علم التفسير

اشارة

نام كتاب: علم التفسير

نويسنده: عبد المنعم النمر

موضوع: روشها و گرايشهاى تفسيرى

تاريخ وفات مؤلف: معاصر

زبان: عربى

تعداد جلد: 1

ناشر: دارالكتب الاسلامية

مكان چاپ: القاهرة

سال چاپ: 1405 / 1985

نوبت چاپ: اوّل

سرشناسه : نمر، عبدالمنعم

Nimr, Abd al - Munim

عنوان و نام پديدآور : علم التفسير: كيف نشاء و تطور حتي انتهي الي عصرنا الحاضر/ عبدالمنعم النمر

مشخصات نشر :

قاهره : دارالكتب الاسلاميه؛ دارالكتاب المصري:

بيروت: دارالكتاب اللبناني ، 1985م = 1405ق = 1364.

مشخصات ظاهري : ص 168

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

موضوع : تفسير

موضوع : تفسير -- تاريخ

رده بندي كنگره : BP91/ن 8ع 8 1364

شماره كتابشناسي ملي : م 80-33862

[بين يدى الكتاب]

بسم اللّه الرحمن الرحيم

و الحمد لله الذى نزل الكتاب و هو يتولى الصالحين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد رسول اللّه الذى أنزل عليه القرآن هدى و شفاء لما فى الصدور و على آله و أصحابه و التابعين الذين أدوا رسالتهم فى حفظ كتابهم و الحفاظ على تعاليمه و بعد. فالعلوم كأى كائن حى يبدأ صغيرا ثم ينمو و يتزايد، و منذ نزل القرآن قامت على شواطئه علوم تخدمه و توضحه، و تبين تعاليمه و مبادئه. و كان من الطبيعى أن تشرئب النفوس لمعرفة معانى القرآن الكريم، منذ نزل على رسول الله .. يعرف العرب بسليقتهم ما يعرفون و يسألون الرسول عما أغلق عليهم فهمه و يحتاجون لتوضيحه. و حين اتسعت رقعة الدولة الإسلامية من أول عهد الخلفاء الراشدين و دخل غير العرب في الإسلام، كانوا أشد احتياجا إلى معرفة معانى القرآن ..

و إذا كانت الحاجة أم الاختراع كما يقال. فقد كانت حاجة المسلمين و لا سيما الداخلين الجدد فى الإسلام إلى معرفة معانى القرآن سببا فى الكلام عن تفسيره كما

كانت الثقافات التى اختلطت بثقافة المسلمين الأصيلة سببا فى احتكاكات العقول، و تعدد مشاربها من القرآن ..

و كان العلماء المسلمون فى كل زمن يلبون حاجة المسلمين إلى فهم كتابهم سواء بالتدريس أو بالتأليف و التدوين حين بدأ عهد التدوين ..

كيف نشأ علم التفسير، و كيف تطور، و ما ذا كان يحكم المفسرين حين يعمدون إلى التفسير أو ما هى مذاهبهم و مناحيهم فى التفسير .. و إلى أى مدى يمكن أن يخدم العلم و المكتشفات العلمية الحديثة علم التفسير .. و هل قام المسلمون بتوصيل معانى القرآن إلى غير العرب و إلى أى مدى كان جهدهم فى هذه الناحية؟

علم التفسير، ص: 6

ذلك ما أحببت أن أقدمه لك فى هذه الصفحات دون تطويل يصرفك عن الكتاب و الله المستعان

40 صالح حقى. مصر الجديدة. الدكتور عبد المنعم النمر

علم التفسير، ص: 7

تمهيد:

الإسلام و العلوم

ما دمنا سنتكلم عن بعض علوم الدين عند المسلمين، فإن هذا يقتضينا أن نقدم بكلمة موجزة عن نظرة الإسلام إلى العلم بكل أنواعه و موضوعاته، لا سيما بعد أن ألقى على موقف الإسلام من العلم شى ء من الظلال، و لا سيما فى العصور المتأخرة، و عند بعض الغربيين. متأثرين بفكرتهم عن المسيحية و موقفها العدائى- فى بعض العصور- من العلوم.

فالعلم فى نظر الإسلام: هو كل ما يمكن و يطلب أن يعرف و يعلم، مهما يكن موضوع هذه المعرفة، و مهما تكن وسائلها، و إن كان فى مقدمة هذه الموضوعات ما يعرفه بربه- عقيدة و نظاما- و يقربه إليه .. باعتبار أن ذلك هو مفتاح الحياة الحقيقية الهادفة للإنسان، و مفتاح الانطلاق فى كل جانب من جوانبها على هدى و بصيرة.

فحين مدح الله العلماء و

رفع درجاتهم لم يخصص العلماء بعلوم الدين، بل أطلق و عمم فقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «1». و حين قارن بين العلماء و الجهال أطلق و عمم كذلك .. فقال:

هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «2» و حين حدد الذين يخشونه و يعرفونه قال: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «3» و قد جاء هذا عقب آيات تلفت الأنظار إلى التأمل و التدبر فيما خلقه الله من ماء و ثمرات و دواب و جبال و إنسان الخ .. ليصل المتأمل إلى الإيمان بالله و عظمته مما يميل بمفهوم العلماء هنا إلى العلماء الباحثين المتدبرين فى هذه المخلوقات مما يطلق عليه الآن علوم الفضاء و الجو، و علم النبات، و الحيوان، و الجيولوجيا .. الخ .. لأن هؤلاء أكثر اطلاعا على أسرار الكون و عظمة صنع الخالق ..

______________________________

(1) سورة المجادلة/ 11.

(2) الزمر/ 9.

(3) فاطر/ 28.

علم التفسير، ص: 8

و قد كثرت فى القرآن الآيات التى تعرض مظاهر الكون و يأتى فى آخرها حث أصحاب العقول على التدبر فيها ليصلوا إلى ما وراءها و يبدأ التدبر من نظرة سطحية ينظرها الإنسان العادى فيجد عظمة الله فى كل شى ء، إلى النظرة المتعمقة القائمة على العلم و لو ببعض التفاصيل و السنن فى هذه المخلوقات. و هذا يفتح الباب للمؤمن لكى يتعلم و ينظر و يتدبر و يتعمق لتأتى نظرته فيها عمق، و فيها اعتبار أكثر .. مما جعل علماء الإسلام يقولون، إن هذا يفرض على المسلمين تعلم العلوم التى تتيح لهم الوصول إلى دقائق صنع الله فيما خلقه .. من أجل غاية عليا هى تعميق الإيمان فى القلوب، و هذا

بالتالى يبعد هذه العلوم عن أن تكون وسيلة للشر و الإيذاء، مما يحصل مثله الآن و لا سيما أثناء الحروب ..

و إذا انتقلنا بعد ذلك إلى أحاديث رسول الله و هى الموضحة و المفسرة للقرآن و أغراضه، نجد الأحاديث تحض المسلمين على التعليم و تبين فضل العلماء، و لا تقيد العلم بفرع دون آخر.

«فالحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها» رواه الترمذى ..

و الحكمة تعنى هنا كل علم نافع.

«اطلبوا العلم و لو فى الصين» و قد روى من طرق يقوى بعضها بعضا ..

«إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع» رواه أبو داود و الترمذى

«من سلك طريقا يبتغى به علما سهل الله به طريقا إلى الجنة» رواه أبو داود و الترمذى

«من خرج فى طلب العلم فهو فى سبيل الله حتى يرجع» رواه مسلم و الترمذى

«الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله و ما والاه و عالما و متعلما» رواه الترمذى

«فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب» و فى رواية كفضلى على أدناكم .. رواه الترمذى

«طلب العلم فريضة على كل مسلم» «البيهقى و غيره»

علم التفسير، ص: 9

ففي هذه الأحاديث و غيرها كثير لم يحدد العلم بعلم خاص، فهو مطلق العلم فى أى فرع من الفروع، مراعيا فى تعلمه تقوى الله، و نفع النفس و العباد.

و قد جعل الرسول صلى الله عليه و سلم من وسائل فداء أسرى بدر، أن يعلموا المسلمين القراءة و الكتابة.

و أمر صلى الله عليه و سلم زيد بن ثابت رضى الله عنه، أن يتعلم لغة اليهود- بعد ما حدث منهم، و لم يعد يأمن جانبهم، و هذا الفهم العام الواسع لمعنى العلم هو الذى كان سائدا

فى تلك الأيام، و لم يكن محددا كما هو الحال عندنا عند ما قسمنا المواد إلى علوم، و رياضة، و آداب، و فن. و. و .. الخ .. و القرآن يقول: «و فوق كل ذى علم عليم» و يقول على لسان قارون: «إنما أوتيته على علم عندى» و يقول: «و لقد آتينا داود و سليمان علما» .. و كل هذا علم عام.

و فى علوم الدين خاصة، وردت الآية الكريمة

فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ 122 «1»

ليسد هؤلاء المتعلمون المتفقهون حاجة المسلمين إلى معرفة أمور دينهم.

و من هذه الآية أيضا يمكن الانطلاق إلى العلم و إلى التخصص فى كل فرع تحتاج إليه الأمة فى أمور حياتها.

و هكذا يدفع الإسلام المسلمين دفعا إلى طلب العلم و التبحّر فيه، دون أن يحدد نوع أو فرع هذا العلم، فالحكمة و المعرفة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ..

______________________________

(1) التوبة/ 122.

علم التفسير، ص: 10

نهضة المسلمين العلمية

و على هذا الأساس من الفهم المستقيم لمعنى العلم، انطلق المسلمون إلى العبّ من المعرفة، بشتى ألوانها و موضوعاتها دون أى تحرج من تعلم أى علم، حتى و لو كان شرا أو فيه شر .. و منطقهم فى هذا كما يقول أحدهم:

و أعرف الشر لا للشرو لكن لتوقيه

فمن لا يعرف الشرمن الخير يقع فيه و كان من الطبيعى أن يبدءوا بمعرفة ما يتصل بدينهم من فهم القرآن، و أحكام العبادات، و المعاملات التى جاء بها الإسلام، من واقع إخلاصهم لدينهم. و حرصهم على تطبيقه فى حياتهم .. ثم انطلقوا بعد ذلك و معه إلى كل علم، و كل فن لم يقفوا

عند حد فيه و لم يتحرجوا من العبّ منه .. على اعتبار أن ذلك مما يأمرهم به دينهم أو على الأقل مما يرضى عنه .. حتى كنا نجد العالم منهم بجوار إحاطته بعلوم التفسير و الحديث و الفقه، و علم الكلام متبحرا فى الطب، و فى الفلسفة، و فى الموسيقى .. و فى اللغة، و الأدب، و نذكر نموذجا لهذا النوع من العلماء. الإمام فخر الدين محمد عمر بن الخطيب الرازى المولود فى سنة 453 ه و المتوفى سنة 606 ه، فقد صدرت عنه كتب فى: التفسير، و علم الكلام، و الأصول و الفقه، و النحو و الأدب، و الفلسفة، و الطب و الهندسة، و الفلك، بجوار معارفه التى لم يصدر فيها كتب، و يعتبر تفسيره موسوعة عامة فى مختلف العلوم مع التفسير.

فكان العالم بالطب أو الهندسة، أو الفلك أو بها جميعها عالما أيضا فى شئون الدين، و اللغة و الأدب، مما يشبه أن يكون عالما موسوعيا يجمع بين أطراف العلوم المختلفة فى موضوعاتها .. لم يروا بحكم دينهم و تدينهم أن هناك شيئا يحد من تعلمهم و من تبحرهم فى علوم أخرى بجوار العلوم المتصلة بالتفسير و الحديث و اللغة .. كلها علوم يدعوهم دينهم إلى معرفتها.

و لذلك وجدنا فطاحل من علماء المسلمين، فى كل فرع من فروع العلم ..

علم التفسير، ص: 11

و يذكر «روم لاندو» فى كتابه «الإسلام و الغرب» «1» تحليلا لذلك بعد أن يدركه و يعجب به، و يرى أن الدافع إليه عند المسلمين:

رغبة متقدة فى اكتساب فهم أعمق للعالم كما خلقه الله.

قبول للعالم المادى لا بوصفه دون العالم الروحى شأنا و مقاما، و لكن بوصفه صنوا له فى الصحة

و السوخ.

واقعية قوية تعكس فى صدق و إخلاص طبيعة العقل العربى اللاعاطفى.

فضولهم الفهم الذى لا يعرف الشبع فى المعرفة.

و أخيرا و أولا أن الدين و العلم فى نظر الإسلام لم يول كل منهما ظهره للآخر، و يتخذ طريقا معاكسا، بل كان الأول عندهم باعثا من البواعث الرئيسية للثانى.

اعتقادهم بأن كل ما فى الوجود صادر عن الله، و كاشف عن قدرته، و لذا فهو جدير بالمعرفة و التأمل: من وجد الصوفى إلى قرصة البعوضة، إلى انطلاق السهم، إلى مرض الطاعون. إلى غير ذلك من المظاهر، كله من الله، فيجب أن يدرس و يعرف حق المعرفة.

و قد روى أن عمر بن الحسام كان يقرأ يوما كتاب «المجسطى» فى الرياضيات السماوية «الفلك» لبطليموس على أستاذه الأبهرى، فدخل عليهما بعض الفقهاء، فقال لهما: ما الذى تقرءانه؟ فقال الأبهرى: «أفسر آية من القرآن الكريم و هى قوله تعالى:

أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنَّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ «2»

فأنا أفسر كيفية بنائها.

فهكذا كان الربط عندهم بين العلوم المختلفة و القرآن الكريم .. فكلها نابع منه، و خادم له.

______________________________

(1) ص 246.

(2) سورة ق/ 6.

علم التفسير، ص: 12

و لذلك يعلق الإمام فخر الدين الرازى على هذه الرواية، فيقول بعد أن أوردها: «و لقد صدق الأبهرى فيما قال، فإن كل من كان أكثر توغلا فى بحار مخلوقات الله كان أكثر علما بجلال الله و عظمته»

و الله الذى يحب المؤمنين الأقوياء كما يعلمنا رسول الله، كيف يكونون كذلك إذا لم يتعلموا كل ما يوفر لهم هذه القوة؟

و الله الذى أمرهم أن يعدوا لأعدائهم ما يستطيعون من القوة لكى يسكتوهم و يرهبوهم عن التعرض لهم ..

و الله الذى جعل العزة

له و لرسوله و للمؤمنين.

كيف يمكن أن يكون ذلك كله واقعا كما يحب الله و يرضى دون أن يكون المسلمون على أكبر قدر من العلوم المختلفة التى يحتاجونها فى صلاتهم بربهم، و فى صلاتهم مع الناس، و فى سيطرتهم على الطبيعة، و تسخيرهم لها؟

كيف يكونون ملبين أمر ربهم «و أعدوا لهم» إذا لم يكونوا أسبق الناس جميعا فى معرفة أسرار الكون، و فى صنع القنابل و الصواريخ .. و غير ذلك من أحدث وسائل القوة، و إذا لم يكونوا المبرزين فى علوم الفضاء و البحار، و الزراعة و فى الصناعة و الصحة، و فى كل ما يوفر للإنسان القوة و الصحة فى كل جانب؟ و المؤمن القوى خير و أحب الى الله من المؤمن الضعيف.

و من هنا سار الدين مع العلم فى طريق واحد .. و كان الدين هو القاطرة التى تجر مقطورات العلم، و خزائنه المتنوعة. و كلها تكون قطارا واحدا، أو قافلة واحدة فى الحياة تسير باسم الله.

و قد أنتج هذا نهضة علمية و حضارية أضاءت الدنيا، و مهدت الطريق للنهضة الأوروبية الحديثة .. و حمل هذه النهضة، أو أضاء شمعتها، رجال مؤمنون بربهم، على مختلف مستوياتهم، و اتجاهاتهم .. لا يزال الكثير منهم درة فى تاج الإنسانية.

نذكر منهم على سبيل المثال: عالمنا «أبا الريحان البيرونى» 362 ه- 973 م و توفى سنة 440 ه- 1048 م .. و نبوغه فى عدة علوم كان من أهمها الفلك

علم التفسير، ص: 13

و الرياضة، يقول عنه المستشرق الألمانى الذى نشر كتبه: إن البيرونى هو أعظم عقلية ظهرت فى التاريخ، لا فى الشرق وحده، و لا فى الغرب وحده، و لا فى القديم وحده، و لا

فى العصور المتوسطة و لا العصور الحديثة، إنه أكبر عقلية ظهرت فى التاريخ.

هذا العالم الفذ الذى سبق الأفكار كلها فى عالم الرياضة و الفلك، كان من كبار العلماء المشتغلين بعلوم الدين أيضا، حتى ليروى أحد أصدقائه أنه ذهب ليزوره، و هو على فراش الموت و فى النزع الأخير، فحين رآه قال له: لقد كنا نتحدث فى يوم من الأيام عن الجدات الفاسدات (اصطلاح فقهى للجدود من ناحية الأم)، فإلام انتهينا من أمرها؟

فقال له صاحبه: أ فى هذه الحالة، و هذه الظروف تسأل عن الجدات الفاسدات؟

فقال له البيرونى لأن ألقى الله و أنا من العالمين بها، خير من أن ألقاه و أنابها من الجاهلين»

و تحدثا سويا فى الموضوع ثم خرج الزائر الصديق، و لم يبعد إلا قليلا عن البيت، حتى سمع الصراخ لموت البيرونى.

هذه الواقعة التى كانت آخر تحرك علمى فى حياته، ترينا لما ذا كان أعظم عقلية، و أعظم عالم فى التاريخ .. ثم ترينا الحافز الدينى الذى كان يدفعه و يدفع أمثاله إلى العبّ من العلم بكل أنواعه .. فكان مع نبوغه فى الفلك و الرياضيات و غيرها، متبحرا كذلك فى العلوم المتصلة بدينه و أحكامه، لأنه لم يكن هناك أى حاجز بينها، بل كان بعضها يغذى بعضا و يقويه ..

و كان «الكندى» أبو يوسف يعقوب بن إسحاق 185 ه 801 م المتوفى سنة 251 ه- 865 م، الفيلسوف العربى المولود بالكوفة، كان ملما بعلوم الدين، بجوار اشتهاره بالفلسفة و الرياضيات و الطبيعيات و الفلك، و الطب و الجغرافيا، و الموسيقى و كان لحبه لدينه و غرامه بالفلسفة معنيا بالتوفيق بينهما.

يقول عنه الغربيون الذين درسوا كتبه: «إنه أحد ثمانية هم على وجه الإطلاق النابغون

فى العالم».

علم التفسير، ص: 14

كان مع دراسته و إحاطته بعلوم الدين، أحد ثمانية من النابغين فى العالم فى الرياضة، و كان طبيبا ناجحا و موسيقيا يعلم الموسيقى و يعزف، و يتخذها إحدى وسائل العلاج، مما وصل إليه العلم أخيرا.

و ابن الهيثم (أبو على الحسن، ولد بالبصرة سنة 355 ه 965 م و رحل إلى مصر و أقام بها و توفى سنة 431 ه- 1039 م فى عهد الدولة الفاطمية) كان نموذجا بل من أعلى النماذج فى النبوغ فى العلم بشتى فروعه، و إن كان قد اشتهر عنه نبوغه فى «علم البصريات» و له نظريات و طرق فى البحث التجريبى سبق به كل علماء أوربا، و كان أستاذهم الذى عنه أخذوا، و بفضله عليهم اعترفوا ..

و ابن سينا (أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا، المولود قرب بخارى سنة 370 ه 980 م- و المتوفى سنة 428 ه 1036) درس العلوم الشرعية و العقلية، حتى أصبح حجة فى الطب و الرياضة و الفلسفة و الموسيقى بجانب تبحره فى العلوم الدينية، و محاولاته التوفيق بينها و بين الفلسفة.

تلك بعض النماذج للعلماء الذين جمعوا بين علوم الدين، و العلوم الأخرى التى نبغوا فيها، و هناك مئات و آلاف من أمثالهم، نبغوا فى ظل الإسلام ..

و جمعوا بين علوم الدين و اللغة، و بين العلوم الأخرى التى نسميها الآن علوما حديثة، و كل ذلك فى ظل الإسلام و بتوجيه منه، حتى ليقول العالم الفرنسى «سيديو»: لقد كان المسلمون منفردين بالعلم فى تلك القرون المظلمة، فانتشر فى كل مكان وطئته أقدامهم، و كانوا هم السبب فى خروج أوربا من الظلمات إلى النور.

و يقول «بريفو» فى كتابه «تكوين الانسانية»:

العلم هو أجل خدمة أسدتها الحضارة العربية إلى العالم الحديث، فالعلم الأوربى مدين بوجوده للعرب.

و يتحدث السيد جمال الدين الأفغانى فى كتاب «خاطرات جمال الدين» للمخزومى، عما سبق إليه العرب و نبغوا فيه، فيذكر الكثير من اكتشافات العلماء الإسلاميين. كالجاذبية و المركز، و لم يكن المكتشف لهما «إسحاق نيوتن» و كذلك التحليل و التركيب، و الفوسفور، و استحضاره، و استحضار

علم التفسير، ص: 15

الأوكسجين، و الإيدروجين، و الآزوت، و حامض الكبريت و الكبريت و غيرهما و قال: كل ذلك من مكتشفات العرب، و كان الأساتذة فى علم الكيمياء للجيل الثالث الهجرى هم: أحمد بن سلمة المجريطى، و تلميذه ابن بشرون، و أبو السمح، و قد تقدمهم مثل جابر بن حيان الحرانى، و من بعدهم زكريا أبو بكر الرازى و غيرهم.

و قالوا إن «بيكون» هو أول من جعل التجربة و المشاهدة قاعدة العلم العصرية، و أقامها مقام الرواية ... و ذلك حق فى أوربا، و أما عند العرب فقد وضعوا هذه القاعدة لبناء العلم عليها فى أواخر القرن الثانى الهجرى .. و منها أخذ «بيكون» و يذكر «جوستاف لوبون» أن القاعدة عند العرب كانت «جرب و شاهد و لاحظ تكن عارفا» و عند الأوربى إلى ما بعد القرن العاشر المسيحى: «اقرأ فى الكتب و كرر ما يقول الأساتذة تكن عالما»

«و أما فى الكيمياء فلا يمكنك أن تعد مجربا واحدا عند اليونانيين، و لكنك تعد من المجربين مئين عند العرب، و لهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم».

و يقول الفيلسوف «درابر» الأمريكى: تأخذنا الدهشة احيانا عند ما ننظر فى كتب العرب فنجد آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا فى زماننا.

و يقول الرئيس السابق للولايات

المتحدة «أيزنهاور» فى خطاب له:

«إننى عند ما أتطلع إلى المستقبل أرى ظهور دول عربية حديثة سوف تقدم إلى القرن الحاضر مساهمات تفوق تلك التى لا نستطيع أن ننساها، إننا نذكر أن علوم الحساب و الجبر فى الغرب مدينة كثيرا للرياضيين العرب، كما أن الكثير من أسس علم الطب فى العالم، و كذلك علم الفلك قد وضعه العرب». «1»

ذكرت هذا مختصرا قدر الإمكان، لنزيل من الأذهان ما علق بها أخيرا فى عصور الضعف من أن الإسلام يفرق بين العلوم، فيحتضن بعضها، و يحث على تعلمه، و يكره بعضها، و يكره أن يتعلمه المسلمون، و هو ما عرف فى عصور

______________________________

(1) نشرة الاستعلامات فى 10/ 2/ 1959.

علم التفسير، ص: 16

الضعف بالعلوم الحديثة، و ليعلم المسلم و غيره من نصوص القرآن و السنة، و من واقع المسلمين إبان العصور الأولى، أن الإسلام يحتضن العلم على مختلف موضوعاته، و أن الواجب على المجتمع المسلم، أن يوفر لنفسه العلماء و الصناع و الزراع و غيرهم فى كل ناحية من نواحى الحياة .. فإذا خلا المجتمع من علماء أو متخصصين فى ناحية من النواحى، وجب وجوبا شرعيا عينيا مؤكدا على ولى الأمر، العمل على توفير هذا التخصص للأمة، حتى لا تحتاج لغيرها، و تكون عالة عليه فى حياتها. يستوى فى ذلك كل علم، و كل حرفة و مهنة، و إن كان من الضرورى- عقلا و شرعا- أن تكون هناك أولوية بين هذه العلوم حسب حاجة الأمة إليها، سواء فيما يتصل بعلاقتها مع ربها أو بعلاقتها مع الناس و تشكيل حياتها.

و لما كان الإسلام يضع قاعدة أولى للانطلاق إلى العمل فى الحياة و هى قاعدة الإيمان، و يبنى على هذه القاعدة تنظيم

حياة الإنسان التنظيم الدقيق الإيجابى، كان من المهم أولا العناية بكيفية بناء هذه القاعدة و ما يتفرع عنها من نظم لضبط حياة الإنسان و استقامتها.

و من هنا كانت علوم الدين فى مقدمة العلوم التى يجب على الإنسان تحصيلها، و كان من الضرورى أن يوجد العلماء أو المعلمون، و المتخصصون الذين يتولون الإشراف و التوجيه لبناء هذه القاعدة و صيانتها.

و من أجل هذا كانت عناية القرآن الخاصة بهذه المهمة، و كان النص عليها بذاتها، مع ما جاء من حث عام على العلم، و مدح للعلماء، و رفع لدرجاتهم.

. الخ ..

كان هذا التخصيص دليل عناية خاصة ببناء القاعدة الأساسية، فى حياة الفرد المسلم، و فى حياة الجماعة.

و ذلك فى قوله تعالى «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» «1».

______________________________

(1) التوبة/ 122.

علم التفسير، ص: 17

ذلك لأن لكل أمة قاعدة تنطلق منها إلى نهضتها، و إلى إثبات وجودها و قيمتها فى الحياة

و المسلمون لم يبدءوا حياتهم، و لم يخطوا الخطوة الأولى فى وجودهم، استجابة لفلسفة يضعها بشر، و إنما بدءوا حياتهم على أساس الإيمان بدين منزل من عند الله، و توجيه رسول أرسله الله، و على هدى قرآن أنزله الله على رسوله .. و استمدوا من ذلك وجودهم و كيانهم و شخصيتهم، و بنوا عليه كل تحركاتهم و سكناتهم، و شكلوا على هديه كل مظاهر حياتهم ..

فمن الضرورى و الحالة هذه أن تكون عنايتهم الأولى مركزة على فهم دينهم، و فهم القرآن الذى يمثل العمود الفقرى فى حياتهم، و فهم ما يتصل بالعقيدة و سلامتها، و ما يتصل بالأحكام فى العبادة و المعاملات، حتى تأتى أعمالهم

طبقا لما يطلبه منهم دينهم ..

و قد برزت هذه الناحية فى حياة المسلمين بصورة طبيعية، سواء من جانب رسول الله صلى الله عليه و سلم، أو من جانبهم، فكانت عناية الرسول بتبليغهم ما أنزل عليه من القرآن أولا بأول، و تطبيقه على نفسه، و على من حوله من أصحابه، و شرح ما يحتاجون إليه من شرح و بيان .. و كانت عنايتهم كذلك بتلقى ما نزل من القرآن، و حفظه ما أمكن، و الحرص على ملازمة الرسول، و فهم توجيهاته، حتى كانوا يتناوبون حضور دروسه، و مصاحبته، و الحاضر منهم فى نوبته يبلغ الغائب ما سمعه و عرفه .. حتى لا يفوت الواحد منهم شى ء نزل من القرآن، أو قاله الرسول .. مدفوعين إلى ذلك بقوة إيمانهم بالله و رسوله، و حرصهم على أن تكون حياتهم صورة حية لما جاء به نبيهم و رسولهم، و طبقا لتعاليم دينهم ..

كان دينهم هو كل شى ء هو زادهم فى حياتهم، و هو رفيقهم حين يلقون ربهم .. و كان القرآن- كما قلنا- يمثل العمود الفقرى لحياة المسلمين، فمن الطبيعى- و الحالة هذه- ألا يغيب عنهم منه شى ء، و كانوا يفهمون القرآن و توجيهاته بسليقتهم العربية، فإذا أشكل عليهم منه أمر استوضحوه من رسول الله، أو سأل بعضهم من يظن أنه عارف به ..

علم التفسير، ص: 18

و قد جاء القرآن مغطيا لكل جوانب الحياة تفصيلا أو إجمالا، و زاده الرسول توضيحا و بيانا و تفصيلا، استجابة لأمر الله و توجيهه

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 44 «1»

فلم يكن عجيبا، أن يركزوا كل حياتهم، و يوجهوا كل اهتمامهم إلى القرآن يلتمسون منه الرشد

و الهدى.

و كان أسلوب القرآن مع ذلك أسلوبا عربيا جديدا جاذبا أخاذا لم يسمع العرب الفصحاء مثله من قبل، و لم يتمالك أعتى المشركين من أن يصفه برغم معارضته له بقوله «إن له لحلاوة، و إن عليه لطلاوة» كما لم يتمالك عمر بن الخطاب و هو فى ثورته ضد الرسول، و ضد من اتبعه، من أن يلقى سلاحه، و يسلم حين سمع آيات منه من سورة «طه».

و كان العرب فى ذلك الوقت على أعلى درجة من الفصاحة، فلم يكن من الصعب عليهم، أن يفهموا القرآن، و يتذوقوا حلاوته .. و إن كانوا متفاوتين بالطبع فى مدى الفهم و الإدراك .. و واقفين ضرورة عند بعض ألفاظ و معلومات جديدة عليهم يحتاجون إلى تفسيرها و تجلية المراد منها.

و فى هذه الأرض الطيبة، و فى هذا المناخ، وضعت البذور الأولى لما كان يمكن أن نسميه: بعلوم الدين. من تفسير و حديث و أحكام و عقيدة ..

كانت كلها شيئا واحدا يرسم طريق المسلم على هدى القرآن و تعليمه .. يتصل بعضه ببعض، و يغذى بعضه بعضا .. و كانت حياة الرسول صلى الله عليه و سلم و أقواله، أوضح بيان و تفسير للقرآن الكريم .. و صورة عملية لما يطلبه الله من المؤمنين .. فحين سئلت السيدة عائشة رضى الله عنها عن خلق رسول الله، قالت: كان خلقه القرآن ..

و من أجل هذا يكون كلامنا عن تفسير القرآن أولا هو الوضع الطبيعى الواقعى.

______________________________

(1) النحل/ 44.

علم التفسير، ص: 19

علم التفسير

اشارة

نشأة العلم كنشأة كل كائن حى نام .. يبدأ بذرة صغيرة تتطور لتصبح جنينا أو نبتا، ثم تنمو شيئا فشيئا لتكون فى نهاية أمرها إنسانا، أو شجرة، أو نبتا

مثمرا يعطى ثمره، أو يمنح ظله و الفائدة منه ..

فحين نتكلم عن علم التفسير أو غيره من العلوم التى سنتحدث عنها، فإننا نتكلم عنه من خلال هذا التدرج الطبيعى .. و نلقى الضوء عليه منذ تبدأ بذوره الأولى .. فما أى شى ء ولد كاملا، و لا وجد عملاقا .. و لكنها سنة الله فى الحياة، كل حياة «و لن تجد لسنة الله تبديلا».

استطراد لا بدّ منه:

و قبل أن نكشف عن البذور الأولى فى علم تفسير القرآن أحب أن ألقى ضوءا سريعا أمام القارئ حول القرآن و نزوله و كتابته و جمعه.

1- بدأ نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه و سلم و هو فى سن الأربعين، و ذلك بقوله تعالى «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ .. الآيات» من سورة العلق.

2- ثم توالى نزول القرآن بعد ذلك عليه فى مناسبات متفرقة، و لدواع متنوعة، حتى توفى صلى الله عليه و سلم و هو فى سن الثالثة و الستين فكان منه ما نزل عليه فى مكة و هو أكثره، و منه ما نزل عليه بالمدينة .. و كانت آخر آية نزلت بعد رجوع الرسول من حجة الوداع هى آيات الربا المذكورة فى أواخر سورة البقرة «1»، بينما كانت آية «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»- المشهور عند الكثيرين- خطأ- أنها- آخر ما نزل- قد نزلت قبل ذلك فى عرفات و الرسول يحج حجته الأخيرة- حجة الوداع- باتفاق.

3- كان جبريل عليه السلام ينزل على الرسول بالسورة أو الآيات أو الآية، فيسارع الرسول فى حفظها كما يتلقاها .. ثم يمليها على كتاب وجيه فيكتبونها ..

______________________________

(1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا .. الآيات.

علم التفسير، ص: 20

و

يسمعها لمن يلقاه أو يحضر إليه من اصحابه، فيحفظونها، و هؤلاء بدورهم يتلقى عنهم من لم يسمعها من الرسول فيحفظها، و كان مما يسهّل عليهم الحفظ، أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة .. كما يقول الله:

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ، عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1»

4- و كان جبريل عليه السلام ينزل على الرسول فى رمضان من كل سنة فيراجع معه ما سبق نزوله، حتى كان آخر رمضان من حياة الرسول فقرأ على الرسول و قرأ عليه الرسول كل ما أنزل خلال السنين التى نزل فيها القرآن، يقرءانه مرتبا حسب الموجود فى المصحف الآن ..

5- لم يتيسر لكل الصحابة أن يحفظوا القرآن كله، بل تيسر لعدد قليل منهم، و الباقون حفظ كل منهم ما تيسر له، و لكنهم جميعا كانوا حريصين على العمل بالقرآن أولا بأول.

6- نزل القرآن أولا فى مكة و مدة فى المدينة بلهجة قريش وحدها و كانت للقبائل لهجات عربية تختلف فى بعض النطق و الكلمات عنها فى قبيلة أو قبائل أخرى .. فلما دخلت القبائل العربية بكثرة فى الاسلام بالمدينة، احتاج الأمر إلى التسهيل عليها فى القراءة بلهجتهم فى بعض الكلمات، بناء على رجاء توجه به الرسول لمولاه، تخفيفا عن أمّته. كما جاء فى الحديث الصحيح المشهور فى هذا الموضوع .. «انزل القرآن على سبعة أحرف»

7- توفى الرسول صلى الله عليه و سلم و القرآن محفوظ فى الصدور كله لدى بعض الصحابة، و متناثر عند الكثيرين. كما أنه كان مكتوبا محتفظا به ..

8- فى عهد أبى بكر رضى الله عنه و بمشورة عمر رضى الله عنه، كانت مراجعة المكتوب على المحفوظ مع ترتيبه حسبما نزل و احتفظ به عند أبى

بكر الخليفة، ثم عند حفصة زوج الرسول و بنت عمر رضى الله عنهم جميعا بعد وفاة أبى بكر.

______________________________

(1) سورة الأسراء/ 106.

علم التفسير، ص: 21

9- و فى عهد عثمان رضى الله عنه، ظهرت الحاجة الماسة إلى كتابة مصحف يكون مرجعا و إماما لجميع المصاحف و للقراء، و كان أساس الجمع لهجة قريش، و إهمال ما عداها من اللهجات العربية الغربية التى لم تنتشر، حتى لا يستفحل الخلاف بين قارئى القرآن، مما يتسبب عنه تفريق وحدة المسلمين، فعمل رضى الله عنه على كتابة مصحف يجمع عليه المسلمين.

10- أرسل لكل قطر من الأقطار نسخة من هذا المصحف الإمام الذى سمى بمصحف عثمان ليكون هو المرجع الوحيد فى قراءة القرآن و حفظه، و ليحرق ما عداه مما يخالفه، مما كان يضم بعض اللهجات التى أهملها المصحف الإمام و أجمع الصحابة على استحسان هذه الخطوة توحيدا لكلمة المسلمين حول كتاب الله».

11- و منذ هذا اليوم و على مر الأيام و السنين، و المسلمون شديد و العناية و الحرص على التمسك برسم المصحف الإمام و كلماته، برغم ما فى رسمه من مخالفات أحيانا لما عرف فيما بعد بالإملاء و طريقة كتابة الكلمات و الحروف ..

حتى لا يتسرب إليه أدنى خلاف و لو فى رسم حرف من حروفه ..

12- و بذلك امتاز القرآن على كل ما عرفه البشر من كتب مقدسة، و غير مقدسة، أنه الكتاب الوحيد الذى ظل كما هو، و كما أنزله الله، محفوظا فى الصدور، مكتوبا فى المصاحف. و هذه ميزة تفرّد بها القرآن، كما تميز بها المسلمون على غيرهم فى الحفاظ على قرآنهم، و كان ذلك كله تحقيقا لوعد الله:

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ

9 «1»

13- كان لأكثر ما نزل من القرآن أسباب. من أسئلة أو حوادث نزلت من أجلها الآيات، مما سمى أخيرا بأسباب النزول، و أفردها العلماء بمؤلفات خاصة بها .. و هى تهيئ للقارئ و المفسر فهم الآيات. و لكن لا تبقى الآيات خاصة

______________________________

(1) سورة الحجر/ 9.

علم التفسير، ص: 22

بهذا الذى نزلت من أجله، و ينتهى مفعولها بانتهائه، بل تبقى لتعالج كل موضوع يجد، و يمكن انطباقها عليه، مما عبر عنه العلماء بعد ذلك بقولهم:

«العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» فلم تبق حاجة لمعرفة السبب إلا للمعاونة على فهم الآية، و إن كان من الضرورى أحيانا معرفته عند فهم بعض الآيات.

علم التفسير، ص: 23

هل ترك الرسول تفسيرا كاملا للقرآن؟

لعل البعض يفهم من قوله تعالى «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» أن الرسول صلى الله عليه و سلم تولى تفسير كل آية من القرآن لصحابته رضوان الله عليهم .. و لكن هذا فهم مبالغ فيه و غير دقيق، إذ أن قوله تعالى:

«لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» يعنى تبين ما يحتاج منه إلى بيان ..

و قد أنزل الله القرآن على رسوله بلغة قومه «إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» و كان العرب فى ذروة البلاغة و هم أرباب الفصاحة، و قد نزل القرآن يخاطبهم جميعا. و يحثهم لما يدعوهم إليه، و من الطبيعى ألا يكون غامضا عليهم فكانوا أقرب الناس إلى فهمه و إدراك معانيه و تقدير بلاغته، حتى وجدنا أعتى الناس عداوة للرسول، ينقلب- بمجرد سماعه- إلى مسلم تابع له، و أيضا أشد الناس إخلاصا و دفاعا عنه، و وجدنا آخرين يتزعمون معارضته، و إيقاع الأذى به و بدعوته، و مع ذلك تأسرهم بلاغة القرآن و

معانيه، و يتسارقون و يتسربون ليلا، للاستماع إلى الرسول صلى عليه و سلم و هو يقرؤه بصوت مسموع، إشباعا للذة الاستماع إليه، مع كراهتهم له.

و لو لم يفهموه و يحسوا بلاغته، ما سحرهم بيانه، و ما جذبهم لهذه المخاطرة التى خاطروا فيها بأنفسهم و بمراكزهم و زعامتهم وسط معسكر الكافرين بالرسول، لو انكشف أمرهم .. و قلنا كانوا أقرب الناس إلى فهمه، لأنهم لم يكونوا جميعا على مستوى واحد من الفهم له و إدراك معانيه إذ من الطبيعى أن تكون أفهامهم متفاوتة، حتى لما يسمعون من كلامهم .. و ذكرت لنا الروايات الصحيحة، أن بعضهم، و منهم مقربون إلى رسول اللّه كان يتوقف فى فهم بعض ألفاظ وردت فيه، و إن كان يفهم المعنى الإجمالى للآية و السورة. و الغرض من سياقها .. فوجدنا الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه، مع مكانته يسأله رجل عن معنى «الأب»

علم التفسير، ص: 24

بتشديد الباء فى قوله تعالى «وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا» فيقول: نهينا عن التكلف و التعمق «1»» و فى رواية أخرى .. أنه كان يقرأ الآية فتساءل عن معنى «الأب» كما روى «2» أيضا أنه كان يقرأ «أو يأخذهم على تخوف» و هو على المنبر، فتساءل عن معنى «تخوف» فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا هو التنقص، و نحن الآن مع تباعد القرون بيننا و بينهم، لا نجد القرآن غامضا علينا إلا النادر منه الذى يحتاج إلى وقفة معه حتى العامى منا يدرك الكثير من معانى الآيات، و يخشع قلبه لما يسمعه ..

و فى ذلك يروى ابن جرير الطبرى عن ابن عباس رضى الله عنهما قوله:

«التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها،

و تفسير لا يعذر أحد بجهالته، و تفسير تعرفه العلماء، و تفسير لا يعلمه إلا الله» كوقت قيام الساعة.

فالوجهان الأولان ظاهران لا يحتاجان إلى عناء فى فهمهما، و الثالث هو مدار البحث و الأسئلة، و الرابع يسكت عنه لأنه مما استأثر الله بعلمه ..

و مما لا شك فيه أن الصحابة كانوا أحيانا يتوجهون إلى الرسول لفهم بعض الآيات، أو يتولى الرسول شرحها دون سؤال و يتلقى الصحابة الشرح و الجواب ..

مما عنيت كتب الحديث بذكره.

و لكن إلى أى مدى نثق فى صحة ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه و سلم من تفسير لبعض هذه المواضع من القرآن الكريم؟ ذلك أمر تكفلت به كتب السنة الموثوق بها، و لست أعنى بذلك كل كتب السنة المتداولة، لأن بعضها روى فى هذا الباب روايات لا يمكن أن تقبل عقلا .. فمثلا:

أخرج الحاكم عن أنس رضى الله عنه أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن القنطار فى قوله تعالى:

«وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ» «3» فقال: القنطار ألف أوقية «بينما روى الإمام احمد

______________________________

(1) فجر للمرحوم أحمد أمين ص 281.

(2) المصدر السابق عن كتاب الموافقات للشاطبى.

(3) من قوله تعالى «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ» الآية 14 سورة آل عمران.

علم التفسير، ص: 25

فى مسنده و ابن ماجة عن أبى هريرة رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: القنطار اثنا عشر ألف أوقية»

و لو اعتبرنا ما فى الروايتين صحيحا، لكانت النتيجة أن الرسول قال مرة:

القنطار ألف أوقية، و مرة اثنا عشر ألف أوقية، و الزمن واحد أو متقارب جدا، لا يحتمل تغيير وزن القنطار، فلا

يعقل أن يصدر عن الرسول مثل هذا التناقض الواضح، و مع ذلك فهما روايتان، رواهما الحاكم، و الإمام أحمد ..

فلو قبلنا مثل هذه الروايات معصوبى الأعين، مغلقى العقول باعتبار أنها وردت فى بعض كتب السنة لأسأنا إساءة واضحة إلى رسول الله.

و لذلك فإن مما نحمد الله عليه أن نجد من المفسرين مثل الحافظ ابن كثير و تفسيره لهذه الآية يقف وقفة متأنية ناقدة و يقول: «لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حديث فى تحديد القنطار و ما ورد من ذلك فموقوف على الصحابة».

و ليقل لنا الصحابة ما يشاءون حسب علمهم عن أمورهم، فقد تكون صحيحة، و قد تكون غير صحيحة، و لسنا ملزمين بأن نأخذ ما يروى عنهم كما هو- فكل يؤخذ منه و يردّ عليه، ما عدا رسول الله صلى الله عليه و سلم، فلا بد إذن من التحوط فى قبول بعض الأحاديث الخاصة بتفسير القرآن، المروية فى بعض كتب الحديث عن الرسول بحيث لا نقبل منها إلا المقطوع بصحته فى كتب السنة، ذات الدرجة الأولى فى التوثيق، و إذا كان هذا بالنسبة لما يروى عن رسول الله فى تفسير القرآن فإن ما يروى عن الصحابة و التابعين يجب أن نقف موقف التحرز و التحوط منه، و ما علينا من شى ء إذا لم نقبل ما روى عن أحد منهم، و قلنا بغيره.

علم التفسير، ص: 26

ابن عباس و ما روى عنه

اشارة

و أذكر هنا على الأخص ما يروى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما فى باب التفسير، فقد أكثر الرواة الرواية عنه، حتى لا تجد آية فى القرآن غالبا إلا و يذكرون فيها قولا أو رواية لابن عباس، بل إن هناك تفسيرا خاصا

به، منسوبا إليه .. قد يزعم الكثيرون أنه رواه عن رسول الله. و هو مطبوع.

و ابن عباس كان فى نحو الثانية عشرة من عمره حين توفى رسول الله صلى الله عليه و سلم، و هو عمر لا يسمح بمثل هذه الاستزادة من الرسول، إلا أنه كان له من الفطنة و الذكاء المبكرين، و طهارة المنبت، و من دعاء الرسول له «اللهم فقهه فى الدين و علمه التأويل» يعنى التفسير لما رآه فيه من فطنة و ذكاء مبكرين، كما كان له من الحرص الشديد على تعويض ما فاته مباشرة عن رسول الله بالتلقى عن أصحابه، أينما كانوا، و تفريغ وقته لذلك، و قد توفى فى نحو السبعين من عمره بجانب تبحره فى علوم اللغة، و حفظ أقوال العرب و شعرهم، أقول كان له من ذلك كله، ما جعله يحتل منزلته العلمية منذ عمره المبكر، و يأخذ- لذلك- من اجلال الصحابة و فى مقدمتهم الخلفاء الراشدون- ما لم يقاربه فيه أمثاله و قرناؤه .. حتى رويت روايات كثيرة فى فضله العلمى، و تبحره فى علوم الدين و اللغة، و لكنا مع اعتقادنا بمكانة ابن عباس العلمية، نكاد نشك، أو نشك فعلا كما شك الأقدمون فى الكثير مما روى عنه فى التفسير، حتى يقول الإمام الشافعى رضى الله عنه: «لم يثبت عن ابن عباس فى التفسير إلا شبيه بمائة حديث «1»» و نعتقد أن الكثير مما نسب لابن عباس من روايات قد أضيف إليه فى زمن الدولة العباسية، المنسوبة إليه و إلى أبيه العباس، و يرضيهم و يسرهم كل من يتقدم بزيادة علم و فخر لابن عباس

______________________________

(1) الإتقان ج 2.

علم التفسير، ص: 27

تقربا و تزلفا. و الساعون

لذلك كثيرون، و من هذا و ذاك تكونت الهالة الكبرى حول اسمه.

و هناك أمر آخر نعتقد أنه كان من أسباب الزيادات على ابن عباس.

فابن عباس مشهور بالعلم و له نسبه و مكانته و الوضاعون لم يتورعوا عن الوضع على رسول الله ليؤيدوا وجهة نظرهم، برغم إنذار الرسول صلى الله عليه و سلم للكذابين الذين ينسبون إليه ما لم يقله: (من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ..

أقول إذا كان هناك من تجرأ و نسب إلى الرسول ما لم يقله، برغم هذا الإنذار، فإن الأمر يكون سهلا فى ذلك بالنسبة للوضع على ابن عباس، و نسبة كلام اليه لم يقله .. و هى- أعنى النسبة لابن عباس- تكسب الكلام على أية حال قوة لا يكتسبها من مجرد نسبة الكلام أو الرأى لقائله.

و من هذا و ذاك كثرت نسبة الروايات لابن عباس حتى وجدنا العلماء الناقدين يقفون أمام هذه الكثرة و يزنونها بالموازين التى و زنوا بها أحاديث الرسول أعنى من وجهة الرجال الذين رووا كلامه، و مبلغهم من الثقة، فيزيفون الكثير، و يضعفون الكثير، و يخرجون لنا بالطريقة أو ببعض الطرق التى يمكن أن نثق بها على تفاوت فى هذه الثقة.

و لا شك أن اهتمام الناقدين من العلماء بنقد الرجال الذين يروون عن ابن عباس هو دليل على اهتمامهم، أو إن شئت فقل اهتمام جمهرة طلاب العلم و العلماء، بما يروى عنه، و احتجاجهم به، فكان لا بدّ من غربلته، حتى يتبين الصحيح السليم من غيره.

و لعل مظهر هذا الاهتمام يبدو لنا واضحا جليا فى كتب التفسير .. فإننا لا نكاد نجد آية إلا و قد روى المفسرون فى معناها رأيا لابن عباس، و قد

يذكرون له رأيين متعارضين فى الآية، مما يقطع بعدم صحة الروايتين أو إحداهما على الأقل، و مع ذلك تروى الروايتان!! كما رووا عنه فى اسم الشجرة التى أكل منها آدم فى تفسير الطبرى ..

علم التفسير، ص: 28

[ابن عباس و الاسرائيليات]

و لقد أخذ على ابن عباس أو على ما روى عنه، كثير من الروايات الغريبة، التى تدل على أن مصدرها ليس هو القرآن، و لا الحديث، و لكن من الكتب و المعلومات الإسرائيلية، مما يقطع- إن صحت نسبة هذه الروايات إليه- بأنه كان يستفيد ممن أسلم من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام، و كعب الأحبار فى موضوعات من القرآن لا تتعلق بعقيدة أو تكليف من التكاليف، فإن هذين لا يصح أن يلجأ فيهما إلى غير ما ورد فى القرآن، و لا يعقل أن ابن عباس كان يروى عنهم فى هذا، لكنه كان يروى- فيما يقول الرواة عنه- فيما يشبع فضول الناس فى القصص التى جاءت فى القرآن الكريم، مما طواه و سكت عنه، و كان مسلمو أهل الكتاب يتحدثون بما يشبع هذا الفضول، الذى لا نزال نرى كثيرا من المسلمين يتعلقون به حتى الآن- و إلا فمن أين جاء لابن عباس أو لغيره، كعلى رضى الله عنهم، بمثل هذه التفصيلات؟ ..

و قد قلت من قبل: إن صحت هذه الروايات .. لأنى أشك فى أن رجلا كابن عباس أو على رضى الله عنهما يسلم عقله و دينه لأمثال هؤلاء و يأخذ عنهم.

و أمامهم حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم يدلّهم إلى الطريقة التى يجب أن تتبع فى مثل هذه الحالة: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم و لا تكذبوهم. و معلوم أن هذا فى

غير ما ورد فيه نص من القرآن، و ما هو من أصول و تعاليم الإسلام .. فإنه لو وافق كلامهم ما عندنا صدقناهم. و إن خالفه كذبناهم، فالحديث إذن فيما سكت القرآن عن بيانه فى القصص مثلا. فلا يعقل إذن أن يأخذ ابن عباس عن الإسرائيليين مثلا: لون كلب أهل الكهف، و لا نوع خشب سفينة نوح، و أمثال هذا مما لم يتعرض له القرآن، لعدم الحاجة إليه، و لاكتمال العبرة فى القصة بدونه، و لنهى الرسول عن تصديقهم أو تكذيبهم فيه، لأن نقله عنهم و تعليمه للناس معناه تصديقهم فيه و الاقتناع به.

[يعيب على الأخذ عنهم]

و إذا أضفنا الى هذا ما رواه الإمام البخارى عن ابن عباس أنه وقف يخطب الناس، و قد هاله اتجاههم لأهل الكتاب، ليشبعوا فضولهم العلمى بسؤالهم عن

علم التفسير، ص: 29

أشياء لم يذكرها القرآن فقال لهم: يا معشر المسلمين: تسألون أهل الكتاب، و كتابكم الذى أنزل على نبيه صلى الله عليه و سلم أحدث الاخبار بالله، تقرءونه لم يشب؟ و قد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله، و غيروا بأيديهم الكتاب فقالوا: (هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) أ فلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم. و لا و الله ما رأينا رجلا منهم قط يسألكم عن الذى أنزل عليكم. أى ليأخذه عنكم، و مفهوم أنهم لم يكونوا يسألونهم عن الصلاة أو تحريم الخمر أو كيفية الحج مثلا، بل كانوا يسألونهم عن أشياء فى القصص و أمثالها، مما سكت القرآن عنه لعدم الحاجة فى العبرة إليه. جريا وراء الفضول العلمى، و غريزة حب الاستطلاع.

فلا يعقل إذن أمام هذا الحديث الصحيح أن ينهى ابن عباس المسلمين

عن الأخذ من أهل الكتاب، و تصديق ما فى كتبهم بهذه الصورة، ثم يسأل هو أهل الكتاب عن أشياء يرجعون فى الإجابة عنها إلى كتبهم و معلوماتهم، التى عرفوها من هذه الكتب، بل و خيالاتهم.

و لا يغير من الموضوع شيئا أن الذين كان يسألهم ابن عباس قد أسلموا، إن قلنا إنه كان ينهى المسلمين عن الأخذ من أهل الكتاب الذين لم يسلموا، لأن المصدر فى الحالتين واحد و هو كتبهم .. و لا يعقل أن ينهاهم عن شى ء و هو يفعله. اللهم إلا إذا كانت ثقته الكاملة فيهم جعلته يستبعد أن يخبروه بشي ء غير واثقين به.

و إزاء هذا لا نملك إلا أن نهوى على رأس كل الروايات التى ذكرت فى التفسير إلى ابن عباس فى هذه الناحية فنطيح بها، و نبرئ ابن عباس من مسئوليتها، و نتحمل وزر بقائها فى كتب التفسير المتداولة حتى الآن، تحشو أذهان المتعلمين و القراء بمعلومات واهية، لا سند لها، و تخرج لنا جيلا مخرفا من طلاب العلم، فإن العملة الزائفة تطرد العملة الصحيحة من السوق و تقضى عليها كما يقال.

و لا بد لنا مع ذلك من وقفة قصيرة مع صرخة ابن عباس هذه فى المسلمين، ينهاهم عن مساءلة أهل الكتاب و التعلم عليهم بهذه الشدة.

علم التفسير، ص: 30

فابن عباس لا يقف هذا الموقف، أو يحمل هذه الحملة، إلا لأنه رأى أن إقبال المسلمين على التعلم من أهل الكتاب، و التأثر بهم، قد أصبح ظاهرة تنذر بالخطر .. و هى ظاهرة تشبه الظاهرة التى تقلق الكثيرين منا الآن، و التى تتمثل فى الإقبال على كل ما يرد لنا من الغرب من أفكار و أنظمة، و الإعجاب بها، مع عدم

الالتفات الواجب إلى كتابنا و علمنا و أفكارنا .. و ذلك يشبه التهيؤ النفسى لفقد الثقة بالنفس فى أمر مهم يتصل بصميم كيان المسلمين، و كتابهم .. أ لا ترى لقول ابن عباس لهم: (و لا و الله ما رأينا رجلا منهم قط يسألكم عن الذى أنزل عليكم) فلم إذن تعتمدون على علمهم و تثقون بكلامهم؟.

فلم يحمل ابن عباس على هذا الهجوم- إذن- إلا الخطر الذى أحسه من الاندلاق على معلومات أهل الكتاب فى أمور لا تلزم المسلمين. و لا ينقص من شأنهم عدم العلم بها، بل ربما شوّشت عليهم و نخرت عقولهم.

فهل يعقل مع هذه الصرخة و الشدة أن ينقل ابن عباس عن أهل الكتاب و يصدقهم؟!!

و مع ذلك فان هذه الظاهرة تبين لنا إلى أى حد اختلطت معلومات المسلمين- فى القصص و أمثالها- بمعلومات أهل الكتاب، مما يدعونا إلى الشك فى كل رواية فى هذا الموضوع، حتى و لو رويت عن رجل ثقة لا نشك فى عدالته.، إذ من الذى أنبأه و خبره؟ و من أين استقى العلم الذى يقوله؟ ..

و كثير من المزيفين زيفوا على العدول روايات، و نسبوها إليهم .. و إننا لا نستطيع القول بأن الناس- كل الناس- قد امتنعوا عن مساءلة أهل الكتاب، أو أن هذه الظاهرة التى أقلقت ابن عباس قد اختفت، و قضى عليها فى كل مجتمعات العالم الإسلامى حينذاك، بمجرد أن ابن عباس أو غيره ممن يكون قد هالته هذه الظاهرة قد نبه و قرع الأجراس.

حديث آخر

و هناك حديث لا بد من إيراده هنا، فإنى أعرف أن كثيرا من القراء المتخصصين سيذكرونه، و هم يقرءون هذا الإنكار على من يأخذ من أهل الكتاب فى تفسير القرآن،

أو ربما ذكروه فيما كتبوا.

علم التفسير، ص: 31

هذا الحديث فيما رواه البخارى عن عبد الله بن عمر هو: «بلغوا عنى و لو آية، و حدثوا عن بنى إسرائيل و لا حرج. و من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) «1» فبعض المشتغلين بالتفسير من العلماء يرون أن هذا يفيد إباحة النقل، و التحدث عن أهل الكتاب فيما يروونه و ينقلونه من كتبهم!!

و لا بد لنا حينئذ من وضع الحديث الأول هنا بجانب هذا الحديث- و كلاهما رواه البخارى «2»- يقول عليه الصلاة و السلام «لا تصدقوا أهل الكتاب و لا تكذّبوهم و قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ ..» الآية «3».

فأصبح أمامنا حديثان: الأول .. يدعونا إلى ألّا نصدق أهل الكتاب، و لا نكذبهم فيما يروونه من كتبهم، و معنى هذا أننا لا ننقل عنهم، لأن النقل يؤدى إلى ترويج كلامهم، و حمل الناس على تصديقه، لا سيما إذا كان الناقل موثوقا به عند الناس .. و النتيجة أننا لا يصح أن نحدث عن بنى اسرائيل. و الثانى يقول: (بلغوا عنى و لو آية و حدثوا عن بنى إسرائيل و لا حرج) و يأتى هذا الأمر بعد الأمر بالتبليغ عن الرسول و لو آية .. كأنهما بميزان واحد أو متقاربان على الأقل فى إفادة العلم و فى ضرورة الثقة!!

و الحديثان فى ظاهرهما لا يمكن أن يصدرا عن الرسول .. فلا بد اذن من شى ء خفى يحتاج إلى التأويل فى معنى الحديثين حتى يلتقيا ..

و قد سبق أن بينا معنى حديث (لا تصدقوا أهل الكتاب و لا تكذبوهم) و قلنا

إن مجال تحقيق هذا الحديث و تنفيذ ما جاء فيه، هو ما لم يرد فيه نص من القرآن أو السنة .. مثل ما سكت عنه القرآن من تفاصيل القصص .. فلا يصح أن ننقلها عنهم، و نحكى للناس لون كلب أهل الكهف، و نوع خشب سفينة نوح الخ ..

______________________________

(1) ج 6 من فتح البارى فى شرح البخارى- كتاب الأنبياء- باب ما ذكر عن بنى اسرائل.

(2) فى فتح البارى ص 120 ج 8.

(3) 136- من سورة البقرة.

علم التفسير، ص: 32

فأين مجال الحديث الآخر: (حدثوا عن أهل الكتاب و لا حرج)؟ إن كان الأخذ عنهم فيما جاء به القرآن أو تحدث به الرسول فلا مانع و لا حرج. لأنه يكون مؤيدا لهما، و إن كانا فى غير حاجة لتأييد، لكنه استئناس على كل حال تقرّ به العيون .. إلا أنه ليس موضوع كلامنا.

إن كلامنا فيما سكت القرآن عن بيانه كما سبق، فجاء أهل الكتاب فبينوه، فقالوا لنا مثلا: لون الكلب أبيض أو أسود أو الخشب كان من الزان أو الساج مثلا؛ فهل الحديث الذى يقول «حدثوا عن أهل الكتاب و لا حرج» يبيح لنا أن نمشى وراء أهل الكتاب، عند ما نفسر القرآن، و نقول ما قالوه، فى هذا و ذاك- و لو أنه لا يقدم و لا يؤخر لكنه ينسب الى تفسير القرآن، و يتناقله العلماء كأنه شى ء ثابت. و هو لا أصل له يعتد به؟

هل الحديث يبيح لنا أن نحكى عنهم أن الموت يأتى فى صورة كبش، و الحياة فى صورة فرس، كما نسب إلى ابن عباس فى بعض كتب التفسير؟!

هل الحديث يبيح لنا أن نفسر القرآن بما يحكونه- عن كتبهم- من أحوالهم و

أعاجيبهم، و يكون معنى ذلك تصديقهم دون سند عندنا نستند إليه إلا كلامهم؟ ..

أعتقد .. لا. و لا .. لأن الرسول قال فى هذا: (لا تصدقوهم و لا تكذبوهم) و لكن يمكن أن تسمعوا، و لا تعلقوا، و كونوا على حذر. لا تصدقوهم، لأن تصديقهم خطر، و لا تكذبوهم، لأن ذلك ربما يؤدى إلى شقاق و خلاف، أنتم فى غنى عنه. و ربما كان صحيحا فتكونون قد أنكرتم الصحيح و أنتم لا تعلمون و هذه هى منتهى العدالة فى العلم و فى الدين و منتهى الحياد.

و لا يبقى عندنا- لقبول الحديثين- إلا أن نقول: معناه حدثوا عنهم فيما يتفق حديثهم فيه مع ما تعرفونه من كتابكم و سنة نبيكم. و هذا أقصى ما يمكن أن نهضمه حتى لا نرد الحديث.

علم التفسير، ص: 33

و حينئذ لا يمكن الاستدلال بهذا الحديث على إباحة أخذ معلومات عن الإسرائيليين، لتفسير أو توضيح ما سكت القرآن عن بيانه

[احتلال اسرائيلى]

لقد احتل الإسرائيليون فى وقت مبكر أدمغة كثير من المفسرين، و أفسدوا علينا صفاء القرآن، و صفاء الأفكار، و شغلوا علماءنا بأقاويلهم و أضاعوا عليهم و علينا أوقاتنا، و كانوا هم السبب فى كثير من الخرافات التى تحتل أدمغة المسلمين فى كل مكان و زمان.

إنه احتلال سطا على الفكر الإسلامى أيام ازدهاره، و دام قرونا، و سيدوم، إن لم نتدارك الأمر و ننقى كتبنا و نخلصها من هذا الاحتلال .. و ما أخطره من احتلال .. و ما أشد فتكه بالعقول!! و لعل مجمع البحوث يكمل ما بدأه فى هذه الناحية ..

ترانى قد وقفت كثيرا مع ابن عباس. و لا بأس فى ذلك .. بل الأمر معه قد يستحق وقفة أطول،

و تشريحا أكثر فى كتاب ضخم و دراسة أعمق، لأنه عند كل المفسرين العمود الفقرى فى التفسير، حتى الذين عرف عنهم أو عن كتبهم (التفسير بالرأى لا بالمأثور) تجدهم يعنون بذكر بعض الروايات فى تفسير الآية، و فى مقدمتها ما يروى عن ابن عباس، لما ذكرنا من الهالة العلمية التى أحيط بها.

فهو حبر هذه الأمة و ترجمان القرآن، دعا له الرسول: فقال «اللهم فقهه فى الدين و علمه التأويل» فلما ذا لا نأخذ عنه؟

و ليس لنا من قصد فى ذلك .. إلا أن يتحرر القارئ من بريق الرواية عن ابن عباس، و ألا يحشو بها فكره. قبل أن ينظر إليها نظرة الناقد البصير .. فإن ابن عباس مظلوم فى الكثير مما أسند إليه ..

[ليس تفسيره]

حتى تفسيره الذى عرف باسمه و المسمى (تنوير المقياس من تفسير ابن عباس) المطبوع المتداول و الذى عنى بجمعه العلامة مجد الدين الفيروزآبادي

علم التفسير، ص: 34

صاحب القاموس المحيط .. هذا التفسير ضعيف الصلة بابن عباس إن لم نقل إنه مما نسب إليه زورا ..

يقول المرحوم الشيخ محمد على النجار فى مقدمته لكتاب البصائر «1» للفيروزآبادي و هو يتحدث عن مؤلفاته و آثاره: «و من هذا أنه جمع ما يروى فى التفسير عن ابن عباس، و اعتمد على رواية محمد بن مروان عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس. و يقول السيوطى فى الاتقان «2» فى النوع الثمانين الذى عقده لطبقات المفسرين: إن أوهى الطرق عن ابن عباس طريق الكلبى عن أبى صالح عنه. فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السدى الصغير فهى سلسلة الكذب»

و مع أن هذه هى حقيقة كتاب التفسير المنسوب لابن عباس، فإن جمهرة العلماء

و المتعلمين لا يعرفون هذا و يأخذون كل رأى فيه على أنه لابن عباس!!

أ رأيت إلى هذه المظاهرة الكبيرة التى أقامها المفسرون و الرواة لابن عباس و ما نسب إليه، و التى اندس فيها كثير من ذوى الأغراض المشبوهة، و دسّوا عليه نسب كثير من الكتب و الروايات؟

و مع أنه من المعروف عند رجال الجرح و التعديل- أو بلفظ آخر عند نقاد الرواة- أن طرق الرواية عن ابن عباس كثيرة، و أنهم لم يعتمدوا إلا القليل منها، و زيفوا الكثير. فإن بعض المفسرين لم يتحر الدقة فى الرواية عن الموثوق بهم، و ترك من عداهم، بل روى عن هؤلاء و هؤلاء دون أى تعليق، ثم جاءت طبقة أخرى من المفسرين أغفلوا أسماء الرواة .. و أوردوا ما رووه من أقوال منسوبة إلى ابن عباس و كأنها قضية مسلمة. و قرأ القراء ذلك، دون أن يخالطهم شك فى نزاهة المفسر، و فى صحة هذه الأقوال التى أوردها، فقبلوها، و تحدثوا بها، و اعتمدوا عليها فى تفسيرهم. فدخل من هذه الناحية على التفسير و على العقول خلط كثير.

______________________________

(1) حققه المرحوم الشيخ محمد على النجار و صدر عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة سنة 1964 م، ص (10) من مقدمة الجزء الأول.

(2) (189) من الجزء الثانى طبعة حجازى بالقاهرة.

علم التفسير، ص: 35

أذكر هنا على سبيل المثال ما جاء فى بعض كتب التفسير معزوا إلى ابن عباس عند قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ) من سورة تبارك، فتقول: «و اعلم أنه اختلف فى الموت و الحياة» و لا أدرى فيم الاختلاف، و لكن انتظر و أقرأ التفاصيل «فحكى عن ابن عباس و الكلبى و مقاتل (هكذا بالجملة):

أن الموت و الحياة جسمان. فالموت فى هيئة كبش أملح، لا يمر بشي ء و لا يجد ريحه إلا مات، و خلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء، و هى التى كان جبريل عليه السلام و الأنبياء عليهم السلام يركبونها!! خطوتها مد البصر!! فوق الحمار و دون البغل!! لا تمر بشي ء و لا يجد ريحها إلا حيى!! و لا تطأ على شى ء إلا حيى!! و هى التى أخذ السامرى من أثرها ترابا فألقاه على العجل فحيى الخ ..

فهل يعقل أن تقبل عقلية نيرة كعقلية ابن عباس مثل هذا الكلام. ثم من الذى رواه عن ابن عباس؟ لقد ذكر بجانبه الكلبى و مقاتل. و الكلبى هذا قال عنه النقاد أنه من الوضاعين الكذابين، و لا يوثق بروايته .. و مع ذلك كله ..

نجد هذا فى بعض كتب التفسير «1» التى يتناولها المبتدءون و غيرهم، و تغذى عقولهم بهذه الروايات، التى تفوق كل خيال، و التى ينفر منها كل ذى عقل يحترم نفسه. فهل كان العالم العلامة العارف بالله الشيخ أحمد الصاوى. الذى نقل هذا الكلام لا يعرف قيمة الرواية عن الكلبى؟

لكنه روى .. و السلام ..

و أمثال هذا كثير لا يحصى، و يكاد يغطى معظم تفسير الآيات الكريمة، و لا سيما عند ما تتعرض الآيات لقصة من القصص أو لأمر من الأمور الغيبية.

ابن عباس .. مظلوم، فكم اعتدى باسمه على تفسير القرآن و على العقول!!

حتى فى الأشياء التى لا يتصور عليها خلاف يعنى بعض المفسرين بذكر خلاف على ماهية الموت و الحياة و يجر المظلوم ابن عباس جرا إلى معركة الخلاف، و ينسب إليه هذا الكلام!!

______________________________

(1) وجدت هذا فى حاشية الصاوى على تفسير الجلالين. و لا بد

أنه مذكور فى غيره لأن الصاوى ينقل عن غيره غالبا .. أو دائما ..

علم التفسير، ص: 36

ابن عباس .. كان عملاقا فى علمه المصفى .. فاستغل اسمه و سمعته العلمية كل من أراد ترويج بضاعته الإسرائيلية الزائفة .. تماما كما يستغل بعض المزورين الاستغلاليين الآن أسماء الشركات الموثوق بها فى ترويج بضاعتهم التافهة الهزيلة.

و عفوا إذا وقفنا مع ابن عباس رضى الله عنهما، هذه الوقفة فهو و ما روى عنه يستحقها بل و أكثر منها .. محاولة منا لوضع الأمور فى نصابها ..

و لننتقل إلى الموقف العام للصحابة من التفسير ..

علم التفسير، ص: 37

الصحابة و فهمهم للقرآن اعتبارات لا بدّ من مراعاتها ..

اشارة

و نعود للكلام عن الصحابة رضوان الله عليهم و مدى فهمهم للقرآن و تفسيرهم له بشي ء أكثر من التفصيل ..

فحين نقول إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يفهمون القرآن، قد ينطبع فى أذهان الكثيرين أنهم كانوا يفهمونه على النحو التفصيلى الذى نراه الآن فى كتب التفسير، بحيث لم تكن هناك كلمة أو عبارة غامضة عليهم، لا سيما و هم عرب فصحاء و الرسول صلى الله عليه و سلم معهم، يعلمهم و يرشدهم، و يستطيعون سؤاله عن كل شى ء يدق فهمه عليهم ...

فهل كان الأمر كذلك؟.

و إذا شئنا أن نضع هذا السؤال فى صيغة أخرى، فإنه يمكن أن نقول: إلى أى حد كان الصحابة يفهمون القرآن و يفسرونه؟

و للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نضع أمام اعتبارنا الأمور الآتية:

1- أن القرآن عربى و الصحابة عرب فصحاء.

2- أنهم لم يكونوا سواء فى الفهم أو الذكاء، كما لم يكونوا سواء فى قربهم من الرسول و بعدهم عنه.

3- أن الوقت كان وقت دعوة و بناء للعقيدة و دفاع عنها بالحجة أو

السيف.

4- أن الصحابة كان همهم الأول الإيمان مع التطبيق و السلوك.

5- أن آيات نزلت و أحاديث صدرت من الرسول تحد من تتبع المتشابهات و من كثرة السؤال ...

6- أن البيئة العربية فى ذلك الوقت لم تكن بيئة علمية بالمعنى المعروف ..

هذه الاعتبارات يجب أن نضعها أمامنا، و نحن نتحدث عن فهم الصحابة للقرآن أو تفسيرهم له.

علم التفسير، ص: 38

و يمكن أن نتناول كل اعتبار من هذه الاعتبارات بشي ء من البسط و التوضيح.

نزل القرآن باللغة العربية فى عهد ازدهرت فيه هذه اللغة، فلم يكن قد داخل الألسنة شى ء مما داخلها بعد ذلك حين اختلط العرب بغيرهم، من أبناء البلاد التى اعتنقت الإسلام، و لقد امتن الله سبحانه على العرب بنزول القرآن بلغتهم، و فى متناول فهمهم

إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «1»

إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «2»

وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ «3»

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195 «4»

كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «5»

و مؤدى هذا كله أن القرآن نزل بلغة العرب واضحا و بينا، لكى يعقلوه و يتدبروه، و يصلوا عن هذا الطريق إلى الإيمان به، و بالذى أنزله، و من أنزل عليه .. و قد جعل الله معجزة رسوله فى هذا القرآن، و تحدى العرب أن يأتوا بسورة من مثله فى بلاغته و بيانه .. و هذا يقتضى بالطبع أن يكونوا مدركين له، و للمعانى التى احتوت عليها الآيات و عبرت عنها الكلمات .. إذ بغير إدراك المعانى لا يمكن تذوق البلاغة، و لا الإحساس بالعجز عن مجاراة القرآن فى التعبير عنها بمثل هذا الأسلوب.

______________________________

(1) أول سورة

يوسف.

(2) سورة الزخرف.

(3) سورة فصلت.

(4) الشعراء/ 195.

(5) فصلت/ 3.

علم التفسير، ص: 39

و هذا الذى كان .. فقد اتخذ الرسول من بلاغة القرآن أقوى سلاح لدعوته ..

فكان يحرص فى مجالات الدعوة للإيمان على أن يقرأ على المشركين العرب آيات منه، و هو مدرك تماما أنهم يتفاعلون مع تعبيراته، و يحسون ما فيها من روعة تفوق كل روعة يحسونها من كلام الخطباء و شعر الشعراء .. حتى كانوا يضطرون و هم فى ذروة معارضته، و الحملة عليه إلى اعتراف بعضهم لبعض سرا، بأن هذا ليس من كلام البشر، و لكنهم اتهموه أمام العامة بأنه سحر مبين، و أصدر زعماؤهم تحذيرا عاما من الاستماع إليه خوفا من تأثيره عليهم وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ 26 «1»

و قد وجدنا فى قصة إسلام عمر أن استماعه لآيات من سورة (طه) أطفأت ما فى نفسه من حمية جاهلية، و قلبته من رجل يتوعد الرسول، و يستعد لقتله، إلى رجل هادئ، و ادع، يستسلم للرسول، و يؤمن به، و يعز الله الإسلام بجرأته.

هذا- و أمثاله كثير- يدلنا بلا شك على أن القرآن كان مفهوما للعرب بمجرد أن يسمعوه، إذ لو لم يفهموه لما تأثروا به، و لما سحرهم بقوة بيانه و بلاغته ..

و لكن أى فهم كان؟

لقد نزل القرآن يتحدث عن العقائد، كما يتحدث عن التشريع، و عن قصص السابقين، و عن خلق الكون، و بعض مظاهره و ذلك بأسلوب جديد عليهم فى قوته و بيانه، مستعملا الحقيقة و المجاز و الكناية، و كثير من الموضوعات التى تحدث عنها جديدة عليهم، فإلى أى مدى كان فهمهم للآيات التى تتحدث عن هذا كله؟

هل كان فهمهم مستوعبا لكل

آية، و كل كلمة و عبارة، و فى أى موضوع من الموضوعات التى تحدث عنها القرآن؟

______________________________

(1) فصلت/ 26.

علم التفسير، ص: 40

أو أنهم مع تأثرهم العام ببلاغة القرآن لا يلزم أن يكونوا ملمين بمعانى القرآن كله و كلماته، بل كانت تفوتهم معانى بعض الكلمات أو العبارات، و الغرض المراد منها؟ تبعا لاختلاف مستوياتهم فى الفهم و الذكاء، أو لقربهم من الرسول- مصدر الإشعاع- و بعدهم عنه، أو لظروف أخرى غير ذلك؟

إن الإجابة عن هذا تحتاج إلى أن نعرف الجوانب التى كانت تستحوذ على الرسول و صحابته فى بناء حياتهم الجديدة، لأن هذه الجوانب هى التى يمكن أن تبين لنا ما إذا كان عندهم وقت فراغ يتيح لهم التوسع و الاستيعاب، و تبين لنا المنهج الذى كان يتناسب مع هذه الحياة الجديدة، أو يفرض نفسه فرضا عليها.

كما أن الإجابة تحتاج إلى معرفة المحصول العلمى، الذى كان لدى الصحابة قبل إسلامهم، و استقبلوا به القرآن و ما جاء به من معارف و علوم، لأن الرجل المحدود المعرفة، قد يكفيه من الفهم السطحى العابر، أو الإجمالى العام ما لا يكفى الرجل الواسع المعرفة و الثقافة. فكلاهما له نظرته الخاصة فيما يقرؤه أو يسمعه، و له تساؤلاته و مناقشاته، و موضوعاته، التى يمكنه أن يخوض فيها، و يسأل عنها، كما هو مشاهد محسوس الآن من الفرق بين الجو العلمى للوسط المثقف، و بين الجو العلمى للوسط الذى لم ينل حظا من الثقافة، من حيث الفهم و الدقة فيه، و من حيث نوع الأسئلة التى تطرح للإجابة عنها ..

و على أساس تحديد الجوانب المهمة فى الحياة الجديدة، و الوقوف على ما كان لدى الصحابة من محصول علمى سابق، يمكن تحديد

الاتجاه الذى اتجهوا إليه فى فهمهم للقرآن و تفسيره، لأن الطابع العام للحياة فى أى عصر من العصور، له تأثيره القوى على الاتجاه العام للناس، فى فهم القرآن. فطابع الحياة فى عهود الاختلاف و نشوء الفرق مثلا .. أضفى على تفسير القرآن اتجاها يتناسب معه، كما نلمس ذلك فى بعض التفاسير، و فى توجيه المفسر للآية، و فهمه لها على حسب اتجاهه السياسى أو المذهبى، و الطابع العلمى الذى يمتاز به عصرنا دفع كثيرا من الناس إلى إضفاء الثوب العلمى على كثير جدا من آيات القرآن و فسروها تفسيرا علميا، حتى خرجوا أحيانا عن الحد المناسب .. و هكذا ...

علم التفسير، ص: 41

بناء العقيدة أولا:

لقد كان أهم شى ء فى الحياة الجديدة هو- أولا- بناء العقيدة السليمة- عقيدة التوحيد، و القضاء على كل المظاهر التى تتنافى معها، و لم يكن ذلك بالأمر السهل فى بيئة مردت على الشرك، و عبادة الأصنام، و التعلق بالخرافات، و الاستهانة بالعقول، إلى حد أنها كانت تحكّم الطيور و الأحجار فيما تقدم عليه من أفعال،. و كانت تعد الخروج على شى ء من ذلك، خروجا على مقدسات الآباء الموروثة و تقاليدهم، و ثورة على ما تواضع عليه المجتمع، تجب المبادرة بقمعها و القضاء عليها.

و من هنا كانت العناية المركزة فى القرآن الكريم، و فى دعوة الرسول، على عقيدة التوحيد و البعث.

كان الإشراك قد تحصن فى عقول العرب، حتى أصبحوا يعدّون ما عداه أمرا غريبا يلفت النظر، و يدعو إلى العجب، و الدعوة إلى التوحيد مؤامرة تستدعى الحذر

أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ 5 وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ 6 «1»

فهذا

الحصن هو الذى يقف أمام دعوة الإسلام. و لا يمكن أن يلجأ الداعون للتوحيد إلى التسلسل من ورائه و تركه .. لا بد من مجابهته، و هدمه حجرا حجرا، بل لا بدّ من إزالة أنقاضه، و ترابه و غباره، و كل أثر من آثاره.

... و هذا كله ليس بالأمر السهل فإن هدم الحصون الحجرية- أو الخرسانية بلغة العصر- قد يكون أسهل كثيرا من التغلب على الحصون العقلية و التقليدية.

و من هنا يمكن أن نتصور أى شى ء كان يشغل الرسول و من آمن معه، و يأخذ منهم كل أوقاتهم و جهودهم.

______________________________

(1) أوائل سورة «ص».

علم التفسير، ص: 42

و القارئ يعلم بلا شك تلك الظروف التى عاش فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم و المؤمنون القليلون معه فى مكة مدة ثلاث عشرة سنة .. كما يعلم الظروف التى عاش فيها الرسول مع صحابته بعد ذلك فى المدينة.

و كلها ظروف تحتم توجيه أكبر قسط من الجهد و العناية للأمور الأكثر أهمية بالنسبة للدين الجديد: من الدعوة إليه و التمسك بمبادئه و تشريعاته من ناحية، و الدفاع المستميت عنه ضد أعدائه من ناحية أخرى، أو بلغة العصر الحديث:

إقامة بناء جديد قوى للدعوة فى الداخل، و دفاع و حماية لها من أعدائها فى الخارج.

و هذا هو الذى كان، فلقد انصرف الرسول و صحابته بكل ما يسعهم من جهد و طاقة، إلى تدعيم العقيدة فى النفوس، و العناية بالتطبيق لكل ما جاء به الدين من تشريعات، و الاستعداد التام لمجابهة كل عدو و الوقوف أمامه. [و هذا يعنى أن الناحية العلمية كانت هى الجانب الأهم فى حياة الرسول و المؤمنين، و كان المسلمون ينصرفون إليها بكل جهودهم و وقتهم،

بعد أن يعلمهم الرسول القائد، ما عليهم من واجبات ..

ثم لا ننسى أنه كان عليهم واجبات معيشية أخرى غير واجبات دينهم ..

[و لا ننسى أيضا أنهم مع حرصهم الشديد على التجاوب التام مع دينهم، و على حفظ القرآن، لم يستطع أكثرهم متابعة ما ينزل على الرسول صلى الله عليه و سلم من القرآن بالحفظ و الاستظهار .. و لم يكن هناك أمر فى القرآن، و لا فى كلام الرسول، يوجب عليهم استظهاره كله .. لأن ذلك شى ء قد يشق عليهم، و لا يستطيعون احتماله، و الله لا يكلف نفسا إلا وسعها .. و ليس المهم الحفظ و الاستظهار، و إنما المهم فى الدرجة الأولى: التنفيذ و العمل .. و هو ما حرصوا عليه، و قاموا به.

صحيح أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يحرص على أن يحفظوا، و كانوا هم الآخرين يتسابقون إلى الحفظ، و يعتبرونه مفخرة، لكن ذلك كله لم يصل إلى حد أن كل واحد منهم قد وجد الفرص الكافية لحفظ القرآن كله ... و إن كان كل واحد لم يفته أن يحفظ شيئا من القرآن قليلا أو كثيرا ..

علم التفسير، ص: 43

و كانوا يتفاوتون فى هذا الحفظ و يتفاضلون به، فحفظ كل منهم قدر ما يستطيع، على حسب ما يتيسر له، و إن كان هناك من الصحابة جمّ غفير عرف عنهم أنهم حفظوا القرآن كله فى عهد رسول الله.

و لا شك فى أن الواحد منهم إنما كان يعنى بتفسير ما يحفظ و فهمه، على قدر استطاعته، أو بالاستعانة بالرسول، أو بغيره من الصحابة، ممن يتوسم فيهم المعرفة. أما ما لا يحفظه فإننا لا نستطيع القول بأنه عنى بفهمه أو بتفهمه،

اللهم إلا إذا سمع أحدا يقرؤه.

و مؤدى هذا كله أن الصحابة رضوان الله عليهم مع عنايتهم الشديدة بالقرآن، لم يتيسر لجمهرتهم حفظه كله، كما لم يتوفر لهم بالتالى تفسيره و فهمه تفصيلا، و إن كان هناك من خواصهم من تيسر لهم حفظه، و توفر على فهمه قدر استطاعته.

و فى ذلك نروى ما قاله مسروق ( (جالست أصحاب محمد عليه الصلاة و السلام فوجدتهم كالإخاذ- يعنى الغدير- فالإخاذ يروى الرجل، و الإخاذ يروى الرجلين، و الإخاذ يروى العشرة، و الإخاذ يروى المائة، و الإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم)) يعنى يرويهم. يعبر بذلك عن اختلاف مستوياتهم العلمية، و محصولهم من فهم القرآن، كما تختلف الآبار فى كمية مياهها ..

و يقول ابن قتيبة: إن العرب لا تستوى فى المعرفة بجميع ما فى القرآن من الغريب و المتشابه، بل أن بعضها يفضل بعضا فى ذلك ..

و هذا أمر طبيعى كما سبق أن قررناه .. و قلنا إنه يرجع إلى استعداداتهم الفطرية، كما يرجع إلى قربهم من الرسول ..- مصدر الإشعاع- و بعدهم عنه .. و إن كان من الممكن أن نقول: أنه كان هناك قدر مشترك بينهم فى فهمهم العام لما يقرءون، أو يسمعون من القرآن، باعتبار أنهم عرب .. كما قررنا من قبل ..

و إذا كانت الدعوة الجديدة قد أخذت من الرسول صلى الله عليه و سلم و المؤمنين معه، جهدا و وقتا فى دعوة الناس إليها، و فى الدفاع عنها بالحجة أو

علم التفسير، ص: 44

بالسيف، مما أضفى على حياتهم الطالع العملى الجاد، فلقد كان من مستلزمات ذلك أن لا تكون هناك عناية إلا بما يمس هذه الناحية العملية .. و أن يحد من الاسترسال

وراء شهوة الكلام و الجدل، و إثارة الإشكالات و الشبه، فإن ظروف المسلمين فيما بينهم لا تسمح بذلك، كما أن ظروفهم أمام أعدائهم المحيطين بهم من كل جانب لا تستسيغه، و البناء الجديد يقتضى احتياطا و عناية لا بد منهما.

و من هنا تحدد المنهج الذى يجب أن يسير عليه الصحابة فى حياتهم العلمية، و كان لذلك أثره فى فهمهم للقرآن و تفسيرهم له.

علم التفسير، ص: 45

المنهج الفكرى فى الحياة الجديدة وصلته بفهم القرآن

هذا المنهج الفكرى كان من الضرورى أن يكون ملائما و متناسقا مع الحياة الجديدة و ضروراتها و فى إطارها، و إذا أمكن أن نستعمل مصطلحات العصر الحديث، قلنا: إنه كان من الضرورى أن يكون فى خدمة الحياة الجديدة و متطلباتها، كما يقال الآن: يجب أن يكون العلم فى خدمة الإنتاج مثلا، و أن يغذى الإنتاج الفكرى الأهداف العامة للدولة، و ذلك من أجل تماسك البناء، و هو لا يزال جديدا، و عدم إصابته بهزات عكسية، تترك عليه آثارها من التخلخل و التشقق ..

فكل ما يتصل بالعقيدة و تمتين بنائها مقبول بل مطلوب. أما أن تثار حولها شبهات و مجادلات نظرية تشتت العقول، تدخلنا فى التيه، فذلك أمر غير مقبول .. و ذلك مثل الكلام فى القضاء و القدر الذى لم و لن ينتهى إلى نتيجة حاسمة و لذلك نهوا عنه ..

و كل ما يتصل بتصحيح العمل- عبادة كان أم معاملة- فالكلام و السؤال و الجواب فيه مقبول. بل مطلوب كذلك، و لكن بقدر ما يصحح العمل، دون الاسترسال وراء شهوة الكلام و الجدل و الافتراضات.

و لقد كان القرآن ينزل فى شأن هذا و ذاك، و الرسول يتابعه بالبيان القولى أو التطبيقى بحيث لا يترك شيئا يحتاج إلى بيان

إلا وضحه .. و مع ذلك فمن الجائز أن يبقى هناك شى ء غامض لدى بعض الناس. و هذا يحمد منهم أن يستوضحوا أمره .. و من الجائز أن تنزل آية، و يفهم منها الصحابة شيئا من التكليف الغير المستطاع أو شيئا يخالف ما فهموه من قبل فيلجئوا إلى الرسول و يسألوه، فيوضح لهم الأمر، مسرورا بإقبالهم على فهم دينهم ..

علم التفسير، ص: 46

فمثلا .. حين نزل قوله تعالى من سورة الأنعام و هى مكية الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ 82 «1» شق ذلك على أصحاب رسول الله و قالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال الرسول صلى الله عليه و سلم: ليس بالذى تعنون. أ لم تسمعوا ما قال العبد الصالح:

إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ 13 «2» يعنى لقمان كما جاء فى سورته.

فهذا الذى فهموه أولا من الآية السابقة أزعجهم، لأنه يتصل بحياتهم فى الآخرة، و هم يحرصون على أن تكون حياة طيبة، فسألوا رسول الله، فبين لهم أن معنى الظلم فى الآية هو الإشراك، و أحالهم على آية أخرى حكت عن لقمان قوله لابنه: (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) و بهذا انتهى الإشكال.

و السيدة عائشة رضى الله عنها لما سمعت الرسول صلى الله عليه و سلم يقول:

«من حوسب عذب»، رأت أن هذا القول فى ظاهره، يخالف قوله تعالى:

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ 7 فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً 8 وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً 9 «3»

فهناك إذن من يحاسب، ثم يلقى أهله مسرورا فى الآخرة، و لا يلحقه عذاب. و الحديث يقول بصيغة التعميم (من حوسب عذب) فتلجأ إلى الرسول، و تحتج بالآية، و

كأنها تعارضه. فتقول له: «أو ليس يقول اللّه عز و جل فسوف يحاسب حسابا يسيرا، فقال لها الرسول صلى الله عليه و سلم (إنما ذلك العرض) و فى رواية ليس ذاك بالحساب و لكن ذلك العرض، أى عرض

______________________________

(1) سورة الأنعام الآية 82.

(2) انظر تفسير ابن كثير ج 2 سورة الأنعام. تفسير الآية المتقدمة .. و آية لقمان 13.

(3) سورة الانشقاق 7- 9.

علم التفسير، ص: 47

الأعمال على الله تعالى و تجاوزه عن السيئات منها ثم قال الرسول: (و لكن من نوقش الحساب يهلك، أو من نوقش الحساب يوم القيامة عذب) روايات مختلفة و المعنى واحد.

و سؤال عائشة رضى الله عنها كان فى أمر مهم، يتصل بمصير الناس فى الآخرة، و ما فهمته عنه من الآية الكريمة .. و رواية أخرى عن عائشة أيضا فى هذا تقول: (سمعت رسول الله يقول فى بعض صلاته (اللهم حاسبنى حسابا يسيرا) فلما انصرف، قلت يا رسول الله: ما الحساب اليسير؟ فقال: (أن ينظر فى كتابه، فيتجاوز له عنه. إنه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك) «1» و هو سؤال لتوضيح معنى يتصل بالآية السابقة.

و يروى البخارى فى صحيحه- فى باب الصوم- عن عدى بن حاتم رضى الله عنه قال: لما نزلت (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) «2» عمدت إلى عقال أسود، و عقال أبيض، فجعلتهما تحت و سادتى، فجعلت أنظر إلى الليل، فلا يستبين لى، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت له ذلك، فقال: «إنما ذلك سواد الليل و بياض النهار».

و فى رواية أخرى عن عدى أيضا بلفظ آخر «لما نزلت: و كلوا و اشربوا ..

الآية» عمدت إلى عقالين:

أحدهما أسود، و الآخر أبيض، فجعلتهما تحت و سادتى. قال: فجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لى الأبيض من الأسود أمسكت.

أى امتنعت عن الطعام و بدأت الصيام. فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته بالذى صنعت فقال: (إن وسادك- إذن- لعريض. إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل).

و تعليق الرسول صلى الله عليه و سلم: (إن وسادك لعريض) مبنى على أنه وضع تحته الخيطين اللذين جعلهما الله كناية عن بياض النهار و ظلمة الليل فاتخذ

______________________________

(1) انظر صحيح البخارى فى باب العلم و ابن كثير فى تفسير الآية من سورة الانشقاق ج 4 ص 48 طبعة الحلبى.

(2) سورة البقرة 187.

علم التفسير، ص: 48

و سادته كأنها أفق يضم هذين الخيطين. و فى رواية أخرى أنه قال له أيضا (إنك لعريض القفا) و بعض الناس يفهم من هذا أنه يرميه بالبلادة فى فهم المراد من الآية .. و لكنه من مستلزمات (إن وسادك لعريض) فما دام الوساد عريضا إلى هذا الحد فلا بد أن القفا الذى يستلقى عليه عريض كذلك بما يتناسب معه. و ربما يكون ذلك إشارة إلى أنه كان مستريحا فى نومه على وسادة مريحة فتكاسل عن القيام و أجرى تجربته و هو نائم.

و هى كلها تعليقات طريفة على هذا الفهم البدائى، الذى أخذ ما فى الآية على حقيقته، و لم يفطن إلى أن ذلك كناية عن خيط النور الذى يشق سواد الليل مؤذنا بطلوع الفجر ..

و الشاهد فى هذه الرواية هو أن الرجل فهم فهما فى القرآن، ثم لم يطمئن إليه بعد التجربة التى أجراها، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه و سلم يعرض عليه هذا الفهم، و يستوضحه الحقيقة

فيه، فبين له الرسول حقيقة المراد فى الآية ..

و أمثال هذه الاستفسارات لا بدّ أنها كانت كثيرة، و قد روى البخارى ما صح منها فى صحيحه و كانت أمرا لا بدّ منه فى فهم الصحابة للآيات التى تشرع لهم فى أمر عباداتهم أو معاملاتهم .. و من الطبيعى أن الرسول كان يتقبل هذه- الاستسفسارات بصدر رحب، و يجيب عنها بما يوضح لهم الفهم الصحيح.

لأنها كانت تدخل فى صميم الحياة العملية لهم .. و يتوقف عليها تسديد الخطى فى هذه الحياة ...

لكن العقل البشرى له جولاته فى نطاق الحياة العملية، و له تساؤلاته فيما يغيب عنه، و كثيرا ما يدفعه الفضول أو الرغبة فى الاطلاع على المجهول إلى أسئلة يرجو الإجابة عنها.

و قد نزل القرآن موجزا مجملا و حمال أوجه، و فيه متسع لمن يريد السير وراء الأسئلة التى من هذا النوع .. حيث ركز على موضع العبرة عنها، تاركا فيها بعض الجوانب التى يلح العقل فى معرفتها عادة ..

كما أن فى القرآن بعض الآيات التى تبدو فى ظاهرها متناقضة .. فالله «ليس كمثله شى ء» كما تقرر آية، ثم تأتى آيات أخرى، فتتحدث عن أن الله

علم التفسير، ص: 49

يدا (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) و وجها (وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ) و عينا (وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي)، و سمعا و بصرا (إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً). إلى غير ذلك من الآيات التى تبدو على غير اتفاق مع قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ) مما أطلق عليه أنه من المتشابهات فى القرآن .. بمعنى عدم جلاء معناه عند قراءته أو سماعه، كما يفهم سريعا من قوله تعالى مثلا: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها)

.. (وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

و هناك ألفاظ فى القرآن جاءت على غير ما اعتاد العرب فى كلامهم ( (الم.

ألر. المص. طسم. حم. ص. ق. ن). مما بدأ الله به بعض سور القرآن ..

و هناك آيات فى القرآن الكريم تنص على أن الله «يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ و (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً).

(وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) و آيات أخرى صريحة فى مجازاة الإنسان على ضلاله و على عمله، و ينتج عن هذه و تلك .. هذا الإشكال المزمن: هل العبد مسير أو مخير؟ و كيف يحاسب الله العبد على شى ء، نفذت به مشيئة الله و ليس فيه حينئذ خيار؟

آيات كثيرة فيها هذا و ذاك و ذلك .. و مرت القرون عليها، و الناس مختلفون متجادلون فى فهم المراد منها .. و ستمر قرون كذلك، دون أن يصل فيها العقل إلى رأى قاطع حاسم، فما ذا كان موقف صحابة رسول الله منها؟.

هل فهموها و وصلوا فيها إلى حل مريح، أو سألوا الرسول عنها فبينها لهم؟

لو أنهم فهموها أو بينها لهم الرسول، لروى لنا هذا الفهم، و هذا الحل، و استرحنا، إذ ليس من المعقول أن يندرس مثل هذا البيان عن هذه الآيات المشكلة، فلا يرث علمهم أحد ممن أخذ عنهم، و لا نتوارثه، مع أن الروايات، نقلت لنا الكثير من أقوال الرسول و أقوالهم، مما هو أقل شأنا من موضوع فهم هذه الآيات، و مع أن عهد التابعين قد كثرت فيه الأسئلة عن غوامض القرآن.

و لكن هل تمر عليهم دون أن يفهموها، و دون أن يسألوا عنها؟ ..

علم التفسير،

ص: 50

أظن ذلك هو الأقرب إلى العقل .. إذ لو سألوا و أجابهم عنها لوصل إلينا ذلك فيما وصل.

و ما دمنا لم نعثر على حديث صحيح عن الرسول، أو على رأى للصحابة موثوق بنسبته إليهم، فالأقرب للعقول أنهم لم يفهموها تفصيلا و لم يسألوا عنها.

و لكن كيف مرت دون أن يفهموها، و دون أن يسألوا عنها، و هى التى تشغلنا الآن كما أنها شغلت من كان قبلنا، و ستشغل من هو بعدنا، و يكثر فى فهمها الاختلاف كما كثر من قبل دون الوصول إلى رأى قاطع ..

ما المراد بقوله تعالى فى أوائل السور: الم. المص. الر. حم .. الخ؟

ما المراد بيد الله و سمعه و بصره و عينه؟

أ لم يفسرها الرسول تفسير قاطعا؟ أ لم يتطلع الصحابة لمعرفتها فيتركوا لنا فيها تفسيرا مقنعا؟

تروى بعض كتب التفسير عن أبى بكر و عمر أنهما مما استأثر الله بعلمه ..

و لو صحت هذه الرواية لكان معنى ذلك أنهم يعلمون ذلك من الرسول ..

و لقطعت هذه الرواية حبل الاجتهاد على كل متحدث يريد شرحها و فهمها ..

و لكن حبل الحديث و التفسير و الاجتهاد فى فهمها لم ينقطع، حتى بلغت الأقوال مثلا فى معنى الحروف المقطعة .. عشرات. و مغزى هذا أن هذه الرواية عن أبى بكر و عمر لم تصح، و لم تعتمد لدى المفسرين جميعا. فبقى باب الفهم و الاجتهاد فيه مفتوحا.

فرأينا فريقا من المفسرين يقف عن تفسيرها و يقول (الله أعلم بمراده) و آخرين منهم يفسرونها بما يمكنك الاطلاع عليه فى كتب التفسير .. و كلها تفسيرات اجتهادية ترجع إلى عقل المفسر و ترجيحه ..

و السبب فى ذلك كله أننا لم نرث عن الصحابة رواية

صحيحة معتمدة، تقطع الطريق على أى قول آخر.

فكيف تترك هذه الأمور غامضة دون توضيح؟ .. و هل يعقل أن تكون

علم التفسير، ص: 51

معانيها غامضة عليهم، ثم سكتوا فلم يسألوا الرسول، و هو المرجع الأعلى فى تفسير القرآن و فهمه؟ ..

أسئلة أجدها كلها نابتة من جونا العلمى و الفكرى الذى نعيش فيه، و الذى دأب الناس فيه على أن يسألوا عن كل شى ء، حتى ما لا يحتمل السؤال .. و فى هذه الأسئلة التى نتساءلها شى ء .. من الاستغراب، عن موقف الصحابة و إحجامهم عن السؤال .. و شى ء من الأمانى الغالية أن لو كان الصحابة سألوا عنها الرسول فبينها و أراحنا ..

فهل يلام الصحابة لعدم سؤالهم أو بيانهم؟.

إنه لا بد لنا لكى نفهم موقفهم و نقدره .. نحاول بتفكيرنا العيش معهم فى الجو الذى كانوا يعيشون فيه، و نقدر مع ذلك البساطة العربية التى كانت تنفر من التعقيد، و التى كانت طابعهم العام، و نعرف فى الوقت نفسه أن وقتهم كان وقت تعبئة عامة و تركيز حول المسائل المهمة، التى تأخذ من حياتهم الاهتمام الأول، و هى العقيدة و بناؤها، و الأحكام و الالتزام بها، و الأعداء الكثيرون المحيطون بهم و ضرورة مجابهتهم .. و أولا و أخيرا أمة جديدة فى كل شى ء، تزرع وسط حقول ألغام، و لا بد لها من الحذر و الحيطة التامة فى سيرها ..

فهل يحتمل هذا الجو- مع ما نعلمه من البساطة العربية- أن ينصرف الصحابة- و الحالة حالة طوارئ- إلى مناقشات حول موضوعات لا تدخل فى صميم عقيدتهم، أو عباداتهم و معاملاتهم. و هى موضوعات أثيرت فيما بعد، بدافع من الأمن و الفراغ، و اتساع الحركة الذهنية و

العلمية، و كثرة الداخلين فى الإسلام من غير العرب ..

لقد عاش الرسول صلى الله عليه و سلم بعد بعثته نحو عشرين سنة كانت هى مدة الدعوة إلى الدين الجديد بعد فتور الوحى، و منذ أمره بإنذار عشيرته الأقربين، و أمره بتبليغ الدعوة جهرا إلى الناس أجمعين. و قد قضى من هذه المدة نحو نصفها فى مكة فى حالة ضغط مستمر عليه و على أصحابه، و اضطهاد عنيف تحملوه صابرين .. و مطاردة و مصادرة لهم فى أفكارهم و تحركاتهم ..

علم التفسير، ص: 52

بل و حياتهم. فلم يكن من المعقول فى هذا الظرف أن تثور مناقشات نظرية حول هذه المتشابهات التى نزل أكثرها بمكة ..

و قضى رسول الله فى المدينة نحو عشر سنوات كذلك، قضاها كلها فى دفاع و حروب مستمرة فرضها عليه أعداؤه .. فكانت كلها سنوات طوارئ بلغتنا الحديثة .. و فى حالات الطوارئ لا يقبل فيها من الكلام و المناقشات ما يقبل عادة فى حالات الأمن و الرخاء .. بل تفرض التعبئة العامة جوها على الحياة و على الأفكار ..

هل يكون من المقبول و المستساغ لدينا- إذا كنا فى حالة حرب أو طوارئ و تعبئة- أن نثير فى الصحف بحوثا و مجالات نظرية تشغل الأفكار و تمزقها، و لو حول بعض المسائل الدينية البعيدة عن جونا الذى نعيش فيه؟

هل يستساغ أن نثير فى مثل هذه الحالة بحثا حول جواز ترجمة القرآن مثلا، أو عدم جوازها؟ أو حول من كان أحق بالخلافة. أبو بكر أم على؟. أو حول المراد من الحروف المقطعة التى بدئت بها بعض السور؟ أو حول القضاء و القدر؟

و هل الإنسان مسير أو مخير؟- أو حول القرآن، و هل هو

مخلوق، أو غير مخلوق؟. أو نثير بحثا حول الشعر القديم و الشعر الحديث؟. أو نعيد سيرة البيزنطيين فنتناقش: أيهما الأصل: البيضة أم الدجاجة؟!!

و إذا كنا لا نستسيغ ذلك حاليا مع شهوتنا الملحة دائما فى الكلام و الجدل، فكيف يمكن أن نطلب من الرسول .. و صحابته و قد كانوا فى حالة طوارئ مستمرة، و حالة حرب، و خطر الحرب، أن يسألوا و يبحثوا فى أشياء نظرية، و بعضها قد يثير الاضطراب الفكرى، و يبعثر الجهود، و يشتت الأفكار، و يؤدى إلى الدخول فى التيه؟ ..

و لكن أ ليس فى فهم معنى يد اللّه و سمعه و بصره اتصال بالعقيدة؟

نعم .. كان له اتصال .. و لكنهم فهموه فهما إجماليا و تركوه، و اكتفوا بهذا و لم ينساقوا الى ما وراءه مما أثير بعد ذلك .. اكتفوا و اكتفى منهم الرسول بأنهم مؤمنون بالله و بصفاته كما جاء فى كتابه، و ليس لهم أن يشغلوا أنفسهم و أفكارهم بالبحث

علم التفسير، ص: 53

عن: كيف، و لما ذا؟ بدليل أننا لو آمنا الآن بصفات الله كما وردت فى القرآن، و فوضنا معناها إلى الله، ما كان فى ذلك بأس، بل إن بعضنا يقول: هذا هو المطلوب منا. و هكذا سار المسلمون بعد الرسول. و تحرجوا عن السؤال فى هذه المتشابهات و قال الإمام مالك: إن السؤال عنها بدعة.

و مع أن طابع الحياة العملية و ظروفها التى عاشوا فيها قد أملى عليهم هذا الاتجاه، كان هناك بجوار هذا أو قبل هذا توجيهات من القرآن الكريم، و من رسول الله صلى الله عليه و سلم تحبذ مثل هذا أو تدعو إليه، و ترسم منهجا لتفكيرهم و أسلوب فهمهم للقرآن،

و الدين الجديد الذى اعتنقوه ..

علم التفسير، ص: 54

لا تسألوا عن أشياء ...

إن المعروف فى تاريخ الأديان و المذاهب حتى الوضعية منها أن الدور الأول فيها يكون الجهد فيه منصرفا الى القواعد العامة، و الى إشعال الروح، و الى التطبيق العملى لتعاليمها .. أما التفريعات و التعليلات، أو التماس فلسفة لهذه القواعد و هذه التعاليم، فذلك يكون بعد إرساء القواعد، و تكميل البناء، و غالبا ما يصاحب ذلك شى ء من خمود الروح و لو نسيبا عما كانت عليه فى الدور الأول .. دور الحماس و فوران العاطفة ..

لقد وجدنا القرآن الكريم يتعرض لأناس يكثرون من سؤال الرسول و وجدوها فرصة يشبعون فيها نهمهم فى الأسئلة عما فى نفوسهم حتى أدى شغفهم بكثرة الأسئلة إلى أن يسأل واحد منهم رسول الله: اين أبى؟ فيضطر الرسول إلى أن يخبره أنه فى النار، و كان قد مات على الكفر .. و يسأل آخر: من أبى؟ و آخر أين ناقتى؟ و آخر يسأله عن الحج أ واجب مرة فى العمر أم فى كل سنة .. إلى غير ذلك، فأنزل الله آية تحسم هذه الحالة، و تحد منها، لأنها لا جدوى منها و لا تتناسب مع الرسول و وقته و مهمته، و لا مع الصحابة و ما ينبغى أن ينصرفوا إليه فى حياتهم، فقال

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ 101 قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ 102 «1»

و فى ألفاظ الآيتين و ترتيبها المنطقى من قوة الردع و الزجر ما تنخلع منها القلوب و تخرس الألسنة «إن

تبد لكم تسؤكم. و إن تسألوا عنها حين ينزل

______________________________

(1) المائدة/ 101، 102.

علم التفسير، ص: 55

القرآن تبد لكم. ثم «قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين».

ردع قوى عن الاسترسال فى توجيه أسئلة للرسول لا داعى لها فوق أنها تشغله، و ما كان هذا الردع القوى إلا لأن «الناس» كانوا كما جاء فى حديث أنس رضى اللّه عنه «سألوا نبى اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حتى أضنوه بالمسألة. و فى حديث آخر يوضح المعنى «فلما أكثروا عليه المسألة غضب». و كان من أثر غضبه عليه الصلاة و السلام أن قال لهم: ذرونى ما تركتكم.

و أجدنى فى حاجة لأن أقف قليلا لأوضح: لم غضب الرسول؟ حتى لا أترك فى ذهن القارئ علامة استفهام كبيرة لا جواب عنها ..

سبب الغضب يمكن أن يبينه هذا الحديث «خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال- إن الله قد فرض عليكم الحج. فقال رجل- أ فى كل عام؟ فسكت عنه. حتى أعاده ثلاثا. فقال: لو قلت: نعم لوجبت، و لو وجبت، ما قمتم بها أو لما استطعتم .. ذرونى ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشي ء فخذوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شى ء فاجتنبوه.» «1»

فمثل هذا السؤال من الرجل «أ فى كل عام؟» لا محل له .. إذ لو كان فى كل عام لبينه الرسول دون حاجة إلى سؤال أحد. ثم كان على الرجل أن يكون فطنا حين لم يرد عليه الرسول، فيسكت هو الآخر، و لا يتمادى فى السؤال، كأنه هو الحريص وحده على البيان .. و مثل هذا الموقف كثيرا ما يدخل صاحبه فى

باب التنطع الذى قال عنه الرسول «هلك المتنطعون»، و الاسلام ذوق، و جمال، و إحساس، و جو، لا بد أن يشيع فيه هذا كله.

و الذين ما رسوا مهنة الدعوة أو التدريس، هم أكثر الناس إدراكا و فهما لمثل هذا الموقف، فكثيرا ما يجابه المدرس بأسئلة، تنطلق من بعض الطلاب

______________________________

(1) سنن النسائي و رواه مسلم و غيره بألفاظ مختلفة راجع تفسير الآية فى ابن كثير و فى المنار و غيرهما، و كيف كان غضب الرسول من كثرة الأسئلة فى موضوعات متعددة لا أهمية لها أو تؤدى للتشديد عليهم.

علم التفسير، ص: 56

كالرشاش فى (الفاضى و المليان) و قبل الشرح أحيانا، و خارج موضوع المدرس أحيانا، و لو استرسل المدرس مع السائل لتشتت الموضوع، و ضاع الوقت، و تبرم الباقون، و لو سكت الطالب (المتسائل) لجاءه الشرح الذى ينبغى له أن يفهمه، و لا يزيد عليه، و خرج هو و زملاؤه بالفائدة المرجوة ..

ثم ما ذا ربح السائل: أين أبى؟ «حين قال له: فى النار .. و معروف أن الذين ماتوا على الكفر مآلهم النار كما قال عمر ملطفا حدة الموقف، ثم هذا الذى سأل: من أبى؟ أ كان يضمن- كما قالت له أمه توبخه- أن أمه علقت فيه من غير أبيه فكان يفضحها أمام الجميع و يفضح نفسه؟ جو اندفع إليه الصحابة، و لم يكن لائقا أبدا بهم و لا بالرسول و مهماته ..

فكان لا بد للرسول أن يغضب من هذه الحالة التى تضيع الوقت و تبعد المسلمين عن الطابع الجدى الوقور، الذى يجب أن يكون طابع مجالس الرسول، و مجالس العلم بعامة، و طابع الجد الذى يعيشون فيه،

و من هذا يتضح جليا سبب الغضب، و

يبعد عن الأذهان ما قد يناوشها- من أن الرسول لم يكن يجب أن يسأل عن بيان أمر شرعى، يتصل بتصحيح عقيدة المؤمن و عمله، لأن ذلك يتنافى مع طبيعة الرسالة و مهمة الرسول ..

و لعل الأمر يزداد وضوحا إذا ذكرت هنا آية أخرى فى هذا المقام- و لو أن الاستطراد سيطول- لكن هذه النقطة لا بدّ أن أوضحها تماما .. و لا أترك لها مخلفات فى الأذهان .. هذه الآية من سورة المجادلة تقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 12 «1»

كيف هذا؟

هل مناجاة الرسول و محادثته تقتضى أن يتصدق المتحدث قبل أن يقدم على مناجاته؟

______________________________

(1) سورة المجادلة الآية 12.

علم التفسير، ص: 57

أ ليس الرسول مبينا، و من مهمته أن يتحدث للناس و يستمع إليهم؟

بلى. من مهمته ذلك. و لكن حسن خلقه و سيره على طبيعته السهلة أطمع كل من حوله فى أن يتحدث معه، و يناجيه، و قد ينفرد به، و قد يشغله، و قد يقتحم عليه أوقات راحته، و قد يتحدث معه فى توافه الأمور، فكان تواضعه و حسن خلقه سببا فى إيجاد شى ء من عدم الدقة فى فهم مقام الرسول، و ما ينبغى أن يكون عليه الحديث معه .. و لما يجب من توفير وقته للمهم من الأمور، أو كما نقول سببا فى «رفع الكلفة» فى الحديث معه، فكان لا بد من وقفة، أو من هزة تنبه الجميع إلى ما يجب أن يكون عليه الحديث مع الرسول، فليس هو مثلهم. إنه رسول .. و إذا كان قد رباه ربه على التواضع، فليس معنى

ذلك أن تزيلوا كل حجاب، أو ترفعوا الكلفة بينكم و بينه و تشغلوا كل وقته بأسئلتكم و محادثاتكم.

إن مقامه عظيم، و مقام المحادثة معه عظيم، يقتضى أن يقدم من يريد الحديث معه صدقة. نعم. لا حجاب، و لا حراس، و لا استئذان و لكن صدقة من مال، أ فهمتم مقام الرسول؟ أ فهمتم خطورة التحدث معه؟ لا بد أن تتأدبوا. لا بد أن تحتاطوا.

و عرفوا قدر المحادثة مع الرسول و مناجاته و قيمة وقته، و أحجموا .. حتى أقرب الناس إليه و هو على رضى اللّه عنه، لما أراد أن يحدثه، قدم صدقة قبل أن يتحدث معه، ثم تحدث .. و كان المهم أن يعوا هذا الدرس، و يعلموا أنهم يتحدثون مع رسول اللّه، و لا بد أن يكون الحديث جديا مناسبا لمقامه.

و قد فهموا هذا و وعوه، ثم أدركتهم رحمة اللّه سريعا و أعفتهم من هذه الصدقة، لكن بعد أن فهموا و تعلموا، فقال اللّه لهم أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ 13 «1»

و منه حفظكم لمقام الرسالة و الرسول و تأدبكم فى الحديث معه.

______________________________

(1) المجادلة/ 13.

علم التفسير، ص: 58

و فى معنى هذا أيضا يقول اللّه «لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا «من أواخر سورة النور، و قوله فى أوائل سورة الحجرات «يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون، إن الذين يغضّون أصواتهم عند رسول اللّه أولئك الذين امتحن اللّه

قلوبهم للتقوى لهم مغفرة و أجر عظيم، إن الذين ينادونك من وراء الحجرات (كما ينادون أمثالهم) أكثرهم لا يعقلون، و لو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم».

أدب مع النبوة يجب أن تتأدبوا به. فلما غفلوا عنه غضب الرسول و غضب اللّه له. حتى لا يكون هؤلاء (المتنطعون) سببا فى الإثقال على غيرهم .. كما قال اللّه «إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ». و كما قال الرسول:- «لو قلت نعم لوجبت، و لما استطعتم».

و لقد كان هذا الدرس نافعا و مفيدا، بل ذهب إلى نفوس الصحابة إلى أكثر من مداه .. و هذا هو شاهدنا و موضع هدفنا من الآية و أثرها ..

فلقد تخوف الصحابة من السؤال، أى سؤال، و تحرجوا منه، مما يمكن أن نعده رد فعل لما كانوا عليه أولا، قبل أن يغضب الرسول و تنزل الآية .. فقد أداهم الخوف و الخشية إلى أن يحجموا عن الأسئلة، خوفا من أن يبدو منهم ما قد يكون محل مؤاخذة فآثروا العافية .. و الرواية الآتية تبين لنا إلى حد آثروا العافية و تخوفوا الأسئلة ..

روى مسلم فى صحيحه عن أنس رضى اللّه عنه قال «كنا نهينا أن نسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن شى ء، و كان يعجبنا أن يجئ الرجل الغافل من أهل البادية (أى الذى لم يبلغه أمر النهى كما بلغنا) فيسأله و نحن نسمع «1»، و أخرج الإمام أحمد فى مسنده عن أبى أمامة قال:- «لما نزلت، يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء» الآية، كنا قد اتقينا أن نسأله صلى اللّه عليه و سلم فأتينا أعرابيا،

______________________________

(1) عن تفسير المنار ح

7 ص 148 نقلا عن فتح البارى.

علم التفسير، ص: 59

فرشوناه برداء و قلنا سل النبى صلى الله عليه و سلم و الأعرابى ليس بملتزم بما يلتزمه المقيمون مع الرسول .. و الرشوة هنا ليست هى الرشوة المحرّمة طبعا، بل هى تحريض على خير يريدونه و لا يستطيعونه.

و روى مسلم أيضا عن النواسى بن سمعان قال: «أقمت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سنة بالمدينة ما يمنعنى من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبى صلى اللّه عليه و سلم».

فلم يتخذ النواسى صفة المقيم بالمدينة حتى لا ينطبق عليه ما ينطبق على المقيمين مع الرسول من تحشم و احتياط فى الأسئلة، و ظل سنة ضيفا، دون أن يأخذ حكم الإقامة، لتكون له الحرية فى سؤال الرسول عما يريد. لأن الحرج كان خاصا بالمقيمين لا بالوافدين؟؟؟ .. لأنهم يتزودون بالعلم و يرحلون، و تسامح معهم أكثر مما يتسامح مع المقيمين.

و روى أبو يعلى عن البراء «إن كان ليأتى على السنة، أريد أن أسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن الشي ء فأتهيب، و إن كنا لنتمنى الأعراب، أى قدومهم، ليسألوا فيسمعوا هم الأجوبة عن أسئلة الأعراب فيستفيدوا منها ..

إلى هذا الحد بلغ رد فعل هذا الدرس الذى فهموه من الآية: إحجام عن السؤال مع رغبتهم الشديدة فيه، حتى يحرضوا الأعرابى، ليسأل بدلهم، و يغروه بشي ء فى مقابل السؤال، و استماعهم معه للجواب .. مبالغة فى الأدب، مع حرص شديد على الاستفادة ..

و مع أن الآية- كما يفهم من مدلولها- لم تنههم عن السؤال أيا كان موضوعه، بل نهتهم عن أسئلة من نوع خاص، بينته لهم «إن تبد لكم تسؤكم» كما

أن الحالة التى نزلت الآية تعالجها كانت مفهومة عندهم، أقول و مع ذلك أحدثت الآية فى نفوسهم رد فعل زائد عن الحد المطلوب فيها.

و لو أنهم- مع هذا المعروف عنهم- لم يغفلوا أول الأمر عما كان يجب عليهم من مراعاة مقام الرسول، و الحفاظ على وقته الثمين، الذى يجب صرفه كله للأمور المهمة، لما حصل هذا كله .. و لكنه درس لهم، و لكل من أتى أو يأتى من بعدهم، حتى لا تشغلهم التوافه عن العظائم، و لا يتشددوا فيشدد اللّه

علم التفسير، ص: 60

عليهم، و حتى يوفروا للعلماء و لمن يدبرون لهم الأمور أوقاتهم، و ينزلوا الناس منازلهم.

و نعود بعد هذا لنتساءل- هل معنى هذا أنه لم يعد بعد نزول الآية استفسار من الصحابة للرسول عن أمور تهمهم فى دينهم؟

. لا .. إذ لا يمكن أن تزول ظاهرة السؤال و الجواب .. ما دام الرسول حيا .. ينزل عليه الوحى بتشريعات جديدة، تحتاج أحيانا- ولدى بعض الناس على الأقل- إلى استفسار و توضيح ..

فما معنى تهيب هؤلاء، حتى كانوا يستعينون بالوافدين عليهم، أو ينتظرون قدومهم، ليسمعوا أسئلتهم و جواب الرسول عنها؟

الذى أفهمه من جملة النصوص و من طبيعة الرسالة معا أنه حدث تهيب عام من الأسئلة بعد نزول الآية، لم يمتد إلى الضرورى مما تمس الحاجة إلى السؤال عنه .. و لكنه وضع حدا للسؤال فيما لا تمس الحاجة إليه، و لا تتوقف صحة العقيدة و العمل عليه .. بالإضافة إلى أن بعض الناس رأى من باب الأحوط أن يأخذ نفسه بعدم السؤال عن شى ء، خوفا من الوقوع فى الحرج، مكتفيا بما يسمعه من سؤال الوافدين على الرسول، و إجابته لهم، أو ببيان صحابى

له، يكون أكثر إدراكا و فهما منه ..

و مما لا شك فيه أن هذا الجو الذى أحدثه نزول هذه الآية كان له تأثيره فيما يتصل الاستفسار عن بعض ما فى القرآن من ألفاظ و موضوعات ذكرنا شيئا منها و تساءلنا- كيف تمر فى عهد الرسول، دون أن يسأل أحد من الصحابة عنها و دون أن يصلنا شى ء موثوق به عن معناها و تفسيرها، و كان من الممكن- لو وجد- أن يقطع كل خلاف بين العلماء حول تفسيرها ..

علم التفسير، ص: 61

فى قلوبهم مرض

اشارة

و مع ذلك لم تكن هذه الآية هى كل ما فى الموضوع، بل كان هناك غيرها، يشاركها فى تأثيرها.

و أعنى بها قوله تعالى

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ 7 «1»

و قد كان سبب نزول الآية نقاشا دار بين النبى عليه الصلاة و السلام، و بين و قد نصارى نجران، فى شأن عيسى عليه السلام، كانت نتيجته إفحامهم، فلجئوا إلى الجدال و المراء فقالوا: أ لست تقول إنه من روح الله و كلمته؟ قال:

بلى، قالوا: هذا حسبنا .. فنزلت الآية تندد بهم لوقوفهم- خدمة لهواهم- عند ما ورد فى القرآن من أنه روح الله و كلمته، غير ناظرين إلى الآيات الأخرى المحكمة التى تبين حقيقة عيسى عليه السلام، مثل قوله: «إن هو إلا عبد أنعمنا عليه» فى سورة الزخرف المكية، و غير ذلك من الآيات التى تبين حقيقة ولادته

و بشريته مثل «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ ..» «2».

و نلاحظ أن الآية توجه حملتها على الذين يعمدون إلى الألفاظ المتشابهة ..

مثل هؤلاء .. فيؤولونها حسب هواهم، بقصد إثارة الفتنة .. و ابعاد الناس

______________________________

(1) أوائل سورة عمران.

(2) سورة مريم الآية 30.

علم التفسير، ص: 62

عن الحق .. «فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله» على حسب هواهم، مع أن هناك آيات أخرى تحول بينهم و بين اتباع الهوى .. و لكنهم يتعامون عنها، و يهملونها، انتصارا لرأيهم، و تلبيسا على العوام، و جذبا لهم ...

و فى مقابل ذم هؤلاء الذين يتعامون عن الحقائق، و يثيرون الفتن، ذكر الله طائفة أخرى لا تذهب مذهب الأولين فى إثارة الفتن بالمتشابه بل تؤمن به إيمانها بالمحكم، باعتبار أنهما صادران عن الله سبحانه، و سماهم الراسخين فى العلم، أى الراسخين فى علمهم بالله جل جلاله، و بالتالى فى إيمانهم به. فقال تعقيبا على الأولين و بيانا لموقف الآخرين (وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ). ربنا (أى يدعو الراسخون المؤمنون ربهم قائلين) لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، لفرط إيمانهم و اعتصامهم بربهم.

و بذلك وضح موقف فريقين من الناس: فريق يعمد للمتشابه ليؤوله تأويلات فاسدة يقصد منها إثارة الفتن، و فريق يؤمن به كما يؤمن بالمحكم من الآيات.، و الفريق الأول مذموم.، و الفريق الثانى ممدوح.

و يؤكد هذا حديث روته السيدة عائشة رضى الله عنها تقول فيه: (تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية و

قال: (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى اللّه فاحذرهم.

و مع أن الآية و الحديث- كما رأيت- يذمان الذين يتبعون المتشابه، و يؤولونه تأويلا يثير الشبه و الفتن، و لا يتناولان الذين يسألون عن المتشابه سؤالا بريئا بقصد الفهم، أو الذين يذكرونه، و يردونه إلى المحكم، و يفهمونه على ضوئه، أقول مع هذا أصبح السؤال عن المتشابه أو الحديث عنه مثيرا لعلامة استفهام حول صاحبه، أو واضعا له موضع الريبة فى إيمانه، حتى تتبين حقيقته ...

و لذا كان من الطبيعى أن يتحاشى المخلصون الصادقون هذه الريبة، و يبتعدوا ما أمكن عن الكلام حول المتشابه و يكتفوا بالفهم الإجمالى، رادين كل

علم التفسير، ص: 63

ما يسمعونه أو يقرءونه منه، إلى إيمانهم العميق بالله جل جلاله. و تسليمهم المطلق بكل ما ورد فى القرآن، و لو لم يفهموا حقيقة المراد منه، حتى يكونوا ممن مدحهم الله.

فمثلا الآيات التى تتحدث عن مشيئة الله و مشيئة العباد. و عن قضاء الله و أفعال العباد. فيها آيات ترد كل شى ء إلى الله «و ما تشاءون إلا أن يشاء الله» ..

و آيات تضيف العمل إلى الإنسان «كل امرئ بما كسب رهين» فكيف نوفق بين مشيئة الله، و قضائه و قدره بالنسبة لعباده، و بين محاسبة العبد على ما يفعل؟

هذه القضية التى شغلت الناس قبل الإسلام و بعده، و إلى الآن، و إلى ما شاء الله من أزمان و أجيال ..

و فى غمرة الاختلاف حول هذه القضية نتمنى- حسب تفكيرنا- أن لو أثار الصحابة هذه القضية ليجدوا لهم و لنا حلها من الرسول صلى الله عليه و سلم.

و لكنا لم نرث هذا البيان، و لو كان .. لورثناه ..

و

بالإضافة إلى هذا نجد توجيها من الرسول فى هذا: «إذا ذكر القدر أو القضاء فأمسكوا» «1» أى و لا تخوضوا فى البحث عنه .. و لذلك كان الخلفاء بعد الرسول يطاردون كل من يثير كلاما حول القدر، بعد اتساع رقعة الإسلام.

و عن صفات الله، و ما ورد عنها فى القرآن من الوجه، و اليد و العين و السمع و البصر .. الخ- مما يدل على المشابهة، و يفيد فى ظاهره التجسيم، و هو محال، بنص الآية الأخرى «ليس كمثله شى ء» فما ذا تفيد- إذن- و ما المراد بها؟.

كان الكلام فى هذه الناحية و الاسترسال فيه مما حظره الرسول، فوق أنه يثير شبها حول صاحبه .. و لذا لم نجد من يسأل عن حقيقة الوجه و اليد .. الخ ..

بل آمنوا بها كما وردت مع إيمانهم بأنه ليس كمثله شى ء ...

يقول العالم المحقق شاه ولى الله الدهلوى فى كتابه (حجة الله البالغة) ص 134 ج 1 بعد أن تكلم عن هذه الصفات: (و الحق فى هذا المقام أن النبى صلى

______________________________

(1) رواه الطبرانى من حديث ابن مسعود بإسناد حسن.

علم التفسير، ص: 64

الله عليه و سلم لم يتكلم فيه بشي ء، بل حجر (أى منع) أمته عن التكلم فيه، و البحث عنه، فليس لأحد أن يقدم على ما حجره).

و قد روى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ضرب رجلا يقال له (صبيغ)، لأنه كان يسأل عن متشابه القرآن، و ما زال به حتى تاب ..

يقول الإمام الشاطبى فى كتابه (الموافقات) الجزء الثانى ص 87 فى فصل عقده لبيان أن الاعتناء بالمعانى المبثوثة فى الخطاب هو المقصود الأعظم:

(و من المشهور تأديبه لصبيغ حين كان يكثر السؤال عن (المرسلات)

و (العاصفات) و نحوهما).

و جاء فى مسند الدارمى ما يوضح ذلك حيث قال: «أخبرنا عبد الله بن صالح حدثنى الليث أخبرنى ابن عجلان عن نافع مولى عبد الله، أن صبيغا (بالصاد المهملة) العراقى، جعل يسأل عن أشياء فى القرآن، فى أجناد المسلمين، حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال: أين الرجل؟ فقال: فى الرحل: فقال عمر: أبصر أن يكون ذهب، فتصيبك منى به العقوبة الموجعة. فأتاه، فقال عمر: تسأل محدثة؟ فأرسل إلى رطائب من جريد (أى لإحضارها)، فضربه بها، حتى ترك ظهره دبرة «1». ثم تركه حتى برأ، ثم عاد إليه، ثم تركه، حتى برأ، فدعا به ليعود إليه، قال: فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلى فاقتلنى قتلا جميلا، و إن كنت تريد أن تداوينى فقد- و الله- برأت. فأذن له إلى أرضه، و كتب إلى أبى موسى الأشعرى أن لا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل. فكتب أبو موسى الأشعرى إلى عمر أنه قد حسنت توبته.

فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته. و هذا كله لأنه أثار فى الناس أسئلة لم يعهدوها، و ليس من المناسب إثارتها ..

و فى رواية: فأتى بعراجين النخل فقال من أنت؟ قال عبد الله صبيغ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه و قال: أنا عبد الله عمر .. فجعل

______________________________

(1) بها قروح كما يفعل رحل الدابة بها من القروح.

علم التفسير، ص: 65

له ضربا حتى دمى رأسه. فقال: يا أمير المؤمنين حسبك. قد ذهب الذى أجد فى رأسى ...

و هذه الرواية و تلك لهما دلالتهما فى موضوعنا .. و لا سيما فى قول عمر للرجل يؤنبه: تسأل

محدثة؟ أى أ تثير بين الناس أمرا جديدا لم يتعودوه قبل ذلك؟ و هو السؤال عن معنى قوله تعالى «وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً» .. و نحوهما.

مما يدل على أن مثل هذه الأسئلة لم يكن من المعتاد أن يسألها الصحابة فى زمن الرسول، و حتى عهد عمر .. بل كانوا يعتبرونها تكلفا يثير الشبهة ... و فى الاهتمام بإرسال الرجل من مصر الى المدينة، و ضرب عمر له، ثم فى أمره لأبى موسى بعزله عن المسلمين، ما يعطينا دلالة قوية على سوء النظرة فى ذلك الوقت، إلى كل من يثير مثل هذه الأسئلة .. و دلالة على مقدار حرص عمر و ولاته، على تجنيب المسلمين الاشتغال بمعانى المرسلات و العاصفات و نحوهما، مما يعدونه متشابها، محافظة على النهج الذى كان فى عهد الرسول و خليفته أبى بكر، و لذلك أنكر عليه مسلكه و قال له: أ تسأل محدثة؟ لأنه يحدث فى الوسط الإسلامى ما لم يتعوده .. و لهذا أيضا نجد الإمام مالك يقول فى الرد على من يسأله عن معنى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)، الاستواء معلوم، و الكيف مجهول، و السؤال عنه بدعة.

و حينئذ لا بد أن يرد على ذهن القارئ سؤال: كيف إذن كانوا يفهمون مثل هذا؟

و جواب هذا .. أنهم كانوا يكتفون بالمعنى الإجمالى، و ما يفيده السياق فى مثل هذه الأمور و غيرها، مما لا يتعلق بها حكم تكليفى محدد. فمثلا .. القسم بالمرسلات و ما بعدها من العاصفات و الناشرات و الفارقات .. يفهمون أنها أشياء عظيمة، يقسم الله بها على أمر مهم، و هو: البعث .. لا يهمهم المراد بالعاصفات. كما عنى بها من بعدهم و قالوا: الرياح، أو

الملائكة، و لم يتفقوا على رأى، لأنهم يجتهدون فى بيان المراد، و لكل اجتهاده. فكان الصحابة لا يخوضون فى بيان المراد تحديدا، بل يرون أن ذلك تكلف لا يصح الاشتغال به، ما دام المعنى الكلى مفهوما، و ليس هناك ما يوجب فهم المراد بالمفردات ..

علم التفسير، ص: 66

[مثل آخر]

و مثل آخر يوضح هذا و يؤكده، و هو لا يتعلق بالمتشابه، بل يتعلق بكلمة عادية، و لهذا دلالته فى موضوعنا، روى أن عمر رضى الله عنه قرأ (وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا) من سورة (عبس) فقال و ما الأب؟ ثم قال: ما كلفنا هذا، مع أن الأب ليس من المتشابه، و لكن عمر رأى السؤال تكلفا منهيا عنه، إذ لا بد أن الأب نبات خلقه الله، و هذا يكفى. و الشاهد أن عمر كان من حفاظ القرآن .. و قرأ هذه الآية مرات .. حتى سأل نفسه أخيرا هذا السؤال، ثم استدرك و أعلن أن البحث عن مثل هذا تكلف لا داعى له، بل نهوا عنه ...

و عمر بلا شك كان يدرك المعنى الإجمالى. و هو العبرة المستمدة من خلق الله هذه الأشياء: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلًا. وَ حَدائِقَ غُلْباً وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ» «1» فالأب لا يخرج عن كونه نباتا جعله الله مع ما ذكره من أنواع ما تنبته الأرض «متاعا لكم و لأنعامكم» أما ما هو بالذات .. فلم يكن يعرفه عمر كما روى، و الاشتغال بمعرفته تكلف كما قال .... و المعنى العام لا يتوقف على معرفته ..

و قد رويت

حادثة السؤال عن (الأب) بتشديد الباء، بروايات مختلفة فى بعضها زيادات عن البعض الآخر و كلها توضح المعنى الذى نريده .. ففي رواية أن عمر رضى الله عنه سأل نفسه عن الأب. ثم قال: ما كلفنا هذا، كما سبق، و رواية تقول: أن رجلا سأل عمر، فقال له عمر: نهينا عن التكلف و التعمق .. و فى رواية أن عمر قرأ (وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا) فقال هذه الفاكهة عرفناها، فما الأب؟ .. ثم استدرك و قال: هو التكلف. فما عليك أ لا تدريه ..

و قد أورد الإمام الشاطبى روايتين من هذه الروايات، و ضم إليهما رواية تأديب عمر لصبيغ، لسؤاله عن المرسلات الخ .. ثم قال: (و ظاهر من هذا كله أنه إنما نهى عنه لأن المعنى التركيبى معلوم على الجملة، و لا ينبنى على فهم هذه الأشياء حكم تكليفى فرأى الاشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلف).

______________________________

(1) سورة عبس 24 و ما بعدها.

علم التفسير، ص: 67

ثم قال «فلو كان فهم اللفظ الافرادى يتوقف عليه فهم التركيبى لم يكن تكلفا (أى لم يكن السؤال تكلفا) بل هو مضطر إليه، كما روى عن عمر نفسه فى قوله تعالى «أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» فإنه سأل عنه على المنبر، فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا هو التنقص. ثم أنشد:

تخوف الرحل منها تامكا قرداكما تخوف عود النبعة السفن «1»

(أى أن رحل الناقة أخذ من سنامها المتلبد- تنقص منه- كما يأخذ المبرد و ينقص من العود، بمعنى أزال بعضه فقال عمر: أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم فى الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ..)

و مع الدلالة التى أوردنا هذه الرواية لها .. نأخذ دلالة أخرى تؤكد ما

سبق أن أوردناه .. و هو أن بعض الألفاظ من غير المتشابه ظلت غير مفهومة لحفاظ القرآن حتى توفى الرسول لعدم ورودها فى لهجتهم دون أن يسألوه عنها مع ملازمتهم له أو قربهم منه عليه الصلاة و السلام خوفا من رميهم بالتكلف، و الاشتباه فى إيمانهم، مكتفين بفهم المعنى العام التركيبى.

و هذا بالتالى يدلنا على أنه ليس بلازم للصحابى- و إن كان فى المقدمة- أن يحيط علما بكل المعانى الدقيقة لألفاظ القرآن .. كما نظن نحن الآن .. و ليس هذا ماسا بهم، لأنهم كانت لهم شواغلهم و أعمالهم، و كانوا يفهمون منه ما يتصل بالعقائد من الألفاظ الظاهرة المحكمة، و ما يتصل بالتكاليف. فهذا أمر ضرورى .. و يفهمون مما عدا ذلك كثيرا أو قليلا، كل على قدر استعداده .. و وقته فهما إجماليا. علما بأن القرآن عربى و هم عرب، و أقدر الناس على فهمه .. لكن هذا لم يمنع أن تكون هناك ألفاظ لها معان خفيت على بعضهم، أو لها مراد لم تصل إليه عقولهم لأنها تتحدث عن أمور لم يألفوها، و لم يسألوا عنها، تحاشيا من الوقوع فى التكلف الذى نهوا عنه، أو من الاشتباه فيهم ...

______________________________

(1) التامك: المرتفع من السنام. القرد: المتلبد. النبعة: شجر. و السفن: المبرد و نحوه.

علم التفسير، ص: 68

فى حدود ثقافة الصحابة فهموا القرآن

اشارة

«نحن أمة أمية لا نحسب و لا نكتب» (حديث)

المستوى الثقافى

و من الضرورى أيضا أن نلاحظ المستوى الثقافى الذى كان عليه الصحابة و تلقوا به القرآن الكريم أو فهموه على ضوئه.

و هو عامل مهم .. لأنه على قدر وعى الانسان و ثقافته، يكون فهمه لما يقرأ، أو يسمع، أو يكون حسن استقباله له،. و وضوحه عنده، كأجهزة الاستقبال. فعلى قدر سلامتها و قوّتها، يكون وضوح ما تتلقاه، أو تستقبله ..

و نحن ندرك من واقعنا أن الخطبة تلقى على المستمعين، فيأخذ كل منها على قدر ثقافته و وعيه، و أن الكتاب يقرأ، فلا يكون الجميع متساوين فى فهمه و استيعابه. بل على قدر ثقافة السامع أو القارئ يكون الفهم، و يكون الاستيعاب.

هذه حقيقة أولى لا جدال فيها ..

الحقيقة الثانية: أن القرآن عربى و فى أعلى درجات البلاغة. و هو بلغة القوم الذين نزل فيهم أولا .. و خاطبهم و تحداهم .. فمن الطبيعى أن يفهموه (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) «1»

و لقد فهموه، و أدركوا بلاغته، و عرفوا منها مصدره (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ)، آمن به من استجاب لفطرته، و صد عنه من قامت الحوائل عنده دون الاستجابة لهذه الفطرة، و لكنه كان فهما قائما على ما أتقنوه من فنون المعرفة و كان أولها و أهمها: الناحية البلاغية اللفظية.

______________________________

(1) سورة إبراهيم/ 4.

علم التفسير، ص: 69

الحقيقة الثالثة: أن أهم ما جاء القرآن من أجله هو العقائد و الأحكام، و ما يتصل بها من مكارم الأخلاق، و من أجل توضيح العقائد و تدعيمها، و التدليل عليها، و تثبيت الداعين إليها، جاءت الآيات التى تتحدث عن دلائل قدرة اللّه

فى خلقه، و الآيات التى تسرد قصص السابقين ...

أما الآيات التى تتحدث عن العقائد، كالإيمان باللّه و ملائكته، و كتبه، و رسله، و اليوم الآخر فهى آيات واضحة، يفهم مضمونها كل عربى، دون كبير عناء و بمجرد أن يسمعها أو يقرأها، حتى بعد أن ضعفت السليقة العربية فيهم، و ذلك فى حدود قدرته و تصوره، و أما آيات الأحكام و الأخلاق، فهى فى جملتها كذلك واضحة محددة، و تكفل الرسول أيضا بزيادة بيانها و توضيحها قولا و عملا ...

و مثل ذلك فى العقائد:

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ) (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) .. (وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) .. إلى غير ذلك من الآيات التى يدرك العقل ما ترمى إليه.

و مثل ذلك فى الأحكام:

«و أحل اللّه البيع و حرم الربا» و «إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه»، «يوصيكم اللّه فى أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين. إلى آخر الآيتين .. إلى غير ذلك من الآيات ..

و مثل ذلك فى الأخلاق:

«و بالوالدين احسانا و بذى القربى و اليتامى و المساكين و الجار ذى القربى» الآية. «ادفع التى هى أحسن».

فكانت هذه الآيات على قدر من الوضوح يكفى لالزام المخاطبين بمضمونها،

علم التفسير، ص: 70

و بما دعت إليه من عقائد و أحكام، فإن كانت فى حاجة إلى

زيادة تفاصيل تكفّل الرسول صلى الله عليه و سلم بها ..

و بقى بعد ذلك الآيات التى تتحدث عن المظاهر الكونية، و الآيات التى تتحدث عن قصص السابقين ..

و ينضم إليها كذلك الآيات التى تتحدث عن بعض صفات الله تفصيلا، كالاستواء و الوجه و اليدين، و المشيئة و الارادة .. الخ .. و يلحق بها الآيات التى جاءت غير واضحة و غير محددة .. مثل روح الله و كلمته. و مثل الم ...

و الر .. الخ

هذا النوع من الآيات هو فى الحقيقة موضوع الحديث الذى عنينا بتوضيحه فى هذه البحوث ...

و هو الذى تساءلنا عن مدى فهم الصحابة له، أو استيعابهم فهمه، و تحدثنا عن عوامل أثرت فى فهم الصحابة له و بقى آخر هذه العوامل .. و هو القدر الثقافى الذى استقبلوا هذه الآيات به ..

بعثت إلى أمّة أمّيّة:

و هذا يستدعى منا أن نعرف ما كان عليه العرب من ثقافة علمية و تاريخية، استقبلوا بها الآيات الكونية و القصصية و بعض الآيات الأخرى المتشابهة ..

لقد جاء القرآن الكريم يصف العرب بأنهم أميون، و وصف الرسول بأنه أمى.

فيقول الله تعالى فى أول سورة الجمعة «1»

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ 2

______________________________

(1) سورة الجمعة الآية الثانية.

علم التفسير، ص: 71

و يقول فى سورة الأعراف

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ «1»

و يقول تعالى فى سورة العنكبوت: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ 48 «2»

و يقول عليه الصلاة و السلام: (نحن أمة أمية لا نحسب و لا نكتب.

الشهر هكذا و هكذا) «3» و أشار بأصابعه، يعنى مرة تسعة و عشرين و مرة ثلاثين.

و يقول عليه الصلاة و السلام مخاطبا جبريل: (إنى بعثت إلى أمة أميين) «4» أو (إنى بعث إلى أمة أمية)

و لعل أصح تفسير لمعنى كلمة أمية و أميين هو ما فسرها به الرسول صلى الله عليه و سلم و عناها حين قال لا نحسب و لا نكتب .. و هو ما وضحه الإمام الشاطى «5» حين قال: و الأمى منسوب إلى الأم، و هو الباقى على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا و لا غيره، فهو على أصل خلقته التى ولد عليها.

و ليس معنى هذا جهلهم التام بأمور الحياة، و بما يكتسب منها بالتجارب و العقل، بل معناه أنه لم يتعلم بطريق الكتابة و القراءة شيئا، و هو الذى فسرته الآية الأخرى عن وصف الرسول بالأمى «و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون» و من أجل هذا جاء وصف الرسول فى القرآن من حاله، و دفعا لأى شك فى صحة رسالته و نزول القرآن من ربه. علم التفسير 71 بعثت إلى أمة أمية: ..... ص : 70

____________________________________________________________

(1) سورة الأعراف آية 158.

(2) سورة سورة العنكبوت آية 48.

(3) كما جاء فى صحيح البخارى فى كتاب الصوم عن ابن عمر رضى الله عنه.

(4) كما جاء فى الترمذى فى أنزل القرآن على سبعة أحرف.

(5) ص 69 ج من الموافقات.

علم التفسير، ص: 72

فالعرب الذين نزل عليهم لم تكن الكتابة و القراءة منتشرة عندهم انتشارها عند الأمم المتحضرة حولهم، و بالتالى لم يتمكنوا من دراسة العلوم التى كانت معروفة عند غيرهم من الفرس أو الروم فى ذلك

الوقت، فكان كل ما يتناقلونه بينهم من الطب و الفلك و غيرهما، لا يمكن تسميته علوما إلا تجاوزا، لأنه كان مكتسبا عن طريق تجاربهم و ملاحظاتهم الخاصة. المنبعثة من البيئة و حاجاتها و ظروفها. مما يعينهم على حياتهم البدوية، من الاستدلال بالنجوم على معرفة الجهات، و على تعيين الوقت، كما قال اللّه «و علامات و بالنجم هم يهتدون» و ما كانوا يداوون به مرضاهم بطريق التجربة، و التناقل فيما بينهم، مما يمكن أن تجد له شبيها الآن فى البيئات البعيدة، المنعزلة عن المدينة، المحرومة مما وصل إليه العلم من تقدم ..

على أن هذه المعرفة المحدودة لم تكن عامة شائعة لدى العرب جميعا، بل كانت قاصرة على بعضهم أو خاصتهم، ممن كانت الحاجة تدعوهم إلى معرفتها، و لعل هذا الوصف (الأمية) قد غلب على العرب، حتى لم ير الرسول بدا من الاحتجاج به عند ربه، و هو يخاطب جبريل كما فى الحديث السابق، كما صرح به أيضا، و هو بصدد معرفة أيام الشهر .. و لهذا جرى على لسان اليهود حين قالوا: (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) يقصدون فى كلامهم هذا .. العرب، و إن كان هذا مبدأ عاما عندهم فى معاملة غير اليهود، لا يرون بأسا فى نهب أموالهم .. لكن الآية تحكى حال اليهود الذين يعاملون العرب، و يطلقون عليهم هذا الوصف (الأميين) ..

و كذلك كان لهم بالنسبة لتاريخ الأمم قبلهم مما قصه القرآن، فلم يكن لهم به معرفة سابقة، و ذلك هو ما تخبر به هذه الآية الكريمة بعد أن سبقها ذكر قصة نوح (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ

لِلْمُتَّقِينَ) «1»، و فى قصة مريم و زكريا: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ

______________________________

(1) آية 49 من سورة هود.

علم التفسير، ص: 73

الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ، أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) «1».

حتى ليمكننا أن نقول إنه لما كان عدم معرفة الرسول بالكتابة و القراءة ارتكازا لحجة من حجج رسالته، و نزول القرآن عليه من عند الله، كان عدم معرفة قومه بالعلوم و بالتاريخ ارتكازا آخر لحجة من حجج رسالته، و كون القرآن منزلا عليه من الله، إذ لم يكن من قومه من يعرف ذلك حتى يقال إنه تعلمه منهم.

فحين أراد أعداؤه المشركون الطعن فيه، و فى صحة نزول القرآن عليه، قالوا: إن ما يقصّه من أخبار الماضين إنما هو من تعليم هذا الرومى المثقف المهاجر إلى مكة، المقيم فيها، فنزل القرآن يرد عليهم: (وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) «2».

و لو كان لدى العرب عامة علم بهذه الوقائع، أو لو كان لدى خاصتهم علم بها، لما لجأوا إلى اتهام الرسول بالتعلم من هذا الرومى، أو لكروا بعد رد الله عليهم هذا الرد، بأنه يتعلم من فلان العربى صاحب اللسان العربى. و لكنهم لم يجدوا عربيا عالما أمامهم بهذه القصص، حتى يسندوا إليه تهمة تعلم الرسول منه ...

و هكذا كانت أمية الرسول و أمية قومه و عدم المامهم بالعلوم من ممهدات الرسالة، أو من ركائز صدقها، و دلائل صحتها ..

و لعل فى هذا الكفاية فى الدلالة على خلو البيئة العربية التى نزل فيها القرآن، من العلم بتاريخ الأمم و الرسل السابقين، و كانت أرقى بيئة عربية فى

الجزيرة فى ذلك الوقت.

فكل ما ساقه الله سبحانه- اذن- من قصص الأمم السابقة، عن رسلها و الصالحين من عباده، إنما كانت قصصا بكرا لم يعرفها العرب من قبل. بل استمدوا معرفتها من القرآن وحده ..

______________________________

(1) آية 44 من سورة آل عمران.

(2) آية 103 من سورة النحل.

علم التفسير، ص: 74

هذه نتيجة أحب أن يتذكرها القارئ لأن لها أهميتها عند ما يقرأ ما جاء فى تفسير قصص القرآن، من أخبار زائدة من منطوق القرآن .. من أين جاءت و عمن رويت، لأنهم ما داموا قد علموا هذه القصص من القرآن. و فى ثناياها أخبار طويت، لعدم الحاجة إليها فى ابراز العبرة من القصة، فمن أين جاء العلم بها؟ هل سأل الصحابة عنها رسول الله و أجابهم؟ أو سكتوا، و اكتفوا، بالعبرة الظاهرة من القصة، دون أن يتابعوا تفاصيلها الخفية التى تركها القرآن؟ تلك التفاصيل التى رأيناها تثار فيما بعد، و يسأل عنها، لأن النفس البشرية فيها غريزة حب الاستطلاع، و هى تجرى وراء هذه الغريزة، متى كان الجو صالحا و مساعدا. كما رأينا ذلك بعد عصر الفتوح و الاتجاه إلى الاستقرار و البحث، و لا سيما بعد دخول غير العرب فى الاسلام و خاصة من اليهود و النصارى.

لم نجد الصحابة يتابعون هذه الأخبار التى طويت، أو هذه الفجوات التى تركت فى القصة بسؤال الرسول عنها، و لم نجد فيما روى صحيحا عن الرسول، ما يشبع حب الاستطلاع الطبيعى لدى النفوس ...

فراغ سدوه بالاسرائيليات:

و من هنا وجد الفراغ الذى حاول المسلمون سده، بعد زمن الرسول، عن طريق علماء اليهود و النصارى، أو عمن ظنوهم علماء بالتوراة، و ربما لم يكونوا من العلماء، بل من النقلة المحرفين، الذين يحرفون

و يزيدون، أو من عوامهم الذين يسمعون و ينقلون، و يستمع منهم المسلمون، حتى لتجد كتب التفسير محشوة بتفاصيل لهذه القصص، لم يذكرها القرآن و لكنها مأخوذة عن هؤلاء مما اشتهرت تسميته: بالاسرائيليات. و بعض هذه الاسرائيليات تجدها معزوة إلى ابن عباس و غيره من الصحابة و التابعين- كما قلنا من قبل- مما يوهم روايتها عن الرسول صلى اللّه عليه و سلم. و ما هى كذلك .. و إنما هذا هو مصدرها الذى أتت منه: أولا: اليهود الذين أسلموا و نصبوا من أنفسهم أو نصب منهم المسلمون معلمين، مخبرين بما لم يذكره القرآن من تفاصيل القصص، و ثانيا: الذين لم يسلموا و اطمأن المسلمون إلى أقوالهم ..

علم التفسير، ص: 75

الآيات الكونية:

بقى معنا الآيات التى تتحدث عن مظاهر قدرة الله فى خلقه: فى الإنسان، و فى السماء و الأرض، و تلفت النظر إلى التدبر فيها حتى يصل العقل من خلال ذلك إلى الإيمان بقدرة الله الواحد. هذه الآيات تتحدث عن سنن الله فى كونه: و عن بعض الظواهر التى يراها الانسان، و يستطيع العربى العادى، أن يأخذ منها عبرة عامة. و هذا كاف فى الهداية و الاتعاظ، و لكنها تحوى اشارات إلى حقائق علمية، تظهر لدارس القرآن، كلما تقدم العلم، و كشف شيئا من أسرار هذا الكون ...

و مما لا شك فيه أن العرب حين نزول القرآن لم تكن عندهم قدرة لتفسير هذه الآيات على الأساس العلمى الذى أمكن أو يمكن أن نفسر به بعضها الآن إذ لم يكن عندهم معلومات علمية يستقبلون بها هذه الآية كما يستقبلها اليوم بعض علماء الطب و الفلك و الزراعة و الجيولوجيا .. أو كما استقبلها بعض المسلمين العالمين

بهذه العلوم فى العصر العباسى و ما بعده

لم تكن عندهم طاقة لفهم الدقائق التى يفهمها هؤلاء العلماء اليوم، و لذلك لم يفهموها إلا فهما إجماليا أو لم يتناولوها بالشرح إلا على قدر جهدهم.

و كذلك علماء التفسير الذين فسروا القرآن حتى الآن تقريبا. إلا قليلا جدا.

اكتفوا بالتفسير اللفظى البلاغى النحوى، مع النظرة العامة للمظاهر التى تتحدث عنها الآية، و يفهمها المفسر و يبرز العبرة منها .. و ربما أضافوا للتفسير شيئا مما سمعوه من الاسرائيليات التى لبست عليهم، كما فسروا مظاهر الرعد و البرق و غير ذلك مما نراه و ننكره فى كتب التفسير التى بين أيدينا ..

و من المعروف أنه على قدر تفتح الذهن، و على قدر المحصول العلمى للانسان، يكون اتجاهه فى المعرفة و السؤال عما يتطلع إلى معرفته ..

فالريفى الجاهل فى القرية الذى لم يقرأ و لم يكتب لا يستطيع و هو يسمع الإذاعة و يشاهد التليفزيون أن يتجه ذهنه إلى السؤال عن دقائق صنع المذياع و التلفاز، كما كان يؤثر المرحوم الدكتور أحمد زكى أن يسميه، أو المرناء كما كان

علم التفسير، ص: 76

يسميه المرحوم الأستاذ محمود تيمور. و لكنه ينظر نظرة هامة فى الجهازين و هما يؤديان عملهما. و يستدل من ذلك على قدرة العقل البشرى الذى صنعهما. و حتى لو ظهر منه سؤال- فلتة أو اعتباطا-: كيف يتم نقل الصوت و الصورة؟ فإن من غير المناسب أن يجلس العالم بذلك، فيشرح له دقائق هذه العملية، لأن عقله لا يستوعبها، و ليس لديه أساس علمى يمكن أن يقوم عليه هذا الشرح ..

. فالاشتغال بذلك- اذن- مضيع للوقت، و مجاف للحكمة. و لذلك يكون من الحكمة توجيه الجواب وجهة يحتملها عقله، و

هذا هو ما سلكه القرآن الكريم.

سؤال عن الأهلة:

فقد روت لنا كتب التفسير فى أسباب نزول قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) ما يشبه هذا. قال معاذ بن جبل رضى الله عنه لرسول الله صلى الله عليه و سلم: (ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ و يستوى، ثم لا يزال ينقص، حتى يعود كما بدا، لا يكون على حالة واحدة كالشمس) و جواب هذا السؤال عرفناه و نحن صغار ندرس حركة القمر الشهرية، و موقعه بالنسبة للشمس و الأرض، و رسمنا له الخريطة التى توضح أشكال القمر مع إظهار الجزء المنير منه، المواجه للشمس من ناحية، و ما يظهر لنا نحن سكان الأرض من هذا الجزء المنير الذى يؤدى إلى أشكال القمر التى يراها الناس جميعا، أعنى أن الجواب أصبح فى متناول الطلاب الصغار الآن ...

و لكنه وقت نزول القرآن، لم يكن من المناسب توضيحه للعرب، و ليست عندهم أوليات علمية عن الشمس و الأرض و القمر من هذه الناحية .. و لم يكن لدى الرسول صلى الله عليه و سلم كذلك علم بأسباب هذا التغير، لأن علمه ليس من مهمته. و كان من الممكن أن ينزل القرآن به، كما نزل بكثير من الأجوبة، التى كان لا يعرفها الرسول، و لكنا نرى القرآن حين ينزل بالرد عليهم، يتجه وجهة أخرى، غير ما سأل عنها معاذ، و هى بيان فوائد حركة القمر لنا .. (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ)؛ لأن هذا هو الذى كان يمكنهم فى ذلك الوقت فهمه ..

علم التفسير، ص: 77

و لهذا قال علماء البلاغة فى هذا الجواب إنه من الأسلوب الحكيم .. أى الجواب بغير ما سأل عنه السائل،

لصرفه عن موضع سؤاله، ايحاء له بأن كلا من سؤاله و الجواب الحقيقى عنه غير مناسب، بل المناسب أن يسأل عما كان الجواب فعلا عنه .. و هو فائدة تغير القمر بهذه الأشكال التى نراها .. حتى قال بعض المفسرين فهما لقوله تعالى عقب ذلك مباشرة

وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «1» قالوا: إن ذلك يشبه أن يكون تقريعا لاتجاههم إلى ذلك السؤال، الذى لا يحتملون الاجابة الحقيقة عنه، و كان الأولى أن يقتصدوا فى الأسئلة، و لا يتعرضوا لما هو فوق طاقتهم العلمية .. فمثل هذا السؤال كمن أتى البيوت من ظهورها و قفز من نوافذها و سار إلى الشي ء من غير طريقه المناسب له. و ليس هذا برا، و لكن البر أو الصواب هو اتقاء مثل هذه الأساليب، فى الأسئلة لعدم مناسبتها لكم ..

هكذا علل بعض المفسرين سر اتصال أجزاء الآية بعضها ببعض، و هو فهم فى الآية على كل حال، يقوم على حالة واقعة، هى عدم معرفتهم بمسائل العلم التى تؤهلهم لادراك الجواب الحقيقى على سؤالهم ..

و هذا مثال من القرآن نفسه يوضح لنا ما نقول عن واقع الصحابة العلمى حين نزول القرآن ..

و النتيجة:

و الذى نريد أن نصل إليه من هذا كله:

أن الصحابة لم يكونوا مؤهلين بمعرفة عن تاريخ الرسل و أممهم فوق ما جاء فى القرآن. فكل زيادة فى هذه الناحية، إن ثبت ورودها عن الرسول قبلناها، و إلا أبعدناها عن تفسير القرآن، اللهم إلا إذا وجدنا حفريات و نقوشا تضيف لنا جديدا عمن تحدث عنهم القرآن ..

كما أن الصحابة لم يكونوا مؤهلين بمعرفة علمية عميقة أو شبه

عميقة عن

______________________________

(1) البقرة/ 189.

علم التفسير، ص: 78

الإنسان، و مظاهر الكون أمامهم، و لهذا لم يخوضوا فيها بتفصيل، و لم يتحدثوا عنها، و إنما كانوا يكتفون بالعبرة، يأخذونها من منطوق الآية و من النظرة البسيطة إلى المظاهر الكونية أمامهم دون تعمق، فإذا جاء عنهم شى ء فى ذلك فقد نقلوه من خارج البيئة الاسلامية، اسرائيلية أو غيرها ..

و قد جاء القرآن الكريم يخاطب العرب فى حالتهم تلك، بالأسلوب المناسب لهذه الحالة، فيأخذون منه قدرا يحرك فى نفوسهم الاتعاظ بما يحدثهم عنه، و يخاطب من هم أعلى منهم علما، و أدق نظرا، على درجاتهم المتفاوتة فى العلم و دقة النظر، فيكتسبون العبرة الظاهرة التى استفادها العرب الأميون، و لكنهم يزيدون عليها تأملات جديدة فى الآية على ضوء ما وصلوا إليه من علوم يقينية يجدون فى الآية إشارة لها و تحتملها ألفاظها ..

و من هنا أرى أن أولى الناس بتفسير الآيات الكونية إنما هم أهل العلم فى الطب و الفلك و الجيولوجيا و ما يشبه ذلك من علوم، على ألا يتحدثوا عن آية إلا باليقينيات من العلم، لا بالفروض و النظريات. أما أرباب النحو و البلاغة فقد فسروها كما تدل عليه ألفاظها مع ما عندهم من علم عن الكون، استفادوه بالنظرة السطحية التى تشبه نظرة الصحابة، مع تفتح جاءهم على مرور الزمن حسب الجو العلمى الذى كانوا يعيشون فيه ..

و أعتقد أننا بهذا الذى أوردناه قد ألقينا ضوءا كاشفا عن حالة تفسير القرآن الكريم فى عصر الرسول، و عن المحصول الذى يمكن أن نخرج به من هذا، و عن العوامل المتعددة، التى جعلته محصولا يسيرا.

و من يدرى .. لعل فى ذلك جوانب من الخير كثيرة، أهمها: ترك الباب

مفتوحا للعقول و على مر الزمن لتجتهد فى فهم القرآن على ضوء خبرتها و علمها، و تبرز لنا من أسرار الكون المكتشفة حديثا، ما أشارت الآيات إليه، و لم يدركه السابقون .. و هو خير يزيد المؤمنين إيمانا و يقينا ..

و من أراد أن يرجع إلى ما تركه الرسول صلى الله عليه من تفسير قليل.

فليرجع إلى أمهات كتب الحديث. باب التفسير ليقف على هذه الحصيلة القليلة، بجانب ما غصت به كتب التفسير بأجزائها و مجلداتها.

علم التفسير، ص: 79

التفسير بعد عصر الرسول

اشارة

عصر الصحابة

و إذا كنا قد عرفنا هذا كله، فإن سؤالا يطرح نفسه علينا و هو: كيف كان الموقف بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم من تفسير القرآن؟

و نستطيع أن نقول اجابة عن هذا السؤال: إن موقف الصحابة من فهم القرآن أيام الرسول كما عرفناه، و قد استمر بقوة الدفع بعد وفاته زمنا توفرت الظروف فيه للاستمرار. و أقول توفرت الظروف فيه للاستمرار لأن الظروف التى كانت فى أيام الرسول لم تستمر كثيرا بعد وفاته، كما سنتحدث عن ذلك فيما بعد.

لقد كانت خلافة أبى بكر رضى الله عنه بعد الرسول من أكبر العوامل و أقواها للمحافظة على استمرار الوضع الذى كان أيام الرسول .. لأنه كان رضى الله عنه أكثر الصحابة شدة فى التزام الوضع السابق: فقال يجابه مانعى الزكاة «لو منعونى عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه» ثم رفض بكل شدة أن يغير قيادة «أسامة بن زيد» للجيش الذى كان قد جهزه الرسول، و ولى اسامة القيادة قبيل وفاته ..

و من هذا المنطلق نستطيع أن نقول: إن أبا بكر رضى الله عنه حافظ بشدة على الوضع الذى كان أيام الرسول بالنظر إلى

الموقف من تفسير القرآن .. و لا سيما فيما يتصل بالمتشابه، و ما طوى من أحداث القصص التى ذكرها القرآن.

و هما أهم ما شغل العقول بالكلام و السؤال، لأن مجال القول فيهما كان متسعا .. و ذلك بخلاف ما يتصل بالعقائد المبدئية أو الكلية و الأحكام، فقد كانت الآيات فيهما واضحة، و كانت السنة النبوية العملية و القولية توضح المراد منه، فوق أن عملهم فى أيام الرسول جعل المراد من الآيات فى هذا المجال، غير بعيد عن أفهامهم فكانوا يجيبون عن الاسئلة المتصلة بهذا الجانب، و هم متأكدون من صحة ما يقولون، معتقدين أن هذا جزء من تبليغ الدين ..

علم التفسير، ص: 80

و ذلك بخلاف ما عداه مما لم يرد فيه بيان نبوى، و لا تدعو الحاجة للخوض فيه فإنهم تورعوا عن الكلام فيه محافظة على النهج الذى ساروا عليه أيام الرسول .. و قد روى أن أبا بكر سئل عن معنى آية من القرآن فقال: أى سماء تظلنى و أرض تقلنى، إذا قلت فى القرآن برأيى، أو بما لا أعلم. و قد سبق أن ذكرنا أن عمر رضى الله عنه ضرب واحدا من المسلمين ضربا موجعا حتى كاد يؤدي بحياته و هو عبد الله بن صبيغ- لأنه كان يكثر من السؤال عن معنى- المرسلات و العاصفات و الصافات، و لم يتركه حتى تاب و رجع عن هذا المسلك.

و مع هذا روى أن أبا بكر أجاب لما سئل عن معنى (الكلالة) الواردة فى موضعين من سورة النساء، و أن عمر أيضا سأل عن معانى بعض الكلمات التى كانت خافية عليه كما سبق مثل (تخوف) فى قوله تعالى: «أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» فى سورة النحل.

و

هذا يدلنا على أن الكلام السابق لأبى بكر (أى سماء تظلنى) الخ .. كان خاصا بناحية فى القرآن، و هى التى تتصل بالمتشابه أو بالمطوى من حوادث القصص، لأنه تحرج- جريا على النهج الرسولى- من الكلام فى هذه الناحية.

و لم يتحرج من تفسير معنى الكلالة الواردة فى آيتين من آيات المواريث، لأن ذلك يتصل ببيان ألفاظ أحكام عرفوها، و لا بد لهم أن يبينوها .. أما تحرجه فيما تحرج عن الكلام فيه، فلأنه يحتاج إلى نقل صحيح، و لم يكن هذا النقل متوفرا لديه، فعدّ الكلام فيه حينئذ من أبواب الكلام بالرأى .. و هو لا يريد أن بخوض هذا المجال، تورعا منه، و تشبثا بالمنقول.

و كان سلوك أبى بكر هو السمت الغالب على الصحابة فى عهده و عهد عمر تقريبا .. و امتد بعدهما و لكن عند الورعين الذين ألزموا أنفسهم حسن الاتباع

ثم بدأت الظروف تتغير:

فلو كان الاسلام ظل قاصرا على البيئة التى تركه الرسول فيها، لكان من الممكن أن يظل النهج الرسولى سائدا مسيطرا على الناس مدة طويلة

و لكن ذلك لم يكن، فقد اتسعت رقعة الاسلام، و دخله أناس يحملون

علم التفسير، ص: 81

ثقافات و أفكارا، و نفسيات مختلفة، و اختلطوا بالصحابة فى المدينة، أو ذهب الصحابة إلى بلادهم، و لم يكونوا جميعا عربا، يفهمون العربية و القرآن بسليقتهم كالعرب، فاحتاجوا إلى بيان معنى ما يسمعون أو يقرءون، و لم يكونوا ملتزمين بالنهج الذى سار عليه الصحابة مع رسول الله ازاء القرآن و كان من الضرورى الاجابة عما يسألون أو يثيرون من شبهات، أو يطلبون من بيانات ..

و كان من هؤلاء الداخلين فى الاسلام جماعة لا زال ماضيهم يشدهم إليه، فلم يكونوا مخلصين للدين الجديد،

فأخذوا يثيرون الشكوك، و يزرعون الألغام فى طريق المسلمين المخلصين، حول القرآن و التعاليم الاسلامية بعامة ..

و كان بجوار هؤلاء نبت جديد فى البلاد العربية، أو بتعبير العصر، جيل جديد، لا شك أنهم كانوا أكثر تطلعا من الجيل السابق عليهم، و أكثر جرأة و تطلبا لفهم ما يغلق عليهم فهمه من القرآن الكريم.

كما أن الأحداث العنيفة التى أثارها النزاع حول الحكم فى وقت مبكر بعد وفاة الرسول، قد شغلت المسلمين بها، و أضعفت فيهم المثالية التى كانت سائدة من قبل، و أوجدت عند كل فريق رغبة فى التماس الحجة له من القرآن

و كان الموقف يقتضى الاقتصار على فهم الآيات بمقتضى أسلوبها العربى المفهوم لدى الصحابة أو تابعيهم من العرب، مع الاستعانة فى بعض الأحيان بما يكون قد روى عن الرسول .. ثم التوقف عن الخوض فيما لا يمكن الخوض فيه .. كآية متشابهة. أو حادثة مطوية فى قصة. أو ظاهرة كونية. كالرعد و البرق مثلا ..

و هذا بالفعل ما تمسك به الورعون من الصحابة و تابعيهم الذين التزموا النهج الأول. فكانوا يقلون من تفسير القرآن، و يتحرجون من الجرأة على الكلام فيه كأبى بكر، و يفوضون ما لم يعلموا رواية فيه عن الرسول، أو لم يكن ظاهرا واضحا عندهم، إلى علم الله .. معتبرين السؤال عنه بدعة، يجب على الانسان المؤمن البعد عنها. و هذا ما يبدو واضحا مما نعرفه من قول الامام مالك رضى الله عنه، لمن سأله عن معنى الاستواء، فى قوله: «الرحمن على العرش استوى» فقال الاستواء معلوم، و الكيف مجهول، و السؤال عنه بدعة.

علم التفسير، ص: 82

كان هذا الجواب يمثل مسلك المتحفظين الذين يتهيبون ابداء رأيهم الخاص فى تفسير القرآن،

و لا سيما الأمور المشتبهة فيه .. و لكن لم يكن من الممكن فرض هذا المسلك على المجتمع الاسلامى كله، مع الظروف التى طرأت عليه، و سبق أن أشرنا إليها، و التى ولدت تيارا جديدا فى هذا المجتمع، يفرض على العلماء فيه، أن يتحدثوا عما يثار من أسئلة، و عما تتطلع إليه النفوس من توضيح ما يشكل فهمه عليهم من القرآن، و الرد على بعض الشبه التى يثيرها المسلمون و غيرهم ممن اختلطوا بهم. حتى لا تظل هذه الشبه و هذه التساؤلات قائمة، تفعل فعل عوامل التعرية فى النفوس.

و هنا نجد الكثيرين ينشطون لسد هذه الثغرات، و ازالة هذه الشبهات، و ارضاء هذه التطلعات و لكنهم يسلكون الطريق الذى يكون أكثر تأثيرا على المجتمع أو الجمهور فيه، و هو طريق الرواية .. عن الرسول أو عن الصحابة ..

فإذا لم يجدوا .. نسبوا إلى الرسول أو الصحابة أقوالا .. وجد أن أكثرها غير صحيح النسبة بعد غربلته.

و كثيرا ما كانت هذه الأقوال مستمدة من الإسرائيليين الذين أسلموا، و لجأ إليهم بعض الصحابة أو التابعين و لا سيما فى قصص الأنبياء و الأمم السابقة- باعتبار هؤلاء الإسرائيليين أصحاب ثقافة قديمة، و عندهم كتب تحدثت عن هؤلاء الأنبياء .. و يمكنهم ايضاح بعض ما طواه القرآن من أحداث السابقين.

و كان بعض هؤلاء الإسرائيليين المسلمين يتمتعون بثقة الصحابة و التابعين دينيا كما ذكرنا. و كانوا حين يسألون لا يمسكون عن الإجابة، بل يتحدثون بما يعرفون من قبل عن هذه القصص .. و السائلون يأخذون منهم الجواب و يتحدثون عن قصص القرآن .. و الآخرون ينقلون عنهم، و هكذا حتى يصبح كلام هؤلاء الإسرائيليين رواية رواها فلان عن فلان ..

و تلتصق بتفسير القرآن، و تصبح جزءا مهما من هذا التفسير ..

و هكذا .. أصبح من المتيسر لدى المتحدثين فى تفسير القرآن أن يجدوا لدى كل آية روايات تفسرها .. مع أن الرسول لم يترك إلا القليل جدا من تفسير القرآن ..

علم التفسير، ص: 83

و كان المتبع فى ذلك الوقت الحرص على الرواية، و ذكر الأشخاص الذين اضطلعوا بها، تحرجا من التفسير بالرأى الذى لم يكن ينظر إليه نظرة سليمة فى ذلك الوقت، مما اتاح فيما بعد للنقاد البصيرين بالرجال أن يتتبعوا الرواة و ينقدوهم، و يرفضوا ما يجدون فيه سببا للرفض ..

كما نجد فى تفسير الطبرى و أمثاله من سرد الروايات و لكن لم يكر عليها بالنقد، فترك القراء فى دوامة، و لا سيما من لم تكن عندهم خبرة بالرجال الذين رووا هذه الروايات، و هم الكثرة الغالبة جدا من القراء .. و هذه التفسيرات- فى رأيى- هى التى وضعت حجر الأساس فى نشر الروايات الإسرائيلية و المدسوسة الموضوعة و ترويجها فى الأجيال المتعاقبة .. و لا يشفع لهم أنهم ذكروا سند الروايات. فليس كل قارئ لها عليما بأحوال رواتها .. أو غيورا على القرآن و الاسلام، يحرص على تنقيتها من الدخيل فيها .. و قد فتح هؤلاء بابا واسعا لمن أتى بعدهم فى الاعتماد على ما تقول هذه الروايات، دون ذكر السند و كأنه قضية مسلمة و لا سيما فى التفاسير الصغيرة، فرأينا الكثيرين ممن اشتغلوا بالتفسير يتوسعون فى سرد هذه الأقوال الإسرائيلية منها و غير الإسرائيلية. و زاد الطين بلّة أن الأحاديث الموضوعة راجت و كثرت، حتى كادت تطغى على الأصيلة، «فالعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق» و شارك بعض

المسلمين المخلصين مشاركة فعالة فى هذا الوضع- و بحسن النية مع الأسف- ليشدوا الناس إلى القرآن، كالأحاديث التى تذكر مع كل سورة لبيان فضلها و ثواب قارئها، ترغيبا فى قراءة القرآن لأن الناس فى ذلك الوقت كانوا قد عنوا بالجدل و العلوم الأخرى- كما يقول وضاعو هذه الروايات- و انصرفوا عن العناية بالقرآن.

و لست أريد أن أشغل القارئ هنا بنقل النصوص الدالة على ذلك كله من الكتب التى عنيت بهذه المسائل لأن هذه القضايا أصبحت معروفة مسلما بها لدى المشتغلين بالتفسير «1»

______________________________

(1) و أهم الكتب الحديثة التى تناولت هذا الموضوع- فى رأيى- هو كتاب التفسير و المفسرون للشيخ المرحوم الدكتور محمد حسين الذهبى و البحث الذى قدمه لمجمع البحوث عن الإسرائيليات فى-

علم التفسير، ص: 84

قاعدة تحتاج إلى مناقشة:

و مع أن المشتغلين بالتفسير الذين عنوا بتنقية الروايات، و بيان الصحيح منها و غير الصحيح، قد أبلوا فى ذلك بلاء حسنا .. و قدموا لنا ذخيرة يمكن الاعتماد عليها. فإن هناك قاعدة من القواعد التى أقروها بصدد هذه الروايات، أعتقد أنه دخل منها الكثير من غير الصحيح، على الروايات المفسّرة للقرآن، و هى لهذا تحتاج إلى مناقشة ..

هذه القاعدة المعروفة المسلّم بها لدى النقاد جميعا هى المتصلة بالرواية الموقوفة على الصحابى التى لم يسندها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قالوا: إذا كانت هذه الرواية أعنى موضوعها من الأمور الغيبية، و تكلم بها الصحابى، فمعنى ذلك أنه سمعها من الرسول .. و لو لم يصرح بذلك، لأنه لا مجال للرأى و العقل فيها .. فهى فى حكم المرفوع للرسول ..

و هذا الكلام الذى قالوه يمكن أن يصدق، و لكن إلى حد ما، لأنى أعتقد أننا

لو أخذناه قضية مسلمة و على اطلاقها، فإنه من الممكن حينئذ أن يدخل منها المدسوس على رسول الله. و لا سيما فيما يتصل بالتفسير ..

ذلك أن بعض الصحابة كانوا يطمئنون- و لو أحيانا لنكون أكثر دقة و احتياطا- إلى بعض المسلمين من أهل الكتاب، و إخبارهم ببعض الأمور من تفصيلات القصص و غيرها، فينقلون ذلك عنهم. و يروى تلامذتهم، أعنى التابعين عنهم .. و تصبح الرواية بذلك موقوفة على الصحابى .. فإذا أخذنا القاعدة السابقة قضية مسلمة فى مثل هذه الروايات نسبنا الى الرسول بذلك ما لم يقله، أو يكون هذا احتمالا على الأقل ..

و من الواجب أن نحتاط الاحتياط الشديد فى نسبة كلام الى الرسول عن مثل

______________________________

القرآن. و إن كنت لا أتفق معه فى تحفظه فى بعض نواح من بحثه .. ثم بحث قدمه الدكتور الشيخ محمد أبو شهبه لم يستوعب أيضا الاسرائيليات فى القرآن. و إن كنت لا أتفق معه فى تحفظه فى بعض نواح من بحثه. و مجمع البحوث و الدراسات العليا بكلية أصول الدين معنيان بإتمام بحث الاسرائيليات فى التفاسير و هناك رسائل تعد فى هذا الموضوع لشهادتى الماجستير و الدكتوراة فى الكلية و هو اتجاه طيب.

علم التفسير، ص: 85

هذا الطريق، لا سيما و نحن نعرف أن الصحابى كان يحرص الحرص كله، على أن يسند الرواية إلى الرسول، إذا كان حقا قد سمعها منه، ليزداد شرفا بالرواية عن رسوله من جهة، و ليكسب كلامه مهابة و توكيدا من جهة أخرى، و لا سيما فى مثل هذه الأمور الغيبية التى تحتاج لتدعيم و تقوية.

فامتناعه أو عدم تصريحه حينئذ، بروايته عن الرسول، مع الحالة التى كانت قائمة بالأخذ عن بعض مسلمى أهل

الكتاب فى مثل هذه الأمور، يوجب علينا أن نحتاط، فلا نقبل رواية بهذا الشكل، أعنى الرواية عند الصحابى التى لم ينسبها صراحة إلى الرسول ..

و هذا- فى رأيى- يختلف عن قول الصحابى أو عمله فى حكم من الأحكام، لأنهم لم يكونوا يسمحون لأنفسهم بمعرفة شى ء من ذلك، أو من العقائد، عن مسلمى أهل الكتاب .. و الرسول صلى الله عليه و سلم وضح كل ما يتصل بذلك قولا و عملا.، فإذا عمل أو تكلم الصحابة أو تابعوهم ممن كانوا فى المدينة أو خرجوا منها و كانوا على حال يوثق فيها بهم و بعلمهم، فإن من الجائز حينئذ أن نفهم أن قولهم فى الحكم أو عملهم، معتمد على عمل أو قول منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و إن لم يصرحوا بنسبته إلى الرسول .. و هذا ما كان يأخذ به الامام مالك رضى الله عنه فى مذهبه، مما سمى بقاعدة عمل أهل المدينة .. و إن نازعه فى ذلك بعض الفقهاء، ممن لم يسلموا للامام مالك بحجة عمل أهل المدينة .. و الاستناد إليه فى تقرير حكم من الأحكام ..

و قد يقول بعض الناس: و ما الضرر فى أخذ مثل هذه الروايات، أعنى الموقوفة على الصحابى فى أمور لا مجال للعقل فيها، ما دامت لا تتصل بتقرير عقيدة أو حكم شرعى، و لكنها زيادة تفاصيل لما ذكر مجملا من القصص أو الكون مثلا؟ ...

و أقول لهم: إن الضرر من هذا يرجع إلى تقييد عقولنا بفهم أو تفصيل خاص باعتبار أن ذلك صادر عن الرسول .. و قد تكون تلك الرواية متصلة بأحوال الآخرة فتدخل ضمنا فى تكوين عقيدتنا، أو فى تكميل الصورة

عنها.

علم التفسير، ص: 86

و قد تكون متصلة ببعض الظواهر فى الكون، و تأتى التجارب العملية بعد ذلك ببطلانها، فيمتد أثر ذلك على رسول الله!! و هذا كثير. ربما يكون هذا تشددا منى فى أمور قبلها السلف أو بعضهم و أقروها .. و لكنى أرى من الأولى لنا الآن بعد أن قاسينا ما قاسينا من الروايات الموضوعة و المدسوسة و الإسرائيلية، أن نقابل كل هذا البلاء الذى بلينا به فى أمر يتصل اتصالا وثيقا بالقرآن، و هو تفسيره و توضيح معانيه و الوقائع التى جاءت فيه. أقول من الأولى لنا أن نقابل كل هذا بشي ء من التشدد، حتى نجرّد التفاسير مما علق بها، و شوّه فهمنا للقرآن، ليبقى القرآن وحده أمام عقولنا مع الأحاديث الصحيحة المرفوعة للرسول الواردة فى كتب الأحاديث الصحيحة.

يبقى شى ء آخر يحتاج لمناقشة

هو أقوال مشاهير المفسرين، مثل على و ابن عباس و ابن مسعود من الصحابة رضى الله عنهم، و مثل عطاء و مجاهد و مقاتل و غيرهم من التابعين ممن يستشهد بآرائهم فى التفسير.

هل ما يقوله هؤلاء فى فهم الآية كرأى لهم .. حين يصح النقل عنهم، و نسبة القول إليهم، يجب أن يؤخذ قضية مسلّمة، لا يصح لنا العدول عنها، أو مناقشتها، باعتبار أن هؤلاء أقرب إلى نور النبوة، و أكثر منا فهما للقرآن؟

و أقول مع تقديرى و إجلالى لهم- إن من المجازفة أن نتقيد بفهمهم فى الآية فلا نخرج عنه، و أن لكل من جاء بعدهم إلى ما شاء الله من الأزمان، أن يعملوا عقولهم فى فهم القرآن، و يستخرجوا من ألفاظه المعانى التى تؤديها، ما داموا أهلا لهذا الفهم، دون تأويل بعيد، أو شطط فى الفهم يصادم نصا، أو قاعدة إسلامية،

أو يتنافى مع روح الاسلام العامة ..

و الكل يؤخذ منه و يرد عليه ما عدا رسول الله صلى الله عليه و سلم ..

و أعتقد أن هذا لا يلقى جدلا كثيرا لأن المفسرين الذين جاءوا بعد هؤلاء، لم يتقيدوا بآرائهم، و إن كانوا قد عنوا بنقلها فى صدر تفاسيرهم للآية ..

علم التفسير، ص: 87

تفرق الصحابة فى البلاد و مدارس التفسير

لقد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فى البلاد. مكة، و العراق، و مصر، و الشام و غيرها .. و كان منهم من عرف عنه العلم بتفسير القرآن أو القول فيه .. كابن عباس و ابن مسعود و غيرهما .. و المسلمون جميعا مشدودون للقرآن، مهتمون بمعرفته و تفسيره، كل على قدر تطلعاته. و كان من الضرورى أن يسألوا عما يريدون منه، لاجئين إلى من يرونه ثقة فى ذلك ..

و لا يمكن أن نتصور فى هذا العصر أن أحدا من هؤلاء الموثوق بهم، قد خصص وقتا لتفسير القرآن، كما هو الشأن فى أيامنا، و لكن التفسير كان يحدث تبعا لأسئلة تلقى، فكان تفسيرا متناثرا حسب الوقت، و الحاجة .. كما لا يمكن أن نتصور أن التفسير فى ذلك الوقت، كان كالتفسير الذى نقرؤه فى كتبه، أو نسمعه من المتخصصين أو شبههم فى أيامنا ..

بل كان تفسيرا فى حدود ما سمع من الرسول، أو قيل إنه سمع منه، مع إضافة شى ء إليه مما سمع من أهل الكتاب إن كان المفسر ممن يقبل ذلك، كما كان فى حدود الفهم العربى للألفاظ و التراكيب، و ما عرف من سبب نزول الآية.

و كانت تغلب عليه الرواية، و يسير فى حدودها .. و يتناقله الناس شفاها غير مكتوب ..

«و اشتهر من الصحابة عدد

قليل فى تفسير القرآن، و أكثر من روى عنه على ابن أبى طالب، و عبد الله بن عباس، و عبد الله بن مسعود، و أبى بن كعب.

. و أقل من هؤلاء: زيد بن ثابت، و أبو موسى الأشعرى، و عبد الله بن الزبير» «1».

و كان أبعد هؤلاء و أكثرهم أثرا فى التفسير: ابن عباس و مدرسته فى مكة، و ابن مسعود و مدرسته و تلاميذه فى الكوفة، و أبى بن كعب الذى آثر المكث فى المدينة

______________________________

(1) فجر الإسلام ص 249 الطبعة الثالثة للمرحوم أحمد أمين.

علم التفسير، ص: 88

و كون فيها مدرسته التفسيرية .. و كان لكل من هؤلاء الصحابة تلامذة، أخذوا عنهم أقوالهم فى التفسير .. و لهؤلاء التلاميذ، تلامذة نقلوا عنهم .. و كل ذلك كان فى الصدور، لم يعن أحد منهم إلا قليلا بتدوين ما تلقاه فى كتاب، إذ كانت كتبهم هى صدورهم .. يحدثون الناس بما سمعوه من أساتذتهم من تفسير لآيات القرآن .. و بما يضيفونه إلى ذلك، من رواية سمعوها من غيرهم بطبيعة الأمر ..

و كانت الأقوال فى تفسير الآيات كالهواء فى تنقلاتها بين الناس، ليس هناك ضبط لها، و لا بيان لصحيحها من غيره .. فاختلط فيها الصحيح القليل عن الرسول، بما وضع على لسانه، بما نقل عن معلومات أهل الكتاب .. مع تفسير للألفاظ و بيان لمعانيها حسب المفهوم العربى لها .. و لم يكن ذلك كله بشكل منتظم مرتب، و لكن على حسب الظروف و سؤال السائلين، أو رغبة الاستاذ لبيان آية من الآيات يقتضيها الحال ..

و قد كان الأمر كذلك بالنسبة لأحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم، إذ كان التفسير جزءا منها غير منفصل

.. و ظل الأمر كذلك حتى نهض فى أواخر القرن الهجرى من المسلمين، رجال هالهم هذا الخلط الكثير فى الأقوال و الروايات، و اتجهوا إلى غربلتها، و تمييز الصحيح من غير الصحيح، بتتبع حال الرواة الذين رووها، و الوقوف على مدى الثقة فيهم .. و كان ذلك منهم حرصا على تنقية ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه و سلم من أقوال غير صحيحة الانتساب، باعتبار أن الأحاديث الصحيحة هى المرجع الأول و الأخير، سواء فى بيان معانى القرآن، أو فى بيان الأحكام، فوصلوا فى هذا المضمار إلى ما أرادوا، مما تميزت به صفحة الإسلام عن غيره من الأديان.

علم التفسير، ص: 89

عرض التدوين

اشارة

و قد ظل التفسير كغيره من العلوم. شائعا فى الهواء، متنقلا بين الصدور حتى اتجهت الأذهان إلى تدوين هذه العلوم فى كتب، و منها التفسير، و ذلك فى مستهل القرن الثانى الهجرى، فانفصل التفسير عن الحديث بعلم خاص، و إن ظل علماء الحديث يذكرون ما روى فيه من أحاديث الرسول:

و يذكر المرحوم الاستاذ محمد الفاضل بن عاشور مفتى تونس السابق و من كبار علمائها «1» «أن أول من ألف فى التفسير هو عبد الملك بن جريج المتوفى 149 ه»

كما يذكر ذلك المرحوم الأستاذ أحمد أمين «2» و إن كان لم يقل إنه أول من ألف، و يقول عن تفسيره و عنه «كان شأنه شأن المحدثين الأولين يجمعون ما وصل إليه من صحيح و غير صحيح، و قد ذكروا «أن ابن «3» جريج لم يقصد الصحة، و إنما روى ما ذكر فى كل آية من الصحيح و السقيم» و لم يكن ابن جريج هو الذى ابتكر هذه المحاولة بل سبقه و زامله و

اتى بعده آخرون على نفس الخطة مثل تفسير السدى، و مقاتل، و غيرهم ممن تحدث عنهم السيوطى فى كتابه «الإتقان» الباب الثمانون- طبقات المفسرين. و لم تصل لنا هذه التفاسير فى كتب، و إن كانت آراء مؤلفيها قد نقلها غيرهم فى الكتب التى وصلتنا، و فى مقدمتها تفسير ابن جرير الطبرى ..

بينما يقول الفاضل بن عاشور: إن هناك تفسيرا مهما و جامعا لم يعرف فى المشرق كما عرف فى المغرب، و إن لم يكثر تداوله، و هو تفسير «يحيى بن سلام»

______________________________

(1) فى كتابه التفسير و رجالة إصدار مجمع البحوث ص 21.

(2) فى كتابه ضحى الإسلامى ص 142 الطبعة الأولى نقلا عن الإتقان للسيوطى.

(3) اسمه: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج من علماء مكة و محدثيهم و أول من صنف الكتب بالحجاز أصله روميّ نصرانى ولد سنة 80 ه و توفى سنة 150، لم يظفر بإجماع العلماء على توثيقه فيما يرويه و رماه كثير منهم بالتدليس و رواية الموضوعات ..

علم التفسير، ص: 90

الذى كان أول التفاسير ظهورا فى النصف الثانى من القرن الثانى الهجرى، و الذى سار فيه أيضا على طريقة جمع الروايات المتداولة فى تفسير الآية، مما اقتضى جمع روايات متخالفة فى تفسير الآية الواحدة غير أنه كان يتعقبها بالنقد و الاختيار .. فبعد أن يورد الأخبار المروية، مفتتحا إسنادها بقوله «حدثنا» يأتى بحكمه أو برأيه مفتتحا بقوله «قال يحيى» إلخ ..

و هذه هى الطريقة التى سار عليها الطبرى فى تفسيره .. و هى طريقة التفسير الأثرى النظرى، و فيها شى ء من التجديد و الترقى عما سبقها، حيث يعتبر إيراد رأى المفسر، اختيارا لرأى أو رواية من الروايات، و رفضا لما عداها، أو

نهجا فى التفسير يرتضيه .. و يحيى بن سلام ألف تفسيره و روى عنه بالقيروان من بلاد المغرب، و توفى سنة 200 ه، و الطبرى ولد سنة 224 ه فى المشرق فى طبرستان، و لكنه رحل إلى مصر، و الشام، و العراق، التى توفى بها سنة 310 ه، فهل يمكن القول بأنه اطّلع على تفسير يحيى بن سلام و استفاد منه؟.

و يقول الفاضل بن عاشور إنه «توجد نسخة من تفسير ابن سلام عظيمة القدر نسخت منذ ألف عام، موزعة الأجزاء بين المكتبة العبدلية بجامع الزيتونة، و بين مكتبة جامع القيروان، و من مجموعها يتكون نحو الثلثين منها، و يوجد جزء آخر منها عند بعض العلماء لعله يتممها»

فهذا التفسير- إذن- لم يطبع حتى الآن، و لا عجب فى ذلك على أمة هذه حالها من ميراثها .. فقد ظل تفسير الطبرى بعد رواجه فى أوائل ظهوره و ترجمته للفارسية- مخطوطا مهملا، و إلى عهد قريب لم يكن متداولا، حتى عثر على نسخة كاملة منه فى حيازة «أمير حائل» «حمود بن الأمير عبد الرشيد» من أمراء نجد، من نحو سبعين سنة فطبع عليها الكتاب «1» و صار متداولا معروفا لدى الخاصة و العامة، و أيضا من أهم المراجع فى التفسير .. جمع إلى الرواية النقد و الاختيار للرأى الذى يراه. و كان يخطئ المفسرين الذى يعتمدون على مجرد الرأى و اللغة .. و يعتبر تفسيره موسوعة ضمت إلى الروايات المتعددة، الثمينة

______________________________

(1) التفسير و المفسرون للمرحوم الدكتور الذهبى ص 208 نقلا عن كتاب المذاهب الإسلامية فى التفسير ص 86.

علم التفسير، ص: 91

و الغثة، دراسات فى اللغة، و نقد للروايات أحيانا، و أقوال السابقين و اختيار الرأى الذى يراه

أخيرا ..

و قد جاء هذا التفسير الزاخر الضخم الموسوعة شبيها بنهر كبير، ضم مع الماء العذب كثيرا من القش و النفايات، و على القارئ و هو يسبح فى خضم هذا النهر أن يختار طريقه .. أو إذا أراد أن يشرب منه أن يعنى بتصفية الماء الذى يشربه.

. و لا شك أن هذا الكتاب و هو مخطوط قد عرف فى زمنه، و بعد زمنه، و اطلع عليه طلاب العلم و العلماء، و أخذوا عنه، كما كتب الكثيرون من كبارهم يشيدون به بما لم يظفر به كتاب آخر، و كانت هذه الإشادة به من علماء المشرق و المغرب، و فى عصور متتالية، دليلا على تداوله.

و قد حذا كثير من العلماء منهج الطبرى فى التفسير، و إن زاد بعضهم عليه نقدا للروايات التى يذكرها حسبما عرف فى علم الجرح و التعديل لرواة الأحاديث، كابن كثير و عمدتهم جميعا الاعتماد على الرواية المأثورة فى تفسيرهم، و لا يمكن لنا تتبع ما كتب فى هذه الناحية بالحصر، و إن أمكن ذكر بعض التفاسير المشهورة، و إن تفاوتت شهرتها مثل: «بحر العلوم للسمرقندى، و الكشف و البيان للثعلبى، و معالم التنزيل للبغوى، و المحرر الوجيز لابن عطية، و تفسير ابن كثير، و الجواهر للثعالبى، و الدر المنثور للسيوطى» «1»

و تفسير ابن كثير تفسير متداول بيننا، حائز للقبول، و يمتاز فى اعتماده على الرواية بنقدها، و بيان قيمتها من الصحة أو الضعف، أو الغرابة أو الوضع ..

و قد قام بعض الفضلاء بتجريده و اختصاره ..

و كان بجوار هذه التفاسير التى عرفت بأنها كتب التفاسير بالمأثور. كتب أخرى لم ينح أصحابها منحى الطبرى و إخوانه بل سلكوا طريقا آخر- و كانوا ممن يميلون

للاعتماد على العقل و الرأى- و عرفت هذه الكتب باسم «التفاسير بالرأى»، و هذا يعنى عندهم عدم الاعتماد الكلى أو غالبا على الروايات و سردها، بل الاعتماد على التصرف العقلى و اللغوى و البلاغى و العلمى فى

______________________________

(1) المرجع السابق ص 204.

علم التفسير، ص: 92

استخراج معانى الآيات .. مع ما صح عند المفسر و اختاره من روايات للاستشهاد بها، و كان من هؤلاء الذين نحوا هذا المنحى المعتزلة .. لكنهم تغالوا فى الاعتماد على الرأى، حتى أنزلوا القرآن على مذهبهم الاعتزالى، و اشتطوا فى التأويل .. فمنهم من عنى بإعراب القرآن و استخراج معانيه عن هذا الطريق كالزجاج «القرن الثالث الهجرى» صاحب كتاب «معانى القرآن و إعرابه» «1».

و منهم من عنى بالوجه البلاغى للقرآن، فبنى تفسيره على هذا الاتجاه مثل «تفسير الكشاف» لجار الله محمود بن عمر الزمخشرى (467- 538) ..

منتصرا لمذهبه المعتزلى حين تجى ء مناسبة ..

و كان هؤلاء يعيبون على أهل التفسير بالمأثور اعتمادهم على روايات غير صحيحة، و ساعدهم على هذا القول ما اعتمده البخارى من أحاديث قليلة فى تفسير القرآن، حيث قال هؤلاء: إن ما عدا هذا مما ذكره المفسرون، و اعتدوا به فى التفسير، غير صحيح، و شوشوا عليهم و جرحوهم .. حتى لنجد المعتزلى الكبير إبراهيم النظام يقول:

«لا تستر سلوا إلى كثير من المفسرين، و إن نصبوا أنفسهم للعامة، و أجابوا فى كل مسألة، فإن كثيرا منهم يقول بغير رواية على غير أساس، و كلما كان المفسر أغرب عندهم. كان أحب إليهم، و ليكن عندكم عكرمة، و الكلبى، و السدى، و الضحاك، و مقاتل بن سليمان، و أبو بكر الأصم فى سبيل واحدة، فكيف أثق بتفسيرهم، و أسكن إلى صوابهم؟»

و لا شك أنه كان لمذهب الاعتزال أثر فى هذه النظرة .. و من هنا انصرف المعتزلة إلى كتابة تفسير لا يعتمد على هذه الروايات، و إن شايعهم فى ذلك العقلانيون من غير المعتزلة دون طعن على السابقين، فوجدنا كتبا فى التفسير لا تعتمد على الرواية اعتمادها على العلوم العقلية كالنحو و البلاغة و العلوم التى اكتسبها المسلمون من آثار ترجمة الكتب اليونانية الفلسفية و غيرها ..

______________________________

(1) شرح و حققه الدكتور عبد الجليل شلبى، و طبع تحت إشراف الأزهر .. على نفقة الشيخ خليفة بن زائد ولى عهد الإمارات.

علم التفسير، ص: 93

فما دام منهج الاعتماد على الروايات قد جرحه المعتزلة هذا التجريح، و أصبحت الثقة به ضعيفة، فليعتمد هؤلاء على منهج جديد، يلبى حاجة العقول فى عصرهم و لا يعتمد على الرواية، بل يعتمد على اللغة العربية و المعانى المستخرجة من حقيقتها و مجازها، بالاضافة إلى ما استفادوه من علم المنطق و غيره ..

و أقبلوا على القرآن يفسرونه بهذا المنهج، و ينصرون مذهبهم الاعتزالى بتأويل القرآن و إنزاله عليه كلما جاءت مناسبة تمس مذهب السنة، أو الاعتزال، و استعملوا مهارتهم الكلامية فى ذلك، حتى أو غلوا فى التعسف فى تأويل بعض الآيات و فى الوقت الذى ساد فيه مذهب الاعتزال، و سانده الحلفاء العباسيون، كان هؤلاء يعتقدون أنهم فرسان الحلبة فى تفسير القرآن، و علم الكلام.

بينما أهل السنة ممن يؤثرون التفسير بالماثور وقفوا منهم موقف المعارض الذى يعتقد أن المعتزلة بمنهجهم هذا يعتدون على كلام الله، و بعدت بينهم الشقة من هذه الناحية أيضا ..

و لكن بدأ جو المعتزلة فى الانكماش بعد تخلى الخلفاء عنهم، و بعد ظهور أبى موسى الأشعرى الذى وقف بعلم

و عناد ضد مذهبهم.

و بدأ أهل السنة فى العمل فى مجال التفسير و غيره بقوة، فكان من ذلك مؤلفات فى التفسير و غيره لعلماء فى المغرب و المشرق .. لا سيما بعد أن أقبلوا على بضاعة المعتزلة من علم المنطق و الفلسفة و غيرهما، ليتخذوا منها أسلحة لبيان معانى القرآن، و لتأييد آرائهم .. و للرد على مخالفيهم.

و فى هذا الجو ظهر الامام فخر الدين محمد بن عمر بن الخطيب الرازى الشافعى. و قدم فيما قدم من مؤلفات تفسيره الذى سماه «مفاتيح الغيب» فكان أساسا و عمدة لأهل التفسير بالرأى من غير المعتزلة، كما كان الطبرى أساسا و عمدة لأهل التفسير بالمأثور.

و يصبح من حقهما و حق القراء علىّ أن أذكر نبذة عنهما و عن تفسيرهما فيما بعد ..

علم التفسير، ص: 94

[أصل هذا التقسيم]

و أصل هذا التقسيم أو هذا الاصطلاح- الذى يقتضى إلقاء ضوء عليه، أصله قديم منذ عهد الصحابة الذين كانوا يتحرجون أن يتكلموا فى تفسير آية إلا إذا كانوا قد سمعوا عن الرسول شيئا فيها .. حتى لما سئل أبو بكر رضى الله عنه فى معنى آية لم يكن يروى عنها شيئا امتنع و قال عبارته المشهورة «أى أرض تقلنى و أى سماء تظلنى لو قلت فى القرآن برأيى».

فاتخذ الناس من هذا الكلام دليلا على وجوب الاعتماد على التفسير المأثور، بحيث لا يتكلم أحد فى التفسير إلا برواية رويت .. و كان هذا سببا فى بدء حياة التفسير، اعتمادا على الرواية، و جمعوا فيها الغث و الثمين. كما عرفنا، و كانت مزرعة، نما فيها الكثير من الاسرائيليات، و الخرافات حول تفسير القرآن، و ذلك لأن الأحاديث لم تغط تفسير القرآن، فلجئوا لأقوال الصحابة

و غيرهم، و لروايات أخرى يفسرون بها.

بينما نظر آخرون إلى قول أبى بكر، نظرة غير هذه النظرة، و قالوا لا يعنى كلامه هذا أن نهمل عقولنا و معارفنا فى تفسير الآيات، من حيث اللغة، و المعنى الظاهر السافر و نخرج برأى حسب ما تؤديه الكلمات العربية، و الأسلوب العربى، و الله يقول «إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون» فالموضوعات التى تحتاج إلى رواية، و هى التى لا يمكن للعقل أن يحكم فيها .. نرجعها للرواية .. و نقف عندها ..

لكن الآيات السافرة الظاهرة، التى تحكى قصة، أو تقول حكما، أو تحث على نظر فى الكون .. الخ. مما لا يحتاج فهمها إلى رواية؛ نتولى فهمها بعقولنا، و معارفنا فى اللغة أو الأحكام، أو الكون .. بحيث لا نخرج عن قرآن صريح، أو حديث صحيح، هذا إذا لم يدفعنا فضولنا لمعرفة ما تركه القرآن من تفاصيل، بل قال بعضهم: إن النص إذا تعارض مع العقل، أوّلنا النص لما يوافق العقل، و الله يقول «أ فلا يتدبرون القرآن ..» و تفاسير هؤلاء سموها «التفاسير بالرأى»

علم التفسير، ص: 95

و مثل هذا حدث فى الفقه أيضا حيث ظهرت مدرستان فقهيتان: مدرسة الحديث. و مدرسة الرأى، و اشتهر عن مالك رضى الله عنه أنه من مؤسسى المدرسة الأولى فى المدينة، و عن أبى حنيفة أنه مؤسس المدرسة الثانية فى العراق.

و حدث أيضا فى علم الكلام حيث انقسم المتكلمون فى علم التوحيد أو فى صفات الله .. إلى سلف: يحجمون عن التأويل فى مثل يد الله، و عينه، و وجهه، و استوائه مما ورد فى القرآن، و يقولون: له يد .. لا كأيدينا .. و لا نقول أكثر من ذلك،

و إلى خلف: رأوا أن مثل هذا الموقف لا يشبع نهم عالم، و لا يردّ شبهة متمرد، فلجئوا إلى التأويل بأن اليد معناها القدرة، ليسكتوا هؤلاء المتمردين .. معتمدين على الاستعمالات المجازية فى كلمة اليد فى الأسلوب العربى ..

و لا نعتقد أن أحدا منهم جاوز الهدف فى أيامه فى خدمة الاسلام، و لكن كان لكل منهم طريقة فى أداء هذه الخدمة حسبما رأى، على أن الذين اتجهوا إلى الاعتماد فى التفسير على الرأى لم يهملوا الأحاديث الصحيحة، بل ذكروها أيضا، و جالوا فى دائرتها، علما بأن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يفسر القرآن كله، و لم ترو أحاديث صحيحة يمكن بها تفسيره كله .. فالحاجة تدعونا- إذن- إلى الاعتماد على العقل و الرأى فى التفسير.

على أن الذين عابوا التفسير بالرأى لم يعيبوه إلا لبعض سقطات من بعض الذين تركوا الحديث، و اعتمدوا على عقولهم و على وجه من وجوه اللغة، غير ناظرين لما روى من حديث صحيح، و لا إلى الوجه الآخر فى اللغة، و لا إلى جو الآية .. بل نجدهم- أعنى أصحاب التفسير المأثور- أعملوا عقولهم فى التفسير، فإن أبا بكر رضى الله عنه، لم يكن يعنى إلغاء عقله نهائيا أمام القرآن و التوقف النهائى عن فهمه، إذا لم يرد فيه حديث، بل كان وقوفه أمام أمر يحتاج إلى رواية .. بدليل أنه و عمر و ابن عباس و باقى الصحابة، كانوا يرجعون فى الفهم إلى لغة العرب و استعمالاتهم، و قد سأل عمر عن معنى «الأب»، و عن معنى «تخوف»، و كان ابن عباس يفسر القرآن بما عرفه من كلام العرب

علم التفسير، ص: 96

و شعرهم، و أبو بكر كان

متورعا وقافا عند ما يؤثر عن الرسول حتى أنه عارض فى كتابة القرآن أولا، ثم اقتنع بكتابته .. فالخلاف الذى نشأ قديما بين المدرستين، كان خلافا بين زمنين، أو فى الحقيقة- إن شئنا الدقة- لم يكن خلافا جوهريا، بقدر ما هو خلاف شكلى، بدليل أننا يمكننا- بل رأينا مفسرين- أمكنهم الجمع بين الطريقتين أو بين الحسنيين .. و أما الأحاديث التى رويت فى النهى عن التفسير بالرأى فمطعون فيها و إن كان السابقون قد أخذوا بها، لكن الظاهر و المفهوم بداهة، أن المراد بالرأى الوارد ذمه فى الحديث لو اعتمدناه، إنما هو الهوى الذى لا يعتمد على أساس، و الذى يخرج القرآن عن معناه الأصيل و عن هدفه .. كما يحصل من تأويلات فاسدة، أو بعيدة كل البعد، يلجأ إليها أصحاب الهوى لخدمة أغراضهم، أو أغراض الذين يتزلفون إليهم ..

أما القول بالرأى: فى حدود اللغة و القواعد العامة، و النصوص الأخرى، فلا يمكن أن يكون محل تهديد من الرسول صلى الله عليه و سلم، و إلا لو كان محل هذا التهديد من الرسول، لعنى صلى الله عليه و سلم بتفسير كل آية و كل كلمة، حتى لا يترك مجالا لرأى من الآراء، و الرسول لم يؤثر عنه ذلك ..

و كيف و قد أمرنا الله بتدبره فى قوله تعالى «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» «1»

و قوله تعالى أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها 24 «2»

و قوله إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 3 «3»

و قوله فى ختام آيات كثيرة تعرض مظاهر خلق الله:

«إن فى ذلك لآيات للمؤمنين، أو لقوم يتفكرون، أو يتذكرون ..

______________________________

(1) ص/ 29.

(2) محمد/ 24.

(3) الزخرف/ 2.

علم

التفسير، ص: 97

و هذه كلها تأمر بالتدبر و الفهم لما يعرضه القرآن، و لا يمكن أن يتم ذلك إلا بالبحث العقلى دون انتظار لحديث يروى، و أين هذه الأحاديث؟

إن هذا الاتجاه و هذا التوقف فى تفسير الآية على حديث من الرسول، فى أمور غير غيبية، لا يمكن أن يكون الباعث عليه إلا مجرد الورع و الخوف من الوقوع فى قول خطأ، يتحمل مسئوليته و مسئولية من يقتدى به طول الزمن ..

و إلا فلا يجوز أبدا أن يكون منهجا لفهم القرآن، و إلا كنا قد حسبناه فى قمقم، و حجزنا هديه عن الناس و منعنا تدبره، و معرفة ما يشير إليه من أسرار.

. فيها الهدى للناس، و لا يمكن أن نقول فى تفسير كتفسير الإمام الطبرى و رأيه فى الآية، إن الطبرى لم يستعمل رأيه فى فهم الآية و نحمد الله على أن هذا الرأى لم يسيطر على علماء المسلمين جميعهم، بل قام أفذاذ العلماء برده و التخلص منه، و أقبلوا على تفسير القرآن بما منحهم الله من عقل و فهم و رأى، و لم يغفلوا مع ذلك ما ورد من روايات صحيحة، و كانوا حائزين لكل الشروط، أو متسلحين بكل الأسلحة التى يجب أن يتسلح بها كل من يريد التفسير: من علوم اللغة و البلاغة، و معرفة الناسخ و المنسوخ، و أصول الفقه و ما ورد من أحاديث صحيحة، و لا سيما فى آيات الأحكام، و آيات الغيب، و من أسباب النزول، مع ذوق يعينه على استشفاف المعانى. و مع تجنب شد الآيات وليّها نحو رأيه و مذهبه و هواه ..

فترك هؤلاء العلماء لنا كثيرا من التفاسير التى عرضوا فيها آراءهم و فهومهم للقرآن،

و ما يتصل به من علوم و معارف، مع اسهاب، أو توسط، أو اختصار، فكان لنا من ذلك كله ذخيرة ضخمة، و وردا يقصده كل طالب علم .. و ما يزال القرآن مقصد العقول و الهمم، يتناولونه بالتفسير من خلال ما وهبهم الله من فهم له و تدبر لآياته .. ليس هناك ما يصد عن هذا المورد العذب، إلا سوء الفهم أو سوء القصد، أو تحميل للألفاظ ما لا تحتمله، و خروج بها عن الظاهر إلى معان باطنية بعيدة، و جعلها رموزا لأشياء يعرفونها هم .. كما حصل من كثير من الباطنية و المغرقين من الصوفية، و كما

علم التفسير، ص: 98

يحصل الآن من بعض الذين تعرضوا للتفسير، و قد كان هذا المورد أو النهر الخضم العظيم، مجالا واسعا لكل من أنس القدرة على العوم فيه، بما تيسر له من علم و أدوات، فبعضهم خاضه بما أتقنه من علوم العربية، و بعضهم أضاف إلى ما عرفه من علوم الدين، ما علمه من علوم الكون كالرازى، و بعضهم ركز فيه على الجانب الذى يتقنه، فجعله معرضا لعلم الفقه و الأحكام .. و هكذا.

يقول السيوطى «1»: «ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا فى علوم، فكان كل منهم يقتصر فى تفسيره على الفن الذى يغلب عليه، فالنحوى تراه ليس له هم إلا الإعراب و تكثير الأوجه المحتملة فيه، و نقل قواعد النحو و مسائله و فروعه و خلافياته كالزجاج و الواحدى فى البسيط، و أبى حيان فى البحر و النهر.»

«و الأخباري ليس له شغل إلا القصص و استيعابها، و الأخبار عمن سلف سواء كانت صحيحة، أم باطلة كالثعلبى»

«و الفقيه يكاد يسرد فيه الفقه من باب الطهارة إلى أمهات

الأولاد، و ربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية التى لا تعلق لها بالآية و الجواب عن أدلة المخالفين كالقرطبى»

«و صاحب العلوم العقلية كالفخر الرازى قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء و الفلاسفة و شبهها. و خرج من شى ء إلى شى ء، حتى يقضى على الناظر العجب من عدم مطابقة المورد للآية»

«و المستبدع ليس له قصد إلا تحريف الآيات و تسويتها على مذهبه الفاسد»

«و الملحد لا تسأل عن كفره و إلحاده فى آيات الله»

و يعتبر هذا ملخصا لنظرة السيوطى إلى التفاسير التى ظهرت و اطلع عليها فى أيامه (1849- 911 ه)

______________________________

(1) فى كتاب الاتقان الباب الثمانون ص 190 ج 2 طبعة حجازى.

علم التفسير، ص: 99

كتب التفسير

اشارة

و أرى من المستحسن أن أمر بك سريعا على كتب التفسير التى ألفت حتى عهد السيوطى لمجرد التعريف بها و بمؤلفيها فى سطور .. سواء من ذلك كتب التفاسير بالمأثور أو كتب التفاسير بالرأى- المعتزلى منها و غير المعتزلى:

[التفسير بالمأثور]

1- جامع البيان فى تفسير القرآن للطبرى (224- 310) و هو عمدة التفاسير

2- بحر العلوم «للسمرقندى المتوفى سنة 373 ه لا يزال مخطوطا

3- «الكشف و البيان» للثعلبى أو الثعالبى المتوفى سنة 427 ه لا يزال مخطوطا

4- معالم التنزيل: للبغوى المتوفى سنة 516 ه مطبوع ..

5- المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسى الغرناطى المتوفى سنة 546 و هو ند تفسير الكشاف. و أكثره قبولا لدى العلماء

6- تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير البصرى ثم الدمشقى ولد سنة 700 ه و توفى سنة 774 و كان محبا لابن تيمية و آرائه

7- الجواهر الحسان فى تفسير القرآن للثعالبى المغربى المتوفى سنة 876 و دفن بالجزائر ..

8- الدر المنثور فى التفسير بالمأثور للسيوطى المولود سنة 849- و المتوفى سنة 911 فى منزله بروضة المقياسى و هو مختصر من كتابه «ترجمان القرآن» الذى ذكر فيه أحاديث التفسير بأسانيدها و فى الدر المنثور حذف الأسانيد، و اختصر على المتن ..

و هذه هى الكتب التى اختارها المرحوم الشهيد الدكتور الذهبى فى كتابه «1» عن التفسير بالمأثور و هى تقريبا عالة على الطبرى ..

______________________________

(1) التفسير و المفسرون ج 1 ص 204.

علم التفسير، ص: 100

[التفسير بالرأى]

و هناك كتب تفسير غير هذه تعتبر من التفسير بالرأى المحمود و هى تفاسير أهل السنة و هى:

1- مفاتيح الغيب للإمام فخر الدين الرازى (544- 606 ه) و سنفرده بحديث خاص ..

2- البحر المحيط لابن حيان الأندلسى الغرناطى (أثير الدنيا أبو عبد الله محمد بن يوسف) ولد سنة 654 ه و قد عنى فيه بوجوه الإعراب و القراءات، و ينقل عن السابقين ما يراه

3- تفسير البيضاوى (ناصر الدين أبو الخير عبد الله) المتوفى سنة 1685 و 691 ه و

هو تقريبا مختصر من تفسيرى الكشاف و الرازى ..

4- تفسير الخازن (علاء الدين أبو الحسن على بن محمد) البغدادى الشافعى، ولد بدمشق 678 ه و توفى سنة 741 ه و قد نقله عن البغوى و السابقين و حشاه بالاسرائيليات و الخرافات و الأكاذيب. و كان هذا عيبه مع أنه جيد الرأى و العبارة ..

5- تفسير النسفى: (أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفى الحنفى توفى سنة 701، و قد اختصره من الكشاف تقريبا مهملا كلام الزمخشرى فى الاعتزال .. و هو معروف حتى لطلاب العلم لأنه مقرر عليهم بالأزهر ..

6- غرائب القرآن: للنيسابورى. (نظام الدين الحسن بن محمد الحسين الخراسانى النيسابورى) توفى حول سنة 850 ه و قد اختصره من تفسير الرازى مع الكشاف و غيره بتصرف ..

7- تفسير الجلالين: جلال الدين المحلى الشافعى و جلال الدين السيوطى الشافعى أيضا بدأه المحلى من أول الكهف إلى سورة الناس و هو مولود بمصر سنة 791 ه و توفى 864 ه ثم جاء السيوطى المتوفى سنة 911 ه مفسرا من أول البقرة لآخر الاسراء على منهج المحلى .. و عليه حاشية الصاوى و الجمل و معروفة لدى طلاب العلم و غيرهم ..

علم التفسير، ص: 101

8- السراج المنير: للخطيب الشربينى القاهرى الشافعى المتوفى سنة 977 ه و قد ذكر فيه أنه اقتصر على أرجح الأقوال. مع إعراب، و قراءات و إسرائيليات ..

9- إرشاد العقل السليم: لأبي السعود التركى. ولد بقرية قريبة من القسطنطينية سنة 893 ه و برز فى العلم حتى تولى الافتاء و مكث بها نحو 30 سنة و يلقبه المفسرون «بشيخ الإسلام» و توفى بالقسطنطينيه سنة 982 ه و دفن بجوار قبر أبى

أيوب الانصارى المعروف هناك .. و هذا التفسير يمتاز بحسن الصياغة و الكشف عن أسرار البلاغة القرآنية، و أسلوبه يحتاج إلى تأن فى فهمه و دقة فى قراءته ..

و لا أظن أن السيوطى قد اطلع على هذا التفسير فقد ألف بعد وفاته و هو بمصر، و أبو السعود فى تركيا و يعتبر تفسير الرازى غالبا أساسا لهذه الكتب ..

أما تفاسير المعتزلة: و يسميها أهل السنة: بالتفاسير البدعية، نظرا لأن أصحابها تعسفوا فى تأويل بعض آيات القرآن على مذهبهم تعسفا شائنا غير مقبول فى أحيان كثيرة. بتنزيلهم القرآن على مذهبهم، و قواعده الخمسة.

و من أشهر كتبهم المتداولة ما ذكرناه من قبل و هو:

1- معانى القرآن و إعرابه للزجاج

2- الكشاف لجار الله محمود الزمخشرى ولد فى سنة 467 و توفى سنة 538 ه و هو معروف متداول ..

3- تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضى عبد الجبار (أبو الحسن بن أحمد الهمذانى الأسدآبادى الشافعى شيخ المعتزلة المتوفى 415 ه .. و هو مطبوع فى مجلد واحد كبير

و لا يرى فى هذا الكتاب من عيب إلا المغالاة فى الانتصار لمذهبه الاعتزالى. و ما عدا ذلك فهو عظيم ..

4- أمالى الشريف المرتضى أو غرر الفوائد و درر القلائد: و هو أبو القاسم على ابن الطاهر أبى أحمد الحسين، ينتهى نسبه إلى جعفر الصادق إلى الحسين بن على رضى الله عنهم .. كان شيخ الشيعة فى العراق و مع ذلك يعتنق مذهب

علم التفسير، ص: 102

المعتزلة، و الكتاب يضم إملاءات الشريف المرتضى فى ثمانين مجلسا فى التفسير و الحديث و الأدب، فهو لم يتعهد بتفسير القرآن كله كغيره من المفسرين، بل من خلال نظرته و تفسيره لهذه الآيات التى تعرض لها و

هى غالبا آيات فى العقيدة التى ينزلها على مذهبه كان تفسيره و قد ولد سنة 355 ه و فى سنة 436 ببغداد.

النظرة إلى تفاسير المعتزلة:

نظرا للخصومة الشديدة التى كانت قائمة بين المعتزلة و أهل السنة، رأينا الأخيرين يطلقون على تفاسير المعتزلة، أنها تفاسير بدعية، و راج هذا الإطلاق برواج مذهب أهل السنة، و سيطرته على العقول، و تراجع مذهب المعتزلة، و انكماش القائلين به، حتى لم يعد لهم كيان خاص بهم. حتى رأينا المرحوم الشهيد الدكتور الذهبى .. يدرج هذه التفاسير ضمن التفاسير البدعية، تأثرا برأى أهل السنة فيهم ..

و المعتزلة- بالرغم من آرائهم التى ذهبوا إليها و تخالف مذهب أهل السنة- كانوا مخلصين فى اتجاههم لهذه الآراء لخدمة الاسلام على الصورة التى رأوها ..

و قد استنفدوا كل وسائلهم للدفاع عن مذهبهم .. و إن كانوا قد استعملوا سلطة الخلافة فى تدعيمه و التنكيل بمخالفيه، كما حصل فى فتنة القول بخلق القرآن، و ما جرى فيها من تصرفات شاذة لا يقبلها العقل و لا الدين ..

لكن خصومة أهل السنة لهم كانت شديدة شدة خصومة المعتزلة لهم- و حين مال الميزان لصالح أهل السنة انقضوا على المعتزلة و آرائهم و سفهوهم و سفهوها، و من ذلك تسمية تفاسيرهم بالبدعية، أما نحن فى أيامنا، فلا يجوز أن نتأثر بهذه الخصومة، بعد أن ركدت ريحها، و ذهب زمنها، و بالتالى ننأى بجانبنا عن كتب المعتزلة و آرائهم جملة .. بل ننظر إليها من حيث الموضوع غير متأثرين و لا وارثين لخصومة أهل السنة لهم ..

ففي هذه الكتب و التفاسير ما لا يحصى من الفوائد العلمية. و آراؤهم الخاصة تحت نظرنا، يأخذ بها من يأخذ و يتركها من يترك ..

و من

هذه التفاسير، تفسير الكشاف و هو موضع القبول جدا لدى المشتغلين

علم التفسير، ص: 103

بالتفسير .. و كذلك غيره .. و إذا كان تفسير الطبرسى الشيعى قد أخذ مكانه لدينا، فلا يليق بنا إغفال كتب المعتزلة ..

تفاسير الألف الثانى من الهجرة

اشارة

هذه التفاسير التى ذكرناها كانت من نتاج العقول فى الألف الأول الهجرى.

. و هو كما ترى حافل بالمؤلفات و منها التفاسير .. و كان آخرها تفسير أبى السعود التركى «ارشاد العقل السليم» فقد ألفه صاحبه فى النصف الثانى من القرن العاشر.

فإذا استعرضنا تآليف أو تفاسير الآلف الثانى فإننا سنجد فى مقدمتها:

تفسير روح المعانى: لشهاب الدين محمود الألوسي الحنفى البغدادى. الذى ولد سنة 1217 ه فى بغداد و توفى سنة 1270 ه، و استفاد فيه بكل ما سبقه من تفاسير، و اختار منها ما أراد، مع عناية بنقل عبارة أبى السعود غالبا معبرا عنه بشيخ الاسلام، كما يعبر عن الرازى بالإمام. و له شخصيته حين يذكر الآراء، و يقارن بينها، و يختار منها، مع تفنيده لآراء المعتزلة و الشيعة، و مع ذكره لآراء أهل الفلك و الفلسفة، و إقرار ما يرتضيه، و مع عنايته بالمسائل النحوية و الفقهية و الكلامية، و نقده الشديد و رفضه للاسرائيليات، و الأخبار المكذوبة، فجمع فيه الألوسي ما اعتبره زبدة آراء السابقين .. و إنه لكذلك، فقد وجد مائدة السابقين مبسوطة أمامه، فانتقى منها ما قبلته نفسه، و هضمه عقله، و قدمه بشي ء قليل أو كثير من التوسع حسب المقاسات .. لكنه عنى بما لم يعن به غيره من التفسير الصوفى و الإرشادى الرمزى، بصورة تصوره بأنه من أهل العلم بهذا التفسير و الرضا به .. مع أنه تفسير مرفوض من الأغلبية الساحقة من

المسلمين.

. و عسير الهضم على عقولهم ..

و كان هذا آخر التفاسير الجامعة المعروفة على النسق القديم، و السائرة على منهجها، الدائرة فى فلكها .. و يعتبر لذلك من أوسع المراجع المهمة فى التفاسير، و أوفرها قصدا و اعتدالا ..

علم التفسير، ص: 104

ملاحظة عامة:

و الظاهرة العامة فى هذه التفاسير منذ نشأتها .. عنايتها بالإعراب و الوجوه البلاغية و القراءات و الأحكام الفقهية و خلافاتها و أدلتها أحيانا، كما لوحظ عليها ذكر الروايات و الاسرائيليات و القصص الخرافية البعيدة عن العقل .. مما يعتبر عيبا كبيرا فى هذه التفاسير .. و إن كان قليل جدا من المفسرين من ذكر هذا و عقّب عليه بالنقد .. سواء فى الأحاديث أو غيرها من الروايات التى لا أصل لها إلا الاسرائيليات ..

و لذلك فإننى أرى أن الفكر الاسرائيلى قد غزا الثقافة الاسلامية من منبعها، و شوش عليها و أساء إليها، حتى لنرى الكثير من العقول- حتى عقول العلماء- فيها أثر كبير لهذا الغزو الغريب الذى كان يجب على مفكرينا و علمائنا أن يتنبهوا له و يتحاشوه .. و لكن هذا ما كان. و ظهر أثره جليا فى عصرنا، عصر العلم و الحساسية الدينية، و هجوم الكثيرين على الاسلام و كتبه، مما يلقى علينا الآن عبئا كبيرا فى تطهير كتبنا من أثر هذا الغزو الذى بات يشكو منه الكثيرون و يستهجنونه ..

[كتب تفسير للفرق الاسلامية]

و إذا كنا قد عنينا بذكر كتب تفسير لأهل السنة، فليس معنى هذا أنها الوحيدة فى الميدان. فهناك فرق دينية متعددة. الشيعة الامامية، و الزيدية، و الخوارج ..

و كل هذه الفرق تعتمد على القرآن و تعتز به، و تتخذ منه أساسا لمذهبها، و من الطبيعى أن ينشط علماء هذه الفرق، و يكتبوا تفسيرا لأتباعهم، لكن كل علماء فرقة، ينتهزون فرصة وجود آية يمكن أن تخدم مذهبهم فيؤولوها لما يريدون، و بعضهم كالشيعة اشتطوا فى تفسير بعض الآيات بما لا يقبله العقل.

. و لكنه بالنسبة للأتباع مقبول، و هم معصوبو العقول. يقبلون

كل كلام يذكى فيهم روح المذهب و لو كان غير معقول ..

و لكن مما لا شك فيه أنهم فيما عدا هذه الآيات يفسرون تفسيرا موضوعيا

علم التفسير، ص: 105

كغيرهم من المفسرين السنيين. و أمامنا تفسير كمجمع البيان للطبرسى الشيعى، نجد فيه مرجعا طيبا للبحوث التفسيرية، من حيث الإعراب و القراءات و اللغة، و المعنى، يمكن الاعتماد عليه كما يمكن كشف الآراء الشيعية و تجنبها ..

و بجوار هذه توجد تفاسير أخرى، إشارية رمزية صوفية، تناول أصحابها فيه القرآن بالروح الصوفية و اعتبروا كلماته الصريحة رموزا و إشارات لأشياء قائمة فى أذهانهم .. و استعملوا عبارات خاصة بهم، ربما تثير الالتباس و الشكوك عند غيرهم من غير الصوفية ..

و لذلك لا أستحسن للعاديين اقتناء هذه التفاسير، و لا قراءتها، إلا لمن هم فى وجد كوجد الصوفيين الذين ألفوها، و يكونون على دراية برموزها ..

و يكون لديهم القدرة على تمييز الغث من السمين ..

و لا أود أن أثقل عليك هنا بذكر هذه التفسيرات، و مؤلفيها، فهى لا تعنينا كثيرا، و من أراد أن يستزيد .. فيمكنه أن يراجع كتاب «التفسير و المفسرون» ج 2، 3 للمرحوم الشهيد الدكتور الذهبى، فقد ذكر هذه الكتب على صورة مرتبة منسقة تسهل مراجعتها .. جزاه الله خيرا ..

و كنت قد و عدت سابقا بأن أقدم لك دراسة مختصرة عن عمدة التفاسير بالمأثور و مؤلفه «جامع البيان» و هو الامام الطبرى، و ها أنا ذا أبر بوعدى و أقدمه لك، على أن أقدم لك بعده عمدة التفاسير بالرأى الإمام فخر الدين الرازى و تفسيره «مفاتيح الغيب» الذى أعتبره أول و أقدم تفسير علمى ..

علم التفسير، ص: 106

ابن جرير الطبرى و تفسيره

اشارة

هو أبو جعفر محمد بن

جرير الطبرى الذى ترك لنا تفسيره المسمى ( (جامع البيان عن تأويل آى القرآن)) المشهور باسم تفسير الطبرى. بجوار ما تركه من مؤلفات قيمة فى التاريخ و غيره.

و كانت ولادته سنة 224 ه فى بلدة آمل عاصمة اقليم طبرستان بإيران و هى كلمة مؤلفة من مقطعين «طبر» آلة من آلات الحرب التى اشتهرت بصنعها المنطقة و «ستان» معناها أرض أو منطقة، أو بلاد مثل «كردستان»- افغانستان.

(أى بلاد الكرد و بلاد الأفغان). فنسب إلى المقطع الأول «الطبرى» و اشتهر به ..

و قد عاش نحوا من خمس و ثمانين سنة حيث توفى سنة 310 ه فى بغداد و دفن «1» بها .. أعنى أنه عاش فى أزهى عصور الاسلام تقدما و انتاجا على كل المستويات الفكرية. و كان من الطبيعى لإنسان موهوب من صغره، محب للعلم، متفان فيه، كالطبرى .. أن يجد ضالته و غذاءه العقلى فى هذا العصر الذى يعيش فيه، لكن ذلك لم يتم له بسهولة .. فالعواصم الفكرية العلمية التى تزخر بالعلماء كانت بعيدة عن موطنه الأصلى، فكان لا بد له من الارتحال إليها بعد أن درس على علماء منطقته، و كان أبوه «جرير» من ورائه يمهد له الطريق و ييسر له السبل، منذ أن لمس فى ابنه الصغير نبوغا غير معهود فسافر إلى بغداد و الكوفة، ثم ارتحل إلى مصر و الشام، ثم استخفه الحنين إلى رؤية موطنه، فذهب إليه و لم يطل المقام فيه، فرجع إلى بغداد، و عكف على التدريس و التأليف، حتى آخر يوم من أيامه، برغم ضعفه و كبر سنه ..

و لقد كان فى كل بلد يحل فيه، يلتقى بفطاحل علمائه، يأخذ عنهم،

______________________________

(1) مما يذكره التاريخ أن الحنابلة أو

أهل الحديث غضبوا عليه لمخالفته لهم فى رأى، فرموا بيته بالحجارة و حاصروه فلم يستطع الخروج حتى مات، و لم يستطيعوا الخروج بجثته من بيته فاضطروا لدفنه فيه!!!

علم التفسير، ص: 107

و يعطيهم، و لم يكن علم هؤلاء الاكابر قاصرا على فرع دون فرع، بل كانوا كالموسوعة، التى تجد فيها الوانا شتى من المعارف .... من تفسير و قراءات و حديث، و علم برجاله، و رواياته، و نحو و بلاغة، و فقه، و أدب، و تاريخ.

فأخذ عنهم الطبرى هذه الموسوعة، و استوعب هذه العلوم، و برع فيها، و إن اختلفت درجة هذه البراعة .. و لم يكن ذلك غريبا على رجل كالطبرى، فقد وهب حياته للعلم، و تخفف من كل اثقال الحياة و تبعاتها، حيث قضى حياته دون زواج. مع استعداد كبير للرضا بالحياة و شظفها، فكان انتاجه متساوقا مع نبوغه و فهمه و تفرغه، فترك كثيرا من المؤلفات التى أوصلها بعضهم الى نحو الثلاثين، و اشتهر منها مؤلفان: «تاريخ الأمم و الملوك»، «و جامع البيان فى تأويل آى القرآن» الذى يقع فى ثلاثين جزءا و هو الذى يهمنا الحديث عنه الآن.

مقدمات سبقته:

و لكن قبل أن نتحدث عن هذا التفسير، لا بد أن نتحدث حديثا موجزا عما سبقه من مقدمات أدت إليه، فإن مثل هذا التفسير الجامع الكبير، لا يمكن أن ينشأ دفعة واحدة، دون محاولات و مقدمات، ساعدت على ولادته عملاقا ..

فقد وضع هذا التفسير فى النصف الثانى «1» من القرن الثالث الهجرى تقريبا، و لم يكن معنى ذلك أن السنين التى زادت على المائتين و الخمسين قبله لم يكن فيها تفسير، بل كان فيها تفسير و مفسرون، اشتهروا بقولهم فيه، فى كل عاصمة

من عواصم العالم الاسلامى: فى مكة، و المدينة، و بغداد، و الكوفة، و البصرة، و دمشق، و مصر. و غيرها من بلاد الأندلس و الشمال الافريقى، و كان الراغبون فى التفسير يرحلون إلى هؤلاء المشهورين و يأخذون عنهم ..

لكن التفسير كان شأنه كشأن كل علم اسلامى فى نشأته، نشأ صغيرا مبعثرا، ثم تجمع و كبر بمرور الزمن، و بذل الجهود.

و نحن نعرف أن عصر التدوين للعلوم الاسلامية بمعناه الواسع، لم يظهر إلا فى أيام الدولة العباسية، و كانت هناك تدوينات سبقت هذا العصر، فى عهد

______________________________

(1) ذكر الدكتور أحمد الحوفى عنه: أنه ألفه قبل كتابه فى التاريخ و أنه قرأه على تلاميذه سنة 282 ه و أملاه عليهم من سنة 283 ه إلى سنة 290 ه كتاب الطبرى ص 108 أعلام الاسلام.

علم التفسير، ص: 108

الأمويين و ما قبله، لكنها لم تأخذ المظهر القوى، الذى أخذته فى عهد العباسيين، الذى نضجت فيه العلوم الاسلامية المتنوعة و دونت، و كان منها علم التفسير ..

و كانت الصفة البارزة للذين تعرضوا لتفسير القرآن، تهيبهم من القول فيه بآرائهم و اعتمادهم على ما وصل إليهم من روايات يتناقلونها، منها الصحيح و منها الضعيف أو الموضوع أو المستمد من الاسرائيليات .. و لم يصل إلينا من هذه التفاسير شي ء منسق، و إن كنا عرفنا بعض أصحابها. مما تناقله الرواة عنها فى الكتب التى بين أيدينا ..

و قد أثر هذا الجو على الطبرى، فكانت عنايته البالغة بالرواية، و إن لم يمنعه هذا من أن يدلي برأيه موافقا لها أو مخالفا، فكان تفسيره يمثل دائرة معارف ضخمة فى كل العلوم التى كانت سائدة فى هذا العصر و تتصل بتفسير القرآن، و ذلك بسبب

نبوغ الطبرى و اتساع دائرة معارفه و استفادته من الجو العلمي الذى عاش فيه ..

على أن هذا التفسير العظيم الذى أخذ شهرة واسعة، و تقديرا عظيما من كبار العلماء عند ظهوره حتى ليقول أبو حامد الأسفرائني المتوفى سنة 406 ه- 1015 م عنه «لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل كتاب تفسير محمد ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا» أقول إن هذا التفسير على عظمته اندثر و نامت نسخه فى بعض المكتبات الخاصة .. فمرت قرون و هو مندثر، دون أن يعرفه أحد، اللهم إلا بعض نماذج، و ورقات مبعثرة، كانت تشير إليه، و تثير تلهف العلماء عليه .. حتى نجد المستشرق «نولدكه» يكتب فى سنة 1860 م بعد أن اطلع على نماذج من هذا التفسير، «لو حصلنا على هذا الكتاب لاستطعنا أن نستغنى عن كل كتب التفسير المتأخرة عليه، و لكنه يبدو للأسف. مفقودا بالكلية، و لقد كان مثل كتاب التاريخ الكبير لنفس المؤلف نبعا لا ينضب استمد منه المتأخرون حكمتهم «1».

______________________________

(1) نقلا عن كتاب مذاهب التفسير لجولد تسهير تعليق المرحوم الدكتور عبد الحليم النجار ص 108 المطبوع 1955 بمطبعة السنة المحمدية ..

علم التفسير، ص: 109

و قد اراد الله لهذا الكتاب العظيم أن يبعث من جديد فى عهد النهضة المطبعية إذ وجدت منه نسخة خطية كاملة- كما يقول «جولد تسهير» فى مكتبة أمير حائل. و أمكن الاعتماد عليها فى طبعه بالقاهرة فى أوائل هذا القرن.

و يقول العلامة الاستاذ محمود شاكر فى مقدمته التى كتبها لهذا التفسير الذى حققه و علق عليه هو و أخوه العلامة المحدث المرحوم الشيخ أحمد شاكر (و النسخ المخطوطة الكاملة من تفسير الطبرى لا تكاد توجد، و الذى منها

فى دار الكتب (المصرية) اجزاء مفردة من الجزء الأول، و الجزء السادس عشر، و منها مخطوطة واحدة كانت فى خمسة و عشرين مجلدا، ضاع منها الجزء الثانى و الثالث .. و هى على ما فيها تكاد تكون أصح النسخ و هى محفوظة بالدار تحت رقم 100 تفسير

و يقول جولد تسهير: كما طبعت منه بعد ذلك طبعة منقحة سنة 1911، و يقول الدكتور الحوفى الذى كتب عن الطبرى فى سلسلة أعلام العرب ( (طبع سنة 1921 م بالمطبعة اليمنية بالقاهرة، و بمطبعة بولاق سنة 1923 م، و يطبع بدار المعارف الآن بمصر تحقيق الأستاذ محمود شاكر)

و كم فى بطون المكتبات الخاصة و العامة من ذخائر لنا ثمينة، مثل هذا التفسير لما يقيض لها من يكتشفها أو يطبعها بعد ..

و لا بد لى من كلمة تقدير أقدمها للجهد العظيم الذى بذله الأخوان «شاكر» فى تحقيق هذا التفسير و التعليق عليه .. فى طبعة ممتازة تقوم بها دار المعارف بمصر و أصدرت منها 16 مجلدا انتهت إلى قوله تعالى «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا) من سورة إبراهيم الجزء الثالث عشر من القرآن. و توقف حتى الآن (1982 م) كما أخبرنى الاستاذ محمود

لقد قام المحققان مشكورين بتخريج الروايات التى وردت فيه، و هذا أمر مهم جدا للقارئ .. و بتحقيق الألفاظ، و نسبة الأشعار، و الأقوال إلى أصحابها، و المراجعة على النسخ الخطية و المطبوعة، و أهم من ذلك فتح مغاليق الجمل، بما عنا به من ترقيم و فواصل، و ذلك لكثرة ما جاء فى كلام الطبرى من

علم التفسير، ص: 110

جمل اعتراضية استطرادية، و فواصل طويلة، تعرقل القارئ عن متابعة القراءة، أو تحول بينه و بين الفهم

الصحيح ..

و الواقع أن للطبرى أسلوبا خاصا يحتاج إلى مزيد من الصبر و الأناة، و التتبع الدقيق لمعانيه، حتى إذا ألفه الانسان، سهل عليه بعد ذلك أمره .. مثله مثل بعض كتابنا المعاصرين الذين لهم أسلوبهم الخاص الذى يحتاج إلى قليل من الصبر على قراءته حتى يتعوده القارئ .. و لعل خير ما يعبر عن ذلك هو الاستاذ محمود شاكر العالم الدقيق حين يقول فى مقدمته:

كان يستوقفنى فى القراءة كثرة الفصول فى عبارته، و تباعد أطراف الجمل، فلا يسلم لى المعنى، حتى أعيد قراءة الفقرة منه، مرتين أو ثلاثا .. و كان سبب ذلك أننا ألفنا منهجا من العبارة، غير الذى انتجه أبو جعفر، و لكن تبين لى أن قليلا من الترقيم فى الكتاب، خليق أن يجعل عبارته أبين، فلما فعلت ذلك فى أنحاء متفرقة من نسختى، و عدت بعد إلى قراءتها، وجدتها قد ذهب عنها ما كنت أجد من المشقة.

على أن الذى كان يجده الاستاذ شاكر .. وجده من قبله المفسرون الذين نقلوا عن الطبرى فى غير زماننا، مثل السيوطى و ابن كثير و أبو حيان و القرطبى.

و لذلك وقعوا فى بعض أخطاء فى فهم المراد. كما يقول الاستاذ شاكر نفسه:

«و لما راجعت كتب التفسير وجدت بعضهم ينقل عنه فينسب إليه ما لا أجده فى كتابه، فتبين لى أن سبب ذلك .. هو .. هذه الجمل التى شقت على قراءتها، يقرؤها القارئ، فربما أخطأ فهم أبى جعفر .. و ربما أصاب»

و إذن ففي أسلوب أبى جعفر فى تفسيره شى ء من الصعوبة، ليست قاصرة على الذين تعودوا منا الأسلوب المعاصر، بل أيضا على القدماء من العلماء المفسرين أنفسهم، مما كان سببا فى أنهم أخطئوا فهم

المراد من أبى جعفر.

و قد وقع لى كثيرا ما وقع للأستاذ محمود شاكر حين قراءة هذا التفسير، فكنت أعانى الكثير فى فهمه، و تتبع أفكاره، و وصل كلامه بعضه

علم التفسير، ص: 111

ببعض. و كنت أضيق ذرعا بكثرة استطراداته و انتقاله حين الكلام على فكرة أو موضوع، إلى كلام آخر بين كلامه، و إن كان له صلة به إلا أنه يمزق المعنى، و يشتت الفكر بين الفكرة الأصلية، و بين ما استطرد إليه و أضافه، حتى وجدت الجزء الأول من هذا التفسير المحقق، فسهل على كثيرا مما كنت أجده من صعوبة، كما وفر أيضا من الوقت.

و لأجل أن اشركك معى فى هذا .. أضع أمامك هذا النموذج من كلام الطبرى فى تفسير قوله تعالى «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» و مثله «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ» و «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» بعد أن استعرض بعض الأقوال قال «1»:

«و الصواب فى ذلك من القول و التأويل عندنا: أن معنى الاستهزاء فى كلام العرب إظهار المستهزئ للمستهزئ به من القول و الفعل ما يرضيه ظاهرا، و هو بذلك من قوله و فعله به مورثه مساءة باطنا. و كذلك معنى الخداع و المكر.

فاذا كان ذلك كذلك «2»- و كان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق فى الدنيا الاحكام. بما أظهروا بألسنتهم، من الاقرار بالله و برسوله، و بما جاء به من عند الله المدخلهم فى عداد من يشمله اسم الاسلام، و ان كانوا لغير ذلك مستبطنين- احكام المسلمين المصدقين اقرارهم بألسنة أنهم مصدقون، حتى ظنوا فى الآخرة أنهم إذا حشروا فى عداد من كانوا فى عدادهم فى الدنيا أنهم واردون موردهم و داخلون مدخلهم. «و الله جل جلاله- مع اظهاره

ما قد أظهر لهم من الأحكام الملحقة بهم فى عاجل الدنيا. و آجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم و بين أوليائه، و تفريقه بينهم- معدّ لهم من أليم عقابه و نكال عذابه ما أعد منه لأعدى أعدائه، و شر عباده، حتى ميز بينهم و بين أوليائه، فألحقهم من طبقات صحيحة بالدرك الأسفل- كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم- و إن كان جزاء على أفعالهم، و عدلا ما فعل من ذلك بهم،

______________________________

(1) ص 303، 304 ح تحقيق شاكر

(2) من هنا جملة اعتراضية استطرادية تطول نحو عشرة أسطر إلى قوله كان معلوما ..

علم التفسير، ص: 112

لاستحقاقهم اياه بعصيانهم له- كان بهم- بما أظهر لهم من الأمور التى أظهرها لهم أمن الحاقه احكامهم فى الدنيا باحكام أوليائه و هم أعداء، و حشره إياهم فى الآخرة مع المؤمنين، و هم به من المكذبين- إلى أن ميز بينهم دينهم- مستهزئا و بهم ساخرا .. الخ»

فانت ترى فى هذا النموذج كثرة الاستطرادات و بعد أجزاء الجملة بعضها عن بعض بسطور بلغت نحو عشرة- فى احداها .. و قد وضحت لنا الفواصل التى وضعها الاستاذ محمود شاكر إمكان الربط بين الجملة الواحدة و لذلك علق فى الهامش بقوله «أكثر الطبرى الفصل بين الكلام فى هذه الفقرة و سياق العبارة هو كما يلى «فإذا كان ذلك كذلك كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعلهم بهم.

. كان بهم مستهزئا و بهم ساخرا» و ما بين الكلام فى هذين الموضوعين فصل للبيان.

و ترك الفصلة الطويلة جدا و هى من أول قوله «فاذا كان ذلك كذلك ..

كان معلوما. و بين جزءي الجملة ما يزيد عن عشرة أسطر جاء بها لزيادة التوضيح-

و لكن من الصعب جدا على القارئ العميق أن يصل إلى فهم هذه الفقرة .. و لا سيما فى الطبعات التى لا توجد فيها هذه الفواصل ..

لكن لا تظن أن هذه الظاهرة تعم الكتاب كله بل هى قليلة، و بجوار هذا القليل تجد الأسلوب المشرق الذى يمكن ادراكه بسهولة حين يدلى برأيه بعد نقله للروايات الكثيرة فى موضوع الآية ..

موقف الطبرى و موقفنا من الروايات:

اشارة

و لقد كان الطبرى يورد هذه الروايات، و هو عالم بما فيها من تناقض أو كذب أو ضعف، ثم ينقدها أحيانا، و يأتى أيضا بالكثير منها و يتركها بلا نقد.

و بعض النقاد يذهبون إلى تبرئة ساحة أبى جعفر من النقد، لسياقه هذه الروايات دون نقدها، قائلين إنه ذكر لك السند، و عليك أنت أن تبحث عن صحته أو كذبه أو ضعفه .. الخ، راوين العبارة المشهورة بين علماء الحديث

علم التفسير، ص: 113

(من أسند لك فقد حملك) يعنون أن من ذكر لك سند الرواية فقد برئت ذمته، و حملك أنت مسئولية البحث عن صحته ..

و مع أن هذا الكلام صحيح فى حد ذاته، و ربما كان محتملا للخاصة أو خاصتهم فى زمنه إلا أنه يحمّل القراء عامة أمانة فوق طاقتهم، فليس كل قارئ عارفا بالرجال، أو بأساليب النقد، حتى يستطيع التمييز بين المقبول و غير المقبول، و ليس كل قارئ عنده الرغبة أو الأمانة التى تحمله على التوقف حتى يتبين.

على أن هذا إن كان ممكنا فى زمن كثرت فيه الكتب المطبوعة المتداولة التى عنيت بالرواة و نقدهم و بيان غثهم من سمينهم، فإنه لم يكن متيسرا من قبل شيوع هذه الكتب.

و من أجل هذا كان تدوين هذه الروايات التى كانت متداولة على ألسنة الناس فى

أيامه- و معروف بين العلماء أنها كانت بضاعة القصاص للتكسب و الرواج عند العامة- أقول كان رفعها إلى مقام التدوين، و وضعها بجانب كلام الله على أنها تفسير له، مما ساعد كثيرا على إشاعة الخرافات و الأضاليل فى نفوس المسلمين ملصقة بتفسير كلام الله.

بل إنى أقول أكثر من هذا فيما يتصل بالروايات التى نقدها، و هى أمنية تمنيت أن لو كانت قد تحققت فى ذلك الزمن المبكر من وضع التفسير، كنت أتمنى أن لو اقتصر الطبرى و أمثاله على الروايات الصحيحة فى تفاسيرهم، و جردوها من الروايات الباطلة التى كروا عليها بالنقد .. لأنها كانت ستموت فى زمنها، أما بعد أن دونت و وضعت بجانب التفسير. فقد فتحوا الباب للقصاص و أصحاب الهوى أن يطلعوا عليها، و يستندوا إليها، فى حكاياتهم للعوام لجذب انتباههم، و كسب إعجابهم .. و ابتزاز أموالهم .. كما نرى الكثير فى أيامنا ممن يدورون فى الأرياف، و بين العوام، أو متخلفى الثقافة، يتحدثون فى التفسير أو الدين و يستولون على ألبابهم بهذه الروايات الخيالية الخرافية، دون خوف من الله، و لا حرج من أصحاب العقول و الفهم. و لا مراعاة لما يجب أن يكون عليه

علم التفسير، ص: 114

تكوين الأمة العقلى و الفكرى حتى انجرف فى هذا التيار بعض العلماء من الوعاظ و الخطباء ...

و لقد روى لنا كيف أن الخرافيين ممن كانوا يعتمدون على هذه الروايات الكاذبة، كانوا يستولون على قلوب العامة، و يهيجونهم ضد العلماء الذين ينكرون هذه الروايات، حتى يوجعوهم ضربا و إهانة، و مع ذلك عنى الطبرى بتدوينها!!

إننا نجنى من هذا و ذاك الآن الكثير من المر، و الكثير من التهجم على الاسلام و كتابه ..

و لقد كونت هذه الروايات جانبا خرافيا فى عقول المسلمين، تحتاج إلى كثير من الجهد و الوقت فى القضاء عليه، و بعض المتمردين على الدين- من المسلمين أنفسهم- مع الأسف ممن تأثروا بمؤثرات غربية، يتخذون من هذا تكأة لرفض الدين كلية، و مع أنهم مبطلون، إلا أنهم أصحاب هوى، يستغلون نقطة الضعف عند عدوهم لينقضوا عليه، و نحتاج نحن إلى دفاع و جهد كبيرين، لتطهير عقول الناس من هذه الخرافات، و الروايات الإسرائيلية المضللة.

و لقد كان من الأولى لهؤلاء السلف الطيبين أن يكونوا بعيدى النظر، فيريحوا أنفسهم و الأجيال التى بعدهم من هذه الخرافات و الأضاليل، و يذكروا لنا ما صح سنده و ما رأوه بعقولهم الناضجة؟ و يتركوا غير ذلك يموت مع الزمن.

نعم كان من الأولى .. و لكن ما ذا نفعل الآن و هذا هو الذى كان .. و لعل لهم عذرا و أنت تلوم ..

واجبنا الآن هو التجريد:

إن هذا يحملنا الآن مسئولية ضخمة و إن لم تكن مستحيلة أو صعبة ..

و لكنها تحتاج إلى همة و غيرة و جهد يتكاتف فيه العلماء مع الحكومات التى تعنى بهذه الناحية ...

هذه المسئولية هى تجريد هذا التفسير و أمثاله من كل رواية غير صحيحة ..

سواء أ كانت إسرائيلية أم موضوعة .. و إخراج الكتاب بعد ذلك للناس

علم التفسير، ص: 115

بريئا من هذه العيوب .. ثم جمع كل النسخ الأصلية من الأسواق و وضع ما أمكن منها فى المكتبات العامة ليطلع عليها الخواص من الباحثين كما يحظر النقل منها لما لم ينقل فى التجريد ..

بذلك نقضى على هذه الخرافات و الاسرائيليات من العقول، و لا بد بجوار ذلك من جهد آخر .. هو عدم السماح بطبع أى

كتاب آخر فيه شى ء من هذه الأضاليل .. فقد تسربت من كتب التفسير و كتب التاريخ كذلك إلى كتب أخرى بعناوين أخرى و تحتاج إلى المتابعة المستمرة ..

و إذا كانت هناك رقابة على المطابع فى الأمور السياسية، فمن الواجب أيضا أن تفرض هذه الرقابة فى مثل هذه الأمور، التى تتدخل تدخلا قويا فى تكوين عقلية المسلمين و إلى أجيال .. و تفسد تصوراتهم عن القرآن و عن الحياة ..

و هذا شى ء ليس بالقليل، بل هو من الخطورة بمكان، و سبق أن أشرنا اليه ..

و لا أظن أن فينا من يعارض مثل هذا المشروع بحجة صيانة التراث أو حجج أخرى. فالتراث سيظل لمن يريد الاطلاع عليه. على أننا سوف نقدم التراث الفعلى حقيقة، و لا نحرم المطلعين من شى ء له فائدة، بل نحول بينهم و بين سموم هذه الخرافات و نقيهم شر أضا ليلها .. و نشجع المطلعين على الاطلاع. و نقدم الكتاب فى حجم أقل كثيرا من حجمه الحالى .. و بثمن أقل من ثمنه مما يغرى بالشراء و الاطلاع .. رأى أضيفه إلى ما سبق من قبل ..

دفاع أو اعتذار:

و لقد أحسن الأستاذ محمود شاكر الدفاع عن الطبرى أو الاعتذار عنه، لما رواه من الأحاديث و الروايات الغريبة و المنكرة التى لم يكن من المستحسن روايتها .. فذكر فى هامش صفحتى 453، 454 من الجزء الأول، دفاعا لا أعتقد إلا أنه مجرد التماس عذر له، فهو يقول:

«تبين لى مما راجعته من كلام الطبرى أن استدلال الطبرى بهذه الآثار التى يرويها بأسانيدها لا يراد به إلا تحقيق معنى لفظ أو بيان سياق عبارة، إلى أن يقول: «و هذا مذهب لا بأس به فى الاستدلال».

علم التفسير، ص:

116

و يقول: «فاستدلال الطبرى بما ينكره المنكرون، لم يكن إلا استظهارا للمعانى التى تدل عليها ألفاظ هذا الكتاب الكريم، كما يستظهر بالشعر على معانيها، فهو إذن استدلال يكاد يكون لغويا .. الخ».

و هذا الذى يقوله العلامة محمود شاكر لا بأس به فى الدفاع، لكنه مع ذلك ليس قاطعا ..

فما كان أغنانا عن هذه الروايات، و عندنا ما يكفى فى الدلالة على معناها من كلام العرب من شعر و نثر، على أن الاسرائيليات- و ما شابهها- لا تقطع بمعنى لفظ فى القرآن الكريم .. و فيها ما فيها من الخطر على فهمه، ثم إننا نجد الروايات الإسرائيلية على ما فيها من تناقض تتدخل لفهم شى ء مغيب عنا، لم يعن القرآن ببيانه فجاءت هذه الروايات تفسر المراد منه، و هو ليس من باب الاستدلال على معنى الكلمة عند العرب، كما يستدل بالشعر .. و اكتفى هنا بمثال.

ما المراد بالشجرة:

ففي ص 518 من الجزء الأول يروى الطبرى عن ابن عباس قولا فى المراد بالشجرة فى قوله تعالى (وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ)، بأنها: البر، او السنبلة.

و يعدد الروايات عن ذلك القول، و يروى فى احداها صراحة أن أهل التوراة يقولون: هى البر، ثم روى روايات أخرى عن المراد بالشجرة، و منها رواية ثانية عن ابن عباس نفسه بأنها: الكرمة (ص 519 فقرة 730 و ما بعدها)، ثم يروى رواية ثالثة و أخيرة بأنها: التينة ص 520 فقرة 740.

و قد أتى بهذه الروايات التى شغلت حيزا كبيرا بعد ما ذكر قبلها: «الشجرة فى كلام العرب: كل ما قام على ساق و منه قوله جل ثناؤه «وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ» يعنى بالنجم ما نجم من الأرض من نبت، و

بالشجر ما استقل على ساق» فذكر بذلك المراد بالشجرة فى كلام العرب. ثم بدأ فى بيان المراد منها عند أهل التأويل، و ذكر هذه الروايات الغريبة التى تعتبر كلها خبطا بدون دليل و لا بينة.

علم التفسير، ص: 117

فما الفائدة- اذن- من كل هذا السرد، و هو لا يكشف عن معنى الكلمة عند العرب؟!

إنه حقيقة- أعنى هذا السرد- يكشف لنا عن نموذج من تفكير الناس فى فهم القرآن فى ذلك الزمن .. لكننا كنا نود أن لو طوى عنا هذا النموذج، الذى لا أساس له من كلام العرب، و لا من بينة يوثق بها، ما دام يحمل معه هذه الخرافات.

و نلاحظ أن الطبرى روى فى هذه الروايات روايتين عن ابن عباس. رواية تقول المراد بالشجرة: البر، و رواية أخر تقول: إنها الكرمة!! فهل كان لابن عباس رأى، أو رأيان، أو لم يكن له رأى البتة؟. و لكن الرواة قالوا عن لسانه! و من أين لابن عباس بهذا الرأى أو ذاك؟ ذلك ما كنا نحب أن يضعه أبو جعفر فى حسابه و يريحنا و يريح نفسه .. و مع هذا التعب كله فى سرد الروايات لمعرفة المراد بالشجرة، نجد الطبرى فى النهاية يضرب صفحا عن هذه الروايات كلها، و لا يثق بشي ء منها، و كأنها معرض تحف قديمة بالية، و يشق الطريق إلى الرأى الذى يرتضيه- معه- أهل العلم و العقل المتزنون، و هو نموذج لخطته فى التفسير حين يكشف عن رأيه.

و الحق أنها خطة ممتازة تكشف عن عقليته الفذة، العقلية العلمية المؤمنة التى لا ترضى بالكلام الجزاف، و التى تحافظ على العقول أن يملأها الحشو و الخرافة و ما لا جدوى منه .. و حبذا

لو التزم هذه الطريقة فيما سرده من روايات. اقرأ معى رأيه فى المراد من الشجرة بعد سرد الروايات:

قال أبو جعفر (يعنى نفسه و هذه طريقته): و القول فى ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم و زوجته أكلا من الشجرة التى نهاهما ربهما عن الأكل منها فأتيا الخطيئة التى نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها بعد أن بين الله جل ثناؤه لهما عين الشجرة التى نهاهما عن الأكل منها، و أشار إليها بقوله: «و لا تقربا هذه الشجرة» و لم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطبين بالقرآن دلالة على أى أشجار الجنة كان نهيه آدم أن يقربها، فلم ينص عليها باسمها، و لا بدلالة

علم التفسير، ص: 118

عليها. و لو كان لله فى العلم بأى ذلك، من أى رضا، لم يخل عباده من نصب دلالة لهم عليها، يصلون بها إلى معرفة عينها، ليطيعوه بعلمهم بها، كما فعل ذلك فى كل ما العلم به له رضا.

فالصواب فى ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم و زوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها، كما وصفهما الله جل ثناؤه به، و لا علم عندنا بأى شجرة كانت على اليقين، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك فى القرآن، و لا فى السنة الصحيحة، فأنى يأتى ذلك؟ و قد قيل: كانت شجرة البر، و قيل: كانت شجرة العنب، و قيل، كانت شجرة التين، و جائز أن تكون واحدة منها.

و ذلك علم، إذا علم، لم ينفع العالم به علمه، و إذا جهله جاهل لم يضره جهله به «1» ه ..

هذا هو

الذى يستريح إليه العقل و القلب. و هو يكفينا جدا فى فهم كلام الله، و لو اقتصر أبو جعفر عليه لكان خيرا له و للمسلمين .. و هذا النموذج من التفسير هو الذى أدعو الى الاقتصار عليه فيما دعوت إليه من تجريد تفسير الطبرى مع ضميمة ما يوجد من حديث صحيح.

خطته فى المبهمات:

و الخطة التى سار عليها الطبرى فى تفسيره من عدم الجرى وراء معرفة أشياء مبهمة لم يبينها القرآن و لا السنة، و لا ضرر من عدم معرفتها، هذه الخطة هى المثلى فى تفسير القرآن، و قد سار عليها، و هاجم الذين يتعبون أنفسهم فى الجرى وراء معرفة نوع الشجرة، كما قرأت سابقا، كما هاجم الذين يحاولون معرفة الذى كان على مائدة عيسى: أسمك أم غيره؟ فى أواخر سورة المائدة، و معرفة عدد الدراهم التى بيع بها يوسف: أ هي عشرة أم عشرون أم أكثر؟ .. و أمثال ذلك فى القرآن، ملتزما قاعدة: [العلم بها غير نافع، و الجهل بها غير ضار].

و لو كان العلم بها نافعا لبينه الله .. و بذلك سد الباب على الفضوليين الذين

______________________________

(1) ص 520، 521 ج 1 تحقيق الأخوين: شاكر ..

علم التفسير، ص: 119

يخبطون فى مثل هذه الأمور خبط عشواء، و يضيعون أوقاتهم فيما لا يفيد. و هذا من أجود التفاسير و أنقاها ..

و مع ذلك تجده يذكر الروايات المتعددة حول هذه الأشياء التى ينكر الجرى وراءها!!

و إننى أعتقد أن هذه الروايات كانت رائجة فى أيامه، فذكرها ليكر عليها بخطته، و يبين أنه لا فائدة من الاشتغال بها .. لكنها بذلك اكتسبت البقاء عبر القرون، تطغى على التفكير، و تحتل مكانا لها فيه. بل تأخذ صفة الصدارة و تطرد

الفكر السليم. فما تسأل إنسانا الآن عن نوع هذه الشجرة، إلا قال لك قولا مما نقله الطبرى و استهجنه، و قليل من العلماء من يقف عند خطة الطبرى و يقتدى به فيها، لأن الفضول كثيرا ما يؤدي بأصحاب العقول ..

و جاء الخطر الأكبر من أن بعض من جاء بعد الطبرى من المفسرين، ربما اقتصر على ذكر نوع الشجرة، كأن ذلك أمر ثابت، يقرؤه الطالب المبتدئ فى الأزهر أو غيره، و يقرؤه أنصاف العوام، فيأخذونه قضية مسلمة. ترتسم فى عقولهم من الصغر، لتستمر غالبة على تفكيرهم فى الكبر!! و اسأل من شئت من العلماء الآن عن نوع الشجرة، تجد منه الجواب سريعا بتحديدها .. فإذا قلت له: من أين لك هذا؟ قال: كتب التفسير التى درسناها، دون التأكد من صحة ما ذكرته هذه الكتب عن طريق حديث صحيح .. و هكذا جاء الخطر على العقول.

شى ء لا بدّ من التنبيه عليه:

لقد لاحظت فى تفسير الطبرى و فيما اشتهر عنه بين العلماء أشياء لا بد من الوقوف عندها لتمحيصها .. و قد يدعو تتبعها إلى الإطالة فلذلك اكتفى بواحدة منها ..

فالعلماء و الدارسون يضعون هذا التفسير على قمة التفسير بالمأثور، و كثير منهم يرد سبب هذه التسمية إلى عناية الطبرى بالروايات الكثيرة التى تشغل الحيز الأكبر منه.

علم التفسير، ص: 120

و لكن بقليل من التتبع لآراء الطبرى و تفسيره الخاص به، نجد أنه لم يلتزم بهذه الروايات عند ما أخذ يبدى رأيه فى تفسير الآية، يذكر أولا معنى الكلمات عند العرب، ثم اعرابها مع ذكر الشواهد على ذلك من شعر أو نثر، ثم يذكر الروايات الواردة فى تفسير الآية، صحيحة و غير صحيحة، ثم يكر على هذه الروايات أحيانا بالنقد أو النقض،

ثم يأخذ فى بيان رأيه فى تفسير الآية، غير ملتزم بما ذكره، إلا إذا كان صحيحا ثابتا، و يبدى رأيه فيما يؤخذ منها من أحكام، غير متقيد غالبا برأى امام فقيه معين، مع أنه كان شافعيا، حتى قيل عنه إنه كان صاحب مذهب فقهى خاص به، اندرس لعدم شيوع تلاميذ له ينتصرون لآرائه، و يجادل مع ذلك المتكلمين من أصحاب المذاهب الكلامية، ملتزما خطة السلف مدافعا عنها.

و معنى ذلك كله .. أن الرجل كان له رأى و اتجاه بارزان، و تفسيره الخاص به الذى يبدؤه بقوله: «قال أبو جعفر .. أو يقول: و الرأى عندنا، أو التأويل عندنا أو مثل ذلك. و يبين هذا الاتجاه الاستقلالى بوضوح ..

فهو لم يكن- اذن- أسير الروايات الكثيرة التى ذكرها، و لا أسير أقوال العلماء الذين سبقوه، لأنه أحيانا يرد عليهم و ينقض قولهم .. فهو مفكر مستقل، له رأيه فى معنى الآية، و فيما يستنبط منها من أحكام، و آراؤه فى غاية الاتزان العقلى، و لا سيما عند ما يتناول بعض الأشياء التى كثر الجدل فيها، كالأشياء التى ذكرناها و كالمتشابهات مثل اليد و العين الخ ..

و الطبرى بهذا يوضع فى مقدمة أهل الرأى فى التفسير، إذا فهمنا الرأى على أنه الذى ينتهى إليه الانسان بعد دراسة عميقة متجردة من الأهواء، التى تعصف بعقول العلماء، و تحملهم على لي عنق الكلمات القرآنية لتوافق أهواءهم أو مذاهبهم ..

فالذين يفهمون إذن أن تفسير الطبرى من التفسير بالمأثور، بسبب كثرة الروايات الواردة فيه، غير دقيقين فى الفهم، لأنه لم يتقيد بهذه الروايات و لم يكن أسيرا لها ...

علم التفسير، ص: 121

أما إذا فهمنا (الرأى) على أنه اخضاع الآيات للمذاهب الخاصة،

و الشطط فى تأويلها، و عدم التقيد بالحديث أو تأويله كذلك، فإن الطبرى ليس من هذا النوع، و لا يعد تفسيره على هذا من التفسير بالرأى، لأن الرجل التزم خطة التحفظ فى التأويل، و الحفاظ على منهج السلف، و الدفاع عنه، فيما يتصل بالله و صفاته، و المتشابهات عموما فى القرآن ... و كل ما تتوقف معرفته على أخبار موثوق بها عن الله سبحانه، أو عن الرسول صلى الله عليه و سلم.

و لو قلنا بناء على هذا إن تفسيره تفسير بالمأثور لكنا محقين .. لأنه لم يتأثر بالمذاهب الكلامية التى سادت المجتمع الاسلامى فى عصره، و لكنه التزم الخطة السلفية المأثورة عن الصحابة ..

الرأى المذموم:

و لو تأملنا قليلا فيما ورد من كراهة الصحابة للرأى فى التفسير، و ما ورد فى ذلك من ذم، لفهمنا أن الرأى المذموم فى التفسير هو الذى يخضع للأهواء و لعصبية المذاهب، و لم يقم على دراسة محايدة متأنية. أما الرأى الذى يبديه الإنسان فى التفسير مستندا إلى معانى كلام العرب، و إلى ما ورد من حديث صحيح، غير متأثر بمذهب مستحدث أو عصبية طارئة، حتى يصل إلى المفهوم الذى يستريح إليه عقله و قلبه، فذلك لا يمكن أن يذم بحال من الأحوال- كما قلنا من قبل-، و إلا ما كان هناك معنى لدعوة القرآن المسلمين لتدبر آياته و الاتعاظ به، و أخذ أحكامهم منه ..

و قد تحدث عن ذلك الامام الطبرى فى مقدمة تفسيره، كما تحدث فى هذه المقدمة، عن أمور لا بد من الاحاطة بها لكل من يفسر القرآن مثل اتفاق معانى القرآن، و ما اتفقت فيه ألفاظ العرب و العجم، و اللغة التى نزل بها القرآن، و نزوله

على سبعة أحرف، و ما قيل فى النهى عن تأويل القرآن بالرأى، و فى الحض على العلم بتفسير القرآن، و آراؤه فى المفسرين الخ ..

بقيت كلمة لا بد من بيانها فى ختام هذا، و هى كلمة (تأويل) التى جعلها الطبرى فى عنوان كتابه: ( (جامع البيان عن تأويل آى القرآن)) و التزمها عند ما يأخذ فى ابداء رأيه فى الآية ..

علم التفسير، ص: 122

هل تأخذ هنا معنى غير معنى كلمة تفسير التى استعملها غيره من المفسرين.

و الجواب. لا .. فإن المراد بها هو المراد بكلمة تفسير.

و يكفى هذا دون الدخول فى تفاصيل ما قيل عن معنى كلمة تأويل الواردة فى القرآن من معان أخرى لم يقصدها الطبرى فى استعماله لها ..

علم التفسير، ص: 123

الإمام فخر الدين الرازى و تفسيره

اشارة

هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين البكرى الطبرستانى الرازى.

و شهرته فخر الدين أو ابن الخطيب الشافعى.

ولد سنة 544 ه و توفى سنة 606 ه. و كان ميلاده فى مدينة «الرى» و نسب إليها على غير قياس النسب فقيل الرازى ..

و قد نسب إلى هذه المدينة بهذه النسبة كثير من علمائها، مثل أبى بكر بن زكريا الرازى الطبيب العربى المعروف، و مثل أبى بكر الرازى الفقيه الحنفى المعروف بالجصاص، و أبو الحسين بن فارس بن زكريا الرازى صاحب كتاب المجمل فى اللغة، و محمد بن أبى بكر الرازى مؤلف «مختار الصحاح»، و قطب الدين الرازى و هو مؤلف شرح الشمسية و سماها «الرسالة القطبية» المعروفة فى الأزهر .. و توفى سنة 766 ه

و لكن أشهر هؤلاء جميعا لدى عامة المسلمين و خاصتهم هو الامام فخر الدين الرازى صاحب التفسير .. و ما ذلك إلا لأن مؤلّفه و

تفسيره مرتبط بكلام الله و خدمته، و بيان معانيه للمسلمين، و هكذا كل كتاب و كل مؤلف يرتبط بكتاب الله و يخدمه ..

العصر الذى عاش فيه و ألف كتابه

كان عصرا مليئا بالفتن الداخلية. و الهجوم الخارجى على المسلمين، و كان مثار هذه الفتن إما طمعا فى الملك، و إما طمعا فى وجاهة و سيادة مذهب، كما حصل بين الفرق الاسلامية .. المعتزلة، و أهل السنة، و الشيعة، و الرافضة من جهة، و فيما بين هذه الفرق نفسها من مذاهب «حتى عدا ابن السبكى تسعا و عشرين فرقة نازلها الرازى و انتصر عليها «1»»

______________________________

(1) الامام فخر الدين الرازى- للدكتور على محمد حسن العمارى ص 29.

علم التفسير، ص: 124

و هذا يصور لك مدى ما كان يموج به عصر الرازى من خلافات و فتن ..

ثم تميز هذا العصر من ناحية أخرى بالإقبال على الدراسات العلمية من المنطق و العلم الطبيعى و الفلسفة، و علم ماوراء الطبيعة، و الهندسة و الفلك و الموسيقى، بجانب الإقبال على الدراسات الدينية و العربية ..

كما تميز باعتزاز المعتزلة بمعرفة الفلسفة و المنطق، و تعاليهم بها على غيرهم ..

و ادعائهم بأن العالم المتمكن لا يكون كذلك، إلا إذا جمع بين علوم الدين و هذه العلوم. و قد ظل المعتزلة مسيطرين بأفكارهم و إنتاجهم زمنا، حتى شعر أهل السنة بما يشبه عقدة النقص، فأقبلوا على هذه العلوم التى احتكرها المعتزلة و أضرابهم زمنا، فاغترفوا منها، لينازلوا المعتزلة و يكونوا أندادا لهم ..

و كان ممن اتجه هذا الاتجاه الإمام فخر الدين الرازى منذ شبابه. فتعلم على والده، و كان من كبار علماء عصره و هو «ضياء الدين أبو القاسم الرازى» و كان فقيها أصوليا متكلما صوفيا خطيبا محدثا أديبا.

و أضاف

إمامنا فخر الدين إلى ما أخذه عن والده علوم عصره، من الفلسفة و المنطق و علم الفلك و الطبيعة على علمائها، و استعان بذلك كله على خدمة دينه.

و تجلية معانى القرآن و أسراره بالطريقة التى رآها مناسبة لعصره .. حتى يبز المعتزلة و غيرهم فيما يدعونه- من أنهم خدمة الدين و القرآن .. و الكاشفون عن معانيه و أسراره- و يلجمهم ..

؟؟؟ وضع ثقافته الاسلامية الواسعة المتنوعة فى خدمة القرآن، هادفا؟؟؟ إلى أن يبرز ما فيه من الحكمة و المعرفة حسبما تفيده دراسة الفلسفة و الكلام و العلوم الأخرى، و لذلك كان يوغل فى بيان معانى القرآن و ما تدل عليه العبارات، و لو سار شوطا بعيدا فى العلوم التى يبرز بها هذه الناحية ..

و إنك لتجد صورة من هذا حين فسر قوله تعالى «رَبِّ الْعالَمِينَ»، و اندفاعه ليبين العوالم المتعددة التى خلقها الله .. فى السموات و فى الأرض .. مما يخيل للقارئ أنه ابتعد كثيرا عن القرآن، و هو لم يبتعد، و إنما يفسر «العالمين» بما وقف عليه من علم، يجلى به حكمة الله فى مخلوقاته ..

علم التفسير، ص: 125

فذلك أولى عنده و أجدى من حصر التفسير فى مباحث لفظية و بلاغية ..

تبرز اعجاز القرآن البلاغى، بينما يوجد فى القرآن آيات كثيرة تتحدث عن الكون، و تبرز الإعجاز العلمى للقرآن، و لا بد من بيانها و الكشف عنها، بواسطة ما نعرفه من علوم .. و لذلك استغل الرازى ما عرفه من علوم ليجلى بها أسرار القرآن، و معجزاته العلمية فى الكون. بالاضافة إلى معجزته البلاغية مما أشار القرآن إليه أو تكلم بصراحة عن آيات الله فى كونه، و لا يجلى هذه الآيات،

و يبرزها، و يصل إلى أغوارها إلا العلم. فإذا قال الله «رب العالمين» فما هى هذه العوالم التى خلقها الله و هو ربها؟ لا تستطيع البلاغة أن تبرز لنا هذا و تبينه، بل العلم هو الذى يقدم لنا هذه العوالم أجلى بيان على قدر اتساعه ..

و هو كل يوم يزداد اتساعا».

و سار الإمام فى دروسه على هذا المذهب أو هذه الطريقة التى اختطها، برغم ما لقي من استغراب و معارضة من الذى ألفوا القديم من التفسير .. أو كما يقول: الذين ألفوا من أنفسهم التعلقات الفارغة عن المعانى، و الكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد و المبانى».

و كان مصمما و مقتنعا بهذه الطريقة لخدمة القرآن، فبدأ يفسر على أساسها سورة «الفاتحة» و اتسع فى تفسيرها و الاستنباط منها بما آتاه اللّه من علوم، تبرز قدرة الله و حكمته فى خلقه، أو فى كونه العلوى و الأرضى. فعند ما يتعرض مثلا لتفسير «رب العالمين» يبين أن الوجود ليس محصورا فى عالمنا الذى ضبطت أحواله، لأن الخلاء الذى لا نهاية له خارج هذا العالم .. يمكن أن يشتمل على الآلاف من العوالم الأخرى .. بل إن الانسان لو اقتصر علمه على أن يحيط من هذا العالم فقط بعجائب المعادن، و يعرف عجائب أحوال النبات، و عجائب أقسام الحيوان، لنفد عمره فى أقل القليل من هذه المطالب، فلا ينتهى إلى غورها، مع أن ذلك كله يندرج تحت قوله تعالى «رَبِّ الْعالَمِينَ» «1»

______________________________

(1) باختصار من كتاب التفسير و رجاله للشيخ محمد الفاضل بن عاشور ص 73، 74.

علم التفسير، ص: 126

و فى مقدمة تفسيره يقول: «اعلم أنه مر على لسانى فى بعض الأوقات أن هذه السورة الكريمة (الفاتحة) يمكن أن

يستنبط من فوائدها و نفائسها عشرة آلاف مسألة فاستبعد هذا بعض الحساد، و قوم من أهل الجهل و الغى و العناد، و حملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التعلقات الفارغة عن المعانى و الكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد و المبانى، فلما شرعت فى تصنيف هذا الكتاب، قدمت هذه المقدمة، لتصير كالتنبيه على أن ما ذكرناه أمر ممكن الحصول قريب المنال» «1».

رأى علماء عصره و غيرهم فيه و رأيه فيهم:

و نظرا لأن هذا النسق فى التفسير لم يكن مألوفا فيما كتب من تفاسير، و كان تفسير الرازى هذا أول تفسير دعمه صاحبه بالعلوم التى أتقنها من فلسفة و طب و فلك. الخ .. انتقده كثير من العلماء حتى نجد أبا حيان صاحب تفسير «البحر المحيط» الذى ولد بعد وفاة الرازى بخمسين سنة تقريبا يقول فيه بعد أن اطلع عليه: «جمع الإمام الرازى فى تفسيره أشياء كثيرة لا حاجة لها فى علم التفسير، و لذلك قال بعض العلماء: فيه كل شى ء إلا التفسير.

و هذه النغمة كانت موجودة فى زمن الرازى نفسه سمعها ورد عليها بشدة بقوله: «ربما جاء الجهال و الحمقى و قال: إنك أكثرت فى كتاب الله تعالى من علم التهيئة و النجوم، و ذلك على خلاف المعتاد .. فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت فى كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته.

و كان ذلك بلا شك ناشئا من شدة عنايته بالرد على الفلاسفة فيما قالوه- و اعتقد أنه يمس القضايا الدينية، و اجتهاده فى أن يبرز حكمة الله و هديه القرآنى عن طريق كشف ما أشار الله إليه فى القرآن من مظاهر النفس و الكون .. مقدما بذلك أدلة أخرى على إعجاز القرآن غير الإعجاز البلاغى الذى تكلم فيه

الكثيرون و اقتصروا عليه ..

______________________________

(1) مقدمة تفسيره ج 1 ص 322 عن «التفسير و المفسرون» ج 1، ص 296.

علم التفسير، ص: 127

و كان شديد العناية بالربط بين الآيات بعضها مع بعض و بين السور كذلك.

كما كان معنيا بالرد على المعتزلة، و بتجلية مذهبه الشافعى و مناصرته على غيره من المذاهب، حتى ألف كتابا خاصا بسيرة الإمام الشافعى و مناقبه، و لم يهمل الرازى مع ذلك المسائل النحوية و البلاغية و الأصولية بل أدلى فيها بدلوه، و قد كان إماما فى الفقه و له آراؤه فيه، حتى قيل إنه من المجتهدين، و لكن ضيعه تلامذته، و إن كان شافعيا و أبلى بلاء حسنا فى نصرة مذهبه و الدفاع عن الشافعى و تجلية مذهبه .. و قد ألف فى علوم عدة و ترك فيها كتبا منها المطالب العالية، و البرهان فى الرد على أهل الزيغ، و المحصول، و فى الحكمة أى الفلسفة: الملخص و شرح الاشارات، و عيون الحكمة، و قام بشرح الوجيز فى الفقه للإمام الغزالى .. و له كتاب فى مناقب الإمام الشافعى ..

هل أتم تفسيره؟

و قد شاع بين العلماء و قرروا أنه لم يتم كتابة تفسيره كله، و تولى إتمامه بعض تلامذته و ذكروا أسماءهم .. حتى أن ذلك دون فى طبعته التى أخرجتها المطبعة البهية المصرية فى اثنين و ثلاثين جزءا. بتحقيق بعض العلماء مستدلين ببعض عبارات وردت فى التفسير تدل على أن المفسر غير الرازى .. و أن مجموع ما فسر ضم بعضه إلى بعض فكان تفسيرا للقرآن كله سمى «مفاتيح الغيب» و نسب للرازى. بينما هو توقف عند سورة الانبياء.

و المجال هنا لا يتسع لمناقشة هذا تفصيلا، لذلك اكتفى بتصدى أخينا

و زميلنا العالم الباحث الدكتور على محمد حسن العمارى لهذه النقطة فى كتابه «الامام فخر الدين الرازى» الذى أجازته أيضا لجنة القرآن و الحديث بالمجلس الأعلى للشئون الاسلامية الذى تولى طبع الكتاب

فقد ذكر وجهة نظر القائلين بأن الرازى لم يتم تفسيره، بأسانيدهم التى اعتمدوا عليها مما جاء فى التفسير نفسه ثم تولى الرد مفصلا على هذه الأسانيد، مسلما بأن تفسير سورة الواقعة ليس للرازى. كما ورد فى كلام العلماء الناقدين .. و ان كان نسق التفسير لم يختلف فيها عما كتبه الرازى ..

علم التفسير، ص: 128

و قد انتهى الدكتور العمارى بعد سرد أدلته و الرد على مخالفيه إلى ترجيح أن الكتاب كله للرازى ما عدا سورة الواقعة و قال ص 183:

«لقد ترجح عندى بعد هذا التردد الطويل بين أخبار أصحاب التراجم، و التفسير الكبير للرازى أن هذا الإمام الجليل قد أتم تفسير القرآن كله، ثم لأمر لعله من صنع التتر الذين اغاروا على خوارزم سنة 617 ه بعد وفاة الرازى بإحدى عشرة سنة، ضاع جزء من هذا الكتاب يغلب على الظن أن يكون تفسير سور متفرقة كتفسير سورة الواقعة، فجاء شمس الدين الخويى (المتوفى سنة 639 ه)، و وضع لهذه السور تفسيرا، و ربما كان قد وضع تفسيرا كاملا للقرآن، و أدخل بعض أجزائه فى تفسير الرازى»

و قد قيل أيضا من الناقدين أن نجم الدين القمولى المتوفى سنة 627 ه كان له أيضا جهد فى تتمة هذا الكتاب .. و يلاحظ الدكتور على العمارى أن نسق تفسير سورة الواقعة التى سلم الجميع أنه ليس للرازى لا يختلف عن نسق الرازى فى تفسيره، مما يجعل من الصعب على الفاحص أن يميز بين هذا و ذاك

عن طريق الأسلوب و المنهج ..

و ليس هذا بغريب، فهما من تلامذته المتأثرين به، و حين كتبا، كان ما كتباه على نسق أستاذهما. لم يكن بينهما فرق .. مما يصعب على القارئ الفاحص التمييز بين الأسلوبين ..

هل نقول إنه تفسير علمى:

يمكن أن يقال ذلك بجوار كونه تفسيرا موضوعيا لغويا فقهيا عقديا، فقد استعان على تجلية معانى ألفاظ القرآن بما عرفه من علوم فى زمنه .. و هذا و إن عابه القدماء الذين ألفوا أن يكون التفسير على غير هذا الوجه و قالوا فيه ما قالوا، إلا أننا لا نجاريهم على طول الخط، فليس ما قالوه- من أنه فيه كل شى ء إلا التفسير- صحيحا، ففيه ما درج عليه المفسرون قبله و بعده من تفسير يقوم على الناحية البلاغية و النحوية و الفقهية مع عنايته بالربط بين الآيات، و الرد على المعتزلة.

علم التفسير، ص: 129

ثم فيه زيادات نافعة لكل من يريد التوسع فى معرفة أسرار القرآن و الكون، ليخرج من هذا بالعبر النافعة المؤيدة لإيمانه ..

و إذا كان الفقهاء قد أخذوا ما جاء من آيات فى الأحكام الفقهية و هى لا تتعدى نحو مائتى آية، فأقاموا عليها علم الفقه و الأحكام .. فإنه قد جاء فى القرآن آيات تتحدث عن الكون و الانسان و الحث على النظر فيها أكثر بكثير جدا مما ورد فى الأحكام .. و هى فى حاجة إلى تجلية بالنظر فى علوم الكون و الانسان و الاستعانة بها فى إيصال أسرار القرآن للناس ..

و المهم فى هذه الحالة ألا يوغل المفسر فى سرد تفصيلات كثيرة، تجره إلى تفصيلات لا حاجة إليها كثيرا .. فلنأخذ من تفسير الامام الرازى ما نأخذ من كتب التفسير الأخرى، و لنأخذ

منه ما يزيد عن ذلك إن أردنا، مما يزيدنا علما و يقينا و إدراكا لأسرار الكون، و عظمة الخالق. فهو أشبه بموسوعة أو مائدة يختار الجالس عليها ما يشاء من ألوان الطعام و الغذاء ..

و يمكن أن نعد هذا التفسير أساسا لا تجاه المرحوم المفسر «الشيخ طنطاوى جوهرى» الذى ألف تفسيره على هذا النسق أيضا، مستغلا ما وصل إليه العلم و الفلك من فتوحات جديدة ..

و مما لا شك فيه أن هذين التفسيرين و أمثالهما ليسا لعامة القراء، و لكنها لخاصة الخاصة، فيكفى المسلم العادى ما يعلمه من المعنى العام للآية، و ما فيها من هداية دون الدخول فى تفاصيل .. مما تكفلت به أخيرا تفاسير مختصرة طبعت على هامش المصحف، أو وضعت مستقلة

و لقد كان مما يلفت النظر أن تقوم ضجة من العلماء حول ما ذكره الرازى و استطرد إليه من علوم، فى الوقت الذى لم تحظ فيه الاسرائيليات و الخرافات بمثل هذه العناية و النقد، فظلوا يتناقلونها فى تفسيراتهم، مما نراه فى كتب التفسير التى بين أيدينا .. و التى ألف بعضها بعد عصر الرازى .. و يشكو الجميع منه الآن مر الشكوى ..

علم التفسير، ص: 130

النهضة الحديثة للتفسير

فى بداية القرن الرابع عشر الهجرى، و نهايات القرن التاسع عشر الميلادى بدأ تحول كبير فى طريقة التفسير. بدأ من مصر و على يد الإمام الشيخ محمد عبده.

و قد كانت التفاسير كما عرفنا- من أول أمرها تدور حول أبحاث لفظية نحوية أو بلاغية أو قراءات، و حول روايات، أغلبيتها الكبرى خرافات، و إسرائيليات. و أحاديث لا أصل لها- و جاء تفسير الفخر الرازى فغلبت عليه العلوم العقلية الفلسفية و الفلكية، فدون منها الكثير عند ما

يرى مناسبة لذلك فوق المباحث الأخرى .. و قد كان آخر هذه التفاسير المتداولة بيننا هو تفسير الألوسي المتوفى سنة 1270 ه جامعا لما رأى جمعه و إثباته من التفاسير السابقة عليه ..

و حين ظهر الشيخ محمد عبده بنضجه العقلى، كانت كل هذه التفاسير أمامه، فلم يتقبل طريقتها كما هى، و إنما نحا منحى جديدا فى التفسير، فى دروسه التى ألقاها ببيروت حين نفى إليها، ثم عاودها حين عاد لمصر، و بدأ دروسه فيها من أول القرآن على الطريقة التى رآها تبرز هدايته و أثره فى النفوس، حتى يستعيد المسلمون بهدايته سيرتهم الأولى، فى القوة العلمية و السياسية .. و يتحقق بذلك منهجه فى الإصلاح، الذى تأثر فيه بمنهج أستاذه جمال الدين الأفغانى ..

فالقرآن هو الذى نهض بالمسلمين الأول، و هو الذى ينهض بالمسلمين الآن، متى تشربوا هدايته، كما تشربها السابقون ..

على هذا الأساس بدأ تفسيره للقرآن، هادفا إلى إبراز هدايته للنفوس، بعيدا عما جرى عليه المفسرون السابقون، مما كان يذهب ببهاء المعانى، و روح الهداية.

و يضيع الهدف المقصود منه «هدى للمتقين».

يقول السيد محمد رشيد رضا فى مقدمته لتفسير المنار و هو الذى تشرب روح الأستاذ الإمام:

علم التفسير، ص: 131

«كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب فى التفسير، يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية، و الهداية السامية، فمنها ما يشغله عن القرآن، بمباحث الأعراب، و قواعد النحو، و نكت المعانى. و مصطلحات البيان، و فيها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين، و تخريجات الأصوليين، و استنباطات الفقهاء المقلدين، و تأويلات المتصوفين، و تعصب الفرق و المذاهب، بعضها على بعض، و بعضها يلفتها عنه بكثرة الروايات، و ما مزجت به من خرافات الاسرائيليات، و

قد زاد الفخر الرازى صارفا آخر عن القرآن، و هو ما يورده فى تفسيره من العلوم الرياضية و الطبيعية و غيرها، من العلوم الحادثة فى الملة على ما كانت عليه فى عهده- مما قلده فيه بعض المعاصرين، و هى تصد قارئها عما أنزل الله القرآن لأجله»

«و صحيح أنه لا بد من وسائل فهم القرآن من فنون العربية و اصطلاحات الأصول، و معرفة سنن الله فى كونه، و ما صح من أحاديث رسول الله، و لكن الاغراق فى ذلك، و اللجوء إلى الروايات الباطلة الخرافية، أمر يذهب بهداية القرآن» 1 ه مختصرا ثم يقول فى نهاية ما أورده حول هذا «فكانت الحاجة شديدة إلى تفسير تتوجه فيه العناية الأولى إلى هداية القرآن على الوجه الذى يتفق مع الآيات الكريمة المنزلة فى وصفه»

علم التفسير، ص: 132

دور السيد رشيد رضا فى هذا التفسير

اشارة

السيد محمد رشيد رضا من قرية القلمون جنوب طرابلس لبنان .. و قد زرت بيته فيها، و أنا أزور ابن أخيه العالم الفاضل السيد عاصم رضا- عليه رحمة الله- فى الستينات .. و قد درس على علماء بلده «طرابلس» حتى أكمل دراسته هناك، و اطلع على أحد أعداد مجلة «العروة الوثقى» التى كان يصدرها محمد عبده مع جمال الدين من باريس، فتأثر بما كتبه الشيخ عبده فيها و اشتاق إلى لقائه، ثم حانت له الفرصة، فشد رحاله إلى مصر سنة 1315 ه 1897 م. ليلتقى فيها بالإمام ..

و عقب وصوله إلى مصر فى رجب سنة 1315 ه اتصل فورا بالإمام .. و كان أول اقتراح له عليه أن يكتب تفسيرا للقرآن ينفخ فيه من روحه التى وجدنا روحها فى مقالات (العروة الوثقى) ... فاعتذر بأن العمر لا يتسع لتفسير كامل،

فاقترح عليه أن يقرأ درسا فى التفسير. فكان يعتذر باستمرار عن الكتابة و عن الدروس .. و كان يصده عن الكتابة- كما ذكر- أن القارئ لا يستفيد كثيرا من الكتاب كما يستفيد السامع. و إذا وصل الكتاب لأيدى هؤلاء العلماء، و فيه غير ما يعلمون، لا يعقلون المراد منه، و إذا عقلوا منه شيئا، يردونه و لا يقبلونه، و إذا قبلوه حرفوه إلى ما يوافق علمهم و مشربهم.

و كان يعتذر عن الدروس بأنه- على عكس بعض الناس- تؤثر فيه حال المخاطب «و لذلك لا أتكلم بشي ء عن حالة الاسلام، عند ما أجتمع بهؤلاء العلماء، لأن أفكارهم منصرفة عن ذلك بالكلية، و إذا كان هناك من يلقى بالا لما أقول يفتح الله على بكلام كثير.

و يقول السيد رشيد: و لم أزل به حتى أقنعته بقراءة التفسير فى الأزهر، فاقتنع، و بدأ الدرس بعد ثلاثة أشهر و نصف- أى فى غرة المحرم سنة 1317 ه مايو 1899 م، و انتهى منه فى منتصف المحرم سنة 1323 ه مارس- 1905 م عند تفسير قوله تعالى «وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً» من الآية 125 من سورة

علم التفسير، ص: 133

النساء، فقرأ زهاء خمسة أجزاء فى ست سنوات، إذ توفى لثمان خلون من جمادى الأولى من السنة نفسها.

و كان يتوكأ على تفسير الجلالين الذى هو أوجز التفاسير، فيذكر عبارته، و يقرها أو ينتقدها، ثم يتكلم بما فتح الله به عليه، مما فيه هداية و عبرة.

و كان يختار هذا التفسير لإيجازه، و لأنه لا يدخل فى مباحث لفظية أو غيرها، مما لا يجب أن يدخل الإمام فيه، أثناء تفسيره. و يقول السيد رشيد:

«و كنت أكتب أثناء الدرس مذكرات، أودعها ما

أراه أهم ما قاله، و أحفظ ما أكتب لأبيضه، و أمده بكل ما أتذكره وقت الفراغ، ثم تلقى اقتراحا من قراء «النار» التى أصدرها فور وصوله، أن ينشر فيها هذا التفسير، فشرعت فى ذلك فى أول المحرم سنة 1318 ه 1900 م و ذلك فى المجلد الثالث من المنار، و كنت أولا أطلع الاستاذ على ما أعده للطبع كلما تيسر لى ذلك، بعد جمع حروفه فى المطبعة .. فكان ربما ينقح فيه بزيادة قليلة، أو حذف كلمة أو كلمات.

على أنه لم يكن كله نقلا عن الاستاذ، و معزوا إليه، بل كان تفسيرا للكاتب من انشائه، اقتبس فيه من تلك الدروس جل ما استفاده منها .. و بعد أن توفاه الله صرت أرى أن من الأمانة ألا أعزو إليه إلا ما كتبته عنه أو حفظته ..

و أقول: قال ما معناه ..

و لما استقللت بالعمل بعد وفاته، خالفت منهجه، بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، و فى تحقيق بعض المفردات و المسائل الخلافية، و الإكثار من شواهد الآيات فى السور المختلفة، و فى بعض الاستطرادات لتحقيق مسألة خاصة تشتد حاجة المسمين لتحقيقها، أو بعض المشكلات التى أعيا حلها، بما يطمئن به القلب» «1».

و لعلك ترى بعد هذا السرد الموجز، كيف كانت أهمية دور السيد رشيد فى بروز هذا التفسير، سواء فى الدروس أو بعد ذلك حين طبع .. أو فى السير فيه بعد وفاة الإمام إلى آخر سورة يوسف على نسق الإمام ..

______________________________

(1) من مقدمة السيد رشيد تفسير المنار ج 1.

علم التفسير، ص: 134

[مقدمة الإمام لتفسيره]

اشارة

هذه المقدمة الموجودة فى أول التفسير، و إن كان السيد رشيد قد اقتبسها من دروس الإمام بفحواها، إلا أنها تعبر- بلا

شك- عن روح الامام و اتجاهه، و نظرته لتفسيره، و التفاسير القديمة ..

و لذلك أحببت أن أضع أمامك منها- بقدر الإمكان- بعض الفقرات المهمة- و لو باختصار، باعتبارها معبرة عن رأيه ..

فمما يراه الإمام «أن التفسير الذى نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين، يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم فى حياتهم الدنيا و حياتهم الآخرة»

و التفسير له وجوه شتى:

أحدها: النظر فى أساليب الكتاب و معانيه، و ما اشتمل عليه من بلاغة، كما فعل الزمخشرى فى الكشاف.

ثانيها: الإعراب .. و قد توسع فيه أقوام.

ثالثها: تتبع القصص. و قد سلك هذا المسلك أقوام زادوا فى قصص القرآن ما شاءوا من كتب التاريخ و الاسرائيليات من غير تمييز بين غث و سمين.

رابعها: غريب القرآن.

خامسها: الأحكام الشرعية من عبادات و معاملات و الاستنباط منها.

سادسها: الكلام فى أصول العقائد و مقارعة الزائغين.

سابعها: المواعظ و الرقائق.

ثامنها: ما يسمونه بالإشارة و قد اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية. و من ذلك التفسير الذى ينسبونه للشيخ الأكبر محى الدين بن عربى، و هو للقاشانى الباطنى الشهير، و فيه من النزعات ما يتبرأ دين الله و كتابه منه ..

و بعد أن يورد الإمام هذه الأنواع و الوجوه، يقول:

و قد عرفت أن الإكثار فى مقصد خاص من هذه المقاصد، يخرج بالكثيرين عن المقصود من الكتاب الالهى.

علم التفسير، ص: 135

ثم يبين منهجه فيقول:

لهذا كان الذى نعنى به من التفسير، هو ما سبق ذكره، أى فهم الكتاب من حيث هو دين و هداية جامعة لبيان ما يصلح به أمر الناس فى دنياهم، و فى آخرتهم. و يتبع ذلك بلا ريب بيان وجوه البلاغة بقدر ما يحتمله المعنى، و تحقيق الإعراب عند الحاجة

إلى ذلك، و تبيين بعض قواعد الأصول مما لا يشغل القارئ عن المعانى ..

و يقول: إن الأحكام العملية التى نسميها فقها، هى أقل ما جاء فى القرآن. و فيه من التهذيب و دعوة الأرواح إلى ما فيه سعادتها، ما لا يستغنى عنه من يؤمن بالله و اليوم الآخر .. و ما هو أجدر بالدخول فى الفقه و الفهم الحقيقى. و لا يوجد إلا فى القرآن.

ثم يبين أن للتفسير مراتب:

أدناها: أن يبين إجمالا ما يشرب القلب عظمة الله و يصرف المؤمن عن الشر.

و هذا متيسر لكل أحد.

و أعلاها: يتم بوسائل ..

أولها: فهم حقائق الألفاظ و استعمالاتها وقت نزول القرآن، دون التقيد و الاكتفاء بقول فلان و فلان، فإن دلالات بعض الألفاظ قد تغيرت عما كانت عليه وقت التنزيل، مثل كلمة «تأويل» التى كان أصل دلالتها: العاقبة و المآل أى ما يؤول إليه الأمر. و كثيرا ما يفسر المفسرون كلمات القرآن على ضوء الاصطلاحات التى حصلت بعد القرون الثلاثة الأولى!!

ثانيها: الأساليب.

ثالثها: علم أحوال البشر.

رابعها: العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن .. فمن نشأ فى الاسلام و لم يعرف حال الناس قبله، يجهل تأثير هدايته ..

خامسها: العلم بسيرة النبى و أصحابه ..

ثم يقول: فعلم من هذا أن التفسير قسمان:

علم التفسير، ص: 136

1- قسم جاف مبعد عن الله و كتابه، و هو ما يقصد به حل الألفاظ و الإعراب الخ .. فهذا لا يسمى تفسيرا، و إنما هو ضرب من التمرين فى الفنون، كالنحو و المعانى و غيرهما ..

2- التفسير الذى قلنا: إنه يجب على الناس على أنه فرض كفاية، و هو ذهاب المفسر إلى فهم المراد من القول، و حكمة التشريع فى العقائد و الأحكام، على الوجه

الذى يجذب الأرواح و يسوقها للعمل، و يتحقق به كون القرآن «هدى و رحمة»، ثم يقول الإمام: و هذا هو الفرض الأول الذى أرمى إليه فى قراءة التفسير ..

ثم تكلم عن التفاسير الموجودة، و نقدها نقدا مرا، و تكلم عن نظرتنا للقرآن، و اتخاذه أحجبة، و حماية من الجان لمن حمله، و إحداثنا الضوضاء حول قارئيه بصوت حسن لحسن الصوت، لا لفهم المعنى و الألفاظ كما هو معروف، و بهذا صرنا كما يقول- فى جاهلية أشد من الجاهليين و الضالين فى زمن النبى صلى الله عليه و سلم.

و إننا نعتقد أن المسلمين ما ضعفوا و زال ملكهم إلا بإعراضهم عن هداية القرآن، و لن يعودوا إلى عزهم إلا بالرجوع إلى هدايته، و الاعتصام بحبله.

و بهذا انتهت المقدمة التى اقتبسها السيد رشيد رضا من كلام الإمام.

و على هذا الأساس، و تحقيقا للهدف الذى يرمى إليه الإمام من إصلاح، أقبل على إلقاء دروسه فى التفسير، فصار أول معلم من معالم التغيير و التحول، لا فى منهج التفسير فحسب، و لكن فى حياة الأمة نفسها ..

حينما تأثر بهدايته و طريقته و دعوته الكثيرون سنة بعد سنة، و صار صاحب مدرسة تجديدية فى الفكر الدينى عموما لا فى التفسير وحده ..

و قد قيض الله له تلميذه السيد رشيد رضا، و أتى به من لبنان أو من الشام كما كانت تسمى، ليقوم بهذا الدور العظيم، و يقيم صرح مدرسة الإمام التجديدية .. و يواصل رسالته و يمكنها بعد وفاته، بواسطة مجلة المنار، و مدرسة الدعوة و الإرشاد، و الخطب و الدروس، و كانت مدرسة الإمام كشجرة

علم التفسير، ص: 137

عظيمة، ذات ثمر حلو شهى، لا تثمر ثمرتها، و تؤتى أكلها،

إلا بعد سنوات من غرسها ..

و لقد تعهدها السيد رشيد، حتى اتسع ظلها، و كثرت ثمارها .. فغيرت مجرى التفكير الدينى فى العالم الاسلامى، لا فى مصر وحدها .. و هى تضرب بجذورها الأصيلة لأفكار السيد جمال الدين الأفغانى موقظ الشرق و الغرب الاسلامى .. حيث امتدت فروعها فظهر زعماء الاصلاح و التحرر فى المغرب العربى، و المشرق الاسلامى .. على المنهج الاصلاحى الذى اختطه جمال الدين و تلميذه محمد عبده ..

[فى الجزائر]

فكان الشيخ عبد الحميد بن باديس فى الجزائر الأب الروحى لحركة التحرير الجزائرية، معتمدا فى بث نهضته و دعوته على القرآن الكريم، و تفسيره على المنهج الذى ارتضاه محمد عبده فى مصر، فظل يلقى دروسه فى التفسير على مدى نحو خمس و عشرين سنة، حتى اختتم تفسير القرآن، و قام احتفال فى مدينة «قسنطينة» فى الثالث عشر من شهر ربيع الثانى 1357 ه- 1938 م .. كما يقول المرحوم زميله الشيخ محمد البشير الابراهيمى. و للأسف لم يلتقط أحد هذا التفسير و يدونه، و لكن الذى بقى من تفسير ابن باديس هو ما كان ينشره أحيانا هناك فى «مجلة الشهاب» و يسميها «مجالس التذكير»، و قد جمعت و نشرت فى كتاب بعنوان «تفسير ابن باديس» أو «مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير» جمع و ترتيب و إعداد و مراجعة و تعليق الاستاذين محمد الصالح رمضان الجزائرى، و الدكتور توفيق محمد شاهين المصرى الأزهرى، نشر دار الكتاب الجزائرى. فى مجلد يضم نحو 500 صفحة ..

[فى الهند]

و قد تعجب إذا عرفت أن أثر هذه المدرسة امتد حتى وصل للهند و كان له أثره فى تحريك المسلمين، أو فى إشعالهم لطلب التحرر لبلادهم من الاستعمار الانجليزى ..

علم التفسير، ص: 138

و لم يكن الأمر إلا شرارة مست قلب شاب تخرج فى المعاهد الهندية، ثم جاء إلى مصر يزورها، و يتعرف على الحركات الدينية و الوطنية بها- سنة 1326 ه- 1908 م بعد وفاة الإمام محمد عبده- و هو فى سن العشرين، و التقى بالسيد رشيد، و أعجب بمنهجه، و طريق دعوته، و بمدرسة الدعوة و الارشاد التى افتتحها، و لم يمكث بمصر طويلا، و لكن العلاقة توطدت بينه

و بين السيد رشيد. و كانت المراسلات العلمية و الاسلامية الوطنية بينهما متواصلة.

[أبو الكلام أزاد]

اشارة

هذا الشاب هو مولانا أبو الكلام أزاد، الذى صار فيما بعد صاحب الإمامتين- كما كان يدعى فى الهند- إمامة فى الدين، و إمامة فى السياسة، حين قاد حركة التحرير فى أشد أوقاتها أثناء الحرب العالمية الثانية، و تولى المفاوضات مع الانجليز، باسم الهند و الحزب الوطنى، الذى كان يرأسه طوال مدة الحرب ..

و مع أن «أزاد» زار تركيا، و بلادا عربية أخرى، إلا أن الشرارة التى مست عقلة و قلبه كانت من مصر، من مدرسة الإمام الدينية. فعاد للهند متأثرا بهذه المدرسة، حتى ألف جماعة هناك، على نسق جماعة أو مدرسة الدعوة و الإرشاد التى انشأها السيد رشيد، و قر عزمه على أن يتخذ من الاسلام و روحه، الوسيلة لإلهاب روح التحرر فى نفوس المسلمين، فأصدر مجلتين:

الهلال ثم البلاغ، لتقوما بهذه المهمة، و كان ينشر فيها تفسيرا للقرآن على النسق الذى تشيع به، بجوار مقالاته الأخرى .. و بدأ بالهلال فى 12 يونيو 1912 م- 1330 ه ثم لما صودرت، أصدر «البلاغ» فصادرها الانجليز ..

يقول علامة الهند السيد سليمان النّدوي: «لا شك أن مجلتى الهلال و البلاغ لأبى الكلام أزاد، قد كونتا الذوق القرآنى لدى الشبان المسلمين، و فتحتا نوافذ جديدة أمام الجيل الجديد، و عرضتا الآيات القرآنية بأسلوب بلاغى، يتسم بالحكمة، و جودة الصناعة، مما أنار القلوب بنور الإيمان و اليقين، و كشفتا معانى القرآن و سمو قول الرحمن»

علم التفسير، ص: 139

«اتجاهه لكتابة تفسير»

و حين لمس «أزاد» إقبال المسلمين على التفسير فى المجلة اتجه إلى كتابته و نشره فى كتاب، و كان عبارة عن ترجمة محكمة سهلة العبارة الأوردية، ثم تفسير بعض ما يحتاج لتفسير على الهامش .. بحيث تكون الترجمة حاوية على المعنى

الذى يريد إيصاله للقراء دون توقف .. أما التفسير فعلى الهامش لمن أراد زيادة و توسعا ..

و قد تعطل هذا المشروع بسبب اعتقال السلطة الانجليزية لمولانا أزاد مرات و تبديدها لمسودات ترجمته و تفسيره، و بين تأرجح العمل بين القلة و الكثرة سار العمل شوطا كبيرا ..

و قد نشر من ترجمته و تفسيره إلى سورة النور .. و جاءت الفاتحة فى الطبعة الأخيرة فى مجلد خاص يضم أكثر من خمسمائة صفحة باللغة الأوربية.

[كيف كان منهجه]

كان منهجه و مشربه فى التفسير هو منهج الإمام محمد عبده، و تلميذه رشيد رضا، فى القصد رأسا إلى العبرة و الهداية المحركة للقلوب. حتى إنه اعتمد على القرآن كما قلنا فى إثارة المسلمين أكثر و أكثر لمحاربة المستعمر، و مقاطعته فى كل شى ء، مما اعتنقه غاندى بعد ذلك، و سماه بما ترجمناه «حركة العصيان المدنى» حين انضم الهندوس للمسلمين فى حركة المقاطعة متأخرا ..

و قد كتب مقدمة لترجمته و تفسيره سماها «التفسير و المفسرون» اشتملت على نظرته للتفاسير السابقة، و كيف حجبت عن المسلمين هداية القرآن، بمباحثها اللفظية، و أخبارها الإسرائيلية، و مناقشاتها الفقهية و الكلامية و بالعلوم اليونانية .. و هى تماما مثل نظرة الإمام محمد عبده .. و تكلم عن التفسير بالمأثور، و التفسير بالرأى، و وضح المراد من «الرأى»، كما وضح هدفه من عمله.

و كتب هذه المقدمة و هو فى سجن «ميرت» شمال دهلى فى 16 نوفمبر سنة 1930 م

علم التفسير، ص: 140

و قد دعا لتأليف جماعة تسمى «جماعة القرآن»- على نسق «جماعة الانجيل»- لخدمة القرآن، طباعة، و تفسيرا، و ترجمة إلى اللغات المختلفة، لتنتشر دعوة الاسلام فى العالم، و لكن ذلك لم يتحقق .. حتى توفى

فى فبراير سنة 1958 دون أن يتم التفسير الذى أراده ... و كان فى شوق شديد لإتمامه، لكنه لم يجد الفراغ الكافى ..

و له بحث قيم دقيق و محقق بالشواهد و الأدلة التاريخية و الأثرية حول ذى القرنين ذكره بمناسبة تفسيره لقصة ذى القرنين فى سورة الكهف .. يعتبر من أدق و أصح ما كتب حتى الآن عن شخصية ذى القرنين، و هو الامبراطور «غورش» أو «قورش» الايرانى مؤسس أول امبراطورية ايرانية، احتفل شاه إيران السابق بمرور 25 قرنا على تأسيسها منذ عدة سنين ..

و من أراد المزيد حول أزاد و تفسيره و آرائه فى التفاسير القديمة، و منهجه و إصلاحه الدينى بالقرآن، فليرجع إلى ما كتبته مفصلا فى كتابى «مولانا أبو الكلام أزاد» المصلح الدينى و الزعيم السياسى «1» ..

و المهم من ذكر هذا كله أن نسجل هنا .. أن مدرسة الإمام فى التماس الهداية من القرآن، و الاصلاح الدينى و الدنيوى على أساسه قد امتد أثرها حتى وصل إلى الهند بفضل مولانا أبى الكلام أزاد، و لم يقتصر على البلاد العربية .. و على أساس هذا قامت الحركات التحررية فى البلاد العربية و الاسلامية ..

[فيما بعد الإمام]

و قد سرى أثره فى تلامذته الذين أعجبوا بآرائه، و كان أولهم تلميذه الوفى المخلص السيد محمد رشيد رضا، الذى سجل كل ما يختص به من تاريخ، و من أقوال و آراء .. فأبقى الشيخ عبده حيا فى النفوس، مؤثرا على مدى السنين.

و إذا كانت آراؤه الاصلاحية الدينية و منهجه قد وجد لهما معارضة فى حياته، و قام علماء زمنه فى وجهه شأن ما يجرى لكل مصلح، فقد مات هؤلاء

______________________________

(1) طبع فى جزءين الأول- المصلح الدينى، و الثانى

الزعيم السياسى، إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

علم التفسير، ص: 141

جميعا، و بقيت القاعدة: «البقاء للأصح» تعمل عملها حتى جاء الوقت الذى يفخر فيه العلماء بالانتساب لمدرسته .. و يشرفون بترديد آرائه .. و السير على منهجه المفيد فى التفسير ..

الشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الأزهر

اشارة

و لقد كان الشيخ الإمام المراغى شيخ الأزهر سابقا، أوفى العلماء فى اتباع منهجه فى هداية الناس بالقرآن و تفسيره و إن لم يكن قد ترك تفسيرا منتظما للقرآن، فقد ظهر طابعه هذا، فيما تناوله من دروسه للملك السابق من تفسير بعض آيات القرآن و سوره .. كتفسير سورة لقمان، و الحجرات، و بعض آيات أخرى، جمعت و طبعت فيما بعد.

و عاصر الإمام المراغى و جاء بعده علماء ساروا على المنهج نفسه فى تفسير القرآن تفسيرا يهدف إلى تربية الروح، و إيقاظ القلب، و بعث الهمة فى النفوس عن طريق تعريفها بمعانى القرآن و أهدافه و مراميه، دون الدخول فى تفاصيل ..

و كانوا فى الوقت نفسه يلبون حاجة ماسة فى نفوس المثقفين، لفهم القرآن، دون الدخول فى اصطلاحات و مباحث تصرفهم عن المعنى- فظهر تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغى الاستاذ بكلية دار العلوم، كما قام بعض العلماء الأجلاء بإلقاء محاضرات بالتناوب فى قاعة الشبان المسلمين، أو فى قاعة دار الحكمة فى تفسير القرآن، و كان الحضور إليها مفتوحا، كما اتجه بعض العلماء و الدارسين لكتابة تفسير مختصر على هامش المصحف، يقدم المعنى العام لقارئه .. و كان أفضل ما كتب فى ذلك «تيسير التفسير» للشيخ عبد الجليل عيسى عضو مجمع البحوث عليه رحمة الله .. و أتبعه بكتابة تفسير ميسر مختصر، على هامش المصحف أيضا سمى «بالمصحف الميسر» و قدم فيهما خدمة جليلة أخرى

تيسر لقارئى القرآن- دون استعانة بقارئ آخر- قراءته فى الكلمات المرسومة بالرسم العثمانى، المخالف لما عليه الرسم حسب الإملاء الحديثة الآن .. و وضع ذلك فى أسفل الصفحة، فمثلا «يا صالح» تكتب هكذا «يصلح»، فكتبها الشيخ

علم التفسير، ص: 142

عبد الجليل أسفل الصفحة برقم خاص «يا صالح» و «الصلاة» بالرسم العثمانى كتبها «الصلاة» و «الصلحت» كتبها «الصالحات» و بذلك قدم خدمة كبرى لقارئى القرآن .. و جمع بين المحافظة على الرسم العثمانى، و تسهيل القراءة على قارئى القرآن ..

و مع هذا تفسير الاستاذ محمد فريد وجدى على هامش المصحف أيضا، و إن كان عليه بعض المؤاخذات، و تفسير «القوصى» للاستاذ أحمد نصار القوصى .. «و التفسير الواضح» للدكتور الشيخ محمود حجازى عليه رحمة الله، و فيه يذكر الآيات، ثم يتبعها بشرح مبسط سهل.

و تلا ذلك كله تفسير كتبه المرحوم الاستاذ «سيد قطب» و هو أوسع من هذه التفاسير، لكن لم يتعرض فيه لمباحث لفظية أو مجادلات تصرف عن سياق المعنى، و انصبابها فى نفس القارئ، و قد صاغه صياغة أدبية فنية، و حرص على إبراز المعانى بصورة مؤثرة، و أعانه على ذلك اسلوبه الفنى الشيق، مستعينا ببعض الأحاديث و أسباب النزول الصحيحة .. و قد أخرجته «دار الشروق» فى ستة مجلدات كبيرة بالقطع الكبير، و الطباعة الجيدة، و لقى هذا التفسير قبولا عند الجميع و سماه «فى ظلال القرآن»

و بجوار هذا «منتخب التفسير» الذى توفر على كتابته بعض العلماء، و على مراجعته و صياغته لجنة منهم مختصرة، كنت واحدا من أعضائها، تحت رعاية «وزارة الأوقاف» و كان الفضل فى البدء به «للاستاذ أحمد طعيمة» وزير الأوقاف سابقا و استمر المشروع بعده، حتى خرج فى مجلد

واحد سمى «المنتخب فى تفسير القرآن، و قد روعى فى التفسير الاختصار المركز فى إيراد معنى الآية فى ضعف حجمها غالبا و بأسلوب سهل و آراء معتمدة، لا تثير جدلا و لا شكوكا، لأن الهدف منه، كان ترجمته للغات الأجنبية، و لكن مع الأسف لم يتحقق هذا الهدف برغم المحاولات التى بذلت حتى الآن .. علم التفسير 142 الشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الأزهر ..... ص : 141

يخرج مجمع البحوث. «التفسير الوسيط» لعامة القراء، يقوم به صفوة من العلماء تحضيرا و صياغة، و هو ليس بالطويل كالتفاسير القديمة، و ليس بالمختصر كتفاسير الهامش، و لكنه بين بين ..

علم التفسير، ص: 143

و يقدم غذاء طيبا للقارئ الذى يحرص على فهم القرآن فى سهولة و اختصار وقت .. و قد نسيت أن أذكر أن فضيلة المرحوم الشيخ محمود شلتوت بذل جهدا فى التفسير مشكورا، سواء كان فى المحاضرات التى أشرت إليها، أو فى ندوات أخرى، و قد خرج له كتاب فى تفسير ثلث القرآن تفسيرا موضوعيا سهلا، لم يتبع فيه طريقة الأقدمين، و لكنه ساق تفسيره فى خطة جديدة، و بأسلوبه الشيق، و هو مطبوع متداول أيضا ..

و هكذا نرى أن اتجاه العلماء الآن فى التفسير، قد استفاد و تأثر بمنحى الشيخ عبده فيه، و أصبح هو الاتجاه الغالب.

[طريقة تدريس التفسير]

و مع ذلك فإن الطريقة التى لا تزال متبعة فى تدريس التفسير بالأزهر و غيره هى الطريقة التقليدية القديمة، و الكتاب المقرر على الطلاب كتاب من هذه التفاسير القديمة، كالنسفى و الجلالين أو غيرهما .. و المدرس ملزم بملازمة الكتاب و تفهيمه للطلاب، و يتخرج الطالب عالما و هو متشبع بهذه الطريقة التقليدية، و بالأقوال و الروايات

الواردة فى هذه التفاسير، مع ضعفها أو بطلانها .. دون أن يأخذوا وجبة روحية من القرآن و تفسيره ..

و كنت و أنا أدرّس التفسير بالأزهر و فى الخارج طوال المدة التى اشتغلت فيها بالتدريس، أعانى ضيقا فى الجمع بين دراسة الكتاب، و تفهيم الطلاب ما جاء فيه، من نحو، و قراءات، و آراء، و روايات، و هذا يأخذ جل الوقت أو كله، و بين الطريقة التى أنا مقتنع بها، و هى طريقة الشيخ عبده فى استخلاص العبرة و ربط الآيات بالحياة و مشكلاتها .. مما يتشوق إليه الطلاب .. و يخرجون منه بفائدة و وجبة معنوية من القرآن ..

لكنى استطعت أن أخصص وقتا قصيرا للمباحث اللفظية، ثم أصرف كل الوقت للدراسة التى أراها مفيدة ..

و كنت أشبه الدراسة التقليدية بدراسة عالم الطبيعة لجسم الإنسان فى المعمل، مما يضطره لفك أجزائه، و التحدث عنها، جزءا هنا و جزءا هناك،

علم التفسير، ص: 144

دون العناية بالنظر إلى الجسم كله، و ما فيه من تنسيق، جعله يؤدى مهمته فى الحياة .. و يظهر صنع الله المتقن .. و برغم حاجة المفسر إلى بعض الأبحاث اللغوية و التركيبية، فإنه من الخطأ و ضياع الهدف أن يصرف الجهد كله فى هذا.

. كما يحصل فى دراستنا للتفسير من كتبه المقررة و غير المقررة ..

[كتابى للتفسير]

و لكى أربّى طلابى على الطريقة التى أحبها، و كان ذلك فى أواخر الأربعينات- عملت على أن أكتب التفسير على ما أحب، و أنشره فى جريدة «منبر الشرق» لصاحبها و رئيس تحريرها المرحوم المجاهد الشيخ على الغاياتى، لكى يضم الطلاب لما يسمعونه فى الدرس، قراءة له فى كلام مكتوب، يمكنهم الاحتفاظ به ..

و بدأت ذلك فى سنة

1950، أسبوعيا و حكمنى المقرر على الطلاب، فبدأت من أول سورة الجاثية، و سرت فى هذا لمدة سنة، حتى منتصف سورة الأحقاف ثم سافرت للعمل فى الخارج .. و توقفت عن كتابة التفسير.

و لكنه كان دائما يشغل بالى و يؤرقنى، فعدت إليه بعد قرابة ثلاثين سنة، أنشره فى جريدة «السياسى» الأسبوعية، التى تصدر عن «دار التعاون» سنة 1979 و ما زال حتى الآن .. حيث توفر لدى الآن تفسير سور الجاثية، و الأحقاف، و محمد و الفتح، و الحجرات، ثم المجادلة، و الحشر، و الممتحنة، و الصف، و الجمعة، و المنافقون، و التغابن .. و الكتابة و النشر مستمران ..

و قد نشرت دار التعاون «تفسير سورة الجاثية» فى كتاب، و البقية تأتى إن شاء الله و بفضله .. و قد سبقت فى كتابتى للتفسير على هذا النسق، كل الذين كتبوا التفاسير المختصرة و المتوسطة فيما بعد.

[تفسير الشيخ طنطاوى جوهرى و التفسيرات العلمية]

اشارة

و برغم الموجة الحديثة فى التفسير التى بعثها الشيخ محمد عبده، و برغم التأثر الشديد بها، فى أوساط العلماء و القراء بوجه عام، رأينا عالما فاضلا أستاذا فى «دار العلوم» يضع تفسيرا مطولا، جعل همه فيه بيان عجائب الكون مما أشار إليه الله فى كتابه الكريم، على أساس ما وصلت إليه العلوم الزراعية، و الطبية،

علم التفسير، ص: 145

و الحساب، و الهندسة، و الفلك و علوم البحار و غيرها من العلوم .. فما تأتى مناسبة تتصل بالزراعة مثلا إلا تحدث فيها بما وصل إليه علم الزراعة و النبات الخ.

و ما تأتى مناسبة لذكر البحار، و ما فيها من أسماك و أحجار و لآلى ء، إلا و تدرج إلى بحث البحار، و ملوحتها، و مساحاتها، و خواصها و الأسماك و أنواعها

و خواصها .. الخ. حتى لنراه يستعين بالصور فى بيان أنواع الأسماك .. و هكذا فى بيان اللؤلؤ و المرجان و كيفية تكوينه.

و كان يعتقد أن من الواجب عليه أن يبين فى هذا التفسير ما يحتاجه المسلم من الأحكام و الأخلاق و عجائب الكون، فأثبت فيه من نظريات العلوم و حقائقها ما يشوق المسلمين إلى الوقوف على الحقائق البينات فى الحيوانات و النبات و الانسان الخ.

و كان يتعجب من أن آيات الأحكام لا تعدو فى القرآن (مائة و خمسين آية) كما يقول، و مع ذلك تقوم على هذه الآيات، البحوث الفقهية، التى شغلت العلماء، و ألفوا فيها هذه الكتب الكثيرة، بينما فى القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة آية و خمسين، و مع ذلك لا يعتنى علماء المسلمين بالوصول إلى فقهها و دقائقها. حتى ليقول فى أسلوب حماسى يستنهض همم المسلمين لطريقته»: فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها؟ هذا زمان العلوم، و هذا زمان ظهور نور الاسلام، و هذا زمان رقيه يا ليت شعرى لما ذا لا نعمل فى آيات العلوم الكونية، ما فعله آباؤنا فى آيات الميراث»؟.

ثم يقول:

«و لكنى أقول: الحمد لله الحمد لله. إنك تقرأ فى هذا التفسير خلاصات من العلوم و دراستها، أفضل من دراسة علم الفرائض، لأنه فرض كفاية، فأما هذه فإنها للازدياد فى معرفة الله و هى فرض عين على كل قادر، إن العلوم التى أدخلناها فى تفسير القرآن، هى التى أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء فى الاسلام، فهذا زمان الانقلاب، و ظهور الحقائق»

علم التفسير، ص: 146

و بهذه الصورة تجده متحمسا غاية التحمس لمنهجه، لأنه يؤدى للمسلمين فرض عين عليه و عليهم،

لترقى الأمة فى عقيدتها و معرفتها بربها، و فى حياتها.

و لم يعتمد فيما ذكره و أفاض فيه من أنواع العلوم إلا على الحقائق و النظريات العلمية السائدة يذكرها، ثم فى النهاية يستخرج منها العبرة التى من أجلها ساق الله الآية و هى الايمان بقدرة الله و عظمته فى تدبيره لخلقه ..

و قد شرع فى هذا التفسير على طلبته بدار العلوم أولا، ثم سار فيه حتى أتمه فى خمسة و عشرين جزءا كبارا، و طبع حال حياته بمصر من 1341 ه إلى سنة 1351 ه 1922- 1932 م، و لم يلق الإقبال الذى يستحقه، ربما لتغلغل منهج الشيخ عبده فى النفوس، و قد ولد عليه رحمة الله 1287 ه- 1870 م و توفى 1358 ه- 1940 م .. مخلفا وراءه هذا العمل العظيم الذى قام به، مهما تختلف فيه الآراء من جهة فائدته فى التفسير و بيان معانى القرآن ..

الفخر الرازى و الشيخ طنطاوى

و إننى أعتقد أن الهدف الذى دفع الفخر الرازى لكى يستعمل علوم عصره فى إظهار هداية القرآن و بيان عظمة الله، هو الهدف الذى دفع الشيخ طنطاوى لتفسيره .. و الفرق بينهما، هو الفرق بين العلوم فى عصر الرازى، و العلوم فى عصر الشيخ طنطاوى .. فما ذكره الشيخ طنطاوى من علوم، متقدم كثيرا عما ذكره الفخر الرازى منها، كتقدم العلوم الآن عن عصر الرازى .. و لا شك أن الفائدة و العبرة من معلومات العلوم الآن، أكثر و أغزر مما كانت فى عهد الرازى ..

و الذى أخذ على الرازى فى توسعه فى ذكر العلوم، يؤخذ على الشيخ طنطاوى .. و الذى يعجب بالرازى، يعجب أكثر بالشيخ طنطاوى ..

و قد أخذ على الرازى من قبل أنه

يشتت الذهن و القلب، و يبعدهما عن هدى القرآن، و العيش فى جوه، إلى مباحث علمية لا بدّ للانسان من التركيز عليها عند قراءتها .. و هو ما يؤخذ على الشيخ طنطاوى أيضا، كما يؤخذ على غيرهما من المفسرين الذين اشتغلوا بالمباحث اللفظية و الفقهية و المجادلات

علم التفسير، ص: 147

الكلامية .. هؤلاء شتتوا الذهن بشي ء، و الآخرون شتتوه بشي ء آخر ..

و كلاهما قرر المحدثون أنه إبعاد لقلب الانسان و شغل له عن الهداية بالقرآن ..

لكن مما لا شك فيه أن التشتيت بالعلوم التى تظهر دقيق صنع الله، يأتى فى النهاية بفائدة كبيرة فى تعميق الإيمان، لو صبر الانسان و جمع بين أول الموضوع و آخره .. و كل مفسر قد أدى خدمة لفهم القرآن على طريقته فى تقديم خدماته جزاهم الله خيرا ..

علم التفسير، ص: 148

القرآن و العلم

اشارة

و لعل هذا يجرنا إلى بحث موضوع «القرآن و العلم»، و القرآن من الدعوات الأساسية التى دعا إليها و اعتمد عليها دعوته للعلم بشتى أنواعه.

و لذلك فنحن نتقبل فى أى تفسير بعض الحقائق العلمية، التى تبرز ما أشار إليه القرآن، و ما رمى إليه من ذكر الدلائل الكونية، و لكن الكثير منه فى التفسير يشتت الذهن فعلا، و ينقله إلى جو آخر. فالقليل منه نافع، و الكثير يشوش الذهن و يبعده عن جو القرآن و سياقه .. هذا إذا لم نشد الآيات، و نلو عناقها، لتقبل تفسيرا علميا فيه كثير من التفتت ان لم يكن التفتت نفسه ..

فيصبح غير مقبول نهائيا ...

و كلا التفسيرين، يمكن أن نقول عنهما: تفسيرا علميا، لكثرة ذكر العلوم و الاستدلال بها فيه ..

و أحب أن أذكر هنا و أؤكد أن هناك فرقا

كبيرا، بين أن نستعين بالعلم، لتوضيح معنى آية أو جملة أو إظهار إعجاز القرآن، و بين أن تؤول الآية أو الجملة أو الكلمة تأويلا تعسفيا، لتكون مطابقة لما يقال من أنه علم ..

فمثلا قوله تعالى «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» حين يأتى المفسر و يقول إن العالمين جمع عالم، و تكون بمعنى العوالم المخلوقة من انسان و هو أشرفها و غيره، و يأخذ فى ذكر هذه العوالم الأخرى و ما فيها من أسرار، و تنظيم دقيق، كعالم الأرض و السماء، ثم عالم النبات و الحيوان و الحشرات. و الأسماك، و النجوم و الأفلاك الخ .. و يبين أن الله خلق هذه العوالم، و أعطى كل شى ء خلقه ثم هدى، لأنه ربها، و متولى أمرها، و راعيها و حافظ حياتها. لتؤدى دورها، ثم يمتد بحثه عن هذه العوالم الأخرى المشابهة لعالمنا كما بحث العالم المؤمن الاستاذ الغمراوى «1» يكون قد خدم القرآن بهذا دون خروج على نصه»

______________________________

(1) كما جاء فى كتابه الذى جمع فيه بحوثه العلمية القرآنية «الاسلام فى عصر العلم» فى الفصل الأول من الكتاب الرابع «الأعجاز العلمى للقرآن» ص 221.

علم التفسير، ص: 149

أو قوله تعالى «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها» فيتحدث عن الثمرات و تنوعها و خاصيتها، و يبين على ضوء العلم سر قدرة الله فى خلق هذه الثمرات، و فى مختلف المناطق، و لكل منطقة ثمارها و الوانها الخ .. مقتصدا فى بيان ذلك، بحيث لا يفسر الآيات عنوة على معنى، أو يفسر تفسيرا مخلا .. بل إنه يلقى ضوءا فحسب على ما يشير الله إليه، ليزيدنا إيمانا .. بهذا يكون العلم فعلا فى

خدمة الإيمان و القرآن. و داعيا إليه.

و حين نذكر آيات خلق الانسان و تكون الجنين من «نطفة أمشاج» و نستعين بما وصل إليه العلم من مناظير و تشريح و تحليل، لبيان ما أشار الله إليه من عظيم قدرته فى خلق الإنسان- حين نفعل ذلك- لا نكون متعسفين فى استخدام العلم فى تفسير القرآن .. بل إننا نثاب على ذلك.

و لا يخشى على الحقيقة القرآنية من التغييرات فى النظريات العلمية، فإن النظرية العلمية مهما تتغير لا تخرج عن أنها تكشف جديدا فى التطور أو فى بيان قدرة الله، و إن كنا لا نشجع على بيان معانى القرآن و أسراره على ضوء نظريات لا تزال محل بحث. و مع ذلك .. فإنه لا يضر فى رأيى أن نبين معنى أو نذكر شيئا على أساس علمى ثم يظهر ضعفه، أو خلافه فيما بعد، لأن هذا الفهم لا يقدح فى القرآن، و لأن هذا الذى وصلنا إليه و قلناه، يمثل عقليتنا و علمنا نحن حين قلناه، و لا يمثل حقيقة القرآن، و فى تفسيرات القرآن التى بين أيدينا الآن نجد أقوالا من علماء أفاضل فى تفسير الآية نراها متهافتة، و مع ذلك لا نعيب إلا على قائلها و فهمه و لا نعيب القرآن ..

و مع أن هذه هى الطريقة التى يمكن أن نقف عندها و نستعملها دون انزعاج، فإن ما يثار أحيانا من تفسيرات علمية تافهة و متعسفة، تسي ء للتفسيرات للجادة، و قد تروج و تشتهر بين الناس، و يكون ضررها أكثر من نفعها .. فى فهم القرآن، و لكن إلى حين .. و ذلك كالذى فسر آيات سورة الرحمن حين ظهور مراكب الفضاء و وصولها للقمر، و ذهابها

إلى ما بعد الغلاف الجوى المحيط بالأرض.

علم التفسير، ص: 150

فقد قفز هذا العالم- دون علم- لا بالقرآن، و لا بأوليات العلوم- و أنزل آية «يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات و الأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان» على مراكب الفضاء، و قال: إن الانسان نفذ من أقطار السموات و الأرض بسلطان العلم .. و ادعى أن القرآن تنبأ بهذا، ظانا أنه يخدم القرآن مع الأسف!! و كان ذلك خطأ فادحا يدل على عدم فهم سياق الآيات التى سيقت لبيان عجز الجن و الانس من أن يكون لهما أى خيار أو قدرة فى مصيرهما أمام الله و قدرته و مساءلته لهم عن أعمالهم ..

و كان خطأ يدل على عدم الفهم العلمى لأقطار السموات و الأرض ..

فراكب الفضاء لم يخرج عن هذه الأقطار حين ذهب للقمر، و المعروف أن القمر كوكب تابع للأرض أو للمجموعة الشمسية. فكيف يفهم علميا أنه خرج من أقطار السموات و الأرض و إلى أين غير أقطار السموات و الأرض؟

و لكن مع هذا الفهم الفادح فى خطئه، رأينا مثل هذه المقولة يختطفها الجاهلون بالقرآن، و بالفلك و علومه، و يتحدثون بها .. و هذا هو الذى نقف دونه و له بالمرصاد ..

«القرآن محاولة لفهم عصرى»

و مثل هذا الذى نعيبه، و نقف دونه، جاء منه أيضا فيما كتبه أخونا الفاضل الدكتور مصطفى محمود فى محاولة لفهم القرآن .. و لا أشك فى أنه أقدم على هذا الذى اعتبره و يعتبره العلماء جميعا خطأ غير مقبول، أنه مشوب بسوء نية، بل على العكس، أعتقد أن نيته كانت حسنة حين أخطأ، و خرج عن الحقيقة الإسلامية فى بعض الموضوعات. و لى

كثير من الشواهد على أنه لم يكن يتعمد هذا الخطأ، بل كان مشوقا إلى أن يراجعه أحد العلماء، فيما كتبه حتى لا يحدث منه شى ء من هذا، و فعل هذا فى بعض الموضوعات.

و أعتقد أن تعجله فى النشر أسبوعيا فى المجلة الأسبوعية التى كان يكتب بها فى هذا الموضوع، هو الذى حال بينه و بين لقائه بالمرجع الدينى الذى يراجع عليه،

علم التفسير، ص: 151

كما كان يريد و نريد .. و لو أنه كان من الأفضل له و لنا أن يتأنى. ففي الكتاب الكثير مما يسرنا و نحمده عليه .. و فى نشاط الدكتور فى النواحى الدينية و تعميق الإيمان، ما يجعلنا نحييه على جهوده و فى روحه الدينية المتصوفة، و نظرته الآن للدين و الإيمان، ما يجعله قريبا جدا إلى نفوسنا، برغم أخطائه فى محاولته لفهم عصرى للقرآن- و لكل عالم هفوة، و لكل جواد كبوة .. و الله ينفع بخيره و جهده ..

لقيته مرة فى مراقبة البحوث بالمجمع، و قد جاء صارخا لما علم من صدور قرار بمصادرة كتابه هذا المطبوع فى بيروت، و وجدته كتب مذكرة غلبت عليه فيها صوفيته، و اعتمد فيها على أن يقول: إن الله هو الرقيب لا أنتم الخ ..

فأخذته لمكتبى و هدأته، و وجهت له لوما على تسرعه بإبداء هذه الآراء ..

فقال لى: لم أجد من يسعفنى بالمراجعة، و جئت مرة لمشيخة الأزهر و صححوا لى بعض الموضوعات، فأخذت بها فورا، و جئت ثانية فلم يسعفنى أحد، هكذا قال، و العهدة عليه .. و لكنى لم أخله من العهدة، فقد كان بوسعه أن يتأنى، ما دام يطلب الحقيقة كما أفهم .. و أنهيت الموضوع بتعهد أخذه على

نفسه، بأن يدفع الكتاب لمراجعة عالم ثقة، أو لمراجعة الأزهر قبل طبعه بعد ذلك .. أما هذه الطبعة فهى فى بيروت و لا سلطان لنا هناك ..

و من هذه المحادثة فهمت حسن نيته، و صدق طويته، لا سيما و قد رغب فى تصحيح كل خطأ نشره .. فى الوقت الذى حمل فيه حملة شعواء على تفسيرات الباطنية و البهائية، و غيرهما من الفرق المنحرفة بالاسلام، لالتوائهم بألفاظ القرآن و تأويلها، حتى يوافق أهواءهم الضالة المخربة .. و كتب كتابة رائعة أظهر فيها جلال القرآن و جماله و فضله على البشرية.

و قد تحدث عن هذه المحاولة العالم الفاضل الشيخ مصطفى الحديدى الطير ..

عضو المجمع، و كتب عنه تقريرا قدمه للمجمع، أنصفه فيه، فذكر محاسنه، كما ذكر مساوئه ..

و من هذه المآخذ: قوله فى خلق آدم مما يخالف القرآن ..، و حديثه عن

علم التفسير، ص: 152

آدم فى الجنة، و آدم فى الأرض، و رأيه فى نعيم الجنة، و فى الجحيم و العذاب، و فى معنى غض البصر، و فى الحد و توبة السارق .. و أرجو أن يعيد الدكتور مصطفى طبع كتابه بعد تصحيح ما يحتاج لتصحيح منه .. حتى يكون خيرا كله ..

و غير الدكتور مصطفى محمود .. هناك بعض العلماء الذين اندفعوا وراء ما يشبه التصفيق الشعبى، فقدموا للناس أبحاثا عن القرآن و العلم، ينبهر لها بعض الذين لم يدرسوا القرآن و لا العلم، مع أنهم لم يسلموا من الزلل و الشطط ..

و كان لهذا كله رد فعله عند الراسخين، و الغيارى من العلماء، و كبار المثقفين، فأصبحوا ينفرون من أية دراسة عن القرآن و العلم .. و هكذا كان رد الفعل لهذا الانتشار

غير الملتزم فى الحديث عن القرآن و العلم ..

و مع ذلك فهناك دراسات جادة مؤمنة من رجال و علماء ثابتين، غيارى على دينهم و على العلم، ملتزمين بنصوص القرآن، و لا يحملونها فوق طاقتها، بل يجلونها بما درسوه و عرفوه من حقائق علمية، و يقدمون للناس دراسة علمية دينية جادة، تفيدهم كثيرا فى استجلاء بعض الآيات الكونية فى القرآن ..

و أذكر للقارئ واحدة من هذه الدراسات، و هى التى قام بها و نشرها فى مقالات .. العالم الكيميائى الورع، المرحوم الاستاذ محمد أحمد الغمراوى، و أعدها للنشر صديقه العالم الاستاذ أحمد عبد السلام الكردانى، و نشرتها دار الانسان ..

و قد كان هدف المرحوم الاستاذ الغمراوى أن يكشف فى بحوثه التى استندت على الحقائق العلمية، معجزات القرآن العلمية، التى أشار إليها و قررها قبل إن تكتشف بعدة قرون .. و بذلك تتوالى المعجزات العلمية. و تظهر جديدة حينا بعد حين. كلما تقدم العلم، و لها أهميتها و أثرها فى إقناع العلماء جيلا بعد جيل، بأن القرآن من عند الله.

و يقرر الاستاذ الغمراوى كما يقرر الكثيرون أن الاسلام هو وحده- من بين الأديان- الذى احتضن العلم، و دعا إلى العب منه بشتى أنواعه، و تحاكم إلى العقل، و حث على النظر و التدبر فيما خلق الله فى كونه المنظور. و مما يفخر به

علم التفسير، ص: 153

المسلمون أن قرآنهم بما أشار إليه أو ذكره من حقائق علمية .. تأتى حقائق العلم بعد ذلك بقرون فتؤكدها، و لا تجد تناقضا أبدا بين القرآن و بين الحقائق العلمية، كما تجده فى غيره من الكتب السماوية التى ناقضت- فى بعض ما جاء فيها- ما أثبته العلم، و استعصت على التأويل،

كما نصت التوراة على عمر للأرض محدود، لا يتجاوز بضعة آلاف من السنين، فى حين أن العلم اليقينى يقرر عمرها بالملايين، مما حمل بعض كتاب الغرب و قسيسيه على أن يظنوا أن الدين عندهم قد خذ له الواقع، فلم يبق ما يستند إليه إلا المعانى الشعرية و القيم الأخلاقية.

علم التفسير، ص: 154

التوراة و الإنجيل و القرآن و العلم

و لعل من المناسب و نحن نتحدث عن القرآن و العلم الحديث، و عما كتبه المسلمون فى هذه الناحية و قرروه من أنه لا يوجد تناقض بين مقرارات القرآن و مقرارات العلم، أقول: لعل من المناسب أن نذكر هنا دراسة قام بها عالم طبيب فرنسى مشهور هو «موريس بوكاى» عن العلم و الكتب المقدسة الثلاثة:

التوراة و الإنجيل و القرآن، و نشرت هذه الدراسة الدقيقة دار الكندى فى بيروت بعد أن ترجمها نخبة من الدعاة بالعنوان المذكور، ثم قامت دار المعارف المصرية بترجمة هذه الدراسة و نشرها تحت عنوان: دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة.

و الترجمة البيروتية فى 217 صفحة و الترجمة المصرية فى 288 صفحة من القطع نفسه ..

و الكاتب لم يكن قد أسلم بعد حتى يتهم بالتحيز للاسلام، و لكنه كان مسيحيا، حين أقدم على هذه الدراسة، يدين للتوراة و الإنجيل بالولاء، كما هو معروف عن المسيحيين .. و لكن- و الحق يقال- كان موضوعيا جدا فى دراسته، محايدا بين الكتب الثلاثة، شأن العالم الحقيقى، فخرج من نتيجة دراسته .. بإظهار الحقيقة التى تنطق بصدق القرآن، و أنه من عند الله حقا، و أنه لم يجد فيه رائحة تناقض مع مقررات العلم الحديث .. و إنما وجد فى غيره، و لذلك أسلم.

و يقول فى مقدّمته ص 12 فى طبعة دار

المعارف:

«هذه التأملات حول الصفة المقبولة أو غير المقبولة علميا، لمقولة فى كتاب مقدس. تتطلب منا إيضاحا دقيقا، إذ علينا أن نؤكد أننا عند ما نتحدث هنا عن حقائق العلم، فإننا نعنى بها كل ما قد ثبت منها بشكل نهائى، و أن هذا الاعتبار يقضى باستبعاد كل نظريات الشرح و التبرير التى قد تفيد فى عصر ما لشرح ظاهرة، و لكنها قد تلقى بعد ذلك تاركة مكانها لنظريات أخرى أكثر

علم التفسير، ص: 155

ملاءمة للتطور العلمى، و إن ما أعنيه هنا .. هو تلك الأمور التى لا يمكن الرجوع عنها. و التى ثبتت بشكل كاف، و يمكن استخدامها دون خوف الوقوع فى مخاطرة الخطأ.

و بهذا حصن الكاتب العالم الفرنسى نفسه فى بحثه، و لم يترك ثغرة لأحد ينفذ منها لمهاجمته ..

ثم يقول الكاتب الباحث تعليقا على ما تقدم ..

«إننا نجهل مثلا التاريخ التقريبى لظهور الانسان على الأرض، غير أنه قد اكتشفت آثار أعمال إنسانية ترجع دونما ريب إلى ما قبل عشرة آلاف سنة قبل ميلاد المسيح .. (قيل إن العلم اكتشف أبعد من هذا موغلا فى القدم) دون أن يكون هناك مكان للشك .. فلا يجوز إذن اعتبار النص التوراتى لسفر التكوين كما لو كان صحيحا، إذ لا يمكن علميا قبوله، إذ يذكر السلالات البشرية و التواريخ التى تحدد بداية الإنسان (خلق آدم) بأنها ترجع إلى سبعة و ثلاثين قرنا- أى ثلاثة آلاف و سبعمائة سنة قبل المسيح لا عشرة آلاف) و لكنا نستطيع أن نكون واثقين بأننا لن نثبت أبدا أن الإنسان ظهر على الأرض منذ 5736 سنة كما شاء التقويم العبرى سنة 1975. إن معطيات التوراة المتعلقة بالإنسان القديم- إذن- خاطئة و غير صحيحة»

..

و الاستاذ الباحث يبنى حكمه بخطإ التوراة، على أساس علمى ثابت لا يمكن أن يتطرق إليه شك و هو فى هذا جد محتاط، فالعلم الحديث و الحفريات قد تظهر لنا- أو أظهرت فعلا- أن عمر الإنسان على الأرض يرجع إلى ملايين من السنين بواسطة العثور على جمجمة للإنسان فى كينيا، و بعد تحليلها علميا ثبت ذلك .. فكون التوراة تحدد عمر الإنسان بما حددته به- فى سفر التكوين- قد ظهر خطأ ذلك و تناقضه مع معطيات العلم اليقينية ..

و يقول فى المقدمة أيضا:

«لقد قمت أولا بدراسة القرآن الكريم، و ذلك دون أى فكر مسبق، و بموضوعية تامة، باحثا عن درجة التوافق بين نص القرآن و معطيات العلم

علم التفسير، ص: 156

الحديث. و كنت أعرف قبل هذه الدراسة، و عن طريق الترجمات .. أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظواهر الطبيعية، و لكن معرفتى كانت وجيزة، و بفضل الدراسة الواعية للنص العربى استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها .. أن القرآن لا يحتوى على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم فى العصر الحديث.

و قد قمت بالتدقيق ذاته و بالفحص بموضوعية تامة للعهد القديم و الأناجيل.

أما بالنسبة للعهد القديم .. فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول- أى سفر التكوين- فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها و بين أكثر معطيات العلم الحديث رسوخا فى عصرنا ..

و أما بالنسبة للأناجيل .. فما نكاد نفتح الصفحة الأولى، حتى نجد أنفسنا دفعة واحدة فى مواجهة مشكلة خطيرة، و نعنى بها شجرة أنساب المسيح، و ذلك أن نص إنجيل متى يناقض بشكل جلى إنجيل لوقا، و أن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمرا

لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض و يتناقض معها.

ثم يتكلم بعد هذا عن أثر هذا التناقض على الإيمان فيقول: لا يبدو لي أنها تستطيع أن تضعف الإيمان بالله .. و لا تقع المسئولية فيها إلا على البشر.

و لا يستطيع أحد أن يقول كيف كانت النصوص الأصلية؟ و ما نصيب الهوى و الخيال فى عملية تحريرها؟ أو ما نصيب التحريف المقصود من قبل كتبة هذه النصوص؟، أو ما نصيب التعديلات غير الواعية التى أدخلت على الكتب المقدسة «1»؟

إن ما يصدمنا حقا فى أيامنا هذه أن نرى المتخصصين فى دراسة النصوص يتجاهلون ذلك التناقض و التعارض مع الحقائق العلمية الثابتة، أو يكشفون عن بعض نقاط الضعف، ليحاولوا بعد ذلك التستر عليها مستعينين فى ذلك ببهلوانيات جدلية.»

______________________________

(1) كل هذها لتساؤلات و التناقضات تثبت تلاعب الناس بالنصوص الأصلية و ما سماه القرآن بالتحريف»

علم التفسير، ص: 157

ثم يتعجب من القدرة الجدلية و غيرها على إخفاء هذه التناقضات على كثيرين من المسيحيين الذى يجهلون حتى الآن العيوب الكبيرة لعديد من مقاطع العهد القديم و الإنجيل، مما تكفل هو ببيانه فى الجزءين الأول و الثانى من الكتاب ..

ثم يقول: أما الجزء الثالث فسيجد فيه القارئ أمثلة توضيحية لتطبيق العلم على دراسة أحد الكتب المقدسة (يريد القرآن) و هو تطبيق لم يكن يتوقعه إنسان، كما سيجد القارئ فى ذلك بيانا لما قد جاء به العلم الحديث الذى هو فى متناول كل يد، من أجل فهم أفضل و أكمل لبعض الآيات القرآنية، التى ظلت حتى الآن مستغلقة، أو غير مفهومة، و لا عجب فى هذا إذا عرفنا أن الإسلام قد اعتبر دائما أن الدين و العلم توأمان متلازمان، فمنذ

البدء كانت العناية بالعلم جزءا لا يتجزأ من الواجبات التى أمر بها الاسلام، و أن تطبيق هذا هو الذى أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم فى عصر الحضارة الاسلامية، تلك التى اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة فى أوربا.

و إن التقدم الذى تم اليوم بفضل المعارف العلمية فى شرح بعض ما لم يكن مفهوما، أو فى شرح بعض ما قد أسى ء تفسيره حتى الآن من آيات القرآن ليشكل قمة المواجهة بين العلم و الكتب المقدسة».

و انتهى المؤلف الفرنسى من مقدمته الموجزة التى نقلت لك فقرات منها، و كأنى أقدم لك بها رائحة شواء لذيذ يسيل لعابك لتتوفر على قضاء وقت ممتع على مائدة هذا الرجل، و مع هذا الكتاب .. فما تغنى مقدمة و لا فقرات منها عن الحقائق الصريحة التى قدمها هذا العالم المسيحى عن الكتب المقدسة، و التى خرج منها بحقيقة عن القرآن يعتز بها كل مسلم، و يقدرها و يحترمها كل إنسان عاقل ..

و نصل بهذا الموضوع إلى نهايته مكتفين بما قدمناه منه لننتقل إلى موضوعات أخرى باقية لا بد من الإلمام بها ..

علم التفسير، ص: 158

علوم القرآن أو أصول التفسير

اشارة

و من هذه الموضوعات التى أرى ضرورة عرضها هنا هو ما سمى بعلوم القرآن و أصول التفسير. و هو علم نشأ من اشتغال العلماء بتفسير القرآن، إذ لا يمكن الإقدام على التفسير إلا بعد الإلمام بموضوعاته، كالوحى، و نزول القرآن و متى و كيف نزل. و أول ما نزل و آخر ما نزل، و المكى و المدنى، و أسباب النزول.

و المحكم و المتشابه و نزول القرآن على سبعة أحرف، و العام و الخاص، و الناسخ و المنسوخ إلى غير ذلك مما يعد أساسا

للتعرض لتفسير القرآن و لذلك سماه بعض العلماء المؤلفين «بأصول التفسير ..»

و قد وفاه المؤلفون من العلماء القدامى. حقه، و كتبوا فيه كتبا مطولة و مختصرة من قديم «كالبرهان» للزركشى «و الاتقان» للسيوطى، كما كتب المحدثون لطلابهم فى الدراسات العليا كتبا مناسبة للدراسة ..

غير أن هذا العلم ظل قاصرا على العلماء و الدارسين فى قاعات الدرس، ليس لدى المثقفين عامة أى إلمام به .. مع ضرورة هذا لكل مسلم متعلم.

و من أجل ذلك عنيت بهذه الناحية، و عملت على صياغة هذه الموضوعات، و تقديمها لعامة المثقفين، و للدارسين أيضا بأسلوب سهل سلس. يجذب القارئ و يشده إليه، و يعطيه المعلومات الكافية فى موضوعه، و سميته أيضا «علوم القرآن» و صدرت طبعته الأولى فى سنة 1979 م- 1399 ه بمناسبة قدوم القرن الخامس عشر الهجرى، أصدرته دار الكتاب اللبنانى المصرى بالقاهرة، و أعيد طبعه مع تنقيحات و زيادات ..

[تجريد التفاسير القديمة]

و نظرا لأن حاجة العصر الآن، تقتضى السرعة و التخفيف على القارئ.

و تقديم وجبة دسمة له فى أصغر حجم ممكن، فقد تاقت نفوس القراء إلى اختصار الكتب المطولة، و تجريدها مما لا يحتاجون إليه، و مما علق به مما يسي ء

علم التفسير، ص: 159

تغذيتهم، و تجريد الأحاديث الصحيحة من العنعنات الكثيرة فى إسنادها و روايتها و الاكتفاء بمتن الحديث و الإشارة إلى موضعه ..

نظرا لهذا اتجهت عناية بعض العلماء إلى تحقيق هذا الغرض للقراء، و قاموا فعلا بتجريد بعض الكتب المطولة، إلا أن ذلك لا يزال فى دائرة ضيقة ..

و قد رأى مجمع البحوث بدلا من تجريد هذه الكتب أن يقدم «التفسير الوسيط» الذى أشرنا إليه من قبل.

كما عنى بموضوع الإسرائيليات و الروايات التى لا أصل لها

لحماية قراء هذه الكتب المطولة من ضررها .. و ذلك بمراجعة هذه الكتب، و تقييد ما يمكن حذفه منها و حماية العقول من غثها ..

و كان أمامه لذلك طريقان:

الأول. وضع كتب مستقلة عن التفاسير تبين هذه الاسرائيليات و الروايات التى لا أصل لها .. كما فعل المرحوم الشهيد الدكتور الشيخ الذهبى فى كتابه «الاسرائيليات فى القرآن» و كما فعل الدكتور الشيخ محمد أبو شهبه فى كتابه عن الاسرائيليات، و لو أنهما لم يستوعبا كل الاسرائيليات فى تفسير سور القرآن ..

و قد اختارت لجنة الدراسات القرآنية هذا الطريق، و رأت أن تستحث العلماء للمشاركة فى هذا المشروع العظيم، كما اتصلت بالمسئولين فى كلية أصول الدين و قسم التفسير بها ليوجهوا طلاب الدراسات العليا للاهتمام بهذه الناحية فى رسالاتهم للماجستير و الدكتوراة .. لنخرج فى نهاية الأمر بما يمكن أن يكون حصرا و تجنيبا لما لا نريده فى كتب التفسير و التنبيه إليه ..

الطريق الثانى: أن يدون هذا على هامش التفسير، حين إعادة طبعه، حتى يكون أمام القارئ و هو يقرأ، حتى لا يكون فى حاجة للرجوع إلى كتاب آخر قد لا يسعفه .. و يصدر حظر على إعادة طبع هذه الكتب بدون هذا التصحيح ..

و كان رأيى

أن تجرد هذه الكتب من كل هذا الغذاء الفكرى السام، و يعاد طبعها بدونه، حتى لا يتسرب للأفكار شى ء من هذه السموم، و الوقاية بهذا و إبعاد

علم التفسير، ص: 160

المواد السامة و الحارقة، خير من وجودها و تحذير الناس منها .. و قد لا يتنبهون، و قد لا يحذرون، فالوقاية خير من العلاج ..

أما هذه الكتب بطبعاتها الموجودة الآن، فتظل فى المكتبات العامة للخواص الدارسين، و لن يحتاجوا إليها، إلا

إذا أرادوا الاطلاع على هذه المواد الفاسدة المفسدة ..

و لا يصح أبدا التأثر بكلمة: التراث .. التراث .. و ضرورة الإبقاء عليه، فإننا فى غنى عن هذا الذى ورثناه فى الكتب من مواد فكرية سامة، و لا يصح أبدا أن تسمى تراثا نتعلق به و نحافظ عليه .. بل الأولى بنا أن نتخلص منه، و نحمى أجيالنا من التأثر به، أو من التلوث منه. كما نحمى الانسان من آثار التلوث بأشكاله و أنواعه ..

كان هذا رأيى، و إن كان الرأى الأخير دائما للأغلبية .. و للزمن حكمه الأخير ..

علم التفسير، ص: 161

ترجمة القرآن أو تفسيره باللغات غير العربية

اشارة

حين نقول: ترجمة القرآن، فإننا نعنى ترجمة معانيه، و ذكر المعنى الذى تدل عليه ألفاظه العربية بلغة غير عربية، و لذلك قلنا أو تفسيره بلغة أجنبية، لأن الذى سيترجم هو المعنى، إذ الترجمة اللفظية من أية لغة إلى لغة أخرى غير ممكنة فى الكتب العادية، فما بالك بالقرآن الصورة العليا فى البلاغة؟ ..

و نحن العرب قد لا نشعر بضرورة هذه الترجمة لأننا نقرأ القرآن و نقرأ تفسيره بلغة عربية ..

أما غير العرب فيحسون الحاجة الشديدة إلى هذه الترجمة ليفهموا القرآن، و يعتبروا به، و يحيطوا علما بما قدمه من معارف شتى فى الأمور الدنيوية و الأخروية، و العلمية الخ ..

لأنهم حتى إن طوعوا ألسنتهم لقراءته بالعربية، فهم كالشريط، ينطقون به، و لا يعرفون أى معنى لما ينطقون، لذلك كان من الواجب إسلاميا إيصال معانيه إليهم باللغة التى يفهمونها، إذ لا يمكن إجبار كل مسلم و لو كان فى الحقول و الأودية، و الكفور و البادية، أن يتعلم العربية، و يترك لغته أو يحتفظ بها ..

و قد دخل الاسلام بلادا غير عربية كثيرة

فى إفريقيا و آسيا و أوربا قديما، و مع ذلك لم يمكن تحويل كل الذين دخلوا فى الاسلام من لغتهم الأصلية إلى اللغة، العربية لتكون لغة التخاطب و القراءة و الكتابة .. و ظلوا أو ظلت الكثرة الساحقة منهم على لغتهم، لا يعرفون العربية نطقا و لا فهما، و هؤلاء فى شديد الحاجة لكى يعرفوا دينهم و قرآنهم عن طريق لغتهم.

كيف يتم ذلك دون أن نترجم القرآن إلى لغتهم و كذلك كل ما يتصل بفهمهم لدينهم؟

و لقد لمست هذا على أرضية الواقع أيضا، حين كنت مدرسا للعربية فى إحدى الجامعات الدينية فى الهند لأكثر من سنتين، و زرت كثيرا من معاهدها

علم التفسير، ص: 162

و جامعاتها الدينية. و وجدت علماء يعرفون العربية قراءة و فهما من أمهات الكتب العربية، و لكنهم حين يشرحون لطلابهم أو لسامعيهم من عامة المسلمين لا يستطيعون نطق جملة كاملة باللغة العربية قبل أن يقضوا وقتا فى صياغتها صياغة ركيكة.، فكانت الضرورة تقضى بأن يشرحوا لهم بلغتهم و يذكرون لهم معانى القرآن مترجمة بلغتهم ..

و الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه- و أصله فارسى- كان أكثر الأئمة لمسا لهذه الحقيقة أو قربا منها، و لذلك وجدناه يلبى هذه الحاجة، حينما رأى أن للمصلى أن يقرأ معنى الفاتحة باللغة الفارسية حين يعجز عن قراءتها بالعربية، بينما الأئمة الآخرون لم يلمسوا مثله هذه الحالة فمنعوا أن يصلى بغير العربية مهما يكن الأمر ..

و نحن العرب لا نحس الحاجة إلى الترجمة كما يحسها غير العرب .. لذلك تأخرنا كثيرا جدا فى النظر إلى الترجمة، حتى إذا أثارها الإمام الشيخ المراغى عليه رحمة الله و دعا إلى ضرورتها ثار عليه كثير من العلماء و المفكرين،

و كانت معركة فكرية حامية، امتدت مرة إلى معركة بالكراسى فى قاعة الشبان المسلمين من أنصار المراغى ضد أحد معارضيه و شاهدت هذه المعركة و أنا طالب فى الكلية فى أواخر الثلاثينات .. حتى وجدنا أحد أعضاء المحكمة الشرعية العليا يصدر كتابا يجعل عنوانه «حدث الأحداث فى الاسلام الاقدام على ترجمة القرآن» و طبعا كان الرد على المنكرين باستمرار مما شغل الرأى العام و الدولة فى أيامها ..

و كان الجدل دائرا حول الممكن و هو ترجمة المعانى، لا ترجمة الألفاظ التى لا يختلف أحد على عدم إمكانها، لا فى القرآن و لا فى غيره ..

فى الهند

حدث هذا عندنا فى النصف الأول للقرن العشرين، بينما نجد أن هذه الترجمة قد استقر على الحكم بجوازها، بل بضرورتها جميع علماء الهند من قرون مضت ..

ترجم أولا للغة الفارسية، و قام بالترجمة حجة الإسلام هناك شاه ولى الله الدهلوى رأس مدرسة الحديث و المتوفى سنة 1176 ه- 1762 م .. و هو

علم التفسير، ص: 163

صاحب كتاب «حجة الله البالغة» الذى يعرفه العلماء هنا و يعتمدون عليه ..

ثم قام ابنه و وارث علمه و طريقته، العالم المحقق، مولانا عبد القادر الدهلوى المتوفى سنة 1230 ه- 1814 م بترجمته إلى اللغة الأوردية- اللغة الحديثة فى الهند لدى المسلمين، و اعتبروا ذلك أنه «كان من أعظم ما من الله به سبحانه عليه». و كانت أول ترجمة للأوردية ..

ثم تتابعت الترجمات بعد ذلك إلى لغات الهند المتعددة، كل عالم كبير يجعل من فخره و قرباته عند الله، أن يقوم بترجمة إلى لغته. ليستطيع المسلمون فى المنطقة تذوق معنى القرآن ..

حتى جاء مولانا محمود الحسن شيخ الهند، و كبير العلماء المجاهدين، «و أسير

مالطا» كما يلقبونه أيضا أثناء الحرب العالمية الأولى .. و المتوفى سنة 1339 ه- 1920 م، حيث عكف فى معتقله فى «مالطا، على كتابة ترجمة سهلة باللغة الأوردية، بعد أن صارت الترجمة الأولى معقدة، بلغة أوردية قديمة، و قد تطورت بعدها اللغة تطورا كبيرا، و أتم ترجمته فى معتقله كأعظم عمل يتقرب به إلى الله ..

و طبع الترجمة هناك غالبا أن يكتبوا تحت كل سطر من القرآن، ترجمته بالأوردية، فيستطيع القارئ سريعا الإلمام بمعنى ما يقرؤه ..

ثم جاء مولانا أزاد، و كان ذا لغة أوردية فصيحة قشيبة، و على طريقته فى التفسير التى أشرنا إليها من قبل، قام بترجمة القرآن ترجمة سهلة بليغة، متقربا بها إلى الله .. و ذلك فيما سماه «ترجمان القرآن» و عند طبعه كتب القرآن بترقيم الآيات أعلى الصفحة، و كتب ترجمة بالترقيم تحت ذلك ..

و كذلك كانت الترجمة فى بلاد اسلامية، متعددة لها ظروف المسلمين فى الهند. كأمر و واجب دينى يقوم به العلماء الكبار .. و معنى ذلك و مؤداه أن ما كنا نتجادل و نتعارك فيه هنا، حول ترجمة القرآن، كانت أمم اسلامية قد فرغت منه قبلنا بقرون و اعتبرته ضرورة أو بديهة .. و عاشت و تعيش عليه فى فهمها للقرآن ..

علم التفسير، ص: 164

و من أجل هذا برز فى الهند و باكستان مترجمون كثيرون مقتدرون، ترجموا القرآن إلى لغاتهم و إلى اللغة الانجليزية أيضا، و كان منها أحسن الترجمات التى يمكن الأخذ بها.

و أشهر هذه الترجمات فى الوسط العربى ترجمة مولانا عبد الله يوسف على، التى طبعتها- مرارا- السعودية و ليبيا. و كذلك ترجمة «مارمادوك بكتال» التى طبعتها دار الكتاب اللبنانى المصرى بالقاهرة بإذن من

الأزهر .. على ورق خفيف ممتاز، و لذلك جاء فى حجم المصحف العادى، و نظامه أن تكتب الآيات فى الصفحة اليمنى، و الترجمة فى الصفحة اليسرى.

و كذلك قامت بطبع ترجمة فرنسية معتمدة من بعض كبار العلماء فى تونس و لبنان و من دار الإفتاء فى لبنان ..

فى أوربا و أمريكا

أما فى الغرب فلم ينتظر أحد هناك رأيا إسلاميا فى جواز الترجمة، و لذلك ترجم هناك بلغات متعددة من قرون سابقة، و قام بترجمته بعض المستشرقين.

منذ بدأ الاستشراق، و أحسوا حاجة لمعرفة القرآن، و قد انتشرت هذه الترجمات هناك دون حسيب أو رقيب عليها .. و قدمت لقراء الانجليزية و الفرنسية و الألمانية و غيرها من اللغات ترجمة للقرآن، كان من الطبيعى أن يعتمدوا عليها فى فهم القرآن و الاسلام .. مع ما بها من اخطاء ..

و لو أن المسلمين من قديم تفتحت عقولهم و اتجهت هممهم للترجمة للغات الأجنبية فى الغرب أو الشرق كوسيلة فعالة قوية فى التعريف بالاسلام، و الدعوة إليه .. لما ظهرت هذه الترجمات الكثيرة التى قام بها علماء غير مسلمين، لا يتذوقون معنى القرآن، و لا يحرصون عليه ..

إن ما يدعو إلى العجب و الأسى الشديد معا، ألا يقوم عربى مسلم على مدى هذه القرون بترجمة صحيحة للقرآن، يأتمنها المسلمون العرب على دينهم و كتابهم. و إن كانت هناك محاولات لذلك. و لكنها حتى الآن لم تظهر، و منها محاولة قام بها أخونا الدكتور عبد المنعم الجمال. و لا تزال هذه الترجمة حبيسة مكتبته، برغم محاولاته فى إخراجها لحيز الوجود ..

علم التفسير، ص: 165

و إذا كانت الحاجة- كما يقولون- أم الاختراع، فقد كانت حاجة المسلمين فى البلاد غير العربية، هى التى دفعت

العلماء للتفكير فيها، و القيام بها، كواجب دينى أساسى ..

على عكس الحال عندنا، فقد عشنا فى البلاد العربية، لا نحس هذه الحاجة، و لذلك حين ظهرت الدعوة إلى الترجمة قام علماء يعارضونها باسم الدين!! و ذلك من نحو أربعين سنة ..

و لا أستطيع الآن و لا قبل الآن، أن أصل إلى أعماق قلوب المعارضين و نياتهم. و كان منهم كبار العلماء، و لكن الذى طرحته وقتها- على صغر سنى- و لا ازال أطرحه .. هو غفلة هؤلاء- و لا أقول سوء نيتهم و رغبتهم فى معارضة الشيخ المراغى صاحب المشروع- غفلتهم- عن واجبنا فى الدعوة إلى الاسلام، و تعريف غيرنا ما جاء به القرآن كوثيقة إلهية يمكن أن نعتمد عليها، و يعتمدوا عليها كذلك فى فهم الإسلام.

كيف كانوا يتصورون الطريقة المثلى لإبلاغ دعوة الاسلام إلى غير المسلمين؟

قد يقال: بواسطة كتب تشرح هذه الدعوة.

لكن مما لا شك فيه أن تقديم ترجمة للقرآن- و هو الوثيقة الالهية- تعتبر أبلغ و أقوى وسيلة مباشرة للدعوة للاسلام، و بيان أهدافه و مراميه، عن طريق كلام الله لا عن طريق كلام من البشر ..

و لعل مما يثير العجب و الدهشة و الحيرة أكثر و أكثر أننا حتى الآن- و فى المقدمة الأزهر- لم نعن بطبع ترجمة نعتمدها، و نقدمها للناس شرقا و غربا ليعرفوا عن طريقها الاسلام.

و حين يأتى زوار لنا من مسلمين لا يعرفون العربية أو غير مسلمين، و يطلبون منا ترجمة للقرآن، لا نستطيع أن نلبى طلبهم، و نقف عاجزين، و الخجل يستولى علينا .. مع أننا ننفق الكثير و الكثير فى طبع كتب عربية، هناك فى المكتبة العربية ما يسد مسدها ..

علم التفسير، ص: 166

مشروعى فى الأوقاف

و

لذلك عند ما أسندت إلى وزارة الأوقاف فى فبراير سنة 1979، اتجهت عنايتى لسد هذا النقص، و ساعدنى على هذا الكثيرون من الوزراء و مديرى البنوك و الشركات، و استجابوا لما طلبته منهم من تبرع، حتى تجمع لدى نحو ربع مليون جنيه. لهذا المشروع ..

و فاتحت فيه الرئيس السادات عليه رحمة الله، و الرئيس الحالى- حين كان نائبا للرئيس- فشجعا المشروع، و سرت فيه، و جهزت الترجمة التى سنطبعها و هى الترجمة التى طبعتها السعودية و ليبيا- ترجمة عبد الله يوسف على- و بدأت فى عمل مناقصة لطبعها، بين الدور التى تستطيع القيام بالطباعة، و وضعت شروطها، و تمت أول جلسة، لكن لم يكتمل فيها حضور الذين تقدموا و أظهروا رغبتهم فى الاشتراك، فأجلناها لجلسة قادمة ..

و كنت أنوى طبع كميات كبيرة منه، تتيح لى بجوار توزيعه هوايا على نطاق واسع أن أضع فى كل حجرة من حجرات الفنادق الكبرى، التى ينزل فيها الأجانب، نسخة من الترجمة- و أظهرت وزارة السياحة الاستعداد فى الاشتراك فى 40 ألف نسخة للفنادق، و بعد اتمام طبع الترجمة الانجليزية، أشرع فى طبع الترجمة الفرنسية.

و لكن قبل أن يحين موعد الجلسة القادمة لدور الطبع خرجت من الوزارة فى 15 مايو 1980 و نام المشروع حتى الآن أواخر 1984 أوكاد، و أرجو أن يبعثه اللّه على يد من يخصه بالخير من عباده .. لتؤدى مصر جانبا مهما من رسالتها نحو الإسلام، و هى السباقة دائما فى هذا الميدان ..

و الله الموفق

و صلى الله و سلم على سيدنا صاحب الرسالة و على آله و أصحابه و من سار على هداه

علم التفسير، ص: 167

فهرس الكتاب

الموضوع/ الصفحة

بين يدى الكتاب 5

تمهيد الاسلام و العلوم

7

نهضة المسلمين العلمية 10

علم التفسير 19

هل ترك الرسول تفسيرا كاملا؟ 23

ابن عباس و ما روى عنه 26

الصحابة و فهمهم للقرآن 37

المنهج الفكرى وصلة بفهم القرآن 45

لا تسألوا عن أشياء 54

فى قلوبهم مرض 61

فى حدود ثقافة الصحابة 68

التفسير بعد عصر الرسول- عصر الصحابة 79

تفرق الصحابة فى البلاد 87

عرض التدوين 89

أصل هذا التقسيم 94

كتب التفسير 99

تفاسير الألف الثانى من الهجرة 103

تفسير روح المعانى للآلوسى 103

ملاحظات عامة 104

ترجمة جرير الطبرى و تفسيره 106

الإمام فخر الدين الرازى و تفسيره 123

النهضة الحديثة للتفسير على يد الشيخ عبده 130

دور السيد رشيد رضا 132

مقدمة الامام لتفسيره 134

فى الجزائر- ابن باديس 137

فى الهند أبو الكلام أزاد 138

علم التفسير، ص: 168

فيما بعد الإمام 140

طريقة تدريس التفسير 143

كتابتى للتفسير 144

تفسير الشيخ طنطاوى جوهرى أو التفسيرات العلمية 144

الفخر الرازى و طنطاوى 146

القرآن و العلم 148

القرآن محاولة فهم عصرى! 150

التوراة و الإنجيل و القرآن و العلم دراسة للدكتور بوكلى الفرنسى 154

علوم القرآن أو أصول التفسير 158

ترجمة القرآن 161

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.