد علیان المرزوقی علی تفسیر الكشاف».
4- «مشاهد الانصاف علی شواهد الكشاف» للمرزوقی المذكور.
ب- ثناء كثیر من خصوم الاعتزال علی «الكشاف»، فلو لم یكن هذا الكتاب من قوة التأثیر بهذه الدرجة لما كان منهم مثل هذا الثناء علیه.
قال ابن خلدون:
[و الصنف الآخر من التفسیر، و هو ما یرجع إلی اللسان من معرفة اللغة و الإعراب و البلاغة فی تأدیة المعنی بحسب المقاصد و الأسالیب ..... و من أحسن ما اشتمل علیه هذا الفن من التفاسیر كتاب «الكشاف» للزمخشری من أهل خوارزم العراق، الّا أنّ مؤلفه من أهل الاعتزال فی العقائد، فیأتی بالحجاج علی مذاهبهم الفاسدة حیث تعرض فی آی القرآن من طرق البلاغة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 249
فصار ذلك للمحققین من أهل السنة انحراف عنه و تحذیر للجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه فیما یتعلق باللسان و البلاغة.
و إذا كان الناظر فیه واقفا مع ذلك علی المذاهب السنیة، محسنا للحجاج عنها، فلا جرم أنه مأمون من غوائله، فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه فی اللسان.
و لقد وصل إلینا فی هذه العصور تألیف لبعض العراقیین و هو شرف الدین الطیبی من أهل توریز من عراق العجم، شرح فیه كتاب الزمخشری هذا، و تتبع ألفاظه و تعرّض لمذاهبه فی الاعتزال بأدلة تزیفها و تبین أن البلاغة إنما تقع فی الآیة علی ما یراه أهل السنة، لا علی ما یراه المعتزلة، فأحسن فی ذلك ما شاء مع إمتاعه فی سائر فنون البلاغة. و فوق كل ذی علم علیم] «1».
ج- و هناك كتب أخری فی التفسیر تأثرت بالكشاف تأثرا كبیرا، لاعتماد مؤلفیها علی هذا الكتاب بالذات اعتمادا كلیا، لا سیما فی النواحی المتصلة بالبیان و البلاغة، و لم تعلن انها تدور حوله، و نستطیع ان نعد من هذا القبیل اسماء كثیرة من كتب التفسیر التی جاءت بعد عصر المؤلف، و أوضح مثال علی ذلك تفسیر النسفی المتوفی 701 ه و البیضاوی المتوفی 791 ه.
د- و من الطریف أن نورد رأی أبی حیان فی «الكشاف» و ذلك فی قوله: [و أنت تری هذا الكلام و ما احتوی علیه من الترصیف الذی یبهر بجنسه الادباء، و یقهر بفصاحته البلغاء، و هو شاهد له باهلیته للنظر فی تفسیر القرآن، و استخراج لطائف الفرقان] «2» ثم وازن بینه و بین تفسیر ابن عطیة، و فی قوله فی ابیات أثنی فیها علی الزمخشری، ثم انتقده، و هذه الأبیات ذكرها فی «البحر المحیط» «3» نختار منها ما یأتی:
______________________________
(1) مقدمة ابن خلدون 440 ط المكتبة التجاریة الكبری بمصر.
(2) «البحر المحیط» 1/ 9- 10.
(3) «البحر المحیط»: 7/ 85 و دیوان أبی حیان 327- 328.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 250 و لكنه فیه مجال لناقدو زلات سوء قد أخذن المخانقا
فیثبت موضوع الاحادیث جاهلاو یعزو الی المعصوم ما لیس لائقا
و یشتم اعلام الائمة ضلةو لا سیما ان أولجوه المضایقا
و یسهب فی المعنی الوجیز دلالةبتكثیر الفاظ تسمی الشقاشقا
یقوّل فیها اللّه ما لیس قائلاو كان محبا فی الخطابة وامقا
و ینسب ابداء المعانی لنفسه‌لیوهم اغمارا و ان كان سارقا
و یخطئ فی فهم القرآن لأنه‌یجوز اعرابا أبی أن یطابقا
و كم بین من یؤتی البیان سلیقةو آخر عاناه فما هو لاحقا
و یحتال للالفاظ حتی یدیرهالمذهب سوء فیه أصبح مارقا ***

2- «فی ظلال القرآن» للاستاذ سید قطب:

ترجمة المؤلف:

ولد الاستاذ سید سنة 1324 ه (1906 م) و درس دراسته الابتدائیة و الثانویة فی مصر، ثم دخل دار العلوم، و تخرج فیها یعمل فی التدریس ثم شرع یشتغل فی الصحافة و التألیف، فعرفته البلاد العربیة كاتبا مجیدا و أدیبا كبیرا، و ناقدا أصیلا .. ثم غلبت علیه الدراسات الاسلامیة، فقضی بقیة حیاته مجاهدا یدعو إلی اللّه علی هدی و بصیرة، و تحمل من أجل ذلك الكثیر، و ضحی بالغالی و النفیس، و ظل یقود فكر مثقفی العالم الاسلامی فی أصعب الظروف، و من وراء قضبان السجن إلی ان استشهد یوم الاثنین 13 جمادی الأولی سنة 1386 ه الموافق ل 29 آب سنة 1966 م. و خلف ثروة ضخمة من المؤلفات من أهمها:
الكتاب الذی نتحدث عنه و هو «فی ظلال القرآن» و «التصویر الفنی فی القرآن» و «مشاهد القیامة فی القرآن» و «خصائص التصور الاسلامی» و «الاسلام و مشكلات الحضارة» و «النقد الأدبی» و «معالم فی الطریق».
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 251

الكتاب:

قامت فی مطلع هذا العصر نهضة دینیة كان أبرز رجالها الشیخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اللّه، و كان لهذه النهضة أثر كبیر فی الجزیرة العربیة و فی جمیع أنحاء العالم الاسلامی ... ثم جاء القرن الرابع عشر الهجری، فكانت فیه یقظة فكریة، و نهضة علمیة، و ذلك علی أثر غزو الحضارة الأوروبیة للمسلمین، و استیلاء دول أوربا علی معظم دیار الاسلام. و كانت مصر أهم المراكز الفكریة فی العالم الاسلامی، و لذلك فاننا نجد أن عددا من النوابغ الذین عرفتهم الأمة و الذین قادوا الحركة الفكریة و الاصلاحیة كانوا من أبناء مصر أو من سكانها الذین وفدوا الیها من جهة ما من العالم الاسلامی، و قصدوها لیمارسوا دورهم الهام من أمثال جمال الدین الافغانی و محمد عبده و رشید رضا و حسن البنا و غیرهم.
و قد نمت هذه الحركة و أثمرت ثمرات عدیدة كانت خیرا علی المسلمین و من أهم ثمراتها التی تعنینا فی بحثنا هذا تلك النهضة اللغویة التی بها اتصل الخلف بآثار السلف، و ارتقت بسببها أسالیب الكتابة، و ظهرت طاقات ضخمة لا تقل عما عرفنا فی تاریخنا، و شرع العلماء یبحثون و یحاولون أن یضیفوا إلی تراثنا زادا جدیدا، و یتابعون عمل الأجداد بهمة لا تكل، و أصالة و ذوق.
و كان لدار العلوم دور محمود فی هذه النهضة، فلقد خرجت عددا من الاعلام الذین قدموا خدمات جلیلة للغة القرآن ... و كان من ابرزهم الاستاذ سید قطب.
و الاستاذ سید- رحمه اللّه تعالی- ادیب فذ، و ناقد أصیل، و عالم متمكن، و كاتب موهوب، عنی بالقرآن عنایة كبری، و استمر فی دراسته القرآنیة قرابة ثلاثین سنة. «1»
______________________________
(1) أنظر ترجمته فی «الأعلام» و قد كتب یوسف العظم و محمد علی قطب و إبراهیم البلیهی و غیرهم كتبا فی حیاته و آثاره.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 252
كانت المحاولة الجدیة الأولی فی هذه الدراسات كتابه القیم «التصویر الفنی فی القرآن» الذی كان باكورة انتاجه القرآنی. و قد كتب المؤلف قصة هذا الكتاب، فذكر أنها بدأت بنشر مقال فی مجلة «المقتطف» سنة 1939 م تحت عنوان «التصویر الفنی فی القرآن» تناول فیه عدة صور فأثبتها و كشف عما فیها من جمال فنی. و ظل یعكف بین الحین و الحین علی القرآن یتملی صوره الفریدة إلی أن توفر علی هذا البحث و أصدر كتاب «التصویر الفنی فی القرآن» و قرر أن حقیقة جدیدة برزت له و هی: (أن الصور فی القرآن لیست جزءا یختلف عن سائره، ان التصویر هو قاعدة التعبیر فی هذا الكتاب الجمیل. القاعدة الاساسیة المتبعة فی جمیع الأغراض- فیما عدا غرض التشریع بطبیعة الحال- فلیس البحث اذن عن صور تجمع و ترتب، و لكن عن قاعدة تكشف و تبرز) «1».
ثم یقول: (ذلك توفیق لم أكن اتطلع الیه حتی التقیت به) «2».
و یقول: (التصویر هو الاداة المفضلة فی أسلوب القرآن فهو یعبر بالصورة المحسة المتخیلة عن المعنی الذهنی و الحالة النفسیة، و عن الحادث المحسوس و المشهد المنظور، و عن النموذج الانسانی، و الطبیعة البشریة، ثم یرتقی بالصورة التی یرسمها فیمنحها الحیاة الشاخصة، أو الحركة المتجددة) «3».
و یقول: (و یجب أن نتوسع فی معنی التصویر ... فهو تصویر باللون، و تصویر بالحركة، و تصویر بالایقاع ...) «4».
- كان هذا الكتاب الموجز الجمیل الخطوة الاولی التی انتهت بالمؤلف الی كتابة تفسیره الكبیر «فی ظلال القرآن».
______________________________
(1) «التصویر الفنی» ص 9- 10.
(2) «التصویر الفنی» ص 10.
(3) «التصویر الفنی» ص 34.
(4) «التصویر الفنی» ص 35.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 253
و هكذا كان الاستاذ سید الرجل الذی تابع عمل الباقلانی و الجرجانی و الزمخشری فی الدراسات القرآنیة من الناحیة البیانیة، و استطاع أن یصل الی ما لم یبلغوه.
و سنذكر بعض الملاحظات عن هذا التفسیر لندل علی أهم مزایاه و أبرز خصائصه بایجاز:
1- قصة تألیف هذا الكتاب و سبب شروعه فیه أن المؤلف دعی من قبل مجلة شهریة لیكتب فصلا شهریا فی موضوع مسلسل، فاختار عنوان «فی ظلال القرآن» ثم تعاظمت الرغبة إلی إصدار ذلك الكتاب. یقول المؤلف فی مقدمة الطبعة الأولی «1»:
(و كانت تعن لی خواطر متناثرة: خواطر فی العقیدة، و خواطر فی النفس، و خواطر فی الحیاة، و خواطر فی الناس .. كنت أكتفی بأن أعیشها و لا أسجلها، فقد كان حسبی أن أعیش هذه اللحظات فی تلك الظلال ..
فلما أن صدرت «المسلمون» «2» و كان علیّ أن اشترك فی تحریرها بمقال شهری .. فی موضوع مسلسل، أو تحت عنوان دائم، قفز إلی ذهنی هذا العنوان: «فی ظلال القرآن» ذلك كان مبدأ القصة .. ثم طمحت الرغبة، و امتد الأفق إلی محاولة أخری، ما ذا لو عشت فترات فی ظل هذا القرآن كله فسجلت كل ما یخالج نفسی، و أنا أستروح هذا الجو العلوی الطلیق؟ .. و وفق اللّه و سرت فی هذا الشوط خطوات).
2- یدل عنوان الكتاب «فی ظلال القرآن» علی السمة التی تمیز الكتاب .. إنه كتاب یسجل الانطباعات و المشاعر التی یحسها المؤلف عند قراءته للقرآن.
______________________________
(1) صدر الجزء الاول من هذه الطبعة سنة 1371 ه 1952 م.
(2) و هی مجلة صدرت فی مصر سنة 1371 ه 1951 م ثم أصدرها صاحبها سعید رمضان فی دمشق 1374 ه 1955 م ثم انتقل بها إلی جنیف ثم توقفت 1966 م.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 254
یقول المؤلف:
( «فی ظلال القرآن» عنوان لم أتكلفه. فهو حقیقة عشتها فی الحیاة، فبین الحین و الحین كنت أجد فی نفسی رغبة خفیة فی أن أعیش فی ظل القرآن فترة استروح فیها ما لا أستروحه فی ظل سواه، فترة تصلنی بالسماء، و تفتح لی فیها نوافذ مضیئة، و كوی مشعة، و هی فی الوقت ذاته تثبت قدمی فی الأرض، و تشعرنی أنی أقف علی أرض صلبة، لا تدنسها الأوحال، و لا تزل فیها الأقدام).
3- و یعلن بوضوح فی هذه المقدمة أن تفسیره یختلف كل الاختلاف عن كتب التفسیر الأخری، و یصر إصرارا كبیرا علی تقریر أنه لم یفعل فی هذا الكتاب أكثر من أن یسجل أحاسیسه و مشاعره التی عاشها فی ظل القرآن. یقول رحمه اللّه:
(و بعد، فقد یری فریق من قراء هذه الظلال أنها لون من تفسیر القرآن. و قد یری فریق آخر أنها عرض للمبادئ العامة للاسلام كما جاء بها القرآن. و قد یری فریق ثالث أنها محاولة لشرح ذلك الدستور الإلهی فی الحیاة و المجتمع، و بیان الحكمة فی ذلك الدستور.
أما أنا فلم أتعمد شیئا من هذا كله، و ما جاوزت أن أسجل خواطری و أنا أحیا فی تلك الظلال).
و یدعو قراءه إلی أن تكون قراءتهم لهذه الظلال وسیلة لیدنوا من القرآن ذاته. یقول المؤلف:
(و اننی لأهیب بقراء هذه الظلال ألا تكون هی هدفهم من الكتاب، إنما یقرءونها لیدنوا من القرآن ذاته، ثم لیتناولوه عند ذلك فی حقیقته و یطرحوا عنهم هذه الظلال، و هم لن یتناولوه فی حقیقته إلا إذا وقفوا حیاتهم كلها علی تحقیق مدلولاته، و علی خوض المعركة مع الجاهلیة باسمه و تحت رایته) «1».
______________________________
(1) فی ظلال القرآن 13/ 62 ط 2.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 255
4- و یبین منهجه فی هذا الكتاب، فیقرر أنه حاول أن یبتعد عن الموضوعات النحویة و اللغویة، و القضایا الجدلیة و الكلامیة، و المسائل الفقهیة، و ذكر أن الإسراف فی ذلك یحجب القرآن عن روحه، و یستر جمال النص القرآنی الأخاذ، قال رحمه اللّه:
(كل ما حاولته الا أغرق نفسی فی بحوث لغویة، أو كلامیة، أو فقهیة، تحجب القرآن عن روحی، و تحجب روحی عن القرآن ... و ما استطردت إلی غیر ما یوحیه النص القرآنی ذاته من خاطرة روحیة، أو اجتماعیة، أو إنسانیة. و ما أحفل القرآن بهذه الایحاءات!).
و لیس من شك فی أن المؤلف رحمه اللّه قد استفاد من مختلف المناهج التفسیریة: كالتفسیر بالمأثور، و التفسیر بالرأی، و التفسیر الاصلاحی، و التفسیر البیانی، و لذا فانك تجد فی هذا التفسیر الجمیل جولات عمیقة فی هذه الجوانب المختلفة، و هذا یدل علی اطلاعه الواسع، و استیعابه لما یقرأ، و القدرة علی أن ینتفع بذلك فی اطار شخصیته الواضحة، و مواهبه الفذة الأصیلة.
و هذه خاصة قل ان تتوفر للمؤمنین، إذ تجد كثیرا منهم ینقلون فی منأی عن تدخلهم، و لا تكاد تحس بشخصیاتهم.
5- و یشیر الاستاذ المؤلف فی مقدمته أیضا إلی أن هذا الكتاب تطبیق علی نظریته التی تحدثت عنها فی مطلع هذه الكلمة و هی نظریة: التصویر الفنی فی القرآن، و یذكر انه فی هذه الظلال یتذوق نواحی الجمال الفنی فی النص، و مواضع التناسق فی التعبیر و التصویر، و یعرض ذلك علی الناس، قال رحمه اللّه:
(كذلك حاولت أن أعبر عما خالج نفسی من احساس بالجمال الفنی العجیب فی هذا الكتاب المعجز، و من شعور بالتناسق فی التعبیر و التصویر، و لقد كانت هذه إحدی أمانی منذ أن فرغت من كتاب «التصویر الفنی
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 256
فی القرآن» قبل ثمانیة أعوام «1» و سجلت فیه ما بدا لی واضحا یومذاك:
أن التصویر هو القاعدة الواضحة فی التعبیر القرآنی الجمیل، و كنت قد ادرت الكتاب كله علی هذا المحور لشرح هذه القاعدة، و التمثیل لها من القرآن. كانت إحدی أمانی أن یوفقنی اللّه الی عرض القرآن فی هذا الضوء، ثم كمنت الرغبة أو توارت حتی ظهرت مرة أخری فی هذه الظلال).
6- و خطة المؤلف- رحمه اللّه- فی التفسیر أن یعرض السورة كلها عرضا إجمالیا، ثم یقسمها إلی مجموعات كبیرة من الآیات التی یربط بینها سبب خاص، و یظللها ظل خاص. و بذلك تبدو وحدة النص القرآنی، و الترابط بین أقسام السورة. و هذه الخاصة لا تكاد تجدها بهذا الوضوح و الكمال و التمام فی تفسیر آخر. قال رحمه اللّه: (و لقد سرت فی هذا العمل الجدید علی أساس عرض كل مجموعة من الآیات التی یربط بینها سبب خاص و یظللها ظل خاص فی صورة درس قرآنی).
و یقدم بین یدی السورة مقدمة تتحدث عن غرض السورة و عن المحور الذی یجمع كل الموضوعات الواردة فیها، و هذه المقدمات التی تجدها تسبق السور فی «الظلال» مقدمات هامة، تمهد للتفسیر التفصیلی الذی سیأتی، و تبین الوحدة فی السورة، و تعالج القضایا الاسلامیة التی تشیر الیها السورة بعقلیة حركیة، تستفید من السیرة النبویة لتخطط للحركة الاسلامیة فی العصر الحاضر، و هی مقدمات طویلة، و لا سیما فی الطبعة الثانیة .. دلل المؤلف فیها علی عمق إدراكه للمفاهیم الاسلامیة، و حسن عرضه لها بلغة العصر مستقاة من القرآن الكریم. و من أهم الأمثلة علی ذلك مقدمة سورة الانعام و مقدمة سورة التوبة. و قد یختم السورة بخاتمة تجمع مقاصدها الاساسیة، حیث یعرض المؤلف رحمه اللّه التوجیهات و النقط الرئیسیة فی السورة، و یستشهد لها و یوضحها بالآیات الكریمة. و من أوضح الأمثلة علی هذا ما ختم به تفسیره لسورة الرعد، و هی خاتمة تقع فی ثمانی عشرة صفحة.
______________________________
(1) كتب المؤلف هذه السطور فی رمضان سنة 1371 ه حزیران 1952 م.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 257
7- یمتاز هذا التفسیر بأسلوب مؤلفه الموهوب، فهو یعرض موضوعات القرآن و معانیه بأسلوب أدبی حی أخاذ سهل بلیغ.
و قد اجتنب كثیرا من المصطلحات العلمیة التی نعثر علیها فی كتب التفسیر. فكان كتابه سائغا مفهوما مقبولا من جماهیر القراء، علی انه كان یكثر من استعمال بعض الكلمات التی تكاد تكون خاصة به، و إن الذی یألف أسلوب المؤلف یستطیع أن یدرك بسهولة معناها، لا سیما إن كان قد قرأ كتابه «التصویر الفنی فی القرآن» فقد شرح بعضها هناك، هذا و من الطبیعی أن نجد فی كتابة الكتاب الكبار بعض الكلمات التی یكثرون من تردادها، كما نجد بعض الجمل الخاصة التی تعد مظهرا من مظاهر الأسالیب الشخصیة.
8- یعالج هذا التفسیر الموضوعات القرآنیة باعتزاز بالاسلام یفوق الوصف، و ایمان به لا حد له، و بعقلیة حركیة تدعو إلی استئناف العمل بالقرآن فی قوة و صراحة و حیویة، و الی إعادة سلطان القرآن علی الحیاة الانسانیة فی نطاق الافراد و الامم و العالم كله.
و عالج هذا التفسیر بوعی عمیق أصیل، و بحرارة بالغة، و عاطفة كریمة صادقة قضایا المسلمین الفكریة و الاجتماعیة و السیاسیة.
و الم بقضایا الفكر المعاصر، و الحضارة القائمة، و أعلن بكل وضوح و تصمیم ان المبادئ القرآنیة هی ما تحتاج الانسانیة إلیه فی أزمتها الراهنة الیوم.
9- و یتمتع المؤلف بتحرر تام من كل قیود العبودیة الفكریة التی یرسف بها عدد من المفكرین المعاصرین، و هو علی معرفته بحضارة الغرب لم یكن مأخوذا بها و لا مبهورا بالجوانب البراقة فیها، كان یقدرها حق قدرها، و یقومها التقویم السدید. و یحذر من سیئاتها و مساوئها التی تزحف علی دیار الاسلام، و تتهدد حیاتهم كلها.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 258
10- و المؤلف یضع العقل فی محله الذی ینبغی أن یوضع فیه، دون أن یظلم العقل بتحمیله ما لا یقوی علی حمله، و دون أن یعطله فلا یسخره فیما خلقه اللّه له.
1- و یربط المؤلف بین آیات القرآن التی فیها النور و الهدی و بین واقع الجیل المثالی العظیم، الذی تلقی هذا القرآن لیعمل به و یقیم جوانب حیاته علیه، و هو فی تفسیره یدعو المسلمین إلی أن یأخذوا أنفسهم بالحزم، و یعملوا بالقرآن كما فعل أهل الصدر الأول زمن النبوة، و یحثهم علی الانسلاخ من واقعهم المریض المتخلف، لیكونوا سعداء فی بلادهم، و لیسعدوا الانسانیة كلها، لأنه یقرر أن المسلمین یملكون بهذا القرآن ما لا یملكه أحد سواهم فی الدنیا، و لیس علیهم إلا أن یكونوا هم الواقع الحی لمبادئ الاسلام لتجد فیهم الانسانیة المعذبة الشقیة طلبها.
12- و أخیرا فان هذا التفسیر یبرز قضیة وحدة الرسالات السماویة، التی بعث اللّه بها انبیاءه و رسله، إذ كانت جمیعا تدعو إلی التوحید و اسلام النفس للّه وحده فی الطاعة و العبادة.

*** كتب اخری فی التفسیر البیانی:

من أهم هذه الدراسات:
1- «التفسیر البیانی للقرآن الكریم» للدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ). و قد صدر منه جزءان الأول فی سنة 1381 ه (1962 م) و الثانی فی سنة 1388 ه (1968 م) و ذكرت ان الاصل فی منهج التفسیر الأدبی (هو التناول الموضوعی الذی یفرغ لدراسة الموضوع الواحد فیه، فیجمع كل ما فی القرآن عنه، و یهتدی بمألوف استعماله للالفاظ و الاسالیب بعد تحدید الدلالة اللغویة لكل ذلك، و هو منهج یختلف تماما عن الطریقة المعروفة فی تفسیر القرآن سورة سورة، یؤخذ اللفظ أو الآیة فیه مقتطعا من سیاقه العام فی القرآن كله مما لا سبیل معه الی الاهتداء الی الدلالة القرآنیة لالفاظه أو استجلاء ظواهره الأسلوبیة و خصائصه البیانیة)
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 259
ثم قالت: (و أتجه بمحاولتی الیوم الی تطبیق المنهج فی تفسیر بعض سور قصار، ملحوظ فیها وحدة الموضوع، فضلا عن كونها جمیعا من السور المكیة، حیث العنایة بالأصول الكبری للدعوة الاسلامیة، و قصدت بهذا الاتجاه الی توضیح الفرق بین الطریقة المعهودة فی التفسیر و بین منهجنا الحدیث الذی یتناول النص القرآنی فی جوه الإعجازی، و یلتزم فی دقة بالغة قولة السلف الصالح: «القرآن یفسر بعضه بعضا»).
أما السور التی عالجتها فی الجزء الأول فهی: الضحی و الانشراح و الزلزلة و النازعات و العادیات و البلد و التكاثر. و السور التی عالجتها فی الجزء الثانی هی: العلق و القلم و العصر و اللیل و الفجر و الهمزة و الماعون.
2- «من منهل الأدب الخالد» للاستاذ محمد المبارك: و هو دراسة تحلیلیة أدبیة لنصوص من القرآن درس فیها النصوص الآتیة: سورة العادیات، و سورة الحاقة، و بعض سورة النحل، و سورة یوسف ... و ألحق بذلك مقالین هما: عناصر الفكر و الفن فی الكتاب العربی المبین، و القرآن عربی الخطاب انسانی الرسالة.
و قد أشار إلی طریقته فی التفسیر الأدبی فذكر أنها (تقوم علی تلخیص الفكرة العامة للسورة أو النص، ثم بسط ما تضمنته من أفكار، و كشف ما بین هذه الأفكار من صلة و ربطها بما تضمنه القرآن من مفاهیم و أفكار و أعمد فی ذلك إلی عرض معانی الآیات و الأفكار التی تضمنتها عرضا مباشرا، هو حصیلة ما انتهی إلیه رأیی فی معانیها، دون أن أنقل مختلف أقوال المفسرین، ثم أعرض الطریقة الأدبیة أو فن التعبیر عن تلك المعانی و الأفكار، كالوصف، و القصص، و المثل المضروب، و العرض المباشر، مع بیان خصائص هذا الفن و انسجامه مع الموضوع فی النص الذی هو موضوع الدراسة. ثم انتقل بعد ذلك إلی دراسة الآیات من حیث تراكیبها و جملها و مفرداتها، و ما لهذه التراكیب و الألفاظ من خصائص أدبیة بارزة، سواء من جهة المعنی و حسن التعبیر عنه و قوته و دقته أم من جهة اللفظ و جرسه و نغمته، و ما لذلك كله من صلة بالفكرة المعروضة).
***
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 260

الفصل الثانی التفسیر بالمأثور

مدرستان:

قامت مدرستان فی التفسیر منذ وقت مبكر، عرفت احداهما بمدرسة التفسیر بالمأثور، و عرفت الأخری بمدرسة التفسیر بالرأی، و كان بین هاتین المدرستین حوار هادئ حینا، و جدال عنیف و خصام أحیانا، و قد تشدد أصحاب المدرسة الأولی فی تفسیر القرآن تشددا كبیرا حتی روی عن الأصمعی «1»- و هو علی ما نعلم من سعة الاطلاع و التبحر فی العلوم- انه كان إذا سئل عن شی‌ء من الكتاب أو السنة یقول: العرب تقول معنی هذا كذا، و لا أعلم المراد منه فی الكتاب أو السنة أی شی‌ء هو؟ و كانوا یتحرجون من الخوض فی التفسیر.

التفسیر بالمأثور:

التفسیر بالمأثور اتجاه من أهم اتجاهات التفسیر و أجدرها بالعنایة، و هو أقدم هذه الاتجاهات كما سیتضح ذلك من خلال هذا الفصل.
و یعنون به: ان تفسّر الآیة من آیات القرآن الكریم بما یأتی:
1- بما جاء فی القرآن نفسه فی موضع آخر ورد فیه معنی هذه الآیة أكثر تفصیلا.
______________________________
(1) «الباعث علی الخلاص» ص 149 من مجلة أضواء الشریعة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 261
2- و بما ورد عن النبی صلی اللّه علیه و سلم من تفسیر.
3- و بما نقل عن الصحابة و العدول من التابعین مما یتصل بشرح الآیة و ذكر أسباب نزولها و فیمن انزلت.
* أما تفسیر القرآن بالقرآن فإنه أشرف أنواع التفسیر و أجلها، إذ لا أحد أعلم بمعنی كلام اللّه من اللّه جل و عز «1». و الأمثلة علی تفسیر القرآن بالقرآن كثیرة جدا، بل لقد ألّف العلامة المعاصر الشیخ محمد الامین الشنقیطی تفسیرا اعتمد فیه توضیح القرآن بالقرآن. و سنكتفی بذكر الأمثلة الآتیة علی ذلك:
- وردت كلمة (یوم الدین) فی سورة الفاتحة فی قوله تعالی: مالِكِ یَوْمِ الدِّینِ و فسّرت آیة أخری المراد من هذه الكلمة فی قوله تعالی:
وَ ما أَدْراكَ ما یَوْمُ الدِّینِ، ثُمَّ ما أَدْراكَ ما یَوْمُ الدِّینِ، یَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَیْئاً وَ الْأَمْرُ یَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «2».
- و وردت كلمة (كلمات) فی قوله سبحانه: فَتَلَقَّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ «3»، و فسرت آیة اخری المراد من هذه الكلمة فی قوله تعالی: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِینَ «4».
- و قصة موسی ذكرت بایجاز فی قوله تعالی: وَ اذْكُرْ فِی الْكِتابِ مُوسی إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِیًّا، وَ نادَیْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَیْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِیًّا وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِیًّا «5» و لكن هذه القصة
______________________________
(1) «أضواء البیان فی ایضاح القرآن بالقرآن» 1/ 3.
(2) سورة الانفطار، آخرها.
(3) سورة البقرة: 37.
(4) سورة الاعراف: 23.
(5) سورة مریم: 51- 54.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 262
وردت مبسوطة مطولة فی مواضع متعددة من القرآن مثل السور الآتیة:
البقرة و الأعراف و طه و الشعراء و القصص و غیرها.
- و كذلك قصة آدم و إبلیس، و قصة ثمود، وردت موجزة فی بعض المواضع و مفصلة فی مواضع اخری.
* أما تفسیر القرآن بما ورد عن النبی صلی اللّه علیه و سلم من تفسیر فإنه یلی تفسیر القرآن بالقرآن. و قد فسّر النبی صلی اللّه علیه و سلم عددا كبیرا من الآیات، یشهد لذلك ما جاء فی كتب الحدیث من تفسیره صلی اللّه علیه و سلم للقرآن فقد جاء فی «صحیح البخاری» و «سنن الترمذی» و غیرهما أبواب طویلة فی تفسیر القرآن. قال ابن تیمیة: (یجب أن یعلم أن النبی صلی اللّه علیه و سلم بیّن لأصحابه معانی القرآن كما بیّن لهم ألفاظه، فقوله تعالی: لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ «1» یتناول هذا و هذا) «2». و الأمثلة علی تفسیر النبی صلی اللّه علیه و سلم كثیرة نقتصر منها علی المثال الآتی:
- ورد فی آیات الصیام قوله تعالی: وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَكُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ «3». و جاء فی «صحیح البخاری» عن عدی بن حاتم رضی اللّه عنه قال: قلت: یا رسول اللّه ما (الخیط الأبیض من الخیط الأسود) أ هما الخیطان؟ قال صلی اللّه علیه و سلم: «انك لعریض القفا ان ابصرت الخیطین» ثم قال: «لا .. بل هو سواد اللیل و بیاض النهار» «4».
* و أما تفسیر الصحابة فكثیر و قد أشرنا إلیه فی بحثنا عن تاریخ التفسیر فی عهد الصحابة و قد امتلأ به كتاب ابن جریر الطبری و غیره من كتب التفسیر بالمأثور و نكتفی بالمثال الآتی:
______________________________
(1) سورة النحل: 44.
(2) «مقدمة فی اصول التفسیر» ص 35.
(3) سورة البقرة: 187.
(4) «صحیح البخاری» 6/ 44 و «شرح معانی الآثار» 2/ 53.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 263
- جاء فی «صحیح البخاری» فی تفسیر قوله تعالی: وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ «1»: (قال ابن عباس: الأزلام: القداح یقتسمون بها فی الأمور، و النصب: أنصاب یذبحون علیها) «2».
* و أما تفسیر التابعین فكثیر جدا، و قد حفل به كتاب ابن جریر الذی أشرنا إلیه آنفا. و نكتفی بالمثال الآتی:
- جاء فی «صحیح البخاری» فی تفسیر قوله تعالی: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِیرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ «3» (عن سعید بن المسیب قال: البحیرة التی یمنع درها للطواغیت فلا یحلبها أحد من الناس، و السائبة كانوا یسیبونها لآلهتهم التی لا یحمل علیها شی‌ء) «4».

هل تفسیر الصحابة و التابعین من المأثور؟

اختلف العلماء فی عد تفسیر الصحابة و التابعین من المأثور، فمنهم من عده مأثورا، و منهم من لم یعده كذلك. غیر ان معظم كتب التفسیر بالمأثور تورد منه الكثیر.
و لعل الرأی الصحیح فی هذا الموضوع هو الرأی الذی سبق أن قررناه فی تاریخ التفسیر و هو: ان ما جاء عن الصحابة و التابعین العدول فیما لیس من باب الاجتهاد و الاستنباط و انما هو متوقف علی السماع من النبی صلی اللّه علیه و سلم یعد من التفسیر بالمأثور، و هو ملزم إن صح سنده «5».
و اما الاقوال المنقولة عنهم مما یتصل بالاجتهاد و الاستنباط فلیست من التفسیر بالمأثور.
______________________________
(1) سورة المائدة: 90.
(2) «صحیح البخاری» 6/ 44.
(3) سورة المائدة: 103.
(4) «صحیح البخاری» 6/ 46.
(5) هذا صحیح بالنسبة إلی الصحابة، أما التابعی فقد یكون روی عن تابعی غیر ثقة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 264
إذن فتفسیر الصحابة و التابعین لا یعد من التفسیر بالمأثور إلا إن كان متعلقا بالسماع من النبی صلی اللّه علیه و سلم، و ذلك كالإخبار عن أمر غیبی لا مجال فیه للاستنباط و الاجتهاد، و لا یمكن إعمال العقل فیه، و لا الاعتماد علی استنتاجه.
و مما یلحق بهذا النقل عن لسان العرب لأن القرآن إنما نزل بلغتهم و هم أهل اللغة و أدری الناس بها.
و نستطیع أن نقول: إن أهم أنواع التفسیر بالمأثور هو التفسیر المروی عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم و هو الذی یذهب الذهن إلیه عند ما نطلق «التفسیر بالمأثور».

متی یقبل التفسیر بالمأثور؟

إن التفسیر بالمأثور- فیما عدا التفسیر بالقرآن بطبیعة الحال- یقبل إن صح سند هذا الأثر المفسّر للآیة، و یلزمنا الأخذ به.
أما إذا كان سنده واهیا فلا شك فی رده. و لذلك فإن علینا لنحكم علی أثر بالقبول او الرد أن ننظر فی رجال سنده لنعرف درجته.

أولیته:

لئن كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم هو المفسر الأول لنستطیعن أن نقرر جازمین ان التفسیر بالمأثور هو المرحلة الأولی فی تاریخ التفسیر و انه اول ما ظهر من أنواع التفسیر. و قد ذكرنا سابقا ان التفسیر كان بابا من أبواب الحدیث قبل أن یستقل، و ما زال هذا الباب ركنا من أركان كتب الحدیث الجامعة.

*** الاسرائیلیات:

نجد فی كتب التفسیر بالمأثور أخبارا كثیرة مرویة عن بنی اسرائیل،
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 265
و هذه الأخبار عرفت بالإسرائیلیات، و ذلك بسبب النقل عن عدد من التابعین الذین كانوا من أهل الكتاب قبل أن یدخلوا فی الإسلام، و الذین كانوا كثیرا ما یسألون عما فی كتب أهل الكتاب، و دخلت هذه الأخبار فی مجال التفسیر بالمأثور. و من هنا وجب علی من یقرأ فی كتب التفسیر أن یكون واعیا للموقف السلیم الذی یجب أن یقفه المسلم من الإسرائیلیات، و یمكن تلخیص هذا الموقف كما یأتی:
1- تردّ كل الاسرائیلیات التی تعارض القرآن، أو صحیح السنة، أو تعارض أصلا اسلامیا مقررا. قال الاستاذ محمد أبو زهرة: (و إن المستقرئ لكتب التفسیر المشتملة علی الاسرائیلیات یری أن أكثر ما دس فیها من هذا القبیل) «1».
2- الروایات الإسرائیلیة الموافقة للقرآن مقبولة، و لكن لنا غنیة عنها بما فی القرآن.
3- أما الروایات التی لا تعارض القرآن و لا توافقه، فینبغی أن یكون موقفنا إزاءها موقف الحذر و الأناة و الحیاد. لا نكذبها خشیة أن تكون صحیحة، و لا نصدقها خوفا من أن تكون مكذوبة. و هذا مصداق ما جاء عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم فیما أخرجه البخاری عن أبی هریرة قال: قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب و لا تكذبوهم و قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَیْنا ...» الآیة ... «2»
______________________________
(1) «المعجزة الكبری» 595.
(2) انظر «صحیح البخاری» 6/ 18 تفسیر سورة البقرة فی باب قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ و 9/ 90 فی الاعتصام: باب لا تسألوا أهل الكتاب و 9/ 126 فی كتاب التوحید: باب ما یجوز من تفسیر التوراة و غیرها من كتب اللّه بالعربیة و غیرها. و انظر «فتح الباری» 12/ 516. و جاء فی روایة ذكرها ابن تیمیة فی «مجموع الفتاوی» 19/ 63: «... و لا تكذبوهم فإما أن یحدثوكم بحق فتكذبوه، و إما أن یحدثوكم بباطل فتصدقوه و قولوا آمنا ...» و الآیة المذكورة هی الآیة 136 من سورة البقرة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 266
قال ابن الملك تعلیقا علی هذا الحدیث: (إنما نهی عن تصدیقهم و تكذیبهم لأنهم حرّفوا كتابهم، و ما قالوه إن كان من جملة ما غیّروه فتصدیقهم یكون تصدیقا بالباطل، و إن لم یكن كذلك یكون تكذیبهم تكذیبا لما هو حق) «1».
4- و هناك استدراك علی هذا النوع الثالث من الاسرائیلیات ذكره ابن كثیر عند أول تفسیره سورة ق قال رحمه اللّه: (و إنما أباح الشارع الروایة عنهم فی قوله «و حدثوا عن بنی اسرائیل و لا حرج» «2» فیما قد یجوزه العقل، فأما فیما تحیله العقول و یحكم فیه بالبطلان و یغلب علی الظنون كذبه فلیس من هذا القبیل) «3».
قال شیخ الاسلام ابن تیمیة: (.. و لكن هذه الأحادیث الإسرائیلیة تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها علی ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأیدینا مما یشهد له بالصدق، فذاك صحیح.
و الثانی: ما علمنا كذبه بما عندنا مما یخالفه.
و الثالث: ما هو مسكوت عنه (لا من هذا القبیل و لا من هذا القبیل، فلا نؤمن به و لا نكذبه، و تجوز حكایته لما تقدم، و غالب ذلك مما لا فائدة فیه تعود إلی أمر دینی) «4».
و الحق الذی نراه أن هذا التقسیم یبیح لنا أن نروی عن بنی إسرائیل
______________________________
(1) انظر «مبارق الأزهار» 1/ 220.
(2) هذا الحدیث رواه البخاری 4/ 136 و الدارمی 1/ 136 و الترمذی 3/ 376 عن عبد اللّه ابن عمرو. و قال الترمذی: هذا حدیث حسن صحیح. و رواه أبو داود عن أبی هریرة 3/ 438 و رواه أیضا أحمد فی «المسند» و رواه آخرون.
(3) انظر «تفسیر ابن كثیر» 4/ 221.
(4) انظر «مقدمة فی أصول التفسیر» ص 100.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 267
النوع الثالث المسكوت عنه إن نحن التزمنا عدم تصدیقهم و عدم تكذیبهم.
و لكن هذا شی‌ء، و إیراد هذه الاسرائیلیات فی أثناء تفسیر كتاب اللّه شی‌ء آخر، ذلك لأن إیراد هذه الروایة فی هذا الموضع یعنی أنك ترید حمل الآیة القرآنیة علیها، و هذا یدل علی تصدیقك لها.
قال الأستاذ أحمد شاكر فی مقدمة «عمدة التفسیر»:
(إن إباحة التحدث عنهم فیما لیس عندنا دلیل علی صدقه و لا كذبه شی‌ء، و ذكر ذلك فی تفسیر القرآن و جعله قولا أو روایة فی معنی الآیات أو فی تعیین ما لم یعین فیها، أو فی تفصیل ما أجمل فیها شی‌ء آخر، لأنّ فی إثبات مثل ذلك بجوار كلام اللّه ما یوهم أن هذا الذی لا نعرف صدقه و لا كذبه مبین لمعنی قول اللّه سبحانه، و مفصل لما اجمل فیه، و حاشا للّه و لكتابه من ذلك.
و إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم إذ أذن بالتحدث عنهم أمرنا أن لا نصدقهم و لا نكذبهم، فأی تصدیق لروایاتهم و أقاویلهم أقوی من أن نقرنها بكتاب اللّه، و نضعها منه موضع التفسیر أو البیان؟ اللهم غفرا) «1».
و قال الحافظ ابن كثیر:
(و فی القرآن غنیة عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة، لأنها لا تكاد تخلو من تبدیل و زیادة و نقصان، و قد وضع فیها أشیاء كثیرة، و لیس لهم من الحفاظ المتقنین الذین ینفون عنها تحریف الغالین، و انتحال المبطلین، كما لهذه الأمة من الأئمة و العلماء، و السادة و الأتقیاء، من الجهابذة النقاد، و الحفاظ الجیاد، الذین دونوا الحدیث و حرروه، و بینوا صحیحه من حسنه من ضعیفه، من منكره و موضوعه، و متروكه و مكذوبه، و عرفوا الوضاعین و الكذابین، و المجهولین و غیر ذلك من أصناف الرجال) «2».
______________________________
(1) «عمدة التفسیر» لأحمد شاكر طبع دار المعارف 1376/ 1956 ص 15.
(2) «تفسیر ابن كثیر» 3/ 89 عند تفسیر الآیة 50 من سورة الكهف.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 268
و قال أیضا:
(.. و ما لیس فیه موافقة و لا مخالفة لا نصدقه و لا نكذبه، بل نجعله وقفا. و ما كان من هذا الضرب منها فقد رخص كثیر من السلف فی روایته، و كثیر من ذلك مما لا فائدة فیه و لا حاصل له مما ینتفع به فی الدین. و لو كانت فائدته تعود علی المكلفین فی دینهم لبینته هذه الشریعة الكاملة الشاملة، و الذی نسلكه فی هذا التفسیر الإعراض عن كثیر من الأحادیث الإسرائیلیة لما فیها من تضییع الزمان، و لما اشتمل علیه كثیر منها من الكذب المروج علیهم، فإنهم لا تفرقة عندهم بین صحیحها و سقیمها، كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة) «1».
و نختم هذا الموضوع بإیراد كلمة رائعة لابن عباس رواها البخاری فی «صحیحه» و هی قوله رضی اللّه عنه: (یا معشر المسلمین كیف تسألون أهل الكتاب عن شی‌ء؟ و كتابكم الذی انزل اللّه علی نبیه أحدث أخبار اللّه تقرءونه محضا لم یشب، و قد حدثكم اللّه ان أهل الكتاب قد بدّلوا كتاب اللّه و غیروه، و كتبوا بأیدیهم الكتاب و قالوا: هو من عند اللّه، لیشتروا به ثمنا قلیلا. أ فلا ینهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ و لا و اللّه ما رأینا منهم أحدا قط سألكم عن الذی انزل إلیكم) «2».
***______________________________
(1) «تفسیر ابن كثیر» 3/ 181 عند تفسیر الآیات 51- 56 من سورة الأنبیاء.
(2) «صحیح البخاری» 3/ 158 و 9/ 90.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 269

تفسیر الطبری‌

ترجمته «1»:

هو أبو جعفر محمد بن جریر الطبری. من أهل آمل فی طبرستان. ولد سنة 224 ه و رحل من بلده و هو فی الثانیة عشرة من عمره طلبا للعلم، فجاء مصر و الشام و العراق، و استقر ببغداد، و كان من أئمة الحدیث أهل الروایة و الضبط المتقن، و قد شارك البخاری فی كثیر من أساتذته، و روی عن العراقیین و الشامیین، كان ذا ثقافة موسوعیة، فهو كما قلنا من كبار أئمة الحدیث، و هو شیخ المؤرخین، و من كبار علماء القراءات، و من فحول علماء العربیة، كما كان إماما مجتهدا صاحب مذهب فقهی. و ذكروا ان اصحابه یقال لهم: الجریریة. و قالوا: إن مذهبه شافعی، و ذلك قبل أن ینفرد بمذهب. و كان من الأتقیاء الصالحین. و كان ذا اسلوب رفیع متین، و له شعر حسن. توفی سنة 310 ه ببغداد.
______________________________
(1) انظر فی ترجمته: «تاریخ بغداد» 2/ 162 و «المنتظم» 6/ 171 و «وفیات الأعیان» 4/ 191 تحقیق إحسان عباس و «معجم الأدباء» 18/ 40 و «طبقات الشافعیة» 3/ 120 و «تذكرة الحفاظ» 2/ 710 و «البدایة و النهایة» 11/ 145 و «میزان الاعتدال» 3/ 498 و «الوافی بالوفیات» 2/ 284 و «طبقات الشافعیة» للعبادی 52 و «غایة النهایة» لابن الجزری 2/ 106 و «طبقات المفسرین» 2/ 106 و «طبقات الفقهاء» للشیرازی 93 و «لسان المیزان» 5/ 100 و «النجوم الزاهرة» 3/ 205 و «شذرات الذهب» 2/ 260 و «التاج المكلل» ص 108 و «كشف الظنون» 1/ 437 و «تاریخ الأدب العربی» لبروكلمان 3/ 45.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 270

تفسیره:

كتابه من أهم كتب التفسیر و سنورد بعض الملاحظات فیه:
1- عنوان الكتاب هو «جامع البیان من تأویل آی القرآن».
و یدل هذا العنوان علی ان هذا التفسیر جاء بعد تفاسیر عدیدة، كما یدل أیضا علی انه كتاب موسع. و تذكر كتب التراجم قصة تألیف هذا الكتاب، و فحواها: ان أبا جعفر الطبری قال لأصحابه: أ تنشطون لتفسیر القرآن؟ قالوا: كم یكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنی الأعمار قبل تمامه، فاختصره فی نحو ثلاثة آلاف ورقة «1».
2- من المعروف المشهور ان كتاب ابن جریر من كتب التفسیر بالمأثور، غیر ان هناك بعض العلماء ینكرون ذلك الرأی، و منهم الأستاذ محمد الفاضل بن عاشور الذی یقول:
(و إن الذین یعتبرون تفسیر الطبری تفسیرا أثریا، أو من صنف التفسیر بالمأثور إنما یقتصرون علی النظر إلی ظاهره بما فیه من كثرة الحدیث و الإسناد، و لا یتدبرون فی طریقته و غایاته التی یصرح بها من إیراد تلك الأسانید المصنفة المرتبة الممحصة) «2».
و الحق ان تفسیره بالإضافة إلی غناه بالآثار و الأحادیث یتعرض لتوجیه الأقوال و ترجیح بعضها علی بعض، و ذكر الإعراب و الاستنباط.
3- كان تفسیر الطبری مفقودا منذ قرون أو فی حكم المفقود ..
و ظل كذلك إلی ان عثر علی نسخة مخطوطة لدی الأمیر حمود آل الرشید
______________________________
(1) «المنتظم» لابن الجوزی 6/ 171 و «تاریخ بغداد» 2/ 163.
(2) «التفسیر و رجاله» ص 36.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 271
من أمراء حائل فی نجد، و قد طبع علیها الكتاب «1» لأول مرة، ثم طبع بعد ذلك عدة طبعات. و قد شرع الأستاذ محمود محمد شاكر منذ سنة 1374 ه بطبعه طبعة جدیدة هی غایة فی الروعة و الاتقان، و صدر منها حتی الآن 16 جزءا. و كانت الأجزاء الأولی بالاشتراك مع أخیه العلامة أحمد شاكر رحمه اللّه الذی كان یراجعه و یخرج أحادیثه ثم استقل الأستاذ محمود بعد الجزء الثامن بتحقیق الكتاب و تخریج الأحادیث «2».
4- أثنی العدد الغفیر من العلماء الأفاضل فی مختلف العصور علی هذا الكتاب، و من ذلك قول الإمام المحدث الكبیر ابن خزیمة: (نظرت فیه من أوله إلی آخره، فما أعلم علی أدیم الأرض أعلم من ابن جریر) «3». و من ذلك قول أبی عمر الزاهد غلام ثعلب: (قابلت هذا الكتاب من أوله إلی آخره فما وجدت فیه حرفا خطأ فی نحو أو لغة) «4». و من ذلك قول الخطیب البغدادی الذی قال فیه: (جمع من العلوم ما لم یشاركه فیه أحد من أهل عصره) «5». و من ذلك قول ابن تیمیة: (و تفسیر ابن جریر الطبری هو من
______________________________
(1) «التفسیر و المفسرون» 1/ 208 ینقل ذلك عن «المذاهب الاسلامیة فی تفسیر القرآن» ص 86.
(2) جاء فی تصدیر الجزء العاشر من تفسیر الطبری الذی كتبه محمود محمد شاكر ما یأتی:
(... كنت أشرت فی تصدیر الجزء الرابع أنی شاركت أخی ... فی بیان حال رجال الآثار، و خرجت ما اتفق منها ... أما منذ الجزء التاسع فقد انفردت بالعمل كله فخرجت عامة أحادیث الجزء التاسع و العاشر ..) و جاء فی تصدیر الجزء الحادی عشر من التفسیر المذكور الذی كتبه الشیخ أحمد شاكر ما یأتی:
(كنت منذ بدأت العمل فی هذا التفسیر ... مع أخی السید محمود محمد شاكر باذلا جهدی فی مراجعة بعض أسانیده خصوصا الأحادیث المرفوعة مخرجا منها ما استطعت تخریجه ...
ثم تفضل أخی ... بمعاونتی فی التخریج، فخرّج الكثیر من الأحادیث فی الكثیر من الأجزاء و هو أهل لذلك و الحمد للّه ... و كنت و لا أزال مطمئنا إلی عمله واثقا به عن خبرة و بینة).
(3) «تاریخ بغداد» 2/ 164.
(4) مقدمة محمود شاكر لتفسیر الطبری 1/ 12.
(5) «تاریخ بغداد» 2/ 163.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 272
أجل التفاسیر و أعظمها قدرا) «1»، و قوله: (و أما التفاسیر التی فی أیدی الناس فأصحها تفسیر محمد بن جریر الطبری فإنه یذكر مقالات السلف بالأسانید الثابتة و لیس فیه بدعة و لا ینقل عن المتهمین) «2». و من ذلك قول السیوطی: (اجمع العلماء المعتبرون أنه لم یؤلف فی التفسیر مثله) «3». و هو من التفاسیر القدیمة التی وصلت إلینا، و من أحسنها ترتیبا.
5- كتب مقدمة طویلة جدا، و هی فی حدّ ذاتها كتاب مستقل. و قد تحدث فیها عن وسائل المفسر التی یجب علیه أن یحصل علیها و یتقنها.
و كتب فیها فصلا فی الكلمات التی اتفقت فیها الفاظ العرب و ألفاظ غیرهم من بعض أجناس الأمم، أی فی الألفاظ القرآنیة التی لیست بعربیة علی ما یری آخرون، و خصص فصلا مطولا فسر فیه حدیث الأحرف السبعة التی نزل القرآن علیها.
و قد ذكرنا رأیه فی بحث القراءات. و كتب فصلا فی معنی قوله صلی اللّه علیه و سلم:
«أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة»، و كتب فصلا فی المقدمة یهاجم فیه أولئك الذین یفسرون القرآن بآرائهم، و تكلم فی الحض علی تفسیر القرآن و تعلمه، و كتب فصلا فی الرد علی منكری القول فی تأویل القرآن، و فصلا فی المفسرین المحمودین و المذمومین، و فصلا فی تأویل أسماء القرآن و سوره و آیة، و فصلا فی تأویل أسماء الفاتحة، ثم فسر الاستعاذة و البسملة.
و قد استغرقت المقدمة ما یزید علی 130 صفحة.
6- یمتاز هذا الكتاب بالمنهجیة، فلقد درج المؤلف علی خطة تحكم الكتاب من أوله إلی آخره.
فهو یضع عنوانا للآیة كما یأتی: القول فی تأویل قوله جل ثناؤه (..
كذا ...).
______________________________
(1) الفتاوی 13/ 361.
(2) الفتاوی 13/ 385.
(3) الاتقان 2/ 190.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 273
ثم یفسر الآیة بعد أن یسردها، و یبین المراد منها، و یولی بیان الصلة بین الآیة و الآیة اهتماما كبیرا، حتی یتضح الترابط فی السیاق و الموضوعات، و یلجأ إلی شرح الآیة بما ورد فی معناها من القرآن فی مواضع اخری منه، و له جولات فی بعض المفردات اللغویة جیدة، إذ یبین المعنی الأصلی للمفردة، ثم یبین المعنی المنقول إلیه مع بیان مناسبة النقل. ثم یورد أقوال المفسرین من الصحابة و التابعین و العلماء فی تفسیرها متصلة بالأسانید إلی أصحابها، و یرجح بینها، و یختار واحدا منها یعتمده، و یناقش من یخالفه فی تفسیر الآیة علی الوجه الذی اختاره. و عنده عبارات یكثر من تردیدها، سأورد بعضها فیما یأتی:
(القول فی تأویل قوله جل ثناؤه)- (اختلف أهل التأویل فی ...)
(و أولی هذه الأقوال بالصواب و اشبهها بما دل علی صحته ظاهر التلاوة قول من قال)- (ذكر من قال ذلك)- (و بمثل ما قلنا قال أهل التأویل)- (و بنحو ما قلنا قال أهل التأویل)- (و بنحو الذی قلنا فی ذلك قال عدد من أهل التأویل ذكر من قال ذلك).
7- و المؤلف فی آرائه التی یوردها فی تفسیره واضح الشخصیة، جازم غیر متردد و لا مقلد، و هو ینتقد اولئك الذین یبحثون فیما لا فائدة منه، و یعرض بهم كثیرا، و یقف عند الحد الذی تدل علیه الآیة، و لا یجاوزه الی اقوال لا ینفع العلم بها، و لا یضر الجهل بها، فمن ذلك قوله فی تحدید البعض الذی ضرب به قتیل بنی إسرائیل فقام حیا: (الصواب من القول عندنا فی تأویل قوله فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها «1» أن یقال: أمرهم اللّه جل ثناؤه أن یضربوا القتیل ببعض البقرة، لیحیا المضروب، و لا دلالة فی الآیة، و لا فی خبر تقوم به حجة علی أی ابعاضها التی أمر القوم أن یضربوا القتیل بها. و جائز أن یكون الذی امروا أن یضربوه به هو الفخذ،
______________________________
(1) سورة البقرة: 73.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 274
و جائز أن یكون ذلك الذنب و غضروف الكتف و غیر ذلك من ابعاضها، و لا یضر الجهل بأی ذلك ضربوا القتیل، و لا ینفع العلم به مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتیل ببعض البقرة بعد ذبحها فأحیاه اللّه) «1».
و من ذلك رأیه فی تحدید الطعام الذی كان علی المائدة التی نزلت استجابة لدعوة عیسی علیه السلام: قالَ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَیْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِیداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آیَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَیْرُ الرَّازِقِینَ «2».
قال المؤلف بعد أن أورد أقوال العلماء فی الذی كان علی المائدة: (و أما الصواب من القول فیما كان علی المائدة فأن یقال: كان علیها مأكول، و جائز أن یكون سمكا و خبزا، و جائز أن یكون كان ثمرا من ثمر الجنة، و غیر نافع العلم به، و لا ضار الجهل به، إذا اقر تالی الآیة یظاهر ما احتمله التنزیل) «3».
و شخصیة المؤلف ذات الجوانب الجذابة جعلت كتابه مرجعا مهما لعدد من ذوی الاختصاص ممن یرید التفسیر.
إن شخصیة ابن جریر الأدبیة و العلمیة، و ترجیحاته لما یراه صوابا من الآراء و الأقوال المختلفة، و اعتماده علی خطة منهجیة سلیمة، و مقاییس علمیة و لغویة جعلت لكتابه من القیمة ما لیس لكتاب آخر، و أعطت مكانة لكتابه لا تقل عن مكانة الآثار و الروایات و الآثار الحدیثیة.
8- أسلوبه أسلوب مبین جزل فصیح یمتع قارئه و یفیده. و لیس من شك فی أن أسلوبه یحتاج من دارسه إلی أناة فی قراءته حتی یكون قادرا
______________________________
(1) «تفسیر الطبری» 2/ 231 تحقیق محمود شاكر.
(2) سورة المائدة: 114.
(3) «تفسیر الطبری» 11/ 232 تحقیق محمود محمد شاكر.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 275
علی استیعاب ما جاء فیه. و قد ذللت طبعة الأستاذ شاكر كثیرا من مصاعبه.
یقول الأستاذ محمود شاكر: (كان یستوقفنی فی القراءة كثرة الفصول فی عبارته، و تباعد أطراف الجمل، فلا یسلم لی المعنی حتی اعید قراءة الفقرة منه مرتین أو ثلاثا، و كان سبب ذلك اننا ألفنا نهجا من العبارة غیر الذی انتهج أبو جعفر، و لكن تبین لی أیضا ان قلیلا من الترقیم فی الكتاب خلیق أن یجعل عبارته أبین) «1».
9- و هو فی كتابه نصیر لأهل السنة من ناحیة الاعتقاد. و كثیرا ما یرد علی القدریة و الفرق الضالة.
10- و یعنی بالقراءات فیوردها، و یوازن بینها، و قد یرد بعضها أو یرجح بعضها علی بعض، و هو فی تصدیه لهذه الناحیة یدل علی معرفة واسعة بالقراءات، و قد سبق أن ذكرنا أنه ألف فیها كتابا خاصا «2».
11- یشتمل هذا الكتاب علی عدد كبیر من الأحادیث و الآثار المسندة، و كثیر منها صحیح، و فیها الضعیف أیضا، و لكن المؤلف بذكره لأسانیدها یخرج من المسئولیة و العهدة، و قد أشار السیوطی فی «الاتقان» «3» إلی مواضع الضعف فی مرویات ابن جریر التفسیریة.
و هناك من جملة المرویات عدد كبیر من الإسرائیلیات، و لعل ذلك ناتج عن اتساع معارفه التاریخیة، یقول الأستاذ شاكر: (و لما رأیت أن كثیرا من العلماء كان یعیب علی الطبری أنه حشد فی كتابه كثیرا من الروایة عن السالفین الذین قرءوا الكتب و ذكروا فی معانی القرآن ما ذكروا من الروایات عن أهل الكتابین السالفین- التوراة و الانجیل- أحببت أن
______________________________
(1) مقدمة محمود شاكر لتفسیر الطبری 1/ 11.
(2) انظر مبحث القراءات من هذا الكتاب.
(3) «الاتقان» 2/ 224.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 276
أكشف عن طریقة الطبری فی الاستدلال بهذه الروایات روایة روایة، و أبین كیف أخطأ الناس فی فهم مقصده، و أنه لم یجعل هذه الروایات قط مهیمنة علی كتاب اللّه الذی لا یأتیه الباطل من بین یدیه و لا من خلفه، و أحببت أن أبین عند كل روایة مقالة الطبری فی إسنادها، و انه اسناد لا تقوم به حجة فی دین اللّه و لا فی تفسیر كتابه، و ان استدلاله بها كان یقوم مقام الاستدلال بالشعر القدیم ...) «1». و لكنّ الأفضل خلوّ التفسیر من هذه الروایات. و تعلیل أستاذنا شاكر مردود.
هذا و قد تولی الأستاذ المحدث أحمد شاكر التحقیق فی أسانید الروایات و الأحادیث و ذكر درجتها فی الأجزاء الأولی ثم تابع عمله أخوه الأستاذ محمود- كما ذكرنا-.
12- یورد المؤلف اقوال ائمة الفقه فی آیات الاحكام، و ینفرد أحیانا ببعض الآراء التی تخالفهم مؤیدا رأیه بالحجة القاطعة، و یبحث ذلك بحثا فقهیا رصینا، و كیف لا یكون كذلك و هو إمام صاحب مذهب. و كان فی بحوثه الفقهیة یعیر الإجماع أهمیة كبیرة.
13- یورد المؤلف أقوال النحویین فی تخریج بعض التراكیب القرآنیة، و كثیرا ما یجعل التخریج النحوی الراجح توجیها للقراءة. و كثیرا ما یورد إعرابا لمواضع فی الآیات، و أوزانا صرفیة لبعض الكلمات، و یستشهد لما یذهب الیه بالشعر الجاهلی و الاسلامی، و كذلك فی رده علی مخالفیه. و قد أعد الأستاذ شاكر فهرسا للمباحث النحویة فی آخر كل جزء من الأجزاء التی صدرت.
و لذلك فإن فی البحوث التی وردت فی كتابه ثروة علمیة ضخمة جدا.
14- یمتاز هذا الكتاب بتأثیره الواسع الضخم علی كل الكتب التی
______________________________
(1) انظر مقدمة محمود شاكر من «تفسیر الطبری» 1/ 16- 17 و انظر تعلیقه 1/ 453- 454.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 277
الفت بعده، حتی أضحی كثیر منها عیالا علیه، و اعتمد علیه كل من جاء بعده، و قد كان هذا التأثیر فی القدیم و الحدیث كما أسلفنا، و فی العصر الحاضر اهتم به المستشرقون و العلماء المسلمون.
و یبدو ان كتاب ابن جریر كان مصدرا للتألیف عند المتقدمین، فبعضهم یختصره، و بعضهم یستخرج منه كتبا، كما فعل أبو یحیی محمد بن صمادح التجیبی الأندلسی المتوفی سنة 419 ه .. فقد استخرج من تفسیر الطبری كتاب «اختصار غریب القرآن» و ألّف كتاب «مختصر من تفسیر الامام الطبری» و قد طبع الكتاب الاخیر فی سلسلة (تراثنا) فی الهیئة المصریة العامة للتألیف و النشر سنة 1390 ه 1970 م اقتصر فیه مؤلفه علی أبرز الروایات فی نظره، و استغنی عن الاشارة الی تعدد القراءات و الاعراب و الاشتقاقات و الاخبار.
15- كان كتابه نواة لما وجد بعد من التفسیر بالرأی.

كتب أخری فی التفسیر بالمأثور:

هناك كتب عدیدة من كتب التفسیر بالمأثور سنقتصر علی إیراد أسماء ثلاثة كتب منها: و نخص أحدها- و هو تفسیر ابن كثیر- بكلمة موجزة.
أما هذه الكتب فهی: «معالم التنزیل» للبغوی الحسین بن مسعود المتوفی سنة 510 ه و «تفسیر ابن كثیر» لإسماعیل بن عمرو المتوفی سنة 774 ه و «الدر المنثور فی التفسیر بالمأثور» للسیوطی المتوفی سنة 911 ه.

كتاب «تفسیر القرآن العظیم» لابن كثیر:

ابن كثیر هو عماد الدین أبو الفداء اسماعیل بن عمرو بن كثیر. ولد سنة 700 ه ببصری جنوبی دمشق، و نشأ یتیما بدمشق، و رزق حافظة نادرة، فاشتغل بالحدیث، و درس الفقه، و ألف فیه، و شرع فی كتاب كبیر فی الأحكام لم یكمل. و انكب علی كتب التفسیر، و ألف كتابه الذی نحن
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 278
فی صدد الحدیث عنه الآن، و ترك كتابا فی التاریخ سماه «البدایة و النهایة» و هو كتاب جید.
لازم الحافظ المزی و تزوج بنته، و أخذ عن ابن تیمیة، و احبه، و اثنی علیه فی «البدایة و النهایة». توفی سنة 774 ه.
و أما كتابه فهو من أشهر كتب التفسیر بالمأثور، و أكثرها شیوعا و انتشارا فی الناس، و زادت المطابع فی عصرنا من شهرته، فطبع أكثر من مرة، مستقلا حینا، و مع تفسیر آخر «1» حینا آخر. و عنوان الكتاب هو «تفسیر القرآن العظیم»، و قد قدم له بمقدمة طویلة قیمة تحدث فیها عن أصول التفسیر، و یبدو أنه استفاد فیها كثیرا من كلام شیخه ابن تیمیة فی رسالة له فی اصول التفسیر.
و طریقته أن یذكر الآیة أو الآیات، ثم یفسرها بعبارة سهلة، و یورد بعض الآیات التی توضح الآیة إن وجدت، و هو علی ذلك حریص جدا، و هذا شأنه فی تاریخه أیضا عند تعرضه لقصص الانبیاء، ثم یورد الأحادیث التی تتعلق بالآیة. ثم یأتی بأقوال الصحابة و التابعین، یورد ذلك كله بأسانیده. و قد یرجح بعض الأقوال علی بعض، و قد یرد بعض الأقوال. و هو یورد فی تفسیره نادرا بعض الاسرائیلیات، و قد ینبه أحیانا الی منكراتها، و قد جمع الاستاذ احمد شاكر فی مقدمة «عمدة التفسیر» طائفة من أقواله التی تعبر عن رأیه فی الاسرائیلیات. و یتعرض إلی الموضوعات الفقهیة و قد یدخل فی بحوث فقهیة موسعة. و هو متأثر الی حد كبیر بتفسیر ابن جریر (فانه لم یقتصر علی نقل الآثار بل نقل كلام ابی جعفر بنصه فی مواضع متفرقة) «2» و قد شرع الاستاذ احمد شاكر بتهذیبه فی كتاب سماه «عمدة التفسیر» و صدرت منه أجزاء خمسة و لكنه توفی قبل أن یتمه رحمه اللّه. و ظهرت مختصرات عدة لهذا الكتاب فیما بعد.
______________________________
(1) طبع مع «تفسیر البغوی».
(2) انظر مقدمة محمود شاكر لتفسیر الطبری 1/ 14.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 279

الفصل الثالث التفسیر بالرّأی‌

اشارة

سبق أن ذكرنا اتجاهین قاما فی التفسیر هما: التفسیر بالمأثور و التفسیر بالرأی، و قد فصلنا القول فی التفسیر بالمأثور فی الفصل السابق، و نرید أن نبحث فی هذا الفصل عن التفسیر بالرأی «1». و نود أن نذكر هنا أن خلافا شدیدا قام بین العلماء حول هذا التفسیر، فمنهم من منعه، و منهم من اجازه، و الذی نراه هو أن تحدید المراد من كلمة (الرأی) یزیل كثیرا من الخلاف و الجدل، لأن كلا الفریقین یفهم كلمة الرأی فهما لا یوافقه علیه الفریق الآخر.
أما المانعون فقد ذهبوا الی حظره و تحریمه، و استدلوا علی ذلك بأدلة أهمها:
1- قالوا: إن التفسیر بالرأی قول علی اللّه بغیر علم، و هو غیر جائز.
2- و استدلوا بالآیة الكریمة وَ أَنْزَلْنا إِلَیْكَ الذِّكْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ «2» و فهموا من الآیة ان البیان للرسول، و لیس لغیره إلا أن ینقل قوله بعد تحری ما صح. و واضح أن مثل هذا القول یخرج من دائرة المأثور ما یروی عن الصحابة، و ان كانت كل كتب التفسیر بالمأثور تمتلئ بأقوال الصحابة بل بأقوال التابعین أیضا.
______________________________
(1) انظر فی التفسیر بالرأی «أعلام الموقعین» لابن القیم 1/ 38 و 53- 73.
(2) سورة النحل: 44.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 280
3- و استدلوا بالحدیث «اتقوا الحدیث عنی إلا ما علمتم. فمن كذب علیّ متعمدا فلیتبوأ مقعده من النار، و من قال فی القرآن برأیه فلیتبوأ مقعده من النار» «1» و بالحدیث: «من قال فی القرآن برأیه فأصاب فقد أخطأ» «2».
4- و استدلوا بامتناع كثیر من الصحابة و السلف من القول فی تفسیر القرآن، كأبی بكر رضی اللّه عنه و سعید بن المسیب و الشعبی و الاصمعی.
و أما المجیزون فقد ناقشوا هذه الادلة و بینوا أنها لا تنطبق علیهم كما یأتی:
1- قالوا: لیس التفسیر بالاجتهاد قولا علی اللّه بغیر علم. و إنما هو استخدام العقل فی فهم كتاب اللّه العظیم. و قد جعل اللّه للمصیب اجرین و للمخطئ أجرا واحدا. و احتجوا بالحدیث المشهور فی كتب الأصول و هو (أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم سأل معاذا حین بعثه إلی الیمن: بم تحكم؟ قال معاذ: بكتاب اللّه. قال النبی صلی اللّه علیه و سلم: فان لم تجد؟ قال معاذ: فبسنّة رسول اللّه. قال فان لم تجد؟ قال معاذ: اجتهد رأیی. فضرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم
______________________________
(1) أورده الترمذی فی باب ما جاء فی الذی یفسر القرآن برأیه (انظر «تحفة الاحوذی:
4/ 65) و فی كتاب الترمذی روایة اخری هی «من قال فی القرآن بغیر علم فلیتبوأ مقعده من النار». و قال: حدیث حسن صحیح. و انظر تعلیق الألبانی علی هذا الحدیث فی «المشكاة» 1/ 79.
(2) أخرجه أبو داود 3/ 436 و الترمذی 4/ 65 من حدیث جندب بن عبد اللّه، و لكن الحدیث ضعیف لأن فی سنده سهیل بن أبی حزم و هو ضعیف. و انظر «الباعث علی الخلاص» للحافظ العراقی بتحقیقنا ص 147- 148 و هناك حدیث موضوع قریب من هذا الحدیث ذكره ابن عراق فی «تنزیه الشریعة» 1/ 274 و نصه: «من فسّر القرآن برأیه فأصاب كتبت علیه خطیئة لو قسمت بین العباد لوسعتهم، و إن أخطأ فلیتبوأ مقعده من النار» و فیه أبو عصمة نوح بن أبی مریم.
و انظر تخریج الحدیث الأول و غیره فی تعلیقات شاكر علی تفسیر الطبری 1/ 78 و انظر «المشكاة» 1/ 79.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 281
فی صدره و قال: الحمد للّه الذی وفق رسول رسول اللّه لما یرضی رسول اللّه) «1».
2- و اجابوا عن الاستدلال بالآیة وَ أَنْزَلْنا إِلَیْكَ الذِّكْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ «2» بأن فی الذی ورد بیانه عنه صلی اللّه علیه و سلم كفایة عن كل تفسیر، و أما الذی لم یرد عنه صلی اللّه علیه و سلم بیانه ففیه مجال لأن یعمل أهل العلم الأكفیاء تفكیرهم فیه و یقفوا علی أسراره. و قالوا: إنه لا تعارض بین الآیة و التفسیر بالرأی.
3- و اجابوا عن الحدیثین بأن النهی محمول علی من قال برأیه فی مثل متشابه القرآن مما لا یعلم إلا عن طریق النقل عن النبی صلی اللّه علیه و سلم. و قالوا: إن المراد من كلمة (الرأی) الواردة فی الحدیثین هو الرأی الذی یغلب علی صاحبه من غیر دلیل، و الهوی الذی یمیل إلیه المرء و لو كان الحق فی غیر جانبه. و قالوا: إن النهی محمول علی من یقول فی القرآن بظاهر العربیة من غیر أن یرجع إلی أخبار الصحابة الذین شاهدوا تنزیله، و نقلوا لنا تفسیر الرسول صلی اللّه علیه و سلم لآیات القرآن الكریم و من غیر أن یتقید بشروط التفسیر.
______________________________
(1) رواه أحمد فی «المسند» 5/ 230 و 236 و 246 و أبو داود 3/ 412 و الترمذی 2/ 275 و قال عقبه: (هذا حدیث لا نعرفه إلا من هذا الوجه و لیس إسناده عندی بمتصل) و ابن ماجة و الدارمی 1/ 60 و أورده ابن عبد البر فی «جامع بیان العلم و فضله» 126 و أخرجه الخطیب فی «الفقیه و المتفقه» 1/ 188- 189 من طرق عدة و صححه و ذكر أنّ أهل العلم قد تقبلوه و احتجوا به. و أخرجه ابن كثیر فی مقدمة تفسیره 1/ 3 و قال:
(و هذا الحدیث فی «المسند» و السنن بإسناد جید كما هو مقرر فی موضعه) و قال فی «البدایة و النهایة» 5/ 103: (.. و قد رواه ابن ماجة من وجه آخر عنه من طریق محمد ابن سعید بن حسان و هو المصلوب أحد الكذابین) فتأمل.
و قال الذهبی: و أنی له الصحة، و مداره علی الحارث بن عمرو و هو مجهول عن رجال من أهل حمص لا یدری من هم عن معاذ (و انظر «طبقات الشافعیة» 5/ 187).
و نقل الشیخ ناصر الألبانی عن البخاری أنه قال فیه: إنه حدیث منكر (انظر كتابنا الحدیث النبوی ص 25) و انظر «منزلة السنة فی الاسلام» للألبانی ص 15- 16.
(2) سورة النحل: 44.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 282
قال الغزالی فی «الاحیاء» «1»: [و أما النهی فی الحدیث فإنه ینزل علی أحد وجهین:
أحدهما أن یكون للمفسر فی الشی‌ء رأی و إلیه میل من طبعه و هواه فیتأول القرآن علی وفق رأیه و هواه لیحتج علی تصحیح غرضه، و لو لم یكن له ذلك الرأی و الهوی لكان لا یلوح له من القرآن ذلك المعنی ...
و الوجه الثانی من التفسیر بالرأی أن یسارع المفسر إلی تفسیر القرآن بظاهر العربیة من غیر استظهار بالسماع فیما یتعلق بغرائب القرآن و ما فیه من الألفاظ التی لها أكثر من معنی ...]. و أضافوا الی ذلك أن الحدیث الثانی حدیث ضعیف لا یحتج به أصلا.
4- و قالوا فی إحجام من أحجم من الصحابة و السلف رضوان اللّه علیهم عن التفسیر بالرأی: إنما كان منهم ورعا. و یمكن أن یكون إحجامهم مقیدا بما لم یعرفوا وجه الصواب فیه، و یمكن أن یقال أیضا: إنما أحجم من أحجم منهم لأنه لم یكن یتعین للاجابة، و كان هناك أناس یقومون بهذه المهمة، و إلا فان لم یكن هناك سواه لشرح كتاب اللّه وجب علیه التفسیر حتی لا یكون كاتما للعلم.
*** و لم یكتف هؤلاء العلماء برد أدلة المانعین، و إنما احتجوا لقولهم بأدلة عدیدة سنقتصر علی ایراد أهمها:
1- قالوا: إن القرآن نفسه یأمر بالتدبر و الاستنباط، و استشهدوا بقوله سبحانه: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَی الرَّسُولِ وَ إِلی أُولِی الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «2» و بقوله تعالی: أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلی قُلُوبٍ
______________________________
(1) إحیاء علوم الدین 1/ 298.
(2) سورة النساء: 83.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 283
أَقْفالُها «1» و بقوله عز و جل: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَیْكَ مُبارَكٌ لِیَدَّبَّرُوا آیاتِهِ وَ لِیَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ «2».
و لا یكون التدبر إلا بالتأمل الذی یعتمد علی الفهم و إعمال الفكر و الاجتهاد. و بذلك یكون القرآن نفسه آمرا بالتفسیر بالرأی. فتدبر القرآن متوقف علی فهمه، و لا نستطیع أن نفهم الآیات التی لم یرد فی شرحها اثر أو حدیث الا بأن نجتهد فی تفسیرها ضمن الشروط التی نص العلماء علی ضرورة توافرها.
2- لو كان الاجتهاد بالرأی غیر جائز لما كان الاجتهاد جائزا، و لتعطلت بسبب ذلك كثیر من الاحكام الشرعیة.
3- فسر الصحابة القرآن، و اختلفوا فی تفسیره علی وجوه، و لم یسمعوا كل شی‌ء قالوه من النبی صلی اللّه علیه و سلم. بل هناك من الأقوال ما سمعوه، و هناك ما اجتهدوا فیه. هذا و من المروی عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم دعاؤه لابن عباس «اللهم فقهه فی الدین و علمه التأویل» «3».
*** و یقرر الامام الراغب الاصفهانی الحق فی هذا الموضوع بأجلی بیان.
و ذلك حیث یقول: (فمن اقتصر علی المنقول الیه فقد ترك كثیرا مما یحتاج الیه، و من أجاز لكل أحد الخوض فیه فقد عرضه للتخلیط و لم یعتبر حقیقة قوله تعالی لِیَدَّبَّرُوا آیاتِهِ وَ لِیَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ «2».
و كما سبق أن قلت فی مطلع هذا الفصل: إن تحدید مدلول كلمة (الرأی) یحسم الخلاف، و النظر المتأنی العمیق فی دوافع كل من الفریقین
______________________________
(1) سورة محمد: 24.
(2) سورة ص: 29.
(3) انظر تخریجه فی الفصل الثانی من الباب الثانی من هذا الكتاب عند بحثنا فی التفسیر فی عهد الصحابة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 284
یظهر تقارب وجهات النظر بینهما، حتی یكاد یبقی الخلاف بصورة لفظیة، (فالرأی) عند أهل الأثر هو الهوی الذی لا یضبطه ضابط، و هو بهذا المعنی مكروه من الفریقین، بینما (الرأی) عند القائلین بالتفسیر بالرأی هو الاجتهاد المقید بقیود و إعمال الفكر فی كتاب اللّه علی ضوء هداه و شرح رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم.
*** اشترط العلماء القائلون بالتفسیر بالرأی أن تتوافر فی المفسر القدرة التی تمكنه من التفسیر، و لا بد أن یكون المفسر ملما بعلوم اللغة و علوم القرآن و العلوم الاسلامیة و العلوم الاجتماعیة العامة، هذا بالاضافة إلی اشتراطهم فی المفسر أن یكون ورعا یخاف اللّه و ذا إمكانات عقلیة جیدة مما ذكرناه فی مبحث أصول التفسیر.
إذا كان التفسیر بالرأی ضمن هذه الحدود فان الحق یقضی بقبوله و إقراره، و هو الشی‌ء الطبیعی الذی یقتضیه التفاعل مع الكتاب الكریم، و استنطاقه فی شئوننا المعاصرة. و لا بد من الاشارة الی أن أتباع الفرق الضالة التی عملت فی التفسیر كانت تعتمد التفسیر بالرأی لتنفذ عن طریقه إلی نشر ضلالاتها و آرائها المنحرفة.
و قد یكون كلام الذین أنكروا التفسیر بالرأی إنكارا عنیفا، قد یكون كلامهم نتیجة لاطلاعهم علی كلام هؤلاء المنحرفین و اللّه أعلم.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 285

تفسیر الرازی‌

كتب التفسیر بالرأی كثیرة من أهمها: «الكشاف» و «تفسیر الرازی» و «تفسیر البیضاوی» و «النسفی» و «الخازن» ... و سندرس فیما یأتی تفسیر الرازی:

ترجمته:

«1» هو محمد بن عمر التیمی البكری أبو عبد اللّه، فخر الدین الرازی ولد فی الری سنة 544 ه و نسب الیها «2»، و هو قرشی النسب.
______________________________
(1) انظر ترجمته فی «وفیات الأعیان» و «البدایة و النهایة» 13/ 55 و «میزان الاعتدال» 3/ 340 و «لسان المیزان» 4/ 426 و «شذرات الذهب» 5/ 21 و «النجوم الزاهرة» 6/ 197 و «الوافی بالوفیات» 4/ 248 و «طبقات الشافعیة» 8/ 81 و «مفتاح السعادة» 2/ 116 و «تاریخ الخلفاء» للقفطی 291 و «تاریخ ابن الوردی» 2/ 127 و «ذیل الروضتین» 68 و «طبقات المفسرین» للسیوطی 39 و «طبقات المفسرین» للداودی 2/ 213 و «الكامل» 12/ 133 و «هدیة العارفین» 2/ 107.
(2) الریّ مدینة مشهورة، و قد نسب إلیها عدد من العلماء، و هی الآن تابعة لطهران و متصلة بها بالمبانی و العمران.
و ذكر لی زمیلی محمد صدیق العوضی أنّ العامّة هناك یسمونها (شاه عبد العظیم) لأنّ هذا الرجل مدفون فیها.
و فی تعلیل وجود الزای بالنسبة إلیها نقل العوضی أسطورة عن معجم فارسی معروف هو «برهان قاطع» أوردها علی سبیل الطرفة، و ملخص هذه الأسطورة أنّ رجلین بنیا هذه المدینة القدیمة أحدهما (ری) و الآخر (راز) و اختلفا فی تسمیة المدینة، و كل منهما یرید
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 286
رحل فی طلب العلم، و استطاع أن یبلغ فیه المنزلة العالیة، فقد كان متفوقا فی العلوم العقلیة و النقلیة، و كان طبیبا مشهورا، و كان واعظا بارعا، و كان یحسن الفارسیة، و له شعر بها و بالعربیة. و كان صاحب وقار، له هیئة جمیلة، اذا ركب مشی معه نحو الثلاثمائة. توفی فی هراة سنة 606 ه.
ألف كتبا كثیرة فی عدد من العلوم، و له طریقة فی التألیف خاصة به، لم یسبق الیها، و لا شكّ أنّ كتابه فی التفسیر أشهر كتبه، و له كتاب آخر مشهور و هو فی علم الكلام و هو «تأسیس التقدیس» و قد الّف ابن تیمیة كتابا جلیلا فی الرد علیه و هو «نقض التأسیس» «1». و لقد أحصی مترجموه كتبه فكانت شیئا كثیرا. ذكر له الاستاذ محیی الدین عبد الحمید خمسین مؤلفا عربیا و أشار إلی مؤلفاته بالفارسیة «2» و زاد الاستاذ عبد اللّه الصاوی علی ما ذكر محیی الدین 23 كتابا.

كتاب «مفاتیح الغیب»:

1- جاء الرازی فی زمن أصبحت فیه للثقافة الاسلامیة فلسفة مستقلة متمیزة، حیث ضعف سلطان المعتزلة، و لم یعد الفلاسفة الذین هم امتداد الفلسفة الیونانیة هم وحدهم فی المیدان.
و قد تأثر الرازی بعصره و بهذه الفلسفة، كما تأثر ببعض الشخصیات أمثال الغزالی و الجوینی و الباقلانی، و لم یلبث أن أصبح الرازی أحد أساطین هذه الثقافة الاسلامیة، لقد تطلع الی أن یضع القرآن العظیم موضع الدراسة
______________________________
أن یسمیها باسمه، و توسط ناس فی حل النزاع فسموا المدینة (الری) و قالوا إن النسبة إلیها (رازی). و هی أسطورة لا تصح.
(1) طبع كتاب ابن تیمیة فی مكة بتحقیق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم سنة 1391 ه.
(2) انظر مقدمة الاستاذ محیی الدین لتفسیر الرازی طبع المطبعة المصریة سنة 1352 (1933).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 287
و البحث و التحلیل، علی منهج یكشف تفوق القرآن علی سائر الطرائق الفلسفیة، و انفراده بالقدرة علی هدایة البشر الی غایات الحكمة.
قال الرازی فی وصیته «1» التی أملاها قبل موته:
(لقد اختبرت الطرق الكلامیة، و المناهج الفلسفیة، فما رأیت فیها فائدة تساوی الفائدة التی وجدتها فی القرآن، لأنه یسعی فی تسلیم العظمة و الجلال للّه، و یمنع من التعمق فی إیراد المعارضات و المناقضات، و ما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشریة تتلاشی فی تلك المضایق العمیقة، و المناهج الخفیة).
و نقل ابن الصلاح عن الطوغانی عن الرازی قریبا من هذا الكلام «2».
و من أجل ذلك كان یری أنه ینبغی علی الناس أن یلتفتوا الی القرآن وحده، لیجدوا فیه الحق ... و قد وضع لهم تفسیره هذا لیكون معوانا لهم علی تبصر هذه الحكمة السامیة فی الهدایة.
2- و طریقة الرازی فی التفسیر: ان یفسر الآیة من نواح متعددة لغة و بلاغة وفقها و ما الی ذلك. ثم یأتی بعد ذلك الی الاستنباط، فیذكر المسائل التی یمكن أن تبحث بما یوحیه النص و یشیر الیه.
و كان مولعا بكثرة الاستنباطات، یدل علی ذلك قوله فی مقدمة تفسیره:
(اعلم أنه مر علی لسانی فی بعض الأوقات أن سورة الفاتحة یمكن أن یستنبط من فوائدها و نفائسها عشرة آلاف مسألة، فاستبعد هذا بعض الحساد، فشرعت فی تصنیف هذا الكتاب). لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر 287 كتاب«مفاتیح الغیب»: ..... ص : 286
یبدو أنه لم یؤلف كتابه متسلسلا علی أنه كتاب واحد، و لم یتبع
______________________________
(1) انظر الوصیة كاملة فی «طبقات الشافعیة» 8/ 90 و فی آخر ترجمته التی كتبها عبد اللّه الصاوی فی آخر الجزء 32 من «تفسیر الرازی» ص 215.
(2) انظر «شذرات الذهب» 5/ 21- 22.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 288
فی تفسیر السور ترتیب المصحف، یستنتج هذا من التواریخ التی وضعها المؤلف فی نهایة عدد من السور.
فقد ذكر أنه انتهی من سورة فی تاریخ معین، ثم ذكر فی السورة التی ترتیبها فی المصحف بعدها أنه انتهی من تفسیرها فی تاریخ یسبق ذلك التاریخ.
و هكذا فكأنه كان یعدّ تفسیر كل سورة بحد ذاته كتابا مستقلا، و تری ذلك واضحا فی مقدمة سورة الفاتحة.
4- فی الكتاب كلام یتصل بالمؤلف و أحواله فی مناظراته و رحلاته، فمن ذلك مثلا ما جاء فی نهایة سورة یونس حیث قال:
(یقول جامع الكتاب: ختمت تفسیر هذه السورة یوم السبت من شهر اللّه الاصم رجب سنة إحدی و ستمائة، و كنت ضیق الصدر، كثیر الحزن، بسبب وفاة الولد الصالح محمد، أفاض اللّه علی روحه و جسده أنوار المغفرة و الرحمة، و أنا ألتمس من كل من یقرأ هذا الكتاب و ینتفع به من المسلمین، أن یخص ذلك المسكین بالدعاء و الرحمة و الغفران، و الحمد للّه رب العالمین، و صلاته علی خیر خلقه محمد، و آله و صحبه أجمعین).
و من ذلك ذكر رحلته الی خوارزم، و إیراد مناظرة جرت له هناك مع بعض النصاری. جاء فی تفسیر قوله تعالی فی سورة آل عمران فَمَنْ حَاجَّكَ فِیهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ «1» (اتفق لی حین كنت بخوارزم أن أخبرت أنه جاء نصرانی یدعی التحقیق و التعمق فی مذهبهم، فذهبت الیه و شرعنا فی الحدیث ...) و ساق جدله فی مسألة الوهیة المسیح و السؤال عن بطلان ذلك بأوجه قال فی ختام تقریرها:
(و عند ذلك انقطع النصرانی و لم یبق له كلام).
______________________________
(1) سورة آل عمران: 61.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 289
5- لم یكن المؤلف متعصبا لمذهبه الشافعی، فهو مثلا عند ما تعرض لآیة الصدقات قال: (هذه الآیة لا دلالة فیها علی قول الشافعی ...).
6- یمتاز هذا التفسیر بالبحوث الواسعة الفیاضة فی نواح شتی من العلم، حتی صدقت فیه كلمة ابن خلكان: (إنه جمع فیه كل غریب و غریبة).
7- یذهب بعض العلماء «1» إلی أنه لم یتم الكتاب بنفسه، و استدلوا علی ذلك بأدلة منها:
- أنهم وجدوا فی الكتاب بعض المقاطع التی تدل علی أن كاتبها غیر الفخر الرازی، فمن ذلك ما جاء عند قوله تعالی فی سورة الواقعة جَزاءً بِما كانُوا یَعْمَلُونَ «2»: (المسألة الأولی أصولیة ذكرها الامام فخر الدین رحمه اللّه فی مواضع كثیرة و نحن نذكر بعضها) ثم قال: (و قد أجاب عنه الامام فخر الدین- رحمه اللّه- بأجوبة كثیرة، و أظن به أنه لم یذكر ما أقوله فیه).
- فی أول الكتاب لا یحیل المؤلف قارئه علی بحث تقدم، و تكثر هذه الإحالات فی القسم الأخیر من الكتاب.
و لكن الشیخ ابن عاشور یری رأیا آخر عبّر عنه بالكلمات التالیة: (إن الرازی لما انتصب فی آخر حیاته لتصنیف التفسیر، تمكن من إخراج شی‌ء منه فی تحریره النهائی، و بقی شی‌ء فی الأمالی و المسودات بید بعض تلامیذه، فأقبل علی تصنیفه و تحریره، و ألحق فی ذلك الفرع بالأصل، فالكتاب بروحه هو للرازی كله، و بتحریره هو من وضعه فی الأول
______________________________
(1) من هؤلاء العلماء ابن حجر فی «الدرر الكامنة» ج 1 ص 304، و ابن خلكان فی «وفیاته» و ابن قاضی شهبة و حاجی خلیفة فی «كشف الظنون» 2/ 1756.
(2) سورة الواقعة: 24.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 290
و وضع تلمیذه .. فی الآخر) «1».
و إدراج بعض الكلام من النساخ فی كثیر من الكتب أمر موجود بكثرة فی كتب ثقافتنا الاسلامیة، و هو هنا محتمل الوجود جدا، فلیس بعیدا أن یكون الناسخ من أهل العلم، و قد زاد بعض العبارات بما لا یخرج بالكتاب عن أصله و روح مؤلفه.
8- قیمة الكتاب تبدو فی أنه أول محاولة ناجحة لانتزاع علم التفسیر من الطائفتین اللتین احتكرنا هذا العلم و هما: طائفة المحدثین و طائفة الأدباء المعنیین بالبلاغة، و هذه المحاولة مكنت طائفتین أخریین أن تشتغلا فیه و هما المختصون فی أصول الدین (التوحید و علم الكلام) و المختصون فی أصول الفقه.
و الرازی من أهل هذین الفنین كما رأینا، و قد جعل أتباعه من العلماء فی هذین الحقلین یخوضون فی التفسیر، و بذلك اتجهت كتب التفسیر وجهة جدیدة.
9- لا یترك مسألة من مسائل الاعتزال تتصل بما هو فی صدد تفسیره إلا و یعرضها و یرد علیهم، و ینقض حججهم، و یقرر مذهب أهل السنة.
و یتعرض كثیرا لأقوال الفلاسفة و یرد علیهم، و إن كانت طریقته فی البحث علی نمطهم و اسلوبهم، و یأخذ ابن حجر علیه تقصیره فی رد أقوال أهل الضلالات بعد أن یعرضها عرضا جیدا «2». و كذلك فقد انتقده الذهبی و أبو حیان و السیوطی.
قال الذهبی: [بل یطالع المدرسون تفسیر الفخر الرازی، و فیه إشكالات و تشكیكات لا ینبغی سماعها، فإنها تحیر و تمرض و لا تشفی
______________________________
(1) «التفسیر و رجاله» للشیخ محمد بن عاشور ص 90.
(2) «لسان المیزان» 4/ 427.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 291
غلیلا. نسأل اللّه العافیة] «1».
و قال السیوطی: [الامام فخر الدین قد ملأ تفسیره بأقوال الحكماء و الفلاسفة و شبهها، و خرج من شی‌ء إلی شی‌ء حتی یقضی الناظر العجب من عدم مطابقة المورد للآیة. قال أبو حیان فی «البحر»: جمع الإمام الرازی فی تفسیره أشیاء كثیرة طویلة لا حاجة بها فی علم التفسیر، و لذلك قال العلماء: فیه كل شی‌ء إلا التفسیر] «2».
10- یكثر من الاستطراد إلی العلوم الكونیة و الفلكیة.
11- یهتم بذكر المناسبات بین الآیات بعضها مع بعض، و بین السور أیضا، و هو لا یكتفی بذكر مناسبة واحدة، بل كثیرا ما یذكر أكثر من مناسبة.
______________________________
(1) «بیان زغل العلم» 19- 20.
(2) «الاتقان» 2/ 190 أقول: و نقله عن العلماء قولهم فیه: (فیه كل شی‌ء إلا التفسیر) كلمة ظالمة یردها التأمل الواعی فی كتابه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 292

الفصل الرابع التفسیر العلمیّ‌

اشارة

من مدارس التفسیر التی شاعت فی هذا العصر ما یدعی «التفسیر العلمی» «1».
______________________________
(1) من المصادر التی بحثت فی موضوع التفسیر العلمی:
التفسیر العلمی للآیات الكونیة لحنفی أحمد- دار المعارف بمصر.
من الآیات العلمیة لعبد الرزاق نوفل (الأنجلو مصریة 1966 م).
القرآن و العلم الحدیث لعبد الرزاق نوفل (الكتاب العربی بیروت دون تاریخ) القرآن و العلم لأحمد سلیمان (دار العودة بیروت 1978 م) القرآن یتحدی لأحمد عز الدین عبد اللّه خلف اللّه (السعادة مصر 1397 ه- 1977 م).
سنن اللّه الكونیة لمحمد أحمد الغمراوی. و بین الدین و العلم للغمراوی.
الاسلام و الطب الحدیث لعبد العزیز اسماعیل.
الاسلام فی عصر العلم لمحمد أحمد الغمراوی- دار الكتب الحدیثة سنة 1978 م.
ما دلّ علیه القرآن للآلوسی- طبع المكتب الاسلامی.
الدین و العلم للمشیر أحمد عزت باشا و قد علّق علیه عبد الوهاب عزام و حمزة طاهر.
الاسلام یتحدی لوحید الدین خان ترجمة ظفر الاسلام خان من 205- 227.
الفلسفة القرآنیة للعقاد (فصل القرآن و العلم) و (فصل تفسیر القرآن فی العصر الحدیث) العلوم الطبیعیة فی القرآن لیوسف مروة (بیروت 1387- 1968 م).
مطابقة المخترعات العصریة لما أخبر به سید البریة للغماری. مكتبة القاهرة سنة 1387.
من إشارة العلوم فی القرآن الكریم، عبد العزیز سید الأهل- دار النهضة الحدیثة بیروت 1392.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 293
و للتفسیر العلمی جذور فی ثقافتنا التفسیریة القدیمة التی خلفها السلف، و نستطیع أن نعد الغزالی فی «الإحیاء» «1» و «جواهر القرآن» و «القسطاس المستقیم» و «الحكمة فی مخلوقات اللّه»، و الرازی فی «مفاتیح الغیب» من اوائل الباحثین فیه، و قد سار فی هذا السبیل السیوطی حیث عقد بابا فی «الاتقان» تحدث فیه عن العلوم المستنبطة من القرآن، و نقل أقوالا لعدد من العلماء فی أن كل شی‌ء فی القرآن، ثم نقل مقالة أبی الفضل المرسی و غیره فی هذا الصدد «2».
و لكننا فی مطلع القرن الهجری الرابع عشر نری هذا اللون من التفسیر قد راج و نما، و توسعت ارجاؤه و تعددت، و تخصص فیه بعض المؤلفین. فما هو؟ و ما الرأی فیه؟.
إنه تحكیم مصطلحات العلوم فی فهم الآیة، و الربط بین الآیات الكریمة و مكتشفات العلوم التجریبیة و الفلكیة و الفلسفیة.
و یعتمد هذا التفسیر علی التوسع فی مدلول الكلمات، و الآیات القرآنیة، و الاستیحاء من الكلمة منقطعة عن سیاقها فی الآیة أحیانا، و الاعتماد علی الإشارات من هنا و من هناك أحیانا أخری، و یذهب القائلون به إلی أن الاعجاز إنما یتحقق فی الإعجاز العلمی، و یقررون بأسلوب خطابی أن كثیرا من النظریات العلمیة الحدیثة التی تفتق عنها الذهن البشری المعاصر بعد أجیال من الخبرة و المعرفة، و ركام من التجارب، قد سبق إلیها القرآن قبل بضعة عشر قرنا و أشار الیها، و یحاولون الاستدلال بتحمیل الألفاظ فوق ما تحمل و یتكلفون لذلك و یتمحلون.
كان الاهتمام بهذا اللون من التفسیر نتیجة لانبهار نفر منا بضیاء الحضارة الاوروبیة، التی فتحنا أعیننا علی مخترعاتها و ثمرات علومها، فذهب
______________________________
(1) انظر «الاحیاء» الباب الرابع فی فهم القرآن و تفسیره بالرأی من غیر نقل 1/ 259.
(2) انظر «الاتقان» 2/ 125- 131.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 294
هذا النفر یتلمس إشارات ذلك فی القرآن، و یدعو إلی فهم القرآن علی ضوء النظریات الحدیثة، كأن ما وصلت الیه هذه الحضارة حقائق ثابتة.
و من أبرز هؤلاء الشیخ طنطاوی جوهری «1» فی تفسیره الذی سنتحدث عنه بعد قلیل.
و الحق أنّ هذا الاتجاه من التفسیر غیر سدید، و ذلك لأن العلم فی قلق و تغییر دائم، و تطور مستمر، ینقض الیوم ما أقره بالأمس، و الحقائق العلمیة تبقی ثابتة فی نظر العلماء حتی تدحضها حقائق اخری، أما الفرضیات و النظریات فهی منذ أول وهلة فی نظرهم لا تعد من الحقائق فی شی‌ء.
فكیف یجوز فی المنهج الصحیح أن یحتكم فی آیات اللّه التی لا یأتیها الباطل من بین یدیها و لا من خلفها إلی تلك النظریات القلقة، و الحقائق المعرضة للتغیر؟
و قد عالج هذا الموضوع بعمق و أصالة الاستاذ سید قطب رحمه اللّه فقال «2»:
(و لم یجی‌ء القرآن لیكون كتاب علم فلكی أو كیماوی أو طبی .. كما یحاول بعض المتحمسین له أن یتلمسوا فیه هذه العلوم، أو كما یحاول بعض الطاعنین فیه أن یتلمسوا مخالفاته لهذه العلوم.
إن كلتا المحاولتین دلیل علی سوء الإدراك لطبیعة هذا الكتاب، و وظیفته و مجال عمله. إن مجاله هو النفس الانسانیة، و الحیاة الانسانیة.
و إن وظیفته أن ینشئ تصورا عاما للوجود و ارتباطه بخالقه، و لوضع الانسان فی هذا الوجود و ارتباطه بربه، و أن یقیم علی أساس هذا التصور
______________________________
(1) سنورد ترجمته بعد قلیل.
(2) «فی ظلال القرآن» 2/ 95- 99.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 295
نظاما للحیاة، یسمح للانسان أن یستخدم كل طاقاته ... و من بینها طاقته العقلیة، التی تقوم هی بعد تنشئتها علی استقامة، و إطلاق المجال لها لتعمل بالبحث العلمی- فی الحدود المتاحة للانسان- و بالتجریب و التطبیق تصل إلی ما تصل إلیه من نتائج لیست نهائیة و لا مطلقة بطبیعة الحال.
إن مادة القرآن التی یعمل فیها هی الانسان ذاته: تصوره و اعتقاده، و مشاعره و مفهوماته، و سلوكه و أعماله، و روابطه و علاقاته .. أما العلوم المادیة، و الإبداع فی عالم المادة بشتی وسائله و صنوفه، فهی موكولة إلی عقل الانسان، و تجاربه، و كشوفه، و فروضه، و نظریاته. بما أنها أساس خلافته فی الأرض، و بما أنه مهیأ لها بطبیعة تكوینه .. و القرآن یصحح له فطرته كی لا تنحرف و لا تفسد؟ و یصحح له النظام الذی یعیش فیه كی یسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له، و یزوده بالتصور العام لطبیعة الكون و ارتباطه بخالقه و تناسق تكوینه، و طبیعة العلاقة القائمة بین أجزائه- و هو أی الانسان أحد أجزائه- ثم یدع له أن یعمل فی إدراك الجزئیات و الانتفاع بها فی خلافته ... و لا یعطیه تفصیلات لأن معرفة هذه التفصیلات جزء من عمله الذاتی.
و إنی لأعجب لسذاجة المتحمسین لهذا القرآن، الذین یحاولون أن یضیفوا إلیه ما لیس منه، و أن یحملوا علیه ما لم یقصد إلیه، و أن یستخرجوا منه جزئیات فی علوم الطب و الكیمیاء و الفلك و ما إلیها .. كأنما لیعظموه بهذا و یكبروه.
إن القرآن كتاب كامل فی موضوعه. و موضوعه أضخم من تلك العلوم كلها .. لأنه هو الانسان ذاته، الذی یكتشف هذه المعلومات و ینتفع بها ..
و البحث و التجریب و التطبیق من خواص العقل فی الانسان. و القرآن یعالج بناء هذا الانسان نفسه. بناء شخصه و ضمیره و عقله و تفكیره. كما یعالج بناء المجتمع الانسانی الذی یسمح لهذا الانسان بأن یحسن استخدام هذه
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 296
الطاقات المذخورة فیه. و بعد أن یوجد الانسان السلیم التصور و التفكیر و الشعور و یوجد المجتمع الذی یسمح له بالنشاط، یتركه القرآن یبحث و یجرب و یخطئ و یصیب فی مجال العلم و البحث و التجریب. و قد ضمن له موازین للتصور و التدبر و التفكیر الصحیح.
كذلك لا یجوز أن نعلق الحقائق النهائیة التی یذكرها القرآن أحیانا عن الكون فی طریقه لإنشاء التصور الصحیح لطبیعة الوجود و ارتباطه بخالقه، و طبیعة التناسق بین أجزائه .. لا یجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائیة التی یذكرها القرآن بفروض العقل البشری و نظریاته، و لا حتی بما یسمیه (حقائق علمیة) مما ینتهی إلیه بطریق التجربة القاطعة فی نظره.
إن الحقائق القرآنیة حقائق نهائیة قاطعة مطلقة. أما ما یصل إلیه البحث الانسانی- أیا كانت الأدوات المتاحة له- فهی حقائق غیر نهائیة و لا قاطعة، و هی مقیدة بحدود تجاربه و ظروف هذه التجارب و أدواتها .. فمن الخطأ المنهجی- بحكم المنهج العلمی الانسانی ذاته- أن نعلق الحقائق النهائیة القرآنیة بحقائق غیر نهائیة، و هی كل ما یصل إلیه العلم البشری.
هذا بالقیاس الی (الحقائق العلمیة) .. و الأمر أوضح بالقیاس إلی النظریات و الفروض التی تسمی (علمیة) .. و من هذه النظریات و الفروض كل النظریات الفلكیة، و كل النظریات الخاصة بنشأة الانسان و أطواره، و كل النظریات الخاصة بنشأة المجتمعات و أطوارها .. فهذه كلها لیست (حقائق علمیة) حتی بالقیاس الانسانی. و إنما هی نظریات و فروض. كل قیمتها أنها تصلح لتفسیر أكبر قدر من الظواهر الكونیة أو الحیویة أو النفسیة أو الاجتماعیة إلی أن یظهر فرض آخر یفسر قدرا أكبر من الظواهر أو یفسر تلك الظواهر تفسیرا أدق. و من ثم فهی قابلة دائما للتغییر و التعدیل و النقص و الاضافة، بل قابلة لأن تنقلب رأسا علی عقب، بظهور أداة كشف جدیدة، أو بتفسیر جدید لمجموعة الملاحظات القدیمة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 297
و كل محاولة لتعلیق الإشارات القرآنیة العامة بما یصل إلیه العلم من نظریات متجددة متغیرة- أو حتی بحقائق علمیة لیست مطلقة كما أسلفنا- تحتوی أولا علی خطأ منهجی أساسی .. كما أنها تنطوی علی معان ثلاثة كلها لا یلیق بحلال القرآن الكریم:
الأول: هو الهزیمة الداخلیة التی تخیل لبعض الناس أن العلم هو المهیمن، و القرآن تابع، و من هنا یحاولون تثبیت القرآن بالعلم. أو الاستدلال له من العلم، علی حین أن القرآن كتاب كامل فی موضوعه و نهائی فی حقیقته.
و العلم ما یزال فی موضوعه ینقض الیوم ما أثبته بالأمس، و كل ما یصل إلیه غیر نهائی و لا مطلق، لأنه مقید بوسط الانسان، و عقله، و أدواته، و كلها لیس من طبیعتها أن تعطی حقیقة واحدة نهائیة مطلقة.
و الثانی: سوء فهم طبیعة القرآن و وظیفته. و هی أنه حقیقة نهائیة مطلقة، تعالج بناء الانسان، بناء یتفق- بقدر ما تسمح طبیعة الانسان النسبیة- مع طبیعة هذا الوجود و ناموسه الالهی، حتی لا یصطدم الانسان بالكون من حوله، بل یصادقه و یعرف بعض أسراره، و یستخدم بعض نوامیسه فی خلافته. نوامیسه التی تكشف له بالنظر و البحث و التجریب و التطبیق، وفق ما یهدیه إلیه عقله الموهوب له لیعمل لا لیتسلم المعلومات المادیة جاهزة.
و الثالث: هو التأویل المستمر- مع التمحل و التكلف- لنصوص القرآن كی نحملها و نلهث بها وراء الفروض و النظریات، التی لا تثبت و لا تستقر.
و كل یوم یجد فیها جدید. و كل أولئك لا یتفق و جلال القرآن، كما انه یحتوی علی خطأ منهجی كما أسلفنا.
و لكن هذا لا یعنی ألا ننتفع بما یكتشفه العلم من نظریات- و من حقائق- عن الكون و الحیاة و الانسان فی فهم القرآن .. كلا. إن هذا لیس هو الذی عنینا بذلك البیان. و لقد قال اللّه سبحانه: سَنُرِیهِمْ آیاتِنا فِی
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 298
الْآفاقِ وَ فِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ «1» .. و من مقتضی هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما یكشفه العلم فی الآفاق و فی الأنفس من آیات اللّه، و أن نوسع بما یكشفه مدی المدلولات القرآنیة فی تصورنا.
فكیف؟ و دون أن نعلق النصوص القرآنیة النهائیة المطلقة بمدلولات لیست نهائیة و لا مطلقة؟ هنا ینفع المثال:
یقول القرآن الكریم مثلا: وَ خَلَقَ كُلَّ شَیْ‌ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِیراً «2» .. ثم تكشف الملاحظات العلمیة ان هناك موافقات دقیقة، و تناسقات ملحوظة بدقة فی هذا الكون .. الأرض بهیئتها هذه، و ببعد الشمس عنها هذا البعد، و بعد القمر عنها هذا البعد، و حجم الشمس و القمر بالنسبة لحجمها، و بسرعة حركتها هذه، و بمیل محورها هذا، و بتكوین سطحها هذا .. و بآلاف من الخصائص «3» .. هی التی تصلح للحیاة و توائمها .. فلیس شی‌ء من هذا كله فلتة عارضة، و لا مصادفة غیر مقصودة ... هذه الملاحظات تفیدنا فی توسیع مدلول: وَ خَلَقَ كُلَّ شَیْ‌ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِیراً «4» و تعمیقه فی تصورنا .. فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسیع هذا المدلول و تعمیقه .. و هكذا ..
هذا جائز و مطلوب .. و لكن الذی لا یجوز و لا یصح علمیا هذه الأمثلة الأخری: یقول القرآن الكریم: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِینٍ «5» .. ثم توجد نظریة فی النشوء و الارتقاء لوالاس و داروین تفترض أن الحیاة بدأت خلیة واحدة، و أن هذه الخلیة نشأت فی الماء، و أنها تطورت حتی انتهت الی خلق الانسان .. فنحمل نحن علی هذا النص
______________________________
(1) سورة فصلت: 53.
(2) سورة الفرقان: 2.
(3) أنظر مقالا فی ذلك فی كتاب «العلم یدعو للایمان».
(4) سورة الفرقان: 2.
(5) سورة المؤمنون: 12.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 299
لقرآنی، و نلهث وراء النظریة لنقول: هذا هو الذی عناه القرآن.
لا .. إن هذه النظریة أولا لیست نهائیة. فقد دخل علیها من التعدیل فی أقل من قرن من الزمان، ما یكاد یغیرها نهائیا. و قد ظهر فیها من النقص المبنی علی معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التی تحتفظ لكل نوع بخصائصه، و لا تسمح بانتقال نوع إلی نوع آخر ما كاد یبطلها. و هی معرضة للنقض و البطلان .. بینما الحقیقة القرآنیة نهائیة. و لیس من الضروری أن یكون هذا معناها. فهی تثبت فقط أصل نشأة الانسان و لا تذكر تفصیلات هذه النشأة. و هی نهائیة فی النقطة التی تستهدفها و هی أصل النشأة الانسانیة ... و كفی ... و لا زیادة.
و یقول القرآن الكریم: وَ الشَّمْسُ تَجْرِی لِمُسْتَقَرٍّ لَها «1» .. فیثبت حقیقة نهائیة عن الشمس، و هی أنها تجری .. و یقول العلم: إن الشمس تجری بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 میلا فی الثانیة، و لكنها فی دورانها مع المجرة التی هی واحدة من نجومها تجری جمیعا بسرعة 170 میلا فی الثانیة .. و لكن هذه الملاحظات الفلكیة لیست هی عین مدلول الآیة القرآنیة. إنّ هذه تعطینا حقیقة نسبیة غیر نهائیة، قابلة للتعدیل أو البطلان .. أما الآیة القرآنیة فتعطینا حقیقة نهائیة- فی أن الشمس تجری- و كفی .. فلا نعلق هذه بتلك أبدا ..
و حسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة فقد أردنا به إیضاح المنهج الصحیح فی الانتفاع بالكشوف العلمیة فی توسیع مدلول الآیات القرآنیة و تعمیقها، دون تعلیقها بنظریة خاصة أو بحقیقة علمیة خاصة تعلیق تطابق و تصدیق .. و فرق بین هذا و ذاك).
قال الأستاذ محمود شلتوت:
(... طائفة المثقفین الذین أخذوا بطرف من العلم الحدیث، و تلقنوا أو
______________________________
(1) سورة یس: 38.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 300
تلقفوا شیئا من النظریات العلمیة و الفلسفیة و الصحیة و غیرها، أخذوا یستندون إلی ثقافتهم الحدیثة و یفسرون القرآن علی مقتضاها ...) «1»
ثم قال:
(هذه النظرة للقرآن خاطئة من غیر شك، لأنّ اللّه لم ینزل القرآن لیكون كتابا یتحدث فیه إلی الناس عن نظریات العلوم، و دقائق الفنون، و أنواع المعارف.
و هی خاطئة من غیر شك؛ لأنها تحمل أصحابها و المغرمین بها علی تأویل القرآن تأویلا متكلفا یتنافی مع الإعجاز، و لا یسیغه الذوق السلیم.
و هی خاطئة؛ لأنها تعرّض القرآن للدوران مع مسائل العلوم فی كل زمان و مكان ...) «2».
و كذلك فقد أشار الأستاذ محمد الصادق عرجون إلی فساد هذا المنهج فقال:
(و حاول بعضهم إخضاع آیات القرآن لنظریات زعم أصحابها أنه قد استقام لها الاستدلال، و أصبحت علما مقررا لا یحتمل الشك و الارتیاب، مع أنها نظریات لا تزال یعوزها الاستقرار العلمی، و تفتقد البرهان الذی یرفعها إلی مظنونات الحقائق بله الیقین) «3».
إنّ من الأمور النافعة مما یتصل باتجاه التفسیر العلمی أن نقرر حقیقة لا شك فیها هی أن هذا الكتاب الكریم لم یرد فیه ما یتعارض مع ما انتهی إلیه البحث العلمی الحدیث، و أن الحقائق التی أشار إلیها بصراحة تعدّ من قبیل المعجزات التی تدل علی أن هذا الكتاب من عند اللّه.
______________________________
(1) «تفسیر القرآن» ص 11 ط 4 سنة 1966.
(2) «تفسیر القرآن» ص 13 ط 4 سنة 1966.
(3) «نحو فهم لتفسیر القرآن» ص 19 ط الدار السعودیة للنشر 1392 ه (1972 م).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 301
و تقدم بعض الدراسات العلمیة للقرآن الشواهد الكثیرة علی ذلك، مع استبعادنا لتكلف التأویل، و لحمل الآیات عن طریق الإشارة علی بعض لنظریات العلمیة المكتشفة.
و قد توفر علی هذا المعنی المفكر الفرنسی موریس بوكای، فكتب كتابا وازن فیه بین الكتب الثلاثة: التوراة، و الإنجیل، و القرآن. و قد ترجم مرتین فی وقت واحد سنة 1398 ه (1978 م) إحداهما فی بیروت بعنوان «التوراة و الإنجیل و القرآن و العلم» و الأخری فی القاهرة (دار المعارف) بعنوان «دراسة الكتب المقدسة فی ضوء المعارف الحدیثة» و لم تذكر اسماء المترجمین فی الطبعتین. ثم ترجمه الشیخ حسن خالد مفتی لبنان رحمه اللّه و طبعه المكتب الإسلامی فی بیروت 1407 بعنوان: التوراة و الانجیل و القرآن و العلم.
و خرج هذا المؤلف بأنّ الكتاب الذی هو من عند اللّه هو القرآن وحده، لأنه لم یأت فیه ما یعارض حقائق العلم، أما ما بأیدی الناس من كتب یصفونها بأنها مقدسة و یدعونها التوراة و الإنجیل فهی مملوءة بخرافات و أباطیل لا یمكن أن تكون منزلة من عند اللّه.
إنّ مثل هذه الدراسة تمثل جانبا من جوانب الجدة فی هذا القرآن الكریم .. و قد جاء فی وصفه أنه لا تنقضی عجائبه. و أحسب أن البشر سیكتشفون جوانب متعددة فی هذا الكتاب العظیم كلما تقدّم الزمان.
و الشی‌ء الذی نحذره هو التكلف و التمحل، و تحمیل آیات القرآن ما لا تحمل، و أن یتخذ هذا المنهج ذریعة لصرف الناس عن ابتغاء الهدی الكامن فی ثنایاه، و الانزلاق فی بعض المزالق الفكریة المنحرفة التی تنادی بها بعض الفرق الضالة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 302
و إذا أمنّا هذا المحذور فربما كانت هذه الجوانب من البحث سببا من أسباب إقناع نفر من الناس بالإیمان بهذا الكتاب و رسالته و الدخول فی الإسلام، و إن كنت أحسب أن هؤلاء قلیل.
إنّ الذی یضمن لنا اقتناع الناس بكتابنا و دیننا هو التزامنا نحن المسلمین بما جاء فی هذا الكتاب و تطبیقه فی حیاتنا، و أن نكون أقویاء أعزاء متحررین من العبودیة المادیة و المعنویة لأعدائنا. إنّ هذا هو الذی یقنع الناس الراغبین فی الخیر و الحق.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 303

تفسیر طنطاوی جوهری‌

هناك عدد من العلماء المعاصرین اتجهوا هذا الاتجاه فی تفسیر القرآن، و قد أشرنا إلی بعضهم فی أول هذا البحث و لا شك فی أن الشیخ طنطاوی جوهری أشهرهم، و لعله كان أكثرهم كتابة فی هذا الموضوع، و لعله أشدّهم تطرفا.
قال الأستاذ حنفی أحمد:
(... الذی أفاض- یرید طنطاوی- فیه و أسهب، و بیّن كثیرا من العلوم المختلفة التی تشیر إلیها الآیات، و لم یحاول الجمع بینها، فخفی بذلك كثیر من حقیقة و مقدار العلم المنزل فیها، و علی كل حال فقد كان- رحمه اللّه- من المجتهدین) «1».
ولد الأستاذ طنطاوی فی قریة من قری الشرقیة بمصر سنة 1287 ه (1870 م) و تعلم فی الأزهر، و درس الانكلیزیة، ثم عمل فی التدریس بمختلف درجاته، و توفی سنة 1358 ه (1940 م) و ترك كتبا عدیدة من أشهرها تفسیره، و سنورد بعض ملاحظاتنا حول هذا التفسیر.
و لیس من شك عندی أنه- رحمه اللّه- كان یرید الخیر و یسعی إلیه، و ربما أخطأ طریقه، و أنه كان یرید أن یمكّن للإسلام، و أن یسود العالم
______________________________
(1) «التفسیر العلمی للآیات الكونیة» ص 7.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 304
و ینتشر فی الدنیا، و أن یعود المسلمون إلی دینهم لتعود إلیهم عزتهم و مكانتهم. و لذلك فلم یكن یتراءی له أمل فی جهة من الجهات إلا و یسارع إلیها و یتعاون معها، و لعلّ هذا المعنی هو الذی حمله علی معاضدة الأستاذ حسن البنا فی حركته الإسلامیة الإصلاحیة. «1»
و تتضح رغبته فی الخیر فی كتاباته كما تشهد بذلك آثاره التی تركها «2» و تتضح هذه الرغبة أیضا فی كتابة الذین تحدثوا عنه و منهم الأستاذ حسن البنا «3»، و منهم الدكتور طه حسین «4» الذی كان من تلامذته فی الجامعة و هو و إن أساء إلیه و انتقده فقد صوّره صورة الانسان الساذج المحب للخیر الراغب فیه.
أما ملاحظاتنا علی تفسیره فهی:
1- عنوان تفسیره: «الجواهر فی تفسیر القرآن الكریم» و یقع فی 26 جزءا.
2- غرضه من تفسیره اصلاحی علی أساس العلم و الأخذ بمنجزاته و السیر فی طریقه، فهو- كما یقول- یرجو أن ینسج علی منوال هذا التفسیر المسلمون، و أن یفوقوا الفرنجة فی الزراعة و الطب و الحساب و الهندسة و الفلك و غیرها من العلوم و الصناعات.
و كان بإمكانه أن یصل إلی ذلك عن طریق تألیف كتاب یحمل هذه الدعوة، أما أن یعمد إلی القرآن یحمله ذلك فهذا فیه نظر.
3- یدعو بأسلوب خطابی إلی أن یتعلم المسلمون العلوم الكونیة، و یستدل لذلك بأن الآیات المتصلة بالفقه لا تزید علی (150) آیة. یقول:
______________________________
(1) انظر «مذكرات الدعوة و الداعیة» تألیف حسن البنا ص 168.
(2) انظر كتبه فی «الأعلام» و «معجم المطبوعات» لسركیس.
(3) انظر مواضع عدة من كتاب «مذكرات الدعوة و الداعیة».
(4) «مذكرات طه حسین».
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 305
(لما ذا كثر التألیف فی الفقه، و قلّ جدا فی علوم الكائنات التی لا تخلو منها سورة ... فهل یجوز فی عقل أو شرع أن یبرع المسلمون فی علم آیاته قلیلة. و یجهلوا علما آیاته كثیرة جدا؟ إن آباءنا برعوا فی الفقه فلنبرع نحن الآن فی علم الكائنات) «1».
و یقول فی موضع آخر:
(یا أمة الإسلام آیات معدودات فی الفرائض اجتذبت فرعا من علم الریاضیات. فما بالكم بسبعمائة آیة فیها عجائب الدنیا كلها ... لما ذا لا نفعل فی آیات العلوم الكونیة ما فعله آباؤنا فی آیات المیراث؟ .. إنك تقرأ فی هذا «التفسیر» خلاصات من العلوم، و دراستها أفضل من دراسة علم الفرائض، لأنه فرض كفایة، فأما هذه فانها للازدیاد فی معرفة اللّه، و هی فرض عین علی كل قادر .. إن هذه العلوم التی أدخلناها فی تفسیر القرآن هی التی أغفلها الجاهلون المغرورون من صغار الفقهاء فی الإسلام) «2».
4- كتابه یختلف عن الكتب الأخری التی خاضت فی موضوع التفسیر العلمی، فتلك عالجت الموضوع من خلال بحث فی آیة أو آیات، أو عرضت للموضوع عامة. أما الأستاذ طنطاوی فقد فسر القرآن من أوله إلی آخره، یوجز فی الأمور الشرعیة و یتوسع فی الأمور العلمیة. إنه یفسر الآیات تفسیرا لفظیا مختصرا .. ثم یدخل فی بحوث علمیة (لطائف) أو (جواهر)، و هذه البحوث تتضمن أقوال عدد كبیر من علماء الشرق و الغرب فی العصر الحدیث، و قد جاء بها المؤلف لیبین أن القرآن قد سبق إلی هذه البحوث، و نبه علی تلك العلوم، قبل أن یصل إلیها هؤلاء العلماء بقرون متطاولة. و نراه یضع فی تفسیره كثیرا من صور النباتات و الحیوانات
______________________________
(1) «تفسیر الجواهر» لطنطاوی جوهری. ج 25/ 53.
(2) «تفسیر الجواهر» لطنطاوی جوهری ج 3/ 19 و اننا لنأسف لهذه اللهجة التی لا تتفق و أخلاق العلماء الذین یعرفون لأسلافهم قدرهم و فضلهم. و كلامه لا یخلو من مغالطة و سطحیة واضحتین.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 306
و مناظر الطبیعة و تجارب العلوم. و الأمر الذی نستغربه أشد الاستغراب ان الرجل یتحدث فی غیر اختصاصه و لذلك فقد وقع فی أخطاء علمیة كبیرة و مضحكة.
5- یستشهد بنصوص لأناس متقدمین، مثل اخوان الصفا فی رسائلهم «1»، و أفلاطون فی جمهوریته، و قد یستشهد بما جاء فی الأناجیل و لا سیما إنجیل برنابا «2».
6- یستخرج كثیرا من الأمور و العلوم بواسطة حساب الجمل «3» و هذا أمر غریب، فكیف یستقیم للفكر العلمی أن یتوصل إلی بعض العلوم عن طریق جمع قیم الحروف.
7- یستنتج من الآیات استنتاجات غریبة جدا و لأضرب علی ذلك مثالا واحدا:
یقول فی تفسیر قوله تعالی الم: [الأسرار الكیمیائیة فی الحروف الهجائیة للأمم الاسلامیة فی أوائل السور القرآنیة] یقول فی هذا البحث:
(أنظر رعاك اللّه .. تأمل .. یقول اللّه: ا. ل. م. طس. حم و هكذا یقول لنا: أیها الناس إن الحروف الهجائیة إلیها تحلل الكلمات اللغویة، فما
______________________________
(1) و إخوان الصفا هؤلاء قوم من أئمة القرامطة- كما قرر ذلك ابن تیمیة فی «درء تعارض العقل و النقل» 5/ 10 و فی فتواه عن النصیریة ص 19 طبع دار الإفتاء فی الریاض- و رسائلهم احدی و خمسون رسالة، و فیها أساطیر و فساد، و إسفاف و إلحاد، و یثنی علیها مستشرقون و نصاری و مستعربون.
(2) انظر ما كتبه حول هذا الانجیل محمد أبو زهرة فی كتابه القیم «محاضرات فی النصرانیة» ص 56- 67 و قد طبع هذا الانجیل السید رشید رضا.
(3) حساب الجمل هو أن نأخذ مجموع قیم الحروف فیكون مجموعها مثلا موافقا لتاریخ معین.
و كثیرا ما یستعمل هذا الحساب فی ذكر ولادة بعض الناس أو وفاتهم. و طریقة حسابه كما یلی: یعطی الحرف الأول من الحروف الأبجدیة علی ترتیب (أبجد، هوز، حطی) قیمة 1 و الثانی قیمة 2 .. و هكذا حتی العشرة ثم تعطی الحروف الآتیة قیم 20، 30، 40 حتی المائة و تعطی الحروف الآتیة قیم 200، 300 و هكذا.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 307
من لغة فی الأرض إلا و أرجعها أهلها إلی حروفها الأصلیة .. و لا سبیل لتعلیم لغة و فهمها إلا بتحلیلها، و هذا هو القانون المسنون فی سائر العلوم و الفنون. و لا جرم ان العلوم قسمان: لغویة و غیر لغویة، فالعلوم اللغویة مقدمة فی التعلیم، لأنها وسیلة إلی معرفة الحقائق العلمیة من ریاضیة و طبیعیة و إلهیة، فإذا كانت العلوم التی هی آلة لغیرها، لا تعرف حقائقها إلا بتحلیلها إلی أصولها، فكیف إذن تكون العلوم المقصودة لنتائجها المادیة و المعنویة؟ فهی أولی بالتحلیل، و أجدر بإرجاعها إلی أصولها الأولیة. لا یعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، و لا الهندسة إلا بعد علم البسائط و المقدمات، و لا علوم الكیمیاء إلا بمعرفة العناصر، و تحلیل المركبات إلیها، فرجع الأمر إلی تحلیل العلوم) «1».
8- كان الرجل معجبا جدا بتفسیره، و لذلك فأنت تری له تعقیبات علی كلامه الذی یفسر به الآیات، و هذه التعقیبات مفعمة بالثناء علی نفسه یقول:
(بمثل هذا تفسّر هذه الآیات .. بمثل هذا فلیفهم المسلمون كتاب اللّه).
9- خدع المؤلف بباطل صانعی الروحیة الحدیثة التی تدّعی قدرتها علی تحضیر الأرواح. یقول الدكتور محمد حسین: (فأوسع تفسیره نقلا عن مزاعمهم و دعاواهم مما أدخل الضعف و الفساد علی كتابه ذاك فی كثیر من المواضع) «2».
______________________________
(1) «الجواهر» 2/ 10- 11.
(2) «حصوننا مهددة من داخلها» ص 309 ط 2 نشر مكتبة المنار بالكویت سنة 1388 ه (1968 م).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 308

الفصل الخامس المنحی الإصلاحیّ الاجتماعیّ فی التفسیر

اشارة

كان العالم الاسلامی فی القرون المتأخرة ینطوی علی كثیر من عوامل الضعف و التخلف، و كان الجهل بأحكام الاسلام و مفاهیمه من جهة، و استحكام العادات المحلیة من جهة أخری، من أبرز ما یمیز الوضع الاجتماعی و الفكری لهذا العالم.
و قد كان هذا الواقع سببا لقیام حركات اصلاحیة عدیدة، نجح بعضها نجاحا ترك أثرا كبیرا فی حیاة المسلمین مثل حركة الشیخ محمد بن عبد الوهاب التی استطاعت أن تسیطر علی جزیرة العرب، و علی بعض أطراف البلاد العربیة الأخری، و التی تركت أعمق الآثار الفكریة فی أذهان الناشئة المسلمة، من أقصی العالم إلی أقصاه، و یبدو أن هناك حركات أخری قامت فی العالم الاسلامی، و لم تلق من النجاح ما لقیته الحركة الوهابیة.
و من مشكلات العالم الاسلامی التی كانت تستدعی الحل موقفه من الحضارة الاوروبیة الغازیة، فلقد وقف بعض المسلمین من هذه الحضارة موقف المعجب المأخوذ بها، یسلم لها بكل شی‌ء، و یستسلم لإرادتها، یری ما تری، و ینكر ما تنكر، و قد أقبل أصحاب هذا الموقف علی الثقافة الأوروبیة، و تزودوا من علومها الشی‌ء الكثیر و حملوا فی الوقت نفسه مخازیها و مساوئها، بینما وقف أكثر المسلمین من الحضارة الأوربیة موقفا سلبیا، و دعوا الی تركها، و لم یقبلوا علی العلوم الحدیثة لصدورها عن أوروبا.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 309
و نستطیع ان نلخص واقع العالم الاسلامی فی القرون الأخیرة: الثانی عشر و الثالث عشر و الرابع عشر بما یأتی:
1- كانت العادات و التقالید القومیة و المحلیة لها قدسیة فی نفوس الجماهیر.
2- كما كانت البدع و الخرافات و بعض الطقوس الدخیلة تلبس ثوب الدین، و تخفی وراءه حقیقتها، و تحجب بمساوئها عظمة الاسلام و عدالته و رفعته.
3- و كان للعامة و الغوغاء سلطان كبیر، فلا یجرؤ أكثر العلماء علی مخالفتهم.
4- كان أكثر علماء المسلمین یقفون من حضارة الغرب موقفا سلبیا، لا یقتربون منها و لا یأخذون من علومها شیئا.
5- تقاسمت دول أوروبا العالم الاسلامیّ استعمارا و نفوذا. و كان فی جملة ما أعدت هذه الحضارة الغازیة مخططات و محاولات لتبعد المسلمین عن دینهم ... و من هذه المحاولات ما أعدته الدول المستعمرة لكثیر من بلاد المسلمین من مناهج التعلیم، و ما قدمته من أفكار و نظریات، كالشیوعیة و القومیة، و كنظریة داروین و نظریة فروید، و كالدعوة إلی الإلحاد «1» و كتشجیع الحركات الضالة المتسترة برداء من الدین مثل القادیانیة «2» و البهائیة و البابیة «3». و قد استغلت هذه الحركات المشبوهة المساوئ القائمة فی بلاد المسلمین و انطلقت صیحاتها تنادی بضرورة الإصلاح.
______________________________
(1) أنظر فصلا موجزا كتبه سید كیلانی عن الالحاد فی «ذیل الملل و النحل» ص 91 و هو ملحق لكتاب «الملل و النحل» للشهرستانی.
(2) أنظر «القادیانیة» لمحمد الخضر حسین و «ما هی القادیانیة» للمودودی و «القادیانی و القادیانیة» للندوی و «سب القادیانیین للاسلام» لتقی الدین الهلالی و «القادیانیة تاریخها و غایاتها» لمظاهری و نوار و ما كتبه محمد البهی فی «الفكر الاسلامی وصلته بالاستعمار» ص 27 و ما جاء فی «ذیل الملل و النحل» ص 56.
(3) أنظر «القادیانیة و البهائیة» لمحمد الخضر حسین و «حقیقة البابیة و البهائیة» لمحسن عبد
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 310
و كذلك فإن المستشرقین لعبوا دورا خطیرا فی تسمیم أفكار الناشئة، و دسّ السمّ فی الدسم.
هذا بینما كانت هذه الحضارة تنمو صعدا فی مجال الدراسات المعتمدة علی التجربة، و تقدّم للناس من ثمرات ذلك مخترعات هائلة، فی وسائل الترفیه و التدمیر علی حدّ سواء، فالمدافع و المطابع، و الطائرات الحربیة و الأدوات المنزلیة، و ما إلی ذلك، كانت تدخل بلاد المسلمین تاركة فی نفوسهم إعجابا بمن اخترعوها، و هم فی یوم عمیق و تخلف مذهل، و ضعف متناه.
و ما زال العالم الاسلامی یتطلع الی اتجاه سلیم یروم الاصلاح، حتی كان جمال الدین الافغانی الذی قام بحركة فكریة هامة، تصدع بصوت عامر بالایمان، معتز بالقرآن، یدعو الی معالجة الفساد الاجتماعی، و التأخر الفكری و الحضاری، و ذلك بالرجوع الی الاسلام الحق، و تحكیم نصوصه الثابتة من الكتاب و السنة. فكان من ذلك الاتجاه إلی إصلاح المجتمع من خلال تفسیر آیات القرآن. و قام عدد من العلماء بحمل هذه المهمة مهمة التفسیر الاصلاحی الاجتماعی سنذكر منهم الأفغانی و محمد عبده و السید محمد رشید رضا رحمهم اللّه جمیعا.

جمال الدین الأفغانی‌

اشارة

1254- 1315 ه 1839- 1897 م ولد جمال فی اسدآباد فی افغانستان سنة 1254 ه 1839 م و اسمه محمد بن صفدر، أما جمال الدین فلقبه «1». و قد طوّف فی أنحاء العالم
______________________________
الحمید و «دراسات عن البابیة و البهائیة» لكرد علی و محب الدین الخطیب و علی منصور و محمد فاضل.
(1) و ذلك علی عادة علماء القرون الماضیة حیث یتخذ كل منهم لقبا الی جانب اسمه، و من المتعارف علیه أن یكون اللقب مركبا اضافیا، الجزء الثانی فیه كلمة (الدین)، فابن تیمیة اسمه أحمد و لقبه تقی الدین، و السلطان صلاح الدین الایوبی اسمه یوسف.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 311
الاسلامی، یدعو الی الیقظة و الی إصلاح الواقع المؤلم الذی كان فیه المسلمون. و قد كان یطارد من قبل السلطات الاستعماریة، و یهاجم من قبل كثیر من الجامدین، و استطاع ان یصل الی مناصب عالیة، فی افغانستان و ایران و الدولة العلیة.
كان ینشر فی جریدة مصر بتوقیع مظهر بن وضاح، أو بتوقیع السید الحسینی، أو بتوقیع السید.
و أعظم مراحل حیاته أثرا المرحلة التی قضاها فی مصر، فقد قصد الیها سنة 1288 ه و تتلمذ علیه فیها عدد من الرجال، من أشهرهم الشیخ محمد عبده، الذی أفاد منه الشی‌ء الكثیر، و نفته الحكومة المصریة سنة 1296، فواصل جهاده خارج مصر، و التقی مع الشیخ محمد عبده فی باریس، حیث أصدرا جریدة العروة الوثقی.
كان یعرف العربیة و الفارسیة و الانجلیزیة و الروسیة.
و هناك مآخذ علی الرجل تنتقد علیه، و سنشیر إلیها فیما بعد.

جمال الدین و التفسیر الاصلاحی:

إن وجوه شبه قامت بین جمال الدین و بین المصلحین الذین تقدموه، و ذلك فی أساس الدعوة التی یبنی الرجل حركته علیها، و هو الرجوع الی الدین.
غیر ان الاختلاف بینه و بین اولئك المصلحین هو أن الرجل لم یكن واقفا فقط علی تخلف المسلمین، و انما كان فوق هذا كله مطلعا علی حیاة الغرب، و واقع أوروبا المتقدم بالنسبة الی واقع المسلمین، و یبدو أن الفرق بین المستویین كان مذهلا: رأی عند القوم واقعا إیجابیا خالیا من كثیر من عیوب المسلمین، رأی تحررا من الخرافات الباطلة، التی سیطرت علی كثیر منهم، و تكاد تكون معرفته فی دقتها بالغة الأوج، فهو قد زار بلاد
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 312
المسلمین (الهند- الحجاز- ایران- العراق- تركیا ...) و زار أیضا مدن اوروبا (لندن- باریس- میونیخ- بطرس برغ ...).
لقد كان واقع بلاد الغرب ذا أثر كبیر فی نفس جمال الدین من ناحیتین:
1- الناحیة الأولی: تتصل بالتقدم الحضاری و المادی الذی أحرزته أوروبا، و هو یری أن الأسس التی اعتمدتها حتی اوصلتها الی هذه النتیجة أسس ینادی بها الاسلام و یرتضیها.
2- و الناحیة الثانیة: تتصل باستعمار أوروبا لبلاد المسلمین، فلقد كان ذلك عاملا دفعه الی الدعوة الی النهوض و التحرر من التبعیة، و كان یأتی بأمثلة تلهب شعور الناس.
و قد تعرض الأفغانی فی مجلة العروة الوثقی الی تفسیر آیات من القرآن اختارها، فقد كتب سبع عشرة مقالة (من خمس و عشرین) فی تفسیر سبع عشرة آیة من القرآن.
مثل: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا «1».
وَ أَطِیعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا «2».
یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا یَأْلُونَكُمْ خَبالًا «3».
یقول جمال الدین:
ان القرآن حی لا یموت، و من أصابه نصیب من حمده فهو محمود، و من
______________________________
(1) سورة آل عمران: 103.
(2) سورة الانفال: 46.
(3) سورة آل عمران: 118.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 313
أصیب من مقته فهو ممقوت، كتاب اللّه لم ینسخ، فارجعوا الیه، و حكموه فی أموالكم و طباعكم، و ما اللّه بغافل عما تعملون.
إن حركتنا الدینیة بالدعوة الی القرآن كنایة عن الاهتمام بقلع ما رسخ فی عقول العوام و معظم الخواص من فهم بعض العقائد الدینیة و النصوص الشرعیة علی غیر وجهها، مثل حملهم نصوص القضاء و القدر علی معنی یوجب علیهم ان لا یتحركوا الی طلب مجد أو تخلص من ذل.
... القرآن وحده هو سبب الهدایة، و العمدة فی الدعایة، و ما تراكم علیه و تجمع حوله من آراء الرجال و استنباطاتهم و نظریاتهم، فینبغی أن لا یعول علیه كوحی، و إنما نستأنس به كرأی ... و لا نحمله علی أكفنا مع القرآن فی الدعوة الیه، و ارشاد الامم الی تعالیمه ... و تفسیره و إضاعة الوقت فی عرضه «1».
یقول الدكتور البهی:
(فی سبیل مواجهة هذا الاستعمار طالب جمال الدین بمقاومته، و لأجل هذه المقاومة عمل علی إیقاظ روح التضامن الاسلامی عن طریق: طلب التمسك بالقرآن، و الغاء العصبیة المذهبیة، و طرح التقلید، و إعمال الاجتهاد فی فهم القرآن، و الملاءمة بین مبادئه و ظروف الحیاة التی یعیش فیها المسلمون، و طرح الخرافات و البدع التی غیرت من جوهر الاسلام، و التی جعلته وسیلة سلبیة فی الحیاة بدلا من كونه حقیقة واضحة، و قوة ایجابیة فی السیطرة علی الحیاة و توجیهها) «2».
______________________________
(1) «الفكر الاسلامی الحدیث» ص 83/ 84.
(2) «الفكر الاسلامی الحدیث» ص 88.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 314

الشیخ محمد عبده‌

اشارة

1266- 1323 ه 1849- 1905 م كانت أعظم ثمرة تركها الافغانی شخصیة محمد عبده، الذی اتجه الی المنحی الاصلاحی فی تفسیر القرآن، و محمد عبده قمة من قمم رجالاتنا فی العصر الحاضر، كان له أكبر التأثیر فی مجال السیاسیة و الدین و المجتمع و الفكر.
ولد محمد عبده فی شنرا، و هی قریة من قری مدیریة الغربیة، من القطر المصری، سنة 1266 ه و اسمه الكامل محمد عبده بن حسن خیر اللّه، و تلقی علومه فی الجامع الاحمدی، و فی الازهر، ثم اتیحت له فرصة لقاء الشیخ الافغانی، فتأثر به أكبر التأثر كما أسلفنا، و قد عمل مدرسا فی الازهر و دار العلوم و مدرسة الالسن، و اشتغل فی الصحافة، حیث كان یذیع آراءه الاصلاحیة، و نفی من مصر بعد اخفاق الثورة العرابیة سنة 1299 ه، فأقام فی بیروت، ثم ذهب الی باریس، لیصدر مع شیخه الافغانی جریدة «العروة الوثقی» التی عطلت بأمر من الحكومة الفرنسیة، بعد أن صدر منها (18) عددا. و لما عاد الی مصر سنة 1306 ه تولی منصب القضاء، ثم جعل مستشارا فی محكمة الاستئناف، ثم شغل منصب مفتی الدیار المصریة سنة 1317 ه، و بقی فیه الی آخر حیاته، و توفی بالسرطان سنة 1323 ه/ 1905 م.
كان الشیخ محمد عبده رحمه اللّه یستلهم هدی القرآن، لارشاد المسلمین، و اصلاحهم فی جوانب حیاتهم كلها، و كان من ذلك ما عرف بالتفسیر الاصلاحی الاجتماعی.
و یتبین لنا من دراسة حیاة محمد عبده، انه كان ملما بالأوضاع الاجتماعیة العامة، و الاتجاهات الفكریة المختلفة، و مشاركا فی العلوم الأساسیة، التی
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 315
تقوم علیها الحضارة الحدیثة، و مدركا لحقیقة خصوم الاسلام و مخططاتهم.
و هكذا فقد كان محمد عبده أقدر رجال عصره علی تصویر الداء، و التفتیش عن الدواء الناجع فی آیات القرآن و أحكامه.
و استطاع ان یترك مدرسة فی التفسیر ذات مكانة و تأثیر، كان من أهم رجالها السید رشید رضا، و الشیخ محمد مصطفی المراغی، و الشیخ أحمد مصطفی المراغی.
كان الشیخ محمد عبده من الناحیة الفكریة یدعو الی أمرین:
1- تحریر الفكر من قید التقلید و كان یدعو الی استئناف الاجتهاد و فهم الدین علی طریقة سلف الأمة و الرجوع الی الینابیع الأولی.
2- اصلاح اللغة العربیة.
و كان من الناحیة السیاسیة یركز جهوده فی أمرین:
1- كان یدعو الأمة الی معرفة حقها علی حاكمها و أن علیها النصح للحاكم.
2- و كان یدعو الأمة الی مقاومة الاستعمار و معارضة النفوذ الأجنبی فی العالم الاسلامی.
و قد انصرف الرجل الی الجانب العلمی و الدینی و الفكری، و ان لذلك دوره فی أیة محاولة من محاولات الاصلاح لأن الفكر الذی یمد الحركة هو بمثابة الروح.
و قد تأثر محمد عبده باللون الثقافی الذی تلقاه فی الازهر.
و باللون الروحی الذی تلقاه عن الشیخ درویش خضر الذی كان متصلا بالحركة السنوسیة. و باللون السیاسی الذی تلقاه عن جمال الدین الافغانی و كانت دعوته الاصلاحیة نامیة متعددة الجوانب:
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 316
دعا الی اصلاح التعلیم و الأزهر. و الی نبذ الفرقة و إلی الاجتماع و ترك التعصب المذهبی و ترك البدع و بناء الحیاة علی أساس الاسلام. و دعا الی قیام الأمة بالنصح للحاكم و الی أن تعمل علی التحرر من سلطان الاستعمار الغربی.
دعا الی أن یحیی الحاكم الشوری و الی الأخذ بوسائل القوة التی تتبناها الدول الحدیثة و تقویة الروح الجماعیة.
یقول الشیخ محمد عبده:
أ لم یأن لنا أن نرجع الی المعروف مما كان علیه سلفنا فنحیا بما كان قد أحیاهم، و نترك ما ابتدعه اخلافهم مما اماتهم و اماتنا معهم «1».
و یقول أیضا:
فالقرآن سر نجاح المسلمین و لا حیلة فی تلافی امرهم إلا إرجاعهم إلیه، و ما لم تقرع صیحته اعماق قلوبهم، و تزلزل هزته رواسی طباعهم، فالأمل مقطوع من هبوبهم من نومهم. و لا بد أن یؤخذ القرآن من أقرب وجوهه علی ما ترشد الیه أسالیب اللغة العربیة لیستجاب لدعوته كما استجاب لها رعاة الغنم و ساقة الابل ممن نزل القرآن بلغتهم، و القرآن قریب لطالبه متی كان عارفا باللغة العربیة و مذاهب العرب فی الكلام و تاریخهم و عوائدهم أیام الوحی «2».

آثاره فی التفسیر:

1- تفسیر جزء عمّ.
______________________________
(1) «تاریخ الامام» 2/ 411 نقلا عن كتاب «الفكر الاسلامی وصلته بالاستعمار» للدكتور البهی ص 146.
(2) «تاریخ الامام» 2/ 515 نقلا عن كتاب «الفكر الاسلامی وصلته بالاستعمار» للدكتور البهی ص 146- 147.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 317
2- تفسیر سورة العصر: القاه علی علماء مدینة الجزائر و وجهائها سنة 1321 ه.
3- بحوث تفسیریة كان ینشرها هنا و هناك.
4- تفسیر المنار: من أوله الی الآیة 126 من سورة النساء، و هذا الاخیر مصوغ باسلوب السید رشید رضا، الذی كان یحضر الدروس، ثم یكتبها بلغته و یدفعها الی المطبعة و یطلع علیها الاستاذ الامام بعد جمع الحروف و قبل الطبع «1».

طریقته فی التفسیر:

1- كان یلح فی تفسیره علی ان القرآن الكریم كتاب هدایة، یرشد الناس الی ما فیه سعادتهم، و انتظام أمورهم فی الدنیا، و الی ما فیه فوزهم و نجاتهم فی الآخرة، فعلی الذین یریدون ان یفسروا القرآن أن یولوا هذا الجانب العنایة الكبری، لأنه هو المهم، و كل ما عداه من مثل علوم الآلة «2» و سواها فینبغی ان یكون تابعا له و وسیلة.
و من أجل ذلك فقد كان یشن حملة عنیفة علی أولئك المفسرین، الذین یغرقون فی بحوث نحویة و بلاغیة و فقهیة و منطقیة، و لا یلتفتون الی المقصد الأهم فی القرآن.
و كان یری أن یقتصر فی تلك البحوث علی المهم فقط.
2- كان یقرر ان المنهج السلیم فی التفسیر أن نجع القرآن مصدرا لعقائدنا و مذاهبنا لا ان تكون عقائدنا و مذاهبنا متحكمة فی القرآن، و تفصیل هذه الخاصة یتضح من النظر فی كتب التفسیر التی ألفتها الفرق
______________________________
(1) مقدمة «تفسیر المنار» 1/ 15.
(2) علوم الآلة تطلق علی عدد من العلوم المساعدة فی تقویم اللسان و تنظم الفكر كالنحو و الصرف و البلاغة و المنطق و ما الی ذلك.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 318
المتعددة ففی هذه الكتب نجد كل فرقة تجر آیات القرآن الی ما یؤید عقائدها و مذاهبها.
3- و كان یصدر فی تفسیره عن تحرر من المذاهب، و یهاجم التقلید، و یدعو الی تحطیم فكرة اغلاق باب الاجتهاد، و یكثر من الكلام حول هاتین النقطتین.
4- كان یتوسع فیما أغفله المفسرون، أو قصروا فیه، و یختصر فیما توسعوا فیه من مباحث النحو و الاعراب و البلاغة.
أما موقفه من كتب التفسیر المتقدمة، فمما لا شك فیه ان الرجل قد درس هذه الكتب و وعی معظمها، و انتفع بها انتفاعا كبیرا، و لكنه قبل القاء درسه لم یكن یقرأ فی شی‌ء منها، حتی لا یتأثر، و ان كان تلمیذه السید رشید رضا یقول: انه كان یتوكأ علی عبارة الجلالین «1».
5- كان یقف من الاسرائیلیات موقف الناقد لا یرتضی أن یأخذها و یوردها فی التفسیر.
6- و كذلك فإن الاحادیث الضعیفة و الموضوعة، قلما كانت ترد فی تفسیره، علی أن الرجل لم یكن فی علم الحدیث بدرجة تلمیذه السید رشید رضا «2».
7- و كان للحریة العقلیة شأن كبیر عنده، حتی أنه لیبیح لنفسه ان یرد قولا اجتمع علیه جمهور العلماء. و یبدو انه كان یسرف فی تقدیر العقل، و یعطیه من القیمة فوق ما یستحق، و یحمله أكثر مما یطیق.
8- لم یخض فی تفسیره فی تعیین ما أبهمه القرآن، و كان یسلم بالأمور
______________________________
(1) «تفسیر المنار» 1/ 15.
(2) أنظر «السنة و مكانتها فی التشریع» ط 2 ص 30.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 319
الغیبیة، و لا یتحدث عنها الا بمقدار ما توحی به النصوص الشرعیة الصحیحة.
هذا أصل من أصوله یدركها دارس آثاره فی التفسیر، علی انه كان یخالف هذا الأصل فی حالات نادرة، تحت تأثیر الناحیة العقلیة علیه «1».
و لم یكن یرضی التفسیر الاشاری الذی تعتمده الباطنیة و الصوفیة، و الذی اعتمدت علیه مدرسة التفسیر العلمی كما رأیت.
9- نهج فی تفسیره منهجا أدبیا اجتماعیا، فكان یكشف عن بلاغة القرآن بأسلوب مشرق جذاب، و یعالج مشاكل المسلمین بما یرشد إلیه القرآن، و یتعرض الی سنن اللّه الكونیة فیبینها، و یبین أن القرآن متمش مع هذه السنن لا یصادمها، لانها من مستلزمات الفطرة.
10- فی تفسیره استجلاء لحكم التشریع العدیدة، التی كانت مقصودة من الاحكام الواردة فی آیات القرآن، كما كان فی تفسیره ردود علی الملحدین من الاوروبیین، و ردود علی الجامدین من المتدینین.

كلمة فی الضجة حول محمد عبده و جمال الدین:

أما هذه الضجة القائمة الآن حول اتهامات توجه للسید جمال الدین و تلمیذه الامام الشیخ محمد عبده فان رأینا فیها كما یلی:
1- لیس هناك أحد معصوم، فلا ننفی عنهما الاغلاط، بل ان لدیهما عددا من الآراء و الاجتهادات لا نقرهما علیها، و ما أكثر الهفوات التی یقع فیها الزعماء و العلماء فی كل عصر.
2- كثیر من النقاد الذین یثیرون هذه الضجة یغفلون الزمن و الظروف
______________________________
(1) أنظر ردّ محمد الصادق عرجون علی الشیخ محمد عبده فی صدد تفسیره لسورة الفیل ص 32- 36 من كتابه «نحو منهج لتفسیر القرآن» و رده علیه فی تفسیره للملائكة و الشیاطین ص 37- 39.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 320
الاجتماعیة و السیاسیة التی كانت تحیط بالمسلمین، فالحضارة الاوروبیة التی بهرتهما لم تكن بعد قد ظهرت علی حقیقتها، و لم یسبق أن احتك المسلمون بها كما حصل فیما بعد، و لم تكن الحضارة الاوروبیة قد انقسمت علی نفسها هذا الانقسام الذی نشهده الآن، و الذی نری من خلاله المعایب و النقائص التی تنطوی علیها حضارة اوروبا. كل معسكر یكشف عن عوار المعسكر المقابل.
3- یبالغ بعض هؤلاء النقاد فی ذكر هذه العیوب، و یعتمدون علی حجج واهیة، و قد یذهبون فی تحمیل بعض الالفاظ ما لا یحتمل.
4- یغفلون النواحی الخیّرة الطیبة فی الرجلین «1» و یبدون معایبهما، و یقلبون محاسنهما الی مساوئ و هذا ظلم مبین.

السید محمد رشید رضا

اشارة

1282- 1354 ه 1865- 1935 م لا بد من أن نخص السید محمد رشید رضا بكلمة، لأن «تفسیر المنار» ینسب إلیه أكثر مما ینسب للشیخ محمد عبده، و لأنه من أبلغ تلامذة الشیخ محمد عبده، و من أوسعهم نشرا لعلمه و آرائه. ولد السید محمد رشید بن علی رضا فی القلمون، و هی قریة بجانب طرابلس الشام سنة 1282 ه/ 1865 م.
و تلقی علومه الأولیة فی بلاد الشام، ثم رحل الی مصر سنة 1315 ه، و اتصل بالشیخ محمد عبده، و أصدر مجلة المنار التی كتب فیها تفسیر المنار، و توفی فجأة فی مصر سنة 1354 ه/ 1935 م.
______________________________
(1) انظر ما ذكره الندوی عن النواحی الطیبة فیهما، و ذلك فی كتابه «موقف العالم الاسلامی تجاه الحضارة الغربیة» ص 72 الی 75 و السباعی فی «السنة و مكانتها» ص 30 و محمد بهجة الأثری فی «الاتجاهات الحدیثة فی الاسلام» من 27 إلی 36.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 321

مقدار تفسیر السید محمد رشید رضا:

إنّ مقدار ما تركه السید محمد رشید رضا من التفسیر كبیر، و إن كان لم یتم تفسیر القرآن كله، فقد فسر من أول القرآن إلی ما یقرب من آخر سورة یوسف، ای أكثر من ثلاثة عشر جزءا من القرآن، و قد استغرق هذا القدر (12) مجلدا كبیرا، و ینتهی الجزء الثانی عشر عند الآیة (53) من سورة یوسف.
و لم یبق من سورة یوسف إلا (10) آیات فقط، قام باكمال تفسیرها بعد وفاته استاذنا الشیخ محمد بهجة البیطار، و طبع تفسیر سورة یوسف مستقلا فی جزء یحمل اسم السید محمد رشید رضا.
و فسر أیضا من السور القصیرة السور الآتیة: الكوثر، و الكافرون، و الاخلاص، و المعوذتین.
و من المتوقع أنه لو كان قد تفرّغ لتفسیر القرآن لأتّمه، و لكنه كان یربط التفسیری بالمجلة.

ملاحظات حول «تفسیر المنار»:

1- القسم الأول من تفسیره لیس له فیه إلا الصیاغة، أما الافكار و المعانی فللاستاذ الامام. و قد استقل الشیخ رشید بكتابة التفسیر منذ الآیة 126 من سورة النساء حتی أواخر سورة یوسف حیث توفاه اللّه.
2- كان یعنی بتفسیر القرآن بالقرآن، ان وجد، و تفسیر القرآن بالسنة، و اطلاع السید رشید علی السنة اطلاع جید یفوق اطلاع شیخه كثیرا.
قال أستاذنا السباعی: [.. و لكنه منذ استلم لواء الاصلاح بعد وفاة الامام محمد عبده و أخذ یخوض غمار المیادین الفقهیة و الحدیثیة و غیرهما
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 322
و أصبح مرجع المسلمین فی أنحاء العالم فی كل ما یعرض لهم من مشكلات كثرت بضاعته من الحدیث، و خبرته بعلومه حتی غدا آخر الأمر حامل لواء السنة و ابرز اعلامها بمصر خاصة] «1».
ثم بعد ذلك یستعمل عقله الذی كان متحررا تحررا تاما من كل ما قاله المفسرون. و قد حدّث الاستاذ عبد الرحمن عاصم و هو ابن أخی السید رشید رضا أنه لم یكن یقرأ فی التفاسیر إلا بعد ان ینتهی من كتابة ما فهمه من الآیة.
3- و هدفه من التفسیر هو ان یعرض ما جاء فی كتاب اللّه، مما فیه إرشاد للناس إلی ما فیه سعادتهم فی حیاتهم الدنیویة و الأخرویة.
4- یتبع فی تفسیره المنهج الذی تحدثنا عنه فی تفسیر الشیخ محمد عبده استاذه، و لكنه بعد وفاة شیخه و استقلاله بالعمل خالف هذا المنهج.
(بالتوسع فیما یتعلق بالآیة من السنة الصحیحة، سواء كان تفسیرا لها أو فی حكمها، و فی تحقیق بعض المفردات أو الجمل اللغویة، و المسائل الخلافیة بین العلماء، و فی الإكثار من شواهد الآیات فی السور المختلفة، و فی بعض الاستطرادات لتحقیق مسائل تشتد حاجة المسلمین إلیها، بما یثبتهم بهدایة دینهم فی هذا العصر، أو یقوی حجتهم علی خصومهم من الكفار و المبتدعة، أو یحل بعض المشكلات التی أعیا حلها) «2».
5- كان له استقصاء عجیب ببدع المسلمین التی صرفتهم عن السنة و قعدت بهم عن سبیل المجد.
و كان كثیر الرد علی المفسرین، و قد یكون فی رده كثیر من العنف.
و كان یتولی الرد علی كثیر من الآراء المنحرفة التی تتصدی للاسلام. و مما یؤخذ علی الرجل فی تفسیره هذا:
______________________________
(1) «السنة و مكانتها» ط 2 ص 30.
(2) «تفسیر المنار» 1/ 16.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 323
الاعتداد الزائد بعلمه الذی یجاوز الحد. و مخالفته العلماء فی عدد من القضایا. و نقله من الانجیل علی الرغم مما یعرف عنه من انكار روایة الاسرائیلیات، و مهاجمته المفسرین الذین یتساهلون فی هذا الموضوع بعنف شدید.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 324

الفصل السّادس اتجاهات أخری‌

ذكرنا فی الفصول السابقة أهم اتجاهات التفسیر، و هناك اتجاهات أخری سنكتفی بالإشارة الموجزة الیها، و یمكن للراغب فی التوسع أن یقف علی تفصیل القول فیها فی الكتب الخاصة فی مدارس التفسیر.
1- التفسیر الموضوعی: و هذا اللون من التفسیر یتناول موضوعا واحدا فی القرآن، یعمد المفسر فیه إلی ذكر الآیات المتعلقة بهذا الموضوع، و یشرحها و یفصل القول فیها، ككتب أحكام القرآن التی جمع مؤلفوها الآیات المتصلة بالاحكام، و هی عدیدة أهمها للجصاص و لابن العربی.
و ككتب «مجاز القرآن» و هی عدیدة أهمها للشریف الرضی و العز بن عبد السلام.
و ككتاب «التبیان فی أقسام القرآن» لابن القیم.
و ككتاب «الإنسان فی القرآن» لعباس محمود العقاد.
ب- التفسیر الاشاری: و هو التفسیر الذی یعتمد الاشارة و یستنبط من الكلمة أو الجملة استنباطات كثیرة، و قد برع فیه المتصوفة.
ج- التفسیر الفقهی: و هو التفسیر الذی یولی موضوع الأحكام الفقهیة
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 325
عنایة خاصة، و یمكن ان نعدّ كتاب القرطبی «1» و كتاب الخطیب الشربینی من الأمثلة علیه.
د- أنواع أخر كالتفسیر الفلسفی و تفاسیر الفرق الضالة و ما الی ذلك.
______________________________
(1) و كتابه هو «الجامع لأحكام القرآن» و أنظر دراسة محمد أدیب صالح لهذا الكتاب و طریقته فی التفسیر فی كتابه «من الجامع الأحكام القرآن».
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 326

خاتمة

عرضنا فی الصفحات السابقة لمحات موجزة فی القرآن، و كتابته، و تدوینه، و اعجازه، و علومه، و فی اتجاهات المفسرین المختلفة. و أرجو أن أكون بهذه اللمحات قد أوضحت المعالم و أعنت الراغب فی التوسع علی العودة الی المصادر و الأمهات، و أرجو أن تكون هذه الدراسة سبیلا یدفعنا للعمل بالقرآن، و لتحكیمه فی حیاتنا، حتی نحوز السعادة الدنیویة و الفوز یوم القیامة.
و نسأل اللّه العلی القدیر أن یجعلنا من أهل القرآن رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَیْتَنا، وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِینا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَی الْقَوْمِ الْكافِرِینَ.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 327

مراجع الكتاب‌

الاتجاهات الحدیثة فی الاسلام- محمد بهجة الأثری- المطبعة السلفیة بمصر دون تاریخ.
- إتحاف فضلاء البشر فی القراءات الأربعة عشر- محمد بن أحمد الدمیاطی- المطبعة العامرة بمصر سنة 1285 ه.
- الإتقان فی علوم القرآن- عبد الرحمن السیوطی- مطبعة مصطفی البابی الحلبی سنة 1370 ه (1951 م).
- الإجابة لإیراد ما استدركته عائشة علی الصحابة- بدر الدین الزركشی- تحقیق سعید الأفغانی- المكتب الاسلامی- بیروت سنة 1390 ه (1970 م).
- الإحكام فی أصول الأحكام- علی بن محمد الآمدی- تعلیق عبد الرزاق عفیفی- المكتب الاسلامی بیروت سنة 1402 ه.
- إحیاء علوم الدین- الإمام أبو حامد الغزالی- مطبعة مصطفی البابی الحلبی سنة 1358 ه (1939 م).
الأدلة العلمیة علی جواز ترجمة معانی القرآن إلی اللغات الأجنبیة- محمد فرید و جدی- مطبعة الرغائب بمصر سنة 1936 م.
- الأركان الأربعة- أبو الحسن الندوی- مطابع معتوق إخوان بیروت سنة 1388 (1968).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 328
- أساس البلاغة- محمود بن عمر الزمخشری- مطبعة أولاد أورفاند بمصر سنة 1372 ه (1953 م).
- الاستیعاب فی أسماء الأصحاب- ابن عبد البر- مطبوع أسفل «الاصابة» مطبعة مصطفی محمد بمصر سنة 1358 ه (1959 م).
- أسرار البلاغة- عبد القاهر الجرجانی- تعلیق محمد رشید رضا- القاهرة سنة 1379 (1959 م).
- الأسرار المرفوعة فی الأخبار الموضوعة- ملا علی القاری- تحقیق محمد الصباغ- مطبعة دار القلم ببیروت سنة 1391 ه (1971 م).
- الأسس الأخلاقیة- أبو الأعلی المودودی- ترجمة محمد عاصم حداد- مكتبة الشباب المسلم- دمشق سنة 1371 ه.
- أسس الاقتصاد فی الاسلام و النظم المعاصرة- أبو الأعلی المودودی- ترجمة محمد عاصم الحداد- مكتبة الشباب المسلم- دمشق سنة 1960 م.
- الاسلام فی عصر العلم- محمد أحمد الغمراوی- إعداد الكردانی- دار الكتب الحدیثة بمصر سنة 1978 م.
- الاسلام و الطب الحدیث- عبد العزیز إسماعیل- الشركة العربیة للطباعة و النشر- مصر سنة 1959.
- الاسلام یتحدّی- وحید الدین خان- ترجمة ظفر الاسلام خان- بیروت- دار البحوث العلمیة سنة 1970 م.
- الإصابة فی تمییز الصحابة- أحمد بن علی بن حجر العسقلانی- مطبعة مصطفی محمد بمصر سنة 1358 ه (1939 م).
- أصول الفقه- محمد أبو زهرة- مطبعة مخیمر- القاهرة سنة 1957 م.
- أصول الفقه- محمد الخضری- مطبعة السعادة بمصر- الطبعة الخامسة سنة 1385 ه (1965 م).
- أضواء البیان فی إیضاح القرآن بالقرآن- محمد الأمین الشنقیطی- مطبعة المدنی بمصر سنة 1386 ه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 329
- اعتقاد الإمام المنبل، أبی عبد اللّه أحمد بن حنبل- عبد الواحد بن عبد العزیز بن الحارث التمیمی- تحقیق حامد الفقی- مطبوع فی نهایة الجزء الثانی من «طبقات الحنابلة» لأبی یعلی مطبعة السنة المحمدیة بمصر- دون تاریخ.
- إعجاز القرآن- أبو بكر محمد بن الطیب الباقلانی- تحقیق سید أحمد للصقر- دار المعارف بمصر سنة 1964 م.
- إعجاز القرآن- مصطفی صادق الرافعی- نشر المكتبة التجاریة الكبری- طبع مطبعة الاستقامة بمصر سنة 1384 ه.
- إعراب ثلاثین سورة من القرآن- ابن خالویه الحسین بن أحمد- مطبعة دار الكتب المصریة القاهرة سنة 1360 ه (1941 م).
- إعراب القرآن- الزجاج- تحقیق إبراهیم الأبیاری- المؤسسة المصریة العامة سنة 1963 م.
- الأعلام- خیر الدین الزركلی- مطبعة كوستاتسوماس بمصر- الطبعة الثانیة سنة 1973 (1954).
- اعلام الموقعین- ابن القیم- مكتبة الكلیات الأزهریة سنة 1968 م.
- اقتضاء الصراط المستقیم- ابن تیمیة- تحقیق محمد حامد الفقی- الطبعة الثانیة مطبعة السنة المحمدیة بمصر سنة 1369 ه (1950 م).
- أقسام القرآن- ابن القیم- المطبعة المیریة- مكة المكرمة سنة 1321 ه.
- الإكلیل فی المتشابه و التأویل- ابن تیمیة- المطبعة السلفیة فی القاهرة سنة 1394 ه.
- إمتاع الأسماع- المقریزی- تحقیق محمود محمد شاكر- جنة القرآن و الترجمة و النشر بمصر سنة 1941 م.
- إملاء ما منّ به الرحمن، من وجوه الإعراب و القراءات فی جمیع القرآن- العكبری- المطبعة العامرة- القاهرة سنة 1303 ه.
- الانتصاف- ابن المنبر- مطبوع علی هامش الكشاف- مصطفی البابی الحلبی- مصر سنة 1948 م.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 330
- الباعث الحثیث- أحمد محمد شاكر- مطبعة محمد علی صبیح بمصر- الطبعة الثالثة سنة 1377 ه.
- الباعث علی الخلاص من حوادث القصاص- الحافظ العراقی- تحقیق محمد الصباغ- نشر فی مجلة «أضواء الشریعة» فی الریاض سنة 1393 ه.
- بحث فی ترجمة القرآن و أحكامها- المراغی- نشر صلاح المنجد بیروت سنة 1401 ه (1981 م).
- البحر المحیط- أبو حیان النحوی- طبع مصر- و أعید تصویره بالأوفست فی بیروت.
- بدائع الفوائد- ابن القیم- طبعة مصورة من الطبعة المنیریة بمصر- صورتها دار الكتاب العربی بیروت دون تاریخ.
- البدایة و النهایة- ابن كثیر- مطبعة السعادة بمصر سنة 1351 ه.
- البدر الطالع- الشوكانی- مطبعة السعادة بمصر سنة 1348 ه.
- البرهان فی أصول الفقه- الجوینی إمام الحرمین- تحقیق عبد العظیم الدیب- طبع قطر سنة 1399 ه.
- البرهان علی سلامة القرآن من الزیادة و النقصان- سعدی یاسین- المكتب الاسلامی بیروت سنة 1395 ه.
- البرهان فی علوم القرآن- الزركشی- تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم- مطبعة إبراهیم عیسی البابی الحلبی بمصر- الطبعة الثانیة سنة 1391 ه (1972 م).
- البرهان القاطع فی إثبات الصانع- محمد بن إبراهیم الوزیر- المطبعة السلفیة بمصر سنة 1349.
- بغیة الوعاة- السیوطی- مطبعة السعادة بمصر سنة 1326 ه.
- بیان إعجاز القرآن- الخطّابی- تحقیق محمد خلف اللّه و محمد زغلول سلام (مطبوع تحت عنوان ثلاث رسائل ...).
- بیان زغل العلم- الذهبی- نشر القدسی- مطبعة التوفیق بدمشق سنة 1347 ه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 331
- بین الأمس و الیوم- حسن البنّا- دار الكتاب العربی بمصر- دون تاریخ.
- بین الدین و العلم- عبد الرزاق نوفل- مكتبة وهبة بمصر- دون تاریخ- بین الدین و العلم- محمد أحمد الغمراوی- المكتب الفنی للنشر بمصر سنة 1959.
- تاج العروس فی شرح القاموس- محمد مرتضی الزبیدی- المطبعة الخیریة بمصر سنة 1306 ه.
- التاج المكلل، من جواهر مآثر الطراز الأول- صدیق حسن خان- المطبعة الهندیة العربیة- بمبای سنة 1382 ه (1963 م).
- تاریخ ابن الوردی- (المسمّی: تتمة المختصر فی أخبار البشر) المطبعة الوهبیة بمصر سنة 1285 ه.
- تاریخ الأدب العربی- بروكلمان- الترجمة العربیة- در المعارف بمصر سنة 1959 م و الأجزاء الأخری.
- تاریخ الأدب العربی- بروكلمان- الطبعة الألمانیة لیدن سنة 1949 م.
- تاریخ الأستاذ الإمام- محمد رشید رضا- مطبعة المنار بمصر سنة 1344 ه- سنة 1367.
- تاریخ بغداد- الخطیب البغدادی- مطبعة السعادة بمصر سنة 1931 م.
- تاریخ التراث العربی- فؤاد سزكین- ترجمة فهمی أبو الفضل- المطبعة الثقافیة بمصر سنة 1971 م.
- تاریخ التشریع الاسلامی- محمد الخضری- المكتبة التجاری الكبری مطبعة الاستقامة- الطبعة السابعة سنة 1385 ه.
- تاریخ الجهمیة و المعتزلة- جمال الدین القاسمی- مؤسسة الرسالة ببیروت سنة 1401 (1981).
- تاریخ الخلفاء- السیوطی- تحقیق محمد محیی الدین عبد الحمید- مطبعة الفجالة الجدیدة سنة 1389 ه (199 م).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 332
- تاریخ دمشق- ابن عساكر ظهرت بعض أجزاء مصورة من المخطوطة و انظر (تهذیب تاریخ دمشق).
- تاریخ الطبری- محمد بن جریر- تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم- دار المعارف بمصر دون تاریخ.
- تاریخ القرآن- إبراهیم الأبیاری- دار الكتاب اللبنانی بیروت سنة 1982.
- تاریخ القرآن و غرائب رسمه و حكمه- محمد طاهر الكردی- مطبعة الفتح بجدّة سنة 1365 ه (1946 م).
- تأویل مختلف الحدیث- ابن قتیبة- تصحیح محمد زهری النجار- مكتبة الكلیات الأزهریة بمصر سنة 1386 ه.
- تأویل مشكل القرآن- ابن قتیبة- تحقیق سید صقر- دار إحیاء الكتب العربیة بمصر سنة 1954 م.
- التبیان فی آداب حملة القرآن- النووی- مصطفی البابی الحلبی بمصر سنة 1934 م.
- التبیان فی إعراب القرآن للعكبری- (انظر: إملاء ما من به الرحمن)- التبیان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن- طاهر الجزائری- مطبعة المنار بمصر سنة 1334 ه.
- تحفة الأحوذی- المباركفوری- طبع الهند سنة 1343.
- تحقیق النصوص و نشرها- عبد السلام هارون- مؤسسة الحلبی بمصر سنة 1965 م.
- التدمریة لابن تیمیة (انظر: الرسالة التدمریة).
- تذكرة الحفاظ- الذهبی- مصورة بالأوفست فی بیروت عن الطبعة الهندیة- دون تاریخ.
- التراتیب الإداریة- الكتانی- دار الكتاب العربی ببیروت- دون تاریخ- ترتیب المدارك- القاضی عیاض- مصورة بالأوفست فی بیروت- دار مكتبة الحیاة 1387 ه (1967 م).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 333
- ترجمة القرآن- عبد اللّه شحادة دار الاعتصام- القاهرة سنة 1980 م.
- ترجمة القرآن الكریم غرض للسیاسة و فتنة فی الدین- محمد الههیاوی- مطبعة جریدة المنبر بمصر سنة 1355 ه.
- ترجمة القرآن و ما فیها من المفاسد و منافاة الاسلام- محمد رشید رضا- مطبعة المنار سنة 1926 م.
- التشریع الإسلامی و حاجتنا إلیه- محمد الصباغ- المكتب الإسلامی بیروت سنة 1970 م.
- التصویر الفنی فی القرآن- سید قطب- دار المعارف بمصر سنة 1956- تعریف عامّ بدین الاسلام- علی الطنطاوی- دار الرائد- مكة المكرمة سنة 1395 ه.
- تفسیر ابن كثیر- ابن كثیر ... مطبعة عیسی البابی الحلبی بمصر- دون تاریخ.
- تفسیر الألوسی- المسمی «روح المعانی فی تفسیر القرآن»- المطبعة المنیریة بمصر سنة 1345 ه.
- التفسیر البیانی- عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) دار المعارف بمصر سنة 1969.
- تفسیر البیضاوی- عبد اللّه بن عمر البیضاوی و عنوانه: «أنوار التنزیل و أسرار التأویل» مطبعة مصطفی محمد بمصر- دون تاریخ.
- تفسیر الجلالین- مكتبة الملاح- دمشق سنة 1398 (1978).
- تفسیر سورة الإخلاص- ابن تیمیة- المطبعة المنیریة بمصر سنة 1352 ه.
- تفسیر سورة النور- أبو الأعلی المودودی- مؤسسة الرسالة ببیروت سنة 1959 م.
- تفسیر الطبری- محمد بن جریر- تحقیق محمود محمد شاكر دار المعارف بمصر سنة 1969 م.
- تفسیر الطبری- محمد بن جریر- مطبعة عیسی البابی الحلبی بمصر سنة 1954
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 334
- التفسیر العلمی للآیات الكونیة- حنفی أحمد- دار المعارف بمصر سنة 1960 م.
- تفسیر القاسمی- جمال الدین القاسمی- صححه و علق علیه محمد فؤاد عبد الباقی- دار إحیاء الكتب العربیة بمصر سنة 1957 م.
- تفسیر القرآن- محمود شلتوت- الطبعة الرابعة سنة 1966 م.
- تفسیر القرطبی- محمد بن أحمد القرطبی- دار الكتب المصریة سنة 1935.
- تفسیر مجاهد- تحقیق عبد الرحمن الطاهر السورتی- طبع قطر سنة 1396 (1976).
- تفسیر المراغی- أحمد مصطفی المراغی- مصطفی البابی الحلبی- مصر سنة 1365.
- تفسیر المنار- محمد رشید رضا- مطبعة المنار سنة 1365- سنة 1367.
- تفسیر النسفی «مدارك التنزیل»- دار إحیاء الكتب العربیة- عیسی البابی الحلبی بمصر- دون تاریخ.
- التفسیر و رجاله- محمد الفاضل بن عاشور- دار الكتب الشرقیة- تونس سنة 1966 م.
- التفسیر و المفسرون- محمد حسین الذهبی- دار الكتب الحدیثة بمصر سنة 1381 ه (1962 م.)
- تقریب السیرة النبویة- محمد الشبراوی- مصطفی البابی الحلبی بمصر سنة 1381 ه (1961 م).
التكافل الاجتماعی فی الإسلام- محمد أبو زهرة- الدار القومیة للطباعة و النشر بالقاهرة سنة 1384 (1964 م).
- التكمیل فی أصول التأویل- عبد الحمید الفراهی- طبع الهند.
- تناسق الدرر فی تناسب السور- السیوطی- المطبوع فی دار الاعتصام بالقاهرة سنة 1396 ه باسم: أسرار ترتیب القرآن.
- التنبیه علی حدوث التصحیف- حمزة بن حسن الأصفهانی- طبع دمشق
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 335
- تنزیه الشریعة المرفوعة- ابن عراق- تحقیق عبد الوهاب عبد اللطیف و عبد اللّه الصدیق- مطبعة عاطف بمصر سنة 1378 ه.
تنزیه القرآن عن المطاعن- القاضی عبد الجبار- المطبعة الجمالیة بمصر سنة 1329.
- تنظیم الإسلام للمجتمع- محمد أبو زهرة- مطبعة المدنی بمصر- دون تاریخ.
- تنویر المقباس من تفسیر ابن عباس- الفیروزآبادی- المطبعة الأزهریة بمصر سنة 1316 ه.
- تهذیب الأسماء و اللغات- النووی- المطبعة المنیریة بمصر.
- تهذیب تاریخ دمشق الكبیر- عبد القادر بدران- الطبعة الثانیة- دار المسیرة بیروت سنة 1979 م.
- تهذیب التهذیب- ابن حجر- طبع حیدرآباد- الهند سنة 1325 ه.
- توجیه النظر- طاهر الجزائری- المطبعة الجمالیة بمصر سنة 1910 م- التوراة و الانجیل و القرآن و العلم- موریس بوكای- بیروت 1398 ه.
- التیسیر فی القراءات السبع- عثمان بن سعید الدانی- تحقیق أوتو برتزل- استانبول مطبعة الدولة سنة 1930 م.
- ثلاث رسائل فی إعجاز القرآن- تحقیق محمد خلف اللّه و محمد زغلول سلّام- دار المعارف بمصر سنة 1968.
- جامع الأصول- المبارك بن محمد بن الأثیر- تحقیق عبد القادر الأرناءوط- دمشق سنة 1390 ه (1970 م).
- جامع بیان العلم و فضله- ابن عبد البر- طبعة مصورة بالأوفست عن الطبعة المصریة- دون تاریخ.
- الجرح و التعدیل- ابن أبی حاتم- مطبعة دائرة المعارف العثمانیة- حیدرآباد الدكن الهند سنة 1371 ه.
- الجواب الصحیح لمن بدل دین المسیح- ابن تیمیة- مطبعة المدنی بمصر سنة 1383.
- الجواهر فی تفسیر القرآن- طنطاوی جوهری- مطبعة مصطفی البابی الحلبی بمصر سنة 1350 ه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 336
- جواهر البیان فی علوم القرآن- محمد علی سلامة.
- جواهر القرآن- الامام الغزالی- المكتبة التجاریة بمصر سنة 1933 م.
- الحجاب- أبو الأعلی المودودی- ترجمة محمد كاظم- دمشق- دار الفكر سنة 1959 م.
- حدث الأحداث فی الإسلام الإقدام علی ترجمة القرآن- محمد سلیمان.
- الحدیث النبوی- محمد بن لطفی الصباغ- الطبعة الثالثة- المكتب الاسلامی بیروت سنة 1397 ه.
- حسن المحاضرة، فی أخبار مصر و القاهرة- السیوطی- المطبعة الشرقیة بمصر سنة 1327 ه.
- حصوننا مهددة من داخلها- محمد محمد حسین- المكتب الاسلامی سنة 1397 ه.
- الحكمة فی مخلوقات اللّه عزّ و جل- مطبعة مصطفی البابی الحلبی بمصر سنة 1352 كتب له مقدمة موجزة الشیخ طنطاوی جوهری.
- الحلیة- أبو نعیم- مطبعة السعادة بمصر سنة 1351 ه- 1357 م.
- الحوادث و البدع- محمد بن الولید الطرطوشی- تحقیق محمد الطالبی- دار الأصفهانی و شركائه بجدة دون تاریخ.
- خصائص التصور الإسلامی و مقوماته- سید قطب- دار إحیاء الكتب العربیة بمصر سنة 1962 م.
- خطط الشام- محمد كرد علی- مطبعة الترقی بدمشق سنة 1343 ه.
- خطط الشام- محمد كرد علی- دار العلم للملایین بیروت سنة 1389 ه- الخلاصة- الخزرجی- المطبعة الخیریة بمصر سنة 1322 ه.
- خلق المسلم- محمد الغزالی- دار الكتب الحدیثة- مصر سنة 1379- درء تعارض العقل و النقل- ابن تیمیة- تحقیق محمد رشاد سالم- طبع جامعة الامام فی الریاض سنة 1401 ه.
- دراسات فی التفسیر- مصطفی زید- ملتزم النشر دار الفكر العربی- دار الحمامی للطباعة بمصر سنة 1967- 1968 م.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 337
- دراسة الكتب المقدسة فی ضوء المعارف الحدیثة- موریس بوكای- دار المعارف القاهرة- سنة 1398 ه.
- الدرر الكامنة فی أعیان المائة الثامنة- ابن حجر- تحقیق محمد سید جاد الحق- مطبعة المدنی بمصر سنة 1385 ه (1966).
- الدر المنثور فی التفسیر بالمأثور- السیوطی- المطبعة الاسلامیة بالأوفست- طهران سنة 1377 ه.
- دفاع عن العقیدة و الشریعة- محمد الغزالی- دار الكتب الحدیثة- مصر سنة 1963 م.
- دلائل الاعجاز- عبد القاهر الجرجانی- تحقق محمد رشید رضا- دار المنار بمصر سنة 1367 ه.
- دلائل الاعجاز مع مقدمة محمود محمد شاكر- نشر الخانجی- ط مطبعة المدنی.
- الدین و العلم- أحمد عزت- علق علیه عبد الوهاب عزّام و حمزة طاهر- مطبعة لجنة التألیف و النشر بمصر سنة 1950 م.
- دیوان أبی حیان- تحقیق خدیجة الحدیثی و أحمد مطلوب- بغداد سنة 1388 ه (1969 م).
- دیوان الحطیئة- تحقیق نعمان طه- مصطفی البابی الحلبی بمصر سنة 1378 ه (1958 م).
- دیوان النابغة- إعداد علی ملكی- دار الرأی العام- بیروت سنة 1969 م.
- ذیل الروضتین- أبو شامة- تصحیح محمد زاهد الكوثری- دار الجیل بیروت سنة 1974 م.
- ذیل الملل و النحل- سید كیلانی- مطبوع فی آخر الملل و النحل للشهرستانی.
- ذیول تذكرة الحفاظ لكل من الحسینی الدمشقی، و ابن فهد المكی، و السیوطی، و الطهطاوی- صورت بالأوفست فی بیروت- دون تاریخ.
- رحلة ابن بطوطة: تحفة النظار فی غرائب الأمصار و عجائب الأسفار المكتبة التجاریة الكبری بمصر سنة 1958 م.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 338
- رحلة ابن جبیر- تحقیق حسین نصار- مكتبة مصر سنة 1955 م- الرد الوافر- ابن ناصر الدین- تحقیق زهیر الشاویش- المكتب الاسلامی سنة 1393 ه.
- الرسالة- الشافعی- تحقیق أحمد محمد شاكر- مطبعة مصطفی البابی الحلبی بمصر سنة 1940 م.
- الرسالة التدمریة- ابن تیمیة- المكتب الاسلامی- الطبعة الثانیة بیروت سنة 1391 ه.
- الرسالة الشافیة فی إعجاز القرآن- الجرجانی- تحقیق خلف اللّه و سلّام (مطبوع تحت عنوان ثلاث رسائل ...).
- روضة الناظر- ابن قدامة- مكتبة المعارف بالریاض سنة 1404 ه.
- ریاض الصالحین- النووی- تحقیق محمد ناصر الدین الألبانی- المكتب الاسلامی بیروت سنة 1399 ه (1979 م).
- زاد المسیر- ابن الجوزی- المكتب الاسلامی- دمشق سنة 1384 ه (1964 م).
- زاد المعاد- ابن القیم- تحقیق الأرناءوط- مؤسسة الرسالة بیروت سنة 1401 (1981).
- سراج القارئ المبتدی، و تذكار المقرئ المنتهی- ابن القاصح- مطبعة السعادة بمصر سنة 1927 م.
- سمیر الطالبین فی رسم و ضبط الكتاب المبین- علی محمد الضباع- مطبعة عبد الحمید أحمد حنفی بمصر سنة 1357 ه.
- السنة و مكانتها فی التشریع- مصطفی السباعی- المكتب الاسلامی- بیروت سنة 1396 ه (1976 م).
- سنن ابن ماجة- تحقیق محمد فؤاد عبد الباقی- دار إحیاء الكتب العربیة بمصر سنة 1372 ه (1952 م).
- سنن أبی داود- تحقیق محمد محیی الدین عبد الحمید- مطبعة السعادة بمصر سنة 1369 ه (1950 م).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 339
- سنن الترمذی- المطبوع مع تحفة الأحوذی- طبع الهند سنة 1343.
- سنن الدارمی- تحقیق محمد أحمد دهمان- مطبعة الاعتدال بدمشق سنة 1349 ه.
- السنن الكبری- البیهقی- مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامیة- حیدرآباد الهند سنة 1344.
- سنن النسائی- مطبعة مصطفی البابی الحلبی بمصر سنة 1383 ه (1964 م).
- سیر أعلام النبلاء- تحقیق جماعة- مؤسسة الرسالة- بیروت سنة 1401 ه.
- سیرة ابن هشام- تحقیق مصطفی السقا و آخرین- مصطفی البابی الحلبی- مصر سنة 1955 م.
- شذرات الذهب- ابن العماد- مكتبة القدسی بمصر سنة 1350 ه.
- شرح الألفیة فی السیرة- المناوی- تحقیق اسماعیل الأنصاری- مطبعة النور الریاض.
- شرح ما یقع فیه التصحیف و التحریف- أبو أحمد الحسن بن عبد اللّه العسكری- تحقیق عبد العزیز أحمد- مكتبة مصطفی البابی الحلبی بمصر سنة 1383 ه (1963 م).
- الشفا فی حقوق المصطفی- عیاض- الشركة الصحافیة العثمانیة استانبول سنة 1324 ه.
- صبح الأعشی- القلقشندی- طبعة مصورة عن الطبعة الأمیریة- وزارة الثقافة و الارشاد بمصر مطابع كوستاتسوماس بالقاهرة- دون تاریخ.
- صحیح البخاری- محمد بن اسماعیل البخاری- تحقیق محمود النواوی و أبی الفضل إبراهیم و محمد خفاجی مطبعة الفجالة الجدیدة بمصر سنة 1376 ه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 340
- صحیح مسلم- مسلم بن الحجاج- تحقیق محمد فؤاد عبد الباقی- دار إحیاء الكتب العربیة بمصر سنة 1374 ه.
- صحیح مسلم- مسلم بن الحجاج- طبعة مصورة عن طبعة استانبول- محمد علی صبیح بمصر- دون تاریخ.
- ضحی الاسلام- أحمد أمین- مكتبة النهضة المصریة بمصر سنة 1956.
- الضعفاء و المتروكون- الدارقطنی- تحقیق محمد بن لطفی الصباغ- المكتب الاسلامی بیروت سنة 1400.
- طبقات الحنابلة- أبو یعلی- مطبعة السنة المحمدیة بمصر سنة 1372 ه (1953 م).
- طبقات الشافعیة- السبكی- تحقیق محمود الطناحی و عبد الفتاح الحلو- مطبعة عیسی البابی الحلبی سنة 1383 ه.
- طبقات فقهاء الشافعیة- العبادی- لیدن- بریل سنة 1964 م.
- الطبقات الكبری- ابن سعد- دار بیروت سنة 1398 ه.
- طبقات المفسرین- الداودی- تحقیق علی محمد عمر- نشر مكتبة وهبه طبع مطبعة الاستقلال سنة 1392 (1972).
- طبقات المفسرین- السیوطی- مكتبة وهبه بمصر سنة 1976 م.
- الظاهرة القرآنیة- مالك بن بنی- دار الفكر- دمشق سنة 1980 م.
- العدالة الاجتماعیة- فی الإسلام- سید قطب- الطبعة الثامنة- لم یذكر فیها اسم المطبعة و لا سنة الطبع.
- العقائد الاسلامیة- سید سابق- دار الكتب الحدیثة بمصر سنة 1387 ه.
- العلم- أبو خیثمة زهیر بن حرب- تحقیق محمد ناصر الدین الألبانی- المطبعة العمومیة بدمشق دون تاریخ.
- علم أصول الفقه- عبد الوهاب خلاف- مطبعة النصر بمصر سنة 1376 ه (1956 م).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 341
- العلم یدعو إلی الایمان- كریس موریسون- ترجمة محمود صالح العلكی- مكتبة النهضة المصریة بمصر سنة 1955.
- العلوم الطبیعیة فی القرآن- یوسف مروة- بیروت سنة 1387 ه (1968 م).
- عمدة التفسیر- أحمد محمد شاكر- دار المعارف بمصر سنة 1956- 1959.
- عمدة القاری- العینی- المطبعة المنیریة بمصر سنة 1348 ه.
- عنوان البیان فی علوم التبیان- محمد حسنین مخلوف- مصطفی البابی الحلبی سنة 1383 (1964).
- عیون الأثر- ابن سید الناس- طبع حسام القدس سنة 1356 ه.
- الغارة علی العالم الاسلامی- شاتبلیه- ترجمة مساعد الیافی و محبّ الدین الخطیب- طبع جده سنة 1387.
- غایة النهایة فی طبقات القراء- ابن الجزری- تحقیق برجستراسر- الخانجی بمصر سنة 1351 ه.
- غریب القرآن- ابن قتیبة- تحقق سید أحمد الصقر- مطبعة البابی الحلبی مصر سنة 1378 ه (1958 م). لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر 341 مراجع الكتاب
غریب القرآن- ابن قتیبة- الموجود فی «غریب القرآن» لابن مطرف- مكتبة الخانجی سنة 1355 ه.
- غیث النفع فی القراءات السبع- علی النوری الصفاقسی- مطبوع بذیل سراج القارئ المبتدی لابن القاصح مطبعة حجازی بمصر سنة 1352 ه (1934 م).
- فتح الباری- ابن حجر- المطبعة السلفیة بمصر سنة 1380 ه.
- فتح القدیر- الشوكانی- مصطفی البابی الحلبی بمصر سنة 1349 ه.
- الفرق بین الفرق- عبد القاهر البغدادی- طبعة مصورة بالأوفست- منشورات دار الآفاق الجدیدة بیروت سنة 1978.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 342
- الفرقان- ابن الخطیب- دار الكتب المصریة بمصر سنة 1948 م- الفرقدان النیران فی بعض المباحث المتعلقة بالقرآن- محمد سعید البانی- مطبعة الحكومة العربیة سنة 1921 بدمشق.
- الفصل فی الملل و النحل- ابن حزم- طبعة الخانجی فی مصر سنة 1321 ه.
- فضائل القرآن- ابن كثیر- مطبوع فی آخر الجزء الرابع من تفسیر ابن كثیر- مطبعة عیسی البابی الحلبی بمصر سنة 1371 ه.
- فقه السیرة- محمد الغزالی- تخریج المحدث محمد ناصر الدین الألبانی نشر دار الكتب الحدیثة- مطبعة السعادة بمصر سنة 1384 ه.
- فقه اللغة- محمد المبارك- مطبعة جامعة دمشق- دون تاریخ.
- الفقیه و المتفقه- الخطیب البغدادی- مطابع القصیم بالریاض سنة 1389 ه.
- الفكر الاسلامی الحدیث وصلته بالاستعمار- محمد البهی- مكتبة وهبه بمصر سنة 1975 م.
- الفلسفة القرآنیة- عباس محمود العقاد- دار الهلال بمصر سنة 1966 م.
- الفهرست- ابن الندیم- مطبعة الاستقامة بالقاهرة- دون تاریخ.
- فوائد قرآنیة- عبد الرحمن السعدی- المكتب الاسلامی بیروت سنة 1389 ه.
- فی أصول النحو- سعید الأفغانی- دار الفكر بدمشق سنة 1383 ه (1963 ه).
- فی سنن اللّه الكونیة- محمد أحمد العمراوی- مطبعة لجنة التألیف و النشر بمصر سنة 1355 ه (1936 م).
- فی ظلال القرآن- سید قطب- الطبعة الثالثة- دار إحیاء التراث العربی بیروت- دون تاریخ.
- فی المجتمع الإسلامی- محمد أبو زهرة- دار الفكر العربی بالقاهرة- دون تاریخ.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 343
- فیض القدیر- عبد الرءوف المناوی- مطبعة مصطفی محمد بمصر سنة 1356 ه (1938 م).
- القادیانی و القادیانیة- أبو الحسن الندوی- الدار السعودیة للنشر- جدة سنة 1971 م.
- القاموس المحیط- الفیروزآبادی- مطبعة دار المأمون بمصر سنة 1357 ه (1938 م).
- القرآن المجید- محمد عزة دروزة- المطبعة العصریة بصیدا- لبنان- دون تاریخ.
- القرآن و العلم- أحمد محمد سلیمان- دار العودة بیروت سنة 1978 م.
- القرآن و العلم الحدیث- عبد الرزاق نوفل- دار المعارف بمصر سنة 1959 م.
- القرآن یتحدّی- أحمد عز الدین عبد اللّه خلف اللّه- مطبعة السعادة بمصر سنة 1397 ه (1977 م).
- القرامطة- ابن الجوزی- تحقیق محمد الصباغ- المكتب الاسلامی سنة 1390 ه (1970 م).
- القسطاس المستقیم- الإمام الغزالی- مؤسسة الزعبی- حمص- سنة 1392 ه (1973 م).
- الكامل ابن الأثیر.
- الكامل- المبرد.
- كتّاب النبی- محمد مصطفی الأغطی- المكتب الاسلامی بیروت سنة 1398 ه (1978 م).
- كتّاب النبی- محمد مصطفی الأعظمی- شركة الطباعة العربیة السعودیة بالریاض سنة 1401 ه (1981 م).
- الكشاف- الزمخشری- المكتبة التجاریة بمصر سنة 1345 ه.
- كشف الظنون- حاجی خلیفه- طبعة مصورة بالأوفست- المطبعة الإسلامیة بطهران سنة 1387 ه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 344
- الكشف عن وجوه القراءات- مكی بن أبی طالب- تحقیق محیی الدین رمضان- طبعه المجمع فی دمشق سنة 1974 م ثم نشرته مؤسسة الرسالة ببیروت سنة 1981 م.
- الكفایة- الخطیب البغدادی- دار الكتب الحدیثة بمصر- مطبعة السعادة سنة 1972 م.
- الكلیات- أبو البقاء- تحقیق عدنان درویش و محمد المصری- مطبعة وزارة الثقافة بدمشق سنة 1974 م.
- اللباب فی تهذیب الأنساب- ابن الأثیر- طبعة مصورة بالأوفست- مكتبة المثنی ببغداد.
- لسان العرب- ابن منظور- دار صادر بیروت سنة 1375 ه (1956 م).
- لسان المیزان- ابن حجر- طبع حیدرآباد الهند سنة 1329 ه.
- لوامع الأنوار البهیة- السفارینی- مطابع دار الأصفهانی بجدة سنة 1380 ه.
- اللؤلؤ و المرجان- محمد فؤاد عبد الباقی- دار إحیاء الكتب العربیة بالقاهرة سنة 1368 ه (1949 م).
- ما دل علیه القرآن- محمود شكری الألوسی- المكتب الاسلامی بدمشق سنة 1380 ه (1960).
- ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمین- أبو الحسن الندوی.
- ما هی القادیانیة- أبو الأعلی المودودی- دار القلم- الكویت سنة 1389 ه (1969 م).
- مباحث فی علوم القرآن- صبحی الصالح.
- مبادئ أساسیة لفهم القرآن- أبو الأعلی المودودی- ترجمة خلیل حامدی- دار القلم فی الكویت ط 3 سنة 1391 (1971).
- مبارق الأزهار فی شرح مشارق الأنوار- ابن الملك- مطبعة أحمد كامل افندی سنة 1329 ه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 345
- المجتمع الانسانی فی ظل الاسلام، محمد أبو زهرة- دار الفكر- بیروت- دون تاریخ.
- المجروحون من المحدثین و الضعفاء- ابن حبان- طبع دار الوعی بحلب سنة 1396.
- مجلات عدة: مجلة المجمع العلمی العربی فی دمشق- مجلة أضواء الشریعة فی الریاض- مجلة كلیة اللغة العربیة و غیرها.
- مجموع الفتاوی- ابن تیمیة- جمع عبد الرحمن قاسم- طبع الریاض سنة 1381 ه.
- محاضرات فی النصرانیة- محمد أبو زهرة- الطبعة الثالثة- دار الكتاب العربی بمصر سنة 1381 ه (1961 م).
- المحكم فی نقط المصاحف- الدانی- تحقیق عزة حسن.
- محمد رسول اللّه- محمد الخضر حسین- طبع دمشق سنة 1391 ه (1971 م).
- مختار الصحاح- الرازی- مطبعة الترقی دمشق سنة 1938 م.
- مختصر السیرة- عبد اللّه بن محمد بن عبد الوهاب.
- المدخل- ابن الحاج- الطبعة الثانیة- نشر دار الكتاب العربی بیروت سنة 1972 م.
- مدخل إلی القرآن الكریم- محمد عبد اللّه دراز- نشر دار القرآن و دار القلم فی الكویت- مطابع دار القلم بیروت سنة 1391.
- المدخل لدراسة القرآن- محمد أبو شبهة- لم یذكر فیه اسم ناشر و لا مطبعة- القاهرة سنة 1973 م.
- المذاهب الاسلامیة فی تفسیر القرآن جولد تسهیر.
- المذكر و المؤنث- الفراء- تحقیق رمضان عبد التواب القاهرة 1975 م.
- مذكرة التوحید- عبد الرزاق عفیفی- المكتب الاسلامی بیروت سنة 1403 ه (1983 م).
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 346
- المرشد الوجیز الی علوم تتعلق بالكتاب العزیز- ابو شامة عبد الرحمن ابن اسماعیل المقدسی- تحقیق طیار آلتی قولاج- دار صادر بیروت سنة 1395 ه (1975 م).
- المزهر- السیوطی- تحقیق جاد المولی و أبو الفضل و علی البجاوی- دار احیاء الكتب العربیة بمصر دون تاریخ.
- مسألة ترجمة القرآن- مصطفی صبری- المطبعة السلفیة بالقاهرة سنة 1351 ه.
- المستدرك- الحاكم- طبع حیدرآباد الهند سنة 1333.
- المستصفی- الإمام الغزالی.
- المسند- أحمد بن حنبل- المطبعة المیمنیة- مصر 1313 ه (و أعید تصویره فی المكتب الاسلامی ببیروت).
- مشكاة المصابیح- محمد بن عبد اللّه الخطیب التبریزی- تحقیق محمد ناصر الدین الألبانی- المكتب الاسلامی بدمشق سنة 1380 ه.
- المصاحف- ابن أبی داود- تحقیق آثر جغری- المطبعة الرحمانیة بمصر سنة 1936 م.
- مطابقة المخترعات العصریة للآیات القرآنیة- أحمد بن محمد الغماری- مكتبة القاهرة بمصر- مطبعة محمد عاطف الطبعة الرابعة سنة 1387 ه (1968 م).
- المطالع النصریة- نصر الهورینی.
- معالم السنن- الخطابی- تحقیق أحمد شاكر و حامد الفقی- مطبعة السنة المحمدیة بمصر سنة 1367 ه (1948 م).
- معالم فی الطریق- سید قطب- مكتبة وهبة بالقاهرة سنة 1384 ه (1964 م).
- معانی القرآن- الفراء- تحقیق أحمد یوسف نجاتی و محمد علی النجار- طبعة مصورة بالاوفست أصدرتها دار عالم الكتب ببیروت سنة 1980.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 347
- المعجزات المحمدیة- ولید الاعظمی- المكتب الاسلامی ببیروت سنة 1397 ه.
- المعجزة الكبری: القرآن- محمد أبو زهرة- ملتزم النشر دار الفكر العربی- دار الحمامی للطباعة بمصر- دون تاریخ.
- معجم الأدباء- یاقوت الحموی- مطبعة دار المأمون بمصر سنة 1355 ه (1936 م).
- معجم ألفاظ القرآن الكریم- وضع مجمع اللغة العربیة- الهیئة المصریة العامة للتألیف و النشر بمصر سنة 1390 ه (1970 م).
- المعجم العربی- حسین نصار.
- معجم المخطوطات المطبوعة- صلاح الدین المنجد.
- معرفة القراء الكبار- الذهبی- تحقیق محمد جاد الحق- مطبعة دار التألیف بمصر سنة 1969 نشر دار الكتب الحدیثة.
- معرفة القراء الكبار- الذهبی- تحقیق بشار عواد معروف و شعیب الأرناءوط و صالح مهدی عباس- مؤسسة الرسالة بیروت سنة 1404 (1984).
- معضلات الاقتصاد و حلّها فی الاسلام- أبو الأعلی المودودی- الدار السعودیة للنشر سنة 1387.
- مفتاح السعادة- طاشكبری‌زاده- تحقیق كامل بكری و عبد الوهاب أبو النور مطبعة الاستقلال بمصر- دون تاریخ.
- المفردات- الراغب الأصفهانی- المطبعة المیمنیة- مصر سنة 1324 ه.
- مقالات الكوثری- مطبعة الأنوار بالقاهرة- دون تاریخ.
- مقاییس اللغة- ابن فارس- تحقیق عبد السلام هارون- دار إحیاء الكتب العربیة بمصر سنة 1370 ه.
- مقدمتان فی علوم القرآن-.
- مقدمة ابن خلدون- طبعة بیروت.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 348
- مقدمة ابن خلدون- طبعة عبد الرحمن محمد- المطبعة البهیة المصریة.
- مقدمة ابن خلدون- تحقیق علی عبد الواحد وافی.
- مقدمة فی أصول التفسیر- ابن تیمیة- تحقیق عدنان زرزور- مطابع دار القلم بیروت سنة 1391 ه (1971 م).
- مقدمة فی التفسیر- حسن البنّا.
- مقدمة محمود محمد شاكر لكتاب «الظاهرة القرآنیة».
- المقنع فی معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار- أبو عمرو الدانی- تحقیق محمد أحمد دهمان مكتب الدراسات الاسلامیة بدمشق سنة 1359 ه.
- مناقب الشافعی- البیهقی- تحقیق سید أحمد صقر- دار النصر للطباعة بمصر سنة 1391 (1971).
- مناهج فی التفسیر- مصطفی الصاوی الجوینی- منشأة المعارف بالاسكندریة.
- مناهل العرفان- الزرقانی- دار إحیاء الكتب العربیة بمصر- الطبعة الثالثة سنة 1372 ه.
- المنتظم- ابن الجوزی- تحقیق سالم الكرنكاوی- مطبعة دائرة المعارف العثمانیة بحیدرآباد فی الهند سنة 1358 ه.
- منزلة السنة فی الاسلام- محمد ناصر الدین الألبانی.
- من الآیات العلمیة- عبد الرزاق نوفل- الانجلو مصریة سنة 1966.
- من إشارات العلوم فی القرآن- عبد العزیز سید الاهل- دار النهضة الحدیثة ببیروت سنة 1392.
- من منهل الادب الخالد- محمد المبارك- دار الفكر بدمشق سنة 1383 ه.
- الموافقات- الشاطبی.
- الموطأ- مالك بن أنس- تحقیق محمد فؤاد عبد الباقی- دار احیاء الكتب العربیة سنة 1370 ه.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 349
- موقف العالم الاسلامی تجاه الحضارة الغربیة- أبو الحسن الندوی- مطبعة ندوة العلماء- لكنهو- الهند سنة 1382 (1963).
- میزان الاعتدال- الذهبی- تحقیق محمد علی البجاوی- دار احیاء الكتب العربیة بمصر سنة 1382 ه.
- النبأ العظیم- محمد عبد اللّه دراز- دار القلم بالكویت سنة 1390 ه (1970 م).
- النبوة اصلاح تقتضیه رحمة اللّه- سعدی یاسین- دار العربیة- بیروت سنة 1388 ه (1968 م).
- النبوة و الانبیاء فی ضوء القرآن- أبو الحسن الندوی- مكتبة وهبة بمصر سنة 1385 ه (1965).
- النجوم الزاهرة- ابن تغری بردی- طبعة دار الكتب المصریة.
- نحو منهج لتفسیر القرآن- محمد الصادق عرجون- طبع الدار السعودیة للنشر جدة سنة 1392 (1972).
- نزهة الألباء- ابن الأنباری- تحقیق إبراهیم السامرائی- مكتبة الأندلس ببغداد.
- النشر- ابن الجزری.
- نظام الاسرة فی الإسلام- مناع القطان.
- النصیریة- ابن تیمیة- طبع دار الافتاء فی الریاض- دون تاریخ.
- نظام الاسلام: العقیدة و العبادة- محمد المبارك- دار الفكر بیروت سنة 1390 ه.
- نظریة الاسلام الخلقیة- أبو الأعلی المودودی- مكتبة الشباب المسلم بدمشق- المطبعة التعاونیة سنة 1376 ه.
- نظریة الإسلام و هدیه فی السیاسة و القانون و الدستور- أبو الأعلی المودودی- مؤسسة الرسالة بیروت سنة 1389 (1969).
- نفح الطیب.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 350
- نقض التأسیس- ابن تیمیة- تصحیح محمد عبد الرحمن بن قاسم- مطبعة الحكومة- مكة سنة 1391.
- النقط- أبو عمرو الدانی- منشور مع «المقنع»- تحقیق محمد أحمد دهمان.
- نكت الانتصار- الصیرفی، و هو تلخیص كتاب «الانتصار» للباقلانی تحقیق محمد زغلول سلام منشأة المعارف بالاسكندریة.
- النكت فی اعجاز القرآن- الرمانی- تحقیق محمد خلف اللّه و محمد زغلول سلام (مطبوع فی مجموع عنوانه: «ثلاث رسائل فی اعجاز القرآن»).
- نكت الهمیان فی نكت العمیان- خلیل الصفدی- تحقیق أحمد زكی- المطبعة الجمالیة بالقاهرة سنة 1911 م.
- النهایة فی غریب الحدیث و الأثر- ابن الأثیر- تحقیق طاهر الزواوی و محمود الطناحی- دار إحیاء الكتب العربیة بمصر سنة 1383 ه (1963 م).
- نور القبس المختصر من المقتبس- یوسف بن أحمد الیغموری- تحقیق رودولف زلهایم- المطبعة الكاثولیكیة فی بیروت 1384 (1964).
- نور الیقین- محمد الخضری- الطبعة السابعة بمصر 1354 ه (1935 م).
- هدیة العارفین- طبعة بالأوفست طهران سنة 1387 ه.
- الوافی بالوفیات- خلیل الصفدی- باعتناء جمعیة المستشرقین الألمانیة سنة 1381 ه و ما بعدها.
- الوحدة الاسلامیة- محمد رشید رضا- بإشراف زهیر الشاویش المكتب الاسلامی ببیروت- دون تاریخ.
- الوحی المحمدی- محمد رشید رضا.
- الوساطة للجرجانی.
- وفیات الأعیان- ابن خلكان.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 351

فهرس الموضوعات‌

- مقدمة المؤلف 5- مقدمة الأستاذ الكبیر الشیخ علی الطنطاوی 9 القسم الأول: القرآن و علومه 21 الباب الأول: القرآن 23- الفصل الأول: فی تعریف القرآن و وصفه و دوره فی ماضینا و مستقبلنا 25 تعریف القرآن 25 وصف القرآن 26 خلود القرآن 27 دور القرآن فی حفظ لغتنا و الابقاء علی أمتنا 28 القرآن أساس الاصلاح و سبب النهضة 29 أثر القرآن فی البیان و الفكر 35- الفصل الثانی: أسماء القرآن 36 القرآن 37 الكتاب 40 لما ذا سمی القرآن (قرآنا) و (كتابا) 41
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 352
الفرقان 42- الفصل الثالث: فی الوحی 43 الوحی فی اللغة 43 الوحی فی الشرع 45 صور الوحی 46 آثار الوحی علی الرسول 50 صدق ظاهرة الوحی 51- الفصل الرابع: فی تنجیم القرآن 56 موقف المشركین من التنجیم 57 حكم التنجیم و أسراره 58- الفصل الخامس: فی الآیة و السورة 67 الآیة فی اللغة 67 وزنها 68 اشتقاقها 69 جمعها 69 الآیة فی القرآن 69 كیف تعرف الآیات 69 العلاقة بین المعنی اللغوی و القرآنی 70 السورة 70 جمعها 71 السورة خاصة بالقرآن 71 من سمّی سور القرآن؟ 72- الفصل السادس: فی ترتیب آیات القرآن و سوره 73 لما ذا لم ترتب الآیات حسب نزولها؟ 75 ترتیب سور القرآن 76
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 353
- الفصل السابع: فی إعجاز القرآن 78 المعجزة 78 الإعجاز 80 مدار الإعجاز 85 القول بالصرفة 92 تلخیص 95 ترجمة القرآن 97 الباب الثانی: تاریخ جمع القرآن 99- الفصل الأول: فی كتابة القرآن فی عهد النبی 101- الفصل الثانی: كتابته فی عهد أبی بكر 104- الفصل الثالث: نسخ المصاحف أیام عثمان 110 كلمة المصحف 110 سبب نسخ المصاحف و طریقة النسخ 111 عدد المصاحف العثمانیة 116 رأی الصحابة فی صنیع عثمان 117 الفرق بین جمع أبی بكر و عثمان 118 این المصاحف العثمانیة الآن 119- الفصل الرابع: كتابة المصاحف و تطورها 125 الإملاء العثمانی 125 تطور هذه الكتابة 126 كتابة المصحف و الرسم العثمانی 131 نشر المصحف و طبعه فی العصر الحاضر 137 الباب الثالث: علوم القرآن 141- الفصل الأول: المكی و المدنی 145
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 354
تعریف المكی و المدنی 146 خصائص المكی 146 خصائص المدنی 147 كیف نعرف المكی من المدنی 148 فوائد معرفة المكی و المدنی 149- الفصل الثانی: المحكم و المتشابه 151 تعریف المحكم و المتشابه 152 هل المتشابه مما یمكن معرفته 153 أنواع المحكم 155 أنواع المتشابه 156 التقسیم الأول 157 التقسیم الثانی 158 المنحرفون و المتشابه 158 فوائد المتشابه 161- الفصل الثالث: القراءات 164 تعریفها 164 شروط القراءة الصحیحة 164 القراءات و هی 165 حدیث الأحرف السبعة 167 هل الأحرف السبعة موجودة فی المصاحف العثمانیة؟ 172 تاریخ القراءات 173 ملاحظات 177 حكمة تعدد القراءات 178 جدول بأسماء القراء السبعة و رواتهم 180 الملاحظات حول القراء السبعة 181
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 355
جدول بأسماء القراء الثلاثة 182 الملاحظات حول القراء الثلاثة 183 القسم الثانی: التفسیر و اتجاهاته 185 التفسیر 187 التفسیر و التأویل 188 الباب الأول: أصول التفسیر 191 العلوم التی یحتاج إلیها المفسر 192 الشروط التی یشترطها العلماء فی المفسر 194 قواعد أصول التفسیر 195 الباب الثانی: تاریخ التفسیر 197- الفصل الأول: التفسیر فی عهد النبی 199- الفصل الثانی: التفسیر فی عهد الصحابة 201 ابن عباس 202 قیمة تفسیر الصحابة 205- الفصل الثالث: التفسیر فی عهد التابعین 208 قیمة تفسیر التابعین 210 ملاحظة 210- الفصل الرابع: تاریخ التفسیر فیما بعد عهد التابعین 212 الباب الثالث: اتجاهات التفسیر 217- الفصل الأول: الاتجاه اللغوی فی تفسیر القرآن 219* القسم المتعلق بمفردات اللغة (أو كتب غریب القرآن) 219 «غریب القرآن» لابن قتیبة. 222
«غریب القرآن» للسجستانی 224
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 356
«المفردات فی غریب القرآن» للأصبهانی 226* القسم المتعلق بالنحو و القضایا الإعرابیة 231 «كتاب معانی القرآن» للفرّاء 232 تفسیر «البحر المحیط» لأبی حیان 235 كتب إعراب القرآن 237 القواعد التی علی معرب القرآن أن یراعیها 239* القسم المتعلق بالأسالیب البیانیة 241 «الكشاف» للزمخشری 243 «فی ظلال القرآن» لسید قطب 250 كتب أخری فی التفسیر البیانی 258- الفصل الثانی: التفسیر بالمأثور 260 مدرستان 260 التفسیر بالمأثور 260 هل تفسیر الصحابة و التابعین من المأثور؟ 263 متی یقبل التفسیر بالمأثور؟ 264 أولیته 264 الاسرائیلیات 264 تفسیر الطبری 269 ترجمته 269 تفسیره 270 كتب أخری فی التفسیر بالمأثور 277 كتاب «تفسیر القرآن العظیم» لابن كثیر 277- الفصل الثالث: التفسیر بالرأی 279 تفسیر الرازی 285 ترجمته 285
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 357
كتاب «مفاتیح الغیب» 286- الفصل الرابع: التفسیر العلمی 292 تفسیر الجواهر لطنطاوی جوهری 303- الفصل الخامس: المنحی الاصلاحی الاجتماعی فی التفسیر 308 جمال الدین الأفغانی 310 جمال الدین الأفغانی و التفسیر الاصلاحی 311 الشیخ محمد عبده 314 آثاره فی التفسیر 316 السید محمد رشید رضا 320 مقدار تفسیر السید محمد رشید رضا 321 ملاحظات حول تفسیر المنار 321- الفصل السادس: اتجاهات أخری 324 خاتمة 326 المصادر و المراجع 327 فهرس الموضوعات 351
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 359

من آثار المؤلف المطبوعة

1- الابتعاث و مخاطره.
2- أبو داود حیاته و سننه.
3- أبو نعیم و كتابه الحلیة.
4- أسماء بنت أبی بكر.
5- أقوال مأثورة و كلمات جمیلة.
6- أم سلیم.
7- بحوث فی أصول التفسیر.
8- تاریخ القصاص و أثرهم فی الحدیث النبوی.
9- تحریم الخلوة بالمرأة الأجنبیة.
10- التشریع الاسلامی و حاجتنا إلیه.
11- التصویر الفنی فی الحدیث النبوی.
12- الحدیث النبوی: بلاغته، مصطلحه، كتبه.
13- خواطر فی الدعوة إلی اللّه.
14- سعید بن العاص بطل الفتوح و كاتب المصحف.
15- فن الوصف فی مدرسة عبید الشعر.
16- لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر.
17- معركة شقحب أو معركة مرج الصفر.
18- المناهج و الأطر التألیفیة فی تراثنا.
19- من أسباب تأخر العمل الاسلامی.
20- من صفات الداعیة.
21- نداء إلی الدعاة.
22- نظرات فی الأسرة المسلمة.
لمحات فی علوم القرآن و اتجاهات التفسیر، ص: 360
23- وصایا للزوجین.
24- یوم الفرقان یوم بدر.
*** 25- أحادیث القصاص لابن تیمیة (تحقیق).
26- الأسرار المرفوعة لملا علی القاری (تحقیق).
27- الباعث علی الخلاص من أحادیث القصاص للحافظ العراقی (تحقیق).
28- تحذیر الخواص من أكاذیب القصاص للسیوطی (تحقیق).
29- الدرر المنتثرة فی الأحادیث المشتهرة للسیوطی (تحقیق).
30- رسالة أبی داود إلی أهل مكة (تحقیق).
31- الفوائد الموضوعة فی الأحادیث الموضوعة للكرمی (تحقیق).
32- القرامطة لابن الجوزی (تحقیق).
33- القصاص و المذكرون لابن الجوزی (تحقیق).
34- كتاب الضعفاء و المتروكین للدارقطنی (تحقیق).
35- مختصر المقاصد الحسنة للزرقانی (تحقیق).

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.