سخني چند درباره كتاب عجائب المقدور في نوائب تيمور اثر ابن عربشاه

مشخصات كتاب

شماره كتابشناسي ملي : ايران۷۹-۳۰۸۲
سرشناسه : شايسته، فريدون
عنوان و نام پديدآور : سخني چند درباره كتاب عجائب المقدور في نوائب تيمور اثر ابن عربشاه/ شايسته، فريدون
منشا مقاله : ، كتاب ماه تاريخ و جغرافيا، ش ۲۸ ، (۳۰ بهمن ۱۳۷۸): ص ۲۵ - ۲۷.
توصيفگر : كتاب زندگي شگفت‌آور تيمور
توصيفگر : كتاب عجايب المقدور في اخبار تيمور
توصيفگر : ابن‌عربشاه، احمدبن‌محمد
توصيفگر : نجاتي، محمدعلي
توصيفگر : تيموريان‌

توطئة:

بسم الله الرحمن الرحيم ارتبطت بدايات قيام دولة المماليك في مصر بنجاحهم في التصدي للحملة الصليبية الأولي بعد وفاة الملك الصالح أيوب الأيوبي، و ثبت حكم المماليك و امتد إلي بلاد الشام مع النجاح في معركة عين جالوت، ثم استيلاء الظاهر بيبرس علي الحكم بعد قتله للمظفر قطز، و صحيح أن معركة عين جالوت منعت المغول من الوصول إلي مصر إنها حررت بلاد الشام منهم، و أدخل بيبرس استراتيجيات جديدة استهدفت في بلاد الشام التصدي للخطر المغولي، و تصفية الوجود الصليبي، و نجح بيبرس و من بعده قلاوون ثم الأشرف خليل بن قلاوون في هذا المجال كثيرا، فقد خاض بيبرس معارك ناجحة جدا ضد المغول، و استرد من الصليبيين- فيما استرده- صفد، و حصن الأكراد، و أنطاكية، و خاض قلاوون بنجاح باهر معركة حمص ضد المغول، ثم حرر مدينة طرابلس من الصليبيين، و بعد قلاوون حرر ابنه الأشرف خليل عكا و تولي تصفية الوجود الصليبي في بلاد الشام.
و في هذه الأثناء أسلم حكام الدولة الإيلخانية في تبريز، و مع ذلك لم يوقفوا حملاتهم ضد بلاد الشام متحالفين مع الكرج و الأرمن و قوي أخري، و صحيح- كما مر معنا- نجح المغول بقيادة غازان في إلحاق الهزيمة بالجيش المملوكي في معركة الخزندار، و دخل غازان إلي دمشق، و لكن بعد وقت قصير نزلت بالمغول ضربة قاصمة في معركة شقحب.
و بعد وقت ليس بطويل قام السلم بين الإيلخانيين و المماليك، فعرفت بلاد الشام من جديد حقبة من الأمن و الاستقرار و الازدهار، لكن النظام المملوكي أخذ يعاني من كثير من المشاكل منذ الأيام الأخيرة لحكم الناصر محمد بن قلاوون، و عاني هذا النظام بعد وفاة الناصر
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 4
محمد ابن قلاوون من كثير من الاضطرابات و انعدام الاستقرار، و استفادت من ذلك قوي أخري في المنطقة علي رأس هؤلاء المملكة اللاتينية في قبرص التي اجتاحت الاسكندرية- كما مر معنا- و حاول حكام قبرص احتلال بعض مدن الساحل الشامي لكنهم أخفقوا، و مع ذلك استمر حكم المماليك الأتراك بالضعف، و ظهرت الآن قوي المماليك الجراكسة، و كانت حقبة الانتقال من حكم المماليك الأتراك إلي حكم المماليك الجراكسة، أو الانتقال من دولة المماليك الأولي إلي دولة المماليك الثانية، حقبة فتن و اضطرابات و تدهور، و لذلك طمعت قوي خارجية بالاستيلاء علي بلاد الشام أو علي الأجزاء الشمالية منها، و خاصة قوي الدولة العثمانية الناشئة، لكن ظهور المغول من جديد بقيادة تيمور أجل ذلك و تسبب في إيجاد حقائق جديدة.
و ظهر ضعف دولة المماليك بشكل جلي في العجز عن التصدي لتيمورلنك، الذي وصل من بلاد ما وراء النهر علي رأس جحافل كبيرة جدا، و ألحق تيمور ببلاد الشام دمارا تعجز الأقلام عن وصفه و حصره، و لفتت ظاهرة تيمور انتباه الكتاب و المؤرخين، و مع أنني قدمت نخبة من أفضل ما كتب عن تيمورلنك، تبين لي أن عجائب المقدور لابن عرب شاه هو المصدر الأعلي قيمة بالعربية عن حياة تيمورلنك و أعماله، و عزمت منذ ما يزيد علي عقدين من الزمن علي نشر هذا الكتاب، لكن حال دون ذلك مشاغل جمة، و قررت منذ عام 1997، ادخال هذا الكتاب ضمن الموسوعة الشامية نظرا لقيامي بدراسة التحالفات الصليبية المغولية، و نشر أهم مصادر تاريخ المغول.
و لاقي كتاب ابن عربشاه العناية منذ زمن طويل، و نشر في أوربا، كما و نشر في مصر و دمشق، و اجتمع لدي نسخة عن طبعة أوربية للكتاب، و طبعتين له نشرتا في القاهرة، كما حصلت علي صورة نسخة مخطوطة عن الكتاب مكتوبة سنة 898 ه/ 1493 م، و محفوظة في المكتبة الظاهرية
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 5
في دمشق برقم 6893، و نسخة مخطوطة أكثر حداثة و أقل قدما، أوقفت علي مكتبة كنيسة الموارنة في حلب عام 1733 م.
و قد عرفت بوجود نسخ خطية كثيرة من هذا الكتاب، و كان الصديق الدكتور مظهر شهاب قد أهداني نسخة عن أطروحته لنيل الدكتوراه، التي تقدم بها عام 1981 إلي الجامعة اليسوعية في بيروت، و قد عدت إليها أثناء عملي في التحقيق و استفدت منها، و استفدت أيضا من مصادر أخري عديدة.
و ابن عرب شاه هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن أبي نصر محمد بن عرب شاه، ولد في دمشق سنة 791 ه/ 1389 م، و في دمشق كانت نشأته الأولي، فنال قسطا وافيا من معارف عصره، خاصة في ميدان اللغة و النحو، و غادر دمشق مع إخوته و أمه و بعض أقاربه سنة 803 ه، أي قبيل اجتياح تيمور لها و تدميرها و احراقها، و قصد سمرقند عاصمة تيمور، لذلك امتلك الفرصة لتعلم كل من اللغتين: الفارسية و المغولية، للالتقاء بعدد من علماء بلاد ما وراء النهر التي تجول فيها وزار حواضرها فعرفها عن قرب، مثلما عرف أخبار تيمور، لذلك عدّت مواد كتابه موادا و ثائقية، و ذلك علي الرغم من موقفه المعادي لتيمور- و هو محق بذلك- و اعتماده علي الصنعة في عرض الأخبار، و هي صنعة لم تؤثر مطلقا علي مواده، بل منحتها نغمة شاعرية ممتعة.
وزار ابن عرب شاه البلاط العثماني للسلطان محمد بن بايزيد، و أقام به نحو عقد من الزمن، حيث قام بأعمال الترجمة لبعض المؤلفات، كما تسلم ديوان الإنشاء لهذا السلطان، و يفيد هذا اتقانه للتركية، ثم عاد ابن عرب شاه إلي بلاد الشام، فأقام بحلب بعض الوقت و دخل دمشق سنة 825 ه/ 1422 م، ثم قصد مصر، و أقام في القاهرة و فيها مات سنة 854 ه/ 1450 م.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 6
و صنف ابن عربشاه و ترجم كتبا كثيرة، استفدت من واحد منها هو «فاكهة الخلفاء» حيث نقلت منه مادة عن جنكيز خان و قوانينه و كذلك بعض أخبار تيمور، و ألحقت هذه المادة بكتاب «تزوكات تيموري» أي «مذكرات تيمور».
و لا شك أن معلوماتنا سوف تزداد بنشر عجائب المقدور محققا بشكل علمي دقيق، و ذلك بالاضافة إلي المواد الأخري التي حوت أخبار تيمور بالعربية، و معها رحلة السفير الاسباني كلافيجو، التي ستأتي في المجلد المقبل إن شاء الله تعالي.
لله الحمد و له الثناء و الشكر، و منه جل و علا أستمد العون دائما، و السداد و التوفيق لا سيما أن مشروع الموسوعة بات من النهاية قاب قوسين أو أدني، و بدأت بإعداد خطط جديدة علي رأسها كتابه تاريخ العرب و الاسلام، و الصلاة و السلام علي النبي المصطفي و علي آله و صحبه و من أخذ بهداه إلي يوم الدين.
دمشق 9 صفر 1426 ه/ 19 آذار 2005 م سهيل زكار
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 7

مقدمه مولف‌

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و هو حسبي و نعم الوكيل الحمد لله الذي علي منوال إرادته و تدبيره تنسج مقاطع الأمور، و من ينبوع قضائه إلي الحج قدره يجري تيار الإعصار و الدهور، أذاق بعض بني آدم بأس بعض ليبلوهم أيهم أحسن عملا و هو العزيز الغفور، و أرسل عليهم في القرن الثامن من الهجرة بحار فتن أقبلت كقطع من الليل المظلم لم يدر أحد ما هي فإذا هي تمور.
أحمده حمد من كان علي شفا جرف من نارها فانقذه منها، و أشكره
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 8
شكر من ورطه فيها عدله فأنجبته أيادي فضله عنها «1» و أشهد أن لا إله إلا هو الحكم العدل، الذي يقتص للمظلوم من الظالم يوم الفصل و أشهد أن سيدنا محمدا عبده و رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين، و جعله رسول الله و خاتم النبيين، فأخبر صلي الله عليه و سلم عن السر المصون، و نبأ بما كان في الأزل و بما يكون إلي يوم يبعثون، و استعاذ من غلبة الدين و قهر الرجال، و من فتنة المحيا و الممات، و من فتنة المسيح الدجال صلي الله عليه صلاة تذكي المسك الأذفر في صدور الكتب و التواريخ، و تدني لقائلها في يوم الجزاء ثمرات الحسنات من أعلي الشماريخ، و علي آله و صحبه الذين أفاضوا سيول الفتح في الأقاليم فغمروها، و شيدوا أركان الإسلام، و أناروا الأرض بالايمان و عمروها بالعدل و الاحسان أكثر مما عمروها، و سلم تسليما غزيرا، دائما أبدا كثيرا.
أما بعد: فلما كان في التواريخ عبرة لمن اعتبر، و تنبيه لمن افتكر، و إعلام أن قاطن الدنيا علي سفر، و إحضار لصورة حال من مضي و غبر، كيف قدر و اقتدر، و نهي و أمر، و بني و عمر، و ختل و ختر، و غلب و قهر، و كسر و جبر، و جمع و ادخر، و تكبر و فخر، و كيف عبس و بسر، و ضحك و استبشر، و تقلب في أطواره من الطفولية إلي الكبر، إلي أن قلبته أيدي العبر، و اختطفته و هو آمن مما يكون مخاليب القضاء و القدر، فخالط ما صفا من عيشه الكدر، و تنغص حتي ذهب عنه ما حلا و مر، إن في ذلك لعبرة لمن اعتبر، و تذكرة لمن ادكر، و تبصرة لمن استبصر.
و كان من أعجب القضايا بل من أعظم البلايا، الفتنة التي يحار فيها اللبيب، و يدهش في دجي حندس الفطن الأريب، و يسفه فيها الحليم، و يذل فيها العزيز، و يهان الكريم، قصة تيمور رأس الفساق، الأعرج
______________________________
(1)- في هذا اشارة إلي ما نال ابن عرب شاه من أذي و خطر عند اغارة تيمور علي دمشق عام 803 ه/ 1401، و فراره مع أسرته منها، حيث ذهب إلي سمرقند. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي- ط. دار مكتبة الحياة بيروت- ج 2
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 9
الدجال الذي أقام الفتنة شرقا و غربا علي ساق، أقبلت الدنيا الدنية عليه فتولي و سعي في الأرض فأفسد فيها، و أهلك الحرث و النسل، و تيمم حين غمته النجاسة الحكيمة صعيد الأرض فغسل بسيف الطغيان كل أغر محجل فتحققت نجاسته بهذا الغسل، أردت أنا أذكر منها ما رأيته، و أقص في ذلك ما رويته، إذ كانت إحدي الكبر، و أم العبر، و الداهية التي لا يرضي القضاء في وصفها بذا القدر، و الله أسأل إلهام الصدق، و سلوك طريق الحق، إنه ولي الإجابة و مسدد سهم المرام إلي غرض الإصابة، و هو حسبي و نعم الوكيل.

فصل في ذكر نسبه و تدريج استيلائه علي الممالك و سببه‌

اسمه تيمور- بتاء مثناة مكسورة فوق، و ياء ساكنة مثناة تحت، و واو ساكنة بين ميم مضمومة وراء مهملة، هذه طريقة املائه-، و في التصريف زنة بنائه، لكن كرة الالفاظ الأعجمية، إذا تداولها صولجان اللغة العربية، خرطها في الدوران علي بناء أوزانها و دحرجها كيف شاء في ميدان لسانها، فقالوا في هذا تارة تمور، و أخري تمرلنك، و لم يجر عليهم في ذلك حرج و لا ضنك، و هو بالتركي الحديد ابن ترغاي بن أبغاي، و مسقط رأس ذلك الغدار، قرية تسمي خواجه ايلغار، و هي من أعمال الكش، فأبعدها الله من حش، و الكش مدينة من مدن ما وراء النهر، عن سمرقند بنحو من ثلاثة عشر شهر.
قيل رؤي ليلة ولد، كأن شيئا شبيه الخوذة تراآي طائرا في عنان الجو، ثم سقط إلي فضاء الدو، ثم انبث علي الأرض و انتشر، و تطاير منه مثل الجمر و الشرر، و تراكم حتي ملأ البدو و الحضر، و قيل لما سقط إلي الأرض ذلك السقيط، كانت كفاه مملوئتين من الدم العبيط، فسألوا عن أحواله الزواجر و القافية، و تفحصوا عن تأويل ذلك من الكهنة و أهل القيافة، فقال بعضهم يكون شرطيا، و قال بعضهم ينشأ لصا حراميا، و قال قوم بل قصابا سفاكا، و قال آخرون بل يصير جلادا بتاكا،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 10
و تظافرت هذه الأقوال، إلي أن آل أمره، و كان هو و أبوه من الغدادين «1»، و من طائفة أوباش لا عقل لهم و لا دين.
و قيل كان من الحشم الرجاله، و الأوباش البطاله، و كان ما وراء النهر مأواهم، و تلك الضواحي مشتاهم، و قيل كان أبوه اسكافا فقيرا جدا، و كان هو شابا حديدا جلدا، و لكنه لما كان به من القلة يتحرم، و بسبب تلك الاضرام يتضرر و يتضرم، ففي بعض الليالي سرق غنمه و احتملها، فضربه الراعي في كتفه بسهم فأبطلها، و ثني عليه بأخري في فخذه فأخطلها «2»، فازداد كسرا علي فقره، و لؤما علي شره، و رغبة في الفساد، و حنقا علي العباد و البلاد، و طلب له في ذلك الأضراب و النظراء، و عشي عن ذكر الرحمن، فقيض له من الشياطين القرناء، مثل «عباس» و «جهانشاه»، و «قاري» و «سليمان شاه» و «ايدكو تيمور» و «جاكو» و «سيف الدين»، نحو أربعين لا دنيا لهم و لا دين، و كان مع ضيق يده، و قلة عدده و عدده، و ضعف بدنه و حاله، و عدم ماله و رجاله يذكر لهم أنه طالب الملك، و مورد ملوك الدنيا موارد الهلك، و هم في ذلك يتناقلون عنه هذا النقل و ينسبونه إلي كثرة الحماقة و قلة العقل، و يدنونه منهم و يقبلون إليه، ليسخروا منه و يضحكوا عليه.
شعر:
إن المقادير إذا ساعدت‌ألحقت العاجز بالحازم فشرع فيما يقصده، و القضاء يرشده، و القدر ينشده:
لا يؤنسك من مجد تباعده‌فإن للمجد تدريجا و تدريبا
إن القناة التي شاهدت رفعتهاتنمو فتنبت أنبوبا فأنبوبا
______________________________
(1)- الغداد: الراعي، أو مالك من الابل ما بين مائة إلي مائتي رأس، أو صاحب الصوت المرتفع
(2)- هذا ما جعله أعرجا، حيث عرف باسم تيمور لنك، أي تيمور الأعرج.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 11
و كان في بلد «الكش» شيخ يسمي «شمس الدين الفاخوري» «1» و هو معتقد تلك البلاد، و عليه لكل قصد شيئا من أمر الدين و الدنيا و الاعتماد، فذكر أن تيمور و هو فقير عاجز، بين عز موهوم و ذل ناجز، لم يكن له سوي ثوب قطن، و أنه باعه و اشتري بثمنه رأس ماعز، و قصد به الشيخ المشار إليه، و عول فيما قصده عليه، و قد ربط بطرف حبل عنق ذلك العناق، و ربق عنق نفسه بالطرف الآخر من ذلك الوثاق، و جعل يتشحط علي عصي من جريد، حتي دخل علي ذلك الشيخ المفيد، فصادفه و هو و الفقراء مشغولين بالذكر، مستغرقين فيما هم فيه من الوجد و الفكر، فلازال قائما حتي أفاقوا من حالهم، و سكتوا عن مقالهم، فلما وقع نظر الشيخ عليه، سارع إلي تقبيل يديه، و أكب علي رجليه، فتفكر الشيخ ساعة، ثم رفع رأسه إلي الجماعة، و قال:
كان هذا الرجل بذل عرضه و عروضه، و استمدنا في طلب ما لا يساوي عند الله تعالي جناح بعوضة، فنري أن نمده، و لا نحرمه و لا نرده، فأمدوه بالدعاء إسعافا لما طلبه، فأشبهت قضيته قضية ثعلبة، و رجع من عند الشيخ و خرج، و عرج بعد ما عرج إلي ما مرج، و قيل إنه كان في بعض تحرماته، فضلّ الطريق صوره، كما ضلها معني و سيره، و كاد يهلك عطشا و جوعا، و سار علي ذلك أسبوعا، فوقع في أثناء ذلك علي خيل السلطان، فتلقاه الجشاري باللطف و الإحسان، و كان تيمور ممن يعرف خصائص الخيل بسماتها، و يفرق بين هجانها و هجينها بمجرد النظر إلي هيآتها، فاطلع الجشاري علي ذلك منه، و أخذ علم ذلك عنه، و زاد فيه رغبة، و طلب منه دوام الصحبة، و جهزه إلي السلطان مع أفراس له طلبها منه، و أخبره بفضيلته و ما شاهد عنه، فأنعم السلطان عليه، و وصي به الجشاري ورده إليه.
______________________________
(1)- يعرف أيضا باسم شمس الدين كيلال، و لعل عمر تيمور عندما لقيه كان قرابة الثانية و العشرين، و عليه يكون اللقاء قد حدث ما بين 759 و 761 ه/ 1358- 1360 م، انظر
tha mongol Empire b y m. Prawdin; London 1991, pp 411- 416. عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 12
فلم يلبث الجشاري أن مات فتولي تيمور وظيفته، و لا زال يتردد عند السلطان حتي تزوج شقيقته «1»، ثم انه غاضبها في بعض مكافحته و مقاله، فعيرته بما كان عليه من أول أمره و حاله، فسل السيف و نحاها علي أنها تفر من بين يديه، فلم تكترث به و لم تلتفت إليه، فضربها ضربة أزهق بها نفسها، و اسكنها رمسها، ثم لم يسعه إلا الخروج و العصيان، و التمرد و الطغيان، إلي أن كان من أمره ما كان.
و كان السلطان اسمه «حسين» و هو من بيت الملك و نافذ الكلمتين، و تخت ملكه مدينة بلخ و هي من اقصي بلاد خراسان، و لكن كانت بحار أوامره جارية في ممالك ما وراء النهر إلي أطراف تركستان و قيل كان أبوه أمير مائة عند السلطان المذكور، و هو بالجلادة و الشهامة بين أحزابه مشهور، و يمكن الجمع بين هذه الأقاويل باعتبار اختلاف الزمان، و تنقل الأحوال و الحدثان، و الأصح أن أباه ترغاي المذكور كان أحد أركان دولة السلطان.
و رأيت في ذيل تاريخ فارسي يدعي المنتخب- و هو من بدو الدنيا إلي زمان تيمور و هو شي‌ء عجب- نسبا يتصل منه تيمور إلي جنكز خان، من جهة النساء حبائل الشيطان، و لما استولي تيمور علي ما وراء النهر، وفاق الأقران، تزوج بنات الملوك فزادوه في ألقابه «كوركان» و هو بلغة الموغول الختن، لكونه صاهر الملوك، و صار له في بيتهم حركة و سكن، و كان للسلطان المذكور من الوزراء أربعة، عليهم مدار المضرة و المنفعة، هم أعيان الممالك، و برأيهم يقتدي السالك، و الترك لهم قبائل و شعب، تكاد توازي قبائل العرب، و كل واحد من هؤلاء الوزراء كان من قبيلة، لسراج أرائه في بيوت تعميرها فتيلة طويلة، قبيلة أحدهم تسمي ارلات، و قبيلة الثاني تدعي «جلائر»، و قبيلة
______________________________
(1)- اسمها: أولجاي توركان آغا، و هي كما يذكر ابن عرب شاه أخت السلطان حسين، و لعل هذا الزواج كان سنة 757 ه/ 1356 م، و قد أنجبت هذه الزوجة لتيمور بنتا هي سلطان بخت.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 13
الثالث يقال لها «قاوجين»، و قبيلة الرابع اسمها «برلاس»، و كان تيمور ابن رابعهم في الناس، فنشأ شابا لبيبا، مصراعا هماما حازما جلدا أريبا، و كان يصاحب نظراءه من أولاد الوزراء، و يعاشر أضرابه من فتيان الأمراء، إلي أن قال لهم في بعض الليال، و قد اجتمعوا في مكان خال، و أخذت منهم العشرة و النشاط، و ارتفعت أستار الأسرار، و امتد للبسط بساط: ان جدتي فلانه- و كانت من ذوي القيافة و الكهانة- رأت مناما ما ذاقت منه أحلاما، و عبّرته بأنه يظهر لها من الأولاد و الأحفاد، من يدوخ البلاد و يملك العباد، و يكون صاحب القران، و تذل له ملوك الزمان، و ذلك هوأنا، و قد قرب الوقت و دنا، فعاهدوني أن تكونوا ظهرا و عضدا، و جناحا ويدا، و أن لا تستحيلوا عني أبدا، فأجابوه إلي ما دعاهم إليه، و تقاسموا أن يكونوا في السراء و الضراء معه لا عليه، و لم يزالوا يتجاذبون أطراف هذا الكلام، في كل مقام، و يتفاوضون فيض غدير هذا الغدر من غير احتشام و اكتتام، حتي أنس برقه قاطن كل مصر و شام، و خاض في حديثه كل قديم هجرة من خاص و عام، و شعر به السلطان، و علم أن غرس خلافه في دوح المملكة بان، فأراد أن يرد كيده في نحره، و يريح الدنيا من شره، و العباد و البلاد من عاره و عرّه، و يعمل بموجب ما قيل:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذي‌حتي يراق علي جوانبه الدم فأخبره بذلك بعض الناصحين فخرج، و هوي إلي حضيض العصيان و هو سالم فعرج، و يمكن أنه في بعض هذه الأوقات، و أثناء هذه الحالات، توجه إلي الشيخ شمس الدين المشار إليه، و استمده كما ذكر فيما عول عليه، فإنه كان يقول: جميع ما نلته من السلطنة، و فتحته من مستغلقات الأمكنة، إنما كان بدعوة الشيخ شمس الدين الفاخوري، و همة الشيخ زين الدين الخوافي، و ما لقيت من بركه، إلا بالسيد بركه، و سيأتي ذكر زين الدين و بركه، ثم قال تيمور ما فتحت أبواب السعادة
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 14
و الدولة علي، و لا ضحكت عروس فتوحات الدنيا إليّ، إلا من سهام سجستان و من حين أصابني ذلك النقصان، أنافي ازدياد إلي هذا الزمان.
و الظاهر أن بدوّ أمره و خروجه في تلك الفئة، كان فيما بين الستين و السبعين و السبعمائة، و قال لي شيخي الإمام العالم العامل، الكامل المكمل الفاضل، فريد الدهر وحيد العصر، علامة الوري، أستاذ الدنيا علاء الدين، شيخ المحققين و المدققين، قطب الزمان، مرشد الدوران، أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد البخاري «1» نزيل دمشق أدام الله تعالي أيام حياته، وامد الاسلام و المسلمين بميامن بركاته، في شهور سنة ست و ثلاثين و ثمانمائه، إن تيمور قتل السلطان حسينا المذكور في شعبان سنة إحدي و سبعين و سبعمائه، و من ذلك الوقت استقل بالملك، و كانت وفاته في شعبان سنة سبع و ثمانمائة علي ما سيأتي فمدة استيلائه مستقلا ست و ثلاثون سنة، و ذلك خارجا عن مدة خروجه و تحرمه إلي حين استيلائه.
و لما خرج صار هو و رفقاؤه يتحرمون في بلاد ما وراء النهر، و يعاملون الناس بالعدوان و القهر، فتحرك لدفعهم كل ظاعن و ساكن، و ضيقوا عليهم تلك المغاني و الأماكن، فقطعوا جيحون، و صفر منهم ذلك المكان، فاشتغلوا بالمحرم في بلاد خراسان، خصوصا في نواحي سجستان، و لا تسأل عما أفسد في فدافد خراسان، و مفاوز باورد، و ما خان فذهب بعض الليالي و قد أضر بهم السغب، و اشتعل فيهم من الجوع اللهب، فدخل حائطا من حوائط سجستان، قد أوي إليه بعض رعاء الضان، فاحتمل منها رأسا و أدبر، فشعر به الراعي و أبصر، فاتبعه للحين، و ضربه بسهمين، أصاب بأحدهما فخذه و بالآخر كتفه، فلله دره ساعدا أذ أبطل بهذا الضرب الموزون نصفه، ثم أدركه و احتمله، و إلي سلطان هراة المسمي بملك حسين «2» أوصله، فبعد ضربه، أمر
______________________________
(1)- هو أبو عبد الله محمد بن محمد البخاري (779- 841 ه/ 1377- 1438 م) قدم دمشق من ايران و سكن فيها و توفي: انظر شذرات الذهب لابن العماد ج 7 ص 241.
(2)- هذا الملك هو غير الأمير حسين المتقدم الذكر، فقد كان هذا من أسرة كرايت التي حكمت هراة، انظر ستانلي لين بول، الدول الاسلامية ص 533
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 15
بصلبه، و كان للسلطان ابن رأيه غير متين، يدعي ملك غياث، فشفع فيه، و استوهبه من أبيه، فقال له أبوه إنه لم يصدر عنك ما يدل علي صلاحك، و يسفر عن نجابتك و فلاحك، و هذا جغتائي حرامي مادّة الفساد، لئن أبقي ليهلكنّ العباد و البلاد، فقال ابنه و ما عسي أن يصدر من نصف آدمي، و قد أصيب بالدواهي و رمي، و لا شك أن أجله قد اقترب، فلا تكونن في موته السبب، فوهبه إيّاه، فوكل به من داواه، إلي أن اندمل جرحه، و بري‌ء قرحه، فكان في خدمة ابن سلطان هراة، من أعقل الخدم و أضبط الكفاة، فتوفرت عنده حرمته، و ارتفعت درجته، و سمعت كلمته، فعصي من نواب السلطان، نائبه المتولي علي سجستان، فاستدعي تيمور أن يتوجه إليه، فأجابه إلي ذلك و عول عليه، و أضاف إليه طائفة من الأعوان، فوصل إلي سجستان، و قبض علي نائبها المتمادي في العصيان و استخلص أموال تلك البلاد، و أخذ من أطاعه من الأجناد، و تلا آية العصيان بالجهر، و ارتحل بمن معه إلي ماوراء النهر.
و قيل بل كان في خدمة ابن السلطان إلي أن ودّع أبوه الحياة و انتقل، و استقرّ ولده في الملك و استقل، فعند ذلك هرب تيمور إلي ماوراء النهر، و قد قوي منه الرأس و الظهر، و كان إذ ذاك قد اجتمع عليه رفقاؤه، و انحاز إليه أصحابه المتحرمون و عشراؤه، فأرسل غياث الدين الطلب وراءهم، و قصد أن يكفي المسلمين شرهم و عناءهم، و هيهات فقد كان سبق العذل السيف، و ضيع اللبن في الصيف.

ذكر عبوره جيحون علي فترة، و ما جري من العبرات بهذه العبرة

فوصل تيمور و جماعته إلي جيحون، و كان إذ ذاك مثلهم طاغيا، و لم يمكنهم التواني لأن الطلب كان خلفهم ساعيا، فقال تيمور لأصحابه:
النجاء النجاء، ليتعلق كل منكم بعنان فرسه و معرفته، و ليلق نفسه في الماء، و تواعدوا إلي مكان، و قال: توجهوا من غير توان، فمن لم يأت
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 16
الموعد، يعلم أنه قد فقد، فتهافتوا هم و خيولهم في ذلك الماء العجاج، و التيار الزخار و الأمواج، تهافت الفراش علي السراج، و لم يعلم واحد منهم حال الآخر، و لا اطلع من تقدّم منهم علي أمر من تأخر، و كابدوا أهوال الموت، و شاهدوا أهوال الفوت، فنجوا و لم ينقص منهم أحد، و اجتمعوا إلي ذلك الموعد، و ذلك بعد أن أمنت منهم البلاد، و اطمأن في مسالكها كل رائح و غاد، جعلوا يتجسسون الأخبار، و يتتبعون الآثار، و يحاربون اللّه و رسوله، و يؤذون عباده و يقطعون سبيله، و لم يزل علي ذلك يجري و يمشي، إلي أن قصد مدينة قرشي «1».

ذكر ما له جري من الخبطة، في دخوله إلي قرشي و خلاصه من تلك الورطة

فقال يوما لأصحابه، و قد أضر به الدهر و اضري به، و أخصب منهم ربع الفساد و أعشب: إن بالقرب منا مدينة «نخشب» مدينة أبي تراب النخشبي، رحمه الله عليه مدينة مصونة، مسورة مكنونة، لئن ظفرنا بها لتكونن لنا ظهرا و ملاذا، و ملجأ و معاذا، و إن حاكمها موسي لو حصلناه، و أخذنا ماله و قتلناه، لتقوينا بماله من خيول وعده، و لحصل لنا الفرج بعد الشده، و أنا أعلم لها من ممر الماء دربا، هين الوصول واسعا رحبا، فشمروا ذيلهم، و تركوا في مكان خيلهم، و استعملوا في نيل مرادهم ليلهم، و دخلوا حبس المدينة، و قصدوا بيت الأمير، و رفعوا أيديهم، فصادفوا يدهم و الحصير، و كان الأمير في البستان خارج البلد، فأخذوا ما وجدوا له من أسلحة و عدد، و ركبوا خيله، و قتلوا من وجدوا من الأكابر غيلة، فاجتمع عليهم أهل البلد، و أرسلوا إلي الأمير فأدركهم بالمدد، فتراكم عليهم البلاء باطنا و ظاهرا، فلم يجدوا لهم سوي الاستسلام ناصرا، فقال له أصحابه، لقد ألقينا
______________________________
(1)- هذه هي التسمية المغولية لمدينة نسف، و قد ورد اسمها عند الجغرافيين العرب أحيانا نخشب، و قد مرّ بها ابن بطوطة سنة 733 ه/ 1333 م، و وصفها
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 17
بأنفسنا إلي حقيقة الهلاك من هذا المجاز، فقال: لا عليكم ففي مثل هذه المواطن يمتحن الرجل ويزان، فاجمعوا كيدكم ثم إئتوا صفا، و اندفعوا نحو باب المدينة يدا واحدة زحفا، حاطمين علي العدو، من غير توان و لا هدو، فإني أظن أنه لا يثبت لكم شي‌ء، و لا يقف أمامكم حي، فامتثلوا أمره و رفعوا الصوت، و قصدوا الباب خائضين غمار الموت، و هجموا علي العساكر هجوم الليث، و اندفقوا و لا اندفاق الغيث، ففتح لهم عند الباب، لأمر يريده مسبب الأسباب، فلم يلو أمامهم أحد علي أحد، و لا نفعه ما هو فيه من العدد و العدد، ثم انثنوا إلي مكانهم سالمين، و لم يزالوا علي ذلك عائثين غانمين، و اجتمع عليهم أصحابهم، و انحاز إليهم في الفساد أضرابهم، فصاروا نحو من ثلاثمائة، و بمن يتحيز إليهم من أهل الشرفئه، فأرسل إليهم السلطان عسكرا غير مكترث بهم فكسروه، و استولوا علي حصن من الحصون فجعلوه معقلا لكل ما إدخروه شعر:
لا تحقرن شأن العدو و كيده‌فلربما صرع الأسود الثعلب و قيل: إن البعوضة تدمي مقلة الأسد
و قيل: لربما قمرت بالبيدق الشاه‌

ذكر من أسر في فتنة ذلك الجاف و استعبده من أحرار ملوك الأطراف‌

و أرسل تيمور إلي ولاة بلخشان «1»، و كانت الولاية بها لأخوين و هما بها مستقلان، تلقيا ذلك عن أبيهما، و كان السلطان نزعها من أيديهما، ثم أقرهما فيها علي أن يكونا من تحت أمره و استرهن أولادهما عنده فصارا أسيري قهره، فلما راسلهما تيمور علي طاعته، أجابا و دخلا تحت كلمته.
______________________________
(1)- ذكرها الجغرافيون العرب، و هي منطقة واسعة مرتفعة في جنوب شرق بلاد ما وراء النهر، و هي التي تعرف حديثا باسم هضبة بامير
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 18

ذكر نهوض الموغول علي السلطان، و كيف تضعضعت منه الأركان‌

ثم إن الموغول نهضت من جهة المشرق علي السلطان حسين، فاستعد لهم و قطع جيحون و وقع الحرب بين الجهتين، فانكسر السلطان، فراسلهم أيضا ذلك الجان، و اسم حاكمهم «قمر الدين خان»، فأجابوا مراده، و اقتفوا ما أراده، و سلطوه علي السلطان ليستخلص من يده بلاده، و واعدوه بمصاهرتهم، و أمدوه بمظاهرتهم، و رجعوا إلي بلادهم و قد أسلموه زمام قيادتهم، فقويت بذلك شوكته، و سكنت القلوب هيبته، فلم يسع السلطان إلّا بذل الجهد و الإمكان، في إطفاء نائرته، و قطع دابرته، فجعله نصب عينيه، و توجه بنفسه إليه، بعسكر جرار، كالبحر الزخار، حتي انتهي إلي مكان يسمي قاغلغار، و هو صدفان، بينهما مضيق، هو الجادة العظمي و الطريق، يسير المار في ذلك مقدار ساعة، و في وسط الدرب باب إذا أغلق و أحمي، فلا شي‌ء مثله في المناعة، و حواليه جبال، كل منها عرنينه قد شمخ، و قدمه قد غاص ثبوتا و رسخ، فصح أن يقال فيه أنف في السماء، واست في الماء، فأخذ العسكر فم ذلك الدربند، من جهة سمرقند، و تيمور الجانب الآخر، و هو كالمضايق و المحاصر.

ذكر الحيلة التي صنعها، و الخديعة التي ابتدعها

فقال تيمور لأصحابه: إني أعرف ههنا جادة خفيه، مسالكها أبيه، لا تطأها الخطا، و لا يهتدي إليها القطا، فهلم نسري ليلنا، و نقود في المسري خيلنا، فنصبحهم من ورائهم و هم آمنون، فإن أدركناهم ليلا فنحن الفائزون، فأجابوه إلي ذلك، و شرعوا في قطع تلك الوعور و المسالك، و ساروا ليلهم أجمع، و بلغ الفجر المطلع، فأدركهم الصباح و لم يدركوا الجيش، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت و تنكد لهم العيش، و لم يمكنهم الرجوع، و أذنت الشمس بالطلوع، فوصلوا إلي العسكر و قد أخذ في التحميل و عزم علي الرحيل، فقال أصحابه: بئس الرأي فعلنا، في قبضة العدو حصلنا، لقد وقعنا في الأشراك، و ألقينا بأيدينا أنفسنا إلي
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 19
الهلاك، فقال تيمور: لا ضرر، توجهوا نحو العسكر، و انزلوا بمرأي منهم عن خيلكم، و اتركوها ترعي، و أقضوا من ورد النوم و الراحة ما فاتكم في ليلكم، فتراموا عن خيلهم كأنهم صرعي، و تركوا خيولهم ترعي ... شعر:
و اذا السعادة لا حظتك عيونهانم فالمخاوف كلهن أمان
و اصطد بها العنقاء فهي حبائل‌و اقتد بها الجوزاء فهي عنان فجعل العسكر يمر بهم، و يخال أنهم من أحزابهم، حتي إذا استراحوا، ركبوا خيولهم و صاحوا، و وضعوا السيوف في أكناف أعدائهم، راكبين أكتافهم من ورائهم، فقتلوهم قتلا ذريعا، و غادروهم جريحا و صريعا، و عم الخطب المدلهم، و لم يعلم أحد البلاء كيف دهم، و اتصل الخبر بالسلطان، و قد خرج التلافي عن حيز الإمكان، فهرب إلي بلخ، و قد انسلخ من المملكة أي سلخ، و شرع تيمور في النهب، و الغارات و السلب، ثم ضبط الأثقال، و جمع الأموال، و لمّ رعاع الناس و المداره «1»، و أطاعوه و هم ما بين راض و كاره، و استولي علي ممالك ما وراء النهر، و تسلط علي العباد بالغلبة و القهر، و أخذ في ترتيب الجنود و العساكر، و استخلاص الحصون و الدساكر، و كان نائب سمر قند و أحد الأركان، شخصا يدعي «علي شير» من جهة السلطان، فكاتبه تيمور علي أن تكون الممالك بينهما نصفين، و يكون معه علي السلطان حسين، فرضي علي شير بذلك و قاسمه الولايات و الممالك، و توجه إليه، و تمثل بين يديه، فزاد في إكرامه و بالغ في احترامه.

ذكر توجهه إلي «بلخشان»، و استنصاره فيها علي السلطان‌

ثم إنه ترك علي شير بعد ما ركن إليه، و قصد بلخشان، فاستقبله ملكاها و تمثلا بين يديه، و اتحفاه بالهدايا و الخدم، و أمداه بالجيوش و الحشم، فسارو هما معه من بلخشان، قاصدين بلخ لمحاصرة السلطان،
______________________________
(1)- أي السادة و الزعماء.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 20
فتحصن منهم فأحاطوه به من كل مكان، فأخرج أولادهما الذين كانوا عنده في الرهان، فضرب أعناقهم بمرأي من أبويهم، و لم يرق لهم و لا منّ عليهم، ثم أنه ضعف حاله، و قل عنه خيله و رجاله فنزل مستسلما للقضاء و القدر، راضيا بما ذهب في قضاء الله بما حلا و مر، فقبض عليه تيمور، و ضبط الأموال ثم رد أميري بلخشان إليهما مكرمين، و توجه إلي سمرقند و معه السلطان حسين، و ذلك في شعبان سنة إحدي و سبعين، بعدما خلا من الهجرة سبعمائة سنين، و وصل إلي سمرقند و اتخذها دار ملكه، و شرع في تمهيد قواعد الملك و نظمها في نظام سياسته و سلكه، ثم انه قتل السلطان، و أقام من جهته شخصا يدعي «سيورغاتمش» من ذرية جنكيز خان، و قبيلة جنكيز خان هم المتفردون باسم الخان و السلطان، لأنهم هم قريش الترك، لا يقدر أحد أن يتقدم عليهم، و لا تمكن أحد من انتزاع ذلك الشرف من أيديهم، و لو قدر أحد علي ذلك، لكان تيمور الذي استخلص الممالك و سلك المسالك، فرفع سيور غاتمش دفعا للمطاعن، و قطعا للسان سنان كل طاعن، و إنما لقب تيمور «الأمير الكبير»، و إن كان في أمره كل مأمور منهم و أمير، و الخان في أسره كالحمار في الطين، و شبيه الخلفاء بالنسبة في هذا الزمان إلي السلاطين، و استمر بعلي شير نائبا في سمرقند و كان يكرمه، و يستشيره في أموره و يقدمه.

ذكر وثوب «توقتاميش خان» سلطان الدشت «1» و تركستان‌

ثم إن توقتاميش خان سلطان الدشت و التتار، رأي ما جري بين تيمور و السلطان فار دم قلبه، و غار، و ذلك لعلة النسب و بسبب الجوار، و هيأ العسكر الجرار، و الجيش الزخار، و توجه إلي مصاف تيمور من جهة سغناق، و أترار، «2» فخرج إليه تيمور من سمرقند، و تلاقيا باطراف
______________________________
(1)- الدشت بالفارسية هي الصحراء، و مع ذلك قصد بهذه التسمية بلاد القبجاق.
(2)- سغناق من مدن ما وراء النهر علي نهر سيحون تدعي الآن صوناق قورغان، و أترار أيضا من مدن ما وراء النهر علي نهر سيحون، و هي إلي الجنوب الشرقي من سغناق.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 21
تركستان قريبا من نهر خجند «1» و هو نهر سيحون، و سمرقند بين نهري سيحون و جيحون، فقامت بين العسكرين سوق المحاربة، و لم ينفق بينهم فيها سوي معاملات المضاربة، و لا زالت رحي الحرب تدور، إلي أن انطحن عسكر تيمور، فبينا عسكره قد فل، و عقد جنوده انحل، و إذا برجل يقال له السيد بركه قد أقبل، فقال له تيمور، و هو في غاية الضرر:
يا سيدي السيد جيشي انكسر، فقال له السيد لا تخف، ثم نزل السيد عن فرسه و وقف، و أخذ كفا من الحصا، و ركب فرسه الشهبا، و نفخها في وجه عدوهم المردي، و صاح بقوله ياغي قاجدي «2»، و صرخ بها تيمور تابعا ذلك الشيخ النجدي، و كان عباسي الصوت «3»، فكأنه دعا الإبل الظمأي بمجوت جوت «4»، فعطفت عساكره عطفة البقر علي أولادها، و أخذت في المجالدة مع أضدادها و أندادها، و لم يبق في عسكره من جذع، و لا قارح، إلا و هو بقوله «ياغي قاجدي» صائح، ثم إنهم كروا كرة واحدة، بهمة متعاقدة، و نهمة متعاضدة، فرجع جيش قوقتاميش منهزمين، و ولوا علي أعقابهم مدبرين، فوضع عسكر تيمور فيهم السيوف، و سقوهم بهذا الفتوح كاسات الحتوف، و غنموا الأموال و المواشي، و أسروا أوساط الرؤوس و الحواشي.
ثم رجع تيمور إلي سمرقند، و قد ضبط أمور تركستان و بلاد نهر خجند، و عظم لديه السيد بركة، و حكمه في جميع ما استولي عليه و ملكه، و هذا السيد اختلف القول فيه، فمن قائل إنه كان مغربيا بمصر حجاما، فذهب إلي سمرقند، و تسيدبها و علا قدره و تسامي، و من قائل إنه كان من أهل المدينة الشريفة، و منهم من يقول إنه من أهل مكة المنيفة،
______________________________
(1)- خجند واقعة علي بعد خمسين كم جنوبي الضفة اليسري لنهر سيحون، و ذلك في سهل فرغانة، و إلي الجنوب الشرقي من طشقند (انظر فهارس كتاب تركستان حتي الغزو المغولي لبارثولد).
(2)- أي انمحق و باد.
(3)- شهر العباس عم الرسول صلي الله عليه و سلم بقوة صوته
(4)- نداء بالفارسية لتجميع الجمال.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 22
و علي كل حال فإنه كان من أكبر الأعيان في بلاد ما وراء النهر و خراسان، لا سيما و قد أمدّ تيمور بهذه النجدة، و خلصه بهذه اللطيفة المصادفة للقضاء و القدر في هذه الشدة، فقال تيمور تمنّ علي، و احتكم لدي، فقال له: يا مولانا الأمير، إن أوقاف الحرمين الشريفين في الأقاليم كثير، و من جملة ذلك اندخوي «1» من ممالك خراسان، و أنا و أولادي من جملة مستحقي ذلك الإحسان، و إذا أقيم أصل ذلك و خصمه، و علم قضمه و خضمه «2» و ضبطت أوقافه، و مصارف ذلك و صرافه، ما كانت حصتي و حصة أولادي، أقل من هذه القصبة في هذا الوادي، فأقطعني إياها، مع مضافاتها و أعمالها و قراها، و هي إلي الآن في يد بني أولاده، و أسباطه و أحفاده.

ذكر علي شير مع تيمور، و ما وقع بينهما من المخالفة و الشرور

ثم إن تيمور وقع بينه و بين علي شير مخالفه، و إنحاز إلي كل منهما طائفة، فاغتاله تيمور و ختله، ثم قبض عليه و قتله، فصفت الولايات و الممالك لتيمور بعض الصفا، و هرول إلي طاعته من الناس، كل وجه و رأس كانا في التأبي وقفا.

ذكر ماجري لزعار سمرقند و الشطار، مع تيمور و كيف أحلهم دار البوار

و كان في سمرقند طائفة من الزعار كثيرون، و هم أنواع فمنهم مصارعون و منافقون، و ملاكمون و معالجون، و هم فيما بينهم فرقتان، كالقيس و اليمن، و العداوة و المقاتلة بينهم قائمة علي ممر الزمن، و لكل طائفة منهم رؤوس، و ظهور و أعضاء و ضروس، و كان تيمور مع أبهته يخافهم، لما كان يظهر له عنادهم و خلافهم، فكان إذا قصد جانبا، أقام له في سمرقند نائبا، فإذا بعد عن المدينة، خرج من تلك الجماعة طائفة،
______________________________
(1)- اندخوي: مدينة في شمالي خراسان، علي بعد/ 70 كم- من الضفة اليسري لنهر جيحون (تركستان)
(2)- أي ما انكسر و قطع.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 23
فخلعوا النائب، أو خرجوا مع النائب، و أظهروا المخالفة، فما يرجع تيمور إلا و قد انفرط سلك نظامه، و تخبطت أموره، و تشوش مقامه، فيحتاج إلي تجديد و تمهيد، و تخريب و تشييد، فيقتل و يعزل، و يعطي و يجزل، ثم يتوجه لتمهيد ممالكه، و توطيد مسالكه، فيعودون إلي عكرهم، و يؤوبون إلي ختلهم و مكرهم، و تكررت هذه القضية نحوا من تسع مرار، فضاق تيمور ذرعا بالأشرار و الزعار، فأعمل الحيلة في اغتيالهم، و كف أذاهم و استئصالهم، فصنع سورا، و دعا إليه الخلائق كبيرا و صغيرا، و صنف الناس أصنافا، و جعل كل ذي عمل إلي عامله مضافا، و ميز أولئك الزعار مع رؤسائهم علي حده، و فعل معهم ما فعله أنوشروان بن كيقباذ بالملاحدة، و أرصد له في أحد الأطراف أنصارا، و قرر معهم أن كل من أرسله إليهم يولونه دمارا، و يكون إرساله إليهم علي قتله شعارا، ثم إنه جعل يدعو رؤوس الناس، و يسقهم بيده الكأس و يخلع عليهم أفخر اللباس، و إذا أفضت النوبة من أولئك الزعار إلي أحد، سقاه كأسه، و خلع عليه، و أشار أن يتوجه به إلي نحو الرصد، فإذا وصل إليهم خلعوا عنه خلعته بل وثوب الحياة، فهتكوه، و سكبوا عسجد قالبه في بوتقة الفناء فسبّكوه، إلي أن أتي علي آخرهم، و استوفي بذلك قطع دابرهم، و محا آثارهم، و أظفارهم، فصفت له المشارع، و خلا ملكه من مجاذب و منازع، و لم يبق فيما وراء النهر ممانع و لا مدافع.

فصل في تفصيل ممالك سمرقند، و ما بين نهري بلخشان و خجند

فمن ذلك سمرقند و ولاياتها و هي سبعة تومانات، و إندكان «1» و جهاتها و هي تسعة تومانات، و التومان عبارة عما يخرج عشرة آلاف مقاتل، و فيما وراء النهر من المدن المشهورة، و الأماكن المعتبرة المذكورة، سمرقند و سورها قديما علي ما زعموا إثنا عشر فرسخا و كان ذلك علي
______________________________
(1)- هي من مدن سهل فرغانة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 24
عهد السلطان جلال الدين قبل جنكيز خان، و رأيت حدّ سورها من جهة الغرب قصبة بناها تيمور و سماها دمشق و مسافتها عن سمرقند نحو من نصف يوم، و الناس إلي الآن يحفرون سمرقند العتيقة و يخرجون دراهم و فلوسا سكتها بالخط الكوفي، فيسكبون الفلوس و يخرجون منها فضة، و من مدن ما وراء النهر «مرغينان» «1» و هي التخت كانت قديما، و بها كان ايلك خان، و منها خرج الشيخ الجليل العلامة برهان الدين المرغيناني صاحب الهداية «2» رحمه الله، و خنجد و هي علي ساحل سيحون، و ترمذ و هي علي ساحل جيحون، و «نخشب» و «قرشي» المذكورة، و الكش و بخاري و اندكان، و هي أماكن مشهورة، و غير ذلك من الولايات، بلخشان و ممالك خوارزم و أقليم صغانيان إلي غير ذلك من الأطراف الواسعة، و الأكناف الشاسعة، و في عرفهم ما وراء النهر إلي جهة الشرق توران، و ما كان في هذا الطرف إلي جهة الغرب إيران، و لما اقتسم «كيكاوس» و أفراسياب البلاد كانت توران لأفراسياب، و إيران لكيكاوس بن كيقباذ، و عراق هو مغرب إيران.

ذكر ابتداء ما فعله من التسلط بالقهرة بعد استقصائه ممالك ما وراء النهر

و لما صفت ممالك ما وراء النهر، و ذلت لأوامره جوامح الدهر، شرع في استخلاص البلاد، و استرقاق العباد، و جعل ينسج بأنامل الحيل الأشراك و الأوهاق، ليصطاد بذلك ملوك الأقاليم و سلاطين الآفاق، فأول ما صاهر الموغول و صافاهم، و هادنهم و هاداهم، و تزوج ببنت قمر الدين ملكهم، و صار آمنا من تبعتهم و دركهم، و هم جيرانه من جهة الشرق، و لا تباين بينه و بينهم و لا فرق، إذ العلة، و هي الجنسية و المصاهرة و المجاورة، حاصلة، و الملة و هي التوراة الجنكز خانية ممشاة في كلا الدولتين، فأمن شرهم، و كفي كيدهم و ضرهم.
______________________________
(1)- هذه أيضا من مدن سهل فرغانة، و اسمها اليوم مرجيلان.
(2)- كتابه بالفقه اسمه الهداية في الفروع.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 25

ذكر تصميمه العزم و قصده جمع الأطراف و أولا ممالك خوارزم‌

فحين أمن مكرهم، و سد بالمصالحة ثغرهم، صمم العزم علي التوجه إلي ممالك خوارزم، و هم مجاوروه غربا بالشام، و مباينوه بتمشيه قواعد الإسلام، و تختهم مدينة جرجان، و هي من أعظم البلدان، و هذه المملكة ذات مدن عظيمة، و ولايات جسيمة، تختها مجمع الفضلاء، و محط رحال العلماء، و مقر الظرفاء و الشعراء، و مورد الأدباء و الكبراء، و معدن جبال الاعتزال، و ينبوع بحار أهل التحقيق من أرباب الهدي و الضلال، نعمها كثيرة، و خيراتها غزيرة، و وجوه فضائلها مستنيرة، و اسم سلطانها «حسين الصوفي»، و هو من الاعتقادات الباطلة قد عوفي، و مدن ما وراء النهر وضع بعضها قريب من بعض، لأنها كلها مبنية باللبن و الآجر علي الأرض، و أهل خوارزم كأهل سمر قند في اللطافة، و أفضل من أهل سمرقند في الحشمة و الظرافة، يتعانون المشاعرة و الأدب، و لهم في فنون الفضل و المحاسن أشياء عجب، خصوصا في معرفة الموسيقي و الأنغام، و يشترك في ذلك منهم الخاص و العام، و مما هو مشهور عنهم، أن الطفل في المهد منهم، إذا بكي أو قال آه، فإن ذلك يكون في شعبة دوكاه «1»، فلما وصل تيمور إلي خوارزم، كان حسين صوفي غائبا عنها، فنهب حواليها و ما وصلت يده إليه منها، و لم يقدر عليها، فلم يكترث بها و لا التفت إليها، ثم لم أطراف حاشيته، و عاد إلي مملكته.

ذكر عوده ثانيا إلي خوارزم‌

ثم إنه شدّ حزام الحزم، و كرّ ثانيا إلي خوارزم، باستعداد تام، و جيش طام، و كان سلطانها أيضا غائبا، و أقام لجميلة بكرها خاطبا، فحاصرها، و صابرها، و شدد علي أعناق مسالكها التلابيب، و كاد أن يتشبث بأذيالها
______________________________
(1)- مرتبة من مراتب الصوت في الغناء. معجم الموسيقي العربية، تأليف د. حسين علي محفوظ- ط بغداد 1964- ص 77.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 26
منه المخاليب، فخرج إليه رجل من أعيانها، و كان تاجرا و له قدم صدق عند سلطانها، يقال له حسن سوريج، و التمس أن يرفع عنهم ذلك الأمر المريج، و أن يبذل له ما طلب، في مقابلة ما يريد من أسير و سلب، فطلب منه حمل مائتي بغل فضة، ترفع إلي خزائنه نضه، فلم يزل يراجعه، و يلاطفه و يمانعه، حتي صالحه علي ربع سؤاله، و قام المصالح بذلك من ماله، و صلب حاله، و وزن له ذلك في الحال، و أخذ تيمور في الترحال، و كف عن الأذي شياطين جنده، و عزم علي التوجه إلي سمرقند.

ذكر مراسلته ملك غياث الدين سلطان هراه الذي خلصه من الصلب و راود فيه أباه‌

ثم إنه أرسل سلطان هراه ملك غياث الدين الذي كان مغيثه، عملا بقوله: كتب الله علي كل نفس خبيثة، و طلب منه الدخول في ربقة الطاعة، و حمل الخدم و التقادم إليه بحسب الاستطاعة، و إلا قصد دياره، و بلغه دماره، فأرسل ملك غياث الدين يقول صحبة الرسول:
أما كنت خادما لي و أحسنت إليك، و أسبلت ذيل إحساني و نعمتي عليك، فختلت و قتلت، و فتكت و فللت، و فعلت فعلتك التي فعلت، و ذلك بعد أن نجيتك من الضرب و الصلب، فإن لم تكن إنسانا تعرف الإحسان، فكن كالكلب، فعبر جيحون و توجه إليه، فلم يكن لغياث الدين قوة الوقوف بين يديه، فأرسل إلي حشمه و سكان قراه، فاجتمعوا هم و مواشيهم حول هراه، و حفر خندقا حول البساتين، محيطا بالرعاع و ضعفة المساكين، و حصر نفسه في القلعة، و حسب أن يكون له بذلك منعة، و ذلك لركاكة رأيه أولا و آخرا، و جمود قريحته، و قلة عقله و انعكاس فكره و دولته.
قلت شعرا:
من لم يصادف سعده تقديره‌يخطفه في تدبيره تدميره
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 27
فلم يكترث تيمور بقتال و حصار، و لكن أحاطت به العساكر دائرا ما دار، و مكث تيمور في الأمن و الدعة، و عدوه في الضيق بعد السعة، فاضطربت الرؤوس و الحواشي، و مارت «1» الأنعام و المواشي، و غص البلد بالزحام، و هلكت الخواص و العوام، و أضناهم التعب، و علاهم الصراخ و الصخب، فأرسل إليه السلطان، يطلب منه الأمان، و علم أنه اختنق بسببه، و أنه أعانه أولا فبلي به، فذكره سابقة العرفان، و ما أسداه إليه من إحسان، و طلب منه تأكيد الأمان بالأيمان، فحلف له تيمور أنه يحفظ له الذمام القديم، و أن لا يراق له دم و لا يمزق له أديم، فخرج إليه و دخل عليه، و تمثل بين يديه، فدخل تيمور إلي المدينة «2»، و صعد إلي قلعتها الحصينة، و صحبته السلطان، و قد أحاطت به جنود هراة و الأعوان، فأشار واحد من أصح أبطال صاحب هراة علي السلطان، أن يقتل تيمور، و يجعل نفسه فداه، و قال ما معناه: أنا أفدي المسلمين بنفسي و مالي، و أقتل هذا الأعرج و لا أبالي، فلم يجبه إلي إشارته، و استسلم لقضاء الله تعالي و إرادته، و قال: إن لله تعالي تصريفا في عباده، و لا بد أن ينفذ فيهم سهم مراده، و لا مفر من القضا، و لا محيد عما قدر الله تعالي و قضي. شعر:
و إذا أتاك من الأمور مقدّرو فررت فنحوه تتوجه و هذا سر لابد من ظهوره، فلا تبحث عن حقيقة أموره، فمن غالب القضاء غلب، و من ناهب الزمان سلب، و من قاوي تيار المقدور غرق، و من استلذ بالغفلة في مشارب اللهو شرق، و ذكر في ذلك الوقت مقالة أبيه له، و اطلع علي حقيقته، و لكن السهم خرج فما أمكن رده إلي فوقته.
______________________________
(1)- مارت: ثارت و تحركت.
(2)- كان احتلال تيمور لهراة في المحرم 783 ه/ نيسان 1381 م.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 28

ذكر اجتماع ذلك الجافي، بالشيخ زين الدين أبي بكر الخوافي‌

و كان في بعض قدماته خراسان، سمع أن في قصبة خواف، رجلا قد منحه الله تعالي الألطاف، عالما عاملا، كبيرا فاضلا، ذا كرامات ظاهرة، و ولايات باهرة، و كلمات زاهره، و مقامات ظاهره، و مكاشفات صادقة، و معاملات مع الله تعالي بالصدق ناطقة، يدعي الشيخ زين الدين أبا بكر، لطائر اجتهاده في حظيرة القدس أعلي و كر، فقصد تيمور رؤيته، و توجه إليه و جماعته، فقالوا للشيخ: إن تيمور قادم عليك، و واصل إليك، يقصد رؤيتك، و يرجو بركتك، فلم يفه الشيخ بلفظه، و لا رفع لذلك لحظه، فوصل تيمور إليه، و نزل عن فرسه و دخل عليه، و الشيخ مشغول بحاله علي عادته، جالس في فكره علي سجادته، فلما انتهي إليه، قام الشيخ فاحدودب تيمور منكبا علي رجليه، فوضع الشيخ علي ظهره يديه، و قال تيمور: لو لا أن الشيخ رفع يديه عن ظهري بسرعة، لخلته انقض، و لقد تصورت أن السماء وقعت علي الأرض، و أنا بينهما رضضت أشد رض، ثم إنه جلس بين يدي ذلك المنتخب، علي ركبتي الأدب، و قال له بالملاطفة في المحاورة، علي سبيل الاستفهام لا المناظره: يا سيدي الشيخ لم لا تأمرون ملوككم بالعدل و الإنصاف، و أن لا يميلوا إلي الجور و الاعتساف؟ فقال له الشيخ: أمرناهم و تقدمنا بذلك إليهم، فلم يأتمروا فسلطناك عليهم، فخرج من فوره من عند الشيخ و قد قامت منه الحدبة، و قال: ملكت الدنيا و رب الكعبة، و هذا الشيخ هو الموعود بذكره.
ثم ان تيمور قبض علي ملك هراة، و احتاط علي ما ملكت يداه، و ضبط ولاياتها جانبا جانبا، و قرر لكل جانب نائبا، و توجه إلي سمرقند قافلا بما أمكنه، و حبس السلطان في المئذنة، و أوصد عليه بابها، و وكل بحفظه أصحابها، و أضاف إليهم أشد الحفاظ، الزبانية الشداد الغلاظ، و ذلك لحلفه أن لا يريق دمه، و أن يحفظ له ذممه، فلم يرق له دما، و لكنه قتله في الحبس جوعا و ظمأ.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 29

ذكر عوده إلي خراسان، و تخريبه ولايات سجستان‌

ثم عاد إلي خراسان «1»، و قد عزم علي الانتقام من سجستان، فخرج إليه أهلها طالبين الصلح و الصلاح، فأجابهم إلي ذلك علي أن يمدوه بالسلاح، فأخرجوا إليه ما عندهم من عدة، و رجوا بذلك الفرج من تلك الشدة، فحلفهم و كتب عليهم قسامات بالغة، أن مدينتهم غدت من السلاح فارغة، فلما تحقق ذلك منهم وضع السيف فيهم، فأضاف بهم جنود المنايا عن بكرة أبيهم، ثم خرب المدينة فلم يبق بها شجر و لا مدر، و محاها فلم يبق فيها عين و لا أثر، و رحل عنها و ليس بها داع و لا مجيب، و ما فعل ذلك بهم إلا لأنه أولا منهم أصيب، و ذكر لي الشيخ الفقيه زين الدين عبد اللطيف بن محمد أبي الفتح الكرماني الحنفي، نزيل دمشق بالمدرسة الجقمقية، في سنة ثلاث و ثلاثين و ثمانمائة، أن الذين تخلصوا من القتل من أهل سجستان، بهزيمة أو غيبة أو بنوع لطيفة من الله تعالي المنان، لما تراجعوا إليها، بعد رجوع تيمور عنها، أرادوا أن يجمعوا بها، فأضلوا يوم الجمعة و ما اهتدوا إليه، حتي أرسلوا إلي كرمان من دلهم عليه.

ذكر قصد ذلك الغدار ممالك سبزوار، و انقيادها إليه، و قدوم و اليها عليه‌

ثم لما أثار بسجستان ما أثار، قصد بعساكره مدينة سبزوار «2»، و كان و اليها يدعي حسن الجوري، مستقلا بالإمارة و هو رافضي، فما أمكنه إلا الإطاعة، و استقباله من الهدايا و الخدم بما استطاعه، فأقره علي ولايته، و زاد في رعايته.
فصل: و كان من عادة تيمور و مكره أنه كان في أول أمره، إذا نزل
______________________________
(1)- هذا هو قدومه الثالث في عام 785 ه/ 1383 م، و كان دافعه المباشر الرغبة في الانتقام من حاكم مازندران المدعو شاه ولي.
(2)- من مدن خراسان غير بعيدة عن نيسابور- تقويم البلدان لأبي الفداء ص 442.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 30
بأحد مستضيفا استنسبه، و حفظ اسمه و نسبه، و قال له إذا بلغك أني استوليت، و علي الممالك استقليت، فإئتني بعلامة كذا، فإني أكافيك إذا، فلما انتشر ذكره، و شاع أمره، و فشا في الدنيا خبره و خبره، هرعت الناس بالعلائم إليه، و وفدت من كل فج عميق عليه، و كان ينزل كل أحد منزلته، و يحله مرتبته.

ذكر ما جري لذلك الداعر في سبزوار مع الشريف محمد رأس طائفة الزعار

و كان في مدينة سبزوار، رجل شريف من الشطار يدعي السيد محمد السربدال، معه جماعة من الرجال كلهم زعار، يسمون السربدالية يعني الشطار، و كان هذا السيد رجلا مشهورا، بالمآثر و الفضائل مذكورا، فقال تيمور: عليّ به، فإني ما جئت إلا بسببه، و قد كنت متشوقا إليه، و متشوقا لعلم ما لديه، فدعوه له فدخل عليه فقام إليه و اعتنقه، و قابله ببشرة منطلقة، و أكرمه و أدناه، و قال في جملة فحواه: يا سيدي السيد قل لي كيف أستخلص ممالك خراسان و أحويها، و أني أحوزها أدانيها و أقاصيها، و ماذا أفعل حتي يتم لي هذا الأمر، و أرتقي هذا المسلك الصعب الوعر؟ فقال له السيد: يا مولانا الأمير، أنا رجل فقير و قير، من آل الرسول، من أين أنا و هذا الفضول، و إني و إن قيل لي شريف، رجل عاجز ضعيف، لا طاقة لي بموارد الملك، و من أنا حتي أتشاوف لمصالح الملك، و من داخل الملوك أو خارجهم، أو عارضهم في أمورهم أو مازجهم، كان كالعائم في مجمع البحرين، و كالجاثم في منتطح الكبشين، و الخارج عن لغته لحّان، و شتان ما بين المأمون و الطحان، فقال له: لابد أن تدلني علي هذه الطريقة، و تخبرني عن المجاز إلي هذه الحقيقة، و لو لا أنني تفرست فيك ذلك، و تكهنت أن برأيك تقتدي المسالك، و لو لا أنك أهل لهذه المعرفة، ما فهت لك ببنت شفه، و لا استغنيت عنك استغناء التفه عن الرفه، فإن فراساتي
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 31
أياسية «1»، و قضاياي كلها قياسية، فقال ذلك المشير: أيها الأمير، أو تسمع في هذا مقالتي، و تتبع إشارتي؟ فقال له: ما استشرتك إلا لأتبعك، و لا جاريتك إلا لأمشي معك، فقال: إن أردت أن يصفو لك المشرب، و تنال الممالك من غير أن تتعب، فعليك بخواجه علي ابن المؤيد الطوسي «2» قطب فلك هذه الممالك، و مركز دائرة هذه المسالك، فإن أقبل عليك بظاهره لم يكن بباطنه إلا معك، و إن ولي عنك بوجهه فلن يفيدك غيره و لن ينفعك، فكن علي استجلاب خاطره و حضوره إليك أبلغ جاهد، فإنه رجل صلب و ظاهره و باطنه واحد، و إن طاعة الناس منوطة بطاعته، و أفعال الكل مربوطة بإشارته، فما فعل فعلوا، فإن حط حطوا و إن رحل رحلوا.
و كان هذا الرجل- أعني خواجه علي المذكور- رجلا شيعيا، مواليا عليا، يضرب السكة باسم الاثني عشر إماما، و يخطب بأسمائهم و كان شهما هماما، ثم قال السيد: يا أمير ادع خواجه علي، فإن لبي دعوتك، و حضر حضرتك، فلا تترك من أنواع الاحترام و التوقير، و الإكرام و التكبير، شيئا إلا أوصله إياه، فإنه يحفظ ذلك لك و يرعاه، و أنزله منزلة الملوك العظام، في التعظيم و التوقير و الاحترام، و لا تدع معه شيئا مما يليق بحشمتك، فإن ذلك كله عائد إلي حرمتك و عظمتك.
ثم خرج السيد من عند تيمور، و جهز قاصده إلي الخواجه علي المذكور، يقول له إنه قد مهد له الأمور، فإن جاءه قاصده فلا يتوقف عن الطاعه، و لا يقعد عن التوجه إليه و لا ساعه، و يكون منشرح البال، آمنا سطواته في الحال و المال، فاستعد خواجه علي لقدوم الوارد، و ورود القاصد، و هيأ الخدمات، و التقادم و الحمولات، و ضرب باسمه و اسم متولاه الدرهم و الدينار، و خطب باسمهما في
______________________________
(1)- نسبة إلي إياس بن معاوية، و كان عظيم الدهاء، سريع البديهة.
(2)- طوس هي مدينة مشهد الآن في إيران.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 32
جوامع الأمصار، و قعد لأمره منجزا، و أقام للطلب مستوفزا، و إذا بقاصد تيمور جاءه منه بكتاب، فيه من ألطف كلام و ألين خطاب، يستدعيه مع انشراح الصدر، و توفير التوقير و تكثير البر، فنهض من ساعته، ملبيا بلسان طاعته، و لم يلبث غير مسافة الطريق، و قدم بأمل فسيح و عهد وثيق.
فلما أخبر بوفوده، جهز لاستقباله أساورة جنوده، و سر سرورا شديدا، و كأنه استأنف ملكا جديدا، فلما وصل قدم هدايا فاخره، و تحفا متكاثره، و طرائف ملوكية، و ذخائر كسروية، فعظمه تعظيما بالغا، و أولاه إنعاما سائغا، و أسبل علي قامة رجائه من خلع إعزازه و إكرامه ذيلا سابغا، و استمر به علي ولايته، و زاد في بره و كرامته، فلم يبق في خراسان أمير مدينة، و لا نائب قلعة مكينة، و لا من يشار إليه إلا و قصد تيمور و أقبل عليه، فمن أكابرهم أمير محمد حاكم باورد، و أمير عبد الله حاكم سرخس، و انتشرت هيبته في الآفاق، و بلغت سطوته مازندران، و كيلان، و بلاد الري و العراق، و امتلأت منه القلوب و الأسماع، و خافه القريب و البعيد، و علي الخصوص شاه شجاع «1»، و كل هذا في مدة قصيرة، و أيام قلائل يسيرة، نحوا من سنتين، بعد قتله السلطان حسين.

ذكر مراسلة ذلك الشجاع، سلطان عراق العجم أبا الفوارس شاه شجاع‌

و لما صفت له بلاد خراسان، و أذعن لطاعته كل قاص و دان، راسل شاه شجاع سلطان شيراز و عراق العجم، يطلب منه الطاعة و الانقياد و إرسال الأموال و الخدم، و من جملة كتابه، و فحوي خطابه: إن الله تعالي سلطني عليكم، و علي ظلمة الحكام، و الجائرين من ملوك الأنام،
______________________________
(1)- شاه شجاع أحد أمراء الأسرة المظفرية التي حكمت في شيراز. انظر معجم الأسرات الحاكمة لزمباور ج 2 ص 526.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 33
و رفعني علي من ناوأني، و نصرني علي من خالفني و عاداني، و قد رأيت و سمعت، فإن أجبت و أطعت فبها و نعمت، و إلا فاعلم أن في قدومي ثلاثة أشياء: الخراب، و القحط و الوباء، و إثم كل ذلك عائد عليك، و منسوب إليك، فلم يسع شاه شجاع إلا مهادنته و مهاداته، و مصاهرته و مصافاته، و زوج ابنته بابن تيمور، و لم يتم ذلك السرور لحدوث الشرور، فانقبضت تلك المباسطة بواسطة افساد الواسطة، و تثريب الخطابة، و تخريب الماشطة، قلت بديها مضمنا، شعرا:
إذا انتخبت لأمر عز واسطةفاحذر دهاه و كن منه علي و جل
و اعلم بأن طباع الإنس قد جبلت‌من الجفاء و من مكر و من دخل
فلا تثق منهم يوما بواسطةو أشرع بنفسك فيه غير متكل
فإنما رجل الدنيا و واحدهامن لا يعول في الدنيا علي رجل و مدّ عنان الكلام، في هذا المقام، يخرجنا عن المرام، و لكن تمت رياض المحبة زاهرة، و أرباض المودة عامرة، و قفول المراسلة و المصادقة بين الطرفين سائرة، و استمروا علي ذلك من غير نزاع، إلي أن توفي شاه شجاع «1»، و كان شاه شجاع هذا رجل عالما فاضلا، يقرر الكشاف تقريرا شافيا كاملا، و له شعر رائق، و أدب فائق، فمن شعره العربي علي ما قيل، شعر:
ألا إن عهدي في الغرام يطول‌و أسباب صبري لا تزال تزول
أصون هواها كلما ذر شارق‌و لكن بما بي قديم نحول
و من لم يذق صرف الصبابة في الصباعلمت يقينا أنه لجهول و من شعره الفارسي:
______________________________
(1)- توفي في 21 شعبان 786 ه/ 8 ايلول 1384.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 34 اي بكام عاشقان حسنت جميل‌كي كزينم ديكري برتو بديل
كر زيادت غافلم عيشم حرام‌ور ز جورت دم زنم خونم سبيل
هركسي تدبير كاري ميكندما رها كرديم با نعم الوكيل و هو شاه شجاع بن محمد بن مظفر، و كان أبوه من أفراد الناس و من أهل البر، يسكن ضواحي يزد، و أبرقوه «1»، ذا بأس شديد يخافه القريب و البعيد و يرجوه.
و كان قد نبغ بين يزد و شيزار، حرامي عربي من آل خفاجة، سدّ علي سالكي الطريقة حقيقة المجاز، يدعي جمال لوك، أفقر الغني، و أباد الصعلوك، لا يبالي بالرجال قلت أو كثرت، و لا يكترث بكواكب النبال اذا الكواكب علي رأسه انتثرت، فأباد طائفة من البلاد، و أهلك الحرث و النسل، و الله لا يحب الفساد، فكمن له أبو شجاع، في بعض وهد أو بقاع، ثم قابله مواجهه، و كافحه مشافهه، و نازله فصرعه، و قطع رأسه و انتزعه، فقصد برأسه السلطان، فقدمه علي سائر الأعوان، و أقطعه أماكن عده، و قربه و جعله عدّه لكل شي‌ء، و كان له عدة أولاد، و أقارب و أحفاد، كل منهم رئيس مطاع، فمن أولاده شاه مظفر، و شاه محمود، و شاه شجاع، فصار كل منهم ذا كلمة نافذه، و يد مطيعه آخذه، و لم يكن للسلطان ولد ينقر وراءه في أمور الملك أو ينقب، فلما أقبل عليه رائد المنية أجابه، و ولي مدبرا و لم يعقب، و كان إذ ذاك قد ثبتت أوتاد محمد بن مظفر، فتقدم في السلطنة و من سواه تأخر، فصار في ممالك عراق العجم الملك المطاع، و استقل من غير تشاق و نزاع و تصرف في الممالك كيف يشاء، و ردّاه «2» الله خلعة قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ «3» و مات في حياته ولده شاه مظفر المشهور، و خلفه ولده
______________________________
(1)- يزد: مدينة معروفة الآن في إيران، و ابرقوه مثلها أيضا، تبعد عن شيراز نحو عشرين فرسخا، إلي الشمال الشرقي منها.
(2)- أي ألبسيه.
(3)- سورة آل عمران الآية: 26.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 35
منصور، ثم جري بين شاه شجاع و بين أبيه، من النزاع و الشرور ما لا خير فيه، و قبض علي أبيه و قهره، و فجعه بكريمتيه و أعدمه بصره، و تمكن من السلطنة و استقر، و كان به مرض جوع البقر، بحيث أنه كان لا يقدر علي الصوم لا في السفر و لا في الحضر، و كان كثيرا ما يدعو الله الغفور، أن لا يجمع بينه و بين تيمور، فلما أدركه الأجل، و طوي فراش الموت منه بساط الأمل، أحضر ماله من الأقارب و الأولاد، و قسم عليهم الممالك و البلاد، فولي ابنه لصلبه زين العابدين، شيراز، و هي كرسي الملك، و مقصد الوافدين، و أقطع أخاه السلطان أحمد ولايات كرمان، و أعطي ابن أخيه شاه يحيي يزد، و ابن أخيه شاه منصور أصفهان، و أسند وصيته بذلك إلي تيمور، و خلد ذلك في رق منشور، و أشهد علي ذلك من حضر مجمعه، فكان كمن سلم الريح لأبي زوبعة.
و لما أدمج الموت ثوب عمر شاه شجاع، انتشرت بين أقاربه شقق الشقاق و النزاع، فقصد منصور زين العابدين و قبض عليه، و استولي علي شيزار و فجعه بكريميته، و خالف عمه و نقض حبل عهده، و فعل مع أبيه ما فعله أبوه بجده، و حبل هذه القضية ممدود، و الاشتغال بنقضه و ابرامه يخرج عن المقصود، فانمعص تيمور و امتعض، و تجرع الغصص و ارتهض، و لكن إرتقب في ذلك انتهاز الفرص.

ذكر توجه تيمور ثالثة، إلي خوارزم بالعساكر العابثة العائثه‌

ثم إن تيمور جدد الحزم، و صمم العزم علي التوجه إلي خوارزم، فتوجه إلي تلك البلاد، من خراسان علي طريق أستراباد، و كان سلطانها أيضا غائبا، فأراد أن يولي عليهم من جهته نائبا، فخرج إليه حسن المذكور و صالحه، و اشتري منه الشرور و المقابحة، و قال له: يا مولانا الأمير: كلنا عندك أسير، و لكن سلطاننا غائب، و اذا أقيم علينا من جهتك نائب، ثم رجع إلينا السلطان، فلا بد أن يقع بينهما شنآن، و إذا كان الأمر كذا، فلربما يصل إلي منه أذي، فيكون ذلك سبب تأكيد العداوه، و يزداد بينكما الجفا
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 36
و القساوه، فيفيض حنقك علي المسلمين، و يقع فساد وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ «1» و هب أن حسين صوفي صار نائبك، فكل الخلق يجب عليه أن يراعي خدمتك و جانبك، و رأيك أعلي، و اتباع مرسومك أولي، فسمع تيمور كلامه، و قبل قوله و قوض للرحيل خيامه، و كان لحسن المذكور ابن غير فالح، له عمل صالح، فكأنه فتك بحظية من حظايا السلطان، و ذاع ذلك في المكان، و فاح ذفره في أنف الزمان، فلم يتقيد بذلك الفعل القبيح حسن، و قال: إن لي علي السلطان مننا و أي منن، حيث حميت بلده من كل ظلوم كفار، و بذلت في ذلك مالي و وجاهتي ثلاث مرات، فلا بد أن يقابل هذه المصالحة، بالعفو و عن جريمة ولدي و المسامحة.
فلما آب السلطان من سفره، و اطلع علي حقيقة الأمر و خبره، قبض علي حسن و ولده و قتلهما، و ألقاهما بين يدي أسد قهره فأكلهما، و خرب ديارهما، و نقل إلي خزائنه شعارهما و دثارهما، ثم لم يلبث حسين صوفي أن توفي، و ولي ولده يوسف صوفي، و كان تيمور قبل ذلك قد صاهرهم، و ناصرهم علي مخالفيهم و ظاهرهم، و زوج ابنا له يدعي جهان كير، عقيلة منهم ذات قدر كبير، و أصل خطير، و وجه مستنير، أحسن من شيرين، و أظرف من ولادة، و لكونها من بنات الملوك كانت تدعي خانزاده، فولدت له محمد سلطان، و كان في نجابته، و إقباله ساطع البرهان، فلما شاهد تيمور في شمائله مخائل السعاده، و قد فاق في النجابة أولاده و أحفاده، أقبل دون الكلل عليه، و عهد مع وجود أعمامه إليه، لكن عاند الدهر ذلك الظلوم، فتوفي قبله في آق شهر من بلاد الروم، و سيأتي ذكر ذلك.

ذكر توجه ذلك الباقعه، إلي خوارزم مرة رابعه‌

فلما سمع تيمور، ما جري علي حسن من الشرور، تحنق و شدد الازم، و وجه ركاب الغضب إلي خوارزم، فأخذها و قتل سلطانها، و هدم
______________________________
(1)- سورة المائدة- الآية: 64.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 37
أركانها، و خرب بنيانها، و ولي علي ما بقي منها نائبا من عنده، و نقل جميع ما أمكنه عنها، الي ممالك سمرقند، و تاريخ خراب خوارزم عذاب، كما ان تاريخ خراب دمشق خراب.

ذكر ما كان ذلك الجان، راسل به شاه ولي أمير ممالك مازندران‌

ثم إنه لما كان توجه إلي خراسان، راسل شاه ولي أمير ممالك مازندران، و كاتب الأمراء المستقلين بذلك المكان، فمنهم إسكندر الجلابي، و أرشيوند، و إبراهيم القمي، و استدعاهم إلي حضرته، كما هو جاري عادته، فأجابه بالضرورة إبراهيم و أرشيوند و اسكندر، و تأبي عليه شاه ولي ذلك الغضنفر، فلم يلتفت إلي خطابه، و خشن له في جوابه.

ذكر مراسلة شاه ولي سلاطين العراق و ما وقع في ذلك من الشقاق و عدم الاتفاق‌

ثم أرسل شاه ولي إلي شاه شجاع سلطان عراق العجم و كرمان، و إلي السلطان أحمد بن الشيخ أويس متولي عراق العرب و أذربيجان، يخبرهما بورود خطابه، و صدور خطابه، ثم قال: أنا ثغركما، و إن انتظم أمري انتظم أمركما، و إن نزل بي منه بائقه، فإنها بممالككما لا حقه، فإن ساعدتماني بمدد، كفيتكما هذا النكد، و إلا فتصيران كما قيل شعرا:
من حلقت لحية جار له‌فليسكب الماء علي لحيته فأما شاه شجاع فإطرح قوله و رماه، و هادن تيمور كما ذكر و هاداه، و أما السلطان أحمد فأجاب بجواب مهمل، و قال: هذا الأشل الأعرج الجغتائي ما عساه أن يفعل، و من أين و من أين، للأعرج الجغتائي أن يطأ العراقين، و إن بينه و بين هذه البلاد، لخرط القتاد و لكم بين مكان و مكان، فلا يخل العراق كخراسان، و لئن عقدت علي التوجه إلي ديارنا نيته، لتحلن به منيته، و لترحلن عنه أمنيته، فإنّا قوم لنا البأس و الشدة،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 38
و العدة و العده، و الدولة و النجده، و لنا يصلح التشامخ و التأبي، حتي كأنه قال فينا المتنبي:
نحن قوم ملجنّ في زي ناس‌فوق طير لها شخوص الجمال «1» فلما علم ذلك منهم شاه ولي، و أيقن أن كلا منهما عن شجوه خلي، قال: أما أنا فو الله لأواقفنه، بعزم صادق و نفس مطمئنة، فلئن ظفرت به لأنددن بكما في الأمصار، و لأجعلنكما عبرة لأولي الأبصار، و إن ظفر بي فلا علي ما يصل إليكما، فلينزلن القضاء الطام و البلاء العام عليكما، ثم استعد للقائه، و استسلم لقدر الله تعالي و قضائه.
و لما ترا أي الجمعان، و اتصلت المراشقة بالضرب و الطعان، ثبت شاه ولي ساعة لما نابه من شره و هره، ثم ولي الدبر لما حطمه ما رأي من كره و فره، و تبع السنة في الفرار مما لا يطاق، و توجه إلي الري إذ أمكنه التوجه إلي العراق، و كان بها أمير مستقل يدعي محمد جوكار، متصرفا بحكومته في تلك القري و الأمصار، و كان كريما شجاعا و ملكا مطاعا، و مع ذلك فإنه داري تيمور، و راعي منه بعض الأمور، و خاف سطوته و بأسه، فقتل شاه ولي و أرسل إلي تيمور رأسه.

ذكر ما جري لأبي بكر الشاسباني من الوقائع مع ذلك الجاني‌

و كان في بعض ولايات مازندران، رجل يسمي أبا بكر من قرية تدعي شاسبان، و كان في الحروب، كالأسد الغضوب، و كان قد أباد و أبار، الجم الغفير من عساكر التتار، إذا انتمي في المجال، لا تثبت له الرجال، و إذا وضع العمامة، أقام فيهم القيامة، و لا زال يكمن بين الروابي و الجبال، و يجندل الجنود و الأبطال، حتي صارت تضرب به الأمثال، و ترعد منه الفرائص و لو في طيف الخيال، فكان القائل منهم يقول لمركوبه إذا علق عليه أو سقاه، فتأخر عن الماء أو جفل من
______________________________
(1)- ديوان المتنبي ص 183 من ط. بيروت 1969.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 39
المخلاة: كأن أبا بكر الشاسباني في الماء أو بين العليق تراه، و قيل لم يتضرر عسكر تيمور في مدة استيلائه، مع كثرة حروبه و مصافاته و إبلائه، إلا من ثلاثة أنفار، أضروا به و بعساكره غاية الإضرار، و أوردوا كثيرا منهم موارد النار، أحدهم أبو بكر الشاسباني، و ثانيهم سيدي علي الكردي، و ثالثهم أمة التركماني، فأما أبو بكر هذا فذكروا أنه في بعض مضائق مازندران، تغلب عليه الجغتائي من كل مكان، و سدوا عليه وجه المخلص، و شدوا حبل المقنص، فألجأه إلي جرف مقابله جرف، مقدار ثمانية أذرع ما بين الجرف إلي الجرف، كأن قعره جب النقير، أو واد في قعر السعير، فنزل أبو بكر عن جواده المضمر، و طفر و طمر «1» من أحد الجرفين إلي الآخر، بما عليه من السلاح و المغفر، و لم ينل منه ضرا، أو نجا كما نجا تأبط شرا، ثم اتصل بحاشيته و أبادهم، و نقل إلي طاحون الفناء منهم من استكمل دياسهم و حصادهم، ثم ما أدري أمره إلي ماذا آل، و كيف تقلبت به الأحوال.
و أما سيدي علي الكردي فإنه كان أميرا في بلاد الكرد، معه طائفة من الخيل الجرد، و الرجال غير المرد، في جبال عاصية، و أماكن وعرة متقاصية، فكان يخرج هو و جماعته، و من شملته طاعته، و يترك علي فم المضائق، من هو به واثق، ثم يشن علي عساكر تيمور الغارات، و يدرك فيهم للمسلمين الثارات، و يقتطع من حواشيهم، و ما يمكنه من مواشيهم، ثم يرجع إلي أوكاره، بما قضي من أوطاره، و لم يزل علي ذلك الثبات في حياة تيمور، و بعد أن مات، إلي أن أدركته الوفاة ففات.
و أما أمة التركماني، فإنه كان من تراكمة قراباغ «2»، و له ابنان قد وضع كل منهما علي قلب تيمور أيداغ «3»، و كانت الحروب و النزال،
______________________________
(1)- أي وثب
(2)- قراباغ بالفارسية البستان الأسود، و هو موقع وسط أران بين نهري الرس (أراكس حاليا) و الكر (كورا الحالي). لاسترنج: بلدان الخلافة الشرقية- ترجمة عربية، ط. بغداد 1954- ص 213.
(3)- داغ بالفارسية: وصم أو حزن، أو مصيبة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 40
بينهم و بين أميرانشاه «1»، و عساكرا لجغتاي لا تزال، و أفنوا من جماعتهم عددا لا يحصي، و جانبا فات الاستقصاء، إلي أن غدر واحد من المنتسبين إليهم، فطلب غرتهم، و دل عسكر أمير انشاه عليهم، فبيتوهم ليلا، و أراقوا من دمهم سيلا، فاستشهد الثلاثة في سبيل الله، رحمهم الله، قلت شعرا:
و أصعب فتنة تشميت الاعداو أنكي منه تخذيل الموالي و قيل شعرا:
و ظلم ذوي القربي أشدّ مضاضةعلي المرء من وقع الحسام المهند و قيل شعرا:
إذا كان هذا بالأقارب فعلكم‌فماذا الذي أبقيتم للأباعد

ذكر توجه تيمور إلي عراق العجم و خوض شاه منصور غمار ذلك البحر الخضم‌

و لما توفي شاه شجاع، و وقع بين أهله كما مر نزاع، و استقر أمر عراق العجم علي شاه منصور، و خلصت ممالك مازندران و ولايتها لتيمور، و كان شاه شجاع قد أوصي إلي تيمور بولده زين العابدين- كما ذكر- و وكل أمره إليه.
و وجد تيمور علي شاه منصور طريقا بما فعله مع ابن عمه زين العابدين، فاحتج بذلك و مشي عليه، فاستمد شاه منصور أقاربه، فكلهم صار محاربه، و عاد مجاذبه و مجانبه، و أقام كل منهم يحفظ جانبه، فتهيأ لملاقاته وحده، بنحو ألفي فارس كاملي العدة، بعد أن حصن المدينة، و حوطها بالأهبة المكينة، و رتب خيلها و رجلها، و حرض علي
______________________________
(1)- أميرانشاه هو ابن تيمور، و تكتبه المصادر الفارسية ميرانشاه، و هو ثالث أبناء تيمور.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 41
التصبر و التربص أهلها، فقال له أكابر أعيانها، و الرؤوس من سكانها، كأنا بك في المقتحم، و سدا الحرب قد التحم، و قد منعناه من الوصول إلينا، و دافعناه عن الهجوم علينا، و ربما جندلنا رجالا، و أبطلنا من عسكره أبطالا، ثم بماذا تصنع أنت بألفي راكب، مع هذا الغمام المتراكم المتراكب، و ربما يحل عقدك، أو يفل جندك، فلا تري لنفسك في الهيجاء، إلا طلب الخلاص و النجاة، و تتركنا لحما علي و ضم، بعد أن زلت بنا معهم القدم، و لا ينفعنا بعد تأكيد العداوة و الندم، و لا يجبر منا إذ ذاك هذا الكسر، إلا بالقتل و النهب و الأسر، فوضع يده علي دبوسه شاه منصور، و قال هذا الألف في الكاف السادسة من أم من يفر من تيمور، أما أنا فأقاتل و جندي، فإن خذلني جندي، قاتلت وحدي، و بذلت في ذلك جدّي و جهدي، و عانيت عليه وكدي «1»، فإن نصرت نلت قصدي، و إن قتلت فلا علي ممن بقي بعدي، و كأني أنا كنت الحاضر، و الخاطر في خاطر الشاعر حين قال شعرا:
إذا همّ بين عينيه عزمه‌و نكّب عن ذكر العواقب جانبا و قيل إن شاه منصور فرق رجاله علي قلاعه، و أراد بذلك حفظ مدنه فضاع في ضياعه، ثم جمع رؤساء شيزار و أجنادها، و أفلاذ كبدها و أولادها، و قال: ان هذا عدو ثقيل، و هو و إن كان خارجيا فهو في بلادنا دخيل، فالرأي أني لا أنحصر معه في مكان، و لا أقاتله بضرب أو طعان، بل أنتقل في الجوانب، و أتسلط أنا و رعاياي عليه من كل جانب، فنصفع أكتافهم، و نقطع أطرافهم، و نواظبه بالنهار و نراقبه بالليل، و نعدّ له ما استطعنا من قوة و من رباط الخيل، و كلما وجدنا منه غره، كسرنا منه القفا و الغره، فتارة ننطحه، و أخري نرمحه، و كرة نجدحه «2» و مرة نجرحه، و نسلبه الهجوع، و نمنعه الرجوع، فتشتد عليه المضائق، و تنسد عليه الطرق
______________________________
(1)- الوكد: القصد.
(2)- أي نبادره بالهجوم و نخالطه.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 42
و الطرائق، غير أن القصد منكم يا أحرار، و يا نمور القفار، و نسور النفار، أن تحتفظوا بضبط الأسوار، و لا تغفلوا عنها آناء الليل و أطراف النهار، فإني ما دمت بعيدا عنكم، لا يدنو أحد منهم منكم، و إن حاصروكم ففيكم كفاية، و استودعكم الله و هو نعم الوقاية، و غاية ما تكونون في هذه البوسي، مقدار ما واعد الله نبيه موسي، و لله هذا الرأي ما كان أمتنه، و وجه هذا القصد ما كان أحسنه، ثم انه خرج ذاهبا، و قصد جانبا.

ذكر دقيقة قصدت، فحلت و نقضت ما أبرمه شاه منصور من عقد حين حلت‌

فبينما هو عند باب المدينة جائز، نظرته سعلاة «1» من مشومات العجائز، فبدرته بالملام و آذته بالكلام، و نادت بلسان الأعجام، انظروا إلي هذا تركش بحرام، رعي أموالنا، و تحكم في دمائنا، و فر و فارقنا أحوج ما نحن إليه في مخاليب أعدائنا، جعل الله حمل السلاح عليه حراما، و لا أنجح له قصدا و لا أسعف له مراما، فقدحت زناده، و جرحت فؤاده، و تأججت نيران غضبه، و أحرق رأس فؤاده أكداس تدبره، شواظ لهبه، و ثارت نفسه الأبية، و أخذته حمية الجاهلية، حتي ذهب لب ذلك الرجل الحازم، و غلط فأمسي و هو لغلطه ملازم، فثني عنان عزمه، و كز أسنان أزمه، و أقسم لا يبرح عن المقاومة، و لا يرجع في مجلس قضاء الحرب عن ملازمة المصادمة، و يجعل ذلك دأبه صباحا و مساء و عشاء، إلي أن يعطي الله النصر لمن يشاء، ثم قابل، و رتب أبطاله و قاتل.
و كان في عسكر شاه منصور، أمير خراساني مباطن لتيمور، يدعي «محمد بن زين الدين»، من الفجرة المعتدين، و جل العساكر كان معه، فسار إلي تيمور و أكثر الجند تبعه، فلم يبق منهم إلا دون الألف، فما فرّ واحد منهم من الزحف، فثبت شاه منصور، بعد أن تضعضعت منه
______________________________
(1)- السعلاة: أنثي الغول
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 43
الأمور، فلم تزل نيران الهيجاء تنتطح، و زناد الحرب توري إذ تنقدح، و شرار السهام تتطاير، و ثمار الرؤوس بمناجل السيوف تقطف فتتناثر، حتي أقبل جيش الليل، و شمر للهزيمة جند النهار الذيل، فتراجع كل منهم إلي و كره، و أعمل شاه منصور فكره في مكره.

ذكر ما نقل عن شاه منصور، مما أوقع بعسكر تيمور، من الحرب و الويل، تحت جنح الليل‌

فعمد إلي فرس جفول، من بين الخيول، أجمح من دهر رمح، و أرمح من عصر جمح، و اتي بها عسكر العدو، و قد أخذ الليل في الهدو، ثم ربط في ذنبها قدرا من النحاس، ملفوفة في قطعة بلاس «1»، و شدها شدة أحكم وثاقها، و صوب رأسها نحو العدو و ساقها، فجالت الفرس في العسكر و اضطربت، و اختبطت الناس و احتربت، و انسابت جداول السيوف في بطون تلك النحور و انسربت، حتي كأن الساعة اقتربت، أو السماء عليهم بالشهب انقلبت، و الأرض بهم اهتزت و ربت، و شاه منصور واقف حواليهم، كالبازي المطل عليهم، يقتل من شذّ، و يبيد من فذّ، و صاروا كما قيل شعرا:
الليل داج و الكباش تنتطح‌نطاح جدّ ما أراها تصطلح
فقائم و قاعد و منبطح‌فمن نجا برأسه فقد ربح قيل أنهم اقتتلوا فيما بينهم، حتي فني نحو من عشرة آلاف نفس منهم، فلما قوض الليل خيامه، و رفع النهار أعلامه، علموا البلاء كيف دهاهم، و ليت الليل لم يكن فارق ذراهم، ثم أن شاه منصور أصبح و قد قل ناصره، و فل مؤازره، فانتخب من جماعته فئه، نحوا من خمسمائه، فجعل يصول بهم صولة الأسد، و يخوض بهم غمار الموت فلا يلوي أمامهم أحد، و يميل يسرة و يمنة و ينتسب، و يصيح أنا شاه منصور الصابر المحتسب، فتراهم بين يديه حمرا مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ
______________________________
(1)- البلاس: بساط من شعر، و جاء في روآية أخري: لباس.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 44
قَسْوَرَةٍ «1» و قصد مكانا فيه تيمور فهرب منه و دخل بين النساء، و اختفي بينهن و غطي بكساء، فبادرنه و قلن نحن حرم، و أشرن إلي طائفة من العسكر المصطدم، و قلن هناك بغيك، و بين أولئك طلبتك، فألوي راجعا، و تركهن مخادعا، و قصد حيث أشرن إليه، و قد أحاطت به جموع العساكر و حلّقت عليه، قلت بديها شعرا:
و ما حز أعناق الرجال سوي النساءو أي بلاء ما لهنّ به أبلي
و كم نار شر أحرقت كبد الوري‌و لم يك إلا مكرهن لها أصلا و كان علي فرس فاقت خصالا، فضرب فيهم بسيفين يمينا و شمالا، و فرسه السبوح كانت تقاتل معه، و تصدم و تكدم من يقرب منها في تلك المعمعة، و كأنه كان ينشد معني ما قلته في مرآة الأدب شعر:
يد الله قوتني فغلت يداهم‌و هذي يدي فيهم بسيفين تضرب فصار كلما قصد رعلة من تلك الرعال، افترقت أمامه يمينا و شمالا، و إن كانوا كلهم من أهل الشمال.
و لكن شعر:
إذا لم يكن عون من الله للفتي‌فأوّل ما يجني عليه اجتهاده حتي انهكته الحرب، و كلت يداه من الطعن و الضرب، و جندلت أبطاله، و قتلت خيله و رجاله، و تغيرت من كل جهة أحواله، و سدت طرائقه، و شدت مضائقه، و خرست شقاشقه «2» و ضرست فيالقه، و خمدت بوارقه، و همدت بيارقه، و حص «3» نجاحه، و قص جناحه، و خف مراحه، و أثقلته جراحه، و سكتت همهمته، و سكنت غمغمته،
______________________________
(1)- سورة المدثر- الآيتان: 50- 51.
(2)- الشقاشق: جمع شقشقة و هو صوت كالهدير يخرج من صدر البعير إذا هاج.
(3)- حص: قل و نقص.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 45
فانفرد عن أصحابه، و قد آذاه الجراح و أودي به، و لم يبق معه في ذلك البحر، سوي نفرين أحدهما يدعي توكل، و الآخر مهتر فخر، و أخذه الدهش، و غلب عليه العطش، و نشف الرهج و الوهج كبده، و طلب شربة ماء فما وجده، و لو وجد ما يبل به ريقه، لما قدر أحد أن يقطع عليه طريقه، فرأي الأولي، أن يطرح نفسه بين القتلي، فاطرح بينهم نفسه، و رمي أهبته و سيب فرسه، و قتل توكل و نجا فخر الدين، و به من الجراح نحو من سبعين، و عمر بعد ذلك حتي بلغ تسعين، و كان من الأبطال و المصارعين، فتراجع جيش تيمور و تضام، و انتعش بعد أن بلغ موارد الحمام، و ذلك بعد أن قتل منهم ما لا يعد، و أفني ليلا و نهارا ما لا يحصي و لا يحد، و طفق تيمور في القلق، و الضجر و الأرق، لفقد شاه منصور، و عدم الوقوف علي حال ذلك الأسد الهصور، أهو في الأحياء فيخشي فكره، أم انتقل إلي دار الفناء فيؤمن مكره، فأمر بتفتيش الجرحي، و التنقيب عنه بين القتلي و الطرحي، إلي أن كادت الشمس تتواري بالحجاب، و يغمد حسام الضياء من الظلام في قراب.
فعندما ضم دينار البيضاء، تحت ذيل ملاءة الضياء، و مد نساج القدرة في جو الفضاء سدا، و الليل إذا سجي، و نثر علي سطح هذا الأديم المساء، دراهم كواكبه الزهراء، و اتسع الظلام و اتسق، عثر واحد من الجغتاي علي شاه منصور و به أدني رمق، فتشبث شاه منصور بذلك الإنسان، بل الشيطان الخوان، و ناداه: الأمان الأمان، أنا شاه منصور، فأكتم عني هذه الأمور، و خذ مني هذه الجواهر، و خافت قضيتي و لا تجاهر، و كأني لا رأيتك و لا رأيتني، و لا عرفتك و لا عرفتني، و إن أخفيت مكاني، و نقلتني إلي إخواني و أعواني، كنت كمن أعتقني بعد ما اشتراني، و من بعد ما أماتني أحياني، و كنت تري مكافأتي، و تغنم مصافاتي، ثم أخرج له من الجواهر، ما يكفيه و ذريته إلي اليوم الآخر، فكان في قصته و استكشاف غصته، كالمستغيث بعمرو عند كربته، فما عتم أن وثب علي شاه منصور،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 46
و حز رأسه و أتي به إلي تيمور، و حكي له ما جري، بتنجيز المشتري، فما صدقه، و لا في كلامه استوثقه، بل أخرج من قبائله و شعوبه، من عرفه به، فعرفوه بشامة، كانت علي وجهه علامة.
فلما علم أنه شاه منصور بعينه، و تميز له صدق ذلك الرجل من مينه، تحنق و تحيف، و تحرق لقتل شاه منصور و تأسف، ثم سأل الرجل عن محتده، و عن والده و ولده، و عن قبيلته و ذويه، و مخدومه و مربيه، فلما استوضح أخباره، و علم نجاره و وجاره «1»، أرسل مرسومه إلي متولي تلك الداره، فقتل أهله و أولاده، و أعوانه و أنصاره، و آله و أحفاده، و أختانه و أصهاره و قتله شر قتله، و محا آثاره، و صادر مخدومه و قتله، و خرب دياره، ثم أرسل إلي أطراف ممالكه مطالعات، يذكر فيها صور تلك المصافات و المواقعات، و ما شاهد من و ثبات شاه منصور و ثباته، و غشيانه غمرات الحرب و ضرباته، و ما حصل في واقعة القتال علي الحديد في صف مراسلاته، و كيف زلزلت العاديات، و ولولت النساء في فتح حجراته، بعبارات هائله، و كلمات في ميادين الفصاحة و البلاغة جائله، و هذه المطالعات تقرأ في المحافل و المشاهد، و تتلي في المصادر و الموارد، و يستمد منها ذووا الآداب، و يعتني بحفظها الكتاب و الصبيان في الكتاب.
رأيت في أخبار بعض المعتنين، أنه في شوال سنة خمس و تسعين، ورد رسول صاحب بسطام، يؤذن سلطان مصر بالإعلام، إن تيمور، قتل شاه منصور، و أنه تولي علي شيراز و سائر البلاد، و أرسل إليه رأسه إلي حاكم بغداد، و أمره بالطاعه، هو و من معه من الجماعه، و أرسل إليه خلعه، و أن يضرب السكه باسمه و يخطب بذلك في الجمعة، فلبس خلعته و ائتمر، ممتثلا كلما به أمر، و أنه علق رأس شاه منصور، بعد ما طافوا به علي السور، و ما أظن لذلك صحة.
______________________________
(1)- الوجار: جحر الضبع، و هنا أراد أصله.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 47

ذكر ما وقع من الأمور و الشرور، بعد واقعة شاه منصور

فاستولي تيمور علي ممالك فارس، و أرض عراق العجم، و راسل من داناه من أقارب شاه شجاع و ملوك الأمم، و استمال الخواطر، و أمن البادي و الحاضر، و رحل فجاز، مدينة شيزار، و ضبط أحوالها، و قرر فيها خيلها و رجالها، و نادي بالأمان، للقاصي والدان، فلبت دعوته ملوك البلاد، و لم يسعهم معه إلا الإطاعة و الانقياد، فوصل إليه سلطان أحمد من كرمان، و شاه يحيي من يزد، و عصي سلطان أبو اسحاق في سيرجان «1»، فأنعم و خلع علي من أطاعه و انقاد، و لم يتعرض لمن أظهر العناد، و لم يشق بينه و بين مخالفيه العصا، و أكرم من أطاعه ليوقع بذلك من عصي، و طرح علي شيزار و سائر البلدان مال الأمان، و أقام في كل بلدة من جهته نائبا و توجه إلي أصبهان، و أحسن إلي زين العابدين الذي هو وصيه من أبيه، و وظف له من الجوامك و الادرارات ما يكفيه و ذويه.

ذكر ما صنع الزمان عند حلوله باصبهان‌

فلما وصل إلي أصبهان، و كانت من أكبر البلدان، مملوة بالأفاضل، محشوة بالأماثل، و بها شخص من علماء الاسلام، و السادة الأعلام، قد بلغ في العلم الغاية، و في العمل و الاجتهاد النهاية، أفعاله مبروره، و كراماته مشهوره، و مآثره مذكوره، و محاسنه علي جبهة الأيام مسطوره، و هو معتقد المسلمين، و كان كاسمه همام الدين، و كان أهل أصبهان يذكرون له تيمور، و يحذرون من شره أي محذور، فيقول لهم: ما دمت فيكم حيا، لا يضركم كيده شيا، فإن وافاني الأجل، فكونوا من أذاه علي و جل، فاتفق أنه في وصول تيمور، توفي الشيخ المذكور، فأصبحت أصبهان ظلمات بعضها فوق بعض، بعد أن كانت نورا علي نور، فتضاعفت حسرتهم، و ترادفت كسرتهم، فوقعوا في الحيرة، و صاروا كأبي هريرة، رضي اله عنه حيث يقول:
______________________________
(1)- ذكرها أبو الفداء في تقويم البلدان ص 336 باسم سيرجان، و هي قاعدة منطقة كرمان.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 48 للناس هم ولي في اليوم همان‌فقد الجراب و قتل الشيخ عثمان فخرجوا إليه و صالحوه علي حمل أموال، فأرسل إليهم لاستخلاصها الرجال، فوزعوها علي الجهات، و فرضوها علي الحارات، و المحلات، و تفرق فيهم المستخلصون، فكانوا يعيثون فيهم و يعبثون، و استطالوا عليهم، فجعلوهم كالخدم، و توصلوا إلي أن مدوا أيديهم إلي الحرام، فانتكوا منهم أي نكاية، فرفع أهل أصبهان إلي رئيسهم الشكاية، و كثرت منهم الشكية، و هم قوم لهم حمية، و قالوا: الموت علي هذه الحالة، خير من الحياة مع هذه الإستطاله، فقال لهم رئيسهم إذا أقبل المساء فإني أضرب الطبل لكن تحت كساء، فإذا سمعتم الطبل قد دق، فالقول قد حق، فليقبض كل منكم علي نزيله، و ليحتكم فيه بسمين رأيه و هزيله، فاتفقوا علي هذا الرأي المعكوس، و الأمر المنكوس، في الطالع المنحوس، و قصروا أيدي أنظارهم السقيمة، عن قصاري هذه الأمور الوخيمه.
و لما تعري العنان «1» من ثوب نوره، و أبدل الجوار قاقمه بسموره «2»، و مضي هزيع من الليل، ضرب الرئيس الطبل، فحل بالمستخلصين الويل، فقتلوهم و كانوا نحوا من ستة آلاف، فأصبحوا و قد غرسوا في دوح العصيان أغصان الخلاف، فأثمر ذلك لهم الجور بعد الكور، و بان لهم البوار فأصبحوا بهذا البور.
و لما سل الفجر حسامه، و حسر النهار لثامه، بلغ تيمور ذلك الصنع المشؤوم، فنفخ الشيطان منه في الخيشوم، فارتحل من فوره، و استل غضب غضبه، و نثل جعبة جوره، و توجه إلي المدينة مزمجرا، متكلبا متأسدا متنمرا، فوصل إليها، و أخني عليها، و أمر بالدماء أن تسفك، و بالحرمات أن تنتهك، و بالأرواح أن تسلب، و بالأموال أن تنهب، و بالعمارات أن تخرب، و بالزروع أن تحرق، و بالضروع أن تخرق،
______________________________
(1)- العنان: السحاب.
(2)- القاقم حيوان يشبه ابن عرس، و السمور: الناقة السريعة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 49
و بالأطفال أن تطرح، و بالأجساد أن تجرح، و بالأعراض أن تثلم، و بالذمم أن تسلم و لا تسلم، و أن يطوي بساط الرحمه، و ينشر مسح النقمه، فلا يرحم كبير لكبره، و لا صغير لصغره، و لا يوقر عالم لعلمه، و لا ذو أدب لفضله و حلمه، و لا شريف لنسبه، و لا منيف لحسبه، و لا غريب لغربته، و لا قريب لقرابته و قربته، و لا مسلم لإسلامه، و لا ذمي لذمامه، و لا ضعيف لضعفه، و لا جاهل لركاكة رأيه و سخفه، و بالجملة فلا يبقي أحد، ممن هو داخل البلد.
و أما أهل المدينة فعلموا أنه ليس للجدل مجال، فضلا عن ضراب و قتال، و أن قبول الأعذار محال، و أنه ليس ينجيهم من ريب المنون، مال و لا بنون، و لا يقبل منهم في الساعة، و لا ينفعهم عدل و لا شفاعة، فتحصنوا بحصون الاصطبار، و تدرعوا دروع الاعتبار، و تلقوا سهام القضاء من حنايا المنايا، بمجن تسليم المراد، و استقبلوا ضربات القدور من سيوف الحتوف، بأعناق التفويض و الانقياد، فأطلق في ميادين رقابهم عنان الحسام البتار، و جعل مقابرهم بطون الذئاب و الضباع، و حواصل الأطيار، و لا زالت عواصف الفناء تحتهم من أشجار الوجود حتي حصروا عدد القتلي فكان نحو ست مرار من أمة يونس بن متي، فاستغاث بعض البصراء، بواحد من رؤوس الأمراء، و قال: التقيه في البقيه، و الرعاية في الرعية، فقال ذلك الأمير، للسائل الفقير، أجمعوا بعض الأطفال عند بعض القلل، فلعل أن يلين منه عند رؤيتهم شيئا ما عسي و لعل، فامتثلوا ما به أمر، و وضعوا شرذمة من الأطفال منه علي الممر، ثم ركب ذلك الأمير مع تيمور، و أخذ به علي تلك الأطفال و مر، ثم قال: انظر يا مخدوم، نظر الراحم إلي المرحوم، فقال ما هؤلاء الطرحاء الأشقياء؟ فقال: أطفال معصومون، و أمة مرحومون و محرمون، استحر القتل بوالديهم، و حل غضب مولانا الأمير علي أكابرهم و ذويهم، و هم يسترحمون بعواطفك الملوكية و صغرهم، و يستشفعون إليك بذلهم و ضعفهم و يتمهم و فقرهم و كسرهم،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 50
أن ترحم ذلهم، و تبقي من بقي لهم، فلم يحر جوابا، و لا أبدي خطابا، ثم مال بعنان فرسه عليهم، و لم يظهر أنه بصر بهم، و لا نظر إليهم، و مالت معه تلك الجنود و العساكر، حتي أتي منهم علي الأول و الآخر، فجعلهم طعمة للسنابك، و دقة تحت أقدام أولئك، ثم جمع الأموال، و أوسق الأحمال، و مال راجعا إلي سمرقند بما قد نال «1».
و كم بين هذه الأمور و القضايا، من دواه و بلايا، و حكايا و تجهيز سرايا، و تولية و عزل، و إبراز هزل في صورة جدّ و جدّ في صورة هزل، و بناء و هد، و صد ورد، و تعمير غامر، و تخريب عامر، و تهان و تعاز، و انحراف و تواز، و مباحثات مع علماء، و مناظرات مع كبراء، و رفع وضعاء، و وضع شرفاء، و تمهيد قواعد، و تقريب أباعد، و تبعيد أداني، و بروز مراسيم إلي كل قاص و داني، إلي غير ذلك مما لا يكاد يحصر، و لا يضبط بديوان و لا دفتر.

ذكر ضبطه طرف الموغول و الجتا «2» و ما صدر منه في تلك الأماكن و ما أتي‌

و لما وصل إلي سمرقند أرسل ابنه محمد سلطان بن جهانكير، مع سيف الدين الأمير، إلي أقصي ما تبلغ إليه مملكته، و تنفذ فيه كلمته، و هو وراء سيحون شرقا سوا، آخذا في نحور ممالك الموغول و الجتا و الخطا، نحوا من مسيرة شهر، عن ممالك ما وراء النهر، فمهدوا هنالك الوهد و البقاع، و بنوا فيه جملة من القلاع، و أقصاها بلد يسمي أشباره «3» فبنوا فيه حصنا حصينا معد للنهب و الغاره، و خطب من بنات الملوك ملكة أخري، و كانت الأولي تدعي الملكة الكبري و الأخري
______________________________
(1)- وقعت مذبحة أصفهان في ذي القعدة 789 ه/ أوائل تشرين الثاني 1387 م.
(2)- الجتا اسم أطلق علي سكان الجناح الشرقي من بلاد المغول.
(3)- حدد موقعها بارثولد إلي الجنوب الغربي من بحيرة ايسبق- كول في آسيا الوسطي، انظر،
V. V. Bartholol, Four studies on the History oF central Asia, vol l, Leiden 1462 P 61. عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 51
الملكة الصغري «1»، فأجابهم ملكهم إلي ما سأل، و أناب إلي ما طلبه منه بالإطاعة و بذل، و ارتجت منه أقاليم الموغول و الخطا، و ذلك لما بلغهم مما فتك، في كل طرف و بتك، من بلاد الاسلام وسطا، و كان السفير في ذلك الله دادأخو سيف الدين المذكور، و هو الذي استخلص أموال دمشق و نزل في دار ابن مشكور.
و أمر تيمور ببناء مدينة علي طرف سيحون من ذلك الجانب، و عقد إليها جسرا علي متن النهر بالمراسي و المراكب، و سماها شاه رخيه «2»، و هي في أماكن رحبه، و سبب تسمية ابنه شاه رخ بهذا الاسم، و وسم هذه المدينة بهذا الوسم، أنه كان علي عادته، مشغولا بلعب الشطرنج مع بعض حاشيته، و قد أمر ببناء هذه المدينة علي هذا الساحل، و كانت إحدي حظاياه معه و هي حامل، فرمي علي خصمه شاه رخا، و ذبل خصمه لذلك و ارتخي، و بينما خصمه قد وقع في الأين «3»، إذ بمبشرين جاءا مخبرين أحدهما يبشره بولد، و الآخر يبشره بتمام عمارة البلد، فسماهما بهذين الاسمين و وسمهما بهذين الوسمين.

ذكر عود ذلك الأفعوان إلي ممالك فارس و خراسان و فتكه بملوك عراق العجم و استصفائه تلك الولايات و الأمم‌

اشاره

ثم عاد بعد تمهيد البلاد، و توطيد قواعد ممالك تركستان، إلي بلاد خراسان «4»، فاستقبله الملوك و الأمراء، و السلاطين و الوزراء، و سارعوا
______________________________
(1)- الملكة الأولي كما هو مرجح دلشاد آغا بنت قمر الدين خان الجتا، و الملكة الثانية أو الصغري هي: تكن خانوم بنت خضر خواجا خان الجتا.
(2)- الشاه رخية هي مدينة بناكث القديمة الواقعة علي مصب نهر ايلاق (أنكرين الحالي) في سيحون، كان المغول قد هدموها أيام جنكيز خان، و قد جدد تيمور عمارتها عام 794 ه/ 1392 م، و أطلق عليها الشاه رخية تكريما لابنه شاه رخ، و تعرف أطلالها الآن باسم شاركيا. Barthold, Four Studies, vol, P 61.
(3)- الأين: التعب و الاعياء
(4)- غادر تيمور بلاد ما وراء النهر عام 794 ه/ 1392 م، و وصل إلي غربي ايران في عام 795 ه/ 1392 م، حيث توقف في منطقة مازندران للقتال ضد بعض خصومه.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 52
إليه من كل جانب، ما بين راجل و راكب، ملبين دعوته، حاذرين سطوته، مغتنمين خدمته، و سلموه الأنجاد و الأغوار، و الأطواد و القفار، و القري و سكانها، و الذري و قطانها، و القلاع العاصية، و ربطوا بذيل أمره كل ناصية، ممتثلي أوامره، مجتنبي زواجره، عاقدي نطاق عبوديته بأنامل الإخلاص، تابعي رائد مرضاته علي نجائب الولاء و الاختصاص، فهم جميع من مر ذكره من المطيعين، و من كانوا في الشواهق ممتنعين منيعين، و من جملتهم اسكندر الجلابي أحد ملوك مازندران، و ارشيوند الفارسكوهي ذلك الأسد الغضبان، صاحب الجبال، الشوامخ العاصية القلال، و إبراهيم القمي صاحب النجدة، و المعد لكل شده، و أطاعه السلطان أبو اسحاق من شيرجان.
فاجتمع عنده من ملوك عراق العجم سبعة عشر نفرا ما بين سلطان و ابن سلطان و ابن أخي سلطان، كل منهم في ممالكه ملك مطاع، مثل سلطان أحمد أخي شاه شجاع، و شاه يحيي ابن أخي شاه شجاع، سوي ملوك مازندران، و سوي أرشيوند، و إبراهيم، و ملوك خراسان، و لما سلك السلطان أبو اسحاق نمط أقاربه في الطاعة، و عمل علي ذلك الطرز، خلف ببلده شيرجان نائبا يقال له كودرز، فاتفق في بعض الأيام، أنه اجتمع عند تيمور هؤلاء الملوك العظام، فكانوا عنده، في خيمة له و هو بينهم وحده، فأشار واحد منهم إلي شاه يحيي و قد أمكنت الفرصة، أن يقتله و يرفع عن العالم هذه الغصة، فأجابه بعض و امتنع بعض، و قال لمن رضي بذلك، من لم يرض: إن لم تكفوا، و عن هذا المقال تعفوا، أخبرته بهذه المقالة، و اطلعته علي هذه الحالة، فامتنعوا عن هذا الرأي المتين، و الفكر الرصين، لاختلافهم و لا يزالون مختلفين.
و كأنه طالع أحوالهم، أو تفرس أقوالهم، فأسرها في نفسه، و لم يبدها لهم، ثم مكث أياما، و جلس للناس جلوسا عاما، و قد لبس ثيابا حمرا، و دعا هؤلاء الملوك السبعة عشر طرا، ثم أمر فقتلوا جميعا في ساعة
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 53
واحدة صبرا، ثم لما أبادهم، ضبط بلادهم و جمع طريفهم و تلادهم، و قتل هؤلاء أولادهم و أحفادهم، و أقام في ممالكهم أولاده، و أمراءه و أحفاده و أجناده.
و سبب قتله هؤلاء الملوك و فتكه، و تمزيقه ستر حياتهم و هتكه، أن بلاد العجم كانت لا تخلو من الملوك الأكابر، و من ورث الملك و السلطنة كابرا عن كابر، و هي ممالك واسعة، أطرافها شاسعة، مدنها وافرة، و قراها متكاثرة، و أوتادها راسخة، و عرانين أطوادها شامخة، و مخدرات قلاعها ناشزة، و مضمرات مكامنها و معادنها غير بارزة، و كواسر أكاسرها كاسره، و نواشر جوارحها للظهور ناشرة، و نمور زعارها طامره، و ببور «1» شطارها طافره، و ثعابين أبطالها في جداول الجدل ظاهره، و تماسيح أقيالها في بحار الضراب قاهره، فنظر تيمور بعين بصيرته، في وذيلة «2» تأمله، و مرآة فكرته، فرأي أنه لا يزكو له ورد عارضها من شوكة عارض، و لا يصفو ورد ثغرها فائضها من شارب معارض، و لا يثبت له في بنيان ممالكها أساس محكم، لا ينبت له في بستان ممالكها أغراس ينعم، و كان قصده ابقاء مبانيها، و إجراء أموره علي ما اقتضته التوراة الجنكيز خانية فيها، فلم يمكن عمل فلاحة لسلطنته في بسيط أرضها، و سوق أنهار أوامره في ضرائب ممالكها طولها و عرضها، إلا بقلع علاليق أنساب أكابرها، و كسر قوادم أخشاب أحساب أكاسرها، فسعي في استئصال فرعهم و أصلهم، و اجتهد في إهلاك حرثهم و نسلهم، و جعل لا يسمع لهم ببزرة نطفة في أرض رحم إلا قلعها، و لا يشم منهم رائحة زهرة في كم كمين إلا قطعها.
و قيل أنه كان في مجلس فيه اسكندر الجلابي و كأنه كان مجلس نشاط، و مقام إنشراح و انبساط، فسأل اسكندر، في ذلك المحضر، و قال إن
______________________________
(1)- جمع ببر و هو الأسد بالفارسية.
(2)- الوذيلة: قطعة من الفضة جليت جيدا حتي أصبحت كالمرآة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 54
حكم القضاء بافساد بنيتي، من تراه يتعرض لأولادي و ذريتي، فأجابه و هو في حالة الشطح، و قد حلت عليه دماغه و وضع سراج العقل منها فوق السطح، أول من ينازع أولادك المشائيم، أنا و أرشيوند، و إبراهيم، فإن نجا من مخاليبي منهم أحد، فإنه لا يخلص من أنياب إبراهيم الأسد، و إن أفلت أحد منهم من ذلك البند، فإنه لا مخرج له من شراك أرشيوند، و كان أرشيوند، و إبراهيم غائبين، فلم يتعرض تيمور لا سكندر بضر و شين، و أراد بالابقاء عليه، و قرعه مع صاحبيه، فلما أفاق اسكندر ليم علي ما قال، فقال: لا مفر من قضاء الله و لا مجال، و لا عتب في ذلك علي، أنطقني بذلك الله الذي انطق كل شي‌ء، ثم إن اسكندر و إبراهيم هربا، فقبض علي أرشيوند، و ألقاه في النازعات فصار نبا، و هتك حريم عمر اذ جرعه أول الرعد و أقرأه آخر نوح و سبا «1»، ثم إن اسكندر لم ير له أثر، و لا سمع عنه إلي يومنا هذا خبر، و كان كبير الهامه، طويل القامة، إذا مشي بين الناس كأنه علامه، حتي قيل إن مدي ذلك القصر المشيد، كان نحوا من ثلاثة أذرع و نصف بالحديد، و إبراهيم القمي استمر علي انكماشه، ثم مات علي فراشه، فكان ذلك سبب ايراده الملوك و أبناءهم المهالك.
فصل: ثم إن تيمور عصي عليه كودرز في قلعة شيرجان، و قال: إن مخدومي شاه منصور موجود إلي الآن، و كان هذا الكلام، فاشيا في الخاص و العام، فكان كودرز يتوقع ظهوره، و يزجي «2» علي ذلك أعوامه و شهوره، فحاصر تيمور قلعة شيرجان، فلم يلح له عليها سلطان، فوجه إليها عساكر شيزار، و يزد، و أبرقوه، و كرمان، و أضاف
______________________________
(1)- أول الرعد قوله تعالي: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ و آخر نوح الآيتان: 26- 27 وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَي الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً و آخر سورة سبأ الآية:
54 وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ.
(2)- التزجية: دفع الشي‌ء. العين.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 55
إليهم عساكر سجستان، و ذلك بعد أن شملها العمران، و كان نائبها يدعي شاه أبا الفتح، فحاصروها نحوا من عشر سنين، و هم ما بين ظاعنين عنها و عليها مقيمين، و هي بكر لا تفتح لطالبها بابا، و عابس لا يملك خاطبها منها خطابا، و كان تيمور ولي كرمان، شخصا يدعي ايدكو من إخوان الشيطان، فكان هو المشار إليه، و من العسكر هو المعول عليه.
و لما تحقق كودرز من شاه منصور وفاته، و خذله الأنصار و أعجزه الإنتصار وفاته، و كان أبو الفتح يراسله كل ساعه، و يتكفل له عند تيمور بالشفاعه، أذعن للصلح، و استعمل لذلك أبا الفتح، و نزل متراميا عليهم، و سلم الحصن إليهم، فحنق ايدكو عليه، لكون عقد الصلح لم ينحل علي يديه، فقتله من ساعته، و لم يلتفت إلي أبي الفتح و شفاعته، فأخبر تيمور بذلك، و كان في بعض الممالك فغضب عليه غضبا شديدا، و لكن فات التدارك.
فصل: مما يحكي عن ايدكو هذا متولي كرمان، أنه كان بها للسلطان، أحمد أخي شاه شجاع ولدان صغيران، أحدهما يدعي سلطان مهدي، و الآخر سليمان خان، و كان سليمان خان في غاية الحسن و اللطافة، حاويا معاني الملاحة و الظرافة، مبني بالكمال، مربي بالدلال، ألفاظه رائقه، و ألحاظه راشقه، و الأرواح إليه شائقه، و أرباب الألباب له عاشقه، حركاته في القلوب ساكنه، ولفتاته للخلق فاتنه، كما قيل شعرا:
نسيم عبير في غلالة ماءو تمثال نور في أديم هواء و عمره إذ ذاك ستة أعوام، و لكن مفتتن به الخاص و العام فعزم ايدكو علي اتلافهما، و إلحاقهما بأسلافهما، و لم يكتف من تلك الدرة بأنها صارت يتيمه، و لا رق لأمهما التي خربت ديارها، لكونها مخدرة كريمه، و لم يكن لها مدافع، و لا عنها ممانع، فطلب من الجلادين من يعتمد في ذلك عليه، فلم تطب نفس أحد أن تمتد يد بمكروه إليه، و مضي علي ذلك مدة،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 56
و الخلق بسبب هذه القضية في ضيق و شده، حتي وجدوا عبدا ما أسود، كأنه للبلاء مرصد، و كأن الشياطين له عبده، و العفاريت له جنود و حفده، و ثوب الليل من سدا سواده انتسج، و أصل الشجرة التي طلعها، كأنه رؤوس الشياطين من حبة فؤاده نبت فنتج، يستلذ عند صدي صوته خوار الثيران، و يستحسن عند خيال صورته مشاهد الغيلان، قلت شعرا:
زبانية النيران تكره وجهه‌و حين تراه تستعيذ جهنم قد نزع الله من قلبه الرحمة، و جبل فؤاده علي المأثمه، فأرغبوه في أن يختلهما، و يقتلهما، و كانت عين سليمان خان رمدا، و قد سكن في حجر دايته و تهدا، فدخل عليه ذلك الظالم من ساعته، و اغتاله و هو راقد في حجر دايته، فضربه في جنبه بخنجر، أنفذه من الجنب الآخر، فارتفع الضجيج و الولولة، و وقع العجيج في الناس و الزلزلة، و عم المأتم أمه الوالهة و أهلها، و طفق الناس يبكون عليها و لها، و الظاهر ان هذه الأمور، كانت بإشارة تيمور، و عسكر ذلك الظلوم الكفار، ما كان يخلو عن مثل هذه الشرور و الأشرار، و لو كان فاعله من غيرهم، لكن لعلة المصاحبة و المرافقة كان يسير بسيرهم.

حكاية

لما ارتحل من الشام بجنوده الغزيرة، كان مع واحد منهم أسيرة، قد كشفت أيدي النوائب قناع عصمتها و لطمتها، و علي يدها بنت لها رضيع ففطمتها، فلما قربوا إلي حماه، جعلت البنت تئن أنين الأواه، و لما بها من المضض المنكي، تتنكد و تبكي، و معهم جمّال من بغداد، منطو علي الفساد، محتو علي النكاد، مجبول علي الغلاظة و القساوة، معمول من الفظاظة و الغباوة، ممتلي‌ء من القذي، متضلع من الأذي، لم يخلق الله تعالي في قلبه من الرحمة شيئا فينتزع، و لم يودع لسانه لفظا من الخير فيستمع، فأخذ تلك من أمها، فدار في مهمها، إنه أخذها ليخفف عنها من همها، و كانت راكبة علي جمل، ثم انقطع ساعة عن الثقل، ثم وصل
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 57
و يده خاليه، و قهقهته عاليه، فاستكشفت أمها حالها، فقال مالي و مالها، فهوي عقلها و وهي، فطرحت نفسها، و نحت نحوها، فأخذتها و انقلبت، و أتت و ركبت، فتناولها منها مرة أخري، علي أن لا يسومها ضرا، ثم غاب عنها و رجع، و قد صنع كما صنع، فألقت نفسها ثانية، و عدت إليها ثانية، و جاءت و هي حانية، و قطوف حتوفها دانية، فركبت و أخذتها، و وضعتها علي كبدتها، التي منها فلذتها، فأخذها منها مرة ثالثة، بنية في الفساد عابثه، و حلف لها يمينا حانثه، أنه يحملها و ينوء، و لا يمسها بسوء، فحملها ساعة، ثم خرج عن سنة الجماعة، و رمي بها في بعض البطاح، و مثل بها فعله اليهودي بصاحبة الاوضاح، و جاء و يده الدامغة، بالإثم ملأي، و من البنت فارغه، و قد سلبها سلبها، و جلب إلي أمها جلبها، فاطرحت نفسها باكية، و رامت الرجعي جاريه، فقال لها لا تتعبي، كفيتك هما فارجعي و أركبي، فبكت و صاحت، و أنّت و ناحت، و وقعت في العناء، و إن كانت استراحت، و الناس علي دين ملوكهم، سالكون طرائق سلوكهم.

سبب دخوله إلي عراق العرب، و إن كان إبداؤه لا يحتاج إلي علة و سبب‌

و لما خلص لتيمور جميع ممالك العجم، و دانت له الملوك و الأمم، و انتهت مراسيمه إلي حدود عراق العرب، غضب السلطان أحمد صاحب بغداد، و اضطراب، فجهز جيشا عرمرما، و جعل رئيسهم أميرا مقداما مقدما، يدعي سنتائي، فتوجه الجيش نحو الجغتائي، فبلغ تيمور خبر الجيش و خبره، فسر بذلك قلبه و انشرح صدره، فجعل ذلك سببا لمهاوشته، و ذريعة لمحاربة ملك العراق و مناوشته، و أنفذ جيشا كرارا، بل بحرا زخارا، فتلاقيا بصدق نيه، علي مدينة سلطانيه «1»، فصدق كل منهما صاحبه الضرب، و سدد لنحره ألسنة الأسنة و سهام الحرب،
______________________________
(1)- بني مدينة سلطانية الايلخان أولجاتيو بن أرغون بن أباقا بن هولاكو في موقع قونغور أولانغ، في الجنوب الشرقي من تبريز، و علي بعد 300 كم عنها، و استغرقت عمارتها من 704- 713 ه/ 1304- 1313 م، انظر لي سترانج- بلدان الخلافة الشرقية ص 257- 258.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 58
و استمد بحر الجغتائي من أفواج أمواجه و اصطدم، فانكسر في قساطله قنيات جند سنتائي فانهزم، و وصل فلهم إلي بغداد، و تشتتوا في البلاد، فألبس السلطان أحمد سنتائي المقنعة، و أشهره في بغداد بعد أن ضربه و أوجعه، و كف تيمور عن عناده، و قفل متوجها إلي بلاده «1».

ذكر سكون ذلك الزعزع «2» الثائر، و هدو ذلك البحر المائر، لتطمئن منه الأطراف فيحطمها كما يريد و يدبر بها الدوائر

ثم إن تيمور خرج من سمرقند إلي ضواحيها، و جعل ينتقل في جوانبها و نواحيها، و بني حواليها قصبات، سماهن بأسماء كبار المدن و الأمهات، و قد صفت له سمرقند و ولاياتها، و ممالك ما وراء النهر و جهاتها، و تركستان و ما فيها من البلاد، و نائبها من جهته يدعي خدايداد، و خوارزم التي بها فتك وسطا، و كاشغر و هي في بحر ممالك الخطا، و بلخشان و هي ممالك علي حده، عن ممالك سمرقند متباعده، و أقاليم خراسان، و غالب ممالك مازندران، و رستمدار «3» و زاولستان «4» و طبرستان، و الري و غزنة و استراباد، و سلطانية و سائر تلك البلاد، و جبال الغور المنيعة «5»، و عراق العجم، و فارس الشامخة
______________________________
(1)- أغفل ابن عرب شاه هنا ذكر عدد كبير من الحوادث، عندما جعل عودة تيمور إلي بلاده مباشرة بعد صدامه مع قوات أحمد الجلائري، ذلك أن تيمور احتل أولا تبريز، و كانت تابعة لأحمد الجلائري، ثم قصد نخجوان في بلاد الكرج، و من نخجوان إلي قارص فتفليس، فشروان، و بعد توقف قصير في منتجع قراباغ تصدي لحملة مفاجئة قام بها القفجاق عبر دربند، و اجتاح بعد هذا أرمينية الشرقية، و ديار القراقونيلو (الشاة السوداء)، ثم ظهر في أذربيجان و دخل مراغة، و بعدها ذهب إلي أصفهان حيث أوقع المذبحة الهائلة بأهلها، و ذهب بعد هذا إلي شيراز، حيث اضطر إلي العودة سريعا إلي سمرقند ليصد هجوما جديدا قام به القفجاق، و احتاجت جولة تيمور هذه قرابة العام و نصف العام: رجب 788 إلي ذي الحجة 789 ه/ صيف 1386 إلي كانون أول 1387 م‌Prawdin ,pp 44 -450
(2)- الزعزع الريح الشديدة.
(3)- رستم‌دار: اقليم بجوار الري، و الري الآن ضاحية لمدينة طهران
(4)- زاولستان هي الكورة التي حاضرتها غزنة. معجم البلدان.
(5)- هي الجبال الواقعة ما بين هراة و غزنة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 59
الرفيعة، و كل ذلك من غير منازع، و لا مجادل و لا ممانع، و له في كل مملكة من هذه الممالك ولد، أو ولد ولد أو نائب معتمد.

نموذج مما كان يغور، ذلك الظلوم الكفور، من عساكره في بحور و يغوص علي أمور ثم يفور، بشرور، و من جملة ذلك غوصه مما وراء النهر و خروجه من بلاد اللور «1»

ثم إنه مع اتساع مملكته، و انتشار هيبته و صولته، و شيوع أراجيفه في الأقطار، و بلوغ تخاويفه الأقاليم و الأمصار، و ثقل أثقاله، و عدم اختفاء توجهه إلي جهة و انتقاله، كان يجري في جسد العالم، مجري الشيطان من ابن آدم، و يدب في البلاد، دبيب السم في الأجساد، قلت شعرا:
يصوب يمنة و يصيب يسره‌و ينوي جبهة و القصد نثره بينا يكون له في المشارق بيارق فيالق، إذ لمع في الغرب بوارق بوائق، و بينما نغمات طبوله و ضربات أعواده تقرع في حصار العراق و أصبهان، و شيراز، و إذا برنات أوتاره و بوقات أبواقه تسمع في مخالف الروم، و مقام الرهاوي، و ركب الحجاز.
فمن ذلك انه مكث في سمرقند مشغولا بإنشاء البساتين، و عمارة القصور، و قد أمنت منه البلاد و اطمأنت الثغور، فلما انتهت أموره، و بلغ الكمال قصوره، أمر بجمع جنده، إلي سمرقند، ثم أمرهم أن يصنعوا لهم قلانس ابتدعها، و علي صورة من التركيب و التضريب اخترعها، فيلبسونها و يسيرون، و ما بين إلي أن يصيرون، ليكون ذلك لهم شعارا، و قد كان أرصد له في كل جهة من ممالكه جشارا «2»، ثم رحل
______________________________
(1)- اللور: كورة واسعة بين خوزستان و أصفهان، و درس تاريخ هذه الكورة المرحوم المحامي عباس العزاوي بكتاب اسمه تاريخ الفيلية، طبع بعد وفاته حديثا في بغداد من قبل المجمع اللغوي عام 2003 م.
(2)- رعاة مع قطعان ماشية.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 60
عن سمرقند، و أشاع أنه قاصد خنجد، و بلاد الترك و جند، ثم إنه اندمس «1»، في دردور «2» عسكره و انقمس «3»، كأنه في لجة بحر انغمس، و لم يشعر أحد أين انعطف، و لا أني قصد المختطف، و لا زال في تأويب و إساد «4»، و جوب بلاد بعد بلاد، يجري جري المراكب، و يسير سير الكواكب، و يطرح كلما وقف من نجائب الجنائب، حتي نبغ من بلاد اللور، و لم يكن لأحد به شعور، و هي بلاد عامره، خيراتها متكاثره، و فواكهها وافره، اسم قلعتها بروجرد «5» و حاكمها عز الدين العباسي، و قلعتها و ان كانت في الحضيض، لكن كانت تسامي بمناعتها حصون الجبال الرواسي، و هي مجاورة همذان، و مناظرة عراق العرب كأذربيجان، فأحاط بالقلعة و ما حواليها، و حاصر ملكها المتولي عليها، و لما كان صاحبها بلا عدد، و لا عدد و لا أهبة و لا مدد، و كان في صورة المتوكل المحتسب، و أتاه البلاء من حيث لا يحتسب، لم يسعه إلا طلب الأمان، و الإنقياد له و الإذعان، فنزل إليه و سلمه قياده، فقبض عليه و ضبط بلاده، ثم أرسله إلي سمرقند و حبسه، و ضيق عليه نفسه و نفسه ثم بعد ذلك بمدة حلّفه و رفع عنه ما نابه، و صالحه علي جمل من الخيل و البغال، ورده إلي بلاده و استنابه.
و لما استخلص ذلك الكفور، ولايات تلك الكفور «6»، واصل السير إلي همذان، في أقرب زمان، فوصل إليها و أهلها غافلون، فجاءها البأس بياتا أو و هم قائلون، فخرج إليه منها رجل شريف يقال له مجتبي، و كان
______________________________
(1)- أي دخل الديماس، يعني استتر.
(2)- الدردور: موضع من البحر يجيش فيخاف منه من الغرق، و أراد هنا أن يشير إلي كثافة جيش تيمور.
(3)- انقمس: انغمس.
(4)- الإساد: السير في الليل.
(5)- بروجرد: بلد قرب همذان في بلاد الجبال. تقويم البلدان ص 419.
(6)- جمع كفر، و الكفر: البلدة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 61
عند الملوك مصطفي، ولديهم مرتضي، فشفع فيهم، فشفعه علي أن يبذلوا مال الأمان، و يشتروا بأموالهم ما منّ عليهم به من الأرواح و الأبدان، فامتثلوا أمره و فعلوا، و وزعوا ذلك فجمعوه، إلي خزائنه نقلوا، فدعته نفسه الجانيه، أن طرح عليهم المال مرة ثانية، فخرج إليه ذلك الرجل الجليل، و وقف في مقام الشفاعة مقام البائس الذليل، فقبل شفاعته، و وهبه جماعته، ثم انه سدك «1» بمكانه و جثم، حتي تلاحق به عسكره و التأم.

ابتداء تخريب ذلك الحزب، أذربيجان و ممالك عراق العرب‌

و لما بلغ السلطان أحمد بن الشيخ أويس «2»، ما فعله بغنم رعايا جيرانه اللور، و همذان ذلك الأويس، علم أنه لا بد له من قصد مملكته و دياره، لأنه هو باداه بالشر، و طرح علي شراره طائر شراره، و إن عسكره و إن كان كالسيل الهامر، فإنه لا مقاومة له ببحره و تياره، و إنه إذا جاء نهر الله بطل نهر عيسي «3»، و لا مقابلة لسحرة فرعون مع عصا موسي، قلت شعرا:
السيل يقلع ما يلقاه من شجربين الجبال و منه الصخر ينفطر
حتي يوافي عباب البحر تنظره‌قد اضمحل فلا يبقي له أثر فاستعد للبلاء قبل نزوله، و تأهب له قبل حلوله، فتشمر للهزيمه، و علم أن إيابه سالما نصف الغنيمة، و اقتصر من بسيط فقه المقاتلة و المقابلة علي الوجيز، و صمم علي الخروج من ممالك بغداد و العراق
______________________________
(1)- سدك: توقف.
(2)- أحمد بن الشيخ أويس الجلائري. انظر «العالم الاسلامي في العصر المغولي» لبرتولد شبولر- ترجمة عربية، ط. دمشق 1982- ص 82- 83.
(3)- نهر عيسي قناة متفرعة عن الفرات بالقرب من الأنبار، و كان هذا النهر يصب بالدجلة، لكن كانت مياهه تنقص في الصيف و تتوقف عن الجريان إلي أن تهطل الأمطار، و هي المعنية بنهر الله. انظر تقويم البلدان ص 52.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 62
و تبريز، و قال لنفسه: النجاء النجاء، و جهز ما يخاف عليه صحبة ابنه السلطان طاهر إلي قلعة النجاء «1»، و أرسل إلي تيمور الأشعار و الهجاء، فمن ذلك ما ترجمه و هو شعرا:
لئن كانت يدي في الحرب شلافرجلي في الهزيمة غير عرجا ثم قصد البلاد الشامية، و ذلك في سنة خمس و تسعين و سبعمائه، في حياة الملك الظاهر أبي سعيد برقوق رحمه الله تعالي، فوصل تيمور إلي تبريز، و نهب بها الذليل و العزيز، و وجه إلي قلعة النجاء العساكر، لأنها كانت معقل السلطان أحمد، و بها ولده و زوجته و الذخائر، و توجه هو إلي بغداد و نهبها، و لم يخربها و لكنه سلبها.
و كان الوالي بالنجاء رجلا شديد البأس يدعي ألتون، عند السلطان أحمد مأمون، و له إليه ركون، و معه جماعة من أهل النجده، و أولي البأس و الشده، نحوا من ثلاثمائة رجل في العده، فكان ينزل بهم ألتون، إذا أخذ الليل في السكون، و يشن الغارة علي تلك العساكر و المكان المسكون، فوهن أمر العسكر، فأبلغوا تيمور هذا الخبر، فأمدهم بنحو أربعين ألف مقاتل مشهور، مع أربعة أمراء كبيرهم يدعي قتلغ تيمور، فوصلوا إلي القلعة و لم يكن إذ ذاك ألتون فيها، و كان قد خرج الناس للغارة علي من في ضواحيها، فبينا هو راجع، اذا بالنقع ساطع، فلما اطلع طلع الخبر، قال: أَيْنَ الْمَفَرُّ فقيل كَلَّا لا وَزَرَ «2»، فعلم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فثبت جأشه و حاشيته، و توكل عليه، و قال: إن الرؤوس في مثل هذا المقام، إنما يكونون تحت الأعلام، فأحطموا نحو قلب هؤلاء اللئام، فإما أن تبلغوا المرام أو تموتوا علي ظهر الخيل، و أنتم كرام، إذ لا ينجيكم من هذا الكرب، سوي الطعن الصادق و الضرب، قلت شعرا:
______________________________
(1)- يرد اسمها أحيانا باسم «قلعة النجق»، و هي قرب نخشان في بلاد الكرج (جورجيا).
(2)- سورة القيامة- الآيتان: 10- 11.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 63 كريما مت و إلّا لئيمافما و الله بعد الموت موت فتعاضدوا بهمة صادقة، و عزيمة علي حصول الخلاص من الله تعالي واثقه، و قد أحاطوا بهم إحاطة الشبكة بالسمكة، و صاروا في وسطهم كالمغزل في الفلكه، و قصدوا الراية و حامليها، و من يليها و ذويها، فساعدهم ساعد سعد الحياة بنصريه، و حل عنهم القبض الداخل إنكيس «1» عقلته، فأسالوا علي راياتهم ذات البياض من الدماء حمره، و فتحت لجماعتهم طريق إلي عتبة النصرة، فلاح لهم فلاح، و نجح لهم نجاح، فنجوا من الشرور، و حصل لهم السرور، بعد أن قتلوا من العسكر أميرين أحدهما قتلغ تيمور، و لما وصل هذا الخبر إليه، إسودت الدنيا في عينيه، بل انقلب الكون و المكان عليه، ثم نهض إليها بنفسه، و ربض عليها بحرسه، و أحاط بجوانبها، و ألقم الحرس أفواه مضاربها.

صفة قلعة النجاء

و هذه القلعة أمنع من العقاب، و أرفع من السحاب، يناجي السماك سماكها، و يباهي الأفلاك استمساكها، كأن الشمس في شرفها، ترس من الإبريز علي بيض شرفها، و كأن الثريا في انتصابها، قنديل معلق علي بابها، لا يحوم طائر الوهم عليها، فأني يصل طائش السهم إليها، و لا يتعلق بخدم خدمتها، خلخال خيال و افتكار، فضلا عن أن يحلق علي معصم عصمتها، من عساكر الأساورة سوار، و كان ألتون قد تربي في تراب ترابها، و أهل مكة أخبر بشعابها، فصار كلما سجي الليل الساجي، و أرصد لسراق الشياطين عيونه الرواجي، هبط من تلك القلال، و سري سري طيف الخيال، و دب دبيب الشحم في اللحم، و الماء في العود، و النار في الفحم، من درب لم تتوهمه الظنون، بعون من لا تراه العيون، بحيث لا يشعر به الحرس، و لا يبصره العسس، و لا يزال يتلو عليهم آيات الإعفاء، و ينفث بطلسماته الاستخفاء، و يتقري و يترقب، حتي
______________________________
(1)- المنكوس في أشكال الرمل: الإنكيس: القاموس.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 64
يلوح له في الحي مضرب، فيقتل و يسلب، و ينهب و يهرب، فيكر سالما، و يفر غانما، فلم يزل ذلك دأبهم و دأبه، حتي أعجز تيمور و أصحابه، فلم ير تيمور أوفق من الارتحال، لضيق المجال، و عسر المنال، فارتحل عنها بعد أن رتب عليها للحصار يزك، و استمر الحصار مدة طويلة و القضاء يقول له: إصبر فإنها لن تعجزك.
قيل إنها مكثت في الحصار اثنتي عشرة سنة، و سبب أخذه لها أن ألتون المذكور، كان له أخ بالفسق مشهور، فحصل بينه و بين أم السلطان طاهر، خيانة أوجبت عليهما ما يجب علي العاهر، فاطلع علي ذلك طاهر ابن السلطان أحمد، فقبض عليهما و قتلهما سالكا في ذلك الرأي الأحمد، و كان إذ ذاك ألتون عن القلعة غائبا، قد خرج منها و قصد للغارة جانبا، فلما رجع ألتون أغلقوا باب القلعة عليه، و رموا بأخيه من فوق السور إليه، و أخبروه خبره، و عجره و بجره، فقال جزاكم الله أحسن الجزاء، و جعل حظكم من الخيرات أوفر الأجزاء، لو كنت عالما فعله، أو حاضرا قتله، لعاملته بما هو أهله، و فعلت به ما يجب فعله، و يحل به من الزمان دواهيه، و لأريتكم العبر فيه، و لأشهرته في خلق الله تعالي و بريته، و ناديت عليه: هذا جزاء من يخون ولي نعمته، ثم طلب الدخول، فقطعوه عن الوصول، فقال: أما أخي فإنه جني فذاق ثمرة ما جناه، و أما أنا فقلبي علي الوفاء بعهدكم من الأزل و إلي حين الوفاة، و لم أزل موالي وليكم، فقالوا: ربما أدركتك الحمية، و لحقتك العصبية، فتذكرت أخاك، و تفكرت شدتك بعد رخاك، فنقمت، و انتقمت، و اعوججت بعد ما استقمت، و تكدر منك ما صفا، و ناهيك قصة الأخوين مع ذات الصفا، و قلت شعرا:
و يمكن وصل الحبل بعد انقطاعه‌و لكنه يبقي به عقدة الربط فانشأ لهم أيمانا واثقه، أن كلماته و عهوده صادقه، فقالوا له: لا تطل فما حييت، مالك عندنا مقيل و لا مبيت، فارجع من حيث جئت، و هذا
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 65
آخر العهد منك غضبت أم رضيت، فأخذ يذم دهره، و يعض يديه ندامة و حسرة، علي أنه أنفد عمره، في طاعة من لم يعرف قدره، ثم دنا فتدلي، و عبس فتولي، و سيب فرسه و ماله، و فرق خيله و رجاله، و لما لم يكن له ملجأ، سوي قلعة النجاء، و قد خرجت من يده، و ألقت النار في كبده، ضرب أخماسا لأسداس، فيمن يقصده من الناس.
ثم أوري برأيه الزند، أن يقصد مدينة مرند «1»، و كانت تحت حكم تيمور، و فيها أوامره تمور، فسالمها، و قصد حاكمها، لابسا لبدا، و تاركا مالا و ولدا، و لما اتصل بحاكمها الخبر، أحاط به الجبن و الخور، فاضطرب و اقشعر، و اضطرم و اعتكر، و أخذه الحذر، و رام المفر، فقيل إنه وحده، من غير رجال وعدة، فرجع عقله إليه، و دخل ألتون عليه، فأخذ في التفتيش عن أموره، ثم قطع رأسه و أرسله إلي تيموره، فتحرق لذلك و انتكي، و تأسف عليه و بكي، و أرسل إلي قاتله فعزله، ثم صادره و قتله، ثم إن السلطان طاهر لما أحدث هذا الحدث، و تنجس بهذه الخبائث و الخبث، لم يمكنه الإقامة فأذن بالرحيل، و أم بجماعته قبلة التحويل إذ نشزت عنه مخدرات القلعة، فعجز عن إحصان تحصينها، و عنن في افتضاض أبكارها و عونها «2»، و قل جيشه و انفل، فسل متاعه و انسل «3»، فذل لتيمور صعابها، و فتح له من غير معالجة بابها، فولي فيها من يثق من الأعوان، و وصي به لعلة المجاورة الشيخ إبراهيم حاكم شروان، ثم ثني عنان الفساد، إلي صوب بغداد، فهرب السلطان أحمد كما ذكر إلي الشام في فئه، و ذلك في شوال سنة خمس و تسعين و سبعمائه، فوصل إليها حادي عشر يوم السبت، فكبتها و من حواليها أي كبت، ثم صدر هو و قبيله عن ولاية بغدان قاصدين ديار بكر و أرزنجان.
______________________________
(1)- مدينة في أذربيجان علي مسيرة يومين من تبريز، في الجهة الشمالية الشرقية منها. معجم البلدان. تقويم البلدان ص 451.
(2)- العون: المرأة في منتصف عمرها.
(3)- كان خروجه في سنة 802 ه/ 1400 م
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 66

ذكر أخبار صاحب بغداد و أسماء آبائه و الأجداد و كيفية دخوله إلي هذه البلاد

و هو السلطان مغيث الدين أحمد ابن الشيخ أويس ابن الشيخ حسن ابن حسين بن أقبغا بن ايدكان، صاحب بغداد و أذربيجان، و ما أضيف إلي ذلك، من ولايات و ممالك، و ايد، كان جده الأعلي ابن الخان الكبير النجيد، شرف الدين سبط الخان أرغون بن أبي سعيد «1»، كان والده الشيخ أويس، من أهل الديانة و الكيس، ملكا عادلا، و إماما شجاعا فاضلا، و مؤيدا منصورا، صارما مشكورا، قليل الشر، كثير البر، صورته كسيرته حسنه، و كانت دولته تسع عشرة سنه، و كان محبا للفقراء، معتقدا للعلماء و الكبراء، و كان قد أبصر في منامه، لوقت موافاته حمامه، ثم صدر هو و قبيلته عن ولاية بغداد قاصدين ديار بكر و أرزنجان، فاستعد لحلول فوته، و رصد نزول موته، و خلع من الملك يده، و ولاه حسنا ولده، و هو أكبر بنيه، و الأفضل من أهله و ذويه، و نبذ دانيه و دنياه، و أقبل علي طاعة مولاه، و استعطفه إلي الرضي، و العفو عما مضي، و لازم صلاته و صيامه، و زكاته و قيامه، و لا زال يصلي و يصوم، حتي أدركه ذلك الوقت المعلوم، فأظهر سره المصون، و تلا: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ «2»، فدرج علي هذه الطريقة الحسنة، و قد جاوز نيفا و ثلاثين سنه، و من مغرب تبريز أفل قمره، و في سنة ست و سبعين و سبعمائة وصل إلي الشام خبره، و استقر ولده جلال الدين حسن مكانه، و أفاض علي رعيته فضله و إحسانه، و كان كريم الشمائل، جسيم الفضائل، وافر الشهامه، ظاهر الكرامه، أراد أن يمشي علي سنن والده، و يحيي ما دثر من رسوم آثاره و معاهده، فخذلته الأقدار، و خالطت صفو مساعيه الأكدار، و في سنة ثلاث
______________________________
(1)- كذا و هو وهم لأن أبا سعيد كان حفيد أرغون. انظر زامباور ج 2 ص 362- 363.
(2)- سورة الأعراف- الآية: 34.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 67
و ثمانين و سبعمائه، وصل من قصاده إلي الشام فئة، و هم القاضي زين الدين علي بن جلال الدين عبد الله بن نجم الدين سليمان العباسي الشافعي، قاضي بغداد و تبريز، و الصاحب شرف الدين ابن الحاج عز الدين الحسين الواسطي، وزير السلطان و غيرهما.
ثم في جمادي الآخرة من هذه السنة وثب السلطان أحمد علي أخيه المشار إليه فقتله، و قام لينصر الملك و الدين مكانه فخذله، فملأ جفن حياته من الفنا سنة، و عمره إذ ذاك نيف و عشرون سنة، و لما استولي السلطان أحمد علي ممالك العراق، مد يد تعديه و ضم جناح الشفقة و الإرفاق، و شرع يظلم نفسه و رعيته، و يذهب في الجور و الفساد يومه و ليلته، ثم بالغ في الفسق و الفجور، فتجاهر بالمعاصي و تظاهر بالشرور، و اتخذ سفك الدماء، إلي سبل الإقراض و ثلب الأعراض سلما.
فقيل إن أهل بغداد مجوه، و استغاثوا بتيمور، فأغيثوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ «1»، فلم يشعر و إلا و التتار قد دهمته، و عساكر الجغتائي خيلا و رجلا حطمته، و ذلك يوم السبت المذكور، من الشهر المشهور، فاقتحموا بخيلهم و رجلهم، و قصدوا الأسوار، و لم يمنعهم ذلك البحر التيار، و رماهم أهل البلد بالسهام، و علم أحمد أنه لا ينجيه إلا الانهزام، فخرج فيمن يثق به قاصدا الشام، فتبعه من الجغتائي طائفة لئام، فجعل يكر عليهم و يرد عنهم، و يفر منهم فيطمعهم، و حصل بينهم قتال شديد، و قتل من الطائفتين عدد عديد، حتي وصل إلي الحلة، فعبر من جسرها نهر دجله، ثم قطع الجسر، و نجا من ورطة الأسر، و استمرت التتار في عقبه، تكاد أنوفها تدخل في ذنبه، فوصلوا إلي الجسر و وجدوه مقطوعا، فتراموا في الماء، و خرجوا من الجانب الآخر و لم يزالوا تابعا و متبوعا، ففاتهم و وصل إلي مشهد الإمام «2»، و بينه و بين بغداد ثلاثة أيام.
______________________________
(2)- سورة الكهف- الآية: 29.
(1)- مشهد الامام علي كرم الله وجهه في النجف الأشرف.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 68

ذكر ما افتعله من الخديعة و المكر في بلاد أرزنجان و ديار بكر

فوصل إلي ديار بكر و استخلصها، و من أيدي ولاتها خلصها، فعصت عليه قلعة تكريت، فسلط عليها من عساكره كل عفريت، و ذلك يوم الثلاثاء رابع عشر ذي الحجه، و قد ارتجت منه البلاد أشد رجة، فحاصرها و أخذها في صفر بالأمان، و نزل إليه متوليها حسن بن يولتمور متدرع الأكفان، و في حضنه و علي عاتقه أطفاله، و قد ودعه أهله و ماله، و أسلمته خيله و رجاله، و ذلك بعد أن عاهده أن لا يريق دمه، فأرسله إلي حائط فقضه عليه و ردمه، و قتل من بها من رجال، و سبي النساء و أسر الأطفال، و جعل يعيث و يستأصل، و يقطع في الفساد و يوصل، حتي أناخ يوم الجمعة حادي عشري صفر سنة ست و تسعين علي الموصل، فأخربها و كسرها، ثم أتي رأس عين و نهبها و أسرها، ثم إلي الرها تحول، و دخلها يوم الأحد عشرة شهر ربيع الأول، فزاد عبثا و فسادا، و جاري فيما عاند ثمودا و عادا، و خرج من تلك البلد، ثاني عشرية يوم الأحد، ثم اختار من نسور قومه طائفه، علي ورد الدماء حائمه، و علي قتل المسلمين عاكفه، فأخذهم و اندعر «1»، و في ممالك ديار بكر انغمر، و لم يزالوا بها عابثين، و لأذاها قاصدين، و عليها ظالمين، و فيها ماردين، فقصدها بتلك العفاريت المصاليت، و واصل السير إليها فوصل في خمسة أيام من تكريت، و مسافة ما بينهما للمجد، اثني عشر يوما إن لم تزد، و كان سلطانها الملك الظاهر «2»، تحقق أنه لا يضر من التجأ إليه، و قدم في ثوب الطاعة عليه، فما وسعه إلا التشبث بذيل ذممه، و الانتظام في سلك خدمه.
______________________________
(1)- اندعر: هجم
(2)- هو السلطان الظاهر مجد الدين عيسي (778- 809 ه/ 1375- 1406 م)، السادس عشر من حكام الأسرة الأرتقية- فرع ماردين. زامباور ج 2 ص 345.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 69

ذكر ما جري لسلطان ماردين عيسي الملك الظاهر، من المحنة و البلاء مع ذلك الغادر الماكر

لكنه خاف غائلته، فجمع حاشيته و صاغيته، و قال: إني ذاهب إلي هذا الرجل، و مظهر له الانقياد، فإن ردني حسبما أريد فهو المراد، و إن طالبني بالقلعه، فكونوا أنتم علي التأبي و المنعة، و إياكم أن تسلموها إليه، أو تعتمدوا في الكلام عليه، و إن دار الأمر بين تسليم القلعة و بين إتلافي، فاحتفظوا بالقلعة و اجعلوا التلافي في تلافي، فإنكم إن تسلموها إليه، خرجتم من باطنكم و ظاهركم، و أتي بالهلاك علي أولكم و آخركم، و خسرتم شعاركم و دثاركم، و غبنتم في أنفسكم و دياركم، و إذا كان كذلك، فأنا أجعل نفسي فداكم، و أكفيكم بروحي ما دهاكم، و بعض الشر أهون من بعض، و ها أنا أجس لكم النبض، ثم قصد ذلك الكالح، المفسد الطالح، بعد ما استخلف ابن أخيه الملك الصالح، شهاب الدين أحمد بن الملك السعيد، اسكندر بن الملك الصالح الشهيد، و نزل يوم الأربعاء خامس عشري شهر ربيع الأول سنة ست و تسعين و سبعمائه، و اجتمع به في سلخه بمكان يسمي الهلالية فقابله بشنعه، و قبض عليه بسرعه، و طلب منه تسليم القلعه، فقال: القلعة عند أربابها، و بيد أصحابها، و أنا ما أملك إلا نفسي فقدمتها إليك، و قدمت بها عليك، فلا تحملني فوق طاقتي، و لا تكلفني غير استطاعتي، فأتي به القلعة و طلبها منهم فأبوا، فقدمه إليهم ليضرب عنقه أو يسلموه فنأوا، فطلب منه في مقابلة الأمان، من الدراهم الفضة مائة تومان، كل تومان ستون ألفا، خارجا عما يتقرب به إليه زلفي.
ثم إنه شد وثاقه، و سد عليه ليذهب عنه ما به من قوة، كل باب و طاقه، و شمر للفساد ذيله، و جعل يريح رجله و يسمن خيله، و يتفوق «1» كاسات فساده، و يعربد علي عباد الله و بلاده، و استمر علي
______________________________
(1)- أي يشرب.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 70
ذلك لا يعي و لا يفيق، و يتردد ما بين الفردوس إلي رسمل «1» و نصيبين و الموصل العتيق، ثم أمر عساكره في جمادي الآخرة أن يمردوا «2» قاصدين، و يقصدوا ماردين، فسابقوا الطير، و لا حقوا السير، و جاوزوا بالنهار الأنهار، و بالليل السيل، فقطعوا فقار القفار، قطع الهندي «3»، و عملوا في تلك الجبال و القلاع بما قاله الكندي «4» و هو:
سموت إليها بعد ما نام أهلهاسمو حباب الماء حالا علي حال «5» فوصلوا إليها علي غفلة، و احتووا عليها من غير مهله، و ذلك يوم الثلاثاء ثاني عشره، و قد سل الصبح حسام فجره، و طار غراب الدجي عن وكره، فصاروا سوار معصم تلك الأسوار، و أحلوا الدمار هاتيك الديار، فعموها رجفا، و ساموها خسفا، و هدوها زحفا، و دكوها و جفا، و تعلقوا بأهداب أرجائها، و تسلقوا بالسلالم من أرضها إلي سمائها، و كان متسلقهم علي الأسوار، من القبلة رابية اليهود، و من الغرب التلول، و من الشرق المنشار، فأخذوا المدينة عنوة و قهرا، و ملأوها فسقا و كفرا، و ترفع أهل المدينة إلي القلعة، و لم يكره أحد سواهم علو المنزلة و الرفعة، و اكوهدوا «6» ملتجئين إلي قوادمها و خوافيها، و ذب عنهم من القلعة بالسهام و المكاحل من كان فيها، فقتلوا من ظفروا به ذكرا و انثي، صغيرا و كبيرا، و لم يرتضوا بما فيها نهبا و بمن فيها أسيرا، فجالد بعض الناس، و أظهر لهم بعض الجلاده، و أراد بتثبته لهم أن يضم الجهاد إلي الشهاده، و لا زالت آيات القتال عليهم تتلي، حتي امتلأت المدينة من الجرحي و القتلي، و استمر ذلك من قبل طلوع الشمس، إلي أن صار اليوم أمس،
______________________________
(1)- الفردوس و رسمل: مواقع في ربض ماردين.
(2)- أي يفسدوا و يخربوا من تمرد.
(3)- الهندي هنا: السيف.
(4)- الكندي: امرؤ القيس الشاعر.
(5)- ديوان امري‌ء القيس- ط. دار صادر بيروت- ص 141.
(6)- اكوهدوا: من كهد بمعني تعب.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 71
و حين التقي علي و جنتي الكون عارضا الليل، و استوفي أولئك المطففون من ظلمهم و تعديهم الميزان و الكيل، و بادر نون الظلام، يونس الشمس بالالتقام، طرأ علي تلك الحركات السكون، فتراجعوا، و نزل العسكر مقابل عربون، و قد قتل من العسكريين ما سبق العدد، و أكثرهم كان من أهل البلد، فباتوا يعدون السلاح و يثقفونه، و ينتظرون الصباح و يستبطئونه، إلي أن شق الليل مكتوم جيبه، و أظهر الظلام مكنون غيبه، و أمر الكون وجه النهار أن يضرب علي جنبي الآفاق أصراف شيبه، بكروا بكور الغراب، و بدروا إلي الحراب و الخراب، و عصروا أهل المدينة، و حاصروها أشد حصر، و هدموها و أسوارها من الظهر، فمحوا آثارها بعد العصر، ثم باؤوا بالآثام، و قد انتشر كظلمهم الظلام.

ايضاح ما أخفاه من الحيله، و صلود «1» زند تلك الأفكار الوبيله‌

و لما آب ليله بالخيبه، و لم يمكنه تحصيل القلعة بالهيبة، شحذ فكرا، و حدد مكرا، و تاب عن المقابحة، و ثاب إلي المصالحة، فردع ذلك الخسيس، في نهار ذلك الخميس، و أرسل إليهم يقول، ضمن كتاب مع الرسول:
«نعلم أهل قلعة ماردين، و الضعفاء و العجزة المساكين العطاش، أننا قد عفونا عنهم و أعطيناهم الأمان علي نفوسهم و دمائهم، فليأمنوا و ليضاعفوا لنا الأدعية»، و هذه الرسالة نقلتها كما وجدتها، فما استتب كيده، و لا نجح قصده، لأن رصدها كانوا غير راقدين، و شياطين حرسها كانوا لها كزي ماردين، فارتحل ذلك البليه، بكرة السبت إلي البشيريه «2».
و أرسل إلي آمد الجنود، مع أمير يدعي سلطان محمود «3»، فتوجه بجيش طام، و حاصرها خمسة أيام، و أرسل يستمده عليها، فتوجه بنفسه
______________________________
(1)- الصلود: صوت الزند أثناء قدحه ليشتعل، و الزند هو العود الأعلي الذي تقتدح به النار.
(2)- البشيرية: ربض من أرباض آمد.
(3)- هو محمود بن سيور غاتمش، ولاه تيمور في عام 790 ه/ 1388 م علي عرش خانية جغتاي بعد وفاة والده.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 72
إليها، و أحلها الهوان، فطلبوا الأمان، فأمن البواب، ففتح له الباب، فدخل من باب التل، و وضع السيف في الكل، فأباد الجميع، العاصي منهم و المطيع، و أسروا الصغار، و هتكوا أستار الحرم، و حرم الأستار، و أذاقوا الناس، لباس البأس، و التجأ بعض الناس إلي الجامع، فقتلوا منهم نحو ألفي ساجد و راكع، ثم حرقوا الجامع، و رحلوا و تركوها بلاقع، فهداه إبليس، إلي أخذ قلعة أرجيش «1»، ثم بادر بالتحريك، و حط علي قلعة أونيك «2»، و فيها مصر بن قرا محمد أمير التركمان «3»، فحاصروها و أخذوها بالأمان، و ذلك سنة ست و تسعين و سبعمائة بعد عيد رمضان، ثم قتل كل من كان بها من الجند، و صير مصر إلي سمرقند.
فصل: ثم استصحب الملك الظاهر بسوء نية، و رحل سابع ذي القعدة سنة ست و سبعين و سبعمائه و حبسه في مدينة سلطانية، و حبس عنده من أمرائه الأمير ركن الدين، و عز الدين التركماني، و استنبوغا، و ضياء الدين، و ضيق عليه بأن يقطع عن أهله خبره، بحيث لا يدري أحد عجره و بجره، و لما أثخنه و شد الوثاق، قصد التوجه إلي دشت قفجاق، فأجري نحوها ما أقام من الفتنة علي قدم و ساق.
و مكث الملك الظاهر سنة، لا يدري أحد خبره في يقظة و لا سنة، ثم و فدت الملكة الكبري «4» إلي سلطانيه، و خففت عنه ما به من ضيق و بليه، و فسحت له في مراسلة جماعته، و حرضته علي طلب الدخول في رضي تيمور و طاعته، زاعمة أنها ناصحة له و طالبة مصلحته، و كان ذلك من مكائد تيمور و بإشارته.
______________________________
(1)- قلعة أرجيش قرب خلاط. معجم البلدان.
(2)- قلعة أونيك قلعة كبيرة، فوق جبل أحد منابع نهر الرس (أراكس الحالي) في شمالي أذربيجان لسترانج: ص 150.
(3)- هو أمير قبائل القراقونيلو (الشاة السوداء)
(4)- هي كما تقدم زوجة تيمور المدعوه دلشلد آغا قمر الدين خان الجتا، التي توفيت سنة 785 ه/ 1383 م، و بناء عليه كانت زوجة تيمور التي توسطت للسلطان الظاهر عيسي هي سرايملك خانوم، فهي التي كانت ترافقه في هذه الحملة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 73
ثم رجع تيمور من الدشت في شعبان، سنة ثمان و تسعين، فمكث بسلطانيه ثلاثة عشر يوما، ثم توجه إلي همذان، و مكث بها إلي ثالث عشر شهر رمضان، ثم استدعي من سلطانيه الملك الظاهر، بإكرام تام، و انشراح صدر و خاطر، ففكوا قيوده و قيود متعلقيه، و عظموه غاية التعظيم مع ذويه.
و توجه إليه يوم الخميس خامس عشره، و دخل عليه يوم السبت سابع عشره، فتلقاه بالاحترام و اعتنقه، و أذهب عنه دهشه و قلقه، و قبله في وجهه مرارا، و اعتذر إليه مما فعله معه جهارا، و قال له: إنك لله ولي، و رفيع القدر كأبي بكر و علي، و تحلل منه، عما صدر في حقه عنه، و أضافه ستة أيام، و خلع عليه خلع الملوك العظام، و أحله محلا جميلا، و أعطاه عطاء جزيلا، من ذلك مائة فرس و عشرة بغال، و ستون ألف دينار كبكية «1» و ستة جمال، و خلعا مزركشة مكلله، و انعامات وافرة مكملة، و لواء يخفق علي رأسه منصورا، و ستة و خمسين منشورا، كل منشور بتولية بلد، و أن لا ينازعه فيه أحد، أول ذلك الرها إلي آخر ديار بكر، إلي حدود أذربيجان، و أرمينيه، و كل ذلك من الدهاء و المكر، و أن جميع حكام تلك البلاد يكونون تحت طاعته، معدودين في جملة خدمه و جماعته، يحملون إليه الخراج و الخدم، و لا ينقلون إلا عن أمره قدما عن قدم، بحيث يكون شخص كل من مجاوريه بما أفاء الله عليهم لظله فيئا، و يعفي هو فلا يحمل إلي تيمور و لا إلي غيره شيئا.
و هذا و إن كان في الظاهر كالإكرام فإنه فيما يؤول إليه و بال عليه و انتقام، و فيه كما تري ما فيه، و إلقاء العداوة بينه و بين مجاوريه، و ينجرّ ذلك إلي أن يلتجي‌ء إليه، و يعول في كل أموره عليه، و يدخل لكثرة الأعداء تحت ضبنه «2»، فيصل إذ ذاك منه إلي حضنه، ثم إنه شرط عليه، أنه كلما طلبه جاء إليه.
______________________________
(1)- تنسب الدنانير الكبكية إلي الخان الجغتائي كبك بن دوا (718- 726 ه/ 1318- 1326 م) زامباور ج 2 ص 372- 373.
(2)- الضبع من الجسد: ما بين الكشح و الإبط.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 74
ثم عانقه و ودعه، و أمر أمراءه بتشييعه، فخرج من الضيق إلي السعه، لثالث عشري شهر رمضان ليلة الجمعة، سنة ثمان و تسعين و سبعمائه، فوصل إلي سلطانيه، في عيشة رضية و حالة هنية.
ثم عزم علي تبريز، في محفل نفيس عزيز، و اجتمع باميران شاه، فزاد في إكرامه و عطاياه، و شيعه في أحسن هيئة و أيمن طور، فجاء علي وسطان «1» و بدليس «2» و أرزن إلي الصور «3»، و وصل خبره إلي قبائله و العشائر، فابتهج الناس و دقت البشائر، يوم الجمعة حادي عشري شوال، و خرج أهل المدينة و الأكابر للإستقبال، و سبق الناس ولي عهده الملك الصالح، فدخل المدينة بفأل سعيد و أمر ناجح، و توجه إلي مدرسة حسام الدين، وزار والده و أمواته الماضين، و عزم علي ترك التخت المنيف، و التوجه إلي الحجاز الشريف، فلم يتركه الناس خاصة و عامة، و تراموا عليه و قبلوا أقدامه، فصعد إلي محل كرامته، و استقر في كرسي مملكته، و سيأتي لهذا الشأن مزيد بيان، و ما جري من الأمور، عند قدوم تيمور، و حلول عسكره اللئام، ماردين بعد خرابهم ممالك الشام، قيل لما استقر الملك الظاهر في مملكته، اجتمع عنده جماعة من أدباء قدماء حضرته، فاقترح عليهم أن يقولوا في ذلك شيئا فقال أو لا بدر الدين حسن بن طيفور شعرا:
طغي تمر و استأصل الناس ظلمه‌و شاعت له في الخافقين الكبائر
لقد زاد بغيا فافرحوا بزواله‌لأن علي الباغي تدور الدوائر فقال ركن الدين حسين بن الأصفر أحد الموقعين ثانيا شعرا:
كن من رجال إذا ما الخطب نابهم‌ردّوا الأمور إلي الرحمن و اغتنموا
فسلموا الأمر لما أن رأوا خطرالذي الجلال فلما سلّموا سلموا
______________________________
(1)- وسطان من مدن أرمينية علي شاطي‌ء بحيرة أرجيش (و ان حاليا)، تقويم البلدان ص 397.
(2)- بدليس من مدن أرمينية بين خلاط و ميافارقين. تقويم البلدان ص 395.
(3)- الصور: بلدة بديار بكر بين حصن كيفا و ديار بكر. القرماني- آثار الدول- ط. عالم الكتب، بيروت- ص 461.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 75
فقال القاضي صدر الدين ابن ظهير الدين الحنفي السمرقندي ثالثا شعرا:
طويل حياة المرء كاليوم في غدفخيرته أن لا يزيد علي الحدّ
و لا بدّ من نقص لكل زيادةو إن شديد البطش يقتص للعبد ثم قال علاء الدين بن زين الدين الحصني أحد الموقعين رابعا دو بيت شعرا:
لا تحزن فالذي قضي الله يكون‌و الأمر موكل إلي كن فيكون
ما بين تحرّك بلحظ و سكون‌الحالة تنقضي و ذا الأمر يهون فأعجبه ذلك، و أجازه خمسة آلاف درهم، و صرفه، و الله أعلم.

ذكر رجوعه من ديار بكر و العراق، و توجهه إلي مهامه قفجاق و وصف ملوكها و ممالكها، و بيان ضياعها و مسالكها

ثم انه رجع من عراقي العرب و العجم، و قد ثبتت له في ممالكها آية قدم، و ذلك أن قدم عليه الشيخ إبراهيم «1»، و سلمه مقاليد ما بيده من الأقاليم، فتقلد طوق عبوديته، و وقف في مواقف خدمته، و انتظم في سلك عبده، و أحله محل ولده، و سنذكر كيف تعرف إليه، و من أي طريق تقرب إليه.
فقصد دشت قفجاق، وجد في الوخذ و الأعناق «2»، و هو ملك فسيح، يحتوي علي مهامه فيح، و سلطانها توقتاميش، و هو الذي كان في حرب تيمور أمام السلاطين المخالفين كالجاليش، إذ هو أول من بالعداوة بارزه، و في بلاد تركستان واقفه و ناجزه، و انجده في ذلك كما مر السيد بركه، و بلاد الدشت تدعي بلاد قفجاق و دشت بركه،
______________________________
(1)- حاكم منطقة شروان، انظر أخباره عند القرماني ص 342.
(2)- الوخذ: السير السريع، و الأعناق: السير الواسع الفسيح.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 76
و الدشت باللغة الفارسية اسم للبريه، و بركة المضاف إليه هو أول سلطان، أسلم و نشر بها رايات الملة الاسلامية، و إنما كانوا عباد أوثان، و أهل شرك، لا يعرفون الإسلام و الايمان، و منهم بقية يعبدون الأصنام إلي هذا الأوان، فتوجه إلي ذلك الأقليم، من طريق الدربند الجاري تحت حكم الشيخ إبراهيم.
و هو سلطان ممالك شروان، و نسبه متصل بالملك كسري أنوشروان، و له قاض يدعي أبا يزيد، يفضل علي جميع أركان دولته بالقرب إليه و يزيد، هو دستور مملكته، و قطب فلك سلطنته، فاستشاره في أمور تيمور، و ما يفعله، أيطيعه أم يتحصن منه، أم يفر، أم يقاتله، فقال له:
الفرار في رأيي الصواب، و التحصن في الجبال الشواهق أوثق عندي و أنسب، فقال: ليس هذا برأي مصيب، أنجو أنا و أترك رعيتي ليوم عصيب، و ماذا أجيب يوم القيامة رب البريه، إذا رعيت أمورهم و أضعت الرعيه، و لا عزمت أن أقاتله، و بالحرب و الضرب أقابله، و لكني أتوجه إليه سريعا، و أتمثل بين يديه سامعا لأمره مطيعا، فإن ردني إلي مكانتي، و قررني في ولايتي، فهو قصدي و غايتي، و إن آذاني عزلني، أو حبسني أو قتلني، فتكفي الرعية مؤنة القتل و النهب و الإسار، فيولي إذ ذاك عليهم و علي البلاد من يختار، ثم أمر بالإقامات فجمعت، و أذن للجيوش فتفرقت و تمنعت، و بمدن الولايات أن تتزين و تتزوق، و بسكانها برا و بحرا أن تأمن فتعامل و تتأنق، و بالخطب أن تقرأ فوق المنابر باسمه، و بالدنانير و الدراهم أن تضرب بوسمه و رسمه، ثم حمل التقادم و الخدم، و توجه إليه بأطيب جأش و أثبت قدم.
و لما وفد عليه و تمثل بين يديه، قدم له الهدايا و التحف، و أنواع الغرائب و الطرف و عادة الملوك الجغتاي في تقديمهم الخدم أن يقدموا من كل جنس تسعه، لينالوا بذلك عند المهدي إليه الكرامة و الرفعه، فقدم الشيخ إبراهيم من كل جنس من أصناف ما قدمه تسعه، و من
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 77
المماليك ثمانيه، فقال له المتسلمون لذلك: و أين تاسع المماليك؟ فقال التاسع نفسي العانية، فأعجب تيمور هذا الكلام، و وقع من قلبه بمكان و مقام، و قال له: بل أنت ولدي، و خليفتي في هذه البلاد و معتمدي، و خلع عليه خلعة سنيه، ورده إلي مملكته مستبشرا ببلوغ الأمنيه، ثم فرقت تلك الإقامات، و توزعت الفواكه و الطعامات، ففضل منها أمثال الجبال، عن ذلك العسكر الذي هو كالحصا و الرمال، ثم تركه و سار، إلي بلاد الشمال و التتار.
و سبب آخر لقصده تلك الممالك و إن كان لا يحتاج إلي ذلك أن الأمير أيدكو كان عنده توقتاميش أحد رؤوس أمراء الميسره، و الأعيان المتخذين في النائبات لدفعها، و أرباب الرأي و المشوره، و قبيلته تدعي قونكرات، و قبائل الترك كقبائل العرب، و اللغات كاللغات، و كان أيدكو قد أحس من مخدومه، تغير خاطر خاف منه علي نفسه، و كان توقتاميش شديد البأس فخشي منه حلول بأسه، فلم يزل منه متحرزا، و للفرار إذا رأي منه ما يقتضي ذلك مستوفزا، و جعل يراقيه، و يذاريه و يداريه، ففي بعض ليالي السرور، و نجوم الكاسات في أفلاك الطرب تدور، و سلطان الخمرة، قد أنفذ في أسير العقل أمره، طفح أن قال توقتاميش لايدكو، و نور البصيرة يخبو و يذكو: إن لي و لك يوما، يسومك الخسف سوما، و يوليك عن موائد الحياة صوما، و يملأ عين بقائك من سنة الفناء نوما، فغالطه ايدكو و باسطه، و قال: أعيذ مولانا الخاقان، أن يحقد علي عبد ما خان، و أن يذوي غراسا هو أنشأه، أو يهوي أساسا هو بناه، ثم أظهر التذلل و الخشوع، و التمسكن و الخنوع، و تحقق ما كان ظنه، و أعمل في وجه الخلاص ذهنه، و استعمل في ذلك الذكاء و الفطنة، و علم أنه إن أهمل أمره أو أمهله أنه.
فمكث قليلا، و استغفل السلطان، ثم انسل من بين الحواشي و الأعيان، و خرج في لجاجه، كأن يريد قضاء حاجه، و أتي اصطبل
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 78
توقتاميش، بجأش يجيش و لا يطيش، و عمد إلي فرس مسرجه، منجية منتجة، أقيمت معدة، لكل شدة، و قال لبعض حاشيته، المؤتمن علي سره من حاشيته، من أراد أن يوافيني، فعند تيمور يلاقيني، و لا تفش هذه الأسرار، إلا بعد أن تتحقق أني قطعت القفار، ثم تركه و سار، فلم يشعر به إلا و قد سبق، و ركب طبقا عن طبق، و قطع علي أنوال السير أطول الشقق، فلم يدركوا منه آثار، و لا لحقوا منه و لا الغبار.
فوصل إلي تيمور و قبل يديه، و عرض حكايته و أخباره كما جرت عليه، و قال أنت تطلب البلاد الشاحطه «1»، و الأماكن الوعرة الساقطه، و تركب في ذلك الأخطار، و تقطع فقار القفار، و تتلو أسفار الأسفار، و هذا المغنم البارد بين نصب عينك، تدركه هنيئا مريئا بهينك و لينك، ففيم التواني و التناعس؟ و علام التقاعد و التقاعس؟ فانهض بعزم صميم، فأنا لك به زعيم، فلا قلعة تمنعك، و لا منعة تقلعك، و لا قاطع يدفعك، و لا دافع يقطعك، و لا مقابل يقابلك، و لا مقاتل يقاتلك، فما هو إلا أوشاب و أوباش، و أموال تساق و خزائن بأرجلها مواش، و لا زال يحرضه علي ذلك و يطالب، و يفتل منه في الذروة و الغارب، كما فعل معه عثمان قرا أيلوك «2»، حين جاء إلي تبريز بوسواسه، و حرضه علي دخوله الشأم بعد قتله السلطان برهان الدين أحمد و محاصرة سيواسه- كما يذكر- فتهيأ تيمور بأوفي حركة، إلي استخلاص دشت بركة، و كانت بلادا بالتتار خاصة، و بأنواع المواشي و قبائل الترك غاصة، محفوظة الأطراف، معمورة الأكناف، فسيحة الأرجاء، صحيحة الماء و الهواء، حشمها رجاله، و جنودها نباله، أفصح الأتراك لهجة، و أزكاهم مهجة، و أجملهم جبهه، و أكملهم بهجه، نساؤهم شموس، و رجالهم بدور، و ملوكهم رؤوس و أغنياؤهم صدور، لا زور فيهم و لا تدليس،
______________________________
(1)- الشاحطة: البعيدة
(2)- عثمان قرايلوك هو بهاء الدين مؤسس دولة تركمان الشاة البيضاء (آق قيونلو) في نواحي ديار بكر، بين الموصل و آمد في حوالي سنة 780 ه/ 1378 م. القرماني ص 336.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 79
و لا مكر بينهم و لا تلبيس، دأبهم الترحال علي العجل، مع أمان لا يدانيه وجل، مدنها قليلة، و مراحلها طويله.
وحد بلاد الدشت من القبلة بحر القلزم «1» الظلوم الغشوم، و بحر مصر «2» المنقلب إليهم من بلاد الروم، و هذان البحران، كادا يلتقيان، لو لا أن جبل الجركس بينهما برزخ لا يبغيان، و من الشرق تخوم ممالك خوارزم و أترار و سغتاق، إلي غير ذلك من البلاد و الآفاق، آخذا إلي تركستان و بلاد الجتا، متوغلا إلي حدود الصين من ممالك المغول و الخطا، و من الشمال مواضع و برار و قفار و رمال كالجبال، و كم في ذلك من تيه، تحيّر الطير و الوحش فيه، و هو كرضي أكابر الزمان غاية لا تدرك، و مهامه لا تسلك، و من الغرب تخوم بلاد الروس و البلغار، و ممالك النصاري و الأشرار، و يتصل بتلك التخوم، ما هو جار تحت حكم ابن عثمان من ممالك الروم.
و كانت القوافل تخرج من خوارزم و تسير بالعجل، و هم آمنون من غير ريب و لا و جل، و إلي قريم طولا و مسيرة ذلك نحو من ثلاثة أشهر، و أما عرضا فهو بحر من الرمل أمده سبعة أبحر، لا يهتدي فيه الخريت «3»، و لا يقربه من الدعاميص كل عفريت، فكانت القافلة لا تحمل زادا و لا عليقا، و لا يصبحون معهم رفيقا، و ذلك لكثرة الأمم، و وفور الأمن و المأكل و المشرب من الحشم، فلا يصدرون إلا عن قبيلة، و لا ينزلون إلا عند من يكرم نزيله، و كأنه قيل فيهم شعرا:
متكنفي جنبي عكاظ كليهمايدعو وليدهم بها عرعار و اما اليوم فليس بتلك الأماكن، من خوارزم إلي قريم من تلك الأمم
______________________________
(1)- بحر القلزم هنا بحر الخزر.
(2)- أي البحر الأسود.
(3)- الدليل البارع.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 80
و الحشم، متحرك و لا ساكن، و ليس فيها من أنيس، إلا اليعافير «1» و إلا العيس «2»، و تخت الدشت سراي و هي مدينة اسلامية البنيان، بديعة الأركان، و يأتي وصفها، و كان السلطان بركه رحمه الله لما أسلم بناها، و اتخذها دارا للملك، و اصطفاها، و حمل أمم الدشت علي الدخول في حمي الإسلام و رعاها، فلذلك كانت محل كل خير و بركه، و أضيفت بعد إضافتها إلي قفجاق و إلي بركه.
أنشدني لنفسه مولانا و سيدنا الخواجه عصام الدين ابن المرحوم مولانا و سيدنا الخواجه عبد الملك و هو من أولاد الشيخ الجليل برهان الدين المرغيناني رحمه الله في حاجي ترخان «3» من بلاد الدشت، بعد مرجعه من الحجاز الشريف سنة أربع عشرة و ثمانمائه و في يومنا هذا أعني سنة أربعين و ثمانمائة، انتهت إليه الرئاسة في سمرقند، قوله و قد قاسي في درب الدشت أنواع النكال، شعرا:
قد كنت أسمع أنّ الخير يوجد في‌صحراء تعزي إلي سلطانها بركه
بركت ناقة ترحالي بجانبهافما رأيت بها في واحد بركه و أنشدني أيضا لنفسه معرضا بمولانا و سيدنا و شيخنا حافظ الدين محمد بن ناصر الدين محمد الكردي البزازي تغمده الله تعالي برحمته في الزمان و المكان المذكورين شعرا:
متي تحفظ الناس في بلدةمصالحها في يدي حافظ
فحافظها صار سلطانهاو سلطانها ليس بالحافظ و لما تشرف بركه خان بخلعة الإسلام، و رفع في أطراف الدشت للدين الحنفي الأعلام، استدعي العلماء من الأطراف، و المشايخ من
______________________________
(1)- اليعافير: الغزلان.
(2)- العيس: الإبل.
(3)- بلدة علي مصب نهر أتل (الفولغا) و هي مدينة استراخان الحالية.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 81
الآفاق و الأكناف، ليوقفوا الناس علي معالم دينهم، و يبصروهم طرائق توحيدهم و يقينهم، و بذل في ذلك الرغبات، و أفاض علي الوافدين منهم بحار الهبات، و أقام حرمة العلم و العلماء، و عظم شعائر الله تعالي و شرائع الأنبياء، و كان عنده في ذلك الزمان، و عند أوزبيك بعده و جاني بيك خان، مولانا قطب الدين العلامة الرازي، و الشيخ سعد الدين التفتازاني، و السيد جلال الدين شارح الحاجبية، و غيرهم من فضلاء الحنفية و الشافعية، ثم من بعدهم مولانا حافظ الدين البزازي، و مولانا أحمد الخجندي، رحمهم الله فصارت سراي بواسطة هؤلاء السادات، مجمع العلم و معدن السعادات، و اجتمع فيها من العلماء و الفضلاء، و الأدباء و الظرفاء و النبلاء، و من كل صاحب فضيله، و خصلة نبيلة جميلة، في مدة قليله، ما لم يجتمع في سواها، و لا في جامع مصر و لا قراها، و بين بنيان سراي و خراب ما بها من الأمكنة، ثلاث و ستون سنة، و كانت من أعظم المدن وضعا، و أكثرها للخلق جمعا.
حكي أن رجلا من أعيانها هرب له رقيق، و سكن في مكان منحي عن الطريق، و فتح له حانوتا، يتسبب فيه، و يحصل له قوته، و استمر ذلك المهين، نحوا من عشر سنين، لم يصادفه فيه مولاه، و لا اجتمع به و لا رآه، و ذلك لعظمها، و كثرة أممها، و هي علي شط نهر متشعب من أتل، الذي أجمع السواحون و المؤرخون و قطاع المناهل، أنه لم يكن في الأنهر الجارية، و المياه العذبة النامية، أكبر منه، و هو يأتي من بلاد الروس، و ليس له فائدة سوي اغتيال النفوس، و يصب في بحر القلزم، و كذلك جيحون، و سائر أنهار العجم، مع أن بحر القلزم محصور، و عليه بعض ممالك العجم تدور، مثل كيلان، و مازندران، و استراباد، و شروان، و اسم نهر سراي سنكلا، و لا يقطع أيضا إلا بالمراكب، و لا يثبت عليه قدم لراجل و لا راكب، و كم فرق تتفرق من ذلك البحر العريض الطويل، و كل فرق أعظم من الفراه و النيل.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 82

ذكر وصول ذلك الطوفان و حجفه أمم الدشت بعد كسره توقتاميش خان‌

فوصل تيمور إلي تلك الداره، بالعساكر الجراره، بل بالبحار الزخاره، ذوي السهام الطياره، و السيوف البتاره، و الرماح الخطاره، و الأسود الهصاره، و النمور الكراره، من كل شان الغاره، مدرك في العدو ثأره، حام حقيقته و جاره، و عرينه و وجاره، و فريسته و نجاره، و الج من بحر الحرب غماره، مقاوم أمواجه و تياره، فأرسل توقتاميش إلي غمار حشمه، و عظماء أممه، و سكان أحقافه، و قطان أطرافه، و رؤوس أسرته، و ضروس ميمنته و ميسرته، فاستدعاهم، و إلي المقابلة و المقاتلة دعاهم، فأتوا في ثوب طاعته يرفلون، و هم من كل حدب ينسلون، و اجتمعوا شعوبا و قبائل، ما بين فارس و راجل، و ضارب و نابل، و مقبل و قابل، و مقاتل و قاتل، بمرهف ذابل، و هم قوم نبال النبال، و نصال النضال، لا يطيشون سهما، و هم من بني ثعل «1» أرمي، إذا عقدوا الأوتار، أصابوا الأوتار، و إن قصدوا الأوطار، وجدوا المقصد جثم أوطار، ثم نهض للمصادمه، و استعد للمقاحمة و المقاومه، بعساكر كالرمال كثرة، و كالجبال وفره.

ذكر ما وقع من الخلاف في عسكر توقتاميش وقت المصاف‌

و حين تواقف الصفان، و تثاقف الزحفان، برز من عسكر توقتاميش أحد رؤوس الميمنة، له دم علي أحد الأمراء فطلبه منه، و في قتله استأذنه، فقال له: لينعم بالك، و ليجب سؤالك، قلت شعرا:
لكن تري ما قد طري‌علي الوري و ما جري فأمهلنا حتي إذا انفصلنا، و علي المراد حصلنا، أعطيتك غريمك، و ناولتك خصيمك، فأدرك منه ثأرك، و أقض أوطارك، قال: لا و لكن الساعه، و إلا فلا سمع و لا طاعه، فقال نحن في كرب مهم، هو من مرامك أهم، و خطب مدلهم هو من مصابك أعم، فاصبر و لا تعجل،
______________________________
(1)- بنو ثعل من طي‌ء، شهروا بالمهارة بالرمي.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 83
و اطمئن و لا توجل، فما ذهب لأحد حق، و لا يضيع مستحق، فلا تلجي‌ء الأعمي إلي الجرف، و لا تكن ممن يعبد الله علي الحرف، فكأنك بليل الشده و قد أدبر، و بصباح الفلاح و قد أسفر، فالزم مكانك، و نازل أقرانك، و تقدم و لا تتأخر فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «1»، فانجر ذلك الأمير، بجمع كثير، و اتبعه كل باغ و غاو، و قبيلته كلها و اسمها أقتاو «2»، فانطلق يروم، ممالك الروم، فوصل هو و حشمه إلي ضواحي أدرنه، و استوطن تلك الأمكنه، فاختل لذلك عسكر توقتاميش، و صارت سهام مرامه مراميه تطيش، و لم ير بدا من اللقاء، و صدق الملتقي، فثبت جأشه و جيشه، و هزم وقار طيشه، و قدم من أطلابه الأبطال، و رتب الخياله و الرجال، و قوي القلب و الجناح، و سدد النبل و الصفاح.
فصل: و أما جيش تيمور، فإنه مستغن عن هذه الأمور، لأن أمره معلوم، و وصفه مفهوم، و سطر النصر و التمكين علي جبين راياته مرقوم، ثم تداني الجيشان و اصطدما، و اصطليا بنار الحرب و اصطلما، و التقت الأقران بالأقران، و امتدت الاعناق للضراب، و شرعت النحور للطعان، و اكفهرت الوجوه و اغبرت، و كشرت ذئابه للضراب و أهرت، و تهارشت نمور الشرور، و استطرت «3»، و تعانشت «4»، أسود الجنود و ازبأرت «5»، و اكتست بريش النبال الجلود فاقشعرت، و هوت جباه الجباه و رؤوس الرؤوس في محراب الحرب للسجود فخرت، و ثار الغبار و قام القتام، و خاض بحار الدماء كل خاص و عام.
و صارت نجوم السهام، في ظلام القتام، لشياطين الأساطين رجوما رواشق، و لوامع السيوف في سحاب التراب علي الملوك و السلاطين
______________________________
(1)- سورة الحجر- الآية: 94.
(2)- المعني الحرفي لهذا الاسم من الفارسية: الشعاع الأبيض
(3)- استطرت: سارت مسرعة
(4)- تعانشت: تعانقت
(5)- ازبأرت: تهيأت للشر
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 84
بروقا و صواعق، و لا زالت سلاهب «1» المنايا تجوب و تجول، و ضراغم السرايا تصوب و تصول، و نقع السنابك إلي الجو راقيا، و نجيع السوافك علي الدو جاريا، حتي غدت الأرض ستا، و السموات كالبحار ثمانيا، و استمر هذا اللدد و الخصام، نحوا من ثلاثة أيام، ثم انجلي الغبار، عن أن انهزم جيش توقتاميش، و ولي الأدبار، و فرت عساكره و ابذعرت «2»، و انتشرت جنود تيمور في ممالك الدشت و استعرت، و استولي علي قبائلها، و أتي علي ضبط أواخرها و أوائلها، و احتوي علي الناطق «3» فمازه «4»، و علي الصامت فحازه، و جمع الغنائم، و فرق المغانم، و أباح النهب و الأسر، و أذاع القهر و القسر، و اطفأ فتائلهم، و أكفأ مقاولهم، و غير الأوضاع، و حمل ما استطاع، من الأموال و الأسري و المتاع، و وصلت طراشته «5»، إلي أزاق «6»، و هدم سراي و سراي جوق «7»، و حاجي ترخان، و تلك الآفاق، و عظمت منزلة أيدكو عنده، ثم قفل قاصدا سمرقند، و صحب أيدكو معه، و رام أن يتبعه.

ذكر أيدكو و ما صنعه، و كيف خلب تيمور و خدعه‌

فأرسل أيدكو قاصدا إلي أقاربه و جيرانه، و قبائل الميسرة كلهم من أصحابه و أخدانه، من غير أن يكون لتيمور، بذلك شعور، أن يرحلوا عن مكانهم، و ينشمروا عن أوطانهم، و أن ينحوا جهة عينها، و أماكن بينها، صعبة المسالك، كثيرة المهالك، و إن أمكنهم أن لا يقيموا في منزل
______________________________
(1)- السلاهب: الطوال من الخيل و الرجال. العين
(2)- ابذعروا: فزعوا فتفرقوا. العين
(3)- الناطق من المال: الظاهر
(4)- ماز الشي‌ء: فرزه عن غيره
(5)- أي الذين يسببون الطرش لكثرة ما يصدر عنهم من ضجيج
(6)- من المرجح أنها كانت مدينة مهمة لا سيما للبنادقة، قامت علي نهاية طرق التجارة الدولية من الصين عبر اسية و من ثم أورباprawdin ,pp 346 -347
(7)- سراي جوق: بلدة بالقرب من مصب نهر الأردال في بحر الخزر
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 85
واحد يومين فليفعلوا ذلك، فإنه إن ظفر بهم تيمور، بدد شملهم، و أبادهم كلهم، فامتثلوا ما رسم به أيدكو، و ارتحلوا و لم يلووا، و لما علم أيدكو أن جماعته فوزوا «1»، و حشمه لتيمور أعجزوا، قال له: يا مولانا الأمير، إن لي من الأقارب و الحشم الجم الغفير، و إنهم عضدي و جناحي، و بصلاح معايشهم صلاحي، و لا آمن عليهم أن يلقوا بعدي، من توقتاميش الجور و التعدي، بل لا أشك أنه يفنيهم، و يبددهم عن بكرة أبيهم، و حيث يمتنع عليه بجاه جنابك جانبي، ينتقم لسوء طويته من حشمي و أقاربي، لأن سدا هذه الملاحم أنا ألحمته، و في مضائق البلاء و مآزق الانكسار أنا أقحمته، و علي كل حال فلا يطيب علي قلبي أن يساكنوه، و كيف يهنأ لي العيش و أصدقائي مجاوروه، فإن اقتضت الآارء المنيره، إرسال قاصد إلي تلك الأماكن و القبائل الكثيره، صحبة مرسوم شريف، و أمر عال منيف، باستمالة خواطرهم، و تطييب قلوب قبائلهم و عشائرهم، و الأمر بتر حالهم، و ترقيح «2» حالهم، فنكون جميعا تحت الظل الشريف، في روض عيش و ريق و ريف، و نتخلص من هذا الدشت «3»، الخلق الدست و نقتضي ما مضي من الأعمار، و نقضي الباقي في جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ* فالرأي الشريف أعلي، و اتباع ما يبديه بالمماليك أولي، فقال له تيمور: أنت عذيقها المرجب و جذيلها المحكك «4»، و مع وجودك أنت من يسلك هذا المسلك، فقال: بل كل الأنام عبيدك، و تابع مرادك و مريدك، و من تراه لشي‌ء أهلا، كان كل حزن عليه سهلا، فقال: بل أنت أولي بهذا الأمر، فكن ضمينه، إذ لا يفتي و مالك في المدينه، فقال: اضف إلي واحد من الأمرا، ليكون لي عليهم وزرا، مع مراسيم شريفه، بما تقتضيه الآراء المنيفه، فأجابه و قضي مراده، و أضاف إليه من أراده، فقضيا مآربهما و نجزا، و نحو مطلبهما تجهزا.
______________________________
(1)- أي عبروا المفازة و ابتعدوا
(2)- إنه ليرقح معيشته: أي يصلحها
(3)- سورة البقرة- الآية: 25، و في سور أخري كثيرة
(4)- أي أنت وحدك المؤهل لذلك
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 86
و لما فصل أيدكو عن تيمور، استدرك فارطه، و علم أن أيدكو خلبه عقله و غالطه، فأنفذ إليه قاصدا، أن يكون إليه عائدا، لأمر قد سنح، و رأي قد جنح، فلما قدم القاصد عليه، و بلغ ما أرسل به إليه، قال له و للامير الذي معه، و قد نهي كلا منهما أن يتبعه، إقضيا مآربكما، و الحقا صاحبكما، و قبلا يديه و أبلغاه، أن أمد اجتماعنا هذا منتهاه، و أني بري‌ء منه إني أخاف الله، و لم يمكنهما مخاشنته، و لا وسعهما في تلك الضائقة الشديدة إلا ملاينته، فودعاه و انصرفا، و انحرفا و ما وقفا.
و لما بلغ تيمور ذلك تضرر و تضرم، و تبرح و تبرم، و حرق عليه الإرم و تندم، ولات حين مندم.
و كاد يقتل نفسه حنقا عليه، و تجرع كاسات يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلي يَدَيْهِ «1»، و لم يمكنه التقيد به، فلم يتحرك له بحركه، و توجه إلي ممالكه ثم إلي سمرقند و تركه، فكان هذا آخر أمره من دشت بركه، حتي قيل إنه لم يخدع تيمور و يدهيه، و يخلبه قولا و فعلا و يطفيه، سوي أيدكو المار ذكره، أقول و سوي قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون المالكي الآتي حكايته و أمره.

تتمة قصة ما جري في نواحي الشمال بين توقتاميش و أيدكو من الجدل و القتال إلي أن تغير أمر كل منهما و حال‌

و لما انفصل تيمور بما حصل، و استقر في مملكته بعد ما وصل، و اتصل أيدكو بحاشيته، و ابتهج بصاغيته و غاشيته، أخذ في التفتيش، عن أمور توقتاميش، و تحفظ منه و تحرز، و لمناوأته انتصب و تجهز، إذ لم يمكنه رتق ما فتقه، و لا رقع ما خرقه، و أيضا ما أمكنه الاستقلال بادعاء السلطنة، إذ لو أمكن ذلك، لإدعاه تيمور الذي ملك الممالك، فنصب من جهته سلطانا، و شيد في دار الملك خانا، و دعا رؤوس الميسرة و وجوه قبائلها
______________________________
(1)- سورة الفرقان- الآية: 27
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 87
إليه، فلبوا دعوته، و أقبلوا عليه، إذ كانوا أقوي من غيرهم، آمنين من ضرر الجغتاي و ضيرهم، فقوي بذلك سلطانه، و عمر بقفول الجنود خانه، و ثبت في دار الملك أساسه و علت أركانه.
و أما توقتاميش فبعد أن تراجع و هله «1»، و استقر في دماغه عقله، و رحل عدوه، و حصل هدوه، جمع عساكره، و استنجد قومه و ناصره، فلا زالت ضروب الضراب لحراب الحروب بينه و بين أيدكو قائمه، و عيون السكون كجفون الزمان المتعامي عن صلحهما نائمه، إلي أن بلغ مصافهم خمس عشرة مره، يدال هذا علي ذلك تارة و ذاك علي هذا كره، فأخذ أمر قبائل الدشت في التنقص و الشتات، و بواسطة قلة المعاقل و الحصون، وقعوا في الانبثاث و الانبتات، لا سيما و قد تناوشهما أسدان، و أظل عليهما نكدان، و قد كان جلهم ذهب مع تيمور، و أمسي و هو في أمره محصور، و في حصره مأسور، فانفذت منهم طائفة لا تحصي و لا تحصر، و لا يمكن ضبطها بديوان و لا دفتر، و انحازت إلي الروم و الروس، و ذلك لحظهم المشؤوم وجدهم المعكوس، فصاروا بين مشركين نصاري، و مسلمين أساري، كما فعله جبله ببني غسان، و اسم هذه الطائفة قرابوغدان.
فبواسطة هذه الأسباب، آل عامر الدشت إلي الخلاء و الخراب، و التفرق و التباب «2»، و الانفلات يهلك علي الحقيقه، لإضاعته في المجاز طريقه، أما صيفا فلأن الرياح للرمال تسفي، فتخفي الطريق علي الماره و تعفي، و أما شتاء فلأن الثلج النازل فيها، يتراكم فيغطيها، إذ كل أرضها مجاهل، و منازلها مذاهل، و مراحلها مهامه و مناهل، فعلي كل تقدير، سلوكها مهلك عسير، فكانت الوقعة الخامسة عشر علي أيدكو فتشتت و تشرد، و تبذر و تبدد، و غرق هو و نحو من خمس مائة رجل من أخصائه في بحر
______________________________
(1)- وهله: فزعه
(2)- التباب: الهلاك
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 88
الرمل، فلم يشعر به أحد، و استبد توقتامش بالمملكة، و صفا له دشت بركه، و كان هذا متشوقا لأخبار أيدكو و أحواله، متشوقا لمعرفة كيفية هلاكه في رماله، و مرعلي ذلك نحو من نصف سنه، و انقطع أثره عن الأعين و خبره عن الألسنه، و أيدكو كان دعيميص «1» تلك الأعقاص «2» و الأحقاف، و ممن قطع بسير أقدامه أديم تلك النعال و الأخفاف، فصار يتربص و يتبصر، و يتفكر معني ما قلته و يتدبر، و هو شعر:
أرقب الأمر و أنتظر فرجاو انتهز وقتا إذا ما جا
و أمزج الصبر بالحجي فبه‌ورق التوت صار ديباجا فلما تيقن أن توقتاميش أيسه، و تحقق أن ليث المنايا افترسه، شرع يتجسس أخباره و يتتبع، و يستشرف آثاره و يتطلع، إلي أن تحقق من الخبر، أنه في متنزه منفرد عن العسكر، فامتطي جناح الخيل، و ارتدي جنوح الليل، و وصل السير بالسري، و استبدل السهر بالكري، فارعا إلي الهضاب، فروع الجبال، مفرعا من الربي، إفراع الندي، حتي وصل إليه و هو لا يعلم، و انقض عليه كالقضاء المبرم، فلم يفق إلا و البلايا احتوشته، و أسود المنايا انتوشته، و ثعابين الرماح و أفاعي السهام نهشته، فحاولهم قليلا، و جاولهم طويلا، ثم انجدل قتيلا، و كانت هذه المرة من الوقعات السادسة عشر خاتمة التلاق، و حاكمة الفراق.
فاستقر أمر الدشت علي متولي أيدكو، و صار القاصي و الداني و الكبير و الصغير إلي مراسيمه يصفو، و تفرقت أولاد توقتاميش في الآفاق، جلال الدين، و كريم بردي في الروس، و كوباك و باقي إخوته في سغناق.
و استمر أمر الناس علي مراسيم أيدكو يولي السلطنة من شاء، و يعزله منها إذا شاء، و يأمر فلا يخالفه أحد، و يحد فلا يجاوز ذلك الحد، فمن
______________________________
(1)- دعيميص: مصغر دعموص، و هو نوع من الدود يعيش في الماء
(2)- الأعقاص: جمع عقص، و هو المساحة من الرمل التي لا طريق فيها.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 89
ولاه قوتليغ تيمور خان و أخوه شادي بيك خان، ثم فولاد خان بن قوتليغ تيمور ثم أخوه تيمور خان، و في أيامه تخبطت الأمور، فلم يسلم لأيدكو زمامه، و قال: لأعزله و لا كرامه، أنا الكبش المطاع فأني أكون مطيعا، و الثور المتبوع، فكيف أصير تبيعا، فالتحم بينهما الشقاق و نجم من ذوي الضغينة مخبوء النفاق، و جرت شرور و محن، و حروب و إحن.
و بينما ظلمات الفتن احتبكت، و نجوم الشرور في دياجي الدشت بين الفريقين اشتبكت.
و اذا ببدر الدولة الجلالية، من مشارق السلالة التوقتاشية، بزغ متهللا، و فرع من بلاد الروس مقبلا، و كانت هذه القضية، في شهور سنة أربع عشرة و ثمانمائه، فتعاظمت الأمور، و تفاقمت الشرور، و ضعف حال أيدكو و قتل تيمور، و استمر النفاق و الشقاق، بين ملوك ممالك قفجاق، إلي أن مات أيدكو غريقا جريحا، و أخرجوه من نهر سيحون بسراي جوق «1» و ألقوه طريحا، رحمه الله تعالي.
و له حكايات عجيبه، و أخبار و نوادر غريبه، و سهام ذراه في أعدائه مصيبه، و أفكار مكائد، و واقعات مصائد، و له في أصول فقه السياسة نقود و ردود، البحث فيها يخرج عن محصول المقصود، و كان أسمر شديد السمرة ربعه، مستمسك البدن شجاعا مهابا ذا رفعه، جوادا حسن الإبتسامه، ذا رأي مصيب و شهامه، محبا للعلماء و الفضلاء، مقربا للصلحاء و الفقراء، يداعبهم بألطف عباره، و أظرف إشاره، و كان صواما، و بالليل قواما، متعلقا بأذيال الشريعة، قد جعل الكتاب و السنة و أقوال العلماء بينه و بين الله تعالي ذريعه، له نحو من عشرين ولدا، كل منهم ملك مطاع، و له ولايات علي حده و جنود و أتباع، و كان في جماعات الدشت إماما، نحوا من عشرين عاما، و أيامه في جبين الدهر غره، و ليالي دولته علي وجه العصر طره.
______________________________
(1)- موقع بلدة سراي جوق ليس علي نهر سيحون، بل علي نهر يابيق (الأورال الحالي) حيث تقع هذه البلدة قرب مصبه في بحر الخزر
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 90

رجعنا إلي ما كان فيه، من أمور تيمور و دواهيه‌

و لما وصل تيمور إلي أذربيجان، و انبث عسكره في ممالك سلطانيه و همذان، و استدعي الملك الظاهر سلطان ماردين و أطلقه، و أنعم عليه كما ذكر و استوثقه، و ولاه ما بين الشام و العراق، و أحكم تلك الممالك بما وسعه من المكر و النفاق.
و لم يمكنه الإقامة بملك العجم، لما معه من الدشت من أمم، وجه عنان قصده، إلي ممالك سمرقند، فنفض فيها أوطابه «1»، و فرغ عما كان ملأ به من الدشت جرابه، ثم خرج من غير توان، و قطع جيحون بالطوفان، و وصل إلي خراسان، و واصل السير إلي أذربيجان، و توجه إليه طهرتن حاكم أرزنجان، متلقيا طوق مراسيمه بجيد الإطاعة و الإذعان، و أهمل أمر ماردين و تناساها، و لم يتعرض إلي ما يتعلق بها من مدنها و قراها.

ابتداء ثوران ذلك القتام، فيما يتعلق بممالك الشام‌

ثم إنه قصد الرها، و رام نهبها، فخرج إليه شخص من أعيانها، و رؤساء قطانها، يقال له الحاج عثمان بن الشكشك، فصالحه و اشتراها، بجمل من الأموال، و حملها إليه و أداها، فعند ذلك أرسل إلي القاضي برهان الدين أبي العباس أحمد، الحاكم بقيصرية، و توقات، و سيواس، من الرسل عده، و من الكتب شده، يبرق فيها و يرعد، و يرغي في بحرها و يزبد، و يقيم بفحاويها و يقعد، و من جملة فحواها، و مضمون ذلك و ما حواه، أن يخطبوا باسم محمود خان ابن سيورغاتمش خان و باسمه، و يضربوا السكة علي طرز ذلك و رسمه، كما هو دأبه، و يتحمله رسوله و كتابه.
فلم يؤمن له السلطان برسول و لا بكتاب، و لا تقيد له بجواب عن خطاب، بل قطع رؤوس الرؤوس من قصاده، و علقها في أعناق الباقين و أشهرهم في بلاده، ثم جعلهم شطرين، و قسمهم نصفين، و أرسلهم إلي
______________________________
(1)- الأوطاب: جمع وطب، و هو كيس يملأ تبنا.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 91
جهتين، للسلطان الملك الظاهر أبي سعيد برقوق منهم جزؤ مقسوم، و الجزء الآخر إلي السلطان أبي يزيد بن مراد بن أورخان بن عثمان حاكم ممالك الروم، و أخبرهما بالقضيه، عن جليه، و ما ورد عليه من خطاب تيمور الممقوت، و أنه جعل في ذلك جوابه السكوت، و قتل قاصديه نكايه، و لم يزده علي هذه الحكايه، و إنما فعل ذلك برسله و قصاده، استهوانا به، و استعظاما لما فعله بعباد الله تعالي و بلاده، ثم قال القاضي:
إعلموا إني جاركما، و دياري دياركما، و أنا ذرة من غباركما، و قطرة من بحاركما، و ما فعلت معه هذا مع ضعف حالي، و قلة مالي و رجالي، و ضيق دائرتي و بلادي، ورقة حاشية طريفي و تلادي، إلا اعتمادا علي مظاهرتكما، و اتكالا علي مناصرتكما، و إقامة لأعلام حرمة دولتكما، و نشرا لرايات هيبة صولتكما، فإني جنة ثغركما، و وقاية نحركما، و جاويش جنودكما، و جاليش بنودكما، و ربيئة طلائعكما، و طليعة وقائعكما، و إلا فمن أين لي مقاومته، و أني تيسر لي مصادمته، و قد سمعتم أحواله، و عرفتم مشاهدته و أفعاله، فكم من جيش كسر، و قيل أسر، و ملك ملك، و ملك أهلك، و ستر هتك، و نفس سفك، و حصن فتح، و فتح منح، و مال نهب، و عز سلب، و صعب أذل، و خطب أحل، و عقل أذل، و فهم أضل، و خيل هزم، و أس هدم، و سؤل قطع و قصد منع، و طود قلع، و طفل فجع، و رأس شدخ، و ظهر فضخ «1»، و عقد فسخ، و نار أشب، و ريح أهب، و ماء أغار، و رهج أثار، و قلب شوي، و كبد كوي، و جيد قصم، و طرف أعمي، و سمع أصم، و أني لي ملاطمة سيل العرم، و مصادمة الفيل المغتلم، فان نجدتماني وجدتماني، و إن خذلتماني بذلتماني، و يكفيكما هيبة و شهرة، و ناهيكما أبهة و نصره، أن من خدامكما قدامكما، من كفاكما ما دهاكما، و إن أصابني و العياذ بالله منه ضرر، أو تطاير إلي مملكتي من جمرات شره شرر، ربما تعدي ذلك الفعل بواسطة الحوادث، إلي مفعول به وثان و ثالث.
______________________________
(1)- فضخ: كسر
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 92
قلت شعرا بسبب هذه الشدائد:
و الشر كالنار حين تقدحه‌شرارة فإذا بادرته خمدا
و إن توانيت عن إطفائه كسلاأوري فتائل تشوي القلب و الكبدا
فلو تجمع أهل الأرض كلهم‌لما أفادوك في إطفائها أبدا و إنما أهملت خطابه، و أمهلت جوابه، لترسما فأقتفي، و تأمرا فأكتفي، و تؤسسا فأبني عليه، و تجاوبا فيصل ذلك كذلك مني إليه.

ذكر ما أجابه السلطان أبو يزيد عثمان للقاضي برهان الدين أبي العباس سلطان ممالك سيواس‌

فأما السلطان أبو يزيد بن عثمان، فإن هذا الفعل أعجبه، و نغم هذا القول أطربه، و استحسن هذا الحكم من القاضي، و استصوبه، و أرسل إليه يقول: إن ارتدع تيمور عنه و انتهي، و إلا فلنأتينه بجنود لا قبل له بها، فليقابله بعين قريرة، و ليثبت له بحسن البصيرة، و اخلاص السريرة، و لا يجزع من جنود الغزيرة، فكم من فئة قليلة، غلبت فئة كثيرة، و إن اقتضت آراؤه السديدة، و أحكامه السعيدة، توجه بنفسه إليه، و قدم بالغزاة و المجاهدين عليه، ليرفع أعلامه، و ينفذ أحكامه، و يكون لسيفه يدا، و لجناحه عضدا، ثم أرسل كتابه، و انتظر جوابه.
و أما الملك الظاهر فما رأيت له كتابا، و لا حققت منه جوابا، و الظاهر أن جواب الملك الظاهر أبي سعيد، كان شقيق جواب السلطان الغازي أبي يزيد، إذ أفعالهما و أقوالهما في الباطن و الظاهر، كانت من باب توارد الخواطر.
ثم إني رأيت كتابا، يتضمن خطابا و جوابا، و ذكر أن الخطاب من ذلك الغدار، و الجواب من الملك الظاهر، و كلاهما سوي آي الكتاب غير زاه و لا زاهر، أما صورة الخطاب، فهو: قل اللهم فاطر السموات
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 93
و الأرض، عالم الغيب و الشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اعلموا أنا جند الله مخلوقون من سخطه، مسلطون علي من يحل عليه غضبه، لا نرق لشاك، و لا نرحم عبرة باك، قد نزع الله الرحمة من قلوبنا، فالويل كل الويل لمن لم يمتثل أمورنا فإنا قد خربنا البلاد، و أهلكنا العباد، و أظهرنا في الأرض الفساد، قلوبنا كالجبال، و عددنا كالرمال، خيولنا سوابق، و رماحنا خوارق، ملكنا لا يرام، و جارنا لا يضام، فإن أنتم قبلتم شرطنا، و أصلحتم أمرنا، كان لكم مالنا، و عليكم ما علينا، و إن أنتم خلفتم و أبيتم، و علي بغيكم تماديتم، فلا تلومن إلا أنفسكم، فالحصون منا لا تمنع، و العساكر لدينا لا ترد و لا تدفع، و دعاؤكم علينا لا يستجاب، و لا يسمع، لأنكم أكلتم الحرام وضيعتم الجمع، فابشروا بالذلة و الجزع، ف الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ «1» و قد زعمتم أننا كفره، فقد ثبت عندنا أنكم فجرة، قد سلطنا عليكم من بيده الأمور مقدره، و الأحكام مدبره، كثيركم عندنا قليل، و عزيزكم عندنا ذليل، قد ملكنا الأرض شرقا و غربا، و أخذنا منها كل سفينة غصبا، و قد أرسلنا إليكم هذا الكتاب، فأسرعوا في رد الجواب، قبل أن ينكشف الغطاء، و لم يبق لكم باقيه، فينادي عليكم منادي الفناء، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً «2» و قد أنصفناكم إذ راسلناكم، و نثرنا جواهر هذا الكلام، عليكم و السلام، و هذه صورة الجواب، و قيل هو إنشاء القاضي بدر الدين ابن علاء الدين بن فضل الله، و ما أظن لذلك صحه، و هو: بسم الله الرحمن الرحيم
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلي كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ «3»
______________________________
(1)- سورة الأنعام- الآية: 93
(2)- سورة مريم- الآية: 98
(3)- سورة آل عمران- الآية: 26
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 94
حصل الوقوف علي كتاب مجهز من الحضرة الإيلخانيه، و السدة العظيمة الكبيرة السلطانية، قولكم: «إنا مخلوقون من سخطه، مسلطون علي من يحل عليه غضبه، لا نرق لشاك، و لا نرحم عبرة باك، قد نزع الله الرحمة من قلوبكم»، فهذا من أكبر عيوبكم، و هذا من أقبح ما وصفتم به أنفسكم، و يكفيكم بهذه الشهادة واعظا إذا اتعظتم قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ «1» ففي كل كتاب ذكرتم، و بكل قبيح وصفتم، و زعمتم أنكم كافرون، ألا لعنة اللَّهِ عَلَي الْكافِرِينَ «2»، من تشبه بالأصول لا يبالي بالفروع، نحن المؤمنون حقا لا يصدنا عيب، و لا يداخلنا ريب، القرآن علينا نزل، و هو رحيم بنا لم يزل، و قد عمنا ببركة تأويله، و قد خصنا بفضل تحريمه و تحليله، إنما النار لكم خلقت، و لجلودكم أضرمت، إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ «3»، و من العجب العجاب، تهديد الليوث بالرتوت «4»، و السباع بالضباع، و الكماة بالكراع، نحن خيولنا عربية، و هممنا عليه، و القناة شديدة المضارب، ذكرها في المشارق و المغارب، إن قتلناكم نعم البضاعة، و إن قتلتمونا بيننا و بين الجنة ساعه وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «5»، و قولكم: «قلوبنا كالجبال، و عددنا كالرمال» فالجزار لا يبالي بكثرة الغنم، و كثير من الحطب يكفيه قليل من الضرم، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ «6» الفرار لا من الرزايا، نحن من المنيه، في غاية الأمنيه، إن عشنا عشنا سعداء، و ان متنا شهداء، ألا إن حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ «7» أبعد أمير المؤمنين و خليفة
______________________________
(1)- سورة الكافرون- الآيتان: 1- 2
(2)- سورة البقرة- الآية: 89
(3)- سورة الانفطار- الآية: 1
(4)- الرت: شي‌ء يشبه الخنزير، و الجمع: رتوت. العين
(5)- سورة آل عمران- الآية: 169
(6)- سورة البقرة- الآية: 249
(7)- سورة المائدة- الآية: 56
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 95
رب العالمين، تطلبون منا طاعة، لا سمع و لا طاعه، و طلبتم أن نوضح لكم أمرنا، فهذا الكلام في نظمه تركيك، و في سلكه تفكيك، لو كشف البيان، قبل البنيان، أكفر بعد إيمان، أم اتخذتم ربا ثان لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا* تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا «1»، قل لكاتبك الذي رصع رسالته، و وصف مقالته: حصل الوقوف علي كتاب، كصرير باب، أو طنين ذباب، سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا «2» و مالكم عندنا إلا السيف بقوة الله تعالي.
ثم إني وجدت في نسخة محا مرّ الدهور بتقادمه مدادها، و بيض كر العصور علي وجه الزمان من شيبها سوادها، صورة هذا الكتاب، و هيئة هذا الخطاب، من إنشاء نصير الدين الطوسي علي لسان هلاكو التتري، مرسلا ذلك إلي سلطان مصر، و صورة الجواب بعينه إنشاء من كان في ذلك العصر.
فصل: و لما بلغ تيمور ما فعله السلطان برهان الدين بقصاده حنق، و رتق بجناحي الغضب، و فار دم قلبه و رنق «3»، و غص غضبا، فكاد من الغيظ أن يختنق، و لكن علم أن في الزوايا خبايا، و للاسلام جنودا و سرايا، و في عرين الدين من ليوث المسلمين بقايا، و إن أمامه أسودا هواصر، و جوارح كواسر، فتصبر للزمان، و رجع القهقري، و تربص بهم الدوائر.

ذكر توجه العساكر الشامية، لدفع تلك الداهية

مع أن ملك الأمراء بالشام هوتنم خرج بالعساكر إلي ارزنجان، و رجع و هو مغتنم، و لم يروا في ذلك ضيرا وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
______________________________
(1)- سورة مريم- الآيتان: 89- 90
(2)- سورة مريم- الآية: 79
(3)- رتق بجناحي الغضب: كظم الغيظ و تجلد، و تظاهر بعدم المبالاة، و رنق: تكدر
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 96
بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً «1» و عاد من جيش الإسلام كل أسد هصور، و قد اصطاد من كراكي ما ضاهي صورته و جاءه نور علي نور.

ذكر رجوع ذلك الكنود و قصده استخلاص بلاد الهنود

ثم إن تيمور بلغه إن سلطان الهند فيروز شاه، انتقل من زحمة الدنيا إلي رحمة الله، و لم يكن له ولد يكون له خليفه، فسعي تيمور، لأن يتولي بحكم الوفاة و الشغور، تلك الوظيفة، و لما فاظ صاحب الهند صارت الناس فوضي، و مرج بحر أمر الهند و ماج، فجعل كل يخوض خوضا، فعز بعض الناس، و بعضهم ذلوا، ثم اتفقوا علي تولية وزير اسمه مشلو، فرأب من أمر الناس ما انصدع، و رفع من استحق الرفع، و خفض من بغير استحقاق ارتفع، فعصي عليه أخوه سارنك خان، متولي مدينة مولتان، و وقع بينهم التخالف، و افترق ملأ الهند فرقا و طوائف، فكان اختلافهم لتيمور أحسن مساعد، و أقوي عضد و ساعد، قلت شعرا:
و تشتت الأعداء في آرائهم‌سبب لجمع خواطر الأحباب و حين وصل تيمور إلي مولتان، عصي عليه سارنك خان، فأقام يحاصرها، و قعد يضاجرها، و كانت عساكرها جمه، و ليالي كتائبها السود مدلهمه، حتي قيل إن من جملة عسكرها الثقيل، كان ثمانمائة فيل، مع أن كل أمير من أطراف الهند، و رئيس من أكناف السد، كان قد لفلف أذياله، و لملم رحاله و رجاله، و ضبط لجوائحه أثقاله، و ربط لحوائجه أفياله، و استمر ذلك اللدد و الخصام، نحوا من ثلثي عام، إلي أن استخلصها، و من يده خلصها.
فصل: و لما استولي ملو «2» و استقر أمر الهند عليه، و بلغه توجه تيمور
______________________________
(1)- سورة الأحزاب- الآية: 25
(2)- ملّو إقبال خان، كان وزير السلطان محمود فيروز شاه، استبد بالسلطنة، و حاول التصدي لتيمور و أخفق
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 97
إليه، جد و اجتهد، و أعد العدد و العدد، و استمد الإمداد و المدد، و أهلك مالًا لُبَداً «1» و حسب أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ «2» و فرق الأموال، و جمع الخيل و الرجال، و أحضر ما في مملكته من الأفيال، ثم حصن مدائنه، و مكن كمائنه، و شيد علي الأفيال للمقاتلة أبراجا، و أحكم في تحرير المناضلة طريقة فقه فيها ذهب، و منهاجا، وجد تيمور في السير، حتي كاد يسبق الطير، إذ لم يكن له في ذلك الإرث من يحجبه، و لا في عساكر سلطان الهند من يقر به، فلما بلغ الهنود بالجنود، برزت إليه بالجنود الهنود، و قدموا الفيول لتنفير الخيول، و قد بنوا علي كل فيل من الأتراس برجا، و عبوا في كل برج من المقاتلين من يخشي في المضائق و يرجي، بعد ما جعلوها من أكبر كستوانات «3» في حصار، و علقوا عليها من القلاقل «4» و الأجراس الهائلة ما يدعو العفاريت إلي الفرار، و شدوا في خراطيمها سيوفا، يصلح أن يقال أنها سيوف الهند، تدعو الرؤوس شعلة لهيبها، فتخر لها ساجدة فيحق أن يقال لها نار السند، و هذا خارج عما لتلك الأفيلة من الأنياب، التي هي في الحروب كالحراب، إذ هي في أداء ما وجب عليها نصاب كامل، و سهامها التي هي مصيبة في نحور من يقابلها، تقصم كل نابل و ذابل، فكانت تلك الأفيال، في صف القتال، كأنها غيل بأسودها ماشيه، أو صياص «5» بجنودها جاريه، و أطواد بنمورها عاديه، أو بحار بأفواج أمواجها رائحه جائيه، أو ظل من الغمام بصواعقها هاميه، أو ليالي الفراق بنوائبها السود سارية، و خلفها من الهنود، قوارس الحرب، و أبطال الطعن و الضرب، و سد الأسود، و طلس الذئاب، و نمش الفهود، بالذابل الخطي، و الصارم الهندي، و النبل الخلنجي، مع قلب ذكي و جنان جري، و عزم قوي، و صبر رضي.
______________________________
(1)- سورة البلد- الآية: 56
(2)- سورة البلد- الآية: 5
(3)- أراد هنا البركستوانات، و هي الدروع التي تلبسها الخيول
(4)- المرجح أراد: الجلاجل
(5)- الصياصي: الحصون عجائب المقدور في نوائب تيمور 98 ذكر ما فعله ذلك المحتال من الخديعة في إجفال الأفيال
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 98

ذكر ما فعله ذلك المحتال من الخديعة في إجفال الأفيال‌

و حين اطلع تيمور علي هذه الحال، و تحقق أن شقة عساكر الهند نسجت علي هذا المنوال، أعمل المكيدة، في قلع هذه المصيدة، و مرق لهم بمرقة قدر طبخها أخثر من العصيدة، فبدأ أولا في الإحتيال، بدفع مكيدة الأفيال، فاستعمل الفكر الحديد، في اصطناع شوكات من حديد، مثلثة الأطراف، مستبعدة الأوصاف، كانها في شكلها الخبيث، طرق القائلين بالتثليث، و وضع أصحاب الأوفاق أعدادهم المنسوبة إلي الوفاق، فصنعوا له من ذلك الألوف، ثم عمد إلي مجال الفيول في الصفوف، فنشر ذلك لها ليلا، و جلب لأهلها حربا و ويلا، و رقم لذلك حدا، و رسم أن فعل ذلك الحد لا يعدي، ثم ركب أطلابه و أبطاله، و رتب أسوده و أشباله، و هذب خيله، و شذب رجاله، و أرصد شمالا و يمينا، من عسكره للعدو كمينا.
و حين بث سلطان السيارة في جوانب الآفاق خيله، و ضم جيش الظلام رجالة أنجمه، و شمر للهزيمة ذيله، مشي عسكره إلي ذلك الحد رويدا حتي وصل إليه، و لما تراءي الجمعان نكص علي عقبيه، ثم نكب بالخيول، عن طريق الفيول، فتصوروا أن خيوله جفلت، و شمس نصرته انكسفت، و كواكب جيشه أفلت، فاقلعوا إقلاع الفيول، و انهمرت انهمار السيول، و ساقوها خلف عساكره سوقا، علي ذلك الشوك الملقي، و أتبع الفيالة، من الهنود الرجالة و الخيالة، فلما وصلت سيول الفيول من مطارح الشوك إلي المقاسم، و أخذ ذلك الشوك في تقبيل أيديها و أرجلها و تشبث بتلك المناسم، و أحست بقوائمها بشوكها، رجعت القهقري، بل و ولت الأدبار لعدم عقلها، فنهنهوها و نهوها عن التولي، فلم يفدها النهي و النهنهه، و صارت في التقدم إلي جهة العدو كفيل أبرهه، ثم لم يسعها لما أضرها الشوك في تلك الحرار، إلا التولي من الزحف و الفرار، فحطمت الفيول، الرجال و الخيول، و صارت قتلي كالجبال، و الدماء في
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 99
أوديتها سيول، و خرج عليهم الكمين، من ذات الشمال و ذات اليمين، فأبادوا سائرهم، و ألحقوا بأولهم آخرهم.
و قيل إن بلاد الهند ليس فيها أباعر، و إن منظرها يجفل الفيل فيصير أبعد نافرا، فأمر تيمور أن يهيأ خمس مائة بعير جفول، و تعبأ رواحلها و الحمول، قصبا محشوا بفتائل، و قطن بالدهن مبلول، و أن تساق أمام الركبان، إلي أن يتراآي الجمعان، فلما تصافوا و لم يبق إلا القتال، أمر أن تطلق النيران في تلك الحشايا و الأحمال، و تساق إلي جهة الأفيال، فلما أحس البعران، بحرارة النيران، رغت و رقصت، و نحو الفيول شخصت، و صارت كما قيل شعرا:
كأنك من جمال بني أقيش «1»يقعقع بين رجليه بشن فلما رأت الفيلة النيران، و سمعت رغاء البعران، و نظرت إلي الإبل كيف خلقت، و شاهدتها، و قد غنت و رقصت، و بأخفافها صفقت، ألوت علي عقبها ناكصه، و تلا الكافرون آية النصر علي أصحاب الفيل، و أرسلوا عليهم من السهام طيرا أبابيل، فلم ينتفعوا بالأفيال، بل أفنت الأفيال غالب الخيل و الرجال، ثم تراجعت عساكر الهنود، و أبطال الخيالة من الجنود، و كتبوا الكتائب، و بندوا البنود، ثم تراموا و تصافوا، و تضامنوا و تحافوا «2»، و هم ما بين مجوسي و مسلم، و مبارز و منتسب مناد بالشعار معلم، و كل في سواد اللون من الحديد، كقطع الليل المظلم، ثم تدانوا مع التتار و تزاحفوا، و بعد المراشقة بالسهام بالرماح تثاقفوا، ثم بالسيوف تضاربوا، ثم تلاببوا و تواثبوا، ثم تراموا عن ظهور الخيل، و اعتكر في ذلك القتام النهار بالليل، و لا زالت تختلف بينهم
______________________________
(1)- كان أقيش أبوحي من قبيلة عكل، اشتهر بجمال له غير عتاق، تنفر من كل شي‌ء، القاموس باب الشين، فصل الهمزة.
(2)- حف القوم بسيدهم: أي أطافوا به و عكفوا، و منه قوله تعالي حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ العين
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 100
الضربات، و تصول فيهم الحملات، و تحمد منهم الصولات، حتي تلا لسان القضاء و القدر إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ ثم تناهي الاقتحام، و انفرج الازدحام، و أسفرت القضية عن أن برد حامي الهند، فانهزم جيش حام، و حل بالهنود الويل، و محا الله آية الليل، و لما تفرقت الهنود و فلوا، و انتهي عقد عملهم في المحاربة فحلوا، و قتلت سرواتهم، و هرب سلطانهم ملو، و ثبت تيمور و حكمه في هنده، إلي الآن كما ثبتت أوتاده في سمرقند، فجمع أقيالها، و ربط أفيالها، و ضبط أحوالها، و ما غفل عن ضبطه ما عليها و ما لها، و سلم أفيالها فيالها.
ثم توجه نحو تختها، و هي مدينة دهلي، مصر عظيم جمع الفنون للفضل و أرباب الفخر الجلي، معقل التجار، و معدن الجواهر و البهار، فتمنعت عليه بالحصار، فأحاط بذلك السواد الأعظم، من عساكر السواد الأعظم، و من معه من الخلائق و الأمم، فقيل إن هذه العساكر و الخلائق مع عظمها و كثرتها، لم يقدروا أن يكتنفوها لسعة دائرتها، و إنه أخذها من أحد جوانبها بالمحاصرة، و تم الجانب الآخر ثلاثة أيام في المجاذبة و المشاجرة، لم يدر من في الجانب المحاصر، لبعد المدي و كثرة الأمم، ما فعل بالجانب الآخر.

ذكر وصول ذلك الخبر إلي ذلك العقوق بوفاة الملكين أبي العباس أحمد و الملك الظاهر برقوق‌

و بينما هو قد استولي علي كرسي الهند و أمصاره، و احتوي علي ممالكه و أقطاره، و بلغت مراسيمه أعماق أنجاده و أغواره، و انبث جيشه في ولاياتها سهلا و وعرا، و ظهر فساده في رعاياها برا و بحرا، إذ وفد عليه المبشر من جانب الشام، أن القاضي برهان الدين أحمد السيواسي، و الملك الظاهر أبا سعيد برقوق انتقلا إلي دار السلام، فسر بذلك صدره
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 101
و انشرح، و كاد أن يطير إلي جهة الشام من الفرح، فنجز بسرعة أمور الهند، و نقل إلي مملكته من فيها من العساكر و الجند، بما أخذه من الأثقال، و نفائس الأموال، و وزع ذلك الجمهور، من ذلك الجند المأسور، علي أطراف ما وراء النهر من الحدود و الثغور، و أقام في الهند نائبا من غير و جل، ثم حدر عن سمرقند قاصدا إلي الشام علي عجل، و معه من الهند رؤوس أجنادها و وجوه أعيانها، و سلطان أقيالها و أفيال سلطانها.
ثم إنه صار قرير العين بتلك الطوائف الطافية، في أوائل سنة اثنتين و ثمانمائة، و انصب بذلك الطوفان، من جيحون إلي خراسان، و كان قد قرر ولده لصلبه أميران بمملكة تبريز و تلك الديار، و السلطان أحمد قد رجع إلي بغداد و هو مستوفز للفرار.
و سبب حركته إلي بلاد الشام- و إن كان في إهلاك الحرث و النسل مالكي الالتزام- ما فعله القاضي برهان الدين حاكم سيواس بقصاده الأغتام، لكنه أراد أن يغمه مقصده، و يغطي عن الناس مصدره و مورده، قلت بديها، شعرا:
و أني يختفي للشمس ضوءعن الأبصار في ضحو النهار
و كيف يسّر ذفر المسك يحشوخياشيم الوري في يوم حار
و أني يختفي للطبل صوت‌عن الاسماع في وقت النفار فإن قصده كان بعيد المدد، طويل الأمد، محتاجا إلي إعداد أهبة السلوك، و يخشي أن تضاهي غزوة تبوك، و أظهر سببا أبطن فيه، ما رامه من مكره و دواهيه، و أشاع ذلك و أذاع، فامتلأت منه القلوب و الاسماع.

معني كتاب وفد و هو في الهند عليه زعموا أن ولده أميران شاه أرسله إليه‌

و ذلك أن ابنه أميران شاه المذكور راسله، و أنهي إليه يقول علي ما قيل في بعض ما قاوله و حاوله: إنك قد عجزت لكبر سنك، و شمول الضعف
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 102
ببدنك و وهنك، عن إقامة شعائر الرئاسة، و القيام بأعباء الأيالة و السياسة، و الأولي بحالك إن كنت من المتقين، أن تقعد في زاوية مسجد و تعبد ربك حتي يأتيك اليقين، و قد تم في أولادك و أحفادك، من يكفيك أمر رعيتك و أجنادك، و يقوم بحفظ مملكتك و بلادك، و أني لك بلاد و ممالك، و أنت عن قريب هالك، فإن كان لك عين باصره، و بصيرة في نقد الأشياء ماهرة، فاترك الدنيا و اشتغل بعمل الآخره، و لو ملكت ملك شداد، و رجع إليك اقتدار العمالقة و عاد، و ساعدك النصر و العون، حتي تبلغ مقام هامان و فرعون، و رفع إليك خراج الربع المسكون، حتي تفوق في جمع المال قارون، و صرت في خراب البلاد كبختنصر، الذي طول الله تعالي له فقصر، و بالجملة فلو بلغ سلطانك الأقطار، و قضيت من دنياك غاية الأوطار، و صار عمرك فيها أطول الأعمار، و خدامك فيها ملوكها الأغمار، فقصر جندك قيصر، و كسر كسري فانكسر، و تبعك تبع النجاشي، و أوساط الملوك و الأقيال غدوا لك خداما و حواشي، و فغر لك بغبور «1» بالثناء فاه، و أحنيت علي الخان و خاقان، فوجه كل في رقعة دستك شاه، و أذعن لك فرعون مصر و سلطانها، و جي‌ء لك علي يد خير الدين ايران الدنيا و تورانها، و آل أمرك إلي أن كان لك سكان الأقاليم و قطانها، أليس قصاري تطاول قصورك إلي القصور، و نهاية كمالك النقص، و حياتك الموت، و سكناك القبور.
قلت شعرا:
فعش ما شئت في الدنيا و أدرك‌بها ما رمت من صيت و صوت
فخيط العيش موصول بقطع‌و حبل العمر معقود بموت و قيل شعرا:
قميص من القطن من حلةو شربة ماء قراح و قوت
ينال به المرء يا يرتجي‌و هذا كثير علي من يموت
______________________________
(1)- بغبور: لقب ملك الصين- مفاتيح العلوم للخوارزمي- ط. القاهرة- المنيرية- ص 73.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 103
فأين أنت من نوح و طول عمره، و نياحته علي قومه و حسن عبوديته و شكره، و لقمان و وعظه ولده، و تربيته لطول الحياة لبده، و داود في ملكه الفسيح، مع قيامه بأوامر الله تعالي و كثرة الذكر و التسبيح، و سليمان بعده، و حكمه علي الإنس و الجن، و الطير و الوحش و الريح، و ذي القرنين الذي ملك المشرقين، و بلغ المغربين و بني السد بين الصدفين، و دوخ البلاد، و ملك العباد، و أين محلك من سيد الأنبياء و خاتم الرسل، و صفوة الأصفياء المرسل، رحمة للعالمين، الكائن نبيا، و آدم بين الماء و الطين، محمد المصطفي، و أحمد المجتبي، الذي زويت له مشارق الأرض و مغاربها، و تمثل بين يديه شاهدها و غائبها، و فتحت له خزائنها، و عرض عليه ظاهرها و كامنها، و كانت جنوده الملائكة الكرام، و آمن به الإنس و الجن و الطير و الوحش و الهوام، و أيده الله الكريم المتعال، بأن أرسل لطاعته ملك الجبال، و كان حامل رايات نصره نسيم الصبا باليمين و الشمال، فملك الجبابرة بالهيبة و القهر، و كانت الأكاسرة و القياصرة تهابه من مسيرة شهر، و أيده بنصره و بالمؤمنين من المهاجرين و الأنصار، و تولي نصره إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ «1» و ان الله سبحانه به أسري، في بعض ليلة من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي، و كان مركوبه الشريف البراق، ثم عرج به إلي السبع الطباق، و قرن اسمه الكريم مع اسمه، و تعبد عباده بما شرعه إلي يوم القيامة، من غير تغيير لحده و رسمه، و خلق لأجله الكائنات، و أنار بوجهه الموجودات، و لم يخلق في الكون أشرف منه و لا أفخر، و غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر، و أظهر من معجزاته أن أشبع الجم الغفير، من القرص الشعير، و سقي الكثير من الرعال، مما نبع من بين أصابعه من الماء الزلال، و انشق له القمر، وسعت إليه الشجر، و آمن به الضب و سلم عليه الحجر، و هل تحصي معجزاته، و تحصر كراماته، و ناهيك بمعجزاته المؤيدة، و كرامته المؤبدة المخلدة، علي مر الزمان، الباقية ما دار
______________________________
(1)- سورة التوبة- الآية: 40
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 104
الحدثان، الساكنة ما تحرك الملوان «1»، و هو القرآن المجيد، الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ «2» و هذه منازله في الدنيا، غير ما ادخر له في العقبي، و بشره بقوله:
وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولي وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضي «3» مع أن الله تعالي أخذ ميثاق النبيين، بالأيمان به و بنصره، فلو أدركوه لم يسعهم إلا اتباعه و امتثال أمره، فهو دعوة إبراهيم الخليل، و متوسل موسي و علماء بني اسرائيل، و المبشر بقدومه علي لسان عيسي في الإنجيل، و حامل لواء حمد ربه يوم لقائه، فآدم و من دونه تحت لوائه، و هو صاحب الحوض المورود، و المخاطب من ربه في موقف الشفاعة و المقام المحمود، و بمعني ما قلت مفوفا مقتبسا شعرا:
قل تسمع أشفع تشفع سل تنل تجدتفويف «4» خلعة عز و اقتبس نعمي فانظر إلي هؤلاء السادة، معادن الخير، و مفاتيح السعاده، هل رغبوا في الدنيا و اعتمدوا عليها، أو نظروا إلا بعين الاحتقار و الإعتبار إليها، أو هل كان نظرهم غير التعظيم لأمر الله، و الشفقة علي خلق الله، و ناهيك بالخلفاء الراشدين، و أعظم بالعمرين، اللذين كانا في هذه الأمة بمنزلة القمرين، و هلم جرا بالخلفاء العادلين، و الملوك الكاملين و السلاطين الفاضلين، الذين تولوا فرعوا حقوق الله تعالي في عباده، و حموا عباد الله عن الظلم في بلاده، و أسسوا قواعد الخير، و ساروا في نهج العدل و الانصاف أحسن سير، فمضوا علي ذلك و بقيت آثارهم، و أحيت بعد موتهم أيامهم أخبارهم، فمضي علي ذلك مثل الأولين، و بقي لهم لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «5» اذ صنعوا بموجب ما سمعوا شعر:
______________________________
(1)- الملوان: الليل و النهار
(2)- سورة فصلت- الآية: 42
(3)- سورة الضحي- الآيتان: 4- 5
(4)- الثوب المفوف: الرقيق.
(5)- سورة الشعراء- الآية: 84.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 105 فكن حديثا حسنا ذكره‌فإنما الناس أحاديث و أنت إن كنت تسلطت علي الخلق، فقد عدلت أيضا، و لكن عن الحق، و رعيت و لكن أموالهم و زروعهم، و حميت، و لكن بالنار قلوبهم و ضلوعهم، و أسست و لكن قواعد الفتن، و سرت و لكن علي سير إماتة السنن، و مع هذا فلو عرجت إلي السبع الشداد، ما بلغت منزلة فرعون و شداد، و لو رفعت قصورك علي شوامخ الأطواد، ما ضاهت إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ «1» فانظر لمن نهي و أمر، ثم مضي و غبر، و لا تكن ممن طغي و فجر، و تَوَلَّي وَ كَفَرَ «2» و أقنع بهذا الخطاب، عن الجواب، واعط القوس باريها، و اترك الدار لبانيها، و تولي الله و رسوله و الذين آمنوا، و إلا فأنت إذا ممن تولي في الأرض ليفسد فيها، فإني إذ ذاك أمشي عليك، و أضرب علي يديك، و أمنعك من السعي في الفساد بأن أسوي بين رجليك، مع قلة آداب كثيرة، و عبارات ذنوبها كبيرة.
فلما وقف تيمور علي هذا الكتاب، وجه إلي تبريز عنان الركاب، و كان عند أميران شاه من المعتدين، جماعة سعوا في الأرض مفسدين، منهم قطب الموصلي أعجوبة الزمان الدوار، و أستاذ الموسيقي و الأدوار، إذا استنطق اليراعه، أسكت أهل البراعه، و إذا وضع الناي بفيه، سحق عود اسحاق و أبيه، و إن أخذ في الأغاني، أغني عن الغواني، تقول النفس لنفسه الزخيم: خفف عني أنيني، فتشير براعته بالاصبع و تقول علي عيني، ثم ينفخ فيها الروح، فيشفي كل قلب مجروح، و يداوي كل فؤاد مقروح، فإن أقامت قامتها الرشيقه راقصة في سماعها، يحني الجنك ظهره خاضعا لطيب استماعها، و ان فتحت فاها لتقري أسماع القلوب ألحانه، يميل العود عنقه مصغيا إليها عاركا بأنامل الأدب آذانه، قيل إنه كان يؤدي جميع الأنغام الفروع و المركبات و الشعب و الأصول، من كل
______________________________
(1)- سورة الفجر- الآيتان: 7- 8
(2)- سورة الغاشية- الآية: 23
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 106
ثقب من أثقب المأصول، و له مصنفات في أدوار المقامات، و جري بينه و بين الاستاذ عبد القادر المراغي مباحثات، و كان أميران شاه به مغرما، يعد صحبته و العشرة معه مغنما، و كان تيمور لا يعجبه العجب، لا يستهويه اللهو و الطرب، فقال: إن القطب أفسد عقل أميران شاه، كما أفسد عبد القادر أحمد بن الشيخ أويس و أطغاه.
فوصل ذلك الطاغ، سابع شهر ربيع الأول سنة إثنين و ثمانمائة إلي قراباغ «1»، فأناح بها ركابه، و أراح بها دوابه، و ضبط ممالك أذربيجان، و قتل أولئك المفسدين، و أهل العدوان، و لم يتعرض لأميران شاه، لانه ولده و هو أنشأه، و بينهما أمور متشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله، ثم توجه بذلك الخميس، ثاني جمادي الآخره يوم الخميس، و أخذ مدينة تفليس، و قصد بلاد الكرج، و هدم ما استولي عليه من قلعة و برج، و قلعهم إلي الصياصي، و القلاع العواصي، و قتل من ظفر به من طائع و عاصي، و جزهم ما بين رؤوس و نواصي، ثم ثني عنان العناد، و حرش البغاة علي بغداد، فهرب السلطان أحمد من ذلك اللجب، إلي قرا يوسف في ثامن عشري شهر رجب، فسكن تيمور زعازعه، و طمن بذلك مراقبه و منازعه، و تمهل في السير، و استعمل في نحوه مع مناظريه مباحث سوي و غير، و صار يتجاوز و يتجاول، و ينشد و هو يتغافل شعرا:
أموه عن سعدي بعلوي و أنتم‌مرادي فلا سعدي أريد و لا علوي فتراجع السلطان أحمد، و قرا يوسف يوما إلي مدينة السلام، متصورين انه لم يبرح من بلاد الكرج اللئام، فلما تحققا منه الخروج، و كانا حققا أنه إذا عرج علي شي‌ء فما يعوج، و أطارا طائرهما نحو الروم، و تركا ديارهما ينعق فيها الغراب و البوم، فتوجه ذلك القشعمان، إلي مصيف التركمان، فأغمد السيف، و كف عن الحيف، و تصرم الصيف.
______________________________
(1)- قراباغ من منتجعات تيمور، و وقع في وسط أران بين نهر الكر (كورا) و الرس (أراكس) في الشمال من أذربيجان. لي سترانج ص 213
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 107

ذكر ما وقع من الفتن و البدع و ما سل للشرور من حسام بعد موت سلطان سيواس و الشام‌

و كان اذ ذاك قد تخبط أمر الناس، و وقع الاضطراب ببلاد مصر و الشام إلي سيواس، أما مصر و الشام فلموت سلطانها «1»، و أما سيواس فلقتل برهانها، و كان موتهما متقارب الزمان، كموت قرايوسف، و الملك المؤيد الشيخ أبي الفتح غياث الدين محمد بن عثمان «2»، فان مدي ما بين هؤلاء الملوك العظام، كان نحو نصف عام، و كذا كان ما بين موت ذينك السلطانين.

ذكر نبذة من أمور القاضي و كيفية استيلائه علي سيواس و تلك الأراضي‌

و سبب قتل القاضي برهان الدين، مخالفة وقعت بينه و بين عثمان قرايلوك رأس المعتدين، سيزداد بيانها، إذا أتي مكانها، و هذا السلطان أبوه كان قاضيا، عند السلطان أرتنا حاكم قيصرية «3» و بعض ممالك قرامان، و كان بين الأمراء و الوزراء ذا مكانة و امكان، و كان ابنه برهان الدين أحمد المذكور في عنفوان شبابه، من طلبة العلم الشريف و أصحابه، المجتهدين في تحصيله و اكتسابه، فتوجه إلي مصر لاقتناء العلوم، و ضبطها من طريقي المنطوق و المفهوم، و كان ذا فطنة و قاده، و قريحة نقاده، و مقلة غير رقاده، فحصل من العلوم عده، في أدني مده،
______________________________
(1)- الظاهر برقوق، الذي كانت وفاته في 15 شوال 801 ه/ 12 آذار 1399
(2)- هو السلطان العثماني محمد الأول ابن بايزيد الأول (816- 824 ه/ 1413- 1421)، و قد حارب حكام الدويلات التي أقامهم تيمور، و أعاد توحيد الدولة العثمانية، و قد أمضي ابن عربشاه مدة طويلة يعمل في ديوان انشائه، القرماني ص 303- 304. السخاوي- الضوء اللامع ج 2 ص 127.
(3)- هو أرتنا بن جعفر (728- 753 ه/ 1327- 1352 م) و كان مغولي الأصل، استولي علي سيواس، زاره ابن بطوطه، و وصف دولته بالقوة. رحلة ابن بطوطه ج 8 ص 189- ط.
القاهرة 1958.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 108
فبينما هو في مصر يسير، و اذا هو بفقير جالس علي الطريق كسير، فناوله شيئا يسد به خلته، و يجبر به فقره و كسرته، فكاشفه ذلك الفقير بلفظ معلوم، و كشف له عن السر المكتوم، و قال: لا تقعد في هذه الديار فإنك سلطان الروم، فصدع بهذا الكلام قلبه، فأخذ في إعداد الأهبة، و قطع الأعلاق، و دخل الطريق صحبة الرفاق.
و لما وصل إلي سيواس، ابتهج به والده و أعيان الناس، و شيد له بين الخلق أشد بنيان و أشد أساس، و شرع في إلقاء الدروس، و مصاحبة الأعيان و الرؤوس، و كان ذا همة أبيه، و راحة سخية، و نفس زكيه، و خصائل رضيه، و شمائل مرضيه، و تحرير شاف، و تقرير واف، يحقق كلام العلماء، و يدقق النظر في مقالات الفضلاء، و له مصنفات في المعقول، و لطائف في المنقول، ينظم الشعر الرقيق، و يعطي عليه العطاء الجليل، و يعجبه اللفظ الدقيق، و يثيب عليه الثواب الجزيل، و هو في ذلك يتزيا بزي الأجناد، و يسلك طريقة الأمراء من الركوب و الإصطياد، و يلازم أبواب السلطان، و يتخذ الخدم و الأعوان، فمات السلطان عن ولد صغير، فأجلسوه علي السرير، و كان عنده من أعيان الأمراء، و رؤوس الوزراء، أناس منهم غضنفر بن مظفر، و فريدون و ابن المؤيد، و حاجي كلدي و حاجي إبراهيم و غيرهم، و من أكبرهم أبو القاضي برهان الدين فصار هؤلاء الأمراء، و الرؤوس من الوزراء و الكبراء، يدبرون مصالح الرعية، و لا يفصلون إلا بالاتفاق ما يقع من قضيه.
فمات أبو القاضي برهان الدين و تولي ولده مكانه، وفاق بالعلم و حسن السياسة أباه و أقرانه، ففرق ولايات ذلك الاقليم، علي: ابن المؤيد، و حاجي كلدي، و حاجي إبراهيم، فبقي حوالي السلطان محمد: فريدون، و غضنفر، و برهان الدين أحمد، ثم توفي السلطان محمد، عن غير ولد، فبقيت الولاية بين الثلاثه، علي سبيل الاشتراك وراثة، و قلما اتفقت ضرتان علي زوج واحد و التقتا و لَوْ كانَ فِيهِما
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 109
آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» و مائة فقير، يلتفون في حصير، و ملكان لا يسعهما أقليم كبير، فأراد برهان الدين الإستبداد بالملك، و الاستقلال، فنصب لشريكيه أشراك الاحتيال، إذ الملك عقيم، فرصد لذلك الطالع المستقيم، و نظر نظرة في النجوم فقال: إني سقيم، فرأي شريكاه أن العياده عباده، فطلبا بعيادته الحسني، و رام هو الزياده، فعاداه و قد عاداهما، و ما راعاه و لكن راعهما و ما راعاهما، فدخلا عليه، و قد أرصد لهما رصدا و أعد لهما من الرجال المعدة عددا، و قتلهما و قد حصلا في قبضة الإشراك، و خلص توحيد السلطنة الأحمدية عن الإشراك، فقوي بالتوحيد سلطانه، و أضاء به للدين حجته و برهانه.
و لكن ناوأه أنداده، و عصي عليه من النواب أكفاؤه و أضداده، و أظهر كامن العداوة و أعداؤه و حساده، و قالوا هذه مرتبة لم ينلها آباؤه و لا أجداده، و نحن كلنا سواسية إذ انتمينا، فأني يكون له الملك علينا، و حسد الرئاسة هو الغل القمل «2»، و تحاسد الأكفاء جرح لا يندمل، فمنهم شيخ نجيب صاحب توقات القاسيه، و منهم حاجي كلدي، و كان نائب أماسيه «3»، فلما استقل بالملك تلقب بالسلطان، و كان قد استولي إذ ذاك السلطان علاء الدين علي ممالك قرمان، فقال السلطان برهان الدين: إن رواة التواريخ حدثتنا و أسمعتنا، و كتب السير أنبأتنا و أخبرتنا، أن ما حوالينا من الممالك متعلق بنا، من سلطاننا و ارثنا.
ثم شرع في استخلاص ما كان متعلقا بسلطانه، و جعل يشن الغارات علي من يتمادي في عصيانه، فقلع قلعة توقات من الشيخ نجيب قرا، و استصحبه معه طيبة و قهرا، و انحازت تتار الروم إليه و هم الجم الغفير،
______________________________
(1)- سورة الأنبياء- الآية: 22
(2)- الغل القمل: الغل الكبير الضخم
(3)- من مدن بلاد الروم إلي الجنوب من سينوب- تقويم البلدان: 383
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 110
و عثمان الملقب بقرا يلوك قال له: أنا تحت أوامرك أمشي و في قيد طاعتك أسير، فكان قرايلوك من جملة خدمه، و في حساب تراكمته و حشمه فكان يرحل هو و من معه من الناس، شتاء و صيفا بضواحي سيواس.

ذكر محو قرايلوك عثمان آثار أنوار برهان الدين السلطان بسبب ما أظهره من العدوان و اضمره حالة العصيان و قبض عليه لما غدر به الدهر و خان‌

ثم إنه وقع بين قرايلوك و بين السلطان منافره، أدت إلي المشاجرة، و انتهت إلي المزامحة و المناقره، فنقض العهود و الذمم، و امتنع من حمل التقادم و الخدم، و تمنع في الأماكن العاصية بمن معه من التراكمة و الحشم، فلم يكترث به السلطان، لأنه كان أقل الأعوان، و جعل يتوجه تارة إلي أماسية و أخري إلي أرزنجان، و كان بالقرب من سيواس مصيف، منظره ظريف، و ترابه نظيف، و ماؤه خفيف، و هواؤه لطيف، كأن الخلد خلع علي أكناف رياضه سندسه الأخضر، و الفردوس فجر في خلال أشجاره من نهره الكوثر، علي حدائقه من روضات الجنان شبه، و في ربوة جبهته للأبصار دهشات و للبصائر نزه، قلت فيه شعرا:
عليه شقيق قد زها فكأنه‌صحون عقيق أترعت بالعنابر فقصده قرايلوك، و رام في طريقه السلوك، فمر علي سيواس، و بها القاضي أبو العباس، فجاز بركابه، و لم يعبأ به، فألهب تموز قيظه، و كاد يتميز من غيظه، و قال بلغ من هذا العواء أن يلج برج الأسد، و يقدم قدم إقدامه، و أنا حل بهذا البلد، ثم أمر جماعته بالركوب، و قصد عليه الوثوب، و استنفره الغضب و الطيش، أن ركب و سبق الخيل، فقال له بعض من معه من الجماعه: لو يلبث مولانا السلطان ساعه، حتي يتلاحق العسكر، كان أحزم و أوفق و أجدر، و إن كانت حرمة مولانا السلطان فيها كفاية و لها أيد، لكن قرايلوك تركماني ذو دهاء و كيد، فلم
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 111
يلتفت السلطان إلي هذا الكلام، و لم يزل هاجما وراءه حتي هجم الظلام، فكر عليه قرايلوك بجماعته، فقبض عليه باليد من ساعته، و لم يدر بحاله العسكر، و تفرق أمراؤه و جنده شذر مذر.

ذكر ما كان نواه قرايلوك من الرأي المصيب و رجوعه عنه لسوء طويته بشيخ نجيب‌

ثم إن قرايلوك عزم أن يجدد معه العهد و الميثاق، و يقلع غراس الخلاف و يؤسس بنيان الصداقة و الوفاق، و يرده إلي مكانه، و يصير كما كان أولا من أنصاره و أعوانه، و يعلم بذلك السلطان أنه له ناصح، فلا يسمع فيه كلام واش و كاشح، و إذا بشيخ نجيب الذي كان متولي قلعة توقات، و حاصره السلطان و ضيق عليه مسالك الطرقات، ثم قهره و غلبه، و أخذ قلعته و بالكراهة استصحبه، وجد فرصة فانتهزها، و كان في قلبه كمائن فأبرزها، فجاء إلي قرايلوك، و وقف في خدمته كالمملوك، و قال أعيذ عالم عقلك أن يزل، و دليل فهمك أن يضل، و مصيب رأيك أن يصاب، و جميل فكرك أن يعاب، قد أمكن الله من العدو، و أني لك مع هذا سكون و هدو قلت شعرا:
ما الدهر إلّا ساعة و تنقضي‌و المرء فيها حازم أو نادم فلئن أبقيت عليه لا يبقي عليك، و لئن نظرت إليه بعين الرحمة و الله لا ينظر إليك، فإنه رجل عتي، و بأنواع المكر و أصناف الخديعه عبي، عسر القياد- و أبيك- لا ينجع فيه الخير و أبي، و هبك- و العياذ بالله- منه مكانه منك، أكان يرق لك أو يصفح عنك، هيهات هذا و الله محال، فقد وقع لك و الله محال، فما كل أوان، يسمح بالمراد الزمان، و الدهر فرص، و أكثره غصص، فإياك أن تفوت الفرصة، فتقع في الغصة و أي غصة، و لا ينفعك الندم، إذا زلت بك القدم، و تفكر فيما أقول، و استنبط دليل هذه المسألة من المعقول، و استبق شرفك الرفيع
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 112
بإراقة دمه، و حصن أستار حرمك بابتذال حرمه، و تذكر يا أمير، أمور قابوس بن وشمكير «1»، و لا زال ذلك الشيطان، يحسن له الرأي في قتل السلطان، و يقول هذا الرأي أنفع لك و عليك أعود، كما فعل بسطام أمير الكرد بقرايوسف لما قبض علي السلطان أحمد، فرجع قرايلوك عن رأيه لما خدعه و دهاه، فقتل السلطان من غير إمهال و لا توقف رحمه الله- و كان قتل قرايوسف السلطان أحمد ابن الشيخ أويس في عاشر شهر رجب سنة ثلاث عشرة و ثمانمائة و القصة مشهورة- و كان السلطان رحمه الله، كما ذكر أولا، عالما فاضلا كريما متفضلا، محققا في التقرير، مدققا في التحرير، قريبا من الناس، مع كونه شديد البأس، رقيق الحاشية أديبا، شاعرا ظريفا لبيبا أريبا، جوادا مقداما، قرما هماما، نهاب الدنيا و وهابها، يهب الألوف و لن يهابها، يحب العلماء و يجالسهم، و يدني الفقراء و يكايسهم، و قد جعل يوم الاثنين و الخميس و الجمعة للعلماء و حفاظ القرآن خاصة، لا يدخل عليه معهم غيرهم من تلك الأمم الغاصة، و كان قد أقلع قبل وفاته عن جميع ما كان عليه، و تاب إلي الله تعالي و رجع إليه، و له مصنفات منها «الترجيح علي التلويح».
و كان عنده نديم للفضل حريز، بغدادي الأصل يدعي عبد العزيز، و كان أعجوبة الزمان، و في لطائف الشعر و النظم فارسيا و عربيا أطروفة الدوران، سرقه من بغداد من السلطان أحمد بن الشيخ أويس، فكان عنده رأس ندمائه، و عين أهل الفضل و الكيس، و القاضي كان مربي الفضلاء، متطلبا من كل جهة الأدباء و الشعراء، و كان أهل الفضل و الأدب يفدون عليه من كل فج، حتي صار مقامه كعبة الحاج لا كعبة الحج، و صورة سرقته له أنه لما سمع بأوصافه أحبه فأراد قربه، فالتمسه من مخدومه، فلم تسمح نفس السلطان أحمد بمفارقة نديمه، ثم اختشي
______________________________
(1)- انظر حول قصته ما كتبه ابن عربشاه في كتابه فاكهة الخلفاء- ط. القاهرة، المطبعة الميمنية- ص 12
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 113
من القاضي رغبه، و خاف لشدة دهيه هربه، فوصي به و حرج عليه، و أقام له معقبات يحفظونه من خلفه و من بين يديه، فأرسل إليه القاضي إليه رسولا ذكيا، فناداه نداء خفيا، و أجزل له العطيه، و وعده مواعيد سنيه، و فرق ما بين السلطانين من الحسن و القبح، كفرق ما بين البحرين العذب و الملح، و الملواوين: المساء و الصبح، فلبي دعوته بالقبول، و واعد للخروج بعض القفول، ثم خرج و لهيب الحر قد و قد، و السلطان أحمد عند الحريم قد رقد، و وضع ثيابه علي ساحل دجله، و وجه الي داخل النهر في الطين رجله، ثم غاص في الماء و مخر، و خرج من مكان آخر، و لحق برفقائه، و اختفي بينهم اختفاء اليربوع في نافقائه «1»، فطلبه السلطان أحمد، ففتشوا عليه فلم يوجد، فبالغوا في طلابه، إلي أن وقفوا علي ثيابه، و رأوا آثار رجليه في الطين، فلم يشكو أن الموج اختطفه فكان من المغرقين، فكفوا قدم السعي عن طلبه، و لم يضيقوا علي أحد بسببه.
ثم بعد أيام يسيره، أخرج غريق بغداد رأسه بسيواس عند القاضي برهان الدين من تحت الحصيره، ففرقه في بحر نواله، و أسبغ عليه ذيل كرمه و أفضاله، فصار عنده مقدما، ولديه مبجلا معظما، ألف له تاريخا بديعا، سلك فيه مهيعا «2» رفيعا، و انتهج منهجا منيعا، ذكر فيه من بدو أمره إلي قرب وفاته، مع مواقفه و وقائعه و مصافاته، و وشحه بظريف كناياته، و لطيف استعاراته، و فصيح لغاته و بليغ كلماته، و رشيق اشاراته و دقيق عباراته، مدّ فيه عنان اللسان، و هو موجود في ممالك قرمان، في أربع مجلدات ذكر ذلك لي من غاص بحره، و استخرج دره، و وقف علي تاريخ العتبي في اليمين «3»، السلطان محمود بن سبكتكين، و أن هذا أحسن من ذلك أسلوبا، و أغزر يعبوبا، و أعذب مشروبا، مع أني لم أقف
______________________________
(1)- اليربوع نوع من الفأر، و نافقائه: جحره
(2)- طريق مهيع: منبسط واسع. العين
(3)- تاريخ اليميني أي تاريخ يمين الدولة محمود بن سبتكين، المؤسس الفعلي للدولة الغزنوية.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 114
عليهما، و لا وصلت لقصر الباع إليهما، ثم إن الشيخ عبد العزيز هذا بعد لهيب هذه النائره، انتقل إلي القاهرة، و لم يبرح علي الأبراح، و معاقرة راح الاتراح، حتي خامرته نشأة الوجد فصاح، و تردي من سطح عال فطاح، و مات متكسرا ميتة صاحب الصحاح «1»، و الله أعلم.

ذكر ما وقع من الفساد في الدنيا و الدين بعد قتل قرايلوك السلطان برهان الدين‌

و لما قتل السلطان برهان الدين لم يكن في أولاده من يصلح للرياسه، و ينفذ أحكام السلطنة و السياسه، فرجع قرايلوك إلي سيواس، و دعا إلي نفسه الناس، فلم يجيبوه، و لعنوه و سبوه، فأخذ يحاصرهم و يناكدهم، و يضيق عليهم و يعاندهم، فاستمدوا عليه التتار فأمدوهم، و أتت طائفة منهم فنجدوهم، فكسرهم قرايلوك ففروا، و استنجدوا طوائفهم و كروا، و أقبلوا بالقض و القضيض، و ملأ البقاع و الحضيض، فلم يكن لقرايلوك علي جبه قتالهم طوق، فدخل عليهم من تحت و جاءهم من فوق، و توجه إلي تيمور، و كان بحر جيشه في أذربيجان يمور، فقبل يديه، و انتمي إليه و جعل يناديه إلي هذه البلاد و يدعو، كما فعل معه الأمير أيدكو، فحك له في الدبره «2»، فأجابه إجابة برصيصا أبي مره «3».
ذكر مشاورة الناس من أهل سيواس اني يسلكون و من يملكون
ثم أن أهل سيواس، و الأعيان من رؤسائها و الأكياس، تشاوروا فيمن يملكون قيادهم، و إلي من يسلمون بلادهم، لسلطان مصر أم لابن قرمان، أم السلطان الغازي بايزيد بن عثمان، ثم اتفق رأيهم السديد، علي
______________________________
(1)- صاحب الصحاح هو اسماعيل بن حماد الجوهري (ت: 393 ه/ 1003 م)، و كتابه معجم مشهور مطبوع
(2)- الدبرة: قرحة تظهر في الدابة من الارتحال، و قصد المؤلف أنه جاءه من الناحية التي تهمه.
(3)- كان برصيصيا من الرهبان العباد، فأغواه أبو مره- الشيطان- بوساطة امرأة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 115
المرحوم ايلدريم «1» بايزيد، فأرسلوا إليه قاصدا، و استنهضوه إليهم وافدا، و أنشدوا، و قد استنجدوه، شعرا:
و كم أبصرت من حسن و لكن‌عليك من الوري وقع اختياري فتوجه من ساعته إليهم، و قدم بالعساكر و الجنود عليهم، و مهد القواعد و الأركان، و ولي عليهم أكبر أولاده أمير سليمان، و أضاف إليه خمسة أنفار، من أمرائه الكبار، يعقوب بن أورانيس، و حمزة بن بجار، و قوج علي، و مصطفي داود، و استمال خواطر الأعيان، و توجه إلي أرزنجان، فهرب منها طهرتن المذكور، و قصد في انهزامه تيمور، فاستولي ابن عثمان، علي مدينة أرزنجان، و أخذ أموال طهرتن و ذخائره و حرمه، و مكن منهن سواسه و غلمانه و خدمه، و رجع بالأموال و الحمول، و اشتغل بمحاصرة استنبول.
فصل: فنبه قرايلوك، و طهرتن، من تيمور قائم الفتن، و إن كان المتحرك منه في الفساد ما سكن، حتي توجه إلي هذه البلاد، و عم فساده البلاد و العباد، فوصلوا إلي أرزنجان واردين، ثم ارتحلوا و نزلوا مفسدين ماردين، فعصي عليه الملك الظاهر، لما كان قاساه أولا من طاعة ذلك الغادر، فندم علي إطلاقه أول مرة، كما سيندم يوم القيامة، و لم تنفعه الندامة، و الحسرة، و كان ذلك في سنة اثنتين و ثمانمائة، و الخلف قد وقع بين العساكر الشامية و المصرية، و انحاز إلي كل فئه، و تفرقت آراؤهم أيادي سبأ و مال هؤلاء كل منهم إلي دبور، و شمال، و صبا، و أهملوا أمور الرعايا، و غفلوا عن حلول الرزايا، قلت شعرا:
من يهمل الأعدا و يأمن كيدهم‌مثل النؤوم وراءه مستيقظ قلت شعرا:
و اللص ليس له دليل سائرنحو الذي يبغي كنوم الحارس
______________________________
(1)- ايلدريم: لقب تركي معناه الصاعقة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 116
ثم قتل «تنم» ملك الأمراء بالشام المحروس، أعيان الأمراء و الأعلام الرؤوس، في شهر رمضان من العام المذكور، و بيان هذه الأمور، في كتب التواريخ مسطور، قلت شعرا:
و اذا العرين تصرعت آساده‌عوت الثعالب فيه آمنة الردي

ذكر قصد ذلك الغدار سيواس و ما يليها من هذه الديار

ثم إن تيمور وجه عنان البأس، نحو مدينة سيواس، و بها كما ذكر أمير سليمان، بن بايزيد بن مراد بن أورخان بن عثمان، فأرسل يخبر أباه بهذا الأمر المهول، و يستنجده و هو إذ ذاك محاصر استنبول، فلم يطق أن يمد إليه يدا، لاحتياجه إلي المدد، و لبعد المدي، فاستحضر من جنده أهل المنعه، و حصن المدينة و القلعة، و استعد للقتال و استمد للحصار، و فرق رؤوس أمرائه علي أبدان الأسوار.
و جهز تيمور من جيشه العيون، ليتحقق ما هو عنده مظنون، و لما كشفت جيوشه لأمير سليمان رينها، فر لما أن رأي عينها، فعزم علي التوجه إلي أبيه، و اشترط مع أمرائه و ذويه، أنهم يحفظون له البلد، ريثما يجهز لهم العدد و العدد، فلم يسعهم إلا الموافقة، و التخلف و عدم المرافقة، فرام لنفسه الخلاص، و أفلت و له حصاص «1»، فوصل إليها تيمور بتلك السيول الهاميه، سابع ذي الحجه سنة اثنين و ثمانمائه، و لما أحل بسيواس رجله الشؤمي، قال: أنا فاتح هذه المدينة في ثمانية عشر يوما، ثم أقام في محاصرتها علامات الحشر، و فتحها في اليوم الثامن عشر، بعد ما عثي فيها و عاث، و ذلك يوم الخميس خامس المحرم سنة ثلاث، و بعد أن حلف للمقاتلة أن لا يريق دمهم، و أنه يرعي ذممهم و يحفظ حرمهم و حرمهم، و لما فرغت المقاتلة، و استمكن من المقاتله، ربطهم في الوثاق سربا، و حفر لهم في الأرض سربا، و ألقاهم أحياء في تلك الأخاديد، كما ألقي في قليب
______________________________
(1)- الحصاص: سرعة العدو في شدة، و يقال الحصاص: الضراط. العين
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 117
بدر الصناديد، و عدد من ألقي في تلك الحفر، كان ثلاثة آلاف نفر، ثم أطلق عنان النهاب، و أتبع النهب الأسر و الخراب.
و كانت هذه المدينة من أظرف الأمصار، في أحسن الأقطار، ذات عمائر مكينه، و أماكن حصينه، و مآثر مشهودة، و مشاهد للخير معهوده، ماؤها رائق، و هواؤها للأمزجة موافق، و سكانها من أحشم الخلائق يتعاونون التوقير و الاحتشام، و يتعاطون أسباب التكلف و الاحترام، و هي متاخمة ثلاثة تخوم: الشام، و أذربيجان، و الروم، و أما الآن فقد حلت بها الغير، و تفرق أهلها شذر مذر، و انمحت مراسم نقوشها، فهي خاوية علي عروشها.

ذكر انسجام صواعق ذلك البلاء الطام من غمام الغرام علي فرق ممالك الشام‌

و لما استنقي سيواس لحما و نقيا، و استوفاها حصدا و رعيا، فوق سهام الانتقام، إلي نحو ممالك الشام، بجنود إن قيل كالجراد المنتشر، فالجراد كان من أعوانها، أو كالسيل المنهمر، فسيل الدماء جار من فرندها و خرصانها، أو كالفراش المبثوث، فالفراش يحترق عند تطاير سهامها، أو كالقطر الهامي فالديم تضمحل عند انعقاد قتامها، رجال توران، و أبطال إيران، و نمور تركستان، و ببور بلخشان، و صقور الدشت و الخطا، و نسور المغول و كواسر الجتا، و أفاعي خجند، و ثعابين أيدكان، و هوام خوارزم و جوارح جرجان، و عقبان صغانيان، و ضواري حصار شاذمان «1»، و فوارس فارس، و أسود خراسان، و ضباع الجبل و ليوث مازندران، و سباع الجبال، و تماسيح رستمدار، و طالقان، و أصل قبائل خوز، و كرمان، و طلس «2» أرباب طيالسة أصبهان، و ذئاب الري،
______________________________
(1)- حصار شاذمان: بلدة علي نهر القباذيان في اقليم ضغانيان، في بلاد ما وراء النهر. لي سترانج ص 483.
(2)- الطلس: الذئاب.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 118
و غزني، و همذان، و أفيال الهند و السند و مولتان، و كباش ولايات اللور، و ثيران شواهق الغور، و عقارب شهرزور، و جرارات عسكر مكرم، و جندي سابور. شعر:
قوم اذا الشر أبدي ناجذيه لهم‌طاروا إليه زرافات و وحدانا مع ما أضيف إليهم من عابر الخدم، و عشائر التراكمة و الأوباش و الحشم، و كلاب النهاب، من رعاع العرب و همج العجم، و حثالة عباد الأوثان و أنجاس مجوس الأمم، ما لا يكتنفه ديوان، و لا يحيط به دفتر حسبان، و بالجملة فإنه الدجال و معه يأجوج و مأجوج، و الرياح العقيمة الهوج.
فتوجه و النصر قائده، و السعد رائده، و القضاء موافقه و القدر مساعده، و مشيئة الله تعالي سائقته، و إرادة الله عز و جل في تدبير العباد و البلاد سابقته، فبلغ خبره البلاد الشامية، و اتصل ذلك بالديار المصرية، فورد مرسوم شريف إلي نائب الشام، و سائر النواب و الحكام، و غزاة الدين، و كماة الإسلام، أن يتوجهوا إلي حلب، و يقيموا عليه الجلب، و يجتهدوا في دفعه، و يتعاونوا علي منعه، فتجهز نائب الشام سيدي سودون مع النواب و العسكر، و رحلوا إلي حلب سنة ثلاث و ثمانمائة في شهر صفر.
و وصل تيمور إلي بهنسا، فنهب ضواحيها و لم يبق بها نسا، و حاصر قلعتها ثلاثا و عشرين ليله، فأخذها و لكن كف عنها- للطيفة ربانية- ثبوره و ويله، ثم وطأ مدينة ملطية فأبادها، و دك أطوادها، ثم حل كعبه المشوم، بقلعة الروم «1»، و كان نائبها الناصري، محمد بن موسي بن شهري، و سنذكر ما جري له معه مشبعا، و كيف اجتهد في مجاهدته و سعي، فأقام بها يوما، فلم ينتج له روما، و لم يحتفل لها بحصار و هياج، و قال: هي أهون علي من تبالة علي الحجاج، و ذلك أنه لما رآها
______________________________
(1)- قلعة الروم: علي ضفة الفرات الغربية مقابل بلدة البيرة معجم البلدان.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 119
من بعيد، قال فيها ما قاله من لم يصل إلي العناقيد، و الحق أنه لما رآها، قال: إن الله لما بناها، ادخرها لنفسه و اصطفاها، ثم انجاب ذلك السحاب، إلي عين تاب، و كان نائبها أركماس، رجلا شديد الباس، فحصنها و استعد، و باشر القتال بنفسه و استبد، ثم خرج فهرب إلي حلب، فلم يرسل وراءه الطلب.

ذكر ما أرسل من كتاب و شنيع خطاب إلي النواب بحلب و هو في عين تاب‌

ثم أرسل إلي النواب، قاصده، و هو في عين تاب، و صحبته مرسوم، بأنواع التفخيم موسوم، و بأصناف التهويل مرقوم، و من جملته: أن يطيعوا أوامره، و يكفوا عن القتال و المشاجرة، و يخطبوا باسم محمود خان، و باسم الأمير الكبير تيمور كوركان، و يرسلوا إليه أطلاميش الذي كان عنده فخان، و اقتبضه التركمان، و أرسله إلي مصر لحضرة السلطان، و اطلاميش هذا زوج بنت أخت تيمور، و كان جاء إلي الشام قبل وقوع هذه الشرور، و فيما بين ذلك أمور، كان لها بطون فصار لها ظهور، و كان أولا في مصر محبوسا، و نال ضرا و بؤسا، ثم صار معززا مكرما، معظما مقدما، و كان تيمور عليه مغضبا، فجعل ذلك حجة للمعاداة و سببا، ثم شرع يقول، و هو يجول في ميدان هذه الرسالة يصول: إنه هو أولي بسياسة الأنام، و إنه من نصبه هو الخليفة و الإمام، و إنه ينبغي أن يكون هو المتبوع و المطاع، و ما سواه من ملوك الأرض له خدام و أتباع، و أني لغيره به الرئاسة، و كيف تعرف الجراكسة طرق السياسة، مع كثير من التهويل، و الحشو و التطويل.
و كان يعلم أن إجابتهم سؤاله محال، و أنه طلب منهم مالا ينال، فلم يجيبوه بالمقال، و لكنهم قضوا مراده بالفعال، و لم يلتفت سيدي سودون لما يقول، و ضرب علي رؤوس الأشهاد عنق الرسول، و استعدوا للمبارزة، و استمدوا للمناجزه.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 120

ذكر ما تشاور عليه النواب و هم في حلب و تيمور في عين تاب‌

ثم إن النواب و الأمراء، و رؤوس الأجناد و الكبراء، تشاوروا كيف يكافحونه، و في أي ميدان يناطحونه، فقال بعضهم عندي الرأي الأسدّ، أن نحصن البلد، و نكون علي أسوارها بالرصد، نحرس بروج أفلاكها، حراسة السماء بأملاكها، فإن رأينا حواليها من شاطين العدو أحدا، أرسلنا عليه من رجوم السهام و نجوم المكاحل شهابا رصدا، و قال آخر:
هذا عين الحصر، و علامة العجز و الكسر، بل نحلق حواليها، و نمنع العدو أن يصل إليها، و يكون ذلك أفسح للمجال، و أسرع للجدال، ثم ذكر كل من أولئك، ما عن له في ذلك، و خلطوا غث القول بسمينه، و ساقوا هجان الرأي مع هجينه، فقال الملك المؤيد، شيخ الخاصكي، و كان ذا رأي سدد، و هو اذ ذاك نائب طرابلس: يا معشر الأصحاب، و أسود الحرب، و فوارس الضراب، اعلموا أن أمركم خطر، و عدوكم داعر عسر، داهية دهياء، معضلة عضلاء، جنده ثقيل، و فكره و بيل، و مصابه عريض طويل، فخذوا حذركم، و اعملوا في دفعه بحسن الحيلة فكركم، فإن صائب الأفكار، يفعل ما لا يفعله الصارم البتار، و مشاورة الأذكياء، مقدحة الفكر، و مباحثة العلماء، مقدمة النظر، إن هذا البحر ما يحمله بر، و جيشه عددا كالقطر و الذر، و هو إن كان كالوابل الصبيب، لكنه أعمي لأنه في بلادنا غريب، فعندي الرأي الصائب، أن نحصن المدينة من كل جانب، و نكون خارجها مجتمعين في جانب واحد، و كلنا له مراقب مراصد، ثم نحفر حولنا خنادق، و نجعل أسوارها البيارق و البوارق، و نطيّر إلي الآفاق أجنحة البطائق، إلي الأعراب و الأكراد، و التراكمة و عشران البلاد، فيتسلطون عليه من الجوانب، و يثب عليه كل راجل و راكب، و يصير ما بين قاتل و ناهب، و خاطف و سالب، فإن أقام، و أني له ذلك، ففي شر مقام، و إن تقدم إلينا صافحناه بسواعد الأسنة، و أكف الدرق، و أنامل السهام، و إن رجع و هو المرام، رجع
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 121
بخيبة، و أقيمت لنا عند سلطاننا الحرمة و الهيبة، و إن كان بسلطانه علينا عرج، قلنا بحمد الله سلطان، و في سلطاننا فرج، و أقل الأشياء أن نماده و نتحرز من جنده، فعسي الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده، و هذا الرأي الأسد، بعينه كان رأي شاه منصور الأسد، فقال تمرداش، و هو نائب المدينة: ما هذه الآراء مكينه، و لا هذه الأفكار رصينه، بل المناضلة خير من المطاولة و المناجزه، في هذه المواطن قبل المحاجزه، و مقام المنازله، لا تجدي فيه المغازله، و لكل مقام مقال، و لكل مجال جدال، و هذا طير في قفص، و صيد مقتنص، فاغتنموا فيه الفرص، و ناوشوه بالحرب، و سابقوه بالطعن و الضرب، لئلا يتوهم فينا الخور، و يستنشق من ركود ريحنا عرف الظفر، فاجمعوا أمركم و أعجلوا، و لا تنازعوا فتفشلوا، و انهضوا و ثابروا، و اصبروا و صابروا، فأنتم بحمد الله أهل النجده، و أولوا البأس و الشده، و كل منكم في فقه المناضلة مغن و مختار، و علمه في إفاضة دماء الأعداء منار، و له في ذلك كفاية و هداية، و نهاية غيره له بداية، و هو لجمع الإسلام كنز واف، و جامع كاف و وقاية، تنحو ألسنة سيوفكم إلي تكليم الرؤوس، فهي في لفظها كافية شافية، و تصرف أسنان أسنتكم في مضاعفة كل ذي فعل معتل فهي في تصريف عللها شافية، فإن كسرناه فزنا بالمنال، و كفي الله المؤمنين القتال، و تلك من الله معونه، و قد كفينا عساكر المصريين المؤنه، و كان ذلك أعلي لحرمتنا، و أقوي في ورود النصر لشوكتنا، و أذكي لريح نصرنا و أزكي، و أبكي لعينه السخية و أنكي، و إن كانت و العياذ بالله الأخري، فلا علينا إذا بذلنا مجهودا، أو أقمنا عذرا، و مخدومنا يدرك ثأرنا، و يحيي آثارنا فتوكلوا علي الله العزيز الجبار، و استعدوا لملاقاة هؤلاء الأشرار، و إذا لقيتموهم زحفا فلا تولوهم الأدبار «1».
و لا زال تمرداش، يحسن لهم هذا الرأي اللاش، حتي أجمعوا عليه،
______________________________
(1)- انظر سورة الأنفال- الآية: 15.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 122
و اتفقوا علي الخروج علي الخروج إليه، لأنه كان صاحب البلد، و علي كلامه المعول و المعتمد، و كان تمرداش قد خالف الجمهور، و وافق في الباطن تيمور، و هذه كانت عادته، و علي المراوغة جبلت طينته، فإنه كان كالشاة العابره، و المرأة العاهرة الغائره، إذا التقي عسكران فلا يكاد يثبت في أحدهما جبنا منه و مكرا، بل يعبر إلي هذا مرة و إلي هذا أخري، مع أنه كان صورة بلا معني، و لفظا بلا فحوي، فاعتمد تيمور عليه، و فوض الأمور إليه، و كذلك عساكر الشام، و جنود الإسلام، ثم حصنوا المدينة، و أوصدوا أبوابها، و ضيقوا شوارعها و رحابها، و وكلوا بكل حارة و محلة أصحابها، و فتحوا الأبواب التي تقابل ملتقاه، و هي باب النصر، و باب الفرج و باب القناه.

ذكر ما صبه من صواعق البيض و اليلب علي العساكر الشامية عند وصوله إلي حلب‌

ثم أن تيمور نقل الركاب، فوصل في سبعة أيام إلي حلب من عين تاب، فحل بذلك الخميس، تاسع شهر ربيع الأول يوم الخميس، و برز من ذلك العسكر، طائفة نحوا من ألفي نفر، فتقدم لهم من الأسود الشامية، نحو من ثمانمائة، ففلوهم بالصفاح، و شلوهم بالرماح، فبددوهم و طردوهم، و حدروهم و شردوهم، ثم اصبحوا يوم الجمعة، فبرز من عسكره نحو من خمسة آلاف، إلي مصاف الثقاف، فتقدم إليهم طائفة أخري أرسالا و تتري، فالتحم بينهم النطاح، و اشتبكت بين الطائفتين أنامل الرماح، فازدحموا و اقتحموا، و اشتدوا و التحموا، و لا زالت أقلام الخط، في ألواح الصدر تخط، و القضبان الصوارم لرؤوس تلك الأقلام و الأعلام تقط، و مشاريط النبال لدماميل الدمال تبط، و الأرض من أثقال جبال القتال تأط، حتي سجي ليلا الظلام و القتام و أغطشا، فتراجعوا و قد أعطي الله النصر لمن يشا، و جري من دماء العدو مع كل فريق نهران، و فقد من العساكر الاسلامية نفران.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 123
ثم أصبحوا يوم السبت حادي عشره، و قد تعبّت الجنود الشامية، و العساكر الإسلامية السلطانيه، بالعدة البالغه، و الأهبة السابغه، و الخيول المسومه، و الرماح المقومه، و الأعلام المعمله، و لم يعوز أولئك الصناديد، سوي شمة من النصر و التأييد، فنحوا قصده، و قصدوا رده و صده، و أقبلت عساكره و السعد الميمون طائره، و القضاء مؤازره، و القدر مظاهره، بالجنود المذكوره، و الجيوش المعهودة، المنصوره، تؤمهم الأقيال، و أفيال القتال، و إذا به قد أضمر لهم الويل، و عبي عساكره تحت جنح الليل، و بثهم فيهم، و أرسل عليهم، و قابلهم بمقدمتهم، و شغلهم بأوائلهم، و أحاط الباقون بهم فأتوهم من بين أيديهم و من خلفهم، و عن أيمانهم، و عن شمائلهم، فمشي عليهم مشي الموس علي الشعر، و سعي سعي الدبا «1» علي الزرع الأخضر، و كان هذا الجولان، علي قرية حيلان، و لما اهتمش أمر الناس و هاش، و جاشت الهوشة و الامتحاش، و تهارشت الأسود و انتطحت الكباش، فرت الميمنة و كان رأسها تمرداش، فانكسر العسكر و طاش، و أخذ الأبطال من الدهشة الارتعاش، و غلبتهم الحيرة و الإنبهار، فلم يلبثوا و لا ساعة من نهار، ثم ولوا الدبر، و صارت لأقلام رماحه ظهورهم الزبر، و استمروا أمامهم يتواثبون، و عسكره وراءهم يتخاطبون.
بمعني ما قلت شعرا:
جعلنا ظهور القوم في الحرب أوجهارقمنا بها ثغرا و عينا و حاجبا فقصدوا المدينة من الباب المفتوح، و هم ما بين مهشوم و مجروح، و السيوف تشقهم، و الرماح تدقهم، و قد سالت بدمائهم الأباطح، و نثر من سائر لحمهم كل كاسر و جارح، فوصلوا إلي باب المدينة و انكرسوا، و هجموا فيه يدا واحدة و تكردسوا، و لا زال يدوس بعضهم بعضا، حتي صارت العتبة العليا من الباب أرضا، فانسدت الأبواب بالقتلي،
______________________________
(1)- أي الجراد.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 124
و لم يمكن الدخول منها أصلا، فتشتتوا في البلاد، و تفرقوا في المهامه و الأطواد، و كسر باب أنطاكية المماليك الأغتام، و خرجوا منه قاصدين بلاد الشام، فوصل فلهم إلي دمشق في أبشع صوره، و حكوا في كيفية هذه الوقعة أشنع سيره، و صعد النواب إلي قلعة حلب و تحصنوا، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت فاستأمنوا، و نزلوا بواسطة تمرداش إليه، و قد غسل كل منهم من الحياة يديه.
ثم إنه مشي علي هينته، مع وقاره و رزانته و سكينته، و دخل حلب، و نال منها ما طلب، و فاز بالروح و السلب، و لما نزل النواب إليه، قبض علي سيدي سودون و علي شيخ الخاصكي، و أما تمرداش فخلع عليه، و قبض علي ألتونبغا العثماني نائب صفد، و علي عمر بن الطحان نائب غزة و جعل الكل في صفد، و شرع في استخلاص الأموال، و ضبط الأثقال و الأنفال، و قد ملأت القلوب هواجس هيبته، و انتشر في الآفاق شرار صولته، ثم إنه لم يكتف بما أزهقه من النفوس، حتي بني الميادين «1» من الرؤوس، و سبب ذلك أن ذا قرابة البريدي الذي أرسله إلي حلب، و ضرب نائب الشام عنقه و سلبه السلب، ذكر تيمور بقصته، و أراد القود من أهل حلب لذي قرابته، فأجاب سؤاله فمكنه، فيمن يختار منهم أن يفعل فيه ما استحسنه، فقتل طائفة منهم و بني من رؤوسهم كذا و كذا مئذنه.

زيادة ايضاح لهذه المحنة مما نقلته من تاريخ ابن الشحنه‌

قال: أخبرني الحافظ الخوارزمي أن من كتب في الديوان من عساكر تيمور ثمانمائة ألف نفر و منه أن تيمور قصد قلعة المسلمين «2» و كان نائبها الناصري محمد بن موسي بن شهري، و أنه عصي عليه، و كان يخرج للغارات، ثم قال ما نصه بحروفه: و كان قد أبدع بجمائع تمرلنك
______________________________
(1)- أي المآذن
(2)- هي قلعة الروم المتقدم ذكرها
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 125
و طراشته، مدة اقامته علي بهنسا، و قتل منهم جماعة، و أرسل رؤوسهم إلي حلب و كسر تومانا كان جهزه إليه أقبح كسرة، حتي رمي غالب جماعته بأنفسهم في الفراه و جهز تمرلنك كتابه إلي المشار إليه، و نصه يقول فيه: إني خرجت من أقصي بلاد سمرقند، و لم يقف أحد أمامي، و سائر ملوك البلاد حضروا إليّ، و أنت سلطت علي جمائعي من يشوش عليهم، و يقتل من ظفر منهم، و الآن فقد مشينا عليك بعساكرنا، فإن أشفقت علي نفسك و رعيتك، فاحضر إلينا لتري من الرحمة و الشفقة مالا مزيد عليه، و إلا نزلنا عليك، و خربنا بلدك، و قد قال الله تعالي إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ «1» فاستعد لما يحيط بك إن أبيت الحضور.
فأمسك المشار إليه الرسول و حبسه، و لم يلتفت إلي كلام تمرلنك، فمشي إليه أوائل عسكره، فبرز إليهم المشار إليه، و قاتلهم و كسرهم، و في اليوم الثاني حضر تمرلنك علي قلعة المسلمين، و برز إليهم المشار إليه، و قاتله قتالا شديدا، و كانت وقعة عظيمة، رأي منها منه تمرلنك شدة و حزم، و رجع عن محاربته، و أخذ في مخادعته و ملاطفته، و طلب منه الصلح، و أن يرسل إليه خيلا و مالا لأجل حرمته، فلم ينخدع منه، و تنازل معه إلي أن طلب منه خادما فلم يعطه، و عاد خائبا، و أخذ المشار إليه في أواخره قتلا و نهبا و أسرا، كل ذلك و باب قلعته مفتوح لم يغلقه يوما واحد. و أنشد فيه لسان الحال، شعرا:
هذا الامير الذي صحت مناقبه‌ليث الوغي عمت الدنيا مفاخره
ولي تمرلنك مكسور أوائله‌منه مرارا و مذعورا أواخره و كان حصول تلك السعادة للمشار إليه، دون غيره من الملوك، و أصحاب الحصون، لما كان فيه من العلم و الديانة و الإخلاص، و الصيانة، و لكونه من السلالة الطاهرة العمرية رضي الله عنها، و لما كان
______________________________
(1)- سورة النمل- الآية: 34.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 126
يوم الخميس تاسع ربيع الأول نازل تمرلنك حلب، و كان نائبها المقر السيفي تمرداش، و قد حضرت إليه عساكر البلاد الشامية، و عسكر دمشق مع نائبها سيدي سودون، و عسكر طرابلس مع نائبها المقر السيفي شيخ الخاصكي، و عسكر حماة مع نائبها المقر السيفي دقماق، و عسكر صفد و غيرها، فاختلفت آراؤهم، فمن قائل: إدخلوا المدينة، و قاتلوا من الأسوار، و قائل آخر: أخرجوا ظاهر البلد، تلقاء العدو بالخيام، فلما رأي المقر السيفي اختلافهم اذن لأهل حلب في إخلائها، و التوجه حيث شاؤوا و كان نعم الرأي، فلم يوافقوا علي ذلك، و ضربوا خيامهم ظاهر البلد تلقاء العدو، و حضر قاصد تمرلنك، فقتله نائب دمشق قبل أن يسمع كلامه، و يوم الجمعة حصل بين الأطراف تناويش يسير، فلما كان يوم السبت حادي عشر شهر ربيع الأول زحف تمرلنك بجيوشه و قبيلته، فولي المسلمون نحو المدينة، و ازدحموا في الأبواب، و مات منهم خلق عظيم، و العدو وراءهم يقتل و يأسر، و أخذ تمرلنك حلب عنوة بالسيف، و صعد نواب المملكة و خواص الناس إلي القلعة، و كان أهل حلب قد جعلوا غالب أموالهم فيها، و في يوم رابع عشر شهر ربيع الأول أخذ القلعة بالأمان و الأيمان التي ليس معها إيمان.
و في ثاني يوم صعد إليها، و آخر النهار طلب علماءها و قضاتها، فحضرنا إليه، فأوقفنا ساعة، ثم أمر بجلوسنا و طلب من معه من أهل العلم، فقال لأميرهم عنده و هو المولي عبد الجبار ابن العلامة نعمان الدين الحنفي، والده من العلماء المشهورين بسمرقند، قل لهم: إني سائلهم عن مسألة سألت عنها علماء سمرقند، و بخاري، و هراة، و سائر البلاد التي افتتحتها، فلم يفصحوا عن جواب، فلا تكونوا مثلهم، و لا يجاوبني إلا أعلمكم و أفضلكم، و ليعرف ما يتكلم، فإني خالطت العلماء ولي بهم اختصاص و إلفة، ولي في العلم طلب قديم، و كان يبلغنا عنه أنه يتعنت علي العلماء في الأسئلة، و يجعل ذلك سببا لقتلهم أو تعذيبهم، فقال القاضي شرف الدين موسي الأنصاري الشافعي عني: هذا شيخنا،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 127
و مدرس هذه البلاد و مفتيها، سلوه و بالله المستعان، فقال لي عبد الجبار:
سلطاننا يقول: إنه بالأمس قتل منا و منكم فمن الشهيد قتيلنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع، و قلنا في أنفسنا هذا الذي بلغنا عنه من التعنت، و سكت القوم ففتح الله علي بجواب سريع بديع، و قلت: هذا سؤال سئل عنه رسول الله صلي الله عليه و سلم، و أجاب عنه، و أنا مجيب بما أجاب به سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم، قال صاحبي القاضي شرف الدين موسي الأنصاري، بعد أن إنقضت الحادثه: و الله العظيم لما قلت هذا سؤال سئل عنه رسول الله صلي الله عليه و سلم و أجاب عنه، و أنا محدث زماني، قلت هذا عالمنا قد اختل عقله، و هو معذور فإن هذا سؤال لا يمكن الجواب عنه في هذا المقام، و وقع في نفس عبد الجبار مثل ذلك، و ألقي تمرلنك إلي سمعه و بصره، و قال لعبد الجبار يسخر من كلامي: كيف سئل رسول الله صلي الله عليه و سلم عن هذا، و كيف أجاب؟ قلت: «جاء أعرابي إلي رسول الله صلي الله عليه و سلم، و قال: يا رسول الله إن الرجل يقاتل حمية، و يقاتل شجاعة، و يقاتل ليري مكانه، فأينا في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الشهيد» فقال تمرلنك:
خوب خوب «1»، و قال عبد الجبار: ما أحسن ما قلت، و انفتح باب المؤانسة، و قال: إني رجل نصف آدمي و قد أخذت بلاد كذا و كذا، و عدد سائر ممالك العجم، و العراق، و الهند، و سائر بلاد التتار، فقلت:
إجعل شكر هذه النعمة، عفوك عن هذه الأمة، و لا تقتل أحدا، فقال:
و الله إني لا أقتل أحدا قصدا و إنما أنتم قتلتم أنفسكم في الأبواب، و الله لا أقتل أحدا منكم، و أنتم آمنون علي أنفسكم و أموالكم، و تكررت الأسئلة منه، و الأجوبة منا، فطمع كل من الفقهاء الحاضرين و جعل يبادر إلي الجواب، و يظن أنه في المدرسة و القاضي شرف الدين ينهاهم، و يقول لهم بالله اسكتوا ليجاوب هذا الرجل فإنه يعرف ما يقول.
______________________________
(1)- خوب بالفارسية: جيد أو حس.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 128
و كان آخر ما سأل عنه: ما تقولون في عليّ و معاوية و يزيد، فأشار إلي القاضي شرف الدين، و كان إلي جانبي، أن أعرف كيف تجاوبه فإنه شيعي، فلم أفرغ من سماع كلامه، إلا و قد قال القاضي علم الدين القفصي المالكي: كلاما معناه إن الكل مجتهدون، فغضب لذلك غضبا شديدا، و قال: علي علي الحق، و معاوية ظالم، و يزيد فاسق، و أنتم حلبيون تبع لأهل دمشق، و هم يزيديون، قتلوا الحسين، فأخذت في ملاطفته و الاعتذار عن المالكي، بأنه أجاب بشي‌ء وجده في كتاب لا يعرف معناه، فعاد إلي دون ما كان عليه من البسط، و أخذ عبد الجبار يسأل مني، و من القاضي شرف الدين، فقال عني: هذا عالم مليح، و عن شرف الدين: و هذا رجل فصيح، فسألني تمرلنك عن عمري، فقلت:
مولدي سنة تسع و أربعين و سبع مائه، و قد بلغت الآن أربعا و خمسين سنة، فقال للقاضي شرف الدين: و أنت كم عمرك؟ فقال: أنا أكبر منه بسنة، فقال تمرلنك: أنتم في عمر أولادي، أنا عمري اليوم بلغ خمسا و سبعين سنة و حضرت صلاة المغرب، و أقيمت الصلاة، و أمنا عبد الجبار، و صلي تمرلنك إلي جانبي قائما، يركع و يسجد، ثم تفرقنا.
و في اليوم الثاني غدر بكل من في القلعة، و أخذ جميع ما كان فيها من الأموال و الأقمشة و الامتعة ما لا يحصي، أخبرني بعض كتابه انه لم يكن أخذ من مدينة قط، ما أخذه من هذه القلعة، و عوقب غالب المسلمين بأنواع من العقوبة، و حبسوا بالقلعة ما بين مقيد و مزنجر، و مسجون، و مرسم عليه، و نزل تمرلنك من القلعة، و أقام بدار النيابة، و صنع وليمة علي زي الموغول، و وقف سائر الملوك و النواب في خدمته، و أدار عليهم كؤوس الخمر، و المسلمون في عقاب و عذاب، و سبي و قتل و أسر، و جوامعهم و مدارسهم و بيوتهم في هدم و حرق و تخريب، و نبش إلي آخر شهر ربيع الأول، ثم طلبني و رفيقي القاضي شرف الدين، و أعاد السؤال عن علي و معاوية، فقلت له: لا شك أن الحق كان مع علي،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 129
و ليس معاوية من الخلفاء، فإنه صح عن رسول الله صلي الله عليه و سلم أنه قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» و قد تمت بعلي، فقال تمرلنك: قل علي علي حق، و معاوية ظالم، قلت: قال صاحب الهداية:
يجوز تقليد القضاء من ولاة الجور، فإن كثيرا من الصحابة، و التابعين تقلدوا القضاء من معاوية، و كان الحق مع علي في نوبته، فانسر لذلك، و طلب الأمراء الذين عينهم للإقامة بحلب، و قال: إن هذين الرجلين نزول عندكم بحلب فأحسنوا إليهما، و إلي ألزامهما و أصحابهما، و من ينضم إليهما، و لا تمكنوا أحدا من أذيتهما، و رتبوا لهما علوفة، و لا تدعوهما في القلعة، بل اجعلوا إقامتهما في المدرسة، يعني السلطانية التي تجاه القلعة، ففعلوا ما أوصاهم به، إلا أنهم لم ينزلونا من القلعة، و قال لنا الذي ولي الحكم منهم بحلب، و كان يدعي الأمير موسي بن حاجي طغاي: إني أخاف عليكما، و الذي فهمته من سياق كلام تمرلنك، أنه إذا أمر بسوء فعل بسرعة، و لا محيد عنه، و إذا أمر بخير فالأمر فيه لمن وليه.
و في أول يوم من ربيع الآخر برز إلي ظاهر البلد، متوجها نحو دمشق، و ثاني يوم أرسل يطلب علماء البلد فرحنا إليه و المسلمون في أمر مريج و قطع رؤوس، فقلنا: ما الخبر، فقيل: إن تمرلنك أرسل يطلب من عسكره رؤوسا من المسلمين علي عادته، التي كان يفعلها في البلاد التي أخذها، فلما وصلنا إليه جاءنا شخص من علمائه يقال له المولي عمر، فسألناه عن طلبنا، فقال: يريد أن يستفتيكم في قتل نائب دمشق الذي قتل رسوله، فقلت هذه رؤوس المسلمين تقطع و تحضر إليه بغير استفتاء، و هو حلف أن لا يقتل منا أحدا صبرا، فعاد إليه و نحن ننظره، و بين يديه لحم سليق في طبق، يأكل منه، فتكلم معه يسيرا، ثم جاء إلينا شخص بشي‌ء من ذلك اللحم، فلم نفرغ من أكله، إلا وزعجة قائمة، و تمرلنك صوته عال، و ساق شخص هكذا، و آخر هكذا، و جاءنا أمير يعتذر، و يقول: إن سلطاننا لم يأمر بإحضار رؤوس المسلمين، و إنما أمر
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 130
بقطع رؤوس القتلي، و ان يجعل منها قبة إقامة لحرمته، علي جاري عادته، ففهموا منه غير ما أراد، و إنه قد أطلقكم، فأمضوا حيث شئتم.
و ركب تمرلنك من ساعته، و توجه نحو دمشق، فعدنا إلي القلعة و رأينا المصلحة في الإقامة بها، و أخذ الأمير موسي- أحسن الله إليه- في الإحسان إلينا، و قبول شفاعتنا، و تفقد أحوالنا مدة إقامته بحلب و قلعتها، و تجينا الأخبار أن سلطان المسلمين الملك الناصر فرج قد نزل إلي دمشق و أنه كسر تمرلنك، و مرة تجي‌ء بالعكس، إلي أن انجلت القضية عن توجه السلطان إلي مصر، بعد أن قاتل مع تمرلنك قتالا عظيما، أشرف تمرلنك منه علي الكسر و الهزيمة، و إنما حصل من بعض أمرائه خيانة، كان سبب توجهه آخذا بالحزم، و دخل تمرلنك إلي دمشق، و نهبها و أحرقها، و فعل فيها فوق ما فعل بحلب، و لم يدخل طرابلس، بل أحضر له منها مال و لا جاوز فلسطين.
و عاد نحو حلب راجعا طالبا بلاده، و لما كان سابع عشر شعبان من السنة المذكورة، وصل تمرلنك عائدا من الشام إلي الجبول شرقي حلب، و لم يدخلها، بل أمر المقيمين بها من جهته بتخريبها، و إحراق المدينة، ففعلوا و طلبني الأمير عز الدين، و كان من أكبر أمرائه، و قال: إن الأمير رسم بإطلاقك و إطلاق من معك فاطلب من شئت، و كثر لأروح معكم إلي مشهد الحسين، و أقيم عندكم، حتي لا يبقي من عسكرنا أحد، و كان القاضي شرف الدين لا يفارقني، فطلبنا باقي القضاة، و اجتمع معنا نحو من ألفي مسلم، و توجهنا إلي مشهد الحسين صحبة المشار إليه، و أقمنا ننظر إلي النار، و هي تضرم في أرجائها، و بعد ثلاثة أيام لم يبق بها أحد، فنزلنا إليها، فلم نر بها أحد، فاستوحشنا، و ما قدرنا علي الإقامة بها من النتن و الوحشة، و لم نقدر علي السلوك في الطرقات من ذلك.
شعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلي الصفاأنيس و لم يسمر بمكة سامر
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 131
و كانت نواب بلاد الشام معه مأسورين و انفلتوا أولا بأول، و مات سودون بالبطن معه في قبة يلبغا، و استقر في نيابة دمشق تغري بردي «1» و الله أعلم، و هذا ما نقلته من كلام ابن الشحنة كما وجدته.

ذكر ورود هذا الخبر الذي أقلق و وصول استنبوغا الدوادار و عبد القصار إلي جلق‌

فورد من حلب استنبوغا الدوادار، و الفتح الماهر المدعو بعبد القصار، و قالا: معاشر المسلمين، الفرار مما لا يطاق من سنن المرسلين، من يقدر علي حذا، فيطلب لنفسه طريق النجا، و من أطاق أن يشمر ذيله، فلا يبيتن في دمشق ليله، و لا يغالط نفسه بالمداهنة، فليس الخبر كالمعاينه، فتفرقت الآراء، و اختلفت الأهواء، و ماج أمر الناس موجا، و تفرقوا كما هو دأبهم فوجا فوجا، فبعض الناس انتصح، و جهز أمره و انتزح، و بعضهم كابر و أصر، و كشر أنيابه لاستنبوغا و عبد القصار و أهرّ، و أرادوا رجم هذين الناصحين، و ان يسقوهما كأس حين، و قالوا:
إنما أردتما بذلك تبديد الناس و تشريدهم، و إجلاءهم عن أوطانهم و تجريدهم، و تفريق كلمتهم و تمزيق جلدتهم و إلا فالأمن حاصل، و السلطان بحمد الله واصل، و النواب في حلب كانوا شرذمة قليله، و لم يتم لهم معه الفكر و الحيله، مع أنه حصل من بعضهم مخامرة، و لم يوجد من الباقين مناصحة و مظاهرة، و لم يكن لهم رأس، فلا تأخذوا في هذه المسألة بالقياس، و أما عساكر مصر فإنهم كاملوا العدة، و سابغوا العدة، و فيهم للمسلمين فرج بعد الشده، فقالا: نحن بعد اللتيا و التي من شره سلمنا، و ما شهدنا إلا بما علمنا، و كل منا أفصح عما أدي إليه اجتهاده و أبان، و و الله إنه في نصيحته المسلمين النذير العرفان، و قد نصحناكم إن كنتم مفلحين، و لكن لا تحبون الناصحين، و استمر أمر الناس في الترديد و التشاعب، و التفرق و التبديل و التشاغب، فبعضهم توجه نحو
______________________________
(1)- تغري بردي بن يشبغا، والد المؤرخ المشهور صاحب النجوم الزاهرة، و غير ذلك.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 132
الأماكن القدسيه، و توجه بعض إلي الديار المصرية، و بعض تشبث بأذيال الجروف العاصيه، و تحصن آخرون بالأماكن الغامضة القاصية.

ذكر خروج السلطان الملك الناصر من القاهرة بجنود الاسلام و العساكر

اشاره

ثم ان السلطان، خرج من غير توان، و توجه بالعساكر و الاستعداد التام، إلي جهة بلاد الشام، فلما بلغ الناس ذلك سكن جأشهم، و زال استيحاشهم، ورد غالب من كان برح منهم، و انفرج الكرب و الضيق عنهم، و أما أولوا العزم، و ذووا الرأي السديد و الحزم، فلم يلتفتوا إلي قدوم السلطان، بل طلبوا لنفسهم الأمان، و انتظروا ما يتولد من حادثات الزمان، و كأن أنامل الدهر الدائر، كتبت لهم علي مرآة الخاطر ما أنشده الشاعر، شعرا:
ألا إنما الأيام أبناء واحدو هذي الليالي كلها أخوات
فلا تطلبن من عند يوم و ليله‌خلاف الذي مرت به السنون و قلت شعرا:
إن اختفي ما في الزمان الآتي‌فقس علي الماضي من الأوقات فصل: و لما نجّز تيمور أمر حلب، ضبط أثقالها و ما أخذ منها من مال و سلب، و وضعه في القلعه، و وكل بعض أمرائه من ذوي الشجاعة و المنعة، و هو الأمير موسي بن حاجي طغاي، و كان ذا عزم شديد و رأي، و توجه بذلك البحر الطام، غرة شهر ربيع الآخر إلي جهة الشام، فوصل إلي حماه، و نهب ما حوت يداه، و لم يحتفل بأمر نهب و أسير، و لا باسراع في مسير، بل سار رويدا، و هو يكيد كيدا، و هم يَكِيدُونَ كَيْداً «1».
______________________________
(1)- سورة الطارق- الآية: 15.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 133

حكاية

رأيت حين توجهت إلي بلاد الروم في أوائل شهر ربيع الأول سنة تسع و ثلاثين و ثمانمائه، عند وصولنا إلي حماه، بالجامع النوري بها من الجانب الشرقي، علي حائطه القبلي، نقشا علي رخامة بالفارسي ما ترجمته: «و سبب تصوير، هذا التسطير، هو أن الله تعالي يسر لنا فتح البلاد، حتي انتهي استخلاصنا الممالك إلي العراق، و بغداد، فجاورنا سلطان مصر، ثم راسلناه، و بعثنا إليه قصادنا بأنواع التحف و الهدايا، فقتل قصادنا من غير موجب لذلك، و كان قصدنا بذلك أن تنعقد المودة بين الجانبين، و تتأكد الصداقة من الطرفين، ثم بعد ذلك بمدة قبض بعض التراكمة علي أناس من جهتنا، و أرسلهم إلي سلطان مصر برقوق، فسجنهم و ضيق عليهم، فلزم من هذا أنا توجهنا لاستخلاص متعلقنا، من أيدي مخالفينا، و اتفق لذلك نزولنا بحماة في العشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث و ثمانمائة».
فصل: ثم وصل إلي حمص فلم يتعرض بها لتشتيت و تبديد، و وهبها لسيدي خالد بن الوليد، قلت بديها شعرا:
ألا لا تجاور سوي الخيرين أحيا و كن جارهم في القبور
ألم تر حمص و سكانهانجوا من بحار بلايا تيمور
لأنهم جاوروا خالداو من جاور الأتقيا لا يبور و خرج إليه شخص من أحاد الناس، يدعي عمر بن الرواس، فاستجلب خاطره، و كأنه قدم إليه تقدمة فاخرة، فولاه أمور البلد، و ركن إليه و اعتمد، و ولي قضاء تلك البلاد، رئيسا يسمي شمس الدين ابن الحداد، و نادي بالأمان، للقاصي والدان، و تبايعوا بها و تشاوروا، و في استفادة ربح الأمن لم يتماروا.
ثم إن نائب الشام ضعف معه و مات علي قبة يلبغا، و نائب طرابلس
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 134
هرب منه و للخلاص ابتغي، فوصل إلي مدينته، و استقر في ولايته، فاضطرم غضبا، و استشاط لهبا، و اشتعل قيظ غيظه، و قتل كل من وكله بحفظه، و أسعر بهم سقر، و كانوا ستة عشر، و أما تمرداش فإنه داراه و ماري، و هرب منه في قارا، و استمر علاء الدين التونبغا العثماني نائب صفد، و زين الدين نائب غزة و غيرهما معه في صفد.
ثم سار، و ما ارتبك، حتي نزل علي بعلبك، فخرج أهلها و دخلوا عليه، و تراموا طالبين الصلح بين يديه، فلم يلتفت إلي هذا المقال، و أرسل فيهم جوارح النهب و الاستئصال، ثم ارتحل مجريا ذلك البحر الزخار، و السيل التيار، و الطوفان الثرثار، حتي أشرف علي دمشق من قبة سيار.
و وصلت العساكر المصرية، و الجنود الاسلامية، و قد ملأوا الفضاء، و أشرق الكون منهم و أضاء، فيالق سهامها لحب قلب من نوي الخلاف فالقه، و صواعق سيوفها في عقاص كل عقص «1» صاعقه، و أسنة رماحها لرتق سماء الأرواح عن أرض الأشباح فاتقه، و قد طلبوا الأطلاب، و حزبوا الأحزاب، و عبوا الميمنة و الميسرة، و رتبوا المقدمة و المؤخرة، و سووا القلب و الجناح، و ملأوا البطاح و البراح، و ساروا بالمقانب المكتبه، و الكتائب المقنبه، و الكواكب الملوكيه، و المراكب الموكبه، و المراتب المقربه، و المقربات المرتبه، و السلاهب المجنبه، و النجائب التي هي علي أكل اللحم مستلهبه، و في كل كتبية من الأسود الضراغم، و من النسور القشاعم، قلت شعرا:
و ربّ ذي لجب كالطود ذي حنق‌كأنه البحر في أثناه غايات
بحران في كل موج منهما أسديلاعب الموت في كفيه حيات
كل يري العين معناه و صورته‌عند النزال و إن ينزل فشطفات
إن يسر تلق السما في الأرض دائرةأو سار تعقد أرضا منه غبرات
______________________________
(1)- العقص: التواء في قرن الشاة أو التيس، و هو أيضا دخول الثنايا في الفم. العين.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 135
و قد تنكبوا حنايا المنايا، و تقلدوا سيوف الحتوف، و اعتقلوا الذوابل النواهل، و ثبتوا حيث نبتوا، و كأنهم خلقوا من كواهل الصواهل، قلت شعرا:
كأنّ الجوّ ثوب لا زوردي‌يزركش نسجه قصب الرماح
فإن عقد القتام عليه ليلاارتك صفاحه لمع الصباح
كأنّ نجومه النشاب ترمي‌شياطين الكفاح لدي النطاح و لا زالت أفواج هذه الأمواج، علي هذا المنهاج متلاطمه، و أثباج هذا البحر العجّاج، تحت العجاج متصادمه، و كل ينادي بطريق المفهوم، و ما منا إلّا له مقام معلوم.
فوصلت غيلان الوغي، إلي قبة يلبغا، يوم الأحد العاشر، من شهر ربيع الآخر، عام ثلاثة و ثمانمائة من الهجرة، فنزل كل من العساكر يمنة و يسرة، و استقرت العساكر و الأمراء الاسلامية، في البيوت و المساكن، و نزلت الجنود التتاريه، غربي دمشق من داريا و قطنا و الحولة، و ما يلي تلك الأماكن، و دخل بعض أثقال السلطان إلي البلد، و تحصنت القلعة و المدينة بالسلاح و العدد.
ثم أخذ كل من الجيشين حذره، و نجز للمقابلة و المقاتلة أمره، و حفروا الخنادق، و سد كل علي الآخر أفواه المضائق، و شرعوا في المهاوشة و المناوشة، و المهارشة و المعانشة، ثم أمر السلطان العساكر، بالبروز من المدينة إلي الظاهر، و جعل يخرج من المدينة رؤساء أعيانها، و تنحاز في المقاتلة إلي سلطانها، و الأطفال الصغار و الرجال، يجأرون إلي الجبار، و ينادون بحرقة، كل ليلة في الأزقة: يا الله يا رحمن، انصر مولانا السلطان، و الناس في إضطراب و حركات، يستنزلون النصر و البركات، و يستغيثون الليل و النهار: يا مجاهدون الأسوار، و استشهد من رؤساء البلد في تلك الأيام، قاضي القضاة برهان الدين الشاذلي المالكي الحاكم
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 136
بالشام، وشلت يد قاضي القضاة شرف الدين عيسي المالكي بضربة حسام، و جعلوا يأتون بمن يظفرون به من العدو فيقتلونه، و بما غنموا منهم من ناطق و صامت، فيشهرونه.

ذكر واقعة وقعت و معركة صدعت لو أنها نفعت‌

ثم في بعض الأيام، تقدم من أولئك الأغتام، نحو من عشرة آلاف، و زحفوا الي ميدان المصاف، فنهض لهم من العساكر الشامية، نحو من خمس مائه، ثم اتبعهم الامير اسنباي في نحو من ثلاث مائه، شعر:
أسود إذا لا قوا ظباء إذا عطواجبال إذا أرسوا بحار إذا سروا
شموس إذا لا حوا بدور إذا إنجلوارياح إذا هبوا غمام إذا همموا
صقور إذا انقضوا نمور إذا سموارعود إذا صاحوا صواعق إن رموا مع كل منهم خطار، تسجد قدود الملاح لخطراته، و بتار يتعلم سفك الدماء من لحظاته، و حنية تضاهي حاجبه، و سهام في تشبهها بأجفانه صائبه، و ترس لين اللمس، اذا تغطي به رأيت البدر علي شمس، و عليه خوذه، كأنها من لمعان و جنته مأخوذه، أو من بوارق طلعته مفلوذه، إذا نظر الطرف إليها، يأخذه الإنبهار، يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار، و لبوس أشبه لابسه، و صار ملابسه، ظاهره حرير ناعم كبشرته، و باطنه حديد كقلبه في قسوته، و قد امتطوا الفحول، من نجائب الخيول، فكأن بدور تلك الجموع، مع الرماح الملتهبة الأسنة عروس تجلي تحت الشموع، و توجهوا إلي حومة الوغي، و تلاقوا في واد خلف قبة يلبغا.
فصل: و لما رأت هذه الأسود تلك الذئاب و الكلاب، كانوا كالمؤمنين و قد رأوا الأحزاب، فبان منهم صحيح الضرب و عليله، و قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ «1» فأحاط أولئك بهؤلاء لكثرة الغلبة، و أداروا
______________________________
(1)- سورة الأحزاب- الآية: 22.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 137
لقرضهم علي هذه البحور الدائرة المجتلبه، و حين صاروا في خباء هذه الدائرة كالعروض، اشتغلوا بالضرب و تقطيع الدائرة بالحرب العضوض، فأول ما اضمروا لهم في ذلك الزحف، قطف الرأس و خبل العقل، و قطع الكف، فصلوا بالرمح الطويل عقلهم، و ثملوا بالرشق المديد شكلهم، و بتروا بالعضب البسيط وافرهم، و شتروا بالسهم السريع كاملهم، فحذوهم و قصموهم، و خزموهم و شعثوهم و ثرموهم، و جمعوهم و وقصوهم و عصبوهم، و عقصوهم و خرموهم و نقصوهم، فردوا صدورهم علي الأعجاز، و سدوا علي حقيقة الخلاص منهم المجاز، فانكشفوا عنهم و هم ما بين مشطور و مقطوع و محذوف و مجزوء و منهوك و موقوف، و رجع اسنباي المشار إليه و قد اقتضب بحربه المتدارك حنيفهم و اجتث بضربه المتقارب المتماسك ثقيلهم و خفيفهم، و تسبيغ سوابغهم بالنصر مرفل، و بالتمكين التام مذيل، و بيت دائرتهم المتفقة آمن من الخلل، و عروضه و ضربه سالم من الزحاف و العلل.

ذكر ما افتعله سلطان حسين ابن ابنه تيمور «1» من المكر و المين‌

ثم إن سلطان حسين، و هو ابن ابنة تيمور، أظهر أنه خالف علي جده و جاء إلي السلطان، و في باطنه أمور، و كان شابا ذا شجاعه، و عنده طيش و رقاعه، و أظهر بقدومه الفرح، و استشعروا النصر و المرح، و كان في رأسه جمة شعر فأزالوه، و خلعوا عليه و في زيهم أظهروه.
فصل: ثم إن تيمور أشاع أنه خار و تتعتع، فرحل قليلا و رجع القهقري و تكعكع، كل ذلك من مكائده، و حبائل مصائده، و بيان ذلك أنه بلغه إن الخلاف واقع بين العساكر المصرية، و انهم سيفرون، فيفوتونه إذ ذاك فأظهر الخوف، و شيع أنه راحل ليثبتهم، و عن الفرار يثبطهم، فلما عزموا علي الفرار، لم يبن لهم ثبات و لا قرار.
______________________________
(1)- بالأصل: حسين ابن أخت تيمور، و هو تصحيف صوابه الذي أثبتناه.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 138

ذكر ما نجم من النفاق، بين العساكر الاسلامية و عدم الاتفاق‌

و كان أتابك العساكر، و كافل الملك الناصر، الأمير الكبير باش بيك، و تحت يده الأكابر و الأصاغر، و الجند و إن كان مدده كثيرا، و الجيش و إن تراآي عدده غزيرا، لكن كان كل منهم أميرا، و لم يكن شي‌ء منهم سوي الرأس صغيرا، فتشتت آراؤهم، و تصارمت أهواؤهم، و انتقلت أشعار شعارهم من الدائرة المؤتلفه، إلي الدائرة المختلفه، و نقل كل منهم عن وزن بيته إلي أعاريض، و أخذ في عرض صاحبه بالتقاريض، و ظهرت في تلك الساعة آيات الرحمن، في اختلاف الألسنة و الألوان، و صاروا في رعاية الرعية كالذئب و الضبع، و سلطوا علي مرعي هزيلها النمر الغضوب و السبع، و لحق في سند هذا الحديث الأصاغر بالأكابر، و الأسافل بالأعالي، و الأوائل بالأواخر، و صاروا كما قال الشاعر شعرا:
تفرّقت غنمي يوما فقلت لهايا رب سلط عليها الذئب و الضبعا و توجه منهم رؤوس إلي القاهره، تاركا كل منهم قوته و ناصره، و صدقوا تيمور في نفيه عنهم معرفة السياسه، و الدربة في سلوك طرائق الرياسة.
فصل: و لما علم الغابرون، ما فعله السائرون، لم يسعهم غير تشمير الذيل، و اتباعهم تحت جنح الليل، و من تخلف عن قوم، أو أخذته سنة أو نوم، وقع في الشرك، و هوي به إلي أسفل الدرك، و كان الناس في الليل و النهار، ملازمين للإقامة علي الأسوار، و كل قد فرح و ابتهج، و تيقن أنه حل له من سلطانه فرج، ففي بعض الليالي، صعد الناس إلي مكان عالي، و إذا بأماكن مخيم السلطان، قد ملئت من النيران، و لم يعرف أحد ما الخبر، غير أن الدنيا ملئت بالشر و الشرر، و أصبحوا و قد خلت الديار، و لم يبق في قبة يلبغا نافخ نار، فخشعت أصواتهم، و سكنت حركاتهم فجعلوا يتهافتون، و فيما بينهم يتخافتون، و ماج الشر
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 139
و اضطرب، و قال الناس: السلطان هرب، فانقصم ظهر الناس، و أيقنوا حلول البأس، و تفلقت الهموم، و تعاظمت الغموم، و تقطعت بهم الأسباب، و شمل الخلائق أنواع العذاب، و ضاقت الحيل كالصدور، و تخبطت الأوامر و الأمور.
فصل: ثم إن تيمور حمد ربه، و رحل من مكانه و نزل القبة «1»، و ألقي عصاه، و نام مستريحا علي قفاه، و نادي بمعني ما قلت شعرا:
الحمد لله نلنا ما نؤمله‌و الضدّ أدبر و المأمول قد حصلا و حفر الخنادق حوله، و بث في الأطراف رجله و خيله، و أرسل الطلب، وراء من هرب، و صار كلما أتي بأحد من أجناد الرجال، أمر بإلقائه بين يدي تلك الأفيال، فتفعل معه الأفيال في تلك الفلاه، ما تفعله المواشي يوم القيامة في مانع الزكاه.
فصل: و أما السلطان فإنه لم يصبه من أحد ضيم، لأنه نشز نشوز الغيم، و انساب إنسياب الأيم «2»، و توجه علي وادي التيم، فانتشرت شياطين تيمور في الأرض، و ملأت الطول و العرض، و وصلت طراشتهم إلي أطراف البلاد و ضواحيها، و عامة القري و نواحيها، و جعلوا من كل حدب ينسلون في مشارق الأرض و مغاربها، التي بارك الله فيها، و تقدموا إلي المدينه، و كانت كما ذكر بالأهبة حصينه، و بأنواع الاستعدادات مكينه، مسدولة الحجاب، مغلقة الأبواب، فتمنع أهلها عليهم، و لم يسلموها إليهم، رجاء أن يشموا من النجدة الأرج، أو يمنّ الله عليهم بعد الشدة بالفرج، فاستمروا علي ذلك نحوا من يومين، ثم استيقنوا من رجائهم الخيبة و من ظنهم اللين، فكان قدوم السلطان و ذهابه بالعساكر، كما قال الشاعر:
كما أبرقت قوما عطاشا غمامةفلما رأوها أقشعت و تجلت
______________________________
(1)- أي قبة يلبغا
(2)- الأيم: ذكر الأفعي
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 140

ذكر خروج الأعيان بعد ذهاب السلطان و طلبهم من تيمور الأمان‌

و لما خانتهم الظنون، و علموا أنه حل بهم ريب المنون، اجتمع من المدينة الكبراء، و الموجود من الأعيان و الرؤساء، و هم قاضي القضاة محيي الدين محمود بن العز الحنفي، و ولده قاضي القضاة شهاب الدين، و قاضي القضاة تقي الدين ابراهيم بن مفلح الحنبلي، و قاضي القضاة شمس الدين محمد الحنبلي النابلسي، و القاضي ناصر الدين محمد بن أبي الطيب كاتب السر، و القاضي شهاب الدين أحمد بن الشهيد الوزير، و كان منصب الوزارة إذ ذاك له أبهة ما في الحملة، و القاضي شهاب الدين الجياني الشافعي، و القاضي شهاب الدين ابراهيم بن القوشة الحنفي نائب الحكم، رحمهم الله، فأما القاضي الشافعي و هو علاء الدين بن أبي البقاء، فإنه هرب مع السلطان، و قاضي القضاة لمالكي، و هو برهان الدين الشاذلي، فإنه استشهد كما ذكر، فخرج هؤلاء الأعيان، و طلبوا منه الأمان، بعد ما وقع المشاورة منهم الاتفاق، و نظمت كلمتهم في سلك الوفاق «1».
فصل: و لما اقلع السلطان بفلك عساكره المشحون، وقع في بحر العساكر التيمورية قاضي القضاة ولي الدين ابن خلدون، و كان من أعلام الأعيان، و ممن قدم مع السلطان، فلما انفتل السلطان و انفرك، كأنه كان غافلا فوقع في الشرك، و كان نازلا في المدرسة العادلية، فتوجه هؤلاء الأعيان إليه في تدبير هذه القضيه، فوافق فكره فكرهم، فملكوه في ذلك أمرهم، و ما وسعهم، إلا استصحابه معهم، و كان مالكي المذهب و المنظر، أصمعي الرواية و المخبر، فتوجه معهم بعمامة خفيفه، و هيئة ظريفه، و برنس كهو «2» رقيق الحاشيه، يشبه من دامس الليل الناشيه «3»، فقدموه بين يديهم، و رضوا بأقواله و أفعاله لهم و عليهم.
______________________________
(1)- لمزيد من الشروح و التفاصيل، انظر تاريخ ابن قاضي شهبه، ج 4- ط. دمشق 1997- ص 161- 552
نزهة النفوس و الأبدان لعلي بن داود الجوهري ج 2- ط القاهرة 1971 ص 87- 97.
(2)- لم أجد تعريفا لكلمة كهو، و لعلها تصحيف كهب، فالكهبة: غبرة مشربة سوادا. العين
(3)- الناشئة: أول الليل. العين
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 141
و حين دخلوا عليه، وقفوا بين يديه، و استمروا واقفين، وجلين خائفين، حتي سمح بجلوسهم، و تسكين نفوسهم، ثم هش إليهم، و مر ضاحكا عليهم، و جعل يراقب أحوالهم، و يسبر بمسبار عقله أقوالهم و أفعالهم.
و لما رأي شكل ابن خلدون لشكلهم مبائنا، قال هذا الرجل ليس من هاهنا، فانفتح للمقال مجال، فبسط لسانه «1» و سنذكر ما قال، ثم طووا بساط الكلام و نشروا سماط الطعام، فكوموا تلالا من اللحم السليق، و وضعوا أمام كل ما به يليق، فبعض تعفف عن ذلك تنزها، و بعض تشاغل عن الأكل بالحديث و لها، و بعض مد يده و أكل و ما جبن في مصاف الالتهام، و لا نكل، و إلي الأكل أرشدهم، و ناداهم و أنشدهم شعرا:
كلوا أكل من إن عاش أخبر أهله‌و إن مات يلق الله و هو بطين و كان من جملة الآكلين، قاضي القضاة ولي الدين، و كل ذلك و تيمور يرمقهم، و عينه الخزراء تسرقهم، و كان ابن خلدون أيضا يصوب نحو تيمور الحدق، فاذا نظر اليه أطرق، و إذا ولي عنه رمق، ثم نادي و قال بصوت عال: يا مولانا الأمير، الحمد لله العلي الكبير، لقد شرفت بحضوري ملوك الأنام، و أحييت بتواريخي ما ماتت لهم من الأيام، و رأيت من ملوك الغرب فلانا و فلانا، و حضرت كذا و كذا سلطانا، و شهدت مشارق الأرض و مغاربها، و خالطت في كل بقعة أميرها و نائبها، و لكن لله المنة إذ امتد بي زماني، و منّ الله علي بأن أحياني، حتي رأيت من هو الملك علي الحقيقة، و المسلك بشريعة السلطنة علي الطريقة، فإن كان طعام الملوك يؤكل لدفع التلف، فطعام مولانا الأمير يؤكل لذلك، و لنيل الفخر و الشرف، فاهتز تيمور عجبا، و كاد يرقص طربا، و أقبل بوجه الخطاب إليه، و عول في ذلك دون الكل عليه، و سأله عن ملوك
______________________________
(1)- وصف ابن خلدون اللقاء بتيمور في كتابه «التعريف بابن خلدون، و رحلته غربا و شرقا- ط. القاهرة 1951- ص 351- 382.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 142
الغرب و أخبارها، و أيام دولتها و آثارها، فقص عليه من ذلك ما خدع عقله و خبله، و خلب لبه و سلبه، و كان تيمور في سير الملوك و الأمم أمة، و أبا التاريخ شرقا و غربا و أمه، و سنذكر لهذا المعان، بديع بيان.
فصل: و بينا هم يوما قاعدون في حضرة ذلك البصير، و إذا بالقاضي صدر الدين المناوي في أيديهم أسير «1»، و كان قد تبع السلطان في الهرب، فأدركه في ميسلون الطلب، فقبضوا عليه، و أحضروه بين يديه، و إذا هو بعمامة كالبرج، و اردان كالخرج، فتخطي الرقاب و جلس من غير إذن فوق الأصحاب، فاستشاط تيمور غضبا، و ملأ المجلس لهبا، و انتفخ سحره، و سجر غيضا نحره، و شخر و نخر، و مخر بحر حنقه و زخر، و أمر طائفة من المعتدين، بالتنكيل بالقاضي صدر الدين فسحبوه سحب الكلاب، و مزقوا ما عليه من ثياب، و أوسقوه سبا و شتما، و أشبعوه ركلا و لكما، ثم أمرهم بتشديد أسره، و تجديد كسره، و ترادف الإساءة إليه، و تضاعف الكسرات علي رغم التصريفين عليه، فأخرج إخراج الظالم، يوم يولي مدبرا ماله من الله من عاصم.
ثم تراجع تيمور إلي ما كان فيه، من ترتيب غوائله و دواهيه، فألبس كلا من هؤلاء الأعيان خلعه، و أقامه عنده في عزة و رفعه، ثم ردهم منشر حي الصدور، في دعة و سرور، و في خاطره شرور، و أمور تمور، فساروا و قد حاروا، قلت شعرا:
كالهدي زينه المهدي و عظمه‌و عن قريب لضيف الموت أطعمه و شرط لهم و لذويهم الأمان، علي أن يدفعوا إليه أموال السلطان، و ماله و للأمراء من أثقال، و تعلقات و أموال، و دواب و مواش، و مماليك و حواش، ففعلوا ما به أمر، و رفعوا إليه ما بطن من ذلك و ظهر.
______________________________
(1)- هو محمد بن ابراهيم، تولي منصب قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية عدة مرات. انظر السلوك للمقريزي ج 3، ص 310، 931، 1054.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 143
فأما القلعة فإنها استعدت للحصار، و كان نائبها يدعي ازدار، فحصنها، و بالأهبة الكاملة مكنها، و انتظر من السلطان نجدة أو مانعا ربانيا يفرج عنه الشده، فلم يلتفت تيمور في أول الأمر إليها، و لا احتفل بها و لا عرج عليها، بل صرف همه إلي تحصيل الأموال، و توسيق الأحمال بالأثقال، فلما حصل الثقل، و إلي خزائنه انتقل، طرح علي المدينة أموال الأمان، و استعان علي استخلاصها، بهؤلاء الأعيان، و أقام عليهم دواوينه و كتبته، و أهل الضبط و الحرص من مباشريه و حسبته، و فوض ذلك إلي كفاية الله داد، أحد أركان دولته، و من عليه الاعتماد، و هو أخو سيف الدين المار ذكره في أول الكتاب، لأمه، و أقام معهم كل جبار عنيد، و من نشأ في حجر الفظاظة و رضع ثدي ظلمه، و نادي بالأمان و الإطمئنان، و ان لا يبغي انسان علي انسان، فمد بعض الجغتاي يدهم إلي غاره، بعد ما سمعوا هذا النداء و اشتهاره، فبلغ ذلك تيمور، فأمر بصلبهم في مكان مشهور، فصلبوهم في الحريرين، برأس سوق البزوريين، ففرح الناس بهذه الفعله، و أملوا خيره و عدله، و فتحوا من أبواب المدينة الباب الصغير، و شرعوا يحررون أمر المدينة علي النقير و القطمير، فوزعوا هذه الأموال علي الحارات، و تنادي أهل الظلم و العدوان من القريب و الغريب بالشارات، و جعلوا دار الذهب مكان المستخلص، و طفقوا يلقون الناس في ذلك القنص، و تسلط بعض الناس علي البعض، و اصطاد أرانب الأرض بكلاب الأرض، و كان فصل الخريف كجيش مصر قد قفل، و فصل الشتاء بزمهريره كجند تيمور بنيرانه علي العالم قد نزل، فانتقل إلي القصر الأبلق، ثم إلي بيت الامير بتخاص، و أمر بالقصر أن يهدم و يحرق.
و دخل إلي المدينة من الباب الصغير، في جمع كثير و صلي الجمعة في جامع بني أمية، و قدم الحنفية علي الشافعية، و خطب به قاضي القضاة محيي الدين محمود بن العز الحنفي المذكور، و جري ما يطول شرحه من أمور و شرور.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 144
و وقع بين عبد الجبار بن النعمان الخوارزمي المعتزلي، و بين علماء الشام، لا سيما قاضي القضاة تقي الدين إبراهيم بن مفلح الحنبلي، مناظرات و مناقشات، و مباحثات و مراجعات، و هو في ذلك كترجمانه، يخاطبهم في جميع ذلك بلسانه، فمنها وقائع علي و معاوية، و ما مضي بينهم في تلك القرون الخالية، و منها أمور يزيد و ما يزيد، و قتله الحسين السعيد الشهيد، و إن ذلك ظلم و فسق بلا نكر، و من استحله فهو واقع في الكفر، و لا شك أن ذلك الفعل الحرام، كان بمظاهرة أهل الشام، فإن كانوا مستحليه فهم كفار، و إن كانوا غير مستحليه فهم عصاة و بغاة و أشرار، و ان الحاضرين، علي مذهب الغابرين، فحصل منهم في ذلك أنواع الأجوبة، فمنها ما رده و منها ما أعجبه، إلي أن أجاب كاتب السر و أجاد، و أصاب فيما قال و أفاد:
أطال الله الكبير، بقاء مولانا الأمير، أما انا فنسبي متصل بعمر، و عثمان، و إن جدي الأعلي كان من أعيان ذلك الزمان، و حضر تلك الوقائع، و خاض هاتيك المعامع، و كان من رجال الحق، و أبطال الصدق، و مما تواتر من فعله، و وضعه الشي‌ء في محله، أنه توصل الي رأس سيدنا الحسين، و نزهه عما حصل له من ابتذال و شين، ثم نظفه و غسله، و عظمه و قبله و طيبه و بجله، و واراه في تربة، و عد ذلك عند الله تعالي من أفضل قربه، فلذلك أيها الغمام الصيب، كنوه بأبي الطيب، و علي كل تقدير، أيها الامير، فتلك أمة قد خلت، و غموم غيومها انجلت، و بما جرعت انقضت، و بما أذاقت مرت و حلت، و فتن أراحنا الله إذ أزاحنا عنها، و دماء طهر الله سيوفنا منها، و أما الساعة، فاعتقادنا اعتقاد أهل السنة و الجماعة، فلما سمع هذا الكلام قال: بالله العجب، و ما سميتم بأولاد أبي الطيب إلا لهذا السبب؟ قال: نعم و يشهد لي بذلك القاصي و الداني، و أنا محمد بن عمر بن محمد بن أبي القاسم بن عبد المنعم بن محمد بن أبي الطيب العمري العثماني، فقال: لك المعذرة يا طيب الأسلاف، لو لا أني ظاهر العذر لحملتك علي عاتقي و الأكتاف، و لكن ستري ما أفعله معك و مع أصحابك من التكريم و الألطاف، ثم انه ودعهم، و بالتعظيم و الاحترام شيعهم.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 145
و منها انه سألهم كناية، سؤال إضرار و نكاية، فقال: ما أعلي الرتب، درجة العلم أو درجة النسب: فأدركوا قصده و فهموا، و لكن عن رد الجواب و جموا، و علم كل منهم أنه قد ابتلي، فابتدر بالجواب القاضي شمس الدين النابلسي الحنبلي و قال: درجة العلم أعلي من درجة النسب:
و مرتبتها عند الخالق و المخلوق أسني الرتب، و الهجين الفاصل يقدم علي الهجان الجاهل، و المقرف «1» المنيف، أولي للإمامة من السيد الشريف، و الدليل في هذا جلي، و هو إجماع الصحابة علي تقديم أبي بكر علي علي، و قد اجمعوا علي أن أبا بكر أعلمهم، و اثبتهم قدما في الاسلام و أقدمهم، و اثبات هذه الدلالة، من قول صاحب الرسالة: «لا تجتمع أمتي علي ضلالة» ثم أخذ في نزع ثيابه مصيخا لتيمور، و ما يصدر من جوابه، ففكك أزراره، و قال لنفسه: إنما أنت عارة و كأس الموت لا بد من شربها، فسواء ما بين بعدها و قربها، و الموت علي الشهادة، من أفضل العبادة، و أحسن أحوالها لمن اعتقد أنه إلي الله صائر، كلمة حق عند سلطان جائر، فسأل ما يفعل، هذا المهمل، فقال: يا مولانا الجليل، إن فرق عساكرك كأمم بني إسرائيل، و فيهم من ابتدعوا بدعا، و تقطعوا في مذاهبهم قطعا، و فرقوا دينهم، و كانوا شيعا، و لا شك أن مجالس حضرتك تنقل، و عقائل مباحثها تحل الصدور فتعقل، و اذا ثبت هذا الكلام عني، و وعاه أحد غير سني، خصوصا من ادعي موالاة علي، و يسمي في رفضه أبا بكر بالرافضي، و تحقق مني يقيني، و أنه لا ناصر لي يقيني، فانه يقتلني جهارا، و يريق دمي نهارا، و اذا كان كذلك، فأنا استعد لهذه السعاده، و اختم أحكام القضاء بالشهادة، فقال: لله هذا ما افصحه، و اجرأه في الكلام و أوقحه، ثم نظر إلي القوم، و قال لا يدخلن هذا علي بعد اليوم.
فصل: و هذا الرجل، أعني عبد الجبار، كان عالم تيمور و إمامه، و ممن يخوض في دماء المسلمين أمامه، و كان عالما فاضلا، فقيها كاملا، بحاثا
______________________________
(1)- المقرف: الهجين. العين.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 146
محققا، أصوليا جدليا مدققا، و أبوه النعمان، في سمرقند كان، و هو في الفروع من أعلم أهل الزمان، حتي كان يقال له النعمان الثان، و كان من القائلين بعدم الرؤية في الأخري، فأعمي الله تعالي بصره كبصيرته في الدنيا، و أكثر علماء مصر بما وراء النهر قرأ عليه الفروع، و نقل عنه مسائل المشروع، و لا خلاف في الفروع بين أهل السنة و أهل الاعتزال، و انما اختلافهم في أصول الدين في مسائل معدودة سلكوا فيها سبيل الضلال.
فصل: و تصدي لاستخلاص الأموال من أهل الشام، كل غشوم ظلام، و كفور صدام، و كان في قلة وفاقه، كصدقة ابن الجابي «1» و ابن المحدث «2» و عبد الملك بن التكريتي المنبوذ بسماقه، و غيرهم من نظرائهم، من عواقب الظلم و أبنائهم، مع حضور أكابر المدينة و أعيانها، المار ذكرهم و رؤساء قطانها، فإنه لم يمكنهم في ذلك أن يتخلفوا، و لا يتقاعسوا و لا يتوقفوا، و حضور دواوينه و حسابه، و ضابطي أمور خزائنه و كتابه، و منهم خواجه مسعود السمناني، و مولانا عمر، و تاج الدين السلماني، كل ذلك في دار الذهب، و هو مكان مشهور، و نزل الله داد داخل الباب الصغير في دار ابن مشكور «3»، و جعل كل من في قلبه من أحد ضغينه، أو سخيمة دفينه، أو غل أو حسد، أو حقد أو نكد، يغمز علي إخواته أولئك الظلمة الفظاظ، و الزبانية الشداد الغلاظ.
شعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم‌في النائبات علي ما قال برهانا بل بأدني إشاره، و أقل عباره، يبنون علي أرض وجود ذلك المسكين،
______________________________
(1)- صدقة بن خليل الجابي، ولاه تيمور حاجب دمشق، و فرض علي التجار الأموال و اغتصبها من الناس. تاريخ ابن قاضي شهبة ج 4 ص 169- 183
(2)- عن ابن المحدث المحدث، انظر المصدر أعلاه نفسه ص 173.
(3)- الله داد: أي عطاء الله، كان من قادة تيمور الذين شاركوا في الهجوم علي دمشق، و ابن مشكور هو محمد بن عبد الله بن مشكور القاضي، ناظر الجيش بدمشق، مات سنة 800 ه.
ابن قاضي شهبة ج 4 ص 98
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 147
من جبال النكال قصورا شواهق، و ينشؤون علي حدائق ذاته، من سماء العذاب سحاب عقاب، ترعد عليه صواعق، و تبرق له من الدمار و البوار بوارق.
فصل: ثم إنه صار في هذه المدة، يحاصر القلعة، و يعد لها ما استطاع من عدة، و أمر أن يبني مقابلتها بناء يعلوها، ليصعدوا عليه فيهدوها، فجمعوا الأخشاب و الأحطاب و عبوها، و صبوا فوقها الأحجار و التراب و دكوها، و ذلك من جهة الشمال و الغرب، ثم علوا عليه و ناوشوها الطعن و الضرب، و فوض أمر الحصار، لأمير من أمرائه الكبار، يدعي جهان شاه، فتكفل بذلك وعاناه، و نصب عليها المجانيق، و نقب تحتها، و علقها بالتعاليق، و كان فيها من المقاتله، فئة غير طائله، أمثلهم شهاب الدين الزردكاش الدمشقي، و شهاب الدين أحمد الزردكاش الحلبي، فأبليا في عسكره بلاء حسنا، و كانا علي جيشه كلما فاء إلي فنائهم و باء مصيبة و فنا، فأهلكا من جيشه بالإحراق، و إرعاد المدافع و الإبراق، ما فات العد، و تبدد عن دائرة الحد، و لكنه لما أحاط بها من بحار تخريبه سيل عرم سائلها، و أمطر عليها من سهام غمام رماته، و صواعق بوارق كماته، صيب و ابلها، أتاها العذاب من فوقها و من تحتها، و عن أيمانها و عن شمائلها، و كلت عن المجابذة و المنابذة أيدي مقاتليها فطلبوا الأمان، و نزلوا إليه من غير توان، و كل هذا الأمر المهول و القضاء العجب، أواخر شهر ربيع الآخر، و جمادين و شهر رجب، و لكن ما نال من القلعة روما إلا بعد محاصرتها ثلاثة و أربعين يوما «1»، و صار في هذه المدة يتطلب الأفاضل، و أصحاب الحرف و الصنائع و أرباب الفضائل، و نسج الحريريون له قباء بالحرير و الذهب، ليس درز فإذا هو شي عجب، و بني في مقابر الباب الصغير قبتين متلاصقتين، علي تربة زوجات النبي صلي الله عليه و سلم، و أمر بجمع العبيد الزنج، و اعتني بجمعهم أكثر من غيرهم و قدم.
______________________________
(1)- لمزيد من التفاصيل انظر نزهة النفوس و الأبدان للصيرفي ج 2 ص 88- 97.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 148

ذكر ما صنعه بعض الأكياس من الناس خوفا من أن يحل به الباس و وقي بنفائسه النفوس و الأنفاس‌

و كان في صفد، تاجر من أهل البلد، أحد الرؤساء و التجار، يدعي علاء الدين، و ينسب إلي دوادار، كأنه تقدمت له خدمة علي السلطان، فولاه حجوبية ذلك المكان، فلما توجه النواب إلي حلب، و العادة أن ينوب عن نائب البلدة في غيبته من حجب، ناب عن نائبها التونبغا العثماني، و حاجبها علاء الدين الدواداري، فغرق في أسر ذلك الطوفان، كل النواب و من جملتهم العثماني، و ابن الطحان، و مات منهم من مات، و فر من فر، و استمر في قيد الأسر ألتونبغا و عمر، فلما تقدم تيمور الشام، و حل بها منه، ما يحل من قضاة السوء بأموال الأيتام، شرع كل متول في بلاد، يفعل ما أدي اليه الاجتهاد، فبعض حصن أماكنه، و بعض مكن كمائنه، و طائفة استنجزت للنفار، و فرقة استوفزت للفرار، و قوم سالموا و ساكنوا، و هادوا و هادنوا، ففكر علاء الدين المذكور و قدر، و تأمل في خلاص صاحبه و بلده و تبصر، و كان من أبناء الناس، و عنده ذوق الأكياس، و استشار مصيب عقله في ذلك و استنطقه، فقال: داره بما معك من مال، و اترك سرب الفرار و نفقه، و ما كذبه إذ قال كل مداراة عن العرض ستر له و صدقه، و كان ذا مال ممدود، فقال ما ادخرت الدنانير الصفر، و الدراهم البيض إلا للأيام السود، فطلب من تيمور الرياضه «1»، و أراد أن يجس أولا بمجاملته مخاضه، فعالج هذا الأمر علاج النطس المريض، و بادر بالمهادنة، و حال الجريض، دون القريض «2»، و أرسل إلي تيمور أجناسا من ماله الطويل العريض، و استمال خاطره، و استدعي أوامره، ثم أردفها بأضعافها، و أضعف خواصرها بأردافها.
______________________________
(1)- أي طلب منه مهلة من الوقت.
(2)- الجريض: الريق، خاصة الذي يبلع من ألم أو هم، و القريض: الشعر و لا سيما شعر الطرب، و الذي قصده هو: حال الألم دون الطرب.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 149
فشكر تيمور له صنعه، و زاده ذلك عنده منزلة و رفعه، و أرسل إليه مرسوم أمان، و أن يعامل هو و أهل بلده بالمجامله و الإحسان، فليؤمن روعهم، و ليسكن جنسهم و نوعهم، و لتؤنس وحشتهم، و لتذهب دهشتهم، بحيث أنهم يتابعون و يتشاورون، و إلي معاملتهم من عساكره يتجاورون، و إن استطال أحد من أجناده، و لو أنه من إخوته و أولاده، فليقابله بالمنع و الإنكار، و الضرب و الإشهار، و صار يطلب منه ما أراده، فيرسله إليه بزياده، و كلما زاد فيما يقترحه عليه من نقد و جنس طلبا، زاد علاء الدين لذلك نشاطا و طربا، و من جملة ما اقترح عليه في ذلك المقبض، حمل بصل أبيض، بناء علي أن ذلك لا يوجد، في الشام بأسرها فضلا عن صفد، ففي الحال، وجد من ذلك ثلاثة أحمال، فأرسلها إليه كما هي، و كان ذلك من الفضل الإلهي، حتي أحبه، و تمني قربه، و قال فيه معني ما قلت شعرا:
داريت وقتك و احتميت‌ببذل مالك يا بشر
لو كان مثلك آخرفي الشام ما سيمت بشر و توجه طوائف من العسكر إليهم، و اشتروا منهم و باعوا عليهم، و استمرت عقود المصادقة لم تحل، الي أن قوض خيامه عن دمشق و رحل، فلما أقشع من الشام ضباب ضيره، و امتد في ميدان الرحيل حبل مسيره، أعقب علاء الدين الدواداري، قاصدا إلي ذلك الأسد الضاري، و معه تحف سنية، و نتف ملوكية، و مطالعة فحاويها رائقة، و معانيها فائقة، و ألفاظها بالخضوع و الخشوع ناطقة، فيها من الترقيقات ما تقشعر منه الجلود، و يلين له الحديد و الصخر الجلمود، و يجري في طبائع الأبدان اليابسة جري الماء في العود، و طلب في أثنائها مراحمه في أمر العثماني و ابن الطحان، و جز ناصية عبوديتهما بمقراض الإعتاق و الامتنان، و أن يجعل العفو عنهما شكر القدرة، و يفيض عليهما من بحار مراحمه قطره، و أنهما أقل من أن ينسبا إلي أسره، اذ ملوك الأرض تود لو
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 150
كانت أطفالا تحت حجره، و رأيه الشريف أعلي، و امتثال ما بيديه من المراسيم أولي، فلما اطلع تيمور علي فحواه، و فهم ما أبداه و ما أنهاه، و شاهد تحفه و هداياه، و تفكر في أول أمره ما ألحمه معه من الخدم و ما أسداه، و الخير له تأثير، و البادي‌ء أكرم، و الشر كله تقصير، و البادي‌ء أظلم، قلت شعرا:
ترقب جزاء الحسني إذا كنت محسناو لا تخش من سوء إذا أنت لا تسي و قيل شعرا:
و من يفعل الخير لا يعدم جوائزه‌لا يذهب العرف بين الله و الناس لان قلبه و إن كان حديدا، فقد هان صعبه الذي لم يزل شديدا، فدعاهما، و أكرم مثواهما، و أحسن إليهما، و ذكر لهما شفاعة علاء الدين فيهما، ثم أمنهما البأس، و أعطاهما ثلاثة أفراس، للعثماني اثنان، و واحدة لعمر بن الطحان، ثم أضاف إليهما من بلغهما المأمن، فوصل كل منهما إلي دار عزته، و حل ذاك في صفده و هذا في غزته.
فصل: و لما تنجز لتيمور أخذ القلعه، جهز أمره و رام الرجعة، و قد استخرج منها ما أراد من نفائس و أموال، بأنواع العقاب و أصناف العذاب و النكال.

ذكر معني كتاب أرسل إليه علي يد بيسق «1» بعد ما فروا من بين يديه‌

و قيل ان السلطان لما هرب، أرسل إليه كتابا أثار منه الغضب، فمن معناه، و فحوي ما عناه: «لا تحسب أننا جزعنا منك، و فررنا عنك، و إنما بعض مماليكنا قوي أنفاسه، و أخرج عن ربقة الطاعة رأسه، و تصور أن كل من خرج عرج، و لم يعتبر بمن رام للارتقاء سلما فدرج، و أراد مثلك
______________________________
(1)- بيسق بن عبد الله الشيخي، أمير آخور السلطان برقوق، مات في 821. تاريخ ابن قاضي شهبه ج 4 ص 594. ذيل الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني- ط القاهرة 1992- ص 263.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 151
إلقاء الفساد، و هلاك العباد و البلاد، و هيهات فإن دون مرامه خرط القتاد، و الكريم إذا بدا بجسمه مرضان، داوي الأخطر، و رأيناك أنت أهون الخطبين و أحقر، فثني عزمنا الشريف عنانه، ليعرك من ذلك القليل الأدب آذانه، و يقيم في نظم طاعته ميزانه، و أيم الله لنكرن عليك كرة الأسد الغضبان، و لنوردن منك و من عسكرك نواهل القنا موارد الأضغان، و لنحصدنكم حصد الهشيم، و لندوسنكم دوس الحطيم، فلتلفظنكم رحي الحرب في كل طريق، لما تعانون من غليظ الطعن و جليل الضرب، لفظ الدقيق، و لنضيقن عليكم سبل الخلاص، فلتندمن ولات حين مناص، و نحو هذه الترهات، و مثل هذه الخرافات، التي هي كالملح علي الجروح، و كالريح عند خروج الروح، و لو كان بدل هذا الكلام الذي لا طائل فيه، و الخطاب الهذيان الذي تمجه الآذان و ترميه، ما يستميل خاطره، و يطفي‌ء من لهيب غضبه نائره، مع شي‌ء من الهدايا و التقادم، و إبراز قضاياهم في صورة المعتذر النادم، ربما كان كسر من غيظه، أو همد من حنقه، و برد من قيظه، و إنما فعلوا تلك المعذره، بعد حريق دمشق و خراب البصره، و أرسلوا الخدم و الهدايا صحبة النعام و الزرافات، و قد أعجز التدارك وفات، و صاروا كما قيل شعرا:
ذو الجهل يفعل ما ذو العقل يفعله‌في النائبات و لكن بعد ما افتضحا و كما قيل مصراع: «و جادت بوصل حين لا ينفع الوصل».
فصل: ذكر بيسق هذا قال: لما مثلت بين يديه، و أديت الرسالة إليه، و قري‌ء الكتاب عليه، قال لي: قل الحق، ما اسمك، قلت: بيسق، قال:
ما مدلول هذا اللفظ المزري؟ قلت له: يا مولانا لا أدري، فقال: أنت لا تعرف مدلول اسمك يا ثعاله، فكيف تصلح لحمل الرساله، و لو لا أن عادة الملوك أن لا يهجوا الرسل، و قد مهدوا علي ذلك القواعد و سلكوا السبل، و أنا أولي من يتبع آثار السلاطين، و يحيي سنن الملوك الماضيين،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 152
لفعلت معك ما يجب فعله، و لأوصلتك ما أنت أهله، و بعد هذا فلا عتب عليك، و إنما اللوم علي من تقدم بهذا الأمر إليك، و لا حرج عليه أيضا لأن ذلك مبلغ علمه، و مدرك عقله و فهمه، و قد ظهر بفعله الوبيل، نتيجة ما قيل:
تخير إذا ما كنت في الأمر مرسلافبلغ آراء الرجال رسولها ثم قال لي: توجه إلي قلعتكم، و مكان عزتكم و منعتكم، فذهبت فوجدتها قد دكت دكا و سيم حرمها و حريمها خسفا هتكا، ثم أتيته، و ذكرت له ما رأيته، فقال: إن مرسلك أقل من أن أجامله، و أذل من أن أراسله، و لكن قل له: إني واصل إليه علي عقبك، و ها أنا منشب مخاليب أسودي بذنبك، فليشمر للقرار و للفرار الذيل، و ليعد لأيهما اختار ما استطاع من قوة و من رباط الخيل، ثم أمر بي فأخرجت و ما صدقت، أن تصوبت إلي جهة مصر و دحرجت.
فصل: و حين ملأ جراب طمعه من نفائس الأموال ودنه، و استدر خلفاتها شيئا فشيئا صافيا و رنقا، حتي صفاها بقطنه، أمر بتعذيب هؤلاء الأمراء الكبار، فعذبوهم بالماء و الملح و سنفوهم الرماد و الكلس، و كووهم بالنار، و اسخرجوا خب‌ء الأموال منهم، استخراج الزيت بالعصار، ثم أذن عنان الاذن لعساكره بالنهب العام، و السبي الطام، و الفتك و القتل و الإحراق، و التقييد بالأسر علي الإطلاق، فهجمت أولئك الكفرة الفجرة علي ذلك أشد الهجوم، و انقضوا علي الناس بالتعذيب، و التثريب و التخريب، انقضاض النجوم، و اهتزوا و ربوا، و فتكوا و سبوا، و صالوا علي المسلمين و أهل الذمم، صولة الذئاب الضواري علي ضواني الغنم، و فعلوا ما لا يليق فعله، و لا يحمل ذكره و نقله، و أسروا المخدرات، و كشفوا غطاء المسترات، و استنزلوا شموس الخدور، من أفلاك القصور، و بدور الجمال، من سماء الدلال، و عذبوا
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 153
الأكابر و الأصاغر بأنواع العذاب، و بدا للخلق ما لم يكن في الحساب، و استخلصوا بإصلاء النار جواهر الناس منهم خلاصات الذهب، و صنفوا في استخراج النفائس من النفوس بأصناف العذاب، مسائل يقضي منها العجب، و فرقوا بين الوالدة و ولدها، و الروح و جسدها، و ذهلت كل مرضعة عما أرضعت، و جازوا كل نفس بما صنعت، و بغير ما صنعت، و فر الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ و صار لكل منهم يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ «1» و ذل العزيز و الكريم، و هان الخطير و الجسيم، و طم البلاء و عم القضاء، و طاشت الحلوم، و تبلدت الفهوم، و تراكمت غيوم الغموم، فأقسم بالله لقد كانت تلك الأيام، علامة من علامات يوم القيام، و أسفرت تلك الساعه، عن أشراط الساعه، و استمر هذا النهب العام، نحوا من ثلاثة أيام.

ذكر إلقائهم النار في البلد لمحو الآثار

ثم انهم لما أنهوا العيث و العبث، و قضوا في حج فسادهم التفث، و أتموه بالفسق و الجدال و الرفث، و طافوا و سعوا في المنكرات، و رموا في البيوت النار و في القلوب الجمرات، و أفاضوا ما أراقوا من دماء المسلمين الواقعين في الإحصار، و رملوا في أشواط الاحراق، فأرسلوا في حرم المدينة شواظا من نار، و كان فيهم من روافض الخراسانيه، فاطلقوا النار في جامع بين أميه، فتشبثت النار بلهيبها، و ساعدت الريح بهبوبها فتساوقا في محو الآثار ريحا و نارا، و استمر علي ذلك باذن الله تعالي ليلا و نهارا، فاحترق ما بقي من النفائس و النفوس، و انمحي بلسان النار ما سطر علي لوح وجود المدينة من الدروس، و أمست تلك المغاني لا تسمع فيها لا غية و لا الهمس، و أصبحت حصيدا كأن لم تغن بالأمس، و ذلك بعد أن أظهروا ما أخذوا من أموال، و أوسقوا منه الأحمال.
______________________________
(1)- سورة عبس- الآيات: 34- 37.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 154

إقلاع هاتيك الرزايا و اقشاع غمام تلك الدواهي و البلايا عن بلاد الشام بما تحمله من أوزار و خطايا و آثام‌

ثم ارتحل ذلك الفتان، و أقلع صيب بلائه الهتان، يوم السبت ثالث شعبان، و قد أخذوا من نفائس الأموال فوق طاقتهم، و تحملوا من ذلك ما عجزت عنه قوي استطاعتهم، فجعلوا يطرحون ذلك في الدروب و المنازل، و يلقونه شيئا فشيئا في أوعار المراحل، و ذلك لكثرة الحمل و قلة الحوامل، و أضحت القفار و البراري، و الجبال و الصحاري، من الأمتعة و الأقمشة، كأنها أسواق الدهشة، و كأن الارض فتحت خزائنها، و أظهرت من المعادن و الفلزات كامنها، قلت بديها شعرا:
و صار لسان شرهم ينادي‌علي قنن الشواهق و البوادي إلا ذي شنشنة عرفناها، و عادة فساد ألفناها، من ملكنا و دينة اقترفناها، نهبنا أموال المسلمين و حفظناها، و ما في وجهها صرفناها، و لكنا حملنا أوزار من زينة القوم فقذفناها، و مع ذلك فلو أخذ من نفائس دمشق أضعاف ما أخذ، و فلذ من أكباد ذخائرها آلاف ما فلذ، ما غاض ذلك ما في عتبتها، و لا نقص من بحار معينها، و لكن النار كانت هي البلاء الداهي، و المصاب المتناهي، لأنها أحرقت غالب من كان داخل البلد لعدم الغواث، فما ظنك بما يكون من العمار و الأقمشة و الأثاث، و ضريت الكلاب بأكل لحوم من مات داخل البلد، فما صار يجسر علي العبور إلي جامع بني أمية أحد.

ذكر ما جري في مصر و سائر الأقطار عند سماعهم هذه الأخبار و استيقانهم هذه الأهوال و الأخطار

فأما مصر فما دونها من البلاد فإنها تخبطت، و انحلت قواها، و أيديها تربطت، و عدمت القرار، و استعدت للفرار، فلو رأيت الناس و هم حياري، سكاري و ما هم بسكاري، أبدانهم راجفة، و قلوبهم واجفة،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 155
و أصواتهم خافتة، و أبصارهم باهته، و شفاههم يابسه، و صورهم بائسه، و وجوههم باسره تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ «1» و قد استوفز كل أهل الأمصار، و سكان الأنجاد و الأغوار، و قد أصاخ لما يرد عليه من جلي الأخبار، فيبني علي ذلك ما يكون، من متعلقات الحركة و السكون، فأخذ تيمور علي طريقته العوجا، و رجع علي سبيل بغيه التي اتخذها شرعة و منهاجا، و قد سدت عساكره الآفاق و الأكناف، و عمت هيبته الأرجاء و الأطراف.

ذكر من أصيب من سهام القضاء بالرشق و وقع في مخالب أسره من أعيان دمشق‌

و أخذ من أعيان الشام، و مشاهيرها الأعلام، قاضي القضاة محيي الدين بن العز الحنفي، بعد أن عاقبوه بأنواع العقاب و كووه، و سقوه الماء و الملح و بالكلس و النار شووه، و ولده قاضي القضاة شهاب الدين أبو العباس، فوصلا إلي تبريز و مكثا بها مدة في شدة و بأس، ثم رجعا إلي الشام، و أخذ أمرهما في الانتظام، و قاضي القضاة شمس الدين النابلسي الحنبلي، و قاضي القضاة صدر الدين المناوي الشافعي، فتوفي إلي رحمة الله الوهاب، غريقا في نهر الزاب، و شهاب الدين أحمد بن الشهيد المعتبر، و كان متحملا أوزار الوزر، بعد أن راموا عذابه، و طلبوا عقابه، و كان قد جهز متعلقيه الي الأماكن البعيدة، و أقام هو في دمشق جريده، فذكر لهم حكايته، و بذل لهم في دفع وجوده طاقته، فأخذوا ما أخفاه خفية و لم يعذبوه، و لكنهم بالأهنة و القلة استصحبوه، و وصل إلي سمرقند، و قاسي بها من صروف الزمن، أنواعا من غربة و فقر و محن، ثم رجع إلي دمشق و توفي بها رحمه الله تعالي، و من الأمراء الخاص، الأمير الكبير بتخاص، و كان مقيدا معه و مات، عند وصوله إلي الفرات، فأما القاضي ناصر الدين ابن أبي الطيب فإنهم عاقبوه بكل بليه، و كان
______________________________
(1)- سورة القيامة- الآية: 25.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 156
رقيق البدن لطيف المزاج سوداويه، فما كان عنده لذلك ثبات، فأعجزهم عما يرومون منه بالموت وفات، فمات و استراح، و شرب من الشهادة كأس مدام جاءه و راح، فدفنوه عشيه، بالمدرسة الكروسيه.
و لما شرع في النهب العام المبرح، استشهد غلطا قاضي القضاة تقي الدين ابن مفلح، و برهان الدين ابن القوشة ضعف سبعة عشر يوما، و انقطع في حارة تل الجبن، و لحق بالأموات قوما، و كانوا قد خرجوا علي الأحياء الأموات، و خافوا أن لا يكون لأحد منهم من أيديهم بحجة الوفاة فوات، فضبطوا بيوت المدينة بيتا بيتا، و حرجوا أن لا يخرج الأحياء و لا تجهز الموتي، فلما مات المذكور، تعسرت الأمور، فتحيروا في تجهيزه، و تغلبوا في أمره و تنجيزه، ثم بعد جهد بليغ و سعي كثير، دفنوه في الصالحية بعد إخراجه من الباب الصغير، و خرج مع تيمور بالاختيار من الشام، عبد الملك بن التكريتي فولاه نيابة سيرام «1»، فمكث فيها لا قليل من الأيام، و هي وراء سيحون، و شخص آخر يدعي يلبغا المجنون و كان مقربا عنده، و سبب ذلك أنه بذل في مناصحته جهده، و أخبره علي ما قيل بفداوي، فخلصه بذلك من المهالك و المهاوي، و حصل له بذلك قربه، و زيادة ملازمة و صحبه، فولاه ذلك الجساس، نيابة مدينة تدعي ينكي تلاس «2»، وراء نهر خجند، نحو خمسة عشر يوما عن سمرقند، بينها و بين سيرام، نحوا من أربعة أيام، و كان اسم ذلك الخؤون، أحمد، فتلقب بيلبغا المجنون.
و أخذ من دمشق أرباب الفضل و أهل الصنائع، و كل ماهر في فن من الفنون بارع، من النساجين و الخياطين، و الحجارين و النجارين، و الأقباعية و البياطرة و الخيمية، و النقاشين و القواسين و البازدارية، و في
______________________________
(1)- سيرام: مدينة في حوض نهر آريس، الذي هو رافد لنهر سيحون، في بلاد ما وراء النهر، و هي مدينة أسفيجاب عند الجغرافيين المسلمين. أبو الفداء- تقويم البلدان ص 494- 495.
(2)- ينكي تلاس هي مدينة طراز عند الجغرافيين الاسلاميين.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 157
الجملة أهل أي فن كان، و جمع كما ذكرنا السودان، و فرق هؤلاء الطوائف علي رؤوس الجند، و أمرهم أن يوصلوهم إلي سمرقند.
و أخذ جمال الدين رئيس الطب، و شهاب الدين أحمد الزردكاش، و كان في القلعة كما ذكر، و أباد من عسكره خلقا لا يحصون، و لا يحصرون كثرة، و لا يستقصون، و كان في حدود التسعين و قد أحدودب، فلما رآه قابله بالسخط و الغضب، و قال له: إنك أفنيت صاغيتي، و حصيت غاشيتي، و قصيت حاشيتي، فإن قتلتك مرة واحدة لا يشفي غليلي، و لا يهدأ غليلي، و لكن أعذبك علي كبر سنك، و أزيدك كسرا علي كسرك، و وهنا علي وهنك، فقيده بقيد من فوق ركبتيه، زنته سبعة أرطال و نصف رطل بالدمشقي، و قصد بذلك التشديد عليه، فلم يزل مقيدا، مكتوب علي قيده: مخلدا أبدا، حتي مات تيمور، و ارتفعت الشرور، و خلص من القيد ذلك المأسور، ثم توفي إلي رحمة الله تعالي و ربما يكون أخذ أناسا من الفضلاء و الأعيان و السادات و النبلاء، ممن لا أعرفه، فكيف أصفه.
و كذلك كل أمير من أمرائه، و زعيم من زعمائه، أخذ من الفقهاء و العلماء، و حفاظ القرآن و الفضلاء، و أهل الحرف و الصناعات، و العبيد و النساء و الصبيان و البنات، ما لا يسع الضبط، و لا يحل الربط، و كذلك كل من عسكره، أخذ كبيرا و صغيرا، و أسره في أسره، لأنه ما ثم حرج علي من نهب شيئا و عزله، و كل من سبقت يده إلي شي‌ء فهو له، و هذا إذا أطلق عنان الاذن بالنهب العام، تساوي فيه الخواص من عسكره و العوام، و لو كان الناهب أسيرا فيهم، أو دخيلا عليهم، و السالب من غير طينتهم، و لكن أبيح له ذلك، لما سار بسيرتهم، و تخلق بشيمتهم، و أطلق عليهم حكمهم، و أجري عليه شكمهم، فأما قبل الإذن فلو تعدي أحد علي أحد، و كان عند تيمور بمنزلة الوالد أو الولد، أو استطال بمقدار حبة، أو تلفظ بغارة أو نهبة، فانه يهدر ماله و دمه، و يهتك حرمته
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 158
و حرمه، و لا ينجيه استغفاره و ندمه، و لا يجديه أهله و خدمه، و لا يقال لعالم زلت به قدمه و كانت هذه قاعدة لا تخرم، و بنية لا تهدم.

ذكر ما أباد بعده الجراد

و لما فرغ من مستغلات أموال دمشق الحصاد، و قارب الرحيل عنها أعقبه لقاط الجراد، و صار يسير معه حتي بلغ ماردين و بغداد، فأعري كل شجر و مردا، و جرد ما علي وجه الأرض جردا، فوصل إلي حمص و ما نهبها، و لخالد كما ذكر وهبها، و لكن نهبوا قراها، و هدموا قواها، ثم إلي حماة فنهبوا نفائسها، و استخرجوا مكامنها، و أسروا عرائسها، و استملكوا كنائنها، و في سابع عشر شعبان، انصب الي الجبول ذلك الطوفان، و أرسل إلي حلب و أخذ من قلعتها ما استودعها، ثم إلي الفرات و عبرها بالمراكب و غيرها فقطعها، ثم إلي الرها، فنهبها، و استحلب درها، ثم أرسل ذلك الغادر، رسوله إلي ماردين يستدعي الملك الظاهر، و ديباجة كتابه الدقل «1» علي ما نقل، شعر:
سلام عليكم و العهود بحالهالقد بلغ الأشواق منا كمالها فأبي أن ينزل إليه، و لا استمع كلامه و لا التفت إليه، فإنه كان آذاه كما ذكر أول مره، فما احتاج إلي تجربته آخر كره، فسلك معه بر السلامه، و قال شطر بيت:
من جرب المجرب حلت به الندامه ....
و لكن أرسل إليه قاصدا من بعض الخدم، يدعي الحاج محمد بن خاصبك و معه التقادم و الخدم، و اعتذر عن الحضور، بعد أمور، و عنوان جوابه، موافق لخطابه، و هو شعر:
فشوقي إليكم زائد الحدّ وصفه‌و لكن تخاف النفس مما جري لها
______________________________
(1)- أي القصير، أو الضعيف.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 159
فلم يلتفت تيمور إلي هذا الكلام، و أخذ يعنف نفسه بأنواع الملام، كيف خلص من مخاليبه أول مرة بسلام.

ذكر وروده ماردين بالهيبة و صدوره عنها بعد المحاصرة بالخيبة

فوصلوا يوم الإثنين عاشر شهر رمضان واردين ماء ماردين، فنزلوا دنيسر و غدوا للحصار قاصدين، و اذا بأهلها و قد أخلوا المدينة، و انتقلوا الي قلعتهم الحصينة.

صفة هذه القلعة

و هذه القلعة عنقاء قلتها تكبر أن تصاد، و عرنين عانسها يأبي أن يدخل لخاطب تحت مقود انقياد، لأنها في قلة من القلل، علي ظهر جبل، لم يكن فرق بينه و بين قبة الأفلاك، إلا أن تلك لا ثبات لها، و هذا ثابت ليس به حراك، بظهره واد بطنه أوسع من صدر الأحرار، فيه جنات تجري من تحتها الأنهار، و به مطارح الزروع، و مسارح المواشي و الضروع، و حدوده جروف لا تصل همم ذوي الكرم إلي ارجائها، و حروف يعجز قاري‌ء التفكر عن تعديد هجائها، و طريقه من القلعة أو علي القلعه، و القلعة في غاية المناعة و الرفعة، و المدينة مبنية حواليها، متشبثة بذيلها، تأكل من فضلات نعمها، و تشرب من فائض سيلها، فهم بين نعمهم و نقمهم يترددون، و في السماء رزقهم و ما يوعدون، فأقام لمحاصرتها علي مضائقها، يسترشد إلي طرق المضايقة و طرائقها، و لم يكن حواليها مكان للقتال، و لا لنصب المجانيق مجال، فعول علي نقبها بالمعاول و الفؤوس، و استعان علي ذلك بالمقاول و الرؤوس، و حاشا درز ذيل حشمتها و عصمتها أن يسام فتقا، لأنها و إن كانت عذراء قد اعجزت الفحول لكونها رتقا، فلا زالت المعول تقل، و الفطاطيس «1» تكل، و مناقير الفؤوس تتعقف، و خصور المرازب كهيف القدود تنثني و تتقصف، قلت شعرا:
______________________________
(1)- الفطيس: المطرقة للحدادين. العين.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 160 كأن معولهم في نقب تربتهامنقار طير علي صلد من الحجر
أو عذل ذي حسد صبابه صمم‌أو غمز عين معنّي فاقد البصر و استمر علي اللدد و الخصام، إلي العشرين من شهر الصيام و لم يحصل علي طائل و لم يظفر بمرام.

ذكر تركه في المحاصرة العناد و المكابرة و توجهه بمارديه ذوي الفساد عن ماردين الي بغداد

و لما علم أنه رمي منها بالداهية الدهيا، و طلاب ما لا يستطاع عيا، و المكابرة مع الحق خروج عن المنهج، و البلاغة في غير مقامها عي لجلج، ستر عيبه، و أبقي بعض الحرمة و الهيبه، و خرب المدينة و أسوارها، و محا آثارها، و هدم مبانيها و جوامعها و منازلها، و فك أساسها و أحجارها.
ثم انحدر إلي بغداد، بعساكر كالذر و الفراش و الجراد، و جهز بعض الثقل إلي سمرقند مع الله داد، فوصلوا إلي مدينة الصور، و ليس بها بيت مشاد، ثم إلي خلاط، و عيد الجوز و هي بلاد الأكراد، آهلة عامرة البنيان، و أول ما هو جاري تحت حكمه من ولايات تبريز و أذربيجان، فعيد الثقل بعيد الجوز عيد رمضان، ثم دخلوا إلي ولايات تبريز، ثم إلي سلطانية، ثم إلي ممالك خراسان.
و كان إذ ذاك و قد خرج فصل الشتا، و فصل الربيع تزين و أتي، و صفحات الرياض بأنامل صباغ القدرة تلونت، و عروس الروض قد أخذت من صواغ الحكمة زخرفها و أزينت، و الأطيار في الأزهار، ما بين مائة بلبل و ألف هزار، قد شنفت الأسماع، و أقامت السماع، و استمالت الطباع برخيم صوتها، و أحيت آثار رحمة الله الأرض بعد موتها، و لا زال الثقل بين تأويب و إدلاج، و سير و لا سير الحاج، كل يوم في مرحلة، و كل ليلة في مقام، فوصلوا إلي نيسابور ثم إلي جام «1»، ثم
______________________________
(1)- جام: قصبة بنواحي نيسابور. تقويم البلدان ص 442.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 161
قطعوا مفاوز باور و ما خان، ثم إلي اندخوي، و انتهوا إلي نهر جيحان «1»، فعبروه بالمراكب، و ساروا سير النجم الثاقب، و لم يزالوا منبعثين علي ذلك انبعاثا، فوصلوا إلي سمرقند ثالث عشر المحرم من يوم الثلاثاء، سنة أربع و ثمانمائه، و فيهم من أهل الشام فئه، أمثلهم القاضي شهاب الدين أحمد بن الشهيد الوزير، و باقيهم بياطرة، و صباغون و نساجة الحرير، و هذا أول ما تحمله من الشام من أحمال الأثقال، و باكورة ما وصل إلي سمرقند مما جناه من ثمر الاساري و الأموال، ثم أرسل الأثقال تتري بالأنفال و أحمال الأموال و الأسري.
فصل: ثم إن تيمور ولي آمد قرايلوك عثمان، و ولي عن ماردين يوم الخميس لعشرين من شهر رمضان، و كان خامس أيار، و جعل يعيث في تلك الديار، و خرب نصيبين ورعي مستغلاتها، ثم محا من صحف الوجود صور سورها و آياتها، و كانت خالية من سكانها، خاوية من عامري عمرانها، ثم وجه إلي الموصل همه، و أخني عليها بكتائبه المدلهمه، فبعد أن أحلها الحين، وهبها لحسين بيك بن بير حسين، ثم حمز بزمجره، الي ناحية القنطره، و أشاع أنه كف فساده، و قصد بلاده، و لكن السلطان أحمد كان قد تحقق أنه قاصد بغداده، و قد أوهم و وري كما له بذلك دأب و عاده.

ذكر ما فعله السلطان أحمد بن الشيخ أويس لما بلغه أنه توجه إليه ذلك الخسيس‌

فلما بلغ السلطان أحمد، أن تيمور بعد أن تدمشق تمرد، ثم عزم علي أن يتبغدد، و قال العود أحمد، استعد و لكن للفرار، و استقر رأيه علي أن لا قرار، ثم استناب نائبا يدعي فرج، و أوصي إليه و إلي ابن البليقي بأمور، و صحبه قرا يوسف إلي الروم و خرج، و كان من جملة ما وصي به أنه لا يغلق في وجه تيمور باب، و لا يسدل دون ما يرومه حجاب، و لا
______________________________
(1)- أي نهر جيحون.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 162
يشهر في وجهه سيف، و لا يقابل فيما يأمر به بلم و كيف، فبلغ تيمور، هذه الأمور، فجهز ذلك المخاتل، إلي بغداد عشرين ألف مقاتل، و أمر عليهم من أمرائه و رؤساء وزرائه و الظلمة المعتدين، أمير زاده رستم «1»، و جلال الاسلامي، و شيخ نور الدين، و أمر أن يكون المقدم من الثلاثة الأمير رستم، فاذا تسلموا بغداد، يكون هو حاكم البلاد.
و حين غربت عن سماء بغداد شمس السلطان أحمد في غرب الغربة، و مد ظلام الظلم جناح العساكر التيمورية علي آفاقها، و أرسل عليها شبهه، أبي فرج المذكور أن يسلم المدينة طوعا، و استعد للمقاتلة، فجمع ما عنده من أهبة المحاصرة فأوعي، فاطلعوا تيمور علي هذا الأمر، و انتظروا ما يكون منه من نهي و أمر، فثني نحوها عنان الحنق، و اضمر ما تصل إليه يده من غرق و حرق، و أظل عليهم بغمام غم بعد ما رعد و برق، فوصل بتلك الفرق، و أحل بهم البؤس و القلق، و أذاقهم لباس الجوع و الفرق، فرجهم أي رج، و حاصرهم في أشهر الحج، فثبتت مقالتهم، و أكثروا من عساكره القتلي و الجرحي، فحنق أشد الحنق و زحف عليها برجله و خيله، فأخذوها عنوة يوم الأضحي، فتقرب علي زعمه بأن جعل المسلمين قرابين، و عليهم ضحي، ثم أمر كل من هو في دفتر ديوانه محسوب، و الي يزك عساكره من الجند و الجيش منسوب، أن يأتيه من رؤوس أهل بغداد برأسين، فسقوا كل واحد من خمرة سلب الروح و المال كأسين، ثم أتوا بهم فرادي و جمله، و جاروا بسيل دمائهم نهر الدجله، و طرحوا أبدانهم في تلك الميادين، و جمعوا رؤوسهم، فبني بها ميادين فقتلوا من أهل بغداد نحوا من تسعين ألف نفس صبرا، و بعضهم عجز عن تحصيل البغداديين، فقطع رؤوس من معه من أهل الشام و غيرها أسري، و عجز بعض عن رؤوس الرجال، فقطع رؤوس ربات الحجال، و بعض لم يكن معه رقيق، فاصطاد من وجده في طريق،
______________________________
(1)- هو حفيد تيمور، ابن ابنه عمر شيخ.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 163
و اغتال من معه من رفيق، و فدي نفسه بعدو و صديق، و لم يلتفت إلي شقيق و شفيق، اذ لم يمكنهم الخروج عن ربقة الطاعة، و لا يقبل منهم عدل و لا تنفعهم شفاعة، و هذا العدد المذكور، سوي من قتل و هو محصور، أو قتل في مضيق، أو مات في الدجلة و هو غريق، فقد ذكر أن خلقا، ألقوا أنفسهم في الماء و ماتوا غرقي، و من جملتهم فرج فإنه ركب سفينة و أبق، فاحتوشوه من الجانبين بالسهام، فجرحوه و انقلبت السفينة فأدركه الغرق، و بني من الميادين، نحوا من مائة و عشرين، كذا أخبرني القاضي تاج الدين أحمد النعمان، الحنفي الحاكم ببغداد كان، و توفي في غرة المحرم سنة أربع و ثلاثين و ثمانمائة بدمشق رحمه الله تعالي.
ثم أن تيمور خرب المدينه، بعد أن أخذ ما بها من أموال خزينه، و أفقر أهلها و أقفر منازلها، و جعل عاليها سافلها، و صارت بعد أن كانت دار السلام، دار السام، و أسروا من بقي من ضعفة أهاليها فتمزق، و مزقتهم أيدي الزمان كل ممزق، بعد أن كانوا في ظلال و دلال، و من مساكنهم في جنتين عن يمين و شمال، فاليوم عشش البوم و الغراب في أماكنهم، و أصبحوا لا تري إلا مساكنهم، و هذه المدينة هي أشهر من أن توصف، و عرف عارفتها و عرفانها أذكي من أن يعرف، و ناهيك أنها كاسمها مدينة السلام، و أنه علي ما قيل لم يمت بها إمام.

ذكر رجوع ذلك الطاغ و إقامته في قراباغ‌

ثم ألوي بتلك الأتراك التي يصح ان يقال لكل منها، إنه في التركية طاغية طاغ، و عزم أن يشتي في مكان يصلح أن يكون في الترك و العرب كصفاته و ذاته قراباغ، و أمسي كالبازي المطل بل كالبوم المشوم، مراقبا أطراف الآفاق، و خصوصا ممالك الروم.

ذكر مراسلة ذلك المريد سلطان الروم ايلدريم بايزيد

فراسل سلطانها بايزيد المجاهد الغاز، و صرح بما يروم من بلاد الروم من غير كناية و ألغاز، و جعل السلطان أحمد و قرايوسف سببا، و ذكر أنهما
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 164
من سطوات سيوفه هربا، و أنهما مادة الفساد، و بوار البلاد، و دمار العباد، و سنخ «1» الخمول و الإدبار، و كفرعون و هامان في العلو و الاستكبار، و أن فرعون و هامان و جنودهما ما كانوا خاطئين، و قد صارا بمن معهما في حمي ذراكم لاجئين لاطئين، و اينما حلوا حلت التعاسة و الشؤم، و حاشي أن يكون مثلهما من المفلوكين «2» تحت جناح صاحب الروم، فإياكم أن تأووهم، بل أخرجوهم، و خذوهم و احصروهم، و اقتلوهم حيث وجدتموهم، و إياكم و مخالفة أمرنا، فتحل عليكم دائرة قهرنا، فقد سمعتم قضايا مخالفينا و أضرابهم، و ما نزل بهم منا في حرابهم و ضرابهم، و تبين لكم كيف فعلنا بهم، فلا تكثروا بيننا و بينكم القيل و القال، فضلا عن جدال و قتال، فقد بينا لكم البراهين و ضربنا لكم الأمثال، و في اثناء ذلك أنواع التهديد و التخويف، و أصناف التهويل و الأراجيف.
و كان ابن عثمان عنده رقاعة و شجاعه، و لم يكن عنده صبر ساعه، مع أنه كان من الملوك العادلين، و عنده تقوي و صلابة في الدين، و كان إذا تكلم و هو في صدر مكان، فلا يزال في حركة و اضطراب، حتي يصل إلي طرف الإيوان، و كان بواسطة عدله ساعده الزمان، و قويت شوكته في المكان، فاستصفي ممالك قرمان، و قتل ملكها السلطان علاء الدين و أسر له عنده ولدان، و استولي علي ممالك منتشا، و صاروخان «3»، و هرب منه الي تيمور الامير يعقوب بن شاه «4» حاكم ولايات كرميان، و صفا له من حدود جبل بالقان، من ممالك النصاري الي ممالك أرزنجان.
فلما وقف علي كتابه و فهم فحوي خطابه، نهض و ربض، و امتعض
______________________________
(1)- السنخ: الرائحة الكريهة.
(2)- أي الحمقي.
(3)- من الإمارات التركية في الأناضول التي قضي عليها العثمانيون.
(4)- الأمير يعقوب بن علي شاه حاكم كرميان، كان من الأسرة التي حكمت كوتاهية. زامباور ج 2 ص 228.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 165
و ارتمض، و رفع صوته و خفض، و كأنه تجرع نقوع الحضض، ثم قال: أو يخوفني بهذه الترهات، و يستفزني بهذه الخزعبلات، أو يحسب أنني مثل ملوك الأعجام، أو تتار الدشت الأغتام، أو في جمع الجنود، كجيش الهنود، أو جندي في الشقاق، كجمع العراق، أو ما عندي من غزاة الإسلام، كعساكر الشام، أو أن قفله المجمع كجندي، أو ما يعلم أن أخباره عندي، و كيف ختل الملوك و ختر، و كيف تولي و كفر، و ما صدر عنه و عنهم، و كيف كان كل وقت يستضعف طائفة منهم، و أنا أفصل جمل هذه الأمور، و أكشف ما خزنه في التامور «1»، أما أول أمره فحرامي سفاك الدم، هتاك الحرم نقاض العهود و الذمم، طرف منحرف عن الصواب في الخطا، فصال و جال و جار و صار وسطا، ثم طال و استطال، و اتسع له المجال، و غفل عنه الرجال، و من حين نبغ، استصبي حتي شاب الشيب بالعيب، فأدرك ما أدرك و ما بلغ، فالتهبت فتيلته بعد ان كانت شراره، و انتثرت فروع جبته فصارت غراره، أما ملوك العجم فإنه استنزلهم بدخله و ختله، ثم استفزهم بخيله و رجله، و بادر إلي قتلهم بعد أن أمكنتهم فرصة قتله، و أما توقتاميش خان، فإن غالب عسكره خان، و من أين للتتار الطغام، الضرب بالبتار الحسام، و ما لهم سوي رشق السهام، بخلاف ضراغم الأروام، و أما جنود الهنود فإنه ختلهم في أمرهم، ورد كيدهم في نحرهم، فوهت أركانهم، لا سيما و قد مات سلطانهم.
و أما عساكر الشام، فأمرهم مشهور، و ما جري عليهم فظاهر غير مستور، و لما مات سلطانهم، و تضعضعت أركانهم، و انفض أمرهم و انقض، و بغي بعضهم علي بعض، فقطعت منهم الرؤوس الكبار، و لم يبق فيهم إلا رؤوس صغار، فنثر الزمان نظامهم، و سام التبدد ملكهم و شامهم، مع أنهم في الصور ربيع و في المعاني جمادي، يرمون أيادي
______________________________
(1)- أراد هنا: دخيلة نفسه.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 166
بواحدة، و هي أنهم يبيتون جميعا، و يقومون مثني و فرادي، لا جرم تفرقت أيادي سبأ أحزاب تلك الزمر، فاشتغل جيشه فيها بالمحرم، فباض لما خلاله الجو و صفر، و لو كان بينهم اتفاق لفتوه فتا، و بددوا شمله و بتوه بتا، و لكنهم تحسبهم جميعا و قلوبهم شتي، و مع اتساق نظامهم، و تسديد سهامهم، و قوة نطاحهم، و شدة كفاحهم، و شدة رماحهم، و كونهم ظهر الحاج، و أسود الهياج، أني لهم نظام عساكرنا، و قوة القيام بتظافرنا و تناصرنا، و كم فرق بين من تكفل بأمر الحفاة العراة، و بين من تحمل إصر الكماة الغزاة، فإن الحرب دأبنا، و الضرب طلابنا، و الجهاد صنعتنا، و شرعة الغواة في سبيل الله تعالي شرعتنا، ان قاتل أحد تكالبا علي الدنيا، فنحن المقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، رجالنا باعوا أنفسهم و أموالهم من الله بأن لهم الجنة، و كم لضرباتهم في آذان الكفار من طنه، و لسيوفهم في قلانس القوامس «1» من رنه، و لنون قسيهم في خياشيم بني الصليب من غنه، لو سمناهم خوض البحار خاضوها، أو كلفناهم إفاضة دماء الكفار أفاضوها، قد أطلوا من صياصيهم علي قلع قلاع الكفار، و أخنوا عليها، و أمسكوا بعنان أفراسهم فكلما سمعوا هيعة طاروا إليها، لا يقولون لملكهم اذا غمرهم في البلاء و الإبتلاء إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «2» فاذهب أنت و ربك فقاتلا، و معنا من الغزاة مشاة، أفرس من فوارس الكماة، أطبارهم باتره، و أظفارهم ظافره، كالأسود الكاسره، و النمور الجاسره، و الذئاب الهاصره، قلوبهم بودادنا عامره، لا تخامر بواطنهم علينا مخامره، بل وجوههم في الحرب ناضره، إِلي رَبِّها ناظِرَةٌ «3».
و حاصل الأمر أن كل أشغالنا، و جل أحوالنا و أفعالنا، لجم الكفار و الأسري و ضم الغنائم، فنحن المجاهدون في سبيل الله الذين لا يخافون
______________________________
(1)- القوامس: الكونتات
(2)- سورة المائدة- الآية: 24.
(3)- سورة القيامة- الآية: 23.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 167
لومة لائم، و أنا أعلم أن هذا الكلام يبعثك إلي بلادنا انبعاثا، فان لم تأت تكن زوجاتك طوالق ثلاثا، و إن قصدت بلادي و فررت عنك و لم أقابلك البته، فزوجاتي إذ ذاك طوالق ثلاثا بته، ثم انهي خطابه، ورد علي هذا الطريق جوابه.
فلما وقف تيمور علي جوابه القلق، قال ابن عثمان مجنون حمق، لأنه أطال و أساء، و ختم ما قرأه من كتابه بذكر النساء، لان ذكر النساء عندهم من العيوب و أكبر الذنوب، حتي أنهم لا يلفظون بلفظ امرأة و لا بأنثي، و إنما يعبرون عن كل أنثي بلفظ آخر و يحثون علي الإحتراز عنه حثا، و لو ولد لأحدهم بنت يقولون ولد له مخدرة، أو من ربات الحجال أو مسترة، أو نحو ذلك.

ذكر طيران ذلك البوم و قصده خراب ممالك الروم‌

فوجد تيمور إلي التوجه علي ابن عثمان السبيل، و طلب الرفيق و الطريق و رام الدليل، و عرض جنده فإذا الوحوش حشرت، و انبثوا علي وجه الأرض فاذا الكواكب انتثرت، و ماج فإذا الجبال سيرت، و هاج فإذا القبور بعثرت، و سار فزلزلت الأرض زلزالها، و مار فأظهرت القيامة أهوالها، و أرسل إلي ولي عهده، و وصيه من بعده، حفيده محمد سلطان بن جهانكير، أن يتوجه إليه من سمرقند صحبة سيف الدين الأمير، و ركب إلي الروم الطريق، و ساعده الاتفاق لا التوفيق، و جري بذلك البحر المطلخم «1» و الليل المدلهم، فدار و داخ، و علي قلعة كماخ أناخ «2»، فاذا هي في الوثاقة كيقين موحد، و في الرصانة و المناعة كاعتقاد متعبد، لا يقطع خندق مناعتها سهم و هم و لا يهتدي الي طريق التوصل إليها صائب فهم، مؤسس أركان هضابها معمار القدرة و مهندس بنيان فنائها نجار الفطرة، ليست بالعالية الشاهقة، و لا بالقصيرة اللاصقة، غير أنها في مناعتها
______________________________
(1)- اطلخم السحاب: تراكب و أظلم. العين.
(2)- وقعت كماخ علي مسيرة يوم من أرزنجان. معجم البلدان.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 168
و حصانتها فائقة، من إحدي جهاتها نهر الفرات يقبل أقدامها، و من الجهة الأخري واد متسع يحفظ أعلامها، لا يمكن للأقدام فيه الثبات، و هو مسيل ماء يصب في نهر الفرات، و من الجهتين الأخر بين هضاب، يتلو لسان البصيرة عند وقوع البصر عليها إِنَّ هذا لَشَيْ‌ءٌ عُجابٌ «1».
فأخذها من غير كلفه، و ولج حرمها من غير طواف بها و لا وقفه، و ذلك بعد أن قدم محمد سلطان عليه، و وكل أمر حصارها و قتالها إليه، و سبب ذلك ان الوادي الذي وراءها، كان يرد بالخيبة لو عورته من جاءها، لكونه مزلة الأقدام، واسع الأفعام، بعيد مهوي المرام، لا يثلب لسان السهم له عرض عرض، و لا يثبت له تحت قدم غواص البصر قرار أرض، فبمجرد ما وقع نظره عليها، نظر بعين الفراسة إليها، ثم أمر بقطع الأخشاب، و نقل الأحطاب، فلم يكن إلا كلمح البصر، حتي هدموا البيوت و قطعوا الشجر، و نقلوا جميع ذلك الخشب و الأعواد، و طرحوها في قعر ذلك الواد، فساووا به الأرض، و ملأوا طوله و العرض، و حين شعر أهل القلعة بهذه الأفعال، ألقوا النار و البارود علي تلك الأخشاب، فأخذت في الاشتعال، و أما أساس القلعة فلا ينال، لأنه راكب علي قلل الجبال، فلم يبدد ذلك من أمره، و لم يشرد من فكره، بل أمر في الحال، كل واحد من الرجال، أن يأتي من تلك القفار، بعدل من الأحجار، فانبثوا كالنمل و الجراد، في تلك المهامه و الأطواد، و البراري و المهاد، و جابوا الصخر بالواد، ففي الحال ملأوا تلك الداره، من الحصباء و الحجاره، ثم أمر أن يفعل بتلك الحجارة في ذلك المهوي البعيد، ما يفعل بهم في جهنم، يوم يقال لها: هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ «2» فألقوا في ذلك الوادي بعض ما لموه، من أكداس تلك الحجارة فطموه، و بقي في بيادر ذلك الحجر، أضعاف ما رمي من
______________________________
(1)- سورة ص- الآية: 5.
(2)- سورة ق- الآية: 30.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 169
البصر، و لما امتلأ الوادي من الأحجار، مشوا عليها و قربوا من الأسوار، و نصبوا السلالم و تسلقوا، و بناصية مراميها تعلقوا، فأقلع أهل القلعة عن الكلام، و طلبوا الأمان و قالوا: ادْخُلُوها بِسَلامٍ «1» و كان هذا الحصار و التلجئة، في شوال سنة أربع و ثمانمائه.
و لما استقر فيها، أمر بتلك الاحجار أن تنقل من واديها، ففي الحال سفوها، و في مكان أخذوها منه رموها، ثم ولي بها شخصا يدعي الشمس، و ولي عنها كما ولي أمس، و هذه القلعة نحو من نصف يوم عن أرزنجان، و من القلاع المشهورة في الدنيا بالمناعة و العصيان، فلا جرم حين استولي عليها، و أفضي بصارمه الذكر إليها، و فتحها قهرا، و منحها جبرا، أبرد بهذا المغنم البارد، إلي كل صادر في ممالكه و وارد، بكتب ترجم فيها من الأخبار، كل شامخ و شارد، و عنوان هذه الترجمة، بلفظها من غير ترجمه، شعر:
بحدّ سيوف داميات لدي الوغي‌فتحنا بحمد الله حصن كماخ و ذكر فيها ابن عثمان و خطابه إليه، و كيف رد جوابه الحمق عليه، و من جملته، و بعض ترجمته: إنا ما جفوناه و لا تعدينا عليه، و لكن رققنا له القول و تلطفنا إليه، و قلنا له يخرج من قروح مملكته مادة الفساد، و هي أحمد الجلائري و قرايوسف التركماني، اللذان أخربا البلاد، و أهلكا العباد، و الرضي بالمعصية معصية، و الإقرار علي الكفر كفر، و الفاسق المحروم البائس، شر من الفاجر الظلوم الملابس، فصاروا في الفساد وزيريه، و هو الأمير، و في العناد صغيرين، و هو الكبير، و عاشراه علي ذلك و والياه، فلبئس المولي، و لبئس العشير، فأفسداه، و ما انصلحا، و خسراه و ما ربحا، فكأنه عني شأنهم، من أظهر قولهم و شأنهم، بقوله شعرا:
و لا ينفع الجرباء قرب صحيحةإليها و لكن الصحيحة تجرب
______________________________
(1)- سورة الحجر- الآية: 46.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 170
و لم يزل علي طريقته العوجاء، فأشبه لما أجارهم مجير أم عامر العرجاء، فنهياه فما انتهي، و نبهاه فما أرعوي، و أريناه العبر، في غيره فما اعتبر، و ناداه لسان انتقامنا من المخالفين: الحذر الحذر، و كنا وضعنا اسمه مع اسمنا، علي عادة حشمتنا و أدبنا في المراسلات و رسمنا، فتعدي طوره، و أبدي جوره، و كان في بعض مراسلاته و ما وضعه في مكاتباته، كتب اسمه تحت اسم طهرتن، و هذا هو الواجب عليه و الحسن، و لا شك ان طهرتن بالنسبة إلينا، كبعض خدمنا و أقل حشمنا، ثم إنه- أعني- بايزيد لما طالع كتابنا، ورد جوابنا، وضع اسمه فوق اسمنا بالذهب، و هذا لما فيه من كثرة الحماقة و قلة الأدب، ثم ذكر أنه توجه يروم، استخلاص ممالك الروم، و تشدق في هذا الكتاب، و تفيهق في هذا الخطاب، فهو أحد دساتير الكتاب، و الأساطير المستعان بها في الخطاب و الجواب.

ذكر ما عزم ابن عثمان عليه عند انصباب ذلك الطوفان اليه‌

فلما بلغ ابن عثمان ما قصده، و أنه جعل طالعه في سماء الحرب رصده، توجه لقتاله، و استعد لاستقباله، و كان علي مدينة استنبول محاصرا آثمها «1» و كفارها، و قد قارب أن يفتحها، و تضع الحرب عنها أوزارها، و أن جنده، كان عنده، و لكن أمر بطارقة الغزاة، و الشواهين من كواسر جيشه و البزاة، و سراة السرايا و كرام كرميان، و أحلاس خيل السواحل و قروم قرمان، و أجناد ولايات منتشا و أساورة صاروخان، و جميع أمراء التومانات و الصناجق، و أصحاب الرايات و رؤوس الفيالق، و نواب جميع الثغور و الأمكنة، مما هو جار تحت تختي بروسا «2»، و أدرنه، و كل من دبج البحر الأخضر، من بني الأصفر، عن رايته البيضاء بالدم الأحمر،
______________________________
(1)- لعله أراد بآثمها: الامبراطور البيزنطي مانويل باليولوغ الثاني، و كان وقت قدوم تيمور إلي آسية الصغري في 804 ه/ 1402 م في جولة في أوربا يطلب المساعدة ضد بايزيد، الذي دأب منذ 794 ه/ 1396 م علي حصار القسطنطينية من وقت لآخر.
(2)- بروسا: هي بورصة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 171
و فلق سويداء كل عدو أزرق، بسهامه السود علي جواده الأبلق، أن يعملوا مصلحتهم، و يأخذوا حذرهم و أسلحتهم، و استعان في ذلك بكل بطريق و علج مارجي، داخل في أمان المسلمين علي قتال كل باغ و خارجي، و استدعي التتار، و هم قوم ذو يمين و يسار، ناس سواذج، لهم مواش نواتج، ملأوا الأقطار بمواشيهم، و علوا الشواهق و البوادي برؤوسهم و حواشيهم، ربما يكون لواحد منهم عشرة آلاف جمل، ما منها واحد حمل، و مثل ذلك أفراس، ما أسرج لها ظهر و لا ألجم رأس، و أما الغنم و البقر، فلا يحصي عددها و لا يحصر، و ما يعلم جنود ربك إلا هو، و ما هي إلا ذكري للبشر، لهم في ممالك الروم و قرمان إلي ضواحي سيواس مشات و مصائف، و للملوك و السلاطين عليهم اعتماد كما لهم في أنواع المبرات وظائف، لو قصدهم فقير أو غريب، أو طالب علم أو أديب، جمعوا له من الغنم و البقر، و الصوف و الشعر و السمن و الأقط و الوبر، ما يكفيه و ذويه إلي آخر العمر، و كانوا يسمون لكثرتهم و ما معهم من الأمم، ثمانية عشر ألف عالم.
فلبي كل من صدي هؤلاء الجبال مدي صوته بالإجابه، و بادر إلي امتثال أوامره بالإطاعة و الإنابة، و انبعث إليه التتار بقضهم و قضيضهم بعثا، وقثت «1» إليه أطواد عساكرها و بحار جنودها قثا، وحث علي ملاقاة تيمور عساكر الغزاة و المجاهدين حثا.

ذكر ما فعله ذلك الخداع المكار و نمقه في تفخيذه «2» عن ابن عثمان جنود التتار

و تلبث تيمور في أمره، و استوري زناد فكره، فأوري زناده ناره، أن يفخذ عن ابن عثمان تتاره، فأرسل إلي زعمائهم، و الكبار من أمرائهم و رؤسائهم، و أميرهم يدعي بالفاضل، و كان في المكرمات من الأفاضل،
______________________________
(1)- جاء فلان يفت: أي يجر معه. العين.
(2)- تفخيذه: تنفيره
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 172
غير انه ما مارس الأيام، و لا اطلع علي مكائد اللئام: إن حسبكم حسبي، و نسبكم متصل بنسبي، و ان بلادنا بلادكم، و أجدادنا أجدادكم، فكلنا فروع نبعه، و أغصان دوحه، و إن آباءنا من قديم العصر، و غابر الدهر، نشأوا في عش متوحد، و درجوا في و كر غير متعدد، فأنتم في الحقيقة شعبة من شعبي، و غصن من أغصاني، و جارحة من جوارحي، و خالصتي و خلاني، و أنتم لي شعار، و باقي الناس دثار، و إن كان الناس ملوكا بالاكتساب، فأنتم ملوك بالانتساب، و ان آباءكم من قديم الزمان، كانوا ملوك ممالك توران، فانتقل منهم طائفة من غير اختيار، إلي هذه الديار، فاستوطنوها و هم ما هم عليه من الكرامه، و شعار السلطنة و أسباب الزعامه، و لم يزالوا علي هذا النشاط و الهزه «1»، إلي أن إندرجوا إلي رحمة الله تعالي في الأكفان، و هم علي هذه العزة، و كان المرحوم أرتنا آخر ملوككم، و أكبر مالك في بلاد الروم و أصغر مماليككم، و ليس بحمد الله في شوكتكم فله، و لا في كثرتكم قله، فأني رضيتم لأنفسكم بهذه الذلة؟ و أن تصيروا مسخرين كأنكم من المستخزين، و بعد أن كنتم أكابر مكبرين، كيف صرتم أصاغر مصغرين، و لستم بدار هوان و لا مضيعة، و أرض الله واسعه، و لم صرتم مرقوقي، رجل من أولاد معتوقي علي السلجوقي؟ و لا أدري ما العلة لهذا و السبب؟ و من أين هذا الإخاء و النسب؟ سوي عدم الإتفاق، و انتقاء الاتساق، و علي كل حال فأنا أولي بكم، و أحق بعمل مصالحكم و تهيئة أسبابكم، و إن كان لابد من استيطانكم هذه التخوم، و بيع تلك البلاد الفسيحة بمضائق ممالك الروم، فلا أقل من أن تكونوا كأسلافكم حكامها، مالكي نواصي صياصيها راقين سنامها، باسطي أياديكم فيها، قابضين زمامها.
و هذا المهم إنما يتم، اذا كفينا هذه المنازلة، و قضينا الأرب من هذه المناضله، و تمهد لنا الميدان، و ارتفع من البين ابن عثمان، فإذا خلا الجو
______________________________
(1)- الهزة: الأريحية.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 173
من المنازع، و صفت لي في هذه البلاد المشارع، و ظفرت بهذه الممالك و سلكت فيها الطرق و المسالك، أعطيت القوس باريها، و أنزلت الدار بانيها، و رددت المياه الي مجاريها، و جعلتكم ملوك قراها و صياصيها، و مدنها و ضواحيها، و قررت كل واحد منكم، علي قدر استحقاقه فيها، و إن رأيتم أن لا تعينوا علينا، و أمكنكم أن تنحازوا إلينا، فاغتنموا فرصتكم، و خذوا من انتهازها حصتكم، فإنكم قريبون منا، صورة و معني، و أما الآن فكونوا بظاهركم مع ابن عثمان و بباطنكم معنا، حتي إذا التقينا امتازوا، و إلي عساكرنا إنحازوا.
و لا زال فحل كلامه ينزو علي حجر حجرهم و لا يجفر «1»، مزخرفا بتمويهات تزري فصاحتها بكلام الأسود بن يعفر «2»، غائصا في در دور أفكارهم ليردها عن أن تتبع ابن عثمان و تقفر كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ «3» حتي خلبهم بهذا المقال، و استجثهم إلي معني ما قال، و استهواهم حب الرئاسة الذي طالما استرق احرار الصديقين، و استعبد كبار الأولياء و الصالحين، و كبكب في النار علي الرؤوس رؤوس العلماء العاملين، فوافقوه علي الانخزال، عند المواقفة للنزال.

ذكر ما صنعه ابن عثمان من الفكر الوبيل و توجهه إلي ملاقاة تيمور بعسكره الثقيل‌

فأما ابن عثمان فإنه خاف منه الهجوم، علي بلاد الروم، لأن الزروع كانت قد استحصدت، و صدور الفواكه و الثمار قد استنهدت، و خضروات الأرض قد اسودت، و الرعايا في ظل الأمن و الرفاهية قد امتدت، فخشي ابن عثمان أن يصيب العباد منه ضرر، أو يتطاير إلي
______________________________
(1)- جفور الفحل: فتوره و انقطاع مائه من كثرة الضراب. العين
(2)- من مشاهير شعراء ما قبل الاسلام.
(3)- سورة الحشر- الآية: 16.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 174
قبائل بلاده من لهيب ناره شرر، فبادر الي ملاقاته، و ساقته سوائق المنون إلي شرب كأسها في مساقاته، و أراد أن يكون مصطدم الناس، خارج بلاده علي ضواحي سيواس، فأجري من عساكره السيول الهامره، و أخذ بهم علي قفا غامره، حذرا علي رعاياه، من مواطي‌ء مطاياه، فإنه كان علي الضعيف من رعيته شفيقا، و بالفقير من حشمه و خدمه رفيقا.
يحكي أنه كان في بعض مغازيه، فعطش بعض حواشيه، فأتي في قرية بعض النساء، فطلب منها شربة ماء، و كانت أشأم من البسوس، يضرب بها المثل في اللؤم و البؤس، فقالت ما عندي ما تشرب، فخذ طريقك و لا تتعب، و كان العطش قد غلبه، و رأي عندها في بعض القبعة، شربة لبن فشربها، فقالت هذا قوت الصبيان، و اشتكت عليه لابن عثمان، فطلبه و استفسره، فخاف شدة نقمته، فأنكره، فقال للمرأة أنا أبعج قبقبه، ليتبين صدقه و كذبه، فإن ظهر في بطنه اللبن، أعطيتك الثمن، و إن تبينت بالصدق قوله، جعلتك مثلة مثله، فقالت و الله إنه شربه، و ما فهت في حقه بكذبه، و لكن فرجت كربته، و أبرأت ذمته، فقال:
لابد من إجراء العدل، و إنهاء هذه الحكومة بالفصل، ثم دعا بالسيف و وسّطه، و أجري علي بطنه ما شرطه، فانفجر بطنه و هو منعقر، و جري اللبن و هو بدمه ممذقر، فأشهره في الوثاق، و نادي عليه هذا جزاء من يتناول في دولة الملك العادل ابن عثمان شيئا بغير استحقاق، ثم إن ابن عثمان تابع الترحال، و سلك في رمضان السفر صوم الوصال.

ذكر ما فعله ذلك الساقطة مع ابن عثمان و عسكره من المغالطة

و لما بلغ تيمور أن ابن عثمان أخذ علي الطريق الغامره، نبذه نبذ اليهود كتاب الله وراء ظهورهم، و أخذ علي الجادة العامرة، فدخل هو و عسكره علي ظلال و عيون، و فواكه مما يشتهون، و لسان حالهم الفصيح، بنشد في الآفاق و يصيح شعرا:
و لست أبالي بعد إدراكي العلي‌أكان تراثا ما تناولت أم كسبا
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 175
فلم يزالوا في مراح و زروع، و مراع و ضروع، بين سدر مخضود، و طلح منضود، و ظل ممدود، و ماء مسكوب، و هواء بالراحة مصبوب، و نعيم بالسلامة مصحوب، في أمن ودعه، و خصب وسعه، آمنا من الوجل، سائرا علي غير عجل، مستيقنا بالنصر و الظفر، مستبشرا بالملك و الوزر، مستتبعا تدبيره القضاء و القدر، لا تبرد حرارة حميته لتسخين عين عدوه و إحراز المغنم البارد فتره، و لا في إكليل كواكب عساكره المنتظمة نثره، و لا بين أسود جيشه مكاشره و لا نفره، و لا في قراهم الأعادي اللهذميات «1» علي موائد طعام طعانهم جبن و لا كسره.
فلم يفق ابن عثمان من رقاده، إلا و تيمور قد دمّر علي بلاده، فقامت عليه القيامه، و أكل يديه حسرة و ندامه، و زأر وزقا، و التهب حنقا، و كاد أن يموت خنقا، و سلب القرار و الهجوع، و عزم في الحال علي الرجوع، فتلاطمت من بحر عساكر أمواجه، و تصادمت اثباج أطواده و أبراجه، فرجع عوده علي بدئه، و أغري بوصال السير و خجئه «2»، فنهكهم السير بسرعة، و المكان بقفره، و الزمان بهجيره، و السلطان بزئيره، فلم يدركوه إلا و قد ذاب كل منهم و صبا، و تلا لسان حاله: لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً «3».
فصل: و كان تيمور قد وصل إلي مدينة أنقره، و خيله و رجله مستريحة موقره، للقتال منتظره، و للنزال متشمره، بل لم يكونوا به مكترثين، و لا به محتفلين، و قد سبقوا كصناديد قريش الي الماء، و تركوا عساكره كمشركي بدر في جانب الظماء، فهلكوا كربا و أواما، و ذابوا عطشا بلا ماء، و كأنه إلي ذلك المنزل هو أرشدهم، و بلسان حاله أنشدهم، شعرا:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنانحن الضيوف و أنت رب المنزل
______________________________
(1)- اللهذم: كل شي‌ء حاد من سنان و سيف قاطع. العين
(2)- اختج الجمل و الناشط في سيره و عدوه إذا لم يستقم. العين
(3)- سورة الكهف- الآية: 62
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 176
و انقرة هذه هي التي ذكرها الأسود بن يعفر في قصيدته الطنانة و هي شعر:
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم‌ماء الفرات يجي‌ء من أطواد
فاذا النعيم و كل ما يلهي به‌يوما يصير إلي بلي و نفاد «1» فلما تدانت الجيوش من الجيوش، و ضريت الوحوش علي الوحوش، و امتلأت منهم الصحاري و القفار، و تقابلت اليسار باليمين و اليمين باليسار، اندفعت من عساكر ابن عثمان التتار، و اتصلت بعسكر تيمور كما رسم أولا و أشار، و كانوا هم صلب العسكر، و الأوفر من عساكر ابن عثمان و الأكثر، حتي قيل إن جماعة التتار، كانوا نحوا من ثلثي ذلك العسكر الجرار، بل قيل إن ذلك الجمهور، كان نحوا من ثلثي جند تيمور، و كان مع ابن عثمان، من أولاده أكبرهم أمير سليمان، فلما رأي ما فعلته التتار، علم أنه حل بأبيه البوار، فأخذ باقي العسكر، و قهقر عن ميدان المصاف و تأخر، و ترك أباه في شدة البأس، و انخزل بمن معه الي جهة بروسا، فلم يبق مع ابن عثمان إلا المشاة و من داناهم، و بعض من الكماة و قليل ما هم، فثبت للمجادلة بمن معه من الرفاق، و خاف إن فر أن يقع عليه الطلاق و كأنه في تلك المعركة و المعكره، كان متمثلا بما قاله عنتره، شعرا:
و لقد ذكرتك و الرماح نواهل‌مني و بيض الهند تسفك في دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنهالمعت كبارق ثغرك المتبسم «2» فصبر لحادث الدهر و مالزم، و أراد أن يفي علي مذهب الامام مالك بما به التزم، فأحاطت به أساورة الجنود، إحاطة الأساور بالزنود، و حين تيقنت الأسرة العثمانية بالكسرة، و علمت أنها تورطت في جيش العسره، و ثبت المشاة، علي الكماة، و استعملت الأطبار، و كل صارم بتار، و كانوا
______________________________
(1)- ديوان الأسود بن يعفر- ط. بغداد 1968- ص 27- 28.
(2)- ليسا في ديوان عنترة المطبوع.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 177
في ذلك المصاف، نحوا من خمسة آلاف، فندوا أندادهم، و أبادوا أعدادهم، و لكن كانوا كسافي الرمال بالكربال «1»، أو كائل البحار بالغربال، أو محرر أوزان الجبال، بقراريط المثقال، فأمطروا علي قلل أولئك الأطواد و حقول ذويات تلك الأسود، من غمام القتام صواعق ديم المدميات، و أمطار السهام السود، و نادي محرش القدر، و صياد القضاء الكلاب علي البقر، فلم يزالوا بين و قيذ و واقذ، و مضروب بحكم سهم ماض في القضاء نافذ، حتي صاروا كالشياهم و القنافذ، و استمرت دروس القتال بين تلك الزمر، من الضحي إلي العصر، و انتقلت أحزاب الحديد إلي الفتح، فتلت علي الروم سورة النصر.
ثم لما كلّت منهم السواعد، و قل المؤاصر و المساعد، و تحكم فيهم الأباعد و المباعد، دققوهم بالسيوف و الرماح، و ملأوا بدمائهم الغدران و بأشلائهم البطاح، و وقع ابن عثمان في قنص، و صار مقيدا كالطير في القفص، و كانت هذه المعكره، علي نحو ميل من مدينة أنقره، يوم الأربعاء سابع عشر ذي الحجه، سنة أربع و ثمانمائه حجه، و قد قتل غالب العسكر العطش و الضموز «2»، لانه كان ثامن عشري تموز.
فصل: و وصل أمير سليمان، إلي بروسا معقل ابن عثمان، فاحتاط علي ما فيها من الخزائن و الأموال، و الحريم و الأولاد و نفائس الأثقال، و اشتغل بنقل ذلك إلي بر أدرنه، وراء البحر المحيط بكثير من الأمكنه، المنشعب من بحر مصر الآخذ بعد ما يتدربس «3»، إلي بلاد الدشت و الكرج الفاصل بينه و بين بحر القلزم «4» جبل الجركس.
______________________________
(1)- الكربال: الغربال.
(2)- ضمز البعير: أي لم يجتر، و ناقة ضموز: لا يسمع لها رغاء. العين.
(3)- الدرابس: الضخم. العين.
(4)- القلزم هنا بحر الخزر.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 178

ذكر ما وقع من الخباط بعد وقعة ابن عثمان في كل ثغر و رباط

و لما حصل لرأس مملكة الروم هذه الوعكه، و اندعكت أجسام عسكرها الجسام أقوي دعكه، و أخني عليهم الجند المشؤوم، و نعق في صباحها غراب البين، و زعق في رواحها البوم، و تلا في محراب أنسها علي جماعتها إمام القضاء و القدر: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ «1» خضعت رؤوسها و نواصيها، و تزلزلت حصونها و صياصيها، و تزعزع دانيها و قاصيها، و انبهر طائعها و عاصيها، فحاصوا حيصة الحمر، و أيسوا من الأهل و الأوطان و المال و العمر، إذ قد ذهب منهم الرأس، و لم يبق فيهم من يقيم البأس، فلما سمعوا أن أمير سليمان ضم الناس إلي نحره، و عزم علي العبور الي بر أدرنه بقطع بحره، سالت بهم الأودية و الشعاب إليه، و عولوا في خلاصهم من ذلك البلاء الطام عليه، فصالح أهل استنبول و وادهم، و عاهدهم علي ان لا يغدر كل منهم بالآخر و مدهم، ثم قصدهم ان يعينوه علي الوصول، بقطع البحر من ثغري كاليبولي و استنبول، إذ ليس لهذين البحرين، من هذين البرين، طريق قريب و معبر سوي هذين الثغرين، فإن بحر اسكندريه، يأخذ علي أنطاكيه، و علاية «2» ثم يروم، بلاد الروم، فتحصره الجبال، قبل وصوله بلاد الشمال، فلا يزال في حصره يدق، و شفتا جانبيه ترق، حتي تتراآي حافتاه، و يكاد تنطبق شفتاه، و مسيرة هذا الانضمام، نحو من ثلاثة أيام، ثم يأخذ في المد و الانبساط، و الجريان علي وجه النشاط، ثم تدور كتائب أمواجه و تتكردس، و تأخذ نحو بلاد الدشت و الكرج، حتي تصل كما ذكر إلي بلاد الجركس.
و ما أمكن أحد من سواحر الحكمة، و مهندسي النوافث «3»، أن يعزز
______________________________
(1)- سورة الروم- الآيتان: 1- 2.
(2)- علاية أو العلايا علي البحر المتوسط إلي الجنوب من أنطاليا- تقويم البلدان ص 381
(3)- النوافث: السحرة
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 179
هذين المعبرين في مدي هذا الانضمام بثالث، فثغر كاليبولي بيد ملاحي المسلمين، و ثغرا استنبول بيد النصاري أعداء الدين، و هو أعظم الثغرين، و أجسم المعبرين، و كانت النصاري ملاحيه، فصار غالب الناس يقصده و ينتحيه، فاستطارت الفرنج فرحا و استطالت، و خاضت في دماء المسلمين و حريمهم و أموالهم و جالت، فإن ابن عثمان كان بالحصار قد انهكها، و أباد قراها و ضواحيها و أهلكها، و ضيق علي أهلها في مجاري أرواحهم مسلكها، فبينما هم و قد بلغ السيل الزبا، و جاوز الحزام الطبا، و أنشب كل شر فيهم حده، و إذا بتيمور جاءهم بالفرج بعد الشده، فاندفع عنهم بالضرورة ابن عثمان، و حصل لهم بذلك الفرج و الأمان، و زاد ذلك بأن احتاج المسلمون إليهم، و تراموا في طلب الخلاص من العدو عليهم، فبعد أن زالت عنهم الغصص، اغتنموا في درك الثارات من المسلمين الفرص، فجعلوا يوسقون المراكب من الناس و الحمول، و يتوجهون بذلك إلي صوب استنبول، و ان استنبول وراء ذروة جبل، و منحرفة خلف قلة من القلل، و هي من أكبر مدن الدنيا، حتي قيل إنها قسطنطينية الدنيا الكبري، فكانوا إذا عطفوا وراء تلك الذروة بالمراكب، و استتروا بالهضبة الناتئة عن عين من هو في هذا الجانب، يصيرون كالأموات النازلين إلي الحفائر، الملقين في قعر اللحود و المقابر، لا يدري إلي أين يتوجهون، و إلي أي ناد يصيرون، إلي بر السلامة و الاسلام، أم إلي دار الحرب و أسر الكفرة الطغام، فيذهب منهم الذاهبون، فلا يستطيعون توصية و لا إلي أهلهم يرجعون، فإذا جاءت المراكب و هي فوارغ، تعلق كل من الخلائق فيها بجهد كامل و جد بالغ، و لم يدر ماذا يجري عليه، و إلي ماذا يصير أمره إليه، و أشبهوا في أبصارهم الكليلة، و خطوبهم الجليله، مالكا الحزين و السمك المذكورين في كتاب كليله، و حاصل الأمر انه لم يسلم، من ذلك السواد الاعظم، في كل غراب أدهم، إلا مثل الغراب الأعصم، و استطالت أعداء الدين، كيف شاءت علي المسلمين.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 180
و قطع أمير سليمان البحر و استولي علي ذلك البر، و ضبط ممالكه، و ربط مسالكه، و هو أوسع من هذا الجانب و أفسح مرجا، و أدر ريعا، و أكثر خراجا و خرجا، و أعظم حصونا و أمكنه، و تخته مدينة أدرنه، فاجتمع الناس علي أمير سليمان، و سهل الأمر في الجملة شيئا ما وهان.

ذكر أولاد ابن عثمان و كيف شتتهم و أبادهم الزمان‌

و كان للسلطان بايزيد المذكور، من الأولاد الذكور: أمير سليمان هذا و هو أكبرهم، و عيسي، و مصطفي، و محمد، و موسي، و هو أصغرهم، و كل طلب لنفسه مهربا، و انحاز إليه من أبيه طائفة نجبا، فكان منهم محمد، و موسي في قلعة أماسيه، و هي خرشنة الشاهقة العاصية، التي قال فيها أبو الطيب، شعرا:
حتي أقام علي أرباض خرشنةتشقي به الروم و الصلبان و البيع
للسبي ما نكحوا للأسر ما ولدواللنار ما زرعوا للنهب ما جمعوا «1» و قلة قلعتها شاهقة، كأنها بقبة الفلك عالقة، تعيي النازل عنها، في نزوله منها، أكثر مما يعيي الصاعد إلي غيرها، يسميها أهلها بغداد الروم، لأن قرار أرضها بنهر كبير من الوسط مقسوم، و بينها و بين توقات مسيرة يوم للمجد، و أما عيسي فانه لجأ الي بعض الحصون و استكان، إلي ان قتله أخوه أمير سليمان، و موسي فيما بعد قتل أمير سليمان بعيسي، ثم إن محمدا قتل بعد الكل موسي، و نسخت الأحكام المحمدية، شرائع الملة الموسوية و العيسوية، إلي أن مات حتف أنفه في أوائل سنة أربع و عشرين و ثمانمائة او مات بشي‌ء دس إليه علي يد قوجقار في الهدايا الملكية المؤيدية «2»، و انتقل الملك من يده إلي مراد ولده، و هو في يومنا هذا، أعني سنة أربعين و ثمانمائة مستقل به، و أما مصطفي فإنه قد فقد، و قتل نحو من ثلاثين مصطفي بسببه.
______________________________
(1)- ديوان المتنبي- ط. بيروت 1969- ص 158، البيت الأول فقط
(2)- أراد السلطان المملوكي المؤيد شيخ المحمودي
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 181

عودا إلي ما كنا فيه من أمور تيمور و دواهيه‌

ثم إن تيمور لما قبض علي ابن عثمان، جرد إلي بروسا طائفة من الجنود و الأعوان، و أضافهم إلي شيخ نور الدين، ثم اتبعهم بوقار مكين و جأش مستكين، فوصل إليها و نزل نزول القضاء المبرم عليها، و ضبط ما وصلت إليه يده من جماعة ابن عثمان و حرمه، و أمواله و خزائنه و حشمه و خدمه، و خلع علي أمراء التتار و رؤوسهم، و استعطف خواطرهم بتطييب نفوسهم، و وزع أمراءهم علي أمرائه، و أضاف كل ظهر منهم إلي رأس من رؤسائه، و وصاهم بهم و عليهم، و بالغ في أن يصلوا ما أمكنهم من البر إليهم، و مشي علي مشيه القديم، في استخلاص النفائس و اقتناص النفوس و سبي الحريم، و جعل يحضر ابن عثمان كل يوم بين يديه، و يلاطفه و يباسطه و يترقق إليه، و يسخر منه و يضحك عليه.

ذكر ما فعله مع ابن عثمان من نكاية غدت بأوصافه القبيحة علي مر الزمان حكاية

ثم إنه في بعض الأيام جلس في مجلس عام، و خفض جناح النشاط للخاص و العام، و طوي بساط النهي و الأمر، و مد سماط الخمر و الزمر، و حين غص بالناس المكان، استدعي سريعا ابن عثمان، فجاء و فؤاده يرجف، و هو في قيوده يرسف، فسكن قلبه، و أزال رعبه، ثم أحسن جلوسه، و أزال بالاهتشاش إليه عبوسه، ثم أمر بأفلاك السرور فدارت، و بشموس الراح ان تسير من مشرق أكواب السقاة إلي مغرب الشفاه فسارت، و حين تقشعت عن شموس السقاة سحب الخدور، و دار في سماء العشرة نجوم يحثها من مراسيمه بروز و بدور، نظر ابن عثمان فإذا السقاة جواريه، و عامتهم حرمه و سراريه، فاسودت الدنيا في عينيه، و استحلي مرارة سكرات حينه، و تصدع قلبه، و تضرم لبه، و تزايد كمده، و تفتت كبده، و تصاعدت زفراته، و تضاعفت حسراته، و نكي جرحه و أغذ قرحه، و نثر علي جرح مصابه من قصبات الأسي ملحه، و كانت هذه نكاية لابن عثمان بما أسلفه، في مكاتباته بذكره النساء و حلفه، لأنه
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 182
سبق أن ذكر الحرم عند الجغتاي و قبائل الترك من أكبر الجرم، و أعظم من الخيانة في الحرم، و أيضا مكافأة لما فعله ابن عثمان، مع حريم طهرتن في أرزنجان، و من تمام اساءته لابن عثمان، إحسانه لأولاد ابن قرمان، و كان قبل ذلك ابن عثمان، قد استولي علي ممالك قرمان، و قتل متوليها السلطان علاء الدين بعد ان حاصره و قبض عليه، و نقل الي حبس بروسا محمدا و عليا ولديه، فلم يزالا عنده في ضيق و ضنك، حتي أفرج عنهما بالحبس عليه تمرلنك، فأخرجهما و خلع عليهما، و أبرهما و أحسن إليهما، و أولاهما مأواهما، و ليس ذلك لحب علي- كرم الله وجهه- و لكن لبغض معاوية قلت:
و لم يرفض معاوية محب‌عليا بل لأن ربي يزيدا و قيل:
و ليس لحبه يحنو عليه‌و لكن بغض قوم آخرينا و قلت بديها:
أصادق ضدّ اعدائي و إن لم‌يكن بيني و بينهم ولاء
و أبغض من يعادي لي صديقاو إن أثني علي بما أشاء
و ذاك لينتكي ضدّي ويهنافتي قد سرني منه الاخاء و الأمير محمد هذا، هو الذي قبض عليه الأمير ناصر الدين، محمد بن دلغار أمير التراكمة المفسدين، و قتل ولده مصطفي في البلا، و جهزه إلي الملك المؤيد مكبلا، و ذلك في شهر رجب سنة إحدي و عشرين و ثمانمائة.

ذكر وفود أسفنديار عليه و مثوله سامعا مطيعا بين يديه‌

ثم ان الأمير اسفنديار «1» بن بايزيد، و هو أحد ملوك الروم و له في السلطنة قصر مشيد، ورث الملك عن أبيه و كان مستقلا بالإمره، و بينه
______________________________
(1)- كان الأمير مبارز الدين أسفنديار بن بايزيد الحاكم الثامن من أسرة أسفنديار، و قد حكمت هذه الأسرة في قسطموني في شمالي آسية الصغري فيما بين 690- 866 ه/ 1291- 1462 م. زامباور ج 2 ص 224.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 183
و بين الملوك العثمانية عداوة موروثة و نفره، و تحت حكمه بعض مدن و قلاع، و أوهد و بقاع، منها مدينة سينوب الملقبة بجزيرة العشاق، يضرب بظرافتها المثل في الآفاق، و هي في النحر من البحر في جزيرة كبيرة، سبيل الدخول إليها عسيرة، بها جبل أحسن من أرداف الحور، متصل بمعبر أدق من رقيق الخصور، و هي معقل أسفنديار و معاذه، و حرز خزائنه و ملاذه، أعصي من ابليس، و أوثق من كف بخيل يخاف التفليس، و منها قسطمونية تخت ملكه، و بحر فلكه، و منها سام سون و هي قلعة علي جانب البحر للمسلمين، مقابلتها نظيرتها للنصاري المجرمين، بينهما دون رمية حجر، و كل منهما آخذة من الأخري الحذر، و غير ذلك من القلاع و القري، و القصبات في الوهد و الذري.
و لما بلغه ما فعله تيمور الغدار، مع أولاد ابن قرمان و التتار، و مع قرايلوك و طهرتن حاكم أرزنجان، و الامير يعقوب بن علي شاه متولي كرميان، و من توجه إليه من حكام منتشا و صاروخان، و أنه لا يهيج من أطاعه، و تلبس لأوامره بالسمع و الطاعه، سارع إلي المثول بين يديه، و تهيأ للوفود عليه، فأقبل بالتحف العاليه، و النتف الغاليه، فقابله بالبشري، و عامله بالسرا، و أقره في مكانه نكاية لابن عثمان، ثم أمره و أولاد قرمان، و من اتسم له بميسم الطاعة و الاذعان، من أمراء تلك الأكناف و الاكنان، أن يخطبوا و يضربوا السكة باسم محمود خان، و الأمير الكبير تيمور كوركان، فامتثلوا أوامره، و حذروا زواجره، و آمنوا بذلك الغارة و المصادره، و توفي اسفنديار المذكور، في شهور سنة ثلاث و أربعين و ثمانمائة، و هو طاعن في السن و هو من أواخر الملوك الذين و فدوا علي تيمور، و استولي بعده علي ممالكه ولده ابراهيم بك، و وقع بينه و بين أخيه قاسم بك مشاجرات، و انحاز قاسم الي الملك مراد بن عثمان، و لله الأمر من قبل و من بعد.
فصل: ثم إن تيمور أخرج ما لابن عثمان و غيره من الذخائر،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 184
و استصفي لخزائنه ما كان إرثا و كسبا لملوك الأروام من النفائس و الأخائر، و شتي في ولايات منتشا، و ألقي لدروسها مباحث تصريفه كيف شا، و انتهي الي أقصاها، و حرر البحث في مسائل الخمس و المغانم فاستقصاها، و انبثت جنوده في آفاقها، و غاصت في بحار ممالكها من أشباح أطوادها إلي قرار أعماقها، فمن فازع إلي جبال جباهها و قمم صياصيها، و من متعلق بآذان مراميها و متسلق بأذيال نواصيها، و من راكب أكناف أكنافها نازل في سواحلها، دائس بأرجل سعيه خدود روضها الأنف، جائس بكاهل مناهلها، و من دامغ دماغها بأهداب رماحه لأجل العين، بالغ من غير حاجب له منها ما رام باليد و اليدين، و من حال علي نهد صدرها، تال رؤوسها و وجوهها للجبين علي ظهرها، و من ماد أنامل تعديه من غير كف إلي معاصمها و مرافقها، كاد بأقدام الفساد في بطون مغاربها و أفخاذ مشارقها، فجزوا الرؤوس و حزوا الرقاب، و فتوا الأعضاد، و بتوا الاكناد و حرقوا الاكباد، و شوهوا الوجوه و أسالوا العيون، و أشخصوا الأبصار و بطوا البطون، و أخرسوا الألسنه، و صكوا المسامع، و أرغموا الأنوف، و أذلوا العرانين، و هشموا الثغور، و حطموا الصدور، و قصموا الظهور، و دقوا الفقر، و شقوا السرر، و أذابوا القلوب، و فطروا المرائر، و أراقوا الدماء، و استحلوا الفروج، و احروا الأنفاس، و أبادوا النفوس، و سبكوا الأشباح، و سلبوا الأرواح، و لم يخلص من شرهم من رعايا الروم الثلث و لا الربع، و صارت جماعاتهم فيهم ما بين مخنقة، و موقوذة، و متردية، و نطيحة و ما أكل السبع.

ذكر فتح قلعة إزمير و حتفها و نبذة من عجيب وضعها و وصفها

و حاصر قلعة إزمير، و هي حصن في وسط البحر مناله عسير- بهمزة مكسورة وزاي معجمة و ميم مكسورة و ياء ساكنة و راء مهملة- قلعة قد أقلعت في البحار، و أضرمت في قلب خاطبها بتمنعها و عصيانها النار، أعصي من قلاع الجبال، و أقصي في المنال، أن تنال بخيل و رجال،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 185
فأعد لها أنواعا من آلات المحاصره، و أخذها يوم الأربعاء عاشر جمادي الآخره، سنة خمس و ثمانمائه، سادس كانون الأول من السنين الروميه، فقتل كبارها، و أسر نساءها و صغارها، و بني من أبدان القتلي جوامع، و شيد من رؤوسها منارها، ثم سلب من القلعة غناءها و أفقرها، و أقواها من ذخائرها و أقفرها، و أخلاها و قد استصفي منها أبيضها و أصفرها، و طير بهذه الأمور أجنحة البشائر، و أطارها علي زعمه في الآفاق بأسعد فأل و أسرع طائر.

ذكر ما صنعه من أمر مروم و هو في بلاد الروم من قصده بلاد الخطا و استخلاص ممالك الترك و الجتا و افتكاره و هو في الغرب مشغول في استصفائه سائر ولايات الشرق و الموغول و كيف عانده القضاء المبرم بنازل ألهب فؤاده و أضرم فصاده فصادمه الزمان و عكس غرضه، و هذه كالجملة المعترضه‌

ثم ان تيمور كان قد استدعي من سمرقند سبطه، محمد سلطان و الأمير سيف الدين و رهطه كما ذكر أولا، و كان محمد سلطان هذا للفضلاء ملاذا، و للعلماء معاذا، مخائل السعادة في غصون جبهته لائحه، و بشائر النجابة من أسارير طلعته واضحه، شعر:
في المهد ينطق عن نجابة جدّه‌أثر السعادة لائح البرهان و سيف الدين هذا هو أحد رفقاء تيمور في مبداه، وأس أركان دولته في منتهاه، و هما اللذان كانا بنيا أشباره، و أسسا فيها قواعد النهب و الغاره، و هي في نحر بلاد الموغول و الجتا، و أقصي حدود ما ينتهي إليه حكم تيمور و مبدأ بلاد الخطا، و وليا بها أميرا يدعي أرغون شاه، و أمداه بطوائف من العساكر و في ثغر الموغول أرصداه، كل هذه الأمور، بأوامر تيمور.
و لما شرعا في ذلك، لم يرض الموغول بهذا الفعل الحالك، لأنهم
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 186
كانوا يعلمون أن ذلك الأفعي، إذا جاورهم لابد أنه في الفساد يسعي، فلا يأمنون غائلته، و لا يطيقون مجاورته، فتشوشت خواطرهم، و تكدرت ضمائرهم، فاستوفزوا للفرار، و إخلاء الديار، فزاد الجغتاي فيهم طمعا، و مد كل من أشرار الطائفتين إلي الإضرار يد التطاول، و رجل الفساد و سعي، و شرب كاسات التحرم فأكل ما حل بيده و ما تزهد في تعففه ورعا.
و فرح الجغتاي بذلك، و وقعت العداوة بين الجانبين فسد كل علي الآخر طرق المسالك، و جعلوا يرسلون إليهم السرايا، و يحلون بما تصل يدهم إليه من متعلقاتهم البلايا، و جعل الموغول أيضا يفعلون مع الجغتاي ذلك، و تربصوا بتيمور لبعده عنهم ريب المنون، و تشبثوا بعشويات «1» المهالك، و اتصل الخبر بتيمور، فسر بذلك أشد السرور.
ثم انهما حصناها بالأهبة الكاملة، و العدة الشاملة، و الرجال المقاتلة، منهم طائفة من عساكر الهنود و مولتان، و قوم من جند عراق العرب و أذربيجان، و فرقة من فوارس فارس و خراسان، و شرذمة من أناس تدعي جاني قرمان، و أضافوا هؤلاء الكماه، مع تومان من ياساق الجغتاي إلي الأمير أرغون شاه، و وصلا إلي خجند، و قطعا سيحون و قدما سمرقند، و وليا بها أميرا يدعي خواجه يوسف، فكان في قيد الطاعة و الاخلاص يرسف.
ثم خرجا من سمرقند قاصدين ذلك الغشوم ثم إنهما ماتا جميعا:
سيف الدين في خراسان، و محمد سلطان في بلاد الروم، فوقع تيمور في الأحزان، علي حفيده محمد سلطان، و لبس عسكره السواد، و أقاموا شرائط الحداد، و لم يكن بهم حاجة إلي السواد المعلم، فإنهم كانوا هم السواد الأعظم، ثم جهز عظامه في تابوت، إلي سمرقند مع عظموت
______________________________
(1)- يقال ركب فلان عشوة من الأمر، أي حمل علي أمر غير رشيد. العين.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 187
و جبروت، و رسم أن يتلقاه اهل المدينة بالنوح و البكاء، و يقيمون عليه شرائط العزاء، و أن لا يبقي أحد من العباد، إلا و يلبس من فرقه إلي قدمه السواد، فخرج أهل سمرقند عند موافاته، و قد انغمسوا في السواد لملاقاته، و صار الشريف و الوضيع و الدني و الرفيع بالسواد معلما، فكأنما أغشي وجه الكون قطعا من الليل مظلما، فدفنوه بمدرسته الحصينة، المعروفة بإنشائه، داخل المدينة و ذلك في سنة خمس و ثمانمائه، و لما أهلك الله تعالي جده، دفنوه كما سيأتي ذكر ذلك عنده.

ذكر حلول غضب ذلك الصياد علي الله داد و نفيه إياه إلي أقصي البلاد

و لما توجه الثقل من ماردين صحبة الله داد، و فارقه تيمور متوجها الي استخلاص بغداد، و كان الله داد، له أنداد، و أكفاء و حساد، و أعداء و أضداد، و الحسد في عنق صاحبه غل قمل، و تحاسد الأكفاء جرح لا يندمل، وجد أعداؤه للطعن فيه مجالا، و في مقام ثلب عرضه مقالا، فانتهزوا فرصة غيبته، و أكلوا بلا ملح لحمه، و تنقلوا بغيبته، و وشوا به الي تيمور، و ذكروا ما فعله في الشام من الأمور، و أنه التمس من ذخائرها ما لا يحصي، و اختلس لنفسه من نفائسها، و تعلق به من أعلاقها ما لا يستقصي.
و كان كما قالوا، و ما أهملوا أكثر مما نالوا، فبدد أمره، و أوغر عليه صدره، لا سيما و قد قص جناحه بموت سيف الدين أخيه، و كان من الأبهة و المهابة بحيث أن تيمور كان يخافه و يرتجيه، و له في ممالك ما وراء النهر مآثر مشهودة، و نتايج فكر باقية معهوده، فلما وصل الله داد إلي سمرقنده، أعقبه تيمور مرسوما من عنده، بأن يتوجه الي اشباره، و يستعد هناك للنهب و الغاره، و ذلك كالنفي لله داد، و إلقائه في أقصي البلاد، و طرحه في نحر المخالفين، و ثغر ذوي العناد، و انتقل منها إلي سمرقند أرغون شاه، و لم يزل بها الله داد إلي أن انتقل تيمور لعنه الله، فجعلت الموغول تجهز إلي اشبارة الفيالق، و تنهب ما تصل إليه يدها من
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 188
صامت و ناطق، و تغتنم الفرصة لبعد تيمور عنها، و كان الله داد يحترز أشد الاحتراز منها، و هو مع ذلك يجهز لهم التجاريد، و يحفر لهم بالمكر الآبار و الأخاديد، و يقتل و يأسر، و يطحن، و يكسر، حتي أقواها بعد تيمور، و سيأتي ذكر هذه الأمور.

نموذج يدل علي عمق ذلك البحر المحيط و ما كان يصل إليه غواص فكره النشيط

ثم لما كان تيمور الشؤوم، مخيما ببلاد الروم، أبرد إلي الله داد مراسلة، فيها أمور مجملة و مفصلة، أمره بامتثالها، و ارسال الجواب بكيفية حالها، منها أن يبين له أوضاع تلك الممالك، و يوضح له كيفية الطرق بها و المسالك، و يذكر كيفية مدنها و قراها، و وهدها و ذراها، و قلاعها و صياصيها، و أدانيها، و أقاصيها، و مفاوزها و أوعارها، و صحاريها و قفارها، و أعلامها و منارها، و مياهها و أنهارها، و قبائلها و شعابها، و مضائق طرقها و رحابها، و معالمها و مجاهلها و مراحلها، و منازلها و خاليها و أهلها، بحيث يسلك في ذلك طريق الأطناب الممل، و يتجنب مأخذ الايجاز و خصوصا المخل، و يذكر مسافة ما بين كل منزلتين، و كيفية السير بين كل مرحلتين، من حيث تنتهي إليه طاقته، و يصل إلي علمه و درايته، من جهة الشرق و ممالك الخطا و تلك الثغور، و إلي حيث ينتهي إليه من جهة سمرقند علم تيمور، و ليعلم أن مقام البلاغة في معاني هذا الجواب، هو أن يصرف فيه ما استطاع من حشو و تطويل و اطناب، و ليسلك في بيانه الطريق الأوضح من الدلاله، و ليعدل عن الطريق الخفي في هذه الرسالة، إلي أن يفوق في وصف الأطلال و حدود الرسوم، و تعريف الدمن مضغة الشيح و القيصوم.
فامتثل الله داد ذلك المثال، و صور له ذلك علي أحسن هيئة و آنق تمثال، و هو أنه استدعي بعدة أطباق، من نقي الأوراق، و أحكمها
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 189
بالالصاق، و جعلها مربعة الأشكال، و وضع عليها ذلك المثال، و صور جميع تلك الأماكن، و ما فيها من متحرك و ساكن، و أوضح فيها كل الأمور، حسبما رسم به تيمور، شرقا و غربا، بعدا و قربا، يمينا و شمالا، مهادا و جبالا، طولا و عرضا، سماء و أرضا، مرداء و شجراء، غبراء و خضراء، منهلا منهلا، و منزلا منزلا، و ذكر اسم كل مكان و رسمه، و عين طريقه و وسمه، بحيث أنه بين له فضله و عيبه، و أبرز إلي عالم الشهادة غيبه، حتي كأنه مشاهده، و دليله و رائده، و جهز ذلك إليه، حسبما اقترح عليه، كل ذلك و تيمور، في بلاد الروم يمور.

ذكر ما فعله ذلك المكار عند تنجيزه أمر الروم من الغدر بالتتار

و لما صفا لتيمور شرب ممالك الروم من الكدر، و قضي الكون من أفعاله العجب، و أهل الروم النحب، و جيشه من الغارة الوطر، و امتلأ من المغانم وادي سيله العرم، و كان فتي الربيع قد أدرك و شيخ الشتاء قد هرم، و اندرج إلي رحمة الله المجيد، السلطان السعيد، الغازي الشهيد ايلدريم بايزيد، و كان معه مكبلا في قفص من حديد، و إنما فعل ذلك تيمور، قصاصا كما فعله قيصر مع شابور، و كان قصد استصحابه الي ما وراء النهر، فتوفي معه في بلاد الروم في آق شهر، و في هذا المكان، توفي حفيده محمد سلطان.
و عزم علي الرحيل، و حزم أحمال التحميل، ثم جمع رؤوس التتار، و قد أضمر لهم الدمار و البوار، و قال: قد آن أن أكافيكم بما صنعتم، و أجازيكم بما فعلتم، و لكن قد أضربنا المقام، و مللنا الإقامة في مضائق الأورام، فهلم نخرج إلي الفضاء الفسيح، و نشرح صدورنا من ضيق الزمان و المكان في المهامه الفيح، ضواحي سيواس، و تنزه الناس، و مثوي الأكياس، فهنالك نضبط أحوال هذا الإقليم الوريف، و نقرر كلا منكم فيه حسبما يقتضيه رأينا الشريف، فإنه لابد من تفصيل جمله، و إمعان النظر في كيفية تدبيره و عمله، و حصر مدنه و قلاعه، و ضبط قراه
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 190
و ضياعه، و حسبان توامينه، و إقطاعاته، و الإحاطة بأفراده و جماعاته، فاذا فصل لنا ما أجمل، و وضح عندنا ما منه استشكل، فحصنا عن رؤوسكم و جماجمكم، و توصلنا إلي معرفة أخباركم و تراجمكم، و جمعنا رؤساءكم و حصرنا زعماءكم، و أحصينا أعداءكم، و استقصينا آباءكم و أجدادكم و اعتبرنا إخوانكم و أولادكم، و نظرنا متعلقيكم و أحفادكم، و تحققنا شعار الروم و دثارهم، و أورثناكم أرضهم و ديارهم، ثم فرضنا هذه المسألة علي أعداد الرؤوس، و قسمنا نفائس هذه الممالك علي النفوس، ثم رددناكم إليها مكرمين، و كفيناكم و عيالكم العيلة إذ كنتم علينا معولين، و علي كل حال فإنا نفعل مع كل منكم ما يجب فعله، و تبقي عليكم من أفعالنا ما يتخلد في بطون الدفاتر و التواريخ نقله.
فكل منهم إرتاح لهذا القول، و عول في هذه المسألة علي موافقة الرد، و لم يعلم ما فيها من الغول، فلما توافقوا علي هذه الحركة بنفس ساكنه، لم يقع منهم في هذه الموافقة علي كثرة عدد رؤوسهم المتماثلة مباينه فسار بالناس، حتي بلغ سيواس.
فصل: و لما برق ركام ركابه المتراكم في آفاق سيواس و رعد، و حان له أن يفي لطائفة التتار بما وعد، جلس جلسة عامه، و أقام من زبانية الجند طائفة طامه، ثم دعا من التتار الوجوه و الرؤوس، و الظهور و الضروس، و من تخشي مضرته، و تتقي معرته، و المردة من شياطينهم، و العندة من أساطينهم، فاستقبلهم بوجه طلق و لسان بالحلاوة ذلق، و أجلسهم مكرمين في مكانهم، و زاد في تمكينهم و امكانهم، ثم قال: قد كشفت بلاد الروم و نواحيها، و تبينت جميع قراها و ضواحيها، و قد أهلك الله عدوكم فاستخلفكم فيها، و أنا أيضا أفوض ذلك إليكم، و أذهب عنكم و استخلف الله عليكم، و لكن أولاد بايزيد غير تاركيكم، و لا يرضون بأن يكونوا فيها مشاركيكم، و أما صلحهم فقد سدت فعالكم مع أبيهم طريقه، فلا مجاز لكم إلي شريعته علي الحقيقة، و لا شك أنهم يرأبون
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 191
صدعهم، و يندبون جمعهم، و يستصرخون عليكم أهل المدر و الوبر، و يلبيهم بالإجابة كل من يبلغه دعوتهم لأنكم في زعمهم آل غدر، فيلبسون لكم جلد النمر، و يصلونكم الجمر بكل آمر و مؤتمر، فيقرضونكم من كل جانب و يختطفونكم من الأطراف و الجوانب، لا سيما و بيدهم غالب الحصون و الدساكر، و تحت أوامرهم من بقي من طوائف الجنود و العساكر، فإن كنتم كما أنتم في الناس فوضي، فإنهم يخوضون في دمائكم خوضا، فعوا و اسمعوا، ان كنتم لم تعقلوا و لم تسمعوا، شعر:
لا يصلح الناس فوضي لا سراة لهم‌و لا سراة إذا جهالهم سادوا و أما أنا فلست منكم بدان، و لا لي في المدافعة عنكم يدان، فلا بد لعقد أمركم من نظام، و لصلاة جماعتكم من إمام، بشرائط و أركان، يجب القيام بها أولا و السلام، و أول شرائط ذلك الإمام، يرجع إلي الاقتداء بأفعاله الخواص و العوام، ثم بعد ذلك ترتيب الجماعه، و تنزيل كل واحد في صف السمع و الطاعه، ثم وضع الأشياء في محلها، و زمام المناصب و الوظائف في يد أهلها، و إيصال كل مستحق إلي إستحقاقه، و جمع الرأي علي أمر واحد باتفاقه، فإذا اتفقت آراؤكم و ائتلفت أهواؤكم، و عظمت أبناؤكم، و كبتت أعداؤكم، و كنتم يدا واحدة علي من ناوأكم، و انتصرتم علي من خالفكم و عاداكم، كان ذلك أحري أن لا تمتد إليكم بمكروه يد، و لا ينالكم من مخالفيكم كيد و لا كد، و هذا إنما يتمم بالنظر في أحوالكم، و التفحص عن أمر خيلكم و رجالكم، و ضبط الأهبة و السلاح، فإن ذلك آلة الظفر و الفلاح، فليذكر كل منكم ولده و أهله، و ليحضر خيله، و رجله وليأت بعدده و عدده، و جنده و ولده، و ليعرض ضرورته إن كانت و لا يستصعبها فقد هانت، فمن كان محتاجا إلي إكمال شي‌ء أكملناه، و من كان معتازا إلي ايصال شي‌ء أوصلناه، و أضفناه إلي كل ما تجب إضافته، فيحصل أمنه، و تذهب مخافته، فاعرضوا أول شي‌ء علينا سلاحكم، حتي نكمله، و نعمل صلاحكم.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 192
فأحضر كل منهم أهبته، و عرض عليه عدته، و طرحوه في ذلك الجمع النظيم، فتراكم فكان كالطود العظيم، كما فعل أول الزمان، بأهل مدينة سجستان، فلما سلب تلك الأسود براثنهم و أنيابهم بهذه الأساليب، و خلب أولئك الكواسر الجواسر علي مناقيرهم و المخاليب، و أولجج صارم فكره الذكر في أحشاء عقولهم، و أنزل، و صار سماك سماء عزهم الرامح، و قد نحره سعد الذابح، أعزل، أمر كل من عنده أحد من التتار، أن يقبض عليه و يوثقه بقيد الإسار، ثم أمر برفع تلك الأسلحة إلي الزردخانه، و قد اشعل قبائل التتار بجمر البوار، و أصعد إلي العيوق «1» دخانه، ففت ذلك من أعضادهم، و بت من أكبادهم، و قصم ظهورهم، و أشعل نارهم، و أطفأ نورهم، ثم تلافي خواطرهم بالمواعيد الكاذبه، و استعطف قلوبهم بالأماني الخائبه، و استصحبهم بالأقوال المموهه، و الأفعال المشوهه، و حال بهم الحال، و أمر في الحال بالمسير و الترحال.
قيل إن السلطان بايزيد، قال لذلك العنيد: إني قد وقعت في مخالبك، و اعلم أني غير ناج من معاطبك، و أنك غير مقيم، في هذا الإقليم، ولي إليك ثلاث نصائح، هن بخير الدارين لوائح، أولاهن لا تقتل رجال الأروام، فإنهم ردء الاسلام، و أنت أولي بنصرة الدين، لأنك تزعم أنك من المسلمين، و قد وليت اليوم أمر الناس، و صرت لبدن الكون بمنزلة الرأس، فإن حصل لوفق اتفاقهم من تعدي يدك بسط و تكسير، تكن فتنة في الأرض و فساد كبير، ثانيهن لا تترك التتار، بهذه الديار، فإنهم مواد الفسق و الفساد فلا تهمل أمرهم، و لا تأمن إن تذرهم يملأوها من قبائلهم نارا، و يجروا من دموع رعاياها و دمائهم بحارا، و هم علي المسلمين و بلادهم أضر من النصاري، و أنت حين فخذتهم عني، زعمت أنهم أولاد إخوتك، و بنو عمك، و ذوو قرابتك، و الأولي بجماعتك و ناسك أن تتبعك، و بكل من أولاد أخيك أن يقول لك: عم خذني معك، فاعمل أفكارك
______________________________
(1)- العيوق: نجم في السماء مكانه بعد الثريا لا يتقدمها.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 193
المصيبة في إخراجهم، و إذا أدخلتهم حبسا فلا تطمعهم في إفراجهم، ثالثهن لا تمد يد التخريب إلي قلاع المسلمين و حصونهم، و لا تجلهم عن مواطن حركتهم و سكونهم، فإنها معاقل الدين، و ملجأ الغزاة و المجاهدين، و هذه أمانة حملتكها، و ولاية قلدتكها، فتقبلها منه بأحسن قبول، و حمل هذه الأمانات ذلك الانسان الظلوم الجهول، و استكثرها علي عقل ابن عثمان، و وفي بها بقدر الطاقة و الإمكان.

ذكر ارتفاع ذلك الغمام بصواعق بلائه عن ممالك الأروام‌

و سار فثار غبار، أخذ عين الشمس منه الإنبهار، و فار بحار التتار، فكأن البحر أمده الله بسبعة بحار، فمر لا يدخل قرية إلا أفسدها، و لا ينزل علي مدينة إلا محاها و بددها، و لا يمر علي مكان إلا دمره، و لا ينجذب عن ربقة طاعته جند إلا كسره، و لا يتمنع عليه شمراخ حصن شامخ إلا هصره، فخلع علي عثمان قرايلوك حين وصل إلي أرزنجان، و قرره في ولاياته و زاده بعض معان و مغان، و وصاه بشمس الدين الذي ولاه قلعة كماخ، و أن يكون كل منهما للآخر قوة و طباخ «1».

ذكر انصباب ذلك العذاب ماء و نارا علي ممالك الكرج و بلاد النصاري‌

ثم لم يزل يلجج بذلك البحر اللج، حتي أرسي علي بلاد الكرج، و هم قوم يعبدون المسيح، ملكهم غير فسيح، و لكنه مصون، بواسطة قلاع و حصون، و مغائر و كهوف، و جبال و جروف، و قلاع و حروف، و كل من ذلك أعصي في المنال، من نفس كريم سيم شيم الانذال، و من مدنهم تفليس، و كان أخذها ذلك الابليس، و طرابزون و أب خاص «2»، و هي التخت بالاختصاص.
______________________________
(1)- يقال ليس به طباخ: أي لا قوة و لا سمن. العين.
(2)- أب خاص: الأبخاز
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 194
فتمنعت هذه الأماكن عليه، و لم تسلم قيادها إليه، فأقام يحاصرها، وقعد يناقرها و ينافرها، فمن ذلك مغارة بابها في وسط جرف شاهق، آمنة من البوائق، سالمة من الطوارق، و سقفها آمن من صواعق المجانق، و ذيلها أرفع من أن يتشبث به علائق المسالق، مدخلها أخفي من ليلة القدر، و عدم التوصل إليها أجلي من القمر ليلة البدر، فأولع بمحاصرتها، و التزم بمضاجرتها، و استعمل من فكره مهندسه، و جعل لا يقر من الأفكار و الوسوسة، ثم انتج رأية المتين، و فكره الرصين، أن يرسل عليها عذابا من فوقها، و أن يصطاد تلك الحمامة الصاعدة في الجو بأرجلها من طوقها.
فأمر أن يصنعوا له توابيت علي هيئة الدبابات، كأنهن شياطين النساء للرجل غلابات، و أوثقهن بالسلاسل الحكيمة، و أوسقهن بالرجال ذوي الشكيمة، و أدلاهن من تلك القلاع، و أهواهن من شواهق الجبال، فتدلين في الهواء، تدلية مبرم القضاء، فملأن النفانف، و أرجفن من الجبال و الرجال الروانف، و صار لسان حال تلك الصقور و الشواهين ينادي كل من رآه: أَ لَمْ يَرَوْا إِلَي الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ «1»، فحين و ازوا باب تلك المغارة، كبتوهم بالنبال السحاره، و كفوهم بالمكاحل الطيارة، و هاوشوهم بأنواع الأسلحة، و ناوشوهم بالأوهاق و الكلاليب المفلطحة، فلا زالت الجوارح في الهواء صافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ «2»، و يقبلن إلي ذلك الوكر حائمات عليه و لا يعرضن، ينقرن أسرة أهله بمناقير المناقيب، و ينشبن فيهم مخاليب الكلاليب، و بكره الناشز تمانعهم علي الولوج، و تستعين في مدافعتهم بمن فيها من العلوج، فلم ينشب أحد من اولئك الجوارح، أن أنشب في الباب كلوبه الجارح، ثم استعضد الفتح و استنهض الظفر، و اعتمد علي الله، و من دبابته إلي الوكر طفر «3» فاحتضنه ساعد المساعدة، و اكتنفه عضد المعاضدة، و قبض
______________________________
(1)- سورة النحل- الآية: 79.
(2)- سورة الملك- الآية: 19.
(3)- طفر: قفز
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 195
علي رسغه كف السلامه، فنكصت النصاري علي عقبهم أمامه، و لم يزل وحده مبيدهم، حتي قتل أوباشهم و صناديدهم، ثم ادخل رفقته فيها و أخرجوا ما كان في مخابئها، و اسم هذا الرجل لهراسب، ستة أحرف ليس فيها غير متحركين اللام مضمومة و الهاء، و الراء مفتوحة، و الألف و السين و الباء، و اجتماع ثلاث سواكن في الفارسي كثير، و في التركي أيضا موجود و لكنه عزيز غير غزير.
و من جملة هذه القلاع قلعة شاهقة، حروف ذاتها كحروف اسمها، بمناعتها ناطقة، لا يعمل في فتحها لارتفاعها العل و ليت، لأن اسمها كما زعموا كل كورتين، أي تعال انظر و ارجع بمعني أنه لا ينال الوافد عليها، سوي النظر إليها، ثلاثة أطرافها مبنية علي قلل آكام شمخت علي ما حواليها من الهضاب، فهي علي الأعلام أعلام، و طريقها من الوجه الرابع- هو دقيق في سلوكه عسر- ينتهي بعد أنواع المشقة إلي جرف مقطوع، بينه و بين باب ذلك الحصن جسر، إذا ارتفع ذلك الجسر سدت دون الوصول إلي الحصن الحيل، و أعاذ كل من لاذ بقلته من بنيه، فصح أن يقال له معاذ بن جبل، فلما اطلع علي حقيقة أمرها و انكشف له مستور خبرها، أبي أن يرحل عنها، إلا أن يصل إلي غرضه منها، و لم يكن بالقرب منها مكان ينزل فيه، و لا بر يحمل ذلك البحر الطاغي و يحويه، بل إنما كان حواليها جروف و هضاب، غضون جبينها كأنها وجه عجوز شوهاء ناشز عن زوج محب عقاب في عقاب، فطمع منها في غير مطمع، و نصب سرادقه بحيث كان منها بمرأي و مسمع، و صار من عساكره الأسود الحوادر، يتناوبون حصارها ما بين وارد و صادر، و هم يرفعون الجسر بالنهار، فيأمنون مكائد القتال و الحصار، لأنه قد تقدم أنه لم يكن حواليها مكان للقتال، و لا مفحص قطاة يتمكن فيه النضال، فكانوا يرمونها بالنهار علي بعد بسهام الأحداق، و يرضون منها بنظرة من بعيد كقانع العشاق، فإذا أجنهم الليل، شمروا إلي جهة
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 196
مخيمهم الذيل، لأنهم لم يمكنهم حواليها مبيت و لا مقيل، فتضع النصاري الجسر و يرمون إلي حاجاتهم السبيل، فلما لاح له منها أمارات الحرمان، و بان له أن أمل ظنه من فتحها قد مان، كما قلت:
و أعظم شي‌ء في الوجود تمنعانتاج مرام من عقيم زمان صمم العزيمة علي الرحيل، و لكن خاف العار، فطلب لهذه المسألة الدليل و التعليل.

ذكر سبب أخذه لهذه الحصن المنيع و بيان معاني ما جري في ذلك من صنع بديع‌

و كان في عسكره شابان نديدان، أسدان حديدان، يتشابهان في الخلق و الخلق لم يكن بينهما في الرجولية و الشجاعة كثير فرق، يتحاربان في كل وقت في ميدان المناقب لإحراز قصب السبق، فكانا كفتي ميزان، و في مضمارها فرسي رهان، فاتفق ان أحدهما صادف علجا من الكرج، في الجراءة كالأسد، و في الجثة كالبرج، فنازله ثم قتله، و قطع رأسه و إلي تيمور حمله، ففخم شأنه، و أعلي علي الأقران مكانه.
فأثر ذلك في نديده، فكأنه قطع حبل وريده، ثم افتكر في شي‌ء يصنعه، يضع من ند يده و يرفعه، و كان اسمه بير محمد، و لقبه قنبر، فلم ير أكبر من مراقبة ذلك الجسر و لا أشهر، فاعتمد علي الله سبحانه وحده، و استكمل ماله من أهبة وعده، و رصد نجمه في بعض الليالي، و لطافي مكان خالي، و لا زال يترقب النجوم، و يترصد عليهم طوالع الانقضاض و الهجوم، و يشبر تلك القنن بيديه و يذرع، و يمشي تارة علي بطنه و أخري علي أربع، إلي أن طرح الضوء نقابه، و سلخ الجو إهابه، و رجع النصاري إلي كسرهم، و تعاونوا علي رفع جسرهم، طفر بير محمد الي الجسر فقطع حباله، و تابع عليهم من حنيته نباله، و لم يمكنهم من رفعه، و لا غير موضوعه عن وضعه، فتراكموا عليه بالنبال و الأحجار،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 197
و أرسلوا عليه من ذلك السماء المدرار، و هو لا يرد عما هو بصدده و لا يلتفت إلي حينه، و يتلقي ما يصدر من مراسيم نبالهم و أحجارهم بالقبول علي رأسه و عينه، و لم يزل علي المكافحة و المناضحة، و المكاشحة و المكالحة، حتي تعالي النهار، و عض الكون من فعاله أنملة التعجب، و أخذ عين المكان الانبهار، و كان المحاصرون لها كفوا عن القتال، و تيمور قد عزم كما ذكر علي الترحال، و كان سرادقه منصوبا بمكان عال، فناداه لسان الفتح، و خاطبه منادي النجح شعر:
لا تيأس من مطلب‌قطع الوري أسبابه
إن أغلقوا أبوابهم‌فاللّه يفتح بابه فتراآي علي باب القلعة من بعد كأن ناسا يتواثبون، و أشباح طائفة يتكالبون و يتضاربون، فقال لقبيله أي أولي النجدة و العون: إني أري ما لا ترون، فانعموا معي النظر، ثم أسرعوا نحو المعتكر، و اتوني بحقيقة الخبر، فاندفعوا يستشرفون لذلك خبرا، و يستكشفون لسرائره سترا، و هم ما بين عاد من النمر أعدي، و جار من الأسد أجري، و كل منهم في عدوه و عداوته تأبط شرا، و لما نزلوا يتجاورون علي ذلك أرسالا و تتري، كأنهم الشياطين نهاض و وثاب و عداء و هلم جرا، حتي أدركت مقدمتهم بير محمد، و هو في غمرات الموت بناره يتوقد، و قد صار لسهامهم غرضا، و كاد جوهره أن يصير عرضا، فلما رآهم من بعيد عاش، و حصل له الانتعاش، و زال عنه الارتعاش، و تلاحقت بهم الصناديد، فكعت عنهم تلك الأفسال الرعاديد، و حين عجزوا عن رفع الجسر و ولوا الأعقاب، عزموا أن يدخلوا الحصن، و يوصدوا الباب، فاختلط بير محمد معهم، و دخل الحصن و من إيصاده منعهم، فدقوه بالسيوف، و رضوه بأحجار الحتوف، و هو يأبي إلا المدافعة، و يجتهد في مراجعة الممانعة، لا يشعر بما يناله من رض الحجر و جراح الحديد، كأنه متأله عراه الفناء في الغناء في التوحيد، إلي أن غشيتهم تلك الليوث،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 198
و اندفقت عليهم بصواعق الغضب من سماء النجدة سيول الغيوث، فتشبثت أسود المنايا بتلابيبهم، و خلصوا بير محمد من مخاليبهم، ثم قضوا علي النصاري، و أخرجوا ما لهم فيئا و حريمهم سبايا، و أولادهم أساري، و حملوا إلي تيمور بير محمد، و أخبروه بما قصده في ذلك و تعمد، و تفقدوا ما به من جراح ادمي، فاذا هي ثمانية عشر جرحا كل منها يصمي، فشكر له فعله، و وعده مواعيد جزله، و أحله المحل العزيز، و جهزه إلي تبريز، و أمر بعد الوصية به الأمراء من النواب و الرؤساء، أن يجمعوا عليه كل نطيس من الأطباء و خريت من الإساء، بحيث أن يبذلوا في معالجته جهدهم، و يستوعبوا في أساه كدهم، و يستوفوا في المعالجة قسمي العلم و العمل، فامتثلوا مراسيمه و عالجوه بما أمكنهم و أزاحوا العلل، فاندملت جروحه، و برئت أحسن مما كانت قروحه، فلما نصل و إلي تيمور وصل، جعله أحد قواده، و رئيس طائفة من أجناده، و قدمه علي كثيرين بعد أن كان خلف، و صيره أمير مائة مقدم ألف.

تتمة ما جري للكرج مع تيمور شيخ العرج‌

و هذه القلعة و المغارة كانتا عيني قلاع الكرج، و نار أعلامهم و البواقي سرج، فحين قلعت من وجوههم عيناهم، تيقنوا أن قد نزل بهم عناؤهم، و أحاط بهم عزاؤهم، فانحلت قواهم و انخزمت عراهم، و قعدت بهم الحيلة و قامت عليهم القيامه، و تجهمت بهم إلي جهنم الزبانية و أسلمتهم السلامه، و تفاءل تيمور بحصول الفلج، و انثني عزمه الي استخلاص ممالك الكرج، و انبثت شياطينه فيها فهزتهم هزا، و قدت ثوب حياتهم و قد أوجزتهم جزا، و خاطت لهم أكفان المنايا بالسلاح فأوسقهم سلا و كفا و درزا، و تلا عليهم لسان الانتقام: أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَي الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا «1».
______________________________
(1)- سورة مريم- الآية: 83.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 199

ذكر طلب الكرج الأمان و استشفاعهم إلي ذلك الجاني بجارهم الشيخ إبراهيم حاكم شروان‌

فاستدركوا تقصيرهم، و استنهضوا تدبيرهم، و رقعوا خرقهم قبل الاتساع، و وصلوا حبل حياتهم قبل الانقطاع، و استغاثوا: الأمان الأمان، و استعانوا في خلاصهم بالشيخ إبراهيم حاكم شروان، و ألقوا إلي أيادي تدبيره الزمام، و رضوا أن يكون لجماعتهم، و إن كان علي غير ملتهم الإمام، و جعلوه خطيب ذلك الخطب، و استحلوا ما تثمر لهم سعايته من يابس و رطب، و كان إذ ذاك جيوش المصيف كجمع الكرج قد ولت، و جنود الخريف و الشتاء كجيش تيمور قد أطلت، و سلطان الأجرد، قد صقل فرند المياه و جرد، و رفع من الأغصان الأعلام السلطانية، و نصب علي قلل الجبال الصيوانات البلورية، و ألبس متن الغدير من نسيج نسيم الأصيل الدروع الداوديه، فكان ما في الكون من جوامد و نوام، من جملة عساكر تيمور حام له أو محام، قلت شعرا:
و اذا أراد الله نصرة عبده‌كانت له أعداؤه أنصارا
و اذا أراد خلاصه من هلكةأجري له من نارها الأنهارا
فتري العقول تقاصرت عن كنهه‌و تري له في شوكه أزهارا فدخل الشيخ إبراهيم عليه، و قبل الأرض بين يديه، و حياه بتحية الأكاسرة من الملوك، و وقف في مقام أصغر مملوك، ثم استأذن في الخطاب، و استلطف في رد الجواب، فأذن له فقال: إن عموم شفقة مولانا الأمير، و حسن حنوه علي المسكين و الفقير، و شمول عاطفته الكريمة و رحمته المنيفه، حملت المملوك علي عرض ما عن له علي الآراء الشريفة، و هو أنه بحمد الله المرام حاصل، و المراد علي وفق الاختيار متواصل، و هيبة مولانا الأمير في الشرق و الغرب، أغنته عن الاستعداد للضرب و الحرب، ثم إن العساكر المنصورة أكثر من أن تحصي، و فيهم
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 200
من الأسري و المرمق الحال ما فات عن الاحصاء، خصوصا جماعات التتار، الذين ولي سعدهم الأدبار، و أحلوا قومهم دار البوار، قد أضر بهم البرد، و تردد نفس حظهم بين العكس و الطرد، فإن استمرت الأمور، علي هذا الدستور، رق الجليل، و هلك الرقيق، و دق العظيم، و انطحن الدقيق، و هذه البلاد بل و سائر الأقاليم، محال إلا بأمرك أن تستقيم، و إن رؤساءها من الفجرة و الفسقه، علموا ما لمولانا الأمير علي مملوكه من الحنو و الشفقة، فتراموا لعلة المجاورة علي المملوك، و رجوا من الصدقات الشريفة ما يرجوه من الغني الكريم المحتاج الصعلوك، و مهما برزت به المراسيم المطاعه، تلقاه بالقبول كل من المملوك و هؤلاء الجماعه، و قابلوا الأوامر الشريفة بالسمع و الطاعه، و إن كان المقصود جمع مال، فالمملوك يقوم به علي كل حال، و أني للمملوك مال إلا من صدقات مولانا الأمير، و ما قصد المملوك بذلك إلا دفع الكلفة عن الجانبين و تيسير الأمر العسير، و رعاية لحق الجوار، عملا بقوله صلي الله عليه و سلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار»، و الرأي الشريف أعلي و أحري، أن لا يخيب رجاء المملوك و أولي، فأجابه إلي سؤاله، و طلب منه مالا عريضا سواء كان من مالهم أو من ماله، فقال الشيخ إبراهيم: أنا زعيم، و أبلغ ذلك إلي خزانته أتم إبلاغ، ثم رحل و أكمل شتويته في قراباغ، و ذلك في سنة ست و ثمانمائة.

ذكر ثني عنانه إلي أوطانه و قصده بلاده بعد استكماله فساده‌

و لما زينت ما شطة الكون عروس المكان، و أقام مزين الجمادات قوام الزمان، و تهيجت القوي النامية، و تبرجت مخدرات الذري السامية، و شبت الجمرات، و دبت الحشرات، تحرك للرحيل ذلك الأفعي، و نفث علي هوام أموات الزمهرير من أحياء عساكره فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعي «1» فدق الكوس، فجاوب صداه الرعد القاصف، و لمعت مرايا اللبوس، فانعكس
______________________________
(1)- سورة طه- الآية 20.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 201
منها إيماض البرق الخاطف، و عرض فيوله في التروس، فأحاط بالأطواد قوس قزح، و سير خيوله في اللبوس، فتجللت كتائب الكثبان بشفوف الورد و الريحان خائلة في ذلك البر المنتزح، و مارت الجمال، فمرت الجبال مَرَّ السَّحابِ «1» و سارت الرعال «2»، فصعد العنان من النقع الضباب، و شرعت الذوابل، فإذا رطيب الأغصان متمائل، و هزهزت القواصل «3»، فانساب في القصيل مرهف الجداول، و نضنضت «4» ألسنة الخناجر و النيازك، فبرزت عذبات العذبات، و نشرت أعلام الكتائب، فانبثت أشاهير الأزاهير علي عقبات العقبات، و علي الجملة فإن الربيع حاكي ببروقه بوارقه، و برعوده صواعقه، و بخمائله و روابيه زرابيه و نمارقه، و بركامه قتامه، و بشقائقه أعلامه، و بأشجاره المزهرة خيامه، و بأغصانه رماحه، و بعواصف أمره و نهيه رياحه، و بكتائبه السود كتبه الخضر، و بأزهاره الزرق مزارقه الزهر، و بسيوله الحجافة مسير جحافله، و باضطراب بحر فيالقه، تموج خمائله عند هبوب أصائله، و استمر بين ذلك العرار و الرند، قافلا بالبال الفارغ إلي سمرقند، فسار و السرور نديمه، و الحبور خديمه، و الأشر معاقره، و النشاط مسامره، و بين التفريط و الافراط موارده، و مصادره، حتي قطع ولايات أذربيجان، و حل ركابه بممالك خراسان، و في خدمته ملوك الأقاليم و أرباب التيجان.

ذكر نهوض ملوك الأطراف لاستقباله و وفودها عليه مهنئة له بحسن مآله‌

و لما تسامعت أقطار البلدان، أنه قفل قاصدا الأوطان، أقبلت إليه الملوك من أطرافها، و المرازبة من أكنافها، و سارع إلي استقباله المداره، و الحجاجيح، و تبادر مما وراء النهر و غيرها السراة و المراجيح، و تطاير
______________________________
(1)- سورة النمل- الآية 88.
(2)- الرعال: جماعة الخيل. العين
(3)- القواصل: السيوف
(4)- النضنضة: صوت الحية و نحوه من تحريك الحنكين.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 202
إليه من الأقاليم أساطينها، و من الولايات و الثغور ملوكها و سلاطينها، و من كان مرابطا في ثغر، و مواظبا عن أكيد أمر، أرسل نائبه أو قاصده، أو حاجبه أو رائده، يتباشرون بقدوم أقدامه، و يهنونه بما فتح عليه من هنده، و عراقه، و رومه، و كرجه، و شامه، و يقدمون التقادم و الحمولات، و يهيؤون الضيافات و الإقامات، ثم أردفهم السادات و العلماء و المشايخ و الكبراء، و رؤساء الموابذة و موابذة الرؤساء، فجعل يسمت لكل واحد منهم سمتا، و يأمره فيخضع بالسمع و الطاعة إجلالا و صمتا، و يمهد له فيما ولاه قواعد و مباني، فلا تري فيها عرجا و لا أمتا «1»، ثم جهز كلا منهم بما اقتضاه رأيه و أجازه و وصل إلي جيحون و قد أعدت له السفن و المراكب فجازه، فخرج أهل المدينة للاستقبال، و كل منهم منشرح البال ملتئم الحال، فدخل سمرقند أوائل سنة سبع و ثمانمائه، و معه من طوائف الأمم الاثنان و السبعون فرقة و أكثرهم قدرية و مرجئه، ثم أذن لمن اختاره من العساكر فتفرقت، و لطوائف جند ما وراء النهر فتمزقت.

ذكر توزيعه التتار أرسالا شرقا و غربا و يمينا و شمالا

فلما استقرت به الدار، أخذ في توزيع التتار، فكانوا ذوي عدة و عدة، و نجدة و شدة، فحين سلبهم عدتهم، كسر شوكتهم و شدتهم، و لكن أبقي الله عدتهم، فخاف لذلك نجدتهم، فشتت جمعهم، و أقوي من اجتماعهم ربعهم، فبذرهم في فياف و بطاح، و وزعهم في قفار و ضواح، و بددهم في أشطار عناء و براح، و نددهم في أقطار بكاء و نواح، فسدد برؤوسهم أفواه الثغور، و أوصد بظهورهم أبواب النحور، فجهز طائفة إلي كاشغر، و هو بين حدي الخطا و الهند أحد الثغر، و وجه فرقة الي دويرة في وسط بحيرة تدعي أسي كول «2»، و هو ثغر بين ممالك تيمور و الموغول، فصادفهم بعض السغدة فانقطعوا عمن أضيفوا إليه، كما
______________________________
(1)- الأمت: الشك و الارتياب.
(2)- أشهر بحيرات تركستان و أكبرها، و اسمها الآن ايسق كول‌lssiq -Kul
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 203
ينقطع عما يضاف إليه بعد، فانضموا منهزمين و لم يلووا، و أخذوا من صوب الشمال، و خرجوا علي الدشت إلي أيدكو، ثم أضاف سائرهم، و قبائلهم و عشائرهم، من كل حزين أواه، إلي أرغون شاه، و جهزه بعزم و حزم، إلي ثغور الدشت و حدود خوارزم.
و هذا كان هجيره، و ما بني عليه أوامره و أموره، فإنه كان من الشياطين النقاله، و في المكر و اللعب بالناس كدلة «1» المحتالة، كلما بني في قطر قلعه أو استولي في نحر من نحور المخالفين علي بقعه، أنزل بها من العساكر، من هو في أقصي جهات تقابلها من الحصون و الدساكر، و نقل إليها من لها من الرجال، إن كان في الشمال إلي اليمين، و إن كان في الجنوب إلي الشمال، فإنه لما استولي علي ملك تبريز و ما والاه، استناب فيه ولده لصلبه أميرانشاه، و أمده من الجغتاي بطائفة غلاظ شداد، منهم خدايداد أخو الله داد، و نقل إلي أطراف الخطا و تركستان، طوائف من عسكر العراقين و الهند و خراسان، و ولي سماقة بن التكريتي الذي أخذه من الشام، نيابة مدينة سيرام، و هي من سمرقند إلي جهة الشرق نحو من عشرة أيام، و ولي يلبغا المجنون نيابة ينكي بلاس، وراء سيرام بنحو أربعة أيام، و هما كورتان مختصرتان، وراء سيحون من معاملات تركستان، و هما كانا أقل من أن يذكرا، فضلا أن يصيرا حكاما و أمرا، و إنما فعل ذلك، لينتشر في أطراف الممالك، ان عنده من رؤساء الشام، جماعة من أعيان الأعلام، و أن في ممالكه من الخدم، رؤساء الأمم، حكام العرب و العجم، و أن ذلك الطرف جال وسطا، و ملك ما بين الشام و الخطا.
فصل: ثم أخذ يتفقد ما حدث في غيبته، من أمور بلاده و رعيته، و يتفحص عن قضايا الممالك، و يسلك لملوكها المسالك، و يدبر مصالح الأطراف و الثغور، و الأكناف و البحور، و يراعي أحوال الكبير و الصغير، و يتعاطي مصلحة الغني و الفقير، و يضع الأشياء في محلها، و زمام الوظائف و المناصب في يد أهلها، و يبادر، بما قال الشاعر شعرا:
______________________________
(1)- لعله أراد دلة المحتالة، إحدي شخصيات قصص ألف ليلة و ليلة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 204 لله در أنوشروان من رجل‌ما كان أعرفه بالوغد و السفل
نهاهم أن يمسوا عنده قلماو أن يذل بنو الأحرار بالعمل و أخذ يربي السادات، و يكرم الأولياء ذوي الكرامات، و يبجل العلم و أهله، و يعلي الفضل و يعز محله، و يقلع المفسد و يقمع المارق، و يخنق الزاني، و يصلب السارق، حتي استقامت في زعمه أمور السياسه، و تمت علي توراة جنكيز خان قواعد الرياسه.

ذكر ما ابتدعه من منكراته و طبع بخاتمه خواتيم سيآته و وافي باستيفائه رائد وفاته‌

ثم شرع في تزويج حفيده، أي ولد الولد أولوغ بيك بن شاه رخ النبيه، الذي هو في يومنا هذا أعني سنة أربعين و ثمانمائة حاكم سمرقند من قبل أبيه، فأمر أهل المدينة، أن يشرعوا في الزينة، و أن يرفع عنهم الكلف و المظالم، و يعفي عن الطروحات و المغارم، و يبسط لهم بساط الأمان، و يعامل الكبير و الصغير و الرفيع و الوضيع منهم بالفضل و الإحسان، و أن لا يشهر في ممالكه سيف، و لا يجري فيها ظلم و لا حيف، و أن يخرجوا زينتهم إلي مكان نحو ميل من ضواحي سمرقند، يدعي كان كل، هواؤه أذكي من المسك و ماؤه أحلي من القند «1»، كأنه قطعة من روض الجنان، غفل عنها خازنها رضوان، قلت شعرا:
رعي فيه غزال الترك شيحافصار المسك بعض دم الغزال روائح هوائه ألطف من نسيم السحر، و رواشح مائه أعذب من ماء الحياة، صفاء بلاكدر، و تغاريد طيوره ألذ في السماع من ثناء الناي علي الوتر، قلت:
بساط زمرد نثرت عليه‌من الياقوت ألوان الفصوص
______________________________
(1)- القند: السكر.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 205
و قلت شعرا: عجائب المقدور في نوائب تيمور 205 ذكر ما ابتدعه من منكراته و طبع بخاتمه خواتيم سيآته و وافي باستيفائه رائد وفاته
كأنّ مدوّر الأزهار فيه‌ورد في محاسنه تنضد
صحاف من لجين أو عقيق‌و مرجان و ياقوت و عسجد
فهذي حشوها مسك فتيت‌و هذي ضمنها تبر مبدّد
أراد الروض يجلوها علينافصاغ لها أكفا من زبرجد صباغ القوة الخيالية يتعلم خلط أصباغ النقوش من تشاهير أزاهيره، و مواشط عرائس الجمال تزين عوانق الكمال من تحارير تصاويره، قلت شعرا:
كأنّ رباه سيّما وقت هبةخضم بأنواع الحلي مرصع أفسح من أمل حريص طامع، في جاه غني كريم نافع، و أنزه للأبصار و البصائر، من غض شباب زاه زاهر، ساعده الدهر بوجه بسيط و أدب كامل، و عمر طويل و مال وافر، و هو أحد الأماكن المذكورة، و المتنزهات التي هي بالنزاهة و الرفاهة في الدنيا مشهوره، و مبدأ السعد الذي جهاته بالنعم موقره موفوره قلت:
شقائقه خدود ناضرات‌تحشت من سواد المقلتين عساكر تيمور مع أنها البحر المتلاطم فيه، تضاهي بني إسرائيل في قطر من أقطار التيه، ثم أمر الملوك و السلاطين، و أرباب التيجان من الأساطين، أن يخرجوا إليه، و ينبثوا عليه، و فرز لكل منهم في ذلك المرج مقاما، و رتبه ميمنة و ميسرة، و وراء و أماما، و أمر أن يظهر ما أمكنه من تحمل و تحسين، و يضرب ماله من خيام و قباب متكلفة بأنواع النقوش و التزين، ثم رتب من دونهم من الكبراء و الأعيان، و رؤساء الأمراء و الأعوان، في ذلك الروض الأريض، و المرج الطويل العريض، فأخرج كل منهم ما حواه، و كاثر نظراءه لينظروا ما قدمت يداه، و فاخر ذوو الفخار منهم و باهي،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 206
و استقصي في المباهاة و المفاخرة و تناهي، فنشروا مما طوت صحائف أيامهم، علي جمعهم إياه سجلات آثامهم، من طرف أطراف الأقاليم و الأمصار، و تحف جواهر المعادن و البحار، و نفائس ذخائر نهبوا عليها النفوس، و ألهبوا الأنفاس، و عرائس أخائر سقوا عليها الكؤوس و خرقوا الأكياس، ما أزري علي زهر تلك الروضة الخضراء بالأنجم الزواهر، و أسري منظره البهيج سرايات المسرات إلي سر السرائر، فزاد حسن حديث ذلك المكان و نما، و علا قدره بهجة علي كل أرض و سما.
ثم أمر بسرادقاته، فجعلت مركز تلك الداره، و نقطة دائرة تلك الأفلاك المداره، و هي سور محيط مضروب، علي ماله من خيام و قباب منصوب، له باب واسع، يدخل فيه من دهليز شاسع، علي ما به من معان و مغان، و له قرنان شامخان، تنكسر لهما الرؤوس، و تذهل مشاهدتهما النفوس، و لأجل هذين، كان يلقب ذا القرنين، و نصبوا له داخل هذا الجناب، عدة من الخيام و الأخبية و القباب، و من جملتها قبة أعلاها و أسفلها بالذهب مزركش، و ظاهرها و باطنها بلب الريش مريش، و أخري كلها بالحرير محبوكة، و بأنواع النقوش و ألوان الأصباغ مبنية مشبوكة، و أخري من فرقها إلي قدمها مكللة باللآلي الكبار، التي لا يعلم قيمة أحدها إلا عالم الأسرار، و أخري مرصعة بأنواع الجواهر، علي صفائح الذهب مدهشة للأبصار و البصائر، و جعلوا لما بين ذلك سقفا من فضة و معارج عليها يظهرون، و لبيوتهم أبوابا و سررا عليها يتكئون، و بين ذلك الأرواق المنقشة، و رواقات الأخبية المزركشة، و الفساطيط و الأبنية المدهشة، و فيها مراوح الخيش، الجالبات لبرد العيش، و المنافع و المرافق، و المفاتح و المغالق.
و أظهروا الذخائر الغريبة، و أرخوا علي ذلك الستائر العجيبة، و من جملتها ستارة جوخ كان أخذها من خزانة السلطان بايزيد، قطعة واحدة عرضها نحو من عشرة أذرع بالذراع الحديد، منقشة بأنواع النقوش، من
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 207
صور النباتات و البنيان و العروش، و أشكال الهوام و الطيور و الوحوش، و أشخاص الشيوخ و الشبان، و النساء و الصبيان، و نقوش الكتابة و عجائب البلدان و العروق اللاعبة و غرائب الحيوان، بألوان الأصباغ، المبالغ في إحكامها و إجادتها، أحسن بلاغ، كأن صورها متحركة تناجيك، و ثمارها الدانية لا قتطافها تناديك، و هذه الستارة إحدي عجائب الدنيا، و ليس المستمع كالرائي «1».
و نصبوا أمامه سرادقاته بمقدار شوط فرس الصيوان، الذي يجتمع المباشرون فيه و أرباب الديوان، و هو جتر عالي الذرا، شامخ في الهوا، له نحو من أربعين أسطوانه، و عواميد و سوار شيدوا عليها أركانه، و سددوا بنيانه، يتسلق الفراشون إلي أعلاه كالقردة، كأنهم مسترقو السمع من الشياطين و المرده، و يتعادون علي سطحه، حين يرفعونه بعد شطحه.
فصل: و أخرج أهل المدينة ما عبوه، من تجمل و زينة و نصبوه، تجاه تلك السرادقات علي مد البصر، و تأنق كل واحد من أهل البلد بما وصلت إليه القوي و القدر، و اجتهد كل ذي حرفة بما يتعلق بحرفته، و بالغ كل من أرباب الصنائع فيما يليق بصنعته، حتي أن ناسج القصب أخرج فارسا مكمل الأهبة، و استقصي في إكمال هيئته حتي أظافيره و هدبه، و استوفي دقائق ما يتعلق به من الآلات، كقوسه و سيفه و سائر الاستعدادت، كل ذلك من القصب، و رفع ذلك في مكانه من غير تعب و نصب، و صنع القطانون من القطن مئذنة رفيعة، محكمة بديعة، ذات قد رشيق، و صنع وثيق، و منظر أنيق، ببياض جسم يسمو علي الحور، و كمال قوام يعلو علي القصور، و نصبوها فصارت بحسنها تستوقف النظارة، و بعلو قامتها ترشد في ذلك المهمه المارة، حتي غدت علما للسيارة، و علي جوامع تلك الأبنية منارة، و كذلك أهل الحروف من الصواغين، و الحدادين و الخفافين و القواسين، و سائر الطوائف، و أرباب الملاعب و اللطائف.
______________________________
(1)- بالأصل «كالمرأي» و هو تصحيف لعل صوابه ما أثبتناه.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 208
و لقد كانت سمرقند مجمع الأفاضل، و محط رجال أهل الفضائل، فرتبت كل طائفة ما أخرجته علي حدة في مكانه، أمام سرادقاته و صيوان ديوانه، و نصبت وراء ذلك كله الأسواق، و ضربت بين الناس بوقات الأبواق، و زينت الفيول و جياد الخيول بأفخر لباس، و أطلق عنان الرخص و التمتع بأنواع الملاهي و الملاذ للناس، فسارع كل طالب إلي مطلوبه، و اجتمع كل محب منهم مع محبوبه، من غير أن يتعدي أحد علي أحد، أو يستطيل أعلي من يكون علي أدني من يكون من الجند و أهل البلد، أو يجري تعد ما، من شريف ما علي وضيع ما.
فصل: و لما استتبت الأمور علي مراد تسويل قرينته، و أخذت الأرض زخرفها، و أزينت من جنده و أهل مدينته، توجه إلي ذلك المرج علي و قاره و سكينته، و خرج علي قومه في زينته، ثم أمر أن تجري يواقيت الصهباء، علي زبرجد ذلك المرج الأحوي، و سبلها لكل ناظر و عام، فسبح في تيارها كل خاص و عام، فدارت في سماء تلك الأرض للسرور أفلاك، و هبطت في أفقها بوحي اللذات من أفلاك الملاحة أملاك، فأصبحت تلك الأسود الخوادر، و هي ظباء جواذر، و تنزلوا من جحيم المنازله، إلي نعيم المغازله، و تبدلت تلك الغلاظة و الكثافة، باللطافة و الظرافه، و أصبحوا بعد جورهم يتجاورون، و بمعني ما قلته يتحاورون، شعر:
محا الظلم من بين الوري سيف عدلنافلم يتشبث مستغيث بمعتدي
سوي قلب صب صاده طرف أحورو خصر نحيل آده ردف أغيد فما صار يصول سيف إلا أن كان صارم لحظ و هو ذلك مكسور، و لا يجول ذابل إلا إن كان رمح قد و هو مع ذلك بالعناق مهصور، و صرت لا تري إلا عودا يحرك أو يحرق، أو قدحا يروب أو يروق، أو شاربا يعربد، أو جارية تسقي، أو ساقية تجري، أو خد ورد يعشق، أو ورد خد ينشق، أو كاس ثغر يرشف، أو غصن خصر للعناق يقصف، أو فرص عيش تغتنم، أو لسان حال ينشد و يترنم شعرا:
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 209 في ربيع الوصل لماأن وفي الظبي الشرود
و سرت بشري الصباللروض تنبي بالورود
خرّت الأنهار و الأغصان مالت للسجود
و اجتمعنا في رياض‌حسنها يسبي الوجود
فالسحاب الصب فيهابالحشا أمسي يجود
نثر الدر علينامنه بلور الغمام
فوق صحن سندسي‌فيه ملياقوت جام
و ثغور من عقيق‌زانها حسن إبتسام
و عيون من لجين‌ناظرات لا تنام
و غصون الدوح حفّتنأبا نواع النقود
طيرها غني عليهاإذ علا عودا و طار
و شذاها ضاع فيه المسك لما منه غار
و الصبا أمسي عليلافي رباها حين
جنة الفردوس فيهاوجه بدري حين نار
أصبحت جنات عدن‌تشتهي فيها الخلود
يا لها من عشرةجاءت بأنواع الهنا
ليس فيها غير لثم‌و ارتشاف و اعتنا
و كؤوس دائرات‌و غناء و غني
لو رآها زاهد من‌ريحها كان انثني
لم يسعه عندها من‌زهده إلا الجحود
قم نديمي عاطني‌فالدهر لا يسوي الحزن
كأس عيش ينمحي‌في مزجها صرف الزمن
الطلا و الماء و الخضرة و الوجه الحسن
لا تطع في ذا عذولاإنه خب كمن
في حشاه غليان‌لا تقل خل و دود
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 210
فحصل الأمن و الدعه، و الفراغة و السعه، و رخص الأسعار، و قضاء الأوطار، و اعتدال الزمان، و عدل السلطان، و صحة الأبدان، و صفاء الوقت، و ذهاب المقت، و حصول المطلوب، و وصال المحبوب.
مصراع: و عند التناهي يقصر المتطاول.
و اتفق له في ذلك العرس من الأبهة و العظموت، و السطوة و الجبروت، شي‌ء لم أظنه حصل لأحد من الخلفاء المتقدمين، و لا يقع فيما بعد لأحد من المتأخرين، و إن كان المأمون فرش تحته ليلة عرسه حصيرا من الذهب، و نثر علي رأسه اللؤلؤ المنتخب، و لم يلتفت إليه، و لم يلتقط من ورائه و لا من بين يديه، حتي قال: قاتل الله أبا نواس كأنه كان حاضرا حيث قال:
كأن صغري و كبري من فواقعهاحصباء در علي أرض من الذهب «1» لكن تيمور كان في عرسه ذاك بنات الملوك و صائف، و بنوها عبيدا، كل منهم في مقام العبودية واقف، و اجتمع عنده قصاد الملك الناصر فرج من مصر و الشام، و معهم الحمولات و التقادم، و من جملته الزرافي و النعام، و رسل الخطا، و الهند، و العراق، و الدشت، و السند، و بريدي الفرنج و من سواهم، و قصاد كل الأقاليم أقصاهم و أدناهم، و من كل مخالف و موافق، و معاد و مصادق، فأخر الجميع حتي شاهدوا عظمته، و عاينوا جبروته في ذلك العرس و أبهته، فباشر ذلك علي تلك الحال، لا يخاف النكال و لا يخشي الوبال، قلت شعرا:
قرير العين لا يرجو إلهاخلي البال لا يخشي معادا يتناول المحرمات و يبيحها، و يروج عنده مستهجنها و قبيحها، مهما
______________________________
(1)- لم يرد هذا البيت في ديوان أبي نواس المطبوع.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 211
أمر به جماعته في ذلك امتثلوه، يتباهون في كل قبيح عملوه، و لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ «1»، قلت شعرا:
تبدّل من سفك و هتك جريمةأحل بها ما حرّمته الشرائع و جعل يدعو الملوك و الأمراء، و سلاطين الآفاق و الكبراء، و قواد التوامين، و زعماء الجيوش و المقدمين، و يسقيهم الكاسات بيده، و يحل كلا منهم محل أخيه و ولده، و يخلع عليهم الخلع السنية، و يجزل لهم المواهب و العطية، و يجلس كلا منهم بجنبه ذات اليمين، و أما ذات الشمال فإنها للنساء و الخواتين، فإن النساء لا يستترن من الرجال، خصوصا في مجالس الاجتماع و الاحتفال، و استمر في ذلك بين جنك و قانون، و عود و أرغون، و ناي مرقص مطرب، و شاد معجب مغرب، و ساق فاتن و دهر موات و هوي متبع، و أمر مستمع، و شمس تدور، علي نجوم و بدور، و كأس تملأ و كيس يفرغ، و أمر يمضي و أمل يبلغ، حتي استخفه الطرب و البطر، و استفزه النشاط و الأشر، فضبع إلي من استعضده، و مد للنهوض إليه يده، فتعاضدوا لمعاونته، و تعاونوا علي معاضدته، و حين استوي قالصا، تهادي بينهم بشيبته و عرجته راقصا، قلت:
و من عجب الدنيا أشل مصفق‌و أبكم قوال و أعرج راقص فنثر عليه الملوك و الكبراء، و نساء السلاطين و الأمراء، الجواهر و اللآلي، و الفضة و الذهب و كل نفيس غالي، و لم يزل علي ذلك حتي استوفي من اللهو حصته، و دخل العروس منصته، و انقضت تلك الأمنية، و تفرقت هاتيك الجمعية، شعر:
ما كان ذاك العيش إلّا سكرةلذّاتها رحلت و حلّ خمارها فصل: و لما بلغ من دنياه المرام، و انتهي ليله إلي الكمال و التمام، و عرج فيما يرومه إلي ما عرج، و صعد في سلم ارتقائه إلي أعلي الدرج، و قارب
______________________________
(1)- سورة المائدة- الآية: 79.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 212
بدر عمره الأفول، و شمس حياته أن تزول، رشقه الزمان بسهم أصماه فما أمهله، و ناداه بلسان فصيح: فرغ العروس يا بيت الاحماء لو سمع لكان يصيح، قلت شعرا:
و ما الدهر إلّا سلم فبقدر مايكون صعود المرء فيه هبوطه
و هيهات ما فيه نزول و إنماشروط الذي يرقي إليه سقوطه
فمن صار أعلي كان أوفي تهشماوفاء بما قامت عليه شروطه فأفاق من سكره، و عاد إلي عسكره، و ارعوي عما اعتدي، و علم أنه أضل قومه و ما هدي، و رأي أنه قد فرط في أمر الرئاسة، و حط من جانب الإيالة و السياسه، و أنه سام الملك خسفا، و سائس السلطنة و جد عليه مائة طريق في التقصير و ألفا، فأخذ يتدارك ما كان فرط، و يطلب التفصي «1» عما فيه تورط.

ذكر بعض حوادث متقدمة لمتعلقات ذلك العابث‌

و كان تيمور قد رأي في الهند جامعا، للبصيرة مرتعا و للبصر رائعا، عرشه في حسن بنائه و نقشه، من الرخام الأبيض كبساط فرشه، فأعجبه شكله، و أراد أن يبني له في سمرقند مثله، ففرز لذلك مكانا في فرز، و رسم أن يبني له جامع «2» علي ذلك الطرز، و أن يقطع له أحجار من المرمر الصلد، و فوض أمره إلي رجل يقال له محمد جلد، أحد أعوانه و مباشري ديوانه، فاجتهد في بنيانه، و تشييد أركانه، و استقصي جهده في تحسينه، من تأسيسه و تركيبه و ترتيبه و تزيينه، و أعلي له أربع مياذين، و باهي فيه أئمة البنائين و الأستاذين، و ظن أن لو كان علي ذلك أحد غيره، لما قدر أن يصنع صنعه، و يسير سيره، و أن تيمور سيشكر له صنيعه، و ينزله عنده بذلك منزلة رفيعة، فلما آب من سفرته، و تفقد ما
______________________________
(1)- تفصيت: إذا تخلصت من بلية
(2)- بقايا هذا المسجد الجامع ما تزال ماثلة في سمرقند إلي اليوم.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 213
حدث في غيبته، توجه إلي الجامع لينظر إليه، فبمجرد ما وقع نظره عليه، أمر بمحمد جلد فألقوه علي وجهه و ربطوا رجليه، و لا زالوا يجرونه، و علي وجهه يسحبونه، حتي بضعوه «1» علي تلك الحال، و استولي علي ماله من أهل و ولد و مال.
و أسباب ذلك متعددة و معظمها أن الملكة الكبري، امرأة تيمور العظمي «2» أمرت ببناء مدرسه، و اتفق المعمارية و أهل الهندسة، أن تكون في مواضع، مقابلة لبناء هذا الجامع، فشيدوا أركانها، و شدوا بنيانها، و علوا علي الجامع طبقاتها و حيطانها، فكانت أرسخ منه تمكينا، و أشمخ منه عرينا، و تيمور كان نمري الطبع، أسدي الوضع، ما تكبر عليه رأس إلا شدخه، و لا تجبر عليه ظهر إلا فضحه، و كذلك كلما أضيف إليه، أو عول في النسبة عليه، فلما رأي قامة تلك المدرسة طالت، و علي قد جامعه الجبير ترفعت و استطالت، نغل صدره غيظا و اشتعل، و فعل مع مباشر ذلك ما فعل فلم يصادفه فيما أمله سعد، و هذه الحكاية متقدمة لما ذكره بعد.
نكتة: كان هذا الجامع كصاحبه، أحاطت أوزار الأحجار بجوانبه، و تثاقلت علي غواربه و مناكبه، و دقت عنق طاقته عن حملها و رقت، و تلا لسان سقفه إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «3» و ما أمكن تيمور الاشتغال بهدمه ثم إحكامه، و نقض بنائه و استيفاء إبرامه، فطوي ثوب عمارته علي غره، و استبقي خشب أخشبه علي وهنه و كسره، لكن أمر خاصته و ذويه، أن يجتمعوا و يجمعوا فيه، و استمر ذلك في حياته و بعد وفاته، فكان إذا اجتمع الناس فيه للصلاه، يرتقبون من تلك الحجارة ما يهبط من خشية الله، و صار ملك الجبال في تلك المحله، يتلو وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ
______________________________
(1)- أي قطعوه.
(2)- كانت دلشاد آغا التي تقدم ذكرها و سوف يرد ذكرها أيضا هي الزوجه الملكة الكبري، و لكنها توفات سنة 806 ه/ 1404 م، لذلك يرجح أن التي قصدت هي سراي ملك خانوم، و كان تيمور قد تزوجها بعد مقتل زوجها في 771 ه/ 1370 م.
(3)- سورة الرحمن- الآية: 1.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 214
كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ «1»، ففي بعض الأحيان، و قد غص بالناس ذلك المكان، و أخذ كل منهم حذره، سقط من حجارته من أعلاه شذره، ففر كل من كان جائما، و انفضوا إلي الأبواب، و تركوا الإمام قائما، و كان من جملتهم الله داد، أحد الأكفاء و الأنداد، فلما اطلعوا علي حقيقة الخبر، تراجعوا و زال عنهم الخور، فلما قضوا الفرض، و انتشروا في الأرض، قال لي الله داد، و كان من الدهاة ذوي الكياد و الأذكياء النقاد، له حوالي كعبة المخازي مائة شوط و ألف طوق: ينبغي أن يلقب هذا الجامع بمسجد الحرام و الصلاة فيه بصلاة الخوف، و قال لي الله داد و قد فهم معني هذا الإنشاد: و ينبغي أن ينشد، في شأن هذا المعبد، و يكون رقم طرازه و نقش صدره و مجازه، قول الشاعر:
سمعتك تبني مسجدا من جنايةو أنت بحمد اللّه غير موفق
كمطعمة الأيتام من كدّ فرجهالك الويل لا تزني و لا تتصدّقي فصل: و لما كان تيمور ببلاد الروم يصول، كان استخلاص ممالك الشرق في فكره يجول، و قد ذكر أنه أرسل إلي الله داد، يستوصفه أوضاع تلك البلاد، و لما انكشفت له أحوالها، و تبينت له قراها و مضافاتها و أعمالها، حتي شاهدتها عين بصيرته، و استقرت كيفيتها في سر سريرته، جهز لتلك النواحي، رؤوس هاتيك الضواحي، و من جملتهم بيردي بيك، و تنكري بيردي، و سعادات، و الياس خواجه و دولة تيمور مع زيادات، و أضاف إليهم طوائف من الأجناد، و رسم أن يتوجهوا كلهم إلي الله داد، و أن يجهز الله داد أمره، و يتوجهوا فيبنوا قلعة تدعي باش خمره «2» و هي عن أشباره نحو من عشرة أيام، و من متعلقات الموغول الطغام، و كانت أمورها اضطربت، و لكونها متنازعة بين مملكتين خربت.
______________________________
(1)- سورة الأعراف- الآية: 171.
(2)- وقعت: باش خمره فيما بين سميرتشه الحالية و المجري الأعلي لنهر سيحون، انظر بارثولد: Four Studies, p 61. عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 215
فتوجهوا إلي تلك الداره، بالعساكر الجراره، و اشتغلوا علي غير عادتهم بالعماره، و كان توجه هذه الفئه، في أواخر سنة ست و أوائل سبع و ثمانمائه، و قصد بذلك أن تكون لهم معقلا، و عند توجههم إلي الخطا و إيابهم ملجأ موئلا.
فلما أحكموا أساسها، و صنفوا أنواع بيوتها و أجناسها، و وضعوا من أحجار الأساسات أقدامها، و رفعوا علي أعلام الأسوار أعلامها، أرسل إليهم مرسوما أنهم يرجئون أمرها، و يتناسون ذكرها، و يأمرهم فيه بالرجوع، و الاشتغال بتعليق البلاد بالزروع، بحيث أن فقهاء المدارس و الديار، من أهل القري و الأمصار، و المشتغلين بفقه المزارعه و المساقاة من فلاحي الأنجاد و الأغوار، و أهل الرزداقات و الأكاره «1»، من حدود سمرقند إلي إشباره، يتركون مسائل المعاملة و المبايعه، و يكررون البحث قولا و عملا في درس المساقاة و المزارعه، و يؤذن في جماعتهم أن يقيم كلا منهم في الزرع صلاحه، و إن اضطر أحدهم أن يترك صلاته فالحذر أن يترك فلاحته، و رام بذلك أن يكون لهم في سفرهم عتادا، و ان نقص لهم في الدرب قضيم و خصيم زادا، فتركوا العماره، و قصد كل من الأمراء دياره، و اشتغلوا باستخراج البقر و البذار، و اجتهدوا في إحياء جميع الموات، كما رسم و أشار، فما فرغوا من ذلك إلا و قد طوي الصيف بساطه، و نشر رائد الخريف علي العالم أعلامه و أنماطه.

ذكر عزمه كما كان علي الخطا و مجيئه سكرة الموت بالحق و كشفه عنه الغطا ثم انتقاله من سفره إلي سقره‌

فلما أفاق، أخذ فيما كان عليه من التوجه إلي الآفاق، و قصد الحواشي و الأطراف، و استخلاص الممالك و الأكناف، و صرف عنان الذهاب، نحو الخطا علي عادته، و كان ذلك عين الصواب، فأرسل إلي أمم عساكره أن يستوفزوا، و يأخذوا أهبة أربع سنين أو أكثر و يتجهزوا.
______________________________
(1)- الزداقات: القري و ما يتعلق بها من الأراضي، و الأكار هم حراث الأرض.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 216
فلبت كل أمة دعوة رسولها، و شنفت بأقراط مراسيمه آذان قبولها، و حمل كل أسد جوزاء عتاده، و امتطي جدي بغيه، و عتد كل ثور سنبلة زاده، و دلو سقيه، و دب كل عقرب منهم دبيب السرطان، و انسابوا انسياب الحوت في بحار العدوان، مجازفين مظالم العباد بلا كيل و لا ميزان.
فأبرد هلال القوس سهم برده بمرسومه إلي كل صماخ، يخبر أن جند الشتاء علي عالم الكون و الفساد أناخ، فليستعد له الكفاءة، و ليحذره العراة و الحفاة، و لا يكتفوا في كفه بكافاته فما كل كاف له كفوا، لأنه في هذه المرة آية من آيات الله فلا تتخذوا آيات الله هزوا، و إن قصده بقدومه تبريد الانفاس، و تشويظ «1» الأنوف و الآذان، و إسقاط الأكارع و قلع الرأس، و أن فصل الخريف رائد جنوده، و قائد بنوده، و نموذج طلعته، و مرأي عين غلته، و عنوان مكاتبته، و مقدمة كتيبته، ثم زمجر بعواصف رياحه الباردة، و خيم علي العالم بخيام غيومه الصادرة و الوارده، فارتعدت الفرائص من زئيره، و لاذ كل من الحشرات بقعر جهنمه خوفا من زمهريره، و خمدت النيران، و جمدت الغدران، و ارتجفت الأوراق ساقطة من الأغصان، و خرت علي وجهها الأنهار، جارية من الأنجاد إلي الأغوار، و تخيست «2» الاسود في أخياسها، و تكنست الظباء في كنانها، و تعوذ الكون من آفته، و اصفر وجه المكان من مخافته، و اغبرت خدود الرياض، و ذبلت قدود الغياض، وراح ما كان بها من النضرة و الارتياح، و أصبح نبات الأرض هشيما تذروه الرياح.
فاستسمج تيمور لفظات هذه النسمات، و استبرد نفثات هذه النفحات، و أمر باعداد لبوس القباب، و استعداد بركستوانات الجباب، و اتخذ لصفاح الجمد و سهام البرد، من المبطنات الدرق، و من الفراء الزرد، ثم ضاعف لملاقاة الشتاء مضاعفات اللباس، و أفرغها علي قامة
______________________________
(1)- الشواظ: اللهب الذي لا دخان فيه. العين
(2)- تخيس الأسد: قبع في غابته.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 217
عزمه الثاقب، و أمدها من كافات كفايته بأتراس، و لم يلتفت إلي كلام و ملام، و استكفي من الشتاء ما لبسه و أعده من كل كاف و لام، و قال لعسكره لا تكترثوا بأمر الشتاء فإنما هو برد و سلام، و حين اجتمعت عساكره، و التأمت أموره و أوامره، أمر أن يصنع له خمس مائة عجله، و تضبب بالحديد ليحمل عليها ثقله، فبادر الشتاء خروجه بالدخول، و أورد بانقطاع جراية عمره من ديوان الفناء الوصول، فبرز في شهر رجب، و قد أصبح البرد عجبا و أي عجب، و سار لا يرق لمرق، و لا يرثي لجسد من البرد محترق، فوصل في سياحته إلي سيحون و قد تجمد، و بني عليه رائق النسيم الصرح الممرد قلت قديما شعرا:
علي البحر قد عاينت جسرا ممدّدابناه إله العرش صرحا ممرّدا
بكيت فخلت الدمع في جنباته‌رقيق رحيق في زجاج تجمدا فعبره و مر، و مضي علي ذلك و استمر، و تمادي علي لجاجه و أصر، قد مر الشتاء عليه بالدمار، و انحط عليه من الجوانب بكل إعصار فيه نار، و حطم جيشه بكل نكباء صرصر، و ضرب أثبات عسكره بصرة طول فيها و ما قصر، و هو بذلك الجمع الكثير يسير، لا يرثي لأسير و لا يجبر و هن كسير، يسابق البرد ببروده، و يجاري الجرد بجرده و مرده، فجال فيهم الشتاء بحرا جف عواصفه، و بث فيهم حواصب قواصفه، و أقام عليهم نائحات صراصره، و حكم فيهم زعازع صنابره، و حل بناديه، و طفق يناديه: مهلا يا شؤوم، و رويدا أيها الظلوم الغشوم، فإلي متي تحرق القلوب بنارك، و تلهب الأكباد بأوامك و أوارك، فإن كنت أحد نفسي جهنم فإني ثاني النفسين، و نحن شيخان اقترنا في استئصال البلاد و العباد فأنحس بقران النحسين، و إن كنت بردت النفوس و بردت الأنفاس، فنفحات زمهريري منك أبرد، أو كان في جرائدك من جرد المسلمين بالعذاب فأصماهم و أصمهم ففي أيامي بعون الله ما هو أصم و أجرد، فوالله لا حابيتك، فخذ ما آتيتك، و و الله لا يحميك يا شيخ من
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 218
برد ريب المنون، لواعج جمر مجمرة و لا واهج لهيب في كانون، ثم كال عليه من حواصل الثلوج ما يقطع الحديد، و يفك الزرد، و أنزل عليه و علي عساكره من سماء الزمهرير من الجبال ما فيها من برد، و أرسل عقيبها زوابع سوافيه فحشتها في آذانهم و مآقيهم، و دستها في خياشيمهم فاستقبلت بها نزع أرواحهم إلي تراقيهم، و جعلت تلك الريح العقيم ما تذر من شي‌ء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، و أصبحت مشارق الأرض و مغاربها من الثلوج المنقضة، كأنها بر عرصات القيامة، أو بحر صاغه الله من فضه، فكانت إذا بزغت الصقعاء و لمع الصقيع تراآي شي‌ء عجيب، سماء من فيروزج و أرض من بلور ملأ ما بينهما شذور الذهب، فإذا هبت فيما بين ذلك و العياذ بالله نسمة ريح، علي نسمة ذي روح، أخمدت نفسه، و جمدته و فرسه، و كذلك الجمل و الجمال، حتي أتت علي كل مرمق الحال، و انتهي الشأن إلي أن طابت النار وردا، و صارت لواردها سلاما و بردا، و أما الشمس فإنها ارتجفت، و جمدت عينها من البرد و نشفت، و صارت كما قيل شعرا:
يوم تودّ الشمس من برده‌لو جرّت النار إلي قرصها و كان الرجل اذا تنفس جمدت أنفاسه علي سباله «1» و لحيته، فيصير كانه فرعون و قد رصع لحيته بحليته، و ان لفظ من فيه نخامه عاقده، لا تصل إلي الارض مع ما فيها من الحراره إلا و هي بندقة جامده، فانكشف ستر الحياة عنهم، و أنشد لسان حال كل منهم، شعر:
فيا رب إن البرد أصبح كالحاو أنت بحالي عالم لا تعلم
فان كنت يوما مدخلي في جهنم‌ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم فهلك من عسكره الجم الغفير، و أتي الشتاء علي كثير من كبير منهم و صغير، و شاظ منهم أنوف و آذان و سقط، و انحل عقد نظامهم
______________________________
(1)- أي علي شعر الشاربين.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 219
و انفرط، و لا زال الشتاء يهب و يصب عليهم ريحا و بحارا، حتي أغرقهم فيها و هم عاجزون حياري، و نودي عليهم مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً «1» و هو مع ذلك لا يلتفت إلي من مات، و لا يتأسف علي ما فات.

ذكر مرسوم أرسله الي الله داد بت منه الكباد وفت القلوب و الأعضاد و زاد ما خبله من هموم بأنكاد

و كان تيمور حين مخرجه من سمرقند، أرسل إلي الله داد بأشباره، مرسوما أذهب فيه قراره، و نفر طائر نومه عن وكر أجفانه و أطاره، و فهم من فحواه بالإشاره، أنه طالب دماره، و ميتم أولاده و مخرب دياره، شد عليه في المضائق، و سد في وجهه الطرق و الطرائق، و اقترح عليه فيه بأمور، يسهل عندها قطع الجبال و نقل الصخور، و يعذب عند أدناها شرب البحور، من أقلها أن يهي‌ء له بمفرده، إقامة ليوم قدومه دون غده، خضيما يأكله ليله، و قضيما يطعمه خيله، و من عرض ذلك مائة ألف حمل جمل طحينا خاصه، و هو مخصوص به لليلة واحدة خاصه، و أنه مع عساكره الجراره، لا يبيت سوي ليلة واحده بأشباره، إلي غير ذلك، فلما اطلع الله داد علي هذا الكتاب، و فهم ما تضمنه فحوي هذا الخطاب، علم أنه قد حل به العذاب فسلب وعيه، و تبدل سعيه، و أخذ في إعداد الطحين، و اجتهد في إدارة الطواحين، و كانت الطواحين أوقف من حال أديب، في هذا الزمن العجيب، و مجاري مياهها أيبس من كف شحيح، كلف زمن القحط تذريه الدقيق في الريح، و دماء الأنهار في مجاري عروق الجبال ناضبة، و دموع العيون في آماق الغروب غاربه، فبدل ما كان أعده، لكل نائبة و شده، و أهان نفائس الأموال، و استعان علي إجراء الماء بالمال، و استغاث لأولي النجدة من الرجال، و استمد المدد، من كل عد
______________________________
(1)- سورة نوح- الآية: 25.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 220
و ثمد «1»، و استنهض آراء المشفقين من الأصحاب، و استدفع بهم ما نزل به من مخلب البلايا و ناب، و قرع لفتح ما أرتج عليه مما لا طاقة له به كل باب، فاستجابوا دعاءه، و أجابوا صداه و نداءه، و تأوهوا لمضضه، و استطبوا لمرضه، و جمعوا من العملة و الفعلة الأسود و السراحين «2»، فعلموا في سوق الأنهار من الأعمال ما يدير الطواحين، و جعلوا يعاندون البرد، و يقطعون في طريق الماء الجمد، فكانوا كالضارب في حديد بارد، و المكابد بتزويق وعظه تليين قلب الجاحد، حتي سهلت حزونه، ورق لمكابدتهم فدمعت عيونه، و صاروا لا يقطعون من الجليد، مقدار ذراع بالحديد، إلا و تهب نسيمة يابسة، علي تلك الوجوه العابسه، فإذا هب بارد النسيم، قابله الماء بوجه بسيم، فيبرد قلبه عن نارهم، و يصرد «3» لبه عن أوارهم، فيجمد ما فوق ذلك، فتضيق عليهم المسالك، فيرجعون القهقري، و يمشون كالحبالي إلي ورا، و الله داد مع ذلك يبذل الأموال، و ينادي مستغيثا: يا للماء يا للرجال، قلت شعرا:
فكان كل منهم كالحماريخرج ما أمكنه بالمدار
يوقفه الماء لإجرائه‌و كلما أوقفه البرد دار إلي أن وقع الاتفاق بين الرفاق، أن هذه مسألة تكليف ما لا يطاق، و حين تبين له أمرهم، و تعين عنده عذرهم، قارنه الحظ الحالك، و تيقن أنه لا محالة هالك، و أنه قد وقع في البلاء العريض الطويل، و أن مخدومه ما طلب منه في ذلك المحل الدقيق إلا لأمر جليل، و كان بلغه ما وشاه به أضداده، و نقل إلي تيمور عنه أعداؤه و حساده، و علم أن خاطره تغير عليه، و فعله مع محمد جلد مشيد جامعه قد نقل إليه، و كيف قتله شر قتله، و نهب أمواله، و أسر أولاده و أهله، و كان متوقعا من تيمور،
______________________________
(1)- العد: الماء الجاري الذي لا ينقطع، و الثمد: المال القليل الذي يجتمع في الشتاء و ينضب في الصيف.
(2)- السراحين هنا: الذئاب.
(3)- يصرد: يسقي الماء قليلا دون إرواء
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 221
أضعاف هذه الشرور، لا يقر له قرار، و لا يسكن له ليل و لا نهار، و قد غسل من الحياة يده، و ودع حياته و أهله و ماله و ولده، و قد قرب شهر الصيام، و صار بينه و بين تيمور نحو من عشرة أيام، و قد انقطعت الدروب، و ضعف الطالب و المطلوب.
مفرد
اذا تضايق أمر فانتظر فرجافأضيق الأمر أدناه إلي الفرج

ذكر سبب انكسار ذلك الجبار و انتقاله الي دار البوار و استقراره في الدرك الأسفل من النار

و جعل تيمور يواصل التسيار، حتي وصل كورة تدعي أترار، و لما كان بظاهره من البرد آمنا، أراد أن يصنع له ما يرد الأبردة عنه باطنا، فأمر أن يستقطر له من عرق الخمر المعمول فيها الأدوية الحاره، و الأفاويه و البهارات النافعة غير الضارة، و أبي الله أن تخرج تلك الروح النجسة، إلا علي صفات ما اخترعه من الظلم و أسسه، فجعل يتناول من ذلك العرق، و يتفوق أفاويقه من غير فرق، لا يسأل أخبار عسكره و أنباءهم، و لا يعبأ بهم و لا يسمع دعاءهم، حتي سقته يد المنية كأسا وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ «1» فإنه لم يزل للقضاء معاندا، و للزمان مجاهدا، و لنعم الله تعالي جاحدا، و لا شك أنه جاء ناقضا أو تحمل مظالم فراح زائدا، فأثر ذلك العرق في أمعائه و كبده، فترنح بنيان جسمه و رنح «2» أركان جسده، فطلب الأطباء، و عرض عليهم هذا الداء، فعالجوه في ذلك البرد، بأن وضعوا علي بطنه و جبينه الجمد، فانقطع ثلاث ليال، و عكم أحمال الانتقال، إلي دار الخزي و النكال، و تفتت كبده، و لم ينفعه ماله و ولده، و صار يتقيأ دما، و يأكل يديه حسرة و ندما.
______________________________
(1)- سورة محمد- الآية: 15.
(2)- رنح فلان ترنيحا: إذا اعتراه و هن في عظامه و ضعف في جسده. العين.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 222
مفرد
و اذا المنية أنشبت أظفارهاألفيت كل تميمة لا تنفع و جرّعه ساقي المنية كأس، و آمن حينئذ بما كان جاحده، فلم ينفعه إيمانه لما رأي البأس، فاستغاث، فلم يوجد له مغيث، و نودي عليه أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، أخرجي ذميمه، ظالمة أثيمه، و أبشري بحميم و غساق، و مجاورة الفساق، فلو تراه و هو يغط غطيط الثور المخنوق، و يكمد لونه و يزبد شدقاه كالبعير المشنوق، و لو تري ملائكة العذاب و قد أظهروا استبشارهم، و أخنوا علي الظالمين ليخربوا ديارهم، و يطفئوا نارهم، و يهدموا منارهم وَ لَوْ تَري إِذْ يَتَوَفَّي الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ «1»، و لو تري نساءه و حاشيته و هم حواليه يجأرون، و أعوانه و جنده، و قد ضل عنهم ما كانوا يفترون لَوْ تَري إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَي اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ «2»، ثم انهم أحضروا من جهنم المسوح، و سلوا سل السفود «3» من الصوف المبلول تلك الروح، فانتقل إلي لعنة الله و عقابه، و استقر في أليم زجره و عذابه، و ذلك في ليلة الاربعاء سابع عشر شعبان ذي الأنوار، سنة سبع و ثمانمائة بنواحي أترار، و رفع الله تعالي برحمته عن العباد العذاب المهين فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «4» قلت شعرا:
الدهر دولاب يدورفيه السرور مع الشرور
بينا الفتي فوق السماو اذا به تحت الصخور
______________________________
(1)- سورة الأنفال- الآية: 50.
(2)- سورة الأنعام- الآية: 93.
(3)- السفود قضيب من حديد يشوي عليه اللحم.
(4)- سورة الأنعام- الآية: 45.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 223 كم من شموس في سمافلك العلاء لها بدور
لما استوت في عزهازالت و أكسفها الفتور
و ملوك دنيا أضرمت‌من نار عدواها البحور
ملكوا البلاد أهلهاماضي الأوامر و الأمور
أغراهم الدهر الخؤن و غرّ بالله الغرور
ضحك الزمان بثغره‌لهم و قد ملكوا الثغور
فغدوا ذئابا في الأذي‌و غدوا أسودا في الشرور
غنّي لهم فتراقصوامثل الشخوص بلا شعور
و حكوا علي باباتهم‌طيف الخيال اذا يدور
و توهموا أن الزمان‌مطاوع غير النفور
أو أن ما نالوه من‌دنيا يفور و لا يغور
فتوثبوا و تضاربواو تكالبوا شبه النمور
و تلاكزوا و تلاحزوا «1»و تناجزوا الضرب الهصور
و تناخزوا و تلابزوا «2»و تناقروا نقر النسور
هذا و ان يتصالحوايتصافحوا مينا «3» و زور
فتهافتوا في نارهامتصورين النار نور
بيناهم في عزهم‌و الدهر مكار غيور
انقض فيهم صرفه‌كالصقر في دقل «4» الطيور
أمسوا و كل منهم‌كاللحم يلقي للصقور
لا ملك ردّ يد الردي‌عنهم و لا ملك و دور
كلا و لا جيش و لاولد و لا مدد نصور
ثم انمحت آثارهم‌محو الحيا نقش السطور
______________________________
(1)- تلاكزوا: تضاربوا، و تلاحزوا: تعارضوا الكلام فيما بينهم
(2)- تلابزوا: تضاربوا بشدة.
(3)- مينا: كذبا و خداعا.
(4)- الدقل من الطير: الصغير الضعيف
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 224 لم يبق منهم دهرهم‌شيئا سوي ذكر يدور
ناهيك منهم فتنةكالأبحر الظلما تمور
الأعرج الدجال من‌قصم الجماجم و الظهور
داخ البلاد و دارهاو نوائب الدنيا تدور
أملي له الله الحليم‌فزاد عدوي في فجور
و أمدّه مستدرجاإياه في شي‌ء يبور
ليراه في إمضائه‌حكما أيعدل أم يجور
فاجتاح كل الخلق من‌عرب و من عجم القطور
و محا الهدي و غدا الردي‌بحسامه الباغي يمور
أفني الملوك و كل ذي‌شرف و ذي علم وقور
و سعي علي اطفاء نور اللّه والدين الطهور
بفروع جنكز خان ذاك الظالم النجس الكفور
فأباح إهراق الدمامن كل صبار شكور
و أحل سبي المحصنات المؤمنات من الخدور
و رمي علي النار الصغار كأنهم فيها بخور
و أضاف في هذا إلي‌فعل الزنا شرب الخمور
طورا يري نكث العهود تارة نقض النذور
وعدا علي السادات من‌أهل الصيانة و الوقور
من كل ذئب صائل‌منهم و من كلب عقور
فتكوا و قد بتكوا القلوب و بعدما هتكوا الستور
و شووا جبالها طالماسجدت لذي الرب الغفور
و كووا جنوبا قد جفت‌طيب المضاجع و الظهور
و استخلصوا الأموال من‌أيدي البرايا بالفجور
و سقوهم كأس السموم‌و جرعوا كأس الحرور
و استأسروا آل النبي‌المصطفي الطهر الطهور
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 225 باعوهم من مشركي الأتراك في أقصي الكفور «1»
و كذاك واحد أمه‌من كل مقلاة نذور
و جروا علي هذي الجرائم و استمرّ لهم مرور
ما بين إيران و توران البلاد لهم عبور
و امتدّ ذاك من الخطاآخذا إلي أقصي القطور
لما انتهي إفساده‌و تكاملت تلك الشرور
هجم القضاء لأخذه‌و لكل تكميل قصور
حذفته أيدي الموت من‌تلك القصور إلي القبور
و تبدّلت منه الكرامة بالمذلة و العثور
و مضي إلي دار النكال بما تحمل من وقور «2»
و تفرّقت تلك الجموع و هدّ ما شاد الدثور
أبقت عليه فعاله‌لعنا علي مر العصور
و تخلدت آثار ماآذي علي كرّ الدهور
فانظر أخي ثم افتكرفي ذا المساء و ذا البكور
لا فرق عند الموت بين‌شكور فضل أو كفور
أين الذين وجوههم‌كانت تلألأ كالزبور
أهل السعادة و الحجي‌و ذوو السيادة و الوقور
المطفئو بدر السماو المخجلو فيض البحور
كانوا عظاما في الصدورو هم صدور في البدور
طحن الردي تلك العظام‌وفت هاتيك الصدور
و سفتهم ريح الفناسفي الرمال يد الدبور
أين البنون و من غداللقلب أفراحا و نور
كانوا اذا رفع الحجاب و زحزحت عنهم ستور
______________________________
(1)- الكفر: جمع كفر، و الكفر القرية أو البلدة.
(2)- أي من أحقاد.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 226 تلقي الدنا قد أشرقت‌كالشمس من سجف الخدور
من كل ظبي أحورأو ظبية تزري بحور
نشر الجمال عليهم‌ثوب الدلال علي حبور
وفدتهم مهج الوري‌من شر أحداث الدهور
كانوا إذا سكنوا مكانا حرّكوه من السرور
كانوا علي وجه الدناحدقا و للأحداق نور
و حدائقا لرياضهاو علي حدائقها زهور
بينا هم في سكرهم‌قد مازج الغر الغرور
و العمر غض و الزمان مسلّم لهم الأمور
و اذا بساقي الموت فاجأهم بكاسات الثبور
فسقي رياض حياتهم‌قدحا أعاد الكل بور
تركوا فسيح قصورهم‌رغما إلي ضيق القبور
و سقوا كؤوس فراقهم‌صبرا لكل شح غيور
من شق حزنا جيبه‌و لفقدهم دق الصدور
لو كان ينفعه الرشي‌أو كان تجديه النذور
لفداهم و وقاهم‌و رعاهم رعي الخدور
سكنوا الثري فتغيرت‌تلك المحاسن و الشعور
و رعاهم دود البلي‌و فراهم فري الجزور «1»
أمسوا رميما في الثري‌وثووا إلي يوم النشور
يسعي المحب مخاطباأجداثهم يوما يزور
ينعي و يندب نائحاقبرا تناوشه الدثور
و يمرّغ الخدّين في‌ترب يراها كالذرور
يدعو فليس يجيبه‌إلّا صدي صم الصخور
بينا تراه زائراو إذا به أمسي زور
______________________________
(1)- أي قطعهم تقطيع الدابة المذبوحة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 227 هذا بتقدير الإله‌و حكم فعال صبور
دنياك جسر فاعتبرو احرص علي زاد العبور
و اطمح إلي اللب الهني‌فجميع ما فيها قشور
لو لم تك الدنيا و مافيها هباء خيتعور «1»
ما كان يزوي برهاعن كل صبار شكور
كلا و لا انقادت لمن‌قد صار مختالا فخور
هذا و غالب من عتافي أرضها عرج و عور
خلقوا لحق فانثنواعنه إلي مين و زور
يا رب ثبتنا علي‌ما ترتضيه من الأمور
و اغفر لنا ما قد علملت من الخطايا يا غفور
و اختم لنا بسعادةنكفي بها شر الغرور
و امنن لنا بتجارةمن باب فضلك لن تبور
و أدم سحائب رحمةتهمي علي بدر البدور
خير الأنام محمدالشافع الزاكي الطهور
و الآل وا لصحب الكرام و تابعهم يا شكور

فصل في ذكر ما وقع بعد وفاة تيمور من حوادث و أمور و ما ظهر من سرور و شرور

و كان لألله داد أحد الخلان، يدعي سعادات نائب مدينة أندكان، من ذوي النباهة و الشهرة، و هو أحد الأمراء الذين توجهوا لعمارة باش خمره، فأرسل قاصدا إلي الله داد، أنه ارتفعت مادة الفساد، و أن تيمور ترك تبعة الممالك، و توجه بتبعاته إلي درك مالك، فوصل القاصد بهذا السرور، رابع عشر شهر رمضان من العام المذكور، ففرج عن الله داد همه، و أزاح عنه غمه، و كأنه استأنف له الحياة، أو رد راحلته التي عليها
______________________________
(1)- الخيتعور: السراب و كل ما لا يدوم علي حاله و يضمحل. القاموس.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 228
طعامه و شرابه بعد أن أضلها في فلاه، و ستأتي حكاية الله داد و أمره، و ما جري له بعد ذلك إلي آخر عمره.

ذكر من ساعده البخت و استولي بعد تيمور علي التخت‌

فلما قضي تيمور نحبه، و أزال الله عن العالم كربه، لم يكن معه في أجناده، من أقاربه و أولاده، سوي خليل سلطان بن أميران شاه حفيده، و سوي سلطان حسين ابن ابنته، الذي هرب إلي السلطان في الشام عند وروده، فأرادوا كتم هذه القضية، و أن لا يشعر بها أحد من البريه، فشاعت و راعت، و علي رغمهم ذاعت، فاضطربوا و اضطرموا و اصطدموا و اصطلموا، فاطلع الناس كلهم علي ذلك و فهموا و علموا، أنه قطع دابر القوم الذين ظلموا، فجفلت العساكر و أجفلوا، و حملوا عظامه و إلي سمرقند قفلوا.
و ساعد خليل سلطان البخت، و خلا له الجو فاستولي علي التخت، و كان أبوه أميران شاه، متولي ملك أذربيجان، و ما والاه، و عنده ولداه عمر، و أبو بكر، و بينهم و بين ما وراء النهر، من الأطواد و الاشجار، مائة سياج و ألف سكر، و كان أبو بكر هذا في الجغتاي من الفوارس، و الضاربين بالبيض الهام و القوانس، يذكر أنه كان يوقف بقرة، أو ينيخ بكره، و يضربها بالسيف ضربة لا ضربتين، فيجعلها قطعتين مفصولتين، و أميران شاه هذا قتله قرايوسف بعد تيمور، و استخلص منه ممالك أذربيجان، و ولده عمر قتله أخوه أبو بكر، و أبو بكر قتله ايدكو متولي كرمان، و مصافاتهم مذكوره، و حكاياتهم مشهوره، و شاه رخ كان في هراة و ممالك خراسان، و بير عمر كان في ولايات فارس و تلك البلدان.
و تيمور كان جعل ولي عهده محمد سلطان، و هو و إن كان من أحفاده، لكنه قدمه علي أولاده، لما لاح له من فلاحه، و ظهور رشده و صلاحه، فعانده القضاء فيما يروم، و مات كما ذكر في آق شهر من بلاد الروم.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 229
و كان له أخ يدعي بير محمد، فجعله تيمور ولي عهده من بعده، فلما هجم عليه رائد الموت، و أهاب روحه الخبيثة بأزعج صوت، كان مستغرقا في بحار غفلته، مسترجيا إرجاء مهلته، فذبحه اعتباطا، و سام عسكره اختباطا، و كان إذ ذاك من أولاده و أحفاده بعيد الدار، مستقر القرار، آمنا من البوار، فارغا عن الدمار، و هم: كتيمور غافلون، و بير محمد في قندهار، و هي بين حدي خراسان و الهند، و بينه و بين ما وراء النهر سباسب و قفار، فلم يكن أقرب إلي دار الملك الذي أنشأه، و هي سمرقند، سوي خليل سلطان بن أميران شاه، مع أن قطان الشتاء و ندافه، كان قد بسط علي فراش الأرض لحافه، و ندف عليه من أقطان الثلوج ما غطي وجه العالم و أطرافه، وطم ظهره و أكتافه، فلم يقدر أحد من أولئك الحشرات أن يخرج رأسه عن اللحاف، أو يضحك ثغر زهرة أنملة في كم كميم خوفا من جاني النسيم، أن يبادرها باختطاف الاقتطاف، فضلا عن أنه يتمطي في فراش أهبة إلي حركة سفر فيمد يده نحو بطش، أو رجله نحو طواف.
فاستولي خليل سلطان علي ذلك المغنم البارد من غير منازع و عديل، و استبدل الملك بل العالم من جهنم الكوثر السلسبيل، و نادي لسان السلطنة في رقعتها نعم البديل، بدلت عن بغيض بحبيب، و عن عدو بخليل، و تمكن من العساكر و الأمراء، و خلاصة الجند و أساطين الزعماء، و احتوي علي تلك الأمم، و طوائف الرؤوس من العرب و العجم، و ادخل عنق الجميع في ربقة المتابعة، و فتح لهم في أسواق الصداقة حوانيت الصلاة فعاملوه بعقود المبايعة، و لم يمكن أحد منهم الخروج عن الدخول في الطاعه، و التخلف عن المبادرة إلي مبايعته في ذلك اليوم و لا ساعه، فأطلق لهم البشره، و أحسن معهم العشره.
و كان يوسفي الخلق محمدي الخلق، خليلي الرفق، اسماعيلي الصدق، جمع حروف الملاحه، و حاز صنوف الصباحه، نقش محاسنه كاتب الصنع
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 230
بقلم الكاف و النون، علي أحسن ما يكون، من الحركات و السكون، فأول ما مشق علي لوح الجمال ألف قده القويم، فباء له كل من فاء عن لام عذاره متقوسا في خدمته كالدال و الجيم، و حسن لكل راء ما فيه من زين، و ماشين سين ثغره ميم فمه مذ فاها بخلف و لامين، فاستقفي بوباله كل قاف، و استكفي بنائله كل كاف، و أمطر من عين كفه العين، فصاد من الجند كل ذي لام و باء، و دأل بذلك علي كل من باء عن وعده، و رجع عن عهده وفاء، ففدت الواقيات مهجته، و رقت من عين الحوادث بهجته، و عوذت منه الأرداف، بالطور و الأحقاف، و حمت نون حاجبه وفاه و طرفه و طرته و ردفه بحم عسق، و فتحت له الملوك بالثناء فاها، و خفضت لارتفاعه خدودها معوذه له و قالت ياسين و طه.

ذكر خلاص العساكر من البند و قفولهم مع عظامه الي سمرقند

و لما ذبح قصاب الفناء تيمور و نحره، جزره كالجزور فجعل يخور كالثور و بقره، ثم أراد أن يصليه من نار الجحيم حفره، فاستغاث بخليله فأجاره و أخره، و قال لا تعجل عليه و حمله في محفة بعد العجلة و صبره، و ألوي راجعا إلي سمرقند، و كان قد انحل نهر خجند، و طالب الشتاء قد أدرك ثأره، و برد قلبه و سكنت الحراره، قلت شعرا:
ورق للعالم قلب النسيم‌و أقبل الدهر بوجه بسيم ثم هجم جيش الربيع المنصور، فانهزم جند البرد فولي و هو مكسور.

ذكر ما أضمره وزراء تيمور و أخفاه كل منهم في التامور «1»

و كان في أفلاك ذلك العسكر، سيارات نجوم بهم سماؤه تزهر، و بأرائهم يقتدي، و برؤيتهم يستضاء، قلت:
من كل منتجب للأمر منتخب‌كالشمس رأيا و كالضرغام إقداما
______________________________
(1)- التامور: القلب.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 231
قد هذبتهم الأمور، و شذبتهم بلايا تيمور، و استفتح بهم المغالق، و استوسع بصدماتهم المضائق، و تخلص بحملاتهم من شدة ما مارق، و توصل بعزمهم إلي نيل المآرب، و توسل بعزيمتهم إلي كنوز المطالب، و كان هو البدر، و هم الهاله، و هو الفاعل و هم الآله، و هو الروح و هم الحواس، و هم الأعضاء و هو الرأس، فلما كورت شمس مواكبهم، و انتثرت كنس كواكبهم «1»، و رحل زحلهم، و خاب أملهم، قلت:
و عرض الكون الدجا بالضحي‌و بدّل المريخ بالمشتري أجال كل منهم قداح فكره، و تدبر في ذلك الحادث و عاقبة أمره، و استصغر خليل سلطان، و علم أن موج المنازعة سيأتيه من كل مكان، و أنه لا يصفو له ورد الملك من مكدر، و لا هواه من مغبر، و أقل الأشياء أن يقول له رسول أكابر أقاربه كبر كبر، فأعد لكل شدة شدّه، و لكل عدة عده، و لكل خزّة فزّه، و لكل حزّة حزه، و لكل بؤسا لبسا، و لكل منهم ترسا، و لكل نائبة نابا، و لكل بائقة بابا، و لكل خطبة خطابا، و لكل خطاب جوابا، و لكل حرب حرابا، و لكل أمر أمرا، و لكل غدر غدرا، و لكل أزمة حزما، و لكل نصب نصبه، و لكل كسرة جزمه، و لكن شكيمة البرد كانت ردت جماح كل جموح، و صفيحة الجمد قدت جناح كل سبوح، فما وسع كلا منهم إلا الإطاعة، و الانقياد لأمر خليل سلطان بالسمع و الطاعه، و استمروا معه علي القفول، مضمرين لخليل ما أضمره للحبيب عبد الله بن أبي بن سلول، و كان أحدهم يدعي بزندق، فرام الي التحصن بقلعة المخالفة التسلق، فقال لخليل سلطان، إن اقتضت الآراء أن أتقدم، و أمهد لك الأمور الي حين تقدم، و أكون رائد دولتك، و قائد سلطنتك، فأشيد القواعد، و أبشر الصادر و الوارد، فيكون كل مستعدا للملاقاة، و مهيأ أسباب الموافاة، فأذن له، و أمامه أرسله، فوصل إلي سيحون و قد عقد عليه جسر
______________________________
(1)- أي النجوم المحتجبة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 232
بالمراكب، و هيئت أسباب عبوره لكل راجل و راكب، فعبره بزندق بجماعته، ثم أمر بقطعه من ساعته، و أعلن العصيان، و قصد سمرقند مجاهرا بالطغيان، نظم اتفاقي:
فكشرت أسوارهافي وجهه أنيابها
و أسبلت عصمتهاببابها حجابها
و أسدلت علي جبيين منعة نقابها فاستدرك فارطه، و سلك في مسألة منطقه بحث المغالطه، و وصل خليل سلطان إلي الجسر، فوجد عقده قد انحل، و نظامه قد اختل، فلم يكترث بزندق و ما فعل، بل عقده مرة ثانية، و دخل، و ولي ما وراء سيحون من البلاد، متوليها أولا، و كان يدعي خدايداد، و هو من أكبر أعدائه، و من رفقاء تيمور و نظرائه، و منسوبا إلي السلطان حسين، و هو في تلك البلاد بمنزلة الرأس و العين، فلم يسع خليل سلطان إلا مسالمته، و إقراره في بلاده و مهادنته، إذ أموره كانت في أوائلها، ففوض إليه أمرها و القلوب في غوائلها.

ذكر وصول خليل سلطان بما ناله من سلطان إلي الاوطان‌

ثم توجه الي سمرقند، فاستقبله، و خرج إليه نائبها و زعماؤها، و وفد عليه نواب البلاد، منغمسين في السواد، لابسين أثواب الحداد، و جاء الأكابر و العظام، معظمين هاتيك العظام، و مهنين خليل سلطان بالسلامة، و نيل سرير الزعامة، قلت:
و وجه كل قد غدامثل الربيع القادم
بعين سحب قد بكت‌و ثغر زهر باسم و جعلوا يقدمون التقادم السنيه، و الحمولات البهية، و هو يقابل كلا منهم بما يليق بحشمته، و ينزله في منزلته، و قال لزندق: لا تثريب، و قابله مقابلة الخليل الحبيب، و مهد له بساط المباسطه، و سلم إليه
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 233
المغالطه، و حين ثبتت أوتاده اقتلعه، و ألقاه علي غفلة في فم أسد المنية فابتلعه، ثم أشلي علي دياره كلاب النهاب، و شهاب الالتهاب، فمزق أديمها، و هتك حريمها، و محا حديثها و قديمها.

ذكر مواراة ذلك الخبث و القائه في قعر الجدث‌

ثم انه أول ما اشتغل بمواراة جده، و تنجيز أمره و إلقائه في حفرة لحده، فوضعه في تابوت من أبنوس، و حمله الرؤوس علي الرؤوس، و مشي في تشييع جنازته الملوك و الجنود، حاسري الرؤوس لابسي الثياب السود، و معهم طوائف الأمراء و الأعيان، و أنزلوه علي حفيده محمد سلطان، في مدرسة حفيده المذكور، بالقرب من مكان يسمي روح أباد و هو موضع مشهور، فكان هناك علي أثاف، في سرداب معلوم غير خاف، و أقام عليه شرائط الحداد، من إقراء الختمات و الربعات و الدعاء، و تفريق الصدقات، و إطعام الأطعمة و الحلاوات، و سنّم قبره، و نجز أمره، و نشر علي قبره أقمشته، و علق علي الجدران أسلحته و أمتعته، كل ذلك ما بين مكلل و مرصع، و مزركش و مصنع، أدني شي‌ء من ذلك يقوم بخراج الإقليم، و حبة من كدس تلك الجواهر تفوت التقويم، و علق نجوم قناديل الذهب و الفضة في سماء غواشيها، و بسط علي مهادها فروش الحرير و الديباج إلي أطرافها و حواشيها، و من جملة هذه القناديل، قنديل من ذهب زنته أربعة آلاف مثقال، رطل واحد بالسمرقندي، و بالدمشقي عشرة أرطال، ثم رتب علي حفرته القراء و الخدمه، و أرصد علي المدرسة البوابين و القومه، و قدر لهم الإدرارات، من المسانهات و المياومات و المشاهرات، ثم نقله بعد ذلك بمدة إلي تابوت من فولاذ، صنعه رجل من شيراز، ماهر في صنعته استاذ، و قبره في مكانه المشهور، تنقل إليه النذور، و تطلب عنده الحاجات، و تبتهل عنده الدعوات، و تخضع الملوك إذا مرت به إعظاما، و ربما تنزل عن مراكيبها إجلالا له و إكراما.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 234
فصل في اعتدال الزمان و أخبار خليل سلطان: و لما أخذت تيمور الصيحة بالحق فصار غثا، و قعد خليل سلطان علي التخت، و قام الشتاء بعد أن كان جثا، مد الشعراء ألسنتهم للزمان بالمدح و لخليل سلطان بالتهنئة و لتيمور بالرثا، فسمع الشتاء و غني صوته و أجاز، و رفع عن العالم في نهوضه الكلاكل و الأعجاز، فابتهج الكون بورود الربيع، و شكر الروض للسحاب ما أسداه اليه من حسن الصنيع، و رفع علي الروابي من الشقائق أعلامه، و نصب مما أظهره خيام الصنع من أزهار الأشجار خيامه، و نور الحدق بأنوار الحدائق، و استنطق بتسبيح الخالق، من خطباء الأطيار علي منابر الأغصان في جوامع الرياض، ما استنصب بلغاته كل ناطق، من كل معرب في ديوان الفصاحة رائق، و معجب بأسرار البلاغة فائق، فرقصت الأشجار، لغناء الأطيار، و صفقت الأنهار، و اعتدل الليل و النهار، و اكتسي البسيط الأغبر، خلع السندس المزهر، و تبدلت الأغصان من قطني الثلوج، كل ثوب بأصباغ القدرة مزهر، و بدمقس الأزهار منسوج، و كل قباء صار مزهرا في كل دف أغن لكل طائر و فروج، و بسط الكون الكون علي المكان لاقدام قدوم خليل سلطان شقق الورود و الريحان.
فصل: و لما فرغ خليل سلطان من ذلك، شرع في تمهيد الممالك، و تسليك المسالك، و علم أنه لا يتقيد به إنسان، إلا بقيد الاحسان، و لا يجتمع له البال، إلا بتفريق المال، فعقد القلب علي فك طلسمات الختوم و حل الرموز، و صرف الموانع و التوابع عن تلك المطالب و الكنوز، و قوي العزيمة علي فتح الخبايا، و صيد عصافير القلوب ببذر حبات الهبات تحت شباك العطايا، ففرق ما كان شتت جده في جمعه شمل البرايا، و ثقل الكواهل بتخفيف ما أثقل ظهر غيره بالمآثم و الخطايا، و أوسق أحمال الآمال، و ربوع الأطماع بالأموال، و أمطر أيادي يمينه بالنوال، ففاض الخير من صوب الشمال، و ملأ الأفواه و المسامع و المقل من الناس، بما
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 235
أفرغ من حواصل الكنوز و الصناديق علي أغتام الجند و الأكياس، فنثر أغصان الدوح عند ورود الربيع أصناف أزهاره، فكأنه أنامل كفه المنتظمة في نثار درهمه و ديناره، و جاد السحاب بدر دره و أمطاره، فضاهي جود جوده الهامي علي العالم و أقطاره، فقيد الناس كلهم بهذا القيد، و نحو اصراف بذله معربين له بالإطاعة، فترك عمرو و زيد.

ذكر من أظهر العناد و المراء و تشبث بذيل المخالفة و العصيان من الأمراء و الوزراء

غير أن بعض تلك القواد، و زعماء الوزراء و الأجناد، أعلن ما كان أسر، و وضع المضمر من العصيان موضع المظهر، فأول من شهر سيف العصيان، و فوق سهام العدوان، و شرع بالمخالفة الرديني، خدايداد الحسيني، متولي ما وراء نهر سيحان «1»، و أطراف تركستان، فوجد من كان عزم علي نفض يده من عقد الطاعه، إماما يقتدي به في البغي و مفارقة الجماعه، لا سيما و قد كان صواغ الربيع قد أذاب بجمراته سبائك الجمد و الثلوج، و رصع بما أخرجه من ذلك ديباجة الأرض و روضات الجنات و أرياض المروج، و استمعت أموات الحشرات صيحة الرعود بالحق، فقالت ذلك يوم الخروج، فاقتفي خدايداد، في العصيان و العناد، شيخ نور الدين، و كان عند تيمور من المتقدمين، و ذوي الآراء و التمكين، فانخزل جهارا، و سار ليلا و نهارا، فوصل إلي خدايداد، و قوي منه الظهر و الأعضاد، و شاركه في التمرد و الفساد.
ثم بعده فرط نظام الطاعة شاه ملك «2»، و أخذ في طريق المخالفة و هو منهمك، و خرج من سمرقند و هو يصرخ، و قطع جيحون و وصل إلي شاهرخ «3»، و كان نظير شيخ نور الدين، ذا رأي مكين، و فكر
______________________________
(1)- أراد هنا نهر سيحون لكن الصنعة فرضت كتابته سيحان
(2)- كان شاه ملك من كبار قادة تيمور، و قد سلمه الحكم العسكري لمدينة دمشق
(3)- كان شاه رخ بن تيمور حاكما في هراة آنذاك
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 236
رصين، فلم يكترث خليل سلطان بالعاصي و أكرم من لم يعص، و عمم بتاج إنعامه كل رأس و ما خص.

ذكر أخبار الله داد صاحب أشبارة و اخلائه إياها و قصده دياره و ما صنعه في تدبير الملك و أثاره قولا و فعلا و إشاره إلي أن أدرك في ذلك دماره و بواره‌

ثم أن الله داد جمع أخصاءه ليلة ورود الخبر إليه، و شاورهم فيما يصنع و ما يبني أموره عليه، فاتفقت كلمتهم، و اجتمعت مشورتهم، علي قصده دياره، و اخلائه أشباره، فإنهم كانوا في ذلك المكان، كالفسيق في شهر رمضان، و الزنديق بين قراء القرآن.
فلما طوي الجو ملاءته المسكية، و نشر علي المكان مروطه «1» الكافورية، و ألقي ثعبان الفجر من فيه علي هذا السقف المرفوع خرزته المضية، حضر إلي خدمة الله داد، أمراء الجيش علي عادتهم و رؤوس الأجناد، من الترك و الخراسانيين، و الهنود و العراقيين، فاختلي بأفاضلهم، و مداره «2» مقاولهم، و نشر لهم من هذه القضية طيها، و طلب من أرائهم فيها رشدها و غيها، و استكتمهم أمرها، لئلا يستثني الموغول نشرها، و أني لعين الشمس في الصحو الاستتار، و كيف يخفي علي ذي عينين النهار، فكل منهم فوض الأمر إلي مرسومه، و طرح قصة هذه القضية في جيب مكتومه، فاستدعي من اولئك الرفاق، أن يكونوا معه فيما يراه علي طبق الوفاق، فأجابوه إلي سؤاله، و ربطوا أفعالهم بأقواله، فأكد ذلك بطلب أيمانهم، و إن أسرارهم في ذلك كإعلانهم، فشرع كل في المخالفة، أنه ليس في موافقته مخالفه، و أنه مهما رآه الله داد مثله، و ما أمر به فعله.
______________________________
(1)- المروط: جمع مرط، و هو ثوب مخطط غير مخيط.
(2)- أي سادتهم و مقدميهم
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 237
و حين أمن مخالفتهم و عصيانهم، و حصل له اليسار بربط أعناقهم بأيمانهم، قال: أي جماعة الخير، وقيتم الضر و كفيتم الضير، أري أن أكون في صلاة هذا الأمر إمامكم، فأتقدم بجماعتي إلي سمرقند أمامكم، فأمهد الأمور لكم، و أرسل إلي بلدكم هذا بدلكم، و أيم الله لا يأخذني قرار و لا هدو، و لا أترككم مضغة لضاغم في ثغر العدو، فإن رأيتم أن تضبطوا بحسن الاتفاق أموركم، و تحموا قريحة ورد قلعتكم من سورة شارب العدو و سوركم، فلن أمهلكم إلا بقدر ما أقطع نهر خجند، و أصل إلي سمرقند، فأمهلوني ريثما أصل، و بخليل سلطان اتصل، فتبعوا مراده، و اقتفوا ما أراده، و عاهدوه أن لا يختلفوا من بعده، و لا يحلوا بعد ارتحاله من رقابهم حبل عهده، فأمر عليهم رأس جنود العراق، و كان هو أكبر الرفاق بالاتفاق، و قرر لكل مسلحة في أسوارها من كل سالح جزء مقسوما، و صار زعيم اولئك السالحين كالنبي في أمته، مع أنه كان يدعي معصوما.
فصل: ثم أمر الله داد بتنجيز الأمور، و خرج سابع عشر شهر رمضان المذكور، و لم يلتفت إلي برد و حر، و كان قد استوطن اشبارة و استقر، و نقل إليها حريمه و أولاده، و بذلك أمر حاشيته و أجناده، فاقتلع الكل معه كبيرا أو صغيرا، و لم يدع بها مما يتعلق به فتيلا و لا نقيرا، فساروا تارة دبيبا و حينا زحفا، و طورا تسومهم الأرض من ثلجها خسفا، و آونة تسقط السماء عليهم كسفا، فأدركهم العيد الموموق، في مكان يدعي قونجوق «1»، من أبرد البلاد، كأنه ينبوع ريح عاد، قلت شعرا:
إذا احتاجت جهنم زمهريراتنشق منه أنفاس الهجير
______________________________
(1)- حاول بارثولد تحديد هذا الموقع، انظرFour Studies p 142
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 238

ذكر ورود مكتوبين إلي الله داد من خليل سلطان و خدايداد تخالفت معانيهما و تصارمت فحاويهما

فورد عليه مرسوم من خليل سلطان، يذكر فيه ما حصل لجده من حادث الزمان، و أنه استولي علي سريره، و أطاعه من الملوك كل كبير القدر و صغيره، و أن الأمور بحمد الله مستقيمه، و قواعد الملك علي عاداتها القديمة مقيمه، فلا يحدث أمرا، و لا يخرج من بحر مدينته برا، و ليسدك بمكانه، و ليتثبت بأشباره مع طوائف جنده و أعوانه، و ليطيب خاطر الجزء و الكل، فإنه عقيب ذلك يرسل إليهم بدل الكل من الكل.
فتحير الله داد و تفكر، و حاسب نفسه، هل يربح في سفره ذلك أو يخسر، و فَكَّرَ وَ قَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ «1» فبينا هو في أمره يعيد و يبدي، و يلحم في شقة أفكاره و يسدي، و إذا بقاصد خدايداد الحسيني ورد عليه، يستحثه علي الخروج من أشبارة و الوصول سريعا إليه، فوجد لخروجه من اشبارة عند خليل سلطان مندوحه، و عاش فنام و هو مغمض العينين، بعد أن مات و عيناه مفتوحه، فطوي بساط تردده، و توجه ببسيط أمله نحو مقصده، و لكن كان بينه و بين المراد، خرط القتاد، و الموانع التي ذكرها صاحب الوصول إلي سعاد «2»، مع زيادة نهر سيحون و خدايداد، فواصل التأويب و الآساد، حتي وصل إلي خدايداد فابتهج برؤيته، و استنحج مقصوده بطلعته.
ثم قطعا نهر خجند، و قصدا ضواحي سمرقند، و وصلا علي حين غفلة و فترة إلي مكان يسمي تيزك «3»، و قد شهرا للعدوان الحسام و شرعا للفتك النيزك، فاحتاطا علي جشار تيمور فنهباه، و تغلبا علي ما
______________________________
(1)- سورة المدثر- الآيتان: 18- 19.
(2)- هنا الاشارة إلي قصيدة «بانت سعاد» لكعب بن زهير في مدح النبي صلي الله عليه و سلم.
(3)- رجح بارثولد في كتابه تركستان (ص 278) أنها هي الآن ديزك أو جيزك علي الطريق بين سمرقند و خجند
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 239
وصلا إليه من نقد و جنس فسلباه، و أكثرا هنالك شرا و فسادا، و أشبها في ذلك تسعة رهط ثمودا و عادا، و كانت هذه أول شرارة و بدعة سقطت من سقط الزند «1»، و بسطت يدها بالفتن بعد قبض تيمور في ممالك سمرقند، لأن أهلها كانوا قد أمنوا الشرور، و وقوع الفتن في حياة تيمور، فحين دهمهم أولئك المفترون، أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، و ذلك في شوال سنة سبع، و هو العام الذي خلا فيه من تيمور الربع، و ما أمكن السلطان خليل، تدارك هذا الخطب الجليل.

ذكر من خلفه الله داد باشبارة من الطوائف و ما وقع بعده بينهم من التناكر و التخالف‌

و أما أمر من خلفه الله داد، في أشبارة من طوائف الأجناد، فانهم خافوا من الموغول حلول حينهم، فتحزبوا الأحزاب من بينهم، فمنهم فرقة قال قائلهم: أنا علي عهدي قوي، فلا أخون و أمين، و قد استمسكت يدي بعروة عهد مكين، و ارتبطت بحبل حلف فلا أصير من أهل الشمال باليمين، و أدني ذلك أن نصبر حتي يصل من الله داد رسول أو كتاب، و ننظر ما يبين فيه من سلوك سنة، فنميز بصائب نظرنا الخطأ في ذلك من الصواب، فإن وافق ذلك مرادنا امتثلنا ما يقول، و اتبعنا في ذلك الكتاب و الرسول، و توجهنا في تلك الساعه، سالكين السنة مع الجماعة، و إن جالحنا في كلامه بخطاب أجلح، عدلنا إلي الاعتزال، و مال كل منا في مصلحة نفسه الي القول بوجوب رعاية الأصلح.
و منهم شيعة مالت الي رفض تلك الداره، و المبادرة إلي الخروج من أشبارة، و انتقلوا من تكرار هذه المجادلة إلي القتال، و قطع رأس أحد رؤوس الخراسانيين في مصاف النزال.
و منهم طائفة أهمتهم أنفسهم، فلم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها، ثم
______________________________
(1)- سقط الزند من دواوين أبي العلاء المعري.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 240
تحملوا و خرجوا من المدينة، و تركوا الدار تنعي علي من بناها، فلم يسع الباقين إلا اتباعهم في الخروج، لأن مقاماتهم من أول الزمان هناك كانت كبنيان القصور علي الثلوج، فتحملوا بقضهم و قضيضهم، و تجهزوا بصحيحهم و مريضهم، و تركوا البلد بما فيه من غلات، و مستغلات و نعم و خيرات، و أموال و أقمشة، و نفائس مدهشه، و لم يبق فيه من تلك الأمم المسجونه، سوي ما عجزوا عن حمله من أموال مشحونه، و سوي امرأة واحدة مجنونه، و لحقوا بالله داد- و هو عند خدايداد- فلم يعنف واحدا منهم بما فعل، و اعتذر إليهم بأن خدايداد منعه أن يتوجه إلي سمرقند، و يجهز لهم البدل، و أمرهم بالإقامة معه مستوفزين، و أن يكونوا لفرصة التوجه إلي سمرقند- اذا لاحت- منتهزين.

ذكر ما تم لالله داد مع خدايداد و كيف ختله و خبله و استرق عقله و سلبه‌

ثم إن خدايداد تحقق بوقوع هذا الفساد، تأكد العداوة بين خليل سلطان و الله داد، فركن إليه بعض الركون، و جعل يستشيره فيما يصير من أمره و ما يكون، و كان عند خدايداد، طائفة من مماليك الأجناد، تخلفوا من العساكر في تلك البلاد، و قد ضيق عليهم المسالك، و أراد أن ينقلهم من مالك إلي مالك، فلم ينعم له الله داد بذلك و قال: إن عادة الأكياس، استجلاب خواطر الناس، خصوصا في مبادي‌ء الأمور، و حدوث أوائل الشرور، فلا تنفر عنك الخلق، و عاملهم أولا بالإحسان و الملق، و أي فائدة في قتل هؤلاء و تمزيق أديمهم، سوي نفي الصداقة و تأكد العداوة بيننا و بين مخاديمهم، و ربما يكون في خاطر أحد من مخاديمهم نفرة من خليل سلطان، و يروم لذلك ظهرا و ملجأ يلوذ به من رفيق و مكان، فتلجئه الضرورة إلي أن يقصد ممالك تركستان، فإذا آذيته في متعلقيه أني يبقي له إليك ركون و اطمئنان؟ و أقل ما تفعل مع هؤلاء
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 241
يا إنسان، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، و مخاديم هؤلاء لنا رفقاء، و لخليل سلطان أصدقاء، فإن زرعت معهم الجميل، ملكت كل رقيق و جليل، و ألقيت العداوة من عاداك من صديق و خليل، فلما سمع كلامه، ألقي إلي يده من ذلك الأمر زمامه، فأشار عليه بسراحهم، و إحسان إليهم في غدوهم و رواحهم، فزاد في نجاحهم، وراش مقصوص جناحهم، و صرفهم بالعز في طريق مراحهم، فدارت بالسعد أفلاكهم، و اجتمعت بهم أملاكهم و ملاكهم.

ذكر ورود كتاب من خليل فيه لفظ رقيق لحل أمر جليل‌

ثم إن وافد خليل سلطان وفد علي الله داد، يطلب منه السعي في لم الشعث فيما وقع بينه و بين خدايداد، و أن يستعطف خاطره إلي الرضي، و يستقبل المودة في الحال، و يعفو عما مضي، و مهما طلبه يتكفل به، و يعد قربه من أفضل قربه، و يكون هو السفير بينهما، و يقر بالصلح عينهما، فتوجه الله داد إلي خدايداد و أبلغه هذه الرساله، و بين له ما في هذا القول من رقة و جلاله.
و سبب العداوة التي كانت بين خليل سلطان و خدايداد- علي ما ذكر- أن خليل سلطان كان في أوائل الزمان، مجاورا لخدايداد في تلك البلاد، و كان جده جعله ناظرا عليه، و فوض أمور تربيته إليه، و كان كزاجافيا «1»، و جلفا جاسيا، فكان يعامله بالفظاظه، و يقابله بالكثافة و الغلاظه، و كان خليل سلطان لطيف الذات، ظريف الصفات، نسيم أخلاقه لا يحتمل من خدايداد زعازعه، و برد مزاجه اللطيف لرقة حاشيته لا يثبت لمجاذبة المشاقة و المنازعه، فتولد من تلك القساوه، بينهما العداوة، وسعت بينهما الوشاه، إلي أن دس له مهلكا فسقاه، فكأنه أحسه، فتدارك نفسه، و تعاطي علاجه، و ما يصلح مزاجه، فقضي الزمان أن نصل من تلك الداهية، فنجا منها و ليتها كانت القاضيه،
______________________________
(1)- أي كان صلبا قاسيا.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 242
و بقي فيه من ذلك أرج «1»، و أورثه العرج، فصارت العداوة الخاصة عامة، و غدت هذه الفعلة لهذا المعلول علة تامه.
فصل: ثم إن الله داد حلف لخدايداد، الأيمان الغلاظ الشداد، و أكد هذه الأيمان، بأن استصحب معه القرآن، و أشار إليه، و وضع يده عليه، و زاد تأكيدا بأيمان الطلاق، و بالالتزامات و النذور و العتاق، أنه لا يقبض عن طاعته يدا، و لا يستحيل عليه أبدا، و أنه توجه إلي سمرقند يجهد في رأب ما إنصدع، ورد ما انفدع، و رتق ما بين الجانبين انفتق، و رقع ما في خواطرهما من الشحناء و العداوة إنخرق، و أن يجهز له تومان إحدي نساء تيمور «2»، و حاصل الأمر أنه تكفل بحسم مواد الشرور، و اصلاح الأمور، و إن عجز عن رفع الشنآن، و محو سطور العدوان، فإنه لا يستحيل عن مصادقة خدايداد في السر و الإعلان، و صار يتملق و يترقق، و يتوصل بتمويهات زخارفه إلي مجاري فكره و يتسلق، و يشدد أيمانا ترجف القلوب و تصدع، بالله الواحد و يثني بالطلاق الثلاث من زوجاته الأربع، و كان مخيمهم علي ساحل سيحون ممتدا، و هو عن شاه رخيه نحو من بريدين بعدا، فعبر سهم ختله إلي سويداء قلبه بمكر و دخل، و غربله إذ طحن معه ناعما ما زرعه بيمينه في ساحله و نخل، إلي أن سمح بإطلاقه، بعد تأكيد عهده و ميثاقه، فرجع الله داد إلي وثاقه، و اجتمع بحاشيته و رفاقه، و كانوا في شاه رخيه، و أخبرهم بهذه القضيه، و كان قد هيأ قبل ذلك أمره، و أخذ من كل جهة أسلحته و حذره، ثم إنه شمر الذيل، و قطع سيحون بالمراكب تحت جنح الليل.

ذكر لحوق الله داد بخليل سلطان و حلوله مكرما معززا في الأوطان‌

و حين حصل علي هذا الجانب، و لم يبق له في ذلك الجانب حاضر و لا غائب، أمر في الحال، بعكم الأحمال و شد الأثقال، و أخذ الأهبة، قبل
______________________________
(1)- التأريج شبه التأريش في الحرب. العين.
(2)- هي تومان ملك آغا بنت موسي، كان والدها من قادة الجغتائيين، و اقترن تيمور بها سنة 779 ه/ 1377 م، و كانت وقتها في الحادية عشرة من عمرها.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 243
النهبه، فأفرغوا عليهم سوابع السلاح، و أذن بصلاة الرحيل قبل الصباح، و قدم ضعفة أهله و الأثقال أمامه، و نقض بهذا الاذان شروط الإقامه، و طير الي خليل سلطان مخبرا بهذه الأخبار، و ما جري بينه و بين خدايداد و كان و صار، و يستمده باستقبال المدد، و إرسال العدد و العدد، لاحتمال أن خدايداد الأبله، يتفطن لغاية هذه الفعله، فيخطر بباله ردهم، و يرسل وراءهم من يصدهم.
ثم ساروا كالسهم الصائب، و صاروا كالنجم الثاقب، فما أصبح لهم الصباح، إلا و قد ظهر لهم من السعد فرح، و جازوا كل قاتم الأعماق خاوي المخترق، و قطعوا علي أنوال المسير مما أسدته مطاياهم من مزهر الرياض ألوان الشفق، فواصلوا بالسير سراهم، فساروا نهارهم أجمع حتي غشيهم مساهم.
و حين أخذ منهم اللغوب، و كل الراكب و المركوب، و سدلت عليهم عنقاء الظلام الجناح، عدل بهم إلي بعض البطاح، و حط عنه و استراح، و رسم أن لا توقد نار، و لا يطمح أحد في طعم النوم بغرار، و لا يشام في جفن طرف سيف و لا سيف طرف، ثم التهموا ما يسد الرمق و صلوا صلاة الخوف فعبدوا الله علي حرف، و أمهلوا ريثما قطعت الدواب العليق، ثم أمر فحملوا و ركبوا متن الطريق.

ذكر تنبه خدايداد بأن الله داد خلب عقله بإنكال و أنكاد

ثم أن خدايداد، تنبه من رقدته، و ارعوي من ليلته، و علم أن الله داد خلبه نهاره ذلك و سحره، و كشف شمس عقله و لعب به في دست حلفه و قمره، فعض كما يعض الظالم علي يديه، و عبي في الحال عسكرا جرارا و أنفذه إليه، فأسرعوا وراءه، و التمسوا لقاءه، فلم يروا له عينا و لا أثرا، و لا رووا عنه من أحد حديثا و لا خبرا، فلم يزالوا في طلبه حائرين دائرين، ثم غلبوا هنالك، و انقلبوا صاغرين.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 244
و وصل الله داد إلي مقصده، فوجد وظيفة الوزارة شاغرة، فاستولي عليها بمفرده، إذ قبل دخوله كان شيخ نور الدين قد خرج، و شاه ملك و كل من رام العصيان كان قد دب و درج، فابتهج بقدومه خليل سلطان، و قدمه كما كان علي سائر الوزراء و الأركان، فتمكن الله داد كيف شاء، و تصرف في معاني الملك ببديع بيانه إخبارا و إنشاء، و تعاطي في الحال تمهيد الأمور، و تجهيز السرايا و حفظ الثغور، فتراجع أمر الناس و انضبط، و انتظم عقد الملك بعد ما انفرط، و استقر حال الناس، و تمكنت القواعد علي الأساس، و كان هو و بزندق و أرغون شاه و آخر يدعي كجوك يدبرون مصالح المملكه، و يسلكون بكل أحد مسلكه، و لكن الله داد هو الدستور الأعظم، و المشار إليه المفخم، و عليه مدار القبض و البسط، و نظام عقود الحل و الربط.
و استمر شيخ نور الدين و خدايداد، يغيران علي البلاد، و يزيدان في الشرور و الفساد، و استوليا علي أطراف تركستان، و ممالك تلك البلدان، منها سيرام و تاشكند «1»، و انداكان و خجند، و شاه رخيه و أترار و سغناق، و غير ذلك مما في تلك الأكناف و الآفاق، فكانوا يقطعون سيحون، و يتوجهون إلي ممالك ما وراء النهر و يغيرون، فتارة يتوجه اليهم خليل سلطان، و تارة يجهز لهم طوائف من الجند و الأعوان، و علي كل تقدير فإنهما كانا لا يثبتان و ينهزمان، و سيأتي ذكر ذلك كما كان.

ذكر ما وقع في توران بعد موته من حوادث الزمان‌

و أما الموغول، فإنه لما اتصل بهم خبر وفاة ذلك المخذول، و كان بلغهم أنه قد صوب أحجار كيده الي هشم تلك الثغور، و فوق نبال قصده إلي خرق تلك البطون و النحور، و لم يشكوا في أن ذلك شرك مكيده، و أحبولة مصيده، فلم يقر لهم قرار، و تنادوا: الفرار الفرار،
______________________________
(1)- هي طشقند.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 245
و تشتتوا في البلاد، و تشبثوا بأذيال القلاع و رؤوس الأطواد، و لجأوا إلي الحصون و الجروف، و تماوتوا في قعر المغارات و الكهوف، و كذلك كل ذي يمين من أهل الدشت و الشمال، و توزعوا في الأحقاف و الرمال، و صار أهل المشرق و الخطا إلي حدود الصين، و من ذلك الوجه يسرحون، لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه و هم يجمحون، و الحق انه كان في هيبته و عتوه قد عرج، إلي أن أهلك العالم شرقا و غربا بالأرج و صار كما قيل شعرا:
تكاد قسيه من غير رام‌تمكّن في قلوبهم النبالا
تكاد سيوفه من غير سل‌تجدّ إلي رقابهم استلالا
تكاد سوابق حملته تغني‌عن الأقدار صونا و ابتذالا فلما ترادف هذا الخبر، و تكرر بسمرقند هذا السكر، و اشتهر اسناده حتي ترقي من الآحاد إلي التواتر، و تقرر هذا الحق عند كل أحد، فلم يسع فيه جحود و لا تناكر، تراجع فؤاد كل إلي جوفه، و تبدل أمنا من بعد خوفه، و تنادوا يا للثارات، و شرعوا في شن الغارات، و قصد كل مستحق استرجاع حقه، و كل مسترق لمسترق استفكاك رقه.
فأول من نهض من الشرق الموغول، و قصدوا اشبارة و آسي كول، و امتدوا في تلك البلاد، حتي جاوروا خدايداد، فهادنهم و صافاهم، و شرط لهم رد ما أخذه تيمور من مأواهم، و أن يكونوا يدا واحدة علي من ناوأهم، و أحسن كل منهم مع الآخر الجوار، و اطمأنت بواسطة هذا الصلح تلك الديار.

ذكر نهوض ايدكو بالتتار و قصده ما وراء النهر و تلك الديار

ثم نهض من جهة الشمال، أيدكو بعساكر كالرمال، و توجه بحزم و جزم، إلي ممالك خوارزم، و كان نائبها يدعي «موسيكا» فلما أحس بالتتار، و خاف علي نفسه البوار، أخذ أهله و متعلقيه و سار، و ذلك بعد أن
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 246
هجمت التتار الرومية المضافة إلي أرغون شاه، و عبروا جيحون و هو جمد و رجع أرغون شاه إلي مأواه، فوصل أيدكو إلي خوارزم و استولي عليها، و استطرد بخيله إلي بخاري فنهب ما حواليها، ثم رجع إلي خوارزم و قد أذكي، في الجغتاي اللهيب و أنكي، و ولي من جهته في خوارزم و ولاياتها شخصا يدعي آنكا، فتمهدت أيضا تلك الأماكن، و اطمأنت الظواعن و السواكن، بواسطة أن خليل سلطان، قابل كل من أساء إليه بالإحسان، و صار يسترضي كل ساخط، و يستدني بمكارمه كل شاحط، و يصطاد النفوس بالنفائس، و يفترس الأسود بالفرائس، و أحبه الأجانب و الأباعد، و رغب فيه كل صادر و وارد، غير أن شيخ نور الدين و خدايداد، تماديا في الفساد، و لجا في العناد، فخرب ما تجوذب بين الطرفين من البلاد.

ذكر بير محمد حفيد تيمور و وصيه و ما جري بينه و بين خليل و وليه‌

ثم ان بير محمد ابن عم خليل سلطان، و هو الذي عهد إليه تيمور كان بعد موت أخيه محمد سلطان، خرج من قندهار، و قصد سمرقند بعسكر جرار، و أرسل إلي خليل سلطان، و سائر الأكابر من الوزراء و الأعيان، بأنه هو ولي عهده، و خليفة جده تيمور من بعده، فالسرير حقه فأني يغصبه، و الملك ملكه فكيف يسلبه، فكل منهم جاوبه، بما يليق بما خاطبه.
و أما خليل سلطان فتصدي للمعارضه، و قابل كل مسألة من الخطاب بما ينافيها من المعاكسة و المناقضه، و قال: لا تخلو مسألتنا يا فلان، من أن الملك في هذا الزمان، إما أن يكون بالانتساب، أو يظفر به بطريق الاكتساب، فإن كانت الأولي، فثم من هو أحق به مني و منك و أولي، و ذلك أبي أميرانشاه، و عمي شاه رخ، أعني أخاه، يكون بينهما بالسوية نصفين، فمالك كلام مع وجود هذين، و أنا أولي أن أكون صاحبه، فأرعي جوانبه و أسلك مذاهبه، إما ان يقطع كل منهما عني المشاغبه، و يترك لي ماله فيه من ولاية المطالبه، و يقنع بما هو فيه من مملكته، و يحفظ
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 247
جانبه، و إما بأن يجعلني خليفته في سلطانه فأصون نصيبه و نائبه، و إن كانت الثانية فكلامك لا يستقيم، لأن الملك كما زعموا عقيم، و من قبلي و قبلك قيل، في الأقاويل شعر:
صونوا جيادكم و اجلوا سلاحكم‌و شمروا إنها أيام من غلبا و إن زعمت أن جدك عهد إليك، أو عول في وصيته لك عليك، فهو من أين استولي إلا بطريق التغلب، و أني حصل له ملك، و ملك إلا بالاغتصاب و التألب، و علي تقدير التسليم، و أن أمر وصيته مستقيم، فإنه كان في حياته قسم بلاده، و وزع عليها أولاده و أحفاده، فولي والدي ممالك أذربيجان، و قرر عمي في ولايات خراسان، و ابن عمي بير عمر في عراق العجم و تلك الديار، و ولاك أنت من جملة ذلك قندهار، و جعلك وصيه كما رسم و أشار، و تحمل هو المظالم و انتقل، فأين نصيبي أنا من هذا الثقل؟ فاجعلوا حصتي من ذلك، ما استوليت عليه، و ليقنع كل منكم بما تقرر فيه و فوض إليه، و مع هذا إن تابعك أبي و عمي تابعتك، أو صادقاك علي الوصية و بايعاك بايعتك، و إن سلكنا في ذلك طريق الحق، فالملك صيد و الأولي به من حاز فيه قصب السبق، و إن الله أزاح علله إذ شبثني بأسبابه، و أباحه لي مباحا و من سبقت يداه إلي مباح فهو أولي به، هذا و إن كلا من مدرسي فقه الملك تابعني، و من له في عقود السلطنة شركة ترك المضاربة و طاوعني، وعد عقد توليتي مرابحة، و لما وقف علي سيري ألقي إلي السلم و بايعني.
و أما الوزارء و الأعيان فأجابوه بما لا طائل فيه، سوي ما تمجه أذن مستمعيه، غير أن الخواجا عبد الأول و هو صدر صدور العلماء، و المتصرف في رؤساء ما وراء النهر من السادات و الكبراء، المنفذ سهام أحكامه في جميع الأمراء و الزعماء، أجاب فأجاد، و أصاب و أفاد، و اختصر و اقتصر، و هصر «1» من بير محمد، و لخليل سلطان انتصر، فقال
______________________________
(1)- الهصر: أن تأخذ برأس الشي‌ء، ثم تكسره إليك من غير بينونة. العين
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 248
في جوابه، مجاريه في خطابه: نعم أنت ولي العهد، و خليفة الأمير تيمور من بعد، و لكن ما صادف طالعك سعد، و لو ساعدك البخت، كنت قريبا من التخت، و الأولي بحالك، أن تقنع بمالك و مالك، و تبقي علي خيلك و رجالك، و تضبط ما في يدك من ممالك، و إن أبيت إلا طلب النما، و لم تقنع بما قسم الله لك و قضي، و خرجت من مملكتك إلي هذا الفضاء، فإنك تقع في العناء، و تخرج ولايتك من يدك، فتصير مذبذبا لا إلي هؤلاء و لا إلي هؤلاء.

ذكر تجهيز خليل سلطان سلطان حسين لمناصرته و خروجه عن خليل سلطان و قبضه علي أمرائه و مخالفته‌

ثم إن خليل سلطان لم يقنع بدقائق هذا الأقوال، و أردفها بحقائق الأفعال، و أمر بتجهيز جند مجند، إلي استقبال بير محمد، و أضافهم إلي ابن عمه والد السلطان حسين، و عين فيهم من أمراء الجغتاي كل رأس و عين، و ضم إليه الظهور و الأعضاء، و منهم كجوك و أرغون شاه، و الله داد، فساروا سابغي العدة، كاملي العدة، و ذلك في سنة سبع منتصف ذي القعدة، فعبروا جيحون إلي بلخ و خيموا في ضواحيها، و انبثوا في أقطارها و نواحيها، و بينا هم مرفهوا الحال، فارغوا البال، قريروا العين، تمارض السلطان حسين، ثم إنه دعا الأمراء، ليقرر معهم فيما هو بصدده الآراء، و قد كمن لهم كمينا، و أرصد لهم الرجال شمالا و يمينا، و حين و لجوا خيسه، و دخلوا كيسه، وثب عليهم وثوب الليث علي الفريسه، و أغري بهم أسوده، فوقعوا فيهم وقوع الجياع علي الهريسه، ثم نادي من معه من الرفاق: ضرب الرقاب حتي إذا أثخنتموهم، فشدوا الوثاق، و كان كما ذكر ذا طيش و شجاعه، و تهور و رقاعه، و صولة و جوله، يسبق فعله قوله، فأهريق في تلك الساعه، دم واحد من تلك الجماعه، يدعي خواجا يوسف، و كان في حياة تيمور نائب الغيبة بسمرقند، و هو أمير مشهور، ففي الحال قتل، و إلي الدار الآخرة نقل، ثم استقل لنفسه
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 249
بدعوي السلطنه، و دعا الخلائق من ههنا و من هنا، فدهشت اولئك الرؤوس، و علموا أنه قد حل بهم النقم و البؤس.

ذكر خداع الله داد سلطان حسين و تلافيه تلافه بالمكر و المين‌

غير أن الله داد ثبت جاشه المزؤود «1»، و استحضر تلك الساعة عقله المفقود، فابتدر سلطان حسين مناديا، و استثبته في أمرهم مناجيا، و قال له بعبارة فصيحه، إن لي إليك نصيحه، ثم استخلاه و قال: أنا كنت مترقبا منك هذه الفعال، و مترصدا منك إظهار ما أنت بصدده، و من أين لخليل سلطان أن يحتوي علي الملك بمفرده، غير أن هيبة مولانا السلطان باسطه، و لم يكن بينه و بين الملوك واسطه مباسطه، و لو كان عندي من ذلك أدني شعور، لرتبت المصالح علي ما تقتضيه الأوامر الكريمة و الأمور، ثم إن الخاطر الكريم، يشهد بصدق هذا الحديث، و أنا عبدك من قديم، و سل من كان من المماليك و الأجناد، الذين كانوا محصورين في أسر خدايداد، من خلصهم من حبائل أسره، و أنقذهم من ضرام ضره، و أطفأ عنهم ما التهب من شرار شره؟ إذ لو لا أنا لكان أبادهم و أيتم أولادهم، و فجع بهم طريفهم و تلادهم، فإنك إن تسلهم يخبروك، و علي حقيقة الأمر و جلية الحال يظهروك، و ربما أخبروك بذلك لما أتوك، و مع هذا استفت قلبك و إن أفتوك و أفتوك، و لا زال يطفي‌ء بماء خزعبلاته شواظ تفرعنه و لهيبه، و يذكي في خياشيم رعونته عنبر احتياله متمسكا بمسكه و طيبه، و يرمي عن قوس ختله إلي سويداء اختبالاته نبال مكر، أنفذت فيه نصال القضاء و القدر لأنها كانت مصيبة، فأشرب مكره، و تبع أمره، و جعله ظهره، و استقدح في أمور فكره.
ثم إنه بعد أن إمتن عليه باستبقائه، استشاره في قتل رفقائه، فقال له:
لا شك أن خليل سلطان، ملك الناس بالإنعام و الإحسان، و هو و إن كان في الشجاعه، قاصر اليد، قليل البضاعه، لكن استعبد أبطال الرجال،
______________________________
(1)- المزؤود: الخائف المرعوب.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 250
بحسن الخلق و بذل الأموال، غير أن المال، بمعرض الفناء و الزوال، و أنت بحمد الله مآثرك مشهورة، و منازل منازلاتك الأبطال معمورة، و رايات كسرك قرون الأقران علي جبين الكبائش منشوره، و رؤوس مناطحاتك ثيران الوغي علي قرون الزمان أبدا منصوره، قلت:
فكم لززت شجاعا في البراز فمذرأي محياك ولي ضارطا و جري
مذكنت رأسا و عينا في الحروب أري‌في رأسك الفتح بل في عينك الظفرا و أنا أعلم أن عامة الجند سيبتهج بطلعتك، و يرقص فؤاده لحصول سكونه فرحا بحركتك، فإنه لا بد من رأس يسوسهم، و ضابط همام يصون بتدبيره نفائسهم و نفوسهم، و قرم كالليث الخادر، و السيل الهامر، بل كالبحر الغامر، منصور إن دعا و إن دعي فناصر، موصوف بما قال الشاعر:
أضاف إلي التدبير فضل شجاعةو لا عزم الا للشجاع المدبر و بما قال شعرا
و لا يكشف الغماء إلّا ابن حرةيري غمرات الموت ثم يزورها و هل ثم في هذا العصر موصوف بهذه الصفات إلا أنت؟ و ما النجدة و الكرم و الحسب و النسب إلا راحل حيثما رحلت، و ساكن أينما سكنت، و لو حدث شاه ملك و شيخ نور الدين، أن وراءهما منك الحصن الحصين، لأسند إليك رواية هذا السند السديد ولاء، و يأمن جنابك العالي إلي ركن شديد، و حاصل الأمر أنك مولي الكل، و جميعهم لك عبيد، و إذا كان الأمر كذلك فقد ملكتهم، فسواء عندك أبقيت عليهم أو أبدتهم، و لكن الإبقاء أولي، و لا زالت العبيد تترقب مراحم المولي، فإن اقتضي الرأي السعيد، أن نكون كلنا موثقين في الحديد، مع زيادة قيد إيمان أكيد، فرأيه أعلي، و اتباع ما يقتضيه أحري و أولي، فاقتضي رأيه، و اتخذه علما لأموره و رأيه، فاستتبعه لحينه و قال: أسلك ورائه.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 251

ذكر أخذ سلطان حسين علي الأمراء الميثاق و مشيه علي خليل سلطان و هم معه في الإيثاق‌

ثم إنه أحضر الأمراء، و هم في قبضة سطوته أسراء، و قد ناوح كل من متعلقيهم مهب ناحيه، و توجه إلي دار كل المخبرون، فقامت عليهم النائحة و الناعية، و أوثقهم بقيدي الحديد و الأيمان، بأن يكونوا معه في السراء و الضراء علي خليل سلطان، فمد كل منهم إلي القيد رجله و إلي اليمين يده، و عاهده علي ما يختار، و أن يقدم له نفسه و أهله و ماله و ولده، فحين استوثق منهم، أزاح بالأماني السوء عنهم، و تركهم موثقين في البند، و نكص قاصدا سمرقند، و أرسل إلي خليل سلطان بما دب من أمره و درج، فليستعد لمبارزته فها هو و قد عبر جيحون و خرج، و أنه هو أيضا طالب من ملك خاله حصته، و منازع خليل سلطان في السرير منصته.

ذكر تبريز خليل سلطان من سمرقند، لملاقاة سلطان حسين بطوائف جنده و رجوع سلطان حسين مما يرومه بخفي حنين‌

فاستعد له خليل سلطان، و خرج من سمرقند لاستقباله في أسرع زمان، ثم إن السلطان حسين أحضر الله داد، و من معه من الشياطين المقرنين في الأصفاد، و استأنف عليهم العهود، و أكد عليهم قيود العقود، و أحل كلا منهم محله، و أجاز عقده و حله، و خلع عليه و أجازه، و احترم حرم حقيقته و مجازه، و بش بإنعامه إلي متعلقيهم و هش، و سار بهم حتي وصل إلي مدينة الكش.
و الله داد كان قبل ذلك بزمان، أرسل إلي خليل سلطان يخبره بوقوع هذا الهم، و ما جري عليهم من شرور و ما تم، ثم قال له: إن فألك سعيد، و أمرك حميد، فانهض برأي رشيد، و عزم سديد، و جنان حديد، فإن ضدك مصيد، و الله تعالي ناصرك قريبا غير بعيد، فلا تخف من كيد
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 252
مكيد، و إن كنت طفلا، فإنك شبت أهواء القلوب بنسمات محبتك، فصرت شيخ السلطنة، و كل الأنام لك مريد، فوصل خليل سلطان، إلي ذلك المكان، فعبي السلطان حسين جيشه، و استعمل تهوره و طيشه، و جعل الله داد علي الميمنة، و رفيقه علي الميسره، و لما تراآي الجمعان و تداني الزحفان، و حقت الحقائق، و سدت المضائق، و تعادت الأسود و الغرانق، و بادر كل منهم من مكانه، و قصد كل من الله داد و أقرانه عساكر خليل سلطانه، فتخبطت عساكر السلطان حسين، و سلب ثوب عزه، فنبذ بالعراء ملتحفا من ظنونه ثوبي خيبة و حين، و دهمه من البلاء ما أنساه سلبه، فرجع بخفي حنين، و مر علي وجهه قاطع الفلاة، حتي وصل إلي خاله شاه رخ صاحب هراة، فلم تطل له عنده مدة، فإما سقاه مهلكا و إما مات حتف أنفه عنده، فكان ذلك آخر العهد بسلطان حسين، و رجع خليل سلطان إلي دار ملكه قرير العين.

بقية ما جري لبير محمد مما قصده من فرح و هم و كيف آل ذلك إلي و بال و حزن فنقض ما تم‌

ثم إن بير محمد تمادي في خروجه، و استمر يرتع في روض الطلب و مروجه، و تكررت بينهما، دروس المراسلة، و تحررت مسائلها بعد مطاولة المقاولة، أن ينزلوا منازل المنازلة، و يحلوا بروج المقابلة و المقاتلة.
و كان متولي أمور ديوانه، و مشيد قواعد ملكه و سلطانه، شخصا يدعي بير علي تاز، حامي حقيقة باب الملك و حارس المجاز، سرة بطحاء مملكته، و قطب سماء دائرته، و قدوة علماء عوالمه، و قوة خوافي عسكره و قوادمه، فجرد من عساكر قندهار، كل طود لو مال علي قندهار هار، و توجه بعزم أمضي من البتار، و حزم أنفذ من الخطار، قائدا ذلك الخضم الهدار، و السيل و الثرثار، و الغمام المدرار، حتي وصل إلي جيحون فوقف منه التيار، ثم أمر ذلك البحر العجاج، أن يركب من جيحون الأثباج، و يصادم منه تلاطم الأمواج، فمرج الله الْبَحْرَيْنِ
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 253
هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائغ شرابه وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ* «1» فمخروا منه بسفنهم النحر، و جاوزوه مجاوزة بني إسرائيل البحر، و سار بذلك الأخشب، حتي أرسي علي ضواحي نخشب.

ذكر مقابلة العساكر الخليلية جنود قندهار بصدق نية و القائهم بهزيمتهم إياهم في أشر بلية

و كان قبل ذلك خليل سلطان، قد نجز أمره كما كان، و نفث أعطار مندل الإيثار، و قوي العزائم علي الملوك بالاستحضار، ليجنوا من أشجار الجرايات و ثمار الإدرار، ما يستعدون به لملاقاة شياطين قندهار، فلبي دعوته العام و الخاص، و كل بناء من عفاريت الجنود و غواص، و اجتمع من أعيان، أولئك الأعوان، كل مطيع مقتطف ثمرا حسان، ذلك البستان، من أنس و جان، و جاء ذلك البحر أفواج أمواج العساكر من كل مكان، و هم ما بين رؤوس الجغتاي، و كل فرعون من بلاد تركستان قد علا و عتا، و فوارس فارس و العراق و رستمدار، و جان قربانية خراسان و الهنود و التتار، و من كان تيمور، أعده لمضائق الأمور، و لم يفارقه في سفر و لا حضر، و أرصد لكل نائبة من خير و شر، شعر:
فوارس لا يملون المناياإذا دارت رحي الحرب الزبون فاستأنف عليهم فواتح الفتوح، و استنجب منهم لما دهاه كل نصيح صديق نصوح، و أسبغ عليهم من دروع عطاياه السابغات، و ضاعف علي قامة أملهم من خلع إنعامه المضاعفات، ففتحت عليهم الأرض خزائنها، و صبت عليهم من معادنها و فلزاتها ظاهرها و كامنها، فصار كل راجل منهم و فارس، و قد تجلي فيما تحلي به من تلك النفائس، يزري بحسن هيئته علي مخدرات العرائس، فساروا و نسمات النصر من أنفسهم فائحة، و لمعات الفتح من بوارق بيارقهم لائحه، و السبع المثاني لأبواب
______________________________
(1)- سورة الفرقان- الآية: 53.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 254
النجح و الفتوح في وجههم فاتحه، و لا زال ذلك الرأس يرسي و يمشي، حتي حط علي ضواحي قرشي، و هي المدينة المذكورة، فاستقرت تلك العساكر المنصورة، و ذلك يوم الأحد مستهل شهر رمضان، سنة ثمانمائة و ثمان، فبات كل من ذينك البحرين و قد ضم ذيله، و كف عن التبذر و التبدد سيله، و حفظ من الأغبار رجله و خيله، و أحيي في معتكف المراقبة إلي الصباح ليله، قلت:
إلي أن بدا لمع الضيا في ظلامه‌يلوح كموج الماء من سجف طحلب و لما سل الفجر صارمه الفضي، و أبرز إبريز ترسه، و مسح علي لوح الجو ما طرسه مسود الليل من دخان نقشه، تهيأ كل من أولئك الأطواد للاصطدام، و اشتعلت في قلوب تلك القبائل نار الحمية للاصطلاء و الاصطلام، فعبي كل عسكره ما بين ميمنة و ميسرة، و مقدمة و مؤخرة، ثم تدانوا و تكانوا، و تعاونوا و تعانوا، و تراجزوا و تغانوا، و تعانقوا و تهانوا، و تناجزوا و تفانوا، و التقت الرجال بالرجال و الخيل بالخيل، و ارتفع ظلام القتام إلي رؤوس الأسنة، فرأوا في صلاة الظهر نجوم الليل، و جري في ذلك القسطل من كل قناة عيون السيل.
ثم عند منتصف النهار، انكشف الغبار عن أن طود قندهار هار، و سعد أولئك الكبار بار، و عليهم غبار العثار ثار، و خبرهم بالانكسار سار، وصيت خليل سلطان إلي الأقطار طار، و إلي الآفاق بالانتصار صار، فولي بير محمد و علي رأسه بحر الدمار مار، و في قلبه زناد البوار وار، حتي كأن في قلبه جمر الغضا و الغار غار، و في كبده نار لهيب المرخ «1» و العفار فار، و جندلت رجاله، و أبطلت أبطاله، و نهبت أثقاله، و تحولت أحواله، و سبي حريمه و عبيده، و سلب طريفه و تليده، و تشبث هو بأذيال الهزيمة، و علم أن إيابه سالما نصف الغنيمة، كما قيل شعرا:
______________________________
(1)- المرخ: شجر سريع الاشتعال.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 255 إيابك سالما نصف الغنيمةو كل الغنم في النفس السليمة و رجع خليل سلطان، و قد استنار به الكون و المكان، و إستقرت دولته، و استطارت صولته، و شكر الله المليك، و أتم صيام رمضان في مكان يسمي جكداليك «1».

ذكر خروج عسكر العراق علي خليل سلطان و مجاهرتهم بالخروج و قصدهم الأوطان‌

ثم في ليلة الاثنين غرة شوال، خرج من العراقيين الرؤوس و الأبطال، و معهم حريمهم و أتباعهم، و أولادهم و أشياعهم، و كبيرهم شخص يدعي حاجي باشا، و هم جارون تحت أمره كيفما شاء، و كانوا ذوي صولة و جوله، و صحبتهم السلطان علاء الدولة، ابن السلطان أحمد البغدادي «2» لصلبه، و كان قد وقع في أسر تيمور فسجنه في سجن محنته و كربه، فأفرج عنه خليل سلطان، و جعله عنده ذا مكانة و مكان، فبينما الناس مشغولون بأمور العيد، رفع أيديهم أولئك الصناديد، و كأنه كان تقدم لهم بذلك مواعيد، فخرجوا تحت جنح الليل، و شمروا نحو عرائس العراق الذيل، و طلقوا مخدرات ما وراء النهر و مالوا عنها كل الميل، لأنهم كانوا قد سمعوا أن دار العراق أنزلت بانيها «3» و مياه أنهر سلطنتها عادت إلي مجاريها، فلم يقف أحد أمامهم و لا مشي خلفهم، و لا قدر علي أن يربط السير رجلهم و كفهم، فقطعوا جيحون و وصلوا إلي خراسان، فتصدي لهم كل من سمع بهم من كل مكان، فانفرط نظامهم لعدم اتفاق، فتقطعوا في البلاد قبل وصولهم إلي عراقهم، و أين إيران من توران، و دجلة من جيحان، فعيد خليل سلطان في ذلك المكان، ثم ألوي راجعا إلي الأوطان.
______________________________
(1)- جكداليك: سهل صغير إلي جوار كش، يجري فيه نهر صغير. بارثولد- تركستان ص 243.
(2)- أي أحمد الجلائري.
(3)- المقصود هنا أيضا أحمد الجلائري، و كان قد عاد إلي بغداد سنة 808 ه/ 1405 م، ثم غادرها مكرها من حليفه القديم قرايوسف، ثم تصالح معه و عاد،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 256

ذكر ما فعله بير محمد بعد انكساره و ما صنعه بعد وصوله إلي قندهار

و لما وصل بير محمد إلي قندهار، و استقرت به الدار، تلملمت أموره، و حامت حول قصوره صقوره، و دارت من سيارات عسكره بدوره بدوره، و تسعرت سمومه و حروره، و تطاير شراره و شروره، فتأرق و تمرق، و تحرق أسفا قلبه و تخرق، و تمزق غيظا أديمه و تفرق، و كان ذا حماقه، و قلة لياقه، فطير أجنحة مراسيمه، إلي سكان أقاليمه، و استنهض علي خليل سلطان كل حبيب صحيح الود و كليمه، و استطب لجريح قلبه كل قريح الطعن و الضرب و كل لديغ القلب و سليمه، فلبوا دعواته بالإطاعه، و أجابوا نداءه بالسمع و الطاعه، ثم سالت الأودية و الجبال، بالخيل و الرجال، و أرسل إلي خليل يقول، ضمن كتاب مع رسول: إن أول مصافنا كان فلتة فتمت، و شرارة تسوهل في إطفائها، فالتهبت و طمت، و لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، و تحذرت ما استحقرت، و استكبرت ما استصغرت، لإنتصرت و ما انكسرت، و لعثرت علي مرادي و ما عثرت، و لكن أضعت الحزامه، فحرمت السلامه، و تناولت أمرك برؤوس الأنامل، فأكلت يدي ندامه، مع أن صليبة جندك، و قوة ظهرك و عضدك، و نبال نبالتك و ساعد سعدك، و عضب غضبك و رمح رشدك، و حد صارمك و صرامة حدك، إنما كان رؤوس العراق، و ما حصل لك منهم من الإتفاق، و أما الآن فقد وقع منهم نفاق، و اتفق لك منهم عدم اتفاق، و ظهر تباعد و شقاق، ففت لذلك كبدك، و اختل فكرك و جندك، و ها أنا قد جئتك بجد جديد، و بالحد و الحديد، فاستعد للقاء، و تيقن عدم البقاء، فإن الحرب كما علمت سجال، و كما أديل لك علينا بالأمس، فإن غدا لنا عليك يدال.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 257

ذكر توجه بير محمد لمقابلة خليل سلطان ثاني كرة و ما حصل عليه في ذلك من كرة و فرة و توليته الدبر كما بدا أول مرة

ثم توجه بتلك الجنود و الأعوان، و قطع جيحون و وصل إلي مكان يسمي حصار شادمان «1»، فتوجه إليه خليل سلطان، و معه من عساكر الرجال و الفرسان، و جراد الجيش و قمله و ضفادعه، ما يجري من الدم الطوفان، فمر بتلك الأطواد و البحار، و سري و هو ما بين رأس و سار، حتي وافي جنود قندهار، و كان كما ذكر من قبل، قد قدح في حراق أحشاء العساكر القندهارية، من خوف نار الخليل، زناد النبل، فكانوا ملسوعين و الملسوع يخاف من جر الحبل، فقبل أن يزعق النفير، و يضرب الطبل، نفر من كل فرقة منهم طائفة، و تنادوا: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ* لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ «2»، فألبس بير محمد خلعة الخلع، و لم يكن له بها طوق، فاقلع إلي القلعة القلع، و أرصد الأبواب و أحكم الأسوار، و استعد في حصار شادمان لحصار، فأحاط به من العساكر، كل جارح و كاسر، و دار عليه من بني يافث كل سام و حام، وجد في المحاصرة منهم كل طاعن و ضارب و رام، فتندم بير محمد، علي ما قصد في ذلك و تعمد، و تذكر ما قال له أول، الخواجا عبد الأول، لكنه اعتذر، بالقضاء و القدر، فرماه القضاء بسهم جواب، أجاد فيه و أصاب، و قال:
و عاجز الرأي مضياع لفرصته‌حتي إذا فات أمر عاتب القدرا فانعكس منه كل رأي و فأل، و تغير عليه كل أمر و حال، و ذهب عنه منعطفا ما بيده من ملك و مال، و نفر عنه كل أسد أصلي للحرب نارا حامية، لما سطا علي حام وصال، و رجع عنه لسوء تدبيره كل ذي قرابة، حين لمع له بالأماني الكاذبة كل سراب و آل، و تمزقت شقق تدبيره، علي منوال تفكيره، سدي و لحمة فلم يبق له من دون الله من وال.
______________________________
(1)- حصار شادمان: مدينة في منطقة الصغانيان، إلي الجنوب الشرقي من سمرقند. لي سترانج ص 483.
(2)- سورة النجم- الآيتان: 57- 58.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 258

ذكر ما صنعه بير محمد من حيلة عادت عليه بأفكاره الوبيلة لأن جدواها كانت قليلة

و لما عدم حوله، أخذ في إعمال الحيلة، فاستدعي عدة مضبوطة، من الجلود المخطوطه، الجيدة الدباغ، المصبوغة بألوان الاصباغ، ثم فصلها لبوسا، لكل بوسا، و سمر عليها المرايا المصقولة، و بعض صفاح معمولة، و موهها و أحكمها بالمسامير، و أحضر من سوقة بلده رؤوس الجماهير، و استكثر من الرعاع و الهمج الجموع، ثم أحضر تلك الدلاص و الدروع، و وزع علي تلك الرؤوس و الظهور هاتيك النطوع، فصار كلما صارت الشمس بازغة، أصعد إلي الاسوار و خارج البلد تلك الأسود، و عليهم تلك الدروع السابغة، فإذا رآهم الناظر من بعيد، توهم رجالا و لم يعلم أنهم بندق العيد، و إذا تراآي ذلك الهباء، و الخيثعور «1» الذي ملأ الفضاء كان كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً «2» و استمر علي ذلك مدة، يقاسي المعاناة و يعاني الشده، و كان الذي تعاطي هذا المكر الجلي، دستور مملكته أعني بير علي، و مع ذلك كله لم تنفعه هذه الحيلة، و عادت عليه أفكاره الوخيمة و وساوسه الوبيلة، و انكشف سره، و انهتك ستره، فضاق ذرعا و قصر منه باع المجال، و مد بنقص عدده و عدده، و زاده الدهر النكال.

ذكر اعتراف بير محمد أنه ظلم و طلبه الصلح و إلقائه السلم‌

فبسط بساط التضرع، و طلب وسائط التشفع، و علم أنه لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ «3» فناشد خليل سلطان الله و الرحم، و قال معني ما قلت شعرا:
يعطي الكريم و لا يمل من العطاو العفو شيمته إذا وقع الخطا
______________________________
(1)- لم أقف لها علي معني.
(2)- سورة النور- الآية: 39.
(3)- سورة هود- الآية: 43.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 259
فأجاب خليل سلطان مقاصده، و تأكدت من الطرفين معاقدة المعاهدة، بأن لا يقصد أحد منهم بلاد صاحبه، و إذا كان الله تعالي رفعه، لا يضع من جانبه، و يسلم إليه ما في يده، و يبقي علي الود و الصداقة في يومه و غده، ثم تحالفا، أن لا يتخالفا، و تواثقا أن يتوافقا، و تصادقا أن يتصادقا، و تفارقا علي أن يترافقا، و توافقا أن لا يتنافقا، و راقبا الآل و الذمة، و راعيا القرابة و الحرمه، و انشمر كل عن صاحبه بما معه من فئة، و ذلك في سنة تسع و ثمانمائة.

ذكر مخالفة و نكد وقعت بين بير علي و بير محمد أزاحت ثوب الحياة عنهما و أراحت مخالفيهما منهما

و لما وصل بير محمد إلي وطنه، و استقر بين خدمه و سكنه، خرج عليه بير علي تاز، و استقل بدعوي الملك و امتاز، ثم قبض عليه و كبله، ثم أنه خذله و جدله، و شرع يقول، و هو يصول و يجول: أمور الدنيا اضطربت، و أشراط الساعة اقتربت، و هذه دولة الدجالين، و أوان تغلب الكذابين و المحتالين، مضي تيمور و هو الدجال الأعرج، و هذا زمان الدجال الأقرع، و سيأتي بعد هذا الدجال الأعور، و إن كان يجزع من قرع باب السلطنة فأنا أقرع، فلم يجب أحد من الرؤوس و الأذناب سؤاله، و لا أنعم له بما أقر عينه و أنعم باله، إذ لم يوجد في تناول هذا الأمر المحظور من مبيح، و لم يكن لذلك الوغد في سهام الملك غير المنيح الفسيح، فدعا أرباب ممالكها تضرعا و خيفه، فكشر كل في وجهه أنيابه، و جاذبه هذه الجيفه، فلم يبق له قرار و لا ثبات، فسل يده و مد رجله صوب صاحب هراة، فبمجرد وقوعه عنده في شرك الاقتناص، قبض عليه و أجري عليه أحكام القصاص، و صفت له ممالك قندهار، من غير مضارب و لا مضار، و استراح خليل سلطان أيضا من الإنكار و المضار.

ذكر ما وقع من حوادث الزمان في غيبة خليل سلطان‌

و في هذه السنة بادرت بالهجوم تتار الروم، و وصلوا بالعزم، و قطعوا جيحون بالرجل و هو جمد من خوارزم، و قصدوا بلادهم، فتصدي لهم
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 260
من كل جانب من شتتهم و أبادهم، و حصل لهم من عدم الاتفاق، ما حصل لعساكر العراق، و أيضا في غيبة السلطان خليل، و اشتغاله بهذا السفر الطويل، اغتنم الفرصة خدايداد و شيخ نور الدين، فتوجهوا إلي سمرقند مطمئنين، و أخنوا عليها، و نهبوا ما حواليها، فتحصنت منهم، و ترفعت عنهم، فنهبوا خارجها و رجعوا، و نحو بلادهم انقلعوا.

ذكر تجريد خليل سلطان الاجناد و توجهه إلي شيخ نور الدين و خدايداد

و لما رجع خليل إلي سمرقنده، أراح طوائف عسكره و جنده، ثم دعا أصحابه، و وجه نحوهما ركابه، و جعل دأبهما و دأبه، و هيأ أنصاره و أطلابه، و سار بتلك القبائل المضطرمه، و الأسود الحوادر و الفحول المغتلمه، و استمر ذلك الطود الركون، بين حركة و سكون، حتي وصل إلي سيحون، و حين شرع في ذلك الطور، و النار ذات النور، علي نهر سيحون في العبور، رأيت البحر المسجور، فأذعن له شاه رخية و خجند، و تحصنت منه تاش كند، فتوجه لحصارها، و عزم علي هدم أحجارها، فبعد أن حاصر هامده، و أذاقها كأس الجوع و الشدة، لجأت الي طلب الأمان، و سلمت إليه قايد الإذعان، فأجاب سؤالها، و رقح «1» بالصلح حالها، ثم قفا آثارهما طالبا دمارهما.

ذكر ايقاد شيخ نور الدين و خدايداد نارا للخليل ليحرقاه فأطفأها الله تعالي و وقاه‌

و كان خدايداد و شيخ نور الدين يحومان حول الحمي، و يترقبان من فرص النهب و السلب معاني عسي و لعل ما، فتوجه وراءهما، و رام لقاءهما، فجعلا يرحلان بمرأي منه و مسمع، و ينزلان بمأمل فيه و مطمع، و جعل يقتفيهما في كل منزل، فإذا رحلا يتبع قفاهما و ينزل، و كان خليل سلطان معتمدا علي عسكره، مستيقنا بحلول نصره و ظفره،
______________________________
(1)- رقح: أصلح.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 261
فكأنه في بعض الليالي غفل عن التحرس، و كان لهم في جيشه من دأبه التجسس و التحسس، فخيبه الظن و خانه، و حط علي مكان يسمي شرابخانه، و كان قد تقدم علي الثقل، فطار جاسوسهما إليهما بما فعل، فأقبلا كالسيل، و بيناه بالليل، فخرج من عسكره جماعه، و كأنما قامت القيامة في تلك الساعه، ثم تركا و ردا، و فرا عنه و ندا «1»، و تشتتا في المهامه و الموماي «2»، و من أين للسلطان اقتناص الحرامي، فكف عنهما عنان الطلب و قصد بالسلامة دياره و انقلب.

ذكر مفارقة شيخ نور الدين خدايداد و تقاسمهما تلك البلاد

و لما كانت مودة خدايداد و شيخ نور الدين كالفخار، و أساس ما بينهما من الصداقة كمن أسس بنيانه علي شفا جرف هار، اختلفا، و ما ائتلفا، و تجاذبا شقة الشقاق، و نفق في تبايعهما بضائع النفاق، و لم يعلم أحد من راق وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ «3» فقهقر شيخ نور الدين نحو سغناق، و استولي علي تلك الأطراف و الآفاق.

ذكر رجوع شيخ نور الدين إلي الاعتذار و التنصل عند خليله مما كان منه و صار

ثم راسل شيخ نور الدين خليل سلطان، و اعتذر عما صدر منه من العصيان، و طلب منه أن يقابل إساءته بالإحسان، و يرجع إليه عوائد صدقاته كما كان، فأجابه إلي سؤاله و أسبل علي سوءة جرمه ذيل النسيان، و أرسل إليه امرأة جده تومان.
فصل: و لم يزل علي الوفاق، و شق شقة الشقاق، مرتبقا ربقة الرفاق، حتي وقع خليل سلطان في الرباق، و صفا لشاه رخ ملك سمرقند وراق،
______________________________
(1)- ندّ: نفر.
(2)- الموامي جمع موماء، و الموماء هي الفلاة التي لا ماء فيها.
(3)- سورة القيامة- الآية: 28.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 262
توجه إليه شاه ملك مظهرا لصلح و مضمرا النفاق، و استنزله بالمكر من قلعة سغناق، بعد أن أحكما العهد و الميثاق، و وقع بينهما الاتفاق، و أن يتلاقيا ركبانا، و يتباثا الأشواق، بعد السلام و الاستسلام و العناق، و كان في جماعة شاه ملك شخص يدعي أرغوداق، ثم أقبل شاه ملك بجماعته، و نزل شيخ نور الدين من قلعته، و سار شاه ملك وحده، من غير عدة وعده، و تعانق هو و ذلك المغرور، و بثه ما نابه في غيبته من أمور و سرور و شرور، فأكد عليه الميثاق و العهد، و وصي كل منهما ما يفعله الآخر من بعد، ثم ودعه و انصرف، و اتصل بجماعته و وقف، و سارع كل من جماعته بمفرده، إلي مصافحة شيخ نور الدين و تقبيل يده، حتي أفضت النوبة إلي أرغوداق، فتوجه بما أضمر من الخداع و النفاق، و كان في الشجاعة أسدا، و كالفيل قوة و جسدا، فوصل إليه، و قبل يديه، ثم التزمه عناقا، و أحكمه اعتناقا، فاقتلعه من سرجه، و أهبط نجمه من برجه، و قطع رأيه، و فجع به أناسه، و لما سمع بذلك شاه رخ، طفق يندب و يصرخ، و لعن شاه ملك و نهره، و ضرب أرغوداق و شهره، لكن ما أمكنه وصل ما قطعاه، و لا غرس ما قلعاه، كما قيل مصراع.
و ليس لما تطوي المنية ناشر و استمر مدة لا ينظر إليهما، ثم بعد ذلك رضي عليهما، و استمر خدايداد، متشبثا بتلابيب العناد، مشركا بين العتود و الفساد، غير مسلم إلي الصلح القياد، إلي أن أباره الدهر و أباد، و سنذكر كيف جاد بإعدامه و أجاد.

ذكر أمر خليل سلطان ببناء ترمذ التي خربها جنكيز خان و تجهيزه العساكر لهذا الشأن‌

ثم في شهر صفر سنة عشر و ثمانمائه، أرسل خليل سلطان من الجنود فئة، و أضافهم إلي الله داد، و ضم إليهم من رؤوس الأجناد، الياس خواجا و ابن قماري منصور، و توكل قرقراو دولة تيمور، إلي ترمذ مع
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 263
آخرين، ليعمروها، فاستمروا سائرين، حتي وصلوا إلي ترمذ، فجمعوا في الحال احتياجاتهم من الأحجار و الأخشاب و القرمد، ثم تقاسمت تلك الرؤوس أبدانها، و علوا عن أن يتسوروا قلة أسوارها و حيطانها، و جعلوا يعملون و لا يلبثون، و يبنون بكل ريع منها آية يعبثون «1»، و تركوا بالنهار أكلا و بالليل نوما، فأتموا بنيانها في نحو من خمسة عشر يوما.
و حين ميزوا محلاتها، و فرزوا دروبها و طرقاتها، و رفعوا أعلام مساجدها و مناراتها، و بنوا مواضع أسواقها و أبياتها، أمروا الباقين، من ذرية النازحين عنها من أهلها، و كل من رحل من خراب وعرها إلي عمران سهلها، أن يرجعوا إليها، و يخيموا عليها.
و كان اولئك المساكين، قد استوطنوا منها البساتين، و بنوا فيها أسواقهم و بيوتهم، و جمعوا فيها أسباب معائشهم و قوتهم، و استمروا علي ذلك من وقت جنكيز خان، إلي وقت تيمور كوركان، فكانوا في وطنهم آمنين، و عن حركات الانزعاج و التقلقل ساكنين، فلما مات تيمور، و حدثت شرور و أمور، أراد خليل سلطان أن يصونهم، فأرسل من شيد حصونهم.
و كانت الجديدة عن العتيقة نحوا من فرسخ، فصارت العتيقة أحصن من الجديدة و أرسخ، لا سيما و قد علّي البانون منارها، و نهر جيحون يصافح أقدام طود جبل أسوارها، بخلاف الجديدة، فإن قصور مساكنها غير مشيدة، و هي عن النهر بعيدة.
فلما نادوا الناس أن ادخلوا إلي دار قراركم، فكأنهم كتبوا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ «2» فلم يثقل الله داد عليهم، و لا اكترث في ذلك و لا التفت إليهم، و لم يظهر في ذلك عنادا، و لكنه حشر فنادي، أن كل من سبقت يده من أهل البلد، إلي شي‌ء من هذه
______________________________
(1)- انظر سورة الشعراء- الآية: 128.
(2)- سورة النساء- الآية: 66.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 264
الأماكن و العمائر الجدد، فهو له من غير منازع، و لا ممانع و لا مدافع، ثم أمر بانتقال الخبازين، و القصابين، و الطباخين، و السمانين، و ميز لهم منزلهم و مأواهم، و لم يتعرض لمن سواهم، فجعلوا يبيعون علي العساكر و يشترون، و يربحون في ذلك و لا يخسرون، فاختل نظام سائر الجمع، إذ الانسان مدني بالطبع، فألجأهم الاضطرار، أن يتبعوهم بالاختيار، فتفقد ما يليق به أحوال كل من كبيرهم و صغيرهم، و قرر علي ما اقتضته أوامره قواعد أمورهم، ثم جمع رؤوس جنده، و قفل إلي سمرقند.

ذكر ما فعله شاه رخ من جهة خراسان في مقابلة ما فعله خليل سلطان‌

و لما سمع شاه رخ بما فعله خليل سلطان، جهز طائفة من عساكر خراسان، و جعل يمد ذلك السحاب المنجاب، من بحر أمر أمير يدعي مزراب، و هو أخو جهان شاه، الذي كان تيمور علي محاصرة قلعة دمشق ولاه، و أمر رؤوس تلك الجنود، أن يبنوا قلعة تسمي حصن الهنود، و هي من أقصي بلاد خراسان، يفصل بينها و بين ترمذ نهر جيحان، ففعلت من البناء العساكر الخراسانية، نحو ما أعربت عنه العساكر الخليلية السلطانية، و في أثناء مدة البناء تراسل الله داد و مزراب و تصافيا، و تواصلا بالاحتشام و الاحترام و تهاديا.

إشارة إلي ما حدث في أقاليم إيران و ما جري من سيول الدماء عند نضوب ذلك الطوفان‌

ثم إن السلطان أحمد و قرايوسف رجعا إلي العراق، و وقع بينهما علي سياسة الملك الاتفاق، و استقر السلطان أحمد في بغداد، و وثب قرايوسف علي الجغتاي بالعناد، ليستخلص منهم ما استولوا عليه من بلاد، و كتب الفتح علي راياته آيات نصر من الله، فاستخلص أذربيجان، بعد أن أباد طوائفهم و قتل أميرانشاه، و مد عنان الكلام، في استيفاء هذا المقام، يخرجنا عما نحن بصدده من المرام، إلي أن وقع بينهما الشقاق،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 265
و تخبطت أذربيجان و العراق، ثم قتل قرايوسف السلطان أحمد بإشارة بسطام، و ذلك في شهور سنة ثلاثة عشر و ثمانمائة من هجرة النبي عليه السلام، و أما عراق العجم، فإنها كانت أحصن أجم، فاستقل بدعوي الملك متوليها بير عمر، فنهض عليه ذو قرابة له يدعي اسكندر «1»، فقاتله و كسره، ثم قبض عليه و هصره، و استقل بدعواه، فتوجه إليه شاه رخ صاحب هراة، فقبض عليه و أباده، و فجع به أهله و أولاده، و استصفي بلاده، فخلصت لشاه رخ ممالك العجم كلها، و انثال إلي خزانته من أموالها و ابلها و طلها، من غير أن يعاني في ذلك نصبا، أو يقاسي في تحصيله تعبا و وصبا، مع أن مملكته كانت أوسط الممالك، فلم يتطرق إليه أحد بسوء لذلك، و أنه كان حسن الجوار قليل الحركه، و أبوه قد حسم عنه بقتله ملوك العجم مادة كل شر و هلكه، فثبت في مكانه بين أسود شمخت و نبت، و كبت ماله من الأعداء بماله من أصدقاء و ثبت، فاهتزت أراضي دولته بنبات الثبات و ربت، و كأن عيون السعد كانت تراقبه، و عرائس الملك تناجيه و تخاطبه، بقوله شعرا:
نزه فؤادك عن سوانا و القنافجنابنا حل لكل منزه
و الصبر طلسم لكنز وصالنامن حل ذا الطلسم فاز بكنزه

ذكر خروج الناس من الحصر و طلبهم أوطانهم من ما وراء النهر

و في أثناء هذه الحالات، قصد الناس من سمرقند التبدد و الشتات، و طلب كل غريب وطنه، و تحرك يبغي سكنه و قطنه، إما بإجازة و احتماء، و إما بهزيمة و إختفاء، فأول من استجاز من أهل الشام و رام المسير، شهاب الدين أحمد بن الشهيد الوزير، ثم تفرقت الطوائف عجما و عربا،
______________________________
(1)- اسكندر هو حفيد تيمور، فقد كان ثالث أبناء عمر شيخ بن تيمور، عينه جده حاكما علي فرغانة قبل خروجه إلي حملته الغربية، و اختلف مع ابن عمه محمد سلطان نائب تيمور آنذاك علي سمرقند، فعزل عن منصبه، و حمل إلي سمرقند حيث اعتقل و ضرب فيها بأمر من جده، و كان وقتها في السادسة عشرة من عمره، ثم رضي تيمور عنه و عينه حاكما علي همذان: Barthold, Four Studies, vol P pp 35- 37. عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 266
و تبددوا في الآفاق شرقا و غربا، و وقع في سمرقند القحط و غلاء الأسعار، و لم يرخص بين الناس سوي الدرهم و الدينار، ثم حصل بعد ذلك الرفاهية، و اجتمع للناس الرجاء و الأمنية، و طاب الزمان، و حصل الأمان، و ذهب المقت، و صفا الوقت مصراع:
و عند صفو الليالي يحدث الكدر .....

ذكر ما أثار الزمان الغدار من دمار و بوار ألقي به الخليل في النار

و كان خليل سلطان تزوج بشاد ملك، زوج سيف الدين الأمير، و ملكه سلطان هواها، فكان فيه كالأسير، فمال بكل جوانحه إليها، بحيث أنه قصر نظره عليها، و صارت محبته كل يوم تزداد، و أنست قصته قصة قيس و ليلي و شيرين و فرهاد، فكان كما قيل شعرا:
أعانقها و النفس بعد مشوقةإليها و هل بعد العناق تدان
و ألثم فاها كي تزول صبابتي‌فيشتدّ ما ألقي من الهيمان
و كأنّ فؤادي ليس يهدأ الذي به‌إلي أن يري الروحين يجتمعان و استمر ذلك إلي أن ران هواها علي قلبه، و أخذ بمجامع لبه، و ربط جوارحه، و حل جوانحه، و فصل قميصا واسعا فكانا يلبسانه، و اتحدا فصار ينطق بلسانها، و تنطق بلسانه، و صارا ينشدان و إلي حالهما يرشدان، شعرا:
أنا من أهوي و من أهوي أنانحن روحان حللنا بدنا بل كانت القضية بالعكس، قلت:
إنما كانا بروح نفخت‌مذ براها ربها في بدنين و كان لا يصدر أمرا إلا عن رأيها، و لا يستضي‌ء في سياسة الملك الابنور ذكائها، فسلمها قياده، و أتبع مرادها مراده، و هذا من غاية البله و العته، و كيف يفلح من ملك قياده امرأته.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 267
و كان لها خادم قديم، ليس من بني الأحرار و لا بكريم، بل كان من أطراف الناس، يبيع في أول أمره البز و الكرباس، يدعي بابا ترمش، بطرف معمش، و وجه منمش، و صورة قبيحة، و سيرة غير مليحه، و كان يتقاضي حوائجها و يدخل عليها، قبل وصول خليل سلطان إليها.
فلما وصلت مخدومته إلي ما وصلت، و حصلت لها المرتبة التي لغيرها ما حصلت، ارتفعت درجة خدمها، و زادت حشمة حشمها، و استفاد بابا ترمش من إضافته إليها التعظيم، و بحسب كرامة المخدوم يحصل للخادم التكريم، فصار يرأس جماعتها و يسوسهم، و بمجالستها تجلي بخلعة القوم لا يشقي جليسهم، ثم ترقي، حتي صار عليه مدار أمرها، ثم تخطت قدمه إلي التكلم في أسباب الملك و غيرها، ثم تدرج إلي فصل المحاكمات الديوانية، و إجراء القضايا السلطانية، ثم ترفع إلي التولية و العزل، و تعاطي ذلك علي سبيل الجد و الهزل، ثم انتهي في ذلك، فصار دستور الممالك، و لم يقدر أحد علي رد كلمته، لحدة شوكته بقوة مخدومته، فبسط يده و لسانه كما اختار و امتثل كل أحد ما أمر به و أشار.
و استطال علي الله داد و أرغون شاه، فصار يبرم ما ينقضانه، و ينقض ما أبرماه، و بلغ في قلة الأدب إلي كان أن يمد رجله بحضرتهما، و لا يقوم بذرة من واجب حرمتهما، ثم حجر أن لا تفصل قضية إلا بمشورته، و إن كان غائبا فينتظر حضوره أو يتوجه إلي حضرته، و من حين نبغ إلي أن بلغ ما بلغ، كان نحوا من ثلاث سنين، و عفاريت الجغتاي و جنهم لا بثون معه في العذاب المهين، فحصل لالله داد و أرغون شاه من هذا التدرج، غاية الضرر، و نهاية التحرج، و بلغا الغاية، في الاهانة و النكاية، و أعضل داؤهما، و أعجز دواؤهما، و استلذا ذهاب العيش و زواله، علي البقاء في هذه الحاله.

ذكر ما افتكره الله داد و دبره في مراسلة خدايداد

ثم ان الله داد استعمل فكره، و لكن أخطت استه الحفره، فطبخ قدرا فانقلبت عليه، و نسج كدود القز شبكة حتفه بيديه، قلت:
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 268 اذا انعكس الزمان علي لبيب‌يحسّن رأيه ما كان قبحا
يعاني كل امر ليس يعني‌و يفسد ما رآه الناس صلحا فلم يجدا لتبريد الأكباد، إلا مراسلة خدايداد، فجليا عليه صورة هذه القضية، و أخبراه بها عن وضوح و جليه، و أشارا عليه أن يتوجه بأمل فسيح، و يقصد بعساكره سمرقند، و خاطره مستريح، فنهض من ساعته، و توجه بجيشه و جماعته، و دب دبيب الدبا، فوصل إلي مكان يدعي أوراتبا «1».
فلما سمع بذلك خليل سلطان، أرسل الي الجنود و الأعوان، و تعجب من وقاحته، و تعوذ من كلاحته، و جهز الله داد و أرغون شاه، مع العساكر الجرارة للملاقاه، فسارا حتي دانياه، فقابلاه و ما قاتلاه، ثم أرسلا إلي خليل سلطان، يستدعيان المدود، و يقولان: إن هذا الرجل بلغ من ملاحاته، و شدة دعارته و قلة مبالاته، انه لم يتزعزع من مناخه، و لا دخل ريح هيبتنا في صماخه، فأمدهما بباقي العسكر، و جعل يتشوف لما يكون من الخبر، فأرسلا أيضا إن هذا قد آذي و زاد فسادا، و جاري في عداوته ثمودا و عادا، فأمدنا بنفسك، و أدركنا بحدسك و حسك، فإن هيبتك أقوي، و طلعتك أضوي، و ما ارتكب هذه الجرأة، و لا أقدم علي هذه الجيئة، إلا و قد أضمر شرا كبيرا، و طوي في باطنه قارا و قيرا، فأدركنا بباقي المقاتله، فإن هذه المرة تكون الفاصله، فخرج خليل سلطان بقلب مطمئن، و خاطر علي حلول الحوادث مستكن، و أمل فسح، و صدر منشرح، معجبا بشبابه، مغرما بأصحابه، متمايلا بين أحبابه، متهاديا بين أترابه، في شرذمة قليله، و طائفة نبيله، أبعد ما عنده نزول هم، و أشرد ما لديه حلول نكد و غم، يفديه الكمال، و يناديه لسان الجمال، بقوله شعرا:
ته دلالا فأنت أهل لذاكاو تحكم فالحسن قد أعطاكا
______________________________
(1)- مدينة في منطقة أشرو سنة إلي الشمال الشرقي من سمرقند- تركستان ص 279
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 269
فوصل بتلك العصابة السلطانية، إلي قصبة تسمي سلطانية «1»، فأرسل الله داد إلي خدايداد أن الركاب السلطاني، خرج من سمرقند في اليوم الفلاني، و في الساعة الفلانية، يحل كورة سلطانية.

ذكر ما قصده خدايداد من الكيد و وقوع خليل سلطان في قنص الصيد

فقصد خدايداد المخاتله، و ترك ثقله مقابل المقاتله، و نبذا العساكر وراء ظهره، و تأبط شر شراره و هراوة هره، و استصحب من أبطال القتال و رجال النضال و النزال طائفة، جاسرة غير خائفة، بمعني ما قيل شعرا:
و زان إذا لا قوا خفافا اذ أدعواكثير اذا شدّوا قليل اذا عدّوا و التحف ذيل الليل، و واطأ بظهر الخيل، و استطرق إلي مطلوبه طريقا عوجا، و استقود إلي مقصوده قواد الدجي، كما قيل شعرا:
لا تلق إلّا بليل من تواصله‌فالشمس غامة و الليل قواد حتي وصل إلي سلطانية، و هي قصبة أنشأها تيمور، و لم يكن لأحد به شعور، فلم يفجأ خليل سلطان، إلا و قد جاءه موج البلاء من كل مكان، فنهض كل من معه من الأصحاب، و أخذوا في الحرب و الطعن و الضراب، و قاتلوا قتال الموت، و أيقنوا حلول الفوت، فعضت عليهم الحرب العضوض، و طرحتهم ما بين مهشوم و موقوذ و مرضوض، فقتل حقيرهم و جليلهم، و وقع في نار عدوهم حبيبهم و خليلهم، ثم رجع خدايداد إلي معسكره، فائزا بنحجه مستبشرا بظفره.
فصل: ثم إن خدايداد حلف لخليل سلطان، بأشد ما يكون و أبلغ من أنواع الأيمان، أنه لا يقصده بأذي، و لا يرمي في عين معيشته بخيال قذي، و لا يؤذيه بقول و لا عمل، و لا يسلط عليه من يؤذيه بمكر و ذحل، و سيري نتيجة ما حلف، و إن الله تعالي عفا عما سلف.
______________________________
(1)- سلطانية هنا: قرية وقعت إلي الشمال من سمرقند.Barthold frour studies ,p 41
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 270
فصل: ثم التمس منه أن يرسل إلي الله داد، فمن دونه من الأجناد، أن يستسلموا لخدايداد، و أرسل خدايداد أيضا إلي الناس، بأني قد استوليت منكم علي الرأس، فإن أطعتموني أطعته، و إن لم تصلوني قطعته، و لما وقع خليل سلطان في هذا الكرب، تصور أن هذا سهم غرب، ثم ظهر له مكان ذلك المكمن، و تحقق كيف أخذ في المأمن، و علم من أين صبّ ذلك البلاء عليه، و أني أخذ من ذلك الجانب الذي يأمن إليه، فقال بلسان الحال:
جزي الله عنا الخير من ليس بينناو لا بينه ودّ و لا نتعارف
فما سامنا خسفا و لا شفّنا أذي‌من الناس إلا من نودّ و نعرف ثم أرسل إلي سائر الأمراء، و رؤساء الجيش و الوزراء، أن يستسلموا لخدايداد و لا ينازعوه، و لا يدافعوه فيما يريد و لا يمانعوه، فاستسلم الكل إليه، و استقبل ذراه و سلم عليه، فاستولي علي تلك الجنود المجندة، و تحصن من غوائل المخاتلة بالرماح المسدده، و السيوف المهندة، و قدم جنود جند و خجند، و أغتام تركستان و طغام أوزجند «1»، و أخر من سوي أولئك، و تقدم إلي سمرقند، و لم يلتفت إلي الله داد فمن دونه، و تحقق الله داد أن صفقته في ذلك مغبونه، فسلخ الزمان عنه ما كان ألبسه من ثوب عز و سلب، و فر من بين يديه ما كان فيه من جاه و مال و ذهب، و كان قيام ذلك الحشر، في سنة ثمانمائة و اثنتي عشر.

ذكر ما جري من الفساد بسمرقند عند قدوم خدايداد

فوصل خدايداد إلي سمرقند و دخل، فتغيرت تلك الرسوم و الدول، و كأنه ظهر اختلاف الملل و النحل، و كان له ابن عم يدعي الله داد، فدعاه بالسلطان علي رؤوس الأشهاد، و تفحص عن مكامن الخزائن، و نقب في أطوادها عن الفلزات و المعادن، و نقر عن مضمرات الضمار،
______________________________
(1)- أوزجند أو أوكند: آخر مدن فرغانة شرقا. لي سترانج ص 522.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 271
و بحث عن الخبايا و الدفائن، و تغيرت الأوضاع، و تبدلت بالفظاظة رقاق الطباع، و صار كما قيل شعرا:
أما الخيام كخيامهم‌و أري نساء الحي غير نسائها و تنكرت الصفات، حتي كأنما تحولت الذوات، أو بدلت الأرض غير الأرض و السموات، شعر:
و تنكرت أرض الغوير فلم يكن‌ذاك الغوير و لا النقا ذاك النقا

ذكر بلوغ هذه الأمور شاه رخ بن تيمور و تلافيه تلك الحوادث و حسمه مادة هذه العوابث‌

و لما اتصل بشاه رخ هذا الخبر، عبس و بسر، و تضجر و زمجر، و إزور، و إزبأر، و كشر و اكفهر، و تغير وجهه و تمعر، و استغاث و تقلق، و ولول و استرجع و حوقل، و تحرق و تنكد، و تأوه و أنشد شعرا:
لقد هزلت حتي بدا هزالهاكلاها «1» و حتي سامها كل مفلس ثم طير بطائق مراسيمه كل مطير، إلي أطراف ممالكه بجمع العسكر، و أمر شاه ملك، أن يسير غير مرتبك، و يستديم السير، و يسابق بعتاقه عتاق الطير، فيتدارك ما انفرط من النظام، و يطارد عن ورد المملكة الأغتام الطغام، فلا يدع رائدهم أن يحل، و يعاجل مستعجل قدرهم أن يمل، فسار شاه ملك في الحال، بعساكر في المدد كالجبال، و في العدد كالرمال، ثم اتبعه شاه رخ بسائر الأساوره، و كواسر الأكاسره، و سار لا يلوي علي أحد، و لا يسكن في حركته إلي طالع و لا رصد، فحين وصلوا جيحون و عبروه، غطوا وجهه و ستروه، فانبسط ذلك السيد علي وجه الماء، فكأن البحر غطي بالغمام المتراكب، و غرق في بحر الحياء.
______________________________
(1)- كلاها: جانباها.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 272
فصل: و لما قطع البحر تلك الأطواد، و اتصل الخبر بخدايداد، تيقن أنه لا طاقة لذبابه و قروده، بذئاب جنود شاه رخ و أسوده، و أن جل عساكره يفر عنه و يسلمه، و يقبض عليه و لشاه رخ يسلمه، فأسرع في تنجيز مآربه، و بادر إلي تجهيز مطالبه، و أخذ ما وصلت يده إليه من أموال، و أوسق ما بلغت طاقته من نفائس و أحمال، و استصحب خليل سلطان، و توجه إلي أنديكان «1»، و أودع الله داد، و أرغون شاه، و بابا ترمش في القلعه، و أنف أن يستصحب أحدا منهم معه، و ترك شاد ملك أيضا في المدينة، بفراق خليلها رهينه، و بسلب ما كانت فيه من العز مهينه.

ذكر ما جري بسمرقند بعد خروج الجنود الجندية و قبل وصول الشواهين الشاهرخية

ثم لما رحل خدايداد و انفصل، و لم يكن أحد من جهة شاه رخ وصل، و كان للناس، ظهر و لا رأس، أراد الله داد، و أرغون شاه، أن يتوجها إلي شاه رخ و يستقبلاه، فرفع خواجا عبد الأول عليهما يده، و أقام لمنعهما عن الخروج من القلعة رصده، و استعان بشطار المدينة، و كان الله داد قبل ذلك أنكاه نكاية أورثته ضغينه، كما قيل مصراع:
من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا
فلم يختلف في رئاسته اثنان، و لا انتطح فيما يأمرهم به عنزان، و صارت إشارته الآمرة الناهية، و جداول مراسيمه فيما بين الناس جارية، و أوامره المطاعة في تلك الايام الخالية مصراع:
و العلم يرفع بيتا لا عماد له
و لم يزل خواجا عبد الأول يسوس الرعية، و يوصي علي الله داد و رفيقه و من معهم، و يشدد مضائق القضيه، إلي أن طلعت طلائع شاه ملك و أعقبتها العساكر الشاهرخية.
______________________________
(1)- أنديكان أو أنديجان، قصبة اقليم فرغانة. لي سترانج ص 520- 521
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 273

ذكر بدور بدور الدولة الشاهرخية في سماء ممالك ما وراء النهر بعد غروب شمس النوبة الخليلية

فخرج أهل المدينة لاستقباله، مستبشرين برؤية جبين هلاله، فنزل كل أحد في منزلته، و وضع كلا من الناس في مرتبته، ثم قبض علي الله داد و رفيقه، و عاقبهم بأنواع العقاب، و صنف في تعذيبهم و استخلاص الأموال منهم أنواع العذاب، ثم قتلهم صبرا، و نقلهم من الدنيا إلي الآخره، إلا بابا ترمش فإنهم عاقبوه، و بأنواع العذاب ألهبوه، ففي بعض الأيام، و قد أنكت فيه من العذاب الآلام، أخذ الموكلين عليه ليطلعهم علي قضيه، أو يذهب بهم إلي خبيه، فمروا به و هو في قيد وثيق، علي حوض ماء عريض عميق، فاستل من قراب أيديهم عضب يده الدلق، و رمي بنفسه وزخ في ذلك الماء علي غفلة فغرق.
فصل: ثم إن شاه رخ زار أباه، و أقام شرائط عزاه، و جدد ترتيب القراء علي تربته و القومه، و استأنف معاليم المرتبين في ذلك و الخدمه، و نقل إلي خزائنه جل ما كان علي حفرته، من أقمشته و أمتعته و أسلحته، و عفر بيادر الخزائن، و حفر تخوم تلك الكمائن، و شرع في تمهيد القواعد، و ترتيب مراتب الأقارب و الأباعد.
فصل: و قبضوا علي شاه ملك و أهانوها، و شانوها ابتذالا لمن صانوها، و عصبوها بالعذاب عصب السلمه، و هزوها لاستخراج الأموال منها هزات أعوان الظلمة، ثم بعد ذلك الابتذال، و استخلاصهم منها أنواع الأموال، حزموها و شدوا منها الوثاق، و شهروها منادين عليها في الأسواق، و استقرت علي شاه رخ الأمور، و ارتفعت صدور و انقصمت ظهور، و علا إنسان، و انحط إنسان، فسبحان من هو كل يوم في شأن، عز شأنه، و تعالي سلطانه، يغير الدول، و يقلب الأحوال، و لا يعتري سلطانه تغير و لا انتقال.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 274

ذكر ما قصده خدايداد من اتمام النكد و الفساد و كيف آل ذلك النكال إلي أن جري عليه الوبال‌

و أما خدايداد فحين حل في مكانه، و خلا بخليل سلطانه في أنديكانه، جدد معه عهوده و مواثقه، أنه أمنه مكره و بوائقه، و ذكر أن ذلك النكال و النكاد، إنما فعله معه أرغون شاه، و الله داد، مع احسانه إليهم، و إسبال ذيل إنعامه عليهم، و أنهم كافأوه مكافأة التمساح، و قابلوا بإفسادهم منه الاصلاح، ثم قال له: أذكر صنيعك معي أولا و ظاهرا، و انظر ما أفعله معك باطنا و آخرا، و سأفعل معك ما يتحقق به خلوص الوطية، و صدق النية، بحيث يذهب الكدر و يبقي الصفاء، و ينمحي الجفاء و يثبت الوفاء، و نعيش باقي عمرنا متصافين، و في رياض الهناء متوافين متكافيين، فنمحو بما نكتب في ألواح صدورنا من المحبة و الشفقة، مساطير الأساطير المكتبة، في باب الحمامه المطوقه «1»، و سأردك إن شاء الله تعالي إلي دار عزتك، و أجتهد في تحصيل ما يعيدك إلي نشاطك و هزتك، ثم خطب باسمه في أنديكان، و أمر بذلك في أطراف تركستان.

تتمة ما جري من خليل و خدايداد من المعاقدات و تأكيد العهود و المودات الي أن أدركهما هادم اللذات‌

ثم أكدا بينهما وثائق الأيمان، و ذهب خدايداد يستمد المغول لخليل سلطان، و ترك خليل سلطان بأنديكان، و كان المغول، لما بلغهم موت تيمور المخذول، سلبوا قرارهم، و أخلوا ديارهم، و لجأوا إلي الحصون، و تشبثوا بأذيال كل كهف مصون، كما ذكر أولا، فلما تحققوا موته، و استثبتوا فوته، تنادوا بالأمن و الأمان، و جاوروا خدايداد في ذلك المكان، و أرسلوا يهنئون خليل سلطان، و بعثوا إليه هدايا سنية، و تحفا
______________________________
(1)- من قصص كليلة و دمنة، وقعت مع بعض رفيقاتها بشبكة صياد، فأقنعتهن بالتعاون للخلاص من الشبكة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 275
فاخرة ملوكية، من جملتها كرسي من ذهب، و أفرغه صائغه في قالب العجب، فأكرم خليل سلطان رسلهم، و أعظم نزلهم، و أجمل معهم جوارا و أجرا، و جازاهم بكل حسنة عشرا، قلت:
الخير أبقي و إن طال الزمان به‌و الشر أخبث ما أوعيت من زاد و لا زالت خلع المودة بينهم تنتسج، و وجوه المكارمة و المحاشمة يوما فيوما تبتهج، حتي عري له ما عري، و جري عليه من بحر القضاء و القدر ما جري، فساعة وصول خدايداد إليهم قبضوا عليه، و أرسلوا إلي خليل سلطان ينهون صورة الحال إليه، و قالوا: تعلم ما بيننا و بينك من خالص الوداد، و إنا عالمون بما وقع بينك و بين خدايداد، و إنه كان السبب في تبددك و خروج ملكك من يدك، و قد جاء يستمدنا لك، فارسم لنا ما بدا لك، فإن رسمت قتلناه، و إن أشرت أمددناه، و في الجملة مهما أمرتنا به امتثلناه، فأرسل يقول: علمتم كيف آذاني، و مزق عرضي و أخزاني، و أخرجني من ملكي و سلطاني، و غربني عن أهلي و إخواني، و أذلني و آذاني بمفارقة حيي و أوطاني، و الآن فقد جعلني ترسا، يتقي بي الحوادث و البأساء، و قد عرفتم كيف يريد أن يتصرف، و علي كل حال فالعارف لا يعرف، و مع هذا مهما رأيتم في ذلك من المصلحة فافعلوه، ففي الحال قطعوا رأسه و إليه أرسلوه.

ذكر عود خليل سلطان من ممالك أنديكان و قصده عمه شاه رخ و لعبه بالنفس مع ذلك بالرخ‌

و استمر خليل سلطان، في ذلك المكان و أطراف تركستان، يرسل بالفارسي الأشعار الفراتية، و ينش‌ء في حبيبته ما ينسي القصائد الزيدونية، و يذكر ما هو فيه من الغربه، و ما جري عليه من الفراق و الكربة، فيصدع بذلك القلوب و يفتت الأكباد، إلي أن مل المقام في تلك البلاد، فنفض منها ذيله، و ضم رجله و خيله، و قصد عمه، و ركب
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 276
الطريق و أمه، فأكرم عمه مثواه، و لم يذكر له أخبار ما أنشأه، و ضم إليه حبيبته، و لم إلي خليل خليلته، و قرر قاعدة ذلك الإقليم و شيده، و ولي فيه أولوغ بيك ولده، و قفل إلي خراسان، مستصحبا معه خليل سلطان، ثم ولاه ممالك الري، فلم يقم بها إلا أدني شي‌ء، و انتقل إلي رحمة الله، و كان عمه دس له شيئا فسقاه، فدفن بمدينة الري، و طوي نشر ذلك الحاتم طي، و حين وقعت شاد ملك في هذا الخطب الجليل، و اشتعلت أحشاؤها بنار الخليل، قالت: لاذقت فقدك، و لا عشت بعدك، و أنّت و رنّت، و أنشدت و غنت، شعرا:
كنت السواد لمقلتي‌فبكي عليك الناظر
من عاش بعدك فليمت‌فعليك كنت أحاذر ثم أخذت خنجرا فوضعته في لبتها، و اتكأت عليه بقوتها، فنفذ من قفاها، و أحرقت بنارها كل من رآها، فدفنا في قبر واحد، و أمسي لسان حالهما ينشد، شعرا:
أجارتنا إنّا غريبان ههناو كل غريب للغريب نسيب و صفا لشاه رخ ممالك ما وراء النهر و خراسان، و خوارزم، و جرجان، و عراق العجم و مازندران، و قندهار، و الهند، و كرمان، و جميع بلاد العجم إلي حدود أذربيجان، إلي يومنا هذا، أعني سنة ثمانمائة و أربعين، و نسأل الله تعالي المنان حسن العاقبة بمنه و لطفه و الحمد لله رب العالمين علي مدي الأزمان.

فصل في صفات تيمور البديعه و ما جبل عليه من سجية و طبيعه‌

و كان تيمور طويل النجاد، رفيع العماد، ذا قامة شاهقة، كأنه من بقايا العمالقة، عظيم الجبهة و الرأس، شديد القوة و البأس، عجيب الكون، أبيض اللون، مشربا بحمره، غير مشوب بسمره، فخيم الأطراف، عريض الأكتاف، غليظ الأصابع، سميك الأكارع، مستكمل البنية،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 277
مسترسل اللحية، أشل أعرج اليمناوين، عيناه كشمعتين غير زهراوين، جهير الصوت، لا يهاب الموت، قد ناهز الثمانين «1»، و هو مع ذلك بجأش مكين، و بدن مستمسك متين، صلبا شهما، كأنه صخرة صماء، لا يحب المزاح و الكذب، و لا يستميله اللهو و اللعب، يعجبه الصدق و لو كان فيه ما يسوءه، لا يأسي علي ما فات و لا يفرح بما يجيئه، و كان نقش خاتمه راستي رستي، يعني صدقت نجوت، و ميسم دوابه و رسيم سكته علي الدرهم و الدنيا ثلاث حلق هكذا: لا يجري غالبا في مجلسه شي‌ء من الكلام الفاحش و لا سفك دم «2»، و لا من سبي و نهب و غارة و هتك حرم، مقداما شجاعا، مهابا مطاعا، يحب الشجعان و الأبطال، و يستفتح بهم أقفال الأهوال، و يستفرس بهم أسود الرجال، و يستهدم بهم و بصدماتهم قلل الجبال، ذا أفكار مصيبة، و فراسات عجيبة، و سعد فائق، وجد موافق، و عزم بالثبات ناطق، ولدي الخطاب صادق، قلت:
فكم قدحت آراؤه زند فتنةحمته لدي الباسا و أردت قبائلا محجاجا داركا للمحة و للمزة، مرتاضا مستيقظا لرمزه، لا يخفي عليه تلبيس ملبس، و لا يتمشي عليه تدليس مدلس، يفرق بين المحق و المبطل بفراسته، و يدرك الناصح و الغاش بدربة درايته، يكاد يهدي بأفكاره النجم الثاقب، و يستتبع بآراء فراسته سهم كل كوكب صائب، قلت:
يشاهد أعقاب الأمور بعقله‌كما شاهد المحسوس بالعين ناظر إذا أمر أو أشار بشي‌ء لا يرد عنه، و لا يثني عنان عزيمته عن شي‌ء منه، لئلا ينسب إلي قلة الثبات، و ركاكة الرأي و الحركات، قلت:
و قد ينبت المرعي علي دمن الثري‌تري أمره في ذاك كالنص قاطعا
______________________________
(1)- كذا، و كان الأصح القول السبعين، فقد ولد تيمور عام 736 ه/ 1336 م، و توفي عام 807 ه/ 1405 م، و علي هذا يكون عمره احدي و سبعين سنة هجرية.
(2)- يتعارض هذا مع أخبار تيمور التي تقدم لابن عربشاه عرضها
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 278
و كان يقال له في ألقابه: صاحب قران الأقاليم السبعة، و قهرمان الماء و الطين، و قاهر الملوك و السلاطين، يحكي أن قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون المالكي، قاضي القضاة بمصر كان، صاحب التاريخ العجيب، و السالك فيه الأسلوب الغريب، علي ما ذكر لي من رآه، و اطلع علي لفظه و معناه، من الأذكياء المهره، و الأدباء البرره، مع أني لم أره، و كان قد قدم الشام، مع عساكر الإسلام، و حين ولت العساكر الأدبار، أنشبته في مخاليب تيمور الأقدار، قال له في بعض مجالسه، و قد أنس بتوانسه: بالله يا مولانا الأمير ناولني يدك التي هي مفتاح فتوح الدنيا حتي أتشرف بتقبيلها، و قال له أيضا لما أراد أن يستصحبه معه، و قد سرد عليه شيئا من تواريخ ملوك الغرب، و كان تيمور مغرما باقراء التواريخ و استماعها، فأعجبه ذلك غاية الإعجاب، و رغب منه في الاستصحاب: يا مولانا الأمير مصر حرجت عن أن يتولي فيها نائب غيرك، أو أن يجري فيها غير أمرك، ولي فيك عوض من طريفي و تلادي، و أهلي و أولادي، و وطني و بلادي، و أصحابي و أخداني، و أقاربي و خلاني، و ملوك الناس، و عن كل ظهر و رأس، بل و عن كل الوري، إذ كل الصيد في جوف الفرا، و ما أتأسف، و لا أتلهف، إلا علي ما مضي من عمري، و انقضي من عصري، كيف تقضي ذلك في غير خدمتك، و لم تكتحل عيني بنور طلعتك، و لكن القضاء جاز، و سأستبدل الحقيقة بالمجاز، و ما أولاني، أن أكرر علي لساني، قوله:
جزاك الله عن ذلك السعي خيراو لكن جئت في الزمن الأخير فلاستأنفن في ذراك عمرا ثانيا، و لأعدن الزمان بإبعادي عن عدوتك عاديا، و لأتداركن ما مضي من عمري بصرف ما بقي في خدمتك و التشبث بغرزك، و لأحسبن ذلك أعز أوقاتي، و أعلي مقاماتي، و أشرف حالاتي، و لكن ما يقصم ظهري، إلا كتبي التي أفنيت فيها عمري، و صرفت جواهر علومي في تصنيفها، و أظمئت نهاري و أسهرت ليلي في
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 279
ترصيفها، و ذكرت فيها تاريخ الدنيا من بدئها، و سير ملوك شرقها و غربها، و لئن ظفرت بها لأجعلنك واسطة عقدهم، و خلاصة نقدهم، و لأطرزن بسيرك خلع دهرهم، و لأصيرن دولتك هلال جبين عصرهم، إذ أنت أبو المقاحم، و البازغ بدر نصره في شرق الغرب من دياجير الملاحم، و المكاشف به علي لسان كل ولي، و المشار إليه في الزوايج «1» و الجفر المنسوب إلي أمير المؤمنين علي، و صاحب القران، المنتظر في آخر الزمان، و هي في القاهرة فلو حصلت عليها ما فارقت ركابك، و لا هجرت أعتابك، و الحمد لله الذي رزقني من يعرف قيمتي، و يحرز خدمتي و لا يضيع حرمتي، مع كلام فصيح ضارع، بديع بليغ خالب خادع، فاهتزت فرحا أعطافه، و تراقصت مرحا أطرافه، و أعجبه ذلك، و أغراه ميله إلي كتب التواريخ و السير، و استهواه حبه معرفة أحوال الملوك الذي ذكر، حتي شد عما خلبه، بسحر هذا البيان البديع و سلبه.
ثم إنه استوصفه بلاد الغرب و ممالكها و استوضحه أوضاعها و مسالكها، و قراها و دروبها، و قبائلها و شعوبها، كما هو دأبه و شأنه، و القصد في ذلك امتحانه، لأنه لم يكن محتاجا ذلك، اذ في خزائن تصوره صور جميع الممالك، و إنما أراد بذلك معرفة مقدار علمه، و كيفية إبداء نصحه له و كتمه، فأملي كل ذلك من طرف لسانه كأنه يشاهده، و هو جالس في مكانه، و شرح تلك الأمور، كما في خاطر تيمور.
ثم قال له: كيف تذكرني و بخت نصر مع الملوك الأكابر، و لم نزل في ذلك النسب بعيدين عن تلك المفاخر، و ما نحن من يعاسيب النحل، فأني تعبينا مع الفحل؟ فقال: افعالكما البديعه، أوصلتكما إلي تلك المنزلة الرفيعه، فأعجبه هذا الكلام، و قال لجماعته: اقتدوا به فإنه إمام، ثم أخذ تيمور يخبر القاضي بما وقع في بلاده، و ما جري بين ملوك الغرب و أجناده، و لا زال يذكر له أخبار الناس حتي سرد عليه أخبار متعلقيه
______________________________
(1)- جمع زيج، و الزيج جدول تحدد فيه حركات النجوم في السماء.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 280
و أولاده، فتحير القاضي من إملائه، و قال: إن الشيطان ليوحي إلي أوليائه، ثم إن تيمور عاهد القاضي أن يتوجه إلي القاهره، و يأخذ أهله و أولاده و كتبه الزاهره، و لا يلبث أكثر من مسافة الطريق، و يرجع إليه بأمل فسيح و عهد نبيل الأماني وثيق، فتجهز إلي صفد، و استراح من ذلك النكد.
فصل: و كان تيمور محبا للعلماء، مقربا للسادات و الشرفاء، يعز العلماء و الفضلاء إعزازا تاما، و يقدمهم كل أحد تقديما عاما، و ينزل كلا منهم منزلته، و يعرف له إكرامه و حرمته، و ينبسط إليهم إنبساط رحمة ممزوجا بهيبة، و يبحث معهم بحثا مندرجا الانصاف، و الحشمه، لطفه مندمج في قهره، و عنفه مندرج في بره، شعر:
متفرّق الطعمين مجتمع القوي‌فكأنه السراء و الضراء و قيل:
مر المذاق علي أعدائه بشع‌حلو الفكاهة للأصحاب كالعسل و كان مغرما بأرباب الصناعات و الحرف، أي صناعة كانت إذا كان لها خطر و شرف، يبغض بطبعه المضحكين و الشعراء، و يقرب المنجمين و الأطباء، و يأخذ بقولهم، و يصغي إلي كلامهم، ملازما للعب بالشطرنج لكونه منقحا للفكر، و كانت علت همته عن الشطرنج الصغير، فكان يلاعب بالشطرنج الكبير، و رقعته عشرة في إحدي عشر، و فيه من الزوائد جملان و زرافتان و طليعتان و دبابتان و وزير، و أشياء هذه و سيأتي وضعه و الشطرنج الصغير بالنسبة إلي الكبير كلا شي‌ء، مواظبا لإقراء التواريخ و قصص الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، و سير الملوك و أخبار من مضي من الأنام، سفرا و حضرا كل ذلك بالفارسي، و مما تكررت قراءتها عليه، و طنت نغماتها علي أذنيه، قبض ذمام ذلك و ملكه، حتي صارت له ملكه، بحيث أن قاري‌ء ذلك إذا خبط، رده إلي الصواب من الغلط، و ذلك لأن التكرار، يفقه الحمار، و كان أميا لا يقرأ شيئا و لا
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 281
يكتب، و لا يعرف شيئا من العربية، و يعرف من اللغات الفارسية و التركية و الموغولية، حسب لا غير، و كان معتقدا للقواعد الجنكيز خانية، و هي كفروع الفقه من المله الاسلامية، و ممشيا لها علي الطريقة المحمدية، و كذلك كل الجغتاي و أهل الدشت، و الخطا و تركستان، و أولئك الطغام، كلهم يمشون قواعد الملعون جنكيز خان علي قواعد الاسلام، و من هذه الجهة أفتي كل من مولانا و شيخنا حافظ الدين محمد البزاري رحمه الله، و مولانا و سيدنا و شيخنا علاء الدين محمد البخاري أبقاه الله و غيرهما من العلماء الأعلام و أئمة الاسلام، بكفر تيمور و بكفر من يقدم القواعد الجنكيزية، علي الشريعة الإسلامية، و من جهات أخر أيضا.
و قيل إن شاه رخ أبطل التوراه و القواعد الجنكيزخانية، و أمر أن تجري سياستهم علي جدول الشريعة الاسلامية، و ما أظن لذلك صحة، فإن ذلك عندهم قد صار كالملة الصريحه، و الاعتقادات الصحيحة، و لو إتفق أنه يجمع مرازبه و موابذه في دسكرة، و يغلق أبوابها و يطلع عليهم من منظره، و يفتح عليهم شيئا من هذا الباب، لحاصوا حيصة الحمر إلي الأبواب.
فصل: و كان فريد الطور بعيد الغور، لا يدرك لبحر تفكيره قعر، و لا يسلك في طود تدبيره سهل و لا وعر، قد أقعد في ممالكه نواميسه، و أقام في سائر الممالك جواسيسه، و هم ما بين أمير كأطلاميش أحد أعوانه، و فقيه فقير كمسعود الكججاني «1» عين أصحاب ديوانه، و كان ذلك في القاهرة المعزية، و هذا بدمشق أحد الصوفية بالشميصائية، و ما بين متسبب و تاجر، و مصارع شرير، و بهلوان فاجر، و مكد صنائعي،
______________________________
(1)- الخواجا نظام الدين محمد الكججاني، كان أولا من أتباع أحمد الجلائري حاكم بغداد، ثم التحق بخدمة تيمور، و رأس بعثتين أرسلهما تيمور إلي القاهرة لمفاوضة السلطان الناصر فرج بن برقوق. انظر السلوك للمقريزي ج 3، ق 2 ص 832 و ق 3 ص 1098- 1099.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 282
و منجم و طبائعي، و قلندري قوال، و حيدري جوال، و بحري سباح، و بري سياح، و سقاء ظريف، و حذاء لطيف، و سعلاة دلاله، و شيخه محتالة، كدلة المحتاله، و من مرت به التجارب، و ضرب أكباد الإبل مشارق و مغارب، و بلغ فيما هو بصدده من المكر و الاحتيال منزلة الكمال، و ألف بلطيف ختله و دهاه، بين الماء و النار و الهدي و الضلال، و جاوز في الحيل و الكيد، ساسان و أبازيد، و أبكم في حكمته و جدله ابن سينا، و أسكت في منطقه اليونانيين إذ عكس عليهم القضايا، فجمع بين المتنافيين، و ألف بين المتعاديين، قلت:
فاق من قاد للعدي كل جيش‌بكلام ثني البعيد قريبا
مزج النقل في القياد بعقل‌فهدي عاشقا و أهدي حبيبا فكانوا ينهون إليه حوادث الأطراف و أخبارهم، و يكتبون إليه ما قدموا و آثارهم، و يذكرون لديه أوزانهم و أسعارهم، و يصفون منازلهم و أمصارهم، و يصورون سهولهم و أوعارهم، و يخطون بيوتهم و ديارهم، و يبنون مدي ذلك بعدا و قربا، و ما في ذلك ضيقا و رحبا، و جهات و أقطارا شرقا و غربا، و أسامي الأمصار و القري، و ألقاب المنازل و الذري، و أهل كل مكان و رؤساءه، و أمراءه و كبراءه، و فضلاءه و شرفاءه، و أغنياءه و فقراءه، و اسم كل و لقبه، و شهرته، و نسبه، و حرفته، و سببه، فكان يطالع بفكره ذلك، و يتصرف بتفكيره في سائر الممالك، و كان إذا حل ببلد، و اجتمع به من أعيانها أحد، شرع يسأله عن فلان و فلان، و ما جري لفلان في الوقت الفلاني مما زانه من أمر و شأن، و إلام آلت تلك الواقعة، و كيف فعل فلان و فلان، فيما كان بينهما من المنازعه، فيبهت ذلك الرجل ناظرا، و يظن أن تيمور كان في تلك الحالة حاضرا، و كان كثيرا ما يطرح عليهم من أغاليظ المسائل، و يحكي صور مباحثات جرت لهم و رسائل، فيتصورون أن له في ذلك العلم قدمه، أو كان للعلماء خدمه، و لذلك تصور بعض
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 283
الناس، أن ذلك الوسواس الخناس، كان مقيما بالسلارية «1»، و بعض بالغ حتي قال إنه رآه في فقراء الشميصائيه.
فصل: و مما يحكي عن فراسته أنه لما نزل عن سيواس، و قد حصنها منه أولوا النجدة و البأس، قال لعسكره: اعملوا الحيله، إنا فاتحو هذه في ثماني عشرة ليلة، فكان كذلك، فلا شك أن ذلك الأعرج، كان ملهما أو مستدرج، و كان ذا مغالطات، و حركات لها مغاورات، إذا دهمه أمر يتعاطي دفعه، و هو مظهر أنه راغب فيه، و ربما يظهر الرغبة عن شي‌ء، و هو مريد حصوله و مشتهيه، و قد مرّ نظائر هذا كله.
فمن مغالطاته أنه إذا كان في مكان روم، أو أراد أن ينزل بساحة قوم، قصد الإخفاء و التعمية، و طلب الإيهام و التوريه، و بحر عسكره لا يخلو من تمساح متجسس أو سرطان متحسس، و لو لم يكن لأحد في عسكره عين، فإن بزوغ العين لا يخفي علي ذي عين، فإنه يجمع أركان دولته، و أعيان مملكته، و ذوي آرائه و مشورته، بحيث أنه لا يتخلف منهم أحد، و لا يجزي مولود عن والد و لا والد عن ولد، ثم يظهر لهم خفية أموره، و يطلب منهم المشورة في جهة مسيره، و يطلق لهم عنان الكلام، و يقول لا تثريب علي من خاض في ذلك من خاص الأنام، ناظر في أعقاب الأمور ما بين يوم و عام، فليتكلم كل و لا حرج، فسواء هوي إلي حضيض الخطأ أو الي أوج الصواب عرج، فإن أخطأ فلا نقصان، و إن أصاب فله أجران.
فيبذل كل جهده، و يعاني في ذلك و كده و كده، و يبدي في ذلك ما أدي إليه اجتهاده، و يتصور أن ذلك يوافق مراده، فتتفق الآراء، علي ناحية من الأنحاء، ثم يفض ذلك المجلس، و يجتمع بأخصائه و يجلس، كسليمان شاه و قماري، و سيف الدين، و الله داد، و شاه ملك، و شيخ نور
______________________________
(1)- من مدارس دمشق وقعت في الموقع الذي عرف باسم الشرف القبلي. انظر تاريخ ابن قاضي شهبه- ج 1، ط. دمشق 1977 ص 193، 244.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 284
الدين، و يمحضون القضية محضا غير ذلك، و يبحثون فيها بحثا دقيق المسالك، فيقع آخر الأمر الاتفاق، علي التوجه إلي بعض الآفاق، ثم يدعو رائدهم و سائقهم في ذلك و قائدهم، و يأمرهم بالتوجه إليه فيتصدعون علي ما عول في ذلك عليه.
و حين يقوض الظلام خيامه، و ينشر رائد الصبح أعلامه، و يضرب الكوس للرحيل، و يأخذ الناس في التحميل، و يتوجه الناس إلي الجهة التي أمرهم بالمسير إليها، و وقع الاتفاق عليها، دعا حاشيته بعد ما حملوا و أخذوا في المسري، و أمرهم أن يمتازوا و يرحلوا إلي جهة أخري، لم يكن أبداها لأحد من الجماعة، إلا في تلك الساعه، و لو لا الضرورة لما أفشاها، و لا أعاد سريرتها لأحد و لا أبداها، فيضرب الناس ضربا و يضرب ضربا، و يأخذ العساكر شرقا، و يأخذ غربا، فتضطرب تلك الأطواد و تختبط، و تنفرط عقود نظامهم فلا تكاد تنضبط، و تنحل قوائم مواشيها عن المسير و ترتبط، و يموج بعض الناس في بعض، و ينعكسون سماء في أرض، و طولا في عرض، و يتوله كل أحد و يتدله، و لا يدري إلي أين يتوجه، فإن كان في عسكره ربيئه، أو من يراقب ذهابه و مجيئه، فبمجرد ما رأي تحميلهم، و شاهد تحويلهم و رحيلهم، طار إلي مخدومه، و أظهر له ما في معلومه، من توجه العساكر إلي الجهة التي اتفقوا عليها، و أنه شاهدهم بعينه و قد توجهوا إليها، فيأخذ حذره أهل ذلك الجانب، و تطمئن سائر الجوانب من النوائب، فلم يشعر إلا و قد دمر علي الجانب الذي قصده و حطمه، و نبذه من نار العذاب الموقده في السعير و الحطمه.
و كم كان له من دهاء، و مكر خفي و ذكاء، و من جملة ذلك أنه لما كان بالشام، و قد قابلته عساكر الاسلام، أشاع أن سوار أساورته تخلخل، و تأخر قليلا إلي وراء و تحلحل، و أذاع أنه أعوز خيله و رجله الزاد، و أنه صائب صوب بغداد، ثم أسفرت القضية، عن أن انهزمت العساكر المصرية، و كان قصده بذلك تثبيت جأشهم، و استقرار رؤسائهم،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 285
و أوباشهم، و أن يكن كل منهم علي ما أزم «1»، فيربض في مكانه و لا ينهزم، فيحيط بالكل كيده، و يصير الجموع صيده.
و مما يحكي من شدة عزمه، و ثباته علي ما يقصده و حزمه، و حلول نقمته ممن يعارضه، و يعاكسه فيما يرسم و يناقضه، أنه لما توجه بالجنود، إلي بلاد الهنود، بلغ إلي قلعة شاهقة، أقراط الدراري بآذان مراميها عالقه، و رجوم النجوم الخارقة تتعلم الإصابة من رشاقة سهامها الراشقة، كأن بهرام «2» في مهواه أحد سواطيرها، و كيوان «3» في مسراه خادم نواطيرها، و الشمس في استوائها غرة جبينها، و قطرات السحاب في الانسكاب تترشح من قعر معينها، و شقة الشفق الحمراء علي آذان مراميها، و أنوف أبدانها سرادق، و كريات نجوم القبة الخضراء لعيون مكاحلها و أفواه مدافعها طابات و بنادق، فيها من الهنود طائفة، ثابتة الجنان غير خائفة، جهزت أهلها و ما تخاف عليه إلي الأماكن المعجزه، و تثبتت هي في تلك القلعة حافظة لها متحرزه، مع أنها شرذمة قليلة، و طائفة ذليلة، لا خير عندهم و لا مير، و لا فائدة سوي الضرر و الضير، و لا للقتال عليها سبيل، و لا حواليها لأحد مبيت و لا مقيل، بل هي مطلة علي المقاتله، مستمسكة من المقاتله، فأبي أن يجاوزها، دون أن يناحزها بالحصار و يناجزها، و اللبيب العاقل، ما يترك لخصمه وراءه معاقل، فجعلت المقاتلة تناوشها من بعيد، و نصب كل من أهلها عليهم من أسباب المنايا ما يريد كما يريد، فكان كل يوم يقتل من عسكره ما لا يحصي، و القلعة تزداد بذلك إباء و استعصاء، و هو يأبي الرحيل عنها، إلا أن يصل إلي غرضه منها.
______________________________
(1)- أزم: ألزم، و أخبر.
(2)- كان بهرام كما يقال فيلسوفا هنديا أشار علي الاسكندر المقدوني عندما غزا الهند ألا يحاول الدخول إلي قصر أبيض شاهق كان هناك، لأن من دخل هذا القصر لازمه الندم و الغثيان، و لا يستطيع الخروج منه
(3)- كيوان هو كوكب زحل بالفارسية.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 286
ففي بعض أيام المحاصرة مطروا، و بواسطة المطر انحصروا، و صار يحثهم علي القتال، و ركب لينظر ماذا يصنعون في تلك الحال، فلم يرتض أفعالهم، لما عكست أوحالهم أحوالهم، فدعا منهم رؤوس الأمراء، و زعماء العسكر و الكبراء، و أخذ يمزق أديم عصمتهم بشفار شتمه، و يشقق ستر حرمتهم بمخاليب لعنه و ذمه، و نفخ الشيطان في خيشومه، فألهب فيهم نيران غضبه و شؤمه، و قال: يا لئام، و أكلة الحرام، تتقلبون في نعمائي، و تتوانون عن أعدائي، جعل الله نعمتي عليكم و بالا، و ألبسكم بكفرانها خيبة و نكالا، يا فاجري الذمم، و كافري النعم، و ساقطي الهمم، و مستوجبي النقم، ألم تطأوا أعناق الملوك بأقدام أقدامي، و تطيروا إلي آفاق الدنيا بأجنحة إحساني و إكرامي، و تفتحوا مغلقات الفتوح بحسام صولتي، و تسرحوا في متنزهات الأقاليم سوائم تحكمكم بترعية دولتي، بي ملكتم مشارق الأرض و مغاربها، و أذبتم جامدها و أجمدتم ذائبها، شعر:
ألم أك نارا يصطليها عدوّكم‌و حرزا لما ألجأتم من ورائيا
و باسط خير فيكم بيمينه‌و قابض شر عنكم بشماليا و لا زال يهمهم و يغمغم، و يهذرم و يبرطم «1»، و هم مطرقون لا يحيرون جوابا، و لا يملكون منه خطابا، ثم ازداد حنقا، و كاد أن يموت خنقا، فاخترط السيف بيده اليسري، و همز به علي قمم أولئك الأسري، و هم أن يجعل رقابهم قرابه، و يسقيّ دمائهم غل فرنده، و ذبابه، و هم علي تلك الحال، في الخزي و الإذلال، باذلوا نفوسهم، ناكسوا رؤوسهم، ثم تراجع و تماسك، و ملك نفسه نفسه قليلا و تمالك، فأغمد عن تشريقهم حسامه، و لم يلق لأمره قبلة و لا دبرة، فغلف غربه و شامه «2»، ثم نزل عن مركبه، و استدعي الشطرنج الكبير ليلعب به،
______________________________
(1)- يهذرم: يكثر من الكلام، و يبرطم: يدلي بشفته من الغضب.
(2)- أي غير معالم وجهه بعد أن كان غاضبا.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 287
و كان عنده شخص يدعي محمد قاوجين، و هو لديه ذو مكان مكين و مقام أمين، مقدم علي كل الوزراء، و مبجل دون سائر الأمراء، مسموع القول، مقبول الرأي ميمون النقيبة، محبوب الشكل، فتشفعوا إليه، و عولوا في حل هذا الإشكال عليه، و قالوا: ساعدنا و لو بلفظه، و راقبنا و لو بلحظه، و اعمل معنا بهذا المعني، قلت شعرا:
ساعد بجاهك من يغشاك مفتقرافالجود بالجاه فوق الجود بالمال و بما قيل:
و إنّ امرأ قد ضنّ عني بمنطق‌يسدّ به من خلتي لضنين فأجابهم و التزم، أن يرده عما تأزم به و أزم، و راقب محال المقال، و راعي فرص المجال، و أخذت أفكار تيمور، تفور في أمور القلعة و تغور، و جعل يستضوي أضواءهم، و يستوري آراءهم، و لا يسع كلا منهم إلا القبول، لما يستضوئه رأيه و يقول، ففي بعض الأحايين اتفق أن قال محمد قاوجين- و قد نزل به القضاء، و أحاطت به نوازل البلاء-: أطال الله بقاء مولانا الأمير، و فتح بمفاتيح آرائه و راياته حصن كل أمر عسير، هب أنا فتحنا هذه القلعة بعد أن أصيب منا جانب من أهل النجدة و المنعه، هل يفي هذا بذا، أو يوازن هذا النفع بهذا الأذي، فما احتفل بخطابه، و لا اشتغل بجوابه، بل استدعي شخصا من المرقدارية «1»، فظا قبيح المنظر، ذا حالة زرية، يدعي هرا ملك، ذا عرق سهك، و وجه بالسواد سدك، أوسخ من في المطبخ، و أسنخ من في المسلخ، لعاب الكلب طهور عند عرقه، و عصارة القير حليب بالنسبة إلي مرقه، فحين ما حضر لديه، و وقع نظره عليه، أمر بثياب محمد قاوجين فنزعت، و بخلقان هراملك فخلعت، ثم ألبس كلا ثياب صاحبه، و شد وسطه بحياصته، و دعا دواوين محمد و مباشريه، و ضابطي ناطقه و صامته و كاتبيه، ثم نظر ماله من ناطق
______________________________
(1)- المرقدارية: العاملون في المطبخ، المهتمون بالمرق.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 288
و صامت، و ذائب و جامد، و ملك و عقار، و أهل و ديار، و حشم و خدم، من عرب و عجم، و أوقاف و إقطاع، و بساتين و ضياع، و مماليك و أتباع، و خيل و جمال، و أحمال و أثقال، حتي زوجاته و سراريه، و عبيده و جواريه، فأنعم بذلك علي ذلك الوسخ، و أمسي نهار وجود محمد قاوجين، و هو من ليل تلك النعمة منسلخ.
ثم قال تيمور: أقسم بالله و آياته، و كلماته و صفاته، و أرضه و سمواته، و كل نبي و معجزاته، و ولي و كراماته، و برأس نفسه و ذاته، لئن آكل محمد قاوجين أحد أو شاربه أو ماشاه، أو صادقه أو صافاه، أو أوي إليه أو آواه، أو راجعني في أمره، أو شفع عندي فيه، أو اشتغل بعذره، لأجعلنه مثله، و لأصيرنه مثله، ثم طرده و أخرجه، و قد سلبه نعمته و أحرجه، فصار مسلوب النعم، قد حلت به نوائب النقم، و سحبوه بالحلق، و رأي نعمته علي أقل الخلق، و اتصل غيره بالحلق، و قطع منه الحلق، ففلقت حبة قلبه أي فلق، و استمر علي ذلك، في عيش مر و عمر حالك، و حاشي أن تشبه قصته قضية كعب بن مالك «1»، فكان يستحلي مرارة الموت، و يستبطي‌ء إشارة الفوت، و كل لحظة من هذا الحيف، أشد عليه من ألف ضربة بالسيف، فلما مات تيمور أحياه، ورد عليه خليل سلطان ما سلبه جده إياه.
فصل: و كان من أبهته و عظمته، و شدة شكيمته و عتوه و حرمته، أن ملوك الأطراف، و سلاطين الأكناف، مع استقلالهم بالخطبة، و استبدادهم بالسكه، و انفرادهم بالزعامة و الرئاسة، و قيامهم بأمور الإيالة و السياسه، كالشيخ إبراهيم، ملك ممالك شروان، و خواجا علي ابن المؤيد الطوسي سلطان ولايات خراسان، و اسفنديار الرومي، و ابن قرمان، و يعقوب بن علي شاه حاكم كرميان، و حاكم منتشا، و طهرتن أمير أرزنجان، و سلاطين فارس و أذربيجان، و ملوك الدشت و الخطا
______________________________
(1)- من الصحابة الذين تخلفوا عن حملة تبوك.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 289
و تركستان، و مرازبة بلخشان، و مراجيح مازندران، و علي الجملة فالمطيعون من ملوك إيران، و توران كانوا إذا قدموا عليه، و تقدموا بالهدايا و التقادم إليه، يجلسون علي أعتاب العبودية و الخدمه، نحوا من مد البصر من سرادقاته قائمين بشرائط الأدب و الحرمه، فاذا أراد منهم واحد، أرسل إليه من الفراشين أو نحوهم قاصدا، فيهب ذلك القاصد و هو يعدو كالبريد، و ينادي ذلك الواحد باسمه يا فلان من مكان بعيد، فينهض في الحال من مجثاه، مجيبا: بلبيك، لبيك، دعواه، و يعدو نحوه متعثرا في أذياله، متلقيا ما برزت به مراسيمه بقبوله و إقباله، مطرقا رأس التذلل و الخضوع، مصغيا بآذان الخنوع و الخشوع، مفتخرا علي أضرابه، لكونه أهله و دعاه و اعتني به.
و قيل كان أناس من جماعته يلعبون بالنرد فافترقوا فرقتين، و اختلفوا في نقش الكعبتين، فقال أحد اللاعبين و رأس الأمير تيمور كذا و كذا كان نقش الكعبتين، فرفع يده خصمه و لطمه، و سبه و لعنه و شتمه، كأنه ذبح يحيي أو زكريا نشر «1»، أو كفر بمحمد، أو قدم موسي علي أبي البشر، و قال يا بن الفاعله، و الغاسل بن الغاسله، بلغ من انتهاكك الحرم، أن تذكر الأمير تيمور بفم، و أني لك أن تجعل خدك موطي‌ء مداسه، فضلا أن تحلف برأسه، إنه لأجلّ من أن يتفوه مثلي و مثلك باسمه، أو يتلفظ بشي‌ء من حدوده و رسمه، و إنه لأعظم من كيخسرو، و كيكاوس و كيقباذ، الذين ملكوا المشارق و المغارب و أفخم من بخت نصر و شداد.
و قيل إنه قصد في بعض الأوقات الإصطياد، و أرسل يمنة و يسرة علي العادة طوائف الجيش و الأجناد، و رسم أن يخرج مشاة تلك الرقاع، و رجالة هاتيك القري و الصقاع، فيمتدوا في الوهد و البقاع، و حين تلتئم علي الوحوش حلقة الكبد، و يصح أن يتنازع فعلا رمي و أصمي، كلا
______________________________
(1)- في الأخبار اللاهوتية المسيحية أن زكريا فرّ من اليهود فلجأ إلي شجره، فانفلقت و أدخلته في جوفها، فجاء اليهود إلي الشجرة بعد ما دلهم ابليس عليها فنشروها و هو فيها إلي نصفين.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 290
من عمرو و زيد، لا يشير أحد بضربة و لا طعنة و لا رمية إلي صيد، بيد أنهم يردون أوابد بتلك البيداء إلي بهرة ذلك البيد «1»، فامتثل كل ما به أمر، و حين صار كالبنيان المرصوص، صف تلك الأحزاب و الزمر، و أحاطت صافات تلك الكواسر بالوحوش إحاطة الهالة بالقمر، ماجت بحار الوحوش في ذلك البر، و لم تجد لها من در دور تلك السيول الهامرة من مخرج و لا معبر، فدارت و مارت، و خارت و حارت، و ثارت و بارت، و استجأرت بعد ما جأرت، و استكانت بعد ما زأرت، و انطوت أرضها التي طالما عليها انتشرت، و طرزت خلع أعلامها بأعلام، و إذا الوحوش حشرت، فبينما هي علي تلك الحال، في أشد ما يكون من الأهوال، أمر بأن تضرب بالطبول من كل الجهات، و ينفخ في صور المزامير، و البوقات، فدق الكوس و زعق النفير، و امتلأت الدنيا من الشهيق و الزفير، و رجت الأرض رجا، و مارت الاقطار هرجا و مرجا، و حين سمعت السباع صوت الطبول، و رأت الوحوش هذا الأمر المهول، سقطت قواها، و تقطعت كلاها، و جثت و ما انبعثت، ثم تقاربت و تلامّت و تقارنت و تضامنت، و تصورت أن القيامة قد قامت، فأخذ بعضها بعنق بعض و نامت، فعانق الثور منها اللبوة، و ضاجع الأسد فيها الظبيه، و اختفي السرحان، بين الغزلان، و استجار الثعلب، ببنات الأرنب، و لاذ بالأروي النعام، و الأرنب بالعقاب، و عاذ الضب بالنون و اليربوع بالغراب، فعند ذلك أمر الأطفال من أولاده، و أولاد الأمراء و أحفاده، أن يرموا و يصموا و يفنوا، مهما أرادوا و لا يطنوا، و جعل ينظر إليهم، و يتفرج عليهم، و يزهزه «2» لأفعالهم، و يقهقه علي أحوالهم، و يجرئهم علي الإقدام و النضال، و يشجعهم بذلك علي صيد الأبطال، و جعلت حواشي الجيش تنجز علي ما أصموا، و تجهز علي ما أنموا، و صار ذلك المفسد، يترنم و ينشد شعرا:
______________________________
(1)- البهرة من الزمان و المكان: الوسط، و البيد الهلاك.
(2)- الزهزاه: المختال. المعجم الوسيط.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 291 صيد الملوك أرانب و ثعالب‌فاذا ركبت فصيدي الأبطال فصل: و كان يحمل إليه البلخش من بلخشان، و الفيروزج من نيسابور و كازرون و معادن خراسان، و الياقوت من الهند، و الماس منها و من السند، و اللؤلؤ من هرمز و القطيف و الحسا، و اليشم و المسك و غيره من الخطا، و من سائر الاقطار، خالص الفضة و مصفي النضار.
فصل: و أنشأ في سمرقند بساتين عديدة، و قصورا شوامخ مشيده، كل له ترتيب غريب، و وضع أنيق عجيب، أحكم أساسها، و طعم بأفخر الفواكه غراسها، سمي أحدها بستان إرم، و الآخر زينة الدنيا، و الآخر جنة الفردوس، و الآخر بستان الشمال، و الآخر الجنة العليا، ثم إنه هدم مصرا، و بني في كل بستان منها قصرا، و صور في بعض هذه القصور مجالسه، و أشكال صورته تارة ضاحكة و أخري عابسه، و هيآت مواقعاته و صور محاصراته، و مجالس صحبته مع الملوك و الأمراء، و السادات و العلماء و الكبراء، و مثول السلاطين بين يديه، و وفودها بالخدمات من سائر الأقطار إليه، و حلق مصائده، و كمائن مكائده، و وقائع، الهند و الدشت، و العجم، و صورة انتصاره، و كيف انكسر عدوه و انهزم، و صورة أولاده و أحفاده، و أمرائه و أجناده، و مجالس عشرته، و كاسات خمرته، و سقاة كأسه، و مطربي إيناسه، و تغزلات مقاماته، و مقامات تغزلاته، و حظايا حضرته، و خواتين عصمته، إلي غير ذلك مما وقع له من صورة حادثة في الممالك، مدي عمره المتقارب المتدارك، كل ذلك كما وقع و وجد، و لم ينقص من ذلك شيئا و لو يزد، و قصد بذلك الإفادة، لمن كان عالم الغيب عن أحواله بالشهاده، فكان إذا توجه إلي مكان، و خلت سمرقند من الظلمه و أعوان الشيطان، تخلو تلك البساتين، و يتوجه إليها أهل المدينة الأغنياء، و المساكين، فلا يوجد أعجب متنزها منها و لا أحسن، و لا أوفق مرتفقا و لا آمن، و أما ثمارها الطيبة فإنها مسبله، بحيث انه لايباع منها قنطار بخردله، و أنشأ في
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 292
ضواحي سمرقند و معاملاتها و أطرافها قصبات، سماهن بأسماء كبار البلدان و الأمهات، كمصر، و دمشق و بغداد، و سلطانية، و شيراز عرائس البلاد، و أنشأ بستانا في ضواحي سمرقند علي طريق الكش، و بني به قصرا سماه تخت قراجا يحكي أن بعض مشيدي عمارته، ضاع له فرس، و استمرت ترعي في البستان ستة أشهر حتي وجدها.
فصل: نساؤه: الملكة الكبري، و هي أقدم و أكمل، و الملكة الصغري، و هي أحسن و أجمل، و هما بنات ملوك الخطا، و تومان بنت الأمير موسي، أمير نخشب المار ذكره في أول الكتاب، و جلبان كانت كالبدر عند الكمال، و كالشمس قبل الزوال، قتلها في حياته لشي‌ء بلغه عنها، و كان غير واقع و إنما فعل ذلك معها لأنه قيل: إن صدقا و إن كذبا، و أظنها كانت من الخطايا، و أما السراري و الخطايا، فأكثر من أن يحصين، فالملكتان المذكورتان سمتهما شاد ملك، خوفا منهما علي خليلها، و تومان أرسلها خليل سلطان إلي شيخ نور الدين بسغناق كما مر، و بعده جاءت إلي سمرقند، و سمعت أنها عزمت في يومنا هذا- أعني سنة أربعين و ثمانمائة- علي الحج و الله تعالي أعلم.
فصل: أولاده لصلبه المتخلفون من بعده: أميران شاه، قتله قرايوسف، كما ذكر، و شاه رخ و هو المتملك في يومنا هذا، و بنت تدعي سلطان بخت زوج سليمان شاه، كانت مترجله لا تحب الرجال، و ذلك لما أفسدها النساء البغداديات لما قدمن سمرقند، و لها تواريخ سوء، أحفاده غالبهم انقرض، إلا أولاد شاه رخ، و أمثلهم أولوغ بيك حاكم سمرقند، و إبراهيم سلطان حاكم شيراز، و باي سنقر حاكم كرمان، ماتا كلاهما في سنة ثمان و ثلاثين و ثمانمائة، و جوكي، و هو الذي مشي علي اسكندر بن قرايوسف، و شتت شمله بعد موت قرايلوك، و ذلك في شهور سنة تسع و ثلاثين و ثمانمائة، ثم مات في أواخرها.
فصل: أمراؤه و وزراؤه لا يحصون، و أشهرهم من ذكر في هذا
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 293
الكتاب و ما مات إلا عن الطبقة الثالثة من الأمراء و الوزراء كذا أخبرني شيخي الشيخ علاء الدين البخاري رحمه الله تعالي.
دواوينه: الخواجا محمود بن الشهاب السهروي، و مسعود الاسمناني، و محمد الشاغرجي، و تاج الدين السلماني، و علاء الدولة، و أحمد الطوسي و غيرهم.
منشي‌ء ديوانه: و هو عبارة عن كاتب السر، مولانا شمس الدين قاضي زمانه، و فاضل إبانه، فارسيا و عربيا، يصرف أخبار الإنشاء، كيف شاء، كان قلمه في فتح أقاليمه، أنفذ من سنان مخدومه، و لما مات تيمور احتجب، و طوي بساط الأدب، فقيل له ضحكت البشرة ألا تباشر، وصفت العشرة فهلا تعاشر، فقال: ذهب الذي كان يعرف قيمتي، فأنا لا أذهب في خدمة الأحداث حرمتي.
إمامه: عبد الجبار بن النعمان المعتزلي.
صدور مملكته: مولانا قطب الدين و الخواجا عبد الملك، و ابن عمه الخواجا عبد الأول و غيرهم.
قاري‌ء قصصه و تواريخه: مولانا عبيد.
أطباؤه: فضل الله و جمال الدين رئيس الطب بالشام كان، و غيرهما، و كان دائما يستعمل معاجين الأحجار، و في سنّه ذلك يجتني باكورة الأبكار.
منجموه: لا يحضرني أسماؤهم.
فصل: حصل في أيام استيلائه بسمرقند، من الفقهاء مولانا عبد الملك، و هو من أولاد صاحب الهداية، كان يلقي الدرس، و يعلم الشطرنج و النرد، و ينظم الشعر في حالة واحدة، و نعمان الدين الخوارزمي، أبو عبد الجبار المذكور، كان يقال له النعمان الثاني، و كان أعمي و الخواجا عبد الأول ابن عم مولانا عبد الملك، انتهت إليه الرئاسه في ما وراء النهر بعد
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 294
ابن عمه، و مولانا عصام الدين بن عبد الملك انتهت إليه الرئاسة في يومنا هذا، بعد ابن عمه عبد الأول، و من المحققين مولانا سعد الدين التفتازاني، توفي في محرم الحرام سنة إحدي و تسعين و سبعمائة بسمرقند، و السيد الشريف محمد الجرجاني، توفي بشيزار.
و من المحدثين: الشيخ شمس الدين محمد ابن الجوزي، كان أخذه من الروم، و كان قد هرب إليها من مصر، بعد توجهه من بلاد الشام قبل الفتنة، توفي بشيراز، و الخواجا الكبير المفسر الحافظ المحدث محمد الزاهد البخاري، فسر القرآن الكريم في مائة مجلد، توفي بمدينة النبي صلي الله عليه و سلم سنة اثنتين و عشرين و ثمانمائة، و من القراء هما، و مولانا فخر الدين، و من حفاظ القرآن المجودين قراءة و صوتا، عبد اللطيف الدامغاني، و مولانا أسد الدين الشريف الحافظ الحسيني، و محمود الخوارزمي، و جمال الدين أحمد الخوارزمي، و عبد القادر المراغي الاستاذ في علم الأدوار.
و من الوعاظ و المتكلمين مولانا أحمد بن شمس الأئمة السراي، كان يقال له ملك الكلام عربيا فارسيا و تركيا، و كان أعجوبة الزمان، و مولانا أحمد الترمذي، و مولانا منصور القاغاني.
و من الكتاب المجودين السيد الخطاط ابن بندكير، و عبد القادر المذكور، و تاج الدين السلماني و غيرهم.
و من المنجمين أناس برعوا لا أعرف من أسمائهم غير مولانا أحمد الطيب النحاس، المستخرج قال لي: استخرجت من زايجة الطالع إلي مئتي سنة، و كان هذا الكلام في سنة ثمان و ثمانمائة.
و من الصواغين الحاج علي الشيرازي، و الحاج محمد الحافظ الشيرازي و غيرهما.
و من الحكاكين طائفة جمة و أمثلهم التون، و كان آية في فنه ينقش الفصوص، و يحفر اليشم و العقيق بخط أحسن من ياقوت.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 295
و من الشطرنجيين: محمد بن عقيل الخيمي، و زين اليزدي و غيرهما، و علامة ذلك علاء الدين التبريزي الفقيه المحدث، كان يحط لزين اليزدي بيذقا و يغلبه، و لابن عقيل فرسا و يركبه، و لقد دوخ تيمور الأقاليم شرقا و غربا، و قهر في دست مصافاته كل سلطان، و كل شاه مات عنده جدا أو لعبا، و كان يقول له: أنت في ملك الشطرنج فريد، كما أني في سياسة الملك وحيد، و كل مني و من مولانا عليّ شيخ في فنه ذو كرامات، لم يوجد له نديد، و له في لعب الشطرنج و علم مناصيبه شرح، و ما كان أحد يقدر أن ينتج أولاد فكره في لعبه معه من غير طرح، و كان فقيها شافعيا، محدثا أريحيا، حسن البهجه صادق اللهجه، حكي لي أنه رأي أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه في المنام، و أنه ناوله الشطرنج في كيس، فلم يغلبه أحد بعد ذلك من الأنام، و من أوصافه في لعبه أنه كان لا يتفكر، و بمجرد ما يلعب خصمه بعد التفكر، و التأمل الطويل، ينقل من غير أن يتدبر، و كان يلعب علي الغائب مع خصمين، و يعلم مع الطرح لمن هو في جهته علي الجهتين، و كان يلعب هو و الأمير، بالشطرنج الكبير، و رأيت عنده شطرنجا مدورا، و شطرنجا طويلا، و الشطرنج الكبير فيه من الزوائد ما مر ذكره، و هذه صورته التي في الصفحة اليسري فافهم.
و طريقة تعلمه بالفعل أقوي، و ليس في شرحه بالقول كثير جدوي.
و من المطربين: عبد القادر المراغي المذكور، و ولده صفي الدين، و ختنه نسرين، و قطب الموصلي، و أزدشير الجنكي و غيرهم.
و من النقاشين كثير، و أعلاهم عبد الحي البغدادي، و كان ماهرا في فنه.
و من التجرية شهاب الدين أحمد الزردكاش، و من نقاشي الزجاج و النحاس و غيرهم ما لا يحصي، و هؤلاء كل منهم كان علامة دهره، و أعجوبة عصره، و لو رصعت حلي الألفاظ بجواهر أوصاف هؤلاء الأعيان، لملأت الأكوان من فرائد الجمان، و قلائد العقيان، و هؤلاء من
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 296
حضرني ذكره ممن أعرفه، و أما من لا أعرفه، أو أعرفه و لا يحضرني ذكره، فأكثر من أن يحصي:
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 297
و أغزر من أن يستقصي، و حاصل الأمر أن تيمور كان جني علي كل حي، وجبي إلي سمرقند ثمرات كل شي‌ء، فكان بها من أهل كل فن عجيب، و أسلوب من الصنائع غريب، من هو علي جبين الفضل شامه، و برز علي أقرانه فصار في فنه علامه.
فصل: و كان في سمرقند إنسان، يسمي بالشيخ العريان، فقير أدهمي، بشكل بهي و عزم سمي، قيل إن عمره علي ما هو فيهم شائع، و بين أكابرهم و أصاغرهم ذائع، ثلاث مائه و خمسين سنة. مع أن قامته مستوية، و هيئته حسنه، كان المشايخ الهرمون، و الأكابر المعمرون، يقولون: لقد كنا و نحن أطفال، نري هذا الرجل علي هذا الحال، و كذلك نروي عن آبائنا الأكرمين، و مشايخنا الأقدمين، ناقلين ذلك كذلك عن آبائهم، و المعمرين من كبرائهم، و كان أطلس، و له قوة ناهضة وحده، من رآه يتصور أنه لم يبلغ أشده، لم يكن للكبر، بوجهه تجعيد و لا أثر، و كان الأمراء و الكبراء، و الأعيان و الصلحاء، و الفضلاء و الرؤساء، يترددون إلي زاويته، و يتبركون بطلعته، و يلتمسون بركة دعوته.
و في سمرقند مسجد يسمي مسجد الرباط، يهب لمن يدخله الانشراح و الانبساط، و الروح و النشاط، و قيل أن أحد فعلته كان مليا، يسمي الشيخ زكريا، هو معتقد تلك البلاد، و مزاره في مكان مشهور علي طود من الأطواد، و قبره يستجاب عنده الدعاء، و هو عن سمرقند نحو يوم في المدي، و هو بالكرامات موصوف، و في كرخ هذه المقامات معروف، و هو في ربوة ذات قرار، فيها جنات تجري من تحتها الأنهار، محفوف باليمن و الأنس، كأنه اقتطع من حظيرة القدس، يحكي أنه لما كان فاعلا في ذلك البنيان، وقع في جبهته نقطة من الطين، فرأي ذلك أحد المباشرين، و استمر ذلك الطين علي هذه الحال، نحو من ثلاث ليال، فلما أرادوا وضع المحراب، وقع الاختلاف في الخطأ و الصواب، و كثر في ذلك الصخب و الاضطراب، فقال الشيخ زكريا: ضعوا المحراب علي هذه الفقرة، و لا تعدلوا عنها يمنة و لا يسرة، فقال ذلك المباشر: لمن في
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 298
ذلك المكان حاضر يا للعجيبة، و القضية الغريبة، رجل لم يغسل وجهه ثلاثة أيام، يرشد الناس إلي معالم الإسلام؟ فقال ذلك العابد الزاهد: أو رجل هو من لم يتم ثلاثة أيام بوضوء واحد؟ و لكن تعال أيها الجاحد، قف مكانك، و ثبت جنانك، و لا تكن ممن أنكر و تولي، و انظر إلي عروس الكعبة كيف تجلي، فنظر ذلك الذي أنكر، فإذا الكعبة المعظمة أمامه تتبختر، ثم التفتوا إلي الشيخ ففقدوه، و طلبوه أرضا و سماء فلم يجدوه، و هذا المسجد فيه شي‌ء عجب، عدة أسطوانات من خشب، من جملتها سارية شمخت ارتفاعا، نحوا من خمسة عشر ذراعا، و غلظ جسمها و بدنها، فلا يقدر الرجل علي أن يحتضنها و باقي السواري بها قد حطن، قيل إنها شجرة قطن، و لها خاصية عجيبة، ظريفة غريبه، من كان به وجع الضرس، يضع عليه مقدار حبة من خشب ذلك البرس، فإنه ينفعه، و يسكن في الحال وجعه، جربته فصح.
و يسأل من يدعي رؤية سمرقند، عما رأي فيها من العجائب، و شاهده من علامات الظرف و الغرائب، فإن أخبر برؤية هذه السارية الفائقه، كانت رؤياه صادقه، و اعتدله بصدق الكلام، و إلا كانت رؤيته أضغاث أحلام.
فصل: سمرقند ليس فيها كيل و لا صاع يصان، و لا يجري علي جنس المكيلات فيها بالكيل حسبان، و إنما معرفة حساب ذلك عندهم بالميزان، و رطل سمرقند أربعون أوقيه، كل أوقية بالمثاقيل مائة، فيكون رطلهم أربعة آلاف مثقال، كل مثقال درهم و نصف من غير زيادة و لا إخلال، فعلي هذا رطلهم بالدمشقي عشرة أرطال.
حكي لي مولانا محمود الحافظ المحرق الخوارزمي- و لقب بالمحرق لأن سهام ترجيعاته كانت تصيب حبات حشاشات إذ ترمي، و تفوق رنات أوتارها نحو آذان القلوب فتصمي «1» طائرها و لا تنمي «2»، فإن
______________________________
(1)- تصمي: تصيب و تقتل.
(2)- نمي الصيد: غاب عن الصياد بعد إصابته.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 299
صدعت من القلوب حجرا، تطايرت من اقتداحها في الأرواح شررا، فيحرق برناته الأرواح، و يشعل بنغماته الأشباح- قال: استصحبني تيمور في بعض أسفاره، فكنت ملازم خدمته في ليله و نهاره، فنزلت عساكره، علي حصن لحصاره، و ضرب خيمته علي مكان عال، ليشرف منه علي القتال، و يتفرج في صنع الرجال، ففي بعض الزمان، حضرت عنده أنا و رجلان، و كان قد حصل له حمي، أورثته كربا و غما، و كانت سماء النزال ذات حبك و احتباك، و رماح القتال في التواء و اشتباك، فأراد أن يطالع أحوالهم، و يشاهد أفعالهم، و أفرطت شهوته في ذلك إلي العيمه «1»، فقال احملوني إلي باب الخيمه، فدخل ذلك الرجلان تحت إبطيه، و أوقفاه بباب الخيمة، و أنا بين يديه، فجعل يشاهد حربهم، و يتميز طعنهم و ضربهم، ثم أراد أن يأمرهم بشي‌ء فقال لي: يا محمود إلي فأسرعت إلي يده، و دخلت تحت عضده، فأرسل أحد الرجلين إلي عسكره، يأمرهم بما عنّ من عجره و بجره، فكأنه لم يبرأ عليه، و لم يرو غليله، فقال لنا: دعاني، و علي الأرض ضعاني، فوضعاه فسقط كأنه رمّة بالية، أو لحمة علي باريه، ثم أرسل ذلك الرجل الآخر إليهم، و أمرهم بما اقتضته آراؤه، و أكد عليهم، فبقيت أنا و هو وحدنا، لم يبق أحد عندنا، فقال لي: يا مولانا محمود انظر إلي ضعف بنيتي، و قلة حيلتي، و لا يد لي تقبض، و لا رجل لي تركض، و لو رماني الناس هلكت، و لو تركوني و حالي ارتبكت، لا أملك لنفسي نفعا و لا ضرا، و لا أجلب خيرا، و لا أدفع شرا، ثم تأمل كيف سخر الله تعالي لي العباد، و يسر لي فتح مغلقات البلاد، و ملأ برعبي الخافقين، و أطار هيبتي في المغربين و المشرقين، و أذل لي الملوك و الجبابرة، و أهان بين يدي الأكاسرة و القياصرة، و هل هذه الأفعال إلا أفعاله؟ و هذه الأعمال إلا أعماله؟
و من هو أنا غير سطيح ذي فاقه، لا باب لي في الدخول إلي هذه الأفعال و لا طاقه، ثم بكي و أبكاني، حتي ملأت بالدموع أرداني، فانظر إلي هذا
______________________________
(1)- أي الشهوة الشديده إلي اللبن.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 300
الوبر «1»، كيف سلك بهذا القول مسلك القائلين بالجبر، و أنشدوا فيه بالفارسي بيتين و هما شعر:
نيم تني ملك جهانرا كرفت‌جشم كشا قدرت يزدان ببين
باي نه و تخت بزير قدم‌دست نه و ملك بزير نكين ترجمته فقلت دو بيت:
قد أظهر قدرة بخافي حكمه‌من ملك شقا الدنا جافي قسمه
لا كف له و الملك في خاتمه‌لا رجل له و التخت موطي‌ء قدمه فصل: و أما عساكره و طرائق سلوكهم، فإنهم علي دين ملوكهم، كانوا استدرجوا من حيث لا يعلمون، و رزقوا من حيث لا يحتسبون، مسخرا لهم خفيات الدفائن، مفتوحا عليهم خبيات الخزائن، ميسرا لهم مكامن المطالب و المعادن، كل طرف منهم قد جال وسطا، و صار بطرق اللوم أهدي من القطا، قد دبروا الأمور، و جربوا أحوال الدهور، و قاسوا معاصر العصور، و كابدوا المكائد، و عالجوا الشدائد، و مارسوا الأشياء، و ذاقوا الناس و الدنيا، و عرفوا مداخل كل مارق و مخارجه، و أدركوا مداركه و معارجه، لا تدهيهم داهيه، و لا يطغيهم طاغيه، ربما يمرون بقفراء، و يجيزون بمهمه صحراء شعر:
لا يفزع الأرنب أهوالهاو لا تري الضب بها ينجحر فيقف بعضهم، ثم تراه، ينظر إلي أرض ذلك المكان و ثراه، ثم يقول ليس هذا الثري، من هذا الثري، ثم ينزل عن دابته و يأخذ من ذلك التراب و يشمه، ثم يلتفت إلي جهاته الأربع فيقصد منها جانبا و يؤمه، ثم لا يزال يسير بمن معه من الأعوان، حتي يصلوا إلي مكان، فيحفرون و يخرجون كمين الدفائن، و ما في ذلك المكان من المغلات
______________________________
(1)- أي الرجل الضعيف العاجز.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 301
و الخزائن، و كذلك إذا وصلوا إلي عمائر، أو مروا علي مقابر، يتوجهون إلي الخب‌ء، كأنهم وضعوه بأيديهم، أو أوحت شياطينهم ذلك إليهم، و ربما يجيئون إلي مقام، مر علي ساكنه فيه أيام، و مضي عليه فيه شهور و أعوام، و فيه شي‌ء مطمور، لم يكن لصاحبه و ساكنه به شعور، فبمجرد دخولهم إليه، يفتح ذلك عليهم و يطلعون عليهم، و حين يطلع ساكنه علي ذلك، يأكل ندامة و حسرة يديه.
و كان لهم درايات في دهرهم عجيبه، و سهام آراء في عزمهم مصيبه، و كانوا يحملون البقر و يركبونها، و يسرجون الحمر و يلجمونها، و يسابقون علي ذلك أصحاب الخيل العراب، إلي قصبات المغانم فيسبقونها، و يطعمون الجمل، لحم الكلب و الحمل، و يعتاضون عن شعير الفرس، بالقمح و الأرز و الدخن، و الزبيب و العدس، و ربما أعوزهم ذلك في السفر فأطعموا دوابهم لحاء الشجر.
حكي القاضي برهان الدين إبراهيم بن القوشة الحنفي المذكور رحمه الله تعالي أن قازان و التتار، لما قدموا هذه الديار، خرج من له قوة الفار فارا من الشرور، كما فعلوا في قضية تيمور، و من جملتهم تاجر بالصالحية، كان في عيشة رخيه، و له أموال وافرة و فيه، جمع ماله من صامت المال، و وضعه في قدرة فوال، ثم عمد إلي بركة ماء فحفرها، و وضع تلك القدرة تحتها و طمرها، ثم ردها إلي مبانيها، و أعاد مياهها إلي مجاريها، و حين انتشب الوثوب، و قدمت الدواب للركوب، قالت له امرأته: قد نسينا قرطين، و أخاف أن يحدث عليهما في الطريق شين، فانظر لهما مكانا، و حصل لنا بذلك أمانا، فقال: أما الآن، فلا مكان، ثم أخذهما و وضعهما في سقف سقيفه، علي خشبة لطيفه، ثم ركبا و تركا الديار و ذهبا، فلما حل بدمشق التتار، نزل منهم فرقة في تلك الدار، فجعلوا يأكلون و يشربون، و هم في خوضهم يلعبون، فبينا هم بعض الأيام في النشاط، قرض الفأر أحد تلك الأقراط، فتدحرجت لؤلؤته
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 302
و سقطت علي البلاط، فتبادرت الجماعة إليها جارية، كأنهم يتسابقون إلي قرطي مارية، فسبقت الجماعه، و دخلت البلاعه، فكشفوا عن وجه الأرض ستر خدرها، فوجدوا الأموال كلها في قدرها، فأخذوها و اللؤلؤة، و أخرجوها، و قصدوا باقي القرطين و اقتسموها.
و جماعة تيمور أيضا كذا كانت، و كل معضلة من القضايا إذا وصلت إليهم هانت، و كل منهم كان علي دين ملكه، و في فنه إلي غايته عرج، فإن كنت محدثا عن أحوالهم و أخبارهم فحدث عن البحر و لا حرج.
فصل: يحكي أن واحدا منهم من أهل الذكاء و الكيد، أراد في فصل الشتاء التنزه، فقصد الصيد، فأخرج مركوبه، و هو بقرة، فشد عليها سرجه، و هو خشبة متكسره، و غرزه «1» قضيب مدور، و حزامه حبل مبتر، و تجمل بلباسه، و هو جلد فروة منهوش، و بتاجه، و هو طرطور من لبد منفوش، و شد كنانته، و هي جلود ممزقه، مشدودة بحبل و عليها خروق ملزقة، سهامها قد التوت، و حنيتها قد استوت، و معه بازي قد نتف القرناص ريشه، و قلع عن حقل بدنه زرع خوافيه و حشيشه، ثم ركب جواده، و حمل بازيه و قصد اصطياده، فرأي جماعة من البط، علي ساحل غدير حط، فرفع يده بالبازي ساعه، حتي عاين تلك الجماعه، ثم وضع يده بخفض، و أرسل البازي علي الأرض، فصار يحجل رويدا، و قد أضمر للبط كيدا، إذ لم يكن له قوة الطيران، و لا جناح عليه به يستعان، فوصل إلي الطير بسكون، و هي آمن ما يكون، لأنها لا تتوقع البلاء، إلا من جهة السماء، فدخل بينها فما نفرت منه، و لا هربت عنه، فلم تشعر إلا و قد وثب علي واحدة و فلذها، فأدركه صاحبه و أخذها.
و لما رحلوا عن دمشق، و قد مشقوا أوراق نعمها من أغصان وجودها أي مشق، و كان مع بعضهم بقرة نهبها، و حملها ما أخذه من الأموال التي سلبها، و أركبها أسيرة، و سار بها مدة يسيرة، فبعد سيرها يومين أو
______________________________
(1)- الغرز: الركاب.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 303
ثلاثة قلقت، و نادت بلسان حالها أنها ما لهذا خلقت، فلما لم تجد مشكيا مما شكت، توكلت علي الله و بركت، فأنزلوا الراكبة عنها، و صاحوا عليها، فلم تقم فحلوا أحمالها و ضربوها، فلم تتحرك، فأوجعوها ضربا، و أشبعوها لعنا و سبا، و تلك المباركة باركة، فأدموها و هم يضربوها، إلي أن كادوا يهلكونها، فمن شاحط بمقدمها، و من جاذب بمؤخرها، و من متعلق بقرنها، و من متشبث بأذنها، و هي جاثمة مشبهه، فيل أبرهه، فعجزوا عنها و أيسوا منها.
فبينماهم علي ذلك، و قد ضاقت عليهم المسالك، و إذا هم بشيخ كوسج «1»، كأنه شجرة عوسج، قد سلك المشارق و المغارب، و مرت به أنواع التجارب، و قاسي برد الأمور و حرها، و ذاق حلوها و مرها، و عرف خيرها و شرها، مر بهم، و هم في كربهم، فلما رآهم أساري، عاجزين حياري، سكاري و ما هم بسكاري، قال: تنحوا عنها أي جنه، ثم دنا منها دنو الراقي من ذي جنه، و أخذ كفا من تراب، أنعم من عيش الشباب، ثم قبض علي قرنها، و صبه في أذنها، ثم هز رأسها في مناخها، حتي وصل التراب إلي صماخها، فوثبت قائمه، و هي من ذلك الرغام راغمه، و جعلت تنفض رأسها، و زادت اضطرابها و شماسها، و طلبت المسير، و كادت تطير، فأعادوا عليها أحمالها، و زادوا أثقالها، فصارت تلك البليها، تعدو و لا يقدر عليها.
فصل: و كان في عسكره من الترك عبدة الأصنام، و عباد النار من المجوس الأعجام، و كهنة و سحرة، و ظلمة و كفرة، فالمشركون يحملون أصنامهم، و الكهان يسجعون كلامهم، و يأكلون الميتة و الدم المسفوح، و لا يفرقون بين مخنوق و مذبوح، و ناس حزاؤون «2»، و زواجر خراصون، ينظرون في ألواح الضأن، و يحكمون بما يرون فيها علي أحوال
______________________________
(1)- الكوسج: الرجل الناقص الأسنان، أو الذي لحيته علي ذقنه فقط دون عارضيه.
(2)- الحزاء: الكاهن.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 304
كل مكان، و ما حدث في كل بقعه، من الأقاليم السبعه، من الأمان و الخوف، و العدل و الحيف، و الرخص و الغلاء، و السقم و الشفاء، و سائر ما يكون فلا يكادون يخطئون.
و لهم أيام، و شهور و أعوام، كل عام منسوب إلي حيوان، يحسبون بها ما مضي من السنين، فلا يتأتي فيها زيادة و لا نقصان.
و في الخطا لهم خط يسمي دلبرجين «1»، رأيت حروفه أحدا و أربعين، و سبب زيادته أنهم يعدون التفاخيم و الإمالات، حروفا و كذلك البين بينات، فتتولد الزوائد، و كل حرف زائد.
و أما الجغتاي فلهم قلم يسمي أويغور، و هو بالقلم المغولي مشهور، و عدته أربعة عشر حرفا و سبب نقصانه و انحصاره في هذا العدد، أن حروف الحلق يكتبونها علي هيئة واحدة، و كذلك تلفظهم بها، و مثل هذا الحروف المتقاربة في المخرج، مثل الباء و الفاء، و مثل الزاء و السين و الصاد، و مثل التاء و الدال و الطاء، و بهذا الخط يكتبون تواقيعهم و مراسيمهم، و مناشيرهم و مكاتيبهم و دفاترهم و مخاتيمهم، و تواريخهم و أشعارهم، و قصصهم و أخبارهم، و سجلاتهم و أسفارهم، و جميع ما يتعلق بالأمور الدنيوية، و التوراه الجنكيزية، و الماهر في هذا الخط لا يبور بينهم، لأنه مفتاح الرزق عندهم.
فصل: و كما كان فيهم من جبل علي الفظاظه، و القسوة و الغلاظه، و من هو قليل الرحمة بل و عديم الاسلام، كفرة فجرة أوغاد أنذال طغام أغتام، قد اتخذوا من دون الله هاديا و نصيرا و استكبروا به في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا، استجرهم كفرهم و حبهم إياه، إلي أنه لو ادعي النبوة أو الإلهية، لصدقوه في دعواه، كل منهم يتقرب إلي الله تعالي ببره، ينذر له إذا وقع في شدة، و يفي بنذره، و استمر علي اعتقاده الباطل و كفره،
______________________________
(1)- كانت أحرف خط الخطا قريبة من الأحرف الصينية.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 305
مدة حياته، و بعد موته، ينقل النذور و يقرب القربان إلي قبره، و كان ترقي معه في المصاحبة، حتي وصل إلي مقام المراقبة، قيل انه كان في السفر، فرأي واحدا من العسكر، كأن الكري عطف رقبته، أو السري أمال شفته، أو علي حال لا يتوجه عليه فيها لوم و لا عتب، فضلا عن أن يترتب عليه ضرب أو سب، فقال تيمور: تري ما ثم أحد قاطع، يقطع رأس هذا الفاعل الصانع، و لم يزد علي هذا الكلام، فسمعه واحد من اولئك الكفرة اللئام، اسمه دولت تيمور، و هو أمير كبير مشهور، قد ألبسه الله ثوب النقمه، و لم يشمه شيئا من روائح الرحمة، ففي الحال سل رأسه من بين كتفيه، و حمله إلي تيمور، و وضعه بين يديه، فقال تيمور: ويلك ما هذا الأمر الأفظع، فقال هذا الرأس الذي أشرت أن يقطع، فأعجبته هذه العبارة، و ابتهج بأن أمره يمتثل بأدني إشارة.
و كان فيهم الظرفاء و الأدباء، و الأذكياء و الشعراء، و منهم في الفضل أعلام و علماء، و فيهم المحقق، و الباحث في العلوم و المدقق، و من شارك في كل العلوم، و بحث فيها بحثا شافيا من طريقي المنطوق و المفهوم، و يقرر مذهب الصوفية و إحياء العلوم، و مع هذا فبعضهم يمضي علي مقتضي ما عمله، و كان من الذين آمنوا و تواصوا بالصبر و تواصوا بالمرحمة، و بعضهم كان مع رقة الحاشيه، و اللطافة الفاشيه، و العلم الوافي، و الظرف الشافي، و الجمال الفائق، و الكمال الشائق، و الكلام الرائق، قلبه أقسي من الحجر، و فعله أنكي من ضرب الصارم الذكر، يقولون من قول خير البرية، و يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، و إذا وقع مسلم في مخاليبهم، و ابتلي غريب بتعذيبهم، صنف ذلك العالم المحقق، و الحبر المدقق، في استخراج المال منه أنواع العذاب، و أصناف العقاب، و استحضر في فنون تعذيبه كتبا و مسائل، و سرد في علوم تثريبه خطبا و رسائل، فيصير ذلك المسكين يتكوي، و يستغيث و يتلوي، و يستجير بالله و آياته، و يستشفع بكل ما في أرضه و سمواته،
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 306
من ملك و نبي، و صديق و ولي، و ذلك المليح يضحك و يتظارف، و يتمايل و يتلاطف، و ينشد لطائف الأشعار، و يتمثل بطرائف النوادر و الأخبار، و ربما تحرق و بكي، و تأوه لما يفعل بذلك من التعذيب و انتكي، و صار كبعض قضاة الإسلام، المستولي علي مال الأيتام، يخطب و يبكي، و فعله في قلوب المسلمين ينكي.
و لما كانوا في دمشق دخلوا إلي بيت واحد من الأعيان بزقاق العجم «1»، و إذا هو مملوء من النفائس و الخيرات و النعم، شعر:
قصر عليه تحية و سلام‌خلعت عليه جمالها الأيام فقبضوا علي صاحب ذلك المنزل و ربطوه، و بأنواع العذاب و العقاب عذبوه، ثم أحكموا رجليه شدا، و علقوه، و استخرجوا النفائس، و استجلوا من حسانها العرائس، و أحضروا لذيذات المطاعم و المشارب، و قضوا من التفكه و التنعم ما لهم من مآرب، و جعلوا يأكلوم و يشربون، و يلهون و يطربون، و إذا تحرك في واحد منهم الخبث، أو ثمل و أخذه في سكره العبث، عمد إلي ذلك المسكين و هو في شدة النكاد، فسقاه الماء و الملح، و سففه الكلس و الرماد، و كان فيهم عالم متقشف عن تناول المنكرات متعفف، كما قيل:
عجبت من شيخي و من زهذه‌و ذكره النار و أهوالها
يكره أن يشرب في فضةو يسرق الفضة إن نالها و كانوا إذا رأوا القدح المزعفر، أحضروا له السكر المكرر، و وضعوه له في صيني الخوافق، و صبوا عليه الماء الرائق، فيسكرون هم بالأقداح القوادح، و يسكر ذلك الفاسق المحروم من الروائح، ثم يتوجه إلي صاحب المنزل، و يضحك عليه و هو في أشد ما يكون من العذاب، و يسخر منه و يهزل، ثم يتمايل علي صوت المثاني و المثالث، و يتناول من تلك المآكل و المشارب، و يقول: بشر مال البخيل بحارث أو وارث.
______________________________
(1)- ربما منطقة الحلبوني الحالية في دمشق.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 307
و كان في عسكره كثير من النساء، يلجن معامع الهيجاء، و وقائع البأساء، و يقابلن الرجال، و يقاتلن أشد القتال، و يصنعن أبلغ ما يصنع الفحول من الرجال في النزال، من طعن بالرمح، و ضرب بالسيف، و رشق بالنبال، و إذا كانت إحداهن حاملا، و أخذها و هم سائرون الطلق، تنحت عن الطريق و اعتزلت الخلق، و نزلت عن دابتها و وضعت حملها، و لفته و ركبت دابتها، و أخذته و لحقت أهلها.
و كان في عسكره ناس ولدوا في السفر، و بلغوا و تزوجوا و جاءهم أولاد، و لم يسكنوا الحضر، و كان في عسكره ناس صلحاء عباد، ورعون زهاد أجواد أمجاد، لهم في الخيرات أوراد، و في وردها إصدار و إيراد، دأبهم خلاص مأسور، أو جبر مكسور، أو إطفاء حريق، أو إنقاذ غريق، أو إصطناع معروف، أو إغاثة ملهوف، مهما أمكنهم، و وصلت إليه يدهم، إما بقوة و أيد، و إما بنوع خديعة و كيد، و إما باستيهاب و استشفاع، أو تعويض و ابتياع، و كانوا سائرين معه بالاضطرار، و دائرين معه لهذه المعاني بالاختيار، حكي لي مولانا جمال الدين، أحمد الخوارزمي، أحد القراء المشهورين المجودين، و كان إمام محمد سلطان في حياته، و إمام مدرسته بعد وفاته، ثم خطيب بروسه، و بها أدركته المنية، سنة إحدي و ثلاثين و ثمانمائه، رحمه الله تعالي، قال: كنت في سمرقند في مدرسة محمد سلطان، أعلم مماليكه و أولاد الأمراء القرآن، فأرسل إليه جده الظلوم، و هو متوجه إلي بلاد الروم، أن يتوجه إليه، و يفد هو و الأمير سيف الدين عليه، فامتثل ما به أمر، و أخذ في إعداد أهبة السفر، و قال لي: هي‌ء مرافقك، و اقطع علائقك، و خذ أهبة سفرك، و اعمل مصلحة رهطك و نفرك، و وافقنا في المرافقه، فإن من حسن المرافقة الموافقه، فاستعفيته من الذهاب، و فتحت له في سد خوجة السفر كل باب، فقلت له: يا مولاي أنا رجل من أهل القرآن و الفاقه، ما لي بفتح باب السفر من طاقة، لأني ضعيف البنيان، رخو الأركان، لا جلد لي علي
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 308
الحركة- و إن كان في صحبة مولانا الأمير كل خير و بركة- خصوصا علي هذا السفر البعيد الشقه، الكثير المشقه، و مع كوني ليس لي علي ذلك من طاقه، لا جمل لي في مناخ السفر و لا ناقه، و أما أنتم فالسفر عليكم حتم لازم، و حق ملازم، لا يسعكم فيه التخلف، و لا يفسح لكم فيه المطل و التسوف، فلم يعفني، و تعلل لي بعلل، عللني فيها و لم يشفني، فلم أر بدا من الاستعداد، و تحصيل الرفيق و الزاد، ثم سرنا حتي وافينا جده، و قد ركب في الجادة جده و جدّه «1»، و رأينا من تلك العساكر، بحارا لا أول لها و لا آخر، إن إنفرط أحد من سلك جماعته، و ضل معتزلا عن سنن سنته، لا يصل إليهم بالسرج و الشمع، و لا يهتدي إلي سنة جماعته إلا إن كان يوم الجمع.
فبينا أنا معهم أسير، و قد وهن مني العظم الكسير، و أثر فيّ التعب، و أخذ مني النصب و الوصب، و مللت السري، و عدمت الكري، نفضت يدي من الرفيق، و أخذت علي فجوة من الطريق، فلما أن خلوت، هيمنت «2» بالقرآن العظيم، و تلوت، ثم استهواني الذوق و الشوق، فحلقت بمراشيق حلقي إلي فوق، و كان صوته أطيب من رقيق المقطوع علي رخيم الموصول، و ألذ من جمع شمول علي كأس شمول، بنسيم الشمال معلول، و برضاب الحبيب مشمول، قال: و إذا برجلين ضعيفين، كالعود البالي نحيفين، أشعثين أصفرين، ذوي طمرين أغبرين، بصراني عن جنب، و علقا بي علوق الوتد بالطنب، فجعلا يراقبان أحوالي، و يستمعان أقوالي، فلما زمزمت زمزمتي «3»، و كففت هينمتي، و كتمت في خزانة صدري جواهر كلماتي، و ختمت بطابع دعائي زواهر آياتي، بكيا لمناجاتي، و أمنا علي دعواتي، ثم أقبلا نحوي، و سلما، و اهتزا لما
______________________________
(1)- أي حظه و اجتهاده.
(2)- أي قرأت بصوت خافت.
(3)- زمزم المغني: ترنم.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 309
سمعاه من تلاوتي، و ترنما، و قالا: أحيي الله قلبك، كما أحييت قلوبنا، و محوت بما سطرت في ألواح صدورنا بحسن تلاوتك ذنوبنا، ثم أنهما آنساني بالخطاب، و جارياني بالسؤال و الجواب، و إذا هما من صميم الجغتاي، و خالص عسكر تيمور، و من ضئضي‌ء «1» التتار، و سنخ الفتن و الشرور، ثم سألاني عن نجاري و وجاري، و عن رفيقي في هذا السفر و جاري، فاخبرتهما عن مولدي و محتدي، و مسقط رأسي من بلدي، و أني من أهل القرآن، و أني مع محمد سلطان، فقالا لي: يا سيدنا الشيخ، إنما جئنا إليك لتحسن إلينا، و إنا سائلوك عن شي‌ء فلا تجد فيه علينا، فقلت: قولا و طولا، فلن تجداني ملولا، فقالا: يا مولانا هذا شي‌ء يعنينا، و إن كان قد عنانا، و كل من اشتغل بما لا يعنيه، فقد ترك ما يغنيه، و وقع فيما لا يعنيه.
شعر:
و من لم يعرف الخيرمن الشر يقع فيه فبا الله يا سيدنا قل، من أين تأكل؟ فقلت: علي خوان، محمد سلطان، فقالا: مأكول هذا العسكر حلال، أم حرام و وبال؟ فقلت:
الغالب عليه الحرام، بل كله و الله مظالم و آثام، لأنه من الثارات و النهب، و الغارات و الغصب، و الاختلاسات و السلب.
فقالا: و الله يا إمام، لقد أسأنا الأدب إذ واجهناك بهذا الكلام، و لكن أنتم أهل العلم، شيمتكم العفو عن الجاني و الحلم، و أنتم أولي بجبر الكسير، و فك الأسير، و تيسر الأمر العسير، فقابل منا هذا الفحص بالصفح، و لا تعامل هذا الإلحاف باللفح.
فقلت: سلا، و لا تسلسلا، فقالا: نسألك بالله الذي اصطفاك لخزن كلامه، الذي تعبد به عباده، و بيّن لهم فيه معالم حلاله و حرامه، لا
______________________________
(1)- أي من الأصل و المعدن.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 310
تؤاخذنا بما تهجمنا عليك به، فإن الشيخ المرشد كالوالد الشفوق، لا يؤاخذ ولده بقلة أدبه، فقلت: كلا سلا ما شئتما، و سلسلا مهما أردتما، فقالا: يا سيدنا أما كان لك مندوحة عن مرافقة هؤلاء اللئام، و التعفف بالحلال استغناء عن الحرام، فقلت: إني دخلت فيهم و أنا مضطر، و خرجت معهم و أنا كاره مجبر، و أكرهني محمد سلطان، و حاياني بما حباني من الإحسان، فصحبتهم و عين ذاتي من كحل الراحة مرها، و حملتني فرسي في سفري كرها و وضعتني كرها.
فقالا: أرأيتك لو امتنعت عن الخروج، أكانوا يريقون دمك، و يأسرون أولادك و يسبون حرمك؟ فقلت: لا و الله، و حاشا لله، فقالا:
أكانوا يحبسونك و يضربونك، و في مقام المصادرة يجلسونك؟ فقلت: أنا أمنع جنابا، من أن يسوموني خسفا و عذابا، لأني حافظ القرآن، و القرآن حافظي من هذا الخسران، قالا: فغاية فعلهم معك، إذا رأوا تعززك و تمنعك، أنهم كانوا يشتموك، و يعمدون إلي معلومك فيقطعونك، و يسخطون عليك، و يمنعون برهم الواصل إليك؟ قلت: و لا كانوا أيضا يفعلون كذا، و تعززي و تمنعي ما يحط من مكانتي عندهم إلي هذا الأذي، و لكنهم حايوني فاستحيت، و خادعوني فانخدعت، و ليتني أبيت، فقالا: لا يصلح هذا عذر لك و حجة، و لا يسلك بك إلي صحة الاعتذار بين يدي الله تعالي سواء المحجة، فهلا جلست في مكانك، و اشتغلت بتلاوة قرآنك، و مطالعة علمك و مباحثة إخوانك، و فرغت بدنك عن الكلال، و ملأت بطنك من الحلال، و احتميت في حمي دينك عن هؤلاء اللئام، و استرحت من الاضطرار إلي تناول الحرام، مع إنا سمعنا من أمثالكم، ما قد ضرب في أمثالكم- أهل القرآن و قاصته، أهل الله و خاصته- و أنهم عتقاؤه بين خلقه، و ببركاتهم أدرّ سحاب رزقه، و أن السلاطين، ملوك الناس أجمعين، و أنكم أنتم ملوك الملوك و السلاطين، و اذا أعتقكم الله و أعفاكم الناس، و صرتم الانسان العالم
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 311
بمنزلة القلب و الكبد و الرأس، و لم يبق لأحد عليكم سلطه، ثم ألقيتم أنتم أنفسكم بأيديكم إلي هذه الورطة، و تهافتم علي التهالك، تهافت الفراش علي النار، و تشبثتم مع كونكم قادرين علي الخلاص بأذيال الضر و الاضطرار، فكيف يصح هذا الاعتذار، و أني ينجيكم هذا العذر من عذاب الملك الجبار، و هل صرتم إلا كما قيل:
معاشر القرّاء يا ملح البلدما يصلح الملح إذا الملح فسد فقلت: أما إذا حررتما القضية، فكلنا في هذه المصيبة سوية، مصراع:
(بي مثل ما بك يا حمامة فاندبي)
و قيل شعرا:
بي مثل ما بك يا حمام البان‌أنا بالقدود و أنت بالأغصان فبكيا و انتحبا، و تأوها و التهبا، و تنفسا تنفس الصعدا، و قالا: ما بين قصتنا و قصتك في المدي، فورب الخافقين إن بين القصتين، لبعد المشرقين، و لكن ما للمقال مجال، و ما كل ما يعلم يقال، و أين السر من الإعلان، و إن الحيطان لها آذان، فقلت: هذا ليس بحجه، فلا تعدلا عن سواء المحجة، فقالا: نحن المضطرون جبرا، المأخوذون قهرا و قسرا، و إنا مكتبون في الديوان، مضافون إلي واحد من أعيان الأعوان، إذا ورد علينا مرسوم بالبروز، في يوم عيد مثلا، أو نوروز، و سكون الخروج وقت الظهر، و تأخر منا واحد إلي وقت العصر، لم يكن له جزاء فيما ارتكبه، إلا الصلب أو ضرب الرقبة، فضلا عن ضرب و شتم و شناعه، أو رفع عدل أو تقديم شفاعه، و أين أنت عن قعود ما أو تخلف، أو استتار بذيل توار أو توقف، فنحن مدي الدهر لمثل هذا مستوفزون، و عن مثل ما جري علي أضرابنا من هذا البلاء متحرزون، مصيخون أبدا لما أشار، و ما أمر، عاملون بمقتضي قول من قال: الله من رأي العبرة في غيره فاعتبر، و يا ليتنا أمكننا التحويل
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 312
عن مملكته، و الرحيل عن إقليم ولايته و سلطنته، و كيف لنا بذلك و هي مسقط رأسنا، و محل أناسنا، و محط إيناسنا، و إيلاف رحلتنا، و مزدرعات معيشتنا، و مدرج، آبائنا و مخرج أبنائنا، و مقام قبائلنا و عشائرنا، و مثابة قاطننا و غابرنا، و لو غاب من هوام قبائلنا جد جد، فضلا عن بلبل أو هدهد، لحجف الباقين سيل الظلم و الحيف، و لتحكم في رقاب سائرنا صائل الموت بالسيف.
و أما إذا برزنا و عزمنا، علي المسير معه و تجهزنا، فنسأل كم سنة نغيب، و أي جهة يريد ذلك المريد المريب، فنأخذ أهبتنا لذلك المقدار، و كل منا ابن عم الآخر و جار، و له جراب فيه سويقه، و معه كلفة نفسه و فرسه و عليقه، يصوم مدي الدهر، و يفطر علي ما يسد الرمق، و يلبس ما يستر العورة من رث الثياب و الخلق، كل ذلك من زرع أيدينا و كدنا، و ما بذلنا فيه من عرق جبيننا، و الحلال غاية جهدنا، و لا نتعرض لمال أحد و لا لعرضه، و لا نقف في طريق إبرامه و لا نقضه، و لا لأحد عندنا نشب، و لا بيننا و بين أحد علاقة و لا سبب، و لكن بأموالنا البلاء الطام، و المصاب العام، ثم رقّصا رؤوسهما يمينا و شمالا، و ارتعدت فرائصهما هيبة و جلالا، و ابيضت شفاهمها و اسودت جباههما، و أخذا في البكاء و العويل، و انتحبا الانتحاب العريض الطويل، فوالله لقد ذابت نفسي لديهما، و استصغرت كبار المشايخ بالنسبة إليهما، و تفكرت فيما دهاهما من شدة الأمر، و علمت أنهما، هما القابضان بكفيهما علي الجمر، ثم تأوهت آها بعد آه، و قلت بالله يا أخواناه، و ما هذا البلاء الطام، و المصاب العام، الذي ذكرتماه؟ قالا: خيولنا و مواشينا، و حوامل مهادنا و غواشينا، نرفق بها بالتحميل، و ما نركبها إلا وقت الإعياء في الرحيل، و أمر قضيمها قصم ظهورنا، و أعجز أمورنا، و اضطرّنا إلي الخوض في دماء المسلمين و أموالهم، و ألجأنا إلي رعي زرعهم و تحمل
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 313
وبالهم، و ما ندري كيف المخلص، و أنّا ننجو من ذا المقنص، فبالله يا سيدنا الشيخ هل تجد لنا في هذا الأمر الغالي رخصه، أو هل من قطرة برود تطفي‌ء هذه الحرارة، و تسكن شرق هذه الغصة؟ فقلت:
لا و الله، إلا عناية الله، و أيم الله لقد، أشبعتماني شرا، و جرعتماني صبرا و مقرا «1»، و أوسعتماني نكدا و ضرا، و كان هموم ما بي، من نصبي و عذابي، يكفيني، إلي يوم تكفيني، فقد زدتماني بلاء علي بلائي، و عناء علي عنائي، فبالله من أنتما و ما أسماؤكما، و في أي قطر أرضكما و سماؤكما، و مع من أنتما، فحييتما ما حييتما، فخبراني، و لا تحيراني، لأجي‌ء في كل وقت إليكما، و أفوز بالسلام عليكما؟ فقالا: يا مولانا، الحمد لله الذي برؤيتك حبانا، إن معرفتنا لا تجديك شيئا و لا تبرّك، و عدم المعرفة بنا لا يؤذيك و لا يضرك، و الغالب علي ظننا مولانا، أنك بعد اليوم لن ترانا، و إن قدر اجتماع فنحن نسعي علي رؤوسنا إليك، و خليفتنا الله و السلام عليك.
ثم ودعاني و ما وقفا، و أودعاني أليم الفراق، و انصرفا، هذا من البحر قطرة، و من الطود ذره، و نسأل الله سبحانه و تعالي أن يصون عن الزلل أقوالنا، و عن الخطل و الخلل أفعالنا و أحوالنا.
تم آخره و الحمد لله رب العالمين، و صلي الله علي سيدنا محمد و علي [آله] و صحبه و سلم، و حسبنا الله و نعم الوكيل.
______________________________
(1)- المقر: نبات مر المذاق، و ربما كان هو الصبر أو ما يشابهه.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 314

خاتمة الكتاب‌

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أدب عبده أحمد فاحسن تأديبه، و خصه إذ رباه يتيما و أنشاه غريبا بكل يتيمة و غريبه، و أظهر له في بيان بديع المعاني منهج كل فن و أسلوبه، فأعجب أهل زمانه إذ أعجزهم بما أتاهم به من كل أعجوبه، أحمده حمدا تفتقت في رياض آلائه أنوار فصاحته، و أشكره شكرا تعبقت في رياض نعمائه أزهار بلاغته، و أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة طابق خبرها الواقع و الإعتقاد، و أسندت إلي حقيقة الصدق فصارت حقيقة الإسناد فتمنطق الإيمان بأقوالها، و تعلق الاسلام بأفعالها، و أشهد أن سيدنا محمدا عبده و رسوله الذي أنشأ أخبار بعثته علي التوحيد، و قصر فصل رسالته علي وصل الإخلاص بالتعبيد، صلي الله عليه صلاة باقية بقاء إعجازه، موصولة بطنب الإطناب و صل فصيح الكلام بإيجازه، و علي آله و أصحابه شموس سماء الفصاحة، و بدور أفلاك البلاغة، و سلم تسليما كثيرا. عجائب المقدور في نوائب تيمور 314 خاتمة الكتاب
ا بعد فيقول العبد المفتقر إلي مولاه، المعترف بتقصيره و خطاياه، المغترف من بحار كرمه و عطاياه، الراجي في حدائق المغفرة ثمرة العفو مما جناه، أحمد بن محمد بن عبد الله الحنفي مذهبا، العجمي لقبا، الأنصاري نسبا، الدمشقي مولدا، السني معتقدا، عامله الله بما كان أهله، و حفظ عليه دينه و عقله: لما كانت الدنيا دار انقلاب، و محل تغير و اضطراب، قدمت علي الأخري للاكتساب، إما لجزيل الثواب، و إما لوبيل العقاب، و كان سيرها سريع الاحتثاث، و اذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، أردت أن يخلد لي ذكري، و يجول لي في خواطر الآخرين فكر، لعل رحمة تتبعني، أو دعاء صالحا ينفعني، فناداني لسان الحال:
لا خيل عندك تهديها و لا مال عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 315
و أما الأولاد فليت صالحهم كفاني شره، و وازن في حياتي نفعه و ضره، فلم يبق إلا علم ينفع، أو إفادة ترفع.
و قد صنف العلماء في كل فن من العلوم ما بلغوا فيه الغاية، و تدرجوا في تقريره و تحريره من البداية إلي النهاية، و عينوا معانيه متونا و شروحا، و بينوا فحاويه خفاء و وضوحا، مع أن دروس العلوم قد درست، و حدائق رياضها ذبلت و يبست، و صار الكلام فيها عيا، و المستوي في تحقيقها و تدقيقها، نيا، و لم يبق لطالب العلم به انتفاع، إلا أنه اذا احتاج إلي القوت عرض كتبه لتباع، غير أن بعض كبراء العصر، و رؤساء الدهر، و بقايا الأكياس، متشوفون لتواريخ الناس، و متطلعون لمعرفة أحوال من ساس، من ذنب و راس، و مستشرفون لسالف الأخبار، كيف كان أمر الناس و صار، و لم يكن فيما مضي، من هذه الأمة و انقضي، من متغلبيها و بغاتها، و متمرديها و طغاتها، مسلمها و كافرها، مقسطها و جائرها، عاتيها و مواتيها، مصادقها و معاديها، صالحها و طالحها، سانحها و بارحها، غابرها و دارجها، عابرها و خارجها، مثل تيمور الأعرج، و لا أعبر منه في العتو و لا أخرج، سيره كلها عبر، و كل عبرة منها فيها سير، أموره أظهر من أن تخفي، و ما أضرمه من فتائل الفتن شرقا و غربا، أعظم من أن يطفأ، فقصدت ما ذكرته، و ذكرت ما قصدته، و توخيث الإفادة و الاعتبار، لا التفاخر و الاشتهار، فاعترضتني نوائب الخطوب، و كشرت دون مرامي أنياب القطوب، و جبهتني يد الردع، و صدمتني قارعة المنع، بأن أكبر الكبائر، في هذا الدهر الدائر، أدب أديب، أو فضل أريب، أو علم عالم لا سيما غريب، لقد كره الأديب و الفقيه، كراهية التحريم لا التنزيه، و قد تقرر هذا في الأذهان و رسخ، و لهم الذنب إذ يداهم أوكتا و فوهم نفخ، ثم ذكرتني شأني و خاطبتني بلساني، و قالت شعرا:
أتصرف غض العمر في طلب العلي‌فتظمي‌ء أكبادا و تسهر أعينا
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 316 تقاسي صروف الدهر فقرا و غربةو بعدا عن الأوطان للقلب موهنا
و عيلة أطفال ضعاف كأنهم‌جوازل «1» زغب أنهكتها يد الضنا
ففي مثل تلك الحال ما كنت ضائعاو كنت بنفس فقرها واسع الغني
إلي أن حباك الله فضلا و رفعةو حزت فنونا من علوم لها سنا
فصرت عزيزا في البرايا مكرماو طارا إلي الآفاق من صيتك الثنا
و قد سل فوق الرأس سيف مشيبه‌و هل بعد هذا غير معترك الفنا
أتخشي ضياعا بعد ذاك و عيلةفترهب من فقر و ترغب في الدنا
فتبذل وجها طالما صنت ماءه‌لك اللّه لا تفعل و كن متمكنا
و هل في الوري من يرتجي لملمةو إن قيل من للمكرمات يقل أنا
فصن عن جميع الخلق نفسك و اتكل‌علي الله مولي لم يزل بك محسنا فما ثم ذو فضل بصدر منشرح، فحط عنك و استرح، فتضاعفت الحال تشتيتا، و زاد الكبد تفتيتا، و ارتبكت في عزمين، و اشتبكت بين همين، بين أن أسكت فأضيع أو أن أقول فلا يسمع، فقدمت رجلا و أخرت أخري، و استنهضت جواد فكري كرا و فرا، فقواني صدق النية، فيما هممت، و خلوص الطوية علي ما عزمت، و جمعت من بال متفرق، و ألفت من فكر متمزق، من قضايا تيمور الطويلة العريضة نبذة، و جبذت بكف الأفكار من قوس حكاياته جبذه، نثلت في بيانها من بديع المعاني الجعبة، و سللت و قد صرفت نحو مشرق النطق سنان الكلام عضبه، و شحذت غربه، فجاءت بحمد الله تعالي ظريفة المعاني كاملتها، لطيفة المباني فاضلتها، قلت في مرآة الأدب:
بألفاظ ألحاظ تشير إلي النهي‌تعلّم فن السحر كيف يكون حوت دقة الجزل و دقته، و رياقة الغزل و رقته، و لطافة الأدباء،
______________________________
(1)- جوازل جمع جوزل و هو فرخ الحمام.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 317
و ظرافة الشعراء، و فصاحة البلغاء، و بلاغة الفصحاء، و حقائق الحكماء، و دقائق العلماء، مع الأمثال الفائقة، و الاستشهادات اللائقة، و الاستطرادات الرائقة، و التشبيهات الغريبة، و الاستعارات العجيبة، و نوافث السحرة من علماء البيان، و نوادر المهرة من أرباب الديوان، و مزجت جليل التحمس فيها بريق التغزل، و نسجت جديد الجد بمعتق التهزل، و طرزت طلع ذلك كله بإعلام الآيات الشريفة، و نقوش الأحاديث الكريمة المنيفة، أصبت بكل ذلك محز القصد، و طبقت بحسامه مفصل الضرب، قلت في مرآة الأدب:
كأن النهي قد كان عني ناعسافمر علي أذنيه ما أتلفظ
فذاق لهذا الشهد صدق حلاوةففتح عينيه وجا يتلمظ فمن أراد التنزه في التواريخ، فعليه بمداومة تكرارها، و من قصد التفكه في رياض الإنشاء فليقتطف من بهي أزهارها، و من سلك طرائق الأدب، فليجن من حدائقها جنا ثمارها، و من رام التسلق إلي ذروة العلوم، فليتشبث بأذيال أستارها، و من طلب الإعتبار بتقلبات الزمان، فليتأمل حقائق أخبارها، و من اعتني بسياسة الملك، فليتدبر دقائق أسرارها، مع أني لم أوفها حقها في التهذيب، و لم تنل استحقاقها في حسن الترتيب و التشذيب، لأن الكلام كالدر المنتظم، و الدر «1» المنسجم، لا بد أن يتعانق لفظه و معناه أولا و آخرا، و يتطابق عبارته و فحواه باطنا و ظاهرا، و إلا اختل نظمه، و اعتل فهمه، و انحطت منزلته، و سقطت من سلم الفصاحة درجته، و هذا يحتاج إلي بحر ذهن صاف، و معدن علم بكفالة ما يتم به عقود جواهر واف، و ذوق أحلي من العسل، و فكر أمضي من الأسل، و يحتاج كما قيل إلي حاضر من التوفيق، و معاون صالح من النية، فإن غروب الألسنة ربما جاوزت إلي ما يثبت علي القائلين الحجة، و من لي بذلك، و أني يتيسر لي سلوك هذه
______________________________
(1)- الدر: اللبن الكثير.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 318
المسالك، و كنت طالما أفوق سهم النظر في بيداء التأمل نحو قنص معني دقيق، و أصوب غواص الفكر في دأماء «1» التدبر إلي جوهر قصد رقيق، حتي إذا قلت فاز القناص، و حاز الغواص، و إذا بقاطع الشواغل قطع بترس الشواغل و الحوادث علي سهم خاطري الطريق، و بتمساح الهموم إلتهم غواص فكري فإذا هو في بحر الغموم غريق، فتشتد في وجه قصدي المسالك، و أصير من نهار أزهر إلي ليل حالك، قلت:
فأني أنتقي للنظم دراو لم تظفر يدي منه بودعه لكن لما كان الشروع ملزما، و اتمام ما شرعت فيه متحتما، لم أر بدا من إلحام ما أسديته، و إصماء ما أنميته، فصرت في و عوره أقع و أقوم، و في بحوره أغطس و أعوم، إن راق راكد الخاطر، أو حمي الفكر الفاتر، فتذكرت من الكلام أوائله، و ألحقت بكل منه ما شاكله، و إذا أزعجه من الزمان الجفا، تكدر منه ما صفا، و تبلدت الأفكار، و تولدت الأخطار، و تساوي عند بصر البصيرة الليل و النهار، قلت:
أكمل كل سطر بعد شهرو أبني كل بيت بعد عام فلا أضع المحمول و قد حمل الموضوع، و لا أذكر الخبر إلا و قد نسي المبتدأ قلت مضمنا شعرا:
و الفكر كالبحر يبدي لي جواهره‌مع الصفاء و يخفيها مع الكدر فتنخرم القاعده، و يختلط رأس المال و الفائدة، فقل لي أني ينتظم لي؟
قال و قد انفرط نظام الحال: هذا و إن الكلام له مقامات، و لكل من الفصاحة و البلاغة درجات، قلت قديما مترجما:
ما استوي في موقف افصاح منطيق و لوقد سحبا سحب سحبان و أصمي الأصمعي
فافتكر فيما تري في منزل أعني الوري‌هل تري تبّت تحاذي قيل: يا أرض ابلعي
______________________________
(1)- الدأماء: البحر.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 319
و أين من يوفي المقامات حقها؟ و يعطي كل مستحق منها مستحقها، و لقد سلكت في هذا الكتاب مسلك أبناء العصر، و طريقة أولاد الدهر، فإن الناس بزمانهم، أشبه منهم بآبائهم، و لو أخذت فيه أخذ العرب العرباء، و ألبسته في ألفاظه و معانيه ثوب الاستعصاء و الإباء، فأبرزت ما قصدته من المعاني الجزلة العجيبة، في قوالب فحلة غريبة، لما التفت أحد إليه، و لا عول لقصور الهمم و الأفهام عليه، و لما كانت المجازات المشهوره، خيرا من الحقائق المهجوره، و الغلط المستعمل، أولي من الصواب المهمل، أبرزتها في إشارات رشيقة، و عبارات رقيقه، و عملت في بعض المواضع بقوله رجزا:
عمدا كسوت مرهبا مغثمرا «1»و لو أشاء حكته محبّرا «2» و قد قيل:
إذا أحسست في لفظي قصوراو خطي و البراعة و البيان
فلا ترتب إن رقصي‌علي مقدار ايقاع الزمان ثم إن بين هذا الكتاب، و بين ما صنعه قبله ذوو الآداب، ليونا مديدا، و أمدا بعيدا، بوجوه منها إن زمانهم كان بالرفاهية بساعد، و أنا في عصر لا ساعد لي فيه و لا مساعد، و منها إن وقتهم كان فيه من يربي الفضل و أهله، و يحل كلا منهم محله، من الملوك و الأكابر، و ذوي الفضائل و المآثر، و أرباب المناصب و المفاخر، و أقل من فيهم كان يحب السماع، و يميل إلي الفضل و الأدب بالطباع، فكان الفضل فضيلة، و الأدب خصلة جميلة، و أما الآن، فقد انقلب بأهله الزمان، فصار حامل الفضل و الأدب من رهطه، و المنتظم من العلم في سلكه و سمطه، كأنه سارق عملته «3» تحت إبطه، و منها أن الافهام كانت مدركة، و كانت كذلك قريحة المتكلم
______________________________
(1)- المرهب: الثوب ذي الأكمام، و المغثمر: الردي‌ء الفاسد.
(2)- المحبر: المزين.
(3)- العملة: السرقة.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 320
متحركة، لقد صارت الأفهام جامدة، و القرائح خامدة، و نارها هامدة، و منها أن غالب ما صنف أخباره كاذبه، و سهام أغراض غير صائبه، لأنه لا واقع يطابقه، و لا خارج يوافقه، فعمد مصنفه إلي ما عقدته مخيلته، و توهمته مفكرته، فألف حسبما أراد، و أسس علي مقتضي اختياره ما شداه و شاد، و أما هذا الكتاب فأخباره صادقه، و كلماته بالصدق ناطقه، إذ هي في الواقع للخارج مطابقه، فأبداها منشي‌ء الخاطر و أعاد، علي طبق ما أريد منه و وفق ما أراد، و ليتني في هذا و هذا كفافا، من خيرها و شرها معافي، و لئن ساعد الزمان بترفيه الحال، و خلا من سكان الهموم ربع البال، لأتتبعن آثاره، و لأسترن بقدر الإمكان عواره، و لأبذلن الجهد في ترقيحه، و إصلاحه و تنقيحه، و إلا فالصفح مأمول، و العذر عند خيار الناس مقبول، و المسؤول من صدقات ذوي الأدب، البالغين في البلاغة أعلي الرتب، أن يسبلوا ذيل الإغضاء عليه، و ينظروا بعين الإفادة و الاستفادة إليه، و يقيلوا العثار، و يقبلوا الأعذار، فيشدوا أسره، و يجبروا كسره، و يرقعوا خلله، و يحققوا أمله، راجين من لطف الله ما أرجوه منهم، لعل الله سبحانه أن يعفو عني و عنهم، مع إنا كلنا في الهوا سوا، و إنما الأعمال بالنيات، و لكل إمري‌ء ما نوي.
الحمد لله حمدا يملأ أركان الأمكنه، و يعطر خياشيم الأزمنه، و صلي الله علي سيدنا محمد صلاة تبلغ قائلها مأمنه، و تحله بشفاعته في جنة الفردوس الأعلي مسكنه و علي آله و أصحابه الذين استمعوا القول فاتبعوا أحسنه، و نستغفر الله من حصائد الألسنه، و حسبنا الله تعالي و نعم الوكيل، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تم «1»
______________________________
(1)- جاء في نهاية النسخة المخطوطة الخاصة:
(1)- الحمد لله البر الجواد، العواد علي عبيده بعد الشدائد، و صلي الله علي محمد
(2)- الحمد لله، و به أكتفي، طالع هذا الكتاب من أوله إلي آخره في أوقات متفرقة آخرها شعبان المكرم سنة ثمان و تسعين و ثمانمائة أحمد بن محمد المالكي لطف الله تعالي به. سنة 898.
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 321

المحتوي‌

عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 323
الصفحة الموضوع 3 توطئة
7 مقدمة المؤلف
9 ذكر نسب تيمور
16 دخوله إلي قرشي
17 ذكر من أسر في فتنة تيمور
18 ذكر نهوض المغول علي السلطان
18 ذكر الحيلة التي صنعها
20 ذكر وثوب توقتاميش خان
22 ذكر علي شير
24 ذكر ابتداء ما فعله من التسلط
25 ذكر قصده ممالك خوارزم
25 ذكر عوده ثانيا إلي خوارزم
26 ذكر مراسلته سلطان هراة
28 ذكر اجتماعه بالشيخ زين الدين أبي بكر الخوافي
29 ذكر عوده إلي خراسان
29 ذكر قصده ممالك سبزوار
30 ذكر ما جري له في سبزوار مع محمد رأس طائفة الزعار
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 324
32 ذكر مراسلته شاه شجاع
37 ذكر مراسلته شاه ولي أمير ممالك مازندران
37 ذكر مراسلة شاه ولي سلاطين العراق
40 ذكر توجه تيمور إلي عراق العجم
42 ذكر ما أبرمه شاه منصور
43 ذكر ما نقل عن شاه منصور
47 ذكر ما وقع بعد واقعة شاه منصور
47 ذكر حلوله بأصبهان
50 ذكر ضبطه طرف الموغول
51 ذكر عوده إلي ممالك فارس و خراسان
58 ذكر سكون مؤقت لتيمور
59 ذكر غوصه مما وراء النهر و خروجه من بلاد اللور
61 ذكر تخريب أذربيجان
63 صفة قلعة النجاة
68 ذكر أخبار صاحب بغداد
68 ذكر ما فعله في بلاد أرزنجان
69 ذكر ما جري لسلطان ماردين
75 ذكر رجوعه من ديار بكر
75 ذكر وصوله إلي أمم الدشت
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 325
82 ذكر ما وقع من الخلاف في عسكر توقتاميش
84 ذكر أيدكو و ما صنعه
86 ذكر ما جري بين أيدكو و توقتاميش
90 ما كان من أمور تيمور و دواهيه
90 ما يتعلق بممالك الشام
92 جواب السلطان بايزيد لسلطان سيواس
96 قصد تيمور الهند
98 ما فعله ضد الفيلة
100 وفاة الظاهر برقوق
107 موت سلطان سيواس
110 محو قرايلوك عثمان آثار أنوار برهان الدين السلطان
111 ذكر ما كان نواه قرايلوك
114 ما وقع من الفساد بعد قتل السلطان برهان الدين
116 قصد تيمور سيواس
117 توجه تيمور نحو بلاد الشام
119 مراسلة تيمور لأمراء حلب
120 ما فعله أمراء حلب
122 وصول تيمور إلي حلب
124 ما فعله بحلب نقلا عن ابن الشحنه
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 326
131 وصول أخبار ما حدث بحلب إلي دمشق
132 خروج الناصر فرج من القاهرة
133 حكاية ما شاهده ابن عربشاه في حماه سنة 839
133 وصول تيمور إلي حمص
136 وقائع دمشق
137 ذكر ما افتعله سلطان حسين ابن ابنة تيمور
138 فرار السلطان فرج و عوده إلي مصر
140 خروج أعيان دمشق إلي تيمور
148 ذكر ما صنعه بعض التجار
153 احراق دمشق
154 انسحاب تيمور و عودته
155 من وقع بأسره من أهل دمشق
158 ذكر ما أباد بعده الجراد
159 حصار تيمور لقلعة ماردين
160 توجه تيمور إلي بغداد
161 ما فعله السلطان أحمد بن أويس
163 قصد تيمور تدمير ممالك الروم
170 ما عزم عليه ابن عثمان
173 توجه ابن عثمان لملاقاة تيمور
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 327
174 ما وقع من الخباط بعد وقعة ابن عثمان
180 ذكر أولاد ابن عثمان
181 ما فعله تيمور مع ابن عثمان
184 استيلاء تيمور علي قلعة أزمير
185 قصده بلاد الخطا و استخلاص ممالك الترك و الجتا
187 نفيه الله داد
188 نموذج يدل علي عمق تفكير تيمور
189 غدر تيمور بالتتار
193 نزول تيمور علي ممالك الكرج
196 الاستيلاء علي حصن منيع
198 ما جري للكرج مع تيمور
199 طلب الكرج الأمان
200 توجه تيمور عائدا إلي بلاده
201 استقباله من قبل ملوك الأطراف
202 توزيع تيمور التتار
204 ذكر ما ابتدعه من منكراته
212 بعض حوادث تيمور المتقدمه
217 عزم تيمور قصد بلاد الخطا
219 مرسوم من تيمور إلي الله داد
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 328
221 وفاة تيمور
227 ما وقع بعد وفاة تيمور
228 استيلاء سلطان خليل علي الملك
230 قفول عساكر تيمور مع جسده إلي سمرقند
233 دفن تيمور
234 أخبار خليل سلطان
235 ذكر من أظهر العناد من الأمراء
236 أخبار الله داد
238 ورود مكتوبين إلي الله داد من خليل سلطان
239 من خلفه الله داد في اشباره
240 ما تم لألله داد مع خدايداد
241 ورود كتاب من خليل سلطان
242 لحوق الله داد بخليل سلطان
243 تنبه خدايداد لخديعة الله داد
245 قصد ايدكو ما وراء النهر
246 ذكر بير محمد حفيد تيمور
248 تجهيز خليل سلطان سلطان حسين
249 خداع الله داد سلطان حسين
251 أخذ سلطان حسين الميثاق علي الأمراء
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 329
251 خروج خليل سلطان من سمرقند
253 مقابلة العساكر الخليلية جنود قندهار
255 خروج عسكر العراق علي خليل سلطان
256 ما فعله بير محمد بعد انكساره
257 توجه بير محمد لمقابلة خليل سلطان
258 ما صنعه بير محمد بعد هزيمته
258 طلب بير محمد الصلح
259 خلاف بين بير علي و بير محمد
259 ما حدث أثناء غياب خليل سلطان
260 توجه خليل سلطان ضد خدايداد
261 مفارقة شيخ نور الدين خدايداد
261 رجوع شيخ نور الدين إلي الاعتذار إلي خليل سلطان
262 أمر خليل سلطان ببناء ترمذ
264 ما فعله شاه رخ في خراسان
264 ما حدث في أقاليم ايران
265 خروج الناس من الحصر و طلبهم أوطانهم من ما وراء النهر
268 من أخبار خليل سلطان و زوجته شاد ملك
267 مراسلة الله داد خدايداد
269 وقوع خليل سلطان بالأسر
عجائب المقدور في نوائب تيمور، ص: 330
270 ما جري من الفساد بسمرقند
271 قيام شاه رخ
272 وصول جنود شاه رخ إلي سمرقند
273 ظهور دولة شاه رخ
274 نهاية خدايداد
275 عودة خليل سلطان من ممالك أنديكان
276 صفات تيمور البديعة
320 خاتمة الكتاب

درباره مركز تحقيقات رايانه‌اي قائميه اصفهان

بسم الله الرحمن الرحیم
جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (سوره توبه آیه 41)
با اموال و جانهاى خود، در راه خدا جهاد نماييد؛ اين براى شما بهتر است اگر بدانيد حضرت رضا (عليه السّلام): خدا رحم نماید بنده‌اى كه امر ما را زنده (و برپا) دارد ... علوم و دانشهاى ما را ياد گيرد و به مردم ياد دهد، زيرا مردم اگر سخنان نيكوى ما را (بى آنكه چيزى از آن كاسته و يا بر آن بيافزايند) بدانند هر آينه از ما پيروى (و طبق آن عمل) مى كنند
بنادر البحار-ترجمه و شرح خلاصه دو جلد بحار الانوار ص 159
بنیانگذار مجتمع فرهنگی مذهبی قائمیه اصفهان شهید آیت الله شمس آبادی (ره) یکی از علمای برجسته شهر اصفهان بودند که در دلدادگی به اهلبیت (علیهم السلام) بخصوص حضرت علی بن موسی الرضا (علیه السلام) و امام عصر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) شهره بوده و لذا با نظر و درایت خود در سال 1340 هجری شمسی بنیانگذار مرکز و راهی شد که هیچ وقت چراغ آن خاموش نشد و هر روز قوی تر و بهتر راهش را ادامه می دهند.
مرکز تحقیقات قائمیه اصفهان از سال 1385 هجری شمسی تحت اشراف حضرت آیت الله حاج سید حسن امامی (قدس سره الشریف ) و با فعالیت خالصانه و شبانه روزی تیمی مرکب از فرهیختگان حوزه و دانشگاه، فعالیت خود را در زمینه های مختلف مذهبی، فرهنگی و علمی آغاز نموده است.
اهداف :دفاع از حریم شیعه و بسط فرهنگ و معارف ناب ثقلین (کتاب الله و اهل البیت علیهم السلام) تقویت انگیزه جوانان و عامه مردم نسبت به بررسی دقیق تر مسائل دینی، جایگزین کردن مطالب سودمند به جای بلوتوث های بی محتوا در تلفن های همراه و رایانه ها ایجاد بستر جامع مطالعاتی بر اساس معارف قرآن کریم و اهل بیت علیهم السّلام با انگیزه نشر معارف، سرویس دهی به محققین و طلاب، گسترش فرهنگ مطالعه و غنی کردن اوقات فراغت علاقمندان به نرم افزار های علوم اسلامی، در دسترس بودن منابع لازم جهت سهولت رفع ابهام و شبهات منتشره در جامعه عدالت اجتماعی: با استفاده از ابزار نو می توان بصورت تصاعدی در نشر و پخش آن همت گمارد و از طرفی عدالت اجتماعی در تزریق امکانات را در سطح کشور و باز از جهتی نشر فرهنگ اسلامی ایرانی را در سطح جهان سرعت بخشید.
از جمله فعالیتهای گسترده مرکز :
الف)چاپ و نشر ده ها عنوان کتاب، جزوه و ماهنامه همراه با برگزاری مسابقه کتابخوانی
ب)تولید صدها نرم افزار تحقیقاتی و کتابخانه ای قابل اجرا در رایانه و گوشی تلفن سهمراه
ج)تولید نمایشگاه های سه بعدی، پانوراما ، انیمیشن ، بازيهاي رايانه اي و ... اماکن مذهبی، گردشگری و...
د)ایجاد سایت اینترنتی قائمیه www.ghaemiyeh.com جهت دانلود رايگان نرم افزار هاي تلفن همراه و چندین سایت مذهبی دیگر
ه)تولید محصولات نمایشی، سخنرانی و ... جهت نمایش در شبکه های ماهواره ای
و)راه اندازی و پشتیبانی علمی سامانه پاسخ گویی به سوالات شرعی، اخلاقی و اعتقادی (خط 2350524)
ز)طراحی سيستم هاي حسابداري ، رسانه ساز ، موبايل ساز ، سامانه خودکار و دستی بلوتوث، وب کیوسک ، SMS و...
ح)همکاری افتخاری با دهها مرکز حقیقی و حقوقی از جمله بیوت آیات عظام، حوزه های علمیه، دانشگاهها، اماکن مذهبی مانند مسجد جمکران و ...
ط)برگزاری همایش ها، و اجرای طرح مهد، ویژه کودکان و نوجوانان شرکت کننده در جلسه
ی)برگزاری دوره های آموزشی ویژه عموم و دوره های تربیت مربی (حضوری و مجازی) در طول سال
دفتر مرکزی: اصفهان/خ مسجد سید/ حد فاصل خیابان پنج رمضان و چهارراه وفائی / مجتمع فرهنگي مذهبي قائميه اصفهان
تاریخ تأسیس: 1385 شماره ثبت : 2373 شناسه ملی : 10860152026
وب سایت: www.ghaemiyeh.com ایمیل: Info@ghaemiyeh.com فروشگاه اینترنتی: www.eslamshop.com
تلفن 25-2357023- (0311) فکس 2357022 (0311) دفتر تهران 88318722 (021) بازرگانی و فروش 09132000109 امور کاربران 2333045(0311)
نکته قابل توجه اینکه بودجه این مرکز؛ مردمی ، غیر دولتی و غیر انتفاعی با همت عده ای خیر اندیش اداره و تامین گردیده و لی جوابگوی حجم رو به رشد و وسیع فعالیت مذهبی و علمی حاضر و طرح های توسعه ای فرهنگی نیست، از اینرو این مرکز به فضل و کرم صاحب اصلی این خانه (قائمیه) امید داشته و امیدواریم حضرت بقیه الله الاعظم عجل الله تعالی فرجه الشریف توفیق روزافزونی را شامل همگان بنماید تا در صورت امکان در این امر مهم ما را یاری نمایندانشاالله.
شماره حساب 621060953 ، شماره کارت :6273-5331-3045-1973و شماره حساب شبا : IR90-0180-0000-0000-0621-0609-53به نام مرکز تحقیقات رایانه ای قائمیه اصفهان نزد بانک تجارت شعبه اصفهان – خيابان مسجد سید
ارزش کار فکری و عقیدتی
الاحتجاج - به سندش، از امام حسین علیه السلام -: هر کس عهده دار یتیمی از ما شود که محنتِ غیبت ما، او را از ما جدا کرده است و از علوم ما که به دستش رسیده، به او سهمی دهد تا ارشاد و هدایتش کند، خداوند به او می‌فرماید: «ای بنده بزرگوار شریک کننده برادرش! من در کَرَم کردن، از تو سزاوارترم. فرشتگان من! برای او در بهشت، به عدد هر حرفی که یاد داده است، هزار هزار، کاخ قرار دهید و از دیگر نعمت‌ها، آنچه را که لایق اوست، به آنها ضمیمه کنید».
التفسیر المنسوب إلی الإمام العسکری علیه السلام: امام حسین علیه السلام به مردی فرمود: «کدام یک را دوست‌تر می‌داری: مردی اراده کشتن بینوایی ضعیف را دارد و تو او را از دستش می‌رَهانی، یا مردی ناصبی اراده گمراه کردن مؤمنی بینوا و ضعیف از پیروان ما را دارد، امّا تو دریچه‌ای [از علم] را بر او می‌گشایی که آن بینوا، خود را بِدان، نگاه می‌دارد و با حجّت‌های خدای متعال، خصم خویش را ساکت می‌سازد و او را می‌شکند؟».
[سپس] فرمود: «حتماً رهاندن این مؤمن بینوا از دست آن ناصبی. بی‌گمان، خدای متعال می‌فرماید: «و هر که او را زنده کند، گویی همه مردم را زنده کرده است»؛ یعنی هر که او را زنده کند و از کفر به ایمان، ارشاد کند، گویی همه مردم را زنده کرده است، پیش از آن که آنان را با شمشیرهای تیز بکشد».
مسند زید: امام حسین علیه السلام فرمود: «هر کس انسانی را از گمراهی به معرفت حق، فرا بخواند و او اجابت کند، اجری مانند آزاد کردن بنده دارد».