جامع الافكار وناقد الانظار

هوية الكتاب

المؤلف: محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

المحقق: مجيد هاديزاده

الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت

المطبعة: نور حكمت

الطبعة: 1

الموضوع : العقائد والكلام

تاريخ النشر : 1423 ه-.ق

ISBN (ردمك): 964-5616-70-7

المكتبة الإسلامية

المحرّر الرقمي: محمّد علي ملك محمد

ص: 1

المجلد 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

مجموعه آشنايي با فلسفه اسلامی

18

جامع الافکار وناقد الانظار

جلد اول

حکیم الهی وفقیه روحانی

حضرت مولی

محمد مهدی بن ابی ذر النراقی

صححه وقدم له

مجید هادی زاده

انتشارات حکمت

ص: 3

سرشناسه : نراقی ، مهدی بن ابی ذر، ق 1209 - 1128

عنوان و نام پدیدآور : جامع الافکار و ناقد الانظار/ محمدمهدی بن ابی ذر النراقی ؛ صححه و قدم له مجید هادی زاده

مشخصات نشر : تهران : حکمت ، 1423ق . = 1381.

مشخصات ظاهری : ج 1

فروست : (مجموعه آشنایی با فلسفه اسلامی 18)

شابک : 964-5616-73-5111000ریال :(دوره ) ؛ 964-5616-70-7(ج .1)

یادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه

موضوع : خدا -- اثبات

موضوع : خداشناسی

شناسه افزوده : هادی زاده ، مجید، 1344 - ، مصحح

رده بندی کنگره : BP217/2/ن4ج2 1381

رده بندی دیویی : 297/42

شماره کتابشناسی ملی : م 80-15697

ص: 4

تصحيح

این اثر را با کمال

فروتنی به مادر فرزانه ام

تقدیم مینمایم. أمدّ الله في ظلالها و

جعلني عن كل مكروه فداها.

مصحح

ص: 5

ص: 6

الفهرس الإجمالي لمحتويات الكتاب

مقدمة الناشر...ه

مقدمة المصحح...يه

مقدمات الكتاب...3

المقدمة الأولى: في ابطال ترجّح المساوي والمرجوح و ترجيحهما...4

المقدّمة الثانية: في أنّ طرفي المعلول مالم يجب لم يقع...5

المقدمة الثالثة: في ابطال وجود الممكن بنفسه و بأولوية ذاتية أو خارجية، و اثبات انه لا يوجد إلا

بعلة خارجية...6

المقدمة الرابعة: في أنّ الممكن كما يحتاج في وجوده إلى العلة يحتاج في بقائه - أيضاً - إليها ...38

المدمة الخامسة: في ابطال الدور و التسلسل...42

المقالة الأولى في اثبات الواجب الوجود لذاته...59

المسلک الاوّل: مسلک الحکماء...61

المنهج الأوّل: منهج الإلهيِّين منهم...61

تتميم...86

ص: 7

فائدة...93

المنهج الثاني: منهج بعض الحكماء، و هو الاستدلال بمجرد الامكان الوقوعي...117

المنهج الثالث من مناهج الحكماء: منهج الطبيعيين منهم، و هو النظر في طبيعة الحركة...١١٩

المنهج الرابع من مناهج الحكماء: ما ذهب اليه بعضهم، و هو ما يبتنى على النظر في النفس الناطقة الانسانية...137

المسلك الثاني: مسلک المتکلّمین...137

المسلك الثالث: مسلك أهل الكشف من الصوفية...138

المقالة الثانية في صفاته الثبوتية والسلبية...143

المقدمة: في الاشارة إلى أصناف صفاته و تعديدها على الإجمال...144

الباب الأول

في صفاته الثبوتية الكمالية

الفصل الأوّل: في قدرته - تعالى -...151

تحقيق حول كيفية حدوث العالم...178

تحقيق في كيفية ربط الحادث بالقديم...232

تتميم: في بيان مذهب محقق الطوسي من أقسام الحدوث...241

عود إلى ما سبق من أبحاث القدرة...244

تنبيه: بيان حقيقة معنى الايجاب و الموجب...278

تتميم: مراد المحقق الطوسي من الايجاب...297

تتميم...336

تتميم...357

تتميم...371

ص: 8

تتميم...394

مسئلة مهمة...395

مسلك الصوفية في اثبات عموم القدرة...452

فائدة...453

تتميم...454

الفهرس التفصيلي لمحتويات الكتاب...479

ص: 9

ص: 10

مقدمة الناشر

حياة المؤلف (١١٢٨-١٢٠٩ه)

هو الشيخ الجليل المولى (محمد مهدي بن أبي ذر النراقي) أحد أعلام المجتهدين في القرنين الثاني عشر و الثالث عشر من الهجرة، و من أصحاب التأليفات القيمة. و يكاد أن يعد في الدرجة الثانية أو الثالثة من مشاهير علماء القرنين. و هو عصامي لا يُعرف عن والده (ابي ذر). و لو لا ابنه هذا لذهب ذكره في طيات التأريخ كملايين البشر من أمثاله، و لشيخنا النراقي ولد نابه ،الذكر هو المولى احمد النراقي المتوفى عام ١٢٤٤ ه ، صاحب (مستند الشيعة) المشهور في الفقه، وصاحب التأليفات الثمينة، أحد أقطاب العلماء في القرن الثالث عشر وكفاه فخراً أنه أحد أساتذة الشيخ العظيم المولى مرتضى الأنصاري المتوفى عام 1281ه

و لعل النراقي الصغير هذا هو من أهم أسباب شهرة والده و ذيوع صيته، لما وطيء عقبه و ناف عليه بدقة النظر وجودة التأليف. كما حذا حذوه في تأليفاته فان الأب المكرم ألف في الفقه (معتمد الشيعة) والابن الجليل ألف مستندها. وذاك ألف في الأخلاق (جامع السعادات) و هذا ألف (معراج السعادة) في الفارسية. و ذاك ألف (مشكلات العلوم) و هذا ألف (الخزائن)... و هكذا نسج على منواله و أحكم النسج.

مولده و وفاته

ولد الشيخ المترجم له - رحمة الله تعالى - في (نراق) كعراق (1)، و هي قرية من قرى کاشان بايران، تبعد عنها عشرة فراسخ. و كذا كانت مسقط رأس ولده المتقدم الذكر ولم يذكر التأريخ سنة ولادته، و على التقريب يمكن استخراجها من بعض المقارنات التأريخية،

ص: 11

فانه تلمذ - في أول نشأته على ما يظهر - على الشيخ المحقق الحكيم المولى اسماعيل الخاجوئي ثلاثين سنة، مع العلم أن استاذه هذا توفى عام 1173 ه، فتكون أول تلمذته عليه عام ١١٤٣ ه على أقل تقدير، إذا فرضنا أنه لازمه الى حين وفاته. ولنفرض على أقرب تقدير أنه قد حضر عليه و هو في سن ١٥ عاماً، وعليه فتكون ولادته عام 1228 ه أو قبل ذلك.

أما وفاته فقد كانت عام 1209 ه في النجف الأشرف، و دفن فيها، فيكون قد بقي بعد وفاة استاذه الوحيد البهباني سنة واحدة، و يكون عمره 81 عاماً على الأقل.

و في (رياض الجنة) المخطوط ، تأليف السيد حسن الزنوزي المعاصر للمترجم له - حسب نقل الاستاذ حسن النراقي- : ان عمره كان ٦٣ سنة، فتكون ولادته سنة ١١٤٦ ه_ و هذا لا يتفق ابداً مع ما هو معروف في تأريخه: انه تلمذ على المولى اسماعيل الخاجوئي ثلاثين سنة، لأنه يكون عمره على حسب هذا التأريخ حين وفاة استاذه ٢٧ سنة فقط.

نشأته العلمية واساتذته

عاش شيخنا كما يعيش عشرات الآلاف من أمثاله من طلاب العلم: خامل الذكر، فقير الحال، منزوياً في مدرسته، لا يعرف من حاله إلا أنه طالب مهاجر، ولا يتصل به إلا أقرانه في دروسه، الذين لا يهمهم من شأنه إلا أنه طالب كسائر الطلاب، يتردد في حياة رتيبة بين غرفته و مجالس دروسه، ثم بعد ذلك لا ينكشف لهم من حاله إلا بزته الرثة التي ألفوا منظرها في آلاف طلاب العلم، فلا تثير اهتمامهم و لا اهتمام الناس.

و بطبيعة الحال لا يسجل له التأريخ شيئاً في هذه النشأة، وكذلك كل طالب علم لا يسجل حتى اسمه مالم يبلغ درجة يرجع اليه الطلاب في تدريس، أو الناس في تقليد، أو تكون له مؤلفات تشتهر و من هنا تبتدي معرفة حياة الرجل العالم، و تظهر آثاره و يلمع اسمه.

ومع ذلك، فانا نعرف عن شيخنا ان أسبق أستاذته وأكثرهم حضوراً عنده هو المولى اسماعيل الخاجوئي المتقدم الذكر. و هذا الاستاذ كان مقره في اصفهان، و فيها توفي و دفن؛ و الظاهر أنه لم ينتقل عنها حتى في الكارثة التأريخية المفجعة التي أصابتها من الأفغانيين الذين انتهكوها بمالم يحدث التأريخ عن مثلها، وذلك سنة ١١٣٤ ه فتكون نشأة شيخنا المترجم له العلمية في مبدأ تحصيله في اصفهان على هذا الشيخ الجليل. و الظاهر أنه قرأ الفلسفة، لأن هذا الشيخ من اساتذة الفلسفة المعروفين الذين تنتهي تلمذتهم في ذلك العصر الى المولى صدر الدين الشيرازي صاحب الاسفار. وكفى ان من تلاميذه المولى محراب، الألهي المعروف، الذي طورد لقوله بوحدة الوجود، و لما جاء الى إحدى العتبات المقدسة متخفياً،

ص: 12

وجد في الحرم شيخاً ناسكا يسبح بلعن ملاصدرا و ملا محراب، و لما سأله عن السبب في لعنهما قال: لأنهما يقولان (بوحدة واجب الوجود)، فقال له ساخراً: إنها حقاً يستحقان منك اللعن!

و درس أيضاً شيخنا المترجم له - و الظاهر أن ذلك في اصفهان ايضاً - على العالمين الكبيرين: الشيخ محمد بن الحكيم العالم الحاج محمد زمان والشيخ محمد مهدي الهرندي. و هما من اساتذة الفلسفة على ما يظهر.

و لا شك أنه انتقل الى كربلاء والنجف، فدرس على الأعلام الثلاثة: الوحيد البهبهاني الآتي ذكره - و هو آخر اساتذته وأعظمهم، وتخريجه كان على يديه - و الفقيه العالم صاحب الحدائق الشيخ يوسف البحراني المتوفى عام ١١٨٦ ه، والمحقق الجليل الشيخ مهدي الفتوني المتوفى عام ١١٨٣ه

فجملة اساتذته سبعة، سماهم ولده في بعض اجازاته على ما نقل ع_نه ب (الكواكب السبعة). و هم خيرة علماء ذلك العصر، وعلى رأسهم الأقا الوحيد استاذ الاساتذة.

و لما فرغ هذا الشيخ من التحصيل في كربلاء، رجع الى بلاده و استقام في كاشان. و هناك أسس له مركزاً علمياً تشدّ اليه الرحال، بعد أن كانت كاشان مقفرة من العلم والعلماء، و استمرت بعده على ذلك مركزاً من مراكز العلم في ايران، و ليس لدينا ما يشير الى تأريخ انتقاله الى كاشان.

و رجع الى العراق، وتوفي في النجف الأشرف ودفن فيها. والظاهر ان مجيئه هذا - وكان معه ولده - بعد استاذه الوحيد، جاء لزيارة المشاهد المقدسة فتوفي. أما ولده فقد بقي بعده ليدرس العلم على أعلامه يومئذ، كبحر العلوم، وكاشف الغطاء.

عصره

يمضي القرن الثاني عشر للهجرة على العتبات المقدسة في العراق، بل على اكثر المدن الشيعية في ايران التي فيها مراكز الدراسة الدينية العالية - كاصفهان و شیراز و خراسان - و تطغى فيه ظاهرتان غريبتان على السلوك الديني: الأولى: النزعة الصوفية التي جرّت الى مغلاة فرقة الكشفية. والثانية: النزعة الأخبارية.

و هذه الأخيرة خاصة ظهرت فى ذلك القرن قوية مسيطرة على التفكير الدراسي، و تدعو الى نفسها بصراحة لا هوادة فيها، حتى أن الطالب الديني في مدينة كربلاء خاصة أصبح يجاهر بتطرفه و يغالي، فلا يحمل مؤلفات العلماء الأصوليين إلا بمنديل، خشية أن تنجس يده من ملامسة حتى جلدها الجاف. وكربلاء يومئذ اكبر مركز علمي للبلاد

ص: 13

الشيعية.

و في الحقيقة أن هذا القرن يمر و الروح العلمية فاترة الى حد بعيد، حتى أنه بعد الشيخ المجلسي صاحب البحار المتوفى في أول هذا القرن عام 1110 ه ، لم تجد واحداً من الفقهاء الأصوليين من يلمع اسمه و يستحق أن يجعل في الطبقة الأولى، أو تكون له الرئاسة العامة، إلا من ظهر في أواخر القرن، كالشيخ الفتوني الجليل في النجف المتوفى عام ١١٨٣ ه ، ثم الشيخ آقا الوحيد البهبهاني في كربلا المتوفى عام 1208 ه، الذي تم على يديه تحول العلم الى ناحية جديدة من التحقيق.

فیبرز شيخنا المترجم له في عنفوان معركة الاخبارية و الأصولية، وساحتها كربلاء، و في عنفوان معركة الدعوة الى التصوف، و ساحتها اصفهان على الاكثر ، فيكون أحد أبطال هاتين المعركتين، بل أحد القواد الذين رفعوا راية الجهاد بمؤلفاته و تدریسه، و ساعده علی ذلك انه - رحمه الله - كان متفنناً في دراسة العلوم، ولم يقتصر على الفقه و الاصول و مقدماتهما، فقد شارك العلوم الرياضية، كالهندسة والحساب والهيئة، و له مؤلفات فيها سيأتي ذكرها.

شخصية المترجم له واخلاقه

إن أعاظم الناس و نوابغهم لا تأتيهم العظمة والنبوغ عفواً و مصادفة، من دون قوة كامنة في شخصيتهم أو ملكة راسخة في نفوسهم، هي سر عظمتهم وتفوقهم على سائر الناس. و ما كلمة الحظ في هذا الباب إلا تعبير مبهم عن تلك القوة التي أودعها الله تعالى في شخص النابغة. وقد تكون تلك القوة مجهولة حتى لشخص صاحبها الذي يتحلى بها، بل على الاكثر هي كذلك، فيندفع العبقري الى تلك القمة التي خلقت له أو خلق لها بدافع تلك القوة الكامنة اندفاعاً لا شعورياً، وان كانت اعماله الجزئية التي يقوم بها هي شعورية بمحض اختیاره.

و تلاحظ قوة شخصية شيخنا المترجم له في صبره وقوة إرادته وتفانيه في طلب العلم، ثم عزة نفسه، و ان كانت هذه الفاظاً عامة قد يعبر بها عن كثير من الناس، و يصح التعبير بها بلا كذب ولا خداع، إلا أن الدرجة الخاصة من الصبر و الارادة و الحب و العزة و نحوها التي بها يمتاز الشخص النابغ تضيق اللغة عن التعبير عنها بخصوصها إلا بهذه الالفاظ العامة الدارجة وتظهر الدرجة الخاصة التي يختص بها صاحبنا من هذه الامور في ثلاث حوادث منقولة عنه:

(الأولى) - فيما ينقل انه كان في ايام التحصيل في غاية الفقر والفاقة - و الفقر دائماً شيمة

ص: 14

العلماء، بل هو من أول شروط النبوغ في العلم، و هو الذي يصقل النفس فيظهر جوهرها الحقيق - فكان صاحبنا قد تشتد به الفاقة فيعجز عن تدبير ثمن السراج الذي لا يتجاوز في عصره عن ان يكون من زيت أو شمع، فيدعوه حرصه على العلم الى الدخول في بيوت مراحيض المدرسة، ليطالع على سراجها، ولكنه تأبى عزته أن يدع غيره يشعر بما هو فيه، فيوهم الداخلين - بالتنحنح - انه جالس للحاجة الخاصة. و تتجلى في هذه الحادثة الصغيرة عزة نفسه وقوة إرادته وصبره على طلب العلم بدرجة غير اعتيادية إلا للنوابغ الافذاذ .

(الحادثة الثانية) - ان أحد الكسبة الذي كان حانوته في طريق المدرسة بكاشان التي كان يسكنها هذا الطالب النراقي، ان هذا الكاسب المؤمن لاحظ على هذا الطالب انه رث الثياب وكان معحباً به، اذ كان يشتري منه بعض الحاجيات كسائر الطلاب، فرأى ان یکسیه تقرباً إلى الله، فهياً له ملبوساً يليق بشأنه، و قدمه له عندما اجتاز عليه، فقبله بالحاح. و لكن هذا الطالب الأبي في اليوم الثاني رجع الى رفيقه الكاسب وارجع له هذا الملبوس قائلاً: اني لما لبسته لا حظت على نفسي ضعة لا اطيقها، لاسيما حينما اجتاز عليك فلم اجد نفسي تتحمل هذا الشعور المؤلم، و ألقاه عليه و مضى معتزاً بكرامته.

(الحادثة الثالثة) - فيما ينقل عنه أيضاً - و هي أهم من الأولى والثانية - انه كان لا يفض الكتب الواردة اليه، بل يطرحها تحت فراشه مختومة، لئلا يقرأ فيها ما يشغل باله عن طلب العلم. والصبر على هذا الامر يتطلب قوة ارادة عظيمة ليست اعتيادية لسائر البشر . و يتفق ان يقتل والده (ابوذر ) المقيم في نراق وطنه الاصلي، و هو يومئذ في اصفهان، يحضر على استاذه الجليل المولى اسماعيل الخاجوئى، فكتبوا اليه من هناك بالنبأ ليحضر الى نراق، لتصفية التركة و قسمة المواريث و شؤون اخرى، و لكنه على عادته لم يفض هذا الكتاب، و لم يعلم بكل ما جرى. و لما طالت المدة على من في نراق، كتبوا له مرة اخرى، و لكن لم يجبهم ايضاً. و لما يئسوا منه كتبوا بالواقعة الى استاذه المذكور ليخبره بالنبأ و يحمله على المجيء. و الاستاذ في دوره - على عادة الناس - خشي أن يفاجئه بالنبأ، و عندما حضر مجلس درسه أظهر له - تمهيداً لاخباره - الحزن والكآبة، ثم ذكر له: ان والده مجروح، و رجح له الذهاب الى بلاده. و لكن هذا الولد الصلب القوى الشكيمة لم تلن قناته، و لم يزد الا أن دعا لوالده بالعافية، طالباً من استاذه أن يعفيه من الذهاب. و عندئذ اضطر الاستاذ الى ان يصرح له بالواقع، ولكن الولد ايضاً لم يعبأ بالامر و اصر على البقاء لتحصيل العلم. إلا ان الاستاذ هذه المرة لم يجد بدأ من أن يفرض عليه السفر، فسافر امتثالا لامره المطاع، و لم يمكث في نراق اكثر من ثلاثة ايام، على بعد الشقة و زيادة المشقة، ثم رجع الى دار هجرته. و هذه الحادثة لها مغزاها العميق في فهم نفسية هذا العالم الألهي، و تدل على استهانته بالمال و جميع

ص: 15

مؤلفاته

لشيخنا المترجم له عدة مؤلفات نافعة، تدل على قابلية في التأليف و صبر على البحث و التتبع، و على علم غزير و نحن نعدّ منها ما وصل بحثنا اليه واكثر اعتمادنا في تعدادها و بعض اوصافها على كتاب (رياض الجنة) المذكور في مصادر هذه الطبعة:

في الفقه:

1- لوامع الأحكام في فقه شريعة الإسلام: و هو كتاب استدلالي مبسوط، و قد خرج منه كتاب الطهارة في مجلدين يقرب من ثلاثين الف بيت.

2- معتمد الشيعة في احكام الشريعة: هو أتم استدلالا و أخصر تعبيراً من كتاب اللوامع السالف الذكر، خرج منه كتاب الطهارة ونبذ من الصلاة والحج والتجارة والقضاء. قال في الروضات عن الكتابين: «ينقل عنهما ولده المحقق في المستندو العوائد كثيراً».

٣- التحفة الرضوية في المسائل الدينية: في الطهارة والصلاة، فارسي، يقرب من عشرة آلاف بیت.

٤- أنيس التجار: في المعاملات، فارسي، يقرب من ثمانية آلاف بيت.

٥- أنيس الحجاج: في مسائل الحج والزيارات، فارسي، يقرب من اربعة آلاف بيت.

6- المناسك المكية: في مسائل الحج أيضاً، يقرب من ألف بيت.

٧- رسالة صلاة الجمعة: ذكرها وما قبلها حفيده (الاستاذ حسن النراقي) في رسالة لنا .

في أصول الفقه

8- تجريد الأصول: مشتمل على جميع مسائل الأصول مع اختصاره، يقرب من ثلاثة آلاف بيت. قال عنه في الروضات: «شرحه ولده في مجلدات غفيرة جمة».

9- أنيس المجتهدين: توجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام العامة بالنجف الاشرف (برقم ٤٠٨- سجل المخطوطات)، تقع في ٤١١ صفحة، بخط محمد حسين بن علي نقي البزاز، فرغ منها بتاريخ ٣ صفر من سنة ١١٨١ه ، و في تقدير رياض الجنة يقرب من عشرة آلاف بيت .

10- جامعة الأصول: يقرب من خمسة آلاف بيت.

11- رسالة في الاجماع: يقرب من ثلاثة آلاف بيت.

في الحكمة و الكلام :

12- جامع الأفكار: في الألهيات (كتاب الحاضر)، يقرب من ثلاثين الف بيت، قد فرغ

ص: 16

من تأليفه سنة 119٣ ه_ ، و عليه فليس هو من اوائل مؤلفاته، كما قال عنه صاحب (رياض الجنة)، وستجد رموزاً للصفحتين الأولى والاخيرة منه بخط المؤلف، منقولتين عن النسخة التي هي بحوزة أحد احفاده (الاستاذ حسن النراقي). و الذي يجلب الانتباه في الصفحة الاخيرة ما ذكره من الحوادث المروعة في الوباء و غيره التي وقعت في تلك الفترة.

١٣- قرة العيون: في احكام الوجود و الماهية ، يقرب من خمسة آلاف بيت.

١٤- اللمعات العرشية: في حكمة الاشراق، يقرب من خمسة و عشرين الف بيت.

١٥- اللمعة : و هو مختصر اللمعات، يقرب من ألفي بيت.

١٦- الكلمات الوجيزة: و هو مختصر اللمعة، يقرب من ثمانية أبيات.

١٧- أنيس الحكماء: في المعقول، و هو من اواخر تأليفاته، لم يتم احتوى على نبذ من الأمور العامة والطبيعيات، يقرب من ٤ آلاف بيت.

١٨- أنيس الموحدين: في أصول الدين، فارسي، يقرب من اربعة آلاف بيت.

19- شرح الشفاء: في الالهيات، النسخة الأصلية بخط المؤلف موجودة عند أحد احفاده (الاستاذ حسن النراقي).

20- الشهاب الثاقب: في الامامة، في رد رسالة الفاضل البخاري، يقرب من خمسة آلاف بیت.

في الرياضيات :

٢١- المستقصى: في علوم الهيئة خرج منه مجلدان الى مبحث اسناد الحركات، يقرب من اربعين ألف بيت، قال عنه في رياض الجنة: «لم يعمل ابسط و ادق منه في علم الهيئة، و لقد طبق فيه اكثر البراهين الهندسية بالدلائل العقلية، لم يتم».

22- المحصل: كتاب مختصر في علم الهيئة، يقرب من خمسة آلاف بيت.

23- توضيح الأشكال: في شرح تحرير اقليدس الصوري في الهندسة، و قد شرحه الى المقالة السابعة، فارسي، يقرب من ستة عشر ألف بيت.

٢٤- شرح تحرير اكرثاذوسنيوس: يقرب من ثلاثة آلاف بيت.

٢٥- رسالة في علم عقود الانامل: فارسية، تقرب من الف بيت.

٢٦- رسالة في الحساب: ذكرها في روضات الجنات.

في الاخلاق و المواعظ :

27- جامع السعادات: المطبوع بثلاثة أجزاء - حسب تقسيمنا له - قال عنه في رياض الجنة: «يقرب من خمسة وعشرين الف بيت». و قد طبع في ايران على الحجر سنة ١٣١٢ه بجزئين، و الطبعة الثالثة له على الحروف بالنجف الاشرف.

ص: 17

28- جامع المواعظ: في الوعظ، يقرب من اربعين الف بيت لم يتم.

في المتفرقات

29- محرق القلوب: في مصائب آل البيت، فارسي، يقرب من ثمانية عشر الف بيت، قال عنه في روضات الجنات: «طريف الاسلوب».

30- مشكلات العلوم: في المسائل المشكلة من علوم شتى، مطبوع على الحجر بايران، يشبه بعض الشيء كشكول البهائي. وقد نسج على منواله ولده المحقق في كتابه (الخزائن) المطبوع على الحجر بايران.

31- رسالة نخبة البيان: ذكرها حفيده (الاستاذ حسن النراقي).

32- معراج السماء: ذكره أيضاً حفيده المذكور(1)

***

لم يقم المولى محمد النراقي مطلقاً خلال عمره المبارك بكتابة دورة مطولة في الحكمة، فكتابته لثلاث رسائل هي «اللمعات العرشية»، «الكلمات الوجيزة» و «اللمعة الاهية» قد انطوت شيئاً ما على موضوعات فى الفلسفة الاسلامية، إلا ان وجازة هذه الرسائل بلغت حداً لا يمكن اعتبارها مظهراً كاملاً لأبحاثه. انيس الحكماء ايضاً بالرغم من موسوعيته، لم يتناول سوى قسم من الامور العامة و الطبيعيات و بوفاته ظل هذا القسم ناقصاً الى الابد. كما ان شرحه لألهيات الشفاء لم يكتمل هو الآخر، علماً انه تصدى في هذا الشرح لحل الغامض من معاني النص اكثر مما تصدى لكتابة الحكمة في «قرة العيون» ايضا تناول موضوعاً معيناً يعد واحداً من اهم الابحاث الفلسفية، في هذا الخضم يعد «جامع الافكار و ناقد الانظار» الأثر الوحيد للنراقي من حيث كماله و لكونه غاية في الاطناب و بعيداً عن الايجاز، فهو و ان كان قد تناول موضوعاً معيناً من وجهة نظر خاصة الا انه من حيث اسلوب الكتابة - كما اتضح سابقاً - يعد فريداً من نوعه من بين آثار النراقي.

لقد ألف النراقي جامع الافكار عام 1193 هجري اي في الفترة التي بلغ فيها مستواه العلمي وقدرته على الكتابة الذورة. من هنا فقد وقع اختياره في هذه الدراسة العملاقة على ارفع اقسام الحكمة أي الالهيات بالمعنى الاخص، آخذاً بنظر الاعتبار آثار السلف (كالفارابي ابن سيناء، و بهمنیار، و شيخ الاشراق، و الخواجه نصير، و الفاضل

ص: 18


1- نقلنا المعلومات اعلاه من مقدمة كتاب جامع السعادات بقلم الاستاذ محمدرضا المظفر.

القوشجي و الخفري، و الدواني، و الدشتكي، و التفتازاني، و النسفي، و ميرداماد، و صدرالمتألهين و...) و هو يقوم باعداد هذا الأثر. لذا يمكن القول ان كتاب جامع الافكار هو افضل ما يعرُّف الوجه الفلسفي للحكيم النراقي. فهو يبدأ بتقديم تمهيد أولي لأثبات اصل وجود الواجب ثم يدخل بعد ذلك في بحث الاسماء والصفات الالهية. من جانب آخر فان اجراء قياس بين بعض ابحاث هذا الكتاب كبحث القدرة و الارادة مع ما جاء في اوسع الدراسات الكلامية و الفلسفية للحضارة الاسلامية (كالشفاء و الاسفار، والمطالب العالية، و شرح المقاصد و شرح المواقف و ...) يسلط الضوء على الموقع المتميز لهذا الكتاب من بين الآثار المذكورة.

و توجد باستثناء مخطوطة المؤلف الاصلية لهذا الكتاب والموجودة فى المكتبة الشخصية لأحد احفاده، ثلاث نسخ اخرى حيث تمت الاستفادة من التخستين أوب لأعداد النص الحالي و النسخ هي:

أ- نسخة المكتبة المركزية و مركز وثائق جامعة طهران، مجموعة مشكاة المهداة، برقم ٢٦٦ اذ قام محمد بن طالب طاهر آبادي و هو من تلامذة المؤلف باستنساخ النسخة الاصلية تحت اشراف المؤلف، وكان قد انتهى من كتابتها في 17 محرم الحرام عام ١١٩٤ هجري، في ٢٤٧ ورقة (٤٩٤ صفحة) في كل صفحة 29 سطراً، واشرنا الى هذه النسخة بالحرف (د) نظراً لمكان ايداعها وحفظها، كما اشرنا اليها في النص بعلامة D.

ب - نسخة مكتبة مجلس الشورى الاسلامي برقم ٤٤٨٩ و ناسخها هو محمد شفيع بن فضل الله، و يعود تاريخ استنساخها الى ٢ / ربيع الثاني / ١٢١١ هجري في ٢٤٤ ورقة (٤٨٨ صفحة) و قد بلغ عدد سطور كل صفحة ٢٥ الى ٢٧ سطراً، وتمت الاشارة الى هذه النسخة بالحرف «م» و في النص بعلامة M .

ج - النسخة المودعة في مكتبة دار الآثار الوطنية بمدينة كاشان. أما فيما يتعلق بالحصول على مصادر النص والاشارة اليها فقد ألمحنا الى ذلك فيما يختص بالمائة صفحة الاولى من الكتاب، الا انه لم نستمر على هذا المنوال في الصفحات الاخرى و ذلك لان النراقي اعتمد على حواشي و تعليقات القوشجي على التجريد و بعض مصادر الدرجة الثانية (كاثار الدواني والدشتكي) و التى تعداهم مصادر النراقي و لم يتم عرضها لحد الان، تجنبنا هذه الطريقة.

في الختام نثمن جهود الفاضل الموقر السيد حامد ناجي الاصفهاني الذي قام بتعريف هذا النص المصحح.

ص: 19

ص: 20

« به جای » مقدمه

اشارة

« به جای مقدمه » ، عنوانی است که راقم این سطور بر پیشانی نوشتۀ کم برگ و کم باری که هم اکنون فراروی خوانندۀ ارجمند باز است ، نهاده است . بدون تردید ، این نوشته ، شایستگی نشستن بر اوراق پیشین کتاب حاضر را ندارد ؛ و از همین رو ، مصحح خود را شرمسار خوانندۀ فاضلی می داند که آنچه شایسته هدیت به پیشگاه اوست را، بر این برگهای پریشان نخواهد یافت . تسلی خاطر خود را ، اما ، به ذکر این نکته می پردازم که من بنده ، در جریان تصحیح این اثر و به سائقه ارادتی سابقه مند که به زادۀ برومند نراق داشت، سخنی چند جسته جسته پیرامن موضوعاتی که می توانست مقدّمۀ این دفتر باشد ، فراهم آورده فراهم آورده بود ؛ امّا تقدیر الهی را چنان یافت که به رأی ناشر حکمت اندیش این اثر ، آنچه را که در مدت یک دوساله ای و در لابلای دیگر کارهایش بعنوان درونمایه این مقدمه فرادست نهاده بود، از دست بگذارد و به سوئی نهد تا - اگر موافق تدبير من فتد تقدیر - زمانی دیگر باز در این مجموعه بنگرد و آن مسودات را باز کاود و بیاری موفق على الاطلاق وكارساز بنده نواز «نراقی نامه؛ نگاهی به زیست نامه ، آثار و آراء حکیم نراق » را پیشکش دانشیان این ملک دانش پرور کند از مسائل مربوط به چاپ و نشر -که هر اندازه صاحب این قلم از آن بی اطلاع است ، ناشر کاردان بدان خستو است که درگذریم ، حجت متولی طبع این کتاب ، کلان بودن حجم آن و قطور شدن

ص: 21

ناصوابانه هر مجلد است. زان پس، همزمانی نشر این اثر با برگزاری کنگره بزرگداشت نراقیان - بعون الله و توفیقه _ نیز ، دیگر سخنی است که می توان با عنایت به آن و با در نظر گرفتن این که آن کنگره در مجلد - یا مجلداتی - به معرفی سلف و خلف نامور و دیگر ناموران آن خاندان مکرّم خواهد پرداخت ، نشر آن دفتر در سرآغاز این اثر را چندان ضرور ندانست. با اینهمه اما بخشهائی از " نراقی نامه " که یکسر به "جامع الأفكار" مربوط است ، اوراقی است که راقم حاضر به عرضۀ آن در همین پیشنوشت اصرار داشت و تنها به صلاحدید ناشر، آن بخش را نیز از این مقدمه حذف کرد تا آنچه بعنوان " مقدّمۀ جامع الأفكار " عرضه می دارد ، تنها بر چهرۀ سپید پنج برگ بنشیند و از این حجم فراتر نرود . و چنین شد که " به جای مقدمه" به جای "مقدمه" نشست و این اعتذار نامه را فراهم ساخت. بهر روی فهرستوارۀ آنچه این بنده دربایست مقدّمۀ این اثر و نه به عنوان تک نگاری مستقلی درباره نراقی - می دانست و در تنظیم آن کوشیده بود ، چنین است :

1 - بخردی بزرگ ، برخاسته از دیهی کوچک

(نگاهی کوتاه به زیست نامه حکیم نراق )

الف : زندگی نامه ؛

ب : تحصیلات واساتید ؛

ج : آثار ؛

د: آراء و اندیشه ها ؛

2 - بستر آفرینش "جامع الافكار"

الف : " تجريد الإعتقاد / العقائد / الكلام" ، دبستان فاخر اندیشگی کلام امامیه ؛

ب : معرّفی گذرای مامنامه تجرید و مجموعه گزارشها و پی نوشتهای آن ؛

ج : مجمع البحار كلام عقلى إلهى : " جامع الأفكار وناقد الأنظار" ؛

ص: 22

3- برکناره آوردگاه اندیشه ها

الف : حوزه زمانی پیدایش "جامع الأفكار" و ویژگیهای آن ؛

ب : انتساب آن به نراقی ؛

ج : درونمایه و سبک نگارش آن ؛

د: آثاری که نراقی در خلق این نقاوة السلف كلام إلهى بدون واسطه به آنها مراجعه کرده است ؛

ش: دستنوشتها و روش تصحیح ؛

اما - آنچنان که گذشت - ، از این مجموعه، خوانندۀ عزیز اکنون تنها دو زیر عنوان «ج» و «ش» از این آخرین بخش - یعنی «درونمایه و سبک نگارش جامع الأفكار» و «دستنوشتها و روش تصحیح » - را آنهم در صورت «کوتاه شده » _ و در نخستین مورد «سخت کوتاه شده» اش را در مقابل خود خواهد داشت ؛ و تلخکامی راقم این سطور را که نتوانست آنچه را وظیفه خود می دانست ، به انجام رساند ، و العذر عند كرام الناس مقبولٌ .

***

درونمایه و سبک نگارش «جامع الأفكار و ناقد الأنظار »

در این جستار کوتاه ، راقم سر آن دارد تا به اختصارِ هرچه تمامتر از درونمایه و سبک نگارش این کتاب سخن باز گوید. می دانیم که حکیم نراق در سراسر عمر پربار خود، هیچگاه به تدوین یکدوره مبسوط حکمت نپرداخت . هر چند سه رسالهٔ « اللمعات العرشية » و « الكلمات الوجيزة» و «اللمعة الإلهيه» ی او تاحدودی تمامی مباحث فلسفه اسلامی را در بردارد، اما اختصار این هر سه کتاب چنان است که نمی توان آن سه را نمایانگر کامل مباحث خود دانست . « أنيس الحكماء » هم ، هرچند در نظر مؤلف از طرحواره ای فراگیر برخوردار بوده است ، اما او تنها به تدوین بخشی از امور عامه و طبیعیات آن پرداخت و با درگذشت آن بزرگمرد ، کتاب برای همیشه ناتمام ماند . «گزارش او بر إلهيات شفا » نيز ، هم ناتمام است و هم بیشتر درخور

ص: 23

گشودن گره های معنائی متن تا تدوین حكمت . « قرّة العيون » نیز ، تک نگاری فشرده ای است از یکی از مهمترین مباحث فلسفه در این میان، تنها اثر نراقی که هم کامل است و هم در نهایت بسط و بدور از ایجاز فراهم آمده ، « جامع الأفكار و ناقد الأنظار » اوست که هر چند تک نگاری است، اما از نظر سبک تدوین - آنچنان که گذشت _ در میانه آثار نراقی فرد است و بی بدیل . نراقی جامع الأفكار را بسال ١١٩٣ ه_ ق یعنی آنگاه که در اوج اقتدار علمی و توان نویسندگی بود آفرید . هم از اینروست که در این تحقیق عظیم عالی ترین بخش حکمت إلهي - يعنى إلهيات بمعنى الأخص را برگزید تا به تفصیل پیرامُن چونیِ آموزه های آن بیندیشد و آنچه پیش از او فراهم آمده را باز کاود و سره از ناسره باز شناسد و مجمع البحار این بخش از حكمت إلهى را سامان دهد . او - آنچنان که خود در پیش نوشت کتاب می آورد - دستمایه های خود در تدوین این اثر را از مجموعۀ پی نوشتها و نگرش ها و بازنگرش هائی که بوسیلهٔ پیشینیان و پسینیان برگزارش کرامند قوشچی بر متن تجرید رفته است ، دست یاب کرد. این دستمایه ها اما ، بسی فراتر از این مجموعه است ؛ از همین مجموعه _ همچون حواشی خفری و نگرشها و بازنگرش های دوانی و دشتکی و ... - که بگذریم گنجینه هائی سترگ از میراث مکتوب حکمت پژوهان پیشین - همچون آثار فارابی و شیخ و بهمنیار و شیخ اشراق و خواجه طوس و میرداماد و صدر المتألهين و... - و آثار گرانسنگ کلام پژوهان - همچون دو گزارش مواقف و مقاصد و گزارش دوانی بر عقائد نسفی - ، سلسله آثاری است که در بازشناسی مصادر حکیم نراق ، نمی توان آنها را نادیده انگاشت. از اینروست که اثر حاضر ، بهترین _ و یا تنها ؟ - معرّف چهره حِکمی حکیم نراق است . و اگر همچون او کسی ، چنین کاوشی در سراسر مباحث این علم می نمود و اینچنین به تفصیل به تدوین آن می پرداخت ، می توانیم گفت که بدون تردید آن اثر در جغرافیای اندیشه و اثرپردازی حکمت و حکمت پژوهی سخت جایگاه مییافت و بر صدر می نشست و قدر می دید ؛ و دریغ که چنین نشد .

ص: 24

باری؛ نراقی در این مسأله، نخست با تمهید مقدماتی به اثبات أصل وجود واجب می پردازد و زان پس آنچه بر او سزاست و آنچه بر او روا نیست را در دو باب به تفصیل به بحث می کشد . تذکار دو مطلب در اینجا خالی از فایدتی نیست :

الف: هرچند نحوه ورود او به پاره ای از این مباحث، یادآور برخی از آثار پیشینیان است - همچون بخش مقدّمات اثبات واجب که یکسر خواننده را به یاد آنچه از قلم فخر رازی بر صفحات « المطالب العالية » نشسته است می اندازد ، اما تفصیل و کنکاش این اثر سخنی است که بهیچ وجه سابقه ای در میانۀ آثار متقدمان ندارد . مقایسه بخشهائی از این کتاب - همچون مبحث قدرت واجب و اراده او - با آنچه در دراز آهنگ ترین مجموعه های فلسفی و کلامی حوزه تمدن اسلامی - همچون «الشفا » و « الحكمة المتعالية » و « المطالب العالية » و « شرح المقاصد » و « شرح المواقف » و ... - آمده است، نشان از بی نظیری این کتاب در میان تمامی آثاری که به ارائه عمومی رسیده است، دارد . من بنده ، گرچه به قلت دانسته های خود در این موضوع سخت اگاه است و معترف ، اما بجرأت این اثر را در حیطه بسط در تحقیق و بازکاوی آنچه پیرامن مباحث نخست این کتاب تدوین شده است ، بی نظیر می شمارد؛ هم از اینروست که زین پیش شناسائی چهره حکمی این حکیم را به جستجو و بازرسی این كتاب موقوف دانست .

ب: هر چند تفصیل و تحقیق پردامنه ، عنوانی است که در کتاب حاضر سیری نزولی دارد و از مباحث نیمه نخست کتاب به سوی دیگر بشدت کاست و فرود دارد ، اما می توان باور داشت که نه آن تفصیل زائیده حوصله قلم اوست و نه آن اختصار _ در انجامین بخش کتاب - فراهم آمده از بی حوصلگی قلم او . چه - آنگونه که او خود جای جای بدان اشارت می کند - پیش زمینه های لازم برای تحقیق در مباحث نیمه دوّم کتاب - و بویژه مباحث انجامین آن در نیمه نخست ، بتفصیل گذشته و با احاطه بر آنچه پیش از هر مبحث ذکر شده است ، می توان به بررسی کامل در آن مبحث دست یازید .

ص: 25

از این گذشته ، آنچه نگارنده در مقام انکار آن نیست ، چشم پوشی مؤلّف در مباحث پایانی کتاب از نقل اندیشه ها و نگرش در آنهاست، و از این سویه آنچه در دو نیمۀ دوّم و اوّل کتاب آمده است، با هم سازگار نمی نماید . این نکته را نیز می توان معلول عواملی چند دانست که در بستر تاریخی آفرینش این اثر ، بر آن تأثیر گذارده اند. نا امنی پدید آمده از فوت سلطان عصر ، بیماری عمومی ، هجرت از وطن مألوف ، دوری از احبّه و اولاد ، و ... - که مصنّف خود در خاتمه به تلخی از آن یاد میکند- ، مجموعه عواملی است که بدون تردید در این سیر به سوی اختصار مؤثر بوده اند و کارگر.

دیدگاههای نراقی نیز - که در لابلای اوراق این کتاب نموده شده است - ، سخت شایسته بررسی و بازکاوی است، و اگر صاحب همتی رسالتی در باب " فضای ذهنی و آموزه های اساسی حکمت در اندیشه حكيم نراق (1)" فراهم آورد حکیم در شناخت او هم مفید است و هم کارگشا .

در یکی دو محور عمده میتوان چنین گفت که چهره نراقی از چهره حکیمی که در سلک حکیمان نحله حکمت متعالیه و صدرائیان منخرط است ، سخت فاصله دارد . او بمبانی حکمت مشاء و حتى حكمت يماني حضرت میر ، دلبستگی بیشتری دارد تا بنای رفیع حکمت متعالیه و دست آورد عظيم المنزلة صدر فلاسفة الهی. ایران پای بندی او به آموزه هائی همچون مبانی حدوث دهری - که در میانه آموزه هائی اثر حاضر ، رساله ای مبسوط در تأیید و تسجیل آن پرداخت _ و نحوه یادکرد او از بزرگانی همچون شیخ الرئیس و میرداماد با عناوینی فاخر از سوئی و صدرالمتألهین گاه با عنوان «بعض الفضلاء » و گاه با عنوان «العارف الشیرازی » و ... از سوئی دیگر، و اینکه در تمامی این کتاب حتی یک بار نامی از آثار این فرزانه عظیم الهی

ص: 26


1- عنوان مقالتی است از " نراقی نامه " که زین پیش بدان اشارتی داشتم. اگر روزی توفیق رفیق شد و ارادۀ حضرت حق - جل و علا - بر طبع آن قرار گرفت، آنچه در این زمینه دست یاب کرده ام را به محضر اعلای حکمت پژوهان این دیار تقدیم خواهم نمود.

نرفته است(1) سخت درخورند توجه است. نقدهای لطیف او بر پاره ای از آراء عارفانهای که به آموزه های حکمت صدرائی راه یافته است - همچون مبانی وحدت وجود - نیز خواندنی است و کاویدنی. این نقدها - و بل کنایه ها _ چنان است که یادآور دیدگاه عالمانی است که فلسفه را یکسر استدلالی و پیراسته از لطائف ذوقی و عرفانی میخواستند ؛ و هم از این روست که نراقی در مقابل این آموزه ها به گونه ای که بوئی از استهزاء علمی هم از آن به مشام می رسد، عقل خود و امثال خود را قاصر از ، درک آن می نمایاند و به سرعت از آن می گذرد، آنچنان که گوئی بررسی این آراء را از حوزه حکمت و حکمت پژوهی خارج می شمارد. برخورد او با تمامی آنچه از دستگاهِ إلهيّات ویژه خانقاهیان نقل می کند ، یکسره اینچنین است.

بررسی دیدگاه های او در این کتاب را ، مجالی واسع درخور است تا به تفصیل چهره حکیم نراق از لابلای آن رخ نماید؛ و این نعمتی است که این بنده در این مقدمۀ خُرد از آن سخت محروم است -لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً _ .

***

دست نوشت ها و روش تصحیح

از این کتاب - که به تعبیر رسای حضرت شیخ آقا بزرگ تهرانی : « لم يوجد له نظير في الباب » (2) _ نمی توان دست نوشتهای متعددی دست یاب کرد . جز از آنکه از عمر این کتاب کمتر از دویست و سی سال می گذرد - و از همین رو نمی توان آن را در شمار آثار کهن برشمرد - ، از سوئی اختفای چهره حکمی حکیم نراق - که حکیمی فقیه بود ، نه چون پور نامدارش که فقیهی حکیم بود - و ناشناس ماندن این چهره از او که تألیف کتاب در یکی از قرای تابع کاشان در عصر نا أمنى و

ص: 27


1- می توان این امر را زائیده آن دانست که هنوز سلسله حکیم بیدآبادی و شاگرد توانمندش مولی علی نوری - که فلسفه صدرائی را بر جایگاه سزایش نشاند - ظهور نکرده بود و در فضای عمومی آن عصر و به نزد همۀ حکیمان آن روزگار، صدرا چنین منزلتی داشته است. اما آیا نراقی خود به مطالعه و کنکاش در آثار صد را نپرداخته بود؟ و آیا خود به منزلت او در حوزه فرهنگ فلسفی و سنت فلسفه الهی آشنا نبود ؟ .
2- بنگرید : الذريعة ٥ ص ٤١.

مصائب هم بر آن افزود - ، و از سوئی دیگر کلان بودن حجم اثر ، باعث آن شد تا دستنوشتهای متعددی از این اثر صورت نبندد.

این بنده ، بجز از دست نوشت اصل مصنف - که در کتابخانه شخصی یکی از اخلاف او نگهداری می شود (1) _ از وجود سه دستنوشت دیگر این کتاب سراغ گرفته است (2) :

الف : نسخه محفوظ در کتابخانه مرکزی دانشگاه تهران .

ب : نسخه محفوظ در کتابخانه مجلس شورای اسلامی .

ج: نسخه محفوظ در کتابخانه انجمن آثار ملی کاشان .

در تصحیح حاضر ، مصحح تصویر دو دستنوشت نخستین را به عنوان نسخه اصلی و نسخه کمکی بدست داشته است و در تنظیم متن ، از آن دو سود جسته است . تفصیل معرفی این دو نسخه بشرح زیر است :

الف : نسخه کتابخانه مرکزی و مرکز اسناد دانشگاه تهران ، مجموعه اهدائی مشكاة ؛ با شماره ( ٢٦٦ ) (3).

این دستنوشت ، نسخه ای است نفیس و ارزشمند که بوسيلۀ « محمد بن طالب طاهر آبادی» که در شمار شاگردان مؤلّف بوده است _ « با نظر مؤلّف و از روی

ص: 28


1- گوئی پس از درگذشت مالک فاضل این کتابخانه ، مجموعه دست نوشتهای حکیم نراق - بهمراه دیگر آثار موجود در این کتابخانه بفروش رسیده است. هرچند راقم این سطور تنها ناقل سخنی است که شنیده است و از خطا و صواب آن بی اطلاع است، اما اگر چنین باشد باید افزود که هم اکنون از سرنوشت دستنوشت مصنف بی خبریم.
2- بنگرید : « فهرست تفصیلی مصنفات محقق نراقی و راهنمای نسخه های خطی آنها » ، در مقدّمة شرح إلهيات شفا از همو ص ٣٤ . بیفزایم که آنگونه که از نمایه های پاره ای از کتابخانه ها و مجموعه ها - همچون نمایه کتابخانه آستان قدس رضوی ، کتابخانه مرحوم آیت الله العظمی مرعشی نجفی ، کتابخانه مرحوم آیت الله العظمی گلپایگانی، کتابخانۀ مجلس شورای اسلامی ، کتابخانه مرکزی دانشگاه تهران، کتابخانه دانشکده ادبیات و علوم انسانی دانشگاه تهران ، کتابخانه های مدارس سلیمان خان و میرزا جعفر و نوّاب مشهد، آخوند غرب همدان، خاتم الأنبياء بابل ، نمازی خوى ، کتابخانه فرهنگ مشهد ، جمعیت نشر فرهنگ رشت و مجموعه نخجوانی تبریز - ظاهر است ، تا کنون دستنوشت دیگری از این کتاب شناسائی نشده است .
3- بنگرید : فهرست کتب اهدائی مشکاة به دانشگاه تهران ج 3 ص 219 .

نسخه اصل مصنف ، استنساخ گردیده » (1) است .

از آنجا که هیچ واسطه ای میان این دستنوشت و نسخه اصل کتاب نبوده است و استنساخ آن تنها یازده ماه پس از اتمام کتاب - و آنگونه که گذشت زیر نظر مؤلف - صورت پذیرفته است، مصحح، این نسخه را بعنوان نسخه اصل بدست داشته است .

مشخصات نسخه :

رونویسگر: محمّد بن طالب طاهرآبادی .

تاریخ اتمام کتابت : 17 محرم الحرام سال ١١٩٤ ه_ . ق .

خط: نستعلیق ساده تحریری .

تعداد صفحات : ٢٤٧ برگ / ٤٩٤ صفحه .

تعداد سطور در هر صفحه: 29 سطر .

بلاغ : ندارد .

این نسخه را ، با عنایت به محل نگاهداری آن « د » خوانده ام و در علائم صفحه گردانِ مندرج در متن با علامت /...D/ نشان داده ام . کلمه اصل در پانویس پاره ای از صفحات - در این باره، پس از این توضیحی خواهم داشت - نیز اشاره به همین دستنوشت است .

ب : نسخۀ کتابخانه مجلس شورای اسلامی ؛ با شماره ٤٤٨٩(2).

رونویسگر: محمد شفيع بن فضل الله .

تاریخ اتمام کتابت : 2 ربیع الثاني 1211 ه_. ق .

خط : مختلف ، در بیشتر مواضع نستعلیق شکسته .

تعداد صفحات : ٢٤٤ برگ / ٤٨٨ صفحه .

تعداد سطور در هر صفحه: مختلف، از 25 تا 27 سطر .

ص: 29


1- بنگرید : فهرست تفصیلی مصنفات نراقی و راهنمای نسخه های خطی آنها ص 37 .
2- بنگرید : فهرست کتابخانه مجلس شورای اسلامی ، ج 12 ص ١٦٦

بلاغ : ندارد

این نسخه را نیز با عنایت به محل نگاهداری آن «م» خوانده ام و در علائم صفحه گردان مندرج در متن با علامت /...M/ نشان داده ام.

راقم این سطور در جریان تصحیح متن ، نخست به ضبط تمامی دیگرسانیهای دو دستنوشت در پاورقی اوراق پرداخت ؛ اما چون دریافت که این دیگرسانیها بحاصل آمده از ضبطهای ناصواب رونویسگر نسخه «م» است _ و از این رو نمودن این اختلافات تنها و تنها صورت نسخه «م» را در پاورقی صفحات به نمایش در می آورد ، که هیچ فایدتی بر آن متصوّر نبود (1) _ ، از ضبط آن بدلها دست کشید و تنها در مواضعی که ضبط نسخۀ «م» را راجح می شمرد و در قرائت مختار خود می نهاد ، ضبط نسخه «د» را در پاورقی با علامت «الأصل: ...» نشان داد . بيفزايم که این بنده ، به دو سبب این روش را در جریان ارائه حاضر ، «روش مناسب تصحيح » تشخیص داد:

الف : نخست ، وجود دستنوشت اصیل «د» که جز در مواردی اندک - که در پای صفحات نموده شده است - نسخه ای است صحیح و ضبطهای آن یکسره پیراسته است و درست ؛ و

ب : دو دیگر، عنایت به دیر پای نبودن متن. از این رو اختلافات نسخ را به اختلاف در حوزه های زبانی / فرهنگی - که در پاره ای از نسخ کهن به چشم می آید - نمی توان حمل نمود.

در جریان باز نمودن مصادر متن نیز، این بنده، نخست به نمودن پاره ای از مآخذی که مواد مندرج در متن را در آن می توان دست یاب کرد ، پرداخت و این روش را در یکصد صفحه نخست کتاب بکار برد ؛ اما از آنجا که عمده ترین مآخذ

ص: 30


1- پرواضح است که در پاره ای از دستنوشت ها - همچون دو دستنوشتی که اعظم عارفان اسلام از اثر سترگ خویش « الفتوحات المكية » - پرداخت نمودن جزئیات اختلافات _ حتی در جزئی ترین صور - نشان دادنی است و یادکردنی ؛ امّا به باور این بنده ، «روش مناسب برای تصحيح » متن حاضر ، چنین ضبطهائی را بر نمی تابد .

نراقی، یعنی زنجیرۀ پی نوشتهای گزارش قوشچی بر تجرید طوسی - که سخت ناظر بر یکدیگرند - و پاره ای از دیگر مآخذ درجه دوّم او __ همچون نگاشته های متناظر دوانی و دشتکی - تاکنون ارائه نشده اند، از این روش دست کشید و به نمودن مآخذ اقوالی که مؤلّف به نام آن مآخذ اشارت کرده است ، بسنده نمود. پرواضح است که سخنانی که به " بعض المشاهير " یا " بعض الفضلاء " يا " بعض ... " منسوب شده _ و در این متن بیش از دویست مرتبه بکار رفته است _ را ، تنها در صورتی میتوان مأخذ یابی کرد که دست کم این سلسله از گزارشها و پی نوشتهای تجرید به طبع رسیده باشد.

****

و در پایان این مقدّمۀ خُرد ، سخنی نمی ماند جز ستایش پروردگار توانا که ره نمود و دست گیری کرد و توفیق آغاز داد و خود به پایان برد ؛ فله الحمد ، ثمّ له الحمد ، ثمّ له الحمد .

سپاسداشت از دوست فاضلم آقای حامد ناجی اصفهانی که این متن را به مصحح معرفی کرد و مسؤولان حکمت اندیش «انتشارات حکمت » که در طبع این اثر کوشیدند نیز ، بر این بنده فرض است ؛ وفقهم الله لما يحب ويرضى.

و سخن آخر هدیّت این تصحیح ناچیز است به پیشگاه مادر وارسته ام ، که در تربیت این فرزند خُرد سخت رنج برده است ، و هنوز هم ؛ أمد الله في ظلالها و جعلني عن كل مكروه فداها .

سلام بر پیامبر ما و خاندان پاکیزه اش .

مجید هادیزاده

1380/7/20 - 1422/8/25

ص: 31

ص: 32

اشارة

 بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين

الحمد لله الّذي دلّ على ذاته بذاته وتجلّى لخلقه ببدائع مصنوعاته ، أظهر من عجائب قدرته ما حيّر ثواقب العقول والأفهام وابرز من غرائب عظمته ما بهّر نوافذ المدارك والأوهام ، خرق علمه باطن غيب السترات وأحاط بغموض عقائد السريرات. والصّلاة على مهابط المعارف والأسرار ووسائط الفيوضات والأنوار من الأنبياء المكرّمين الأخيار وخلفائهم الراشدين الأطهار.

وبعد ؛ فيقول أضعف المحتاجين مهديّ بن أبي ذر النراقي - نوّر اللّه قلبه بنور اليقين وجعله من السابقين المقرّبين - هذا - يا اخواني! - ما أردتم من أصول المعارف الحقيقيّة وجوامع العقائد اليقينيّة من العلم باللّه وصفات كماله ومعرفة أسمائه ونعوت جلاله ، وما يتلوهما من المباحث الإلهية العالية والمطالب الحقّة المتعالية ممّا يرتقى به إلى منازل الاخيار ويعرج به إلى عوالم العقول والأنوار ، ويتوجّه به إلى شطر كعبة الملكوت ويسلك به إلى صقع عالم الجبروت. وقد بعث اللّه السفراء لأجله وانعقد اجماع الأمّة على وجوب أخذه ، فيلزم على الكلّ حمله ولا يسع لأحد جهله. وأسأل اللّه أن يجعله خالصا لوجهه ويحرسه عن غير أهله. ولاشتماله على جميع الأفكار الالهية ونقدها - سيّما مع ما تعلّق « بالشرح الجديد للتجريد » من الحواشى - سمّيته ب- : « جامع الأفكار وناقد الأنظار » ؛ ورتّبته على مقدّمة ومقالات.

ص: 1

ص: 2

[ مقدّمات الكتاب ]

اشارة

[ مقدّمات الكتاب (1) ]

ص: 3


1- عقد المصنّف - رحمه اللّه - هذه المقدّمة لكى يبحث عمّا يجب البحث عنه مقدمة لاثبات الواجب - جلّ وعلا - الّذي هو العمدة في كتابنا هذا. والمقدّمة تشتمل على هذه الابحاث : - في ابطال ترجّح المساوى والمرجوح وترجيحهما ؛ 2 - في انّ طرفى المعلول ما لم يجب لم يقع ؛ 3 - في ابطال وجود الممكن بنفسه وبأولوية ذاتية أو خارجية واثبات انّه لا يوجد إلاّ بعلة خارجة 4 - في انّ الممكن كما يحتاج في وجوده العلّة يحتاج في بقائه أيضا إليها 5 - في ابطال الدور والتسلسل. واظنّ انّه اقتفى في هذا المنهج اثر الامام الرازي حيث قال : ... انّ هذا الدليل - اى : الدليل الّذي اقامه لاثبات الواجب - مبنى على مقدمات : اوّلها : انّ الممكن لا يترجّح احد طرفيه على الآخر إلاّ لمرجّح. وثانيها : بيان انّ هذه الحاجة في حال الحدوث أو في حال البقاء. وثالثها : انّ ذلك المرجّح يجب ان يكون موجودا. ورابعها : انّه يجب أن يكون موجودا حال حصول الاثر. وخامسها : انّ الدور باطل. وسادسها : انّ التسلسل باطل. راجع : المطالب العالية ج 1 ص 72.

المقدّمة الأولى : في ابطال ترجّح المساوي والمرجوح وترجيحهما

في ابطال ترجّح المساوي والمرجوح وترجيحهما (1)

بيان الأوّل : انّ معنى « المساوات » : كون شيئين في مرتبة واحدة بالنظر إلى ثالث ؛ و « المرجوحيّة » : كون أحدهما أبعد من الآخر ؛ و « الراجحية » : كونه أقرب منه ؛ فلو ترجّح المساوي أو المرجوح لزم التناقض ، وبطلانه بديهيّ (2) ؛ وبه يظهر بطلان الثاني من الفاعل الموجب ، بل ومن المختار أيضا.

والأشاعرة - بل أكثر المتكلّمين - على أنّ الاختيار يكفي للترجيح ، وللمختار أن يعلّل فعله بالمشيّة ولا حاجة له إلى مرجّح آخر ؛

وفيه : انّه وإن كان كافيا في ترجيح نفس الفعل أو الترك إلاّ أنّه لا بدّ في تعلّقه بأحدهما من مرجّح آخر ، ولذا لو قيل له : « لم فعلت »؟ يمكن له أن يقول : « لأنّي شئته »! ، ولو قيل له : « لم شئته »؟ ، لم يجز له التعليل بالمشيئة ؛ بل لا بدّ له من التعليل

ص: 4


1- راجع : الشرح الجديد على التجريد ، ص 39. وانظر أيضا : كشف المراد ، ص 32.
2- « ورايت أبا الحسن محمّد بن على البصرى - وهو كان من اذكياء المعتزلة - احتجّ على هذه المقدّمة في الكتاب الّذي سمّاه بالتصفّح ، فقال : الممكن هو الّذي استوى طرفاه ، فلو حصل الرجحان من غير مرجّح لزم أن يحصل الرجحان حال حصول الاستواء ، وذلك جمع بين النقيضين وهو محال ». راجع : المطالب العالية ، ج 3. ص 87.

بمرجّح.

وما احتجّوا به من رغيفى الجائع وطريقى الهارب - وأمثالهما (1) - لا يفيد مطلوبهم! ، لظهور وجود رجحان وقت الترجيح وإن لم يشعر به أو لم يبق في ذكره ، فانّ العلم بالمرجّحات وبقائه في الذّكر غير لازم.

فان قيل : مع مرجّح للفعل مثلا إن جاز الترك احتيج إلى مرجّح آخر ولزم التسلسل ، وإلاّ وجب الفعل وزال الاختيار! ؛

قلنا : الوجوب بالاختيار لا ينافيه ، بل يؤكّده ؛ فانّ المختار إذا تعقّل رجحان الفعل واختاره حصل العلّة المستقلّة للفعل ووجب ، ولو لا الاختيار لم يتأتّ الوجوب ، فهو من آثاره ولوازمه ومؤكّداته ودلائله.

المقدّمة الثانيّة : في أنّ طرفي المعلول ما لم يجب لم يقع

وبيانه : انّ وقوع أحدهما امّا مع امتناع الآخر ؛ أو امكانه ؛ مساويا ، أو راجحا ، أو مرجوحا ، والأوّل يوجب المطلوب ، والثاني ترجيح لأحد المساويين من دون مرجّح ، والثالث ترجيح للمرجوح ، والرابع يوجب جواز ترجيح المرجوح ، لانّ المفروض امكان وقوع الطرف الآخر (2).

ص: 5


1- راجع : شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 484 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 208 ؛ وحاشية المتألّه السبزواري على نفس الموضع. ولتفصيل الاحتجاج ونقده : المطالب العالية ، ج 1. ص 108 ، 118 ؛ المباحث المشرقية ، ج 1 ، ص 126.
2- قد اوجز المصنّف في هذا الفصل تمام الايجاز ، فلتفصيل هذه المقدّمة انظر : الحكمة المتعالية ، ج 1 ص 221 ؛ المباحث المشرقية ، ج 1 ، ص 131 ؛ شرح عيون الحكمة ، ج 3 ، ص 94 ؛ تلخيص المحصّل ، ص 119.

المقدّمة الثالثة : في ابطال وجود الممكن بنفسه وبأولوية ذاتية أو خارجية ، واثبات انّه لا يوجد إلاّ بعلّة خارجة

في ابطال وجود الممكن بنفسه وبأولوية ذاتية أو خارجية ، واثبات انّه لا يوجد إلاّ بعلّة خارجة (1)

ولا بدّ لنا أوّلا / 2MA / من بيان قسمة عقلية ؛ هي : أنّ كلّ موجود إذا لوحظ من حيث هو إمّا ينتزع منه الوجود بنفس ذاته مع قطع النظر عن جميع ما عداه ، أو لا ؛ بل يتوقّف الانتزاع على ملاحظة غيره. وبعبارة اخرى : كلّ موجود بنفس ذاته إمّا يجب له الوجود ، أو لا ، بل يتساوى نسبة الوجود والعدم إلى ذاته ؛ والثانى - على التقديرين - هو « الممكن » ، والأوّل هو « الواجب » - المعبّر عنه « بالوجود الحقيقىّ » عند / 2DA / المشّائين و « بالنور الغيبيّ » عند الاشراقيّين و « بمنشإ انتزاع الموجودية » عند أهل الذوق من المتألّهين و « بالمرتبة الاحدية » عند الصوفيّة و « بالوحدة الحقيقيّة » عند فيثاغورث (2) -.

وهذه القسمة وإن كانت ضروريّة إلاّ أنّه أورد عليها شكوك ثلاثة لا بدّ من دفعها ؛

اوّلها : انّه يمتنع أن يحكم على ماهيّة من الماهيّات بامكان الوجود ، لانّ كلّ ماهيّة إمّا معدومة ، فلا تقبل الوجود ؛ أو موجودة ، فلا تقبل العدم ، وإلاّ اجتمع النقيضان! ؛

وجوابه : إنّ الحكم بالامكان على الماهيّة من حيث هي من دون اعتبار الوجود والعدم ، فلا يلزم اجتمع النقيضين.

وثانيها : انّ العدم ليس له تميّز في الخارج ، فلا يتصوّر له نسبة إلى شيء فضلا عن تساوي النسبة ؛

ص: 6


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 39. وانظر أيضا : كشف المراد ، ص 32 ؛ شوارق الإلهام ، ج 1. ص 89 ؛ شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 481 ؛ گوهر مراد - الطبعة الحجرية - ، ص 144 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 199.
2- راجع : المبدأ والمعاد - لصدر المتألّهين - ، ص 11. وفيه : « ... بالنور الغنى عند الرواقيين ». والمذكور في المتن يوجد في ما بأيدينا من مخطوطتين.

وجوابه : بعد مطالبة وجه تخصيص الاعتراض بالعدم! ، لانّ الوجود مثله في عدم التميّز في الخارج وعروضه في الذهن ، لما حقّق في موضعه انّ تساوي نسبة الوجود والعدم إلى ذات الممكن انّما هو في العقل ، بمعنى أنّ العقل إذا لاحظ الممكن والوجود والعدم يحكم بتساوي نسبتهما إليه : وهذا لا يقتضي أزيد من تمايزهما في العقل ، وثبوته فيه لا يقبل المنع. ومعنى تساوي النسبة المذكورة هو عدم اقتضاء ذات الممكن شيئا منهما ، لا اقتضاء تساويهما حتّى يرد امتناع رجحان الوجود أو العدم حينئذ لعلّة خارجة شيئا ، لانّ ما به الذات لا يتخلّف ، والمتنافيين يمتنع اجتماعهما ولو بالف علّة!

وثالثها : أنّه لو اتّصفت ماهيّة بالامكان لوجب اتّصافها به ، وإلاّ لزم زواله عنها ، وهو محال ، لانّه من لوازم ماهيّة الممكن فلا يزول عنها. وإذا وجب الاتّصاف وجب اتصافها بذلك الوجوب أيضا وكذلك بوجوب الوجوب وهكذا ، فيتسلسل الوجوبات إلى غير النهاية. وهذه الشبهة جارية في أكثر المفهومات - كالقدم والحدوث والاتصاف واللزوم والوحدة والحصول إلى غير ذلك من المفهومات الاعتبارية الّتي تتكرّر نوعها -. مثلا يقال : لو لزم شيء لشيء للزم لزومه أيضا ، وكذا لزوم لزومه وهكذا ، فيتسلسل اللزومات إلى غير النهاية وإلاّ لزم الانفكاك بين اللازم والملزوم ؛ وقس عليه غيره! ؛

واجيب عنه : بانّ مثل هذا التسلسل التسلسل في الأمور الاعتبارية ، ولمّا كان تحقّقها بحسب اعتبار العقل فيترتّب السلسلة ريثما اعتبرها العقل يمكنه اعتبارها غير متناهية لعدم قدرته على دوام الاعتبار ، فينقطع بانقطاع اعتباره ؛ على أنّ فرض دوام اعتباره غير مفيد ، لتناهى ما ينتهي إليه في أيّ وقت فرض.

قيل : توضيح ذلك يتوقّف على مقدمة ، هى : انّ نسبة العقل إلى مدركاته كنسبة البصر إلى مبصراته ، فكما انّ الناظر في المرآت قد لا يشاهدها أصالة بل يجعلها آلة ووسيلة لمشاهدة غيرها من الصور المرتسمة فيها فيلاحظ بها تلك الصور أصالة - بحيث يتمكّن من تعرّف احوالها واجراء الاحكام عليها - ويلاحظ المرآة تبعا وليس له بهذه الملاحظة أن يتمكّن من تعرّف أحوالها واجراء الاحكام عليها ، كذلك العقل قد

ص: 7

لا يشاهد بعض مدركاته أصالة وقصدا ؛ بل يجعلها مرآة وآلة لمشاهدة بعض آخر من مدركاته ، وقد يشاهده أصالة وقصدا. مثال الأوّل أن يلاحظ الامكان من حيث انّه حالة بين الماهيّة والوجود ، فهو بهذه الملاحظة آلة للعقل في معرفة حالهما ومرآة لمشاهدة صفتهما ، لانّه بهذه الاعتبار جهة القضيّة - وهى كيفيّة الرابطة بين الموضوع والمحمول ، اعنى : الماهية والوجود - والمعنى الرابطي مأخوذ مع تلك الكيفيّة ليس ملحوظا بالأصالة مدركا بالقصد. ولا يتمكّن العقل بهذا التوجّه أن يحكم عليه بنسبة ولا أن يعتبر نسبته إلى شيء ، بل ملاحظة العقل له حينئذ باعتبار ملاحظة الوجود والماهيّة ، فهو يلاحظهما أصالة ويلاحظه تبعا!. ومثال الثّاني أن يلاحظ الإمكان أصالة وقصدا ويدركه من حيث انّه مفهوم من المفهومات ويقصده لتعرف حاله واجراء / 2MB / الاحكام عليه. وقس على الامكان غيره من المفهومات ، فانّ اللزوم قد يلاحظه العقل من حيث أنّه حالة بين اللازم والملزوم ، فهو حينئذ آلة لمعرفة حالهما وملحوظ بملاحظتهما ، فلا يقدر العقل من الحكم عليه بشيء ولا اعتبار نسبته إلى شيء ، وقد يلاحظه قصدا ومن حيث انّه مفهوم من المفهومات.

وإذ ثبت هذه المقدّمة نقول : إذا اعتبر الامكان على الوجه الأوّل لم يلزم تسلسل ولا ترتّب اصلا - لما مرّ أنّه لا يتمكّن حينئذ من أن يحكم عليه بشيء أو ينسبه الى شيء - فليس له حينئذ أن يحكم بأنّه ممّا يتّصف الغير به أو ممّا يجب اتصافه / 2DB / به أو غير ذلك ، فلا اشكال على هذا الوجه مطلقا ؛ وإذا اعتبره على الوجه الثانى ولاحظ معه ماهيّة الممكن أيضا واعتبر النسبة بينهما حكم بوجوب اتّصافها به واعتبار وجوب الاتّصاف حينئذ لما كان من حيث انّه حالة بين الماهيّة والامكان ، فيكون من الوجه الأوّل ولا يفضى الى اعتبار وجوب آخر بين الماهيّة وهذا الوجوب ؛ فلا يلزم تسلسل ولا ترتّب. نعم! ، إن لاحظه العقل قصدا وأصالة ومن حيث انّه مفهوم من المفهومات ولاحظ معه الماهيّة وتعقّل النسبة بينهما لزمه اعتبار وجوب آخر بين الماهيّة وهذا الوجوب ، فاعتبار الوجوب الآخر - اعنى الوجوب الثانى - يتوقّف على ثلاث ملاحظات ليس شيء منها ضروريا للعقل ، فله أن يلاحظه ؛ وهذا هو المراد « بانقطاع التسلسل

ص: 8

بانقطاع الاعتبار ». ثمّ اعتبار الوجوب الثاني لمّا كان من حيث أنّه حالة بين الماهيّة والوجوب الأوّل يكون من الوجه الاوّل ، فلا يفضى إلى اعتبار وجوب ثالث بين الماهيّة والوجوب الثانى. نعم! ، إن اعتبره العقل أصالة ولاحظه من حيث انّه مفهوم من المفهومات ولاحظ معه الماهيّة والنسبة بينهما لزمه اعتبار وجوب ثالث ، إلاّ انّه يتوقّف على ملاحظات غير لازمة للعقل ، فله أن لا يلاحظهما فينقطع التسلسل ؛ وهكذا الكلام في اعتبار الوجوب الرابع والخامس وما فوقهما. وهكذا حال انقطاع التسلسل في سائر الأمور الاعتبارية من اللزوم والحصول وغيرهما.

هذا ما ذكروه في الجواب عن الشبهة المشهورة بشبهة لزوم التسلسل في اللزوم وامثاله.

وأورد عليه : بأنّ وجوب اتّصاف ماهيّة الممكن أو اللزوم بين اللزوم وأحد المتلازمين لو كان بمجرّد اعتبار العقل فما لم يعتبره العقل لم يتحقّق ، واعتبار العقل ليس ضروريّا ، فيجوز أن لا يتحقّق وجوب اتصاف ماهيّة الممكن بالامكان ، ولا اللزوم بين اللزوم وأحد المتلازمين ، فيمكن الانفكاك بينهما ؛ فلا يكون اللازم لازما ولا الملزوم ملزوما. وأيضا لا ريب في أنّ وجوب اتصاف الممكن بالامكان ووجوب اتصافه بوجوب الاتصاف واللزوم بين المتلازمين واللزوم بين اللزوم واحدهما أمور متحقّقة في الواقع ونفس الامر - وإن قطع النظر عن اعتبار العقل - ، فليست الوجوبات واللزومات أمورا اعتبارية ، بل حقيقيّة واقعيّة.

واجيب عنه : بانّ عدم كون الوجوبات واللزومات المذكورة من الأمور المتحقّقة في نفس الأمر لا يوجب امكان زوال الامكان عن الممكن وجواز الانفكاك بين اللزوم الأوّل وأحد المتلازمين ، وانّما يلزم ذلك لو لم تكن ماهيّة الممكن واجبة الاتصاف بالامكان ، ولا اللزوم الأوّل لازما لأحد المتلازمين في نفس الامر ، وهو محال ؛ لانّ انتفاء مبدأ المحمول في نفس الامر لا يستلزم انتفاء الحمل فيه ، فغاية الامر انّ انتفاء مبدأ المحمول في الواقع يستلزم انتفاء المحمول - أعنى : مفهوم وجوب الاتصاف ومفهوم اللازم فيه - لانتفاء جزئه ؛ ولا يوجب عدم صدقه في ذلك المحمول العدمي على شيء في نفس

ص: 9

الأمر ، فانّ صدق المفهومات العدميّة في نفس الأمر على الأمور الموجودة فيها لا ينكر ، فانّ مفهوم الأعمى غير موجود في الواقع لانتفاء جزئه فيه ، مع أنّه يصدق على زيد وعمرو مثلا ، والأربعة إذا وجدت في الذهن متّصفة بالزوجيّة في نفس الأمر ، مع أنّ الزوجيّة غير موجودة فيها - وأمثال ذلك أكثر من أن يحصى! -. وغير خفىّ أنّ الضروري والمسلّم ثبوت الحمل في نفس الأمر - أعني : كون ماهيّة الممكن واجبة الاتّصاف بالامكان في الواقع واللزوم الأوّل لازما لأحد المتلازمين في نفس الأمر - إلاّ أنّ وجوب الاتصاف واللزوم الأوّل من الموجودات الواقعيّة ، فانقطاع التسلسل في الوجوبات واللزومات الاعتبارية بانقطاع اعتبار العقل وان بقى ثبوت وجوب اتصاف الممكن بالامكان واللزوم الأوّل في نفس الأمر ؛ إلاّ أنّه لا ينفى تحقّق الحمل المذكور فيها. / 3MA /

وأورد عليه : بأنّ الماهيّة واجبة الاتصاف بكلّ واحد من الوجوبات المتسلسلة إلى غير النهاية ، وكلّ واحد من اللزومات المذكورة لازم لأحد المتلازمين في نفس الامر ، اذ لولاه جاز أن لا تكون الماهية واجبة الاتصاف بالامكان وامكن أن لا يكون اللزوم الأوّل لازما لاحد المتلازمين ، فيجوز انفكاك اللازم عن الملزوم. وأيضا لا ريب في انّ الماهية واجبة الاتصاف بكلّ واحد من الوجوبات المذكورة في نفس الامر ، وانّ كلّ واحد من اللزومات لازم لاحد المتلازمين في الواقع وإن قطع النظر عن اعتبار العقول والاذهان. والحاصل كما انّه يصدق أنّ الماهيّة واجبة الاتصاف بالامكان / 3DA / وانّ اللزوم الأوّل لازم لأحد المتلازمين في نفس الأمر يصدق أنّ الماهية واجبة الاتّصاف بوجوب الاتصاف ووجوب الوجوب ، وهكذا ؛ وأنّ اللزوم الثانى والثالث وما فوقهما لازم لاحد المتلازمين في نفس الامر ، فتحقّق الحمل في الواقع في الكلّ سواء. وإذا كان كلّ واحد من الوجوبات واجبا وكلّ واحد من اللزومات لازما في نفس الامر كان كلّ وجوب وكلّ لزوم متحقّقا فيه ، لأنّ البديهة قاضية بانّ ما لا ثبوت له في نفس الأمر لا يتّصف بثبوت شيء له فيه ؛ فانّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له. فان كان هذا الثبوت بحسب نفس الأمر كان المثبت له ثابتا فيه ، وإن كان بحسب الخارج كان المثبت له موجودا فيه - فانّ الشيء ما لم يوجد في أحدهما لم يتّصف بثبوت شيء

ص: 10

له فيه ولم يثبت له صفة فيه ، سواء كان ذلك الشيء المثبت وجوديّا أو عدميا - ؛ ولذا قالوا : صدق القضية الموجبة المعدولة الخارجية يستدعي وجود موضوعها في الخارج فكلّ واحد من تلك الوجوبات واللزومات كما وقع مبدأ للمحمول في قضية صادقة في نفس الأمر كذلك وقع موضوعا لها ، وصحّة الحمل في نفس الأمر توجب ثبوت الموضوع فيه وإن لم توجب ثبوت مبدأ المحمول فيه ؛ وهذا يقتضي تحقّق جميع تلك الوجوبات واللزومات الغير المتناهية في نفس الأمر ، فيلزم التسلسل في الأمور المتحقّقة في الواقع ونفس الأمر لا في الأمور الاعتبارية المنقطعة بانقطاع الاعتبار.

والجواب : انّ وجود الموضوع - الّذي هو مقتضى صدق القضية الخارجية - أعمّ من أن يكون موجودا بوجود مستقلّ يخصّه أو يكون موجودا بوجود ما ينتزع هو عنه ، فانّ قولنا : « الفوقية ثابتة » قضية خارجية مع أنّ الموضوع فيها ليس موجودا في الخارج بوجود مغاير يخصّه ، بل موجود بوجود ما ينتزع عنه - أعني : السقف مثلا - ، واجزاء الجسم المتصل الواحد موجودة بوجود كلّها ، مع أنّ كلّ واحد منها قد يصير موضوعا للقضية الموجبة الصادقة في الخارج ونفس الأمر كما إذا كان بعضها حارّا وبعضها باردا ، فيقال : « بعض أجزاء هذا الجسم حارّ وبعضها بارد ». فيصدق الايجاب الخارجي مع أنّ الأجزاء المذكورة ليست موجودة في الجسم بصور مغايرة ، بل هى موجودة بوجود ما ينتزع هي عنه - أعني : وجود الكلّ -. ومن البيّن انّها ليست في الخارج ونفس الأمر معدومات صرفة بل لها نحو من الوجود. إلاّ انّها ليست لها وجود منفرد عن الكلّ بل هى موجودة بوجوده ، وكذا الحال في وجود كلّ ما هو موجود بوجود ما ينتزع عنه. وكما أنّ صدق القضية الخارجية يقتضي وجود موضوعها في الخارج بأحد الوجهين فكذا صدق القضيّة الذهنيّة يقتضي وجود موضوعها في الذهن بأحد الوجهين ، فإنّ موضوع القضيّة الذهنية قد يكون موجودا في الذهن بوجود منفرد يخصّه ، وقد يكون موجودا فيه بوجود ما ينتزع عنه من المعقولات المستقلّة سواء كان جزء لها أو لا. وكما أنّ خصوص القضيّة الخارجية قد يقتضي نحوا خاصّا

ص: 11

من الوجود - كالحكم بالتخيير فانّه يقتضي الوجود الخاصّ به المستقل والحكم على الجوهر بخواصّه ؛ فانّه يقتضي نحوا لوجود الّذي يخصّه ، والحكم على العرض بخواصّه ؛ فانّه يقتضي نحوا لوجود الخاصّ به - ، كذلك القضايا الذهنية قد تقتضى خصوصيات الوجود. وهذا كما أنّ المطلقة تقتضي وجود الموضوع بالفعل والدائمة تقتضى وجوده بالدوام والممكنة تقتضي وجوده بالامكان.

وإذا علمت ذلك فنقول : انّ الوجوبات واللزومات المذكورة وإن لم تكن موجودة في نفس الأمر بصور مغايرة ووجودات منفردة إلاّ انّها موجودة فيها بوجود ما ينتزع هي عنه ، وإن كان كلّ واحد منها منتزعا من آخر كان ذلك الآخر أيضا منتزعا عن مثله إلى أن ينتهى إلى الوجود المستقلّ المنفرد - أعني : الماهية وأحد المتلازمين - ، فانّ وجود المنتزع منه للموضوع لا يلزم أن يكون مستقلاّ منفردا ، بل يكفى أن يكون هو أيضا منتزعا عن غيره. ويجوز أن يكون كلّ واحد من هذه المنتزعات - الّتي جعلت موضوعات - بحيث ينتزع عنه شيء آخر يكون محمولا له ، لانّ لزوم شيء لآخر قد يكون بحسب الوجود المستقل بالفعل من كلا طرفي الملزوم واللازم بان يمتنع انفكاك الملزوم في وجوده / 4DB / بالفعل / 3MB / عن وجود اللازم بالفعل ، وقد يكون بحسب الوجود بالفعل من أحد الطرفين وبحسب صحّة الانتزاع من الطرف الآخر ، كلزوم الانقطاع للجسم ؛ فانّ الانقطاع من حيث انّه منتزع لازم للجسم من حيث انّه موجود بالفعل ، وقد يكون بحسب صحّة الانتزاع من كلا الطرفين. ومن هذا القبيل لزوم اللزوم ، فانّ مرجعه إلى أنّ اللزوم لا يمكن صحّة انتزاعه الاّ وهو بحيث يصحّ منه انتزاع اللزوم للزوم ، وهكذا ، فثبت انّه يكفي في صدق الايجاب هذا النحو من الوجود - أعنى : صحّة انتزاعه من موجود وان كان منتزعا من مثله - ، كما أنّ الممكنة يكفي في صدقها وجود الموضوع بالامكان. ولا ريب انّ الانتزاع من فعل العقل وليس هذا ضروريا له ، فإذا لم يعتبره لم يتحقّق وجود منتزع منفرد في نفس الامر ، فينقطع التسلسل في الوجوبات واللزومات بانقطاع اعتبار العقل ولا يلزم تحقّقها في نفس الامر بصورة مغايرة ليلزم التسلسل في الأمور المتحقّقة فيها ، وان كان لها في نفس الأمر نحو تحقّق يصحّ لأجله

ص: 12

صدق تحقّق وجوب اتصاف ماهية الممكن بالامكان وبثبوت اللزوم بين اللزوم وأحد المتلازمين.

واذ صحّت القسمة المذكورة للموجود وثبت أنّ الممكن ما يتساوى نسبة الوجود والعدم إلى ذاته ويتوقّف انتزاع الوجود منه على ملاحظة غيره ؛ نقول : يلزم منه أن يكون الممكن في وجوده محتاجا إلى علّة خارجة ، لأنّه لو لم يفتقر إليه ووجد بدونها فإمّا أن يصير موجودا بنفسه مع تحقّق تساوي النسبة المذكورة ، أو مع اولوية ذاتية ناشئة عن ذاته غير منتهية إلى حدّ الوجوب ، أو اولوية خارجة ناشئة عن غيره كذلك ؛ والكلّ باطل!.

امّا الأوّل فلانّه ترجّح لأحد المتساويين من غير مرجّح - وقد مرّ بطلانه - ؛ وإن فرض انّ الوجود وجب له بذاته مع عدم كونه واجبا لذاته فهو متناقض لنفسه.

واستدلّ عليه الشيخ في الشفا : بانّ ماهية الممكن إن كانت كافية في كونه موجودا كان واجبا موجودا دائما ، وان لم يكف احتاج إلى غيره ، وهو العلّة ؛

وأورد عليه : بانّه إن اريد بالكفاية لها الكفاية في صحّة الاتصاف بالوجود فنختار الكفاية ولا يوجب كونه واجبا ؛

وإن أريد بها الكفاية في لزوم الوجود فنختار عدم الكفاية ونمنع ايجاب ذلك لعلّة خارجة ، لامكان أن يتّصف بالوجود ويعرضه الوجود فيصير موجودا بدون علّة وإن لم يبلغ حدّ الوجوب ، فانّ المتنازع فيه ليس الاّ هذا ، فلئن جوّز وجود الممكن بلا علّة فله أن يجوّز هذا ، بل هذا عين ذاك.

واجيب عنه ، بأنّ ماهيّة الممكن إن كانت كافية في صحّة الاتصاف بالوجود لكانت كافية في لزوم الوجود ، لأنّ ما ثبت للشيء بالنظر إلى ذاته يجب أن يكون لازما له غير منفكّ عنه بالنظر إلى ذاته - كالزوجيّة للأربعة -.

ثمّ هذا الحكم - أعني : احتياج الممكن في وجوده إلى علّة خارجة - ممّا اتفق عليه جميع العقلاء ولم يخالف فيه احد سوى ذيمقراطيس من الأقدمين ، فانّه ذهب إلى أنّ

ص: 13

وجود الممكنات من السماوات وغيرها بطريق البخت والاتفاق (1) ، وقال : انّ احتياج الممكن إلى المؤثّر يوجب جواز تأثيره فيه ، اذ احتياجه إليه مع امتناع تأثيره غير معقول ، لكن تأثير أمر في أمر آخر محال ، لوجوه ؛

منها : انّ التأثير إن كان بشرط عدم الأثر لزم الجمع بين النقيضين ؛ وإن كان بشرط وجوده لزم تحصيل الحاصل (2) ؛

والجواب : انّ المؤثر يؤثّر في الأثر لا من حيث هو معدوم ولا من حيث هو موجود ، بل يؤثّر فيه من حيث هو غير مقيّد بشيء من الوجود والعدم ، غاية الأمر انّ تحقّق التأثير في زمان وجود الأثر بمعنى أنّ التأثير يقارن وجود الأثر زمانا وان تقدّم عليه ذاتا ، فلا يتحقّق في زمان قبل زمان وجود الأثر ؛ بل تحقّقه إنّما هو في زمان وجوده. وهذا لا يوجب إلاّ لزوم تحصيل الحاصل بهذا التأثير المذكور ، ولا استحالة فيه ، انّما المحال التحصيل - أى : تحصيل الحاصل - قبل هذا التحصيل. وتوضيح ذلك انّ تاثير المؤثّر في ماهيّة ممكن ليس إلاّ ايجادها - أي : جعلها موجودة - وهذا الايجاد فعل يقارن زمان وجود هذه الماهيّة وإن تقدّم عليه ذاتا لترتّب الوجود على الايجاد - ولذا يقال : « اوجد فوجد » - ، فلا يتحقّق قبل وجودها زمانا. بل تحقّقها في زمان وجودها لا يوجب ذلك تحصيل ما كان حاصلا قبل هذا الفعل ، بل يوجب تحصيل الحاصل بهذا الفعل ولا استحالة فيه. انّما المحال تحصيل ما كان حاصلا قبل هذا الفعل ، وانّما / 4DA / يتصوّر ذلك / 4MA / إذا كان وجود الماهيّة شرطا للايجاد بان تكون موجودة قبله ، وليس كذلك.

ومنها : انّه لو اثّر شيء في غيره لاتّصف بالمؤثّرية ، والمؤثّرية وصف محتاج إلى الموصوف ، فيكون ممكنا محتاجا إلى المؤثّر ، فيتحقّق مؤثّريّة أخرى ؛ وننقل الكلام إليها حتّى يلزم التسلسل ؛

ص: 14


1- راجع : شرح المقاصد ، ج 1 ص 485. والقول عند صدر المتألّهين ورئيسهم منسوب إلى انباذقلس الحكيم. وهو عنده من مرموزات المتقدّمين لكتم اسرارهم الربوبية. راجع : الحكمة المتعالية ، ج 1. ص 210.
2- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 1 ص 211 ؛ شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 484.

وجوابه : انّ المؤثرية اعتبار عقلى غير موجود في الخارج حتّى تكون ممكنا محتاجا إلى العلّة ولا ينافيه اتصاف الشيء بها في نفس الأمر ، لانّ انتفاء مبدأ المحمول لا يوجب انتفاء الحمل والاتصاف به - وقد مرّ توضيح ذلك وتحقيقه في الجواب عن شبهة لزوم التسلسل في اللزوم وامثاله -.

ومنها : انّ تاثير المؤثّر امّا في الماهيّة أو الوجود ، أو في اتّصافها به ، والكلّ باطل ؛ أمّا بطلان تأثيره في الوجود والاتصاف فلانهما أمران اعتباريان لا يصلحان اثرا للمؤثّر ؛ وأمّا بطلان تأثيره في الماهيّة فلأنّ الماهيّة لو كانت ماهيّة بتأثير المؤثّر لوقع الشكّ في كونها ماهيّة عند الشكّ في وجود المؤثّر ، وهو باطل ، فلو كان الانسان انسانا بجعل الجاعل لوقع الشكّ في كونه انسانا إذا شكّ في وجود الجاعل ، وهو باطل. وأيضا ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، فانّ الانسان في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر انسان ولو قطع النظر عن جميع ما عداه. وأيضا كون الانسان انسانا وكذا كون كلّ شيء نفسه لو كان بجعل الجاعل لم يكن الانسان انسانا ولا كلّ شيء نفسه عند عدم الجاعل ، بل كان قبل أن يفعله وبعد إن يعدمه غير نفسه ، فيلزم سلب الشيء عن نفسه ، وهو ظاهر البطلان (1)! ؛

أقول : قبل الخوض في جواب هذا الايراد لا بدّ لنا من تمهيد مقدّمة ، وهي انّ التأثير في الماهية يتصوّر على وجهين :

أحدهما : ان يجعلها الجاعل ايّاها - أي : يجعل الماهيّة ماهية - وهو الجعل المركّب في الماهيّة ؛

وثانيهما : أن يجعلها موجودة - أي : يجعل الماهيّة المعقولة موجودة في الخارج - ، وهو الجعل البسيط فيها.

والتأثير في الوجود والاتصاف أيضا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يجعل الوجود وجودا والاتصاف اتصافا - وهو أيضا جعل مركّب فيهما - ؛

ص: 15


1- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 213.

وثانيهما : أن يجعل كلاّ منهما موجودا. والمورد قصر الجعل في الماهيّة على الوجه الأوّل ، وابطاله بما ذكر.

ولمّا لزم منه بطلان الجعل بالوجه الأوّل في الوجود والاتصاف أيضا تعيّن أن يحمل الجعل فيهما في كلامه على الوجه الثاني - كما يقتضيه دليله الّذي ذكره لإبطاله -.

ولا ريب في أنّ الجعل المركّب في كلّ واحد من الماهيّة والوجود والاتصاف باطل - للأدلّة الثلاثة الّتي ذكرها المورد -.

وهي وإن كانت عند التحقيق تامّة ناهضة لاثبات المطلوب إلاّ انّه أورد على كلّ منها اعتراض لا بدّ لنا أن نشير إلى دفعه.

أمّا الدليل الأوّل فقد اعترض عليه : بأنّه يجوز أن يكون شيء لازما بيّنا بالمعنى الأعمّ لشيء آخر مع ثبوته له بتأثير المؤثّر ، فيمكن أن يكون الانسانية للانسان لازما بيّنا بالمعنى الأعمّ مع ثبوته له بتأثير المؤثر ، فلا يقع الشكّ في ثبوته له مع الشكّ في وجود المؤثر ؛

وجوابه : انّه قد تقرّر عند القوم انّ العلم اليقينى الكلّى بما له سبب لا يحصل إلاّ من العلم بسببه ، فلو كانت ثبوت الانسانية للانسان بتأثير المؤثّر لم يتيقّن كلّيا مع الشك في وجود مؤثّره.

فان قيل : المقرّر عندهم انّ ما له سبب إذا لم يكن بديهيا لا يحصل العلم الكلّي اليقينى إلاّ من جهة سببه ، وثبوت الشيء لنفسه لمّا كان ضروريا لا يتوقّف على العلم بالسبب ، فيجوز أن يكون بتأثير المؤثر ويتيقن به كلّيا مع الشكّ في وجود مؤثّره ،

قلنا : ان اريد انّ وجوب الشيء لنفسه على فرض وجوده في الخارج ضرورى ، فممنوع ، لكن الدعوى أعمّ ؛ وإن اريد انّه ضروري أعمّ من أن يكون الشيء موجودا في الخارج أو معدوما ، فممنوع ، كيف وبعضهم منع بطلان التالي في هذا الدليل! - أعني : وقوع الشكّ في كون الانسان انسانا عند الشكّ في وجود المؤثّر - محتجّا بانّ المعدوم في الخارج مسلوب عن نفسه ما دام معدوما ، فإذا ارتفع المؤثّر في وقت أو دائما ارتفع الانسانية كذلك ، فيصدق قولنا : « ليس الانسان انسانا » ويكون صدق السالبة

ص: 16

الخارجة لعدم الموضوع في الخارج. وهذا وإن لم يكن حقّا عندنا - وسيأتي وجه اندفاعه في الدليل الثالث - إلاّ انّه ممّا قال به بعض المحقّقين ، فلا يكون ثبوت الانسانية لمطلق الانسان / 4DB / بديهيّا.

وامّا الدليل الثاني / 4MB / فقد اعترض عليه : بانّه إن اريد به انّا نجزم بثبوت الشيء لنفسه مع عدم العلم بغيره ، فلا يلزم منه عدم كون ذلك الثبوت بسبب المؤثّر ، بل انّما يلزم منه عدم الواسطة في التصديق ، على انّه عند التحقيق يرجع إلى الدليل الأوّل. وإن اريد انّا نجزم بثبوته لنفسه على فرض انتفاء الأغيار يرجع إلى الدليل الثالث ؛

وجوابه : انّ اختيار كلّ واحد من الشقين ممكن. والرجوع إلى الأوّل والثالث لا ضير فيه ، فانّ اختلاف الأدلّة قد يكون بمجرّد الاختلاف في التقرير. فان اختير الشق الأوّل يجاب عن الاعتراض بما مرّ من انّ العلم بذي السبب لا يحصل إلاّ من العلم بالسبب ؛ وان اختير الشق الثاني ورجع إلى الدليل الثالث فتعلم حاله.

وامّا الدليل الثالث فاعترض عليه : بمنع استحالة سلب الشيء عن نفسه إذا كان معدوما ، فانّ ثبوت الشيء للشيء يستدعي ثبوته لنفسه - فثبوت الانسانية للانسان يستدعي ثبوت الانسان - ، فإذا كان الشيء معدوما يصدق سلب جميع المفهومات عنه. فان كان انتفائه واقعا صدقت السالبة المطلقة ، وإن كان ممكنا غير واقع صدقت الممكنة فقط ، وإن كان مستحيلا لم يصدق اصلا ؛

وجوابه : انّا لا نسلّم صدق سلب جميع المفهومات عن المعدوم في الخارج إذا كان موجودا في الذهن ، فانّ حقيقة الانسانيّة ثابتة للانسان المعدوم في الخارج إذا كان موجودا في مدرك من المدارك ، لانّ العقل إذا تعقّل ماهيّة الانسان يحكم بثبوت الانسانية له ، وإن لم يوجد في الخارج. فالانسان الموجود في الذهن دون الخارج انسان. فلا يشترط تاثير المؤثّر في كون الانسان انسانا ، إذ لو كان بتأثيره لم يثبت للانسان الذهني حقيقة الانسانية. وعدم ثبوت الانسانية الخارجية له غير قادح ، لانّ من يقول : « انّ الماهيّة ماهية بدون تاثير المؤثّر » لا يقول بانّ الانسان المعدوم مثلا ثبتت

ص: 17

له الانسانية الخارجية ، بل يقول : « أصل هذه الحقيقة مع قطع النظر عن وجودها وحصولها ثابتة لنفسها ، وامّا وجودها وحصولها في الأكوان فمن الجاعل ». ولمّا كانت هذه الماهيّة ثابتة لنفسها بدون تصوّر جعلها إذا كانت موجودة في الذهن دون الخارج يعلم منه أنّها إذا وجدت في الخارج يكون ثبوتها لنفسها أيضا بدون الجعل وإن كان وجودها من الجاعل. فالماهيّة الموجودة في الخارج وجودها وبروزها في الاكوان بتأثير المؤثّر ، ولكن كونها انسانا أو شجرا أو مثلّثا أو غير ذلك مع لوازمها الذاتيّة ليس بجعل جاعل وتأثير مؤثّر.

وممّا يدلّ على هذا انّه قد يتحقّق في بعض التقادير الحكم بثبوت الماهيّة الموجودة لنفسها مع عدم العلم بتأثير المؤثّر ؛ بيانه : انّ عدم العلم بتأثير المؤثّر قد يكون ناشئا من عدم التوجّه والالتفات من دون استلزامه لصحّة سلب جميع المفهومات لزوما بينا بالمعنى الأخصّ ، إذ اللزوم انّما هو بعد ترتيب مقدّمات. وحينئذ نقول : إذا أبصرنا زيدا مثلا يمكن أن يحصل لنا الجزم بانّه انسان مع عدم العلم بوجود مؤثّره ، وإذا كان كذلك فثبت كون الانسان انسانا عند عدم المؤثّر ، فتمّ الدليل. وأيضا يجوز أن يكون الشكّ في وجود المؤثر للشكّ في انّ هذا الشيء الموجود هل يحتاج إلى المؤثّر أم لا؟ ؛ وحينئذ تجويز عدم وجوده لا يستلزم صحّة سلبه عن نفسه. مثلا يمكن أن يرى شيء وكان له مؤثّر في الواقع ويجزم لثبوته ووجوده لنفسه ويشكّ في وجود مؤثّره - بناء على الشكّ في انّه هل هو ممكن محتاج إلى المؤثّر أم لا؟ -. ولا ريب انّ مثل هذا الشكّ لا ينافي القطع بثبوته لنفسه ، فثبت كون الانسان مثلا انسانا مع الشكّ في وجود مؤثّره ، ولو كان بتأثير المؤثّر لما حصل الجزم به بدون العلم بمؤثّره.

وقد علم بما ذكر انّ صدق سلب جميع المفهومات عن الماهيّة إذا كان لها نحو وجود خارجا أو ذهنا ممنوع. وكذا إذا كانت للماهيّات ثبوت في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر لم يصدق سلب جميع المفهومات عنها بحسبهما ، إذ نقول حينئذ : الانسان الثابت في الواقع ونفس الأمر لا ينفكّ عنه الانسانيّة الواقعيّة ، فماهيّة المثلّث حينئذ في حاقّ الواقع مثلّث من دون افتقار إلى الجعل والتأثير. نعم ؛ إن لم يكن للماهيّات ثبوت

ص: 18

في الواقع ونفس الأمر وفرض انّ ماهيّة - كالانسان مثلا - غير موجودة في الخارج و/ 5MA / لا في مدرك من المدارك صدق سلب جميع المفهومات في نفس الأمر ، إلاّ أنّه غير قادح في المطلوب اصلا - كما لا يخفى -.

على أنّ الصدق / 5DA / المذكور محلّ تامّل!.

وإذ ثبت صحّة ما أورده منكر التأثير والمتأثّر من بطلان الجعل المركّب في الماهيّة والوجود والاتصاف - أي : جعلها ايّاها - نقول في الجواب عن ايراده : انّ بطلان الجعل المركّب لا يوجب بطلان مطلق الجعل ، بل هنا قسم آخر من الجعل يسمّى ب- : « الجعل البسيط » ، وهو الجعل الحقيقيّ الّذي صارت الماهيّات به عن جعل الجاعل وهو جعلها موجودة في الخارج لا بان يكون اشياء ثابتة في أنفسها ويصبغها الجاعل بالوجود كما يفعل الصبّاغ بالثوب ، فانّه ليس جعلا بسيطا بل هو أيضا جعل مركّب ، بل فعلها وفعلها هو بعينه ايجادها في الخارج ، كما انّ المتحرّك إذا تحرّك لا تجعل الحركة ولا شيئا آخر حركة بل انّما يفعل الحركة وبمجرّد فعله يصير الحركة موجودة ، والخطّاط إذا خطّ لا يجعل الخطّ ولا شيئا آخر خطّا ، بل يفعل الخطّ ومجرد فعله هذا هو عين ايجاده في الخارج. ولمّا كان حقيقة هذا الجعل هو موجودية الماهيّة في الخارج والماهيّة الموجودة في الخارج وإن كان شيئا واحدا ليس مركّبا في الخارج من شيئين متميّزين أحدهما الماهيّة والآخر الوجود ، إلاّ أنّ العقل يحلّلها إليهما ويجعل الماهيّة متّصفة بالوجود ، فثبت هناك اشياء ثلاثة : الماهيّة ، والوجود ، والاتصاف. ولاجل ذلك يصحّ أن يقال : « أثر الجعل هو الماهيّة » ، وأن يقال : « اثره هو الوجود » ، وأن يقال : « اثره هو الاتصاف ». ومن ثمّة نجد بعض اقاويل الحكماء دالاّ على انّ تاثير المؤثّر في الماهيّة ، وبعضها دالاّ على أنّ تاثيره في الوجود. وليس هذا كما زعمه بعض المتأخّرين من انّ هنا مذهبين : أحدهما انّ التأثير في الماهيّة - ونسبه إلى الاشراقيّين - ، والثاني انّ التّأثير في الوجود - ونسبه الى المشّائين (1) - ؛ وعلى هذا فالتأثير في الماهيّة هو موجوديتها وليس جعل ذاتها - أي :

ص: 19


1- راجع : كتاب المشاعر ، ص 37 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 398. وانظر أيضا : مجموعه مصنّفات شيخ اشراق ، ج 1. ص 301.

فعليّتها - أمرا وراء موجوديتها ولا موجوديتها امرا وراء اتصافها بالوجود حتّى يكون متعلّق الجعل هو الماهيّة نفسها بمعنى تابعيتها للجاعل دون كونها موجودة ، كما ذهب إليه بعض المتأخّرين وقال : « انّ الجعل متعلّق ابتداء بنفس الماهيّة لا بكونها هى ولا بكونها موجودة ، ثمّ العقل ينتزع منه كونها هي وكونها موجودة كما هو مذهب الاشراقيين.

وتحقيق ذلك انّه فرق بين جعل الشيء شيئا وبين جعل الشيء. والماهيّة ليست مجعولة ايّاها بل مجعولة في ذاتها بمعنى انّ نفسها تابع للجاعل وان صحّ أن يقال أيضا وجودها تابع له كما انّ عند من يجعل اثر الفاعل هو الاتّصاف بالوجود يصحّ ان يقال جعلهما الفاعل متّصفة بالاتصاف بالوجود أو متّصفة بالاتصاف بذلك الاتصاف. فكما انّ الاثر الأوّل عنده هو الاتصاف - لا بمعنى جعله شيئا بل جعله في نفسه ، والاتّصافات الأخر مرتّبة عليه - ، كذلك الأثر الأوّل عندهم الماهيّة ، لا بمعنى جعلها ايّاها أو غيرها ، بل جعلها في نفسها. وقولهم : « العقل يحكم بانّه جعله موجودا » لا يدلّ على أن ليس الماهيّة بنفسها اثر الفاعل ؛ وقولهم : « العقل يحكم بانّه لم يجعلها ايّاها » - على ما فيه من الكلام كما سبق - انّما يدلّ على نفى الجعل المركّب في الماهيّة لا على نفى جعلها في نفسها ، والفرق بين الجعلين ممّا لا ينبغى ان يخفى على من له ادنى بصيرة.

وإن شئت زيادة توضيح للمرام فاستمع لما يتلى عليك من الكلام ؛ وهو : انّ التأثير قد يكون اختراعيا - أعني : إفاضة الأثر على قابل ، كالصور والاعراض على المادّة القابلة لها - ومن هذا القبيل جعل الموجود الذهنى موجودا خارجيا وبالعكس ، وهذا التأثير بخصوصه يستدعي مجعولا ومجعولا إليه ؛ وقد يكون ابداعيا - أعني : ايجاد الأيس عن الليس المطلق -. ولا يقتضي مجعولا ولا مجعولا إليه ، بل هو جعل بسيط مقدّس عن شوائب التكثّر مستغن عن قابل متعلّق بذات الشيء فقط. وهذا هو التأثير الحقيقيّ في الشيء. والأوّل هو بالحقيقة هو تاثير في بعض اوصافه - أعني كونه شيئا آخر هو الموجود أو غيره - ، فأثره بالذات هو ذلك الاتّصاف. ولمّا كان المتعارف هو التأثير الأوّل وكان في تصوّر هذا التأثير نوع غموض لم يفهمه الكثيرون ، وقصّروا التأثير على المعنى الأوّل ولم يعلموا أنّ ما يفيده الفاعل شيئا يجب أن تكون له

ص: 20

هويّة حتّى يمكن أن يفيده شيئا ؛ انتهى.

وحاصله الفرق بين تعلّق الجعل بذات الشيء وبين تعلّقه بموجوديّته ، وانّ الأثر الحقيقي / 5MB / للجعل هو الأوّل بمعنى أنّه تابع للجاعل دون الثانى. وأنت تعلم انّ تابعيّة ذات الماهيّة من دون فعليّة لها ولا وجود غير معقول ، مع أنّ الموجوديّة الّتي زعم أنّها تابعة لجعلها إمّا في مرتبة تابعية الذات أو متأخّرة عنها ؛ والتأخّر ظاهر البطلان ، لاستلزام جعل / 5DB / ذات الماهيّة لجعلها موجودة امّا في مرتبة تابعية الذات أو متأخرة عنها ، والمتاخّر ظاهر البطلان لاستلزام جعل ذات الماهية لجعلها موجودة. وان سلّم المعية ففيه : انّ التابعية حقيقة حينئذ ليست إلاّ للموجودية ، واعتبار تابعية اخرى للذات غير معقول. وأمّا تابعية ذات الماهية مع فعلية لها دون الوجود فبطلانه أظهر! ، لانّ هذه الفعلية للماهية إن كانت من قبل نفسها فمع ظهور فساده لا ينفعه - لأنّ مطلوبه اثبات أنّ الماهية بهذه الفعلية متعلّق الجعل - ، وان كانت من الجاعل ففساده أظهر - إذ التزام انّ الجاعل يفيد الماهية فعلية سوى الوجود متقدّمة عليه ممّا لا يقول به عاقل! - ، فبقى أن يكون متعلّق الجعل هو الماهيّة الموجودة ، وهى ليست إلاّ ما اتصف بالوجود.

فالتابعية للاتصاف - اي الموجودية -. وانت تعلم انّ الاتصاف انّما هو لحاظ العقل ، وفي الخارج لا يوجد اتصاف حقيقي يتحقّق بين شيئين. وليس جعل الماهيّة موجودة كجعل المادّة مصوّرة وجعل الموضوع ذا عرض ، لأنّه يتوقّف على وجود شيئين ؛ واتصاف أحدهما بالآخر - بل ايجاد الماهية - جعل واحد بسيط مقدّس عن شوائب التكثّر مستغن عن قابل ومقبول في الخارج متعلّق بالموجودية ، وهو اخراج الأيس عن الليس ؛ هذا.

وامّا ما ذكره من انقسام الجعل إلى قسمين - : الاختراعي والابداعي - وجعل افاضة الصور والاعراض على الموادّ والموضوعات وكذا جعل الموجود الذهني خارجيا وبالعكس من الأوّل وقصر الثاني على ما تعلّق بذات الشيء - أي : إخراج الأيس عن الليس المطلق - ، فيرد عليه :

أوّلا : انّ في افاضة الصور والاعراض على الموادّ والموضوعات جعلين كلّ منهما

ص: 21

بسيط ، أحدهما متعلّق بنفس تلك الصور والاعراض وثانيهما متعلّق باتصاف المادّة والموضوع بهما ، وليس هنا جعل آخر يسمّى « مركّبا ». نعم! الجعل الثاني إذا قيس إلى الطرفين يسمّى مركّبا ، فهما متحدان ذاتا متغايران اعتبارا. فالجعل المركّب يرجع إلى البسيط ويستلزمه. والبسيط - أعني : اخراج الأيس عن الليس - لا يستلزم المركّب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ عدّ جعل الموجود الذهني خارجيا من الجعل المركّب دون البسيط واخراجه عن ايجاد الأيس عن الليس ظاهر الفساد ، لانّ ايجاد الماهيّة المعقولة في الخارج جعل واحد متعلّق بذات الشيء ، واخراج عن الليس إلى الأيس ، وليس هنا قابل ومقبول حقيقة وليس الوجود صفة زائدة للماهية يتّصف بها ، والاتصاف انّما هو بمجرّد اعتبار العقل ، والأثر هنا ليس إلاّ الوجود الخارجى. وليس الموجود الذهني مادّة للموجود الخارجي وليس الموجود الخارجي واردا عليه حتّى إذا وجد الموجود الذهنى في الخارج كان ذلك من قبيل افاضة الاثر على القابل ؛ كيف وافاضة الاثر على القابل يوجب تغيّره عن حال إلى حال والموجود الذهنى إذا وجد في الخارج لم يتغيّر عمّا كان عليه.

وأيضا : لو كان كما قال لم يكن ايجاد الواجب لشيء من الممكنات ابداعا وجعلا بسيطا واخراجا عن الليس إلى الأيس ، لانّه عالم بجميعها ، فيكون من قبيل جعل الموجود الذهنى موجودا خارجيا. هذا ؛ مع أنّ نفى التأثير الحقيقيّ عن القسم الأوّل غير صحيح ، لانّه يشتمل على ما فى القسم الثانى - لما اشرنا إليه من أنّ ايجاد الصور والأعراض بمنزلة الابداع للأشياء وجعلها صفة للقابل زيادة لا توجد في القسم الثانى - ، فكيف لا يتأتّى هنا تاثير حقيقى وينحصر الأثر بالاتصاف!.

ثم قوله : « ولم يعلموا انّ ما يفيده الفاعل شيئا يجب أن تكون له هوية حتّى يمكن ان يفيده شيئا » حاصله : انّ الجعل الأوّل - أي الاختراعي - يلزم أن يكون فيه مجعولا ومجعولا إليه ، لانّ ما يفيده الفاعل شيئا يجب أن تكون له هوية حتّى يفاض عليه من الفاعل شيء ، فالتأثير في الأشياء إن كان من قبيل الأوّل لزم ان يكون فيه قابل ومقبول. وليس كذلك ، لأنّ أثر الجعل إذا كان هو الموجوديّة لم تتحقّق أوّلا ماهية حتّى

ص: 22

يفاض عليها الوجود ، فيلزم أن يتعلّق الجعل أوّلا بذات الماهية حتّى تحصل لها هويّة ثمّ يفاض عليها الوجود.

وفيه : أمّا أوّلا فانّا لا نسلّم انّ الموجودية من قبيل الجعل الأوّل - كما أشرنا إليه - ، لأنّ الايجاد فعل واحد بسيط لا يقتضي مجعولا ومجعولا إليه - كما هو يقول فيما اخترعه من جعله -.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الجعل البسيط الّذي اعتقده مستلزم لجعل الماهية موجودة - كما صرّح به - ، وجعل الماهية / 6MA / موجودة ليس إلاّ افادة الوجود لها ، فنقول له حينئذ : الهويّة الّتي يجب أن تكون / 6DA / لما يفيده الفاعل شيئا هنا امّا نفس الماهية أو الماهية الموجودة ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون حصول الهوية مقدّما على افادة الوجود لها أو يكون مستلزما لها. فان ادّعى انّ الهوية المرادة هى نفس الماهية مع الاستلزام والمعية فلا اشكال ، إذ لو افاد الفاعل الوجود للماهيّة فيما حسبه شرطا للافادة حاصل ولا فرق في حصول الشرط حينئذ بين تعلّق الجعل بذات الماهية وبين تعلّقه بموجوديتها ، ولا محذور في أن يقال : الجعل هو افادة الوجود للماهية.

فان قيل : على ما اعتقده تحصل بالجعل فعلية للماهية ثمّ يفاد عليها الوجود ، وعلى ما اخترتم لا فعلية للماهية فلا يصلح لان تكون قابلة لشيء؟! ؛

قلنا : قد عرفت حال هذه الفعلية وفسادها ، ونزيد هنا ونقول : يلزم من قوله أن تكون افادة الفاعل هذه الفعلية للماهية مسبوقة بفعلية اخرى وهكذا ، ولا ريب انّ حصول فعليتين في الخارج لماهية واحدة ليس بأقلّ شناعة من حصول وجودين لها.

على انّ الماهية مع كلّ فعلية شيء اخر غيرها مع فعلية أخرى ، ويلزم التسلسل في الأمور المتحققة المختارة ، وهو باطل. وإن ادّعى انّ الهوية المرادة هى نفس الماهية مع تقدّمها على الافادة ؛ قلنا : تقدّمها امّا مع فعلية لها سوى الوجود أو بدونها ، وكلاهما ظاهر الفساد - كما تقدم -. وإن ادّعى انّ الهوية المرادة - اي الماهية الموجودة - مع الاستلزام ، فلا اشكال أيضا ؛ اذ افادة الوجود للماهيّة الموجودة بهذا الوجود ممّا لا محذور فيه ؛ وإن ادّعى انّها هي الماهية الموجودة مع تقدّمها على الافادة فلا ريب في

ص: 23

فساده ، لانّه لا معنى لتقدّم الماهية الموجودة على افادة الوجود لها.

ولقد أطلنا الكلام في هذا المرام لانه من مزالّ الاقدام وقد بقى بعد خبايا في زوايا.

ولمّا ظهر حقيقة الجعل وثبت صحّته ، لزم منه صحّة التأثير والتأثّر وبطل منه مذهب ذيمقراطيس واتباعه. ومنه ثبت توقّف وجود الممكن على علّة خارجة وعدم امكان وجوده بنفسه ؛ هذا.

وامّا بطلان وجود الممكن بأولوية ذاتية فيتوقف على أن نعلم أوّلا أنّ للأولوية تفسيرين ، احدهما : أن يقتضي الممكن رجحان احد الطرفين لذاته اقتضاء لم يبلغ حدّ الوجوب ؛ وثانيهما : كون أحد طرفى الممكن أليق بالنسبة إلى ذاته لياقة غير بالغة حدّ الوجوب. ولا يكون ذلك الأليقية باقتضاء اصلا ، لا من حيثية الذاتية ولا من حيثية أخرى ، وللتفرقة يعبّر عن الأوّل « بالرجحان لذاته » وعن الثّاني « بالرجحان بذاته » ، على أن يكون « الباء » للمصاحبة. وعلى كلا التفسيرين يقع الطرف الراجح بمجرّد هذا الرجحان من غير احتياج إلى علّة خارجة. وبطلان الأولوية على التفسير الثّاني - أعني : كون الوجود راجحا بالنسبة إلى الممكن من دون اقتضاء واستتباع واستناد الرجحان إلى امر - بديهىّ لا يشكّ فيه عاقل ، لانّ ثبوت كلّ معنى لشيء لا بدّ له من علّة - سواء كانت ذات هذا الشيء أو غيرها - ، فثبوت الرجحان اذن لا بدّ له من علّة.

فان قيل : المقصود في هذا المقام اثبات افتقار الممكن في وجوده إلى علّة موجودة ، وحينئذ لقائل أن يقول : يمكن أن يكون ثبوت الوجود للممكن غير معلّل بعلّة لكن يكون ذلك الثبوت بحيث يجوز ارتفاعه جوازا مرجوحا حتّى لا يلزم وجوبه ، والمراد برجحان وجوده في الواقع من دون اقتضاء هو هذا المعنى ، ولا بدّ لنفيه من دليل! ؛

قلنا : الممكن لا يمكن أن يكون حقيقة عين الوجود ، فلا بدّ لثبوت الوجود له من علّة ، وهذا بديهيّ مستغن عن الدلالة.

ولما كان بطلان الأولوية بالتفسير الثاني بديهيا أو قريبا من البداهة أحاله

ص: 24

الأكثرون إلى الظهور (1) ، وانّما تعرّضوا بابطال الاولوية بالتفسير الأوّل ، ولذا ترى اكثر ادلّتهم مخصوصة به

ثمّ المتقدّمون من العقلاء لم يلتفتوا إلى احتمال الأولوية للممكن ولم يتعرّضوا لابطالها وكأنّ بطلانها كان عندهم بديهيّا ؛ وما قيل : « انّ الشيخ تعرّض لها في الشفاء وابطلها » لم نعثر عليه. وعلى أيّ تقدير بطلانها قريب من الضرورة ومسلّم عند جميع العقلاء.

وتدل عليه وجوه من البراهين القاطعة :

منها : أنّه لو كان لأحد طرفى الممكن رجحان غير بالغ حدّ الوجوب يقع به هذا الطرف من غير احتياج إلى غيره ، فلا يخلوا أنّه مع هذا الرجحان امّا أن يجوز وقوع / 7MB / الطرف المرجوح جوازا ذاتيا ، أولا ؛ وعلى الثاني يكون الطرف الراجح واجبا وقد فرض ممكنا ، هذا خلف! ؛ وعلى الأوّل إذا فرض وقوعه فامّا أن يقع مع بقاء مرجوحيته فيلزم ترجيح المرجوح ، أو مع صيرورته راجحا على الطرف الراجح فهو مناف / 6DB / للفرض ولمقتضى ذات الممكن (2).

واورد عليه : بانّه يلزم المنافاة المذكورة لو كان اقتضاء ذات الممكن الاولوية لاحد الطرفين على سبيل الوجوب ، وامّا إذا كان ذلك الاقتضاء أيضا على سبيل الاولوية فلا يلزم ذلك. مثلا نقول : انّ الممكن تقتضى ذاته اولوية الوجود لا على سبيل الوجوب ، بل على سبيل الاولوية وتقتضى الاولوية الثانية أيضا على سبيل الاولوية وهكذا تترتب الاولويات إلى أن ينقطع الترتّب بانقطاع اعتبار العقل. وحينئذ إذا صار الطرف المرجوح راجحا وواقعا لا يلزم منه إلاّ اقتضاء ذات الممكن ما ينافي مقتضى ذاته على سبيل الرجحان والاولوية. وهذا غير ممتنع ، بل هذا عين المتنازع فيه!.

وجوابه : انّ الذات الّتي تقتضي رجحان الوجود مثلا يلزم أن تقتضي مرجوحية العدم أيضا ، لانّ الراجحية والمرجوحية متضايفتان ومرجوحية العدم بالنظر إلى

ص: 25


1- راجع : المطالب العالية ، ج 1 ، ص 74.
2- راجع : الشرح الجديد ، ص 39.

الذات مستلزم لامتناعه ، لانّ وقوع المرجوح محال. وإذا كان هذا الطرف ممتنعا يكون الطرف الراجح واجبا ، فأحد طرفي الممكن لو كان راجحا فامّا أن يكون طرف الوجود فيكون الممكن واجبا ، أو طرف العدم فيكون ممتنعا ، وهذا خلف ، لانّ الأوّل يجب وجوده دائما والآخر يجب عدمه دائما وكلامنا في الممكن الّذي يطرأ عليه الوجود والعدم كلاهما.

ومنها : انّه قد تقرّر انّ الواجب ما كان بذاته منشئا لانتزاع الوجود من غير احتياج إلى علّة وحيثية ، والممتنع ما كان ذاته منشئا لانتزاع العدم من غير احتياج إلى شيء آخر ، والممكن ما ليس ذاته منشئا لانتزاع شيء من الوجود والعدم ، بل طريان كلّ منهما له محتاج إلى ضمّ علة. وإذا علمت ذلك فنقول : الممكن الّذي كان وجوده اولى إن كان ذاته بذاته منشئا لانتزاع الوجود من غير احتياج إلى ضمّ علّة فهو الواجب - لانه لا نعني من الواجب إلاّ هذا ، لانّ الكلام في الحقائق دون الالفاظ - ؛ وإن احتاج إلى ضمّ علّة فلا يكفى الاولوية في صيرورة الممكن موجودا.

ومنها : انّه لو كفى الاولوية الذاتية لوقوع احد طرفي الممكن فلا يخلوا امّا أن يمتنع وقوع الطرف المرجوح ، أو لا ؛ فعلى الأوّل يكون ما فرض اولوية وجوبا وهو خلاف الفرض ، وعلى الثاني يكون وقوع الطرف الراجح موقوفا على عدم حصول سبب المرجوح وهو عدم خارج عن ذات الممكن ، فوقوع الطرف الراجح محتاج إلى سبب خارج عن ذات الممكن ، فلا يكفي مجرّد الاولوية في وقوع احد طرفيه ، وهو المطلوب.

وأورد عليه : بانّ المفروض انّ السبب الخارج عن ذات الممكن هو عدم سبب المرجوح ، فاذا فرضنا انّ الطرف الراجح هو الوجود وليس هنا سبب لعدمه لجاز حينئذ أن يوجد الممكن من غير احتياج إلى ممكن مؤثّر موجود ، فينسدّ باب اثبات الصانع.

وأجيب عنه : بانّ الطرف المرجوح لمّا كان عدما - كما هو المفروض - يكون سببه أيضا عدما ، لانّ سبب العدم ليس إلاّ عدم علّة الوجود ، فيكون عدم سبب العدم وجودا - لأنّ عدم العدم وجود - ، وحينئذ يكون عدم سبب المرجوح امرا موجودا و

ص: 26

يكون وقوع الطرف الراجح - أعني الوجود - موقوفا على هذا الموجود ، فلا يلزم انسداد باب اثبات الصانع.

وفيه : انّ الممكن الّذي كلامنا فيه ليس معلولا لشيء حتّى يكون عدمه مستندا إلى عدم هذا الشيء. ثمّ إذا فرض عدم عدم هذا الشيء لزم وجوده ، فيجوز ان يكون عدم الممكن المفروض مستندا إلى شيء موجود ولا يمتنع أن يكون العدم اثرا لموجود ، بل الممتنع هو العكس ، وحينئذ عدم علّة عدمه ليس إلاّ ارتفاع هذا الشيء الموجود ؛ وعلى هذا صيرورة الممكن الّذي وجوده أولى لا يحتاج إلى شيء موجود خارج عن ذاته ، بل لا يحتاج إلاّ إلى ارتفاع سبب العدم.

والجواب : انّ سبب العدم اذا كان أمرا موجودا خارجيا عن ذات الممكن المفروض فارتفاعه يحتاج إلى علّة فعلية إن كانت شيئا موجودا ، فالممكن المفروض يحتاج في صيرورته موجودا إلى هذا الشيء ولا يكفى مجرد الاولوية. وإن حصل الارتفاع بمجرّد الاولوية - أي : كان هذا الممكن عدمه أولى من وجوده - ففيه : انّ مجرّد هذه الاولوية غير كافية لارتفاعه ، لانّه لمّا كان موجودا على ما هو المفروض فارتفاعه دفعة موقوف على ارتفاع سبب الوجود ، فان كان سبب الوجود هو مجرّد اولويّة الوجود فكيف يمكن مع ذلك أن يصير العدم أولى له في حالة اخرى؟ وإن كان سبب الوجود أمرا موجودا / 8MA / آخر فارتفاعه أيضا يحتاج إلى ارتفاع / 7DA / علّة وجوده ، ويرد الترديد ويلزم التسلسل إلى غير النهاية ، وهو باطل!.

ومنها : انّه لو كان لاحد طرفي الممكن أولوية يقع بها فامّا يجوز وقوع الطرف الآخر ، أو لا ؛ فعلى الثاني لا يكون ممكنا بل واجبا ، هذا خلف! ؛ وعلى الأوّل فاذا وقع الطرف المرجوح فاما أن يكون وقوعه مستندا إلى علّة أو لا ، والثاني باطل - لاستلزامه ترجّح المرجوح بنفسه - ، وعلى الأوّل فامّا أن يصير الطرف المرجوح لاجل العلّة اولى أو لا ، والثاني باطل - لانّ العلّة لا تكون علّة ما لم يصر المعلول بها أولى - ، والأوّل أيضا باطل لاستلزامه مرجوحية الطرف الاولى بذاته ، فيزول ما بالذات لأجل الغير (1).

ص: 27


1- راجع : تلخيص المحصّل ص 119.

ومنها : انّ الممكن إذا كان وجوده مثلا راجحا على عدمه لذاته لكان عدمه ممتنعا لذاته ، لانّ رجحان احد الطرفين يستلزم مرجوحية الطرف الآخر ومرجوحيّته تستلزم امتناعه - لضرورة امتناع ترجّح المرجوح - ، فرجحان الوجود لذاته يستلزم امتناع العدم لذاته وهو يستلزم وجوب الوجود ، فما فرضناه غير منته إلى حدّ الوجوب منته إليه ؛ هذا خلف!.

وأورد عليه ايرادات ضعيفة لا بدّ لنا أن نشير إلى دفعها ؛

اوّلها : انّه منقوض بالممكن ، فانّه ما يتساوى الوجود والعدم بالنظر إلى ذاته والتساوي ينافى الرجحان كما إن الرجحان ينافي المرجوحية ، فلو وجد ما يتساوى الوجود والعدم بالنظر إلى ذاته لزم رجحان المساوى ، كما انه لو وجد المرجوح لزم ترجيح المرجوح ولا يظهر بينهما فرق في الخلف ؛

وجوابه : ما مرّ انّ معنى تساوي النسبة في الممكن هو عدم اقتضائه شيئا من الوجود والعدم ، لا اقتضائه التساوي حتّى يلزم الفساد ، بخلاف الاولوية الذاتية فانّ معناها اقتضاء ذات الممكن رجحان احد الطرفين أو كونه لائقا له ، وان لم يتحقّق التضاد. فاذا اقتضى الذات رجحان احد الطرفين أو تحقّق الرجحان بدون الاقتضاء يجب أن يكون الطرف الآخر مرجوحا ولا يجوز أن يكون الراجح بالذات مرجوحا بالغير والمرجوح بالذات راجحا بالغير ، لأنّ ما بالذات لا يزول والمتنافيين لا يجتمعان ولو بألف علّة.

وثانيها : انّه منقوض بسائر مقتضيات الماهيّة كبرودة الماء ، فانّها من مقتضيات ماهية الماء مع انّها قد تزول بورود ما ينافيها - أعني : الحرارة - ؛

وجوابه : انّ المدّعى انّه مع تحقّق الرجحان الذاتى لاحد الطرفين يجب أن يكون الطرف الآخر مرجوحا - لاستلزام راجحية احدهما مرجوحية الآخر - ؛ ولم ندّع في الدليل انّه يقتضي الرجحان ، فلا يجوز أن يقع خلاف مقتضاه حتّى يعارض بمثل برودة الماء ، فانّ اقتضاء الرجحان الذاتى غير الرجحان الذاتى. على أنّ الاقتضاء على قسمين : اقتضاء تامّ واقتضاء ناقص ، والأوّل كون الشيء مقتضيا لشيء آخر بحيث لا يمكن

ص: 28

انفكاكه عنه ولا يقع خلاف مقتضاه - كاللوازم الذاتية للماهية - ، ولا ريب أنّ الممكن لو اقتضى رجحان احد الطرفين لذاته يكون رجحانه من هذا القبيل ، فلا يمكن أن يصير مرجوحا بالغير - لانّ ما بالذات لا يتخلّف ، كما مرّ -. والثاني كون الشيء مقتضيا لشيء آخر بحيث جاز انفكاكه عنه ووقوع خلاف مقتضاه من الخارج ، كالماء مثلا فانه قد يتصف بالحرارة مع انّ مقتضى طبعه البرودة - بناء على انّ اقتضاء طبعه البرودة ليس اقتضاء تامّا ، بل إذا خلّى وطبعه كان مقتضيا له -. ونظير ذلك كثير ، كالحجر المرمى إلى الفوق قسرا فان طبيعته تقتضى الحركة إلى المركز ؛ والأخلاق التابعة للامزجة ، فانّ الامزجة تقتضيها مع انّ زوالها وحصول منافياتها ممكن بالرياضات.

وثالثها : انّ غاية ما لزم من الدليل أن يكون العدم ممتنعا نظرا إلى ذاته ، والامتناع الذاتى لا يستلزم كونه ممتنعا مطلقا بحيث لا يقع ، ولم لا يجوز أن يقع لمرجّح غالب من خارج امّا بازالة المرجوحية أو بدونه؟! ، فانّ المرجوحية بالنظر إلى الذات لا ينافي الراجحية بالنظر إلى الغير ، فان غلب الغير المرجّح دفع المرجوح كما أنّ التساوي بالنظر إلى الذات لا ينافى الرجحان بالنظر إلى الغير.

وفيه : ما تقدّم من انّ الرّاجح بالذات لا يصير مرجوحا بالغير والمرجوح بالذات لا يصير راجحا بالغير ، لانّ ما يقتضيه الذات بالاقتضاء التامّ لا يتخلّف ، والمتنافيان لا يجتمعان ولو بالف علّة. على أنّ الكلام في انّه مع تحقّق الرجحان الذاتى لاحد الطرفين يكون الطرف الآخر مرجوحا ؛ فما دام الرجحان متحقّقا لأحد الطرفين / 7MB / يكون الطرف الآخر مرجوحا ، لانّ رجحان أحد الطرفين يستلزم مرجوحية الطرف الآخر. فاذا كان الرجحان بالنظر إلى / 7DB / الذات يكون المرجوحية أيضا بالنظر إلى الذات ، فالمرجوح مع كونه مرجوحا يمتنع أن يكون راجحا ، لامتناع ترجّح المرجوح. وإذا امتنع وقوع المرجوح يكون وقوع الطرف الراجح واجبا ، فما فرض غير منته إلى حدّ الوجوب يكون منتهيا إلى حدّ الوجوب ، هذا خلف!. والحاصل انّ الكلام في صورة تحقّق الراجحية والمرجوحية لا مطلقا ، فاذا فرض زوال المرجوحية لمرجّح غالب من خارج يخرج الكلام عن محلّ النزاع ويصير من باب ترجيح الغير

ص: 29

أحد طرفي الممكن ، فان صيّره واجبا وأوجده فلا كلام ، وان جعله أولى وأوجده لمجرّد هذه الأولوية لكان من باب وقوع الممكن بالاولوية الخارجية ، وستعلم بطلانه

ثمّ العلاوة على فرض التنزل ، لما عرفت من أنّ ما بالذات لا يزول بالغير

ومنها : انّه لا ريب في انّ الممكن الّذي وجوده اولى لو وجد بدون علّة خارجة لكان متصفا بالوجود وليس هو عين الوجود ، لانّ الممكن مهيته ماهية ممكنة وحصول الوجود له بدون علّة ضروري البطلان - مع انّا اقمنا عليه قواطع البراهين في ابطال مذهب ذيمقراطيس - ، فلا بدّ لوجوده من علة. فعلّيّته إمّا هذه الأولوية ، أو الماهية الممكنة الّتي وجودها اولى ؛ والأوّل ظاهر البطلان - لانّ الاولوية امر اعتبارى غير صالح لان يكون معطيا للوجود وموجدا للماهيات - ، والثاني أيضا بديهىّ الفساد ، لاستلزامه ايجاد الشيء نفسه وتقدّم الشيء على نفسه - لانّ الشيء المفيض للوجود يجب أن يكون موجودا حتّى يصحّ منه افاضته الوجود ، فيلزم أن تكون الماهية الممكنة قبل وجودها موجودة حتّى يفيض الوجود على نفسها - ، وبطلانه من اجلى البديهيات!. على انّه يلزم صحّة عدمه بنفسه ، لانّه لمّا فرض عدم بلوغ أولوية الوجود حدّ الوجوب يجوز عدمه مع بقاء تلك الأولوية ، اذ لو لم يجز عدمه مع بقائها لكان منتهيا إلى حدّ الوجوب وهو خلاف الفرض ، فحينئذ يجوز عدمه مع بقاء تلك الاولوية.

فيلزم جواز عدمه بلا علّة ، لانّه إذا جاز عدمه مع بقاء اولوية الوجود لجاز عدمه مع بقاء علّة الوجود ، وعلّة العدم ليست إلاّ عدم علّة الوجود وعلّة الوجود قد فرض بقائها ، فيثبت جواز عدمه بلا علّة ؛ وهو أيضا ظاهر البطلان.

فان قيل : قد صرّح الشيخ وغيره من أعاظم الحكماء بانّ الماهية بنفسها لا بوجودها علّة للوازمها ، فعلّة الامكان مثلا نفس ماهية الممكن لا وجوده ، ولذا يجوز تقديم الامكان على الوجود بمراتب ؛ فيقال : امكن فاحتاج فاوجب فوجب فاوجد فوجد. وإذا صحّ ذلك فلم لا يجوز أن يكون الوجود من لوازم الماهية فتكون الماهية بنفسها علّة للوجود؟ ، فلا يلزم أن يكون معطى الموجود موجودا ؛

قلنا : هذا السؤال أورده الشيخ وقال : إذا كان جائزا أن تكون ماهية علة

ص: 30

للوازمها لانّها ماهية لا لانّها موجودة فلم لا يجوز أن يكون واجب الوجود ماهية وتلك الماهية توجب الوجود لنفسها حتّى يكون الوجود معلول الماهية ، فلم يكن الوجود واجبا. ثمّ اجاب : بانّ الماهية إذا كانت لذاتها علّة لشيء كان ذلك الشيء لازما لتلك الماهية كيف كانت - أي : سواء كانت موجودة أو معدومة - ، فماهية المثلّث علّة لتساوي زواياه لقائمتين. فان كانت الماهية موجودة كان التساوي موجودا ، وإن كانت معدومة كان معدوما ، فلازم الماهية كالماهية تابع لها في الوجود والعدم. فلو كانت ماهيّة بنفسها علة لوجودها لزم أن يلزمها الوجود بايّ وجه فرضت ، فاذا كانت الماهية معدومة لزمها الوجود مع العدم كسائر لوازم الماهية ، فيلزم أن تكون تلك الماهية موجودة ومعدومة معا.

وحاصله : انّ الوجود إذا كان لازما للماهيّة كلّ ممكن لزم ان يكون ماهية كلّ ممكن موجودة ازلا وابدا ، لانّ الوجود حينئذ ليس له منتظر سوى الماهية ، فيلزمها الوجود دائما. وإذا صحّ موجودية كلّ ماهية دائما على فرض لزوم الوجود لماهية الممكنات ومع ذلك يرى انّ بعض المهيات معدومة ثمّ تصير موجودة - كالحوادث الزمانية - ، فيلزم أن تكون تلك المهيات موجودة ومعدومة معا.

وقال بعض اهل التحقيق : انّ هذا الجواب - أعني : جواب الشيخ - انّما ينفى كون الوجود لازما للماهيات الّتي كانت معدومة ثمّ تصير موجودة - كالممكنات الحادثة - لا مطلقا ، لانّ غاية ما لزم من كون الوجود لازما للماهية أن تكون الماهية موجودة ازلا وابدا ولم يكن لها عدم اصلا ، فلا يلزم منه نفي كون الوجود لازما للماهيات القديمة - كالعقول والافلاك - على رأي الحكماء. ثمّ قال : والجواب العامّ التامّ هو أن يقال : انّ القائل بانّ لازم الماهية لازم لها ومستند إليها - لانّها ماهيّة لا لأنّها موجودة - لا يقول انّ الماهية إذا كانت منفكّة عن الوجود و/ 8MA / معدومة صرفة تكون علة للازمها ، لانّها حينئذ ليست إلاّ تخمينا محضا فلا يصلح لأن يكون علة لشيء ، بل يقول : انّ الماهية الّتي تكون علة للازمها هي الماهية الّتي كانت مخلوطة بالوجود ، لكن الوجود لا مدخليّة له في ثبوت لازم الماهية بل هو مستند إلى ذات / 8DA / الماهية. والحاصل انّ الأمر الّذي

ص: 31

لا يكون مخلوطا بالوجود امر تخمينى لا يثبت له شيء اصلا ويسلب عنه جميع المفهومات حتى نفسه ، والأمر الّذي يكون علّة لشيء لا يتصوّر عليته إلاّ بعد تحصّله وتميّزه ، والتحصّل والتميّز لا يكونان إلاّ بعد الوجود - ولهذا يكون الوجود شبيها

بالذاتيات باعتبار انّ الشيء كما يمتنع انفكاكه عن الذاتيات كذلك يمتنع انفكاكه عن الوجود - ، فلو كان الوجود لازما لماهية شيء من المهيات لزم ان تكون تلك الماهية مخلوطة بالوجود قبل كونها موجودة. وهذا الجواب ينفى كون الوجود لازما لماهية كلّ الممكنات سواء كانت حادثة أو قديمة ، لانّ كون كلّ لازم لازما إذا كان بعد كون الماهية مخلوطة بالوجود فيكون الوجود لازما أيضا يتوقّف على كون الماهية مخلوطة بالوجود ، سواء كانت تلك الماهية حادثة أو قديمة ؛ وصيرورة الشيء موجودا بعد كونه مخلوطا بالوجود بديهى البطلان.

ومنها : انّ الممكن مع اولويّة الوجود مثلا إن لم يجز عدمه فيكون واجبا ، لا اولى ؛ وإن جاز عدمه فيمكن أن يصير تارة موجودا وتارة معدوما. فاذا صار موجودا لمجرّد الأولوية يلزم الترجيح لاحد المتساويين بلا مرجّح ، وهو باطل (1)

لا يقال : لا يلزم ترجيح أحد المتساويين ، لأنّ الأولوية مرجّحة ؛

لأنّا نقول : قد وقع الترديد في الدليل في جواز وقوع طرف العدم وعدمه بعد فرض الأولوية ، فالترديد إنّما وقع بعد اخذ الأولوية في ذات الممكن ، ومع ذلك لا تصلح الأولوية لان تكون مرجّحة. لانّا قلنا انّ العدم مع فرض اولوية الوجود ان كان غير جائز يكون الوجود واجبا ، وإن كان جائزا امكن وقوع كلّ من الوجود والعدم ، فوقوع أحدهما محتاج إلى مرجّح غير الأولوية ، فالأولوية المأخوذة مع ذات الممكن لا تصلح لان تكون مرجّحة. وإن كان المرجّح اولوية أخرى سوى الاولوية الماخوذة مع ذات الممكن لنقلنا الكلام إليها ، فان كانت هي أيضا مستندة إلى اولوية اخرى نقلنا الكلام إليها وهكذا ؛ فتترتّب الأولويات الغير المتناهية. ومع ذلك نقول : انّ الممكن مع جميع هذه الاولويات إن كان غير جائز العدم لكان واجبا لا ممكنا ، هذا خلف! ، وإن كان جائز العدم فصيرورته موجودا ترجّح لاحد المتساويين من دون مرجّح. و

ص: 32


1- راجع : الشرح الجديد ص 40.

لا يمكن أن يقال : انّ اولوية الوجود مرجّحة ، لانّ جميع الأولويات اخذت مع ذات الممكن ووقع الترديد في وقوع العدم وعدم وقوعه ، فلا تبقى اولوية داخلة أو خارجة تكون مرجّحة.

واعترض عليه : بانّ اللازم من عدم الانتهاء إلى حدّ الوجوب أن يحتاج الطرف الراجح على فرض وقوعه في بعض اوقات الاولوية فقط إلى اولوية اخرى ، وعلى فرض وقوعه في بعض ذلك البعض فقط إلى اولوية ثالثة وهكذا ؛ ومن البيّن انّه لا تجتمع تلك التقادير باسرها في الواقع حتّى تلزم اجتماع الاولويات الغير المتناهية في الواقع.

والجواب : انّ المحوّج إلى المرجّح ليس فرض وقوعه في بعض الأوقات الاولوية دون بعض حتّى لو فرض وقوعه في بعض ولا وقوعه في بعض آخر منها دون بعض احتاج إلى المرجّح ؛ ولو فرض وقوعه في جميعها لم يحتج إلى مرجّح ، بل المحوّج إلى الترجيح الثانى - أعني : الاولويّة الثانية - هو وقوعه مع الاولوية الاولى مع امكان عدم وقوعه معها ؛ وهكذا حكم ساير الاولويات - كما ظهر من الدليل -.

واعترض عليه أيضا : بانّ هذا الدليل لا يجري في الأمور الآنيّة ، بمعنى انّ المعلول الآني لمّا امتنع وجوده في آنين فاذا فرض وجوده في آن وعدمه في آن آخر يقول الخصم : انّ عدمه في ذلك الآن لامتناع وجوده فيه ، فلا يكون وجوده في آن وعدمه في آن آخر ترجيحا بلا مرجّح ، وانّما يلزم ذلك لو جاز وجوده في الآن الآخر.

وأجيب عنه : بانّ امتناع وجوده في الآن الآخر لا يجوز أن يكون لذاته بالضرورة ، بل لامر آخر يوجد في ذلك الآن - ككونه بعد آن الحدوث مثلا -. فحينئذ نقول : لا بدّ من عدم سبب ذلك الامتناع في الآن الأوّل حتّى يوجد فيه ، فلا يكون مجرّد الرجحان كافيا.

وانت تعلم انّ هذا الجواب يجعل الدليل راجعا إلى بعض الادلّة السابقة.

وأورد عليه أيضا : بانّ الممكن ما يجوز وجوده وعدمه جائزا نظرا إلى ذاته لا ما يجوز وجوده تارة وعدمه تارة اخرى ، فانّه قد يمتنع ذلك كما في الزمان على رأي

ص: 33

الحكماء فانّه ممكن ، بمعنى انّ كلاّ من الوجود والعدم جائز له بالنظر إلى ذاته مع انّه يمتنع أن يصير تارة موجودا وتارة معدوما ، لأنّه لا يجوز عدمه بعد وجوده ولا وجوده بعد عدمه. فانّ يوم السبت من شهر كذا من سنة كذا مثلا إذا صار موجودا لا يعدم بعد ذلك ابدا ، بل يكون موجودا خارجيا / 8MB / دائما - كما هو رأي الفلاسفة - ، وإن لم يكن موجودا في اليوم الأحد الّذي بعده ؛ يعنى ليس الأحد ظرفا لوجوده بل يصدق عدمه فيه ولا يجوز وجوده بعد صدق ذلك العدم. والحاصل انّ كلّ جزء من الزمان محدود بين جزءين آخرين يتعيّن وجود بينهما البتّة ، ولا يجوز عدم تحقّقه فيه ولا وجوده قبل وبعد ؛ فلا معنى لفرض وقوعه تارة وعدم وقوعه اخرى.

فالمحال الّذي هو ترجّح احد المتساويين من غير مرجّح انّما لزم / 8DB / من فرض وقوع الممكن تارة وعدم وقوعه اخرى. وهذا الفرض لمّا لم يكن من لوازم الامكان فالمحال المترتّب عليه أيضا ليس بلازم. فحينئذ يجوز ان يكون بعض الممكنات بحيث يكون كلّ واحد من الوجود والعدم جائزا بالنظر إلى ذاته ، ويكون الوجود اولى له بالنظر إلى ذاته وكان وقوع عدمه ممتنعا.

وقد اجاب عنه بعضهم : بأنّا نفرض وجوده مع الأولوية تارة وعدمه معها اخرى في جميع الازمنة ولا نفرض وجوده في زمان واحد وعدمه في زمان واحد آخر حتّى يلزم فرض وقوعه تارة وعدمه اخرى ، ولا استحالة في الفرضين - اي : فرض كلّ من الوجود والعدم في جميع الازمنة - لعدم الانتهاء إلى حدّ الوجوب.

وانت تعلم انّ هذا الجواب في غاية الضعف ؛ لانّ الفرضين ليسا حينئذ متساويين ، لانّ الأولوية مرجّحة للوجود وغير مرجّحة للعدم ، فكيف يسلّم الخصم امكان فرض العدم في جميع الازمنة ومساواته لفرض الوجود فيه؟!.

وقيل في الجواب : انّ هذا الحكم إذا ثبت في بعض الممكنات الّتي يجوز وجودها تارة وعدمها اخرى ثبت في جميعها ، إذ العقل لا يفرق بين ممكن وممكن في هذا الحكم.

وردّ : بانّ هذه الدعوى ممنوعة ، لانّ التساوي ليس بيّنا ولا مبيّنا.

ص: 34

وقال بعض الأفاضل (1) : هذا إيراد ما تصدّى احد من القوم لدفعه وحسبوا ان لا مدفع له ، وأنا ارى انّه مدفوع. وبيان ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة غفل عنها الأكثرون ؛ وهى : انّه قد يوضع موضوع ويفرض له حال ممكن الثبوت له بما هو موضوع - مع قطع النظر عن الخصوصيات الخارجة عن ذات الموضوع بما هو موضوع - ليستدلّ به على مطلوب وإن لم يكن هذه الحال ممكن الثبوت له بحسب بعض الخصوصيات الخارجة عن نفس الموضوع بما هو موضوع ، ولا ريب في انّ عدم امكان ثبوته له باعتبار بعض الخصوصيات الخارجة عن ذات الموضوع المغايرة لها لا يقدح في امكان ثبوته للموضوع بما هو موضوع ؛ وإذا كان هذا الحال ممكن الثبوت بنفس مفهوم الموضوع بل هو موضوع لا بدّ أن لا يكون فرض ثبوت ذلك الحال لنفس الموضوع من حيث هو هو مستلزما لمحال - فانّ الممكن من حيث هو ممكن لا يستلزم المحال - ، فاذا فرض انّه لزم من فرض ذلك المحال ووضع امور اخرى محال يجب أن لا يكون المحال ناشئا من فرض ثوبته ، بل من فرض صفة وحالة أخرى في ذلك الموضوع الّذي فرض له تلك الحال. وإذا عرفت هذه المقدمة أقول : الموضوع في هذا الاستدلال « الممكن من حيث انّه ممكن » ، ولا ريب في انّ وقوع الوجود في وقت والعدم في وقت آخر حال ممكن الثبوت للممكن بما هو ممكن ؛ ألا ترى انّ بعض الممكنات يوجد في وقت ويعدم في وقت آخر. وعدم امكان ثبوته لممكن باعتبار بعض الخصوصيات الخارجة عن ذات الممكن كالخصوصية الزمانية غير قادح - كما عرفت - ، فيتمّ الاستدلال ويندفع المنع والنقض ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ ما ذكره وإن كان حقا في نفسه لكنّه غير نافع في المقام ، لانّ غرض المورد انّ هذا الدليل ليس شاملا لجميع الممكنات لانّه لا يجري في بعض الخصوصيات كالزمان ، لا انّه لا يجري في الزمان إذا أخذ من حيث انه ممكن ، لانه إذا اخذ من حيث انه ممكن لخرج عن الخصوصية الزمانية فيخرج عن محلّ النزاع ، لانّ

ص: 35


1- في هامش « د » : هو الفاضل الحاج محمود النيريزي في شرح رسالة اثبات الواجب للدواني. منه - رفع قدره -.

النزاع انّما هو في الزمان من حيث الخصوصية لا مطلقا ، فلا يندفع النقض. وكذا لا يندفع المنع ، لانّ المراد منه انّ المعتبر في الممكن أن يجوز له الوجود والعدم باعتبار ذاته لا ما يجوز له الوجود تارة والعدم أخرى حتّى يجري ذلك في جميع خصوصيات الممكن.

وقال جماعة من الفضلاء : يمكن أن يوجّه الدليل بحيث لا يرد عليه شيء من الايرادات المذكورة. فقرّروه بوجوه :

اوّلها أن يقال : لو جاز وجود الممكن لمجرّد الاولوية الذاتية فاذا اخذ الممكن مع هذه الاولوية بدون انضمام امر اخر إليه فامّا أن يجوز له العدم مع بقاء تلك الأولوية ، أولا ؛ وعلى الثاني يلزم الوجوب وقد فرض غير واجب! ، وعلي الأوّل يفرض وقوع عدمه مع بقاء الاولوية ، ونقول : عدمه حينئذ امّا تقع مع مرجوحيته على وجوده فيلزم ترجيح المرجوح ، أو مع رجحانه على وجوده فيلزم انتفاء الاولوية ؛ هذا خلف!.

فان قيل : ما ذكرتم انّما يصحّ لو كانت الأولوية الذاتية موجبة للرجحان ، امّا لو كانت مرجّحة له فلا يجوز أن يزول الرجحان الّذي تقتضيه الاولوية بعنوان الرجحان عند فرض عدم الممكن ، فلا يلزم ترجيح المرجوح حال كونه مرجوحا ، انّما الممتنع زوال الرجحان إذا اقتضاه الأولوية بالوجوب ؛

قلنا : عدم الممكن مع بقاء رجحان وجوده بأىّ نحو كان محال - وهو ظاهر! -. وقد مرّ سابقا ما ينفعك في هذا المقام.

وثانيها أن يقال في الشق الأوّل : نفرض عدم وقوعه مع بقاء / 9MA / الأولوية ونقول : أنّ عدم الوقوع / 9DA / حينئذ إن كان بلا سبب لزم ترجّح الوقوع بلا سبب ، وان كان مع سبب فوقوع الطرف الاوّل - أعني : الوقوع - يتوقّف على عدم هذا السبب ، فليس مجرّد الأولوية كافيا.

وثالثها ان يقال : الممكن مع الأولوية الذاتية إن لم يجز عدمه كان واجبا ، هذا خلف! ؛ وإن جاز عدمه نفرض شخصين متساويين في رجحان الوجود ونفرض وجود أحدهما وعدم الآخر ، فيلزم ترجّح احد المتساويين.

وأنت تعلم انّ هذه التقريرات تخرج الدليل عن حقيقته وتجعله دليلا آخر ، فانّ

ص: 36

التوجيهين الاولين راجعان إلى بعض الادلّة السابقة ، والاخير دليل على حدة لم يذكر.

فالصحيح في الجواب عن الايرادين الاخيرين أن يقال : المقصود بالذات من نفى الاولوية الذاتية امكان اثبات الصانع ، فاذا ثبت انّ بعض الممكنات لا يمكن وجودها بدون أمر موجود مغاير للممكنات ثبت المطلوب.

فان قلت : لعلّ الموجود الأوّل هو الأمر الآني أو الزمان. وتنتهي سلسلة الممكنات الموجودة إليه ، وهو يوجد بمجرّد الاولوية للإيرادين المذكورين ؛

قلنا : مجرّد الاولوية لا يكفى لوجود كلّ واحد من الأمر الآني والزماني ، إذ لو كان كافيا له لكان مستلزما له والمفروض انّ ذات الممكن مقتضية للاولوية ، فتكون مستلزمة لها. فالذات مستلزمة للاولوية والاولوية مستلزمة للوجود ، فالذات مستلزمة للوجود ، فيكون موجودا دائما ولا يجوز زوال الوجود عنها ، هذا خلف ؛ هذا!.

وأمّا بطلان الاولوية الخارجية - ويقال لها : « الاولوية الغيرية » أيضا - فاعلم أوّلا انّ المراد بها أن يجعل الفاعل أحد طرفي الممكن اولى ويوجده بمجرّد هذه الاولوية من غير أن يجعله واجبا. واذ عرفت ذلك فاعلم! انّا قد بيّنا فيما سبق انّ الشيء ما لم يجب لم يوجد وبه ثبت بطلان الاولوية الذاتية بادنى تغيير ، مثلا نقول في الدليل الاوّل : لو وجد الممكن بعلّة مرجّحة غير موجبة فلا يخلوا انّه مع هذا الرجحان امّا يجوز وقوع عدمه جوازا ذاتيا أو لا ، فعلى الثاني يكون الطرف الراجح واجبا وفرض ممكنا ، هذا خلف! ؛ وعلى الأوّل فاذا فرض وقوع عدمه فلا بدّ من رجحانه على طرف الوجود لانّه ما لم يترجّح لم يتصوّر له الوقوع لايجابه ترجيح المرجوح ، فيصير الطرف المرجوح - أعني : العدم - راجحا على الطرف الآخر - اعنى : الوجود - وهذا مناف لما اقتضته العلّة ، لانّ المفروض أنّها اقتضت اولوية الوجود ، فكيف صار العدم اولى!؟.

ونقول في الدليل الآخر : الممكن إن ترجّح وجوده مثلا بالاولوية الخارجية امّا يجوز عدمه ، أو لا ؛ فعلى الثاني لم يكن ما فرضناه اولوية اولوية بل وجوبا ، هذا خلف!. وعلى الأوّل فلنفرض وقوعه معها تارة وعدم وقوعه معها اخرى ، فامّا أن لا يتفاوت رجحانه الحاصل من العلّة في الحالين اصلا لزم ترجّح احد المتساويين على الآخر

ص: 37

بلا مرجّح ، أو يتفاوت فيكون ذلك لأمر مختصّ بحال الوجود منضمّ إلى العلّة ويكون وجود الممكن من مجموعهما لا من العلّة فقط ، وقد فرض وجوده من العلة فقط ؛ هذا خلف!. على انّا نقول : بعد انضمام الأمر المذكور إلى العلّة إن وجب الممكن ثبت ما ادّعيناه من انّه لا يكفى مجرّد الاولوية الخارجية في وقوع الممكن بل ما لم يجب لم يقع ، وإن لم يجب فرضنا وقوعه معهما تارة وعدم وقوعه معهما اخرى ويتحقّق امر آخر ، وننقل الكلام إليه حتّى يلزم التسلسل ، وهو محال. وملزوم المحال محال. فصدور الممكن عن العلّة بدون ان يجب بها محال ، هذا.

وقد استدلّ بعض الاعلام على بطلان الاولوية الخارجية بانّه إذا تحقّقت علة وجود الشيء بتمامها فامّا أن يتساوى وجوده وعدمه ، فيكون حاله مع تمام العلّة كحاله لا معه ، فما فرض علّة ومرجّحا لا يكون علّة ومرجّحا ، هذا خلف! ؛ وامّا أن يترجّح الوجود من غير أن يبلغ حدّ الوجوب وحينئذ لا يخلوا من أن يكون طرف العدم ممكن الوقوع مع فرض تحقّق علّة الوجود بتمامها أو لا يكون ممكن الوقوع ، فان لم يكن ممكن الوقوع يلزم أن يكون ما فرض غير منته إلى حدّ الوجوب منتهيا إليه ، هذا خلف! ، وإن كان ممكن الوقوع مع تحقّق علة الوجود بتمامها ولا يصلح لعلية العدم إلاّ عدم ما هو علّة الوجود - لانّ عدم الشيء الممكن مستند إلى عدم تحقّق علة وجوده - وقد فرض تحقّق علّة الوجود بتمامها ، فيلزم صحّة عدمه بلا سبب.

وأنت تعلم انّ هذا الدليل أيضا يرجع إلى بعض الادلّة السابقة (1).

المقدّمة الرابعة : في أنّ الممكن كما يحتاج في وجوده إلى العلّة يحتاج في بقائه - أيضا - إليها

ص: 38


1- وهناك أدلّة أخرى لاثبات بطلان الاولوية. راجع : المطالب العالية ، ج 1. ص 88.

وقبل الخوض في بيانه لا بدّ من بيان علّة احتياج الأشياء إلى المؤثّر. فنقول : الحقّ انّ علة احتياج / 9DB / الممكن إلى المؤثّر هو الامكان ، وفاقا لجمهور الحكماء ؛

وذهب جماعة من المتكلّمين إلى أنّ العلّة فيه هو الحدوث (1) ؛

وقيل : الامكان مع الحدوث شطرا ؛

وقيل : شرطا (2).

لنا : انّ العقل يحكم بأنّ الممكن ما يتساوى وجوده وعدمه ، وانّ ما يتساوى وجوده وعدمه فهو محتاج إلى مرجّح مغاير للممكن مرجح احد طرفيه المتساويين على الآخر - لبطلان ترجّح احد المتساويين على الآخر - ، / 9MB / فيعلم منه انّ علّة الحاجة في الواقع هي الامكان. لانّ العقل رتّب الاحتياج على تساوي الوجود والعدم والترتّب العقلي الّذي هو مدرك مؤدّى تعطى التفاوت بين التساوي والاحتياج ، وهو المراد بالعلّية في نفس الأمر.

وممّا يدلّ على أنّ الحدوث ليس علّة الافتقار إلى المؤثر انّا نتصوّر حدوث الممكن ولا يحصل لنا العلم باحتياجه إلى المؤثّر ما لم يلاحظ امكانه ، حتّى لو فرض حادث واجب بالذات وإن كان مما لا يحكم باستغنائه عن المؤثّر.

وأيضا لو كان الحدوث علّة الاحتياج لزم تقدّم الشيء على نفسه بمراتب. بيانه : انّ الحدوث كيفية الوجود ووصف له - لانّه عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم - ، فتأخّر الوجود المتأخّر عن الايجاد المتاخّر عن الاحتياج ، لانّ الشيء إذا لم يكن محتاجا إلى المؤثّر لم يتصوّر تأثيره فيه - كما في الواجب والممتنع - ، فالايجاد فرع الاحتياج والاحتياج متأخّر عن علّته - لوجوب تقدّم العلّة على المعلول - ، فلو كان الحدوث علّة للاحتياج أو جزء لها أو شرطا لها وجب تقدّمه على الاحتياج المتقدّم على الايجاد المتقدّم على الوجود المتقدّم على الحدوث ، فيلزم تقدّمه على نفسه بأربع

ص: 39


1- هذا القول نسبه بعضهم إلى قدماء المتكلّمين. راجع : شرح المقاصد ج 1 ص 490. تلخيص المحصّل ص 120.
2- راجع : المطالب العالية ، ج 1 ، ص 71 ، تجد ما فيه نافعا في المقام. وانظر أيضا : شوارق الالهام ، ص 138 ؛ شرح المقاصد ، ج 1. ص 489 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 206.

مراتب - على تقدير العلّية والشرطية - ، وبخمس مراتب - على تقدير الجزئية ، لوجوب تقدّم جزء العلّة عليها (1) -. وأمّا الامكان فلا ريب في انّه مقدّم على الاحتياج بالذات لعدم تصوّر الاحتياج بدون تصوّر الامكان.

فان قيل : الامكان صفة للممكن بالقياس إلى الوجود - لانّه عبارة عن مساوات نسبة الوجود والعدم إلى الماهية الممكنة - ، فيكون متأخّرا عن الوجود فلا يكون علة للاحتياج المتقدّم على الوجود بمراتب (2) ؛

قلنا : الامكان وإن كان متأخّرا عن الماهية نفسها وعن مفهوم الوجود أيضا لكنّه ليس متأخّرا عن كون الماهية موجودة بل مقدّم على اتصاف الماهية بالوجود ، ولذا يوصف الماهية ووجودها بالامكان قبل اتصاف الماهية بالوجود. وامّا الحدوث فلا يتصف الماهية ولا وجودها به إلاّ إذا صارت موجودة ؛ على انّ تاخّر الحدوث عن الايجاد ممّا لا ريب فيه ، ولذا صحّ أن يقال : أوجد فحدث ، وبذلك ثبت المطلوب سواء قلنا انّه متأخّر عن الوجود أيضا أم لا.

واذ ثبت انّ علّة الحاجة هي الامكان يلزم منه أن يكون الممكن الباقى حال بقائه أيضا محتاجا إلى المؤثّر لانّ الامكان لازم لماهية الممكن ذاتي لها لا ينفكّ عنها حال البقاء أيضا ، فيوجد معلوله - أعني : الاحتياج - أيضا في تلك الحال (3). كيف ولو صار الممكن بحصول الوجود له واجبا لصار بحصول العدم ممتنعا ، فلا يوجد ممكن أصلا وهذا خلف! ؛ فالافتقار لازم لماهية الممكن لا ينفكّ عنه في حال العدم ولا في حال الوجود ؛ ولنعم ما قيل :

سيه روئى ز ممكن در دو عالم

جدا هرگز نشد واللّه اعلم!(4)

فما دام الامكان ثابتا للممكن يكون الافتقار إلى المؤثّر ثابتا له ، فلو فرض ممكن

ص: 40


1- راجع : شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 490 ؛ تلخيص المحصّل ، ص 120 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 207.
2- راجع : تلخيص المحصّل ص 120.
3- راجع : تلخيص المحصّل ، ص 121 ؛ كشف المراد ، ص 56 ؛ المبدأ والمعاد - للشيخ الرئيس - ، ص 25.
4- البيت استشهد به صدر المتألّهين ورئيسهم أيضا. راجع : الحكمة المتعالية ، ج 1. ص 69.

قديم لكان دائم الافتقار إلى المؤثّر مع دوام وجوده. فالممكن في حدّ ذاته فقر محض وعدم صرف. وانّما يصير موجودا واجبا بالغير ، كما قال كبير الفلاسفة : « الممكن في حدّ ذاته ليس ولعلته أيس ». ولا ريب في انّ الوجوب بالغير لا يخرجه عن الافتقار الذاتى لانّ ما بالذات لا يزول وما يقتضيه الذات مقدّم على ما يقتضيه الغير ، فسلب الاحتياج عن الممكن - حادثا كان أو قديما - محال.

قال الشيخ في المبدأ والمعاد ما حاصله : « انّه لا يجوز ان يكون الحادث ثابت الوجود بذاته من دون افتقار إلى العلّة ، لانّا نعلم بالضرورة انّه لم يجب ثبوته ووجوده لذات الممكن ومهيته ، فيمتنع أن يصير واجبا بالحدوث الّذي ليس واجبا لذاته ولا ثابتا لذاته ، فالحقّ - جلّ وعزّ - قيوم الكلّ كما هو موجد الكلّ ».

ثمّ لا يخفى انّ من قال علّة الاحتياج إلى المؤثّر هو الحدوث وحده أو الامكان مع الحدوث - شطرا أو شرطا - يلزمه أن يكون الممكن حال بقائه مستغنيا عن المؤثّر ، اذ لا حدوث حال البقاء فلا احتياج ، وقد التزمه جماعة منهم ؛ كما قال اليهود : « انّ الممكنات تفتقر إلى المؤثّر في اخراجها من العدم إلى الوجود وبعد اخراجه منه إليه لا تبقى لها حاجة إليه حتى لو جاز العدم على المؤثّر - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا! - لما ضرّ العالم ».

وتمسّكوا في ذلك ببقاء البناء بعد فناء البنّاء (1) ، ولم يعلموا انّ الكلام / 10DA / في العلّة الموجدة ، وليس البنّاء موجدا للبناء وانّما هو علّة لحركات الآلات واللبنات والأخشاب بحركة يده ، وتلك الحركات علل عرضية معدّة لاوضاع مخصوصة بين تلك الآلات والاخشاب وتلك الاوضاع مفاضة من علل فاعلية غير تلك الحركات المستندة إلى حركة البنّاء (2).

فان قيل : تأثير المؤثّر في الباقي محال ، لانّه إن افاد الوجود الّذي كان حاصلا فيلزم تحصيل الحاصل ؛ وإن افاد / 10MA / امرا آخرا متجدّدا لم يكن التأثير في الباقي ،

ص: 41


1- راجع : الشرح الجديد ص 70. التحصيل ص 526.
2- راجع : شوارق الالهام ص 139 ، نقلا عن المحقّق الشريف.

بل في هذا الأمر المتجدّد (1) ؛

قلنا : تاثير المؤثّر في استمرار الوجود وبقائه ، فانّ الحاصل بالحدوث ليس إلاّ الوجود في زمانه وحصول شيء في زمان لا يوجب حصول استمراره وبقائه ، فابقاء الوجود وادامته من المؤثّر ، وهو غير حصول نفس الوجود. والحاصل : انّ اتصاف الماهية الممكنة بالوجود في زمان حدوثه كما لم يكن مستندا إلى ذاته بل إلى المؤثّر الخارج عن ذاته - لاستواء نسبة ذاته إلى الوجود والعدم - كذلك اتصافها به في الزمان الثاني والثالث وما بعدهما من الازمنة ليس مستندا إلى ذاتها ، بل إلى علّة خارجة ، لانّ استواء نسبة ذاتها إلى وجودها وعدمها أمر لازم لذاتها لا ينفكّ عنها في جميع الاوقات والحالات ، واتصافها بالوجود في زمان الحدوث هو اتصافها باصل الوجودات واتصافها به في الازمنة الّتي بعده هو اتصافها بالبقاء ، فهو في وجودها ابتداء وفي استمرارها وبقائها محتاجة إلى العلّة الّتي تعطيها الوجود ويديمه لها ، وحاجتها إليها في الابتداء والبقاء سواء. فلو فرض انقطاع تاثير المؤثّر عن العالم في آن لصار معدوما ، كما انّ المستضيء بمقابلة الشمس إذا حجب عنها زال ضوئه وصار مظلما (2).

المقدّمة الخامسة : في ابطال الدور والتسلسل

أما « الدور » فهو أن يكون أحد الشيئين متوقّفا على الآخر ومعلولا له ، ويكون الآخر أيضا متوقّفا عليه ومعلولا له ، إمّا بلا واسطة ويسمّى « دورا مصرّحا » أو بواسطة ويسمّى « دورا مضمرا ».

والدليل على بطلانه انّ ما هو المتوقّف والمعلول يجب أن يكون متأخّرا عن

ص: 42


1- راجع : الشرح الجديد ص 70. شوارق الالهام ص 138. تلخيص المحصّل ص 121.
2- راجع : المصدرين الاوّلين من المصادر المذكورة في التعليقة السالفة.

المتوقّف عليه والعلّة وما هو المتوقّف عليه ، والعلّة يجب أن يكون مقدّما على المتوقّف والمعلول. فلو كان شيء متوقّفا على ما يتوقّف عليه ومعلولا لما هو معلول له لزم أن يكون متوقّفا على نفسه وعلّة لها ، وهو يوجب تقدّمه على نفسه - أي : كونه موجودا حين كونه معدوما - ؛ وهو باطل (1).

وأيضا معنى المحتاج من حيث هو محتاج غير معنى المحتاج إليه ومقابله ، فلو كان شيء متوقّفا على نفسه وعلّة لها من جهة واحدة لزم أن يكون غير نفسه ومقابلا له ، وبطلانه من أجلى البديهيات.

وأمّا « التسلسل » فهو أن يكون شيء معلولا لشيء آخر وهو معلولا لثالث وهو لرابع ... ، وهلمّ جرّا إلى غير النهاية.

ويدلّ على بطلانه وجوه من البراهين القاطعة.

منها : « برهان التطبيق (2) ». وتقريره : انّه لو تسلسلت العلل إلى غير النهاية لكان كلّ واحد من آحاد السلسلة معلولا لسابقه وعلّة للاحقه ، إلاّ المعلول الأخير ، فانّه ليس علّة ، وهذه السلسلة وان كانت واحدة بالذات إلاّ أنّها تنحلّ في الواقع وعند العقل إلى سلسلتين إحداهما مركّبة من العلل والأخرى من المعلولات ، وعدد آحاد السلسلة الأخيرة أزيد من آحاد السلسلة الاولى بواحد هو المعلول الأخير - لأنّه معلول وليس علة -. ولنا أن نطبق بين السلسلتين بان نطبق الجزء الأوّل من إحداهما من الطرف المتناهي على الجزء الأوّل من الأخرى والجزء الثاني على الجزء الثاني وهكذا ؛ بل لا حاجة إلى فرض التطبيق ، إذ الجزء الأوّل من إحداهما بإزاء الجزء الأوّل من الأخرى والجزء الثاني بإزاء الجزء الثاني وهكذا في الواقع ونفس الأمر. فالانطباق حاصل عند العقل وبحسب الواقع وإن لم نفرض التطبيق ، فان لم تتناه السلسلتان من

ص: 43


1- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 2 ، ص 142 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 111.
2- هذا البرهان هو العمدة في اثبات ابطال التسلسل. قال القوشجى : ... وعليه التعويل في كلّ ما يدّعى تناهيه. راجع : الشرح الجديد ، ص 122 ؛ وبنفس العبارة : شرح المقاصد ، ج 2. ص 112. وقال صدر المتألّهين : ... وعليه التعويل في كل عدد ذي ترتيب موجود سواء كان من قبيل العلل والمعلولات أو من قبيل المقادير ... راجع : الحكمة المتعالية ، ج 2. ص 145.

الطرف الآخر ولم تصر السلسلة الاخيرة - اعنى : الزائدة - متناهية في ذلك الطرف ووقع بإزاء كلّ جزء من الزائدة جزء من الناقصة لزم تساوي الزائد والناقص ، وهو يوجب تساوي الكلّ والجزء وهو محال ؛

وإن لم يقع بإزاء كلّ جزء من الزائدة جزء من الناقصة - ولا يتصوّر ذلك إلاّ بان يوجد جزء من الزائدة لا يكون بإزائه جزء من الناقصة - لزم تناهى الناقصة بالضرورة والزائدة لا تزيد عليها الاّ بمقدار متناه ، فيلزم تناهيها أيضا لأنّ الزائدة على المتناهى بمقدار متناه متناه (1) -. / 10DB /

واعترض عليه : بانّا نختار انّه يقع بإزاء كلّ جزء من الزائدة جزء من الناقصة ويمتنع لزوم تساويهما ، فانّ وقوع التوازي بين كلّ جزءين من جملتين كما يكون للتساوي فقد يكون لعدم التناهى ؛

وجوابه : انّ الضرورة قاضية بانّ كلّ جملتين امّا متساويتان أو متفاوتان بالزيادة والنقصان ، وإذا لم تتساويا وتتفاوتا بالزيادة والنقصان لزم / 10MB / الناقصة الانقطاع (2).

فان قيل : هذا البرهان منقوض بالأعداد وبالأمور المتعاقبة في الوجود من الحوادث الّتي لا أوّل لها - كالحركات الفلكية وأمثالها - ؛

وبالأمور الّتي توجد معا ولكن لا ترتيب بينها - كالنفوس الناطقة فان جميعها غير متناهية عند الحكماء - مع أنّ هذا البرهان جار فيه (3) ؛

والجواب عن النقض بالاعداد : أنّها من الأمور الاعتبارية وكلّ ما يدخل منها في الوجود متناه ، فانّ عدم التناهى يكون بمعنيين أحدهما أن توجد في الخارج أو الذهن امور مفصّلة غير متناهية ، وثانيهما أن يعتبر العقل مفهوما كلّيا يصلح لان يصدق

ص: 44


1- راجع : الشرح الجديد ص 122. وانظر : ما افاده المحقق الطوسى بشأن هذا البرهان فى فوائده الملحقة بتلخيص المحصّل ص 516. المطالب العالية ج 1 ص 151. الحكمة المتعالية ج 2 ص 145.
2- راجع : الشرح الجديد ص 122. الحكمة المتعالية ج 2 ص 146.
3- راجع : الشرح الجديد ص 122. وانظر : المطالب العالية ج 1 ص 145. الحكمة المتعالية ج 2 ص 145. شرح المقاصد ج 2 ص 122.

على كثيرين ، وكلّما اعتبر العقل له افرادا مفصّلة امكنه اعتبار افراد اخر ولكن الموجود في الخارج أو العقل ليس إلاّ افراد متناهية والعدد من هذا القبيل (1). وقوله : « عدم التناهى » بمعنى لا يقف. وعن النقض بالبواقى انّ المتكلّمين متّفقون على امتناع عدم تناهيها واجراء برهان التطبيق وغيره من براهين ابطال التسلسل فيها ؛ وامّا الحكماء فلما اشترطوا في بطلان عدم التناهى شرطين : أحدهما أن يكون الأمور الغير المتناهية موجودة وحكموا بجواز التسلسل في المتعاقبات ؛ وثانيهما أن يقع بينها ترتيب وجوّزوا اللاتناهى في الأمور المجتمعة في الوجود معا - كالنفوس الناطقة وكالصبرة المشتملة على الاجزاء الغير المتناهية - ، وقالوا : انّ برهان التطبيق وغيره من البراهين لا تجري في المتعاقبات وفي الأمور المجتمعة في الوجود (2). واحتجّوا على عدم جريانه في الأوّل بأنّ الآحاد إذا لم يكن موجودة في الخارج معا لم يتمّ التطبيق لأنّ وقوع آحاد احدى الجملتين بإزاء احاد الأخرى ليس حينئذ في الوجود الخارجيّ ، اذ ليست المتعاقبات مجتمعة في الوجود بحسب الخارج في زمان أصلا وليس في الوجود الذهنى أيضا - لاستحالة وجودها مفصّلة في الذهن دفعة ، لعدم اقتدار الذهن على احاطته بالأمور الغير المتناهية دفعة - ؛ ومن المعلوم انّه لا يتصوّر وقوع آحاد إحدى الجملتين بإزاء آحاد الأخرى إلاّ إذا كانت موجودة معا إمّا في الخارج أو الذهن. والحاصل : انّ الفساد المترتّب على وجود ما لا يتناهى انّما يكون فيما عرض له صفة عدم التناهى وهذا فرع تحقّقه ، وتحقّقه إمّا في الخارج أو الذهن والذهن لا يحيط به ، بل إذا احاطه بجملة متناهية يعجز عن ادراك الباقى ولذا قالوا : انّ التسلسل في الاعتباريات جائز ، لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، فالمتعاقبات الغير المتناهية لا يحيط بها الذهن وليست موجودة في الخارج ، فلا يبطل التسلسل فيها.

وقد اكّد ذلك عندهم بأمرين : أحدهما : انّهم احتاجوا إلى ربط الحوادث بالثابتات وهو لا يتأتّى على أصولهم إلاّ بعدم تناهى الزمان والمتعاقبات ؛ وثانيهما :

ص: 45


1- راجع : الشرح الجديد ص 122.
2- راجع : الحكمة المتعالية ج 2 ص 147. شرح المقاصد ج 2 ص 123.

انّهم ذهبوا إلى تشابه هيولى العناصر فيحتاج إلى مخصّص في قبول الصور ، وهو أيضا على رأيهم موقوف على عدم تناهى الزمان والمتعاقبات. واحتجّوا على عدم جريانه في الثاني بانّ الآحاد إذا كانت موجودة معا ولم تكن مرتّبة لم يتمّ التطبيق أيضا ، إذ لا يلزم من كون الأوّل بإزاء الأوّل كون الثاني بإزاء الثاني والثالث بإزاء الثالث وهكذا ، فيجوز أن تقع آحاد كثيرة من إحدى الجملتين بإزاء واحد من الأخرى ، إلاّ أن يلاحظ العقل كلّ واحد من الأولى واعتبره بإزاء واحد من الأخرى. لكن العقل غير قادر على الاحاطة بما لا يتناهى مفصّلا لا دفعة ولا في زمان متناه ، حتّى يتصور تطبيق ويظهر الخلف ؛ بل ينقطع التطبيق بانقطاع اعتبار العقل والوهم ويتّضح ذلك بتوهم التطبيق بين حبلين ممتدّين على الاستواء وبين اعداد المحصى ، فانّه إذا اطبق طرف أحد الحبلين على طرف الاخرى كان ذلك كافيا في وقوع كلّ من أحدهما بإزاء جزء من الثانى ؛ وليس الحال كذلك في أعداد المحصى ، لانّه لا بدّ في التطبيق من اعتبار تفاصيلها.

فان قلت : هل الحقّ عندكم في هذه المسألة قول المتكلّمين - من بطلان عدم التناهى وجريان التطبيق في الجميع ، أعني : الأمور المجتمعة المرتبة وغير المجتمعة المتعاقبة والمجتمعة الغير المرتبة - ، أو قول الحكماء - من تخصيص البطلان وجريان التطبيق في الاولى دون الآخرين -؟ ؛

قلنا : المختار عندنا قول المتكلمين وبطلان عدم التناهى وجريان / 11DA / التطبيق بل غيره من الادلّة في الأخيرتين أيضا ، أمّا جريانه في غير المجتمعة المتعاقبة فلانّه لا ريب في أنّها صارت موجودة على التدريج بعد جمعها في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر ، واحاط بها بحيث لم يشذّ منها صغيرة ولا كبيرة وان لم يكن في الوجود عادّ ولا فارض ولا معتبر ، وجميع العلل المعدّة موصوفة بالعدد في نفس الأمر. فانّا نعلم قطعا أنّ سلسلة / 11MA / من المعدّات كزيد مثلا وجدّه وابيه وهلمّ جرّا إلى غير النهاية اذا كانت موجودة على التعاقب تتّصف بالعدد الّذي يتصف به إذا فرض وجودها على الاجتماع من دون تفاوت ، وكذا جميع الازمنة الماضية لها نوع صحّة وتحقّق في

ص: 46

نفس الأمر ويقبل العدّ والانقسام إلى الأعوام والشهور والأيّام والساعات وغير ذلك ، وكلّ ذلك احكام صحيحة لها تحقّق في الواقع ونفس الأمر وبها يحصل الاعداد الواقعية في الخارج ، فلو كانت المتعاقبات من المعدّات والزمان غير متناهية لحصل الأعداد الغير المتناهية في الواقع ونفس الأمر ، فيجري فيه التطبيق وغيره من براهين ابطال التسلسل. ولا مدخلية لحصول الاجتماع في الوجود وجريان التطبيق ، بل المناط فيه حصول الوجود في الخارج بحيث أمكن فرض التطبيق ، ولا ريب في صحّته مع حصول الوجود التدريجى.

فان قيل : إذا اجتمعت الآحاد في الوجود مع ترتّبها وتطبيق أوّل جزء من إحدى الجملتين على أوّل جزء من الجملة الاخرى يحصل الانطباق بين بقية آحاد الجملتين ، اذ المراد بالتطبيق عند التحقيق توافق الأفراد في المراتب وهو يحصل بمجرّد انطباق الجزءين الاوّلين من الجملتين في نفس الأمر عند وجود الآحاد مجتمعة مع الترتّب ، وأمّا إذا لم تكن مجتمعة بل كانت متعاقبة في الوجود فعند تطبيق بعضها على بعض لا يحصل الانطباق بين البواقى ، لانتفائها ، إذ هو انّما يكون في الأمور الموجودة لأنّ تعيّن كلّ واحد بمرتبة خاصّة من مراتب العدد في نفس الأمر انّما هو بعد وجودها في الخارج أو في مدرك من المدارك ، والمتعاقبات في الخارج منتفية ؛ وكذا في العقل ، لانّه لا يقدر على استحضارها مفصّلة.

قلنا : إذا فرضنا جملتين متعاقبتين موجودتين على التدريج كزيد وأبيه وجدّه - وهكذا إلى غير النهاية - ثمّ طبقنا بين زيد وعمرو فلا نشكّ في انّه يحصل التطبيق النفس الأمري بين البواقى وإن لم تكن موجودة في الخارج ، لانّ كلّ جزءين من اجزاء السلسلتين لمّا وجدا توافقا في المراتب فيحصل بينهما التطبيق في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر وإن لم يكونا موجودين في الحال ، وهذا ظاهر لا ريب فيه. وأمّا جريانه في المجتمعة الغير المرتّبة فلأنّ وقوع كلّ واحد من آحاد إحدى الجملتين بإزاء آحاد الجملة الاخرى إذا كانت الجملتان موجودتين معا من الأمور الممكنة وإن لم يكن بين آحادهما ترتّب ، والعقل يفرض ذلك الممكن واقعا حتّى يظهر الخلف ، ولا يحتاج في ذلك

ص: 47

الفرض إلى استحضار آحادهما مفصّلة ، بل يكفى في فرض وقوع هذا الممكن ملاحظتهما اجمالا ، فالتطبيق يجري فيها كما يجري في المجتمعة المرتّبة من دون فرق. على انّا نقول : لو وجد أمور غير متناهية دفعة وان لم تكن مرتّبة توقّف مجموعها على ما يبقى منه بعد اسقاط واحد ، وتوقّف مجموع الباقي على ما يبقى منه بعد اسقاط واحد ، وهكذا ، فيلزم وجود مجموعات غير متناهية يحصل منها التوقّف والترتّب فيجري فيها التطبيق.

فإن قيل : الموجود في الخارج انّما هو الأمور المتفرّقة الكثيرة ولا وجود المجموع من حيث الوحدة إلاّ بعد أن يعتبر العقل وحدته ، والعقل لا يقدر على اعتبار المجموعات الغير المتناهية واستحضارها ، فلا يلزم الترتّب الواقعى الكافي للتطبيق بين جميع المجموعات ، ونظير هذا الترتّب هو الترتّب بين الاعدام الغير المتناهية ؛

قلنا : إذا وجد كثرة كالالف مثلا وجد فيه سبعمائة وخمسمائة ومائتان ومائة ، وهكذا ، ولكلّ منها جهة وحدة وإن لم يعتبرها العقل اصلا ، فيحصل التطبيق الواقعى.

فإن قيل : المسلّم توقّف مجموع الغير المتناهى على الآحاد الّتي تبقى بعد اسقاط واحد منها وتوقّف مجموع الباقى على الآحاد الّتي تبقى بعد اسقاط واحد منها وهكذا ، ولا يلزم من توقّف امر على آحاد توقّفها على مجموعها من حيث هو مجموع ، فانّ كلّ كلّ يتوقّف على كلّ واحد من اجزائه ولا يتوقّف على مجموعها من حيث هو مجموع ، اذ هو عينه فلا يحصل بين المجموعات توقّف وترتّب حتّى يجري فيها التطبيق ؛

قلنا : لا يتوقّف التطبيق على كون آحاد السلسلة بحيث تكون عليّة كلّ واحد منها للآخر من حيث انّه واحد وله جهة وحدة هى تكون / 11DB / علّة واحدة له ، بل لزم أن تكون علة له سواء كان علة واحدة أو عللا كثيرة ، اذ المقصود تحصيل الانتظام وهو يحصل بالشقّين. فاذا سلّم توقّف كلّ واحد من المجموعات على ما يبقى منه بعد اسقاط واحد يحصل المطلوب سواء توقّف على مجموع الثاني من حيث الوحدة أو / 11MB / على الآحاد الّتي يتضمنها مجموع الباقي. على انّ الترتيب حاصل بين المجموعات المفروضة وإن لم يكن بينها توقّف في الوجود ، اذ بينها ترتّب من حيث

ص: 48

المراتب العددية ومجرّد الترتّب يكفى لاجراء التطبيق ، وهو ظاهر ؛ هذا.

واعلم! انّه يمكن تقرير برهان التطبيق بوجه آخر لا يتوقّف على تحليل السلسلة الغير المتناهية إلى سلسلتى العلل والمعلولات والتطبيق بين آحادهما ؛ بل نقول : لو وجدت سلسلة غير متناهية فان كانت غير متناهية من طرف واحد نسقط عدّة متناهية من الطرف المتناهي ، ولو كانت غير متناهية من الجانبين فسقطناها من البين واعتبرنا كلّ قطعة على حدة ، ثمّ نسقط العدّة المتناهية من المبدأ فالباقى في الصورتين أيضا سلسلة غير متناهية ناقصة عن السلسلة الاولى بتلك العدّة ؛ فاذا طبّقنا التامّة على الناقصة بان فرضنا الجزء الأوّل من التامّة بإزاء الجزء الأوّل من الناقصة والثاني بإزاء الثاني وهكذا فامّا تذهب هذه المساوات حتى تستغرق السلسلتين ، فيلزم مساواة الكلّ لجزئه ، بل يزيد الكلّ على جزئه وهو باطل ؛ أو تنتهى الناقصة فتنتهى التامّة أيضا لزيادتها عليها بعدد متناه ، وقد فرضت غير متناهية ؛ هذا خلف!.

ومنها : انّه لو تسلسلت العلل إلى غير النهاية اسقطنا المعلول المحض من السلسلة ولا يضاف كلّ واحد من الآحاد الّتي فوقه بعد وصفي العلية والمعلولية تنحلّ السلسلة إلى جملتين متغايرتين بالاعتبار إحداهما مركّبة من العلل والأخرى من المعلولات ، وإذا طبّقنا بين آحاد الجملتين - اعني كلّ واحد من المعلولات على كلّ واحد من العلل - لزم زيادة وصف العلية على وصف المعلولية ، لانّه لا ينطبق حينئذ كلّ علة على معلولها لخروج المعلول الاخير - بل على معلول علّتها المتقدّمة عليها بمرتبة ، وذلك المعلول هو نفس تلك العلّة الّتي تنطبق عليه ، فالعلة والمعلول - اللّذان يحصل بينهما الانطباق - شيء واحد وإنّما يتغايران باعتبار وصفي العلية والمعلولية ، وبهذا الاعتبار يتصوّر الانطباق بينهما. فكلّ علة ومعلول منطبقين لا بدّ ان تكون قبلهما علّة ، لانّه إذا اجتمعت العلّيّة والمعلولية المنطبقتين في واحد واستندت معلوليته إلى علة مقدّمة عليه وجب أن تتقدّم علّة على كلّ منطبقين من العلة والمعلول ، فإذا انطبقت افراد المعلولات بأسرها - بحيث لم يبق منها واحد غير منطبق - كان هناك علّة متقدّمة على جميع المنطبقات لم ينطبق عليها شيء من افراد المعلولات - وإلاّ لزم أن ينطبق معلول من تلك المعلولات على علّته

ص: 49

لا على علّة المعلول المتأخّر عنه الّتي هي نفس ذلك المعلول - ، وإذا انطبق على علّته فلا تكون علّته متقدّمة عليه ، بل واقعة في مرتبته وهو خلاف المفروض ، فتتحقّق هناك علّة متقدمة على جميع المنطبقات فتزيد سلسلة العلل على سلسلة المعلولات بواحدة ، فيلزم انقطاع سلسلة المعلولات ، ومنه يلزم انقطاع سلسلة العلل ؛ هذا لو فرضت السلسلة متناهية من جانب المعلولات غير متناهية من جانب العلل. ولو فرضت متناهية من جانب العلل غير متناهية من جانب المعلولات تسقط العلّة المحضة ويلزم عند التطبيق بين الجملة التامة والناقصة زيادة وصف المعلولية على وصف العلية ، اذ كلّ معلول حينئذ لا ينطبق على علّته بل على عليّة معلوله المتاخّر عنه ، وتلك العلّة هى نفس ذلك المعلول. فبمثل ما مرّ تبين انّ كلّ معلول وعلّة منطبقين لا بدّ أن يكون بعدهما معلول. وعلى قياس ما تقدّم يلزم زيادة سلسلة المعلولات على سلسلة العلل ، فتنقطع السلسلتان (1).

ومنها « برهان التضايف ». وتقريره : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية لكان كلّ واحد من آحادها معلولا لسابقه وعلة للاحقه إلاّ العلّة الاولى إن كان عدم التناهى من جانب المعلولات دون العلل فانها علّة محضة ، إذ المعلول الأخير إن كان بالعكس فانّه معلول محض فيتصف كلّ واحد من آحادها بالمتضايفين - أعني : العلّية والمعلولية - ، إلاّ العلّة المحضة أو المعلول المحض - فان كلاّ منهما يتصف بإحداهما - ، فيزيد عدد أحد المتضايفين على الآخر بواحد ؛ لكنّه محال لانّ المتضايفين متكافئان في الوجود - أي : يجب تساويهما في العدد - ، فيلزم ان يكون بإزاء كلّ علية معلولية حتّى يتساويا / 12DA / في العدد ولا يتصوّر ذلك إلاّ بان تكون السلسلة من الطرف الآخر متناهيا لتحقّق معلول محض أو علّة محضة يكون بإزاء ما فرض في الطرف المتناهى من المعلول المحض أو العلّة المحضة. ولو فرضت السلسلة غير متناهية من / 12MA / الطرفين قطعناها من البين واعتبرنا كلّ قطعة على حدة. وهذا البرهان كما ثبت منه بطلان

ص: 50


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 123. وانظر : الحكمة المتعالية ، ج 2. ص 163 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 125.

التسلسل ثبت منه وجود الواجب بالذات ، لانّه إذا وجد في أحد طرفي السلسلة ما هو المتصف بالعلّية دون المعلولية باعتبار وجوده في نفسه كان واجبا بالذات لا بالغير من الواجب بالذات إلاّ ما هو علّة الاشياء وليس معلولا لغيره (1).

قال بعض الأفاضل : « هذا الدليل ممّا عوّل عليه الفحول وتلقّوه بالقبول ؛ وفيه نظر ، لانّه إن اريد بزيادة عدد أحد المتضايفين على الآخر لزوم الزيادة في الخارج ، فهو انّما يصحّ لو كان لهذين المتضايفين - أي : العلّية والمعلولية - وجود في الخارج ، وهو ممنوع ؛ لانّهما من المعقولات الثانية. وإن أريد به لزوم الزيادة في الذهن فهو انّما يصحّ إذا قدر الذهن على الاحاطة بجميع المراتب الغير المتناهية ، وانّى له ذلك؟!. وان توهّم انّه يلزم زيادة عدد المعلول على عدد العلّة فنقول : لا محذور فيه ، ولا بدّ لنفيه من دليل ». انتهى.

وجوابه : انّا نختار أوّلا انّ لزوم الزيادة انّما هو في الواقع ونفس الأمر ، فانه لو وجدت الآحاد الغير المتناهية في الخارج لاتّصف كلّ منها بالعلّية والمعلولية في الخارج وكانتا ثابتتين له في نفس الأمر والواقع ، وإن لم يكن الخارج ظرفا لوجودهما بل ظرفا لاتصاف تلك الآحاد بهما ؛ فانّ الضرورة قاضية بانّ لها نوع تحقّق ونحو ثبوت لتلك الآحاد في نفس الأمر وإن لم يوجد فارض ومعتبر ، فانّ للمعلولات الثانية أيضا نحو تحقّق في نفس الأمر. على انّا نقول : لا ريب في أنّ اتصاف كلّ واحد من تلك الآحاد بالعلّية والمعلولية متحقّق في الخارج ، وما يدلّ على تساوي عدد المتضايفين يدلّ بعينه على تساوي عدد الاتصاف بهما ؛ مع انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية من أحد الطرفين يلزم أن يكون عدد الاتصافات بأحد المتضايفين زائدا على عدد الاتصافات بالآخر بواحد.

ونختار ثانيا انّ لزوم الزيادة انّما هو في عدد العلل والمعلولات. وما ذكره من انّه لا محذور فيه مدفوع بأنّ ما يقتضي وجوب التكافؤ بين العلّية والمعلولية يقتضي وجوبه

ص: 51


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 125. وانظر أيضا : الحكمة المتعالية ، ج 2. ص 162 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 124.

بين العلّة والمعلول أيضا ؛ كيف وقد ذكروا انّ المتضايفين إمّا حقيقيّان - كالأبوّة والبنوّة - ، أو مشهوريان - كالأب والابن - ، وقد صرّحوا بثبوت التكافؤ في كلّ من القسمين.

ونختار ثالثا : انّ لزوم الزيادة في الذهن وعدم اقتداره على الاحاطة بالآحاد الغير المتناهية غير قادح ، لأنّ الملاحظة الاجمالية كافية في ذلك الحكم والذهن قادر عليها. على انّ الحكماء مصرّحون بانّ المدارك العالية قادرة على ملاحظة الأمور الغير المتناهية مفصّلة ، فيلزم الزيادة في مداركهم وإن لم يلزم في المدارك القاصرة.

فان قيل : التكافؤ اللازم بين العلّة والمعلول أن تكون بإزاء معلولية المعلول علّة قائمة بعلّة ذلك المعلول ، وهذا المعنى ثابت للمعلول الأخير ؛ فانّ العلّية المتضايفة لمعلوليته هي الّتي قائمة بعلّية ، وكذا حال كلّ معلولية في تلك السلسلة. فإن ادّعى في البرهان انّه يلزم زيادة المعلولية المتضايفة على العلّية أو بالعكس لواحدة فهو ممنوع ، لانّ كلّ معلولية يكون بإزائها العلّية القائمة بعلّة ذلك المطلوب المتصف بالمعلولية ، وكلّ علية تكون بإزائها المعلولية القائمة بمعلول تلك العلّة المتصفة بالعلية ؛ وإن ادّعى انّه يلزم زيادة المعلولية على العلّية أو بالعكس بواحدة مطلقا - أي : سواء كانت تلك المعلولية متضايفة أم لا - ، فهو ممنوع ، ولكن لا نسلّم استحالته ، ولا بدّ لانكاره من دليل.

قلنا : العقل كما يحكم بامتناع تحقّق احد المتضايفين بدون الآخر كذلك يحكم بامتناع زيادة عدد أحد المتضايفين على عدد الآخر. وتوضيحه : انّه لا يكون بإزاء مضايف حقيقى واحد إلاّ مضايف حقيقى واحد. فلا يكون بإزاء علّية واحدة إلاّ معلولية واحدة. فلو تكثّرت العلّية تكثّرت المعلولية بحسب تكثّر العلية ، فيتساوى عددهما. وفي صورة التسلسل يلزم زيادة عدد إحداهما على عدد الأخرى.

فان قيل : لا يلزم زيادة عدد المعلولية على عدد العلّية ولا العكس كما ذكرتم ، لأنّ علّة المعلول الآخر ليس الواحد الّذي فوقه ، لانّه علة ناقصة له بل علّته التامة مجموع ما فوقه من السلسلة ، وكذلك ما فوق المعلول الأخير ينحلّ إلى جزءين احدهما معلول

ص: 52

والآخر علّته وهو مجموع ما فوقه - وهكذا إلى غير النهاية - ، فلا يلزم الزيادة المذكورة ؛

قلنا : إذا انحلّت السلسلة إلى المعلول الأخير وإلى / 12DB / مجموع ما فوقه ويكون / 12MB / مجموع ما فوقه علّة له ثمّ فصّلت تفصيلا ثانيا وثالثا وهكذا لزم زيادة العدد المعادّ له على عدد العلّة على هذا التقدير أيضا ، لانّ جميع ما فوق المعلول الأخير يتّصف بالعلّية والمعلولية معا ، والمعلول الأخير يتّصف بالمعلولية فقط ، وهو ظاهر. على انّا نقول : لا كلام في ذلك ، بل المطلوب انّه لمّا كانت سلسلة الآحاد ترتيبية فتكون تلك الآحاد بحيث يكون كلّ سابق منها علّة للاحق ، وان كان السابق علّة ناقصة بالقياس إلى اللاحق إلاّ المعلول الأخير فانّه ليس علّة ناقصة لشيء ، فيلزم الزيادة المذكورة بهذا الاعتبار لا مطلقا. ثمّ لا يخفى انّ هذا البرهان يجري في المتعاقبات وفي المجتمعات الغير المترتبة أيضا ؛ امّا جريانه في الأولى فلأنّ الحصول في الخارج ولو على التدريج يوجب حصول العدد في الواقع ونفس الأمر ، فيقبل التساوي والزيادة ، وامّا جريانه في الثانية فلانّه إذا اسقطنا واحدا من مجموع تلك الآحاد الغير المتناهية بقى أقلّ عدد منها ، وإذا اسقطنا واحدا من الباقى بقى عدد اقلّ من هذا الباقى وازيد ممّا لو اسقط منه واحد أيضا ، وهكذا إلى غير النهاية ؛ فلكلّ مجموع اقلّيّة واكثرية سوي المجموع الاوّل ، فانه لكونه اكثر من الجميع له اكثرية فقط ، فيزيد عدد الاكثرية على عدد الاقلّية مع أنّهما متضايفان. فان قيل : يجب أن يوجد ما هو الأقلّ من الكلّ وهو الواحد ، فله اقلّية فقط ؛ قلنا : محال يوجد بين هذه الاقلية والاكثرية الّتي للكلّ أو بين الأقل والأكثر مراتب غير متناهية محصورة بين حاصرين ، وهو باطل.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية فهي لا محالة اسقطنا منها واحدا ، فيبقي الباقي أقلّ منها ، والاتصاف بالأقلية يستلزم التناهي ، لأنّ معنى أقلية الشيء أن يكون له حدود مرتبة لا يجاوزه ، وإذا كان متناهيا كانت السلسلة أيضا متناهية ، لانّه لا يزيد عليه إلاّ بواحد.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية فهي لا محالة تنحلّ على آحاد وعشرات و

ص: 53

مئات وألوف وهكذا ، فعدّة الآحاد مثلا امّا أن تكون مساوية لعدّة الالوف أو اقلّ منها أو أكثر ، والكلّ باطل. امّا بطلان الأوّلين فلأنّ عدّة الآحاد يجب أن يكون أزيد من عدّة الالوف بتسعمائة وتسع وتسعين ، لأنّا نأخذ في عدّة الآحاد كلّ واحد واحد وفي عدّة الألوف نأخذ كلّ الف واحدا ، فيكون عدّة الآحاد في ألف مائة ألف مائة وعدّة الألوف فيها مائة ، فكيف يمكن مساواة عدّة الآحاد لعدّة الالوف أو نقصانها عنها؟!. وامّا بطلان الثالث فلأنّه لو كان عدّة الألوف اقلّ لكانت متناهية - لما تقدم من أنّ الاقلّية لا ينفكّ عن التناهي ، لانّ معناها أن يكون له حدّ ومرتبة لا تجاوز عنه - ، والضرورة قاضية بانّه لا معنى لكون غير متناه اقلّ أو أكثر من غير متناه آخر وإذا كانت عدّة الألوف متناهية كانت عدّة الآحاد أيضا متناهية ، اذ هى لا يزيد عليها إلاّ بقدر متناه - وهو تسع مائة وتسع وتسعون - ، فيلزم تناهى السلسلة لتناهي اجزائها عدّة وآحادا (1).

فان قيل : نحن نمنع المنفصلة القائلة بانّ عدد الآحاد إمّا مساو لعدد الالوف أو اقلّ أو أكثر لانّ التساوي والتفاوت من خواصّ المتناهى (2) ؛

قلنا : الضرورة قاضية بانّ كلّ جملتين سواء كانتا متناهيتين أو غير متناهيتين إمّا متساويتان أو متفاوتتان في الواقع ، ومنعه مكابرة!.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية لاشتملت على آحاد غير متناهية وعشرات غير متناهية ومئات غير متناهية وألوف غير متناهية وهكذا ، فيجب ان يكون العادّ لكلّ واحد من تلك العدد أيضا اعداد غير متناهية ، فتكون العادّ لكلّ منها واحدا وهو تمام الآحاد - لأنّ الاعداد العادية في جميع تلك العدد يستوعب تمام الآحاد وإلاّ لم يكن معنى لعدم تناهى تلك العدد - ؛ فيلزم أن يكون كلّ عددين متناهيين كالواحد والعشر والعشرة والمائة والمائة والألف متساويين لتساوي ما بعدهما.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية لاستلزمت لان يكون عدد واحد هو مجموع آحاد السلسلة زوجا وفردا ؛ وهو محال. بيان اللزوم : انّه لو وجدت سلسلة

ص: 54


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 125. وانظر : الحكمة المتعالية ، ج 2. ص 164 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 129.
2- انظر : الحكمة المتعالية ، ج 2 ، ص 165 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 131.

كذلك فان كان أحد طرفيها متناهيا فذاك ، وإلاّ قطعناها من البين ونقول : العدد الّذي وقع مبدأ لتلك السلسلة متّصف بالاوّلية وعلية المتقدّمة عليه بمرتبة متصفة بالثانوية وعلّة تلك العلة متصفة بالثالثية - وهكذا كلّ واحد من آحاد تلك السلسلة على الترتيب - له مرتبة معيّنة كالرابعية والخامسية إلى غير النهاية ؛ ولا ريب في انّ نصف تلك الآحاد تقع في المراتب الفردية كالاوّل والثالث والخامس ، ونصفها الآخر يقع / 13MA / في المراتب / 13DA / الزوجية كالثانى والرابع والسادس وكلّ منهما يذهب إلى غير النهاية فيكون بإزاء كلّ واحد من المراتب الفردية واحد من المراتب الزوجية وبالعكس ؛ ولا يجوز أن يقع فردان أو زوجان ولاء - بل يقع بعد كلّ فرد زوج وبالعكس - ، فيكون عدد الآحاد الفردية مساويا لعدد الآحاد الزوجية ، فتنقسم السلسلة إلى قسمين متساويين أحدهما الأفراد والآخر الازواج ، فيكون مجموع آحاد السلسلة زوجا - لانّا لا نريد من الزوج إلاّ المنقسم بمتساويين -. ثمّ نقول : مجموع آحاد تلك السلسلة بعينها فرد ، لأنّا إذا اسقطنا واحدا منها بقيت سلسلة أخرى غير متناهية وناقصة منها بواحد ، وتبيّن بما تقدم انّ آحاد تلك السلسلة الناقصة أيضا زوج ، فيلزم أن تكون السلسلة التامة فردا ، لانها كانت زائدة على الناقصة بواحد. وإذا زيد واحد على زوج يحصل فرد ، لأنّ الواحد إذا انضمّ إلى احد النصفين يزيد على الآخر ولا يصلح للتنصيف ، فيثبت لزوم ما ادّعيناه من كون آحاد السلسلة زوجا وفردا وهو باطل. وهذا المحال لزم من فرض وجود غير المتناهى ، فيجب أن يكون الطرف الّذي فرض غير متناه متناهيا لئلاّ يلزم هذا التناقض.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية لكان نصفها آحادا زوجية ونصفها آحادا فردية - كما تقدّم آنفا - ، فيوجد النصف لتلك السلسلة ، ولكن آحاد كلّ من النصفين منتشرة في مجموع السلسلة بمعنى أنّ بعد كلّ فرد زوج وبالعكس إلى غير النهاية. ثمّ نقول : لا ريب في انّه يمكن اعتبار التنصيف وتعينه من أحد الطرفين على التوالى والترتيب ، بان نقول : نصف الآحاد الزوجية مع نصف الآحاد الفردية في كلّ من الطرفين نصف أعداد السلسلة على التوالى والترتيب. وإذا وجد للسلسلة نصف

ص: 55

على الترتّب والتوالى نقول : لا يخفى على كلّ عاقل انّ كلّ عدد مؤلّف من آحاد مترتّبة له نصف يجب أن يحصل نصفه أوّلا ثمّ يحصل كلّه ، وما لم يحصل في الخارج نصفه لا يمكن أن يحصل كلّه ، ولا ريب في انّ النصف إذا وجد كان محصورا بين الحاصرين - أعني : مبدأ السلسلة ومبدأ النصف الآخر - ، فيكون متناهيا ؛ وإذا كان النصف متناهيا كان الكلّ متناهيا.

ومنها : انه لو وجدت سلسلة غير متناهية من جانب واحد لاشتملت على آحاد فردية غير متناهية وآحاد زوجية كذلك ، فتوجد فيها أوّلا سلسلتان غير متناهيتين من جانب واحد ويلزم أن لا ينقص مجموع آحادهما عن آحاد الغير المتناهي في الجانبين بمقدار غير متناه ، لانّ الضرورة قاضية بانّ كلّ سلسلتين غير متناهيتين من جانب واحد لا ينقص مجموع آحادهما عن آحاد غير المتناهى من الجانبين بمقدار غير متناه ، بل امّا يتحقّق بينهما التساوي أو الزيادة أو النقصان بقدر متناه. ثمّ نقول : لا ريب في انّ كلّ سلسلة غير متناهية من جانب واحد ينقص آحادها عن آحاد السلسلة الغير المتناهية من الجانبين بمقدار غير متناه ، لأنّا إذا طبّقنا الأولى على أحد قسمي الثانية لكانت مساوية ومطابقة له ، ويبقى منها قسم آخر غير متناه ، فيلزم منه أن تكون السلسلة الّتي فرضت أوّلا غير متناهية من جانب واحد أنقص من الغير المتناهية من الجانبين بمقدار غير متناه وإن اشتملت على آحاد فردية غير متناهية وآحاد زوجية كذلك ، مع انّه يثبت أوّلا أنّها لا تنقص عنها بمقدار غير متناه ، فيجتمع فيها النقيضان ، وهو محال.

فان قيل : المحال انّما لزم من فرض وجود السلسلة الغير المتناهية من الجانبين ، ويجوز أن يكون وجود مثل تلك السلسلة محالا ولم يكن وجود السلسلة الغير المتناهية من جانب واحد محالا! ؛

قلنا : إن جاز وجود الغير المتناهي جاز وجود السلسلتين وإن لم يجز وجودهما ، والفرق تحكّم!.

فان قيل : المسلّم انّ السلسلتين الغير المتناهيتين من جانب واحد إذا تعدّدا

ص: 56

بالاثنينية الخارجية وامتاز إحداهما عن الأخرى وتوالت آحادهما لا ينقص مجموعهما عن الغير المتناهي في الجانبين لا إذا لم يتمايزا بالاثنينية وتشابكت آحادهما - كما في ما نحن فيه - ، فانّهما بالحقيقة سلسلة واحدة صارت اثنتين باعتبار العقل ؛

قلنا : لا شبهة في أنّ عدد السلسلتين لا يتفاوت بتشابك / 13MB / آحادها مع غيرها أو تواليها ، فما يثبت لها من الأحكام من حيث العدد لا يتفاوت بالتشابك والتوالي ، فانّك لو فرضت توالى كلّ واحد من الآحاد الفردية والزوجية بأن يخرج واحد منهما من بين آحاد الاخرى حصلت سلسلتان محقّقان ممتازتان متواليتا الآحاد ، وهما كانتا موجودتين بعينهما في السلسلة الأولى. فبالتشابك والتوالى لا يختلف حكمها ولا يزيد عددها ولا ينقص على احد التقديرين دون الآخر.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة مركبة / 13DB / من آحاد غير متناهية لكان لها في حاقّ الواقع ومتن الخارج مرتبة من العدد البتة ، لانّ كلّ جملة موجودة في الخارج متعينة الآحاد يجب أن يعرضها مرتبة عددية ويوجد مراتب أخر ناقصة عنها بواحد واثنين وثلاثة ، وهكذا يوجد طبقات مترتّبة متنازلة إلى أن ينتهى إلى الواحد ، وكلّما يوجد من المراتب المتوسّطة بين المرتبة الأولى والمرتبة الأخيرة - أعني : الواحد - محصور بينهما ، فلو كانت تلك المراتب غير متناهية لزم كون الغير المتناهي محصورا بين حاصرين وهو باطل (1)

وأنت تعلم انّه لو قطع النظر عن الانصاف واستقامة القريحة يمكن للمناظر المجادل أن يمنع أوّلا وجود مرتبة عددية معينة لآحاد الغير المتناهي ؛ ويمنع ثانيا استحالة انحصار الغير المتناهي بين مثل هذين الحاصرين (2) - أعني - المرتبة الّتي لغير المتناهي والمرتبة الواحدية - ، إلاّ أنّ بعد الرجوع إلى الانصاف والوجدان السليم والحدس الصائب يحكم العقل بأنّ الآحاد الموجودة المتعينة في الخارج لا بدّ أن يعرضها مرتبة معينة من العدد ولا يمكن انحصار غير المتناهي بينها وبين الواحد (3).

ص: 57


1- انظر : الحكمة المتعالية ، ج 2 ، ص 166 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 127.
2- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 2 ، ص 167.
3- وهناك ادلّة اخرى لابطال الدور والتسلسل وابحاث قيّمة مبثوثة في الكتب الحكمية و الكلامية. ولعلّ من أنفسها ما ذكره الإمام الرازى ، راجع : المطالب العالية ، ج 1. ص 136 / 157.

* * *

ص: 58

المقالة الأولى : في اثبات الواجب الوجود لذاته

اشارة

ص: 59

المقالة الاولى

في اثبات الواجب الوجود لذاته

اعلم! أنّ هذا المطلب مع كونه من أعلى المطالب الالهية وأسنى المقاصد الحكمية وأصل كلّ السعادات وأفضلها ومبنى جميع الخيرات وأشرفها والغاية العظمى للناظرين في حقائق الملك والملكوت والوجهة الكبرى للمسافرين إلى صقع عالم الجبروت ، قد امتاز عن جميعها بالوضوح والجلاء ؛ بحيث لا يخفى على الأغبياء فضلا عن العقلاء ، كيف لا؟! وكلّ من يرقى من حضيض الحيوانية وأعطى حظّا من الانسانية يعلم أنّ هذه الموجودات الكثيرة العظيمة لم توجد بنفسها ولا بما هو محتاج مثلها ؛ بل انّما وجدت من صانع غنىّ عن غيره ، ولذا لو تصفّحت فرق الأنام من الخاصّ والعامّ واطّلعت على بواطنهم وعقائدهم وجدتهم متّفقين على الاقرار بإله العالم وصانعه : بل علمت أنّ منكره انّما ينكر باللسان وقلبه مطمئنّ بالايمان - كما قال امير المؤمنين صلوات اللّه عليه وعلى آله الطاهرين : فهو الّذي تشهد له أعلام الوجود على اقرار قلب ذي الجحود - (1) ؛ وهذا يدلّ على أنّ معرفة اللّه فطرية. ويؤكّده اضطرار الناس في المضايق والمصائب إلى التوجّه والفرار إلى إلههم وخالقهم (2).

ص: 60


1- من كلام له - علیه السلام - وفيه جملة من صفات الربوبية والعلم الالهى. راجع : نهج البلاغة ، الخطبة 49 ص 88.
2- راجع : المطالب العالية ، ج 1 ص 240 ، حيث انعقد الرازي الفصل الثاني من القسم الثاني من الجزء الأوّل من هذا الكتاب لبيان الدلائل الاقناعية لاثبات واجب الوجود. وفي مفتتح الباب حكى هذا البرهان عن سيّدنا ومولانا أبي عبد اللّه الصادق - عليه وعلى آبائه وأولاده آلاف التحية والثناء -.

والحقّ أنّ معرفة وجود صانع العالم فطريّة بديهية ، لكن معرفة وجود الواجب بالذات ومعرفة صفاته الكمالية نظرية.

ثمّ إنّ للعقلاء في اثبات واجب الوجود لذاته مسالك (1) ؛

الأوّل : مسلك الحكماء

اشارة

القائلين بانّ علّة الحاجة هي الامكان ، وهو الاستدلال من جهة الامكان والتغيّر.

ولمّا لم يكن مجرّد الامكان الذاتي للممكن من دون أن يصير موجودا كافيا في الاثبات ، فالالهيون منهم استدلّوا عليه بالنظر إلى الموجود من حيث هو ، أو من حيث افراده ، أو فرد منه ؛

وبعضهم استدلّوا بالامكان الوقوعي - كما يأتي -.

والطبيعيون منهم استدلّوا عليه بوجود خاصّ وطبيعته - أعني : الحركة - ؛

وبعض الحكماء استدلّوا عليه بالنظر إلى حال النفس الناطقة.

فللحكماء أربعة مناهج ؛

المنهج الأوّل : منهج الإلهيّين منهم
اشارة

وهو الاستدلال بالنظر إلى الوجود. ويمكن الاستدلال على هذا المنهج بوجوه

ص: 61


1- انظر : الأربعين في أصول الدين - للرازى - ج 1 ص 103. تلخيص المحصّل ص 242.

بعضها يتوقّف على ابطال الدور والتسلسل ، وبعضها لا يتوقّف على ابطالهما ، أو يتوقّف على ابطال الدور فقط.

أمّا الأوّل فتقريره : إنّ الموجودات لو انحصرت في الممكنات ولم يستند إلى واجب بالذات لزم الدور ، أو التسلسل ، أو وجود الممكن بنفسه من غير علّة ، أو الانتهاء إلى الواجب. ووجه اللزوم والحصر ظاهر. وبطلان اللوازم بأسرها سوى الأخير - الّذي هو المطلوب - قد تقدّم.

ومثل هذا الدليل الّذي يوجد فيه طبيعة الموجود أو افراده أو فرد منتشر منه ويستدلّ على الواجب بلزوم الدور أو التسلسل أو وجود الممكن بنفسه يمكن أن يقرّر بوجوه.

اوّلها : ما ذكر.

وثانيها : لا ريب في وجود ممكن ، فنقول : يجب استناده إلى مؤثّر موجود - لبطلان وجود الممكن بدون علّة - ، فإن كان واجبا ثبت المطلوب والاّ ننقل الكلام إليه. فامّا يلزم الدور أو التسلسل / 14MA / أو الانتهاء إلى الواجب بالذات (1).

وثالثها : انّ للموجود افرادا بالضرورة ، فإن كان واحد منها واجب الوجود ثبت المطلوب ، وإن لم يتحقّق فيها واجب الوجود وانحصرت في الممكنات لزم أن يتحقّق فيها واجب الوجود. بيان اللزوم : انّه لو لم يوجد فيها واجب الوجود امّا أن تكون موجودة بعضها ببعض - امّا دائرة أو متسلسلة - ، أو تكون موجودة لا بعلّة ، والكلّ باطل ؛ فيجب أن يوجد فيها واجب الوجود بالذات.

ورابعها : أن يقال في الشق الثانى : إن كان كلّ افراد الموجود / 14DA / ممكنا فلهذا الكلّ - لكونه ممكنا - مؤثّر موجود بالضرورة ، فننقل الكلام إليه ، فيجب الانتهاء إلى الواجب لاستحالة الدور والتسلسل ووجود الممكن بدون علّة.

وخامسها : أن يقال فيه : لو لم يوجد في افراد الموجود واجب الوجود وانحصرت في الممكنات لزم الدور أو التسلسل أو وجود الممكن بدون علّة - لانّه إمّا أن تكون في

ص: 62


1- راجع : تلخيص المحصّل ص 245.

بعضها موجودة ببعض وجد ذلك البعض به فهو الدور ، أو ببعض وجد بآخر وهو بآخر وهلمّ جرّا فهو التسلسل - ؛ أو تكون موجودة بنفسها بأولوية ذاتية أو بدونها ، فهو الموجودية بدون علّة (1).

وسادسها : انّه لا شكّ في تحقّق طبيعة الموجود من حيث هي مع قطع النظر عن خصوصيات الأفراد وان لم ينفك تحقق الطبيعة والعلم بها عن تحقّق الافراد والعلم بها ، فان كانت هذه الطبيعة واجبة ثبت المطلوب ، وإلاّ لزم أحد المفاسد المذكورة في الشقّ الثاني من الأدلّة المتقدّمة.

وسابعها : إنّ الموجود إمّا ثابت وبالفعل في وجوده وصفاته دائما أو لا ، بل متغيّر وبالقوة ولو من بعض الوجوه (2) وفي بعض الأحيان ؛ والأوّل هو الواجب ، والثانى هو الممكن. ثمّ إن وجد الأوّل في افراد الموجود ثبت المطلوب والاّ لزم أحد المفاسد المذكورة في الشقّ الثاني من الادلّة المتقدّمة ، لأنّ كلّ متغير وبالقوّة لا بدّ له من مغيّر ومخرج غير ذاته يخرجه من قوّته إلى الفعل فيجب الانتهاء إلى مغيّر غير متغير ومخرج يكون بالفعل من جميع الوجوه دائما لئلاّ يخرج إلى مخرج آخر ، دفعا للدور والتسلسل ولزوم الخروج من القوّة بلا سبب.

وأمّا الثانى - أعني - البراهين الّتي لا تتوقّف على ابطال الدور والتسلسل أو لا يتوقف على ابطال التسلسل - فكثيرة.

منها : لو انحصرت الموجودات في الممكنات ولم يتحقّق فيها واجب الوجود لذاته لكان مجموعها معلولات مع عللها الّتي هي مثلها في الامكان والمعلولية ، سواء وجد كلّ واحد بآخر على سبيل الدور والتسلسل. ومثل هذا المجموع وان كان عدم كلّ واحد من افراده مع بقاء علّته محالا - لاستلزامه تخلف المعلول عن علّته - ، لكن يجوز عدم المجموع لأنّه لا يمتنع عدم المعلول مع عدم علّته الممكنة الغير المستندة إلى الواجب ، وإن ذهبت سلسلة المعلولات والعلل إلى غير النهاية ؛ ولا ريب (3) في أنّ هذه الجملة

ص: 63


1- راجع : الأربعين في أصول الدين - للرازي - ، ج 1 ، ص 103.
2- الاصل : - وصفاته ... الوجوه.
3- الاصل : - وان ذهبت ... لا ريب.

بأسرها مركّبة عن مثل هذا المعلول ومثل هذه العلّة ولا يوجد فيها غيرهما ، فالعدم لا ينسدّ عن هذه الجملة بنفسها ولا بشيء من آحادها - لكون جميعها ممكنة محتاجة في انسداد اعدامها إلى غيرها - ، فكلّما دار الامر أو تسلسل رجع إلى الاوّل. وإذا جاز عدم هذه الجملة فلا يجوز وجودها ، لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد - كما مر - والممكن لا يجب له الوجود ما لم يمتنع عليه جميع انحاء العدم ، إذ لو وجب وجوده مع امكان نحو ما من العدم ويكون هذا العدم مساويا للوجود أو مرجوحا - لظهور شناعة راجحيته - لزم امكان المرجوح أو المساوى. وقد تقدّم بطلانهما. وإذا لم يجز وجود هذه الجملة بنفسها ولا بشيء من آحادها مع كونها موجودة وجب استنادها إلى موجود خارج عنها ، والموجود الخارج عن جميع الممكنات انّما هو الواجب بالذات ، وهو المطلوب ، وهذا البرهان لا يتوقّف على ابطال الدور والتسلسل ، بل انّما يتوقّف على ابطال وجود الممكن بنفسه بدون أولوية الوجود أو معها ، وبطلانه أوضح من كلّ واضح - كما تقدم -

ويمكن أن يقرّر هذا البرهان بوجه أخصر وأوضح ؛ وهو : انّ الممكن لمّا كان بالنظر إلى ذاته غير موجود فلو انحصرت الموجودات في الممكنات لكان جميعها كذلك - اي : غير موجود بالنظر إلى ذواتها - ، لان جميعها في حكم ممكن واحد في جواز طريان العدم عليها رأسا ، وكلّما دار الامر أو تسلسل رجع إلى الاقلّ ، فلا بدّ لها من موجد خارج يوجدها كما لممكن الواحد.

ومنها : إنّ جميع الممكنات من حيث هو مجموع موجود واحد - كما يأتي بيانه بعد ذلك - ، فلو انحصرت الموجودات في الممكنات لكان مجموعها شخصا واحدا لا بدّ له من علّة بالذات وعلى الاطلاق (1) ويمتاز عمّا سبقه من الوجه الأخصر بأخذ كون جميعها من حيث هو مجموع شخصا واحدا ، ولا يلزم هذا الأخذ والفرض في الوجه الأخصر السابق عليه ، لأنّه لم يؤخذ فيه الهيئة الاجتماعية / 14MB / بل أخذ فيه كون جميع الآحاد في حكم واحد لا كونها واحدا.

ص: 64


1- راجع : الحكمة المتعالية ج 6 ص 30.

ومنها : ما أورده بعض الأذكياء ، وهو يتوقّف على مقدّمتين واضحتين ، إحداهما : إنّ الممكن لا يكون إلاّ معلولا / 14DB / - وقد تبيّن ذلك من بعض المقدّمات السالفة - ،

وثانيتهما : انّ حاجة المعلول إلى العلّة انّما هي لأجل انّه معلول فقط ، ولا مدخلية في باقي صفاته وخصوصيّاته من كونه هذا وهذا في ذلك ، وهي بديهية واضحة في نفسها.

وبعد تمهيدهما نقول : لو انحصرت الموجودات في الممكنات لكانت بأسرها معلولات بحكم المقدّمة الأولى ، وإذ نقصنا وحذفنا عنها جميع الصفات واللوازم والخصوصيات الّتي لا دخل لها في كونها معلولات وموجودات من كونها هذه وهذه وكذا وكذا وبالجملة أسقطنا في الملاحظة العقلية كلّما هو لا دخل له في احتياجها إلى العلة وكونها معلولات وموجودات تبقى منها جميعا طبيعة الموجودة ، والمعلول بما هو موجود معلول فقط ، فيلزم أن يكون المعلول بما هو معلول موجودا من غير علّة ، لأنّ كلّما كان في هذه الجملة كان معلولا ونقصنا عنه جميع الخصوصيات الّتي لم تكن لها مدخلية في كونه معلولا (1) وفي احتياجه إلى علّة وأخذناه حتّى يحصل لنا موجود واحد هو معلول ولم يبق في هذه الجملة موجود آخر لا يكون معلولا فقط حتّى يجوز أن يكون علّة ؛ وليس خارج هذه الجملة أيضا موجود ممكن يجوز أن يكون علّة لها - لأنّ المفروض دخول كلّ الممكنات فيها - ، فيتحقّق لزوم كون المعلول بما هو معلول موجودا من غير علّة ، وهو باطل بحكم المقدّمة الثانية. لانّه إذا احتاج المعلول إلى العلّة في مجرّد كونه معلولا دون ساير الخصوصيات فكيف يتحقّق مجرّد المعلول من حيث هو معلول من دون شيء آخر ، ولا يتحقّق احتياجه إلى العلة ، فيجب أن يوجد خارج هذه الجملة موجود واجب لذاته حتّى تستند المعلولات إليه.

ومنها : انّه لو انحصرت الموجودات في الممكنات لزم الدور ، إذ تحقّق مجموع الموجودات من حيث هو مجموع يتوقّف على هذا التقدير على ايجاد ما ، لأنّ وجود الممكنات انّما يتحقّق بالايجاد لكونها في حكم ممكن واحد في الاحتياج إلى مؤثّر

ص: 65


1- الاصل : - معلولا.

موجود ، وتحقّق ايجاد ما يتوقّف أيضا على تحقّق هذه الموجودات ، لانّ الغرض عدم موجود خارج عنها حتّى يكون موجدا لها.

وقال المحقّق الخفري في بيان لزوم الدور : لانّ تحقّق موجود ما يتوقّف على هذا التقدير على تحقّق ايجاد ما وبالعكس.

ولا يخفى انّه لو اراد من « موجود ما » مجموع الموجودات من حيث هو مجموع ليرجع إلى ما ذكرناه ، ولو أراد ما هو الظاهر منه فقال الفاضل السمّاكي : فاللازم منه لزوم التسلسل لا الدور ، إذ على تقدير عدم تحقّق الواجب يكون تحقّق موجود ما متوقّفا على ايجاد سابق عليه - أي : على وجود علّته - ، ويكون تحقّق ذلك الايجاد متوقّفا على تحقّق موجود آخر لا على ذلك الموجود المتوقّف على ذلك الايجاد ، فيلزم التسلسل ، لا الدور.

وقال سيّد الحكماء في تصحيح لزوم الدور لا التسلسل والجواب عن ايراد السمّاكي (1) : انّ طبيعة الايجاد متأخّرة عن طبيعة الوجود تاخّرا ذاتيا ، لأنّها طبيعة ناعتية يستحيل قيامها بذاتها ، فهي انّما يكون وصفا لشيء والوصف الايجابى سواء كان في الموجبة المحصّلة أو الموجبة المعدولة أو الموجبة السالبة المحمول متأخّر عن وجود الموضوع ، فيقتضى محلاّ موجودا يقوم به - لأنّ ثبوت صفة لشيء فرع ثبوت الموصوف في نفسه - فطبيعة الوجود متقدّمة على طبيعة الايجاد. وعلى تقدير عدم وجود الواجب اتصاف طبيعة الممكن بطبيعة الوجود لا يكون إلاّ بعد تعلّق الايجاد بها وقيامه بها ، فهي يحتاج إلى طبيعة الايجاد وتتأخّر عنها ، فالدور لازم بين الطبيعتين. بخلاف ما لو كان الواجب موجودا ، فانّ طبيعة الوجود حينئذ لا يتوقّف على طبيعة الايجاد لقيام فرد من الوجود بذاته من دون افتقاره إلى طبيعة الايجاد ، وهو الوجود الواجب.

ثمّ قال : لا يقال : على ما ذكرتم يلزم توقّف طبيعة الوجود أيضا على نفسها ، لأنّ اتصاف شيء بها يتوقّف على وجود ذلك الشيء بعين ما ذكر ؛

لانّا نقول : لا يتمّ ذلك في طبيعة الوجود مطلقا ، لانّها ليست طبيعة ناعتية حتّى

ص: 66


1- الاصل : - والجواب عن ايراد السمّاكي.

يلزم كونها وصفا للماهية ، بل قد تكون طبيعة الوجود قائمة بنفس ذاتها - كما في طبيعة واجب الوجود -. وان أورد في طبيعة المطلق العامّ البديهي فنختار أنّها متأخّرة عن طبيعة الوجود الخاصّ الواجبي القائم بنفس ذاته ؛ انتهى.

وأورد العارف الشيرازي على الجواب المذكور : بأنّ الدور في الطبيعة - أي : توقّف الطبيعة على نفسها - غير محال ، لجواز كون طبيعة ما باعتبار حصولها في ضمن فرد / 15AM / متقدّمة على نفسها باعتبار حصولها في ضمن فرد آخر - كما في طبيعة الافراد المتوالدة -. وذلك لانّ مفسدة الدور هو تقدّم الشيء على نفسه - أي : اجتماع النقيضين - ، / 15DA / والوحدة المعتبرة في التناقض هي الوحدة الشخصية لا النوعية ، فالشخص الواحد لا يجوز أن يكون متقدّما ومتأخّرا معا. وامّا النوع الواحد فلا يستحيل ذلك فيه اصلا - كما لا يخفى -. والحاصل انّ احكام الوحدة العددية قد لا يثبت للوحدة النوعية الابهامية ولذا اتصاف ماهية الانسان مثلا بالعلم والجهل لا يقتضي ثبوت التناقض لعدم كون الموضوع واحدا بالوحدة العددية ، بخلاف اتصاف زيد بهما ، فانّه يقتضي ثبوت التناقض ، لكونه ذاتا شخصيا.

وأجاب عنه الفاضل اللاهيجى : بانّ كون الطبيعة في ضمن فرد متقدّمة على نفسها في ضمن فرد آخر انّما يصحّ في الإعداد لا في الايجاد ، فانّ الطبيعة يجوز أن تكون في ضمن فرد معدّة لحصولها في ضمن فرد آخر ، ولا يجوز كونها في ضمن فرد موجدة نفسها في ضمن فرد آخر ، فانّ ايجاد الطبيعة (1) هو جعلها واقعة في متن الاعيان. فاذا وقعت هي في نفس الأمر و (2) الواقع لا يجوز أن يجعل نفسها واقعة موقعها مرّة أخرى فيها.

وبعبارة أخرى : لا يجوز أن يكون وقوعها في نفس الأعيان متقدّما على وقوعها في نفس الأعيان ، لكن يجوز حينئذ - أي : إذا وقعت في نفس الواقع في ضمن فرد - أن يصير معدّة لحصول نفسها في ضمن فرد آخر ، إذ معنى كونها في ضمن فرد انّها محفوفة

ص: 67


1- في النسختين : الطبقة ، بدلا من : الطبيعة.
2- الاصل : - الأمر و.

بعوارض مشخّصة معيّنة ، ويجوز أن يكون هي في ضمن تلك العوارض المشخّصة معدّة - لكونها محفوفة بعوارض مشخّصة أخرى - ، ولا امتناع في ذلك اصلا.

والحاصل : إنّ الطبيعة النوعية يجوز أن تكون متقدّمة ومتأخّرة بحسب الزمان ، ولا يجوز أن تكون متقدّمة ومتأخّرة بحسب الذات ، فانّ الوحدة النوعية وحدة ابهامية بحسب الحصول في ضمن افرادها الواقعة كلّ منها في جزء من أجزاء الزمان ، وليست ابهامية بحسب وقوعها في نفس الدهر ؛ بل هي وحدة ابهامية زمانية ووحدة شخصية دهرية ، فكيف يجوز كونها بحسب وقوعها في نفس الأمر متقدمة ومتأخّرة؟! ؛ انتهى.

اقول : إن شئت تحقيق الحقّ في هذا المقام فاستمع لما يتلى عليك من الكلام!. ولا بدّ أوّلا من تحرير مذهب الحكماء والمتكلّمين في الوجود ثمّ تلخيص مطلب هؤلاء الفضلاء من الموردين والمجيبين ، ثمّ الاشارة إلى ما هو الحقّ.

فنقول : مذهب الحكماء في الوجود - كما حرّره بعض الاذكياء (1) - : انّ للوجود مفهوما واحدا مشتركا بين الوجودات الخاصّة ، والوجودات الخاصّة حقائق مختلفة متكثّرة بأنفسها لا بمجرّد عارض الاضافة - ليكون متماثلة متّفقة الحقائق ، ولا بالفصول - ليكون الوجود المطلق جنسا لها - ، بل هو عارض لازم لها كنور الشمس ونور السراج ، فانّهما مختلفان بالحقيقة واللوازم مشتركان في عارض النور ؛ وكذا بياض الثلج والعاج ، بل كالكمّ والكيف المشتركين في العرضية ، بل الجوهر والعرض المشتركين في الامكان والوجود. إلاّ انّه لمّا لم يكن لكلّ وجود اسم خاصّ - كما في أقسام الممكن واقسام العرض - توهّم انّ تكثّر الموجودات وكونها حصّة حصّة انّما هو بمجرّد الاضافة إلى الماهيّات المعروضة بها - كبياض هذا الثلج وذاك ونور هذا السراج وذاك - ، وليس كذلك ، بل هي حقائق متخالفة متغايرة مندرجة تحت هذا المفهوم العارض لها الخارج عنها واذا اعتبر تكثّر ذلك المفهوم وصيرورته حصّة حصّة باضافته إلى المهيات فهذه الحصص أيضا خارجة عن تلك الوجودات المتخالفة الحقائق ؛ فهناك أمور ثلاثة :

ص: 68


1- راجع : الدرّة الفاخرة ص 2 ، تجد العبارة حرفيا فيه.

(1) : مفهوم الوجود ، و (2) : حصصه المتعينة باضافته إلى الماهيّات ، و (3) : الوجودات الخاصّة المتخالفة الحقائق. فمفهوم الوجود ذاتيّ داخل في حصصه وهما - أيّ المفهوم وحصّته - خارجان عن الوجودات الخاصّة ؛ والوجود الخاصّ عين الذات في الواجب - تعالى - وزائد خارج فيما سواه.

ومذهب المتكلّمين : انّ للوجود مفهوما واحدا مشتركا بين الأشياء وذلك المفهوم الواحد يتكثّر ويصير حصّة حصّة باضافته إلى الأشياء - كبياض هذا الثلج وذاك - ، ووجودات الأشياء هي هذه الحصص. وهذه الحصص مع ذلك المفهوم الداخل فيها خارجة عن ذوات الأشياء زائدة عليها ذهنا فقط عند محقّقيهم ، وذهنا وخارجا عند آخرين.

وإذ عرفت ذلك فاعلم : انّ حاصل إيراد السمّاكي انّ توقّف موجود ما على ايجاد ما وبالعكس لا يستلزم الدور ، بل التسلسل ؛ لانّه على تقدير عدم الواجب / 15DB / يتوقّف / 15MB / موجود ما على ايجاد سابق عليه - أي : ايجاد صادر عن علّته - ، وهذا الايجاد يتوقّف على موجود ما هو هذه العلّة لا على الموجود الاوّل. ووجود هذه العلّة يتوقّف على ايجاد صادر من علّة سابقة عليها ، وهكذا ؛ فلا يلزم دور.

وحاصل جواب السيّد : انّ مراد الخفري أنّ طبيعة الايجاد متوقّفة على طبيعة الوجود ، وعلى تقدير عدم الواجب يتحقّق العكس أيضا ، فيلزم الدور بين الطبيعتين وان توقّف كلّ فرد على فرد آخر إلى غير النهاية.

وحاصل ايراد العارف الشيرازي على هذا الجواب : انّ فساد الدور بين الطبيعتين هو لزوم توقّف كلّ واحدة من الطبيعتين على نفسها ، وهذا ليس بمحال - لجواز أن تكون طبيعة ما باعتبار حصولها في ضمن فرد آخر - ، فطبيعة الايجاد المتحقّقة في ضمن افراد الممكنات متقدّمة على طبيعة الوجود المتحقّقة في ضمنها باعتبار ومتأخّرة عنها باعتبار ، ولا مانع منه.

وحاصل جواب الفاضل اللاهيجى عن هذا الايراد : انّ تقدّم الطبيعة باعتبار حصولها في ضمن فرد على نفسها باعتبار حصولها في فرد آخر انّما يصحّ في الإعداد

ص: 69

بان يكون في ضمن فرد معدّة لحصولها في ضمن فرد آخر ، لا في الايجاد بان يكون حصولها في ضمن فرد موجدة لنفسها في ضمن فرد آخر ، وفيما نحن فيه يلزم التوقّف في الايجاد لأنّ توقّف طبيعة الوجود في ضمن فرد على نفسها من حيث أنّها في ضمن فرد آخر انّما يكون من حيث افتقارها في حصولها في ضمن أحد الفردين إلى نفسها من حيث أنّها حاصلة في ضمن الفرد الآخر ، وهذا محال.

وإذ تقرّر ذلك فاعلم : انّ المراد من « طبيعة الايجاد » هنا الإيجاد الاضافي ، وهو أمر اعتباري ؛ وليس المراد به الايجاد الحقيقي - أعني : حقيقة الذات - ، وهو ظاهر. والمراد « بطبيعة الوجود » هو الوجود المطلق العامّ المشترك بين جميع الأشياء ، لأنّ المراد بالطبيعة ما كان مشتركا بين جميع الافراد متحقّقا فيها ؛ وقد عرفت في تحرير مذاهب الحكماء والمتكلّمين (1) أنّ المشترك بين الوجودات الخاصّة أو مهيات الاشياء ليس إلاّ الوجود المطلق ، وليس بين الوجودات الخاصّة عند الحكيم وبين مهيات الأشياء عند المتكلّم وجود مشترك آخر غير الوجود المطلق ، وهو واضح.

وحينئذ نقول : إن كان مراد السيّد - رحمه اللّه - انّ كلا من الطبيعتين موجود في الخارج ويلزم الدور بينهما ، ففيه : انّ الوجود المطلق والايجاد الاضافي ليسا بموجودين في الخارج ، بل هما اعتباريان منتزعان ، فلا يوجد أفرادهما في الخارج فضلا عن طبيعتهما ، ولو سلّم كونهما محصّلين - كالانسانية - فلا نسلّم وجود طبيعتهما في الخارج بوجود على حدة سوى وجود أفرادهما ، إذ محلّ الخلاف في وجود الكلّي الطبيعيّ - كما حرّره المحقّقون - انّ الطبيعة هل هي موجودة في الخارج بوجود افرادها حتّى تكون الطبيعة موجودة والفرد موجودا آخر ووجودهما واحد ، أو هي غير موجودة في الخارج اصلا ، بل الموجود فيه أفرادها فقط وهي موجودة في الذهن لا غير ، فعلى هذا لو كانت الطبيعة موجودة يكون وجودها بوجود افرادها ، فهي حينئذ موجودة بوجود كلّ فرد ، فيكون لها وجودات متعدّدة بحسب تعدّد الأفراد ، وما هذا شأنه لا يمتنع أن يتوقّف باعتبار أحد وجوداته على نفسه باعتبار وجود آخر ، وحينئذ

ص: 70


1- في الاصل : المتألّهين.

يلزم التسلسل ويتوقّف تمامية الاستدلال على ابطاله ، ولا يلزم الدور.

وما ذكره الفاضل اللاهيجي - رحمه اللّه - من عدم جواز توقف الطبيعة باعتبار وجودها في ضمن فرد على نفسها باعتبار وجودها في ضمن فرد آخر في الايجاد ، مدفوع بأنّ عدم جواز كون الطبيعة بأحد الاعتبارين علّة موجدة لنفسها بالاعتبار الآخر مسلّم ، إلاّ انّه لا يلزم ذلك فيما نحن فيه على تقدير عدم الواجب ، لانّ العلّة (1) ليست إلاّ الفرد الّذي هو ماهية مع الوجود الخاصّ والوجود المطلق أمر عرضي تابع منتزع منه ، فانّ الوجود الواجبي الّذي هو علّة الأشياء ليس ما ينتزع منه من الوجود المطلق ، بل وجوده الخاصّ الّذي هو عين حقيقته. وإن كان مراده انّ كلاّ من الطبيعتين غير موجودة في الخارج بل هما اعتباريان ولكن الدور متحقّق بينهما والدور محال - سواء كان بين موجودين في الخارج أو بين اعتباريين منتزعين - ، فلا يحتاج في الاستدلال إلى التمسّك بوجود الطبيعة في الخارج ، بل يتمّ على تقدير أخذ الطبيعة مطلقا ، أو طبيعة الايجاد - أي : المفهوم المشترك سواء كان موجودا في الخارج أو مفهوما انتزاعيا اعتباريا محضا - لها تقدّم على طبيعة الوجود كذلك ، فلطبيعة الايجاد حصول / 16DA / في مرتبة من مراتب نفس الأمر ليس فيها حصول لطبيعة / 16MA / الوجود ، وكذا طبيعة الوجود - أي : المفهوم المشترك سواء كان موجودا في الخارج أو مفهوما انتزاعيا اعتباريا محضا - لها تقدّم على طبيعة الايجاد كذلك ، فيلزم الدور وهو باطل مطلقا.

ففيه : انّ الدور بين الاعتباريين وإن كان باطلا أيضا إلاّ أنّه لا يمكن الاستدلال به هنا ، لأنّه لو اخذت الطبيعة غير موجودة في الخارج فلا ريب في أنّه لا يتصوّر حصولها في مرتبة من مراتب نفس الأمر منفكّة عن ثبوتها لأفرادها ، فيكون لها حصولات متعدّدة في نفس الأمر بحسب تعدّد الافراد ، وما هذا شأنه يمكن توقّفه باعتبار أحد وجوداته على نفسه باعتبار وجود آخر ؛ واندفاع جواب الفاضل اللاهيجي هنا أظهر.

ص: 71


1- في الاصل : ... مدفوع بان عدم الجواز لو سلّم انّما هو إذا كانت الطبيعة بأحد الاعتبارين علّة موجدة لنفسها بالاعتبار الاخر العلّة.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ في صورة الاستدلال على الواجب يتوقّف كل من الايجاد والموجود على الآخر ، وإن لم يوجد فيه مجموع الموجودات لم يتم بدون ابطال التسلسل سواء اخذ توقّف كلّ فرد على آخر إلى غير النهاية أو اخذ طبيعتهما ؛ فايراد السماكي وارد.

ويمكن أن يقال : لو أخذ التوقّف على آخر (1) يمكن اتمام الاستدلال بلزوم الدور من دون توقّف على ابطال التسلسل. بيانه - كما افاده بعض الأفاضل - : انّه إذا لم يكن في الوجود واجب بالذات وذهبت السلسلة إلى غير النهاية فتحصل سلسلتان ، إحداهما : سلسلة الوجودات ، وثانيهما : سلسلة الايجادات ، قلنا ملاحظة الايجادات الغير المتناهية بعنوان الاجمال بحيث لا يشذّ عنها شيء من الإيجادات ؛ ونقول : هذه السلسلة بأسرها لها تأخّر عن سلسلة الموجودات بناء على أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فلا ايجاد في تلك السلسلة ما لم يكن لها تأخّر ، فلو كانت لسلسلة الوجودات بحيث لا يشذّ عنها شيء تأخّر أيضا لزم الدور ، فيجب أن يكون في سلسلة الوجودات وجود لا يتأخّر عن الايجاد ، وهو الواجب ، فثبت المطلوب ؛ انتهى.

والحقّ انّ هذا الاستدلال تمام وإن وقع فيه التمسّك بمجموع الوجودات أيضا.

وما أورده عليه بعض الفضلاء بأنّ الواقع توقّف واحد واحد من آحاد احدى السلسلتين الغير المتناهيتين على واحد واحد من آحاد الأخرى وتأخّره عنها على التوزيع ، فلا نسلّم انّه يستلزم ذلك تلك التوقّفات والتأخّرات الموزّعة على أجزاء السلسلة الغير المتناهية توقّف تلك السلسلة على ما يتوقّف عليه وتأخّرها بأسرها عنه حتّى يلزم الدور ؛ مدفوع بأنّ الضرورة العقلية حاكمة بانّه إذا كان لكلّ واحد واحد من الايجادات تأخّر عن كلّ واحد واحد من الوجودات يصدق في الواقع انّ لمجموع هذه الايجادات تأخّر ، فانّ توقّف آحاد على آحاد أخرى لا يختلف بتوزّعها أو تشابكها مع غيرها أو تواليها ، فما يثبت لها من التوقّف والتأخّر لا يتخلّف عنها على أحد التقديرين ؛ ألا ترى انّك لو فرضت توالي كلّ من الايجادات والوجودات بأن يخرج آحاد واحد منها من بين آحاد الأخرى حصلت سلسلتان محقّقان متواليتا الآحاد؟!.

ص: 72


1- الاصل : - إلى غير النهاية ... على آخر.

فلو كان واحد واحد من آحاد إحداهما متوقّفا على واحد واحد من آحاد الاخرى لكان مجموع آحاد كلّ منهما متوقّفا على مجموع آحاد الأخرى.

ومنها : انّ مجموع الممكنات من حيث هو مجموع له مبدأ ، كما مرّ من أنّ مجموع الممكنات الصرفة - سواء كانت متناهية أو غير متناهية - في حكم ممكن واحد في امكان طريان العدم عليها ، ومجموع الموجودات من حيث هو ليس له مبدأ بالذات - أي : مبدأ خارج يكون مبدأ لجميعها - ، اذ لا خارج عن جميع الموجودات.

وأيضا : لو كان للمجموع من حيث هو مجموع مبدأ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لانّه لو كان للمجموع من حيث هو مجموع مبدأ فذلك المبدأ من حيث كونه موجودا يكون داخلا في المجموع ، فلا يمكن تقدّمه عليه ومن حيث انّه مبدأ له يكون متقدّما عليه ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه من هذه الجهة أيضا.

وما قيل : من إنّ علّية بعض الموجودات للمجموع من حيث هو مجموع لا يقتضي علّيته لنفسه اصلا ، ومن أنّ علّة المجموع لا يلزم أن يكون علّة لكلّ جزء منه ، كلام سطحي خال عن التدبّر. وإذا ثبت أنّ مجموع الموجودات من حيث هو مجموع ليس له مبدأ ومجموع الممكنات من حيث هو مجموع له مبدأ ، فيجب أن يكون في جملة الوجودات موجود يكون واجبا لذاته ، ليكون مصحّحا للفرق ، وهو المطلوب.

ثمّ قرّر هذا البرهان بوجه آخر اخذ فيه بدل « مجموع الموجودات » : « طبيعة الموجود » ، وبدل « مجموع الممكنات » : « طبيعة الممكن ». فقيل : طبيعة الممكن بما هي لها مبدأ ، وطبيعة الموجود بما هي موجودة ليس له مبدأ والاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لانّ / 16MB / ذلك المبدأ / 16DB / موجود لا محالة فتكون طبيعة الوجود متحقّقة في ضمنه ، فيلزم كون طبيعة الموجود علّة لطبيعة الموجود متقدّمة عليها بالذات ؛ وهو باطل.

وفيه : ما تقدّم سابقا من أنّ المراد بطبيعة الوجود يجب أن يكون الموجود العامّ وتحقّقه في ضمن فرد يتوقّف على تحقّقه في ضمن فرد آخر وهلمّ جرّا. فاللازم منه التسلسل لا الدور.

ص: 73

فان قيل : المتحقق في ضمن الفردين شيء واحد ، فيلزم أن يكون باعتبار وجوده في ضمن أحد الفردين متوقّفا على نفسه باعتبار وجوده في ضمن الفرد الآخر ، فيلزم الدور ؛

قلنا : لا ضير فيه - كما تقدّم مفصّلا -.

وبعضهم أخذ فيه بدل « طبيعة الموجود » : « الموجود المطلق » ، وبعضهم أخذ « الموجود بما هو موجود ».

قال بعض الأفاضل : هذا البرهان مستفاد من كلام الشيخ في « إلهيات الشفاء » ، وبيانه بعبارة أخرى : انّ الموجود بما هو موجود مع قطع النظر عن خصوصيته سوى الوجود لا يحتاج في تحقّقه في الخارج إلى موجب أوجب تحقّقه ، وإلاّ لاحتاج جميع الموجودات إليه ضرورة ، فاحتاج هذا الموجب أيضا إلى نفسه لدخوله في جميع الموجودات وذلك تقدّم الشخص على نفسه. فطبيعة الموجود بما هو موجود واجبة التحقّق ممتنعة العدم لا لعلّة ، ولو لم يكن فرد يجب وجوده بالذات كان عدم الجميع ممكنا - لجواز طريان العدم على جميع الممكنات الصرفة - ، فينعدم الطبيعة بانعدام الكلّ ، هذا خلف.

ثم قال : وأنت تعلم انّ المراد بالوجود المشتقّ منه الموجود هاهنا ليس الوجود العامّ البديهي الاعتباري الانتزاعي الّذي ليس له تحقّق في الخارج أصلا ، بل هو من المعقولات الثانية بالمعنى الأعمّ وهو زائد على جميع الموجودات معلّل بها في الذهن ، بل المراد هو الوجود الحقيقيّ الّذي هو منشأ الآثار ومحقّق الحقائق ، وهو الموجود بالحقيقة ومعلوم بوجه ما ؛ انتهى.

وعبارة الشيخ الّذي أشار إليه هو هذا : « ثمّ المبدأ ليس مبدأ للموجود كلّه ، ولو كان مبدأ للموجود كلّه لكان مبدأ لنفسه ، بل الموجود كلّه لا مبدأ له ، انّما المبدأ مبدأ للموجود المعلول ، فالمبدأ هو مبدأ لبعض الموجود (1) » ؛ انتهى.

وأقول : إن كان مراده بالوجود الحقيقيّ الّذي حمل الموجود عليه هو ما يشمل

ص: 74


1- راجع : الشفا / الالهيات ج 1 ص 14.

جميع الوجودات الخاصّة ، ففيه : انّ ما يشمل جميع الوجودات الخاصّة ويشترك بينها ليس إلاّ الوجود العامّ الاعتباري ، وإن كان مراده به مجموع الوجودات الخاصة من حيث المجموع فيرجع إلى ما ذكرناه أوّلا من أخذ مجموع الموجودات ، وهو لا يلائم كلام هذا القائل كما لا يخفى على من راجع إليه. وان كان مراده به الوجود الصرف الّذي هو حقيقة الواجب ، ففيه : انّ التعبير عنه بطبيعة الوجود غير ملائم ، نعم! التعبير عنه بالوجود المطلق أو الموجود بما هو موجود وإن لم يكن به بأس إلاّ أنّ ما ذكره في استدلاله المنقول عنه لا يلائمه ، بل يخالفه! ، وعلى تقدير هذا الحمل لا يكاد يتمّ استدلاله ولا ينطبق عليه ، لأنّ الوجود الحقيقي الّذي هو الواجب أمر واحد شخصي ، وليس طبيعة كلية يكون له افراد متحقّقة في الممكنات ؛ وما ذكره هذا الفاضل في الاستدلال لا ينطبق إلاّ على فرض أن يكون الوجود طبيعة كلية يكون له افراد متحقّقة في الممكنات - كما لا يخفى - (1). نعم! يمكن الاستدلال على اثبات الواجب بأخذ الوجود الحقيقي الصرف بأن يقال (2) : يجب أن يتحقق في جملة الموجودات موجود هو صرف الوجود ومحضه بسيط من جميع الجهات ، وإلاّ لم يتحقّق موجود اصلا ، لأنّ كلّ موجود وجوده زائد على ذاته يفتقر في اتصافه بالوجود إلى علّة تنتهى إلى ما هو صرف الوجود - دفعا للدور والتسلسل - ، وصرف الوجود وحقيقته هو القائم بنفسه الواجب لذاته موجد الكلّ وقيومه ، لانّ افتقاره إلى ما هو وجوده زائد على ذاته بديهى الفساد ، وإلى ما هو مثله في كونه صرف الوجود يخرجهما معا عن الصرفية ويحوجهما إلى علّة أخرى وإلى نفسه يوجب كون الشيء علّة لنفسه.

وأنت تعلم انّ الدليل هنا أيضا طبيعة الموجود أو افراده ، والمدلول هو صرف الوجود ، فيلزم منه سوى ثبوت الواجب لنفسه لذاته اثبات بعض صفاته الكماليّة وتقدّسه عن سمات النقصان - كبساطته وتجرّده وعينية صفاته وعدم كونه جسما وجسمانيا وغير ذلك من الصفات اللازمة لصرف الوجود -. نعم! يمكن الاستدلال بالوجود الحقيقيّ على ما أورده بعض المحقّقين ، واعتقد أنّ الوجود الحقيقيّ معنى واحد ،

ص: 75


1- الاصل : - كما لا يخفى.
2- الاصل : - بأن يقال.

وأنّ تحقّق جميع الموجودات انّما هو باعتباره ، وادّعى بداهته وقال : انّه اظهر من الشمس عندى. فيقال حينئذ : انّ ذلك الموجود لا مبدأ له ، إذ لو كان له مبدأ لكان مبدئه / 17MA / موجودا البتة ، فيكون إمّا عين هذا الوجود - فيلزم تقدّم الشيء على نفسه - ، أو يكون هو موجودا باعتباره - فيلزم الدور ، وبذلك يثبت وجود الواجب / 17DA / لذاته. لأنّ الوجود الحقيقيّ الّذي لا مبدأ له - ويقال له الوجود المطلق أيضا - إن هو إلاّ الواجب بالذات.

وأنت تعلم إنّ هذا الاستدلال لا يلائم طريقة أهل البحث والنظر ؛ فتأمّل!.

ثمّ هذا الطريق الّتي يلاحظ فيها الموجود المطلق أو الموجود من حيث هو موجود أو الوجود الحقيقيّ حقيق بأن يكون طريقة الصدّيقين والشهداء - : الّذين يستشهدون بالحقّ لا عليه -. لانّ المراد بهم هم الالهيون الّذين قصّروا أنظارهم على نفس الوجود وتوجّهوا بشراشرهم إلى ذات الحقّ - تعالى - وأعرضوا عمّا سواه من الموجودات ، ولا يلتفتون في مشاهداتهم إلاّ إلى الوجود المطلق والإنّية الصرفة الحقّة ، ولا يرون في الوجود الحقيقيّ إلاّ الوجود القائم بذاته ، ولا في الأنوار إلاّ النور الغنيّ الثابت بنفسه ، وهو اللّه نور السماوات والأرض. وغيره من الموجودات والأنوار لمعات نازلة من نور ذاته ورشحات صادرة من شئوناته وتجلّياته ، فاللائق بامثالهم أن لا يتعدّوا في استدلالهم إلى غير حقيقة الوجود والموجود ، ولا يلتفتوا فيه إلى الأغيار من المهيات والأفراد ، ولا يستشهدوا على الحقّ - عزّ وجلّ - إلاّ به.

فان قيل : الاستشهاد بالوجود الحقيقيّ - كما نقلته عن بعض المحقّقين - مسلّم ، فانّه استشهاد بالحقّ على الحقّ. وأمّا الاستشهاد بالوجود والموجود سواء أخذا من حيث الإطلاق أو الطبيعة استشهاد بغير الحقّ عليه ، لانّ الموجود أو الوجود من حيث هو ليس عين ذاته الأقدس ؛

قلت : لمّا كان الوجود أو الموجود من حيث هو منتزعا عن حاقّ ذاته ووجها من وجوهه وهو - جلّ وعزّ - فرد منه ، فلا يكون الاستشهاد به عليه استشهادا

ص: 76

عليه (1) بغيره ، فكأنّه يكون به ؛ بخلاف الطرق الأخرى ، فانّه استدلّ فيها بالموجودات الممكنة وأحوالها ، ففيها استشهاد بغيره - تعالى - عليه.

وقيل : لأنّ الوجود والموجود عين بالنسبة إلى الواجب وزائد بالنسبة إلى الممكن ، فلم يستدلّ بغيره - تعالى - عليه.

وهو كما ترى! ؛ فانّ الوجود أو الموجود الّذي يستدلّ به على الواجب ليس عينه - تعالى ، كما لا يخفى! -.

قال بعض أهل التحقيق في سبب كون هذا الاستدلال من طريقة الصديقين : انّه نظر في الوجود المطلق والوجود المطلق المعرّى عن جميع القيود ، وهم جعلوه عين ذاته - تعالى - والموجود المطلق الّذي نظرنا فيه وإن لم يكن معرّى عن القيود بل هو لا بشرط القيود وفرق ما بينهما ، إلاّ انه من ذاته - تعالى - بذاته ، فهو وجه من وجوهه إلى حقيقته ، فكأنّما استشهد بانّه عليه ، إذ وجه الشيء هو الشيء بوجه. وبه يندفع ما قيل ، ويتقوّى ما قلناه.

ومنها : انّ مجموع الممكنات من حيث هو مجموع يجوز أن يصير شيئا محضا - لما مرّ من انّ جميعها في حكم ممكن واحد في جواز طريان العدم عليها رأسا -. ومجموع الموجودات من حيث هو موجود يمتنع أن يصير لا شيئا محضا ، امّا لأنّه لو جاز عدمه راسا للزم في صيرورته موجودا من سبب موجود يوجده فيلزم أن يكون موجودا قبل كونه موجودا ، وهو الدور ، فيجب وجود الواجب لذاته حتّى يمكن وجود غيره منه.

وما أورد عليه : بانّه إن اريد انّ مجموع الموجودات لا يجوز أن يكون معدوما مطلقا - أي : سواء جاز خروجه بعده إلى الوجود أم لا - ، فممنوع.

قوله : « وإلاّ لزم في خروجه إلى الوجود الدور » ؛

قلت : لعلّه جاز عدم جميع الموجودات رأسا ، لكن حينئذ لا يجوز خروجه إلى الوجود حتّى يلزم الدور. وإن اراد بانّه لا يجوز عدمها رأسا مع خروجها إلى الوجود ، فممنوع ؛ لكن نقول : انّ الممكنات أيضا تكون كذلك - أي : يمتنع عدمها راسا مع

ص: 77


1- الاصل : - عليه.

خروجها إلى الوجود - ، وكون جميعها في حكم واحد في طريان العدم لا يثبت إلاّ جواز عدمها راسا في الجملة لا مع خروجها إلى الوجود انتهى ؛ مردود باختيار الشقّ الأخير ومنع عدم امتناع (1) الممكنات رأسا مع خروجها إلى الوجود ، لان امتناع عدم الممكنات رأسا مع خروجها إلى الوجود إمّا أن يكون لذاتها - فيلزم انقلاب الحقيقة من الامكان الذاتي إلى الوجوب الذاتي - ؛ وامّا أن يكون بسبب الجاعل الخارج - فيثبت الواجب لذاته -. وبالجملة امتناع عدمها مع خروجها / 17MB / إلى الوجود ليس لذاتها ، بل بملاحظة الخارج وهو الواجب لذاته. ولأنّ الشيء باعتبار الوجود لا ينفكّ عن الوجوب السابق والوجوب اللاحق ، فكل موجود يتوقّف على الوجوبين. أمّا توقفه على الوجوب السابق فلأنّه عبارة عن ارتفاع جميع انحاء العدم قبل الوجود ، ومعلوم بالضرورة انّه ما لم ينسدّ جميع انحاء العدم عن الشيء قبل وجوده لم يمكن أن يصير موجودا ، وأمّا توقّفه على الوجوب اللاحق فلأنّه عبارة عن الظهور بشرط المحمول / 17DB / - اي : ارتفاع جميع انحاء العدم عن الشيء وقت الوجود - ، والبديهة قاضية بأنّه ما لم يرتفع جميع انحاء العدم عن الشيء وقت وجوده لم يوجد ، وإذا توقّف الوجود على الوجوبين فالوجوبان ثابتان للموجودات. وإذا ثبت الوجوب امتنع عدمها ، ولا يمكن أن يصير لا شيئا محضا. وامتناع عدمها رأسا يتوقّف على وجود واجب بذاته ، لأنّ الموجودات لو انحصرت في الممكنات واستند بعضها إلى بعض وان وجب كلّ معلول بعلّته إلاّ أنّه لمّا جاز ارتفاع ذلك العلّة فيجوز أن يرتفع المعلول بارتفاعها ، ويجري ذلك في جميع سلسلة الممكنات وإن تسلسلت إلى غير النهاية.

فيبقى نحو واحد من انحاء عدم ذلك المعلول ولم ينسدّ بعد وهو ارتفاع المعلول مع العلّة ، فانّ عدم العلّة من انحاء عدم المعلول بمعنى انّه يجوز انّ يرتفع المعلول مع علّته - لأنّ الفرض انّ علّته ليست بحيث يمتنع عليه العدم - ، فيجب أن توجد علّة واجبة بالذات لينسدّ بها جميع انحاء العدم عن الموجودات.

و (2) على ما قرّرنا البرهان المذكور بالتعليلين يندفع ما أورد عليه : بأنّ

ص: 78


1- الاصل : - امتناع.
2- النسختين : - و.

الاستدلال بهذا النحو مسلك آخر سوى طريق الاستدلال والمباحثة ، إذ على هذه الطريقة نقول : إن اراد بقوله « مجموع الموجودات ... إلى آخره - » : انّ المجموع المذكور بشرط كونه موجودا يمتنع أن يصير لا شيئا محضا فهو ممنوع ، ولكن جميع الممكنات الموجودة بشرط الوجود أيضا كذلك بلا فرق. وإن أراد أنّ جميع الموجودات المقيّدة بالوجود يمتنع أن يصير لا شيئا محضا فممنوع وانّما يصحّ ذلك على تقدير وجود الواجب بالذات لا مطلقا ، ومن لم يسلّم وجود الواجب كيف يسلّم ذلك؟! ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع : أمّا على التعليل الأوّل فظاهر. وأمّا على التعليل الثاني فلأنّ البرهان المذكور دلّ على أنّ الممكنات الموجودة لها اعتباران ، أحدهما : اعتبار أنّها ماهيّات وثانيهما : اعتبار أنّها موجودات ؛ وبالاعتبار الأوّل لا يأبى عن الوجود والعدم ، فلا يمتنع أن يصير لا شيئا محضا ؛ وبالاعتبار الثاني يجب أن يكون لها وجوب ، لأنّ الوجود لا ينفكّ عنه ، والوجوب ينافي صيرورتها لا شيئا محضا وهو لا يحصل إلاّ من الواجب بالذات - لما تقرّر -.

وحمل بعض الأفاضل امتناع انعدام مجموع الموجودات على انعدامه بالمرّة ، وقال : امتناع صيرورة مجموع الموجودات لا شيئا محضا بالمرّة معلوم بالضرورة - كما هو المشهور - ، ومجموع الممكنات لا يمتنع عليه ذلك ، لأنّ مجموعات الممكنات في حكم ممكن واحد في جواز طريان الانعدام عليها.

وأنت تعلم انّ هذا كلام شعري!. فانّ من لا يسلّم وجود الواجب كيف يسلّم امتناع انعدام مجموع الموجودات بالمرّة. ودعوى البداهة غير مسموعة.

فان قلت : قد صرّح المعلّم الأوّل في أثولوجيا بامتناع انعدام الحقائق حيث قال في اثبات بقاء النفس بعد خراب (1) البدن : « انّ النفس حقيقة والحقيقة لا تبيد (2) » ، فيعلم منه أنّ الحقائق الموجودة لا تنعدم بالمرّة ؛

قلت : لو سلّم ذلك لدلّ على عدم انعدام الحقائق بعد صيرورتها موجودة ، سواء

ص: 79


1- الاصل : - خراب.
2- ما وجدت هذه العبارة المنقولة عن هذا الكتاب حرفيا فيه ، بل يوجد : فامّا النفس فانّها قائمة ثابتة على حالة واحدة لا تفسد ولا تبيد. راجع : أثولوجيا ، الميمر التاسع ص 122.

استندت إلى الواجب لذاته أم لا ؛ هذا.

ثمّ انّ بعض الافاضل أخذ في الاستدلال بدل « مجموع الموجودات » : « طبيعة الوجود بما هو موجود » - اي : لا بشرط شيء - ، وقال : طبيعة الموجود بما هو موجود لا بشرط شيء يمتنع أن يصير لا شيئا محضا وإلاّ يلزم صيرورة الوجود عدما ، فيلزم قلب الحقيقة وهو محال. وطبيعة الممكن بما هو ممكن لا بشرط شيء لا يمتنع أن يصير لا شيئا محضا لا محالة ، فلو كانت طبيعة الموجود بما هو موجود قائمة بطبيعة الممكن من حيث هو ممكن لا قائمة بذاتها ولا بفرد قائم بذاته يلزم جواز صيرورتها لا شيئا محضا - كما / 18MA / لا يخفى - ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا الكلام لا محصّل له! ، لأنّ انعدام طبيعة الوجود ليس من باب القلب ، لانّ القلب أن يصير عين شيء عين شيء آخر ، ومعلوم أنّ طبيعة الموجود إذا انعدمت بانعدام افرادها لا تصير نفس العدم ، بل يتبدّل ظهورها العينى بالخفاء في الأعيان.

ومنها : انّ موجد جميع الممكنات الصرفة المتصلة إلى غير النهاية يجب أن يكون خارجا عنها ، وإلاّ كان موجدها إمّا عينها أو جزئها ؛ والأوّل باطل ضرورة ، لايجابه علّية الشيء لنفسه ؛ والثاني أيضا باطل ، لاستلزامه كون الشيء علّة لنفسه ولعلله ، وهو باطل ؛ فيبقى أن تكون علّتها شيئا خارجا عنها وهو واجب الوجود لذاته.

وأورد عليه شبهة ما قبل المعلول الأخير. وتقريرها : انّ السلسلة الغير المتناهية نفصّلها إلى جزءين ، أحدهما : المعلول الأخير ، وثانيهما : جميع ما قبل المعلول الأخير ، وجميع ما قبل المعلول الاخير امر موجود / 18DA / غير خارج عن السلسلة وعلة للمعلول الاخير. ثمّ نفصّل (1) جميع ما قبل المعلول الأخير إلى جزءين : أحدهما الجزء الّذي هو فوق المعلول الأخير ، وثانيهما جميع ما قبل هذا الجزء - وجميع ما قبل هذا الجزء أمر موجود غير خارج عن السلسلة وعلّة لهذا الجزء ، وهكذا - ؛ وحينئذ تكون

ص: 80


1- في النسختين : تفصيل.

علّة جميع الممكنات الصرفة جزئها - لأنّ كلّ واحد ممّا هو قبل المعلول الأخير وما هو قبل الجزء الّذي فوقه وهكذا من اجزاء تلك السلسلة - ، ومع ذلك لا يلزم كون الشيء علّة لنفسه ولعلله ، لأنّ جميع ما قبل كلّ جزء ليس عين هذا الجزء ، وليس هذا الجزء جزء له.

ولا يقال : انّ المراد انّه لو كان واحد من الأجزاء علة لجميع الاجزاء يلزم المفسدة المذكورة وعلى الشبهة يلزم أن تكون علّة كلّ واحد من المعلولات جزء على حدة ، فالّذي اختاره مورد الشبهة ليس اختيار الشيء من الشقوق الّتي ذكرها المستدلّ ؛

لأنّا نقول : غرض مورد الشبهة انّ هاهنا احتمالا لا يستلزم المفسدة المذكورة ، فان لم يذكر المستدلّ هذا الاحتمال لم يكن ترديده حاصرا ، وان ذكره فاخباره لا يوجب كون الشيء علّة لنفسه ولعلله.

والحقّ إنّ هذه الشبهة لا تدفع إلاّ بالتمسّك بما تقدّم من أنّ مجموع الممكنات في حكم ممكن واحد في جواز طريان الانعدام عليها وعدم الوجود رأسا ، فلا بدّ لها من علّة بالذات وعلى الاطلاق - أي : علّة تكون جميع اجزائها متأخّرا عنها محتاجا إليها -. فاذا كان جزء من اجزاء سلسلة الممكنات علّة لها بهذا المعنى لزم أن يتقدّم هذا الجزء على نفسه وعلى علله ، وإن كان هذا الجزء جميع ما قبل المعلول الأخير أو جميع ما قبل كلّ جزء غيره.

وأيضا : لا يصحّ أن يكون شيء من الممكنات مقتضيا لوجود شيء منها - لما تقدّم من انّ الشيء ما لم يرتفع عنه جميع انحاء العدم لم يكن واجبا ، وما لم يكن واجبا لم يكن موجودا - ، ولا يجوز أن يكون شيء من الممكنات مقتضيا للوجوب - لما مرّ - ، فيجب أن يكون الموجد للممكن الواحد وللكل شيئا خارجا عن الجميع ؛ وهو الواجب - جلّ جلاله -.

ثمّ انّ هذه الشبهة ربّما جرت في بعض البراهين المتقدّمة والآتية ، والجواب كما ذكر.

ومنها : انّ موجد الشيء يجب أن يكون موجبا لوجوده ومنشئا لامتناع طريان

ص: 81

العدم عليه بالكلّية لما تقدّم من أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وشيء من الممكنات لا يمكن أن يكون موجبا لوجود شيء ولا منشئا لامتناع طريان العدم عليه بالكلّية - لانّ مفيد الوجوب ومنشأ امتناع طريان العدم لا يمكن أن يكون عاريا عن الوجوب السابق واللاحق - ، والممكن عار عنهما. ولو فرض استناد كلّ واحد إلى آخر إلى غير النهاية حتّى يحصل الوجوب بالغير نقول : كما تقدّم انّ المجموع حينئذ يجوز عليه العدم بالنظر إلى ذاته - لما مرّ مرارا من أنّ مجموع الممكنات في حكم ممكن واحد في جواز طريان العدم عليه بالكلّية - ، فلا يتحقّق له الوجوب حينئذ أيضا ، فلو لم يتحقّق موجود خارج عن الكلّ هو الواجب لذاته لم يوجد موجود اصلا ، فثبت المطلوب.

ومنها : انّه لو لم يتحقّق واجب الوجود لذاته لم يتحقّق شيء من الممكنات ، إذ لا يمكن أن يكون شيء من الممكنات مستقلا بنفسه لا في الوجود - وهو ظاهر من ملاحظة مفهوم الممكن - ولا فى الايجاد ، اذ المستقل بالايجاد شيء يمتنع نسبة جميع انحاء عدم ذلك الشيء عليه ، ولا شيء من الممكنات كذلك - لجواز طريان العدم على الكلّ -.

واصل هذا الدليل من بهمنيار ، حيث قال في التحصيل : « لو لم يتحقق واجب الوجود لذاته لم يتحقّق ايجاد مطلقا ». ووجهه : انّ الممكن لا يجوز أن يصير منشئا لوجود نفسه ، فكيف يمكن أن يصير منشئا لوجود غيره. ونعم ما قيل في هذا المعنى :

ذات نايافته از هستى بخش *** كى تواند كه شود هستى بخش

ومنها : البرهان المعروف ببرهان الأسدّ والأخصر. وتقريره : انّه لو لم يوجد واجب الوجود لذاته لم يتحقّق موجود أصلا ، إذ الوجود حينئذ لا يحصل إلاّ بالاستفادة من الغير. وهذا الغير لمّا لم يكن له الوجود لذاته يجب أن يكون وجوده أيضا مستفادا من الغير ، وهكذا. وجميع الأغيار وإن كانت غير متناهية لمّا لم يكن لشيء منها وجود بالذات فهي في حكم ممكن واحد في / 18MB / الافتقار إلى استفادة الوجود من الغير ، فلو لم يوجد واجب الوجود لذاته فمن أين يحصل الوجود؟

وبتقرير آخر : لو تسلسلت الممكنات إلى غير النهاية واستند كلّ واحد إلى

ص: 82

ما فوقه ولم يوجد واجب الوجود لذاته فنقول : لا يصحّ أن يكون شيء من آحاد تلك السلسلة موجودا لم يوجد قبله موجود آخر ، وإذا لم يصح لكلّ واحد أن يدخل في الوجود إلاّ وقبله موجود آخر فكذلك جميع الآحاد حكمها كذلك - أي : لا يصحّ أن يدخل الوجود إلاّ وقبله / 18DB / موجود آخر - ، لأنّه إذا افتقر كلّ واحد واحد إلى أمر خارج لافتقر جميع الآحاد أيضا إلى أمر خارج ، وهو بديهي.

ومنها : برهان الضرورة من اللاضرورة ؛ وتقريره : إنّ الممكن من حيث ذاته لا يكون له إلاّ سلب ضرورة الوجود والعدم - ولذا يفتقر في ثبوت كلّ من الضرورتين إلى علّة خارجة عن ذاته - ، فليس بشيء من الممكنات ضرورة بالنظر إلى ذاته. وقد تقرّر انّ الشيء ما لم يجب ولم يحصل له ضرورة الوجود من علّة لم يوجد ، فلو وجدت الممكنات من غير استناد شيء منها إلى الواجب الوجود لذاته لزم صدور الضرورة من اللاضرورة ، لانّه إذا لم يكن في الوجود ضرورة الوجود بالذات ولم يتحقّق سوى سلب الضرورة لزم لا محالة حصول الضرورة من اللاضرورة ، وهو محال بالبداهة ؛ لاستلزامه صدور الشيء ممّا هو أخصّ من نقيضه. لانّ نقيض ضرورة الوجود إنّما هو سلب ضرورة الوجود ، وسلب ضرورة الوجود أعمّ من سلب ضرورة الوجود وسلب ضرورة العدم معا ، لأنّ سلب الضرورتين (1) معا لا ينفكّ عن سلب ضرورة الوجود ، وهو ظاهر. بخلاف العكس كما في الممتنع ، فانّه قد تحقّق فيه سلب ضرورة الوجود من دون تحقّق سلب الضرورتين معا ، لانّ عدمه ضرورى ، فعلى تقدير عدم الواجب لذاته يلزم صدور ضرورة الوجود من اللاضرورتين معا ، وهو صدور الشيء من الأخصّ ونقيضه.

ومنها : برهان الأولوية ؛ وتقريره : انّه لو انحصرت الموجودات في الممكنات لزم الترجيح بلا مرجّح ، لانّ الممكن ما تساوي نسبته إلى الوجود والعدم ، فكلّ من وجوده وعدمه انّما يقع بعلّة ، فلو تحقّقت سلسلة الممكنات - سواء كانت متناهية أو غير متناهية - من دون استنادها إلى الواجب الوجود لذاته لكان لقائل أن يقول : لم

ص: 83


1- الاصل : الضرورة.

تحقّق وجود هذه السلسلة دون عدمها مع تساوي نسبتها إليهما ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح.

فان قيل : انّما تحقّق وجودها دون عدمها لتحقق علّة الوجود - أعني : ممكنا آخر - ، لأنّ الفرض استناد كلّ واحد من آحاد هذه السلسلة إلى آخر إلى غير النهاية ؛

قلنا : انّا أخذنا جميع ما في السلسلة بحيث لا يشذّ عنها شيء ؛ وقلنا تحقّق وجود جميع هذه السلسلة دون تحقّق عدمها مع تساوي نسبتها إليهما ترجيح بلا مرجّح!.

فلا ينفع استناد كلّ واحد من أجزائها إلى جزء آخر. وما ذكرناه مبني على التمسّك بالوجودات الامكانية الابتدائية.

ويمكن التمسّك بالوجودات الثانوية البقائية بأن يقال : الممكن في البقاء محتاج إلى العلّة ، فنسبته إلى البقاء - أعني : الوجود الثانوي - والعدم الطاري على السواء ، فتحقّق البقاء دون العدم الثانوي ترجيح بلا مرجّح.

فان قيل : بقاء كلّ ممكن مستند إلى آخر إلى غير النهاية ؛

قلنا : كما مرّ انّا أخذنا جميع هذه الوجودات البقائية بحيث لا يشذّ عنها شيء ؛ ونقول : تحقّق هذه الوجودات دون العدمات الطارية ترجيح بلا مرجّح!.

ومنها : انّ لواجب الوجود مفهوما ، فان كان بإزاء هذا المفهوم حقيقة في الخارج ثبت المطلوب ، وإن لم يكن بإزائه شيء في الخارج وكان معدوما فيه لكان عدمه امّا مستندا إلى نفسه فيكون واجب الوجود ممتنع الوجود ، فيلزم الانقلاب ؛ أو مستندا إلى الغير فيكون واجب الوجود ممكن الوجود ، فيلزم الانقلاب أيضا ؛ فعدم واجب الوجود لا يكون واقعا ، لاستلزامه انقلاب الماهية.

ومنها : برهان اخترعه بعض أفاضل المتاخرين وتقريره : انّ الممكن منحصر في الجوهر والعرض - لأنّ كلّ ممكن امّا أن يكون بالنظر إلى ذاته وحقيقته محتاجا إلى الموضوع أم لا ، والأوّل هو العرض والثاني هو الجوهر -. وهذا حصر عقلي لا يقبل الواسطة ، ولذا اتفق جميع العقلاء على الانحصار. واذ ثبت الانحصار نقول : العرض باعتبار طبيعته محتاج في وجوده إلى الجوهر ، ولا عكس - لاستلزامه الدور - وطبيعة

ص: 84

الجوهر معلولة أيضا وإلاّ كانت واجبة ، ولا يجوز أن تكون علّة تلك الطبيعة شيئا من الأفراد المندرجة تحتها ، لأنّ كلّ فرد بالنظر إلى طبيعته عرضي لها ومتأخّر عنها ، فلا يجوز أن يكون فرد من افراد الطبيعة علّة لها ؛ فيجب أن تكون علّة الطبيعة أمرا موجودا خارجا عن سلسلة الممكنات ، وهو الواجب - تعالى شأنه -.

وأورد عليه : بانّه يجوز أن يكون بعض افراد الجوهر مستندا / 19MA / إلى بعض آخر منها وتذهب السلسلة إلى غير النهاية ، واستحالة التسلسل لم يؤخذ (1) في البرهان.

واجيب عنه : تارة بأنّ الكلام في علّة الطبيعة لا في علّة الفرد ، فكما أنّ الفرد موجود فكذلك الطبيعة موجودة أيضا ، كيف والطبيعة متقدّمة على الفرد ، فنسبة الوجود إليها متقدّمة على نسبته إلى الفرد. وأخرى : بأنّ افراد الجوهر إن استند بعضها إلى بعض إلى غير النهاية فنقول : كما أنّ كلّ واحد محتاج إلى العلّة الصدورية فكذلك المجموع من حيث المجموع أيضا محتاج إليها ، لأنّ المجموع من حيث المجموع - أي : / 19DA / معروض الهيئة الاجتماعية - موجود آخر وراء كلّ واحد واحد ، فلا بدّ له من علّة صدورية - فانّ ما لا يستغنى عنه كلّ واحد واحد من العلّة الخارجة لا يستغنى عنه المجموع من حيث المجموع أيضا - ، وعلّة المجموع لا يجوز أن تكون نفسه ولا جزئه - لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه - ؛ فيجب أن تكون علّته أمرا خارجا عن الجميع هو الواجب لذاته.

ولا يخفى عليك انّه يمكن أن يناقش في بعض مقدّمات هذا البرهان ؛ فتأمّل!.

ومنها : برهان أورده الشيخ في إلهيات الشفاء ؛ وتقريره : انّ الممكنات كلّها - متناهية كانت أو غير متناهية - اشتركت في كونها أوساطا إلاّ المعلول الأخير ، لأنّ كلّ واحد من آحاد سلسلة الممكنات لمّا كان معلولا لسابقه وعلّة للاحقه لكان علّة ومعلولا معا ، وكلّ ما هو علّة ومعلول فهو وسط. وإذا كان كلّ واحد من السلسلة وسطا لكان جميع السلسلة أيضا كذلك ، فلا بدّ له من طرف هو الواجب لذاته.

ص: 85


1- الاصل : لم يوجد.

وأصل هذا الدليل من المعلم الثاني ، فانه قال في شرح رسالة الزينون الكبير : لا يجوز أن تكون علل ممكنة لا نهاية ، لها لأنّ لكلّ منها خاصية الوسط فله طرف أيضا والطرف نهاية (1).

ثم أورد على هذا البرهان : بأنّه إن اريد انّ كلّ وسط لا بدّ له من طرفين مطلقا فيلزم أن تكون الجملة أيضا كذلك ففيه انّ الجملة أيضا لها طرفان هما اجزاء السلسلة والمعلول الاخير ؛ وإن اريد انّ كل واحد واحد لما كان له طرفان خارجان فالجملة أيضا كذلك - لأنّ حكم المجموع هنا لا يخالف حكم الآحاد - ؛ ففيه : انّ هذا الشيء لا دليل له أصلا ولا تقتضيه ضرورة أيضا ، فالمسلّم أنّه لا مخالفة بين الآحاد والجملة في المعلولية والاحتياج في الجملة. وأمّا عدم المخالفة بينهما في الاحتياج إلى طرف آخر فغير ممنوع ، بل الجملة إن كانت متناهية كانت محتاجة إلى طرف خارج ، وأمّا الغير المتناهية - كما فيما نحن فيه - فلا يحتاج إليه أصلا.

والجواب : انّ حكم الجملة هنا لا يخالف حكم الآحاد ، لأنّ افتقار كلّ واحد من الأوساط إلى الطرف ليس لأجل كونها متناهية ، بل لاجل كونها أمورا ممكنة غير موجودة بذواتها وغير ممنوعة غير طريان العدم عليها وهذه العلّة جارية في الجملة بأسرها ، فانّ المجموع من حيث المجموع يجوز طريان العدم عليها بحيث لا يبقى شيء من آحاده أصلا ، فلا بدّ له من طرف هو الواجب لذاته.

وأنت تعلم انّ توجيه هذا البرهان بهذا النحو يجعل بعض مقدّماته - من توسّط حديث الوسطية وبيان خاصّته الّتي هي العلّية والمعلولية - مستدركا!. اللّهم إلاّ أن يقال : انّ التمسّك بهذه المقدمات واتمام البرهان بالوجه الّذي وجّهناه نوع مسلك وعدم التمسّك بها واتمام البرهان بمجرّد ما ذكرناه في التوجيه مسلك آخر أخصر ؛ فتأمّل!.

تتميم

اعلم! أنّ أكثر الأدلّة المذكورة يتوقّف تماميتها - كما أشير إليه - على كون جميع

ص: 86


1- لم أعثر على هذا الكتاب.

الممكنات الصرفة في حكم ممكن واحد في جواز طريان الانعدام عليها رأسا ، وبعضها يتوقّف تتميمها على مقدّمة أخرى هي أنّ مجموع الممكنات الموجودة من حيث أنّها مجموع موجود واحد ممكن غير كلّ واحد واحد من الأفراد لأنّ الهيئة المجموعة الحاصلة من اجتماع الآحاد غير كلّ واحد واحد منها ، فلا بدّ له من علّة.

والحقّ صحّة هاتين المقدّمتين وحقّيتهما ؛ وانكارهما مكابرة.

أمّا المقدّمة الاولى فيمكن تقريرها بوجهين ، أحدهما : أن يحمل لفظ « الطريان » على ظاهره حتّى يكون المراد من طريان الانعدام هو عروض العدم الطاري - أي : العدم بعد الوجود - ، ويكون المقصود من تلك المقدّمة انّ جميع الممكنات الصرفة في حكم ممكن واحد في جواز انعدامها بعد الوجود. والدليل على انّ كلّ واحد من هذه الممكنات وإن امتنع عدمه بسبب علّته لكنّه لا ريب في جواز عدمه مع عدم علّته ، والعلّة لكونها ممكنة يجوز انعدامها ، فكلّ ممكن موجود يجوز انعدامه وانعدام جميع علله الموجودة الممكنة - سواء كانت متناهية أو غير متناهية - فنسبة العدم الطاري والوجود البقائى إليها على السواء ؛ فترجّح / 19MB / الوجود البقائى على العدم الطاري لا بدّ له من علّة واجبة لذاتها.

وعلى ما قرّر الدليل يندفع عنه ما أورد عليه : بأنّه إن اريد بامكان طريان الانعدام عليها الامكان الذاتي فممنوع ، ولا يجدي نفعا ، لجواز أن يكون طريان الانعدام على مجموعها ممتنعا في نفس الأمر بسبب انّ كلاّ منها مع العلّة الموجدة ؛

وإن أريد به الامكان الوقوعي فممنوع ، والسند ما مرّ. والفرق بين المتناهي وغير المتناهي ظاهر ، إذ الممكنات المتناهية تنتهى إلى ممكن موجود لا بدّ له من موجد ، وعلى تقدير عدم الواجب لم يتحقّق له موجد. وأمّا الممكنات الغير المتناهية فلا تنتهي إلى ممكن موجود ، وبطلان التسلسل غير مأخوذ في الأدلّة الّتي تؤخذ فيها هذه المقدّمة ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع : انّا نختار الشقّ الثاني ونقول : الامكان الوقوعي لازم للامكان الذاتي فيما نحن فيه - لانتفاء العلّة الخارجة المقتضية لامتناع العدم عليها في / 19DB /

ص: 87

نفس الأمر - ، وكون كلّ منها مع العلّة الموجدة لا يقتضي ذلك - لجواز انعدام العلّة أيضا - ، فلا فرق في ذلك بين المتناهي وغير المتناهي أصلا.

قيل : الحكم بعروض العدم اللاحق بعد الوجود على جميع الممكنات الموجودة - كما أخذ في هذه المقدّمة - منقوض ببعض الموجودات الممكنة كالزمان ، فانّ العدم الطاري بعد الوجود ممتنع عليه. وإذا امتنع عليه العدم الطاري يكون بقاؤه واجبا بالذات ، لأنّ أحد الطرفين إذا كان ممتنعا بالذات يكون الطرف الآخر واجبا بالذات - على ما تقرّر في موضعه - ، فلا يكون الزمان محتاجا إلى العلّة المبقية ، ولا يجوز عليه طروّ العدم بعد الوجود.

وأجاب عنه بعض الافاضل بما هو المشهور في الجواب عن الشبهة المشهورة على امكان الزمان ؛ وحاصل الجواب : انّه لا يلزم من امتناع العدم الطاري على الزمان أن يكون بقاؤه واجبا بالذات حتّى لا يحتاج في الوجوب اللاحق إلى علّة ، لأنّ ما ثبت في موضعه انّ أحد النقيضين إذا كان ممتنعا بالذات يكون النقيض الآخر واجبا بالذات ، وما نحن فيه ليس كذلك ؛ لأنّ نقيض الوجود البقائي هو رفع الوجود البقائي ، ورفع الوجود البقائي يتصور على وجهين : أحدهما : أن لا يوجد الزمان من بدو الأمر ، وثانيهما : أن يرفع وجوده البقائي من بعد الوجود. وهذا وان كان ممتنعا لكن لا يلزم من امتناع الأخصّ امتناع الأعمّ ، لأنّ رفع الوجود البقائي يتصوّر من وجهين - كما ذكرنا - ، فرفع الوجود البقائي ممكن في ضمن أحد فرديه وإن كان ممتنعا في ضمن فرده الّذي هو العدم بعد الوجود.

وأنت تعلم انّ هذا الجواب يؤكّد النقض ويقوّي الاشكال ، لأنّ مناط الاشكال والمحذور هنا عدم جواز طريان العدم بعد الوجود على الزمان وعدم احتياجه إلى العلّة المبقية ، وما ذكر في النقض - : من لزوم كون بقائه واجبا بالذات - لا دخل له بالمقام ، وانّما هو شبهة على حدة أورد على امكان الزمان ، وغير خفيّ انّ هذا الجواب انّما يرفع هذه الشبهة الّتي لا دخل لها في المقام ، ولا يرفع أصل المحذور هنا - وهو عدم احتياج الزمان إلى العلّة المبقية - ، لانّ جواز العدم على الزمان ابتداء غير نافع في المقام ،

ص: 88

فانّ الكلام في انّه إذا وجد الزمان يمتنع عليه حينئذ العدم لذاته ، فلا حاجة إلى العلّة المبقية. وجواز رفع الوجود البقائي في ضمن عدم التحقّق من بدو الأمر لا يقدح في ذلك اصلا - كما لا يخفى -. على أنّه لو سلّم عدم احتياج الزمان إلى العلّة المبقية لذاته لجاز أن يستند غيره في أصل الوجود وفي البقاء إليه ، فيلزم عدم احتياج شيء من الأشياء في البقاء وغير الزمان في أصل الوجود أيضا إلى الواجب ، فيصير الاشكال أقوى.

والحقّ في الجواب عن النقض المذكور أن يمنع كون امتناع طروّ العدم بعد الوجود على الزمان لذاته ، بل هو جائز عليه بالنظر إلى ذاته الممكنة ، والامتناع انّما نشأ لأجل غيره. وما ذكروه في بيان امتناع العدم الطاري عليه انّما يدلّ على مجرّد الامتناع ، لا على كونه لذاته.

فإن قيل : يحتمل أن يكون الامتناع لذاته ، ومجرّد الاحتمال يكفى في ايراد الإشكال ؛

قلت : البراهين الدالّة على افتقار كلّ ممكن باق في البقاء إلى المؤثّر يدلّ على احتياج الزمان في البقاء أيضا إلى / 20MA / ذلك المؤثّر الّذي اوجده ، هذا.

مع أنّا أوّلا نمنع كون الزمان موجودا خارجيا ، بل هو أمر اعتباري ينتزع من الحركة الدورية ، وغاية الأمر وجود الآن السيال الراسم للزمان في الخيال كالحركة بمعنى التوسط الراسمة للحركة بمعنى القطع في الخيال ، والفرق بين الزمان والحركة بمعنى القطع الموجودية وعدمه غير معقول ، كالفرق بين الآن السيال والحركة بمعنى التوسط.

وثانيا نمنع الفرق بين غير الزمان وبين الزمان في الاحتياج إلى العلّة في البقاء ، ودليل الاحتياج مشترك.

وأمّا ما ذكروه في بيان عدم احتياجه في البقاء إلى العلّة غير تامّ ؛ هذا.

وقد أجاب بعض الأفاضل عن النقض المذكور : بأنّ الممتنع على الزمان انّما هو العدم الطاري الزماني لا العدم الطاري الدهرى ؛

وقال بعض اهل التحقيق : هذا الجواب من الخيالات الّتي لا أجد لها وجه

ص: 89

معقولية! ، وانّما اخترعه السيد المحقّق الداماد - قدس سره - وتبعه من اقتدى به من تلامذته مثل هذا المجيب.

ولعلّك تعرف حقيقة ما اخترعه السيّد - رحمه اللّه - في بعض المباحث الآتية.

وبما ذكرنا من جواز طريان العدم على كلّ ممكن بالنظر إلى ذاته والامتناع على بعض الممكنات لو سلّم فانّما هو لأمر خارج ، يندفع ما أورده بعض الافاضل : بانّ العقل لا يقصر عن تجويز امتناع طريان العدم على بعض الممكنات ، فلا بدّ / 20DA / لجوازه على جميع الممكنات من دليل. ولا يتوهمنّ من ذلك لزوم انقلاب الذات ، إذ هو عبارة عن أن يكون شيء واجبا أو ممكنا أو ممتنعا بالذات ، ثمّ تبدّل في زمان من الأزمنة بغيره. ولا يلزم من امتناع العدم الطاري على ممكن تبدّل في ذاته ، إذ مقتضى مفهوم الممكن جواز مطلق الوجود والعدم عليه ، لا جواز جميع انحاء الوجودات والعدمات عليه. نظيره انّ ذات الواجب يقتضي الاتصاف بالوجود المطلق وذلك لا ينافي امتناع اتصافه بخصوص بعض انحائه - كالوجود المسبوق بالعدم - ، وانّ الممتنع يقتضي الاتصاف بالعدم المطلق مع انّه لا يجوز اتصافه بالعدم المسبوق بالوجود ، وليس في شيء من ذلك انقلاب وتبدّل في ذاتيهما. فعلى ذلك يجوز أن يمتنع على بعض الممكنات خصوص بعض العدمات كالعدم المطلق - على ما صرّح به جمهور الفلاسفة في مثل الهيولى مما اعتقدوا فيه القدم ، وفي مثل النفوس الناطقة من الحوادث ، بل في كلّ ممكن سوى الصور والاعراض من الأمور الحالّة -. وكذا يجوز أن يمتنع خصوص بعض الوجودات على الممكن كالوجود السابق ، كما احتجّ به بعض المتكلمين في منع جواز أزلية الممكن مطلقا عند دفع بعض شبه (1) الفلاسفة في قدم العالم ، وكالوجود المعاد وقد تمسّك به بعضهم في منع جواز اعادة المعدوم ؛ انتهى حاصل كلامه.

وأنت تعلم انّ الفرق قائم بين العدم اللاحق للممكن والوجود المسبوق بالعدم للواجب ، وشتّان ما بينهما!. فانّ الوجود المسبوق بالعدم مناف للحقيقة الواجبة والعدم اللاحق غير مناف للحقيقة الامكانية ، بل هو من مقتضياتها ، فامتناعه عليها لو

ص: 90


1- الاصل : شبهة.

سلّم انّما هو لأمر خارج ولولاه لزم التناقص بين كلام الحكماء ، فانّهم مصرّحون باحتياج كلّ ممكن في البقاء إلى المؤثّر ، ولو امتنع العدم اللاحق على جميع الجواهر الممكنة لذاتها لم يحتج شيء منها إلى المؤثّر في البقاء ، فيلزم التناقض.

وثانيهما - أي : ثاني التقريرين للمقدمة (1) المذكورة - : أن لا يحمل لفظ « طريان العدم » بظاهره ، بل يراد به عدم الوجود من بدو الأمر. وتقريرها حينئذ : انّ جميع الممكنات إذا لم يتحقّق فيها واجب لذاته في حكم ممكن واحد في امكان عدمه بدلا عن وجوده ، وذلك لانّه وإن امتنع عدم كلّ واحد مع وجود علّته لكن عدمه مع عدم جميع علله الممكنة ممكن ، فيجوز عدم الجميع رأسا بان لا يصير شيء من سلسلة الممكنات موجودا ، لانّ جميع السلسلة الّتي لا يوجد فيها ما يجب وجوده ويمتنع عدمه لذاته سواء كانت متناهية أو غير متناهية بينها ترتّب العلية والمعلولية أم لا يجوز عدمها بأسرها ، لعدم استحالة ذلك ؛ لا بالنظر إلى ذات كلّ واحد منها لامكانها ، ولا بالنظر إلى عللها ، لأنّها أيضا ممكنة. وإذا جاز عليها العدم بهذا النحو - أي : العدم بالكلّية - بحيث لا يوجد شيء منها من بدو / 20MB / الأمر فهي في حكم ممكن واحد في جواز طريان هذا النحو من العدم عليها. وجواز هذا النحو من العدم عليها بالنظر إلى ذاتها كاف في امكانها وكونها في حكم ممكن واحد ، ولا يلزم جواز جميع انحاء العدم للممكن ، فانّ بعض الممكنات ما يمتنع عليه بعض انحاء العدم - كما يقولون في العدم الطاري على وجود الزمان -. ومثله ما قالوا انّه يمتنع طريان الوجود بعد العدم اللاحق على الموجود. واذ ثبت كون جميع الممكنات الصرفة في حكم ممكن واحد فترجّح وجوده على عدمه لا بدّ له من علّة خارجة عنه واجبة لذاته ، وهو واجب الوجود لذاته وإله الكلّ وصانعه.

وعلى هذا التقرير لا يتوجّه النقض بالزمان أصلا ، وتصير المقدّمة بديهية غير محتاجة إلى البرهان. وانّما برهنا عليها لاشتباهها على جماعة نظرا إلى تحقّق نوع خفاء في تصوّر اطرافها. وقد نبّه عليها بعض الفضلاء بأنّ كلّ واحد من آحاد سلسلة

ص: 91


1- الاصل : وثانيهما انّ ثانى المقدمتين التقريرين للمقدّمة.

الممكنات لا يوجد إلاّ إذا وجب بالغير ، والوجوب بالغير في قوّة قضية شرطية ، بمعنى أنّه لو وجد ذلك الغير وجد ذلك الواحد ، فوجود ذلك الغير بمنزلة وضع المقدّم. وإذا كان كلّ واحد من تلك الاغيار الّتي هي العلل الموجبة موجودا بالغير غير منته إلى موجود لذاته كان بمنزلة شرطيات غير متناهية غير منتهية إلى وضع مقدّم ، فلا يلزم وجود شيء منها.

وأورد عليه : بأنّ عدم انتهائها إلى وضع مقدّم لا يدلّ على عدم وضع مقدم ، كيف؟! وهاهنا وضع مقدّمات غير متناهية وهي الوجودات الغير المتناهية على التقدير المذكور ؛

وأجيب عنه : بانّ الكلام في انّه إذا كان وجود كلّ منها على هذا الوجه كيف تحقّق ذلك وخرجت السلسلة إلى الوجود ، وما ذكرتم انّما يصحّ بعد فرض الكلّ موجودا ، فلا يجدي!.

وأمّا المقدّمة الثانية - أي : كون مجموع الممكنات موجودا واحدا ممكنا غير كلّ واحد - ، فيدلّ عليه : انّه إذا اجتمعت آحاد في الخارج سواء كانت مرتّبة أو غير مرتّبة وسواء كانت متناهية أو غير متناهية تحصل لها / 20DB / هيئة مجموعيّة وحدانيّة غير كلّ واحد واحد من الآحاد ، فالمجموع شيء واحد له وجود واحد كالممكن الواحد ، فلا بدّ لها من علّة كالممكن الواحد.

وأورد عليه : بانّه ليست لمثل هذا المجموع وحدة إلاّ بمحض الاعتبار ، ولا وجود له سوى وجودات الآحاد.

والجواب : انّه وان لم تكن للمجموع وحدة خارجية ولا وجود واحد خارجيّ إلاّ أنّ العقل يمكنه أن يفرضه شخصا واحدا موجودا ، وبعد هذا الفرض يحكم بافتقاره إلى العلّة الموجبة كالممكن الواحد ، وبه ثبت المطلوب ؛ ولا يتوقّف المطلوب على الوحدة الخارجية ولا الوجود الخارجي.

وقد أورد على تلك المقدّمة أيضا : بانّه لو حصل من وجود كلّ متعدّد وجود مجموع هو موجود واحد غير كلّ واحد من آحاده للزم من وجود الاثنين وجود ثالث

ص: 92

وهو المفروض لوصف الاثنينية والمجموع الحاصل من اعتبار جزئية كلّ من الاثنين ، فيحصل الثلاثة ومن وجود الثلاثة يحصل وجود رابع وهو المجموع الحاصل من اعتبار جزئية كلّ واحد من الاثنين المفروضين أوّلا واعتبار جزئية المجموع المركّب منهما ، فيحصل الأربعة ومن وجود الأربعة يحصل خامس وهكذا إلى غير النهاية ؛ فيلزم من وجود الاثنين وجود الموجودات الغير المتناهية ؛

واجيب عنه : بانّ الرابع الّذي حصل من اجتماع الثلاثة اعتباري محض ولا تحقّق له في الخارج اصلا ، لأنّ الرابع هو المجموع الحاصل من اعتبار جزئية كلّ واحد من الاثنين وجزئية المجموع المركب منهما ، فلو تحقّق في الخارج لزم اعتبار كلّ واحد من الاثنين فيه مرّتين ، والمفهوم الحاصل من اعتبار مفهوم فيه تكرار لا يمكن أن يكون موجودا في الخارج ، بل لو صحّ ذلك فانّما هو في الاعتباريات فقط والتسلسل فيها ينقطع بانقطاع اعتبار العقل.

وأنت تعلم أنّ الثالث أيضا اعتباري ، لانّه ليس في الخارج إلاّ الاثنين وليس فيه ثالث يكون له وجود على حدة ؛ إلاّ انّ الاثنين لمّا كانا موجودين في الخارج فاذا انتزع العقل منهما ثالثا يكون هذا الثالث اعتباريا له منشأ انتزاع في الخارج ، فيمكن (1) للعقل أن يجري عليه احكام الموجودات الخارجية ، وأمّا الرابع فلمّا كان بعض ما ينتزع - وهو الثالث - اعتباريا فلا يكون منشأ انتزاعه موجودا في الخارج ، فلا يمكن للعقل أن يجري عليه احكام الخارجيات - لتوغّله في الاعتبارية - ؛ والخامس في الاعتبارية أشدّ من الرابع والسادس اشدّ من الخامس وهكذا.

فائدة

اعلم! أنّ القوم صرّحوا بانّ ما تقدّم من منهج الالهيين الّذي يستدلّ فيه بالوجود والموجود أوثق واشرف من المناهج الآتية الّتي اعتبر فيه الامكان أو الحركة أو حدوث الخلق أو امكانه بشرط الحدوث ، و/ 21MA / قد حكم الشيخ الرئيس أيضا بانّ

ص: 93


1- الاصل : فيحكم.

منهج الالهيين أوثق وأشرف حيث قال في الاشارات بعد الاستدلال عليه - تعالى - من طريقة الوجود من حيث هو : تأمّل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأوّل ووحدانيته وبراءته عن الصمات إلى تامّل لغير نفس الوجود ، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله؟!. وإن كان ذلك دليلا عليه لكن هذا الباب اوثق واشرف. ثمّ جعل قوله - تعالى - : ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ ) اشارة إلى طريقة غير الالهيين من اعتبار الخلق والفعل ، وقوله : ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) اشارة إلى طريقة الإلهيين ؛ ووصفها بطريقة الصديقين الّذين يستشهدون بالحقّ لا على الحقّ (1).

ثمّ الحقّ في وجه أوثقية هذا المنهج أمّا بالنسبة إلى طريقة الطبيعيين فلابتنائها على مقدّمات يشكل اثباتها - كما يأتي - ؛

وأمّا بالنسبة إلى طريقتى (2) المتكلمين فلابتنائهما على حدوث العالم الّذي يشكل اثباته بالدليل العقلي ، فانّ الحقّ إنّ اثباته يتوقّف على اثبات الواجب ، فقبله لا يمكن اثباته بوجه تطمئنّ به النفوس. وظهور مجرّد حدوث الحوادث بل حدوث العالم الجسماني لا يفيد المطلوب ، لامكان انتهاء السلسلة إلى قديم جسماني أو غير جسماني ممكن هي يكون هو المحدث للحوادث ، فانّه يلزم على ما ذهبوا إليه من أنّ علّة الحاجة هي الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث شطرا أو شرطا عدم احتياج القديم إلى المؤثر وإن كان ممكنا ، والتمسّك بدلالة خارجية على امتناع القديم الممكن كلام آخر ؛ بل يتوقّف على جعل علّة الحاجة هي الامكان. وأيضا : القول بانّ العلّة المحوجة هي الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث خلاف التحقيق - كما مرّ -.

وأمّا اوثقيته بالنسبة إلى طريقة الامكان الوقوعي ، فلأنّ الامكان الوقوعي

ص: 94


1- راجع : الاشارات والتنبيهات ، الفصل التاسع والعشرون - وهو آخر فصول النمط الرابع - المطبوع مع الشرح للطوسى والمحاكمات ج ص 3 ص 66 ؛ شرحي الاشارات ج 1 ص 214. وانظر أيضا : الحكمة المتعالية ج 6 ص 14. شرح المقاصد ج 4 ص 22.
2- الاصل : طريقة.

يتوقّف على الوجود ، وبدونه لا يمكن الحكم به - كما يأتي مفصّلا -.

وقيل : وجه الاوثقية كون هذا المنهج أشبه الإنّيات / 21DA / باللمّ الّذي هو أوثق البراهين ، لا كونه لمّيا. لانّ البرهان اللمي هو الاستدلال بالعلّة على المعلول ولا علّة للأوّل - تعالى شأنه - حتّى يستدلّ بها عليه ، كيف وجميع ما يستدلّ به عليه في هذا المنهج من موجود معيّن أو موجود منتشر أو جميع الموجودات أو الموجود أو الوجود من حيث هو معلول له؟!. فانّ الوجود المطلق الّذي نحن نستدلّ به عليه ليس إلاّ ما شاهدناه وانتزعناه من الممكنات الموجودة ، فانحصر طريق الاستدلال عليه - تعالى - بالبرهان الإنّي الّذي هو الاستدلال بالمعلول على العلّة. إلاّ أنّ الاستدلال بمثل هذا المعلول الّذي هو الوجود والموجود اشبه الانيات باللمّ في افادة اليقين ، بل يكاد أن يكون في مرتبته كما صرّح به الشيخ الرئيس ، فانّه صرّح بانّ الاستدلال باللوازم المنتزعة عن حاقّ الملزوم قريب باللمّ في افادة اليقين. وهذا المنهج لكونه نظرا في الموجود والوجود من حيث هو ، كذلك ؛ فانّ مفهوم الوجود انّما ينتزع من ذاته - تعالى - بذاته من غير اعتبار قيد زائد على ذاته. ويؤكّده ما تقرّر في فن البرهان : انّ اوثق البراهين ما يكون حدّ الوسط فيه حال جوهر ذات الموضوع. وما نحن فيه كذلك ، لانّ قولنا بعض الوجود واجب الاستدلال عليه من حال جوهر الموجود والوجود وطبيعته لأنّ الموضوع هو الموجود وحدّ الوسط الّذي يقع الاستدلال به هو وجود الموجود وطبيعته ، وهو ظاهر.

لا يقال : الاستدلال إنّما يقع من الموجود المعلوم المشاهد لا من طبيعة الوجود المنتزعة من ذات الواجب ، والموجود المعلوم المشاهد ليس منتزعا عن ذات الواجب - تعالى - ؛ لأنّا نقول : ما يحصل به الاستدلال من الموجود المشاهد المعلوم ليس هو تعينه الخاصّ ولا ماهية الخاصّة ولا وجوده الخاصّ ولا الحصّة المعينة من الموجود العامّ الّذي في ضمنه ، بل ما ينتزع منه ومن كلّ موجود من الوجود العامّ المطلق الّذي هو مشترك معنوي بين الواجب وبين غيره ، ولا ريب في انّه من اللوازم المنتزعة منه - تعالى -. ومن هذا يظهر وجه ما ذكره الشيخ من وقوع الاستشهاد حينئذ بالحقّ

ص: 95

لا عليه ، لأنّ هذا الوجود المطلق لمّا كان منتزعا منه - تعالى - فهو وجه من وجوهه وليس شيئا خارجا عنه ، فكانّه استشهد به عليه.

هذا ما يقتضيه نظر الحكيم والمتكلّم.

وأمّا الصوفية فانّهم قالوا : للوجود ثلاث مراتب :

الأوّل : الوجود المطلق / 21MB / المعرّى عن جميع القيود - أي بشرط لا شيء - ، وهو الّذي جعلوه عين ذات الواجب الحقّ - تعالى شأنه - ؛

الثانى : الوجود المطلق لا بشرط شيء من القيود ، وهو الوجود المنبسط ؛

والثالث : الوجود بشرط القيود ، وهو وجود الممكنات (1). وقالوا : التغاير في هذه المراتب بمجرّد الاعتبار. فالاستشهاد من الثاني على الأوّل بل ومن الثالث عليه يكون استشهادا بالحقّ عليه ، لا من غيره ، لانّ كلّ واحد من المرتبتين الأخيرتين شأن من شئون الأوّل وتنزّل من تنزلاته ، فلا يقع الاستشهاد بأمر خارج ، فتأمّل!.

ثمّ لا يخفى انّ صحّة الوجه المذكور يتوقّف على أوثقية برهان اللمّ على الإنّ ، وسيأتى ما فيه ؛ هذا.

وقال بعض الفضلاء : حكم الشيخ بأوثقية منهج الالهيين باعتبار انّه لا يحتاج إلى اعتبار حدوث أو حركة ، بل يكفى التمسّك بأصل الوجود ؛ بخلاف المناهج الأخرى ، فانّه لا بدّ فيها من بيان وجود حادث أو متحرّك ، وهذا وإن كان ظاهرا لكن لا شكّ انّ الأوّل أوثق ؛ انتهى.

وفيه : انّ حكم الشيخ بانّه طريقة الصديقين الّذين يستشهدون بالحقّ لا عليه لا يلائم هذا التوجيه ، كما لا يخفى.

وقيل : وجه الأوثقية عدم ورود الايرادات الموردة على طريقة الامكان من جواز الأولوية الذاتية وشبهة ما قبل المعلول الأخير وغيرهما ؛

وفيه : أنّها ترد على منهج الالهيين أيضا والجواب مشترك.

والأكثر مصرّحون بانّ الوجه في أوثقية منهج الالهيين كونه لمّيا دون ساير

ص: 96


1- راجع : نفحات الأنس ص 554.

المناهج ، ولمّا توقّف اثبات مدّعاهم على بيان أمرين - الاوّل : بيان كون البرهان اللمّى أوثق من الإنّي ، والثانى : بيان كون هذا المنهج لمّيا دون ساير المناهج - فقالوا في بيان الاوّل : وثاقة الدليل انّما هو لأجل افادته اليقين ، فكلّ ما كان افادته لليقين كلّيا واتمّ كان أوثق وأحكم ، وما يفيد اليقين الكلّي التامّ انّما هو برهان اللمّ دون الإنّ. امّا عدم افادته لليقين كلّيا لما ثبت واشتهر بين القوم من انّ العلم اليقيني الكلّي بما له سبب لا يحصل إلاّ من سببه ، فالإنّ فيما له سبب لا يفيد اليقين لتوقّف العلم اليقيني به على العلم من جهة سببه ؛ وقد صرّح به الشيخ في الشفا حيث قال ما حاصله : انّ الشيء إذا كان له سبب لم يتيقّن إلاّ بسببه ، فان كان / 21DB / الأكبر للأصغر لا بسبب بل لذاته وكان بيّن الوجود للأصغر ثمّ الأكبر بيّن الوجود للاوسط فينعقد برهان يقيني ، ويكون برهانا إنّيا لا لمّيا. وقال في موضع آخر ما حاصله : انّ برهان الإنّ يعطى اليقين في بعض المواضع ، وأمّا فيما له سبب فلا يعطى اليقين. وقد صرّح بذلك المحقّق الطوسى أيضا في مقام ترجيح طريقة الالهيين ، حيث قال بعد حكم الشيخ في الاشارات بأوثقية منهج الالهيين : وذلك لأنّ اولى البراهين باعطاء اليقين هو الاستدلال بالعلّة على المعلول ، وأمّا عكسه - : الّذي هو الاستدلال بالمعلول على العلّة - فربّما لا يعطى اليقين إذا كان للمطلوب علّة لم يعرف بها (1).

وامّا عدم افادته لليقين التامّ فلما اشتهر بينهم من انّ العلم بالعلّة يوجب العلم التامّ بالمعلول بخلاف العكس ، فانّ العلم بالمعلول لا يوجب إلاّ العلم الناقص بالعلّة.

ويرد على الأوّل : أمّا أوّلا : فبانّ البرهان ما افاد اليقين ، وبرهان الإنّ قسم منه ، والمقسم وما يعتبر فيه معتبر في القسم ، فكيف لا يفيد بعض اقسام الإنّ اليقين؟!. وتوضيح ذلك : انّ المنطقيّين قد ذكروا انّ كلّ قياس حمليّ لا بدّ فيه من مقدّمتين مشتركتين في حد يسمى بالحدّ الوسط ، لانّ نسبة محمول المطلوب إلى موضوعه لمّا فرضت نظرية مجهولة فلا بدّ من أمر ثالث يفيد العلم بتلك النسبة ، وإلاّ كفى تصوّر

ص: 97


1- راجع : شرح الطوسي على الاشارات ، المطبوع مع المحاكمات ج 3 ص 66. شرحي الاشارات ج 1 ص 214.

الطرفين في العلم بتلك النسبة ، فلا تكون نظرية مجهولة بل بديهية معلومة ، وهو خلاف الفرض. وهذا الأمر الثالث هو الأوسط الموجود في كلتا المقدّمتين المسمّيتين بالصغرى والكبرى ، وتتفرّد الصغرى بحدّ هو موضوع المطلوب ويسمّى « أصغر » ، والكبرى بحدّ هو محمول المطلوب ويسمّى « أكبر » ، فكلّ قياس حمليّ يشتمل على ثلاثة حدود : الاصغر ، والاكبر ، والاوسط. ثمّ الأوسط في القياس البرهاني - وهو ما صحّ تركيب مقدّمتيه وكانت المقدّمتان يقينيّتين - لا بدّ أن تفيد الحكم بثبوت الأكبر للأصغر ، فيكون علّة لثبوت الحكم - أي : ثبوت الأكبر للأصغر - في الذهن ، فانّ كان مع ذلك / 22MA / علّة لثبوت الأكبر للأصغر في الخارج يسمّى البرهان « برهان لمّ » ، وإلاّ يسمّى « برهان انّ ». ثمّ قسّموا البرهان الإنّي إلى ما يكون الأوسط فيه معلولا لوجود الأكبر في الأصغر ، وما يكون كلاهما فيه معلولا لشيء ثالث ، وما يكونان متضايفين. والأشهر عندهم هو القسم الاوّل ، والثالث غير معروف لقلّة فائدته ؛ وربما يخصّ الأخيران باسم الدليل.

هذا حاصل كلامهم في تقسيم البرهان.

وهم (1) كما ترى عرّفوا البرهان بما كان مقدّماته بيّنة وكان تركيبها معلوم الصحّة ، وجعلوه مقسما للمّي والإنّي وصرّحوا بلزوم النتيجة المطلقة. فكلامهم صريح في افادة كلّ منهما العلم اليقيني القطعي ، لانّه إذا صحّ الملزوم صحّ اللازم أيضا - لعدم جواز انفكاك الملزوم عن اللازم -. فمن ادّعى عدم افادة الإنّ اليقين لزمه القدح إمّا في تحديد البرهان ، أو في كونه مقسما للّمّ والإنّ ، أو في كون النتيجة لازمة ، والكلّ باطل. فتحقّق بذلك اشتراكهما في افادة العلم اليقينى ولا فرق بينهما إلاّ في المطلوب - : في اللمى انّما يعلم من جهة العلم بما اوجبه وأوجده في الخارج أعني لمّه وعلته ، وفي الإنّي انّما يعلم من جهة أخرى ، فلا يعلم معه لمّه وعلّته ، بل المعلوم وجوده فقط -.

فان قيل : كلام المنطقيين في هذا المقام لا يخلوا عن اختلال ، لانّهم في تقسيم البرهان إلى اللمّي والإنّي جعلوا مناط التقسيم حال الأوسط بالنسبة إلى الأكبر و

ص: 98


1- النسختين : هو.

الأصغر ، وهو يقتضي أن يكون البرهان منحصرا في الاقترانى الحملي لعدم اصطلاحهم هذه الحدود - أعني : الأوسط والأصغر والأكبر - في غير الاقترانى الحملي من الاقيسة ، مع انّهم صرّحوا بأنّ البرهان هو القياس المؤلّف - وهو اعمّ من أن يكون استثنائيا أو اقترانيا حمليا أو شرطيا - ، ففي ظاهر كلامهم تدافع ؛

قلنا : ملاحظتهم لحال الحدود المختصّة بالاقترانى الحملى مسامحة منهم. والباعث على تلك المسامحة كون الاقتراني الحملي أعرف من ساير الأقيسة وظهور امكان ارجاعها إليه ، فكان غيره من الأقيسة حملي اقتراني بالقوّة مشتمل على تلك الحدود.

والحاصل : انّ اللمّ والإنّ من الاقسام الأولية للبرهان ويتأتّى في جميع الأقيسة من الاستثنائى والاقتراني والشرطي ، إلاّ أنّ جعلهم مناط التقسيم ما يختصّ بالاقتراني الحملي لأعرفيته وامكان ارجاع غيره إليه. والجواب بانحصار البرهان في الاقترانى الحملي وجعل تعريفه على الوجه الأعمّ مسامحة. إذ الاعتراف بعموم البرهان والتزام انّ اللمّ والإنّ ليسا من اقسامه الاوّلية بل من اقسام أحد أنواعه - اعني : الاقترانى الحملي - فلا ينحصر البرهان بهما وتقسيمه إليهما أوّلا على / 22DA / سبيل الحصر مسامحة يخالف قواعد القوم واصولهم - كما لا يخفى -.

وامّا ثانيا : فلانّ دعوى أنّ العلم اليقيني بذي السبب لا يحصل إلاّ من العلم بسببه ممنوعة ، فانّه يجوز أن يحصل العلم القطعي بوجوده من الاحساس أو الالهام أو الكشف أو الحدس أو اخبار من علم صدقه بالبرهان. وأيضا نحن نقطع من وجود معلول وجود علّة له - كما هو شأن برهان الإنّ - وإن كانت لتلك العلّة علة أيضا ، فلا ينحصر طريق العلم بذي السبب في جهة العلم بالسبب.

وأمّا ثالثا : فلانّ الواجب - تعالى شأنه - ممّا ليس له علّة وسبب ، فالبرهان الإنّ فيه برهان فيما سبب له ، فيفيد العلم اليقيني وهو ظاهر.

ويرد على الثاني - أعنى : كون العلم بالعلّة موجبا للعلم التامّ بالمعلول بخلاف العكس - : انّ ايجاب العلم بالعلّة للعلم التامّ بالمعلول انّما هو مسلم إذا كانت العلة تامّة وعلمت على الوجه التامّ - أي : بذاتها وحقيقتها المعينة مع جميع لوازمها وملزوماتها

ص: 99

وعوارضها ومعروضاتها وما لها في نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها - ، وقد صرّح بذلك جمع من المحقّقين منهم المحقّق الطوسى - رحمة اللّه عليه - في شرح رسالة العلم (1) ؛ وأنّي يحصل ذلك لأحد؟! لتوقّفه على العلم بعلّة تلك العلّة وعلّة علّتها وهكذا ، فامّا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى ما لا علّة له ، أو ما لا يعلم من جهة علّته فلا يعلم على الوجه التامّ. وإذا لم يعلم الموقوف عليه على الوجه التامّ فلا يعلم الموقوف أيضا على الوجه التامّ. على انّ الشيخين - : الفارابي وابن سينا - صرّحا بانّه لا يمكن للبشر أن يعلم شيئا بحقيقته ؛ قال الفارابى في تعليقاته : الوقوف على حقائق / 22MB / الاشياء ليس في قدرة البشر ونحن لا نعرف من الأشياء إلاّ الخواصّ واللوازم والاعراض (2). وبمثله صرّح الشيخ في رسالة الحدود واطال الكلام فيه بما لا مزيد عليه (3).

وبه يظهر فساد قول من زعم من المتكلّمين انّه يمكن تحصيل العلم بالحقائق بل وقوعه حتّى (4) بحقيقة اللّه - تعالى - ، وكيف يمكن ذلك والقول به بعد اقرار سيّد الرسل - صلی اللّه علیه و آله - بالعجز عن حقّ المعرفة (5)؟!. هذا كلّه ؛ مع انّه لو امكن العلم بالعلّة بحقيقتها وجميع لوازمها وكان ذلك موجبا للعلم التامّ بالمعلول بحقيقته ولوازمه وملزوماته كان ذلك موجبا للعلم التامّ بالعلّة والفرق بينهما تحكّم.

قيل : العلم بالعلّة يفيد العلم بخصوصية المعلول وذاته المعينة المخصوصة ، وامّا العلم بالمعلول فلا يفيد العلم بالعلّة المعينة المخصوصة ، بل يفيد العلم بعلّة ما ، لأنّه لامكانه وتساوي الطرفين إلى مهيته محتاج إلى علّة من العلل ، فالعلم به يوجب العلم بعلّة ما. فالبرهان الإنّي من حيث اعتباره استدلالا من المعلول على علّة ما يفيد اليقين ومن حيث اعتباره استدلالا على العلّة المعينة فلا يفيد اليقين ، فهنا علم نظري

ص: 100


1- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 42.
2- راجع : التعليقات ، ص 40.
3- راجع : رسالة الحدود ، ص 1 ، حيث يقول الشيخ : ... فاستعفيت من ذلك علما بانّه كالأمر المتعذّر على البشر ...
4- الاصل : - حتّى.
5- اشارة إلى قول النبي - 6 - : ما عرفناك حقّ معرفتك. راجع : بحار الأنوار ، ج 5. ص 292 ، ج 71 ، ص 23. وانظر : شرح القيصري على فصوص الحكم - الطبعة الحجرية - ، المقدّمات ، ص 5. القائمة 2.

مخصوص ، أي : العلم المتعلّق بالذات المخصوصة المعينة يتوقّف تحصيله على جهة العلّة ويمتنع حصوله من المعلول. ولا ريب انّ العلم بالحقيقة المعينة المخصوصة أولى وأكمل من العلم بحقيقة ما ، فهذا هو الوجه في مزية البرهان اللمّي على الإنّي.

ولا ريب أيضا في انّ المقصود من البرهان في اثبات الواجب - تعالى شأنه - اثبات خصوصية العلّة للكلّ - اعني : الواجب بالذات - ، وبرهان الإنّ لا يفيد هذا الأمر ، فيجب المصير فيه إلى برهان اللمّ.

والجواب : انّ هذا مجرّد دعوى لا دليل عليه ، والفرق غير ظاهر عند التأمّل. فانّ العلم بالعلّة إن لم يكن تامّا - أي : لم يعلم العلّة بحقيقتها ولوازمها وخواصّها وما لها بالقياس إلى نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها - لم يفد العلم بخصوصية المعلول اصلا ، لأنّه لم يعلم صفاتها وخواصّها ليعلم انّ معلولها يلزم أن يكون على صفة كذا وخصوصيّة كذا. ولو افاد مجرد ذلك العلم بخصوصية المعلول لقلنا : العلم بالمعلول أيضا يوجب العلم بخصوصية العلّة وإن لم يكن تامّا ، لعدم تعقّل الفرق أصلا. ولو كان العلم بها تامّا - أي : علمت العلّة بحقيقتها المخصوصة وصفاتها المعينة وخواصّها اللازمة - فلا ريب في أنّه يفيد العلم بخصوصية المعلول بمعنى انّه بعد ما علم انّ العلّة حقيقتها كذا وصفاتها وخواصّها كذا يحكم العقل بانّ معلول مثل هذه العلة يجب أن يكون على صفة كذا أو خصوصية كذا - للزوم المناسبة بين العلّة والمعلول -. إلاّ أنّ المعلول أيضا إذا علم بهذا الوجه علمت العلّة أيضا بالتعيّن (1) والخصوصية ، فانّه إذا علم أنّ المعلول على حقيقة كذا وخواصّه وآثاره كذا وكذا ، يحكم العقل بانّ علّته يلزم أن يكون على صفات مخصوصة وخصوصيات معينة - لوجوب المناسبة بين العلة والمعلول - فانّا كما إذا تعقّلنا الواجب - تعالى شأنه - بصفاته المعيّنة من بساطته وتجرّده نحكم بأنّه / 22DB / يجب أن يكون معلوله الأوّل جوهرا بسيطا مجرّدا وهو العقل الاوّل ، كذلك إذا تعقّلنا العقل الأوّل ببساطته وتجرّده وامكانه نحكم بانّ علّته يجب أن تكون بسيطا مجرّدا واجبا ، وقس عليه أمثال ذلك. فانّا كما إذا تعقّلنا تعفّن (2) مطلق خلط علمنا حصول

ص: 101


1- الاصل : باليقين.
2- الاصل : تعقل.

مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى ، وإذا علمنا تعفّن خلط صفراويّ علمنا حصول حمى صفراويّ ، فكذلك إذا علمنا حصول مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى علمنا تعفّن مطلق خلط من دون حصول العلم بخصوصية هذا الوسط ، ولو علمنا خصوصية الحمى من كونه حمّى صفراويا أو بلغميا علمنا خصوصية الخلط أيضا من كونه صفراء أو بلغما ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل : انّه لا ريب في انّ العلم الحاصل من البرهان سواء كان لمّيا أو إنّيا انّما هو العلم التصديقيّ - أي : المتعلّق بثبوت النسبة الخبريّة - دون العلم التصوريّ الّذي هو تصوّر الأشياء بالحدّ أو الرسم ، فانّ العلّية والمعلولية اللّتين اعتبرنا بين حدود البرهان - أعني : الأوسط والأكبر والأصغر - ليستا معتبرتين بين ذوات تلك الحدود ، بل بين أوصافها العنوانية باعتبار ثبوت تلك الاوصاف لذوات تلك الحدود أو نفيها عنها. فقولهم : الأوسط إذا كان علّة للحكم فالبرهان لمّي وإلاّ فإنّي ؛ فيه مسامحة واعتماد على الظهور ، ومعناه انّ وصف الأوسط باعتبار ثبوته للأصغر أو نفيه عنه إن كان علّة لثبوت وصف الأكبر للأصغر أو نفيه عنه فالبرهان لمّى ، وإلاّ فإنّي. فاذا قيل : العالم متغير وكلّ متغير حادث فالعالم حادث ، برهان لمّي أريد به انّ ثبوت الأوسط / 23MA / - أعني : التغيّر - للعالم علّة لثبوت الحدوث له ، وهو الحكم المطلوب. بمعنى انّه متقدّم عليه بالذات بحسب نفس الأمر ، وما لم يثبت للعالم وصف التغيّر في الواقع لم يثبت له وصف الحدوث. وإذا قيل : زيد محموم وكل محموم متعفّن الاخلاط ، برهان انّي أريد به انّ ثبوت الأوسط - أعني : المحموم - لزيد معلول لثبوت تعفّن الاخلاط له وهو الحكم المطلوب ؛ يعنى انّه متأخّر عنه بحسب نفس الأمر. وما لم يثبت لزيد وصف بعض الاخلاط - أي : الحكم المطلوب - لم يثبت له وصف الحمى - أي : الأوسط -. فظهر انّ العلّية والمعلولية المأخوذتين في مطلق البرهان انّما ترجعان إلى ثبوت النسبة الّذي هو من العلوم التصديقية.

وإذا كان الحاصل من البرهان هو العلم التصديقي دون التصوريّ نقول : لا يجوز التفاوت بالكمال والنقصان في العلم التصديقى سواء حصل من برهان اللمّ أو الإنّ ، إذ

ص: 102

لا فرق في كيفية العلم الحاصل منهما لعدم التشكيك فيه - كما بيّن في موضعه - ، ولا في متعلّق التصديق - إذا لتصديق المنتج من ايّهما متعلّق بحقيقة النسبة الخبرية المطلوبة - ، فالعلم الّذي يمكن أن يتفاوت بالكمال والنقصان انّما هو العلم التصوريّ من حيث المتعلّق ، فانّ العلم التصوريّ الحاصل من الحدّ يكون متعلّقا بحقيقة الشيء ، والحاصل من الرسم يكون متعلّقا بخواصّه ولوازمه. وتفاوت هذا العلم لا مدخلية له فيما نحن فيه ، فانّ قولنا : العالم حادث متعلّق العلم ثبوت الحدوث للعالم أعمّ من أن يكتسب من جهة علّيته أو من جهة معلوليّته ، ولا يتصوّر التفاوت فيه من هذه الجهة. نعم! يمكن التفاوت في تصوّر الحدوث أو العالم بالكنه أو الوجه ، إلاّ انّه لا مدخلية له في نفس التصديق بثبوت الحدوث للعالم.

فان قيل : يجوز أن يختلف العلم بالنسبة الخبرية باختلاف تصور الاطراف بالكنه أو بالوجه ؛

قلنا : التفاوت فيه على هذا التقدير ليس من حيث انّه (1) مستفاد من البرهان ، بل من حيث تصوّر بعض الاطراف بالكنه وبعضها بالوجه ، فبالحقيقة يكون التفاوت في العلم التصوري ؛ وبواسطته يحصل تفاوت ما في العلم التصديقى أيضا. ولكن ذلك لا يفيد التفاوت في المقصود ، لأنّه ليس من حيث انّه مستنتج من البرهان ، بل من حيث تصوّر الاطراف ؛ إلاّ أن يقال : انّ مقصود القائل انّ البرهان اللمّي لا ينفكّ عن تصوّر الاطراف على وجه اتمّ واكمل ، بخلاف الإنّي ، لا أنّ العلم الحاصل بالمطلوب من اللمّي من حيث انّه حاصل منه يكون اتمّ من العلم الحاصل به من الإنّي من حيث انّه حاصل منه ، وهذا القدر يكفي لمزية اللمّ على الإن.

وغير خفيّ إنّا نلتزم مثل هذه المزية ولا ننكره! ، إلاّ أنّ مبنى هذا الكلام على لزوم تصوّر الاطراف في اللمّي بالحدّ والكنه وفي الإنّي بالرسم وبالوجه ، وعلى جعل حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه من اللمّ وإن لم يكن علّة فاعلية له ، بل يكفى كونه جزء العلّة ومن مقوّماته. والظاهر أنّ مجرّد حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه وأن

ص: 103


1- الاصل : - انه.

يكن علّة فاعلية من اللمّ بشرط كونه تصديقا ، لأنّ المراد بالعلّة هاهنا يجب ان يكون ما يتوقّف عليه الشيء مطلقا لا العلّة التامّة ولا خصوص إحدى العلل الاربع ، فانّ الاستدلال / 23DA / من المعلول على أيّ جزء من العلّة التامة برهان انّي ، والاستدلال من الجزء الأخير للعلّة التامة أو يستلزم الجزء الاخير له على المعلول برهان لمّي.

وأمّا لزوم كون تصور الاطراف ممّا يتوقّف هذه الاطراف عليه - أعني : بالحدّ والكنه في اللمّ - فغير معلوم ، لانّه من العلوم التصورية الّتي لا مدخل لها في البرهان الّذي هو من العلوم التصديقية - ، فلا معنى لاشتراطه في البرهان اللمّي.

وأنت خبير بانّ اتمام أصل الجواب المنقول عن بعض الأفاضل يتوقّف على عدم التشكيك في حقيقة العلم المتعلق بالنسبة الخبريّة ، وهو محلّ كلام ؛ والنزاع في مثله مشهور.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ ما ذكروه في بيان الأمر الاوّل - أعني : اوثقية اللمّي من الإنّي - غير تمام ، ولا تفاوت بينهما إلاّ في أنّه يعلم المطلوب في اللمّي من جهة ما يوجبه من لمّه وسببه ، بخلاف الإنّي ؛ هذا.

وذكروا في بيان الوجه الثاني - أعني : لميه منهج الإلهيين - وجوها :

منها : انّه استدلال بحال من مفهوم الوجود - أعني : احتياج فرده الممكن إلى العلّة أو كونه ذا تقرّر أو ذا فرد في نفس الأمر - على حال اخرى منه ، / 23MB / وهي اتّصافه بكون بعضه واجبا لا على ذات الواجب في نفسه ، فانّ كون طبيعة الوجود مشتملة على فرد هو الواجب لذاته حال من أحوال تلك الطبيعة ، فالاستدلال بحال من تلك الطبيعة على حال أخرى لها معلولة للحال الاولى.

وفيه : انّ الحالة الّتي يستدلّ بها - أعني : كون الوجود ذا تقرّر أو ذا فرد أو احتياج فرده الممكن إلى علّة - إنّما هي معلومة ومستفادة من الوجودات الامكانية ، وهي معلولة للواجب الحقّ - تعالى شأنه - ، فكيف يكون علّة له في الخارج حتّى يكون الاستدلال بها عليه لمّيا؟!. كيف ولو كان الاستدلال بالوجود المطلق على الواجب بأيّ طريق كان استدلالا بالعلّة على المعلول لكان للواجب علّة؟!

ص: 104

وبما ذكر يظهر ضعف ما ذكره بعض المشاهير المعتقدين للمّية هذا الوجه حيث قال : إن قيل : الاستدلال بالوجود على الواجب ليس استدلالا بالعلّة على المعلول ، وإلاّ لزم أن يكون الواجب معلولا ؛ قلنا : الاستدلال بالعلّة على المعلول هو الاستدلال من واجب الوجود على معلولاته. فانّا في الطريقة المختارة نثبت واجب الوجود أوّلا ثمّ نستدلّ به على ساير الموجودات بان نقول : لمّا كان الواجب في غاية البساطة والتجرد يجب أن يصدر عنه أوّلا امر بسيط مجرّد عن الموادّ وبعد فتح ابواب الكثرة يصدر منه - تعالى - بطريق التناوب الاشياء الأخر ، ولمّا كان غنيا عن كلّ شيء يجب أن لا يكون فعله معلّلا بالاغراض ، وإن كانت المنافع لازمة لفعله - تعالى - على وجه لا يكون غرضا له وعائدا إليه. ولمّا كان جوادا مطلقا فيجب أن لا ينقطع منه الفيض ، ولمّا كان مجرّدا يجب أن لا يسنح له شيء بعد ما لم يكن ، وغير ذلك من الخواصّ المثبتة بمجرّد ملاحظة وجوب الوجود. وأمّا القوم فيثبتون ساير الموجودات ويستدلّون بها على وجود واجب الوجود. وبعبارة اخرى : نحن نثبت الحقّ ونستدلّ به على الخلق ، وامّا هم فيثبتون الخلق ويستدلّون به على الحقّ ، فطريقتنا أوثق وأشرف. انتهى ما ذكره مع تفصيل وتوضيح.

ووجه ضعفه : انّ استدلالكم على الواجب انّما هو بافراد الوجودات المعلولة أو بالوجود المطلق من حيث أنّه في ضمن الافراد الممكنة المعلولة ، فهو استدلال من المعلول على العلّة دون العكس ، فلا فرق بين طريقتكم وطريقة غيركم.

وأمّا ثبوت اللوازم والخواصّ المذكورة للواجب بعد اثباته فهو امر آخر يتأتّى على جميع الطرق بعد أن يثبت الواجب بأيّ منها.

ومنها : انّ كون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكون الواجب صانعا للعالم ، أي : هو علّة لهذا الوجود الرابطي الاضافي للواجب - تعالى - لا لوجوده في نفسه ، لانّ وجوده في نفسه ليس معلولا لشيء ، فوجود العالم في نفسه معلول للواجب - تعالى شأنه -. والوجود الرابطي للواجب - تعالى - وهو كونه صانع العالم معلول للعالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته ، فكون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكونه ذا جاعل واجب

ص: 105

بالذات. ولا استبعاد في ذلك كما ذكره الشيخ في المؤلّفية وذوي المؤلّفية ، فانه قال : انّ قولنا كلّ جسم مؤلّف وكلّ مؤلّف فله مؤلّف برهان لمّي ، لانّ المؤلّف - بالفتح - وإن كان معلولا للمؤلّف - بالكسر - بحسب الخارج والواقع ، لكن ذا المؤلّف - أعني : مفهوم 23DB / قولنا : له مؤلّف - هو الحدّ الأكبر ، والوجود الرابطي للمؤلّف - بالكسر - معلول للمؤلّف - بالفتح -. وأيّد ذلك بعضهم بانّه لا يثبت من هذه الدلائل إلاّ وجود علّة ما لجميع الممكنات خارجة عنها - أي : غير ممكنة - ، ولا يثبت بها خصوص وجود الذات المقدّسة الالهية. والشيخ قد صرّح بانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود علّة ما في الحقيقة استدلال من العلّة على المعلول ، لأنّ ثبوت علّة ما لشيء يكون في الحقيقة معلّلا بمعلولها ، فيكون لمّيا.

قيل : وبهذا الوجه - أي : بجعل المعلولية راجعة إلى الوجود الاضافي الرابطي لا إلى الوجود الحقيقي الخارجى - يندفع الايراد المشهور ؛ وهو انّه لا يمكن الاستدلال اللمّى على وجود الواجب لان كلّ شيء سوى الواجب - تعالى - معلول له - تعالى - إمّا بواسطة أو بدونها ، وليس الواجب معلولا لشيء ؛ فلا يمكن الاستدلال على وجوده بطريق / 24MA / اللمّ.

وأيضا : كلّ ما يحصل في اذهاننا ونتعقّله فهو ممكن ، وكلّ ممكن معلول له ، فانحصر طريق اثباته في الإنّي.

ووجه الدفع : انّ ما يثبت بالبرهان اللمّي هو الوجود الاضافي الرابطي للواجب - تعالى - وهو يجوز أن يكون معلولا ، وعدم معلوليته انّما هو باعتبار وجوده في نفسه. ولا امتناع في كون الواجب معلولا باعتبار الوجود الرابطي ، فانّ الشيء قد يكون علّة بحسب الذات ومعلولا بحسب الوجود الاضافى الرابطي ، فانّ ثبوت رازقية زيد للواجب - تعالى - يتوقّف على وجود زيد المرزوق ولا يمكن ثبوتها له بدونه ، بل يحتاج هذا الثبوت إلى وجود زيد مع انّه موجد زيد وغني عن كلّ شيء.

وغير خفيّ انّ هذا الوجه في غاية السقوط ولا يسمن ولا يغني من جوع! ، كيف وهو يجري في جميع ادلّة اثبات الواجب من أيّ منهج كان ولا اختصاص له بمنهج

ص: 106

الإلهيين ، بل يجري في جميع الأدلّة الآتية في أيّ مطلب كان ولا اختصاص له بادلّة اثبات الواجب! ؛ فأيّ مزية تثبت بهذا التكلّف والتعمّل لمنهج الإلهيين؟!.

مع انّه لو سلّم عدم جريانه في غيره نقول : انّ مطلوب القوم من ردّ أدلّة اثبات الواجب إلى اللمّي انّما هو لأن يكون أوثق وأحكم ، ولا ريب في أن مثل هذا التعمّل والتغيّر في بعض العبارات لا يصير سببا لتفاوت الدليل في الواقع ونفس الأمر حتّى يصير لأجله أوثق ، بل انّما هو تكلّف لا يرجع إلى فائدة وتحصيل. فالفرق بين منهجي الالهيين والمتكلّمين بلمّية الأوّل وإنّية الثاني تحكّم بحت!.

ولو قيل بعكس ذلك لكان له وجه في الجملة ، لأنّ المتكلّمين يجعلون الوسط في براهين اثبات الواجب هو الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، وهم يعتقدون انّ علّة الحاجة إلى المؤثّر هي الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، فالاستدلال على الواجب به استدلال لمّي وإن كان ما اعتقدوه من علّة الحاجة باطلا عندنا. وأمّا الإلهيون فلمّا جعلوا الوسط في البراهين هو الوجود فلا يمكنهم القول باللمّية ، لأنّ الوجود ليس عندهم علّة الحاجة بل علّتها عندهم هي الامكان البحث. نعم ؛ لو جعلوا الوسط في البراهين هو الامكان فقط واستدلّوا على الواجب - تعالى - بمجرّده لكان للقول بلمّية طريقتهم وجه ، إلاّ أنّ الاستدلال بمجرّد الامكان من غير التمسّك بالوجود أو الحدوث غير ممكن.

وبذلك يندفع ضعف ما افتخر به بعض الفضلاء بالتفطّن به ، وقال : أمّا اثبات الواجب فظاهر النظر يقتضي أن يكون دليله على الطريقين إنّيا ، والنظر الصائب يفضي إلى أنّ الّذي لهم من الدعوى على الطريقين يثبت ببرهان لمّي ، فانّ دعواهم انّ الممكنات منتهية إلى الواجب أو انّ الممكن له موجود واجب أو انّ العالم له خالق صانع لا مجرّد انّ الواجب موجود ، بل هو لازم ثانيا من دليلهم ، وبين هذا وما قدمنا من الدعوى فرق ؛ انتهى.

ووجه الدفع : انّ الممكن ما لم يؤخذ منه الوجود أو الحدوث أو ما يرجع إليهما لم يدلّ على احتياجه إلى المؤثّر ، ووجهه ظاهر.

ص: 107

وبما ذكر يظهر فساد ما قيل : انّ جميع براهين اثبات الواجب لمّية بحسب الحقيقة - بناء على ما نقل عن الشيخ من حديث المؤلّف وذي المؤلّف - ، إلاّ أنّ صورة ساير الطرق شبيهة بصورة الإنّ لانّها بظاهرها انتقال من المعلول إلى العلّة ، لانّ الممكن والمحدث والحركة - الّتي ينتقل منها إلى الواجب تعالى - معلولة له. بخلاف منهج الالهيين ، فانّه انتقال من الموجود إلى الواجب ، وهو بظاهره لا يشبه إلاّ انّ الموجود ليس معلولا للواجب مطلقا وإن كان بعض افراده معلولة له ، بخلاف الممكن والحادث والحركة.

ووجه الفساد : أمّا أوّلا فبأنّه أيّ فائدة في التفاوت في / 24DA / الصورة مع عدم الفرق الواقعي في الوثوق؟! ؛

وأمّا ثانيا : فبانّه تخصيص لادلّة اثبات الواجب مع جريان ما ذكره الشيخ في جميع ما يتصوّر دليلا.

وأمّا ثالثا : فبانّ الموجود الّذي يقع به الانتقال إلى الواجب انّما هو افراده الّتي هي معلولة ، والفرد الّذي هو غير معلول لم يقع به انتقال. ولا فرق بينه وبين الممكن والحادث.

ثمّ التأييد الّذي نقلناه عن بعضهم للوجه المذكور - : من كون / 24MB / الاستدلال لوجود المعلول على وجود علّة ما استدلالا لمّيا - لا يخفى فساده وضعفه وان نسبه الأكثرون إلى الشيخ ؛ لأنّ القريحة السليمة حاكمة بانّه لا فرق بين علّة ما والعلّة المعينة ، فانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلّة لمّي سواء كانت العلّة علّة ما أو علّة معينة ، وأيّ باعث للفرق؟!. والظاهر انّ نسبته إلى الشيخ فرية. وصرّح بعضهم بانّه ليس في كلمات الشيخ ما يدلّ عليه.

وأورد على الوجه المذكور : بانّه إذا كان العالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته علّة لكون الواجب صانعا للعالم لزم أن لا يثبت للواجب - تعالى - صانعية العالم لذاته ، بل يتوقّف على ملاحظة حال العالم ، لأنّ صانعيته - تعالى - حينئذ معلولة لمصنوعية العالم كما هو شأن البرهان اللمّي. فلو قطع النظر عن مصنوعية العالم لم يثبت له صانعية (1)

ص: 108


1- الاصل : لم يثبت لصانعه.

في ذاته ، فلا يجوز أن تكون مصنوعية العالم علّة لهذا الوجود الرابطي - وهو كون الواجب صانعا للعالم -.

وأجاب عنه بعض الأفاضل : بانّ صانعية العالم يمكن اعتبارها من وجهين :

أحدهما : بحيث يكون وصفا للعالم ومعناها كون العالم بحيث يكون له صانع واجب الوجود بالذات ؛ وثانيهما : أن يكون وصفا لواجب - تعالى شأنه -. ومعناها حينئذ كون الواجب بحيث يكون صانعا للعالم ؛ وللعالم وصفان : أحدهما : المصنوعية والمجعولية ، والآخر : كونه ذا صانع جاعل ؛ والأوّل علّة للثاني والنتيجة هي كون العالم ذا صانع واجب الوجود بالذات ، لا كون الواجب صانع العالم ، فصورة القياس هكذا : العالم مصنوع ومجعول ، وكلّ مصنوع ومجعول ذو جاعل صانع واجب بذاته ، فالعالم ذو جاعل صانع واجب بالذات. وكون الواجب صانع العالم يظهر وينكشف بعد حقّية تلك النتيجة من غير احتياج إلى كسب ونظر ، وهذا الظهور بطريق الاتّفاق. فثبوت صانعية العالم للواجب انّما هو بالنظر إلى ذاته لا بواسطة أمر ؛ غاية ما فى الباب انّه ينكشف عندنا بعد حقّية ذلك القياس. ونظير هذا انّ التصديق قد يكون خفيا وبعد تصوّر الطرفين يصير بديهيا ، إلاّ أنّ تصوّر الطرفين كاسب له لأنّ التصديق لا يكون مكتسبا من التصوّر ، فحقّية كون الواجب صانع العالم لازمة لحقّية ذلك القياس ، لكن هذا اللزوم ليس لزوما اصطلاحيا بأن يكون حقّية القياس المذكور ملزومة لحقّية كون الواجب صانع العالم وعلّة بالقياس إليه ، لأنّ كلّ ملزوم اصطلاحي علّة للازمه ، وثبوت صانعية العالم له - تعالى - ليس معلّلا بغير ذاته أصلا ، فاللزوم فيها بالمعنى اللغوي - يعني : انّه لا ينفكّ أحد العلمين عن الآخر -. لانّه إذا ثبت القياس المذكور يصير كون الواجب صانع العالم بديهيا لا يحتاج إلى فكر ونظر اصلا ، فكون (1) الواجب صانع العالم ثابت له باعتبار ذاته بلا علّة غير ذاته.

ويمكن أن يقال : كون الواجب صانع العالم قد ظهر حقّيته بصحابة اللمّ إلاّ أنّ له دليلا لمّيا ؛ انتهى.

ص: 109


1- الاصل : فيكون.

واقول : هذا الجواب بطوله ممّا لا يجدي طائلا ، بل هو فاسد! ، لأنّ القول بانّ ظهور كون الواجب صانع العالم انّما هو بطريق الاتفاق ممّا لا معنى له ، والقرائح السليمة لا تقبله ؛ فانّه لا ريب في أنّ صانعيته - تعالى - للعالم انّما يعلم من مصنوعية للعالم ، ولولاها لم يكن لنا إليها سبيل. بل لو لم يتحقّق المصنوعية في الخارج لم تتحقّق صانعية فيه. نعم! ، يمكن القول بانّ الانتقال من هذا الوجود الرابطي - أعني : كونه صانعا - إلى الوجود الحقيقيّ انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، لانّ تحقّق الوجود الارتباطى لا يمكن إلاّ بعد تحقّق الوجود في نفسه.

فالحقّ في الجواب عن الشبهة أن يقال : لا مانع من توقّف هذا الوجود الاضافي الارتباطى - أعني : ثبوت صانعية العالم للواجب تعالى شأنه - على غيره - أعني : مصنوعية العالم وعدم ثبوتها له في ذاته - ، فانّ المصنوعية والصانعية متضايفتان وتوقّف ثبوت أحد المتضايفين على الآخر ذهنا وخارجا ممّا لا ينكر. وهل هذا مثل الرّازقية والمرزوقية؟ ، فانّه لا ريب في انّه لا يثبت للواجب - تعالى - رازقية / 24DB / زيد بدون وجود زيد المرزوق ، بل هي موقوفة عليه. والسرّ انّ مثل الصانعيّة والخالقيّة والرازقيّة وأمثالها من صفات الفعل الّتي لا تتحقّق بدون متعلّقاتها. والحاصل : انّ عدم ثبوت الوجود الرابطي للواجب بالنظر إلى ذاته وتوقّفه على غيره لا منع فيه ، إلاّ أنّ ارجاع البراهين إلى اثبات مثل هذا الوجود ليصير لمّية ممّا لا فائدة / 25MA / فيه ولا يجدي طائلا - كما عرفت -.

ثمّ لا يخفى بأنّ مثل هذه الشبهة جارية في الوجه الأوّل أيضا ، بان يقال : إذا كان اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن علّة لاشتماله على الفرد الواجب لزم أن يكون كون الواجب فردا للموجود المطلق معلولا لكون الممكن فردا للموجود المطلق ، فيلزم أن لا يثبت للواجب - جلّ وعزّ - كونه فردا للموجود المطلق باعتبار ذاته ، بل بملاحظة علته ؛ وهي اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن واحتياجه إلى العلّة. فمع قطع النظر عن هذه العلّة في نفس الأمر يلزم عدم معلولها في نفس الأمر فيلزم أن لا يكون الواجب فردا للموجود المطلق في ذاته ؛ وهو باطل. لأنّ كون الواجب فردا للموجود

ص: 110

ثابت له - تعالى - بالنظر إلى ذاته وإن قطع النظر عن جميع ما عداه.

والجواب على النحو الّذي نقلناه عن بعض الأفاضل (1) مع ما يرد عليه يعلم ممّا مرّ ، وعلى ما ذكرناه ظاهر ؛ فلا نطيل الكلام بالاعادة.

ومنها : ما ذكره بعض الأفاضل ، وهو أنّ طبيعة الوجوب لمّا كانت طبيعة ناعتية لطبيعة الوجود عارضة لها فهي متأخّرة بالذات عنها - كما يظهر من تتبع عبارات الشفا وغيره - ، فيكون الموجود بما هو موجود متقدما بالذات على الموجود بما هو واجب والواجب بما هو واجب ، وهذا لا ينافى ما هو المشهور من « أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » ، لأنّ المراد منه انّ الماهية ما لم يتصف في مرتبة العقل وجودها بصفة الوجوب لم يمكن أن يوجد ، لأنّ اتصاف الشيء في الخارج بصفة الوجوب متقدّم على تحقّقه فيه ، اذ اتصافه بها في الذهن متقدّم على ثبوته فيه. إذا تمهّد هذا فلا يخفى عليك : انّ الاستدلال بالموجود بما هو موجود وانّ له فردا في الخارج على الواجب بما هو واجب وانّ له فردا خارجيا برهان لمّي بلا تعمّل وتكلّف لا انّي ، لأنّ ثبوت الفرد الخارجي

للموجود بما هو موجود متقدّم بالذات والطبع على ثبوت الفرد الخارجى للواجب بما هو واجب. ولا يتوهّم انّه يلزم على هذا أن يكون الواجب بما هو واجب معلولا لشيء ، إذ اللازم تقدّم اعتبار الوجود على اعتبار الوجوب ، وهو ليس بمستنكر ، إذ ذاته - تعالى - من جهة انّه مبدأ للآثار فرد للموجود ، والوجود من جهة انّه مبدأ لوثاقة الوجود فرد للواجب والوجوب ، والاعتبار الاوّل متقدّم بالذات على اعتبار الثاني - كما يقال في تقدّم وجوب الوجوب على ساير الصفات ، وفي تقدّم العلم والقدرة على الإرادة -. وطبيعة الوجود والموجود بما هو موجود متقدم على جميع الاشياء ، بل جميع الاعتبارات بالذات ، ولهذا جعل موضوعا للفلسفة الأولى. والمراد بما قال الشيخ وغيره : « انّه لا برهان عليه - تعالى - بل هو البرهان على كلّ شيء » : انّه لا برهان على ذاته من غيره ، لانّ ذاته باعتبار وملاحظة ليس ببرهان على نفسه باعتبار آخر ، أو بعض صفاته ليس برهانا على بعض آخر ؛ بل هو الشهيد عليه كما على غيره. ولهذا

ص: 111


1- الاصل : + ظاهر.

بعينه صار هذا المنهج أشرف وأخصر من غيره المأخوذ فيه وجود الممكن أو الحادث أو المتحرّك شاهدا عليه ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه في غاية الفساد ، ولا يقبل الاصلاح بوجه. لانّ الوجود الّذي يمكن أن يتوهّم تقدّمه على الوجوب وعلّيته له انّما هو الوجود الخاصّ الواجبي والاستدلال لم يقع به ، لانّه عين المطلوب ، بل الاستدلال انّما وقع من الموجود المشاهد المعيّن أو من طبيعة الموجود باعتبار تحقّقها في ضمن موجود معيّن مشاهد ، والبديهة قاضية بانّه ليس متقدّما على الموجود بما هو واجب ولا علّة للواجب بما هو واجب ، كيف وجميع الموجودات المعلومة المشاهدة وطبيعة الموجود من حيث تحقّقها في ضمنها معلولة للواجب ومتأخّرة عن تحقّقه؟! ؛ فكيف يجوز أن تكون متقدّمة عليه وعلة له؟!. على أنّ تأخّر الوجوب لذاته عن الوجود الواجبي وتأخّر الوجوب لغيره عن ساير الوجودات غير مسلّم ، لانّ كلّ وجود ما لم ينسدّ عنه جميع انحاء العدم ولم يصل حدّ الوجوب لم يتحقّق في الخارج ، فالوجوب في مرتبة نفس الأمر - أي : العقل الفعّال - أو الحال الّذي للشيء في حدّ ذاته بلا تعمّل - أي : الّذي يكون / 25DA / بحيث إذا لاحظه العقل السليم حكم به بالبديهة أو البرهان - مقدّم على الوجود.

وما ذكره هذا الفاضل في بيان معنى المقدّمة المشهورة كلام خال عن التحصيل ، لانّه لا شكّ أنّ اتصاف الشيء بالوجود ليس له توقّف على أن يلاحظ العقل اتصافه بالوجوب ، وليس دليل يدلّ عليه ، بل / 25MB / الدليل انّما يدلّ على انّه يتوقّف على اتصافه به في نفس الأمر. على انّه إذا لم يكن له اتصاف بالوجوب قبل الوجود في نفس الأمر ولم يتحقّق حينئذ وجوب لكونه نفيا لما لم يتحقّق بعد - أعني : الوجود - لم يمكن للعقل أن يصفه به إلاّ بتعمّل ؛ وكيف يمكن للعقل الصحيح أن يحكم بما ليس له تحقّق في الواقع ونفس الأمر؟! ؛ ولو حكم به تعمّلا لم يكن فيه فائدة ، لأنّ الأمور النفس الأمرية لا تختلف ولا تتفاوت بمجرّد فرض العقل خلافه.

فان قيل : مراد هذا الفاضل بمرتبة العقل هو نفس الأمر ، فيكون مراده انّ الوجوب متقدّم على الوجود في نفس الأمر ؛

ص: 112

قلنا : فيصير حينئذ حكمه بتقدّم الوجود على الوجوب وكونه نعتا للوجود باطلا ، لأنّه إذا كان الوجوب مقدّما على الوجود في نفس الأمر فالوجود في أيّ مرتبة يكون مقدّما على الوجود ، إذ لا يتصوّر حينئذ مرتبة وطرف يثبت فيه تأخّر الوجوب عن الوجود ، لانّ الاتصاف بالوجوب قبل الوجود وبعده ليس إلاّ بمعنى واحد ووجه واحد. فاذا كان هو متقدّما على الوجود في نفس الأمر فان فرض تأخّره أيضا لزم تأخّره في نفس الأمر ، وهو تناقض.

قيل : انّ الوجوب إمّا نعت للوجود أو كيفية للنسبة ، وعلى التقديرين يلزم تأخّره عن الوجود ؛ أمّا على التقدير الأوّل فظاهر ، إذ تأخّر الوصف عن الموصوف لا يقبل المنع ، وأمّا على التقدير الثاني فلأنّ النسبة الّتي بين الطرفين - أعني : الذات والوجود - متأخّرة عن الطرفين ، فيكون متأخّرة عن أحد الطرفين الّذي هو الوجود ، ولا ريب أنّ كيفية النسبة متأخّرة عن نفس النسبة المتأخّرة عن الوجود ، فيكون تلك الكيفية - أعني : الوجوب - متأخرة عن الوجود بمرتبتين. وحينئذ ينبغي إمّا أن يقال : الوجود مقدّم على الوجوب في نفس الأمر وتأوّل المقدّمة المشهورة ، أو يقال : يتقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وتحمل المقدّمة المشهورة عليه ويلتزم تأخّر الوجوب عن الوجود في الخارج لتصحّ الوصفية ، أو كونه كيفية للنسبة.

وأجاب بعضهم : أمّا أوّلا : باختيار الشقّ الثاني وادعاء كون الوجوب وصفا لنفس النسبة ومنع كون نفس النسبة متأخّرة عن الطرفين ، إذ المتأخّر عن الطرفين انّما هو وجود النسبة - لأنّه الفرع لوجود الطرفين دون نفسها - ، فلا يلزم تأخّر الوجوب عن الوجود ؛

وأمّا ثانيا : باختيار الأوّل ومنع لزوم تأخّر مثل هذا النعت عن الموصوف - أعني : الوجود - ، لانّه إن ادّعى انّ الثبوت الرابطي من الوجوب للوجود متأخّر عن ثبوت الوجود في نفسه فغير مسلّم ، بل ثبوت الشيء للشيء مستلزم لثبوته في نفسه لا فرع له - على ما هو التحقيق - ، وإن ادّعى انّ الثبوت في نفسه للوجوب متأخّر عن الثبوت في نفسه للوجود فغير مسلّم أيضا ، إذ الثبوت في نفسه للوجوب انّما هو بمعنى

ص: 113

ثبوت ما ينتزع منه إلى موصوفه ، فإذا كان موصوفه الوجود فهو أيضا ثبوته كثبوت الوجود ، فرجع معنى ثبوت الوجوب في نفسه إلى ثبوت الذات المتّصفة بوجوب الوجود في نفسه ، فلا يكون متأخّرا عن ثبوت الوجود ؛ انتهى.

وأنت تعلم إنّ الجواب الّذي ذكره هذا البعض على اختيار الشق الثاني في غاية السقوط! ، لأنّ نفس النسبة أيضا متأخّرة عن الطرفين ، لكونها فرعا لوجود الطرفين - لأنّه ما لم يتحقّق الطرفان لم تتصوّر نسبة بينهما -. ولو سلّم عدم تأخّرها عنهما وعدم كونها فرعا لوجودهما فلا ريب في أنّها لا تكون متقدّمة عليهما ، بل تكون في مرتبتهما ، فالوجوب الّذي وصف لهما يجب أن يكون متأخّرا عنها ، وإذا كان متأخّرا عنها يكون متأخّرا عما هو في مرتبتها (1) - أعني : أحد الطرفين الّذي هو الوجود -.

امّا الجواب الّذي ذكره على اختيار الشقّ الأوّل فما ذكره أوّلا من حديث الاستلزام وانكار القاعدة الفرعية للجواب عن صورة ادّعاء تاخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه محلّ الكلام ، وكونه أصحّ القولين غير معلوم ، وتحقيق القول فيه لا يليق بهذا المقام ؛

وما ذكره ثانيا للجواب عن صورة ادّعاء تأخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه ، فحاصله : انّ الوجوب لمّا كان امرا اعتباريا انتزاعيا فليس له ثبوت على حدة كالصفات الحقيقية ، بل ثبوته انّما هو بمعنى ثبوت ما ينتزع عنه - كما هو الشأن في جميع الصفات الاعتبارية الانتزاعية - ، فمعنى ثبوت الوجوب في نفسه كمعنى ثبوت ساير الصفات الانتزاعية / 25DB / يرجع إلى ثبوت الذات المتّصفة به. ولمّا كان الوجود هنا هو الموصوف فمعنى ثبوته هو ثبوت الوجود في نفسه. وتلخيص الجواب على تقدير الادعاء الأوّل والثاني : انّ الوجود ليس إلاّ ذاتا بسيطة واحدة هي حقيقة الوجود الخاصّ ، والوجوب أمر انتزاعي له ، حمله عليه لا يقتضي / 26MA / التأخّر للاستلزام ، وليس له ثبوت في نفسه حتّى يلزم تأخّره للتعينية.

وأنت تعلم انّه يلزم على هذا أن لا يكون لشيء من الوجود والوجوب - سواء

ص: 114


1- الاصل : - فالوجوب ... مرتبتها.

كان لذاته أو لغيره - تقدّم وتأخّر على الآخر ، مع انّه هنا دلالتان متنافيتان إحداهما - وهي المقدّمة المشهورة - تدلّ على تقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وأخراهما - وهي كون الوجوب نعتا - تدل على العكس. وما ذكره هذا القائل يدلّ على أنّ كون الشيء نعتا - إذا كان انتزاعيا - لا يوجب تأخّره ، وبذلك يثبت التلازم والاتحاد في الوجود بين الوصف والموصوف. ولا ريب أنّه مخالف للدلالة الأولى - أعني : المقدّمة المشهورة - ، لاقتضائها تقدّم الوجوب ، وما ذكره لا يدفعها ولا يتخرّج منه جواب عنه.

فالحقّ في الجواب أن يقال : للموجود وجوبان : وجوب سابق ، ووجوب لاحق ، فالوجوب المقدّم على الوجود هو الوجوب السابق ، وليس هو نعتا للوجود لتقدّمه عليه وعلّيته له - وهو المراد من المقدّمة المشهورة - ، والوجوب الّذي هو نعت للوجود ومتأخّر عنه هو الوجوب اللاّحق. وإذا ثبت ذلك نقول : لا ريب في أنّ تقدّم الوجوب السابق على الوجود وتأخّر الوجوب اللاّحق عنه إنّما هو في الوجودات الامكانية ، ولا يتصوّر ذلك في واجب الوجود ، فانّ الوجوب فيه عين ذاته لا يتصوّر له تقدّم وتأخّر ، فالاستدلال بطبيعة الوجود على طبيعة الوجوب لو سلّم انّه استدلال من المتقدّم - أعني : الوجود - على المتأخّر - أعني : الوجوب - انّما يصحّ في الوجود والوجوب اللّذين للممكن دون الواجب ، لأنّ الاستدلال من وجود الواجب على وجوبه ليس استدلالا من المتقدّم على المتأخّر ، لأنّ الوجوب عين ذاته. مع أنّه وقع الاستدلال من الوجودات الامكانية - الّتي هي معلولات للواجب - على وجوب الوجود الّذي هو عين الواجب ، فأين ذلك من اللمّ؟!.

وبما ذكرنا ثبت وتحقّق انّ جميع براهين اثبات الواجب إنّية ولا يمكن الاستدلال عليه باللمّ.

ولكن هنا دقيقة لا بدّ أن يشار إليها ، وهو أن الأكثر علّلوا انتفاء طريق اللمّ في اثباته - تعالى - بانّه - تعالى - علّة لكلّ شيء بواسطة أو بدونها ، فبأيّ شيء استدلّ به عليه كان استدلالا من المعلول على العلّة ، فيكون إنّيا ولا يتصوّر طريق اللمّ.

ص: 115

ويرد على هذا التعليل : انّ الثابت بالبرهان ليس إلاّ الوجود الرابطي لا الوجود الأصيل ، لانّ ما ثبت بالبرهان مطلقا يكون لا محالة مفادّا لقضية المستنتجة من مقدّماته - أعني : الحكم المطلوب - ، وحاصله إمّا ثبوت شيء لشيء أو نفيه عنه - أي : ثبوت الأكبر للأصغر أو نفيه عنه - ؛ ويقال لهذا الثبوت والنفي « الوجود والعدم الرابطيان » ، وأمّا ثبوت الأكبر في نفسه - أي : الوجود الأصيل - فليس مستفادا من القضية المذكورة ولا مستنتجا من البرهان.

وإذا كان الثابت بالبرهان هو وجوده الرابطي دون وجوده الأصيل - تعالى شأنه - فنقول : ما هو علّة لكلّ شيء انّما هو وجوده الأصيل - عزّ شأنه - لا وجوده الرابطي ، فيجوز أن يكون وجوده الرابطي معلولا لبعض الاشياء مع كون وجوده الأصيل علّة للجميع ؛ فتعليل الأكثر في إنّية هذه البراهين دون لمّيتها عليل ، لأنّ جميع هذه البراهين - سواء كان الربط فيها هو الموجود كما هو منهج الإلهيين ، أو المتحرّك كما هو طريقة الطبيعيين ، أو الحادث أو الممكن بشرط الحدوث كما هو مسلك المتكلّمين - لا يثبت منها إلاّ الوجودات الرابطية - أي : وجود موجد واجب بالذات للموجودات ومحرّك غير متحرّك للمتحرّكات ومحدث صانع للعالم - ، ولا دلالة لشيء منها على وجود اصيل بواحد من الموجد والمتحرّك والمحدث ، ولا يثبت برهان وجود أصيل لشيء مطلقا. فالعلّة في انية بعض البراهين ولمّية بعض آخر انّ الاوساط الّتي تؤخذ في البراهين إن كانت باعتبار النسبة الّتي بينها وبين الأصغر علّة للوجودات الرابطية الّتي هي مفاد البرهان في الواقع كما هي علّة لها (1) الذهن كانت البراهين لمّية ، وإلاّ كانت انية. والتحقيق أنّ شيئا من الأوساط المأخوذة في براهين اثبات الواجب باعتبار ثبوتها لموضوعاتها ليست علّة للوجودات الرابطية للواجب - تعالى - في الواقع - أعني : وجود موجد بالذات أو محرّك غير متحرّك أو محدث صانع للعالم - ، اذ لا تقدّم ذاتيا لكون الممكن موجودا أو متحرّكا أو حادثا على كونه ذا موجد أو ذا محرّك أو ذا محدث ، بل علّيتها له منحصرة في الذهن ؛ فلا ينعقد البرهان اللمّي على شيء من تلك المناهج.

ص: 116


1- الاصل : كما هي عليها.

فان قلت : إذا كان الحاصل من البراهين هو العلم بوجوده / 26MB / الرابطي ، فمن أين يحصل العلم بوجود الاصيل - تعالى شأنه -؟ ، مع انّا بعد تمام البرهان نقطع بوجوده الأصيل كما نقطع بوجوده الرابطي ؛

قلت : العلم بالوجود الأصيل بعد حصول العلم بالوجود الرابطي الّذي هو مقتضى البرهان انّما يحصل من انضمام مقدّمة خفية بديهية مركوزة في العقول إلى مقتضى البرهان ، فيترتّب معها ترتيبا سريعا خفيا يكون منتجا لهذا العلم - أي : العلم بوجوده الاصيل -. والظاهر انّ تلك المقدّمة / 26DA / الخفية هي ما ارتكز في العقول من أنّ الأمور العينية الّتي وجودها في أنفسها ممكن بالامكان العام إذا كانت معدومة في انفسها لا يمكن أن تكون موجودة لغيرها ، فاذا ثبت بالبرهان وجودها لغيرها انتقل الذهن بمعاونة هذه المقدّمة إلى وجودها في أنفسها أيضا من غير افتقار إلى تجشّم ترتيب المقدمات والاستنتاج. والظاهر انّ نظر من قال : الانتقال إلى الوجود الحقيقي انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، إلى ما قلناه ؛ وكذا نظر من قال : انّ الترتّب والانتاج لحصول هذا العلم انّما هو من قضايا قياساتها معها إلى ما ذكرناه ؛ لأنّ هذه القضايا هي القضايا المسمّاة « بالفطريات » ، المعرّفة « بقضايا يحكم بها العقل بواسطة لا يعزب عن العقل عند تصور الطرفين » ، كالحكم بأنّ الأربعة زوج ، لانقسامها بمتساويين ؛ هذا.

وقيل : حصول هذا العلم بعد حصول النتيجة من البرهان إنّما هو بطريق الاتّفاق كحصول التصديق بعد تصور الطرفين ؛ وهو كما ترى.

المنهج الثاني : منهج بعض الحكماء وهو الاستدلال بمجرّد الامكان الوقوعي

والمراد به أن يكون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ؛ والممكن بالامكان الذاتى اعمّ من أن يلزم من فرض وقوعه محال أم لا. وأنت خبير بأنّ ما مرّ من أدلّة الالهيين كانت مبتنية على اخذ الوجود بالفعل والاستدلال به على الواجب ؛

ص: 117

والغرض من هذا المنهج أنّه يكفي الامكان الوقوعي والاستدلال عليه باجراء البراهين المذكورة من دون التمسّك بالوجود بالفعل (1).

وتقريره : انّه لا شكّ في انّه يمكن أن يقع ممكن ما موجودا في الخارج ، وهذا الفرض لا يصحّ إلاّ مع وجود الواجب - تعالى شأنه - ، اذ لولاه لزم من فرض وجوده محال ، وهو الدور - إذ امكان وقوع موجود ما على هذا التقدير يتوقّف على امكان وقوع ايجاد ما وبالعكس -. أو نقول : وقوع طبيعة الموجود بما هو موجود يجب أن يكون بلا مبدأ وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ووقوع طبيعة الممكن بما هو ممكن لا بدّ له من مبدأ ، فلو انحصر الموجود الممكن الوقوع في الممكن لزم التناقض. أو نقول : مجموع الأفراد الّتي يمكن وقوعها لا بدّ له من علّة ولا يمكن أن تكون العلّة هي المجموع ولا جزئه ، بل يكون أمرا خارجا عنه ، فعلى فرض عدم الواجب يلزم أن لا يكون ذلك المجموع ممكنا بالامكان الوقوعي ، وقس على ما ذكر ساير البراهين.

قال بعض الافاضل : ولا يخفى عليك سخافة هذا المنهج ، اذ لا يمكن دعوى الامكان الوقوعي لممكن إلاّ من جهة العلم بوجوده ، إذ ما لم يعلم ذلك احتمل عند العقل أن يكون وقوعه مستلزما لمحال ، سيّما مع ما يتراءى من لزوم الدور وغيره من المفاسد. وإذا كان العلم من جهة العلم بوجوده فالتمسّك به لا بالوجود من قبيل ما اشتهر من الظرافات : انّ رجلا من المستظرفين هيّأ مجمعا من الرجال وقال : إنّي أعددت لكم دواء نافعا جدّا لاجل البراغيث أمنّ عليكم ببيعه منكم ؛ فبعد ما اشتروه منه بالالتماس والمنّة سألوه عن كيفية حاله وطريقة استعماله؟ ؛

فقال : طريقه أن يؤخذ البرغوث ويذر الدواء في عينه حتّى يصير أعمى! ؛

قالوا : انّا إذا أخذنا البرغوث فلم لم نقتله ونسترح من هذه الزحمة؟ ،

فقال : هذا أيضا يكون ، انتهى.

وما ذكره جيّد.

ص: 118


1- راجع : المباحث المشرقية ج 2 ص 448. حيث اخذ الامام في طريقة الامكان - التى هي عنده معتمد الحكماء - وجود الموجودات بالفعل.
المنهج الثالث : من مناهج الحكماء ، منهج الطبيعيّين منهم وهو النظر في طبيعة الحركة

والمنقول عنهم في اثبات الواجب على هذا المنهج طريقان :

الطريقة الأولى : هي أنّ كلّ متحرّك سواء كانت الحركة في ذاته - كالممكنات المنتقلة من الليسية الذاتية إلى الايسية - أو في صفاته - كالمتحرّكات في الوضع والأين وغيرهما من المقولات - يحتاج إلى محرّك ، لأنّ الحركة أمر حادث لا بدّ له من علّة ، واستناد كلّ حركة إلى محرّك من البديهيات العقلية. ولا يجوز أن يكون المحرّك عين المتحرّك ، لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون محرّكا لنفسه ، فلا بدّ أن يكون المحرّك غير المتحرّك ويمتنع ذهاب سلسلة المحرّكات إلى غير النهاية ، فلا بدّ أن تنتهى سلسلة المحرّكات إلى محرّك أوّل غير متغيّر في صفاته / 27MA / - كالمتحرّك في المقولات المشهورة - ، ولا في ذاته - كالممكن المنتقل من الليس إلى الايس -. والمحرّك الأوّل الثابت الذات والصفات هو الواجب الحقّ - تعالى شأنه (1) -.

وأورد عليه : بانّ الانتقال من الليس إلى الأيس إن اريد به الانتقال من العدم الممتدّ الوجود - أي : الحدوث الزماني - ؛ ففيه : انّ ذلك الانتقال ليس بحركة حقيقية ، إذ لا يوجد فيه التدريج المعتبر في الحركة ولو اصطلحوا على تسمية ذلك الانتقال مع كونه دفعيا حركة فلا مشاحة فيه ، إلاّ انّه بعينه هو / 26DB / الحدوث الّذي اعتبره المتكلّمون في طريقتهم ، فيرجع منهجهم إلى منهجهم. وإن اريد به الانتقال من العدم الصرف إلى الوجود - أي : الحدوث الدهري - أو الانتقال ممّا ثبت للممكن بالذات - أعني : عدم اقتضاء الوجود - إلى ما ثبت له بالغير - أعني : اقتضاء الوجود - ؛ ففيه : مع عدم كونه

ص: 119


1- راجع : المباحث المشرقية ، ج 2 ص 451 ؛ شوارق الالهام ، ج 2 ص 495 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 6 ص 42.

حركة أنّه يرجع إلى الايجاد الّذي اعتبره الالهيون ، فيرجع طريقة النظر في الحركة إلى طريقة النظر في الوجود ، ومجرّد تغيّر الألفاظ لا توجب الاختلاف في المعنى. وحينئذ فتتميم الحركة المأخوذة في الدليل بحيث يتناول الانتقال من الليس إلى الايس غير صحيح ، بل اللازم أن يحذف ذلك ويخصّ الحركة بالحركة في المقولات المشهورة ؛

وحينئذ يرد عليه : انّا لا نسلّم انّ ما ينتهى إليه سلسلة الحركات - أعني : المحرّك الأوّل - يجب أن يكون واجب الوجود بالذات وثابت الذات والصفات ، لجواز أن يكون ذلك المحرّك قديما آخر غير الواجب لم تكن له الحركة في المقولات الّتي سمّوها الحركة في الصفات ، وإن كان من العدم إلى الوجود لجسم أو جسماني ساكن غير متحرّك في مقولة أو نفس أو عقل ، فالحركة الأولى الكلّية أنّى تنتهي إليها سلسلة الحركات - أعني : الحركة الفلكية - يجوز أن يكون محرّكها هو طبيعة الفلك أو النفس الفلكية أو واحد من العقول. والحقّ أنّه لا يجوز أن تكون الحركة الفلكية طبيعية ولا مستندة إلى جسم - لما يأتي في طريقتهم الثانية - ، ولكن استنادها إلى النفوس الفلكية غير بعيد على ما ذهب إليه الحكماء ، إلاّ انّه يمكن أن يثبت المطلوب به ولكنّه يرجع إلى طريقتهم الثانية ، ويعرف حقيقتها.

الطريقة الثانية للطبيعيّين : إنّ حركات الأفلاك ليست مستندة إلى اجسامها - لامتناع كون الشيء محرّكا لنفسه ، نظرا إلى استحالة كون الشيء فاعلا وقابلا من جهة واحدة ، كما بيّن في موضعه - ، ولا يجوز أن تكون تلك الحركات قسرية - إذ الحركة القسرية إنّما تكون إلى الجهة المخالفة لمقتضى الطبع فحيث لا طبع ، كما يأتي ، فلا قسر -.

وأيضا : الحركة القسرية لا تكون إلاّ إلى الوسط أو من الوسط ويمتنع أن يتحرّك الفلك إلى الوسط أو إلى الفوق لكونه محدّدا لهما بمركزه ومحيطه ، بل حركته إنّما هو على الوسط - كما هو المشاهد المحسوس - ، فلا يكون قسرية. وأيضا : الحركة الأولى يجب أن تكون مبدعة لا بحركة ولا في زمان متقدّمة على جميع الحركات والحوادث بالطبع ، ولأجل ذلك لا يجوز أن تكون قديمة بالزمان ، لأنّ القديم بالزمان وان لم يسبقه العدم

ص: 120

بالزمان إلاّ أنّ الزمان يتقدّمه بالذات ، فله عدم ذاتي في مرتبة وجود الزمان ، لأنّ معنى انتساب القديم الزماني إلى الزمان وكونه فيه إنّما هو تأخّره عنه بالطبع ودخوله في سلسلة علله ، والمعلول من حيث هو معلول لا يخلوا من تأخّر عن علّته وعدم ما بالنسبة إليها وأمّا المبدع لا بحركة ولا فى زمان - وهو الحادث بالذات - وإن تقدّمه العدم بالذات - لتوقّف كون الشيء موجودا بغيره على عدم كونه موجودا بذاته - إلاّ أنّ العدم المتقدّم انّما هو العدم بالنسبة إلى علّته الفاعلية فقط ، لا بالنسبة إلى الزمان أيضا - كما في القديم بالزمان - ؛ وبذلك يظهر الفرق بين الحادث بالذات والقديم بالزمان.

وإذا كانت الحركة الاولى مبدعة لا بحركة ولا في زمان متقدّمة على جميع الحادثات نقول : لا يجوز أن تكون قسرية ، لأنّ القسر خروج عن الحالة الطبيعية ، فالمتحرّك بالحركة الأولى يجب أن يكون حينئذ مبدعا قبل القسر على حالة ولو قبلية بالذات ، ثمّ أخرج عنها بالقسر ؛ فهذا القسر مع الحالة السابقة عليه شيء قد حدث بعد ما لم يكن قبل هذه الحركة ثمّ حدثت هذه الحركة ، مع أنها تجب أن تكون متقدّمة على كلّ حادث ، هذا خلف! على أنّها لو كانت قسرية لكانت لها قاسر ، ولا يجوز أن يكون القاسر جسما أو جسمانيا لو كانت تلك الحركة غير متناهية - كما هو رأي الفلاسفة - ، لعدم جواز صدور الافعال الغير المتناهية عن الجسمانيات - كما يأتي -. ولو كانت متناهية لكان الافلاك المتحرّكة بتلك الحركات حادثة ، فثبت المطلوب. ولا يجوز أيضا أن تكون الحركة الفلكية طبيعية محضة خالية / 27MB / عن الإرادة لوجوب وقوف الطبيعة عند مطلوبها ، فانّ الميل الطبيعي هرب من موضع منافر للطبيعة منافرة جسمانية يطلب موضع ملائم لها ملائمة كذلك ، فاذا وصل إلى ذلك الموضع الملائم استقرّ فيه واستحال أن يفارقه ويعود إلى ما فارقه من الموضع المنافر ، مع أنّه ما من وضع من أوضاع الفلك إلاّ أنّه يعود إليه.

وأيضا لا تكون الطبيعة / 27DA / محرّكة إلاّ بعد أن تكون مقسورة على حال غير طبيعي ثمّ زال عنها القسر وخلّيت ونفسها. ولا ريب انّ زوال هذا القسم شيء قد حدث بعد وجود الحادث عند الحالة الطبيعية قبل هذه الحركة ، وقد عرفت وجود

ص: 121

تقدّمها على جميع الحادثات ؛ هذا خلف. وإذا لم يجز أن تكون الحركات الفلكية صادرة عن قسر ولا عن طبع فبقى أن تكون اراديّة نفسانية صادرة عن أنفس شاعرة. ويجب أن تكون هذه الأنفس مجرّدة كلّية عاقلة ذوات ارادات وادراكات عقلانية ، لاستحالة صدور مثل هذه الحركات المنتظمة المنقسمة المستمرّة في مثل هذه المدّة عن ، الأنفس الجزئية المنطبعة الحيوانية ، لكون هممها قاصرة مقصورة على الأشياء الجزئية المنقطعة ، فانّ القوى الجسمانية (1) متناهية الأفاعيل والانفعالات. ثمّ لا بدّ لهذه الحركة المستمرّة الصادرة عن تلك الأنفس العاقلة من غاية ، ولا يجوز أن تكون غاياتها حيوانية من شهوة أو غضب أو غير ذلك من الاغراض الحيوانية الضعيفة ، لما علم من أنّ تلك الأنفس مجرّدة عاقلة كلّية لا حيوانية جزئية ، فلا يجوز أن تكون غاياتها غايات جزئية حيوانية - لتعاليها عنها -. وأيضا لا نموّ ولا تغذّي للسماء ، فلا كون لها من شيء حتّى تكون لها شهوة إلى ما يحصل به التكوّن ، ولا فساد لها ليكون لها غضب يدفع به ما يزاحمه ويفسده ، ولا يجوز أن تكون غايتها أيضا ما يرجع إلى العوالم السفلية والاجرام العنصرية ولا يصحّ صدور هذه الحركات العظيمة لأجلها ، لحقارة العوالم السفلية وخسّتها بالنسبة إلى النفوس الفلكية واجرامها والعالي لا يلتفت إلى السافل والاشرف لا يعنى بالأخسّ ، لأنّ الغاية لكلّ شيء يجب أن يكون ممّا لم يوجد فيه ويستكمل لأجلها وما يرجع إلى الاخسّ لا يحصل به استكمال للأشرف. نعم! يترشّح من حركاتها الخيرات والبركات الدائمة على السوافل ، فيضاد بالعرض لا قصدا وبالذات. وكذا لا يجوز أن تكون غاية الحركة لكلّ فلك ما يرجع إلى فلك آخر جسمه أو نفسه ؛ أمّا إذا كان الفلك الآخر أسفل فظاهر - لما مرّ - ، وأمّا إذا كان أعلى فلعدم فلك فوق المحدّد ، فلا بدّ أن لا تكون حركتها لأجل جسم فلكىّ أو نفس فلكية ، فيجب أن تكون غايتها أمرا غير جسماني ، بل شيئا نورانيا قدسيا مجرّدا عن المادّة بالكلّية يكون ذا قوة غير متناهية ، لا بأن يطلب ذاته ، بل بأن يطلب التشبه به باكتساب أوصافه الكمالية الغير المتناهية. فانّ المطلوب إن كان نيل امر جزئي معيّن فان كان ممّا ينال لوقفت إذا

ص: 122


1- الاصل : على الاشياء القاصرة المنقطعة فان تقوى الجسمانية.

نالت ، وإن كان ممّا لا ينال لقنطت! ، فيجب أن يكون المطلوب امرا كلّيا متجدّدا دائم الحصول ؛ وليس هو إلاّ التشبّه بذات قدسية كمالاته غير متناهية بالفعل ، فيتصوّر تلك الكمالات الفعلية الغير المتناهية ويشتاق إليها فيحصل منه الفعلية الموجبة للتشبّه. وليس فعليته إلاّ بالحركات المتشابهة الّتي يخرج اوضاعها من القوّة إلى الفعل ، فانّ الفلك إن ثبت على وضع واحد بقيت ساير الاوضاع ابدا بالقوّة وليس له ما بالقوّة إلاّ الاوضاع ، لانّ جميع الأشياء غيرها فيه بالفعل. ولا يمكنه أن يجمعها ويخرجها إلى الفعل دفعة فيخرجها على التعاقب الدائم والتدريج المستمرّ بانفعال جرمه عن تصوّرات شوقية وهيئات نورية ، كما أنّ تفكّر الانسان في شيء من المعقولات تتبعه حركات وهيئات من بدنه ، فانّ الضرورة قاضية بأنّ هيئات كلّ من النفس والبدن يتعدّي إلى صاحبه.

ثمّ هذا الأمر المجرّد القدسى الّذي يطلب التشبه به إن كان واجبا ثبت المطلوب ، وإلاّ فينتهي إليه - دفعا للدور والتسلسل -.

هذه هي الطريقة الثانية للطبيعيين مع إيضاح وتبيين.

والايرادات الّتي يتصوّر أن تورد عليها وجوه :

منها : انّه يجوز أن تكون تلك الحركات طبيعية لا بمعنى الهرب من الموضع المنافر للطبيعة إلى الموضع الملائم والفرار من المركز إلى المحيط أو العكس - كما هو العرف المشهور في الحركات الطبيعية - ، بل بمعنى كونها من مقتضيات الطبيعة الفلكية واغراضها اللازمة. فكما انّ النار يقتضي بطبعها وصورتها النوعية التسخين والإحراق وبعض العناصر يقتضي الميل إلى المركز وبعضها الميل إلى المحيط ، كذلك يجوز أن يقتضي الطبائع الفلكية تلك الحركات الدورية ، فانّ العقل والتجربة شاهدان / 28MA / على أنّ كلّ طبيعة وصورة نوعية يقتضي فعلا خاصّا / 27DB / وأثرا مخصوصا ولا يحتاج معه إلى علّة أخرى ، فيجوز أن تكون الحركات الوضعية على النحو الخاصّ مستندة إلى الطبائع الفلكية على سبيل الايجاب كسائر افعال الطبائع ؛

والجواب : انّه لو اقتضى الأفلاك بطبعها تلك الحركات على سبيل الإيجاب فلا يخلوا أنها إمّا أن تكون متناهية ، أو لا ؛ فعلى الأوّل يلزم حدوث الافلاك و

ص: 123

وجودها بعد العدم ، فلا بدّ لها من موجد ، ولا يمكن أن يكون موجدها جسما أو جسمانيا ، فيجب أن يكون مجرّدا ثابت الذات ، فان كان واجبا فهو المطلوب وإلاّ ينتهي إليه ؛ وإن كانت غير متناهية استحال استنادها إلى الطبائع الفلكية ، لأنّ الفواعل المادية الجسمانية لا يجوز أن يكون شيء منها غير متناهى القوّة والتأثير ، فلا يجوز أن يفعل افعالا ويحرّك تحريكات غير متناهية ، لأنّ القوى الجسمانية تختلف ضرورة بحسب اختلاف فاعلية المادّة ، ومراتب القابليات تنتهي في الضعف إلى العدم ويستمرّ في الشدّة لا إلى نهاية ، فكلّ مرتبة من القابلية محصورة بين طرفين. وأيضا كلّ مرتبة منها أقلّ ممّا فوقها ، ولا يجوز أن توجد مرتبة تكون أعلى المراتب ولا يتصوّر فوقها مرتبة ، لأنّ هذه المرتبة أقلّ بالضرورة من نفسها مع بعض المراتب السابقة ، وكلّ اقلّ متناه ، وإذا كانت القابلية متناهية بمعنى امكان وجود مرتبة فوقها لكانت القوة الّتي بإزائها أيضا متناهية - يعنى : يمكن أن تتحقّق قوّة تكون أقوى وأكثر تاثيرا منها -. وأيضا إنّا إذا فرضنا انقسام جسم الفلك مثلا بقسمين فالقوّة الّتي سارية في أحد القسمين ما يكون تحريكها إلى غير النهاية ، فيكون الجزء مثل الكلّ وهو محال ، وامّا أن يكون تحريكها إلى غاية متناهية فالقوّة الّتي بإزاء القسم الأخير كذلك ، فيكون المجموع المشتمل على المتناهيين متناهيا.

فان قيل : القوّة السارية في كلّ الفلك تقوي على تحريك الكلّ إلى غير النهاية ، والسارية في نصف الفلك تقوي على تحريك النصف إلى غير النهاية ، والسارية في الربع تقوي على تحريك الربع إلى غير النهاية وهكذا إلى غير النهاية ، وهكذا إلى أن تنتهي إلى القوّة السارية في أقلّ جزء منه ، فانّها تقوي على تحريكه إلى غير النهاية ، فالقوّة الّتي يصدر منها الأفعال الغير المتناهية بحسب المدّة وان اختلفت مراتبها بحسب اختلاف مراتب القابليات ولا تنتهى القوّة إلى ما لا يتصوّر قوة أقوى منها وأكثر تأثيرا منها ، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من عدم صدور الأفعال الغير المتناهية مطلقا ، بل يكفي لتصحيح الاختلاف أن يكون للأقوى فعل غير متناه يكون أصعب وأشدّ أو فعل آخر أيضا غير متناه ، كما أنّه إذا فرض صدور غير متناهيين بحسب الشدّة أو العدّة من

ص: 124

قوّتين يكفي لتصحيح اختلاف القوّتين قوّة وضعفا اختلاف الغير المتناهيين بحسب المدّة ، فبعض القوابل مستعدّ لافاضة القوى الّتي لا يفعل إلاّ أفعالا متناهية وبعضها مستعدّ لافاضة القوى الّتي تفعل أفعالا غير متناهية بأحد الوجوه ، وهذا الصنف من القوى إن كان ممّا يصدر عنه الغير المتناهي بحسب المدّة وإن امكن اختلافها قوّة وضعفا إلاّ أنّ ذلك الاختلاف لا يصير منشأ التفاوت والاختلاف في زمان الفعل حتّى يقال : انّ الاختلاف بحسب الزمان في غير المتناهيين بحسب المدّة غير جائز ، بل يكفى لتصحيح اختلاف القوّتين كون ما يصدر عن إحداهما أشدّ أو أكثر عددا ممّا يصدر عن الآخر ، وإن كان الصادران عنهما غير متناهيين بحسب المدّة ، والحاصل : انّ القوى الّتي يصدر عنها الأفعال الغير المتناهية بحسب المدّة لا يصير اختلافها بحسب اختلاف القابلات منشئا لاختلاف الأفعال في المدّة حتّى يقال آنفا : غير المتناهيين لا يختلفان بحسب المدّة ، بل يصير منشئا لاختلاف الأفعال بحسب العدّة والشدّة بأن يصدر من إحدى القوّتين غير متناهيين أو غير متناه أشدّ ومن الأخرى غير متناه واحد أو غير متناه أضعف ، فكلّ جزء من الفلك مستعدّ لحصول القوّة الّتي تحرّكه حركة غير متناهية ، والقوّة الّتي في جزءين منه وان كانت أزيد من الّتي في جزء واحد ؛ ويجب أن تصير هذه الزيادة منشئا لزيادة التأثير إلاّ أنّ زيادة التأثير لا يتحقّق بحسب المدّة ، بل بحسب الشدّة / 28MB / بأن يتحرّك لأجل هذه الزيادة جزء آخر إلى غير النهاية.

وليس للخصم أن يقول : يلزم البتة أن يصير الزيادة في القوّة منشئا للزيادة في المدّة ؛

ثمّ / 28DA / إنّه إذا أخذت القابلية الّتي في جزء من الفلك مثلا والّتي في جزء من الأرض مثلا وأخذت قوّتاهما معا أزيد من القوّة المختصّة بالجزء الفلكي فيجب أن تكون الحركة الصادرة عنهما معا أطول مدّة من الحركة الصادرة من القوّة الّتي في الجزء الفلكي فقط ، لأنّ بإزاء كلّ منهما حركة يقتضيها إحداهما تقتضي حركة معينة متناهية ، والأخرى تقتضي حركة غير متناهية بحسب الفرض. فاذا اجتمعت القوّتان تحصل الحركتان فتكون الحركة الصادرة من الجزء الفلكي متناهيا ، لأنّ الأقلّ متناه ، لأنّ

ص: 125

القابليّتين والقوّتين المذكورتين متخالفتان بالحقيقة والنوع. ولا يجوز أن يكون ضمّ إحداهما إلى الاخرى منشئا لزيادة تأثيرها ، بل يصير معاوقة عن تاثيرها الخاصّ بها ، فالقوّة الّتي في حجر مثلا إذا فرض ضمّها إلى القوّة الّتي في جزء من الفلك لا يمكن أن يصير منشئا لزيادة تاثيره ، بل يعاوقها عن تاثيرها ، لأنّ القوّة الحجرية تقتضي الحركة المستقيمة والقوّة الفلكية تقتضي الحركة المستديرة ، فكيف يتحقّق بينهما التعاون؟! ، بل المعين لإحداهما إنّما هو ما يكون من نوعه. وهو لا يصير منشئا للازدياد بحسب المدّة ، بل بحسب الشدّة أو العدّة ، فلو فرض القوّة الّتي في جزءين من الفلك موجودة في جزء واحد لصار منشئا لزيادة حركته بحسب الشدّة بأن تصير حركته سريعة ضعف ما كان لقوّته المختصّة به ؛

قلنا : لا ريب في تحقّق الاختلاف في كلّ واحد من المدّة والعدّة والشدّة زيادة ونقصانا ، والنقصان في كلّ واحد منها ينتهى إلى العدم ، والزيادة تتصوّر إلى غير النهاية. إلاّ أنّ حصول الزيادة في كلّ واحد منها إلى حدّ يصل إلى غير النهاية في الخارج غير ممكن ، لان الاختلاف في كلّ واحد زيادة ونقصانا انّما هو لأجل الاختلاف في القوّة وهو لأجل الاختلاف في القابلية ، ومراتب القابلية تنتهي في الضعف إلى العدم وتستمر في الشدّة إلى غير النهاية فكلّ مرتبة من القابلية الّتي بإزاء القوّة الّتي بإزاء مرتبة من التأثير في أحد الاقسام الثلاثة محصورة بين طرفين. وأيضا كلّ مرتبة من القابلية الّتي تصير منشئا لصدور الفعل بأحد الوجوه أقلّ ممّا فوقها ، ولا يجوز أن توجد مرتبة تكون أعلى المراتب - لأنّ هذه المرتبة اقلّ بالضرورة من نفسها مع بعض المراتب السابقة ، وكلّ اقلّ متناه - والحاصل : انّ الاختلاف بحسب المدّة ثابت وهو إنّما يكون بحسب اختلاف القوّة والاختلاف بحسب القوّة انّما هو بحسب اختلاف القابلية ، فالقابلية الّتي تصير منشئا لاختلاف الفعل بحسب المدّة مراتبها تنتهي في الضعف إلى العدم وتستمرّ في الزيادة إلى غير النهاية ، فكلّ مرتبة منها محصورة بين حاصرين ، وكلّ مرتبة منها اقلّ ممّا فوقها ولا يجوز أن توجد مرتبة تكون أعلى المراتب - لأنّ هذه المرتبة اقلّ من نفسها مع بعض المراتب السابقة -.

ص: 126

والقول بانّ اختلاف القابلية والقوّة حينئذ يصير منشئا للاختلاف في الشدّة والعدد كلام واه جدّا! ، لأنّا أخذنا القابلية والقوّة اللتين تصيران منشئا للاختلاف بحسب المدّة ، وأيّ دخل لهما في الاختلاف من حيث الشدّة والعدد؟! ؛ فالقابلية والقوّة اللتان في جزء من الفلك وصارتا باعثتين للتحريك إلى غير النهاية بالفرض يمكن أن توجد فوقهما قابلية وقوة تكونان أقوى وأكثر تاثيرا من جنسهما - أي : ممّا يقتضي التأثير بحسب المدّة - ، لما تقدّم من البرهان ، وهو غير جائز ، لعدم الاختلاف في البرهان (1) بين غير المتناهيين بحسب المدّة.

وبما ذكر يظهر انّه لا يجوز أن يكون محرّكها جسما أو (2) جسمانيا آخر غير الافلاك وقواها الجسمانية المنطبعة.

ومنها : انّ الغاية للنفوس الفلكية وإن لم يجز أن تكون شهوية ولا غضبية ، إلاّ انّه لم لا يجوز أن تكون الغاية لها صلاح النظام الجملي والعناية الكلّية؟.

فان قيل : ذلك / 29MA / يستلزم فعل العالي للسافل واعتناء الأشرف بالخسّ؟

قلنا : كما في فعل الواجب ، والجواب الجواب من دون تفاوت.

والجواب : انّ تلك الحركات إن كانت متناهية لزم حدوث الافلاك ونفوسها وصيرورتها موجودة بعد العدم ، فثبت به المطلوب ؛ وإن كانت غير متناهية لم يمكن أن يصدر عنها إلاّ إذا كان محرّكها الغائي جوهرا عقليا مفارقا ذا قوة غير متناهية وتحرّكها على سبيل الامداد والتشويق ، لأنّ النفس من حيث انّه نفس كالجسم والجسمانيات في عدم امكان صدور الأفاعيل الغير المتناهية عنه ؛ كيف لا والنفس أيضا قوة جسمانية من حيث الفعل ما دام نفسا وان تجرّدت من حيث الذات؟! ، وأنّى يمكن أن يصدر عنه التاثيرات والافاعيل الغير المتناهية إلاّ أن يمدّها جوهر عقلي / 28DB / يكون ذا قوة غير متناهية؟! ، والتحريكات الغير المتناهية من القوى الجسمانية على سبيل الامداد (3) والتأييد من ذي قوّة غير متناهية جائز لأنّ حصول الغير المتناهي

ص: 127


1- الاصل : الزمان.
2- الاصل : جسما أو.
3- الاصل : الامتداد.

حينئذ انّما هو منه لا منها - ، فالمحال حصول الأفاعيل الغير المتناهية عن القوى الجسمانية على الانفراد والاستقلال.

فان قيل : ما يدلّ على استحالة صدور التاثيرات والأفاعيل الغير المتناهية من الجسم والجسمانيات على الانفراد يدلّ على استحالته على الإمداد أيضا ؛ بل يدلّ على استحالة حصول التاثيرات والانفعالات الغير المتناهية منهما أيضا لأنّ صدور التأثيرات الغير المتناهية على سبيل الامداد والحصول من الغير وقبول التأثيرات والانفعالات (1) الغير المتناهية يختلف باختلاف قابليات المادّة ، ومراتب قابليتها متناهية ، لأنّ كلّ مرتبة منها محصورة بين طرفين ويمكن أن يوجد ما هو فوقها - لما تقدّم بعينه - ؛

قلنا : لو سلّم ما ذكر لكان مؤكّدا لحقّية الشقّ الاوّل - أعني : تناهي تلك الحركات وحدوث الافلاك ونفوسها -. وقد علمت ثبوت المطلوب ، فلا يقدح فيه حينئذ امكان استنادها إلى القوى الجسمانية أو إلى النفوس الفلكية من دون حاجة إلى امداد من الجوهر العقلى.

ومنها : إنّا لا نسلّم استنادها إلى النفوس الفلكية ، ولم لا يجوز أن يكون محرّكها الفاعلي جوهرا عقليا محضا مفارقا دون الجواهر النفسية؟ ؛

قلنا : الجوهر العقلي المحض لثبوته على حالة واحدة لا يمكن أن يصدر عنه إلاّ ما هو ثابت على حالة واحدة ولا يجوز أن يصدر عنه الأمر المتغيّر المتبدّل فيكون الأرض - لثبوته - دائما على حالة واحدة يمكن أن يصدر عن علّة ثابتة. وأمّا الحركة الوضعية الّتي هي خروج الأوضاع وتبدّلها وتغيرها فلا يمكن أن يصدر عن ثابت على حالة واحدة ، بل يجب أن يكون محرّكها في كلّ تحريكه على حالة مغايرة للحالات الّتي ثابتة له في التحريكات الأخر. فالمحرّك الواحد ما لم يسنح له حالات متجدّدة لم يمكن أن تصدر عنه الحركة ، لأنّ الانتقال من حدّ أوّل إلى حدّ ثان غير الانتقال من الحدّ الثاني إلى حدّ الثالث ، والمتغايران لا يجوز أن يصدرا عن واحد من جميع الجهات ،

ص: 128


1- الاصل : الانفصالات.

والتأمّل في أصناف الحركة يفيد القطع بذلك. فانّ المحرّك في الكيف يختلف تحريكه لاختلاف كيفيته ، ففي كلّ تحريكه له كيفية خاصّة يصير لأجلها منشئا لتلك التحريكة ، وهي مغايرة لباقي الكيفيات الّتي ثابتة له في التحريكات الأخر. وكذلك الطبيعة الّتي تصدر عنها الحركة الطبيعية يتجدّد له التحريكات لأجل تجدّد الحالات اللاحقة بها. وأقلّها تجدّد مراتب القرب والبعد إلى الغاية المطلوبة ، فانّ كلّ مرتبة من مراتب القرب إلى الغاية إذا لحقت بالطبيعة أوجب صدور حركة جزئية منها موجبة للوصول إلى مرتبة أخرى أقرب إلى الغاية ، وهي توجب حركة أخرى موجبة لقرب آخر ، وهكذا إلى أن يصل إلى المطلوب. وكذلك المتحرّك في الحركة الارادية - أعني : النفس - لا بدّ من تجدّد ارادتها وتغيرها حتّى يتجدّد تحريكاتها ولا بدّ من كون ارادتها جزئية لتتحقّق الارادات الجزئية ، لأنّ الإرادة الكلّية أمر واحد نسبتها إلى جزئيات الحركة نسبة واحدة ولا توجب حركة جزئية ما لم يتشخّص ولم يصر جزئية ، لانّ الإرادة الكلّية لا وجود لها.

فمن أراد أن يتحرّك إلى موضع معين لا يتحرّك رجله ما لم تتجدّد له إرادة جزئية ، فاذا احدثت له إرادة جزئية تحدث له خطوة وبعد تلك الخطوة يحدث له تصور جزئي وتنبعث عنه إرادة / 30MA / جزئية أخرى توجب خطوة ثانية تحدث بها إرادة جزئية أخرى موجبة لخطوة ثالثة ، وهكذا إلى أن يتمّ المسافة المقصودة. فالحركات الجزئية يقتضيها الارادات الجزئية الّتي تقتضيها التصوّرات الجزئية ، والحركة الكلّية تقتضي دوام الحركة إلى حين الوصول إلى الغاية المطلوبة ، فالحادث حركة وتصوّر وإرادة ، فالحركة تحدث بالإرادة الجزئية والإرادة الجزئية تحدث بالتصور الجزئي مع الإرادة الكلّية والتصوّر الجزئي يحدث بحركة متجدّدة. فالحركة الفلكية إذا كانت ارادية لا بدّ أن يكون مبدأها الفاعلي متغيرا بتغير الارادات والتصوّرات الجزئية ، والمتغير بتغير التصورات والارادات يكون نفسا ، لا عقلا.

ومنها : انّا نسلّم أنّ محرّكها الغائي يجب أن يكون مفارقا عن المادّة بالكلّية ، الاّ أنّا لا نسلّم كونه واجبا ، بل اختلاف حركاتها يدلّ على تعدّد محرّكها الغائي ، لأنّ المشبّه به لو كان واحدا لتشابهت الحركات. وتوضيح ذلك أنّ كثرة الأفلاك المعلومة بالرصد و

ص: 129

العيان دلّت على اختلاف / 29DA / طبائعها بالنوع ، لأنّها لو كانت من نوع واحد لكانت الكلّ متواصلة ، لأنّ موجب التباين إنّما هو الاختلاف في الطبع ولذا ترى كلّ جسمين إذا كانا من نوع واحد وصب أحدهما على الآخر يختلطان (1) بحيث يصيران جسما واحدا (2) - كالماءين والدهنين - ، واذا كانا من نوعين - كالدهن والماء - لا يختلطان مع الانصباب ؛ فالافلاك لو كانت من نوع واحد لكانت الكلّ متواصلة. كيف لا ونسبة اجزاء كلّ فلك حينئذ إلى أجزاء الفلك الآخر كنسبة اجزائه بعضها إلى بعض؟!.

وأيضا لو كانت من نوع واحد لجاز أن يتحرّك الأسفل إلى مكان الأعلى وبالعكس - كما في أجزاء الماء والهواء - ، ولو جاز ذلك لكانت قابلة للحركة المستقيمة ، وهو باطل - على ما بيّن في موضعه -.

وإذ تحقّق اختلافها بالنوع نقول : لا ريب انّ هذه الاجسام السماوية المختلفة في الطبيعة النوعية لا يجوز أن يكون بعضها علّة للبعض ، لاستحالة أن يكون الجسم سببا لايجاد الجسم - لما تبيّن في موضعه من أنّ تأثير الجسم إنّما يكون بمشاركة الوضع من المماسة أو المجاورة أو المحاذاة - ، فتأثيره يتوقّف على وجود أمر ذي وضع حتّى تؤثر فيه.

ولذا ترى أنّ النار تسخّن (3) ما يكون ملاقيا لجسمها أو قريبا منه ، دون ما كان بعيدا منه ؛ والشمس تضيء ما كان مقابلا لجرمها أو ما هو في حكم المقابلة دون ما هو مستور عنها. وما يشاهد من حصول بعض العناصر من بعض - كتكوّن الماء والنار من الهواء مثلا - فليس ذلك من ايجاد جسم لجسم آخر ، بل مادّة الهواء تستعدّ لأجل اسباب ترد عليها لفيضان صورة أخرى من فاعل غير جسماني ، مع أنّ حصول الصورة المائية والنارية إنّما هو من مادّة سابقة ، فيتحقّق الوضع الّذي هو شرط في تأثير الجسم في الجسم. وما ثبت امتناعه إنّما هو تأثير الجسم في غيره من غير مشاركة وضع ووجود مادّة.

فان قيل : كما يجوز صدور القوى الجسمانية من المفارق عن المادّة بالكلّية من دون

ص: 130


1- الاصل : يختلفان.
2- الاصل : وهذا.
3- الاصل : انّ الماء المسخن.

علاقة وضعية ونسبة جسمية فليجز عكسها ، لاشتراك الدليل وبحكم الفرق ؛

قلنا : الفرق قائم والدليل انّما يدلّ على عدم جواز تأثير الجسمانيات بدون الوضع ، لا على عدم جواز تأثير المفارق بدونه أيضا ؛ بل البرهان قائم على عدم توقّف تأثيره على الوضع. وبيان الجميع : انّ الجسمانيات من الصورة كالصور الجسمية والنوعية وغيرها من القوى الجسمانيّة متقوّمة بالفعل بموادّ الاجسام فقوامها انّما هو بتلك الموادّ ، فقوام هذه الصور والقوى يتوقّف على حصول وضع ما لها وتوسّط تلك الموادّ في الوضع ، وإذا احتاجت في قوامها إلى توسّط المادّة في الوضع احتاجت في صدور الفعل عنها أيضا إلى توسّط المادّة في الوضع ، امّا بالنسبة إلى ذوات تلك الصور والقوى بأن لا يتحقّق فعلها بدون أن يكون لمحلّها ومتعلّقها وضع ما قطّ - إذ فعل المتقوّم بالمادّة لا يكون إلاّ بواسطة المادّة ، والمادّة المقارنة لها لا بدّ لها من وضع ما ، إذ كلّ جسم له وضع على الاطلاق البتة - ، وإمّا بالنسبة إلى المنفعل عنه بمعنى توقّف فعل القوى المتعلّقة بالمادة من وضع مخصوص لتلك المادة بالنسبة إلى المنفعل عن هذه القوى ، فلأنّ ما يكون قوامه وتحقّقه موقوفا على توسّط المادّة في الوضع ، فيكون تأثيره في شيء موقوفا على تحقّق وضع له بالنسبة إليه / 30MA / بطريق أولى.

وهو كما ترى ؛ فانه لقائل أن يمنع الأولوية بل المساواة ويقول (1) : لم لا يجوز أن تكون القوى المنطبعة في الموادّ موجدة لبعض المفارقات أو الاجسام من غير افتقار إلى تقدّم مادّة ووضع ، ولا بدّ لنفيه من دليل.

ويمكن أن يستدلّ عليه بالاستقراء في المؤثّرات الجسمانية ، فانّ تاثير كلّ قوّة جسمية - على ما يشاهد - موقوف على تحقّق الوضع بالنسبة إلى المنفعل عنه ، وتأثيره فيه باختلاف القرب والبعد ولا يوجد تأثير لقوّة جسمانية بدون الوضع ؛ وهو أيضا كما ترى.

فالصحيح أن يستدلّ عليه : بانّه لا ريب في أنّ الفاعل أشرف من المفعول من جميع الجهات ، ولا شبهة في أنّ القائم بالذات - سواء كان من المفارقات أو نفس المادّة

ص: 131


1- الاصل : - ويقول.

أو الجسم - أشرف وأقوى من القوى المنطبعة في الاجسام الحالّة فيها - لافتقارها إلى المحلّ - ؛ فلو كانت تلك القوى علة لما لم يتحقّق لها وضع بالنسبة إليه - أي : لما كان قائما بذاته بعد وجوده - لزم أن يكون المحتاج إلى المحلّ أشرف من غير المحتاج إليه ؛ هذا خلف!. ولا يمكن / 29DB / أن يقال : انّه يجوز أن تكون العلّة لجسم مثلا هو الجسم القائم بالذات لا القوى الجسمانية ، لأن علّية الجسم إنّما يكون لصوره وقواه ، لأنّ المادّة لا تكون علّة لشيء.

فان قيل : لم لا يجوز أن يكون بعض القوى الجسمانية - كالصور النوعية للافلاك مثلا - أشرف من بعض الاجسام السابقة بنفسها بعد وجودها - كالاجسام العنصرية - ، وحينئذ لا مانع من علّية بعض الصور الحالّة لبعض الاجسام من غير تقدّم وضع وافتقار توسّط المادّة في الوضع ؛

قلنا : اللازم أشرفية العلّة من المعلول من جميع الجهات ، وإذا كان الصور الفلكية علّة لبعض الاجسام العنصرية لزم أشرفية المعلول على علّته من جهة ، وهو باطل. وبما ذكر من توقّف تأثير القوى الجسمية على وجود الوضع بينها وبين المنفعل عنه يظهر عدم جواز تأثيرها في مطلق المفارقات بوجه وعدم جواز صدور شيء من الموجودات - سواء كان جسما أو مادّة - بطريق الاتحاد بينها (1) ؛ هذا.

وأمّا صدور الجسم والجسمانى من المفارقات وتأثيرها فيهما فجائز لا منع فيه ، لأنّ الروحانى العقلي غير محتاج في فعله إلى المادّة بما فيها من وضعها وتخصّص حالها بالنسبة إليه ، بل يكفيه وجود ذاته في أن يفعل في المستعدّات ، بل نسبة الجميع إليه نسبة واحدة عامّة. فانّ ذوات الأوضاع في أنفسها ليست بذوات اوضاع بالقياس إليه وإن كانت كذلك بقياس بعضها إلى بعض ، فذوات الأوضاع والمفارقات والمعدومات بالنسبة إليه على السّواء. على أنّه هنا فرق آخر بين فعل الجسم وانفعاله ، وهو أنّ الفعل الصادر عن الاجسام لمّا كان صادرا عن القوى المادّية لا عن نفس المادّة فكانت المادّة متوسّطة الوضع بين الفاعل والمنفعل عنه ، وامّا الانفعال الوارد على الجسم فانّما

ص: 132


1- الاصل : الايجاد منهما.

يتعلّق بنفس المادّة ، لانّ المادّة هي المنفعلة بنفسها ، فلا معنى حينئذ لتوسط المادّة أو غيرها بين الفاعل والمنفعل.

ولو (1) قيل : لا ريب في أنّ البدن يؤثّر في النفس مع انّ النفس لا وضع لها ؛ وهذا مخالف لما قلتم من انّ الجسمانى لا يؤثر فيما لا وضع له! ؛

قلنا : المراد أنّ الجسماني لا يؤثّر فيما ليس له وضع ولا علاقة مع ذي وضع ، والنفس وإن لم يكن لها وضع إلاّ أنّ لها علاقة مع ذي وضع ، فيجوز أن يؤثّر الجسماني فيها ؛ ولهذا كلّما كان اقلّ علاقة بالبدن كان تأثير الجسمانيات فيها اقلّ. ويظهر من ذلك انّ فعل النفس أيضا يتوقّف على تحقّق الوضع لها بالنسبة إلى المنفعل عنه ، لأنّها وان لم تفتقر إلى المادّة في قوامها إلاّ أنّها لمّا افتقرت في فعلها إلى المادّة فيتوقّف في فعلها على حصول نسبة وضعية.

فان قيل : بعض تأثيرات القوى الفلكية لا يتوقّف على تحقّق الوضع لها بالنسبة إلى المنفعل عنه من الأجرام والأشخاص السفلية ؛

قلنا : ممنوع ، بل لا يوجد (2) تأثير من القوى السماوية إلاّ ويتحقّق نوع وضع لها بالنسبة إلى السفليات المنفعلة عنها.

وإذ ثبت انّه لا يجوز أن يكون جسم علّة لصدور جسم آخر نقول : لا ريب انّ الافلاك اجسام اوّلية ابداعية ليست كائنة عن مادّة ، فلا يمكن صدورها عن علّتها إلاّ على سبيل الابداع من دون سبق مادّة ، فيمتنع أن يوجدها جسم من نوعه أو من غير نوعه ، فلا يمكن / 30MB / أن يكون بعضها علّة لبعض ، بل يجب أن تكون علّتها شيئا خارجا عنها غير جسماني. ولمّا ثبت كونها مختلفة الطبائع وجب أن يكون لكلّ واحد منها علّة على حدة غير علل البواقى ، لأنّ المختلفات بالطبائع لا يمكن استنادها إلى علّة واحدة - والواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد - ما لم يكن له جهات كثيرة يمكن أن يصدر عنه بكلّ جهة معلول ، والمفارق عن المادّة لا تتحقّق فيه الجهات الكثيرة الّتي يمكن أن يستند كلّ فلك إلى جهة منه ، فلا بدّ أن يكون العلل المفارقة الموجدة

ص: 133


1- الاصل : - ولو.
2- الاصل - لا يوجد.

للافلاك متعدّدة بقدر عددها حتّى يصدر عن كلّ واحد واحد. وهي العقول المجردة الّتي أثبتها الحكماء وقالوا : أنّها فواعل الجواهر السماوية. ويجب أن تختلف هذه العقول بالنوع لأنّ الكثرة بالعدد لا يتصوّر في حقّ نوع واحد إلاّ بكثرة المادّة والاستعدادات ، فغير المادّي لو تكثّر فانّما يتكثّر باختلاف النوع بتعدّد الفصول المتباينة. ولا يجوز أن يتكثّر بالعوارض لأنّ اختلاف العوارض الّتي تعرض لافراد نوع واحد انّما يكون لأجل موادّها الّتي يقبل حدوثها وتجدّدها وزوالها ، فاذا لم توجد مادّة لم يوجد عوارض فضلا عن اختلافها - لتساوي نسبتها إلى مجرّد النوع -.

وإذا ثبت أنّ / 30DA / فواعل الافلاك هي تلك العقول القادسة المختلفة بالنوع نقول : الواجب أن تكون تلك العقول هي الغايات لحركة الافلاك بأن يتحرّك كلّ فلك لأجل التشبه إمّا بالعقل الّذي هو فاعله لأنّ التفات كلّ شيء في استكماله وطلبه الخير انّما هو إلى ما هو فاعله ، فلمّا تعدّد الفواعل بتعدّد الغايات للحركات ولذا اختلفت الحركات وتعدّدت الجهات فتكثّرت الحركات حسب تكثّر العقول ، فثبت أنّ المتشبّه به هو العقول دون الواجب - تعالى شأنه -. فلما ثبت من الدليل المذكور وجود الواجب - تعالى شأنه -.

وأجيب : بأنّ تلك العقول لكونها ممكنة محتاجة إلى علّة واجبة بالذات يثبت منها وجود الواجب ، فكما انّ مبدع الجميع وعلّة الكلّ هو الذات الأحدية الحقّة والعقول والنفوس وسائط فيضه ورحمته - وبلسان التصوّف جهاته العقلية وحجبه النورية الّتي لو كشفت لأحرقت شدّة ضياء سبحات وجهه كلّما انتهى إليه بصره - فكذلك المتشبّه به والمعشوق الحقيقي للكلّ والغاية الذاتية للجميع على الوجه الأعمّ ذات واحدة إلهية وإن كانت تلك العقول وسائط لطلبه ونيله ، ولذا اشتركت الأفلاك في مطلق الحركة الدورية. والتأمّل يعطى بأنّ العشق والطلب - اللّذان يصدران عن النفوس الفلكيّة بل عن كلّ شيء - انّما هو من فعل الباري ، فانّ مقتضى حكمته الكاملة وعلمه بالنظام الاصلح أن يودع في كلّ من الموجودات شوقا غريزيا وعشقا طبيعيا حتّى يصل لأجله إلى ما يستحقّه من الكمال والخير.

ص: 134

وأورد عليه : بأنّ الاستدلال بالعقول على وجود الواجب هو الاستدلال بطريقة الامكان ، لأنّ حاصله أن العقول ممكنة فلا بدّ لها من علّة تنتهى إلى الواجب دفعا للدور والتسلسل ، فبعد التطويلات والتمسّك بالمقدّمات الكثيرة من ابطال كون حركات الأفلاك قسرية وطبيعية واثبات كونها ارادية وشوقية وغير ذلك لا بدّ أن يتمسّك بطريقة الامكان مع الوجود - وهي طريقة مستقلّة لاثبات الواجب - ، فمعها أيّ حاجة إلى هذه التطويلات والتمسّك بمقدّمات تشكل اثبات أكثرها؟ ؛ وعلى هذا لا تكون طريقة الطبيعيين طريقة على حدة.

أقول : مثل هذا الايراد لا مدفع له وإن قطع النظر عن حقية وجود العقول ، لأنّه مع قطع النظر عنه يمكن أن يقال : لم لا يجوز أن تكون الغاية لتلك الحركات موجودا واحدا أو أكثر غير واجب؟ ، فلا بدّ من التمسّك بطريقة الامكان مع الوجود. ويظهر أنّ هذه الطريقة - كطريقتهم الأولى - لا يسمن ولا يغني من جوع ، فانّ حاصل هذه الطريقة - على ما قرّرناه - انّ الحركات السماوية ان كانت متناهية فتكون الأفلاك حادثة ، فلا بدّ لها من محدث ؛ فان كان واجبا ثبت المطلوب وإلاّ انتهى إلى الواجب دفعا للدور والتسلسل ، وإن كانت قديمة فلا يجوز أن تكون طبيعية - لمّا مر - ولا قسرية - لما مرّ - ، ولانّه لو كان لها قاسر غير جسماني لا ينتهى إلى الواجب دفعا للدور والتسلسل ، فثبت أن تكون ارادية. فلا بدّ لها من فاعل وغاية ، وفاعلها النفوس الفلكية وغايتها التشبه بالعقول ، وثبت منها وجود الواجب - تعالى شأنه -.

وأنت تعلم انّه لا بدّ في أكثر شقوق هذا الدليل من التمسّك بوجود المحدث أو الممكن والاستدلال على الواجب - تعالى - ببطلان التسلسل ، إلاّ أن يقال : لمّا ثبت منها وجود العقول فثبت منها وجود الواجب من دون الافتقار إلى ابطال التسلسل ، لانّ موجد العقل الأوّل - وهو المؤثّر في وجود الفلك الأوّل - لا يمكن أن يكون غير الواجب بالذات لبساطته الصرفة وعدم تكثر / 31MA / الجهات فيه ؛ وهو كما ترى.

ثمّ لا يخفى انّ هذه الطريقة وان لم تكن مستقلّة وطريقة على حدة في اثبات الواجب - تعالى شأنه - إلاّ انّه ثبت به وجود ما هو أعلى وأشرف من الفلكيات ممّا

ص: 135

هو فوقها من الجواهر العقلية القادسة المنتهية إليه - تعالى - ، وبه يبطل توهّم بعض الملاحدة من الدهرية حيث قالوا : انّ الفلكيات هي الغاية القصوى في الوجود وليس ورائها وفوقها موجود (1).

قال بعض العرفاء : انّ هذه الطريقة - أي : طريقة الطبيعيين - هي طريقة الخليل على - نبيّنا وآله وعليه السلام - ، فانّه لمّا رأى ظهور الحركات في السموات وانتقالات الكواكب وأفولها فقال لا احبّ الآفلين (2) ، ويحدس انّ مبدعها وموجدها ومحرّكها على سبيل الامداد والتشويق ليس بجسم ولا جسماني.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ الخليل - علیه السلام - لم يستدلّ بالحركة والتغيّر على وجود الواجب ، بل استدلّ بافول الكواكب على عدم كونه واجبا / 30DB / ، وأين هذا من ذاك؟!.

وفيه : انّ الاستدلال بالأفول على عدم كونه واجبا إنّما هو لأجل أنّ الأقلّ لا بدّ له من علّة توجب التغير فيه ، فيجب الانتهاء إلى ما ليس فيه تغيير أصلا ، وهو الواجب بذاته (3).

المنهج الرابع : من مناهج الحكماء ما ذهب إليه بعضهم ، وهو ما يبتنى على النظر في النفس الناطقة الانسانية.

ص: 136


1- انظر : شرح المقاصد ج 4 ص 22 ، حيث تجد تفسير التفتازاني لمرامهم مخالفا لما نسب إليهم المصنّف في كتابنا هذا ؛ ومخالفا لما نسب إليه الامام الرازي في تلخيص المحصّل ص 253.
2- ما وجدته. ولكن يوجد بين أقوال المتكلّمين ، قال الايجى : ... ما ذكره المتكلّمون من حدوث العالم وهو الاستدلال بحدوث الجواهر هي طريقة الخليل - صلوات اللّه عليه - حيث قال : لا احب الآفلين. راجع : شرح المواقف ، ج 8. ص 2. وانظر : تلخيص المحصّل ، ص 242.
3- وللطبيعيّين طرق آخر من غير النظر في الحركة. راجع : شوارق الإلهام ، ج 3. ص 495.

والمنقول عنهم طريقان :

الطريقة الأولى : انّ النفس الناطقة خارجة في كمالاتها من القوّة إلى الفعل ولا بدّ لها من مخرج ، ويجب الانتهاء إلى مخرج كان جميع كمالاته بالفعل ولا يكون مفتقرا إلى مخرج - دفعا للدور والتسلسل - ، والمخرج غير المخرج هو الواجب بالذات ؛ وهو المطلوب.

الطريقة الثانية : انّ النفس حادثة بحدوث البدن - كما يأتي - ، فهي ممكنة محدثة ، فلا بدّ لها - لامكانها أو حدوثها - من موجد. ولا يجوز أن يكون موجدها جسما لكونها مجرّدة ، وعدم جواز صدور المجرّد عن الجسم والجسماني - كما اثبتناه قبل ذلك - يوجب أن يكون موجدها مفارقا عن المادّة ، فان كان واجبا ثبت المطلوب ؛ وإلاّ ينتهى إليه - دفعا للدور والتسلسل (1) -.

وأنت تعلم انّه لا بدّ في هذه الطريقة من التمسّك بالامكان أو الحدوث ، والتفاوت إنّما هو في انّ موجد هذا الموجود المعين يجب أن يكون مفارقا ؛ مع أنّها متوقّفة على مقدّمات كثيره من اثبات تجرّد النفس وابطال التناسخ وغير ذلك.

المسلك الثاني : مسلك المتكلّمين

ولهم طريقتان :

الأولى : طريقة المتكلّمين الّذين جعلوا علّة الحاجة هي الحدوث ، فاعتبروا في اثبات الصانع مجرّد الحدوث. والثانية : طريقة المتكلّمين الّذين جعلوا علّة الحاجة هي الامكان بشرط الحدوث ، فاخذوا في اثبات الصانع الامكان بشرط الحدوث.

وتقرير الطريقة الأولى : انّ العالم بمعنى ما سوى الواجب حادث - للدلائل الدالّة عليه - ، فلا بدّ له من محدث غير حادث - دفعا للدور والتسلسل - ؛ والمحدث الغير الحادث يجب أن يكون واجبا. وإن لزم على هذه الطريقة عدم احتياج القديم وان كان

ص: 137


1- وانظر أيضا : الحكمة المتعالية ، ج 6 ، ص 44.

ممكنا إلى المؤثّر لقيام الدلالة الخارجية على امتناع وجود القديم الممكن.

وأورد عليها : بانّها مبتنية على حدوث العالم الّذي يشكل اثباته بالدليل العقلي بحيث لا يتطرّق المناقشة إليه. بل نقول : ما يصلح دليلا عليه إنّما يتمّ بعد اثبات الواجب ، وأمّا قبله فلا يمكن الاستدلال بوجه صالح للاعتماد على حدوث العالم بمعنى سوى الواجب. نعم! ، يمكن الاستدلال على حدوث العالم الجسمانى.

فالصواب أن يستدلّ به بأن يقال : انّ العالم الجسماني حادث ، فلا بدّ له من محدث ويجب الانتهاء إلى محدث غير حادث - دفعا للدور والتسلسل -.

وغير خفيّ انّ الأولى أن يستدلّ بالحوادث اليومية ويقال : لا ريب في وجود حادث من الحوادث اليومية ، فلا بدّ له من محدث ويجب الانتهاء إلى محدث غير حادث - دفعا للدور والتسلسل - ، وهو الواجب لذاته.

وتقرير الطريقة الثانية : انّ العالم - بمعنى ما سوى الواجب أو العالم الجسماني أو ما يوجد من الحوادث اليومية - ممكن حادث ، فلا بدّ له من علّة محدثة وينتهى إلى الواجب - دفعا للدور والتسلسل -.

وهذه الطريقة قريبة من السابقة تقريرا وايرادا وتوجيها.

المسلك الثالث : مسلك أهل الكشف من الصوفيّة

وتقريره : انّ ما هو غير الوجود الحقيقيّ القائم بذاته المساوق للوجوب الذاتى من المهيات الممكنة ، لا يمكن أن يوجد إلاّ باستفادة الموجودية من الوجود الصرف ، لأنّ كلّ ما هو مهيته / 31MB / غير وجوده يحتاج في اتصافه بالوجود إلى سبب ، لأنّ كلّ عرضي سواء كان لازما أو غير لازم محتاج معلّل إمّا بالماهية المعروضة أو بأمر خارج ؛ وعلّية الماهية لوجودها غير معقولة ، لأنّ العلّة يجب أن تكون متقدّمة على المعلول بالوجود ، وتقدّم الماهية على الوجود بالوجود غير معقول ، بخلاف تقدّمها على صفاتها اللازمة غير الوجود ، فالماهية يحتاج في وجودها إلى علّة خارجة ؛ ويجب أن تنتهى إلى

ص: 138

صرف الوجود - دفعا للدور والتسلسل -. ثمّ موجودية المهيات الممكنة ليست بافاضة الوجود عليها من الوجود الصرف ، وضمّ الوجود إليها وجعلها متّصفة به كما هو رأي المشائين ، لأنّ ثبوت الشيء للشيء فرع ثبوت المثبت له في نفسه ، والماهية ليست ثابتة في نفسها حتّى يمكن أن يثبت لها الوجود. وليست موجوديتها أيضا بافادة الوجود الصرف نفس ذواتها كما نسب إلى الرواقيين ، بمعنى أنّ نفس الذات بعد جعل الجاعل ايّاها كافية في انتزاع الوجود عنها ، وإلاّ كان حمل الوجود عليها كحمل الذاتيات ، وهو باطل. لأنّ الماهية من حيث هي لا يمكن أن تكون علّة للوجود ومقتضية له - لما مرّ - ، فبقي أن تكون موجودية الممكنات بارتباطها بالوجود الحقيقي / 31DA / وانتسابها إليه. فالاتحاد والتأثير والفاعلية ومرادفاتها هي افادة الجاعل الماهية مرتّبة بنفسه لا افادتها اشياء متباينة لذاته متحقّقة بانفسها ، ولذا قيل : الاثر في الحقيقة ليس شيئا مستقلاّ متميّزا عن المؤثّر. وما وجد من الآثار مستقلّة بذواتها ممتازة عن مؤثّراتها ليست آثارا لها بالحقيقة ، بل بحسب الظاهر. وليس المراد انّ وجود الأثر وجود ناعتي للمؤثّر نسبته إليه كنسبة الأعراض إلى موضوعها ، فانّ الارتباط الّذي بين الواجب والممكنات ليس بكونه محلا لها. ولذا قيل : انّ الأمثلة المذكورة في كتب العرفاء وإن كانت مقرّبة من وجه لكنّها مبعّدة من وجه آخر - كالتمثيل بالبحر والأمواج والنور والاضلال وبالشعلة الجائلة والقطرة النازلة والحركة التوسيطية - ؛ فانّ كلّ واحد من البحر والنور والشعلة والقطرة والحركة بمعنى التوسط أمر بسيط شخصي مستمرّ الوجود وراسم للمتجدّدات الّتي ليست خارجة ممتازة عنه. فانّ هذه النسب المتجدّدة المتكثّرة إنّما هي منتزعة من نفس هذا الأمر البسيط الشخصي عارضة لها ، والأشياء الممكنة ليست عارضة لذات الواجب الحقّ - تعالى شأنه - ، ولا وجوده صفة للماهيات الامكانية ، بل هي منتسبة إليه بالارتباط الصدوري ، فهو راسمها وجاعلها غير داخل فيها ولا مباشر لها. ومن حصول هذا الارتباط الصدوري ينتزع عنها الوجود وحقيقة هذا الارتباط راجعة إلى قيوميته - تعالى - للممكنات ، وتلزم هذه القيومية وجود معية بين الممكن والواجب أشدّ من معية العارض بالمعروض. ولكن لا يوجب

ص: 139

اختلاط الواجب بالممكن ولا حصول التغير والتكثّر والتجزي في ذاته ولا اتصافه بصفات المحدثات ولا ملابسته للأشياء الخسيسة ، فحقيقة هذه القيومية والمعية غير معلومة لنا بكنهها. وقد تلخّص أنّ المبدأ الأوّل الّذي هو حقيقة الوجود الصرف هو القيّوم الواجب لذاته الموجود في نفسه بنفسه لنفسه ، والمتقوّم به انّما هي نسب لا حقة واضافات عارضة لازمة له ليست موجودة اصلا لا بنفسها ولا فى نفسها ولا لنفسها ولا ممتازة مستقلّة ، بل لها الوجود الاعتباري النسبي إلى القيّوم بذاته ، فبالحقيقة ليس الموجود إلاّ الوجود الحقيقيّ الّذي هو باعتبار ذاته موجودة ، وهو مبدأ لجميع الآثار ، فمن حيث هو موجود بنفسه وقائم (1) بذاته ومبدأ للوجود الانتزاعي من غير اعتبار ارتباطه بالممكنات هو الوجود المطلق ، ومن حيث ارتباطه ومعيته بالماهيات وصيرورته مبدأ للآثار الخاصّة هو الوجود المقيّد ، فمن حيث ارتباطه بالعقول وكونه مبدأ لآثارها مرات لها ، ومن حيث ارتباطه بالنفوس وكونه مبدأ لآثارها مرات لها ، وهكذا. فهو مرآت جميع المهيات وشمس عوالم الممكنات ونور السموات والأرضين ، وبه ينال كلّ ذي حقّ حقّه وهو في غاية الظهور وبه ظهور كلّ شيء وادراك كلّ ذي ادراك. وهذا معنى قول الصوفية : انّ جميع المهيات الممكنة صور للوجود الحقيقيّ وانّ الوجود الحقيقيّ يتصوّر لجميع الصور الغير المتناهية الّتي هي تعينات الوجود بلا تغيّر ولا تكثّر ولا اختلاط ولا عروض. وما ذكروه من أنّ الوجود الحقيقيّ الّذي هو الواجب لذاته سار في هياكل الممكنات الموجودة من العقول والنفوس والافلاك والعناصر والمواليد والموجودات العقلية والمثالية ، أرادوا بالسريان ما ذكرناه من الارتباط والمعية.

وغير خفيّ انّ الاستدلال على هذا المسلك أيضا إنّما هو بوجود الممكنات ، والفرق انّ وجود الممكنات عند الصوفية ليست وجودات مستقلّة ممتازة - كما ادّعوه ويجعلون الوجود منحصرا بالواحد ، كما ذكر مفصّلا -. ولا طريق لنا إلى اثبات ما ادّعوه ، لانا نعلم (2) بالبداهة العقلية / 32MA / انّ الموجودات متعدّدة متكثّرة في الخارج ولها كثرة حقيقية عينية ، وكونها اعتبارية محضة - كما ادّعوه - مخالف لصريح

ص: 140


1- الاصل : قديم.
2- الاصل : ما ادعوه إلاّ بالعلم.

العقل والمشاهدة. وأكثرهم يقولون : انّه يعلم بطور وراء طور العقل ، مع أنّ عظمائهم - كعين القضاة الهمداني في الزبدة (1) والغزالي في فصل الخطاب (2) وغيرهما - صرّحوا بأنّ العقل حاكم لا يعزل ، وهو ميزان عدل احكامه قطعية يقينية لا كذب فيها ، وهو حاكم لا يجوز في طور الولاية ما يقضي باستحالته ، وعادل لا يتصوّر منه جور في قضاياه واحكامه.

ص: 141


1- لم اعثر على هذا الكتاب.
2- لم اعثر على هذا الكتاب. ولتصحيح العبارة المنقولة في السطرين الآتين راجع إلى ما نقله العارف الجامي في بعض حواشيه على كتابه نقد النصوص ص 24.

ص: 142

المقالة الثانية : في صفاته الثبوتية والسلبية

اشارة

ص: 143

وفيه مقدّمة وبابان.

المقدّمة : في الإشارة إلى أصناف صفاته وتعديدها على الإجمال

اعلم (1)! أنّ صفاته - تعالى - ينقسم أوّلا إلى قسمين : الثبوتية ؛ والسلبية.

والثبوتية : هى الّتي مفهوماتها ثبوتية محضة لا طريق للسلب إليها بوجه - كالعلم والقدرة وامثالهما - ؛

والسلبية : هى التى مفهوماتها / 31DB / محض السلب والنفي - كعدم كونه جسما وصورة وجوهرا وعرضا -.

والقسم الأوّل صنفان :

الأوّل : الصفات الحقيقية ؛ وهى الصفات الّتي لها مفهومات حقيقته مستقلّة ليست مجرّد الاضافة إلى الغير وإن كان بعضها قد يعرضها اضافة ما ، فبعض أفراد هذا الصنف ممّا لا يعرضه الاضافة اصلا - كالحياة - ، وبعضها قد يعرض له اضافة ما - كالعلم والقدرة والبصر ، لأنّ أصل مفهوم البصر هو صحّة الرؤية والتمكّن منها وإن

ص: 144


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 310.

لم يشاهد شيئا بالفعل ، ولذا يطلق البصير على النائم ومغضوض البصر من غير تجوّز ، ولكنّه إذا أبصر شيئا بالفعل لا بدّ من لحوق اضافة بين البصر والمبصر ؛ وليست هي عين كونه بصيرا ، بل هي عارضة له - وقس عليه العلم والقدرة وغيرهما -.

والصنف الثانى : الصفات الاضافية ؛ وهي الّتي مفهوماتها محض الاضافة إلى الغير وليس لها حقيقة مستقلّة كالخالقية والرازقية وأمثالهما (1) - ؛ هذا.

وفي احاديث ائمتنا الراشدين قد قسّمت صفاته الثبوتية إلى صفات الذات ، وإلى صفات الأفعال (2). والمراد بالأولى هي الصفات الثبوتية الّتي يمتنع انفكاكها عن الذات - كالوجود والحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحوها -. وهي صفات كمالية ثابتة له ما دام الذات ازلا وابدا. ومن خواصّها أنّه يمتنع اتصافه - تعالى - باضدادها - كالعدم والموت والجهل والعجز والصمم والعمى ونحوها - ؛

والمراد بالثاني الصفات الثبوتية الّتي لا يمتنع انفكاكها عن الذات - كالايجاد والادراك والإرادة والرؤية والسمع ونحوها -. والمنقسمان متقاربان ، فانّ حاصلهما انّ صفاته لعدم كونها موجودة في نفسها وزائدة على ذاته مفهومات اعتبارية منتزعة إمّا من ذاته - تعالى - مع قطع النظر عن جميع ما سواه - وهي الصفات الكمالية الّتي عبّر عنها أهل البيت علیهم السلام بصفات الذات ، والحكماء والمتكلّمون بالصفات الحقيقية - ، وإمّا من ذاته باعتبار بعض افعاله - تعالى - ، وهي الّتي عبّر عنها الائمّة - علیهم السلام - بصفات الأفعال ، والحكماء بالصفات الاضافية. نعم! بعض أفراد القسم الأوّل على التقسيم الأوّل - وهو الحقيقة ذات الاضافة - يدخل في القسم الثاني من القسم الثاني.

ثمّ الصفات الحقيقية سواء كانت ذات اضافة أم لا إن لم تكن عين ذات الموصوف -

ص: 145


1- وهناك تقسيم آخر في صفاته - تعالى - عند أبي هاشم وعند قاضي عبد الجبّار. راجع : مناهج اليقين ، ص 159. وانظر : نفس المصدر ، ص 227.
2- ما وجدت فيما بأيدينا من الأحاديث نصّا وجد فيه هذا التقسيم. نعم ، في بعضها توجد « صفات الافعال » ، راجع : بحار الأنوار ، ج 4. ص 145. وقال الصدوق - رضى اللّه عنه - معلّقا على ما رواه عن الصادق - عليه وعلى آبائه وأولاده آلاف التحيّة والثناء - : إذا وصفنا اللّه تبارك وتعالى بصفات الذات ... وما يشبه ذلك من صفات الأفعال بمثابة صفات الذات ... ؛ راجع : التوحيد ، ص 148.

كما في غير الواجب - كانت هيئات زائدة على الذات قائمة بها يصير منشئا لآثارها ، وإن كانت عين ذات الموصوف - كما في الواجب - كانت هي نفس الذات ولم تتحقّق بإزائها هيئات قائمة ، فالحقيقة الّتي بإزائها في الخارج هي الذات لا غير ، فالمبدأ لتلك الصفات في الأوّل هو الهيئات والكيفيات وفي الثاني هو نفس الذات.

وأمّا الصفات الاضافية فمفهومات اعتبارية محضة في الواجب وغيره ، ولا يتفاوت فيهما. نعم! يتحقّق التفاوت في مبدئها ، فانّ مبدأها وما ينتزع هذه الصفات عنه في ما صفاته عين الذات هو نفس الذات وفي غيره هو الهيئات والكيفيات القائمة به ، فالواجب - تعالى - مع اتصافه بجميع الصفات الكمالية وتقدّسه عن النقائص الامكانية لا تتحقّق كثرة في ذاته ولا في جهاته ، لا أنّ شيئا أو جهة منه علم وشيئا وجهة منه قدرة أو إرادة أو غير ذلك حتّى يلزم التركيب المقتضي للاحتياج المنافي لوجوب الوجود ، ولا أنّ شيئا فيه علم وشيئا فيه قدرة أو إرادة حتّى تكون محلاّ للاعراض ممكن الاتصاف بها (1) ، بل حيثية ذاته وهويته البسيطة الّتي لا تكثّر ولا امكان فيها بوجه هي بعينها حيثية صفاته الذاتية الحقيقية. نعم! في التعبير عنها تغاير بمجرد اعتبار الذهني وملاحظة العقل لا بحسب الواقع والخارج ، فكما أنّه من حيث هو منشأ للآثار وجود كلّه كذلك من حيث هو منشئا لانكشاف الأشياء علم كلّه ومن حيث هو منشئا لصحة الفعل والترك قدرة كلّه ومن حيث هو مبدأ لرجحان فعل العالم - أعني : النظام الأكمل والأصلح بحال العالم ، بل وجوب صدوره كذلك عنه - إرادة كلّه ، وكذلك في غيرها.

فجميع صفاته الحقيقية راجعة إلى حيثية وجوده الّتي هي عين حيثية ذاته.

وأيضا جميع صفاته الاضافية راجعة إلى اضافة واحدة هي المبدئية وهي المصحّحة لجميع الاضافات - كالرازقية والمصورية وغير ذلك - ، وتغايرها بتغاير الأشياء المضاف إليها.

ص: 146


1- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 6 ، ص 121.

وكذلك جميع صفاته السلبية يرجع إلى سلب واحد هو سلب الامكان (1) الّذي يدخل تحته سلب الجوهرية والعرضية وغيرهما.

ثمّ لا يخفى انّه لا يلزم من صدق المشتقّ حقيقة / 32MB / على شيء قيام مبدأ الاشتقاق به حقيقة ، بل لو كان مبدأ الاشتقاق - كالعلم مثلا - قائما بنفسه بحيث يترتّب عليه / 32DA / آثار المشتقّ كان احقّ باسم المشتقّ ممّا قام به المبدأ ، فاللّه - سبحانه - عالم حقيقة لا بعلم قائم به قادر لا بقدرة تقوم به مريد لا بإرادة معرضة ، بل هو نفس العلم والقدرة والإرادة ؛ وكذلك في سائر الصفات الحقيقية.

قيل : يلزم على ما ذكر أن تكون حقيقته المقدّسة مشاركة للاعراض في ماهياتها الداخلة تحت المقولات ، أو القول بالاشتراك اللفظي ؛

واجاب عنه بعض الفضلاء : بانّه كما أنّ مفهوم الوجود المطلق معنى واحد أحد افراده قائم بذاته هو حقيقة الواجب والباقى عارضة لماهيات الممكنات - وهو أمر اعتباري عارض للجميع - كذلك يمكن أن يكون لكلّ من هذه المفهومات فرد واحد بسيط هو عين حقيقة الواجب - تعالى - غير داخلة تحت مقولة وسائر أفرادها أعراض داخلة تحت المقولات ولها اجناس وفصول ، ويكون المطلق من كلّ منها اعتباريا عارضا للجميع.

وأنت تعلم انّ هذا الجواب لا يكاد يتمّ.

والمشهور في الجواب : انّ ذاته - تعالى - ثابت بثبات هذه الصفات ؛ ويرد عليه أيضا اشكال.

وسيأتي تحقيق القول في العينية وما يتعلق به ايرادا وجوابا ، وانّما أشرنا إشارة اجمالية إلى عينية الصفات هنا لشدّة احتياج بعض المباحث الآتية إلى تصوّرها.

ثمّ لا يخفى انّ الواجب - تعالى شأنه - متّصف بجميع صفات الكمال ونعوت الجلال والجمال ومنزّه عن جميع صفات النقائص والاحتياج على ما يومى إليه اسمائه الكثيرة الّتي وردت في الشريعة المقدّسة ، إلاّ أنّ ما تعارف عنها البحث في الكتب

ص: 147


1- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 6 ، ص 118 ؛ علم اليقين ، ج 1 ، ص 90.

الحكمية والكلامية من الصفات الكمالية والتنزيهيّة هى الأقسام المعيّنة المتعارفة المعهودة ، لاندراج البواقي تحتها ؛ فنحن أيضا نذكرها كما ذكروه ونشرحها كما شرحوه.

ص: 148

الباب الأوّل : في صفاته الثبوتية الكماليّة

اشارة

وفيه فصول.

ص: 149

ص: 150

الفصل الأوّل : في قدرته - تعالى -
اشارة

ص: 151

الفصل الأوّل

( في قدرته - تعالى - )

اعلم! أنّ للقدرة عند الحكماء تفسيرين :

أحدهما : صحّة صدور الفعل ولا صدوره (1) ؛

وثانيهما : كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل (2). والتفسيران متلازمان ، فانّ حاصلهما واحد وهو القوّة على الشيء والتمكّن من أن يفعله ومن أن لا يفعله جميعا ؛ فانّه لا ريب في انّ الفاعل إذا كان بحيث إن شاء فعل وان لم يشاء لم يفعل ، كان في ذاته مع قطع النظر عن المشية واللامشية بحيث يصح منه الفعل والترك وإن وجب الفعل بسبب المشية والترك بسبب عدمها. وإذا كان بحيث يصحّ منه الفعل والترك من حيث ذاته كان بحيث إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل ، فان المراد به أنّه إن شاء فعل إذا فرض عدم مانع خارجىّ ، وكذا إن لم يشاء لم يفعل إذا لم يكن سبب من خارج ؛ ولا ريب في أنّه إذا كان من حيث ذاته يصحّ منه الفعل والترك ولم يوجد مانع ولا سبب من خارج كان بحيث إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل.

ومن ظنّ انّ تفسير الأوّل للمتكلّمين والثاني للحكماء واثبت النزاع بينهما في تفسير القدرة فقد أخطأ ، فانّ الفريقين متفقان في تحديد القدرة الكمالية وتفسيرها ، و

ص: 152


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 310.
2- راجع : الشرح الجديد ، ص 311.

لذا قد يفسّرها كلّ واحد منهما بكلّ واحد منهما نعم! المقصود من التفسيرين عند الحكماء هو أن يكون صدور الفعل منه بالعلم والمشية والإرادة ، والايجاب - المقابل للقدرة بهذا المعنى - هو أن يكون اصل الذات منشئا وسببا لصدور الفعل بلا علم وإرادة - كافعال الطبائع - ؛ وهذا قد يكون أصل الذات كافيا في صدور الفعل - كالضوء للشمس مثلا - وقد يتوقّف على بعض الشرائط - كالاحراق للنار مثلا -.

ولا نزاع بين الحكماء والمليين في ثبوت القدرة للواجب بهذا المعنى ، وقد صرّح المحقّق الطوسي - رحمه اللّه - وغيره من أهل التحقيق بأنّ الفلاسفة متّفقون على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى -.

ويمكن أن يكون مقصودهم من التفسيرين - على ما ذكره جماعة - امكان صدور الفعل والترك بالنظر إلى ذات الواجب - تعالى شأنه - ، وإن وجب الفعل بالنظر إلى الداعى واستحال انفكاكه - تعالى - عن ايجاد العالم. فلذلك بعض المحصلين قد ادّعى اتفاق الفلاسفة على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى -.

ولكن الحقّ أنّ هذه الدعوى غير مطابقة للواقع. وسيأتي تفصيل القول وتحقيق الحقّ في ذلك.

وأمّا المتكلّمون فيقولون : انّ المراد من التفسيرين انّه ليس شيء من الفعل والترك لازما بالنظر إلى ذاته ولا بالنظر إلى الداعي ، فلا يستحيل انفكاكه - تعالى - عن شيء منهما ؛

إلاّ أنّ الأشاعرة من المتكلّمين قالوا : انّه لا يستحيل الانفكاك / 32DB / في أيّ وقت فرض ولو وجد الداعي ؛

والمعتزلة منهم قالوا : انّه لا يستحيل الانفكاك في الأزل ، لأنّهم قالوا : يمتنع انفكاك ذاته عن ايجاد العالم في الوقت الّذي أراد وأوجد ، وانّما لا يمتنع انفكاكه في الأزل - ويأتي بيان ذلك مفصّلا -. فعلى المذهبين يصدق أنّ شيئا من الفعل والترك ليس لازما لا بالنظر إلى ذاته - مطلقا - ولا بالنظر إلى الداعي - في الجملة - وإن اختلفا في عدم اللزوم بالنظر إلى الداعي في استغراق الاوقات وعدمه. والايجاب المقابل لهذا

ص: 153

المعنى هو وجوب الفعل واستحالة الترك - أي : امتناع انفكاك ذاته تعالى عن ايجاد العالم في الجملة -

فالمقابل للقدرة عند الأشاعرة هو امتناع الانفكاك ولو في وقت الايجاد ووجود الداعى ، والمقابل للقدرة عند المعتزلة هو امتناع الانفكاك في الأزل لا عند وجود الداعي - أعني : وقت الايجاد -.

ثمّ القدرة بهذا المعنى تفرّد باثباتها المتكلّمون ؛ ونفاها الحكماء ، وقالوا بالايجاب المقابل لها (1). وعلى هذا ثبت النزاع بين الحكماء والمتكلّمين في مقامين : الأوّل ما وقع بين الحكماء والأشاعرة من المتكلّمين ، وهو : انّ الحكماء ذهبوا إلى أنّ معنى صحّة صدور الفعل ولا صدوره هو مجرّد الامكان الذاتي - أي : امكان صدور الفعل ولا صدوره بالنظر إلى ذات الفاعل من حيث هي هي -. وليس معنى الصحّة بمعنى الامكان الوقوعي المستلزم لوقوع الانفكاك بين الواجب وبين الفعل حتّى يمكن وقوع الصدور ، واللاصدور ، لأنّهم يوجبون صدور الفعل مع الإرادة ، والإرادة عندهم عين الذات ، فلا يتخلّف الفعل عنه - تعالى -.

فان قيل : الإرادة وغيرها من الصفات الكمالية إن كانت عندهم عين الذات لكان اعتبار ذاته - تعالى - عندهم اعتبار ارادته وساير صفاته الكمالية وبالعكس ، وكذا عدم اعتبار ذاته هو بعينه عدم اعتبار ارادته وساير صفاته الكمالية وبالعكس ، فلا يمكن تصوّر الانفكاك بينهما وجودا وعدما وإلاّ يلزم (2) الانفكاك بين الشيء ونفسه ، وهو يستلزم عدم امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات أيضا عند الحكماء ؛

قلت : هذه شبهة نتعرّض لها بعد ذلك ونبحث عنها. فهم - أي : الحكماء - يجعلون مقدّم الشرطية الأولى في التفسير الثاني واقعا ، بل واجبا ، ومقدّم الشرطية الثانية فيه غير واقع ، بل ممتنعا ؛ ويقولون : لكنّه شاء وفعل. والأشاعرة يقولون : معنى الصحّة هو الامكان الوقوعى الموجب لانفكاك الفعل عنه - تعالى - في أيّ وقت فرض ولو في

ص: 154


1- راجع : الدرّة الفاخرة ، ص 26.
2- الاصل : لزم.

آن الحدوث ، / 33MA / فيجوز الصدور واللاصدور في الواقع. ولا يمتنع عدم الصدور لا من جهة الذات ولا من جهة الإرادة ، لأنّ الفعل لا يجب عندهم مع الإرادة أيضا باعتبار انّ تعلّق الإرادة غير واجبة. ولا نزاع بين الحكماء وأكثر المعتزلة في وجوب الصدور ، إلاّ أنّهم يقولون بالوجوب في آن الحدوث لا في الأزل ، فانهم قائلون بوجوب صدور الفعل مع الإرادة ومعتقدون بأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وانّ بالإرادة يجب صدور العالم عن اللّه - تعالى - في الوقت الّذي يقتضيه الداعي - كالعلم بالاصلح أو المصلحة أو ذات الوقت - ، ويمتنع في غير ذلك. فهم ليسوا قائلين بامكان صدور الفعل والترك بالامكان الوقوعي مطلقا - أي : ولو في آن الحدوث - ، لانّهم موافقون للفلاسفة في أنّ الايجاد وعدم الايجاد ممكن بالنسبة إلى الذات بدون اعتبار الإرادة وواجب مع اعتبار الإرادة الّتي هي عين الذات ، فهم لا يقولون بالامكان الوقوعى في آن الحدوث.

فان قيل : الامكان الوقوعى يتصوّر هنا على وجهين : أحدهما : الامكان الوقوعى بالنظر إلى ذات الفاعل فقط بدون اعتبار الإرادة وغيرها ؛ وثانيهما : الامكان الوقوعي بالنظر إلى ذات الفاعل مع الإرادة ، والامكان الوقوعي بالوجه الثانى وان لم يقل به الحكماء اصلا والمعتزلة في آن الحدوث ويختصّ الاشاعرة باثباته له - تعالى - ، إلاّ أنّ الحكماء والمعتزلة قالوا بالامكان الوقوعى بالوجه الأوّل ، لأنّهم قالوا بامكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذات الفاعل ؛

قلت : الامكان الوقوعي هو صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الواقع نفسه ، لا بالنظر إلى الذات والصفة واعتبار مرتبة من مراتب تحليل العقل. ولا ريب أنّ امكان الصدور بالنظر إلى الذات مع كون الإرادة مانعة من اللاصدور لا يصحّح الامكان بالنظر إلى الواقع نفسه ، لأنّ الإرادة يوجب الصدور في الواقع ، فلا يتحقّق الامكان فيه ، فالامكان الوقوعى لا يثبت على مذاق الحكمة والاعتزال.

الثاني : ما وقع بين الحكماء والمعتزلة من المتكلّمين ، وهو : انّ الحكماء لمّا اوجبوا الصدور وأحالوا اللاصدور لزمهم القول بقدم العالم ، ولذا قالوا به ؛ والمعتزلة خالفوهم ولم يقولوا بالقدم / 33DA / بل قالوا بحدوث العالم.

ص: 155

فان قلت : الاشعرية أيضا قائلون بحدوث العالم ، فما وجه تخصيص هذا النزاع بالفلاسفة والمعتزلة؟ ؛

قلت : المراد انّ أثر النزاع في القدرة والايجاب بين الحكماء والمعتزلة ليس إلاّ في قدم العالم وحدوثه - لأنّ الايجاب يستلزم القدم والاختيار يستلزم الحدوث - ، بل التحقيق - كما قيل - : انّ امتناع انفكاك العالم عن ذاته - تعالى - وامكان انفكاكه عنه معنى رابطي بين الفاعل - الّذي هو اللّه تعالى - وبين العالم - هو الفعل -. وهذا المعنى إن اعتبر من طرف الفاعل ويجعل صفة له سمّى بالايجاب والاختيار ، وان اعتبر من طرف الفعل سمّى بالقدم والحدوث ، فانّ المعتزلة لمّا وافقوا الحكماء في وجوب الفعل مع الإرادة وامكانه بدونها لا تبقى معهم مخالفة للحكماء في القدرة والايجاب إلاّ فيما يترتّب عليهما من القدم والحدوث ؛ وأمّا الاشاعرة لمّا قالوا بصحّة الفعل والترك بالامكان الوقوعي وعدم وجوب صدور الفعل مع الإرادة أيضا فلم يقولوا بالايجاب مطلقا ، والفاعل في ايجاد العالم عندهم قادر مختار ، ولو فرض قدم العالم. فالمراد انّ أثر النزاع بينهم وبين الحكماء في القدرة والايجاب ليس في القدم والحدوث ، لا أنّهم ليسوا قائلين بالحدوث.

فحاصل كلام الأشعرية انّ تأثير الواجب - تعالى - في ايجاد العالم ليس بايجاب أصلا ، بل بالقدرة والاختيار ؛ بل جوّزوا تأثير الفاعل المختار بلا مرجّح بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس إرادة الفاعل المختار. فالنزاع حقيقة بين الأشعرية والحكماء في مقامين : أحدهما : في أنّ ايجاد الفاعل المختار يجوز بلا مرجّح يوجب الفعل أم لا ؛ وثانيهما : في حدوث العالم وقدمه. فهم - أي : الأشعرية - قالوا : انّ اللّه - تعالى - احدث العالم في الوقت الّذي أراد في الأزل أن يحدثه بدون مرجّح غير تعلّق الإرادة ، وبالإرادة والاختيار يمكن الترجيح بدون المرجّح ، ولا يصير الفعل مع الإرادة واجبا. فحاصل النزاع بين الحكماء والمعتزلة هو أنّ الحكماء لمّا ذهبوا إلى وجوب الفعل عليه - تعالى - دائما وقالوا لا يمكن أن يتصوّر خلوه - تعالى - عن الفعل ولو في وقت موهوم أو في عدم بحت وليس محض لو وجد فيه موجود لكان ممتدّا ، ألجئوا إلى القول بالقدم ، فهم قائلون بالايجاب المطلق. والمعتزلة لمّا ذهبوا إلى أنّه

ص: 156

لا يجب عليه الفعل دائما - بل قالوا بوجوبه في وقت خاصّ - فهم قائلون بالحدوث وبالايجاب الخاصّ ، وهو ايجاب وجود الحادث بالنظر إلى علم الفاعل بنظام الخير ومصالح الغير.

وعلى ما ذكر يتحقّق نزاعان : أحدهما بين الاشعرية وبين ساير المتكلمين والحكماء ، وهو : أنّه هل يحب عنه - تعالى - فعل أم لا ؛ فباقي المتكلّمين والحكماء على الأوّل والأشعرية على الثاني ؛ والثاني بين المعتزلة والحكماء ، وهو : أنّه هل يحب عنه - تعالى - الفعل دائما أو في وقت ما ؛ والأوّل مذهب الحكماء والثاني مذهب المعتزلة.

وعلى هذا فصحّة الفعل والترك عند الحكماء مجرّد الامكان الذاتي لا غير مطلقا ، وعند الأشاعرة الامكان الوقوعي مطلقا ، وعند المعتزلة مجرّد الامكان الذاتي في آن الحدوث وما يعمّ الوقوعي في الأزل.

ولقائل أن يقول : الإرادة عند المعتزلة عين الذات وهي قد تعلّقت في الأزل بايجاد العالم في الوقت / 33MB / الّذي احدثه اللّه - تعالى - فيه ، وهذا كما يستلزم ايجابا خاصّا هو وجوب صدور الفعل في آن الحدوث وعدم انفكاك ذاته - تعالى - عن ايجاد العالم في ذلك الوقت يستلزم ايجابا خاصّا آخر وهو وجوب عدم صدور العالم عنه - تعالى - قبل ذلك ولزوم انفكاك ذاته - تعالى - عن ايجاد العالم فى الأزل ، فيلزم على طريقة المعتزلة أن يكون معنى صحّة الفعل والترك في الأزل أيضا مجرّد الامكان الذاتي دون الوقوعي - لوجوب عدم صدور الفعل ولزوم الانفكاك بينه وبين الفعل في الأزل - ، فهم قائلون بوجوب عدم الفعل في وقت وبوجوب الفعل في آخر ؛ والحكماء قائلون بوجوب الفعل دائما ؛ والاشعرية قائلون بعدم وجوب الفعل والترك في أيّ وقت فرض ، وعلى هذا فلا يمكن أن يتحقّق عندهم الامكان الوقوعي الّذي هو بمعنى وقوع كلّ من الفعل والترك بدلا عن الآخر في وقت. نعم! لمّا وقع كلّ منهما في وقت - لأنّ الترك وقع في الأزل والفعل في آن الحدوث - فيمكن أن يقال بتحقّق الامكان الوقوعي لهما عندهم ، / 33BD / فانّ الامكان الوقوعي للشيء يتصوّر على وجهين :

ص: 157

أحدهما : جواز وقوعه ولا وقوعه في كلّ وقت ؛ وثانيهما : تحقّق وقوعه في وقت ولا وقوعه في وقت آخر ، فيثبت الامكان الوقوعي للفعل وتركه بمعنى كون أحدهما في وقت والآخر في وقت آخر ، لا بمعنى كون كلّ منهما بدلا عن الآخر ؛ فتأمّل!.

ثمّ الظاهر انّ القول بصدور الفعل في الوقت الخاصّ على سبيل الوجوب إنّما هو من بعض المعتزلة ، لأنّ اكثر قدمائهم صرّحوا بأنّ الصدور في الوقت الخاصّ إنّما هو على سبيل الأولوية دون الوجوب. قال المحقّق الطوسي - رحمه اللّه - في شرح الاشارات : والقائلون بحدوث العالم افترقوا إلى ثلاث فرق : فرقة اعترفوا بتخصيص آن أوّل الايجاد بالحدوث لوجود علّة لذلك التخصيص غير الفاعل ، وهم جمهور قدماء المعتزلة من المتكلّمين ومن يجري مجراهم. وهؤلاء يقولون بتخصيصه على سبيل الاولوية دون الوجوب ، ويجعلون علّة التخصيص مصلحة تعود إلى العالم ؛

وفرقة قالوا بتخصيصه بذات الوقت على سبيل الوجوب ، وجعلوا حدوث العالم في غير ذلك الوقت ممتنعا ، لأنّه لا وقت قبل ذلك الوقت. وهو قول أبي القاسم البلخي المعروف بالكعبي ومن تبعه ؛

وفرقة لم يعترفوا بالتخصيص خوفا عن (1) التعليل ، بل ذهبوا إلى أنّ وجود العالم لا يتعلّق بوقت ولا بشيء آخر غير الفاعل وهو ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) (2). أو اعترفوا بالتخصيص وانكروا وجوب استناده إلى علّة غير الفاعل ، بل ذهبوا إلى أنّ للفاعل المختار أن يختار أحد مقدوريه على الآخر من غير تخصيص ، وهم أصحاب أبي الحسن الأشعري ومن يحذوا حذوه ، وغيرهم من المتكلّمين المتأخّرين (3) ؛ انتهى.

ومذهب المحقّق الطوسى - رحمه اللّه - من المذاهب الثلاثة الّتي نقلها - على ما نسب إليه في المشهور - هو المذهب الأوّل ، إلاّ أنّه قال : انّ التخصيص بالوقت الخاصّ إنّما هو على سبيل الوجوب ؛ ويأتي ما فيه.

ص: 158


1- الاصل : + العجز عن.
2- كريمة 23 ، الأنبياء.
3- راجع : شرح الاشارات - المطبوع مع المحاكمات - ، ج 3 ، ص 131 ؛ شرحي الاشارات ، ج 1 ، ص 238.

ثمّ الظاهر من كلام بعض الأفاضل انّ المعتزلة مع اتفاقهم على الحدوث افترقوا أوّلا إلى فرقتين : فرقة قالوا بعدم زيادة الإرادة على الذات بل قالوا بعينيتها ووجوب الأصلح كالمحقّق الطوسي - رحمه اللّه - وواصل بن عطاء والنظام ؛

وفرقة قالوا بزيادة الإرادة وحدوثها كالجبائية وعبد الجبار. وهؤلاء افترقوا فرقتين : وفرقة قالوا بوجوب الصدور في وقت الحدوث ؛

وفرقة قالوا بأولويته فيه. وعلى هذا يكون النزاع بين الأشعرية وبين الفرقة الاولى من المعتزلة في حدوث الإرادة وعينيتها وفي عدم وجوب الفعل ووجوبه ؛ وبينهم وبين الفرقة الثانية في مجرّد عدم وجوب الفعل ووجوبه ؛ وبينهم وبين الفرقة الثالثة في مطلق الجواز والأولوية.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ القدرة والايجاب يطلقان على أربعة معان :

الأوّل : كون القدرة عبارة عن صدور الفعل من الفاعل بالمشيئة والإرادة والعلم ، وإن استحال انفكاكه عنه ولو بالنظر إلى الذات. والايجاب المقابل لها هو كون الذات منشئا وسببا له بلا علم وإرادة - كافعال الطبائع - ، ويقال له : الايجاب الطباعي. واتفق الحكماء والمليون على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى - ونفى الايجاب المقابل لها عنه ؛

الثّاني : كون القدرة عبارة عن امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذات الفاعل من حيث هو فاعل بالامكان الذاتي وإن وجب صدور الفعل بالنظر إلى شيء آخر من الداعي أو غيره ، / 34MA / والايجاب المقابل لها هو امتناع الترك من الفاعل لذاته لا لأجل شيء آخر من الإرادة الداعية أو غيرها. وقد صرّح الأكثرون باتفاق الفلاسفة والمليين على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب ونفي الايجاب المقابل لها عنه - تعالى -.

وفيه : انّ الفلاسفة مصرّحون بامتناع ترك الصدور عن الواجب بالنظر إلى الإرادة الّتي هي عين الذات ، فعدم الصدور عندهم ممتنع بالنظر إلى الذات ، فكيف

ص: 159

يكون الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذات الفاعل ممكنا عندهم بالامكان الذاتي؟!.

فان قيل : المراد من القدرة بهذا المعنى هو الامكان بالنظر إلى ذات الفاعل مع قطع النظر عن الإرادة ، لا معها ؛

قلنا : لمّا كانت الإرادة في الواجب عين الذات فقطع النظر عنها هو بعينه قطع النظر عن الذات. اللّهم إلاّ أن يقال : الإرادة عندهم هو العلم بالأصلح وهذا العلم وإن كان عين الذات من حيث المبدأ إلاّ أنّه لمّا كان من حيث اعتبار الغير من غير ملاحظة نظام الخير فالموجب بالحقيقة هو غير الذات من الدواعي ، - وسيجيء لذلك زيادة بيان -.

الثالث : كون القدرة عبارة / 34DA / عن امكان الفعل والترك امكانا وقوعيا في وقت من الأوقات وإن كان وقتا موهوما - اي : امكانهما بالنظر إلى الداعي ونحوه من شرائط التأثير المجوّزة لكل منهما في وقت ما وإن وجب في وقت آخر - ، فلا ينافيه الوجوب في وقت آخر ، بل المنافي له هو الوجوب في جميع الأوقات. والايجاب المقابل لها هو امتناع الترك بالنظر إلى الداعى ونحوه من الشرائط المقتضية لعدم انفكاك الفاعل عن الفعل ؛ وبالجملة امتناع انفكاك ذاته عن ايجاد العالم في الأزل لأجل الدواعى والشرائط الموجبة. والقدرة بهذا المعنى ممّا نفاه الفلاسفة وقالوا بايجاب المقابل لها. والمعتزلة متّفقون على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى - ونفي الايجاب المقابل لها عنه - سبحانه -.

الرابع : كون القدرة عبارة عن امكان الفعل والترك بالامكان الوقوعي في جميع الأوقات - أي : امكانهما بالنظر إلى الداعى وغيره من شرائط التأثير المجوّزة لكلّ منهما في جميع الأوقات -. والقدرة بهذا المعنى ينافيها الوجوب مطلقا ، والايجاب المقابل لها هو امتناع الترك من جهة لزوم الداعي ونحوه من شرائط التأثير في وقت من الأوقات ، ويعبّر عنه بالايجاب الخاصّ. والاختيار بهذا المعنى اثبته الأشاعرة له - تعالى - ونفاه الفلاسفة. والمعتزلة قالوا بالايجاب المقابل له - أعني : الايجاب الخاصّ - وهو الاختيار الّذي قالوا به. والفلاسفة قالوا بالايجاب المطلق.

ص: 160

وإذ تقرّر ذلك فلا بدّ لنا من بيان أنّ الثابت للجواب - تعالى شأنه - من المعاني الأربعة للقدرة ما ذا؟ ، والحقّ من المذاهب المحرّرة للعقلاء في هذا المقام أيّها؟.

فنقول - وباللّه التوفيق - : انّه لا ريب في ثبوت القدرة بالمعنى الأوّل للواجب - تعالى - ، كما أجمع عليه الكلّ. ويدلّ عليه ما يأتي من اثبات العلم والمشية والإرادة له - تعالى -. والقدرة بهذا المعنى صفة تؤثّر على وفق العلم والإرادة. وهي فينا من الكيفيات النفسانية وفي الواجب هي كون ذاته - تعالى - بحيث يصدر عنه الموجودات لأجل علمه بنظام الخير. فاذا اعتبر ذاته من حيث أنّ الممكنات صادرة عنه كان قدرة ، وإذا اعتبر من حيث أنّها منكشفة له كان علما. والفاعل إذا تعلّق فعله بعلم ومشية كان قادرا من غير أن يعتبر معه شيء آخر من تجدّد اعراض واختلاف دواع أو تفنن ارادات أو سنوح حالات (1) ، فانّ القدرة تتعلّق بالمشية سواء كانت المشيّة يصحّ عليها التغيير أولا. وعلى هذا فالقادر المختار من إن شاء فعل وإن لم يشاء فلم يفعل ، سواء شاء ففعل دائما أو لم يشاء فلم يفعل دائما. والشرطية غير متعلّقة الصحّة بصدق من كلّ من طرفيها ، بل قد يصحّ أن يكون أحد طرفيها أو كلاهما ممّا يكذب ، فانّ مثل الظلم والكذب ممّا لا يتعلّق مشية اللّه بفعله ولا يريده ، مع انّه قادر عليه. ومثل النقيضين ممّا لا يتعلق المشية بفعله - لامتناع اجتماع النقيضين - ، ولا بتركه - لامتناع ارتفاعهما - ، ففي مثله ممّا يمتنع وجوده وعدمه يصدق كذب تعلّقها بكلي طرفي الشرطية مع أنّه - تعالى - قادر على فعله وتركه ؛ وعلى هذا فالفعل الاختياري إذا صدر عنّا توقّف على مباد أربعة : / 34MB / العلم ، والقدرة - بمعنى القوّة والتمكّن - ، والمشية ، والإرادة. وهذه صفات قائمة بذواتنا زائدة عليها.

وقد ينفكّ بعضها عن بعض ويستحيل صدور الأفعال الاختيارية عمّن يفقد كلّها أو بعضها ، فالفعل الاختياري هو ما يصدر عن الفاعل بتلك المبادي ؛ والقادر المختار من يصدر عنه الفعل بتلك المبادي. فلو فرضنا أنّ تلك المبادي حاصلة لواحد منّا بالقياس إلى فعل مخصوص دائما لكان صدوره عنّا دائما ، ولا يقدح ذلك في كون

ص: 161


1- الاصل : خيالات.

الفعل اختياريا ولا في كون ذلك الفاعل قادرا مختارا.

ثمّ الحكماء لمّا ذهبوا إلى أنّ صفاته - تعالى - عين ذاته قالوا : انّ مبادي الافعال الاختيارية - من العلم والمشيّة والإرادة - تكون حاصلة له - تعالى - دائما ، فيدوم عنه صدور الفعل بسبب دوام تلك المبادي. فمقدّم الشرطية الأولى عندهم واقع ، بل ضروري ذاتي ؛ ومقدّم الشرطية الثانية غير واقع ، بل ممتنع امتناعا ذاتيا ، وقالوا : ليس ذلك منافيا لقدرته - تعالى -. فالقول بتأثيره - تعالى - بالاختيار بهذا المعنى ليس مختصّا بالمليين ، بل الحكماء أيضا قائلون بذلك ، فالايجاب المقابل له - أي : صدور الفعل بدون العلم والإرادة والمشية - ممّا لم يقل به أحد.

ولا يخفى عليك انّ القدرة بهذا المعنى - أعني : صدور الفعل بالعلم والإرادة والمشية - ممّا لا ريب في اتصاف الواجب - تعالى - بها وفاقا للكلّ ، ونحن - : معاشر المليين - متفقون للفلاسفة في اثباتها له - تعالى - ، إلاّ أنّ كلامنا معهم في وجوب صدور الفعل عنه دائما ووقوع مقدّم الشرطية الأولى / 34DB / دائما ، فانّه يلزم منه قدم العالم ونحن لا نقول به ؛ وسيجيء تحقيق الكلام فيه.

وأمّا القدرة بالمعنى الثاني - أعنى : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات - ، فلا ريب في اتصافه - تعالى - به أيضا كما اجمع عليه المليون ونسب إلى الحكماء أيضا. ويدلّ عليه : انّ الموجود بمحض ما هو موجود يمكن اتصافه بالقدرة بهذا المعنى ، ولا يمتنع عليه ذلك إلاّ أن يمنعه مانع زائد على نفس معنى الموجود ؛ وقد تقدّم ويأتي انّ واجب الوجود حقيقته صرف الوجود ومحضه لا يطمح فيه شيء غير نفس الوجود والموجود ، فاذن هذه الصفة ، أعني : القدرة بهذا المعنى - ممكنة له. ولا ريب أنّ كلّ ما يمكن له يجب أن يكون ثابتا له بالفعل ، لأنّه لو امكن له شيء ما ولم يكن حاصلا له بل كان بالقوّة لكانت ذاته حينئذ خالية بذاتها عن ذلك الشيء قابلة له ، فيحتاج إلى فاعل يوجد هذا الشيء فيها ؛

فان كان فاعل هذا الشيء وموجده فيها هو واجب الوجود نفسه كان الفاعل والقابل شيئا واحدا ، وهو باطل ؛ لأنّ الفاعل شأنه الافاضة والقابل شأنه

ص: 162

الاستفاضة ، وهما متقابلان - لأنّ الافاضة اعطاء المفيض ما هو واجده والاستفاضة قبول المستفيض ما هو فاقده - ، فلو كانا شيئا واحدا لكان ذلك الواحد مقابلا لنفسه وكان واحدا فاقدا لشيء واحد ؛ وفساده بيّن. نعم! يمكن أن يكون شيء واحد ذا جهتين يفيض بإحداهما ويستفيض بالأخرى ، ومثل هذا يجب أن يكون مركّبا لا يمكن أن يكون واجب الوجود - كما يأتي -.

وان كان الفاعل والموجد لهذا الشيء فيها شيئا آخر فان كان هذا الشيء الآخر واجبا لم يكن ما فرضناه واجبا واجبا - لافتقاره إلى الغير الّذي هو الواجب بالذات - ؛ وان كان ممكنا وكلّ وجود ممكن يرجع إلى الواجب فان رجع إلى واجب آخر غير ما فرضناه واجبا لزم خلاف الفرض أيضا ، وان رجع إلى الواجب الّذي فرضناه واجبا كان الواجب مع لزوم كونه محتاجا إلى الممكن - وهو أشنع كلّ محال! - فاعلا أيضا لما هو قابل له ، وان كان بتوسّط - لعدم الفرق في استحالة كون الشيء فاعلا وقابلا بين أن يكون ذلك بغير توسّط أو بتوسّط -. فكلّ صفة ممكنة للواجب - تعالى - يجب أن يكون متّصفا بها بالفعل من غير انتظار. والقدرة بهذا المعنى من الصفات الممكنة له ، فيجب اتصافه - تعالى - بها بالفعل.

وأورد عليه ايرادات ثلاثة :

الاول : انّه يلزم منه أن يكون الفاعل بالطبع فاعلا مختارا إذا لم يكن اقتضاه تامّا ، بل كان مشروطا بشرط مفارق عن طبيعته لصدق صحّة الفعل والترك عنه بالنظر إلى ذاته ، بل في نفس الأمر لامكان عدم تحقّق ذلك الشرط فيه ؛

وردّ بأنّ الشعور والإرادة معتبرتان في الفاعل المختار.

الثانى : انّه يلزم منه أن يكون الواجب - تعالى - ممكن الفاعلية / 35MA / واللافاعلية ، فلا يكون تامّ الفاعلية مع أنّ فاعليته ثابتة ، وليس فيه جهة امكانية وقوّة ، ولا قدرته داخلة تحت مقولة من المقولات ، بل هو واجب الوجود من جميع الجهات وصفاته فعلية بكلّ الحيثيات ؛ وبالجملة يلزم من ثبوت القدرة بهذا المعنى له - تعالى - أن يكون له - تعالى - شوب قوّة وجهة امكانية. وقد بيّنتم أنّ كل ما

ص: 163

يمكن له - تعالى - فهو متّصف به بالفعل ، فاذا كان الصدور واللاصدور ممكنين له - تعالى - يلزم أن يكون له - تعالى - في كلّ وقت قوّة أحدهما ويكون أحدهما في كلّ وقت بالنسبة إليه - تعالى - بالقوّة ، وهو باطل ؛

والجواب : انّ المراد بانّ كلّ ما للواجب هو بالفعل : انّ كلّ صفة كمالية له - تعالى - ثابتة له - تعالى - بالفعل وليست له بالقوّة - بمعنى أن لا يوجد له في وقت ويحصلها في وقت آخر - ، ولا ريب أنّ القدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته الاقدس صفة كمالية له - تعالى - ، لانّ القادر على الفعل والترك أشرف ممّن لا يقدر على أحدهما ، وهو ظاهر بيّن ؛ فيجب أن تكون تلك الصفة ثابتة له في كلّ وقت بالنظر إلى ذاته. فلو وجب بالنظر إلى ذاته الفعل أو الترك فقط يلزم أن يكون موجدا لكلّ فاقد لتلك الصفة الكمالية ، بل عاجزا ، لأنّ الفرض حينئذ عدم اقتداره على الفعل أو الترك واقتداره على كلّ واحد منهما لا ينثلم به فعلية صفاته وكمالاته ولا ينقدح به فاعليته التامّة ، لأنّ لزوم الفعل دائما بالنظر إلى الذات من غير اقتدار على الترك ليس من الصفات الكمالية ، بل هو نقص ما هو صفة كمالية - اعني : الاقتدار عليهما معا حاصل / 35DA / له بالفعل والفاعلية التامّة أن يوجد مع الإرادة والمشية ، لا بدونهما -.

ثمّ بعض الأعاظم قال في تقرير الايراد المذكور : انّ الامكان المذكور - أي : الامكان بالنظر إلى الذات - إمّا وصف للفاعل بأن يكون الفاعل ممكن الفاعلية واللافاعلية ، أو وصف للمفعول بأن يكون المعلول ممكن الصدور وممكن اللاصدور بالنظر إلى ذاته ؛ وكلاهما باطل عند الحكماء ؛

أمّا الأوّل فلانتفاء الجهة الامكانية عن الواجب - تعالى شأنه - عندهم ، فانّهم قالوا : واجب الوجود بالذات واجب الوجوب من جميع الجهات ؛

وأمّا الثاني : فلأنّه لو كان كذلك لزم أن يكون كلّ فاعل مختارا وكلّ فعل مقدورا ، لأنّ افعال الفواعل الموجبة أيضا ممكنة الصدور واللاصدور ، لأنّ كلّ معلول ممكن لا ينفكّ عنه الامكان الذاتي.

ص: 164

وأجاب عنه بعض الافاضل (1) : بأنّ الامكان هاهنا إنّما هو الامكان بالقياس إلى الغير ومعناه عدم اقتضاء ذات الفاعل شيئا منهما ، لا الامكان بالمعنى المصطلح - أي : الامكان الخاصّ الذاتى المفسّر بعدم اقتضاء الذات شيئا من الوجود والعدم -. وحينئذ فيمكن اختيار كلّ من الشقين ؛

أمّا الأوّل : فلأنّه لا محذور في جعل عدم الاقتضاء وصفا للفاعل ، إذ لا يلزم منه تطرّق شوب الامكان بالمعنى المصطلح عليه أصلا ؛

وأمّا الثاني : فلانّه إذا كان وصفا للمفعول كان بمعنى كونه بحيث لا يقتضي الفاعل شيئا من طرفيه ، وظاهر انّ افعال غير المختارين ليس كذلك ، إذ الفاعل يقتضي الوجود فيها البتة والامكان الضروري للممكن انّما هو الامكان الذاتي ، وليس الكلام فيه ؛ فتأمّل!.

ثمّ قال : فان قلت : ايجاد العالم صفة له - تعالى - وهو على ما ذكرتم ليس بواجب ، بل ممكن بالنسبة إلى ذاته - تعالى - ، فقد تحقّق له - تعالى - صفة ممكنة وهو ينافي ما قالوا : « انّ واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات » ؛ وحينئذ نقول في توجيه كلام المورد : انّه إن اريد بالامكان الامكان بالقياس إلى الغير فيستلزم البتّة ثبوت صفة ممكنة للواجب - تعالى - وانّه محال ؛ وإن اريد الامكان الذاتي الّذي هو صفة للمعلول ، فافعال غير المختارين أيضا كذلك ، وايراد الشق الثاني مع ظهور انّه ليس بمقصود على سبيل الاستظهار ؛

قلت : الظاهر انّ المراد بقولهم : واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات : انّه ليس لواجب الوجود جهة فضيلة / 35MB / بالقوّة وكمال منتظر ، بل كلّ كمال وفضيلة وشرافة ثابتة له - تعالى - بذاته بالفعل بلا شائبة أمر بالقوة اصلا ، وعلى هذا فهو ممّا لا دخل له بما ذكرت اصلا ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ جوابه هذا يرجع إلى ما ذكرناه.

ثمّ قال : ولو سلّم انّ مرادهم انّه ليس له صفة ممكنة فنقول : ليس المراد انّ كلّ

ص: 165


1- في هامش « د » : جمال الدين محمّد الخوانساري - ره -. منه مدّ ظلّه.

صفة يجب أن يكون مفيض ذاته بذاته ، بل يجب أن يكون امّا مقتضى ذاته بذاته أو مع اعتبار صفة اخرى ، وحينئذ فلا ايراد ؛ إذ نحن أيضا نقول : انّ ايجاد العالم واجب له - تعالى - مع اعتبار الإرادة ، وانّما نقول انّه ليس بواجب بالنسبة إلى ذاته بذاته ، ولا ضير فيه ؛ انتهى.

وقيل في دفع الايراد المذكور (1) : انّ مرادهم من قولهم : واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات : انّه لا يمكن أن يكون في ذاته جهة وحيثية امكانية بحسب الواقع ونفس الأمر ، لا أنّه بجميع الجهات والاعتبارات الفرضية العقلية الّتي بمحض تحليل العقل واعتبار المعتبر واجب ، فانّهم صرّحوا بأنّ ذاته - تعالى - من حيث هي نائب مناب بعض الصفات ومنشئا لآثاره معلول ومتأخّر عن ذاته من حيث هي نائب مناب صفة أخرى ومنشئا لآثارها.

وقال الشيخ في سابع ثامنة إلهيات الشفا : ولا نبالي بأن تكون ذاته - تعالى - مأخوذة مع اضافة ما ممكنة الوجود ، فانّها من حيث هي علّة لوجود زيد ليست واجبة الوجود ، بل من حيث ذاتها (2) ؛

وعلى هذا فلا مانع من أن يكون الواجب من حيث أنّه موجد للعالم ومؤثّر فيه ممكنا. بمعنى أنّ هذه الصفة - أعني : ايجاد العالم - لمّا كانت صفة اضافية أحدث مع الذات ، فالذات مع اعتبارها ليست واجبة.

وهذا الجواب قريب من الجواب الأخير الّذي نقلناه من بعض الأفاضل من أنّ بعض الصفات انّما يجب من اعتبار صفة أخرى لا من مجرّد الذات ، لأنّ المراد من عدم وجوب الذات المأخوذة مع اضافة ما انّ هذه الإضافة الّتي هي صفة اضافية لا يلزم أن تكون واجبة بالنظر إلى الذات ، بل وجوبها يتوقّف على صفة أخرى.

وحاصل الجواب يرجع إلى أنّ الصفات الّتي يجب للواجب لذاته هي الصفات الذاتية الحقيقية ، دون الصفات الاضافية ؛ هذا.

ص: 166


1- في هامش « م » : ميرزا ابراهيم ابن ملاّ صدرا.
2- راجع : الشفا / الإلهيّات ، ج 2 ، ص 366.

وقيل (1) في الجواب عن الايراد المذكور : انّ الامكان المذكور ليس وصفا للفاعل ولا هو الامكان الذاتي والوقوعي للمفعول - اللّذين هما حالتاه بالقياس إلى وجوده في / 35DB / نفسه - ، بل هو صفة لصدور الفعل عن الفاعل. وليس هو نفس القدرة ، بل القدرة ما هو في الفاعل منشئا لهذا الامكان - كما مرّت الاشارة إليه - ، كما انّ الإرادة هي منشأ الترجيح عند الاشاعرة أو الوجوب عند المعتزلة ، والفواعل الموجبة - سواء كانت تامّة أو ناقصة - ليست أفاعيلها ممكنة الصدور واللاصدور عنها ، بل معلولاتها ممكنة الوجود في نفسها بالنظر إلى ذواتها أو بالنظر إلى الواقع ؛ انتهى.

وأورد عليه : بانّ الفرار عن كونه صفة للمفعول إلى كونه صفة لصدور الفعل عن الفاعل ممّا لا يجدي أصلا! ، إذ لزوم كون كلّ فاعل مختار باق بحاله لأنّ صدور الفعل عن غير المختار أيضا ممكن ، لأنّ الامكان للممكن ضروري وصدور الفعل عن غير المختار أمر ممكن لا واجب.

وأيضا : الامكان المذكور إذا جعل صفة لصدور الفعل كان صدور الفعل ممكنا ، ولا ريب في أنّه صفة للفاعل ، فهو يوجب ثبوت صفة ممكنة للفاعل ، فيبقى الاشكال بحاله.

الثالث من الايرادات : انّه لا ريب في أنّ الصدور واجب مع الإرادة ، والإرادة وغيرها من الصفات الكمالية في الواجب عين الذات ، فحيثية الذات هي بعينها حيثية الإرادة والعلم والقدرة وغيرها من الصفات الكمالية ، كما أنّ حيثية الفاعل والافاضة هي بعينها حيثية جميع صفاته الاضافية - كالرحمانية والرحيمية والرازقية واللطف والكرم وغيرها - ؛ وحينئذ فاذا وجب الصدور بالنسبة إلى الإرادة وجب بالنسبة إلي الذات أيضا ، فلا يتحقّق صحّة الفعل والترك بالنظر إلى الذات.

وللفرار عن هذا الإشكال قال بعض أهل التحقيق : انّ المراد بما نثبته للواجب من صحّة الفعل والترك انّما هي الصحّة بالنظر إلى ذات العالم لا بالنظر إلى ذات الفاعل ؛ و

ص: 167


1- في هامش « د » : ميرزا ابراهيم ابن ملا صدرا.

قال : لا منافاة بين عدم العالم في نفسه وامتناع عدمه بالنظر إلى مشيته - تعالى - ، فعدم صدوره ممكن / 36MA / في نفسه وإن كان ممتنعا بالنظر إلى المشية الّتي هي عين ذات الفاعل.

ولا يخفى انّ هذا الكلام فاسد من أصله! ، لأنّ من فسّر القدرة بصحّة الصدور واللاصدور أراد به ما هو وصف للقادر لا ما هو وصف للمقدور عليه. كيف والامكان الذاتي للمعلول لا يجعل الفاعل مختارا؟! ، وإلاّ لزم أن يكون كلّ فاعل - ولو كان من الفواعل الطبيعية - مختارا وهو باطل لأنّ عدم كلّ ممكن في نفسه ممتنع بالنظر إلى علّته الموجبة له. فالصحيح انّ المراد بصحّة الفعل والترك هو صحّتها بالنظر إلى ذات الفاعل.

والجواب عن هذا الايراد : انّ المراد من عينية الإرادة - كما أشير إليه - هو انّ الواجب - تعالى شأنه - من حيث انّه مبدأ لرجحان وجود النظام الأصلح أو لوجوب صدوره إرادة بمعنى انّ الحقيقة الواجبيّة فرد من الإرادة مخالف لسائر افرادها ، لكونها صفات زائدة قائمة بالمحال إذ نائب مناب الإرادة. والمراد على الوجهين انّ ما يصدر عن هذه الصفة الزائدة العرضية في غيره - تعالى - يصدر في الواجب عن ذاته المقدّسة ، ولا يخفى انّ ما هو المبدأ والمنشأ لايجاد العالم - أعني : الحقيقة الواجبية - ليس بمجرّد علّة لوجوب الصدور وإن كان إرادة بالمعنى المذكور حتى لا يصلح بالنظر إليه الصدور واللاصدور ، بل من حيث تعقّله وملاحظته للنظام الأصلح ، فلأصلحيّة النظام الواقعي مدخلية في وجوب الصدور وان كان مبدأ الانكشاف والتعقّل والصدور هو مجرد الذات الالهية ولا شبهة في ان النظام الاصلح امر خارج عن ذاته المقدسة لان الاصلحية من حيث هي أمر واقعي حاقّ نفس الأمر وليست إلاّ هى فعينيّة الإرادة لا تنفى صحة الصدور واللاصدور بالنظر الى ذات الفاعل.

فان قيل : الحكماء ذهبوا إلى أنّه - تعالى - يفعل ما يفعل لا لغرض يعود إليه ، لأنّه لو كان لفعله أمر زائد على ذاته أعمّ من أن يكون ذلك منفعة يجلبها أو مضرّة يدفعها

ص: 168

لكان مستكملا بفعله ناقصا في ذاته حتّى لا يمكن أن يكون الغرض من فعله نفس (1) معنى إيصال النفع إلى الغير وانّ هذا الفعل خير في نفسه ، لأنّ من يفعل لأنّ الفعل نافع وحسن فان فعل فقد صدق انّه قد أحسن وإن لم يفعل فقد صدق أنّه قد أساء ، فقد كسب لنفسه بهذا الفعل انّه محسن وهرب من أن يكون مسيئا ، فقبل هذا الفعل لم يكن محسنا. وبذلك يظهر أن ملاحظة اصلحية نظام الخير لو كان لها مدخل في الصدور لزم الاستكمال ، لأنّ من فعل الأصلح لأجل انّه اصلح فقد كسب لنفسه بهذا الفعل انّه فاعل الخير وهرب من أن يكون فاعل الشرّ. وقد ثبت انّه - تعالى - لا يتّصف بصفات زائدة ولا يستفيد بعد ذاته فائدة وانّه منزّه عن شوب القوّة والامكان مقدّس عن احتمال التغير والحدثان ، بل إنّما يفعل لأنّه في نفسه جواد وايجاد نظام الخير - من خلق الخلق وانفاق الرزق وبسط النعمة ، كلّ ذلك - جود ، فجوده الذاتي هو الّذي يبعثه على الفعل ، فهو - تعالى - انّما / 36DA / يفعل لأنّه جواد محسن لا لأن يصير جوادا محسنا. كما أنّ الجواد من أفراد بني آدم - كمعن وحاتم - انّما يجود لأنّه جواد لا لأن يصير جوادا أو لا يكون بخيلا أو يكون ممدوحا ولا يكون مذموما. فكذا الواجب - تعالى شأنه - انّما يفعل لجوده الذاتي ولا يفعل لشيء من الاغراض المذكورة حتّى يلزم أن يكون مستكملا بفعله ناقصا في ذاته. وإذا كان جوده - الّذي هو عين ذاته المقدّسة - مقتضيا لايجاد العالم فيجب صدور العالم منه بالنظر إلى ذاته عندهم ، ولا يكون صحّة الفعل والترك جائزا لديهم ، لأنّ الذات لا ينفكّ عن الجود والجود لا ينفكّ عن افاضة الوجود ؛

قلنا : ما ذهب إليه الحكماء من اقتضاء جوده الذاتي لايجاد العالم لا ينافي امكان الفعل والترك بالنظر إلى ذاته ، بل يؤكّده ؛ فانّهم قالوا : انّ كلاّ من الصدور واللاصدور وان امكن بالنظر إلى ذاته / 36MB / المقدّسة إلاّ أنّ الفيض لمّا كان حسنا مناسبا لذاته الفيّاضة وتركه كان قبيحا غير مناسب لها وجب صدوره منه - تعالى - ، كذلك وإن كان تركه جائزا بالنظر إلى ذاته. وقس عليه الافعال القبيحة - كالكذب وأمثاله - ، فانّها وإن كانت ممكنة له - تعالى - بالنظر إلى ذاته إلاّ أنّه - تعالى - لا يفعلها

ص: 169


1- الاصل : فعله نفس بمعنى.

لقبحها وعدم مناسبتها لذاته الحسنة ؛ وهذا كما انّ الجواد من افراد الانسان مع اقتداره على ترك الجود لا يتركه ويفعله البتة والصدوق منهم وان اقتدر على الكذب إلاّ أنّه لا يكذّب البتة.

فان قلت : إن كان صدور الفيض - لكونه حسنا ومناسبا لذاته ولازما لها - واجب الصدور منه - تعالى - ووجوب الصدور انّما حصل لهذا التلازم الواقعى من دون مدخلية شيء آخر ، فالذات مقتضية له البتّة ولا يمكن التخلّف بالنظر إلى ذاته ؛ وإن لم يكن لازما وواجبا للذات من حيث هي بل الوجوب واللزوم إنّما حصل لملاحظة الغير ، فيجري في فعله الأغراض ويلزم الاستكمال ؛

قلت : الإيجاد من حيث هو ايجاد ليس لازما للذات من حيث هى تلك الذات ليرفع الامكان المذكور ، بل لازم لها من حيث كونه حسنا في الواقع ونفس الأمر ، والمحسن يفعل الحسن البتّة لحسنه الواقعي وكونه محسنا ، لا لأنّه لا يقدر على تركه ، بل لأنّه يختاره البتّة باختياره ومرجّح الاختيار هو حسن الفعل في نفسه وكونه محسنا ، وقدرته على فعله لأنّه لو لم يفعله لزم ترجيح المرجوح ، فمجرّد وجوده الّذي هو عين ذاته ليس موجبا للفعل بل مع ملاحظة حسنه الواقعي اللازم لهذا الفعل. فالوجوب انّما حصل بالاختيار ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ووجوب ايجاد العالم لكونه حسنا وكونه نظاما أصلح ليس فيه غرض يلزم به الاستكمال ، لأنّ الاستكمال انّما يلزم لو كان الباعث للفعل هو اكتساب صيرورته محسنا وفاعلا للنظام الأصلح ؛ وليس كذلك ، لأنّ ذاته - تعالى - عين جميع صفاته الكمالية أزلا وأبدا وليس فيها تفاوت ونقصان وتغيّر وحدثان وفي كلّ وقت يصدق عليه جميع صفات الكمال ونعوت الجلال إلاّ أنّ الكمال إيجاد كلّ شيء في الوقت الّذي يمكن أن يوجد فيه واعطاء كلّ شيء ما هو قابل له. وأمّا إذا كان الباعث هو مجرّد كون الفعل حسنا مع كون الفاعل محسنا وثبوت قدرته على طرفي الفعل والترك من دون قصد إلى كسب كونه محسنا أو صفة أخرى ، فليس فيه استكمال ولا يستلزم صيرورته ذا صفة ليست فيه ، بل الصفات الكمالية ثابتة له أزلا وأبدا ، وما يحدث انّما هو التعلّقات الاضافية و

ص: 170

صدور الفعل إنّما يجب بحدوث التعلّق. والتعلّق لا بدّ من حدوثه البتة ، لأجل كونه - تعالى - جوادا وكون الفعل جوادا واقتداره على طرفي الفعل والترك مع اشرفية اختيار الفعل ، فالقدرة على الفعل والترك أشرف من عدم القدرة على الترك. ولكن الفعل اشرف من الترك ، واختيار أشرف الطرفين واجب من دون تصوّر غرض يحصل به الاستكمال.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام توجيها لأنّ القول بالقدرة بالمعنى المذكور - أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - لا ينافي قواعد الحكمة ، والحكماء قائلون به. وهو بعد محلّ كلام! ، لأنّ الحقّ انّ اختيار ايجاد العالم لكونه حسنا ونظاما أصلح بعد فرض امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات لا يخلوا عن غرض زائد على الذات وهو منفي عند الفلاسفة ولا يقولون به ، فانّ الظاهر من كلام اساطينهم انّ وجود العالم تابع لعلمه وعلمه سبب لايجاده من دون كون الايجاد معلّلا بحسنه وصلاحه ، فانّ التابع لعلمه - تعالى - وإن كان نظاما أصلح لا يتصوّر أصلح منه ، أنّ ايجاده غير معلّل بالاصلحية بل هذا النظام الأصلح يتبع علمه الّذي هو عين ذاته.

وإن شئت توضيح هذا الكلام فاستمع ما أورده بعض / 36DB / المحقّقين في هذا المقام مع تفصيله وتوضيحه ؛ فانه قال : الفاعل على ستّة أصناف :

الأول : الفاعل بالطبع ، وهو الّذي / 37MA / يصدر عنه الفعل بلا شعور منه وإرادة ، ويكون فعله ملائما لطبعه.

والثاني : الفاعل بالقسر ، وهو الّذي يصدر عنه الفعل بلا شعور منه وإرادة ، ويكون فعله على خلاف مقتضى طبعه.

والثالث : الفاعل بالجبر ، وهو الّذي يصدر عنه الفعل بلا اختياره بعد أن يكون من شأنه اختيار ذلك الفعل وعدمه.

وهذه الثلاثة مشتركة في كونها غير مختارة في فعلها.

والرابع : الفاعل بالقصد ، وهو الّذي يصدر عنه الفعل مسبوقا بإرادته المسبوقة بعلمه المتعلّق بغرضه من ذلك الفعل ، ويكون نسبة أصل قدرته وقوّته من دون انضمام

ص: 171

الداعي أو الصوارف إلى فعله وتركه على السّواء.

والخامس : الفاعل بالعناية ، وهو الّذي يكون فعله تابعا لعلمه بوجه الخير والصلاح فيه بحسب الواقع ونفس الأمر ، ويكون علمه بوجه الخير كافيا لصدوره عنه من غير قصد زائد على العلم.

والسادس : الفاعل بالرضا ، وهو الّذي يكون علمه بذاته - الّذي هو عين ذاته - سببا لوجود الاشياء ، ونفس معلومية الاشياء له نفس وجودها عنه بلا اختلاف ، واضافة عالميته بالاشياء هي بعينها اضافة فاعليته لها بلا تفاوت لا في الذات ولا فى الاعتبار بل في اللفظ والتعبير. فالفرق بين الفاعليّة بالعناية والفاعليّة بالرضا هو ان الافاضة والايجاد غير العلم في الأوّل وإن كان تابعا ولازما له ، فانّ المراد به ان تمثّل جميع الموجودات من الازل إلى الابد في علمه - تعالى - مع الاوقات المترتّبة الغير المتناهية الّتي يجب ويليق أن يقع كلّ موجود منها في كلّ واحد من تلك الاوقات في ذاته - تعالى ، أي : علمه بها لازم لذاته لا يتصوّر تخلّفه عنها -. وهذا التمثيل مقتض لافاضة ذلك النظام على ذلك الترتيب والتفصيل ، بحيث لا يجوز عدم افاضته اصلا ، والافاضة على هذا صفة متعلّقة بالموجودات من حيث كونها في الاعيان ، والتمثيل متعلّق بها من حيث كونها في العلم فهما متغايران ؛ احدهما متبوع وعلّة والآخر تابع ولازم.

ولشمول هذا التميل بالعناية الازلية يسمّيه بالارادة.

وأمّا على الثاني - أي : القول بالفاعلية بالرضا - فالإفاضة هو نفس العلم ولا تغاير بينهما بوجه ، بل انكشاف الاشياء للواجب هو بعينه ظهورها في أذهاننا ؛ فكذا انكشاف الاشياء للواجب هو بعينه وجودها في الخارج.

وهذه الثلاثة الأخيرة مشتركة في كونها فواعل بالاختيار.

وإذا علمت ذلك فاعلم! انّ بعض الدهريين والطبيعيين - خذلهم اللّه - ذهبوا إلى أنّ الواجب فاعل بالطبع ؛

وجمهور المتكلّمين ذهبوا إلى انّه فاعل بالقصد ؛

والشيخ الرئيس ومتابعوه ذهبوا إلى أنّ فاعليته للأشياء الخارجية بالعناية ، و

ص: 172

للصور العلمية الحاصلة لذاته بالرضا ، - قال الشيخ في الشفا : انّه تعالى يعلم من ذاته كيفية كون الخير في الكلّ فيتبع صورته المعقولة صورة الموجودات على النظام المعقول عنده ، لا أنّها تابعة له - اتباع الضوء للمضيء والاسخان للحارّ - ، بل هو عالم بكيفية نظام الخير في الوجود وانّه عنه وانّه عالم بأنّ هذه العالمية يفيض عنها الوجود على اشرف الترتيب الّذي تعقّله خيرا ونظاما - ؛

وصاحب الاشراق ذهب إلى أنّه فاعل بالمعنى الأخير - أي : الفاعل بالرضا - ؛

والحقّ كونه - تعالى - فاعلا بالعناية ، لأنّ الواجب لا يجوز اتصافه بالفاعلية بالوجوه الثلاثة الأول ؛ وانّ ذاته - تعالى - أرفع من أن يكون فاعلا بالمعنى الرابع - لاستلزامه التكثّر ، بل التجسّم -. فهو إمّا فاعل بالعناية ، أو بالرضا ؛ وعلى أيّ التقديرين فهو فاعل بالاختيار لا بالايجاب - كما سبق -. إلاّ أنّ الحقّ هو الأوّل منهما ، فانّ الأوّل - تعالى - كما حقّقناه يعلم الأشياء قبل وجودها بعلم هو عين ذاته ، فيكون علمه بالأشياء - الّذي هو عين ذاته - منشئا لوجودها ، فيكون فاعلا بالعناية (1) ؛ انتهى ما أردنا إيراده.

وإذا عرفت ذلك تعلم أنّ القول بالفاعلية بالعناية لا يلائم القول بثبوت القدرة بالمعنى المذكور - أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - ، لأنّ القول بالعناية يوجب علية الذات من حيث تمثّله بنظام الخير لايجاده من غير قصد زائد وغرض داع ، وفرض ثبوت مساواة الفعل والترك بالنظر إلى الذات مع ترجيح الفعل واختياره لا بدّ له من / 37DA / داع زائد على الذات ليكون مرجّحا.

فان قيل : المرجح هو العلم ؛

قلنا : هو عين الذات.

فان قيل : ما هو عين الذات هو مبدأ الانكشاف والمرجّح تعلّقه بنظام الخير ؛

قلنا : فيعود القول بكون الأصلحية مرجّحة ، فيجري الغرض في فعله وهو منفي عند الحكيم - كما عرفت -.

ص: 173


1- راجع : المبدأ والمعاد - لصدر المتألّهين - ص 133.

فان قيل : المرجّح هو مجرّد الاختيار من غير احتياج إلى مرجّح آخر ، فانّ المختار من له القوّة والتمكّن على كلا طرفي الفعل والترك ، فله أن يرجّح الفعل بهذا الاختيار ؛

قلنا : هذا باطل عند الحكيم ، لأنّ / 37MB / الاختيار وإن صلح لأن يكون مرجّحا للفعل إذا تعلّق به إلاّ أنّه لا بدّ لنفس التعلّق بالفعل دون الترك من مرجّح آخر ، وبالجملة يلزم على قواعد الفلاسفة نفي القدرة بهذا المعنى عن فعل الواجب ويقولون : انّ القدرة الّتي هي صفة الكمال أن يصدر الفعل بالعلم والمشية والإرادة الّتي هي العلم بالنظام الأصلح عندهم ، وهو ثابت له - تعالى -. ووجوب الصدور مع ذلك غير قادح ، كما أنّ العلم وغيره من الصفات الكمالية لازم لذاته ، ولا يمكن عدم اتصافه بالنظر إلى ذاته.

والظاهر انّ من قال بثبوت القدرة بهذا المعنى له - تعالى - من المنتسبين بالحكمة أو نسب القول به إلى الحكماء لم يحصّل مقاصدهم ولم يصحّح أصولهم وقواعدهم!.

وبما ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض الاعلام في هذا المقام حيث قال : فان قيل : إذا كان الفعل والترك صحيحا بالنظر إلى ذات الفاعل عند الحكماء فلا يجوز لهم جعل مقدّم الشرطية الأولى واجبا ومقدّم الشرطية الثانية ممتنعا ، لأنّه إن كان المراد بالصحّة الامكان الذاتى فلا شكّ في تحقّقه في المقدّمتين - فانّ العالم ممكن فلا ينفكّ عنه صحّة وجوده وعدمه - ؛ وإن أريد به سلب الامتناع الذاتي والغيري معا فلا شكّ في انتفائه - فانّ العالم موجود ، فيكون واجبا بالغير ، فلا يصحّ سلب الامتناع المطلق عن عدمه -. فلا يظهر وجه الخلاف في وجوب مقدّم الشرطية الأولى وامتناع مقدّم الشرطية الثانية ؛

قلنا : انّ عدم العالم ممكن بالنظر إلى ذاته - لامتناع زوال الامكان الذاتي عنه - ، وإلاّ يلزم الانقلاب ، لكن عدم مشيته - تعالى - ممتنع بالذات عند القائلين بالقدم. ولا منافاة بين الامكان والامتناع بالنظر إلى الغير - الّذي هو عدم المشية - ، فعدم المشية غير واقع بل ممتنع عندهم ، فعدم العالم غير واقع كعلّته ، فامتناع عدم العالم إنّما هو بهذا

ص: 174

الاعتبار لا مطلقا ، كما أنّ وجود العالم ممكن بالنظر إلى ذاته واجب بالنظر إلى مشيته. كذلك عدم العالم ممكن بالنظر إلى ذاته ، لكن بالنظر إلى عدم المشية ممتنع لأنّ عدمه مستند إلى وقوع عدم المشيّة ، ووقوعه ممتنع عندهم ، فيصحّ بهذا الاعتبار انّ عدم العالم ممتنع. وأيضا المقدّمتان هما المشية وعدم المشية لا وجود العالم وعدمه ؛ انتهى.

ووجه الفساد : انّ القدرة عبارة عن امكان الطرفين بالنظر إلى ذات العلّة لا بالنظر إلى المعلول ، فاذا وجب الفعل بالنظر إلى المشية - الّتي هي عين الذات - كان الفعل واجبا بالنظر إلى ذات الواجب وكان مقدّم الشرطية الأولى واجبا ، فلا يتأتّى القول بامكان الطرفين بالنظر إلى ذات العلّة ، فترتفع القدرة بالمعنى المذكور ؛ والامكان بالنظر إلى المعلول لا يفيد هذا.

وعندنا انّ الايجاد لأجل كونه حسنا ونفعا للغير لا يوجب غرضا يحصل به الاستكمال ، بل يجب الاعتقاد بكون فعله كذلك - كما ثبت من الشريعة النبويّة - ، فالواجب - تعالى شأنه - فياض مطلق وجواد بالحقّ ، والجود عين ذاته بمعنى أنّ ذاته منشئا له ، إلاّ انّ فعله وتركه كلاهما ممكنان بالنظر إلى ذاته. ولكنه يختار الفعل لكونه حسنا وصلاحا. وباختياره يجب الفعل ويمتنع الترك ، فانّ اختيار وجود النظام الأصلح لكونه أصلح بعد قدرته على الترك وإن اقتضى الداعى ، إلاّ انّه لا يوجب النقص والاستكمال. وكيف ينكر العاقل كون ايجاد العالم لأجل اشتماله على الحكم والمصالح الراجعة إلى النظام الأصلح؟! ، وكيف ينكر أنّ ترجيح الوجود لأجل اشتماله على تلك المصالح بعد العلم بها؟! ، فمن كحّل بصيرته بنور المعرفة ونظر إلى نظام العالم لوجد اشتماله على الحكم (1) الغريبة والمصالح العجيبة ووضع كلّ شيء في موضع يليق به واعطاء كلّ شيء كلّما يصلح لحاله على ما تكلّ ثواقب الأفهام عند ادراك قليله وتضلّ صوائب الأوهام في نيل يسيره!. وهذا ظاهر لمن تأمّل في الأفلاك والنجوم وحركاتها ، وفي الأرض وما اشتملت عليه من الحيوان والنبات والجماد ، وفي خلق الحيوانات سيّما الانسان / 37DB / وما اشتمل عليه من دقائق الصنع وعجائب الحكمة -

ص: 175


1- الاصل : الحكمة.

وغير ذلك مما هو مذكور في مظانّه -. وقد صنّف الحكماء في عجائب الخلق ودقائق الصنع وفي ضبط بعض المصالح / 38MA / والحكم كتبا كثيرة.

ولا ريب انّ العاقل اللبيب إذا تعقّل هذه الحكم والمصالح يعلم قطعا انّ الجاعل الحقّ انّما أوجد هذه الأشياء ورجّح وجودها على عدمها لأجل هذه الحكم والمصالح وليس فيه غرض يرجع إلى نفسه حتّى صار باعثا للاستكمال.

وهذا الدليل كما يثبت قدرته - تعالى - بالمعنى المذكور يثبت علمه وارادته ومشيته وأكثر صفاته الكمالية - كما لا يخفى على أولى العقول العالية -.

فان قيل : قد يشاهد في العالم أشياء لا يدري لها منفعة ، بل وقد يعلم لها مضرّة ومنقصة! ؛

قلنا : مثل هذا كمثل صورة منقوشة في الجدار وكانت فاقدة لبعض أعضائها ، فانّا إذا رأيناها فلا نشكّ في علم مصوّرها وصدورها عن خبرة بها وغرض فيها ، ونقطع بأنّ ذلك لحكمة يراها ومصلحة يعلمها وإن لم نكن عالمين بها.

فان قيل : ذاته - تعالى - علّة لتعقّل النظام الأصلح والتعقّل علّة لايجاده ، ولا ريب انّ ذلك وإن اثبت علمه - تعالى - بالنظام الأصلح وما اشتمل عليه من دقائق الصنع وعجائب القدرة إلاّ انّه لا يستلزم قدرته بمعنى امكان الفعل والترك ، لانّه كما أنّ ذاته علّة للتعقّل علي سبيل الوجوب فتعقّله علّة لايجاد ما تعقّله على سبيل الوجوب أيضا من غير أن يتساوى الفعل والترك بالنسبة إلى ذاته ويستند ترجيح الفعل إلى ملاحظة الحكم والمصالح ، بل ذاته - تعالى - من حيث تعقّله لتلك الحكم والمصالح علّة مستقلّة لايجاد النظام ولا يجوز التخلّف ولا يحتاج إلى المرجّح ، فانّه لا ريب انّ تمثّل النظام الأصلح في ذاته - تعالى - انّما هو لأجل مناسبة ذاته المقدّسة له من حيث الخيرية والصلاح ، لانّ الخير المحض لا يناسب إلاّ الخير المحض ، فهو انّما يتعقّل الخير المحض وتعقّل الخير المحض ، فتعقّل الخير والأصلح وفعلهما لازم ذاته ، فالفعل غير معلّل بكونه حسنا وخيرا ؛

قلنا : لو لم يكن المتعقّل خيرا وحسنا لم تكن ذاته - تعالى - علّة مستقلّة لايجاده

ص: 176

، فكونه حسنا مرجّح لايجاده ، فذاته من حيث هي لا يمتنع عليه الفعل والترك وانّما يمتنع الترك لأجل كون الفعل خيرا وحسنا.

هذا ؛ ولو لم يثبت القدرة بهذا المعنى من الشريعة القويمة والدلالة العقلية - كما ذكرناه من كون فعله تعالى معلّلا بالداعي - لم يترتّب على نفيها قدم العام ، لأنّه يمكن القول بحدوث العالم مع القول بوجوب الايجاد بالنظر إلى الذات ، لأنّ الذات إنّما يقتضي ايجاد كلّ شيء على ما ينبغي وافاضة الوجود على المهيات في الوقت الّذي يمكنها أن يقبل فيه الوجود ، فعلى القول بوجوب ايجاد نظام الخير بالنظر إلى الذات يمكن أن يقال : انّ هذا النظام انّما يقبل الوجود مسبوقا بالعدم الدهري أو الزماني وليس قابلا للوجود بدونه ، كما انّ الحوادث غير قابلة للوجود قبل أوقاتها المعيّنة - ويأتي لذلك زيادة بيان وإيضاح -.

وأمّا القدرة بالمعنى الثالث - أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى شرائط التأثير في شيء من الأوقات ، وبالجملة امكان انفكاك ذاته تعالى عن ايجاد العالم في وقت ما امكانا وقوعيا - فقد عرفت انّ الايجاب المقابل له هو امتناع الترك بالنظر إلى الداعى ونحوه من الشرائط المقتضية - أي : استحالة انفكاك ذاته تعالى عن ايجاد العالم -. وعرفت أيضا انّ الفلاسفة لم يثبتوا القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى شأنه - لذهابهم إلى الايجاب المقابل لها - أعني : قدم العالم - ، وانّ المعتزلة قائلون بثبوتها له - تعالى -.

واشرنا إلى انّ الظاهر انّ المعتزلة ومشاركيهم ممّن يثبت القدرة بهذا المعنى لم يريدوا بها امكان الفعل والترك امكانا وقوعيا في وقت ووجوب الفعل في وقت آخر ، بل أرادوا بها وجوب الترك في وقت ووجوب الفعل في وقت آخر. ولا بأس بإطلاق القدرة وامكان الترك والفعل امكانا وقوعيا على هذا المعنى. والباعث على هذا الحمل انّه لا ريب في انّه كما يجب ايجاد العالم في الوقت الّذي اوجده لوجود الشرائط المقتضية فكذا يجب تركه قبل ذلك لعدم تلك الشرائط ، فلا فرق بين وجوب الفعل والترك في الوقتين.

ص: 177

وبالجملة النزاع هنا يرجع إلى النزاع في حدوث العالم وقدمه (1) ، فلا بدّ لنا أوّلا من / 38MB / تحقيق الحقّ في هذه المسألة الّتي هي اعظم المسائل الحكمية ويبتنى عليها كثير من القواعد الاسلامية (2) ؛ ثمّ نشير إلى تحقيق الحقّ في القدرة بهذا المعنى.

فنقول - وباللّه التوفيق -.

( تحقيق ) : ( حول كيفيّة حدوث العالم )

إنّ المعروف من مذهب الحكماء انّ العالم حادث بالحدوث الذاتي ، والمراد به تأخّر وجود العالم عن علّته تأخّرا بالذات - أي : بحسب المرتبة العقلية - لا في الخارج ومتن الاعيان ، فلا يتحقّق بين وجود الواجب ووجود العالم انفصال في الخارج (3).

وذهب السيد المحقّق الداماد / 38DA / وجلّ من تأخّر عنه إلى أنّه حادث بالحدوث الدهري. والمراد به تأخّر وجود العالم عن الواجب تأخّرا انسلاخيا انفكاكيا (4)! - أي : وجوده بعد العدم الصريح المحض البحت الّذي ليس زمانيا ولا سيالا ولا متكمّما ولا متقدّرا -. وعلى هذا فالعالم ينفكّ عن الواجب في الواقع ونفس الأمر ، إلاّ أنّ هذا الانفكاك ليس زمانيا. والحاصل - كما افاده السيّد رحمه اللّه - انّه مسبوقية الوجود بالعدم الصريح المحض ، لا مسبوقية بالذات ، بل مسبوقية انسلاخية انفكاكية غير زمانية ولا سيالة ولا متقدّرة ولا متكمّمة.

وجمهور المتكلّمين ذهبوا إلى أنّه حادث بالحدوث الزماني. والمراد به تأخّر وجود العالم عن العلّة تأخّرا زمانيا ، بمعنى انّ العدم الفاصل بين الواجب وبين العالم عدم زماني ممتدّ ، لأنّه ينتزع من الواجب قبل وجود العالم زمان موهوم هو وعاء هذا العدم ، فينسب هذا العدم إليه.

فتلخيص اقسام الحدوث :

ص: 178


1- راجع : تلخيص المحصّل ، ص 269.
2- قس : رسالة الحدوث ، ص 182.
3- راجع : المباحث المشرقيّة ، ج 1 ص 134 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 3 ، ص 271 / 246.
4- راجع : القبسات ، ص 4.

انّ « الذاتي » عبارة عن وجود الماهية بعد عدمها في لحاظ العقل دون الواقع ؛

و « الدهرى » عبارة عن وجودها بعد نفي صريح واقعى غير كمّى ؛

و « الزماني » عبارة عن وجودها بعد عدم واقعى كمّى.

فالفرق بين الحدوث الذاتي والحدوث الزماني ظاهر لا يحتمل الاشتباه ، والفرق بين الحدوث الدهري والحدوث الذاتي انّ الحدوث الذاتي هو تأخّر الذات بحسب المرتبة العقلية لا تأخّر انفكاكي في الوجود بحسب حاقّ الواقع البات ، والحدوث الدهري هو تأخّر وتخلّف في متن الاعيان الخارجة عن لحاظ الذهن وفي حاقّ الواقع الصريح. والفرق بينه وبين الحدوث الزماني انّ الحدوث الزمانى هو الوجود بعد العدم المتقدّر السيال الواقع في الزمان القبل قبلية زمانية متكمّمة ، وفي حدوث الدهري ليس العدم متقدّرا متكمّما ، بل إن هو إلاّ محض مسبوقية الوجود بالعدم المحض والليس الساذج.

ثمّ الوجه في تسمية هذا القسم من الحدوث « بالدهري » ، بناء على أنّ الاوعية عند الحكماء ثلاثة :

الأوّل : وعاء بحت الوجود الثابت الحقّ المتقدّس عن عروض التغير مطلقا والمتعالي عن سبق العدم على الاطلاق ، ويسمّى « بالسرمد » ؛

الثاني : وعاء الموجود بعد العدم الصريح المرتفع عن أفق التقدير واللاتقدير - كالعقول والافلاك - ، ويسمّى « بالدهر » ؛

والثالث : وعاء الأمور المتغيرة المتقدّرة السيالة المسبوقة بالعدم الزماني - كالحوادث - ، ويسمّى « بالزمان ».

وكما أنّ وعاء وجود الاشياء المتقدّرة السيالة الزمانية هو الزمان ، فكذا وعاء عدمها أيضا هو الزمان ؛ وكما انّ وعاء وجود الموجودات المسبوقة بالعدم الصريح المنزّهة عن التكمّم والتقدّر هو الدهر ، فكذا وعاء عدمها أيضا هو (1) الدهر ؛ فاحقّ الأسماء وأجدرها للحدوث بحسب سبق العدم الصريح هو الحدوث الدهري. وأمّا بحت

ص: 179


1- الاصل : - هو.

الوجود الخالص المتعالي عن سبق العدم على الاطلاق فلا يتصوّر له عدم حتّى يكون وعاء ، بل الوعاء له - أي : السرمد - انّما هو وعاء وجوده.

ثمّ انّه لا يتصوّر الاختلاف في الأوعية بحسب الاوقات ، بل وعاء كلّ من الموجودات الثلاث هو وعائه المختصّ به في كلّ وقت. فوعاء الوجود الخالص المتعالي عن العدم هو « السرمد » ولو بعد تحقّق الوعائين الآخرين - أي : الدهر والزمان - ، لانّه محيط بهما ، فلا فرق في عدم انتسابه إليهما وتعاليه عنهما قبل وجودهما وبعده. وكذا وعاء الموجود بعد العدم الصريح هو « الدهر » ، ولو بعد وجود الزمان لتعاليه عن الزمان واحاطته به ، فلا يتصوّر انتسابه إليه وكونه وعاء له. وما يتخيل عندنا من انطباق وجود الواجب والعقول والافلاك على الزمان فانّما يتراءى ذلك في اذهاننا لالفها بالزمان والزمانيات ، ولا نتصوّر شيئا إلاّ بتصوّر كونه زمانيا ، ولكن البرهان دلّ على تعالي بعض الموجودات عن الزمان واحاطته به.

ثمّ الحق الحقيق بالتصديق / 39MA / هو الحدوث الدهري. والحقّ انّ القول به ليس ممّا اخترعه السيد الداماد ، بل هو ممّا ذهب إليه كثير ممّن تقدّمه من الحكماء ومحقّقي (1) المتكلّمين.

ثمّ السيد - رحمه اللّه - صرّح بأنّ النزاع بين الحكماء وغيرهم انّما هو في هذا الحدوث لا في الذاتى ولا في الزماني ، لأنّ الذاتي لم ينكره أحد من الحكماء - وهو ظاهر - ، ولا المتكلّمون ، لانّ القول بالحدوث الدهري أو الزماني مستلزم للذاتي أيضا ، لأنّ تأخّر العالم عن علّته بالعدم الصريح الواقعي أو بالعدم الزماني مستلزم لتأخّره عنها بالذات - كما يأتي توضيحه -. والزماني ممّا لا يصلح أن يكون محلاّ للنزاع بين العقلاء ، فانّ القول به انّما نشاء من بعض الأشاعرة ؛ قال - قدّس سره - في القبسات : لا يجوز أن يكون الحدوث المتنازع فيه هو الحدوث الذاتي لاتفاق الحكماء / 38DB / على الحدوث بذلك المعنى ، ولا الحدوث الزماني ، لأنّ من العالم المبحوث عن حدوثه نفس الزمان ومحلّه وحامل محلّه والجواهر العقلية المفارقة لعوالم الأزمان والأماكن رأسا ، فكيف

ص: 180


1- الاصل : محصّلي.

يظنّ بافلاطن وسقراط ومن في مرتبتهما من أفاخم الفلاسفة وائمّتهم انّهم يثبتون الحدوث الزماني للعالم الأكبر ويقولون : انّ نفس الزمان ومحلّه وحامل محلّه والجواهر العقلية المفارقة مسبوقة الوجود بالزمان وحاصلة الذات في الزمان؟! ، وليس يتفوّه بذلك من في دائرة العقلاء والمحصّلين (1)! ؛ انتهى.

ومراده - رحمه اللّه - انّه لا ريب في وقوع التنازع بين الحكماء في الحدوث ، ولا يجوز أن يكون تنازعهم في الحدوث الذاتي والزماني - لما ذكره - ، فيظهر منه أنّ المتنازع فيه بينهم هو الحدوث الدهري ، فيكون ممّا قال به بعضهم ونفاه الآخرون. وقد صرّح بمثل ذلك بعض المحققين حيث قال بعد نقل اقسام الحدوث وحصرها في الذاتي والدهري والزماني : وليس النزاع في هذه المسألة بين بعض الحكماء والمتكلّمين في الأوّل ، إذ الحكماء أيضا قائلون بالحدوث الذاتي ، ولا في الثالث ، لأنّ هذا النزاع انّما وقع بين العقلاء والعاقل لا يقول انّ العام بتمام اجزائه مسبوق بالعدم الزماني وزمان عدمه جزء من اجزائه ، بل انّما النزاع في الثاني. فذهب المتكلّمون والمحقّقون من الحكماء إلى أنّ وجود العالم مسبوق بعدم صريح واقعي خارجي ، والباقون من الحكماء قالوا : انّ انواع العالم لا يمكن أن تكون مسبوقة بالعدم الخارجي ، وقالوا : هذا القول لا يستلزم ازلية العالم وسرمديته وكونه قديما بالذات ، لأنّه مختصّ به - تعالى - ، اذ الازلية هو عدم المسبوقية بالعدم مطلقا والعالم وإن لم يكن مسبوقا بالعدم الصريح إلاّ أنّه مسبوق بالعدم الذاتي ؛ انتهى.

وقال بعض الأفاضل : انّا لا نسلّم انّ المتنازع فيه بين الحكماء هو الحدوث الدهري ، بل المتنازع فيه انّما هو الحدوث الذاتي ، وكونه متفقا عليه بينهم ممنوع - وإن كان نسبة الخلاف إلى ارسطاطاليس وامثاله من خطاء الناظرين في كلامهم وعدم فهمهم لما هو مرادهم ، على ما حقّقه الفارابي في الجمع بين الرأيين (2) - ، بل الظاهر - كما يشهد به الفحص - انّه كان التكلّم في الحدوث الذاتى والمناظرة فيه شائعا بينهم ، فلعلّه

ص: 181


1- راجع : القبسات ص 25.
2- راجع : الجمع بين رأيي الحكيمين ، المسألة الحادي عشر ص 100.

ذهب بعضهم إلى القدم بذلك المعنى أيضا وإن لم يظنّ ذلك في شأن أرسطاطاليس وأمثاله.

وأمّا المتكلّمون فلا شكّ انّ غرضهم اثبات الحدوث الزماني أيضا ولا استبعاد فيه ، إذ مرادهم بالعالم ما سوى ذلك الامتداد الموهوم ، فانّ المراد به ما سوى الواجب - تعالى (1) - من الموجودات ، والامتداد المذكور لا وجود له ، فلا اشكال من جهة الزمان.

وأمّا محلّه - أي الحركة - وحامل محلّه - أعني : الافلاك - فلا محذور في القول بحدوثها زمانا على رأيهم ، فانّهم لا يقولون بالحالية والمحلّية المذكورة - أي : كون الزمان حالاّ في الحركة والحركة محلاّ له - ، بل انّما هو رأي الحكماء. وأمّا الجواهر العقلية فالعقل لا يقول به المتكلّمون (2) ، والنفس لمّا كان فيها جهة مادّية فيمكن أن يطلق عليها الحدوث الزماني بهذا الاعتبار ، على أنّه يمكن أن يقال : انّ كونها حادثة بمعنى انّه كان زمان لم يصحّ فيه أن يقال : أنّها موجودة على وجه يصحّ الآن / 39MB / ذلك ، بل قد ظهر انّه يمكن القول بكونها زمانية - أي : مقارنة للزمان - ، وحينئذ لا اشكال أصلا ؛ وهذان الوجهان يجريان في العقل أيضا على القول بوجوده - كما لا يخفى - ؛ انتهى.

وما ذكره هذا الفاضل أخيرا من جواز مقارنة المجرّدات من النفوس والعقول للزمان ، فيأتي ما فيه.

وأمّا تحقيق انّ النزاع بين الحكماء في أيّ معنى من معاني الحدوث وأيّ معنى متفق عليه بينهم ؛ فاعلم! انّ المشهور بين القوم انّ افلاطون قائل بالحدوث الزماني للعالم بأسره ، وأرسطو قائل بالقدم الزماني لأصوله وكلّياته (3). وتوهّم جماعة انّ مذهب ارسطاطاليس انّ العالم قديم بالذات - أي : غني بذاته - كما يقوله الملحدون.

وقد دعاهم إلى هذه النسبه كلمتان منه في اثولوجيا : إحداهما ما قال : انّ الزمان نفسه ، والهيولى والعالم الأعلى ليس لها بدء زماني ؛ والثانية ما قال في بيان المطلب الجدلي : انّه يمكن أن يكون مطلب يحتاج على كلى طرفيه بقياسات جدلية مثل العالم هل هو

ص: 182


1- راجع : الاربعين ج 1 ص 19.
2- هذا قول جماعة من المتكلّمين. راجع : كشف المراد ص 131.
3- راجع : القبسات ص 24.

قديم أو حادث (1).

وغير خفيّ أنّه لا دلالة لهما بوجه على القدم الذاتي للعالم ، بل هما يدلاّن على خلافه! ؛ ولذا ردّ المعلم الثاني هذه النسبة في الجمع بين الرأيين (2) وقال : لا تدلّ الكلمتان المذكورتان على ذلك ، أمّا / 39DA / الأولى فلأنّ المراد بنفي البدء الزماني عنها أنّها ليست مكوّنة من مادّة وأجزاء في زمان - كالحوادث اليومية - ، بل هي مبدعة من الواجب - تعالى - لا في زمان - كما نصّ هو نفسه بذلك في مواضع شتّى من أثولوجيا وساير كتبه - ؛ وأمّا الكلمة الثانية فلأنّ التمثيل لا يدلّ على اعتقاد شيء من الطرفين ، فانّ التمثيل بالأحوال المتصوّرة للعالم لايضاح المطالب الجدلية لا يدلّ على إرادة اثبات حالة ، ولو دلّ لم لا يدلّ على الطرف الآخر؟!. فثبت ممّا ذكر انّ نسبة القول بالقدم الذاتي للعالم إلى ارسطاطاليس خطاء وأىّ خطاء!. والحدوث الزماني له لم ينسبه (3) إليه أحد ، لأنّ اثولوجيا مشحون بانّ العالم الأعلى والأجرام العلوية ليست في الزمان ، بل هي علّته. فمذهبه انّ العالم بأسره من الأجرام العلوية والسفلية والزمان ومحلّه مبدع لا في زمان ، أي : حادث بالحدوث الذاتي أو الدهري ، لأنّ المبدع لا في زمان يشملهما بإطلاقه. ولمّا نسب إليه الأكثرون الحدوث الذاتي وكان المشهور بينهم انّ الحادث الذاتي مرادف للقديم الزماني فقد ينسبون إليه القول بالقدم الزماني.

وقال بعض أهل التحقيق : الحقّ انّ المبدع لا في زمان قسيم للقديم الزماني وليس مرادفا له ، لأنّ المبدع صادر لا في زمان ، والقديم الزماني لكونه منسوبا إلى الزمان ما كان في الزمان كلّه فمعناه ما لم يتقدّمه زمان ولكن كان في الزمان ، فالنسبة بينهما هي المخالفة دون المرادفة. ولمّا فرّق بذلك بين المبدع والقديم الزماني وصرّح أرسطاطاليس بكون العالم مبدعا فانّ نسبة القدم الزماني إليه أيضا (4) خطاء ، بل مذهبه الابداع المرادف للحدوث الذاتي.

وأنت تعلم انّ القائل بالقدم الزماني لا يقول بأنّ العالم الأعلى والأجرام العلوية

ص: 183


1- ما وجدت العبارتين في اثولوجيا. وانظر : القبسات ، ص 25 / 27.
2- راجع : الجمع بين رأيي الحكيمين ، ص 100.
3- الاصل : لم ينسب.
4- الاصل : - أيضا.

والزمان واقعة في الزمان ، فمرادهم من القدم الزماني هو الابداع المرادف للحدوث الذاتي. فبعد اصطلاحهم على ذلك لا يضرّهم دلالة لفظ القديم الزماني على لزوم كونه في الزمان ؛ مع أنّ هذه الدلالة ممنوعة.

ثمّ التحقيق انّ افلاطون كأرسطاطاليس في القول بالابداع المحتمل للحدوث الذاتي والدهري.

وإذا كان ما ذهبوا إليه من الابداع محتملا للحدوثين فيمكن أن يكون الحدوث المتنازع فيه بينهم هو الحدوث الدهري بعد اتفاقهم على الحدوث الذاتي - كما حقّقه السيد رحمه اللّه - ، بمعنى انّهم بعد اتفاقهم على افتقار العالم واحتياجه إلى الواجب يتنازعون في انّه هل تقدّم على العالم مجرّد العدم الذاتى أو ما هو فوق ذلك - أعني : العدم الواقعي الصريح - ، ويحتمل - كما نقلناه عن بعض الأفاضل - أن يكون الحدوث المتنازع فيه هو مطلق الحدوث من غير تقييد بشيء من الذات والدهر والزمان ، بل بمعنى الحاجة الصرف والفقر المحض المرادف للحدوث الذاتي في الواقع. لا لأنّ أحدا من افلاطون و/ 40MA / سقراط وأرسطو وامثالهم انكر الحدوث بهذا المعنى ، بل لأنه لمّا قال قوم من الدهرية والطباعية - خذلهم اللّه - بالقدم الذاتي لكثير من الموجودات واستغنائها بانفسها عن العلّة - كالدهر والجواهر الفردة والخلأ والاجسام الصغار الصلبة وغير ذلك - ، فكان بحثهم عن الحدوث واثباتهم له ردّا عليهم.

ومن المنكرين للحدوث الذاتي ولاحتياج الممكن إلى المؤثّر « ذيمقراطيس » واتباعه ، القائلون بأنّ وجود السموات بطريق البخت والاتفاق ؛ ولهم شكوك واهية نقلناها في المقدّمات وأجبنا عنها. وكان ارسطاطاليس كثيرا ما يخاصم اصحاب ذيمقراطيس ويبطل شكوكهم ويردّهم إلى الحقّ. فظهر ممّا ذكرناه أنّ الحدوث المتنازع فيه والمبحوث عنه بين الأقدمين يمكن أن يكون هو الحدوث الدهري - كما ذكره السيد الدّاماد (1) - ، ويمكن أن يكون هو الحدوث الذاتى - أعني : محض الفقر والحاجة ، كما ذكره

ص: 184


1- قال المحقّق الداماد : فاذن قد استبان انّ حريم النزاع هو الحدوث الدهري لا غير. راجع : القبسات ، ص 26.

جماعة من الأفاضل - ، إلاّ انّ الانصاف أنّ الأقرب هو الثاني : كما لا يخفى على المتتبّع الفطن.

هذا ؛ ثمّ تحقيق الحقّ على ما اخترناه يتوقّف على بيان أمرين ؛

الأوّل : انّه لا ريب في تناهى العالم من جانب البداية بمعنى انّ الامتداد المفروض من وجود الأجسام الفلكية والعنصرية - أعني : الزمان والحركات اللازمة لها - من حين وجودها إلى ايّ وقت فرض متناهيان ، ويدلّ عليه ما تقدّم من حقّية جريان التسلسل في الأمور المتعاقبة - سواء كانت مجتمعة في الوجود أم لا - ؛ ونحن نشير إلى كيفية جريان طرق من أدلّة ابطال التسلسل في تناهي الحركة والزمان ، ليقاس عليها البواقى ؛

فمنها : طريق التطبيق ؛ وتقريرها هاهنا : انّه لو كانت الحركة غير متناهية أو الزمان غير متناه لكان لنا أن نفرض من جزء معيّن منهما - كدورة معيّنة مثلا من الحركة ويوم بليلة من الزمان إلى ما لا بداية لهما - جملة واحدة ، ثمّ نفرض من جزء قبلهما بمقدار متناه - كخمس دورات مثلا من الحركة وخمسة أيّام بلياليها من الزمان - جملة اخرى ، ثمّ نطبق بين الجملتين ونسوق الكلام حتّى / 39DB / يتمّ البرهان - على ما تقدّم في المقدّمات -.

ومنها : طريق التضايف ؛ وتقريره ما هاهنا : انّ الحركة والزمان بحسب تآلفهما من اجزاء بعضها سابقة وبعضها مسبوقة ، ولنجعل تلك الاجزاء دورات وأيّاما بلياليها ، فلو كانت الحركة والزمان غير متناهيين كانت تلك الدورات وتلك الأيّام بلياليها غير متناهية. ويمكن لنا أن نأخذ من دورة معيّنة ومن يوم معيّن بليلته إلى ما لا بداية له جملة ، فنأخذ ذلك ونقول : كلّ واحد من تلك (1) الدورة وذلك اليوم بليلته هو الجزء الأخير في هذه الجملة ، فهو موصوف بالمسبوقية وليس موصوفا بالسابقية ، وكلّ واحد من أجزائها الأخر موصوف بالمسبوقية والسابقية معا - إذ لو وجد في الأجزاء الأخر سابق غير مسبوق لانقطعت السلسلة به ولزم التناهي ، وهو خلاف الفرض - ، فيلزم أن يكون كل واحد من الاجزاء المتقدّمة على الجزء الأخير موصوفا بالسابقية و

ص: 185


1- الاصل : - تلك.

المسبوقية ، وقد كان الجزء الأخير موصوفا بالمسبوقية دون السابقية. ففي الجملة المفروضة كلّ سابق مسبوق من غير عكس كلّي لوجود الجزء الاخير ، فيكون عدد المسبوقية أزيد من عدد السابقية بواحد ، وأنّه محال لأنهما متضايفان حقيقيان يجب تكافؤهما في الوجود وتساويهما في العدد ، وأن يكون بإزاء كلّ واحد من آحاد إحداهما واحد من آحاد الأخرى - كما تقدّم مفصّلا - ؛ فيجب أن يكون عدم التناهي باطلا لتنقطع السلسلة ويوجد في أوّلها سابق غير مسبوق لتحصيل التكافؤ.

ومنها : انّه لو كان الحركة والزمان أزليين لكان عدد الدورات الماضية من كلّ فلك غير متناه وعدد كلّ من الساعات والأيّام والشهور والسنين الماضية غير متناه ، فنقول : لا ريب في أنّ عدد دورات الفلك الأطلس اكثر من عدد دورات القمر ، وعدد دورات القمر أكثر من عدد دورات الشمس ، والشمس من المريخ والمريخ من المشتري والمشتري من زحل وزحل من الثوابت ، وكذا عدد الساعات أكثر من عدد الأيّام والأيّام من الشهور والشهور من السنين ؛ ولا ريب في أنّ كلّ ما هو أقلّ من غيره يكون متناهيا ، فكذا ما هو أكثر منه بقدر متناه ، فيجب تناهي الحركات والأزمنة / 40MB /. ومنع تناهى ما هو أقلّ من غيره بقدر متناه مكابرة محضة يأبى العقل السليم من تجويزه.

ومنها : انّه لو كانت الدورات الماضية والأيام الخالية غير متناهية لتوقّف حدوث كلّ حادث من الحوادث اليومية على انقضاء ما لا نهاية له ، وهو محال ؛ فيلزم أن لا يوجد حادث. أمّا توقّف وجود الحادث على انقضاء ما لا نهاية له فظاهر ؛ وأمّا استحالة انقضائه فلأنّ الانقضاء فرع التناهى من الطرفين ، فغير المتناهي ولو من طرف واحد يمتنع انقضائه - لأنّ معنى انقضائه أن ينقطع ويحيط بمجموعه وعاء ويتحقّق له طرفان - ، ومع عدم حصول انقطاع أحد طرفيه لا معنى لانقضائه ، فيحصل من فرض انقضائه تناهيه.

فان قلت : اللازم ممّا ذكر تناهى الحركة والزمان وهو لا يفيد تناهى العالم من جانب البداية ، لجواز أن يكون الاجسام الأوّلية قديمة ساكنة ويكون سكونها أزليا و

ص: 186

لا تكون لها حركة ولا زمان حتّى يجري فيها براهين بطلان التسلسل ، والحركات الّتي نشاهد من بعضها يجوز أن تكون طارية مسبوقة بسكون ازلي ؛ والحاصل انّ براهين ابطال التسلسل لا يفيد أزيد من تناهي الحركة والزمان وهو لا يوجب تناهى العالم ، لجواز أن تكون أصوله الأوّلية قديمة ساكنة لا متحركة ولا منتزعة عنها الزمان ، فلا يثبت منه تناهي العالم من جانب البداية ؛

قلت : أمّا أوّلا : انّه لا ريب انّ اصول العالم الجسمانى منحصرة بالافلاك والعناصر ، والأجسام عند العقلاء منحصرة بهما ، وحركة الافلاك عندهم واجبة ولا يجوز سكونها في وقت ، والدليل عليه ظاهر. ولا ريب أنّ العناصر ليست متقدّمة على الافلاك في الوجود ، فهي إمّا متأخّرة عنها أو مقارنة لها في الوجود ، وعلى التقديرين لا ينفكّ العالم عن الحركة والزمان ، ويلزم منه تناهى السكون للاجسام الساكنة.

امّا ثانيا : فلأنّه لو سلّم جواز السكون للأفلاك أيضا وقلنا انّ الحركة الّتي للافلاك طارية مسبوقة بالسكون أو احتملنا وجود اجسام أخر ساكنة سوى الافلاك والعناصر وقلنا هي الاجسام الأوّلية ، نقول : لا ريب أنّ وجود الاجسام وإن كانت ساكنة لا ينفكّ عن الامتداد الواقعي المعبّر عنه بالزمان ، فيجري فيه ادلّة ابطال التسلسل ويثبت به تناهيه ، ومنه يظهر تناهي العالم من جانب البداية.

وأمّا ثالثا : فانّ المتكلّمين أقاموا حجّة على عدم جواز كون السكون قديما ؛ وتقرير حجّتهم : انّ السكون أمر وجودي لأنّ الكون - أعني : حصول الجسم في الحيّز - أمر محسوس فيكون موجودا. وهو تمام ماهية الحركة والسكون ، وامتيازهما بالعوارض / 40DA / الخارجية ، فيكون السكون موجودا كالحركة. وحينئذ لو كان قديما لامتنع زواله - لأنّ كلّ امر وجودي ثبت قدمه امتنع عدمه (1) - ، مع أنّ السكون يجوز زواله بالاجماع والبرهان ؛ أمّا الاجماع فلأنّ الأجسام عند الحكماء منحصرة في

ص: 187


1- راجع : رسالة الكندي إلى المعتصم باللّه ، ص 19 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 8 ص 388 ؛ شوارق الالهام ، ج 1 ص 144.

الفلكيات وحركتها واجبة عندهم ، وفي العنصريات وحركتها جائزة عندهم ، فلا يوجد في العالم جسم يمتنع عليه الحركة ؛ وأمّا البرهان فلأنّ الأجسام إمّا بسيط ، فيجوز على كلّ جزء منها ما يصحّ على الجزء الآخر ، فيصحّ لكلّ جزء أن يماسّ بيساره ما يماسّ بيمينه وبالعكس ، وما هو إلاّ بالحركة ؛ وإمّا مركبة ، فيصحّ على بساطتها الحركة - كما قلناه - ، ويلزم من صحّة الحركة على البسائط صحّتها على المركّب ولو في الوضع - أي : تبدّل نسب الأجزاء إلى الأجزاء -.

وأنت تعلم أنّ جميع مقدّمات هذه الحجّة ظاهرة إلاّ استحالة عدم القديم ، فلا بدّ من تحقيق الحق فيه ليظهر جلية الحال ، فنقول : المشهور في الاستدلال عليه انّ القديم إن كان واجبا لذاته فامتناع عدمه ظاهر ، وإن كان ممكنا كان مستندا إلى واجب بالذات دفعا للتسلسل. ولا يجوز أن يكون ذلك الواجب مختارا بمعنى كون فعله مسبوقا بالقصد ، لأنّ القصد إلى الايجاد متقدّم على الايجاد ومقارن لعدم ما قصد ايجاده ، لأنّ القصد إلى ايجاد الموجود محال بالبديهة ، فيجب أن يكون ذلك الواجب فاعلا لا بالقصد سواء كان فعله بالعلم والمشية أم لا. وحينئذ نقول : إن لم يتوقّف تأثير هذا الفاعل في ذلك القديم على شرط أصلا - بل كان ذاته كافيا في ايجاده - كان عدم ذلك المعلول القديم محالا لامتناع تخلّف المعلول عن الموجب التامّ واستلزام عدمه لعدم الواجب - لأنّه يلزم ذاته من حيث هي هي ، وانتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم - ؛ وان توقّف تأثيره فيه على شرط فلا يجوز أن يكون ذلك الشرط حادثا وإلاّ لكان القديم المشروط به أولى بالحدوث ، فيكون / 41MA / ذلك الشرط أيضا قديما ويعود الكلام في ذلك الشرط وفي صدوره عن الواجب هل هو بشرط أو بغير شرط؟ ، ويلزم الانتهاء إلى ما يجب صدوره عن الواجب بلا شرط دفعا للتسلسل في الأمور المترتّبة الموجودة. وهذا الشرط المنتهى إلى الواجب بالذات الصادر عنه بلا شرط يمتنع عدمه - لاستلزام عدمه لعدم الواجب - ، فاذا امتنع عدمه امتنع عدم مشروطه ومشروط مشروطه ... ، وهكذا إلى القديم الّذي كلامنا فيه.

ص: 188

واعترض عليه بوجهين : أحدهما : أنّ فاعل السكون يجوز أن يكون فاعلا بالقصد. وما ذكر في بيان استحالته غير تامّ. لانّ تقدّم القصد على الايجاد كتقدّم الايجاد على الوجود في انّهما بحسب الذات ، فيكون القصد مقارنا للايجاد في الوجود زمانا وإن تقدّم عليه ذاتا ، ولا يوجب ذلك تحصيل الحاصل المحال ، لأنّ المحال هو القصد إلى ايجاد الموجود بوجود حاصل قبل. بل نقول : إذا كان القصد كافيا في وجود المقصود كان مع المقصود زمانا ، وإذا لم يكن كافيا فيه فقد يتقدّم عليه زمانا - كقصدنا إلى افعالنا - ، وإذا جاز استناد وجود القديم إلى الفاعل بالقصد جاز استناد عدمه أيضا إليه بان يقصد اعدامه فيصير معدوما.

وثانيهما : انّا لا نسلّم أنّ الشرط الّذي يتوقّف عليه السكون القديم يجب أن يكون أمرا وجوديا قديما حتّى يعود الكلام فيه وفي صدوره عن الواجب هل هو بشرط أو بغير شرط ويلزم الانتهاء إلى ما يجب صدوره عن الواجب بلا شرط ، ولم لا يجوز أن يكون ذلك الشرط عدما ازليا كعدم حادث مثلا؟!. فاذا وجد ذلك الحادث زال السكون لزوال شرطه الّذي هو عدم ذلك الحادث ، لا لزوال الواجب حتّى يحكم بامتناعه.

فان أجيب عن هذا الاعتراض : بأنّ هذا العدم - أعني : عدم الحادث - لكونه ازليا ممكنا لا بدّ أن يستند إلى عدم يكون واجبا - أعني : عدم الممتنع - إمّا ابتداء أو بواسطة ازلية كما أنّ وجود الممكن الأزلي لا بدّ أن يستند إلى وجود واجب إمّا ابتداء أو بواسطة ازلية - دفعا للتسلسل -. وإذا استند هذا العدم إلى العدم الّذي كان واجبا بواسطة أو بدون واسطة كان زواله ممتنعا - لاستلزامه زوال الواجب ، أعني : العدم الواجب الّذي انتهى إليه استناده - ، فلا يمكن أن يزول ما هو شرط السكون - أعني : عدم الحادث - بأن يصير هذا الحادث موجودا ثمّ يزول السكون - لزوال شرطه - ، فالمحذور لازم.

قلنا : العدمات الأزلية الممكنة جاز أن يستند كلّ واحد منها / 40DB / إلى عدم أزلي آخر ممكن من غير أن ينتهى إلى عدم يكون واجبا ، بل ترتّب العدمات الممكنة

ص: 189

ترتّبا ذاتيا إلى غير النهاية ، وليس ذلك التسلسل لكونها في الاعدام محالا.

اقول : الوجه عند الحكماء في عدم استناد القديم الممكن إلى واجب الوجود المختار بمعنى كون فعله مسبوقا بالقصد أنّ الواجب لذاته لا يجوز أن يكون عندهم فاعلا بالقصد - لما مرّ - ، فالتعليل الّذي ذكر في الدليل المذكور لعدم استناده إليه مع الاعتراض عندهم ساقط. فهذا الاعتراض ساقط على قواعد الحكمة ، بل يتوجّه على من علّل عدم الاستناد بما ذكر من أنّ القصد إلى الايجاد متقدّم على الايجاد المحال.

وأمّا الاعتراض الثاني فالحقّ امكان ورود مثله على قواعد الحكمة أيضا ، ولكن فيه تفصيل وتنقيح لا بدّ أن يشار إليه. فنقول : القديم إمّا قديم بالذات أو قديم بالزمان (1) ، والثاني على قسمين : أحدهما : ما هو متقدّم على الزمان ومتعال عنه ولا يعلّل وجوده بالزمان بوجه ، وهو الّذي اشرنا إليه انّه المبدع لا في زمان المرادف للحادث الذاتي - وذلك مثل العقول والعالم الأعلى والافلاك عند الحكماء - ، وثانيهما : ما هو متأخّر عن الزمان تأخّرا ذاتيا أو مقارن له ومعلّل به من وجه ، وهو الّذي خصّص / 41MB / بعض المتأخّرين اسم القديم الزماني به - كما اشرنا إليه قبل ذلك -. وذلك مثل الاتصال والالتيام للأجسام الفلكية والعنصرية والسكون للعناصر وأمثال ذلك ، فانّها واقعة في طرف الزمان معلّلة به.

ولا ريب في امتناع العدم على القديم بالذات والقديم بالزمان بالمعنى الأوّل ، لأنّ منشأ التغيّر والتبدّل والوجود بعد العدم وبالعكس هو الزمان ، لعدم استقراره وثباته وجمعه المتقابلات واختلافاتها لاتساع ذاته ، فما هو خارج منه متعال عنه غير محمول في طرف متقدّر ، بل قائم بذاته أو بعلّته فقط ، فانما حامل وجوده وعدمه جميعا هو ذاته أو علّته. فان كان موجودا استحال عدمه ، وإن كان معدوما استحال وجوده - لاستحالة التناقض -. فهذا الموجود - أي : الخارج عن ظرف الزمان - اوّل وجوده ووسطه وآخره واحد لا يمتاز له قبل ولا بعد ، فكونه موجودا هو عين كونه باقيا. وأمّا القديم الزماني بالمعنى الثاني فلا يبعد أن يجوز عدمه ، لاحتمال أن يكون رفع مانع مربوط

ص: 190


1- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 3 ، ص 255 ؛ درّة التاج ، ج 3 ، ص 29.

الوجود بالزمان وتدريجه من تتمّة العلّة التامّة لوجوده. فحيثما كان المانع في الأزل معدوما كانت العلّة التامّة موجودة ، فكان معلولها موجودا. ولمّا وجد بتدريج الزمان مانع وجوده فنقصت العلّة فصار معلولها معدوما ، وذلك مثل خرق السماء وشقّ القمر وامثالهما ، فانّه يجوز أن يكون عدم داعية الاعجاز من تتمّة العلّة المستقلّة لاتصال السماء والقمر ، فحيثما عدم هذا الداعي ولم يكن لها داع إلى الانخراق والانشقاق كانت الافلاك مصونة ملتئمة ، ولمّا حدث لها بتدريج الزمان داعية الاعجاز نقضت العلّة ، فعدم معلولها. ولا ريب انّ السكون إذا كان قديما يكون من هذا القبيل ، فيجوز أن يكون من تتمّة العلّة التامّة لوجوده عدم حدوث حادث مربوط الوجود بالزمان وتدريجه ، فحيث لم يحدث الحادث في الأزل وجد السكون ، فلا يبعد زواله إذا حدث ذلك بتدريج الزمان.

وبذلك يظهر أنّ العمدة في اثبات تناهى السكون للأجسام الساكنة هما الوجهان الأوّلان لا الدليل الّذي استدلّ به في المشهور. وإذ ثبت تناهي العالم من جانب البداية (1) يبطل به الحدوث الذاتي - أعني : القدم الزماني - ، اذ على القول به يكون الافلاك والعناصر غير منفكّة عن الواجب - تعالى - في الخارج ولا يوجد بينهما فاصلة.

ولا ريب أنّ الواجب - تعالى شأنه - ازلي لا بداية له ، فتكون الافلاك والعناصر أيضا كذلك ، فيلزم عدم تناهي الحركات والزمان ؛ وقد علم تناهيها.

فان قيل : مجرّد تناهي العالم من جانب البداية لا يبطل القدم الزماني ؛ لأنّه إذا كان العالم متناهيا ولكن كان متّصلا بالواجب ولم يتحقّق بينهما انفصال حتّى امكن أن يقال كان الواجب ولم يكن العالم كان العالم حينئذ قديما ، والقول به ليس إلاّ قولا بالقدم. ولو اطلق عليه الحدوث فلا يكون إلاّ بمجرّد الاصطلاح على اطلاق الحادث والقديم على ما كان زمان وجوده متناهيا وغير متناه ، وهو غير مفيد ، ولو جوّز هذا فلم لا يجوز كونه غير متناه أيضا؟!. والمفسدة فيه ليس إلاّ لزوم عدم الانفكاك بين الواجب - تعالى - وبين العالم ، وهو قد لزم في صورة التناهى أيضا!. فما لم يتبيّن

ص: 191


1- النسختان : + و.

الانفكاك / 41DA / والانفصال بين الواجب وبين العالم لا يبطل القدم ، ومجرّد ثبوت تناهى العالم لا يكفي لذلك.

قلنا : القائلون بالقدم متفقون على عدم تناهي العالم من جانب البداية ، والقدم عندهم مفسّر بعدم تناهي العالم ، لا بمعيته للواجب - تعالى - في الوجود وعدم الانفصال بينهما في الخارج ، لأنّ وجود الواجب - تعالى - ليس زمانيا ، فلا معنى لاتصال العالم به وانفكاكه عنه. ولا جائز أن يوصف بمعيته له أو تأخّره عنه - سواء كان العالم / 42MA / متناهيا أو غير متناه -. وإذا كان مرادهم بالقدم هو عدم تناهى العالم فاذا ثبت تناهيه يبطل القدم ؛ ولم يجوّز أحد من الحكماء القائلين بالقدم الزمانى للعالم كونه متّصلا بالواجب - تعالى - في الخارج مع كونه متناهيا من جانب البداية.

فان قيل : ليس المراد بالانفصال والانفكاك أن يتحقّق زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب فيه ولم يكن العالم ، وكذا ليس المراد بالاتصال والمعية أن يتحقق زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب والعالم فيه معين متقارنين ؛ بل المراد بالأوّل وقوع انفكاك يصحّح القول بانّه كان الواجب في الواقع والخارج ولم يكن العالم فيه ، والمراد بالثاني ثبوت تلازم يصحّح القول بانّه كلّما كان الواجب موجودا في الخارج كان العالم موجودا معه ؛ فالمراد بالحدوث هو الأوّل وبالقدم هو الثاني ، سواء كان العالم متناهيا أو غير متناه.

قلنا : مجرّد التلازم بين الواجب والعالم في الوجود الخارجي - وإن كان العالم متناهيا - ليس قولا بالقدم ، ولذا لم يقل به أحد من الحكماء القائلين بالقدم كما لم يقل به أحد من المليين القائلين بالحدوث. والسرّ انّه يستلزم تناهي بقاء الواجب - تعالى شأنه - ، لانّه إذا صدق انّه كلّما كان الواجب موجودا كان العالم موجودا وكان وجود العالم متناهيا فكان وجود الواجب أيضا كذلك.

ولا يقال : انّ وجود الواجب لا يتصف بالتناهي وعدم التناهي ، فلا يلزم الفساد المذكور ؛ لأنّا نقول : لمّا كان وجود الواجب - تعالى شأنه - في الواقع والخارج بحيث

ص: 192

وجد (1) في ذلك الواقع وجود العالم أيضا وكان متناهيا منقطعا يصدق انّ وجود الواجب أيضا منقطع ، وهذا كوجود الافلاك فانّها أيضا خارجة عن الزمان ولا ينطبق وجودها عليه. إلاّ انّه إذا كان وجودها في الواقع بحيث لو فرض فيه زمان كان متناهيا لصدق تناهيها أيضا. وهذا كما يوجب حدوث العالم يوجب حدوث الواجب أيضا - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا! -. فهذا الاحتمال - أي : التلازم بين الواجب والعالم - مع فرض تناهي العالم احتمال فاسد عند العقل ليس مبنى شيء من الحدوث والقدم ، بل مبنى الحدوث على تناهى العالم وإن استلزم الانفكاك بين الواجب والعالم في الوجود الخارجى وعدم التلازم بينهما ، ومبنى القدم على عدم تناهيه وإن استلزم التلازم والمعية في الوجود بينهما. والسرّ انّ الحكماء والمليين متفقون على ازلية الواجب - تعالى - وقدمه بمعنى دوام وجوده وبقائه في الخارج بحيث لو فرض فيه الزمان كان غير متناه ، فالحكماء قالوا : وجد فيه الزمان فحكموا بعدم تناهى العالم والزمان ، والمليون قالوا لو لم يوجد فيه ولكن بحيث لو وجد فيه لكان غير متناه. فالحكماء حكموا بأزلية وجود الواجب والعالم والمليون حكموا بأزلية وجود الواجب دون العالم ؛ هذا.

مع أنّ المطلوب هاهنا انّ مجرّد اثبات تناهي العالم من جانب البداية يستلزم ابطال القدم بالمعنى الّذي اثبته الفلاسفة ، ولا ندّعي انّ مجرّد ذلك يثبت تمام المطلوب الّذي نحن بصدده - وهو ثبوت الانفكاك الواقعى بين الواجب والعالم - ، وصحّة قولنا : كان الواجب موجودا في الخارج ولم يكن العالم ، فانّ ذلك يأتي بيانه مفصّلا ؛ هذا.

وممّا يدلّ على تناهي العالم من جانب البداية - بل على حدوثه بعد العدم المحض - اجماع الأنبياء والمليين واتفاق أهل الأديان أجمعين (2) ، فانّه قد ثبت بالتواتر القطعي من الأنبياء وأوصيائهم تناهي العالم من جانب البداية وحدوثه بعد العدم المحض والليس الصرف ، بحيث لا يتطرّق إليه شائبة تجوّز وتأويل. والعقل السليم إذا تشبّث بذيل الانصاف واجتنب عن العناد واللجاج ولاحظ انّ جمّا غفيرا من أولى النفوس القادسة وذوي العقول الثاقبة - الّذين لم ينحرفوا / 42MB / قطّ عن الصراط القويم و

ص: 193


1- الاصل : - وجد.
2- راجع : رسالة الحدوث ، ص 181.

فاقوا على طوائف العباد أجمعين ، وتأيّدوا من عند اللّه تعالى بالمعجزات الباهرة والآيات القاهرة - قد اتوا بتناهي العالم من جانب البداية وحدوثه ودانوا به واصرّوا على ذلك وتشدّدوا في الانكار على منكريه - مع انّه لا يضرّهم القول بقدم العالم بوجه - يجزم بانّهم لم يأتوا به إلاّ عن يقين قطعيّ وصدق واقعى ، إذ القول بعدم ثبوت الحدوث بعد العدم من الأنبياء. ومنع تحقّق الاجماع مكابرة صرفة ومجادلة محضة ، كيف وجمّ / 41DB / غفير من مشاهير علماء الفريقين ادّعوا الاجماع عليه؟! ، والأخبار الدالّة عليه بلغت حدّ التواتر ؛ منها : الحديث المشهور الّذي تلقّته الأمّة بالقبول وهو قوله - صلی اللّه علیه و آله - : كان اللّه ولم يكن معه شيء (1).

فان قيل : المعية المنفية في هذا الخبر ليست هي المعية الزمانية - كما يأتي بيانه - ، ولا المعية الشرفية ، فبقى أن تكون هي الذاتية الّتي هي تأخّر الأشياء جميعا بمحض ذواتها عن ذات العلّة وافتقارها الذاتي إليها ؛

قلنا : لا ريب في أنّ المعية المنفية ليست زمانية ولا شرفية ، بل هي المعية الدهرية ، فالمراد : انّ اللّه - تعالى - كان موجودا في حاقّ الواقع ومتن الدهر ولم يكن معه العالم بمعنى انّ العدم المحض والليس الصرف كان سابقا عليه - كما يأتي بيانه مفصّلا -. فالمراد من الخبر نفي القدم الدهري من العالم وهو أن لا يسبقه عدم في متن الدهر بأن يكون ازلي الحصول في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر. وهذا المعنى هو الظاهر من الخبر والمتبادر عند اهل اللسان والمتعارف المألوف من عرف ارباب الشريعة.

وأمّا حمل المعية المنفية على المعية الذاتية والقول بأنّ المراد بيان مجرّد التقدّم الذاتي - كتقدّم اليد على المفتاح - ، فممّا لا يكاد يفهمه أهل اللسان وليس مألوفا من عرف صاحب الشرع ، ولا ينتقل إليه اذهان السامعين ولا يوافقه ألسنتهم ، مع انّ اللّه

ص: 194


1- هذا الحديث - كما قال المصنّف ; - تلقّته الامّة بالقبول ، فيوجد في كثير من مصادر الفريقين. راجع : بحار الأنوار ، ج 57. ص 234 ؛ صحيح البخاري ، ج 4 ، ص 129 ، ج 9 ، ص 152 ؛ اتحاف السادة المتقين ، ج 2 ، ص 105.

- تعالى - يقول : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) (1) ؛ هذا.

وأورد على الاستدلال بالنصّ والاجماع على حدوث العالم : بأنّه دوري ، إذ حجية النصّ والاجماع موقوفة على ثبوت الشرع ، وثبوت الشرع موقوف على العلم بصدق الأنبياء ، والعلم بصدقهم موقوف على العلم بقدرته - تعالى - ، إذ لولاه لجاز أن لا يقدر على منع اظهار المعجزة على يد الكاذب أو لا يكون صدور المعجزة منهم من جانبه - تعالى - ومن قدرته. والعلم بالقدرة - بمعنى جواز انفكاك العالم عن ذاته تعالى بالنظر إلى الداعي - هو عين العلم بحدوث العالم ، فيتوقّف حجية النصّ والاجماع بوسائط على العلم بالحدوث. فلو كان الحدوث موقوفا عليهما لزم الدور ؛

والجواب : انّ العلم بصدق الأنبياء - علیهم السلام - لا يتوقّف على القدرة بهذا المعنى ، بل انّما يتوقّف على القدرة بالمعنى الأوّل المشهور - يعنى كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل - ، أي : يكون صدور الفعل منه بالمشية والإرادة ، فانّه إذا علم أنّ صدور الفعل منه - تعالى - بالمشية والإرادة يحصل العلم بصدق الأنبياء ، لأنّه - تعالى - لا يشاء ولا يريد اظهار المعجزة على يد الكاذب ، وان لم يعلم الانفكاك بين الواجب والعالم. الا ترى انّ الحكماء لم يقولوا بثبوت القدرة بهذا المعنى له - تعالى - مع انّهم لا يجوّزون عليه - تعالى - اظهار المعجزة على يد الكاذب؟.

ونقل عن غياث الحكماء انّه قال في رسالته المسمّاة بدليل الهدى : (2) ويمكن أن يقال بمجرّد مشاهدة المعجزة يحصل العلم بصدق صاحبها بلا احتياج إلى مقدّمة أخرى.

وحينئذ يمكن اثبات الاختيار بأيّ معنى كان ولو بالمعنى الأوّل ، بل اثبات الواجب وصفاته الكمالية أيضا بالشرع.

وقال بعض الفضلاء : الحقّ أن يقال : انّ اثبات النبوّة موقوف على وجود القدرة والاختيار لا على العلم بوجودهما ، لأنّا نعلم بديهة انّ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلا يجب تنزيهه - تعالى - عنه ، وهذا القدر كاف / 43MA / في اثبات النبوّة. و

ص: 195


1- كريمة 4 ، ابراهيم.
2- لم أعثر على هذه الرسالة ، والظاهر أنّها لم تطبع بعد.

بعد اثبات النبوّة يثبت صدق النبي - صلی اللّه علیه و آله -. وإذا ثبت صدقه يثبت صدقه في كلّ ما اخبر به ، ومنه حدوث العالم ، فيجوز أن يكون اثبات النبوّة موقوفا على أصل القدرة والاختيار ، والعلم بهما يكون موقوفا على اثبات النبوّة ، فقد حصل اختلاف الجهة فلم يلزم الدور ؛ انتهى.

واعترض عليه : بانّ العلم بأنّ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح يجب تنزيهه - تعالى - عنه ، انّما هو بعد العلم بقدرته ، وأمّا قبل ذلك فيشكل دعوى ذلك جدا ؛ هذا.

وأيضا : لو امكن دعوى ذلك فهذا يكفى في اثبات القدرة ولا حاجة إلى التمسّك بالشرع في حدوث العالم ؛ انتهى.

وغير خفي انّ الفرق بين هذا الجواب وبين ما نقلناه عن غياث الحكماء : انّ مبنى جوابه على انّ اثبات النبوّة لا يتوقّف على القدرة والاختيار مطلقا ، بل لا يتوقّف على وجود الواجب أيضا ، لأنّ اثبات النبوّة لا يكون إلاّ باظهار المعجزة. ومبنى هذا الجواب على أنّ اثبات النبوّة موقوف على وجود القدرة وليس موقوفا على العلم بها ، فيرد عليه : انّ توقّف اثبات النبوة على القدرة انّما يكون لحصول العلم بأنّ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح ، وذلك التوقّف إنّما يكون على العلم بالقدرة لا على مجرّد وجودها ، فجعل مجرّد وجودها ممّا يتوقّف عليه اثبات النبوّة غير مفيد ، فلا بدّ إمّا أن يدّعى عدم توقّف اثبات النبوّة عليها مطلقا - كما قال غياث الحكماء - أو يجعل الموقوف عليه هو العلم بها ، ويجاب عن الدور بما تقدّم أوّلا. هكذا ينبغي تقرير الايراد عليه.

وأمّا ما اورد عليه / 42DA / المعترض بقوله : وأيضا لو امكن المحال ، فلا يخفى ما فيه ؛ هذا.

فظهر ممّا ذكر من تناهى العالم مضافا إلى اجماع الملّة وأخبار الحجج ثبوت حدوث للعالم فوق الحدوث الذاتي وعدم كفاية مجرّد الحدوث الذاتى ، فانحصر الأمر بين الحدوث الدهري والزماني. وسيأتي بيان بطلان الثاني ليلوح الحقّ من بينهما.

فان قلت : اللازم من دليل التناهي هو حدوث العالم الجسماني من الأجسام و

ص: 196

المقادير القائمة بها - بمعنى تناهي المدّة المفروضة من آن حدوثه إلى ما بلغ -. ولا يلزم منه حدوث المجرّدات كذلك - لتعاليها عن الزمان وانتسابها إليه - ، فيجوز أن يكون العقول حادثة بالذات - أي متأخّرة عن الواجب بمجرّد المرتبة العقلية دون المرتبة الخارجية والواقعية -. ثمّ يوجد اللّه تعالى (1) - بوساطتها أو بدون وساطتها العالم الجسمانى في الوقت الّذي كان قابلا للحدوث فيه ؛

قلت : هذا الاحتمال وإن لم يلزم بطلانه من ادلّة تناهي العالم - لاختصاصها بالعالم الجسماني - ولم يثبت أيضا دليل عقلي على امتناعه ، إلاّ أنّ ما ذكرنا ثانيا من اجماع المسلمين وأخبار الحجج ناهضة بابطاله. فالعمدة في اثبات حدوث المجرّدات بمعنى وجودها بعد العدم الصرف والليس المحض هو الاجماع والاخبار ؛ منها : الخبر المشهور المتقدّم ذكره ، فانّ الظاهر منه تأخّر جميع ما يطلق عليه اسم العالم في الخارج ونفس الأمر عن ذاته - تعالى - ، لانّ لفظ « شيء » وقع نكرة في سياق النفي ، فيفيد العموم. فمعنى الخبر : انّه قد تحقّق الواجب في الواقع والخارج ولم يكن شيء من الأشياء موجودا سوى ذاته الأقدس ، وما سواه كان معدوما بعدم صريح خالص وليس صرف ساذج. وحمل الخبر على انّه - تعالى - كان موجودا في الزمان ولم يكن معه شيء فيه باطل ، لأنّ كون الواجب زمانيا من أشنع المحالات - كما يأتي مفصّلا -.

ومن الأخبار الدالّة على حدوث جميع ما سوى اللّه الخبر القدسيّ المشهور بين أهل الاسلام ، وهو قوله - تعالى - : كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لأعرف (2). فان الظاهر منه انّه - تعالى - كان موجودا في الواقع والخارج ولم يكن غيره من الأشياء موجودا فيهما.

ويمكن أن يقال : الوجه في حدوث المجرّدات من العقول مع عدم دلالة ادلّة التناهي عليه هو عدم قبولها / 43MB / الوجود الأزلي - لامكانها وافتقارها -.

ثمّ هنا بعض دلائل أخر ذكرها جماعة لاثبات حدوث العالم وبطلان قدمه ، و

ص: 197


1- الاصل : ثمّ بوحدانيته تعالى.
2- راجع : بحار الأنوار ، ج 87 ، صص 199 ، 344 ؛ الدّرر المنتثرة ، ص 126 ؛ الاسرار المرفوعة ، ص 273 ؛ تذكرة الموضوعات ، ص 11.

هي عند التحقيق ليست بتامّة فلنذكرها ونشير إلى ما يرد عليها.

منها : ما ذكره المحقّق الطوسي في الفصول والفخر الرازي في الأربعين (1) ، وهو أنّه لو وجد ممكن كان قديما ، فتأثير الفاعل فيه إمّا حال بقائه أو حال عدمه أو حال حدوثه ؛ فعلى الأوّل يلزم تحصيل الحاصل ، وعلى الأخيرين يلزم الخلف مع المطلوب.

ومنها : ما ذكره بعض المتأخّرين ، وهو انّه لو وجد ممكن كان قديما لكان بقاؤه أيضا قديما ، وكما انّ الايجاد في زمان البقاء يستلزم تحصيل الحاصل فكذا ايجاد الموجود القديم - الّذي كان بقائه قديما - يوجب تحصيل الحاصل بالضرورة.

ومنها : ما ذكره بعض المتأخّرين أيضا ، وهو انّ تأثير الفاعل على قسمين :

أحدهما : ايجاد المعدوم ، وثانيهما : ضبط الموجود وابقائه ، وفي الممكن القديم لا يتصوّر الأوّل ، وفي الوجود المكتسب عن الغير لا يكفي الثاني.

ويرد على هذه الأدلّة الثلاثة أنّها منقوضة بمثل تأثر حركة اليد في حركة المفتاح ، فانّ الثانية محتاجة إلى الاولى معلولة لها ، مع انّه ليس بينهما انفكاك زماني ولا دهري.

فيرد عليه أيضا انّ تاثير الأولى في الثانية إمّا حال عدمها أو حال بقائها ، فيلزم أحد المفاسد المذكورة ، فما تقولون في الجواب هنا نحن نقول هناك. وبالجملة إذا تحقّق مثل هذا الربط بين بعض الحوادث بأن يكون حادث مستندا إلى حادث آخر من غير وقوع انفكاك في الخارج بينهما فيجوز تحقّقه بين بعض القدماء أيضا بأن يكون ممكن قديم مستندا إلى قديم آخر واجب بالذات من غير وقوع انفكاك في الخارج. فهذه الأدلّة لا تفيد أزيد من الحدوث الذاتي.

الأمر الثاني : ممّا يتوقف عليه تحقيق الحقّ فيما اخترناه من حقّية الحدوث الدهري انّه لا ريب في انّ المراد من الزمان الموهوم الّذي اثبته المتكلّمون هو الشيء المتكمّم المتصرّم له واقعية ونفس أمرية ، وبالجملة هو كمّ واقعي نفس أمري لا تفاوت بينه وبين هذا الزمان إلاّ بالليل والنهار. وليس المراد به هو الزمان التقديري الّذي

ص: 198


1- راجع : الاربعين ج 1 ص 27.

ذكره الطبرسي في مجمع البيان (1). فانّ المراد به هو الامتداد بمجرّد الفرض والتقدير من دون أن يكون له واقعية ونفس أمرية ، فانّ الاذهان البشرية إذا سافرت من بقعة الزمان والزمانيات إلى صقع الدهر والدهريات تخترع لالفها بالزمان أمرا ممتدا تقديريا تخيّليا / 42DB / من غير شائبة تحقّق له في متن الواقع. ومثل هذا الامتداد نحن نقول به ، لأنّ القول به لا يوجب تحقّق امتداد في نفس الأمر قبل وجود العالم ، بل قبله عدم صرف وليس ساذج. وهذا التقدير انّما حصل منّا ، فالوجود يكون مسبوقا بالعدم الصريح مسبوقية غير زمانية.

ويؤيّد ما ذكرناه من انّ الزمان التقديري غير الزمان الموهوم وأنّ المتكلّمين انّما قالوا بالموهوم دون التقديري ما ذكره بعض المحدّثين من أصحابنا من انّ اوّليته - تعالى - وآخريته فسّرتا بوجوه :

الأوّل : أن يكون المراد بالأسبقية بحسب الزمان ، وهذا انّما يتمّ إذا كان الزمان أمرا موهوما - كما ذهب إليه المتكلّمون - ، أو بحسب الزمان التقديري - كما ذكره الطبرسي في مجمع البيان -.

وإذ ثبت انّ المراد بالزمان الموهوم هو الامتداد الواقعي النفس الأمري فنقول : ثبوت مثل هذا الشيء قبل ايجاد العالم باطل بوجوه :

منها : انّه لا يتصوّر في الدهر وفي العدم والليس الصريح المحض امتداد وتصرّم وحدّ وتمايز ولا نهاية ، إذ ذلك من لوازم وجود الحركة.

وأورد عليه : بانّا لا نسلّم انّ الاتصاف بالامتداد / 44MA / والانقضاء وامثاله فرع وجود الحركة ، لم لا يجوز أن ينتزع من استمرار وجود الواجب أمر ممتدّ على سبيل التجدّد والتفصّي؟! ، بل الظاهر انّه كذلك ولا استبعاد فيه. كيف وانّهم يقولون انّ الحركة القطعية ينتزع من الحركة التوسطية والزمان ينتزع من الآن السيال ، فكما جاز هناك انتزاع الأمر الممتدّ المتجدّد المتفصّي من الأمر الشخصي الّذي لا امتداد فيه و

ص: 199


1- الظاهر انّه اشارة إلى ما جاء به الطبرسي تفسيرا على مبتدأ سورة الانسان المباركة ؛ راجع : مجمع البيان ، ج 10 ، ص 406.

لا انقسام ولا تجدّد ولا انقضاء فكذلك يجوز هاهنا أيضا بلا تفرقة اصلا ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا الايراد في غاية الوهن والركاكة! ، لأنّه كيف يجوّز عاقل أن ينتزع من الوجود الاحدي الصرف الثابت المتعالي عن الزمان والحركة شيء سيال متجدّد ممتدّ؟! ، بل ما هو نفس الزمان بعينه ، لعدم الفرق بين هذا الزمان والزمان الموهوم بالحقيقة - كما اشير إليه -. ويدلّ عليه أيضا ما قال بعض المثبتين للزمان الموهوم : انّا لا نقول انّ عدم العالم كان في وعاء ممتدّ يتجدّد وينقضي كوجود زيد في الزمان ، بل هو كعدم زيد في زمان قبل زمان وجوده ، ولا تفاوت إلاّ بأنّ هذا الزمان يتبعّض بالليل والنهار ويتّصف بما شأنه ذلك من الصفات ، وليس ذلك فى ذلك الزمان ، وعلى هذا يلزم اعترافهم بكون الواجب محلاّ لمثل هذا الزمان (1). وأيّ عارف بالحقيقة الواجبية وصفاته الكمالية يتفوّه بمثل هذا الكلام ، والمتعالي عن التغير والحدثان والمتقدّس عن التجدّد والسيلان ومن هو (2) صفاته وافعاله خارجة عن بقعة الزمان والمكان كيف ينتزع الأمر الممتدّ المتجدّد المتصرّم الواقعي النفس الأمري عن حاقّ ذاته الاقدس؟! ، أليس المناسبة بين المنتزع - الّذي هو المعلول - والمنتزع عنه - الّذي هو العلّة - لازمة؟! ، وأيّ مناسبة بين الثابت والمتغير والبسيط الحقيقي والمركّب من أجزاء غير متناهية وليس ذلك الزمان عرضا واقعيا نفس أمري؟!. فكيف يقوم بالوحدة الحقّة والبساطة الصرفة. أو لا يوجب ذلك تركّبا وتكثّرا في ذات الواجب - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا؟ -. ثمّ ما ذكره من التمثيل لا دخل له بالممثّل له ، وشتّان ما بينهما!. فانّ حركة الوسطيّة والآن السيّال ليسا أمرين ثابتين ، بل هما متجدّدان متصرّمان سيّالان يحدثان في الذهن أو الخارج على اختلاف الرأيين في الحركة والزمان ، ولو لم يكن لهما تجدد وسيلان لم يحدثا الحركة القطعية والزمان ، فيكون التغير والتجدّد والتصرّم من شرائط ارتسام الأمر الممتدّ السيال ، وهو واضح.

ثمّ الانصاف انّ المتكلّمين يقولون : انّ اتصاف عدم العالم السابق عليه بالتقدّر والامتداد وأمثالهما إنّما هو بالعرض باعتبار وعائه الّذي هو هذا الأمر الممتدّ المنتزع من

ص: 200


1- الاصل : محلا بمثل هذا البرهان.
2- الاصل : هو من.

ذات الواجب ، ولا يقولون انّ الأمر الممتدّ هو عين هذا العدم الصرف - لي لزم كون محض العدم زمانا أو حركة -. والحاصل إنّهم يقولون : انّ عدم العالم كان في وعاء ممتدّ متجدّد منقض كوجود زيد في الزمان ، وكما انّه لا يلزم منه كون وجود زيد زمانا أو حركة كذلك لا يلزم هناك أيضا كون العدم زمانا أو حركة ، بل ليس إلاّ كعدم زيد في زمان قبل زمان وجوده. ولا تفاوت إلاّ بأنّ هذا الزمان يتبعّض بالليل والنهار ويتّصف بما شأنه ذلك من الصفات ، وليس ذلك في ذلك الزمان.

فاللازم على هذا ليس إلاّ وجود الزمان هناك ، والقائلون بالزمان الموهوم يلتزمونه لا كون العدم هو الحركة أو الزمان.

وبذلك يندفع ما أورد عليهم السيد الداماد في جملة ما أورد عليهم : انّه لو تصحّح في العدم ما توهّموه لكان هو الزمان بعينه أو الحركة بعينها اذ كان متكمّما سيالا كلّه أزيد لا محالة عن بعضه وابعاضه متعاقبة غير مجتمعة ، فإمّا انّه بالذات على تلك الشاكلة فيكون هو الزمان ، أو بالعرض فيكون / 43DA / هو الحركة ، فقد اطلقوا على الزمان أو على الحركة اسم العدم ، / 44MB / فليت شعري بأيّ ذنب استحقّ الزمان أو الحركة سلب الاسم والالحاق بالعدم؟!.

ومنها : انّ هذا الامتداد لكونه منتزعا من الواجب - تعالى شأنه - وكون الواجب قديما أزليا يلزم أن يكون غير متناه ، وهو باطل لجريان التطبيق وغيره من ادلّة بطلان عدم التناهي في الكميات ، وادلّة بطلان التسلسل بعد أن يفرض اشتمال هذا الكمّ على أعداد - كالازرع وأمثالها -.

فان قيل : انّه ليس موجودا خارجيا حتّى يتأتّى فيه التطبيق ؛

قلنا : انّهم يقولون انّ له تحقّقا في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر ، فيثبت في الواقع ونفس الأمر ما هو غير متناه ويصحّ أن نطبق بين شيئين متحقّقين في الواقع - كما مرّ في التسلسل في الأمور المتعاقبة - وإن لم تكن مجتمعة في الوجود. وقال السيد المحقّق الداماد - رحمه اللّه - : على ما ذكره المتكلّمون يكون الباري الحقّ - سبحانه - واقعا في حدّ بعينه من ذلك الامتداد العدمي - تعالى عن ذلك - والعالم في حدّ آخر بخصوصه ،

ص: 201

حتّى يصحّ تخلّل ذلك الامتداد الموهوم بينه - سبحانه - وبين العالم ويتصحّح تأخّر العالم وتخلّفه عنه - سبحانه - في الوجود ، فاذن إذا كان ذلك الامتداد غير متناهي التمادي كان غير المتناهي محصورا بين حاصرين ، هما حاشيتاه وطرفاه (1) ؛ انتهى.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ مرادهم بقولهم « بين الباري الحقّ وأوّل العالم زمان موهوم ازلي » : انّه كان قبل العالم امتداد موهوم لم يكن العالم فيه ، وكان الحقّ - تعالى شأنه - فيه بالمعنى الّذي يقال الآن انّه - تعالى - موجود ، لا انّ ذلك الزمان واسطة بينه - تعالى - وبين العالم بحيث يكون هو - تعالى - في أحد الحدّين والعالم في الحدّ الآخر حتّى يلزم كون غير المتناهي محصورا بين حاصرين ؛ انتهى.

والظاهر - كما ذكره المورد - انّه لا يلزم كون غير المتناهي محصورا بين حاصرين - كما ذكره السيّد - ، لأنّ المتكلّمين يقولون : انّ هذا الامتداد منتزع من الواجب قبل ايجاد العالم وبعده ، ويكون عدم العالم في بعضه ووجوده في بعض آخر منه وابتداء وجوده يقارن جزء منه ، فالواجب هو محلّ هذا الامتداد عندهم ، لا أن يكون هو شيئا خارجا عن الواجب متّصلا أحد طرفيه به وإن كان جزء منه متّصلا بأوّل العالم ومقارنا له.

نعم! ، يمكن أن يقال : لمّا كان هذا الزمان غير متناه يمكن أن يستدلّ على ابطاله بوجوه :

منها : لزوم المفسدة المذكورة - أي : كون غير المتناهي محصورا بين حاصرين - من فرض وجوده ، فلذلك لا يبعد أن يدّعى لزوم كون غير المتناهي محصورا بين حاصرين ، بناء على تحقّق الزمان الموهوم. مثلا نقول : لو كان الزمان الموهوم متحقّقا مع كونه غير متناه لاشتمل في الواقع ونفس الأمر على عدّة غير متناهية كالازرع ومثلها ، فنقول : يلزم كونه محصورا بين حاصرين بوجهين : أحدهما : انّه لا ريب في انّه تعرض لهذه العدّة مرتبة من العدد معينة البتة - لأنّ كلّ جملة متحقّقة في الواقع معينة الآحاد يعرضها عدد معيّن ضرورة - ، ثمّ نقول : يوجد في هذه الجملة مراتب اعداد

ص: 202


1- راجع : القبسات ، ص 31.

ناقصة عنها بواحد أو اثنين أو بثلاثة أو أربعة وهكذا طبقات مترتبة متنازلة غير متناهية ويوجد فيها واحد البته لا مرتبة تحته ، فيوجد بين مرتبة العدد الّذي لكل السلسلة وبين مرتبة الواحدية مراتب غير متناهية مترتبة مع كونها محصورة بين حاصرين - هما مرتبة العدد الّذي للكلّ ومرتبة الواحدية -.

وثانيهما : انّ كلّ عدد التئم من آحاد مترتبة وكان له نصف فما لم يحصل له نصف أوّلا لا يحصل كلّه ، وهو بديهي ، فلما تحقّق في الزمان الموهوم اعداد غير متناهية في الواقع لها مبدأ فنقول : لا ريب في انّه يوجد في هذه الأعداد آحاد فردية غير متناهية وآحاد زوجية غير متناهية ، ويكون بإزاء كلّ واحد من الأولى واحد من الثانية وبالعكس ، فالآحاد الزوجية مثلا نصف السلسلة ، فلعدد السلسلة نصف البتة.

فاذا اعتبرت الجملة من حيث انّ آحادها المترتبة مأخوذة مع الثواني والترتيب يجب أن يحصل نصفا أوّلا ثمّ يحصل الجملة - لما ذكرناه من أنّ كلّ عدد له نصف - فما لم يحصل نصفه لم يحصل كلّه. ولا ريب انّ النصف الّذي يوجد محصور بين / 45MA / المبدأ ومبدأ النصف الآخر مع انّ الفرض انّه غير متناه ، فكذا كلّه.

ومنها : انّ المتقدّس عن الغواشي والعلائق يكون مع أيّ امتداد فرض ومع كلّ جزء من اجزائه وكلّ واحد من حدوده معينة غير متقدّرة على سبيل واحد ومحيط بجميع اجزائه وحدوده على نسبة واحدة موجودا كان ذلك الامتداد أو موهوما ، فاذن اختصاص العالم بحدّ من حدود ذلك الامتداد الموهوم لا يفيد تأخّره وتخلّفه عن الباري الحقّ اصلا ، فانّه إذا كان امتداد الزمان الموجود بالقياس إليه - تعالى - على هذا السبيل فالزمان الموهوم بالقياس إليه أجدر. بل التحقيق انّ الحادث بالزمان / 43DB / أيضا لا يجوز أن يصل عدمه السابق بينه وبين الواجب - تعالى شأنه - وصل كينونة المعلول. لا أن يتوهّم الواجب - تعالى - عند رأس الزمان ويجعل ذا وضع واشارة ، لأنّ انفصال الزمان الّذي هو من الاعراض الجسمانية بين المجرّد المتعالي عن جميع الجسمانيات من الجواهر والاعراض والامكنة والازمان وبين غيره غير معقول ، فانّ القول به توجب جعله - تعالى - ذا وضع واشارة ، وهو بديهي البطلان.

ص: 203

وبذلك يظهر انّه لا معية بين الواجب وبين العالم بوجه أصلا ؛ أمّا بحسب الذات والوجود والشرف فلأنّه - تعالى - علّة العالم ، فهو أقدم على كلّ ما سواه بمحض ذاته ووجوده والاشرف لغيره إلاّ منه ؛ وأمّا بالمكان والزمان فلأنّه خارج عنهما محيط بهما ، فلا يوصف بهما بمعية وغيرها ، إذ الاتصاف بهما بمعية وغيرها يتوقّف على توهّم كونه فيهما ، وقد علم بطلانه.

وأورد عليه : بأنّ القول بالامتداد المذكور ليس إلاّ ليصحّح تحقّق العدم قبل الوجود ، وقد صحّ ذلك ، ومرادهم من تخلّف العالم عن الحقّ - سبحانه - ليس إلاّ ذلك لا انّه كان الواجب في وقت لم يكن العالم فيه حتّى يقال : انّ الواجب بريء عن الكون في الوقت ، فلا يصحّ ذلك. على انّه يمكن القول بمقارنة وجوده - تعالى - للوقت ، فحينئذ يتصحّح التخلّف بهذا المعنى أيضا. وبالجملة : انّا لا نقول انّه لا يجب أن يكون زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب فيه ولم يكن العالم حتّى يرد ما ذكرت ، بل الغرض انّه يتحقّق انفصال بين الواجب والعالم وتصحّ فيه قولنا : كان الواجب بالمعنى الّذي تصح الآن ولا يكون العالم فيه. على أنّ الظاهر أنّه كما يقال في الأجسام انّه زماني بمعنى أنّ وجوده مقارن لوجود الزمان يصحّ ذلك في شأن الواجب - تعالى - أيضا ، اذ يصدق انّ وجوده مقارن لوجود الزمان نفسه ؛ فلا يصحّ أن يقال : انّه زماني بمعنى أنّ وجوده ينطبق على الزمان مثل الحركة ، ولا يصحّ ذلك في الجسم أيضا ؛ انتهى.

وفيه : انّ تحقّق العدم أيّ حاجة له إلى هذا الامتداد؟ ، بل هو مناف لحقيقته - كما مرّ - ، والعدم بنفسه يصلح للفصل والتخلّف والانفصال (1) - كما يأتي -. فإذا كان نسبة الواجب إلى جميع اجزائه على السواء ولم يفتقر إليه في تصحيح التخلّف والانفصال كان القول بوجوده باطلا.

فان قيل : إذا اتصف العدم في نفس الأمر بانّه سابق على الوجود سبقا غير ذاتي فيكون محتاجا إلى وعاء وطرف يكون فيه ، ويتصف لا محالة بالتقدّر والتكمّم وغيرهما ، وكونه سابقا عليه بدون ذلك لا يقدر على تعقّله ؛

ص: 204


1- الاصل : - الانفصال.

قلنا : هذا مجرّد استبعاد منشأه عدم تعقّل غير الزمانيات والف الذهن بها ، وهل التقدّم يلزم أن يكون منحصرا بالتقدم بالزمان؟!. وأمّا انّ تقدّم العدم الواقعي على الوجود من أيّ قسم من التقدّم فيأتي الكلام فيه.

ثمّ ما ذكره المورد أخيرا من مقارنة وجود الواجب للزمان كمقارنة وجود الاجسام فهو إجراء الصفات المادّي المحدث على المجرّد القديم وجهل باللّه الكريم! ، وكيف يقارن صرف الوجود المجرّد عن المادّيات وغواشيها والمتعالي عن الجسمانيات وما يقربها والمحيط بالأجسام وما يلحقها من اعراضها من الزمان والمكان بالزمان!؟ ، وهل يشكّ عاقل بأنّ الأزمنة بآزالها وآبادها بالنسبة إلى حرم كبريائه كان واحد والأمكنة بعلوها وسفلها بالنظر إلى ساحة قدسه كنقطة واحدة؟!.

على أنّ المتكلّم الّذي يريد حفظ قوانين الشريعة الطاهرة كيف يتكلّم بمثل هذا الكلام؟!. مع أنّ ما ورد في الشرع / 45MB / من الأخبار الدالّة على تقدّس ذاته - تعالى - عن الاتيان إلى الزمان - بأيّ طريق كان - أكثر من أن يحصى ؛

روى شيخنا الاقدم محمد بن يعقوب الكليني - رحمه اللّه - في الكافى عن أبي عبد اللّه - علیه السلام - انّه قال : من زعم انّ اللّه من شيء أو في شيء أو على شيء فقد كفر (1)! ؛

وروى الصدوق في توحيده عن أبي ابراهيم - علیه السلام - انّه قال : انّ اللّه - تعالى - لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان (2) ؛

وعنه - علیه السلام - انّ اللّه - تبارك وتعالى - لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون ، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون ، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا (3) ؛

وعنه - علیه السلام - : انّ اللّه - تبارك وتعالى - كان لم يزل بلا زمان وهو الآن كما كان (4).

ص: 205


1- راجع : الكافي / الأصول ، ج 1 ، ص 128.
2- راجع : التوحيد ، ص 184.
3- راجع : نفس المصدر ، ص 184.
4- راجع : نفس المصدر ، ص 179.

وأمثال هذه الأخبار بلغت حدّ التواتر. ومن تأمّل في كلام مولانا أمير المؤمنين - علیه السلام - في نهج البلاغة يعلم انّ من وصف اللّه - تعالى - بالزمان ونسبه إليه لم يكن من العارفين باللّه وصفات كماله ونعوت جلاله (1).

ومنها : انّ الزمان والمكان متشابهان متساويان في الاحكام ، فكما انّ وراء الامتداد المكاني - أعني : فوق الفلك الاقصى المحدّد لجهات العالم - عدم صرف لا خلأ ولا ملأ ولا امتداد لا لا لا امتداد ولا نهاية ولا لا نهاية وإذا بلغ انسان إلى السطح المحدّب منه لم يمكنه أن يمدّ يده ويبسطها - لا لمصادم ومانع مقداري ، بل لعدم الفضاء و/ 44DA / البعد وانتفاء المكان والجهة - فكذلك وراء الامتداد الزماني عدم صريح لا تمادّ ولا لا تمادّ ولا استمرار ولا لا استمرار ولا زيادة ولا نقصان ولا نهاية ولا لا نهاية.

وأورد عليه : بانّه تمثيل لا يناسب المباحث الحكمية ، وهو قول على سبيل التوسّع. والمقصود انّه لا شيء ورائه بدون توهّم فوقية أصلا.

وغير خفي انّه ليس مجرّد التمثيل ، بل العقل السليم يحكم بتساويهما وعدم الفرق بينهما ، فانّهم قالوا : انّ فوق محدّد الجهات لا خلأ ولا ملأ مع انّ الفوقية متحدّدة به.

فكما انّ العقل هناك يعلم من تناهي البعد المكاني انّ ورائه عدم صرف ونفي محض وينتزع من ذلك ويحكم بمعونة الوهم انّ لهذا العدم المحض فوقية ما على المكان والمكانيات كفوقية بعض اجزاء المكان على بعض مع انّه لامكان هنا ، كذلك هاهنا يعلم من تناهي الزمان والزمانيات في جانب البداية انّ ورائها عدم صرف ونفي محض ويحكم بانّ لهذا العدم المحض قبلية ما هو على وجود العالم والزمان شبيهة بقبلية اجزاء الزمان بعضها على بعض ؛ ولذا قيل : الحدوث الزماني المتنازع فيه بين الفلاسفة والمليين هو هذا الحدوث لا تقدّم العدم المحض على وجود العالم والزمان ، فالمليون يثبتونه والفلاسفة ينكرونه. واطلاق الحدوث الزماني عليه لكون سبق العدم على الزمان والعالم - كسبق اجزاء الزمان بعضها على بعض -. ولا يلزم من ذلك وجود

ص: 206


1- اشارة إلى ما وقع في بعض خطبه - عليه وعلى اولاده وآبائه آلاف التحيّة والثناء - ، كقوله : لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات .... راجع : نهج البلاغة ، الخطبة 186. ص 274.

زمان قبل الزمان ، بل مجرّد ذلك الزمان الموجود مع ملاحظة تناهيه كاف لانتزاع الوهم وحكم العقل بهذه القبلية. وليس هذا اثبات الزمان الموهوم كما ليس هناك اثبات المكان الموهوم.

فان قيل : لمّا كان الواجب قبل الزمان موجودا فيجب أن ينتزع منه شيء ممتدّ بامتداد بقائه وليس فوق المكان شيء موجود حتّى ينتزع منه المكان الموهوم ، فثبت الفرق ؛

قلت : الواجب - تعالى شأنه - كما هو متعال عن المكان فهو متعال عن الزمان أيضا. فكما انّ وجوده في الخارج لا يوجب انتزاع مكان موهوم منه ، فكذلك لا يوجب انتزاع زمان موهوم عنه ، والفرق تحكّم. وكيف يمكن أن ينتزع مثل هذا الشيء الغير المتناهي الممتدّ المتفصّي المتصرّم المتجدّد منه - تعالى - ، مع أنّ التناهي واللاتناهي والتفصي والامتداد - وما شأنه ذلك من الصفات - من خواصّ المقادير والكميات ولوازمها ، فيكون هذا الزمان مقدارا ، والمقدار كيف يكون محلّه ذات الواجب - تعالى - مع تجرّدها ووحدتها الحقّة؟! ، فانّ محلّ المقدار لا بدّ أن يكون جسما أو جسمانيا. فاذا استحال أن يكون محلّه ذات الواجب فيلزم أن يقوم بمحلّ آخر ، فان كان هذا المحل عرضا فلا بدّ من الانتهاء إلى محلّ جوهري قائم بذاته دفعا للدور والتسلسل ، فيلزم وجود ممكن قديم.

فان قيل : / 46MA / لا ريب في أنّ ذاته - تعالى - من حيث هو لا يمكن أن يكون منشئا لانتزاع هذا الأمر الممتدّ ، بل انّما يتوهّم هذا الامتداد من توهّم بقائه - تعالى - ، فبقائه - تعالى - مقتض لهذا الامتداد بمعنى أنّ هذا الامتداد منتزع من ذات اللّه - تعالى - باعتبار بقائه وأزليته ؛

قلنا : إن اريد بالبقاء دوام وجوده - تعالى - وسرمديته فهذا لا يوجب الامتداد ، لأنّ الامتداد انّما هو لازم لدوام وجود المتغيرات ودوام الذات الثابتة الّتي لم يسبقها عدم لا يوجب ثبوت الامتداد لها - لأنّ وعائها السرمد لا الزمان - ؛ وإن اريد به ما هو نفس هذا الامتداد فنقول : البقاء في الواجب ليس بهذا المعنى ، بل لا يجوز ان يثبت له

ص: 207

البقاء بهذا المعنى ؛ وإن اريد به شيء ممتدّ آخر غير هذا الزمان الممتدّ وتوهّم هذا الزمان إنّما هو لتوهّمه ففيه : انّ تصوّر شيء ممتدّ آخر هو البقاء يوجب الدور ، لأنّ توهّم هذا الزمان يتوقّف على البقاء ، مع أنّ البقاء بهذا المعنى لا يتصوّر بدون الزمان الممتدّ.

فان قيل : إذا لم يتحقّق الزمان الموهوم ولا يكون هو سابقا على العالم لكان السابق عليه هو مجرد العدم المحض ، وسبق العدم على الزمان - على ما قلتم - لا يرجع إلاّ إلى كون الزمان متناهيا من غير أن يكون سبق عدم حقيقة ، بل بمحض التوهّم ؛ وهذا ليس إلاّ القول بالقدم بالحقيقة. لأنّه إذا لم يكن انفصال بين ذات الواجب - تعالى - وبين العالم ولا يمكن أن يقال اصلا انّه كان الواجب ولم يكن العالم فيكون العالم قديما البتة ، ولو اطلق عليه الحادث فلا يكون إلاّ بمجرّد الاصطلاح على اطلاق القديم والحادث على ما كان زمانه متناهيا وغير متناه ، وهو لا يفيد. وبالجملة انّه لا بدّ على طريقة الملّة من القول بوجود آله العالم بدون العالم بأن يكون بينهما انفصال. وعلى ما ذكرتم لا يكون كذلك ، بل يكون وجود العالم متّصلا بوجوده - تعالى - من غير انفكاك ولا انفصال بينهما. ولو جوّز هذا فلم لا يجوز كونه غير متناه أيضا؟!. إذ لا يلزم فيه من الف وإلا عدم الانفصال ، وهو قد لزم في صورة التناهي أيضا ؛

قلنا : قد / 44DB / تقدّم انّ لزوم القدم في صورة تقدّم العدم المحض على العالم ممنوع ، وانّ تحقّق تناهي العالم من جانب البداية مستلزم لارتفاع القدم ، ويأتي انّ مجرّد تقدّم العدم يحصل به الانفصال والتخلّف.

ومنها : انّ القائلين بالزمان الموهوم معترفون بانّه شيء ممتدّ واقعي نفس أمري وقديم أزلي وعاء لعدم العالم ، وغير خفي انّ هذا مخالف لما ثبت من الشريعة المقدسة ومناف لما انعقد عليه اجماع أهل الملّة ، لانّه اثبات موجود قديم في نفس الأمر سوى الواجب ، واجماع المليين وعموم « كان اللّه ولم يكن معه شيء » ومثله من الأخبار يدفعانه.

فان قيل : مرادهم بالعالم المحكوم عليه بالحدوث ما سوى ذلك الامتداد النفس

ص: 208

الأمري من الموجودات الخارجية ، والامتداد المذكور لا وجود له في الخارج وإن كان له وجود في نفس الأمر ؛

قلنا : لا ريب في أنّ هذا الامتداد النفس الامري غير اللّه - تعالى - ، فهو من أجزاء العالم ، والاجماع منعقد على حدوث العالم بجميع اجزائه ، والتخصيص تحكّم.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض الأفاضل من انّه لا شكّ انّ غرض المتكلّمين اثبات الحدوث الزماني ولا استبعاد فيه ، إذ مرادهم بالعالم ما سوى ذلك الامتداد الموهوم ، فانّ المراد به ما سوى الواجب - تعالى - من الموجودات والامتداد المذكور لا وجود له ؛ انتهى.

وذلك لأنّه إن اراد ان لا وجود له اصلا لا في الخارج ولا في نفس الأمر فهو مناف لما صرّح به المتكلّمون ، بل هذا القائل أيضا حيث صرّح بأنّه موجود واقعي نفس أمري لا تفاوت بينه وبين هذا الزمان إلاّ بالليل والنهار. مع أنّه على هذا مجرّد اسم من دون ثبوت للمسمّى ، فيرجع إلى الزمان التقديري الفرضي الّذي أشرنا إليه. ونحن أيضا نقول به ، ولكن كيف يكون مثله أمرا ممتدّا منقضيا ذو اجزاء كثيرة وعاء لعدم العالم ؛

وإن اراد انّه لا وجود له في الخارج ولكنّه موجود في نفس الأمر ، فيرد عليه ما تقدّم من أنّه ليس واجبا بالذات ، فيكون من اجزاء العالم. ولمّا لم يكن قائما بذاته فلا بدّ له من محلّ ، ولا يجوز أن يكون محلّه هو الواجب - تعالى - ، لما مرّ - ، ولا شيء آخر ثابت ، لأنّ / 46MB / الأمر الثابت لا يكون محلاّ للمتجدّد المتغير ، فلا بدّ أن يكون له محل مثل الحركة ، فيلزم قدم الجسم.

والحاصل : انّ الممتنع هو ما يصدق عليه ذلك الامتداد صدقا نفس أمري لا مفهومه ، فان كان له في نفس الأمر مصداق فهو جزء من العالم ، فينفيه الاجماع والاخبار ، وإلاّ فهو محض اسم ليس إلاّ كشريك الباري وأنياب الاغوال.

وكذا يندفع بما ذكرنا وما ذكره بعض أصحابنا القميّين من أنّ العالم حادث بمعنى انّه حدث بعد تقضي امتداد غير متناه في جانب الأزل منتزع من ذات اللّه - تعالى -

ص: 209

باعتبار بقائه وازليته ، وتقدّم العدم على العالم تقدّم بالزمان ، ولكن مرادنا بالزمان ليس مقدار حركة الأطلس بل مرادنا به امتداد انتزعه العقل من ذات اللّه - تعالى - بملاحظة ازليته وبقائه. والزمان بهذا المعنى ليس من جملة العالم ، لأنّه ليس من الموجودات الخارجية ، بل منشأ انتزاعه موجود في الخارج ، فليس تقدّم العدم زمانا على العالم محالا ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع وإن ظهر ممّا مرّ لكنّا نزيده إيضاحا بما ذكره استاذنا المحقّق المازندراني في رسالته الّتي الّفها في هذه المسألة تيمّنا بكلامه. قال (1) - طاب ثراه - بعد نقل الكلام المذكور : كيف لا يكون الزمان الموهوم من جملة العالم مع كونه امرا ممتدّا منقضيا غير متناه ، مع أنّ الاجماع والحديث المشهور من أمير المؤمنين وقول الباقر والرضا - علیه السلام - دلائل لحدوث العالم بمعنى ما سوى الواجب. ولا اختصاص بها بالموجودات الخارجية ، فكم من موجود في الخارج وهو موجود في نفس الأمر ، فهذا الامتداد لمّا كان امرا واقعيا نفس أمريّ كلّه أزيد من جزئه إلى غير ذلك من أمارات الوجود كان منافيا لما مرّ ، وقد مرّ أنّه لا يمكن أن ينتزع من ذات اللّه - تعالى - بملاحظة استمراره وثباته أمر موصوف بالتجدّد والتغير ، فتقدم العدم زمانا على العالم محال بالعقل والنقل. فظهر انّ دليله على عدم كونه من العالم ليس بشيء إذ عدم كونه من الموجودات العينية لا يدلّ على عدم كونه منه ، فانّ المراد به كلّ ما سوى الواجب من الموجودات العينية والنفس الأمرية - أعني : ما لا يكون وجودها وتحقّقها متعلّقا بفرض فارض واعتبار معتبر - ؛ وهي أعمّ من الخارج مطلقا ومن الذهن من وجه لامكان اعتبار الكواذب فيه دون نفس الأمر ، ومثل هذا يسمّى ذهنيا فرضيا. ولا شكّ انّ الزمان الموهوم - على ما قرّروه - ليس من هذا القبيل ، كيف وهم قد حكموا بكونه امرا نفس امري وعاء لعدم العالم ممتدّا متجدّدا متقضيا ذا اجزاء مخصّصة لحدوث الحادث / 45DA / في حدّ منها دون آخر قبله ؛ انتهى كلامه رفع مقامه.

ص: 210


1- هذه الرسالة ألّفها في « ابطال الزمان الموهوم » مع انكاره استدلال السيد الداماد عليه ، راجع : روضات الجنّات ، ج 1 ، ص 118.

فظهر ممّا تلوناه عليك انّ القول بالزمان الموهوم يؤدّي إلى ثبوت قديم سوى اللّه ، وهو خلاف اجماع المليين نعم! الأشاعرة لا يبالون بالتزام مثله ، فانّهم قالوا بقدماء سبعة هي العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر - لأنّ هذه الصفات عندهم قديمة زائدة على الذات - ، فلو كانوا قائلين بالزمان الموهوم - كما نسب إليهم - لكان القدماء عندهم ثمانية.

ثمّ انّ البقاء والوجود والموصوف به أيضا زائدان عندهم ، فتلك عشرة كاملة! ، قال أستاذنا - رحمه اللّه - : العجب انّ الاشاعرة كفّروا الحكماء بقولهم بالايجاب والقدم وهم قائلون بهما جميعا ، لأنّهم قالوا بزيادة الصفات وازليتها وعندهم انّ الازلي لا يكون اثرا للمختار ، فلزمهم القول باستناد تلك الصفات إلى الذات على وجه الايجاب ، فهم كما يقولون بقدم هذه الصفات يقولون بالايجاب. مع أنّ الحكماء لا يقولون بالايجاب ، اذ مجرّد القول بالقديم لا يستلزم استناد ذلك القديم إلى الموجب ، فانّ أثر المختار أيضا يمكن أن يكون قديما بأن تكون له إرادة مستمرة متعلّقة بمقدور أزلي مستمرّ ويكون بعدم القدرة والإرادة عليه تقدّما ذاتيا لا زمانيا ؛ انتهى.

ومنها - على ما قيل - : انّ حدود ذلك الامتداد متشابهة - إذ لا اختلاف في العدم ولا مخصّص من استعداد أو حركة أو غير ذلك - فلم اختصّ العالم بهذا الحدّ ولم يكن حدوثه في حدّ آخر قبله؟.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ هذا مجرّد دعوى بلا دليل ، إذ لعلّه كان اختلاف في اجزائه ، لأنّه ليس عدما محضا لا يجري ذلك فيه ، بل أمر نفس أمري وقع العدم فيه ؛ انتهى.

ولا يخفى ما فيه من التعسّف ، لأنّ الغرض انّه منتزع من ذات الواجب - تعالى - بملاحظة بقائه وازليته ، والشيء المنتزع من الوحدة الصرفة والبساطة المحضة بأي سبب تتأتّى فيه الاختلاف؟!. أليس اختلاف المعلول مستندا إلى اختلاف في العلة؟ ، فبعد قيام الدلالة القطعية على وجوب تشابه الأجزاء فالمنع مكابرة. نعم! يمكن الجواب / 47MA / عن الايراد بأنّ قبول العالم للوجود انّما كان متوقّفا على انقضاء هذا القدر و

ص: 211

انتهائه إلى هذا الحدّ.

ومنها : انّ منشأ ثبوت هذا الامتداد انّما هو تحقّق موجود ما ايّ موجود كان ، لأنّهم قالوا : انّ الباعث لتحقّقه إنّما هو وجود الواجب بملاحظة بقائه ، فما دام الواجب موجودا ينتزع منه هذا الامتداد سواء كان قبل ايجاد العالم أو بعده ، ولا فرق إلاّ بأنّه إذا وجد العالم ينطبق هذا الامتداد على الحركة والزمان ، ولذا قال بعضهم : انّ هذا الامتداد العقلي بمنزلة المذروع وحركة الاطلس بمنزلة خشبة الذراع. فبهذه الحركة يتميّز أبعاض هذا الامتداد فتصير قطعة منها نهارا وأخرى ليلا واخرى أسبوعا وأخرى شهرا وأخرى سنة. وإذا انتزع هذا الامتداد من الواجب بملاحظة بقائه مع وحدته وتجرّده وتعاليه عن الزمان لانتزع بطريق أولى عن كلّ موجود - مجرّدا كان او ماديا ، حيوانا أو نباتا أو جمادا أو غير ذلك - بعدد كلّ فرد من افراد كلّ نوع بحسب بقائه ، إن متناهيا فمتناهيا وإن غير متناه فغير متناه. فيتحقّق في العالم امتدادات واقعية نفس أمرية غير متناهية عددا وإن انطبق بعضها على بعض إلاّ أنّ التغاير بينهما متحقّق ، كما بين الزمان الموهوم والزمان الّذي هو مقدار الحركة الدورية.

فان قيل : بعد تحقّق الحركة الدورية والزمان الّذي هو مقدارها كلّ موجود يوجد فامتداده هو جزء من هذا الزمان ، ولانتزع منه زمان موهوم على حدة ؛

قلنا : الباعث لحصول الامتداد ان كان وجود الشيء بملاحظة بقائه فيلزم أن ينتزع من كلّ موجود له بقاء امتداد خاصّ على حدة وإن انطبق على الزمان الّذي هو مقدار الحركة الدورية - ولو كان وجود الحركة الدورية ومقدارها منافيا لهذا الانتزاع - لوجب أن لا ينتزع الزمان الموهوم من الواجب بعد وجود الحركة الدورية ومقدارها ، وهو خلاف ما صرحوا به.

فان قيل : المسلّم اللازم هو انتزاع امتداد واحد هو أوّل الامتدادات ، وهو الّذي ينتزع من الواجب - أعني : الزمان الموهوم - ، وساير الامتدادات اجزاء له ؛

قلنا : باعث تحقّق الزمان الموهوم - على ما قلتم - هو وجود الواجب بملاحظة بقائه ، والشيء المنتزع من الواجب كيف ينتزع من كلّ واحد من الموجودات المتخالفة

ص: 212

المتباينة؟! ، مع انّ الباعث المستقلّ في كلّ واحد منها متحقّق بطريق أولى. وان ادّعى انّ الامتدادات المنتزعة من سائر الموجودات منطبقة على الامتداد الأوّل فهو ممنوع ، إلاّ انّه لا ينافي التعدّد ، فحصول الامتدادات الواقعية النفس الأمرية الغير المتناهية عددا لازم ، والبديهة قاضية ببطلانه ، فانّا نعلم قطعا انّ الامتداد الحاصل لوجود زيد هو الزمان الّذي هو مقدار الحركة الدورية الّتي وقع وجوده فيه ، وليس هنا امتداد آخر.

فالامتداد الواقعي النفس الأمري يجب أن يحصل من موجود متغيّر متحرّك بالحركة الدورية ، ولولاه لم يتحقّق في الواقع امتداد ولم يوجد / 45DB / زمان. والظاهر أنّ المتكلّمين لمّا التزموا تحقّق الزمان الموهوم المنتزع من الواجب فهم لا يبالون بالتزام انتزاع مثله من كلّ فرد من افراد الموجودات وان بلغ عدده إلى غير النهاية ؛ ولهم أن يقولوا : إذا سلّم وجوده ولم يكن فيه مفسدة فأيّ مانع من تعدّده وتكثّره وإن بلغ عدده أضعاف افراد الموجودات. على أنّها متداخلة بعضها مع بعض ومنطبقة بعضها على بعض ، فهذا الوجه الأخير لا ينهض حجّة مستقلّة للمطلوب ، فالعمدة هي الحجج المتقدّمة.

ثمّ لا يخفى انّه وإن ظهر بما تقدّم من الحجج بطلان الزمان غاية الظهور ، إلاّ أنّا نذكر تأكيدا واستظهارا برهانا مشتملا على الاحتمالات المتصوّرة لذلك الزمان وابطالها كما أورده بعض الافاضل ؛ وهو : انّ هذا الزمان لا يخلوا إمّا أن يكون موجودا ، أو موهوما ؛ فان كان موجودا كان ممكنا من الممكنات ، فيلزم أن يكون داخلا فيما سوى اللّه ، فيكون / 47MB / وجوده أيضا مسبوقا بالعدم بحكم الاجماع والحديث النبوي ، والحال انّه قد ذكرنا انّ الزمان إذا كان ظرفا للعدم الأزلي يجب أن يكون قديما لا حادثا ، فيلزم التناقض!.

وأيضا إذا كان الزمان موجودا قابلا للمساواة واللامساواة فيلزم أن يكون كمّا ، والكم عرض ، فلا بدّ له من محلّ ، ومحله لا يكون إلاّ ماديا ، فيلزم قدم ذلك المادي وهو خلاف الاجماع والحديث النبوى ؛

وإن كان موهوما فلا يخلو : إمّا أن يكون موهوما صرفا اختراعيا - كانياب

ص: 213

الأغوال - وحينئذ لا يكون عدم العالم قبل وجوده في ظرف يكون هو الزمان ، بل يكون عدمه عدما لا بزمان ولا مكان ، ولا نعني بالعدم الصريح الخالص إلاّ هذا ؛ ولو كان موهوما له منشأ الانتزاع فننقل الكلام إليه ، فهو إمّا واجب أو ممكن ؛ لا جائز أن يكون واجب الوجود ، فبقي أن يكون ممكنا ، فذلك المنتزع منه يكون مادّيا البتّة.

فلا يخلوا : إمّا أن يكون قديما ، أو حادثا فان كان قديما لزم خلاف الاجماع والحديث النبوي ، وإن كان حادثا فلا يجوز أن يكون عدمه مسبوقا بهذا الزمان ، لأنّه متأخّر عنه ، فلا بدّ من زمان آخر وهكذا فيلزم التسلسل ، فبقي أن يكون مسبوقا بعدم لا يكون ذلك العدم في زمان ولا مكان.

فان قيل : قوله - تعالى - : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ* ) (1) ، وقوله - تعالى - : ( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) (2) يدلّ على تحقّق الزمان الموهوم ، لأنّه لو لا الامتداد المنقضي المتجدّد لم يكن لستة أيّام أو يومين في الآيتين معنى ؛

قلنا : المراد بهذه الأيّام الأوقات الفرضية التقديرية ، ولو لم يكن الحمل عليها صحيحا لم يكن الحمل على الزمان الموهوم أيضا صحيحا ، إذ المتعارف والمتبادر من اليوم - كما صرّح به أهل اللغة والتفسير - هو زمان طلوع الشمس إلى غروبها ، ولم يكن حينئذ طلوع وغروب. ويؤيّده تصريحهم - كما مرّ - بأنّ ابعاض هذا الامتداد انّما يتميّز ويصير قطعة قطعة ليلا ونهارا بحركة الفلك الأطلس ولم يكن حينئذ فلك ولا حركة ، فالمراد مجرّد الفرض والتقدير. على أنّ المحقّقين يفرّقون بين اليوم والنهار ويقولون : انّ اليوم عبارة عن دورة واحدة من حركة الفلك الأقصى وهو ليس بسماء ، بل السماء في الحقيقة منحصرة في افلاك الكواكب السبعة السيّارة ، ووجود الليل والنهار بحركة فلك الشمس ، فيجوز أن يكون أصل جرم الفلك الأطلس خلق أوّلا طبقة واحدة ثمّ أدير ستّة دورات وفي مدّتها خلق ما فيها من السموات والأرض بأن جعل السماء بعد كونها طبقة سبع طبقات أو ازيد والأرض مثلهنّ ، وحينئذ لا حاجة في

ص: 214


1- كريمتان 54 ، الأعراف / 3 ، يونس.
2- كريمة 12 ، فصّلت.

تصوير معنى الآيتين إلى الزمان الموهوم ، فضلا من أن تكونا دليلتين عليه.

وإذ ثبت بطلان الزمان الموهوم - وقد ثبت أيضا فساد القول بمجرّد الحدوث الذاتي - فثبت من ذلك حقّية الحدوث الدهري - أي : مسبوقية وجودية العالم على العدم الصريح الواقعي الّذي لو وجد فيه زمان لكان غير متناه -. وهذا الحدوث مستلزم للحدوث الذاتي أيضا ، لأنّ تأخّر العالم عن اللّه بالعدم الصريح الواقعي مستلزم للتأخّر الذاتي الّذي هو عبارة عن محض الفاقة المرادف للحدوث الذاتى ، فالحدوث الدهري مستلزم للحدوث الذاتي بخلاف العكس ، كما انّ الحدوث الزماني مستلزم للحدوث الدهري بخلاف العكس.

ثمّ اعلم! انّ تقدّم الواجب والعدم على القول بالحدوث الزماني هو تقدّم بالزمان ، بمعنى أنّهما متقدّمان زمانا على العالم ، وعلى القول بالحدوث الذاتي تقدّم بالذات. ويسمّى بالتقدّم العقلي ، لأنّه اعتبار يخترعه العقل من تلقاء نفسه ، وليس تقدّما بحسب الخارج والواقع. وعلى القول بالحدوث الدهري هو تقدّم دهري بمعنى انّ الواجب وعدم العالم متقدّمان عليه بحسب الدهر - الّذي هو الواقع ونفس الأمر - ، لأنّ الفصل بينهما هو الواقع ونفس الأمر لا الزمان ، فيكون تقدّما زمانيا ، ولا مجرّد اعتبار العقل ليكون محض التقدّم العقلي. وتوضيحه : انّه إذا كان وجود العالم متناهيا في جانب البداية كان للعدم تقدّم عليه سوى التقدّم الذاتي الّذي اثبته / 46DA / الحكماء ، لعدم تقدّم الممكن على وجوده المعبّر بالحدوث / 48MA / الذاتي. وهذا التقدّم شبيه بالتقدّم الزماني الّذي للحوادث الزمانية ولأجزاء الزمان بعضها على بعض عندهم في عدم اجتماع السابق والمسبوق. والفرق انّ لتقدم الزمانيات ملاكا في الخارج متجدّدا متصرّما مستمرّا يعرض ذلك التقدّم في الخيال أوّلا وبالذات لأجزائه المتجدّدة المتصرّمة المستمرّة وبتوسّطها يعرض للحوادث الزمانية ، ولهذا يفرض لهذا التقدّم خواصّ التقدّر والتكمّم. بخلاف تقدّم العدم على وجود العالم ، فانّه ليس له ذلك الملاك ، ولا يمكن تعيينه وتقديره ولا يكون فيه قرب وبعد وزيادة ونقصان إلاّ بمحض التوهّم وإن كان عدميا واقعيا نفس أمري كالعدم الّذي فوق محدّد الجهات.

ص: 215

فان قلت : إذا كان شيء متقدّما على آخر فلا محالة يكون بالقياس إلى ثالث - ويقال لهذا الثالث : « ملاك التقدّم » - ، واتّفق العقلاء على أنّ اقسام التقدّم باعتبار الملاك لا يزيد على خمسة أنواع :

الأوّل : التقدّم المكاني ، كالجالس في الصدر على من في صفّ النعال. وملاكه صدر المكان ؛

والثاني : التقدّم الزماني ، وملاكه صدر الزمان. وهو فيما بين اجزاء الزمان بالذات وفيما بين الحوادث الزمانية بالتبع ، فهو تقدّم واحد يتقدّم به اجزاء الزمان بالذات والزمانيات بالعرض. كالتقدّم بحسب الامكنة ، فان التقدّم لأجزاء المكان بالذات وللمتمكّنين بالعرض ، ومثله حركة جالس السفينة. والمتكلّمون جعلوا هذا القسم قسمين وسمّوا التقدّم بين اجزاء الزمان تقدّما بالذات ، والتقدّم بين الموجودات الزمانية تقدّما بالزمان ، وهو تكلّف بلا فائدة! ؛

والثالث : التقدّم بالشرف ، وهو الّذي يكون بين الأشياء باعتبار صفاتها شريفة كانت أو خسيسة ، وسمّوه بالشرف تغليبا. وملاكه تلك الصفة ؛

والرابع : التقدّم بالطبع ، وهو الّذي للعلّة الناقصة على معلولها ، وملاكه الوجود ؛

والخامس : التقدّم بالعلّية وبالذات ، وهو تقدّم العلّة التامّة على معلولها. وملاكه الوجوب ، لأنّ بوجوبها يجب عنها المعلول من غير تخلّف ، بخلاف الناقصة ، فانّ لوجوبها فقط لا يجب عنها المعلول ما لم يجتمع جميع ما يحتاج إليه فتصير تامّة. وقد يقال للأخيرين جميعا : بالذات وبالطبع أيضا بإطلاق أعمّ. فهذه أقسام التقدّم الّتي ذكرها العقلاء ولم يزيدوا عليها شيئا ، والتقدّم الدهري ليس شيئا منها ، فلا يكون صحيحا! ؛

قلت : عدم ذكر الشيء لا يدلّ على البطلان ، وكم ترك الأوّل للآخر!.

فان قلت : التقدّم بالذات ليس تقدّما بمجرّد العقل ، بل هو أمر حقّ ثابت في نفس الأمر وفي محض الوجود والذات ، ولو فرض عدم العقول والأذهان فانّ حركة اليد بنفس ذاتها وصرف وجودها أصل لحركة المفتاح مفيضة لها وهي في حاقّ

ص: 216

حقيقتها ومحض إنّيتها متفرّعة عليها فائضة منها من غير توقّف ذلك على ملاحظة تعقّل ، فهذا التقدّم ثابت في نفس الأمر ، فيلزم أن يكون فاعل العالم بجميع اجزائه هو - سبحانه وتعالى - ، ويلزم منه تقدّمه على كلّ جزء من اجزائه تقدّما ذاتيا. فيمكن أن يقال ردّا على القائلين بالحدوث الدهري بأنّ وجوده - تعالى - عين ذاته وذاته لا يمكن أن يكون موجودا في الذهن ، وانّما هو موجود في العين بالاتفاق - لأنّ القوّة المدركة لا يدرك ذاته - ، فيكون العالم في مرتبة ذاته الّذي هو عين خارجي معدوما صرفا ، فيلزم كون وجوده بتمام اجزائه مسبوقا بالعدم الخارجي. ولا معنى للحادث الدهري إلاّ ما يكون وجوده مسبوقا بهذا العدم ، وتسميته بالعقلي أيضا لأنّ المدرك الشاهد عليه هو العقل دون الحواسّ بخلاف ساير الأقسام. وحينئذ نقول : التقدّم الدهري الّذي أنتم تثبتونه لا يريدون منه غير ذلك ، فهو بعينه التقدّم الذاتي! ؛

قلنا : التقدّم الذاتي وإن كان تقدّما حقّا ثابتا بنفسه - لما ذكر - إلاّ أنّ العدم المتقدّم ليس إلاّ العدم الّذي يلزم لماهية / 48MB / الممكن من دون تحقّقه في الواقع ونفس الأمر ، ولو فرض اطلاق التحقّق الواقعي على مثله فهو غير صالح لأن يكون فصلا بين الواجب والعالم وأن يكون بحيث لو فرض وقوع الزمان فيه كان غير متناه ، لأنّ العدم الذاتي عدم مجامع للعلّة والمعلول وليس عدما غير مجامع لهما ، بخلاف التقدّم الدهري ، فانّ المراد به أن يتقدّم العلّة على المعلول مع فصل العدم الغير المجامع لهما ، فيكون فاصلة واقعية بين الواجب والعالم. فحقيقة الحدوث الذاتي للعالم أن يكون العالم مبدعا من غير زمان ، ولا عدم حينئذ إلاّ العدم الّذي يلزم لماهية العالم وهو عدم مجامع يستحيل أن يفصل بينه وبين الواجب فصل بينونة ؛ وحقيقة الحدوث الدهري له أن يتقدّمه عدم غير مجامع بذاته يتحقّق به الفصل بينهما فصل بينونة ؛ وحقيقة الحدوث الزماني له أن يتقدّمه عدم زماني ويسبق كلّ زمان زمان.

فان قلت : لا معنى لأن يفصل العدم بين الواجب وبين العالم فصل بينونة ، لأنّ الفاصل بين شيئين يجب أن يكون شيئا حتّى يصلح لأن يقع به الفصل ، والتخلف والعدم محض السلب ليس له / 46DB / ماهية وذات وهوية يصلح أن يتقدّم ويتأخّر و

ص: 217

يجيء ويذهب ، فالقول بتقدّمه وتأخّره من باب قياس محض اللاّشيء على الشيء ؛

قلنا : جواز تقدّم العدم على الوجود من البديهيات العقلية لا يمكن انكاره ، كيف وهو مشاهد؟!. على أنّ الحكماء مصرّحون بتقدّم العدم الذاتي للعالم عليه ، فما يقولون في جواز تقدّم هذا العدم نحن نقول في جواز تقدّم العدم الواقعي.

قيل : العدم الذاتي لعدم ايجابه الفصل بين الواجب والعالم لا يلزم أن يكون ممّا ينقضي ويتصرّم ويجيء ويذهب وإن وصف بالتقدّم في لحاظ العقل أو مرتبة من الواقع ، بخلاف العدم الدهري ، فانّه لايجابه الفصل بين الواجب والعالم لا بدّ من التزام تقضّيه وتصرّمه ومجيئه وذهابه. وحينئذ نقول : هذا العدم الواقعي الفاصل بين المبدأ وبين العالم إن لم يعتمد على زمان وظرف يتقضّى بتقضّيه فكيف يمكن أن يتقضّى بمحض نفسه ويصير منشئا للانفكاك وفاصلا بين الواجب والعالم؟! ، وأنّى يتأتّى له ذلك مع انّه من خواصّ الذوات المحصّلة الّتي يمكنها الذهاب والمجيء؟!. وإن اعتمد على ظرف فان كان الظرف ثبوتيا فكيف يكون الفاصل هو محض العدم؟! ، بل يرجع إلى القول بالزمان الموهوم ، وإن كان عدما فيرجع الاشكال الأوّل - أعني : لزوم كون العدم الصرف فاصلا بين الشيئين ومنشئا للانفكاك بينهما - وهو لزوم مضيّ محض العدم بنفسه من غير اعتماد على طرف موجود. وليس لهم أن يقولوا : انّ هذا العدم لا يمضي بنفسه بل بالجزء الأوّل من الزمان ، فانّه إذا وجد العالم وتحقّق الجزء الأوّل من الزمان إن كان بعده بعدا يجامعه بحيث لم يتحقّق به فصل بين الواجب والزمان لكان الزمان قديما ولزم الحدوث الذاتي ، وإن كان بعده بعدا لم يجامعه فقد صدق مضيّ العدم بنفسه لا بالزمان.

وتلخيص هذا الايراد : انّ هذا العدم الواقعي إن اتّصف بالسابقية وحصل به الفصل بين الواجب والعالم لكان له وعاء البتة ، فيكون قولا بالزمان الموهوم ؛ وإن لم يتّصف بالسابقية ولم يحصل به الفصل لزم الحدوث الذاتي.

قال بعض المثبتين للزمان الموهوم الموردين على الحدوث الدهري : إذا اتّصف العدم في نفس الأمر بأنّه سابق على الوجود سبقا غير ذاتي - كما يظهر من بعض كلمات

ص: 218

السيد الدّاماد قدس سره - فيكون البتة محتاجا إلى وعاء وظرف يكون فيه ويتصف هو لا محالة بالتقدّر والتكمّم وغيره ، وكونه سابقا عليه بدون ذلك ممّا لا نقدر على تعقّله ، فلعلّه يحتاج إلى لطف قريحة لم يكن لنا! ، وإن لم يقولوا بسابقية العدم بحسب الحقيقة - كما يشير إليه بعض كلمات السيد رحمه اللّه حيث ذكر انّ في السبق الذاتي والزماني ليس الوجود مسبوقا بالعدم المقابل له ، إذ سلب الوجود في مرتبة نفس الماهية من / 49MA / حيث هي لا يقابل الوجود الحاصل في حاقّ الواقع من تلقاء العلّة الفاعلة بل يجامعه ، وكذا العدم السابق على الوجود سبقا زمانيا لا يقابل ذلك الوجود لاختلاف الزمان ، بل يقابله العدم في ذلك الوقت الّذي كان فيه الوجود ، بخلاف الحدوث الدهري ، اذ ليس في الدهر توهّم الامتداد والانقسام اصلا - فلا يكون حدّ العدم الصريح السابق في الدهر متميّزا في التوهّم عن حدّ الوجود الحادث من بعد ، بل انّه يبطل عقد السلب الدهري ويقع في حيزه عقد الايجاب الثابت الدهري ، فلا يفهم حينئذ معنى للحدوث والمسبوقية بالعدم اصلا ، بل ليس القدم إلاّ هذا. وبالجملة ما افاده السيّد ممّا لا يصل إليه فهمي ولا يحيط به وهمي!.

والجواب : انّ الفصل بين الحوادث الزمانية انّما هو بالزمان ، ولا يتعقّل الانفصال والانفكاك بينهما دونه. وأمّا الفصل بين الثابت والحادث - كالواجب والعالم - انّما هو بالدهر الّذي هو نسبة بينهما ووعاء للزمان ولكلّ ما يوجد مبدعا في غير زمان. قال ارسطاطاليس في أثولوجيا : اصول العالم واركانه - كالافلاك والعناصر - ليست موجودة في الزمان ، بل في الدهر ، وصرّح أساطين الحكمة بأنّ كون الثابت مع مثله سرمد ومع المتغيّر دهر وكون المتغيّر مع مثله زمان ، والدهر وعاء للزمان والزمان كمعلول للدهر ، والدهر كمعلول للسرمد ، إذ لو لا دوام نسبة المعلولات إلى عللها - كنسبة الحوادث الزمانية إلى عللها والاجسام الأولية إلى العقول مثلا والعقول إلى الواجب والزمان إلى مبدئه - لم يوجد معلول عن علّته ، فيجب لذلك أن يتحقّق النسبة دائما بين الموجودات بعضها إلى بعض من المتغيّر بالذات إلى ما فوقه حتّى ينتهى إلى الثابت بالذات ، فيظهر ممّا ذكروه انّ هذا الدهر وعاء للمبدعات من غير زمان ، ولعدمها

ص: 219

السابق عليها. وحقيقة هذا الوعاء عبارة عن حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر ، وكونه فاصلا بين الواجب وبين العالم كناية عن كون الواجب ثابتا في الخارج والواقع في حدّ ذاته / 47DA / مع كون العالم معدوما بحيث لو كان زمان في هذا الواقع الّذي كان الواجب فيه موجودا والعالم معدوما لكان غير متناه وان لم يكن في هذا الواقع وفي العدم المتحقّق فيه امتداد وتصرّم وتجدّد. وحاصله انه كان الواجب موجودا في متن الدهر وحاقّ الواقع ولم يكن معه عالم في متن الدهر وإن لم يكن زمان وامتداد ، إلاّ أنّه يمكن فرض الزمان وتقديره - كما تقدّم - ، فالزمان التقديري المفروض في الواقع الّذي تحقّق فيه الواجب ولم يتحقّق فيه العالم غير متناه. ولو فرض وقوع الزمان الخارجي في هذا الزمان التقديري وانطباقه عليه لكان غير متناه ، فحقيقة الحادث الدهري أن يسبقه العدم في متن الدهر وحاقّ الواقع ، والقديم الدهري أن لا يسبقه عدم في متن الدهر ، بل يكون ازلي الحصول في حاقّ الواقع وليس في الواقع امتداد زماني وفصل كمّي إلاّ بمجرّد الفرض والتقدير ، إلاّ أنّ الانفكاك الدهري والفصل الواقعي متحقّق.

والمتوغّلون في الزمان لا يعرفون من الانفكاك والفصل إلاّ ما هو زماني ، ولكن المسافرين من صقع عالم الزمان إلى ما فوقه يعرفون بصفاء عقولهم وتجرّد نفوسهم هذا الانفكاك والفصل ، ويعلمون انّه مع عدم توهّم تجدّد وتجزّ هناك يتحقّق به انفكاك الواجب والعالم في الوجود وعدم المعية بينهما في الوجود الواقعي والتحقّق النفس الامري. ولا يلزم من الانفكاك في الوجود والتحقّق ثبوت الامتداد والتجزي ، لأنّ امثالهما من خواصّ الزمانيات وليس وجود الواجب زمانيا ، فلا معنى لاتصال العالم وانفكاكه عنه في الحقيقة ونفس الأمر. ومرادنا من الانفكاك والفصل - كما أشير إليه - ارتفاع المعية بين الواجب والعالم في التحقّق الواقعي والثبات النفس الأمري بحيث يصحّ أن يقال : كان الواجب على المعنى الّذي يصحّ الآن ولا يكون العالم فيه.

وبهذا يندفع عنّا ما أورده بعض الناهجين منهج الحكماء في اثبات الحدوث الذاتي : انّه لا ريب انّ الّذي يفصل بين المبدأ الاوّل - تعالى - وبين العالم - سواء كان فاصلا متقدّرا أو غير متقدر - يجعل المتفاصلين متباينين في الوضع ، فلو كان الزمان أو

ص: 220

الدهر فاصلا بين الواجب والعالم لزم كون الواجب ذا وضع.

ووجه الاندفاع - كما مرّ - أنّه لا نريد من كون الدهر فصلا الاّ / 49MB / تحقّق الواجب بدون العالم في حاقّ الواقع ، ولو كان للواقع امتداد لم يرد تلك الشبهة فضلا عن عدم ثبوت امتداد في الواقع ، وعدم كونه ممتدّا متجزّيا لانّه ليس المراد أنّه فاصل يقع في أحد طرفيه الواجب وفي الآخر العالم ، بل هذه الشبهة عند التحقيق - كما مرّ - لا يرد على القائلين بالزمان الموهوم أيضا ، لأنّهم لا يقولون : انّه يجب أن يكون زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب فيه ولم يكن العالم ، بل يقولون : انّه يجب أن يتحقّق انفصال بين الواجب والعالم ويصحّ فيه قولنا : كان الواجب ولم يكن العالم فيه. نعم! هذه الشبهة ترد على من قال منهم : انّه كما يقال في الجسم انّه زماني بمعنى انّ وجوده مقارن لوجود الزمان ، فصحّ ذلك في شأن الواجب أيضا ، إذ يصدق انّ وجوده مقارن لوجود الزمان.

نعم! لا يصحّ أن يقال : انّه زماني بمعنى انّ وجوده منطبق على الزمان مثل الحركة ولا يصحّ ذلك في الجسم أيضا ، لأنّ مقارنة الزمان لوجوده - تعالى - يجعله ذا وضع وإن انطبق وجوده على الزمان ، وهو بديهي البطلان - كما مرّ -. وأيّ مناسبة للمجرّد الصرف المتعالي عن الزمان مع المقارنة للزمان ووقوعه في طرفه!؟.

فان قلت : حاصل ما ذكرت في الدهر - الّذي هو وعاء عدم العالم - انّه مع عدم وقوع الامتداد والتكمّم فيه يحصل به الانفكاك الواقعي ، وما طريق تعقّل ذلك وبأيّ حيلة نهتدي إلى ادراكه!؟. مع أنّ المعقول عندنا انّ هذا الشيء المسمّى بالدهر عندكم إن حصل به الفصل والانفكاك في الواقع لم يكن إلاّ شيئا ممتدّا هو الزمان ، وإن لم يحصل به الامتداد لزم قدم العالم وكونه موجودا مع الواجب في الواقع والخارج ؛

قلت : طريق ادراك ذلك بعد التذكّر بأنّه لو لم يوجد انفكاك واقعي بين العالم والواجب بحيث لو فرض تحقّق الزمان. فيه لكان غير متناه لزم إمّا كون الواجب محلاّ للزمان الواقعي النفس الأمري أو عدم تناهي الزمان والحركة من جانب البداية أو كون بقاء الواجب بقدر زمان متناه ، والكلّ قطعي البطلان - كما مرّ - انّ وعاء الواقع اعمّ الأوعية واشملها ، لأنّه عبارة عن الخارج والخارج من حيث هو خارج ليس

ص: 221

شيئا موجودا على حدة مغايرا للموجودات الخارجية ، بل هو عبارة عن حدّ ذات الشيء ومرتبته في الوجود ، فالخارج للواجب كونه ثابتا موجودا بذاته قائما بنفسه لا في زمان ولا في مكان ولامع شيء آخر من الموجودات - ويعبّر عنه بالسرمد - ، وللعقول والنفوس ونفس / 47DB / الزمان كونها موجودة بغيرها لا في زمان ولا في مكان ولأعدامها كونها متحقّقا لا في زمان - ويعبّر عنه بالدهر - ، وللحوادث اليومية كونها موجودة في الزمان والمكان. فنحن إذا أردنا أن نعبّر عن كون الواجب موجودا بذاته بدون شيء من الأشياء نقول : موجود في السرمد تجوّزا ، وإذا أردنا أن نعبّر عن تحقّق عدم العالم قبل وجوده لا في زمان نقول : انّه متحقّق في الدهر على سبيل التوسّع مع أنّ الدهر والسرمد ليسا شيئين. موجودين منفردين ، فالسابق على وجود العالم ليس إلاّ عدمه الخالص الصرف ووجود الواجب الحقّ - تعالى شأنه -. ولا يلزم مع ذلك معية الواجب للعالم في الخارج ، لأنّه لا نسبة بين الواجب وبين غيره من الموجودات بوجه من الوجوه ليتصوّر بينهما المعية في الوجود الخارجي ، فانّ المجرّد الصرف القائم بذاته البريّ عن شوائب المادّية والمتعالي عن الانتساب إلى الزمان ايّ معية ومقارنة يتصوّر أن يكون له بالنسبة إلى الزمان وغيره ممّا ينتسب إليه؟ ، فانّ المعية والمقارنة بين الشيئين في الزمان فرع كونهما زمانيين. وإذا انتفت المعية عنه - تعالى - يتحقّق انفكاكه عن العالم وان لم يكن انفكاكا زمانيا ، فانّه لو فرض قدم الزمان لكان منفكّا عنه بهذا المعنى أيضا. إلاّ أنّ الفرق انّه في صورة تناهية وحدوثه انّه يتحقّق حينئذ قبل العالم والزمان عدم الخالص المحض ويكون الواجب فيه موجودا ، فيصدق انّه كان الواجب في الخارج ولم يكن فيه زمان ، ويصدق انّه لو وجد فيه زمان لكان غير متناه. وللعقل أن يفرض فيه زمانا تقديريا ، فانّ جميع الأزمنة بآزالها وآبادها ، بل أضعافها بألف ألف مرّة لو القيت في هذا العدم أوسعها ، بل كانت بالنسبة إليه واحد بالنسبة إلى الزمان الغير المتناهي ، والأمكنة بعلوها وسفلها بل أضعاف أضعافها لو القيت فيه لوسعها ، بل كانت بالنسبة إليه كحلقة في فلاة وقطرة في بحر زخّار ، بل كنقطة بالنسبة إلى الكرات الغير المتناهية. وممّا يوضح ذلك انّ الواجب - تعالى شأنه - مع عدم

ص: 222

/ 50MA / كونه في مكان له تحقّق في الواقع ويصدق عدم المعية بين الواجب وبين غيره من الممكنات في المكان ، بل لو قيل بتحقّق الانفكاك بين كلّ مكان وبين الواقع الدهر - الّذي هو ظرف تمكّنه تعالى ووعاء استقراره - لكان صحيحا ، ومعنى استقراره وتمكّنه في وعاء الواقع والخارج هو قيامه بذاته الواجبة بنفسها. ولو ادّعى انّه لو فرض بينهما بعد لكان غير متناه لم يكن بعيدا. والسرّ عدم امكان تحقّق النسبة بينهما وعدم جواز وقوع الواقع في أحد طرفي البعد ، كما يجوز وقوع مكان ما في أحدهما ، فهو - تعالى شأنه - مع انّه أبعد الأشياء إلى كلّ مكان يتصوّر فهو أقربها إليه!.

وقس على ذلك نسبته - تعالى - مع كلّ زمان وزماني ، فانّه مع عدم كونه في زمان له تحقّق في الواقع ويصدق عدم المعية بينه وبين غيره من الزمانيات في الزمان ، ويصحّ القول بتحقّق الانفكاك بين كلّ زمان وبين الواقع الّذي هو ظرف وجوده - تعالى -.

ومعنى كون الواقع ظرف وجوده هو كونه ثابتا بنفسه مصونا عن التغيّر والتجدّد وقيامه في حدّ ذاته. ولا يبعد ادّعاء انّه لو فرض بين الواقع الّذي هو ظرف وجوده وبين كلّ زمان زمان لكان غير متناه ، والسرّ عدم امكان تحقّق النسبة بينهما وعدم تعقّل وقوعهما في طرفى الزمان ، فهو - تعالى - مع أنّه أبعد الأشياء إلى كلّ زمان فهو أقربها إليه. وكما يصدق أنّه - تعالى - مباين (1) عن كلّ مكان وكان موجودا فيما لم يوجد متمكّن فيه كذلك يصدق انّه - تعالى - مباين (2) عن كلّ زمان ، وكان موجودا ولم يوجد العالم أصلا.

وممّا يوضح قبول العدم المذكور لوقوع الازمنة فيه واحاطته بها واتصافها بالامتداد والزيادة والنقصان بعد وقوعها فيه : انّه لا يمتنع أن يفرض الواجب - تعالى - منفردا بدون تحقّق شيء من الزمان والزمانيات والمكان والمكانيات إلى هذا الآن ، فنفرضه كذلك ونقول : على هذا الفرض يلزم أن لا يتحقّق قبل هذا الآن غير الواجب شيء لا موجود خارجي ولا واقعي نفس امري ، فلا يتحقّق امتداد أصلا ، بل المتحقّق

ص: 223


1- الاصل : متباين.
2- كما في التعليقة السالفة.

سوى الواجب هو العدم الصرف الخالص مع انّه بعد فرض وجود العالم فيه كما هو المطابق للواقع يحصل فيه الامتداد القابل للزيادة والنقصان ، فانّ الامتداد الحاصل في الزمان من وقت حدوث العالم إلى هذا الآن أكثر من الامتداد الحاصل من زمان نوح إلى هذا الآن مع انّه لم يقع إلاّ في العدم الصرف ، ولو فرض عدم وجوده لم يكن إلاّ العدم الخالص الغير القابل للامتداد والانقضاء.

ثمّ الامتداد والتفاوت وإن لم يكن معلوما لنا لو لم يوجد الزمان إلاّ أنّه بعد وجود الزمان يظهر لنا ثبوت الامتداد والتفاوت فيه ؛ فكذا الحال في العدم الخالص الّذي لم يوجد فيه الزمان ، فانّ العقل يحكم / 48DA / بأنّه لو وجدت فيه الزيادة يحصل فيه الامتداد الغير المتناهي. فيظهر انّه يمكن تحقّق وعاء واقعي غير ممتدّ لو وجد فيه الزمان لكان غير متناه.

والمنازع إن قال : لا يمكن أن يفرض وجود الواجب منفكّا عن العالم بدون امتداد واقعي نفس أمري ؛ فهو مكابر ، لأنّه مع ما علمت انّ تحقّق الامتداد للواجب بديهي البطلان ؛ نقول : جواز فرض ذلك ممّا لا ينبغي الريب فيه ، فانّ ما هو محال في الواقع لا يستحيل فرضه.

وإن قال : وجود العالم والزمان لا يقع في العدم المفروض ؛ فهو اشدّ مكابرة.

وممّا يوضح قبول العدم المذكور لوقوع الأمكنة فيه واحاطته بها وقبولها للزيادة والنقصان بعد وقوعها فيه انّه لا ريب في أنّ قبل وجود العالم لم يكن البعد الّذي حصل فيه المحدّد بما فيه بعد وجوده شيئا خارجيا موجودا ، بل كان عدما لا خلأ ولا ملأ كما هو فوق المحدّد والآن ، ومع ذلك بعد وجود العالم حصل فيه الأمكنة والأبعاد القابلة للزيادة والنقصان.

ولو فرضنا وجود الابعاد والاماكن في العدم الخالص السابق على العالم لحصل فيه الامتدادات المكانية وكان قابلا لها ، بل لحصول الابعاد الغير المتناهية.

وبما ذكرناه يظهر اندفاع ما قيل : انّ العدم والوجود اللّذين في هذا الوعاء ان كانا متعاقبين - كما يظهر من بعض كلمات السيد الداماد قدس سره حيث قال فيما مضى

ص: 224

من كلامه : « يبطل عقد السلب الدهري ويقع في حيزه عقد الايجاب الدهري » - كانا زمانيين ، وإن كانا مجتمعين في حالة واحدة - كما يظهر من بعض / 50MB / اخر من كلماته المتقدّمة حيث قال : « وليس حدّ العدم السابق فيه متميزا عن حد الوجود اللاحق » - لزم الحدوث الذاتي ؛ انتهى.

ووجه اندفاعه : انّهما ليسا مجتمعين ، بل متعاقبين لا بالتعاقب الزماني ، بل بالتعاقب الدهري الواقعي - كما مرّ مفصّلا -. فلا يلزم كونهما زمانيين ، فانه قال قبل هذا : الواقع المسمّى بالدهر - الّذي هو وعاء عدم العالم - إن كان معدوما صرفا فكيف يتحقّق به الانفكاك الواقعي ويكون وعاء للموجود كالواجب أو غيره من المجرّدات ، وإن كان موجودا فامّا أن يكون قديما فيلزم وجود قديم سوى اللّه ، فمن يرضى بقدم الواقع الّذي هو غير اللّه - تعالى - فما باله لا يرضى بذلك لغيره من الزمان والعالم! ؛ وإن كان حادثا فامّا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى القديم ؛ وكلاهما باطلان. وأيضا الدهر إمّا ثابت بنفسه من غير علّة ، فيكون واجبا لذاته ، وهو باطل ؛ أو بالواجب لذاته ومعلول له ، فان كان منتزعا منه فيلزم قيامه بذاته - تعالى - وهو محال. ولو قطع النظر عنه نقول : ما قام به - تعالى - كيف يصير ظرفا لعدم العالم ولغيره - تعالى - من المبدعات؟! وإن لم يكن منتزعا منه - بل كان موجودا منفصلا عنه تعالى قديما أو حادثا - فمع لزوم كون الواجب موجودا لا في الدهر والواقع يعود بعض الاشكالات المتقدّمة أيضا ، فمن تأمّل يظهر له انّ اكثر الاشكالات الواردة على الزمان الموهوم يرد على الدهر أيضا ، مع اختصاصه بورود اشكالات أخر.

قلنا : أوّلا انّ الواقع أو الخارج ونفس الأمر المرادف للدهر ممّا لم يختصّ باثباته القائلون بالحدوث الدهري ، بل هو ممّا قال به جميع الفلاسفة والمتكلّمين ، فالترديد فيه بانّه موجود أو معدوم ، قديم أو حادث ، ثابت بنفسه أو معلول - مع ما ذكر من فساد كلّ شقّ - يرد عليهم أيضا ؛ فما يقولون في الجواب فهو جوابنا بعينه. ولا فرق بيننا وبينهم إلاّ انّ الحكماء يقولون : انّ الواقع لا ينفكّ عن وجود العالم والمتكلّمون يقولون لا ينفكّ عن الزمان الموهوم ، ونحن نقول ينفكّ عنهما ويحصل به الانفكاك بين الواجب

ص: 225

والزمان والعالم ، فالايراد المختصّ بنا هو انّه كيف يمكن أن يحصل به الانفكاك؟ ، وقد تقدّم جواب ذلك.

وأمّا ما أورده هنا من الترديدات فيه وايراد فساد كلّ شقّ فوروده مشترك بيننا وبين الحكماء والمتكلّمين.

وأمّا ثانيا : انّ الواقع والخارج أو نفس الأمر - على ما تقدّم مفصّلا - ليس إلاّ حدّ ذات كلّ شيء ومرتبته ، فوجود كلّ شيء في الواقع هو كونه في حدّ ذاته ومرتبته. فهو من لوازم وجود كلّ موجود ، فليس موجودا منفصلا ولا معدوما صرفا ، بل هو شيء واقعي نفس أمري له منشأ انتزاع هو موجود ما ، وهو في القديم قديم وفي الحادث حادث وفي كلّ موجود بحسبه وعلى ما يليق به ، وما يتحقّق لكلّ واحد من الموجودات غير ما يتحقّق للآخر. فالواقع الثابت للواجب - تعالى شأنه - هو ما يليق ويناسب ذاته - تعالى - ، وليس هو ثابتا لغيره ، وكذا ما يثبت للعقول غير ما يثبت للافلاك وهكذا ؛ وليس شيئا ممتدّا - كالزمان - حتّى يقال : لا يناسب أن ينتزع من ذاته - تعالى - ؛

قلنا : انّا نختار من الترديدات كونه قديما منتزعا عن ذاته - تعالى - ولا يلزم فساد ، لأنّ حدّ ذات الواجب ومرتبته ليس شيئا سوى اللّه حتّى يلزم وجود قديم سوى اللّه ، وهذه المرتبة ليست مرتبة لغيره - تعالى - حتّى يلزم أن يكون ما ينتزع من الواجب وعاء لغيره - تعالى -.

ثمّ ما ذكرنا هاهنا يؤكّد ويقوّي ما ذكرنا / 48DB / قبل ذلك من أنّ الواقع صالح لأن يحصل به الانفكاك بين الواجب والعالم ، لانّ منشأ الانفكاك حقيقة بين الأشياء انّما هو حدود ذوات الاشياء ومراتبها ، فالانفكاك الواقعي بين الواجب والعالم ونفي المعية عنهما لا يتوقّف على تخلّل شيء موجود على حدة ، بل هما يحصلان بمجرّد اعتبار وجودهما في حدّ ذاتهما وتحقّقهما في مرتبة حقيقتهما مع تخلّل العدم الصرف الخالص.

فوجود الواجب - تعالى شأنه - في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته يكفي لانفكاكه عن العالم وعدم وجوده معه ، وهذا الحدّ أو المرتبة هو المعبّر عنه عندنا بالدهر أو السرمد. فالدهر

ص: 226

أو السرمد ليس عندنا شيء على حدة أزليا كان مساوقا للواجب في الوجود ؛ ولقد أجاد فيما أفاد / 51MA / بارع المحقّقين حيث قال في شرح رسالة العلم : أزليته - تعالى - واثبات سابقيّته له على غيره ونفي المسبوقية عنه ، ومن تعرّض للدهر أو الزمان أو السرمد في بيان الأزلية فقد ساوق معه غيره في الوجود (1).

ثمّ انّ الحكماء الذاهبين إلى قدم العالم احتجّوا على اثبات ما ذهبوا إليه بوجوه (2) عمدتها ثلاثة :

أحدها : انّه لو كان العالم مطلقا حادثا لزم التخلّف في الازل عن العلّة التامة ، إذ ذاته بذاته في الأزل كافية في فيضان الوجود عنه وعلّة تامّة مستقلّة لايجاد العالم ، فانّه منبع الجود وفيّاض على الاطلاق وتامّ في ذاته وصفاته الّتي هي عين ذاته ، فبم يتصحّح تخلّف العالم وانقطاع الفيض عنه مع أنّه نقص على وجوده وفيضه وفتور على احسانه وفضله؟! ، بل هو وهن على حريم سلطنته التامّة الكبرى وغير لائق بساحة جبروته القاهرة العظمى ؛

والجواب عنه : انّ التخلّف لقصور العالم وعدم قبوله الوجود الازلي ، فتخلّفه عنه من مقتضى ذاته وتلقاء نفسه لا من جهة تاخّره في الافاضة وعدم كونه علّة تامّة. وذلك كما أنّ تخلّف المعلول عن مرتبة ذات العلّة من نقصان جوهره عن قبول الوجود في تلك المرتبة ؛ وإلى ذلك يشير قولهم : انّ العالم لم يكن ممكنا قبل ذلك الوقت ثمّ صار ممكنا فيه ، والامكان شرط في التأثير والمقدورية ، والوجوب والامتناع يحيلانها. وثبوت الامكان للعالم أزلا لا ينافي ذلك ، إذ لا يلزم من امكان العالم امكان أزليته ، إذ امكان ازلية الشيء انّما يتحقّق إذا كان امكانه الوقوعي ازليا. ألا ترى انّ الحادث بشرط كونه حادثا امكانه أزلي وليس ازليته ممكنة لاستحالة ازلية الحادث من حيث انّه حادث؟! ، فالامكان الذاتي يتحقّق في الأزل ، فلا انقلاب ؛ والوقوعي غير متحقّق فيه ، فلا قدم. فلمّا زال المانع من جهته وصار ممكنا بالامكان الوقوعي وجد ، فلا تأخّر في الافاضة ولا تغيّر في الذات ولا تخلّف للمعلول عن علّته التامّة ، و

ص: 227


1- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 46.
2- وانظر : تلخيص المحصّل ، ص 205.

لا تسلسل أيضا. وكون الشيء بالامكان الذاتي - أي : كونه بحيث لا يقتضي لذاته الوجود والعدم - لا يوجب كونه ممكنا بالامكان الوقوعي.

ثمّ هذا الجواب يتأتّى عند من جعل الداعي آن أوّل الايجاد ، فانّ المذاهب في اثبات الداعى لفعله - تعالى - خمسة :

الاوّل : مذهب الحكماء ؛ وهو : انّ الداعي نفس ذات الواجب - تعالى - ، ولذا قالوا بقدم العالم. فلا يرد عليهم لزوم تخلّف المعلول عن العلّة التامة ؛

الثانى : مذهب الاشاعرة ؛ وهو : انّ الداعى نفس الإرادة ، فانّ المرجّح عندهم هو مجرّد الإرادة بناء على ما ذهبوا إليه من جواز الترجيح بلا مرجّح ؛

والجواب عن الايراد المذكور - اعني : لزوم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة - على هذا المذهب : انّ تمامية العلّة انّما هو بعد الإرادة وهي لم توجد في الأزل ، بل انّما وجدت في الوقت الّذي أوجد العالم ، فقبل ايجاد العالم لم يوجد جزء العلّة - اعني : الإرادة - ، وبعد وجود الإرادة لم يتخلّف العالم عن الواجب ، فلا تخلّف.

الثالث : مذهب أهل التحقيق من المتكلّمين ؛ وهو : انّ الداعي آن أوّل الايجاد.

بمعنى انّ العالم قبل ذلك لم يكن ليقبل الوجود ، إمّا لقصوره وعدم قبوله الوجود السابق على هذا الآن أو لعدم وجود وقت قبل ذلك الآن - كما يشر إليه قولهم : واختصّ الحدوث بوقت إذ لا وقت قبله (1) -.

والجواب عن الايراد المذكور على هذا المذهب كما ذكرناه مفصّلا.

ثمّ أهل التحقيق من هذا المذهب جعلوا الداعي هو آن الحدوث على سبيل الوجوب دون الأولوية ، وبعض من لم يثبت جعل الداعي آن الحدوث على سبيل الأولوية ، دون الوجوب ؛ وبطلانه ظاهر!.

الرابع : مذهب بعض المعتزلة ؛ وهو : انّ الداعى مصلحة تعود إلى العالم.

والجواب عن الايراد المذكور على هذا المذهب انّ تلك المصلحة من أجزاء العالم ولا تتمّ العلّة بدونها ، وتلك المصلحة انّما توجد إذا وجد العالم في الوقت الّذي أوجد

ص: 228


1- راجع : كشف المراد ، ص 129.

لا قبل ذلك ، لأنّ أجزاء العالم ومصلحته انّما كان بأن يوجد في هذا الوقت دون غيره ، فقبل ذلك لم توجد المصلحة وبعد وجودها لم يتخلّف العالم.

الخامس : مذهب جمع آخر من المتكلّمين - ومنهم المحقّق الطوسي كما نسب إليه الاكثرون - ؛ وهو : انّ الداعي العلم بالمصلحة (1).

والجواب عن الايراد المذكور عن هذا المذهب يظهر ممّا ذكر.

وقد ظهر انّه على المذهب الأوّل لم يتخلّف / 49DA / العالم عن الواجب اصلا ؛ وعلى الثاني التخلّف / 51MB / لعدم الإرادة ؛ وعلى الثالث التخلّف لعدم تحقّق الوقت الّذي يمكن للعالم أن يقبل فيه الوجود ؛ وعلى الرابع التخلّف لعدم وجود المصلحة في ايجاد العالم قبل الوقت الّذي وجد فيه ؛ وعلى الخامس لعدم العلم بالمصلحة ، بل للعلم بعدمها في ايجاده قبل ذلك.

ثمّ الحق انّ القول بأنّ المرجّح هو المصلحة الراجعة إلى العالم والقول بأنّ المرجّح هو العلم بالأصلح ليسا قولين متغايرين ، بل مآلهما واحد ، فيرجعان إلى قول واحد.

فانّ من ذهب إلى انّ الداعى هو المصلحة اراد أنّ الواجب - سبحانه - لعلمه باقتضاء المصلحة اختصاص حدوث العالم بوقته المعيّن أوجده فيه بالقدرة والاختيار ، فيمكن أن يسند التخصيص إلى المصلحة وإلى العلم بها ، والمآل واحد. ولذلك تارة يقولون : المرجّح هو المصلحة ، وتارة يقولون : هو العلم بالمصلحة ، تعويلا على الظهور. فليس مذهب القائل بعلّية المصلحة غير مذهب القائل بعلّية العلم بها - كما نصّ عليه جماعة من الأفاضل - ؛ هذا.

وقد أجاب بعض الاعلام المتأخّرين عن الايراد المذكور : بأنّ التخلّف عن العلّة التامة انّما يلزم ويستحيل إذا كانت العلّة التامّة موجودة في زمان موجود أو موهوم لم يوجد المعلول فيه بعد ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يكون تلك العلّة أو بعض اجزائها وشرائطها زمانية ، واللّه - تبارك وتعالى - من حيث ذاته وصفاته الحقيقية منزّه عن أن

ص: 229


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 186 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 6 ، ص 325 ، 331 ؛ علم اليقين ، ج 1 ، ص 102 ؛ شرح المقاصد ، ج 4 ، ص 97 ؛ تلخيص المحصّل ، ص 207 ؛ الأربعين ، ج 1 ، ص 179 ؛ المطالب العالية ، ج 4 ، صص 48 ، 65.

يكون زمانيا ، بل هو خارج عن سلسلة الزمان والزمانيات ، سواء كان متناهية - كما عليه المليون - أو غير متناهية - كما ظنّه الحكماء - ، ونسبته إلى جميعها نسبة واحدة.

فلا يلزم من تناهي زمان وجود الممكنات كون الواجب - تعالى - موجودا في زمان موجود أو موهوم لا يوجد فيه ممكن ، كما لا يلزم من تناهي مكان الممكنات كونه - تعالى - موجودا في مكان كذلك فكيف يتصوّر وأنّى يلزم التخلّف المستحيل؟!. نعم! عند المليين له - تعالى - قبلية على جميع الممكنات سوى القبلية بالعلّية ، لكن ليست قبلية متقدّرة متكمّمة حتّى يحتاج إلى زمان يكون ملاكا لها. بل منشأ انتزاعها هو اختصاص جميع الموجودات الممكنة بالزمان عندهم ، إمّا من حيث الذات والحقيقة وإمّا من حيث العلاقة الذاتية ، وتناهي الزمان واحاطته - تعالى - عليه وتعاليه عنه من حيث الذات والصفات الحقيقية. ولا يلزم من ذلك محال - كما لا يخفى على المتأمّل المنصف -.

وليس المراد من لفظة « كان » في الحديث المشهور (1) الزمان الماضي موجودا - لكونه من العالم أيضا - ، ولا موهوما - لبطلانه عند المحقّقين ، كالمحقق الطوسي وغيره -.

وليس المراد من توصيفه - تعالى - بالدوام والازلية والقدم واشباهها كونه موجودا في زمان غير متناه - تعالى عن ذلك -. كيف وقد ورد عن ائمّتنا المعصومين - علیهم السلام - أيضا : انّ متى مختصّ بالحوادث وأن ليس له - تعالى - متى ، والردّ على من سأل عن ذلك ، وانّه كان إذ لا كان ولا مكان ، فخلق الكان والمكان ، وانّه قبل القبل بلا قبل وانّه لا يوصف بزمان ولا مكان ، بل هو خالق الزمان والمكان ، وانّه لم يزل بلا زمان ولا مكان ، وانّه الآن كما كان - على ما هو منقول بعبارات متغايرة وروايات متظافرة (2) - ، انتهى.

وأنت تعلم انّ حاصل هذا الجواب انّ التخلّف انّما يتصوّر إذا وجدت العلّة في زمان ولم يوجد المعلول فيه ، ووجود العلّة لا في زمان بل في حاقّ الواقع بدون

ص: 230


1- اشارة إلى ما مضى من النبوي الشريف : « كان اللّه ولم يكن معه شيء ». راجع : ص 191.
2- راجع : التوحيد ، ص 173 ، باب نفي المكان والزمان ... عن اللّه - عزّ وجلّ -.

الامتداد بدون المعلول لا يطلق عليه اسم التخلّف ، لعدم تحقّق الأوّلية والآخرية والجزئية وأمثالها بدون تحقّق الزمان وعدم تحقّق طرف يصدق تحقّق التخلّف فيه. وغير خفيّ انّ بناء هذا الجواب على عدم وقوع التفاوت والاختلاف في ظرف الواقع ونفس الأمر بدون وجود الزمان ، وقد تقدّم ذلك مفصّلا ؛ فتأمّل!.

وثانيها : انّه لو كان العالم حادثا لكان مسبوقا بمادّة ، إذ كلّ حادث مسبوق بمادّة ، إذ امكان وجوده متقدّم على وجوده. وليس ذلك الامكان قائما بذاته - إذ ليس جوهرا - ولا بالفاعل - إذ ليس هو قدرة الفاعل عليه ، ولا يتعقّل أن يقوم بالفاعل سوى القدرة على ايجاد الحادث - ولا بالماهية - إذ ليس هو الامكان الذاتي المجامع / 52MA / مع الوجود - ، فيكون قائما بمادّة الحادث أو موضوعه أو متعلّقة ، فلو كان العالم حادثا لزم أن تكون له مادّة سابقة على جميع اجزائه ؛ هذا خلف!.

وجوابه : انّ الامكان السابق على وجود العالم ليس إلاّ الامكان الذاتي مع اعتبار قيد العدم معه ، وتقدّمه على الوجود وعدم اجتماعه معه انّما هو لأجل ملاحظة قيد العدم المتقدّم عليه ، وذلك أمر اعتباري لا وجود له في الخارج حتّى يحتاج إلى محلّ غير الماهية ، بل هو بعينه الامكان الذاتي ، والفرق ليس إلاّ بانضمام قيد العدم وعدمه.

نعم! لو كان العالم موصوفا بصفات الموجودات كالقرب والبعد وامثالهما / 49DB / الّتي للامكان الاستعدادي المعبّر عنه بالقوّة الّتي لا بدّ من تحقّقها فى غير ما هو قوّة له - أعني : فيما هو مادّة بالنسبة إليه ، كالقوّة الحاصلة في النطفة للجنين وفي الغذاء للنطفة - لكان محتاجا إلى مادّة أو موضوع ؛ والقائل بحدوث العالم لا يسلّم ثبوت الامكان الاستعدادي له قبل وجوده. كيف وهو يدّعى كونه مبدعا لا في زمان ولا يتعقّل للمبدع أن يسبقه المادّة؟! ، فانّ سبق المادّة انّما يكون لما يتصف بالقرب والبعد وامثالهما ممّا لا يتحقّق إلاّ في الزمان ، فغير المحتاج إلى الزمان لا يحتاج إليه. ولو كان مع كونه مبدعا لا في زمان محتاجا إلى مادّة لكان لقائل أن يقول : لو كان حادثا ذاتيا لاحتاج إلى المادّة أيضا ، اذ (1) امكان وجوده متقدّم بالذات على وجوده وليس قائما بذاته ولا بالفاعل و

ص: 231


1- الاصل : و.

لا بالماهية إلى آخر ما تقدّم.

وثالثها : إنّه لو كان العالم حادثا لكان الزمان متناهيا ، وإذا كان الزمان متناهيا كان عدمه سابقا على وجوده - سبقا لا يجامع السابق المسبوق - ، وذلك لا يكون إلاّ بزمان ، فيكون قبل الزمان زمان ، وهكذا إلى ما لا بداية له ؛

وجوابه : انّ تقدم عدم الزمان المتناهي على وجوده لا يحتاج إلى زمان آخر يكون ملاكا له - لأنّه ليس متقدّرا ولا متكمّما - ، بل - إذا ثبت عند العقل تناهي الزمان ينتزع منه بمعونة الوهم تقدّما لعدمه على وجوه تقدّما لا يجامع المتقدّم به المتأخّر شبيها بتقدّم اجزاء الزمان والزمانيات بعضها على بعض ؛ ولا فرق إلاّ بالتقدّر وعدمه ، كما ينتزع من تناهي المكان فوقية لعدمه عليه - وقد مرّ توضيح ذلك على ما ينبغى -.

وبما ذكرناه يظهر فساد ما توهّمه بعض المتأخّرين من قوّة أدلّة القدم ، فانّها لا تنتهض حجّة على القائلين بالحدوث الدهري مطلقا.

قال بعض الأعلام : ولعلّ مقدّم الفلاسفة ورئيسهم تفطنان بأنّ دلائل القدم كلّها مردودة حيث عدّا مسئلة أزلية العالم في طونيقا من المسائل الجدلية الطرفين الّتي لا برهان عليها - بل هي بعد مشكوك فيها! -. نعم! يمكن تتميم تلك الأدلّة على من قال بزمان موهوم مستمرّ متقدّم على وجود العالم هو ظرف عدم العالم أو مقدار بقاء الواجب ؛ فليتدبّر.

( تحقيق ) : ( في كيفيّة ربط الحادث بالقديم )

ثمّ انّه يجب علينا هنا من بيان كيفية ربط الحادث بالقديم على ما اخترناه من القول بالحدوث الدهري. فقد زعم بعضهم انّه لا يمكن الربط على هذا القول بل يتوقّف على القول بزمان موجود وحركة قديمة - كما ذهب إليه الحكماء - ، أو بزمان موهوم -

ص: 232

كما قال به بعض المتكلّمين - ليكون واسطة يحصل به الربط بينهما.

ثمّ بيان هذا الربط يتوجّه على كلّ واحد من الحكماء والمتكلّمين وغيرهم من طوائف العقلاء ، والاشكال فيه لازم على قواعد الكلّ ، لأنّ كلاّ منهم لا يخلوا من الاعتقاد بوجود حادث ، لأنّ الفلاسفة لا ينكرون الحوادث الزمانية وإن قالوا بقدم العالم ؛ والمتكلّمون قائلون بحدوث العالم ولا ينكرون وجود الحادث وإن قالوا بقدم الزمان الموهوم ؛ والقائلون بالحدوث الدهري يثبتون حدوث ما سوى اللّه. فكلّ من الفرق الثلاث لا يخلوا عن الاذعان بوجود الحادث ، فالاشكال الوارد في كيفية ربط الحادث بالقديم على الجميع لازم.

ووجه الاشكال فيه انّ الحادث متغيّر قد يكون وقد لا يكون ، والقديم ثابت دائما ، فلو كان علّة له لزم تخلّف المعلول عن علّته حال عدمه ، فلا بدّ من واسطة يحصل بها الربط بينهما.

ولكلّ من الحكماء والقائلين بالحدوث الزماني والمثبتين للحدوث الدهري طريق في كيفية الربط / 52MB / بينهما ، ونحن نذكر الطرق الثلاث ونشير إلى ما ينبغى أن نشار إليه ليظهر جلية الحال.

أمّا طريقة الحكماء : فهي انّ الحوادث الّتي توجد في العالم لم تصدر من القديم - أعني : الواجب تعالى شأنه - بدون واسطة ليلزم التخلّف ، بل هي انّما تصدر عنه - تعالى - بتوسّط الحركة والزمان ؛ ولكونهما أزليين متغيّرين بذاتهما يحصل بهما الربط.

بيان ذلك : انّ كلاّ من الحركة والزمان إذا كانا أزليان فالربط بين الواجب وأوّل جزء منه ثابت ، لأنّه صدر حينئذ قديم عن قديم لا حادث عن قديم ، فلا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة. ثمّ انّ كلاّ منهما لكونه متغيرا بذاته لا بغيره يحصل به الربط بين الواجب وبين سائر الاجزاء والحوادث اليومية الزمانية. بيان ذلك : انّ كلّ جزء يفرض فيه أوّلا يشترط به وجود الجزء الثاني ويمتنع اجتماعه معه ، فكلّ جزء متأخّر مع ما يوجد من الحوادث مقارنا له يتوقّف وجوده على الجزء المتقدّم وغيره من الأجزاء السابقة عليه ويمتنع وجوده بدونه ، فالعلّة المستقلّة له هو الواجب - تعالى

ص: 233

شأنه - مع تلك الاجزاء المتقدّمة عليه ، لأنّها شرائط وجوده ، فالتخلّف عن الواجب لعدم وجود الشرائط فلم يلزم التخلف عن العلّة التامّة. وأمّا الجزء الأوّل الّذي لا أوّل له فلا يشترط بشيء قبله سوى عدم ما سواه ، فلتمام علّته حينئذ يوجد أوّلا وبوجوده يتم / 50DA / علّة الجزء الثاني. وما يلزم أن يوجد مقارنا له من الحوادث الزمانية فيوجد. وبوجوب الجزء الثاني ينتقض علّة الجزء الأوّل ؛ فيقدّم وهكذا إلى أن يبلغ إلى المنتهى كما هو محسوس من الحركة في الأين ، فانّ المتحرّك ما دام في المبدأ يستحيل أن يكون في الجزء الثاني من المسافة ، وهو لم يصحب جزئها الأوّل ويمتنع أن يكون فيهما معا.

وأنت خبير بانّه يلزم على هذه الطريقة أزلية الزمان والحركة وقدم الجسم المتحرّك بتلك الحركة والتسلسل في الأمور المتعاقبة ، لأنّ كلّ جزء من أجزاء الحركة والزمان يتوقّف وجوده على آن جزء آخر إلى غير النهاية ؛ مع انّه قد بيّنا انّ الاجماع منعقد على حدوث جميع ما سوى اللّه ، وانّ براهين ابطال (1) التسلسل - كالتضايف وغيره - يبطل التسلسل في الأمور المتعاقبة وإن لم تكن مجتمعة في الوجود ، لأنّها متعاقبة بعضها سابق وبعضها مسبوق. فالحادث الأخير في تلك السلسلة الغير المتناهية موصوف بالمسبوقية فقط ، وكلّ واحد ممّا قبله موصوف بالمسبوقية والسابقية معا ، فكلّ سابق مسبوق من غير عكس كلّي كالحادث الأخير ، فيكون عدد المسبوقية أزيد من عدد السابقية بواحد ، وهو محال.

فجعل بعض ما سوى اللّه قديما وواسطة لربط الحادث بالقديم باطل بالنقل ، وهو ظاهر ؛ وبالعقل أيضا ، لأنّه ثبت بالدلالة العقلية حدوث العالم الجسماني - كما قرّرناه - ، فلا يمكن أن يكون جسماني قديما حتّى يكون واسطة لربط الحادث بالقديم. وما لا يمكن اثبات حدوثه بالعقل - كالعقل - لا يصحّ أن يكون واسطة في الربط ، لأنّه ليس شيئا متغيّرا بذاته - كالحركة والزمان - حتّى يكون من الشرائط ويحصل به الربط - كما ذكروه -. فلو كان الصادر الأوّل عن اللّه - تعالى - موجودا مجرّدا قديما هو العقل - نظرا

ص: 234


1- الاصل : - ابطال.

إلى ما تقرّر عند الحكماء من أنّ الواحد لا يصدر عنه الاّ الواحد - لم يمكن أن يكون واسطة وشرطا في الربط والايجاد ، بل يلزم حينئذ أن يكون موجدا بالاستقلال ، وقد تقرّر عند الحكماء أنّ الممكن لا يمكن أن يوجد ممكنا مثله وإن جاز أن يكون واسطة في الايجاد ، وإلاّ لزم أن يكون ما فيه معنى ما بالقوّة مفيدا للوجود. لأنّ كلّ ممكن بما هو ممكن ومن حيث ذاته لا يكون إلاّ بالقوّة ، فيكون لما هو بالقوّة شركة في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ، وللعدم مدخل في افادة الوجود ، وبديهة العقل يمنعه!. ولذا وجب أن يكون موجد الجواهر والاعراض المفارقة لذات الموجد خارجا عنها ، فموجد الكلّ ليس إلاّ / 53MA / الواجب - تعالى شأنه -.

قال بهمنيار في التحصيل : وإن سألت الحقّ فلا يصحّ أن تكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ وجه من معنى ما بالقوّة. وهذا صفة الأوّل - تعالى شأنه - لا غير ، اذ لو كان مفيد الوجود ما فيه معنى ما بالقوة - سواء كان عقلا أو جسما - كان للعدم شركة في افادة الوجود وكان لما بالقوّة شركة في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ؛ (1) انتهى.

على انّ استناد وجود الحادث - أعني : العالم الجسماني - إلى المجرّد القديم مع استقلاله في العلّية يوجب تخلّف المعلول عن العلّة ، فلا بدّ من واسطة أخرى ليحصل بها الربط بينهما.

وبذلك يظهر أنّ البرهان العقلي قائم على بطلان قدم المجرّدات أيضا ، لأنّها إذا وجدت قديمة فلا يخلوا إمّا أن تكون عللا مستقلّة لايجاد العالم الجسماني أو شرائط ووسائط له أو معطّلة خالية عن المدخلية في التأثير والافاضة ، والأوّل يوجب تخلّف المعلول عن العلّة وتأثير الممكن في الممكن ، وهما باطلان. فان ادّعى حينئذ لدفع المحذور الأوّل قدم العالم الجسماني ، ففيه : انّه مدفوع بالدلالة القطعية على حدوثه ، مع انّه يبقى المحذور الثاني على حاله. وإن ادّعى عدم المصلحة أو العلم بالمصلحة في وجوده قبل وقت الحدوث أو عدم قبوله للوجود الأزلي ففيه انّ هذه الوجوه جارية بعينها إذا

ص: 235


1- راجع : التحصيل ، الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من الكتاب الثاني ، ص 521.

كان العالم مستندا إلى الواجب من دون واسطة ، ويمكن أن يدفع بها فساد لزوم تخلّف العالم عن الواجب. على انّ المحذور الثاني أيضا لازم. والثاني مردود بأنّ الشرطية والوساطة انّما يتأتّى إذا حصل بها الربط بين الواجب والعالم الجسماني ، وهو يتوقّف على أن تكون متغيّرة بذاتها ، والعقول ليست كذلك. والثالث يقتضي وجود ما هو معطّل بالكلّية في التأثير والمدخلية في الوجود ، مع انّهم يدّعون أن لا معطّل في وجود العالم ولا مهمل في نظام الخير.

فان قيل : دليل ثبوت العقل ليس هو الافتقار إليه لأن يكون علّة أو شرطا لوجود العالم الجسماني حتّى إذا بطل ذلك حكم بعدم وجوده ، بل الدليل عليه هو وجوب المناسبة بين العلّة والمعلول وعدم جواز صدور غير الواحد عن الواحد. ولما دلّ البرهان على وجوده (1) وكان مقتضى البرهان أن لا يكون معطّلا في الوجود - وإلاّ لم يتصحّح به وجوب المناسبة وصدور الواحد عن الواحد - حكم بكونه واسطة بين الواجب والعالم الجسماني بالعلّية والشرطية ، وصحّح ذلك بأحد الوجوه المذكورة لئلاّ يرد لزوم التخلّف ؛ / 50DB /

قلت : لو سلّم تمامية الدليل المذكور على وجوب صدور الواحد البسيط منه - تعالى - وعدم امكان صدور غير الواحد عنه يجوز أن يكون ذلك الواحد هو الصورة دون العقل ، ودليلهم على امتناع كونه هو الصورة ليس بتمام - كما لا يخفى على من تأمّل كلام الشيخ في إلهيات الشفاء -. ولو سلّم امتناعه ووجوب كونه هو العقل نقول : لم لا يجوز أن يكون حادثا ويتوسّط بين الواجب والعالم الجسماني؟ ، ولا دليل تطمئنّ إليه النفس على قدمه ، بل الدليل قائم على خلافه - كما تقدّم - ؛ مع اعتضاده بكلمات اصحاب الوحى ، فلا مانع من كون العقول حادثة وكونها وسائط بين الواجب والعالم الجسماني.

قيل : ولا يبعد أن يكون مراد المحقّق الطوسيّ - رحمه اللّه - من قوله : « وأمّا العقل فلا يثبت دليل على امتناعه (2) » ، عدم ثبوت دليل على امتناعه مطلقا - أى : قديما كان أم حادثا - لا قديما ، لأنّ اجماع الأنبياء والمليّين والأخبار المفيدة للعلم ثابتة

ص: 236


1- الاصل : - على وجوده.
2- راجع : كشف المراد ، ص 130.

على امتناع وجود العقل القديم ، فكيف يقول لم يثبت دليل على امتناعه؟! ، وتخصيص الدليل بالعقلي يأبى ظاهر عبارته المنقولة ، إذ النكرة في سياق النفي يفيد العموم ؛ إذ الدليل النقلي يطلق عليه الدليل في الكتب الكلاميّة ، والمحقّق كثيرا ما يتمسّك به في التجريد ؛ فالمراد بقوله : « وأدلّة وجوده مدخولة (1) » أي : ادلّة وجوده على النحو الّذي اثبته الحكماء ، يعني بوصف قدمه.

وبذلك يندفع المخالفة بين كلامه هذا وبين ما قال في الالهيات : « والواسطة غير معقولة (2) » ؛ فانّ المراد به انّ الواسطة القديمة الّتي اثبتها الحكماء غير معقولة ، للزوم ما تقدّم من المحذورين ؛ مع مخالفتها لما ثبت / 53MB / من الشريعة. فلو لم يحمل العقل في قوله : « أمّا العقل » على الأعمّ من القديم والحادث و « الواسطة » في قوله : « والواسطة غير معقولة (3) » على القديم فقط ، بل حمل كلاهما على الأعمّ أو القديم لزم المخالفة بين كلامه ، ولا دافع لها إلاّ بان يقال : انه - رحمه اللّه - بعد ردّه في امتناع وجود العقول القديمة في مباحث الجواهر جزم بامتناعه في الإلهيات ؛ ولا يخفى ما فيه. وقد وضح وظهر على أيّ تقدير إن شيئا من المجرّدات والجسمانيات لا يمكن أن يكون واسطة لربط الحادث بالقديم.

ثمّ غير خفيّ انّ أحدا من الحكماء لم يذهب إلى أنّ الواسطة لربط الحادث بالقديم هو العقل ، بل كلّهم متّفقون على انّ الواسطة هو الجسم القديم المتحرّك بالحركة السرمدية. ولذلك جوّزوا التسلسل في الأمور المتعاقبة ، لأنّ الحركة والزمان إذا كانا أزليين يتوقّف وجود كلّ جزء منهما على الجزء السابق ، وهكذا إلى غير النهاية.

قال بعض المتاخرين لانتصار طريقة الحكماء : والحقّ انّه لا محيص في ايجاد الحادث عن القديم عن التزام التسلسل على سبيل التعاقب ، وانّ براهين ابطال التسلسل لا يبطله - كما ادّعاه الحكماء - ، وما دعا المتكلّمين إلى الحكم بامتناعه هو لزوم الحركة السرمدية المستلزمة لقدم الجسم والزمان على ما ادّعاه الفلاسفة ، ففيه :

ص: 237


1- راجع : كشف المراد ، ص 131.
2- راجع : كشف المراد ، ص 218.
3- راجع : كشف المراد ، ص 218.

انّه ليس بلازم لجواز أن يكون هاهنا أمور متعاقبة غير متناهية. ولا يلزم حينئذ قديم غيره - تعالى - ، اذ كلّ موجود يكون حينئذ حادثا.

فان قلت : يلزم قدم النوع المحفوظ بتعاقب الاشخاص المتسلسلة ؛

قلت : لو سلّم انّ الاجماع منعقد على امتناعه أيضا لم يكن المجمع عليه مجرّد نفى شخص كان موجودا قديما غيره - تعالى - نقول : لعلّ الكلّي الطبيعي غير موجود في الخارج - على ما ذهب إليه صاحب المحاكمات وتبعه السيد المحقّق -. ولو سلّم فقيّد الشيخ وغيره من المحقّقين القائلين بوجود الطبائع في الأعيان انّ الذاتيات موجودة بوجود الاشخاص بالذات ، والعرضيات موجودة بوجودها بالعرض - على ما صرّح به بعض المحقّقين -. وحينئذ نقول : لعل تلك الحوادث المتعاقبة غير داخلة تحت ذاتي حتّى يكون الكلّى المشترك بينها ذاتيا لها ويكون موجودا بوجودها بالذات ، فلا يلزم وجود الكلّي المشترك بينها إلاّ بالعرض والوجود بالعرض مجازي. ولو سلّم فلعلّ تلك الحوادث تعلّقات الإرادة ، فلا يلزم إلاّ قدم قدر المشترك بين التعلّقات وتعلّق الإرادة راجع إلى صفته - تعالى - ، فلا يلزم ذات قديمة غيره - تعالى -. ويمكن أيضا أن يقال : اتصاف النوع بالقدم والحدوث انّما هو باعتبار الوجود ، والنوع لا يوجد في الخارج إلاّ بوجود الاشخاص ، والمفروض انّ جميع الاشخاص الموجودة حادثة ، فلا يلزم موجود قديم غيره - تعالى -. وما يقال من انّ النوع قديم فكلام مجازي معناه : انّ قبل كلّ شخص شخص لا إلى نهاية ؛ انتهى.

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الاختلال ، أمّا أوّلا : فلأنّ التسلسل في الأمور المتعاقبة باطل ، وادلّة ابطال التسلسل تجري فيه - كما مرّ مرارا - ، فهو باطل ، وان قطع النظر عن لزوم الحركة السرمدية المستلزمة لقدم الجسم ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ منع وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ينافي مذهب المحقّقين من المتكلّمين - كالمحقّق الطوسى وغيره - الذاهبين إلى وجوده فيه ، فتوجيه كلامهم / 51DA / بذلك توجيه بما لا يرضى!. على أنّ منع وجوده في الاعيان مكابرة والدلالة القطعية على تحقّقه فيه قائمة. فاذا تعاقبت أفراد الحركة إلى غير النهاية لزم منه قدم نوع الحركة

ص: 238

ووجوده في الخارج ، والاجماع يدفعه ، لأنّه منعقد على حدوث جميع ما سوى اللّه - كما يدلّ عليه سنده المشهور ، أعني : كان اللّه ولم يكن معه شيء - ، فقدم الكلّى الطبيعي مع وجوده في الخارج ينافيه ؛

وأمّا ثالثا : فلانّ تلك الحوادث الغير المتناهية المتعاقبة لكونها داخلة تحت مقولة العرض محتاجة إلى جوهر يكون موضوعا له ، والجوهر عندهم منحصر بالخمسة المشهورة. ولكون تلك الحوادث المتعاقبة هي أفراد الحركة فيلزم أن يكون الموضوع هو الجسم الطبيعى دون الأربعة الاخر ، فيلزم وجود جسم قديم يتعاقب عليه تلك الحوادث. على أنّهم صرّحوا بأنّ هذا الجسم هو الفلك ، فيلزم قدمه.

وأمّا رابعا : فلأنّ قوله : « ولو سلّم فلعل تلك الحوادث تعلقات الإرادة - ... إلى آخره - » مع انّه لا يدفع لزوم النسبة في الحوادث الخارجية يرد عليه : انّه يستلزم الترجيح بلا مرجّح ، لأنّ تلك التعلّقات أمور ترجّحت على ما يساويها من غير مرجّح.

وأمّا خامسا : فلأنّ كون كلّ شخص من اشخاص النوع مسبوقا بآخر لا إلى نهاية له ليكون جميع الأشخاص الموجودة حادثة باطل بادلّة ابطال التسلسل ، / 54MA / وان لم يلزم قدم النوع ولم يكن موجودا في الخارج.

وأمّا طريقة القائلين بالزمان الموهوم في ربط الحادث بالقديم ، فهي : انّ الواسطة في ذلك هو الزمان الموهوم ، ولكونه متغيّرا بذاته متصرّما وغير متناه يحصل به الربط بين الواجب وبين الحادث الّذي هو العالم - على النحو الّذي قرّره الحكماء في توسّط الحركة الغير المتناهية بين الواجب وبين غيره من الحوادث -.

فحدوث العالم في آن الحدوث يتوقّف على مضيّ الجزء الأخير من الزمان الموهوم وهو على الجزء السابق عليه ، وهكذا إلى غير النهاية. والظاهر انّ التمسك بالزمان الموهوم لهذا الربط انّما هو من بعضهم ، لأنّ أكثرهم لم يتعرّضوا له في مقام بيان هذا الربط ، بل بعضهم تمسّك لأجله بالإرادة وبعضهم بالمصلحة وبعضهم بالعلم بالأصلح ، وقالوا : انّ احداث الحادث وقت الحدوث وترجيح آن الحدوث بايجاد الحادث فيه انّما هو بواسطة

ص: 239

الإرادة - كما هو رأي الاشاعرة - ، أو المصلحة - كما هو رأي بعض المعتزلة - أو العلم بالأصلح - كما هو رأي بعض آخر منهم -. فتخلّف العالم عن الواجب قبل آن الحدوث لعدم الإرادة أو المصلحة أو العلم بالاصلح ، فلا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة التامة.

فلأجل عدم الأمور المذكورة قبل آن الحدوث ووجودها حين تحقّقه يحصل الربط والتأثير والتأثر بين القديم والحادث ؛ ولما أورد على المتكلّمين بالمصلحة أو العلم بالاصلح بأنّ ترجيح وقت خاصّ باعتبار الإرادة أو المصلحة أو العلم بالأصلح ممّا لا يعقل إلاّ إذا كان لذلك الوقت مدخلية في المصلحة والأصلحية باعتبار كونه مصلحة أو أصلح فيتوقّف حدوث الحادث على حضوره ، وننقل الكلام إليه وفي توقّفه على حضور وقت سابق عليه وهكذا ، فيلزم التسلسل!.

قال بعض القائلين بالزمان الموهوم : هذا الايراد شبهة قوية لقدم العالم لا ينحلّ إلاّ بالقول بالزمان الموهوم والتزام التسلسل على التعاقب إمّا مطلقا أو فيه ، لعدم وجوده.

ولا يخفى انّ هذه الطريقة لابتنائها على ما هو باطل - أعني : الزمان الموهوم - باطلة. وقد تقدّم انّ الزمان الموهوم أمر نفس أمري وله اختلاف اجزاء متباينة متعاقبة ، فيكون التسلسل في أمور نفس أمرية لا في أمور اعتبارية ، واستحالته - وإن كان على التعاقب - امر مشهور محقّق - كما بيّناه -. فهذه الطريقة أيضا كسابقتها فاسدة.

وأمّا طريقة القائلين بالحدوث الدهري ، فهو انّ العالم لعدم قبوله الوجود الازلي لم يمكن أن يوجد قبل آن الحدوث ، بل لم يوجد وقت قبله - كما قال الحكيم الطوسي : « واختصّ الحدوث بوقت إذ لا وقت قبله » -. وحينئذ لا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة لقصور المعلول عن استفادة الوجود وعدم تحقّق وقت له قبل ذلك ، فلتعيّن وجود العالم في وقت الحدوث وعدم امكان قبوله الوجود قبله يحصل الربط بين الواجب والحادث الّذي هو العالم ، وهذه الطريقة هي الّتي اخترناها ولا يرد عليه شيء.

ص: 240

تتميم : ( في بيان مذهب محقّق الطوسي من أقسام الحدوث )

اعلم! أنّ الظاهر - بل الجزم! - انّ مختار المحقق الطوسي من أقسام الحدوث هو الحدوث الدهرى ، وهو الظاهر من قوله في التجريد : « حدوث العالم بعد عدمه ينفي الايجاب (1) » ؛ فانّ المراد بالبعدية هو البعدية الدهرية بمعنى كون وجوده بعد العدم الصريح والليس الساذج ، فيكون المعنى : انّ وجود العالم بعد العدم الصرف والليس المحض ينفي الايجاب بمعنى عدم انفكاك العالم عن ذات الواجب ، كما قال به الفلاسفة. وليس المراد بالبعدية هي البعدية الزمانية ، لأنّ مثل هذا المحقق أجلّ شأنا وجلالة من أن يقول بتحقّق الزمان الموهوم ، كيف وقد قال في مبحث / 51DB / حدوث الاجسام : « واختصّ الحدوث بوقته إذ لا وقت قبله » (2) ، وهو صريح في نفي الحدوث الزماني. إذ القائل به لا يمكنه نفي الوقت والاستمرار قبله ، لأنّه عبارة عن شقّ استمرار العدم في الوقت الغير المتناهي ؛ ولا البعدية الذاتية ، لانّه أكثر ايمانا وديانة من أن يقول بالقدم وقد قال في / 54MB / شرح رسالة العلم : « ازليته - تعالى - اثبات سابقية له على غيره ونفي المسبوقية عنه ، ومن يفرض الزمان أو الدهر أو السرمد فقد ساوق معه غيره في الوجود » (3).

ولا يقال : انّ قوله هذا كما يدلّ على نفي الحدوث الزماني يدلّ على نفي الحدوث الدهري أيضا ؛

لأنّا نقول : مراده بالدهر المنفيّ هو اثبات شيء موجود خارجي يكون مسمّى بالدهر - كما يشير إليه قوله : فقد ساوق معه المحال -. ونحن أيضا لا نقول بذلك ، فانّ الدهر - على ما فسّرناه - ليس شيئا مباينا عن ذات الواجب يكون موجودا ، بل هو حدّ الشيء ومرتبته. فالمراد بالحدوث الدهري هو وجود الواجب في حاقّ مرتبته بدون العالم وغيره من الموجودات بأيّ اسم يسمّى ؛ وهذا هو مراد المحقّق. وعلى هذا

ص: 241


1- راجع : كشف المراد ، ص 217.
2- راجع : كشف المراد ، ص 129.
3- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 46.

يكون تقدّم عدم العالم على وجوده هو التقدّم الدهري الّذي ذكرنا انّه أيضا من أحد اقسام التقدّم ؛ وقد بينّاه وأوضحناه على ما ينبغي.

فان قيل : على ما ذكر ليس الدهر وعاء حقيقيا وموجودا خارجيا يتصوّر فيه التفاوت والتقدّم والتأخّر ، بل قلتم : انّ الدهر والواقع هو حدّ الشيء ومرتبته ؛ وعلى هذا فلا يكون لعدم وعاء حتّى يتّصف هو بالتقدّم حقيقة والعدم به مجازا فيلزم أن يكون الموصوف بالتقدّم هو نفس العدم ، وهو باطل ؛

قلت : لو سلّم عدم التفاوت في الواقع وعدم اتصافه بالتقدّم والتأخّر نقول : انّ تقدّم العدم على الوجود يكون شبيها بالتقدّم بالذات ، بمعنى انّ العدم يكون متحقّقا مع التقدّم بالذات فالعدم يكون مع المتقدّم بالذات ، وبهذا الاعتبار اطلق عليه المتقدّم.

وما أورد عليه : بأنّ كون العدم مع التقدّم بالذات ممّا لا يتصوّر إلاّ إذا كان في وعاء ؛ ممنوع ، ولعلّ السند معلوم لك بعد أن خاطبتك بما سبق.

وما قيل : انّ ذلك العدم إمّا يكون مع العالم أيضا أو قبله ، لا مجال للأوّل ، فيكون قبله ، فلا ينفع الفرار منه.

والقول بأنّ اطلاق المتقدّم عليه على سبيل المجاز ، ففيه : انّ قبلية العدم مسلّمة ونحن نثبتها له ، ولكن نقول : هذا بواسطة المتقدّم بالذات لئلاّ يرد أنّ القدم من حيث هو لا يتصف بالتقدّم والتأخّر. فلا بأس!.

وبما ذكر يظهر فساد ما ذكره بعض المحشين من أنّ المراد بالبعدية في كلام المحقّق هي البعدية الزمانية ، إذ لا شكّ انّ تقدّم العدم على الوجود ليس ذاتيا ولا طبعيا ، إذ ليس لوجود العالم توقّف على عدمه حتّى يكون للعدم تقدّما ذاتيا أو طبيعيا على الوجود ؛ وظاهر أنّه لا يتصوّر من أقسام التقدّم هاهنا سوى الزماني ، فيكون العالم حادثا زمانيا. وإذا كان كذلك لا يكون الواجب موجبا وإلاّ لزم قدم أثره - أي : العالم - لكون الموجد قديما واجبا بالذات ؛ انتهى.

ووجه الفساد : ما تقدّم من بطلان الزمان الموهوم وتصوّر تقدّم أمر سوى الذاتى والطبيعى - أعني : التقدّم الدهري -. قال بعض أهل التحقيق : انّ تقدّم عدم العالم على

ص: 242

وجوده لو كان زمانيا لزم أن يكون قبل كلّ زمان لا إلى نهاية ويلزم القدم. والزمان الموهوم - الّذي اثبته الأشاعرة - قبل وجود العالم غير صحيح عند المحصّلين من المتكلّمين - ومنهم المحقّق الطوسي - كما يظهر من تصفّح كلامهم.

وقد أورد على ما نقلناه من بعض المحشين أيضا بأنّ ما ذكره من أنّ تقدّم العدم على الوجود ليس ذاتيا ولا طبيعيا ممنوع عند الحكماء - كما صرّحوا به في اثبات الحدوث الذاتي - ؛

وقد أجاب عنه بعض الأفاضل : بأنّ مراده ليس تقدّم عدم العالم على وجوده تقدّما ذاتيا لا انّه لا يمكن تقدّم العدم على الوجود تقدّما ذاتيا أصلا ، فاندفع المنع الّذي ذكره. على أنّ فيما ذكره الحكماء في اثبات الحدوث الذاتي من تقدّم عدم الممكن على وجوده تقدّما ذاتيا البتة تأمّل ؛ انتهى.

أقول : غرض المجيب انّ المراد انّ تقدّم عدم العالم على وجوده ليس مجرّد التقدّم الذاتي ، بل لا بدّ على طريقة الملّة من اثبات تقدّم يحصل به الانفكاك ، فمجرّد امكان كون تقدّم العدم على الوجود تقدّما ذاتيا لا ينفع في المقام. وعلى ما ذكرناه من كون العدم السابق بحيث لو فرض فيه الزمان لكان غير متناه ومن تحقّق الانفكاك الواقعي بين مرتبة الواجب ومرتبة العالم يندفع الشبهات ويحصل المراد.

وبما ذكر يظهر أيضا فساد ما ذكره بعض الأفاضل بأنّ الظاهر - كما يستفاد / 55MA / من كلام الشيخ رحمه اللّه في بحث الأمور العامة - انّ مراد المحقّق الطوسي من البعدية هاهنا هو البعدية بالذات الّتي اثبتها المتكلّمون وجعلوها / 52DA / قسما سادسا ، وزعموا أنّ تقدّم اجزاء الزمان بعضها على بعض من هذا القبيل. لكن التحقيق انّه لا محصّل له. إذ لا نجد له معنى معقولا سوى الخمسة. بل الظاهر انّه تقدّم بالزمان ، فانّ ذلك التقدّم إذا عرض لغير الزمان كان بواسطة زمان مغاير للسابق والمسبوق ، وإن عرض لأجزاء الزمان لم يحتج إلى زمان مغاير لها ، وان عرض للزمان وغيره لا بدّ أن يكون لذلك الغير زمان ؛ وأمّا الزمان فلا يحتاج إلى زمان آخر. وحينئذ فعدم العالم يجب أن يكون في زمان ، لكن يكفي فيه الزمان الموهوم ؛ انتهى.

ص: 243

* * *

( عود إلى ما سبق من ابحاث القدرة )

واذ فرغنا من تحقيق القول في حدوث العالم وبيّنا حقّية الحدوث الدهري وبطلان الزماني والقدم فلنرجع إلى ما كنّا بصدده - أعني : اثبات القدرة بالمعنى الثالث ، أي : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي وشرائط التأثير في بعض الأوقات وإن وجب في بعض آخر منها -.

فنقول : لمّا ثبت أنّ العالم مسبوق بالعدم الصريح والليس الساذج وبه حصل الانفكاك الواقعي بين الواجب والعالم - كما بينّاه - ، يترتب عليه الامكان المذكور في وقت ما. لا الوقت بمعنى الزمان ، بل بمعنى الواقع ونفس الأمر - فانّ الوقت هنا أعم من ذلك - لأنّ حقيقة القدرة بهذا المعنى هو جواز الترك بالنظر إلى الإرادة والمصلحة أو عدم القبول للوجود ولو في الوقت الموهوم أو التقديري - أعني : الليس الصرف والعدم البحث - ، والحدوث الدهري - على ما فسّر - ملزوم له أو احد أفراده. والقول بأنّ الترك حينئذ واجب بالنظر إلى الداعي فلا تثبت منه القدرة المفسّرة بالامكان ، قد تقدّم القول فيه.

واذ ثبتت القدرة بهذا المعنى يبطل الايجاب المقابل لها - أعني : وجوب الفعل في جميع الاوقات بالنظر إلى الداعي - ، كما ذهب إليه الفلاسفة ، وعلى القول بالحدوث الزماني يكون ثبوت القدرة بهذا المعنى وبطلان الايجاب المقابل لها أظهر ؛ كما لا يخفى.

وأمّا القدرة بالمعنى الرابع - أعني : امكان الفعل والترك في جميع الاوقات ولو في آن الحدوث بالنظر إلى الداعي - ، فالقول بثبوته للواجب - تعالى - ونفى الايجاب المقابل لها ووجوب الفعل في وقت خاصّ مختص بالاشاعرة نظرا إلى انّهم نفوا الايجاب مطلقا وجوّزوا الترجيح بلا مرجّح ، فقالوا : أوجد اللّه - تعالى - العالم في الوقت الّذي اراد في الأزل أن يوجده بدون مرجّح غير تعلّق الإرادة ، وبالإرادة لا يجب الفعل ،

ص: 244

بل كان له أن لا يفعل ما فعل لانّه ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) (1).

ولا ريب في بطلان ما ذهبوا إليه ، لأنّ الفعل ما لم يجب لم يوجد - كما مرّ - ، واختيار احد الطرفين بمجرّد الإرادة من دون مرجّح له ظاهر البطلان - كما تقدّم -. فالحقّ نفي القدرة بهذا المعنى عنه - تعالى - وثبوت الايجاب المقابل لها له - جلّ شأنه - ، فإيجاد العالم في الوقت الّذي أوجده انّما كان على سبيل الوجوب لتعلّق الإرادة بايجاده ، لمرجّح كونه - تعالى - علّة مستقلّة لايجاده وعدم وقت قبله - كما اخترناه - ، أو لمرجّح المصلحة أو العلم بالأصلح - كما اختاره الآخرون -. وقد ظهر انّ القدرة بالمعاني الثلاثة الأول أعني : صدور الفعل بالمشية والإرادة والعلم وامكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات وامكانهما بالنظر الداعي في بعض الاوقات - ثابتة له - تعالى - ، والايجاب المقابل لها - أعني : الايجاب الطباعي ، أي : صدور الفعل بدون العلم والمشية ووجوب الفعل بالنظر إلى الذات ووجوبه بالنظر إلى الداعي في جميع الاوقات - منفىّ عنه - تعالى - ؛ وحدوث العالم - دهريا كان أو زمانيا - مستلزم لثبوت القدرة بالمعاني الثلاثة له - تعالى - ونفي مقابلاتها عنه - تعالى -.

أمّا استلزامه لثبوت القدرة بالمعنى الثالث ونفى الايجاب المقابل لها فظاهر ، لأنّ معنى القدرة بهذا المعنى راجع بعينه إلى جواز الانفكاك وامتناعه ، فتأثيره - تعالى - في العالم إن كان بالايجاب بهذا المعنى لزم قدم العالم بالضرورة ولا يحتاج إلى الاستدلال عليه ، ويكفى للتنبيه أنّ الحدوث بالمعنيين يستلزم سبق العدم على الحادث فينا في الايجاب بمعنى عدم الانفكاك بديهة. ويرد التنبيه عليه على تقدير الحدوث الزمانى / 55MB / بأنّ العالم إذا كان حادثا بالحدوث الزماني لكان حدوثه لا محالة في حدّ مخصوص من لا يزال ، ولا يمكن استناد ذلك التخصيص إلى الممكن - لاستواء نسبته إلى جميع الحدود - ولا إلى الفاعل - لاقتضائه امتناع الانفكاك - ، فلا يجوز بالضرورة أن تقتضى نحوا من الانفكاك ، فبقى أن يكون هذا التخصيص بلا مخصّص ، وهو محال ؛ فالحدوث الزماني لا يجتمع مع الايجاب بهذا المعنى.

ص: 245


1- مقتبس من كريمة 23 ، الأنبياء.

وما قيل : انّ الحدوث الدهري لا ينفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ؛ كلام خال عن التحصيل! ، لأنّ الانفكاك واقع على تقدير الحدوث الدهري ، فكيف لا يدلّ على نفيه؟!

والاحتجاج عليه بأنّ معنى ذلك الايجاب امتناع الانفكاك من جهة اقتضاء الفاعل المستجمع لشرائط التأثير لا من جهة عدم امكان الأثر - فانّه لا يضرّ بالايجاب الّذي هو من صفات الفاعل ، ولا ريب في انّ الانفكاك الواقع بين الواجب والعالم على القول بالحدوث الدهري / 52DB / انّما هو من جهة عدم جواز الأزلية للعالم وعدم قبوله للوجود الازلى لا من جهة الواجب - مغالطة وتدليس ، لأنّ المراد بالايجاب بهذا المعنى ليس الاّ امتناع الانفكاك سواء كان من جهة الفاعل أو من جهة المفعول. فاذا تحقّق الانفكاك بطل ذلك الايجاب من أيّ جهة كان. وهذا ظاهر لمن تدبّر في مواضع النزاع.

وأمّا استلزامه لثبوت القدرة بالمعنى الأوّل ونفي الايجاب المقابل لها ، فلأنّ تأثيره - تعالى - في وجود العالم إن كان بالايجاب الطباعى لزم قدمه ، إذ لو كان حادثا لزم إمّا تخلّف المعلول عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة مجتمعة أو متعاقبة إذ الموجب بذلك المعنى إن كان أصل ذاته منشئا للفعل من غير افتقار إلى أمر آخر لزم التخلّف على فرض الحدوث ؛ وإن توقّف فعله على بعض الشرائط لزم توقّف حدوث العالم على شرط حادث ، وذلك الشرط الحادث يتوقّف على شرط حادث آخر ... وهلمّ جرّا ، فيلزم التسلسل في الشروط المتعاقبة أو المجتمعة ، وكلاهما باطل - على ما مرّ -.

ولا خفاء في انّ الحدوث بالمعنيين يثبت المطلوب كما هو الظاهر من الدليل.

وربما قيل : انّ منافاة الحدوث الزماني للايجاب الطباعي أظهر ، امّا على جواز فرض الأزلية للعالم فلبداهة لزوم التخلف عن الموجب التامّ أو لزوم التسلسل في الشروط الحادثة ، وأمّا على تقدير عدم جواز الأزلية له فلضرورة لزوم ترجيح بعض حدود الزمان للحدوث على غيره من الموجب بالمعنى المذكور ، وهو محال ، وهذا الأخير لا يتأتّى في الحدوث الدهري. ولا ريب في أنّ اظهرية منافاة الحدوث الزمانى

ص: 246

للايجاب المذكور لو كانت مسلّمة لا يقدح بالمطلوب بعد تسليم ثبوت منافاتهما له.

فان قيل : للقائلين بالقدم أن يتمسّكوا بمثل هذا الدليل على نفى الحدوث بأن يقولوا : العالم قديم ، إذ لو كان حادثا - سواء كان الموجد موجبا أو مختارا - لتوقّف على شرط حادث ، وإلاّ لزم ترجيح الفاعل بدون المرجّح أو التخلّف عن الموجب التامّ في صورة الايجاب ، وتخلّف العلّة التامّة عن المعلول في صورة الاختيار ، فيلزم التسلسل في الشروط ، ولا يرد عليهم النقض بالحوادث اليومية لتجويزهم التسلسل في المتعاقبات بخلاف المتكلّمين ؛

قلنا : حدوث الحادث لا يتوقّف على شرط حادث عند المتكلّمين ليلزم التسلسل في الشروط ، لأنّ علّة تخصيص الحادث بالوجود في آن الحدوث عند بعضهم عدم قبوله الوجود قبله - كما اخترناه - ، وعند آخرين المصلحة أو العلم بالأصلح ، وعند الأشاعرة الإرادة ولا يحتاج إلى مرجّح آخر - لتجويزهم الترجيح بلا مرجّح - ؛ فعلى هذه المذاهب كلّها لا يتوقّف حدوث الحادث على شرط حادث.

وممن لا يعبأ به من المتكلّمين ذهب إلى انّه لا بدّ في ربط الحادث بالقديم من التزام التسلسل في الشروط المتعاقبة ، ثمّ جوّز ذلك وقال : لا منع فيه ، إذ لا يلزم منه وجود قديم بالشخص بل اللازم منه وجود نوع قديم ولا استحالة فيه ، فيجوز للقائل بالايجاب الطباعي أن يحتجّ عليه بانّك قلت : انّ التسلسل اللازم في الحوادث اليومية على سبيل التعاقب هو جائز ؛ فيمكن أن يكون / 56MA / التسلسل اللازم لحدوث العالم في صورة الايجاب كذلك ، فلا استحالة فيه.

ثمّ إنّا قد بيّنا سابقا فساد ما جوّزه هذا البعض ، وذكرنا انّه يستلزم قدم فعل ما البتّة ، ومن لا يجوّز قدم العالم كيف يجوز ذلك؟!.

فان قيل : إذا كان العالم حادثا يلزم القدم أو التسلسل في الشروط المتعاقبة في صورة الاختيار أيضا ، لأنّ الذات مع الإرادة إن كانت كافية في صدور العالم لزم القدم وإلاّ توقّف الصدور على شرط حادث ويلزم التسلسل ؛

والجواب : انّه على فرض الاختيار عدم تحقّق وقت قبل آن الحدوث أو المصلحة

ص: 247

أو العلم بالأصلح الّذي هو عين الذات أو مجرّد إرادة المختار عند الاشعري - لتجويزه الترجيح بلا مرجّح له - كاف لترجيح آن الحدوث ولا يحتاج إلى شرط آخر ، فلا يلزم التسلسل. وأمّا في صورة الايجاب بالمعنى المذكور فلمّا لم يكن علم ولا اختيار فلا يتصوّر فيه ملاحظة المصلحة والأصلح ، فامّا أن يكون الذات كافية فيلزم العدم أو يتوقّف على شرط ، فيلزم التسلسل.

فان قيل : إذا كان المرجّح ذات الوقت وعدم وقت قبله - كما اخترتم - ، لم يكن فرق بين صورة الاختيار وصورة الايجاب ، لانّه إذا كان ذات الوقت مرجّحا لايجاده فيه ولم يكن الايجاد قبله ولم يقبل العالم الوجود قبله لم يتوقّف وجوده فيه على شرط حادث - سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا - ، فكما انّه لم يمكن صدوره من المختار حينئذ قبل ذلك لم يمكن صدوره من الموجب قبله.

وتوضيح هذا الايراد : انّه على القول بالحدوث الدهري وتأخّر العالم عن العدم الصريح وعدم امكان وجوده قبل ذلك تكون ازلية العالم / 53DA / ممتنعة ولا تكون ذاته من حيث هي قابلة لها ، فحينئذ يكون القدم الدهري ممتنعا على العالم من حيث هو ، كما انّ العدم الدهري يكون واجبا له بالنظر إلى ذاته ، فيكون طريق تأثيره - تعالى - فيه منحصرا في ايجاده بعد العدم الصريح. ولو كان موجبا - بأيّ معنى كان - ، فالحدوث الدهري لا يدلّ على نفي الايجاب اصلا ، وانّما كان يدلّ على نفي شيء منه لو أمكن التأثير على خلاف ذلك ، فيعلم منه اختيار ما لاستحالة الترجيح من الموجب المطلق. فللحكيم أن يقول : انّ العالم إذا لم يكن وجوده في الازل ممكنا فإيجاده منحصر في آن يكون فيما لا يزال ، فيجتمع مع كلّ ايجاب حتّى الايجاب الطباعي لاشتراط القابلية في معلول الموجب بهذا المعنى أيضا. فكما انّ في عدم احراق النار الحجر لعدم القابلية لا يكون النار موجبا في الاحراق فالتخلّف هاهنا أيضا لعدم القابلية في المعلول لا ينافي الايجاب في العلّة. قال الفخر الرازي في الأربعين من جانب الفلاسفة : وامّا إن كان قدم العالم محالا فنقول : انّ العلّة الموجبة قد يتخلّف عنها اثرها عند تخلّف الشرائط أو حضور الموانع ، ومن أقوى الشرائط كون المعلول في نفسه ممكن الوقوع ، ومن أقوى

ص: 248

الموانع كونه ممتنع الوقوع ، فلم لا يجوز أن يقال : انّه - تعالى - موجب بالذات لوجود العالم إلاّ انّه لم يوجد العالم لانّ تحقّق الأزل كالمانع من وجود العالم ، فلمّا زال المانع حصل المعلول (1)؟!.

قلت : المرجّح عندنا ليس مجرّد ذات الوقت وعدم وقت قبله وامتناع ازلية العالم ، بل المرجّح عندنا ذلك مع العلم بالأصلح ، كيف وثبوت القدرة بالمعنى الثاني - أعني : امكان الفعل والترك بالنظر إلى ذات الفاعل مع ترجيح أحد الطرفين - لا يتصوّر بدون مرجّح من الفاعل؟!. ولا يعقل مرجّح ناش منه إلاّ علمه بالأصلح ؛ وثبوت علمه - تعالى - لا يتوقّف على مجرّد الحدوث بل هو ثابت بأدلّة اخر - كما تقدّم بعضها ويأتي بعض أخر أيضا -. وبالجملة ثبوت القدرة بمعنى الايجاد بالعلم والإرادة لا يتوقّف على حدوث العالم ، ولذا استدلّ بعضهم على الحدوث بالقدرة من حيث احالتهم كون أثر الفاعل المختار قديما. قال بعض المشاهير : احتجّ المليون على حدوث الزمان بأنّ الزمان ممكن - لتركيبه من الحوادث - فيكون مستندا إلى اللّه - تعالى - واللّه - تعالى - فاعل بالاختيار - كما تبيّن - ، وفعل الفاعل المختار حادث ، فيكون الزمان حادثا.

فان قلت : ما الباعث لك لجعل ذات الوقت وعدم وقت قبله جزء المرجّح وعدم الاكتفاء بالعلم / 56MB / بالاصلح فقط؟! ؛

قلت : الباعث عدم صحّة جعل المرجّح هو العلم بالأصلح فقط لأنّ الذات مع العلم والإرادة إمّا أن تكون كافية في صدور الفعل فيلزم القدم البتّة ، أو لا ، فيتوقّف على شرط. والقول بأنّه باعتبار العلم بالأصلح يترجّح وقتا خاصا ، ممّا لا يعقل إذا كان لذلك الوقت مدخلية باعتبار كونه أصلح مثلا أو غير ذلك ، فيتوقّف حينئذ على حضور ذلك الوقت. وحضوره يتوقّف على وقت قبله ، وهكذا ، فيلزم التسلسل ، فلا بدّ من القول بعدم وقت قبل وقت الحدوث وعدم قبول العالم للوجود قبل ذلك لئلاّ يلزم التسلسل في المتعاقبات ، وبدونه لا مدفع من لزوم التسلسل ، ومجرّد العلم بالأصلح غير واقع له على أنّ بعد حقّية الحدوث الدهري وبطلان الزمان الموهوم - كما

ص: 249


1- راجع : الأربعين ، ج 1 ، ص 183.

اخترناه - لا معنى لوجود وقت قبل آن الحدوث وامكان وجود العالم قبل ذلك ، بل ذلك انّما هو ممكن على القول بالحدوث الزماني.

ثمّ الحقّ انّ مختار المحقّق الطوسي في مرجّح آن الحدوث هو ما اخترناه ، وليس المرجّح عنده مجرّد العلم بالأصلح - على ما نسب إليه في المشهور -. كيف وهو لم يتعرّض في التجريد للعلم بالاصلح مطلقا؟! ، وقال في مبحث الجواهر منه : واختصّ الحدوث بوقته إذ لا وقت قبله (1) ؛ هذا.

وأمّا استلزام الحدوث - دهريا كان أو زمانيا - لثبوت القدرة بالمعنى الثاني - أعني : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته تعالى مع وجوب احد الطرفين باعتبار المرجّح من الإرادة القديمة أو ذات الوقت أو العلم بالأصلح أو ما اخترناه - ونفي الايجاب المقابل لها - أعني : وجوب أحد الطرفين بالنظر إلى الذات - ، فلأنّه لو كان أحد الطرفين واجبا مع قطع النظر عن المرجّح فلا يخلوا إمّا أن يكون ذاته - تعالى - من حيث هو علّة مستقلّة وكافيا لحصول الفعل فيلزم قدم العالم ، أو لا بدّ من شيء آخر لوجوبه وحصوله ؛ فان كان هذا الشيء قديما لزم القدم أيضا ، وان كان حادثا لزم التسلسل والتخلّف ، مع انّ توقّف الوجوب على شيء آخر يستلزم الامكان ونفي الوجوب بالنظر إلى الذات ، فالحدوث لا يجتمع مع الايجاب بهذا المعنى.

فان قيل : اثبات القدرة بهذا المعنى بالحدوث دوري! ، لأنّ ثبوت النبوّة يتوقّف على اثبات القدرة بهذا المعنى ، فاثبات تلك القدرة بالحدوث الثابت بالاجماع المتوقّف حجّيته على ثبوت النبوّة دور ؛

قلنا : لا نسلّم توقّف ثبوت النبوّة / 53DB / على القدرة بهذا المعنى ، ولو سلّم فلا نسلّم انحصار دليل الحدوث بالاجماع - كما مرّ -.

ثمّ لا يخفى عليك إنّا قد أشرنا إلى انّ حدوث العالم دهريا كان أو زمانيا يستلزم ثبوت القدرة بالمعنى الثالث ونفي الايجاب المقابل لها - أعني : جواز الانفكاك وامتناعه - ضرورة ، ولا نحتاج إلى الاستدلال عليه.

ص: 250


1- راجع : كشف المراد ، ص 129 ؛ الشرح الجديد ، ص 186.

والاستدلال عليه بما تقدّم لا يخلوا من الاختلال بوجوه :

منها : انّه يلزم النقض بصورة الاختيار ، فلقائل أن يقول : تأثيره - تعالى - ان لم يكن بالايجاب بالمعنى المذكور بل بالاختيار المقابل له - أعني : جواز الانفكاك - لزم ترجيح الفاعل بدون المرجّح أو احتياج التأثير إلى شرط حادث بناء على ما ذكر من انّه لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ويلزم التسلسل في الشروط الحادثة متعاقبة أو مجتمعة ، بل له أن يقول : انّ العالم قديم ، إذ لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث لئلاّ يلزم التخلّف عن الموجب التامّ - كما ذكر في الاستدلال - أو تخلّف العلّة التامّة عن المعلول ، وذلك الشرط الحادث يتوقّف أيضا على شرط حادث آخر ويلزم التسلسل ، وهو باطل.

ولو أجيب بأنّ في صورة الاختيار يكفي أحد المرجّحات المذكورة من ذات الوقت أو المصلحة أو العلم بالأصلح لترجيح وقت خاصّ ، يرد عليه : انّ في صورة الايجاب بهذا المعنى أيضا يكفي ذلك ، إذ الموجب بهذا المعنى يجوز أن يكون عالما بالاصلح ويكون علمه منشئا لفعله ، ولا ينافي ذلك الايجاب بهذا المعنى - أي : امتناع الانفكاك -. والحاصل : انّ القول بأنّ الشيء لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث باطل عند المعتزلة القائلين بالداعي - سواء كان الفاعل / 57MA / موجبا بهذا المعنى أو مختارا كذلك - ، فانّهم قالوا : انّ الداعي بأيّ معنى أخذ كاف في تخصيص ايجاد الحدوث بذلك الوقت ولا حاجة إلى شرط حادث.

وتفصيل مذاهب المعتزلة في الداعي وكيفية الحدوث : انّ المحقّق الطوسي قائل بأنّ العالم حادث ولا يتوقّف إلاّ على ذاته - تعالى - وعلمه بالأصلح وارادته اللذين هما عين ذاته - تعالى ، كما نسب إليه في المشهور وأشرنا إلى ما فيه - ، والعلم بالأصلح كاف في ترجيح آن الحدوث. وليس توقّف الحادث على شرط حادث مسلّما عنده ولا لازما ، لفرض الايجاب المتنازع فيه بينه وبين الحكماء الّذي هو في قوّة فرض القدم. وكيف يجوز استعمال مقدّمة في الاستدلال غير مسلّمة عند المستدلّ ولا لازمة لفرض نقيض مدّعاه؟!.

ص: 251

وامّا الكعبي واتباعه فحكمهم في ذلك الاستدلال حكم المحقّق ، إذ مذهبهم انّ التناهي والحدوث من لوازم ماهية الزمان والوقت والعالم بجميع اجزائه زماني ، فوجوده في الأزل ممتنع وصدوره في وقت عن اللّه - تعالى - واجب وغير موقوف على شروط ؛

وأمّا قدماء المعتزلة فذهبوا إلى أنّ تخصيص آن أوّل الايجاد بحدوث العالم على سبيل الاولوية بسبب مصلحة تعود إلى العالم. وبملاحظة تلك المصلحة تصير إرادة الايجاد أولى من عدمها ، وبالإرادة يصير الايجاد واجبا وعدمه ممتنعا ، فلا يحتاج إلى شرط حادث.

نعم! ذهب بعض المعتزلة إلى القول بتسلسل الارادات ووجوب حدوث الفعل عند الإرادة المتعلّقة به ، فتوقّف الحادث على الشرط الحادث عندهم ممنوع ، إلاّ أنّهم لتجويزهم مثل هذا التسلسل لا يصحّ جريان هذا الاستدلال من قبلهم. وعلى أيّ حال قد ظهر أنّ المعتزلة بأجمعهم لا يمكنهم الاستدلال بانّه على تقدير الايجاب لو كان العالم حادثا لتوقّف على شرط حادث ، لكفاية الداعي في تخصيص الايجاد على ما ذهبوا إليه ، فلا يتوقّف على شرط حادث. ولو احتجّوا بهذا الاستدلال لأمكن المعارضة بانّه لو لم يكن الفاعل موجبا أيضا وكان العالم حادثا لتوقّف. ولا يمكنهم الفرق بين الايجاب والاختيار في ذلك ، لأنّ الداعي إن كان كافيا في تخصيص ايجاد الحادث أمكن منع توقّف الحادث على شرط حادث حتّى لا يمكن الاستدلال ولا يجوز المعارضة. والظاهر انّه لمّا كان ذلك الايجاب وحدوث الأثر متنافيين لا يمكن تعقّل اجتماعهما ، فتوهّم عدم جريان القول بالداعي في صورة الايجاب مع الحدوث.

وفيه : انّ بناء المستدلّ على أنّ لزوم التوقّف على شرط انّما هو على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور مع قطع النظر عن استحالة ذلك ، بل فرض وقوعها وقال : انّه يتوقّف حينئذ على شرط حادث. ولا شكّ انّه على فرض تحقّق الحدوث يمكن منع هذه المقدمة مستندا بالداعي ، ولا ارتباط لهذه المقدّمة حينئذ بالايجاب والاختيار ، فعدم الاحتياج في صورتي الايجاب والاختيار كليهما إلى شرط

ص: 252

حادث لازم ، فالاستدلال باطل. وإن لم يكن الداعي كافيا في تخصيص ايجاد الحادث فيحتاج في الصورتين إلى شرط حادث لبطلان الترجيح بلا مرجّح بزعم المعتزلة مطلقا - أي : في المختار والموجب - ، لأنّه يوجب عدم الايجاب مطلقا وهم قائلون بالايجاب الخاصّ ، فيلزم التسلسل. فأحد المحذورين من لزوم التسلسل أو الترجيح بلا مرجّح لازم ، فتكون المعارضة واردة.

وأنت تعلم انّ الداعي بمعنى علمه - تعالى - بوجود الخير وعدم قبول العالم للوجود قبل آن الحدوث يكفي للتخصيص ، فالترديد للاستظهار.

ويؤيّد ما ذكرناه ما قال بعض الاعاظم : لزوم التخلّف أو التوقّف على شرط حادث على تقدير حدوث العالم ممنوع ، سواء / 54DA / كان ذلك التقدير مع تقدير الايجاب بالمعنى المذكور أو بدونه ، إذ يصحّ أن يكون الموجب بسبب علمه بوجود الخير مقتضيا لوجود العالم في الوقت الّذي وجد فيه ، فاذا حصل وجوده في ذلك الوقت لا يكون متخلّفا عن اقتضاء الموجب.

لا يقال : وجوده في ذلك الوقت وإن لم يتخلّف عن اقتضاء الموجب لكنّه تخلّف عن الموجب المقتضي وانّما الكلام فيه لا غير ، كيف ولو لم يكن متخلّفا لزم أن يكون وجوده مع كونه في ذلك الوقت ازليا ، فيلزم قدمه مع محذور آخر هو التناهي ، لأنّ الفرض حدوثه ؛ لأنّا نقول : الحدوث من لوازم ماهية ذلك الوقت ، فلو كان في الأزل يلزم الانقلاب في الماهية. وأيضا ما ذكرتم انّما يلزم على من أثبت قبل وجود العالم زمانا أزليا ووقتا غير متناه حتّى نتصوّر خلق العالم قبل الوقت الّذي خلق فيه بمقدار سنة أو سنتين أو غير ذلك ، فاذا كان / 57MB / موجودا في وقت الحدوث ولم يكن موجودا في شيء من ذلك الاوقات يلزم التخلّف أو الترجيح بلا مرجّح أو عجز الفاعل - كما الزمهم الشيخ الرئيس بذلك في الشفاء والنجاة والتعليقات -. وأمّا من نفى ذلك وحكم بأنّ حصول الامتداد انّما هو بمجرّد فرض أو وهم وتقدير - كفرض حصول الامتداد المكاني فوق الفلك المحدّد - فلا يلزم عليه شيء من تلك المفاسد.

فان قلت : لا ريب في معية الواجب - تعالى شأنه - لوجود العالم ، وهو يوجب إمّا

ص: 253

قدم العالم أو حدوث الباري - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا! - ؛

قلنا : لا يلزم شيء منهما ، وانّما يلزم لو كانت هذه المعية زمانية وليس كذلك. وليس من شرط كلّ معية أن تكون زمانية إلاّ إذا كان المعان كلاهما زمانيين ، والواجب - تعالى - غير زماني ، لأنّه موجد الزمان وما فيه.

فان قلت : إذا لم تكن معيته لشيء زمانية فعلى أي : نحو تكون معيته للعالم؟ ؛

قلنا : نحن نجزم بتحقّق معيّة غير زمانية للواجب - تعالى - بالنسبة إلى العالم بالبرهان الدالّ عليه ، وإن اشكل علينا تصوّر كنه تلك المعية وملاحظة أحوال المكان ، يعنى على تصوّر ما ذكرناه من أحكام الزمان ؛ انتهى. هذا ؛ واعترض بعض الفضلاء على ما ذكرناه من عدم الفرق بين صورة الاكتساب والاختيار في ورود المقدّمة المذكورة بأنّ قول المعتزلة بكفاية الداعي في تخصيص ايجاد الحادث بوقته انّما هو على تقدير الاختيار لا مطلقا ، إذ لو قالوا بالايجاب المذكور واقتضاء الداعي القديم امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم لكان فرض حدوثه حينئذ محالا ومخالفا لما هو مقتضى الداعي المذكور ، فلا يمكنهم أن يسندوا التخصيص بوقت حدوثه إلى مثل ذلك الداعي البتة ، واسنادهم التخصيص إلى الداعي في صورة الاختيار انّما هو لاعتقادهم انّ الداعي لا يدعوا إلاّ إلى معدوم ، فيقتضى نحوا من الانفكاك. والحاصل انّ الداعي المعتبر في الموجب مباين للداعي المعتبر في المختار في الاقتضاء ، فلا يمكن أن يسند إلى أحدهما اقتضاء الآخر ، فعدم جريان القول بمقتضى الداعي المعتبر في المختار في صورة فرض الايجاب مع الحدوث ليس توهّما ، انّما التوهّم عدم الفرق بين مقتضى الداعيين وتسوية صورة الايجاب والاختيار في جواز استناد التخصيص المذكور إلى الداعي ، فلا يتيسّر للقائل بالايجاب المذكور منع المقدمة المذكورة مستندا إلى الداعي لعدم كفايته للتخصيص المذكور إلاّ على تقدير الاختيار. ولذلك ترى القائلين بهذا الايجاب من الفلاسفة لم يسندوا إلى الداعي الّذي اعتبروا في الموجب بهذا الايجاب تخصيصا هربا عن لزوم الاختيار ، حتّى أنّهم في تصحيح الحوادث اليومية بأوقاتها وارتباطها بفاعلها القديم اضطرّوا إلى اختيار القول بالحركة السرمدية وشغلوا ذممهم

ص: 254

لدفع المناقشات الّتي يتوجّه على القول بها. فلو كان القول بالداعي مصحّحا للربط المذكور على تقدير الايجاب أيضا لمّا احتاجوا إلى أمثال ذلك كما لا يحتاج إليها القائل بالاختيار ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا الاعتراض بطوله ساقط!. فانّ بناء الاستدلال على انّه إذا فرض اجتماع الايجاب المذكور مع الحدوث وقطع النظر عن استحالة ذلك لتوقّف الحدوث على التسلسل في الشروط ، وبناء المعارضة على انّه إذا سلّم الحدوث - كما هو المفروض في الاستدلال - لا بدّ من القول بالترجيح بلا مرجّح أو التزام التسلسل في الشروط ، سواء كان الفاعل موجبا أو مختارا.

والجواب بامكان القول بالتخصيص بالداعي للمختار مشترك. وعدم قول القائلين بالايجاب به واضطرارهم في تصحيح حدوث الحوادث في أوقاتها المعينة إلى القول بالحركة السرمدية لقولهم بالقدم ، ولو قالوا بالحدوث لم يحتاجوا إلى القول بسرمدية الحركة وكفاهم القول بالداعي من العلم بالأصلح أو غيره.

فان قيل : في صورة الايجاب لا يكفي الداعي للتخصيص ، بل لا بدّ من التزام القول بالتسلسل في الشروط لأنّه لو لم يتوقّف حينئذ على شرط حادث بل كان جميع ما يتوقّف عليه حاصلا في الأزل لكان يجب أن يكون قديما مع انه فرض حادثا ، هذا خلف! ؛

قلنا : مع القول بالداعي لا يكون جميع ما يتوقّف عليه حاصلا في الأزل ، لأنّ من جملة ما يتوقّف عليه هو الداعي وهو كان مقتضيا للحصول فيما لا يزال. فلو فرض انّ الداعي هو العلم بالأصلح فنقول : انّه تعلّق في الأزل بايجاد العالم فيما / 54DB / لا يزال ، فلا يكون جميع مقتضيات حصول العالم موجودا في الأزل. على انّ ما ذكر معارض بأنّه لو توقّف على شرط حادث لوجب أن لا يكون قديما ، وهو ينافي فرض الايجاب المذكور.

فان اجيب : بانّ هذه المعارضة غير قادحة ، لأنّ الحدوث على فرض الايجاب المذكور محال ، فيجوز أن يستلزم النقيضين فلا يضرّ / 58MA / ما تقدّم من استلزامه

ص: 255

التوقّف على شرط حادث ؛ قلنا : قد مرّ مرارا أنّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع المتنافيين والتكلّم على تقديره ، وحينئذ فلزوم محال من فرض محال آخر مسلّم ، إلاّ أنّه لا يضرّنا أيضا - كما لا يخفى -.

وقد وضح وضوحا تامّا بما ذكر أنّ الاستدلال المذكور على نفي الايجاب بالمعنى الّذي نحن بصدده لا يتمّ ولا يصحّ على قاعدة الاعتزال ، وعلى ما صحّ وتحقّق عندنا.

نعم! انّه يصحّ عند تابعي الاشعري ويتمشّى اجرائه على مذهبهم. ولا يرد عليهم النقض بصورة الاختيار ، لأنّهم جوّزوا تأثير الفاعل المختار بدون مرجّح ، فقالوا : إن كان تأثيره - تعالى في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث ، وكلاهما محالان. وحاصل كلامهم : انّ تأثيره - تعالى - ليس بالايجاب بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم ، بأن يكون المرجّح نفس إرادة الفاعل المختار وإلاّ لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث ، وكلاهما محالان. فاعتقاد الاشعري انّ العلّة إن كانت موجبة - أي : علة على سبيل الوجوب واللزوم - نمنع تخلّف المعلول عنها ، فيتم الدليل من قبله ، لأنّه إن كانت العلّة الموجبة بجميع شرائطها حاصلة في الأزل فيلزم القدم البتة ، وإلاّ فيتوقّف على شرط ويلزم التسلسل. وأمّا إذا لم يكن ايجاب اصلا فلا يلزم من قدم العلّة قدم المعلول ، لأنّه يترجّح أحد مقدوريه على الأخر في أيّ وقت شاء بلا مرجّح.

وتوضيح ذلك : انّ الأشعرية لمّا قالوا انّ الفاعل المختار بإرادته يرجّح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجّح حادث في أيّ وقت شاء - بخلاف الموجب ، فانّه لو كان أثره حادثا لتوقّف على شرط حادث على مذهبهم لئلاّ يلزم التخلّف عن الموجب التّام - فلم يجوّزوا في الفاعل الموجب الترجيح بلا مرجّح حتّى لا يتوقّف على شرط حادث على مذهبهم ، فأمكن الاستدلال من قبلهم على فرض الايجاب بانّه لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ويلزم التسلسل. ولا يعقل المعارضة معهم بانّه على تقدير عدم الايجاب أيضا لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، لأنّهم في صورة الاختيار جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ، فهم يمنعون هذه المقدّمة على هذا التقدير.

ص: 256

ثم اعلم! أنّ النافين للايجاب مطلقا - أي : الّذين لا يشترطون في صدور الفعل عن الفاعل الوجوب واللزوم - فرقتان : فرقة قالوا انّ صدور الفعل عن القادر لا يتوقّف على انضمام الداعي والمرجّح إليه اصلا ، بل القادر هو الّذي يرجّح أحد مقدوريه على الآخر بدون مرجّح ؛ فهم لا يشترطون في الصدور الأولوية أيضا. وهؤلاء هم الاشاعرة المجوّزون للترجيح بلا مرجّح اصلا - أي : بلا مرجّح يصير به الفعل واجبا ولا مرجّح يصير به أولى - ؛

وفرقة أخرى اشترطوا في الصدور الأولوية وقالوا : انّ صدور الفعل عن القادر موقوف على داع يصير الفعل بسببه أولى بالوقوع ، إلاّ إنّه لا ينتهي إلى حدّ الوجوب ، حتّى يبقى الفرق بين الموجب والقادر.

وإذ علمت ذلك فنقول : الحقّ انّ الاستدلال المذكور يتمشّى من جانب الفريقين ؛ والمناط في تماميته انّما هو القول بنفي الوجوب واللزوم. ولا يشترط فيه نفي الاولوية أيضا والقول بصحّة الترجيح بلا مرجّح اصلا ، لأنّ للفرقة الثانية أيضا أن يقولوا : لو كان صدور الفعل عن القادر يحتاج إلى داع يوجبه لزم قدم العالم أو التسلسل. وأمّا إذا لم يكن الداعي موجبا بل منشئا لمجرّد الأولوية فلا يلزم شيء من ذلك ، إذ يمكن أن يكون ذلك الداعي في الأزل ولم يوجد الفعل فيه بل يوجد فيما لا يزال ، لأنّه لا يمتنع تخلّف الفعل عن السبب الغير الموجب.

فما قيل : انّ مجرّد القول بنفي الايجاب مطلقا - أي : من دون القول بصحّة الترجيح بلا مرجّح مطلقا ، كما ذهب إليه الفرقة الثانية القائلون بالاولوية - لا يكفى في صحّة الاستدلال المذكور ؛ ضعيف. وما ذكر الامام في الأربعين في الزام تلك الفرقة بأنّه على تقدير تلك الأولوية ان أمكن الفعل والترك معا فلا يكفي في صدور الفعل بل لا بدّ من سبب آخر ، وإن لم يمكن طرف الترك يكون طرف الأولى واجب (1) ؛ لا دخل له فيما نحن فيه! ، لأنّ الفرض تمامية الاستدلال على فرض تسليم مذهبهم ، وما ذكره الامام انّما هو لابطال أصل مذهبهم ؛ وهو كلام آخر. كما انّ بطلان أصل مذهب الفرقة الأولى أيضا -

ص: 257


1- راجع : الأربعين ، ج 1 ، ص 174.

أعني : الترجيح بلا مرجّح - لا دخل له بما نحن فيه.

وبما ذكر يندفع ما ذكره بعض الأعلام : انّ دليل الأشعري على عدم احتياج الحادث إلى غير الإرادة - أعني : قوله : إن كان تاثيره تعالى في العالم محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث ، وكلاهما محال - لا ينفي الايجاب اصلا لا برهانيا ولا الزاميا ؛ أمّا الأوّل : فلأنّ الترجيح بلا مرجّح لمّا كان جائزا عند الأشعري ، فلو كان الفاعل موجبا والفعل حادثا لا يلزم التوقّف على شرط حادث عنده ؛ وأمّا الثاني : فلأنّ التسلسل في الحوادث غير ممتنع عند الحكيم ؛ انتهى.

ووجه / 58MB / الاندفاع : انّ جواز الترجيح بلا مرجّح عند الأشعري انّما هو للفاعل المختار دون الموجب ، ففي صورة الايجاب إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل / 55DA / في الحوادث البتة ، والحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشروط المتسلسلة ؛ فتكون هذه المقدمة - أعني : لزوم التسلسل - الزامية ، لأنّ الأشعري ليس قائلا به ، لأنّ الحكيم قائل بجواز التسلسل في الحوادث أيضا والاشعري قائل ببطلانه ، فتكون إحدى مقدمتى هذا الدليل (1) جدلية وأخراهما برهانية ، وسيأتي انّ الدليل إذا كان بعض مقدّماته جدليا وبعضها برهانيا يمكن أن يكون جدليا وبرهانيا ؛ هذا.

وأورد على هذا التفصيل الّذي ذكرناه - أعني : ورود المعارضة على المعتزلة وعدم ورودها على الاشاعرة - ايرادان :

الأوّل : انّ المعارضة لا ترد على المعتزلة ، إذ لهم أن يقولوا على تقدير عدم كون تأثيره - تعالى - في العالم بالايجاب بل بالاختيار : لزوم الترجيح بلا مرجّح ممنوع ، لجواز وجود المرجّح وهو علم الفاعل بالمصلحة في ترجيح ايجاد العالم في وقت حدوثه ، فتوقّف الايجاد على هذا التقدير على شرط ممنوع. ومثل هذا المنع لا يتوجّه على أصل الدليل ، إذ محصّله انّ تأثير الواجب - تعالى - في ايجاد العالم إن كان بالايجاب الّذي زعمه الحكماء وكان العالم حادثا لتوقّف التأثير على شرط بلا شبهة. والحاصل انّ منع التوقّف على الشرط على تقدير كون الفاعل مختارا له وجه صحيح ، وأمّا على تقدير

ص: 258


1- الاصل : - هذا الدليل.

كون الفاعل موجبا والأثر حادثا فلا وجه له عند المعتزلة والحكماء. وفساده ظاهر ، لما مرّ من أنّ كون الحادث متوقّفا على شرط ليس لازما لفرض الايجاب المذكور ، بل هو لازم لكون الشيء حادثا سواء كان فاعله موجبا أو مختارا لو لم يوجد مخصّص الداعي.

فان أجيب في صورة الاختيار بوجود المخصّص - وهو علم الفاعل المختار بالمصلحة - فلا يجري هذا في الصورة الايجاب بالمعنى المذكور أيضا ، لأنّ الموجب بمعنى الفاعل الغير المنفكّ عن الايجاد يجوز أن يكون عالما بالأصلح - كما تقدّم مفصّلا -.

فان قيل : القائلون بالايجاب بهذا المعنى - أعني : الفلاسفة القائلين بالقدم - لا بدّ لهم من التزام التسلسل في الشروط ، لأنّ تخصيص كلّ حادث من الحوادث اليومية بوقت دون آخر لا يتصحّح عندهم إلاّ بذلك واثباتهم للحركة السرمدية مستلزم لذلك ، لأنّ كلّ جزء منها يتوقّف على الجزء السابق عليه والتصفّح يعطي اتفاقهم على الاذعان بتحقّق النسبة في المتعاقبات ، فهم لمّا جعلوا المرجّح لوجود كلّ حادث من الحوادث اليومية في وقته الخاصّ هو توقّفه على شرط متحقّق قبله دون العلم بالأصلح فلو كان أصول العالم من الافلاك وغيرها حادثة لزمهم أيضا جعل المخصّص توقّفه على حدوث شرط سابق عليه وهو على آخر ... وهكذا إلى غير النهاية. وأمّا المعتزلة فهم ليسوا قائلين بتوقّف الحوادث على الشروط الغير المتناهية ، بل يجعلون المخصّص في الكلّ هو العلم بالأصلح ، فلا يرد عليهم المعارضة بوجه لا برهانيا ولا الزاميا ؛

قلنا : الفلاسفة لمّا قالوا بالقدم اضطرّوا إلى القول بوجود التسلسل في الشروط المتعاقبة ، لأنّ القول بوجود الحركة السرمدية لا ينفكّ عنه والتزام وجود الحوادث والأشخاص الغير المتناهية مستلزم لذلك لزوما بيّنا ، فالتسلسل في الشروط الحادثة من لوازم القول بقدم أصول العالم لا من لوازم مجرّد حدوث الحوادث ، فلو فرض قولهم بحدوث أصول العالم يلزم عليهم جعل المخصّص لوقت الحدوث هو التوقّف على شرط سابق عليه والاذعان بتحقّق الشروط الغير المتناهية ، بل لهم أن يجعلوا المرجّح هو العلم بالأصلح أو عدم وقت قبل وقت الحدوث. ويؤيّد ذلك انّ العالم عندهم حادث بالذات والمرجّح لايجاده كذلك عندهم انّما هو ذات العلّة التامّة من دون توقّف على شيء

ص: 259

آخر.

فان قيل : الفلاسفة لمّا قالوا بالقدم ولم يكن العالم حادثا عندهم فالتسلسل في المتعاقبات لازم عليهم البتة ، فجواز جعلهم المخصّص ذات الوقت أو العلم بالأصلح لا معنى له! ؛

قلنا : قد تقدّم انّ حدوث العالم مع الايجاب بالمعنى المذكور أمر لا يعقل إلاّ أنّ التوقّف على شرط حادث انّما أخذه المستدلّ على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن امتناع ذلك ، بل فرض الوقوع وتكلّم بانّه حينئذ يلزم التوقّف على شرط حادث ، فالمطلوب انّه إذا امكن على سبيل الفرض والتقدير اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور - أي : ما هو ملزوم القدم لزوما بينا كما أخذه المستدلّ - فللحكيم أن يجعل المرجّح لآن الحدوث هو العلم بالأصلح ، كما انّ للمستدلّ أن يجعله ذلك بعد المعارضة. وبالجملة انّ الحكيم لمّا لم يقل بالحدوث لم يكن يجعل المخصّص العلم بالأصلح مذهبا له ، إلاّ أنّ سند المنع لا يلزم أن يكون مذهبا للمانع.

وأيضا لو وجب الزام الحكيم بما هو مذهبه ولا يجوز له التعدّي إلى ما لا يقول به لكان اجراء هذا الدليل من قبل المعتزلة الزاميّا على الحكماء ، وهو ليس بصحيح ، لابتنائه على امتناع التسلسل التعاقبي ، وهو ليس بمسلّم عندهم.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ المعارضة واردة على المعتزلة ، فالاستدلال المذكور من قبلهم لا يكون برهانيا - لعدم تسليمهم المقدّمة المذكورة ، أعني : توقّف الحادث على الشروط الحادثة - ولا الزاما على الحكماء لما ذكر ، لا لأنّ تلك المقدمة ليست مسلّمة عند الحكماء - كما قال بعض الأفاضل : الظاهر انّ تلك المقدّمة غير مسلّمة عند الحكماء أيضا ، لأنّهم يتشبّثون في استناد الحادث بالقديم بموجود قديم مستمرّ متجدّد متّصل واحد ذي اعتبارين كالحركة يكون باحدهما شرطا لحدوث الحادث وبالآخر مستندا بالقديم السرمدي ، كما ينوّه في محله ؛ - انتهى.

وقال بعض آخر : انّ التوقّف على الشرط الحادث والتزام التسلسل في الشروط

ص: 260

لا يقول به إلاّ شرذمة من القائلين بالقدم ؛ قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الواجب : وأمّا نسبة التزام هذه التسلسل إلى الحكماء فافتراء ؛ وقال ولده غياث المدقّقين في شرحه : اي قدماء الحكماء المحقّقين ، فانّهم انكروا ذلك كما لا يخفى على من تصفّح الصحف الموروثة عنهم ، وانّما التزمه قوم من المتفلسفين المتأخّرين ممّن لا اعتماد على كلامهم. والمنكرون للتسلسل في الشروط الحادثة بيّنوا كيفية حدوث الحوادث اليومية بوجه آخر ، وهو انّهم اثبتوا حركة سرمدية وهي أمر واحد متّصل وله اجزاء فرضية فكلّ فرد من الحوادث مستند إلى بعض معيّن من تلك الحركة الواحدة ؛ (1) انتهى.

وذلك لأنّ التصفّح يعطي بأنّ الفلاسفة متّفقون على التزام التسلسل في الشروط الحادثة ؛ واذعانهم بوجود الحركة السرمدية دليل قاطع على ذلك ، لأنّ الحركة القديمة ذو اجزاء كلّ جزء منها متوقّف على جزء سابق عليه ، فيلزم التسلسل في الأمور المتعاقبة. فجعل استناد الحوادث اليومية إلى الحركة السرمدية دليلا على عدم توقّف الحادث على الشروط الحادثة الغير المتناهية أمر غريب.

وقال بعض أهل التحقيق : انكار كون هذه المقدّمة مسلّمة عند الحكماء غريب جدا ، إذ لا ريب لمن تصفّح كتبهم في انّهم يقولون بها.

وما تخيّله من أنّهم قالوا باستناد الحوادث إلى الحركة وهي موجود واحد قديم بلا توقّف على شرط فلم تكن المقدّمة مسلّمة عندهم ، ففيه : انّ نظرهم إلى انّ الحركة لها أجزاء غير متناهية يتوقّف كلّ جزء منها على سابقه. وحينئذ لا بأس باستناد الحوادث إليها ، إذ توقّف كلّ حادث على شرط حادث على سبيل التسلسل على التعاقب ، فليس في ذلك دلالة على تجويزهم استناد الحادث بالقديم بلا توقّف على شرط حادث. كيف ولو جوّزوا ذلك فما بالهم ارتكبوا تلك الحركة وتورّطوا فيما تورطوا فيه؟!. فظهر انّ تعليل عدم امكان جعل الاستدلال المذكور جدليا والزاميا للحكماء لعدم كون المقدّمة (2) المذكورة مسلّمة عندهم غير صحيح. فالصحيح تعليله

ص: 261


1- ما عثرت على هاتين الرسالتين ، والظاهر انّهما لم تطبعا بعد.
2- الاصل : المسألة.

بما ذكروا بانّ الحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشرط الحادث مطلقا ، سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا ، فعلى تقدير جعله جدليا والزاميا للحكيم يتوجّه على المعتزلة النقض قطعا ؛ هذا.

وقيل في بيان عدم جواز استعمال الدليل المذكور لا برهانيا ولا جدليا من قبل المعتزلة وورود المعارضة عليهم مع انّهم يجوز لهم على الظاهر أن يقولوا - لم لا يجوز أن تكون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور وان اعتقدنا بطلانها في نفسها كما في كثير من توالي المتّصلات اللزومية - : انّ القول بالمقدمة المذكورة كما انّه لا يصحّ في نفسه عندهم كذلك ليس لازما لفرض الايجاب المذكور في الواقع حتّى يصحّ استعمال المعتزلة لها على فرضه ، وحينئذ لا يجوز لهم استعمالها أصلا.

بيان عدم اللزوم : انّ معنى الايجاب المذكور هو امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم مطلقا في الازل ، فيلزمه حصول جميع شرائط التأثير فيه في الأزل وعدم توقّفه على شيء اصلا فلا يمكن مع استلزامه عدم التوقّف المذكور أن يستلزم أيضا توقّفه على الشروط للزوم اجتماع النقيضين ، وهو محال ؛ فثبت انّ توقّف العالم حال حدوثه على حادث آخر لا يمكن أن يكون لازما لفرض الايجاب المذكور ؛ انتهى.

وفيه : ما تقدم من انّ بناء الاستدلال على قطع النظر عن استحالة اجتماع الايجاب المذكور مع حدوث الأثر ، ولولاه لم يصحّ للأشعري أيضا نفي مطلق الايجاب. وإذا كان اجتماع هذين الأمرين - أعني : القدم والحدوث - محالا ومع ذلك فرض وقوعه واستدلّ على تقديره فلا مانع من لزوم محال آخر منه - أعني : اجتماع عدم التوقّف على شيء والتوقّف على الشرط - ، لأنّ المحال قد يستلزم فرضه محالا آخر والاستدلال بفرض وقوع محال وترتّب محال آخر عليه أمر شائع بينهم ، ولو منعه مانع محتجّا بعدم فائدة فيه وعدم الاحتياج إليه فهو كلام آخر. وسنذكر انّ من وجوه الاختلال في هذا الاستدلال عدم الاحتياج إليه ، للزوم القدم على فرض الايجاب المذكور ضرورة ، ونشير إلى / 59MB / أنّ من وجوه الاختلال فيه وان كان مندفعا بما ذكر من لزوم اجتماع النقيضين - أعني : الايجاب بالمعنى المذكور والحدوث - ، والمحال قد يستلزم المحال.

ص: 262

فلقائل أن يقول : حينئذ لا مانع من لزوم التسلسل في الشروط المتعاقبة لامكان استلزام المحال المحال ، والمطلوب هاهنا انّه مع قطع النظر عن هذه الوجوه من الاختلال يلزم اختلال آخر أيضا ، وهو المعارضة من قبل الحكماء على المعتزلة.

الثاني : انّ المعارضة يرد على الأشعري أيضا. فان أجيب : بانّ للأشعرية الجواب بالتزام التخلّف والترجيح بلا مرجّح ويكون كلامه في الاستدلال على سبيل الجدل والالزام ؛

قلنا : للمعتزلة أيضا التزام عدم توقّف الحادث على شرط حادث ويكون كلامهم في الدليل على سبيل الجدل ؛ انتهى.

ولا يخفى ضعفه على ما بيّناه ، لأنّ الاستدلال المذكور على مذهب الاشعري برهاني لا يتوجّه عليه النقض مطلقا ، لأنّ في صورة الاختيار يجوز الترجيح بلا مرجّح عنده بخلاف صورة الايجاب. وما ذكره من امكان جعل الدليل المذكور جدليا من قبل المعتزلة فقد عرفت فساده.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض آخر : انّ الدليل المذكور لا يمكن اجرائه من قبل الأشعري أيضا لا برهانيا / 56DA / - لتجويزه الترجيح بلا مرجّح - ولا جدليا - لابتنائه على استحالة التسلسل في الشروط المتعاقبة - ، مع أنّ الحكماء يجوّزوه ، فلا يصحّ استعماله الزاما عليهم. فالحقّ انّ هذا الدليل لا يصحّ اجرائه اصلا لا من قبل الأشعري ولا من قبل غيره ، لا برهانيا - لابتنائه على التوقّف على الشرط الحادث وهو غير ممنوع عند المتكلّمين ، أمّا عند الأشاعرة منهم فلتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا عند غيرهم فلأنّ المرجح عندهم إمّا علم الفاعل وإمّا ذات الوقت - ؛ ولا الزاميا - لابتنائه على استحالة جميع انحاء التسلسل ، وهو غير ممنوع عند الحكماء - أيضا ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما عرفت من صحّة جعله برهانيا من قبل الأشعري.

والحقّ انّه يمكن أن يكون من قبله جدلا والزاما على الحكماء أيضا. وما استدلّ به على عدم امكان جعله جدليا يرد عليه : انّه لا ريب في أنّ أحد مقدّمات هذا الدليل - وهو لزوم التسلسل في الشروط - جدليّ للزومه على مذهب الحكيم دون

ص: 263

الأشعري ، وهو يكفي لكونه جدليا ، ولا يلزم أن يكون باقي مقدّماته أيضا جدليا. ولا يلزم من استعمال مقدّمة في الدليل جدلا أن يكون جميع مقدّماته ممّا يسلّمه الخصم ، بل يجوز أن يكون بعض مقدّماته ممّا يعتقد المستدلّ كونه برهانيا وإن لم يسلّمه الخصم فاذا كان لزوم التسلسل في الشروط مسلّما عند الحكيم لزم كونه جدليا وان كان بطلانه غير مسلّم عنده ، بل كان ممّا اعتقده الأشعري وثبت عنده بالبرهان ، هذا.

وقال بعض الفضلاء : انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة غير تامّ ، إذ هم يجوّزون تخلّف المعلول عن العلّة التامّة واستحالته مأخوذة في الدليل.

واجاب عنه بعض الأعلام : بانّ المذكور في الاستدلال هو التخلّف عن الموجب التامّ وهو باطل باتفاق العقلاء ، لكن الأشاعرة ينفون الموجب مطلقا لا أنّهم يجوّزون التخلّف ؛ كيف وهو في قوّة اجتماع النقيضين؟!. وأمّا تخلف المعلول عن العلّة التامة فهو وان كان جائزا عقلا عندهم لكنّه غير واقع ومستحيل عادة نعم! تخلّف العلّة التامة عن المعلول بمعنى انفكاك ذاته في الأزل عن ايجاد الفعل مطلقا جائز وواقع عند أكثر المتكلّمين ، لأنّ ذاته - تعالى - مع علمه وارادته علّة تامة في الأزل لوجود العالم عندهم ، بل موجب تامّ عند بعضهم - كالمحقق الطوسي واتباعه - ، والعالم غير موجود فيه وبناء تجويز ذلك عند كلّ طائفة أمر وعند المحقّق الطوسي هو العلم بالأصلح ؛ انتهى.

وحاصله : انّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ والكلام في الاستدلال انّما هو فيه ، وهو صحيح لا غبار عليه ، كما مرّ غير مرّة من أنّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ وإن جوّزوا التخلّف عن الفاعل المختار بسبب الإرادة ، لا بأن يكون التخلّف جائزا بعد تعلّق الإرادة بالفعل - لوجوبه حينئذ عندهم - ، بل قبل تعلّقها بمعنى انّ تعلّقها بالفعل ليس بواجب ، فيجوز للفاعل المستجمع لجميع الشرائط أن يريد الفعل وأن لا يريد ، لجواز الترجيح بلا مرجّح.

فالتخلّف الجائز عن الفاعل المختار هو التخلّف عن المختار المستجمع للشرائط من الدواعي وغيرها سوى الإرادة ، ومع الإرادة لا يجوّزون التخلّف. ولا ريب انّ الفاعل بدون تعلّق الإرادة ليس علّة تامّة وان حصل جميع ما سواه من شرائط

ص: 264

التأثير. فما ذكره المجيب المذكور من أنّ التخلّف عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ليس على ما ينبغي!.

قال بعض أهل التحقيق : ان مذهب الاشاعرة في صدور الفعل عن الفاعل المختار انّه يصدر عنه بدون اللزوم والوجوب في الاختيار والإرادة ، كما هو زعم المعتزلة من انّه لا بدّ من مرجّح في الفعل يوجب تعلّق الإرادة مثل كونه أصلح للصدور ، لأنّ الاشاعرة قالوا : المختار مرجّح بإرادته من غير مرجّح يوجب تعلّق الإرادة وان كان صدور الأثر بعد تعلّق الإرادة واجبا. فلا يتوهّم أنّ الأشاعرة ينفون وجوب الفعل والأثر بعد تعلّق الإرادة ، بل القول بانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد متّفق عليه بين الكلّ إلاّ شرذمة قليلة من المتكلّمين القائلين بالأولويّة / 60MA / الغيرية ، فالوجوب واللزوم اللذان ينفيهما الاشاعرة وجوب تعلّق الإرادة بسبب موجب له - كالأصلحية مثلا - ، لا وجوب الفعل بغير الإرادة. وقد اعترض عليهم : بانّ ما قيل في وجوب الفعل آت بعينه في تعلّق الإرادة أيضا ؛ انتهى. وقال بعض آخر من الأعاظم : انّ ما نسب إلى الأشعري من انّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ممّا لم أقف على مأخذه! ؛ بل ظاهر كلام المواقف وشرحه انّهم يقولون باستحالة التخلّف عقلا. قال في المواقف : الإرادة القديمة يوجب المراد ؛ وفي شرحه : اي : إذا تعلّقت إرادة اللّه - تعالى - بفعل من أفعال نفسه لزم وجود ذلك الفعل وامتنع تخلّفه عن ارادته ، اتفاقا من أهل الملّة والحكماء أيضا (1) ؛ انتهى.

وأيضا اورد في بحث الاختيار من جانب القائلين بايجاب السؤال : بأنّ قدرته - تعالى - متعلّقة في الأزل بهذا الطرف وبه يجب وجوده ، وحينئذ فما الفرق بين الموجب والمختار؟ ؛

وأجاب : بانّ الفرق انّه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلّق قدرته يستوي إليه الطرفان ، ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلّق القدرة والإرادة به ، لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات / 56DB / ؛ ولا يمتنع عقلا تعلّق قدرته بالفعل بدلا

ص: 265


1- ما وجدت العبارة في المواقف وشرحه.

من الترك وبالعكس. وأمّا الموجب فانّه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الاخر عقلا ؛ انتهى.

وتوضيح المقام : انّ مذهب الأشاعرة هو أنّ الفعل بعد تعلّق الإرادة به يصير واجبا ، ومرادهم بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة هو هذا - أي : يمتنع تخلّفه عن الفاعل بعد تعلّق الإرادة واستجماعه لسائر الشرائط -. ولكن تعلّق الإرادة به ليس بواجب ، لانّ الفاعل المستجمع لجميع الشرائط يمكن أن يريد الفعل وأن لا يريد - بناء على جواز الترجيح بلا مرجّح -. والمراد بنفيهم الايجاب هو هذا ؛ أي : ليس شيء من الأفعال ممّا يجب صدوره عن الفاعل ، فانّ عدم ارادته له ممكن وحينئذ لم يصدر ذلك وإن كان بعد تعلّق الإرادة يجب الصدور البتة. وعلى هذا فالوجه في تمشّى الاستدلال المذكور على مذهب الأشاعرة هو انّهم يقولون : إذا كان الفاعل موجبا لا بدّ أن تكون ارادته واجبة الصدور منه ، فحينئذ فجميع الشرائط ان كانت حاصلة في الأزل يجب القدم وإلاّ يتوقّف على شرط حادث ، وأمّا إذا لم يكن موجبا فيجوز أن يكون جميع الشرائط حاصلة في الأزل ، ولكن لم تتعلّق به الإرادة في الأزل ، فلم يوجد الفعل وتعلّقت به فيما لا يزال ، فوجد الفعل ؛ هذا.

وقد بقي في المقام اشتباه ربما يزلّ به بعض الاقدام لا بدّ من الاشارة إلى دفعه. وهو : انّكم قلتم في مقام الاستدلال : لو كان الفاعل موجبا بالمعنى المذكور وكان العالم حادثا لزم التوقّف على شرط حادث لازم لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ؛ فنقول : إن كانت المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور على الاطلاق كان الاستدلال حينئذ تامّا من قبل المعتزلة ولا يرد عليهم المعارضة ، كما انّه تامّ من قبل الأشاعرة. ولو لم تكن لازمة له على الاطلاق لم يكن الاستدلال المذكور تامّا من قبل الاشاعرة أيضا ، كما انّه ليس تامّا من قبل المعتزلة ، لأنّ المقدّمة المذكورة إذا لم تكن لازمة للايجاب بالمعنى المذكور كيف يجوز للأشعري أن يقول - على فرض الايجاب المذكور - : إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل في الحوادث إن كان تأثيره - تعالى - في الحادث محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة؟! ، وأنّى له أن يدّعى اللزوم بين غير المتلازمين؟!.

ص: 266

ووجه الدفع فيه : انّ المراد بعدم كون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب بالمعنى المذكور - أي : الايجاب بالمعنى الاخصّ المساوق للقدم في مقام المعارضة - انّها ليست لازمة لفرض هذا الايجاب المخصوص على أن يكون للخصوصية دخل في الاستلزام وإن كان لازما لمطلق الايجاب - أي : الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء ، وهو الايجاب الخاصّ المذكور المساوق للقدم - والايجاب بالاعتبار الّذي قال به المعتزلة - أي : وجوب الفعل في آن حدوثه بسبب الداعي - ، فالمراد بعدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب المذكور هو انّ تلك المقدمة ليست لازمة لفرض خصوص هذا الايجاب الّذي قصد هاهنا ابطاله ، فلا يمكن استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي قال به المعتزلة ، لأنّه لو كان لخصوصية الايجاب المذكور دخل في استلزام المقدّمة لامكن أن يبطل بها الايجاب المذكور ويثبت بها الايجاب الآخر ، ولكن لم يكن اللزوم لخصوصية الايجاب المذكور ، بل كان لمطلق الايجاب لم يمكن ابطال قسم منه واثبات قسم آخر.

والمراد بلزوم المقدّمة المذكورة للايجاب بالمعنى المذكور في الاستدلال هو لزومها له في ضمن مطلق الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء وايجاب المعتزلة ، وعلى هذا فالايجاب سواء كان بالمعنى المقصود هاهنا - أعني : امتناع / 60MB / الانفكاك المساوق للقدم - أو بالمعنى الّذي اثبته المعتزلة - وهو الوجوب بالداعى في آن الحدوث المسمّى بالاختيار المقابل للايجاب المقصود هاهنا - مستلزم للمقدّمة المذكورة. فكما يرد حينئذ لزوم المقدّمة المذكورة على الحكيم يرد على المعتزلى أيضا ، فالمعارضة واردة على المعتزلة. ولو كانت المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص ايجاب الحكماء لزم ورودها عليهم فقط لا على المعتزلة ، وكان لهم أن يقولوا : الايجاب الّذي نحن نثبته غير مستلزم لتلك المقدمة ، فلم يتوجّه عليهم المعارضة.

ثمّ لمّا كانت تلك المقدّمة لازمة للايجاب المطلق فيمكن للأشعري - الّذي لا يقول بالايجاب اصلا - ابطال مطلق الايجاب بلزومها ؛ فانّ للأشاعرة في هذا المقام مطلوبين : أحدهما نفى الايجاب الخاصّ المستلزم للقدم المخصوص بالحكماء ؛ وثانيهما : نفى مطلق

ص: 267

الايجاب المشترك بين الحكماء والمعتزلة ، بل اثبات الاختيار المستلزم لجواز الترجيح بلا مرجّح المختصّ بهم والمقدمة المذكورة وان كانت غير مسلّمة عندهم أيضا ولا لازمة لفرض الايجاب الأوّل لكنّها لازمة لفرض الايجاب الثاني على زعمهم ، بل لنفي الاختيار المخصوص بهم ، فيصحّ استعمالهم في اثبات المطلوب الثاني دون الأوّل. وعلى ما ذكر يندفع الاشتباه ولا تبقى شبهة أصلا.

والعجب انّ بعض الاعاظم بعد أن / 57DA / أورد في المقام حاصل ما ذكرناه قال : فان قيل : كيف يجوز عند الأشاعرة لزوم تلك المقدّمة لفرض الايجاب المطلق ولا يجوز للايجاب الخاصّ ؛ واجاب : بانّ عدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب الراجع إلى القدم من جهة انّ فرض الحدوث المذكور فيها مناف لفرض ذلك الايجاب ، إذ محصّل الكلام انّه على تقدير قدم العالم لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، وبطلانه ظاهر. بخلاف الايجاب المطلق ، فانّه لا منافاة بين فرضه وفرض حدوث العالم ، فيحتمل لزوم تلك المقدّمة على فرضه دون الاول ؛ انتهى.

ووجه التعجّب : عدم توجّه السؤال وازالة الاشتباه بالكلّية بعد ذكر ما أوردناه ، لأنّا ذكرنا انّا لا نقول بعدم لزومها للايجاب الخاصّ ، بل نقول انّه ليس لخصوص ذلك الايجاب دخل في لزومها ، فلا يتمشّى استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي تجري المقدّمة المذكورة في ابطاله أيضا. نعم! يمكن استعماله في ابطال مطلق الايجاب كما هو رأي الأشعري ؛ وعلى هذا يتمّ المطلوب ولا يبقى مقام للاشتباه والسؤال ، فلا ايراد.

ثمّ ما ذكره في الجواب فلا يخفى وهنه! ، لانّا ذكرنا مرارا انّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن استحالته. على انّه على ما ذكره تكون المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص الايجاب الّذي يقول به المعتزلة لا ما يقول به الحكماء أيضا ، فلا يمكن للأشعري نفي مطلق الايجاب بلزومها ، مع انّه قد صرّح بلزومها للايجاب المطلق ؛ هذا.

وربما يتراءى في المقام أن يقال : انّ للايجاب المقصود هنا - أعني : ايجاب

ص: 268

الحكماء - معنى آخر غير الايجاب الّذي يقول به الحكماء والمعتزلة - أي : صدور الشيء بالوجوب واللزوم - وهو المراد بالايجاب المطلق. وليس الايجاب الأوّل - أعني : ايجاب الحكيم - فرد ، فلا يلزم من لزوم تلك المقدّمة للايجاب الثاني لزومها للأوّل أيضا. وعلى هذا فلا تكون المقدّمة المذكورة لازمة للايجاب بالمعنى المقصود هاهنا ، لا بخصوصه ولا في ضمن مطلق الايجاب الّذي أثبته الحكيم والمعتزلي ؛ فلا يمكن ابطال الايجاب المذكور بلزومها اصلا.

وهو مردود بأنّ ايجاب الحكيم وإن كان معنى آخر لكن لا شكّ في انّه مستلزم للايجاب بالمعنى الثاني ، إذ امتناع انفكاك الأثر عن المؤثّر لا يكون إلاّ إذا كان صدوره عنه بالوجوب واللزوم ، وإذا كان مستلزما له فيكون مستلزما للازمه أيضا ؛ على انّه لو كان الأمر على ما توهّم لما كان للأشعري أيضا أن يبطل الايجاب المختصّ بالحكماء بلزوم المقدّمة المذكورة.

تنبيه

على ما ذكرنا من تمشّي الدليل المذكور من قبل الأشاعرة في نفي المرجّح ونفي الايجاب المطلق لا يتوهّم أحد منهم انّ كلامهم صحيح واستدلالهم في الواقع ونفس الأمر تامّ! ، بل هو عند التحقيق ساقط.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : انّ الاشاعرة جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ونفوا الاحتياج إلى المرجّح مطلقا وقالوا بجواز صدور الفعل عن الفاعل بدونه. وانّما أقاموا الدليل المذكور أوّلا على ذلك المطلوب ، وحاصله : انّه لو كان تأثير الواجب في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث. ولمّا كان هذا الدليل المذكور أوّلا على نفي الايجاب أيضا استعملوه فيه أيضا ، فان استعملوه في نفي الايجاب المطلق المقصود منه الايجاب بالاختيار أيضا - أي : الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة - كان حاصل كلامهم حينئذ انّ تأثيره - تعالى - في العالم ليس بالايجاب بمعنى وجوب الفعل ولزومه ، بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس

ص: 269

إرادة الفاعل المختار ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في / 61MA / الحوادث ؛ وان استعملوه في نفي الايجاب المقصود هاهنا - أعني : امتناع الانفكاك - كان حاصل كلامهم انّ تاثيره - تعالى - في العالم ليس بالايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في الحوادث. ولا ريب انّ قولهم بنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة انّما هو مبني على قولهم الأوّل - أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح - ، إذ على تقدير جوازه لا يتحقّق لشيء من الفعل والترك وجوب ولا اولوية بالنسبة إلى الفاعل في شيء من الاوقات ، وانّما التعيين والتخصيص من جهة الإرادة من دون وجوب تعلّقها بشيء من الطرفين وإن وجب بعد تعلّقها.

ثمّ لا يخفى انّ قولهم الأوّل - أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح - اصل من اصولهم وليس مبتنيا على أصل آخر مسلّم عندهم ، وهذا الأصل في غاية الفساد ، ودليلهم المذكور في اثباته في غاية الضعف والوهن ؛

أمّا أوّلا : فلأنّه لا يدلّ إلاّ على نفي المرجّح الحادث ، اذ القدم أو التسلسل في الحوادث انّما يلزم إذا كان التأثير في الحوادث موقوفا على مرجّح حادث ، وامّا إذا اكتفى بتوقّفه على مرجّح قديم يرجّح وجود الحادث على عدمه في وقت خاصّ - أعني : الداعي القديم - كالعلم بالأصلح على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة أو قلنا بانّ المرجّح هو ذات الوقت وعدم وقت قبل وقت الحدوث على ما هو الحقّ ، فلا يلزم قدم ولا تسلسل ، إذ كلّ واحد من الداعي وذات الوقت يكفي لتخصيص ايجاد الحادث.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة المجرّدة من دون انضمام المرجّح لتعلّقها بأحد الطرفين / 57DB / لا تكفي للترجيح - كما مرّ - ، فقولهم بنفي الايجاب الخاصّ صحيح على أصولهم.

وأمّا قولهم الثاني - أعني : نفي الايجاب الخاصّ - فهو مبني على قولهم الأوّل ، فانّه إن كان صحيحا مسلّما لكان هذا أيضا صحيحا ، إلاّ انّه لمّا كان اصلهم الّذي بنى عليه هذا القول فاسدا لكان هذا القول أيضا فاسدا في الواقع ونفس الأمر ، لأنّه إذا لم يجز الترجيح بلا مرجّح لم يجز صدور الفعل بدون الوجوب واللزوم ، فلا بدّ في صدور الفعل حينئذ من

ص: 270

وجوبه. والوجوب في فعل الواجب يكون عند المليين إمّا بالداعى أو بذات الوقت ، فهما يكفيان لتصحيح الايجاب الخاصّ وتخصيص ايجاد الحادث بوقته لئلاّ يلزم قدم ولا تسلسل ، لأنّ الداعي القديم أو عدم وقت قبل وقت الحدوث اقتضى على سبيل الوجوب ايجاد الحادث في وقته المعين ، فهو كاف للترجيح ولا يفتقر إلى مرجّح آخر ؛ فمع حدوث الحادث بهذا المرجّح لا يلزم قدم ولا تسلسل. فلو استدل الأشعري بالحدوث وجعله وسطا لنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة فلنا أن نقول : الوسط في هذا الدليل يجمع مع الايجاب الخاصّ فلا يدلّ على نفيه ، وحينئذ فيمكن أن يمنع الشرطية القائلة بانّه لو كان حادثا لتوقّف المحال مستندا بانّه مع فرض الايجاب الخاصّ لا يتوقّف الحادث على شيء آخر ، بل يكفى الداعي أو ذات الوقت للتخصيص والترجيح. وحينئذ فيمكن أن يلتزم جواز التخلّف عن الموجب بهذا الايجاب. لانّه لا تخلّف حقيقة عن العلّة التامة حينئذ ، لأنّ العلّة التامة هي الواجب مع الداعي على نحو ما تعلّق. وأيضا لا يقتضي شيء من قواعد الأشاعرة لزوم التوقّف المذكور لفرض الايجاب بالاختيار ، إذ هما متنافيان ظاهرا ، إذ فرضه - أي : فرض الايجاب بالاختيار - في قوّة فرض عدم احتياج الحادث في التخصيص إلى حادث آخر ، فظهر انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة على جواز الترجيح بلا مرجّح وعلى نفي الايجاب بالاختيار في ضمن الايجاب المطلق غير تامّ. ولذا لم يتعرّض أكثرهم في اثبات جواز الترجيح بلا مرجّح لهذا الدليل ولم يذكر في الكتب الكلامية دليل من قبلهم على هذا المطلب ، بل ادّعوا فيه الضرورة ونبّهوا عليه ببعض الأمثلة كرغيفي الجائع وطريقي الهارب. وقد ظهر أيضا انّ القول بجواز الترجيح بلا مرجّح يستلزم القول بنفي الايجاب الخاصّ المعتبر عند المعتزلة. وأمّا العكس فغير ثابت ، لأنّ الحكماء قائلون بنفي الخاصّ لقولهم بامتناع الانفكاك المنافي للقول بالايجاب الخاصّ الّذي يعتبر فيه نحو من الانفكاك.

وأمّا القول بامتناع الترجيح بلا مرجّح فلا يستلزم القول بثبوت الايجاب الخاصّ ، لما مرّ من مذهب الحكماء ؛ ولما ذهب إليه محمود الخوارزمي كما نقل عنه فخر الدّين

ص: 271

الرازي في الاربعين بانّه قال : الترجيح يفيد الاولوية دون الوجوب (1) ، وأمّا عكسه فثابت لأنّ كلّ من قال بتحقيق الايجاب الخاصّ قال باستحالة الترجيح بلا مرجّح ، فالقول بنفي الايجاب الخاصّ يدور مع القول بجواز الترجيح بلا مرجّح وجودا لا عدما ، والقول بثبوته يدور مع القول بامتناعه عدما لا وجودا ، وامّا قولهم بنفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك فهو يدور مع القول بالقدم وجودا وعدما وبالعكس ؛ ولذا جميع القائلين بالحدوث نفوه وبالعكس وجميع القائلين بالقدم اثبتوه وبالعكس. فقولهم بنفي هذا الايجاب صحيح على أصولهم وقواعدهم وصحيح في الواقع ونفس الأمر أيضا ، ودليلهم عليه تمام على الفلاسفة. ولا يمكن للفلاسفة أن يعارضوهم بصورة الاختيار بأنّه يلزم حينئذ أيضا امّا القدم أو التوقّف على الشروط الغير المتناهية ، لأنّهم لمّا جوّزوا الترجيح بلا مرجّح فيجوز لهم أن يقولوا لا يفتقر حدوث الحادث إلى مرجّح سوى الإرادة ليلزم أحد الأمرين ، ولا يمكن للفلاسفة أن يلتزموا مثل ذلك لتتمّ المعارضة ، فدليلهم تامّ على أصلهم هذا لا فى الواقع ونفس الأمر. وأمّا المعتزلة فلمّا لم يجوّزوا الترجيح بلا مرجّح فالدليل المذكور من قبلهم غير تامّ على أصولهم ، لأنّه إذا عارضهم الفلاسفة بصورة الاختيار فان أجابوا بعدم لزوم أحد الأمرين لكفاية الداعي فللفلاسفة أيضا أن يلتزموا مثل ذلك - كما تقدّم - ، فتتمّ المعارضة عليهم.

ومنها - أي : ومن وجوه الاختلال في الاستدلال المذكور / 61MB / إذا جعل دليلا لنفي الايجاب المذكور ، أي : استحالة الانفكاك - : انّ المراد من استلزامه القدم انّه مستلزم للقدم بالنوع يعني قدم الفعل المطلق - أي : طبيعة الفعل أو الفرد المنتشر - ، لا قدم فرد شخصيّ أو جميع الاشخاص. وحينئذ فيرد انّ استلزام الايجاب بالمعنى المذكور لقدم الفعل المطلق بديهى ، لأنّ عدم انفكاك الواجب عن العالم اي فعل ما هو بعينه قدم فعل ، فانّ الاستدلال عليه باستلزام نقيضه التوقّف على الشرط الحادث لغو مستدرك. والمراد بنقيضه هو الحدوث بالنوع - أي : حدوث الفعل المطلق - ، إلاّ انّا لا نريد هنا بالحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق وأمثالهما حدوث فعل ما أو

ص: 272


1- راجع : الاربعين ، ج 1 ، ص 320 ، 321.

حدوث طبيعة الفعل المتحقّق في ضمن فعل ما أو حدوث طبيعة الفعل / 58DA / المتحقّق في ضمن فعل - أعني : طبيعة ما - ، بل المراد حدوث مطلق النوع والطبيعة - أي : عموم هذا المفهوم المتحقّق في ضمن جميع الافراد بأن لا تكون طبيعة ما من طبيعة الفعل قديما أيضا -. فالمراد من الحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراد الفعل والسرّ في ذلك انّ المراد بقدم الفعل المطلق ما يطلق عليه الفعل - أعني : فردا ما - ، والمراد بحدوث الفعل المطلق نفي ذلك القدم - أعني : قدم فردا ما - ؛ والنفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فيكون المراد حدوث جميع الافراد.

ومنها : انّ التخلّف عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة وإن كان محالا لكن جاز أن يكون لازما ، لاجتماع المتنافيين وهما الموجب بالمعنى المذكور وحدوث أثره المطلق ، أي : عدم كون فعله المطلق قديما بان يكون مجموع افعاله وآثاره حادثا.

وأورد على هذا الوجه : بانّه خارج عن آداب المناظرة ، لانّه إذا سلّم محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور يثبت مطلوب المستدلّ ، إذ ليس غرضه إلاّ انّه على هذا التقدير يلزم القدم ، والمورد قد سلّمه ، فلا ايراد.

فان قيل : المقصود ليس إلاّ ابطال الاستدلال لا ابطال المدّعى - أعني : محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور - ، فلا يثبت انّ المدّعى - أعني : محالية حدوث الفعل المطلق على تقدير الايجاب بالمعنى المذكور - بديهي لا يحتاج إلى الاستدلال ، فالغرض هنا

ليس إلاّ التنبيه على فساد الاستدلال ، وهو يحصل بما ذكر - أعني : امكان استلزام المحال المحال - ؛

قلنا : للمستدلّ أن يقول : بناء الاستدلال على فرض جواز اجتماع الايجاب المذكور والحدوث ، فانّا فرضنا جواز الحدوث على هذا التقدير وأقمنا الاستدلال ، وليس بناء الاستدلال على فرض الايجاب المذكور ومحالية الحدوث ، فلا يرد علينا شيء إلاّ ما ارتكبنا من التطويل. وأمّا الايراد بانّ الحدوث على هذا التقدير محال فلا يتمّ استدلالكم ، فلا يضرّنا ، بل هو مدّعانا!. نعم! لو أجرينا الدليل على تقدير محالية هذا

ص: 273

الحدوث لورد علينا مع ارتكاب هذا التطويل هذا الايراد ، لكن ليس كذلك ، بل أجرينا الدليل على فرض جواز الحدوث على ذلك التقدير ، فلا ايراد علينا.

ومنها : انّ توقّف حدوث الفعل المطلق على شرط حادث مستلزم للخلف. بيانه : انّه لو كان الفعل المطلق حادثا والفاعل موجبا فلا ريب في انّ أوّل ما يحدث عن ذلك الفاعل يجب أن يتوقّف على الشرط لئلاّ يلزم التخلّف المحال ، فيلزم أن يكون أوّل ما صدر عنه ذلك الشرط لا المشروط المفروض أوّلا ، هذا خلف!.

وانت تعلم انّ هذا أيضا نافع للمستدل وليس مضرّا له - كما لا يخفى -.

ومنها : انّ توقّف الحادث على تقدير الايجاب المذكور على شرط حادث مستلزم لتقدّم الشيء على نفسه. بيانه : انّا قلنا انّ المراد بلزوم قدم العالم على فرض الايجاب المذكور هو قدم الفعل المطلق - أي : ما يطلق عليه الفعل ، أعني : فردا ما - ، فاذا ورد عليه النفي كان المنفي مجموع الافراد ، لأنّ النفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فاذا لم يكن الفعل المطلق قديما يكون جميع الأفعال حادثة موقوفة على شرط حادث خارج عنها ، وذلك الشرط أيضا من جملة الافعال الّتي يتوقّف على الشرط المذكور ، فيكون ذلك الشرط موقوفا على نفسه ، فتصير صورة الاستدلال هكذا : لو كان الفاعل موجبا لزم أن يكون فعل ما قديما وإلاّ - أي : وإن لم يكن فعل ما قديما - يكون كلّ فعل حادثا ، وإذا كان كلّ فعل حادثا يلزم توقّف هذا الحدوث - أعني : حدوث المجموع - على شرط حادث هو أيضا فعله - تعالى - ، فذلك الشرط لكونه من الفعل المطلق يجب أن يكون داخلا فيه ، ولكونه شرطا له - أي : للفعل المطلق - يجب أن يكون مقدّما عليه ، فيلزم تقدّمه على نفسه. وعلى ما ذكر فلزوم توقّف الشيء على نفسه - أعني : الدور - ظاهر لا يقبل المنع ، لأنّه إذا كان المراد بحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراده ، والشرط المتوقّف عليه كان من جملة الافراد.

ثمّ ( ان ) (1) توقّف مجموع الافراد على الشرط المذكور لكان الشرط المذكور أيضا يتوقّف على نفسه ، فيلزم توقّف شيء شخصى بعينه على نفسه ، وهو الدور.

ص: 274


1- لفظة « ان » غير موجودة في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

وبذلك يظهر ضعف ما أورده بعض الأفاضل : انّه على تقدير حدوث الفعل المطلق لا ريب في لزوم توقّفه على الشرط ، إلاّ انّ اللازم تقدّم فرد من العالم على فرد آخر لا تقدّم الشيء على نفسه.

والظاهر انّ هذا المورد حمل المطلق على الفعل العامّ المشترك بين جميع الافراد ، وفهم حينئذ وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه - كما فهمه بعض آخر - : انّ الشرط الحادث الّذي يتوقّف عليه الفعل المطلق العامّ فرد من أفراد هذا العامّ ، فيكون الفعل العامّ متحقّقا فيه ، فاذا توقّف هذا العامّ المتحقّق في ضمن بعض الافراد على هذا العامّ المتحقّق في ضمن الشرط / 62MA / المذكور يلزم تحقّق الطبيعة قبل تحقّق الطبيعة ، وهو تقدم الشيء على نفسه ؛ فأورد : بانّ اللازم حينئذ تقدم فرد على فرد وهو كذلك ، فانّ غاية الأمر انّ تحقق هذا المطلق في ضمن فرد يتوقّف على تحقّقه في ضمن فرد آخر ، ولا مانع فيه ، لأنّ الطبيعة ليس لها تحقّق على حدة وتحقّقها انّما هو بتحقّق فرد منها ، فتقدّمها على نفسها بتقدّم فرد منها على فرد آخر إنّما هو في الحقيقة تقدّم فرد منها على فرد آخر - كما مرّ / 58DB / في مباحث اثبات الواجب -. فلا يلزم هنا على هذا من توقّف الفعل المطلق على ما حملوه عليه على الشرط إلاّ تقدّم الشرط من أفراد الفعل المطلق على المشروط به منها ، فالصحيح في وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ما ذكرناه. وحينئذ لا مجال للايراد اصلا.

ثمّ أنت تعلم انّ لزوم تقدّم الشيء على نفسه من فرض الحدوث لا يضرّ المستدلّ ، بل هو مؤكّد لمطلوبه. لأنّ غرضه انّ الحدوث مع فرض الايجاب المذكور يتضمّن مفسدة لزوم التسلسل ، فاذا أورد عليه بانّه يتضمّن تقدّم الشيء على نفسه أيضا ، فله أن يقول : ذلك يؤكّد مطلوبي ، فالواجب عدم حدوث العالم في صورة الايجاب المذكور بل اللازم حينئذ قدمه. وبالجملة هذا الايراد كسابقه خارج عن آداب المناظرة ، لانّ غرض المستدلّ ابطال التوقّف ، فبطلانه من جهة استلزام توقّف الشيء على نفسه أقوى دليل على مطلوبه.

ثمّ مع لزوم تقدّم الشيء على نفسه إن كان التسلسل أيضا لازما فيلزم فيه

ص: 275

محذوران ، وأن منع لزوم التسلسل.

وقيل : انّ ذلك الشرط الحادث يتوقّف على نفسه لا على شرط حادث آخر ، فلا يلزم إلاّ تقدّم الشيء على نفسه دون التسلسل ، وحينئذ يلزم محذور واحد نعم! لو قيل في صورة التسلسل : لا يلزم تقدّم الشيء على نفسه - لأنّ التسلسل وتقدّم الشيء على نفسه لا يجتمعان - ، لكان له وجه ولم يكن لهذا الايراد مجال.

ومن الأفاضل من حكم بصحّة اجراء الدليل المذكور إن جعل المفسدة فيه لزوم تقدّم الشيء على نفسه لا لزوم التسلسل ، حيث قال بعد أن جزم بأنّ الاستدلال المذكور لا يصحّ اجرائه من قبل المعتزلة ولا من قبل الاشاعرة برهانيا ولا الزاميا لبعض الوجوه السابقة : نعم! يمكن اجرائه الزاميا على تقرير آخر على تقدير حدوث الفعل المطلق بأن يقال : لو كان الفاعل موجبا لزم قدم الفعل المطلق وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّه لو كان الفعل المطلق حادثا لتوقّف حدوثه على شرط هو أيضا فعله - تعالى - ، فهو من حيث انّه داخل في الفعل المطلق متأخّر ومن حيث انّه شرط لحدوث الفعل المطلق متقدّم ، فيلزم تقدّمه على نفسه ؛ انتهى.

وما ذكره من عدم صحّة اجرائه من قبل الأشاعرة قد علمت خلافه ممّا تقدّم ؛ هذا.

وقد بيّن بعض الأفاضل لزوم تقدّم الشيء على نفسه في الاستدلال المذكور بوجه آخر سوى ما ذكرناه ، وهو : انّ الحادث المذكور - أي : الّذي كلامنا فيه - بانه يتوقّف على شرط حادث هو أوّل الحوادث ، فالشرط الحادث إمّا أن يكون عينه أو متأخّرا عنه. وهذا على تقدير الحدوث بالنوع - بأن يكون الفعل المطلق حادثا لحدوث مجموع الأشخاص - ظاهر جدّا ، إذ لا يبقى شيء يكون خارجا عنها حتّى يكون شرطا لها متقدّما عليها ، وحينئذ يلزم إمّا تقدّم الشيء على نفسه أو على ما يتقدّم عليه.

وأورد عليه : بانّ الحادث المذكور لعلّه لا يكون أوّل حادث بل يوجد في مرتبة واحدة أمور غير متناهية على سبيل الاجتماع ، ويكون كلّ واحد منها موقوفا على واحد آخر ، وحينئذ فكلّ واحد حادث يتوقّف على شرط حادث آخر ... وهكذا ، و

ص: 276

لا ينتهي إلى أمر يكون أوّل الحوادث - أعني : يكون متأخّرا عن نفسه أو عمّا يتأخّر عنه - ، فلا يلزم إلاّ التسلسل على سبيل الاجتماع ، لا توقّف الشيء على نفسه.

ومنها : انّه اذا كان أثر الموجب بالمعنى المذكور حادثا بشخصه أو بنوعه يلزم التخلّف البتة - سواء توقّف على الشرط أم لا - ، فلا حاجة إلى اعتبار توقّفه على شرط حادث والتزام التسلسل. وتوضيح ذلك : انّ الموجب إمّا تامّ أو ناقص ؛ والتامّ مشترك بين الموجبين : أحدهما ما هو معتبر عند الحكماء - وهو ما يمتنع انفكاك الفعل عنه - ، وثانيهما ما هو معتبر عند المعتزلة - وهو ما يوجب الفعل في وقته الّذي تعلّق ارادته به للعلم بالأصلح -. والناقص ما يتوقّف صدور الفعل منه على شرط. والموجب بالمعنى المشهور - أي : ما يجب صدور الفعل عنه - مشترك بين التامّ والناقص. ولا ريب أنّ الموجب المراد هنا هو الموجب التامّ المعتبر عند الحكيم ، والتخلّف عنه غير جائز مطلقا ، واذا توقّف فعله على شرط يتحقّق التخلف ويكون ناقصا لا تامّا.

واعترض بعض الأفاضل على ذلك بانّ الايجاب المقصود هنا لا ينافي عدم وقوع ما يقتضيه الفاعل الموجب بهذا الايجاب لمانع عائد إلى غيره ، إذ حاصل معنى هذا الايجاب هو اقتضاء الذات من جهة لزوم الداعي ، ونحوه امتناع الانفكاك عن الفعل وذلك لا ينافي جواز الانفكاك ، فلا مانع عائد إلى غير ذات الفاعل كعدم امكان الأثر وعدم وقت له قبل وقت حدوثه ، فيجوز أن يكون الموجب بهذا الايجاب غير مستجمع للشرائط المعتبرة في التأثير بحسب نفس الأمر ، فلا يكون تامّا. فلا يستحيل التخلّف عنه ، إذ المحال انّما هو التخلّف عن الموجب التامّ والموجب بهذا المعنى لوجود المانع عن التأثير ليس تامّا ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ الموجب / 62MB / بالمعنى المقصود هنا - أعني : ما يمتنع انفكاك الفعل عنه - هو الذي قال به الحكماء ، وصرّحوا بأنّه يلزمه قدم فعله وجزموا بانّ الايجاب بهذا المعنى مساوق للقدم ، فهو ما يستحيل انفكاك الفعل عنه بالنظر إلى الداعي مطلقا سواء كان عائدا إلى الذات أو إلى الغير. ومقابله ما لا يمتنع عنه الانفكاك ولو بالنظر إلى الداعي الخارجي كعدم امكان الأثر وعدم / 59DA / تحقّق وقت قبل وقت

ص: 277

الحدوث ؛ كيف ولو كان الايجاب المقصود هنا غير مناف لعدم وقوع ما يقتضيه الفاعل لمانع عائد إلى الغير - كعدم الوقت وغيره - لكان هو بعينه الايجاب الّذي قال به المعتزلة! ، - كما اخترناه أيضا -.

* * *

( بيان حقيقة معنى الايجاب والموجب )

ولما بلغ الكلام إلى هنا فلا بأس بأن نشير إلى حقيقة معنى الايجاب والموجب.

فنقول : الموجب - بصيغة المفعول - يطلق على فاعل يجب عنه الفعل لا بقدرة واختيار - كلفظ المضطرّ - ، فلا يطلق إلاّ على الطبائع كالماء والنار بالنسبة إلى مقتضى طبائعها. والموجب - بصيغة الفاعل - يطلق على فاعل يجب عنه الفعل بقدرة واختيار.

وكلّ منهما قد يكون تامّا ويكون ناقصا. امّا الموجب - بالفتح - كالطبائع الّتي لا يتوقّف تاثيرها على حصول بعض الشرائط أو رفع بعض الموانع. وان توقّف وحصل الشرائط وارتفع الموانع تكون العلّة التامّة حينئذ هو الفاعل مع تلك الشروط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل فقط ناقص وناقصة - كالطبائع الّتي يتوقّف تأثيرها على أحدهما -. وأمّا الموجب - بالكسر - فتامّة كلّ فاعل يفعل بقدرة واختيار من دون توقّف فعله على شرط أو رفع مانع ؛ وناقصة ما توقّف فعله على أحدهما بعد حصول الشرط أو رفع المانع لا يخرج الفاعل عن النقصان ، لأنّ التمامية حينئذ للفاعل مع تلك الشرائط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل بمجرّده ناقص.

ثمّ الحكماء لمّا قالوا بوجوب الفعل عنه - تعالى - بقدرة وإرادة غير منفكّة عنه - تعالى - وغير زائدة على ذاته لزمهم القول بعدم انفكاكه - تعالى - عن الفعل ، فيكون الواجب عندهم فاعلا موجبا - بالكسر - تامّا.

وأمّا المتكلّمون ؛ فالأشاعرة منهم قالوا : انّ القدرة والاختيار والإرادة زائدة على الذات ومنفكّة عنها في الأزل. لا أنّ تلك الصفات منفكّة عنها. بل بمعنى أنّ متعلّقها منفكّ عنها وقتا ما ؛ والمعتزلة منهم قالوا : انّ تلك الصفات ليست زائدة على الذات بل

ص: 278

هي عينها ، إلاّ أنّ متعلّقها منفك عنها في الأزل لتعلّقها في الأزل بحصول المتعلّق فيما لا يزال نظرا إلى العلم بالمصلحة ؛ فعلى هذين المذهبين - أي : مذهب الأشاعرة والمعتزلة - لا يكون الواجب موجبا تامّا ، لتحقق الانفكاك المستلزم لتوقّف فعله - تعالى - على أمر آخر سوى ذاته. إلاّ أنّ ذلك لا يصير منشئا لنقصانه وعدم تماميته ، لأنّ الاصطلاح على أنّ التمامية هنا بمعنى عدم انفكاك الأثر. والانفكاك هنا إمّا لمراعات الأصلح أو لعدم الكماليّة في الأثر ، فلا يتطرّق شوب نقص على حريم كبريائه - تعالى -.

ويمكن أن يقال : انّ التامّ ما كان صدور الفعل عنه غير متوقّف على شرط خارج عنه ولا يخرج عن التمامية بالتوقّف على أمر داخل ولو حصل به الانفكاك بينه وبين الأثر ؛ والناقص ما توقّف صدور الفعل عنه على شرط خارج. وعلى هذا يكون الواجب عند المعتزلة موجبا تامّا لا ناقصا ، لعدم توقّف فعله على شيء سوى العلم بالأصلح وهو ليس خارجا عن ذاته ، بل عين ذاته عندهم. وعلى مذهب الأشاعرة لا يكون موجبا تامّا ، لكون الصفات عندهم زائدة على الذات.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأفاضل (1) حيث قال : الموجب - بصيغة المفعول - يكون معناه ما أثبت له الايجاب ، وهذا لا يكون إلاّ تامّا ؛ والموجب - بصيغة الفاعل - هو ما يفيض الوجوب إلى الغير - أي : إلى اثره - ، والموجب بهذا المعنى قد يكون تامّا وقد يكون ناقصا ؛ انتهى.

ووجه الضعف ما علمت من انّ كلاّ منهما يكون تامّا وناقصا.

ومن الفضلاء (2) من أورد على ما نقلناه من بعض الأفاضل ، حيث قال : الظاهر من إطلاقاتهم أنّ لفظ الموجب انّما يطلق على كلّ فاعل مؤثّر في غيره - أي : باعتبار تأثيره في الغير لا باعتبار تأثيره عن الغير -. وعلى هذا لا يناسب اطلاق صيغة المفعول الّتي حاصل معناها ما اثبت له الايجاب على فاعل مؤثّر ، سواء كان من الطبائع أولا ؛

ص: 279


1- هامش دال : هو ملاّ شمسا الجيلاني - ره -. منه.
2- هامش دال : آقا رضي القزويني - ره -. منه.

اللّهم إلاّ على المجاز.

وهو كما ترى.

ثمّ إنّ منشأ تكفير المتكلّمين للحكماء في الايجاب إمّا لزوم القدم لايجابهم ، وإمّا لزعمهم انّ الواجب - تعالى - عند الحكماء موجب بالفتح - وفاعليته - تعالى - عندهم كفاعلية النار في الاحراق والشمس في الإضاءة - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا -. وهذا الزعم غلط. فانّ الحكماء لا يطلقون عليه - تعالى - لفظ الموجب - بالفتح - ، ولو اطلقوه عليه احيانا فالظاهر انّهم يريدون منه كون الفاعل محكوما عليه بوجوب الفعل عنه ، لا كونه مضطرّا ؛ بل هو عندهم موجب - بالكسر - بمعنى انّه يجب الفعل بالقدرة والاختيار ، فهو موجب - أي : مفيض لوجوب المانع قاهر لجميع انحاء عدمه حتّى يصير موجودا - ؛ هذا.

واعترض بعض الأعاظم على هذا الايراد أيضا : بانّه لم يثبت فيما سبق حدوث جميع ما سوى اللّه - تعالى - مطلقا وإن كان بالنوع ، بل ذلك ممّا لا سبيل إليه عقلا. ولو سلّم ذلك لا يلزم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة وان كان يلزم التخلّف ، وذلك غير المدّعى في الايراد. وأيضا بناء الاستدلال ليس على فرض الايجاب في الأزل ، بل على الايجاب مطلقا والتخلّف مطلقا إنّما يلزم على فرض الايجاب في الأزل - أي : الايجاب بمعنى / 59DB / امتناع الانفكاك مطلقا - ، دون الايجاب المطلوب الّذي يشمل الايجاب بالاختيار الّذي قال به المعتزلة ؛

وفيه : انّ حدوث الأجسام والأعراض ثابت بالفعل شخصا ونوعا - كما تقدّم -.

وأمّا المجرّدات وإن لم يثبت حدوثها بالفعل شخصا ونوعا ولكن العمدة في اثبات حدوثها هو الاجماع والنقل ، وهما كما يدلاّن على حدوثها شخصا فكذلك يدلاّن على حدوثها نوعا أيضا ؛ وقد تقدّم ذلك مفصّلا.

وما ذكره من عدم لزوم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة - نظرا إلى عدم صدق / 63MA / الانفكاك حينئذ لعدم تحقّق القدم بالنوع في الشروط المتعاقبة - ؛

ص: 280

ففيه : انّ القدم بالنوع على هذا التقدير - أي : على تقدير التوقّف - وإن كان لازما إلاّ انّ لزوم التوقّف لما كان على فرض الحدوث شخصا ونوعا. وعلى هذا الفرض يلزم التخلّف البتة ، سواء توقّف على الشروط أم لا ، لان المفروض انّ الفاعل موجب تامّ يمتنع انفكاك فعله عنه ، فاذا انفكّ عنه الحادث المذكور ولو بالتوقّف على الشروط يصدق التخلّف.

وأمّا ما ذكره بقوله : « أيضا ... - إلى آخره - » ، ففساده ظاهر ؛ لأنّ بناء الاستدلال على فرض الايجاب في الأزل - أعني : الايجاب بمعنى استحالة الانفكاك - ، وهو ظاهر.

وقد علم ممّا ذكر انّ ما يرد عند التحقيق على الاستدلال المذكور من وجوه الاختلال انّما هو لزوم المعارضة وعدم الاحتياج إليه في ترتّب القدم على الايجاب المذكور ، لأنّ لزومه ضروريّ ولزوم التخلّف وان توقّف الحادث على الشرط الحادث. وباقي الوجوه - أعني : لزوم تقدّم الشيء على نفسه وامكان استلزام المحال المحال - ليست قدحا فيه ، بل هي تقوية له!.

وقيل : يتقوّى الاستدلال المذكور بأمرين آخرين أيضا ؛

أحدهما : انّه في صورة توقّف الحادث على الشروط المتعاقبة يلزم قدم الفعل المطلوب من حدوثه ، فلنشير أوّلا إلى معنى تعاقب الشروط والاجتماع وإلى معنى الشرط ثمّ نرجع إلى المطلوب.

فنقول : المراد من الشروط المتعاقبة هو أن يحدث شرط عقيب شرط آخر إلى غير النهاية ولم تكن مجتمعة في آن اصلا ، فتكون متعاقبة في الحدوث والوجود معا ، بمعنى انّ كلّ سابق يحدث قبل اللاحق وينعدم بعد وجوده ولا يجتمع معه في الوجود.

فعلى هذا فالمراد بالشروط المجتمعة أن تكون مجتمعة في الحدوث والوجود معا بأن يوجد جميعا من دون تقدّم وتأخّر وكان الجميع باقيا ، أو تكون مجتمعة في الوجود فقط وان كانت متعاقبة في الحدوث ، بأن يحدث شرط عقيب حدوث شرط ، لكن يبقى السابق مع اللاحق وهكذا حتّى يجتمع وجود تلك الآحاد.

ومن الأفاضل من أدخل الشقّ الثاني من المجتمعة في المتعاقبة باعتبار تعاقبه

ص: 281

في الحدوث.

والظاهر انّه غفلة ، لأنّ القوم انّما قسّموا التسلسل إلى هذين القسمين - أعني : التسلسل في الامور المتعاقبة والتسلسل في الأمور المجتمعة - ، ليعيّنوا التسلسل الّذي جوّزه الفلاسفة دون المتكلّمين ، وقد سمّوا ذلك التسلسل بالتسلسل في الأمور المتعاقبة. ومعلوم بالضرورة انّ محل النزاع بين الطائفتين هو التسلسل في الأمور المتعاقبة في الحدوث والوجود معا - كالعلل المعدّة -. وليس محلّ النزاع التسلسل في الأمور المجتمعة في الوجود إذا كانت متعاقبة في الحدوث فقط أيضا ، لأنّ الفريقين متفقان على بطلانه ، كيف ولو جوّزه الفلاسفة لم يكن عندهم عذر في جريان التطبيق فيها! ، لانّ عذرهم في تجويز التسلسل في المتعاقبات انّ الآحاد إذا لم تكن موجودة في الخارج معا لم يتأتّ وقوع آحاد إحدى الجملتين بإزاء آحاد الجملة الأخرى. فاذا كانت متعاقبة في الحدوث مجتمعة في الوجود يجري فيها التطبيق لكونها مجتمعة في الوجود مترتبة. نعم! لو كانت مجتمعة في الوجود غير مترتبة بأن لا يكون لها تقدّم وتأخّر - بل كان من الشقّ الأوّل من المجتمعة - أمكن القول بعدم جريان التطبيق فيها نظرا إلى عدم الترتيب - كما ذهب إليه بعضهم -. والظاهر انّ نظر من أدخل الشق الثاني من الشروط المجتمعة في المتعاقبة إلى انّ الشرط يطلق حقيقة على ما يكون باقيا مع المشروط ، وانّما يطلق على المعدّ مجازا ، فاذا اطلق الشروط وان وصفت بالتعاقب لا يجوز اخراج المعنى الحقيقي منه وإرادة المعنى المجازي فقط ، وهو غفلة من معنى التعاقب ومن انّ المراد بالشرط معناه الأعمّ ؛ فانّ للشرط اطلاقين : أحدهما : الشرط بالمعنى الأخصّ ، وهو ما يكون وجوده مرجّحا لوجود الشرط - أي : ما يكون له مدخلية في وجود الشيء من حيث عدمه - ، وثانيهما : الشرط بالمعنى الأعمّ ، وهو مطلق المحتاج إليه سواء كان شرطا بالمعنى الأخصّ أو علّة ناقصة أو معدّا أو رفعا للمانع.

والعلّة الناقصة كالشرط بالمعنى الأخص في أنّ له مدخلية في وجود المعلول من حيث وجوده فقط ، وكذا الفاعل والمعدّ للشيء هو أن يكون تقدّمه مرجّحا لوجود هذا الشيء ويكون معدوما عند وجوده ، فهو ما يكون له مدخلية في وجود الشيء

ص: 282

من حيث وجوده وعدمه معا.

والمانع ما له مدخلية في وجود الشيء من حيث عدمه. فالمراد بمطلق الشروط المذكور في الاستدلال هو الشروط بالمعنى الاعمّ ؛ والمراد بالشروط المتعاقبة / 60DA / هي المعدّات ؛ والمراد بالشروط المجتمعة بالمعنى الأوّل هي الشروط بالمعنى الأخصّ.

وأمّا الشروط المجتمعة بالمعنى الثاني فلا يجوز أن تكون معدّات ولا أن تكون شروطا بالمعنى الأخصّ ، لأنّ الحادث انّما يحتاج إلى معدّ حادث قبله وإلى شرط حادث معه ، والمحتاج إليه السابق - أي : المعدّ - لا يجوز أن يكون باقيا معه ، بل يجب أن ينعدم بعد وجوده مرجّحا ؛ والمحتاج إليه الباقي - أعني : الشرط بالمعنى الأخصّ - لا يجوز أن يكون سابقا عليه بالزمان. والسرّ في ذلك انّ المحتاج إليه السابق - أعني : المعدّ - ما يكون مقدّما مرجّحا ، والمحتاج إليه الباقي ما يكون وجوده مرجّحا ، والمحتاج إليه السابق بالزمان يجب أن يتقدّم عليه عند حدوث المعلول ليكون بانعدامه مرجّحا ، ولو كان باقيا معه لكان بوجوده مرجّحا. فمع كونه سابقا عليه بالزمان - كما هو الفرض - يلزم التخلّف ، لأنّ المفروض كون الوجود مرجّحا وهو كان متحقّقا قبل تقدّم حدوث الحادث مع ذلك تخلّف عن العلّة التامة. وقد ظهر بذلك انّه لا يتصوّر توقّف الحادث على الشروط المجتمعة بالمعنى الثاني / 63MB / - أعني : ما كان سابقا عليه بالزمان وباقيا معه بعد الحدوث -.

وإذا علمت ذلك فاعلم : انّه يلزم على تقدير كون الشروط متعاقبة أو مجتمعة بالمعنى الثاني قدم الفعل المطلق من حدوثه ، لأنّ تعاقب الشروط وتسلسلها في الحدوث - سواء كانت غير مجتمعة في الوجود أو مجتمعة فيه - مستلزم لتحقّق القدم بالنوع فيها ، وهو ناش من فرض الحدوث ، فكما يلزم من فرض الحدوث بالنوع على تقدير الايجاب المذكور التسلسل في الشروط يلزم خلف الفرض - أعني : القدم بالنوع - أيضا ؛ بل إذا كانت الشروط مجتمعة بالمعنى الثانى - أعني : كانت متعاقبة في الحدوث مجتمعة في البقاء - لزم القدم ببعض الاشخاص أيضا ، ووجهه ظاهر. بل يلزم حينئذ التخلّف أيضا ، إلاّ أن يكون هناك موجود متجدد متصرّم كالحركة تكون تلك الشروط الغير المتناهية اجزاء فرضية له أو مستندة إليها ، فيلزم القدم بالشخص أيضا.

ص: 283

قال بعض الأفاضل (1) في بيان لزوم قدم الفعل المطلق من فرض حدوثه : انّ الشروط إذ كانت متعاقبة غير متناهية يكون طبيعة الفعل المطلق محفوظة بتعاقب تلك الشروط الغير المتناهية ، لأنّ تلك الشروط من افراد طبيعة الفعل المطلق ، فتكون طبيعة الفعل المطلق قديمة وافرادها حادثة.

ثمّ أورد عليه : بانّ هذا ليس موافقا للتحقيق ، لأنّ الحدوث والقدم المستعملين هاهنا هما الحدوث والقدم الواقعيان - أعني : الدهريين - ، والطبيعة إذا كانت قديمة لا بالقدم الزماني بل بالقدم الدهري فلا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يكون جزئي من جزئياته الحقيقية قديما ، فتلك الشروط الغير المتناهية لمّا فرضت حادثة بهذا الحدوث - أي : بالحدوث الدهري - يلزم أن تكون الطبيعة المتحقّقة في ضمن تلك الشروط حادثة كذلك ، وإلاّ يلزم تحقّق الطبيعة مجرّدة عن الفرد.

وقال في توضيح المقام : اعلم! أنّ القدم والازلية قسمان : أحدهما القدم الزماني والأزلية الزمانية ؛ وثانيهما : القدم الغير الزماني والأزلية الغير الزمانية. فالشيء الّذي يكون ازليا زمانيا انّما يكون باعتبار أن ليس جزء من أجزاء الزمان في زمان الماضي ولا يكون ذلك الشيء موجودا فيه ، بل كلّ جزء يفرض من الزمان يكون موجودا فيه وإن تقدّم الزمان عليه بالذات ؛ والحادث الزماني ما يقابله. والشيء الّذي يكون قديما غير زماني - أي : يكون قديما دهريا - هو أن لا يكون وجوده مسبوقا بالعدم في الخارج اصلا ؛ والحادث الدهري ما يقابله - أي : ما يكون وجوده مسبوقا بالعدم الواقعي الخارجي -.

وإذا علمت ذلك فنقول : يجوز أن تكون الطبيعة قديمة بالزمان وأفرادها حادثة ، ولا يجوز أن تكون الطبيعة قديمة بالدهر مع كون جميع أفرادها حادثة بالدهر. أمّا الأوّل فلأنّ الزمان لمّا كان قابلا للقسمة إلى غير النهاية فيمكن أن يكون في جزء من أجزاء ذلك الزمان فرد من طبيعة ويكون في جزء آخر فرد آخر من تلك الطبيعة وهكذا ، ولا يكون فرد منها في جزءين من الزمان ، بل كان كلّ فرد منها في جزء منه فقط.

ص: 284


1- هامش « د » : هو ملاّ شمسا الجيلاني.

فيصدق كون الطبيعة موجودة في جميع أجزاء الزمان ولا يصدق كون فرد منها موجودا في جميعها ؛ فيكون افرادها حادثة بالزمان وهي قديمة بالزمان. وهذا مثل ما يقال : انّ الورد يكون في شهر أو شهرين ، والحال انّ فردا منه لا يكون في شهر أو شهرين. فالمراد انّ طبيعة الورد يكون في شهر أو شهرين. ولو فرضنا بدل الشهر والشهرين الفا والفين بل كلّ الزمان لم يتفاوت الحكم ، لأنّ اطولية الزمان لا يصير منشئا لاختلاف هذا الحكم. وأمّا الثاني - أعني : عدم جواز كون الطبيعة قديمة بالدهر مع كون افرادها حادثة كذلك - ، فلأنّ القديم الدهري ما لا يكون وجوده مسبوقا بالعدم في الخارج اصلا ؛ والحادث الدهري ما يكون وجوده مسبوقا بالعدم في الخارج. / 60DB / وإذا كان جميع أفراد طبيعة واحدة مسبوقة بالعدم في الخارج يلزم أن تكون تلك الطبيعة أيضا مسبوقة بالعدم ، وإلاّ يلزم تحقّق الطبيعة مجرّدة عن الفرد ، وهو باطل لأنّ الطبيعة المجرّدة عن الفرد في الخارج والواقع لا وجود لها. ولمّا فرض أنّ تلك الشروط الغير المتناهية حادثة بالحدوث الدهري الواقعي يلزم أن تكون الطبيعة المتحقّقة في ضمن تلك الشروط حادثة حدوثا واقعيا ، وإلاّ يلزم تحقّق الطبيعة مجرّدة عن الافراد ، ولا تفاوت في ذلك الحكم بين كون تلك الشروط متعاقبة أو مجتمعة. وبالجملة إذا كانت طبيعة ما من الطبائع قديمة بالعدم الواقعي الدهري بل بالقدم الغير الزماني مطلقا فلا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يكون جزئي من جزئياته الحقيقية قديما ؛ انتهى حاصل ما ذكره الفاضل المذكور.

وهذا الفاضل قد أخذ هذا التفصيل أوّلا من بعض كتب السيد المحقّق الداماد ، ثمّ رجع وحكم بانّ القديم الزماني أيضا حكمه حكم القديم الدهري في عدم جواز قدمه زمانا مع كون افراده حادثة بالزمان ، فقال : المفروض انّ كلّ فرد فرد من أفراد الحوادث الزمانيّة مسبوق بالعدم الزماني والطبيعة قديمة زمانية بمعنى أنّها ليست مسبوقة بعدم زماني أصلا.

فلقائل أن يقول : على ذلك التقدير يكون كلّ فرد من تلك الطبيعة مسبوقا بعدم زماني ولا يوجد فرد يكون قديما زمانيا أصلا - كما هو المفروض -. وهذا الحكم ثابت لكلّ فرد فرد سواء وجد معه فرد آخر أو لا ، فيكون هذا الحكم - أعني : سبق العدم الزماني - ثابتا / 64MA / لكلّ فرد على جميع تقادير وجوده - أي : سواء وجد معه فرد

ص: 285

آخر أو لا -. وقد تقرّر بين القوم انّ كلّ حكم ثبت لكلّ واحد من أشياء على جميع تقادير وجوده لا يختلف هذا الحكم في تلك الصورة بين الكلّ الافرادي والكلّ المجموعي. كما في احتياج الممكن ، فانّه لمّا كان كلّ واحد من افراد الممكن محتاجا إلى العلّة على جميع تقادير وجوده - أي : سواء كان معه ممكن آخر أو لا - حكموا بعدم التفاوت بين الكلّ الافرادي والمجموعي في الاحتياج إلى العلّة. فعلى المشاكلة يكون الحكم المذكور - أعني : سبق العدم الزماني - ثابتا لمجموع الأفراد بحيث لا يشذّ عنه فرد.

ولكون العدم السابق على مجموع الأفراد عدما زمانيا يكون ذلك الزمان الّذي عدم فيه مجموع الأفراد مشغولا بعدم جميع الأفراد بحيث لا يشذّ فرد ، فلا يوجد فرد من افراد تلك الطبيعة في ذلك الزمان البتة. فحينئذ إمّا أن تكون تلك الطبيعة موجودة في ذلك الزمان أو معدومة فيه ، فعلى الأوّل يلزم وجود الطبيعة مجرّدة عن الفرد وهو باطل ، وعلى الثاني يلزم أن يكون حادثا بالحدوث الزماني كأفرادها ، فظهر انّ حدوث جميع افراد الطبيعة بالحدوث الزماني يستلزم حدوث الطبيعة أيضا كذلك ؛ انتهى.

اقول : الحقّ في هذا المقام انّ قدم الطبيعة مع حدوث جميع أفرادها غير معقول ، بل إن كانت جميع افراد طبيعة حادثة لكانت تلك الطبيعة أيضا حادثة ، ولا يعقل قدمها إلاّ إذا كان بعض افرادها قديما. والتحقيق - كما أفاده الفاضل المذكور - عدم الفرق في ذلك بين القدم والحدوث الدهريين وبين القدم والحدوث الزمانيين. والدليل على الكلّ : انّه لا شكّ انّ الطبيعة ليست موجودة بوجود على حدة منفكّة عن افرادها. ومحلّ الخلاف المشهور في وجود الكلّي الطبيعي - كما حرّره العلاّمة الرازي في رسالة الكلّيات (1) وغيره من أهل التحقيق - هو : انّ الطبيعة هل هي موجودة في الخارج بوجود افرادها حتّى تكون الطبيعة موجودة ويكون الفرد موجودا آخر ووجودهما واحد ، أو هي غير موجودة في الخارج اصلا ، بل الموجود فيه افرادها فقط وهي موجودة في الذهن ، لا غير فعلى هذا لو كانت موجودة - كما هو التحقيق - فلا محالة يكون وجودها بوجود افرادها ؛ فهي موجودة بوجود كلّ فرد. فلها وجودات متعدّدة بحسب

ص: 286


1- لم أعثر على هذه الرسالة ، والظاهر أنّها لم تطبع بعد.

تعدّد الافراد. وإذا كان وجودها بوجود الأفراد فيكون الحيثية المعتبرة لوجود افرادها معتبرة لوجودها أيضا ، فاذا كان جميع أفرادها حادثة بالحدوث الدهري أو الزماني كانت الطبيعة أيضا كذلك. والفرق بين الحدوثين غير معقول ، لأنّه كما إذا كانت جميع الأفراد مسبوقة بالعدم الواقعي فلا يعقل كون الطبيعة غير مسبوقة به ، والاّ لزم وجودها متقدّمة على جميع الافراد في ظرف الواقع ونفس الأمر منفكّة عنها فيه ، كذلك إذا كانت جميع الأفراد مسبوقة بالعدم الزماني. فلا يتصوّر كون الطبيعة غير مسبوقة به وإلاّ لزم وجودها سابقة على جميع الأفراد في ظرف الزمان منفكّة عنها فيه ، وإذا كان بعض أفرادها قديما بالقدم الدهري أو الزماني كانت الطبيعة المتحقّقة في ضمنه أيضا كذلك ؛ والفرق بين القدمين باطل - كما مرّ -.

فان قيل : كيف يتصوّر كون الطبيعة حادثة مع كون افرادها غير متناهية؟! ، لأنّ المفروض توقّف كلّ شرط حادث على شرط حادث آخر إلى / 61DA / غير النهاية ، فعلى تقدير عدم تناهي الأفراد لو كانت الطبيعة حادثة لما تصوّر أن يكون فرد منها متحقّقا فيها ، فيلزم أن يكون الافراد متناهية ؛ وهو خلاف الفرض ، فيجب أن يكون قديمة ؛

قلنا : كما يتصوّر كون جميع افرادها بحيث لا يشذّ عنها شيء حادثة مع عدم تناهي تلك الأفراد فانّ اجتماع حدوث الطبيعة مع عدم تناهي افرادها على سبيل التعاقب (1) ليس باعجب من اجتماع حدوث الأفراد باسرها وعدم تناهيها ، والمفروض جواز اجتماع حدوث الأفراد مع عدم تناهيها ، فلا بأس بجواز اجتماع حدوث الطبيعة مع عدم تناهي افرادها أيضا.

ثمّ الحقّ انّه لا يجوز شيء منها - أي : لا يجوز اجتماع حدوث الطبيعة مع عدم تناهي افرادها على سبيل التعاقب ولا اجتماع حدوث جميع افرادها مع عدم تناهيها كذلك ، أي : على سبيل التعاقب - وان امكن اجتماع حدوثها مع كونها غير متناهية على سبيل الاجتماع بدون الترتيب ؛ أمّا الأوّل فظاهر وأمّا الأخير فلأنّ معنى حدوث جميع

ص: 287


1- الاصل : - على سبيل التعاقب.

افرادها أن يكون العدم الدهري أو الزماني سابقا على جميعها بحيث لا يشذّ عنه شيء ، ومعنى عدم تناهيها أن لا يوجد واقع أو زمان لم يوجد فيه فرد من تلك الافراد ؛ فلا يمكن أن يسبق عدم دهري واقعي أو زمان عدم على جميع تلك الأفراد على هذا التقدير - أي : على تقدير عدم تناهيها -. فهذان الفرضان امر الحدوث (1) جميعها ووقوع التسلسل التعاقبي فيها متنافيان.

وأيضا لا ريب في انّ تلك الشروط إذا كانت غير متناهية كان واحد منها في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر مستندا إلى موجود قديم واجب أو غير واجب ، فان كان هذا الواحد قديما بطل ما فرض من كون جميعها حادثة ، وان كان حادثا انقطع عند التسلسل. وحينئذ فالصحيح أن يقال في تقوية الاستدلال المذكور : انّه في صورة توقّف الحادث على شرط حادث يلزم عدم تناهي الشروط على سبيل التعاقب مع حدوثها ، أو يلزم اجتماع حدوث الطبيعة نظرا إلى حدوث افرادها مع عدم تناهي افرادها ؛ والكلّ باطل لوقوع التناهي المستحيل. وهذا المحال انّما نشأ من فرض الحدوث في صورة الايجاب المذكور.

ثمّ بعض الأفاضل بعد أن جزم بلزوم قدم الطبيعة من حدوث افرادها على الفرض المذكور / 64MB / قال : فان قيل : كيف يتصوّر قدم الطبيعة بحدوث جميع الأفراد مع أنّ وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ليس إلاّ في ضمن الفرد متحدا بوجوده وبانتفاء الفرد ينتفي الطبيعة المتحدة معه في الوجود ، فاذا كان جميع الأفراد حادثة لم يكن لها وجود ازلي غير مسبوق بالعدم حتّى تكون قديمة؟! ؛

قلنا : الطبيعة الابهامية الموجودة في الخارج لها وحدة ابهامية لا تنافي تعدّد الوجود بحسب تكثّر الأفراد وبانعدام فرد واحد وبانتفاء وجود واحد لا تنعدم هي من حيث هي - أي : مطلقا - وان انعدمت من حيث هي في ضمن تلك الفرد. ومتى لم تنعدم جميع افرادها لم تنعدم هي مطلقا ؛ ولهذا اشتهر : انّ وجود الطبيعة بوجود فرد ما وانتفائها بانتفاء جميع الأفراد. ولا يستلزم مسبوقية وجود كلّ فرد منها بعدمه الخاصّ به

ص: 288


1- كذا في النسختين.

مسبوقية زمانية مسبوقية وجودها من حيث هي هي بعدمها ، والمطلوب كذلك ؛ بل لو كانت لها افراد متعاقبة غير متناهية كلّ منها مختصّ بزمان يكون لا محالة زمان وجود الطبيعة غير متناه ؛ لكن لا وجودا واحدا بالعدد مستمرّا من الأزل إلى الأبد ، بل وجودا مبهما ، وذلك كاف في قدمها بل نقول. على ذلك التقدير لا يكون شيء من وجوداتها الخاصّة مسبوقا بعدمها المطلق بالزمان ، إذ ليس لذلك العدم زمان يتحقّق فيه لا بحسب الخارج ولا بحسب التوهّم ، فلا يكون حادثة البتة.

فان قيل : قد تقرّر انّه إذا كان حكم ثابتا لأفراد شيء على جميع تقادير وجود الفرد - أي : سواء كان معه وجود سائر الأفراد أم لا ، كاحتياج الممكن إلى الموجب - فلا يختلف الكلّ الافرادي والمجموعي في ذلك الحكم ، والمسبوقية الزمانية بالعدم هناك كذلك - أي : ثبت لأفراد الفعل المطلق على جميع تقادير وجود الفرد - ، فيكون مجموع الأفراد أيضا مسبوقا بالعدم ، فالطبيعة تكون إمّا حادثة أيضا وإمّا موجودة بدون فرد ، هذا خلف! ؛

قلنا : ليس كذلك ، إذ لو قدر وجود فرد من تلك الأفراد مقرونا بوجود سائر الافراد الغير المتناهية المختصّة كلّ منها بقطعة من الزمان لم يكن مسبوقا بالعدم البتة ، كما لو فرض جوع شخص واحد مقرونا بجوع ساير الاشخاص لا يمكن شبعه برغيف واحد ، بخلاف الممكن الواحد ، إذ لو فرض كونه مقرونا بسائر أفراد الممكن لا يرتفع عنه الاحتياج إلى الموجب ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا الكلام بطوله لا يفيد شيئا! ، ودفعه ظاهر ممّا ذكرناه. ويكفى في دفعه انّ تلك الافراد الغير المتناهية إن كان مجموعها بحيث لا يشذّ عنها شيء مسبوق بالعدم لكانت الطبيعة أيضا كذلك ، فثبت حدوثها ، وإن لم يكن مجموعها مسبوقا بالعدم لم تكن حادثة ، هذا خلف!.

وما ذكره من انّ المجموع هنا ليس مسبوقا بالعدم ولا يلزم منه نفي حدوث كلّ واحد - لأنّ حكم / 61DB / المجموع هنا يخالف حكم الآحاد قياسا على كلّ واحد والمجموع في الشبع وعدمه رغيف واحد - فمردود بانّ حكم المجموع والآحاد هنا حكم

ص: 289

المجموع والآحاد الممكنات في الاحتياج ، فانّه كما لو فرض كلّ ممكن مقرونا بسائر افراد الممكن لا يرتفع عنه الاحتياج كذلك لو فرض كلّ واحد من افراد السلسلة الغير المتناهية مقرونا بوجود سائر الافراد لم يرتفع عنه المسبوقية بالعدم. وقياس ذلك على المجموع والآحاد في الاشباع برغيف وعدمه قياس مع الفارق ، لأنّ السرّ في شبع كلّ واحد برغيف واحد وعدم شبع المجموع به انّه إذا أكل كل واحد من حيث هو واحد رغيفا واحدا لم يأكل غيره شيئا من هذا الرغيف ، بل مجموعه صار مأكولا له ، فيشبعه ؛ وإذا أكل مجموع الناس رغيفا واحدا لا يصير مجموع هذا الرغيف مأكولا لكلّ واحد ، بل كلّ واحد لم يأكل إلاّ جزء منه ، فالرغيف صار موزعا على الكلّ فلا يحصل الشبع. فالمعيار في معرفة عدم مخالفة حكم المجموع لحكم الآحاد ومخالفته انّ ما ثبت لكلّ واحد في صورة الانفراد ان ثبت له أيضا في صورة الاجتماع لم تحصل حينئذ مخالفة بين حكم الآحاد وحكم المجموع. كمثال الممكن ، فانّ ما ثبت لكلّ واحد من الممكنات بشرط الانفراد كذلك يثبت له مع الاجتماع أيضا. وإن لم يثبت له في صورة الاجتماع حصل المخالفة بين حكم الآحاد وحكم المجموع. كمثال الرغيف ، فانّ كلّ واحد في صورة الانفراد ثبت له أكل مجموع الرغيف وفى صورة الاجتماع ثبت له أكل جزء منه.

ولا ريب انّ ما نحن فيه من قبيل الأوّل ، لأنّ كلّ ما ثبت لكلّ واحد في صورة الانفراد ثبت له في صورة الاجتماع أيضا من دون تفاوت.

وثانيهما - أي : ثاني الأمرين اللذين قيل يتقوّى بهما الاستدلال المذكور -. في صورة توقّف الحادث علي الشروط المجتمعة بالمعنى الأوّل - أي : كونها مجتمعة في الحدوث والوجود معا - يلزم تخلّف المعلول عن الموجب التامّ أيضا ، لأنّ تلك الشروط إن كانت متحقّقة في الأزل يلزم تخلّف العالم عنها ، وإن كانت حادثة فيما لا يزال يلزم تخلّف تلك الشروط عن علّتها ، لأنّ علّتها ليست إلاّ الواجب وهو متحقّق في الأزل بدونها ، وهو التخلّف.

وغير خفيّ انّ المراد بالاجتماع هو الشقّ الثاني ، إذ على الأوّل تكون الشروط المطلقة قديمة والكلام في الشروط الحادثة ، فذكر الشقّ الأوّل انّما هو للاستظهار. فعلى

ص: 290

الشقّ الأوّل يلزم القدم لا التخلّف المطلق هنا - أي : التخلّف مع كون الشروط حادثة - ، فانّ تخلّف الفعل - أعني : العالم - عن الشروط وان كان لازما إلاّ انّ الشروط المجتمعة في الأزل لمّا كانت / 65MA / قديمة فلا تكون ممّا نحن فيه ، لأنّ ما نحن فيه انّما هو على فرض حدوث الشروط وهو انّما يتحقّق على الشقّ الثاني - أي : إذا كان مجتمعة في الحدوث والوجود فيما لا يزال -. وحينئذ وإن لم يلزم تخلّف الفعل عن الشروط إلاّ انّه يلزم تخلّف تلك الشروط عن علّتها التامّة. فيجب أن يكون المراد انّه على تقدير الاجتماع يلزم التخلّف عن الموجب التامّ سواء كان المتخلّف هو الفعل المفروض أو الشروط المذكورة ، إذ لو فرض الاجتماع في الأزل - مع انّه خلاف ما فرض من حدوث الشروط - يلزم تخلّف الفعل المفروض ؛ وإذا فرض الاجتماع فيما لا يزال - على ما هو مقتضى الفرض - يلزم تخلّف الشروط البتّة ، فيكون تخلف المعلول الشامل لهما عن الموجب التامّ لازما البتّة.

فان قلت : على فرض اجتماع الشروط فيما لا يزال يلزم تخلّف الفعل أيضا لكونه حادثا والموجب - أعني : الواجب - قديما! ؛

قلت : نعم ، ولكن التخلّف الّذي هو المطلوب - وهو التخلّف عن الموجب التامّ - غير لازم ، لأنّ الموجب حينئذ انّما يتمّ بالشروط الّتي فرضت محقّقة فيما لا يزال ، لا في الأزل. فلا يكون تامّا إلاّ عند حدوث تلك الشروط ، وحينئذ يحدث الفعل أيضا ، فلم يحصل التخلّف عن الموجب التامّ.

فان قيل : فيمكن أن لا يكون الموجب المذكور بالنسبة إلى الشروط الحادثة المجتمعة فيما لا يزال أيضا موجبا تامّا ، فتخلّف تلك الشروط الحادثة المجتمعة في آن حدوث الفعل لا يكون تخلّفا عن الموجب التامّ ، لأنّه كما أنّ هذا الموجب لم يكن بالنسبة إلى الفعل المفروض تامّا بل انّما يتمّ بالشروط الحادثة فيما لا يزال ، فيجوز أن لا تكون بالنسبة إلى تلك الشروط الحادثة فيما لا يزال أيضا تامّا ؛ بل يكون تماميته موقوفة على أمر خارج عن ذاته وعن تلك الشروط ؛

قلنا : لو سلّم جواز التوقّف على أمور خارجة عن تلك الشروط وعن ذات الموجب لم يحصل به نقص في الاستدلال ، لأنّا نأخذ حينئذ مجموع ما يتوقّف عليه الفعل

ص: 291

من السلسلة المفروضة - أعني : الشروط الحادثة المجتمعة فيما لا يزال والأمور الخارجة عنها الّتي فرض توقّف الشروط عليها - ، فتحصل سلسلة كبرى تكون سلسلة الشروط الحادثة الّتي كان الفعل موقوفا عليها جزء منها - أي : من تلك السلسلة الكبرى -.

ثمّ نقول : هذه / 62DA / السلسلة الكبرى إن كانت غير متناهية - على ما هو المفروض - إمّا أن تكون آحادها متعاقبة أو مجتمعة ، فيلزم قدم الفعل على تقدير التعاقب وأحد شقّي الاجتماع والتخلّف على الشقّ الآخر للاجتماع - كما مرّ بعينه من دون تفاوت -.

فان قلت : يمكن أن تكون السلسلة ملتئمة من الشروط المتعاقبة والمجتمعة بأن تكون طائفة منها متعاقبة وطائفة اخرى مجتمعة ، فكيف يكون حكمها حينئذ؟ ؛

قلت : حكمها حينئذ حكم إحداهما - أي : المتعاقبة أو المجتمعة - ، لأنّ تلك السلسلة الملتئمة إن اثبت افرادها الطوليّة على اجزاء الزمان وإن لم يخلوا جزء من الزمان عن آحادها فهي في حكم المتعاقبة في لزوم القدم ، ولا فرق بينها وبين المتعاقبة إلاّ بأنّ تلك السلسلة الملتئمة بعض اجزائها الطولية مشتمل على الآحاد الغير المتناهية عرضا ، وإلاّ - أي : وإن كان بعض اجزاء الزمان خاليا عن افرادها - فهي في حكم المجتمعة في لزوم التخلّف.

ثمّ انّ بعض الأفاضل قال : انّ الحكم بلزوم القدم في صورة التعاقب وبلزوم التخلّف في صورة الاجتماع مدافع بما تقدّم من أنّ أثر الموجب بالمعنى المذكور إن كان حادثا يلزم التخلّف البتّه مطلقا من غير تفضيل.

وجوابه : انّ المحال الّذي هو الحدوث على تقدير الايجاب المذكور يجوز أن يستلزم المتعاقبين ، فلا بأس بلزومهما جميعا ؛ هذا.

وقد بقي هنا شيء لا بدّ أن يشار إليه ؛ وهو : انّكم حملتم القدم اللازم على فرض الايجاب المذكور على القدم بالنوع ، ولذلك اوردتم على الاستدلال المذكور ما اوردتم من ضرورة لزوم القدم بهذا المعنى للايجاب المذكور وصيرورة لزوم التخلّف للحدوث

ص: 292

المقابل له - أعني : الحدوث بالنوع - ، وكون فرض هذا الحدوث على تقدير الايجاب المذكور من قبيل فرض المتنافيين ، فيمكن حينئذ منع لزوم التوقّف وابطاله مستندا بمحالية ذلك الحدوث ومنع استحالة التخلّف مستندا بلزومه لاجتماع المتنافيين.

وللحمل المذكور أيضا ارتكبتم ما ارتكبتم من تقوية الاستدلال المذكور بلزوم تقدّم الشيء على نفسه من توقّف ذلك الحدوث على شرط وبلزوم قدم ما فرض حدوثه. ولم لا يجوز أن يكون المراد من استلزام الايجاب المذكور للقدم استلزامه لقدم شخص العالم أو قدم جزئه أو قدم جميع اجزائه من الجواهر والاعراض - وبالجملة قدم كلّ ممكن - حتّى لا يكون لزوم القدم ضروريا بالايجاب المذكور؟! ، لأنّ قدم العالم ليس لازما ضروريا للايجاب بالمعنى المذكور بالشخص - أي : كون شخصه قديما - وان كان بعض اجزائه - فرضية كانت أو غير فرضية - حادثة أو بجزئه أو بجميع الاجزاء لامكان أن يكون المراد بامتناع الانفكاك عن العالم امتناع الانفكاك عن فعل ما ، ولا يلزم منه إلاّ القدم بالنوع لا القدم بالشخص أو بالجزء أو بجميع الاجزاء. فلا بدّ في اثبات لزوم القدم بأحد الوجوه المذكورة من الاستدلال المذكور بأن يقال : لو كان الواجب موجبا بالمعنى المذكور لزم قدم العالم بالشخص أو بالجزء أو بجميع الاشخاص ، إذ لو لم يكن قديما بالشخص أو بالجزء أو بجميع الاشخاص وكان حادثا بالشخص أو بجميع الاشخاص أو ببعض الأشخاص لتوقّف على شرط حادث لئلاّ يلزم التخلّف عن الموجب التامّ ، وهذا الشرط الحادث يتوقّف على شرط حادث آخر وهكذا ... ؛ فيلزم التسلسل في الشروط. والحاصل : انّ لزوم القدم أو بالجزء أو بجميع الأجزاء على تقدير الايجاب المذكور ليس ضروريا ، بل لا بدّ من التمسّك بلزوم التسلسل في الشروط. وكذا إذا حمل القدم على القدم بالشخص أو بجميع الأجزاء ولم يرد سائر وجوه الاختلال أيضا وإن لم يتمشّ التقوية بلزوم تقدّم الشيء على نفسه وقدم ما فرض حدوثه أيضا. نعم! ، يتمشّى التقوية / 65MB / الأخرى - أعني : لزوم التخلف عن الموجب التامّ - على فرض توقّف الحادث على الشروط المجتمعة ؛ كما لا يخفى.

قلنا : حمل القدم في الاستدلال المذكور على القدم بالشخص أو بالجزء أو بجميع

ص: 293

الاجزاء وإن لم يرد عليه حديث لزوم ضرورة القدم ولا سائر وجوه الاختلال المتقدّمة ، إلاّ أنّه يرد عليه وجوه آخر من الايراد :

الأوّل : انّ الايجاب بهذا المعنى لا يستلزم قدم الفعل إلاّ إذا كان موجبا تامّا ، والقائلون بالايجاب لا يقولون بكون الفاعل موجبا بذاته بالنسبة إلى كلّ جزء من أجزاء العالم ، فانّه ليس موجبا بذاته بالنسبة إلى الحوادث الزمانية عندهم ، بل جميع الموجودات الزمانية الحادثة عندهم مستندة إليه - تعالى - بشروط ومعدّات مخصّصة لوجود كلّ منها بزمانه المختصّ به ، فالمراد من الايجاب المقصود هنا امتناع انفكاك ذاته - تعالى - من ايجاد شيء من العالم لا جميع اجزائه ، إذ لا نزاع فيه لكونه منقضيا بالضرورة والاتفاق ، فمن فرض الايجاب بهذا المعنى لا يلزم إلاّ قدم الفعل المطلوب. وقدم كلّ فرد فرد من الجواهر والأعراض انّما يلزم لو لزم من كون الفاعل موجبا كونه موجبا بالنسبة إلى كلّ فرد من الأفراد ، / 62DB / ومن أين يلزم ذلك؟!.

قيل : لو حمل الايجاب على الايجاب الطباعي - أعني : اقتضاء الفعل من دون علم وإرادة - لزم منه قدم جميع اجزائه لعدم الفرق بين تلك الاجزاء في جريان الدليل. وتقريره : انّ أثر الموجب بالايجاب الطباعي إن توقّف على شرط لزم التسلسل ، وإن لم يتوقّف لزم القدم لئلاّ يلزم التخلّف عن الموجب التامّ أو الترجيح بلا مرجّح ، فيلزم قدم جميع آثاره أو حدوث الموجب المذكور والموجب القديم بلا شبهة ، فيلزم قدم جميع آثاره.

وأنت تعلم انّ قدم جميع الآثار على فرض الايجاب الطباعي إنّما يلزم إذا كان الفاعل الّذي هو الموجب الطباعي موجبا تامّا بالنسبة إلى جميع أجزاء العالم ، وهو باطل بالضرورة! ؛ إذ الحوادث الزمانية منفكّة عنه ، فيكون استنادها إليه على هذا التقدير أيضا بشروط ومعدّات ، فعلى تقدير هذا الايجاب أيضا لا يلزم جميع اجزاء العالم. على انّ بعض الايرادات الآتية ينفي هذا اللزوم أيضا.

ثمّ أنت تعلم أنّ هذا الايراد انّما ينفي الحمل على قدم جميع الاشخاص لا قدم بعضها.

ص: 294

الثاني : انّه لم لا يجوز أن يكون الصادر منه - تعالى - قديما مختارا ويستند إليه سائر الحوادث؟! ، وحينئذ لا يلزم إلاّ قدمه لا قدم جميع الاشخاص. وهذا كسابقه لا ينفي إلاّ حمل العدم على قدم جميع الأشخاص لا قدم بعضها ، بل هو مثبت له.

الثالث : انّه يلزم على هذا الحمل تسليم القدم بالنوع - ، وقد ثبت استحالة قدم العالم مطلقا - أي : سواء كان بالشخص أو بالجزء أو بالنوع - ، فلو سلّم انّ الايجاب يستلزم قدما ولو كان قدما بالنوع - وثبت فيما سبق استحالة القدم بأيّ وجه كان - ثبت استحالة الايجاب ، فلا حاجة لنا في بيان استحالة الايجاب إلى اثبات استلزامه لقدم العالم بالشخص أو بالجزء.

الرابع : انّه يرد عليه ما تقدّم من أنّ الحادث لا يتوقّف عند المعتزلة على شرط حادث ، بل يكفي عندهم الداعي للترجيح.

الخامس : انّ لزوم قدم جميع الاشخاص على تقدير الايجاب المذكور ممنوع ، لامكان استناد بعضها إلى شرط هو قطعة فرضية من موجود مستمرّ غير متناه ويكون هذا الشرط ذا جهتين - كالحركة - فيحصل باعتباره الحوادث من الموجب القديم. وبهذا الطريق حاول الحكماء التفصّي عن هذا المضيق وبه صحّحوا ربط الحادث بالقديم.

وملخّص مقالتهم - كما أشير إليه سابقا أيضا - انّ الحركة لها جهتان :

إحداهما : حيثية ذاتها وهي كون الجسم بحالة يصحّ أن يعرض له في كلّ آن فرد من الأوضاع غير الفرد المفروض له في الآن السابق واللاحق ، ويعبّر من هذا المعنى بالتوسّط بين الأوضاع. وهي بهذا الاعتبار قديمة مستمرّة من الأزل إلى الأبد ؛

والثانية : حيثية النسب الّتي يلزمها ، ولا ريب في انّ النسب الّتي يلزمها في كلّ آن غير النسب الّتي يلزمها في آن آخر ، فهي بهذا الاعتبار حادثة ، لأنّه إذا كانت النسبة المفروضة (1) للجسم المتحرّك بحسب القرب والبعد من النهاية المفروضة في كلّ آن غير المفروضة له في آن آخر لكانت تلك النسب بأسرها حادثة ، فالحركة تكون من هذه الحيثية حادثة. وعلى هذا فالحركة قديمة من حيث الذات حادثة من حيث

ص: 295


1- الاصل : المنفرضة.

العوارض اللازمة لها. فهي من حيث / 66MA / الذات مستندة إلى القديم ومن حيث اللوازم والعوارض يستند إليها الحوادث باستناد كلّ منها إلى عارض مسبوق بغيره معدّله يمتنع اجتماعه معه ، وهكذا لا إلى ما لا نهاية له. وقالوا : غاية ما يلزم منه تحقّق التسلسل في الأمور المجتمعة ، وهو جائز لعدم اجتماع آحادها ، فلا يجري التطبيق فيها.

وانت خبير بأنّ منع لزوم قدم جميع الاشخاص - لاحتمال الاستناد المذكور - لا يتصوّر إلاّ على فرض جواز التسلسل على سبيل التعاقب ، وبناء هذا الاستدلال على بطلانه ؛ فلا مجال لهذا الاحتمال. على أنّه قد تقدّم بطلان التسلسل في الأمور المتعاقبة وإن لم تكن مجتمعة. ويكفي في بطلانه امكان اجراء التطبيق العقلي الراجع إلى فرض الانطباق.

وأيضا قد ابطل المتكلّمون الطريق المذكور للفلاسفة في كيفية ربط الحادث بالقديم بوجوه أخر :

منها : انّ تلك العوارض الّتي هي النسب اللاحقة للجسم المتحرّك بسبب الحركة إمّا مستندة إلى الذات والمفروض أنّها قديمة ، فكيف يحصل الربط بين تلك النسب الحادثة والذات القديمة؟! ؛ أو مستندة إلى مباديها وهي أيضا قديمة ؛ أو إلى غيرها وهو أيضا منتف.

وإذا علمت جميع ما ذكر فقد ظهر ووضح عندك انّ الاستدلال بالحدوث على النحو المذكور على اثبات القدرة بالمعنى الأوّل والثاني - أعني : صدور الفعل بالعلم والمشية والإرادة وامكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - ونفي الايجاب المقابل لهما - أعني : صدور الفعل بدون العلم والمشيّة والإرادة كما في الطبائع ووجوب الفعل و/ 63DA / الترك بالنظر إلى الذات - صحيح لا اختلال فيه بوجه. وعلى اثبات القدرة بالمعنى الثالث - أعني : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الداعي في بعض الأوقات - وعلى نفي الايجاب المقابل لها - أعني : وجوب الفعل بالنظر إليه في جميع الاوقات - غير صحيح وغير محتاج إليه ، لاستلزام الحدوث لنفي هذا الايجاب ضرورة من غير حاجة إلى الاستدلال.

ص: 296

وقد ثبت وتحقّق ممّا ذكرنا من البراهين ثبوت القدرة بالمعنى الثلاثة للواجب - تعالى شأنه - ونفي الايجاب المقابل لها عنه - سبحانه -. وقد ظهر أيضا بطلان القدرة بالمعنى الرابع وعدم ثبوته له - تعالى وهو امكان الفعل والترك بالنظر إلى الداعي في جميع الاوقات ولو في آن الحدوث -. وهو الّذي تفرّد باثباته الأشعري ؛ بل ظهر ثبوت الايجاب المقابل لها للواجب - تعالى ، أعني : وجوب الفعل في بعض الاوقات ، أي : في وقت الحدوث -. وهو الإيجاب بالاختيار الّذي اختاره المحقّقون من المعتزلة - وربّما يأتي لذلك زيادة بيان -.

تتميم : « مراد المحقّق الطوسي من الايجاب »

الحقّ انّ المراد بالايجاب في قول المحقّق الطوسى - رحمه اللّه - في التجريد : « حدوث العالم بعد عدمه ينفي الايجاب (1) » ، هو الايجاب بالمعنى الأوّل لا الثاني ؛ وحينئذ فالاستدلال بالحدوث عليه على المعنى المذكور - كما فعله الشارح الجديد - (2) صحيح لا يرد عليه شيء.

ويمكن أن يحمل الايجاب فيه على الايجاب بالمعنى الثالث ، ويكون مراد المحقّق : انّ الحدوث ينفي هذا الايجاب ضرورة ، لأنّه - رحمه اللّه - لم يتعرّض لكيفية الاستدلال عليه ، فالحمل على انّه ينفيه ضرورة لا يأباه كلامه.

ثمّ العجب انّ العلامة الخفري حمل الايجاب على المعنى الثالث واورد على الشارح أوّلا : بأنّ الحدوث مستلزم لنفي هذا الايجاب ضرورة ، فلا حاجة إلى الاستدلال. ثمّ أورد بعض ما تقدّم من وجوه الاختلال على الاستدلال المذكور ؛ وهو خبط وغفلة - كما لا يخفى على من له ادنى فطنة -.

ص: 297


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الأولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث. وفيها : وجود العالم ... ؛ كشف المراد ، ص 217.
2- راجع : الشرح الجديد ، ص 310.

ثمّ على الاستدلال المذكور لاثبات القدرة بأيّ معنى كان ايراد مشهور ؛ وتقريره : انّ ما ذكرتم في الدليل لا يعطى إلاّ أن يكون المؤثّر في العالم هو القادر ولا يقتضي أن يكون واجب الوجود هو القادر ، لأنّ العالم لحدوثه لو لم يكن مؤثره هو القادر بل كان موجبا لزم التخلّف أو التسلسل ، ولا يجب أن يكون مؤثره هو واجب الوجود. ولم لا يجوز أن يكون الواجب لذاته اقتضى على سبيل الايجاب موجودا قديما قادرا وذلك القادر هو الّذي أوجد العالم بالقدرة والاختيار. ولا يمكن أن يقال : ذلك القادر من العالم الثابت حدوثه فلا يجوز أن يكون قادرا ، لأنّ ما ثبت حدوثه انّما هو الاجسام وعوارضها دون المجرّدات ؛ فيجوز أن يوجد الواجب - تعالى - بطريق الايجاب جوهرا مجرّدا ليس بجسم وجسمانى - كالعقل مثلا - يكون قديما قادرا يكون هو الّذي أوجد العالم الجسماني بالقدرة والاختيار!.

واجيب عنه بوجوه :

الاوّل : انّ ( على ) (1) القدرة في اثبات حدوث العالم بمعنى ما سوى اللّه - تعالى - اجماع المليين والأخبار الكثيرة الّتي منها الحديث المشهور المتلقّى بالقبول عند أهل / 66MB / الملّة. وقد عرفت فيما تقدّم انّ اثبات الحدوث المثبت به القدرة بها لا يؤدّي إلى الدور وليس لهما معارض عقلي يوجب ردّهما ؛ لمّا عرفت من ان ادلّة القدم كلّها مدخولة.

الثاني : إذا كان المعلول قادرا مختارا أوجب أن يكون العلّة أيضا كذلك - لما قالوا بعينه في استلزام عالمية المعلول لعالميّة العلّة -. وأيضا لا ريب في أنّ القادر المختار أشرف من الموجب وقد ادّعوا فيه الضرورة ، ولا يجوز أن يكون المعلول أشرف من العلّة بل العلّة اشرف منه من جميع الوجوه ؛ والظاهر انّ ذلك ممّا لا يقبل المنع ونسبته إلى الحكماء مكابرة وقد بنى عليه الحكماء كثيرا من أصولهم ومطالبهم. قال الشيخ الإلهي في المطارحات : وممّا ينبغي أن يعلم انّ جملة القدماء على اعتقاد الأشرف والأكرم في

ص: 298


1- لفظة على لم توجد في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

الأمور السماوية وغيرها ، بشهادة الفطرة ووقوع الأشرف فالأشرف فالأشرف (1) ، ثم قال : وإذا كان الجوهر العقلي أشرف من النفس يجب أن يكون قبلها ، ولما كانت الأثيريات أشرف من العنصريات يجب أن تكون حاصلة قبلها بضرب من القبلية (2) ؛ انتهى.

وأيضا : القدرة بالمعنى الأوّل انّما هو بمعنى صدور الفعل بالعلم والمشية ، فاذا استلزم عالمية المعلول لعالمية العلّة ثبت القدرة بهذا المعنى. ومع قطع النظر عن ذلك نقول : انّ هذا المعلول الّذي صدر عنه العالم لصدور الأفعال المحكمة المتقنة المشتملة على الحكم والمصالح عنه بحيث لا يتصوّر خلل ونقص في فعل من أفعاله ولا يتعقّل اتقان وانتظام فوق ما صدر وقد ثكل نوافذ الأفهام وثواقب الأوهام عن دقائق صنعه وعجائب / 63DB / فعله يكون ذاته - أي : ذات هذا المعلول - أتقن وأحكم ، وتكون دقائق الحكم وغرائب الصنع الّتي تشتمل ذاته عليها أكثر - لانطواء ذاته بالحقيقة على جميع الحكم والغرائب الّتي ينطوي عليها العالم -. فاذا دلّ اتقان العالم واشتماله على الحكم والمصالح على علم هذا المعلول الّذي هو موجده بالفرض فيكون اتقان هذا المعلول واشتمال نفسه على الحكم والمصالح ادلّ على علم موجده ، لأنّه إذا كانت الحكم والدقائق الآفاقية والأنفسية مع انتشارها وتفرّقها واختصاص كلّ جزء من العالم وفعل من الأفعال بحكم محصورة دالّة على علم هذا المعلول الّذي هو موجدها بالفرض كان ايجاد معلول واحد يكون في ذاته الاقتدار على مثل هذا الايجاد والقوّة والتمكّن على صدور مثل هذا النظام ووضع كلّ شيء في موضعه واعطاء كلّ موجود ما يليق بحاله ادلّ على علم موجده! فكما أنّ وجود الحكمة والمصلحة في كلّ فعل من أفعال العالم يدلّ على انّ ايجاد الموجد هذا الفعل لاشتماله على تلك الحكمة والمصلحة فيكون عالما به وبتلك الحكمة. فكذلك تحقّق الاقتدار المذكور في هذا المعلول وتمكّنه من ايجاد مثل هذا النظام الأصلح يدلّ على أنّ ايجاد الواجب ايّاه إنّما هو لاشتماله على

ص: 299


1- راجع : كتاب المشارع والمطارحات - المطبوع في مجموعه مصنفات شيخ اشراق - ، ص 434. وتوجد بين المنقول في كتابنا هذا والمطبوع منه في هذه المجموعة اختلافات يسيرة.
2- راجع : نفس المصدر ، ص 435.

مثل هذا الاقتدار والتمكّن ، فيكون عالما به وبالحكم والمصالح المندرجة فيه.

الثالث : انّ ثبوت الاختيار للواسطة يدلّ على امكان اتصاف الموجود به ، إذ البديهة حاكمة بانّه ليس من الحالات الامكانية المختصّة بالممكن الممتنع حصوله للواجب ، فالقول بجواز اتصاف الواسطة به دون الواجب غير معقول. وإذا جاز اتصاف الواجب به يجب حصوله له بالفعل ، لأنّ جميع الصفات الممكنة للواجب - تعالى شأنه - حاصلة له بالفعل ؛ وقد تقدّم هذا الدليل في أوائل هذا الفصل بوجه السبط. والحقّ انّه تام لا يرد عليه شيء ؛ ونسبته إلى الحطام لامكان اختصاص هذه الصفة - أعني : الاختيار - بالممكن مكابرة وهفوة صادرة عن غير تثبّت!.

الرابع : انّ القادر المختار يكون مبدأ لاختلاف الآثار والأفعال ، وما هذا شأنه لا يجوز أن يصدر عن الموجب. فلو كان الواجب بذاته موجبا بالذات لما صدر عنه مختار ، لأنّ المختار من شأنه وفي طبعه التغير والاختلاف إمّا بتغير الإرادة والقصد أو التأثير بنفسها أو بتعلّقها ، وإمّا بقوّة تأثيره في كلّ من النقيضين والضدين ، إذ التأثير في أحدهما غير التأثير في الآخر. وطبيعة الموجب منافية لأمثال هذه ، بل مقتضية للثبات والتأثير على نهج واحد. ولذا ذهب الحكماء إلى أنّ الموجب لا يصدر عنه ماله الاختيار إلاّ إذا كان اختياره على وتيرة واحدة غير منقطعة كما اثبتوا النفوس المتحرّكة للأفلاك. على أنّ بعضهم انكر هذا أيضا. وعلى هذا يكون وجود متغيّر ما في العالم كافيا لاثبات قدرة الواجب - تعالى - ، ولا يحتاج نفي ايجابه إلى تجشّم اثبات حدوث العالم.

وهذا الدليل وإن لم يكن برهانيا إلاّ انّه لا يخلوا عن افادة ظنّ قويّ بالمطلوب. ويؤيّده / 67MA / انّ المناسبة بين العلّة والمعلول لازمة وانّ المعلول يجب ان يكون من سنخ العلّة ، فان كانت العلّة موجبة يجب أن يكون المعلول كذلك ؛ وإن كانت مختارة وجب أن تكون كذلك.

الخامس : انّ العقل مثلا لو كان واسطة بين الواجب والجسمانيات (1) مؤثرا فيها

ص: 300


1- الاصل : الجسماني.

يلزم أن يكون قبلها معطّلا ويلزم أن يكون فصلا أيضا ، لعدم وجود شاهد على وجوده من الجسمانيات ، لأنّ ادلّة وجوده مدخولة. وقد تقرّر عند الحكماء أنّ لا تعطّل ولا فصل في الوجود. والمراد بالفصل عندهم ما هو كذلك - أي : لا دليل على وجوده -.

ولا يخفى ما في هذا الدليل من الأنظار الظاهرة ، مع أنّه جدلي!.

السادس - وهو المعوّل عليه عند الأكثر - ، وهو : انّ البرهان العقلي قائم بأنّ الممكن الّذي لا وجود له باعتبار ذاته لا يوجد الجواهر والاعراض ، والبرهان القائم هو ما ذكره بهمنيار في التحصيل حيث قال : وإن سألت الحقّ فلا يصحّ أن يكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ وجه من معنى ما بالقوة ، وهذا هو صفة الاوّل - تعالى - لا غير. إذ لو كان مفيد الوجود ما فيه معنى بالقوّة - سواء كان عقلا أو جسما - كان للعدم شركة في افادة الوجود ، وكان لما بالقوّة شركة في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ؛ (1) انتهى.

وتوضيح هذا البرهان : انّ كلّ ممكن بما هو ممكن وباعتبار ذاته سواء كان مادّيا أو مجرّدا لا يكون إلاّ قوّة صرفة ، بل هو في مرتبة ذاته وحدّ نفسه ليس محض وعدم صرف ، وليس له بهذا الاعتبار استشمام رائحة من الفعل اصلا ، وانّما فيه قوّة الوجود والفعلية. وأمّا نفس موجوديته وفعليته فهو بأمر مغاير عن ذاته كما بينوه في مقامه وفرعوا عليه تأخّر وجوده عن عدمه المعبّر بالحدوث الذّاتي. وهذا الأمر المتغاير هو مخرج الممكن من القوّة إلى الفعل ، فلكلّ ممكن مخرج من / 64DA / قوّته إلى الفعلية. ولا بدّ أن يكون ذلك المخرج مما هو مخرج بالفعل من جميع الجهات ، وإلاّ يلزم أن يكون للقوّة دخل في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ، وهو بديهي البطلان. فالممكن لعدم خلوّه عن القوّة بل كونه محض العدم والقوّة لو فرض كونه موجدا لموجود ومخرجا له من القوّة إلى الفعل لزم أن يكون لذلك العدم والقوّة أيضا دخل في ذلك الايجاد والاخراج. لأنّ كلّ ما في مرتبة ذات الفاعل من حيث هو فله تقدّم على الفعل كتقدّم الفاعل عليه ، فلا يجوز أن يكون ممكن موجدا لشيء ومخرجا له من القوّة إلى الفعل ؛ و

ص: 301


1- راجع : التحصيل ، الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من الكتاب الثاني ، ص 521.

المخرج المذكور يجب أن يكون ما هو بالفعل من كلّ الوجوه وهو صفة الواجب - تعالى شأنه -. فمقيض الوجود والفعليّة لكلّ موجود ليس إلاّ هو. وهذا هو المطابق لكلام الحكماء ؛ فانّهم متّفقون على أنّ جميع الموجودات صادرة منه - تعالى - ، وانّ الوجود معلول له - تعالى - على الاطلاق. قال افلاطن الإلهي على ما نقل عنه المعلّم الأوّل في أثولوجيا : انّ علّة الانيات الخفية الّتي لا اجرام لها والأشياء الحسية ذوات الأجرام واحدة وهي الانية الأولى الحقّ - يعنى الباري الخالق سبحانه -. ثم قال : انّ الباري الأوّل الّذي هو علّة الانيات العقلية الدائمة فالانّيات الخسيسة الداثرة هو الخير المحض والخير لا يليق بشيء من الأشياء إلاّ به ، وكلّ ما كان في العالم الأعلى والعالم الأسفل من خير فليس ذلك من طبائعها ولا من طباع الإنّيات العقلية ولا من طباع الإنّيات الخسيسة الداثرة ، لكنّها من تلك الطبيعة العالية وكلّ طبيعة عقلية وحسية منها بادية ، فانّ الخير انّما ينبعث من الباري في العالمين ، لأنّه مبدي الأشياء ومنه تنبعث الحياة والأنفس إلى هذا العالم. وانّما يتمسّك هذا العالم بتلك الحياة والأنفس الّتي صارت من العلو في هذا العالم وهي الّتي تزين هذا العالم لكيلا يتفرّق فتفسد. ثمّ قال : انّ الانية الأولى الحقّ هي الّتي تفيض على العقل الحياة أوّلا ثمّ على النفس ثمّ على الأشياء الطبيعية ، وهو الباري الّذي هو خير محض وقال المعلم الأوّل بعد نقل هذه الكلمات من استاذه الإلهي : وما أحسن وما أصوب ما وصف به (1) هذا الفيلسوف الباري - تعالى - إذ قال : انّه خالق العقل والنفس والطبيعة والأشياء كلّها وليس كشيء من الأشياء ، بل هو يبدو الشيء وليس هو الأشياء ، بل الأشياء كلّها فيه وليس هو في شيء من الأشياء. وذلك انّ الأشياء. كلها انّما انبثت منه وبه ثباتها وقوامها وإليه مرجعها (2). وقال الشيخ الرئيس في الإشارات : انّ الأوّل يبدع جوهرا عقليا هو بالحقيقة مبدع وبتوسّطه جوهرا عقليا وجرما سماويا وكذلك ( عن ذلك ) (3) الجوهر العقلي حتّى يتمّ الأجرام السماوية وينتهي إلى جوهر عقلي لا يلزم منها جرم / 67MB /

ص: 302


1- الاصل : - به.
2- لم أعثر على هذه العبارات في اثولوجيا.
3- ( ... ) : لم يوجد في النسختين.

سماوي (1). وقد صرح في الشفا أيضا بانّه لا تأثير إلاّ من اللّه (2) ، كما قال المحقّق الدواني في شرح العقائد. (3).

وقال صاحب الاشراق في الهياكل : ليس انّ حركات الافلاك توجد الاشياء ، ولكنّها تحصّل الاستعدادات ويعطي الحقّ الأوّل لكلّ شيء ما يليق به (4). وقال أيضا : والجواهر العقلية وإن كانت فعّالة على انّها وسائط الجود الأوّل وهو الفاعل ، وكما انّ النور القوي يمكّن النور الضعيف من الاستقلال بالانارة فالقوّة القاهرة الواجبية لا تمكّن الوسائط لوفور فيضه وكمال قوّته (5)

وقال الحكيم الطوسي - نوّر اللّه مرقده - في كتاب مصارع المصارع : واجب الوجود أقرب من كلّ قرب والفيض كلّه من عنده ، وهذه الوسائط كالاعتبارات والشروط الّتي لا بدّ منها في أن يصدر الكثرة عنه (6).

وقال أيضا في شرح الاشارات : وقد شنع عليهم - يعنى على الحكماء - أبو البركات البغدادي بأنّهم نسبوا المعلولات الّتي في المراتب الأخيرة إلى المتوسّطة والمتوسّطة إلى العالية ، والواجب أن ينسب الكلّ إلى المبدأ الأوّل ويجعل المراتب شروطا معدّة لافاضته - تعالى -. وهذه مؤاخذة تشبه المؤاخذة اللفظية! ، فانّ الكلّ متّفقون على صدور الكلّ منه - جلّ جلاله -. وانّ الوجود معلول له على الاطلاق ، فان

ص: 303


1- راجع : الاشارات والتنبيهات ، الفصل الحادي والاربعون من النمط السادس. المطبوع مع شرح نصير الدين والمحاكمات ، ج 3. ص 254 ؛ شرحي الاشارات ، ج 2 ، ص 50.
2- اشارة إلى قوله : ... فكلّ ما سوى الواجب الوجود الواحد باطل في نفسه. راجع : الشفاء الإلهيات ، ج 1. ص 48.
3- لم أعثر على هذا الكتاب.
4- راجع : هياكل النور - المطبوع في ثلاث رسائل للدواني - ، الهيكل الخامس ص 89.
5- راجع : نفس المصدر ، الفصل الثالث من الهيكل الرابع ، ص 86.
6- ما وجدت ما نقله المصنّف عن مصارع المصارع في هذا الكتاب. وقريب منه : ... والحكيم لم يجعل توسّط العقل في افاضة الكثرة إلاّ لبيان كيفية الافاضة من المبدأ الاول ، لا لانه يريد أن ينسب ( فى المطبوع : سبب ) الكثرة إلى العقل ، دون مبدعه الاول. راجع : مصارع المصارض. ص 110. وفي كلام المصارع : فينبغي أن يكون المبدأ الأوّل مبدأ الكل في نمط واحد والمتوسطات في البين لتفاضل الدرجات. راجع : نفس المصدر ، ص 109.

تساهلوا في تعابيرهم لم يكن منافيا لمّا أسّسوه وبنوا عليه مسائلهم (1) ؛ انتهى.

وقال الفخر الرازي في المباحث المشرقية : الحقّ عندي انّه لا مانع من استناد كلّ الممكنات إلى اللّه - تعالى - ، لكنّها على قسمين ، منها : ما امكانه اللازم لماهيته كاف في صدوره عن الباري - تعالى - ، فلا جرم يكون فائضا عنه - تعالى - من غير شرط ؛ ومنها : ما لا يكفي امكانه بل لا بدّ من حدوث أمر قبله ليكون الأمور السابقة مقرّبة للعلّة الفائضة إلى الأمور اللاحقة ؛ وذلك انّما ينتظم بحركة دورية. ثمّ انّ تلك الممكنات متى استعدّت استعدادا تامّا صدرت عن الباري - تعالى - وحدثت عنه ولا تأثير للوسائط اصلا في الايجاد ، بل في الاعداد ؛ (2) انتهى.

والحاصل انّ عبارات الفلاسفة متطابقة على انّ افاضة الوجود / 64DB / على كلّ موجود انّما هو من الواجب الحقّ وان كان بعض الموجودات متوقّفا في افاضة الوجود عليه من الواحد الحقّ على شروط ومعدات ، وتلك الشروط والمعدّات هي الوسائط في الافاضة بمعنى انّ الافاضة من الواجب على بعض الموجودات يتوقّف على تخلّل تلك الوسائط ، لكون ذوات هذه الموجودات وماهياتها ناقصة قاصرة غير قابلة لافاضة الحقّ الأوّل بلا وسائط ، لا أنّ تلك الوسائط هي المقتضية للوجود. فمرادهم بما يقولون احيانا : انّ العقل الأوّل مثلا علّة للعقل الثاني والثّاني للثالث وهكذا : ما ذكرنا.

قال بعض أهل التحقيق : لمّا ثبت انّ مفيض الوجود لا يكون إلاّ الواجب - جلّ شأنه - وانّ الامكان علة للاحتياج إلى الواجب بالذات لا علّة مطلقة - كما قال بعض أهل التحقيق : انّ الامكان وإن كان علّة للحاجة إلى علّة ما في بادي النظر إلاّ انّ بعد الفحص وتعمّق النظر ينكشف انّ الامكان علّة للاحتياج إلى واجب الوجود بالذات - فاعلم! انّ سلسلة الممكنات المترتّبة إذا لوحظت باعتبار أنّ كلّ واحد واحد منها بحسب جوهر ذاته الممكنة مجعول الواجب بالذات يكون بهذا الاعتبار سلسلة عرضية ، وجميع آحاد تلك السلسلة متساوية في الفاقة والاستناد إليه - جلّ شأنه - ابتداء

ص: 304


1- راجع : شرح الاشارات المطبوع مع المحاكمات ج 3 ص 249 ؛ شرحي الاشارات ج 2 ، ص 47.
2- راجع : المباحث المشرقيّة ج 2 ص 507.

بلا واسطة. وإذا لوحظت تلك السلسلة باعتبار أنّ بعضها مربوط ببعض آخر ومتوقّف عليه من حيث الشرطية والمشروطيّة والسببية والمسببية بناء على أنّ بعضا منها لمّا كان ناقصا في حدّ ذاته بحيث يمتنع استناده إليه - تعالى - بدون الشروط والاسباب فيحتاج إليها فيمكن له الاستناد إليه - تعالى - يكون سلسلة طولية منتهية إليه - تعالى - بالضرورة البرهانية ؛ فالممكنات باعتبار السلسلة الطولية يختلف مراتب احتياجها إلى الواجب - تعالى -. فكلّما كان أبعد عنه يكون احتياجها إليه أكثر لاحتياجه إليه في افاضة وجود نفسه وافاضة وجود شرائطها واسبابها لنقصانه عن أن يستند إليه - تعالى - بدونهما ، وكلّما كان أقرب يكون احتياجه أقلّ. ولهذا قال بعض الاكابر من الحكماء : كلّما كان المعلول أبعد كان الفيض والخير أكثر ، وكلّما كان المعلول أقرب يكون الفيض والخير أقلّ. فالعقل الأوّل والنظام الجملي يستند إليه - تعالى - بلا واسطة ، فلا يتصوّر سلسلة طولية بالنسبة إليهما ، بل المتصوّر بالقياس إليهما هو السلسلة العرضية ، وبالقياس إلى ما عداهما يتصوّر السلسلة الطولية / 68MA / والعرضية جميعا.

ومن قال بهذه التحقيقات كالمحقّقين من الحكماء والمتكلّمين لو قال انّ بعض ممكن علّة لبعض آخر فليس مراده إلاّ الشرطية والسببية ، لا أنّه يصحّ أن يكون ممكن علّة فاعلية بالقياس إلى ممكن آخر ، فلا يعترض عليه بما اعترض ابو البركات البغدادي ؛ انتهى.

ثمّ قال : ومن قال : انّ بعض الممكنات تفيض وجود بعض آخر - على ما يقال : انّ الواجب أوجد العقل الأوّل ثمّ العقل الأوّل أوجد العقل الثاني وهكذا إلى العقل الفعّال ، ثمّ العقل الفعّال يستند إليه جميع ما بعده - قال بالسلسلة الطولية والعرضية أيضا ، إلاّ أنّ هؤلاء لم يقولوا بأنّ الامكان علّة الاحتياج إلى الواجب بالذات ابتداء ، بل هم يقولون : انّ الامكان علّة الانتهاء إلى الواجب بالذات. فمقتضى طبيعة كلّ ممكن عندهم هو الانتهاء إلى الواجب بالذات ، فاذا لوحظت الممكنات من حيث أنّ كلّ واحد منها ممكن مقتضى طباعه الانتهاء إلى الواجب بالذات يكون سلسلة عرضية ، و

ص: 305

إذا لوحظت من حيث انّ بعضهم مستند إلى بعض آخر بمعنى احتياجه إليه في استفادة الوجود منه لا من الواجب حتّى يكون الواجب علّة بعيدة موصلة للأثر إليه لا مفيضة له الوجود ، لأنّ مقتضى طبيعة الممكن عند هؤلاء الانتهاء إلى الواجب لا استفادة الوجود منه - لكون السلسلة بهذا الاعتبار سلسلة طولية منتهية إليه تعالى -.

واعلم! أنّ كلّ معلول في السلسلة الطولية بهذا الاعتبار له احتياجان فقط : أحدهما احتياجه إلى العلّة القريبة ؛ وثانيهما : الاحتياج إلى الواجب من حيث انتهائه إليه. وأمّا احتياجه إلى غير الواجب من العلل البعيدة فلا يكون إلاّ بالعرض ، لأنّ العلل البعيدة غير الواجب - تعالى - في تلك السلسلة غير موصلة للأثر ؛ لأنّ العلّة البعيدة قسمان : إحداهما علّة بعيدة لا يوصل الأثر إلى المعلول كما في لوازم الماهية ، فانّ لازم الماهيّة انّما يحتاج إلى جاعل الماهية بالعرض لا بالذات ، لأنّه ليس احتياجه إليه باعتبار نفسه إذ لو فرض انّ ملزومه يصحّ وجوده بدون الجاعل لكان لازم الماهية لازما لها أيضا - :

وثانيهما : علّة بعيدة توصل الأثر إلى المعلول كالواجب - تعالى - ، لأنّه ثبت بالبرهان انّ كلّ ممكن من حيث ذاته ينتهي إلى الواجب ، فليس شيء من الممكنات غنيا عن الواجب ولا يكتفي بعلّة الغريبة - تعالى -. وهذا - أعني : احتياج المعلول إلى العلّة الغريبة - / 65DA / وعلّة بعيدة واحدة - أعني : الواجب - أنما هو إذا وقع في السلسلة الطولية بهذا الاعتبار - أي : بالاعتبار الّذي ذكره هؤلاء الأقوام من احتياج الممكن إليه تعالى في الانتهاء لا في أصل الافاضة - وأمّا إذا وقع في السلسلة الطولية بالاعتبار الأوّل الّذي ذكرناه من أنّ كلّ ممكن محتاج إليه - تعالى - في أصل افاضة وجوده فيكون محتاجا إلى كلّ واحد من الشروط والوسائط ، فتأمّل! ؛ انتهى.

وغرضه ممّا اشار إليه أخيرا بقوله : ومن قال انّ بعض الممكنات - إلى آخره - : انّ الظاهر من كلام بعض الفلاسفة عدم تسليمهم للمقدمة القائلة بأن لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه ، بل هؤلاء يثبتون الافاضة للوسائط وان قالوا بوجوب انتهاء الكلّ إلى مبدأ المبادي.

ص: 306

و (1) الحقّ انّ أساطين الحكمة لا يثبتون التأثير الحقيقي للوسائط ، بل هي عندهم شروط ومعدّات - كما علمت من عباراتهم - ، وأصولهم المقرّرة أيضا يقرّر ذلك ، فانّ ما أسّسوه وقرّروه من اشتراط اللزوم والوجوب في صدور المعلول عن العلّة التامّة وامتناع تخلّفها عنه يدلّ على أنّ سلسلة الممكنات الموجودة بعضها مرتبط ببعض ارتباطا وجوبيا لا يمكن أن يتخلّف اللاحق منها عن السابق إلى أن ينتهى إلى مبدأ المبادى ، فلا يتعرّض موجود في هذه السلسلة عن الوجوب السابق. فكما أنّ العقل السليم يحكم بأنّ موجب فتح الفعل المرتّب على حركة المفتاح المرتّبة على حركة اليد ترتّبا وجوبيا لزوميا هو موجب حركة اليد وليس لحركة المفتاح وحركة اليد في هذه السلسلة افاضة وتأثير حقيقي وانّما هي شروط ومعدّات ، يحكم أيضا بأنّ الوسائط المتخلّلة في سلسلة الممكنات كذلك. فيكون وجوب كلّ من آحاد تلك السلسلة فائضا من الحقّ الأوّل المنقطع به السلسلة المذكورة ؛ وما سواه لا دخل له سوى كونه من الشرائط والاسباب. وبذلك وبما نقلناه من عبارات الحكماء يظهر ضعف ما ذكره بعض المتأخّرين من : انّ قول الفلاسفة في المقدّمة القائلة بأن لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه غير معلوم ولا يفهم ذلك من شيء من كلامهم المتداول عند المحصّلين ، / 68MB / بل ظاهر مقالاتهم ينبئ عن خلاف ذلك - كما لا يخفى على من تتبع مسلكهم في بيان ترتيب الموجودات -.

ثمّ قيل : سلّمنا انّ الحكماء قائلون بأن لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه ، ولكن ذلك لا يوجب الاذعان ما لم يقم عليه قاطع البرهان. والبرهان المنقول عن بهمنيار ليس بتامّ. لأنّ الممكن في حدّ ذاته وان كان عدما صرفا وليسا محضا فلا يمكن أن يوجد شيئا بهذا الاعتبار ، لكنّه بعد تأثير الفاعل فيه يصير موجودا وحينئذ يمكن أن يوجد شيئا ولا يلزم شركة العدم في افادة الوجود اصلا. والحاصل انّه بعد اكتساب الوجود من الواجب - تعالى - وبعد خروجه من القوّة إلى الفعل يفيض الوجود بهذه الفعلية على ممكن آخر.

ص: 307


1- الاصل : - و.

قال بعض الافاضل : لم يثبت دليل على أنّ الممكن لا يوجد جوهرا ، بل الثابت ان الجسم لا يوجد جسما ولا مجرّدا. نعم! ؛ ما لا وجود له باعتبار ذاته لا يمكن انّ يوجد شيئا باعتبار ذاته ، لا أنّه لا يمكن أن يوجد شيئا باعتبار الوجود الفائض من علّته أيضا وما ذكره بهمنيار لا يدلّ على ذلك ، كيف والحكماء كلّهم قائلون بالوسائط مع أنّهم مصرّحون بأن لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه - تعالى -. فمعنى كلامهم : انّ الايجاد بالحقيقة ليس إلاّ من اللّه - تعالى - ، وما يصدر عن غيره انّما يصدر عن ذلك الغير من الجهة المستندة إليه تعالى - لا من جهة ذلك الغير والحاصل انّ كلّ ممكن زوج تركيبي مشتمل على ما بالقوّة - وهو الّذي له من جهة ذاته - ، وعلى ما بالفعل - وهو الّذي له من جهة مبدئه الحقيقي - ، فما يصدر عنه انّما يصدر من الجهة الّتي هى له من المبدأ لا من الجهة الّتي هي له من ذاته ؛ لأنّ ما له من ذاته ليس إلاّ العدم والقوّة ، فلو صدر عنه من هذه الجهة شيء يلزم أن يكون العدم والقوّة مؤثّرا في الوجود والفعلية. وأين هذا ممّا هو المقصود وهو عدم جواز تأثير الممكن في غيره مطلقا - أي : لا من جهة ذاته ولا من الجهة المستندة إلى الواجب ؛ - انتهى؟! ؛

وأجاب عنه السيّد الداماد : بأنّ العقل يحلّل الموجود إلى ما بالقوّة وإلى ما بالفعل ، ويحكم باعتبار كونه بالقوّة أن لا دخل له في الايجاد ، فيكون ذلك باعتبار وجوده بالفعل. ووجوده بالفعل انّما هو من الواجب ، فيكون هو موجدا.

وردّ بأنّه إذا كان ذات الممكن موجد الشيء باعتبار كونه موجودا لا يلزم أن يكون فاعله علّة بعيدة لذلك الشيء ، لا أن لا يكون الموجد إلاّ هو.

وقال بعض الفضلاء : العقل يحلّل للممكن الموجود إلى ما بالقوّة وإلى ما بالفعل. ثمّ نقول : انّ ما بالقوّة لا دخل له / 65DB / في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ، فيطرحه خلف قاف متحيّرا ، ثمّ ينظر إلى ما بالفعل فلو كان مشوبا بالقوّة فيحلّله أيضا وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما بالفعل المحض ؛ وليس هذا إلاّ الواجب بالذات. وهو قريب ممّا ذكره السيّد ، فلا يخفى ما فيه.

وقال بعض الأفاضل : يمكن تقرير الدليل المذكور من بهمنيار بحيث لا يرد عليه

ص: 308

الاعتراض المذكور ، فمهّد أوّلا مقدّمة ، وهي انّ المراد « بمعنى ما بالقوّة » : ما يفهم من لفظ « ما بالقوة ». ويوضح المفهوم منها انّ « ما » موصولة و « الباء » للسببية المجازية ، والمراد من « القوّة » هو الامكان على ما ذكره الشيخ في إلهيات الشفاء : انّ الفلاسفة نقلوا اسم القوّة عمّا هو المشهور فيه من المعنى المقابل للضعف أو العجز أو سهولة الانفعال إلى كلّ حال يكون في شيء هو مبدأ تغيّر يكون منه في آخر من حيث انّه آخر ، وإن لم تكن هناك إرادة حتّى سمّوا الحرارة قوّة لأنّها مبدأ التغيّر من الحارّ في آخر. ثمّ لمّا وجدوا الشيء الّذي له قوّة بالمعنى المشهور - قدرة كانت أو شدّة قوّة - وليس امكان أن يفعل نقلوا اسم القوّة إلى الامكان فسمّوا الشيء الّذي في حدّ الامكان موجودا بالقوّة ، وسمّوا امكان قبول الشيء وانفعاله قوّة انفعاله ؛ انتهى خلاصة كلام الشيخ (1).

فالمفهوم من « ما بالقوة » : الحالة الحاصلة للذات باعتبار الامكان الّذي هو سلب الضرورة ، ولا شكّ انّ تلك الحالة أمر عدمي. وعلى طبق ذلك يكون الفعل المقابل للقوّة المذكورة هو الوجوب ، والمفهوم من « ما بالفعل » الحالة الحاصلة للذات باعتبار الوجوب. وهذه الحالة تكون وجوديّة تقابل الحالة الاولى. والفرق بين الحالتين من جهة أخرى انّ الثانية غير مخصوصة بالواجب للذات لجواز عروضها بسبب خارجي للممكن بالذات بخلاف الأولى. لأنّها مخصوصة بالممكن بالذات لاستحالة عروض الامكان مطلقا للواجب بالذات ، لأنّ الواجب بالذات بريء من كلّ الوجوه عن معنى ما بالقوّة ؛ وما سواه من الممكنات الموجودة فيه معنى ما بالقوّة من / 69MA / تلقاء نفسه ومعنى ما بالفعل بافاضة غيره. وبعد تمهيد هذه المقدّمة قال : فالوجه في تقرير الدليل انّ الممكن لو كان مفيدا للوجود - أي : مخرجا للشيء من القوّة إلى الفعل ؛ يعنى من صرافة الامكان إلى الوجوب - لكان هذا الوجود الصادر منه مرتّبا عليه. ويجب أن لا يكون هذا الوجود المرتب عليه مرتّبا على ماله من غيره فقط. للزوم أن يكون المفيد بالحقيقة حينئذ هو الغير ليس إلاّ ؛ هذا خلف. فيلزم أن يكون لماله من تلقاء نفسه دخل فيه ، فيكون العدم شريكا في افاضة الوجود ويكون لمّا بالقوّة شركة في اخراج

ص: 309


1- راجع : الشفاء / الالهيات ، الفصل الثاني من المقالة الرابعة ، ج 1 ، ص 171 ، 170.

الشيء من القوّة إلى الفعل ، وهو باطل. ضرورة انّ أحد المتقابلين لا يمكن أن يكون دخيلا في تحقيق الآخر ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا التقرير لا يدفع الاعتراض المذكور.

ويرد عليه : انّه لم لا يجوز أن يكون الوجود الصادر من الممكن مترتّبا على ماله من الغير فقط؟!.

وما ذكره من انّه يلزم أن يكون المفيد بالحقيقة حينئذ هو الغير لا الممكن ؛ ففيه : ما تقدّم من انّه لا يلزم على هذا التقدير إلاّ كون هذا الغير الّذي هو فاعل الممكن علّة بعيدة وهو لا يستلزم أن يكون الموجد إلاّ هو.

واعترض أيضا : بأنّ مدلول كلام التحصيل : انّ ما فيه معنى ما بالقوّة لا يمكن أن يكون مفيدا للوجود لا أنّه لا يمكن أن يكون واسطة في الايجاد ، فهو إنّما ينفي كون الممكن مستقلاّ في التأثير ولا ينافي كونه واسطة.

وفيه : انّ كون الممكنات وسائط سريان الفيض والجود ممنوع ؛ لا أنّ اثبات الوسائط في الوجود وترتبها لا ينافى عدم تأثير غيره - تعالى - في ايجاد شيء ، لأنّها روابط ومصحّحات لسراية فيض وجوده في الاخر ، وليس لها رتبة الابداع والايجاد ، بل شأنها التحريك والاعداد ؛ وهذا غير قادح فيما نحن بصدد اثباته - وهو عدم جواز ايجاد ممكن لممكن آخر -. فانّه إذا ثبت انّه لا يجوز أن يوجد ممكن بالاستقلال ممكنا آخر ثبت أنّ ما ثبت حدوثه - أعني : العالم الجسماني - لا يجوز أن يصدر من ممكن مختار مجرّد صدر من الواجب على طريق الايجاب ، بل يكون موجده ومؤثّره هو الواجب. وإذا كان موجده ومؤثّره هو الواجب - تعالى - ثبت قدرته واختياره نظرا إلى حدوثه - أي : حدوث / 66DA / هذا المعلول الّذي هو العالم الجسماني - وكون غيره - أعني : الفعل مثلا - واسطة في الايجاد ورابطة لا يصال الأثر غير قادح في ذلك ، لأنّه إذا كان أصل الافاضة وايصال الأثر منه - تعالى - يحصل الانفكاك بين الواجب وبين ما هو مفاضه ومعلوله ، فيحصل به المطلوب وان كان بينهما وسائط في الاعداد وشرائط لقبول المعلول أصل الوجود منه - تعالى - نظرا إلى عدم استعداده

ص: 310

لقبول الافاضة منه - تعالى - بدون ذلك. فان ثبت أن لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه وانّ أصل الايجاد والافاضة منه - تعالى - ثبت المطلوب وإن كان ذلك بوسائط وشرائط ، وإلاّ فلا.

إلاّ أنّ اثبات تلك المقدمة لا يخلوا عن اشكال. والدليل المنقول من بهمنيار غير ناهض باثباتها ، لعدم تماميته وورود ما أوردنا من الاعتراض عليه. فالصواب أن نقول في اثبات المطلوب - أي : عدم جواز صدور ممكن مجرّد مختار من الواجب على طريق الايجاب وصدور العالم من هذا الممكن - إلى الوجوه المتقدّمة.

فان قلت : وان ثبت هذا المطلوب بتلك الوجوه السابقة ويبطل بها ثبوت الواسطة الصادرة من الواجب على طريق الايجاب مع كونها مختارا مؤثّرا في العالم بالاختيار ، إلاّ أنّه يبقي لتسليم ورود الاعتراض على الدليل المذكور اشكال آخر ، وهو جواز تأثير ممكن في ممكن آخر بالاستقلال وصحّة ايجاد بعض الممكنات لبعض آخر من دون افتقار إلى الواجب بالذات ، وهو مخالف للقواعد الاسلامية ومناف للظواهر القرآنيّة ، كقوله - تعالى - ( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (1) و ( لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) (2) و ( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ ) (3) إلى غير ذلك من الآيات المتعاضدة بالأخبار المتواترة.

قلت : عدم تمامية دليل على مطلوب لا يوجب عدم حقّية هذا المطلوب ، فانّ المقصود : انّ الدليل المنقول من بهمنيار لورود الاعتراض المذكور عليه لا ينهض حجّة قاطعة لاثبات المقدّمة القائلة بأن لا مؤثّر في الوجود / 69MB / إلاّ اللّه ، لا أنّ تلك المقدّمة ليست في نفسها ثابتة. فانّ بعد انعقاد الاجماع ودلالة الكتاب والسنة على صحّتها واتفاق الحكماء على ثبوتها يجب الاذعان بها وان لم يتمّ هذا الدليل و (4) غيره من الأدلّة أيضا ، خصوصا إذا لم يكن مانع من ثبوتها ولم يوجد له معارض عقلي.

فان قيل : المعارض موجود وهو وجوب المناسبة بين العلّة والمعلول وعدم

ص: 311


1- جزء من كريمة 62 ، الزمر.
2- جزء من كريمة 102 ، الانعام.
3- جزء من كريمة 3 ، الفاطر.
4- الاصل : - و.

جواز صدور المتعدّد عن الواحد ، فالواحد من جميع الجهات لا يجوز أن يصدر عنه الأشياء المختلفة - كما ذكره الحكماء في ترتيب الصدور -. فالواجب - تعالى - إذا صدر عنه العقل الأوّل لوجود مناسبة بينهما لم يجز أن يناسب الفلك أو الانسان أيضا وإلاّ لزم التركيب في ذاته ؛

قلنا : الصادر من الواجب انّما هو وجود كلّ موجود وفعلية كلّ ممكن وهو فعل واحد بسيط لا اختلاف فيه حتّى يوجب ايجاد المهيات المختلفة صدور الكثرة عن الواحد ولو قلنا : انّ المجعول هو نفس الماهية والوجود تابع ، لأنّ جعل الماهية وفعلها هو فعل واحد بسيط وان تعلّق بالماهيات المختلفة الغير المتناهية. على أنّه لو سلّم اختلاف الفعل لم يوجب رفع المناسبة ووجوب التكافؤ بين العلّة والمعلول إذا كان صدور كلّ ماهية بوساطة ممكن موجود وشرطيته - كما ذكره الحكماء -. على أنّ بناء الاعتراض على تجويز تأثير ممكن في آخر بالجهة المستندة إلى اللّه - تعالى - فقط من دون مدخلية للجهة المستندة إلى ذاته اصلا ؛ فمجرّد ما أفاض اللّه - تعالى - على المعلول الأوّل من الفعليّة والوجود يكون مفيضا للفعلية في المعلول الثاني ، ومجرّد تلك الفعلية يكون مفيضا للفعلية في المعلول الثالث وهكذا. وحينئذ فالمؤثّر في الوجود والموجد للعقليات ليس إلاّ الواجب أو ما صدر عن ذاته ، واستناد ما صدر عمّا صدر عن ذاته إلى ذاته صحيح ، فالمقدّمة القائلة بأن لا مؤثّر في الوجود الاّ اللّه صادقة.

ولا يخفى انّ ما ذكره في العلاوة وإن كان صحيحا إلاّ أنّ الظاهر من قواعد الملّة استناد وجود كلّ ممكن إليه - تعالى - وكونه مؤثّرا في الكلّ بذاته لا بما صدر عنه ، إلاّ في أفعال العباد - كما يأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى -.

إلاّ أن يقال : الايجاد على النحو المذكور يوجب استناد كلّ ممكن إليه وكونه مؤثّرا في الكلّ. بيانه : انّ التأثير الحقيقي / 66DB / - المعبّر عنه بالايجاد والافاضة - لا يستلزم مزاولة عمل ولا مداومة فعل ، بل هو عبارة عن صدور الأثر عن الفاعل بأيّ نحو كان وبأيّ طريق يناسب شأن الفاعل ، فاذا كان الفاعل بحيث كان في شأنه ورتبته أن يوجد أوّلا معلولا كان في شأنه صدور بعض المعلولات عنه وكان في شأن

ص: 312

هذا البعض صدور بعض آخر عنه وهكذا ، وكان نفس هذا المعلول وما في شأنه ولازم وجوده - أعني : اصداره على اصدار غيره - منه - تعالى - ، وكان الواجب - تعالى - هو الّذي أودع فيه هذه الخاصية كان الجميع منه - تعالى - وصدق التأثير الحقيقىّ في الجميع من الواجب الحقّ ، بل هذا أحسن انحاء التأثير الحقيقى وغاية ما يتصوّر من القدرة الكاملة في الجعل والايجاد ، لأنّ ايجاد معلول واحد ينطوي على جميع المعلولات على سبيل الاجمال أوّلا واخراج كلّ واحد على التفصيل على ما هو الأصلح والأليق ثانيا غاية ما يتعقّل من كمال الايجاد وحسنه! ؛ هذا.

واعترض أيضا على الدليل المنقول عن التحصيل : (1) بانّه إنّ المراد بالمعنى في قوله « معنى ما بالقوة » الصفة المختصّة في الواقع ؛ سلّمنا الملازمة لكن لا نسلّم انّ العقل كذلك ما تقرّر عندهم من انّه ليس له حالة منتظرة ،

وإن أراد به أعمّ من ذلك حتّى يشمل الامكان الذاتي الّذي يلتزمه العقل من مجرّد ملاحظة ذات الممكن منعنا الملازمة مستندا بانّه ليس للعدم - الّذي ينسب العقل ذات الممكن إليه وإلى الوجود - في الملاحظة تحقّق في نفس الأمر حتّى يكون له شركة في الوجود وكان لما بالقوّة شركة في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ؛ انتهى.

وأجاب عنه بعض الأعاظم (2) : بالفرق بين قولنا : معنى ما بالقوة بالتكثير ، وقولنا : معنى ما بالقوة بالإضافة. فانّ المراد من الأوّل هو أن يكون الذات بالفعل ويكون معنى ما وصفة من الصفات لم يحصل لها بالفعل بعد ما له بالقوّة ، وهذا لا يكون إلاّ في المادّيات ، لأنّ المجرّدات جميع صفاتها حاصلة لها بالفعل ؛

والمراد من الثاني ؛ أن يكون الذات والصفة كلاهما داخلتين تحت مفهوم ما بالقوّة ، وهذا المعنى شامل للماديّات والمجرّدات / 70MA / إذ كلّ ممكن بما هو ممكن من حيث ذاته لا يكون إلاّ بالقوّة ومراد المستدل هو الثاني ؛ انتهى.

ص: 313


1- هامش « د » : المعترض هو الفاضل السماكى - ره -. منه.
2- هامش « د » : هو السيّد الداماد - تغمّده اللّه بغفرانه واسكنه بحبوحة جنانه -. منه.

وردّ هذا الجواب بانّه يرجع إلى اختيار الشقّ الثاني الّذي ذكره المعترض ؛ وما أورده المعترض فيه لا يندفع بما ذكره ، إذ مراده انّ الممكن إذا وجد فهو موجود بالفعل وليس بالقوّة اصلا ، فيجوز أن يكون بذلك الاعتبار موجدا لشيء ، وإنّما هو بالقوّة بحسب أصل ذاته وعند ملاحظة العقل ذاته ، وهو بهذا الاعتبار ليس موجدا.

ولا يخفى انّ حاصل هذا الاعتراض يرجع إلى الاعتراض الأوّل الّذي ذكرناه ، ولا فرق إلاّ باشتماله على الترديد ، وهو لا يندفع إلاّ بالجواب المذكور مطلقا.

وأورد أيضا : بأنّ كلام التحصيل لا يدلّ إلاّ على أنّ الممكن لا يمكن أن يكون مؤثّرا في الوجود لا أنّه لا يمكن أن يكون شرطا وواسطة في الايجاد ، فلم لا يجوز ان يكون لبعض المجرّدات الصادرة عنه - تعالى - بالايجاب قدرة واختيار على ايجاد الاجسام - كقدرتنا واختيارنا على حركاتنا على مذهب الاشاعرة؟! - ويكون ايجاد العالم الجسماني الحادث عن المبدأ الأوّل القديم على سبيل الايجاب مشروطا بها ، فيكون واسطة بهذا المعنى. أي : بأنّه إذا تعلّقت قدرة هذه المجرّدات بايجاد العالم الجسمانى أوجده اللّه - على سبيل الايجاب ، كما يقول الأشعري في قدرة العبد بأنّه إذا تعلّقت قدرته بافعاله يوجد اللّه - تعالى - تلك الافعال ، وبدون تعلق القدرة لا يحصل ايجاد من اللّه - تعالى -.

وأجاب عنه بعض الأعلام : بأنّه يمكن نقل الكلام على هذا التقدير إلى تلك القدرة وعلّة حدوثها. فيلزم إمّا قدمها وقدم الاجسام الموقوفة عليها أو التسلسل.

ثمّ قال : فان قلت : لم لا يجوز أن يكون علم ذلك المجرّد القديم في الأزل بالأصلح بحال العالم الجسماني وارادته القديمة شرطا ومرجّحا لحدوثه عن الموجب القديم في الوقت الّذي هو الأصلح بحاله ، كما يقال في علّة تخصيص الفاعل حدوث فعله بالوقت المعين؟! ؛

قلت : فرق بين أن يكون صدور الفعل من الفاعل الموجب مشروطا بعلم شيء أخر وارادته وبين أن يكون علم الفاعل المختار نفسه مرجّحا لتعلّق ارادته في الأزل / 67DA / بحدوث الفعل في وقت معيّن لمصلحة ، وعلى الثاني يمكن انفكاك الفاعل مع

ص: 314

العلم والإرادة في الأزل عن ايجاد الفعل عنه. بل قد يجب بخلاف الأوّل ، إذ لا يمكن على ذلك التقدير انفكاك الفعل عن وجود الفاعل مع وجود الشرائط ، فلو حصل الانفكاك لتعلّق علم غيره بالحدوث في وقت معين لا قبله ، فيلزم التخلّف ؛ انتهى.

وردّ عليه بعض الأفاضل : بأنّ التفرقة تحكّم! ، لأنّه لا شكّ في أنّه إذا تعلّق علمنا بأصلحية شيء في وقت وقدرنا على فعله واستجمع ساير الشرائط فالتخلّف إنّما يحصل إذا لم يفعل ذلك الشيء في ذلك الوقت. وأمّا قبله فلو لم يحصل فيه فلا يلزم تخلّف ، لأنّ العلم تعلّق بأنّ فعله أصلح بعد ذلك ، ومعلوم بالضرورة أنّه سواء في هذا أن يكون الموجد لذلك الشيء ومن تعلّق علمه بالاصلح واحدا أو متعدّدا. فاذا كان الموجد لجميع الأشياء هو الواجب - تعالى - فلا محذور في تأخّره ايجاد شيء إلى الوقت الّذي تعلّق تأثيره بفعله فيه ، سواء أخّر ايجاد العالم الجسماني إلى وقت معين لتعلّق إرادة بعض المجرّدات بفعله فيه ، أو أخّر أفعالنا إلى وقت معيّن لتعلّق إرادتنا بفعلها فيه ؛ انتهى.

وغير خفيّ انّ بناء هذا الايراد على أنّ اصل الافاضة والتأثير في كلّ ممكن من اللّه ، إلاّ انّه على سبيل الايجاب ، وحدوث العالم الجسماني لا ينفيه للاحتمال المذكور - أي : توقّف الحدوث على سبيل الايجاب على علم غيره وارادته - ، لا على علمه - تعالى - وارادته ليثبت الاختيار ويرتفع الايجاب. وأمّا بناء الاعتراض السابق على أنّ أصل الافاضة والتأثير في العالم الجسماني ليس منه - تعالى - ، بل من ممكن مختار قديم صدر منه - تعالى - على سبيل الايجاب. فحدوثه لا يثبت اختياره - تعالى - ، بل انّما يثبت اختيار هذا الممكن الّذي حدث منه العالم.

وأنت تعلم انّ الاحتمال المذكور - أعني : توقّف حدوث العالم الجسماني من الواجب على سبيل الايجاب على علم غيره وارادته - ممّا يأباه العقول السلمية ولا يجوّزه القرائح المستقيمة ، لأنّ الفاعل الموجب عنه الفعل من غير شعور كيف يصير مجرّد شعور غيره باعثا لعدم فعله في وقت وفعله في وقت آخر؟! ؛ وأيّ مناسبة بينهما؟!.

فقد ظهر ممّا ذكر أنّ القول باستناد العالم الجسماني إلى ممكن مختار مع كون الواجب

ص: 315

موجبا بايّ نحو كان باطلا.

فان قلت : / 70MB / على ما ذكرتم من أنّ موجد جميع الأشياء هو الواجب وأصل الايجاد والافاضة والتأثير الحقيقي منه سواء خصّ التأثير الحقيقي بايجاده - تعالى - كلّ شيء بنفسه ابتداء أو عمّم بحيث يشمل ما ذكرت من الصدور عمّا صدر عنه - تعالى - من غير مدخلية شيء آخر من جهة المستندة إلى الممكن فيه يلزم أن لا يكون حركات العباد صادرة عنهم ، بل يكون موجدها هو اللّه - تعالى - ، فينهدم بنيان التكاليف الشرعية ويبطل الثواب والعقاب - للزوم كون العباد حينئذ مجبورين في صدور ما يصدر عنهم من الافعال والحركات - ؛

قلنا : لا ريب في أنّ افاضة وجود الجواهر بأسرها سواء كانت ذوات إرادة وقدرة بها أفاعيل اختيارية أو لا ووجود الأعراض الصادرة عن غير المختارين من الفواعل الطباعية سواء كانت مفارقة عن ذواتها أو مقارنة لها صادرة عن الواجب - تعالى - ، وهو المؤثّر الحقيقي في وجودها من دون مدخلية شيء آخر ، لأنّ بعد ما ثبت من أنّه لا مدخلية للعدم والقوّة في الافاضة يثبت استناد جميع ما ذكر من الجواهر والاعراض الصادرة عن غير الإرادة إليه - تعالى - وعدم مدخلية المهيات الامكانية في الافاضة ، لأنّ الجهة المستندة إليها انّما هو العدم والقوّة ، والوجود والفعلية إنّما هو من الواجب الحقّ ؛ إمّا بلا واسطة أو بواسطة ، وفي ذلك لا يلزم اشكال أصلا.

وأمّا الأعراض الصادرة عن المختارين - كالانسان - فان كانت ممّا لا مدخلية لارادتهم فيها - كالقوّة الجسمانية وبعض الصفات النفسانية والهيئات اللازمة لاجسامهم وغير ذلك - فحكمها حكم ما مرّ ، وإن كانت ممّا لارادتهم مدخلية في صدورها وعدم صدورها فالنزاع في استنادها إلى الواجب أو إلى العباد أو إليهما بين الأمّة مشهور. وتحقيق القول فيه وإن كان موكولا إلى موضع آخر إلاّ أنّا نشير إلى حقيقة هذه المسألة هنا لتوقّف المطلوب عليه.

فنقول : الجهمية قالوا باستنادها جميعا من الخير والشرّ إلى اللّه / 67DB / من غير مدخلية لقدرة العباد وارادتهم فيها اصلا حتّى بطريق الكسب ؛

ص: 316

والأشاعرة اثبتوا الكسب للعباد ، فقالوا : ان تعلّق قدرتهم وارادتهم بسبب عادي لخلق اللّه - تعالى - الفعل فيهم من غير أن يكون منهم تأثير أو مدخل في وجوده غير كونهم محالاّ ومظاهر له ، فجميع الأفعال عندهم مستندة إلى اللّه - تعالى -. إلاّ أنّها تصدر عنه عقيب إرادة لعبد من غير مدخلية للعبد وارادته فيها ، بل عادة اللّه جارية باصدارها مقارنة لارادة العبد. وأرادوا « بكسب العبد » تلك المقارنة - أي : مقارنة صدور الافعال من اللّه لقدرة العبد وارادته من غير أن يكون هناك تاثيرا ومدخلا في وجوده سوى كونه محلاّ له -. ولا ريب انّ ذلك مع كونه خلاف الضرورة والبداهة - لأنّ الضرورة حاكمة باستناد افعالنا إلينا - مستلزم للجبر وبطلان الثواب والعقاب.

والمعتزلة قالوا باستنادها إلى العبد من غير مدخلية للواجب وهو القول بالتفويض ، وهو يوجب كونها مستندة إلى الجهة المستندة إلى الممكن - أي : العدم والقوّة -. وقد ثبت انّهما لا يصيران منشئا للفعلية والوجود.

لا يقال : انّ غرضهم من استنادها إلى العبد أنّها مستندة إليه من جهة المستندة إلى اللّه - أعني : قدرة العبد وارادته وغير ذلك ممّا هو مترتب على فعليته ووجوده الّذي هو فائض من اللّه - تعالى - ؛ لأنّا نقول : هذا التوجيه لا يلائم التفويض والمعتزلة القائلون به لا يقولون به ، كيف وعلى ذلك يكون هذه الأفعال مستندة إلى اللّه وهم يتحاشون عن استنادها إليه - تعالى - ولو بوجه؟! ، بل هو من أحد التوجيهات الّتي ذكرها اصحابنا الامامية القائلون بالأمر بين الأمرين - الّذي ورد عن ائمّتنا الراشدين سلام اللّه عليهم اجمعين -. قال بعض اصحابنا : فان قيل : إذا كان التأثير في الكلّ من اللّه فالعباد مجبورون ، فيكون التكليف لغوا! ؛

قلنا : لا منافاة بين ما حكم عليه البرهان واقتضاه وبين كون العبد فاعلا بالاختيار الّذي هو مناط صحّة التكليف والثواب والعقاب ، لأنّ ما دلّ عليه البرهان هو أنّ مفيض الفعلية والوجود لا يكون إلاّ الواجب ، لا أنّه لا يكون ممكن موقوفا عليه بالنسبة إلى ممكن آخر ولا يكون ممكن جزء علّة لممكن آخر ، إذ لا يلزم من عدم

ص: 317

تأثير العباد في أفعالهم - بمعنى الافاضة واخراج الشيء من العدم إلى الفعل ، لأنّ هذا شأن من لا شائبة للعدم والقوّة فيه - عدم كونهم موقوفا عليهم لأفعالهم ، فوجودهم مع القدرة والاختيار من اجزاء العلّة التامة بمعنى أنّها لو لم تكن وسائط / 71MA / لم يظهر تلك الأفعال من العدم إلى فضاء الوجود. فلتلك الأفعال اعتباران : أحدهما : من حيث كونها في السلسلة العرضية للممكنات ، وهي بهذا الاعتبار كسائر الممكنات مفاضة من مفيض الوجود ؛ وثانيهما : من حيث دخولها في السلسلة الطولية ، وهى سلسلة توقّف بعضها على بعض في نزول الوجود ووصوله إليه لعدم صلاحيّته لتغيّر هذا الوجه كما انّ صدور العرض مثلا منه - تعالى - لا يمكن إلاّ بعد صدور الموضوع له منه - تعالى -. وهذا القدر من التوقّف - أي : المعتبر في السلسلة الطولية - كاف في صحّة التكليف وعدم كونهم غير مجبورين. ويشير بذلك ما روي عن بعض ائمّتنا - علیهم السلام - انّه لا جبر ولا تفويض في افعالنا الاختيارية بل أمر بين أمرين (1). وهذا لا يرجع إلى رأي الأشعرى ، فانّه يقول : ليس ربط عقليّ بين ممكنين اصلا ، بل عادة اللّه جارية بأن يتحقّق افعال العباد مثلا عقيب إرادتهم ؛ وليست ارادتهم موقوفا عليها. حتّى قالوا : انّ النتيجة فائضة من المبدأ الفيّاض من غير ربط عقلي بين المقدّمات والنتيجة ، بل جرت عادة اللّه - تعالى - بفيضان النتيجة عقيب ترتيب المقدمات. وبالجملة فعل العباد عندهم انّما هو بمنزلة أن يحمل انسان شيئا وينقله بانفراده ويضع شخص آخر يده تحت هذا المحمول ، فانّه لا أثر لوضع يده في نقله ؛ فكذا الأمر في كلّ ممكن بالنسبة إلى اللّه - تعالى -. وهذا خلاف ما ذكرناه على ما استقرّ عليه رأي الحكيم مع اشتراكهما في الحكم بأنّه لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه ، لأنّه يقول باللزوم والارتباط العقلى بين ممكنين ولذا قال بالوجوب العقلى وبأنّ إرادة العبد ممّا يتوقّف عليه الفعل وجزء أخير للعلّة التامّة له ، وليس بمجرّد جرى العادة. فلا يتوجّه على ذلك ما يتوجّه على الأشعري / 68DA / من المفاسد ؛ انتهى.

ص: 318


1- راجع : بحار الانوار ، ج 4 ، ص 197 ، ج 5 ، صص 12 ، 22 ، 82 ، ج 71 ، ص 127 ، ج 78 ، ص 354.

وأورد عليه : بأنّه إذا كان افاضة الوجود من جانب اللّه - تعالى - والإرادة الّتي من العبد موجدها أيضا هو اللّه - تعالى - ، وبعد تحقّق الإرادة يفيض الوجود إليه ، فما تقصير العبد حينئذ؟! ، وكيف يجوز عقابه على ما لا دخل له فيه اصلا؟! ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ ما ذكره انّما يلزم إذا كان إرادة أحد الطرفين واختياره فائضة من اللّه على العبد من دون قدرة للعبد فيه ، لا أن يكون أصل الإرادة بمعنى كون العبد قادرا مختارا مريدا بمعنى كونه مخلوقا كذلك من اللّه - وبالجملة كان ثبوت تلك الصفات من جانب اللّه - ، إلاّ أنّ اختيار أحد الطرفين كان بيده لم يلزم جبر ، لأنّ العبد وان كان وجوده وقدرته على الفعل والترك من جانب اللّه إلاّ أنّ القدرة لمّا كان من شأنها يمكن من اتصف بها على اختيار كلّ من طرفي الفعل والترك. فله أن يختار ما شاء منها ، فهذا الاختيار بيده وهو كاف للتكليف وترتّب الثواب والعقاب.

إلاّ انّه يرد حينئذ أنّ اختيار أحد الطرفين دون الآخر لا بدّ له من مرجّح ولا يجوز أن يكون ذلك المرجّح ما يختلج بباله ويقع في روعه من الصور الّتي يظنّها مرجّحة ، لانّا نرى أنّ شيئا واحدا كالايمان بنبوّة نبيّ من الأنبياء قد يختلج ببال بعض الناس مرجّح فعله ويختلج ببال غيرهم مرجّح تركه ، وحينئذ فلا بدّ من وجه التخصيص والترجيح لاختيار البعض الفعل ووقوع مرجّحه في روعه واختيار بعض آخر الترك والقاء مرجّحه في باله. فان كان لذلك مرجّح آخر فننقل الكلام إليه وهكذا ، فيلزم التسلسل أو الانتهاء إلى مرجّح يكون من جانب اللّه - تعالى - ، وهو مستلزم للجبر ؛ أو إلى مرجّح يكون مستندا إلى ماهية العبد بأن تكون ماهية بعض الناس مقتضية لفعل بعض الأمور وترك بعضها وماهية بعض آخر بالعكس ، مثل أن تكون ماهية سلمان مثلا مقتضية للايمان بنبوّة محمّد - صلی اللّه علیه و آله - ووقوع مرجّحه في قلبه وماهية أبى جهل مقتضية للكفر وعدم الايمان ووقوع مرجّحه في نفسه.

وهو مردود بوجهين : أحدهما : انّه يلزم كون القوّة والعدم منشئا للوجود والفعلية ، لأنّ ماهيّات الممكنات مع قطع النظر عمّا أفيض إليها من الواجب من الوجود والفعلية ليست إلاّ العدم والقوّة.

ص: 319

فان قيل : نحن لا نستند اختلاف الأفعال إلى المهيات ليلزم ما ذكره ، بل نستندها إلى الاختلاف في الوجودات ، فانّ الوجودات الخاصّة إمّا مختلفة بالحقيقة وبأنفسها - كما هو مذهب الحكماء - أو بالتشكيك - كما هو مذهب جماعة - ، فاختلاف الوجودات هو الباعث لاختلاف الافعال واختلاف ما يقع في النفوس من المرجّحات ؛

قلت : اختلاف الوجودات مستندة إلى اللّه - تعالى - ، لأنّ كلّ وجود بنحوه وبشخصه مستند إلى الواجب الحقّ وليست في أفراد الوجودات جهة تكون مستندة إلى ذات الممكن وهو ظاهر ، فيلزم الجبر.

وثانيهما : انّه يوجب / 71MB / الجبر أيضا ، لأنّ الماهية إذا كانت مقتضية لأمر من دون اقتدار العبد على خلافه فما تقصير العبد؟! ، وأيّ اختيار يبقى له حينئذ؟! ، وأيّ فائدة في التكليف حينئذ؟!.

فان قيل : ذلك لا ينفى اختياره ، لأنّه بالنظر إلى ذاته يتمكّن من الفعل والترك إلاّ أنّه يختار أحد الطرفين البتة وهو الّذي تناسبه مهيته ولا يختار الطرف الآخر ، كما أنّ الواجب - تعالى مثلا - قادر على الكذب إلاّ أنّه لا يكذّب البتة لعدم مناسبة ذاته له ، فهو بالنسبة إلى الفعل والترك مختار. إلاّ أنّ اختيار أحد الطرفين واجب والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ؛

قلنا : بالنظر إلى مهيته إن جاز الفعل والترك فوجوب أحد الطرفين لا معنى له ، لأنّ المفروض قطع النظر عن المرجّحات الخارجية وثبوت الوجوب بمجرّد النظر إلى الماهية ؛ وان لم يجز فلا معنى للامكان بالنظر إلى الذات والماهية. على أنّه مع فرض الوجوب لا تبقى للتكليف فائدة ، لأنّ كلّ ماهية تفعل مقتضاها ، فالقول بأنّ فائدته ابراز لوازم المهيات - لأنّها بدونه لا يظهر مقتضاها ، فانّ ايمان سلمان وكفر أبي جهل انّما يظهر بعد دعوة النبيّ صلی اللّه علیه و آله - لا يخفى ما فيه.

وبما ذكر تعلم أنّ استناد الأفعال إلى المهيات مستلزم لفساد التفويض والجبر كليهما.

وممّا يدلّ على بطلان استناد الأفعال إلى ماهية العبد وذاته واستقلاله في

ص: 320

صدورها / 68DB / من دون افتقار إلى أمر خارج أيضا أنّه يلزم حينئذ دوام صدور كلّ فعل صدر عنه مرّة بحيث لا يكون في لحظة واحدة فارغا عنه ، لأنّ ما يكون من مقتضيات الماهية ولوازمها لا يمكن أن يتخلّف عنها ، لكونها علّة مستقلّة.

فان قيل : الإرادة جزء للعلّة ومجرّد الماهية من دون انضمام الإرادة ليست علّة مستقلّة لصدور الفعل ، وبعد انضمامها يصدر الفعل البتة ، فلو دام إرادة فعل لدام صدوره ؛

قلنا : ننقل الكلام في الإرادة وعلّة حدوثه من شخص دون شخص في وقت دون وقت ، فامّا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى الواجب أو إلى ماهية العبد وذاته. والأوّل بديهيّ البطلان ؛ والثاني مستلزم للجبر ؛ والثالث يوجب دوام الإرادة ، فيلزم دوام الفعل أيضا.

وأيضا : لا ريب في صدور الأفعال المتناقضة المتعارضة من العبد - كالقيام والقعود والنوم واليقظة وغير ذلك - ، فلو كان ذاته علّة لصدورها باعتبار واحد أو باعتبارات متعدّدة لزم اجتماعها في الصدور واتصاف العبد بجميعها في آن واحد ، وبطلانه ظاهر. والقول بأنّ الذات علّة بشرط الإرادة فلا يلزم ما ذكر ، قد عرفت حاله.

وقد ثبت ممّا ذكرناه أنّ تصحيح الأمر بين الأمرين بكون الفعل صادرا من العبد وهو الفاعل بالحقيقة ولكن اسبابه - كالقوّة والقدرة والهداية وإرادة الخير والشر وغير ذلك ممّا له مدخلية في صدوره من ارسال الرسل وإنزال الكتب - من اللّه ، فلكلّ فعل جهتان : جهة إلى العبد - وهو كونه صادرا عنه وكونه فاعلا بالحقيقة - ، وجهة إلى اللّه - سبحانه ، وهو خلق ما يتوقّف عليه الفعل من الأمور الداخلية والخارجية - لا يخفى ضعفه وعدم تماميته. لأنّه لو توقّف فعل العبد على أمر منته إلى اللّه لم يكن في قوّة العبد ولم يمكن صدور هذا الفعل من العبد بدونه ، وبعد حصوله لم يمكن له التخلّف ، لزم فساد الجبر وإن كان الفاعل حقيقة هو العبد ، لأنّه إذا كان تمامية العلّة بما هو من جانب اللّه ، وبعد حصوله حصلت العلّة المستقلة فحينئذ يجب صدر والفعل ولا يمكن للعبد تركه ، لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة ، فيلزم الجبر.

ص: 321

فان قيل : انّما يلزم الجبر إذا كان وجوب صدور خصوص فعل الطاعة أو المعصية من جانب اللّه ومستندا إلى الاسباب الصادرة عن اللّه ، وليس كذلك ؛ لأنّ نسبة الأسباب المذكورة إلى السعيد والشقيّ والمطيع والعاصي على السواء وما أعطى منها لأحدهما أعطى بعينه للآخر فهما في اعطاء الأسباب وافاضة (1) الشروط والآلات سواء ، فهو - أي : وجوب صدور خصوص فعل الطاعة أو المعصية - مستند إلى ذات العبد ومهيته ، وجودة طينته وخباثته. فالمحسن لجود ذاته اختار الطاعة واستحقّ الثواب والعاصي لخبث مهيته اختار المعصية واستحقّ العذاب. فما افيض من اللّه من الوجود والقدرة والإرادة وارائة الطريق وغير ذلك يعمّهما على السواء ، وتفاوتهما في اختيار الطاعة والمعصية مستند إلى ذاتهما ؛

قلنا : حينئذ يعود الاشكالات المتقدّمة الواردة على القول باستناد الأفعال إلى ماهية العبد وذاته من كون ذاته محض القوّة والعدم ، فكيف يصير منشئا لصدور / 72MA / خصوص الافعال واختلافها؟!. ولا يمكن أن يقال : اختلافها مستند إلى اختلاف القابليات في المهيات ، لأنّ محض القوّة والعدم ليس له في نفسه قابليّة فضلا عن اختلافها ؛ ومن لزوم دوام صدور فعل صدر عنه مرّة ؛ ومن وجوب صدور الأفعال المتناقضة المتقابلة عنه في آن واحد ، ومن لزوم الجبر وبطلان الثواب والعقاب ، لأنّ مقتضى الذات لا يمكن انفكاكه والعبد غير متمكّن من تركه.

فان قيل : لا ريب في أنّ المهيات الامكانية في حدّ ذواتها مع قطع النظر عن موجدها وتأثيره فيها محض القوّة وصرف العدم ليس لها اقتضاء ولا قابلية ، إلاّ أنّه إذا أوجدها الواجب - تعالى شأنه - كان لكلّ منها في حدّ ذاته خصوصية ولوازم لا يوجد في غيره ، فان الانسان ماهية وحقيقة إذا وجد في الخارج كان بمحض حقيقته ومعناه ناطقا سميعا بصيرا - إلى غير ذلك من خواصّ الانسانية ولوازمها - ، والجسم حقيقة إذا وجد في الخارج كان لصرف ماهيّته ومعناه قائما بذاته ، والعرض ماهيّة إذا

ص: 322


1- الاصل : + و.

وجد في الخارج كان في حد ذاته قائما بغيره ، والنار حقيقة إذا وجدت في الخارج كانت في حدّ نفسها حارّة ، والماء بمحض ذاته بارد ، والأربعة عدد إذا وجدت في الخارج كانت بمحض ذاتها زوجا ، وهكذا الحال في غير ذلك من المهيات. فالصانع / 69DA / الحكيم - جلّ شأنه - أوجد كلّ شيء بخواصّه ولوازمه وبالخصوصيّات الّتي تقبلها ، فلا يمكن أن يوجد انسان كان ناهقا وحمار كان عاقلا ونار كانت باردة وأربعة كانت فردا ولا عشرة كانت أزيد من عشرين ، بل ما أوجد ناهقا يكون حمارا وما اوجد عاقلا يكون انسانا إلى غير ذلك. إذ الانسان بنفس حقيقته ومعناه لا يمكن أن يكون ناهقا والنار بنفس ماهيتها لا يمكن أن تكون باردة والأربعة بصرف حقيقتها لا يجوز أن تكون فردا والعشرة بنفس معناها لا يمكن أن يكون أزيد من العشرين ، وقس عليها غيرها. فوجودات الأشياء وقابلياتها وخواصّها ولوازمها فائضة من عند اللّه - تعالى - ، إلاّ انّ اختلافها في القابليات واللوازم وخصوصياتها مستندة إلى ذواتها ومن عند انفسها من حيث أنّها موجودة لا من حيث أنّها معدومة ، إذ من حيث هي لذواتها من حيث ذواتها مع قطع النظر عن وجوداتها معدومة صرفة والعدم لا يمكن أن يصير منشئا للأثر. والحاصل انّ وجوب صدور خصوص كلّ فعل من شيء - كوجوب صدور خصوص الطاعة من زيد والمعصية من عمرو - ليس مستندا إلى مهيته المعدومة أو مهيته من حيث هي لرد انّ القوّة والعدم لا يصير منشئا لشيء ، بل هو مستند إلى ماهيّته الموجودة بشرط الوجود ، وهي ليست محض القوّة والعدم.

ولو شئت بيانا أوضح واتمّ نقول : لا ريب في أنّ جميع الموجودات والماهيّات مستندة إليه - تعالى - ، ولو لا افاضته وايجاده - تعالى - ما شمّ شيء رائحة الوجود.

والمهيات مع قطع النظر عن تأثيره وايجاده - تعالى - لا شيء محض ، لأنّها في حد ذاتها ليست إلاّ صرف العدم وعدم الصرف ، لكنّها إذا وجدت في الخارج كان لكلّ منها خواصّ ولوازم على حدة ، لا بأن تكون تلك الخواصّ واللوازم مستندة إلى المهيات ، فانّ هذا بديهي البطلان. لأنّ العدم الصرف في حدّ ذاته كيف تقتضي خاصية ولازما ، بل تلك الخواصّ واللوازم أيضا مستندة إلى جاعل الماهية ، فانّ الماهية بلوازمها

ص: 323

وخواصّها وأفعالها وتشخّصها مستندة إلى جاعلها الحقّ بمعنى أنّ الجميع فائضة منه - تعالى - ومستندة إليه - سبحانه - ، فهو كما خلق ماهية الانسان خلق نطقه وشعوره وجميع ما يلزمها من الآثار والصفات. إلاّ أنّ ماهية الانسان لا تتحقّق بدون تلك الصفات واللوازم بمعنى أنّه لو لا تلك الآثار والصفات لم يكن انسانا ، فانّ حقيقة الانسان هو أن تكون بتلك اللوازم والآثار. فالانسان الغير الناطق والحيوان ليس انسانا ، والحمار الغير الناهق ليس حمارا. فكلّ ماهية في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر حقيقتها أن تكون على النحو الخاصّ ومع الصفات واللوازم المعيّنة ، لا بأن يكون لها تحقّق وثبوت بل بمعنى أنّه لو وجد داهن وفارض يحكم بأنّ حقيقة الانسان كذا وحقيقة الفرس كذا وبعد ما يوجد في الخارج يكون على ما هو مقتضى طبيعته وحقيقته - أي : يكون معه ما يلزمه من الآثار والصفات -. وكذا حقيقة كلّ شخص من الأشخاص أن يكون بالآثار والمشخّصات المعيّنة بعد وجوده ، فجميع الموجودات بلوازمها وصفاتها وشخصياتها مستندة إليه - تعالى -. إلاّ / 72MB / أنّ كلّ ماهية موجودة بعد وجودها يكون على النحو الخاصّ المشاهد ، لأنّ حقيقتها كذا ولا يمكن أن يوجد بغير هذا النحو ، ومع ذلك يكون تلك الحقيقة. فالمراد ممّا يقال : انّ المهيات ليست مجعولة بالجعل المركب هو هذا المعنى - أي : لا يجوز أن يجعل الفاعل الانسان انسانا ، بل هو خلق الانسان بلوازمه وخواصّه وأوجده ، وبعد وجوده يكون حقيقته كذا -.

وإذا ثبت ذلك فنقول : انّ كلّ فعل يصدر عن عبد فمن حيث انّ وجود العبد ووجود افعاله منه - تعالى - يمكن استناد الفعل من هذه الجهة إليه - تعالى - ، ومن حيث أنّ حقيقة هذا العبد بشخصه المعيّن بعد وجوده يكون بهذا النحو الخاصّ يمكن استناده إلى العبد من هذه الجهة ، لا بأن تكون ماهية هذا العبد مؤثّرة في الفعل ، لأنّ التأثير ليس إلاّ من عند اللّه ، بل من حيث أنّ حقيقته إذا وجدت لزم أن تكون بهذا النحو. وعلى هذا فيكون للفعل نسبة إلى لواجب وهو تأثّره منه - تعالى - وتأثيره - تعالى - فيه ، ونسبته إلى ماهية العبد وهو اقتضاء حقيقته على فرض وجوده لايجاد هذا الفعل فيه.

فإيجاد الذات والصفات والأفعال كلّها مستند إليه - تعالى - ولا يستند وجود

ص: 324

الشيء إلى العبد مطلقا. ولكن كون مهيته وحقيقته بحيث لا بدّ من اقترانها بعد وجودها ببعض الصفات / 69DB / - وهي الصفات والأفعال الّتي تحقّق تلك الحقيقة موقوف عليها - أوجب صحّة استناد تلك الأفعال إليها أيضا. وبذلك يتصحّح معنى الأمر بين الأمرين.

ثمّ إنّه لمّا أمكن الاختلاف في اقتضاء المهيات بعد وجودها من أجل انضمام الأشياء الخارجية وعدمه ، فجاز أن تكون حقيقة زيد الموجودة بانضمام شيء كارشاد أو موعظة أو غير ذلك من التأييدات والتوفيقات من عند اللّه مقتضية للايمان والسعادة ، وبدونه غير مقتضية لهما ، وجاز أيضا أن يكون بعض المهيات مع انضمام الأشياء المذكورة كلاّ أو بعضا غير مقتضية لهما أوجب العناية الإلهية ارسال الرسل وانزال الكتب وافاضة التأييدات والتوفيقات ليصل إلى الكمال والسعادة من في شأنه الوصول ويتمّ الحجّة على من ليس من أهل الزلفى والصعود ، لئلاّ يتحقّق بخل من المبدأ الفيّاض بالنسبة إلى الأوّلين وينقطع العذر من الآخرين ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (1).

قلنا : لا ريب انّ الماهية الموجودة بشرط الوجود من عند اللّه ، فما يستند إليها يكون مستندا إلى اللّه أيضا ، فحينئذ تكون

الخصوصيات أيضا مستندة إلى اللّه ، فيلزم الجبر في التكاليف الشرعية. والحاصل انّ ما يمكن أن يستند إليه الأثر الموجود سواء كان ذاتا أو صفة حقيقية أو اعتبارية نفس أمرية أو خصوصية راجع إلى الوجود وهو من عند اللّه - سبحانه - ، وما ليس من عنده راجع إلى العدم المحض والليس الصرف ، فلا يمكن أن يستند إليه الأثر بوجه. مع أنّه لو امكن أن يستند إليه شيء وكان صدور خصوص المعصية من جهة اقتضاء خصوصية الذات وقابلية الماهية ولأجل ما يرجع إلى الماهية - أعني : لابدية اقترانها ببعض الصفات والافعال - لتحقّق حقيقتها. فأيّ تقصير للعبد؟! ، لأنّ تغيير الذات وتبديل مقتضاها محال!.

وما قيل : انّ تبديل الذات وإن كان محالا ولكن الذاتيات على قسمين : أحدهما

ص: 325


1- كريمة 42 ، الأنفال.

ما لا يمكن تغييره للذات (1) كالزوجية للاربعة ؛ وثانيهما : ما يمكن تغييره وتبديله وإن كان ذاتيا ومناسبا للذات ومقتضى للماهية وقابليتها كالبرودة للماء. وما تعلّق به التكليف من الأفعال والصفات جميعا من القسم الثاني ولم يتعلّق التكليف بشيء يكون من القسم الأوّل ؛

يرد عليه : انّا سلّمنا انّ الأمور الّتي تعلّق بها التكليف يمكن تبديلها ، ولكن نقول : لا بدّ لكم من بيان وجه التخصيص والترجيح في صدور تلك الأمور وعدم صدورها من شخص دون آخر في وقت دون آخر ، وفي صدور بعض تلك الأمور دون بعض آخر منها. فإمّا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى الواجب أو إلى الماهية ، فيصير الأمر كما كان.

وبذلك يظهر ضعف القول بأنّ الأمر بين الأمرين كون الأمور التكليفية مفوّضة إلى العبد ، وكون غيرها من عند اللّه.

وقيل : هو - أي : الأمر بين الأمرين - هو كون الفعل واقعا بقدرة العبد واختياره ، وكون قدرته واختياره مستندين إلى اللّه - تعالى -.

وقيل : هو كون الأسباب القريبة للفعل والترك بقدرة العبد والبعيدة - كالجوارح والقوى والاختيار - بقدرة اللّه - تعالى - ، فالفعل يقع بالقدرتين معا. والعبد / 73MA / ليس بمجبور في فعله ولا مستقلّ فيه بأن يكون الأسباب كلّها مستندة إليه.

وقيل : هو عدم كون العبد مختارا أو مجبورا في جميع الأفعال المتعلّقة به ، بل يكون في بعضها - كالمعاصى والطاعات - مختارا وفي بعض آخر - كالموت والحياة - مجبورا.

وممّا ذكرنا يعلم ضعف الكلّ وعدم تماميته.

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الجواب الّذي قاله المحقّق الطوسى وغيره من الشبهة المشهورة للجبرية غير صحيح. إذ حاصل شبهتهم : انّ العبد لو كان قادرا مختارا - والقادر من يصحّ منه الفعل والترك - لتوقّف ترجيح فعله على تركه على مرجّح

ص: 326


1- في النسختين : كالذات.

لا يكون صادرا عنه باختياره ، وإلاّ لزم التسلسل بنقل الكلام إلى صدوره عنه ويكون الفعل مع ذلك المرجّح واجب الصدور عنه ؛ إذ لو لم يجب لجاز أن يوجد معه تارة ويعدم أخرى. فتخصيص أحد الوقتين بالوجود يحتاج إلى مرجّح آخر. ولا يتسلسل ، بل ينتهى إلى مرجّح يجب معه صدور الفعل عنه ، فيكون اضطراريا لا اختياريا.

وحاصل جواب المحقّق وغيره عنها : انّ القادر من يصحّ عنه الفعل والترك قبل تحقّق الداعي إلى أحدهما - وهو الإرادة - ، وأمّا بعده فيجب الطرف الّذي تعلّق به الإرادة ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بل يحقّقه.

والوجه في عدم صحّة هذا الجواب أنّ / 70DA / الإرادة أيضا من المرجّحات الّتي يتوقّف تعلّقها بأحد الطرفين دون الطرف الآخر إلى مرجّح آخر ، وإذا نقلنا الكلام إلى ذلك المرجّح أيضا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى مرجّح ويكون صادرا منه باختياره.

والقول بانّ ترجيح المختار أحد المتساويين جائز - كما في طريق الهارب وقدحي العطشان - قد عرفت فساده.

والعجب انّ الأشاعرة مع قولهم بذلك - أي : ترجيح أحد المتساويين بل المرجوح أيضا ، ولذا قالوا بكفاية الإرادة في فعل الواجب تعالى من دون احتياج إلى مرجّح آخر - لم يقولوا به في قتل العبد. ولذا يرد عليهم النقض بفعل الواجب - تعالى - بأن يقال : لو تمّ دليلكم هذا لدلّ على انّ الواجب - تعالى - أيضا لا يكون موجدا لفعله بالقدرة والاختيار ، لأنّ ما ذكرتموه جار بعينه في حقّه - تعالى - أيضا. وما أجيب عنه بأنّ إرادة العبد محدثة فافتقرت إلى مرجّح آخر حتّى ينتهى إلى مرجّح يكون من عند الواجب بلا إرادة واختيار من العبد فيه دفعا للتسلسل في الارادات والمرجحات الّتي فرض صدورها منه ، وإرادة اللّه قديمة لا يفتقر إلى إرادة أخرى مدفوع بأنّه لا يدفع لزوم التسلسل المذكور. إذ نقول : لو لم يمكن الترك مع الإرادة القديمة كان الواجب موجبا لا قادرا مختارا ، وإن امكن فان لم يتوقّف فعله على مرجّح استغنى ما جاز فعله وتركه في اختيار أحد طرفيه عن المرجّح وإن توقّف عليه ننقل الكلام إليه.

ص: 327

فلا بدّ من الانتهاء إلى مرجّح يكون الفعل معه واجبا - دفعا للتسلسل - ، فيكون الفعل اضطراريا.

والظاهر انّ عدول الأشعري عن أصله من جواز الترجيح بلا مرجّح في فعل العبد وعدم اكتفائه بمجرّد الإرادة فيه مع قوله بذلك في فعل الواجب لجموده على الظواهر الواردة من الشريعة الدالّة على أنّ كلّ شيء مخلوق من اللّه - تعالى - ؛ وهي معارضة بمثلها - كما لا يخفى -.

وللأشاعرة شبهة أخرى اندفاعها ظاهر ، وهي انّ العلم علّة للحادث ومفيد لوجوبه ، فافعال العباد معلولة لعلم الواجب وواجبة باقتضائه.

ووجه الاندفاع : انّ اللّه - تعالى - كان عالما في الأزل بما يفعله العبد فيما لا يزال ، ولكن علمه به لا يخرجه عن كونه اختياريا للعبد ، كما انّ من أعطى عبده سيفا وهو يعلم ما يصنع به العبد والعبد صرفه في قتل نفس مثلا لا يخرج فعل العبد هذا بعلم سيّده به من كونه اختياريا للعبد ، لأنّ معنى الاختيار أن تكون للعبد قوّة فاعلية صالحة للفعل والترك يقال لها : القدرة ، وقوّة أخرى علمية مدركة للنفع والضرّ والنفع والشرّ في جانبي ما يقدر عليه ، وقوّة أخرى ارادية باعثة يطيعها في فعل العبد القوّة المسمّاة بالقدرة بحيث متى انبعثت الإرادة لفعل أو ترك بحسب ما ادركته النفس بقدرتها الادراكية اطاعتها تلك القوة ففعلت أو تركت. ومعلوم انّ ذلك أمر لا ينافيه علم اللّه - تعالى - بما يقع أو لا يقع من الطرفين ؛ فان حصل وجوب بعد تصوّر نفع محروم أو مظنون وانبعاث إرادة عازمة فذلك وجوب عارض لاحق لا ينافيه امكان سابق.

وهذا الجواب صحيح عند المعتزلة ، لأنّ العلم عندهم تابع للمعلوم.

وأمّا عند الحكماء فالظاهر عدم صحّته ، / 73MB / لأنّهم قالوا : انّ تعقّل الواجب لنظام الخير وبمثله وعلمه علّة لايجاده ، فوجود كلّ شيء عندهم معلول للعلم الواقعي الّذي عين ذاته ؛ فتأمّل!.

وممّا ذكرناه يعلم انّ حال تلك المسألة عجيبة - كما قاله فخر الدين الرازي - و

ص: 328

التفصي عمّا يرد على كلّ من المذاهب الّتي قيلت فيها مشكل ، إلاّ أنّا نعلم انّ ما هو الحقّ ويجب الاذعان به انّ المؤثّر بالذات ليس إلاّ الواجب بالذات ، لأنّ كلّ قدرة وقوّة حيثما كانت فائضة منه - تعالى - ، وهو ( الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) (1) والآثار كلّها تابعة للوجود وهو تابع للماهية وهي تابعة لجاعلها خارجة به من الليس إلى الأيس. فالوجود والشروط والأسباب والآلات و - بالجملة كلّما يتوقّف عليه وجود المعلولات عن الأفاعيل والحركات والسكنات وأصل القدرة والقوّة على كلّ فعل حتّى قوّة التخيل والتفكّر ونفس الإرادة كلّها - فائضة من مبدأ الموجودات. إلاّ أنّ القدرة لمّا كان شأنها ترجيح أحد الطرفين بمجرّد الإرادة بدون مرجّح آخر لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح بل مع مرجّح آخر وهو تصوّر / 70DB / نفع محروم أو مظنون ناش عن القوّة العلمية المدركة للنفع والضرّ. ومثل هذا المرجّح لا يفتقر حدوثه إلى مرجّح آخر ، لكونه حسنا في نفسه أو باعتقاد العبد وأصلح له في الواقع أو باعتقاده يكون هذا الاختيار - أي : اختيار أحد الطرفين - مع مرجّحه الّذي هو التصوّر المذكور من العبد. فلو قيل له : لم اخترت الايمان دون الكفر؟ ، فله أن يقول : لكون الايمان حسنا وأصلح ؛ ولو قيل له : لم اخترت الحسن والأصلح؟ ، فله أن يقول : لأنّ ذات الحسن والأصلح يقتضي ذلك ، إذ العاقل لا يختار القبيح وغير الأصلح. ولو قيل للكافر : لم اخترت الكفر؟ ، فله أن يقول : لأنّ نفسي لا يرضى بالتابعية والانقياد لغيري!. فلأن قيل : لم لا ترضى بذلك؟ ، فله أن يقول : لأنّ عدم التابعية مطلوب عندي ؛ وهنا ينقطع الكلام. ولو قيل للزاني : لم اخترت الزنا؟ ، فله أن يقول : لالتذاذ نفسي ، ولو قيل : لم اخترت الالتذاذ؟ ، فله أن يقول : لانّه مطلوب في نفسه. ولو قيل لتاركه : لم اخترت الترك؟ ، فله أن يقول : لأنّي خفت من العذاب. فالوجوب واللزوم انّما يحصل بحسن الفعل وصلاحه في ذاته أو باعتقاد العبد. فينقطع التسلسل ولا ينتهي إلى ما هو من عند اللّه ليلزم الجبر ، ولا إلى ما تقتضيه الماهية ليلزم الاشكالات الضعيفة المذكورة المشهورة. فثبت انّ جميع الأسباب والشرائط وبالجملة غير اختيار أحد الطرفين من

ص: 329


1- كريمة 50 ، طه.

عند اللّه - تعالى - ومجرّد الاختيار المذكور مع تخيّل ما تخيله من النفع أو الضرّ باختياره بعد حصول التمكّن والتملّك له بتمكين اللّه - تعالى - وتمليكه ايّاه. فلا جبر لتمكّنه وتملّكه ولا تفويض لتمكّنه وتمليكه.

وإلى ما ذكر نظر من قال : انّ الاسباب البعيدة كلّها من اللّه والقريبة من العبد ، كما اختاره المحقق الطوسى في شرح رسالة العلم حيث قال : الّذي ينظر إلى الاسباب الأوّل ويعلم أنّها ليست بقدرة الفاعل ولا بإرادته يحكم بالجبر ، وهو غير صحيح مطلقا ؛ لأنّ السبب القريب للفعل هو قدرته وارادته. والّذي ينظر إلى السبب القريب يحكم بالاختيار والتفويض ، وهو أيضا غير صحيح ؛ لأنّ الفعل لم يحصل باسباب كلّها مقدورة ومرادة له. فالحقّ ما قال بعضهم : لا جبر ولا تفويض ولكنّه أمر بين أمرين (1).

وإلى هذا يشير أكثر الظواهر الواردة من الشريعة ؛ ففي نهج البلاغة قال - علیه السلام - بعد ما سئل عن معنى « لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه » : انّا لا نملك مع اللّه شيئا ولا نملك إلاّ ما ملّكنا ، فمتى ما ملكنا هو ما املك به منّا نهضنا ومتى أخذه منّا وضع تكليفه عنّا راجع : نهج البلاغة ، الحكمة 404 ، ص 547 ، مع اختلافات يسيرة.. فمراده - علیه السلام - : انّ حصر الحول والقوّة فيه - تعالى - باعتبار أصل التمكين والتمليك ، وإلاّ فللعبد حول وقوّة بحوله وقوّته واقداره وتمكّنه ؛ فلا جبر لتملّكه ولا تفويض لتمليكه وقدرته على ما اخذ ما ملكه لكونه أملك به منه.

وفي بعض الأدعية المعصومية : اللّهم أنت كلّفتني من نفسي ما أنت املك به منّي وقدرتك عليه وعلى الاغلب من قدرتي (2).

وفي الصحيفة السجادية : اللّهم ومن الضعف خلقتنا وعلى الوهن نشأتنا ومن ماء مهين ابتدأتنا ، فلا حول لنا إلاّ بقوّتك ولا قوّة لنا إلاّ بقوّتك (3) ؛

ويظهر منه معنى قوله - تعالى - : ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ

ص: 330


1- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 45.
2- راجع : بحار الانوار ، ج 98 ، ص 50.
3- راجع : الصحيفة السجادية ، الدعاء التاسع ، الفقرة 5 ، ص 87 ، مع اختلافات يسيرة.

اللّهُ ) (1).

بقي الكلام في أنّه لم يختار / 74MA / بعض الناس مرجّح الفعل ويتصوّره نفعا وبعض آخر مرجّح الترك ويتصوّره نفعا. ولم يختار بعضهم ما هو الخير والصلاح لهم في الواقع ويختار الآخرون ما هو الشرّ والفساد لهم في نفس الأمر؟ ، ولم يتصوّر هذا ما يدعوا إلى اختيار هذا ويتخيّل ذاك ما يدعوا إلى اختيار ذاك؟! ، وما الباعث في أنّ المؤمن يتصوّر حسن الايمان وصلاح التابعية والكافر يتصوّر قبح التابعية وحسن الطغيان؟ ، والزاني يختار لذّة العاجل وتارك الزنا يختار سعادة الآجل؟. ولا يخفى أنّ هذا شيء لا يمكن لنا علمه وليس لنا سبيل إلى دركه ، ولكن بحسب الاعتقاد انّه مستند إلى اسباب وأمور لا يوجب الجبر في التكليف وان لم نتمكّن من اثبات ذلك بالعقل.

وقد ظهر من ذلك أنّ المناط والحجّة في استناد حركات العباد إليهم بوجه آخر هو الضرورة والنقل ، دون البرهان والعقل.

وبذلك يظهر ضعف ما قيل : انّ البرهان العقلي قائم بأنّ الجواهر والاعراض المفارقة لذات الموجد ممّا هو مختصّ بالمبدإ الأوّل - تعالى - وهذا لا ينافي كون حركات العباد صادرة عنهم ، لأنّ مراده عن البرهان العقلي هو البرهان المنقول من بهمنيار ، وهو لو تمّ كان دالاّ على أنّ ايجاد كلّ موجود افاضة - أي : وجود كائن جوهرا أو عرضا مفارقا أو ماديا - مختصّ بالواجب بالذات وليس في منّته بما هو ممكن ما من الممكنات افاضة / 71DA / الوجود على ممكن آخر. وقد تقدّم أيضا في ادلّة اثبات الواجب انّ ممكنا من الممكنات لا يمكن أن يكون منشئا لوجوب الممكنات.

ثمّ إنّ بعض الأعلام قد علّل تقييد الاعتراض بالمفارقة وجواز ايجاد غير الواجب للاعراض الغير المفارقة لذاته ليترتّب عليه صحّة صدور أفعال العباد عنهم ، بأنّ المطلوب استثناء الحركة وجواز كون موجدها غير الواجب ممّا له معنى بالقوّة ، لأنّ مبدأ الحركة ليس مفيدا لوجود أمر بالفعل حتّى يجب أن يكون بريئا عن معنى ما بالقوّة ، فانّ الحركة - بمعنى كون الشيء بين المبدأ والمنتهى - على ما استقرّ عليه رأي

ص: 331


1- كريمة 188 ، الاعراف.

المحصلين : كمال أوّل لما بالقوّة من جهة ما هو بالقوة ، إذ المتحرّك ما دام في أوّل المسافة ساكن فهو متحرّك بالقوّة وواصل إلى القوّة بالغاية ، فاذا تحرّك حصل له كمال وفعل أوّل وبه يتوصّل إلى كمال وفعل ثان هو الوصول إلى الغاية ، لكن ما دام له ذلك الكمال فهو بعد بالقوّة. فهي حالة ما بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل. ولذلك لا يكون فاعلها القريب إلاّ شيء فيه قوّة من جهة وفعلية من جهة ، كما أنّ موضوعها أيضا يجب أن يكون كذلك. وامّا الأمر المتّصل المعقول المتحرّك بين المبدأ والمنتهى المسمّى بالحركة بمعنى القطع فذلك لا وجود له البتة بالفعل إلاّ في الذهن. هذا محصّل ما قال بهمنيار في التحصيل في فصل تحديد الحركة (1).

وبه يظهر معنى ما قيل : انّ البرهان الدالّ على أن لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه لا ينافي كون حركات العباد صادرة عنهم ، ويندفع ما قيل : انّه لو تمّ لدلّ على أنّ فاعل حركات العباد أيضا هو اللّه. لأنّه قد ثبت انّ مبدأ الحركة لا يلزم أن يكون بريئا من معنى ما بالقوة ، لأنّ اللازم أن لا يكون ما فيه معنى ما بالقوّة علة لوجود أمر له فعلية الوجود ، والحركة ليست ما له فعلية الوجود لكونها حالة بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل فعليّتها لا يلزم أن يكون بريئة من معنى ما بالقوّة من جميع الجهات - كما هو معلوم من حال المتحرّك من ثبوت قوّة له ما لم يبلغ إلى المنتهى -. وكلّ فعل يصدر عن العباد نوع حركة ، فيجوز أن تكون أفعال العباد صادرة عنهم ، فما دلّ عليه البرهان من أنّه لا يجوز أن يكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ وجه من معنى ما بالقوة مخصوص بعلّة وجودها ، وما سوى الحركة من الجواهر والاعراض المفارقة الّتي لها فعلية الوجود ؛ انتهى.

وهذا القائل ادّعى انّ ما ذكره مستفاد من كلام الشيخ الرئيس في أوّل سادسة إلهيات الشفاء حيث قال : انّا نعني بالفاعل العلّة الّتي تفيد وجودا مباينا لذاتها ، أي : لا تكون ذاتها بالقصد الأوّل محلاّ لمّا يستفيد منها وجود شيء يتصوّر حتّى يكون في ذاته قوّة وجوده. وذلك لأنّ الإلهيين ليسوا يعنون بالفاعل مبدأ التحريك فقط - كما

ص: 332


1- راجع : التحصيل ، الفصل الثاني عشر من المقالة الثانية من الكتاب الثاني ، ص 418.

يعنيه الطبيعيون - ، بل مبدأ الوجود ومفيده مثل الباري للعالم. وأمّا العلّة الفاعلية الطبيعية فلا تفيد وجودا غير التحريك بأحد انحاء التحريكات ، فيكون مفيد الوجود / 74MB / في الطبيعيات مبدأ حركة (1) ؛ انتهى.

ووجه استفادة ما ذكر من الكلام المنقول من الشيخ انّه قال : انّا نريد من الفاعل العلّة الّتي تفيد وجودا مباينا لذاتها ، فلا يجوز أن تكون العلّة محلاّ لشيء يستفيد ذلك الشيء من تلك العلّة وجوده ويتصوّر تلك العلّة بذلك الشيء - أي : يكون ذلك الشيء صورة لها -. فيكون لفظ « شيء » بدلا عن الضمير الراجع إلى كلمة « ما ».

وقوله : « يتصوّر به » صفة لقوله : « محلاّ » وزيادة توضيح له. ويكون الحاصل : انّ العلّة لا يجوز أن تكون محلاّ لفعلها ومعلولها إذا كان هذا المعلول مستفيدا وجوده منها ، والمحلّ يتصوّر بهذا المعلول. وعلّل عدم الجواز بأنّ كون العلّة محلاّ لفعلها الّذي يصير صورة لها يوجب أن يكون في ذات العلّة والمعلول قوّة وجود نفسه ، لأنّ هذا المعلول من حيث هو صورة للعلّة يكون جزء لها ، فيكون للعلّة قوّة وجود جزئها وللمعلول الّذي هو هذا الجزء قوّة وجود نفسه من حيث انّه جزء العلّة. وعلى هذا يكون غرض الشيخ أنّ الفاعل لا يجوز أن يكون محلاّ لفعله بشرط أن يكون هذا الفعل صورة له لا عرضا ، فلا مانع من كون الفاعل محلاّ لما هو عرض له. ويمكن ان يكون يتصوّر به ويتحقّق به ويكون الفاعل هو الشيء الّذي هو عبارة عن الفعل ؛ والضمير المجرور راجعا إلى العلّة.

وفي بعض النسخ : « يتصور / 71DB / بها » - بتأنيث الضمير - ، فيكون هذا التوجيه أظهر.

وعلى هذا يكون مراد الشيخ : انّ الفاعل لا يجوز أن يكون محلاّ لفعله مطلقا سواء كان هذا الفعل صورة له أو عرضا يتحقّق هذا الفعل به ، فلو كان محلاّ له يلزم أن يكون في ذاته قوّة وجوده ، فيجب أن يكون الفاعل مفيدا لوجود مباين عن ذاته. ثمّ صرّح بأنّ الفاعل في عرف الإلهيين كذلك - أي : مبدأ للوجود المباين ومفيده -. وأمّا الطبيعيون فالفاعل عندهم هو مبدأ الحركة والحركة - لكونها قائمة بمبدئها - ليست أمرا مبائنا عنه ، ففي عرف الطبيعيين تكون الحركة معلولة للمتحرّك ؛ فيظهر منه جواز استناد الحركات

ص: 333


1- راجع : الشفاء / الالهيات ، ج 2 ، ص 257.

بانحائها إلى غير الواجب من المتحرّكات. وعلى التوجيه الأوّل يظهر من عبارته الأولى أيضا جواز كون المحلّ فاعلا لما هو عرض له ، لا صورة له. وعلى أيّ حال يثبت من كلام الشيخ استناد الحركات والأعراض ممّا يثبت من البرهان من أنّه لا يجوز أن تكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ وجه من معنى ما بالقوّة.

هذا هو توضيح كلام الشيخ ووجه استفادة ما ذكره القائل من كلامه.

وقد أورد على ما ذكره هذا القائل أبحاث :

الأوّل : انّ الاستشهاد بكلام الشيخ هنا ممّا لا وجه له ، لأنّ مراده ليس استثناء الحركة ؛ بل غرضه : انّ المراد بالفاعل ليس مبدأ التحريك فقط - كما هو اصطلاح الطبيعيين - ، بل مبدأ الوجود مطلقا. وتقييد « الشيء » في تعريف الفاعل بكونه مبائنا لذاتها بالمعنى الّذي ذكره انّما هو لاخراج الموضوع عن تعريف الفاعل من حيث هو موضوع ، وإلاّ فالفاعل للحركة من حيث هو فاعل لها داخل في الفاعل عنده. كلّ ذلك يظهر بالتأمّل في كلامه ممّا نقل وممّا لم ينقل.

والحاصل انّ مراد الشيخ : انّ الفاعل عند الإلهيين اعمّ من الفاعل عند الطبيعيين ، لأنّ الإلهيين يعنون بالفاعل مفيد الوجود سواء كان وجود الحركة أو وجود غيرها ، وتقييد الوجود المفاد بالمبائن ليخرج الهيولى والموضوع من حيث أنّهما هيولى وموضوع. وأمّا عند الطبيعيين مخصوص بمبدإ التحريك. ولا يدلّ كلامه على أنّ مبدأ الحركة يجوز أن يكون فيه معنى ما بالقوّة ، بل هو مثل سائر الفاعلين من عدم جواز كونه ممّا له معنى ما بالقوّة ، فهو إمّا الواجب - تعالى - أو الجهة المستندة إليه ، الّتي ليس فيها شائبة العدم والقوّة.

والثانى : انّ ما ذكره من أنّ الحركة ليست أمرا بالفعل الوجود (1) حتّى يجب أن يكون فاعلها بريئا من معنى ما بالقوّة غير صحيح ، بل الحركة التوسطية أمر يتحقّق في كلّ آن فرض في اثناء الحركة بالفعل. نعم! يتوصّل به إلى كمال آخر هو الوصول إلى الغاية ، وهو بالقوّة. وإذا كان امرا بالفعل فلا يجوز أن يكون فاعله أمرا بالقوّة.

ص: 334


1- كذا في النسختين.

والثالث : انّه إذا جاز أن يكون فاعل ما فيه جهة فعلية وجهة قوّة أمرا مثله ، فيجوز أن يكون الممكن أيضا فاعلا لممكن آخر من الجواهر والأعراض / 75MA / المفارقة أيضا ، إذ في كلّ منها جهة قوّة وجهة فعلية.

والرابع : انّ ما ذكره من أنّ الحركة القطعية لا وجود لها إلاّ في الذهن ممّا لا دليل عليه ، بل الحقّ جواز كونها موجودة في الخارج ، لكنّها على سبيل التدريج ، ولا وجه لانكار وجودها في الخارج ، والقول بوجودها في الذهن ؛ إذ في شيء من الذهن والخارج لا يمكن أن يوجد دفعة ، فلو جاز الوجود على سبيل التدريج لجاز في الخارج أيضا ، وإلاّ فلا يعقل في الذهن أيضا. نعم! ما ذكره في الحركة التوسطية من كونه أمرا بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل لو قيل في الحركة القطعية لكان له وجه.

والحقّ إنّ هذا الايراد خلاف التحقيق ، لأنّ وجود الحركة القطعية غير محقّق ؛ والحقّ عدم وجودها - كما ذهب إليه اساطين الحكمة -. وتحقيق ذلك موكول إلى موضع آخر.

والخامس : انّه إذا جاز أن يكون موجد الحركة هو الممكن فلا يندفع حديث الواسطة ، إذ يجوز حينئذ أن يوجد الواجب على سبيل الايجاب مجرّدا قديما اختار هذا المجرّد بقدرته وارادته وعلمه الحركة في وقت معيّن واختار هذا الوقت وقتا للحركة لتكون تلك الحركة شرطا لايجاد الواجب العالم على سبيل الايجاب ، فلا يثبت اختيار الواجب.

وأنت تعلم إنّ هذا الاحتمال ضعيف ، لأنّ الحركة لا يمكن وجودها بنفسها ، بل لا بدّ لها من محلّ جوهريّ يقوم به ، فاختيار مجرّد تلك الحركة في وقت خاصّ إن كان لمجرد تعلّق علمه وارادته بأن يوجدها الواجب في ذلك الوقت بمحلّها فيكون مجرّد علم / 72DA / الغير شرطا لتأثير الواجب ، وقد تقدّم هذا الاحتمال مع ما فيه. مع أنّه لا يتوقّف على جواز صدور الحركة من الممكن وقد علّق عليه هنا.

وإن كان المراد باختياره الحركة هو ايجادها بمحلّها ، ففيه : انّ الفرض عدم جواز صدور غير الحركة من الممكن. وإن كان الواجب يوجد المحلّ وهذا المجرّد يوجد فيه

ص: 335

الحركة ، ففيه : انّ الفرض كون تلك الحركة شرطا لايجاد الواجب ؛ وعلى هذا التقدير يكون المحلّ متقوّما. وبذلك يظهر انّ تسليم جواز استناد الحركات والأفعال إلى الممكن لا يصير منشئا لثبوت الواسطة المذكورة ، إذ من يدّعي ثبوتها يدّعي استناد العالم الجسمانى إليها وهو مركّب من الجواهر والأعراض المادية المباينة بالنسبة إلى تلك الواسطة المجرّدة. فاذا كان مجرّد عدم جواز صدور الجواهر والاعراض المباينة عن الممكن مسلّما بطل حديث الواسطة وإن جاز صدور الاعراض الغير المباينة عنه. وبالجملة بطلان الواسطة المفروضة ممّا لا ريب فيه ؛

ولو سلّم عدم تمامية الوجه الأخير الّذي عوّل عليه الأكثر لما أورد عليه من جواز استناد المعلول إلى الجهة المستندة إليه - تعالى - ، لتمامية باقي وجوه السابقة. وبه يظهر صحّة الاستدلال بحدوث العالم الجسماني على قدرة الواجب - تعالى - بأيّ معنى كان من المعانى الثلاثة.

تتميم

قول الحكيم الطوسي في التجريد : والواسطة غير معقولة (1) ، اشارة إلى نفي تلك الواسطة كما صرّح به في نقد المحصّل ، فانه قال فيه بعد نقل الاعتراض الّذي ذكرناه على الاستدلال بالحدوث على القدرة من امكان الواسطة المعروضة : والمعتمد في ابطالها أنّ الواسطة يمتنع أن يكون واجبة الوجود لامتناع أن يكون الواجب أكثر من واجب ، فاذن هي ممكن وهي من جملة العالم - لأنّ المراد من العالم ما سوى المبدأ الأوّل - ، فاذن وقوع الواسطة بين الواجب الوجود لذاته وبين العالم محال (2) ؛ انتهى.

وتوجيه الشارح الجديد لتلك العبارة (3) موافق لمّا في نقد المحصّل. وقد ذكروا لها توجيهات أخر مذكورة في بعض الحواشي بعيدة عن الحقّ غير مستحقّة للذكر. وما لا بأس منها نذكره :

ص: 336


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الاولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 217.
2- راجع : نقد المحصّل ص 275.
3- راجع : الشرح الجديد ، ص 310.

ما ذكره بعض المتأخّرين من أنّ المراد بالواسطة هي الحركة السرمدية الّتي جعلها الفلاسفة واسطة في صدور الحوادث. فالمحقّق لمّا استدل بحدوث العالم على نفي الايجاب أشار إلى ابطال ما استند به الخصم في تصحيح الايجاب والقدم - أعني : الحركة القديمة وكونها واسطة بين الواجب والحوادث -.

وإذ ظهر ثبوت القدرة بالمعانى الثلاثة للواجب - تعالى شأنه - فاعلم! : انّ للمنكرين لها شبها على نفيها ، فلنذكرها ولنشير إلى كلّ شبهة تنفي القدرة بأيّ معنى ، ثمّ تأتي بالجواب على وجه لا تبقى شبهة ولا ارتياب!.

الشبهة الاولى : انّ القدرة على الشيء بمعنى صحّة الفعل والترك محال ، لأنّها يقتضي امكان صدور الأثر عن المؤثّر ، لكن صدور الأثر عن المؤثّر إمّا واجب أو ممتنع لا يخلوا عن أحدهما قطّ ، لأنّ المؤثّر إن استجمع جميع شرائط التأثير وجب صدور الأثر - لامتناع تخلّف / 75MB / الأثر عن المؤثر التامّ - ، وإن لم يستجمع جميع شرائط التأثير امتنع وجود الأثر. وأنت تعلم انّ هذه الشبهة انّما تناسب نفى الاختيار بالمعني الثاني - أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - ، ونفي الاختيار بالمعنى الرابع الّذي تفرّد باثباته الأشعري - أعني : امكان الفعل والترك ولو في آن الحدوث وعند تحقّق الداعي - ، ولا يبقي الاختيار بالمعنى الأوّل - أي : صدور الفعل بالمشية والعلم - وهو ظاهر. ولا الاختيار بالمعنى الثالث ، إذ وجوب التأثير عند استجماع الشرائط وامتناعه عند عدمه لا ينافي حدوث العالم الّذي يرجع إليه معنى الاختيار بالمعنى الثالث ، إذ لعلّ وقت الحدوث استجمع الشرائط ووجب الحدوث وقبله ليس يستجمع وامتنع.

فان قيل : القدرة الملزومة للحدوث - أعني : القدرة بالمعنى الثالث المختصّة بالمتكلّم - اخصّ من القدرة بالمعنى الثاني الّذي هو متّفق عليه بين المتكلّم والحكيم ، فاثبات القدرة بالمعنى الثالث ملزوم اثبات المعنى المتّفق عليها ، ونفيها لازم نفيه. فان كانت تلك الشبهة نافية للقدرة بالمعنى المتّفق عليه - أي : الامكان بالنظر إلى الذات - كانت نافية للقدرة بالمعنى الثالث ، إذ نفى الأعمّ يستلزم نفي الأخصّ ؛

ص: 337

قلنا : انّ القدرة بالمعنى الثالث ليس أخصّ مطلقا من المعنى الثانى ، بل من وجه - كما لا يخفى - ؛ فلا يلزم من / 72DB / نفي المعنى الثاني نفي المعنى الثالث أيضا ؛ وهو ظاهر.

ثمّ هذه الشبهة غير مختصّة بنفي قدرة الباري - تعالى شأنه - ، بل هي جارية في أفعال الانسان أيضا - كما لا يخفى - ؛ وغير مختصّة بالقول بعينيّة الصفات ، بل هي ترد على القائلين بزيادة الصفات أيضا. لانّه اذا كان الواجب قديما وكانت الإرادة أيضا قديمة لزم قدم المراد ، فيلزم نفي القدرة بالمعنى الثالث. والجواب الجواب. نعم! ، على القول بزيادة الصفات لا تناسب تلك الشبهة لنفي القدرة بالمعنى الثاني - كما لا يخفى -.

والجواب عن تلك الشبهة : بأنّ الإرادة وإن كانت قديمة إلاّ أنّ التعلّق حادث ، ضعيف لأنّه مستلزم للتسلسل في التعليقات أو الترجيح بلا مرجّح. نعم! ، يمكن أن يقال في الجواب : انّه على تقدير زيادة الإرادة إن قيل بحدوثها - كما هو مذهب بعض المعتزلة والكرامية - فلا اشكال ؛ وإن قيل بقدمها - كما هو مذهب الأشاعرة - فلا يرد عليهم ايراد ، لأنّهم لا يقولون بالوجوب حتّى يرد عليهم لزوم القدم ، فالايراد مختصّ بالقائلين بالعينية.

وجوابها : انّ امكان صدور الأثر باعتبار القدرة وحدها مع قطع النظر عن اعتبار الإرادة ، ووجوبه باعتبار الإرادة ، وهذا ما يقال : انّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحقّقه ، لان الوجوب بالاختيار فرع الاختيار. ولأنّ القادر هو الّذي إذا أراد الفعل مثلا وجب صدوره عنه ، إذ لو امكن عدمه بعد ارادته لم يكن قادرا عليه ، فالوجوب بسبب الإرادة لا ينافى الاختيار ، بل لا بدّ في الاختيار منه. وبالجملة فالقادر هو الّذي يصحّ منه أن يفعل بأن يريد الفعل فيجب الفعل ، وأن يترك بأن يريد الترك أو لا يريد الفعل فيجب الترك.

فقول مورد الشبهة : « إن استجمع شرائط التأثير وجب صدور الاثر » إن اراد به وجوب صدور الاثر بالنظر إلى ذات القادر مع قطع النظر عن ارادته ، وإن أراد به وجوب صدور الأثر بالنظر إلى مجموع الشرائط - أعني : الذات مع كونه قادرا مريدا - ؛

ص: 338

قلنا : ممنوع ، لكن لا يضرّنا فانّا ندّعي امكان صدور الأثر بالنظر إلى ذات القادر مع قطع النظر عن ارادته.

وإن أراد به وجوب صدور الأثر بالنظر إلى ما سوى الإرادة من الذات وباقي الشرائط ؛

قلنا : ممنوع ، والسند ظاهر. وإلى هذا الجواب أشار المحقّق الطوسي بقوله : ويمكن عروض الوجوب والامكان للاثر باعتبارين (1) ؛ أي : تعرض الوجوب للأثر باعتبار الإرادة وتعرض الامكان له باعتبار عدم اعتبار الإرادة. وقد اشار إلى هذا الجواب أيضا وإلى تفسير القدرة والايجاد في شرح رسالة العلم حيث قال : وفرق بين القدرة والايجاد والتأثير ، فانّ القدرة لا يقال إلاّ عند كون المؤثّر بحيث يصحّ عنه التأثير والايجاد والتأثير. نعم! ذلك يشمل كون الموجد أو المؤثّر بحيث يجب عنه الايجاد والتأثير. وإذا لوحظ الايجاد من غير اعتبار العلم والإرادة فالاولى أن يوصف بالقدرة ، فانّ الايجاد عنده يصحّ ، وعند اعتبار العلم والإرادة يجب (2).

ويمكن أن تقرّر الشبهة المذكورة مع جوابها بتقرير أوضح ، وهو : انّ القدرة على الأثر فرع امكان ذلك الأثر ، وامكانه محال ، لأنّ ذلك / 76MA / الأثر إمّا يجب وجوده أو يمتنع ، لأنّ الفاعل إن كان مستجمعا لجميع شرائط التأثير فالاثر واجب وإن لم يكن مستجمعا فالأثر ممتنع الوجود ، فلا يتحقّق امكان الأثر حتّى يصحّ القدرة عليه ؛

والجواب : انّ الأثر ممكن بالنظر إلى ذات القادر وواجب بالنظر إلى استجماع الشرائط وممتنع بالنظر إلى عدم استجماعها ، والامكان الذاتي لا ينافي الوجوب والامتناع القريبين ، والتنافي إنّما هو بين الامكان الذاتي والوجوب والامتناع الذاتيين.

فان قيل : إذا كان الأثر واجبا بالارادة والإرادة عندكم عين الداعي وعين العلم بالأصلح والذات فلا يمكن انفكاك الذات عن المراد ويكون الأثر واجبا بالنسبة إلى الذات ، فتنتفى القدرة بالمعنى الثاني والثالث ، ويتحقّق الايجاب المقابل لهما. فانّ

ص: 339


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الأولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 218.
2- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 41.

الإرادة وغيرها من الصفات الكمالية إذا كانت عين ذات الواجب عند الحكماء والمعتزلة كانت الذات والقدرة والإرادة والعلم بالأصلح - وبالجملة جميع ما يتوقّف عليه وجود العالم - قديما ، لأنّ جميع تلك الصفات عين الذات والذات موجودة في الأزل ، فيلزم منه قدم العالم ، / 73DA / لأنّ الذات مع الإرادة الّتي هي عينها علّة تامّة للعالم وانفكاك العلّة عن المعلول محال ، فالحكم بانفكاك إرادة الواجب - تعالى - مع كونها أزلية غير زائدة على الذات عن وقوع متعلّقها ووجود مرادها وبعدم صدور الفعل عنه - تعالى - في الأزل - اللازم لمعنى القدرة المتنازع فيها ، كما هو مذهب المتكلّمين - باطل ، ويلزم منه ثبوت الايجاب الملزوم له ونفي القدرة بالمعني الثالث - أي : الملزومة للحدوث -.

ولمّا وجب الفعل بالإرادة والإرادة عين الذات فيجب الفعل بالنظر إلى الذات فتنتفي القدرة بالمعنى الثاني أيضا. والحاصل : انّ الوجوب بالاختيار والإرادة الّتي غير زائدة على الذات ينافي القدرة والاختيار الّذي هو مراد المتكلّمين - أعني : القدرة بالمعنى الثاني والثالث -. نعم! الوجوب والاختيار والإرادة الّتي هي غير زائدة لا ينافي القدرة والاختيار والإرادة على تفسير الحكماء - أعني : القدرة بالمعنى الأوّل - بمعنى انّه ان شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل ، لكنّه شاء في الأزل ففعل فيه بالعلم والمشية القديمة الّتي هي غير زائدة على الذات. ولا على العلم بالنظام الأعلى ، فانّ مقتضى الإرادة الموجبة ليس وجود العالم مطلقا حتّى يمتنع بها الانفكاك مطلقا ، بل هو وجوده على النحو الخاصّ - : وهو النحو الأصلح بحاله - ، فيمتنع انفكاك المراد على ذلك النحو عن الذات بان يوجد عنه على غير ذلك النحو أو لا يوجد على ذلك ، فانفكاك الذات عن المراد بان يوجد الذات في الأزل ولا يكون الوجود الأزلي للفعل هو مقتضى الإرادة والأصلح بحاله. فلا يمتنع بالذات ولا علّة لامتناعه. والغرض انّ متعلّق ارادته - تعالى - ومراده - سبحانه - هو ايجاد الحادث على النحو الّذي هو الاصلح ، لأنّ مرجّح أصل ايجاد الحادث وحدوثه في الوقت الّذي حدث إنّما هو العلم بالأصلح ، فالمعلول المراد الّذي تعلّق به العلم بالأصلح هو الحادث في وقت معيّن لا القديم الأزلي ،

ص: 340

لأنّه لم يتعلّق به العلم بالأصلح حتّى يلزم وجوده في الازل. والحاصل : انّ الاصلح بحال المعلول انّما هو الوجود الحدوثي فقط - نظرا إلى تعلّق العلم بالاصلح به - دون الوجود الازلي لعدم تعلّق العلم بالاصلح به ، فلمّا تعلّق العلم بالاصلح بنفس ايجاده فوجوب وجوده حينئذ لهذا السبب - أي : لكون أصلحية ايجاده - ، لا لوجوبه بالنظر إلى ذات الفاعل. فالوجوب إنّما نشأ من جانب المعلول ، فلا ينافي ثبوت القدرة بالمعنى الثانى ، ولا يلزم منه الايجاب المقابل لها. ولمّا تعلق - أي : العلم بالأصلح - بايجاده في وقت خاصّ - أي : كان الايجاد في الوقت الّذي وجد أصلح بحاله كما تعلّق العلم - حصل الانفكاك وانتفى الايجاب بالمعنى الثالث ، وإن تحقّق الايجاب بمعنى استحالة انفكاك الحادث على النحو الواقع عن الإرادة الّتي هي غير زائدة على الذات والعلم بالاصلح. وهذا الايجاب قد قال به أهل التحقيق من المعتزلة وغيرهم - كما مرّ -. وإلى ما ذكرناه من الجواب أشار بعض الأفاضل حيث قال : التحقيق انّ التخلّف المحال هو التخلّف عن مقتضى العلّة ، واللازم ممّا ذهب إليه أهل الاختيار من تحقّق العلّة التامّة في الأزل بدون معلوله هو التخلّف عن ذات العلّة ، واستحالته ممنوعة ، والدليل انّما يفيد الأوّل دون الثاني - كما لا يخفى -.

وأنت تعلم انّ هذا الجواب وإن ارتفع به الايجاب بالمعنيين المذكورين إلاّ أنّه لمّا ظهر منه انّ الوجوب انّما نشأ من الأصلحية بحال المعلول فينافي الداعي وملاحظة الأصلح والأحسن في فعل الباري ، وهو مستلزم لثبوت الغرض / 76MB / في فعله. -

فثبوت القدرة بالمعنى الثاني مع وجوب الفعل لا ينفكّ عن جريان الغرض في فعله - تعالى ، كما مرّ ذلك مفصّلا -. وقد أشرنا إلى أنّ دعوى الأكثر اجماع الحكماء على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى - مع اتفاقهم على نفي الغرض عن فعله - تعالى - لا يخلوا عن مسامحة. وقد تقدّم أيضا انّ القول بامكان الصدور واللاصدور ينافي ما استقرّ عليه آراء الفلاسفة بانّه ليس في الواجب جهة امكانية. قال بعض الأعلام ممّن صحّ عنده أكثر قواعد الحكمة : انّ للقدرة تعريفين مشهورين أحدهما صحّة الفعل ومقابله - أعني : الترك - ، وثانيهما : كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل. و

ص: 341

التفسير الأوّل للمتكلّمين والثاني للفلاسفة. ومن أفاضل المتأخّرين من ذهب إلى المعنيين متلازمين بحسب المفهوم. والتحقيق انّ من أثبت المعنى الثاني يلزمه اثبات المعنى الأوّل ، وذلك لأنّ الفاعل إذا كان بحسب نفس ذاته بحيث إن شاء فعل وان يشاء لم يفعل كان لا محالة من حيث ذاته مع عزل النظر عن المشية واللامشية يصحّ منه الفعل والترك وان كان يجب منه الفعل وجب المشية والترك إذا وجب اللامشية ، ودوام الفعل ووجوبه من تلقاء دوام المشيّة ووجوبها لا ينافى صحّة الترك على تقدير اللامشية ، وكذلك قياس مقابله في الاعتبارين.

اقول : فيما ذكره خلط وخبط ، فانّ الصحّة والجواز في الفعل ومقابله مرجعها الامكان الذاتي وقد استحال عند الحكماء أن يتحقّق في واجب الوجود ؛ ولا منه جهة امكانية ، لأنّ هناك وجودا بلا عدم ووجوبا بلا امكان وفعلية بلا قوّة ، انّما يجوز هذه التناقض عند من يجعل صفاته زائدة على ذاته - كالأشاعرة - ، أو يجعل الداعي على صنعه وايجاده أمرا مبائنا ، فيكون ذاته بذاته مع قطع النظر عن الزوائد - صنعة كانت أو داعيا - كان جائز المشية واللامشية صحيح الفاعلية واللافاعلية. وأمّا عند من وحّده وقدّسه عن شوائب الكثرة والامكان فالمشية المتعلّقة بالجود والافاضة عين ذاته بذاته بلا تغاير بين الذات والمشية لا في الواقع ولا في الذهن ، فالذات هي المشية والمشية هي الذات بلا اختلاف حيثية تقييدية أو تعليلية. فصدق القضية الشرطية القائلة : إن شاء فعل ، لا ينافي وجوب المقدّم وضرورة العقد الحملى له ضرورة ارادته دائمة (1). وكذا الشرطية القائلة : إن لم يشاء لم يفعل ، لا ينافي استحالة القدم استحالة ذاتية وضرورة تقتضيه ضرورة ازلية نعلم انّ التفسير الثاني صادق عند الحكماء دون التفسير الأوّل ولا يمكن التلازم بين التفسيرين إلاّ في القادر الّذي تكون ارادته زائدة على ذاته. وأمّا الواجب - جلّ اسمه - فلكونه في ذاته تامّا فوق التمام قيّد أنّه البسيط الحقّة يفعل بالفعل لا بمشية زائدة ولا بهمّة عارضة لازمة أو مفارقة ، فهو بمشيته وعلمه وحكمته الّتي هي عين ذاته يفيض الخير ويجود النظام ويصنع الحكمة ؛ وهذا أتمّ انحاء

ص: 342


1- كذا في النسختين.

القدرة وأفضل ضروب الصنع والافاضة!. وليس يلزم من ذلك جبر في فعل النار في احراقها وحال الماء في تبريده وفعل الشمس في إضاءتها حيث لا يكون لمصدر هذه الأفاعيل شعور ولا مشية ولا استقلال من فواعلها ، لأنّها مسخّرات بأمره - تعالى - وكذلك قال المختار غير اللّه في افعالهم فان كلا منهم في ارادته مقهور مجبور ، وأنّ أوّل الداعي والمرجّحات يضطرّ في الارادات الجسمية عن الاعراض مشكل لها ؛ انتهى (1)

وما ذكره هذا الفاضل موافق لقواعد الفلاسفة ، إلاّ أنّ الحقّ انّ ملاحظة الأصلح والأحسن وتعلّق العلم بهما والايجاد على ما يقتضيه ممّا لا ريب فيه. ولكن مذهب محقّقي المعتزلة - كالمحقّق الطوسي وغيره - انّ ملحوظ الفاعل المختار في الايجاد وحال المعلولات ؛ ولذا قالوا انّها حادثة ، لأنّ الأصلح بحال المخلوقات الحدوث. ومذهب الحكماء انّ ملحوظ الفاعل المختار في الايجاد حال الايجاد ، وقالوا : اتمّ انحاء التأثير والايجاد واكملها هو الدوام ، فالفريقان متفقان على كون الوجه الأكمل الأحسن ملحوظا للفاعل. وبالجملة ما يقتضيه الحقّ انّ الواجب - تعالى - مع كونه قادرا مختارا بمعنى امكان صدور الفعل / 73DB / والترك عنه بالنظر إلى ذاته تعقّل النظام الأكمل بذاته / 77MA / لكون ذاته علّة بذاته لهذا التعقّل. والأكملية صارت منشئا لوجوب الصدور ، لأنّ المستعدّ للصدور هو الأكمل دون غيره وإن لم يكن في الذات اقتضاء خصوصية ذلك الفعل.

قال بعض المشاهير : إن قلت : إذا كان فاعلية الفاعل لفعله وعلمه بذلك نفس ذات الفاعل لا يمكن صدور مقابل ذلك الفعل عنه ، فلم يكن قادرا على هذا الفعل ، إذ قد اعتبر في القدرة أن يكون تعلّقها بالطرفين سواء ؛

قلت : الملازمة ممنوعة ، فانّ صدور ذلك الفعل عنه بواسطة انّه يستعدّ لصدوره عنه ، دون مقابله ، لأنّه اكمل من مقابله ؛ لا بواسطة انّ ذات الفاعل يستدعي خصوصية ذلك الفعل حتّى لو كان مقابله أكمل منه لصدر عنه ويكون فاعليته وعلمه بذلك نفس ذاته.

ص: 343


1- كذا هذه السطور في النسختين.

ثمّ لا يخفى انّ الموجب لوجود العالم في الوقت الّذي وجد ليس مجرّد العلم بأصلحية هذا الوقت وكون النظام حينئذ أكمل واعلى ممّا إذا وجد في غيره ، لمّا تقدّم من أنّه يلزم حينئذ أن يكون للوقت مدخلية في الأصلحية والأكملية ، فيتوقّف الايجاد حينئذ على حضور ذلك الوقت وننقل الكلام إليه ونطالب عليه تخصيص حضوره ، وحينئذ فيتوقّف على التزام وقت آخر وهكذا ، فيلزم التسلسل. فمن قال بالزمان الموهوم والتزم التسلسل على التعاقب مطلقا أو فيه لعدم وجوده يمكن له أن يجعل الموجب لحدوث العالم في الوقت الّذي وجد هذا الوقت وتعلّل حضوره وحدوثه في الوقت الّذي حدث بما تقدّم عليه من الجزء الوهمي للزمان ، لتوقّف حدوثه على مقتضى هذا الجزء ، وتعلّله بما تقدّمه من جزء آخر وهكذا إلى غير النهاية. وأمّا من لم يقل بالزمان الموهوم فليس له أن يقول بكون آن الايجاد موجبا ومنشئا للأصلحية ، بل الموجب عندهم هو عدم وقت قبل وقت الحدوث مع علمه - تعالى - بأصلحية الحدوث في الوقت الّذي لا وقت قبله - كما مرّ -.

فان قيل : ما الباعث لعدم الوقت قبل وقت الحدوث مع انّه يمكن أن يكون الوقت قبل ذلك ، وكونه ازليا ؛

قلت : الباعث لذلك اقتضاء الوقت في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته ذلك. ويمكن أن يعلّل تخصيص الايجاد بالوقت التقديري الّذي وجد العالم فيه بذات العالم وحقيقته ومرتبة وجوده من غير تمسّك بالوقت مطلقا ، لأنّ الوقت متأخّر ذاتا عن وجود العالم ، لأنّ تحقّق الوقت انّما هو بحدوث العالم الجسماني وحصول الحركة الدورية ، فقبل ذلك لا يكون وقت. فاختصاص حضور الوقت والزمان في آن حضورهما لتوقفهما على حدوث العالم الجسماني ، فالتخصيص فيهما معلّل به ، فانّ وجه تخصيص حدوث العالم الجسماني بالوقت التقديري الّذي حدث فيه - أعني : الدهر والواقع - عدم قبوله الوجود الأزلي واقتضاء عدم ذاته ومرتبته للحدوث في الوقت الّذي حدث. والحاصل على ما اخترناه من الحدوث الدهري وتفسير الدهر بمرتبة الشيء وحدّه في ذاته وكون الشيء موجودا في الدهر بكونه موجودا في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته أن يقال : لكلّ

ص: 344

شيء من الأشياء حدّ ومرتبة ليس في حد (1) ذاته وحقيقته أن يتجاوزه ، فالموجودات الغير الزمانية من العقول والزمان حدّ مراتبها أن يكون موجودة لا في زمان ومبدعة في غير امتداد على ما وجد - أي : كونها موجودة في الخارج - من دون أن يكون في طرف ممتدّ ، كما أنّ الواجب يقتضي في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته أن يكون ازليا. والوقت مرتبته وحدّ ذاته أن يوجد كما وجد ولم يكن في منّته التجاوز عنه ، ولا يعلّل حضوره فيما حضر بشيء سوى حدّ ذاته ومرتبته في الواقع. والموجودات الزمانيّة مراتبها وحدود ذواتها وحواقّ حقائقها أن يوجد كلّ منها في الوقت الّذي وجد. وكما أنّ للزمان والوقت مدخلية ومناسبة لبعض الموجودات فكذا للدهر والسرمد - أي : مجرّد الواقع ومحض نفس الأمر - من دون امتداد وتصرّم فيه مدخلية ومناسبة لبعض آخر منها ، فان كلاّ منها حدود ومراتب للموجودات الواقعة فيه ؛ ولا فرق إلاّ في أنّ الزمان وعاء ممتدّ متصرّم وطرف للمتغيرات ، ولذا تعقّلها سهل لمن ألف بالزمان. والسرمد والدهر وعاءان للثابتات ، ولا تغيّر ولا تصرّم فيها ، ولذا تعقّلها متعسّر على المتغيرات ومن الف بالزمان. فظهر انّه / 74DA / لا مانع من الزام انّ للوقت مدخلية في الأصلحية. وإلاّ يلزم التسلسل ، لأنّ حدوث الوقت وحضوره في الوقت حضروا علة اختصاصة به انّما هو لمدخلية الواقع / 77MB / الّذي حدث فيه لحدوثه فيه ، واقتضاء ذات الوقت أيضا أن يقع فيه وكون ذلك أصلح وأحسن. وبالجملة علّة اختصاص وجود كلّ شيء في ظرفه ووعائه انّما هو لأجل هذا الظرف ومناسبة كلّ من الظرف والمظروف للآخر ومدخلية كلّ منهما لاصلحية وقوع هذا المظروف في هذا الظرف ، فكلّ وقت وزمان مناسب لأن يقع فيه ما يقع فيه من الموجودات الزمانية ، والدهر مناسب لوقوع ما يقع فيه من العقول والعالم الجسمانى والزمان. فكما أنّ الزمان والوقت من مراتب وجود الزمانيات وحدود ذواتها ووقوعها فيه من مقتضى ذاتهما فكذلك الدهر من مراتب وجود المبدعات من العقول ونفس الزمان وحدودها ، فوقوعها فيه من مقتضى ذات كلّ من الحدّ والمحدود ولازم حقيقة

ص: 345


1- الاصل : - حدّ.

كلّ من المرتبة وذي المرتبة.

وعلى هذا فتحرير الجواب عن الشبهة المذكورة أن يقال : انّ الوجود الأزلي للعالم ممتنع ، فكون الواجب وجميع صفاته الكمالية قديما لا يكفي في ايجاده ، لأنّ الممتنع لا يصير متعلّق الايجاد.

وأورد عليه : بأنّ الوجود الأزلي للممكن إذا كان ممتنعا لذاته فذاته لا بدّ أن يقتضي العدم ، فان اقتضى العدم المطلق فيجب أن يكون معدوما دائما - وإلاّ يلزم الانقلاب - ، وان افيض العدم في وقت فآل الأمر إلى مدخلية الوقت ، فلا بدّ من القول بعدم الزمان. وحينئذ فلا حاجة إلى التمسّك بكون الوجود الأزلي للممكن ممتنعا لذاته.

فان قلت : لعلّه اقتضى العدم قبل الوجود لا العدم في وقت خاصّ حتّى يلزم ما ذكرت ؛

قلت : فلا بدّ أن يثبت له دائما العدم قبل الوجود وانّه محال. وبالجملة الممكن إن اقتضى العدم بذاته من غير مدخلية شيء اصلا يجب أن يكون معدوما دائما بالعدم الّذي هو مقتضاه ، وإن كان عدما مطلقا فعدما مطلقا وإن كان عدما في وقت خاصّ فعدما في وقت خاصّ - أي : يجب أن يكون معدوما دائما في ذلك الوقت - وانّه محال. وكذا إن كان المقتضي العدم قبل الوجود أو تقييد آخر مثله وان اقتضى العدم بمدخلية شيء أو من وقت أو غيره. فاذا لم يكن ذلك الوقت مثلا لم يقتض العدم واستعدّ لايجاد الفاعل ايّاه ، فننقل الكلام إلى ذلك الأمر الآخر ويبقي الاشكال بحاله ، فان تمسّك بتقدّم الزمان الموهوم فهو - على تقدير صحّته! - يكفي في دفع الاشكال ، ولا حاجة إلى ما ذكر ؛ انتهى.

والجواب : اختيار انّه يقتضي العدم قبل وقت الحدوث ولا يقتضيه بعده ، وما ذكره من أنّه يلزم حينئذ مدخلية الوقت فنقول : ممنوع ، ولا يلزم قدم الزمان. لأنّ ذلك إذا توقّف حضور هذا الوقت على وقت آخر ، وهو ممنوع ؛ لأنّ اختصاص الوقت بحين حضوره وعدم امكان وجوده قبل ذلك انّما هو لذات الوقت واقتضاء ذاته لوقوعه

ص: 346

في الواقع الّذي هو مرتبة وجوده وحدّ إنّيّته إذ ممتنع مدخلية الوقت وتعلّل اقتضاء العدم قبل الحدوث بذات العالم الجسماني ؛ ونقول : وجود الوقت فيما وجد معلّل بوجود العالم الجسمانى ووجود العالم الجسماني في الوقت التقديري - أي : الواقع الّذي وقع فيه - معلّل بذاته وبمناسبة ذاته للواقع الّذي هو حدّ وجوده ومرتبته - أي : الواقع الّذي وقع فيه -. وعلى ما ذكر يمكن أن يعلّل اختصاص الحدوث بوقته بمجرّد العلم بالأصلح - كما ذكرناه أوّلا -.

ويجاب عن ايراد لزوم التسلسل بأحد الوجهين المذكورين. فاذا علّل اختصاص حدوث العالم بوقته بالعلم بالأصلح فاذا قيل : ترجيح الوقت الخاصّ باعتبار العلم بالاصلح لا يعقل إلاّ إذا كان لذلك الوقت مدخلية في الأصلحية ، فيتوقّف على حضور ذلك الوقت وننقل الكلام إليه ، فيلزم التسلسل.

وإمّا أن يجاب عنه : بتسليم مدخلية الوقت في الأصلحية وبأن رجّح حضوره في الوقت التقديري الّذي حضر هو ذات الوقت وحقيقته وحدّ وجوده ومرتبته - كما مرّ -.

أو يجاب عنه : بأنّا لا نعلّل تخصيص الايجاب بوقت حتّى يلزم التسلسل ، بل نعلّله بذات العالم وحقيقته وحدّ ذاته ومرتبة وجوده ، فانّ ذات العالم يقتضي وقوعه في مرتبته الّتي هي الواقع الّذي وقع فيه ، ثمّ بعد وقوعه يحصل الوقت والزمان.

ثمّ على الوجه الأوّل يكون المراد بوجوب صدور العالم في وقت / 74DB / الحدوث وجوبا بالغير ، وبامتناع صدوره في غير ذلك الوقت امتناعا بالغير. لأنّ الوجوب والامتناع انّما هو لأجل العلم بكون بعض الاوقات أصلح ، ولذات الوقت لا لأجل / 78MA / العالم ذاته ؛ إلاّ أن يقال : الوقت أيضا من جملة العالم. وعلى الوجه الثاني إن علّل عدم الوقت قبل وقت الحدوث بتوقّفه على وجود العالم وعلّل وجود العالم بالوقت الّذي وجد بحقيقة العالم وذاته فيكون وجوب الصدور في وقته حينئذ وجوبا بالذات وامتناعه في غير ذلك الوقت امتناعا بالذات.

وقال بعض الأفاضل ما حاصله : انّ علّة انفكاك الإرادة عن المراد وتخصيصه

ص: 347

بقدر من الزمان عند بعضهم كون بعض الأوقات أصلح للصدور ، وعند بعض آخر امتناع الصدور في غير ذلك الوقت ، ولا خفاء في أنّ كون بعض الأوقات أصلح للصدور غير راجع إلى امتناعه في غير ذلك الوقت إن لم يحكم بوجوب الأصلح. وعلى هذا فمؤدّى العبارتين مختلف ، إذ هؤلاء يقولون بصدوره في ذلك الوقت على سبيل الأولوية وهؤلاء على سبيل الوجوب. وأمّا إن حكم بوجوبه - بناء على أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، كما هو مختار جماعة - فمؤدّى هاتين العبارتين واحد بناء على أنّ المراد بالامتناع الامتناع بالغير ، إذ وجود العالم في الأزل غير ممتنع بالذات. وكذا ايجاد الفاعل فيه من حيث هو فاعل ، وإلاّ لم يكن الحدوث دليل القدرة ولمّا احتاج إلى الإرادة المخصصة. وإذا كان المراد بامتناع الصدور في غير ذلك الوقت امتناعا بالغير ، لزم منه وجوب الصدور في ذلك الوقت وجوبا بالغير ، لأنّ من قال بامتناع الصدور في غير ذلك الوقت قال بوجوب الصدور في ذلك الوقت ولم يقل بالأولوية ، إن امتناعا غيريا فوجوبا غيريا وإن ذاتيا فذاتيا ، وإذا لزم منه الوجوب بالغير في ذلك الوقت. ولا ريب أنّ القول بكون بعض الاوقات أصلح للصدور أيضا مستلزم للوجوب بالغير ، فانّ الوجوب بسبب العلم بالأصلح وجوب بالغير قطعا ، فيكون مؤدّى العبارتين واحدا ؛ انتهى.

وهذا القائل - كما ترى كلامه - قد حكم بأنّ الامتناع في غير وقت الحدوث امتناع بالغير مطلقا.

وممّا قدّمناه يظهر ما فيه من الاجمال.

وبعضهم حكم بأنّه امتناع بالذات ، حيث قال : الظاهر انّ مراد من حكم بامتناع الصدور قبل وقت الحدوث ليس امتناعا بالغير ، بل مراده الامتناع بالذات - أي : لذات الوقت - كما أشار إليه المحقّق الطوسي وقال : فرقة اعترفوا بتخصيص آن أوّل الايجاد بالحدوث لوجود علّة لذلك التخصيص غير الفاعل ، ويجعلون علّة التخصيص مصلحة تعود إلى العالم ؛ وفرقة قالوا بتخصيصه لذات الوقت على سبيل الوجوب و

ص: 348

جعلوا حدوث العالم في غير ذلك الوقت ممتنعا (1). وحاصل كلامه - رحمه اللّه - : انّ بعضهم تمسّكوا بكون بعض الأوقات أصلح للصدور ، وحينئذ فمن يكتفي في وجود الشيء بالأولوية يقول بصدوره بها ، ومن يوجب الوجوب يقول به. وبعضهم يقولون انّ صدور الفعل في غير ذلك الوقت ممتنع لذات الوقت ، إذ لا وقت قبل ذلك الوقت.

وحينئذ لا مجال لتوهّم رجوع العبارتين إلى شيء واحد ، لأنّه بناء على كون بعض الأوقات أصلح إذا اكتفى بالأولوية فالفرق بين العبارتين ظاهر. وإن لم يكتف بها واشترط الوجوب فيكون الامتناع في أحد العبارتين امتناعا بالغير وفي الأخرى امتناعا بالذات - أي : لذات الوقت - ؛ انتهى حاصل كلامه. وبما ذكرنا يظهر ما في هذا الكلام أيضا من الاجمال.

فان قلت : إذا كان الوجود الأزلى للعالم ممتنعا فلا تكون العلّة التامة لوجود العالم متحقّقة في الأزل ، فلا يكون الواجب لذاته في الأزل علّة تامّة للعالم! ؛

قلنا : الامكان من مراتب المعلول ومأخوذ من جانبه لا من جانب العلّة - كما هو المقرّر المعلوم - ، فاذا لم يكن امكان الوجود الأزلي للعالم متحقّقا في الأزل كان النقص في جانب المعلول وإن كان الواجب علّة تامّة له.

فان قلت : فيصدق حينئذ لزوم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة مع أنّ مقتضى البراهين وجوب معية المعلول مع العلّة التامّة وعدم جواز التخلّف عنها ؛

قلنا : مقتضى البراهين وجوب تحقّق المعيّة الّتي لا يأبى عنها ذات المعلول بينهما ، وأمّا المعية الّتي تأبى عنها ذات المعلول فنمنع تحقّقها. كما انّ المعلول يمتنع أن يكون في مرتبة ذات العلّة التامّة في الخارج - وهو ظاهر - ، وفي الذهن - كما انّا نعقل العلّة التامّة وليس في تلك المرتبة ذات / 75DA / المعلول - ، فيلزم التخلّف. ولا فرق في التخلّف بين الوجود الخارجي والوجود الذهني أصلا. والقول / 78MB / بأنّه كلّما تعقّل العلّة التامّة يكون المعلول أيضا موجودا في تلك المرتبة خلاف الوجدان ، فانّ ماهية الأربعة علّة تامّة للزوجية مع أنّه

ص: 349


1- راجع : شرح الاشارات والتنبيهات ، المطبوع مع المحاكمات ، ج 3 ، ص 131 ؛ شرحي الاشارات ، ج 1 ص 238. وانظر أيضا : تلخيص المحصّل ، ص 206.

يمكن لنا أن نتصوّر ماهية الأربعة دون الزوجية ، لأنّ الزوجية ليست في تلك المرتبة ، لأنّ الماهية من حيث هي ليست إلاّ هي ، والزوجية تكون في مرتبة أخرى ؛ هذا.

وعلى القول بأنّ علّة التخصيص هو العلم بالأصلح نقول في الجواب عن لزوم التخلّف عن العلة التامّة : بأنّا لا نسلّم انّ انفكاك العلّة التامّة عن المعلول محال مطلقا ، بل إذا استلزم الترجيح من غير مرجّح ؛ ولمّا كان اختصاص وجود العالم بآن حدوثه مستندا إلى الإرادة الّتي هي عين الذات وعين العلم بالأصلح ، فالذات بملاحظة ما به يرجع الفعل اقتضت هذا الاختصاص ، فوجوب وجود العالم في الوقت المخصوص لا يستلزم الترجيح بلا مرجّح ، فلا يرد التخلّف المحال.

ثمّ الحقّ انّ محالية تخلّف العلّة عن المعلول قد يكون من حيث انّه مستلزم للترجّح بلا مرجّح ، وقد يكون من حيث انّه مستلزم للترجيح بلا مرجّح وإن استلزم الثاني الأوّل أيضا. فما قيل : انّ محالية تخلّف العلّة التامّة عن المعلول ليست من حيث انّه مستلزم للترجّح بلا مرجّح بل للترجيح بلا مرجّح - ولذلك ترى الأشاعرة لا يجوّزون ذلك مع تجويزهم الترجيح بلا مرجّح - لا يخفى ما فيه ؛ هذا.

وقيل : انّ المحالية الّتي ليست بالذات بل من حيث استلزامه للترجيح بلا مرجّح انّما هو محالية تخلّف العلّة التامّة عن المعلول ، لا محالية تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، إذ الظاهر انّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة محال لذاته مناقض لتمامية العلّية وعليته ؛ انتهى.

وفيه : انّه لا فرق بين تخلّف المعلول عن العلّة التامّة وتخلّف العلّة التّامة عن المعلول ، فانّه ليس شيء منهما محالا ذاتيا ، بل المحالية للاستلزام المذكور. نعم! قد يطلق العلّة التامّة على ما يترتّب عليه المعلول بالفعل ، وحينئذ فتخلّف المعلول عنه محال لذاته ، لكن لا فرق حينئذ أيضا بين تخلّف المعلول عن العلّة التامّة وتخلّف العلّة التامّة عن المعلول إلاّ بالعبارة ؛ هذا.

وأورد على الجواب الّذي ذكرناه أخيرا عن لزوم تخلّف العلّة عن المعلول : بأنّ تخلّف العلّة التامّة عن المعلول مستلزم للترجيح بلا مرجّح البتّة ، وحديث العلم

ص: 350

بالأصلحية لا يدلّ على جوازه ، بل إنّما يقتضي أنّ العلّة ليست بتامّة بدون الوقت وبعد تحقّق الوقت لا يتخلّف ، فلم يلزم تخلّف العلّة التامّة عن المعلول لا أنّه لزم التخلّف المذكور على وجه غير مستحيل ؛ وقد تقدّم ما يكون جوابا عن ذلك. على أنّه لو سلّم ذلك لم يضرّنا ، لثبوت المطلوب به.

والحقّ الحقيق بالتصديق انّ مجرّد الانفكاك بين العلّة والمعلول ليس مستحيلا ، كيف ولو كان كذلك لزم هذا الايراد أيضا - أعني : لزوم تخلّف العلة عن المعلول - على الحكماء أيضا! ، لأنّه لا ريب في أنّ الوجود حوادث زمانية وعلل الوجود قديمة ازلية ،

فعلى الحكم بوجوب تحقّق المعلول مع وجود علّته كيف يكون الحادث معلولا للقديم؟!. والشروط المتعاقبة المعدّة لا ينفع في رفع التخلّف ، إذ المعدّات كالوجودات كلّها ممكنات محتاجة إلى علل تامّة متحقّقة معها ، كما انّ المجتمعة مع محاليتها اتفاقا لا يرفعه ، بل في صورة التعاقب يلزم تخلّفات زمانية غير متناهية بالعدد وفي صورة الاجتماع يلزم تخلّف غير متناه بالزمان. وجواب الحكماء عن ذلك إنّما هو بالتمسّك بقطعة فرضية عديمة البداية من متّصل تدريجي الوجود غير قارّ الذات اتمام تحقّقها بانقضائها هي شرط وجود الحادث ومتمّم استعداده ، فتكون لا محالة متقدّمة على وجود المشروط بحيث يكون آن انقضائها وعدمها آن أوّل وجوده. ولا ريب انّه على هذا الجواب أيضا يلزم أن لا تكون العلّة التامّة مع المعلول بالزمان ، بل تكون متقدّمة عليه ، لكن الحكماء يلتزمونه ويقولون : ذلك غير مستحيل ، بل من لوازم ماهية الشرط والمشروط. وغير خفىّ انّ الحكيم إذا قال هذا التخلّف ليس مستحيلا - لما ذكر - فللمتكلّم أن يقول : التخلّف لأجل العلم بالأصلح أو لذات الوقت أيضا ليس مستحيلا.

على أنّك قد عرفت فيما سبق ما يرد على المتشبّث بالقطعة العرضية وتصحيح ربط الحادث بالقديم ؛ هذا.

مع أنّ ذلك التخلّف إنّما يرد على المتكلّم القائل بأنّ البارى - تعالى - موجود قبل وجود العالم في زمان موهوم عديم البداية لا يكون فيه شيء من الممكنات أو معه. وأمّا من قال بتعاليه عن الزمان واختصاصه بالجسمانيات وعدم معقوليته قبلها - كما

ص: 351

عليه المحقّقون منهم - فكلام / 75DB / مبهم.

ولقائل أن يستفسر ويقول : لم خصّص اللّه - تعالى - وجود العالم بوقت كذا ولم يوجده في زمان أكثر من هذا ، مع أن نسبة ذاته وصفاته الحقيقية إلى جميع الأقدار للزمان / 79MA / على السواء؟! ؛

فيجاب عنه : بأنّ علمه بمصالح الموجودات أو ذات الوقت مرجّح بل موجب لايجاده. هكذا كما يستفسر الحكيم ويقال : لم صارت. الافلاك وحركاتها مخصّصة بتلك الأقدار والمناطق والجهات؟! ؛

فنقول : تلك من مقتضيات نظام الخير أو مقتضيات الصور النوعية للأفلاك.

قال بعض المشاهير : إن قيل : انفكاك العلّة التامّة عن المعلول - أي : تقدّمها عليه بالزمان - ممكن ، ولزم للحكماء القول بامكانه ، فانّ الحادث في آن الحدوث له علّة تامّة بلا شبهة ، ولا نزاع لأحد في وجوب أن يتقدّم تلك العلّة عليه بالزمان ، إذ لو كانت معه بالزمان لكانت تلك العلّة أيضا حادثة ، لأنّ العلّة التامّة الّتي تكون مع الحادث بالزمان يجب أن تكون حادثة ولو بجزء واحد. فاذا كانت تلك العلّة حادثة لكانت لها علّة أيضا ، فننقل الكلام إلى علّة تلك العلّة ، فلا يخلوا إمّا أن تكون مع معلولها بالزمان أو تكون متقدّمة عليه ، فعلى الثاني يلزم التخلّف ، وعلى الأوّل تكون تلك العلّة حادثة أيضا فتكون لها علة أيضا. وننقل الكلام إلى تلك العلّة ... وهكذا ؛ فيلزم الانتهاء إلى علّة تامّة متقدّمة على المعلول بالزمان ؛ وإلاّ لزم ترتّب العلل الغير المتناهية. فان كانت جميع تلك العلل وجودات لزم ترتّب العلل الغير المتناهية مجتمعة - وهو باطل باتفاق العقلاء - ، وإن كانت جميعها عدمات بأن يترتّب الأمور الغير المتناهية المتعاقبة وتكون عدم كلّ أمر من تلك الأمور علّة فاعلية لحصول أمر آخر فعلى فرض تسليم جواز كون العدم علّة فاعلية للوجود مع بداهة بطلانه نقول : لمّا كان جميع تلك العدمات ممكنات حادثة متحقّقة مع الحادث في آن الحدوث يلزم أن يكون لها علل ، فان تحقّقت تلك العلل معها لزم الترتّب في تلك العلل الغير المتناهية مجتمعة في الوجود ، وبطلانه ظاهر. وإن لم يتحقّق تلك العلل معها في آن الحدوث لزم تخلّفات زمانية غير متناهية بالعدد. وإن

ص: 352

كان بعضها وجودات وبعضها عدمات فلا يخلوا من كون الوجودات متناهية والعدمات غير متناهية ، أو العكس ، أو كون كلّ واحد منهما متناهيا أو غير متناه ، ووجه الفساد في كلّ من الشقوق ظاهر.

ثمّ الترديد في العلل المذكورة بكونها وجودات أو عدمات متحقّقة مع الحادث مبني على أنّ الكلام في الفاعل المستجمع لجميع شرائط التأثير الّذي يجب أن يجتمع وجود المعلول مع وجوده في آن الحدوث والايجاد ، لا في العلّة المعدّة الّتي يجب عدم اجتماعها مع المعلول. فلا يرد أن يقال : لم لا يجوز أن تكون تلك العلل أمورا وجودية معدّة لا يجتمع وجودها مع المعلول ، فلا يتعيّن أن تكون وجودات أو عدمات متحقّقة مع الحادث المذكور. وإذا كانت عللا معدّة فلا يمتنع عدم التناهى عندهم ، لأنّ الحوادث مستندة بالقديم عندهم لعلل حادثة غير متناهية غير مجتمعة ، ويقولون : التسلسل في الأمور الغير المتناهية المتعاقبة لا يكون باطلا. على أنّك قد عرفت بطلان هذا التسلسل أيضا. وبالجملة فالتخلّف في الحوادث الزمانية لازم على الحكماء أيضا ؛ وبذلك يندفع كلامهم على المتكلّمين في جواز تخلّف العلّة التامّة عن المعلول.

ثمّ أجاب : بأنّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة بحيث لا يخلّل زمان بين تحقّقهما أصلا - لا بحسب الخارج ولا بحسب التوهّم - جائز عند الحكماء ، بل لزمهم أن يلتزموه ، كتقدّم اجزاء الزمان بعضها على بعض وتقدّم دورة من الحركة على دورة أخرى منها متّصلة بها ، فانّ الحكماء يجعلون الحركة والزمان اجزاء من العلّة التامّة وقالوا انّهما معدّات. وأمّا تخلّف العلّة التامّة عن المعلول بحيث يتخلّل بينهما زمان وهي كما يلزم من الحكم بأنّ القديم مع الإرادة القديمة علّة تامّة لتعلّق الإرادة باحداث الحادث الزمانى فهو ممّا يستحيل بحسب الجليل من النظر ، بناء على أنّه لا يجوز الترجيح بلا مرجّح ، فلا بدّ من بيان امكانه وكونه بمنزلة التقدّم الّذي يلزمهم التزامه.

والحاصل : انّ التخلّف قسمان : أحدهما جائز وهو التخلّف الغير المتكمّم الصريح ؛ ثانيهما : محال ، وهو التخلّف المتكمّم الغير الصريح. وما يلزم على الحكماء هو الأوّل ، وهو جائز ؛ وما يلزم على المتكلّمين هو الثاني ، وهو محال.

ص: 353

ثمّ قال لبيان امكان الثاني وكونه بمنزلة الأوّل : انّ العلم بالأصلح هو المرجّح ، فالذات يقتضي احداث الحادث في آن الحدوث بواسطة الإرادة الّتي هي العلم بالأصلح ؛ انتهى ما ذكره بتوضيحه.

وقد ظهر من قوله : « انّ تخلّف العلّة عن المعلول بحيث لا يتخلّل زمان بين تحقّقهما جائز عند الحكماء » أيضا. ولا ريب انّه على القول بالحدوث الدهري / 76DA / - على ما اخترناه - لا يلزم التخلّف بحسب الزمان. على أنّه لم يظهر من كلامه ما يندفع به لزوم التخلّف بحسب الزمان على الحكماء ، مع أنّ ما اورده عليهم من لزوم التخلّف في الحوادث هو تخلّف زماني. ووجه الدفع عنهم هو التمسّك بالحركة السرمدية - على / 79MB / ما ذكره المحصّلون منهم - ، وقد عرفت أنّ التخلّف معه لازم وكثير (1) منهم يلتزمونه.

فان قيل : ما جوّزه الحكماء من التخلّف الّذي لا يتخلّل بين تحقّقهما زمان إنّما هو إذا كان زمان العلّة متّصلا بزمان المعلول ولا يتخلّل بينهما شيء أصلا - كما مرّ من تقدّم اجزاء الزمان والدورات بعضها على بعض -. لأنّهم قالوا : انّ القديم لا يمكن أن يصير علّة للحادث الزماني بذاته فقط ولا بانضمام ما هو شرط لوجود ذلك الحادث فقط ، بل لا بدّ هناك من علّة معدّة أيضا لتتميم علّة ذلك الحادث بما هو علّة له والمعدّة فيه ، فيبنى كونه متقدّما بحسب الزمان. فالعلّة التامّة للحادث انّما يجب وجودها بما هي علّة تامة له قبل زمان ذلك الحادث ، ولكن بحيث يتصل زمانها بزمانه. وبالجملة فالمجوّز من التخلّف عند الحكماء هو التخلّف مع اتصال الزمان وعدم الانفكاك اصلا ، وعلى القول بالحدوث الدهري لا بدّ من الانفكاك الواقعي - كما مرّ -.

قلنا : الظاهر انّ منشأ استحالة التخلّف هو تحقّق وقت مع وجود العلّة بدون المعلول ، وإذا لم يوجد وقت فلا يتأتّى التخلّف المستحيل ؛ كيف ولو كان تخلّف المعلول مع العلّة لازما مطلقا فكما يمتنع حينئذ الانفكاك - سواء كان مع تخلّل زمان أم لا - كذلك يمتنع تحقّق العلّة في آن وتحقّق المعلول في آن بعده؟! ، بل يجب حينئذ كون

ص: 354


1- الاصل : ولكنهم.

المعلول في ذلك الآن. فمنع الأوّل وتجويز الثاني لا وجه له.

وأيضا علّة الحادث على هذا - أي : مع اتصال الزمان - تكون موجودة في آن وجد المعلول بعده ، إذ لو وجدت قبله أيضا لزم التخلّف مع التعلّل البتة ، وحينئذ فعلّة تلك العلّة أيضا يجب أن تكون موجودة في ذلك الآن ، إذ لو وجدت قبله بالزمان يلزم التخلّف ولو وجدت قبله بالآن يلزم تأتّي الآنات ، فيلزم إذن وجود العلل الغير المتناهية في الآن المفروض وعاد المفروض.

ثمّ إنّ الحكماء قد تشبّثوا في الجواب عن هذين الاشكالين أيضا بما يصحّحون به الربط بين الحادث والقديم - أي : بأمر تدريجي الوجود غير قارّ الذات - كالحركة تكون اتمام تحقّقها بانقضائها ، ويكون هو شرطا لوجود الحادث ومعدّا له بحيث يكون آن انقضائه هو آن أوّل وجود الحادث ، وكلّ قطعة فرض من ذلك الأمر يتوقّف على قطعة أخرى سابقة عليها يكون معدّا لها على ذلك الوجه. وكلّ جزء فرض من القطعة الثانية يكون وجود هذا الجزء السابق عليه شرطا لوجوده ومعدّا له ، فما لم يوجد لم يوجد ، فلا يلزم وجوب وجود القطعة الثانية بتمامها عند وجود القطعة الأولى وانقضائها.

ويرد عليه - كما تقدّم - : انّه مع التشبّث المذكور يلزم أيضا أن لا تكون العلّة التامّة مع المعلول ، بل تكون متقدّمة عليه ، وهم يلتزمونه ، فنحن أيضا نلتزم ما يرد علينا من التخلّف لأجل العلم بالأصلح أو لذات الوقت - كما مرّ مرارا -.

فان قيل : الممكن كما يحتاج إلى العلّة في الحدوث يحتاج إليها في البقاء ، والعلّة المبقية يجب كونها مع المعلول بحسب (1) الزمان ؛ فكيف يتقدّم عليها؟!.

قلنا : انّما يحتاج في البقاء إلى العلّة المفيدة لأصل الوجود والبقاء لا إلى جميع ما يتوقّف عليه ابتداء وجوده. فانّ المعدّات انّما هي معدّات لابتداء الافادة لا لأجل الافادة. فالعلّة التامّة من حيث هي علّة تامّة لابتداء افادة الوجود يجب تقدّمها على المعلول ، ومن حيث هي علّة تامّة لافادة أصل الوجود والبقاء تبقي مع المعلول ، فهي

ص: 355


1- الاصل : يجب.

متقدّمة على أوّل زمان وجود المعلول من حيث هي محدثة وتبقي معه في الزمان من حيث هى مبقية.

فان قيل : العلّة المعدّة ما لعدمه مدخل في وجود المعلول ، وعدمها مقارن لوجوده لا سابق عليه! ؛

قلنا : المعدّ ما لوجوده وعدمه - كليهما - مدخلية في وجود المعلول ، فالعلّة مع وجود المعدّ سابق على المعلول ومع عدمه مقارن له.

فان قيل : على ما ذكرت من أن الواجب - تعالى - ليس زمانيا والتخلّف انّما يلزم ويستحيل إذا كانت العلّة التامّة موجودة في زمان موجود أو موهوم لم يوجد المعلول فيه يلزم بعد تسليم صحّة كونه - تعالى - غير زماني جواز عدم الحادث مثلا في اليوم وان تحقّق جميع ما يتوقّف عليه وجوده ؛ لكونه - تعالى - غير زمانى ، فلا يكون في اليوم ، فمعلوله الّذي يجب أن يكون معه لا يكون أيضا في اليوم! ؛

قلت : المعلول يجب أن يكون / 76DB / مع العلّة في الواقع ونفس الأمر ، وإذا لم تكن العلّة والمعلول كلاهما زمانيين تكون بينهما معية واقعية من دون أن يكون وجود واحد منهما مقارنا للزمان. وإن لم تكن العلّة زمانية وكان المعلول زمانيا تتحقّق بينهما أيضا معية واقعية. وإن كان المعلول في الزمان فعدم كون العلّة زمانية لا يوجب عدم تحقّق المعلول في الزمان ؛ هذا.

واعلم! أنّ بعض الأفاضل فرّع على ما ذكر في جواب الشبهة المذكورة من أنّ الوجوب بالاختيار لا ينافى الاختيار أنّه حينئذ لا يشنع على الحكماء في القول بأنّ الايجاب لا ينافى القدرة سواء كان الايجاب دائما أم لا ، و/ 80MA / أورد عليه : بانّه لم يشنع أحد على الحكماء من هذه الجهة ، وانّما شنع عليهم من شنع عليهم لزعمه أنّهم قائلون بالايجاب بالمعنى الأوّل - أعني : كون فعله من قبيل أفعال الطبائع - ، أو بالمعنى الثّاني - أعني : وجوب صدور الفعل دائما وقدم العالم - ؛ وان كان الزعم بأنّهم قائلون بالايجاب بالمعنى الأوّل باطلا ونسبته إليهم فرية!. ثمّ قال الفاضل المذكور : والقدرة بالمعنى الّذي ينبغي أن يكون مراد المتكلّمين - وهو صحّة الفعل والترك بالامكان

ص: 356

الوقوعي - لا يجامع القول بايجاب ما مطلقا ، سواء كان دائما أم لا. فانّ الظاهر انّ مرادهم بالقدرة صحّة الفعل في وقت وتركه في ذلك الوقت ، إذ المراد بالترك في قولهم صحّة الفعل والترك ما هو مقابل الفعل ، ووحدة الزمان معتبرة في التقابل ، فالترك الّذي بفرض في زمان الفعل هو المقابل للفعل ، لا الّذي يفرض قبله ، لعدم ايجاد الزمان. فالفعل إذا وجب في وقت ما لم يمكن أن يكون فاعله بالاختيار فيه - لعدم امكان وقوع الترك فيه -. فالقول بالاختيار بهذا المعنى ليس إلاّ للأشعري فقط ، إذ عنده يجوز أن يقع بدل الفعل تركه لعدم قوله بالوجوب اصلا ، فعنده الفاعل مختار وإن كان العالم قديما. فعلى هذا لا يرجع النزاع في الايجاب والاختيار إلى طائل سوى حدوث الأثر ؛ وقد مرّ. فالحقّ انّ هذا النزاع لا ينبغي أن يكون إلاّ بين الاشعري والحكيم ، فاحفظ هذا ؛ انتهى ؛ هذا.

وفيه ما أورد عليه بعض الأعلام : بأنّ مراد المتكلّمين بالصحّة هو الصحة بالقياس إلى الذات بدون اعتبار الإرادة لا الامكان الوقوعي على ما زعمه. ثمّ بعد حمله على الامكان الوقوعي يجب حمله على الفعل والترك في وقتين وإن كان تكلّفا حتّى لا يلزم ما ذكره. وكيف تحمل العبارة الواقعة في كلام المتكلّمين قاطبة وبعض الفلاسفة أيضا على ما لا يستقيم إلاّ على مذهب الأشعري؟!. فانّ حمل « الصفة » في تعريف القدرة على الامكان الوقوعي بمعنى جواز وقوع كلّ من الفعل والترك بدل الآخر ممّا تفرّد الأشاعرة بالقول به ، ولم يذهب إليه أحد غيرهم.

تتميم

المناسب هنا أن نشير إلى أقوال المتكلّمين واختلافاتهم في علّة تخصيص حدوث العالم بوقته وجواب ايراد الفلاسفة عليهم.

فنقول : لمّا كان الفاعل المختار عندهم هو الّذي يتساوى مقدوراته بالقياس إليه من حيث هو قادر احتاجوا إلى اثبات شيء بسببه يتخصّص الطرف الّذي يختاره. فاثبتوا له إرادة تتعلّق بذلك الطرف ويتخصّص ذلك الطرف لأجلها ؛

فالأشاعرة على أنّها زائدة على الذات والقدرة والعلم وسائر الصفات وقديمة ،

ص: 357

ولكن تعلّقها متجدّد حادث بها يرجّح وجود الفعل في وقت من الأوقات من دون مرجّح ومخصّص آخر ؛ إذ شأنها عندهم ذلك ؛

وبعض شيوخ المعتزلة - كأبي الهذيل العلاّف وأبى على الجبائى وابنه أبي هاشم المثبت للأحوال - على أنها متجدّدة حادثة. وهم مع قولهم بتجدّدها قالوا : انّ إرادة الشيء عين خلقه وعين الحكم والأمر والإخبار.

وقال معمّر بن عباد - وهو أيضا من مشايخ المعتزلة - : أنها متجدّدة وغير الخلق والأمر والحكم والاخبار. وقد كان هذا الشيخ يبالغ في حدوث الإرادة ونفي القول بالصفات الأزلية الزائدة ، ويكفّر به. وهو الّذي قال بأنّ كلّ عرض قام بمحلّ قائما يقوم به لمعنى اوجب القيام ، بل قال : كلّ معنى اتصف به شيء - حتّى مخالفة الضدّ للضدّ ومغايرة المثل للمثل - فانّما يتّصف به لمعنى اوجب الاتصاف ؛ فقال بعدم تناهى أفراد انواع الأعراض والمعانى ، والتجأ إلى القول بالتسلسل في كلّها. ولذلك سمّى هو وأصحابه « باصحاب المعانى ».

والكعبي وكثير من المعتزلة على أنّها قديمة غير زائدة على الذات والعلم وسائر الصفات. وهؤلاء من المعتزلة / 77DA / - الّذين لا يقولون بالارادة المتجدّدة - لا يقولون بتجدّد التعلّق أيضا ، بل لا يعترفون بتجدّد شيء غير الفعل اصلا. وهؤلاء في علّة انفكاك الإرادة عن المراد وتخصيصه بقدر من الزمان افترقوا إلى فرق : ففرقة قالوا : انّ العلّة هي كون بعض الأوقات أصلح وأولى ؛

فطائفة منهم يقول بوجوب الأصلح بمعنى كونه ممتنع العدم - بناء على أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد - ،.

وطائفة أخرى - كالبشرية وغيرهم من القدماء - قالوا بأولوية الأصلح دون / 80MB / وجوبه.

وفرقة قالوا : العلة هي امتناع الصدور قبل ذلك الوقت ، وإليه ذهب الكعبي.

ثمّ المشهور بين المحصّلين انّ مختار المحقّق الطوسي انّ الإرادة غير زائدة على الذات والعلم ، بل هي عين العلم بالأصلح وانّ العلّة في التخصيص هي كون بعض الاوقات

ص: 358

أصلح للصدور ، وانّ العلم بالأصلح هو موجب. ولا ريب في كون الإرادة عنده عين الذات والعلم بالأصلح - كما هو الحقّ المنصور - ؛ ولكن في كون علّة التخصيص عنده هو العلم بالأصلح وكونه موجبا للصدور ، ففيه تأمّل ؛ لأنّ قوله في بحث الجواهر حيث قال : واختصّ الحدوث بوقت إذ لا وقت قبله (1) يدلّ على انّ علّة التخصيص هي امتناع الوقت قبل ذلك الوقت.

قيل : الظاهر انّ ما دعا الأكثر إلى الاعتقاد بانّ المرجّح على سبيل الوجوب عنده هو العلم بالأصلح قوله في آخر مقصد اثبات الصانع وصفاته : والأصلح قد يجب على اللّه تعالى - لوجود الداعي وانتفاء الصارف (2) ؛

وفيه : انّ المراد بالوجوب هناك هو ما يذمّ تاركه عقلا ، والمراد به هنا هو ما يمتنع عدمه لتعلّق العلّة المستقلّة للوجود ، فهو خلط بين وجوب الأصلح بالمعنى المراد هناك وبين وجوب الأصلح بالمعنى المراد هنا.

والظاهر انّ ما دعا الأكثر إلى نسبة ما نسبوه إليه هو ما صرّح به في مبحث الإرادة من التجريد : بأنّ الإرادة عين الداعي (3) والداعي عنده هو العلم بالأصلح. وفي شرح الرسالة : انّ حيثية قدرته - تعالى - وحيثية علمه بمقدوره لا يتغايران إلاّ بمحض الملاحظة العقلية ، وتوهّم تكثّرهما قياسا على الممكن خطاء ؛ والتنزيه أن يقال : ( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (4). ثمّ قال : والإرادة اخصّ من العلم والمتكلّمون ذهبوا إلى اثباتها ؛ فمنهم من قال : انّها صفة زائدة على العلم قديمة أو محدثة بها يتخصّص المراد من المعلوم ؛ ومنهم من قال : أنّها علم خاصّ بما في وجود المخلوقات من المصالح الراجعة إليهم ، وهو الداعي للايجاد. والحكماء زعموا أنّها العلم بنظام الكلّ على الوجه الأتمّ. وإذا كانت القدرة والعلم سببا واحدا مقتضيا لوجود

ص: 359


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة السادسة من الفصل الثالث من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ص ، 129.
2- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثامنة عشر من الفصل الثالث من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 270.
3- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الرابعة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 223.
4- كريمة 180 ، الصافّات.

الممكنات على النظام الاكمل كانت القدرة والعلم والإرادة شيئا واحدا في ذاته مختلفا بالاعتبارات العقلية (1) ؛ انتهى.

ولا ريب في أنّ ما نسب إليه المشهور يظهر من كلامه هذا.

ثمّ الفرق بين مختاره ومذهب الحكماء : انّ ملحوظ الفاعل المختار في الايجاد عنده حال المعلولات وعندهم حال الايجاد ، فانّهم يقولون : اتمّ انحاء التأثير هو الدوام ، وهو يقول : الأصلح بحدوث المخلوقات.

فان قيل : كون الإرادة قديمة وعين الذات والعلم بالأصلح ينافي ما ورد عن ائمّتنا الراشدين - علیهم السلام - من كونها حادثة ومن أنّها من صفات الفعل ومن الصفات الاضافية الّتي لا توجد ولا تعقل إلاّ مقرونة بفعل ومعية إليه - كالرازقية والرضاء والسخط - بخلاف العلم والقدرة ، فانّها من صفات الذات. وكذا ينافي ما ورد عنهم من أنّ المشية محدثة وانّ علم اللّه - تعالى - غير المشية سابق عليها ، ومن ان اللّه - تعالى - لم يزل عالما قديرا ثمّ أراد. وقد نقل جميع ذلك ثقة الاسلام - رحمه اللّه - في الكافي ، وأفاد بعد النقل ضابطة حاصلها : انّ كلّ صفة ثبوتية يوصف بها وبضدّها جميعا الباري - تعالى - كالارادة والكراهة فهي من صفات الفعل الزائدة على الذات حادثة ، وكلّ صفة تنفي عنه ضدّها كالعلم والقدرة فهي صفة الذات أزلية ، وإلاّ لا تصف بضدّها قبلها غير زائدة حينئذ لئلاّ يتعدّد القدماء (2) ؛

قلت : المراد بالارادة والمشية فيما ورد عنهم - علیهم السلام - تعلّقهما. ويقرب منه أن يكون المراد بالارادة في حقّه - تعالى - هو احداث الفعل على ما ورد عن العالم أنّ الإرادة من اللّه - تعالى - هو احداثه لا غير ذلك ؛ وحينئذ فلا منافاة.

وقال بعض الأعلام : لعلّ الإرادة الّتي غير زائدة على الذات هي المتعلّقة بمطلق الفعل وبوجود العالم جملة في الوقت الأصلح على أتمّ النظام ، وهي الّتي فيها الكلام ؛ / 77DB / ولا يمكن سبق شيء عليها ولا اتصافه - تعالى - بضدّها ، كما انّ علمه بذلك

ص: 360


1- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 42.
2- راجع : الاصول من الكافي ، ج 1 ، ص 111.

كذلك. بل الظاهر من كلام المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم : انّ علمه - تعالى - بالأصلح الّذي هو عين ذاته مرجّح لايجاد العالم في وقته ولا يحتاج إلى معنى آخر به يرجّح ذلك يسمّى « بالارادة ». وأمّا الإرادة المتعلّقة بخصوصيات الجزئيات المتغيّرة المتبدّلة من أفاعيله وأفاعيل عبيده فينبغي أن تكون زائدة متجدّدة. كيف لا؟! والعلم كذلك ، وذلك لا يوجب إلاّ التغير في الاضافات وفي الأمور المتباينة عن الذات. ولا يوهم التسلسل إذ يؤول الكلّ إلى الإرادة الأزلية / 81MA / والعلم الاجمالي كرجوع سلسلة الاسباب إلى ربّ الأرباب : قال اللّه - تعالى - : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (1) ، وبذلك يرتفع المخالفة ؛ انتهى.

وحاصل كلامه تقسيم الإرادة إلى الاجمالية والتفصيلية - كالعلم - ، وكون القديمة هى الأولى - وهي الإرادة المتعلّقة بمطلق الفعل وبوجود العالم جملة - ، والحادثة هي الثانية - وهي المتعلّقة بخصوصيات الجزئيات المتغيّرة المتبدّلة من أفاعيله تعالى وأفاعيل عبيده -.

وأنت تعلم انّ صحّة ما ذكره موقوف على صحّة القول بالاجمال والتفصيل في علمه - تعالى - ، وسيجيء - إن شاء اللّه - الكلام فيه.

الشبهة الثانية : انّ القدرة على الأمر بمعنى التمكّن على فعله وتركه إمّا حال وجود الأثر - وحينئذ يجب وجوده ، فلا يتمكّن من الترك - ، وإمّا حال عدمه ، فلا يتمكّن من الفعل.

ولا يخفى انّ هذه الشبهة جارية في نفي القدرة بالمعنى الثاني - أعني : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - لا بالمعنى الثالث الملزوم للحدوث. وأيضا لا اختصاص لهذه الشبهة لنفي قدرة الواجب - تعالى - ، بل يجري في نفي قدرة العبد أيضا.

ثمّ الظاهر انّ تلك الشبهة انّما تنتهض حجّة على من قال انّ نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء - كالمحقّق الطوسى وأكثر المعتزلة - ؛ وأمّا الأشاعرة القائلون بأنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بالطرفين بل تتعلّق بالطرف الواقع وانّ القدرة على الترك

ص: 361


1- كريمة 39 ، الرعد.

لا يكون حال الفعل وبالعكس ، فالظاهر عدم ورودها عليهم.

وجوابها : أمّا أوّلا : فباختيار الشقّ الأوّل ، يعني نختار انّ القدرة - أعني : التمكّن من الفعل والترك - حال وجود الأثر. قوله : « وحينئذ وجب وجود الأثر » يجاب عنه : بأنّ وجوب وجود الأثر بالارادة لا ينافي امكان الترك بالنظر إلى ذات القادر ، فانّ التمكّن من الفعل والترك انّما يكون بالنظر إلى ذات القادر من حيث هو قادر.

وأمّا ثانيا : فباختيار الشّق الثاني. والجواب عن قوله : « فلا يتمكّن من الفعل » : انّ وجوب الترك وعدم التمكّن من الفعل باعتبار الإرادة الموجبة لا ينافي امكان الفعل بالنظر إلى ذات القادر. وحاصل اختيار الشقّين انّ وجوب وجود المعلول حال وجوده وعدمه حال عدمه إنّما يكون بسبب الإرادة الموجبة لكلّ واحد منهما في حاله ، وذلك لا ينافي امكان الفعل والترك ولا يستلزم وجوبهما في حاليهما بالنظر إلى ذات القادر من حيث هو قادر من دون ملاحظة الإرادة وعدمها.

قال بعض الأعلام : هذا الجواب مبني على بناء الشبهة على الوجوب السابق الّذي قد يحصل بالارادة. وأمّا لو كان بنائها على الوجوب اللاحق - المعبّر بالضرورة بشرط المحمول - فالانسب في تقرير الجواب أن يقال : وجوب وجود المعلول حال الوجود بالنظر إلى الوجود لا ينافي امكانه بالنظر إلى الفاعل القادر وكذلك في حال العدم.

قيل : لمّا كانت علّة الترك هي ذات الفاعل وعلّة وجوب الاثر هي الإرادة وهما بالنسبة إلى ذاته - تعالى - متحدان بالذات ومتغايران بالاعتبار وقد ثبت انّ اتحاد العلّة يوجب اتحاد المعلول فينبغي أن يكون المعلولان هاهنا - أعني : ترك العالم ، أي : عدمه ووجوب وجوده - متحدين بالذات ومتغايرين بالاعتبار. مثل ما قال المحقّق الطوسى - رحمه اللّه - في شرح الاشارات في اثبات انّ علمه - تعالى - بالاشياء نفس ذاتها ما حاصله : انّ ذاته - تعالى - علمه للأشياء وعالم بذاته والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول ، وكما انّ العلّتين - أعني : ذاته تعالى وعلمه بذاته - متّحدان بالذات ومتغايران بالاعتبار فكذلك المعلولان - أعني : وجود الاشياء ومعلوليّتها - متّحدان بالذات ومتغايران بالاعتبار ، فعلمه بالاشياء / 78DA / نفس الأشياء. وإذا كان ترك

ص: 362

تأثير العالم مع وجوب وجوده متغايرين لمجرد الاعتبار فيلزم الايجاب الرافع للترك بحسب الواقع ، بل الترك حينئذ يكون لمجرد تحليل العقل بالنسبة إلى ماهية العالم الممكنة الوقوع في أيّ وقت كان ، فكيف يكون الاختيار الّذي يقول به المتكلّم - أي : الاختيار الّذي يوجب الترك بحسب الواقع (1) -.

وأنت تعلم / 81MB / انّ هذا الاشكال نظير ما تقدّم من أنّ الإرادة في الواجب - تعالى - إذا كانت عين ذاته فكيف يتحقّق امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات ، بل حينئذ يلزم وجوب الفعل بالنظر إلى الذات لوجوبه بالارادة الّتي هي عين الذات.

والجواب عن هذا الاشكال على نظير ما تقدّم من (2) أن علّة صحّة ترك العالم هي ذات القادر من حيث هي وعلّة وجوب وجوده في وقت الحدوث ليس مجرّد الإرادة الّتي هي عين الذات ، بل أصلحية موجودية العالم بهذا النحو أو ذات الوقت - كما تقدّم - ، فالعلّتان متغايرتان ، فلا يلزم اتحاد المعلولين.

وقيل في الجواب (3) : انّ امكان الترك الّذي هو من مقتضى القدرة بالنسبة إلى ماهية العالم بحسب الواقع لا يقتضي تخالف المعلولين في الواقع ، لأنّ الواقع وجب وجوده بعد العدم الواقعي اللائق له موصوف بصفة المتروكية له في الأزل ، وهو أيضا موصوف بصفة وجوب الوجود بالغير في مرتبة وجوده بالنظر إلى علم اللّه - تعالى - بوقوعه على أتمّ الوجه. فالترك والوجوب - اللذان وقعا صفتين للعالم - متحدان بالذات متغايران بالاعتبار ، لأنّ كون العالم متروكا في الأزل موجودا فيما لا يزال ليس أمرين متغايرين بالذات بالقياس إلى العالم ، بل تغايرهما بمجرّد الاعتبار ، لأنّ اعتبار تركه في الأزل بملاحظة مهيته الممكنة بالنسبة إلى قدرته - تعالى - واعتبار وجوب وجوده فيما لا يزال بملاحظة أصلحية هذا النحو من الوجود له بالنسبة إلى علمه - تعالى - بالأصلح الموجب لوجوده في هذا الوقت ؛ انتهى.

ص: 363


1- راجع : شرح الاشارات ، المطبوع مع المحاكمات ، ج 3 ، ص 300 ؛ شرحي الاشارات ، ج 2 ، ص 70.
2- الاصل : - من.
3- هامش « د » : القائل آقا حسين التنكابني.

وأنت تعلم انّ هذا الجواب لا يخلوا عن اختلال ما - كما لا يخفى -. مع أنّه مبني على كون الشبهة جارية في القدرة الملزومة للحدوث ، وقد عرفت أنّها ليست جارية فيها بل جارية في القدرة بالمعنى المشهور ؛ هذا.

وقيل في الجواب عن الشبهة : انّا نختار انّ القدرة حال عدم الاثر لكنها عبارة عن التمكن من الفعل في ثاني الحال ؛ فلا ينافيه العدم في الحال ، بل يجتمع معه.

وغير خفيّ انّه يمكن أن يحمل هذا الجواب على محملين :

أحدهما : هو انّا نختار انّ القدرة في حال العدم ، لكن معناها التمكّن على الفعل والترك بالنسبة إلى زمان واحد. وهو ثاني الحال. وعلى هذا الحمل يكون المراد من القدرة معناها الحقيقي المعتبر عند أهل التحقيق - أعني : التمكّن من الفعل والترك بالنسبة إلى زمان واحد وهو ثاني الحال - ، بمعنى انّه يصدق على القادر في حال العدم انّه قادر على كلا طرفي الفعل في الاستقبال ، لا على الوجود فقط. وكذا في حال الوجود يكون قادرا على كلا طرفي الفعل في الاستقبال ، لا على العدم فقط.

ويرد على هذا الحمل : انّ ثاني الحال لا يخلوا عن وجود الفعل وعدمه ، فيعود السؤال على التقديرين - أي : على تقدير وجود الفعل وعدمه - ، لأنّ ثاني الحال إن كان حال وجود الفعل فلا يتمكّن من الترك ، وإن كان حال عدم الفعل فلا يتمكّن من الفعل ، فلا يتحقّق القدرة على المستقبل. فلا بدّ لاتمام هذا الجواب حينئذ من التمسّك بالجواب الّذي ذكرناه أوّلا من أنّ وجوب أحد الطرفين وعدم التمكّن على الطرف الآخر بالارادة لا ينافي الامكان بالنظر إلى ذات القادر ، فيطول المسافة في الجواب. على أنّه لا تخصيص لاختيار الشقّ الثاني حينئذ ، إذ كما يمكن اختيار الشق الثاني باعتبار التمكّن من الفعل والترك بمعنى ابقاء الترك على ما كان في ثاني الحال كذلك يمكن اختيار الشقّ الأوّل باعتبار التمكّن على الترك والفعل بمعنى ابقاء الفعل على ما كان في ثانى الحال ، أو باعتبار التمكّن على الفعل والترك بمعنى ابقاء الترك على حاله قبل زمان الفعل.

وثانيهما : انا لا نعني بالقادر من يتمكّن من الفعل والترك كليهما في زمان واحد ،

ص: 364

بل من له التمكّن من الترك في زمان ومن الفعل في زمان آخر وإن لم يتمكّن في كلّ من الزمانين على الطرف الآخر.

وهذا الحمل وإن لم يرد عليه ما يرد على الحمل الأوّل من عود السؤال إلاّ أنّه ظاهر الفساد ، إذ لا شكّ أنّ / 82MA / القدرة إنّما تعتبر بالنسبة إلى الزمان / 78DB / الواحد ومراد المحقّقين من القدرة ما يكون تعلّقها بالطرفين سواء - أي : التمكّن من كلّ منهما في زمان واحد - لا ما يتعلّق بأحد الطرفين ، - أي : يكون التمكّن من الوجود في زمان ومن العدم في زمان آخر -. قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الذات والصفات : قال المتكلّمون : انّ القدرة من الكيفيات النفسانية وهي مغايرة للطبيعة لمقارنة الشعور - أي : لمقارنة القدرة للشعور -. بخلاف الطبيعة ، فانّه لا يلزم مقارنتها له ومغايرة المزاج للمغايرة في التابع - أي : الأثر - ، فانّ أثر المزاج من جنس الكيفيات الّتي حصل من تفاعلها هذا المزاج ؛ بخلاف أثر القدرة ، فانّ شأنها التأثير على وفق الإرادة وهي - أي : القدرة - مصحّحة للفعل بالنسبة إلى الفاعل وتعلّقها بالطرفين سواء (1).

وقال بعض الأعلام : انّ المعتزلة ذهبوا إلى أنّ تعلّق القدرة بالطرفين على السواء ، واختاره المحقّق الطوسي كما قال في مبحث الاعراض من التجريد : وتعلّقها بالطرفين على السواء ، وتتقدّم الفعل (2). ولا ريب في أنّه إذا كان تعلّق القدرة بالطرفين فلا يمكن أن يقال انّ التمكّن من أحد الطرفين في الحال ومن الآخر في ثاني الحال ، لأنّ الحال إذا كانت حال العدم فلا يتمكّن من الفعل فيها وإذا كانت حال الفعل فلا يتمكّن من الترك فيها ، فلا يكون نسبة تعلّق القدرة فيها بالطرفين على السواء. وبالجملة نسبة القدرة إلى الطرفين نسبة جوازية فلا يجتمع مع النسبة الوجوبية ، فلا بدّ من الجواب الّذي ذكرناه أوّلا ؛ هذا.

ويرد على هذا الحمل أيضا : انّه إذا كانت القدرة معتبرة بالنسبة إلى أحد الطرفين فلا وجه حينئذ لاختيار شقّ العدم ، بل كلا الشقّين حينئذ على السواء ، لأنّ التمكّن من الفعل والترك إذا لم يكن في حال واحد فكما يمكن اختيار الشّق الثاني باعتبار انّ التمكّن

ص: 365


1- لم أعثر على تلك الرسالة ، والظاهر انّها لم تطبع بعد.
2- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثالثة والعشرون من مباحث الاعراض ؛ كشف المراد ، ص 191.

من الفعل في ثاني الحال والترك واجب حال العدم كذلك يمكن اختيار الشقّ الأوّل باعتبار أنّ الفعل واجب حال الوجوب ، والتمكّن من الترك يكون مقدّما على حال الوجود أو بعد ذلك بأن يترك الفعل ، فلا ينافي الوجود في الحال.

وتحقيق المقام انّ القدرة الّتي هي المتنازع فيها - وقال بها المحقّقون من المعتزلة وغيرهم - هي التمكّن من الفعل وتركه المقابل له ، والعدم في الحال ليس مقابلا للوجود في المستقبل فلا تتحقّق القدرة بالمعنى المقصود. ولم يذهب أحد إلى أنّ القدرة لا يكون تعلّقها بالطرفين على السواء ، إلاّ الأشاعرة القائلون بأنّ تعلّق القدرة انّما هو بطرف واحد ، وهو الطرف الواقع. وما يدلّ على بطلان ما ذهبوا إليه وعلى أنّ القدرة المتنازع فيها هي المتعلّقة بالطرفين سواء إنّ القادر عند القوم هو الّذي يصحّ منه الفعل والترك ، فيتساوى نسبته إليهما ، وإنّ المتكلّمين انّما نفوا الايجاب لزعمهم أنّ صدور الفعل عن الفاعل بحيث لا يتمكّن من امساك نفسه عنه نقص في حقّه - تعالى - ، فيجب تنزيهه - تعالى - عنه. فالقدرة الّتي تلائم غرضهم هي الحالة الّتي بها يتمكّن الفاعل من الترك حين الفعل ومن الفعل حين الترك بالنظر إلى الذات ، وإن وجب احد الطرفين بالنظر إلى الإرادة. وأمّا القدرة بمعنى وجوب العدم في وقت ووجوب الفعل في وقت آخر فلا تلائم مطلوبهم ؛ والفاعل بهذه القدرة لا يتمكّن من امساك نفسه عن الترك في حال العدم ومن الفعل في حال الوجود ، فيكون مضطرّا في كلّ واحد من الحالين. وهذه المفسدة أشدّ من مفسدة الايجاب المنفي ، إذ هي عدم تمكّن الفاعل عن امساك نفسه عن أحد طرفي المقدور ، وهذه عن كلا طرفيه!.

ثمّ ذهاب الأشاعرة إلى أنّ القدرة متعلّقة بطرف واحد مبنيّ على ما استقرّ رأيهم عليه من أنّ القدرة مع الفعل لا قبله - كما ذهب إليه المعتزلة على ما سيأتي - ، فلا يتعلّق بالضدين وإلاّ لزم اجتماعهما ، لوجوب مقارنتهما لتلك القدرة المتعلّقة. وسيأتي تحقيق القول في كون القدرة مع الفعل أو قبله ، ونشير إلى أنّ الحقّ كون ذلك النزاع - أي : كون القدرة قبل الفعل أو معه - بين / 82MB / المعتزلة والأشاعرة راجعا إلى النزاع في أفعال العباد. فالحقّ انّ هذا النزاع بينهما - أي : كون القدرة متعلّقة بالطرفين على السواء

ص: 366

أو متعلّقة بطرف واحد - أيضا راجع إليه ، ونشير إلى أنّ هذا الخلاف ان كان متحقّقا فلا بدّ أن يكون بين المعتزلة الّذين يثبتون لقدرة العباد تأثيرا ثمّ نشير إلى تحقيق الحقّ فيه.

وبيانه هنا : انّ القدرة قد يراد بها القوّة الّتي هي مبدأ التأثير ومصدر الأفعال المختلفة سواء كان مع جميع / 79DA / شرائط التأثير في الفعل أو الترك أولا ، وقد يراد بها القوّة المستجمعة لجميع شرائط التأثير. ولا ريب في أنّ القدرة بالمعنى الأوّل تعلّقها بالطرفين سواء ، وبالمعنى الثاني تعلّقها انّما هو بالطرف الواحد - وهو الطرف الواقع - ؛ فالظاهر انّ مراد المعتزلة من القدرة المتعلّقة بالطرفين سواء هو المعنى الأوّل ومراد الأشاعرة من القدرة المتعلّقة بطرف واحد هو الثاني. وممّن تفطّن بذلك الامام الرازي حيث قال : القدرة تطلق على القوّة الّتي هي مبدأ الأفعال المختلفة بحيث متى انضمّت إليها إرادة أحد الضدين حصل ذلك الضدّ ومتى انضمّت إليها إرادة الضدّ الآخر حصل ذلك الآخر ، ولا شكّ انّ نسبة هذه القوّة إلى الضدين على السواء. ويطلق أيضا على القوّة المستجمعة لشرائط التأثير برمّتها. ولا شكّ أنّها لا تتعلّق بالضدين وإلاّ اجتمعا في الوجود ، بل هي بالنسبة إلى كلّ مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر ، سواء كانا متضادّين أو غير متضادين. وذلك - أي : تغاير القدرة بتغاير المقدورات - لاختلاف الشرائط المعتبرة في وجوب المقدورات المختلفة ، فانّ خصوصية كلّ مقدور لها شرط مخصوص به يتعيّن وجوده من بين المقدورات المشتركة. ألا ترى انّ القصد المتعلّق بها شرط لوجودها دون غيرها؟!.

ولعلّ الشيخ الأشعري أراد بالقدرة : القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، فلذلك حكم بأنّها لا تتعلّق بالضدين. ولعلّ المعتزلة أرادوا بالقدرة : القوّة ( الّتي ) (1) هي مبدأ الأفعال المختلفة ، فلذلك قالوا بتعلّقها بالضدّين ؛ هذا.

واعلم! أنّ قول المحقّق الطوسي في التجريد : « ويمكن اجتماع القدرة على المستقبل

ص: 367


1- لفظة ( الّتي ) لم توجد في النسختين.

مع العدم في الحال (1) » ، اشارة إلى الجواب الأخير مع احتماله للحملين المذكورين ، ومع اختيار الشقّ الثاني ؛ وقد عرفت ما في الحملين وعدم تعين الشقّ الثاني في الاختيار.

قال بعض الأفاضل : لا يخفى انّ جواب المحقّق الطوسي جواب على كلّ من شقّي الترديد ، إلاّ أنّه ذكر الجواب على أحد الشقين وترك الآخر قياسا عليه ، فانّ حاصله : انّ القدرة إمّا قدرة على الوجود ، وإمّا قدرة على العدم ؛ فان كانت قدرة يختار أنّها متحقّقة حال الوجود ، لكنّها عبارة عن التمكّن من العدم ثاني الحال. وأمّا القدرة بالنسبة إلى الطرفين معا فلا يمكن تحقّقها إلاّ في مرتبة الذات إلاّ في حال من الأحوال ، إذ لا يمكن تحقّق حال تكون خالية عن كلا طرفي وجود الممكن وعدمه ليتصوّر تحقّق القدرة بالنسبة إليها معا هناك : انتهى.

ولا ريب في أنّ ما ذكره انّما هو مبني على الحمل الثاني.

ويرد عليه : انّ مراد المحقّق من القدرة هي القدرة المتعلّقة بالطرفين ، لأنّ القدرة عنده هي المتعلّقة بالطرفين لا المتعلّقة بأحد الطرفين ، إذ هو لا يقول بها. وقد عرفت أيضا انّ المعتبر في القدرة حصول التمكّن من كلّ منهما في زمان واحد ، لا أن يكون التمكّن من الوجود في زمان ومن العدم في زمان آخر. وقد شنع هذا الفاضل نفسه في مقام آخر على بعض من اعتبر في القدرة التمكّن على أحد الطرفين ، فالواجب أن يحمل كلامه على أنّه يمكن اجتماع القدرة على المستقبل - أي : على الفعل فيه أو الترك كليهما - مع عدم الفعل أو الترك في الحال. على أن يكون أحد الشقّين محالا على المقايسة مع اعتبار وحدة زمان الطرفين بأن يصدق في حال العدم انّه قادر على كلا طرفي الفعل في الاستقبال ، لا على الوجود فقط. وكذا في حال الوجود يكون قادرا على كلا الطرفين في الاستقبال لا على العدم فقط.

والأظهر أن يحمل عبارته على أنّه يمكن اجتماع القدرة على المستقبل - أي : على الفعل والترك - فيه في حال عدم القدرة ، / 83MA / وحينئذ لا يكون أحد الشقّين محالا

ص: 368


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الاولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 218.

على المقايسة ، فلا يحتاج إلى عناية. نعم! يرد عليه على أيّ تقدير أنّ الاستقبال لا يخلوا عن الفعل أو الترك ، فلا يمكن تحقّق القدرة عليها فيه. فلا بدّ بأن يجاب بأنّ المراد أنّ قبل الاستقبال يتحقّق القدرة عليهما فيه بالنظر إلى ذات القادر ، فان القادر المختار من حيث هو قادر من شأنه ترجيح كل من الطرفين بالارادة المخصّصة بالداعي في ثاني الحال لا بالنظر إلى الإرادة الفعلية وشرائط التأثير ، فانّه لا يمكن تحقّق القدرة على الفعل والترك معا بالنظر إلى الإرادة وغيرها من شرائط التأثير ، لأنّه لا ريب في تعيّن أحد الطرفين بالنظر إلى شرائط التأثير.

وإذا أجيب بما ذكر وإن طال المسافة في الجواب نظرا إلى أنّه إذا اخذ التمكّن على الفعل والترك بالنظر إلى ذات القادر يمكن أن يقال : انّ كلاّ منهما مقدور / 79DB / بالنظر إلى ذات القادر في كلّ وقت سواء كان ماضيا أو حالا أو استقبالا. ولا يفتقر إلى أن يقال بحصول القدرة في الحال بالايقاع في ثاني الحال ، إلاّ أنّ ارتكاب هذا التطويل اقلّ شناعة من الحمل على أنّ المراد تحقّق التمكّن على كلّ من الطرفين في زمان على حدة.

وقال بعض المشاهير في توجيه العبارة المذكورة : انّ تلك العبارة جواب عن قول من قال : انّ القدرة لا يتحقّق في حال العدم قبل الفعل ، لأنّ القدرة لا يمكن أن يجتمع مع العدم ؛ فأجاب المحقّق بأنّ القدرة على الفعل في المستقبل متحقّقة في الحال مع عدم الفعل في الحال ، فهو ردّ على الأشعرية في قولهم : انّ الفاعل لا يقدر على الفعل قبل وجوده ؛ انتهى.

قال بعض الأفاضل : هذا التوجيه يحتمل وجوها :

أحدها : أن يكون المراد أنّ العبارة المذكورة جواب لقول الأشعري : انّ القدرة الحادثة - أى : قدرة العبد - لا تتحقّق قبل الفعل مع العدم ، لأنّ في وقت العدم تحقّق شرائط التأثير في العدم ، فلا قدرة على الوجود حينئذ. فالقدرة على الوجود لا يكون إلاّ حين الوجود. وكذا الحال في القدرة على العدم. فاجاب المحقّق بأنّ القدرة على الفعل في المستقبل متحقّقة الحال. وهذا لا ينافي تحقّق شرائط التأثير في العدم في الحال.

نعم! ؛ لو تحقّق شرائط التأثير في العدم في الاستقبال لما تحقّق القدرة عليه. فهذا ردّ على

ص: 369

الأشعري انّ القدرة لا تتحقّق قبل الفعل ، لا على من أنكر القدرة مطلقا.

ويرد على هذا التوجيه انّه لا يلائم لا يراد هذا في بحث قدرة اللّه - تعالى - ، وكذا لا يلائم لفظ الامكان.

وثانيها (1) : انّه جواب لمن انكر وجود القدرة قبل الفعل مطلقا للوجه الّذي ذكر بعينه. وحينئذ وإن لم يرد ما ذكر من الوجهين إلاّ أنّه يرد عليه : انّ هذا البحث قد تقدّم من المحقّق في مبحث الأعراض ، فلا وجه لا عادته هنا.

وثالثها : انّه جواب لمن انكر القدرة الأزلية بناء على ما تقرّر عند الأشعري : انّ القدرة لا تكون قبل الفعل ، فأجاب المحقّق بردّ مذهب الأشعري - كما سبق منه في مبحث الأعراض - حتّى يبطل مستمسك هذا المنكر.

ورابعها : انّه جواب أيضا لمن انكر القدرة الأزلية ؛ لكن لا يكون مأخذ انكاره ما تقدّم من أنّ القدرة لا تكون قبل الفعل ، بل يكون نظره إلى الاستدلال عليه بما ذكرنا من أنّ في وقت العدم تحقّق شرائط التأثير ، فأجاب المحقّق بردّ هذا الاستدلال على ما ذكر ؛ انتهى حاصل ما ذكره بعض الأفاضل.

وأنت تعلم انّ التوجيه المذكور باحتمالاته عبارة المحقّق ، فانّ تخلّل تلك العبارة في أجوبة شبه المنكرين لأصل القدرة ووجودها مطلقا شاهد صدق على أنّها أيضا جواب عن الشبهة المذكورة لنفي القدرة مطلقا - على ما قرّرناه -. وحملها على أنّه جواب عن انكار تحقّق القدرة في بعض الأوقات أو انكار تحقّق بعض أفراد القدرة غير ملائم لسوق الكلام - كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام -.

وقد عرفت أيضا ما يرد على بعض احتمالاته.

وقيل : انّ تلك العبارة ردّ على الأشعري الّذي يقول بأنّ القدرة الحادثة لا تجتمع مع عدم الفعل - أي : في زمان عدمه - ، بل يوجد مع / 83MB / الفعل. ومنشأ صدور هذا القول من الأشعري انّ العدم لا يجوز أن يكون متعلّقا للقدرة ، لأنّه ازلي والأزلى لا يكون مقدورا. وأيضا العدم نفي محض والمنفي المحض لا يقبل التأثير. فاجاب المحقّق

ص: 370


1- الاصل : ثانيهما.

بأنّه يمكن اجتماع القدرة مع العدم بأن تتعلّق في زمان عدم الفعل بايجاده في الزمان المستقبل ، فلا محذور. ولا يلزم من هذا كون العدم أثرا للقدرة ؛ انتهى.

وفيه : انّ أحدا من الأشاعرة لم يتمسّك في اثبات ما ذهبوا إليه من عدم تحقّق القدرة قبل الفعل بما جعله منشئا لقولهم ، بل لهم أدلّة اخر - كما يأتى -. وأيضا غرض الأشاعرة انّ القدرة على الفعل مع الفعل وعلى الترك مع الترك ، ولا تكون متقدّمة على شيء منهما ، لا أنّ القدرة على الفعل فقط مع الفعل. والوجه الّذي جعله منشئا لقول الاشعري انّما يجري في كون القدرة على الفعل فقط مع الفعل. ولا يجري في كون القدرة على الترك معه ، بل يدلّ على عدم كونها معه. نعم! كون العدم مقدورا أم لا نزاع آخر بين الأشاعرة والمعتزلة ، ولا دخل له بهذا النزاع.

ثمّ انّه يرد على هذا التوجيه ما ذكرناه سابقا ، وما نقلنا عن الايرادين عن بعض الأفاضل.

تتميم

اختلف المتكلّمون في أنّ القدرة هل هي مع الفعل أو قبله؟. فذهب المعتزلة إلى الثانى ؛ والاشاعرة إلى الأوّل.

ثمّ قيل : إنّ الخلاف انّما هو في القدرة الحادثة - أي : قدرة العبد المسمّاة بالاستطاعة -. وأمّا القدرة القديمة - أي : قدرة / 80DA / اللّه تعالى - فلا خلاف في أنّها قبل الفعل وتعلّقاتها حادثة. وقيل : الظاهر من كلام المحقّق الطوسي في مبحث الكيفيات النفسانية من التجريد (1) انّ النزاع في مطلق القدرة حيث استدلّ على كون القدرة متقدّمة بادلّة ثلاثة :

منها : انّه لو لا تقدّمها على الفعل لزم أحد المحالين - يعني : قدم العالم أو حدوث قدرة اللّه تعالى -. لكن الشارح أجاب عنه بتخصيص النزاع بالقدرة الحادثة (2). و

ص: 371


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثالثة والعشرون من مباحث الاعراض ؛ كشف المراد ، ص 192.
2- راجع : الشرح الجديد ، ص 274.

كأنّه تأويل لكلامهم وتعصّب من جانبهم! إذ أكثر ادلّتهم تجري في قدرة اللّه أيضا.

وقيل : النزاع - على ما يظهر من عبارة شارح المقاصد - في القدرة المتعلّقة - أي القدرة بوصف تعلّقها بالمقدور - ولا ريب أنّ تعلّق القدرة الأزلية حادث عند الأشعرية ، فيمكنهم تسليم حدوث قدرة اللّه - أي : حدوث تعلّقها ومنع محاليته - فعلى هذا يجري النزاع في قدرة اللّه - تعالى - أيضا ، ويكون حاصل النزاع : انّ القدرة بعد تعلّقها بالفعل - سواء كانت قدرة اللّه أو قدرة العبد - هل هي قبله أو معه؟.

وأنت خبير بأنّ المراد بالقدرة المتعلّقة إن كان ما هو ظاهر معناها - كما ذكرناه - فلا يعقل نسبة القول بكونها متقدّمة على الفعل إلى المعتزلة ؛ ولو كان المراد بها معنى آخر فانّها يظهر حقيقة الأمر بعد بيانه. ويأتي - إنشاء اللّه - في تحقيق المقام انّ النزاع ينبغي أن يكون في ما ذا؟.

ثمّ انّ للمعتزلة ادلّة ثلاثة :

اوّلها : انّ القدرة تنافي حقيقتها لكونها مع الفعل ، لأنّ القدرة يلزمها كونها محتاجا إليها الفعل ، وكونها مع الفعل يلزمه أن يستغني عنها ، لأنّ الفعل عند الحصول لا يحتاج إلى القدرة.

وأجيب عنه : بأنّ حصول الفعل لا ينافي احتياجه إلى القدرة الّتي هى علّة ، فانّ حصول المعلول لا ينافي احتياجه إلى علّته.

وما يتوهّم من أنّه يلزم حينئذ تحصيل الحاصل واحداث الحادث وايجاد الموجود ؛ فجوابه : انّ المحال تحصيل الحاصل بتحصيل آخر لا بذلك التحصيل ، واحداث الحادث باحداث آخر لا بذلك الاحداث ، وايجاد الموجود بايجاد آخر لا بذلك الايجاد - وسيأتي توضيح ذلك -.

وقيل في الجواب : انّ عدم احتياج الفعل بعد حصوله إلى القدرة ينافي ما ثبت من حاجة المعلول حال البقاء أيضا إلى علّة الوجود. وكونها مثل استعداد القائل أوّل المسألة!. وجعل الدليل مبنيا على قول من قال بعدم الحاجة بعد الحدوث مع بعده لا يفيد ، إذ النزاع في حال الوجود مطلقا ؛ انتهى.

ص: 372

وأورد عليه : بانّه لا ربط لحديث البقاء هاهنا ، إذ النزاع في حال الوجود - أي : الحدوث -. ولئن سلّم انّه في حال / 84MA / الوجود مطلقا فلا وجه أيضا لهذا الايراد ، بل لا يرد على هذا الدليل شيء غير ما أجيب به عنه أوّلا.

وقد وجّه بعض الفضلاء الدليل المذكور بأنّ وجوب كون القدرة مع الفعل ينافي مفهومها ومعناها الّذي هو التمكّن من الفعل والترك المقتضي لصحة تعلّق القدرة المتعلّقة بالفعل من حيث هي قدرة عليه بالترك أيضا ، الموجب لامكان كونها في الحالين واحدة.

وثانيها : انّه لو لم تكن القدرة قبل الفعل - بل كانت مقارنة له غير مفارقة عنه - لزم أحد المحالين : إمّا قدم العالم ؛ أو حدوث قدرة اللّه - تعالى - ضرورة عدم انفكاك كلّ من القدرة والفعل حينئذ عن الآخر ، والتالي بقسميه باطل.

وأجيب عنه : بأنّ كلامنا في قدرة العبد ، ولم ندّع انّ القدرة على الاطلاق مقارنة للفعل ليرد علينا قدم العالم أو حدوث قدرة اللّه ، بل قدرة اللّه - تعالى - قديمة ولها تعلّقات حادثة مقارنة للأفعال الصادرة عنّا. وسيأتي ما يرشدك إلى أنّ المتنازع فيه ما ذا؟.

وثالثها : انّه لو لم تتحقّق القدرة قبل الفعل لم يكن الايمان حال الكفر مقدورا للكافر ، فيكون تكليف الكافر بالايمان تكليف غير القادر ، ولم تكن الطاعة حال العصيان مقدورة. فيكون عذر العاصى ترك المأمور به مقبولا ، بل يلزم عدم تحقّق عصيان أصلا!.

وأجيب عنه : بأنّ تكليف الكافر في الحال بايقاع الايمان في ثاني الحال والقدرة انّما يحتاج إليها حين الفعل ، لا حين التكليف.

وفيه : انّ هذا الالتزام آن تخيير المكلف ليس ثابتا قبل الفعل - أي : حال الكفر -.

ولا شكّ في بطلانه ، إذ ظاهر انّ الكافر في كلّ آن مكلّف منجّزا بالاسلام بدلا عن كفره في هذا الآن ، ويأثم بتأخيره إلى الآن الآخر. وهذا ظاهر والمانع مكابر مقتص عقله.

وأيضا حاصل الجواب المذكور : انّ الكافر في آن كفره مكلّف بأن يقع عنه الإيمان

ص: 373

في الآن اللاحق بذلك الآن ، فلا ينافي عدم مقدورية / 80DB / الايمان له حال التكليف فيثبت التكليف في بعض الأزمنة بدون القدرة. ولا ريب في أنّه مستلزم لتقدّم المشروط على الشرط بالزمان ، وهو غريب.

وأيضا : يلزم على الجواب المذكور أن لا يكون الكافر مكلّفا بالاسلام في أوّل زمان بلوغه ؛ والتزامه مشكل إذ كلّ تكليف على هذا يكون بايقاع الفعل في ثاني الحال. ففي أوّل زمان البلوغ لا يكون مكلّفا بالاسلام فيه ، بل في ثاني الحال. ولا تكليف قبل البلوغ حتّى يكون تكليفا بالاسلام في أوّل زمان البلوغ. والقول بأنّ قبل البلوغ يجوز مثل هذا التكليف وإن لم يجز التكليف التنجّزي فيه لا يخلوا عن اشكال!

وقيل : يمكن أن يقال : انّ بعد آن انتهاء زمان عدم البلوغ لا يمكن فرض آن آخر متّصل به حتّى يمكن أن يقال ليس مكلّفا بالاسلام فيه وكلّف فيه بالاسلام بعده ، أو كلّف قبل البلوغ بالاسلام فيه بل كلّ آن يفرض بعده فبينه وبين الآن المفروض زمان. وحينئذ فنقول : كلّ آن فرض في زمان البلوغ وقع التكليف فيه بايقاع الاسلام فيه ، فلم يتحقّق إن لم يكن مكلّفا بالاسلام فيه. نعم! لو كان لزمان البلوغ آن أوّل لزم أن لا يكون مكلّفا بالاسلام فيه ، وليس فليس ؛ فالمراد بأوّل زمان البلوغ ان كان هو الآن الحدّ المشترك بين زمان البلوغ وعدمه ففيه : انّه لا اسلام فيه اصلا ؛ وإن كان هو أوّل آن يكون الاسلام فيه فليس آن كذلك ؛ وإن كان هو قطعة من الزمان الّتي في ابتداء البلوغ أو الآنات المفروضة فيها فنقول : أنّه قد تحقّق التكليف بالاسلام فيها ، لأنّ التكليف بالاسلام في كلّ جزء وقع سابقا عليه ؛ انتهى.

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الاختلال!. لأنّه لا ريب في امكان فرض آن متّصل بآن انتهاء زمان عدم البلوغ وهو آن أوّل البلوغ. وليت شعري ما العلّة لعدم امكان فرض هذا الآن!. فان كانت العلّة هي أنّ تحقّق الآن موقوف على حدوث أمر دفعى يمتاز به جزء غير منقسم من الزمان وبعد انتهاء زمان عدم البلوغ لا يتصوّر مثل ذلك فلا يتحقّق آن متّصل به ، / 84MB / ففيه : انّ حصول البلوغ أمر دفعي مصحّح لغرض

ص: 374

الآن ؛ وإن كانت العلّة غير ذلك فلا بدّ من بيانها حتّى ننظر في صحّتها وفسادها!.

وبذلك يظهر فساد ما في كلامه الّذي فرع على ما توهّمه من عدم امكان فرض آن متّصل بآن انتهاء زمان عدم البلوغ.

ثمّ أورد على الجواب المذكور أيضا : بأنّه إن استمرّ الكفر في ثاني الحال فلا قدرة فيه على الايمان ، لأنّ المفروض انّ القدرة لا يكون إلاّ مع الفعل ، وإن تبدّل بالايمان لم يكن مكلّفا بالايمان فيه - لاستحالة التكليف بتحصيل الحاصل - فيتحقّق التنافي بين التكليف والقدرة الّتي هي شرطه ، إذ ما لم يحصل الايمان لم يكن مقدورا ؛ وإذا حصل لم يكن مكلّفا به ، فيستحيل اجتماعهما. بل يجتمع دائما عدم القدرة مع التكليف ، لأنّ قبل الفعل لا قدرة والتكليف ثابت ، ومع الفعل لا تكليف والقدرة ثابتة.

وغير خفيّ انّه لو اكتفى بالشقّ الأوّل من الترديد لكفى في ردّ الجواب المذكور ، لأنّه إذا لم تكن قبل الايمان قدرة عليه فما دام يستمرّ كفر كافر لا يكون مكلّفا بالايمان أصلا ، فيبقى العقاب رأسا على مطلق الكفر ، ولا يتوجّه ذم ولوم على أحد من الكفار!.

قيل في دفع هذا الايراد : انّ التكليف لا يتعلّق إلاّ بما هو مقدور على تقدير وجوده ، واللازم منه أن يكون المكلّف به مقدورا في أيّ زمان فرض ، ولا يشترط كون القدرة مجامعة للتكليف. وتوضيحه : انّ شرط القدرة اجتماعها مع الفعل لا اجتماعها مع التكليف ، لأنّه يجوز عند الأشاعرة أن يكون التكليف مقدّما على القدرة ويكفي في كون المكلّف به مقدورا عندهم صلاحية تعلّق القدرة به - أي : كونه بحيث إذا فعل وقع مقارنا للقدرة -. ولا شكّ في تحقّق هذا المعنى حال عدم الفعل ، إذ يصدق أنّ التكليف قد تعلّق بما هو مقدور على تقدير وجوده. ولم يعتبر المقدورية بالفعل حتّى يرد الاشكال على أنّ التكليف بتحصيل الحاصل إنّما يستحيل إذا كان حاصلا بتحصيل آخر ، لا بذلك التحصيل ؛ وحينئذ جاز أن يستمرّ التكليف حال القدرة. فاندفع تشنيع المعتزلة على الأشاعرة بلزوم عدم العصيان ، إذ لا تكليف قبل الفعل لعدم القدرة ، فلا عصيان. ومع الفعل لا عصيان أيضا ، لأنّهم لا يسلّمون عدم التكليف قبل القدرة.

ثمّ / 81DA / قيل : هذا الدفع دفع للايراد بتغيير الجواب!. إذ لا اختصاص لهذا

ص: 375

الكلام بالزمان الثاني ولا احتياج حينئذ إلى التزام أنّ التكليف وقع في الحال بايقاع الفعل في ثانى الحال ، اذ يصحّ التكليف بايقاع الفعل في الحال أيضا ، إذ في زمان العدم يكون الفعل مقدورا بالمعنى المذكور ، إذ لو كان فعله في هذا الزمان لوقع الفعل مقارنا للقدرة. والحاصل : انّ في زمان العدم كان الفعل ممكنا وليس المقدورية المذكورة إلاّ هذا الامكان. نعم! بشرط العدم ليس بممكن ، ولا كلام فيه. وأمّا العلاوة المشار إليها بقوله : على أنّ التكليف بتحصيل الحاصل - ... إلى آخره - ، فليس جوابا ثانيا باختيار الشقّ الثاني مختصّا بتقدير تبديل الكفر بالايمان مبنيا على منع لزوم تحصيل الحاصل ، نظرا إلى أنّ التكليف حال الفعل ليس فيه تحصيل الحاصل المحال ، إذ مع فرض صحّة هذا الجواب عن الشقّ الثاني لا يندفع الايراد ، لأنّ الشقّ الأوّل كاف لتحقّق المفسدة - كما اشرنا إليه -. فان قول المورد : انّ استمرّ فكذا وإن تبدّل فكذا ، ترديد وتقسيم للحكم بحسب الواقع ، لا استفسار وسؤال حتّى يوجّه الجواب باختيار أحد الشقين ، إذ مع تحقّق المفسدة للشقّين في الواقع إذا وقع مفسدة أحد الشقّين يبقي مفسدة الشقّ الآخر بحاله. فهي - أي : العلاوة المذكورة - تتمّة لما تقدّمها من الدفع على أن يكون ما تقدّم جوابا تامّا للايراد يندفع به الشقّان وتكون تلك العلاوة زيادة مختصّة بالشقّ الثاني يكون مفادها منع أن لا تكليف مع الفعل لأنّ ذلك ليس تحصيل الحاصل المحال. ويكون حاصل الدفع بعلاوته إنّا لا نسلّم أنّ شرط تعلّق التكليف بالفعل المقدورية بالفعل حتّى يتأتّى المنافاة ويستغرب التأخّر ، بل / 85MA / هو المقدورية على تقدير الاطاعة وفي وقتها. فلو مات على الكفر كان الايمان مقدورا له كذلك ، وهو مكلّف به إلى آن موته ، ولو آمن كان التكليف بالايمان إلى أوّل حدوثه وفعليته مقدوريته. على أنّه يمكن استمراره في حال الايمان أيضا ، ولا منافاة بناء على جواز تحصيل الحاصل بنفس ذلك التحصيل وجواز التكليف به ؛ انتهى ما قيل في دفع الايراد المذكور على الجواب الّذي ذكره الأشاعرة من دليل المعتزلة مع تنقيحه وتوضيحه.

وأنت تعلم انّ مناط هذا الدفع منع كون المقدورية بالفعل شرطا لتعلّق التكليف بالفعل. وهو مكابرة صرفة ، كيف! ولو لم تعتبر المقدورية الفعلية فعدم العصيان لازم

ص: 376

أمّا قبل الفعل فلعدم القدرة بالفعل ، وأمّا حال الفعل فللامتثال ، وإذا لم يتحقق القدرة بالفعل فأيّ فائدة لإمكانها؟ ، وما يفيد التمسّك بتحقّق هذا الامكان؟. فانّ الكافر في الآن الّذي بقي على كفره ولم يؤمن إن كان الايمان ممكنا له فيه وكان من شأنه وفي تمكينه وقوّته أن يؤمن فيه فكان له قدرة بالفعل فيه ، وإن لم يكن ذلك ممكنا له ولم يكن ذلك في قوّته وتمكّنه فيلزم التكليف بما لا يطاق لو كان مكلفا بالايمان فيه ، فلا يفيد القول بتحقّق امكان المقدورية. بل التحقيق انّه لا معنى للقول بتحقّق امكان المقدورية دون تحقّق المقدورية بالفعل ، فانّ معنى امكان المقدورية - على ما هو الظاهر - أن لا تكون القدرة حاصلة بالفعل للفاعل ولكن يمكن له احداث القدرة في ذاته. فالكافر في زمان كفره وإن لم تكن له قدرة بالفعل على الايمان فيه إلاّ أنّه كان من شأنه وفى قوّته أن يحدث القدرة في نفسه ثمّ يؤمن فيه بتلك القدرة المحدثة. ومعلوم على كلّ عاقل انّ التمكّن والقوّة على احداث القدرة في الزمان المذكور ليس إلاّ القدرة الفعليّة ، لان القدرة على احداث القدرة لو كان لها معنى محصّل هو عين القدرة ؛ وإن لم يكن من شأنه احداث القدرة فيه بل كان احداث القدرة على الفعل وايجادها من جانب اللّه - تعالى - فأيّ معني لامكان القدرة له. وحمل الامكان على امكان أن يفاض عليه القدرة من جانب اللّه - تعالى - ما يفيد في دفع التكليف بما لا يطاق - على تقدير عدم الإفاضة - ؛ فلزوم التكليف بما لا يطاق حينئذ لازم.

وبذلك يظهر أن صيرورة القدرة فعلية في آن الفعل يتوقّف على سبق قدرة أخرى تكون منشئا لفعليتها ، لأنّ تلك القدرة المقارنة للفعل صفة حادثة محتاجة إلى فاعل ؛ فنقول : فاعلها إن كان هو العبد فلا بدّ له في احداثها من قدرة أخرى ، فتكون له قدرة متقدّمة على الفعل البتة ، وبه يثبت المطلوب ، وإن كان هو اللّه - تعالى - فلا يكون لامكان مقدورية الفعل للعبد معنى ، و/ 81DB / حمل الامكان على ما ذكر غير مفيد - كما عرفت - ، فالتكليف بما لا يطاق لازم على كلّ حال.

وبما ذكرناه يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعلام : بانّه يمكن أن يقال من قبل الأشعري : انّ التكليف بغير المقدور بالفعل مع امكان كونه مقدورا لا فساد فيه ، و

ص: 377

لا شكّ في حال العدم يمكن كونه مقدورا بأن يجعله موجودا بدل كونه معدوما ، وهذا الامكان كاف في عدم كونه تكليفا بما لا يطاق. والحاصل : انّ للأشعري أن يقول : انّا لا نسلّم أنّ التكليف نقيض فعليّة القدرة ، بل يكفى امكانه ، وهي ممكنة في حال العدم وان لم يتمكّن بشرط العدم ، انتهى.

ووجه ضعفه واندفاعه قد ظهر ممّا ذكرناه في غاية الظهور ؛ فلا نطيل الكلام باعادته.

وعلى ما حقّقناه وقرّرناه لا ريب في ورود ما أورده بعض الفضلاء على الدفع المذكور من انّه لو لم يتعلّق التكليف الاّ بما هو مقدور على تقدير وجوده ، يلزم على تقدير استمرار الكافر وموته على الكفر وقوع تكليف غير القادر ؛ وهو باطل بالإجماع.

بيان اللزوم : انّه لو كان حصول القدرة من الكافر على فعل الايمان حين اتصافه بالايمان - الّذي لم يحصل له قطّ - يلزم أن يكون مكلّفا بما لا يكون موصوفا بالمقدورية ، وما هو إلاّ / 85MB / التكليف بما لا يطاق. وهو واقع ، لكون الكافر مكلّفا. وليس للأشاعرة أن يقولوا : يكفي في عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الصورة المذكورة إن فعل الايمان ممّا لو صدر عن الكافر لكان مقرونا بالقدرة ، لأنّه بناء على هذه الشرطية ينبغي أن لا يكون الكافر مكلّفا إلاّ حين حصول الفعل المقدور ، لا وقت عدمه ؛ إذ لو كان في جميع مدّة عدم فعل المكلّف به - أي : الايمان - مكلّفا بالاتيان به لكان مكلّفا بما لا يقدر عليه. ومثله مثل أن يقال لزيد : انت مكلّف بالطيران إلى السماء ، ولو طرت لكان لك جناح! ؛ ومع هذا لم يسقط عنه التكليف ولم يحصل له الجناح اصلا. ولا ريب في أنّه تكليف بما لا يطاق!.

ثمّ انّه أورد على ما ذكر في العلاوة أيضا : بأنّ تكليف الفاعل حال الفعل بتحصيل ذلك الفعل الحاصل بذلك التحصيل وإن لم يكن محالا لكن لا طائل تحته.

وأجيب عنه : بأنّه يكفى في فائدته كونه سببا لذلك التحصيل ، فانّه اثره ، ففائدة استمرار التكليف حينئذ أنّه سبب للايمان والسبب تحت وجوده حال وجود المسبب

ص: 378

مع انّه يحفظ الايمان عن ورود الضدّ. وأمّا الفائدة المشهورة للتكليف - أعني : الابتلاء - فهي منتفية على هذا التقدير - أي : على تقدير تحقّق الفعل - ، فانّها تتصوّر عند التردّد في الفعل وتركه ، أمّا عند تحقّق الفعل فلا. إلاّ أنّه لا مانع منه ، لأنّ الابتلاء انّما يكون فائدة حدوث التكليف لا فائدة استمراره ، فيكون للتكليف فائدتان : إحداهما بالنظر إلى استمراره - وهي كونه سببا للتحصيل ومانعا عن ورود الضدّ - ؛ وأخراهما بالنظر إلى حدوثه - وهي الابتلاء والامتحان -. يعني لمّا حدث التكليف قبل القدرة على الفعل واستمرّ إلى حين القدرة وبقي معها فيكون له اعتباران : أحدهما الحدوث ؛ وثانيهما : الاستمرار ؛ فبالنظر إلى كلّ اعتبار تكون له فائدة. وغير خفيّ انّ تحصيل الحاصل بنفس ذلك التحصيل وإن كان جائزا وبه ثبت جواز استمرار التكليف بالايمان حال وجود الايمان ، إلاّ أنّ ذلك التحصيل يتوقّف على سبق قدرة ، لأنّ التحصيل فرع القدرة. فهذا التحصيل إن كان من العبد فلا بدّ له من تقدّم قدرة له عليه - وإلاّ لزم تحقّق المشروط بدون الشرط - ، وإن كان من اللّه لزم التكليف بما لا يطاق.

فان قيل : القدرة مقارنة لذلك التحصيل ؛

قلنا : تقدّم الشرط على المشروط لازم.

ثمّ ما قيل في الجواب عن لزوم عدم الفائدة في تحقّق التكليف بعد حصول المكلّف به : بأنّ الفائدة بعد التحصيل كون التكليف سببا لذلك التحصيل ، يرد عليه : انّ مجرّد التكليف إن كان سببا تامّا للتحصيل لزم أن يكون التكليف في زمان عدم الفعل أيضا سببا تامّا فكان اللازم عدم انفكاك الفعل عن التكليف ؛ وإن لم يكن سببا تامّا بل كان جزء من اجزاء العلّة التامّة لحدوث الفعل بأن يكون مع القدرة الموجودة في الفاعل والإرادة الحادثة فيه لغرض من الأغراض سببا تامّا ، فثبت المطلوب - أعني : تقدّم القدرة على الفعل -.

وما قيل : انّ الابتلاء إنّما يكون فائدة حدوث التكليف لا استمراره ؛

ففيه : انّه إذا لم تكن القدرة متقدّمة على الفعل لم تتحقق هذه الفائدة للحدوث أيضا ، لأنّ زمان التكليف إذا كان خاليا عن القدرة فكيف يتحقّق الابتلاء المستلزم

ص: 379

للتردّد / 82DA / بين طرفى المقدور؟!.

فظهر ممّا ذكرناه انّ الايراد المذكور لا يندفع بما ذكروه لدفعه ، وبه يظهر فساد الجواب الّذي ذكروه من جانب الأشعري للدليل المذكور للمعتزلة. مع أنّك قد عرفت اندفاع ذلك الجواب بوجوه آخر لا مدفع لها.

ثمّ جميع ما أوردناه من الفحص والتطويل إنّما كان للجرح والتعديل في ما أورده جماعة في هذا المقام من القال والقيل ؛ ولو شئت تحقيق الحقّ في هذا الخلاف - بحيث يطرح به ما أورده خلف قاف - فاستمع لمّا يتلى عليك بسمع الانصاف.

اعلم! أنّ الاشعرية لمّا قالوا انّ افعال العباد مستندة إلى اللّه - تعالى - لا إليهم ، وليس لهم قدرة على الفعل ولكن عادة اللّه جارية بايجاد قدرة لهم مقارنة لفعل العبد / 86MA / - سموّ ذلك بالكسب - ، لزمهم القول بعدم تقدّم القدرة على الفعل ومقارنتها لفعله ، ولكن ليس لتلك القدرة المقارنة تأثير لفعله ، بل هو مخلوق من اللّه - تعالى - ، فالظاهر انّ مرادهم من عدم كون القدرة متقدّمة على الفعل هو ما استقرّ رأيهم عليه من عدم قدرة العبد قبل الفعل اصلا ، ومرادهم من معية القدرة للفعل هو مقارنة تلك القدرة الغير المؤثّرة له ، فهذا الخلاف منهم مبنى على الخلاف المشهور منهم في افعال العباد ، فما يدلّ على بطلان ذلك الخلاف - : من لزوم الجبر ، والتكليف بما لا يطاق لعدم قدرة للعباد قبل الفعل اصلا وعدم تأثير لقدرتهم الّتي تكون مع الفعل - يدلّ بعينه على بطلان هذا الخلاف أيضا.

فالعجب من جماعة تثبّتت اقدامهم في معركة الفكر والنظر مع انكارهم الأصول الأشعرية ولما اختاروه في أفعال العباد من عدم قدرة لهم سوى القدرة الكاسبة - الّتي لا فرق بين وجودها وعدمها في عدم التأثير - ، توجّهوا هنا لتصحيح كلام الأشعرية بتحقّق امكان القدرة للعباد قبل الفعل وثبوت القدرة المؤثّرة معه ؛ وهل هذا إلاّ توجيه كلام الخصم بما لا يرضى به ويقول بخلافه؟!. فانّ من الأصول المشهورة للأشعرية قولهم بعدم قدرة مؤثّرة للعبد مطلقا واستناد جميع افعاله إلى اللّه - تعالى - وكونه مجبورا في افعاله ، ومع ذلك كيف يوجّه كلامهم هذا بما لا يلزم منه الجبر والتكليف

ص: 380

بما لا يطاق؟!.

وقد تفطّن بما ذكرناه بعض أهل التحقيق حيث قال : يمكن أن يقال بناء على مذهب الاشعرية على أنّ افعال غير اللّه - تعالى - واقعة باختياره - تعالى - ولا تأثير لغيره فيها ، والفرق بين فعل المختار وفعل المضطرّ كالنار : انّ اللّه يخلق مع الأوّل قدرة غير مؤثّرة فيه ، وبذلك يتصحّح كونه اختياريا ، وفي الثاني لا يخلق قدرة مقارنة أصلا ؛ وبناء مذهب المعتزلة على أنّ افعال غيره - تعالى - من المختارين واقعة باختيارهم بأن جعلهم اللّه - تعالى - مختارين ، أو خلق فيهم قدرة مؤثرة في أفعالهم عند تعلق ارادتهم بها ، فقول الأشعرية : انّ القدرة مع الفعل ، أي : معيّة بالذات كمعلولي علة واحدة ؛ وقول المعتزلة : انّها قبله ، أي : قبلية بالذات كتقدّم العلّة على المعلول ؛ انتهى.

ومثله ما ذكره بعض الأعلام : بأنّ الحقّ انّ النزاع في تقدّم القدرة على الفعل ومقارنتها له متفرّع على النزاع في أنّه هل للعباد قدرة مستقلّة أو غير مستقلّة ، أم لا ؛ فمن قال بعدم الفرق بين حركتي المختار والمرتعش - كجهم بن صفوان وأضرابه - يقول : ليس للعبد استطاعة اصلا ؛ ومن قال بالقدرة الكاسبة الغير المؤثّرة في الايجاد - كالاشعرية والبحارية (1) - يقول بها غير متقدّمة ؛ ومن قال باستقلال العباد في أفاعيلهم الاختيارية باقدار اللّه وتفويضه - كأكثر المعتزلة - يقول بتقدّمها ؛ وأمّا من قال بعدم التفويض والاستقلال - كما هو طريقة المقتبسين من مشكاة أهل البيت علیهم السلام - فيظنّ أنّه لا يمكنه القول بالتقدّم الزماني ، وإلاّ يلزم التفويض والاستقلال في تلك الحال. لكن لمّا كان الظاهر أنّ مرادهم بعدم استقلال قدرة العبد انّ مع تلك القدرة الّتي اعطاها اللّه ايّاه ومكّنه أن يفعل بها باختياره يمكن أن يصرّفه اللّه - تعالى - عن اختيار الفعل ويقلّب قلبه ولا يأذن له - كما قد يفعل باحبّائه عند همّهم المعصية ، أو باعدائه عند ضدّ ذلك - وأنّه لا يصدر عنه فعل إلاّ بتوفيق اللّه - تعالى - أو خذلانه ؛ ولا ينافي ذلك كونه بحيث لو خلّى بحاله واختياره امكن صدور الفعل عنه في حال بعد ذلك الحال فيمكن التقدّم ولا يلزم التفويض والاستقلال ؛ انتهى.

ص: 381


1- كذا في النسختين ، ولم أجد ذكرا لهذه الفرقة في المآخذ.

وقريب مما نقلنا ما ذكره بعض آخر من الأفاضل حيث قال : انّه / 82DB / مذهب الاشاعرة القائلة بأنّ تعلّق إرادة اللّه - تعالى - بفعل العبد علّة لصدوره عنه بمعنى انّه مكسوب للعبد لا يكون قادرا قبل الفعل ، وعند المعتزلة القائلة بأنّ العبد فاعل لأفعاله قبل انضمام الإرادة وسائر الشرائط يكون قادرا بمعنى انّه لو أراد أحد طرفي المقدور مع ساير الشرائط صدر عنه الفعل ، فهو قبل الفعل / 86MB / قادر - سواء صدر عنه الفعل أو لم يصدر - ، انتهى.

فظهر ممّا ذكرناه ومن كلام هؤلاء الأعلام : انّ الخلاف الواقع بين الاشعري والمعتزلة في كون القدرة مع الفعل أو قبله راجع إلى الخلاف المشهور بينهم في أفعال العباد ، وانّ مراد الأشعرية من القدرة المقارنة للفعل هي القدرة الغير المؤثّرة ، فبطلان قولهم ظاهر.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الخلاف السابق بين المعتزلة والأشاعرة - أعني : كون القدرة متعلّقة بالطرفين أو بطرف واحد ، أعني : الطرف الواقع - أيضا راجع إلى هذا الخلاف المشهور في أفعال العباد ؛ لأنّ الاشاعرة لمّا لم يثبتوا للعباد قدرة سوى القدرة الغير المؤثّرة المقارنة للفعل فلا بدّ أن يقولوا بتعلّقها بالطرف الواقع ، بخلاف المعتزلة.

وقيل : انّ الخلاف في كون القدرة قبل الفعل أو معه يساوق الخلاف في أنّ القدرة الواقعة هل يتعلّق بالطرفين أم لا ، فمن قال بتقدّمها يقول بتعلّقها بالطرفين ، وبالعكس.

وأورد عليه : بأنّ من قال بوجودها مع الفعل يمكنه أن يقول بتعلّقها بالطرفين بمعنى تساوي الطرفين بالنظر إلى ذات القادر من حيث هو قادر وإن وجب أحدهما بسبب اختياره ، نعم! ، لا يمكن القول بتعلّقها بالطرفين بمعنى حصول الطرفين بها بالفعل ، وهذا ممّا لا يمكن القول بها مع تقدّم القدرة أيضا ، وهو ظاهر ؛ انتهى.

ويمكن أن يقال : انّ مراد القائل انّ منشأ النزاعين ومبناهما واحد. وقد ظهر ممّا ذكر أنّ الخلاف في كون القدرة المؤثّرة مع الفعل أو قبله أو متعلّقة بالطرفين أو طرف واحد لا يمكن أن يتحقّق مع الأشعرية لعدم اثباتهم تأثير القدرة للعباد ؛ فان كان هذا

ص: 382

الخلاف متحقّقا بين العقلاء فلا بدّ أن يكون بين المعتزلة -. القائلين بكون قدرة العباد مؤثرة -.

وما قيل : من أنّه يجوز أن تكون القدرة الكاسبة متحقّقة قبل الفعل وأيّ دليل على وجوب مقارنتها له؟! ، كلام حال عن التحصيل ، لأنّ من أثبت القدرة الكاسبة لا يقول بثبوتها قبل الفعل ، بل يقول بان عادة اللّه جارية بايجادها مقارنة للفعل.

ثمّ تحقيق الحقّ في النزاعين على أصول أهل الحقّ - : الّذين يثبتون لقدرة العباد تأثيرا - : انّه إن اريد بالقوّة القوّة الّتي هي مبدأ التأثير - سواء كان مع جميع شرائط التأثير في الفعل أولا - كان متحقّقا قبل الفعل ومعه ، وكان تعلّقها أيضا بالطرفين على السواء ؛ وإن اريد بها القوّة الّتي تكون مع شرائط التأثير لم يتحقّق إلاّ مع الفعل ولم يكن متعلّقا إلاّ بالطرف الواقع وإلاّ لزم التخلّف. ومراد الاشعرية من القدرة في قولهم : « القدرة متعلّقة بالطرف الآخر وإلاّ لزم وقوع الطرفين » هو القدرة بهذا المعنى.

وإن أريد بها القوّة الناقصة الّتي تشترط معها عدم تحقّق جميع شرائط التأثير لم تتحقّق إلاّ قبل الفعل ولم تتعلّق بشيء من الطرفين. قال بعض الأعلام : وإلى الثالث أيضا ذهب بعضهم كما يعلم من عبارة بعض - أي : ذهب بعضهم إلى القدرة الناقصة ، يعني : اعتبر في القدرة عدم تحقّق جميع شرائط التأثير -. وأيضا الدليل الأوّل من الأدلّة الّتي نقلناها من المعتزلة لا ثبات تقدّم القدرة كان دالاّ على أنّ بعضهم اعتبر في القدرة عدم تحقّق جميع شرائط التأثير ، لأنّ حاصل الدليل المذكور انّ القدرة يلزمها كونها محتاجا إليها الفعل والفعل عند الحصول لا يحتاج إلى القدرة. ولا ريب في أنّ القدرة إذا لم تتحقّق مع الفعل والموجود من القدرة لا يكون الحاصل إلاّ قبل الفعل ، فيكون قدرة ناقصة لم يتحقّق معها جميع شرائط التأثير.

وأنت تعلم انّ هذا الدليل لا يفيد هذا المطلوب ، لأنّه يمكن أن يكون مراد المستدلّ : أنّ القدرة يلزمها كونها محتاجا إليها في الجملة ، وعند حصول الفعل لا حاجة إليها ، فلو لم يتقدّم على الفعل لم يكن حاجة إليها اصلا. وحينئذ فيجوز تحقّقها وقت الفعل أيضا ، لكن لا تكون حاجة إليها ، لا أنّه يلزمها كونها محتاجا إليها في جميع أوقات

ص: 383

حصولها حتّى يلزم من عدم الاحتياج إليها وقت الفعل عدم حصولها فيه. والظاهر انّ أحدا لم يذهب إلى أنّه يعتبر في القدرة ويشترط في حقيقتها وصدق اسمها عدم تحقّق جميع شرائط التأثير حتّى تختصّ عنده / 83DA / القدرة بالناقصة. نعم! اطلاق / 87MA / لفظ القدرة على الناقصة أيضا في عباراتهم واقع شايع لتحقّقها قبل الفعل ومعه.

فان قيل : لعلّ المحقّق الطوسي أيضا ذهب إلى اختيار اعتبار عدم تحقّق جميع شرائط التأثير في القدرة ، ولهذا قال : ويمكن اجتماع القدرة على المستقبل مع العدم في الحال (1) ، في جواب من قال : شرط القدرة انتفاء شرائط التأثير ، وفي حال العدم تحقّق شرائط التأثير في العدم وفي حال الوجود تحقّق شرائط التأثير في الوجود ، فلا تتحقّق القدرة في حال العدم ولا في حال الوجود!. فانّ حاصل جوابه : انّ القدرة إنّما هو على الشيء المستقبل - فعلا كان أو تركا - مع عدمه في الحال لا مع وجوده ليتحقّق جميع شرائط التأثير ، ولا يحصل ما هو شرط القدرة - أعني : انتفاء شرائط التأثير -. ولا ريب في أنّ اختيار المحقّق في جواب الايراد بالتقرير المذكور : « أنّ القدرة على الاستقبال مع العدم في الحال » ، يشعر باعتقاده انّه في حال حصول الشيء لا قدرة عليه ، وإلاّ لكان ينبغي أن يذكر أيضا في الجواب انّه لا امتناع في اجتماع القدرة على شيء معه ؛ وهذا أيضا أحد التوجيهات لتلك العبارة ؛

قلنا : الظاهر من كلامه في موضع آخر انّه لم يذهب إلى هذا الاعتبار.

وقيل : هذا التوجيه لا يساعده العبارة المذكورة ، لأنّها مشعرة بأنّ الخصم قائل بالقدرة بوجه من الوجوه ، ولكن نقول بأنّها مجتمعة مع العدم ، والحال انّ القائل المذكور ينفي القدرة راسا ؛ انتهى.

وهو كما ترى!.

وقيل : هذا التوجيه يساعده قوله : ويمكن ، لأنّ حمله بالامكان مشعر بامكان تحقّق القدرة على نحو آخر أيضا ، وما ذلك إلاّ باجتماعه مع الوجود ، وإلاّ لكان

ص: 384


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الاولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 218.

المناسب أن يقول : والقدرة على المستقبل يكون مع العدم في الحال من دون افحام لفظ الامكان ؛ انتهى.

وهو أيضا كما ترى! ، لأنّ لفظ الامكان هنا مقابل لما ذكره المستدلّ من أنّه لا يمكن اجتماع القدرة إلاّ مع الوجود ولا مع العدم ، فردّه بانّه يمكن اجتماع القدرة مع العدم بهذا النحو ، ولا اشعار فيه اصلا بامكان تحقّق القدرة على نحو آخر.

فان قلت : ما اخترت من تقدّم قدرة العبد - المسمّاة بالاستطاعة - على الفعل والترك ينافي ما رواه ثقة الإسلام في روايتي البصري والنبلي (1) : انّه لا يكون الاستطاعة إلاّ وقت الفعل ، وانّ العباد مستطيعون للفعل ووقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل ، وانّه ليس للعبد من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير ، ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعا ؛

قلت : هاتان الروايتان معارضتان بأخبار كثيرة ؛ منها : ما رواه الصدوق في التوحيد بسند صحيح عن الصادق - علیه السلام - انّه قال : لا يكون من العبد قبض ولا بسط إلاّ باستطاعة / 82DA / متقدّمة للقبض والبسط (2).

ومنها : ما رواه أيضا عنه - علیه السلام - بسند صحيح انّه قال : لا يكون العبد فاعلا ولا متحرّكا إلاّ والاستطاعة معه من اللّه - عزّ وجلّ - وانّما وقع التكليف من اللّه - تبارك وتعالى - بعد الاستطاعة ، ولا يكون مكلّفا للفعل إلاّ مستطيعا (3). والاخبار الواردة بهذا المضمون كثيرة متظافرة.

والوجه في الجمع بينهما وبين روايتي البصري والنبلي : أن تحمل الاستطاعة المتقدّمة الواردة في هذه الأخبار الكثيرة على القوّة الّتي هي مبدأ التأثير وبها يتمكّن الفاعل من الفعل والترك سواء كانت مع جميع شرائط التأثير في الفعل أو لا ، والاستطاعة الواردة في روايتي البصري والنبلي على القوّة المستجمعة لجميع شرائط التأثير. وبذلك يظهر أنّ ما ذكرنا في تحقيق الحقّ وجه حسن للجمع بين الأخبار

ص: 385


1- راجع : الاصول من الكافي ، ج 1 ، ص 162.
2- راجع : التوحيد ، ص 352.
3- راجع : نفس المصدر ، ص 345.

المتعارضة الواردة في هذا الباب.

قال بعض الأعلام - بعد اختياره تقدّم الاستطاعة على الفعل وايراده شطرا من الاخبار الدالّة عليه - : وأمّا ما نقل عنه - علیه السلام - في روايتي البصري والنبلي - : انّه لا يكون الاستطاعة الاّ وقت الفعل - ، فمع ضعف الراوي واحتمال التقية يمكن حمل الاستطاعة على الاستطاعة المستقلّة الخارجة عن سلطان اللّه - عزّ وجلّ - بحيث لو اراد صرف العبد معها عن الفعل لم يمكنه ، كما زعمه اكثر المعتزلة حيث قالوا : انّ اللّه أراد من الكفّار والفجّار / 87MB / الطاعة والايمان طوعا ولا يمكنه صرفها عن الكفر والعصيان إلاّ جبرا ، وإلاّ لفعله إذ يجب على قاعدتهم اقصى ما يمكن من اللطف وازالة العلل. وأمّا عند المتشبّثين بذيل أهل البيت - علیهم السلام - فلا تخرج قدرة العبد عن سلطانه ولا يفعل فعلا إلاّ بتوفيقه أو خذلانه ، ولا يجب عليه كلّ مقرّب للطاعة ومبعّد للمعصية بالنسبة إلى كلّ أحد في كلّ حال ، بل ( فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ) (1) ولا يكون للنّاس حجّة على اللّه بعد الرّسل (2) والدلالات. وهو - سبحانه - مع ذلك / 83DB / منزّه عن إرادة الشرور والقبائح بذاتها كما هو منزّه عن ايجادها كذلك. نعم! قد يخذل شخصا حسب استعداده على وفق مشيته ، ويلاحظ في ذلك خيرا كثيرا ولا يريد إلاّ ما هو الأصلح بالكلّ ولا يقع في الوجود إلاّ ما يشاء. فاذا فعل عبد خيرا علم انّه مستطيع عليه موفّق به ، وإذا فعل شرّا ظهر أنّه مستطيع عليه مخذول به. وأمّا قبل ذلك فلعلّ اللّه يصرفه عن ارادته ولا يأذن له ؛ فسبحان من تنزّه عن الفحشاء الّذي لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء ، ولا يخرج عن حوله وقوّته شيء في الأرض ولا في السماء ، بل بحول اللّه وقوّته يقوم العبد ويقعد. وروى ثقة الاسلام عن الصادق - علیه السلام - انّه قال : اللّه اكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، واللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد (3) ؛ انتهى.

وأنت بعد الاحاطة بما تقدّم تعلم ما في بعض كلمات هذا القائل

ص: 386


1- جزء من كريمة 125 ، الانعام.
2- مقتبس من كريمة 165 ، النساء.
3- راجع : الاصول من الكافى ، ج 1 ، ص 160.

وممّا يرد عليه : انّه حمل الاستطاعة في الروايتين المذكورتين على الاستطاعة الخارجة عن سلطان اللّه - سبحانه - وقد صرّح بأنّ تلك الاستطاعة الّتي حمل عليها الاستطاعة في الروايتين انّما هي طريقة المعتزلة ولا يوافق اصول الامامية. ولم يتفطن انّه حينئذ فكيف يستقيم حمل الروايتين عليها - بعد التنزّل عن الحمل على التقية -؟!.

الشبهة الثالثة : انّ الفاعل لو كان قادرا على وجود الشيء لكان قادرا على عدمه ، لأنّ نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء عند المعتزلة إن اريد بالقدرة هنا القدرة الواحدة بالشخص ، وعند الكلّ إن اريد بها القدرة المطلقة. إذ لا نزاع في تعلّقها بالطرفين ، بل النزاع انّما هو في أنّ القدرة الواحدة بالشخص هل يتعلّق بالطرفين أم القدرة على الفعل غير القدرة على الترك بالشخص ؛ لكن اللازم باطل ، لأنّ العدم الاصلي أزليّ ولا شيء من الأزلى بأثر للقادر. وأيضا العدم نفي محض لا يصلح أن يكون متعلّقا للقدرة والإرادة ، لأنّ معنى تعلّق القدرة بالشيء التأثير فيه ، وحيث لا أثر فلا تأثير.

وأجيب عنه : بأنّ القادر هو الّذي يصحّ منه أن يفعل وان لا يفعل وعدم الفعل ليس فعلا للعدم ، فالعدم لمّا لم يكن شيئا فلا يصحّ أن يكون متعلّق الجعل والتأثير - لأنّ الجعل والتأثير لا يتعلّقان إلاّ بشيء - ، لكن معنى كون العدم متعلّق الإرادة هو أنّ للقادر أن لا يفعل - فيستمرّ العدم - وأن يفعل - فلا يستمرّ العدم -. فباعتبار الاستمرار وعدم الاستمرار يصحّ أن يكون العدم متعلّق القدرة.

وأنت تعلم انّ هذا الجواب يندفع به كلا الدليلين اللذين ذكرا في الشبهة لعدم تقدّم القدرة بالعدم - وهما : كون العدم الاصلي ازليا والأزلي لا يكون اثرا للقادر ، وكون العدم نفيا محضا والنفي المحض لا يكون متعلّقا بالقدرة -. إذ حاصل الجواب : انّ الطرف المقابل لوجود الشيء هو عدم فعل ذلك الشيء ، لا فعل عدمه. وعدم الفعل ليس فعل العدم ، إذ الثاني هو ايجاد العدم والأوّل ابقائه بأن لا يفعل القادر فيستمرّ العدم. ولا ريب انّ ازلية العدم وتحقّقه قبل القدرة انّما ينافي فعل العدم وايجاده - لاستلزامه تحصيل الحاصل لا عدم الفعل بأن لا يفعل الفاعل فيبقي العدم على ما كان - ،

ص: 387

لأنّ ابقاء الشيء وجودا كان أو عدما على ما كان لا يوجب تحصيل الحاصل. وكذا كون العدم نفيا محضا إنّما ينافي فعل العدم لا ابقائه كما كان ، لأنّ بقاء النفي المحض كما كان لا ضير فيه ، وانّما المحال ايجاد النفي المحض.

فان قيل : عدم الفعل أيضا لا يسبقه شيء ولا وجود له في الخارج ، فلا يكون مقدورا ؛

ثم أجاب - بعد أن قال : انّ التقابل بين الطرفين المتعلّقين للقدرة / 88MA / هو تقابل العدم والملكة لا تقابل التضاد ولا السلب والايجاب - : بأنّ عدم الفعل عمّا من شأنه أن يكون فاعلا لا بدّ له من سبب ، ويمكن أن يكون سببه إرادة ذلك الفاعل له أو عدم ارادته للفعل ، فيكون مقدورا ولا فساد فيه ؛ انتهى.

والظاهر انّ توجّه هذا السؤال بعد الجواب المذكور والتصريح فيه بأنّ مقدورية عدم الفعل باعتبار ابقاء ذلك العدم بحاله ليكون مستمرّا بناء على أنّ ابقاء العدم بحاله وتركه مستمرّا على ما كان لا يفيد مقدوريته ، لأنّ ما يتعلّق به القدرة لا بدّ أن يصل من الفاعل أثر إليه وعدم الفعل لا يسبقه شيء ولا وجود له في الخارج ، فلا يصل من القادر إليه أثر حتّى يكون مقدورا.

فاجاب : بأنّ عدم الفعل لمّا كان عدم ملكة فلا بدّ له من سبب والسبب إمّا إرادة الفاعل لذلك العدم أو عدم ارادته للفعل ، فبقاء ذلك العدم على ما كان يتوقّف على إرادة الفاعل لذلك العدم أو عدم ارادته للفعل ، فيصل الأثر منه - على التقديرين - إلى ذلك العدم. وإلى هذا الجواب أشار بعض المشاهير حيث / 84DA / قال : ويكفي في كون طرف النفي أثرا بمعنى الاستتباع أنّ القادر لم يشاء فلم يفعل ، فانّ عدم الفعل ليس فعل العدم. وتوضيحه : انّ عدم المعلول تابع لعدم العلّة بالاتفاق ، فعدم الفعل تابع لعدم المشية والإرادة وهذا كاف في القدرة كما قالوا في تفسيرها - ؛ وإن لم يشاء لم يفعل. ولا يحتاج إلى أن يكون العدم مفعولا للقدرة ومعلولا للارادة حتّى يتوجّه أن النفي لا يصلح لأن يكون متعلّقا للقدرة ، إذ متعلّق القدرة ليس فعل العدم ، بل عدم الفعل ، وعدم الفعل ليس فعل العدم. فظهر انّ السؤال المذكور في بادي الرّأي يتوجّه ، ولكن

ص: 388

بالجواب المذكور يندفع.

وبذلك يظهر ما في كلام بعض الأفاضل من الاختلال حيث قال - بعد نقله السؤال والجواب المذكورين - : وفي الجواب بحث ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ مراد المعترض انّه إذا كان عدم الفعل أيضا متحقّقا دائما - كالعدم - فلا يمكن تعلّق القدرة به لكونه حاصلا قبله ؛ وظاهر انّ ما ذكره في الجواب ليس في مقابله ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ مثل ما ذكره يجري في العدم أيضا ، إذ نقول : عدم الشيء الّذي من شأنه الوجود لا بدّ له من سبب إلى آخره ، فالعدول عن العدم إلى عدم الفعل لا وجه له.

ثمّ قال : فالحقّ في الجواب أن يقال : انّه ليس الغرض العدول عن العدم إلى عدم الفعل ، بل المراد انّه لا يتعلّق القدرة بفعل العدم حتّى يقال انّ تحقّقه قبلها ينافي ذلك ، بل انّه يتعلّق بعدم الفعل وابقاء العدم بحاله ، فالعدم مقدور باعتبار البقاء والاستمرار. وبالجملة المراد بعدم الفعل هو ابقاء العدم ليكون مستمرّا ، وهو مقدور - على ما هو المشهور في الجواب عن هذا الدليل : انّ العدم مقدور باعتبار استمراره لا أنّه فرق بين عدم الفعل وفعل العدم في امكان تعلّق القدرة باحدهما دون الآخر - ؛ انتهى.

ووجه الاختلال : انّ مراد المعترض ليس قياس عدم الفعل على العدم في عدم تعلّق القدرة الّتي به يجامع التحقّق دائما ، فانّ المجيب لم يفرق بين عدم الفعل والعدم - أي : عدم الشيء - حتّى يتوجّه الاعتراض بالتساوي ، بل مراده ما قرّرناه. وحينئذ فيصير ما ذكره بقوله : « وأمّا ثانيا إلى آخره » لغوا.

وما ذكره من الجواب الحقّ عنده غير دافع للاعتراض! ، لأنّ ما ذكره في الجواب الحقّ عنده من كون العدم مقدورا باعتبار البقاء والاستمرار كان مأخوذا في أصل الجواب عن الشبهة ، ومع ذلك أورد الاعتراض المذكور ؛ فالمراد منه هو ما ذكرناه وحرّرناه.

ثمّ على ما ذكرناه من كون عدم الفعل عدم ملكة عدما مطلقا - أي : العدم بما هو عدم - فيصحّ اتصافه بالاستمرار وعدم الاستمرار ممّا هو من صفات الموجودات ، لأنّ

ص: 389

العدم إذا اضيف إلى شيء فله وجود في الذهن ؛ فيكون شيئا ويصحّ تعلّق القدرة به - أي : باستمراه -. وبذلك يندفع ما ربّما يتوهّم أن يورد في هذا المقام : انّ العدم بما هو عدم إذا لم يكن شيئا ولم يصحّ أن يكون متعلّق القدرة فلا تكون له صفة وجودية / 88MB / - وهي الاستمرار واللااستمرار - ، لأنّ اللاشيء المحض لا تكون له صفة وجودية وإلاّ يلزم خلاف الفرض. وعلى ما ذكر من التفرقة بين العدم المطلق والعدم المضاف وكون عدم الفعل عدما مضافا يمكن أن يقال في جواب الشبهة : أوّلا : انّه إن اريد بالعدم العدم بما هو عدم فهو لا شيء محض لا يصحّ أن يكون متعلّق القدرة وليس فيه فعل وصفة وجودية ليصحّ تعلّق القدرة به ، لأنّه ليس إلاّ الانتفاء المحض ، إلاّ انّ عدم الفعل وعدم الشيء ليس من هذا القبيل ؛ وإن اريد به العدم المضاف فهو شيء من الأشياء ويصحّ أن يكون متعلّق القدرة.

واعلم! انّ الشبهة المذكورة لا خصوصية لها بالقدرة بالمعنى الثالث - أي : القدرة الملزومة لحدوث العالم الّتي تفرّد باثباتها المليون ؛ بل لا خصوصية لها بقدرة اللّه تعالى - ، وانّما هي شبهة لنفى القدرة مطلقا ، بحيث لو تمّت لدلّت على نفى قدرة العباد ونفي قدرة اللّه مطلقا - أي : سواء كانت بالمعنى الثاني الّذي قال به الحكماء ، أي : صحة الفعل والترك بالنظر إلى الذات ؛ أو بالمعنى الثالث الّذي تفرّد باثباته المليون ، أي : القدرة المستلزمة لحدوث العالم -. لأنّه إذا صحّ ما قيل في الشبهة - : انّ العدم نفي محض فلا يصحّ كونه متعلّقا للقدرة - يظهر منه انّ القول بامكان الترك بالنظر إلى الذات غير صحيح ، لأنّ الترك بمعنى العدم ، فلا يكون متعلّقا للقدرة. ويظهر منه أيضا انّ عدم العالم في بعض الأوقات بالقدرة والاختيار غير صحيح ، لأنّ العدم لا يكون متعلّقا للقدرة فيكون العالم معدوما في وقت عدم لا يكون بقدرة اللّه - تعالى -. وأيضا : الجواهر الحادثة بقدرة اللّه - تعالى - عدمها ازليّ بزعم الحكماء أيضا ، فيلزم / 84DB / أن لا تكون مقدورة لله - تعالى - بالنظر إلى ذاته بمعنى كونها ممكنة الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته - تعالى - ، لأنّ عدم صدورها لا يكون متعلّقا للقدرة.

والحاصل انّ الشبهة المذكورة لا يجري في نفي مطلق القدرة سوى القدرة بالمعنى

ص: 390

الأوّل - أعني : صدور الفعل بالعلم والمشية -. فلو تمّت تلك الشبهة لدلّت على نفى القدرة بمعنى صحّة الفعل والترك بالنظر إلى الذات وبالمعنى الثالث الملزوم لحدوث العالم ؛ ودلّت على نفي قدرة العباد أيضا.

وإذ علمت ذلك فنقول : ما ذكر في الشبهة من أنّ العدم ازلي والأزلى لا يكون اثرا للقادر ، يرد عليه : إن (1) كان المراد انّ الأزلي لا يكون اثرا للقادر بالقدرة المتنازع فيها الملزومة لحدوث الفعل - أي : ما به يصحّ انفكاك الفاعل من كلّ من الفعل والترك ، ويكون مناطه ما هو المشهور بين المتكلّمين من أنّ أثر القدرة يجب أن يكون حادثا - ، ففيه : أمّا أوّلا : انّه على فرض تماميته لا ينفي القدرة بالمعنى الثاني - أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - ، فيكون الزاميا على المتكلّم ولا تكون واردا على الحكيم ، مع أنّ المراد من الشبهة أعمّ ؛

وأمّا ثانيا : انّ ذلك - أي : الانفكاك - انّما يتمّ في جانب الوجود ، إذ الوجود الازلي يمتنع رفعه ، فلو كان موجودا أزليا امتنع انفكاك الفاعل عنه ، وهو ينافي القدرة بهذا المعنى. وأمّا العدم الأزلي فيمكن رفعه قطعا ، فلو كان العدم ازليا لم يمتنع انفكاك الفاعل عنه ، فلا ينافي القدرة بهذا المعنى. وما قيل : ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، انّما هو في الموجودات دون الأعدام ، وهو ظاهر.

وإن كان المراد انّ الأزلى لا يكون اثرا للقادر بالقدرة بكلا المعنيين ، ففيه منع ظاهر ، لامكان أن يكون أثر القادر بالقدرة بالمعنى الثاني - أي : صحّة الفعل والترك بالنظر إلى الذات - أزليا ، فانّ الضرورة قاضية بجواز ثبوت امكان الترك في الأزل بالنظر إلى الذات مع وجوب الفعل فيه بالنظر إلى الداعي أو بالعكس. ولذا ذهب الفلاسفة إلى ازلية العالم مع قولهم بالقدرة بهذا المعنى - على ما نسب إليهم في المشهور - ، ولم يقم دليل اصلا على امتناع كون أثر القدرة بهذا المعنى قديما.

فان قيل : أثر القادر المختار مسبوق بالقصد والإرادة ، فلا يكون أزليا ؛ فالعدم الأزلي لمّا لم يكن مسبوقا / 89MA / بالارادة والمشية فلا يكون اثرا للقادر ؛

ص: 391


1- الاصل : انه.

قلنا : المسبوقية الزمانية ممنوعة والذاتية لا تنافي الازلية ، فيجوز أن يكون أثر القادر قديما زمانيا مسبوقا بالقصد والإرادة بالذات لا بالزمان.

فان قيل : المراد بالأزلي الّذي لا يكون أثرا للقادر المختار ما لا يتقدّم عليه شيء أصلا - : لا بالزمان ولا بالعلية - ؛ والعدم الأصلي بمعنى سلب الوجود سلبا تحصليا لا سلبا عدوليا كذلك - أي : لا يتقدّم عليه شيء أصلا - ، إذ كلّ ممكن في مرتبة ذاته من دون ملاحظة وجود علّته وعدمها مسلوب الوجود - كما بيّن في مقامه ، وصرّح به الفارابى في الفصوص والشيخ في الشفاء -. وهذا العدم هو الّذي لا يصلح لأن يكون أثرا للمؤثّر لا غيره من الأعدام المسبوقة بالقصد والإرادة بالذات أو بالزمان ، إذ لا شكّ أنّ كثيرا من المقدّمات آثار للمؤثّرات ، وعلى هذا يتمّ عدم كون الأزلي أثرا للقادر عند المتكلّم والحكيم أيضا ، ولا يختصّ بالمتكلّم ؛

قلنا : إن اريد بالعدم الأزلي ذلك - أي : ما لا يتقدّمه عليه اصلا ، لا ذاتا ولا زمانا - ، فلا ريب في عدم كونه مقدورا ، فانّ كون شيء مقدورا - وجودا كان أو عدما - لا يتصوّر بدون أن تتعلّق به قدرة فاعلة ، فيلزم تقدّمه عليه البتّة. وعلى هذا فيكون عدم الشيء مقدورا لا يتعقّل بدون أن يكون هذا الشيء موجودا ثمّ تقدّمته علّة ما ، أو يكون عدم شيء مسبوقا لموجود كان من شأنه ايجاد هذا الشيء المعدوم وابقائه على عدمه كما كان ، وحينئذ يكون هذا العدم مقدورا من حيث بقائه واستمراره إذا لوحظ مع تلك العلّة الّتي من شأنها رفعه وابقائه على حاله ، فانّه من حيث يمكن لهذه العلّة أن يرفع هذا العدم ومع ذلك لا يرفعه ولا يبقيه على حاله فيجوز أن يكون متعلّق القدرة من تلك الحيثية واستناده إلى عدم إرادة الفاعل لايجاده أو إرادته لكونه معدوما وهو يكفي لكونه مقدورا - كما ذكرنا أولا في الجواب عن الشبهة -. وليس مقدورا من حيث ذاته وحقيقته ، إذ لو فرض عدم وجود تلك العلّة لكان هذا العدم أيضا ثابتا ، بل باقيا مستمرّا ؛ فالمراد : انّه مع فرض وجود الفاعل القادر على عدم الشيء يمكن أن يكون استمرار عدم هذا الشيء مقدورا بالحيثية المذكورة.

وبما قرّرناه من جواز عدم مقدورية العدم إذا كان ازليا ذاتيا فاذا أريد من ازلية

ص: 392

العدم ازلية ذاته في الشبهة يرد عليه : / 85DA / انّ مقدورية الوجود لا يستلزم مقدورية العدم بذلك المعنى ، فما ادّعى في الشبهة من الملازمة ممنوع.

وممّا ذكر يظهر ضعف ما قيل : يمكن أن يعلّل عدم صلاحية الأزلي لتعلّق القدرة بوجه آخر ، وهو : انّه لو كان أثرا لها لزم تحصيل الحاصل ، لأنّ الأزلي حاصل قبل تأثير القدرة ومع ذلك لو كان مقدورا لزم تحصيل الحاصل. ووجه الضعف : انّ المراد بالأزلي لو كان ازليا ذاتيا لا تسبقه قدرة وإرادة فلا ضير في عدم تعلّق القدرة به ، وليس ذلك محلاّ للنزاع ؛ وإن كان ازليا زمانيا فلا ريب في تقدّم القدرة وتأثيرها عليه ، فلا يلزم تحصيل الحاصل.

وقيل في الجواب : انّ هذا الوجه لا يجري إلاّ في القدرة الحادثة دون القدرة القديمة الّتي هي المقصودة هاهنا ، إذ العدم ليس بمتحقّق قبلها.

ولقائل أن يقول : انّ العدم الأصلي للممكنات وإن لم يكن متحقّقا قبل القدرة القديمة - لكونها قديمة ذاتية - إلاّ أنّه لا يمكن أن يقال : انّ القدرة القديمة متحقّقة قبله أيضا - لكونه أيضا ازليا ذاتيا - ، فلا يكون تأثير القدرة قبله. فلو كان مقدورا لزم تحصيل الحاصل ، على أنّ القدرة القديمة تعلّقها حادث والعدم الأزلى لا يستند إلى نفس القدرة القديمة ، بل إلى تعلّقها ، وتعلّقها لكونه حادثا يكون العدم الأزلي متحقّقا قبله البتة ، فتحصيل الحاصل لازم ؛ فالصحيح في الجواب ما ذكرناه.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه انّ ما ذكر في الشبهة من عدم جواز كون الأزلي أثرا للقادر - ولذلك لا يجوز أن يكون العدم الاصلي الّذي هو أزلي متعلّقا للقدرة - ، ان أريد به الأزلي الذاتي على الّذي لا يسبقه شيء أصلا فلا ضير في عدم كون العدم الّذي كان بهذه المثابة مقدورا ، ولا يتحقّق وجود ممكن يكون بهذه المثابة حتّى يلزم الفساد ، لأنّ كلّ ممكن لا بد أن تسبقه / 89MB / العلّة البتة زمانا أو ذاتا ، فمقدورية الموجودات بأسرها لا يستلزم مقدورية العدم بذلك المعنى ، فالملازمة بذلك المعنى (1) المذكورة في الشبهة ممنوعة ؛ وإن أريد بالأزلي ما لا تسبقه العلّة زمانا وإن سبقته ذاتا فعدم كون مثله أثرا

ص: 393


1- الاصل : - بذلك المعنى.

للقادر بالقدرة بالمعنى الثاني - أي : صحة الفعل والترك بالنظر إلى الذات - ممنوع - لما مرّ - ؛ وان ادّعى أنّ الازلى لا يكون أثرا للقادر بالقدرة الملزومة للحدوث فقد عرفت ما يرد عليه. وبذلك يتّضح أنّ تلك المقدّمة المذكورة في الشبهة - أعني : كون العدم أزليا والأزلي لا يكون أثرا للقادر - لا يصحّ في نفسها ويمكن دفعها وإن قطع النظر عن الجواب المذكور أوّلا - أعني : القول بكون العدم مقدورا من حيث البقاء والاستمرار -.

تتميم

قول المحقّق الطوسي في التجريد : وانتفاء الفعل ليس فعل الضدّ (1) ، اشارة إلى الجواب عن الشبهة المذكورة. يعنى انّ الطرف المقابل لفعل شيء - الّذي هو أحد طرفي القدرة - هو انتفاء فعل ذلك الشيء - أي : عدم فعله ، لا فعل عدمه - ؛ وعدم الفعل ليس فعل الضدّ الّذي هو العدم. وتحقّق العدم قبل القدرة أو كون العدم نفيا محضا إنّما ينافي فعل العدم لا عدم الفعل ، إذ هو مقدور من حيث البقاء وعدمه ، لأنّ للقادر أن لا يفعل فيستمرّ العدم وأن يفعل فلا يستمرّ. وعلى هذا فيمكن أن يكون المراد من الانتفاء الترك ويكون المعنى : انّ الطرفين اللذين هما متعلقا القدرة هما الفعل والترك لا الوجود والعدم حتّى يرد أنّ العدم لا شيء محض لا يصحّ أن يكون متعلّق القدرة ، فيكون قوله : وانتفاء الفعل ليس فعل الضدّ - الّذي هو العدم - اشارة إلى أنّ متعلّق القدرة هو الفعل والانتفاء - أي : الترك - ، لا العدم حتّى يلزم فعل العدم الّذي هو فعل الضدّ ، لأنّ ترك الفعل ليس فعل العدم. ففي هذه العبارة اشارة إلى الجواب عن كلا الدليلين اللّذين أوردا في الشبهة لعدم جواز كون العدم مقدورا.

وقال بعض الأعاظم في شرح تلك العبارة : أنها اشارة إلى أن ليس شرط كون انتفاء الفعل متعلّق القدرة كونه فعل الضدّ ، فانّ انتفاء الفعل يصحّ أن يكون متعلّقا للقدرة وتحقّق العدم قبل القدرة لا ينافيه ، إذ يمكن للقادر أن لا يفعل فيستمرّ العدم و

ص: 394


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الأولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 219.

أن يفعل فلا يستمرّ ، فكون العدم الأصلي ازليا لا ينافي تعلّق القدرة بابقائه. وأيضا يكفي في كون طرف النفى أثرا بمعنى الاستتباع انّ القادر لم يشاء فلم يفعل ، فانّ انتفاء الفعل ليس فعل الضدّ الّذي هو العدم ؛ انتهى.

والظاهر انّ ما ذكره هذا القائل جواب واحد لأنّه بعد ما قال : / 85DB / انّ متعلّق القدرة هو عدم الفعل لا فعل العدم ، أشار إلى وجه اندفاع الدليلين المذكورين في الشبهة لعدم كون العدم مقدورا ، فأشار بقوله : وتحقّق العدم ... إلى قوله : أيضا ، إلى اندفاع الدليل الأوّل ؛ وبقوله : أيضا ، إلى اندفاع الدليل الثاني. وقد مرّ توضيحه فيما تقدّم.

وحمل بعض الأفاضل كلامه هذا على جوابين ، وجعل ما ذكره إلى قوله : ... أيضا ، جوابا مستقلاّ ، وقوله : أيضا ... إلى آخره ، جوابا آخر ؛ وقال : الفرق بين الجوابين أنّ الجواب الأوّل حاصله انّ ما ترتّب على قدرة القادر هو استمرار العدم وعدم استمراره لا نفس العدم ؛ وحاصل الجواب الثاني - أعني : ما ذكره بقوله : أيضا ... إلى آخره - : هو أنّ ما يترتّب على قدرة القادر هو نفس العدم ، لأنّ الأثر قسمان : أحدهما : ما يتعلّق به الجعل والتحصيل - والعدم لا يكون من هذا القبيل - ؛ وثانيهما : ما يستتبع شيئا سواء كان بحيث يصحّ تعلّق الجعل والتأثير به أولا يصحّ ، كالعدم فانّ عدم الفعل المقدور يستتبع عدم مشية القادر ، لأنّه يصحّ أن يقال : انّ القادر لم يشاء فلم يفعل ؛ فعدم الفعل يترتّب على عدم المشية لأنّ العدم تعلّق به الجعل والتأثير لأنّ الجعل والتأثير لا يتعلّق إلاّ بالشيء ، والعدم بما هو عدم لا شيء ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ حمل كلامه على ما ذكرناه - : من كونه جوابا واحدا - اصوب!.

ثمّ على ما ذكرناه - : من صحّة تسليم انّ العدم الأزلي بما هو عدم ليس مقدورا ولا ضير في منع تعلّق القدرة به - يمكن أن يحمل عبارة المحقّق أيضا على ذلك ، بأن يقال : انّ معناه : انّ انتفاء الفعل ليس فعل الانتفاء ليصحّ تعلّق القدرة ، لأنّ القدرة لا تتعلّق إلاّ / 90MA / بالفعل ، وانتفاء الفعل ليس بفعل حتّى يصحّ تعلّق القدرة به.

ص: 395

مسئلة مهمّة

ذهب المليون إلى عموم قدرة اللّه - تعالى - ؛ أي : كون قدرته عامّة شاملة لجميع الممكنات ... وهذا العنوان وإن كان مجمعا عليه إلاّ أنّه يحتمل احتمالات لا بدّ من ذكرها والاشارة إلى أنّ أيّ الاحتمالات هو المقصود.

الأوّل : أن يكون المراد منه انّ قدرته - تعالى - شاملة لجميع الممكنات الموجودة - أي : جميع الموجودات مستند إلى قدرته وارادته بلا واسطة غيره تعالى -.

الثانى : أن يكون المراد انّ جميع الموجودات مستند إلى قدرة اللّه - تعالى - ، سواء كان بلا واسطة أو بواسطة.

الثالث : أن يكون المراد انّ جميع ما هو ممكن بالامكان الذاتي مقدور له - تعالى ، أي : انّه تعالى يقدر على ايجاده بلا واسطة أو بواسطة - ، فجميع الممكنات الموجودة مستند إليه بلا واسطة أو بواسطة ، وجميع الممكنات المعدومة - أي : ما هو ممكن في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر ، سواء وجد في وقت أو لا يوجد لأجل مصلحة - مقدور له بواسطة أو بدونها ، ويمكن له - تعالى - ايجاده بالنظر إلى ذاته.

الرابع : أن يكون المراد انّه - تعالى - يقدر على ايجاد كلّ ممكن ذاتى بلا واسطة غيره ، مثلا يقدر على ايجاد حركة زيد بلا توسّط زيد ، فالموجودات بأسرها واقعة بقدرته - تعالى - بلا واسطة والممكنات المعدومة مقدورة له بلا واسطة أيضا.

وإذ عرفت ذلك فاعلم! انّه لا ريب في أنّ الاحتمالين الأوّلين غير مقصودين لاحد من العنوان المذكور ، لأنّه بعد اثبات التوحيد وحدوث العالم بأيّ معنى كان يثبت استناد جميع الموجودات إليه - تعالى - بلا واسطة شيء أو بتوسط بعض الأسباب والشرائط المنتهية إليه - تعالى - بالنسبة إلى بعض الوجودات ، بل يثبت احد هذين الاحتمالين من ادلّة اثبات الصانع البتة ، ولا حاجة إلى تجشّم استدلال آخر. مع أنّهم ذكروا لاثبات هذا العنوان ادلّة على حدة ، فتعيّن أن يكون المراد أحد الاحتمالين الآخرين.

فنقول : الاحتمال الأخير هو مراد الأشاعرة من العنوان المذكور ، فانّهم يفسّرونه

ص: 396

بأنّ ما سوى الذات والصفات من الموجودات واقعة بقدرته وارادته ابتداء بلا توسّط موجد غيره ، وكلّ ممكن الوجود بذاته فانّما يمكن صدوره عنه بحيث لا يجب عليه شيء ولا يمتنع عليه شيء. نعم! عادة اللّه جارية بايجاد بعض دون آخر. والاحتمال الثالث هو مراد المحقّقين من المتكلّمين والحكماء من العنوان المذكور ، فانّهم قالوا : انّه - تعالى - من حيث ذاته وقدرته الكاملة قادر على ايجاد كلّ ممكن ذاتي ، لكن ارادته وعنايته متعلّقة بنظام الكائنات على الوجه الأكمل الأصلح بحال مجموع الممكنات ، والقوابل مستعدّة حسب مشيته لقبول بعض انحاء الموجودات دون بعض. فكلّما يدخل من الممكنات في الوجود فانّما هو على وفق مشيته وعنايته وملاحظته / 86DA / لنظام الخير ، إمّا بالذات - كالخيرات - أو بالعرض - كالشرور والآفات - ، وجميعها مستندة إليه - تعالى -. ولا يدخل في الوجود شيء إلاّ وهو معلول قدرته وإن كان بوساطة اسباب راجعة إليه. وليس شيء من تلك الوسائط مضادّا له في حكمه ومنازعا له في سلطانه. وكلّما لا يدخل في الوجود من الممكنات فانّما هو أيضا لأجل عنايته وعلى وفق مشيته وملاحظته للنظام الأصلح ، ولكنّها مقدورة له - تعالى - بالنظر إلى ذاته الكاملة وقدرته الشاملة ، إمّا بلا واسطة أو بتوسّط اسباب راجعة إليه - تعالى -. فهو قادر على ايجاد ما لم يوجد ولن يوجد من الممكنات من حيث ذاته ، إلاّ أنّ عدم ايجاده لأجل العناية وملاحظة نظام الخبر - كما يقولون في سائر الممتنعات الواقعة في نظام الكلّ -.

ثمّ لمّا كان حديث العادة الّذي يثبته الأشعري باطلا عندنا - بل كلّ من ايجاد بعض الممكنات وعدم ايجاد بعض آخر هو لأجل المصلحة وملاحظة نظام الخير - ، فالمتعيّن من العنوان المذكور هو إرادة أنّ ذاته - تعالى - من حيث هو قادر على ايجاد جميع الممكنات الذاتية سواء كان بلا واسطة مطلقا أو بتوسّط بعض الاسباب لبعض الممكنات من حيث جهاتها المستندة إليه - تعالى - ، إلاّ انّ المصلحة الراجعة إلى نظام الخير اقتضت ايجاد بعض الممكنات - وهو ما وجد ويوجد وعدم ايجاد بعض آخر وهو ما لم يوجد ولن يوجد اصلا -. فكما انّ ايجاد كلّ من الممكنات الموجودة / 90MB / في وقت دون وقت آخر معلّل بالعلم بالمصلحة وملاحظة نظام الكلّ ، فكذلك ايجاد بعض الممكنات

ص: 397

الذاتية دون بعض آخر معلّل بذلك وإن كان ايجاد ما لم يوجد ولن يوجد أيضا مقدورا بالنظر إلى الذات.

وأنت تعلم انّ هذا على فرض تحقّق الامكان الذاتي لبعض المهيات الّتي لا توجد قطّ ، سواء كان مشابها لبعض ما وجد من الممكنات - كامكان كرات أخرى غير الكرات الموجودة - أو لا - كامكان حقيقة أخرى سوى الحقائق المحصّلة -.

ولو منع تحقق الامكان الذاتي لغير ما وجد وما يوجد وعقل عدم وجود ما لم يوجد ولن يوجد بعدم امكانه وعدم قبوله للوجود تعيّن أحد الاحتمالين الأوّلين من العنوان المذكور ، لأنّه تكون الممكنات حينئذ منحصرة بالموجودات. والحاصل انّ المراد من العنوان المذكور : انّ ما هو ممكن ذاتى في حاقّ الواقع مقدور له - تعالى - ، فان وجد فانّما هو بتأثيره وايجاده - تعالى - ، وإن لم يوجد قطّ فلمصلحة وحكمة راجعة إلى نظام الخير ؛ ولا ريب في صحّة هذا العنوان وحقّيته.

ثمّ على ما فسّر - بكون المراد من القدرة المعنى الثاني الّذي قال به الحكماء أيضا على ما نسب إليهم ، أعني : قوّة يتمكّن بها المؤثّر من الفعل والترك مع العلم والشعور - فان ضمّت إليها الإرادة وجب الفعل ، وإلاّ فلا. ويمكن أن يراد منها : المعنى الاخصّ أي : القدرة الملزومة للحدوث الّتي تفرّد المليون باثباتها حتّى يكون المراد من العنوان المذكور تعميمها بالنسبة إلى كلّ الممكنات الذاتية. ويكون معناه : انّ ذاته - تعالى - من شأنه الانفكاك عن جميع الممكنات الذاتية ، فكما هو منفكّ عن الممكنات الموجودة - أعني : العالم بجملته - كذلك يكون منفكّا عمّا سواه ممّا هو ممكن بالامكان الذاتي إذا فرض وجوده وإن لم يوجد قطّ. وهذا إذا اريد بالقدرة بالمعنى الأخصّ ما هو الملزوم للحدوث - أي : صحّة انفكاك الواجب عن أحد الطرفين بالنظر إلى الداعي ، وهو طرف الوجود - ؛ إذ لو أريد به صحّة الانفكاك عن كلّ من طرفي الوجود والعدم بالنظر إلى الداعي لم يصحّ أن يراد بعموم القدرة عمومها بالنسبة إلى جميع الممكنات أو جميع ما له امكان الصدور عن الغير ، إذ لا ريب في أنّ الممكنات الّتي لم توجد اصلا يكون عدمها ممتنع الانفكاك عنه - تعالى - بالنظر إلى الداعي والعلم بالأصلح وان كان ممكنا بالنظر

ص: 398

إلى ذاته - تعالى - لتحقّق القدرة بالمعنى المشهور. نعم! لو أريد بعموم القدرة عمومها بالنسبة إلى جميع الموجودات دون جميع الممكنات يجوز أن يراد من القدرة صحّة الانفكاك من كلّ من الطرفين بالنظر إلى الداعي أيضا بشرط أن لا يشترط ايجاد الوقت - كما مرّ - ؛ هذا.

والظاهر انّ ما يستدلّ به على عموم القدرة بأحد المعنيين يمكن أن يستدلّ به على المعنى الآخر أيضا.

ثم انّ بعضهم استدلّ عليه بأنّ علّة المقدورية عامّة في جميع الممكنات ، فالقدرة عامّة في جميعها ؛ أمّا إنّ علّة المقدورية عامّة في جميعها فلأنّ علّتها الامكان ، وهو وصف مشترك بين جميع الممكنات ، فيكون جميع الممكنات مقدورا له - تعالى -.

وأورد عليه : بأنّا لا نسلّم انّ الامكان علّة المقدورية ، بل انّما هو علّة الحاجة إلى المؤثر / 86DB / ، والمؤثّر إمّا موجب أو قادر ؛ فاللازم احتياج جميع الممكنات إلى المؤثّر - سواء كان قادرا أو موجبا -. فلا يلزم مقدورية الجميع ، لأنّ ما يحتاج إلى المؤثّر الموجب لا يكون مقدورا.

وأجيب عنه : بأنّه لمّا كان الامكان علّة الحاجة إلى المؤثّر ، والتأثير لا امكان له في صورة الايجاب بالمعنى المذكور سابقا باتفاق المليين ، فثبت بذلك كون الامكان علّة الحاجة إلى المؤثّر القادر. والتوضيح : انّ الامكان علّة الحاجة إلى المؤثّر الواجب - لما سبق من أنّه لا بدّ من الانتهاء إليه ، إمّا بلا واسطة أو بواسطة - ، فكلّ مؤثّر - سواء كان موجبا أو قادرا - ينتهي إلى المؤثّر الواجب ، وتأثير المؤثّر الواجب - سواء كان بلا واسطة بينه وبين الأثر أو بواسطة - لا يمكن أن يكون على سبيل الايجاب بالمعنى المذكور سابقا - أي : بمعنى / 91MA / استحالة الانفكاك - للاجماع على حدوث العالم ؛ فلا بدّ أن يكون على سبيل الاختيار بمعنى جواز الانفكاك. والحاصل : انّ حدوث العالم ولزوم الانفكاك بينه وبين الواجب في الممكنات وقدرته بالمعنى المذكور متساوقين ، فما يكون علّة للحاجة إلى أحدهما يكون علّة للحاجة إلى الآخر. ولما كان المفروض كون الامكان علّة للحاجة إلى تأثيره - لانتهاء الجميع إليه - فيكون علّة للحاجة إلى قدرته ،

ص: 399

فثبت بذلك كون الامكان علّة للاحتياج إلى المؤثّر الواجب القادر بالقدرة الملزومة للحدوث. وغير خفي انّه إذا وجبت سلسلة الاحتياج إلى المؤثّر الواجب فنقول : تأثيره بالواسطة أو بدونها لا يمكن أن يكون على سبيل الايجاب بمعنى وجوب أحد الطرفين بالنظر إلى ذاته ؛ لما مرّ من اثبات صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته ؛ فثبت كون الامكان علّة للحاجة إلى المؤثّر القادر بالقدرة بالمعنى المشهور أيضا.

واعترض على الجواب المذكور : بأنّه انّما يتمّ في الموجودات دون غيرها ، إذ الامكان لا يستدعي إلاّ الحاجة إلى المؤثّر ولا يستدعي وجود المؤثّر ، فيجوز في غير ما وجد من الممكنات أن لا يصلح شيء للتأثير فيه ؛ أو يصلح معدوم حاله مثله ؛ أو يصلح الواجب على فرض الايجاب.

هذا لو أريد بالمؤثّر المؤثّر في الوجود. أمّا لو أريد بالمؤثّر. لأعمّ من أن يكون مؤثّرا في الوجود أو العدم ، فالممكن لا بدّ له من مؤثّر بالفعل البتة ، لكن نقول : انّه حينئذ يجوز أن تكون المعدومات الممكنة عدمها مستندا إلى الواجب على سبيل الايجاب ؛ والاجماع المنقول لا ينفيه ؛ أو إلى عدم آخر ، بناء على ما قالوا : انّ عدم العلّة علّة العدم ؛ انتهى.

وفيه : انّه إذا كان الامكان علّة الحاجة إلى المؤثّر فكلّ ممكن في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته محتاج إلى المؤثّر ، فالممكنات المعدومة أيضا تكون محتاجة إلى المؤثّر وكلّ ما هو محتاج إلى المؤثّر يكون من شأنه في حدّ ذاته قبول التأثير من مؤثّر.

ثمّ نقول : قاطع البرهان - : هو المشاهدة والعيان - دلّ على أنّ ذات الواجب مؤثّر في الممكن باجناسه المختلفة وانواعه المتباينة ، إمّا بلا واسطة أو بواسطة بعض الاسباب والشروط. ففي ذاته - تعالى - قوّة التأثير في الممكن من حيث هو ، فلو فرض في غير ما وجد من الممكنات ممكن وادّعى أنّ الواجب لا يصلح للتأثير فيه لا بواسطة ولا بدونها نقول : انّ عدم الصلاحية إمّا راجع إلى ذات الواجب - فهو باطل ، لأنّ ذاته تعالى من حيث هي صالحة للتأثير في الممكن ، وإلاّ لم يؤثّر في ممكن أصلا - ؛ أو إلى ذات الممكن - فهو أيضا باطل ، لأنّ ذات الممكن من حيث هي من شأنها قبول الأثر من

ص: 400

الواجب ، وإلاّ لم يقبل ممكن منه التأثير مطلقا -. فأيّ ممكن فرض يكون قبوله التأثير من الواجب ثابتا له بالنظر إلى ذاته وإلى ذات الواجب - تعالى شأنه -. فلو فرض ممكن لم يقبل الأثر منه فليس ذلك بالنظر إلى ذات الواجب أو ذات الممكن ، بل إنّما هو بالنظر إلى أمر خارج من ذاتهما ، وما هو إلاّ ملاحظة أصلحية النظام الأكمل وعدم كون ايجاد ذاته أو ايجاد بعض ما يتوقّف عليه من الشروط والاسباب صلاحا بالنظر إلى النظام الأصلح.

ثم تحلّل الواسطة في بعض الممكنات إنّما هو إذا أخذت القدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي في بعض الأوقات - أي : صحّتها بالامكان الوقوعي وعلى فرض الصدور أو اللاصدور فعلا -. وانّما لا بدّ في ايجاد بعض الممكنات من تحلّل الواسطة إمّا لنقصان جوهره وذاته من قبول الوجود بلا واسطة ، أو بملاحظة النظام الأصلح. وكذا ربّما كان عدم بعض الممكنات المعدومة بواسطة عدم بعض الممكنات الأخر ، ولو كان هذا البعض موجودا لكان البعض الأوّل أيضا موجودا ، فعدمه مستند إلى عدمه ، لكونه شرطا وواسطة / 87DA / له. وأمّا إذا أريد بالقدرة المعنى المشهور - أعني : صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذات الفاعل - فلا حاجة إلى الواسطة ، بل القدرة بهذا المعنى ثابت له - تعالى - بالنسبة إلى جميع الممكنات بلا واسطة ؛ لأنّ كلّما يفرض من الممكنات إمّا مقدور له ، أو مقدور لمقدوره ، ومقدور المقدور مقدور بالنظر إلى الذات وإن توقّف تعلّق القدرة به بالفعل على واسطة.

فان قيل : كما انّه يجوز اختلاف الممكنات في العلل - واختلاف عللها باختلافها ، ولذا بعضها يصدر عن الواجب بلا واسطة / 91MB / وبعضها يصدر عنه بواسطة عقل وبعضها بواسطة نفس وبعضها بواسطة حركة أو جسم ... إلى غير ذلك - فيجوز أن يكون بعضها ممّا لا يصلح شيء للتأثير فيه ، أو يكون علّته المستقلّة أو شرطه ممكنا معدوما حاله مثل ذلك البعض. والحاصل : انّه يجوز أن يكون ما به الاختلاف في بعض الممكنات على حقيقتها الخاصّة مقتضية لعدم صلاحية شيء للتأثير فيه أو مقتضية لقبول التأثير من معدوم حاله مثله سواء كان هذا المعدوم مؤثّرا مستقلاّ فيه أو واسطة

ص: 401

لايصال الأثر من الواجب إليه ، وإن كان قبول التأثير من الواجب بالنسبة إلى ما به الاشتراك - أعني : الامكان - ثابتا له ، فيكون ما به الاشتراك بين المهيات الامكانية - أعني : الامكان - مقتضيا للاحتياج إلى مطلق المؤثّر وما به الاختلاف بينها - أعني : خصوص الماهية - مقتضيا لعدم صلاحية شيء للتأثير فيه ، أو للاحتياج إلى ممكن معدوم هو أيضا محتاج إلى معدوم آخر ، وهكذا ؛

قلنا : لمّا سلّمتم اقتضاء ما به الاشتراك - أعني : امكان (1) الاحتياج إلى مطلق المؤثّر واقتضاء خصوصية (2) الماهية الاحتياج إلى مؤثّر خاصّ فنقول : يلزم منه احتياج كلّ ممكن إلى مؤثّر خاصّ ، فيكون بعض الممكنات المعدومة الّذي نقل الكلام إليه.

وقيل : يجوز أن لا يصلح شيء للتأثير فيه أو كان محتاجا إلى مؤثّر معدوم محتاجا إلى مؤثّر خاصّ. فهذا المؤثّر الخاصّ إمّا أن يكون ممتنعا أو واجبا بلا واسطة أو بواسطة ممكن موجود أو بواسطة ممكن معدوم ، أو يكون ممكنا موجودا أو معدوما. والأوّل بديهي البطلان ، لأنّ احتياج الممكن إلى الممتنع غير معقول ؛ وعلى الثاني والثالث - أعني : كون المؤثّر واجب الوجود بلا واسطة أو بواسطة ممكن موجود - ثبت المطلوب ؛ والأخيران - أعني : كون الممكن مؤثّرا مستقلاّ ، سواء كان موجودا أو معدوما - أيضا باطلان ، لأنّ الممكن من حيث هو لا وجود له ، فكيف يجوز أن يستقلّ بافاضة الوجود؟! بل إذا ثبت افتقار شيء إليه فلا بدّ أن ينتهي إلى الواجب البتة ؛ وعلى الرابع - أعني : كون المؤثّر واجبا بواسطة معدوم - هو أيضا يتوقّف على واسطة معدوم آخر ، وهكذا إن انتهت سلسلة الوسائط إلى واسطة موجودة ثبت به المطلوب وإلاّ لزم التسلسل في تلك الوسائط المعدومة ، والعقل يحكم ببطلان مثل هذا التسلسل.

على أنّه لو قطع النظر عنه نقول : انّ تلك السلسلة المعدومة بحيث لا يشذّ عنها شيء إن كان وجودها ممتنعا فيكون ما فرضناه ممكنا ممتنعا ، هذا خلف. وإن كان وجودها ممكنا فيكون مجموع هذه السلسلة محتاجة إلى مؤثّر ، ولا يتصوّر حينئذ مؤثّر

ص: 402


1- الاصل : الامكان.
2- الاصل : خصوص.

سوى الواجب ، فيكون مؤثّرها واجب الوجود لذاته. وعدم تأثيره فيها حينئذ وبقائها على العدم انّما هو لملاحظة النظام الأصلح لعدم تصوّر شيء سواه ، وبذلك يثبت المطلوب.

وليس لأحد أن يقول : انّ كلّ واحد من تلك السلسلة المعدومة وإن كان ممكنا لكن مجموعها ممتنع ؛ لأنّ حكم المجموع حكم الآحاد بالضرورة ، والمنكر مكابر!.

ثمّ إذا انتهى الاحتياج إلى الواجب يكون تأثيره على سبيل القدرة والاختيار - لمّا ثبت من كونه تعالى قادرا مختارا - ، فما ذكره المعترض من جواز أن يكون بعض الممكنات المعدومة بحيث يصلح الواجب للتأثير فيه على سبيل الايجاب ساقط.

وعلى ما ذكرناه يظهر اندفاع ما قيل : انّ كون الامكان علّة للحاجة إلى المؤثّر وانتهاء جميع المؤثّرات إلى الواجب - تعالى - وكون تأثيره مساوقا للقدرة بمعنى انفكاك ذاته عن العالم لا يثبت مقدورية كلّ ممكن بمعنى امكان تعلّق القدرة به بلا واسطة ، مع

أنّ المقدورية بهذا المعنى هي الّتي وقع التنازع فيها بعد الاتفاق في مقدورية الفعل المطلق له - تعالى -.

وانّما قلنا : لا يثبت المقدورية بالمعنى المذكور ، إذ للخصم أن / 87DB / يقول : صدور بعض الممكنات إنّما يكون عن بعض مقدوراته - تعالى - طبعا أو اختيارا أو عنه بدون إرادة مشروطا بوقوع بعض مقدوراته - كما قد يكون صدور بعض الأفعال الطبيعية للحيوان مشروطا ببعض أفعاله الارادية - ، وانفكاك الفاعل عن فعل انّما يستلزم (1) مقدوريته له إذا كان هذا الانفكاك بسبب علمه وارادته لا مطلقا - أي : ولو كان لأجل توقّفه على / 92MA / بعض الشرائط فعلا كان أو غيره - ، إذ القدرة بأيّ معنى فسّرت يعتبر فيها سببية المشية للصدور وعدمه. نعم! عدم صدور الفعل عنه أزلا اصلا وصدور العالم وقت حدوثه حيث لا يتصوّر إلاّ بمشية العلم والإرادة لا لأجل التوقّف على فعل آخر استلزم مطلقا القادرية ومقدورية المطلق له ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما تقدّم من أنّ كون الامكان علّة للحاجة إلى المؤثّر وانتهاء

ص: 403


1- الاصل : + يستلزم.

جميع المؤثّرات إليه - سبحانه - يوجب كون جميع المقدورات بلا واسطة إذا أخذ القدرة بالمعنى المشهور ، لأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بالنظر إلى الذات ؛ أو بواسطة أو بدونها إذا أريد من القدرة القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير. فما قال المعترض : من أنّه لا يثبت مقدورية كلّ ممكن - بمعنى امكان تعلّق القدرة بلا واسطة - إن اراد انّه لا يثبت مقدورية الكلّ بالقدرة بالمعنى المشهور فهو بيّن الفساد ؛ وإن أراد أنّه لا يثبت مقدورية الكلّ بالقدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ، ففيه : انّه غير ضارّ ، لأنّ المطلوب أعمّ. على أنّه لو سلّم ما نقلناه من بهمنيار - من أنّ الممكن لا شيء محض ، فلا يمكن أن يكون موجدا لشيء - يثبت مقدورية الكلّ له - تعالى - بالقدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير أيضا بلا واسطة - كما ذهب إليه الأشاعرة -. وعلى أيّ تقدير إذا انتهى الكلّ إليه - تعالى - ولو بتخلّل الوسائط في بعض الممكنات يكون صدوره منه - تعالى - بالقدرة والإرادة لقيام الأدلّة على ذلك.

فما ذكره من أنّ صدور بعض الممكنات عن بعض مقدوراته - تعالى - طبعا أو اختيارا ، ففيه : انّه إنّما ينافي مقدورية الكلّ له - تعالى - بلا واسطة القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ، لا بالقدرة بالمعنى المشهور ؛ فلا ضير فيه.

وما ذكره من جواز صدور بعض الممكنات عنه - تعالى - بدون إرادة - ... إلى آخره - ، ففيه : انّه مدفوع بما دلّ على أنّ كلّ فعل منه - تعالى - بالعلم والإرادة. وعلى ما ذكرناه من أنّ المدّعى انّ كلّ الممكنات مقدورة له - تعالى - سواء كان بلا واسطة أو بواسطة وانّ قدرة جميع القادرين ينتهى إليه - تعالى - يندفع أيضا ما أورد على الدليل المذكور : بأنّا لا نسلّم أنّ كلّ ما هو مقدور هو مقدور له - تعالى - ، لم لا يجوز أن تكون لبعض المقدورات خصوصية بالنسبة إلى بعض القادرين؟! ، فانّ المعتزلة - : القائلين بأنّ افعال العباد مقدورة لهم - يخصّصون خلق الاجسام بقدرة الباري - تعالى -.

ووجه الاندفاع : انّه مع تسليم تحقّق الخصوصية لبعض المقدورات بالنسبة إلى بعض القادرين نقول : لا ريب في انتهاء قدرة بعض القادرين إليه - تعالى - ، لأنّه لمّا كان مقدور المقدور للشيء مقدورا له ، وجب انتهاء جميع المقدورات إلى الواجب بالذات ؛

ص: 404

وبه يثبت المطلوب من شمول تعلّق قدرته بجميع المقدورات.

ثمّ لا يخفى انّه إذا كان مقدور المقدور للشيء مقدورا له - كما هو الحقّ الصريح - فيثبت للواجب عموم القدرة بالنسبة إلى كلّ الممكنات بلا واسطة نظرا إلى ذاته - كما اشير إليه -. وتخلل الوسائط إنّما هو لأجل قصور ونقصان في المعلول أو لمصلحة راجعة إلى النظام الأصلح لا لعدم القدرة بالنظر إلى الذات بدونها ، فعموم القدرة بمعنى امكان الصدور بالنظر إلى الذات ثابت له - تعالى - بلا واسطة. فما ذكرناه من أنّ المدّعى اثبات عموم القدرة - سواء كان بلا واسطة أو بالواسطة - انّما هو إذا أريد بالقدرة امكان الفعل والترك امكانا وقوعيا - أي : الامكان بالنظر إلى داعي الصدور واللاصدور - ؛ هذا.

على أنّ ما نسب إلى المعتزلة ، ففيه : انّ المعتزلة لم ينفوا امكان تعلّق قدرة الواجب بأفعال العباد بالنظر إلى مجرّد ذاته ، بل إنّما ينفون تعلّق الإرادة بايجاد الأفعال - كما يعلم من التأمّل في أدلّتهم -.

والحاصل : انّه لا ريب في تحقّق الفرق بين التعلّق بالفعل وبين امكان التعلّق ، والمعتزلة إنّما نفوا التعلّق بالفعل لا امكان التعلّق ، والمطلوب اثبات / 88DA / امكان التعلّق لا التعلق بالفعل.

فان قيل : انّ العلاوة انّما يرد إذا كان مراد المورد انّ المعتزلة خصّوا خلق الأجسام بقدرة الباري - تعالى - ، بمعنى انّ قدرته مقصورة عليه ولا يتناول أفعال العباد ، وليس كذلك ؛ بل مراده انّ المعتزلة نفوا / 92MB / قدرة العباد على خلق الأجسام وقالوا : انّه مختصّ بالواجب - تعالى - وليس العباد قادرين عليه ، وإذا جاز ذلك - أي : جاز أن تكون لبعض المقدورات ، أعني : الاجسام ، خصوصية مع قدرة الباري تعالى دون قدرة العباد - فلم لا يجوز العكس بأن تكون لبعض المقدورات خصوصية مع قدرة العباد دون قدرته - تعالى -؟! ، فيكون مقدورا للعباد لا له - تعالى - ، والظاهر انّه لا يتوجّه عليه حينئذ ما ذكر في العلاوة ؛

قلنا : هذا خلاف ظاهر كلام المورد ، إذ على هذا يكون قولنا : « وإذا جاز ذلك

ص: 405

فلم لا يجوز العكس - ... إلى آخره - » مطلوبا في كلام المورد ؛ بل هو خلاف ما يقتضيه المقام ، لأنّ مقصود المورد أن يمنع ما اتّفق عليه المليون من شمول قدرة الواجب - تعالى - لجميع الممكنات بلا واسطة أو بواسطة في بعضها ، وظاهر انّ منع ذلك والقول بجواز خصوصية بعض المقدورات لقدرة العباد - نظرا إلى أنّ بعض المقدورات له خصوصية بقدرة الباري تعالى دون العباد - ممّا لا وقع له اصلا ، لان المدّعي لعموم القدرة يقول : لجميع المقدورات خصوصية بالنسبة إلى قدرة الباري وليست لغيره قدرة في نفسه ، فكيف يصير ذلك سند المنع؟!.

والحاصل : انّ قولهم : خلق الجسم مختصّ بقدرة اللّه دون العبد لا يضرّ قولنا : كلّما هو مقدور فهو مقدور له - تعالى - ؛ وانّما يضرّ لو قلنا : كلّ مقدور فهو مقدور كلّ قادر ، ولم نفعل.

على أنّ المتعارف الشائع في الاستعمال - على ما ذكره المحقّق التفتازاني - قصر مدخول « الباء » على ما قبله ؛ يقال : خصّصت الفلان بالذكر ، أي : ذكرته دون غيره.

فقول المورد : يخصّصون خلق الاجسام بقدرة الباري ، معناه : انّ قدرته - تعالى - مخصوصة بخلق الاجسام ولا يتعلّق بخلق افعال العباد.

وبما ذكرناه يظهر أنّه لا يمكن أن يستدلّ صريحا أيضا بخصوصية بعض المقدورات بالنسبة إلى قدرة الباري - تعالى - على جواز خصوصية بعض المقدورات بالنسبة إلى قدرة غيره ، لأنّه لو سلّمت تلك الخصوصية فانّما هي الخصوصية الشرطية والوسطية دون الخصوصية الاستقلالية ، لانتهاء كلّ قدرة إلى قدرته - تعالى -. وإذا انتهى الكلّ إليه - تعالى - فلا يخلوا ممكن من كونه مقدورا له أو مقدورا لمقدوره ، ومقدور المقدور مقدور له - تعالى - بالنظر إلى ذاته وإن اقتضى نقصان جوهره أو صلاح نظام الخير لتخلّل الواسطة ، فيثبت عموم القدرة بالمعنى المشهور بلا واسطة ؛ هذا.

واعترض بعض الأفاضل على الدليل المذكور أيضا : بأنّه لا خصوصية له لعموم قدرة الواجب - تعالى - ، بل لو تمّ لدلّ على عموم قدرة كلّ واحد ، إذ الامكان الذاتي يكون نسبته إلى كلّ الفاعلين على السواء ، فلو كان كافيا كان كافيا بالنسبة إلى كلّ

ص: 406

واحد وليس في الدليل ما يفيد خصوصية العموم بالواجب.

والتحقيق انّ المقدورية الّتي معنى مضائف للقادرية أمر بين الفاعل والمفعول ، وكما أنّه لا بدّ لحصولها من عدم اباء المعلول عن الوجود ورفع المانع من قبله عن تعلّق القدرة كذلك لا بدّ له من طرف الفاعل من شيئين : أحدهما : قوّة يتمكّن الفاعل بها من التأثير ، وإلاّ لكان كلّ ممكن يمكن صدوره عن كلّ أحد ، وهذا مشترك بين الموجب والمختار ؛ والثاني : عدم كون هذا الصدور لازما ، بل كون لزومه سبب الإرادة. والامكان وإن كان مصحّحا للمعنى الأوّل - أعني : عدم اباء المعلول عن الموجود - لكنّه نسبته متساوية إلى كلّ الفاعلين ؛ فلا يكفي مجرّد هذا المصحّح لصدور كلّ ممكن عن كلّ فاعل. ولكون هذا الصدور على سبيل القدرة بل لو حصل الأمران المذكوران أيضا - أعني : القوة المذكورة وعدم كون الصدور لازما لفاعل - حصلت القادرية والمقدورية ؛ فان حصلا له بالنسبة إلى جميع الممكنات حصل له عموم القدرة ، وإن حصلا له بالنسبة إلى بعضها حصلت القدرة بالنسبة إليه ، فانّه قد يحصل الأمران المذكوران بالنسبة إلى بعض الممكنات دون البعض - كما نرى من أنفسنا بالنسبة إلى بعض الأفعال دون بعضها مع تساوي الكلّ في المصحّح الّذي هو الامكان - ، فلا يستلزم الامكان في المعلول حصول الأمرين المذكورين في كلّ فاعل أو في / 93MA / الواجب لتحصيل القادرية والمقدورية. بل لو لم يحصل الأمر الثاني - أعني : عدم كون الصدور لازما بالنظر إلى ذات الفاعل - لم تحصل القادرية والمقدورية وإن حصل للفاعل الأمر الأوّل - أعني : القوّة الّتي يتمكّن بها من التأثير - لما ذكرنا من أنّها مشتركة بين الموجب والمختار. فربّما كانت قوّة التأثير / 88DB / ثابتة للواجب بالنسبة إلى كلّ الممكنات ولكن كان التأثير لازما لذاته - تعالى - بالنظر إلى بعضها ، فلا تثبت قدرته - تعالى - بالنسبة إليه ؛ انتهى ما ذكره بتوضيحه.

ولا يخفى ضعفه وسقوطه! ، لانّه إذا قلنا بأنّ الممكن لا يجوز أن يوجد ممكنا آخر لا من جهته المستندة إليه ولا من جهته المستندة إلى الواجب - على ما تقرّر عليه آراء الفلاسفة كما نقلناه عن بهمنيار - فلا يكون لغيره - تعالى - فعلية وتأثير حتّى يكون

ص: 407

الامكان نسبته إليه وإلى الواجب على السواء.

ويعترض على الدليل حينئذ بأنّه لو تمّ لدلّ على عموم قدرة كلّ أحد ، لأنّه لا يكون أحد غيره - تعالى - حينئذ فاعلا ، بل الفاعلية منحصرة به - تعالى -. وإذا كان الفاعلية والتأثير بالنسبة إلى الكلّ منحصرة به - تعالى - يثبت شمول قدرته - تعالى - على الكلّ ، لما تقرّر وثبت من أنّ فعله وتأثيره انّما هو على سبيل القدرة والاختيار دون الايجاب.

وإن قلنا : يجوز أن يكون الممكن واسطة في الايجاد بجهته المستندة إلى الواجب - تعالى - ، فيكون المطلوب حينئذ اثبات عموم قدرته - تعالى - ولو كان بالواسطة بالنسبة إلى بعض الممكنات ؛

فنقول : لا ريب في انتهاء قدرة جميع الفاعلين إليه - تعالى - وليست لغيره قوّة استقلالية على ايجاد شيء حتى يثبت له عموم القدرة بالنسبة إليه ، بل كلّ فاعل سواه يكون واسطة في الافاضة وتنتهي قدرته إليه - تعالى - ، فكلّ ما له قدرة وقوّة التأثير عموما أو خصوصا تنتهي قدرته إليه ، وإذا انتهت إليه يثبت له عموم القدرة بلا واسطة في القدرة بالمعنى المشهور ، وبلا واسطة أو بواسطة في القدرة المستجمعة. لما تبيّن من أنّ تأثيره إنّما هو على سبيل القدرة والاختيار ؛ هذا.

وقيل : المشهور في الاستدلال على عموم القدرة انّ المقتضى للقدرة هو الذات لوجوب استناد صفاته إلى ذاته ، والمصحّح للمقدورية هو الامكان - فانّ الوجوب والامتناع يحيلان المقدورية - ، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فاذا ثبت قدرته على السواء على بعضها ثبت على كلّها.

وأنت تعلم انّه لا فرق بين هذا الاستدلال المشهور وبين الاستدلال المذكور فى ورود ما تقدّم ؛ والجواب مشترك.

ولقائل أن يمنع وجوب استناد جميع صفاته إلى ذاته - تعالى - إن اريد بالاستناد عدم التوسّط مطلقا - لانتقاضه بمثل الإرادة الّتي تتعلّق ببعض الممكنات دون بعض - ، فلا بدّ حينئذ من توسّط صفة أخرى شأنها التخصيص والترجيح ، كما تعلم بالأصلح.

ص: 408

هذا على قواعد المعتزلة ؛ وأمّا على قواعد الأشاعرة فينتقض بمثل أقدار العبد قدرة مؤثّرة أو كاسبة ، فانّه لاختصاصه ببعض دون بعض لا بدّ من توسّط الإرادة.

وإن اريد بالاستناد الانتهاء إلى الذات بدون توسيط مباين فلا يكون الدليل حينئذ مفيدا - لاحتمال وساطة صفة شأنها الترجيح والتخصيص ، كما يعلم بالأصلح والإرادة - ؛ وحينئذ كما يتعلّق العلم بالأصلح والإرادة ببعض دون بعض تتعلّق القدرة أيضا ببعض دون بعض ، فلا يثبت عموم القدرة.

نعم! يمكن أن يخصّص الصفات بالقدرة ويدّعى عدم تقديم مخصّص عليها.

ولقائل أيضا أن يمنع استلزام احالة الوجوب وامتناع المقدورية لكون الامكان مصحّحا لها ، لجواز أن يكون المصحّح أمرا آخر ؛ أو المراد بالصحّة هنا الامكان الوقوعي ورفع الامتناع بكلّه ، فهذا مثل أن يقال : المصحّح للتلوّن هو الامكان ، إذ الوجوب والامتناع يحيلانه مع أنّ الشفيف مثلا لا يقبله.

ثم أنت خبير بأنّه إن كان المراد من أمثال هذا الاستدلال اثبات عموم القدرة بمعنى الامكان الوقوعي والصدور واللاصدور الفعليين - أي : صحّتها بالنظر إلى الداعي في بعض الاوقات بالنسبة إلى جميع / 93MB / الممكنات بلا واسطة - فاتمامها مشكل ، إذ لا يلزم من كون الامكان علّة للمقدورية أو الاحتياج إلى المؤثّر كون جميع الممكنات الذاتية مقدورا للواجب بلا واسطة ، إذ اللازم من العلّة كون الجميع مقدورا أو محتاجا إلى المؤثّر ، فعلى الأوّل لا يلزم إلاّ اشتراك الجميع في الاستناد إلى فاعل قادر ؛ وليس بلازم أن يكون ذلك الفاعل هو الواجب. فيجوز أن يكون الفاعل لبعض الممكنات الذاتية - على فرض وجودها - بعضا آخر من الممكنات على سبيل القدرة ؛ وعلى الثاني يجوز أن يكون الفاعل لبعضها بعضا آخر على سبيل القدرة والايجاب.

وأمّا إذا كان المراد اثبات عموم قدرته بالمعنى المذكور بالنسبة إلى جميع الممكنات سواء كانت بلا واسطة أو بواسطة بعض الأسباب والشروط فلا يرد شيء / 89DA / من الايرادات المذكورة ، لأنّه لا ريب في أنّ الامكان إمّا علّة المقدورية أو علّة الحاجة إلى المؤثّر ، فكلّ ممكن ذاتي له حاجة إلى مؤثّر يمكن أن يصدر بتلك الحاجة منه - إمّا على

ص: 409

سبيل القدرة أو على سبيل الايجاب -. فمؤثّره إن كان واجبا مختارا ثبت المطلوب ، وإن كان ممكنا آخر لا بدّ له من الانتهاء إلى الواجب. وإذا انتهى سلسلة الاحتياج إليه يثبت كون المؤثّر في جميع ما هو ممكن ذاتي واجب الوجود لذاته على سبيل القدرة - بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي في بعض الاوقات ، أي : القدرة الملزومة للحدوث -. لأنّ الممكنات الذاتية إمّا موجودة أو معدومة ، واستناد وجود الأولى إلى الواجب بعد تعميم المدّعى ظاهر.

ولمّا ثبت حدوث العالم يثبت الانفكاك بينها وبين الواجب أيضا. واستناد اعدام الثابتة إليه - تعالى - أيضا ظاهر ، لأنّ عدم ما هو ممكن في نفسه إمّا مستند إلى عدم إرادة الواجب لمصلحة راجعة إلى نظام الكلّ أو إلى عدم الواسطة والشروط المنتهى بالأخرة إلى عدم إرادة الواجب - كما مرّ مفصّلا -. وعلى التقديرين يثبت استناد اعدام الممكنات المعدومة إليه - تعالى - ، فبالتعميم المذكور يثبت استناد وجودات الموجودات إليه مع تحقّق الانفكاك بينها وبين الواجب واستناد أعدام الممكنات المعدومة إليه - تعالى - أيضا. وبه تثبت القدرة الملزومة للحدوث.

ثمّ التعميم المذكور لا ضير فيه ، لأنّه لا مانع في استناد بعض الممكنات إليه - تعالى - بواسطة بعض الاسباب والشروط من حيث جهاتها المستندة إليه - تعالى - ، امّا بأن يكون واسطة في الافاضة من اللّه - تعالى - ، حتّى يكون أصل الافاضة في الكلّ منه - تعالى - والوسائط إنّما هي شروط ومعدّات لتحقّق الافاضة منه - تعالى - ، أو يكون بعضها مفيضا أيضا بما اودع اللّه فيه من التمكّن والاقتدار بقدرته ؛ وهذا أيضا منه - تعالى - بالحقيقة.

قال بعض الأعلام : الظاهر انّ مدّعى القوم شمول قدرته لجميع المقدورات مطلقا - : سواء كانت بواسطة أو بلا واسطة - ، فانّ من قال بالوسائط لم يقل بأنّها مستقلّة فى الايجاد ، بل الوسائط انّما هي ادوات وآلات واسباب ووسائل إلى بعض الأفعال. بل أفعال اللّه - تعالى - كلّها كذلك ، فانّ بعضها سبب لبعض ، فمن أراد أن يفعل فعلا له اسباب وأدوات فلا بدّ أن يحصل تلك الاسباب أوّلا حتّى يفعل ذلك الفعل بتلك

ص: 410

الاسباب ، فليس لأحد حينئذ أن يقول : انّ ذلك الفعل ليس مقدورا لذلك الفاعل لتوقّفه على تلك الاسباب. نعم! لو لم تكن تلك الاسباب مقدورة له يصحّ ذلك ؛ لكن اللّه - تعالى - ليس كذلك ، بل الكلّ بفعله - تعالى -. فاذا فعل اللّه - تعالى - فعلا باسباب مخلوقة له - تعالى - لم يقدح ذلك في كون ذلك الفعل مقدورا له - تعالى -. اذ الظاهر انّ معنى كون حركات العباد مقدورة له - تعالى - ليس انّه يمكن صدور تلك الحركات من اللّه - تعالى - بلا واسطة ، كيف والحركة لا بدّ لها من محرّك قريب مباشر للتحريك ومسافة تصحّ فيها تلك الحركة واعضاء وجوارح ، فكيف يمكن صدور تلك الحركة عمّن هو منزّه عن امثال ذلك؟!. فالحقّ انّ صدور تلك الحركة مقدورة له - تعالى - بأن يخلق اسبابا وادواتا تحصل بسببها تلك الحركة. فالقول ببعض الوسائط من ضروريات تنزيه اللّه - تعالى - وتقديسه.

والحكماء القائلون بالوسائط في الايجاد - كالجواهر المجرّدة والعقول الفعّالة والنفوس المدبّرة - قد جعلوا تلك الوسائط بالنسبة إلى كلّيات العالم كالاسباب الجزئية بالنسبة إلى تلك الأمور الجزئية مثلا ، فليس في العالم موجود ولا في رتبة / 94MA / الامكان ممكن إلاّ وهو مقدور لله - تعالى - عندهم ؛ فالظاهر انّه لم يذهب إلى عدم الاحتياج إلى الوسائط واثبات القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بالنسبة إلى جميع الموجودات سوى الاشاعرة الّذين لا يقولون بالربط العقلي والنسبة الايجابي اصلا ، لا له - تعالى - ولا لغيره.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض الأفاضل حيث قال : من جوّز أن تكون لبعض المقدورات خصوصية بالنسبة إلى بعض القادرين له أن يمنع المقدّمة القائلة بأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بلا واسطة. وإن أريد من هذه المقدّمة انّ مقدور المقدور للشيء مقدور له - أعمّ من أن يكون بواسطة أو بدونها - ، فممنوع ؛ لكن لا يثبت حينئذ شمول قدرته لجميع المقدورات بواسطة أو لا ، لكن الظاهر انّ المراد اثبات شمولها لجميعها بلا واسطة ؛ انتهى.

ثمّ على ما ذكر انّما يكفي الشمول - سواء كان بواسطة أو بدونها - في القدرة

ص: 411

المستجمعة لجميع شرائط التأثير.

وأمّا القدرة بالمعنى / 89DB / - المشهور - أعني : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات - ، فالحقّ ثبوت عمومها له - تعالى - بلا واسطة - كما أشرنا إليه مرارا - لما ثبت بالبراهين من أنّ كلّما يصدر عن الواجب فانّما يصدر عنه بالقدرة بهذا المعنى دون الايجاب المقابل له ، وإذا انتهى سلسلة الموجودات إليه - تعالى - فلا يخلوا موجود من كونه صادرا عنه أو صادرا عمّا صدر عنه ، والصادر عن الصادر عن الشيء ممكن الصدور عنه ، فكلّ موجود إمّا مقدوره أو مقدور مقدوره ، ومقدور المقدور للشيء مقدور لهذا الشيء بالنظر إلى ذاته. وتخلّل الوسائط إنّما هو للمصالح الراجعة إلى نظام الخير أو لقصور بعض الممكنات عن استفاضة الوجود بدون الواسطة.

ثمّ ما يدلّ على ثبوت عموم قدرته بهذا المعنى بالنسبة إلى الممكنات الموجودة - أي : كون الجميع ممكن الصدور والعدم بالنظر إلى ذاته في جميع الاوقات ، ووجوب وجوده في وقت حدوثه انّما هو للعلم بالأصلح - يدلّ بعينه على ثبوت عموم قدرته بالنسبة إلى الممكنات المعدومة - أي : كون جميعها ممكن الصدور واللاصدور بالنسبة إلى ذاته تعالى - ، ووجوب عدم صدورها انّما هو للعلم بالأصلح. وان استند عدم بعض إلى عدم بعض آخر فانّما هو لقصوره أو للمصلحة الراجعة إلى نظام الكلّ.

ويمكن أن يكون عدمه مستندا إليه - تعالى - نظرا إلى ذاته ، لأنّ جميع اعدام الموجودات لا يخلوا من أن يكون مستندا إليه - تعالى - أو مستندا إلى عدم ينتهي بالأخرة إليه - تعالى - ، والمستند إلى المستند إلى الشيء مستند إلى هذا الشيء ، فيمكن أن يكون عدم كلّ معدوم مستندا إليه - تعالى - بالنظر إلى ذاته. وإذا استند إليه - تعالى - يكون الاستناد على سبيل القدرة والاختيار بالمعنى المشهور ، لما تقرّر من البراهين من أنّ تأثيره انّما هو بالقدرة بهذا المعنى.

وقد تلخّص ممّا تقرّر انّ الحقّ في هذه المسألة انّ القدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي في بعض الاوقات - أي : القدرة الملزومة للحدوث - ، فعمومها ثابت بشرط أن يكون المراد اثبات عمومها بالنسبة إلى جميع الممكنات سواء

ص: 412

كان بواسطة أو بدونها. فأصل القدرة بهذا المعنى انّما يثبت بأمرين ثابتين : أحدهما : استناد بعض الممكنات إليه - تعالى - ، وثانيهما : حدوث العالم. وعمومها يثبت بمقدّمة بديهية عقلية هي انّ سلسلة الافتقار ووجود كلّ موجود ينتهي إليه - تعالى -.

وأمّا القدرة بالمعنى المشهور - أي : صحّة الفعل والترك بالنظر إلى الذات - فعمومها ثابت بلا واسطة ، فأصل القدرة بهذا المعنى انّما يثبت بما تقدّم من الأدلّة الدالّة على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى -. وعمومها يثبت بمقدّمة ظاهرة هي انّ مقدور المقدور للشيء مقدور لهذا الشيء.

فان قلت : على ما ذكرت من تجويز تخلّل الوسائط يلزم صدور بعض الممكنات من بعض آخر البتّة إمّا على سبيل الاختيار أو على سبيل الايجاب ، ويلزم منه عدم امكان صدور بعض الممكنات عنه - تعالى - فضلا عن صدوره عنه بالقدرة والاختيار ؛

قلت : قد أومأنا إلى انّ تخلّل الواسطة بأيّ معنى كان لا يدفع كون استناد جميع الممكنات إليه - تعالى - ، فانّ لزوم تخلّل الوسائط / 94MB / في بعض الممكنات لأجل عدم قبوله لافاضة الوجود بلا واسطة لقصوره ونقصه ، فلا بدّ في افاضة الوجود عليه من الوسائط. فان كان أصل الافاضة على الجميع منه - تعالى ، كما هو المقرّر عند الحكماء - فلا يكون وجود ممكن مستندا إلى ممكن آخر ؛ وإن كانت الافاضة على بعض من بعض آخر بجهته المستندة إليه - تعالى - وبما أودع اللّه فيه من اقداره وتمكينه لهذه الافاضة فيكون أيضا بفعله - تعالى - ، ويكون تأثيره وافاضته في هذا البعض بهذا الطريق ؛ فلا يكون وجود هذا البعض أيضا مستندا إلى ممكن ، بل يكون مستندا إليه - تعالى - بالحقيقة.

ثمّ لمّا قام البرهان على لزوم كون تأثيره وفعله بطريق القدرة والاختيار دون الايجاب ، فجميع ما صدر عنه - بواسطة أو بدونها - يكون بطريق الاختيار ؛ وكان عدم صدوره ممكنا له بالنظر إلى ذاته وإن وجب صدوره بالنظر إلى ارادته وعلمه بالأصلح.

ص: 413

فان قيل : لعلّ من الممكنات ما لا يمكن صدوره بطريق الاختيار والقدرة ، بل لزم صدوره بطريق الايجاب ؛

قلنا : لمّا ثبت انتهاء سلسلة الاحتياج ووجود كلّ موجود إليه - تعالى - وثبت أيضا انّ كلّما يصدر عنه - تعالى - فانّما يصدر عنه بطريق القدرة فثبت انّ كلّما صدر عنه بواسطة أو بدونها فانّما يصدر عنه بالقدرة والاختيار ، وكان عدم صدوره ممكنا عنه بالنظر إلى ذاته ؛ وجميع ما لم يصدر عنه فلم يصدر عنه أيضا بالقدرة والاختيار وإن كان صدوره ممكنا / 90DA / بالنظر إلى ذاته. ووجوب الصدور في الأوّل ووجوب عدمه في الثاني انّما هو لأجل المصالح الراجعة إلى نظام الخير.

فان قيل : الافعال الصادرة عن الطبائع بالايجاب - كالاحراق للنار - كيف يمكن أن يصدر عنه - تعالى - بالقدرة والاختيار؟! ؛

قلت : لمّا كان أصل الطبائع صادرا عنه - تعالى - فما صدر عنه ممكن الصدور عنه - تعالى - ، لأنّ الصادر عن الصادر عن الشيء ممكن الصدور عن ذلك الشيء. وإذا كان ممكن الصدور عنه فيكون مقدورا له - تعالى - بالنظر إلى ذاته وان وجب صدوره الفعلي الوقوعي بطريق الايجاب عن الطبائع بالنظر إلى الأمور الخارجة من المصالح الراجعة إلى أحسن النظام.

فان قيل : يجوز أن تكون مهيات بعض الممكنات مانعة من تعلّق القدرة بها وان لم يمتنع ذلك بالنظر إلى ذات الواجب ، فانّ اثبات عموم قدرته بالنسبة إلى جميع الممكنات الموجودة والمعدومة يتوقّف على استواء نسبة ذاته - تعالى - إلى الجميع. وهذا على ما ذهب إليه الأشاعرة - : من أنّ المعدوم ليس بشيء وانّما هو نفى محض لا امتياز فيه اصلا ولا تخصّص فيه قطعا ، ومن أنّ المعدوم لا مادّة له ولا صورة - صحيح ، لانّه لا يتصوّر اختلاف في نسبة الذات إلى المعدومات الّتي لا تمايز فيه اصلا بوجه من الوجوه. وأمّا على ما ذهب إليه المعتزلة من أنّ المعدومات متميّزة أو على ما ذهب إليه الحكماء من أنّ للمعدوم مادّة فلا يمتنع اختصاص البعض بمقدوريته - تعالى - دون بعض. فعلى قاعدة الاعتزال جاز أن تكون خصوصية بعض المعدومات

ص: 414

الثابتة المتميّزة مانعة من تعلّق القدرة به ، وعلى قانون الحكمة جاز أن يستعدّ المادّة لحدوث ممكن دون آخر ؛ وعلى التقديرين لا تكون نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء.

ثمّ لا ريب في أنّ مذهب الأشاعرة ظاهر الفساد ، لانّه لو صحّ لزم أن لا يتصوّر اختلاف بنسبة الإرادة وتعلّقها - أيضا - إلى الممكنات ، فلا يتصوّر اختلاف نسبة الايجاد بأن يوجد بعض الممكنات دون بعض ، بل لا بدّ أن يوجد الجميع أو لا يوجد شيء أصلا. بل لا يتصوّر اختلاف النسبة إلى الاوقات أيضا ، فلا بدّ أن يوجد ما يوجد في وقت واحد ؛ بل إذا كان المعدوم نفيا محضا لم يثبت له الامكان حتّى يثبت له المقدورية. وإن يثبت له الامكان يثبت له سائر لوازم الماهية ، فيثبت التمييز ويتحقّق اختلاف النسبة. وإذا كان هذا المذهب ظاهر الفساد فلا يمتنع اختصاص البعض بمقدوريته - تعالى - دون بعض! ؛

قلنا : جواب هذا الايراد وإن ظهر من الكلمات السابقة ولكن نعيده توضيحا ونقول : لا ريب في تمايز المعدومات نظرا إلى ثبوت الوجود الذهني ، فهي متمايزة في التعقّل. لكن التمايز لا يصير منشئا لعدم تعلّق قدرة الواجب ببعضها ، لأنّه لا ريب في أنّ الامكان علّة للاحتياج إلى المؤثّر ، فجميع الممكنات محتاجة إلى المؤثّر. فما يفرض من أنّه يمكن أن لا يتعلّق قدرة الواجب به / 95MA / نقول : لا ريب في احتياجه إلى مؤثّر ، فمؤثّره إن لم يكن واجب الوجود وافترض مميزه (1) أن يكون مؤثّره غيره - تعالى - فان كان هذا المؤثّر موجودا ينتهى وجوده إليه - تعالى - البتة ؛ لدلالة ادلّة اثبات الصانع على انتهاء جميع الموجودات وقوّة جميع الفواعل وتأثير جميع المؤثّرات إليه - تعالى - ، فيكون هذا البعض معلولا له بالواسطة. وإذا كان معلولا له يكون معلولا له بالقدرة والاختيار ولو كان عدم ايجاده أيضا ممكنا له ، وانّما وجب وجوده بالداعي - لما مرّ مرارا من أنّ تأثيره تعالى في جميع معلولاته إنّما هو بطريق الاختيار -.

ثمّ لمّا كان هذا البعض موجودا منه - تعالى - بالواسطة فينتهي سلسلة الوسائط إلى ما هو موجود منه - تعالى - بلا واسطة. وما يوجد ممّا وجد عن الشيء يمكن أن يوجد

ص: 415


1- كذا في النسختين.

عن هذا الشيء بالنظر إلى ذاته وان لزم تخلّل الوسائط بالنظر إلى الأمور الخارجة ، فالبعض المذكور ممكن الصدور عنه - تعالى - بلا واسطة. فتتعلّق القدرة بالمعنى المشهور به بلا واسطة. وإن كان هذا المؤثّر - أي : مؤثّر ما فرض عدم تعلّق القدرة به - معدوما نظرا إلى فرض عدم هذا البعض الّذي فرض أن القدرة لا يتعلّق به وادّعى انّ مؤثّر هذا المؤثّر أيضا معدوم - ... وهكذا إلى غير النهاية - فقد عرفت انّه لا بدّ لجميع هذه المعدومات الممكنة من مؤثّر وينتهى إلى الواجب - كما مرّ توضيحه -. وإذا انتهى إلى الواجب ثبت تعلّق القدرة به ، فان لم يوجد فظاهر - فانّما ذلك لأجل المصالح الراجعة إلى أحسن النظام - ، وتعلّق القدرة به نظرا إلى ذاته - تعالى - ثابت ؛ هذا.

وقال بعض المشاهير في دفع المنع المذكور : على قاعدة الاعتزال - أعني : جواز كون الخصوصية مانعة من تعلّق القدرة - انّ كلّ ما يمكن صدوره من الغير يمكن صدوره عن / 90DB / الواجب باعتبار كونه فاعلا - أي : بدون اعتبار كونه مريدا وعالما بنظام الخير - وإن لم يجز صدور بعض ما يصدر عن الغير عنه - تعالى - مع هذا الاعتبار - إذ لا يلزم من كون الشيء ممكن الصدور عن الغير كونه متعلّقا لقدرة الواجب المستجمعة لجميع شرائط التأثير - ، فعلى قاعدة الاعتزال لا يلزم إلاّ جواز أن تكون خصوصية بعض المعدومات الممكنة مانعة من تعلّق القدرة الشاملة لجميع شرائط التأثير الّتي من جملتها الإرادة ، لا جواز أن تكون الخصوصية مانعة من تعلّق مطلق القدرة ، بمعنى انّه لو اراد ما له تلك الخصوصية لم يقع بقدرته. فالمدّعى : انّ نسبة الذات مع اعتبار كونه عين العلم والإرادة بالنسبة إلى جميع الممكنات الّتي لها امكان الصدور عن الواجب على سواء وانّ نسبة الذات من حيث هي بدون اعتبار كونه عين العلم والإرادة بالنسبة إلى جميع الممكنات الّتي لها امكان الصدور عن الغير على سواء ، ولا خفاء في صدق هذين الحكمين ؛ انتهى ما ذكره بأدنى تغيير.

وحاصله : انّ خصوصية بعض الممكنات ليست مانعة من كونه متعلّقة للقدرة بالمعنى المشهور - أعني : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات - ، فهو ممكن الصدور عن الواجب بالنظر إلى ذاته وإن امتنع صدوره عنه بالنظر إلى داعي الإرادة و

ص: 416

العلم بنظام الخير - أي : ليس مقدورا له بالقدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ، أعني : القدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعى في بعض الاوقات - ، وهي القدرة الملزومة للحدوث ؛ فانّ متعلّق تلك القدرة انّما هو ما يمكن صدوره عن الواجب.

وأنت تعلم انّ أحد الجزءين من كلامه - أعني : عدم كون الخصوصية مانعة من تعلّق مطلق القدرة - مطابق لما ذكرناه في بيان أنّ الخصوصية ليست مانعة من تعلّق القدرة بالمعنى المشهور ، فمراده من مطلق القدرة هي القدرة بالمعنى المشهور.

فان أورد عليه : بأنّه لم لا يجوز أن تكون تلك الخصوصية مانعة من تعلّق مطلق قدرة الواجب - تعالى -؟ ، فلا بدّ لابطال هذا الاحتمال من دليل! ؛

فجوابه : انّ مقدور المقدور مقدور ومعلول المعلول معلول ، فكلّ ما هو قادر على الفاعل قادر على فعله أيضا بحسب ذاته مع قطع النظر عن العلم بالمصلحة ، وكلّ ما هو مقدور لغيره - تعالى - يكون مقدورا له - تعالى - بحسب ذاته.

وأمّا الجزء الآخر من كلامه - أعني : كون الخصوصية مانعة من تعلّق القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير - إن كان هو القدرة بمعنى صحّة الفعل والترك في بعض الأوقات بالنظر إلى الداعي وغيره / 95MB / من شرائط التأثير - أي : امكان الفعل والترك بالامكان الوقوعي - ولو في زمانين بأن يختلف زمان الفعل والترك - أي : يقع الترك في زمان والفعل في زمان آخر ، لأنّ امكانهما معا بالنظر إلى الداعي غير جائز على التحقيق كما مرّ - ، فالقدرة بهذا المعنى هو ما يوجب الترك في زمان والفعل في زمان آخر. ومقابله ما يوجب احدهما دائما وهي القدرة المستلزمة لصحّة الانفكاك بين الواجب وبين كلّ من طرفي الفعل والترك ؛ وهي القدرة المستلزمة للحدوث. وقد بيّنا انّ الخصوصية ليست مانعة من تعلّق تلك القدرة بالواسطة ، وانّما هي مانعة من تعلّق القدرة بهذا المعنى بلا واسطة.

فكان على هذا القائل أن يشير إلى هذا التفصيل.

وإن كان المراد عنها - أي : من القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير - هي القوّة

ص: 417

الموجبة للفعل أو الترك - أي : التمكّن الّذي صار منشئا للوجود أو العدم بالفعل ، سواء كان مستلزما للانفكاك أم لا ، بل وجب معها أحدهما دائما ولم يرد منها القدرة الملزومة للحدوث - ، نقول : لو صحّ ذلك فلا ريب في لزوم كون التمكّن المذكور بالعلم والمشيّة ، فرجع إلى القدرة بالمعنى الأوّل من معاني القدرة المتقدّمة - أي : كون الصدور واللاصدور بالعلم والمشيّة وإن وجب أحدهما -. ولا ريب في كون جميع الممكنات متعلّقا للقدرة بهذا المعنى ولو جعل التعلّق أعمّ من التعلّق بلا واسطة أو بواسطة. وبالجملة لا شبهة في أنّ الخصوصية ليست مانعة من تعلّق القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بالواسطة ، سواء أريد منها أحد المعانى المذكورة أو معنى آخر غيرها. والاطلاق بكون الخصوصية مانعة منها غير مناسب.

على أنّ هذا القائل صرّح بأنّ القدرة المتنازع فيها بين الفلاسفة والمليين هي القدرة الملزومة للحدوث ، وهي الّتي كان هذا القائل بصدد اثباتها واثبات عمومها دون القدرة بالمعنى المشهور ، لتصريحه بأنّه متّفق عليه بين الكلّ. فما ذكره من أنّ الخصوصية ليست مانعة من تعلّق القدرة بالمعنى / 91DA / المشهور لا يفيده ، بل لا بدّ له من بيان عدم كونها مانعة من تعلّق القدرة الملزومة للحدوث ؛ هذا.

وما ذكر في الايراد المذكور من انّه على قانون الحكمة جاز أن تستعدّ المادّة لحدوث ممكن دون آخر ، فلا يكون نسبة الذات إلى الجميع على السواء ؛

ففيه : أمّا أوّلا : انّه على قانون الحكمة لا يمكن أن يؤثّر ويوجد إلاّ واجب الوجود بالذات ، فكلّ شيء له امكان قبول الوجود فانّما يوجد من الواجب الوجود بالذات الّذي هو باعتبار ذاته موجود ، فانّ الممكن الّذي ليس له في حدّ ذاته وجود محال عندهم اتصافه بالايجاد.

والحاصل : انّ الحكماء لمّا لم يجوّزوا التأثير في الموجود لغيره - تعالى - فكلّ ما هو مقدور للغير لا بدّ أن يكون مقدورا له - تعالى - ، بل اطلاق كلامهم وادلّتهم يدلّ على انّ افعال العباد أيضا ليست صادرة عنهم ، بل بقدرته - تعالى - وإن كان الحقّ خلافه.

ص: 418

نعم! قبول الوجود وقبول الحركات والأفعال يتحقّقان في الممكنات. و (1) يدلّ على ذلك ما نقلناه سابقا عن التحصيل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ذلك - نعني جواز استعداد المادّة لحدوث ممكن دون آخر - لا يوجب تجويز صدور ممكن عن غير الواجب ، بل يوجب عدم امكان صدوره عن الواجب لا تجويز صدوره عن غير الواجب ، فهو لا ينافي قولنا : كلّ ما هو مقدور الغير مقدور له - تعالى -. ولا يقدح ذلك في عموم قدرته ، لأنّ المدّعى منه شمول قدرته لجميع ما له امكان الصدور عن مؤثّر ، فلو فرض ما لم يمكن تعلّق قدرة فاعل به - لعدم استعداد المادّة لحدوثه - وصحّ اطلاق اسم الممكن على مثله فلا ضير في عدم تعلّق قدرته - تعالى - به ؛ ولو لم يصدق عليه اسم الممكن وكان معدودا في الممتنع فالأمر فيه ظاهر.

وبما ذكرنا يندفع ما قيل : انّ مقصود المورد انّه إذا كانت المادّة مستعدّة لحدوث ممكن دون آخر لم تكن نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، لا أنّه يجوز صدور ممكن عن غير الواجب ؛ ولم يلزم من الجواب المذكور ثبوت تساوي النسبة ، بل اللازم منه عدم ايجاب كون المادّة مستعدّة لحدوث ممكن / 96MA / دون آخر - لجواز صدور ممكن عن غير الواجب - ، وهو غير المقصود.

ووجه الاندفاع : انّ ما يقدح في عموم القدرة انّما هو جواز صدور ممكن عن غير الواجب ، لا عدم جواز صدور ممكن عن فاعل اصلا ؛ فالمورد إن ادّعى انّه يلزم على قاعدة الحكمة صدور ممكن عن غير الواجب يكون مقدورا له - تعالى - ، فلا يثبت عموم القدرة ؛

فيندفع دعواه بالجواب المذكور ؛

وإن لم يدع واكتفى بمجرّد لزوم عدم جواز صدور ممكن عن فاعل ؛

فيجاب عنه : بأنّه غير قادح في عموم القدرة.

والحقّ انّ هذا الجواب غير صحيح على القواعد الّتي قرّرناها ، لأنّ كلّما صدق

ص: 419


1- الاصل : - و.

عليه اسم الممكن وهو ممكن في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته يكون متعلّقا للقدرة المطلقة وإن لم تتعلّق به القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير - نظرا إلى أمر خارج عن ذاته من عدم استعداد المادّة لحدوثه أو غير ذلك من المصالح الراجعة إلى نظام الكلّ - كيف لا؟! وكلّ ممكن محتاج إلى مؤثّر ، فلا بدّ لكلّ ماهية ممكنة من مؤثّر ؛ وفرض ممكن لا يحتاج إلى المؤثّر فرض انقلاب الحقيقة. وإذا كان لكلّ ممكن مؤثّر - سواء كان موجودا أو معدوما - يكون لهذا الممكن الّذي لم تستعدّ المادّة لحدوثه أيضا مؤثّر إمّا موجود أو معدوم. وإذا احتاج إلى مؤثّر بأيّ نحو كان ينتهي اختصاصه بالاخرة إلى الواجب - كما مرّ مفصّلا - ، فيكون متعلّقا للقدرة المستجمعة لشرائط التأثير بالواسطة وللقدرة بالمعنى المشهور بلا واسطة ، نظرا إلى أنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بالنظر إلى ذاته. فالقول بأنّ مثل هذا الممكن لا تتعلّق به قدرة الواجب اصلا غير صحيح.

فالحقّ في الجواب أن يقال : إنّ استعداد المادّة لحدوث ممكن دون آخر لا يوجب عدم تجويز صدور ممكن عن الواجب ؛ يعنى : كون استعداد المادّة شرطا لحدوث الممكن لا يوجب تجويز عدم امكان صدور ممكن عن الواجب بالنسبة إلى نفس القدرة الّتي هي معتبرة عندهم ، بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل ، لا أنّ المشية عندهم لا تتعلّق بما لم يستعدّ المادّة لحدوثه - لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح - ، فكلّ ممكن لو تعلّقت كان صادرا عنه - تعالى -.

والحاصل انّ هذا الممكن مقدور له - تعالى - بالقدرة بالمعنى المشهور - أعنى : صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته تعالى - وإن لم يكن مقدورا بالقدرة بمعنى صحّة الفعل بالنظر إلى الداعى وغيره من شرائط التأثير.

فان قيل : إذا لم تستعدّ المادّة لحدوث ممكن فلعلّه لا يقدر الواجب - تعالى - على ايجاد ذلك الممكن بالنسبة إلى اصل القدرة أيضا من غير اعتبار استجماع الشرائط ، / 91DB / ولا بدّ لنفيه من دليل ؛

قلنا : بعد تسليم انّ مثل هذا الممكن محتاج إلى مؤثّر وتسليم انتهاء سلسلة المؤثّرات - موجودة كانت أو معدومة - إلى الواجب يثبت قدرة اللّه - تعالى - على

ص: 420

ايجاد هذا الممكن نظرا إلى مطلق القدرة ، وانكار ذلك مكابرة. وقد ظهر ووضح انّ المنع المذكور - أعني : جواز كون الخصوصية في الممكنات مانعة من تعلّق القدرة - مدفوع على قاعدة الاعتزال والحكمة وأمّا على اصول الأشاعرة فلا يرد أصلا حتّى يحتاج إلى الدفع ، لعدم التمايز والتخصيص عندهم في المعدومات وإن كان اصلهم فاسدا!.

وقال بعض المشاهير : لا فرق بين مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة والحكماء في ورود المنع ؛ إنّما الفرق في دفعه ، فانّ الأشعرية لمّا اعتقدوا أن ليس التأثير ثابتا لغير واجب الوجود دفعوا منع كون ممكن غير مقدور للواجب بأنّه يلزم من كونه غير مقدور له عدم امكان صدوره عن الغير ، فانّ كلّ ما يمكن صدوره عن الغير فانّما يصدر عن الواجب بالذات. وأمّا على مذهب المعتزلة فدفع المنع المذكور أن يقال : مرادهم من تساوي نسبة ذات الواجب إلى جميع الممكنات هو تساوي النسبة باعتبار كونه فاعلا مع قطع النظر عن الإرادة والعلم بالأصلح ؛

وأورد عليه : بأنّه لمّا جعل بناء الاستدلال المشهور وصحّته على عدم ثبوت التمايز بين المعدومات وكون المعدوم لا شيئا محضا ونفيا صرفا لا امتياز فيه أصلا ، فلا مجال لورود المنع المذكور اصلا. وانّما يرد على من لم يقل بذلك واثبت الامتياز والخصوصية للمعدومات / 96MB / - كالمعتزلة والحكماء - ، فورود المنع على المذاهب الثلاثة لا وجه له. إلاّ أن يكون نظر هذا القائل إلى أنّ القول بعدم التمايز اصلا ممّا لا يعقل ، إذ حينئذ لا يعقل وجود البعض دون البعض ، بل لا معنى حينئذ للبعض والبعض! ؛ فلا بدّ للأشعري أيضا أن يقول بتمايز بين المعدومات في الجملة وإن لم يكن على نحو ما يقوله المعتزلة ، وحينئذ لا فرق بين المذاهب الثلاثة في ورود المنع. ولا يخفى ما فيه من التكلّف ؛ انتهى.

وقال بعض الفضلاء : ولو كان بناء الاستدلال المشهور على عدم تمايز المعدومات بناء على أنّ المعدوم نفي محض يكون بين مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة فرق قطعا في ورود المنع ، إذ لا مجال على هذا القول للقول بكون البعض مقدورا دون

ص: 421

بعض ، بل لا يتصوّر حديث البعض والكلّ ، إذ لا تمايز أصلا. ثمّ قال : والظاهر انّ القائل بعدم الفرق بين المذهبين في ورود المنع أعرض عن هذا البناء لظهور ضعف هذا المبنى - بناء على ثبوت الوجود الذهني - ، وجعل المبنى ما ذهب إليه الأشاعرة من عدم تفاوت الممكنات في نظره باعتبار العلم بالنفع وغيره ، بخلاف مذهب المعتزلة ؛ وحينئذ لا فرق بين المذهبين في ورود المنع. لجواز اختلاف نسبة ذات الواجب إلى الممكنات على مذهب الأشاعرة من جهة أخرى ، فانّ سند تجويز الاختلاف لا ينحصر في ثبوت المعدومات الّذي قال به المعتزلة ، فانّ العلم المقدّم على الايجاد ممّا يصلح سندا للاختلاف قطعا ولو لم تتفاوت الممكنات في نظره - تعالى - باعتبار العلم عند الأشاعرة ، فيمكن أن يجعل سند المنع جريان العادة بانحاء البعض دون البعض ، أو اختلاف المهيات في انفسها باللوازم والذاتيات ؛

فدفع عنهم : بأنّه لو لم يكن بعض الممكنات مقدورا له - تعالى - لم يكن ممكن الصدور عن الغير ، فانّما يصدر عن الواجب بالذات ؛

وعن المعتزلة : بان مرادهم تساوي النسبة باعتبار كونه فاعلا مع قطع النظر عن الإرادة والعلم بالأصلح ، وحينئذ يصحّ عموم القدرة على المذهبين ولا ينافيه مذهب المعتزلة ؛ انتهى.

وغير خفيّ انّ امثال هذه التوجيهات تكلّفات باردة!.

والحقّ انّ المنع المذكور على مذهب الأشاعرة غير وارد - نظرا إلى ما ذهبوا إليه من عدم التمايز في المعدومات -. نعم! أصل مذهبهم فاسد - كما أشير إليه -. فما ذكره القائل المذكور من عدم الفرق بين المذهبين في ورود المنع غير صحيح.

ثمّ ما ذكره في وجه دفع المنع المذكور من قبل الأشاعرة وإن كان ثابتا من مذهبهم - لأنّه لا شكّ انّ الأشاعرة نفوا التأثير عن غيره تعالى - ، فعلى ما ذهبوا إليه ظاهر انّ كلّما هو مقدور للغير لا بدّ أن يكون مقدورا له - تعالى - ، إلاّ أنّ الكلام في صحّة الاستدلال المشهور وفي اثبات ما ذهبوا إليه. ولو بنى الأمر على مجرّد هذا المذهب لم يفتقر اثبات عمومية القدرة إلى استدلال أصلا.

ص: 422

ثمّ بعد اثبات ما ذهبوا / 92DA / إليه من نفي التأثير عن غيره - تعالى - إنّما يثبت مجرّد انّ كلّما هو مقدور للغير مقدور له - تعالى - ولا يثبت مقدورية كلّ ممكن له - تعالى - ، وقد عرفت انّ عموم القدرة يتوقّف على ذلك ؛ هذا.

وقد استدلّ بعض المشاهير على عموم القدرة : بأنّ امكان الصدور عن الغير بالارادة علّة للمقدورية ، إذ الشيء الّذي لم يتّصف بامكان الصدور عن الغير بالارادة لم يتّصف بالمقدورية ، وما اتصف به اتّصف بها وثبت بينهما التلازم المفيد للعلّية المثبتة للمطلوب. بل هو يكفي لاثبات المطلوب وإن لم يفد العلّية بالمعنى المعروف ، فانّ مرادنا بالعلّية ما يتناول مثل التلازم ، فلا يرد انّه لا يلزم ممّا ذكر إلاّ التلازم بين امكان الصدور عن الغير بالارادة والمقدورية ، وهو لا يفيد علّية لها لجواز أن يكونا معلولي علّة ثالثة. والظاهر انّ امكان الصدور عن الغير بالارادة هو المقدورية ، والفرق بينهما بالاجمال والتفصيل كالفرق بين الانسان والحيوان الناطق. فالمراد بالعلّية هاهنا ينبغي أن يكون علّية الحكم - كما يقال : علّة انسانية زيد إنّما هي كونه حيوانا ناطقا -.

واذ صحّ استلزام امكان الصدور عن الغير بالارادة للمقدورية نقول : وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان / 97MA / الصدور عن الواجب - تعالى - سواء كان بالواسطة أو بلا واسطة نظرا إلى ادلّة اثبات الصانع واثبات التوحيد ، فقدرة الواجب متعلّقة بجميع ما له امكان الصدور عن الغير. فمن لم يجوّز كون الممكن فاعلا مستندا إلى أنّ الممكن باعتبار انّه ممكن لا شيء محض وما كان كذلك لا يصحّ أن يصير موجدا يكون عنده وقوع جميع الممكنات بايجاد الواجب وقدرته. ومن جوّز كون الممكن محرّكا للأجسام جوّز أن يوجد الواجب - تعالى - حركات الأجسام ، ضرورة أنّ القادر على ايجاد المحرّك قادر على ايجاد الحركات.

والحاصل : انّ قدرة الواجب المقرونة بجميع شرائط التأثير لا تتعلّق إلاّ بالممكنات الّتي لها امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالنظام الأعلى ، إمّا بلا واسطة - كما ذهب إليه البعض - أو مطلقا ، مع الاتفاق في أنّ صدور غير الحركات من الجواهر انّما هو من الواجب. وأمّا قدرته على الاطلاق فهي متعلّقة بجميع ما هو ممكن الصدور عن الغير ؛

ص: 423

انتهى ما ذكره بزيادة بعض مقدّماته المطوية.

قال بعض الأفاضل : تقرير هذا الدليل على محاذات ما ذكره أن يقال : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا بالارادة ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان الصدور عن الغير مطلقا ؛ ينتج : انّ كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا. ثمّ نقول : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير مطلقا له امكان الصدور عن الواجب بالارادة - سواء كان بواسطة أو بغيرها - ، لوجوب انتهاء جميع الاغيار إلى الواجب ؛ ينتج : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الواجب بالارادة.

ويمكن اختصاره بأن يقال : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا بالضرورة ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير بالضرورة له امكان الصدور عن الواجب بالارادة - لما ذكرنا - ، فتحصل النتيجة.

وإنّما حملنا كلامه على قياسين لمكان قوله : « بالارادة » ، اذ لو لم نعتبره في الاوسط يلزم إمّا الغائه أو عدم تكرّر الأوسط. وإن اعتبرناه لم يلزم من الدليل كون ما له امكان الصدور عن الغير بالايجاب - كالاحراق الصادر عن النار مثلا - متعلّقا لقدرته - تعالى - ؛ انتهى.

وتوضيح ما ذكره أخيرا بقوله : « وانّما حملنا كلامه » : انّ المستدلّ المذكور جعل صغرى القياس قولنا : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير بالارادة ، وكبراه قولنا : وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان الصدور عن الواجب ، وجعل النتيجة قولنا : وكلّ مقدور له امكان الصدور عن الواجب بالارادة. فاعتبر قوله : « في الإرادة » مع الأوسط في الصغرى ولم يعتبره معه في الكبرى. فان اعتبرناه معه في الكبرى وقلنا تركه فيها حوالة على الظهور ، يكون المراد من « المقدور » في النتيجة ما هو ممكن الصدور عن الغير بالارادة ، فيلزم منه أن يكون كلّ ما هو ممكن الصدور عن الغير بالارادة ممكن الصدور عن الواجب ولا يكون ما هو ممكن الصدور عن الغير بالايجاب - كالاحراق الصادر عن النار - ممكن الصدور عن الواجب. وإن لم نعتبره

ص: 424

معه في الكبرى / 92DB / وقلنا : لا حاجة إليه فيها ، فيلزم الغائه في الصغرى ، فلا بدّ أن يحمل قوله على قياسين ، بأن نقول : ذكر صغرى القياس الأوّل وكبرى القياس الثاني مع نتيجته ، وأحال ساير اجزائهما على الظهور.

ثمّ حمل قول المستدلّ المذكور على قياسين - وكان اثبات المطلوب بقياس واحد ممكنا في الواقع - وقال : « ويمكن اختصار الاستدلال » ، فجعل الصغرى قولنا : « كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا » - أي : سواء كان بالارادة أو بغيرها - ، وادّعى الضرورة في ذلك ؛ وجعل الكبرى قولنا : « وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير مطلقا بالضرورة له امكان الصدور عن الواجب بالارادة » ، وجعل دليل ذلك ما اشرنا إليه آنفا من أنّ جميع الأغيار ينتهي إلى الواجب ؛ فكلّ ما يمكن صدوره عن الغير يمكن صدوره عن الواجب بالارادة ، سواء كان بواسطة أو بغيرها ؛ فتحصل النتيجة - أعني قولنا : « كلّ مقدور له امكان الصدور عن الواجب بالارادة » -.

هذا ما ذكره بعض الأفاضل في شرح كلام القائل المذكور مع توضيحه.

ويرد عليه - على تقدير جعل الاستدلال المذكور قياسين - : أنّ المراد من « المقدور » : الّذي جعل موضوعا لصغرى القياس / 97MB / وحمل عليه قولنا : « له امكان الصدور عن الغير بالارادة » ، لا ما يصلح لتعلّق القدرة به - كما هو ظاهره - ، أو الممكن مطلقا. فعلى الأوّل لا يلزم من القياسين - اللذين ذكرهما - إلاّ انّ كلّ ما يصدر عن الشيء بالقدرة له امكان الصدور عن الواجب ، وهذا لا يشمل ما يصدر عن شيء بالايجاب - كالاحراق للنار - ؛ مع أنّ غرضه ادخال ذلك - كما صرّح به الفاضل المذكور الّذي حمل الاستدلال المذكور على قياسين -.

مع أنّه حينئذ لا حاجة إلى الحمل على قياسين ، لأنّه صرح بأنّه لو جعلنا الاستدلال واعتبرنا قولنا : « في الإرادة » في الكبرى وقلنا : تركه فيها للظهور ، لم يلزم من الاستدلال كون ما له امكان الصدور عن الغير بالايجاب - كالاحراق للنار - متعلّقا لقدرته - تعالى - ، فالحمل على قياسين لا دخال ذلك. فاذا لم يدخل معه فأيّ حاجة إليه؟!. بل يكفى قياس واحد. وعلى الثاني - أي : كون المراد من المقدور هو الممكن

ص: 425

مطلقا - نمنع صغرى القياس الأوّل ، إذ لعلّ من الممكنات ما لا يمكن صدوره عن الغير بالارادة - كالافعال الصادرة عن الطبائع -. مع أنّه لا حاجة حينئذ أيضا إلى التطويل المذكور وجعل الاستدلال المذكور قياسين ، إذ يكفي حينئذ أن يقال : كلّ ممكن له امكان الصدور عن الغير بالارادة ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير بالارادة له امكان الصدور عن الواجب بالارادة - لانتهاء جميع الأغيار إليه تعالى - ؛ فينتج : انّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الواجب بالارادة. فقد ظهر انّ جعل الاستدلال المذكور قياسين مع وجود قيد « الإرادة » لا ينفع في الغرض المذكور - أي : ادخال ما له امكان الصدور بالايجاب - ؛ وانّما ينفع فيه حذف هذا القيد وهو موجود في كلام المستدلّ. وبالجملة لا ريب في انّه مع أخذ الإرادة في الاستدلال المذكور والقول بأنّ حذف المستدلّ له اخيرا بناء على الظهور أو لعدم الاحتياج إليه يكون الاستدلال ناقصا غير ناهض لاثبات المطلوب - سواء أريد من المقدور ما يصلح لتعلّق القدرة به أو الممكن ، وسواء جعل قياسين أو قياسا واحدا ، كما تقدّم - ؛ لورود ما اشرنا إليه من عدم دخول ما يصدر عن الشيء بالايجاب ؛ ومن منع الصغرى ، إذ لا نسلّم انّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الغير بالارادة ، بل لا نسلّم ذلك في كلّ موجود أيضا فضلا عن الممكنات الغير الموجودة. فهو لا ينتهض على اثبات شيء من الاحتمالات المذكورة للعنوان المذكور فضلا عن الاحتمال الّذي ذكرنا هو انّه هو المقصود - أعني : شمول القدرة لجميع الممكنات الموجودة والمعدومة - ؛ هذا.

ويمكن أن يجعل الصغرى والكبرى في الاستدلال المذكور عكس ما تقدّم ، بأن يجعل المحمول موضوعا وبالعكس حتّى تصير صورة القياس هكذا : كلّ ما له امكان الصدور عن الغير بالارادة فهو مقدور ، وكلّ مقدور فله امكان الصدور عن الواجب بالارادة ، لينتج : كلّ ما له امكان الصدور عن الغير بالارادة فله امكان الصدور عن الواجب بالارادة.

وهو كسابقه - أي : عكسه - في امكان جعله قياسين ؛ وفي ورود ما يرد عليه.

فانّ المراد من المقدور حينئذ - أعني : الاوسط - ما يصلح لتعلّق القدرة به ، فلا يكون

ص: 426

ما يصدر عن الشيء بالايجاب داخلا فيما يمكن صدوره عن الواجب بالارادة. بل حينئذ لو حذف لفظ « الإرادة » لم يصحّ الاستدلال أيضا ، لورود المنع على الصغرى. فلو شئنا أن نتمّ هذا الاستدلال بحيث يرجع إلى ما حقّقناه وجب أن يحذف قولنا : « بالارادة » عن الصغرى / 93DA / ويجعل الموضوع في الصغرى هو « الممكن مطلقا » ، والمحمول قولنا : « له امكان الصدور عن الغير مطلقا » حتّى تصير صورة القياس هكذا : كلّ ممكن له امكان الصدور عن الغير ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير فله امكان الصدور عن الواجب بالارادة - سواء كان بلا واسطة أو بواسطة - ، فينتج : انّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الواجب بالارادة. وهذا معنى عموم قدرته - تعالى -.

وأمّا الكبرى فظاهرة ، لانتهاء جميع الأغيار إليه - تعالى - ، بناء على ثبوت التوحيد وحدوث العالم وقيام الدلالة على صدور ما يصدر عنه بالارادة والقدرة ، وكفاية صدور علّة الشيء عنه - تعالى - بالقدرة والإرادة في كون هذا الشيء صادرا بها. وأمّا الصغرى فلانّ كلّ ممكن فهو محتاج إلى المؤثّر ، فمؤثّره إمّا واجب أو ممكن موجود أو معدوم ؛ وعلى التقادير يثبت المطلوب / 98MA / - كما مرّ غير مرّة -.

وبذلك يندفع ما أورد على الصغرى : بأنّا لا نسلّم انّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الغير ، إذ لعلّ من الممكنات ما لا يقدر شيء على ايجاده وإن لم تأب ذاته عن الوجود. ولو سلّم فلا نسلّم امكان صدوره عن شيء من الوجودات ، بل ربّما لا يجوز صدوره إلاّ عن ممكن معدوم ، وكذا الحال في ذلك الممكن أيضا ، وهكذا. فلا يلزم امكان صدوره عن الواجب - تعالى - ، لأنّ امكان الصدور عن الواجب بلا واسطة أو بواسطة إنّما هو فيما يمكن صدوره عن موجود منته إليه - تعالى - ، لا عن معدوم يتوقّف وجوده على معدوم آخر ، وهكذا. وعلى هذا فلا ينتهض الاستدلال المذكور على اثبات عموم القدرة بالمعنى المطلوب - أعني : شمولها لجميع الممكنات الموجودة والمعدومة - ، بل لو نزّلنا عن الايراد الأوّل فانّما يثبت عموم القدرة بمعنى شمولها لجميع الموجودات بلا واسطة أو بواسطة.

وحينئذ إذا نزّلنا عن الايراد الأوّل فلو اجرى الاستدلال المذكور في اثبات عموم

ص: 427

القدرة بهذا المعنى - بأن يبدّل « الممكن » في موضوع الصغرى « بالموجود » - لتمّ ولا يرد عليه شيء ممّا أوردناه ، بل هو في الحقيقة ما ذكرناه من انّ بعد اثبات التوحيد وحدوث العالم لا خفاء في كون جميع الموجودات مستندة إليه - تعالى - بلا واسطة أو بواسطة. وعلى ما ذكر يمكن أن يجعل مدّعى المستدلّ المذكور انّ كلّ ما يصلح لتعلّق ايجاد الغير به فهو مقدور له - تعالى - بواسطة أو بلا واسطة ؛ وحمل كلامه على ذلك ممكن ، بل وهو ظاهر الانطباق عليه. فان خصّ الغير حينئذ بالغير الموجود اندفع عنه الايرادان معا ، وإن لم يخصّ به فلا شبهة في اندفاع الايراد الأوّل عنه وإن أورد عليه الايراد الثاني ؛ انتهى ما أورد بتغيير اقتضاه الايضاح.

ووجه الاندفاع : انّ بعد ما ثبت انّ كلّ ممكن محتاج إلى مؤثّر فكلّ ممكن يتعيّن ويتميّز في لحاظ العقل أو في حاقّ الواقع ونفس الأمر يتميّز ويتشخّص له أيضا في أحد الطرفين ما يصلح للتأثير فيه وكونه موجدا له ، فاندفع الايراد الأوّل.

ثمّ إذا كان الصالح لتأثيره فيه وايجاده له معدوما والصالح لايجاد هذا المؤثّر أيضا معدوما ... وهكذا ، فامّا تنتهى سلسلة هذه المعدومات إلى الواجب أو لا - بل تذهب إلى غير النهاية - ، فعلى الأوّل يثبت المطلوب أيضا ؛ وعلى الثاني نقول : انّ مجموع تلك السلسلة المعدومة الغير المتناهية بحيث لا يشذّ عنه شيء - لامكانه - ، فيحتاج إلى مؤثّر - أي : إلى ما يصلح للتأثير فيه -. فهذا المؤثّر إن كان واجب الوجود بالذات يثبت المطلوب أيضا ؛

وإن كان غيره فإمّا أن يكون موجودا فيثبت المطلوب أيضا - لانتهاء جميع الممكنات الموجودة إليه تعالى - ،

وإن كان معدوما لزم الخلف ، لأنّا اخذنا جميع سلسلة الممكنات المعدومة بحيث لا يشذّ عنها شيء.

ثمّ ما ذكره أخيرا من امكان اجراء الاستدلال المذكور في اثبات عموم القدرة بمعنى شمولها لجميع الموجودات وتخصيص مدّعى القائل به ، ففيه : انّ ثبوت عموم القدرة بهذا المعنى أمر بديهي لا ريب فيه ، وانّما المهمّ بين العقلاء اثبات شمولها لجميع

ص: 428

الممكنات الموجودة والمعدومة - كما هو الظاهر من ادلّتهم - ، والتخصيص بغير ما هو المطلوب المهمّ خلاف الظاهر والمتبادر.

فان قلت : هل يمكن أن يحمل قياس المستدلّ المذكور على القياس الّذي ذكرته وتمّمته؟!.

قلت : لا ، لأنّ موضوع الصغرى في قياسنا هو قولنا : « كلّ ممكن » ، وفي قياسه هو قولنا : « كلّ ما له امكان الصدور عن الغير » ، والمحمول فيها في قياسنا هو قولنا : « له امكان الصدور عن الغير » ، وفي قياسه هو قولنا : « فهو مقدور » ؛ ومع ذلك جعل فيه الإرادة جزء لموضوع الصغرى ، فكيف يرجع أحدهما إلى الاخر؟.

وبذلك يظهر انّ استدلاله لا يخلوا عن اختلال.

نعم! يمكن / 93DB / أن يقال - على تكلّف! - : انّ الصغرى في استدلاله محذوفة - وهي الّتي ذكرناها - ، وقد حذفها اعتمادا على الظهور ، وكذا حذف قولنا : « بالارادة » عن محمول الكبرى أيضا اعتمادا على الظهور ؛ وقوله : « انّ امكان الصدور عن الغير بالارادة علّة للمقدورية » مقدّمة خارجة عن القياس ، والغرض من ايرادها بيان انّه إذا ثبت بالقياس المذكور انّ كلّ ممكن له / 98MB / امكان الصدور عن الواجب بالارادة يثبت عموم قدرته ، إذ علة المقدورية ليست إلاّ امكان الصدور بالارادة. فاذا ثبت أنّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الواجب بالارادة وثبت بحكم تلك المقدمة انّ كلّ ما له امكان الصدور عن شيء بالارادة فهو مقدور له يثبت انّ كلّ ممكن مقدور له - تعالى - ، وهو معنى عموم القدرة.

وعلى هذا حمل كلام بعض الأعلام حيث قال بعد ايراد ما نقلناه من المستدلّ المذكور : توجيهه أن يقال : علّة مقدورية شيء لفاعل هو امكان صدوره عنه بإرادته - كما يظهر من تفسير القدرة - ، وهذا بالنسبة إليه - تعالى - يعمّ جميع الممكنات ، إذ كلّ ما يمكن صدوره عن فاعل فهو ممكن الصدور عن الواجب بالذات بإرادته بلا واسطة أو بواسطة ينتهي إليه ضرورة انتهاء جميع سلسلة وجود جميع الممكنات إلى ارادته الموجودة لوجود العالم جملة ، فقدرته متعلّقة مطلقا بجميع الممكنات ، وهذا ممّا ليس

ص: 429

النزاع فيه ؛ انتهى.

ثمّ لا يخفى انّ ترتيب القياس على ما قرّرناه يجعل الاستدلال على نحو ما استدللنا به على المطلوب سابقا ، فهو يثبت عموم

القدرة السابقة المطلقة - أي : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات بالنسبة إلى جميع الممكنات الموجودة والمعدومة بلا واسطة ، نظرا إلى أنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بالنظر إلى ذاته - ؛ ويثبت عموم القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بالنسبة إلى الممكنات الّتي لها امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالنظام الأعلى ، وهي الممكنات الموجودة. وإلى هذا اشار المستدلّ المذكور في آخر كلامه بقوله : « والحاصل انّ قدرة الواجب المقرونة بجميع شرائط التأثير ... - إلى آخره ». فانّه بيان المراد من قوله : « فقدرة الواجب متعلّقة بجميع ما له امكان الصدور عن الغير » حتّى يظهر به مطلوب القوم من العمومية. فغرضه منه انّ المراد من القدرة الّتي قلنا أنّها متعلّقة بجميع ما له امكان الصدور عن الغير هو القدرة المطلقة الّتي لا يقارن ولا يلاحظ معها أمر آخر ، لا القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ، إذ ربّما يمتنع صدور شيء عنه - تعالى - بالنظر إلى علمه بالنظام الأعلى ومنافاة وجود ذلك الشيء له.

نعم! القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير انّما تتعلّق إمّا بدون واسطة - كما ذهب إليه الأشاعرة - أو مطلقا - كما ذهب إليه المعتزلة - بجميع ما له امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالنظام الأصلح دون ما يمتنع بالنظر إليه ، أمّا عند المعتزلة فلامتناع صدور الشرور والآفات العامّة المضادّة للنظام الأعلى - كاختلال الخلائق أجمعين وتكذيب الأنبياء والمرسلين - ؛ وأمّا عند الأشاعرة وإن لم يمتنع صدور شيء عنه عقلا - لتجويزهم صدور كلّ شيء حتى القبائح والشرور عنه تعالى عقلا - ، لكنّهم يقولون : عادته - تعالى - جارية بايجاد الخيرات دون الشرور ، فكلّ ما يضادّ النظام الأعلى وان امكن تعلّق القدرة به بالذات لكن امتنع بالنظر إلى علمه بنظام الخير عند المعتزلة عقلا وعند الأشاعرة عادة.

وانّما حملنا القدرة المطلقة في كلام هذا القائل على القدرة بالمعنى المشهور - أعني :

ص: 430

امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - دون القدرة المستلزمة (1) للحدوث - أعني : صحّة انفكاك كلّ من الطرفين بالنظر إلى الداعي -. وإن حمل هذا القائل القدرة الّتي وقع النزاع فيها بين الفلاسفة والمليين على القدرة بهذا المعنى - أي : ما يستلزم الانفكاك بين الواجب وبين كلّ من طرفى الفعل والترك - لأنّه إذا كان المدّعى اثبات عموم القدرة بالنسبة إلى جميع الممكنات أو جميع ما له امكان الصدور عن الغير تعيّن حمل القدرة على المشهور ، إذ لا شكّ أنّ الممكنات الّتي لم توجد تكون عدمها ممتنع الانفكاك عنه - تعالى - بالنظر إلى الداعي ؛ وانّما يصحّ ذلك بالنظر إلى ذاته - تعالى -. نعم! لو كان المدّعى اثبات عموم القدرة بالنسبة إلى جميع الموجودات امكن حمل القدرة على صحّة انفكاك كلّ من الطرفين بالنظر إلى الداعي بشرط أن لا يجعل انفكاك كلّ منهما في وقت دون وقت انفكاك الآخر (2) ، إذ انفكاك كلّ منهما في وقت واحد ممتنع على التحقيق ، لما مرّ من أنّ عدم العالم في زمان عدمه انّما كان بالنظر إلى الداعي وعلمه بالنظام الأعلى ، فوجوده فيه / 99MA / كان محالا بالنظر إلى الداعي وإن كان جائزا بالنظر إلى ذاته - تعالى -. وكذا وجوده في وقت وجوده إنّما كان / 94DA / بمقتضى الداعي من العلم بالأصلح أو ذات الوقت ، فعدمه فيه كان محالا بالنظر إليه وإن كان جائزا بالنظر إلى ذاته - تعالى -.

فاثبات عموم القدرة بالنسبة إلى جميع الممكنات أو جميع الموجودات في كلّ وقت إنّما يتأتّى إذا حمل القدرة على المعنى المشهور - أي : امكان كلّ من الطرفين وانفكاكهما بالنظر إلى الذات - لا على المعنى المستلزم للحدوث - أي : امكان كلّ من الطرفين وانفكاكهما بالنظر إلى الداعى -. وإنّما يتأتّى اثبات عموم القدرة بمعنى صحّة الانفكاك بالنظر إلى الداعي فيما له امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالأصلح بشرط أن لا يتّحد زمان انفكاك الطرفين ، بل يكون انفكاك الترك في وقت وانفكاك الفعل في وقت آخر ، والقدرة بهذا المعنى ليست إلاّ بمعنى ترك ايجاد العالم في الأزل وايجاده فيما لا يزال. وهذا المعنى هو معنى القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير الّتي صرّح هذا القائل بأنّها لا تتعلّق إلاّ بما له امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالنظام الأعلى ، فكيف يمكن أن

ص: 431


1- الاصل : الملزومة.
2- الاصل : ولا جواز.

يحمل القدرة المطلقة - الّتي صرّح هذا القائل بتعلّقها بجميع الممكنات - على هذا المعنى؟.

ثمّ لا يخفى انّه بعد اتفاقهم على تعلّق القدرة المستجمعة بجميع ما له امكان الوقوع بالنظر إلى العلم بالاصلح - أعني : نظام الممكنات الموجودة - اختلفوا - كما أشير إليه مرارا - بأنّ تعلّقها بجميع الممكنات هل هو بلا واسطة - حتّى يكون مفيض الوجود على الجميع هو الواجب سبحانه من دون تأثير من الوسائط - ، أو أعمّ من كونه بالواسطة بالنسبة إلى بعض الموجودات؟ وقد ذكرنا انّ الظاهر من كلام الحكماء هو الأوّل ، وهو المقطوع به عند الأشاعرة ، وقد صرّح به أيضا جماعة من المتأخّرين. قال بعض الأذكياء : لمّا ثبت انّ الامكان علّة الاحتياج إلى المؤثّر مطلقا في بادي الرأي وبعد حكم البرهان يظهر انّ الامكان علّة الاحتياج إلى الواجب المؤثّر الواجب بالذات - لأنّ مقتضى الوجود ليس إلاّ الواجب تعالى ، والامكان الّذي علّة الاحتياج إلى الواجب بالذات مشترك بين جميع الممكنات وعامّ بالنسبة إليها - فيكون جميع الممكنات صادرة عنه - تعالى - بالعلم والإرادة ، وما يصدر عن الشيء بالارادة يكون مقدورا له ، لأنّ القدرة هي الصفة الّتي تؤثّر على وفق الإرادة ، فيكون جميع الموجودات صادرة عنه - تعالى - بالارادة والاختيار ؛ فيلزم أن يكون جميع الممكنات مقدورة له - تعالى - بلا واسطة. فعمومية العلّة - الّتي هي الامكان - تستلزم عمومية صفة المقدورية ، وهذا هو مراد المحقّق الطوسي في التجريد من قوله : « وعمومية العلّة تستلزم عمومية الصفة (1) » ؛ انتهى.

والظاهر من كلام جماعة هو الثاني ، فانّه يظهر من كلامهم تجويز أن يؤثّر بعض الممكنات في بعض آخر بالجهة المستندة إليه - تعالى -. وقد ذكرنا انّ نظر الفرقة الأولى إلى أنّ مفيض الوجود ليس إلاّ الواجب - تعالى - ، لأنّ الممكن لا شيء محض وما كان كذلك لا يصحّ أن يصير موجدا ، وعلى هذا فشمول قدرته لجميع الموجودات بلا واسطة

ص: 432


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الاولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 219.

ظاهر لا سترة فيه.

ونظر الفرقة الثانية إلى أنّ الممكن لو كان موجدا قائما يؤثّر بالجهة المستندة إليه - تعالى - ، وهذه الجهة ليست عدما محضا - وقد تقدّم الكلام في ذلك مفصّلا -.

وعلى هذا لا يكون هذا الخلاف مختصّا بالحركات والأعراض ، لأنّ المستفاد من الدليل المذكور جواز ايجاد بعض الممكنات بعض الجواهر بالجهة المستندة إلى الواجب ، فما ادّعاه المستدلّ المذكور من اتفاقهم على أنّ صدور غير الحركات من الجواهر انّما هو من الواجب محلّ تأمّل!. إلاّ أن يقال : غرضه من الاتفاق اتفاق المتكلّمين ، فانّه لا نزاع بينهم في عدم صدور الجواهر من الممكن ، انّما النزاع بينهم ليس إلاّ في الأفعال المستندة إلى المخلوقين - الّتي هي حركات أو ما يتعلّق بها -. وأمّا غير تلك فالكلّ متّفقون على أنّ صدورها إنّما هو بقدرته وارادته.

نعم! ذهب معمّر بن عباد من المعتزلة إلى أنّ اللّه - تعالى - لم يخلق شيئا إلاّ الاجسام ، فأمّا الأعراض فانّها من مخترعات الأجسام إمّا طبعا - كالنار الّتي تحدث الاحراق والشمس الّتي تحدث الحرارة والقمر الّذي يحدث التلوين - ، وإمّا اختيارا - كالحيوان يحدث الحركة والسكون والاجتماع والافتراق -. ولذهاب ابن عبّاد إلى ذلك خصّ المستدلّ المذكور ما يختصّ صدوره بالواجب - أعني : غير الحركات - بالجواهر دون غير أفعال العباد والحركات من الجواهر وسائر اقسام الأعراض ، فانّه لو لم يخصّصه بالجواهر لم يتناول كلامه مذهبه.

وعلى ايّ / 99MB / تقدير لا ريب في أنّ أحدا / 94DB / من المتكلّمين لم يجوّز صدور الجوهر من الممكن.

ثمّ الظاهر من قواعد الملّة استناد وجود جميع الموجودات من الجواهر والأعراض إليه - تعالى - بدون مشاركة من الوسائط سوى أفعال العباد - على ما تقدّم -. والقول بأنّ الدليل الدالّ على استناد جميع الموجودات إليه - تعالى - لا يجري في الحركة - بناء على أنّ حقيقتها لمّا لم يكن أمرا بالفعل ولا قابلة للفعلية بل هي دائما بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل فلا ينافي تحقّق جهة القوّة والعدم في فاعلها ، بل يجب أن تكون في فاعلها

ص: 433

القريب المباشر لها جهة القوّة أيضا فيجوز أن يكون الممكن فاعلا لها - فقد عرفت ما فيه.

ثمّ لا ريب في أنّ من جوّز استناد الحركات إلى غير الواجب قد ذهب إلى أنّها مقدورة للواجب - تعالى - بالقدرة المطلقة ، لأنّ القادر على ايجاد المحرّك والمتحرّك قادر على ايجادهما موصوفين بالتحريك والتحرّك ضرورة. وذلك هو ايجاد الحركة منه - تعالى - ، لأنّ ايجادها قائمة بالذات ممتنع بالذات.

فان قيل : بعض التحريكات الممكنة قبيح وممتنع بالنسبة إليه - تعالى -! ؛

قلنا : امتناعه بالنظر إلى علمه وارادته المقدّسة عن الشرور والقبائح وكلّ ما يضادّ النظام لا بالنظر إلى قدرته ، فما لا يكون عامّا هو ارادته لا قدرته ، بل هي محيطة بالكلّ وشاملة للجميع.

ثم ما ذكره المستدلّ المذكور من أنّ من جوّز كون الممكن محرّكا للأجسام جوّز أن يوجد الواجب - تعالى - حركات الأجسام ، ضرورة انّ القادر على ايجاد المتحرّك قادر على ايجاد الحركات ، غرضه : انّ من قال بتعلّق القدرة المستجمعة للواجب لجميع الموجودات أعمّ من أن يكون بواسطة أو بدونها واسند حركات الاجسام إليها لا إلى الواجب ليكون تعلّق قدرته المستجمعة لجميع شرائط التأثير بها بالواسطة جوّز تعلّق قدرته المطلقة - أي : صحّة ايجادها - بالنظر إلى ذاته - تعالى - بها بلا واسطة ، لأنّ القادر على ايجاد المحرّك قادر على ايجاد الحركات بالنظر إلى ذاته وإن اقتضى العلم بالأصلح تخلّل الواسطة في الايجاد بالفعل. فانّ المستدلّ المذكور قد صرّح في قوله : « والحاصل انّ قدرة الواجب امّا بأنّ القدرة المطلقة تتعلّق بجميع ما له امكان الصدور عن الغير. وامّا القدرة المستجمعة لجميع الشرائط فانّما تتعلّق بما له امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالاصلح إمّا بلا واسطة - كما هو رأي جماعة - أو أعمّ من كونه بلا واسطة أو بواسطة - كما هو رأي آخرين » -. فغرضه من الكلام المذكور انّ من جوّز تخلّل الواسطة في القدرة المستجمعة وقال باستناد الحركات إلى غيره - تعالى - لم ينكر تعلّق قدرته المطلقة بها ، نظرا إلى أنّ مقدور المقدور مقدور. إلاّ أنّ ظاهر هذا الكلام منه يدلّ على اعتقاده انّ كل ممكن ولو كان مستندا إلى غيره - تعالى - مقدور له - تعالى - بالقدرة المطلقة

ص: 434

بلا واسطة ؛ لأنّه لو كان مراده أنّه مقدور له بهذه القدرة ولو بالواسطة لم يكن فرق بينها وبين القدرة المستجمعة لجميع الشرائط ، لتصريحه بأنّ تعلّق القدرة المستجمعة لجميع الموجودات ولو بالواسطة متفق عليه ، وبأنّ صدور جميع الموجودات عنه - تعالى - ولو بتخلّل الوسائط في بعضها ممّا لا ريب فيه.

نعم! ما ذكره المستدلّ قبل كلامه المذكور بقوله : وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان الصدور عن الواجب سواء كان بالواسطة أو بلا واسطة ، فقدرة الواجب متعلّقة بجميع ما له امكان الصدور عن الغير اعمّ من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة بمعنى أنّ امكان صدور بعض الممكنات بالنظر إلى الذات انّما هو مع فرض تخلّل الوسائط لا بدونه وإن امكن صدور بعض اخر بدونه. وقد عرفت انّ ذلك خلاف التحقيق ، وانّ الامكان بالنظر إلى الذات ثابت بالنسبة إلى جميع الممكنات بلا واسطة.

هذا ؛ وقال بعض الافاضل : كان المناسب بعد قول المستدلّ المذكور : « ومن جوّز كون الممكن محرّكا للأجسام » أن يقال : يكون عنده أيضا جميع الممكنات مستندا إليه - تعالى - ، لكن أعمّ من واسطة أو بلا واسطة ؛ لأنّ هذا هو الملائم لما سبق. وأمّا ما ذكره بقوله : « جوّز أن يوجد - ... إلى آخره - » ، فلا يلائمه ، بل ظاهره انّه رجوع عن الكلام السابق ويكون غرضه اثبات كون الجميع مقدورا له - تعالى - بلا واسطة. وذلك بدعوى إلى / 100MA / الضرورة في أنّ من هو قادر على ايجاد فعله أيضا (1) فهو - تعالى - قادر على ايجاد الجميع بلا واسطة على مذهب المعتزلة أيضا.

ولا يخفى انّ دعوى الضرورة المذكورة قريبة جدّا ، لكن لا يثبت بها إلاّ قدرته - تعالى - على جميع الموجودات ، وكذا المقدورات لها ، لا على جميع الممكنات : إذ لعلّ من الممكنات ما لا يقدر شيء على ايجاده / 95DA / إذ لم يكن صدوره عن شيء من الموجودات ؛ انتهى.

ولا يخفى انّه لمّا كان اثبات عموم القدرة بالنسبة إلى جميع الممكنات غير تامّ عند هذا القائل - للمناقشتين اللّتين اشار إليهما أخيرا - جزم بأنّ ما يمكن اثباته انّما هو عموم

ص: 435


1- العبارة هكذا في النسختين.

القدرة بالنسبة إلى جميع الموجودات ؛ وقد عرفت تحقيق الحقّ وجواب المناقشتين.

ثمّ في كلام هذا القائل خبط!. وذلك لأنّ ما ذكره من أنّ غرض المستدلّ المذكور اثبات كون الجميع مقدورا له - تعالى - بلا واسطة إن اراد من كلامه هذا : انّ غرض المستدلّ اثبات كون الجميع مقدورا له - تعالى - بلا واسطة بالقدرة المستجمعة لجميع الشرائط فهو ممنوع ، لأنّ ما ذكره لا يدلّ - بل لا يمكن حمله! - على ذلك ؛ وإن اراد منه : أنّ غرض المستدلّ اثبات كون الجميع مقدورا له بلا واسطة بالقدرة المطلقة وكونه رجوعا من كلامه السابق - بناء على ما ذكر من دلالة قوله سابقا : وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان الصدور عن الواجب بلا واسطة أو بواسطة ، على أنّ تعلّق القدرة المطلقة بجميع الممكنات أعمّ من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة - ؛ ففيه : انّ ما قال المستدلّ المذكور لم لا يدلّ إلاّ على أنّ بعض الموجودات المستندة إلى بعض آخر - أعني : الحركات - يجوز استنادها إلى الواجب أيضا عند من يجوّز استناد بعض الممكنات إلى بعض آخر؟ ، لانّه قال : ومن جوّز كون الممكن محرّكا للأجسام جوّز أن يوجد الواجب حركات الاجسام ؛ فهو يدلّ على تعلّق قدرته المطلقة بلا واسطة بجميع الموجودات ، وليس فيه ما يدلّ على تعلّقها بالممكنات المعدومة. فالمفهوم من هذا الكلام ليس إلاّ ما سلّمه هذا القائل واعترف بأنّ الضرورة المذكورة يثبته - أعني : تعلّق قدرته تعالى بجميع الموجودات وكذا المقدورات لها - ، فأيّ مدخلية للمناقشتين؟ ؛ لأنّه لا ريب في أنّ الحركات من الممكنات الّتي يقدر شيء على ايجادها ، فاندفعت المناقشة الأولى ؛ ويمكن صدورها عن بعض الموجودات ، فاندفعت الثانية.

على أنّك قد عرفت حال المناقشتين ؛ هذا.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ حاصل ما اخترناه وملخّصه : انّ القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير عامّة شاملة لكلّ الموجودات ومتعلّقة بجميعها - إمّا بلا واسطة في الجميع أو بتخلّل الوسائط في بعضها - ، وما انكرنا كلّ الانكار تخلّل الوسائط في البعض. وانّ القدرة بالمعنى المشهور - أي : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات - عامّة شاملة لجميع الممكنات سواء كانت موجودة أو معدومة ، يوجد بعد أو لا يوجد قطّ

ص: 436

بلا واسطة ، لأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بالنظر إلى الذات. وقد اشرنا إلى جميع ما يتوقّف عليه اثبات ما اخترناه من الدلالة ودفع الايرادات.

إلاّ انّه قد بقي لنا أن نشير إلى الجواب عن شبهة أوردت على المقدّمة القائلة بأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له والشبهة هي : انّه لو كانت تلك المقدّمة صحيحة لكان كلّ فعل يصدر عن كلّ شيء ممكن الصدور بعينه عن الواجب - تعالى - ، فيلزم أن يكون هذا الشخص المعيّن من الفعل بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي الصادر عن زيد مثلا ممكن الصدور بعينه من قدرة اللّه - تعالى -. وهو يوجب جواز تعدّد العلل المستقلّة للأمر الواحد الشخصي وكون الواحد بالمعنى العامّ مع ضعف وحدته ووجوده علّة وسببا للواحد بالعدد ، إذ السبب والمحتاج إليه على ذلك التقدير - أي : تقدير توارد العلل المستقلّة على المعلول الشخصي - ليس إلاّ القدر المشترك ، وهو هنا ما اشترك بين الواجب وزيد من القدرة. ولا ريب في بطلان ذلك من جانب الوجود في ما سوى الشرائط والمعدّات والآلات بأن يكون معنى عامّ علّة موجدة للواحد الشخصيّ سواء كان الشخص عين نشأة الوجود - كما ذهب إليه المعلم الثاني - أو لازما له / 100MB / - كما ذهب إليه آخرون -. وأمّا في جانب الوجود في مثل الشرائط والآلات والمعدّات بأن يكون معنى عامّ مشترك بين كثيرين شرطا أو معدّا أو آلة لوجود واحد شخصي مع وحدة فاعله الموجدة بالعدد ، فالظاهر انّ بطلانه غير ثابت.

بل المفهوم من كلام الشيخ في إلهيات الشفاء في مقام بيان انّ المفارق مع صورة فاعله فاعلة للهيولى جواز ذلك ، حيث قال : لقائل أن يقول : انّ مجموع ذلك العلّة والصورة ليس واحدا بالعدد ، بل واحد بمعنى عامّ ، والواحد بالمعنى العامّ لا يكون علّة للواحد بالعدد.

فنقول : انّا لا نمنع من أن يكون الواحد بالمعنى العامّ المستحفظ وحدة عمومه بواحد بالعدد علّة الواحد بالعدد (1) ؛ انتهى.

وقد تمسّك بعض الأعلام بهذا الكلام على جواز استناد حركة / 95DB / الشمس

ص: 437


1- راجع : الشفاء / الإلهيات ، ج 1 ، ص 87.

إلى كلّ واحد من أصلي الخارج والتدوير. وامّا في جانب العدم بأن يكون معنى عامّ كعدم عامّ مشترك بين أعدام كثيرة سببا وعلّة لعدم معلول شخصيّ ، فلا ريب في صحّته كسببية عدم كلّ جزء من أجزاء العلّة اتفق سبقه أو مجموع جزءين عدما معا لعدم معلول شخصي. ولا ريب في أنّ ما نحن فيه من قبيل الأوّل ، لأنّ المطلوب جواز كون الواجب علّة موجدة لما أوجده غيره ، فيلزم أن تكون القدرة المشتركة بينهما علّة موجدة لواحد بالشخص.

وأجيب عن هذه الشبهة : انّه ليس المراد من المقدّمة المذكورة انّ هذا الشخص المعيّن من الفعل بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي الصادر عن زيد مثلا ممكن الصدور بعينه عن قدرة اللّه - تعالى - حتّى يلزم ما ذكر من توارد العلل المستقلّة على المعلول الشخصي ، وكون المعنى العامّ علّة موجدة للواحد بالشخص ؛ بل المراد - خصوصا على رأي من قال باستقلال العباد في افعالهم - : انّ ذلك الفعل الصادر عن قدرة العبد يمكن أن يوجد ما هو معروض وجوده الشخصي ووحدته الشخصية بوجود آخر فائض عن محض قدرة اللّه بدل ذلك الوجود ؛ كما اشار إليه الحكيم الطوسي - رحمه اللّه في مبحث القدرة من الأعراض بقوله : « ولا يتّحد وقوع المقدور مع تعدد القادر (1) ». فانّ معناه : انّه لا يجوز أن يقع مقدور واحد من قادرين بوقوع واحد ؛ فيفهم منه انّه يجوز أن يقع منهما بوقوعين ، وذلك لا يتصوّر إلاّ بأن تقع ماهية المقدور تارة من قادر معروضة لوجود وأخرى من قادر آخر معروضة لوجود آخر بدل ذلك الوجود.

ثمّ ذلك - أي : اشتراك الماهية مع تعدّد الوجود الشخصي - لا يستلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بين الواجب والعبد ، نظرا إلى أنّ الوجود الصادر من الواجب مغاير بالشخص للوجود الصادر من العبد ، بل هو - أي : المقدور بالذات - واحد مشترك بينهما ، إذ المجعول - وهو المقدور بالذات - هو الماهية المعروضة للوجود والشخص إمّا

ص: 438


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثالثة والعشرون من الفصل الخامس من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ، ص 192.

بالجعل البسيط - كما ذهب إليه جماعة - أو بجعله موصوفا بالوجود - كما ذهب إليه آخرون - ؛ لا الوجود العارض وحده ، ولا مجموع العارض والمعروض. نعم! الأثر المترتّب على الجعل بالمعنى الثاني أوّلا هو الاتصاف - أي : مفاد الهيئة التركيبية الحملية - ، فيستدعى مجعولا ومجعولا إليه ؛ بخلاف الجعل بالمعنى الأوّل فانّ أثر الجعل المترتّب عليه أوّلا هو نفس المجعول وهو المعروض ، ولا يستدعي مجعولا إليه. ثمّ تترتّب عليه موجوديته ووحدته العددية وسائر لوازمه المتأخّرة عنها. وبالجملة المقدور بالذات على الجعلين هو الماهية المعروضة للوجود من حيث هي - أي : لا بشرط الوجود والوحدة -. والماهية من حيث هي أمر واحد على فرض صدورها من قادرين - وإن تعدّد وجودها بالشخص - ، فلا يلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بينهما.

ثمّ الواحد المشترك بينهما لمّا كان هو الماهية دون الوجود الشخصي فلا يلزم مفاسد كون المتعدّد علّة لواحد من توارد العلل المستقلّة على معلول واحد وكون المعنى العامّ مع ضعف وجوده علّة للواحد بالعدد ، لأنّ المشترك حينئذ هو معروض الموجودية والوحدة العددية ، لا بشرطهما. والمفاسد المذكورة انّما يلزم إذا كان المشترك هو الموجود الواحد بما هو موجود واحد.

وأمّا على / 101MA / ما ذهب إليه بعض العرفاء من مجعولية الوجود أوّلا بالجعل البسيط وكون الماهية أمرا ينتزعه العقل من هذا الوجود ويحمل عليه الموجودية المصدرية المأخوذة من نفس الوجود ويصفه بها ثمّ بسائر اللوازم ، واثبت ذلك بما هو الحقّ عنده من تحقّق وجود الممكنات في نفس الأمر بل تقدمه على ماهيتها فيه - كما هو ظاهر كلام المحقّق الطوسى في كتاب مصارع المصارع حيث قال : واعلم انّ وجود المعلولات في نفس الأمر بل متقدّم على ماهياتها وعند العقل متأخّر عنها (1) - ، فالظاهر أيضا انّ المقدور بالذات - بمعنى ما يصحّ أن يتّصف بالموجودية وأن لا يتّصف بها بسبب إرادة الجاعل - ليس إلاّ الماهية الّتي هي المجعول بالعرض عنده ؛ وهي متعلّق الإرادة أوّلا أيضا لتقدّمها على الوجود عند العقل - كما ظهر من كلام المحقّق -. نعم! الأثر المترتّب على

ص: 439


1- راجع : مصارع المصارع ، ص 189.

الجعل أوّلا والتابع للجاعل من حيث هو جاعل - كتابعية الضوء للشمس - على هذا التقدير هو الوجود ، لكنّه مقدور بالعرض ومتعلّق للارادة ثانيا.

والحاصل : انّ الأثر المترتّب على الجعل أوّلا على هذا المذهب والمعروض والمقدّم بالذات في / 96DA / الخارج وإن كان هو الوجود وانتزاع الماهية وغيرها من اللوازم يترتّب عليه ثانيا إلاّ أنّ الماهية لمّا كانت مقدّمة على الوجود بحسب الوجود العقلي فهي المقدورة بالذات ، والقدرة تعلّقت أوّلا بها وثانيا بالوجود. ولا ريب انّ الماهية على فرض صدورها من قادرين وان تعدّد وجودها بسبب تعدّد جاعلها إلاّ أنّ تعدّد وجودها إنّما يرفع وحدتها العددية دون وحدتها المعنوية ، فلا يلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بينهما.

ثمّ جميع ما ذكر إنّما هو في جعل الليس أيسا وتصيير المعدوم موجودا ، سواء كان هذا المعدوم - الّذي صار موجودا - جوهرا قائما بنفسه أو حالاّ لوحظ وجوده في نفسه وقطع النظر عن قيامه بغيره ووجوده له ، سواء كان هذا الحالّ صورة أو عرضا خارجيا أو ادراكيا. وأمّا في جعل الشيء الموجود شيئا آخر - كجعل الجسم متحرّكا والهيولى مصوّرة وزيد أعمى - ، فالظاهر انّ الجعل فيه هو بعينه الجعل المتعلّق بايجاد الحال في نفسه على أيّ نهج كان ، لكن لوحظ تعلّقه بوجوده في محلّه. فيكون أثر الجعل في هذه الملاحظة اتصاف المحلّ به ، ويكون له مجعول ومجعول إليه ، ويكون مركّبا البتة.

وإن زعم بعض اصحاب المذهب الأوّل - أعني : الجعل البسيط - انّ الأثر هاهنا أيضا أمر بسيط كنفس الاتصاف أو الصيرورة أو شبه ذلك ، لكنّه إذا قيس إلى الطرفين يسمّى مركّبا.

ثمّ ترتّب هذه الملاحظة - أي : ملاحظة وجود الحالّ لمحلّه على وجوده في نفسه - بحسب إرادة الجاعل ، فان لاحظ في ايجاده الحالّ اتصاف المحلّ به وتعلّق ارادته بذلك كان من باب جعل الموجود شيئا آخر وكان الأثر في هذه الملاحظة اتّصاف المحلّ به ، وإن لم يلاحظ ذلك ولم يتعلّق ارادته به - بل كان مقصوده ومراده هو ايجاد الحالّ في نفسه - كان من باب جعل الليس ايسا ، وكان الأثر المترتّب عليه أوّلا هو الماهية أو

ص: 440

اتصافها بالوجود أو نفس الوجود - نظرا إلى المذاهب الثلاثة المتقدّمة - ، وإن ترتّب عليه بالعرض اتصاف المحلّ به.

وبالجملة لو لوحظ مجرّد وجود الحالّ في نفسه وقطع النظر عن اتصاف المحلّ به لم يكن الأثر المترتّب عليه هو الاتصاف ؛ ولو لوحظ وجوده بمحلّه كان الأثر المترتّب على الجعل أوّلا في هذه الملاحظة هو الاتصاف ، ويكون المقدور بالذات أيضا هو اتصاف المحلّ الموجود بالحالّ ، ويكون هذا الاتصاف معروض الموجودية والوحدة العددية ، ووحدته انّما هو بوحدة وجود الوصف الحالّ أو منشأ انتزاعه. فاذا تعدّد الجاعل لاتصاف جسم مثلا بالحركة فلا ريب في أنّ الحركة الّتي يوجدها فيه أحد الجاعلين غير الحركة الّتي يوجدها الآخر فيه بالشخص ، فيتعدّد الاتصاف ويكون الاتصاف الصادر من أحدهما غير الاتصاف الصادر من الآخر بالشخص. ثمّ الاتصاف المقدور بالذات ليس هو الاتصاف بشرط الوحدة والوجود ليلزم عدم اشتراك المقدور / 101MB / بالذات بين القادرين ، بل المقدور بالذات هو الاتصاف من حيث هو - أي : لا بشرط الوجود والوحدة - ، كما انّ المقدور بالذات في الماهية هي الماهية من حيث هي - أي : لا بشرطها -. ولا ريب انّ الاتصاف من حيث هو أمر واحد مشترك بينهما.

ثمّ لا يخفى انّ جعل الشيء الموجود شيئا آخر على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون الجعل المتعلّق بوجود الحالّ لمحلّه والجعل المتعلّق لوجوده في نفسه متّحدا - أي : لا يكون أحد الجعلين مغايرا للآخر -. وهذا إنّما يكون إذا كان وجود الحالّ في نفسه هو بعينه وجوده لمحلّه ، فيكون الجعل المتعلّق بوجود الحال هو بعينه الجعل المتعلّق بوجوده لمحلّه ، ويكون غرض الجاعل ابتداء ايجاد الحالّ واتصاف المحلّ به. كما في افاضة الاعراض على الموضوعات واتصافها بها ، إذ وجود الأعراض في أنفسها وجوداتها لموضوعاتها - كما صرّح به الشيخ الرئيس - ، فيكون الأثر لهذا الجعل شيئا واحدا - أعني : وجود الحالّ الّذي هو بعينه اتصاف المحلّ به -.

الثاني : أن يكون الجعل المتعلّق بوجود الحالّ لمحلّه جعلا مغايرا للجعل المتعلّق

ص: 441

بوجود الحالّ في نفسه ، لكن كان لازما له ومتأخّرا عنه بالذات. كما في اتصاف الهيولى بالصورة ، إذ وجود الصورة متقدّم على اتصاف الهيولى بها ؛ بل على وجود الهيولى أيضا ، لكن من حيث هو وجود الصورة المطلقة الكلّية لا من حيث هو وجود هذه الصورة الشخصية. وعلى هذا يتحقّق جعلان : أحدهما : الجعل المتعلّق بوجود الصورة في نفسها ، وأثره هو ماهية الصورة أو اتصافها بوجودها أو وجودها / 96DB / - على اختلاف الأقوال في جعل الليس أيسا - ؛

وثانيهما : الجعل المتعلّق بوجود الصورة للهيولى واتصافها بها ، وأثره هو اتصاف الهيولى بها.

الثالث : أن لا يتحقّق جعل لوجود الحالّ في نفسه أصلا ، بل يتحقّق أوّلا جعل مركّب متعلّق بالاتصاف لا يكون جعلا للحالّ بوجه ولا يكون للحالّ جعل آخر يكون هذا الجعل تابعا له ، فيكون أثره هو الاتصاف فقط دون الوصف - كما في جعل الشيء متّصفا بالصفات السلبية والاعتبارية -.

والمقدور بالذات في هذه الاقسام الثلاثة كلّها هو الاتصاف ، ووحدته العددية بوحدة وجود الصفة أو منشأ انتزاعها. وانما هو مقدور بالذات إذا أخذ لا بشرط الوحدة والوجود وإن كان في الواقع معروضا لهما ، كما إذا أخذ بشرطهما. فالمشترك بين القادرين على جميع أقسام الجعل هو مفروض الموجودية والوحدة العددية لا بشرطهما ، وما لا يجوز اشتراكه هو الموجود الواحد بما هو موجود واحد ، فلا اشكال ؛ انتهى ما قيل في الجواب عن الشبهة المذكورة مع توضيحه وتنقيحه.

وأنت تعلم انّ حاصله يرجع إلى أنّ المقدور بالذات في جميع أقسام الجعل وعلى جميع المذاهب هو معروض الموجودية والوحدة العددية - أعني : الماهية والاتصاف - ، لا بشرطهما ، لأنّ المقدور بالحقيقة هو ما يخرج من الليس إلى الأيس لا نفس هذا الاخراج الّذي هو فعل الايجاد ، ولا مجرّد الأيس الّذي هو الوجود ، والمخرج من الليس إلى الأيس ليس إلاّ الماهية لا بشرط الوجود. والوحدة العددية أو الاتصاف الّذي هو أيضا نوع ماهية والماهية لا بشرطهما واحد بالمعنى لا بالعدد ، فكونها مقدورة

ص: 442

للواجب ولغيره لا يوجب توارد العلل المستقلّة على معلول واحد شخصي ، ولا كون المعنى العامّ مع ضعف وجوده علّة للواحد بالشخص ، لأنّ الماهية بدون ضمّ الوحدة العددية والخصوصية الشخصية ليست واحدة بالعدد ، بل تكون واحدة بالعدد إذا اعتبرت مع وجودها ووحدتها العددية ، فهي بهذا الاعتبار ليست مقدورة بالذات لقادرين حتّى يلزم المفسدتان ، بل مقدورة لأحدهما فقط. ولا يمكن أن يصدر بعينها بهذه الوحدة والوجود الخاصّ عن الآخر ، بل تلك الماهية إذا صدرت عن الآخر تكون مغايرة بالعدد للماهية الصادرة عن الأوّل لاقترانهما بوجود آخر ووحدة عددية أخرى وإن اتّحدتا من حيث الحقيقة والمعنى ، فالمعنى العامّ الّذي هو القدرة المشتركة بين القادرين لا يكون علّة لواحد بالعدد ، بل يكون علّة أيضا لأمر عامّ والعلّة الواحد بالعدد انّما هو واحد بالعدد أيضا من أفراد العامّ ، فالعامّ علّة للعامّ والخاصّ علّة / 102MA / للخاصّ.

وأنت تعلم انّ الواحد بالمعنى انّما يتصوّر في الحقائق الكلّية - كالانسان وغيره - دون الأفراد والأشخاص ، فحقيقة كلام هذا المجيب يرجع إلى : انّ كلّ ما يصدر عن غيره - تعالى - من فرد مندرج تحت نوع - كزيد المندرج تحت الانسان مثلا - يمكن للواجب أن يوجد فرد آخر لهذا النوع - كعمرو مثلا - ، فيشتركان الفردان في الماهية ، وهي لكونها في نفسهما واحدة بالمعنى وإن اختلفت بالعدد ؛ والمقدور بالذات هي تلك الماهية من حيث واحدة بالمعنى لا من حيث اقترانها بالخصوصيات من الوجود والوحدة العددية. فمن حيث وحدتها المعنويّة لا يلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بينهما ، إذ الماهية المتحقّقة في ضمن زيد هي بعينها متحقّقة في ضمن عمرو ، والتفاوت بينهما إنّما هو بانضمام الخصوصيات الخارجة من الوجود والشخص ، فالماهية مع وحدتها المعنوية وكلّيتها متحقّقة في ضمن جميع الأفراد. وهذا هو معنى وجود الكلّى الطبيعي في الخارج ، فالماهية المتحقّقة في ضمن زيد الموجودة من أحد القادرين إذا أوجدها الآخر في ضمن عمرو يصدق انّه أوجد تلك الماهية ، فالمقدورات بالذات أمر متحقّق موجود في الخارج مشترك بينهما ، إلاّ أنّه من حيث انتفاء الوحدة العددية لا يلزم المفسدتان المذكورتان. و

ص: 443

أمّا الوجود فلمّا كان افرادها متخالفة بالحقيقة عند الحكماء والمشترك بينهما لم يكن أمرا موجودا متحقّقا في الخارج بل أمرا اعتباريا عرضيا ، فلا يتحقّق بين وجود زيد ووجود عمرو مثلا أمر متحقّق في الخارج يكون مشتركا. فاذا افاض غيره - تعالى - وجود زيد فان امكن للواجب أيضا أن يفيض وجود زيد بعينه لزم المفسدتان ؛ وان افاض وجود عمرو لزم عدم اشتراك المقدور بالذات واشتراكهما في الوجود / 97DA / المطلق الّذي هو مفهوم عرضي غير مفيد ، لأنّه ليس امرا متحصّلا في الخارج ولا يتعلّق به الجعل أصالة.

وغير خفي انّه على ما ذكره المجيب يلزم أن لا يكون الأشخاص والأفراد الصادرة عن غيره - تعالى - من حيث هي اشخاص وأفراد ممكنة له - تعالى - ، بل المقدور له انّما هو اشخاص وافراد اخر ، فزيد الموجود من غيره - تعالى - لا يكون ممكن الصدور عنه - تعالى - بالنظر إلى ذاته - تعالى -. لأنّ الوجود ونشأته وساير ما يلزمها داخلة في حقيقة الشخص ، فالشخص من حيث هو شخص لا يكون له مقدورا له - تعالى - ومقدورية الماهية الانسانية لا مدخلية لها لمقدورية الشخص من حيث انّه شخص. والظاهر انّ المجيب يلزمه ويقول : انّ ذلك لاستحالة خارج عن عموم قدرته - تعالى - ، فعموم قدرته - تعالى - مخصّص بغير الجزئيات والأشخاص الصادرة عن غيره - تعالى -.

ولا يخفى انّه يمكن أن يقال : هذا وهن في عموم قدرته - تعالى - وعظم سلطانه! ، فانّه تعالى - حينئذ لا يكون قادرا على ايجاد كلّ شخص صدر من غيره. وقدرته على ايجاد غير ذلك الشخص ممّا هو داخل معه تحت أمر كلّي لا يدفع صدق عموم شمول قدرته لهذه الاشخاص بعينها.

وأيضا : ما ذكره المجيب انما يتأتّى في أفراد الجوهر ممّا يدخل تحت أمر كلّي واحد بالوحدة المعنوية موجود في الخارج ، ولا يتأتى في أفراد الأعراض - كالافعال الصادرة عن العباد مثل الاحسان والضرب وامثالهما - ؛ وفي اتصاف الجسم بالحركة ممّا جعل المجيب المقدور بالذات فيه نفس الاتصاف ، لأنّها ليست من الحقائق المحصّلة في الخارج ، فلا يكون ما به الاشتراك في أفرادها أمرا موجودا في الخارج ، بل ما به الاشتراك بينهما

ص: 444

أمر عرضي اعتباري - كمفهوم الضرب والحركة - أو مفهوم الاتصاف. فلو جعل زيد مثلا عمروا متّصفا بالحركة فلو امكن للواجب أن يجعل عمروا متّصفا بتلك الحركة بعينها وبذلك الاتصاف ، لزم المفسدتان ؛ ولو لم يمكنه ذلك بل أمكن له اتّصافه بحركة أخرى بدل تلك الحركة حتّى تختلف الحركتان بالعدد وبتعدّد الاتصاف أيضا بالعدد وكان المقدور بالذات هو نفس الاتصاف المشترك بين الواجب وبين زيد وعدم لزوم عدم الاشتراك في المقدور بالذات حينئذ - لاشتراكهما في مفهوم الاتصاف - ؛ فيرد : انّ مفهوم الاتصاف أمر غير متحصّل في الخارج وليس مثل الطبائع الكلّية الموجودة في الخارج حتّى يكون وجودها الخارجي ووحدتها المعنوية مصحّحا لاشتراك المقدور / 103MB / بالذات. ولو صحّ مثل ذلك الاشتراك المقدور بالذات لصحّ أن يقال : المقدور بالذات هي نفس الايجاد والافاضة أو الوجود المطلق المشترك بين الموجودات ، ولا حاجة إلى جعل المقدور بالذات هو الماهية من حيث هي دون الوجود - كما ارتكبه هذا المجيب -. وعلى هذا فكلّ ما يصدر عن غيره - تعالى - أمكن أن يقال : انّه مقدور له - تعالى - إذا امكن له أن يوجد موجودا ما ولو كان مغايرا له في النوعية والجنسية لاشتراكهما في الايجاد والوجود المطلق. ولا ريب انّه لا مدخلية لمثل ذلك لعموم القدرة المطلوبة للقوم ، لأنّ ذلك ثابت لكلّ من يقدر على تأثير ما. فظهر ان الجواب الّذي ذكره هذا المجيب للشبهة المذكورة غير تامّ.

نعم! يمكن أن يقرّر هذا الجواب على وجه يصير تامّا ؛ وهو : انّ المقدور بالذات في مطلق الجعل - سواء كان المجعول جوهرا أو عرضا ، قارّا أو غير قارّ ، وبالجملة أيّ نوع منه كان حتّى مثل الاتصاف في مثل جعل الشيء شيئا آخر - هو الماهية. ومعنى كونها مقدورة لشيء أن يمكنه فعل الماهية - أي : جعلها موجودة بلوازمها - ، ولو كانت تلك الماهية مثل الاتصاف. ومآل الأقوال الثلاثة في الجعل - أعني : كون المجعول نفس الماهية أو الوجود أو اتصافها به - إلى أنّ الجاعل انّما يوجد الماهية ويخرجها من العدم إلى الوجود ، وإنّما الفرق في تعلّق الجعل أوّلا بنفس الماهية أو وجودها أو اتصافها به ؛ ولا مخالفة بينها في أنّ فعل الجاعل هو ايجاد الماهية وابرازها من كتم العدم إلى الوجود.

ص: 445

فالأثر المترتّب على الجعل أوّلا هو الماهية الخارجية - أي : الموجودة - ، ثمّ يترتب عليه جميع لوازمها الخارجية ووحدتها العددية. فالمقدور بالذات لمّا كان هو الماهية وكان معنى مقدوريتها امكان افاضة الوجود من حيث هو وجود لا من حيث هو وجود خاصّ معيّن ، فيكون معنى مقدورية فعل واحد شخصي امكان افاضة الوجود - من حيث هو وجود - على ماهية هذا الفعل. فمعنى كون الحركة مقدورة للواجب ولزيد أن يمكن لهما افاضة الوجود على ماهية الحركة - أي : اخراج ماهيتها من العدم إلى الوجود -. ولا ريب في أنّه ممكن لهما ، لأنّ كلاّ منهما قادر على ايجاد الحركة في محلّ خاصّ واحد وبه يتصحّح / 97DB / اشتراك المقدور بالذات - أي : الماهية - ، لان افاضة الوجود عليها واخراجها من العدم إلى الوجود مشترك بينهما. ولا يلزم حينئذ وجود علّتين لمعلول واحد شخصي لأنّ الشخص انّما هو نحو الوجود وما يلزمه ، ونحو الوجود وما يلزمه متغايران بالعدد في صورة تعدّد الفاعل. ولا يمكن أن يكون نفس الشخص - أي : نحو الوجود وخصوصية الوجود الخاصّ وتعيّنه - من حيث هو صادر عن أحد الفاعلين صادرا عن الآخر ، لأنّ ذلك يرفع المناسبة بين العلّة والمعلول ، وهو محال. فخصوصية الحركة الصادرة عن زيد ونحو وجودها وتعيّنها لا يمكن أن يصدر عن الواجب ، لأنّ صدوره لانحطاط مرتبته في الوجود لا يناسب ذاته المقدّسة ولا يليق بعلوّ شأنه. وحينئذ يمكن أن يقال : انّه لا يمكن أن يصدر عنه هذا التعين بالنظر إلى ذاته ، إلاّ انّه لا يمكن أن يصدر عنه بالنظر إلى ذات هذا التعين ولا يلزم منه وجود علّتين لمعلول واحد شخصي ، لأنّ شرط تحقّق العلّية وجود امكان الصدور عن الطرفين ، فاذا فقد الامكان من طرف المعلول ارتفعت العلّية والمعلولية ولو كان الامكان من طرف العلّة متحقّقا ، فانّ صدور الكذب من الواجب ممكن بالنظر إلى ذاته ، إلاّ أنّه لقبحه وعدم مناسبته لذاته الجسيمة لا يصير ذاته سببا وعلّة لصدوره وعلّيته البتة. وعلى التقديرين لا يكون عدم كونه - تعالى - علّة للتشخّص والتعيّن الصادر عن زيد مثلا وهنا في عموم قدرته ونقصا في عظم سلطانه ، فتأمّل ؛ هذا.

ويمكن أن يقال في الجواب : انّ جميع الأشخاص والأفراد بعينها ممكنة الصدور

ص: 446

عن الواجب - تعالى - بالنظر إلى ذاته ، وانّ هذا الشخص من الفعل بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي الصادر عن زيد على / 103MA / الظاهر يمكن أن يصدر عنه - تعالى - بالنظر إلى ذاته. وبالجملة صدور جميع الممكنات بأجناسها وأنواعها وأشخاصها ولوازمها وتعيناتها ووحداتها الشخصية عن الواجب - تعالى - ممكن بالنظر إلى ذاته ، ومع ذلك لا يلزم توارد العلل المستقلّة على أمر واحد شخصي ولا علّية المعنى العامّ للواحد الشخصي ؛ أمّا على طريقة الحكماء فظاهر ، لأنّهم لا يثبتون التأثير والايجاد لشيء من الممكنات ويقولون : الممكن لكونه محض القوّة والعدم لا يمكن أن يصير منشئا للايجاد والافاضة ، فإيجاد الجميع والافاضة على الكلّ انّما هو منه - تعالى - بلا واسطة وان كان بعض الممكنات شرائط ووسائط لحصول الايجاد والافاضة من الواجب - تعالى -. فعلّة كلّ موجود شخصي بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي وكلّ فعل شخصي كذلك منحصر بالواجب - تعالى - عندهم ، ولا شريك له في الافاضة اصلا حتّى يلزم تصوّر علّتين لمعلول واحد فضلا عن تواردهما عليه. وما ذهبوا إليه من وجوب ترتيب الصدور في الموجودات من العقول والنفوس والطبائع والعناصر والمركّبات لا ينافي القول بعدم الواسطة والافاضة ، لأنّ المراد بعدم الواسطة في التأثير انّ المخرج لكلّ شيء من القوّة والعدم لا يكون إلاّ من هو بريء من كلّ وجه عن العدم وهو ليس إلاّ الواجب سبحانه - ، والمراد بوجوب ترتيب صدور الأشياء عنه - تعالى - انّه يجب حفظ مرتبة وجودها بطريق التناوب بأن يصدر الأشرف فالاشرف ثمّ الاحسن فالأحسن - لعدم لياقتها بغير هذا الوجه من الصدور - ، فلو كان بنحو آخر لم يصدر شيء لاستلزامه اجتماع المتنافيين من كون الشيء مثلا عقلا وغير عقل ، لأنّه لو صدر العقل في مقام النفس ومرتبتها لم يصدر العقل ، ولو صدر العرض في مقام الجوهر ومرتبته لم يصدر العرض - وهكذا غير ذلك من مراتب الموجودات -. فعند الحكماء قدرته - تعالى - مع ارادته اللتين هما عين ذاته - تعالى - متعلّقة بكلّ شيء على الترتيب السببي والمسببي اللائق بنظام العالم على وجه أكمل وأتمّ.

فان قيل : الحركات والتحريكات الحاصلة في الأجسام لاشتمالها على جهة القوّة

ص: 447

يجب أن تكون في فاعلها أيضا جهة القوّة ، فالاوّل - سبحانه - لتجرّده وتعاليه عن جهة القوّة لا يمكن أن يكون فاعلا قريبا مباشرا لها عند الحكماء؟ ؛

قلنا : قد تقدّم انّ تحقّق جهة القوّة في فاعل ما فيه جهة القوّة غير لازم ؛ ولو سلّم نقول : انّ توسيط المثل وغيره ممّا يكون به جهة القوّة لا ينافي قرب الفاعل الموجد المؤثّر ، وذلك كما انّ الواحد من جميع الجهات عند الفلاسفة لا يمكن أن يصدر عنه إلاّ واحد مع انّ صدور جميع الموجودات القارّة انّما هو عنه - تعالى - عند جميعهم ، وذلك بتوسيط العقول وغيرها. والتأثير والايجاد انّما هو عنه - تعالى - وتلك الوسائط كالآلات والشرائط في صدور / 98DA / الكثرة عنه - كما نقل عنه في شرح الاشارات (1) وغيره - ، لا أنّها المؤثّرات القريبة وهو العلّة البعيدة - كما هو معروف عند غير المحقّقين من المتفلسفة -. نظير ذلك صدور الحركات الارادية عن نفوسنا ، اذ تحريك النفس الناطقة المجرّدة لليد مثلا لا يمكن إلاّ بانبعاث الميل الجزئي وتوسيط القوى الآلية وتحريك الأعصاب والعضلات ، وذلك لا يستلزم كون التأثير من تلك الوسائط.

وكذلك ادراكها للمتوهّمات والمتخيّلات والمحسوسات لا يمكن إلاّ بالآلات وهو المدرك للجميع بالحقيقة.

وأمّا على طريقة المعتزلة فلأنّ كلّ شخص من حيث هو أنّه شخص إذا صدر عن غيره - سبحانه - فيمكن صدوره عنه - تعالى - أيضا بالنظر إلى ذاته ، إلاّ أنّه لمّا صدر عن الغير لبعض المصالح الراجعة إلى نظام الخير صار هذا الصدور منشئا لاستحالة صدوره عن اللّه - سبحانه - ، لأنّ الشخص من حيث انّه واحد بعينه لا يمكن أن يقع في الخارج مرّتين ، فالامكان بالنظر إلى ذاته - تعالى - حاصل ، فلا يلزم نفي شمول قدرته بالمعنى المقصود للشخص بعينه. والامتناع قد حصل بالغير ، فلا يلزم صحّة توارد العلّتين على الشخص في الواقع. وإلى هذا اشار المحقّق الطوسى في مبحث القدرة من الأعراض بقوله : ولا يتّحد وقوع المقدور مع تعدّد القادر » (2) ؛ فانّ افحام لفظ

ص: 448


1- راجع : شرح الاشارات والتنبيهات ، المطبوع مع المحاكمات ، ج 3 ، ص 249 ؛ شرحي الاشارات ، ج 2 ، ص 47.
2- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثالثة والعشرون من الفصل الخامس من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ، ص 192.

« الوقوع » اشارة إلى انّه يجوز أن يكون لمعلول واحد شخصى علّتان مستقلّتان ، لكن إذا وقع المعلول بأحدهما امتنع أن / 103MB / يقع بالآخر ؛ فلا يمكن وقوع المقدور الواحد الشخصي إلاّ من قادر واحد وإن امكن كونهما معلولا لهما بالنظر إلى ذاتهما.

ثمّ تعيّن صدور بعض المعلولات عن غيره - تعالى - وعدم صدوره عنه - سبحانه - مع صحّة صدوره عنه - تعالى - أيضا لأجل ملاحظة بعض المصالح الراجعة إلى النظام الأعلى مثلا لا يصحّ أن يصدر أفعال العباد منه - تعالى - بالنظر إلى الإرادة والعلم بالأصلح ، لأنّ صدورها منه - تعالى - يوجب الالجاء المنافي للتكليف ، فلم تبق القدرة مع الإرادة بها. وهذا لا يوجب امتناع تعلّق نفس القدرة من حيث هي قدرة بها ، إذ الايجاد غير معتبر في القدرة وإلاّ لزم عدم اقتداره - تعالى - على خلق العالم حين كان العالم معدوما ؛ وهو باطل بالاتفاق. فمجرّد عدم ايجاد الواجب افعال العباد لا يقتضي عدم شمول قدرته بالمعنى المشهور لها ، بل يصحّ أن يتعلّق بها من غير اعتبار العلم بالأصلح ؛ هذا.

وقد علمت انّه لو عمّم القدرة وأريد بها شمولها لجميع الاشياء - سواء كان بلا واسطة أو بواسطة - لكانت القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير والقدرة بالمعنى المشهور - أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - عامّة شاملة بالنظر إلى جميع الموجودات ، وكان الجميع صادرا عنه - تعالى - ؛ فيكون الواجب حينئذ بالنظر إلى اعمال العباد فاعلا بعيدا لا قريبا. ونفي الفاعلية القريبة لا يوجب نفي الفاعلية البعيدة بمعنى انّه لو لم يوجد البعيد على وجه يكون قادرا لم يصدر تلك الأفعال عنه ، لأنّ الصدور فرع وجود المصدر ؛ وهذا لا يوجب الالجاء ، لأنّ جعل الشيء قادرا يؤكّد اقتداره على افعاله ويمكّنه على الفعل والترك ؛ هذا.

وبقي الكلام في أنّه بناء على قواعد الاعتزال إذا كان الواحد الشخصي الصادر عن زيد مثلا ممكن الصدور عن الواجب بالنظر إلى ذاته لزم جواز كون علّتين مستقلّتين لشيء واحد بعينه وإن لم يصدر إلاّ عن أحدهما ، مع انّه باطل ؛ لأنّ المناسبة

ص: 449

بين العلّة والمعلول لازمة والواحد من حيث هو واحد لا يناسب المختلفين.

والجواب : انّ وجوب المناسبة بين العلّة والمعلول أوجب عدم جواز كون الواحد من حيث هو واحد علّة لكثير ومعلولا لكثير من حيث هو كثير في مرتبة واحدة ، لأنّ الواحد إذا كان علّة لكثير أو معلولا له يجب أن يكون مناسبا لهؤلاء الكثير والوحدة من حيث هي وحدة مغايرة ومخالفة للكثرة من حيث هي كثرة ، فلو كان الواحد من حيث هو واحد مناسبا للكثرة من حيث هي كثرة لكان مغايرا ومخالفا لنفسه ، فعدم جواز التسلسل بين الواحد والكثير إنّما إذا كان أحدهما علّة للآخر من حيث الكثرة أو الوحدة والآخر معلولا له من حيث المقابل ، فلو كان الواحد علّة لكثير أو معلولا له من حيث اشتماله على جهات تعدّد الكثير أو من حيث اشتراك الكثير في جهة واحدة أو كونه في مراتب كثيرة لكان جائزا. ولذا صرّح الحكماء بأنّه إن كان كثير معلولا أو علّة لواحد يجب أن يكون لها مراتب كثيرة / 98DB / أو يكون للواحد جهات تعدّد الكثير أو للكثير اشتراك في جهة واحدة يكون الفعل بينهما بهذا الاعتبار. وإذا عرفت ذلك تعلم انّ امكان صدور واحد بعينه من قدرة الواجب بذاته ومن قدرة زيد هي صادرة عن قدرة اللّه لا يوجب علّية الكثير من حيث هو كثير للواحد من حيث هو واحد ؛ ولا يدفع المناسبة بين العلّة والمعلول ، لأنّ قدرة زيد لمّا كانت صادرة عن قدرة اللّه فبين القدرتين مناسبة البتة ، والفعل الواحد بالشخص لمّا كان صادرا عن قدرة زيد فيكون مناسبا لها ، وإذا كان مناسبا لها يكون مناسبا لقدرة الواجب أيضا ، لأنّ المناسب للمناسب مناسب. فعلّية الواجب وزيد لهذا الفعل الواحد انّما هو من جهتين مناسبتين هما : القدرة الواجبة الثابتة له - تعالى - بذاته ، و: قدرة زيد الفائضة منه - سبحانه -. فتتحقّق في الكثير - أعني : الواجب وزيد - جهة مشتركة - أي : مفهوم القدرة - بها يتصحّح كون الواجب وزيد علّتين لواحد شخصي.

وأنت تعلم انّ هذا القول - أي : جعل العلّة للواحد الشخصي هو القدرة المشتركة بين الواجب وبين زيد - يستلزم فسادين :

أحدهما : انّه يلزم أن يكون المعنى العامّ مع ضعف وحدته ووجوده علّة موجدة

ص: 450

لواحد شخصى ، وقد مرّ بطلانه ؛

وثانيهما : انّ هذا الأمر العامّ المشترك بين الواجب وبين زيد إن كان ذاتيا لزم تركّبه - تعالى عنه علوّا كبيرا! - ، وان كان عرضيا كان تابعا لما به الاشتراك الذاتي ، وإلاّ / 104MA / بطل التناسب ، لأنّ الأشياء المختلفة بتمام الحقيقة لو كانت مشتركة في معنى واحد عرضي من دون استناده إلى معنى مشترك ذاتي لزم علّية الكثرة من حيث هي كثرة للواحد الشخصي من حيث أنّه واحد ، وقد ظهر بطلانه. وإذا كان تابعا لما به الاشتراك الذاتي عاد محذور التركيب.

ومن هذا يظهر أنّ الأصوب ما ذهب إليه محقّقوا الحكماء من أنّ الافاضة على الكلّ وايجاد كلّ ممكن من الممكنات انّما هو من الواجب - عزّ اسمه - ، وغيره من الوسائط انّما هو شروط وآلات ومعدّات ، وليس أصل الافاضة والتأثير منه مطلقا - : لا من الجهة المستندة إلى ذاته ولا من الجهة المستندة إليه تعالى -. وحينئذ فعلّة كلّ موجود كائنا ما كان وكلّ ممكن من الممكنات ليست إلاّ هو ، فلا يلزم تحقّق علّتين لواحد بالشخص.

والحاصل : انّه لو كان واحد من الموجودات معلولا لغيره - تعالى - بمعنى أن يكون موجدا منه أو امكن له ايجاده بالنظر إلى ذاته وإن لم يصدر منه بالفعل فامّا أن يكون هذا الواحد مقدورا له - تعالى - بالنظر إلى ذاته بلا واسطة بجهة مشتركة بينه وبين الغير فيستلزم المفسدتان المذكورتان ، أو بجهة خاصّة به - تعالى - حتّى يكون كلّ من الواجب وغيره قادرا على ايجاد الواحد بالشخص بجهة مختصّة به - أي : من حيث انّهما مختلفتان بتمام الحقيقة - لزم وجود علّتين مختلفتين بجميع الوجوه للواحد الشخصي ؛ وامّا أن لا يكون هذا الواحد مقدورا له بالنظر إلى ذاته بلا واسطة ، وحينئذ إن لم يكن مقدورا له بالواسطة أيضا لزم نفي القدرة عنه - تعالى - راسا ، وهو خلاف ما اجمع عليه العقلاء ؛ وإن كان مقدورا له بالواسطة لزم عدم شمول قدرته بالمعنى المشهور للكلّ بلا واسطة وكونه عاجزا بالنظر إلى ذاته عن ايجاد ما يوجده غيره ممّا هو معلول له - تعالى - ، وهو أيضا بديهى البطلان. فبقي أن يكون التأثير في الكلّ منحصرا به

ص: 451

- تعالى - ولا يكون معه شريك في الايجاد حتّى لا يلزم شيء من المفاسد المذكورة.

فان قيل : يلزم على هذا أن يكون أفعال العباد مستندة إليه - تعالى - ولا يكون مستندة إليهم ، إذ لو كانت مستندة إليهم لنقلنا الكلام إلى كلّ فعل واحد شخصي من تلك الأفعال ، فيلزم أحد المفاسد المذكورة ؛ وإذا لم تكن مستندة إليهم يلزم الجبر في التكليف! ؛

قلنا : يمكن أن يقال : انّ كونهم شروطا ووسائط للافاضة والايجاد يكفي لاستناد افعالهم إليه. وقد اشير إلى انّ ذلك أحد التوجيهات لتصحيح الأمر بين الأمرين.

فان قيل : على ما تقدّم في كلام المجيب الأوّل من جواز صدور الواحد بالمعنى المشترك بين شخصين من علّتين فليجز صدور معلول واحد من الواحد بالمعنى المشترك بين العلّتين ، فيجوز أن تكون القدرة المشتركة بين الواجب وزيد علّة لمعلول واحد بالشخص ؛

قلنا : معلولية المعنى العامّ أمر معقول ليس فيها مفسدة. وأمّا علّيته فغير معقولة ، لضعف وجوده ولاستلزامه التركيب في الواجب ، فلا يجوز علّيته لواحد ولا كثير ؛ هذا.

( مسلك الصوفيّة في اثبات عموم القدرة )

واعلم! انّ للصوفية / 99DA / مسلكا آخر في اثبات عموم القدرة وهو - على ما ذكره بعضهم - : انّ التأثير بالغير لا يستقرّ ما لم ينضمّ إليه التأثير بالذات - أعني التأثير التامّ المبرّى عن شوائب القوّة والامكان - ، وهو ينحصر في حقّه - تعالى - ، فيرجع جميع التأثيرات الامكانية إلى هذا التأثير الّذي هو بالذات. وارجاعها إليه يقتضي ارجاع مباديها - أي : القدرة الّتي بالغير - إلى منشأها - أعني : القدرة الّتي هي بالذات - ، فظهر شمول قدرة اللّه - تعالى - لكلّ شيء بهذا المعنى - أي : بمعنى انبساط تلك القدرة المطلقة الكاملة في هياكل الموجودات وظهورها في تلك المجالى على وجه

ص: 452

النزول من غير أن ينقص عن رتبتها الكاملة ومرتبتها المطلقة -. وهذا هو توحيد الأفعال وتوحيد الصفات. ومنه يعلم أيضا كيفية ارجاع الذوات الممكنة إلى ذاته المقدّسة على وجه يعرفه العارفون ، وهو توحيد الذات ، وهذه نهاية مرتبة التوحيد ومن لم يبلغ إلى هذه المرتبة في التوحيد فهو قاصر في معرفة اللّه - تعالى - ؛ انتهى.

وحاصل كلامهم : انّ الوجود المطلق التامّ الكامل الّذي هو الحقيقة الواجبيّة إذا نزل وانبسط على المهيات الامكانية حصلت الكثرات والوجودات الامكانية من غير أن ينقص / 104MB / عن رتبتها الكاملة ومرتبتها المطلقة ، فذوات الممكنات مجال ومرايا له وهويات الاشياء شئونات له - وهذا هو توحيد الذات عندهم -. والقدرة المطلقة التامّة الكاملة بالذات - الّتي هي القدرة الواجبة - إذا تنزّلت وانبسطت بانبساط الوجود في هياكل الموجودات حصلت القدرة الّتي للأشياء من غير نقصان في مرتبتها المطلقة ورتبتها الذاتية الكاملة ، فتلك القدر هي المظاهر والمجالى والشئونات الذاتية لها ، وقس عليها العلم والإرادة وغيرهما من الصفات الكمالية الإلهيّة - وهذا هو توحيد الصفات عندهم -. والتأثير المطلق التامّ الكامل بالذات - أي : التأثير الواجبي - إذا تنزّل وانبسط بانبساط الوجود والقدرة في هويات الممكنات حصلت التأثيرات الغيرية الامكانية من غير انحطاط في مرتبته العليا ونقصان في رتبته الأسنى ؛ فتلك التأثيرات الغيرية الامكانية مجال ومظاهر لهذا التأثير التامّ بالذات - وهذا هو توحيد الافعال عندهم -.

وأنت تعلم انّ هذا المسلك مبنى على طريقة وحدة الوجود ؛ وعقول أمثالنا قاصرة عن دركه والاذعان به والقبول لحقّيّته!.

فائدة

قول المحقق الطوسي في التجريد : « وعمومية العلّة تستلزم عمومية الصفة » - على ما اشير إليه - اشارة إلى الدليل الّذي ذكر أوّلا ، فالمراد من « العلّة » : الامكان ، ومن « الصفة » : المقدورية. يعنى : انّ علّة المقدورية عامّة في جميع الممكنات ، فانّ علّتها

ص: 453

الامكان وهو وصف مشترك بين جميع الممكنات ، فيكون معلوله - أعني : المقدورية - عامّا في جميعها ، فيكون جميع الممكنات مقدورا له - تعالى -.

ويمكن أن يراد من « الصفة » : الاحتياج إلى المؤثّر.

ثمّ المراد منه إمّا اثبات عمومية القدرة بالمعنى لجميع الممكنات بلا واسطة أو اعمّ من أن يكون بواسطة أو بدونها ، وإمّا اثبات عمومية القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بالنسبة إلى جميع الموجودات إمّا بلا واسطة أو اعمّ من أن يكون بواسطة. وقد عرفت انّ مطلوب القوم وما هو محلّ النزاع من هذه الاحتمالات ما ذا ، وانّ أيّا من هذه الاحتمالات يمكن أن يثبت بهذا الدليل وايّا منها لا يمكن أن يثبت به.

وقيل : يمكن أن يراد « بالعلّة » في تلك العبارة : دليل اختيار الواجب - وهو الحدوث - ، ويكون المراد : انّ الحدوث لمّا كان عامّا بالنسبة إلى كلّ افعاله يكون اختياره عامّا بالنسبة إلى كلّ افعاله. وعلى هذا لا يكون المراد تعميم القدرة بالمعنى المشهور بالنسبة إلى كلّ الممكنات ، بل يكون المراد : انّ صدور كلّ افعاله إنّما هو بالقدرة والاختيار.

وأنت تعلم انّ المراد من القدرة حينئذ : القدرة الملزومة للحدوث ؛ وغير خفيّ انّ اثبات هذا الأمر قليل الفائدة جدّا بالنسبة إلى ما هو مطلوب القوم.

تتميم

اعلم! أنّ هذا الاصل - أعني : عموم قدرة اللّه وشمولها لجميع المهيات الامكانية - أعظم الأصول الملية ، وقد ابتنى عليه كثير من المطالب الاسلامية.

والمخالف فيه فرق أعظمها : الثنوية ، القائلون بفاعلين اثنين ،

منهم : المانوية : أصحاب ماني الحكيم البابلي الّذي ظهر في زمان / 99DB / سابور بن أردشير بن بابك ، وذلك بعد عصر عيسى - علیه السلام - ، فأخذ دينا بين المجوسية والنصرانية فقال بنبوّة المسيح ، وزعم انّ العالم مصنوع من أصلين قديمين أحدهما : نور ، والآخر : ظلمة. وأنّهما أزليان لم يزالا ولا يزالان ، وهما حسّاسان سميعان ودرّاكان

ص: 454

بصيران. وهو قد أنكر وجود شيء وحدوثه لا من أصل قديم. وقال : انّ فاعل الخير بأسره هو النور وفاعل الشرّ بأسره هو الظلمة.

ومنهم : الديصانية : اصحاب الديصان ، اثبتوا أصلين قديمين : النور والظلمة ، وقالوا : النور يفعل الخير قصدا واختيارا والظلمة يفعل الشرّ طبعا واضطرارا.

ومنهم : المجوس : الذاهبون إلى أنّ فاعل الخير هو يزدان وفاعل الشرّ هو أهرمن - ويعنون به الشيطان -. وقالوا : انّ يزدان قديم أزلي وأهرمن حادث منه. وذكروا في سبب حدوثه وفي سبب قدرته على فعل الشرّ ما يشمئزّ طباع العقلاء عن استماعه!.

ثمّ الظاهر من كلام الشهرستاني في الملل والنحل انّ المجوس لا تعدّون من الثنوية حيث قال : الثنوية أصحاب الاثنين الأزليين ، وهم يزعمون انّ النور والظلمة أزليان قديمان متساويان في القدم والازلية مع اختلافهما في الجوهر والطبع / 105MA / والفعل. بخلاف المجوس ، فانّهم قالوا بحدوث الظلام وذكروا سبب حدوثه (1). ويؤيّد عدم كون المجوس من الثنوية - : المنكرين لهذا الأصل بالكلّية القائلين بتعدّد المبدأ - انّهم قالوا : انّ ايجاد أهرمن ليس شرّا ، بل انّما الشرّ منه ، فيزدان اوجد اهرمن وجميع الشرور يصدر من اهرمن. ولا ريب انّه على هذا لا يكون المجوس قائلين بإلهين اثنين ، بل يسندون الجميع إليه - تعالى -. لكنّهم لم يجعلوا الشرور مستندة إليه - تعالى - بلا واسطة - لكونه خيرا محضا - ، بل اسندوها إلى اهرمن وقالوا : انّ ايجاد اهرمن ليس شرّا ، بل خير ، لأنّ اعطاء الوجود خير مطلقا وانّما صدر الشرّ عن اهرمن لا عنه - تعالى -.

ثمّ شبهة هؤلاء الطوائف الثلاث : هي انّا نجد فى العالم خيرا كثيرا وشرّا كثيرا وإنّ الواحد لا يكون خيرا وشرّيرا ، فلكلّ منهما فاعل على حدة. وبتقرير آخر اوضح : انّ اللّه خير محض فلا يمكن أن يوجد الشرّ. بيان ذلك : انّ ذاته المقدّسة عالم بجميع الخيرات والشرور غير محتاج إلى شيء منها ، ومن كان كذلك لا يصدر عنه الشر بالضرورة ، فيكون خيرا محضا لا يمكن أن يوجد الشرّ. أو لأنّه - تعالى - عين الوجود و

ص: 455


1- راجع : الملل والنحل ، ج 1 ، ص 224 ، باختلاف يسير في اللفظ.

الوجود خير محض - على ما هو المشهور - ، فهو - تعالى - خير محض إذ الشرّ ليس إلاّ العدم ، ولا يمكن صدور العدم عن الوجود - على ما هو طريقة الحكماء -. أو انّه - تعالى - واحد محض منزّه عن شوائب الكثرة والتركيب وكلّ فاعل فعل يجب أن يكون

بينهما مناسبة لا محالة ، والواجب - سبحانه - قد فعل خيرات كثيرة ظاهرة ، فلو صدر منه - سبحانه - مع ذلك شرّ أو ظلم لزم اشتمال محض الأحدية الخالصة على كثرة متقابلة.

وأجيب عن تلك الشبهة بوجوه ثلاثة :

أحدها : انّ الشرور الواقعة في العالم انّما هي شرور اضافية - أي : وجودات توصف بالشرّ بالإضافة ، كوجود النار في الثوب مثلا ومصادفة القاطع للعضو المقطوع - ، وهذه الشرور وإن استدعت علّة موجودة لكن هذا الاستدعاء من حيث أنّها خيرات لا من حيث أنّها شرور ، فهي من حيث كونها شرورا مجعولة وصادرة من المبدأ الّذي هو صرف الوجود بالعرض لا بالذات. ولا استحالة فيه ، انّما المحال صدور الشرّ عن الخير المحض بالذات ، ولم يلزم ذلك.

والتوضيح : انّ هذه الأمور الّتي تظنّ أنها شرور - مثل الأمراض والاسقام والمصائب والاعدام - فانّها وان كانت من وجه شرورا ولكنّها لازم خيرات كثيرة لو تركت لتركت هذه ، وهو - سبحانه - لا يفعلها من حيث أنّها شرور بل انّما يفعلها من حيث انّها خيرات. فهي من الحيثية الّتي بها صدرت عنه - سبحانه - انّما هي خيرات كثيرة وإن كانت باعتبار آخر شرورا قليلة. مثال ذلك انّ سآمة لو لصغت اصبعا واحدة من انسان لو تركت تلك الاصبع ليسري السمّ إلى بدنه كلّه وادّى إلى قتله ، فالطبيب الحبيب يقطع الاصبع البتة لينجيه من الموت. فالقطع وان كان من حيث فقد الاصبع ووجدان الألم شرّا لكن الطبيب لم يفعله من هذه الجهة ، بل انّما فعله من حيث هو سبب الحياة ، فهو انّما يفعل خيرا كثيرا لو لم يفعله لكان قد فعل اذن شرّا كثيرا. وعلى هذا فجميع الشرور الوجودية الواقعة / 100DA / في العالم شرور اضافية واقعة في القضاء الإلهي بالعرض ولا يوجد شرّ يكون متعلّقا لارادته - تعالى - بالذات - لا كثير و

ص: 456

لا قليل -.

وهذا الحكم يشتمل على دعويين : إحداهما : انّ كلّ ما يوجد في العالم من الشرور شرّ اضافي ولا يوجد في العالم شرّ حقيقي. وسرّ ذلك انّ الشرّ الحقيقي هو العدم والخير الفيضى هو الوجود ، فانّ الوجود بما هو وجود والموجود بما هو موجود خير محض لا شرية فيه اصلا ، إذ لو كان في نفس معنى الوجود والموجود شرّية لكان كلّ وجود شرّا ، والعدم والمعدوم بخلاف ذلك ؛ ولذا إن يحتسب الأمور الّتي تظنّ أنّها شرور وجدت شرّياتها راجعة امّا إلى أعدام لذوات - كالموت والفناء - أو فقدان لكمالات - كالظلم والزنا - ، فانّهما من حيث كونهما أثرين لقوّتى الغضب والشهوة خير لهما وكمال ، وليست شرّا إلاّ من حيث فقدان المال وهتك الستر (1). فلا يوجد موجود يكون شرّا حقيقيا. فان كان موجود شرّا فانّما يكون شرا بالإضافة إلى شيء آخر - كالنار بالنسبة إلى الثوب والقاطع بالنسبة إلى العضو المقطوع ، فانّ النار من حيث هو موجود خير في ذاتها ليس فيها بهذا الاعتبار شرّية أصلا ، وانّما شرّيتها بالنسبة إلى ما يتّفق احراقها له -. وكذا لا يوجد عدم يكون خيرا حقيقيّا. نعم! قد يتّصف العدم بالخير الاضافى كعدم ما وجوده شرّ / 105MB / اضافي لشيء بالنسبة إلى هذا الشيء ، فانّ عدم النار خير بالنسبة إلى الثوب المحروق. ولا ريب في أنّ وقوع هذا الشرّ الاضافي لم يكن مرادا بالذات ومقصودا بالاصالة ، بل انّما دخل في عالم الايجاد بالعرض ، فانّ المقصود بالذات من ايجاد النار بلوازمها انّما هو كونها خيرا يترتّب عليها المنافع العظيمة في عالم الايجاد. ثمّ ربما تقع شرّية منها بفعل أحد على ثوب شخص محرقة أو على خشب من بيت فيسري إلى أن يحرق البيت كلّه أو البلد كلّه. وكذا الحال في الطوفانات والطواعين وغيرها من البليات العامّة والخاصّة للحيوانات ، فانّ القصد الأوّل والإرادة الذاتية من ايجاد تلك العلل والاسباب انّما هو خيرات عامّة بالنسبة إلى النظام الأصلح ، وقد يلزمها شرور بالنسبة إلى بعض الافراد والأشخاص.

ووقوعها في القضاء الإلهي والإرادة الأزلية انّما هو بالعرض. والوقوع بالعرض

ص: 457


1- الاصل : السرّ.

لا استحالة فيه ، إذ هو من لوازم الطبائع وخواصّ الاشياء ولا مدخلية للارادة الالهيّة.

ولا يمكن دفع تلك الشرور الاضافية ، لأنّ دفعها إنّما هو منع للأشياء والمهيات عن تأثيراتها الذاتية اللازمة لا نفسها الضرورية في نظام الخير ، وهو غير ممكن. فاذا ألقى انسان نارا على ثوب فاحترقه لم يكن لقائل أن يقول : لم لم يمنع اللّه - تعالى - هذه النار عن احراق الثوب؟ ؛ لأنّ كون النار محرقة وثبوت الاحراق لها عن اللوازم الذاتية لها ، فلا معنى لمنعها عنه. وكذا ليس له ان يقول : لم لم يمنع اللّه الانسان عن الالقاء؟ ؛ لأنّ هذا أيضا من لوازم اختياره وقدرته اللازمة في نظام الخير. فإيجاد لوازم النار وتأثيراته واختيار العبد وقدرته وان كان من اللّه - سبحانه - إلاّ أنّ المقصود بالذات من ايجادها إنّما كان ما يلزمها من الخيرات الجمّة والمنافع العظيمة ، ولم يكن المقصود من ايجادها احراق نفس محترمة أو مال محترم ، وانّما وقع ذلك إمّا بالعرض (1).

وعلى هذا فجواب الشبهة الثنوية : انّ الشرور لوقوعها بالعرض وعدم كونها مقصودة بالذات للواجب وعدم صدورها منه - تعالى - بلا واسطة لا يلزم كونها فاعلا للشرّ ، فلا يلزم كون الواحد خيرا شرّيرا ولا كون الخير المحض والفاعل للخير فاعلا للشرّ أيضا ولاستنادها إلى بعض الموجودات المخلوقة له - تعالى - وامكان صدورها عنه - تعالى بالنظر إلى الذات بلا واسطة - وإن لم يصدر عنه بالنظر إلى العلم والإرادة - لا يلزم وجود فاعل واحد مستقلّ للشرّ غير مخلوق له - تعالى كما قالت المانوية والديصانية - ، أو مخلوق له - تعالى ، كما قال المجوس - ، فلا يلزم نفى عموم القدرة. ويأتى لذلك زيادة بيان.

وثانيها : انّ الشرور الواقعة في العالم شرور قليلة لو تركت تركت الخيرات الكثيرة ، كما انّه لو لصغت اصبع واحدة ولم تقطع يسري السمّ إلى جميع البدن ، فقطع الاصبع وإن كان شرّا إلاّ أنّه شرّ قليل لو لم يفعل لادّى إلى ترك الخير الكثير. وعلى هذا فجميع الشرور الواقعة في العالم مستندة إليه - تعالى -. إلاّ أنّه لكونها شرورا قليلة لو تركت تركت الخيرات الكثيرة لم يكن في فعلها بأس ، بل يجب فعلها / 100DB /

ص: 458


1- كذا في النسختين.

بالنسبة إلى الخير المحض. فما يوجد في العالم إمّا خير محض ليس فيه شرّية أصلا أو ما هو خيره غالب على شرّه. ولا يوجد في العالم شرّ محض لا يكون فيه خير أصلا ولا ما هو شرّه غالب على خيره ولا ما هو خيره وشرّه متساويان ؛ فانّ الأشياء عند العقل على خمسة احتمالات :

أحدها : الشيء الّذي لا خير فيه أصلا ؛

وثانيها : الشيء الّذي لا شرّ فيه أصلا ؛

وثالثها : الشيء الّذي يتساوى الخير والشرّ فيه ؛

ورابعها : ما يكون خيريته غالبا ؛

وخامسها : ما تكون فيه غلبة الشرّ.

وذات الواجب بالذات لمّا وجب أن يكون مبدأ لجميع الخيرات ولم يمكن أن يصير مبدأ للشرّ وجب أن يصدر عنه قسمان من الأقسام المذكورة - أي : القسم الثاني الّذي ليس فيه شرّية اصلا والرابع الّذي خيريته غالب ، لان ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شر كثير - ، وأن لا يصدر عنه الاقسام الثلاثة الأخر لاستلزام صدورها مبدئيّته - تعالى - للشرّ.

والأمر في الواقع والخارج كذلك ، لأنّ جميع الأشياء الموجودة في العالم لا يخلوا من كونه خيرا محضا أو ما هو خيريته غالب ، ولا يوجد فيه شيء يكون واحدا من الأقسام الثلاثة الأخر.

ثمّ الخير المحض هو الواجب - تعالى شأنه - ، اذ هو محض الوجود وعينه والوجود المحض خير محض ، إذ لا عدم فيه بوجه ؛ ومناط الشرّ هو العدم والشرّ المحض لا وجود له ، إذ كلّ موجود لا يخلوا عن الوجود وهو خير ، فلا ينفكّ موجود عن الخير.

/ 106MA / ووجود ما شرّه غالب على الخير أو ما يتساوى الخير والشرّ فيه خلاف مقتضى الحكمة ، بل مجرّد ثبوت أنّ الوجود خير محض يوجب عدم تحقّق موجود يكون شرّه أغلب أو مساويا للخير ، فالموجودات الممكنة كلّها ممّا يغلب خيره على شرّه. إلاّ أنّ ما فيه شوب العدم اقلّ يكون إلى الخير المحض اقرب. ولغلبة خيرها على شرّها

ص: 459

وجب صدورها عن الواجب ، لأنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير ؛ فلا ينبغي وقوعه من الحكيم.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل : انّ في هذا الوجه التزم وقوع الشرّ في القضاء الإلهي بالذات ، إلاّ أنّه قيل : انّ ما نفع (1) شرّ قليل تركه يوجب ترك الخير الكثير ، فلا مانع من استناده إليه - تعالى - ؛ وفي الوجه الأوّل لم يلتزم وقوع الشرّ اصلا في القضاء الإلهي بالذات ، ومنع استناد الشرّ بالذات - كثيرا كان أو قليلا - إليه - سبحانه -.

بل قيل : انّ ما يقع من الشرور في القضاء الإلهي فوقوعه بالعرض ، والتزم عدم المنع في الوقوع بالعرض. فعلى هذا الوجه - أي : الوجه الثاني - فدفع شبهة الثنوية : انّ الواجب - تعالى - مبدأ لأشياء خيريتها غالب ، ولا بأس بصدور ما فيه غلبة الخير عنه - تعالى - وإن وجد فيها شرّ قليل. فمن حيث انّ تلك الشرور شرور قليلة خيريتها غالبة لا يلزم فساد في استنادها إليه - تعالى - ، ومن حيث استنادها إليه - تعالى - دون غيره لا يرد وهن على عموم قدرته - سبحانه -.

وغير خفيّ انّ شبهة الثنوية بالتقرير الأوضح المذكور اشتملت على تعليلات ثلاثة لعدم جواز مبدئية الواجب للشرّ ، فعلى هذا الوجه وان اندفعت الشبهة بالتعليل الأوّل إلاّ أنّها لا تندفع بالتعليلين الأخيرين ، إذ حاصل الشبهة على التعليل الثاني انّ الواجب - تعالى شأنه - صرف الوجود ومحض الموجود الخير ، فيمتنع أن يصير مبدأ للشرّ - سواء كان قليلا أو كثيرا - ، اذ الشرّ إمّا عدم أو تابع له وراجع إليه ، فكيف يمكن أن يحصل العدم عمّا هو موجود محض لا عدم فيه بوجه من الوجوه؟!. وحاصلها على التعليل الآخر انّ الواجب - سبحانه - واحد بسيط من جميع الجهات مناسب للخير وإن كان بهذه المثابة يمتنع صدور الشرّ عنه لعدم المناسبة - سواء كان كثيرا أو قليلا -.

والقول بأنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير ، مغالطة في هذا

ص: 460


1- كذا في النسختين ؛ والظاهر : + وفيه.

المقام! ، لأنّ الخير الكثير المشتمل على الشرّ وإن كان قليلا يمتنع صدوره عمّن هو محض الخير وصرف الوجود وواحد من جميع الجهات مناسب للخير ، بل عين الخير وصرفه ، فترك ذلك الخير ليس شرّا بل هو خير ، وكيف لا؟! وعلى قواعد الحكمة من لزوم المناسبة بين العلّة والمعلول لا يمكن أن يصدر المتقابلان عن واحد بسيط من جميع الجهات ؛ وإذا ناسب أحدهما وصدر عنه - كالخير فيما نحن فيه - لم يناسب الشرّ ولم يمكن صدوره عنه.

ويمكن أن يقال : من قال / 101DA / بهذا الوجه واسند الشرّ القليل إليه - تعالى - لم يقل باستناده إليه بلا واسطة ليلزم ما ذكر من مبدئيته - تعالى - لأمرين متقابلين ، بل قال باستناده إليه - سبحانه - بالواسطة بمعنى انّ جميع الشرور الواقعة في العالم مع كونها شرورا قليلة مستندة إلى بعض الممكنات المستندة إليه - تعالى - ، فمن حيث استنادها إلى غيره - تعالى - لا تلزم المفاسد الّتي تترتّب على استناد الشرّ إليه - تعالى - من لزوم كون الخير المحض شرّيرا والواحد من جميع الجهات مبدأ لصدور المتقابلات ، ومن حيث كون هذا الغير الّذي يصدر منه تلك الشرور مخلوقا له - تعالى - وامكان صدورها منه - تعالى - بلا واسطة بالنظر إلى ( الذات ) (1) وإن لم يكن بالنظر إلى العلم والإرادة لا يلزم وهن على عموم قدرته وعظم سلطانه.

فان قيل : إذا كان الشرّ مستندا إلى غيره - تعالى - فلا يرد عليه - تعالى - نقص سواء كان قليلا أو كثيرا - ؛ فأيّ فائدة حينئذ في القول بأنّ الشرور الواقعة في العالم شرور قليلة؟! ، بل إذا كانت كثيرة ولم تقلب الخيرية لم يكن به حينئذ بأس! ؛

قلنا : لا ريب في أنّ هذا النظام بأسره صادر منه - تعالى - إمّا بلا واسطة أو أعمّ من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة ، والنظام الصادر منه - سبحانه - بأيّ طريق كان يجب أن يكون على أحسن الانحاء وأصلح الوجوه. ولا ريب في أنّه إذا وجد فيه شيء يكون شرّا محضا أو تكون شرّيته غالبة على خيريته أو تتساوي الشرية / 106DB / والخيرية لم يكن نظاما أصلح ، فيجب أن يكون ما يوجد فيه الشرّ بحيث يشتمل على

ص: 461


1- لفظة الذات لم توجد في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

خير غلب على شرّه ، فمن حيث تخلّل الواسطة لا يلزم عدم المناسبة بين العلّة والمعلول ، ومن حيث غلبة خيره على شرّه لا يلزم وقوع غير الأصلح في النظام الأصلح ، لأنّه لا ريب في اصلحية ما يغلب خيره على شرّه.

ثمّ أصلحيه وجود هذا الشيء الّذي يغلب خيره على شرّه يتصوّر بوجهين :

أحدهما : أن يكون أصلحيته لأجل غلبة المنافع المترتّبة على وجوده بالنسبة إلى المضارّ المترتبة عليه مع كون تلك المضارّ مضارّا وشرّا بالنسبة إلى الأشخاص الّذي أصابهم هذا الشرّ وبالنسبة إلى النظام الكلّ أيضا ، إلاّ أنّا إذا قايسنا بين منافعه وبين مضارّه كان منافعه أكثر ، فمع اكثرية المنافع يتحقّق الأصلحية وإن اشتمل على المضارّ القليلة بالنسبة إلى النظام وبعض الافراد ؛

وثانيهما : أن يكون أصلحيته لأجل تلك المنافع العالية مع كون مضارّه الجزئية وشرّه القليل خيرا وصلاحا بالنسبة إلى نظام الكلّ وان كان شرّا ومفسدة بالنسبة إلى بعض الاشخاص ، مثلا علّة حدوث الطاعون في بعض البلاد حدوث رطوبة كثيرة وحرارة قليلة في الهواء يصير منشئا لعفونته وسمّيته ، وعلّة هذا الحدوث اسباب سماوية وأرضية ؛ ولا ريب انّ تلك الأسباب - بل نفس هذا الحدوث - يشتمل على خيرات كثيرة ضرورية في نظام الكلّ وتلك الخيرات غالبة على الشرّ المترتّب على هذا الحدوث من موت جمع من الحيوانات ، فهذا الموت يمكن أن يكون شرّا بالنسبة إلى الاشخاص الفانية وبالنسبة إلى نظام الكلّ أيضا ، إلاّ انّ هذا الحدوث لاشتماله على الخيرات الكثيرة الغالبة على فناء هذه الأشخاص يكون أصلح من عدمه في نظام الكلّ. ويمكن أن يكون هذا الموت والفناء خيرا وصلاحا بالنظر إلى النظام الأعلى وإن كان شرّا ومفسدة بالنسبة إلى هذه الأشخاص ؛ ولذا قال الحكماء : انّ الطاعون تنقية للعالم وحدوثه سبب لصلاح العالم. وقد ظهر ممّا ذكر انّه ما لم يتمسّك في هذا الوجه باستناد الشرّ القليل إلى الواسطة لم يتمّ ، بل مع ذلك ينبغي أن يقيّد أيضا بما ذكر في الوجه الأوّل من أنّ وقوعه في القضاء الإلهي بالعرض لا بالذات ، إذ لو كان هذا الشرّ القليل الواقع في النظام الأصلح ولو بالصدور عن الواسطة مقصودا له - تعالى - بالذات

ص: 462

- كما انّ الخيرات الصادرة عنه تعالى بالواسطة وبدونها مقصودة له بالذات - لزم أن لا يكون خيرا محضا ، فيجب أن تكون مقصودة بالعرض - أي : من حيث أنّه تابع لخيرات كثيرة ، لا من حيث هو -. كما انّه ينبغي أن يقيّد الوجه الأوّل بكون الشرّ الواقع بالعرض شرّا قليلا ومستندا إلى واسطة لا إليه - تعالى - ؛ إذ لو وجد في نظام الكلّ موجود شرّه مساو لخيره أو غالب على خيره لم يكن النظام نظاما أصلح / 101DB / ولو لم يكن هذا الشرّ مستندا إلى غيره - تعالى - ، بل كان مستندا إليه - تعالى - ولو بالعرض لزم مناسبة الخير المحض للشرّ. فاحراق شخص أو بلدة أو افناء خلق كثير بالطاعون أو غيره مع عدم كونه مقصودا بالذات في النظام يجب أن يكون فاعله القريب غيره - تعالى - ، ولا يجوز أن يكون الواجب - تعالى - فاعله القريب. وكونه تابعا ومقصودا بالعرض مع كون فاعله القريب هو اللّه - سبحانه - انّما يتصوّر بأن يصدر هذا الاحراق أو الافناء منه - تعالى - بلا واسطة وكان مشتملة على صلاح راجع إلى نظام الكلّ ويكون المقصود بالذات منه هذا الصلاح دون الشرّ الراجع إلى الاشخاص الفانية. وأمّا إذا جعل (1) الاحراق مستندا إلى النار والاماتة إلى الهواء وكيفياته وكان وجود النار والهواء مستندا إلى اللّه - سبحانه - وكان المقصود بالذات له - تعالى - من ايجادهما ما يلزمها من المنافع العظيمة والخيرات الجسيمة دون هذا الاحراق الموذي لبعض الاشخاص وهذه الاماتة الّتي هو شرّ لطائفة ، فحينئذ يكون وقوعها بالعرض ولا يكون فاعلهما القريب هو اللّه - تعالى - ، فلا يلزم كونه - تعالى - مناسبا للشرّ. فظهر انّ مجرّد القول بأنّ الشرور الواقعة في نظام الكلّ شرور اضافية واقعة في القضاء الإلهي بالعرض - كما هو ظاهر الوجه الاوّل - أو مجرّد القول بأنّها شرور قليلة خيراتها أو خيرات الأشياء المتبوعة لها كثيرة غالبة - كما هو ظاهر الوجه الثاني - ليس قامعا لشبهة الثنوية ؛ بل لا بدّ من القول بهما جميعا مع ضمّ انّ تلك الشرور / 107MA / القليلة الإضافية الواقعة بالعرض صادرة عن غيره - تعالى - من الوسائط الممكنة مع كون صدورها منه - تعالى - ممكنا بالنظر إلى ذاته تعالى - حتّى يندفع الشبهة ويثبت عموم القدرة. و

ص: 463


1- في النسختين : أجل.

سنشير إلى ذلك ببيان أوضح.

فقائل كلّ من الوجهين إن كان غرضه انّ مجرد ما ذكره دافع للشبهة ، فليس الأمر كما زعمه - على ما عرفت - ؛ وإن كان غرضه انّ ما ذكره بعلاوة ما أضيف إليه ممّا ذكره القائل الأخير وما ذكرناه دافع للشبهة إلاّ أنّه اكتفى بما ذكره وترك البواقي حوالة على الظهور ، فهو حقّ ، إلاّ انّ فيه مسامحة لا يجوز مثلها في المقام.

وثالثها : انّ جميع الشرور الواقعة في هذا العالم أعدام وليس امورا موجودة ، فانّ تصفّح الأمور وتتبّعها يعطى الجزم بأنّ جميع الشرور راجعة إلى الاعدام والموجود من حيث هو موجود ليس إلاّ خيرا ؛ وقد اشرنا قبل ذلك إلى كيفية رجوعها إلى الاعدام اجمالا.

والتفصيل : انّه لا ريب في أنّ جميع الشرور الواقعة في هذا العالم لا ينفكّ عن اعدام وسلب لأحد الخمسة الضرورية أو ما يتعلق بها ويحملها - أعني : الأديان والنفوس والعقول والفروج والاموال -. فانّ الكفر والشرك شرّ لرجوعها إلى سلب الايمان ونفي العقائد الحقّة المطابقة للواقع ؛ والقتل والاماتة والافناء شرور لايجابها سلب النفوس ؛ والقطع والجرح وامثالهما شرور لاستلزامها رفع الاتصال وتفرّقه ؛ والامراض والآلام شرور لاقتضائها رفع الصحّة وازالة صدور الأفعال على ما ينبغى ؛ والزنا شرّ لعدم انفكاكه عن هتك الستر وسلب البضع عن أهلها ؛ والسرقة والغصب والخيانة وأمثالها شرور لاستلزامها سلب الأموال عن أهلها ، وقس على ما ذكر ما لم يذكر من الضرب والشتم والحرق والغرق وغير ذلك.

وإذا تصفّحنا الشرور الواقعة في العالم وتجسّسناها لم يخرج شيء منها عمّا ذكرناه.

وإذا كان الأمر كذلك نقول : ليس شأنه - تعالى - إلاّ اعطاء الوجود ، فلا يصدر عنه - سبحانه - إلاّ الخير وانّما يصدر الشرّ - الّذي هو العدم - عن الممكنات المعلولة له - تعالى - ، فالعدم مستند إليه - تعالى - بالواسطة ؛ ولا محذور فيه.

هذا لو جوّز صدور العدم عن الممكنات بناء على أنّها ليست عين الوجود ، بل ماهيّات غير الوجود مخلوط بالوجود والعدم ، لامكانها. ولا استحالة في صدور العدم

ص: 464

حينئذ ، انّما المحال صدوره عن الوجود المحض.

وأمّا لو لم يجز صدوره عن الوجود أصلا فالجواب بعد تسليم ذلك هو : انّ الشرّ إمّا شرّ حقيقي - وهو العدم الصرف والليس المحض ، كعدم ما لم يوجد ولا يوجد قطّ - ؛ أو شرّ اضافي - وهو الوجود المخلوط بالعدم -. والأوّل لا يحتاج إلى علّة موجودة ، إذ العدم المحض لا يصدر / 102DA / عن موجود أصلا بل علّته عدم مثله - أعني : عدم علّة الوجود -. والثاني وان احتاج إلى علّة موجودة إلاّ أنّ الاحتياج إليها من حيث جهة الوجود لا من حيث جهة العدم الّتي هي الشرّ ، فانّ القتل من حيث انّه قتل وجودى - أي : لا بدّ فيه من ايصال آلة قطّاعة محتاج إلى فاعل -. إلاّ أنّه من هذه الجهة ليس شرّا ، لأنّه لو كان مجرّد اتصال الآلة القطّاعة شرّا لكان ايصال السيف إلى الارض ضربة على الحجر والشجر شرّا ، وليس كذلك. ومن حيث انّه أمر عدمي - أي : يلزمه فقد الشخص وازهاق الروح - وإن كان شرّا إلاّ انّه من هذه الجهة لا يحتاج إلى علّة موجودة. وعلى هذا فدفع شبهة الثنوية انّ الشرّ الّذي هو العدم ليس صادرا عنه - تعالى - حتّى يلزم كون الواحد المحض خيّرا أو شرّيرا وكون الخير الصرف شرّيرا ؛ ولا يلزم وهن في عموم القدرة ، لأنّ المراد به انّ كلّ موجود يستند إليه. ولا يعتبر فيه استناد الاعدام أيضا إليه - سبحانه - ، كيف؟! والوجود المحض لا يناسب العدم مع انّ العدم يكفي في تحقّقه عدم علّة الوجود.

وأقول : لا ريب في أنّ أكثر ما يطلق عليه اسم الشرّ في العالم لا ينفكّ عن عدم ما بمعنى استلزامها لفقد وجود أو كمال ، وليست اعداما صرفة ونفيا محضا. لانّه لا يشكّ عاقل في انّ مثل القتل والضرب والغصب وحدوث الأمراض وغير ذلك أمور وجودية. نعم! عدم انفكاكها عن عدم لوجود أو فقد لكمال مسلّم واطلاق الشرّ عليها بهذه الجهة أيضا مسلّم ، إلاّ انّ عدم افتقار مثل هذا العدم من الأمر الوجودي وكفاية عدم علّة الوجود لتحقّقه ممنوع ، فانّه لا ريب في انّ ازهاق النفس وهتك الستر انّما ترتّب على اتصال الآلة القطّاعة واتصال عضو خاصّ بعضو خاصّ وهما وجوديان ، فاستند فقد الروح واعدام الستر إلى امرين وجوديين هما أيضا مستندان إلى علّة

ص: 465

موجودة ، فالعدم المتحقّق في ضمن الشرور الاضافية لا بدّ له من علّة موجودة / 107MB / ولا يمكن أن تكون علّته عدما محضا ، فلا بدّ امّا أن يقال : انّ علّته الواجب - تعالى - ولكنّه وقع بالعرض لا بالذات - ليلزم مناسبة الخير المحض للشرّ - ، فيرجع حينئذ إلى الوجه الأوّل ؛ أو يقال : انّ علّته بعض الممكنات وليس علّته واجب الوجود بالذات بلا واسطة - ليلزم مناسبة الخير المحض للشرّ - ، بل جميع الموجودات مستندة إليه - تعالى -. إلاّ أنّ الشرور ليست مستندة إليه - تعالى - بلا واسطة لكونه خيرا محضا ، بل هي مستندة إلى بعض الممكنات الموجودة منه - تعالى -. وليس ايجاد هذا البعض من الممكنات شرّا ، بل هو خير ، لأنّ اعطاء الوجود خير مطلقا والشرّ انّما صدر عن هذا البعض لا منه - تعالى -.

ولا يخفى انّ هذا الوجه - أي : استناد الشرور إلى بعض الممكنات - لا يثبت به تمام المطلوب ما لم يقيّد بكون تلك الشرور شرورا قليلة تابعة لخيرات كثيرة ، وبوقوعها في النظام بالعرض لا بالذات ، وبأنّ صدورها عنه - تعالى - ممكنة بالنظر إلى ذاته - تعالى - وإن لم يكن بالنظر إلى علمه بالأصلح. إذ لو لم يقيّد بالأوّل وجوّز كونها شرورا وكانت شرّيتها غالبة على خيريتها أو مساوية لخيريتها لم يكن النظام نظاما أصلح ، ولو لم يقيّد بالثاني وجوّز وقوعها بالذات - أي : كونها مقصودة له تعالى بالذات - لزم مناسبته للشرّ وان صدر عنه بالواسطة ، بل لزم وقوع الظلم والجور في العناية الإلهية. ولو لم يقيّد بالثالث وجوّز عدم افتقاره - تعالى - على ايجاد الشرّ بالنظر إلى ذاته لزم نفي عموم قدرته بالمعنى المشهور على جميع الممكنات. فالحقّ - كما اشير إليه - أن لا يكتفى في الجواب عن شبهة الثنوية والاشكال الوارد في وقوع الشرور في القضاء الإلهي بمجرّد القول بكونها واقعة بالعرض - كما في الوجه الاول - ، أو كونها شرورا قليلة تابعة لخيرات كثيرة - كما في الوجه الثاني - ، أو مستندة إلى بعض الممكنات المستندة إليه - تعالى ، كما في الوجه الثالث -. بل اللازم في الجواب أن يجمع بين الوجوه الثلاثة.

وحينئذ فالجواب الصحيح الّذي يندفع به الشبهة ويثبت به عموم القدرة والتحقيق التامّ الصريح الّذي يرتفع به الاشكال الوارد في وقوع الشرور في القضاء

ص: 466

الإلهي هو أن يقال : الشرّ إمّا حقيقي وهو / 102DB / العدم المحض ؛ ولا ريب في عدم استناده إلى موجود أصلا - لا (1) الواجب ولا غيره - ، بل هو مستند إلى عدم مثله - أعني : عدم علّة الوجود - ؛

وإمّا شرّ اضافي ، وهو العدم المخلوط بالوجود - أي : الاعدام الاربعة التابعة لبعض الموجودات ، كفقد النفس التابع للقتل ، وتفرق الاتصال التابع للقطع وغير ذلك -. وجميع الشرور الواقعة في نظام الخير من هذا القبيل - كما اشرنا إليه -. وجميع تلك الشرور مستندة إلى غيره - تعالى - من الممكنات المعلولة له - سبحانه - ، فهي مستندة إليه - تعالى - بالواسطة ومع ذلك شرور قليلة تابعة لخيرات كثيرة وواقعة بالعرض بمعنى أنّها ليست مقصودة للواجب بالذات - أي : المقصود منها بالذات ما هو متبوع لها من الخيرات الكثيرة - ، وهي مقصودة له - تعالى - بالعرض. ومع ذلك كلّه هي مقدورة له - تعالى - بالقدرة بالمعنى المشهور - أي : ممكنة الصدور عنه تعالى بالنظر إلى ذاته تعالى - وإن لم تمكن بالنظر إلى العلم والإرادة من حيث كونها مستندة إلى غيره - سبحانه -. وعدم كونها مقصودة له - تعالى - بالذات لا يلزم مناسبة الخير المحض والوجود الصرف للشرّ والعدم. ومن حيث استنادها إلى الممكنات المعلولة له - سبحانه - لا يلزم اثنينية المبدأ ، فيثبت به عموم القدرة المستجمعة بالنسبة إلى جميع الممكنات بالواسطة. ومن حيث كونها شرورا قليلة تابعة لخيرات كثيرة لا يلزم منافاتها لأصلحية النظام ، ومن حيث اقتداره - تعالى - على ايجادها بالنظر إلى الذات لا ينافي عموم القدرة على الكلّ بالمعنى المشهور بلا واسطة.

ثمّ توهم الايراد على هذا التفصيل انّما يتصوّر من وجوه :

منها : انّ الممكن لا يجوز أن يكون فاعلا للشرّ ، لأنّه من حيث الجهة المستندة إلى ذاته عدم صرف ولا شيء محض ، فلا يمكن أن يكون بهذه الجهة علّة لشيء اصلا سواء كان هذا الشيء وجودا أو عدما اضافيا. ومن حيث جهته المستندة إلى الواجب - تعالى - وجود محض ، فكيف تصير هذه الجهة علّة للشرّ الّذي هو العدم مع انّه

ص: 467


1- الاصل : الا.

لا مناسبة بين الوجود والعدم؟!.

والجواب : انّ الممكن من حيث جهته المستندة إلى الواجب - أي : الممكن الموجود - ليس وجودا محضا وخيرا صرفا ، فانّ محض الوجود ليس إلاّ الواجب - تعالى شأنه - ، بل هو وجود مشوب بالعدم وأيس مخلوط بالليس ، فانّ وجوده وان صدر عن الواجب ملزوم / 108MA / للافتقار الذاتي والاحتياج الواقعي ، فلا يمكن أن ينفكّ عن العدم والشرور الواقعة في هذا العالم أيضا شرور إضافية - أي : اعدام مخلوطة بالوجود -. وليست اعداما صرفة ولا وجودات صرفة فيصير وجود مخلوطة بالعدم علّة وفاعلا لما هو مثله - أي : ما هو وجود مخلوط بالعدم -. إلاّ انّ جهة العدم في المعلول الّذي هو الشرّ أكثر. وهذا أمر كلّي بالنسبة إلى كلّ معلول ، فانّ جهة العدم والشرّية في كلّ معلول أكثر منها في العلّة ، وجهة الوجود والخيرية بالعكس من ذلك.

وتوضيح ذلك : انّ واجب الوجود بالذات وجود محض وخير صرف لا يتصوّر فيه شائبة من العدم والشرّ ، كما انّ العدم الصرف عدم محض وشرّ صرف لا يتصوّر فيه شائبة من الوجود والخيرية. ثمّ ما يصدر عنه - سبحانه - بلا واسطة كاد أن يكون وجودا محضا وخيرا صرفا ، إلاّ انّه ليس بهما لافتقاره الذاتي وتنزّله وبعده عن الوجود المحض والخير الصرف بمرتبة ، فله شوب من العدم.

ثمّ ما يصدر عن هذا الصادر يكون شوب العدم فيه أكثر - لبعده عن الوجود الصرف بمرتبتين وقربه بمرتبتين إلى العدم والشرّ - ، وهكذا كلّما تكثّر الوسائط ويصير المعلول أبعد عن الوجود المحض والخير الصرف يكون شوب العدم وجهة الشرّ فيه أكثر من سابقه إلى أن يصل إلى ما يحصل فيه نحو من العدم والشرّ بالفعل ويتميّز فيه جهتاهما وان كان مع ذلك جهة وجوده وخيريته غالبة ؛ فظهر انّ علّية الممكنات الموجودة للشرور الاضافية جائزة ، والمناسبة بينهما ثابتة.

ومنها : انّ النظام الأصلح بأي سبب تقع فيه تلك الشرور الاضافية؟! ، وبأيّ جهة لا بدّ من وقوعها فيه؟! ، ولم لا يمكن للواجب - تعالى - ايجاد هذا النظام كما هو بحيث لا يقع فيه تلك الشرور؟! ؛ فانّه لا شبهة في أنّ النظام إذا كان بحيث لم يقع فيه

ص: 468

تلك الشرور يكون أصلح ؛

والجواب عنه : انّ وقوعها من لوازم وقوع الممكنات وايجادها ، فانّ الممكن لا يمكن أن ينفكّ حقيقته ومهيته - وإن صار موجودا - عن عدم ما ، فيحتوي على شر ما البتة ، إلاّ / 103DA / انّه لا يظهر الشرّية فيه لنا إلى أن ينحطّ عن الوجود المحض والخير الصرف بمراتب كثيرة ، فكلّما تنزّل سلسلة العلل والمعلولات عن الواجب الحقّ يكون ظهور العدم والشرّية أكثر إلى أن يصل إلى النهاية.

وايجاد تلك الممكنات بحيث لا تشتمل حينئذ على تلك الأعدام اللازمة لذواتها أمر ممتنع ، لأنّه قلب للحقيقة. وعدم إيجادها رأسا منع لافاضة الوجود الغالب على العدم ، فهو شرّ كثير.

ومنها : انّ اقتداره على ايجاد الشرّ بالنظر إلى ذاته يوجب مناسبة الوجود المحض للعدم والخير الصرف للشرّ ، وهو باطل ؛ إذ لو لا تلك المناسبة لم يتصوّر امكان ايجاده بالنظر إلى ذاته ، فانّ مجرّد الامكان المذكور - أي : امكان الوقوع بالنظر إلى الذات - وإن لم يقع عنه بالنظر إلى العلم والإرادة يوجب تحقّق المناسبة المذكورة ؛

والجواب عنه : انّ امكان الصدور انّما هو بالنظر إلى ذات العلّة فقط - أي : الواجب تعالى - ، لا بالنظر إلى ذات المعلول - أعني : الشرّ أيضا - حتّى يلزم المناسبة.

فانّ المطلوب انّ صدور كلّ ممكن حتّى الشرّ بالنظر إلى ذات الواجب ممكن ، لأنّ ذاته - تعالى - من حيث هي لا يأبى ولا يعجز عن ايجاد كلّ شيء. إلاّ انّ بعض الأشياء لخسّتها وانحطاطها في درجات الوجود لا يناسب ذاته المقدّسة ، فلا يمكن صدورها بالنظر إلى ذواتها عن الواجب - تعالى - وإن امكن صدورها عنه بالنظر إلى ذاته - تعالى -.

ومنها : انّ تلك الشرور كثيرا ما يصيب بعض المظلومين من دون جرم وتقصير ، وهو ينافي الحكمة ولا يناسب العدل والرحمة ؛ ولهم أن يقولوا : بأيّ سبب اصابنا هذا الشرّ والظلم مع انّا عباد مطيعون لم يصدر منّا جرم وتقصير؟!.

وإن قيل لهم : هذا صلاح لنظام الكلّ! ؛

ص: 469

فلهم أن يقولوا : ليس من الحكمة والعدالة أن يظلم ويزجر مسكين فقير ويبتلى بأنواع العذاب والبليّات لأجل انّه صلاح لغيره. مع أنّ هذا لا يناسب القدرة التامّة الكاملة ، لأنّ الفاعل حينئذ عاجز عن ايجاد نظام الكلّ بحيث لا تقع فيه تلك الشرور ، ولا يمكنه ايجاد ما يوجده إلاّ باصابة الظلم والشرور ببعض الضعفاء والمساكين. وأيّ عجز أشدّ من عدم اقتداره على ايجاد هذا النظام بدون تلك الشرور؟! ؛

على أنّ بعض الموجودات الممكنة كالشيطان وغيره منبع الشرور أبد الآباد ، فليس في وجوده خيرية اصلا!.

والجواب : انّ اصابة بعض الشرور ببعض المظلومين مع قطع النظر عن كونه صلاحا / 108MB / بالنسبة إلى نظام الكلّ إنّما هو خير وصلاح بالنسبة إلى هؤلاء الاشخاص المظلومين ، لأنّه إمّا متضمّن لخير غالب لهم عاجلا أو آجلا بالذات أو بعوض اللّه - تعالى - عنهم بما يجبر هذا الشرّ والظلم - كما هو مذهب العدلية -. ولو كان صدور الشرّ الّذي يصيب المظلومين عمّن يصدر عنه بالقدرة والاختيار لا من قبيل فعل الطبائع فالأمر أظهر.

وأمّا ما ذكر من انّه لو لم يخلق النظام بحيث لا يقع فيه تلك الشرور ؛ فجوابه ما مرّ من أنّ تلك الشرور من الأعدام اللازمة لطبائع الممكنات ولا يمكن انفكاكها عنها ، ولو فرض انفكاكها عنها لزم انقلاب حقائقها ، ولو كانت وجودات محضة وخيرات صرفة خرجت عن الامكان. فعدم وقوع تلك الشرور يتوقّف على عدم صدور الممكنات رأسا ، وهو يؤدّي إلى قطع الفيض والجود رأسا ؛ ولا ريب في انّه شرّ كثير.

وما ذكر من انّ بعض الموجودات منبع الشرور أبد الآباد - كالشيطان - وأيّ شرّ أشدّ مفسدة من ايجاد مثل هذا الموجود ؛

ففيه : انّه على قاعدة انّ الوجود خير مطلقا يمكن القول بأنّه لا محذور في ذلك ، إذ الصادر منه ليس إلاّ الوجود وهو خير. غاية الأمر وجوب العوض عليه - تعالى - لو أصاب شرّه مظلوما - كما اشير إليه -.

ص: 470

مع انّه في ايجاده (1) فوائد عظيمة وخيرات جسيمة عائدة إلى النظام الأعلى ولا يعلمها أحد إلاّ خالقه.

وبما ذكر اندفعت شبهة الثنوية في اثنينية المبدأ مع ما يستنبط منها من لزوم نفي عدم قدرته - تعالى - من غير أن يلزم كونه - تعالى - فاعلا للشرّ ، لأنّه لمّا ثبت انّ الشرور مستندة إلى بعض الممكنات المخلوقة له - تعالى - مع كونها مقدورة له - تعالى - بالنظر إلى ذاته بلا واسطة أيضا - وبه يثبت كونها مقدورة له بالقدرة المستجمعة للشرائط بالواسطة وبالقدرة بالمعنى المشهور بلا واسطة - ، فيبطل اثنينية المبدأ ويثبت عموم القدرة بالمعنيين وإن كان العموم في احدهما بالواسطة ؛ ولا بأس فيه - كما تقدّم -.

ولمّا تقرر انّ تلك الشرور مع استنادها إلى غيره - تعالى - قليلة تابعة لخيرات كثيرة واقعة بالعرض فلا يكون الواجب - سبحانه - فاعلا بالذات / 103DB / لشرّ اصلا.

والعجب انّ الثنوية لمّا ارادوا تنزيهه - سبحانه - عن صدور الشرّ منه ارتكبوا ما هو أشدّ عنه وافضح! - أعني : اثبات اثنينية المبدأ ونفي عموم القدرة - ؛ هذا.

وقد اجاب بعض الأفاضل عن شبهة الثنوية بوجه آخر ؛ وهو : انّ الأمر الّذي يستندون إليه الشرّ لا يخلوا من أن يكون واجبا أو ممكنا ، فان كان واجبا بالذات فهو باطل ، لأنّ البرهان قائم على أنّ تعدّد الواجب بالذات ممتنع بالذات ؛ وإن كان ممكنا بالذات فلا يجوز أن يكون مفيضا لوجود ممكن آخر ، لانّه قد ثبت بالبرهان انّ مفيض الوجود لا يكون إلاّ الواجب بالذات.

فإن قيل : بناء على ما ذكرتم يلزم أن يكون وجود الشرّ من اللّه - تعالى - ، فيلزم أن يكون تعذيب العباد قبيحا! ؛

قلت : تعذيب العباد باعتبار انّ ارادتهم تكون جزء أخير من العلّة التامّة ، فمفيض الوجود هو اللّه - تعالى - وإرادة العبد شرط لافاضة وجود الشرّ.

هذا على تقدير كون الشرّ أمرا وجوديا.

أمّا على تقدير كون الشرّ عدما - كما نقل من الحكماء من أنّ الشرّ انّما هو العدم و

ص: 471


1- الاصل : ايجاد.

الوجود من حيث هو وجود خير - ، فلا احتياج في استناد الشرّ إلى مبدأ موجود ، لأنّ العدم يجوز أن يستند إلى عدم آخر ؛ كما انّ عدم المعلول مستند إلى عدم العلّة. فحينئذ ينهدم بنيان ما ذهب إليه الثنوية من انّ الشرّ لا بدّ له من مبدأ موجود ، لأنّ الشرّ إذا كان هو نفس العدم فلا يلزم أن يكون له مبدأ موجود ، لأنّ العدم يجوز أن يستند إلى عدم آخر كما انّ عدم المعلول مستند إلى عدم العلّة ؛ انتهى.

وأنت بعد الاحاطة بما ذكرناه خبير بجلية الحال في هذا الكلام صحّة وسقما!.

ثمّ الظاهر انّ مراد كلّ من الطوائف الثلاث - أعني : المجوس والمانوية والديصانية - ليس ما هو ظاهر كلامهم من القول بتعدّد المبدأ والذهاب إلى إلهين اثنين ؛

وأمّا المجوس : فلما أشير إليه من انّهم يقولون : انّ اهرمن مخلوق ليزدان وايجاده ليس شرّا ، بل انّما الشرّ منه. فيزدان أوجد اهرمن والشرور بأسرها انّما يصدر من اهرمن. وهذا كما ترى لا يدلّ على كون اهرمن مبدأ قديما يكون وجوده منه.

وأمّا المانوية والديصانية : فانّهم صرّحوا بأنّ النور - الّذي هو فاعل الخير - حيّ قادر عالم سميع ؛ ( و) (1) كيف يتّصف النور في المعنى المشهور بتلك الصفات؟! ؛ وكيف / 109MA / يقول عاقل بأنّ النور والظلمة مبدءان قديمان مستقلاّن بالوجود مع أنّهما عرضان محتاجان إلى الجسم؟! ، فيلزم قدم الجسم وكون الإله محتاجا إليه. فالظاهر انّ غرضهم معنى آخر سوى المتعارف.

أمّا المجوس فظاهر كلامهم أيضا - على ما نقلناه - لا يستلزم المخالفة لأصل التوحيد واصل عموم القدرة ، لأنّهم يستندون الجميع إليه - تعالى - ، لكنّهم لم يجعلوا الشرور مستندة إليه - تعالى - بلا واسطة لكونه خيرا محضا ، بل اسندوها إلى اهرمن ، وقالوا : انّ ايجاد اهرمن ليس شرّا بل خير ، لأنّ اعطاء الوجود خير مطلقا وانّما صدر الشر عن اهرمن لا منه - تعالى -.

وما قيل : انّ أيّ شرّ أشدّ مفسدة من ايجاد موجود يكون منبعا للشرور أبد الآباد ؛ مدفوع : بأنّه على قاعدة انّ الوجود خير مطلقا يمكن القول بانّه لا محذور في

ص: 472


1- لفظة ( و) لم توجد في النسختين.

ذلك ، إذ الصادر منه - تعالى - ليس إلاّ اعطاء الوجود وهو خير. غاية الأمر وجوب العوض عليه - تعالى - لو أصاب شرّه مظلوما - كما هو مذهب العدلية -.

ثمّ لو كان صدور الشرّ عن ذلك الشرير بالقدرة والاختيار لا من قبيل فعل الطبائع فما ذكرناه يكون ظاهرا جدّا. نعم! لو لم يجعلوا اهرمن معلولا ليزدان بل واجبا لذاته لكان كفرا ، إلاّ انّه خلاف ما صرّحوا به. وأيضا لو قالوا : انّه - تعالى - لا يقدر ذاته بذاته على ايجاد تلك الشرور بلا واسطة لكانوا أيضا من المخالفين في عموم القدرة ، لكن ذلك أيضا لا يظهر من كلامهم. نعم! لو كان مرادهم بأهرمن هو الشيطان - كما هو المشهور منهم - لم يصحّ نسبة جميع الشرور إليه ؛ إذ لا شكّ في وجود شرور لا يمكن استنادها إليه. فالحقّ انّ الشرور مستندة إلى الممكنات الّتي هي مبادي لها - سواء كان شيطانا أو نارا أو غيرهما -. فقولهما بالتخصيص تحكّم باطل ؛ هذا.

وقيل : يمكن أن يكون مراد المجوس من « اليزدان » : الوجود الواجبي ، ومن « الاهرمن » : الامكان ؛ ويرجع قولهم إلى انّ فاعل الخير هو الوجوب وفاعل الشرّ هو الامكان. فانّك قد عرفت انّ الخيرات كلّها راجعة إلى الوجود ومنبع الوجود هو الواجب - تعالى - ، والشرور كلّها راجعة إلى العدم ومنبع العدم هو الامكان ، وحينئذ لا يلزم شرك اصلا. لأنّ الشرك انّما يلزم لو كان كلّ من المبدءين موجودا ومؤثّرا في الوجود ، / 104DA / ولكنّه ليس كذلك ؛ بل احدهما موجود مؤثّر في الوجودات - وهو الواجب تعالى - والآخر عدمي منشئا للأعدام - وهو الامكان -.

غاية ما في الباب أن يكون اطلاق المؤثّر والفاعل على العدم الّذي هو الامكان على التجوّز - كما يقال : علّة العدم عدم علّة الوجود - ؛ انتهى.

وأمّا المانوية والديصانية وإن كان ظاهر كلامهم دالا على تحقّق مبدءين - كما عرفت - إلاّ أنّه لمّا كان ظاهر كلامهم ممّا لا يقول به عاقل - وقد صرّحوا أيضا بأنّ النور الّذي هو فاعل الخير حيّ عالم سميع درّاك - أوّل جماعة كلامهم بأنّ مرادهم من النور هو الوجود ، ومن الظلمة هو الامكان حتّى يؤول مذهبهم إلى أنّ فاعل الخير هو الوجود الواجبى وفاعل الشرّ هو الامكان ، لما مرّ من أنّ الخيرات كلّها راجعة إلى

ص: 473

الوجود والاعدام راجعة إلى العدم ، ومنبع الوجود هو الواجب - تعالى - ومنشأ الشرّ هو العدم ؛ ولا يلزم حينئذ شرك - كما مرّ في تأويل مذهب المجوس -. وعلى هذا يكون مرادهم من الخير والشرّ في شبهتهم : الوجود والعدم ومن الخيّر والشرّير : فاعل الوجود والعدم. فتقرير شبهتهم حينئذ : انّا نرى في العالم تحقّق الموجودات والاعدام والواحد لا يكون خيّرا شرّيرا - أي : فاعلا لهما - ، فيجب أن يتحقّق مبدءان. ثمّ لمّا وجب أن يكون فاعل الوجود وجودا وفاعل العدم عدما البتة فلو كان الفاعل لهما شيئا واحدا يلزم أن يكون خيرا محضا وشرّا محضا ، لأنّ الوجود خير محض والعدم شرّ محض. وبذلك يندفع ما لعلّه يقال : « انّه لمجرد تحقّق الوجودات والأعدام في العالم لا يلزم أن يكون شيء واحد - لو كان هو المبدأ - خيرا محضا وشرّا محضا ».

ثمّ كون الشيء الواحد خيرا محضا وشرّا محضا - أي : وجودا وعدما - بديهى البطلان ؛ ولذا قالوا : الواحد لا يكون خيّرا وشرّيرا - أي : خيّرا محضا أو شرّيرا محضا -. ولا يحمل الخيّر في شبهتهم على من يغلب خيره على شرّه ، والشرّير على من يغلب شرّه على خيره - كما ينبئ عنه ظاهر العبارة -. ولم يرد على هذا الحمل : انّ ذلك غير لازم ممّا ذكر - أي : لزوم كون الواحد بحيث يغلب خيره على شرّه وشرّه على خيره غير لازم من دليلهم - ، لأنّهم قالوا : نجد في العالم خيرا / 109MB / كثيرا وشرّا كثيرا ، وهذا لا يستلزم أن يكون كلّ واحد من الخير والشرّ غالبا ومغلوبا حتّى لو كان الفاعل لهما واحدا كان كلّ واحد من خيره وشرّه غالبا. لانّه يجوز أن يكونا متساويين في الكثرة أو أحدهما فقط غالبا. فلم يلزم من دليلهم ثبوت العلّية بهما معا حتّى يراد من الخير من يغلب خيره ومن الشرّ من يغلب شرّه على خيره. فتعيّن - كما اوردنا - أن يراد من الخير والشرّ : الخير المحض والشرّ المحض - بالتوجيه الّذي ذكرناه -. ولو لم يحمل الخيّر والشرّير على ذلك لتوجّه المنع على قولهم : الواحد لا يكون خيّرا وشرّيرا اذ لقائل أن يقول : يجوز أن يكون شيء واحد مبدأ للخير والشرّ ، إمّا بالتساوي أو مع غلبة أحدهما. وعلى ما ذكر من التأويل لكلامهم يكون كلامهم مرموزا ، فما يرد عليهم وإن كان متوجّها على ظاهر أقاويلهم الاّ أنّه لا يرد على

ص: 474

مقاصدهم ؛ لانّه لا ايراد على الرمز (1). والحمل على الوجوب والامكان مبنى قاعدة الاشراق في النور والظلمة الّتي كانت طريقة حكماء الفرس مثل جاماسب وبوزرجمهر وغيرهما ممّن كان قبلهما ، قال العلاّمة الشيرازي في شرح حكمة الاشراق : وعلى الرمز يبتنى قاعدة أهل الاشراق ، وهم حكماء الفرس القائلون بأصلين أحدهما نور والآخر ظلمة ، لانّه رمز على الوجوب والامكان. فالنور قائم مقام الوجود الواجبي والظلمة قائمة مقام الوجود الممكن ، لا أنّ المبدأ اثنان : أحدهما نور والآخر ظلمة ، لانّ هذا ممّا لا يقول به عاقل فضلا عن فضلاء فارس الخائضين غمرات العلوم الحقيقية ؛ ولذا قال النبيّ - صلی اللّه علیه و آله - في مدحهم : لو كان الدين بالثريا لتناوله رجال من فارس (2). ثمّ قال : وهي - أي : قاعدة الاشراق في النور والظلمة - ليست قاعدة كفر المجوس القائلين بظهور النور والظلمة وأنّهما مبدءان ، لأنّهم مشركون لا موحّدون ، وكذا كلّ من يثبت مبدءين مؤثّرين في الخير والشرّ كالقدرية - وكانّه بهذا المعنى أشار بقوله صلی اللّه علیه و آله : القدرية مجوس هذه الأمّة - (3). وليست أيضا قاعدة الحاد ماني البابلي الّذي كان نصرانى الدين مجوسي الطين ، وإليه ينسب الثنوية القائلون بإلهين أحدهما إله الخير وخالقه - وهو النور - والآخر إله الشرّ وخالقه - وهو الظلمة -. وليست / 104DB / أيضا قاعدة ما يفضي إلى الشرك باللّه - تعالى - كقواعد بعض المشركين من المليين وغيرهم (4) ؛ انتهى.

وعلى ما ذكره العلاّمة ليس مذهب الثنوية والمجوس قابلا للتأويل عنده بحيث يخرج عن الشرك والالحاد. وقد عرفت انّه يمكن أن يكون رمزا ومؤوّلا بما أوّل به قاعدة الاشراق ؛ بل قال بعضهم : انّ تاويل كلام الثنوية بما ذكر لو لم يكن أقرب من تأويل حكماء الفرس فليس بأبعد منه ؛ هذا.

وقد عدّ بعضهم الفلاسفة والمنجّمين والجبائية والنظام والبلخي أيضا من المخالفين في أصل عموم القدرة ؛ قال بعض المشاهير : (5) هذا - أي : عموم قدرة اللّه

ص: 475


1- الاصل : + على الرمز.
2- راجع : شرح حكمة الإشراق ، ص 18.
3- راجع : بحار الأنوار ، ج 5 ص 6 ؛ سنن أبي داود ، ج 4 ، ص 222 ، الرقم 4691.
4- راجع : شرح حكمة الاشراق ، ص 19.
5- هامش « د » : هو الفاضل السماكي.

- تعالى - أصل عظيم خالف فيه كثيرون ؛

الأوّل : الفلاسفة القائلون بأنّه واحد حقيقي لا يصدر عنه شيء بلا واسطة واحد ، هكذا في المواقف. وقد عرفت انّ الفلاسفة يقولون بايجاب الواجب لا بكونه قادرا ، فهم ينفون اصل القدرة لا عمومها.

الثّاني : المنجّمون ، ومنهم الصائبة القائلون بأنّ الكواكب بحركاتها مؤثّرات في الحوادث السفلية والتغيرات الواقعة في جوف الفلك من اختلاف الفصول الأربعة وتأثيرات الطبائع في المواليد. وأنت خبير بأنّ هذا من متفرّعات ايجاب الواجب وانّه لا يصدر عنه بلا واسطة إلاّ واحد.

الثالث : الثنوية ، ومنهم المجوس القائلون بأنّه - تعالى - لا يقدر على الشرّ.

الرابع : النظام ومتابعوه ، حيث ذهبوا - كما في المواقف - إلى انّه - تعالى - لا يقدر على القبيح. وما نقل عنه في بعض الكتب انّه قال : انّ اللّه - تعالى - لا يقدر على القبيح وما نقل عنه في بعض الكتب انّه قال : انّ اللّه - تعالى - لا يفعل القبيح ، فبينهما فرق بيّن. ولك أن تقول : إذا لم يفعل القبيح لم يقدر عليه ، إذ القدرة على الشيء بالمعنى المذكور يقتضي صحّة صدور ذلك الشيء في وقت وصحّة عدم صدوره في وقت آخر.

الخامس : أبو القاسم البلخي ومتابعوه ، حيث قالوا : انّه لا يقدر على مثل فعل العبد.

السادس : الجبائية ، حيث قالوا : انّه لا يقدر على عين فعل العبد.

وتفصيل دلائلهم وما يتوجّه عليها مذكور في شرح المواقف وغيره. واثبات عموم قدرته - تعالى - يبطل المذاهب المذكورة ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ ما نسب هذا القائل إلى الحكماء - : من انّهم / 110MA / ينفون اصل القدرة لا عمومها - ليس على ما ينبغي ، لما عرفت من أنّ الايجاب الّذي يقول به الحكيم لا ينفي القدرة بالمعنى الأوّل والقدرة بالمعنى المشهور ، لأنّ الايجاب عندهم انّما هو بعد العلم بالأصلح والإرادة لا مع قطع النظر عنهما ، والايجاب بالارادة لو كان منافيا للقدرة للزم مثل ذلك على المعتزلة وأكثر المحقّقين - كالمحقق الطوسي - ، والفرق بقدم الأثر و

ص: 476

حدوثه لا دخل له في ذلك.

وأمّا ما نسب إلى ساير الطوائف فالحقّ - كما افاده بعض أهل التحقيق - انّ أحدا من العقلاء لم ينف قدرة اللّه - تعالى - على جميع الممكنات مطلقا على التحقيق ، بل أرادوا بأجمعهم تنزيه اللّه - تعالى - وتقديسه ، فمنعوا صدور ما يحيله العقل على زعمهم عنه - تعالى - ، كصدور الكثرة عن الواحد الحقيقي بلا ترتيب - عند الحكماء - ، وصدور الشرّ - عند الثنوية - ، وصدور القبائح مطلقا - عند النظام - ، وصدور مثل فعل العبد وعينه - عند البلخي والجبائية -. وعلى هذا فالمعنى : انّ صدور تلك الأشياء وإن كان ممكنا عنه - تعالى - بالنظر إلى قدرته العامّة لكن بالنظر إلى وحدته الحقيقية أو حكمته أو ارادته ومشيّته يمتنع أن يصدر عنه - تعالى - شيء منها.

وعلى هذا لا يكون أحد من الطوائف المذكورة من المنكرين لهذا الأصل.

ص: 477

ص: 478

الفهرس التفصيلي

لمحتويات الكتاب

المجلد الأوّل

مفتتح الكتاب... 3

وجه تسمية الكتاب وبيان ترتيبه... 3

المقدّمة الأولى

في ابطال ترجّح المساوي والمرجوح وترجيحهما

رأي الأشاعرة بل أكثر المتكلّمين في قبال هذه المقدّمة... 4

نقد المصنّف عليه... 4

احتجاج الأشاعرة على هذا المعنى ونقد المصنّف عليه... 5

إشكال والجواب عنه... 5

المقدّمة الثانية

في انّ طرفي المعلول ما لم يجب لم يقع

بيان هذه المقدّمة... 5

المقدّمة الثالثة

في إبطال وجود الممكن بنفسه وبأولوية ذاتية أو خارجية

بيان قسمة عقلية لتبيين هذه المقدّمة... 6

ثلاثة ايرادات على هذه القسمة... 6

الايراد الأوّل والجواب عنه... 6

ص: 479

الايراد الثاني... 6

الجواب عنه... 7

الايراد الثالث... 7

جواب أجيب به عن هذا الايراد وتوضيح حول هذا الجواب... 7

إيراد أورد على هذا الجواب والجواب عنه... 9

إيراد على هذا الجواب... 10

الجواب عن هذا الايراد... 11

استدلال الشيخ في الشفا لصحّة هذه المقدّمة... 13

إيراد على هذا الاستدلال والجواب عنه... 13

اتّفاق جميع العقلاء على احتياج الممكن في وجوده إلى علّة خارجة إلاّ ذيمقراطيس... 13

أدلّة ذيمقراطيس على قوله والجواب عنها... 14

منها ( : دليله الأوّل )... 14

الجواب عن هذا الدليل... 14

منها ( : دليله الثاني )... 14

الجواب عن هذا الدليل... 15

منها ( : دليله الثالث )... 15

مقدّمة مهّدها المصنّف للجواب عن هذا الدليل... 15

اعتراضات على هذه المقدّمة... 16

تحقيق حول هذا الاعتراض... 18

ايرادات للمصنّف على هذا التحقيق... 21

تلخيص القول في بطلان مذهب ذيمقراطيس... 24

بطلان وجود الممكن بأولوية ذاتية... 24

تفسيران للأولوية... 24

إشكال والجواب عنه... 24

وجوه تدلّ على بطلان الأولوية... 25

منها ( : الوجه الأوّل )... 25

إيراد على هذا الوجه والجواب عنه... 25

ص: 480

منها ( : الوجه الثاني )... 26

منها ( : الوجه الثالث )... 26

إيراد على هذا الوجه والجواب عنه... 26

إيراد على هذا الجواب والجواب عن هذا الايراد... 27

منها ( : الوجه الرابع )... 27

منها ( : الوجه الخامس )... 28

إيرادات على هذا الوجه... 28

الايراد الأوّل والجواب عنه... 28

الايراد الثاني والجواب عنه... 28

الايراد الثالث والجواب عنه... 29

إيراد آخر في هذا الايراد... 29

الايراد الرابع... 30

إشكال والجواب عنه والاستشهاد بكلام الشيخ... 30

توضيح بعض أهل التحقيق حول كلام الشيخ... 31

الايراد الخامس... 32

إشكال والجواب عنه... 32

اعتراض على هذا الجواب والجواب عن هذا الاعتراض... 33

اعتراض آخر على نفس الجواب وجواب أجيب به عنه... 33

نقد المصنّف على هذا الجواب... 33

نقد آخر أورد على هذا الجواب... 33

جواب بعضهم عن هذا النقد... 34

جواب المصنّف عن هذا الجواب... 34

جواب قيل في الجواب عن هذا الجواب... 34

ردّ على هذا الجواب... 34

قول بعض الأفاضل ردّا على هذا الايراد... 35

نقد المصنّف هذا القول... 35

توجيه الفضلاء الدليل بحيث لا يرد عليه شيء من الايرادات المذكورة... 36

التوجيه الأوّل... 36

ص: 481

إشكال والجواب عنه... 36

التوجيه الثاني... 36

التوجيه الثالث... 36

نقد المصنّف هذه التوجيهات الثلاثة... 36

جواب المصنّف عن الايرادين الأخيرين... 37

إشكال والجواب عنه... 37

أمّا بطلان الأولوية الخارجية... 37

بيان المراد من هذه الأولوية... 37

بيان بطلان هذا القسم من الأولوية... 37

دليل استدلّ به بعض الأعلام على بطلان هذه الأولوية... 38

ارجاع المصنّف هذا الدليل إلى بعض الأدلّة السابقة... 38

المقدّمة الثالثة في احتياج الممكن إلى العلّة حدوثا وبقاء... 38

الآراء في علّة احتياج الأشياء إلى المؤثّر... 39

استدلال المصنّف على صحّة مذهبه... 39

دليل على بطلان كون الحدوث علّة للافتقار... 39

دليل آخر عليه... 39

إشكال والجواب عنه... 40

إشكال للمصنّف على القائلين بكون الحدوث علّة للافتقار... 41

إشكال على مذهب المصنّف... 41

الجواب عن هذا الاشكال... 42

المقدّمة الخامسة في ابطال الدور والتسلسل... 42

تعريف الدور وبيان أقسامه... 42

اقامة الدليل على بطلانه... 42

دليل آخر على بطلانه... 43

تعريف التسلسل... 43

أدلّة على ابطال التسلسل... 43

منها ( : الدليل الأوّل )... 43

تقرير هذا البرهان ، وهو المسمّى ببرهان التطبيق... 43

ص: 482

اعتراض على هذا البرهان والجواب عنه... 44

إشكال على هذا البرهان والجواب عن جزء منه... 44

الجواب عن جزء آخر من هذا الاشكال... 45

بيان مختار المصنّف من بين مذهبي الحكماء والمتكلّمين... 46

إشكال والجواب عنه... 47

إشكال آخر والجواب عنه... 48

إشكال ثالث والجواب عنه... 48

تقرير برهان التطبيق بنحو آخر... 49

منها ( : الدليل الثاني )... 49

منها ( : الدليل الثالث )... 50

تقرير هذا البرهان ، وهو المسمّى ببرهان التضايف... 50

إشكال لبعض الأفاضل في هذا البرهان... 51

الجواب عن هذا الاشكال... 51

إشكال والجواب عنه... 52

إشكال آخر... 52

الجواب عن هذا الاشكال... 53

منها ( : الدليل الرابع )... 53

إشكال والجواب عنه... 54

منها ( : الدليل الخامس )... 54

منها ( : الدليل السادس )... 54

منها ( : الدليل السابع )... 55

منها ( : الدليل الثامن )... 56

إشكال والجواب عنه... 56

إشكال آخر... 56

الجواب عن هذا الاشكال... 57

منها ( : الدليل التاسع )... 57

المقالة الأولى

ص: 483

في اثبات واجب الوجود لذاته

كون معرفة صانع العالم فطرية ومعرفة وجود الواجب بالذات وصفاته نظرية... 61

مسالك العقلاء في اثبات الواجب... 61

الأوّل

مسلك الحكماء

ذكر مناهج الحكماء في هذا المطلب... 61

وجوه تتوقّف على ابطال الدور والتسلسل... 61

المنهج الأوّل

وتقريره من وجوه... 61

منها ( : الوجه الأوّل )... 62

منها ( : الوجه الثاني )... 62

منها ( : الوجه الثالث )... 62

منها ( : الوجه الرابع )... 62

منها ( : الوجه الخامس )... 62

منها ( : الوجه السادس )... 63

منها ( : الوجه السابع )... 63

وجوه لا تتوقّف على ابطال الدور والتسلسل أو لا تتوقّف على ابطال التسلسل... 63

منها ( : الوجه الأوّل ) : تقرير هذا الوجه بوجه أخصر وأوضح... 63

منها ( : الوجه الثاني ) : بيان الفرق بين هذا الوجه والوجه الأخصر السابق عليه... 64

منها ( : الوجه الثالث )... 65

بيان مقدّمتين يتوقّف هذا البرهان عليهما... 65

منها ( : الوجه الرابع )... 65

قول محقّق الخفري في بيان لزوم الدور في هذا الوجه... 66

إشكال للمصنّف على جزء من هذا القول... 66

إشكال للسمّاكي على جزء آخر من هذا القول... 66

جواب سيّد الحكماء عن إشكال السمّاكي... 66

إيراد العارف الشيرازي على هذا الجواب... 67

جواب الفاضل اللاهيجي عن هذا الايراد... 67

ص: 484

تحرير مذاهب الحكماء والمتكلّمين في الوجود لتحقيق الحقّ في هذا المقام... 68

أمّا مذهب الحكماء في الوجود... 68

أمّا مذهب المتكلّمين في الوجود... 69

بيان حاصل إيراد السمّاكي وجواب السيّد وإيراد العارف الشيرازي وجواب الفاضل اللاهيجي عنه 69

تلخيص هذا التحقيق... 70

إشكال للمصنّف على كلام سيّد الحكماء... 71

إشكال للمصنّف على كلام اللاهيجي... 71

دفع ما أورده بعض الأفاضل على هذا الاستدلال... 72

منها ( : الوجه الخامس )... 73

نقد ما قيل دفعا لهذا البرهان... 73

تقرير هذا البرهان بوجه آخر... 73

إشكال للمصنّف على هذا التقرير... 73

إشكال والجواب عنه... 74

تقرير بعض الأفاضل هذا البرهان من إلهيات الشفا... 74

نقل كلام الشفا... 74

إيراد للمصنّف على هذا الاستدلال... 75

تلخيص القول في ضعف هذا الاستدلال... 76

هذا الطريق هو طريق الصدّيقين... 76

إشكال والجواب عنه... 76

جواب آخر عن هذا الاشكال والجواب عن هذا الجواب... 77

منها ( : الوجه السادس )... 77

إشكال والجواب عنه... 77

دفع ما أورد على هذا البرهان... 78

قول بعض الأفاضل ودفع المصنّف هذا القول... 79

إشكال والجواب عنه... 79

قول آخر لبعض الأفاضل ودفع المصنّف أيضا - هذا القول... 80

منها ( : الوجه السابع )... 80

ص: 485

تقرير شبهة أوردت على هذا الوجه... 80

إشكال على هذه الشبهة ودفعه... 81

دفع المصنّف أصل هذه الشبهة... 81

جريان هذه الشبهة في بعض البراهين المتقدّمة والآتية ، والجواب عنها... 81

منها ( : الوجه الثامن )... 81

منها ( : الوجه التاسع )... 82

منها ( : الوجه العاشر )... 82

هذا البرهان هو المعروف ببرهان الأسدّ والأخصر ، وتقريره... 82

تقرير آخر لهذا البرهان... 82

منها ( : الوجه الواحد بعد العشر )... 83

وهو برهان الضرورة من اللاضرورة ، وتقريره... 83

منها ( : الوجه الثاني عشر )... 83

وهو برهان الأولوية ، وتقريره... 83

إشكال والجواب عنه... 84

إشكال آخر والجواب عنه... 84

منها ( : الوجه الثالث عشر )... 84

منها ( : الوجه الرابع عشر )... 84

إشكال على هذا البرهان... 85

جوابان عن هذا الاشكال... 85

عدم تمامية هذا البرهان في رأي المصنّف... 85

منها ( : الوجه الخامس عشر )... 85

هذا البرهان أورده الشيخ في إلهيات الشفا ، وتقريره... 85

إشكال والجواب عنه... 86

نقد المصنّف هذا الجواب... 86

تتميم

توقّف أكثر هذه الأدلّة على مقدّمتين ، وبيان تمامية هاتين المقدّمتين... 86

بيان تمامية المقدّمة الأولى ، وبيانها بوجهين... 86

الوجه الأوّل... 87

ص: 486

دفع المصنّف ما أورد على هذه المقدّمة... 87

إشكال ، وجواب بعض الأفاضل عنه... 88

ردّ المصنّف هذا الجواب... 88

الجواب الصحيح عن هذا الاشكال... 89

إشكال آخر والجواب عنه... 89

جواب بعض الأفاضل عن هذا النقض... 89

جواب بعض أهل التحقيق عن هذا الجواب... 89

دفع ما أورده بعض الأفاضل على هذا الكلام... 90

تقرير ثان للمقدمة المذكورة... 91

إيراد على هذا التقرير والجواب عنه... 92

بيان تمامية المقدّمة الثانية... 92

إشكال على هذه المقدّمة والجواب عنه... 92

إشكال آخر على تلك المقدّمة... 92

الجواب عن هذا الاشكال... 93

إشكال للمصنّف على هذا الجواب... 93

فائدة

تصريح القوم بأفضلية هذا المنهج من المناهج الآتية... 93

وجه أوثقية هذا المنهج بالنسبة إلى طريقة الطبيعيّين... 94

وجه أوثقية هذا المنهج بالنسبة إلى طريقتى المتكلّمين... 94

وجه أوثقية هذا المنهج بالنسبة إلى طريقة الامكان الوقوعي... 94

قول قيل في وجه الأوثقية... 95

إشكال والجواب عنه... 95

هذا رأي المتكلّم والحكيم ، وأمّا رأي الصوفية... 96

توقّف هذا القول على مقدّمة يأتي بيانها... 96

قول بعض العقلاء في بيان ما حكم به الشيخ ، ونقد المصنّف عليه... 96

قول آخر في هذا المضمار ، ونقد المصنّف أيضا عليه... 96

بيان كلام المنطقيّين ردّا على هذا القائل... 97

إشكال على كلام المنطقيّين... 98

ص: 487

الجواب عن هذا الاشكال... 99

نقد القول بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم التامّ بالمعلول ، بخلاف العكس... 99

الاستشهاد بكلام النبيّ - صلی اللّه علیه و آله - وشيخي الحكماء... 100

قول بعض مؤيّدا هذا المبنى ، والجواب عنه... 100

إشكال والجواب عنه... 103

تلخيص القول في عدم تمامية أوثقية اللمّي من الإنّي... 104

وجوها ذكروها لبيان لمّية منهج الإلهيين... 104

منها ( : الوجه الأوّل )... 104

نقد المصنّف هذا الوجه... 104

ضعف ما ذكره بعض المشاهير المعتقدين للمّيّة هذا المنهج... 105

بيان وجه ضعفه... 105

منها ( : الوجه الثاني )... 105

قول بعضهم دفعا للايراد المشهور المورد على هذا الوجه... 106

نقد المصنّف هذا القول... 106

دفع المصنّف ما افتخر به بعض الفضلاء بالتفطّن به... 106

قول بعضهم بكون جميع براهين اثبات الواجب لمّية وردود للمصنّف عليه... 108

إيراد على هذا الوجه... 108

جواب بعض الأفاضل عن هذا الايراد... 109

ردّ المصنّف هذا الجواب... 110

منها ( : الوجه الثالث )... 111

نقد المصنّف هذا الوجه... 112

إشكال ليوجّه به هذا الوجه... 112

قول بعضهم في هذا المضمار وجواب بعض آخر عنه... 113

نقد المصنّف هذا الجواب... 114

الصحيح من الجواب على رأي المصنّف... 115

تلخيص القول في كون جميع براهين اثبات الواجب إنّية لا لمّية... 115

هاهنا دقيقة لا بدّ أن يشار إليها... 115

إشكال والجواب عنه... 117

ص: 488

المنهج الثاني

وهو الاستدلال بمجرد الامكان الوقوعي

تقرير هذا المنهج... 117

نقد بعض الأفاضل هذا المنهج... 118

تأييد المصنّف هذا النقد... 118

المنهج الثالث

وهو بالنظر في طبيعة الحركة

المنقول عنهم في اثبات الواجب على هذا المنهج طريقان... 119

الطريقة الأولى... 119

إيراد على هذه الطريقة... 119

الطريقة الثانية... 120

تقرير هذه الطريقة... 120

تقرير آخر لهذه الطريقة... 120

تقرير ثالث لهذه الطريقة... 121

ايرادات على هذه الطريقة... 123

منها ( : الايراد الأوّل )... 123

الجواب عن هذا الايراد... 123

إشكال على هذا الجواب... 124

منها ( : الايراد الثاني )... 127

إشكال والجواب عنه... 127

الجواب عن هذا الايراد... 127

إشكال والجواب عنه... 128

منها ( : الايراد الثالث )... 128

منها ( : الايراد الرابع )... 128

إشكال والجواب عنه... 131

نقد المصنّف هذا الجواب... 131

جواب آخر ونقد المصنّف هذا الجواب أيضا... 131

الجواب الصحيح على رأي المصنّف... 131

ص: 489

إشكال على هذا الجواب والجواب عنه... 132

إشكال آخر والجواب عنه... 133

إشكال ثالث والجواب عنه... 133

إشكال على هذا الجواب والجواب عن هذا الاشكال... 135

تلخيص القول في أنّ هذه الطريقة أيضا - كطريقتهم الأولى - لا يسمن ولا يغني عن جوع 135

اثبات هذه الطريقة وجود ما هو أعلى وأشرف من الفلكيات... 135

قول بعض بكون هذه الطريقة هي طريقة الخليل - ع -... 135

ردّ بعض الأفاضل قول هذا القائل... 135

نقد المصنّف على هذا الردّ... 135

المنهج الرابع

وهو النظر في النفس الناطقة الانسانية

المنقول في هذا المنهج طريقان... 137

الطريقة الأولى... 137

الطريقة الثانية... 137

نقد المصنّف هذا المنهج... 137

المسلك الثاني

مسلك المتكلّمين

للمتكلّمين طريقتان... 137

الطريقة الأولى ، وهي طريقة الّذين جعلوا علّة الحاجة هي الحدوث... 137

إيراد على هذه الطريقة... 138

الاستدلال الصحيح على هذه الطريقة... 138

الطريقة الثانية... 138

هذه الطريقة كسابقتها تقريرا وايرادا وتوجيها... 138

المسلك الثالث

مسلك أهل الكشف من الصوفية

تقرير هذا المسلك... 138

تشابه هذا المسلك مع ما مضى سابقا... 140

ص: 490

نقد لطيف للمصنّف على هذا المسلك... 140

المقالة الثانية

في صفاته الثبوتية والسلبية

وفيه مقدّمة وبابان... 144

المقدّمة

في الاشارة إلى أصناف صفاته

تقسيم صفاته - تعالى - إلى الثبوتية والسلبية... 144

تحديد كلّ واحد منهما... 144

تقسيم الصفات الثبوتية إلى قسمين... 144

تحديد الصفات الثبوتية الحقيقية... 144

تحديد الصفات الثبوتية الاضافية... 145

تقسيم الصفات الثبوتية حسب ما ورد في الأحاديث... 145

بيان هذين القسمين وتحديدهما... 145

مرجع جميع صفات اللّه - تعالى -... 146

إشكال وما أجاب به بعض الفضلاء عنه... 147

نقد المصنّف هذا الجواب... 147

المشهور في الجواب عن هذا الاشكال ، ونقد المصنّف عليه... 147

احالة تحقيق القول في عينية الصفات إلى ما يأتي... 147

الباب الأوّل

في صفاته الثبوتية الكمالية

في هذا الباب فصول... 150

الفصل الأوّل

في قدرته - تعالى -

للقدرة عند الحكماء تفسيران... 152

بيان كلّ واحد منهما ، وانّهما متلازمان... 152

كون تفسير الأوّل للمتكلّمين والثاني للحكماء ، ورأي المصنّف فيه... 152

لا نزاع في ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب عند الحكماء... 153

ص: 491

تفسير آخر لهذين المعنيين... 153

قول الأشاعرة والمعتزلة من المتكلّمين في ذلك... 153

تفرّد المتكلّمين باثبات القدرة بهذا المعنى... 154

ثبوت النزاع بين الحكماء والمتكلّمين في مقامين... 154

إشكال والجواب عنه... 154

إشكال آخر والجواب عنه... 155

إشكال ثالث والجواب عنه... 156

القول بصدور الفعل في الوقت الخاص على سبيل الوجوب مخصوص ببعض المعتزلة ، والاستشهاد بكلام المحقّق في شرح الاشارات 158

آراء المعتزلة وفرقهم مع اتّفاقهم على الحدوث... 159

قد ظهر ممّا ذكر انّ للقدرة والإيجاب معان أربعة... 159

تحقيق انّ الثابت للواجب من المعانى الأربعة ما ذا... 161

أمّا المعنى الأوّل فلا ريب في ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب... 161

المبادي الأربعة لصدور الفعل الاختياري منّا... 161

اتفاق الكلّ من المليّين والحكماء على اثبات القدرة بهذا المعنى له - تعالى -... 162

أمّا القدرة بالمعنى الثاني... 162

اتفاق الكلّ على اثبات القدرة بهذا المعنى له - تعالى - أيضا... 162

الدليل على اتصافه - تعالى - بالقدرة بهذا المعنى... 162

ايرادات ثلاثة على هذا الدليل... 163

الايراد الأوّل والجواب عنه... 163

الايراد الثاني... 163

الجواب عن هذا الايراد... 164

تقرير بعض الأعاظم هذا الايراد... 164

جواب بعض الأفاضل عن هذا الايراد... 165

نقد المصنّف هذا الجواب... 165

قول قيل في دفع الايراد المذكور... 166

قول آخر قيل في دفع الايراد المذكور... 166

إيراد أورد على هذا القول... 167

ص: 492

إيراد آخر أورد على هذا القول... 167

الايراد الثالث... 167

قول بعض أهل التحقيق فرارا عن هذا الايراد... 168

نقد المصنّف هذا القول... 168

الجواب عن هذا الايراد على رأي المصنّف... 168

إشكال على هذا الجواب... 168

الجواب عن هذا الاشكال... 169

إشكال آخر والجواب عنه... 170

هذا الجواب وما يؤدّي إليه محلّ كلام... 171

توضيح هذا الكلام ببيان أقسام الفواعل الستّ من بيان بعض الأعلام... 171

الآراء في كيفية كونه - تعالى - فاعلا... 172

رأي الدهرية والطبيعيّين في ذلك... 172

رأي جمهور المتكلّمين في ذلك... 172

رأي الرئيس ومتابعوه في ذلك... 172

رأي صاحب الاشراق في ذلك... 173

رأي هذا القائل في ذلك... 173

القول بالفاعلية بالعناية لا يلائم القول بثبوت القدرة بهذا المعنى... 173

إشكالان والجواب عنهما... 173

إشكال آخر والجواب عنه... 174

ما ذكره بعض الأعلام ، وبيان فساده... 174

بيان وجه الفساد... 175

إشكال والجواب عنه... 176

إشكال آخر والجواب عنه... 176

امّا القدرة بالمعنى الثالث... 177

النزاع في هذا المعنى يرجع إلى النزاع في حدوث العالم وقدمه... 178

تحقيق

حول كيفية حدوث العالم

مذهب الحكماء انّ العالم حادث بالحدوث الذاتي... 178

ص: 493

مذهب السيد الداماد وجلّ من تأخّر عنه في هذا المضمار... 178

مذهب جمهور المتكلّمين في ذلك... 178

تلخيص القول في أقسام الحدوث... 178

الفرق بين حدوثى الذاتي والزماني ، والدهري والذاتي... 179

الوجه في تسمية هذا القسم بالدهري... 179

الحقّ الحقيق بالتصديق عند المصنّف هو الحدوث الدهري... 180

تصريح السيّد بكون المتنازع فيه هو الحدوث الدهري... 180

تبيين مراده والاستشهاد بكلام بعض المحقّقين... 181

قول بعض الأفاضل ردّا على قول هذا المحقّقين وقول السيّد... 181

نقد المصنّف جزء من هذا الكلام... 182

تحقيق انّ النزاع بين الحكماء في أيّ معنى من معانى الحدوث... 182

قول بعض أهل التحقيق وردّ المصنّف عليه... 183

بيان مذهب أفلاطون من بين هذه المذاهب... 184

تلخيص القول في المتنازع فيه من معانى الحدوث بين الحكماء... 184

المتنازع فيه في رأي المصنّف هو الحدوث الذاتى... 184

تحقيق الحق على ما اختاره المصنّف يتوقّف على بيان أمرين... 185

الأمر الأوّل : بيان تناهي العالم من جانب البداية... 185

دلائل على ذلك... 185

منها ( : الدليل الأوّل )... 185

منها ( : الدليل الثاني )... 186

منها ( : الدليل الثالث )... 186

منها ( : الدليل الرابع )... 186

إشكال على هذا الدليل... 186

أجوبة المصنّف عن هذا الاشكال... 187

جميع مقدّمات هذا الدليل ظاهرة ، إلاّ استحالة عدم القديم... 188

تحقيق المصنّف في استحالة عدم القديم ، ليتمّ به هذا الدليل... 188

الاعتراض على هذا التحقيق بوجهين... 189

الجواب عن ثانى الاعتراضين والجواب عن هذا الجواب... 189

ص: 494

رأي المصنّف قبال هذا الاعتراض... 190

إشكال على هذا الرأي... 191

الجواب عن هذا الاشكال... 192

إشكال والجواب عنه... 192

إشكال آخر والجواب عنه... 192

( منها ) ( الدليل الأوّل )... 193

اجماع الأنبياء - ع - والاستشهاد بنبوي شريف... 194

إشكال على دلالة هذا النبوي... 194

الجواب عن هذا الاشكال... 194

الايراد على أصل هذا الدليل والجواب عنه... 195

الاستشهاد بكلام غياث الحكماء... 195

قول بعض الفضلاء مؤيّدا هذا الجواب... 195

اعتراضان على هذا القول... 196

الفرق بين هذا الجواب وجواب غياث الحكماء... 196

تلخيص القول في انحصار الأمر بين حدوثي الزماني والدهري... 196

إشكال على ما استفادوه من دليل تناهي العالم... 197

الجواب عن هذا الاشكال... 197

الاستشهاد بقدسيّ شريف... 197

أدلّة أخرى لاثبات حدوث العالم ، وهي غير تامّة... 197

منها ( : الدليل الأوّل )... 198

منها ( : الدليل الثاني )... 198

منها ( : الدليل الثالث )... 198

ردّان للمصنّف على هذه الأدلّة الثلاثة... 198

الأمر الثاني : بيان بطلان الزمان الموهوم... 198

تبيين مراد المتكلّمين من الزمان الموهوم... 198

تأييد ما ذكرناه بكلام بعض أصحابنا المحدّثين... 199

وجوه تدلّ على بطلان ثبوت زمان الموهوم قبل ايجاد العالم... 199

منها ( : الوجه الأوّل )... 199

ص: 495

إيراد على هذا الوجه... 199

نقد المصنّف هذا الايراد... 200

منها ( : الوجه الثاني )... 201

إشكال والجواب عنه ، والاستشهاد بكلام المحقّق الداماد... 201

إيراد بعض الأفاضل على كلام هذا المحقّق... 202

أدلّة أخرى على بطلان هذا الزمان... 202

منها ( : الوجه الثالث )... 202

منها ( : الوجه الرابع )... 203

منها ( : الوجه الخامس )... 203

إيراد على هذا الوجه... 204

إيراد للمصنّف على هذا الايراد... 204

إشكال آخر على هذا الوجه... 204

الجواب عن هذا الاشكال... 205

إيراد للمصنّف على كلام هذا المورد... 205

الاستشهاد بأحاديث دلّت على تقدّس ذاته عن الاتيان إلى الزمان... 205

منها ( : الوجه السادس )... 206

إيراد على هذا الوجه... 206

إيراد للمصنّف على هذا الايراد... 206

إشكال والجواب عنه... 207

إشكال آخر والجواب عنه... 207

إشكال ثالث والجواب عنه... 208

منها ( : الوجه السابع )... 208

إشكال على هذا الوجه... 208

الجواب عن هذا الاشكال... 209

بهذا الجواب يندفع ما ذكره بعض الأفاضل ، وبيان وجه الاندفاع... 209

كذلك يندفع ما ذكره بعض أصحابنا القميّين... 209

بيان وجه الاندفاع والاستشهاد بكلام الاستاذ المازندراني... 210

منها ( : الوجه الثامن )... 211

ص: 496

إيراد بعض الأفاضل على هذا الوجه ونقد المصنّف على هذا الايراد... 211

منها ( : الوجه التاسع )... 212

إشكال والجواب عنه... 212

إشكال آخر والجواب عنه... 212

قصور هذا الوجه للدلالة على المقصود... 213

تأييد بطلان هذا الزمان ببرهان آخر أورده بعض الأفاضل... 213

إشكال على هذا البرهان وتقويته بكريمتين قرآنيّتين... 214

الجواب عن هذا الاشكال... 214

تلخيص القول في بطلان الزمان الموهوم وحقّية الحدوث الدهري... 214

ملاك التقدّم في كلّ من حدوثي الزماني والدهري... 215

بيان اقسام التقدّم وذكر الملاك في كلّ منهما... 216

الاشكال بأن التقدّم الدهري ليس من هذه الأقسام فلا يكون صحيحا... 216

الجواب عن هذا الاشكال والقول بثبوت هذا التقدّم... 216

إشكال آخر وهو القول بأن التقدّم الدهري هو نفس التقدّم الذاتي... 216

الجواب عن هذا الاشكال ببيان الفرق بينهما... 217

إشكال ثالث... 217

الجواب عن هذا الاشكال... 218

إشكال رابع أورده بعض مثبتي هذا الزمان... 218

الجواب عن هذا الاشكال... 219

بهذا التحقيق يندفع عنّا ما أورده بعض مثبتي الحدوث الذاتي... 220

بيان وجه الاندفاع... 221

إشكال والجواب عنه... 224

إشكال آخر والجواب عنه... 224

أدلّة احتجّ بها الحكماء القائلين بقدم العالم... 227

احدها ( الدليل الأوّل )... 227

الجواب عن هذا الدليل... 227

هذا الجواب يتأتّى عند من جعل الداعى آن أوّل الايجاد... 228

المذاهب في اثبات الداعي لفعله - تعالى - خمسة ، وبيان كلّ واحد منها... 228

ص: 497

ارجاع اثنين من تلك المذاهب إلى مذهب واحد... 229

جواب بعض الأعلام المتأخّرين عن الايراد المذكور... 229

بيان حاصل هذا الجواب ببيان المصنّف... 230

نقد المصنّف هذا الجواب... 231

ثانيها ( الدليل الثاني )... 231

الجواب عن هذا الدليل... 231

ثالثها ( الدليل الثالث )... 232

الجواب عن هذا الدليل... 232

تلخيص القول في انّ هذه الأدلّة لا تنتهض حجّة على القائلين بالحدوث الدهري مطلقا 232

تحقيق

في كيفية ربط الحادث بالقديم

بيان كيفية ربط الحادث بالقديم على القول بالحدوث الدهري... 232

بيان طريقة الحكماء في كيفية الربط بينهما... 233

إشكال والجواب عنه... 236

قول قيل تبيينا لمرام المحقّق الطوسي... 236

اتّفاق الحكماء على أنّ الواسطة لربط الحادث بالقديم هو العقل... 237

قول بعض انتصارا لطريقة الحكماء... 237

إشكال مقدّر وجواب هذا القائل عنه... 238

خمسة اشكالات للمصنّف على هذا الكلام... 238

أمّا طريقة القائلين بالزمان الموهوم في ربط الحادث بالقديم... 239

قول بعض القائلين بالزمان الموهوم تقوية لهذا المعنى... 240

نقد المصنّف هذا القول... 240

أمّا طريقة القائلين بالحدوث الدهري... 240

هذه الطريقة هي مختارنا ، ولا يرد عليها شيء... 240

تتميم

في بيان مذهب محقّق الطوسي من أقسام الحدوث

الجزم انّ مختار المحقّق من أقسام الحدوث هو الحدوث الدهري... 241

ص: 498

إشكال على هذا الجزم والجواب عنه... 241

إشكال آخر والجواب عنه... 242

إيراد والجواب عنه... 242

إشكال رابع والجواب عنه... 242

بيان فساد ما ذكره بعض المحشّين ، ووجه فساده... 242

إيراد آخر أورد على ما ذكره هذا المحشى... 243

جواب بعض الأفاضل عن هذا الايراد... 243

ما ذكره بعض الأفاضل ، وبيان فساده... 243

عود إلى ما سبق من أبحاث القدرة

الرجوع إلى اثبات القدرة بالمعنى الثالث... 244

بثبوت القدرة بهذا المعنى يبطل الايجاب المقابل لها... 244

أمّا القدرة بالمعنى الرابع... 244

القول بها مختصّ بالأشاعرة... 244

نقد المصنّف هذا القول... 245

تلخيص القول في ثبوت القدرة بالمعانى الثلاثة الأوّل له - تعالى -... 245

إشكال والجواب عنه... 246

إشكال آخر والجواب عنه... 247

قول من لا يعبأ به من المتكلّمين في ربط الحادث بالقديم... 247

نقد المصنّف هذا القول... 247

إشكال والجواب عنه... 247

إشكال وتوضيح المصنّف حول هذا الاشكال... 248

قول فخر الرازي وجواب المصنّف عنه... 248

الحقّ في مختار المحقّق الطوسي في مرجّح آن الحدوث... 250

استلزام الحدوث لثبوت القدرة بالمعنى الثاني... 250

إشكال والجواب عنه... 250

لا نحتاج إلى الاستدلال على نفي الايجاب المقابل بالمعنى الثالث... 250

وجوه الاختلال في الاستدلال عليه بما تقدّم... 251

منها ( : الوجه الأوّل )... 251

ص: 499

الجواب عن هذا الوجه والردّ على هذا الجواب... 251

تفصيل مذاهب المعتزلة في الداعي وكيفية الحدوث... 251

مذهب المحقّق الطوسي... 251

مذهب الكعبي واتباعه... 252

مذهب قدماء المعتزلة... 252

مذهب بعض المعتزلة وتفسيره... 252

إشكال على هذا التفسير... 252

تاييد ما ذكرناه بما قاله بعض الأعاظم... 253

إشكال والجواب عنه... 253

إشكال آخر... 253

الجواب عن هذا الاشكال... 254

إشكال ثالث والجواب عنه... 254

اعتراض بعض الفضلاء على ما ذكرناه... 254

نقد المصنّف هذا الاعتراض... 255

إشكال والجواب عنه... 255

إشكال على هذا الجواب... 255

عدم تمامية الاستدلال المذكور على قاعدتنا وقاعدة الاعتزال... 256

النافون للايجاب فرقتان ، وتفصيل ذلك... 257

تمشّي الاستدلال المذكور من جانب الفريقين... 257

دفع ما ذكره الامام في هذا المضمار... 257

دفع ما ذكره بعض الأعلام ، ووجه الاندفاع... 258

ايرادان أوردا على هذا التفصيل... 258

إشكال والجواب عنه... 259

إشكال آخر والجواب عنه... 260

قول بعضهم بأنّ التوقّف على الشرط الحادث لا يقول به إلاّ شر ذمة من القائلين بالقدم 261

الاستشهاد بكلام صدر المحقّقين وولده... 261

قول بعض اهل التحقيق منكرا كلام هذين العلمين... 261

ص: 500

قول قيل في بيان ورود المعارضة على المعتزلة ، وإشكال للمصنّف فيه... 261

إشكال آخر بورود المعارضة على الأشعري أيضا... 263

الجواب عن هذا الاشكال... 263

رأي المصنّف حول هذا الاشكال والجواب عنه... 263

تلخيص القول في أنّ هذا الدليل لا يجري لا من قبل الأشعري ولا من قبل غيره... 263

وجه اندفاع هذا البرهان... 263

قول بعض الفضلاء بكون الدليل المذكور من قبل الأشاعرة غير تامّ... 264

قول بعض اهل التحقيق وبعض آخر ردّا عليه... 265

بقي في المقام اشتباه تجب الاشارة إليها... 266

وجه دفع هذا الاشتباه... 267

استعجاب المصنّف ممّا قاله بعض الأعاظم في هذا المقام سؤالا وجوابا... 268

بيان وجه التعجّب... 268

رأي المصنّف في هذا الجواب الّذي ذكره هذا القائل... 268

قول ربما يتراءى في هذا المقام أن يقال ، وردّه... 269

تنبيه

رفع ما ربما يتوهّم من قبل الأشاعرة... 269

توضيح هذا الوهم... 269

بيان بطلان الترجيح بلا مرجّح... 270

بيان بطلان نفي الايجاب الخاصّ... 270

منها ( : الوجه الأوّل )... 271

منها ( : الوجه الثاني )... 272

منها ( : الوجه الثالث )... 273

إيراد على هذا الوجه... 273

إشكال والجواب عنه... 273

منها ( : الوجه الرابع )... 274

نقد المصنّف هذا الوجه... 274

منها ( : الوجه الخامس )... 274

اظهار ضعف ما أورده بعض الأفاضل... 275

ص: 501

تلخيص القول في ضعف هذا الايراد... 275

كلام بعض الأفاضل ونقد المصنّف جزء منه... 276

قول آخر لبعض الأفاضل وإيراد أورد عليه... 276

منها ( : الوجه السادس )... 277

اعتراض بعض الأفاضل على هذا الوجه... 277

نقد المصنّف هذا الاعتراض... 277

بيان حقيقة معنى الايجاب والموجب... 278

توضيح لفظي الموجب والموجب... 278

الواجب عند الحكماء يكون موجبا تامّا... 279

تفسير آخر للفظي التامّ والناقص... 279

اظهار ضعف ما ذكره بعض الأفاضل ، وبيان وجه ضعفه... 279

إيراد بعض الفضلاء على ما نقلناه عن بعض الأفاضل... 279

نقد المصنّف هذا الايراد... 280

بيان منشأ تكفير المتكلّمين للحكماء... 280

منشأ هذا التكفير زعم فاسد... 280

اعتراض بعض الأعاظم ونقد المصنّف عليه... 280

إيراد آخر على كلامه... 281

إيراد ثالث عليه... 281

قيل : يتقوّى هذا الاستدلال بأمرين آخرين ، وبيانهما... 281

بيان معنى تعاقب الشروط واجتماع الشروط... 281

كلام بعض الأفاضل في هذا المضمار ، ونقد المصنّف عليه... 282

اطلاقان للشرط... 282

قول بعض الأفاضل في بيان لزوم قدم الفعل المطلق من فرض حدوثه... 284

إيراد هذا الفاضل على ما حكيناه عنه ، وتوضيحه حول إيراده... 284

إشكال على هذا الايراد... 285

قول المصنّف مبيّنا للحقّ في هذا المقام... 286

إشكال والجواب عنه... 287

قول بعض الأفاضل بعد أن جزم بلزوم قدم الطبيعة من حدوث أفرادها... 288

ص: 502

نقد المصنّف هذا الكلام... 289

إيراد آخر له على جزء آخر من كلامه... 289

ثاني أمرين اللّذين قيل يتقوّى بهما الاستدلال المذكور... 290

إشكال والجواب عنه... 291

إشكال آخر والجواب عنه... 291

إشكال ثالث والجواب عنه... 292

قول بعض الأفاضل وجواب المصنّف عنه... 292

بقي هنا شيء لا بدّ أن يشار إليه... 292

وجوه من الايراد يرد على حمل القدم على القدم بالشخص أو بالجزء أو بجميع الأجزاء 294

الوجه الأوّل... 294

قول بعض وجوابان للمصنّف عنه... 294

الوجه الثاني... 295

الوجه الثالث... 295

الوجه الرابع... 295

الوجه الخامس... 295

بوجوه أخر أيضا بطل المتكلّمون الطريق المذكور للفلاسفة... 296

من هذه الوجوه... 296

تلخيص القول في صحّة الاستدلال بالحدوث على اثبات القدرة بمعنيي الأوّل والثاني ، وامّا بالمعنى الثالث فغير صحيح 296

تلخيص القول أيضا في ثبوت القدرة بالمعانى الثلاثة للواجب - تعالى -... 297

تتميم

مراد المحقّق الطوسي من الايجاب

الايجاب في كلام المحقّق الطوسي هو الايجاب بالمعنى الأوّل لا الثاني... 297

يمكن أن يحمل هذا الايجاب على الايجاب بالمعنى الثالث أيضا... 297

استعجاب المصنّف من كلام الخفري... 297

إيراد مشهور على هذا الاستدلال لاثبات القدرة... 298

أجيب عن هذا الايراد بوجوه... 298

ص: 503

الوجه الأوّل... 298

الوجه الثاني... 298

الوجه الثالث... 300

الوجه الرابع... 300

الوجه الخامس... 300

نقد المصنّف هذا الوجه... 301

الوجه السادس... 301

نقل هذا الوجه من كلام بهمنيار ، وتوضيحه... 301

ليس للممكن افاضه الوجود أصلا ، وتطابق كلمات الحكماء عليه... 301

قول بعض المحقّقين مؤيّدا هذا المعنى... 304

تبيين غرضه ممّا أشار إليه أخيرا... 306

بذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعلام... 307

قول بعض الأفاضل وجواب السيّد الداماد عنه... 308

ردّ هذا الجواب ، وقول بعض الفضلاء... 308

نقد المصنّف هذا القول... 308

تقرير دليل المذكور من بهمنيار من كلام بعض الأفاضل... 308

نقد المصنّف هذا التقرير... 310

اعتراض آخر على هذا التقرير ، ودفع هذا الاعتراض... 310

الصواب أنّ هذا الدليل لا يثبت المطلوب... 311

إشكال والجواب عنه... 311

إشكال آخر... 311

الجواب عن هذا الاشكال... 312

اعتراض على الدليل المنقول عن التحصيل وجواب بعضهم عنه... 313

إيراد أورد على هذا الجواب... 314

ارجاع المصنّف هذا الاعتراض إلى الاعتراض الّذي ذكرناه أوّلا... 314

إيراد آخر على هذا الاعتراض... 314

جواب بعض الأعلام عنه... 314

الفرق بين هذا الايراد والّذي مضى قبله... 315

ص: 504

تلخيص القول في بطلان استناد العالم الجسماني إلى ممكن مختار... 315

إشكال والجواب عنه... 316

الأعراض الصادرة عن المختارين هل هي مستندة إلى الواجب أو إلى العباد أو إليهما معا؟ 316

قول الجهمية في ذلك... 316

قول الأشاعرة في ذلك... 317

قول المعتزلة في ذلك... 317

إشكال دفاعا عن المعتزلة والجواب عنه... 317

قول بعض الأفاضل دفاعا عنهم... 317

إيراد على هذا القول... 317

ردّ المصنّف هذا الايراد... 319

إيراد على هذا الردّ وردّ هذا الايراد بردّين آخرين... 319

إشكال والجواب عنه... 320

إشكال آخر والجواب عنه... 320

تلخيص القول في انّ استناد الأفعال إلى المهيات مستلزم للتفويض أو الجبر... 320

دليل آخر يدل على بطلان استناد الأفعال إلى ماهية العباد... 320

إشكال والجواب عنه... 321

نقد المصنّف المبنى المشهور في تفسير الأمر بين الأمرين... 322

إشكال على هذا النقد والجواب عنه... 322

إشكال آخر... 322

الجواب عن هذا الاشكال... 325

إيراد على هذا الجواب... 325

إيراد على هذا الايراد... 326

اظهار ضعف تفسير آخر للأمر بين الأمرين... 316

ثلاث تفسيرات للامر بين الامرين وبيان ضعف الكلّ... 316

نقد الجواب الّذي ذكره الطوسي من شبهة الجبرية... 316

بيان هذه الشبهة وجواب المحقّق عنها... 316

استعجاب المصنّف من كلام الأشاعرة... 327

ص: 505

علّة قولهم هذا جمودهم على ظواهر الشريعة... 328

شبهة أخرى للأشاعرة ودفعها... 328

صحّة هذا الدفع عند المعتزلة وعدم صحّته عند الحكماء... 328

تلخيص القول في انّ حال تلك المسألة عجيبة... 328

بقى الكلام في انّه لم يختار بعض الناس مرجّح الفعل وبعضهم مرجّح الترك... 331

قول بعض الأعلام بتقييد الاعتراض بالمفارقة... 331

ادعاء هذا القائل انّ ما ذكره مستفاد من كلام الشيخ... 332

ايرادات على ما ذكره هذا القائل... 334

الايراد الأوّل... 334

الايراد الثّاني... 334

الايراد الثالث... 335

الايراد الرابع... 335

نقد المصنّف هذا الايراد... 335

الايراد الخامس... 335

نقد المصنّف هذا الايراد أيضا... 335

تلخيص القول في بطلان الواسطة المفروضة... 336

تتميم

بيان الحقّ في مراد المحقّق الطوسي من قوله والواسطة غير معقولة... 336

توجيه آخر لهذه العبارة... 336

شبها لمنكري القدرة وتفصيل كلّ منها... 337

الشبهة الأولى... 337

هذه الشبهة تناسب نفى الاختيار بمعنيي الثاني والرابع فقط... 337

إشكال على ما ذكرنا من مناسبة الشبهة مع هذين المعنيين... 337

الجواب عن هذا الاشكال... 338

جريان هذه الشبهة في أفعال الانسان أيضا... 338

الجواب عن هذه الشبهة ونقد المصنّف هذا الجواب... 338

تقرير هذه الشبهة وجوابها ببيان أوضح... 339

إشكال على هذا الجواب... 340

ص: 506

اشارة بعض الأفاضل إلى ما ذكرناه... 341

نقد المصنّف هذا القول... 341

قول بعض الأعلام ممّن صحّ عنده أكثر قواعد الحكمة في هذا المضمار... 341

ردّ المصنّف هذا القول... 342

ليس مجرّد العلم بالأصلحية موجبا لوجود العالم في الوقت الّذي وجد فيه... 344

إشكال والجواب عنه... 344

الجواب عن الشبهة المذكورة... 346

إيراد على هذا الجواب

إشكال آخر والجواب عنه... 346

جواب المصنّف عن هذا الاشكال والجواب... 346

جوابان آخران عن هذا الاشكال... 346

حاصل ما قاله بعض الأفاضل جوابا عن هذا الاشكال... 347

نقد المصنّف جواب هذا الفاضل... 348

قول بعض آخر والاستشهاد بكلام المحقّق الطوسي... 348

نقد المصنّف هذا الكلام أيضا... 349

إشكال والجواب عنه... 349

إشكال آخر والجواب عنه... 349

علل محالية تخلّف العلّة عن المعلول... 350

قول بعض وإشكال المصنّف فيه... 350

إيراد على الجواب الّذي ذكرناه... 350

رأي المصنّف بأن مجرّد الانفكاك بين العلّة والمعلول ليس مستحيلا... 351

إشكال والجواب عنه... 354

ما تشبّث به الحكماء في الجواب عن هذين الاشكالين... 355

ردّ على هذا الّذي تشبّثوا به... 355

إشكال والجواب عنه... 355

إشكال آخر والجواب عنه... 356

إشكال ثالث والجواب عنه... 356

قول بعض الأفاضل ايرادا على ما ذكره في جواب الشبهة ، وايراده على هذا الايراد... 356

ص: 507

إيراد بعض الأعلام على هذا الايراد... 357

تتميم أقوال المتكلّمين في علّة تخصيص حدوث العالم بوقته الإرادة واحتياج المتكلّمين إلى اثباته 357

الأشاعرة قالوا بزيادتها وقدمها... 357

بعض شيوخ المعتزلة قالوا بانّها متجدّدة حادثة... 358

قول معمّر بن عباد بانّها متجدّدة... 358

قول الكعبي بانّها قديمة غير زائدة على الذات... 358

القائلون بكون الإرادة غير متجدّدة من المعتزلة افترقوا إلى فرق... 358

اعتقاد الأكثر في مختار المحقّق الطوسي... 358

قول قيل في بيان ما دعا الأكثر إلى هذا الاعتقاد... 359

نقد المصنّف هذا القول... 359

الفرق بين مختار المحقّق ومذهب الحكماء... 360

إشكال بأنّ كون الإرادة قديمة ينافي ما ورد عن ائمّتنا من كونها حادثة... 360

الجواب عن هذا الاشكال... 360

الشبهة الثانية... 362

جريان هذه الشبهة في نفي القدرة بالمعنى الثاني ، لا بالمعنى الثالث... 361

جريان هذه الشبهة في نفي قدرة العبد أيضا... 361

جوابان عن هذه الشبهة... 362

قول بعضهم واستشهاده بكلام الشيخ... 363

نقد المصنّف هذا القول... 363

الجواب عن هذا القول... 363

جواب بعضهم عن هذا القول... 363

نقد المصنّف هذا الجواب... 364

جواب قيل في دفع أصل الشبهة... 364

محملين حمل المصنّف هذا الجواب عليهما... 364

نقد المصنّف الحمل على المحمل الأوّل... 364

المحمل الثّاني والحمل عليه... 364

ص: 508

نقد المصنّف الحمل على هذا المحمل... 365

الاستشهاد بكلام الدشتكي وقول بعض الأعلام في هذا المضمار... 365

إيراد آخر على الحمل على هذا المحمل... 365

النزاع بين المعتزلة في كون القدرة متعلّقة بالطرفين على السواء أو متعلّقة بطرف واحد 367

قول الطوسي في التجريد إشارة إلى الجواب الأخير... 368

قول بعض الأفاضل توضيحا على قول الطوسي... 368

نقد المصنّف هذا القول... 368

قول بعض المشاهير في توجيه عبارة المحقّق... 369

قول بعض الأفاضل بأنّ هذا التوجيه يحتمل وجوها... 369

التوجيه الأوّل... 369

إيراد على هذا التوجيه... 370

التوجيه الثاني ونقده... 370

التوجيه الثالث... 370

التوجيه الرابع... 370

نقد المصنّف هذه التوجيهات... 370

قول آخر قيل في توجيه كلام المحقّق... 370

نقد المصنّف هذا القول... 371

تتميم

اختلاف المتكلّمين في أنّ القدرة هل هي مع الفعل أو قبله

ذهب المعتزلة إلى الثّاني ، والأشاعرة إلى الأوّل... 371

محلّ الخلاف هل هي قدرة العبد أو قدرة اللّه أو كليهما... 371

أدلّة ثلاثة للمعتزلة... 372

اولها ( الدليل الأوّل )... 372

جواب أجيب به عن هذا الدليل... 372

توهّم والجواب عنه... 372

جواب آخر أجيب به عن هذا الدليل... 372

توجيه بعض الفضلاء هذا الدليل بوجه آخر... 373

ص: 509

ثانيها ( الدليل الثاني )... 373

الجواب عن هذا الدليل... 373

ثالثها ( الدليل الثالث )... 373

الجواب عن هذا الدليل... 373

إيراد على هذا الجواب... 373

إيراد آخر على هذا الجواب... 373

إيراد ثالث على هذا الجواب... 374

قول بعضهم توجيها لهذا الدليل... 374

نقد المصنّف هذا القول... 374

إيراد أورد على الجواب المذكور... 375

قول قيل في دفع هذا الايراد... 375

نقد بعضهم هذا القول... 375

نقد المصنّف هذا القول... 376

بما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الاعلام... 377

تأييد المصنّف ما اورده بعض الفضلاء على الدفع المذكور... 378

إيراد أورد على العلاوة وجواب أجيب به عنه... 378

إشكال والجواب عنه... 379

إيراد على ما قيل في الجواب عن هذا الاشكال... 379

قول آخر وإشكال المصنّف فيه... 379

تحقيق الحقّ في هذا الخلاف... 380

تأييد ما ذكرناه بكلامى بعض أهل التحقيق وبعض الأعلام... 381

تلخيص القول في أنّ الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة هنا راجع إلى الخلاف بينهم في أفعال العباد 382

الخلاف بينهم في كون القدرة متعلّقة بالطرفين أو بطرف واحد راجع إلى هذا الخلاف أيضا 382

قول بعضهم وإيراد أورد عليه... 382

قول آخر وردّ المصنّف عليه... 383

تحقيق الحقّ في النزاعين على أصول أهل الحقّ... 383

ص: 510

قول بعض الأعلام وردّ المصنّف عليه... 383

إشكال تبيينا لكلام المحقّق ، وجواب المصنّف عنه... 384

قول آخر ونقد المصنّف أيضا عليه... 384

قول ثالث ونقد المصنّف أيضا عليه... 385

إشكال بأنّ ما اختاره المصنّف ينافي ما ورد في أحاديثنا... 385

الجواب عن هذا الاشكال... 385

وجه الجمع بين رواياتنا المختلفة الظواهر... 385

قول بعض الأعلام وإشكال للمصنّف فيه... 386

الشبهة الثالثة... 386

الجواب عن هذه الشبهة... 387

توضيح المصنّف حول هذا الجواب... 387

إشكال والجواب عنه... 388

اظهار ما في كلام بعض الأفاضل من الاختلال... 389

الحق في الجواب عند هذا الفاضل... 389

نقد المصنّف هذا الجواب... 389

على ما بيّنا يصحّ اتصاف العدم بالاستمرار وعدم الاستمرار... 389

هذه الشبهة لا خصوصية لها بالقدرة بالمعنى الثالث... 390

إشكال... 391

الجواب عن هذا الاشكال... 392

إشكال آخر والجواب عنه... 392

بما ذكرنا يظهر أنّ الملازمة المدّعاة في الشبهة ممنوعة... 393

اظهار ضعف ما قاله بعضهم... 393

جواب آخر عن أصل الشبهة... 393

الجواب عن هذا الجواب... 393

تلخيص القول في بطلان هذه الشبهة... 393

تتميم

جواب المحقّق الطوسي عن هذه الشبهة

توضيح المصنّف لما أورده المحقّق في التجريد... 394

ص: 511

قول بعض الأعاظم في شرح تلك العبارة... 394

قول بعض الأفاضل ونقد المصنّف عليه... 395

مسئلة مهمّة

في عموم قدرة اللّه - تعالى -

ذهاب المليّين إلى عموم قدرته - تعالى -... 396

هذا العنوان وإن كان مجمعا عليه إلاّ أنّه مجمل يحتمل وجوها... 396

الوجوه المحتملة في هذا العنوان... 396

الوجه الأوّل... 396

الوجه الثاني... 396

الوجه الثالث... 396

الوجه الرابع... 396

عدم كون الاحتمالين الأوّلين مقصودين من هذا العنوان... 396

الاحتمال الرابع هو مراد الأشاعرة من العنوان المذكور... 396

تعيّن الاحتمال الثالث عندنا... 397

ما يستدلّ به على عموم القدرة بأحد المعنيين يمكن أن يستدلّ به على المعنى الآخر أيضا 399

استدلال بعضهم على عموم القدرة... 399

إيراد أورد على هذا الاستدلال... 399

الجواب عن هذا الايراد... 399

الاعتراض على هذا الجواب... 400

الاعتراض على هذا الاعتراض... 400

إشكال والجواب عنه... 401

جواب آخر عن هذا الاشكال... 402

بما ذكرنا يظهر اندفاع ما يقوله بعضهم... 403

تلخيص القول في ثبوت القدرة له بالنسبة إلى جميع الممكنات على رأي المعتزلة... 405

إشكال والجواب عنه... 405

اعتراض بعض الأفاضل على الدليل المذكور... 406

ص: 512

نقد المصنّف هذا الاعتراض... 407

اعتراض على هذا الدليل... 408

إشكال والجواب عنه... 408

استدلال بعضهم على عموم قدرته ، ونقده للمصنّف... 408

لمّا ثبت حدوث العالم ثبت استناد أعدام الثابتة إليه - تعالى -... 410

قول بعض الأعلام تبيينا لحيطة شمول قدرته - تعالى -... 410

بما ذكرنا يندفع ما أورده بعض الأفاضل... 411

الحقّ ثبوت القدرة بالمعنى المشهور له - تعالى - بلا واسطة... 412

ثبوت عموم قدرته بالنسبة إلى الممكنات المعدومة... 412

تلخيص القول في ثبوت عموم القدرة بالمعنى الغير المشهور... 412

امّا القدرة بالمعنى المشهور فعمومها ثابت بلا واسطة... 413

إشكال والجواب عنه... 413

إشكال آخر والجواب عنه... 414

إشكال رابع والجواب عنه... 414

إشكال خامس والجواب عنه... 414

قول بعض المشاهير دفعا للمنع المذكور... 416

حاصل ما قاله هذا القائل... 416

تأييد المصنّف جزء من هذا الكلام ودفعه ما ربما يورد عليه... 417

إشكال على هذا الايراد... 418

إشكال آخر والجواب عنه... 420

تلخيص القول في دفع هذا المنع على قواعد الاعتزال ، وعدم وروده على قواعد الأشاعرة 421

قول بعض المشاهير خلافا لما ذهب إليه في العنوان السابق... 421

إيراد على هذا القول... 421

قول بعض الفضلاء في هذا المضمار... 421

نقد المصنّف هذا القول... 422

استدلال بعض المشاهير على عموم القدرة... 423

تقرير بعض الأفاضل هذا الاستدلال... 424

ص: 513

توضيح المصنّف جزء من هذا الكلام... 424

إيراد على ما ذكره هذا الفاضل... 425

يمكن في هذا الاستدلال جعل الصغرى والكبرى عكس ما تقدّم... 426

دفع ما أورد على صغرى هذا القياس... 427

بيان وجه الاندفاع... 428

إشكال والجواب عنه... 429

حمل كلام بعض الأعلام على ما قلنا... 429

ذهاب معمر بن عباد إلى أنّ اللّه لم يخلق إلاّ الأجسام... 433

استناد وجود جميع الموجودات إليه - تعالى - بدون مشاركة من الوسائط سوى أفعال العباد 433

تبيين رأي من جوّز استناد الحركات إلى غير الواجب... 434

إشكال والجواب عنه... 434

بيان غرض المستدلّ المذكور من قوله هذا... 434

إيراد بعض الأفاضل على قول المستدلّ المذكور... 435

إيراد للمصنّف على هذا الايراد... 435

إيراد آخر له في هذا الايراد... 436

تلخيص القول في ما ذهبنا إليه واخترناه... 436

شبهة أوردت على المقدّمة القائلة بأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له... 437

بيان هذه الشبهة والاستشهاد بكلام الشيخ... 437

جواب أجيب به عن هذه الشبهة والاستشهاد بكلام المحقّق... 438

بيان اقسام الجعل ضمن هذا الجواب... 441

بيان حاصل هذا الجواب ببيان المصنف... 442

إيراد للمصنّف على هذا الجواب... 444

إيراد آخر له على هذا الجواب... 444

إيراد ثالث له على هذا الجواب... 444

تلخيص القول في أنّ هذا الجواب غير تامّ... 445

تقرير هذا الجواب على وجه يصير تامّا... 445

جواب آخر عن هذه الشبهة... 446

ص: 514

إشكال على هذا الجواب... 447

الجواب عن هذا الاشكال... 448

بقي الكلام في أنّه على قواعد الاعتزال يلزم جواز كون علّتين مستقلّتين لشيء واحد... 449

الجواب عن هذا الكلام... 450

فسادان في هذا الجواب... 450

أحدهما... 450

ثانيهما... 451

ظهور أنّ الصواب ما ذهب إليه الحكماء... 451

تلخيص الكلام في أنّ التأثير في الكلّ منحصر به - تعالى -... 451

إشكال والجواب عنه... 452

إشكال آخر والجواب عنه... 452

مسلك الصوفية

في اثبات عموم القدرة

تقرير هذا المسلك... 452

بيان حاصل كلامهم... 453

نقد لطيف للمصنّف على هذا المسلك... 453

فائدة

تبيين قول الطوسي في التجريد

توضيح المصنّف حول ما قاله المحقّق في التجريد... 453

ضرب آخر في بيان هذا القول... 454

إشكال والجواب عنه... 454

تتميم

المخالفون في عموم قدرته - تعالى -

وهم فرق ، أعظمها الثنوية... 454

ومنهم : المانوية ، وتقرير مذهبهم... 454

ومنهم : الديصانية ، وتقرير مذهبهم... 455

ومنهم : المجوس... 455

ص: 515

قول الشهرستاني في أنّ المجوس لا تعدّون من الثنوية... 455

تأييد المصنّف قول الشهرستانى... 455

شبهة هؤلاء الطوائف الثلاث... 455

وجوه ثلاثة في الجواب عن هذه الشبهة... 456

أحدها ( الوجه الأوّل )... 456

توضيح هذا الوجه بنحو آخر... 456

اشتمال هذا الحكم على دعويين... 457

ثانيها ( الوجه الثاني )... 458

الأشياء عند العقل على خمسة أقسام... 459

وجوب صدور قسمين من هذه الأقسام الخمسة منه - تعالى -... 459

الفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل... 460

بيان دفع شبهة الثنوية على هذا الوجه... 460

مغالطة في هذا المقام... 460

إشكال والجواب عنه... 461

أصلحية وجود الشيء الّذي يغلب خيره على شرّه يتصوّر بوجهين... 462

نقد المصنّف كلّ من هذين الوجهين... 464

ثالثها ( الوجه الثالث )... 464

تفصيل كيفية رجوع الشرور إلى الأعدام... 464

هذا الجواب يصحّ لو جوّز صدور العدم عن الممكنات... 464

امّا الجواب على القول بعدم جواز صدور العدم عن الممكنات... 465

نقد المصنّف هذا الوجه... 466

الجواب الصحيح عن هذه الشبهة على رأي المصنّف... 466

يمكن توهّم الايراد على هذا الجواب بوجوه... 467

منها ( : الوجه الأوّل )... 467

الجواب عن هذا الوجه... 468

منها ( : الوجه الثاني )... 468

الجواب عن هذا الوجه... 468

منها ( : الوجه الثالث )... 469

ص: 516

الجواب عن هذا الوجه... 469

منها ( : الوجه الرابع )... 469

الجواب عن هذا الوجه... 470

بما ذكر تندفع شبهة الثنوية في اثنينيّة المبدأ... 471

استعجاب المصنّف ممّا فعله الثنوية تنزيها له - سبحانه -... 471

جواب بعض الأفاضل عن شبهة الثنوية بوجه آخر... 471

نقد المصنّف هذا الجواب... 472

الظاهر انّ مراد هذه الطوائف الثلاث ليس ما هو الظاهر كلامهم... 472

أمّا المجوس... 472

أمّا المانوية والديصانية... 472

ظاهر كلام المجوس لا يستلزم المخالفة لأصل التوحيد أيضا... 472

إشكال والجواب عنه... 472

قول قيل في بيان مراد المجوس... 473

بطلان كون الشيء الواحد خيرا محضا وشرا محضا... 474

الحمل على الوجوب والامكان مبنى قاعدة الاشراق... 475

قول العلاّمة الشيرازي مؤيّدا هذا القول... 475

على هذا القول لا يمكن تأويل كلامهم بحيث يخرج عن الشرك والالحاد... 475

عد بعضهم الفلاسفة والمنجّمين والجبائية والنظام والبلخي من المخالفين في عموم أصل القدرة 475

نقد المصنّف عموم هذا القول بالنسبة إلى الفلاسفة... 476

نقد المصنّف عموم هذا القول بالنسبة إلى سائر الطوائف المذكورة... 477

تلخيص القول في أنّه ليس أحد من الطوائف المذكورة منكرا لهذا الأصل... 477

* * *

ص: 517

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

المحقق: مجيد هاديزاده

الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت

المطبعة: نور حكمت

الطبعة: 1

الموضوع : العقائد والكلام

تاريخ النشر : 1423 ه-.ق

ISBN (ردمك): 964-5616-70-7

المكتبة الإسلامية

المحرّر الرقمي: محمّد علي ملك محمد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 1

اشارة

ص: 2

مجموعه آشنايي با فلسفه اسلامی

18

جامع الافکار وناقد الانظار

جلد دوم

حکیم الهی وفقیه روحانی

حضرت مولی

محمد مهدی بن ابی ذر النراقی

صححه وقدم له

مجید هادی زاده

انتشارات حکمت

ص: 3

سرشناسه : نراقی ، مهدی بن ابی ذر، ق 1209 - 1128

عنوان و نام پدیدآور : جامع الافکار و ناقد الانظار/ محمدمهدی بن ابی ذر النراقی ؛ صححه و قدم له مجید هادی زاده

مشخصات نشر : تهران : حکمت ، 1423ق . = 1381.

مشخصات ظاهری : ج 2

فروست : (مجموعه آشنایی با فلسفه اسلامی 18)

شابک : 964-5616-73-5111000ریال :(دوره ) ؛ 964-5616-70-7(ج .1)

یادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه

موضوع : خدا -- اثبات

موضوع : خداشناسی

شناسه افزوده : هادی زاده ، مجید، 1344 - ، مصحح

رده بندی کنگره : BP217/2/ن4ج2 1381

رده بندی دیویی : 297/42

شماره کتابشناسی ملی : م 80-15697

ص: 4

الفهرس الاجمالي لمحتويات الكتاب

المجلد الثاني

الفصل الثاني: في علمه - تعالى -...2

البحث الأول: في اثبات كونه عالماً بذاته و بكل ما عداه من الموجودات و انكشاف الجميع عنده...2

البحث الثاني: في كيفية علمه - تعالى - بالأشياء...112

الفصل الثالث: في اثبات حياته - سبحانه -...351

تتميم: ذهب جماعةً إلى القول بكون صفاته – تعالى – اعتبارات يحدثها عقولنا عند مقايسة ذاته إلى الغير...364

عود إلى ما مضى من أبحاث الحياة...370

الفصل الرابع: في اثبات كونه – تعالى – مريداً...394

تتميم: الظاهر من أخبارنا كون ارادة الله حادثةً...395

الفصل الخامس: في سمعه وبصره...397

الفصل السادس: في كلامه - سبحانه -...417

تذنيب: اتفاق الكُلِّ على اطلاق القرآن على هذا المؤلّف المنتظم من الحروف...439

الفصل السابع: في صدقه - سبحانه -...490

الفصل الثامن: في سرمديته و بقائه...505

ص: 5

الباب الثاني

في صفاته السلبية

الفصل الأول: في نفي التركيب عنه – سبحانه -...520

البحث الأول: في عدم تركيبه من المهية والوجود و اثبات أن كلاً من وجوده و تعينه عين ذات...521

الدليل على الأول، و هو المعبّر عنه بالتوحيد...521

تتميم: أوثق البراهين على اثبات الواجب...534

البحث الاني: في نفي التركيب الذي يتصوّر باعتبار الإنقسام إلى الذات و الصفات عنه...536

البحث الثالث: في نفي التركيب و الكثرة قبل الذات عنه...538

البحث الثاني: في نفي التركيب عنه – سبحانه -...549

تحقيق: في نفي الشركة عنه في أي مفهوم كان...589

تذنيب مسلكان للقوم في اثبات التوحيد...590

الفصل الثالث: في نفي الجوهرية عنه - سبحانه -...593

الفصل الرابع: في اثبات عدم كونه – سبحانه - محلاً للحوادث...595

ختام الكتاب...598

الفهارس الفنية...601

الفهرس التفصيلي..627

ص: 6

الفصل الثاني : في علمه - تعالى -

اشارة

ص: 1

وفيه بحثان :

البحث الأوّل : في إثبات كونه عالما بذاته وبكلّ ما عداه من الموجودات وانكشاف الجميع عنده

اشارة

ويدلّ عليه وجوه :

منها : ما أورده بعض المحقّقين ، وهو : انّ الموجود بمحض ما هو موجود يمكن أن يتّصف بالعلم ، ولا يمتنع عليه اتصافه به إلاّ أن يمنعه مانع زائد على نفس معنى الموجود ، ولا ريب انّ واجب الوجود حقيقته محض الوجود وصرف الموجود ولا يتصوّر مدخلية شيء غير نفس الوجود في حقيقته ؛ فاتصافه - تعالى - بالعلم ممكن. وكلّ ما هو ممكن له يجب أن يكون ثابتا له بالفعل - كما مر مفصّلا - ، فيكون متّصفا بالعلم بالفعل ؛ وهو المطلوب.

وبتقرير آخر : العلم كمال مطلق / 105 DA / للموجود من حيث هو موجود ، وكلّ ما هو كذلك فهو لا يمتنع على الواجب لذاته ، وكلّ كمال لا يمتنع على الواجب فهو

ص: 2

حاصل له بالفعل - إذ هو كامل باعتبار ذاته -.

وتقييد الكمال « بالمطلق » لخروج ما كان كمالا للموجود من حيث تقييده بشيء آخر - كالحركة ، فانّه كمال للموجود من حيث كونه جسما - ؛ ولخروج ما يكون كمالا في بعض الأزمان دون بعض - كالاحكام الشرعية -.

وهذا الدليل - كما ترى - يدلّ على علمه بذاته وبجميع ما عداه من الموجودات. ووجه الدلالة ظاهر.

ومنها : ما ذكره المتكلّمون وأورده بعض الحكماء أيضا ؛ وهو : انّه - سبحانه - فعل أفعالا متقنة محكمة - أي : خالية عن وجوه النقصان والخلل - مشتملة على غرائب المصالح والحكم ، وكلّ من كان كذلك فهو عالم ؛

أمّا الكبرى فظاهر بديهية ، وينبه عليها انّ من رأى خطوطا مليحة أو سمع الفاظا فصيحة ينبئ عن معان دقيقة واغراض صحيحة علم قطعا انّ فاعلها عالم ؛

وامّا الصغرى فلما ثبت انّه - تعالى - خالق جميع العالم من الافلاك والعناصر بما فيها من الجواهر والاعراض وانواع المعادن والنبات وأصناف الحيوانات على سياق وانتظام تحيّرت فيه ثواقب الأفهام وعلى اتقان واحكام تاهت فيه صوائب الاوهام من اشتماله على عجائب الحكم والمصالح وغرائب الفوائد والمنافع ووضع كلّ شيء في موضع يليق به واعطاء كلّ شيء ما يصلح بحاله بحيث تكلّ عن دركها العقول والافهام ولا يفي بتفاصيلها الدفاتر والاقلام - على ما يشهد به علم الهيئة وعلم التشريح وعلم الآثار العلوية والسفلية وعلم الحيوان والنبات - ، كما لا يخفى على من اتقن بصره في حقائق بواطن الأشياء وحدق نظره في دقائق مقارّ الأرض ومجارى السماء. وكلّ من يرى صنعة مشتملة على أشياء مختلفة موافق كلّ شيء لما يجب له موضوع كلّ واحد موضعه - ولو كان ذلك شيئا يسيرا ، كصورة حيوان منقوشة على ساحة - فانّه يعلم ضرورة من غير تأمّل وتوقّف انّ ذلك لم يصدر الاّ عن حي عالم ، فمثل هذا العالم الوسيع والكرسى الرفيع والسماء ذات ابراج والأرض ذات فجاج والشمس المضيئة المنيرة والقمر وتشكّلاته الهلالية والبدرية والأنجم الزاهرة من الثوابت والسيار واختلاف

ص: 3

/ 110 MB / الليل والنهار وجري الأودية والأنهار والجبال الراسيات والفلك الجاريات والرياح المرسلات والسحب المعصرات وأصناف البسائط والمركّبات وأنواع المعادن والنباتات وضروب الدواب والحيوانات وما دبّر في خلق شخص واحد - فضلا عمّا لا يخفى من غيره من ظواهر أعضائه وبواطن أحشائه وحواسّه الظاهرة والباطنة وقواه الخارجة والدّاخلة - كيف يمكن أن يصدر إلاّ عن عالم حكيم ؛ وإلى ذلك أشير في قوله - سبحانه - : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ... وَما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (1). وجميع ذلك انّما هو في عالم الحسّ والشهادة ، وهو بالنسبة إلى عالم الغيب - أعني : عالم المجرّدات النفسية والعقلية الّتي أدركت بنور العقل والكشف كحلقة في فلاة. وهذا الدليل يدلّ أوّلا على علمه - تعالى - بالأفعال ثمّ بواسطته يدلّ على علمه - تعالى - بذاته ، لانّ كلّ من علم شيئا يعلم انّه هو الّذي يعلمه ، والعالم بالقضية يجب أن يعلم الموضوع ، والموضوع ذاته ؛ فيجب ان يعلم بذاته. وهذا ممّا وافقه الحكماء وصرّح به الشيخان - : الفارابي وابن سينا - وادّعاه المحقّق الدوانى في شرح العقائد.

وأورد عليه بعض الفضلاء : بأنّا كثيرا ما نعلم شيئا ونغفل عن كوننا عالمين به ، ولعلّه لهذا عدل بعض المحقّقين عن دعوى ذلك إلى دعوى امكانه واثبت المطلوب بتحقّق الامكان حيث قال : إذا علم أفعاله علم ذاته ، إذ من يعلم افعاله يمكنه ان يعلم انّه أفعاله ومن امكان ذلك العلم يلزم تحقّق امكان العلم بذاته ومن امكان تحقّق العلم بذاته يلزم تحقّق العلم بذاته - إذ علم الشيء بذاته لا يمكنه الاّ بحضور ذاته - ، ومن يمكنه أن يحضر ذاته عند ذاته فقد حضر ذاته عند ذاته ، إذ لو لم يحضر لا يمكن أن يحضر - كما لا يخفى على المتفطّن - / 105 DB /. وعلى هذا فيمكن أن يجعل الدليل المذكور مع هذه العلاوة ابتداء دليلا واحدا على علمه بذاته وبما سواه بان يقال : انّه - تعالى - فاعل للأفعال المحكمة المتقنة ، وكلّ فاعل كذلك لا ينفكّ عن العلم بأفعاله ، ومن

ص: 4


1- كريمة 164 ، البقرة.

يعلم أفعاله يعلم ذاته ، إذ من يعلم افعاله يمكن ان يعلم انّه يعلم افعاله - ... إلى آخره -. انتهى كلام بعض المحقّقين.

وقال الفاضل المذكور : لا يخفى ما فيه!.

ولعلّ ما فيه هو : انّ علم الشيء بذاته الّذي هو عبارة عن حضور ذاته لا يتحقّق بدون التفاته إلى الذات ، وبدون ذلك لا يتحقّق حضور الذات للذات. والتفات الشيء إلى ذاته ليس لازما ، فيمكن أن يكون الالتفات ممكنا ولم يتحقّق بالفعل ، فامكان الحضور لا يستلزم الحضور بالفعل. فهذا الايراد منه قريب من ايراده السابق - أعني : ما ذكره من : انّا كثيرا ما نعلم شيئا ونغفل عن كوننا عالمين به -.

وأنت تعلم انّ عدم الالتفات إلى الذات مع كونه ممكنا والغفلة مع العلم بكون أفعاله أفعالا له فينا لا يمكن أن يكون دائميا ، لانّ الغفلة عن الشيء انّما يتحقق إذا كان هذا الشيء موجودا في خزانة القوّة المدركة ولكنها لا يلتفت إليه ؛ ولذا استدلوا بالفرق بين « الذهول » و « النسيان » في المعقولات على تحقّق الخزانة للنفس ، وبالفرق بينهما في الصور الجزئية على تحقّق الخزانة للحسّ المشترك - وهو « الخيال » - ، وبالفرق بينهما في المعاني الجزئية على تحقّق الخزانة للواهمة - وهي « الحافظة » -. ولا ريب انّ الشيء إذا كان موجودا في الخزانة لا يمكن أن ينعدم الالتفات إليه بالكلّية ، بل إذا حصل عائق ينعدم الالتفات فيحصل الغفلة وإذا زال العائق فيحصل التذكّر ، ولو لم يحصل التذكّر أصلا لم يكن موجودا في الخزانة وكان نسيانا.

وإذا عرفت ذلك فنقول : الغفلة وعدم الالتفات انّما يتحقّقان في حقّ غافل كان لتعقّله خزانة ، ومن لم يكن لتعقّله خزانة ولا يحتاج في التعقّل إلى شيء سوى ذاته لا يتحقّق في حقّه الغفلة وعدم الالتفات ؛ فالواجب - تعالى - لمّا كان متعقّلا لأفعاله - كما هو الفرض - فامّا يعلم انّه افعاله أو لا ؛ فعلى الأوّل يثبت المطلوب - أي : تحقّق العلم بذاته - ، وعلى الثاني : فامّا ان لا يعلم انّه افعاله مطلقا ، أو يعلم ذلك في بعض الاوقات ويغفل عنه في بعض ، فعلى الثاني يلزم أن يكون لتعقّله خزانة - وهو باطل ، للزوم الافتقار - ؛ والأوّل بديهي البطلان - لأنّه يستحيل أن يعلم أحد أفعاله ولا يعلم قطّ انّه

ص: 5

أفعاله -. بل إن كان الفاعل / 111MA / ممّن جاز عليه الغفلة - لكون علمه زائدا على ذاته - لتأتي عليه الغفلة في العلم بالأفعال أيضا ، كما يغفل عن كون الافعال افعالا له ؛ وإن لم يجز عليه الغفلة - لعدم افتقاره في التعقّل إلى أمر زائد على ذاته - لم يتأتّ عليه الغفلة في شيء منهما. وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأنّ الواجب لا يحتاج في تعقّله إلى أمر زائد عن ذاته ، فلا يجوز له الغفلة في شيء منهما. ولا يصحّ اثبات احد العلمين له دون الآخر في جميع الاوقات ، لأنّ ما يقتضي العلم بالأفعال يقتضي العلم بكون الأفعال افعالا له أيضا ، لانّ المقتضي للعلم بالافعال هو الذات ونسبتها إلى العلمين على السواء ؛ ولا مرجّح للاقتضاء الأوّل دون الثاني ، فالتخصيص تحكّم باطل!.

فظهر انّ غفلة الواجب - تعالى - عن ذاته وعدم التفاته إليها في بعض الاوقات باطل ، وجهله بها دائما مع علمه بافعاله أيضا باطل.

وبذلك يظهر انّ كلّ واحد من الوجه الأوّل - الّذي ذكرناه في استلزام علمه تعالى بالأفعال لعلمه بذاته وذكرناه أيضا انّه ممّا وافقه الفلاسفة - ، والوجه الثاني - الّذي نقلناه عن بعض المحقّقين - صحيح لا غبار عليه.

على انّه يمكن أن يقال في تصحيح الوجه الّذي نقلناه عن بعض المحقّقين : انّه إذا ثبت امكان العلم للواجب - تعالى - بذاته لزم فعلية علمه - تعالى - به ، لما مرّ من انّه ليس له - تعالى - كمال بالقوّة ، بل كلّما يجوز له يكون حاصلا له بالفعل ؛ إلاّ انّه يرجع إلى الدليل الأوّل.

وقال بعض الفضلاء : الأولى أن يدّعى البداهة في أنّ كلّ من علم الغير يعلم ذاته ، لا سيّما إذا كان عالما بلطائف الأفعال ؛ هذا.

واعترض على الدليل المذكور بوجهين :

أحدهما : انّه إن اريد « بانتظام الأشياء وإحكامها » : انتظامها وإتقانها من كلّ وجه بمعنى انّ هذه الآثار مترتّبة ترتيبا لا خلل فيه أصلا وملائمة للمنافع والمصالح المطلوبة منها بحيث لا يتصوّر ما هو أوفق منه وأصلح ، فظاهر انّه ليست كذلك ، بل الدنيا طافحة / 106 DA / بالشرور والآفات ويشاهد في العالم اشياء لا تدرى لها منفعة ،

ص: 6

بل قد يعلم لها مضرّة ومنقصة ؛

وإن اريد في الجملة ومن بعض الوجوه ، فجلّ آثار المؤثّرات من غير العقلاء بل كلّها كذلك ، فانّ تبريد الماء وتسخين النار ينتفعان بهما.

وثانيهما : انّه قد تصدر عن بعض الحيوانات العجم أفعال محكمة متقنة في ترتيب مساكنها وتدبير معايشها - كالنمل وكثير من الوحوش والطيور ، على ما هو في الكتب مسطور وفيما بين الناس مشهور - مع أنّها ليست من اولى العلم.

والجواب عن الأوّل : اختيار الشق الأوّل - أي : كون الموجودات مرتّبا ترتيبا لا خلل فيه أصلا بحيث لا يتصوّر ما هو أصلح واوفق منه ، فانّه لا شبهة في أنّ هذا النظام المشاهد هو النظام الأصلح الأعلى ، ولا يتصوّر ما هو أكمل ولا يمكن ان يوجد ما هو اعلى منه. أمّا على طريقة المليين فلاستحالة ترجيح المرجوح ، وامّا على طريقة الفلاسفة فلأنّ ذات الواجب - تعالى - لمّا كان تامّا فوق التمام فيجب أن يكون ما يفيض ويترشّح عنه وما يقتضي صدوره أشرف وأعلى ما يتصوّر ، ولذلك أجمع الكلّ على أنّ هذا النظام الجملى أحسن النظام وأصلحه ولا يتصوّر نظام أكمل من الواقع ، ولم يخالف في ذلك أحد إلاّ الشافعي - على ما نقل عنه انّه قال : يجوز أن يوجد نظام يكون أعلى واكمل من النظام الواقع - ، وهو ليس من رجال هذا العلم ، بل هو أجنبى العلم في هذا الفن.

وما ذكر من « انّ الدنيا طافحة بالشرور ونرى اشياء نعلم لها مضرّة ومنقصة » ، ففيه : أنّها شرور قليلة تابعة لخيرات كثيرة وواقعة بالعرض وراجعة إلى الأعدام ، فلا يلزم بها خلل ونقصان في نظام الموجودات - على ما تقدم مفصّلا - ؛ هذا.

وقيل : وممّا يدلّ على كون النظام الموجود نظاما احسن « قاعدة الامكان الأشرف » ؛ وتقريرها : هو انّه إذا وجد الممكن الأخسّ يجب أن يوجد قبله الممكن الأشرف ، لأنّه إذا وجد الأخسّ ولم يوجد الأشرف قبله فلا يخلو : إمّا ان يكون الاشرف ممكن الوجود ، أم لا ؛ والثاني ليس كلامنا فيه - لانّ الكلام في الممكن - ؛ والأوّل إذا فرض صدوره عن الواجب فامّا ان يصدر عنه - تعالى - بواسطة الأخسّ -

ص: 7

فيلزم أن يكون المعلول اشرف من العلّة ، وهو باطل فيما فوق الكون ، أي : في غير الممكنات الكائنة الفاسدة ، أعني : الممكنات الثابتة المستمرّة الوجود - ، أو يصدر عنه بلا واسطة الأخسّ ، فيلزم جواز صدور الكثرة عن الواحد - بناء على أنّ الفرض وجود الأخسّ بلا واسطة الأشرف ، فاذا فرض وجود الاشرف أيضا بلا واسطة شيء يلزم جواز صدور الكثرة عن الواحد الحقّ ، وهو محال -.

وإذا ثبت ذلك نقول : لا يمكن أن يوجد نظام فوق هذا النظام ، لأنّه / 111 MB / إذا جاز وجود نظام فوق هذا النظام فلا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يكون بعض الموجودات الواقعة فيه أشرف وأكمل من بعض الموجودات الّتي وقعت في هذا النظام ، وهو يوجب وجود الأخسّ قبل الأشرف ؛ فيندفع بالقاعدة المذكورة.

ثمّ انّ هذه القاعدة على ما ذكره الشيخ الإلهي في المطارحات انّما يجري فيما فوق الكون - أعني : الممكنات الثابتة المستمرّة الوجود الدائمة بدوام عللها الثابتة الغير المتغيّرة بالحركات الفلكية - ، لا فيما تحت الكون أيضا - أي : الممكنات المتغيّرة المتبدّلة بالحركات والاستعدادات ، كالمواليد الثلاثة (1) -. والسرّ في ذلك أنّ الأمور الخارجة عن سلسلة الحركات والتغيرات والاستعدادات المختلفة لا يمنعها أمر غريب عن كمالاتها الممكنة ؛ لانّ علّة كمالاتها إمّا ذات الفاعل ، أو أمر لازم له ، فيوجد تلك الكمالات فيها البتة. وبالجملة كلّ ممكن يكون امكانه الذاتي كافيا لفيضان وجوده ، ولا يحتاج في الفيضان إلى الامكان الاستعدادى بكون جميع كمالاته حاصلة له في بدو فطرته وعلل وجوده هي بعينها علل كمالاته من دون مغايرة بينهما ؛ بخلاف الحوادث اليومية ، فانّ علل وجودها على وجه خاصّ وعلل كمالاتها قد تكون مغايرة لعلل وجودها ، وكلّ واحد من وجودها وكمالاتها يتوقّف على استعدادات سوى امكانها الذاتى ، وفقدان بعض الاستعدادات بالنسبة إلى بعض تلك الحوادث ممكن. فحينئذ يجوز أن لا يوجد ما هو الأشرف بالنسبة إليها - لفقدان الاستعدادات الّتي هي علّة لحصول ذلك الأشرف. فقاعدة الامكان الأشرف انّما تدلّ على أنّ الموجودات الثابتة المستمرّة / 106 DB / الغير

ص: 8


1- راجع : المشارع والمطارحات ، ص 434.

الكائنة والفاسدة - أعني : من العقل الأوّل إلى آخر العناصر - لا يمكن أن يوجد بدل أحدها ما هو اشرف واكمل منه ، ولا أن يوجد شيء سواها في الحقيقة يكون أشرف من بعضها ؛ بل كلّ واحد ممّا في هذه السلسلة أشرف وأكمل ما يتصوّر ويمكن ، ولا يمكن وجود غيرها يكون من تلك السلسلة - أي : تكون ثابتة مستمرّة دائمة بدوام عللها - ؛ ولا يدل على انّ حكم الحوادث اليومية أيضا كذلك.

وبذلك يندفع ما أورد على هذه القاعدة : بأنّها لو تمّت لدلّت على أن لا يكون شيء من الاشخاص ممنوعا عمّا هو أشرف بالنسبة إليه ويمكن تحقّقه فيه ، مع أنّا نرى أكثر الأشخاص ممنوعا من الكمالات الممكنة لهم الّتي حصولها فيهم اولى ؛

ووجه الاندفاع : انّ هذه الأشخاص انّما هي من الحوادث اليومية ، وتلك القاعدة لا تجرى فيها ؛

ثمّ الوجه في فقدان بعض الكمالات الممكنة لبعض الأشخاص من الحوادث عنها مع انّه لو كانت حاصلة لها كانت أحسن بحالها وصار النظام الجملى حينئذ أصلح من الواقع في نظرنا قد تقدّم مفصّلا. ونقول هنا : الحكم بأصلحية النظام مع وجود بعض الكمالات المتصوّرة لبعض الاشخاص من النظام الواقع الّذي لم توجد فيه تلك الكمالات المتصوّرة لهذا البعض ممنوع ، بل باطل ؛ والأمر بالعكس ، لانّ اصلحية النظام لا يستلزم وجود كلّ ما هو أصلح بالنسبة الى كلّ شخص من الحوادث إذا كان ممكنا له ؛ وان استلزم ذلك بالنسبة إلى الموجودات الّتي فيما فوق الكون.

بل نقول : فقدان بعض الكمالات عن بعض الحوادث هو الأصلح بحال النظام لأدائه الى الكمالات والخيرات الكثيرة. ولمّا كانت العناية الالهية متعلّقة بتدبير الكلّ من حيث هو كلّ أوّلا وبالذات وبتدبير الجزء ثانيا وبالعرض وكان الأحسن بحال الكلّ أن لا يحصل لبعض الأشخاص ما هو أحسن وأكمل بالنسبة إليه وبالنظر إلى خصوصيته ، اختار ما هو الأحسن بالكلّ وترك ما هو المخلّ به وان كان أحسن بالنظر إلى الجزء. ونظير ذلك انّ المعمار إذا طرح نقش عمارة فربما كان الأحسن بالنسبة إلى تلك العمارة أن يكون بعض اطرافه مجلسا وبعض اخر مبرزا بحيث لو غيّر هذا الوضع لاختلّ حسن

ص: 9

مجموع العمارة وإن كان الأحسن بالنسبة إلى كلّ موضع منه أن يكون مجلسا مثلا ، وقس عليه قطع عضو من الأعضاء واخراج الدم من البدن بالفصد والحجامة اذا كان فيه صلاح مجموع البدن. وبالجملة لا ريب في أنّ الواجب الحقّ مبدأ تامّ من جميع الوجوه ، فما هو المناسب به أحسن وأكمل من غيره ، ولا شكّ في انّ النظام الواقع الصادر هو الأنسب وبالمناسبة استحقّ فيض الوجود منه - تعالى - عليه ، فيكون أعلى وأكمل ما يتصوّر ، ويكون ما وجد بغير هذا الوجه من الوجوه أبعد عن المناسبة له ، فيكون أدون وأخسّ ؛ فكلّ فرد فرض على خلاف ما عليه يكون مخلاّ بحسن النظام وإن خفي وجهه علينا.

ولعلّ تفاصيل كيفية هذا الحسن واختلاله بتغيّر حال فرد فرد عمّا هو / 112 MA / عليه مع انّه يمكن أن يوجد ما هو الأحسن له في نظرنا من أسرار القدر الّذي استاثره اللّه بعلمه ولم يطّلع عليه أحد سواه ، أو اطّلع عليه باذنه واحد بعد واحد من طوائف الأنبياء وأعاظم الأولياء.

وما يمكن أن يتكلّم فيه ويصل إليه الأفهام قد تقدّم قبل ذلك مفصّلا.

ثمّ انّه لو اخترنا الشقّ الثاني لدلّ على المطلوب أيضا - وان لم يكن حقّا مطابقا للواقع - ، لأنّه إذا ثبت الانتظام والإحكام في الجملة لدلّ على علم الموجد ولا يضرّ معه اشتماله على نوع من الخلل والنقصان ومثله مثل صورة منقوشة في جدار إذا كانت فاقدة لبعض اعضائها ، فانّك إذا رأيتها لا تشكّ في علم مصوّرها وصدورها عن خبرة وغرض فيها ، بل تجزم بأنّ نقصان بعض اعضائها إنّما هو لغرض يعلمه مصوّرها ومصلحة يراها وان لم تكن أنت عالما به.

وما ذكر من النقص بتبريد الماء وتسخين النار ففيه : انّ هذا التأثير فيهما وفي امثالهما انّما هو بفعله - تعالى - وهو الّذي اوجده فيهما ، لانّ الممكن من حيث هو لا يجوز أن يصير منشأ لشيء ومؤثّرا في غيره - لكونه لا شيئا محضا وقوّة صرفة - ، وبالجملة لا ريب في اشتمال هذا النظام على لطائف الصنع وبدائع الترتيب وحسن الملائمة للمنافع والمطابقة على وجه الكمال. وان سلّم اشتماله بالعرض على نوع من الخلل وجور في بادى النظر أن يكون ما هو أكمل. والعلم بأنّ مثل ذلك لم يصدر الاّ عن العالم

ص: 10

ضروري ، سيّما مع تكثّر ما في هذا النظام من الموجودات وتكرّر ما يوجد فيه من الأفعال والآثار.

ثمّ بداهة ذلك لا ينافي مخالفة / 107 DA / بعض العقلاء ونفيهم علم الواجب ، لانّ الضروري قد يخفى على بعض العقلاء. على انّه قيل : لم ينف أحد علم الواجب ؛ وسيأتى تحقيق ذلك.

والجواب عن الثاني : انّه لو سلّم انّ الآثار والأفعال الّتي تشاهد من الحيوانات انّما تصدر منها وهي موجدها فلم لا يجوز أن يكون فيها من العلم قدر ما تهتدى الى ذلك بأن يجعلها اللّه - تعالى - عالما بذلك أو يلهمها حين ذلك الفعل ، كما جعلها قادرة ومتمكّنة على ذلك الفعل؟

ومنها : ما ذكره الحكماء ، وهو : انّ واجب الوجود - تعالى شانه - مجرّد غاية التجرّد والمراد « بغاية التجرّد » الثابت للواجب على المشهور : كونه غير جسم وغير جسماني - أي : ليس مادّة ولا مقارنا لمادّة - أو موضوع مقارنة الصور والاعراض ؛ وبالجملة كونه قائما بذاته غير متعلّق الهوية والوجود بشيء يقوم به أصلا. وعند المحقّقين : كونه غير محتاج إلى الارتباط بالغير ، بل كونه محض الوجود الحقيقي المنزّه عن الماهية والأعراض. والبراهين القاطعة قائمة على ثبوت التجرّد بالمعنيين في حقّه - سبحانه - ، وكلّ مجرّد - بكلّ واحد من المعنيين - عاقل ؛ وبالعكس - أي : كلّ عاقل مجرّد باحدى المعنيين -. واثبات العكس هنا غير مقصود لنا ، بل المقصود والمهمّ لنا اثبات الأصل - أي : كون كلّ مجرّد عاقلا - ليثبت به كون الواجب - تعالى - عالما. وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمات :

الاولى : انّ التعقّل عبارة عن ادراك المجرّد الموجود القائم بذاته شيئا لم يعرضه العوارض الجزئية الّتي تلحق بسبب المادّة في الوجود الخارجي من الكمّ والكيف والأين والوضع وغير ذلك من العوارض المادّية ، إمّا بعينه أو بصورته ؛ وبتقرير آخر : عبارة عن حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد الموجود القائم بذاته وانكشافه لديه ووجوده بين يديه. وهذا الحضور - أي : حضور الذات عند الذات ، أو حضور

ص: 11

الصورة عندها بحصولها فيها - ارتباط يحصل لأجله الانكشاف ، ولولاه لم يكن معنى للانكشاف ، لانّه لا يتصوّر انكشاف شيء لآخر بدون تحقّق ربط بينهما ، ولو لا اشتراطه لكان كلّ شيء منكشفا لكلّ شيء. والربط المصحّح للانكشاف منحصر بحضور الذات أو حصول الصورة ، ولا يتصور ربط غيرهما. ومع تحقّق أحدهما لا ريب في تحقّق الانكشاف - كما هو ظاهر بالبداهة من علم النفس بذاتها وبالأشياء الحاصلة صورها فيه -.

وقد ظهر من تلك المقدّمة انّ المناط في كون الشيء عاقلا أن يكون مجرّدا قائما بذاته أي : غير حالّ في غيره ، سواء كان ذلك الغير مادّة أو موضوعا. وبدون تحقّق الشرطين لا يتحقّق العاقلية ولا يكفي أحدهما ، ولا يتّصف الصورة العقلية بالعاقلية مع كونها مجرّدة ، ولا يتّصف الجسم بها مع كونه قائما بذاته. والمناط في كون الشيء معقولا حصوله لموجود مجرّد قائم بذاته ، سواء كان ذلك الحصول بالحلول فيه أو بحضور ذاته عنده فمجرّد كون الشيء مجرّدا عن المادّة لا يوجب معقوليته ، بل يشترط مع ذلك كونه حاضرا عند العقل أو حالا فيه. فكلّ مجرّد قائم بذاته يصحّ أن يكون عاقلا ، ومن شأنه ذلك ؛ وكلّ مجرّد يصحّ أن يكون معقولا ، ومن شأنه ذلك. إلاّ انّ ذلك لا يوجب حصول التعقّل بالفعل ، / 112 MB / بل فعلية التعقّل يتوقّف على الحضور أو الحلول ، وهما يتوقّفان على الموجب والمصحّح لهما. فاذا حصل مصحّح الحضور أو الحلول حصل التعقّل بالفعل. وستعلم ما هو المصحّح لها. وقد ظهر أيضا من تلك المقدّمة انّ المانع من التعقّل إمّا مانع من العاقلية ، أو مانع من المعقولية ؛ والمانع من العاقلية هو كون الشيء غير مجرّد عن المادّة - سواء كان نفس المادّة أو علائقها - ، أو كونه قائما بغيره ويجمعها كون الشيء موجودا بغيره ، فانّه يصدق على كلّ ما ليس مجرّدا عن المادّة - سواء كان نفس المادّة أو متعلّقا بها من الصور والأعراض - انّه موجود بغيره.

أمّا الأوّل : فلأنّ المادّة من حيث هى ليست موجودة في حدّ ذاتها ، بل يتوقّف وجودها على وجود الصورة ؛

وامّا الثاني : فلأنّه يصدق على كلّ ما يقوم بغيره من الصور والأعراض الخارجية و

ص: 12

من الصور المعقولة انّه موجود بغيره ؛ « فالغير » يكون أعمّ من المادّة ، و « الموضوع » اعمّ من الجسم والنفس.

والمانع من المعقولية هي المادّة وعلائقها ، / 107 DB / لكن المادّة وعلائقها ليست مانعة من كون الشيء معقولا مطلقا ، بل من كون الشيء معقولا بحلوله في العاقل لا بأن يكون الشيء معقولا بحضور عينه عنده ، فانّ المعقولية قد تكون بحضور عين الشيء عند العاقل وقد تكون بحضور صورته عنده بأن تكون صورته حالّة فيه ؛ وحينئذ يجب أن تكون تلك الصورة مجرّدة عن المادّة وعلائقها. وأمّا إذا كان عين الشيء حاصلا عند العاقل - كحصول المعلول للعلّة - فلا يجب هناك التجرّد عن المادّة وعلائقها - كما يأتي - فلا يصحّ القول بكون المادّة مانعة من التعقل على اطلاقه ، ولا حصر للمانع من التعقّل مطلقا في المادّة وعلائقها.

ولا بدّ هنا من بيان اقسام العلم بل اقسام مطلق الإدراك وبيان أحكام كلّ منها لشدّة الاحتياج إليها.

فنقول : الإدراك هاهنا على ثلاثة أقسام :

الاوّل : الإدراك بالحواس الظاهرة - أعني : السمع والبصر واللمس والذوق والشمّ - أو بالحواسّ الباطنة - كالمتخيلة والواهمة -. ويسمّى المدرك بهما محسوسا كما يسمّى المدرك بالقوّة العاقلة - أعني : النفس بقوّتها النظرية - معقولا. ثمّ المدرك بالحواسّ - ظاهرة كانت أو باطنة - هو الشيء الّذي يقارنه أمور غريبة عن مهيته ، إمّا مقارنة مؤثّرة فيه كمقارنة الانسانية في الخارج للموضع والمقدار وغير ذلك ، فانّه لو فرض ارتفاع تلك الأمور - أعني : الوضع والمقدار عن الانسانية الخارجية - لانعدمت تلك الانسانية أيضا ؛ أو مقارنة غير مؤثّرة كمقارنة السواد للحركة - حيث لا يرتفع أحدهما بارتفاع الاخر -. وبالجملة فالمدرك بالقوى الظاهرة والباطنة لا ينفكّ عن مقارنة المادّة وعلائقها ، لانّ كلّ حقيقة تلحقها أمر غريب عن ذاتها - من الوضع والأين وغير ذلك - فانّما يلحقها لا لذاتها ، بل لحيثية استعدادية تلحقها ، إذ لو لحقها لذاتها لما تخلف عنها أصلا وكان جميع افراد الماهية متساوية في الاتصاف به ، وجميع

ص: 13

جهات القوّة والاستعداد ينتهي بالذات إلى المادّة الجسمية - كما حقّق في محلّه -. فجميع ما وجوده الادراكي في القوى الجسمانية الظاهرة - كالمشاعر الخمس الظاهرة - أو في القوى الجسمانية الباطنة - كالحواس الخمس الباطنة - مصادفة ومقارنة لعوارض غريبة وانفعالات مادّية البتة. وهذا في مدركات المشاعر الظاهرة ظاهر ، وأمّا في مدركات القوى الباطنة فلأنّ كلّ قوّة جسمانية تدرك صورة فلا ريب في أنّ تلك الصورة تحلّها بمادّتها ، إذ لو حلّت فيها مجرّدة عن المادّة لزم أن تكون تلك القوّة الّتي هي محلّها أيضا مجرّدة لا جسمانية ؛ هذا خلف!.

بيان الملازمة : انّ القوّة لو لم تكن حينئذ مجرّدة لكانت مادّية أي : مخصوصة بغواش مادّية من مقدار معيّن وأين معيّن وكيف معيّن ووضع معيّن - ، وكانت منقسمة أيضا : وإذا كان المحلّ مادّيا منقسما لكان الحالّ أيضا مادّيا منقسما مع انّ الفرض تجرّده ، هذا خلف! ؛ بيان الملازمة : انّ اختصاص المحلّ بالمقدار المعيّن والأين والوضع المعيّنين يوجب اختصاص الحالّ به أيضا ، وكذا انقسامه يوجب انقسامه ؛

امّا الأوّل : فلأنّ الحالّ مفتقر إلى المحلّ ، فلو كان المحلّ مفتقرا إلى المقدار والوضع والأين لكان الحالّ أيضا مفتقرا إليها - لانّ المحتاج إلى المحتاج إلى الشيء محتاج إلى هذا الشيء - مع انّه قد فرض الحالّ مجرّدا غير محتاج إلى شيء منها.

وامّا الثاني : فلأنّ الصورة المعقولة تحمل في العاقل من حيث ذات العاقل لا من حيث لحوق طبيعة اخرى ، والحلول إذا كان من حيث ذات المحلّ لا من حيث لحوق طبيعة أخرى - كحلول النقطة في الخطّ ، فانّ حلولها فيه ليس من حيث ذات الخطّ ؛ بل من حيث انتهائه - يستلزم فيه انقسام المحلّ انقسام الحالّ ، وإذا كان الحالّ منقسما فامّا ينقسم الى اجزاء متشابهة في الحقيقة / 113 MA / أو إلى اجزاء متخالفة في الحقيقة ؛ وعلى الأوّل فمعلوم لزوم كون الصورة المعقولة الّتي فرضناها مجرّدة عن اللواحق المادّية - من المقدار والوضع - مادّية مقارنة لها ، لأنّها منقسمة وكلّ منقسم يلحقه التقدير والوضع ، وكلّ متقدّر ذو وضع مادّى ؛ يلزم أن تكون الصورة العقلية حينئذ مشابهة لاجزائها في تمام الماهية. ولا شكّ انّ كلّ واحد من تلك الأجزاء حاصل في التعقّل كحصول الكلّ ، وانّ

ص: 14

حصول الماهية يتحقّق بحصول واحد ، إذ لا معنى لتعقّل الشيء الاّ حصول مهيته في التعقّل ، ففي / 108 DA / الجزء الواحد كفاية عن الاجزاء الاخر في المعقولية. فتكون الصورة العقلية معروضة للزيادة والنقصان ، فلا تكون مجرّدة عن العوارض المادّية ؛ هذا خلف!.

وعلى الثاني - أي : كون الصورة منقسمة الى اجزاء متخالفة في الحقيقة - : فمع لزوم الخلف أيضا يلزم كونها مركّبة من اجزاء غير متناهية بالفعل ، لانّ المحلّ - لكونه مادّيا - يقبل القسمة إلى غير النهاية ، فالحالّ أيضا يقبلها إلى غير النهاية. والغرض انّ الاجزاء متخالفة في الحقيقة ، فلا بد أن تكون حاصلة في المركّب بالفعل ، وتركّب الشيء من اجزاء غير متناهية بالفعل محال.

واعترض على الأوّل : بأنّا لا نسلّم انّ اتصاف المحلّ بهذه العوارض وافتقارها إليها يقتضي اتصاف ما يحلّ فيها بها وافتقاره إليها ، فانّ اتصاف المحلّ بصفة لا يوجب اتصاف الحالّ فيه بها ؛ ألا ترى انّ الجسم يتصف بالبياض مع أنّ الحركة الحالّة فيه لا يتّصف به؟!. سلّمناه ، لكن اتصاف الصورة الحالّة في محلّ بهذه العوارض من قبل محلّها لا ينافي تجرّدها عنها بحسب ذاتها.

والجواب عنها : انّ قوام وجود الحالّ وتحقّقه انّما هو بمحلّه ، فهو مفتقر إلى المحلّ فيما يحتاج إليه المحلّ ولا ينفكّ عنه من المقادير والأوضاع ، والاّ يحتاج إليه في الحالّ أيضا ولا ينفكّ عنه ، لانّ المحتاج إلى المحتاج إلى الشيء محتاج إلى هذا الشيء. ولا يلزم من ذلك اتصاف الحال بما يتصف به المحلّ وان لم يفتقر إليه ، فانّ المدّعى انّ ما يفتقر إليه المحلّ ولا ينفك عنه يفتقر إليه الحالّ أيضا ، لا انّ ما يتصف به المحلّ بدون الافتقار - كاتصاف الجسم بالبياض - يتصف به الحالّ أيضا ؛ والفرق بينهما ظاهر. فالقياس الّذي ذكره المعترض ساقط. ثمّ احتياج الحالّ إلى ما يحتاج إليه المحلّ من اللوازم الجسمية يكفي لكونه ماديا وان حصل ذلك بواسطة المحلّ ، لانّ المجرّد لا يحتاج إلى شيء من اللوازم الجسمية بوجه.

واعترض عليه أيضا : بأنّا لا نسلّم انّ الادراك بارتسام صورة المعلوم في العالم - لجواز أن يكون الادراك بانكشاف الأشياء للقوى الدرّاكة من دون ارتسام صورة فيها -

ص: 15

بل يكون إمّا مجرّد انكشاف من غير أن يرتسم صورة شيء في شيء أصلا ، أو يرتسم صورة المدرك في مجرّد أو غير مجرّد ، فيلاحظها تلك القوّة من هناك كما يدرك النفس ما ينتقش من الجزئيات في آلاتها. وإذا كانت تلك القوّة الجسمانية للصورة العقلية على سبيل الحضور والملاحظة دون الارتسام ، فلا يلزم من كون تلك القوّة مادّية ومنقسمة كون تلك الصورة كذلك ؛ لانّ مشاهدة المادّي لغيره لا يوجب كون ذلك الغير مثله ، بل انّما ذلك في الارتسام.

والجواب : انّ انكشاف المجرّد لمادّي من دون ارتسام فيه أمر بديهي البطلان بيّن الفساد ، لانّ الادراك فرع المناسبة والربط بين المدرك والمدرك ، والربط إمّا بالارتسام أو بالحضور ، والارتسام مفقود بالفرض. وحضور المجرّد للمادّي لا معنى له سواء كان بوجوده في الخارج أو بوجوده في بعض المدارك وملاحظة تلك القوّة المادّية إيّاه من هناك ، لانّ حضور شيء عند مدرك وملاحظته ايّاه بذاته الموجودة في الخارج أو في محلّ آخر انّما يتوقف على ارتباط ومصحّح للحضور ، ولولاه لكان كلّ شيء عالما بكلّ شيء بالعلم الحضوري. والمصحّح لذلك إمّا كون المدرك عين المدرك - كما في علم النفس بذاتها - ، أو كونه لازما له أو متعلّقا به - كما في علم النفس بالصور القائمة بها وعلمها بآلاتها وقواها - ، أو كونه معلولا له - كما في علم الواجب بالأشياء عند جماعة - ؛ ولا يتصوّر تحقّق شيء من ذلك للمجرّد بالنسبة إلى القوّة الجسمانية حتّى يكون مصحّحا لحضوره عندها. على أنّ التأمّل يعطي اشتراط المناسبة بين المدرك والمدرك ، وأيّ مناسبة يتصوّر بين المجرّد الصرف والمادّي حتّى يكون المادّي مدركا وعاقلا له؟! ، وكيف يكون المادّي من حيث هو مادّي محلاّ للمجرّد من حيث هو مجرّد مع انّ كلّ شيء لا يتمكّن على التعدّى عن عالمه الخاصّ منها؟! فالمادّي ما لم ينفكّ عن المادّية لا يمكنه تصوّر وجود يكون على خلاف حقيقته ، وهو ظاهر من أحوال الحيوانات العجم والبله والصبيان بين / 113 MB / الناس ؛ هذا.

واعترض على الثاني - أعني : الدليل المذكور لانقسام الحالّ بانقسام المحلّ - بأنّا لا نسلّم كون الادراك بطريق الارتسام حتّى يلزم من انقسام المحلّ انقسام الحالّ ، بل

ص: 16

يجوز أن يكون على سبيل الحضور ؛

وقد تقدّم جوابه.

وبانّا لا نسلّم انّ انقسام المحلّ يوجب انقسام الحالّ فيه - كما في الخط والنقطة - وجوابه : انّ حلول شيء في محلّه إن كان من حيث ذات المحلّ لا من حيث لحوق طبيعة أخرى لاستلزم انقسامه انقسامه ضرورة ، وما نحن فيه من هذا القبيل. وما لا يستلزم انقسامه انقسامه هو إذا كان الحلول بواسطة لحوق طبيعة أخرى - كحلول النقطة في الخطّ ، فانّ حلولها فيه بواسطة عروض النهاية له -.

وبأنّا لا نسلّم انّ كلّ مادّي منقسم ، فانّ النقطة مادّية غير منقسمة ؛ فلم لا يجوز أن تكون القوّة الجسمانية المدركة للصورة المعقولة غير منقسمة؟ ، فلا يلزم حينئذ انقسام تلك الصورة أيضا أصلا ؛

وجوابه : انّ المادّي إن كان جوهرا فلا يجوز / 108 DB / عدم انقسامه - لاستلزامه وجود الجزء الّذي لا يتجزّء - ، وان كان عرضا فانّما يتصوّر عدم انقسامه إذا كان حالاّ في أمر غير منقسم في جهتين ، ومعلوم بالضرورة انّ المشاعر الباطنية ليس كذلك ، فقد ثبت وتحقّق إنّ المدرك بالقوى الجسمانية - ظاهرة كانت أو باطنة - انّما هو شيء مادّي محفوف بالعوارض الغريبة ولا يمكن أن يكون مجرّدا صرفا. ولهذا ليس ادراكها تعقّلا ، بل احساسا ، لأنّ التعقّل - كما اشير إليه - انّما هو ادراك المجرّد للمجرّد بالكلّية عن المادّة ، ولكون مدركاتها مخلوطة بغيرها لا تكون مدركاتها كلّية صادقة على كثيرين ومنطبقة على اعداد كثيرة ، بل تكون مانعة من الشركة. وكذا لا تكون معلومة على سبيل الوضوح والجلاء ، لأنّ الظهور التامّ والجلاء الكامل والوضوح كما هو حقّه عند المدرك ، انّما يكون لما امتاز عن جميع ما سواه وليس مخلوطا بشيء ما عداه ، لأنّ الشيء يتّضح عند المدرك بقدر امتيازه وتجرّده عمّا سواه ، فما لا يمتاز عن جميع ما سواه ويكون مخلوطا بغيره - كما هو شأن مدركات القوى الجسمانية - لا ينجلى حقّ الانجلاء ولا يتّضح حقّ الاتضاح ؛ كما أنّ القوّة المدركة إذا لم تتجرّد عن المادّيات بالكلّية لا يتضح ما تدركه عندها حقّ الاتضاح. فالوضوح التامّ والانكشاف الحقيقي انّما يحصل في التعقّل لحصول التجريد التامّ

ص: 17

والنزع البالغ فيه.

وأمّا الادراكات الحسية فانّما يحصل فيها تجريدات ناقصة متفاوتة المراتب على حسب مراتب مدركاتها نظرا إلى أنّه لو لم يصل أثر من المحسوس إلى الحاسّ لاستوى حاله قبل الاحساس وبعده ولم يحصل بينهما مناسبة وربط حتّى يتحقّق الادراك ، فلا بدّ أن يصل أثر من المحسوس إلى الحاسّ ليتحقق الاحساس ؛ والأثر الواصل هو صورة المحسوس الّتي تتجرّد عن مادّتها ويحدث في الحاسّ ، إلاّ انّه يكون كلّ من المدرك والمدرك متعلّقا بالمادّة بعد نوع تعلّق وكون الصورة المدركة مع غشاوة ما من كمّ وكيف ووضع ومتى لا يحصل الانكشاف التامّ والانجلاء الكامل. فالبصر مثلا يأخذ الصورة عن المادّة ويجرّدها عنها ، لكن لا يجرّدها عن اللواحق من اللون والوضع وغيرهما ، بل يدركها مع هذه اللواحق ومع النسبة الواقعة بينها وبين المادّة.

وأمّا الخيال فانّه يجرّد الصورة المنزوعة عن المادّة تجرّدا أشدّ ، لكنّه لا تجرّدها عن اللواحق المادّية بالكلّية.

وأمّا الوهم فانّه وإن تعدّى قليلا عن هذه المرتبة في التجريد - لانّه قد يدرك امورا غير مادية في ذاتها ويأخذها عن المادّة إذا عرض لها أن يكون في مادّة ، فهذا التجريد أشدّ من التجريدين السابقين وأقرب إلى حاقّ كنه الشيء - الاّ انّه مع ذلك لا يجرّد الصورة عن اللواحق المادّية بالكلّية ، بل يأخذها جزئية وبالقياس إلى مادّة مخصوصة وبمشاركة من الخيال.

الثاني من أقسام الادراك : « ادراك الاشياء بالقوّة العاقلة » - أعني : نفس تصور تلك الأشياء لا بانفسها - ، وهذا هو العلم الحصولي الانطباعى. وذلك يكون بتجريد صورها عن المادّة تجريدا تامّا بحيث لا يكون فيها شوب من المادّية بوجه ، ولهذا تكون تلك الصورة كلّية يمكن حملها على الكثرة المختلفة في اللواحق الغريبة والعوارض المادّية كما هو ظاهر من ادراك الصورة الانسانية المطلقة المطابقة لأفرادها المتفاوتة في العظم والصغر المختلفة في الوضع والأين والمتى ؛ ولو لم تكن تلك الانسانية الذهنية مجرّدة عن جميع المادّيات من المقادير الخاصّة والأوضاع المعينة لما طابقت الكثيرين

ص: 18

المختلفين فيها.

ثمّ المعلوم بالذات في هذا القسم هو الصورة الحاصلة الموجودة في الذهن دون ذي الصورة / 114 MA / الموجود في الخارج ؛ نعم! هو معلوم بالعرض ، لأنّ المنكشف أوّلا وبالذات عند العقل هو هذه الصورة ، وإنّما تنكشف ذو الصورة بواسطتها.

والعلم قد يطلق على المعلوم بالذات - الّذي هو الصورة الحاضرة عند المدرك - ؛ وقد يطلق على نفس حصول تلك الصورة عند المدرك وارتسامها فيه ، وهذا الحصول هو المعنى الاضافي الانتزاعى الّذي يشتقّ منه العلم والمعلوم وامثالها فعلى الاطلاق الأوّل يكون العلم والمعلوم متّحدين ذاتا مختلفين اعتبارا فالمعلوم في هذا القسم إن اعتبر وجوده من حيث معلوميته ومعقوليته - أي : من حيث هو معلوم ومعقول - يكون عين وجوده لعاقله وهذا هو المقصود من قولهم : « انّ وجود المعقول بعينه معقوليته ووجوده لفاعله ، ووجود المحسوس بعينه محسوسيته ووجوده للجوهر الحاسّ » ، فانّ مرادهم : انّ وجود المعقول من حيث هو معقول عين معقوليته ووجوده لعاقله. وأمّا إذا اعتبر وجوه من حيث تحقّقه في نفسه وفي الخارج فمعلوم انّه ليس عين وجوده لمدركه الّذي هو حيثية معقولية.

ثمّ لا ريب في انّا قد ندرك / 109 DA / صورة مجرّدة عن جميع المادّيات والمدرك بها لا يمكن أن يكون مادّيا - لما مرّ من أنّ القوى الجسمانية لا يمكن أن تدرك المجرّد الصرف - فيجب أن تكون فينا سوى القوى المذكورة قوّة عاقلة مجرّدة هي المدركة لتلك الصور ، وهو النفس الناطقة وبه يثبت تجرّدها ، فانّ اختلاف الادراكات وتباينها يدلّ على اختلاف المدركات وتعدّدها ، فانّا لما رأينا الادراكات الجزئية المختلفة من ادراك الصور وادراك المعاني وتركيب بعضها ببعض وحفظ بعضها دون بعض اثبتنا القوى المختلفة - من الخيال والوهم والمتخيّلة والحافظة - ؛ وكذلك لمّا رأينا فينا ادراك الصور المجرّدة عن جميع الموادّ ولا يمكن استناده إلى القوى المذكورة جزمنا بتحقّق قوّة عاقلة مجرّدة فينا.

فان قيل : المناط في الاستدلال على وجود القوى المذكورة هو حدوث الآفة والاختلال في بعض الادراكات - كادراك الصور أو المعاني أو التركيب أو الحفظ - مع

ص: 19

بقاء سائر الادراكات وانتظامها ، فيعلم منه أنّ مبادي هذه الادراكات متعدّدة مختلفة! وهذا الوجه لا يجري في اثبات القوّة العاقلة - أعني : النفس الناطقة -! ؛

قلنا : جريان هذا الوجه في اثبات النفس الناطقة أظهر من جريانه في اثبات القوى الجسمانية ، لأنّا نرى انّ الحيوانات العجم مع تحقّق الادراكات المتعلّقة بالقوى الظاهرة والباطنة ليس لها ادراك الكلّيات؟! ، بل كثير من الناس - من البله والصبيان - كذلك عند جماعة! ، فيظهر منه انّ ادراك الكلّيات ليس للقوى الجسمانية ، بل لقوّة أخرى لم توجد فيها. بل قد يختلّ بعض ادراكات القوى الجسمانية في بعض الناس مع بقاء ادراك الكلّيات والمجرّدات - كما هو ظاهر من أحوال بعض المجذوبين والمجنونين -.

فان قيل : يمكن أن يكون ادراك الكلّيات لبعض القوى الجسمانية من المتخيلة أو الوهم إذا قوّى لاجل كثرة الفكر والتخيّل! ؛

قلت : إن اريد بالقوّة الموجبة للتعقّل الحاصلة لبعض تلك القوى التجرّد ؛

ففيه : انّه لا معنى لتجرّد هذه القوى مع انطباعها في الاجسام ، على انّه يثبت مطلوبنا من اثبات كون ادراك الكلّيات للمجرّد ؛

وإن اريد بها شيء آخر ؛

ففيه : انّ اشتداد الجسمانيات وقوّتها إنّما يصير منشأ لزيادة الادراكات والافعال الجسمانية ، لا ادراك الكلّيات والمجرّدات - لما تقدّم من أنّ المادّي لا يمكن أن يدرك المجرّدات -.

الثالث من اقسام الادراك : « ادراك القوّة العاقلة للأشياء بأنفسها لا بتصوّر زائد على ذاتها » ، فانّ كلّ عاقل يدرك نفسه لا بصورة زائدة على ذاته. كما لا يخفى على من تأمّل في علمه بنفسه ، فانّ كلّ انسان يدرك نفسه على وجه يمتنع فيه الشركة ، ولو كان هذا الادراك بصورة زائدة حاصلة في النفس لكانت كلّية ، وإن حصلت من كلّيات كثيرة شخص حملتها بنفس واحدة ، لأنّ المركّب من الكلّيات ولو تعدّدت كثرة بحيث لا تحصى لا يخرج عن احتمال صدقها على كثيرين ، مع أنّ النفس إذا ادركت ذاتها لا تكون ذاتها المدركة صادقة على كثيرين. فعلم النفس بذاتها انّما هو بحضور ذاتها

ص: 20

لا بصورة زائدة عليها ، فتجريد الصورة وتعقّلها إنّما / 114 MB / هو في العلم الحصولي الانطباعي دون الحضوري كيف ولو كان من شرط كلّ ادراك أن يكون بتجريد الصورة من العين الخارجي لزم التسلسل في الصور.

بيان ذلك : انّ من أدرك صورة ذهنية لا ريب في انّ تلك الصورة معلومة له بالحضور الاشراقي ، أي : معلومية تلك الصورة إنّما هي بعين تلك الصورة لا بصورة أخرى والاّ لتوقّفت تلك الصورة الأخرى أيضا إلى صورة ثالثة ... وهكذا ، فيلزم التسلسل في الصور ؛ ومع ذلك يلزم أن تجتمع صور متساوية في الماهية مختلفة بالعدد في محلّ واحد ؛ وهو محال.

وممّا يدل على ثبوت العلم الحضوري الغير المحتاج إلى صورة أخرى غير حضور ذات المدرك لنا : انّا نتألّم بتفرّق اتصال وقع في عضو من أعضائنا ونشعر به وليس ذلك بأنّ تفرّق الاتصال تحصل له صورة أخرى في ذلك العضو أو في غيره ، بل المدرك نفس تفرّق الاتصال والألم المحسوس بذاته لا بصورة تحصل منه ، فيظهر منه انّ من الأشياء المدركة ما يكفي في ادراكها مجرّد حضور ذاتها للنفس أو لأمر له تعلّق حضوري خاصّ بالنفس.

ثمّ كما انّ علم النفس بذاتها وبالصورة القائمة بها - سواء كانت صورا لأشياء الخارجية حاصلة للنفس بالتجريد أو صورا خلقية قائمة بها من الشجاعة والسخاوة والمحبّة وغيرها - انّما هو بحضور ذات النفس وذوات تلك الصور لا بحضور صورة أخرى زائدة عليها ، كذلك قد يدرك غير ذاتها وغير تلك الصور أيضا لا بحصول صورة ذهنية زائدة ، كما تدرك النفس المجرّدة بدنه الخاصّ الّذي تحرّكه وتصرف فيه وقوّته المفكّرة الّتي يستخدمها في تركيب الصور والمعاني الجزئية وتفصيلها وفي / 109 DB / ترتيب الحدود الوسطى ، وبتلك الاستخدام نجرّد الكلّيات وننزعها من الجزئيات ونأخذ النتائج من المقدّمات. وبانضمام ذلك الاستخدام إلى ما يدركه بنفسها من دون الاستخدام ندرك الأشياء جميعا ، وكذلك ندرك قوّتها الخيالية والوهمية الشخصيين بذاتهما لا بصورة زائدة منتزعة عنهما. وكذا ندرك مدركات تلك القوى والأشياء الحالّة

ص: 21

فيها بالحضور والمشاهدة بدون صور زائدة ، ولو كان ادراك النفس لتلك الأمور بصور مأخوذة عنها لأدركتها على الوجه الكلّي ، لما مرّ من أنّ كلّ صورة تجرّدها النفس وتحصل فيها فهي كلّية وان تحصّلت من كليّات كثيرة ؛ وحينئذ لم تكن مانعة من الشركة. وهو خلاف الواقع ، لانّ نفس تعقّل كلّ واحد من تلك الأمور مانع عن الشركة.

قيل : وممّا يدلّ على ثبوت العلم الحضوري : انّ النفس في مبدأ فطرتها خالية عن العلوم الانتقاشية كلّها ، ولا ريب في أنّ حصول كلّ علم انطباعي يتوقّف على استعمال الآلات ، واستعمال الآلات يتوقّف على العلم بالآلات ، فلو كان ذلك العلم - أي : العلم بالآلات - بالارتسام لزم توقّفه على استعمال الآلات المتوقّف على العلم بالآلات ، وهكذا يعود الكلام ؛ فامّا أن يدور أو يتسلسل ، وهو باطل. فأوّل علوم النفس هو علمها بذاتها ، ثمّ علمها بقوى البدن والآلات الّتي هي الحواسّ الباطنة والظاهرة - وهذان العلمان من العلوم الحضورية - ، ثمّ بعد هذين العلمين ينبعث عن ذات النفس لذاتها استعمال الآلات بدون تصوّر هذا الفعل الّذي هو استعمال الآلات والتصديق بفائدته ، فانّ هذا الاستعمال ليس فعلا اختياريا بمعنى كونه حاصلا بالقصد والرويّة وان كانت النفس عالمة به مريدة له ، لأنّ إرادة ذلك الفعل إنّما تنبعث عن ذاتها لا من رويتها. فذاتها بذاتها موجبة لاستعمال الآلات لا بإرادة اختيارية زائدة عليها قائمة بها ، بل لمّا كانت ذاتها في آن وجودها عالمة بذاتها وعاشقة لها ولفعلها - عشقا ناشئا عن الذات لذاتها - اضطرّت إلى استعمال الآلات الّتي لا قدرة لها بدونه.

وبذلك يندفع ما قيل : انّ استعمال الآلات من الحواسّ الظاهرة والباطنة فعل اختياري وصدور كلّ فعل اختياري مسبوق بالتصوّر والتصديق بفائدة ما ، فوجب أن تحصل قبل استعمال الآلات صور تصورية وتصديقية ، وذلك لانّ نسبتي صدور استعمال الآلات وعدمه ليستا متساويتين ليلزم الاحتياج إلى المرجّح من تصوّر الفعل والتصديق بالفائدة قبل الاستعمال ، بل المرجّح والمقتضي ذات النفس ، فينبعث الاستعمال عن الشوق الذاتي الّذي هو عين ذاتها الدرّاكة الفعّالة ، فلا يكون مسبوقا بتصوّر ذلك

ص: 22

الفعل ؛ بل صدور ذلك الجزئي عن النفس هو بعينه تصوّرها له بلا صورة / 115 MA / مستأنفة أخرى - كما أدّى إليه ذوق أهل الاشراق - ؛ انتهى.

وما ذكره من أنّ استعمال النفس لقواها وآلاتها لا يتوقّف على قصد زائد - بل هو ناش عن ذاتها وارادتها له عبارة عن كونه معشوقا محبوبا ، لأنّ كلّ شيء يحبّ فعله من حيث انّه فعله - قريب ممّا ذكره الحكماء في إرادة الواجب من أنّ ارادته لفعل ليس بقصد زائد وليس فعلها وتركها متساويين عنده حتّى يحتاج إلى مرجّح ، بل ذاته يقتضي فعلها. وكونه مرادا له : انّه محبوب عنده مرضي لديه ، لانّ كلّ فعل ناش عن الذات معشوق عند الذات.

ثمّ إن قيل : إن كان الاستعمال ناشئا عن ذات النفس وعن شوقها الذاتي فما الباعث لاختلاف الاستعمالات في النفوس قلّة وكثرة وشدّة وضعفا؟ ، ووقوع بعضها في محلّه وبعضها في غير محلّه؟ ، وكون بعضها موجبا للنجاة وبعضها باعثا للهلاك؟ - وغير ذلك - ؛

قلنا : الباعث في ذلك اختلاف النفوس واختلافهما في الأفعال ، وكون كلّ منها عاشقة لفعلها المخصوص بها اللازم لها.

فان قيل : لا ريب في أنّ علم النفس بالصور الحاصلة لها القائمة بها علم حضوري لا يتوقّف على صورة زائدة وإلاّ لزم التسلسل ، وأمّا علمها بغير تلك الصور من الأشياء الخارجية - سواء كان ذاتها أو ما يتعلّق بها من القوى أو الآلات أو غيرهما - لا بدّ أن يكون بالصور الزائدة ولا يمكن أن يكون على سبيل الحضور ، فكلّ ما يصير معلوما للنفس من الأشياء الخارجة انّما ينكشف بتجريد صورته وقيامها بالنفس ، وأمّا نفس تلك الصورة فهي حاضرة عند / 110 DA / النفس ملاحظة ايّاها ، فالربط والمناسبة اللازمتان في تحقّق الانكشاف بين النفس وبين تلك الصور هو قيامها بها ، وبين النفس وبين ذي الصورة هو قيام صورته بها. وبالجملة علم النفس في الأمور الخارجية والأشياء العينية ولو كانت ذاتها أو قواها وآلاتها لا يمكن أن يكون بالحضور ، بل لا بدّ أن يكون بتجريد صورها وحصول تلك الصور للنفس. وحينئذ كلّ شيء يكون

ص: 23

معلوما للنفس فانّما يكون معلوما على وجه كلّي ، لانّ العلم الانطباعي الارتسامي الحاصل للمجرّد لا يكون إلاّ كلّيا.

وممّا يؤكّد ذلك انّ مبلغ علم كلّ نفس بذاتها هو أنّها تعلم أنها حقيقة مجرّدة متّصفة بكذا وكذا ، وهذا لا يكون الاّ كلّيا وان انضمّ إليه الف مخصّص من الكلّيات ، وكذا مبلغ علمه بخياله وواهمته وتخيّله وبدنه الخاصّ به ، فانّ المعلوم له من كلّ واحد منها انّ له قوّة أو بدنا من شأنه كذا وكذا ؛ وبالجملة انّ علم كلّ نفس بكلّ واحد من ذاتها وقواها وآلاتها إنّما هو على الوجه الكلّي - أي : يعلم أنّ واحدا منها متّصفا بصفة كذا وكذا من الصفات الكلّية - ، ولا ريب في كونه علما انطباعيا يتجرّد فيه الصور عن الأشياء الخارجية وتحصل للنفس. وعلم كلّ نفس مجرّدة لنفس أخرى وقواها وآلاتها أيضا من هذا القبيل. وإذا علم المذكورات على وجه جزئي بأن يعلم من حيث عروض المادّيات - من الوضع الخاصّ والأين الخاصّ لها - فالعالم بذلك انّما هو بعض القوى الجسمانية دون النفس الناطقة ، ولا نسلم انّ المدرك لها حينئذ هو النفس. وحينئذ فمن أين يعلم انّ المدرك لهذه المذكورات هو النفس بالعلم الحضوري على وجه جزئي بأن يلاحظها ملاحظة حضورية من حيث كونها جزئية بسبب الارتباط الحاصل بين النفس وبينها ، أعني : كون المعلوم الحاضر نفس العالم - كما في علم النفس بذاتها - أو كون المعلوم متعلّقا بالعالم تعلّقا خاصّا - كما في علمها بقواها وآلاتها - ؛

قلنا : لا ريب في أنّ المراد من علم النفس بذاتها هو انكشاف ذاتها عندها وظهورها بين يديها وتعقّلها بأنّها هي ، وهذا لا يتوقّف على صورة زائدة أصلا وعلمها بأنّ حقيقتها كذا وكذا. وبالجملة تحديد ذاتها وتعريفها بالصفات الذاتية أو العرضية لا مدخلية له بما هو المقصود من العلم الحضوري الحاصل للنفس بذاتها ، لأنّه لا شبهة في أنّ علمها بأنّ حقيقتها كذا وكذا من العلوم الانطباعية لأنّه من العلوم التصورية أو التصديقية وكلاهما من اقسام العلم الحصولي ، وما نحن فيه - أي : حضور الذات للذات - غير هذين القسمين.

وممّا يظهر المطلوب انّ كلّ ما يقوم بذاته غير متعلّق الهوية والوجود بشيء آخر

ص: 24

فهو موجود لذاته حاضر عند ذاته غير غائب ولا منفكّ ذاته عن ذاته ، وقد مرّ أنّ التعقّل هو حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد الموجود القائم بذاته وانكشافه لديه ووجوده بين يديه ، ولا ريب في أنّ النفس مجرّدة قائمة / 115 MB / بذاتها ، فذاتها حاضرة لذاتها والتعقّل ليس إلاّ هذا. وأمّا علمها بنفس أخرى فلا بدّ أن يكون على سبيل الارتسام وتجريد صورة منها ، فيكون علما حصوليا ولا يمكن أن يكون حضوريا ، لعدم حضور هذه النفس للأخرى بذاتها لها ؛ ولا لأمر له تعلّق حضوري خاصّ بها ، ولذا تشير كلّ نفس إلى ذاتها ب- « أنا » وإلى ما عداها ب- « هو » ، لكونه زائدا عليها ، فعلم النفس بذاتها ليس سوى ذاتها وبما عداها بصورة زائدة عليها.

وأمّا علمها بقواها وآلاتها فالوجه في كونه حضوريا : انّ تلك القوى والآلات متعلّقة بالنفس تعلّقا خاصّا ليس مثله متحقّقا بينها وبين القوى والآلات الّتي لنفس اخرى ، فهذا التعلّق نوع ارتباط ومناسبة صار منشأ لحضورها عندها وانكشافها لديها ووجودها بين يديها ، فتدرك النفس أنّها قواها وآلاتها ويلاحظها بذواتها وان امكنها تعقّلها على وجه كلّي أيضا حتى يكون علما انطباعيا بأن يتصوّر حقيقة كلّ واحد منها بانّه كذا وكذا وشأنه كذا وكذا.

ثمّ انّ انكشاف المادّي بخصوصياته المعينة من الوضع والمقدار وغيرهما بالحضور لوجود علاقته ليس فيه بأس - لعدم لزوم كون المجرّد محلاّ للمادّي بلواحقه الغريبة - ، لأنّ انكشاف المادّي من حيث انّه مادّي وملاحظته الحضورية لا يوجب ارتسام هذا المادّي بلواحقه الغريبة في المجرّد حتّى يلزم كونه محلاّ لها ، بل الحاصل في المجرّد انّما هو مجرّد / 110 DB / انكشاف لهذا المادّي بلواحقه على وجه يمنع الشركة ، لأنّ الانكشاف والملاحظة انّما هو على سبيل الجزئية ، ولذا لا يبقى فيه ابهام ، بخلاف ما لو ارتسم صورته فيه ، فانّه لو ارتسم المادّي بلواحقه الغريبة في المجرّد لزم كون المجرّد محلاّ لمادّي من حيث هو مادّي ، ولزم أيضا كون المدرك غير متّضح ؛ بل مبهما ، لانّ المدرك حينئذ ليس هو الذات الموجودة في الخارج حتّى إذا انكشف لا يبقى فيه الابهام ، بل المدرك هو الصورة والفرض انّها مخلوطة بغيرها من اللواحق ، وكلّ ما هو مخلوط بغيره لا يكون معلوما ما دام

ص: 25

كونه مخلوطا بغيره ، فانّ الصورة إذا جرّدت تكون واحدة ممتازة وإذا كانت مخلوطة بالوضع الخاصّ والمقدار الخاصّ لا تكون ممتازة عن غيرها بالكلّية ، فلا تكون معلومة على سبيل الوضوح والانجلاء.

والحاصل : انّ المطلوب ادراكه وانكشافه في العلم الحضوري هو الموجود الخارجي - أي : الحقيقة الخارجية مع لوازمها الخاصّة ولواحقها المعينة - ، ولا ريب في انكشاف تلك الحقيقة الخارجية بلوازمها ولواحقها بالعلم الحضوري من دون التباس بغيرها واختلاط بما عداها ، فيكون المدرك حينئذ متّضحا حقّ الاتضاح.

وامّا المدرك بالعلم الحصولي فانّما هو الصورة دون الموجود الخارجي ، فكلّما تكون تلك الصورة المدركة أشدّ امتيازا عن غيرها يصدق انّ العلم بالصورة من حيث هي أوضح وأجلى ، وكلّما كانت أكثر اختلاطا بما سواها يصدق أنّ الخفاء فيها أكثر ؛ فالمادّي إذا علم بالعلم الحضوري أو الحصولي بالتجريد التامّ والنزع المحكم يكون معلوما متّضحا ، وإذا علم بالحصولي من دون التجريد التامّ - أي : لم تكن صورته المدركة مجرّدة ، بل كانت مع غشاوة ما من المادّة وعلائقها - لا تكون متضحة حقّ الاتضاح. فقد ظهر ووضح انّ العلم الحضوري لا يحتاج إلى صورة زائدة ذهنية ، بل الاحتياج إليها حيث يكون المدرك غير حاضر عند المدرك أصلا. وعدم حضوره إمّا لعدم وجوده في الخارج أصلا - كالمعدومات والممتنعات - ، أو لعدم وجوده عند المدرك وان كان موجودا في الخارج - كالاشياء الخارجة عن ذات المدرك غير متعلّقة به أصلا - ، فانّ كلّ واحد من الموجودات ليس متعلّقا وحاصلا لكلّ واحد وإلاّ لكان كلّ من له صلاحية العالمية عالما بالفعل بكلّ من له صلاحية المعلومية ، وليس كذلك. فلا بدّ في تحقّق العالمية والمعلومية بين شيئين مع صلاحيتهما لهما من علاقة ذاتية بينهما بحسب الوجود. فكلّ شيئين لهما صلاحية العالمية والمعلومية إذا تحقق بينهما علاقة ذاتية وارتباط وجودي يكون أحدهما عالما بالآخر ، لانّ تلك العلاقة مستلزمة لحصول إحداهما للآخر وانكشافه لديه. وهي قد يقع بين ذات العالم والموجود الخارجي - أي : ذات المعلوم - بحسب وجوده الخارجى كما في العلم الحضوري باقسامه ، فانّ الارتباط

ص: 26

الموجب للانكشاف في هذا العلم إمّا ايجاد المدرك والمدرك ومعلوم انّه لا علاقة مصحّحة للارتباط أشدّ من هذا ؛ أو كون المدرك من حيث وجوده في الخارج لازما للمدرك ؛ / 116 MA / أو مربوطا به لتحقّق نوع علاقة بينهما - ككونه آلة له -.

وقد تكون العلاقة بين ذات العالم وصورة الشيء المعلوم - كما في العلم الحصولي المحقّق ، لحصول صورة الشيء في ذات العالم ، أو في بعض قواه حصولا ذهنيا - ، والمدرك بالحقيقة هو نفس الصورة الحاضرة لا الموجود الخارجى الخارج عن التصوّر ، واطلاق المعلوم عليه انّما هو بقصد ثان - كما تقدّم - فالعلاقة الوجودية المستلزمة للعلم في الحقيقة إنّما هي بين العالم والصورة لا غير ، بخلاف المعلوم من حيث وجوده - أعني : بالعلم الحضوري - ، لانّ المعلوم بالذات فيه هو نفس ذات الشيء العينى لتحقّق العلاقة الوجودية بين هذه الذات الخارجية وبين العالم ؛ هذا.

وقيل : العلم الحضوري هو اتمّ صنفي العلم ، ومن ذهب إلى انّ العلم بالغير منحصر في الارتسام فقد أخطاء. نعم! ، الادراك على وجه يكون المدرك كلّيا مشتركا بين كثيرين ينحصر في الصورة الذهنية ، وهي المنقسمة إلى التصور والتصديق ؛ وهي الّتي تكون كاسبة ومكتسبة. فاذا تحقّقت العلاقة الوجودية المستلزمة للعالمية أو المعلومية بين ذات مستقلّة الوجود مجرّدة وصورة مرتسمة فيها فتحقّقها بين ذات مستقلّة الوجود وبين الصورة الّتي معلولة لها وصادرة عنها أولى واحرى ، لأنّ نسبة القابل الى المقبول بالامكان ونسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب ، فالعلاقة المتحقّقة بين العلّة ومعلولاتها الخارجية أوكد من العلاقة بين ذات الشيء والصورة المرتسمة فيها - كما حقّقه المحقّق الطوسي -. / 111 DA /

واعتراض المحقّق الدواني عليه في شرح العقائد لا يخلو عن تعسّف!.

المقدّمة الثانية : انّ كلّ ما يقوم غير متعلّق الهوية والوجود بشيء آخر - أي : كلّ مجرّد قائم بذاته - فهو موجود لذاته حاضر ذاته عند ذاته لا يغيب ذاته عن ذاته أصلا ، فيكون ذاته عالمة بذاته ومعلومة لذاته ومنكشفة عند ذاته ،

أمّا معلومية ذاته لذاته مع كون ذاته حاضرة لذاته فظاهر ممّا مرّ ، لأنّ التعقّل - كما

ص: 27

مرّ في المقدّمة الاولى - عبارة عن حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد الموجود القائم بذاته ، فاذا كانت الذات بعينها حاضرة عند الذات تكون الذات عاقلة للذات عالمة بها بالعلم الحضوري ؛

أمّا كون كلّ مجرّد قائم بذاته حاضرا عند ذاته غير غائب عنها فبديهي لا يقبل التشكيك ، لأنّ الشيء لا ينفكّ عن نفسه.

قيل : إن اريد بالحضور ما هو المساوق للادراك أو الانكشاف وأمثالها ، فنمنع كون كلّ مجرّد قائم بذاته حاضرا بهذا المعنى عند ذاته ؛

وإن كان المراد منه ما هو الظاهر المتعارف - أي : غير المنفكّ وغير المتبادر وغير الغائب - ، فلا ريب انّ كلّ مجرّد قائم بذاته حاضر بهذا المعنى عند ذاته ؛ إلاّ أنّ الحضور بهذا المعنى لا يستلزم الانكشاف ، فانّ كلّ شيء حاضر بهذا المعنى عند ذاته ، سواء كان قائما بذاته أو لا ، وسواء كان مجرّدا أم لا مع فقد الانشكاف.

فان قيل : الأشياء على أربعة اقسام :

الأوّل : ما ليس مجرّدا ولا قائما بنفسه - كالاعراض الجسمانية - ؛

الثاني : ما هو مجرّد غير قائم بذاته - كالصورة المعقولة للمجرّدات - ؛

والثالث : ما هو قائم بذاته غير مجرّد - كالجسم - ؛

والرابع : ما هو مجرّد قائم بذاته - كالواجب والعقول والنفس -. ولا ريب في أنّ الاقسام الثلاثة الاولى عالمة بذواتها ؛ بل التعقّل للذات مخصوص بالقسم الرابع ، فانّا ذكرنا في حدّ التعقّل انّه حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد القائم بالذات ، فالمراد بالحضور هو المعنى المتعارف. الاّ أنّ استلزامه للانكشاف إنّما إذا حصل الشيء عند مجرّد قائم بذاته لا عند غيره ؛

قلنا : انّ استلزام حضور الشيء بهذا المعنى عند المجرّد القائم بذاته لانكشافه لديه لا بدّ له من دليل ، وبأيّ برهان نحن نعتقد ونقطع بانّ المناط في جواز العاقلية هو التجرّد والقيام بالذات والمناط في وقوعها هو تحقّق حضور شيء بالمعنى المذكور عند من حصل له التجرّد والقيام بالذات؟! ، ولم لا يجوز أن يكون التعقّل مشروطا بأمر آخر؟! ،

ص: 28

ولم لا يمكن أن يكون الادراك موقوفا على خاصية مجهولة الكنه وقوّة غير معلومة لنا - كالخاصيات والقوى المودعة في المشاعر الظاهرة والباطنة - ، فاذا وجدت هذه الخاصية والقوّة وجد الادراك والتعقّل - سواء كانت في المجرّد أو غير المجرّد -؟!.

وأجيب عن الايراد المذكور : بأنّ المانع من التعقّل والانكشاف انّما هو المادّة وعلائقها ، فالشيء الّذي كان مجرّدا نورانيا يكون عالما بذاته لظهور ذاته لذاته ، لانّ الانكشاف هو ضدّ الخفاء والخفاء على الشيء امّا بسب ضعف نوريته وقلّة وجوده ونقص جوهره - كالهيولى الجسمية - أو بسبب ما يكثفه من الأغشية واللبوسات - كالأشخاص الجسمية - ؛ والمجرّد ليس كذلك ، / 116 MB / فيلزم أن لا يخفى ذاته عن ذاته. قال بهمنيار في التحصيل : ولمّا كان وجود المحسوس والمعقول في ذاته وجوده لمدركه وكان وجوده لمدركه نفس محسوسيته ومعقوليته لم يصحّ أن يكون ما وجوده لغيره مدركا لذاته. ومدرك ذاته يجب أن يكون نفس وجوده ادراكه لذاته ، وكلّ ما وجوده لذاته ، فهو مدرك ذاته ، إذ ليس وجوده إلاّ كونه مدركا ؛ فالأمور الّتي تدرك ذواتها لا يصحّ أن تكون مقارنة لمادّة وإلاّ لكان وجودها لغيرها. وأمّا الأمور المجرّدة عن المادّة فانّها يجب أن تدرك ذواتها ، وإلاّ لكان وجودها لغيرها ، فكلّ ما هو محجوب عن ذاته فلمقارنة المادّة هو غير مدرك ذاته. ويشهد بهذا انّ القوى الحسّية - كالبصر واللمس والذوق - لا تدرك ذواتها ، لكونها موجودا بمحالها الّتي هى تلك الاعضاء لا لذاتها (1) ؛ انتهى.

وهذا المضمون الّذي ذكره بهمنيار قد ذكره غيره أيضا من الحكماء. ولا بدّ لنا أن نوضح المراد منه أوّلا ثمّ نشير إلى انّه هل هو حقّ أم لا. فنقول :

الوجود امّا وجود في نفسه - كوجود الجسم - ويسمّى « وجودا محموليا » ، أو وجود لغيره - كوجود البياض للجسم ، ووجود الشاعرية لأوميرس - ، ويسمى هذا الوجود « وجودا رابطيا » ، كقولنا : الجسم كائن أبيض. وأوميرس موجود شاعر. فانّ لفظي « كائن » و « موجود » إنّما هو لمجرّد الحمل والرابطة والمطلوب من ادخالهما بين

ص: 29


1- راجع : التحصيل ، ص 493. والسطر الأخير - أي : من قوله : لكونها موجودا ... إلى قوله : لا لذاتها - لا يوجد في المطبوع من التحصيل.

الموضوع والمحمول إنّما هو لاثبات / 111 DB / المحمول للموضوع وحمله عليه.

ثمّ الوجود في نفسه قد يكون عين وجوده لغيره - كوجود البياض ، فانّ البياض موجود في نفسه وموجود للجسم ، لكن وجوده في نفسه عين وجوده للجسم - ، وقد يكون غير وجوده لغيره - كوجود المال لزيد ، فانّ للمال وجودا لنفسه ووجودا لزيد ووجوده لنفسه غير وجوده لزيد ، ولذا قد يزول وجوده لزيد مع بقاء وجوده لنفسه -.

ثمّ الشيء قد يكون باعتبار ذاته موجودا لنفسه غير قائم بغيره ويكون باعتبار وصف زائد على ذاته موجودا لغيره قائما به ؛ وذلك كالكاتب مثلا ، فانّه باعتبار ذاته - أعني : الشخص الانساني - قائم بذاته غير موجود لغيره ، وباعتبار وصف الكاتبية موجود لغيره وهو ما يصير موضوعا له - كزيد مثلا في قولنا : زيد كاتب -. وهذا الوجود الرابطي الحاصل باعتبار الوصف راجع في الحقيقة إلى وجود ذلك الوصف.

ثمّ لا ريب في انّ المعقولية والمحسوسية - وأمثال ذلك - أوصاف زائدة على ذوات الأشياء ، فاذا تعقّلنا الأرض والسماء وأبصرنا السقف والجدار فلا ريب في أنّ ذات الارض أو السماء ليست عين المعقولية ، وذات السقف والجدار ليست عين المحسوسية ، بل هما من الأوصاف الزائدة على ذوات تلك الأشياء وقد عرضتا لها باعتبارها ؛ وهو في الاحساس اعتبار كون صورها حاصلة للجوهر الحاسّ ، وفي التعقّل اعتبار كون صورها المجرّدة حاصلة للعاقل - كما في العلم الحصولي - أو اعتبار كون ذواتها حاضرة عنده - كما في العلم الحضوري - ؛ فالمسمّاة مثلا بأحد هذين الاعتبارين موجود للعاقل. واذا كان اطلاق المعقولية على السماء بأحد هذين الاعتبارين - أعني : اعتبار كون صورته حاصلة للعاقل ، أو اعتبار كون ذاته حاضرة عنده وكان ذلك معنى وجوده للعاقل - فوجود السماء باعتبار كونه معقولا هو عين وجوده لعاقله من حيث انّه عاقل وان لم يكن وجوده في ذاته عين وجوده لشيء آخر. وبالجملة لا ريب في انّ لكلّ معقول وجودا في نفسه ووجودا للعاقل ، والبديهة حاكمة بأنّ وجوده في نفسه وفي الواقع ليس عين وجوده لعاقله ، بل وجوده باعتبار كونه معقولا هو عين وجوده لعاقله من حيث انّه عاقل. وقس على المعقول المحسوس في هذا الحكم.

ص: 30

وإذا عرفت ذلك فنقول : قول بهمنيار : « انّه لمّا كان وجود المحسوس والمعقول في ذاته وجوده لمدركه - ... إلى آخره - » ، يحتمل في بادي النظر وجهين :

أحدهما - وهو الأظهر - : أن يكون المراد انّ الوجود في ذاته - أي : في نفسه - للمحسوس من حيث هو محسوس ، وللمعقول من حيث هو معقول - أي : المحسوسية والمعقولية هو الوجود للمدرك - ؛ وقوله : « وكان وجوده لمدركه » اشارة إلى عكس ذلك - أي : الوجود للمدرك أيضا هو المحسوسية والمعقولية - ، فيكون المراد من المقدّمتين بيان اتحاد المحسوسية والمعقولية مع الوجود للمدرك وصحّة حمل كلّ واحد على الآخر كلّيا. وجريان هذا الدعوى في كلّ واحد من العلم الحضوري والعلم الحصولي ظاهر ، امّا جريانها في العلم الحصولي فلأنّ / 117 MA / وجود المعقول من حيث هو معقول - أعنى : وجود الصورة الحاصلة في نفسها - هو عين وجودها لمدركها ؛ وأمّا جريانها في العلم الحضوري فلأنّ وجود المعقول بالعلم الحضوري من حيث هو معقول - أي : من حيث انّه منكشف وحاضر عند العاقل - هو بعينه وجوده لمدركه.

وثانيهما : ان يكون المراد انّ وجود المحسوس والمعقول في ذاته - أي : وجوده في نفسه - عين وجوده لمدركه - أي : عين الوجود الرابطي ، كما ادّعى الشيخ في الاعراض : انّ وجودها في نفسها عين وجودها الرابطي -. فيكون المراد انّ وجود المحسوس والمعلوم بالعلم الحصولي والحضوري عين وجوده لمدركه. أمّا في العلم الحصولي فلأنّ المعلوم بالذات فيه هو الصورة - كما استقرّ عليه رأي الشيخين من أنّ المحسوس والمعقول بالذات انّما هو الصورة لا ذو الصورة ، ولا ريب في أنّ وجود الصورة في نفسها عين وجودها لمدركها ؛ - وأمّا في العلم الحضوري فلانّ الشيء إذا كان بنفس ذاته حاضرا عند المدرك فيكون المدرك للمدرك هو الشيء الخارجى الموجود لنفسه ، فيتحد الموجود للمدرك والموجود في نفسه ، فيكون وجوده في نفسه هو عين وجوده للمدرك. وعلى هذا الوجه يكون قوله : « وكان وجوده لمدركه » اشارة إلى دعوى آخر هي اتحاد الوجود للمدرك مع المحسوسية والمعقولية ليلزم من المقدّمتين أن / 112 DA / يكون الوجود في نفسه للمحسوس والمعقول هو عين المحسوسية والمعقولية.

ص: 31

ثمّ لمّا كان غرض بهمنيار من ذكر هاتين المقدّمتين - بأيّ معنى أخذناهما - بيان أنّ التعقّل لا يمكن أن يكون للمادّي بل انّما هو للمجرّد ، فلذا رتّب عليهما أوّلا عدم كون المادّي مدركا لذاته ، فقال : « لم يصح أن يكون ما وجوده لغيره مدركا لذاته ، أي : لمّا كان وجود المحسوس من حيث هو محسوس ووجود المعقول من حيث هو معقول أو وجودهما في أنفسهما عين وجودهما لمدركهما لم يصحّ أن يكون ما وجوده لغيره مدركا لذاته ». والمراد « بما وجوده لغيره » كلّ ما يكون في الوجود محتاجا إلى الغير وثابتا له - وهو المقارن للمادّة - ، أو ما يكون حالاّ في غيره وان كان مجرّدا - كالصورة العقلية الكلّية -. أمّا على الوجه الأوّل فلانّه لو كان مدركا لذاته كان ذاته مدركة معقولة له بمعنى معقوليته ومدركيته - أعني : كونه موجودا من حيث هو معقول كون وجوده لمدركه أي لذاته - مع انّه فرض وجوده لغيره - أعني : الموضوع أو المحلّ -. والحاصل : انّه لما فرض انّ وجود المحسوس والمعقول في ذاته هو وجوده لمدركه يجب أن يكون المدرك شيئا يكون وجوده لنفسه حتّى يكون وجود المعقول له ، إذ لولاه لزم أن لا يكون وجود ذلك المعقول لذلك المدرك ، بل لمحلّه ، فلا يكون وجود المحسوس والمعقول في ذاتهما وجودهما لمدركهما ؛ وهو خلاف الفرض. وأمّا على الوجه الثاني فلأنّه لو كان مدركا لذاته لكان وجوده في نفسه عين وجوده لمدركه - أي : لذاته - مع أنّ وجوده لغيره.

ثمّ قال : « ومدرك ذاته يجب أن يكون نفس وجوده ادراكه لذاته » ؛ والسرّ في ذلك على الوجه الأوّل انّ ادراكه لذاته - أي : اعتبار وجوده من حيث هو معقول - يؤول إلى وجوده لمدركه - أي : لذاته - ، فيكون نفس وجوده لذاته عبارة عن ادراكه لذاته ؛

وعلى الوجه الثاني فلانّه إذا كان وجوده في نفسه عين وجوده لمدركه فيكون نفس وجوده هو مدركيته لذاته ، فيكون نفس وجوده هو ادراكه لذاته أيضا ، لانّ مآل مدركيته لذاته وادراكه لذاته واحد.

ثمّ قال : « وكلّما وجوده لذاته فهو مدرك ذاته » ؛ إذ ليس وجوده إلاّ كونه مدركا - بصيغة المفعول -. وذلك لانّ معنى المدركية والمعقولية هو كون الشيء موجودا بصورته أو بذاته لموجود قائم بذاته ، وكلّ ما وجوده لذاته يكون ذاته موجودة لذاتها القائمة

ص: 32

بذاتها فعلى الوجه الأوّل نقول : انّ وجوده من حيث انّه معقول ليس الاّ كونه مدركا ، فاذا كان موجودا من حيث انّه معقول لذاته كان مدركيته ومعقوليته أيضا لذاته ، فموجوديته من حيث انّه معقول لذاته هو مدركيته ومعقوليته لذاته ؛ وعلى الوجه الثاني نقول : انّ وجوده في نفسه ليس إلاّ كونه مدركا ، فاذا كان وجوده لذاته كان مدركا لذاته. ويحتمل ان يكون مدركا - بصيغة الفاعل - ، فيكون المراد انّه ليس وجوده الاّ كونه عاقلا ، وذلك لانّ معنى المدركية والعاقلية هو كون الشيء موجودا قائما بذاته حاضرا لديه شيء وغير غائب عنه ، وكلّ ما وجوده لذاته فهو موجود قائم بذاته حاضر عنده ذاته وغير غائبة عنه ، فوجوده لذاته من حيث انّه معقول على التوجيه الأوّل ووجوده في نفسه على التوجيه الثاني عين ادراكه لذاته - أي : عين مدركيته وعاقليته -.

ثمّ صرّح بانّ الأمور المدركة لذاتها لا يجوز أن تكون مقارنة للمادّة وإلاّ لكان وجودها لغيرها ، وذلك لانّه قد / 117 MB / ثبت انّ ما وجوده لغيره لا يكون وجوده لذاته ، فمعلوم انّ ما يدرك ذاته يكون وجوده لذاته.

ثمّ قال : والأمور المجرّدة يجب انّ تدرك ذاتها ، إذ لو لم تدرك ذواتها كان وجودها لغيرها. وذلك لانّ المجرّد موجود بذاته ، وقد ثبت انّ ما وجوده لذاته فهو مدرك ذاته ، فما لم يكن مدركا لذاته لم يكن وجوده لذاته. بل كان وجوده لغيره.

ثمّ صرّح بانّ كلّ ما هو محجوب عن ذاته فلمقارنة المادّة واستشهد لذلك بانّ القوى الجسمية لا تدرك ذواتها ، لكونها موجودة لمحالّها الّتي هي تلك الاعضاء ، لا لذواتها.

هذا هو التوضيح التامّ وغاية التوجيه للكلام المنقول عن بهمنيار.

وأنت تعلم انّ حمله على الوجه الثاني في غاية الفساد! ، لانّ حاصله دعوى الاتحاد بين الوجود في نفسه والوجود الرابطي ، وهو باطل. وكيف يكون الوجود في نفسه المتحقّق في الخارج والواقع عين الوجود الحاصل للعاقل ، فانّ الظاهر انّ اطلاق الوجود على المعنيين انّما هو بالاشتراك اللفظى ، ولو سلم ذلك في العلم الحصولي / 112 DB / - نظرا إلى ان المعقول بالذات فيه هو الصورة دون ذي الصورة ووجودها في نفسها هو عين وجودها لمدركها - فلا نسلّم ذلك في العلم الحضوري ، لانّ دعوى انّ وجود

ص: 33

الشيء الخارجي القائم بذاته او بغيره في الخارج عين الوجود المنكشف المنجلى للعاقل مكابرة ، فانّ الأوّل وجود أصلي خارجي والثاني وجود ظلّي ذهني.

ولو حمل الكلام على الاستلزام بأن يقال : الوجود في نفسه لكلّ محسوس ومعقول يلزمه الوجود لمدركه ، فان اريد « بالوجود لمدركه » القيام به أو عدم القيام بغيره ، فممنوع ؛ وان اريد به ما يتناول عدم الغيبة عنه ، فممنوع ؛ لكن على هذا لم لا يجوز أن يكون شيء قائما بغيره ومع هذا لا يكون غائبا عن ذاته؟ - أي : يكون مدركا لذاته -.

وأيضا يرد عليه : انّه لو تنزّلنا وسلّمنا انّ كلّ ما هو محسوس ومعقول لشيء فوجوده في نفسه هو وجوده لمدركه فمن أين يلزم منه أن يكون كلّ ما هو وجوده لذاته مدركا لذاته؟ ، بل يكون اثباته مصادرة على المطلوب!.

وان قيل : كلّما هو وجوده لذاته فذاته حاضرة عند ذاته ، والادراك ليس إلاّ حضور الشيء عند المدرك ، فما وجوده لذاته يكون مدركا لذاته ؛

قلنا : حضور ما هو وجوده لذاته عند ذاته بمعنى عدم الغيبة ممنوع ، ولكنّه لا يوجب الادراك وانما الانكشاف ، وبمعنى الانكشاف ممنوع. وأيضا ما ذكره من انّ وجوده لمدركه نفس محسوسية ومعقولية غير ممنوع ، لجواز أن يشترط في المحسوسية والمعقولية شيء آخر غير الوجود للمدرك ، لأنّ العقل لا ينقبض من أن يكون شيء موجودا لشيء آخر ولا يكون معقولا له. وحينئذ فلا يلزم أن يكون في مدرك ذاته نفس وجوده ادراكه لذاته ، ولا أن يكون كلّ ما وجوده لذاته مدركا لذاته والحاصل : انّه إن أريد أنّ المحسوسية والمعقولية حقيقتهما مجرّد الوجود للغير بأيّ نحو كان ، وكذا عكسه - أي مجرّد الوجود للغير بأيّ نحو كان وأيّ وجود كان - نفس المحسوسية والمعقولية ، فلا نسلّم ذلك ؛ بل الظاهر خلافه! ؛

وان اريد انّ المحسوسية والمعقولية يصدق عليهما انّهما الوجودان للغير وانّ نوعين من الوجود للغير هما المحسوسية والمعقولية ، فلا يثبت به انّ ما قام بغيره بايّ نحو كان يكون معلوما للغير ، وما قام بنفسه يكون معقولا لنفسه ، إذ يمكن منع انّ هذا من هذا النوع ؛

وإن أريد أنّ الوجود للمدرك من حيث انّه مدرك نفس المعقولية والمحسوسية وكذا

ص: 34

العكس فممنوع ؛ الاّ انّه لا ينفع في شيء ، إذ اثبات انّ ما هو قائم بذاته عالم بذاته بهذه المقدّمة مصادرة ، إذ قبل اثبات انّه عالم كيف يسلّم انّه مدرك؟.

وبهذا يظهر اختلال ما في كلامه ممّا فرّعه على المقدّمات الّتي ابطلناها. فظهر انّ حمل كلامه المنقول على الوجه الثاني - أعني : دعوى الاتحاد بين الوجود في نفسه والوجود الرابطي - أمر بيّن الوهن ظاهر الفساد. ولذا أكثر من صرّح من المتأخّرين بهذا الكلام ذكره على الوجه الاوّل - أعني : كون وجود المعقول من حيث هو معقول وكون وجود المحسوس من حيث هو محسوس عين وجودهما للعاقل وللجوهر الحاسّ وعين المعقولية والمحسوسية -.

قال بعض الأعاظم : لمّا ثبت انّ المعقول من حيث هو معقول وجوده في نفسه وجوده للعاقل ومعقوليته شيء واحد بلا اختلاف وكذا المحسوس من حيث هو محسوس وجوده في نفسه ووجوده للجوهر الحاسّ ومحسوسيته شيء واحد من غير تفاوت فما وجوده لغيره لا يكون معقولا لذاته - كالصورة الجمادية - ولا محسوسا لذاته - كالبصر واللمس وسائر المدارك الحسّية - ، / 118 MA / ولذا لا يحسّ بذواتها. ولو فرضنا المعقول قائما بذاته كان وجوده لذاته نفس معقوليته لها وصار عقلا وعاقلا ومعقولا ، كما لو فرضنا المحسوس مجرّدا عن الموادّ كان وجوده لذاته نفس محسوسيته لها ، فصار حسّا وحاسّا ومحسوسا - كما صرّح به بهمنيار وغيره من الحكماء - ؛ انتهى.

بقى الكلام في انّ الحمل على الوجه الأوّل أيضا لا ينفع في شيء أصلا ولا يثبت به المطلوب مطلقا. بيان ذلك : انّ المراد من الوجه الأوّل هو انّ الوجود في نفسه للمحسوس من حيث هو محسوس وللمعقول من حيث هو معقول - أي : المحسوسية والمعقولية - هو الوجود للمدرك ، وهذا كان مطلوبا في الوجه الثاني أيضا ، لانّا قد ذكرنا في تحرير الوجه الثاني انّ المقدّمة الثانية في كلام بهمنيار - أعني : قوله : وكان وجوده لمدركه نفس محسوسيته ومعقوليته - اشارة إلى دعوى أخرى هي اتحاد الوجود للمدرك مع المحسوسية والمعقولية ، وحينئذ / 112 DA / فما اوردناه على هذه المقدّمة الثانية يرد على الوجه الأوّل.

ص: 35

ولو شئت أن نعيده ببيان أوضح مع زيادة بعض ما تركناه هناك من وجوه الاختلال ومن بيان انّه لا يثبت به شيء من المطالب والتفريعات الّتي فرّعها عليه فنقول : ان اراد انّ المحسوسية والمعقولية حقيقتهما هي الوجود للغير بأيّ نحو كان وكذا الوجود للغير بأيّ نحو كان هو المحسوسية والمعقولية فلا نسلّم ذلك ، بل الظاهر خلافه ؛

وان اراد انّ المحسوسية والمعقولية يصدق عليهما انّهما الوجود للغير وانّ بعض افراد الوجود للغير هو المحسوسية والمعقولية ؛

فان اراد بالوجود للغير هو القيام به أو عدم القيام بغيره فممنوع ، ولو سلم بأن يثبت به التفريع الأوّل - أعني : عدم كون ما هو وجوده لغيره مدركا لذاته - ، الاّ انّه لا يلزم منه صحّة التفريعين الأخيرين - أعني : قوله : ومدرك ذاته يجب ان يكون نفس وجوده ادراكه لذاته ، وقوله : وكلّ ما وجوده لذاته فهو مدرك لذاته - ، لأنّ عدم قيام المعقول بغير العاقل لا يوجب كون نفس وجود المدرك لذاته عين ادراكه لذاته ولا كون كلّ ما هو وجوده لذاته مدركا لذاته ، وهو ظاهر ؛

وإن اراد بالوجود للغير ما يتناول عدم الغيبة عنه فممنوع ، إلاّ انّه لا يتفرّع حينئذ شيئا من التفريعات الّتي فرّعها عليه - كما لا يخفي -.

وان اراد انّ المحسوسية والمعقولية هي الوجود للمدرك من حيث انّه مدرك وكذا الوجود للمدرك من حيث انّه مدرك عين المحسوسية والمعقولية ؛

فان اراد بالوجود للمدرك القيام به أو عدم القيام بغيره فغير مسلّم - كما مرّ - ،

وان أراد به ما يتناول عدم الغيبة عنه فممنوع ، لكن على هذا يجوز أن يكون شيء قائما بغيره ومع هذا يكون مدركا لذاته. وأيضا : لا نسلّم انّه حينئذ يلزم ان يكون وجود كلّ مدرك لذاته عين ادراكه لذاته ، إذ لعلّه يكون مشروطا بشيء آخر. وأيضا : لا نسلم حينئذ لزوم كون كلّ ما هو وجوده لذاته مدركا لذاته ، إذ الوجود لذاته على هذا ليس عين مدركيته له ، بل الوجود لذاته إذا كان ذاته مدركة يكون عين مدركيته لها والمطلوب ليس الاّ اثبات كون الذات مدركا حينئذ.

وبذلك يظهر اختلال المقدّمات الباقية المنقولة عنه لكونها متفرّعة على المقدّمات

ص: 36

السابقة الّتي بينّا فسادها. على انّه أورد على قوله : « انّ الامور المدركة لذاتها لا يجوز أن تكون مقارنة للمادة بالحلول فيها حتّى يصدق كون وجودها لغيرها ؛ وأمّا اذا كان شيء مقارنا للمادّة بأن تكون المادّة جزء له - كالجسم - فلا يظهر ممّا ذكر بوجه من الوجوه عدم جواز كونه مدركا لذاته.

لا يقال : انّه لمّا كان أحد جزئيه هو الهيولى والآخر الصورة شيء منهما لا يصلح لان يكون عاقلا لذاته فالمجموع أيضا لا يصلح لذلك ؛

لأنّا نقول : عدم ثبوت حكم لكلّ واحد (1) واحد من الاجزاء لا يستلزم عدم ثبوته للمجموع من حيث هو مجموع.

فان قيل : ادراك الجسم لذاته انّما يكون بادراك اجزائه ، والمفروض انّه لا يمكن ان يكون له ادراك جزئه الّذي هو الصورة ، لانّها حالّة في الهيولى ؛

قلنا : حلول الصورة في الهيولى لا يصير مانعا من صيرورتها معقولة لغيرها ، إذ يمكن تعقلها باعتبار حضورها بنفسها أو بصورتها عنده وحينئذ تجرّد تلك الصورة لأدّى إلى الصورة. كيف ولو لم يكن ذلك لزم أن لا يكون الصورة معقولة أصلا؟ ، وهو غير معقول.

أيضا لا استبعاد في امكان حصول العلم بشيء اجمالا بدون حصول العلم باجزائه.

ثمّ على ما ذكرناه اخيرا من أنّ كون المعقولية والمحسوسية عين الوجود للمدرك من حيث انّه مدرك فاذا اريد بالوجود للمدرك عدم الغيبة يظهر انّ ما ذكره بهمنيار - بعد ما نقلناه في الفصل الّذي عقده لبيان العقل والمعقول بقوله : « واذ علمت انّ معقولية الشيء ووجوده من حيث هو معقول واحد » - صحيح لا غبار عليه ، إلاّ أنّ ما ذكره بعد / 118 MB / ذلك - بقوله : « فاذا كان وجوده لغيره كان معقولا له وإذا كان وجوده لذاته فهو معقول لذاته » - غير مسلّم ، لما تقدّم من انّه يجوز أن يكون الشيء موجودا لغيره ويكون عاقلا لذاته. ومن انّه يجوز ان لا يكون شيء غائبا عن ذاته ولا يكون منكشفا لذاته - لجواز اشتراط الانكشاف بشيء آخر -.

ص: 37


1- الاصل : + من.

وكذا يظهر ضعف ما ذكره بعد ذلك بقوله : « وقد عرفت انّ الموجود المجرّد عن المادّة هو غير محتجب عن ذاته ، فنفس وجوده اذا معقوليته لذاته وعقليته لذاته ، فوجوده اذا عقل ومعقول ». وبيان ذلك : / 113 DB / انّك قد عرفت انّ المعقول هو المجرّد عن المادّة وعلائقها ، ثمّ ليس ينعكس الموجبة الكلّية موجبة كلّية حتّى يكون « كلّ ما يكون مجرّدا عن المادّة فهو معقول ». لكن المجرّد عن المادّة امّا يصحّ أن يعقل أو لا يصحّ ان يعقل ، ومحال أن لا يصحّ أن يعقل ، فانّ كلّ موجود يمكن أن يعقل ؛ فاذن انّما يصح ان يعقل امّا بأن لا يتغيّر فيه شيء حتّى يصير معقولا بالفعل أو بأن يتغيّر فيه شيء حتّى يصير معقولا ، كالحال في المعقولات بالقوّة الّتي تحتاج إلى مجرّد يجرّدها عن المادّة حتّى يصير معقولا. لكن هذا الحكم لا يصحّ في المجرّد بالفعل ، فانّ المجرّد بالفعل لا يحتاج إلى أن يتغير فيه شيء حتّى يصير معقولا بالفعل ، فهو اذن معقول بالفعل ، فهو عاقل لذاته ، فانّه ان لم يكن عاقلا لذاته لكان معقولا بالقوّة وقد فرضناه معقولا بالفعل ؛ هذا خلف! ؛ انتهى.

ووجه الضعف انّ ما تقدم منه لم يعلم منه انّ كلّ موجود مجرّد عن المادّة هو غير محتجب عن ذاته ، فانّ خلاصة كلامه السابق : انّ المجرّد الّذي هو قائم بذاته يكون ذاته حاضرا لذاته والعلم هو حضور الذات للذات ، فيكون المجرّد عالما بذاته والموجود الّذي يكون قائما بالغير لا يكون حاضرا عند ذاته ، بل يكون حاضرا للغير ، فيكون محتاجا عن ذاته وغير محتجب عن الغير الّذي هو قائم به وحاضر لديه وان كان مجرّدا. فلهذا لا يكون الصور المعقولة مع تجرّدها معلومة لذاتها ، بل لغيرها - أعني : النفس - فقد اشرنا إلى أنّ مجرّد الحضور بمعنى عدم الغيبة لا يستلزم العلم - لجواز اشتراطه بشيء آخر - والى انّه لم لا يجوز أن يكون القائم بالغير عالما بذاته أيضا - لحضور ذاته لذاته - وإن كان حاضرا عند غيره أيضا؟. ولو سلّم ذلك لم يكن مستلزما لكون نفس وجود هذه عين معقوليته لذاته وعاقليته لذاته حتّى يلزم منه كون وجوده عقلا وعاقلا ومعقولا ؛ وبالجملة ما دعاه إلى الحكم بكون نفس وجود المجرّد معقوليته لذاته هو كونه حضور مجرّد موجود بالفعل عند مجرّد آخر ، وما دعاه إلى الحكم بكونه عاقليته لذاته كونه كون مجرّد حضر عنده مجرّد آخر. فباعتبارين مختلفين تجتمع المعقولية والعاقلية لا باعتبار واحد -

ص: 38

كما ظنّ - ، ولا ريب انّ مجرّد الحضور بمعنى عدم الغيبة لا يستلزم التعقّل - كما مرّ مرارا -.

ولو اراد بالحضور ما هو المساوق للانكشاف منعنا تحقّق الحضور ، على أنّ الوجود إذا كان عبارة عن كون المجرّد بأحد الاعتبارين لم يكن إلاّ عقلا ، فكيف يكون عاقلا ومعقولا ، بل يلزم ممّا ذكره أن يكون ذاته عاقلا ومعقولا ، لا وجوده ؛

وإن اراد بالوجود ما يعمّ الذات لم يجتمع الثلاثة في شيء واحد ، لأنّ العاقل والمعقول هو الذات والعقل هو كونها - أي : وجودها - باحدى الاعتبارين.

قيل : ويمكن أن يحمل الوجود المجرّد عن المادّة في كلامه على واجب الوجود - تعالى - لا على الموجود المجرّد عن المادّة الزائد وجوده على ذاته ، وحينئذ فكون وجوده عقلا وعاقلا ومعقولا ظاهرا لا كلفة فيه. لأنّ ذاته لمّا كان صرف الوجود فكونه - الّذي هو وجوده - عين ذاته ، فلمّا كان العقل هو كون حضور مجرّد عند مجرّد آخر أو كون مجرّد بحيث حضر عنده مجرّد آخر ووجود الواجب هو عين هذا الكون فيكون عقلا ، ولكون هذا الوجود عين ذاته يكون عاقلا ومعقولا.

ثمّ هذا على فرض تسليم كون الحضور المذكور - أي : حضور الذات عند الذات بمعنى عدم الغيبة - عين الادراك والتعقّل ؛ وقد عرفت ما فيه.

ثمّ ما ذكره بهمنيار بقوله : « ثمّ ليس ينعكس الموجبة الكلّية » غرضه انّ الحكماء ذكروا انّ كلّ معقول مجرّد بالفعل عن المادّة ، فجعلوا مجرّد المعقولية سببا للتجرّد ، ولم يحكموا بمجرّد اثبات انّ كلّ معقول مجرّد أنّ كلّ مجرّد أيضا معقول حتّى يرد عليهم حينئذ انّ الموجبة الكلّية لو كانت منعكسة إلى موجبة كلّية لكان اثبات الأصل كافيا في اثبات العكس ، لانّ العكس من لوازم الاصل واذا ثبت الملزوم ثبت اللازم ، لكن لا ينعكس الموجبة الكلّية إلى الموجبة الكلّية / 119 MA / ولو حكموا بثبوت العكس بمجرّد ثبوت الأصل لورد عليهم - مضافا إلى ورود لزوم انعكاس الموجبة الكلية موجبة كلّية - لزوم حصول الاستنتاج من موجبتين كليتين في الشكل الثاني ، إذ يصير القياس حينئذ هكذا : الذات الغير المادّية القائمة بنفسها مجرّدة عن المادّة ، والمعقول من كلّ شيء بالفعل ذات مجرّدة ؛ فينتج : الذات الغير المادّية القائمة معقولة بالفعل. و/ 114 DA /

ص: 39

الصغرى بديهية والكبرى هو الاصل الّذي اثبته الحكماء ، والنتيجة تحصل بملاحظة صحّة العكس ، مع انّ المنطقيين مصرّحون بأنّ الموجبتين في الشكل لا ينتجان. وبالجملة لا يحكم بأنّ كلّ مجرّد عن المادّة فهو معقول لأجل انعكاس الموجبة الكلّية موجبة كلّية ، لعدم تحقّقه. والحكماء أيضا لم يحكموا بانّ كلّ مجرّد معقول بالفعل في بادي النظر من دون دليل خارجي ليلزم عليهم الاشكالان ، بل قالوا : لأنّ ما هو مجرّد عن الموادّ إمّا أن يصحّ أن يعقل أولا يصحّ أن يعقل ، ومحال أن لا يصحّ أن يعقل - إذ كلّ موجود يصحّ أن يعقل - ، فاذن صحّة معقوليته إمّا بأن لا يتغير فيه شيء حتّى يصير معقولا بالفعل - بمعنى انّه مع فرض عدم تغير ما فيه من المعقولية بحيث لو كان هناك عاقل لعقله بدون حاجة إلى تجريده وإن كان معقوليته بالفعل موقوفا على تحقّق عاقل - أو بان يتغير فيه شيء حتى يصير معقولا - كالحال في المعقولات بالقوّة الّتي تحتاج إلى مجرّد يجرّدها عن المادّة حتّى تصير معقولة -. لكن هذا الحكم - أي : التغير بالتجريد - لا يصحّ في المجرّد بالفعل ، لانّ المجرّد بالفعل حيث غشيته العوارض المادّية لا تحتاج إلى أن تغير فيه شيء حتّى تصير معقولا بالفعل ، ولا يحتاج العاقل له إلى تقشيره عنها حتّى يصيّره معقولا ويخلّص إلى حاقّ كنهه ، فهو اذن معقول بالفعل ، وإذا كان معقولا بالفعل فيكون عاقلا لذاته بالفعل ، إذ لو لم يكن عاقلا لذاته بالفعل لكان معقولا بالقوّة ، وقد فرضناه معقولا بالفعل ؛ هذا خلف!. هذا هو توضيح ما ذكره بقوله : « ثمّ ليس ينعكس الموجبة الكلّية - ... إلى آخره - ».

ويرد عليه : أمّا أوّلا : انّا لا نسلّم انّ مجرّد التجرّد وعدم العوارض المادّية كاف للمعقولية والعاقلية حتّى لا يحتاج المجرّد بالفعل إلى تغير حتّى يصير معقولا. بل لعلّهما يشترطان بشيء آخر أو يكون معنى آخر سوى المادّية مانعا عنهما ؛

وأمّا ثانيا : انّه لم يظهر ممّا ذكره هنا الاّ انّ المجرّد بالفعل مع عدم تغيره معقول ، بمعنى انّه لا مانع من معقوليته حتّى انّه لو فرض عاقل يعقله بلا حاجة إلى أن يتغيّر فيه شيء ، لانّه معقول بالفعل بمعنى انّه تحقّق أيضا عاقل بعقله ؛ وحينئذ فقوله : « فهو اذن معقول بالفعل » إن أراد به انّه معقول بالفعل لعاقل آخر غير ذاته فهو يتوقّف على فرض عاقل آخر هناك ليصير معقولا بالفعل ، مع انّه لا يتمّ التقريب حينئذ ؛

ص: 40

وان اراد : انّه معقول بالفعل لذاته فهذا انّما يصحّ إذا ثبت كونه عاقلا لذاته ، ومن لم يسلّم كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته كيف يسلّم كونه معقولا لذاته؟!. وبذلك يظهر فساد ما فرّع ورتّب عليه - أعني : قوله : « فهو عاقل لذاته » - ، فانّه إن لم يكن عاقلا لذاته لكان معقولا بالقوّة ، لانّ القدر المسلّم من معقوليته - على ما ذكره هنا - انّه لا مانع فيه من المعقولية بحيث لو كان هناك عاقل لعقله من دون احتياج إلى تجريده. وهذا القدر من المعقولية يمكن أن يكون باقيا مع عدم كونه عاقلا لذاته ، لانّ عدم كونه عاقلا لذاته لا ينافي كونه بحيث إذا تحقّق عاقل عقله ،

فان أراد بالمعقول بالفعل هذا القدر من المعقولية وبالمعقول بالقوّة ما لا يكون كذلك - أي : لا يكون بحيث إذا تحقّق عاقل عقله من دون احتياج إلى شيء آخر من تجريد أو غيره - فيكون المنع ظاهر الورود على قوله : « إن لم يكن عاقلا لذاته لكان معقولا بالقوّة » ؛

وإن اراد بالمعقول بالفعل المعقول لذاته بالفعل - أي : ما هو الظاهر المتبادر من هذا التركيب - وبالمعقول بالقوّة القدر المذكور من المعقولية ، ففيه : انّ كونه معقولا لذاته بالفعل انّما يثبت إذا ثبت كونه عاقلا لذاته ، وهل الكلام الاّ فيه؟.

والحاصل : انّ هذا البيان انّما يصحّح كون المجرّد معقولا بالمعنى المذكور - أي : كونه بحيث اذا فرض تحقّق عاقل عقله - ولا يصحّح كونه عاقلا ومعقولا لذاته.

ولو قيل : انّ بيان ذلك - أي : كونه عاقلا ومعقولا لذاته - انّما احالة على ما تقدّم من أنّ معنى العاقلية ليس إلاّ كون الشيء موجودا قائما بذاته حاضرا لديه شيء ، ومعنى معقوليته انّما هو كونه موجودا لموجود قائم بذاته ، وهو - أي : المجرّد - لكونه قائما بذاته موجودا لذاته القائمة بذاتها غير غائب عنه ذاته تكون ذاته حاضرة عند ذاته ، فيكون عاقلا ومعقولا لذاته ؛

قلنا : لو كان غرضه اثبات معقولية المجرّد وعاقليته لذاته بالفعل بهذا البيان فهو / 19 MB / قد ظهر من كلماته السابقة ، فأيّ حاجة إلى اعادته؟!.

ومع ذلك قد عرفت ضعفه وعدم تماميته ؛ هذا.

ص: 41

ويمكن أن يقال : / 114 DB / انّه لو سلّم كونه معقولا بالفعل لعلّه يكفي لذلك كونه معقولا للواجب - تعالى - أو للمبادي العالية ، ولا حاجة إلى أن يكون معقولا لذاته ؛ ويمكن أن يخصّص (1) المجرّد في كلامه بالواجب ، فيندفع ذلك.

ثمّ لا شكّ في أنّ المراد بالمجرّد في كلامه هو المجرّد القائم بذاته دون الصور العقلية المجرّدة ، إذ لو لم يخصص بالقائم بالذات - بل أبقى على عمومه - لانتقض قوله : « فان لم يكن عاقلا لذاته لكان معقولا بالقوّة » بالصور المعقولة ، فانّها غير عاقلة لذاتها مع كونها معقولة بالفعل لا بالقوّة. وقد تلخّص ممّا ذكر انّ ما جعله بهمنيار مقدّمة ودليلا لاثبات كون كلّ مجرّد عالما بذاته وعدم كون شيء من المادّيات عالما بذاته أمران :

الأوّل : انّ وجود المعقول في نفسه وفي الخارج أو من حيث هو معقول نفس وجوده لمدركه من حيث هو ذات خارجي أو من حيث هو مدرك. وقد عرفت انّ بعض هذه الاحتمالات الّتي وقع الترديد فيها خلاف الواقع ، وبعضها وإن صحّ إلاّ أنها لا يثبت المطلوب.

الثاني : انّ مدرك ذاته يجب أن يكون نفس وجوده في نفسه أو من حيث انّه مدرك ادراكه لذاته. وقد صرّح أيضا بهذين الأمرين المعلم الثاني في تعليقاته حيث قال : « كلّ ما يصدر عن واجب الوجود فانّما يصدر بواسطة عقليّته لها ، وهذه الصور المعقولة تكون نفس وجودها نفس عقليته لها لا تمايز بين الحالتين ولا ترتّب لأحدهما على الاخر ، فليس معقوليتها له غير نفس وجودها عنه. فاذن من حيث هي موجودة معقولة ومن حيث هي معقولة موجودة ، كما أنّ وجود الباري ليس إلاّ نفس معقوليته لذاته ، فالصور المعقولة يجب أن تكون نفس وجودها عنه نفس عقليته لها وإلاّ لكانت معقولات اخرى علّة لوجود تلك الصور وكان الكلام في تلك المعقولات كالكلام في تلك الصور ، ويتسلسل » (2) ؛ انتهى.

ولا يخفى انّه لو اراد انّ معقولية الصور نفس وجودها من حيث أنّها معقولة لكان أحد احتمالات الّتي ذكرناه لكلام بهمنيار ، وذكرنا انّه صحيح إلاّ انّه لا يثبت به كون

ص: 42


1- الاصل : تخصيص.
2- راجع : التعليقات ، ص 44.

المجرّد عاقلا لذاته وعدم كون المادّي عاقلا لذاته ؛

وإن أراد انّ معقولية تلك الصور نفس وجودها من حيث أنّها موجودة في الخارج فهو ممنوع - كما تقدّم في كلام بهمنيار -.

ثمّ لمّا كان كلام هذا المعلّم في الصورة المعقولة للواجب - تعالى - وصرح بأنّ تعقّل الواجب لتلك الصور نفس وجودها الحاصل عنه - تعالى - أو الوجود الحاصل عنه - تعالى - هو الوجود الخارجي يكون ظاهرا في الاحتمال الثاني ، ولا يمكن أن يحمل كلامه على انّ معقوليتها سبب لوجودها عنه - تعالى - ، لانّه صرّح بعدم ترتب أحدهما على الآخر. وقد صرّح هذا المعلّم في موضع آخر بهذا الاحتمال حيث قال : « اخراج الأيس من الليس ليس إلاّ العلم الفعلي والتعقّل بالذات » (1). وقوله : « وجود الباري ليس الاّ معقوليته لذاته » تصريح بالأمر الثاني - أعني : كون وجود المدرك لذاته -. نفس ادراكه لذاته وقال أيضا في تعليقاته : « المعقول من الشيء هو وجود مجرّد من ذلك الشيء ، فان كان وجود ذلك الشيء لك وذلك إذا كان مادّيا كان معقولا لك ، وان كان وجوده لذاته كان معقولا لذاته وذلك اذا كان مجرّدا ، فان كان وجوده في الأعيان بهذه الصفة - أي : مجرّدا - فهو معقول لذاته ، فمعقولية الشيء هى بعينها وجوده المجرّد عن المادّة وعلائقها ، فاذا وجد الشيء بهذا النحو من الوجود في الاعيان كان معقولا لذاته ، وان كان في الذهن ولم يكن مجرّدا في الاعيان كان معقولا لا لذاته » ؛ انتهى.

وفي هذا الكلام أيضا تصريح بانّ وجود المجرّد عين معقوليته لذاته. وبالجملة هذان الأمران - أي : كون وجود المعقول في نفسه عين وجوده لمدركه ، وكون وجود المدرك لذاته - عين ادراكه لذاته مصرّح بهما في كلام أساطين الحكمة ، ولكن ليس وجهه ظاهرا لنا وليس لنا حيلة إلى تعقّله ؛ ولعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا!.

على أنّك قد عرفت انّه لو ثبت هذان الأمران أيضا لا يثبت بهما المطلوب - أي : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته وعدم كون مادّي عالما بنفسه - ، فالنافع في المقام بيان انّ التجرّد علّة للتعقّل والمادّية مانعة عنها ، وغاية ما ذكروه - كما علمت - : انّ التعقّل عبارة عن

ص: 43


1- ما وجدت العبارة في التعليقات ولا في فصوص الحكم أيضا.

حضور شيء ووجوده لموجود مجرّد / 115 DA / قائم بذاته ، وكلّ مجرّد قائم بذاته يصدق انّ ذاته حاضرة عند ذاته موجودة لذاته ، فيكون ذاته عاقلة لذاته وكلّ مادّي موجود لغيره ، فلا يكون موجودا لذاته حاضرا عند ذاته. / 120 MA / وقد علمت انّ كون التعقّل عبارة عن الحضور بمعنى عدم الغيبة لا يفيد ، وبمعنى الانكشاف غير مسلّم ، ووجود المادّي لغيره بمعنى عدم الغيبة عن هذا الغير لا يمنع من انكشاف ذاته لذاته.

فالحقّ في اثبات المطلوب حينئذ - أي : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته وعدم كون مادّي عاقلا لذاته - بحيث يندفع الشكوك والشبهات أن يقال : لا ريب في أنّ كلّ عاقل مجرّد ، فانّ المدرك للصور العقلية المجرّدة لا يمكن أن يكون مادّيا - لما بيناه سابقا من انّه لو كان المحلّ مادّيا لكان الحالّ أيضا مادّيا - ، وبذلك يثبت أنّ المادّية مانعة من ادراك المجرّد. وما يصحّ أن يدرك المجرّد ومن شأنه ذلك انّما هو المجرّد القائم بذاته ، لانّ المجرّد القائم بغيره - أعني : الصورة العقلية المجرّدة الكلّية - لا يمكن أن يدرك شيئا بالضرورة والاتفاق ، فمنشأ صحّة التعقّل - أي : ادراك المجرّد - سواء كان مجرّدا قائما بذاته أو صورة عقلية مجرّدة إنّما هو التجرّد. ثمّ نقول : التجرّد كما هو منشأ لصحّة التعقّل وامكانه إن كان منشأ لحصوله بالفعل أيضا يثبت المطلوب - أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته ، بل لكلّ شيء -. وإن توقّف التعقّل بالفعل على شيء آخر نقول : هذا الشيء الآخر لا يخلو : إمّا أن يكون قوّة وخاصّة متحقّقة في ذات المجرّد العاقل أو علاقة ورابطة بينه وبين المجرّد المعقول. وعلى الأوّل إن كان تلك القوّة متحقّقة في كلّ مجرّد ثبت المطلوب - لانّ كلّ مجرّد حينئذ مشتمل على تلك القوّة الّتي هي شرط حصول التعقل بالفعل - فيكون عاقلا بالفعل لذاته ولما عداه. وإن كانت متحقّقة في بعض المجرّدات دون بعض آخر نقول : لا ريب في انّ تلك القوّة لا يخلو إمّا أن تكون منشأ لزيادة التجرّد واشدّيته ونقصانه وضعفه أو لا تتفاوت بها التجرّد زيادة ونقصانا ، والأوّل غير ممكن - لما يأتي من أنّ انضمام أمر إلى المجرّد بأيّ طريق كان يوجب نقصان تجرّده بالنسبة إلى مجرّد هو عري عن هذا الأمر -. على أنّا نقول : بناء على هذا الشقّ يكون ما هو أشدّ تجرّدا مشتملا على تلك القوّة البتّة ، لانّ المفروض منشئيّة هذه القوّة لزيادة التجرّد وشدّته ولا ريب في أنّ الواجب في أعلى مراتب التجرّد وتجرّده

ص: 44

أشدّ وأقوى من تجرّد سائر المجرّدات ، فيكون مشتملا على هذه القوّة والخاصية ، فيكون عاقلا لذاته ولسائر الأشياء. على أنّ النفوس الانسانية مع كونها في أحسن مراتب التجرّد عاقلة لذواتها ولبعض ما عداها ، فتكون مشتملة على تلك القوّة ، فكيف لا يتحقّق في الواجب الّذي هو في أعلى مراتب التجرّد مع كونها منشأ لزيادة التجرّد؟!. وعلى الثاني يلزم المنافاة وخلاف الفرض المثبت بالبرهان ، لأنّ المادّية مانعة من التعقّل فكلّما يكون أقرب إلى المادّية يكون أضعف تعقّلا ، وكلّما يكون أبعد منها واقوى تجرّدا يكون منشئيته للتعقّل أقوى ، فكيف يمكن أن يكون تلك القوّة مع منشئيته للقرب إلى المادّية ونقصان التجرّد منشأ للتعقّل ؛ والثالث غير ممكن ، لانّه لا يمكن أن يكون تجرّد شيء مع فرض انضمام شيء آخر إليه مساويا لتجرّده مع فرض عدم انضمام هذا الشيء إليه ، لأنّ هذا الشيء المنضمّ ان كان مقوّما وذاتيا للمجرّد من حيث هو مجرّد ، فلا ريب في استلزامه للتركيب العقلي. وان لم يوجب التركيب الخارجى - لعدم كونه ماديا - فيكون منشأ لنقصان التجرّد وضعفه البتة ، وان كان عرضا فامّا أن يكون شيئا متحقّقا خارجيا قائما بالمجرّد أو شيئا اعتباريا نفس أمريّ أو اعتباريا محضا ، والأخير لا يمكن أن يصير منشأ للأمر الحقيقي الواقعي - أعني : الظهور والانكشاف - ، والأوّلان يوجبان نوع تكثّر - لصيرورة المجرّد حينئذ محلاّ لأمر خارجي أو نفس أمري -. ولا ريب في أنّ المجرّد الّذي لا يكون محلاّ لشيء منهما أشدّ تجرّدا من المجرّد الّذي يكون محلاّ لأحدهما ، فانّ / 115 DB / المجرّد الّذي قامت به صورة عقلية كلّية يكون أضعف تجرّدا ممّا لم يقم به تلك الصورة ، فكيف بالمجرّد الّذي تقوم به قوّة وجودية وخاصّة ثبوتية ويحتاج في انكشاف الأشياء إليها وإن كانت عرضية بالنسبة إلى مجرّد لم تقم به تلك القوّة. وحينئذ إذا كان التجرّد منشأ لصحّة التعقّل والمادّية مانعة عنه كيف يكون ما هو أقرب إلى المادّية وأضعف تجرّدا عاقلا ولا يكون ما هو أبعد عنها وأشدّ تجرّدا عاقلا؟!.

ويظهر ممّا ذكر انّ تحقّق قوّة في المجرّد زائدة على ذاته موجبة للانكشاف يوجب نقصان التجرّد بالنسبة إليه إذا لم توجد فيه تلك القوّة وكان ذاته مقتضيا للانكشاف ولا يمكن اقتضاءها لأشدّية التجرّد - كما أشير إليه آنفا -.

ص: 45

وعلى هذا - أعني : / 120 MB / كون الأمر الّذي يتوقّف عليه التعقّل بالفعل رابطة وعلاقة بين المدرك والمدرك - نقول : الرابطة المتصوّرة بينهما منحصرة بحضور المدرك عند المدرك ، إمّا بذاته أو بصورته ، والحضور بذاته إمّا أن يكون المعقول أمرا مبائنا عن العاقل ولكن يكون بينهما نوع علاقة - كأن يكون المعقول آلة أو قوّة للعاقل أو معلولا له صادرا ومترشّحا عنه - أو لا يكون أمرا مبائنا عنه ، بل يكون عينه او لوازم ذاته ، ولا ريب انّ اقوى هذه الاقسام ربطا وعلاقة القسم الآخر - أعني : كون المعقول عين العاقل حاضرا ذاته عند ذاته -. وجميع هذه الاقسام راجعة إلى الحضور ، فانّ المتعقّل بالذات في تعقّل الشيء بصورته انّما هو الصورة وتعقّلها إنّما هو لحضورها عند العاقل وارتسامها في ذاته ، ولذا قيل : انّ العلم منحصر بالحضوري. قال بعض الأعلام : وان سألت الحقّ فليس العلم حقيقة الاّ الحضوري ، والتقسيم بالحصولى والحضوري ليس إلاّ باعتبار أوّل النظر وبادي الرأي ، لأنّ المعلوم بالعلم الحصولي حقيقة ليس الاّ الصورة الحاصلة في العقل وذو الصورة معلوم بالعرض - على ما هو رأي الشيخين حيث قالا : انّ النفس لا تدرك إلاّ ما حصل فيها ، وهو الصورة -. ويدل على ذلك انّه لو ارتفع ذو الصورة عن الخارج لكان الادراك بحاله ، ألا ترى انّ النائم والمرتسم يدركان ما لا وجود له في الخارج على نحو ادراك ما في الخارج؟! فظهر انّ المعلوم حقيقة هو الصورة وذو الصورة معلوم بالعرض والصورة حاضرة عند النفس ، فتكون الصورة معلومة بالعلم الحضوري. وبناء على ما هو المذهب المنصور من انّ الاشياء تحصل بأنفسها في الذهن ليس العلم الاّ العلم بالكنه ، لا العلم بالوجه ؛ لانّ وجه الشيء إذا حصل في العقل فالمعلوم حقيقة هو حقيقة ذلك الوجه وذو الوجه معلوم بالعرض ، فالمعلوم حقيقة هو كنه الوجه - بناء على أنّ الأشياء تحصل بانفسها في الذهن - ، فاتّضح انّ العلم حقيقة ليس إلاّ الحضوري وانّ العلم لا يكون إلاّ بالكنه » ؛ انتهى.

وإذا ثبت أنّ جميع اقسام الرابطة راجعة إلى الحضور فنقول : لا ريب حينئذ في أنّ أقوى اقسام الحضور وعدم الغيبة حضور الذات للذات ، فتكون الرابطة الّتي هي شرط التعقّل بالفعل للمجرّد بالنسبة إلى تعقّل ذاته موجودة ، فيكون كلّ مجرّد عاقلا لذاته

ص: 46

بالفعل ؛ وهو المطلوب.

وقد ظهر ممّا ذكرناه انّ حضور الشيء عند المجرّد القائم بذاته بمعنى عدم غيبته عنه وان لم يكن عين التعقّل - كما هو صريح كلام بهمنيار - ، إلاّ انّه مستلزم له ، نظرا إلى انّ كون الشيء مجرّدا قائما بذاته من شأنه العاقلية - وحضور شيء آخر عنده جزء أخير للعلّة التامّة لحصول التعقّل بالفعل - ، فيترتّب عليه التعقّل والانكشاف. فالفرق بين كلام بهمنيار وبين ما ذكرناه انّما هو بالعينية والاستلزام ، والباعث لذهابهم إلى الاستلزام دون العينية هو ما عرفت من ورود المنع على العينية وظهور المغايرة بين حضور الشيء - بمعنى عدم الغيبة عند المجرّد - وبين انكشافه له. وأمّا استلزامه له فلا منع فيه بعد قيام الدلالة عليه - كما عرفته مفصّلا -. وبما ذكرناه يظهر لك انّ حقيقة العلم والتعقّل هو الوجود الانكشافي لموجود قائم بذاته ؛ ولو شئت قلت : الحضور الانكشافي لموجود مستقلّ في الوجود ، فهو نوع خاصّ من الوجود الرابطي لموجود قائم بذاته ، وليس هو مطلق وجود شيء لموجود قائم بذاته أو مطلق حضور شيء له في نفسه لمطلق الوجود الرابطي لموجود قائم بذاته - كما هو الظاهر / 116 DA / من كلام جماعة -.

فان قلت : حاصل ما ذكرت في دليل الاستلزام انّ المادي لمّا لم يمكن أن يتعقّل الصورة العقلية الكلّية بارتسامها في ذاته - لايجابه انقسامها ومادّيتها - فوجب أن يكون مدركها هو المجرّد القائم بذاته ، وبذلك يثبت أنّ المادّية مانعة عن التعقّل بادراك الصورة ، فلا يكون المادّي مدركا للشيء بتجريد الصورة وانتقاشها في ذاته ، فالمصحّح لادراك الصورة بالتجريد هو التجرّد وليس مجرّد التجرّد علّة مستقلّة لحصول ادراك الصورة العقلية المجرّدة بالفعل ، والاّ لكان كلّ مجرّد مدركا لجميع الصور الكلّية للأشياء ، وليس كذلك ؛ بل هو المصحّح له ومن شأنه ادراكها. وانّما يتوقّف الحصول بالفعل على شرط آخر - وهو أن تحصل تلك الصور في بعض آلات المجرّد وقواه - ثمّ هذا المجرّد يدركها امّا بالمشاهدة الحضورية - كما تشاهد تلك الآلات نظرا إلى الارتباط الّذي بينهما من غير / 121 MA / أن يجرّد تلك الصورة ويقشرها ويأخذ حقائقها الكلّية وصفوها الخالص الّذي هو حاقّ كنهها ، وهو العلم الحضوري - ، أو يجرّدها عن الأغشية واللبوس ويأخذ

ص: 47

حقائقها الكلّية وطبائعها المجرّدة ، وهو العلم الحصولي الّذي ينقسم إلى التصور والتصديق. وبه يعلم حقائق الأشياء وحدودها وذاتياتها ولا يعلم ذلك بالعلم الحضوري. ولذا قد يكون شيء حاضرا ومنكشفا للآخر ولا يعلم حقيقته ، فانّ الشجاعة حاصلة في نفس الشجاع حاضرة عندها ولا يعلم حقيقتها وحدّها. وبالجملة المعلوم ممّا ذكرتم انّ ادراك الشيء بالعلم الحصولي ليس من شأن المادّي ولا يمكن حصوله له - لاستلزامه انقسام الصورة العقلية ومادّيتها - ، بل هو مختصّ بالمجرّد القائم بذاته. ولم يظهر ازيد من ذلك من دليلكم ولم يظهر منه عدم جواز ادراك المادّي للشيء بالعلم الحضوري واختصاصه بالمجرّد ؛ وحينئذ نقول : يجوز أن يكون المادّي مدركا للأشياء بالعلم الحضوري بأن ينكشف بعض الأشياء له لحصول نوع ارتباط وعلاقة من العلاقات المذكورة ؛ بل نقول : يجوز أن يشترط هذا النوع من العلم - اي : العلم الحضوري - بشرط آخر سوى الحضور للمجرّد القائم بذاته ، لانّ ما حصل من دليلكم انّ مصحّح العلم الحصولي هو التجرّد وموجبه بالعقل ليس الاّ أحد العلاقات المذكورة ، وهذا لا يوجب أن يكون العلم الحضوري أيضا كذلك ، فلم لا يجوز أن يكون مصحّحه شيئا غير التجرّد وموجبه بالفعل شيئا آخر من العلاقات المذكورة أو غيرها؟! ، لانّ انكشاف الأشياء - سواء كانت مادّية أو مجرّدة - للمادّى بالحضور لا يستلزم ارتسام صورها الكلّية العقلية في ذاته حتّى يوجب انقسام المجرّد ومادّيته.

قلت : لا ريب في تحقّق الانكشاف وحصوله في كلّ من العلم الحصولي والحضوري ، إلاّ انّ شرط حصول الانكشاف بالفعل في الحصولي هو الصورة وقيامها بالمدرك ، وشرطه في الحضوري هو حضور ذات المدرك عند المدرك بأحد الأنحاء المذكورة ، والغرض انّ مصحّح الانكشاف الحصولي هو التجرّد بمعنى انّ ما من شأنه ان يحصل له هذا الانكشاف هو المجرّد دون المادّي ، فالمادّي من حيث هو مادّي لا يناسب ذاته هذا الانكشاف ولا يمكن عليته له. ولا ريب في أنّ الانكشاف الحضوري ليس مخالفا بالنوع لهذا الانكشاف ، لانّ حقيقتها واحدة ، كيف وحقيقة كلّ منها ظهور شيء عند غيره لقيام الربط والعلاقة. إلاّ انّ الظاهر في الحصولى أوّلا وبالذات صورة وفي الحضوري عين

ص: 48

خارجية. والبديهة قاضية بأنّ ما لا يناسب أحد الظهورين لا يناسب الآخر أيضا ، واختلافهما في المتعلّق لا يصير منشأ لاختلاف الحقيقة ، فيعلم منه أنّ المجرّد من حيث هو مجرّد مناسب ومصحّح للتعقّل والمادّي من حيث هو مادّي غير مناسب ومانع عنه وإن كان فساد لزوم انقسام المجرّد ومادّيته مخصوصا بتحقّق الحصولي للمادّي. وبالجملة البديهة حاكمة بانّه إذا كانت المادّية مانعة عن العلم الحصولي يكون مانعة عن العلم الحضوري أيضا ؛ والفرق تحكّم باطل.

وإن تأمّلت بعد في اتحادهما في هذا الحكم وجوّزت الفرق - نظرا إلى اختصاص الفساد الّذي هو لزوم انقسام المجرّد ومادّيته في الحصولي دون الحضوري - فيثبت لك المطلوب بطريق آخر لا يتطرّق إليه شبهة أصلا ، وهو : انّه لا ريب في انّ العلاقات المذكورة راجعة كلّها إلى الحضور هى شرط التعقّل بالفعل لتعقّل العاقل ولا يمكن أن يكون مجرّد حصول أحد تلك العلاقات علّة مستقلّة للتعقّل بالفعل بمعنى أنّ كلّما يحصل له أحد تلك العلاقات بينه وبين شيء آخر يكون مدركا وعاقلا - سواء كان / 116 DB / مجرّدا أو مادّيا -. ولا يتوقّف على شيء آخر متحقّق للعاقل ، لانّه بديهى البطلان لاستلزامه تعقّل كلّ شيء لما هو غير غائب عنه. على انّه مستلزم لأحد المطلوبين - أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته - وان لم يستلزم المطلوب الآخر - أعني : عدم كون المادّيات عاقلة لذواتها - ، فيلزم أن يوجد سوى الربط أمر آخر في المدرك يكون مصحّحا ومنشأ للتعقّل الانكشافي ، فهو إن كان مجرّد التجرّد فيثبت المطلوب ، وإن كان مجرّد المادّية - أي : ما له مادّية ، سواء كان نفس المادّة أو الصورة الجسمية أو النوعية أو الاعراض القائمة بالجسم - ، لكان كلّ مادّي عاقلا لذاته ولكلّ ما هو لا يغيب عنه بالتعقّل الحضوري ، وهو بديهى / 121 MB / الفساد. وان كان شيئا آخر فامّا أن يكون ذلك الشيء هو الوجود الخاصّ للمدرك ، أو مهيته الخاصة المختصّة به - أي : مهيته مع تشخّصه أو تشخّصه الخاصّ فقط ، سواء كان التشخّص نحو وجوده أو غيره - ، أو الوجود العامّ الشامل له ولغيره من الموجودات ، أو مهيته المشتركة بينه وبين الكثيرين المتفقة معه في الحقيقة - أعني : نوعه - ، أو جزء مهيته - أعني : جنسه أو فصله أو صفة من صفاته وقوّة وخاصّة من قواه و

ص: 49

خاصّياته -.

فعلى الثلاثة الأول يلزم اختصاص التعقّل بموجود واحد شخصى ، وبطلانه ظاهر ؛ وعلى الرابع يلزم تحقق التعقّل لجميع الموجودات ، وفساده أظهر ؛

وعلى البواقي - أعني : كون المصحّح للتعقّل الحضوري هو النوع أو الجنس أو الفصل أو وصف لازم أو مفارق - فان أريد بها ما يؤخذ من الموادّ والصور والقوى الجسمية حتّى يكون جميع أفرادها مادّية لزم اختصاص التعقّل بالماديات وعدم تحقّقه لمجرّد أصلا ، وهو باطل ؛ لأنا نعلم بديهة انّ النفوس الناطقة عاقلة لذواتها مع أنها مجرّدة ؛

وإن اريد بها ما يؤخذ من حقائق المجرّدات وخواصّها أو الاعمّ لزم اختصاص التعقل بجميع افراد مجرّدة او مجرّدة ومادية داخلة تحت أمر نوعي أو جنسي أو فصلي أو وضعي غير التجرّد. ونحن إذا تتبّعنا وتصفّحنا عقلاء العالم باعتقاد أيّ فرقة نجد خلاف ذلك ونجد انتقاض ذلك طردا أو عكسا ، لانّه إن قيل بتحقّق التعقّل للواجب والعقول والنفوس الفلكية والانسانية فمع استلزامه للمطلوب - أعني : كون الواجب عاقلا لذاته - نقول أنّها ليست مشتركة في أمر جنسي أو نوعي أو فصلي ، ولا نجد أيضا صفة مشتركة مختصّة بها سوى التجرّد ، لانّ سائر صفاتها المشتركة - كالوجود والشيئية - يتناول غيرها من المادّيات أيضا ، وان قيل بتحقّقها لغير الواجب من المذكورات فلا ريب في عدم اشتراكها في النوع. وما يتصوّر جنسا لها - وهو الجوهرية - يشمل غيرها من المادّيات أيضا مع عدم صلاحية أكثرها للتعقّل بالضرورة والاتفاق. وكذا لا نجد صفة أو قوّة مشتركة بينها خاصّة بها ، وكذا الحكم إن قيل باختصاص التعقّل بالنفوس الفلكية والإنسانية ؛

وان قيل : هما مشتركان في التصرّف والتدبير في البدن ، فيجوز أن يكون التعقّل مستندا إليه ؛

قلنا : لو سلّم اتحاد التصرف في الجسم الفلكي والجسم العنصري حتّى يكون صفة واحدة مصحّحة للانكشاف نقول : لا ريب في أنّ التدبير فرع التعقّل ومرتّب عليه ، فالتعقّل علّة له ، فكيف يكون معلولا له؟!. وان قيل باختصاص التعقّل بالنفوس

ص: 50

الانسانية فهي وإن كانت إمّا متّحدة بالنوع - كما ذهب إليه ارسطو واتباعه - أو متّحدة بالجنس مختلفة بالنوع - كما ذهب إليه جماعة - إلاّ أنّ تعقّلها لا يمكن أن يستند إلى نوعها أو جنسها أو إلى ما يتصوّر فصلا أو وصفا لازما لها ، لأنّ حدّ النفس عندهم انّها جوهر مجرّد شأنها أن يتدبّر ويتصرّف في البدن ، فقولنا : « جوهر » جنس لها والبواقي - أعني : التجرّد والتدبير للبدن - فصل أو عرض ذاتي لها ، والمجموع هو النوع لها. فلا يخلو أنّ التعقّل امّا ان يستند إلى الجنس فقط - أعني : الجوهرية - أو إلى التجرّد فقط ، أو إلى التدبير للبدن فقط ، أو إلى الجوهرية والتجرّد معا ، أو إلى الجوهرية والتدبير للبدن ، أو الى التجرّد والتدبير للبدن ، أو إلى الثلاثة ؛

فعلى الأوّل يلزم تحقّق التعقّل لكلّ جوهر ، وهو بديهي البطلان ؛

وعلى الثاني يلزم المطلوب ؛

والثالث ظاهر البطلان ، لانّ التدبير للبدن أمر عرضي للنفس مرتّب على التعقّل ، لانّها ما لم تكن متعقّلة لم يمكن لها التدبير في البدن. فالتعقّل متقدّم على التدبير ، فلا يمكن أن يكون متأخّرا عنه معلولا له. وبالجملة عدم منشئيته ومصحّحيته للتعقّل أمر ظاهر ؛

وعلى البواقي يلزم توارد العلّتين مستقلّتين أو العلل المستقلّة على معلول واحد ، لأنّ الانكشاف أمر واحد بسيط وهذه الأشياء الثلاثة أمور متغايرة خارجية واقعية ، فاستناده / 117 DA / إليها أو إلى اثنين منها يوجب مناسبة الواحد من حيث هو واحد للمتعدّد من حيث هو متعدّد ؛

ولو قيل باعتبارية بعضها وعدميته وخصّ الواقعية والتحقّق الخارجي بواحد منها وخصّت العلّية والمنشئية به ، فرجع إلى كون واحد منه منشأ ومصحّحا ، فحكمه كما مرّ.

وبهذا الطريق - أي : طريق التحليل - يمكن اثبات المطلوب - أي : كون التجرّد منشأ ومصحّحا للتعقّل دون غيره لو قيل بتحقّق التعقّل لغير الانسان من الحيوانات ، أو بامكانه لبعض الموجودات الغير المحصّلة. فانّه لو كان شيء من / 122 MA / الحيوانات غير الانسان عاقلا فاذا حلّلناه وحصّلنا اجزائه الذاتية وصفاتها لم يصلح شيء منها لمنشئية التعقّل إلاّ التجرّد للزوم النقص في الطرد أو العكس - بنحو ما مرّ -. ولذا من اثبت التعقّل لغير

ص: 51

الانسان من الحيوانات اثبت له نفسا مجرّدة. وفي الموجودات الغير المحصّلة - لو جوز وجود عاقل فيها - نقول : لا بدّ من كونه مجرّدا واستناد تعقّله إلى تجرّده ، إذ لو كان مستندا إلى شيء غير متحقّق في الموجودات المحصّلة لوجب أن لا يتحقّق التعقّل في الموجودات المحصّلة ، ولو كان مستندا إلى أمر ذاتي أو عرضي يتحقّق في الموجودات المحصّلة ، فقد عرفت الحال فيه.

فقد ظهر وتحقّق بما ذكرناه انّ منشأ التعقّل ومصحّحه هو التجرّد ، فكلّ مجرّد من شأنه التعقّل وحصوله بالفعل له يتوقّف على أحد العاقلات المذكورة ؛ وفي تعقّله لذاته لا يحتاج إلى علاقة خارجة عن ذاته ، لانّ حضور ذاته لذاته من أقوى العلاقات للانكشاف.

ثمّ على ما ذكرناه من أنّ وجود المجرّد القائم بذاته عند ذاته منشأ وسبب للتعقّل ومستلزم للانكشاف وليس التعقّل عين وجوده الخارجي وإن لزم أن يكون كون المجرّد عالما ينكشف له المعلومات غير نفس حقيقته لازما لها والحقيقة هي عين مبدأ الانكشاف لا عين الانكشاف نفسه الاّ أنّه لا يلزم قيام أمر خارجي زائد على ذاته بذاته حتّى يلزم التركيب والتكثير ، لانّ الانكشاف إذا لم يكن لاجل قيام الصورة بذات العالم ولم تكن الصورة الحاصلة منشأ له ومصداقا لصدق العالمية بل كان نفس حقيقة العالم وحدها منشأ لصدق العالم ولا يحتاج في صدق عالميته إلى أمر آخر وراء ذاته - كما في العلم الصوري ، فانّ مصداق العالمية فيه ومنشأه هو أمر آخر غير نفس ذات العالم وهو الصورة القائمة - لا يوجب التكثير والتركيب ، لانّ الانكشاف وإن لم يكن نفس حقيقة العالم بل صفة لها إلاّ انّه ليس صفة زائدة يوجب انضمام شيء آخر إلى حقيقة العالم الانكشاف هو الظهور والظهور هو ارتفاع الحجب والموانع ، وكلّما يشتدّ الظهور يصير ارتفاع الأغيار والموانع أقوى ويكون التجرّد أشدّ. فكما انّ التجرّد صفة لذات المجرّد وليست عين ذاته إلاّ أنّها لا يوجب تكثّرا وتركّبا - بل كلّما كان أشدّ كان الموصوف به أشدّ بساطة ووحدة ، وكذلك كلّما يشتدّ الظهور والانكشاف يكون ذاته أشدّ تجرّدا عن الموانع والحيثيات وأقوى بساطة ووحدة - ، فالتجرّد والانكشاف من الصفات الّتي ترفعان التركيب والتكثير ، وبقدر زيادتهما وشدّتهما يزداد البساطة والوحدة و

ص: 52

يشتدّان لمن ثبتا وتحقّقا له. والحاصل انّ المنشأ والمبدأ في علم المجرّد بذاته انّما هو مجرّد ذاته وصرف حقيقته من غير مدخلية لشيء آخر ، من دون لزوم تكثر وتعدّد واختلاف حيثيّات من هذه الجهة.

وربما يورد هنا ايراد ؛ وهو : أنّه لا ريب في أنّ المنشأ في علم المجرّد بذاته إنّما هو ذاته فقط من غير مدخلية لغيره من الصور القائمة أو لشيء منفصل عنه مربوط به يصير علاقة للحضور ، إلاّ انّ العلم لمّا كان هو الانكشاف وقلتم انّ هذا الانكشاف غير ذات المجرّد فان اردتم انّ مفهومه غير ذاته فحينئذ ما ذكرتم من عدم التركيب ممنوع ، إلاّ انّه لا يلزم منه كون الانكشاف الحاصل للمجرّد مغايرا لذاته ، فيلزم أن يكون الانكشاف عين ذاته بمعنى كون ذاته فردا منه ، وهو ممنوع ؛ لانّه لازم ذاته لا عينه ، لانّه لا ريب في تغاير أصل الذات والانكشاف الحاصل له. وكيف يحكم عاقل بأنّ حقيقة المجرّد وذاته هو ظهور غيره له؟! ؛

وإن اردتم انّ ما يصدق عليه مفهوم الانكشاف - أي : الظهور الحاصل للمجرّد - غير ذاته ، فلا ريب في انّه عرض حاصل له ، فيلزم التركب وكونه محلاّ لهذا العرض.

والجواب عن الايراد المذكور : انّه لا ريب في أنّ الانكشاف أمر عرضي نفس أمري منتزع عن حاقّ ذاته - كالوجود العامّ - ومع ذلك من العرضيات الّتي منشأ لزيادة التجرّد عن المادّية / 117 DB / والحجب ، ولا ريب في أنّ الأمور الانتزاعية العرضية لا يوجب التكثّر والتركيب في الخارج ، لانّ مغايرتها للذات المنتزعة عنه إنّما هو بالنظر إلى مفهوماتها وتغاير المفهوم للذات لا يوجب تكثّرا / 122 MB / أو تركّبا. وأمّا مصداقها فليس إلاّ مجرّد الذات ، فانّ مفهوم الوجود - أعني : الوجود العامّ - مغاير لحقيقة الواجب مثلا ولا يوجب تكثّرا فيه ، ومصداقه انّما هو الذات فقط. والحاصل انّ منشأ الانكشاف ومصداقه في علم المجرّد بذاته انّما هو مجرّد ذاته بمعنى انّ ما يصدق عليه مطلق العلم في الخارج انّما هو مجرّد الذات ، وان كان مفهوم الانكشاف مغايرا له. وليس في الخارج أمر خارجي ينقسم إلى حقيقة المجرّد هو الانكشاف ، بل هو أمر اعتباري نفس أمري منتزع عنه انتزاع الوجود العامّ عن الوجود الخاصّ والفوقية عن السقف. فكما انّ

ص: 53

الوجود العامّ مغاير لصرف الوجود القائم بالذات - الّذي هو الحقيقة الواجبية - مع أنّ أحد المصداقات والافراد له في الخارج هو الحقيقة الواجبية وليس له في الخارج سوى هذا الفرد شيء آخر زائد هو الوجود العامّ منضمّ إلى هذا الفرد ، بل التغاير انّما هو من حيث المفهوم ؛ وفي العقل وفي الخارج ليس الاّ شيء واحد بسيط ينتزع عنه هذا المفهوم ؛ فكذلك حكم التعقّل بالنسبة الى المجرّد.

وحاصل هذا الجواب : انّ ما هو المغاير لذات المجرّد إنّما هو مفهوم التعقّل وليس بإزاء هذا المفهوم في الخارج سوى الذات شيء يكون مصداقا له ، بل مصداقه هو عين ذات المجرّد بمعنى انّ فردا من التعقّل قائم بنفسه هو ذات المجرّد وليس في الخارج وراء ذاته شيء آخر هو التعقّل من قوّة زائدة أو صورة حاصلة ، كما هو فينا ؛ بل ما ينكشف الأشياء للمجرّد لذاته ليس إلاّ عين وجوده. وبهذا الطريق يصحّح عينية صفات الواجب ، فانّ الواجب - تعالى - على هذا فرد من كلّ واحد من الصفات قائم بذاته ، فانّ فردا من العلم قائم بذاته هو الواجب - تعالى - ، وكذا فردا من القدرة ... وغيرها من الصفات الكمالية. فكما انّ الحرارة إذا قامت بغيره يكون هذا الغير حارّا لأجلها والضوء إذا قام بغيره يكون هذا الغير مضيئا وإذا قام كلّ منهما بنفسه يكون حرارة وحارّا وضوء ومضيئا من غير افتقار إلى محلّ ومصداق آخر ، فكذلك التعقّل فانّه إذا كان بصورة زائدة يكون التعقّل قائما بغيره ويكون هذا الغير لأجله عاقلا وإذا قام بذاته يكون عقلا وعاقلا ؛ لا العقل والعلم بمعنى الانكشاف - لبداهة انّ ذاته سبحانه ليس عين الانكشاف الّذي هو أمر اعتباري - ، بل العقل والعلم بمعنى ما ينكشف به الشيء - كما هو أحد اطلاق العلم -. فعلى هذه الطريقة يكون صرف الوجود القائم بذاته الّذي هو حقيقة الواجب عين جميع الصفات الكمالية ، بمعنى انّه فرد لكلّ منها ، لا انّه حقيقة لا يطلق عليه تلك الصفات وإنّما هي نائب مناب الكلّ والكلّ منتزع عنها بحيث لا يلزم فيه التركّب والتكثّر ، بل هو هو بعينه والتغاير لمجرّد المفهوم - كالوجود الخاصّ والمطلق -.

لا يقال : يرد على هذه الطريقة انّه كيف يمكن أن يكون محض الوجود القائم بذاته مع كونه حقيقة مجهولة الكنه عندهم فردا للعلم الّذي هو الانكشاف أو القدرة الّتي

ص: 54

هي صحّة الفعل والترك مع أنّها صفات منتزعة عنه ، ونحن نعلم انّ المنتزع غير المنتزع منه ، فانّ الحصّة المعيّنة من الانكشاف المنتزعة عن الواجب وإن لم يحتج انتزاعه إلى أمر آخر زائد سوى الواجب إلاّ انّه ليس عينه ، وكما أنّ الحصّة المعيّنة من الوجود العامّ المنتزعة عن الواجب - تعالى - ليس عينه وكذا الفوقية المنتزعة عن السقف ليست عينه فكذا التعقّل - أعني : الانكشاف الحاصل للواجب ، أي : الظهور اللازم لذاته المنتزع عن حقيقته - غير ذاته ، فكيف يكون الذات فردا منه ومصداقا له؟! ؛ بل المصداق للتعقّل العامّ بالعقل المجرّد لذاته انّما هو هذا التعقّل الخاصّ الحاصل له ، سواء قيل : انّه فرد من التعقّل العامّ أو حصّة منه ، كما انّ المصداق أو الفرد او الحصّة أو ما يشابه ذلك لمطلق الفوقية ليس عين هذا السقف ؛ بل الفوقية المنتزعة عنه.

لأنّا نقول : قد يجيء انّ العلم يطلق على ثلاثة معان :

أحدها : المعنى الاضافي المصدري ؛

وثانيها : ما ينكشف به الشيء ؛

وثالثها : الملكة الّتي نقتدر بها على استحضار المنكشفات.

والمراد من كون الواجب فردا للعلم انّه فرد للعلم بمعنى ما ينكشف به الشيء ، يعنى كما أنّ أحد افراده الصور الحاصلة / 118 DA / القائمة بالنفس فكذا أحد افراده الذات المجرّدة فهو فرد لمطلق العلم بمعنى ما ينكشف به الشيء ، لا العلم بمعنى الانكشاف - الّذي هو أمر اعتباري -. مثال ذلك انّ ذاته - تعالى - فرد لمطلق الوجود قائم بذاته كما انّ وجود الممكن فرد منه قائم بغيره ، وليس فردا للوجود المطلق الّذي هو أمر اعتباري ، بل منشأه وليس فردا له. وبالجملة العلم بمعنى الانكشاف كيف يكون / 123 MA / حقيقة الوجود فردا منها والقدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور كيف يكون صرف الذات فردا منه مع انّ حقيقة الوجود والذات غير الانكشاف وصحّة الصدور واللاصدور غير الايجاد وغير سائر الصفات الكمالية؟!. فالمراد انّ حقيقة الوجود فرد من العلم بمعنى ما ينكشف به الشيء والانكشاف من لوازمه الّتي يقتضيها ومن منتزعاته الّتي ينتزع عنه. وحينئذ فلو حمل ما ذكره الفارابى وبهمنيار وغيرهما من الفلاسفة من « أنّ تعقّل الواجب لذاته و

ص: 55

عاقليته للأشياء عين وجوده » على ذلك لكان صحيحا ، يعني كان مرادهم : انّ عاقليته بمعنى ما ينكشف به ذاته والأشياء هو عين وجوده وعاقليته بمعنى أنّ الانكشاف عين وجوده. فمبدأ التعقّل بمعنى الانكشاف ومنشأه هو ذات المجرّد ومصداق مفهوم التعقّل. وهذا المعنى - أي : ما يصدق عليه التعقّل العامّ في تعقل المجرّد لذاته - هو هذا التعقّل الحاصل له ، لا ذاته بعينه. إلاّ أنّ هذا المصداق أمر عرضي منتزع عن ذاته ، ومع ذلك منشأ لزيادة التجرّد وارتفاع المادّية والحجب ، فلا يلزم في الذات تركّب وتكثّر ؛ والتعقّل الّذي يكون الذات فردا منه ومصداقا له هو التعقّل بمعنى ما ينكشف ويظهر به الأشياء ، لا نفس الانكشاف والظهور.

وعلى هذا فالظاهر عدم الفرق بين هذا المذهب في تصحيح عينية الصفات - أعني : القول بكون ذاته فردا من كلّ صفة - وبين القول بالنيابة ، وكون النزاع بين القول بالفردية والنيابة لفظيا ، لانّ حاصل القول بالنيابة انّ ذاته - تعالى - نائب مناب جميع الصفات بمعنى انّ ذاته - تعالى - لمّا كان محض الوجود والوجود القائم بذاته مبدأ لجميع الصفات الكمالية من غير افتقار إلى أمر زائد قائم بذاته يكون مصحّحا لتلك الصفات والصفات بمعنى الاضافات ينتزع عنها ، ولكونها أمورا اعتبارية عرضية منتزعة عنه لا يوجب تركّبا وان كانت واقعية نفس أمرية ؛ فانّ الظاهر انّ مرادهم من قولهم : « انّ ذاته نائب مناب جميع الصفات » : انّ ذاته بمنزلة القوّة الزائدة والصورة الحاصلة فينا. وكما تكون تلك القوّة والصورة فردا من الصفة بالمعنى الحقيقي لا بالمعنى الاضافي بمعنى انّ القوّة الّتي يتمكّن بها على الفعل والترك مثلا فرد من القدرة بمعنى ما يحصل به القدرة بالمعنى الاضافي الاعتباري لا أنّها فرد من هذا المعنى الاضافي الاعتباري وانّ الصورة العلمية القائمة بانفسنا فرد من العلم بمعنى ما ينكشف به الأشياء لا أنّها فرد من الانكشاف ، فكذلك يكون ذاته - سبحانه - فردا من القدرة والعلم بالمعنى الحقيقي - أي : بمعنى ما يحصل به صحّة الفعل والترك وما ينكشف به الاشياء -. فمرادهم من النيابة انّ ذاته بالنسبة إليه - سبحانه - بمنزلة القوى العرضية والصور الزائدة بالنسبة إلينا. ولو كان مرادهم انّ القوى والصور الزائدة أفراد من الصفات بمعانيها الحقيقية ويصدق تلك الصفات عليها وذاته -

ص: 56

تعالى - ليس فردا منها ولا يصدق عليه أصلا أو كان مرادهم انّ تلك القوى والصور الزائدة أفراد من الصفات بالمعاني الاضافية حتّى تكون الصورة الحاصلة مثلا فردا من الانكشاف والواجب ليس فردا منه ، فلا ريب في بطلانه ؛ وسيجيء لذلك في مبحث الحياة زيادة بيان.

وبالجملة لا ريب في أنّ حقيقة الوجود الصرف القائم بذاته مبدأ لجميع الخيرات والكمالات ، وما من كمال إلاّ وهو يترشّح عنه ، ولا تنال ماهية خيرا وكمالا إلاّ وهو منه وجميع الصفات الكمالية راجعة إلى الوجود ، فلا يمكن أن يكون صرف الوجود المفيض لجميع الموجودات فاقدا لكمال. وهذا متفق عليه على الطريقين ، فانّ جميع تلك الكمالات بمعانيها الحقيقية عين الوجود الصرف القائم بذاته ، وبمعانيها الاضافية لوازمه ومنتزعاته وشئونه واعتباراته من غير لزوم شائبة تركّب وتكثّر ، وإن صدق عليه المفهومات الكثيرة المتغايرة ، لانّ صدق المفهومات المتغائرة على ذات واحدة بسيطة لا يوجب تغاير المصداقات ، إلاّ إذا استلزم ذلك الصدق اختلاف حيثيات وهو غير متحقق في علم المجرّد بذاته له وفي سائر صفاته الكمالية.

وعلى التحقيق يكون الذات فردا من الصفات الحقيقية ومنشأ ومبدأ / 118 DB / للصفات العرضية الاعتبارية المنتزعة الّتي هى مصداقات وحصص لمفهومات اعتبارية عامّة من دون لزوم تعدّد ، لانّ تكثّر الأمور المنتزعة العرضية عن ذات واحدة بسيطة لا يوجب تغاير المبدأ / 123 MB / والمنشأ إلاّ إذا استلزم ذلك الانتزاع اختلاف حيثيات ؛ وهو غير ممنوع فيما نحن فيه.

ثمّ المجرّد إن كان وجوده زائدا على مهيته - كغير الواجب من المجرّدات - يمكن أن يتحقّق له العلم الحصولي والحضوري بواسطة علاقة خارجية ، فكما يمكن أن يحلّل إلى الماهية والوجود فكذلك يمكن أن يحلّل إلى الذات والصفات الزائدة ، لأنّه لا ريب في أنّ الصورة الحاصلة للمجرّد القائمة به زائدة على ذاته وحقيقته ، إلاّ أن تكون تلك الصورة كلّية مجرّدة لا يلزم مادّية ذلك المجرّد وتركيبه. ويمكن أيضا أن يفتقر إلى أمر آخر يصير رابطة لتعقّله وان لم يكن وجوده زائدا على مهيته ، بل كان محض الوجود الخالص ، فلتعاليه

ص: 57

عن مطلق شوائب التركيب واستعلائه التامّ على عمّا عداه لا يكون علمه بشيء حصوليا ولا حضوريا مفتقرا إلى علاقة خارجية ؛ بل منشأ علمه بذاته وبجميع ما عداه هو مجرّد ذاته التامّة ، كما أنّ علم غيره من المجرّدات بمجرّد ذاته كذلك ؛ وسيجيء - إن شاء اللّه - بيان كيفية علمه بما عداه بهذا الطريق. فلا يكون فيه تركيب خارجي ولا عقلي أصلا ، ولا يلزم فيه تكثّر سوى انتزع الانكشاف والظهور عن ذاته ، وكذا انتزاع التجرّد وغيره من صفاته من ذاته الحقّة ولا يلزم منه تكثّر وتركّب - كما عرفته - ؛ هذا.

وبما ذكرناه يظهر الجواب عمّا قيل : كون الشيء عالما ينكشف له المعلومات حال خارجي يغاير لنفس حقيقته ، فلا يكون نفس حقيقة العالم وحدها مصداقا لصدق العالم في علم الشيء بنفسه ، فانّ كلّ شيء في نفسه هو هو لا غيره ، فلو تغيّر عمّا هو عليه في نفسه لاحتاج إلى مصداق آخر وراء ذاته ، فلا بدّ من كون الشيء عالما بنفسه مثلا من أمر آخر غير نفس ذاته يكون مصداقا لعالميته ، فلا يكون العلم بالشيء نفس حصول ذلك الشيء فقط ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع : انّه لو أراد من « المصداق » ما هو المنشأ والمبدأ ، فلا نسلّم انّ عالمية كلّ شيء لا بدّ له من مبدأ سوى الذات زائد عليه ، فانّه كما يجوز أن تكون الصورة مصحّحة للانكشاف فلم لا يجوز أن يكون بعض الذوات - أي : الذوات المجرّدة - أيضا كذلك؟! ؛

وإن اراد كون الشيء عالما - أي : تعقّله - لا بدّ له من مصداق - أي : ما يصدق عليه هذا التعقّل العامّ - سوى الذات - أي : يكون في ذات المجرّد شيء يصدق عليه انّه فرد أو حصّة من التعقّل غير ذاته ، لانّ الذات لا يكون فردا للتعقل - ، ففيه : انّا نلتزم انّه ينتزع من الذات أمر عرضي هو مصداق لمفهوم التعقّل ، وليس فيه فساد - كما تقدّم -.

وقال بعض الأعلام الإلهيين في الجواب عن الايراد المذكور : انّ كون عالمية الشيء في علم المجرّد بذاته وصفا خارجا عن نفس ذاته غير ممنوع ، بل يكون نفس حقيقة الشيء الغير الجسمي مصداقا لكونه عالما بذاته ولا يحتاج إلى مصداق آخر مغاير لنفسه ، فانّ صدق المفهومات المتغائرة على ذات واحدة لا يستدعي تغاير المصداقات إلاّ إذا استلزم

ص: 58

ذلك الصدق اختلاف حيثيات ، وهو فيما نحن بصدده - أي : علم المجرّد بذاته - غير ممنوع ؛ وإن سلّم في غيره. قال الشيخ في التعليقات : « اذا قلت انّى أعقل الشيء فالمعنى انّ أثرا منه موجود في ذاتي ، فيكون لذلك الأثر وجود ولذاتي وجود ، فلو كان وجود ذلك الاثر لا في غيره بل فيه لكان أيضا يدرك ذاته ، كما انّه لمّا كان وجوده لغيره ادركه الغير. ومن توهّم أن كون المجرّد عالما بذاته وصف زائد على ذاته يستدعي مصداقا لزمه القول بعدم كون الواجب الحقّ عالما بذاته إلاّ بعد تحقّق أمر زائد على ذاته - تعالى - ، وهو باطل ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّه إن كان مراده : انّ علم الشيء بنفسه - أعني : انكشافه لديه وظهوره بين يديه - هو عين وجوده وحقيقته وليس للانكشاف مصداق مغاير لنفسه - وبالجملة انّ حقيقة المجرّد ووجوده هو عين الانكشاف في الخارج بمعنى كونه فردا لهذا الامر الاضافي - ، فقد علمت انّه ليس الأمر كذلك ، لانّ ظهور المجرّد عند ذاته انّما هو لازم ذاته لا عينه ، ولا يلزم تغاير يوجب الفساد ، لكونه امرا اعتباريا انتزاعيا ؛ وكلام الشيخ أيضا لا يدلّ على العينية بمعنى كون الذات فردا منه ، فانّ ما هو موضع الاستشهاد من كلامه - أعني : قوله : « فلو كان وجود ذلك الاثر لا في غيره بل فيه ... الى آخره » - انّما يدلّ على انّ المجرّد يدرك ذاته ، لانّ معنى التعقّل للشيء أن يتحقّق أثر موجود في المعقول للعاقل. فاذا كان أصل هذا الأثر موجودا في العاقل لكان مدركا لذاته. فحاصل كلام الشيخ : انّ المجرّد يدرك ذاته من / 119 DA / غير احتياج إلى شيء زائد عن ذاته ، / 124 MA / بل ذاته مصحّح ومنشأ له ، فيرجع الى الطريقة الّتي اخترناها ، ولا يدلّ على أنّ الذات فرد من هذا الادراك ؛

وان كان مراده : انّ عالمية المجرّد بذاته لا تحتاج إلى مصداق - أي : مبدأ ومصحّح - سوى ذاته ليرجع إلى الطريقة المختارة ، فهو حقّ ومطابق لكلام الشيخ. فعلى ما اخترناه علم المجرّد بذاته وجميع الصفات الكمالية للواجب مبدئها ومنشأها عين الذات من غير افتقار إلى شيء آخر زائد على الذات - من قوّة أو صورة أو ذاتي أو غيرها - يكون مبدأ لها إلاّ أنّ الذات ليست عين تلك الصفات بمعنى كونها فردا لها ، لأنّها أمور اعتبارية

ص: 59

انتزاعية ومحقّق الحقائق كيف يكون عين الأمر الاعتباري؟!. ولكونها اعتبارية انتزاعية وإن كانت نفس أمرية لا يلزم التعدّد والتكثّر في الذات ، وعينية الصفات حينئذ راجعة إلى عدم تحقّق أمر زائد في ذاته يكون مصحّحا لتلك الصفات الاعتبارية الانتزاعية - أعني : الانكشاف والوجود العامّ وصحّة الفعل والترك والايجاد وغير ذلك - ، بل الذات من حيث هي منشأ ومصحّح لذلك.

ثمّ انّ الامام الرازي في المباحث المشرقية اعترض على عدم كون علوم المجرّدات بذواتهم غير زائد على ذواتهم : بأنّ الأشياء الّتي تعقل ذواتها لو كان عقلها لذواتها غير زائد على ذواتها لكان من عقلها عقلها عاقلة لذواتها ، وليس كذلك ؛ إذ اثبات كونها عاقلة لذواتها يحتاج إلى تجشّم اقامة برهان ، وبيان اثبات علمها غير بيان اثبات وجودها. وكذا ليس من اثبت وجود الباري - تعالى - اثبت علمه بذاته - تعالى - بل يلزمه اقامة حجة أخرى له ؛ انتهى.

ولا يخفى انّه على ما ذكرنا من انّ المراد بعينية علم المجرّد بذاته وعدم زيادته على ذاته وكذا عينية صفات الواجب لذاته هو انّ العلم الّذي هو الانكشاف كغيره من الصفات الكمالية أمر اعتباري منتزع عن ذاته ليس شيئا خارجيا منضمّا إلى الذات ومع ذلك سبب لزيادة البساطة والوحدة ، فسقوط اعتراضه ظاهر ؛ لانّ تعقّل المجرّد لذاته ليس حينئذ عين ذاته بمعنى كون ذاته فردا له ، بل هو من لوازمه واعتباراته ، والعلم بوجود الشيء لا يوجب العلم بلوازمه المنتزعة عنها. فاذا علمنا وجود مجرّد لا بدّ أن يثبت بدليل مستأنف انّ من لوازمه تعقّله لذاته بذاته. نعم! ، لو فرض تعقّلنا له بكنهه وبجميع الوجوه فيلزم حينئذ انّا نعقله عاقلا لذاته.

وأمّا على ما ذهب إليه الفارابي وبهمنيار من كون وجود المجرّد نفس تعقّله لذاته وكونه مصداقا لهذا التعقّل فقال بعض الذاهبين الى طريقتهم في الجواب عنه : انّ معقولية الشيء عبارة عن وجوده لشيء له فعلية الوجود والاستقلال - أعني : كونه غير قائم بشيء آخر - ، فالجوهر المفارق لمّا كان بحسب الوجود العيني غير موجود لشيء آخر - بل كان موجودا لذاته - كان معقولا لذاته ، وإذا صارت مهيته في عقل آخر فصارت بهذا

ص: 60

الاعتبار موجودا لشيء آخر ووجودا ذهنيا لذاته ، فلا جرم صارت معقولة لذلك الشيء الآخر لا لذاته. وإذا لم يكن له بهذا الاعتبار - أي : باعتبار وجودها في ذلك العاقل عاقلة لذاتها - فكيف عقلها ذلك العاقل عاقلة لذاته بهذا الاعتبار؟. ومحصّل القول : انّ عالمية الجواهر المجرّدة لذاتها هي عين وجودها لا عين ماهيتها ، وإذا كان كذلك فلا يلزم من عقل ماهية الجواهر المجرّدة عقلها عاقلة لذاتها ؛ اللّهم إلاّ فيما يكون وجوده عين مهيته - كالواجب -. ولما استحال ارتسام حقيقته - تعالى - في ذهن من الأذهان بالكنه بل ينحصر تعقّلنا له بالتعقّل بوجه من الوجوه - ككونه واجب الوجود بحسب المفهوم العامّ - لا يلزم من تعقّلنا له تعقّلنا عقله لذاته ، بل يحتاج إلى استيناف بيان وبرهان. ومن توهّم أنّ في كون الشيء عالما بنفسه يكون موضوع العالمية مغايرا لموضوع المعلوميّة بالاعتبار وقايسه إلى معالجة الشخص نفسه - إذ هو من حيث انّه معالج غيره من حيث انّه مستعلج ، فالمؤثّر النفس من حيث حصول ملكة المعالجة لها والمتأثّر من حيث قبوله للعلاج - ، لزمه القول بتكثّر الحيثيات التقييدية في ذاته - تعالى - من حيث كونه عالما بذاته ومعلوما لذاته. ولقد صرّح الشيخ الرئيس في الشفا والتعليقات بأنّ نفس كون الشيء عاقلا ومعقولا لا يوجب أن يكون هناك اثنينية في الذات ولا في الاعتبار ، فالذات واحدة والاعتبار واحد ، فانّه ليس تحصّل الأمرين / 124 BM / إلاّ اعتبار أنّ له ماهية مجرّدة هي ذاته / 119 DB / وانّه ماهية مجرّدة لذاته ذاته له. لكن في الاعتبار تقديم وتأخير في ترتيب المعاني ، والغرض المحصّل شيء واحد. ولا يجوز أن يحصّل حقيقة الشيء مرّتين ؛ انتهى كلامه بانتهاء كلام الشيخ.

اقول : حاصل كلامه في الجواب عن اعتراض الامام : انّ من تعقّل الجواهر المجرّدة فانّما تعقّل ماهيتها دون وجودها الخارجي ، وماهيتها ليست عين عالميتها بذواتها حتّى يلزم من تعقل ماهيتها تعقّل عالميتها بذواتها ، بل وجودها الخارجي عين عالميتها بذواتها وهو غير معقول لمن تعقّلها حتّى يعقل عالميتها بذواتها ، لانّ الوجود الخارجي حقيقته انّه في الخارج فلا يحصل في الذهن ، إذ لو حصل فيه لزم قلب الحقيقة. وجميع ما يعقل من الاشياء انّما هو ماهيتها وما وجوده عين مهيته - كالواجب - لا يحصل في الأذهان مطلقا ؛

ص: 61

اللّهم إلاّ بوجه من الوجوه - ككونه واجب الوجود بحسب المفهوم العامّ -.

وأنت خبير بانّه إذا لم يعقل الوجود الخارجي للجواهر المجرّدة فمن أين يحكم بأنّ وجودها عين عالميتها بذواتها مع انّ العالمية بمعنى الانكشاف أمر معقول لنا؟ ؛ فكيف يحكم باتحاد ما يعقل مع ما لا يعقل أصلا؟. فالمراد بوجودها الّذي حكم بعينيته لعالميتها ان كان هو الوجود العامّ فالحكم بعدم كونه معقولا ممنوع ، إذ هو معقول. مع أنّ تعقّله لا يوجب تعقّل عالميتها لبداهة تغايرهما ؛

وإن كان هو وجودها الخاصّ الّذي هو عين الذات في الواجب وغيره في غيره فان كان ممكن التعقّل فاعتراض الامام وارد ، وإلاّ فالحكم بالعينية ولو بالدليل والبرهان باطل. وهذا ممّا يدلّ على حقّية ما اخترناه وبطلان ما ذهبوا إليه في العينية ، لانّه معلوم بالضرورة انّ الوجود العامّ ليس عين الانكشاف ولا عين غيره من الصفات بمعنى كونه فردا لها والوجود الخاصّ الّذي هو منشأ انتزاع العامّ إن كان حقيقته ما هو المعقول لنا ، فهو ليس عين شيء من الصفات وإن كان حقيقته غير ما هو المعقول لنا ، بل كانت مجهولة الكنه ؛ فلا معنى للحكم بالعينية والاتحاد ؛

وإن اريد بالاتحاد اتحاد المبدأ في الكلّ فهو الحقّ المنصور الّذي اخترناه.

ثمّ ما ذكره من أنّ في كون الشيء عالما بنفسه لا يكون موضوع العالمية مغايرا لموضوع المعلومية بمعنى انّ حيثية عالميته ليست مغايرة لحيثية معلوميته وإلاّ لزم تكثّر الحيثيات التقديرية في ذاته - تعالى - إن اراد : انّ العالم فيه بعينه هو المعلوم من غير تحقّق صورة زائدة في ذاته وأنّ عالمية الذات - أي : كونها بحيث منكشفة ذاتها عندها - هي بعينها معلوميتها - أي : كونها بحيث منكشفة عند ذاتها - فهو حق ، وصريح كلام الشيخ أيضا ذلك حيث قال : « فالذات واحدة والاعتبار واحد » ؛

وإن اراد : انّ العالمية - أعني : الانكشاف - نفس الذات وعينها وليس أمرا اعتباريا منتزعا عنه ، بل اعتبار العالمية والمعلومية هو بعينه اعتبار تحقّق الذات حتّى يكون العالمية - أعني : الانكشاف - عين الذات المحصّلة في الخارج ، فهو ممنوع ، وكلام الشيخ أيضا يدلّ على خلاف ذلك ؛ فانّ قوله : « فالذات واحدة والاعتبار واحد » يدلّ على أنّ

ص: 62

اعتبار العالمية والمعلومية الّذي هو اعتبار واحد غير الذات.

ثمّ هذا الاعتبار - أعني : الانكشاف - كغيره من الاعتبارات الانتزاعية من مجرّد الذات مع كونها منشأ لزيادة الوحدة والبساطة لا يوجب تكثّرا وتعدّدا في الذات الحقّة - كما أشير إليه مرارا -.

وبما ذكرناه يظهر لك ما في كلام بعض الأعلام الإلهيين حيث قال في تصحيح الطريقة المبتنية على كون التعقّل عين الوجود : انّ ما هو بريء الذات عن علائق الموادّ وله وجود صوري ذاته له للمادة ولا لغيرها فذاته غير محتجبة عن ذاته ، بل نفس وجوده نفس كونه معقولا وذاته بعينها هي الصورة العقلية من ذاته لذاته فكما أنّ الحرارة القائمة بالنار حرارة لها وإذا فرضت قائمة بذاتها كانت حارّة بنفسها وحرارة لذاتها لا لشيء آخر والضوء القائم بالشمس إذا تجرّد وقام بذاته كان مضيئا بنفسه وضوء لذاته لا لشيء آخر ، كذلك الصورة المجرّدة ما دامت قائمة بالجوهر المفارق كانت معقولة المحلّ وعقله ، وإذا صارت مجرّدة بنفسها قائمة بذاتها لم تنسلخ عن المعقولية ، بل كانت معقولة بنفسه وعقل ذاته. وكما انّ المعلوم العيني يعلم بالصورة العلمية والصورة تعلم بنفسها - لا بصورة علمية أخرى - ، فكذلك الأشياء الّتي هي / 120 DA / غير القوّة العقلية انّما يتعقّل بقوّة عقلية والقوّة العقلية يتعقّل بنفسها لا بقوّة عقلية أخرى. وقد تبيّن بذلك / 125 MA / انّ العلم انّما هو حصول الشيء معرّى عمّا يلابسه لأمر مجرّد مستقلّ في الوجود بنفسه أو بصورته حصولا حقيقيا أو حكميا. فواجب الوجود لمّا كان في أعلى غايات التجرّد عن الموادّ والتقدّس عن الغواشي الهيولانية وسائر ما يجعل الماهية بحال زائدة كان عاقلا لذاته. ولمّا كان إنّيته حقيقته - أي : وجوده مهيته - فكما لا يزيد علمه بذاته على وجوده فكذلك لا يزيد على حقيقته ، بخلاف الجواهر المفارقة الذوات فعلومها بذواتها وان لم تزد على وجوداتها - لما ذكرنا من المساوقة بين العلم والوجود المفارقي سواء كان بالذات أو بتجريد مجرّد - لكن يزيد على ماهيتها ، إذ ليست الإنّية فيها عين الماهية. فعلم واجب الوجود الحقّ بذاته اتمّ العلوم وأشدّها صورة ، بل لا يشبه علمه بذاته إلى علوم ما سواه من المجرّدات بذواتها ، كما لا يشبه بين وجوده ووجودات الاشياء حيث هو ما وراء ما

ص: 63

لا يتناهى بما لا يتناهى. وكما انّ مناط الموجودية ومصداق حمل الوجود على الممكنات إنّما هو ارتباطها بالوجود الحقّ وهي مع قطع النظر عن ذلك الارتباط هالكات الذوات والحقائق ، فكذلك مناط عالميتها بنفسها أو بغيرها ارتباطها إلى نور الأنوار واستضاءتها به ، نسبتها إليه - تعالى - نسبة الاجسام الكثيفة إلى نور الشمس لو كان قائما بنفسه فهي مظلمة بذواتها مستضيئة بلمعان نوره الغير المتناهى شدّة وقوّة. ولشدّة نوريته وقوّة اشراقه وافراط ظهوره يتجافى عنه الحواسّ ولا يدركه العقول والأبصار ؛ انتهى.

وحاصل ما ذكره أوّلا : هو التصريح بكون وجود المجرّد عين عاقليته ومعقوليته ، والاستشهاد بالحرارة والضوء إذا فرض قيامها بذاتها. وأنت تعلم انّ هذا الاستشهاد لا يفيد المطلوب ، بل قياس مع الفارق! ؛ لأنّ كلّ واحد من الحرارة والضوء إذا قام بذاته فلا ريب في كونه حرارة وضوء لذاته وحارّا ومضيئا لنفسه ، إلاّ أنّه لا يكون وجود كلّ منهما عين الحرارة والضوء ، فانّ وجودهما مغاير لهما عند العقل ، كما إذا كانا قائمين بالمحلّ أيضا. فكذلك الصورة المجرّدة إذا قامت بذاتها تكون معقولة لنفسها إلاّ أنّ عاقليتها ومعقوليتها ليست عين وجودها بمعنى كون وجودها العيني فردا لها ، بل تعقّلها لذاتها أمر لازم لذاتها منتزع عنها ، بل الصورة المجردة إذا قامت بالجوهر المفارق يكون وجودها غير معقوليتها ، لانّ المراد بمعقوليتها هو انكشافها عند المحلّ ولا ريب أنّ وجودها للمحلّ وقيامها به غير هذا الانكشاف ، فانّه لازم وجوده له وقيامه به.

ثمّ قوله : « وكما أنّ مناط الموجودية ومصداق حمل الوجود - ... إلى اخر - » اشارة إلى طريقة المتصوّفة في وحدة الوجود والصفات ، فانّهم قالوا : كان الوجود واحدا هو الوجود الواجبي ، وموجودية الممكنات انّما هو لمجرّد الارتباط والتعلّق بالموجود الواجبي ، فكذلك قالوا : انّ العلم واحد وهو حقيقة الوجود الواجبي وعالمية الممكنات لأجل ارتباطها وانتسابها إليه ، وكذلك الحال في القدرة - كما اشرنا إليه - ، وكذا في سائر الصفات. وقد اشرنا إلى انّ درك ذلك والاذعان به غير ممكن لنا.

وقد يأتي لذلك ولكيفية عينية صفاته - تعالى - وما قيل فيها زيادة بيان في موضعه ؛ وانّما تعرّضنا لذلك هنا بحيث أدّى إلى الاطناب وأوجب ملالة الاحباب وسآمة

ص: 64

الأصحاب تطفّلا لما كنّا في صدد بيانه ، لشدّة الاحتياج إليه وتوقّف إيضاح المطلوب عليه.

وقد ظهر وتحقّق من التطويل المذكور انّ التجرّد مصحّح للانكشاف ، وإذا حصل أحد العلاقات المذكورة يحصل الانكشاف بالعقل فكلّ مجرّد قائم بذاته لوجود علاقة حضوره عند ذاته عاقل لذاته إلاّ انّ تعقّله ليس عين وجوده ، بل هو شأن من شئونه ومنتزع عنه انتزاعا لا يوجب التعدّد والتكثّر. وبهذا يثبت ما كنّا بصدد بيانه - أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته -. وقد علمت انّ الطريق الّذي سلكناها لاثبات ذلك - أي : كون كلّ مجرّد عاقلا - غير الطريق المنقولة عن القوم في ذلك ، فانّ لهم ثلاثة مسالك في ذلك :

أولها : ما نقلناه عن بهمنيار ، وقد عرفت حاله ؛

وثانيها : الاستدلال بحال النفوس الناطقة للانسان ، / 120 DB / فانّه لا ريب في انّ النفوس الانسانية المجرّدة عالمة ومنشأ عالميتها ليس الاّ تجرّدها ، قال بعض المشاهير : حكم الحكماء بأنّ كلّ مجرّد عاقل وكلّ معقول مجرّد انّما نشأ من تفتيش عن احوال النفوس المجرّدة الانسانية وادراكاتها ، وليس منشأ عالميتها الاّ تجرّدها.

وأنت تعلم انّ هذا وان كان حقّا إلاّ انّه يحتاج إلى البيان ، ومجرّد جعل ذلك دليلا مصادرة على المطلوب ، فلا بدّ من بيانه إمّا بدليل يتمّ عند أهل النظر - كما ذكرناه - أو بالحوالة إلى الكشف أو الحدس ؛

وثالثها : ما سلكه المحقّق الطوسي في مبحث الاعراض من التجريد ، وهو : انّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون معقولا ، لانّه بريء عن الشوائب المادية وكلّ ما هو كذلك فشأن ماهيّته / 125 MB / أن تكون معقولة ، لانه لا يحتاج إلى عمل يعمل بها من التجريد والتقشير حتّى يصير معقولة. فان لم يعقل فانّما ذلك من جهة عدم تحقّق العاقل لها. وإذا صحّ كونه معقولا فيصحّ أن يكون معقولا مع غيره ، لانّ كلّما يصحّ أن يعقل فتعقّله يمتنع ان ينفكّ عن صحّة الحكم عليه بالوجود والوحدة وما يحكم مجريها من الأمور العامّة المعقولة - كالعلّية والمعلولية والشيئية ونحوها -. والحكم بشيء على شيء يقتضي تصوّرهما معا ، فاذن كلّما يصحّ أن يكون معقولا يصحّ أن يعقل مع غيره ، وكلّما يصحّ أن يكون معقولا مع غيره يصحّ أن يكون منها بالمعقول الآخر ، لانّها لمعيته في المعقولية هو

ص: 65

نوع من المقارنة. وكلّما يصحّ أن يكون مقارنا لغيره من المعقولات يصحّ أن يكون عاقلا إذا كان مجرّدا قائما بذاته ، لأنّ كلّما يصحّ أن يكون مقارنا لغيره - ولو في المعقولية - فاذا وجد في الخارج يصحّ مقارنته لذلك الغير الّذي يصح مقارنته له في المعقولية لأنّ صحّة المقارنة المطلقة لم يتوقّف على المقارنة في العقل ، لأنّ صحّة المقارنة المطلقة هي استعداد المقارنة المطلقة واستعداد المقارنة المطلقة التي هي أعمّ من المقارنة في العقل متقدّم على نفس المقارنة المطلقة المتقدّمة على المقارنة في العقل ، والمتقدّم على المتقدّم على الشيء متقدّم على ذلك الشيء. فصحّة المقارنة المطلقة متقدّمة على المقارنة في العقل. فلا تتوقّف صحّة المقارنة المطلقة على المقارنة في العقول وإلاّ لزم الدور ، وإذا لم يتوقّف عليه فاذا وجد في الخارج مجرّد قائم بذاته يكون صحّة مقارنته المطلقة الّتي لا يتوقف على المقارنة في العقل بأن يحصل فيه المعقول حصول الحالّ في المحل ، وذلك لانّه إذا كان قائما بذاته امتنع أن يكون مقارنته للغير بحلوله في ذلك الغير أو بحلولها في ثالث ، والمقارنة المطلقة منحصرة في هذه الثلاثة. فاذا امتنع اثنان منها تعيّن أن يكون الصحّة بالنسبة إلى الثالث ، وهو صحّة مقارنة هذا المجرّد القائم بذاته للمعقول مقارنة المحل للحالّ - أي : يكون المجرّد محلاّ للمعقول -. فيثبت انّ كلّ ما يصحّ أن يعقل فاذا وجد في الخارج وكان مجرّدا قائما بذاته يصحّ أن يقارنه معقول آخر مقارنة الحالّ لمحله. ولا نعني بالتعقّل الاّ مقارنة المعقول للموجود المجرّد القائم بذاته مقارنة الحالّ لمحلّه ؛ فكلّ مجرّد يصحّ أن يكون عاقلا لغيره وكلّ ما يصحّ أن يكون عاقلا لغيره يصحّ أن يكون عاقلا لذاته ، لانّ صحة تعقّله لذلك الغير يستلزم صحة تعقل انّه تعقّل ذلك الغير. وصحّة تعقّل انّه تعقّل ذلك الغير مستلزم لصحّة تعقّل ذاته ، لانّ تعقّل القضية مستلزم لتعقّل المحكوم عليه ، فثبت انّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون عاقلا لذاته. وإذا صح أن يكون عاقلا لذاته وجب أن يكون عاقلا لذاته بالفعل ، لأنّ تعقّله بذاته إمّا بحصول نفسه أو بحصول مثاله ، والثاني باطل - لاستلزامه اجتماع المثلين - فتعيّن أن يكون تعقّله بحصول نفسه ونفسه دائما حاصل له لا تغيب عنه أصلا ، فيكون التعقّل دائما حاصلا له ، فثبت أنّ كلّ مجرّد عاقل.

ولا يخفى انّ هذا الدليل غير تامّ ، والاعتراض عليه بوجوه :

ص: 66

منها : انّا لا نسلّم انّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون معقولا ، لم لا يجوز أن تكون خصوصية ذات بعض المجرّدات مانعة من أن يعقل كما صرّحوا بأنّ كنه ذاته - تعالى - يمتنع ان يكون معقولا لغيره؟! ، فيجوز أن يكون بعض المجرّدات بحيث يمتنع أن يكون معقولا لغيره مطلقا.

ومنها : انّ تقدم المقارنة المطلقة على المقارنة الخاصّة - أعني : المقارنة في العقل - انّما يتمّ إذا كانت المقارنة / 121 DA / المطلقة ذاتية لها ، وهو غير ممنوع.

ومنها : - وهو العمدة - : انّا نسلّم انّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون مقارنا لغيره في التعقّل ولكنّا لا نسلّم انّ ذلك يوجب صحّة مقارنته له في الخارج. وما قيل في بيان استلزام صحّة المقارنة في العقل لصحّة المقارنة في الخارج ظاهر الفساد ، لأنّ حاصل البيان : انّه إذا ثبت صحّة المقارنة في العقل يكون ذلك كاشفا عن صحّة المقارنة المطلقة ، وهي لتقدّمها على المقارنة الخاصّة - بالبيان المذكور - لا يتوقّف عليها حتّى يلزم أن يكون تحقّقها منحصرا بحصولها في ضمنها ، فيصحّ تحقّقها لا في ضمنها أيضا ، فاذا وجد المجرّد في الخارج يصحّ مقارنته بالمقارنة المطلقة لغيره ، واقسامها منحصرة بالثلاثة المذكورة ، ويمتنع اثنان منها ، فتعيّن الثالث - وهو أن يكون الغير حالاّ فيه -.

ويرد عليه : انّ القدر المسلّم انّ صحّة المقارنة في العقل انّما يكشف عن صحّة المقارنة المطلقة الحاصلة في ضمن / 126 MA / هذه المقارنة الخاصّة لا الحاصلة في ضمن مقارنة خاصّة أخرى ، فيجوز أن يصحّ لذات المجرّد المقارنة المطلقة في ضمن هذا الخاصّ فقط - أعني : المقارنة في العقل - ، لا لانّ صحّة المقارنة المطلقة موقوفة على هذه المقارنة الخاصّة حتّى لا يجوز حصولها في ضمن مقارنة خاصّة اخرى ويقال حينئذ انّه خلاف الواقع ، بل لانّ ذات المجرّد يجب أن لا تقبل الاّ هذه المقارنة الخاصّة - أعني : المقارنة في العقل - ، فالمقارنة المطلقة هنا انّما توجد في ضمن هذه المقارنة الخاصّة فقط وان وجدت في مواضع أخر في ضمن المقارنات الخاصّة الأخر.

ثمّ على ما ذكرنا - وعلى ما ذكره بهمنيار وغيره أيضا - فلا ريب في أنّ المنشأ للتعقّل هو التجرّد بشرط كون المجرّد موجودا بالفعل قائما بذاته ، فبالتجرّد تخرج الصور الجمادية

ص: 67

وغيرها ممّا يتعلّق بالموادّ عن العاقلية وبالموجودية بالفعل ؛ والقيام بالذات يخرج الهيولى عن العاقلية ، لانّ الهيولى ليست موجودة بالفعل ، بل هي جهة القوّة دائما في الموجودات المادّية. فكما أنّها جهة قوّة الوجود فكذا جهة قوّة العالمية فيما يتعلّق بها من الأشياء كالنفوس الّتي هي عاقلة ومعقولة بالقوّة ثمّ تصير عاقلة ومعقولة بالفعل ، ولا يبعد أن يدّعى خروجها عن العاقلية بالتجرّد ، لانّ التجرّد المستلزم للتعقّل إنّما هو البراءة عن المادّية ، وعين المادّة كيف يكون عرية عن المادّية؟. وبالجملة ما ذكرنا في دليل انحصار التعقّل في المجرّد من التحليل ومن لزوم كون محلّ المجرّد المعقول مجرّدا انّما يتأتى في المجرّد الموجود بالفعل القائم بذاته المنحصر بالواجب ، والجواهر المجرّدة من العقول والنفوس والصور الجمادية والهيولى وغيرهما من المادّيات ليست كذلك.

وعلى ما ذكره الحكماء في دليله من أنّ التعقّل عين حصول الشيء للمجرّد القائم بذاته والمجرّد نفسه حاصل لنفسه فيكون متعقّلا لنفسه يخرج الأمور المذكورة أيضا ؛ امّا الصور الجمادية فلأنّ أنفسها وماهيتها لم تحصل لها ، بل هي حاصلة للموادّ ولم تحصل ماهيتها لها أصلا ، بل لا يحصل لها شيء أصلا فانّ القائم بالغير الحاصل له يكون انيته بعينها انيته للمحلّ ، فلو حصل له شيء يكون حصوله في الحقيقة لمحلّ الصورة والعرض لا لهما ، فانّ ما ليس له حصول في نفسه كيف يحصل له شيء؟!. وعلى هذا فالصور الجمادية وغيرها لا يحصل لها شيء أصلا فضلا عن حصول ماهياتها لها ، فلا يتحقّق لها التعقّل ؛

وامّا الهيولى فانّها وإن لم تحصل وجودها لشيء آخر إلاّ أنّها ليست موجودة بالفعل حتّى يدّعى حصول وجودها لذاتها ويلزم كونها عالمة بذاتها ، لكون العلم عبارة عن نحو الوجود للشيء ، قال بهمنيار في التحصيل : « واقوى الموجودات هو الوجود المستغني من الماهية وأضعف الموجودات ما حقيقته القوّة ، وهذا هو الهيولى ، فما وجوده اقوى الموجودات فهو اقوى في باب المعقول » ؛ انتهى. وقال بعض المشاهير : انّ قوله : « اضعف الموجودات ما حقيقته القوة » اشارة إلى لمية كون الهيولى غير عالمة بذاتها ، فانّ العلم ليس الاّ الظهور والانكشاف ، وليس للهيولى وجود بالفعل في حدّ ذاتها فليس لها ظهور وانكشاف لذاتها ، إذ الظهور والانكشاف ليس الاّ للوجود بالفعل.

ص: 68

وبذلك يندفع اعتراض الاشراقيين على قول المشائين من انّ التعقّل حضور الماهية المجرّدة عن العلائق المادّية للشيء المجرّد القائم بذاته ، وهو حاصل في شأن المجرّد لانّ ذاته غير غائبة عن / 121 DB / ذاته ، فيكون عالما بذاته. وحاصل اعتراضهم انّه لو كفى في كون الشيء شاعرا بنفسه تجرّده عن الهيولى لكانت الهيولى الّتي أثبتوها شاعرة بنفسها ، إذ ليست هي ماهية لغيرها بل ماهيتها لها ، وهي مجرّدة عن الهيولى الأخرى إذ لا هيولى للهيولى ، وهي لا تغيب عن نفسها - إن عنى بالغيبة الواقعة في تفسيرهم للادراك بانّه عدم الغيبة عن الذات المجرّدة عن المادّة مجرّد البعد عن الذات - ، لامتناع بعد الشيء عن نفسه - وان عنى بعدم الغيبة الشعور كان قولهم : كلّ مجرّد غير غائب عن ذاته ممنوعا ولم يصحّ جعله دليلا على كون المجرّد عالما بنفسه ، لانّه تعليل الشيء بنفسه -.

ودفع هذا الاعتراض بان يقال : لم يجعل مجرّد التجرّد عن الهيولى دليلا على العلم ، بل جعل تجرّد الموجود بالفعل في حدّ ذاته عن الهيولى دليلا على العلم ، فاندفع النقض بالهيولى. فانّ الوجود هو الظهور أو مستلزم له ، فالموجود بالفعل الّذي هو موجود / 126 MB / لنفسه - أي : غير قائم بالغير - ظاهر لنفسه. ونظير هذا ما قال الاشراقيون من انّ النور المجرّد عالم بذاته لانه نور لنفسه وظاهر لنفسه ، وكلّ ما هو عالم بذاته فهو نور مجرّد ، فهاتان القضيتان نازلتان منزلة قول المشائين من انّ كلّ عالم بذاته فهو مجرّد وكلّ مجرد فهو عالم بذاته » ؛ انتهى.

ولا بد من نقل مذهب الاشراقيين ومذهب المشائين فيما هو منشأ العلم عند كلّ منهم والاشارة إلى أنّ أيّ فرق بين المذهبين صار سببا لاعتراض الاشراقيين على المشائين ، ثمّ الاشارة إلى انّ هذا الفرق غير موجب للاعتراض.

فنقول : مذهب المشائين انّ المانع عن العاقلية هو مجرّد كون الشيء موجودا لغيره ، فما ليس موجودا لغيره يكون عاقلا ، وما ليس موجودا لغيره انّما هو الوجود لذاته والوجود لذاته ليس الاّ المجرّد القائم بذاته ؛ ومذهب الاشراقيين انّ مناط العاقلية كون الشيء نورا في ذاته قائما بذاته ، فانّ الأشياء عندهم على أربعة اقسام :

الأوّل : ما هو نور في ذاته وقائم بذاته ، ويسمّونه : « نورا في ذاته لذاته » ؛

ص: 69

والثاني : ما هو نور في ذاته ولكنّه ليس قائما بذاته ، بل هو قائم بمحلّ ، ويسمّونه : « النور العارض » ؛

والثالث : ما ليس بنور في ذاته ولكنّه قائم بذاته ، ويسمّونه : « الجوهر الغاسق » - كالجسم - ؛

والرابع : ما ليس نورا في ذاته وليس قائما بذاته ، بل قائم بالمحلّ ، ويسمّونه : « الهيئة الظلمانية ».

وقالوا : العاقل لذاته من هذه الاقسام الاربعة منحصر بالقسم الأوّل - أعني : ما هو نور في ذاته لذاته - ، والبواقي غير عاقلة وليس من شأنها العاقلية ، فالجسم واجزائها - من الهيولى والصورة - لكونها غاسقة ليست بأنوار في ذواتها ، فلا تكون شاعرة ، والنور العارض - كضوء الشمس - والصور المعقولة المجرّدة وإن كانت نورا في ذاتها لكن لكونها غير قائمة بذاتها لا تكون شاعرة أيضا ، فعندهم كلّ نور في ذاته لذاته هو شاعر وكلّ شاعر هو نور في ذاته لذاته. وهذا النور ليس الاّ المجرّد القائم بذاته البري عن شوائب الجسمانيات ، فينحصر بالواجب والعقول والنفوس.

ثمّ لمّا رأوا انّ المشائين حصروا المانع من العاقلية في كون الشيء موجودا لغيره غير قائم بذاته فظنّوا أنّهم يقولون انّ ما هو موجود لذاته غير قائم بغيره يكون عاقلا ولو كان غاسقا ، فأوردوا عليهم النقض بالهيولى لكونها موجودة لذاتها غير قائمة بغيرها ؛ وقالوا : يلزم عليكم أن تكون الهيولى شاعرة بنفسها ، بل بالصور والهيئات الحالّة فيها أيضا لكونها موجودة لها حاضرة عندها غير غائبة عنها - كما صرّح به الشيخ الألهي في حكمة الاشراق حيث قال ردّا على المشائين : « واعترفوا بأنّ الهيولى ليس لها تخصّص إلاّ بالهيئات الّتي سمّوها صورا. والصور إذا حصلت فينا ادركناها وليست الهيولى في نفسها إلاّ شيئا ما مطلقا أو جوهرا ما عند قطع النظر عن المقادير وجميع الهيئات كما زعموا ، ولا شيء في نفسه أتمّ بساطة من الهيولى سيّما جوهريتها الّتي هي سلب الموضوع عنها - كما اعترفوا به - ، فلم ما ادركت ذاتها لهذا التجرّد وما ادركت الصور الّتي فيها؟! » (1).

ص: 70


1- راجع : حكمة الاشراق ، ص 115 ؛ ويوجد اختلاف يسير بين ما في المتن وما في المطبوع المطبوع من هذا الكتاب.

والوجه في عدم ورود اعتراضاتهم غفلتهم عن انّ المشائين لم يجعلوا مجرّد كون الشيء موجودا لذاته ومجرّد التجرّد سببا للعاقلية ، بل جعلوا تجرّد الموجود بالفعل في حدّ ذاته سببا لها ، فالموجود بالفعل القائم بذاته منشأ للعلم عندهم ، والهيولى ليس كذلك ؛ فكون الشيء موجودا بالفعل قائما بذاته عند المشائين بمنزلة كون الشيء في ذاته لذاته عند الاشراقيين. فكما أنّ الشيء إذا كان نورا في نفسه قائما بذاته كان نورا لنفسه وظاهرا لذاته / 122 DA / وعالما بها وبالعكس ، فكذلك إذا كان الشيء موجودا بالفعل وقائما بذاته كان ظاهر الدلالة وعالما بذاته ، وبالعكس. وكما أنّ الشيء إذا لم يكن نورا في نفسه أو كان ولم يكن قائما بذاته لم يكن عالما بذاته كذلك إذا لم يكن الشيء موجودا بالفعل ولم يكن قائما بذاته لم يكن عالما بذاته ، وقد ظهر بما ذكر انّ التجرّد والبساطة - اللّذين هما منشأ التعقّل - انّما هو التجرّد والبساطة بشرط الوجود بالفعل ، والهيولى بعد وجودها ليس لها تجرّد ولا بساطة ، بل البساطة الّتي نتصور لها انّما هو البساطة بالنسبة إلى ماهيتها لا بالنسبة إلى وجودها. ولذا اعترض بعض الأعلام المحقّقين على قول صاحب الاشراق في اعتراضه على المشائين : « لا شيء في / 127 MA / حدّ نفسه اتمّ بساطة من الهيولى » : بأنّ هذا من باب الاشتباه بين الماهية والوجود ، فانّ الهيولى أبعد الأشياء من التجرّد والبساطة لانّها متكثّرة بحسب تكثّر الصور في الواقع لانّها ليست بمتحصّل الوجود في الواقع الاّ بالصور ، والتجرّد الّذي يعتبر في كون الشيء عاقلا هو تجرّد الوجود لا تجرّد الماهية والمفهوم ؛ ولو كانت الصور أعراضا متأخّرة الوجود عن وجود الهيولى - كتأخّر السواد والكتابة عن وجود الانسان - لكان لما ذكره وجه. فبساطتها عبارة عن بساطة معنى جنسي كالجوهرية ، ومناط العاقلية هو بساطة الوجود لا بساطة المعنى. ومعنى بساطة الهيولى أنّها إذا لوحظت بحسب نفس ذاتها وقطع النظر عن الصور الّتي تحصّلت وتقوّمت هي منها في الواقع كان حالها في اعتبار نفسها أنّها جوهر فقط والصور خارجة عن ماهيتها داخلة في وجوداتها المتعدّدة ، فذاتها في غاية ضعف الوجود وضعف الوحدة شبيهة بالكلّيات الجنسية في الوجود والوحدة ، لأنّ الوجود هو الظهور.

ص: 71

ثمّ انّه ربما يورد هاهنا شبهتان لا بدّ لنا من ايرادهما ودفعهما :

الشبهة الأولى : انّ الوجود إذا كان هو الظهور - الّذي هو التعقّل - أو مستلزما له لزم كون الهيولى شاعرة بنفسها ، لأنّها ليست معدومة بل هي موجودة بوجود ضعيف. ومعنى كونها بالقوّة ليس أنّها معدومة صرفة ، فاذا كان الوجود هو الظهور أو مستلزما له وللهيولى وجود لا محالة وإن كان ضعيفا ولكن ذلك الوجود الضعيف قائم بذاته لزم كونها ظاهرة لذاتها. غاية ما في الباب أن يكون ظهورها لذاتها ظهورا ضعيفا بإزاء وجودها الّذي في غاية الضعف ، فيكون لها شعور ضعيف بذاتها. وقد ظنّ ذلك جماعة وذهبوا إلى ذلك ، ولذا حكموا بتحقّق عشق الهيولى وسراية نور العشق - الّذي هو فرع الشعور - في جميع الموجودات ، وقالوا : لو لا عشق الهيولى لم يظهر سراية نور العشق في جميع الموجودات.

الشبهة الثانية : انّه لو سلّم انّ الهيولى ليس لها وجودا بالفعل من ذاتها أصلا ولكن لا ريب في أنّها بعد ضمّ الصورة إليها تصير موجودا بالفعل بمقارنتها لها ، فمعنى قولهم : انّ الهيولى ليس لها وجود بالفعل انّها بمحض ذاتها لا يمكن صيرورتها بالفعل ، لا انّها ليست موجودة في نفس الأمر لا يصير بالفعل في نفس الامر فكما انّ قولهم : « الممكن في حدّ ذاته ليس بموجود بل عدم محض » ليس معناه انّه ليس بموجود في نفس الأمر ولم يتصف بالوجود بالفعل - لانّ خلافه ظاهر - ، بل المراد انّه ليس الوجود من مقتضى ذاته ، فكذا الحال في قولهم : « الهيولى ليس لها وجود بالفعل » ، وإذا كان كذلك فتكون الهيولى موجودة بالفعل في نفس الأمر بعد ضمّ الصورة وان لم يكن حصول هذا المعنى من مقتضى ذاته. وظاهر انّ هذا يكفي لظهورها وكونها عالمة بنفسها لو كان مناط العالمية هو ما ذكروه - أعني : كون الشيء مجرّدا موجودا بالفعل قائما بذاته - ، اذ لا يجب في العالم أن يكون وجوده من ذاته وإلاّ لخرج جميع الممكنات عن العالمية ، لانّ وجودها من عللها.

والجواب عن الشبهة الاولى : انّ الظهور أو المستلزم له انما هو الوجود بالفعل - كما عرفت - ، والهيولى ليس موجودا بالفعل أصلا ، لانها قبل ضمّ الصورة إليها لا وجود لها

ص: 72

أصلا - لا قويا ولا ضعيفا - وانّما تصير موجودة بالوجود الّذي يليق به بعد ضمّ الصورة ؛ ويرشدك الى ذلك قول الشيخ في التعليقات : « الهيولى معدومة بالذات موجودة بالعرض ».

على أنّا نقول : انّ المنشأ للتعقّل انّما هو الوجود بالفعل المجرّد عن المادّية ونفس المادّة ليست مجرّدة عنها.

والجواب عن الشبهة الثانية : انّ الهيولى بعد ضمّ الصورة لو كانت / 122 DB / موجودة بالفعل ولم تكن هي والصورة موجودتين بوجود واحد - كما هو رأي جماعة - فلا ريب في أنها حينئذ ليست مجرّدة عن المادّية وعلائقها من الوضع وغيره ، وقد ذكرنا انّ المنشأ للتعقّل انما هو الموجود المجرّد عن المادية وعلائقها.

وقيل في الجواب عنها أيضا : انّ الظاهر من كلماتهم انّ الهيولى لمّا اعتبر في جوهرها القوّة والاستعداد فحقيقتها انّها جوهر مستعدّ لكلّ شيء ، فهي في ذاتها لا تقبل الظهور والانكشاف ، فلهذا لا تصير عالمة بذاتها وان صارت بعد ضمّ الصورة موجودة بالفعل ، فكانّه اعتبر في كون شيء عالما بنفسه أن يكون في ذاته - مع قطع النظر عن جميع ما عداه - / 127 MB / شيئا معينا لا يخالطه قوّة واستعداد ، بل يكون موجودا بالفعل ومتعيّنا بالتعيّن الحاصل له بالفعل قائما بذاته غير قائم بأمر آخر ؛ والهيولى ليست كذلك ، لأنّها ليست أمرا موجودا بالفعل متعيّنا بالتعيّن الحاصل في حدّ ذاته من دون اعتبار الصورة الجاعلة ايّاها بالفعل ، فانّ حقيقتها ليست إلاّ شيء ما وأمر ما مستعدّ للصورة والشيء لا يصير لمجرّد كونه شيئا ما أو أمرا ما مع عمومه وابهامه موجودا بالفعل ما لم يتحصّل بنحو من التحصّل. وعلى هذا فتكون الهيولى من الموجودات الضعيفة الّتي تكون فعليتها قوّة ووجودها نفس كونها مستعدّة وتحصّلها عين القوّة والاستعداد فهي بحسب ضعف الوجود مثل معنى الجنس إلاّ انّ الهيولى شخص بهذه الصفة من القوّة والابهام وعدم التحصّل والفعلية ولا تحصّل إلاّ بالصور ، والجنس معنى مبهم غير محصّل وتحصيله بالفصول. وليست محض العدم حتّى يرد أنّ الهيولى إذا كانت محض القوّة الّتي هي العدم كيف يكون جزء خارجيا للجسم - كما هو عند المشائين -. قال الشيخ في الشفاء : « جوهر الهيولى وفعليتها عين كونها مستعدّة لكذا والجوهرية الّتي لها ليست تجعلها

ص: 73

بالفعل شيئا من الأشياء ، بل تعدّها لأن تكون بالفعل شيئا بالصورة. وليس معنى جوهريتها إلاّ أنّها أمر ليس في موضوع ، والاثبات هاهنا هو انّه أمر. وأمّا انّه ليس في موضوع فهو سلب ، و « انّه أمر » ليس يلزم منه أن يكون شيئا معينا بالفعل ، لأنّ هذا عامّ ولا يصير الشيء بالفعل شيئا بالامر العامّ ما لم يكن له فصل يحصّله ، وفصله انّه مستعدّ لكلّ شيء ، فصورته الّتي تظن له هي انّه مستعدّ قابل » (1) ؛ انتهى.

ويمكن الجواب عنها أيضا بانّه يعتبر في كون الشيء عاقلا لذاته - مع ما ذكروه من كونه مجرّدا قائما بذاته - أن لا يكون مخلوطا بشيء آخر بحيث لا يمكن تعيينه بدونه ، والهيولى ليست كذلك - لأنّها مخالطة بالصورة ولا يمكن تجرّدها عنها وتعينها بدونها في ذاتها - ؛ فلا يمكن أن تصير عاقلة ومعقولة. قال الشيخ : « انّ معقولية الشيء هو تجريده عن المادّة وعلائقها ، والشيء إذا كان يخالطه شيء غريب لا يكون مجرّدا البتّة ، فلا يكون عاقلا ولا معقولا لذاته ». وعلى هذا فالتجرّد الّذي هو شرط التعقّل انّما هو التجرّد بحسب الخارج عن الصورة وغيرها من اللواحق لا التجرّد بحسب مرتبة ذاته ، والهيولى وإن كانت مجرّدة عن الصور وغيرها بحسب مرتبة ذاته إلاّ أنّها ليست مجرّدة عنها بحسب الخارج والواقع ، وهذا كما أنّ الطبائع بحسب مرتبة ذاتها - أي : كونها طبائع من غير اعتبار اختلاطها بالمشخّصات والعوارض - تكون مجرّدة مع أنها بحسب الواقع والخارج غير مجرّدة عنها ، فكما انّ تجرّدها بحسب مرتبة ذاتها لا يوجب كونها عاقلة فكذا تجرّد الهيولى في مرتبة ذاتها لا يستلزم كونها عاقلة.

فحاصل الجواب الأوّل : انّ التجرّد عن المادّية وعلائقها شرط في التعقّل ونفس المادّة ليست مجرّدة عنها.

وحاصل الجواب الثاني : انّ التجرّد عن القوة والاستعداد شرط في التعقّل والهيولى عين القوّة والاستعداد.

وحاصل الجواب الثالث : انّ التجرّد عن الأمور الغريبة والتعيّن بدونها شرط في التعقّل والهيولى مخالطة بالصورة ولا يتعيّن بدونها.

ص: 74


1- راجع : الشفا / الإلهيات ، ص 67.

ثمّ انّه قيل : قد ظهر هنا من كلام الشيخ انّ حقيقة الهيولى هي القوّة والاستعداد ، وهو مناف لمّا حققه في رسالة الهيولى من أنّ لها وحدة شخصية محفوظة مع تبدّل الصور ؛

واجيب عنه : بأنّ كون حقيقتها محض القوّة والاستعداد لا ينافي لأن تحصل لها وحدة شخصية بعد ضمّ الصورة ؛ وأمّا أنّه كيف يمكن بقاء تلك الوحدة مع تبدل الصورة الّتي هي علّة لها فليس هاهنا موضع تحقيقه.

وأيضا : لو جوّز تحقّق الشخص بدون الوجود فيمكن أن يقال : انّ كون حقيقتها القوّة لا ينافي / 123 DA / الوحدة الشخصية ، إذ يمكن أن يكون معنى شخصيّا يستعدّ لكلّ صورة ويبقى بحاله مع كلّ منها ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ تحقّق الشخص بدون الوجود أمر بديهي البطلان! ، لأنّ التشخّص إمّا نحو الوجود أو ما يلزمه ، والهيولى مع قطع النظر عن الصورة لا وجود لها ، فكون الهيولى معنى شخصيّا بدون الوجود يستعدّ لكلّ صورة ويبقى بحاله مع تبدّل الصور أمر غير معقول. فالمسلّم تحقّق الوحدة الشخصية لها بعد ضمّ الصورة إليها ، ومع زوالها يزول هذا التشخّص. وإذا انضمت إليها صورة أخرى يحصل لها تشخّص آخر ، فقول الشيخ في رسالة الهيولى : « انّ لها وحدة شخصية محفوظة مع تبدّل الصور » غير مسلّمة.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ منشأ العالمية ومصحّحه ليس الاّ الموجود بالفعل القائم بذاته من / 128 AM / غير أن يوجد فيه شائبة من القوة ، فيخرج الهيولى والهيولانيات عن العالمية لكونها منضمّة للقوّة ، فينحصر منشئية العالمية بالواجب والجواهر المجرّدة القائمة بذاتها وعين العقول والنفوس. فالموجود بالفعل القائم بذاته من الممكنات ليس إلاّ العقول أو النفوس ، فالعالم منها منحصر بهما.

فان قيل : إذا لم تكن المادّة والمادّيات موجودة بالفعل فكما لا يصحّ أن تكون عالمة لم يصحّ أن تكون معلومة ، لانّ العلم لمّا كان عبارة عن وجود المعلوم للعالم بمعنى عدم غيبته عنه أو لازما له وعلى التقديرين يجب أن يكون المعلوم موجودا بالفعل حتّى يمكن وجوده لغيره ليعقله ؛

قلت : ليس موجودا بالفعل بل متضمّنا للقوة يمكن أن يحصل وجوده للغير ، فانّه

ص: 75

لا مانع من تحقّق الوجود الرابطي بما هو متضمّن القوّة بالنسبة إلى موجود بالفعل ، فالمادّة والمادّيات لا تأبى عن ذلك. بخلاف العالمية ، فانّ مناطها كون العالم موجودا بالفعل. والحاصل : انّ مناط المعلومية امكان الوجود الرابطي وهو يتأتى في الفعلية المنضمّة للقوّة ، ومناط العالمية هو الفعلية الصرفة الغير المنضمّة للقوّة أصلا.

فان قيل : على هذا يلزم أن لا يكون شيء من الممكنات عالما ، لانّ كلّ فرد من الممكنات باعتبار ذاتها بالقوّة ، فالقوّة متضمّنة في فعليتها وقد قلتم انّ الفعلية المتضمّنة للقوّة لا يمكن أن تصير مناطا للعالمية ؛

قلت : القوّة الّتي للمجرّدات الممكنة إنّما هو بالنظر إلى ذاتها لافتقارها إلى العلّة وبعد وجودها عنها وصيرورتها بالفعل لا تبقى فيها قوّة أصلا ؛ وأمّا الهيولى والهيولانيات فلا تخرج عن القوّة أصلا ، بل بعد وجودها تبقى فيه القوّة أيضا. فمناط العالمية هو الفعلية بعد الوجود ، وهي متحقّقة في المجرّدات دون الماديات. وأمّا الفعلية بالنظر إلى الذات بحيث يكون دائما بالفعل في وجوده وصفاته فاشتراطها غير لازم.

وقيل في الجواب : انّ المراد بالقوّة الّتي هي مانعة من التعقّل إنّما هي القوّة المتقاربة عن الفعل لا القوّة المخلوطة بالفعل. والحاصل : انّ القوّة والفعل قد يكونان متقاربين - كما في الهيولى والهيولانيات - ، وقد يكونان غير متقارنين - كما في المجرّدات - ، وكلامنا هنا في الأوّل دون الثاني.

ثمّ لا يخفى انّ النقض انّما هو بناء على ما ذهب إليه المشّاءون من أنّ الجسم مركّب من الجزءين : أحدهما الهيولى ، وثانيهما : الصورة. وأمّا على ما ذهب إليه الرواقيون من أنّ الجسمية حقيقة واحدة قائمة بذاتها واطلاق الهيولى في عرفهم انّما هو على تلك الجسمية فالظاهر عدم ورود النقض بها ، لانّها مع تضمّنها القوّة كالهيولى ليست أمرا بسيطا مجرّدا. ولقائل أن يدّعى عدم الفرق في توهّم ورود النقض بينها وبين هيولى المشائين ، لكونها قائمة بذاتها وأقرب الى الفعلية من الهيولى وإن كانت الهيولى أبسط منها.

وقد تحقق مما ذكر بطوله أنّ العالمية مختصّة بالمجرّد ليس لمادّي تعقّل بوجه.

وقد بقي الكلام في أنّ المراد من العالمية المختصّة بالمجرّد هل هو مطلق الادراك الشامل

ص: 76

للادراكات الحسية - من الابصار والسمع والتخيل وغير ذلك - حتّى يكون المدرك في جميعها هو النفس ، أو المراد منها هو التعقّل الحصولي الكلّي والتعقّل الحضوري الانكشافى ، لا الادراك الحصولي الجزئى بأن يجوز أن يدرك بعض القوى الجسمانية بعض الصور والمعاني الجزئية بحصول بعض المناسبات المادية والارتباطات الجسمانية من الوضع والمحاذات وغير ذلك.

فنقول : بعض العقلاء على أنّ ما هو المختصّ بالمجرّد من الادراك هو / 123 DB / التعقّل الشامل للقسمين - أعني : العلم الحصولي التجريدي والحضوري الانكشافى - ؛ وأمّا الاحساس الّذي هو عبارة عن ادراك جزئي غير منفكّ عن اللواحق المادّية فيمكن حصوله لبعض القوى الجسمية ، ولذا يحصل هذا القسم من الادراك للحيوانات العجم مع عدم كون نفوس مجرّدة لها. وذهب جماعة من الحكماء - منهم المعلم الثاني - إلى انّ مطلق الادراك مختصّ بالمجرّد ولا يكون غير مجرّد مدركا ؛ وقالوا : المدرك في جميع الاحساسات الحاصلة للانسان هو النفس ، فانّه إذا اجتمع شرائط الابصار يحصل للنفس علم جزئي بالمبصر على سبيل الحضور والمشاهدة من طريق البصر ، والصوت إذا وجد في الهواء بسبب التموّج يدركه النفس من طريق السمع ؛ وقس عليها سائر الاحساسات. والحاصل : إنّ شأن الحواسّ ليس إلاّ الانفعال ، وأمّا اصل الادراك فانّما هو من النفس. والدليل على ذلك انّه قد ينفعل الحاسّة عن الشيء المحسوس ويكون النفس لاهية ، فلا يقع الادراك مع انّه لو كان المدرك هو الحاسّة فلمّا حصل الانفعال لكان الواجب ان يحصل الادراك أيضا. قال المعلم الثاني في تعليقاته : « الادراك انّما هو للنفس وليس للحاسّة إلاّ الاحساس بالشيء / 128 MB / المحسوس والانفعال. والدليل على ذلك : انّ الحاسّة قد تنفعل عن المحسوس وتكون النفس لاهية ، فتكون الشيء غير محسوس ولا مدرك ، فالنفس يدرك الصور المحسوسة بالحواسّ ويدرك الصور المعقولة بتوسّط صورها إذ يستفيد معقولية تلك الصور من محسوسيتها ويكون معقول الصور لها مطابقة لمحسوسها ولم يكن معقولها. وذلك لنقصان ذاتها واحتياجها في ادراك الصور المعقولية إلى توسّط الصور المحسوسة ، بخلاف المجرّدات الصرفة فانّها تدرك الصور المعقولة من اسبابها

ص: 77

وعللها الّتي لا تتغيّر. وحصول المعارف للانسان تكون من جهة الحواس وادراكه للكلّيات من جهة احساسه بالجزئيات ونفسه عالمة بالقوّة. فالطفل يصير مستعدّة يحصل له الاوائل والمبادي وهي تحصل له من غير استعانة عليها بالحواسّ بل تحصل له من غير قصد ومن حيث لا يشعر ؛ والسبب في حصولها له استعداده لها. وإذا فارقت النفس البدن ولها الاستعداد لادراك المعقولات فلعلّها يحصل لها من غير حاجة إلى القوى الجسمية الّتي فاتته ، بل يحصل لها من غير قصد ومن حيث لا يشعر - كالحال في حصول الاوائل للطفل - ؛ والحواسّ هي الطرق الّتي تستفيد منها النفس الانسانية المعارف » (1) ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ التأمّل في كلام هذا المعلّم يعطى انّه قائل بثبوت الاحساس للحواسّ وانّما خصّ الادراك بالنفس الناطقة والظاهر انّ مراده بالادراك هو التعقّل.

ثمّ على المذهب الأوّل يكون كلّ شعور متحقّق لإحدى الحواسّ ادراكا حصوليا جزئيا غير منفكّ عن اللواحق المادّية - كالكمّ والوضع وغير ذلك -.

ثمّ الادراك الحصولي للحواسّ إمّا أن يكون المدرك فيه صورة شيء خارج أو معنى منتزعا عنه ، والأوّل كادراك القوة الباصرة للمبصرات - على القول بالانطباع - ، وادراك القوّة الخيالية للصور الأشياء إذ هذا الادراك انما يكون بانطباع صورها الجزئية المقارنة لبعض اللواحق المادّية وارتسامها فيها وان حصل لتلك الصور نوع تجريد مع كون التجريد الحاصل للصور الخيالية أشدّ من التجريد الحاصل للصور المدركة بالبصر ، لانّ التجريد للمدرك على حسب التجرّد للمدرك. فكلّما كان المدرك أبعد عن المادّية وأقرب إلى التجرّد كان مدركه أيضا كذلك ، فلما كان القوّة الخيالية أبعد عن المادّة بالنسبة إلى القوّة الباصرة فمدركها أيضا تكون كذلك. وممّا يؤكّد ذلك انّ الأثر من الشيء الخارجي يصل إلى القوّة الباصرة ومنها يصل الأثر إلى القوّة الخيالية ، فالبصر يدرك ما في الخارج بعد تجريده نوع تجريد ، ثمّ القوّة الخيالية تدرك ما يدركه البصر أيضا مع تجريد آخر ، ثمّ النفس الناطقة يدرك ما أدركه الخيال بعد التجريد التامّ والنزع المحكم و

ص: 78


1- راجع : التعليقات ، الفقرة 3 ، ص 38.

يأخذ صفوه الخالص الّذي هو المجرّد الصرف أو يشاهده فيه بالعلم الحضوري ؛ وهذا في الادراك الجزئى الحصولي الّذي يكون بانطباع الصور وارتسامها. ولا يلزم منه قدح في الكلّية الّتي ذكرناها من اختصاص التعقّل بالمجرّد ، لانّ التعقّل في العلم الحصولي انّما هو ادراك الصور الكلّية المجرّدة ولا ريب في / 124 DA / اختصاصه بالقوّة العاقلة ، لأنّ ادراكات الحواسّ - كما عرفت - ليس بتجريد تامّ ، بل مدركاتها مقارنة للواحق المادّية.

وأمّا الثاني - أي : الادراك الحصولي الّذي يكون المدرك فيه معنى جزئيا منتزعا عن الأشياء الخارجة مع بعض اللواحق المادية والغواشي الجسمانية - : فكادراك الواهمة للمعاني الجزئية ، فانّ تلك المعاني ليست صورا لأصل خارجي ، لكنّها أمور جزئية منتزعة عن بعض الأشياء العينية مرتسمة في تلك القوّة ، فيكون مدركه بادراك حصولى جزئي. ثمّ النفس الناطقة تجرّد تلك المعاني الجزئية وتقشّرها عن اللواحق الجزئية وتدركها على سبيل الكلّية أو تشاهدها في القوّة الواهمة بالمشاهدة الحضورية للربط الحاصل بينهما. وعلى التقديرين لا يلزم أيضا نقض في القاعدة الكلّية - أعني : اختصاص التعقّل الحصولي والحضوري بالمجرّد -.

وتلك المعاني الجزئية المدركة للواهمة ليست على سبيل التجريد التامّ حتّى يكون علما حصوليا كلّيا ، ولا على سبيل المشاهدة الحضورية حتّى يكون علما حضوريا ، فينحصر العلمان بالمجرّد ، وشأن الحواسّ انّما هو الاحساس الّذي هو انتزاع الصور أو المعاني من الأشياء الخارجية مع اللواحق المادية والغواشي الجسمانية. وهذا لا ضير فيه ، لأنّه لمّا حصلت لتلك القوى بعد ما عن المادّية وقرب ما إلى التجرّد فاستعدّت للادراك بهذا الوجه. هذا هو ما يتعلّق بالمذهب الأوّل من التوضيح والتحقيق.

وامّا على المذهب الثاني فلا يكون لشيء من الحواسّ ادراك أصلا ، وانّما هي شروط لادراك القوّة العاقلة ، وعلى هذا يلزم أن يكون للحيوانات العجم نفوس ناطقة - كما ذهب إليه جماعة -.

وربما يورد على هذا المذهب بانّه لا ريب في انّ الصور والمعاني الجزئية مدركة لنا مع قطع النظر عن القوّة الباصرة وغيرها من الحواسّ الظاهرة ، فان كان مدركها منحصراً

ص: 79

بالنفس / 129 MA / الناطقة ولم يكن مدركة للخيال والواهمة أصلا لزم تعطّل هاتين القوّتين رأسا ؛ وإن كانت مدركة لهما ولو بوجه لزم تحقّق الادراك لغير القوّة العاقلة. ويمكن أن يقال : انّهما مثل القوّة الباصرة في كونهما من الشرائط لادراك النفس بمعنى انّ ادراك النفس لتلك الصور والمعاني يتوقّف على انطباعها وارتسامها في الخيال والواهمة ، ولم تكن مدركة لهما حتّى تدركها النفس بالعلم الحصولي الكلّى أو الحضوري الجزئى. ومجرّد انطباع الصورة في الباصرة لا يكفى لادراك النفس لها ، بل يتوقّف على وصول الأثر منها إلى الخيال وانطباعه فيه حتّى تدركه النفس. وعلى هذا يكون فعل هذه القوى منحصرا بكونها محلّ الارتسام والانتقاش للصور والمعاني لتدركها النفس منها ويشاهدها فيها ولا يحصل لها ادراك شعوري أصلا ؛ وحينئذ لا يلزم تعطّل تلك القوى.

نعم ؛ يلزم ما اشير إليه من تحقّق نفوس مجرّدة للحيوانات ، والتزامه على قواعد الملّة مشكلة.

ثمّ الأمر في ادراك سائر القوى - من اللامسة والسامعة والذائقة وغيرها مما يشابه الادراك الّذي هو غير الشعور والظهور - على المذهب الأوّل ظاهر ، لانّ تلك القوى حينئذ مدرك محسوساتها وبعد ادراكها يشعر بها النفس بالعلم الحضوري ويحصل بها التذاذ أو تألّم من هذه الجهة - أي : من جهة علمها بها -. وأمّا على المذهب الثاني فيمكن أن يقال : انّ المدرك لهما أيضا هو النفس ، ويمكن ان يكون الأمر فيها كما في المذهب الأوّل.

ثمّ على المذهبين انّما يتوقّف ادراك النفس على هذه القوى لقصور في تجرّدها ، وإلاّ فشأن المجرّدات الصرفة ادراك الأشياء من عللها واسبابها من غير افتقار إلى آلة أصلا ، ولذا إذا اشتدّ تجرّدها يدرك الأشياء من غير افتقار إلى آلة أصلا.

ثمّ على أيّ مذهب من المذهبين لا ريب في اختصاص التعقّل بالمجرّد وحصول فعليته بوجود أحد العلاقات الموجبة له وكون حضور الذات عند الذات أقوى العلاقات وكون كلّ مجرّد حاضرا عند ذاته لذاته غير غائب عنها.

وبذلك يظهر كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته ، وبه يتمّ ما كنّا بصدد بيانه من المقدّمة الثانية - أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته -.

ص: 80

المقدّمة الثالثة : لا ريب في أنّ واجب الوجود - تعالى شأنه - في غاية التجرّد وقد يظهر / 124 DB / ذلك من اثبات كونه - تعالى - غير جسم وغير جسماني ، ومن بيان انّه - تعالى - صرف الوجود ومحض الموجود.

وإذا ظهرت وثبتت تلك المقدمات الثلاث - أعني : كون التعقّل عبارة عن حضور الشيء عند مجرّد قائم بذاته أو لازما له وكون كلّ مجرّد حاضرا عند ذاته وكون واجب الوجود في أعلى مراتب التجرّد - يظهر تمامية الدليل الثالث لاثبات علمه - تعالى - ، وهو انّه - تعالى - مجرّد وكلّ مجرّد عاقل لذاته ؛ وبذلك يثبت علمه - تعالى - بذاته. فهذا الدليل انّما يفيد علمه - تعالى - بذاته فقط ، لا بما عداه من الموجودات. نعم! ، يمكن أن يستدلّ بواسطة علمه - تعالى - بذاته على علمه بما سواه من الموجودات الّتي هي افعاله ، لانّ العلم بالعلّة التامّة يوجب العلم بالمعلول - كما يأتي تحقيقه -.

وتنقيحه قال بعض المشاهير بعد نقل هذا الدليل : « وفي هذا الدليل سرّ تأمّل فيه ان كنت ذا شوق ، فانّه لا يظهر إلاّ لأهل الحالة والذوق ». وقد ذكروا لاظهار السرّ وجوها :

منها : انّ السرّ هو انّ علمه - تعالى - بذاته هو عين علمه بأفعاله اجمالا - كما ذكره هذا القائل في كلامه تصريحا وتلويحا غير مرّة -. وربما يقرع سمعك توضيح ذلك وجلية الحال فيه بعد ذلك.

ومنها : انّ السرّ هو صعوبة اتمام هذا الدليل بطريق أهل الاستدلال والعلوم الظاهرية وقوّته عند أهل التألّه والذوق.

ولا يخفى انّ هذا الكلام وان كان في نفسه صحيحا إلاّ انّ كونه هو السّر المأمور بالتأمّل لاظهاره بعيد جدّا.

ومنها : انّ السرّ هو دلالة هذا الدليل على انّه لا علم حقيقة لغير واجب الوجود بذاته ، اذ جعل مناط التجرّد المقتضي للعلم كونه محض الوجود الحقيقي المنزّه ، ولا شكّ في انحصاره في الواجب.

ويرد عليه : انّه لم يظهر ممّا ذكر إلاّ ثبوت العلم للمجرّد الحقيقي لا نفيه عمّا عداه من

ص: 81

المجرّدات ، كيف وقد جعل هذا القائل الأمر بالتأمّل في السرّ وغيره من العقلاء التجرّد بالمعنى المشهور - أعني : عدم كون الشيء جسما ولا جسمانيا - أيضا دليلا على العلم ، وهو لا ينحصر في الواجب - تعالى -.

ومنها : انّ السرّ هو انّ بهذا الدليل - أي : الّذي تمسّك فيه بالتجرّد الحقيقي - يظهر كونه - تعالى - عالما بجميع ما سواه من غير احتياج إلى التمسّك بما ذكر / 129 MB / من (1) انّه عالم بذاته فيكون عالما بافعاله أيضا. وذلك لانّه إذا كان الواجب - تعالى - محض الوجود الحقيقي غير محتاج الى ارتباط بالغير بل جميع ما سواه موجود بالارتباط به والانتساب إليه - على ما هو ذوق أهل التألّه - فيكون - تعالى - عالما بجميع الأشياء البتة ، إذ العلم ليس إلاّ ارتباط خاصّ بين العالم والمعلوم يوجب ظهوره وانكشافه عنده. فاذا كان وجود جميع الأشياء بالارتباط به - سبحانه - فيكون جميعها ظاهرا منكشفا لديه ؛ وما ذلك الاّ العلم.

ومنها : انّ السرّ هو ما اشتهر بين أهل التألّه والذوق من انّه ليس شيء من الممكنات متصفا بالوجود اتصافا حقيقيا ، بل الممكنات لها ارتباط بالموجود الحقيقي واطلاق الوجود على الممكن من قبيل اطلاق متموّل على زيد واطلاق الشمس على الماء. وليس المتصف بالوجود حقيقة إلاّ اللّه - تعالى - ، وما عداه مرتبط به. وقد صرّح السيد الداماد بأنّ السرّ المأمور بالتأمّل فيه هو هذا الوجه حيث قال : « السرّ هو انّ ما سوى اللّه - تعالى - من الممكنات ليس لها وجود ، بل هي منسوبة الى حضرة الوجود ، لانّ الوجود ليس بعارض لها ولا قائما بها ولا بمهيتها ، بل مصداق حمل الموجود عليها مجرّد انتسابها الى الوجود كما أنّ الحدّاد هو من ينسب الى الحديد وذلك هو مصداق حمل الحداد عليه لا من يقوم به الحديد » ؛ انتهى.

وغير خفيّ انّ الفرق بين هذا الوجه وبين سابقه : انّ بناء السابق على كون الممكنات بأسرها مرتبطة بالأوّل - تعالى - ارتباطا خاصّا وان كان لها وجود حقيقة وكان صدق الوجود عليها صدقا حقيقيا ، لكن هذا الارتباط منشأ لتحقّق علمه - تعالى - بها ، لانّ

ص: 82


1- الاصل : - من.

منشأ العالمية بالفعل هو قيام الشيء بذاته مع حصول ربط خاصّ بينه وبين المعلوم وذلك حاصل في حقه - تعالى - بالنسبة الى الممكنات الموجودة ، فثبت به عموم علمه - تعالى - أوّلا من غير افتقار إلى توسيط كونه عالما بذاته ؛ وهذا كلام صحيح لا غبار عليه. وهو أحسن الوجوه المذكورة للسرّ وإن كان فيه بعد أيضا. وامّا بناء هذا الوجه فعلى انّ الموجودات الممكنة ليس لها / 125 DA / وجود حقيقة وحمل الموجود عليها انّما هو على سبيل التجوّز نظرا إلى انتسابها إلى حضرة الوجوه الحقّ بصدق الموجود واطلاقه عليها لمجرّد تلك النسبة من غير أن يكون لها وجود في الخارج.

ولا يخفى انّ هذا المذهب باطل ، لانّ انكار كون الممكنات موجودة حقيقة والقول بعدم انتزاع الوجود العامّ عنها سفسطة ، وقد بيّنا فساد هذا المذهب - المسمّى بذوق المتألّهين - بما لا مزيد عليه في رسالتنا المسمّاة بقرّة العيون (1).

ثمّ جعل ذلك سرّا للدليل المذكور لا وجه له ظاهرا ، لانّ الدليل المذكور - أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا - لا يدلّ بوجه على عدم كون الممكنات موجودة حقيقة. والظاهر انّ جعلهم ذلك سرّا لهذا الدليل بناء على أنّ التجرّد الّذي هو منشأ التعقّل في الواجب هو غاية التجرّد وهو كونه - تعالى - محض الوجود ، وإذا كان محض الوجود فظنّوا انّه الموجود بالحقيقة وغيره لا يصدق عليه الموجود إلاّ مجازا.

ومنها : انّ السرّ هو ما ذهب إليه الصوفية من انّ للوجود حقيقة هو الواجب - تعالى - والموجودات ليست امرا خارجا عنه - تعالى - ، بل هي تعينات له - تعالى - ، فتارة يقولون : انّ الواجب - تعالى - بمنزلة الكلّي الطبيعيّ والموجودات تعينات له ؛ وتارة يقولون : انّ الواجب - تعالى - بمنزلة البحر والأشياء بمنزلة الأمواج ، فكما انّ الأمواج ليست أمرا خارجا عن البحر فكذلك سائر الأشياء بالنسبة إليه - تعالى - ، فليس في الوجود إلاّ اللّه. قال السيّد الداماد بعد ما ذكر انّ السرّ هو أنّ ما سوى اللّه من الممكنات ليس لها وجودا - ... الى آخر ما نقلناه عنه - : « هذا على ذوق المتألّهة ، ومذاق الصوفية أعلى من ذلك ، فانّهم يزعمون انّ الماهية الممكنة لا يطلق عليها الموجود أصلا ، بل انّما

ص: 83


1- راجع : قرّة العيون ، ص 138.

الممكنات مظاهر للحقيقة القدسية الواجبية ونسبتها إلى تلك الحضرة كنسبة الامواج إلى البحر والأشعة إلى النور والتعينات إلى الطبائع الكلية. ثمّ اذا لوحظ انّ الظهور الحقّ - أي : هذا الوجود الحقيقي - ليس إلاّ الموجود الحقّ الأوّل - تعالى شأنه - فليس الظهور إلاّ له ، فالظاهر الحقّ هو اللّه - سبحانه - وانّما المخفيّ ما عدا ذاته - تعالى -. فاذن هو خفيّ من فرط الظهور ونسبته إلى عقول العقلاء في الخفاء من شدّة الظهور نسبة الشمس إلى قوّة الباصرة ، بل لا نسبة بين النسبتين ؛ فتبصّر » ؛ انتهى.

وقد صرّح أيضا بعض العرفاء بكون / 120 MA / ذلك سرّا للدليل المذكور على سبيل القطع حيث قال : « تأمّل فيه بعد معرفته انّ اللّه - تعالى - معري عن كلّ جهة الحاجة إلى الغير من الماهية والوجود والفاعل والموضوع وغيرها من الأمور الّتي موجبة لنقصان نور الوجود وانغماسه في ظلمات العدم حتّى تشاهد بعين البصيرة ونورها انّه - تعالى - صرف النور وعين الظهور ، وانّه بفرط ظهوره احتجب في البطون ؛ فسبحان من ظاهر خفي الّذي ظهوره علّة لخفائه وخفائه سبب لظهوره!. ويعلم انّه لما كان بنفس ذاته من غير مداخلة أمر آخر دافعا جميع انحاء النقيصة وظلام العدم عن ذاته المقدّسة فهو بحيثية ذاته البسيطة - الّتي هي عين النور ونفس الظهور - مرجع كلّ كمال ومنبع كلّ جمال ومحيط بكلّ ما له رسم من الفعلية والوجود ، بل هو بصرافة فعله وتنزّهه عن كلّ كثرة ونقصان متجلّ بذاته وصفاته على الأشياء الممكنة الّتي هي بمنزلة المرايا المتكثّرة المنكسرة ، فهو نور الأنوار وجامع كلّ وجود وكمال مع كونه على غاية البساطة والاطلاق. لأنّه صرف الوجود ومحض الموجود وصرف الوجود جامع كلّ كمال الوجود الّذي هو أيضا عن الوجود على وجه أعلى وأتم وأشرف من غير لزوم نقص وشين ، لأنّ النقص الّذي هو العدم من لوازم الامكان والكثرة وهو متعال عنهما. فهو في مقام الجمع - الّذي هو مرتبة ذاته الكاملة - واجد لكلّ ما هو جهة الوجود ولا يخرج عن ضبط ذاته كمال أصلا ، فسبحان الّذي لا يخرج منه شيء وهو خارج عن كلّ شيء!. فرجوع الوجودات والكمالات كلّها إليه - سبحانه - كما انّ رجوع العدمات والنقائص بأسرها إلى الامكان والحاجة. فبعد نقض القيود الامكانية

ص: 84

لا تبقى الاّ الحقيقة المطلقة الّتي هى نفس الوجود المبرّى عن كلّ قيد » ؛ انتهى.

ثمّ جعل ذلك / 126 DB / - أي : ما ذهب إليه الصوفية من انّه لا موجود سوى اللّه تعالى - سرّا للدليل المذكور مبنيّ على أنّ التجرّد الّذي هو منشأ التعقّل في الواجب هو غاية التجرّد - أعني : كونه صرف الوجود - ، والصوفية ظنّوا انّ صرف الوجود شأنه التجلّى على المهيات الامكانية والظهور في المظاهر الكونية وليس لها وجود على حدة - لا حقيقة ولا مجازا -. وحينئذ يظهر عموم علمه - تعالى - أيضا ، إذ الكلّ على هذا القول مظاهر ذاته - تعالى - ، فاذا ظهر ذاته على ذاته ظهر الكلّ على ذاته.

وقد أشرنا سابقا إلى أنّ هذه الطريقة ممّا لا يمكن تصحيحه بطريق النظر ، ولا يجوز بالشرع والعقل الاذعان به.

ومنها : انّ السرّ هو انّه لمّا ظهر من الدليل المذكور انّ الواجب في غاية التجرّد - أي : صرف الوجود - فيجب أن يكون بالفعل من جميع الوجوه ذاتا وكمالا ، لانّه لو كان بالقوّة - ولو بأحد الاعتبارين ومن بعض الوجوه - لم يكن محض الوجود ، بل يكون مشوبا بالعدم ، إذ القوّة من لوازم العدم. واذا كان بالفعل من جميع وجوه الذات وكمالاته الّتي هي عين الذات فنقول : لا شكّ أنّ العلم كمال مطلق للموجود بما هو موجود ، والواجب صرف الوجود ومحض الموجود ، فيكون العلم كمالا مطلقا له. وكلّ كمال لصرف الوجود يجب أن يكون فيه بالفعل - لما عرفته - ، فيجب ان يكون الواجب عالما بذاته وبجميع ما عداه من الكلّيات والجزئيات المجرّدة والمادّية.

وأنت خبير بأنّ جعل هذا الوجه سرّا للدليل المذكور بعيد جدّا.

ومنها : انّ السرّ هو انّه لمّا ظهر انّ الواجب - تعالى - محض الوجود وصرفه ، فيعلم منه انّه لا يتصوّر فيه التعدّد ، بل لا يمكن هذا التصوّر لأنّه إذا كان محض الوجود الصرف المجرّد عن العوارض وجب أن يكون جزئيا حقيقيا مشخّصا بذاته ، ولا شكّ أنّ الجزئي الحقيقي لا يمكن تصوّر التعدّد فيه ، فلا يمكن تصور التعدّد في محض الوجود - الّذي هو الواجب الحقّ - ؛ وبذلك يثبت الوحدة. ثمّ لمّا كان محض الوجود القائم بذاته نورا وظهورا بذاته فيكون له الظهور الاتمّ والانكشاف الأكمل ، وليس العلم إلاّ

ص: 85

الظهور والانكشاف ، فيكون عالما. ولمّا كان ظهوره أتمّ الظهور وانكشافه أكمل الانكشاف فيجب أن يكون عالما بذاته وبجميع ما عداه من الممكنات وبجميع الحقائق من الكلّيات والجزئيات المجرّدة والمادّية ، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء كذلك اللّه ربّي وربّ جميع الأشياء.

وغير خفيّ انّ هذا الكلام صحيح في نفسه ، إلاّ أنّ جعله سرّا للدليل المذكور بعيد.

هذه هي الوجوه الّتي ذكروها للسرّ ؛ واختر منها ما شئت!.

ومنها - أي : من الأدلّة الدالّة على كونه تعالى عالما - : ما ذكره الحكماء أيضا وأورده المحقّق الطوسي أيضا في التجريد ، وهو : انّ كلّ شيء مستند إليه - تعالى - / 130 MB / - أي : هو مبدأ لجميع ما سواه - امّا بواسطة أو بدونها فهو علّة الكلّ. ولا ريب في انّه - تعالى - عالم بذاته ، لانّ العلم عبارة عن حضور المعلوم عند العالم وهو حاصل في شأنه ، لأنّ ذاته - تعالى - غير غائبة عن ذاته ، فيكون عالما بذاته. والعلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول.

وأورد عليه : بأنّا لا نسلّم انّ العلم عبارة عمّا ذكرتم ؛ ولو سلّم فلم لا يجوز أن يشترط فيه التغاير بين الحاضر وما حضر هو عنده؟! ، فلا يكون الشيء عالما بنفسه كما اشترط ذلك في الحواسّ ، فانّها لا تدرك نفسها مع كونها حاضرة غير غائبة عنها.

وأجيب عن المنع الأوّل : انّ حقيقة العلم إمّا حضور المعلوم عند العالم - كما هو رأي جماعة - أو ما هو لازم له - كما اخترناه - ، وهذا - أي : كون العلم عبارة عن أحد الامرين - بديهي لا خفاء فيه. وعلى التقديرين يحصل ؛ أمّا على الأوّل فظاهر ؛

وامّا على الثاني : فانّ المنع وان توجّه ظاهرا ولم يندفع في الواقع الاّ انّه غير مضرّ ، لانّ حقيقة العلم حينئذ وان لم يكن ما ذكر - أعني : حضور المعلوم عند العالم - الاّ انّه لا ريب في كونه لازما له ، فأينما تحقّق حقيقة العلم تحقّق الحضور المذكور وانّ لم يكن إيّاه ، وبذلك يتمّ المطلوب.

ولا يخفى انّه أخذ في هذه العبارة - أي في حدّ العلم - أحد الطرفين عالما والآخر معلوما. فان اريد أنّ العلم عبارة عن حضور المعلوم عند العالم بوصفي العالمية و

ص: 86

المعلومية - أي : هو حضور المعلوم من حيث هو معلوم عند العالم من حيث هو عالم - ، فلا ريب حينئذ في كون حقيقة العلم ذلك وحصول العلم قطعا وضرورة ، واندفاع المنع بديهة ، ولكن يلزم مفسدتان :

أحدهما : كون الحدود دوريا ، وهو ظاهر ؛ / 127 DA /

وأخراهما : المصادرة على المطلوب ، لانّ من لا يسلّم كون ذاته عالمة ومعلومة لا يسلّم كون حضور ذاته - تعالى - المعلوم عند العالم. فاثبات علمه - تعالى - بذاته لمجرّد ذلك مصادرة على المطلوب.

وإن اريد انّ العلم عبارة عن حضور شيء عند شيء أو عند موجود قائم بذاته وحينئذ فكون العلم عبارة عن ذلك أو عمّا هو لازم له ليس بديهيا - كما ذكره المجيب - ، فلا بدّ من الاستدلال عليه حتّى يندفع المنع.

وأيضا : للمانع أن يستفسر في تبيين منعه وتقريره من عدم الغيبة المشتمل عليه قوله : « لانّ ذاته غير غائب عن ذاته » ؛ فيقول : إن اريد بعدم الغيبة عدم البعد ، فمجرّده لا يلزم العلم - كما في صورة الحواسّ وغيرها من الأمور الّتي لا تتصف بالعالمية - ؛

وإن أريد به الشعور والانكشاف فممنوع ، لانّه غير بيّن ولا مبيّن من ذلك الدليل على التقدير المذكور ؛ بل هو مصادرة على المطلوب ، لانّ الشعور والانكشاف هو العلم بعينه.

ثمّ الحقّ انّ العلم ليس لازما لمجرّد حضور شيء عند شيء بمعنى عدم غيبته عنه ، بل هو لازم لحضور شيء عند شيء خاصّ - أعني : حضور شيء عند المجرّد القائم بذاته - ؛ فالتقرير المذكور للدليل المذكور لا يخلو عن خدشة.

فالأصوب في تقريره - على ما في المواقف وشرحه - هو أن يقال : انّه - تعالى - يعقل ذاته وإذا عقل ذاته عقل ما عداه ؛

أمّا الأوّل : فلأنّ التعقّل حضور الماهية المجرّدة عن العلائق المادّية للشيء المجرّد القائم بذاته ، وهو حاصل في شأنه لانّ ذاته مجرّدة غير غائبة عن ذاته ، فيكون عالما بذاته ؛

وامّا الثاني : فلأنّه مبدأ لما سواه ، والعلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول.

ثمّ الحقّ - كما أشير إليه - انّ التعقّل ليس عين حضور الماهية المجرّدة عند المجرّد القائم

ص: 87

بذاته ، بل هو لازم له ؛ لانّ العلم والتعقّل صفة للعالم والحضور صفة للمعلوم ، فيجب أن يكون العلم أمرا لازما للحضور المذكور ويكون صفة للعالم. وما قيل : انّ الحقّ هو الأوّل - أي : العينية - ليس في جهة معلوما. (1)

وقال بعض الفضلاء : انّه إن كان المراد بالحضور الوجود الرابطي لمجرّد ، فالحقّ انّ التعقّل والعلم هو الحضور ، لانّك قد عرفت سابقا انّ العلم هو وجود شيء لمجرّد قائم بالذات ؛

وإن كان أمرا آخر فالحقّ انّه لازم له.

وفيه : انّ المراد بالحضور هو الوجود الرابطي. وكونه عين العلم والتعقّل غير معلوم ، إذ هو صفة للمعلوم - كما ذكرناه - ، والعلم صفة للعالم. وما ذكره سابقا ليس إلاّ أنّ عند وجود شيء لمجرّد قائم بالذات يتحقّق العلم البتّة ، لا أنّه عين العلم البتّة.

ثمّ إنّ كون التعقّل لازما للحضور المذكور ليس أمرا بديهيا ، بل هو أمر نظري لا بدّ في اثباته من التمسّك بما ذكرناه في كون التجرّد مع القيام بالذات منشأ للتعقل.

وبما أشير إليه من انّه لمّا كان النفس الانسانية عالمة بالمعاني الكلية وكان ذاتها أيضا عالمة بذاتها / 131 MA / تحدّسوا من مجموع الأمرين انّ التعقّل لازم لحضور المجرّد عند المجرّد القائم بالذات. وذلك لانّهم لمّا وجدوا النفس إذا اعتبرت من حيث ذاتها بدون وساطة أمر آخر من آلاتها وقواها عالمة بالمعاني الكلّية المجرّدة دون المعاني الجزئية المادّية ولم يتحقّق في هذه الصورة إلاّ حضور ماهية مجرّدة عند موجود مجرّد قائم بذاته - وان كان باعتبار القيام - علموا أنّ للتجرّد والحضور مدخلا في كون الشيء معلوما ، لكن لا يعلم بذلك أنّ مطلق الحضور كاف ، لاحتمال أن يعتبر الحضور القيامي. ثمّ ولما وجدوها عالمة بذاتها مع عدم امكان القيام فيه علموا انّ المعتبر هو مطلق الحضور وان كان بمعنى عدم الغيبة فتحدّسوا سواء من جميع ذلك أنّ مناط العلم انّما هو الحضور مع التجرّد سواء كان حقيقته ذلك أو كان حقيقته أمرا آخر متحقّقا مع ذلك البتة. ويمكن انّ يتحدّس من علم النفس بقواها الحالّة في محالّها الّتي هي اجسام مادّية لمجرّد حضورها عندها انّ التجرّد عن

ص: 88


1- هكذا العبارة في النسختين.

المادّة ولواحقها غير معتبر في حقيقة العلم ، بل اعتباره انّما هو في العلم الحصولي - كما عرفت سابقا -. وامّا كون ما حضر عنده مجرّدا قائما بذاته فانّما يعتبر في العالمية لا في المعلومية ، ويتحدس ذلك من ملاحظة عدم امكان حضور المجرّد من حيث هو مجرّد عند غير المجرّد ومن انّه لا يتصوّر حضور شيء عند شيء لا يكون قائما بذاته وحاضرا لذاته ، إذ لو امكن حضور المجرّد عند غير المجرّد / 167 DB / وجاز حضور شيء عند ما لا يكون قائما بذاته لامكن القول بأنّ العالم بالنفس وقواها بالعلم الحضوري انّما هو بعض القوى المادّية دون النفس ، ولكن الحدس الصائب يدلّ على عدم امكان ذلك.

والحاصل : انّ هذا البرهان وكثيرا من البراهين في العلم الإلهي انّما يتمّ بمعونة الحدس القويّ ، وقد تقدّم ما يصحّح ذلك بطريقة النظر أيضا.

وقد ظهر ممّا ذكر انّه يجب أن يعتبر التجرّد والاستقلال في الوجود في منشأ العالمية في هذا الدليل - كما هو المذكور في المواقف - ، اذ لو لم يعتبر التجرّد والاستقلال واكتفى بمجرّد حضور شيء عند شيء لزم كون كلّ شيء - ولو كان مادّيا - عالما بنفسه ، وهو باطل ؛ هذا.

ثمّ المنع الثاني - أعني : جواز اشتراط التغاير بين الحاضر وما حضر عنده - فجوابه : انّ عدم اشتراط التغاير بين العالم والمعلوم في العلم يعلم من علم الانسان نفسه ، وأمّا كون الحواسّ غير عالمة بأنفسها فهو انّما يكون لأجل كونها غير مجرّدة ولا موجودة بالاستقلال ، لا لاجل الاشتراط المذكور.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا الدليل هو بعينه الدليل السابق ، إلاّ انّ مجرّد استناد كلّ شيء إليه - تعالى - لا يفيد علمه - تعالى - به ما لم ينضمّ إليه ما يدلّ على علمه لذاته - أعني : كونه مجرّدا - وكون كلّ مجرّد عالما بذاته مع ما اخذ في الدليل السابق - أعني : قولنا العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول -. فيصير خلاصة هذا الدليل : انّ واجب الوجود في أعلى مراتب التجرّد فيكون عالما بذاته ، وذاته - تعالى - علّة فاعلية لجميع الممكنات إمّا بغير واسطة أو بواسطة هي منه ، فيكون عالما بجميع الموجودات كما قال اللّه - تعالى - : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1). فأنّ الحكم بان الفاعل العالم بذاته عالم بما صدر عنه

ص: 89


1- كريمة 14 الملك.

بديهي. ولا ريب في أنّ هذا الدليل هو بعينه الدليل السابق ، فجعلها دليلين مسامحة. وقد جعلا في كتب الحكمة دليلا واحدا وقد ذكرا فيها على أنهما دليل واحد ؛ والناقلون ليسوا محقّا في عدّهما دليلين.

ويمكن أن يقال : مطلوبهم من الدليل السابق انّما هو مجرّد اثبات كونه - تعالى - عالما بذاته لا بما عداه أيضا من الموجودات ، وليس انضمام قولنا العلم : « بالعلّة يوجب العلم بالمعلول » فيه منظورا للقوم ؛ ومن الأخير اثبات عموم علمه - تعالى أي : شمول علمه تعالى بجميع الموجودات كلّية كانت أو جزئية - مع منظورية انضمامه إلى ما يدلّ على علمه بذاته. ويدل على ذلك قول المحقق الطوسي في التجريد : « والاحكام والتجرّد واستناد كلّ شيء إليه دلائل العلم ، والأخير عامّ » فان قوله : « والأخير عامّ » يدلّ على انّ الاحكام يدلّ على علمه - تعالى - بغيره من مصنوعاته والتجرّد يدلّ على علمه بذاته وغيره من الموجودات ، واستناد كلّ شيء إليه يدلّ على علمه بالجميع. ولا ريب في انّ مجرّد الاستناد لا يدلّ على عموم علمه ، فمطلوبه انّه بعد ضمّ ذلك إلى دلائل أخرى دالّة على علمه - تعالى - بذاته يثبت شمول علمه بالجميع. فهذه الضميمة في هذا الدليل منظورة. وضميمة قولنا : العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول غير منظورة في الدليل السابق ، فلذا يصيران دليلين. ولمّا نشأ اضافة هذا الضميمة من بعض المتأخّرين على الدليل السابق أيضا لزم عليهم الايراد بكونها حينئذ دليلا واحدا.

وأنت تعلم أنّ هذا التوجيه لكلامهم / 131 MB / لا وقع له ، لانّه أيّ وجه لكون الضميمة منظورا لهم في واحد من الأدلّة الثلاثة دون الآخرين؟! ، والحكم بكونه حينئذ عامّا دونهما مع تساوي النسبة الثلاثة إلى الضميمة. فانّه إذا كان الثالث لا يدلّ على العموم ما لم ينضمّ إليه شيء آخر - أعني : كونه عالما بذاته - وبانضمام هذا الشيء الآخر إليه صار عامّا وكان الدليلان الاوّلان أيضا كذلك فالانضمام إلى الثالث دون الأوّلين تحكّم لغو. نعم! ، يمكن أن يقال : انّ الدليل الأوّل بعد الضمّ أيضا ليس بعامّ ، إذ لا يلزم منه الاّ كونه - تعالى - عالما بأفعاله المستقلّة بذاته أيضا - بناء على الصحيحة - ، وامّا بسائر الأشياء مثل أفعال مخلوقاته فلا.

ص: 90

وامّا الدليل الثاني فلا ريب في انّه بعد الضميمة يصير الدليل الثالث ، إذ ليس الملحوظ فيه إلاّ أن يثبت علمه - تعالى - بذاته بأيّ وجه كان ، ثمّ يثبت علمه بجميع الاشياء لاستنادها إليه ، وليس الدليل الثاني بعد الضم الاّ هذا ؛ فجعلهما دليلين مسامحة.

وبذلك يظهر ما في كلام المحقّق ، لأنّه إن جعل قوله : « الإحكام والتجرّد واستناد » ثلاثة أدلّة لاثبات أصل العلم مع الحكم بكون الثالث عامّا - أي : انّه مع افادته لأصل العلم يفيد شمول العلم أيضا -. ففيه : انّ الثالث لا يصلح دليلا فضلا عن كونه عامّا ما لم ينضمّ الثاني ، فيكون في كلامه خزازة.

على انّه مع منظورية الانضمام لا وجه لتخصيصه بالعمومية.

ولو حمل قوله : « والأخير عامّ » على أنّ الثالث / 128 DA / دالّ على شمول العلم لا على أصله - يعنى : انّ من الدليلين الأوّلين أثبت أصل العلم في الجملة وهذا الثالث انّما هو لاثبات عمومه لا أصله وإن احتاج إلى ضميمة - ،

ففيه : انّه صرف عن المتبادر ، لأنّ ظاهر كلامه انّ كلّ واحد منها يفيد أصل العلم ، لا انّ اثنين منها يفيدان أصل العلم وواحد منها يفيد شموله مع انّ تخصيص الأخير بالشمول مع الضميمة دون الأوّلين أو الثاني - نظرا إلى أنّ الأوّل لا يفيد الشمول مع الضميمة أيضا - تحكّم باطل!. قال بعض الافاضل فى شرح كلام المحقّق : « انّ التجرّد لاثبات علمه - تعالى - بذاته ، والإحكام والاستناد لاثبات علمه مطلقا بما سواه ، ويحصل بانضمام الدليل المثبت لعلمه بذاته إلى كلّ واحد من الدليلين المثبتين لعلمه بما سواه دليلان لاثبات علمه مطلقا - أعنى : بذاته وبما سواه جميعا -. وكانّه بهذه النكتة أورد الدليل المثبت لعلمه بذاته بين الدليلين الآخرين.

ثمّ قال : وتركيب الدليلين دالّ على علمه - تعالى - مطلقا ، فتقريرهما أن يقال : انّه - تعالى - مجرّد وفاعل الافعال المتقنة المحكمة ، وكلّما هو كذلك فهو عالم بذاته وبأفعاله - لما مرّ - ؛ أو يقال انّه - تعالى - مجرّد وقائم بذاته وموجود بالذات وكلّ شيء موجود وحاضر عنده - لكونه معلولا له - ، وكلّ ما هو كذلك فهو عالم بذاته وبما سواه - لما عرفته -.

ثمّ قال : ويمكن أن يجعل كلّ واحد من هذه الدلائل إشارة إلى الدليل لعلمه بذاته و

ص: 91

علمه بما سواه بأن يقال : انّه - تعالى - فاعل الأفعال المحكمة المتقنة وكلّ فاعل كذلك فهو لا ينفكّ عن العلم بافعاله ، فاذن علم ذاته - إذ من يعلم أفعاله يمكن أن يعلم انّه يعلم أفعاله - ، ومن ذلك العلم يلزم امكان تحقّق العلم بذاته ومن امكان تحقّق العلم بذاته يلزم تحقّق العلم بذاته ، إذ علم الشيء بذاته لا يمكنه إلاّ بحضور ذاته ؛ ومن أمكنه أن يحضر ذاته عند ذاته فقد حضر ذاته ولو لم يحضر لا يمكن أن يحضر - كما لا يخفى -.

وهكذا يقال أيضا في دليل الاستناد ، فانّه إذا استند كلّ شيء إليه ومن جملته الأشياء المحكمة المتقنة فهو عالم بها. وبسياق الدليل امّا في دليل التجرّد فيقال : انّه - تعالى - لكونه مجرّدا عالما بذاته وذاته علّة لما سواه ، ويلزم من العلم بالعلّة العلم بالمعلول » ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّه على ما ذكره هذا الفاضل في صورة تركيب الدليلين لا يكون فرق بينهما في العموم والخصوص ، فيكون قول المحقّق : « والأخير عامّ » تحكّما لغوا. وما ذكره في صورة جعل كلّ واحد من الثلاثة دليلا على حدة لاثبات علمه بذاته وبما سواه لا يكون فرق بين الثلاثة في العموم والخصوص ، فيكون التحكّم في قوله : « والأخير عامّ » أشدّ.

ثمّ تصدّى الفاضل المذكور لتقرير الدليل الثالث على وجه لا يحتاج إلى ضميمة ، فقال : « لمّا ثبت انّ جميع الموجودات مستندة إليه - تعالى - وهو ليس مستندا إلى شيء من الاشياء فهو - تعالى - لكونه غير متعلّق بشيء من الأشياء غير موجود لشيء من الاشياء ، بل هو موجود لذاته قائم بذاته وجميع الأشياء لكونها معلولة له موجودة له حاضرة عنده منكشفة لديه غير غائبة عنه - تعالى - لوجوب كون العلّة موجودة مع المعلول ، فانّ حصول المعلول للعلّة أشدّ من / 132 MA / حصول الصورة لنا - كما صرّح به المحقّق في شرح الاشارات - ، فهو - تعالى - عالم بها لا محالة. إذ العلم هو كون المعلوم موجودا لأمر قائم بذاته وحاضرا عند موجود لذاته غير غائب عنه - كما عرفت -. فثبت علمه - تعالى - بجميع ما سواه ؛ وهو المطلوب فعلى هذا لا حاجة في اتمام هذا الدليل إلى ضمّه إلى دلائل أخرى دالّة على علمه بذاته ، بل هو مستقلّ في اثبات المطلوب » ؛ انتهى.

ص: 92

وأورد عليه : بأنّا لا نسلّم انّه يلزم من كون الأشياء معلولة له كونها موجودة له حاضرة عنده منكشفة لديه ، لا بدّ له من دليل!. ووجوب كون العلّة موجودة مع المعلول لا يفيد ذلك - كما لا يخفى - ؛ كيف والنار علّة للحرارة ولا علم لها أصلا!. ولو سلّم فانّما نسلّم في افعاله ، وامّا في أفعال مخلوقاته فلا نسلّم!.

ثمّ لا يخفى انّه على تقدير تماميّته انّما يدلّ على عموم علمه بالنسبة إلى جميع ما سواه ، ولا يدلّ على علمه - تعالى - بذاته أيضا مع انّ ظاهر قوله : « والأخير عامّ » انّه دالّ على علمه بذاته وبجميع ما سواه ؛ انتهى.

ومراده انّ مجرّد كون الأشياء معلولة له - تعالى - لا يصحّح كونه عالما بها ما لم ينضمّ إليه كونه مجرّدا قائما بذاته ، لما تقدّم من أنّ المصحّح للعاقلية انّما هو التجرّد دون المادّية ، والموجب له بالفعل المصحّح المذكور مع إحدى العلاقات. والعلّية والمعلولية وإن كانت من العلاقات - لما ذكره المحقّق من أنّ حصول المعلول للعلّة اشدّ من حصول الصورة له - إلاّ انّه إذا لم ينضمّ إليه كونه - تعالى - مجرّدا لا يكون مفيدا. وكذا / 128 DB / بدون الانضمام المذكور لا يثبت منه علمه - تعالى - بذاته ، ومع الانضمام لا يكون الدليل الثالث مستقلاّ في اثبات عموم علمه - تعالى - بحيث لا يحتاج إلى ضميمة.

ويمكن أن يوجّه كلام الفاضل المذكور بأنّ غرضه انّه إذا كان جميع الأشياء مستندا إليه - تعالى - ولم يكن هو مستند إلى شيء ولا متعلّقا بشيء ولا موجودا لشيء من الأشياء بل كان موجودا قائما بذاته لكان مجرّدا ، لأنّ غير المجرّد يكون متعلّقا بشيء وموجودا بشيء آخر مستندا إلى غيره ، ومجرّد استناد الأشياء إليه - تعالى - وعدم استناده إلى شيء يتضمّن تجرّده - تعالى - وتحقّق علاقة بينه وبين الأشياء ، فيحصل الموجب للتعقّل بالفعل من غير احتياج إلى ضميمة أصلا.

ثمّ لا يخفى انّه على أيّ تقدير - أي : سواء قلنا انّ دليل الاستناد مستقلّ في اثبات عموم علمه تعالى أو لا - لا ريب في أنّ اثبات عموم علمه - تعالى - من دليل التجرّد ومن دليل الاستناد يتوقف على اثبات المقدّمة القائلة بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول إلى آخر المقدّمة القائلة بأنّ الفاعل العالم بذاته عالم بما يصدر عنه والفرق بين

ص: 93

المقدّمتين انّ المقدّمة الأولى لا خصوصية لها بعلم الفاعل نفسه بنفسه وغيره به ، بل على تقدير صحّتها لو كان العالم بالفاعل غيره أيضا لزم علم هذا الغير بجميع معلولاته ؛

وأمّا المقدّمة الثانية فلا تجري فيما إذا كان غير الفاعل عالما به ، بل المراد منها انّ الفاعل إذا كان ذا شعور بنفسه يكون ذا شعور بما صدر عنه. ولا ريب في أنّ هذه المقدّمة - أي : الثانية - بديهية أو قريبة من البداهة ، فانّ كلّ شاعر بنفسه شاعر بما يصدر عنه البتة وإن قطع النظر عن كون العلم بالعلّة مستلزما للعلم بالمعلول ، لأنّه لا يتوقّف عليه كلّية ولا يكون ثبوته موقوف على تمامية ما قيل في اثباته. بل إذا ثبت علم الفاعل بنفسه يحكم البديهة بعلمه بما يصدر عنه ، لانّ العلم بالذات لا ينفكّ عن العلم بلوازمه ومعلولاته. فلمّا ثبت أنّ واجب الوجود فاعل لجميع الموجودات وعالم بنفسه يكون عالما بما صدر عنه البتة ؛ ولبداهة ذلك قال - سبحانه - في مقام الاستفهام الانكاري : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) ؛ أي : لا يعلم مخلوقاته والحال انّه لطيف خبير ، أي : عالم شاعر بذاته. فهذا أحد الطريقين في اثبات علمه - تعالى - بجميع الموجودات بعد ثبوت كونه - تعالى - فاعلا لجميعها وكونه عالما بذاته ؛ وهو تامّ لا يرد عليه شيء بوجه.

وأمّا الطريق الآخر لاثباته - أعني : كون العلم بالعلّة موجبا للعلم بالمعلول - فنقول في بيانه : انّ المشهور بين القوم انّ العلم التامّ بالعلّة - أي : العلم بمهيتها ولوازمها وعوارضها وملزوماتها ومعروضاتها وما لها في نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها - يستلزم العلم التامّ - أي : العلم من جميع الوجوه المذكورة - بالمعلول ، ولا عكس ، يعني : انّ العلم التامّ بالمعلول لا يستلزم العلم التامّ بالعلّة.

وأنت تعلم انّ ما ذكر من استلزام العلم التامّ بالعلّة للعلم التامّ بالمعلول صحيح لا غبار عليه ، لأنّه إذا علم العلّة بمهيتها ولوازمها لا يبقى شبهة في حصول العلم بمعلولها ، لانّ المعلول من لوازم العلّة وما يترشح عنه فاذا علم انّ / 132 MB / العلّة حقيقتها كذا وما يلزمها كذا وكذا وخواصّها كذا وكذا يعلم معلولها البتة ، فالعلم بالعلّة بهذا الوجه

ص: 94


1- كريمة 14 ، الملك.

لا ينفكّ عن العلم بالمعلول. إلاّ أنّ العلم بالمعلول بهذا النحو أيضا مستلزم للعلم بالعلّة ، لانّه إذا علم انّ المعلول حقيقتها كذا وملزومه كذا والعلّة من ملزوماته فيحصل العلم بالعلّة ، فالتفرقة تحكّم.

ولا يمكن أن يقال : انّ العلم التامّ بالعلّة يستلزم العلم بماهية المعلول المعين ، وأمّا العلم التامّ بالمعلول فلا يستلزم العلم بالعلّة المعينة ، لانّ العلم التامّ بالمعلول - على ما فسر - أن يعلم المعلول بمهيته وملزوماته المعينة ، لا ملزوماته الغير المعينة ؛ إذ لو أريد ملزوماته الغير المعينة لكان اللازم أن يراد العلم التامّ بالعلّة أيضا على طبق ذلك بأن يراد العلم بماهية العلّة ولوازمه الغير المعينة ؛ فلا فرق أيضا.

فان قيل : معروضات العلّة ليست ملزومة للمعلول ؛

قلنا : لو صحّ ذلك لم يكن عوارض المعلول أيضا من لوازم العلّة.

وبالجملة لا فرق في العلم التامّ بالعلّة والعلم التامّ بالمعلول في استلزام كلّ منهما للآخر. الاّ أنّ حصول العلم التامّ لغير الواجب بالعلّة - أعني : ذاته - وبمعلولاته في غاية الاشكال. مع انّ هذه القاعدة القائلة بأنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول مستعملة عندهم في موارد متعدّدة كاثبات علمه - تعالى - بسائر الموجودات لكونه عالما بذاته ، واثبات علم غيره من المجرّدات لمعلولاته - ... إلى غير ذلك من المواضع -. فان لم يمنع / 129 DA / كون الواجب - تعالى - عالما بذاته من جميع الوجوه المذكورة فقد يمنع ذلك في غيره بصعوبة ذلك ، فلا يتمّ مقصودهم فيه.

وتحقيق الكلام في هذا المقام انّه لا ريب في انّه إذا علم العلّة بكنهها - أي : بمهيتها ولوازمها - أو بالحيثية الّتي نشأ منها المعلول ويلزمها يعلم المعلول حينئذ بخصوصه البتة ، لأنّ علّة كلّ شيء يجب أن يكون علّة هذا الشيء بعينه ولا يمكن أن يقوم شيء آخر مقام هذا المعلول ، فانّه إذا علم الشيء بكنهه أو بالحيثية الّتي ينشأ منها شيء آخر علم ما يلزمه ويناسبه وينشأ منها ، فانّ العلم بكنه الشيء لا ينفكّ عن العلم بمناسباته اللازمة له ؛ فلو لم يعلم انّ الاشياء المناسبة اللازمة الغير المنفكّة عن هذه العلّة ما ذا لم يعلم حقيقة العلّة.

ص: 95

وإذا ثبت ذلك نقول : لا ريب في أنّ المعلول أيضا إذا علم بكنه أو بالحيثية الّتي تنشأ من علّته يعلم علّته حينئذ بخصوصها ، لأنّ مع كلّ شيء يجب أن يكون معلولا لهذا الشيء بعينه ، لانّ العلم بكنه الشيء لا ينفكّ عن العلم بمناسباته وملزوماته ؛ ومن مناسبات هذا المعلول علّته الخاصّة له ، فلو لم يعلم علّته بخصوصها لم يعلم حقيقته.

وما قيل : انّ العلم بالمعلول بكنهه أو من حيث لزومه لعلّته وصدوره عنه وان استلزم العلم بعلّة ما إلاّ انّه لا يستلزم العلم بعلّة معينة - لأنّ المعلول لمّا لم يستوجب الاّ علّة ما لوجوده أيّة علّة كانت دون علّة معينة - فسواء علم بكنهه أو بوجه آخر انّما يستلزم العلم بعلّة ما ، فمعلومية المعلول بالكنه لا يدخل فيه خصوصية العلّة ، لانّ حقيقته لا تدلّ إلاّ على وجود علّة ما ، فالعلم بكنه العلّة وخصوصيتها ليس لازما للعلم بكنه المعلول بخلاف العلم بكنه المعلول وخصوصيته ، فانّه لازم للعلم بكنه العلّة وداخل فيه ؛

كلام سطحي يندفع بالتأمّل ؛ لأنّ العلم بالكنه انّما يتحقّق إذا علم الحقيقة مع مناسباته اللازمة لها ولا ريب في كون خصوصية العلّة من مناسبات حقيقة المعلول ، فانّه بعد ما يثبت انّ المناسبة بين العلّة والمعلول لازمة - ولهذا يستدلّ على انّه لا يمكن أن يكون واحد معلولا لكثير ولا علّة لكثير - يثبت انّه إذا علم كنه شيء يلزم أن يعلم كنه ما يناسبه بخصوصه - سواء كان معلولا له أو علّة له -. ولو قطع النظر عن الكنه والمناسبات فحينئذ كما لا يستلزم العلم بالمعلول العلم بكنه العلّة وخصوصيتها فكذا لا يستلزم العلم بالعلّة العلم بكنه المعلول وخصوصيته.

فان قيل : يمكن أن يعلم المعلول بكنهه ولم يعلم خصوصية العلّة ، لانّ العلم بكنه المعلول انّما يفيد العلم بملزومه وملزومه يمكن أن يكون متعدّدا بأن يتحقّق أمر كلّي مشترك بين كثيرين يكون علّة لهذا المعلول وهذا الكلّي في ضمن أيّ فرد وجد يكون علّة وسببا لوجود هذا المعلول من دون مدخلية خصوصية هذا الفرد فيه ؛

قلنا : بمثل ذلك يمكن أن يقال : العلم بالعلّة بكنهها لا يستلزم العلم بخصوصية المعلول ، لأنّ العلم بكنه العلّة انّما يفيد العلم بلازمه ، ولازمه يمكن أن يكون متعدّدا

ص: 96

بأن يتحقّق أمر كلّي مشترك بين كثيرين يكون معلولا لهذه العلّة وهذا الكلّي في ضمن أيّ فرد وجد يكون معلولا لهذه العلّة من دون مدخلية خصوصية هذا الفرد.

ثمّ التحقيق انّ علّة الشيء بخصوصه لا يكون الاّ أمر معين خاصّ ولا يمكن أن يكون علّته أمرا كلّيا مشتركا بين كثيرين. ولو سلّم كون الكلّي علّة - مع كونه خلاف التحقيق - فلا يكون إلاّ علّة لكلّي أيضا. وكذا معلول الشيء المعيّن الخاصّ لا يكون إلاّ أمرا معينا خاصّا. فكما انّ / 133 MA / العلّة الواحدة المعينة لا يمكن أن يصدر عنها معلولات متعدّدة مختلفة إلاّ مع اختلاف جهات في هذه العلّة - لوجوب المناسبة والتكافؤ بين العلّة والمعلول - فكذا المعلول الواحد المعيّن لا يمكن أن يصدر عن علل متعدّدة الاّ مع اختلاف جهات في هذا المعلول - لما ذكر -. وحينئذ لا فرق بين العلم بالعلّة والعلم بالمعلول في استلزام كلّ منهما للآخر وعدمه ، لانّه إذا علم العلّة بكنهها أو بالحيثية الّتي يصدر عنها المعلول وكانت العلّة واحدة بسيطة نقول : هذه العلّة لبساطتها ووحدتها لا يصدر عنها الاّ معلول واحد ؛ ثمّ نقول : لمّا علم كنه تلك العلّة وحقيقتها فيعلم أنّها تناسب معلولا بخصوصية كذا وإن لم تكن واحدة بسيطة ، بل اشتملت على مهيات مختلفة. فنقول : بكلّ جهة تناسب معلولا بخصوصية كذا وان لم يعلم تلك الجهات بكنهها فلا يحصل علم بخصوصيات معلولاتها أصلا.

وكذا إذا علم المعلول بكنهه أو بالحيثية الّتي تصدر عن العلّة وكان واحدا بسيطا نقول : هذا المعلول لبساطته ووحدته لا يصدر إلاّ عن علّة واحدة بسيطة. ثمّ نقول : لمّا علمنا كنه هذا المعلول فيعلم منه العلّة الّتي يناسبه ، فيعلم منه خصوصية العلّة وان لم يكن واحدا بسيطا بل كان مشتملا على جهات مختلفة ، فان علمنا تلك الجهات بكنهها فنعلم من كلّ جهة ما يناسبه من العلّة ، فنعرف علّتها بخصوصها ؛ وإن لم نعلم تلك الجهات / 129 DB / بكنهها فلا يحصل لنا علم بخصوصيات عللها. فقد ظهر انّه لا فرق بين العلم بالعلّة والعلم بالمعلول إذا فرض حصول العلم بالكنه أو بالحيثية الّتي ينشأ منها المعلول في استلزام كلّ منهما للآخر وعدمه.

وبما ذكرنا يظهر ما في كلام بعض الأعاظم حيث قال : « كلما علم علّته التامّة

ص: 97

بكنهها وبحيثية كونها علّة - أي : بحيثيته الّتي هي بها علّة تامّة - فلا محالة قد علم المعلول أيضا علما تامّا ، بل العلم التامّ بذوات الاسباب إنّما يحصل من جهة العلم باسبابه المادّية إليها من الحيثية الّتي بها يحصل التأدية ، فكلّ من تعقّل سببا تامّا لمعلول ما بكنهه أو بالوجه الّذي ينشأ منه المعلول فكذلك يعقل المعلول عقلا تامّا ، فانّ المعلول بعينه من لوازم ذات العلّة التامّة ، فالعلم التامّ بها يوجب العلم التامّ به. بخلاف العكس ، فانّ المعلول بما هو معلول إنّما يستوجب علّة واحدة لوجوده أيّة علّة كانت ، لا علّة معينة بعينها. ومعلول الشيء لا يجب أن يكون معلوله بعينه بخلاف علّته ، فانّ علّته يجب أن تكون علّته بعينه. فليس العلم التامّ بالمعلول يقتضي علما تامّا بعلّته والعلم بالعلّة يفيد العلم بماهية المعلول وإنّيّته ، والعلم بالمعلول لا يفيد إلاّ العلم بانّية العلّة. ولذلك أفضل البراهين وأوثقها هو النمط اللمى » ؛. انتهى.

وما في كلامه هو ما علمت مفصّلا من عدم الفرق بين العلم بالعلّة والعلم بالمعلول إذا تعلّق بالكنه أو بالوجه الّذي ينشأ منه المعلول في استلزام كلّ منهما للآخر. ولذلك قال بعض الأفاضل في توجيه الفرق الّذي ذكره القوم : « انّ المراد انّ العلم بوجود العلّة التامّة يستلزم العلم بوجود المعلول المعيّن ولا عكس ، لأنّ العلم بوجود المعلول المعيّن لا يستلزم إلاّ العلم بوجود علّة ما. والسبب في ذلك انّ العلّة التامّة تكون بخصوصها مقتضية للمعلول المخصوص والمعلول المخصوص يستدعي لا مكانه علّة ما ، فالعلية مستندة إلى خصوصية الذات الّتي لا يتصور اقتضائها إلاّ لشيء مخصوص والمعلومية مستندة إلى امكان ذات مخصوصة ؛ ولا شكّ انّ الامكان لا يستدعي علّة مخصوصة ، بل علّة ما. فالعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول وانيته والعلم بالمعلول يستلزم علما بانية العلّة دون ماهيتها. ومن ثمّ نحكم بأنّ الاستدلال بالعلّة يستلزم علما تامّا والاستدلال بالمعلول يوجب علما ناقصا » ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الكلام غير صحيح ، فانّ مجرّد العلم بوجود العلّة لا يوجب العلم بالمعلول ما لم يعلم كونها علّة له ، فان علمنا بوجود شيء لا يفيد كون هذا الشيء علّة لشيء آخر أصلا فضلا عن علّية الشيء الخاص إلاّ إذا علم بكنهه أو بلوازمه

ص: 98

المعيّنة. وكونه علّة له في الواقع ونفس الأمر لا ينفع مع عدم علمنا به ، فانّ اقتضاء العلّة لمعلولها بحسب التحقّق الخارجي لا يفيد استلزام العلم بالعلّة للعلم بالمعلول ، انّما المفيد لذلك هو الاقتضاء بحسب التحقّق الذهني وهو مفقود - على ما هو المفروض -. ففي هذا الفرض - أي : فرض تحقّق العلم بمجرّد وجود العلّة - لا يتحقّق العلم بوجود معلول ما فضلا عن معلول معيّن. نعم! مجرّد العلم بوجود المعلول يوجب العلم بوجود علة ما. فتحصّل دعوى العلم بمجرّد وجود العلّة والمعلول يجعل استلزام العلم بالمعلول للعلم بالعلّة أقوى من العكس ؛ وهو خلاف المطلوب.

وقيل : إذا علم علّية شيء لشيء آخر وعلم موجودية الشيء الأوّل يعلم موجودية الشيء الآخر دون العكس ، لانّه إذا علم موجودية الشيء الآخر يمكن صيرورته موجودا بعلة أخرى غير الشيء الأوّل ، فاذا علم أنّ « آ » مثلا علّة ل- « ب » وعلم مع ذلك انّ « آ » موجود علم انّ « ب » أيضا موجود لما علم انّ / 133 MB / خصوصية ذات « آ » مقتضية لخصوصية ذات « ب » دون العكس ، فانّه إذا علم انّ « ب » موجود لا يعلم انّ « آ » موجود ، لإمكان أن يوجد « ب » بعلّة أخرى غير « آ » فالعلم بوجود العلّة المعينة يستلزم العلم بوجود المعلول المعين دون العكس.

أقول : لا ريب في انّه إذا علم أنّ « آ » علّة تامّة ل- « ب » فاذا علم وجود « آ » يعلم وجود « ب » أيضا ، نظرا إلى تحقّق العلم بأنّ هذه العلّة المعيّنة - أعني : « آ » - علّة تامّة لهذا المعلول المعين - أعني « ب » -. ولكنه لا ريب في انّه إذا علم أيضا انّ « ب » معلول ل- « آ » بخصوصه فلا ريب في انّه اذا علم وجود « ب » يعلم وجود « آ » أيضا ، لانّه علم أنّ علّة « ب » منحصرة ب- « آ » فاذا علم وجود « ب » يعلم وجود « آ » أيضا ، فمع العلم بانحصار علّة « ب » في « آ » لا يتحقّق فرق بين العلم بالعلّة والعلم بالمعلول في الاستلزام. نعم! ، إذا علم أنّ « آ » علّة ل- « ب » و « ب » معلول ل- « آ » على الاطلاق من دون علم بالانحصار فحينئذ إذا علم أنّ « آ » موجود يعلم انّ « ب » أيضا موجود البتّة ، لانّه إمّا وجدت قبل وجود « آ » علّة اخرى ل- « ب » فتكون « ب » موجودة بها ، وان لم توجد علّة أخرى فيصير « ب » موجودة بوجود « آ » ، وعلى التقديرين يعلم وجود

ص: 99

« ب » بعد وجود « آ ». وأمّا إذا علم وجود « ب » فيمكن أن تكون موجودة لوجود علّة اخرى سوى « آ » ولا تكون « آ » موجودة بعد ، ففي هذه الصورة - أعني : صورة عدم العلم بانحصار العلّة - يتحقق الفرق باستلزام العلم بالعلّة للعلم بمعلول مخصوص واستلزام / 130 DA / العلم بمعلول مخصوص للعلم بعلّة ما ، فالفرق بين العلم بالعلّة والعلم بالمعلول في استلزام إحداهما للآخر لا يتحقّق إلاّ في هذه الصورة.

والحقّ انّ مراد القوم من قولهم العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ليس ما ذكره هذا الفاضل من أنّ العلم بوجود العلّة يستلزم العلم بوجود معلول مخصوص بخلاف العكس ؛ فانّ هذا ليس مرادهم ولا يرتبط به مقاصدهم. فانّهم فرّعوا عليه انّ علم الواجب بذاته يوجب علمه بجميع الموجودات ، ولا ريب في أنّ المطلوب اثبات علم الواجب بحقائق الأشياء لا بكونها موجودة. فمرادهم - كما يفهم من موارد استعمالاتهم - انّ تعقل العلّة بتمام ماهيتها يستلزم تعقّل لوازمها ؛ والمعلول من جملة لوازمها ، فيستلزم تعقّله. وهذا صحيح ، إلاّ انّ ما ذكره من عدم ثبوت عكسه فقد عرفت ما فيه.

وقد ثبت ممّا ذكرناه أنّ استلزام العلم بالعلّة للعلم بالمعلول انّما هو إذا علم العلّة بالكنه - أي : بتمام ماهيتها ولوازمها وملزوماتها - أو بالوجه الّذي ينشأ منه المعلول - أي : علم ماهيتها من حيث أنّها مستلزمة للمعلول وعلّة إلى آخره -. والأوّل علم تامّ بالعلّة والثاني وان كان علما ناقصا بالعلّة إلاّ انّه يستلزم العلم بالمعلول لا مطلقا ، بل من حيث هو لازم للعلّة او معلول لها. ضرورة انّ الملزومية واللازمية والعلّية والمعلولية من المتضايفات الّتي لا يتصوّر ولا يصدق إلاّ بثبوتها معا.

وبذلك يظهر انّ تعلّق العلم بماهية العلة من حيث هي لا باعتبار آخر لا يستلزم تعلّق العلم بالمعلول أصلا. اللّهم إلاّ أن يكون المعلول لازما بيّنا لماهية العلّة بمعنى انّه يلزم من تصور ماهية العلّة تصوّر ماهية المعلول. وأمّا تعقّله بكنه العلّة فلايجابه تصوّر لوازمها الّتي من جملتها المعلول ، فيستلزم تعقّله. فما ذكره فخر الدين الرازي في المحصّل (1) من : « انّا متى تعقّلنا العلّة بكنهها فقد حصل في الذهن ماهية موجبة لماهية المعلول ومتى كان كذلك

ص: 100


1- الاصل : الملخص.

كان العلم بالمعلول حاصلا ، والمقدّمتان ظاهرتان بناء على القول بأنّ التعقّل يستدعي حصول ماهية مساوية للمعقول في العاقل » (1) صحيح لا خدشة فيه ويندفع عنه ما أورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ تصوّر العلّة انّما يوجب تصوّر المعول إذا كانت العلّة بوجودها الذهني علّة لوجود المعلول في الذهن ، وحينئذ يكون المعلول لازما بيّنا للعلّة.

فقوله : « متى تعقّلنا العلّة بكنهها فقد حصل في الذهن ماهية موجبة لماهية المعلول » قلنا : قد حصل في الذهن مهيته إذا تحقّقت في الخارج تحقّق المعلول في الخارج ، فعلى كون ماهية العلة موجبة لماهية المعلول إن العلّة بوجودها الخارجي تستلزم وجود المعلول في الخارج لا انّها بوجودها الذهني تستلزم وجود المعلول في الذهن ، وهذا هو المطلوب ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع انّ تعقّل العلّة بالكنه لا ينفكّ عن تعقّل اللوازم الّتي من جملتها المعلول ، فيلزم من تعقّلها بالكنه تعقّله لدخول تعقّل المعلول في تعقل العلّة بالكنه. فما ذكره ايرادا عليه خبط وهفوة صدرت عن غير التأمّل.

وإذا ثبت انّ العلم بالعلّة بكنهها أو بالوجه الّذي ينشأ منه المعلول يوجب العلم / 134 MA / التامّ بالمعلول فنقول : ثبت منه ما نحن بصدد اثباته في هذا المقام ، وثبوت العكس وعدم ثبوته لا مدخلية له في المطلوب. إذ نقول : مع ثبوت تلك المقدّمة لا ريب في أنّه - تعالى - علّة لجميع الموجودات وعالم بذاته المقدّسة بكنهها وبالوجه الّذي ينشأ منها المعلولات ، فيلزم كونه - تعالى - عالما بجميع الموجودات لأنّ ذاته علّة موجدة لجميع ما عداه وجميع الموجودات حسّيا كان أو عقليا معلول له - إمّا بدون واسطة أو بواسطة هي منه - ، والعلم التامّ بالعلّة يستلزم العلم التامّ بمعلولها ، فيلزم كونه - تعالى - عالما بالموجودات بحقائقها ولوازمها وملزوماتها ؛ وبذلك ثبت المطلوب.

ومنها : - أي : من الادلّة الدالّة على علمه تعالى - : انّه - تعالى - لمّا كان مبدأ لجميع الموجودات الّتي منها العلماء بذواتهم كان عالما بذاته بالضرورة ، لكون الفاعل

ص: 101


1- ما وجدت العبارة في المحصّل.

أشرف وأكمل من أثره ومن كونه - تعالى - عالما بذاته ومبدأ لجميع الموجودات علم كونه - تعالى - عالما بجميع الموجودات - معقولة كانت أو محسوسة ، كلّية كانت أو جزئية -.

وقد يناقش فيه بأنّ كون الفاعل أشرف لا يقتضي إلاّ كونه عالما بما علم معلوله ، وحينئذ فعلم العلماء بذواتهم لا يدلّ إلاّ على علم الواجب - تعالى - أيضا بذواتهم ، لا بذاته - تعالى - على ما هو المدّعى.

وفيه : انّه إذا ثبت علمه بالغير - أعني : بما يعلمه العلماء - يثبت علمه - تعالى - بذاته ، لما مرّ من أنّ من علم الغير يعلم ذاته بالضرورة.

ويمكن أن يستدلّ بحيث لا يرد هذه المناقشة أصلا ، بأن يقال : انّه - تعالى - مبدأ لجميع الموجودات الّتي منها العلماء ، فيكون هو - تعالى - أيضا عالما بذاته بالضرورة - لكون العالم أشرف -.

فان قيل : لا يعلم العلماء ذاته - تعالى - ولا ذواتهم إلاّ بوجه لا بكنهه فلا يثبت منه الاّ علمه - تعالى - بذاته بالوجه لا بالكنه ، مع انّه المطلوب ؛

قلت : المطلوب من هذا الدليل / 130 DB / اثبات علمه - تعالى - بذاته وبغيره في الجملة - سواء كان بالكنه أو بالوجه - ، وانّما يثبت علمه - تعالى - بكنه ذاته وبحقائق الاشياء بأدلّة أخر.

فان قيل : إذا لم يثبت منه علمه - تعالى - بجميع الموجودات ، إذ استلزام العلم بالعلّة للعلم بالمعلول إنّما هو إذا علم العلّة بكنهها ؛

قلنا : إذا علم العلّة بالوجه الّذي يصدر عنه المعلول يعلم المعلول أيضا - كما اشرنا إليه - ، ولا ريب في انّ الفاعل للشيء مع كونه ذا شعور بذاته عالم بالوجه الّذي ينشأ منه المعلول.

ولنا أن نثبت هذا المطلوب بالطريقة الاولى - أعني : ضرورة كون الفاعل العالم بذاته عالما بافعاله - من دون التمسك بالطريقة الثانية - أعنى : استلزام العلم التامّ بالعلّة للعلم بالمعلول -. وحينئذ نقول : إذا كان الواجب عالما بذاته ولو بوجه ما يكون عالما

ص: 102

بافعاله - إذ كون الفاعل الشاعر بذاته بأيّ نحو كان عالما بافعاله بديهي -.

ويمكن أن يثبت بهذا الدليل أوّلا العلم مطلقا - أي في الجملة - ثمّ يثبت العلم بذاته ، ثمّ يثبت لجميع الموجودات بأن يقال : لمّا كان - سبحانه - مبدأ لجميع الموجودات الّتي منها العلماء كان عالما في الجملة بالضرورة - لكون الفاعل أشرف - ، ثمّ يثبت العلم بذاته - على ما تقدّم من انّ من علم الغير يعلم ذاته بالضرورة - ، ثمّ يثبت بجميع الموجودات بناء على أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول.

ومنها : انّه - تعالى - لمّا كان مبدأ لجميع الموجودات الّتي منها الصور العلمية كان مبدأ لفيضان العلوم على العلماء وكان فياض العلوم وملهمها ، فكان عالما بذاته بالضرورة ؛ وإذا كان عالما بذاته كان عالما بجميع الموجودات - لانّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول -.

ويمكن ان يثبت بهذا الدليل أيضا - على نظير سابقه - العلم في الجملة ، ثمّ يثبت العلم بذاته ، ثمّ يثبت بجميع الموجودات بان يقال : انّه - تعالى - لمّا كان فيّاض جميع العلوم فيكون عالما في الجملة بالضرورة ، واذا كان عالما في الجملة بالضرورة كان عالما بذاته بالضرورة - لما تقدّم - ؛ وإذا كان عالما بذاته فيكون عالما بجميع الموجودات ؛ هذا.

واعلم! ، انّ بعض المشاهير قال : يمكن أن يحمل دليل الاستناد في كلام المحقّق الطوسي على أحد هذين الدليلين - أي : الأخيرين اللذين ذكرناهما لانّ استناد كلّ شيء إليه يوجب استناد العلماء بذواتهم واستناد الصور العلمية إليه تعالى - ، ومن استنادهما إليه يثبت عموم علمه - تعالى - بالنسبة إلى ذاته والى جميع الموجودات - كما ذكرناه - ، فيصحّ قوله : « والأخير عامّ ».

ثمّ اعلم ؛ انّه يمكن ان يثبت بكلّ واحد من هذين الدليلين القدرة والإرادة والحياة وسائر الصفات الكمالية ، ولذا قيل : انّ قول سيّدنا أمير المؤمنين - علیه السلام - : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » اشارة إلى ذلك ، أي : إلى أنّه من عرف نفسه بانّه عالم قادر مريد مجرّد إلى غير ذلك من الصفات الكمالية يعرف انّ بارئها ومفيضها يجب أن يكون له تلك الصفات الكمالية على ما هو أعلى وأشرف ، فيمكنه أن يعرف

ص: 103

/ 134 MB / ربّه من طريق معرفة نفسه بجامعية الكمالات الحقيقية. وكيف يمكن أن يكون المخلوق متصفا بصفات كمالية يكون خالقه فاقدا عنها؟! ، وأيّ شيء أشدّ قبحا واكثر شناعة من أن يدّعى الانسان احاطته العلمية بحقائق الأشياء ويسلب العلم عن خالقه ومدبّره ويجعله انزل الحيوانات العجم الّتي يعلم كثيرا من الأشياء؟! ، - تعالى ربّنا عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا! -.

ومنها : انّه - سبحانه - قادر - أي : فاعل بالقصد والاختيار - ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بالعلم بالمقصود.

وأورد عليه : بانّه إن أريد بالقصد والاختيار ما هو المعنى المتعارف المستلزم للعلم فلا بدّ من اثباته ، إذ لم يثبت اتصافه - تعالى - بالقصد بالمعنى المتعارف ؛ وإن أريد بهما معنى القادرية المستلزمة لحدوث العالم - أي : امكان انفكاك العالم عنه تعالى - فلا بدّ من بيان الكبرى - أعنى : قوله : « ولا يتصوّر ذلك بدون العلم بالمقصود » -.

وأجيب عنه : باختيار الشقّ الثاني ثمّ بيّن الكبرى - أعني : كون حدوث العلم مستلزما لعلمه تعالى - بانّه لا يتصوّر حدوث العالم بدون علمه - تعالى - ؛

أمّا على طريقة المعتزلة فلأنّ العالم بدون العلم والإرادة لو كان حادثا يلزم الترجيح بلا مرجّح ، إذ المرجّح للحدوث عندهم هو الداعي - أي : العلم بالنفع -. وإذ لا شعور ولا علم فلا مرجّح ؛

وأمّا على طريقة الأشاعرة فلأنّ المصحّح للحدوث عندهم هو تعلّق الإرادة في آن الحدوث ، وإذ لا شعور فلا إرادة ؛ فلا يصحّ على الطريقين حدوث العالم بدون العلم

وأورد على هذا الجواب : بانّ العمدة في اثبات / 131 DA / الحدوث هو اجماع المليين وحجّيته موقوفة على اثبات النبوّة المتوقّفة على علمه - تعالى - ، فلو أثبت علمه - تعالى - بالحدوث لزم الدور. وسيأتي حقيقة الحال في ذلك.

ثمّ لا يخفى انّه يمكن اثبات علمه - تعالى - بقدرته بالمعنى المشهور - أي : كونه تعالى بحيث يمكن أن يصدر عنه الفعل والترك بالنظر إلى ذاته - ، فانّه بعد ما ثبت انّه - تعالى - يتمكّن من الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته فلا بدّ من كونه عالما ، لأنّه مع امكان

ص: 104

الطرفين بالنظر إلى ذاته. فاذا اختار أحد الطرفين لا بدّ له من مرجّح وصدور الفعل لا ينفكّ عن العلم.

وغير خفي انّ اثبات العلم بالقدرة بهذا المعنى لا يستلزم دور ، لعدم توقّف اثبات القدرة بهذا المعنى على ثبوت الشرع.

ومنها : الأدلّة السمعية من الكتاب والسنة والاجماع ، فانّ دلالتها على ثبوت العلم للواجب قطعية بحيث لا يمكن انكارها.

وأورد عليه : بأنّ التصديق بارسال الرسل وانزال الكتب يتوقّف على التصديق بعلمه - تعالى - وقدرته ، فلو توقّف ثبوت العلم عليه لزم الدور ؛

وأجيب عنه : بمنع التوقّف ، فانّه اذا ثبت صدق الرسل بالمعجزات حصل العلم بكلّ ما أخبروا به وإن لم يخطر بالبال كون المرسل عالما.

وردّ هذا الجواب : بأنّ المجيب إن اراد بالخطور الّذي نفاه الخطور التفصيلى بأن يكون المراد انّه اذا ثبت صدق الرسل بالمعجزات حصل العلم بصحة ما اخبروا به وان لم يكن كون المرسل عالما ملتفتا إليه لنا ملحوظا بالتفصيل ، فنسلّم جواز ذلك ؛ لكن هذا لا ينفي التوقّف على وجوب أصل علمنا بكون المرسل عالما وان لم يكن ملتفتا إليه في هذا الوقت ، فاللازم على هذا ليس إلاّ جواز كون الالتفات إلى علم المرسل مستفادا من الشرع لا جواز كون أصل العلم مستفادا منه ؛ مع انّ الكلام في أصل العلم.

وإن أراد بالخطور حصول أصل العلم حتّى يكون غرضه انّه يجوز أن لا يكون أصل العلم معلوما لنا إلاّ بالشرع فهو مكابرة ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّه لا بدّ في ثبوت النبوّة من العلم بكون المرسل عالما وكونه ملتفتا إليه أيضا ، إذ لو لم يلتفت إليه فلا يحصل العلم بصدقه ولا يجدي علمنا به لو لم يلاحظه في هذا الوقت. فما ذكره المورد في الترديد - من جواز كون الالتفات إلى علم المرسل مستفادا من الشرع وعدم توقّف العلم بصحّة ما أخبر به الشرع على الالتفات وان توقّف على أصل العلم - لا يخفى قبحه.

نعم! ، يمكن أن يقال : إنّ حصول العلم لنا بذلك في وقت واستقراره في ذهننا و

ص: 105

العلم الاجمالي به في هذا الوقت كافّ في ذلك ، ولا يلزم الالتفات إليه في هذا الوقت على التفصيل ، إذ كثيرا ما يستدلّ على المطالب بمقدّمات استقرّت في ذهننا وإن لم نكن ملتفتا إليها في هذا الوقت. لكن لا يخفى انّ هذا انما هو في المقدمات البعيدة وامّا فى المقدمات القريبة فلا يتحقّق الاستدلال بدون الالتفات إليها. والظاهر انّ علمه / 135 MA / - تعالى - من المقدمات القريبة لاثبات النبوّة فلا بدّ من الالتفات إليه.

ويمكن أن يراد بالالتفات المنفي الالتفات على التفصيل والتوضيح ، دون الالتفات في الجملة.

ثمّ قيل : انّ ما ذكره المجيب شرطية لا يقبل المنع سواء على الخطور التفصيلى أو على اصل العلم ، فان بعد اثبات صدق الرسل يحصل العلم بجميع ما أخبروا به وإن لم يعلم شيئا آخر أصلا ، فالاولى أن يعترض على المجيب بأنّ الشرطية الّتي ذكرتها مسلّمة لكن الكلام في ثبوت مقدّمها ، يعنى انّ ثبوت صدق الرسل بالمعجزات كانّه لا يمكن بدون العلم بكون المرسل عالما ، إذ بناء اثبات ذلك على انّه - تعالى - عالم بها ويقبح عقلا من العالم القادر اظهار المعجزة على يد الكاذب فيكون صادقا ، فما لم يثبت علمه - تعالى - وكذا قدرته لا يثبت صدق الرسل. ودعوى انّه يجوز أن يحصل العلم بصدقهم بمحض ملاحظة المعجزة - كما نقل عن غياث الحكماء - لا يخلو عن اشكال ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّه إذا لم يثبت صدق الرسل بدون العلم بكون المرسل عالما فيمكن أن يمنع حصول العلم بما أخبروا به على هذا التقدير ، فالشرطية ، (1) فثبت المنع. والظاهر انّه لذلك قال القائل المذكور : « فالاولى » دون « فالصواب » ومثله.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ اثبات أصل العلم بالشرع غير صحيح. اللّهم إلاّ أن يقال : انّ صدور الآثار الّتي هي خارجة عن طوق البشر من يد شخص انساني دليل على كمال قربه إلى المبدأ الّذي يجب اطاعته ، وهو فائق على جميع بني نوعه وكلّ من هو فائق على جميع بني نوعه بالفضائل والكمالات يجب طاعته عقلا في أقواله وأفعاله ، لأنّ مثله كاد أن يكون ربّا انسانيا ، فيجب الانقياد له والطاعة في أوامره ونواهيه وما جاء به. ومن

ص: 106


1- هكذا العبارة في النسختين.

جملة ما جاء به : إنّ اللّه - تعالى - عالم ، فلا دور حينئذ ؛ فتأمّل. / 131 DB /

ثمّ الظاهر انّ القوم انّما تمسّكوا بالأدلّة السمعية في اثبات عموم علمه - تعالى - وشموله لجميع الموجودات كلّية أو جزئيّة ، لا في اثبات أصله وحينئذ لا يرد ما أورد عليه ، لانّ اثبات النبوّة لا يتوقّف على اثبات عموم علمه - تعالى - بل على علمه بالمعجزة الخاصّة ، واثبات العلم بها لا يتوقّف على اثبات عموم العلم ، بل يجوز أن يحصل بمشاهدة المعجزة العلم بأنّ فاعلها ليس إلاّ اللّه - تعالى -. ويحصل أيضا بملاحظة إحكامها وإتقانها العلم بكون مبدأها عالما بها ، فيثبت بها النبوّة ، ثمّ يثبت بالنبوّة عموم العلم ؛ وحينئذ فلا دور.

فان قيل : اثبات النبوّة يتوقّف على اثبات العلم بأمور أخرى أيضا - مثل العلم بدعوى الشخص بصدقه أو كذبه - ، وانّ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح واثبات العلم بهذه الأمور بدون التمسّك بعموم العلم مشكل ؛

قلنا : اثبات العلم بهذه الأمور أيضا لا يتوقّف على عموم العلم ، بل بتحقّق علمنا بكونه - تعالى - عالما بها إذا تعدّدت المعجزات أو تكرّرت واحدة ، لانّه إذا لم يكن اللّه - تعالى - عالما بهذه الأمور لم يوجد اللّه - تعالى - المعجزة على يد مدّعى النبوّة لداع ومصلحة ، بل يكون ايجاده - تعالى - ايّاها على يده باتفاق صدور هذه بالعجزة عنه - تعالى - في وقت دعواه لا بسبب حكمة داعية ومصلحة باعثة ، ومعلوم بالضرورة إنّ الاتفاق لا يجتمع مع تعدّد الصدور وتكثّره من شخص واحد في وقت ارادته دون غيره من الاشخاص الغير المتناهية من أهل عصره ودون غير وقت ارادته من الاوقات المتطاولة. فالتكرّر والتعدّد عند وقت إرادة مدّعى النبوّة دليل على علمه - سبحانه - على صدقه وحسن اظهار المعجزة على يده ، فثبت المطلوب ؛ هذا.

وقيل : يمكن أن يقال : انّ مراد من تمسّك في اثبات علمه - تعالى - بالأدلّة السمعية بالعلم انّما هو العلم المتقدّم على ايجاد الممكنات في الأعيان - لانّ بعضهم انكر ذلك - ، لا اثبات أصل العلم ، وحينئذ فلا دور. لانّ اثبات الشرع انّما يتوقّف على اثبات أصل العلم لا العلم المقدّم.

ص: 107

وأورد عليه : بأنّ اثبات الشرع يتوقّف على اثبات العلم المقدّم ، إذ لو لم يكن اللّه - سبحانه - عالما بصدور المعجزة على يد الكاذب قبل صدورها بل انما علمه بعد الصدور أو مع الصدور أيضا لما أمكن له - تعالى - منعه منه. وتوضيحه انّه - تعالى - إذا لم يعلم الأشياء قبل وقوعها فلا يكون علمه - تعالى - إلاّ كالرؤية فينا ، فكما انّه لا يمكن أن نرى فعلا قبل وقوعه وإنّما نراه إذا فعل فكذا علمه - تعالى - بعينه ؛ وإذا كان علمه - تعالى - بهذه المنزلة فكما انّه لا يمكن ان يصير رؤيتنا بفعل مانعا عن وقوعه فكذلك لا يمكن أن يصير علمه - تعالى - مانعا عن وقوع شيء. وحينئذ فاثبات الشرع يتوقّف على العلم المقدّم ولا يكفي العلم المتأخّر والمقارن لاثباته ؛ هذا.

واعترض على التوجيه المذكور أيضا : بأنّ اثبات الشرع يتوقّف / 135 MB / على التصديق بالقدرة ، لانّ القصد بارسال الرسل لا يمكن بدون القدرة والعلم مأخوذ في حقيقة القدرة ؛ فيلزم الدور.

ودفع هذا الاعتراض بأنّ المأخوذ في القدرة ليس إلاّ أصل العلم ، لا العلم المقدّم ؛ والموجّه التزم توقّف اثبات الشرع على أصل العلم ، وانّما قال لا يتوقف اثباته على العلم المقدّم ومراد القوم من التمسك بالشرع في اثبات علمه انّما هو العلم المقدّم ؛ فلا دور.

ويمكن أن يقال : انّ مراد المعترض انّ المأخوذ في القدرة هو العلم المقدّم ، لانّ قدرته يجب أن يصلح للمنع عن الفعل ولو لم يكن العلم المأخوذ فيها هو العلم المقدّم لم يصلح لذلك. فحاصل كلامه : انّ اثبات الشرع يتوقّف على التصديق وقدرته الّتي لا ينفكّ عن العلم المتقدّم ، فالدور لازم.

وعلى هذا فالفرق بين هذا الاعتراض والايراد السابق بتوسيط القدرة وبعدمه ، وفي الحقيقة مآلهما واحد ؛ لانه لا بدّ في الايراد السابق أن يقال لاثبات توقّف الشرع على العلم المقدّم انّه لو لم يكن عالما بصدور المعجزة على يد الكاذب قبل صدورها لما امكن منعه منها. وهذا هو معنى القدرة ، فالقدرة قد أخذت في الايراد السابق أيضا. وحينئذ لا يمكن أن يقال : لا حاجة إلى اقحام القدرة في البين لكفاية أن يقال : انّ اثبات الشرع يتوقّف على العلم المقدّم فيلزم الدور ، لانّ توسيط القدرة انّما هو لبيان التوقّف على العلم

ص: 108

المقدّم ، فيكون حاصل الاعتراض انّه - تعالى - يجب أن يقدّر على المنع وما ذلك إلاّ بالعلم المقدّم ؛ وهذا هو الايراد السابق بعينه من دون تفاوت أصلا.

وقد ظهر ممّا حررناه انّ اثبات عموم علمه - سبحانه - بالأدلّة السمعية صحيح ، وانّ اثبات علمه المتقدّم بها غير صحيح ؛ وكذا اثبات / 132 DA / أصل العلم بها. اللّهم إلاّ أن يوجّه بما اشرنا إليه أخيرا من وجوب اطاعة صاحب المعجزات في كلّ ما جاء به عقلا.

تتميم

الظاهر انّ بعض الملاحدة من الفلاسفة - خذلهم اللّه - أنكروا أصل علمه - سبحانه - وقالوا : ليس المبدأ الأوّل عالما أصلا. وقد نقل صاحب المواقف : انّ بعض قدماء الفلاسفة ممّن لا يعبأ به ذهب إلى انّ اللّه - تعالى - لا يعلم شيئا - تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا - (1). وقال العلامة الطوسى في نقد المحصّل : « قدماء الفلاسفة قالوا : العلم حصول صورة المعلوم في العالم ومع ذلك فهو يقتضي اضافة ما للعالم إلى المعلوم. والعالم والمعلوم إن كانا متغايرين فلا بدّ من أن يتصوّر العالم بصورة المعلوم ولا يمكن أن يقبل المبدأ الأوّل شيئا من غيره ، وإن كانا واحدا فلا بدّ فيه من تغاير اعتباري حتّى يمكن أن يعقل الاضافة بينهما. ولا كثرة في المبدأ الأوّل بوجه من الوجوه ، فهو لا يوصف بالعلم بوجه ، بل هو مفيض العلم على الموجودات الّتي هى معلولاته كما يفيض الوجود عليها ؛ فهذا مذهبهم.

والباقون منهم ومن أهل الملل جميعا اتفقوا على انّه - تعالى - عالم » (2) ؛ انتهى.

وهذا الكلام أيضا صريح في انّ قدماء الفلاسفة مذهبهم انّه - تعالى - لا يعلم شيئا - تعالى اللّه عما يقول الملحدون -. وحمله على انّ مذهبهم نفي العلم الزائد بعيد جدّا. ولا يستبعدنّ من ذهاب بعض من بعد من العقلاء الى نسبة الجهل إليه - سبحانه - ، فانّ خفاء الضرورة على بعض العقلاء جائز ، ولذلك ترى انّ لكثير من العقلاء مذاهب شنيعة فاسدة مخالفة للبديهة ؛ فهؤلاء أيضا منهم.

ص: 109


1- راجع : شرح المواقف ، ج 8 ص 65.
2- راجع : نقد المحصّل ، ص 279.

وقال بعض المشاهير : « ظنّي انّه لم ينف أحد من العقلاء علم الواجب بالذات - تعالى - ، بل البعض انّما نفوا العلم التفصيلي قبل ايجاد الأشياء في الاعيان ظنّا منهم انّ هذا هو العلم - كما يدلّ عليه الدليل الّذي استدلّوا به -. والبعض الّذي نفوا العلم بذاته - تعالى - انّما نفوا العلم الزائد على الذات - كما يشعر به دليلهم - » ؛ انتهى.

وتوضيح ما ذكره : انّ بعض من نفوا العلم انّما نفوا العلم التفصيلى قبل الايجاد - وان نفوا بحسب اللفظ العلم المطلق قبل الايجاد - لظنّهم إنّ العلم منحصر في العلم التفصيلي. ولمّا نفوه عن الواجب - تعالى - قبل ايجاد الأشياء في الاعيان ظنّوا انّه - تعالى - ليس عالما بالاشياء في ذلك الوقت أصلا فهؤلاء لم ينفوا العلم مطلقا ، لانّهم لم ينكروا العلم بذاته - تعالى - أصلا. وأيضا لم ينكروا العلم بالاشياء بعد ايجادها ، بل انما انكروا العلم بالاشياء قبل ايجادها ، وذلك أيضا بناء على زعمهم من انحصار العلم في التفصيلي وإلاّ فما ذكروه لا ينف العلم الاجمالي قبل ايجاد الاشياء.

وأيضا : غير خفي عليك انّ المخالفين لعلم الواجب - تعالى - على النهج الّذي هو الحقّ وثبت من العقل والنقل فرق كثيرة - على ما هو المذكور في الكتب الكلامية - ؛

الفرقة الاولى : من أنكر علمه - تعالى - رأسا ؛

الثانية : من قال : انّه - تعالى - لا يعلم الحوادث قبل وقوعها ؛

الثالثة : من قال : انّه - تعالى - لا يعلم غيره مع كونه عالما بذاته ؛

الرابعة : من قال : انّه - تعالى - لا يعلم الجزئيات المتغيّرة المتشكّلة / 136 MA / المتبدّلة ؛

الخامسة : من قال : انّه - تعالى - لا يعلم نفسه وان علم غيره.

وسنشير - إن شاء اللّه - إلى أدلّة المخالفين وشبههم مع جوابها.

فالقائل المذكور إن كان مراده انّ الفرقة الاولى لم ينكروا العلم رأسا ، بل إنّما نفوا العلم التفصيلي قبل ايجاد الأشياء فهو مخالف لظاهر تصريحاتهم - على ما هو المنقول منهم - ؛

وان كان مراده انّ الفرقة الثانية انّما نفوا العلم التفصيلى قبل ايجاد الأشياء فهو ممنوع ، إلاّ أنّ ذلك لا ينفي وجود الفرقة الاولى بعد تصريح جماعة - منهم المحقّق الطوسى وصاحب المواقف - مع أنّ دليل هؤلاء - أعني : الفرقة الثانية - كما تعلم وانّ دل على أنّ غرضهم نفى

ص: 110

العلم قبل ايجاد الأشياء ، إلاّ انّه لا يدلّ على نفى العلم التفصيلى فقط دون الاجمالي ، بل يدلّ على نفى العلم بالاشياء قبل ايجادها مطلقا - سواء كان تفصيليا أو اجماليا -.

ص: 111

البحث الثاني : في كيفية علمه - تعالى - بالأشياء قبل وجودها وبعده بحيث لا يلزم منه كثرة وتركّب في ذاته ولا جهل ونقص وافتقار في حقّه ، ولا كونه فاعلا وقابلا ؛ وبالجملة على ما يليق بجناب قدسه وساحة كبريائه

ولعمري انّ هذه المسألة من أغمض المسائل الإلهية وأصعب المباحث الحكمية ، ولذا ترى العقلاء فيها كالحيارى وأحدثوا فيها مذاهب شتى. ونحن نذكر أوّلا مذاهب العقلاء في ذلك ثمّ ما يرد على كلّ منها ، ثمّ نشير إلى ما هو الحقّ.

فنقول : أصول / 132 DB / المذاهب في ذلك سبعة.

الأوّل : مذهب المعتزلة ، وهو : انّ علمه - تعالى - بالاشياء بحضور ماهياتها الثابتة في الخارج قبل وجودها عنده. وهذا بناء على ما ذهبوا إليه من قولهم بثبوت المعدومات.

الثاني : مذهب افلاطون الإلهي ، وهو : انّ علمه - تعالى - بالأشياء بصور مفارقة قائمة بذواتها منفصلة عنه - تعالى - وعن الأشياء. وفسّرها الشيخ بأنّها صور مفارقة على ترتيب موضوعة في صقع الربوبية ، وهذه الصور هى الصور المسمّاة : « بالمثل الأفلاطونية ».

وغرض افلاطون انّ لكلّ شيء في صقع الربوبية صورة مفارقة قائمة بذاتها حاضرة عند الواجب يشاهدها بالعلم الحضوري ويعلم كلّ شيء بصورته المختصّة به ، فيكون علمه بتلك الصور حضوريا وبالاشياء الّتي تلك الصور بإزائها صوريا حصوليا.

الثالث : مذهب فرفوريوس ومن تبعه من المشائين ، وهو : انّ علمه - تعالى - بالأشياء جميعا بالصور ، إلاّ أنّ ذاته - تعالى - متّحد بالصور المعقولة فلا تكون تلك

ص: 112

الصور المعقولة الّتي يعلم بها الأشياء زائدة متكثّرة حتّى يلزم مفاسد مذهب العلم الحصولي. وهذا المذهب هو المشهور بالقول « باتحاد العاقل والمعقول ».

الرابع : مذهب جمهور المشائين ، وهو : انّ علمه - تعالى - حصولي ارتسامي. يعنى انّ صور الأشياء مرتسمة في ذاته - تعالى -.

وتوضيحه : انّ الصورة العقلية قد يؤخذ عن الصورة الموجودة كما يستفاد من السماء بالرصد والحسّ صورتها العقلية في الذهن ، وقد لا تكون الصورة المعقولة مأخوذة عن الموجود ، بل يكون الأمر بالعكس ، كصورة أثبت البنّاء أوّلا في ذهنه ثمّ تصير تلك الصورة المعقولة محرّكة لاعضائه إلى أن يوجدها في الخارج ، فليست تلك الصورة بحيث وجدت فعقلت ، بل عقلت فوجدت.

وإذ ثبت ذلك فنقول : لمّا كانت نسبة جميع الأشياء إلى اللّه - سبحانه - نسبة المصنوع إلى النفس الصانعة لو كانت تامّة الفاعلية فقياس تعقّل واجب الوجود للأشياء هو قياس تعقّلنا للأمور الّتي نستنبطها أوّلا ثمّ نوجدها - لاشتراك التعقلين في سببيتهما للايجاد في الخارج -. والفرق إنّنا لكوننا ناقصين في الفاعلية نحتاج في أفاعيلنا الاختيارية إلى انبعاث شوق واستخدام قوّة محرّكة واستعمال آلة تحريكية وانقياد مادّة لقبول تلك الصورة ، والأوّل - سبحانه - لكونه تامّ الفاعلية غنيا عمّا سواه لا يحتاج في فاعليته إلى أمر خارج ، بل ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1) ، فانّه يعقل ذاته وما يوجبه ذاته ويستلزمه ، ويعلم من ذاته كيفية الخيرية في الكلّ فتتبع صور الموجودات الخارجية الصور المعقولة عنده على نحو النظام المعقول عنده ، فالعالم الكياني الخارجي بإزاء العالم الربوبي العلمي.

وهذا المذهب ممّا اختارها انكسمالس المليطى ، وهو أحد الأساطين السبعة ، فانّه قال : الأوّل ما صدر عنه - تعالى - الصور العلمية للموجودات العينية ثمّ أوجد الموجودات العينية على نهج ما هي في العلم المقدّم. وعلى هذا المذهب يكون علمه - تعالى - بالصور والارتسام - أي : يكون علمه / 136 MB / تعالى بصورة زائدة على تلك

ص: 113


1- كريمة 82 ، يس.

الأشياء ومطابقة لها قائمة بذاته تعالى -.

الخامس : ما ذهب إليه تالس المليطى - وهو أيضا من أساطين الحكمة - ، وهو : انّ علمه - تعالى - بأوّل المعلولات بالحضور - أي : بحضور ذاته عنده وانكشافه لديه بالإضافة الاشراقية - وبغيره من الأشياء بصورها القائمة في هذا المعلول. فانّه قال : أوّل ما صدر عن واجب الوجود بالذات جوهر فيه جميع صور باقي الممكنات. ونقل صاحب « الملل والنحل » عنه انّه قال : انّ القول الّذي لا مردّ له هو انّه كان المبدع ولا شيء مبدع ، فابدع الّذي ابدع ولا صورة له عنده في الذات ، لانّ قبل الابداع انّما هو فقط وإذا كان هو فقط فليس يقال حينئذ جهة وجهة حتّى يكون هو صورة ، أو حيث وحيث حتّى يكون هو ذا صورة ، والوحدة الخالصة ينافي هذين الوجهين ، هو يؤيّس ما ليس بأيس وإذا كان مؤيّس الاسباب فالتأييس لا من شيء متقادم ، فمؤيّس الأشياء لا يحتاج ان تكون عنده صورة. ثمّ قال : وأيضا فلو كانت الصورة عنده فامّا أن تكون مطابقة للموجود الخارجى أم غير مطابقة ، فان كانت مطابقة فليتعدّد الصورة بتعدّد الموجودات ، وليكن كلّياتها مطابقة للكليات وجزئياتها مطابقة للجزئيات ويتغيّر بتغيّرها - كما يتكثّر بتكثّرها - ، وكلّ ذلك محال - لانّه ينافي الوحدة الخالصة -. / 133 DA / وإن لم يطابق للموجود الخارجي فليست إذا صورة ، إنّما هى شيء آخر ، لكنّه ابدع العنصر الّذي فيه صور الموجودات والمعلولات كلّها وانبعث من كلّ صورة موجود في العالم على المثال الّذي في العنصر الأوّل ، فمحلّ الصورة ومنبع الموجودات هو ذات العنصر وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسّي إلاّ وفي ذات العنصر صورة له. ومن كمال الأوّل الحقّ انّه أبدع مثل هذا العنصر فيما يتصوّره العامّة في ذاته - تعالى - انّ فيها - يعنى صور المعلومات - ، فهو في مبدعه ويتعالى بوحدانيته وهويته عن انّ يوصف بما يوصف بما يوصف مبدعه (1) ؛ انتهى.

وهو صريح في انّ علمه بأوّل المبدعات ليس بصورة زائدة ، وبغيره من الأشياء بالصور القائمة به. والحاصل : انّه على هذا المذهب يكون الجوهر الأوّل غير مسبوق

ص: 114


1- راجع : الملل والنحل ، ج 2 ص 66.

بالعلم المغاير لذات الواجب بخلاف المذهب الرابع ، فانّ مبناه على أنّ جميع الموجودات العينية مسبوق بالعلم الزائد ، وهذا هو الفرق بين المذهبين.

ثمّ إنّ المحقّق الطوسي أيضا اختار هذا المذهب - أي : المذهب الخامس - ، فانّه صرّح بأنّ علمه - تعالى - بالحضور في المعلولات القريبة ، وأمّا في المعلولات البعيدة فبحصول صورها في القريبة. قال - رحمه اللّه - في شرحه للاشارات : « العاقل كما لا يفتقر في إدراكه لذاته إلى صورة غير ذاته الّتي هو بها هو ، كذلك لا يفتقر في ادراكه لما يصدر عن ذاته إلى صورة غير صورة ذلك الصادر الّتي بها هو هو. واعتبر من نفسك انّك تعقّل شيئا بصورة تتصوّرها أو تستحضرها ، فهي صادرة عنك لا بانفرادك مطلقا بل بمشاركة ما من غيرك » (1) - لأنّ الصور العقلية فائضة من المبادي العالية وليس للنفس بالنسبة إليها إلاّ القبول فقط - ، ومع ذلك فانت تعقّلها بذاتها لا بصورة أخرى ، لامتناع تضاعف الصور إلى غير النهاية فلا تتضاعف فيك الصور أصلا. نعم! ، ربما تتضاعف اعتباراتك المتعلّقة بذاتك أو بتلك الصورة فقط على سبيل التركيب - أي : ربما تتضاعف الاعتبارات المتعلّقة بكلّ منهما فقط إذا تركّب بعض هذه الاعتبارات مع بعض اخر - ، فانّ العالم بذاته وإن لم يكن المنكشف له إلاّ شيء واحد هو ذاته فقط من غير افتقار إلى شيء آخر إلاّ انّه لمّا كان لنفسه اعتباران : أحدهما : اعتبارها من حيث هي هي ، وهى بهذا الاعتبار معلومة ؛ وثانيهما : اعتبارها من حيث كونها حاضرة ، وهي بهذا الاعتبار علم ، فالعالم بنفسه يعلم نفسه ويعلم أيضا أنّها حاضرة عنده - أي : يعلم انّه يعلم -. وبالجملة حصل له اعتبار العلم بالنفس واعتبار العلم بالعلم بها وقد يتحصل اعتبار العلم بالعلم بالعلم بها وهكذا ، فاذا تركّبت تلك الاعتبارات تتضاعف إلى غير النهاية. إلاّ انّه لا تحصل بتلك الاعتبارات صور متكثرة في النفس ، لانّه لا يفتقر إلى غير النفس في جميع تلك الاعتبارات ، فانّه قد اعتبر النفس تارة من حيث هي هي وتارة من حيث حضورها وتارة من حيث حضور حضورها ومعلوم انّ النفس لا يتكثّر ولا / 137 MA / يتعدّد بتلك الاعتبارات ، بل هي ليست في الخارج إلاّ واحدة والانكشاف لم يتعلّق إلاّ بها ، و

ص: 115


1- راجع : شرح الطوسي على الاشارات والتنبيهات ، ج 3 ص 304.

التعدّد انّما هو في الاعتبارات. وما يرشدك إلى ذلك انّ الاعتبار الأوّل في نفس الأمر لا ينفكّ من الاعتبار الثاني ومن الثالث وهكذا ، فالنفس من حيث هي مع معلوميتها لا ينفكّ من كونها حاضرة وحضورها لا ينفكّ عن كونه حاضرا وهكذا ، وإن لم يتعلّق العلم بحضورها وحضور حضورها. فكما إذا لم يتحقّق العلم بحضورها لا يفتقر إلى صورة أخرى فكذا إذا تحقّق العلم به ، فالتعدّد إنّما هو في مجرّد الاعتبار. وهكذا نقول في علم النفس بالصور ، فانّه قد يحصل للنفس العلم بالصورة وقد يحصل لها العلم بتمثل هذه الصورة في ذاتها ، وقد يحصل لها العلم بتمثل هذا التمثل وبالجملة يحصل العلم بالصورة والعلم بالعلم بها وهكذا ، فتتضاعف الاعتبارات ؛ إلاّ أنّه لا تحصل بتلك الاعتبارات صور متكثرة في النفس ، بل تارة اعتبر الصورة فقط من حيث هي وتارة الصورة مع تمثّلها وتارة مع تمثل تمثلها ، فاذا تركّبت هذه الاعتبارات - أي : قيدت الصورة بتمثلها وتمثل تمثلها وهكذا - تصير الاعتبارات متكثّرة. إلاّ أنّها لا توجب تعدد الصور وتكثّرها في النفس ، فانّ الصورة من حيث هي هي مع معلوميتها على فرض عدم العلم بمعلوميتها لا ينفكّ عن المعلومية والتمثل في نفس الأمر ، مع انّه لا تحصل للنفس صورة اخرى ، فكذا مع فرض العلم بالمعلومية والتمثّل.

لا يقال : انّ / 133 DB / التمثّل حقيقة من الحقائق فالعلم به يوجب ارتسام صورة ، فاذا اعتبر الصورة مع التمثّل يلزم تعدد الصورة ؛

وهو كما ترى!.

وبالجملة قد ثبت انّك إذا تعقّلت صورة فانّما تعقّلها بذاتها لا بصورة اخرى.

وحينئذ نقول : فاذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة الغير هذا الحال فما ظنّك بحال العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه. وليس من شرط كلّ ما يعقل أن يكون المدرك محلاّ للصور المعقولة ، فلا تظنّ انّ كونك محلاّ للصورة العقلية شرط في تعقّلك ايّاها فانّك تعقّل ذاتك مع انّك لست محلاّ لها ، بل انّما محلّيتك لها شرط في حصول تلك الصورة لك وحصولها انّما هو شرط في تعقّلك ايّاها ؛

فان حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك حصل التعقّل لك من غير

ص: 116

حلول فيك. ومعلوم انّ حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا للغير ليس دون حصول الشيء لقابله.

والحاصل : انّه لا ينبغى انّ يظنّ انّ مناط حضور نفس تلك الصورة العقلية وشرطه كون العاقل محلاّ لها وفي المعلولات القائمة بذاتها انّما يتصوّر مجرّد حضور أنفسها دون ارتسام صورها ، فلا يجوز كون وجوداتها العينية عين العلم أو مستلزمة له ، لانّ في الصورة العلمية أمرين :

أحدهما : كونها قائمة بالمحلّ الّذي هو ذات العاقل ؛

والثاني : كونها حاضرة عنده حاصلة له. ولا شك انّ قيامها بالمحلّ لا يكون شرطا في كون الشيء معقولا وإلاّ لزم أن لا يكون شيء عالما بذاته. وليس الأمر كذلك ، فتعين أن يكون مرجع المعلومية ومناطها هو حضور المعلوم وحصوله للعاقل. ومعلوم انّ حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا لغيره ليس دون الحصول لقابله ، بل لكون نسبة الاوّل بالوجوب والثاني بالامكان يكون حصول المعلوم للعلّة اتمّ في باب المعلومية من حصول المقبول للقابل فيها. ففي الصورة المعقولة كما أنّ لها حصولا ووجودا رابطيا للنفس المجرّدة القابلة فكذا لها حصول ووجود رابطي لفاعلها المفيض والحصول الثاني ليس أدون من الاوّل ، فكما انّ الاوّل منشأ للعلم فكذا الثاني / 137 MB / بالطريق الاولى. وكذا الحال في الحصولات الّتي لغير الصور المعقولة من الموجودات الجوهرية والعرضية بالنسبة إلى فاعلها المفيض ومبدأها الموجد ، فانّها أشدّ من الحصول للصور المعقولة بالنسبة الى النفوس القابلة. فاذن المعلولات الذاتية للفاعل العاقل لذاته حاصلة له من غير أن يحلّ فيه ، فهو عاقل ايّاها من غير أن تكون هي حالّة فيه.

وإذ ثبت ذلك نقول : انّ الأوّل - تعالى - عاقل لذاته من غير مغايرة بين ذاته وبين عقله لذاته إلاّ بالاعتبار ، بل عقله لذاته هو نفس ذاته. ولا ريب في أنّ عقله لذاته علّة لعقله للمعلول الأوّل كما أنّ ذاته علّة لذات المعلول الأوّل ، فكما حكمت باتحاد العلّتين - أعني : ذاته تعالى وعقله لذاته - فاحكم باتحاد المعلولين - أعني : المعلول الأوّل وتعقل الواجب له -. فاذن وجود المعلول هو نفس تعقّل الواجب ايّاه من غير احتياج إلى صورة

ص: 117

مستأنفة تحلّ ذات الأوّل - تعالى عن ذلك -.

ثمّ قد عرفت انّ كلّ مجرّد تعقل ذاته وغيره من المجرّدات ، فالجواهر العقلية الصادرة عنه - تعالى - أوّلا عاقلة. ولمّا كانت تعقّل ما ليس بمعلول لها بحصول صورة فيها وهي تعقل الواجب أيضا ولا موجود إلاّ وهو معلول للواجب كانت صور جميع الموجودات الكلية والجزئية على ما عليه الوجود حاصلة فيها ، والواجب تعقل تلك الجواهر مع تلك الصور لا بصور غيرها ، بل باعيان تلك الجواهر والصور. وبهذا الطريق تعقل سلسلة الوجود على ما هو عليه فاذن لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض (1) من غير لزوم محال. فهذا اصل إن حقّقته وبسطته ظهرت لك كيفية احاطته - تعالى - بجميع الموجودات الكلّية والجزئية. و ( ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) (2) ؛ انتهى ما ذكره مع توضيح وتتميم.

ولا ريب في انطباقه على هذا المذهب - أعني : / 134 DA / المذهب الخامس -.

فان قلت : حاصل هذا المذهب انّ الواجب عالم بالجوهر الأوّل وبالصور الّتي مرتسمة فيه بالعلم الحضوري ، وبسائر الأشياء بتلك الصور لا باعيانها والكلام المنقول من المحقّق يدلّ على الجزء الأوّل ولا يدل على الجزء الثاني ، بل قوله : « وبهذا الطريق نعقل الوجود على ما هو عليه » يدلّ على كون (3) علم الواجب بأعيان الأشياء الّتي صورها حاصلة فى الجواهر العقلية أيضا علما حضوريا ، وهذا ليس في المذهب الخامس ، لأنّ حاصله انّه - تعالى - لا يعلم سوى المعلول الأوّل إلاّ بالصورة الحاصلة فيه ، كما انّ حاصل المذهب الرابع انّه - تعالى - لا يعلم شيئا ممّا سوى ذاته من الموجودات العينية الاّ بالصورة الحاصلة في ذاته - تعالى - ؛

قلت : كلامه في شرح الاشارات وان لم يدلّ على الجزء الثاني لكنّه صرّح في شرح رسالة العلم بأنّ ادراكه لمعلولاته البعيدة والمعدومات الّتي من شأنها امكان أن يوجد في وقت أو يتعلّق بموجود يكون بارتسام صورها المعقولة في المعلولات القريبة الّتي هي

ص: 118


1- إشارة إلى كريمة 3 ، سبأ.
2- كريمة 54 ، المائدة.
3- الاصل : + الواجب.

مدركاتها أوّلا وبالذات إلى أن ينتهي إلى ادراك المحسوسات بارتسامها في الآلة الّتي يدركها. ثمّ قوله : « وبهذا الطريق يعقل الوجود على ما هو عليه » ليس نصّا في كون علمه باعيان الأشياء الّتي صورها حاصلة في الجواهر العقلية حضوريا ، لاحتمال أن يكون المراد بهذا الطريق تعقّل الوجود بنفس تلك الصور القائمة بالجواهر العقلية لكونها مطابقة له على ما عليه الوجود. ويؤيّد هذا الاحتمال قوله : « على ما عليه » ، لأنّه لو كان المراد انّ علمه بأعيان الأشياء الّتي صورها حاصلة في الجواهر العقلية حضوريا لكان هذا القول لغوا. ثمّ كلامه الدالّ على اختياره هذا المذهب في شرح رسالة العلم هو قوله : « كما أنّ الكاتب مثلا يطلق على من يتمكّن من الكتابة - سواء كان مباشر الكتابة أو لم يكن - وعلى من يباشرها باعتبارين - فانّ اطلاق الكاتب على الأوّل باعتبار حصول التمكّن وعلى الثاني باعتبار حصول التمكّن منه - ، كذلك العالم يطلق على من يتمكّن بأن يعلم - سواء كان في حال استحضار المعلوم أو لم يكن - وعلى من يكون مستحضرا له حال الاستحضار باعتبارين ، فانّ اطلاق العالم على الاوّل باعتبار حصول التمكّن من العلم وعلى الثاني باعتبار حصول نفس العلم. فوقوع اسم العالم على الأمر الأوّل - أعني : من يتمكّن من أن يعلم - بالاعتبار الأوّل - أي : التمكّن من العلم - وعلى الثاني - أي : على من يكون مستحضرا - بالاعتبار الثاني - أي : حصول نفس العلم -. والعالم الّذي يكون علمه ذاتيا يكون علمه / 138 MA / بالغير بالاعتبار الأوّل ، إذ لا يصحّ العلم بالغير في حدّ ذاته إلاّ بمعنى التمكّن ، بخلاف علمه بذاته فانّه يصحّ بالاعتبار الثاني. وهو - أي : العالم الّذي علمه ذاتي - بذلك الاعتبار - أعني : اعتبار الأوّل - لا يحتاج في كونه عالما إلى شيء غير ذاته ؛ والعلم بهذا الاعتبار شيء واحد ذاتا. وأمّا بالاعتبار الثاني فهو محتاج إلى اعتبار صورة المعلوم ، والعلم بذلك الاعتبار متكثّر بتكثّر المعلومات ، إذ لا يصحّ استحضار الغير دون صورته الذهنية أو الخارجية. ولا يكون هذا العلم ذاتيا للعالم - أي : ثابتا في ذات العالم بدون اعتبار الغير وحصوله - ، وادراك الأوّل - تعالى - بالاعتبار الثاني إمّا لذاته - فيكون بعين ذاته لا غير ويتحد هناك المدرك والمدرك والادراك ، ولا يتعدد إلاّ بالاعتبار - ؛ وإمّا لمعلولاته القريبة منه - فيكون باعتبار ذوات تلك

ص: 119

المعلومات ويتحد هناك المدركات والادراكات ، ولا يتعدّدان الاّ بالاعتبار وتغايرها المدرك -.

ثمّ قال : وادراكه لمعلولاته البعيدة بارتسام صورها في معلولاته القريبة الّتي يعبّر عنها تارة بالكتاب المبين وتارة باللوح المحفوظ ويسمّيها الحكماء بالعقول الفعّالة وهي مرتسمة بجميع الصور الكونية » (1) ؛ هذا.

ولو لا تصريحه هذا في شرح الرسالة لم يبعد أن يدّعى انّ مختاره في العلم مذهب الشيخ الاشراقي من كون علمه بالجميع حضوريا وعدم كونه بالصور في موجود أصلا ، لما عرفت من انّ كلامه في شرح الاشارات لا يأبأ عن حمله على ذلك.

ثمّ الحقّ انّ مذهب الشيخ الرئيس في العلم هو المذهب الرابع - أعنى : كون علمه تعالى بجميع الأشياء بالصور المرتسمة في ذاته تعالى - ، لا المذهب الخامس - أي : كون علمه تعالى بما عدا المعلول الأوّل بالصور المرتسمة في هذا المعلول -. وقد صرّح جماعة بأنّ مختاره هو المذهب الخامس في جميع كتبه. وقيل هو متحيّر بين المذهبين في الشفا ولكنّه اختار المذهب الرابع / 134 DB / في الاشارات.

ولا بدّ لنا من نقل عباراته حتّى يظهر جلية الحال. قال في الشفا : « انّ المعقول قد يؤخذ من الشيء الموجود كما اخذنا من الفلك بالرصد والحس صورته المعقولة ، وقد يكون الصور المعقولة غير مأخوذة عن الموجود بل بالعكس ، كما انّا نعقل صورة بنائية نخترعها تكون تلك الصورة المعقولة محرّكة لأعضائنا إلى أن نوجدها ، فلا يكون وجدت فعقلناه ولكن عقلناه فوجدت. ونسبة الكلّ إلى العقل الأوّل الواجب الوجود هو هذا ، فانّه يعقل ذاته وما يوجبه ذاته المعقولة من صورة الموجودات على النظام المعقول عنده لا على أنها تابعة اتباع الضوء للمضيء والاسخان للنار ، بل هو عالم بكيفية نظام الخير في الوجود وانّه - تعالى - بان هذه العالمية يفيض عنها الوجود على الترتيب الّذي يعقله خيرا ونظاما » (2) ؛ انتهى.

ص: 120


1- راجع : شرح رسالة مسئلة العلم ، ص 28.
2- راجع : الشفا / الالهيات ، ص 363.

ولا ريب انّ هذه العبارة تدلّ على أنّ مختاره المذهب الرابع ، فان قوله : « فان تعقل ذاته وما يوجبه ذاته المعقولة من صور الموجودات » تدلّ على تقدّم معقولية صور جميع الموجودات على ذواتها ومنشئية تعقّل صورها لايجادها في الخارج. وعلى المذهب الخامس لا يكون تعقّل الجوهر الأوّل بصورته ، بل بحضوره عنده.

ثمّ قال بعد ذلك : « فبقى لك النظر في حال وجودها معقولة أنّها تكون موجودة في ذات الأوّل كاللوازم الّتي تلحقه ، أو يكون وجودها مفارقا لذاته - تعالى - وذات غيره أيضا كصور مفارقة على ترتيب موضوعة في صقع الربوبية - وهي المثل الأفلاطونية - ، أو يكون موجودة في عقل أو نفس إذا عقل الأوّل هذه الصور ارتسمت في ايّها كان ، فيكون ذلك العقل أو النفس كالموضوعة لتلك الصور المعقولة ، وتكون معقولة له على انّها فيه ومعقولة للاول على أنّها عنه (1).

ثمّ قال : وإن جعلت هذه المعقولات اجزاء ذاته عرض تكثر ، وإن جعلتها لواحق ذاته عرض لذاته أن لا يكون من جهتها واجب الوجود لملاصقته ممكن الوجود ، وإن جعلتها أمورا مفارقة لكلّ ذات عرضت الصور الافلاطونية ، وإن جعلتها موجودة في عقل ما عرض أيضا ما ذكرناه قبل هذا من المحال (2).

وما ذكره قبل هذا هو انّه لو كانت تلك الصور المعقولة / 138 MB / مرتسمة في عقل او نفس لدخلت في جملة ما تعقل الاول ذاته مبدأ له فيجب ان يكون صدورها عنه على سبيل الخير - أي : على سبيل ما اذا عقله خيرا اوجده وننقل الكلام إلى ذلك التعقّل ويتسلسل.

ثمّ قال : « فينبغي أن تجتهد جهدك في التخلّص عن هذه الشبهة وتتحفّظ أن لا تتكثّر ذاته ولا تبالي بان تكون ذاته مأخوذة مع اضافة ما ممكنة الوجود ، فانّها من حيث هي علّة لوجود زيد ليست بواجبة الوجود ، بل من حيث ذاتها. وتعلم انّ العالم الربوبي عظيم جدا » (3) ؛ انتهى.

ص: 121


1- راجع : نفس المصدر ، ص 364.
2- راجع : نفس التعليقة السالفة.
3- راجع : نفس التعليقة السالفة أيضا.

وأنت تعلم انّ قوله : « ولا تبالى بان تكون ذاته - ... إلى آخره - » صريح في اختياره المذهب الأوّل ، لانه قال أوّلا : « إن جعلت تلك الصور القائمة به اجزاء ذاته لزم التكثر وان جعلت لواحق ذاته لزم عدم كونه واجب الوجود من جهتها » ، وبعد ذلك صرّح بلزوم الاجتناب عن القول بما يوجب التكثّر - أعني : جعل تلك الصور اجزاء ذاته - وعدم المبالات بما يوجب عدم كونه واجب الوجود من جهته - أي : جهة تلك الصور لواحق ذاته -. وأورد ذلك مثالا. ولا ريب في انّ ذلك - أي : كون تلك الصور لواحق ذاته - إنّما يتأتّى على تقدير كونها مرتسمة في ذاته ، لا على تقدير المثل ، ولا على تقدير قيامها بالعقل أو النفس ، فاذا ضمّت هذه العبارة مع ما نقلناه أوّلا حصل الجزم بأنّ مذهبه في الشفا هو المذهب الرابع ؛ وحينئذ فلا حيرة في كلامه. وترديده بين الشقوق لا يدلّ على تحيره ، بل هو دأبه وعادته - كما لا يخفى على من له أدنى تتبّع بكلامه -.

وقال أيضا في الشفا : « ولا تظننّ انّه لو كانت المعقولات عنده كثيرة كانت كثرة الصور التى تعقلها اجزاء لذاته كيف وهى تكون ما بعد ذاته لانّ عقله لذاته ومنه يعقل كلّ ما بعده فعقله لذاته علّة عقله ما بعد ذاته وعقله ما بعد ذاته معلول عقله لذاته على انّ المعقولات والصور الّتي بعد ذاته انما هى معقولة على نحو المعقول الفعلى لا النفسانى وانما له إليها اضافة المبدأ الّتي تكون عنه لا فيه بل اضافات على الترتيب بعضها قبل بعض » (1) ؛ انتهى.

وهذه العبارة أيضا كسابقها تدلّ على العلم الحصولي ، فانّ غرضه انّ تعقّله لصور الأشياء المتكثّرة معلول لتعقّله لذاته. وهذه الصور المعقولة له - تعالى - وان كانت متكثّرة إلاّ أنّها لا توجب تكثّرا في ذاته - تعالى - ، لأنّها متأخّرة عن ذاته لا حقة له وليست داخلة في قوام ذاته ولا معدودة اجزاء لحقيقته ، لانّ ذاته من حيث تعقّله لذاته علّة لها. فهي من المعقولات العقلية الّتي له - تعالى - إليها اضافة المبدئية - أي : معقولة له على أنّها عنه / 135 DA / لا فيه - ، بل له إليها اضافات على الترتيب بعضها قبل بعض ،

ص: 122


1- راجع : الشفا / الالهيات ، ص 364.

فانّه - تعالى - إذا تعقّل ذاته وذاته علّة للعقل الأوّل مثلا فيعقل العقل الأوّل - أي : يعقله على انّه صادر عنه - ، وإذا عقل العقل الأوّل وهو علّة للعقل الثاني فيعقل العقل الثاني أيضا ... وهكذا إلى ان ينتهى إلى اخر مراتب الوجود.

والحاصل : انّه لمّا كانت مفاسد العلم الحصولي المشهورة بينهم أربعة اشار الشيخ في هذه العبارة إلى دفع ثلاثة منها :

الأوّلى : لزوم كون ذاته - تعالى - محلاّ للكثرة ، فاشار إلى دفعه بقوله : « بان له إليها اضافات على الترتيب بعضها قبل بعض ». أي : حصول هذه الصور في ذاته انّما هو على الترتيب لا دفعة ، وكما انّ صدور الكثرة منه في الخارج يمتنع دفعة ويجوز على الترتيب السببي والمسببي فكذا محلّيته للصور الكثيرة يمتنع دفعة ويجوز على الترتيب السببي والمسببي.

الثانية : لزوم كون الواحد من حيث انّه واحد فاعلا وقابلا ، وهو يستلزم التركيب ، إذ جهة القوّة غير جهة الفعل ، فيجتمع فيه جهتان وهو معنى التركيب ؛ فاشار الشيخ إلى دفعه بقوله : « على أنّ المعقولات والصور الّتي بعد ذاته انّما هي معقولة على النحو المعقول الفعلي لا النفسانى » ؛ وبقوله : « يكون عنه لا فيه ».

وحاصله : انّ محلّية ذات الواحد الحقّ للوازمه - أعني : تلك الصور - من باب مطلق الموصوفية لا من باب القابلية والمحلّية الّتي من باب مطلق الموصوفية دون القابلية لا يستلزم التركيب ، إذ استلزام جهة القوّة للتركيب لايجابها كون الفاعل فاقدا لشيء وكون هذا الشيء ممكن الحصول له مع أنّ هذا الفاعل له جهة الفعلية والوجود أيضا ، فيلزم التركيب. وأمّا مطلق الموصوفية فلا يعتبر فيه الفقدان ، فانّ الشيء إذا كان محلاّ لمعلوله كان موصوفا به البتة ولا يكون فاقدا له في حدّ ذاته ، لانّ المعلول من حيث انّه فائض من علّته وإن لم يكن موجودا في مرتبته ولكن لا يمكن أن / 139 MA / يقال : انّ العلّة في هذه المرتبة فاقدة لمعلولاتها ، لانّ ما يفيض عن شيء كيف يكون المفيض فاقدا له؟! ، وكيف يكون المفقود عن الشيء فائضا وصادرا عنه؟!. كيف ولو لم يجز أن يتصف علّة الشيء به لزم أن لا يتصف به مهيته البسيطة بلوازمها - لكون لوازمها معلولة لها - مع أنّ

ص: 123

جميع المهيات البسيطة متصفة بلوازمها. فالماهيات البسيطة مع بساطتها وعلّيتها موصوفة بلوازمها أيضا ، فلو كان مطلق الموصوفية موجبا للتركيب لزم كون تلك المهيات مركّبة ، وهو خلاف الواقع. فغرض الشيخ انّ محلّية الواجب لتلك انّما هو من حيث حصولها عنه وكونه علّة لها ، لا من حيث كونه قابلا لها ؛ فلا يتحقّق التركيب.

الثالثة : لزوم كون ذات الواجب متصفا بصفات زائدة غير اضافية وغير سلبية ، فاشار الشيخ إلى دفعه بقوله : « وانّما له إليها اضافة المبدأ » ، أي : تلك الصور العلمية ليست إلاّ صفات اضافية وليست هي صفات حقيقية ، إذ في الصور العلمية من حيث هى صور علمية يعتبر فيها الاضافة إلى المعلومات النسبية ، وإذا كانت لها صفات اضافية فلا ضير في كونها زائدة ، إذ امتناع اتصاف الواجب بصفات زائدة إنّما هو للزوم كونه فاقدا لصفة الكمال في مرتبة ذاته ، والصفات الاضافية ليست بأنفسها كمالات له - تعالى - ، بل كماله - تعالى - إنّما هو أن يكون بحيث يفيض عنه تلك الصفات - أي : الصور العلمية فيما نحن فيه - ، لا نفس هذه الصورة.

الرابعة : لزوم كون المعلول الأوّل للواجب غير مباين عنه بل قائما بذاته ، لانّ المعلول الأوّل هو تلك الصور العلمية لا الأعيان الخارجية ، وتلك الصور قائمة بذاته - تعالى -.

والشيخ لم يتعرّض لدفع هذه المفسدة الرابعة ، وأجاب عنه آخرون : بأنّ لزوم مباينة المعلول عن العلّة انّما هو إذا كان المعلول أمرا خارجيا بأن يكون المعلول بعد صدوره عن العلّة مباينا عنه ، لا إذا كان صورا علميا ، فان المباينة غير لازمة.

وأنت خبير بأنّ التعرّض لهذه المفاسد وأجوبتها هنا انّما هو لتحقيق مذهب الشيخ ، والاّ فالتعرّض لها هنا غير مناسب ، لكوننا بصدد تحرير المذاهب لا تحقيقها. وستعلم حقيقة الحال في صحّة هذه الأجوبة وعدمها.

ثمّ عبارات الشيخ في التعليقات أيضا تنطبق على ما ذكر ، فانّه قال فيه : « تعقّل الاول - تعالى - تعقّل بسيط لذاته وللوازم عنها وللموجودات كلّها - حاصلها وممكنها ، أبديّها وكائنها ، وفاسدها ، وكلّيها وجزئيها إلى أقصى الوجود معا لا بقياس وفكر وتعقّل في المعقولات ، فانّه يعقلها كلّها على الترتيب السببي والمسببي. وهو

ص: 124

يعقلها من ذاته ، لأنّها فائضة عنه وذاته مجرّدة ، فهو عاقل ذاته وذاته معقولة ، فهو عاقل ومعقول والموجودات كلها معقولة. / 135 BD / على أنّها عنه لا فيه ». وقال في تعليق بعده : « هو يعقل الأشياء لا على أنّها تحصل في ذاته كما نعقلها نحن ، بل على أنّها تصدر عن ذاته ، فانّ ذاته سبب لها ». وقال في موضع آخر : « وجوده - تعالى - مباين لسائر الموجودات وتعقّله مباين لسائر التعقّلات ، فانّ تعقّله على انّه عنه - أي : على أنّه مبدأ فاعلي له - ، وتعقّل غيره على انّه فيه - أي على : انّه مبدأ قابل له - » ؛ انتهى.

وأنت بعد التأمّل في تلك العبارات تجدها مطابقة لعبارات الشفا ، ويتضح كونها منطبقة على المذهب الرابع.

والعجب انّ بعض الأفاضل بعد أن نقل بعض العبارات المذكورة من الشفا والتعليقات قال : « وفي كلام الشيخ تنصيصات وتصريحات على أنّ التحقيق عنده في مسئلة العلم هو العلم الحضوري. وظنّي انّ من رأى في كلام الشيخ مثل هذه التنصيصات والتصريحات لم يبق له مجال أن يتوهّم أنّ مذهبه في علم الواجب بالأشياء بحصول الصور في الذات » ؛ انتهى.

وأنت بعد الاحاطة بما ذكرناه تعلم انّه ليس في كلام الشيخ موضع تنصيص ، بل ايماء وتلويح إلى ما ذكره بوجه. وكان عليه أن يعيّن الموضع وينصّ على كيفية الدلالة حتّى ينظر فيه ، ثمّ يبادر إلى الردّ والقبول.

وهذا الفاضل قد حمل عبارة الاشارات الّتي حملها الشارح المحقّق على العلم الحصولي على العلم الحضوري أيضا ، واستبعد - غاية الاستبعاد - من حمل المحقّق ؛ فلنذكر عبارة الشيخ ثمّ عبارة المحقّق ثمّ عبارة هذا الفاضل ثمّ نشير إلى موضع اشتباهه.

قال الشيخ : « وهم وتنبيه. ولعلّك تقول : إن كانت المعقولات لا تتحد بالعاقل ولا بعضها مع بعض - كما ذكرت - ثمّ سلّمت انّ واجب الوجود يعقل كلّ شيء فليس واحدا حقّا ، بل هناك كثرة ؛ فنقول : انّه لمّا كان يعقل ذاته بذاته ثمّ يلزم قيوميّته عقلا بذاته لذاته أن يعقل الكثرة جاءت الكثرة لازمة متأخّرة لا داخلة في الذات مقوّمة. والغرض انّ القيوم لمّا كان هو القائم بذاته المقيم بغيره والقائم بذاته ليس إلاّ المجرّد فهو

ص: 125

يعقل ذاته ، والمقيم لغيره هو مفيض الكلّ وعلّته ، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، فمن لوازم القيوم وخواصّه بسبب تعقّل ذاته لذاته أن تعقل الكثرة ». ثمّ قال : « وجاءت الكثرة أيضا على ترتيب وكثرة / 139 MB / اللوازم من الذات مباينة أو غير مباينة لا يتسلّم الوحدة والأوّل يعرض له كثرة لوازم اضافية او غير اضافية وكثرة سلوب وسبب ذلك كثرة الأسماء لكن لا تأثير لذلك في وحدانية ذاته - تعالى - » (1) ؛ انتهى.

وقال الشارح المحقّق : « تقرير الوهم أن يقال : انّك ذكرت انّ المعقولات لا تتحد بالعاقل ولا بعضها ببعض ، بل هى صور متباينة متقررة في ذاته ويلزمك على ذلك ان لا يكون ذات الأوّل الواجب واحدا حقّا بل تكون مشتملة على كثرة. وتقرير التنبيه ان يقال : انّ الأوّل لمّا عقل ذاته بذاته وكان ذاته علّة للكثرة لزمه تعقل الكثرة بسبب تعقل ذاته لذاته فتعقله للكثرة لازم معلول له فصور الكثرة الّتي هى معقولاته أي معلوماته ولوازمه مترتبة ترتب المعلولات فهي متأخرة عن حقيقة ذاته تاخر المعلول عن العلة وذاته ليست بمتقومة بها ولا بغيرها بل هى واحدة وتكثر اللوازم والمعلولات لا ينافي وحدة عليتها الملزومة اياها سواء كانت تلك اللوازم متقررة في ذات العلّة او مباينة له فاذن تقرر الكثرة المعلولة في ذات الواحد القائم بذاته المتقدم عليها بالعلية والوجود لا يقتضي تكثر والحاصل انّ الواجب واحد ووحدته لا يزول بكثرة الصور المعقولة المتقررة فيه » (2) ؛ انتهى.

ولا ريب في انطباق ما ذكره على كلام الشيخ ، وليس لكلام الشيخ محمل سوى ما ذكره. وهو بعينه مضمون ما نقلناه من الشفا والتعليقات ؛ وهو ظاهر.

وقال الفاضل المذكور : « توضيح الوهم : انّ العالم والمعلوم إذا لم يكونا متحدين ولم يكن بعض المعلومات متحدة مع بعض بل يكون المعلومات أمورا متباينة يلزم الكثرة ، لانّ العلم يتكثّر بتكثّر المعلومات ، لانّ العلم بأحد المتباينين ليس العلم بالمباين الآخر و

ص: 126


1- راجع : شرح الطوسي على الاشارات والتنبيهات ، ج 3 ص 302.
2- راجع : نفس التعليقة السالفة.

إلاّ يلزم أن يكون العلم بالانسان عين العلم بالفرس ؛ وهو باطل بالضرورة. فيجب أن يكون مغايرا ، إذ الممكنات حقائق متباينة والواجب موجد الكلّ. ولا ايجاد إلاّ بالعلم ، فيلزم التكثّر في علمه.

وحاصل دفع الوهم : انّ تكثر العلم بتكثّر المعلومات إذا كان مناط العلم حصول صورة الأشياء في ذات العالم ويكون العلم صفة زائدة على ذاته ، أمّا إذا لم يكن كذلك بل كان العلم عين ذات العالم بمعنى انّ ما يترتّب / 136 DA / على الصور العلمية يترتّب على ذات العالم - كما في علم الواجب سبحانه - فلا يلزم التكثّر في العلم ، بل التكثّر إنّما يكون حينئذ في المعلومات الّتي تكون متأخّرة عن ذات العلم ولوازم له ، وتكثّرها لا يوجب التكثّر في ذات الواجب ولا في صفة العلم. فذاته - تعالى - عقل ذاته ومعقول ذاته ، وكذلك عقل بالنسبة إلى جميع معلوماته قبل الوجود ، وحين الوجود فترتّب على ذاته - تعالى - كثرة لازمة متأخّرة على الترتيب السببي والمسببي. وليست تلك الكثرة مقدّمة لذاته حتّى يلزم الكثرة في ذاته - تعالى -. بل تلك الكثرة - الّتي هي النظام الجملي ، سواء كانت لازمة مباينة أو غير مباينة - لا توجب الكثرة في الملزوم اصلا. نعم! ، يعرض له - تعالى - بسبب السلوب والاضافات كثرة الأسماء - كالخالقية والرازقية والصانعية وأمثالها - ، ولا يلزم من هذا التكثّر في ذاته - تعالى - أصلا ولا في علمه أيضا » ؛ انتهى.

وحاصل كلام هذا الفاضل : انّه لمّا أورد انّ الواجب تعقل الأشياء الكثيرة فيلزم الكثرة في علمه ، فاجاب الشيخ بأنّ الكثرة إنّما هو في الأشياء الخارجية لا في العلم ، فكون علمه حضوريا لا حصوليا يوجب ارتسامه - تعالى - بصور الأشياء المتكثّرة ، فحمل الكثرة الّتي وقعت في جواب الشيخ - وقال : « لازمة متأخرة لا داخلة في الذات » - على كثرة الأعيان الخارجية ، لا كثرة الصور العلمية.

وأنت خبير بأنّ هذا لا يلائم كلام الشيخ أصلا! ، كيف ولو كان مراد الشيخ ذلك لكفى له أن يقول في دفع الوهم : « انّ العلم الانكشافي ليس فيه تكثّر » ، وأيّ مدخلية للقول بأنّ الكثرة في الاعيان الخارجية لا توجب التكثّر في الذات في الجواب عن الدفع المذكور؟! ، وأيّ مناسبة حينئذ للقول بأنّ الكثرة الخارجية لازمة متأخّرة وعلى

ص: 127

ترتيب السببي والمسببي؟! ، فانّ بعد كون العلم بالاشياء حضوريا انكشافيا لا يلزم تكثّرا في العلم - سواء كانت الأشياء المعلومة متأخرة أم لا ، وسواء كانت على الترتيب السببي والمسببي أم لا - ، وأيّ فرق بين تأخّر الكثرة وترتيبها وعدمها في عدم لزوم التكثّر في الذات ولزومه بعد فرض كون العلم حضوريا؟!. وبالجملة حمل عبارة الشيخ على ما ذكره هذا الفاضل يجعل عبارته مختلّة فاسدة. فالصحيح حمله على العلم الحصولي كما فعله الشارح المحقّق.

وبالجملة لا ريب في أنّ جميع عبارات الشيخ في جميع كتبه متطابقة متفقة صريحة في العلم الحصولي ، والمنكر مكابر.

السادس : ما ذهب إليه جماعة ، وهو : انّ للواجب علمين :

علم اجمالي كمالي متحقّق في مرتبة ذاته ؛

وعلم تفصيلي متحقّق في مرتبة وجودات الأشياء.

وتوضيحه : انّ الواجب لمّا كان عالما بذاته وذاته مبدأ لصدور جميع الأشياء فجميع الاشياء لوازم ذاته ومنطوية فيه اجمالا قبل وجودها ، فاذا كان عالما بذاته يكون عالما بهذه الأشياء اللازمة لذاته المنطوية فيه اجمالا بعلم واحد هو علمه بذاته ، فيكون عالما بالاشياء علما متحقّقا في مرتبة ذاته مقدّما على صدورها لا في مرتبة صدورها ، وإلاّ لم يكن عالما بالاشياء باعتبار ذاته بل باعتبار ذوات الأشياء ، فلا يكون له علم يكون صفة كمال في حقّه ، فعلمه بمجعولاته منطو في علمه بذاته. فكما انّ علمه بذاته هو ذاته فكذا علمه بمعلوماته. فاذا كان ذاته علّة لوجود ما عداه فكذا علمه بذاته علّة لعلمه بما عداه ، فعلمه بها يكون فعليا. وهذا هو العلم / 140 MA / الاجمالي. وبعد صدور الأشياء يتعلّق بها العلم تفصيلا.

وكلا العلمين يكون حضوريا ؛

أمّا الثاني فظاهر ؛

وأمّا الأوّل فلانّ ذاته حاضرة عند ذاته وكذا اللوازم المنطوية فيها اجمالا ، فتكون تلك اللوازم حاضرة عنده اجمالا.

ص: 128

السابع : ما ذهب إليه شيخ الاشراق ومتابعوه - كشارح التلويحات ، والعلاّمة الشهرزوري ، بل أكثر من تأخّر عنه ، وهو : انّ علمه - تعالى - بجميع الأشياء بحضور نفس الأشياء له - تعالى - وانكشاف ذواتها عنده بدون حاجة إلى حضور صور زائدة على ذواتها ، فعلمه بها نفس وجوداتها العينية.

والفرق بين هذا المذهب والمذهب الخامس - : المختار للمحقّق الطوسي - انّه على هذا المذهب يكون العلم بجميع الأشياء حضوريا ، وعلى مذهب المحقّق يكون العلم بالمعلولات القريبة حضوريا وبالمعلولات البعيدة حصوليا - كما تقدّم مفصّلا -.

هذا هو تحرير المذاهب في هذه المسألة.

وإذا عرفت ذلك فلا بدّ لنا من الاشتغال بابطال ما هو الباطل وتحقيق ما هو الحقّ.

فنقول : أمّا المذهب الأوّل / 136 DB / - أعني : مذهب المعتزلة - فلا ريب في بطلانه لابتنائه على ثبوت المعدومات ، وهو بديهى البطلان ظاهر الفساد ، والكتب العقلية مشحونة بابطال شيئية المعدوم وتحقّق الواسطة بين الموجود والمعدوم. وكيف يجوّز عاقل أن يكون المعدوم الصرف والليس المحض ثابتا في نفس الأمر؟ ، وما معنى هذا الثبوت؟.

وممّا يدل على فساده : انّ نفس الوجود ليس عند المعتزلة بموجود ولا بمعدوم ، فيكون هو أيضا من المعدومات الثابتة قبل صدورها عن جاعله ، وايجاد المعدوم الثابت إنّما هو بافادة الوجود وافاضته عليه ، لانّ الفرق بين الثابت المعدوم والموجود الخارجى لا يتصوّر إلاّ بافاضة الوجود عليه ، واخراجه عن عدمه لا يعقل إلاّ بذلك. فلو حصل نفس الوجود في الخارج بمجرّد افاضته من دون افاضة الوجود عليه لم يكن لثبوته في الخارج معنى ولم يكن ذلك الثبوت معنى زائدا على نفس الوجود ، فيلزم حينئذ أن يفيض الفاعل الوجود على الوجود ؛ وهم لا يقولون به. مع انّه يعود الكلام حينئذ في وجود الوجود ويلزم التسلسل.

وان قالوا : انّ الوجود ثابت في نفسه ومحقّق في الخارج ولا يحتاج إلى تاثير من الفاعل ؛

ص: 129

لزم عدم كون الفاعل مفيدا لشيء على المهيات ، فيلزم كون الفاعل معطّلا.

وأمّا المذهب الثاني - أعني : مذهب افلاطون الإلهي ، وهو القول بالمثل - : فقد عرفت انّ الشيخ فسّر المثل بالصور المفارقة على الترتيب الموضوعة في صقع الربوبية.

وقال بعض اهل التحقيق : المثل الافلاطونية في باب العلم مفسّرة بالصور العلمية المتعلّقة الموجودة لا في موضوع ولا في محلّ ولا في زمان ولا في مكان ، وفي باب اثبات وجود الكلّي الطبيعي مفسّرة بالطبائع المرسلة الموجودة في متن الدهر وحاقّ الاعيان لا بشرطيتها من حيث هى متمايزة في عالم الأمر عن الافراد وراء ما لها من الوجود في عالم الخلق - يعنى وجود الأفراد مخلوطة بها غير متميزة عنها -. وفي باب تفصيل العوالم مفسّرة بعالم المثال المتوسّط بين عالم الغيب والشهادة برزخا بين المجرّد والمادّي. وفي مقام اثبات الصور النوعية مفسّرة بالجواهر العقلية الّتي هي ارباب الانواع الموكّلة على جملة هياكل أشخاص نوع نوع بالتدبير والتسخير ، كما أنّ النفس المجرّدة بالقياس إلى تدبير هيكل شخص بعينه. وإن هي إلاّ ضرب من الملائكة المجرّدة وخليفة ربّ النوع المفارق لطبيعة الجزئية الجسمانية والصور الجوهرية المنطبعة ؛ وهذه ضرب من الملائكة الجسمانية. وليعلم أنّها بما عدا التفسيرين الاخيرين باطلة عند المحقّقين بالبراهين العقلية ؛ انتهى.

ثمّ لا يخفى انّ بطلان المثل بالمعنى المفسّر هاهنا في غاية الظهور ، وقد بيّن فساده المعلم الثاني والشيخ الرئيس في إلهيات الشفا.

وممّا يرد عليه : انّه لا ريب في أنّ تلك الصور موجودات عينية لا ذهنية ، فننقل الكلام إلى كيفية علمه - تعالى - بتلك الصور العينية قبل وجودها ، فان كان بصور موجودة عينية أخرى - وهكذا الكلام فيها أيضا - لزم التسلسل ؛ وان كان بصور ذهنية لزم ما هرب القائل بالمثل عنه أعني : التكثّر في ذاته تعالى - ؛ وإن كان بحضور انفسها عنده - تعالى - نقول : ان كان العلم الحضوري بالأشياء متوقّفا على وجود تلك الأشياء في الخارج لزم عدم كونه عالما قبل وجود تلك الصور وعدم كونه عاقلا في مرتبة ذاته - تعالى عنه علوّا كبيرا - ، وان لم يكن متوقّفا على وجودها فأيّ مانع حينئذ من القول

ص: 130

بالعلم الحضوري بالنسبة الى جميع الأشياء؟! ، والذهاب إلى القول بتحقّق الصور العلمية القائمة بذاتها مع مخالفته للبراهين العقلية؟!.

وأيضا على القول بالمثل يلزم احتياجه - تعالى - في عالميته بالاشياء وفي الفاعليّة لها إلى غيره - أعني : تلك المثل - ، وهو من أشنع المحال!.

وامّا المذهب الثالث - أعني : القول باتحاد العاقل والمعقول المنسوب الى فرفوريوس - ، فوجه بطلانه : انّه يمتنع أن يصير شيء شيئا آخر ، لانّه إن بقى الأوّل مع حضور الثاني فهما اثنان ، فلم تتحقّق الاتحاد ؛ وإن زال الأوّل وحصل الثاني أو بقى الأوّل ولم يحصل الثّاني ، فما صار أحدهما الاخر ، فلم يحصل الاتحاد أيضا.

وقد أطنب الشيخ الكلام في كتبه في بيان استحالة هذا المذهب وشنع على القائل به ؛ وقال في الاشارات : « وكان لهم - أي : للمشّائين - رجل يدعى « بفرفوريوس » ، عمل في العقل والمعقولات كتابا يثنى عليه المشّاءون ، وهو حشف كلّه ، وهم يعلمون انّهم لا يفهمونه ولا فرفوريوس / 137 DA / نفسه ؛ وقد ناقضه من أهل زمانه / 140 MB / رجل ناقص هو ذلك الناقص بما هو اسقط من الأوّل! » (1).

فان قيل : الظاهر انّ الشيخ قد رجع عن هذا التشنيع في كتاب المبدأ والمعاد واختار القول بالاتحاد ، لأنّه اقام الحجّة فيه على ثبوته ؛

قلت : الظاهر - كما أفاده بعض المحقّقين - انّ غرضه في ذلك الكتاب تقرير المعارضة على طريق اتباع المشائين ، دون ما هو الحقّ عنده وانعقد عليه رأيه - كما لا يخفى على الناظر فيه -. وما قيل : انّه خلاف عادة الشيخ ، لأنّه قلّما يميل عمّا هو الحقّ عنده إلى ما هو الباطل لديه ؛

ففيه : انّ ذلك على تقدير تقرير مذهبه واعتقاده ، لا على فرض تقرير مذهب غيره ، فانّ أحدا من العقلاء لا ينسب الباطل عنده إلى نفسه.

وممّا قيل في بطلان هذا المذهب : انّه لو كان حقّا لزم تبدّل جوهر النفس حين انتقالها من معقول إلى معقول آخر. وليس كذلك ، فانّ الجوهر الشاعر بذاته منّا هو هو في كلّ حين

ص: 131


1- راجع : شرح الطوسي على الاشارات والتنبيهات ، ج 3 ص 295.

قبل ادراك شيء ومعه وبعده. وما يقال : من أنّ الماء صار هواء والابيض صار أسودا معناه : انّ مادّة الماء انسلخت عنها الصورة المائية وتصوّرت بالصورة الهوائية ، والحامل لوصف الابيضية زال عنه البياض وحصل فيه السواد والقابل في الحالين شيء واحد ؛ انتهى.

وأمّا المذهب الرابع - أعني : كون علمه تعالى بجميع الأشياء حصوليا ارتساميا بقيام صورها في ذاته تعالى - ، فيدلّ على بطلانه وجوه :

منها : انّه يلزم أن يكون الواجب - تعالى - فاعلا وقابلا معا ، لانّ تلك الصورة موجدها ومفيضها هو الواجب - ، سبحانه - مع انّه - تعالى - محلّ لها.

ومنها : انّه يلزم أن يكون الواجب - تعالى - موصوفا بصفات زائدة غير اضافية ولا سلبية.

ومنها : انّه يلزم أن يكون الأوّل - تعالى - محلاّ لمعلولاته المتكثّرة وهو مستلزم للتركيب في ذاته - تعالى - ؛ أو عدم كونه - تعالى - عالما في مرتبة ذاته. بيان ذلك : انّه لو كان علمه بالاشياء حصوليا لكانت بإزاء كلّ معلوم صورة ، فلا يخلو إمّا أن يكون تلك الصورة داخلة في قوام ذاته - تعالى - حتّى يكون من مقوّمات ذاته ، فيلزم التركيب ؛ وان لم يكن داخلا في قوام ذاته - بل كانت عارضة لها والعارض متأخّر عن ذات المعروض - فلا تكون تلك الصورة الّتي هي مناط الانكشاف موجودة في مرتبة ذاته - تعالى - ، فلا يكون الواجب في مرتبة ذاته عالما بالاشياء.

ومنها : انّه يلزم أن لا يكون المعلول الأوّل - أعني : صور الأشياء المرتسمة في ذاته تعالى - مباينا عن ذاته ، بل يكون قائما به - تعالى -.

ومنها : انّه يلزم أن لا يتمكّن الواجب من العلم بالاشياء ومن ايجادها إلاّ بواسطة الصور الحالّة فيه ، وتلك الصور لكونها معلولة تكون ممكنة ، فيلزم أن يكون الواجب مستكملا بالممكن محتاجا إليه. والى هذه الوجوه الخمسة اشار العلاّمة الطوسى في شرح الاشارات بقوله : « لا شكّ في أنّ القول بتقرّر اللوازم في ذاته - تعالى - قول بكون الشيء الواحد فاعلا وقابلا معا ؛ وقول بكون الأوّل موصوفا بصفات غير اضافية ولا سلبية ؛ و

ص: 132

قول بكونه محلاّ لمعلولاته الممكنة المتكثّرة - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا - ؛ وقول بأنّ المعلول الأوّل غير مباين لذاته - تعالى - ؛ وبأنّه لا يوجد شيئا من الأشياء بذاته بل بتوسّط الأمور الحالّة فيه ... إلى غير ذلك ممّا يخالف الظواهر من مذاهب الحكماء والقدماء القائلين بنفي العلم عنه - تعالى - ، وافلاطون - القائل بقيام الصور المعقولة بذواتها - والمشّاءون القائلون باتحاد العاقل والمعقول - والمعتزلة - القائلون بثبوت المعدومات - انّما ارتكبوا تلك المحالات حذرا من التزام هذه المعاني » (1) ؛ انتهى.

ثمّ الحقّ انّ الوجه الأوّل مندفع عن العلم الحصولي بما تقدّم. وحاصل الدفع : انّ بطلان كون الواحد فاعلا وقابلا إذا أريد بالقبول مطلق الاتصاف ممنوع لانتقاضه بلوازم المهيات البسيطة ، فانّها فاعلة للوازمها مع كونها موصوفة بها. فبطلانه انّما هو إذا كان فاعلا وقابلا بمعنى كونه منفعلا أو متأثّرا من الغير. وكونه - تعالى - محلاّ للصور المعقولة لا يوجب انفعاله وتأثيره ، بل غاية ما يلزم هو كونه - تعالى - موصوفا بها ، فلا فرق بين وجودها فيه ووجودها عنه ، فلوازمه الّتي هي معقولاته انّما هي عنه وفيه بلا تفاوت.

وأمّا الوجه الثاني فقد دفعه بعضهم أيضا بما تقدّم في كلام الشيخ ؛ وحاصله : انّ الممتنع اتصاف ذاته - تعالى - بصفات زائدة حقيقية كمالية ، للزوم كونه - تعالى - فاقدا / 137 DB / للكمال في مرتبة ذاته ولا يمتنع عليه اتصافه - تعالى - بصفات اضافية غير كمالية زائدة. ولا ريب في أنّ الصور العقلية القائمة بذاته - تعالى - ليست صفات حقيقية كمالية ، فانّ ذاته وإن كانت محلاّ لتلك الصور العلمية لكن لا يكون هي كمالات له - تعالى - ، فانّ كماله - سبحانه - ليس تعقّله للأشياء ، بل بان يفيض عنه الأشياء معقولة. فكماله انّما هو بذاته لا بلوازمه الاضافية - أعني : الصور العلمية المضافة إلى المعلومات -. وإلى هذا المعنى أشار صاحب التحصيل بقوله : « واللوازم الّتي هي معقولاته - تعالى - وإن كانت أعراضا موجودة فيه فليس ممّا يتصف بها أو ينفعل عنها ، فانّ كونه واجب الوجود بذاته هو بعينه كونه مبدأ للوازمه - أي : معقولاته - ، بل ما يصدر عنه انّما يصدر عنه بعد

ص: 133


1- راجع : شرح الطوسي على الاشارات والتنبيهات ، ج 3 ص 304.

وجوده وجودا تامّا وانّما يمتنع ان يكون ذاته محلاّ للأعراض ينفعل عنها أو يستكمل بها. أو يتصف بها بل كماله في انّه بحيث يصدر عنه هذه اللوازم لا في انّه يوجد له ، فاذا وصف بانّه يعقل هذه الأمور فانّه يوصف به لأنّه يصدر عنه هذه ، لا لأنّه محلّه ».

وأنت تعلم انّ حاصل هذا الجواب انّ هذه الصور العلمية موجودة بعد الذات / 141 MA / وليست كمالات حقيقية له ، بل كماله - تعالى - كون ذاته بحيث يصدر عنه هذه الصور ويصير منشأ لارتسامها في ذاته ، فلا تكون زيادتها قادحة في كماله ولا يوجب فقدانا لما هو الكمال في مرتبة ذاته. وذلك كما انّ ايجاد الموجودات العينية مع كونه بعد مرتبة الذات لا يوجب فقدانه لما هو كمال في مرتبة ذاته ، ولا اتصافه بصفات زائدة. فكما انّ ايجاده للأشياء العينية بعد مرتبة ذاته لا يوجب له نقصا وكونه فاقدا للكمال فكذا منشئيته لارتسام تلك الصور في ذاته لا يوجب ذلك.

وغير خفي انّ هذا الجواب لا يدفع الشبهة ، لأنّ تلك الصور العلمية إذا لم تكن متحقّقة في مرتبة الذات ولم تكن كمالات حقيقية له معه لزم أن لا يكون الواجب - سبحانه - عالما في مرتبة ذاته ، لانّ الفرض انّ العلم بالاشياء وانكشاف الأشياء له - تعالى - موقوف على قيام تلك الصور بذاته - تعالى - ، وإن كانت متحقّقة في مرتبة ذاته وكانت كمالات له - تعالى - لزم كونه - تعالى - موصوفا بصفات حقيقية كمالية في مرتبة ذاته. والقياس على الايجاد باطل ، لأنّ تحقّق الايجاد في مرتبة ذاته نقص في حقّه ، بل يجب تأخّره عن ذاته وكماله - سبحانه - انّما هو ذلك للزوم اقدمية العلّة على المعلول ، وعدم قبول الممكن من حيث هو ممكن الوجود في مرتبة الواجب.

وأمّا العلم فيجب تحقّقه في مرتبة ذاته - سبحانه - ، وإلاّ لزم جهله في مرتبة ذاته ، وهو كفر وزندقة. على انّه لو سلّم انّ تلك الصور ليست كمالات له فيكون الأوّل - تعالى - واجبا بذاته من دون مدخلية تلك الصور في وجوب وجوده وفي سائر كمالاته الّتي من جملتها العلم بكلّ شيء قبل الايجاد ، فلا دخل لها لانكشاف الأشياء قبلها ، فلا فائدة حينئذ في تجويز تلك الصورة وارتسامها في ذاته - تعالى -.

فان قلت : تلك الصور وإن لم تكن كمالات له - تعالى ، كما اشار إليه بهمنيار بقوله :

ص: 134

« بل كماله تعالى كون ذاته بحيث يصدر عنه هذه اللوازم » - ، لكن صدور الأشياء لا يتصوّر بدون تصوّر تلك الصور ، كما انّ بعض الأشياء واسطة لصدور بعض آخر من الواجب - تعالى - ، كصدور الأعراض فانّها لا تصدر عن اللّه - تعالى - إلاّ بعد صدور موضوعاتها عنه.

قلت : صدور نظام الكلّ على أتمّ انحاء الوجود واشرفها لا يمكن الاّ بعد فعلية ذاته بجميع صفاته الذاتية الّتي منها صفة العلم بكلّ الأشياء قبل ايجادها ، فتلك الصور الّتي هي صفة علمه - تعالى - لو لم تكن كمالا له - تعالى - وكانت زائدة على ذاته لكانت من جملة النظام ، فلا يمكن صدورها عنه على أتمّ الوجه إلاّ بتوسّط صفة العلم الّذي هو بعينه تلك الصور ، فتلك الصور لا يمكن أن تكون اشياء ذهنية زائدة على ذاته تكون وسائط لايجاد الأشياء العينية ، فالواجب الحقّ يعلم ذاته وجميع الأشياء بالعلم الّذي هو نفس ذاته. فظهر انّ الوجه الثاني وارد على العلم الحصولي.

وأمّا الوجه الثالث - أعني : لزوم مفسدة الكثرة في ذاته تعالى - : فقد أجاب عنه الشيخ - كما مرّ الاشارة إليه - في الشفا والتعليقات : بأنّ هذه الكثرة إنّما هى بعد الذات على الترتيب السببي والمسببي ، فلا تنثلم به / 138 DA / وحدته الحقّة. وذلك كما أنّ صدور الموجودات المتكثّرة عنه لا يقدح في بساطته المحضة ووحدته الصرفة لكونها صادرة عنه - تعالى - على الترتيب العلّي والمعلولي ، فكذلك معقولاته المنفصلة الكثيرة إنّما تترتّب عنه على وجه لا يقدح في وحدته الحقّة. فكما انّ صدور الموجودات عنه دفعة ينافى الوحدة وعلى الترتيب السببى والمسببى لا ينافيها فكذا محليّته للصور المعقولة دفعة ينافي الوحدة وعلى الترتيب السببي والمسببي لا ينافيها ، فتلك الكثرة ترتقى إليه وتجتمع في واحد محض ، فانّها مع كثرتها اجتمعت واشتملت عليها احدية الذات ، إذ الترتيب يجتمع الكثرة في واحد - كما اشار إليه المعلم الثاني بقوله : « واجب الوجود مبدأ الكلّ فياض الوجود وهو ظاهر على ذاته بذاته ، فله الكلّ من حيث لا كثرة فيه ، فهو ينال الكلّ من ذاته. فعلمه بالكلّ بعد ذاته وبعلمه بذاته ، ويتحد الكلّ بالنسبة إليه ، فهو الكلّ في وحدته » -.

ص: 135

وغير خفي انّ هذا الجواب لا يدفع المفسدة ، لانّ بعد التزام كونه - تعالى - محلاّ للكثرة يلزم إمّا التركيب في ذاته - تعالى - إن كانت تلك الكثرة داخلة في قوام ذاته ، أو عدم كونه عالما في مرتبة ذاته إن لم تكن داخلة في قوام ذاته ، بل كانت بعد مرتبة ذاته. وأيّ فائدة في القول بأن محلّيته - تعالى - لتلك الكثرة على الترتيب السببي والمسببي؟! ، فانّ كونها على هذا النحو بعد قيامها بالذات الواجبي إنّما يوجب تحقّقها على التقديم والتأخير ، ولا يفيد ذلك شيئا إلاّ تحقّق علمه بالاشياء على الترتيب ، وهو يوجب جهله - تعالى - في بعض المراتب. وبالجملة لو تحقّقت تلك الصور العلمية دفعة لم يلزم جهله - سبحانه - الاّ في مرتبة ذاته ، وأمّا إذا تحقّقت على الترتيب السببي والمسببي لزم جهله في بعض المراتب الآخر ، مثلا لا يكون عالما بالعقل الثاني في مرتبة وجود العقل الأوّل وبالثالث في مرتبة وجود الثاني / 141 MB / وبالأفلاك في مرتبة العقول ... وهكذا.

ثمّ إنّ تلك الصور إن كانت داخلة في قوام ذاته - سبحانه - لزم التكثّر في ذاته - سبحانه - سواء تحقّقت دفعة أو على الترتيب ؛ وإن لم تكن داخلة في قوام ذاته لم يلزم التركيب في ذاته على التقديرين ، بل يلزم عدم كونه عالما في مرتبة وذاته في كلّ من الصورتين - أي : صورة دخول الصور في قوام الذات وصورة عدم دخولها فيه - فيكون الفساد على التقدير الثاني أشدّ ، لأنّه على هذا التقدير إن كانت داخلة في قوام ذاته يلزم مع التركيب عدم كونه عالما في مرتبة الذات ، بل يلزم عدم تحقّق الذات في المرتبة اللائقة بالذات ؛ وإن لم تكن داخلة في قوام ذاته كان فساد لزوم جهله - سبحانه - أشدّ.

فظهر انّ الجواب المذكور للوجه الثالث غير تامّ ، وهو - أي : الوجه الثالث - كسابقه وارد على العلم الحصولي.

وأمّا الكلام المنقول من المعلم الثاني فليس ظاهرا في العلم الحصولي ، بل له محمل آخر بما يقرع سمعك بعد ذلك.

وامّا الوجه الرابع - أعنى : لزوم كون المعلول الأوّل غير مباين لذاته - ، فقد أجيب عنه - كما مرّت الاشارة إليه - بأنّ لزوم المباينة بين العلّة والمعلول إنّما هو إذا كان المعلول أمرا خارجيا لا أمرا ذهنيا ، فانّ القول بأنّ كلّ معلول ولو كان من الموجودات العلمية يجب

ص: 136

مباينته للعلّة ممنوع ، بل هو عين النزاع ؛ مع أنّ تلك الصور مباينة لذات الواجب ليست عينها. نعم! ليست موجودة خارجة عن ذاته ، فلو أريد بعدم مباينتها لذات الواجب قيامها بذاته - تعالى - وعدم وجودها في الاعيان ففيه : انّ عدم المباينة بهذا المعنى لا بأس به والقائلون بالعلم الحصولي يلتزمونه ؛ ولو أريد به كونها عين ذات الواجب - تعالى - واتحادها معه - تعالى - فهو ممنوع. والحقّ انّ هذا الجواب صحيح ، فالوجه الرابع لا تنتهض حجة على القائلين بالعلم الارتسامى.

وامّا الوجه الخامس فربما يجاب عنه : بأنّ توسّط تلك الصور وانكشاف الأشياء له - تعالى - وصدورها عنه - سبحانه - لا مانع له ، لكونها صادرة عنه - سبحانه - وتوسيط بعض معلولاته في صدور بعض آخر جائز ، كما في كون بعض الأشياء وسائط وشروطا لبعض آخر.

وأنت خبير بضعف هذا الجواب ، لانّا لو سلّمنا انّ كون بعض الممكنات لبعض الممكنات وسائط وشروطا لصدور بعض آخر جائز ، فلا نسلّم انّ كون بعضها وسائط وشروطا لعلمه ببعض آخر أيضا جائز ، فانّ هذا موجب لنقصه - سبحانه - / 138 DB / واحتياجه وعدم منشئيته بحسب ذاته المقدّسة وصرف وجوده التامّ للعلم ، وسبب لكونه - تعالى - جاهلا في مرتبة ذاته - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا -. وبالجملة عدم قبول بعض الممكنات الافاضة منه - سبحانه - بلا واسطة وعدم استعداده لذلك جائز لعدم لزوم نقص في حقّه - سبحانه - بعد قدرته على ايجاده بالنظر إلى ذاته بلا واسطة. وأمّا عدم قبوله لانكشافه عنده - تعالى - بدون الواسطة فهو نقص في حقّه وموجب لعدم كونه عالما في حدّ ذاته.

ومنها - أى : ومن الوجوه الدالّة على بطلان العلم الحصولي - : انّه لو كان علمه - تعالى - بالاشياء حصوليا لكان مناط علمه بالاشياء هو تلك الصور. فنقول : ايجاد تلك الصور إمّا أن يكون مسبوقة بصور أخرى ، أم لا : فعلى الأوّل ننقل الكلام إلى تلك الصور السابقة ... وهكذا ، فيلزم التسلسل ؛ وعلى الثاني يلزم إمّا صدور تلك الصور عنه - تعالى - بلا شعور كصدور افعال الطبائع عنها - وهو محال في حقّه أو كونه - تعالى - عالما بها في

ص: 137

مرتبة ذاته المتقدّمة على وجودها بالعلم الحضوري ، وهو يوجب جواز عالميته - تعالى - بالشيء بالعلم الحضوري قبل وجوده ، فليجوّز ذلك في جميع الأشياء ، إذ لا مخصّص لجواز ذلك في الصور العلمية دون سائر الأشياء.

وبتقرير آخر نقول : تلك الصور المرتسمة في ذاته - تعالى - إمّا أن تصير موجودة منه - تعالى - دفعة من غير ترتيب بينها ، أو تصير موجودة على الترتيب كترتيب الأشياء ذوات الصور في الوجود العيني ، فعلى الأوّل يلزم صدور الكثرة عن الواحد الحقّ من جهة واحدة ، بل يلزم جهله سبحانه في مرتبة ذاته ، لأنّ تلك الصور لصدورها عنه - تعالى - لا يكون موجودة في مرتبة ذاته لوجوب تأخّر المعلول عن العلّة ، فلا يكون عالما بالأشياء وبتلك الصور في مرتبة ذاته - لكون تلك الصور هي مناط العلم بناء على العلم الصورى - ؛ وعلى الثاني يلزم عدم علمه بتلك الصور قبل ايجادها ، لكونها من الأشياء الصادرة عنه - تعالى - وتوقّف علمه بما يصدر عنه على ارتسام صورته وعدم امكان ارتسام صور الصور في ذاته ، وإلاّ لزم التسلسل. فتعيّن عدم كونه عالما بتلك الصور قبل ايجادها ، بل بالاشياء وذوات الصور أيضا قبل ايجاد صورها ؛ وبطلان ذلك ظاهر.

وأجيب عنه : بأنّ هذه الصور المعقولة نفس وجودها عنه - تعالى - نفس تعقّله لها لا تمايز بين الحالين ولا ترتيب لأحدهما على الآخر ، فهي من حيث موجوديتها معقولة ومن حيث معقوليتها موجودة.

والحاصل : انّ ايجاده - تعالى - تلك الصور عين علمه بها ، فلا حاجة إلى اثبات علم آخر ، لأنّ كلّ ايجاد لا يكون نفس العلم فيحتاج في وقوعه عن الفاعل المختار إلى علم سابق وتصوّر يكون مبدأ لذلك الايجاد. وأمّا إذا كان نفس الايجاد نفس العلم فلا يتوقّف على علم آخر به يتحقّق الايجاد الّذي هو نفس العلم.

وأنت خبير بأنّ هذا الجواب غير صحيح ؛

أمّا أوّلا : فلأنّ موجودية هذه الصورة هو قيامها بالذات وتحقّقها فيها ، والمعقولية هو انكشافها عندها ؛ ولا ريب في انّ قيام الشيء وتحقّقه في الخارج أو في ذات أو في ذهن مغاير لنفس الانكشاف / 142 MA / وان استلزم قيامه بالمجرّد

ص: 138

لانكشافه عنده ، وقد تقدّم انّ حضور الشيء عند شيء آخر بمعنى عدم البعد عنه ليس نفس انكشافه له وان استلزمه ؛ وأمّا ثانيا : فلأنّا لو سلّمنا انّ المعقولية نفس الموجودية مع تحقّقهما نقول : لا ريب في انّ موجودية تلك الصور بعد مرتبة الذات وإلاّ لم يكن معنى لمعلوليتها ، فيلزم أن يكون معقوليتها أيضا بعد مرتبة الذات ، فيلزم جهله - تعالى - في مرتبة ذاته ؛ وهو محال.

ومنها : انّه لو كان علم الواجب - تعالى - حصوليا لزم أن يكون - تعالى - عالما بشيء واحد حصوليا وحضوريا ، واللازم باطل ، فكذا الملزوم. أمّا بيان اللزوم : فلانّه بناء على العلم الحصولي لمّا كان مناط علمه - تعالى - بالأشياء هو الصورة الحالّة في ذاته - تعالى - فقبل وجود الأشياء يكون عالما بها بصورها الحالّة فيه - تعالى - وبعد وجودها يكون حاضرة عنده - تعالى - لكونها معلولة له صادرة عنه ، والصدور والمعلولية يستلزم الحضور عند العلّة والحضور منشأ للعلم الحضوري الانكشافى ، فيكون عالما بها بالعلم الحضوري مع بقاء العلم الحصولي بحاله ، لانّه لا يجوز زوال الصورة عن ذاته - تعالى - بعد وجود ذي الصورة في الخارج ، وإلاّ لزم التغيّر في علمه - تعالى -. وأمّا بطلان اللازم : فلأنّ المعلوم بالذات في العلم الحصولي هو الصورة وذو الصورة معلوم بالعرض ، والمعلوم بالذات في العلم الحضوري هو ذو الصورة ، / 139 DA / وأيضا المعلوم في الحصولي هو الأمر الكلّي وفي الحضوري هو الجزئي بعينه ، فلا يمكن اجتماع الحصولي والحضوري على معلوم واحد بالنسبة إلى عالم واحد.

ويمكن أن يجاب : بمنع بطلان اللازم. وما ذكر في بيانه فجوابه : انّه لا مانع من كون ذي الصورة معلوما بالعرض نظرا إلى العلم الحصولي ومعلوما بالذات نظرا إلى العلم الحضوري. وقس عليه المعلومية على سبيل الكلّية وعلى سبيل الجزئية ، ولا دليل على امتناع ذلك - كما لا يخفى على المتأمّل -.

ومنها : ما أورده شيخ الاشراق في المطارحات ، وهو : انّه يلزم على القول بارتسام الصور في ذاته - تعالى - على الترتيب السببي والمسببي أن يكون الواجب - تعالى - منفعلا عن الصورة الأولى مستكملا بها ، وهي علّة اتصافه بصورة ثانية وسبب

ص: 139

استكماله بحصولها. ثمّ قال : « لا يقال : تلك الصور وإن كانت مرتسمة في ذاته - تعالى - لكنّها ليست كمالا له - تعالى - ؛ لأنّا نقول : هي من حيث كونها في ذاتها لما كانت ممكنة الوجود لا يكون حصولها بالفعل ، بل بالقوة ، ولا ريب في أنّ كون ذاته بالقوّة نقص لذاته وانتفاء القوة انّما يكون لوجود تلك الصور ، فيكون وجودها كمالا له أو مزيل النقص مكمّل ، فالصور السابقة تكون مكمّلة وذاته مستكملة والمكمّل أشرف من المستكمل ؛ مع انّ ذاته - تعالى - أشرف من كلّ شيء. وأجيب عنه بالنقض والحلّ ؛ أمّا النقض : فهو أن ينتقض بصدور الموجودات الخارجية عنه - تعالى - ، لاجراء الدليل المذكور فيه ؛ إذ المعلول الأوّل الصادر عنه - تعالى - علّة استكماله بصدور المعلول الثانى عنه - تعالى - وهكذا ؛ وأمّا الحلّ : فهو انّ فعلية تلك الصور والأشياء الخارجية إنّما هو من جهة المبدأ ووجوبها يترتّب على وجوبه ، وليس هناك فقد ولا قوّة أصلا ، وليس لتلك الصورة والاشياء امكان من الجهة المنسوبة إلى مبدئها الأعلى ، والانفعال أنّما يلزم لو انتقل ذاته من معقول إلى معقول - كما في العلوم النفسانية - ، أو يفيض معقولاته على ذاته من غيره - كما في علوم المبادي - ؛ وأمّا إذا كانت المعقولات لازمة لذاته - كما في لوازم المهيات البسيطة - فلا يلزم من الانفعال شيء » ؛ انتهى. وأنت خبير بأنّ هذا الجواب غير صحيح ، لانّ العلم عدمه نقص في حقّه - تعالى - مطلقا ، فلا يجوز تخلّف الصور العلمية عن مرتبة الذات ، ولو لم يكن ذلك التخلّف بالنظر إلى الذات ولم يكن لها فقد ولا قوّة بالنظر إلى الجهة المنسوبة إليه ، بل كان ذلك لتوقّف بعض تلك الصور على بعض آخر. فانّ العلم الفعلي بجميع الأشياء كمال مطلق له - تعالى - ، ويجب أن يكون مجرّد الذات من حيث هي منشأ له في مرتبة الذات ، فلو فرض عدم نقض العلوم في مرتبة الذات - لتوقّفه على نقض آخر - يلزم النقض وحصول الكمال له بواسطة شيء آخر ، فيلزم استكماله لصدور بعض معلولاته. وأمّا الايجاد الفعلي لجميع الأشياء فليس كمالا مطلقا له - تعالى - ؛ بل الكمال في الايجاد أن يوجد كلّ شيء في وقت يناسبه على الترتيب السببي والمسببي. فتوقّف ايجاده لبعض الأشياء على ايجاد بعض آخر لا يوجب نقصا في حقّه - تعالى - حتّى إذا ثبت ذلك لزم استكماله بصدور بعض معلولاته ؛ فتأمّل.

ص: 140

ومنها : ما أورده بعض المحقّقين من العرفاء ، وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمات :

الأولى : انّ العلم التامّ بشيء من أفراد الموجودات الخارجية من حيث هو فرد بعينه - أي لشيء من انحاء الوجود حتّى يكون المعلوم الماهية مع الوجود لا مجرّد الماهية ، وبالجملة يكون الوجود الخاصّ معلوما - لا يحصل إلاّ بحضور ذلك النحو من الوجود وانكشاف هذا الفرد الخاصّ من الوجود عند العالم دون حصول صورته ومثاله. والدليل على ذلك :

أمّا أوّلا : انّ الوجود لا مثال له ، / 142 MB / بل مثاله نفسه بخلاف الماهية ، فانّ لها مثالا مطابقا لها في الحقيقة.

وأمّا ثانيا : انّ افراد الوجودات الخارجية من حيث هي تلك الافراد بعينها لا يمكن حصولها في الذهن حصولا مطابقا لها ، وإلاّ لزم أن يكون الموجود الخارجي من حيث هو موجود خارجي موجودا ذهنيا ، فيلزم قلب الحقيقة ، إذ الموجود الخارجي من حيث هو موجود خارجي حقيقته وذاته أن يكون في الخارج ، فلو حصل في الذهن لزم قلب الحقيقة.

وأمّا ثالثا : انّ العلم الارتسامي إنّما يكون بحصول صورة من ماهية الشيء في الذهن ، فلا بدّ من وحدة الماهية وانحفاظها في الخارج والذهن وتعدّد وجودها ، وهذا إنّما يتصوّر إذا كانت تلك الماهية غير الوجود وكانت الصورة الحاصلة في الذهن للماهية / 139 DB / دون الوجود ، إذ لو كانت الصورة للوجود لكان الوجود في الطرفين متحدا فلا يتصوّر حينئذ تعدّد ، إذ تعدّد الماهية مع وحدة الوجود في الخارج والذهن غير معقول.

والثانية : انّ التأثير والتأثّر والعلّية والمعلولية عند المحصّلين من المشائين إنّما هو في انحاء الوجودات بمعنى انّ العلّة من حيث هي وجودها يؤثّر في المعلول من حيث وجوده ، لا أنّ ماهية العلّة من حيث هي هي مع عدم اعتبار وجودها يكون علّة لماهية المعلول وتؤثّر فيها كذلك. نعم! ، تأثيرها في اللوازم الاعتبارية للماهيات كذلك - أي : في ماهيتها من حيث هي هي من دون اعتبار وجودها - ، وجواز ذلك لعدم تحقّق الوجود

ص: 141

لها وكونها اعتبارية.

الثالثة : قولهم : « العلم التامّ بالعلّة التامّة يوجب العلم التامّ بالمعلول » ، يحتمل في بادى النظر وجوها أربعة :

الأوّل : انّ العلم بماهية العلّة التامّة مطلقا - أي : من حيث هي ولو قطع النظر عن وجودها وعلّيتها - يوجب العلم بالمعلول.

الثانى : انّ العلم بالعلّة من حيث انّها علّة - أي : من حيث انّها معروضة لهذا المفهوم الاضافي ولو قطع النظر عن جميع ما عداه - يوجب العلم بالمعلول.

الثالث : انّ العلم من جميع الوجوه والحيثيات واللوازم والملزومات والعوارض والمعروضات يوجب ذلك.

الرابع : انّ العلم بتمام حقيقتها الّتي بها علّة تامّة يوجب ذلك ، بمعنى انّ الموجب للعلم بالمعلول هو العلم بتمام الحقيقة الّتي تتمّ بها العلية ، ولا يحتاج معها في العلّية إلى أمر آخر بحيث أيّ قيد آخر أخذ وأيّ حيثية أخرى لوحظت يكون خارجا عمّا هو العلّة التامّة لوجود المعلول ، إذ لو لم يكن خارجا لم يكن ما فرض علّة تامّة علّة تامّة ، فكلّ ما له مدخلية في العلّية من الجهات والحيثيات يضمّ إلى العلّة حتّى ينتهى إلى شيء هو لذاته موجب تامّ لوجود المعلول ، وكلّ ما هو خارج عنه لا يكون له مدخلية في العلية. فالعلم بمثل هذا الموجب يوجب العلم بالمعلول. ولا ريب في أنّ وجود هذه العلّة له مدخلية في العلّية أيضا ، بل هو العلّة بالحقيقة. فعلى هذا الوجه يكون معنى قولهم : العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول : إنّ العلم بوجود العلّة وبغيره ممّا له مدخلية في تمامية العلّة يوجب العلم بالمعلول.

ثمّ لا يخفى انّ الوجه الأوّل ليس مراد القوم ، إذ لا ريب في أنّ العلم بماهية العلّة من حيث هي لا يوجب العلم بالمعلول مطلقا ، وقد تقدّم ذلك. غاية الأمر صحّة هذا الوجه وجريانه في لوازم المهيات.

وكذا الوجه الثاني أيضا ليس مرادهم - لعدم الفرق فيه بين العلم بالعلّة والعلم بالمعلول في استلزام احدهما للآخر وعدمه -. وامّا الوجه الثالث وان كان صحيحا في

ص: 142

نفسه إلاّ انّه ليس أيضا مراد القوم - لعدم الفائدة فيه -. فتعين أن يكون مراد القوم من المقدّمة القائلة بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول هو الوجه الرابع. فمرادهم منها : انّه إذا كان شيء لذاته بلا اعتبار أمر آخر علّة وموجبا لمعلول فمتى علم علم كونه علّة لذلك المعلول ومتى علم كونه علّة له وجب أن يحصل العلم به - أي : بذلك المعلول -.

والحاصل : انّ كلّ معلول من لوازم علّته التامّة بما هي علّة تامّة ، فكذلك العلم به من لوازم العلم بها. ولكون العلّة التامّة بما هي علّة تامّة ماهية أخذت معها الانية - أي :

الوجود - أو نفس الانية فلا يرد انّه يلزم حينئذ أن يكون جميع المعلولات أمورا اعتبارية نظرا الى توهّم كون العلّة التامّة مجرّد الماهية. وقد تقرّر انّ لوازم المهيات أمور اعتبارية.

والحاصل : انّه وقع في هذا الايراد الاشتباه بين لوازم المهيات من حيث هى من غير اعتبار الوجود معها وبين لوازمها من حيث اعتبار الوجود معها ، فانّ المهيات على قسمين :

أحدهما : المهيات الّتي هي نفس الانيّات ، أو الّتي يؤخذ معها شيء منها ؛

وثانيهما : المهيات الّتي هى غير الانيّات وغير المأخوذة معها شيء منها. ولوازم القسم الأوّل لا تكون اعتبارية ، لأنّها لوازم الوجود الخارجى الّذي هو عين الماهية بهذا المعنى أو معتبر فيها ، وهى موجودة به ؛ بخلاف لوازم القسم الثاني ، فانّها لا تكون إلاّ اعتبارية - لعدم مدخلية الوجود في لزومها -. ولا ريب في أن العلّة التامّة من حيث هى علّة تامّة من القسم الأوّل دون الثاني ، فلوازمه تكون موجودة لا اعتبارية.

وإذا تقرّرت تلك المقدمات نقول : يلزم أن يكون الواجب - تعالى - بوجوده / 140 DA / الّذي هو عين ذاته سببا تامّا لوجودات جميع الممكنات بحكم المقدّمة الثانية ؛

وأن يعلم معلولاته لعمله بوجوده الّذي هو تمام حقيقته الّتي هي علّة تامة بحكم المقدمة الثالثة ؛

فيجب / 143 MA / أن يعلم معلولاته بما هي معلولاته - أي : بحسب كونها موجودة لا بمجرّد ماهيتها من حيث هى هى مع قطع النظر عن خصوص وجوداتها - ، لانّها من تلك الحيثية فقط ليست معلولة له كما علمت من المقدّمة الثانية أيضا. والعلم بها من حيث

ص: 143

كونها موجودة في الخارج وصادرة عنه - تعالى - ليس إلاّ بحضور نفس وجوداتها الخارجية لا بحصول ماهيتها وارتسام صورها في ذات العالم بحكم المقدّمة الاولى ؛ فعلمه - تعالى - بجميع الأشياء لا يمكن أن يكون بحصول صور مطابقة لها في ذات العالم ، بل يجب أن يكون بحضورها بأنفسها عنده وانكشافها بذواتها ووجوداتها لديه ، ويلزم منه أن يكون علمه بجميع الأشياء على الوجه الجزئي.

ومنها : انّه لو كان علمه - تعالى - بالأشياء بالصور القائمة بذاته لزم أن لا يعلم الجزئيات بجزئيتها - لا الابداعيات ولا الكائنات الفاسدات - ، وأن لا يعلم شيئا منها إلاّ بصورها الذهنية ، ولا ينكشف ذواتها عنده باعتبار وجوداتها العينية. وذلك لانّ كلّ صورة عقلية ولو تخصّصت بألف تخصيص لا يمنع لذاتها المشتركة فيها ، وقد تقدّم انّ العلم الحصولي لا يكون إلاّ كلّيا وانّ مناط العلم على الوجه الجزئي إمّا الاحساس أو العلم الحضوري ، والعلم الحصولي لا يكون إلاّ كلّيا. والسرّ ما أشير إليه من أنّ الصورة العقلية للشيء الحاصلة من اسبابه لا تكون إلاّ كلّية فلا يمكن ارتسام صورة الجزئى من حيث انّه جزئي في ذات المجرّد. على أنّ الجزئي لو كان مادّيا لم ينفكّ صورته عن اللواحق المادّية - من الوضع والكمّ وغيرهما - ؛ والمجرّد لا يكون محلاّ لها.

ولا ريب في أنّ القول بعدم علمه بالاشياء الجزئية على الوجه الجزئي وعدم انكشاف الأشياء باعتبار وجودها العيني عنده وانحصار علمه بها بالعلم بصورها الذهنية ونفي الشهود العينى عنه - سبحانه - ، في غاية الضعف والسخافة!. كيف وجميع الموجودات الكلّية والجزئية فائضة عنه - تعالى -؟! ، وهو مبدأ لكلّ وجود - عقليا كان أو حسيا ، ذهنيا كان أو عينيا -؟! ، وفيضانها عنه لا ينفكّ عن انكشافها عنده وظهورها لديه - كما عرفت فيما سبق -. ومن قال : إنّ الواجب لا يعلم الجزئيات إلاّ على وجه كلّى فقد أخطأ وبعد عن الحقّ. بل بعضهم - كالغزالى وغيره - حكم بكفر القائل بذلك ، وبعضهم لم يكفّره نظرا إلى انّه ما نفى عنه - تعالى - العلم بشيء من الأشياء ، بل إنّما نفى عنه نحوا من انحاء العلم الّذي هو العلم الحضوري ، وهذا ليس من ضروريات الدين. ويأتي تحقيق ذلك إن شاء اللّه - تعالى -.

ص: 144

فالحقّ الصريح انّ جميع الأشياء المبدعة والكائنة المعقولة والمحسوسة - سواء كانت ذوات العقلاء أو علومهم وسواء كانت قوى خيالية أو حسية أو ادراكاتها - معلومة له بالعلم الحضوري الجزئى ومنكشفة عنده بالشهود العيني ، لاستلزام صدورها عنه لذلك ، فلا يعزب عنه شيء من الأشياء لا باعتبار الشهود العيني ولا باعتبار الثبوت الذهنى. فقوله - سبحانه - : لا يغرب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض اشارة إلى الاعتبار الأوّل ؛ وقوله : ولا اصغر من ذلك ولا اكبر الاّ في كتاب مبين اشارة إلى الاعتبار الثاني.

فان قيل : يلزم على ما ذكرت من علمه - تعالى - بالجزئيات على الوجه الجزئي أن يكون للواجب علم لا يتغيّر - وهو علمه بالاشياء المتقدّمة على الزمان والدهر - ؛ وعلم متغير - وهو علمه بالأمور الكائنة الفاسدة ، لأنّ الجزئيات الكائنة الفاسدة متغيرة ، فاذا علمها على الوجه الجزئي يجب أن يعلمها في كلّ وقت على ما هي عليه من التغيّر - ، والتغيّر في علمه - تعالى - مطلقا باطل ؛

قلنا : هذه الأشياء وإن كانت في ذواتها وبقياس بعضها إلى بعض متغيّرة لكنّها بالنسبة إلى الواجب في درجة واحدة في الحضور. وبعضهم التزم لزوم التغيّر في حضور الاشياء الكائنة الفاسدة وشهودها عند الواجب ، إلاّ انّه قال : انّ هذا التغيّر لا يوجب تغيرا في الذات ولا في العلم الكمالي الذاتي ، بل التغيّر إنّما هو في النسب والأوصاف الاعتبارية. / 140 DB / ومثل ذلك مثل من اطّلع على ما في كتاب دفعة ثمّ التفت إلى صفحة بعد صفحة ، فانّ العلم بما في الكتاب لا يتغيّر بحدوث تلك الالتفات.

وسيجيء لذلك زيادة بيان في موضعه.

ومنها : انّه لو كان علمه بالاشياء بالصور فتلك الصور إمّا أن تكون مكمّلة لذاته - تعالى - بحيث يكون ذاته - تعالى - بدونها ناقصة ويتوقّف ما هو كماله - المطلق أعني : علمه بالاشياء - عليها ؛ أو لا يكون كذلك ، بل يكون تلك الصور بعد تمامية ذاته المقدّسة عارضة لها وخارجة عنها على وجه اللزوم بأن يكون من مقتضيات ذاته التامّة من جميع الوجوه الكاملة في كلّ صفة وكمال. فعلى الأوّل يلزم احتياجه في علمه - الّذي هو الكمال المطلق - إلى الغير - أعني : تلك الصور السابقة على الأشياء ، الّتي تسمّى بالعناية

ص: 145

تارة وبالقضاء أخرى ، لأنّها زائدة ممكنة فهي مغايرة له تعالى ومع ذلك صارت كمالا له - تعالى اللّه عن ذلك - ؛ وعلى الثاني يلزم أن يعلم كلّ شيء في مرتبة ذاته مع قطع النظر عن جميع الاعتبارات ، فثبوت تلك الصور وعدمها / 143 MB / سواء ، بل عدمها واجب في هذا الباب ، فعلمه بالكلّ انّما هو بنفس ذاته سواء وجد أو لم يوجد.

ومنها : ما ذكره بعض الأعاظم ، وهو : انّه لو كان علمه - تعالى - بالاشياء بحصول صورها في ذاته فلا يخلو : إمّا أن تكون تلك الصور المرتسمة في ذاته لوازم خارجية له ؛ أو لوازم ذهنية ؛ أو لوازم له مع قطع النظر عن الوجودين ؛ لا سبيل إلى الأخيرين ، لأنّه ليس له - تعالى - إلاّ نحو وجود واحد هو عين ذاته - تعالى - وهو الوجود الخارجي ، وليس له وجود ذهني بمعنى حصوله في الذهن من الأذهان ومدرك من المدارك حتّى يعرض له اللوازم الذهنية - كالكلّية العارضة لطبيعة الانسان إذا حصلت في ذهن من الأذهان - ، وكذا ليس له ماهية زائدة على وجوده الخارجي حتّى يعرض له لوازم الماهية من حيث هي - كالزوجية للأربعة مع قطع النظر عن الوجودين - ،. فتعيّن أن تكون تلك الصور لوازم خارجية له. وهذا أيضا باطل ، لانّ اللوازم الخارجية لا تكون إلاّ حقائق خارجية وتلك الصور ليست كذلك ، لأنّها ليست حقائق خارجية ، فانّ الجواهر الحاصلة في ذاته - تعالى - ليست جواهر خارجية ، بل جواهر ذهنية ، وكذا الأعراض الحاصلة فيه - تعالى - ليست أعراضا خارجية ، بل اعراضا ذهنية وان كان الكلّ باعتبار أعراضا ، فانّ الجميع من حيث قيامه بالذهن وعدم استقلاله في الوجود يعرض له مفهوم العرض. وأنت خبير بأنّ بناء هذا الوجه على أنّ لازم الوجود الخارجى يشترط فيه أمران :

أحدهما : أن يكون ثبوته للملزوم في الخارج ، بمعنى أن يكون الخارج ظروف وجوده ؛

وثانيهما : أن يصدق عليه انّه حقيقة كذا خارجية كما يصدق على الحرارة أنّها حرارة خارجية ، وعرض خارجي وعلى الصورة النوعية مثلا أنّها صورة خارجية وجوهر خارجي ، والصور القائمة بذاته - تعالى - وان كانت ثابتة له - تعالى - في الخارج وكان الخارج ظرف وجودها إلاّ انّه يصدق عليها أنّها حقائق كذا خارجية فلا يصدق على

ص: 146

صورة الجسم المرتسمة في ذاته انّها جسم خارجي ولا انّها جوهر خارجي ، فلا تكون لوازم خارجية. وغير خفي انّ اشتراط الأمر الثاني في اللزوم الخارجي غير ظاهر ، وليس مصرّحا به في كلام القوم ، ولا يقتضيه دليل ولا برهان ؛ فانّ القدر الملخّص ممّا يعتبر في لوازم الوجود الخارجي كونها موجودا في الخارج بحيث يترتّب عليه الآثار الخارجية. ولا ريب في أنّ الصور المرتسمة في ذاته - تعالى - على فرض تحقّقها وارتسامها موجودة في الخارج كما انّ الواجب موجود فيه ، لانّ المحلّ إذا كان موجودا خارجيّا يكون حاله القائم به أيضا كذلك. ويترتّب عليها أيضا الآثار الخارجية لأنّها تصير بزعمهم منشأ لصدور الموجودات عنه ، وكلّ منها يصير سببا لارتسام أخرى. ولو اعتبر هذا الأمر في اللازم الخارجي لزم أن لا يكون شيء من الصور المرتسمة في النفس شيئا من اللوازم الثلاثة ؛ أمّا عدم كونها لوازم الماهية فظاهر ؛

وأمّا عدم كونها لوازم الوجود الخارجي فلما ذكر في الصور المرتسمة في ذاته - تعالى - بعينه ، لأنّها ليست حقائق خارجية ، فانّ صورة الجسم المرتسمة في النفس لا يصدق عليها أنّها جسم خارجي أو جوهر خارجي ، وقس عليها سائر الحقائق من الجواهر والاعراض ؛ وأمّا عدم كونها من لوازم الوجود الذهني فلأنّ لازم الوجود الذهني هو أن لا يتصف به الملزوم في الخارج أصلا ، وإذا / 141 DA / حصل في أي ذهن اتصف به فيه. ولا ريب في أنّ الصور المرتسمة في النفس يتصف النفس بها في الخارج والخارج ظرف وجودها ، وإذا حصلت النفس في أيّ ذهن ومدرك لا تحصل تلك الصور معها.

فان قيل : الصور المرتسمة في النفس ليست لوازم لها حتّى يجب أن يكون واحدا من اللوازم الثلاثة ، بل هى عوارض لها ؛ وحينئذ لا يرد النقض بها ؛

قلنا : لو سلّم ذلك نقول : انّ العوارض أيضا منحصرة في الاقسام الثلاثة ، ولا يخلو عارض عن أحدها ؛ والبيان المذكور يجري في عدم كونها شيئا من العوارض الثلاثة.

فالحقّ انّ الامر الثاني ليس شرطا في اللازم الخارجي ولا في عارضه. وقيام الشيء في ذات خارجية وكون الخارج ظرفا لوجوده يكفي في كونه لازما خارجيا أو عارضا كذلك ، ولو لم يكف ذلك لزم عدم كون شيء من الاخلاق والصفات القائمة بالنفس

ص: 147

أيضا من اللوازم أو العوارض الخارجية.

وبذلك يظهر انّ هذا الوجه غير ناهض لابطال العلم الحصولي.

ومنها : ما ذكره بعض الأعاظم أيضا ، وهو : انّه لو كان علم الواجب بالأشياء بارتسام صورها في ذاته لزم صدور الكثرة عن الواحد ، لانّ المعلول الأوّل يكون صدورها عن المبدأ على هذا المذهب مشروطا بسبق صورته مع أنّ حصول صورة المعلول الثاني في ذاته - تعالى - أيضا مشروط على هذا المذهب بسبق صورة المعلول الأوّل ، فيلزم / 144 MA / أن يكون الواحد الحقّ باعتبار صورة واحدة من جهة واحدة يفعل فعلين مختلفين - أعنى : ايجاد المعلول الأوّل في الخارج واثبات صورة المعلول الثاني في ذاته -.

فان قيل : لعلّ ذاته من حيث ذاته علّة لوجود المعلول الأوّل ومن حيث علمه بذاته علّة لحصول صورة المعلول الأوّل في ذاته ، ثمّ باعتبار المعلول الأوّل علّة لوجود المعلول الثاني وباعتبار ارتسام صورته علّة لحصول صورته ... وهكذا ؛ فلا يلزم صدور الكثرة عن الواحد ؛

قلنا : على هذا الفرض يكون وجود المعلول الأوّل وعلمه - تعالى - به في مرتبة واحدة لاتحاد مرتبة علّتهما - اعني : وجود الواجب بذاته وعلمه تعالى بذاته - ، فلا يتقدّم العلم حينئذ على الايجاد ، مع أنّ القائلين بالعلم الحصولي مصرّحون بتقدّمه عليه ويكون علمه - تعالى - بالأشياء علّة لوجودها.

وما هداهم إلى اثبات الصور في ذاته - تعالى - إلاّ كون علمه بكلّ شيء سببا لوجوده في الخارج عندهم ، فاذا لم تكن الصورة العقلية للمعلول الأوّل موجبا لوجوده - كما هو اللازم في الفرض المذكور - يبطل أصل مذهبهم.

وأيضا : إذا كان ذاته - تعالى - علّة لذات المعلول الأوّل وعقله لذاته علّة لعقله المعلول الأوّل فلا يخلو : إمّا أن يكون ذاته - تعالى - وعقله لذاته أمرا واحدا وحيثية واحدة ؛ أو لا يكون كذلك ،

فعلى الأوّل : يلزم التكثر في ذاته - تعالى - ، وهو باطل ؛

ص: 148

وعلى الثاني : يلزم أن يكون وجود المعلول الأوّل وعقل الواجب له شيئا واحدا وحيثية واحدة بلا اختلاف إلاّ بحسب العبارة لاتحاد علّيتهما ؛

وكذا يلزم اتحاد وجود المعلول الثاني وعقل الواجب أو المعلول الأوّل له من غير تغاير يقتضي مباينة احدهما للاول - تعالى - واستقلاله في الوجود ومقارنة الثاني له - تعالى - وحلوله فيه - كما هو كذلك عند القائلين بالعلم الصوري -.

ومنها : ما أورده بعض أفاضل المتألّهين في ابطال العلم الحصولي مطلقا - أي : سواء كان في علم الباري - سبحانه - أو علم النفس - ، وهو : انّه لو تحقّق علم حصولي لكان العلم إمّا نفس حصول الصورة أو نفس الصورة أو أمرا لازما لحصول الصورة ؛ والأوّلان باطلان - وإلاّ يصحّ أن يشتقّ من الحصول والصورة ما يتصف به الواجب أو النفس كالحاصل او المصوّر ويفيد ما يفيد العالم ، وليس الامر كذلك - ؛ والثالث أيضا باطل ، لانّ الصورة الّتي جعلوها ملزوما للعلم إمّا أن تكون مباينة لذي الصورة ، أو تكون مساوية له ؛ والأوّل يوجب كون المباين للشيء معرفا له ، وهو بديهى الفساد ؛ والثاني يوجب مساوات الصورة وذي الصورة في جميع اللوازم والذاتيات - لعدم ثبوت المساوات الكلّي بينهما بدون ذلك - ، وهو أيضا خلاف الواقع.

ومنها : انّ العلم بانكشاف ذوات الأشياء بوجوداتها العينية أتمّ في باب العلم من ارتسام صورها ، لانّ المعلوم بالذات والمنكشف بالحقيقة في العلم الصوري هو الصورة / 141 DB / دون الاعيان الخارجية. ولا ريب في أنّ العلم بذات الشيء ووجوده العيني أتمّ من العلم بصورته ، وحصول الأتمّ للواجب ممكن في حقّه ، فيجب اتصافه به دون الأنقص - لأنّه نقص في حقّه -.

ومنها : انّ القول بالعلم الصوري مناف للابداع - لانّه هو الايجاد من غير مثال - ، وعلى العلم الصوري يتحقّق ايجاد كلّ شيء بمثال محقّق قبله. وهو خلاف ما ثبت من شرائع الأنبياء ونصّ عليه ائمّتنا النقباء - عليهم افضل التحية والثناء - ؛ وفي الخبر عن الباقر - علیه السلام - انّه قال : انّ اللّه ابتدع الأشياء بعلمه على غير مثال كان قبله (1).

ص: 149


1- راجع : بحار الانوار ، ج 57 ص 85.

هذه هي الوجوه الّتي تدلّ على بطلان العلم الحصولي. وقد عرفت انّ اكثرها تامّة وهي كافية لاثبات المطلوب ، فعدم تمامية بعضها غير قادح. وبذلك يظهر انّ القول بالعلم الحصولي ظاهر الفساد.

ثمّ انّ القائلين به قد احتجّوا عليه بأن اللّه - تعالى - يعلم ذاته ، وذاته سبب تامّ للأشياء والعلم بالسبب التامّ للشيء يوجب العلم بذلك الشيء ، فذاته - تعالى - يعلم جميع الأشياء في الأزل ، فلا بدّ أن يكون لها فيه امّا الوجود العينى أو الصوري لتحقّق العلم فيه ، إذ لو لم يكن للأشياء وجود أصلا - لا عينا ولا صورة - لم يتحقّق العلم بها ، إذ العلم يستدعي التعلّق بين العالم والمعلوم سواء كان نفس التعلّق والاضافة أو صفة موجبة له ، والتعلّق بين العاقل والمعدوم الصرف محال - لاستلزام النسبة تحقّق الطرفين بوجه - ؛ لكن تحقّق الأشياء في الأزل بوجودها الخارجي محال - والاّ لزم قدم الحوادث ، وهو محال عند الكلّ - ، فبقى كونها موجودة بالوجود الصوري قبل وجودها الخارجي ، لا في الخارج مباينا عن ذاته - تعالى - ليلزم المثل الافلاطونية ، بل في ذات الباري ؛ وهو المراد بالعلم الحصولي.

وأورد عليه : بانّه منقوض بالقدرة الازلية المتعلّقة بالحوادث المقتضية لنسبة ما بين القادر والمقدور مع عدم توقّفها على وجود المقدور ضرورة.

واعترض عليه بأنّ مثل هذه النسبة - أي : الذاتية - بين القادر والمقدور لا يقتضي وجود الطرفين تحقيقا ، بل يكفي فيها الوجود / 144 MB / التقديري ، إذ النسبة مطلقا تقديرية.

والوجه أن يقال : النسبة وإن لم يقتض تحقّق الطرفين بالفعل ، لكن تحقّق العلم يقتضيه ، إذ العلم يستلزم انكشاف المعلوم عند العالم والمعدوم الصرف لا منزلة له أصلا حتّى يكون منكشفا ؛ انتهى.

واجيب عنه : بأنّ الفرق بين القدرة والعلم في حقّ اللّه - تعالى - بكون أحدهما يستدعى التعلّق دون الآخر غير صحيح ، لانّ صفاته الحقيقية كلّها معنى واحد وحقيقة واحدة هي ذاته الأحدية. ولا يجوز قياس قدرته - تعالى - على قدرتنا ، فانّ القدرة فينا

ص: 150

نفس القوّة واستعداد الفاعلية وفي الواجب محض الفعل والتحصيل - لبراءته عن شائبة الامكان والاستعداد - ، فوزان علمه وقدرته في تعلّقهما بالممكنات واحد من غير تفاوت ؛ انتهى.

أقول : غير خفي انّ كلّ واحد من العلم والقدرة قد يراد به ما هو مبدئه ، وقد يراد به المعنى الاضافي الّذي هو حقيقته ؛ فعلى الأوّل لا فرق بين العلم والقدرة ، لانّ مبدأ كلّ منهما هو الذات الاحدية ، فلا يتصوّر بينهما فرق بوجه ؛ وعلى الثاني نقول : لا ريب في أنّ المراد بالعلم بهذا المعنى هو الانكشاف ، والمراد بالقدرة إمّا امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات أو نفس الفعل أو الترك بالعلم أو المشيئة ، ولا ريب في انّ انكشاف جميع الاشياء عنده - أزلا وأبدا وجدت أو لم توجد - واجب ، لأنّ خلافه نقص في حقه - تعالى - ولو بالنسبة إلى بعضها في بعض الاوقات. فالانكشاف من الصفات الكمالية الّتي عدمها نقص وقصور ، فتحقّقها قبل وجود الاشياء أيضا لازم ؛ وامّا القدرة بمعنى نفس الصدور أو اللاصدور فيرجع إلى معنى الفاعلية وهي من الصفات الإضافية الّتي لا يلزم تحقّقها أزلا وأبدا ، بل تحقّقها في مرتبة الذات نقص وقصور لوجوب تأخّر المفعول عن الفاعل. فالقدرة بهذا المعنى لا يلزم وجودها للواجب في حال عدم الأشياء ، وفي حال وجودها يتحقّق وجود طرفي النسبة ، فلا يرد بها نقص مطلقا.

وأمّا القدرة بمعنى امكان الفعل والترك - ... إلى آخره - ، فهى ذاتيّة له - تعالى - في الأزل وتحقّقها قبل وجود المقدور لازم ، إلاّ أنّها لا تتوقّف على وجود المقدور ، لانّ كون الذات بحيث يصحّ منه صدور الشيء وعدم صدوره لا يتوقّف / 142 DA / على وجود هذا الشيء ، اذ وجود هذا الشيء في مرتبة القدرة مناقض لكونه متعلّق القدرة. غاية الامر أن يقال : انّ مقدورية الشيء يتوقّف على وجوده العلمى ، لانّ استواء نسبة الذات إلى فعل الشيء وتركه لا يتحقّق بدون تصور ذلك الشيء ، فلا بدّ من وجوده العلمي. إلاّ أنّ ذلك لا يوجب نقضا على توقّف العلم على الوجود العيني أو الصوري ، لانّ بعد تسليم ذلك غاية الأمر أن يكون العلم أيضا مثله ، فيتوقّف على الوجود الصوري.

وبذلك يظهر اندفاع الايراد المذكور على ما احتجّوا به لاثبات العلم الحصولي ، و

ص: 151

يتوجّه الاعتراض على الّذي نقلناه على الايراد المذكور ؛ ويندفع الجواب المذكور عنه.

وحينئذ فالجواب عن الاحتجاج المذكور : انّ غاية ما يدلّ عليه هذا الاحتجاج اقتضاء الانكشاف نحوا من الوجود للأشياء المنكشفة ، وهو لا ينحصر بالوجود الصوري ، فانّ القائلين بالعلم الحضوري يثبتون لها نحوا من الوجود قبل وجودها العيني ؛ وستعلم هذا النحو من الوجود على ما اخترناه ؛ هذا.

وقد استدلّ أيضا على انّ عالميته - تعالى - بالأشياء بارتسام صورها في ذاته : بأنّ الواجب لو تعقّل الأشياء من الأشياء ولم يكن متعقّلا لها قبل وجودها لكان وجوداتها متقدّمة على عاقليته - تعالى - لها ، ويكون في ذاته وقوامه أن يقبل معقولات الأشياء - أي : صورها العقلية - منها بعد أن كان فيه عدمها باعتبار ذاته ، فيكون ذاته بذاته عادما لمعقولات من شأنها حصولها له. ففيه اذن جهة امكانية ويكون لغيره مدخلية في تتميم ذاته ، فلا يكون الأوّل - تعالى - واجب الوجود من كلّ جهة. وقد تقرّر انّ واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات. وحينئذ فيجب أن يكون له من ذاته الأمر الأكمل لا من غيره ، فيكون علمه بالممكنات حاصلا له - تعالى - قبل وجودها.

والجواب : انّه لا ريب في وجوب تقدّم علمه - تعالى - على وجودات الأشياء إلاّ أنّ ذلك لا يوجب كون هذا العلم المتقدّم هو العلم الصوري ، فانّ القائلين بالعلم الحضوري أيضا يقولون بتقدّمه على وجود الأشياء ، وأمّا كيفية ذلك فيظهر بعد ذلك ؛ هذا.

وأعترض ابو البركات البغدادي على الاستدلال المذكور بأنّ قولهم : لو كان علمه مستفادا من الأشياء لكان لغيره مدخلية في تتميم ذاته ، منقوض بكونه - تعالى - فاعلا للأشياء ، فانّ فاعليته لها انّما يتمّ بصدور الفعل عنه ، فيجب أن يكون لفعله مدخل في تتميم ذاته ، وذلك باطل ؛ فيلزم نفي كونه - تعالى - فاعلا للأشياء ، فكما انّ هذا الكلام باطل فكذا ما قالوه ؛

وأجاب عنه بعض الأعاظم : بأنّ الفاعلية وكذا العلم والقدرة ونحوها قد يطلق ويراد بها نفس المعنى الاضافي - إذ لا شكّ في أنّها بهذا الاعتبار متأخّرة عن وجود ما اضيف / 145 MA / هي إليه ، لانّها مستفادة منه - ، وقد يطلق ويراد مبادي تلك

ص: 152

الاضافات ، وهي بهذا الاعتبار متقدّمة على وجود ما تعلّقت به. وليست تلك الصفات بالاعتبار الأوّل صفات كمالية لذات الواجب - تعالى - ، بل انّما هى صفات كمالية بالاعتبار الثاني ، ففاعليته الّتي هي صفات كمالية له - تعالى - هو كونه بحيث يتبع وجوده وجود جميع الأشياء الموجودة ، وعالميته بحيث ينكشف له الأشياء ؛ وعلى هذا فقس سائر الصفات الكمالية له - تعالى -. فكما انّ فاعليته الحقيقية لا تتوقّف على وجود الفعل - لأنّ وجود الفعل يتوقّف على كونه فاعلا - فلو تحقّق العكس أيضا لزم الدور ، فوزانه في علمه - تعالى - أن يجعل المعلوم تبعا للعلم لا العلم تبعا للمعلوم ؛ انتهى.

ولعلّك بعد الاحاطة بما ذكرناه آنفا تعلم ما في كلام أبي البركات ، وكلام المجيب المذكور من الاجمال والاخلال ، وتعرف منه في أمثال المقام جلية الحال ؛ هذا.

وربما أيّد القول بالعلم الحصولي بكلام انكسيمالس الملطي حيث قال : « انّ كلّ مبدع ظهرت صورته في حدّ الابداع فقد كانت صورته في علم مبدعه الأوّل ، والصور عنده غير متناهية » ؛ ثمّ قال : « ولا يجوز في الرأي إلاّ أحد القولين : إمّا أن نقول : ابدع ما في علمه ، وإمّا أن نقول : ابدع اشياء لا بعلمها ؛ وهذا القول من المستشنع ، وإن قلنا : ابدع ما في علمه فالصور ازلية بازليته ، وليس يتكثّر ذاته بتكثّر المعلومات ولا يتغيّر بتغيّرها ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الفيلسوف أوّل القائلين بالعلم الصوري ومجرّد قوله به / 142 DB / لا يصير حجّة أو تأييدا لحجّة. وأمّا استدلاله فانّك وان عرفت جوابه من المباحث المتقدّمة إلاّ أنّا نشير أيضا إلى ما أجاب به عنه بعض المحقّقين ؛ وهو انّه قال بعد نقل الكلام المذكور : ويرد عليه وجهان :

أحدهما : انّه لم يتعرّض لكيفية فيضان الصور من الذات بمعنى كونه بالعلم المقدّم أو لا ؛ وعلى الأوّل يرد عليه انّ العلم المقدّم الّذي هو عين الذات - دفعا للتسلسل - كافّ للعلم بالموجودات العينية ، فما الدليل على فيضان الصور العلمية قبل الايجاد العينى؟! ؛

وعلى الثاني يرد عليه : انّ هذا قول بأنّ اللّه - تعالى - ابدع اشياء لا بعلمها وهذا قول مستشنع - كما ذكره ذلك الفيلسوف - ؛

وثانيهما : انّه يرد عليه انّ هذه الصور إمّا جواهر أو اعراض ، فان كان الأوّل لزم أن

ص: 153

يكون موجودات عينية لا بدّ لها من صور اخر للعلم بها ، والكلام في ذلك كالكلام في أصل الصور ؛ وان كان الثاني لزم أن يكون واجب الوجود بالذات محلاّ لها وفاعلا لها ، والقول بأنّ الواجب ليس محلاّ لها - لكونه غير متأثّر عنها ، بل انّما هو فاعل لها - قول بكونها جواهر كباقي الممكنات. ولا خفاء أيضا في أنّ علم واجب الوجود باعتبار هذه الصور ليس علما كماليا ذاتيا لكونه تابعا لفيضان تلك الصور ، فعلى تقدير انحصار العلم المقدّم في فيضان الصور المنكشفة لزم أن لا يكون للذات علم هو كمال ذاتي غير تابع للتأثير ؛ انتهى.

وقد اعترض بعض العرفاء على هذا الجواب بوجوه قد ظهر اندفاعها من كلماتنا السالفة. وقد ظهر ممّا ذكر ظهورا بيّنا انّ المذهب الرابع - أعني : القول بالعلم الصوري - باطل.

وامّا المذهب الخامس - أعني : القول بأنّ علمه تعالى بأوّل معلولاته ليس بالصور الزائدة وعلمه بسائر المعلولات بالصور الزائدة القائمة به - ، فيرد عليه : انّ ايجاد أوّل المعلولات وكذا ايجاد صور باقي الممكنات المرتسمة فيه إمّا يكون مسبوقا بالعلم الحضوري الاشراقى أو لا ؛

فعلى الأوّل يلزم صحّة العلم الحضوري بالشيء قبل حضوره ، واذا صحّ ذلك فليجوّز ذلك في غير الجوهر الأوّل أيضا من الممكنات ، والفرق تحكّم ؛ مع انّه يلزم افتقار الواجب في علمه بغير المعلول الأوّل إلى غيره ، ويلزم جهله - سبحانه - بالنسبة إلى سائر المعلولات في مرتبة ذاته ؛

وعلى الثاني : يلزم أن لا يكون ايجاد بعض معلولاته مسبوقا بالعلم مع أنّ الفاعل المختار يجب أن يكون فعله مسبوقا بالعلم ، فيلزم نفي الاختيار بالنسبة إلى الجوهر العيني الأوّل ، بل بالنسبة إلى صورته في باقي المعلولات القائمة به ، لانّ الاختيار لا يوجد بدون العلم. والشيخ الرئيس قد أبطل هذا المذهب - على ما أشير إليه سابقا - بأنّ الصور المعقولة لو كانت مرتسمة في عقل ونفس لكانت من أجزاء النظام الّذي يعقل الأوّل - تعالى - ذاته مبدأ له ، فيجب أن يكون صدورها عنه على سبيل الخير - أي : على

ص: 154

سبيل ما إذا عقله خيرا أوجده - ، وننقل الكلام إلى ذلك التعقّل ويلزم التسلسل.

قال بعض المشاهير : ولعلّ الشيخ لم يختر هذا المذهب واختار العلم الحصولي لاعتقاده انّ فيه نفي الاختيار بالنسبة إلى الجوهر العينى الأوّل بناء على انّ الاختيار لا يوجد بدون العلم المتقدّم المحض مع المعلوم نحوا من الاتحاد. وهذا النحو من العلم لا يمكن القول به ، لأنّه لا يكون عين ذات الواجب عند أهل التنزيه ؛ وهو كما ترى.

ثمّ انّا قد أشرنا إلى انّ المحقّق الطوسى اختار هذا المذهب إلاّ انّه صرّح بكونه - تعالى - عالما بمعلولاته القريبة - أعني : العقول - وبصور سائر الممكنات المرتسمة فيها بالعلم الحضوري الانكشافي ، وبمعلولاته البعيدة بصورها القائمة بالقريبة ؛ فلا يرد عليه لزوم كون ايجاد المعلولات القريبة غير مسبوق بالعلم ، بل يرد عليه : انّه إذا جاز انكشاف المعلولات القريبة عنده - تعالى - قبل وجودها فلم لا يجوز ذلك في البعيدة أيضا؟! ، وأيّ داع إلى القول بالعلم الصوري فيها ليلزم افتقار / 154 MB / الواجب إلى غيره في الصفة الكمالية وعدم كونه عالما في مرتبة ذاته؟!.

قال بعض الاعاظم موردا عليه : والتعجّب من هذا العلاّمة مع تفطّنه لذلك الاصل المتين - أعني : جواز تعقّل الأشياء بأعيانها لا بصورها - كيف لم يتمّ اعماله في انكشاف جميع الأشياء الصادرة عنه بذواتها بل اقتصر فيه على انكشاف العقول والصور العقلية للأشياء الكلية والجزئية عليه - تعالى - وجعل الصور القائمة بالجواهر العقلية مناطا لعلم اللّه - تعالى - بالمادّيات. وهو غير مرضيّ ، / 143 DA / بل الحقّ اطراد الحكم بالانكشاف الشهودي على جميع الأشياء المبدعة الكائنة المعقولة والمحسوسة.

ثمّ إنّه على هذا المذهب كما يلزم كون الصورة المرتسمة في الجواهر العقلية مناطا لعلم الواجب بالأشخاص المادّية والحوادث الكونية كذلك يلزم كون الصور مناطا لعلم تلك الجواهر العقلية ، فيكون علم ما سوى الواجب من المجرّدات بالأشياء بحصول صورها فيه.

وعلى مذهب شيخ الاشراق - كما تقدّم ويأتي - انّ الواجب لذاته كما يدرك المجرّدات العقلية بالاشراق الحضوري كذلك يدرك الأمور المادّية أيضا بالحضور الانكشافي من غير أن يدركها بالصور الحاصلة في المبادي العقلية ، بل ارتسام الموجودات الكلّية في العقول

ص: 155

الفعّالة والقوى العالية باطل عنده وكذلك الجواهر العقلية يعرف كلّ واحد منها ذاتها بذاتها ويدرك جميع الموجودات الباقية الّتي دونها بالإضافة الاشراقية من غير احتياج إلى أن تكون فيه صورة.

وأمّا المذهب السادس - أعني : القول بعلمين الاجمالى والتفصيلى - ، فاعلم انّ بعض المتأخّرين لمّا ذهبوا إلى انّ علمه - تعالى - بما سواه من الأشياء أنما هو بحضور ذواتها لا بحصول صورها - لما فيه من المفاسد ، كما علمت - وظاهر انّ حضور الأشياء انّما يمكن حين وجودها لا قبلها ولا بدّ من القول بعلمه - تعالى - قبل الايجاد أيضا حتّى يتحقّق الاختيار ولقيام الادلة الشرعية أيضا عليه ، فاضطرّوا إلى اثبات علم اجمالي هو عين ذاته مقدّم على جميع الايجادات ، وقالوا : انّ الكمال انّما هو هذا العلم ؛ وأمّا التفصيلى فليس بكمال ، فلا ضير في احتياج الواجب فيه إلى غير ذاته المقدّسة.

والحقّ انّ القول بالعلم الاجمالي مع كونه من العلم الحضوري لا يختصّ بالقائلين بالحضوري ، فانّ القائلين بالعلم الحصولي - ومنهم الفارابى والشيخ وبهمنيار - اضطرّوا أيضا إلى العلم الاجمالي في اثبات علمه الكمالي ، فانّ كماله - تعالى - لا يمكن أن يكون بارتسام صور الموجودات فيه ، وإلاّ لزم احتياجه فيما هو كمال له إلى غيره - تعالى عن ذلك -. بل قالوا : كماله ومجده - تعالى - إنّما هو بالعلم الّذي هو عين ذاته ، وهو كونه بحيث يفيض عنه صور الأشياء معقولة مفصّلة - كما يأتى من كلام الفارابي وبهمنيار -.

ثم ما ذكروه في بيان العلم الاجمالى يحتمل وجهين :

الأوّل : أن يقال إنّ ذاته - تعالى - بمنزلة المجمل لجميع المعلومات لكون الجميع لازمة لذاته مندمجة فيه ، فاذا علم ذاته - تعالى - علم جميع الأشياء اجمالا ؛ كما انّ المعقول البسيط عندنا بمنزلة المجمل لجميع المعقولات المفصّلة ، فاذا علمناه علمناها اجمالا ؛

الثاني : أن يقال : انّ علمه - تعالى - اجمالا عبارة عن كونه في ذاته بحيث يصير منشأ لانكشاف جميع الموجودات - أي : كونه بحيث يصير منشأ لوجودها - ، فانّ الوجود هو الانكشاف. فكونه عالما عبارة عن تمكّنه من العلم والانكشاف لا عن الاستحضار بالفعل. والحاصل : انّ علمه الاجمالى بالأشياء قبل ايجادها على هذا الوجه عبارة عن

ص: 156

منشأيته للعلم التفصيلي وتمكّنه منه بأن يوجد الأشياء فيعلمها مفصّلة.

وعلى هذا فالتمثيل بالمعقول البسيط غير مناسب ، لانّ المعقول البسيط صورة علمية مطابقة لتلك المعقولات المفصّلة ، بل هي عينها بالذات ؛ وانّما التفاوت في نحوي الادراك بناء على ما حقّق من أنّ التفاوت بالاجمال والتفصيل ليس إلاّ في نحوي الادراك لا في ذات المدرك. وذاته - تعالى - بالنسبة إلى العلوم المفصّلة على هذا الاحتمال ليست بتلك المثابة ، بل هو علّة لتفاصيل تلك العلوم ومنشأ لحصولها ، وليس صورة مطابقة لها. وحينئذ فالتمثيل لمجرّد الاشتراك في المبدئية وان كان أحدهما من قبيل مبدئية الكلّ للأجزاء والآخر مبدئية الفاعل لمفعوله.

والاولى في التمثيل أن تمثّل بملكة العالم - الّتي هي ملكة استخراج العلوم المفصّلة - بالنسبة إلى تلك العلوم ، فكما انّ تلك الملكة علم اجمالي بجميع العلوم المفصّلة الحاصلة منها فكذلك علمه - تعالى - بذاته علم اجمالي بجميع الأشياء ؛ هكذا افاد بعض المحقّقين - أي : قرر العلم الاجمالى على الاحتمال الثاني -. ومثّل بملكة العالم حيث قال : « تقرير العلم الاجمالي انّ ذاته - تعالى - لمّا كان بذاته منشأ لفيضان جميع الموجودات عنه وكان علمه - تعالى - بذاته الّذي هو عين ذاته علّة لجميع الموجودات وانكشافها له ولا حاجة له في ذلك إلى أمر مغاير لذاته بل انكشافه لذاته منشأ لجميع الانكشافات كان نسبة علمه - تعالى - بذاته إلى العلم بجميع الموجودات المنكشفة بذواتها كنسبة ملكة العالم - وهي ملكة استخراج العلوم المفصّلة - إلى تلك العلوم ، وكما انّ تلك الملكة علم إجمالي بجميع تلك العلوم المفصّلة فكذلك علمه - تعالى - بذاته علم اجمالي بجميع العلوم المتعلّقة بذوات الأشياء وصفاتها الفائضة عن ذاته - تعالى -.

ثمّ التحقيق انّه لا يتحقّق / 146 MA / في الوجه الثاني / 143 DB / الاجمال والتفصيل حقيقة. بيان ذلك : انّ الاجمال والتفصيل وصفان للادراك ، وهما قد يتحقّقان في المحسوسات - كما إذا رأينا عشرة اشخاص دفعة ، فهذه الرؤية قد وقعت على جميع تلك الأشخاص حقيقة وهي مرئية بالحقيقة ، لكن بعنوان الاجمال ، ثمّ إذا التفتنا مرّة أخرى إلى كلّ شخص شخص بخصوصه فيكون كلّ شخص مرئيا بعنوان التفصيل ، و

ص: 157

المعلوم في الصورتين واحد والعلم الاحساسي متعدّد ؛ - وقد يتحقّقان في المعقولات ، كما إذا حصل لنا علم تعقّلي بشيء من غير أن نحلّله إلى أجزائه وجزئياته ونستخرج شقوقه وفروعه ومحتملاته ، ومن غير أن نرد ما يحتمل أن يورد من الشكوك والشبهات ولكن كان بحيث تمكّنا على ذلك ، ولو شكّك علينا مشكّك كنّا قادرين على جوابه بلا تجشّم كسب جديد. فالعلم السابق على التشكيك اجمالي بالقياس إلى ما يحدث بعد التشكيك بلا كسب ، والمعلوم في الصورتين واحد والعلم متعدّد. فالعلم الاجمالي مبدأ وسابق على العلم التفصيلى والعلم التفصيلى متأخّر ، فلا يكون العلم التفصيلي في مرتبة العلم الاجمالي ؛ لأنّ التفصيلي مرتّب على الاجمالي ، الاّ أنّ المعلوم فيهما واحد.

وإذا عرفت ذلك نقول : انّ التمكّن من الادراك - الّذي هو العلم الاجمالي على الوجه الثاني - ليس ادراكا حقيقة ولم يعلم منه شيء حتّى يتحقّق ادراكان يكون المعلوم فيهما واحدا ، فاطلاق الادراك على المنشئية والمعلومية على ما من شأنه أن يعلم حينئذ على التجوّز.

ثمّ انّ أكثر المتأخّرين جزموا في مقام بيان العلم الاجمالي بالوجه الثاني ، وحملوا ما ورد عليهم من عبارات القوم عليه. قال العلاّمة الخفري : « وليعلم انّ لواجب الوجود علمين : أحدهما علم اجمالي ، وهو عين ذاته - تعالى - وهو كونه باعتبار ذاته بحيث يصير منشأ لانكشاف جميع الموجودات » ، قال بهمنيار : « بيان ذلك : انّ حقيقته حقيقة تصدر عنها مفصّل المعقولات كما انّ المعقول البسيط عندنا علّة للمعلومات المفصّلة ، لكن المعقول البسيط عندنا موجود في عقولنا وهناك نفس وجود ومعنى المعقول البسيط هو انّه كما يكون بينك وبين انسان مناظرة فاذا تكلّم بكلام كثير خطر ببالك جوابه ، ثمّ تفصّله شيئا بعد شيء إلى أن تملأ دستة كاغذ ، بل ما عنده أشدّ تجريدا من المعقول البسيط لأنّ ما عنده سبب لانكشاف الأشياء - وهو ذاته البسيط البحت الّذي لا تكثّر فيه أصلا - ، بخلاف المعقول البسيط فانّه مركّب ؛ وانّما يوصف بالبساطة بالإضافة إلى التفاصيل الّتي تحصل بعد التحليل ؛ انتهى كلام بهمنيار بأدنى توضيح.

ثمّ قال العلاّمة : « ففي الشهود العلمي الكمالي كان ذاته - تعالى - عالما بذاته وبجميع

ص: 158

الممكنات وعلما ومعلوما ، والتغاير بين هذه المعانى انّما هو بالاعتبار ». وإلى هذا اشار الفارابى حيث قال : « واجب الوجود مبدأ كلّ فيض وجود وهو ظاهر ، فله الكلّ من حيث لا كثرة فيه ، فهو من حيث هو ظاهر ينال الكلّ من ذاته ، فعلمه بالكلّ بعد علمه بذاته وعلمه بذاته نفس ذاته ، فكثرة علمه بالكلّ كثرة بعد ذاته ويتحد الكلّ بالنسبة الى ذاته ، فهو الكلّ في وحدته » (1) ؛ انتهى.

وغير خفي انّ قول الخفري : « وهو كونه باعتبار ذاته - ... الى آخره - » ظاهر الانطباق على الوجه الثاني. وقوله : « علما ومعلوما » ، قيل : انّما يستقيم بالنسبة الى الممكنات بناء على الوجه الأوّل دون الثاني ، ووجهه ظاهر. نعم ، بالنسبة إلى ذاته يستقيم مطلقا.

وأنت خبير بانّه على الوجه الأوّل لا ريب في كون ذاته - تعالى - عالما ومعلوما ، لانّ حضور ذات العلّة حينئذ بعينه حضور ذات المعلولات على سبيل الاجمال ، فانّ ذات الواجب - تعالى - بهذا الاعتبار عين المعلومات على سبيل الاجمال ، فكان عالما ومعلوما ، فلا يغاير العالم المعلوم ، فكان ذات الواجب مجمل ما يصدر عنه مفصّلا حتّى أنّ الوهم ربما يذهب إلى أنّ هذه الحقائق المتعدّدة اتّحدت بحسب حضور ذواتها في ذات الواجب. وهذا معنى قول المعلم الثاني : « فهو الكلّ في وحدته ».

وأمّا كونه علما فيصحّح بأحد التوجيهين في عينية صفاته - أعني : كون ذاته - بذاته من غير قيام صفة العلم به منشأ لانكشاف جميع معلولاته - أي : نائبا مناب هذه الصفة أو كونه فردا من العلم - ؛ وقد عرفت انّ الحقّ في ذلك ما ذا.

وأمّا على / 144 DA / الوجه الثاني فلا ريب في أنّ المعلومات حينئذ خارجة عن ذاته ، فيكون عند العلم بها عالما لا معلوما. وأمّا كونه علما فكما تقدّم في الوجه الأوّل.

وإذا علمت ذلك فيظهر حال ما أورد على العلم الاجمالي بانّه عند القائل به عين ذاته - تعالى - وعلى التحقيق العلم عين المعلوم بالذات ومغاير له بالاعتبار فكيف يكون علمه - تعالى - بالممكنات عين ذاته - تعالى - مع تخالف الحقيقة الواجبية والممكنة

ص: 159


1- راجع : فصوص الحكم ، الفص 12 ؛ نصوص الحكم ، ص 53.

بالذات؟! ، لانّه على القول بالاجمالى على الاحتمال الأوّل يتحد العالم والمعلوم - لانطواء جميع الاشياء في ذاته - ؛ فيندفع الايراد المذكور.

ثمّ ما ذكر في هذا الايراد من انّ العلم عين المعلوم بالذات ففيه : انّ العلم - كما يأتي - يطلق على معان ثلاثة :

الاضافة الاشراقية ؛

والحاضر بالذات ؛

والملكة الّتي يقتدر بها على استحضار المعلومات. وما هو عين المعلوم بالذات هو المعنى الثاني وهو ليس عين ذاته إلاّ في العلم الاجمالى وفي علم الشيء بذاته. فاطلاق / 146 MB / القول بعينية العلم للمعلوم ليس بصحيح. وأمّا ما نقله عن بهمنيار فظاهره منطبق على الوجه الأوّل. كما يدلّ عليه تمثيله ، لانّ المعقول البسيط صورة مطابقة للمعقولات المفصّلة بل هو عينها ، والتفاوت انّما هو في نحوي الادراك ، فهو بمنزلة المجمل لجميع المعقولات المفصّلة ، وليس هو علّة ومنشأ لها ، وما هو العلّة والمنشأ لها لا يكون منطبقا عليها. وبالجملة الظاهر من تشبيه الواجب بأصل الجواب المجمل لا بالقوّة والتمكّن على الجواب انّه لا يكتفي في العلم الاجمالي بما فهمه الخفري من انّه هو مبدأ الانكشاف والقوّة عليه - كالقوّة على الكتابة والتمكّن عليه من غير أن يباشر شيئا منهما -. فان الظاهر من كلام بهمنيار انّه جعل ذاته - تعالى - بمنزلة مجمل الموجودات ، فوجوده حقيقة وجد في الجملة للموجودات ، فانكشاف ذاته على ذاته انكشاف للموجودات في الجملة ، كالجواب المجمل فان حضوره في الذهن حضور للمفصّل في الجملة ، فلا يكتفي بمحض القوّة والتمكّن. فالظاهر حمل عبارة بهمنيار على الاحتمال الأوّل - كما فعله السيد الداماد -. والقول بأنّ التمثيل لمجرّد الاشتراك في المبدئية وان كان أحدهما من قبيل مبدئية الكلّ للأجزاء والآخر مبدئية الفاعل لمفعوله - كما أشير إليه آنفا - بعيد جدّا.

وامّا عبارة الفارابى فلا بدّ انّ نوضحه حتّى يظهر أنّها منطبقة على الاحتمالين ؛ فنقول : قوله : « واجب الوجود مبدأ كلّ فيض » معناه ظاهر. وقوله : « وهو ظاهر » أي : واجب الوجود ظاهر بذاته على ذاته. وفي بعض النسخ : « وهو ظاهر بذاته » وهو أظهر ،

ص: 160

أي : منكشف عند ذاته بمعنى انّه عالم بذاته. وقوله : « فله الكلّ من حيث أنّه لا كثرة فيه » أي : بالحضور العلمي كما انّ منه الكلّ بالوجود العينى. والغرض انّه عالم بالكلّ ، وذلك لأنّه لمّا كان مبدأ لكلّ وجود وعالما بذاته والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول فيكون عالما بالكلّ. لكن بحيث لا كثرة فيه ، لانّ علمه بالكلّ على سبيل الاجمال ، كما عرفت من انّ علمه بالكلّ منطو في علمه بذاته ؛ إمّا لانّ ذاته بمنزلة المجمل لجميع المعلومات ، فعلمه بذاته يوجب العلم بالجميع ، بل هو عينه ؛ وإمّا لانّه منشأ لجميع الموجودات ، فهو متمكّن عن العلم والانكشاف. وحينئذ فقوله : « فله الكلّ » أي : التمكّن من العلم بالكلّ. فهذه العبارة يمكن حملها على كلّ من الوجهين وان كانت أكثر انطباقا على الوجه الأوّل. و: « قوله فهو من حيث هو ظاهر ينال الكلّ من ذاته » أي : هو من حيث هو عالم بذاته يعلم الكلّ من ذاته ؛ أي : يكون علمه بذاته هو بعينه علمه بالكلّ بناء على الوجه الأوّل أو يتمكّن من ذاته العلم بالكلّ لكون ذاته مبدأ لظهور الكلّ. وهذه العبارة أيضا يمكن حملها على كلّ من الاحتمالين وان كان حملها على الأوّل أظهر ، للزوم حمل العلم على مبدئيته له بناء على الاحتمال الثاني ، وهو خلاف الظاهر. وكلام المعلم الثاني الى هنا ينطبق على العلم الاجمالي بأحد الوجهين. وامّا قوله : « فعلمه بالكلّ بعد ذاته » - وفي بعض نسخ الفصوص : « بعد علمه بذاته » - وقوله : « وكثرة علمه بالكلّ كثرة بعد ذاته » ، فلا مدخلية لهما بالعلم الاجمالي ، بل هما ظاهران فيما هو المشهور / 144 DB / من مذهب الفارابى والشيخ من كون علمه - تعالى - بالكلّ بحصول الأشياء في ذاته ، إذ العلم الاجمالى بالأشياء ليس بعد العلم بالذات لاتحادهما ، وكذا ليس في العلم الاجمالى بالأشياء كثرة فضلا عن الكثرة الحاصلة بعد الذات ، بل البعدية عن الذات والكثرة انّما يتحقّقان في العلم الصوري. وايراد الفارابى العبارتين في العلم الصوري مبني على انّه لمّا اشار في العبارة الاولى إلى بعديته فربما يتوهّم انّ ما هو بعد الذات - أعني : العلم الصوري - علم وحداني بسيط ، فاشار في الثانية إلى انّ ما هو بعد الذات كثرة.

فما قيل - كما يأتي - : انّ المراد من العلم في الاولى العلم الاجمالى - بالتوجيه الّذي يذكر - دون العلم التفصيلى الصوري ، والمراد منه في الثانية التفصيلى إذ لو حملت الاولى أيضا

ص: 161

على التفصيلى لزم الاعادة والتكرار ؛

ليس على ما ينبغي ، مع استلزامه لتأويل بعيد - كما يأتي -.

ولا يخفى انّ ذلك - أي : انطباق هاتين العبارتين على العلم الحضوري - غير مضرّ لغرض من اسند القول بالعلم الاجمالي إلى المعلم الثاني ، لأنّا أشرنا إلى أنّ القول بالعلم الاجمالي ليس مخصوصا بالقائلين بالعلم الحضوري ، بل القائلون بالعلم الحصولي - كالفارابى والشيخ وبهمنيار - أيضا مثبتون له - تعالى - العلم الاجمالي الكمالي ، فانّهم يقولون : انّ له - تعالى - علما اجماليا بالاشياء بأحد الوجهين في مرتبة الذات وهو علم بسيط لا تكثّر فيه أصلا ؛ وليس بعد مرتبة الذات ، بل هو عين العلم بالذات. وله أيضا علم تفصيلي بالأشياء بحصول صورها في ذاته ، وهو متكثّر وبعد العلم بالذات ، وتكثّره غير موجب للنقض لأنّه ليس كمالا ؛ وقد عرفت الحقّ في ذلك.

والقائلون بالعلم الحضوري أيضا يقولون : انّ للواجب علما اجماليا بالاشياء في مرتبة الذات لا تكثّر فيه أصلا ، وعلما تفصيليا بها بحضور ذواتها عنده ؛ ويقولون : هذا العلم بعد الذات لتوقّفه على وجود الأشياء في الخارج. فالمعلم الثاني لمّا أشار في أوائل كلامه إلى العلم الاجمالي وكونه عين ذاته فكانّه قيل له : انّ علمه بالكلّ انّما هو بارتسام الصور المتكثرة عندكم فكيف يكون عين ذاته؟! ؛ فاشار الى دفعه بأنّ العلم المتكثّر ليس عين ذاته بل هو بعد ذاته وما هو عين ذاته ليس إلاّ العلم الوحداني الاجمالى البسيط فالمراد من الكثرة في قوله : « فكثرة علمه بالكلّ - ... الى آخره - » هو الكثرة بحصول صور الأشياء لا الكثرة بحضور الأشياء بأنفسها ، لما ثبت من قوله بالعلم الحصولي. وقوله : « وعلمه بذاته نفس ذاته » معناه ظاهر. وفي بعض نسخ الفصوص لم يوجد قوله : « نفس ذاته » ، وحينئذ يكون قوله : « وعلمه بذاته » مجرورا معطوفا على ذاته في قوله : « بعد ذاته » أي : فعلمه بالكلّ بعد ذاته وبعد علمه بذاته. وهذا أولى ، إذ ليس هنا موضع بيان كون علمه بذاته نفس ذاته ، فلا تقريب. اللّهم إلاّ على النسخة الّتي بدّلت « بعد ذاته » : « بعد العلم بذاته » ، فانّه / 147 MA / حينئذ لمّا لم يثبت منه كون علمه بالكلّ بعد ذاته أشار إلى انّ علمه بذاته نفس ذاته ، فاذا كان علمه بالكلّ بعد علمه بذاته أيضا ، فيكون مفاد هذا

ص: 162

الكلام مفاد النسختين معا ، ويحصل التقريب ؛ هذا.

وقيل : المراد من العلم في اولى العبارتين - أعني : قوله « فعلمه بالكلّ بعد ذاته » - العلم الاجمالي ، والمراد من البعدية : البعدية بحسب الاعتبار ، إذ لا شكّ انّ اعتبار كونه علما بعد اعتبار الذات ، من حيث الذات والمراد منه في ثانيتهما - أعني : قوله « وكثرة علمه » - إلى العلم التفصيلى.

وقيل : قوله : « بعد ذاته » ليس خبرا لقوله : « فعلمه بالكلّ » ، بل هو صفة للكلّ. وقوله : « نفس ذاته » خبر لكلّ من العلمين - أعني : فعلمه بالكلّ وعلمه بذاته -. والمعنى انّ علمه بكلّ الأشياء الّتي وجودها بعد وجود ذاته ، وكذا علمه بذاته نفس ذاته فتكون العبارة الاولى واردة لبيان العلم الاجمالي ؛ وامّا الثانية - أعني : « فكثرة علمه ... إلى آخره » - لبيان التفصيلى.

ولا يخفى انّه مع بعد هذا التوجيه واستلزامه خلاف الظاهر في قوله : « بعد ذاته » ، يرد عدم التقريب ، إذ ليس هنا موضع بيان كون علمه بالكلّ وعلمه بذاته نفس ذاته.

وقيل : المراد من العبارة الاولى هو ما ذكر في التوجيه الأخير - أي : علمه بالكلّ الّذي بعد ذاته وعلمه بذاته نفس ذاته - ، فيكون علمه بذاته وبجميع معلولاته علما واحدا حقيقة من دون تكثّر فيه الاّ بالاعتبار. والمراد من الكثرة في العبارة الثانية - أعني : « فكثرة علمه ... الى آخره » - هو الكثرة الاعتبارية - أي : فكثرة علمه بالاعتبار كثرة بعد الذات بالاعتبار فتكون العبارتان واردتين لبيان العلم الاجمالي ، اذ هما أو الثانية لبيان العلم الحضوري التفصيلى. فان هذا القائل اعتقاده انّ جميع اساطين الحكمة - حتّى الفارابى والشيخ - قائلون بالعلم الحضوري.

وقيل : المراد من العلم المعلوم مجازا ، وحينئذ يكون المراد من الكثرة الكثرة الحقيقية ، لأنّ المعلومات متكثرة حقيقة ، فيكون المراد من العبارة الاولى : انّ وجود الكلّ المعلوم بعد ذاته ، ومن الثانية : انّ كثرة معلوماته كثرة حاصلة بعد ذاته.

وغير خفيّ انّ جميع / 145 DA / هذه التوجيهات تكلّفات باردة وتعسّفات بلا فائدة. وأيّ داع إلى هذه التأويلات البعيدة بعد القطع بأنّ هذا الفيلسوف يثبت العلم الاجمالي و

ص: 163

التفصيلي الصوري معا؟!. وقد نشير إلى انّ بهمنيار مع تصريحه بثبوت العلم الاجمالي - كما مرّ - اثبت العلم الصوري أيضا ، فالصحيح في حمل العبارتين ما ذكرناه أوّلا.

قوله : « ويتحد الكلّ بالنسبة إلى ذاته » ، ظاهره ينطبق على الاجمالي ، وربما كان الاحتمال الأوّل منه أظهر. ويمكن حمله على التفصيلى أيضا ، أي : ويتحد الكلّ بالنسبة إلى ذاته في انّ له - تعالى - علما بجميعها من غير أن يوجب تكثرا في ذاته ، لانّ صدورها على ترتيب سببي ومسببي ، فلا يوجب تكثرا في أصل الذات ، بل في الأمور العارضة - كما تقدّم.

قيل : وقوله : « بالنسبة الى ذاته » مؤيّد الحمل على التفصيلي ، إذ لو كان المراد العلم الاجمالي لكان ينبغى أن يقال : ويتحد الكلّ في ذاته. قوله : « وهو الكلّ في وحدته » رجوع إلى أوّل الكلام - أعني : بيان العلم الاجمالى - وحديث العلم التفصيلي وكثرته وقع في البين لدفع دخل مقدّر - كما اشرنا إليه -. ومعناه : وهو كلّ الأشياء حالكونه واحدا لا تكثّر فيه. وهو ظاهر الانطباق على الوجه الأوّل من العلم الاجمالي ، وحمله على الوجه الثاني - بانّ المراد انّ الواجب هو الكلّ ، أي : عالم بالكلّ ومبدأ له في حال كونه في وحدة ، إذ الكلّ كلّ في وحدة ، أي : معلوم لذاته الأحدي - بعيد جدّا. وحمله على العلم التفصيلي بأنّ المراد : فله الكلّ حالكون ذلك الكلّ واحدا بالنسبة إلى ذاته فانّ له - تعالى - علما به من غير لزوم تكثّر في ذاته ، أبعد.

وقد ظهر من هذه العبارة انّ مراد الفارابى « من العلم الاجمالي » هو الاحتمال الأوّل - كما ظهر ذلك من عبارة بهمنيار أيضا -.

فان قلت : يمكن أن يحمل جميع عبارات الفارابى الّتي حملتها على العلم الاجمالي تأسّيا بالقوم على أنّ المراد منها بيان كون جميع الأشياء لوازم ذاته وانطواء الجميع في ذاته ، وبالجملة كونه مجمل الأشياء من غير دلالة شيء منها على كونه عالما بها على الاجمال ؛ وحينئذ يكون مراده من هذه العبارات اثبات هذا المطلوب. ومن العبارات الّتي حملتها على العلم الصوري هو اثبات العلم الصوري ، لبعد حملها على الحضوري الانكشافي. ويكون غرضه : انّه لمّا كان الواجب - تعالى - مجمل الأشياء وكان مندمجة فيه وهو كلّ الأشياء

ص: 164

من دون لزوم كثرة فيه يكون علمه الصوري ناشئا عن ذاته لا مستفادا عن غيره ، وحينئذ أيّ داع إلى نسبة العلم الاجمالي إليه مع استلزامه لبعض المفاسد؟! ؛

قلت : الباعث لحمل تلك العبارات على العلم الاجمالي إنّه إذا ثبت منها انّه مجمل الاشياء وانّه ينال الكلّ من ذاته وانّه كلّ الأشياء فيفهم منها علمه - تعالى - بهذا الكلّ نظرا إلى كونه - تعالى - عالما بذاته ، ولا يمكن أن يكون هذا العلم عنده تفصيليا حضوريا - لتصريحه بالعلم الصوري التفصيلى - ، فلا بدّ أن يحمل على الاجمالي مع انّه صرّح في موضع آخر من الفصوص بما يدلّ على اثباته علمين للواجب حيث قال : « علمه الأوّل لا ينقسم ، وعلمه الثاني عن ذاته إذا تكثّر لم تكن الكثرة / 147 MB / في ذاته ، بل بعد ذاته » (1) ؛ انتهى.

ووجه الدلالة ظاهر ؛ هذا.

وقال بعض أهل التحقيق : انّ هذه العبارة ظاهرة الانطباق على ما ذهب إليه المعلم الأوّل في اثولوجيا من انّ البسيط ما لا تركيب فيه بوجه أصلا ونعنى بالواجب - تعالى - كلّ الوجود. وبيانه - على ما ذكره بعض العرفاء المحقّقين - هو : انّ كلّ ما هو بسيط الحقيقة فهو بوحدته كلّ الأشياء ، ولا يخرج عنه شيء منها إلاّ ما هو من باب النقائص والاعدام والامكانيات ، فانّك إذا قلت « ج » ليس « ب » فحيثية كونه « ج » ان كانت بعينها حيثية انّه ليس « ب » حتّى يكون « ج » نفسه مصداقا لهذا السلب بنفس ذاته فكانت أمرا عدميا ، ولكان من عقل « ج » عقل ليس « ب » ، لكن التالى باطل ، فالمقدّم كذلك. فيثبت انّ موضوع الجيميّة مركّب الذات ولو بحسب الذهن من معنى وجودي به يكون « ج » ومن معنى عدمى به يكون ليس « ب » ، أي : ممّا هو سبب لهذا الامر العدمي من قوّة أو استعداد. فعلم انّ كلّ ما سلب عنه أمر وجودي فهو غير بسيط الحقيقة مطلقا ، وتعلم بعكس نقيضه انّ كلّ بسيط الحقيقة مطلقا فغير مسلوب عنه أمر وجودي ، فيثبت انّ البسيط كلّ الموجودات من حيث الوجود والتمام لا من حيث النقائص والاعدام ولهذا ثبت علمه بالموجودات علما بسيطا وحضورها عنده على وجه أعلى واتمّ.

ص: 165


1- راجع : فصوص الحكم ، الفص 15 ؛ نصوص الحكم ، ص 68.

وتوضيح ذلك : انّ واجب الوجود / 145 DB / لمّا كان عين حقيقة الوجود بحيث لا يشوبه نقص ولا عدم ولا قصور ولا ماهية ولا تركيب بوجه من الوجوه - بل هو صرف الوجود ومحض الخيرية وعين الكمال - وكلّ وجود أو كمال وجود إنّما هو يفيض عنه ويرشّح منه ، فكلّ وجود وكمال وجود انبسط على هياكل الممكنات وقوابل المهيات مشوبا بالعدمات ومخلوطا بانتقاض في ضمن الكثرات بجميعها مجتمع في واجب الوجود على نحو التمام والكمال غير مشوب بالنقيصة والزوال في ضمن وحدته الحقّة ، فلو سلب عنه الشيء فانّما هو باعتبار نقصه وقصوره ومهيته لا باعتبار خيريته وكماله ووجوده ، فانّ كلّ موجود غير واجب الوجود ليس صرف الوجود ومحض الخيرية ، بل مشوب بالنقص والقصور والماهية والامكان. فاذا قيل : « الواجب ليس بجسم » فالمسلوب عنه ليس الاّ نقص الجسمية وقصور المادّة ، لا غير. وكذا اذا قيل : « ليس بجوهر ولا بعرض ولا بفلك ولا بعنصر - ... الى غير ذلك - » فالمسلوب ليس الاّ نقيصات تلك الحقائق ومهيات تلك الوجودات ، فانّ ذاته - تعالى - لو كانت بذاته مصداقا لسلب شيء من تلك الوجودات من حيث هو وجود وحقيقة لزم أن لا تكون ذاته - تعالى - عين حقيقة الوجود وصرف طبيعته ، فانّ حقيقة الشيء وطبيعته لا تكون مصداقا لسلب شيء من افراد ذلك الشيء وإلاّ لم تكن طبيعة ذلك الشيء. وذلك هو التوحيد الوجودي فاعرفه إن كنت أهلا لذلك! ؛ انتهى.

وغير خفيّ انّ ما ذكره بعض العرفاء يحتمل وجهين :

أحدهما : انّ الواجب لمّا كان صرف الوجود وتأكّده ووجودات الأشياء وجودات مشوبة بالقوة والعدم فائضة منه ، وهذه الوجودات المشوبة بالعدم إذا فرض تحليلها الى وجودات صرفة وعدماتها يكون وجود الواجب مشتملا على تلك الوجودات الصرفة. يعنى : انّ وجوده لمّا كان فوق التمام فيشتمل على كلّ مرتبة دونه مع الزيادة من غير أن يكون عين سائر المراتب ، بمعنى أنّه إذا حلّل الأشياء الموجودة إلى وجوداتها الصرفة واعدامها كان وجودها عين الواجب. وذلك كما انّ السواد الأشدّ يشتمل على جميع السوادات الّتي تحته مع الزيادة من غير أن يكون الاشدّ عين سائر المراتب ؛ فاذا قلنا : انّ

ص: 166

السواد الأشدّ كلّ السوادات ، يكون المراد : انّ كلّ مرتبة دون الاشدّ يوجد في الأشدّ مع الزيادة ، لا أن يكون الأشدّ عين باقي المراتب.

وثانيهما : أن يكون المراد انّ وجود الواجب هو عين وجودات الممكنات إذا خلصت عن أعدامها.

وأنت خبير بأنّ مبنى الوجه الأوّل على كون الوجود مقولا بالتشكيك ، وكون وجود الواجب فردا أقوى وأشدّ منه ؛ ومبنى الثاني على وحدة الوجود بل الموجود ؛ والقول بكلّ منهما يشتمل على مفاسد ، وقد بينّا ذلك بما لا مزيد عليه في رسالتنا المسمّاة « بقرّة العيون ».

فالحقّ انّ مراد المعلّمين من انّ الواجب كلّ الوجود مع وحدته البسيطة الصرفة : أنّ جميع الوجودات لوازم ذاته ورشحات وجوده وهو علّة تامة لها ، وهى ناشئة صادرة عنها ، وهو كلّ الأشياء في الشهود العلمي بمعنى انّ حضور ذاته عند ذاته هو حضور الأشياء ، بل هو في انكشاف الأشياء أقوى من حضورها بانفسها. فمن قال : انّ الاشياء عين الواجب أراد بالعينية العينية باعتبار الشهود العلمي وباعتبار ملزوميته وعليته لها وانطوائها فيه اجمالا وهذا المعنى هو مرادهم من قولهم : انّه مجمل الأشياء او كلّها ، لا أن تكون تلك الوجودات عين وجود الواجب بعد تخليصها عن عدماتها الامكانية أو يكون وجود الواجب مشتملا عليها مع الزيادة ، لانّه إن تحقّق / 148 MA / حينئذ بين وجود الواجب وسائر الوجودات ما به الاشتراك وما به الامتياز لزم التركيب ؛ وإن لم يكن بينهما ما به الامتياز أصلا لزم وحدة الوجود ؛ وإن لم يكن بينهما ما به الاشتراك بل كانا متخالفين بانفسهما لم يكن لاشتمال وجود الواجب على سائر الوجودات معنى.

وبالجملة قد ظهر من كلام الفارابي انّه قائل بالعلم الاجمالي الكمالي المقدّم على الايجاد على الاحتمال الاوّل على - الظاهر - ، وبالعلم التفصيلى الصوري.

وإذا عرفت ذلك فاعلم! انّ مذهب بهمنيار أيضا ذلك. امّا قوله بالعلم الاجمالى فقد عرفت من كلامه المنقول ؛ وأمّا قوله بالعلم الصوري فانّه قال : « فاذا كان واجب الوجود يعقل ذاته فيعقل أيضا لوازم ذاته ، وإلاّ ليس يعقل ذاته بالتمام وبالكنه أو

ص: 167

بالجهة الّتي بها صارت علّة لملزوماتها ، وكلاهما في الواجب واحد لتنزهه عن تعدد الجهات واللوازم التى هى / 146 DA / معقولاته وان كانت اعراضا موجودة فيه فليس مما يتصف بها او ينفعل عنها فان كونه واجب الوجود بذاته فهو بعينه كونه مبدأ للوازمه أي معلولاته بل ما صدر عنه انّما يصدر عنه بعد وجوده وجودا تامّا وانّما يمتنع ان يكون ذاته محلا لاعراض ينفعل عنها او يستكمل بها او يتصف بها بل كماله انّه بحيث يصدر عنه هذه اللوازم لا في آن يوجد له فاذا وصف بانّه يعقل هذه الامور فانّه يوصف به لانه يصدر عنه هذه لا لأنّه محلها ولوازم ذاته هى صور معقولاته لا على انّ تلك الصور تصدر عنه فيعقلها بل نفس تلك الصور لكونها مجرّدة عن المواد تفيض عنه وهى معقولة له فنفس وجودها عنه نفس معقوليتها له ، فمعقولاته اذن فعلية » (1) ؛ انتهى.

ولا ريب في انّ قوله : « وإن كانت اعراضا موجودة فيه » صريح في العلم الصوري ؛ وقوله : « فليس ممّا يتصف بها » اشارة إلى دفع ما يظنّ وروده على العلم الحصولي من لزوم كونه متصفا بصفات غير اضافية ولا سلبية ، وكونه قابلا وفاعلا - كما تقدّم في كلام الشيخ والمحقّق الطوسي -. وما ذكروه في دفع الأوّل هو انّ اتصاف الشيء بعرض هو أن يكون ذلك العرض محمولا عليه أو مبدأ لمحمول عليه ، ولوازمه - تعالى - على تقدير وجودها فيه ليس محمولا عليه - وهو ظاهر - ؛ ولا مبدأ لمحمول عليه ، لانّ العالم الّذي هو محمول عليه - تعالى - ليس حمله عليه باعتبار انّ تلك الصور فيه ، بل انّما هو باعتبار كونه - تعالى - مبدأ لتلك الصور ومصدرا لها - أعني : كونه بحيث يصدر عنه تلك الصور منكشفة له تعالى -. وقد اشار الى ذلك بهمنيار بقوله بعد ذلك : « فاذا وصف بانّه تعقّل هذه الامور فانّه يوصف به لانّه يصدر عنه ، لا لانه محلّها ».

ثمّ المراد بالاتصاف المنفي - كما أشير إليه - هو الاتصاف بصفة حقيقية غير اضافية ، فلا يقدح كون تلك الصور مبدأ لاتصافه - تعالى - بالعالمية الاضافية ، فانّه لا امتناع في احتياجه - تعالى - في الاضافات إلى غيره - تعالى - ، بل الامتناع انّما هو في الصفات الحقيقية. وما ذكروه في رفع الثاني - على ما مرّ - هو انّه فرق بين القبول بمعنى الانفعال و

ص: 168


1- راجع : التحصيل ، ص 574.

القبول بمعنى مطلق المعروضية والموصوفية ، والمحال هو الأوّل وهو غير لازم. قال الشيخ في التعليقات ما حاصله : « انّه فرق بين أن يوصف جسم بانّه ابيض لانّ البياض يوجد فيه من خارج ، وبين أن يوصف بانّه ابيض لانّ البياض من لوازمه ؛ وإذا اخذت حقيقة الأوّل - تعالى - على هذا الوجه ولوازمه على هذه الجهة استمرّ هذا المعنى فيه - وهو أن لا كثرة فيه وليس هناك قابل وفاعل ، بل من حيث هو قابل وفاعل -.

وهذا الحكم مطّرد في جميع البسائط ، فانّ حقيقتها هي انّها يلزم عنها اللوازم على انّها من حيث القابلية والفاعلية واحدة فانّ البسيط عنه وفيه شيء واحد. وقد أشار بهمنيار إلى عدم لزوم القبول بمعنى الانفعال بقوله : « أو ينفعل عنها » ؛ وإذا لم ينفعل عنها لم يلزم مفسدة كونه - تعالى - محلاّ لمعلولاته الممكنة ، لانّ المحال ليس مجرّد محلّيته لمعلولاته ، بل انّما يكون ذلك محالا لو لزم انفعاله عنها.

وقوله : « فانّ كونه واجب الوجود - ... الى آخره - » علّة لقوله : « فليس ممّا يتّصف بها » ، يعنى : انّ الواجب لا يتّصف بتلك اللوازم اتصافا يكون محالا ، لانّ الاتصاف المحال هو الاتصاف بصفات زائدة كمالية ، وكمال الواجبية لا يحصل له بتلك اللوازم بل انّما يحصل له ذلك الكمال لمبدئية تلك اللوازم ؛ يدلّ عليه قوله : « بل ما صدر عنه انّما يصدر عنه بعد وجوده وجودا تامّا كاملا ».

وقوله : « بل كماله انّه بحيث يصدر عنه هذه اللوازم » يعنى : إنّ هذه الصور وان كانت موجودة فيه لا بأحد الوجوه المذكورة المنفية لكن كماله - تعالى - لا من حيث وجودها فيه ، بل من حيث انّه مصدرها. وعالميته - تعالى - أيضا عين هذه الصدور لا وجودها له وإن كان وجودها له واقعا أيضا بغير الانحاء المذكورة ، فغرضه ليس نفي الوجود له أو فيه مطلقا ، إذ صرّح انّه اعراض موجودة فيه ؛ بل غرضه انّ عالميته وكمالاته ليس من هذه الحيثية بل من حيث الصدور. ويمكن أن يوجّه قوله : « بل كماله » بأن يقال : انّه اضراب عن قوله : « ينفعل عنها أو يستكمل بها » ، أي : ليس كمال بالانفعال عن تلك الاعراض والاستكمال والاتصاف بها ، بل كماله - ... إلى آخره -. وقوله : « ولوازم ذاته - ... إلى آخره - » تمهيد لقوله : « فمعقولاته إذن فعلية ».

ص: 169

واعلم! ، انّ العلم على المشهور ثلاثة أقسام.

فعلي ؛ / 146 DB /

وانفعالى ؛

وخارج عن القسمين ؛ لانّ العلم امّا سبب لوجود المعلوم في الخارج - كما إذا تصوّرت فتعقّلته - ، وهو الفعلي ؛

أو مسبّب عن وجود المعلوم - كما إذا شاهدت شيئا فتعقّلته - ، وهو الانفعالي ؛ أو لا هذا ولا ذاك - كما إذا تصوّرت الأمور المستقبلة الّتي ليست فعلا لك ، وكعلمك بذاتك -.

وقيل : المعقول إمّا فعلي أو انفعالي ولا ثالث لهما ؛ لأنّ كلّ ما تكون جهة موجوديته مغايرة بالذات لجهة كونه حاضرا لمدركه - كما تعقلنا الأشياء الخارجة عنّا - فهو معقول انفعالي ، وما كان جهة وجوده وصدوره عن فاعله بعينها / 148 MB / هي جهة حضوره لمدركه ولا تكون مغايرة بينهما الاّ بالاعتبار - كما في تعقّلنا افعالنا الذاتية الصادرة عنّا حال كونها صادرة عنا - فهو معقول فعلي ، وحينئذ لا واسطة بينهما. وبالجملة ليس للواجب علم انفعالي ، بل علومه فعلية - كما صرّح به بهمنيار وغيره من أساطين الحكمة -. لانّ الانفعالي إمّا تدريجي او غير تدريجى ، والأوّل شأن المادّة والمادّيات والواجب - تعالى - منزّه عنهما ؛ والثاني يستلزم الاستفادة عن الغير والواجب لا يجوز أن يستفيد كمال ذاته عن الغير ، وإلاّ لزم النقص.

وأيضا واهب الكمالات لا يكون إلاّ الواجب ، فكيف يجوز أن يستفيد الكمال عن الغير؟!.

فان قيل : لم لا يجوز أن يتعقّل الواجب عن ذاته ، فحينئذ يكون علمه انفعاليا؟! ؛

قلنا : هذا يؤول إلى العلم الحصولي ، بل هو عينه ؛ وقد عرفت ما فيه. وقد ظهر من كلام بهمنيار قوله بالعلم الحصولي. والمفاسد الواردة عليه الّتي اشار إلى دفعها فقد عرفت حالها فيما سبق وعلمت ما يمكن دفعها وما لا يمكن دفعها.

والعجب انّ بعض افاضل المتاخرين حمل جميع تلك العبارات المنقولة عن بهمنيار على العلم الحضوري بتأويلات بعيدة وتكلّفات ركيكة ، وهذا الفاضل هو الّذي حمل

ص: 170

كلام الشيخ في جميع كتبه وكلام الفارابى - بل غيرهما من أساطين الحكمة - على العلم الحضوري ؛ وهو كما ترى.

قال بعض المشاهير بعد نقل هذا الكلام من بهمنيار : فان قيل : قد قال بعد هذا الكلام : « وليس يجدها - أي : الواجب - بحيث يحصل له تلك المعلومات ، وليس هو عالم لانّ له تلك الصور - أي : لا يعمله كاملا أو واجب الوجود بسبب حيثية حصول المعلومات فيه - وليس عالما لانّ فيه تلك الصور ، وان كانت تلك الصور له بل هو عالم بمعنى انّه يصدر عنه تلك الصور - أي : العالمية لأجل كونها منه ، لا لأجل كونها فيه - وصور تلك المعلومات مع كثرته عنده على وجه بسيط. وبيان ذلك : انّ حقيقته حقيقة يصدر عنه مفصّل المعقولات كما انّ المعقول البسيط عندنا علّة للمعلومات المفصّلة - ... إلى آخر ما نقلناه عنه سابقا في بيان العلم الاجمالى - » ، وهذا الكلام يدلّ على انّ العلم المقدّم عين ذاته ؛

قلت : لمّا كان ظاهر الكلام السابق يدلّ على انّه اختار مذهب انكسيمالس الملطي - وهو انّ جميع الايجادات العينية مسبوق بالعلم الزائد بالذات - وجب حمل الكلام الأخير - وهو قوله : « وصور تلك المعلومات مع كثرته على الوجه البسيط » - على العلم المتقدّم على العلوم التفصيلية المقدّمة على جميع الايجادات العينية. وهذا العلم المتقدّم هو عين ذاته - تعالى - وهو العلم الاجمالي بالمعلوم المفصلة ؛ انتهى.

وحاصل كلامه : انّه لا تناقض بين كلمات بهمنيار في تصريحه تارة بالعلم الحصولي وتارة بالعلم الاجمالي ، لانّه لا منافاة بينهما ، فانّ مذهبه انّ للواجب علمين : علم كمالي اجمالي وعلم صوري تفصيلى - كما تقدم في كلام الفارابي أيضا -. فانّ كلاّ من القائلين بالعلم الصوري والقائلين بالعلم الحضوري فرقتان : فرقة قالوا بالعلم الاجمالي ؛ وفرقة لم يقولوا بهذا ، والعلم الاجمالى لا ينافي كلاّ من المذهبين ولا يتحقّق فرق في العلم الاجمالي على المذهبين. نعم! ، يتحقّق فرق حينئذ في العلم التفصيلي بانّه صوري مقدّم على الايجاد عند القائلين بالعلم الحصولي ، وانكشافي اشراقي مقارن لوجودات الأشياء عند جماعة من القائلين بالعلم الحضوري ، وعند المحقّقين منهم - كالشيخ الإلهي وغيره - ليست تلك

ص: 171

المقارنة لازمة - كما تعرف -.

ثمّ انّ العلامة الخفري قد نسب القول بالعلم الاجمالي إلى المحقّق الطوسي ، وغرضه انّه ممّن قال بالعلم الاجمالي الكمالي وبالعلم التفصيلي الحضوري ، فقال : « وهو - أي : المحقّق - وإن لم يتعرّض في التجريد لنحو العلم الكمالي المتقدّم على الايجاد إلاّ بالاشارة ، وأمّا في شرح الاشارات فهو يخالف صاحبها ، فاختار المذهب الثاني - أي : مذهب طاليس الملطي - من القول بكون الجوهر الأوّل غير مسبوق بالعلم المغاير / 147 DA / لذات الواجب ، وسائر الأشياء معلومة بالصور المرتسمة في الجوهر الأوّل. وردّ القول بالعلم الحصولي لما فيه من المفاسد ، وأشار فيه إلى ما يؤدّي الى التحقيق الّذي ذكرته » ؛ انتهى.

ومراده من التحقيق الّذي ذكره هو العلم الاجمالى فقط ، أو العلم الاجمالي والتفصيلى.

وأنت خبير بانّه ليس فيما ذكره المحقّق في شرح الاشارات أثر من العلم الاجمالي ولا اشارة إليه بوجه ، فان المذكور منه فيه ليس إلاّ العلم التفصيلي وكون علمه بمعلولاته القريبة بنفس ذواتها وبمعلولاته البعيدة بالصور الحاصلة في المعلولات القريبة ، وليس هذا من التحقيق الّذي ذكره - أعني : العلم الاجمالى بوجه -.

وامّا ما ذكره من تعرّض المحقّق في التجريد للعلم الاجمالي بالاشارة ، فلا ريب في انّه لا اشارة فيه أيضا إليه بوجه ؛ والظاهر انّ مراده من الاشارة الاشارة في قوله : « واستناد كلّ شيء إليه - تعالى - » ، اذ يعلم منه كونه - تعالى - علّة للاشياء وهو عالم بذاته ، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، فيجب ان يكون له - تعالى - علم سابق على وجود جميع معلولاته ، لانّ الاستدلال بكون العلم بالعلّة مستلزما للعلم بالمعلول الصق بالعلم قبل الايجاد ، والعلم قبل الايجاد هو العلم الاجمالي. ويمكن أن يكون الاشارة بزعمه في قوله : « ولا يستدعي العلم صورا مغايرة للمعلومات » ، لانّه نفى أن يكون العلم صورا مغايرة للمعلومات ولم ينف كونه مغايرا - إذا لم يكن صورة - فبقي احتمال علم يكون مغايرا للمعلومات ولا يكون صورا لها ، وليس هو الاّ العلم الاجمالي الّذي هو عين علمه بذاته بل عين ذاته فان ذاته ، - تعالى - مغايرة لمعلولاته وليست صورة لها.

ص: 172

قيل : ويمكن أن يكون الاشارة في قوله : « والتغاير اعتباري » ، لما قال هذا العلامة في بيان العلم / 149 MA / الاجمالي : انّ في الشهود العلمي الكمالي كان ذاته - تعالى - عالما بذاته وبجميع الموجودات وعلما ومعلوما ، والتغاير بين هذه المعاني انّما هو بالاعتبار.

وأنت تعلم انّه لا اشارة في هذه العبارات إلى العلم الاجمالي بوجه ، فانّ العبارة الاولى لا تفيد أزيد من كونه - تعالى - عالما ولا دلالة فيها على كيفية العلم بوجه ، وحديث الالصقية لا يلتصق بالقلب.

وأمّا الثانية فلا يدلّ إلاّ على نفي العلم الصوري ، ولا دلالة فيها على اثبات الاجمال والتفصيل في العلم بوجه ، واللازم من نفي الصوري ليس الاّ ثبوت العلم الحضوري من غير دلالة على كونه اجماليا أو تفصيليا. ولكون العلم الانكشافي مغايرا للمعلومات يندفع ما ذكر من انّ العلم المغاير للمعلومات ليس إلاّ الاجمالي.

وأمّا الثالثة : فهي جواب عمّا قيل : انّ العلم نسبة بين العالم والمعلوم والنسبة تقتضي تغاير الطرفين ، فيلزم أن لا يعلم الواجب نفسه ، إذ لا تغاير هنا بين العالم والمعلوم.

ثمّ قال الخفري : « وما يدلّ على أنّ هذا التحقيق الذي اخترته هو المختار عند المحقّق الطوسى ما قاله في الرسالة الّتي الّفها في تحقيق العلم ، وهو : انّه كما انّ الكاتب مثلا يطلق على من يتمكّن من الكتابة - ... الى اخر ما نقلناه سابقا - ».

والحقّ - كما افاده - انّ تلك العبارة تدلّ على العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني ، لانّ حاصل اوائل تلك العبارة انّ العالم يطلق على من يتمكّن من استحضار المعلومات أيّ وقت شاء وعلى المستحضر لها بالفعل كالكاتب على القادر وعلى المباشر لها ، واطلاق العالم على الأوّل - تعالى - انّما هو بالاعتبار الأوّل ، فهو بذلك الاعتبار لا يحتاج في كونه عالما إلى شيء غير ذاته. ثمّ صرّح بأنّ ادراك الأوّل - تعالى - بالاعتبار الثاني إمّا لذاته فيكون بعين ذاته لا غير ، وامّا لمعلولاته القريبة منه فيكون باعتبار ذوات تلك المعلومات ثمّ صرّح بأنّ ادراكه لمعلولاته البعيدة بالصور المرتسمة في المعلولات القريبة ، فيظهر من مجموع عبارته انّ له علما اجماليا على الوجه الثاني في جميع الأشياء - أي : له تمكّنا من العلم بالجميع في مرتبة ذاته بأن يصدر عنه جميع الأشياء منكشفة له تعالى - ؛ وانّ له

ص: 173

علما تفصيليا حضوريا بمعلولاته القريبة وعلما تفصيليا حصوليا بمعلولاته البعيدة.

وإذا عرفت مذاهب بعض الرؤساء في العلم الاجمالي وغير ذلك من المطالب المذكورة فلنعد إلى تحقيق الحقّ في العلم الاجمالي ؛ فنقول :

الحقّ بطلان العلم الاجمالي على الوجهين ، إذ لا شكّ انّ العلم التفصيلى المقابل لكلّ من الوجهين للاجمالي - أعني : الغير التامّ والاستحضار بالفعل - في مرتبة فوق الاجمالي الّذي / 147 DB / هو مقابله وكمال أتمّ منه ، فلو لم يكن ثابتا للواجب - تعالى - في مرتبة ذاته وانّما يثبت له ذلك بعد أن يوجد غيره لزم اتصافه - تعالى - في مرتبة ذاته بالنقص والخلوّ عن ذلك الكمال - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا -.

ثمّ انّا قد اشرنا سابقا إلى أنّ الأكثر بيّنوا العلم الاجمالى للواجب - تعالى - على الوجه الأوّل وقرّروا البقية تعقّله للأشياء بانطواء العلم بالكلّ في علمه بذاته كانطواء العلم بلوازم الانسانية في العلم بالانسانية. وربما أوردوا مثالا بتقسيم حال الانسان في علمه إلى ثلاثة اقسام ، ثمّ جعلوا علم الواجب من القسم الّذي هو الاحتمال الأوّل.

بيان ذلك : انّهم قالوا : انّ حال الانسان في علمه لا يخلو عن اقسام ثلاثة :

الأوّل : أن يكون علومه تفصيلية زمانية على سبيل الانتقال من معقول إلى معقول على سبيل التدريج ؛ ولا يخلو تعقّله حينئذ من مشاركة الخيال ، بل يكون مع حكاية خيالية بحيث يتّحد الادراكان - أي : يتحد ادراك النفس وادراك الخيال نحوا من الاتحاد - ، كما إذا ابصرنا شيئا وحصل أيضا عنه صورة في الحسّ المشترك اتحد الادراكان ولا يتميز لنا ما يحصل في آلة البصر وما يحصل في الحسّ المشترك إلاّ بوسط ودليل.

الثاني : أن يكون له ملكة حاصلة من ممارسة العلوم والافكار يقدر لاجلها على استحضار الصور العقلية متى شاء بلا تجشّم كسب جديد ، وإن لم تكن علومه وادراكاته حاضرة عنده بأن تكون نفسه معرضة عن تصوّر الأشياء جميعا وان حصلت لها القوة عليه ، إذ ليس في وسعها ما دامت متعلّقة بالبدن أن تعقل الأشياء معا دفعة واحدة لمشاركة الخيال معها في الادراك ، والخيال لا يتخيل الأشياء معا ، وهذه - أي : تلك الملكة - حالة بسيطة ساذجة لها نسبة واحدة إلى كلّ صورة يمكن حضورها لصاحبها. ولا شكّ في أنّ

ص: 174

الانسان في هذه الحالة ليس عالما بالفعل ، فلا تكون الصور حاصلة له بالفعل ولكن له قدرة الاستحضار ، فيكون عالما بالقوّة.

والثالث : أن يحصل له علم اجمالي لجواب مسائل كثيرة أوردت عليه دفعة ، ثمّ يأخذ بعده في التفصيل شيئا فشيئا حتى يملأ الأوراق والأسماع ، فهو في هذه الحالة - أي : حالة علمه اجمالا لجواب الكلّ - يعلم من نفسه يقينا انّه يحيط بالجواب جملة ولم يفصل بقوّة ذهنه بترتيب الجواب ، ثمّ يخوض في الجواب مستمدّا من الأمر البسيط الكلّي الّذي كان يدركه من نفسه ، فهذا العلم الواحد البسيط خلاف / 149 MB / تلك التفاصيل وهو أشرف منها عندهم. وقالوا : علم الواجب بالأشياء وانطواء الكلّ في علمه من هذا القسم الثالث. ولمّا أوردوا عليهم بأنّ العلم بالشيء على هذا الوجه أيضا مثل الوجه الثاني بالقوّة وليس علما بالفعل وان كان قوّة قريبة من الفعل ؛

أجابوا : بأنّ لصاحبه يقينا بأنّ هذا حاصل عنده بالفعل إذا شاء علمه ، فلفظ هذا منه اشارة إلى شيء ما به حاصل بالفعل. ولا ريب في انّ النقض بحال الشيء - أعني : حصوله بالفعل - لا ينفكّ عن المعلومية من جهة ما تيقّنه ، فالاشارة يتناول المعلوم بالفعل فيكون كلّ واحد من الأشياء المفصّلة الداخلة تحت الاجمالي معلوما له بهذا النحو - أي : بانّه حاصل له مخزون عنده - ، فهو بهذا النحو البسيط معلوم له قد يريد أن يجعله معلوما بنحو آخر. وهذا العلم البسيط هيئة تحصل للنفس لا بذاتها - بل من عند مخرج لها من القوّة إلى الفعل -. ثمّ بحسب تلك الهيئة يلزم النفس التصور التفصيلي والعلم الفكري ، فالأوّل أعني : الهيئة البسيطة ، فحصولها من القوّة العقلية للنفس المشاكلة للعقول الفعالة ؛ وأمّا الثاني - أعني : التفصيلى - فهو للنفس من حيث هى نفس ؛ هذا هو جوابهم عن الايراد المذكور.

وفيه : انّ غاية ما يستفاد من هذا الجواب انّ العالم بجميع المسائل الموردة عليه اجمالا عالم في تلك الحالة بالفعل بأنّ له قدرة على اظهار شيء دافع لذلك السؤال ، وأمّا حقيقة ذلك الشيء فهو غير عالم به ، فلهذا الشيء - أعني : الجواب - الّذي يقدر المجيب العالم به اجمالا أنّ ما يأتي به حقيقة ماهية وله لازم وهو كونه دافعا لذلك السؤال ، فالحقيقة مجهولة واللازم معلوم ، فهى حالة بين الفعل المحض الّذي هو العلم بالمعلومات مفصّلة متميزة بعضها

ص: 175

عن بعض وبين القوّة المحضة الّتي هى حالة اخبر ان المعلومات المفصّلة - أعني : حالة حصول الملكة - من دون حصول صورة علمية مطابقة لتلك التفاصيل ، فهي بين الحالين. ولا ريب في أنّها قوّة بالنسبة إلى العقل المحض - أعني : حصول المعلومات مفصّلة متميزة - ، والفعل المحض مرتبة فوقها وكمال أتمّ بالنسبة إليها ، فيلزم ما ذكر من النقض في حقّه - سبحانه / 148 DA / تعالى عن ذلك -.

وأورد على الاحتمال الأوّل من العلم الاجمالي أيضا : بانّه كيف يكون شيء واحد بسيط - غاية الوحدة والبساطة - صورة علمية لامور مختلفة متكثّرة؟. فانّه لو صحّ ذلك لا نسلّم ما قرّروه من أنّ العلم بالشيء يجب ان يكون متّحد الماهية مع ذلك الشيء ، ولذا قالوا : الصورة المعقولة من الشيء عين ماهية هذا الشيء ومتّحدة معه في الحقيقة ، فكيف يتميز الاشياء بمجرّد هذا العلم وانّها لم يوجد ماهياتها بعد؟! ؛ وهل هذا الاّ تمايز المعدومات؟!. والحاصل انّ الأشياء لو لم يكن لها نحو وجود وثبوت بوجه ومع ذلك تعقّلها الواجب بخصوصياتها ممتازة لا من صورها بل من مجرّد علمه بذاته لزم أن يكون العلم بذات بسيطة واحدة علما باشياء متكثّرة مختلفة متباينة لهذه الذات ، ولزم تمايز المعدومات الصرفة ؛ وإن كانت متقرّرة ثابتة في الذات لزم تقرّر الأشياء العينية في ذات الواجب ، فيلزم التركيب ، وأيّ تركيب!! ؛ وان كانت ثابتة في الخارج لزم ثبوت المعدومات. ثمّ لو سلّم جواز كون ذات واحدة بسيطة في غاية الوحدة والبساطة علما بامور مختلفة الذوات متباينة الماهيات فانّها لا يمكن أن تكون علما بها بخصوصياتها ، لانّه لا يمكن أن يكون تلك الأمور معلومة بالذات وإلاّ لزم تمايز المعدومات ، غاية الامر أن تكون معلومة بالعرض ، فالمعلوم بالذات ذلك الأمر الواحد البسيط كالعلم بافراد الانسان من مفهومه الكلّي ، وكالعلم بالفروع من العلم بالاصل لا كالعلم باجزاء الحدّ من العلم بالمحدود ، لأنّ والحدّ والمحدود متحدان ذاتا ومتغايران اعتبارا وليس فيهما تفاوت بنحو الادراك ، والمجمل والمفصّل متفاوتان بنحو الادراك وإن لم يكن تفاوت بينهما لأجل أمر في المدرك. ولئن سلّم ذلك - أي : كون معلومية المفصّل من المجمل كمعلومية اجزاء الحدّ من المحدود في العلم الاجمالى الّذي يحصل للانسان ، أعني : في المعقول البسيط الّذي يحصل

ص: 176

له - فكيف يسلّم كون الذات الإلهية بالنسبة إلى معلوماته كالحدّ بالقياس الى المحدود؟!. وإذا كانت تلك المعلومات المفصّلة معلومة بالعرض على النحو المذكور فلا يكون معلومة حقيقة ولا يكون الواجب في الحقيقة بالنسبة إلى خصوصياتها جاهلا - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا -.

هذا هو الايراد الآخر الّذي ذكروه ، وهو ممّا يمكن أن يورد على ما اخترناه أيضا. والحقّ انّه ممكن الدفع فنجيب عنه - إن شاء اللّه - في موضعه.

قال بعض الأفاضل بعد تقرير العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني : فان قلت : قد تقرّر في محلّه انّ التفاوت بين الاجمال والتفصيل ليس الاّ في نحوي الادراك لا في ذات المدرك ، فلو كان علمه - تعالى - في ذاته علما اجماليا بجميع الموجودات لزم كون ذاته - تعالى - لكونها عين علمه بذاته عين تلك الموجودات أو صورة علمية مطابقة لتلك الموجودات ، وذلك باطل بالضرورة ؛

قلت : لمّا كان ذاته مبدأ لفيضان جميع الموجودات وكان علمه بذاته - تعالى - مبدأ لعلمه بجميع الموجودات كان علمه بذاته علما اجماليا بتلك الموجودات مجازا لتلك العلاقة ، كما يقال للملكة المذكورة علم اجمالي بالعلوم / 150 MA / المفصّلة الحاصلة منها ، وهذا قول بعض المحقّقين : « انّ عالميته - تعالى - عبارة عن كونه خلاّق العلوم برمّتها » ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ جواب هذا الفاضل عن الايراد المذكور راجع إلى ما يقال : انّ كون علم الواجب بذاته علما اجماليا بجميع الموجودات قول مجازي لعلاقة كونه مبدأ لها وتمكّنه من العلم بها بأن يوجدها منكشفة عنده. ويلزم على قوله ان لا يكون عالما بها بالفعل قبل ايجادها ، فيلزم جهله - سبحانه - في مرتبة ذاته - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا -. ثم قال الفاضل المذكور : والحاصل انّ العلم الجمالي صورة علمية واحدة يشتمل اجمالا على الصور العلمية المفصّلة الحاصلة منها وعلمه - تعالى - هذا باعتبار كونه علما بذاته وكون ذاته علّة لجميع الموجودات تشتمل على العلم بجميع الموجودات بحيث كانّه أمر واحد يشتمل على أمور متكثّرة ؛ وهذا معنى كلام المعلّم الثاني : « فهو الكلّ في وحدة ».

ص: 177

وهذا سر لارباب التوحيد لا تحتمله العبارة ولا تفي به الاشارة. ويمكن ان يشار إلى ذلك بانّ وجود المعلول كانّه الشبح لوجود العلّة وفيض منه وكأنّ الوجود قد زاد عليه وفاض على غيره ، فوجود جميع الموجودات على كثرتها كانّها مجتمعة بعنوان الوحدة في وجود ما هو علّة لها حقيقة ، فهو عين جميع الموجودات الفائضة عنه المترشحة منه ، فالعلم به علم بجميع الموجودات على سبيل الاجمال. فوجود العلّة هو صورة جميع الموجودات الفائضة منه لكن مبراة عن شوائب الكثرة فهو الكلّ في وحدته ؛ انتهى. / 148 DB /

وأنت خبير بأنّ هذا الكلام بيان للعلم الاجمالي بالوجه الأوّل مع انّه اعتقد في جميع كلماته انّ العلم الاجمالي للواجب هو الاجمالي بالوجه الثاني.

ثمّ ما ذكره من كون علم الواجب بذاته موجبا للعلم بجميع الموجودات - لكون جميع الموجودات لازمة له مرشّحة منه فائضة عنه ، فكأنّها مجتمعة فيه بعنوان الوحدة - فهو ممنوع ، إلاّ أنّا نقول : انّها عالم بها تفصيلا لا اجمالا - كما ذكره - للزوم جهله - سبحانه - في مرتبة ذاته بمرتبة اتمّ من العلم - أعني : التفصيلى الّذي هو التميّز التامّ والادراك بالخصوصيات -. قال بعض الفضلاء : إذا كان العلم الاجمالي عين ذات الواجب ولم يكن العلم التفصيلي عين ذاته لزم أن لا يكون الواجب - جلّ اسمه - بحيث يحصل له العلم التفصيلي في مرتبة الذات ، فيلزم أن لا يعلم الأشياء مفصّلة في مرتبة الذات بل يعلمها مجملة في هذه المرتبة ؛ وأيضا يلزم أن يحصل له علم بعد ما لم يكن في مرتبة الذات ، فيلزم ان يكون فاقدا لبعض الكمالات في مرتبة الذات - لانّ العلم كمال مطلق للموجود بما هو موجود -. وما يتوهّم من انّه يجوز أن لا يكون العلم التفصيلى كمالا يندفع بما ذكرنا : من أنّ العلم كمال مطلق للموجود بما هو موجود ، والجهل نقص مطلق. وأيضا ايجاد الاشياء مفصّلة لا يكون إلاّ بعلم سابق على تلك الأشياء ، ويجب أن يكون ذلك العلم السابق علما مفصّلا وإلاّ يلزم ايجاد الشيء بعينه بدون العلم بذلك الشيء بعينه ، وهو باطل بالبديهة من الفاعل المختار ، على ما قال - جلّ ذكره - : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) . وذلك العلم السابق لا يمكن أن يكون زائدا على ذاته وإلاّ لزم التسلسل ، وهو محال ،

ص: 178

فيكون علما انكشافيا تفصيليا ؛ انتهى.

وهو جيّد موافق لما ذكرناه ؛ هذا.

ثمّ انّ العلامة الخفري بعد أن قال : انّ للواجب علمين أحدهما علم كمالي اجمالى وبينه بنقل كلام بهمنيار - كما تقدّم - قال : « وثانيها : علم تفصيلي وهو عين ما أوجده في الخارج والمدرك. ومراتبه أربع :

أحدها : ما يعبّر عنه « بالقلم » و « النور » و « العقل » في الشريعة ، و « بالعقل الكلّ » عند الصوفية ، و « بالعقول » عند الحكماء. فالعلم الّذي هو أوّل المخلوقات حاضر بذاته مع ما هو مكنون فيه عند الواجب - تعالى - فهو علم تفصيلي بالنسبة إلى العلم الاجمالي الّذي هو عين ذاته واجمالى بالنسبة إلى باقي المراتب ؛

وثانيها : ما يعبّر عنه في الشريعة « باللوح المحفوظ » ، و « بالنفس الكلّ » عند الصوفية ، و « بالنفوس الفلكية المجرّدة » عند الحكماء ، فاللوح المحفوظ حاضر بذاته مع ما ينتقش فيه من صور الكليات عند واجب الوجود ، فهو علم تفصيلي بالنسبة إلى المرتبتين اللتين هما فوقها ؛

وثالثها : « كتاب المحو والاثبات » ، وهو القوى الجسمانية الّتي ينتقش فيها صور الجزئيات المادية ، وهي النفوس المنطبعة في الاجسام العلوية والسفلية. فهذه القوى مع ما فيها من النفوس حاضرة بذواتها عند واجب الوجود - تعالى - ؛

ورابعها : الموجودات الخارجية من الأجرام العلوية والسفلية واحوالهما ، فانّها بذواتها حاضرة عند واجب الوجود في مرتبة الايجاد. والحاصل : انّ جميع الممكنات - سواء كانت كلّية أو جزئية وسواء كانت صورا ادراكية أو موجودات عينية - حاضرة بذواتها عند واجب الوجود في مرتبة الايجاد ، فهي علوم باعتبار ومعلومات باعتبار » ؛ انتهى.

وقوله : « أحدها ما يعبّر عنه بالقلم - ... الى آخره - » التعبير عن مرتبة الاولى في الشريعة بألفاظ ثلاثة ، ووجهه - على ما ذكره أهل التحقيق - انّ تلك الألفاظ الثلاثة عبارات عن معنى واحد ، فانّ الصادر الأوّل باعتبار انّه جوهر مجرّد عاقل لذاته عبّر عنه

ص: 179

« بالعقل » ؛ وباعتبار كونه واسطة في افاضة نفوس صور جميع ما سيوجد / 150 MB / إلى يوم القيامة في الواح النفوس المجرّدة الفلكية - كما انّ القلم واسطة في رسم الصور العلمية الحاصلة في أذهاننا على الالواح الصحيفة - عبّر عنه « بالقلم » ؛ وباعتبار انّ تلقّى الوحى من حضرة الرّبّ إنّما يكون باتصال النفس المقدّسة النبوية بذلك الجوهر المجرّد الّذي هو ظاهر في ذاته وسبب لانكشاف العالم الربانية لتلك الذات - كما انّ النور ظاهر في ذاته وسبب لظهور سائر الأشياء عند الحسّ - عبّر عنه « بالنور » ، وأضيف الى الذات الشريفة - صلوات اللّه عليها وعلى سائر الذوات المطهّرة المنشعبة عنها - » ؛ انتهى.

وما ذكره من انّ المرتبة الثانية يعبّر عنها بالنفس الكلّ عند الصوفية ممنوع ، إلاّ انّ هذا التعبير ليس مخصوصا بهم ، بل ذلك التعبير وقع في كلام الحكماء أيضا - كما نقل عن الشيخ انّه قال في رسالة المبدأ والمعاد : « اشرف الموجودات واولها عقل الكلّ ثمّ نفس الكلّ » -. وقد ذكر أيضا في رسالته الموسومة بالأسئلة والاجوبة انّه يطلق نفس الكلّ تارة على / 149 DA / النفس المحرّكة للفلك الأعلى الّتي يسمّى في الشرع عرشا ، وتارة على جملة الانفس المحرّكة للافلاك كلّها كأنّها نفس واحدة ، والافلاك جرم واحد.

ثمّ الظاهر انّ تدريج النفوس المجرّدة الانسانية في هذه المرتبة ، أو يجعل في مرتبة أخرى ، اذ لا يمكن اندراجها في المرتبة الثانية ، إذ حكم فيها بانتقاش صور الجزئيات المادة وهي لا تنتقش في النفوس المجرّدة على رأيهم. ويبعد جدّا أن يجعل قواها مرتبة قبل المرتبة الرابعة ولا يدخل انفسها في غير الرابعة.

ثمّ تسمية المرتبة الثالثة بكتاب المحو والاثبات لانّ الصور المرتسمة فيها لمّا كانت صورا للجزئيات الكائنة الفاسدة فكما انّ تلك الجزئيات يمحي ويثبت فكذلك تلك الصور المطابقة لها ؛ هذا.

وقال بعض الأعاظم : حمل تلك الالفاظ الواردة في الشرع على المعاني المذكورة انّما هو بمجرّد التشبّه وهي الرجم (1) بالغيب بلا سند شرعى. والظاهر منها معان أخر وإن امكن حملها عليها - واللّه يعلم - ؛ انتهى.

ص: 180


1- الاصل : بمجرّد التشبهى والرجم.

ثمّ ما ذكره الخفري من انّ العلم التفصيلي عين ما أوجده في الخارج انّما يصحّ على أحد المعاني للعلم ، فانّ له معان ثلاثة.

أحدها : الاضافة الاشراقية ، وهو المعنى المصدري الّذي يشتق منه علم ويعلم ؛

وثانيها : الحاضر بالذات عند المدرك ، وهو المعلوم حقيقة ؛

وثالثها : ما يقتدر به على استحضار المنكشفات بالذات. ولا ريب في انّ هذا ليس ما هو عين ما اوجده في الخارج ؛ انّما هو المعنى الثاني دون الآخرين. وعلى هذا فالمراد من العلم التفصيلي هو الصورة الّتي تكون معلولة ومعلومة حقيقة. ولا ريب في انّ هذا ليس بحقيقة العلم ، كيف والعلم امّا نفس الانكشاف أو ما هو مناط الانكشاف ومبدئه - وبالجملة ما ينكشف به الشيء - وتغاير الأعيان الخارجية للأوّل بديهى. ولا يمكن أن يكون أيضا مناطا للانكشاف ، لانّ المناط لانكشاف الأشياء له فيه انّما هو ذاته بذاته والاشياء منكشفات لا مناطات للانكشاف ، وإلاّ لزم افتقاره - سبحانه - في علمه إلى غيره.

والقول بانّه لا مانع في احتياج الواجب في انكشاف الأشياء له انكشافا تفصيليا إلى غيره - أعنى : ذوات الأشياء - لانه ليس علما كماليا وحينئذ تكون الأشياء مناطات للانكشاف ومبادي له فيصحّ اطلاق العلم عليها ؛

لا يخفى فساده ، لانّ الانكشاف التفصيلي والتميّز التامّ كمال مطلق للواجب ، فلا يجوز افتقاره فيه إلى غيره.

وعلى هذا يرد على ما ذكره الخفري من التفصيل شيئان :

أحدهما : انّه يلزم بناء على اثبات هذه المراتب لعلمه - تعالى - احتياجه في صفة كمالي إلى غيره ؛

وثانيهما : اتصافه بصفة الكمال بعد ما لم يكن ، لانّ في كلّ من المراتب - على ما ذكره - لا تكون المرتبة الأخيرة عنها معلومة له على التفصيل ، بل في كلّ مرتبة تكون تلك المرتبة معلومة على التفصيل ويكون بعدها معلوما له على الاجمال ، فيلزم جهله فيما هو صفة كمال - أعني : العلم على التفصيل - في كلّ مرتبة بالنسبة الى المراتب المتأخّرة عنه. وقال بعض اهل التحقيق : انّما احتيج في علمه - تعالى - بالاشياء إلى هذه المراتب لانّه - تعالى - يجب

ص: 181

أن لا ينفكّ عن العلم بالاشياء في شيء من المراتب في نفس الأمر ، فكما انّه - تعالى - يعلم الأشياء في مرتبة ايجادها العيني بعين تلك الأشياء كذلك يجب أن يعلم الأشياء في جميع المراتب السابقة على ايجادها - وهي مراتب وجودات عللها -. فاوّلها مرتبة وجوده - تعالى - ، إذ هو علّة العلل ومبدأ المبادي على الاطلاق ، فهو في مرتبة وجوده المتقدّمة على جميع المراتب بالذات يعلم الأشياء بالعلم الاجمالي الّذي هو عين ذاته ؛ وثانيهما : مرتبة وجودات العقول المجرّدة النورية الّتي هي وسائط فيضه ووسائط جوده - تعالى - ، فلها تقدّم بالوجود على الاشياء الّتي تحتها في نفس الأمر فيجب أن يعلم الأشياء في تلك المرتبة لا وجوداتها العينية ، إذ ليست هي في تلك المرتبة - لامتناع وجود المعلول في مرتبة وجود العلّة -. ويمتنع انفكاكه - تعالى - عن العلم بالاشياء في تلك المرتبة ، فعلمه - تعالى - بالاشياء في تلك المرتبة عين وجودات تلك العلل. فوجودات تلك العلل علوم تفصيلية له - تعالى - بذواتها وعلم اجمالي / 151 MA / بسائر الأشياء الّتي هي معلولات لها ، كما انّ وجوده - تعالى - علم تفصيلي له بذاته وعلم اجمالي بمعلولاته ؛

وثالثها : مرتبة وجودات النفوس المجرّدة الفلكية - إذ لها تقدّم بالذات على المهيات الجسمانية - ، فيجب أن يعلم - تعالى - تلك المهيات في تلك المرتبة لا بوجوداتها العينية لعدمها في تلك المرتبة ، بل بماهياتها المرتسمة بافاضة الأوّل - تعالى - بواسطة علم العقل في الواح تلك النفوس. فما يكون في العقل يصير تفصيليا في النفوس وهناك يمتاز / 149 DB / المهيات بعضها عن بعض ؛ ولهذا المعنى عبّروا عن هذه المرتبة باللوح وبالمرتبة السابقة بالقلم. فالصور الكلّية الحالّة في النفوس المجرّدة الفلكية علوم تفصيلية له - تعالى - بتلك المهيات وعلم اجمالي بافرادها الموجودة في الخارج. فهذه هي مراتب علمه الاجمالي.

وما سوى المرتبة الاولى من هذه المراتب الثلث مع المرتبتين الباقيتين - أعني - مرتبة قوى الجسمانية ومرتبة موجودات الخارجية - هي مراتب علمه التفصيلى ، فمراتب علمه الاجمالى ثلث ومراتب علمه التفصيلي أربع ، والمجموع خمس ، واحدة اجمالية فقط واثنتان تفصيلية فقط واثنتان اجمالية باعتبار وتفصيلية باعتبار آخر ؛ انتهى.

ويرد عليه : أمّا أوّلا : فبانّه لا حاجة في علمه - تعالى - إلى هذه المراتب والاّ لزم

ص: 182

احتياجه - تعالى - في صفة كمالي إلى غيره ، واتصافه بالكمال بعد ما لم يكن وإن كان الأمر في الواقع ونفس الأمر كذلك. أي : كلّ موجود ، فهو مع ما يكون فيه من الصور حاضر عنده - تعالى - وظاهر لديه. ومنه يظهر علمه التفصيلي - على التفصيل المذكور -. الاّ انّه لا يجب البتّة اثبات تلك المراتب لتصحيح علمه - تعالى - ، بل هو عالم بالجميع على التفصيل - قبل وجود هذه المراتب وبعد وجودها - على نحو واحد من غير لزوم تفاوت بالخفاء والوضوح. على انّ علمه الكمالي بزعمهم ليس إلاّ علمه الاجمالي ، فأيّ حاجة باعتقادهم إلى اثبات مراتب العلم التفصيلي ، فوجوب عدم انفكاكه - تعالى - عن العلم بالاشياء في جميع المراتب ممنوع ، لكن لا يلزم منه اثبات تلك المراتب ؛ بل علمه الاجمالي ثابت في جميع المراتب ، وهو يكفي بزعمهم. اللّهم إلاّ أن يقال : انّ اثباتهم تلك المراتب ليس لتصحيح علمه ، بل انّما هو لثبوتها في نفس الأمر ، فانّهم بعد ما اثبتوا العلم الكمالي الاجمالي - لما اقتضت الادلّة تحقّق تلك المراتب - لزمهم التصريح بثبوتها وبعالميته - تعالى - بها على النحو المذكور.

وامّا ثانيا : فلانّه لو تمّ ما ذكره لزم اثبات مراتب غير متناهية لعلمه - تعالى - ، ولا وجه للتخصيص بأربع ، إذ الحوادث غير متناهية ويجب علمه - تعالى - بكلّ منها في مرتبة وجود علّته ، فيلزم اثبات مراتب غير متناهية لعلمه - تعالى -.

ثمّ ما ذكروه من انّ وجودات تلك العلل علوم تفصيلية له - تعالى - بذواتها وعلم اجمالي بسائر الأشياء كما انّ وجوده - تعالى - علم تفصيلي له بذاته وعلم اجمالي بمعلولاته يدلّ على انّ تلك العلل بمنزلة المجمل لسائر الأشياء وذواتها علوم بالاشياء - كما في الواجب بعينه - ، وهو مبني على كون صفات العقول عينا لذواتها - كما نسب الى الحكماء -. ولو قيل بزيادتها لكانت صورا لأشياء المرتسمة فيها علوما تفصيلية لها لا اجمالية.

ويمكن أن يقال في توجيه كلام من صرّح بأنّ تلك المرتبة علم اجمالي لسائر الاشياء على تقدير زيادة صفات العقول : بأنّ مراده انّ تلك المرتبة علم تفصيلي بذوات تلك العلل بحضورها بذواتها ، واجمالي بالنسبة إلى باقي الموجودات. لانّ صور الجميع مكوّنة فيها ، لا لانّ وجودها علم اجمالي بها وكون تلك المرتبة اجمالية حينئذ بالنسبة إلى المرتبة الّتي

ص: 183

بعدها مع ارتسام صورها في المرتبة المتقدّمة ، لانّ التفصيل فيها أكثر ؛ هذا.

وقيل : على القول بأنّ للواجب - تعالى - علمين - : اجمالي وتفصيلي - يندفع الاشكالان الموردان على القول بأنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول.

أحدهما : انّه لمّا كان وجود العلّة يغاير وجود المعلول اتجه انّ حضورها غير حضور معلولها ، فحينئذ ان استلزم حضورها لحضور المعلول فهذا الحضور إمّا بطريق الارتسام في ذات العلّة - فيلزم كون ذاته تعالى محلاّ للكثرة وكونه قابلا وفاعلا لشيء واحد من جهة واحدة - وهو باطل ؛ أو بطريق قيام المعقولات بذواتها ، فيلزم المثل الافلاطونية وقد ثبت بطلانه ؛ أو بطريق آخر هو قيامها بأمر آخر غير ذات العلّة ، فلا يكون صورا علمية للعلّة ، لانّ الصور القائمة بغير الشيء لا تكون علما لذلك الشيء. ولو فرض ان يكون ذلك الامر آلة لادراك العلّة - كما انّ الحواسّ آلة لادراك النفس - كان الواجب بذاته محتاجا في ادراك المعلولات إلى الآلة ، وهو يلزم جهله في مرتبة ذاته ؛ وهو باطل.

وأنت خبير بأنّ هذا الاشكال يرد على أصل علم الواجب - تعالى - وان لم يقل بأنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، إذ لا شكّ انّه لا بدّ من علمه - تعالى - بالجميع في الازل وذلك لا يمكن أن يكون بحضور أنفسها ، فلا بدّ أن يكون بحضور صورها وذلك / 150 DA / إمّا بطريق الارتسام في ذات / 151 MB / العلّة - ... إلى اخر ما ذكر -. ثمّ وجه اندفاع هذا الاشكال - على ما قيل - : امّا عن العلم التفصيلي فهو انّ حضور المعلولات الموجودة في الأعيان بطريق قيامها بذواتها ؛ ولا يلزم المثل الافلاطونية ، لأنّ المثل صور علمية للأشياء لا نفس الأشياء الحاضرة بذواتها عند مبدئها ، وامّا حضور الصور الادراكية سواء كانت صور المحسوسات أو كانت صور المعقولات فبطريق آخر هو قيامها بأمر آخر حاضرة بذواتها عند الواجب - تعالى - ، ولا محذور في ذلك ، فانّ مناط الاتصاف بالعلم أحد من الأمور الثلاثة :

إمّا العينية ؛

وإمّا القبول ؛

وإمّا الحضور ؛ ولا محذور في احتياج الواجب بالذات - تعالى - إلى معلوله في أمر

ص: 184

آخر غير كمالي كحضور الاعراض القائمة بالجواهر عنده - تعالى - ، بل هذه ليس احتياجا لواجب الوجود بالحقيقة ، لانّ ذلك - أي : قيام تلك الصور بمحالّها - انّما هو لأجل كونها محتاجة في الوجود إلى تلك المحالّ وكون وجودها وجودا في شيء وعدم قبولها للوجود بنحو آخر - كالاعراض مثلا - ، فاطلاق لفظ الاحتياج بطريق التسامح.

وتوضيح ذلك : انّه كما انّ الأشياء العينية يجب حضورها عند الواجب بانحاء وجوداتها المخصوصة بها - ولذا تكون الموجودات العينية القائمة بذواتها حاضرة بجملتها عنده - تعالى - بنحو وجوداتها العينية الّذي هو قيامها بذاتها في الاعيان ، وتكون الموجودات العينية القائم بغيرها حاضرة عنده تعالى بنحو وجوداتها العينية الّذي هو قيامها بموضوعاتها في الاعيان مع موضوعاتها - فكذلك الأشياء الذهنية - أي : الصور العلمية القائمة بذوات العلماء ، لا بذواتها - يجب أيضا أن تكون حاضرة عنده - تعالى - بنحو وجودها الذهني وبنحو كونها صورا ادراكية للعلماء ، فوجوب حضور تلك الصور الادراكية ليس لاستتمام علمه - تعالى - بالاشياء المعلومة بتلك الصور للعلماء ، فانّ تلك الأشياء معلومة له - تعالى - بذواتها ، بل لكون تلك الصور من جملة الأشياء الّتي يجب تعلّق علمه - تعالى - بجملتها. فاعتبار كون تلك الصور في الحضور الشهودي له قائمة بمحالّها - الّتي هي ذوات العلماء - ليس لكونه - تعالى - محتاجا في ادراكها إلى تلك المحالّ ليلزم كونها آلة لادراكه - تعالى - ، بل لوجوب تلك الصور بنحو وجودها الّذي هو قيامها بمحالّها حاضرة عنده كحضور الأعراض القائمة بالجواهر عنده - تعالى -.

وأمّا عن العلم الكمالي الاجمالي فهو انّا لا نسلّم انّ حضور العلّة غير حضور معلولها ، بل يتضمّن حضورها حضوره ؛ وحينئذ امّا أن يمنع أيضا كون وجودها مغايرا لوجود معلولها ويلتزم التضمن فيه أيضا ، أو يمنع كون تغاير الوجودين مستلزما لتغاير الحضورين ، وهو بعيد ؛ أو يلتزم تغاير الحضورين لكن نقول : انّ حضور العلّة مستلزم لحضور المعلول اجمالا وإن لم يعلم كيفية حضوره.

وجميع ذلك مبني على الاحتمال الأوّل في العلم الاجمالي ، وعلى الاحتمال الثاني فالجواب ظاهر ؛

ص: 185

ثمّ لا يخفى انّه على ما ذهب إليه أهل الحقّ من كون الواجب - تعالى - عالما بجميع الاشياء قبل ايجادها وبعده بالعلم الحضوري الاشراقي التفصيلي من غير تفاوت في علمه السابق على الأشياء والمقارن معه ، بل كون علمه بجميع الأشياء في جميع الأوقات على نحو واحد يمكن أن يقال : هذا الجواب بعينه عن الاشكال المذكور ، لأنّ ما يمكن ان يكون مناطا للعلم الاجمالى يمكن أن يكون بعينه مناطا للتفصيلي أيضا - أعني : كون الأشياء لوازم ذاته وانطواء جميعها في ذاته المقدّسة - ، فانّ مجرّد كونها من مفيضات ذاته ومعلولاته المترشّحة الفائضة عنه كافّ لانكشافها عنده على التفصيل ولا يفتقر إلى وجوداتها العينية للزوم المفاسد المذكورة. وحينئذ نقول في الجواب عن الاشكال المذكور إذ أورد على العلم الحضوري على ما اخترناه : انّ وجود العلّة مغاير لوجود المعلول ، إلاّ أنّ حضورها يتضمّن حضوره أو يستلزمه نظرا إلى كونه من لوازمه المترشّحة عنه ، فاستلزام تغاير الوجودين لتغاير الحضورين على الاطلاق غير ممنوع ، بل انّما يسلّم ذلك على تقدير كون علم العلّة بالمعلول زائدا على ذاته - كما في علوم الممكنات - ؛ أمّا إذا كان علم العلّة به عين ذاته - كما في علم الواجب تعالى - فلا نسلّم انّ حضور العلة حينئذ مباين لحضور المعلول مباينة رافعة للتفصيل والاستلزام. وذلك لانّ حضور الواجب عند ذاته أقوى في انكشاف معلولاته عنده من حضور معلولاته فيه. وبالجملة كون وجود المعلول غير وجود العلّة لا يستلزم أن يكون علم / 150 DB / العلّة بمعلولاتها على سبيل الحضور الانكشافي موقوفا على حضور المعلولات ، لانّ علم الحضوري بالمعلول يتصوّر من وجهين :

أحدهما : أن يكون المناط فيه حضور ذات المعلول ؛

وثانيهما : أن يكون المناط فيه حضور ما هو أقوى من حضور المعلول والعلم الحضوري للواجب بالأشياء من الوجه الثاني ، لانه يعلم الأشياء بالإضافة الاشراقية من جهة حضور ما هو اقوى في باب الانكشاف - أعني : ذاته تعالى - فما قيل : من انّ مناط الاتصاف بالعلم أحد من الأمور الثلاثة العينية أو القبول أو الحضور ؛ ممنوع ، إلاّ أنّ الحضور / 152 MA / أعمّ من حضور المعلول بنفسه أو حضور ما هو ملزومه ومقتضيه.

ص: 186

فمناط علم الواجب بالأشياء قبل ايجادها هو حضور علمها ، بل الأمر كذا بعد ايجادها أيضا. فمناط العلم الواجبي بالأشياء بعد ايجادها ليس هو حضور نفس الأشياء الخارجية وحصول صورها في جوهر عقلي حاضر عنده ، بل الحقّ انّ مناط علمه المطلق الّذي ليس إلاّ تفصيليا ليس سوى ذاته بذاته. وقد ظهر ممّا ذكرنا انّ القول بالعلم الاجمالي لا ينفع في دفع هذا الاشكال وغيره من الاشكالات ، فانّ كلّ ما يمكن أن يقال في دفع الاشكالات الموردة على العلم إذا جعل العلم السابق (1) اجماليا يمكن أن يقال بعينه إذا جعل ذلك العلم تفصيليا ، فهما في ذلك سيّان فأيّ حاجة إلى القول بالعلم الاجمالي مع استلزامه للمفاسد المذكورة؟!.

فالحقّ - كما قيل - : انّه لا يصحّ أن يكون الاجمال والتفصيل وصفين لعلمه - سبحانه - ، بل هما وصفان للاشياء باعتبار الشهود العلمي والشهود الخارجي ، فباعتبار الشهود العلمي يكون جميع الأشياء في درجة واحدة بحيث لا يكون لواحد منها تقدّم على الآخر باعتبار العلم بها ، فكان الجميع أمرا واحدا ؛ وباعتبار الوجود الخارجى امور متفاصلة متفارزة ويكون لبعضها تقدّم على الآخر. قال بعض الاعلام : انّ الواجب - تعالى - في مقام ذاته المقدّسة كلّ الأشياء - كما اشار إليه المعلم الثاني بقوله : « فهو الكلّ في وحدة » ، أي : هو عين الأشياء حالكونه واحدا - ، فحضور ذاته بذاته لذاته نفس حضور الكلّ على وجه أعلى وأشرف ، بمعنى انّ كلّ فعلية ووجود مستهلك ومندرج في شعاع ذاته ، أي هو محيط بالكلّ احاطة معنوية لا كاحاطة النواة على الشجرة النخلة أو احاطة الظرف على المظروف أو الكلّي للجزئي أو المكان للمتمكّن والزمان للزماني - تعالى اللّه عن ذلك - لنقص المحيط في كلّ منها ، بل احاطة كمالية بأن ظهر مع تنزّهه عن الكثرة والامكان ، بل عن كلّ شيء ونقصان في كلّ ، فهو بعلمه لذاته الّذي هو نفس ذاته ونور كلّ شيء وظهوره - كما قال : ( اللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... ) (2) الآية - يعلم الكلّ بذاته. ووجوب المغايرة بين حضور الواجب وحضور الغير إنّما يكون في مقام الكثرة والتفصيل ، لا في مقام الجمع والاجمال ، فانّ مقام الجمع عين وجود كلّ شيء

ص: 187


1- الاصل : ان يقال.
2- كريمة 35 ، النور.

منزّها عن القيود والكثرة ، وهذا نفس انكشاف الأشياء ، فذاته في مقام الاجمال بمنزلة المرآت لمشاهدة الكلّ منها. فهو قبل ايجاد الأشياء وبعدها ومعها يعلم بها نفس ذاته المقدّسة من غير تغيّر وتبدّل فيها.

وهذا علم اللّه - تعالى - بالحقيقة لا الّذي يسمّى بالعلم التفصيلي ، لانّ علمه - تعالى - يجب أن يكون كماله ، وغيره لا يكون كماله فعلمه بالكلّ بالحقيقة ليس إلاّ العلم الاجمالي الّذي هو نفس ذاته. وان تمرّد شيطان الوهم في الانقياد والقبول وقال : « كيف يمكن أن يكون شيء واحد علما للأمور المتكثّرة مع انّ العلم يتكثّر بتكثّر المعلوم »؟! ، فاطرده بشهاب البرهان وقل : انّه كما كان بوحدته الحقيقيّة متجلّى في الموجودات بترتيب السببي والمسببي من غير لزوم محال فكذلك يكون بعلمه الّذي هو واحد من جميع الجهات وعين ذاته عالما بكلّ شيء. بيانه : انّ كلّ ما هو كمال مطلق للموجود بما هو موجود فهو واجب له - تعالى - بحيثية ذاته ، ولا شكّ في أنّ علمه - تعالى - بالأشياء كلّها قبل وجودها ومع الوجود وبعد الوجود من كمال الموجود بما هو موجود ، فهو واجب له في مرتبة ذاته ؛ انتهى.

وغير خفيّ انّ ما ذكره من احاطته بالكلّ احاطة معنوية ومن اندراج الكلّ واستهلاكه في ذاته - تعالى - وكون ذاته بمنزلة المرآت لمشاهدة الكلّ مسلّم نظرا إلى كون الجميع لوازم ذاته ، إلاّ أنّ ذلك كما يجوز أن يكون مصحّحا للعلم الاجمالي / 151 DA / بالكلّ يجوز أن يكون مصحّحا للتفصيلي ، فما الباعث لنفي العلم التفصيلى عنه في هذه المرتبة مع كونه كمالا مطلقا للواجب - تعالى شأنه -؟!. فحضور الواجب يستلزم حضور الكلّ تفصيلا في مقام الاجمال والتفصيل معا - أي : في مقام انطواء الأشياء جميعا في ذاته وفي مقام بروزها إلى الخارج ممتازة منفصلة -. وحينئذ فما ذكره القائل المذكور من الفرق بين مقام الاجمال والتفصيل في حضور الواجب لحضور الغير في الأوّل ومغاير له في الثاني غير صحيح.

وثانيهما - أي : ثاني الاشكالين الموردين على القول بأنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول - : انّه لو كان العلم بالعلّة مستلزم للعلم بالمعلول لزم التسلسل أو الانتهاء إلى

ص: 188

علم هو عين ذاته - تعالى -. وجه اللزوم : انّه لو استلزم العلم بالعلّة العلم بالمعلول وكان جميع ايجادات الواجب مسبوقا بالعلم لكان هذا العلم أيضا معلولا له - تعالى - ، فيلزم سبق علمه - تعالى - به أيضا ؛ ثمّ ننقل الكلام إلى هذا العلم فامّا يتسلسل أو ينتهي إلى علم لا يكون معلولا له ، وذلك انّما يتصوّر بأن يكون عينه - تعالى - إذ كلّ ما هو غيره فهو معلول له - تعالى - ، والتسلسل بديهي البطلان. والانتهاء إلى علم يكون عينه - تعالى - أيضا باطل - لما سبق من أنّ حضور العلّة مغاير لحضور معلولها -.

قيل : كون العلم بالعلّة مستلزما للعلم بالمعلول لا يستلزم سوى كون جميع الايجادات / 152 MB / - أي : الموجودات - بتلك الايجادات معلومة ، لا كونها مسبوقة بالعلم ؛

وأجاب عنه بعض المحقّقين : بانّه لمّا كان وجود العلّة سابقا على جميع الايجادات وكانت العلّة في تلك المرتبة عالمة بذاتها وجب أن يكون علمها بمعلولاتها أيضا سابقا على المعلولات ، لتحقّق الاستلزام بينهما ؛ انتهى.

وأورد عليه بعض الاعلام : بأنّ استلزام العلم بالعلّة للعلم بالمعلول لا يستلزم أن يكون العلم بالمعلول سابقا عليه إذا كان العلم بالعلّة سابقا. ثمّ قال : فالصواب أن يقال : انّ هذا بناء على أن يكون مرادهم من تلك المقدّمة انّ علمه بالعلّة مستلزم للعلم بالمعلول قبل ايجاد المعلول ، وأمّا لو كان مرادهم انّ العلم بالعلّة مستلزم للعلم بالمعلول مطلقا فلا يتمّ الملازمة. وغير خفيّ بأنّ مراد القوم من تلك المقدّمة هو انّ العلم بالعلّة سواء تحقّق قبل ايجاد المعلول أو معه او بعده مستلزم للعلم بالمعلول ، وما يدلّ على ثبوت تلك المقدّمة يدلّ على هذا التعميم - كما لا يخفى -.

ثمّ انه قيل في دفع هذا الاشكال : انّه إمّا أن يراد من قولهم : « العلم بالعلّة التامّة بذاتها مستلزم للعلم بالمعلول » انّ ذلك مستلزم للعلم بالمعلول قبل ايجاد المعلول ، أو يراد به انّ العلم بالعلّة بذاتها مستلزم للعلم بالمعلول مطلقا - أي : على تقدير تحقّق العلم بالعلّة قبل الايجاد وعلى تقدير تحقّقه معه - ، أو يراد به أنّ العلم بالعلّة بذاتها مستلزم للعلم بالمعلول حين الايجاد ؛ والشقّ الاول لا يخلو عن احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يراد من العلم بالمعلول هو العلم المطلق الشامل للاجمالي الّذي هو عين

ص: 189

وجود العلّة الغير الغائبة عن ذاتها ، وللعلم التفصيلي الّذي هو مغاير لذات العلّة ؛

الثاني : أن يراد منه العلم الاجمالي فقط ؛

الثالث : أن يراد منه العلم التفصيلي فقط.

فعلى الاحتمالين الأوّلين من الشقّ الأوّل لا يلزم من تقدّم العلم بالمعلول على جميع الايجادات محذور ، لانّ القول بأنّ حضور العلّة مغاير لحضور معلولها انّما يصحّ في العلم التفصيلي ، فلو كان العلم بالعلّة مستلزما للعلم الاجمالي أو المطلق بالمعلول قبل ايجاد المعلول لم يتوقّف هذا العلم على علم آخر - ليلزم التسلسل ، لانّ هذا العلم ليس مغايرا لعلم العلّة بذاتها - ؛

وعلى الاحتمال الثالث - أي : كون العلم بالمعلول هو العلم التفصيلى - يمنع أصل المقدّمة المذكورة - أي : يمنع أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم التفصيلى بالمعلول قبل ايجاده -. ومنه يظهر أنّ غرض القوم من المقدّمة هو انّ العلم بالعلّة يستلزم العلم الاجمالي بالمعلول قبل ايجاده ، لا العلم التفصيلي به.

وأنت خبير بأنّه يلزم على هذا أن لا تكون العلّة عالما بالعلم التفصيلي بالمعلول قبل ايجاده ، وهو باطل لكونه كمالا مطلقا للموجود.

فالحقّ - كما اشير إليه - أن يقال في الجواب : انّ علم العلّة بذاتها ليس مغايرا للعلم التفصيلي بالمعلول أيضا ، لانّ مناط العلم ليس إلاّ ذاته ولا يحتاج إلى وجود المعلولات ، والشق الثاني لا يخلو عن احتمالين :

أحدهما : أن يراد بالعلم بالمعلول هو العلم الاجمالي ؛

وثانيهما : أن يراد به / 151 DB / العلم التفصيلي. وعلى الاحتمال الأوّل لا يلزم أن يكون جميع الايجادات مسبوقا إلاّ بالعلم الاجمالي ، ولا محذور فيه - لما تقدّم من انّه ليس مغايرا للعلم بالعلّة - ؛

وعلى الاحتمال الثاني فعلى التقدير الأوّل منه نمنع أصل المقدّمة المذكورة ، إذ لا نسلم انّ العلم بالعلّة يستلزم العلم التفصيلي بالمعلول قبل ايجاده - كما مرّ -. وقد عرفت انّ هذا الجواب غير صحيح واشرنا إلى ما هو الحقّ في الجواب ؛ وعلى التقدير الثاني منه لا يلزم

ص: 190

محذور أصلا ، إذ لا يلزم منه سبق العلم التفصيلى الّذي فيه يلزم مغايرة علمه بالمعلول لعلمه بالعلّة على جميع الايجادات. وقد عرفت ما فيه وما هو الحقّ ؛

ثمّ الشق الثالث حكمه كحكم الشقّ الثاني ولا فرق إلاّ بأنّه لا يتحقّق في احتماله الثاني التقدير الأوّل الّذي كان للاحتمال الثاني للشقّ الثاني.

ثمّ أنت خبير بأنّ احد الشقّين من الثاني والثالث زائد - لرجوعهما إلى واحد - ، فأحدهما زائد. بل التحقيق انّ مناط الجواب على هذه الشقوق ليس إلاّ أنّ العلم الاجمالي سابق والتفصيلي ليس بسابق ، فمطلق الترديد والتفصيل بأنّ « المراد هل هو قبل الايجاد أو أعمّ؟ » لا مدخلية له في الجواب. فالأصوب أن يكتفى في الجواب عمّا ذكر من التفصيل في الشق الأوّل بأن يقال أوّلا : انّ المراد من العلم بالمعول إمّا العلم المطلق الشامل للاجمالي والتفصيلي ؛ أو أحدهما ، ويجاب على كلّ احتمال بما ذكر.

وعلى ما ذكرناه يكفى في الجواب أن يقال : انّ العلم بالعلّة ليس مغايرا للعلم بالمعلول مطلقا ولا يفتقر إلى ترديد وتفصيل أصلا.

وقد وضح ممّا ذكرناه انّ القول بالعلم الاجمالي باطل. ومنه يظهر انّ المذهب السادس كالمذاهب السابقة عليه.

وأمّا المذهب السابع - أعني : مذهب شيخ الاشراق - فتوضيحه : انّ علمه - تعالى - بذاته هو كونه نورا لذاته وعلمه بالأشياء الصادرة عنه هو كونها ظاهرة له ، إمّا بذواتها - كالجواهر والاعراض الخارجية - أو بمتعلّقاتها الّتي هي مواضع الشعور للأشياء المدركة لها ، سواء كانت مستمرّة - كالمدبّرات العلوية من العقول والنفوس الفلكية - أو غير مستمرّة - كما في القوى الحيوانية النطقية والخيالية والحسّية -. فانّ حضور تلك الأشياء المدركة - أعني : العقول والنفوس والقوى - عند / 153 MA / الواجب - تعالى - وظهورها لديه يقتضي انكشاف جميع الأشياء المتعلّقة بها المنكشفة لها للواجب - تعالى - أيضا ، فعلمه - تعالى - عند الشيخ الالهي محض اضافة اشراقية. فواجب الوجود حينئذ مستغن في علمه بالاشياء عن الصورة وله الاشراق التامّ والتسلّط المطلق ، فلا يحجبه شيء عن شيء.

هذا حاصل ما ذهب إليه هذا الشيخ ؛ فانّه قال بعد ابطال مذهب المشائين : « فاذن

ص: 191

الحقّ في العلم قاعدة الاشراق ، وهو : انّ علمه بذاته هو كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته ، وعلمه بالاشياء كونها ظاهرة له على سبيل الحضور الاشراقي ، إمّا بأنفسها أو بمتعلّقاتها الّتي هي مواضع الشعور المستمرّة للمدبّرات العلوية ، وذلك اضافة عدم الحجاب سلبي. والّذي يدلّ على انّ هذا القدر كافّ في علمه بها هو انّ الابصار لمّا كان بمجرّد اضافة ظهور الشيء للبصر مع عدم الحجاب فاضافته إلى كلّ ظاهر له ابصار وادراك له وتعدّد الاضافات العقلية لا يوجب تكثّرا في ذاته » ؛ انتهى.

قيل : بيان هذا المذهب ووضوحه يتوقّف على أن يبحث الانسان أوّلا عن علمه بذاته وعلمه بقواه وآلاته ، ثمّ يرتقى إلى علم ما هو أشدّ تجرّدا عن النفس الانسانية بذاته وبالاشياء الصادرة عن ذاته ، فيعلم منه انّ علم الأوّل ليس بالصور مطلقا ، بل بالمشاهدة الحضورية ، إذ قد تحقّق أنّ النفس غير غائبة عن ذاتها وادراكها لذاتها لا يزيد على ذاتها وإلاّ لم تشر إلى ذاتها « بأنا » ، إذ كلّ صورة زائدة عليها وإن كانت قائمة بها فهي ليست عينها حتّى يشير إليها بأنا. وأيضا لو كان ادراكها لذاتها بصورة لم يكن هذا الادراك على الوجه الجزئي ، إذ كلّ صورة ذهنية وإن تخصّصت بكلّيات كثيرة لم يخرج عن الكلّية المطابقة للكثيرة. ثمّ ادراك النفس لبدنها ووهمها وخيالها إنّما يكون بنفس هذا الأشياء لا بصور زائدة عليها مرتسمة في النفس ، لانّ الصور المرتسمة فيها كلّية فيلزم أن تكون النفس محرّكة لبدن كلّي ومستعملة لقوى كلّية ولم يكن لها ادراك بدنها الخاصّ وقواها الخاصّة ، وهو ليس بصحيح ، فانّه ما من انسان إلاّ ويدرك بدنه الجزئي / 152 DA / وقواه الجزئية. والنفس يستخدم المتفكّرة في تفصيل الصورة الجزئية وتركيبها حتّى ينتزع الطبائع الكلّية عن الشخصيات الجزئية ويستنبط النتائج من المقدّمات. ولا ريب في أنّ المدرك لجميع ذلك هو النفس ، إذ ليس للقوّة الجسمانية سبيل إلى مشاهدة ذاتها لعدم حضورها عند نفسها ، فانّ وجودها في نفسها هو وجودها لمحلّها لا لنفسها - كما مرّ - ، كيف والوهم ينكر نفسه وينكر القوى الباطنة وان لم ينكر آثارها ، فاذا لم يكن للوهم - الّذي هو رئيس جميع القوى الجسمية الحسّية - سبيل إلى ادراك نفسه وادراك سائر القوى الباطنة على سبيل المشاهدة فكذلك حال ساير القوى الجسمية بطريق أولى ، فالمدرك

ص: 192

للقوى الخادمة والجزئيات المرتسمة فيها والكلّيات المنتزعة عن تلك الجزئيات إنّما هى النفس الناطقة بنفس تلك الأمور ، لا بصور اخرى. وذلك لاستقلالها وتجرّدها وحصول ربط مصحّح للعلم بينها وبين تلك الأمور لتسلّطها على البدن وقواه ، لكونها مؤثّرة فيه بالتحريك والتربية. وكلّما كانت أشدّ تجرّدا وأقوى سلطة على البدن وقواها كان إدراكها اتمّ وحضور قواها عندها أشدّ وظهور الصور الإدراكية لها أقوى ؛ ولو كانت ذات سلطة على غير بدنها كما على بدنها لأدركته أيضا بمجرّد الاضافة الاشراقية القهرية من دون احتياج إلى ارتسام صورة ذلك الغير فيها وانفعالها عنها ، فانّ القبول والانفعال نقص كما انّ القهر كمال. ونحن انّما احتجنا في ادراك بعض الأشياء - كالسماء والكواكب وغيرها - إلى الصورة لانّ ذواتها كانت غائبة عنّا فاستحضرنا صورها ، ولو كانت هي حاضرة لنا - كحضور الأبدان - لما احتجنا إلى صورة. وإذا تبين وتحقّق إنّ النفس غير غائبة عن ذاتها وليست قواها والصورة المتمثّلة في قواها محجوبة عنها ظهر انّ بدنها الخاصّ منكشف لديها لكونها نورا لذاتها ولارتباط تلك الأمور بها وتحقّق نوع علاقة بينها فواجب الوجود لمّا كان في أعلى مراتب النورية والتجرّد وله اضافة الجاعلية التامّة إلى ما سواه وله السلطنة العظمى والقهر الأتمّ والجلال الأرفع بالنسبة إلى جميع الأشياء وهذه الاضافة أقوى العلاقات والارتباطات المصحّحة للعلم - كما مرّ - ، فلا جرم يعلم ذاته ويعلم العقول والنفوس والاجرام وقواها وما يحلّها ويرتسم ، فهو بمجرّد اضافة المبدئيّة والاحاطة الشهودية. فكما انّ علمه بذاته لا يزيد على ذاته كذلك علمه بالاشياء لا يزيد على حضور ذواته. وجميع الأشياء حاضرة عنده على نحو واحد ، فالعقول القادسة والأجسام الهيولانية متساوية في الحضور عنده والانكشاف لديه بذواتها وأعيانها حضورا عقليا وانكشافا نوريا.

وقد استدلّ عليه الشيخ الالهي - كما تقدّم - في كلامه بأنّ الابصار انّما هو بمجرّد اضافة ظهور الشيء للبصر مع / 153 MB / عدم الحجاب ، فانّ من لم تكن الروية عنده بانطباع اشباح المقادير في الجلديّة ولا بخروج الشعاع عنها يلزمه أن يعترف بأنّ الابصار مجرّد مقابلة المستنير للعضو الباصر ، فيقع به اشراق حضوري للنفس ؛ لا غير. وإذا كفى

ص: 193

مجرّد الاشراق وعدم الحجاب في الابصار فيكفى ذلك في العلم أيضا ، فانّ اضافته لكلّ ظاهر ابصار وادراك وعلمه وبصره واحد ، إلاّ انّ علمه يرجع إلى بصره ، لا أنّ بصره يرجع إلى علمه كما في غير قاعدة الاشراق ، فانّه على قاعدة الاشراق يكون العلم عبارة عن الانكشاف وعدم الاحتجاب وهو حقيقة الابصار ، فيرجع العلم إليه ؛ وعلى غير هذه القاعدة يقال : البصر هو العلم بالمبصرات ، فيرجع البصر الى العلم.

ثمّ تعدّد الاضافات لا يوجب تكثّرا في ذاته وكذا تجدّدها لا يوجب تغيّرا في ذاته ، ف ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) (1).

وممّا يدلّ على صحّة هذا المذهب انّه قد سبق أنّ كلّ ما هو كمال مطلق للموجود بما هو موجود يجب تحقّقه للواجب - سبحانه - ، وإذا أمكن ثبوت العلم الاشراقي الوجودي لا بصور ذاته بل بمجرّد اضافة خاصّة كانت للنفس فيجب ثبوته لواجب الوجود بطريق أولى وأتمّ ، فيدرك ذاته لا بأمر زائد على ذاته ويعلم مصنوعاته بظهور ذواتها ، وهو العلم الشهودي الاشراقى.

ثمّ انّ هذه الطريقة في العلم قد ظهرت للشيخ الالهي من بيان المعلّم الأوّل له في بعض الخلسات - كما اشار إليه في التلويحات / 152 DB / حيث قال : « انّي رأيت المعلّم الاول في بعض خلساتي ، فشكوت إليه من صعوبة مسئلة العلم ،

فقال لي : ارجع الى نفسك ينجلى لك! ؛

فقلت : وكيف ذلك؟ ؛

قال : انّك تدرك نفسك فادراكك لنفسك انما هو بذاتك لا بغير ذاتك حتى تكون اذن قوّة اخرى او ذات اخرى بها تدرك ذاتك - إذ لو كان كذلك يلزم التسلسل - ؛ فاذن تدرك ذاتك باعتبار اثر في ذاتك ، وهذا الاثر ان لم يطابق ذاتك فلا يكون صورتها وحينئذ ما ادركتها ؛

قلت : ولعلّ (2) الأثر صورة ذاتي! ؛

فقال : هذه الصورة هل هي مطلقة أو مخصّصة بصفات أخرى؟ ؛

ص: 194


1- كريمة 3 ، سبأ.
2- الأصل : دليل.

فاخترت الثاني ؛

فقال : كلّ صورة في النفس هي كلّية وإن تركّبت من كلّيات كثيرة ، فهي لا يمنع الشركة لنفسها ، وأنت تدرك ذاتك وهي مانعة للشركة بذاتها فليس هذا الادراك بالصور ؛

قلت : لعلّ المدرك في مفهوم « أنا » ؛

فقال : مفهوم « أنا » من حيث هو مفهوم « أنا » لا يمنع وقوع الشركة فيه ، وقد علمت انّ الجزئي من حيث هو جزئي يمنع وقوع الشركة فيه ، فهو لا يكون كلّيا مع أنّ « هذا » و « انا » و « نحن » و « هو » لها معان كلّية من حيث مفهوماتها المجرّدة من دون اشارة جزئية ؛

فقلت : فكيف اذن؟ ؛

فقال : فلمّا لم يكن علمك بذاتك غير ذاتك - بل كان عين ذاتك - فأنت تعلم أنت المدرك لذاتك لا غير ولا تأثير غير مطابق ، فذاتك هي العقل والعاقل والمعقول.

فقلت : زدنى! ؛

فقال : ألست تدرك بذلك الّذي تتصرّف فيه إدراكا مستمرّا لا تغيب عنه؟ ؛

فقلت : بلى! ؛

فقال : هذا الادراك لا يجوز أن يكون بحصول صورة شخصية في ذاتك - لما تقدّم من استحالته - ؛

فقلت : لعلّ يكون هذا الادراك بأحد صفات كلّية ؛

فقال : ذاتك غير بدنك الخاصّ وأنت بذاتك تعرف بدنا خاصّا جزئيا وما أحدث من الشعور والصفات لا يمنع لنفسها وقوع الشركة فيها ، فليس ادراكك لها إدراكا لبدنك الّذي لا يتصوّر أن يكون مفهومه ثابتا لغيره.

ثمّ قال أما قرأت من كتبنا انّ النفس يتفكّر باستخدام المتفكّرة وهي تفصّل وتركّب الجزئيات وترتّب الحدود الوسطى ، والمتخيلة لا سبيل لها إلى ادراك الكلّيات لأنّها جزئية ، فان لم يكن للنفس اطّلاع على الجزئيات فكيف تركّب مقدّماتها؟! ، وكيف ينتزع الجزئيات من الكليّات؟! ، وفي أيّ شيء يستعمل المفكّرة؟! ، وكيف يأخذ الخيال؟! ، و

ص: 195

ما ذا يفيد تفصيل المتخيلة؟! ، وكيف يستعدّ بالفكر للعلم بالنتيجة؟!.

ثمّ المتخيلة جزئية فكيف يدرك نفسها والصورة المأخوذة عنها في النفس كلّية وأنت عالم بتخيلك ووهمك الشخصين الموجودين ودريت انّ الوهم ينكرهما.

قلت : فارشدني - جزاك اللّه عن زمرة العلم خيرا! - ؛

قال : وإذا رأيت أنّها تدرك لا باثر مطابق ولا بصورة فاعلم! : أنّ التعقّل حضور الشيء للذات المجرّدة عن المادّة - وإن شئت قلت عدم غيبته عنها - ، وهذا أتمّ ، لانّه يعلم ادراك الشيء لذاته وغير الشيء لا ينحصر لنفسه ، ولكن لا يغيب عنها. وأمّا النفس فهي مجرّدة غير غائبة عن ذاتها ، فبقدر تجرّدها ادركت ذاتها ، وما غاب عنها ، إذ لم يكن لها استحضار عينه - كالسماء والارض ونحوهما - فاستحضرت صورته. وامّا الجزئيات ففي قوى حاضرة لها فاستحضرت ، وامّا الكلّيات ففي / 154 MA / ذاتها ، إذ المدركات الكلّية لا ينطبع في الأوهام ، والمدرك هو نفس الصورة لا ما خرج عن التصوّر ، وإن قيل للخارج انّه مدرك فذلك بقصد ثان ، وذاتها غير غائبة عن ذاتها ولا بدنها جملة ما ولا قوى لبدنها جملة ما وكان الخيال غير غائب عنها. وكذلك الصور الخيالية فتدركها النفس بحضورها لا لتمثّلها في ذات النفس ، ولو كان تجرّدها أكثر لكان الادراك بذاتها أكثر وأشدّ ، ولو كان تسلّطها على البدن أشدّ كان حضور قواها وأجزائها أشدّ.

ثمّ قال : اعلم! ؛ انّ العلم كمال للموجود من حيث هو موجود ولا يوجب تكثرا ولا يمتنع. وما يمكن للواجب بالامكان العامّ يجب أن يكون له بالفعل ، إذ لا يمكن له - تعالى - شيء بالامكان الخاصّ ، إذ ذلك يوجب أن يتحقّق فيه جهة امكانية ، فيلزم التكثّر فيه.

ثمّ قال : فواجب الوجود ذاته مجرّدة عن المادّة وهو الوجود البحت ، والأشياء حاضرة له على اضافة مبدئيته وسلطنته ، لأنّ الكلّ لازم ذاته ، فلا يغيب عنه / 153 DA / ذاته ولا لازم ذاته. وعدم غيبته عن ذاته ولوازمه مع التجرّد عن المادّة هو ادراكه - كما قرّرناه في النفس -. ويرجع الحاصل في العلم كلّه إلى عدم غيبته عن المجرّد عن المادّة - صورة كانت أو غيرها - ، فالاضافة جائزة في حقّه - تعالى - ، وكذا السلوب ،

ص: 196

ولا تخلّ بوحدانيته. وتكثّر أسمائه بهذا السلوب والاضافات ، ولو كانت لنا على غير بدننا سلطنة - كما على بدننا - لأدركناه كادراك البدن من غير حاجة إلى صورة ، فتعيّن بهذا انّه على كلّ شيء محيط. وادراك اعداد الوجود نفس الحضور له من غير صورة ومثال.

ثمّ قال لي : كفاك في العلم هذا » (1) ؛ انتهى ما افاده المعلم الأوّل بأدنى تغيير.

وانّما تعرّضنا لنقل هذا الكلام بطوله مع سبق ذكر ما هو حاصله أيضا تيمّنا بذكر عباراته وزيادة للتوضيح وبعض الفوائد.

وإذا عرفت ذلك فاعلم! ، انّ الحقّ في كيفية علم الواجب - سبحانه - انّه - تعالى - عالم بذاته - تعالى - وبجميع الأشياء بالعلم الحضوري الاشراقي التفصيلي قبل ايجاد الاشياء وبعده على نهج واحد ، وحقيقة علمه - تعالى - هو الاضافة الاشراقية الّتي لا توجب تكثّرا ولا تركّبا ، فلا فرق بين انكشاف شيء واحد وأشياء متكثّرة في عدم لزوم الكثرة في ذاته. ومصحّح هذا الانكشاف وموجبه أمّا بالنسبة إلى ذاته الحقّة فتجرّده التامّ مع عينية المعلوم للعالم - كما في علم النفس بذاتها - ؛ وأمّا بالنسبة إلى الأشياء المعلومة له - تعالى - فتجرّده أيضا مع تحقّق علاقة قوية هي علاقة المبدئية بينه - تعالى - وبينها - كما في علم النفس بقواها الجزئية المرتبطة بها نحو ارتباط -.

وهذا المذهب هو الّذي ثبت عندنا حقّيته واخترناه ، فإضافة المبدئية والفعالية الثابتة له - تعالى - بالنسبة إلى الجميع مصحّحة لجميع الاضافات - كالعالمية وغيرها - ، وتلك الاضافات متغايرة تغايرا اوجب اختلاف الآثار ، إلاّ أنّها لا توجب تركّبا وتكثّرا في ذاته ، كما انّ واحدة منها مع كثرة متعلّقاتها - كانكشاف الأشياء الكثير - لا توجب تكثّرا في ذاته - تعالى -. والسرّ انّ مبدأ جميع تلك الاضافات ذات واحدة بسيطة مجرّدة هي صرف الوجود ، وهي من لوازم التجرّد ، فكلّما كانت أشدّ كان التجرّد والبساطة أقوى ، فلا يوجب زيادة أمر في الذات حتّى يلزم التكثّر. فمقتضى الكلّ ليس إلاّ واحد صرف وإن كان حقيقة الانكشاف غير حقيقة الايجاد ، كما انّ وجود الأشياء عنه - تعالى - غير حضورها بمعنى الانكشاف وإن كان الجميع راجعا إلى واحد.

ص: 197


1- راجع : كتاب التلويحات ، ص 70.

ثمّ أنت تعلم بما ذكرناه انّ (1) كلام الشيخ الالهي لا ينافي حمله على ما ذكرناه ، ولكن قد نسب إليه في كتب القوم القول بأنّ مناط علمه - تعالى - بالأشياء ليس مجرّد ذاته الحقّة ، بل نفس وجوداتها أيضا حتّى لو لم يكن شيء لم يكن حاضرا عنده - تعالى - لعدم تعقّل حضور الشيء عند آخر مع كونه معدوما. وعلى هذا يكون علمه بالاشياء مقارنا لوجودها ، فلا يكون له - تعالى - علم كمالي لشيء ثابت له - تعالى - في حدّ ذاته ، بل يكون ذوات المعقولات صورا علمية له - تعالى - في حدّ ذاته ، بل تكون ذوات المعقولات صورا علمية له - تعالى - وعالميته - تعالى - اضافة شهودية. ولا ريب في أنّ وجود الممكنات واضافة الأوّل - تعالى - إليها انّما يكون بعد مرتبة ذاته - تعالى - ، فلا يكون الواجب - تعالى - في مرتبة ذاته عالما بشيء غير ذاته - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. - فان كان الثابت عنده ما ذكرناه / 154 MB / من التفصيل المختار عندنا فنعم الوفاق! ؛ وإن كان الثابت عنده ما نسب إليه في المشهور - من تحقّق المقارنة بين علمه وبين وجودات الأشياء وعدم تحقق علمه بها في مرتبة ذاته - ، فنحن نخالفه في هذا الجزء ، والحقّ عندنا سبق علمه - تعالى - على وجودات الأشياء وتحقّقه في مرتبة ذاته ؛ وسنشير إن شاء اللّه الى ما يحقّق الحضور الانكشافي والظهور الاشراقى للأشياء مع عدم كونها موجودة.

والحقّ انّ مذهبه هو ما نسب إليه المشهور لدلالة بعض كلماته عليه - كما سنشير الى بعضها -.

ثمّ إنّ الشيخ الالهي ذهب إلى أنّ علم غيره - سبحانه - من المجرّدات أيضا حضوري اشراقي ، وقال : انّ / 153 DB / الجواهر العقلية تعرف كلّ واحد منها ذاتها بذاتها وتدرك جميع الموجودات الباقية الّتي دونها بالإضافة الاشراقية من غير احتياج إلى أن يكون فيها صورة وأثر. فارتسام الصور مطلقا - جزئية كانت أو كلية - في العقول الفعّالة والقوى العالية عنده باطل ؛ وهذا أيضا من البواعث له على جعل علم الواجب بالأمور المادّية أيضا بالاشراق الحضوري ، لعدم جواز ارتسام صورة في مجرّد حتّى يلاحظها منه - كما ذهب إليه العلاّمة الطوسي من جعل الصور المرتسمة في الجواهر العقلية مناطا لعلم اللّه

ص: 198


1- الاصل : من.

تعالى بالأشخاص المادّية والحوادث الكونية -. ولا ريب في انّ ارتسام صور المادّيات في الجواهر العقلية لا ينافي القول بالعلم الحضوري الانكشافي بالنسبة إلى الجميع ، فانّه يجوز أن تكون صور المادّيات مرتسمة في الجواهر العقلية ومع ذلك تكون ذوات الصور منكشفة عنده بالعلم الحضوري ؛ كما انّ صورها أيضا كذلك.

ثمّ شيخ الاشراقي استدلّ على عدم جواز ارتسام الصور في الجواهر العقلية بأنّ انتقاش المجرّدات بصور ما تحتها إمّا يحصل ممّا تحتها ، فيلزم انفعال العالي من السافل ، وهو غير جائز ؛ أو عمّا فوقها بأن تكون الصور العارضة في بعضها حاصلة عن صور عارضه في بعض آخر ، فينتهى إلى أن تكون الصور المتكثّرة حاصلة في ذات الحقّ - تعالى - ، بل إلى أن يتكثّر في ذاته - تعالى عنه علوّا كبيرا ؛ - انتهى حاصل ما ذكره.

وأنت خبير بأنّ افاضة الصور من بعض المجرّدات إلى بعض اخر لا يستلزم تحقّقها في المفيض ، فيجوز أن تحصل الصور المرتسمة في بعض المجرّدات عمّا فوقه من دون لزوم حصول الصور في ذاته - سبحانه -.

وبالجملة فالحقّ في كيفية العلم هو ما ذكرناه ، سواء كان مطابقا لمذهب الشيخ الالهي او خالفه في جزء واحد.

ثمّ انّه أورد على المذهب المختار اشكالات كلّها مندفعة ؛ فلا بدّ لنا من ذكرها والاشارة إلى دفعها حتّى لا تبقى لأحد شبهة :

منها : ما أورده شيخ الاشراق على نفسه ثمّ أجاب عنه ، وهو : إنّا إذا علمنا شيئا إن لم يحصل فينا منه أثر فحالنا قبل ذلك العلم وبعده واحد ، وحينئذ لا معنى لادراكنا له ؛ وإن حصل فينا شيء فلا بدّ من مطابقته لذلك المدرك ، فيكون صورة ؛

وحاصل جوابه : انّ ذلك انّما هو في العلم الارتسامي ، وأمّا العلم الحضوري الشهودي فاذا حصل فينا فلا بدّ من حصول شيء للمدرك ممّا لم يكن حاصلا له قبل ذلك - وهو الاضافة الاشراقية فقط - من غير افتقار إلى المطابقة الواجبة حصولها في العلوم الصورية. وتقسيم العلوم في اوائل المنطق إلى التصوّر والتصديق إنّما هو في غير علوم المجرّدات بذواتها وغير العلم بالأشياء الّتي يكتفي في العلم بها مجرّد الاشراق الحضوري ،

ص: 199

فانّها ليست من المدركات التصورية والتصديقية.

ومنها : ما أورده الشيخ الإلهي أيضا وأجاب عنه ، وهو : انّ النظام العجيب الواقع مقتض للعلم السابق ، إذ لو لم يكن مسبوقا بالعلم لم يمكن صدوره عن الباري الحقّ ، وقد امتنع أن يكون على مجرّد البخت والاتفاق.

وحاصل جوابه : انّ وقوع النظام الأصلح الأتمّ عنه - تعالى - بسبب جودة ترتيبه الأسبق الواقع بين المجرّدات العقلية والنسب اللازمة عنها ، فانّ للعقول كثرة وافرة غير محصورة ، بل هى على وفق تكثّر الأنواع الجسمانية ، فانّ هذه الأصنام مع هيئاتها اللازمة ونسبها الوصفية ظلال لتلك الأرباب النورية ونسبها المعنوية.

وأنت خبير بأنّ حاصل هذا الايراد انّ النظام الأتمّ إنّما يجب أن يكون مسبوقا بالعلم ويكون صدوره عنه - تعالى - لأجل علمه به ، والعلم السابق لا يمكن أن يكون حضوريا - لعدم تعقّل حضور الشيء وانكشافه مع كونه / 155 MA / معدوما - ، فيلزم أن يكون حضوريا. وحاصل الجواب المذكور : انّ وقوع النظام العجيب لا يلزم أن يكون مسبوقا بالعلم ولا يجب أن يكون صدوره معلّلا له ، بل صدوره عنه - تعالى - إنّما هو لأجل حسنه وترتيبه الأنيق في الواقع.

وغير خفيّ بأنّ في هذا الجواب الزام كون مناط علمه بالاشياء الممكنة هو نفس حضور تلك الأشياء المناسبة وجودها عن وجوده ومقارنة علمه - تعالى - بالاشياء لوجوداتها وعدم تقدّمه عليها وكون علمه / 154 DA / - تعالى - بها في حال ايجادها ، لا ترتيب ايجادها على علمه بها ، فهذا من الشواهد على ذهابه إلى أنّ مناط علم اللّه - سبحانه - بالأشياء هو نفس وجوداتها وظهوراتها وعدم ثبوت علم كمالي له في مرتبة ذاته. فهذا من كلماته الدالّة على أنّ مذهبه هو ما نسب إليه في المشهور - كما وعدناك مجيئه -. فهذا الجواب على ما اخترناه غير صحيح.

وما صرّح به من كثرة العقول وكونها غير محصورة عددا ممّا استقرّ عليه رأيه وتفرّد به ؛ والمشهور خلافه.

ثمّ على ما اخترناه فالحقّ في الجواب عن الايراد المذكور أن يقال : نحن نسلّم انّ هذا

ص: 200

النظام العجيب صادر عن العلم السابق ، إلاّ أنّ العلم السابق لا يلزم أن يكون صوريا ، بل يجوز أن يكون حضوريا انكشافيا ، فكما أنّ القائلين بالعلم الحصولي يقولون : انّ تمثّل نظام الخير وارتسام صورته في ذاته - سبحانه - من لوازم ذاته ثمّ يصير هذا التمثل سببا لصدور النظام ، فنحن نقول : إنّ اصل النظام من لوازم ذاته ومن معلولاته اللازم فيضانه وترشحه عنه ، وهذه المعلولية واللازمية سبب لانكشافه عنده وظهوره لديه وإن لم يوجد بعده ، كما أنّ كون ذاته بذاته سبب لانكشاف ذاته عند ذاته ، فانّ مجرّد المعلولية كافّ للانكشاف مع قطع النظر عن الوجود العيني ، فانّ وجود الشيء في الخارج وحضوره عند المجرّد كما يكون مصحّحا للانكشاف فكذا وجود علّته وحضورها عنده يكون مصحّحا له أيضا ، بل هذا أقوى منه في باب الانكشاف. وسيجيء - إن شاء اللّه - لذلك زيادة بيان.

ومنها : انّه يلزم على القول بالعلم الحضوري أن لا يكون علمه - تعالى - بالأشياء فعليا ، ولا يكون صدورها عنه بالاختيار.

وأجاب عنه بعض أعاظم العرفاء : بأنّ للعلم الفعلي عندهم صورتين :

إحديها : أن يكون سببا للمعلوم بالعرض ومقدّما عليه بالتقدّم الذاتي ، كما إذا اراد البنّاء أن يبنى بيتا فتصوّر أوّلا صورته وأحدثها في ذهنه ، ثمّ اوجد البيت المطابق للصورة المحدثة في ذهنه في الخارج ؛

وثانيهما : أن يكون العالم بما هو عالم علّة بالذات للمعلوم من حيث هو معلوم - سواء كان أمرا ذهنيا أو عينيا - ، والفاعل بما هو فاعل عالما بالذات بما هو مفعول من حيث هو مفعول كذلك. فكما انّ العالم في الصورة الأولى يعلم الصورة الذهنية بنفس اختراعها وليست معلومة بصورة أخرى - بل نفس حصولها عنده في ذهنه نفس معلوميتها له - ، فكذلك العالم في الصورة الثانية يعلم العين الخارجي بايجاده وعلمه بالصورة العينية الخارجية نفس ايجاده لها. ففي الصورة الاولى العلم بالصورة حصولي فعلي والمعلوم - أعني : الصورة - معلوم بالذات والعلم بالعين الخارجى أيضا فعلي ولكن المعلوم - أعني : هذا العين - معلوم بالعرض ؛ وفي الصورة الثانية العلم بالعين الخارجى حضوري فعلي و

ص: 201

المعلوم - أي : هذا العين - معلوم بالذات أيضا ، ففي الصورة الاولى الفاعل يصدر عنه فعله عن ذاته مع علم مكتسب زائد على ذاته ، وفي الصورة الثانية يصدر الفعل عن نفس ذاته العالمة بما هو ذات عالمة. وعلى هذا فالأوّل - تعالى - أوجد المعلول الأوّل وفي حال ايجاده علمه ، لا انّه - تعالى - علمه فأوجده حتّى يلزم تكرّر التعقّلات الموجب للتسلسل في الارتسامات - إن كان العلم السابق ارتساميا - ؛ أو في الموجودات الخارجية - إن كان حضوريا - لاقتضاء العلم الحضوري وجود المعلوم في الخارج ، ولا انّه - تعالى - أوجده فعلمه حتّى يلزم أن يكون علمه انفعاليا مستفادا من المعلوم ، بل أوجده عاقلا له ، أي نفس وجوده نفس معقوليته ، فإيجاد المبدأ الاعلى له عين العلم به. وكذلك حال الثواني من المعلولات. فعلمه - تعالى - بالأشياء حضوري فعلي ولا يلزم أن يكون موجبا لأنّ اقتضاء الشيء للشيء إن كان مع شعور للشيء الأوّل بالشيء الثاني فهو إرادة وان كان بلا شعور فهو ميل طبيعي. ولا فرق بين الإرادة والميل الطبيعي الّذي هو الايجاب إلاّ بأنّ الأوّل يقارن الشعور والثاني لا يقارنه.

والحاصل : انّ مقارنة الشعور للفعل الناشئ من ذات الفاعل كافّ في كونه اراديا وبمجرّده يتحقّق الاختيار ولا يلزم السبق الذاتي للشعور على الفعل ، كما لا يلزم السبق الزمانى له عليه - كما يدعيه المتكلّمون - ؛ انتهى.

أقول : وقد تقدّم انّ للعلم الفعلي / 155 MB / تفسيرين :

احدهما : انّه ما / 154 DB / كان سببا لوجود المعلوم في الخارج ، وهذا هو الصورة الاولى. ولا يكون العلم المقارن للايجاد على هذا التفسير علما فعليا ؛

وثانيهما : ما يكون نفس الايجاد بأن يكون جهة وجود المعلوم وصدوره عن فاعله بعينها هي جهة حضوره لمدركه ، وهذا هو الصورة الثانية. وعلى هذا التفسير يكون العلم المقارن للايجاد - أي : الّذي يكون فيه نفس وجود المعلوم نفس معلوميته - علما فعليا. وعلى هذا فلا يرد اشكال من جهة عدم كون علمه فعليا ولزوم كونه انفعاليا ، نظرا إلى هذا الاصطلاح. إلاّ أنّ القول بمقارنة علمه - تعالى - للايجاد وكون نفس وجود المعلوم نفس معقوليته باطل لما أشير إليه من لزوم عدم كونه - تعالى - عالما في مرتبته و

ص: 202

لزوم جهله - سبحانه - بكلّ ممكن قبل ايجاده ، وهو كفر وزندقة.

وأيضا : نحن نعلم بديهة إنّ المعقولية الّتي هو الانكشاف مغاير للوجود الخارجي - كما أشير إليه سابقا -.

وعلى ما اخترناه من استلزام فعله - تعالى - بذاته لعلمه بالاشياء قبل وجودها الخارجي علما حضوريا تفصيليا - نظرا إلى أنّ ذاته بمنزلة المحل للأشياء لكون جميعها لوازم ذاته ومعلولاته الفائضة المترشّحة عنه فيضانا ذاتيا ، وجواز كون المعلولية والانطواء في العلّة مصحّحا للانكشاف وإن لم يتحقّق الوجود العيني بعد - نقول في الجواب عن ايراد لزوم عدم كون علمه - تعالى - فعليا : لا ريب في أنّ هذا الانكشاف لوجوب تقدّمه على وجود الأشياء في الخارج وامتناع صدورها عن فاعله الحقّ بدون سبق الانكشاف يكون هذا الانكشاف سببا لوجودها ، فيكون هذا الانكشاف علما فعليا بالتفسير الأوّل ، ولكون جهة هذا الانكشاف الاشراقي هو بعينه جهة وجود المنكشف - أعني : لزوم الأشياء المعلولة لجاعلها وانطوائها في ذاته ، لأنّ كونها لازمة له مترشّحة عنه - هو بعينه كونها منكشفة عنده ظاهرة لديه ، فيكون علما فعليا على التفسير الثاني. وهذا أيضا بناء على ما قالوا من أنّ الصور المعقولة جهة معقوليتها هي بعينها جهة صدورها عن فاعلها ووجودها له ، وعلى ما سبق منّا من أنّ وجود الصور المعقولة مغاير لمعقوليتها - لأنّ انكشافها لمحلّها غير وجودها فيه ، لكون هذا الوجود وجودا خارجيا نظرا إلى كون المحلّ موجودا في الخارج والوجود الخارجي للشيء غير انكشافه عند آخر - يكون انكشاف الأشياء للواجب قبل وجودها مغايرا للزومها ومعلوليتها له ، وإن ثبت الاستلزام بينهما ، كما هو ثابت بين وجود الصور المعقولة للشيء ومعقوليتها له. والظاهر انّ قولهم باتّحاد الجهتين أعمّ من الاستلزام ، وحينئذ فلا اشكال.

وبالجملة : على ما اخترناه يكون علمه فعليا على التفسيرين.

ثمّ القول بالعلم الحصولي وإن كانت نفس الصور المعقولة علما فعليا بالنسبة إلى الأعيان الخارجية ولكن تلك الصور أمور زائدة على ذاته معلولة له - تعالى - ، فصدورها عنه - تعالى - يتوقّف على العلم. فان قيل انّ معقوليتها نفس صدورها وايجادها حتّى كان

ص: 203

علما فعليا بالتفسير الثّاني لزم ما ذكره من عدم علمه - تعالى - بتلك الصور في مرتبة ذاته - تعالى - ؛ وإن لم يكن معقوليتها نفس ايجادها بل كانت معقولة بصور معقولة أخرى لزم التسلسل في الصور المعقولة ؛ وأمّا على ما اخترناه فيكون العلم السابق على الأشياء علما حضوريا فعليا ولكونه مجرّد اضافة اشراقية يكون عين ذاته - تعالى - ، ولا يكون شيئا زائدا على ذاته معلولا له - تعالى - حتّى يتوقّف على العلم السابق.

ثمّ مع كون العلم سابقا لا مجال لتوهّم نفي الاختيار ، لأنّه إذا كان الفعل مسبوقا بالعلم فلا ينافي ثبوت الاختيار بأيّ معنى كان ؛ وأمّا مع مقارنته له وعدم تقدّمه عليه مطلقا فلا يعقل تحقّق الاختيار. وما ذكره بعض العرفاء من أنّه لا يلزم في الاختيار السبق (1) الذاتي ولا الزماني للشعور والعلم على الفعل فلا يخفى ضعفه.

ومنها : انّه لو كان علم الواجب بجميع الأشياء حضوريا لكانت المادّيات من الاشخاص الجسمانية والصور الجرمانية حاضرة بالحضور الانكشافي عنده - سبحانه - ، وهذا ليس بجائز ؛ لوجهين :

أحدهما : انّ المادّي مع مادّيته واختلاطه بالغواشي المادّية وتخصيصه بموضع معين وحدّ خاصّ واختصاصه بزمان وجوه كيف يكون حاضرا عند المجرّد المتقدّس عن العوارض / 155 DA / المذكورة؟! ؛ وقد صرّح الشيخ الرئيس في الشفا بعدم جواز ذلك.

وثانيهما : انّ مدار المعقولية والعاقلية / 156 MA / عندهم على التجريد عن المادّة - ولذا قالوا : العلم حضور مجرّد عند مجرّد قائم بالذات - ، وحينئذ كيف يجوز أن يصير الاشخاص الجسمانية معقولة بأنفسها لا بالصور المنتزعة عن موادّها؟!.

والجواب : انّه كما يجوز أن يكون المادّي معلولا للمجرّد فكذا يجوز أن يكون حاضرا عنده منكشفا لديه بالإضافة الاشراقية نظرا إلى تحقّق ربط خاصّ وعلاقة وجودية بينهما ، فانّ ذلك لا يستلزم اجتماعهما في مكان أو وضع ؛ وإنّما يتحقّق ذلك إذا كان كلّ من المدرك والمدرك أو المؤثّر والمتأثّر مادّيا مكانيا. على أنّ مادّية المادّي وكونه مكانيا وزمانيا ذات وضع انّما هو بالنظر إلى مادّي آخر لا بالنظر إلى المجرّد ؛ وإلى هذا

ص: 204


1- الاصل : الشيء.

أشار بعضهم حيث قال : إنّ الشيء المادّي والزماني بالنسبة إلى المادي غير مادّي ولا زماني ؛ يعنى به : انّ أثر المادّة وأثر الزمان - من المكان والوضع والعينية والخفاء - يرتفع منه بالنسبة إلى المجرّد.

ثمّ كون مدار العاقلية والمعقولية على تجريد الصورة انّما هو بالنسبة إلى الأشياء الّتي لم يتحقّق للعاقل بالنسبة إليها علاقة وجودية وتسلّط قهري وعدم الحجاب ، فاذا تحقّق ذلك يكفي للعاقلية مجرّد الاضافة الشهودية الاشراقية. وإلى ما ذكرناه مجملا أشار إليه بعض المحقّقين مفصّلا حيث قال : فان قلت : ما تقول في المعلولات البعيدة من الأمور المادّية والجزئيات الكائنة الفاسدة؟ ، وكيف يمكن حضوره عنده - تعالى - مع كونها مادّية ومختصّة بأزمنة وجوداتها وكونه - تعالى - مجرّدا ازليا أبديا؟ ؛

قلت : أمّا المادّية فقد عرفت انّ التجرّد عن المادّة ليس شرطا لمطلق التعقّل ، بل انّما هو شرط للتعقّل الارتسامي والحضوري ، ولا امتناع في حضور المادّي عند المجرّد كما أن لا امتناع في كونه معلولا له والعلّة واجبة الحصول مع المعلول. إلاّ انّه ليس المراد هو الحصول المكاني الوضعي ، بل المراد الحصول له بنفس الذات - كحصول المعلول عند العلّة -. وأمّا في الأمور الكائنة الفاسدة والزمانية ، فنقول : نسبة كافّة الزمانيات إليه - تعالى - نسبة واحدة كنسبة قاطبة الامكانيات ، وليس له - تعالى - بالنسبة إلى شيء من الزمانيات قبلية ذاتية ولا بعدية ولا مقارنة لعدم اختصاصه - تعالى - بشيء من الأزمنة ، بل وجوده محيط بكلّية الزمان ، كما ليس له بالنسبة إلى شيء من المكانيات فوقية ولا تحتية ولا مفارقة مكانية لعدم اختصاص وجوده - تعالى - بشيء من الأمكنة ، بل هو محيط بكلّية المكان. فالامتداد الزماني بطوله بالنسبة إليه - تعالى - كان واحدا كما أنّ الامتداد المكاني بفسحته بالنسبة إليه كنقطة واحدة. ولا يتوهّم انّ فيما ذكرناه التزام عدم كلّ حادث ، فانّا لا نقول : انّ كلّ حادث فهو في الازل موجود حاضر عنده - تعالى - ، بل نقول : إنّ الحادث في وقت وجوده حاضر لديه منكشف عنده مع كونه - تعالى - في الازل. وهذا الّذي ذكرت وإن كان منقولا من الحكماء إلاّ انّهم قالوا : كذلك في الشهود العلمي الّذي هو بحسب الارتسام في ذاته ، أو في شيء آخر - على اختلاف المذهبين - لا بحسب

ص: 205

الوجود العينى ، وأنا أقول : انّه كذلك بحسب الوجود العيني. ولو تفطّنوا لذلك لاستراحوا من تجشّم التكلّفات في تصحيح علمه - تعالى - بالاشياء. والدليل على أنّهم لم يتفطّنوا لذلك انّ المحقّق الطوسي مع كونه معلّقا على هذا الكلام من الحكماء وتشديد المبالغة في تقريره (1) وتصحيحه في شرح رسالة العلم ، جعل ادراكه - تعالى - لمعلولاته البعيدة من المادّيات والمعدومات الّتي من شأنها أن يوجد في وقت بارتسام صورها في معلولاته القريبة ؛ وهذا أوّل دليل على أنّ المقرّر لهذا المطلب انّما قرّره باعتبار الشهود العلمي الارتسامى ، لا بحسب الوجود العيني. وممّا يدلّ على عدم تفطّنهم أيضا لما ذكر قول الشيخ في الشفا حيث قال ما حاصله : ولا تظنّ أنّ الاضافة العقلية إلى الاشياء حين وجودها ، بل يلزم هذا الاضافة إليها وهي بحال معقولة ، ولو كانت من حيث وجودها في الاعيان لكان انّما يعقل ما يوجد / 156 MB / في كلّ وقت ولا يعقل المعدوم منها في الاعيان إلى أن يوجد.

ومنها : انّه لو كان جميع الأشياء حاضرا عند الواجب لزم تناهى عدد الموجودات ، و/ 155 DB / اللازم باطل من جانب الأزل عند الحكيم - لا من جانب الأبد عند الكلّ ، لخلود الجنّة والنار وأهلهما عند قاطبة المليين -. بيان الملازمة : انّ الاوضاع الفلكية وحركاتها بجميعها وأجزاء الزمان بأسرها مترتبة متحقّقة في الوجود بالنظر الى الواجب وان لم تكن مجتمعة إذا قيس بعضها إلى بعض ، فانّ الامتدادات والأوضاع الآتية من جانب الأبد وإن كان ما يحصل منها في الوجود متناهيا إلاّ انّها لمّا كانت بحيث لا تقف إلى حدّ ومن شأنها الذهاب إلى غير النهاية فالواجب - تعالى - محيط بجميع ما حصل في الوجود وما من شأنه أن يحصل في الوجود إلى غير النهاية - لاستواء نسبة الماضى والمستقبل إليه سبحانه - ، فتكون الجميع حاضرة عنده - سبحانه - ؛ فيجري فيها براهين ابطال التسلسل لترتّبها واجتماعها في الوجود حينئذ ، فيلزم التناهي.

والجواب : انّ ترتّب الحوادث إنّما هو في ظرف الزمان ، لانّ حصول الترتّب إنّما هو لأجل العدد وهو انّما يكون في الزمان ، فما هو متعال عن الزمان والزمانيات - كالواجب

ص: 206


1- الاصل : وتشديد المبالغة وتقريره.

تعالى - لا يتصوّر عدد ولا ترتيب بالنسبة إليه. فالحوادث الغير المتناهية في الطرف الّذي مترتّب فيه - أعني : الزمان - غير مجتمعة فيه ، وفي الطرف الّذي مجتمعة فيه - أعني : في علم الواجب تعالى - غير مترتبة فيه ، فلا يلزم التناهي. والحاصل : انّ احاطة الواجب بغير المتناهي لا ضير فيه ولا يجري فيه ادلّة ابطال غير المتناهي.

ومنها : الاشكال المشهور الّذي استصعبوه ، وهو عمدة الاشكالات الموردة على العلم الحضوري. وهو : انّ حضور الأشياء عند الواجب قبل وجودها لا معنى له - لأنّه لا يتصوّر حضور المعدومات واحداثها حين عدمها في الخارج ، لأنّه لا حقائق لها ثابتة حتّى يمكن انكشافها وحضورها عنده تعالى قبل أزمنة وجودها - ، مع انّه على القول بالعلم الحضوري يجب أن يكون الواجب - تعالى - عالما بها في الأزل. والاشكال يصير أصعب في علمه الحضوري بالممتنعات ، لانّه لا يمكن القول بحضورها عنده - تعالى - مع امتناع وجودها في الخارج.

وقد أجيب عن هذا الاشكال بوجوه :

أوّلها : ما ظهر من كلام شيخ الاشراق ، وهو : انّ مناط علمه - تعالى - بالأشياء نفس حضور تلك الأشياء المباينة وجودها عن وجوده ، بمعنى انّ معقوليتها نفس وجودها ، فما لم يتحقّق وجوداتها العينية لم يتعلّق بها العلم ولم يكن منكشفة عند الأوّل - تعالى -. وإلى هذا يشير كلام بعض الأفاضل حيث قال : إنّ علمه - تعالى - عين ذاته بمعنى انّه بذاته مبدأ للانكشاف التامّ بالنسبة إلى ما يصحّ أن يكون معلوما ، والمصحّح للمعلومية هو الشيئية في ظرف ما ، فما لم تتحقّق الشيئية لم تتحقّق المعلومية ولا يكون علم بمعنى الانكشاف ولا معلوم ، فالمعدومات الخارجية والحوادث قبل حدوثها إن كان لها ثبوت في المدارك كان ذلك الثبوت مصحّحا للمعلومية كافيا في تعلّق علمه - تعالى - بها ، وإن لم يكن لها ثبوت فيها بل كانت معدومات مطلقة وليسيات صرفة ، فلا يمكن تعلّق العلم بها. ولا يلزم من ذلك نقص في حقّه - تعالى - ، لانّ المعدوم المطلق من حيث انّه معدوم مطلق لا يصحّ للمعلومية ، بل انّما النقص في المعدوم - كما قالوا في القدرة بالنسبة إلى الممتنع -. ثمّ إذا وجدت الحوادث في الخارج يتعلّق بها علمه - تعالى - ، فعلمه الّذي هو

ص: 207

مبدأ الانكشاف وعين ذاته أزلي وتعلّقاته حادثة.

وأنت تعلم انّ هذا الجواب يجعل الاشكال أصعب!.

أمّا أوّلا فلانّه لو كان مناط علمه - تعالى - بالأشياء نفس وجوداتها وظهوراتها ولم يكن له علم كمالي بشيء قبل وجوده بل كانت ذوات الأشياء العينية صورا علمية له وعالميته اضافية اشراقية شهودية لزم أن يكون الواجب الحقّ جاهلا بالاشياء في مرتبة ذاته. لانّ وجود الممكنات واضافة الأوّل - تعالى - إليها بعد مرتبة / 157 MA / ذاته والتزام عدم عالميته بشيء غير ذاته في مرتبة ذاته نقص عظيم وكفر باللّه الكريم ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّه يلزم أن لا يكون صدور الأشياء عنه - تعالى - بالاختيار ، لما تقرّر عندهم من أنّ الفاعل بالاختيار يتوقّف فعله على انكشاف المعلول عنده حتّى يمكن تعلّق التأثير به.

فان قيل : انّ صور الحوادث قبل حدوثها يمكن أن تكون حاصلة في بعض المدارك ، فيتعلّق علمه الازلي بها قبل الايجاد بحسب ذلك الثبوت ؛

قلت : هذا مع استلزامه / 156 DA / لبعض المفاسد - كما أشير إليه - لا يدفع الاشكال عن علمه - تعالى - بالمعلول الأوّل ، فانّه لا يتقدّمه مدرك حتّى يحصل صورته فيه.

وأيضا : يشكل الأمر في تعلّق علم تلك المدارك بالحوادث ، فانّه إذا كان تعلّق العلم بالمعدوم الصرف محالا لزم أن يكون تعلّق علم تلك المدارك بالحوادث مسبوقا بنحو ثبوت لها ؛ فذلك الثبوت إمّا أن يكون في تلك المدارك أيضا ، فننقل الكلام إلى ذلك الثبوت ونقول لكونه علما يتوقّف على ثبوت آخر ... وهكذا ، فيلزم التسلسل في الثبوتات المترتّبة ؛ وإمّا أن يكون في مدرك آخر غير تلك المدارك ، فاذا نقلنا الكلام إليه يلزم التسلسل في الثبوتات وفي المدرك أيضا.

ثمّ الجواب عن لزوم نفي الاختيار - بأنّ مقارنة العلم للفعل كافية لكونه اختياريا ولا يلزم تقدّمه عليه - لا يخفى ضعفه!.

وقال بعضهم : انّ ذات العلم - يعنى الواجب سبحانه - لمّا كان تامّا فهو يكفي لايجاد المعلول من غير احتياج إلى تعقّل المعلول قبل الايجاد - كما في الفاعل بالاختيار منّا - ، بل

ص: 208

ما يترتّب على تصوّر المعلول على الوجه الجزئي قبل الايجاد يترتّب على أصل علمه - تعالى - الّذي هو عين ذاته - تعالى - ، فذات العلم هاهنا مقدّم على الايجاد دون تعقّله.

ولا يخفى ضعف هذا الكلام أيضا! ، لانّه لو سلّم إنّ ذات العلم الّذي هو الواجب من دون انكشاف المعلول عنده يكفي في ايجاد المعلول فمن أين يندفع حديث لزوم جهله - تعالى - بالمعلول في مرتبة ذاته ولزوم نفى اختياره - تعالى - بالنسبة الى ما يصدر عنه - تعالى -؟! ؛ ومن البديهيات العقلية انّ عدم علمه - تعالى - بالمعلول في مرتبة ذاته وصيرورته عالما به إذا وجد نقص في حقه - تعالى -. على أنّه مستلزم للتجدّد والتغيّر في صفة العلم لحدوث الانكشاف بعد ما لم يكن ، بل في ذاته - لكون العلم من الصفات الحقيقية الّتي هي عين الذات -.

فان قيل : العلم بمعنى الانكشاف اضافة عقلية ولزوم التجدّد فيه لا يوجب التجدّد في العلم الّذي هو عين الذات - أعني : كون الذات بحيث لو وجد شيء منكشفا عنده - ، والتجدّد والتغيّر في مجرّد الاضافة العارضة بعد وجود المعلوم لا منع فيه ؛

قلنا : لو سلّم انّ تجدّد الحضور والانكشاف وإن لم يوجب التجدّد في حقيقة العلم الّذي هو عين الواجب إلاّ انّه يوجب تجدّد نسب الأوقات واجزاء الزمان بالنسبة إلى الواجب الحقّ مع انّه - سبحانه - مجرّد منزّه عن الزمان والزمانيات ، ونسبته إلى جميع الأوقات والأزمنة واحدة كما أنّ نسبته إلى جميع الأحياز والأمكنة متساوية.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم قد أتى بكلام طويل لبيان أنّ عدم تقدّم الاضافة الاشراقية على وجودات الأشياء ومقارنتها معها وعدم كون الأشياء منكشفة لديه في مرتبة ذاته لا يوجب أيضا نقض في حقّه ؛ فقال : انّ الواجب - تعالى - لمّا كان مجرّدا عن المادّة والقوّة غاية التجرّد فيكون عقلا وعاقلا ومعقولا ، ولمّا كانت الممكنات بأسرها مستندة إليه - تعالى - بحيث لا يقدح صدور هذه الكثرة عنه في وحدته الحقّة فذاته علّة تامّة لجميعها ونسبته إلى جميعها - سواء كانت مفارقات أو مادّيات - نسبة واحدة ايجابية عقلية ، وليست فيه جهة امكانية ، فلكلّ شيء وإن كان من الحوادث الزمانية نسبة وجودية إلى ذاته - تعالى - ، وامكانه انّما هو بالنسبة إلى نفسه وإلى قابل ذاته. وبالجملة ففاعليته و

ص: 209

قيوميته لا تكون في شيء من المراتب بحسب القوّة وكذا علمه بشيء من الأمور الّتي يمكن وقوعها ليس ظنّا ، بل أشدّ العلوم ظهورا واشرافا ، لانّ اسباب وجود الممكن يرتقى إليه وهو يعرف الممكن بأسبابه الّتي بها يجب وجوده. وفي كلامهم تنبيهات على ذلك ، قال الشيخ في التعليقات : « الأشياء كلّها عند الاوائل واجبات (1) ليس هناك امكان البتة ، فاذا كان شيء لم يكن في وقت فانّما يكون من جهة القابل لا من جهة الفاعل ، فانّه كلّما حدث استعداد من المادّة حدثت فيها صورة من هناك - إذ ليس هناك منع وبخل - ، فالاشياء كلّها هناك واجبات / 157 MB / لا تحدث وقتا ويمتنع وقتا ولا يكون هناك كما يكون عندنا ».

وإذ عرفت ذلك عرفت أيضا انّ الواجب - تعالى - يعلم ذاته بذاته ويعلم ذوات المجعولات العينية بذواتها وبنفس وجوداتها ، وانّ اضافته القيومية إلى الأشياء هى بعينها اضافته الاشراقية النورية - على ما هو مذهب شيخ الاشراق - ؛ / 156 DB / فاعلم انّه كما انّ كماله - تعالى - في ايجاده للاشياء هو كونه من تمامية الوجود وفرط التحصّل على نحو يفيض عنه جميع الموجودات وليس كماله فيه بانتساب الموجودات إليه وافاضته لها - أي : هذا المعنى السلبى ، إذ هي في مرتبة متأخّرة عن مرتبة وجوده وكماله - بل الغاية والكمال في الافاضة منه والايجاد هي نفس ذاته المقدّسة وليس شيء سوى ذاته كماله - سبحانه ، لانّه غني عما سواه - ، فكذلك كماله في علمه بالأشياء ليس بنفس حضور الأشياء أو صورها عنده حتّى يكون بحيث لو لم تكن ذواتها العينية أو صورها العلمية أو انكشافها الشهودية في مرتبة ذاته بل تكون في مرتبة متأخّرة عن ذاته - كما هي في الواقع - لزم كونه فاقدا لكمال في مرتبة ذاته واجدا له في مرتبة متأخّرة عنها ويلزم منه استكماله بغيره بعد نقصه في حدّ ذاته - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا - ؛ بل كماله في العلم أن يكون ذاته بذاته منشأ لانكشاف الأشياء بذواتها وكان في العاقلية إلى غاية يستتبع له انكشاف ذاته بذاته على ذاته انكشاف ذوات الاشياء بذواتها على ذاته ، بناء على انّ معلولاته من حيث أنّها معلولاته معقولاته وبالعكس بلا تفاوت بالذات أو

ص: 210


1- الاصل : - واجبات.

بالاعتبار ؛ وانّما التفاوت في مجرّد اللفظ. فاذا كان معقولية ذاته مبدأ لمعقولية سائر الأشياء وانكشافها لديه - كما أنّ وجوده مبدأ لوجودها مرتبطة به منتسبة إليه على الترتيب السببي والمسببي وكان ترتّبها الوجودي الصدوري هو بعينه ترتّبها العقلي الشهودي - كان ذاته - تعالى - علما بجميع الموجودات وكان ذاته أولى بان يسمّى علما بالموجودات العينية من الصور الحاصلة عنها في الأذهان ، لانّ معلوميتها بالصور معلومية بالعرض - كما سبق - ، ومعلوميتها بسبب معلومية ذاته بذاته الّذي هو مبدأ لوجودها على نعت الانكشاف والظهور لديه ومنشأ لصدورها على وصف الحضور والمنقول بين يديه معلومية بالذات. ولا شكّ في أنّ ما يعلم به الشيء بالذات أولى بأن يسمّى علما بذلك الشيء ممّا يعلم به ذلك الشيء بالعرض ففي علمه بالكلّ كثرة حاصلة بعد الذات والكلّ بكثرته منكشف له بوحدته ، وبذاته يعلم جميع الموجودات لا بغيره ، فذاته علم بجميع الأشياء ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ حاصل كلامه انّ العلم بمعنى انكشاف الأشياء بالفعل ليس كمالا له - تعالى - حتّى يجب تحقّقه في مرتبة ذاته ، فلا مانع من تحقّقه بعد ذاته - أعني : عند وجودات الأشياء - ، والعلم الّذي هو كمال له - تعالى - هو كون ذاته في مرتبة ذاته بحيث ينكشف له المعلومات من غير افتقار إلى شيء آخر بمعنى انّه متمكّن من ايجادها منكشفة عنده ظاهرا لديه ، فكما أنّ ذاته وعلمه بذاته علّة لعلمه بها بل كما انّ ذاته عين علمه بذاته فكذا وجودات الأشياء عين علمه - تعالى - بها. وعلى هذا فكما يجب تأخّر وجودات الأشياء عن وجوده - سبحانه - فكذا يجب تأخّر علمه بها عن ذاته ؛ هذا كلامه.

ويرد عليه : انّ انكشاف الأشياء عنده - تعالى - كمال مطلق للموجود بما هو موجود ، فعدم تحقّقها في مرتبة ذاته نقص في حقّه - كما مرّ -.

وأيضا : يلزم تجدّد الانكشاف وتغيّره ، وهو وان لم يوجب التجدّد والتغير في الذات - لكونه صفة اضافية - إلاّ انّه - كما تقدّم - يوجب تجدّد نسب الأوقات والازمان إلى اللّه - سبحانه - مع كونه مجرّدا مقدّسا عن الأوقات متعاليا عن الزمان والزمانيات.

وأيضا : قد تقدّم انّ حقيقة الانكشاف مغاير للوجود الخارجي ، فلا معنى للحكم

ص: 211

بأنّ التعقّل عين الوجود الخارجي. وبذلك يظهر ضعف ما قال بعد ذلك : انّ عدم كون الوجودات العينية للأشياء وصورها العلمية / 158 MA / وظهوراتها الخارجية له - تعالى - في مرتبة ذاته ووجوده وعدم كونها داخلة في قوام ذاته لا بأس به بل لا يصحّ غير ذلك. لانّ كل ما هو معقول له فهو معلول له سوى نفس ذاته المقدّسة ، والمعلول كيف يساوي العلّة في مرتبة الوجود أو يتقدّم عليها؟!. وكما انّه لا يلزم من ايجاده - تعالى - للأشياء كون وجودها في مرتبة ذاته بل اللازم كونه بحيث يتبع وجوده وايجاده وجود الأشياء وصدورها عنه ، فكذلك لا يلزم من عاقليته لها كون صورها العقلية وانكشافاتها في مرتبة ذاته ، بل اللازم في مرتبة ذاته كونه بحيث يلزمه اضافة العالمية وهو / 157 DA / متحقّق ، لانّ ذاته في مرتبة ذاته بحيث ينكشف له المعلومات ويظهر له ما يصحّ أن يكون معلوما.

ووجه الضعف ما علمت من الفرق بين الايجاد والانكشاف ، فانّ الأوّل ليس كمالا مطلقا للموجود بخلاف الثاني ؛ والايجاد لا يمكن تحقّقه بدون الوجود الخارجي بخلاف الانكشاف ، وليس هو شيئا زائدا عن ذاته داخلا فيه حتّى يلزم أن يكون غيره - سبحانه - داخلا في قوام ذاته ، بل هو صفة اضافية لازمة للتجرّد مؤكّد له ولا يوجب كونه في مرتبة ذاته تركّبا ولا تكثّرا.

ثمّ غير خفي بأنّ ما ذكره هذا المحقّق من العلم الكمالي هو بعينه العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني من دون تفاوت أصلا ، وما ذكره من الاضافة الّتي هي بعد الذات هو العلم التفصيلي ، فكلامه راجع إلى ما ذكره العلامة الخفري - رحمه اللّه - بعينه ، فيرد عليه ما أوردناه عليه. وقد تفطّن هو بذلك حيث قال بعد كلامه المذكور : وإذا حقّق الأمر على ما ذكرنا فلا بأس بأن يسمّى ذاته - تعالى - علما إجماليا بجميع الموجودات على ما يوجد من كلامهم من انّه - تعالى - يعلم الأشياء بعلم واحد اجمالي قياسا على العلم الاجمالي ، والعقل البسيط المذكور في كتاب النفس - أي : الّذي يكون مبدأ للمعقولات المفصّلة النفسانية الكثيرة بعد محافظة تقدّسه تعالى عن شوب القوّة ومراعات الفرق بينهما من وجوه الملابسة - انّما هي باعتبار كون العقل البسيط والعلم الاجمالي مبدأ للمعقولات

ص: 212

الكثيرة التفصيلية مع عدم ايجاده بها ، - كما ظنّه فرفوريوس - ، إلاّ أنّ العقل البسيط الّذي عندنا موجود في عقولنا وهناك نفس وجوده ومعقولاتنا المفصلة متجدّدة زمانية واردة علينا شيئا بعد شيء بعدية على التراخي ، وهناك مرتبة ذاته مجتمعة دهرية والمعقول البسيط هاهنا ليس علّة تامّة ، بل معدّة لهذه التفاصيل والنفس قابلة لها ، بخلاف ما هناك. فعلى هذه الطريقة صور المعقولات عنده على وجه بسيط مقدّس عن شوب القوّة والكثرة. وأشبه الأمثلة في هذا الباب قول بعض الحكماء : لو كان للأوّليات وجود في الاعيان لا في النفس - لأنّها معان مجرّدة عن المادّة - لكانت نسبتها إلى لوازمها كنسبة الأوّل إلى معلولاته ؛ انتهى.

وغير خفي بانّه كان المناسب على ما ذكره - من جعل العلم الكمالي هو العلم الاجمالي على الوجه الثاني - أن يمثّل له بالملكة لا بالمعقول البسيط - كما تقدّم من أنّ المعقول البسيط انّما يناسب الاجمالي على الوجه الأوّل -.

ثمّ ما ذكره من قوله : « فعلى هذه الطريقة صور المعقولات عنده - ... إلى آخره - » يناسب ظاهر العلم الاجمالي على الوجه الأوّل ، لانّ الاجمالي بمعنى المنشئية للانكشاف والتمكّن عليه لا يستلزم تحقّق صور المعقولات عنده في مرتبة ذاته ؛ فتأمّل.

وثانيهما - أي : ثانى الوجوه للجواب عن الاشكال المشهور الّذي ورد على العلم الحضوري - : ما صرّح به بعض الأعاظم من العرفاء ، وهو : انّ ذاته - تعالى - في مرتبة ذاته مظهر لجميع صفاته وأسمائه كلّها ، وهي أيضا مجلاة يرى بها وفيها صور جميع الممكنات من غير حلول ولا اتحاد - إذ الحلول يقتضي وجود شيئين لكلّ منهما وجود مغاير لوجود صاحبه ، والايجاد يستدعي ثبوت أمرين يشتركان في وجود واحد ينسب ذلك الوجود إلى كلّ منهما بالذات - ، وهناك ليس كذلك ، بل ذاته بمنزلة مرآة يرى فيها صور الموجودات كلّها وليس وجود المرأة وجود ما يتراءى فيها أصلا. ثمّ صرّح بأنّ ما يظهر في المرأة ويتراءى من الصور ليست هي بعينها الأشخاص الخارجية - كما ذهب إليه الرياضيون القائلون بخروج / 158 DA / الشعاع - ، ولا هي صور منطبعة فيها - كما اختاره الطبيعيون - ، ولا هي من موجودات عالم المثالى - كما زعمه الاشراقيون - ، بل الحقّ انّ

ص: 213

تلك الصور موجودات لا بالذات بل بالعرض بتبعية وجود الأشخاص المقترنة بجسم مشفّ وسطح صيقل على شرائط مخصوصة ، فوجودها في الخارج وجود الحكاية بما هي حكاية ، وهكذا يكون وجود المهيات والطبائع الكلّية عندنا في الخارج ، فالكلّى الطبيعي - أي : الماهية من حيث هي - موجود بالعرض لأنّه حكاية الوجود وليس معدوما مطلقا - كما عليه المتكلّمون - ، ولا موجودا أصيلا - كما عليه الحكماء - ، بل له وجود كلّي. وإذا كان جميع صور الأشياء مترائية من ذات الواجب - كما يتراءى الصور من المرآة / 157 DB / من غير لزوم تكثّر وتركّب - فمشاهدة الواجب لذاته يقتضي مشاهدته - تعالى - لتلك الصور المترائية.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه لا يناسب أسلوب المباحثة والنظر ، ولا يوافق القواعد العقلية الّتي لنا إلى دركها سبيل ، فالاعراض عنه حقيق!.

وثالثها : ما اختاره جماعة من محقّقي الحكماء والعرفاء ، وهو : انّه لمّا ثبت استواء نسبة جميع اجزاء الزمان والمكان إليه - سبحانه ، لكونه تعالى مجرّدا غاية التجرّد ومنزّها عن الوقوع في شيء من الأزمنة والأمكنة ومن أن يتجدّد بالنسبة إليه شيء دون شيء - فالأشياء الكلّية والجزئية حاضرة عنده ومنكشفة لديه في الأزل ، لا بمعنى أنّها موجودة في الأزل والأزل ظرفها حتّى يلزم قدم كلّ حادث ، بل بمعنى انّ كلّ حادث في وقت وجوده حاضر عنده - تعالى - منكشف لديه مع كونه في الأزل ، فهو عالم بجميعها بالعلم الحضوري الانكشافي ، ويرى في الأزل الأشياء في الأبد بانكشاف ذواتها لديه وان كان بعضها بالنسبة إلى بعض غير موجود بعد وغائبا عنه. وليس علمه بشيء من الأشياء بارتسام صورة لا في ذاته ولا في غيره. نعم! ، جميع الصور الإدراكية الحاصلة في المدارك العالية والسافلة - تصورية أو تصديقية صادقة أو كاذبة بل جميع الأوهام والخيالات لكلّ متوهّم ومتخيل - حاضرة عنده - تعالى - مع مداركها الّتي هي محالّها ومعلومة له - تعالى - بنفس تلك الصور. وليس تلك الصور علما له - تعالى - بما سوى ذوات تلك الصور ، والمعلومات بتلك الصور للمدارك المذكورة معلومة له - تعالى - بنفس ذواتها لا بتلك الصور. والحاصل : انّ جميع الأشياء الممكنة من المجرّدات والمادّيات بالقياس إلى

ص: 214

ذات الواجب في درجة واحدة لا يتجدّد ولا يتصرّم ، بل التجدّد والتصرّم والحضور والغيبة إنّما يتحقّق للمسجونين في سجن الزمان ، وأمّا المتعالي عن الزمان والزمانيات والمتقدّس عن المكان والمكانيات فذاته منزّه عن علوق هذه الأمور به ووجوده أعلى من أن يقع في التغيّر والتجدّد ، فنسبة الواجب - تعالى - إلى زمان عدم الحادث عين نسبته إلى زمان وجوده. وما يرى في أجزاء الزمان من التقدّم والتأخّر وما يشاهد بين الحوادث من الاختلاف والتفاوت بالقياس إلى اجزاء الزمان إنّما هو مخصوص بظرف الزمان وما يقع فيه من الزمانيات ؛ وأمّا في الخارج عن ظرف الزمان فلا يتحقّق بالنسبة إليه اختلاف وتجدّد أصلا. فما يكون موجودا في وقت من الأوقات يكون حاضرا منكشفا عند الواجب أزلا وأبدا ولا يكون عدمه - سواء كان عدما سابقا أو لاحقا - متحقّقا إلاّ بالنسبة إلى موجود آخر مثله في كونه زمانيا وواقعا في جزء آخر من الزمان موصوفا بالقبلية أو البعدية الزمانيتين.

ولمّا كان درك هذا المطلب عسرا فلا بأس بأن نذيّل ما ذكرناه بتوضيح للمقام ذكره بعض العرفاء الأعلام ؛ قال - قدس سره - : قد ثبت وتبين انّ اللّه - سبحانه - عالم بالموجودات كلّها في الأزل على ما هي عليه فيما لا يزال علما ثابتا لا يتغيّر بتغيّر المعلوم ولا يتفاوت بحدوث وجودات الأشياء فيما لا يزال بعد فقدانها في الأزل على ما هي عندنا. وذلك لأنّه لا ينافي فقدانها في الأزل على ما هي عليه بالفعل علمه - تعالى - بها في الأزل على ما هي عليه بالفعل ، لانّه إنّما يعلمها في الأزل على ما هي عليه بالفعل بوجوهها الّتي عنده وبجميع احوالها الثابتة لها في نفس الأمر. ومن جملة احوالها الثابتة لها في نفس الأمر انّها فيما لا يزال دون أن يكون في الأزل ، وذلك لاحاطته - تعالى - في الأزل بما لا يزال وما فيه ، كاحاطته بالأزل وما فيه ، فانّه - جلّ وعزّ - محيط بجميع الأزمنة والأمكنة وما فيها من الزمانيات والمكانيات ، كما انّه محيط بما خرج عنها.

فان قلت : انّها لم تكن موجودة في الأزل ، فكيف / 159 MA / أحاط بها في الأزل؟ ؛

قلت : انّها وإن لم تكن موجودة في الأزل لانفسها وبقياس بعضها على أن يكون الأزل ظرفا لوجوداتها كذلك إلاّ أنّها موجودة فيه للواجب - تعالى - وجودا جميعا

ص: 215

وحدانيا غير متغيّر بمعنى أنّ وجوداتها الفائضة إليه الحادثة ثابتة له - سبحانه - في الأزل ، وهذا كما أنّ الموجودات الذهنية موجودة في الخارج إذا فقدت بقيامها بالذهن وإذا / 158 DA / اطلقت من هذا القيد فلا وجود لها إلاّ في الذهن. فالاشياء الموجودة فيما لا يزال إذا قيدت بوجودها لله - سبحانه - كانت موجودة في الأزل ، فيكون كالموجودات الذهنية من حيث أنّها اعيان خارجية لا من حيث أنّها أمور ذهنية. وإذا اطلقت من هذا القيد لا تكون موجودة في الأزل فقط ، بل فيما لا يزال ؛ فيكون كالموجودات الذهنية من حيث أنّها أمور ذهنية فقط ، فالأزل يسع القديم والحادث والأزمنة وما فيها وما خرج عنها. وليس الأزل كالزمان واجزائه محصورا مضيقا يغيب بعضه عن بعض ويتقدّم جزء ويتأخّر ، فإنّ الحصر والضيق والغلبة من خواصّ الزمان والمكان وما يتعلّق بهما ، والأزل عبارة عن الزمان واللازمان السابق على الأزمان سبقا غير زماني وليس بين اللّه وبين العالم بعد مقدّر لانّه إن كان موجودا يكون من العالم وإلاّ لم يكن شيئا ولا ينسب أحدهما إلى الآخر من حيث الزمان بقبلية ولا بعدية ولا معية - لانتفاء الزمان عن الحقّ وعن ابتداء العالم -. فسقط السؤال بمتى عن العالم كما هو ساقط عن وجود الحقّ ، لانّ متى سؤال عن الزمان ولا زمان قبل العالم ، فليس إلاّ وجود خالص من العدم وهو وجود الحقّ ، ووجود من العدم وهو وجود العالم ، فالعالم حادث من غير زمان.

وإنّما يتعسّر فهم ذلك على الأكثرين لتوهّمهم الأزل جزء من الزمان يتقدّم سائر الأجزاء وان لم يسمّوه بالزمان ، فانّهم اثبتوا له معناه وتوهّموا أنّ اللّه - سبحانه - موجود فيه ولا موجود فيه سواه ، ثمّ أخذ يوجد الأشياء شيئا فشيئا في أجزاء آخر منه. وهذا توهّم باطل وأمر محال ، فانّه - سبحانه - ليس في زمان ولا في مكان ، بل هو محيط بهما وبما فيهما وبما معهما وما تقدّمها.

والتحقيق التامّ في ذلك يقتضي نمطا آخر من الكلام لا يسعه العقول المشوبة بالأوهام ، ونشير إلى لمعة منه لمن كان أهله ؛ فنقول :

انّ نسبة ذاته - سبحانه - إلى مخلوقاته يمتنع أن يختلف بالمعية واللامعية وإلاّ فيكون بالفعل مع بعض وبالقوّة مع بعض اخر ، فيتركّب ذاته من جهتي فعل وقوّة ويتغيّر صفاته

ص: 216

حسب تغيّر المتجدّدات المتعاقبات - تعالى عن ذلك - ، بل نسبة ذاته الّتي هي فعلية صرفة وغناء محض من جميع ، الوجوه إلى الجميع وان كان من الحوادث الزمانية نسبة واحدة ومعية قيومية ثابتة غير زمانية ولا متغيّرة أصلا ، والكلّ بفنائه يقدر استعداداتها مستغنيات كلّ في محلّه ووقته وعلى حسب طاقته ؛ وانّما فقرها وفقدها ونقصها بالقياس إلى ذواتها وقوابل ذواتها وليس هناك امكان وقوّة البتّة ، فالمكان والمكانيات بأسرها بالنسبة إليه - سبحانه - كنقطة واحدة في معية الوجود ( وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (1) والزمان والزمانيات بآزالها وآبادها كان واحدا عنده في ذلك ؛ جفّ القلم بما هو كائن. ما من نسمة كائنه إلاّ وهو كائنة عنده. والموجودات كلّها - شهادياتها وغيبياتها - كموجود واحد في الفيضان عنه ؛ ( ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ) (2) وانّما التقدّم والتأخّر والتجدّد والتصرّم والحضور والغيبة في هذه كلها بقياس بعضها إلى بعض ، وفي مدارك المحبوسين في سيطرة الزمان المسجونين في سجن الامكان ، لا غير. وامّا قوله - عزّ وجلّ - : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (3) فهو كما قال بعض أهل العلم : انّها شئون يبديها لا شئون يبتديها. ولعلّ من لم يفهم بعض هذه المعاني يقول : كيف يكون وجود الحادث في الأزل؟ ، أم كيف يكون المتغيّر في نفسه ثابتا عند ربّه أم كيف يكون الأمر المتكثّر المتفرّق وجدانيا جميعا؟ ، أم كيف يكون الأمر الممتدّ - أعني : الزمان - واقعا في غير الممتدّ - أعني : اللازمان - مع التقابل الظاهر بين هذه الأمور؟. فلنمثّل له بمثال حتّى يكسر سورة استبعاده ، فانّ مثل هذا المعترض لم يتجاوز بعد درجة الحسّ والمحسوس.

قلنا : خذ أمرا ممتدا كحبل أو خشب مختلف الأجزاء في اللون ثمّ ليمرره في محاذات نملة أو نحوها ممّا يضيق حدقته عن الاحاطة بجميع ذلك الامتداد ، فتكون تلك الألوان المختلفة متعاقبة في الحضور لديها يظهر لها شيئا فشيئا واحدا بعد آخر لضيق / 159 MB / نظرها ، ومتساوية في الحضور عند من يراها كلّها دفعة لقوّة احاطة نظره وسعة حدقته ؛ ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) (4). فهو - سبحانه - ادرك الأشياء جميعها في الأزل ادراكا

ص: 217


1- كريمة 67 ، الزمر.
2- كريمة 28 ، لقمان.
3- كريمة 29 ، الرحمن.
4- كريمة 76 ، يوسف.

تامّا واحاطة كاملة ، فهو عالم فيه بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ / 158 DB / زمان من الأزمنة وكم يكون بينه وبين الحادث الّذي بعده أو قبله من المدّة. ولا يحكم بالعدم على شيء من ذلك بل بدل ما يحكم بان الماضي ليس موجودا في الحال يحكم بأنّ كلّ موجود في زمان معيّن لا يكون موجودا في غير ذلك الزمان من الأزمنة الّتي تكون قبله أو بعده ، وهو عالم بأنّ كلّ شخص في أيّ جزء يوجد من المكان وأيّ نسبة تكون بينه وبين ما عداه ممّا يقع في جميع جهاته ، وكم الأبعاد بينهما على الوجه المطابق للحكم. ولا يحكم على شيء بانّه موجود الآن أو معدوم أو موجود هناك أو معدوم أو حاضر أو غائب ، لانّه - سبحانه - ليس بزماني ولا مكانى ، بل هو بكلّ شيء محيط ازلا وأبدا ( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ ) (1) ؛ انتهى.

أقول : لا ريب في انّ هذا الوجه - أعني : عدم كونه تعالى زمانيا واستواء نسبة جميع الأوقات والأزمان إليه تعالى وكون نسبته إلى جميع الأمور المتحدة المتعاقبة نسبة واحدة ومعية قيومية غير زمانية - ممّا صرّح به سلف الحكماء ، وهو صحيح في نفسه المتعالي عن الزمان والزمانيات والمحيط بهما ؛ لا يكون بالنسبة إلى ذاته وعلمه حال ومضيّ واستقبال ولا غيبة ولا حضور - كما قال بعض العرفاء : ليس عند ربّك صباح ولا مساء - ، كما انّ المتقدّس عن المكان والمكانيات لا يتحقّق له بالنسبة إلى مكان قرب ولا بعد ، بل نسبته إلى الكلّ نسبة واحدة غير متغيرة ولا متجدّدة. وعلى هذا يلزم أن يكون الواجب - سبحانه - في الأزل عالما بالأشياء على ما هي عليه كما يكون عالما بها فيما لا يزال ، ويكون انكشاف جميع الأشياء - من المجرّدات والمادّيات والحوادث الزمانية - في جميع الأوقات عنده على نهج واحد.

فان قيل : هذا الوجه لا يدفع الاشكال المذكور - أعني : عدم تصوّر حضور المعدوم وانكشافه عند الواجب - ، فانّ هذا الاشكال كما يرد على أصل المدّعى - أعني : كون علم الواجب بجميع الأشياء حضوريا سابقا على وجوداتها - يرد على هذا الوجه الّذي قيل جوابا عن الاشكال المذكور المورد على المدّعى ؛ إذ لقائل أن يقول : كيف يعقل

ص: 218


1- كريمة 255 ، البقرة.

استواء نسبة الأشياء إلى الواجب ظهورا وانكشافا في حالتي الوجود والعدم وعدم اختلافها بالنسبة إليه أزلا وأبدا في الغيبة والحضور مع كونها في الأزل معدومة صرفة وفي الأبد موجودة في الخارج؟! ؛ وما المصحّح لكون الأشياء منكشفة عند الواجب في الأزل مع كونها معدومة فيه؟ ؛ وكيف يكفي وجوداتها اللايزالية لوجوداتها في الأزل للواجب - سبحانه -؟ ؛ فانّ وجوداتها اللايزالية الخارجية لو اقتضت كونها موجودة في الأزل أيضا لزم أن يكون موجودة خارجية في مرتبة ذات الواجب ؛

قلنا : المراد - كما تقدّم - انّ كلّ حادث في وقت وجوده منكشف عنده - تعالى - مع كونه في الأزل ، لا انّه موجود في الأزل.

فان قيل : ما مصحّح هذا الانكشاف مع كون الحادث معدوما في الأزل؟ ؛

قلنا : المصحح هو وجوده الخارجي اللايزالى بملاحظة استواء نسبة جميع الموجودات - أزلية كانت أو ابدية ، مجرّدة كانت أو مادية وجميع الأزمنة والحوادث الواقعة فيها - إلى الواجب - سبحانه - ، فالوجود الخارجي بعد تحقّقه في أيّ وقت كان يكون حاضرا عنده - تعالى - في الأزل والأبد على نحو واحد ، لانّ المحيط بالزمان والدهر والمتقدّس عن الوقوع في الامتداد والتغيّر يكون نسبته إلى الأمور المتحقّقة الثابتة في أيّ وعاء كان وفي أيّ جزء من هذا الوعاء كان نسبة واحدة ثابتة مستمرّة من الأزل إلى الأبد ، واستواء هذا النسبة المقتضي لكون الموجود فيما لا يزال منكشفا عنده - تعالى - بمقتضى وجود هذا الحادث للواجب - سبحانه - في الأزل وان لم يكن موجودا فيه لو قطع النظر عن كون الواجب - سبحانه - بمعنى انّ وجوده اللايزالى ثابت للواجب في الأزل وإن لم يكن / 160 MA / ثابتا لنفسه فيه. وهذا أمر جائز يعطى التأمّل صحّته ووقوعه. فانّ في مثال الحبل المذكور لا ريب في أنّ كلاّ من الجزء المتحقّق فيه في آخره وجد فيه العلّة الّتي محاذية بهذا الجزء لا يكون متحقّقا في أوّله ولا عند حدقة الحبلة المحاذية لأوّله ولا متحقّقا في البعد المنفصل عن ابتداء الحبل ، ومع ذلك متحقّق لمن اتسعت حدقته ويرى جميع الحبل وما هو منفصل عنه دفعة فكذا الحال بعينه فيما نحن فيه ؛ فانّ الوجود اللايزالي لكلّ حادث - سواء كان جزء من الزمان / 159 DA / أو أمرا متحقّقا فيه - لا يكون موجودا في جزء آخر

ص: 219

من الزمان ولا في الوعاء المتقدم على الزمان ، ومع ذلك يكون موجودا لمن هو خارج عن الزمان محيط به ويلاحظ الجميع على نهج واحد ويكون الكلّ موجودا له بوجود جمعي وحداني غير متغيّر ؛ لا في الشهود العلمى الانكشافي فقط ، بل في الشهود الخارجي أيضا ، لما علمت أنّ الجميع بالنسبة إليه موجود في الخارج فيكون لجميع الأشياء وجود خارجي وحداني جمعى للواجب - تعالى - أزلا وأبدا ووجود خارجي تكثيري تفصيلي لأنفسها.

فان قيل : الحبل لمّا كان جميعه موجودا فمن اتسع حدقته يري جميع اجزائه ولو فرض ايجاده تدريجا لم ير جميعه ، بل يرى ما يوجد ؛ وحينئذ فالزمان لو كان جميعه موجودا فنحن نسلّم انّ الواجب يلاحظ جميع اجزائه ملاحظة عقلية على نسبة واحدة ويشاهد الحوادث الواقعة فيه أيضا كذلك ، وأمّا إذا لم يكن موجودا - كما في الأزل - فلا يعقل ظهوره وظهور ما فيه لديه وانكشافهما عنده ؛

قلنا : نحن قد بيّنا انّه موجود في الأزل للواجب - سبحانه - وإن لم يكن موجودا لنفسه نظرا إلى استواء نسبته - تعالى - إلى جميع الأوعية من الدهر والزمان واجزائه ، وهذا كما انّ الحبل المذكور أيضا بجميع اجزائه موجود في البعد الّذي تحقّق فيه وليس موجودا في البعد المحقّق لمن يراه دفعة ؛ هذا غاية الكلام في تصحيح هذا الوجه.

والحقّ كما قرّرناه انّه صحيح في نفسه ويمكن أن يصحّح به العلم الحضوري ، إلاّ انّه لمّا كان مناط علمه - تعالى - بالأشياء مجرّد ذاته - سبحانه - من غير افتقار إلى نفس وجوداتها فيجب أن يكون للواجب - سبحانه - بالنسبة إلى الأشياء شهود علمي مع قطع النظر عن وجوداتها الخارجية بمعنى أن لا يكون لوجوداتها الخارجية مدخلية في الانكشاف أصلا. ولذا ترى أنّ سلف الحكماء مع تصريحهم بالوجه المذكور وقولهم بأنّ نسبة جميع الأوقات والأزمان والحوادث وغيرها من الموجودات إليه - سبحانه - نسبة واحدة لم يصحّحوا العلم الحضوري به ، ولم يعترفوا بأنّ للأشياء شهودا خارجيا ووجودا جمعيا وحدانيا عينيا للواجب ، بل صرّحوا بأنّ لها شهودا علميا ووجودا جمعيا وحدانيا ذهنيا له - سبحانه - فالأصوب في الجواب عن الايراد المذكور هو الوجه الّذي نذكره بعد

ص: 220

ونختاره ، وإن كان هذا الوجه أيضا صحيحا في نفسه. بل الحقّ انّ الوجهين متحقّقان في الواقع ونفس الأمر وكلّ منهما يصلح لأن يصحّح به العلم الحضوري.

ثمّ هذا الوجه ممّا يدلّ على حقّيته الاخبار الكثيرة الواردة عن ائمّتنا الراشدين ؛ كقول علي - صلوات اللّه عليه - : لم يسبق له حال حالا فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا (1).

وكقوله - علیه السلام - : علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين ، وعلمه بما في السموات العلى كعلمه بما في الأرضين السفلى (2).

وكقول الباقر - علیه السلام - : كان اللّه ولا شيء غيره ولم يزل عالما بما كوّن ، فعلمه بها قبل كونه كعلمه بها بعد كونه (3).

وكقوله - علیه السلام - : ما كان خلوا من الملك قبل انشائه ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه (4).

وكقول أبي عبد اللّه - علیه السلام - : لم يزل اللّه - جلّ وعزّ - ربنا والعلم ذاته ولا معلوم والسمع ذاته ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر والقدرة ذاته ولا مقدور ، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر على المبصر والقدرة على المقدور (5).

وكقول الكاظم - علیه السلام - : لم يزل اللّه - تعالى - عالما بالأشياء قبل أن يخلق الاشياء كعلمه بالاشياء بعد ما خلق الأشياء (6).

وكقول الرضا - علیه السلام - : له معنى الربوبية إذ لا مربوب وحقيقة الالهية إذ لا مألوه ومعنى العالم ولا معلوم ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وتأويل السمع على المسموع / 160 MB / ؛ ليس منذ خلق استحقّ معنى الخالق ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى

ص: 221


1- راجع : نهج البلاغة ، الخطبة 65 ص 96.
2- راجع : نهج البلاغة ، الخطبة 163 ص 233.
3- راجع : التوحيد ص 145.
4- راجع : نفس المصدر ، ص 173.
5- راجع : نفس المصدر ، ص 139.
6- راجع : نفس المصدر ، ص 145.

البارئية ، كيف ولا تغيّبه « مذ » ولا تدنيه « قد » ولا تحجبه « لعلّ » ولا توقّته « متى » ولا تشمله « حين » ولا تقاربه « مع » (1).

منها - وهو الّذي ذكرنا آنفا انّه المختار الاصوب من سابقه - ، وتقريره : انّه قد ظهر ممّا سبق / 159 DB / انّ الواجب - سبحانه - بمنزلة مجمل الأشياء بمعنى انّه لمّا كان علّة للكلّ ومقتضيا تامّا له وكان الأشياء بأسرها لوازم ذاته ورشحات وجوده فكان الجميع منطو فيه ، وإذا كان الأشياء بجميعها مندمجة منطوية في ذاته بالمعنى المذكور فيكون هو بمنزلة مجمل الأشياء ، وحينئذ إذا علم ذاته علم الأشياء جميعا لا اجمالا - كما هو مذهب القائلين بالعلم الاجمالي - ، بل تفصيلا - أي : بعلمها بخصوصياتها اللازمة والعارضة واحكامها الكلّية والجزئية - ، وتكون عنده ممتازة بجميع تعيّناتها وخصوصياتها واحكامها ، فانّ كون الكلّ لوازم وجوده ورشحات فيضه وجوده يصلح أن يكون مصحّحا لانكشافه لديه وظهوره بين يديه ، فانّ ذلك كما يصلح أن يكون مصحّحا للانكشاف الاجمالي يصلح أن يكون مصحّحا للانكشاف التفصيلي من دون تفاوت أصلا ، فأيّ حاجة مع ذلك إلى القول بالعلم الاجمالي مع استلزامه للمفاسد الكثيرة المتقدّمة؟! ؛ وكيف لا يصلح معلولية الكلّ وانطوائه في ذاته - سبحانه - مصحّحا للعلم به تفصيلا مع أنّ حضور العلّة أقوى في باب الانكشاف من حضور المعلوم؟ ؛ ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (2). فحضور الواجب - جلّ وعزّ - عند ذاته أقوى في انكشاف الأشياء عنده من حضور الأشياء عنده. فالعلم الحضوري هو حضور عين المعلوم عند العالم أو حضور ما هو أقوى من حضور المعلوم ، والعلم الحضوري بالنسبة إلى الواجب - تعالى - انّما هو بالاعتبار الثاني - أي : حضور ما هو أقوى من حضور المعلوم ، أعني : حضور ذاته المقدّسة - ؛ فمناط العلم بجميع الأشياء ليس سوى ذاته المقدّسة البسيطة من جميع الجهات. فذاته - تعالى - صورة علمية بجميع المجعولات ولجميعها شهود علمي ووجود جمعي وجداني عقلي في ذاته - سبحانه - ، وحضور ذاته بذاته عند ذاته هو حضور جميع الأشياء ؛ فالكلّ يصدر عنه منكشفا عنده. وعلمه بالاشياء بعد كونها ، كعلمه بها قبل كونها ولا تفاوت في ذلك

ص: 222


1- راجع : نفس المصدر ، ص 38.
2- كريمة 14 ، الملك.

أصلا ، لانّ مناط العلم إذا كان ذاته بذاته بلا مدخلية أمر آخر أصلا فلا يكون اختلاف في انكشاف الأشياء في حالتي الوجود والعدم ، ولا يكون العلم ببعضها متقدّما على العلم ببعض آخر. فالعلم بالعقل الأوّل مثلا ليس مقدّما على العلم بالعقل الثاني ، لانّ جميع كمالاته - تعالى - يجب أن يكون في مرتبة واحدة هى مرتبة الذات ، وإلاّ يلزم أن يكون - جلّ وعزّ - فاقدا لبعض الكمالات في مرتبة من المراتب ، وهو محال. نعم! ، يجوز أن يكون بعض المعلومات مقدّما على بعض آخر باعتبار الوجود لا باعتبار المعلومية ، وإلى هذا أشار بعض الأعلام حيث قال : لمّا كان الواجب - تعالى - علّة لجميع ما عدا ذاته ومفيدا للوجود كله فيكون علّة مقتضية لجميع الموجودات ، ولمّا كان عالما بذاته أتمّ العلوم فيجب أن يعلم انّ ذاته علّة للكلّ ومفيدا لوجود الكلّ بوجود الكلّ وإلاّ لم يعلم ذاته أتمّ العلوم ولم يعلم ذاته من جميع الوجوه ؛ ولزم من هذا أن يعلم جميع الموجودات من العلم بذاته. كيف ولو لم يعلم الواجب - تعالى - الأشياء إلى أن يوجد يلزم أن لا يعلم الاشياء من ذاته ، وإذا لم يعلم الأشياء من ذاته علما تامّا غاب عنه بعض وجوه العلم بذاته - وهو انّه من شأنه أن يفيض جميع الأشياء الممكنة -.

وممّا يؤيّد انّ حضور ذاته - تعالى - عند ذاته هو بعينه حضور الأشياء بل أقوى من حضور الأشياء هو أنّ نسبة الأشياء الى جنابه كنسبة الظلّ إلى ذي الظلّ ، وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية ؛ فالواجب بمنزلة الأصل والأشياء بمنزلة العكس ، ولا ريب في أنّ الأصل أتمّ في شبهة العكس من العكس نفسه في ذلك ، كما يظهر من نسبة الأمر الخارجي إلى ما في المرات منه. وإذا حصل العلم من العكس بشبيه يحصل / 161 MA / من الأصل بطريق أولى ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ قوله : « نسبة الأشياء إلى جنابه كنسبة الظلّ - .. الى اخر كلامه - » خارج عن القواعد العقلية ولا يطابق طريقة البحث والنظر ، وليس لنا في اثبات المطلوب حاجة إليه ولا لنا طريق إلى ادراكه ، إلاّ أن يحمل كلامه على ما يرجع إلى ما ذكرناه من أنّ مراده من كون الأشياء أظلالا وعكوسا : انّها من لوازمه / 160 DA / - تعالى - المترشّحة عنه الفائضة منه. وقد ظهر ممّا ذكرناه انّ مناط علمه بذاته هو حضور

ص: 223

ذاته لذاته المجرّدة من جميع الجهات ، ومناط علمه بمعلولاته هو حضور علّتها عند ذاته المجرّدة البسيطة. ثمّ لما كان علّيته - تعالى - للأشياء ثابتة له في مرتبة ذاته فيكون استهلاك الأشياء واندراجها في شعاع ذاته واحاطته بها - إحاطة معنوية - ثابتا له أيضا في مرتبة ذاته ، لانّه معنى المعلولية بعينه ؛ وحينئذ يكون شهوداتها العلمية وظهوراتها الانكشافية أيضا ثابتة له في مرتبة ذاته. وهذا الظهور والانكشاف لكونه اضافة اشراقية لا يوجب تكثرا في ذاته ، وهو - أي : انكشاف الاشياء واشراقها عند ذاته - عين اشراق ذاته لذاته أو لازمه ، نظرا إلى أنّ ذاته الحقّة كما هو علّة (1) لذوات الأشياء ووجوداتها العينية فكذا اشراقه لذاته علّة لاشراق الأشياء وانكشافها لديه ، وعلى التقديرين لا يلزم تكثّر وتعدّد في ذاته ، لانّ الاشراق والانكشاف ولو كان بالنسبة إلى غير المتناهي من الأشياء أمر واحد من جميع الجهات بسيط من كلّ الحيثيات ولا يوجب تركّبا ولا تكثّرا لأنّه ممّا يزداد بازدياد التجرّد ، فزيادته من حيث الشدّة أو من حيث زيادة المتعلّق يوجب زيادة الوحدة والبساطة.

ثمّ هذا الانكشاف وإن كان تفصيليا يعلم به الأشياء بتفاصيلها (2) وخصوصياتها إلاّ أنّه لمّا كان أمرا بسيطا وحدانيا علّة ومنشأ لصدور الأشياء المتكثّرة منه - تعالى - فيمكن أن يكون اطلاق العلم الاجمالي عليه في كلام بعض الأكابر من الحكماء - وتصريحهم بأنّ نسبة هذا العلم إلى الممكنات الّتي هى صور علمية مفصّلة للواجب كنسبة الاجمال إلى التفصيل - مسامحة لم يكن قصدهم منه إلاّ التمثيل والتشبيه ، بأن يكون مرادهم انّ هذا الانكشاف شأنه العلم الاجمالي في كونه بسيطا وحدانيا غير متكثّر وفي كونه مبدأ للتكثر. وكذا الحال فيما يقال : انّ نسبة هذا العلم إلى الممكنات وعلومها الّتي هي علوم تفصيلية للواجب كنسبة الاكسير إلى الذهب أو كنسبة حروف الهجاء إلى المركّبات أو كنسبة النوى إلى النخلة الباسقة أو كنسبة الوحدة إلى العدد أو البحر إلى الموج وغير ذلك ، فانّ جميع ذلك تمثيلات وتشبيهات لو كانت مقرّبة من وجه لكانت مبعّدة من وجه آخر.

ص: 224


1- الاصل : عليته.
2- الاصل : معا فيها.

وممّا يدلّ على ما ذكرناه انّ العلاّمة الخفري مع قوله بالعلم الاجمالي - كما نقلنا كلامه - قال في آخر كلامه : وخلاصة ما حصل من الأبحاث المذكورة انّ علم واجب الوجود الاجمالي الّذي هو عين الذات يعلم به جميع خصوصيات الجزئيات وأحكامها كما يعلم به جميع الصور الكلّية ، ولا دخل للزمان فيه ولا يعتبر فيه أصلا. وأمّا العلم التفصيلي الّذي بعده فهو عين الموجودات عند المحقّق الطوسي ، ويعبّر عنه عند البعض بتعلّق العلم القديم وعند البعض بالرؤية العينية. وهو انّما يكون باعتبار الزمان وفيه تغيّر ما بحيث لا يوجب نقصا ، فانّ ذلك التغيّر ليس في العلم بالذات ، بل إنّما يكون في العلوم من حيث هي معلومات ، فالتغيّر بالحقيقة وبالذات انّما هو في المعلومات ؛ انتهى.

وهذا الكلام كما ترى صريح في أنّ العلم الّذي يوصف بالاجمالي يعلم به الاشياء مفصّلة وإنّ علم الواجب - تعالى - منحصر بهذا العلم وهو غير متغيّر أصلا ، وما هو متغيّر ليس بعلم. والعلم الّذي يوصف بالتفصيلي هو المعلوم التفصيلي ولذا يكون حادثا متغيّرا وليس علما للواجب - تعالى -. وعلى هذا لا يكون ما هو علمه حقيقة وما هو مناط علمه على قسمين عنده - كما ظهر ذلك من كلامه السابق - إلاّ أنّ كثيرا من كلماته الأخر أيضا يدلّ على ذلك - أي : على انّ للواجب علمين - ، فلعلّ كلامه لا يخلو عن مسامحة ؛ هذا وأورد على هذا الوجه منه ما أورد على العلم الاجمالي ووعدناك بانّا نجيب عنه هناك ؛ وهو : انّه كيف يكون لشيء واحد بسيط غاية الوحدة والبساطة صورا علمية مختلفة متكثّرة؟ ، وكيف يكون انكشافه انكشافا لأشياء متكثّرة متباينة الحقائق؟ ، وحديث الانطواء والاندراج ليس المراد منه إلاّ مجرّد المعلولية واللازمية ، فكيف يتميز الاشياء بمجرّد هذا الانكشاف وانّها لم توجد ماهياتها بعد؟ ، وهل هذا إلاّ تمايز المعدومات الصرفة؟!.

والجواب / 160 DB / - على ما سبق - : انّه كما انّ حضور الشيء عند المجرّد القائم بالذات مصحّح لانكشافه عنده فكذا حضور علّته عنده مصحّح لذلك ، / 161 MB / كيف لا وهو أقوى في باب الانكشاف من حضور المعلوم بنفسه. وكما أنّ الصورة العلمية المخصوصة بشيء غير ذلك الشيء كذلك المقتضي لخصوصية شيء غير ذلك الشيء ، لانّ

ص: 225

المقتضي باقتضائه غير ذات المقتضي وصفاته بحيث لا يشاركه غيره ، وكما انّ الصورة الّتي بها يتميّز الشيء إذا حصل عند المدرك كان علما به كذلك المقتضي الّذي به يتميّز الشيء إذا حصل عند المدرك كان علما ظاهرا به. فاذا كان المقتضى لاشياء كثيرة متباينة الحقائق أمرا واحدا لتميز باقتضائه كلّ واحد منها ، فذاته - تعالى - لمّا كان علّة مقتضية لجميع الأشياء إمّا بواسطة أو بدونها وهو عالم بذاته علما تامّا والعلم التامّ بالعلّة بجميع وجوهها مستلزم للعلم بالمعلول كذلك فجميع الأشياء الممكنة المعلولة له - تعالى - يتعيّن بهذا الاقتضاء ، ولا يغيب عنها. ويتميّز باقتضائه كلّ ذرة من ذرات الوجود ولا يغيب شيء منها عن الشهود العلمي ، فالاشياء في مرتبة ذاته - سبحانه - وإن كانت معدومات صرفة إلاّ انّه لمّا كانت معلولة لذاته - تعالى - لازمة لوجوده - سبحانه - فهذه المعلولية واللازمية صارت منشأ لامتيازها وانكشافها بخصوصياتها ، ولا ينحصر مصحّح الانكشاف والامتيار العلمي بالوجود الخارجي والامتياز العيني ، فما ليس معلولا ولازما له ولا يقتضيه ذاته - كالممتنعات الصرفة - فلا نمنع عدم تعلّق العلم والانكشاف به ، لانّه ليس بشيء ( وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (1). وأمّا ما هو معلول له ومقتضى لذاته سواء وجد في وقت أو لم يوجد لعلّه راجع إلى نظام الخير ، فيتعلّق به الانكشاف - لما ذكر -.

فما قيل : انّه كيف يكون ذاته مقتضية للمعدومات والممتنعات وكيف تكون حاضرة متعيّنة مع أنّ التعيّن والحضور لا يمكن بدون الوجود ؛

ففيه - كما عرفت - : انّ التعين بدون الوجود جائز لمصحّح الاقتضاء والعلّية. نعم! ، لا يتحقّق التعين في الممتنعات لعدم تحقّق مصحّح الاقتضاء ، وأمّا المعدومات فان كانت داخلة في المعلولات والمقتضيات فيصحّ بعينها للمصحّح المذكور ؛ وان لم يوجد فظاهر ، وإلاّ فتكون داخلة تحت الممتنعات.

ثمّ انّه أورد على الجواب المذكور : بأنّ العلّة لمّا كانت مباينة للمعلول مغايرة له في الوجود فلا يكون حضورها حضوره ، وما لم يحضر الشيء عند المجرّد لا يكون مشعورا به بمجرّد كون ذلك المجرّد مبدأ امتيازه ؛ على أنّ قياس العلّة إلى الصورة وازالة الاستبعاد

ص: 226


1- كريمة 97 ، المائدة ؛ ....

بذلك مستبعد جدّا ، إذ الصورة عين ماهية المعلول - على ما هو التحقيق - أو شبح ومثال له - على المذهب المرجوح - ، وليست العلّة حقيقة المعلول ولا مثالا له محاكيا عنه ، فقياسها على الصورة قياس فقهي مع ظهور الفارق ؛ انتهى.

وجوابه : إنّ العلّة وان كانت مباينة للمعلول في الوجود إلاّ أنّ ذلك لا يستلزم المغايرة في الانشكاف والشهود ، سيّما بمعنى الاستلزام بأن لا يستلزم انكشاف العلّة انكشاف المعلول ، مع انّه قد تقرّر وثبت أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، فانّ هذه المقدّمة غير مقيّدة بوجود المعلول في الخارج ، بل هي مطلقة ؛ فيكون المراد منها انّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بمعلولها ومقتضاها سواء وجد أم لا ؛ على أنّ الاستلزام ثابت بينهما في الوجود العيني أيضا. فانّ الوجود العيني للعلّة مستلزم للوجود العينى للمعلول وسرّ الاستلزام بينهما في الوجود والشهود هو حصول الربط بينهما واقتضائه العلّة للمعلول. وهذا الربط والاقتضاء وكون المعلول من سنخ العلّة ولازمها صارت منشأ لاستلزام حضورها الانكشافي لحضوره الانكشافي ، ولاستلزام وجودها لوجوده ، وهو واضح.

وقد ظهر ممّا تقرّر وتبيّن انّ الواجب - سبحانه - عالم بذاته وبجميع الأشياء - كلّية كانت أو جزئية ، مجرّدة كانت أو مادّية ، متغيرة كانت أو غير متغيرة ، متشكلة كانت أو غير متشكلة - بعلم حضوري تفصيلي غير متغير وغير زماني. وقد ثبت وتحقّق جميع ذلك بالبراهين القاطعة من الأبحاث السابقة.

ثمّ انّه خالف في هذا التفصيل جماعة ، وهم فرق :

منهم : من قال : انّه - تعالى - لا يعلم ذاته ؛

ومنهم : من قال : انّه - تعالى - لا يعلم غيره مع كونه عالما بذاته ؛

ومنهم : من قال : انّه - تعالى - لا يعلم الجزئيات المتغيّرة والمتشكّلة ؛

ومنهم : من قال : انّه - تعالى - لا يعلم الحوادث قبل وقوعها.

فلا بدّ لنا من نقل حججهم وردّها حتّى لا تبقى لأحد شبهة في هذه المسألة الّتي هي تمام الحكمة الحقّة الالهية وأعظم / 161 DA / الأصول الملية والاسلامية.

فنقول :

ص: 227

وأمّا الفرقة الأولى - وهم الذين قالوا : انّه تعالى لا يعلم نفسه - فشبهتهم على ذلك : انّ العلم نسبة والنسبة لا تكون إلاّ بين شيئين متغايرين هما طرفاها بالضرورة ، ونسبة الشيء الى نفسه محال - إذ لا تغاير هناك -.

وأجاب عنه بعضهم بمنع كون العلم نسبة محضة ، بل هو صفة حقيقية ذات نسبة الى المعلوم ، ونسبة الصفة إلى الذات ممكنة.

فان / 162 MA / قيل : تلك الصفة تقتضي نسبة بين العالم والمعلوم ، فلا يجوز أن يكونا متّحدين ؛

قلنا : هي نسبة تقتضي نسبة بينها وبين المعلوم ونسبة أخرى بينها وبين العالم ، وهما ممكنتان ؛ وأمّا النسبة بين العالم والمعلوم فهي بعينها النسبة بين الصفة وبين المعلوم اعتبرت بالعرض فيما بين العالم والمعلوم.

وفي هذا الجواب نظر ؛

أمّا أوّلا : فلانّه على هذا الجواب تكون صفة العلم زائدة على ذاته ، وهو باطل ؛ فانّ جميع صفاته - تعالى - عين ذاته - سبحانه - سيّما في علمه - تعالى - بذاته ، فانّه عين ذاته بلا ريب من غير امكان المغايرة.

وأمّا ثانيا : فلانّ كون الواجب عالما بذاته حين قيام صفة العلم بذاته - تعالى - ليس إلاّ باعتبار مجموع الذات والصفة ، لبداهة مدخلية كلّ منهما حينئذ في علم الواجب بنفسه ، فيكون هذا المجموع عالما ومعلوما أيضا - لوجوب علم الواجب بذاته - وبالصفة القائمة بذاته فيجب المغايرة بين العالم والمعلوم مع انّهما متحدان بالذات ، وهو المجموع.

وأمّا ثالثا : فلأن ما ذكر من اقتضاء الصفة الشيئين إن كان المراد انّه متحقّق في صورة اتحاد العالم والمعلوم وانّ النسبتين ممكنتان في هذه الصورة فهو باطل قطعا ، لانّ أحد الطرفين في النسبتين المذكورتين هي صفة العلم - على تقدير تحقّق النسبتين - والطرف الآخر في أوّلهما المعلوم وفي أخراهما العالم ، وإذا اتّحدا - أي : العالم والمعلوم - فكيف تحصل النسبتان؟ ، لانّ مناط تغير النسبتين هو تغاير الطرفين ولو في الجملة ؛ ولو قيل بكفاية التغاير الاعتباري فهو مناط الجواب - على ما نذكره بعد - ، فيلغو باقي الكلام!.

ص: 228

وإن كان المراد به انّه متحقّق في صورة تغاير العالم والمعلوم وانّ النسبتين ممكنتان في هذه الصورة فلا ينفع فيما نحن فيه ، لانّ الكلام في صورة اتحاد العالم والمعلوم كما في علمه - تعالى - بذاته.

وامّا رابعا : فلانّ ما ذكر من أنّ النسبة بين العالم والمعلوم هي بعينها النسبة بين الصفة والمعلوم اعتبرت بالعرض بين العالم والمعلوم ؛

يرد عليه : انّ اعتبار النسبة - سواء كان بالذات أو بالعرض - يقتضي تغاير الطرفين في الجملة ، فيستلزم تغاير العالم والمعلوم البتة ، فلا يتمّ هذا الكلام أصلا إلاّ بالتمسك بحديث كفاية التغاير الاعتباري ؛ فيلغو باقى الكلام!.

وحينئذ فالحقّ في الجواب أن يقال : أنّه لا ريب في أنّ العلم - وهو الاضافة الاشراقية - نسبة بين العالم والمعلوم ولكن التغاير الاعتباري كافّ لتحقّق هذه النسبة ، والدليل على ذلك هو علم النفس الناطقة بذاتها.

قيل : وإلى هذا الجواب عن الشبهة المذكورة اشار المحقّق الطوسي في التجريد بقوله : « والتغاير اعتباري » (1) ، أي (2) إنّ ذات الباري باعتبار صلاحيتها للمعلومية في الجملة مغايرة لها باعتبار صلاحيتها للعالمية في الجملة ، وهذا القدر من التغاير يكفي لتحقّق النسبة.

وقال بعض المشاهير : انّ المراد من هذه العبارة : إنّ التغاير بين العلم والمعلوم والعالم في علم الأوّل لذاته اعتباري وكذا التغاير بين العلم والمعلومات في علمه - تعالى - للمعلومات بالذات الّتي هي الموجودات العينية والصور الإدراكية المعلومة بالحضور ، لا المعلومات بالتبع كما في علم الواجب بذي الصورة بسبب حصول الصورة في الجوهر الأوّل مثلا ، فانّ التغاير في هذه الصورة بين العلم والمعلوم ذاتي وليس بمجرّد الاعتبار ، فهذا الكلام جواب عن كلّ من السؤالين اللذين أحدهما : إنّ العالم ما حضر عنده المعلوم فوجب المغايرة بينهما ، فلا يصح الحكم بأنّ الأوّل - تعالى - عالم بذاته ؛

ص: 229


1- راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 221.
2- الاصل : - أي.

والجواب : انّ التغاير الاعتباري كافّ في ذلك ، فانّ معنى الحضور عدم الغيبة وذلك لا يقتضي التغاير الذاتي ؛

وثانيهما : انّ العلم الحقيقي أمر يكون سببا لانكشاف المعلوم ، فوجب تحقّق المغايرة بينهما ، فلا يصحّ الحكم بأنّ العلم عين المعلوم كما / 161 DB / حكم به المحقّقون في علم الأوّل - تعالى - بذاته وبالمعلومات الّتي هي معلومة بالذات ؛

والجواب : إنّ التغاير الاعتباري كافّ في ذلك ، فانّ العلم بالصورة العقلية عينها ، فالصورة العقلية الّتي هي معلومة بالذات هي عين العلم بها ، فهي من حيث هي منكشفة معلومة ومن حيث هي منكشفة بذاتها علم.

وأيضا : منهم من نفى عنه - تعالى - العلم بالعلم لاستلزام النسبة - ضرورة مغايرة العلم للمعلوم - ، فاشار إلى جوابه أيضا بقوله : « والتغاير اعتباري ».

وأمّا تقرير السؤال بأنّ العلم نسبة والنسبة تقتضي تغاير الطرفين ؛ وتقرير الجواب : بأنّ العلم ليس مجرّد نسبة بل صفة حقيقية ذات اضافة ، أو : بأنّ التغاير الاعتباري يكفي لتحقق النسبة - كما ذكره شارح التجريد (1) - فلا تناسب ما ذهب إليه المحقّق من أنّ العلم والعالم والمعلوم واحد في العلم الأوّل - تعالى - بذاته - كما صرح به في شرح الرسالة - ؛ انتهى بادنى تفاوت.

وغير خفى انّ الجواب بكون العلم صفة ذات اضافة لا ريب في عدم مناسبته لما ذهب إليه المحقّق.

وأمّا الجواب بتسليم كونه مجرّد اضافة اشراقية والقول بكفاية التغاير / 162 MB / الاعتباري فلا ينافي القول باتحاد العالم والعلم والمعلوم ، لانّ هذه الاضافة ليست زائدة على الذات ، بل هى عينها ان بنى تصحيح عينية الصفات على أنّ الذات مبدئها ونائب منابها. نعم! ؛ ان بني تصحيحها على أنّ الذات فرد منها وليس سواها اضافة أصلا ، فالأمر كما ذكره ؛ فالكلام حينئذ في أنّ مذهب المحقّق في تصحيح النسبة ما ذا؟!. وعلى أيّ تقدير لا ريب في صحّة تقرير السؤال والجواب على ما ذكره هذا القائل. نعم! ؛ ما ذكره من

ص: 230


1- راجع : الشرح الجديد على التجريد ، ص 312.

كون المعلومات بالذات - أعني : الموجودات العينية المعلومة بالحضور والصور الادراكية - علوما حقيقية نظرا إلى أنّها سبب لانكشاف المعلوم والعلم الحقيقي ما يكون سببا للانكشاف - كما تقدّم ويأتي أيضا - ، فهو مبني على ما ذهب إليه هذا القائل من كون المناط في العلم التفصيلي للواجب بالنسبة إلى الأشياء العينية هو نفس وجوداتها وحضوراتها ؛ وقد عرفت أنّ الحقّ انّ المناط في علمه بالاشياء ليس إلاّ مجرّد ذاته المقدّسة.

وأمّا الفرقة الثانية - وهم الذين قالوا : انّه تعالى لا يعلم غيره مع كونه عالما بنفسه - ، فشبهتهم في ذلك : انّ العلم يستدعي صورا مغايرة للمعلومات الخارجية متساوية لها مرتسمة في العالم ، ولا خفاء في أنّ صور الأشياء المختلفة مختلفة ، فيلزم بحسب كثرة المعلومات كثرة الصور في الذات الأحدي من كلّ وجه.

والجواب عنه عند القائلين بالعلم الحضوري : انّ علمه - تعالى - بالأشياء ليس بارتسام صورها فيه ، بل بحضورها عنده ، وهو أقوى من العلم بارتسام صورها ضرورة انّ انكشاف الشيء على آخر لأجل حضورها بنفسه عنده أقوى من انكشافه عليه لأجل حضور مثاله عنده ؛ وعند القائلين بالعلم الحصولي انّ معقولاته صور متباينة متقرّرة في ذاته - تعالى - وذلك لا ينافي وحدته الذاتية.

وقد عرفت انّ الشيخ لقوله بالعلم الحصولي أجاب عن هذه الشبهة بهذا الجواب في الاشارات نظرا إلى أنّ ارتسام الصور في ذاته لا يوجب تكثّر الجهات فيه عنده حتّى يلزم التركيب المنافي لبساطته ووحدته. والشارح المحقّق ردّ عليه بأنّ ذلك مخالف لقواعدهم من أنّ العلم لا يستدعي صورا مغايرة للمعلومات الخارجية بقوله : « العاقل كما لا يحتاج في ادراك ذاته إلى صورة » - ... إلى آخر ما نقلناه سابقا مع توضيح وتنقيح -. وقد عرفت انّ حاصله : انّ الانسان قد يدرك ذاته وهو ليس بصورة مغايرة وكذا ادراكه للصور الّتي يعقل بها الأشياء ليس بصور مغايرة. وليس محلّية الانسان للصورة شرطا للتعقّل ، بل هو شرط لحصول تلك الصورة وهذا الحصول شرط للتعقّل ، فالمناط في تعقّل الشيء هو حصوله للمدرك بأيّ نحو كان ، فلو حصلت الصورة بوجه آخر غير الحلول حصل التعقّل ولا ريب في أنّ حصول المعلول لعلّته في معنى الحصولية أشدّ من حصول

ص: 231

الشيء لقابله - أعني : الصورة لمحلّها - ، فاذن المعلولات للفاعل العاقل لذاته حاصلة له من غير أن تحلّ فيه ، فيكون عاقلا لها من غير أن يكون حالّة فيه. وإلى هذا المطلب أشار في التجريد بقوله : « ولا يستدعي العلم صورا مغايرة للمعلومات / 162 DA / عنده ، لانّ نسبة الحصول إليه أشدّ من نسبة الصور المعقولة لنا » (1).

ولمّا كان بيان عدم استدعاء العلم صورا مغايرة سهل المأخذ ممكن الدرك بأدنى توجّه لم يلتفت إليه في التجريد. ودفع اشتراط التعقّل بالمحلية بقوله : « لانّ نسبة الحصول إليه أشدّ - ... الى آخره - ». فانّ حصول المعلول للعلّة إذا كان في باب الحصول اتمّ من حصول المقبول لقابله ومنشأ العلم ليس إلاّ حصول الشيء للعاقل فلا يجب أن يكون محلاّ له.

وإنّما توجّه لدفع هذا الاشتراط لانّ القول به هو منشأ للحكم المردود عنده - أعني : كون علمه تعالى بالاشياء بطريق الارتسام وتقرير صور المعقولات في ذاته تعالى -.

ثمّ انّه لا يخفى انّ عبارة التجريد - أعنى : « ولا يستدعي العلم - ... الى آخره - » - كما يمكن أن تكون ردّا على من نفى علمه - تعالى - بالغير مع كونه عالما بذاته يمكن أيضا ان يكون ردّا على من التزم انّ علم الواجب بالغير يستدعي صورا مغايرة للمعلومات الخارجية - أعني : القائلين بالعلم الحصولي ، كالشيخ وغيره -. بل قال بعض المشاهير : انّ حمله على ردّ من ذهب إلى أنّ علمه بالمعلولات بطريق الحصول وارتسام صورها في ذاته - كما ذهب إليه صاحب الاشارات - أنسب من حمله على ردّ من نفى علمه بالغير بعد تسليمه بانّه عالم بذاته كما - فعله الشارح الجديد - ، لانّ المحقّق في شرح الاشارات خالف صاحبه في هذا الأمر وقال : انّ علمه بالاشياء بنفس ذواتها من غير ارتسام صورها فيه ، فهذا الحمل أنسب بالنظر إلى ما اختاره في شرح الاشارات.

ثمّ أشدية نسبة الحصول إلى الفاعل من نسبة الصور المعقولة لنا يحتمل معنيين :

/ 163 MA / أحدهما : انّ حصول مجموع المعلولات الّتي منها الصور الإدراكية لفاعلها العاقل لذاته المستقل في الفاعلية أشدّ تأثيرا في الانكشاف من حصول الصور الادراكية

ص: 232


1- راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 221.

لعلّتها القابلية الّتي ليس علّيتها إلاّ بمشاركة غيره من المبادي العالية المفيضة للصور ؛

وثانيهما : انّ حصول المعلولات للفاعل المستقلّ بالاقتضاء أشدّ وأولى في كونه حصولا - لا في الانكشاف - من حصول الشيء لقابله ، وإذا كان في كونه حصولا أولى نقول : شرط الادراك ليس إلاّ وجود الشيء وحصوله للمجرّد القائم بالذات ، وذلك الحصول - الّذي هو الوجود الرابطي - امّا يكون ارتباطه بالمجرّد القائم بالذات ب- « اللام » - كحضور شيء عند هذا المجرّد ، سواء كان الشيء الحاضر هو ذات هذا المجرّد القائم بالذات أو لا ، ويكون ارتباطه به ب- « من » - كصدور شيء منه بأن يكون علّة مفيدة لوجوده - ، أو يكون ارتباطه به ب- « في » - كارتسام الصور الكلّية العقلية في النفس ، وارتسام الصور الخيالية والحسّية في قواها - ، أو يكون ب- « عند » - كالصور الخيالية والحسّية المرتسمة في القوى ، فانّ تلك الصور مع القوى حاضرة عند النفس - ، وشرط الادراك انّما هو الحصول للمدرك أو منه أو فيه أو الحضور عنده ولا ينحصر شرطه بحصوله فيه. والظاهر عدم الفرق بين الحصول له والحضور عنده حقيقة - كما لا يخفى -.

وعلى ما ذكر فالفرق بين المعنيين : انّ الأشدّية على المعنى الأوّل يكون وصفا للحصول بحال متعلّقه - أي : هذا الحصول تأثيره في الانكشاف أشدّ من تأثير ذلك ، وهذا لا يقتضي كون نفس هذا الحصول أشدّ في كونه حصولا لغيره من ذلك ، إذ ربما يكون الشيء أضعف من شيء من جهة مع أنّ تأثيره في تحصيل أمر أشدّ من تأثير ذلك القويّ في تحصيل ذلك الأمر لمناسبة خاصّة - ؛ وعلى المعنى الثاني تكون الأشدّية وصفا للحصول نفسه.

ثمّ الدليل على المعنى الأوّل - أعني : كون حصول المعلول للفاعل أشدّ تأثيرا في الانكشاف من حصول الصور لمحلّها - هو أنّ المعلول الحاصل لعلّته يكون حاضرا عندها بذاته وبصورته ، والأشياء الّتي ترتسم صورها في النفس انّما تكون حاضرة عندها بصورها فقط ، ولا ريب في أنّ الحضور بالذات وبالصورة أتمّ في الانكشاف من الحضور بالصورة فقط.

وأمّا الدليل على المعنى الثاني - أعني : كون حصول المعلول للفاعل أولى في كونه

ص: 233

حصولا من حصول الشيء لقابله - فهو انّ حصول الأشياء المعلولة للفاعل بالاقتضاء والوجوب ، وحصول الصور المعقولة لقابلها بالامكان ، والوجوب أشدّ من الامكان. ولمّا كان الحصول للقابل علما أو مستلزما له فيكون الحصول للفاعل علما أو مستلزما له بالطريق الاولى ، إذ عرفت انّ مدار العلم على الحصول ، فكلّما كان أشدّ كان أولى بأن يكون علما ، / 162 DB / وقد علم أنّ الحصول بالوجوب أشدّ من الامكان.

وأورد عليه : بأنّ لزوم كون الحصول للفاعل مستلزما للعلم من كون الحصول للفاعل مستلزما له ممنوع ، لانّ كون الشيء عالما بالشيء يقتضي وجود ذلك للعالم في الشهود العلمي ، ووجود المعلول في الخارج وإن كان لازما لوجود العلّة فهو لا يرتبط بالعلّة بحسب هذا النحو من الوجود ، ولا نسلّم انّ هذا الارتباط مصحّح للعلم ؛ إذ العلم بالشيء يقتضي نسبة مخصوصة ، فلا يجدي تحقق نسبة أخرى وان كانت أوكد من تلك النسبة. بل لقائل أن يقول : انّ هذا كما يقال : انّ نسبة السواد إلى قابله بالامكان وإلى فاعله بالوجوب ، والنسبة الاولى منشأ الاتصاف بالسواد ، فلا بدّ أن تكون الثانية منشأ الاتصاف به بطريق أولى ، وهذا ممّا لا يقول به عاقل!.

والجواب منه - كما قرّره بعض المشاهير الأعلام - : انّه قد مرّ انّ ما يقتضي العلم بالشيء انّما هو الحصول للمجرّد لا من حيث هو حصول ، بل من حيث هو منشأ الحضور عنده ، وليس لخصوص الوجود العيني والظلّي مدخل في ذلك الاقتضاء. ولا خفاء في أنّ صدور المعلولات عن العالم بذاته الفاعل بلا اشتراك الغير يقتضي الحصول والحضور اقتضاء أتمّ وأعلى من اقتضاء قبول القابل للعالم بذاته للصور الإدراكية لها ومن اقتضاء تعلّق النفس المجرّدة بالقوى الحسّية المصورة بالصور الإدراكية الحسّية لهما. والحاصل : انّ منشأ العلم ليس إلاّ الحصول للمجرّد والحضور عنده ، واقتضاء نسبة الفاعلية لهما أتمّ من اقتضاء نسبة القابلية وتعلّق المدبّرية لهما.

وأمّا منشأ اتصاف الشيء بأمثال السواد فانّما هو القيام بالموصوف ، لا مطلق الحصول سواء ارتبط ب- « في » أو ب- « اللام » أو ب- « من » ؛ بخلاف منشأ العالمية ، فانّه ليس الحصول المخصوص بالحلول في المجرّد ، بل هو شامل له وللحصول له وللحصول عنده. و

ص: 234

الحاصل : انّ اتصاف الشيء بالسواد وصدق الأسود عليه لا يحصل / 163 MB / بمحض الوجود الرابطي - سواء كان الارتباط ب- « في » أو ب- « اللام » أو ب- « من » أو ب- « عند » - ، بل لا بدّ فيه من ارتباط خاصّ هو الارتباط ب- « في » بالقياس إلى محلّ مادّي لا غير.

وهذا لا يتصوّر إلاّ في قابل السواد لا في فاعله المجرّد ؛ بخلاف العلم ، فانّ منشأه هو الارتباط بحصول المعلوم للذات المجرّدة القائمة بذاتها أيّ حصول كان. ولا ريب في أنّ الارتباط الحاصل من حصول المعلول للعلّة أشدّ من سائر الارتباطات ، فيكون حصول العلم منه أتمّ وآكد.

ثمّ اعلم! ، انّه على ما اخترناه ليس الحصول بالفعل للمعلول في الخارج شرطا للانكشاف ، بل الربط الحاصل بينه وبين العلّة وكونه بحيث من شأنه أن يحصل منها كافّ لانكشافه عندها في مرتبة ذاتها ، لما عرفت من أنّ المناط في الانكشاف إمّا حضور المعلوم بنفسه عند المدرك ، أو حضور ما هو أقوى منه في باب الانكشاف - أعني : حضور علّته - ، ومناط انكشاف الأشياء عنده - تعالى - هو الثاني - أعني : ذاته بذاته من حيث انّه علّة ومقتض لها -. ولمّا كان الاقتضاء ثابتا له في مرتبة ذاته فيكون الانكشاف ثابتا له أيضا في هذه المرتبة ، ولا يتوقّف على سبق صورة خارجية أو عقلية كما لا يتوقّف ايجاده للأشياء وابداعه إيّاها على سبق مادة خارجية ، فانّ الذات إذا كانت بحيث تصدر عنه الأشياء من غير مادّة نظرا إلى اقتضائه التامّ لها واندراجها فيه ، فيكون بحيث ينكشف له الأشياء أيضا لذلك ؛ كما لا يخفى.

ثمّ اعلم! ؛ انّ للعلم ثلاثة معان :

أحدها : المعنى الانتزاعى الاضافي المصدري الّذي اشتقّ منه « علم » و « يعلم » و « عالم » ، وهو الاضافة الاشراقية ؛

وثانيها : ما ينكشف به الشيء ، وهو المعبّر عنه عندهم « بالعلم الحقيقي » ؛

وثالثها : ما يقتدر به على استحضار المنكشفات بالذات.

وإذا علمت ذلك فنقول : على ما اخترناه لا ريب في أنّ العلم بالمعنى الثالث لا يجوز

ص: 235

تحقّقه في الواجب ، لانّه بمعنى الملكة الّتي يقتدر بها على استحضار الأشياء. نعم! ، لمّا كان العلم بهذا المعنى هو العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني - كما مرّ - فيكون ثابتا له - تعالى - عند القائل به.

وأمّا الأوّلان فموجودان فيه - تعالى - ، وكلاهما عين ذاته - سبحانه - ؛

وأمّا الثاني فلأنّ ذاته بذاته هو الّذي ينكشف به الأشياء من غير توقّف على شيء آخر من الصور أو نفس وجودات الأشياء - كما قرّرناه -. فالعلم بهذا المعنى هو عين ذاته المقدّسة من دون تغاير أصلا ، فيتّحد العلم والعالم والمعلوم ؛

وأمّا الأوّل - وهو الاضافة الاشراقية - فتحققها له - تعالى - ظاهر ، لما ذكرنا مرارا من وجوب وجود / 163 DA / الانكشاف له - تعالى - في مرتبة ذاته. وأمّا كونها عين ذاته فلأنّ مرادنا من عينية الصفات الانتزاعية الاضافية أن يكون منشأها ومبدأ انتزاعها مجرّد الذات ، ولا ريب في أنّ مبدأ انكشاف الأشياء ومنشأها ليس إلاّ ذاته بذاته من دون مدخلية شيء آخر من صورة أو عين خارجية ، فيتّحد العلم والعالم بهذا المعنى أيضا على النحو المذكور.

وبما ذكر يندفع سؤال مشهور ممّا يورد في هذا المقام ، وهو : انّ صيغة العالم مشتقّ من العلم ، فوجب أن يكون العلم قائما بالعالم ، فلا يصحّ أن يكون عين العالم.

ووجه اندفاعه : انّ صيغة العالم انّما يشتقّ من العلم الانتزاعي المصدري وعينيته للذات انّما بمعنى كون الذات وحدها منشأ لانتزاعه ومبدأ له ، وقيام المعنى الانتزاعي بالشيء معناه أن ينتزع منه ، ومعلوم انّ القيام والعينية بهذا المعنى غير متنافيان ، فيمكن اجتماعهما. وأمّا العلم الحقيقي الّذي هو عين العالم بالذات فلا يشتقّ منه شيء ، وإن جعل صفة العالم مأخوذة منه كان اشتقاقه جعليا ، وهو ما لا يقوم مبدأ الاشتقاق بذات المشتقّ بل يكون المشتقّ بمعنى ما ينسب إليه المبدأ - سواء كان عين المبدأ القائم بنفسه ، أو ارتبط المبدأ به (1) - ؛ فالعالم بمعنى ما ينسب إليه العلم الحقيقي - سواء كان عين العلم القائم بنفسه أو ارتبط به -. نظير ذلك ما قيل في صفة الموجود المأخوذ من الوجود الحقيقي.

ص: 236


1- الاصل : المبدئية.

والحاصل : انّ المشتقّ الجعلي هاهنا - أعني : العالم المأخوذ من العلم الحقيقي - امّا أن يكون عين العلم - كما في اطلاق العالم بهذا المعنى على الشيء باعتبار علمه بذاته - ، كاطلاق العالم على الواجب - سبحانه - باعتبار علمه بذاته ، فانّ العلم الحقيقي والعالم حينئذ متحدان بالذات ولا يكون عين العلم ، بل يكون العلم مرتبطا به ، كما في اطلاق العالم على الشيء باعتبار قيام العلم - لا بالمعنى المصدري - بذاته أو بشيء من قواها ، كاطلاق العالم على النفس باعتبار قيام الصورة العلمية بذاتها ، أو باعتبار ارتسامها في شيء من قواها. ومن هذا القبيل اطلاق العالم على الواجب - سبحانه - باعتبار علمه - تعالى - بالأشياء الموجودة الحاضرة عنده - تعالى - عند من يجعل مصحّح الانكشاف ومنشأه نفس وجودات الأشياء ، فانّ العلم الحقيقي عنده حينئذ هو اشياء العينية وهي ليست عين العالم بل مرتبط به وكذا / 164 MA / الحالّ في علمه - سبحانه - بالغير باعتبار قيام الصور في موجود آخر.

ثمّ جعل العالم باعتبار قيام الصور بذاته جعليا مع أنّ المبدأ حينئذ قائم بالمشتقّ مبني على أنّ (1) المشتقّ الجعلي هو أن لا يقوم بذاته مبدأ الاشتقاق المصدري - سواء لم يقم به مبدأ الاشتقاق أصلا أو قام به مبدأ اشتقاق لم يكن مصدريا - ، فاطلاق العالم على الشيء باعتبار قيام الصورة العلمية به أو باعتبار كونه صاحب الملكة الراسخة الّتي يقتدر بها على استحضار العلوم المفصّلة اشتقاقه جعلي أيضا. وكون اشتقاقه واقعيا حقيقيا غير جعلي انّما ينحصر بصورة كون العلم - بالمعنى المصدري الانتزاعي - قائما به.

ثمّ جميع ما ذكر إنّما هو على ما اخترناه ، وامّا على ما ظهر من كلام الشيخ الاشراق وذهب إليه العلاّمة الطوسي من كون الحصول بالفعل للأشياء شرطا لانكشافها عنده ، وكون المناط في معقولية الأشياء هو نفس وجوداتها ، فلا يكون ذات الواجب هو العلم بالمعنى الثاني - أعني : العلم الحقيقي - ، بل العلم الحقيقي حينئذ هو ذات الأشياء العينية ؛ ولذا قيل : انّ العلم الحقيقي مفسّر عندهم بالحاضر بالذات عند المدرك أو غير الغائب عنه ، أو غير مخفيّ عنه. وعلى القول بالعلم الحصولي لمّا كان مناط الانكشاف وما ينكشف به

ص: 237


1- الاصل : السبب.

الشيء هو الصورة فيكون العلم الحقيقي هو الصورة الحاصلة الّتي هى معلومة بالذات ، فعلى القول بالعلم الحضوري - على نحو ما ذكروه - يكون العلم الحقيقي الّذي هو الحاضر بالذات هو الموجود العيني الّذي هو المعلوم بالذات ؛ وعلى القول بالحصولي يكون العلم الحقيقي الذي هو الحاضر بالذات هو الصورة الحاصلة الّتي هي المعلومة بالذات ، والأمر العيني معلوم بالعرض ؛ ولذا قيل : العلم بهذا المعنى هو الصورة الحاصلة عند المدرك ، بل الشيء الحاضر عنده ، أو غير الغائب عنه.

وهو بهذا المعنى قد يكون جوهرا - ان كان المعلوم جوهرا - ؛ وقد يكون مندرجا في مقولة الكيف أو في أيّة مقولة كانت بحسب اندراج المعلوم فيها - على اختلاف القولين في تعاريف المقولات - ؛ وقد لا يكون مندرجا في مقولة أصلا ، كعلم المبدأ - تعالى - بذاته ، فانّه عين ذاته ، فلا يندرج في مقولة / 163 DB / أصلا. وذلك لأنّ الجوهر ماهية إذا وجدت كانت لا في موضوع ، ولمّا كانت ذات واجب الوجود عين الوجود القائم بالذات لا ماهية يعرض لها الوجود لا يكون مندرجا تحت مقولة. وبالجملة على مذهب الشيخ الالهي والمحقّق الطوسي يتّحد العلم والمعلوم لا العلم والعالم ، فيكون علم الواجب بذاته - عين ذاته - لكون المعلوم نفس ذاته وعلمه بمعلولاته عين معلولاته. وقد صرّح بذلك المحقّق في شرح الاشارات حيث قال : « قد علمت انّ الأوّل - تعالى - عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود إلاّ في اعتبار المعتبرين - على ما مرّ - ، وحكمت بأنّ عقله لذاته علّة لعقله لمعلوله الأوّل. فاذا حكمت بكون العلّتين - أعني : ذاته وعقله لذاته شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير فاحكم بكون المعلولين أيضا - أعني : المعلول الأوّل وعقل الأوّل تعالى له - شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير. وكما حكمت بكون التغاير في العلّتين اعتباريا محضا فاحكم بكونه في المعلولين كذلك ، فانّ وجود المعلول الأوّل هو نفس تعقّل الأوّل - تعالى - إيّاه من غير احتياج إلى صورة مستأنفة - جلّ ذات الأوّل تعالى عن ذلك علوّا كبيرا -.

ثمّ لما كانت الجواهر العقلية تعقل ما ليس بمعلولات لها لحصول صور فيها ولا موجود إلاّ وهو معلول للأوّل الواجب وكان جميع صور الموجودات الكلّية والجزئية - على ما

ص: 238

عليه الوجود - حاصلة فيها كان الأوّل الواجب تعقل تلك الجواهر مع تلك الصور ، لا بصور غيرها ، بل بأعيان تلك الجواهر والصور وكذلك الوجود على ما هو عليه. فاذن لا يعزب عنه مثقال ذرّة من غير لزوم محال من المحالات المذكورة. فهذا أصل إن حقّقته وبسطته انكشف لك كيفية احاطته - تعالى - بجميع الأشياء الكلّية والجزئية - إنشاء اللّه تعالى - ؛ و ( ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) (1) ، (2) ؛ انتهى.

وهذه العبارة وان نقلناها سابقا إلاّ أنّا نقلناها هاهنا أيضا لتوقّف بيان ما نحن بصدده عليه.

فنقول : يرد على ما ذكره - رحمه اللّه - : انّ هذا - كما مرّ - يقتضي عدم تحقّق الانكشاف له - تعالى - في مرتبة ذاته مع كونه من الصفات الكمالية ، بل يلزم على هذا أن لا يكون علم عين ذات الواجب أصلا ، لأنّ العلم بالمعنى الثاني ليس إلاّ عين المعلولات - على ما ذكره - ، ومعلوم انّ ذات الواجب ليس عين معلولاته. وأمّا العلم بالمعنى الأوّل وهو الاضافة فليس عنّا لشيء من المدرك والمدرك. نعم! ، على ما ذكرناه من أنّ المراد من عينية الصفات الاضافية الانتزاعية لشيء هو كون ذات هذا الشيء بذاته من دون مدخلية شيء آخر مبدأ ومصحّحا لها ومنشأ لانتزاعها يكون العلم بالمعنى الاضافي المصدري - على ما ذكروه - عين المعلوم ، لا عين العالم ، لعدم كون ذاته - تعالى - منشأ للانكشاف حينئذ ؛ بل المبدأ والمصحّح عندهم هو / 146 MB / نفس وجودات الأشياء. نعم! ، إن قالوا بالعلم الاجمالي على الاحتمال الثاني يكون ذاته - تعالى - عين العلم بالمعنى الثالث - اعني : ما يقتدر به على استحضار المنكشفات بالذات - ، وقد عرفت انّ كلام المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم يدلّ على ذلك ، إلاّ أنّك قد عرفت ما يرد على هذا القول.

وبما ذكرناه ظهر انّ قوله - رحمه اللّه - : « فاذن وجود المعلول الأوّل هو نفس تعقّل الأوّل إيّاه » ليس على ما ينبغي ، لانّ مناط تعقّل الأشياء إذا كان ذاته بذاته فلا يكون

ص: 239


1- كريمة 54 ، المائدة.
2- راجع : شرح الطوسي على الاشارات والتنبيهات ج 3 ص 306.

وجود المعلول الأوّل هو نفس تعقّل الأوّل - تعالى - إيّاه ، بل يكون ذاته بذاته هو نفس تعقّله للمعلول الأوّل إذا حمل التعقّل على المعنى الأوّل الاضافي وحمل التعقّل على المعقول حتّى يكون المراد أنّ وجود المعلول الأوّل هو نفس المعلول له - تعالى - من دون أن تحلّ صورة منه فيه توجيه بما لا يرضى الخصم ، لأنّ مذهبه - رحمه اللّه - انّ ما ينكشف به الأشياء هو نفس تلك الأشياء ويلزمه كون وجود المعلول نفس تعقل الواجب ايّاه. وممّا يرد عليه - رحمه اللّه - ؛ انّ قوله : « فاذن لا يعزب عنه مثقال ذرّة » وقوله : « انكشف لك كيفية احاطته بالأشياء الكلّية والجزئية » يدلّ على أنّ الواجب - سبحانه - عالم بالجزئيات لارتسام صورها في الجواهر العقلية - لتصريحه بأنّ علمه بالأشياء الّتي غير الجواهر العقلية انّما هو بارتسام صورها في تلك الجواهر - ، فيلزم كون صور الجزئيات - سواء كانت مجرّدة أو مادّية ، متشكّلة أو غير متشكّلة - مرتسمة في تلك الجواهر ، وهو خلاف ما تقرّر عند الحكماء من امتناع حصول صورة المتشكّل إلاّ في آلة جزئية متجزّئة جسمانية ؛ فلا بدّ له إمّا القول بالاكتفاء بالعلم الاجمالي ؛ أو مخالفته للمشهور والتزام حصول صور المتشكّلات في الجواهر العقلية ، وإرادة ما يتناول النفوس أيضا من الجواهر العقلية.

ثمّ لمّا كان مذهب شيخ الاشراق - على ما / 146 DA / عرفت - هو أنّ علمه - تعالى - بالأشياء بأسرها إنّما هو بحضور ذواتها ، ومذهب المحقّق إنّ العلم بالصادر الأوّل انّما هو بحضور ذاته وبما عداه من المعلولات البعيدة إنّما هو بارتسام صورها فيه ، فيرد على الأوّل - كما عرفته مرارا - عدم تحقّق علمه بشيء في مرتبة ذاته ؛ وعلى الثاني يرد ذلك مع لزوم افتقار الواجب في العلم بالمعلولات البعيدة الى الصادر الأوّل والى الصور المرتسمة فيه ؛ وأيضا لا يكون صدور الصادر الأوّل عنه بالاختيار لعدم كونه مسبوقا بالعلم حينئذ ومسبوقيته بالعلم الاجمالى بمعنى تمكّنه من العلم به بعد ايجاده لا يفيد ، لأنّ التمكّن غير الانكشاف بالفعل الّذي يجب تحقّقه في الصدور بالاختيار.

ثمّ الظاهر من كلام المحقّق في شرح رسالة العلم التزام عدم كون العلم سببا للمعلوم وعدم توقّف الصدور بالقدرة والاختيار على مسبوقيته بالعلم ، حيث قال في

ص: 240

مسئلة أن العلم هل يصلح ان يكون مؤثّرا كالقدرة أم لا : « الايجاد هو اصدار وجود الشيء عن علّته ، والعلم - كما سبق بيانه - هو حضور الشيء عنده ، وإذا كان الشيء قد صدر وجوده عن الشيء فقد حضر عنده ، فيكون باعتبار صدوره مقدورا له وباعتبار الحضور عنده معلوما له ، والجهة الّتي باعتبارها صدر يسمّى بالقدرة والّتي باعتبارها حضر يسمّى بالعلم. والاعتباران عقليان مضافان إلى شيء واحد من جهتين ». ثمّ قال : « وفرق بين القدرة وبين الايجاد والتأثير ، فانّ القدرة لا يقال إلاّ عند كون المؤثّر بحيث يصحّ منه التأثير ، والايجاد والتأثير يعمّ ذلك ويشمل كون الموجد والمؤثّر بحيث يجب عنه الايجاد والتأثير. فاذا لوحظ الايجاد من غير اعتبار العلم والإرادة فالأولى أن يوصف بالقدرة ، فانّ الايجاد عندنا يصحّ وعند اعتبار العلم والإرادة يجب » (1) ؛ انتهى.

وهذا الكلام - كما ترى - يدلّ على أنّ العلم لا يجب أن يكون سابقا على الايجاد ؛ وقد عرفت فساد ذلك.

وبما ذكرناه يظهر ضعف ما ذكره العلاّمة الخفري في توجيه كلام المحقّق حيث قال ما توضيحه : انّه من السؤالات المشهورة انّ التحقيق الّذي هو مختار المحقّق الطوسي يقتضي أن يكون الصادر الأوّل غير مسبوق بالعلم ، فيلزم أن لا يكون صدوره عنه بالاختيار - لأنّ الصدور الاختياري متوقّف على تقدّم القصد المستلزم للعلم - ؛

فيحتاج في دفع هذا الفساد أن يقال : هو - أي : الصادر الأوّل - من حيث هو علم متقدّم عليه وسبب له من حيث هو معلول في الخارج وفيه تكلّف ، بل هو محال! ، لاستلزامه كون الشيء علّة لنفسه. والتغاير الاعتباري لا يكفى في ذلك. مع أنّ هذا القول لدفع هذا الفساد أولى ممّا يقال في دفعه من : أنّ وجود الصادر الأوّل في الخارج وإن كان عين العلم بالذات لكنّه يغايره بالاعتبار ، فهو من حيث انّه علم متقدّم عليه وسبب له من حيث كونه وجودا في الخارج. ووجه الأولوية انّ حيثية المعلولية مغايرة لحيثية المعلومية مغايرة ظاهرة ، فالقول بتقدّم إحدى الحيثيتين على الأخرى - كما هو

ص: 241


1- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 41.

مبنى القول الأوّل - يكون له وجه. وأمّا حيثية الوجود في الخارج فعلى تحقيق المحقّق عين حيثية المعلومية ، وليس بينهما مغايرة أصلا. فالقول بتقدّم / 165 MA / إحداهما على الأخرى - كما هو مبنى القول الثاني - لا يكون له وجه ». ثمّ قال : « واندفاعه بأن يقال : الصادر الأوّل إنّما كان مسبوقا بالعلم الاجمالي المذكور الّذي هو علم بجميع المعلولات » ؛ انتهى.

وعلى هذا التوجيه فيكون المراد من العلم الّذي صرّح المحقّق في شرح الاشارات بانّه عين الصادر الأوّل والتغاير بينهما اعتباري كالتغاير بين ذات العلّة والعلم بنفسها هو العلم التفصيلى الّذي هو مع الايجاد دون العلم المتقدّم على الايجاد ، إذ العلم المتقدّم هو الاجمالي. وأنت قد عرفت فساد القول بالعلم الاجمالى ، سيّما الاجمالي على الاحتمال الثاني الّذي قال به الخفري ونسبه الى المحقّق أيضا.

ثمّ قال : « والتحقيق أن يقال : إنّ العلم الّذي هو عين ذاته علم تفصيلي بالنسبة إلى الصادر الأوّل واجمالي بالنسبة إلى الجميع ؛ أمّا الأوّل فلأنّ نسبة العالم بذاته المقتضى لخصوصية الشيء إلى الشيء الّذي يتميّز به كنسبة الصور الإدراكية المخصوصة للشيء الّذي يتميّز بها إليه ؛ وأمّا الثاني فلما مرّ. قال الشيخ في الشفا : واعلم! ، انّ المعنى المعقول قد يؤخذ من الشيء الموجود وقد تكون الصورة المعقولة غير مأخوذة عن الموجود ، بل بالعكس ؛ كما انّا نعقل صورة / 164 DB / بنائية بجزء منها ثمّ تكون تلك الصورة المعقولة محرّكة لأعضائنا إلى أن يوجد ، فلا يكون وجدت فعقلناها ولكن عقلناها فوجدت ، ونسبة الكلّ إلى العقل الأوّل الواجب الوجود - كنسبة البنّاء إلى الصور البنائية - سواء ؛ هذا. فاعلم ذلك فانّ الغائب في ظنّ الشاهد الحاضر » ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره هنا من أنّ نسبة العالم بذاته المقتضي لخصوصية الشيء إلى الشيء الّذي يتميّز به كنسبة الصور الإدراكية إلى ذوات الصور العينية الّتي يتميّز بها رجوع إلى الحقّ الصراح الّذي نحن قرّرناه واخترناه ؛ الاّ أنّ ذلك - كما علمت - لا تخصيص له بالصادر الأوّل ، فانّ الواجب - تعالى - عالم بذاته ومفيض لخصوصيات جميع الأشياء ، فنسبته إلى الأشياء بأسرها كنسبة الصور الادراكية للأشياء

ص: 242

الّتي يتميّز بها إلى تلك الأشياء ، بل نسبة الواجب إلى الأشياء أشدّ في باب التميّز والانكشاف من نسبة الصور إلى ذوات الصور لما عرفت من أنّ حضور العلّة أقوى في انكشاف المعلول من حضور نفس المعلول فيه ، فضلا عن صورته. فعلم الواجب بذاته مستلزم للعلم بجميع معلولاته مفصّلة ، ولا تفاوت بالنسبة إلى معلوم دون معلوم. نعم! ، التفاوت انّما هو في المعلومات بأن يكون بعض منها سببا لبعض آخر ، وليس بالتفاوت فيما بينها بحسب الانكشاف. فما ذكره من أنّ علمه بذاته الّذي هو عين ذاته علم تفصيلي بالنسبة إلى الصادر الأوّل صحيح ، وأمّا ما ذكره من أنّه علم اجمالي بالنسبة إلى الجميع غير صحيح - لما عرفت من فساده -. وأيّ فرق في ذلك بين الصادر الأوّل وبين غيره مع اشتراك المصحّح؟!.

فان قيل : المصحّح هو الاقتضاء التامّ والعلّية المستقلّة وما هو إلاّ الاقتضاء بلا واسطة ، فلمّا كان الواجب علّة للصادر الأوّل بلا واسطة فكان العلم بذاته علما تفصيليا بالنسبة إليه بخلاف سائر المعلولات ، فانها لتوقّفها على غيره - سبحانه - لا يكون الواجب مقتضيا لها بلا واسطة ، فلا يتحقّق الاقتضاء التامّ الّذي هو مناط الانكشاف بالنسبة إليها ؛

قلنا : لا ريب في أنّ الواجب - تعالى - علّة مستقلّة ومفيض تامّ لجميع الأشياء ، وتخلّل الوسائط في بعضها لنقصان ذاته وجوهره لا ينافي تمامية الاقتضاء. مع أنّ مجرّد الاقتضاء مصحّح للانكشاف كما انّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ولو توقّف المعلول على غير علّته من الشروط والآلات.

ثمّ من الأفاضل من قال في هذا المقام : « انّ كون ذاته - تعالى - علما تفصيليا بالصادر الأوّل ليس بمعقول أصلا ، لانّ المراد بالعلم التفصيلي هو العلم الحقيقي المفسّر بالحاضر بالذات ، أمّا ذات الشيء الخارجى إن كان العلم حضوريا أو صورة مطابقة له إن كان حصوليا وذاته - تعالى - لا يمكن أن يكون عين ذات الصادر الأوّل وصورة مطابقة له فكيف يكون علما تفصيليا به؟. نعم! ؛ ذاته - تعالى - علم بالصادر الأوّل وبجميع الموجودات بالمعنى الثالث من المعاني المذكورة - وهو ما يقتدر به على استحضار

ص: 243

المنكشفات بالذات - ، لكنّه هو معنى العلم الاجمالي ولا اختصاص له بالصادر الأوّل. وقياس ذاته - تعالى - المقتضية لخصوصية الصادر الأوّل إلى الصورة العلمية المتميّزة للشيء المعلوم بها باطل ، لانّ ذاته - تعالى - مقتضية للتميّز بمعنى أنه موجد للتميّز ومفيد له ، لا بمعنى انّه ما به التميّز. وفرق بين مفيد الخصوصية وما به الخصوصية. والصورة العلمية متميّزة للشيء بمعنى ما به التميز لا بمعنى مفيد التميّز ، فانّ مفيد التميّز والتشخّص ليس إلاّ موجده وخالقه. ولو كان لما ذكره في المعلول الأوّل وجه صحيح لأمكن اجراء مثله في جميع الموجودات / 165 MB / بأن يقال : ذاته - تعالى - مع العقل الأوّل علم تفصيلي بالعقل الثاني - لما ذكره بعينه - ، وهو - سبحانه - معهما علم تفصيلي بالعقل الثالث ، وهكذا إلى جميع الموجودات. وتوهّم جماعة من الطلبة ممّا ذكره الخفري في المعلول الأوّل بعينه انّ ذاته - تعالى - علم تفصيلي بجميع الموجودات لكونه - تعالى - بذاته مقتضيا لكلّ موجود من الموجودات الكلّية والجزئية ، ولخصوصيته وتميّزه ، وكان نسبة ذاته - تعالى - إلى كلّ موجود نسبة الصورة العقلية للشيء إليه ؛ وزعموا انّ هذا معنى كون العلم - الّذي هو من جملة صفاته تعالى - عين ذاته. وأنت بما ذكرنا في المعلول الأوّل خبير بأنّ أيّ شناعة في هذا » ؛ انتهى.

وأنت خبير بضعف ما ذكره هذا الفاضل ؛

امّا أوّلا : فلأنّ من يقول إنّ / 165 DA / ذات الواجب - تعالى - علم تفصيلي حقيقي بالأشياء يفسّر العلم الحقيقي بالحاضر بالذات ، ولكن الحاضر بالذات عنده أعمّ من ذات الشيء الخارجي ومن علّته المقتضية - لأنّ حقيقة العلم الحقيقي هو ما ينكشف به الشيء - ، وإذا كان ذاته - سبحانه - لكونه مقتضيا للأشياء ممّا يكشف به الأشياء فيكون علما حقيقيا بالنسبة إلى الأشياء ، وإذا كان ذاته بذاته علما حقيقيا بالأشياء يكون مستلزما للعلم بمعنى الاضافة الاشراقية بالنسبة إليها أيضا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره من انّ الواجب مفيد التميّز والصورة ما به التميّز ففيه : إنّ هذا ممنوع ، إلاّ انّ العلم بمفيد التميّز يستلزم العلم بالتميز لأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ؛ وهو ظاهر. وبذلك يظهر انّ ما ذكره الخفري - رحمه اللّه - في المعلول الأوّل

ص: 244

يجري في جميع الموجودات ولا تخصيص له في المعلول الأوّل - كما ذكره هذا الفاضل - أيضا. واجرائه في الجميع لا مفسدة فيه ، بل هو الصحيح المطابق للقواعد العقلية والملية ؛ فما توهّمه بعض الطلبة حقّ ولا شناعة فيه!.

ثمّ نقل العلاّمة الخفري كلام الشيخ متّصلا بما ذكره في توجيه كلام المحقّق إنّما هو لاستشهاد انّه لا بدّ من العلم المتقدّم البتّة ، وإنّ القوم قالوا به ؛ فلا بدّ حينئذ من القول به على وجه يكون صحيحا. ولا يصحّ بوجه إلاّ بأن يكون تفصيليا بالنسبة إلى الصادر الأوّل وإجماليا بالنسبة إلى غيره. ويمكن أن يكون النقل لمجرّد استشهاد انّ العلم الاجمالي ممّا قال به الشيخ أيضا ، لأنّه صريح بأنّ نسبة الكلّ إلى العقل الأوّل الواجب الوجود كنسبة البناء إلى الصور البنائية ، ولا ريب في أنّ الصورة البنائية صورة واحدة بسيطة. فيكون علما إجماليا بالبناء الخارجي. فكما انّ البناء في وجوده الخارجي صادر عن تلك الصورة الواحدة المرتسمة في البناء كذلك يصدر من الواجب كلّ شيء فالواجب - تعالى - مبدأ تفصيلات الممكنات ، فهو بذاته مع وحدته مبدأ لتلك التفصيلات ، فعلمه بذاته علم اجمالي بالنسبة إليها بأسرها كالعلم البسيط بالنسبة إلى العلوم المفصّلة مع كونه في غاية التجرّد ونهاية البراءة من القوّة.

وقيل إنّ غرض العلاّمة من نقل كلام الشيخ الاستشهاد على كلا الأمرين - أعني : كون علمه تعالى بالصادر الأوّل تفصيليا وبما عداه إجماليا - ؛

أمّا الأوّل : فلأنّ المعنى المعقول إذا لم يؤخذ من الموجود الخارجي وكان من مخترعات النفس العاقلة إيّاه لم يكن اختصاصه وتميّزه بمطابقته للموجود الخارجي ، بل بمحض اقتضاء النفس العاقلة ايّاه ، وكان بما اقتضته النفس بخصوصه علما تفصيليا به سابقا عليه ؛ فكذا الحال في المعلول الأوّل بالنسبة إلى الواجب ؛

وامّا الثاني : فلأنّ نسبة الكلّ إليه إذا كانت كنسبة البناء إلى الصورة البنائية فكما أنّ الصورة البنائية علم تفصيلي بالبناء وعلم اجمالي بجميع جزئيات ما في البناء كذلك ذاته - تعالى - علم تفصيلي بالمعلول الأوّل وعلم اجمالي بجميع ما ارتسم صورته فيه من حقائق الموجودات ؛ انتهى.

ص: 245

والحقّ - كما افاده بعض المحقّقين - : إنّ مراد الشيخ ليس شيئا ممّا ذكر ، بل مراده إنّ عقله - تعالى - للأشياء بالعلم الحضوري التفصيلي بسبب وجود الأشياء ، يعنى إنّ علمه فعلي بمعنى انّه يعقل أوّلا نظام الخير في الأشياء فيوجدها على طبقه في الخارج. ويدلّ على ذلك ما قاله متّصلا بالقول المذكور تعليلا له : « فانّه يعقل ذاته وما توجبه ذاته - تعالى - ويعلم من ذاته كيفية كون الخير في الكلّ ، فتتبع صورته المعقولة صورة الموجودات على النظام المعقول » (1).

ولو أراد أحد الاستشهاد من كلام الشيخ للعلم الاجمالي فينبغى أن يستشهد بما ذكره قبل قوله المذكور بقوله : « فهو كذلك يعقل الأشياء دفعة واحدة من غير أن يتكثّر بها في جوهره أو تتصوّر في حقيقة ذاته بصورها ، بل تفيض عنه صورها معقولة. وهو أولى بأن يكون عقلا من تلك الصور الفائضة عن عقليته ، لأنّه يعقل ذاته وانّه مبدأ كلّ شيء ، فيعقل من ذاته كلّ شيء » (2) ؛ / 166 MA / انتهى. فلأنّ قوله : « فهو أولى بأن يكون عقلا من تلك الصور الفائضة » صريح في كون ذاته علما إجماليا بالكلّ.

ثمّ قوله : « فإنّ الغائب المطلوب في طي الشاهد الحاضر » معناه : انّه يعلم من الصور البنائية بالنسبة إلى البناء ما هو المطلوب من علم واجب الوجود بالنسبة إلى الكلّ الّذي هو الغائب.

ثمّ المطلوب إمّا مجرّد التقدّم ، أو الإجمال بالنسبة إلى الكلّ ، أو التفصيل بالنسبة إلى البعض والإجمال بالنسبة إلى بعض آخر ، أو الفعلية - كما احتمله بعض الأفاضل حيث قال : معناه إنّ هذا ليس من باب قياس الغائب على الشاهد ، / 165 DB / بل الغائب في طي الشاهد ومن جملته ، لأنّه كما انّ الصورة البنائية الّتي في ذهن البنّاء سبب لوجود البناء وعلم فعلي له كذلك علم الغائب وهو الواجب جل شانه بمعلولاته علم فعليّ وسبب بالقياس إلى المعلولات ، وليس انفعاليا. غاية ما في الباب يكون علم الحاضر وهو البنا علما حصوليا وعلم الغائب وهو الواجب جلّ شانه ليس حصوليا ، لكن علم الغائب والحاضر لا تفاوت بينهما في كونهما فعليين -.

ص: 246


1- راجع : الشفا / الإلهيات ، ص 363.
2- راجع : نفس التعليقة السالفة.

ثمّ قال العلاّمة الخفري متّصلا بما نقلنا عنه : وبذلك التحقيق - أعني : كون العلم الّذي عين ذاته تعالى تفصيليا بالنسبة إلى الصادر الأوّل - يندفع سؤالات مشهورة :

أحدها : إنّ العلم الاجمالي الّذي نسبته إلى جميع المعلولات على السواء لا يصحّ أن يكون منشأ لصدور خصوص الصادر الأوّل.

ووجه الاندفاع : إنّ العلم الّذي يقتضي الصدور إنّما هو العلم التفصيلي وهو إنّما يتحقّق بالنسبة إلى الصادر الأوّل فقط.

وأنت خبير بما في هذا الجواب!.

والصحيح في دفع هذا السؤال أن يقال : انّ العلم الاجمالي عند القائلين بتقدّمه ليس منشأ للصدور وعلّته ، وكذا العلم التفصيلي عند من قال بتقدّمه ؛ بل المنشأ لصحّة الصدور ليس إلاّ القدرة. وما يقال : « إنّ العلم الفعلي سبب للايجاد » مبني على لابدّيته في القدرة الّتي هي علّة الايجاد.

ثمّ اقتضاء القدرة لخصوصية المعلول الأوّل إنّما هو بمناسبة ذاته - تعالى - له بخصوصه ، ثمّ مناسبة ذاته مع المعلول الأوّل للمعلول الثاني وهكذا على الترتيب.

على انّا لو سلّمنا إنّ العلم المقدّم سواء كان حصوليا أو حضوريا أو إجماليا أو تفصيليا علّة للصدور فوجه خصوصية الاقتضاء هو ما ذكر ، ولا مدخلية بما ذكره العلاّمة الخفري ؛ فانّه لا ريب في انّ اعتبار العلم الاجمالي ليس لتصحيح الصدور ، بل لبيان إنّ كماله إنّما هو بذاته لا بأمر زائد.

ثمّ قال : وثانيهما انّه كيف يصحّ أن يكون أمر واحد علما بالأمور الغير المتناهية!؟.

واندفاعه بأن يقال : إنّ ذلك حاضر في العلم الاجمالي ، وقد عرفت إنّ ذلك جائز في العلم التفصيلى أيضا بمعنى إنّ ذاته - تعالى - ما ينكشف به الأشياء انكشافا تفصيليا ، فهو عين العلم الحقيقي وملزوم للعلم الاضافي بالأشياء على التفصيل على وجه لا يلزم تكثّر في بساطته الحقّة ووحدته الصرفة - على ما علمت مفصّلا -.

ثمّ قال : وثالثها إنّ القوم قد صرّحوا بأنّ العلم الفعلي هو ايجاد المنكشف بذاته ، وكلام المحقّق الطوسي يدلّ على أنّ الموجود المنكشف بذاته هو العلم - لما صرّح بأنّ العلم

ص: 247

لا يجب أن يكون سابقا على الايجاد - ، فيكون الموجودات الخارجية عين العلم ويكون انكشافها معها. ويتحد العلم والمعلوم حينئذ ، فلا تكون الموجودات منكشفة قبل الوجود ، فلا يكون ايجادها ايجاد المنكشف بذاته ، فلا يكون العلم ايجاد المنكشف بذاته عنده ، بل الموجود المنكشف بذاته.

ووجه اندفاعه ظاهر ؛ وهو : انّ مراد المحقّق انّ العلم التفصيلي هو الوجود المنكشف والعلم الفعلي - الّذي صرّح القوم بتقدّمه وعبّروا عنه بايجاد المنكشف بذاته - هو العلم الاجمالي ؛ فلا منافاة.

وقيل : وجه الاندفاع انّ ما صرّح به القوم في معنى العلم هو معنى العلم المصدري ، ومراد المحقّق هو العلم الحقيقي ؛ فلا منافاة.

وقيل : وجه الاندفاع انّ مراد القوم من ايجاد الموجودات في تعريف العلم هو الموجودات الموجدة ، كما وقع في عباراتهم من أنّ المراد من حصول القدرة في تعريف العلم هو الصورة الحاصلة.

وعلى ما اخترناه وقرّرناه لا يخفى جلية الحال في هذا السؤال وهذه الاجوبة.

الفرقة الثالثة - وهم الّذين قالوا انّه تعالى لا يعلم الجزئيات المتشكّلة والمتغيّرة -. فاحتجوا على الأوّل - أعني : عدم علمه بالجزئيات المتشكّلة - : بأنّ ادراكها انّما يكون بآلات جسمانية والباري - تعالى - منزّه عنها ؛ وعلى الثّاني - أعني : عدم علمه بالجزئيات المتغيّرة - : بأنّه إذا علم مثلا انّ زيدا في الدار في الآن ثمّ خرج عنها فامّا أن يبقى ذلك العلم / 166 MB / بحاله أو يزول ذلك العلم ويعلم انّه ليس في الدار ؛ والأوّل يوجب الجهل ، والثاني يوجب التغير في ذاته من صفة إلى أخرى ، وكلاهما نقص يجب تنزيهه - تعالى - عنه.

قيل : هذا الدليل يتناول الجزئيات المتغيّرة سواء كانت مادّية - أي : حالّة في المادّة - أو غير مادّية - أي : غير حالّة فيها وإن كان لها نوع تعلّق بها ، كالنفس الناطقة وعلومها - ، وسواء / 166 DA / كانت موجودات عينية أو صورا ادراكية محسوسة أو معقولة ، لا جراء الدليل المذكور في كلّ منها. بل هذا الدليل يجري في المتغيّرات سواء

ص: 248

كانت جزئية أو صورا ادراكية كلّية ، فلا يخصّ بالجزئيات.

وأورد عليه : بأنّ مناط اجراء الدليل هو كون الشيء موضوعا للتغير والجزئيات الغير المادية - كالنفوس الناطقة والصور المعقولة من حيث هي معقولة - وكذا الكلّيات ليست موضوعة للتغير ، لما اشتهر بينهم من أنّ غير المادّيات لا يكون إلاّ ثابتا محضا والمتغيّرات لا تكون إلاّ المادّيات.

واجيب عنه : بأنّه لا ريب في أنّ الصور الحالّة الكلّية في النفس لا تكون مادّية ، لأنّ الصور المادية لا تحلّ في المجرد - كما هو المقرّر المشهور عندهم - ، بل هي إنّما تحلّ في قوى النفس الّتي هي أيضا مادّية. ولكن الصور الكلّية الحالّة في النفس لها اعتباران : أحدهما : من حيث انّها حالّة في النفس ، وبهذا الاعتبار تكون جزئية ؛

وثانيهما : أن توجد من حيث هي هي من غير اعتبار حلولها في النفس. وهي بهذا الاعتبار تكون كلّية وكلّيتها ليست إلاّ بهذا الاعتبار.

وإذا عرفت ذلك فنقول : انّ الصور الكلّية الحالّة في النفس إذا اخذت بالاعتبار الأوّل تكون جزئية غير مادّية ، وهو ظاهر ؛ وتكون متغيرة أيضا ، لأنّ حصولها متجدّد للنفس ، لانّ النفس قد تذهل عنها أو تزول تلك الصورة عنها كما في صورة نسيانها متجدّدا غير مادّي يكون متغيّرا ، والدليل المذكور كما يجري في المادّيات الجزئية المتغيّرة يجري في الجزئيات الغير المادّية المتغيّرة أيضا ؛ بيان ذلك : إنّ قبل حصول الصورة المعقولة للنفس كان الواجب - تعالى - عالما بأنّه ليس تلك الصورة الحاصلة لها ، فبعد حصولها لا يخلو : إمّا أن يزول ذلك العلم ، أم لا ؛ والأوّل يوجب التغير ، والثاني يوجب الجهل ؛ وكلاهما محال.

وبما ذكر يظهر انّ ذات النفس أيضا متغيرة ، إذ حصولها للبدن وتعلّقها به متجدّد فيجري فيها الدليل المذكور بعين ما ذكر ، فثبت انّ الجزئيات الغير المادّية - كالنفوس والصور المعقولة والصور الكلّية أيضا - متغيرة. فمرادهم من غير المادّيات فيما اشتهر بينهم من « انّ غير المادّيات لا يكون إلاّ ثابتا محضا » هو المجرد ذاتا وفعلا - أعني : العقول وصفاتها -. وأمّا النفوس فلمّا كانت لها تعلّق بالمادّة فيكون لها ولصفاتها شوب مادية ،

ص: 249

فتكون متغيرة. بل الحقّ انّ الدليل المذكور يجري في صفات القول أيضا - بناء على حدوث العالم - ؛ بل يجري في كلّ حادث سواء كان مادّيا أو مجردا ذاتا أو صفة ، لانّ موضوع التغير هو كون الشيء حادثا وإن لم يكن ماديا أصلا ، وتقرير الاجزاء كما أوضحناه ؛ انتهى.

والتحقيق انّ موضوع التغيّر هو كلّ ما يكون زمانيا يقع تحت الزمان ، وأمّا المتعالي عن الزمان - كالمجرّد الصرف - فلا يكون متغيرا ، ومجرّد الحدوث بعد العدم وإن استلزم نوع تغيّر إلاّ انّه ليس تغيرا مطلوبا هنا ؛ كما لا يخفى.

وإذ ثبت ذلك فنرجع إلى ما يتعلّق بالدليل المذكور ، فنقول : قال العلاّمة الخفري معترضا على الدليل المذكور : انّ زوال ذلك العلم - أي : العلم بأنّ زيدا كان في الدار الآن - إمّا بأن يعلم مثلا انّ زيدا ليس في الدار في الآن المقدّم - اي : الآن الّذي كان فيه زيد في الدار - ، أو بأن يعلم انّه ليس في الدار في شيء من الأزمنة لا بأن يعلم انّه ليس في الدار على الاطلاق ، لكن المطلقة لا تنافي الوقتية ؛ ولا بأن يعلم انّه ليس في الدار في الآن الّذي ليس فيه في الدار ، فانه لا ينافي كونه في الدار في الآن السابق الّذي كان فيه في الدار. وعلى هذا يلتزم أن لا يكون بقاء ذلك العلم الأوّل موجبا للجهل ، فانّ العلم في آن خروج زيد في الدار بكونه في الدار في الآن السابق الّذي كان فيه مطابق للواقع ولا يوجب جهلا ، وإذا لم يكن بقاء العلم بكون زيد في الدار في الآن السابق الّذي كان فيه في الآن الثاني - أعني : آن الخروج - موجبا للجهل فلا يلزم تحقّق زوال ذلك العلم في الواجب - تعالى - حتّى يلزم التغيّر في ذاته. فالدليل المذكور لا ينفى العلم بالمتغيرات عن الواجب - تعالى - لان ذلك العلم - أي : العلم بالخروج على الاطلاق أو في الآن الثاني - لا يستلزم الزوال المذكور - أي : الزوال الّذي هو بالحقيقة زوال للعلم بكون زيد في الدار في الآن المقدّم - ، وهو ما ذكرناه بقولنا : « بأن يعلم مثلا إنّ زيدا ليس في الدار في الآن المقدم أو في شيء من الازمنة ». وكذلك العلم لا يستلزم عدم البقاء المذكور / 167 MA / - أي : عدم بقاء انّه في الدار في الآن السابق - ، وحينئذ لنا أن نختار في الجواب المذكور أوّل شقّي الترديد - أعني : بقاء العلم السابق - ولا يلزم منه الجهل ، / 166 DB / لانّ العلم

ص: 250

ليس إلاّ معلومية أمر على وجه يطابق الواقع ، والمعلوم هو كون زيد في آن قبل هذا في الدار ، والامر كذلك في الواقع. ولا يلزم أيضا تغيّر العلم ، بل اللازم تغيّر المعلوم فقط.

والحاصل انّ نقيض الشيء رفعه ورفع العلم بأنّ زيدا كان في الآن الفلاني في الدار يتصوّر من وجهين :

أحدهما : أن يزول العلم بكون زيد في الدار في ذلك الآن الفلاني الّذي كان العلم أوّلا تعلّق بكونه في الدار في ذلك الآن ؛

وثانيهما : أن يعتقد انّ زيدا لم يكن في الدار في شيء من الأزمنة والآنات ، ففي تلك الصورتين يلزم زوال العلم الأوّل ورفعه. وأمّا إذا اعتقد انّ زيدا كان في الآن الفلاني في الدار وفي آن آخر بعد ذلك الآن أو قبله لم يكن في الدار لم يلزم تناقض ولم يلزم رفع العلم بكون زيد في الدار في الآن الفلاني ، فيمكن ارجاع العلمين - أي : العلم بكون زيد في الدار والعلم بأنّه لم يكن في الدار - إلى تغاير الآنين ؛ فبقاء العلم الأوّل بحاله عند حصول العلم الآخر لا يكون موجبا للجهل. وبذلك يظهر انّ الدليل المذكور لا ينتهض حجّة للزوم التغيّر في ذاته - تعالى - إذا علم الجزئيات المتغيّرة.

ثمّ قال الخفري : « ويمكن حمل الدليل المشهور المذكور على هذا التقرير بصرفه عن الظاهر ».

وغير خفي بأنّ بناء الدليل المشهور المذكور أوّلا إنّما على توهّم وقوع التجدّد في اجزاء الزمان بالنسبة إليه - تعالى - أيضا كما هو بالنسبة إلينا - على ما زعمه الجمهور -. ولا ريب حينئذ في لزوم التغير بالنسبة إليه - تعالى - أيضا ، فانّ توضيح الدليل المذكور حينئذ : انّه لا شكّ في أنّ زيدا إذا كان في الدار في الآن كان في الدار في وقت معيّن ونحن نحكم في ذلك الوقت المعيّن الّذي هو الآن بالنسبة إلينا بأنّ زيدا في الدار في الآن ، فإذا انقضى ذلك الوقت وخرج زيد عن الدار وتجدّد علينا وقت آخر هو الآن بالنسبة إلينا فنحن نحكم في ذلك الوقت الآخر - الّذي هو الآن حينئذ بالنسبة إلينا - بأنّ زيدا ليس في الدار في الآن ، ولو حكمنا بأنّ في الدار الآن كان ذلك باطلا. وحينئذ فقد زال عنّا الحكم الأوّل - أعني : انّه في الدار الآن - وحصل الحكم الثاني - أعني : انّه ليس في الدار الآن -.

ص: 251

وتغاير الآنين لا يمنع زوال الحكم الأوّل بالثاني ، كما لا يخفى. فالحكم الأوّل - أعني : كون زيد في الدار في الآن - زائل عنا البتّة. وبقاء العلم بأنّه كان في الدار في الآن الزائل لا يفيد ، لأنّ هذا العلم ليس العلم الأوّل بل هو علم متجدّد ، فانّ العلم بأنّ زيدا كان في الدار في الآن الّذي انقضى علم آخر تجدّد لنا بعد العلم بأنّه كان في الدار في الآن ، والحكم بأنّه كان في الدار في الآن الّذي انقضى حكم آخر غير الحكم بأنّه في الدار الآن. والسبب في ذلك هو وقوعنا في الآن أوّلا ثمّ بعد انقضائه وقوعنا في الآن الآخر ثانيا - لكوننا زمانيّين -. فلو كان الواجب أيضا مثلنا في ذلك الوقت - كما زعمه الجمهور - كان ذلك الزوال - أعني : زوال الحكم الأوّل - في حقّه - تعالى - أيضا لازما ، فلا ينفع في ذلك كونه عالما بأنّ زيدا في الوقت السابق كان في الدار ، فانّ ذلك كما عرفت - حكم آخر غير الحكم الزائل ، فالتغيّر لازم البتّة!.

وإذا عرفت ذلك فنقول : لا ريب في انّ تقرير العلاّمة الخفري منطبق على هذا التقرير ، لأنّه أيضا مبنيّ على توهّم التجدد في أجزاء الزمان بالنسبة إليه - تعالى -. ويظهر ذلك الانطباق بأن يمثّل للجزئي الغير الحاضر في آن في تقرير الخفري (1) بكون زيد في خارج الدار وللجزئى الحاضر في ذلك الآن بكون زيد في الدار ، ويجعل « البعدية » المستفادة من قوله : « ثمّ حضر عندنا ذلك الجزئى الأوّل بعد حضور الجزء الثاني » على البعدية الزمانية. وحينئذ يؤول حاصل تقرير الخفري إلى التقرير الّذي أوردناه توضيحا للدليل المشهور المذكور أوّلا. وحينئذ فحمل الدليل المشهور على تقرير الخفري لا يحتاج إلى صرفه عن الظاهر / 167 MB / - كما ذكره -.

وممّا يوضح ما ذكره ما ذكره بعض الأعلام حيث قال : / 167 DA / لا شكّ في أنّ كلاّ من الحوادث المتغيّرة له اختصاص بزمان هو ظرف وقوعه ، فإذا فرضنا أنّ اليوم الّذي هو وقت تكلّمنا هذا ظرف لوجود حادث معيّن فنقول : انّك إن تأمّلت وجدت هناك معلومين :

أحدهما : كون هذا الجزء من الزمان ظرفا لهذا الحادث ، وهو معنى حقيقي لا يتغيّر

ص: 252


1- الاصل : + كيف.

بمضيّ الزمان وغيره ، فانّه إذا كان وجود زيد مثلا واقعا في يوم الجمعة يصدق دائما انّ يوم الجمعة ظرف لوجود زيد. وهذا لا يمكن تغيره وزواله في الواجب - تعالى شأنه - ، بل في غيره أيضا لو كان عالما بالسابق واللاحق إلاّ بالنسيان وشبهه ، والشبهة لا تتمّ في ثبوت مثل هذا التغيّر وهو الّذي ذكره الخفري ونفاه ؛

والثاني : كون هذا الجزء من الزمان هو الحاضر الآن عندنا مع هذا الحادث المخصوص دون الّذي قبله وبعده. ولا شك في تغيّر هذا المعنى والعلم به في حقّنا ، إذ بعد يوم الجمعة الّتي فرضنا انّه وقت وجود الحادث لا يصدق انّ الحاضر عندنا الآن هو الحادث المذكور مع يوم الجمعة ، إذ الحاضر الآن هو يوم السبت مثلا مع ما فيه. وكذا الحال قبل يوم الجمعة ، إذ لا يصدق فيه انّ الحاضر عندنا الآن هو الحادث المذكور مع يوم الجمعة ، إذ الحاضر الآن فيه هو يوم الخميس مثلا مع ما فيه. ولا ريب في أنّ الغرض في الدليل المشهور المذكور أوّلا هو اثبات التغيّر في المعنى الثاني في حقّه - تعالى - لا المعنى الأوّل. ولا يخفى توجيهه بمثل ما ذكرنا في حقّنا بأن يقال : إذا حضر يوم الجمعة مع دخول زيد الدار فيه مثلا عنده - تعالى - يحصل له - تعالى - أيضا العلم بالمعلومين المذكورين - كما عرفت - ، وإذا مضت يوم الجمعة وصارت يوم السبت فلا كلام في أنّ المعنى الأوّل لا يتغيّر بالنسبة إليه - تعالى -. وامّا المعنى الثاني - وهو : انّ الآن الحاضر هو يوم الجمعة الّتي دخل فيه زيد الدار - إن كان العلم به باقيا لزم الجهل - لأنّ الآن الحاضر هو يوم السبت مع ما فيه دون يوم الجمعة - ، وان تغيّر بمعنى أن يتجدّد له العلم بأنّ الآن هو يوم السبت بعد ما علم بأنّ الآن هو يوم الجمعة لزم التغيّر في علمه - سبحانه - ؛ ولا ريب في أنّ غرض المستدلّ بالدليل المذكور هو اثبات التغيّر في هذا المعنى حيث قال : « إذا علم مثلا انّ زيدا في الدار في الآن » ؛ فانّ غرضه من قوله : « في الآن » هو الاشعار بالمعنى الثاني ، ولذا لم يقل : « إذا علم أنّ زيدا في الدار يوم الجمعة » ، فانّه يوهم إلى المعنى الأوّل.

ثمّ لا ريب في أنّ بناء التقرير المجمل الّذي ذكره العلاّمة الخفري على اثبات التغيّر في المعنى الثاني ، فما ذكره من أنّه يمكن حمل الدليل المذكور عليه بصرفه عن الظاهر محلّ نظر ، لأنّه هو الظاهر من الدليل المشهور ، دون اثبات التغيّر في المعنى الأوّل كما حمل

ص: 253

الخفري عليه أوّلا واعترض عليه - كما نقلناه - ؛ هذا.

ثمّ انّ المحقّق الدوانى قد قرّر الشبهة بوجه آخر ، وحاصله : انّ علمه - تعالى - بمعلولاته عين ذاته ، ولا ريب في انّه - تعالى - عالم بمعلولاته المتغيّرة - من حيث هي متغيّرة لانها بهذه الحيثية معلولة له تعالى - ، فإذا علم المتغير من حيث تغيره بأن يتقدّم منه شيء بعد أن كان أو عكس ذلك فان لم يتغيّر العلم به حصل تغيره ولزم الجهل - لعدم مطابقته للواقع - ، وان تغيّر لزم التغيّر في ذاته - لأنّ العلم عين الذات -.

ولا ريب في أنّ هذا التقرير أيضا راجع إلى ما ذكر ، يعنى بنائه على اثبات التغيّر في المعنى الثاني ، إذ التغيّر إنّما يقع بالذات في اجزاء الزمان وبواسطتها في الزمانيات. فإذا علم بسلامة زيد في يوم السبت مثلا ثمّ علم في يوم الأحد بانعدام عضو منه فلا ريب في أنّ علمه بسلامة زيد في يوم السبت - لا كون هذا اليوم ظرفا لسلامته - لم يتغيّر بمضيّ يوم السبت ومجيء يوم الأحد مع ما حدث فيه من انعدام عضو من زيد ، لعدم وقوع التغيّر في ظرفية يوم السبت للسلامة ، بل التغيّر بعد مجيء يوم الأحد مع ما حدث فيه إنّما حصل في كون الآن الحاضر عنده هو يوم السبت وكون الحاصل في الآن الحاضر هو سلامة زيد ، لأنّ الآن الحاضر بعد مضيّ يوم السبت هو يوم الأحد وكون الحاصل في الآن حينئذ هو انعدام عضو من زيد ، فحصل التغيّر في علمه أيضا بهذا المعنى - أعني : في كون الآن الحاضر هو يوم السبت وكون الحاضر / 168 MA / فيه هو سلامة زيد -. وقد ظهر ممّا ذكر انّ مناط الشبهة على جميع التقريرات إنّما هو لزوم التغيّر في علمه - سبحانه - لاجل تعلّقه باجزاء الزمان المتغيرة بالنسبة إليه - تعالى - بالحالية / 176 DB / والمضيّ والاستقبال ، ولأجل تعلّقه بما يقع فيها من الحوادث المتغيّرة وجوداتها واعدامها وسائر أحوالها أيضا لو فرض الاحوال الثلاثة لها نظرا إلى وقوعها في اجزاء الزمان.

ثمّ قد أجيب عن هذه الشبهة بوجوه ثلاثة :

أوّلها : منع لزوم التغيّر فيه - تعالى - ، لأنّ التغيّر - على ما علم - إنّما هو في الاضافات لأنّ العلم اضافة محضة أو صفة حقيقية ذات اضافة ؛ فعلى الأوّل يتغيّر نفس العلم ؛ وعلى الثاني يتغيّر اضافاته فقط وعلى التقديرين لا يلزم تغيّر في صفة موجودةٍ

ص: 254

، بل في مفهوم اعتباري ، وهو جائز. وعلى هذا فالجواب عن شبهة عدم علمه بالجزئيات المتشكلة : انّ ادراك المتشكّل إنّما يحتاج إلى آلة جسمانية إذا كان الادراك بحصول الصورة ، وأمّا إذا كان اضافة محضة أو صفة حقيقية ذات اضافة بدون الصورة فلا حاجة إلى آلة جسمانية أصلا.

وأنت خبير بانّه على ما اخترناه وان كان الجواب عن شبهة عدم علمه - سبحانه - بالجزئيات المتشكّلة صحيحا لأنّ ذاته - تعالى - بذاته إذا كان منشأ للانكشاف وكان الانكشاف بالحضور دون ارتسام الصور لم يكن حاجة إلى آلة جسمانية أصلا ؛ نعم ما ذكر في الجواب المذكور من أنّ العلم صفة حقيقية ذات اضافة ممّا يناسب مذهب الاشاعرة القائلين بزيادة الصفات ؛ فبطلانه ظاهر.

وأمّا الجواب المذكور عن شبهة لزوم التغيّر في علمه - سبحانه - ، فهو غير تامّ ؛ لأنّ العلم بمعنى الاضافة الاشراقية وان كان ثابتا له - تعالى - عندنا ووقوع التغيّر في الاضافة لا يوجب التغيّر في الذات أو في صفة حقيقية لها ، إلاّ أنّ تغيّر اجزاء الزمان وما يقع فيها من الحوادث بتجدّد حضوراتها وبالحالية والمضيّ والاستقبال يستلزم تجدّد نسب الأزمان واجزاء الزمان بالنسبة إليه - تعالى - ويوجب تغيّر نسب الحوادث في الحالات الثلاث بالقياس إليه - تعالى - ، مع أنّه - تعالى - مجرّد متعال عن الزمان والزمانيات ونسبته إلى جميع الأوقات والأزمان متساوية كما انّ نسبته إلى جميع الأمكنة والأحياز كذلك.

وقد ظهر مما ذكر انّ ما ذكره المحقّق الطوسي في التجريد في الجواب عن الشبهة المذكورة بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن » (1) ليس بتامّ.

وقال العلاّمة الخفري : المناسب في الجواب عن هذه الشبهة على التحقيق الّذي هو مختار المحقّق أن يقال : انّ العلم عندنا نفس المعلوم ، فالتغير فيه ليس إلاّ التغيّر في المعلومات ولا يلزم منه التغيّر في ذات العالم ، بل إنّما يلزم منه التغيّر في الحضور الّذي هو لازم للعلم نظرا إلى أنّ العلم لمّا كان عين المعلوم كان العلم حقيقة هو الأمر الحاضر و

ص: 255


1- راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 222.

الحضور لازم للحاضر ، فالحضور لازم للعلم وهو الأمر الاضافي. والتغيّر فيه جائز بالنسبة إلى واجب الوجود - تعالى - كتغيّر الايجادات ، فانّ كلّ ايجاد من ايجادات الحوادث إنّما كان في وقت ومع كلّ ايجاد انكشاف حضوري مقارن له ؛ وإلى هذا اشار المحقّق الطوسي بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن ».

وغير خفي بأنّ مبنى كلامه على كون العلم الحقيقي هو نفس المعلوم - على ما ظهر من كلام المحقّق أيضا - ، وقد عرفت ما فيه ؛ وعلى انّ التغيّر في الحضور الّذي هو الانكشاف لا بأس به ، وقد عرفت انّ التغيّر فيه وإن لم يستلزم التغيّر في ذاته - تعالى - إلاّ أنّه يستلزم تجدّد نسب الأوقات بالنسبة إليه - تعالى - ؛ وهو ليس بصحيح.

وأورد عليه : بأنّ كون العلم نفس المعلوم يقتضي كون العلم زائدا على الذات ، مع انّ مذهب المحقّق الطوسي انّ العلم عين الذات.

فان قيل : العلم الّذي هو عين الذات عنده هو العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني - كما تقدّم - ، والّذي نفس المعلوم هو العلم التفصيلي لا العلم الاجمالي ؛

قلت : محال ؛ فما ذكره الخفري في الجواب عن الشبهة المذكورة إنّما يكون جوابا على تقدير كون المراد من العلم الّذي هو مذكور في الشبهة العلم التفصيلي لا العلم الاجمالي الّذي هو عين الذات. ولو اريد منه العلم الاجمالي لم يكن هذا الجواب مطابقا ، بل الجواب حينئذ أن يقال : انّ العلم الاجمالي أمّا على الاحتمال الأوّل فهو معقول واحد بسيط لا تكثّر فيه أصلا ، وليس علما بتفاصيل الأشياء وخصوصياتها حتّى يلزم من تغيرها تغيره ؛ وأمّا على الاحتمال الثاني - أعني : كون مجرّد / 168 MB / ذاته تعالى مناطا ومصحّحا للانكشاف وتمكّنه على ايجاد الأشياء منكشفة عنده - فهو عين ذاته - تعالى - ولا تغير ولا تكثر فيه أصلا ، وإنّما المتغير والمتكثّر هو المعلومات. والاضافة العارضة له / 168 DA / - تعالى - بالنسبة إلى كلّ معلوم معلوم وتغير المعلومات والاضافات لا يستلزم تغيّر العلم الّذي هو عين ذات الواجب ؛ وإلى هذا اشار المحقّق

ص: 256

بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن » (1).

ولا يخفى عليك انّ العلم الاجمالي على الاحتمال الأوّل وإن لم يكن فيه تغيّر - نظرا إلى عدم تعلّقه بخصوصيات الأشياء وتفاصيلها - إلاّ أنّك قد عرفت بطلان القول به. والعلم الاجمالي على الاحتمال الثاني وإن كان عين الذات وليس فيه تغيّر ، إلا انّه لا بدّ معه من القول بثبوت العلم بمعنى الاضافة الاشراقية ، ومع تسليم ثبوت التغيّر فيها يلزم ما ذكرناه سابقا من لزوم تجدّد نسب الأوقات والأزمان بالنسبة إليه - تعالى - ؛ هذا.

وأورد بعض الأفاضل على التقرير المناسب الّذي أورده الخفري بأنّ هذا لا يدفع الشبهة على التقريرات المذكورة ، إذ بدّل لزوم التغيّر في العلم فيها بلزوم التغيّر في الحكم ؛ على انّه لا حاجة إلى هذا التبديل ، لأنّ المراد بالعلم هو الحكم. وعدم دفع الشبهة حينئذ لما عرفت من انّ تغيّر الحكم لازم بسبب وقوع الحاكم تحت الأزمنة. وكون العلم حضوريا لا ينفع في ذلك.

وأيضا نقول : إذا كان شيء من الأشياء منكشفا بذاته عنده - تعالى - في زمان معيّن بسبب حضور ذاته في ذلك الزمان فإذا انقضى ذلك الزمان يزول لا محالة ذلك الانكشاف ، لأنّ الحضور إنّما كان بسببه وقد زال سواء بقى صورته في المدرك أم لا ، إذ الانكشاف الحضوري أمر وراء العلم الصوري كما انّ المبصر إذا غاب عن بصرنا يزول عنّا الحالة الّتي نسمّيها الابصار ، ولا يكفى في ذلك بقاء صورته في خيالنا. ولا شبهة في انّ الانكشاف المذكور وكذا الابصار حالتان وجوديتان يستلزم زوالهما زوال حالة وجودية عن المبصر وعن المنكشف لديه ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره أوّلا من أنّ تغيّر الحكم لازم بسبب وقوع الحاكم تحت الازمنة ممنوع - كما عرفت مرارا - ؛ إلاّ أنّ غرض الخفري وغيره ممّن أجاب عن هذه الشبهة انّ العلم الّذي يلزم فيه التغيّر - سواء كان بمعنى الحكم أم لا - هو أمر اضافي والتغير فيه جائز بالنسبة إلى الواجب - سبحانه - ، فكان اللازم أن يدفع هذا الجواب على ما ذكرناه من أنّ التغيّر في الأمر الاضافي وإن كان جائزا إلاّ انّه غير جائز -

ص: 257


1- راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 222.

لاستلزامه تغيّر نسب الحوادث والاوقات بالنسبة إليه تعالى -.

وامّا ما ذكره ثانيا من زوال الانكشاف بانقضاء الزمان الّذي كان المعلوم حاضرا فيه دون ما بعده من الزمان - لأنّه لا ريب في زوال الحضور بعد مضى الزمان وانعدام ما فيه - ، ففيه : إنّ هذا شبهة على علمه بالمعدومات وقد تقدّم الجواب عنه ، والكلام هنا في لزوم التغيّر في علمه - سواء كان العلم حصوليا أو حضوريا ، وسواء كان المعلوم معدوما أو موجودا - ، فالشبهة الموردة هنا إنّما هو شبهة تغيّر علمه - تعالى - ، فما ذكره المورد المذكور ثانيا من تحقّق زوال الانكشاف على القول بالعلم الحضوري لبداهة زوال الحضور بعد مضيّ الزمان وانعدام ما فيه مبني على توهّم تركيب الشبهتين.

نعم! ، الحقّ انّ الجواب الصحيح عن هذه الشبهة - أعني : شبهة تغيّر علمه تعالى - هو الجواب المذكور عن كيفية علمه بالمعدومات - كما يأتى مفصلا - ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل : اللائق في الجواب عن الشبهة المذكورة أن يقال : انّ علمه - تعالى - لمّا كان حضوريا غير زائد على الذات فيعلم كون زيد في الدار في الزمان أو الآن ، ولا يزول هذا العلم بخروج زيد عن الدار بعد الزمان أو الآن الّذي كان فيها ، بل يبقى هذا العلم ويعلم أيضا كون زيد خارجا عنها بعد زمان كونه في الدار من غير لزوم محذور ؛ وتغاير المعلولين بالذات لا يستدعي تغاير العلم إلاّ بالاعتبار والاضافة ، وهو غير مستحيل. وإليه اشار العلاّمة الطوسي بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن » ؛ انتهى.

وفيه : انّ القول ببقاء العلم بكون زيد في الدار في زمان مع العلم بخروجه عنها في زمان آخر ان اريد منه إنّ العلم بظرفية الزمان الأوّل لدخول زيد في الدار باق مع العلم بظرفية الزمان الثاني لخروجه عنها ، فهذا مسلم ، إلاّ أنّا لا نقول انّ التغيّر وقع في ظرفية الزمان الأوّل لدخول زيد في الدار ، بل التغيّر - على ما تقدّم - إنّما هو في كون الزمان الأوّل مع دخول زيد في الدار الحادث فيه حاضرا في الآن ؛ وإن أريد منه / 168 DB / انّ العلم بأنّ الزمان الأوّل مع ما حصل فيه - أعني : دخول زيد في الدار - حاضر في الآن باق مع العلم بأنّ الزمان الثاني مع ما حدث فيه - أعني : خروج زيد عنها - حاضر

ص: 258

في الآن ، فهو ممنوع ، ووجهه ظاهر مما تقدّم ؛ وإذا لم يجتمع هذان العلمان فيلزم التغيّر في علمه - تعالى -. نعم! ؛ القول ببقاء هذين العلمين معا إنما يمكن تصحيحه بأحد الوجهين الآتيين اللّذين أحدهما مردود عند التحقيق - وهو التزام القول بالعلم الحصولي حتّى تكون / 169 MA / صورة كون زيد في الدار وصورة كونه خارجا عنها مرتسمتين ، إمّا في ذاته تعالى وإمّا في المدارك العالية على اختلاف بين القائلين بالعلم الصوري كما عرفت - ، وثانيهما مقبول عندنا - وهو القول بحضور جميع الحوادث دفعة واحدة بلا استمرار وتجدّد عنده تعالى -. وبدون التزام أحد هذين الوجهين لا يمكن تصحيح القول ببقاء العلمين معا. والفاضل المذكور قد أنكر كلا القولين معا ، أمّا الأوّل فكما صرّح به في هذا الكلام ، وأمّا الثاني فكما صرّح به عند ردّه على المحقّق الدواني في قوله بحضور أجزاء الزمان مع ما فيها عنده - تعالى - حيث قال : « هذا طور وراء طور العقل ووجوه البحث فيه ظاهرة ، وفيه التزام قدم كلّ حادث » ؛ وحينئذ فكيف يمكن له القول ببقاء العلمين معا!؟.

وثانيها (1) - أي : ثانى الوجوه لدفع الشبهة المذكورة - هو : انّ علمه - تعالى - إنّما هو بحصول الصور لا بانكشاف الذات ، فلا يكون حكمه واقعا في آن من الآنات بأن يكون الآن ظرفا للحكم ولا علمه متعلّقا بالحوادث الزمانية من حيث وقوع كلّ منها في زمان خاصّ ووقت معيّن حتّى يلزم التغيّر بتغيّر المعلوم ، بل إنّما يعلم الكلّ من حيث اسبابها الكلّية. كما في علم المنجّم بالخسوف الجزئي المعيّن إذا كان حاصلا من قواعد علم النجوم وطريق ضبط الحركات لا من جهة الإحساس ، فانّه لا يتغيّر بحسب تجدّد أزمنة القبل والبعد والمقارنة.

وهذا الوجه عندنا باطل ، لما عرفت من بطلان القول بالعلم الحصولي ؛ وقد صرّح جماعة بأنّه يلزم على هذا القول عدم علمه - تعالى - بالجزئيات من حيث انّها جزئيات ، بل يكون علمه - تعالى - حينئذ على سبيل الكلّية. وقد نسب ذلك إلى الشيخ وغيره من القائلين بالعلم الصوري ، وربما كفّرهم جماعة لذلك ؛ وسيجيء تحقيق ذلك في محلّه.

ص: 259


1- الاصل : ثالثها.

وثالثها - وهو الحقّ المختار - : انّ علمه - تعالى - ليس زمانيا ، فانّه - تعالى - لتعاليه عن الزمان واحاطته به يكون جميع أجزاء الزمان عنده متساوية ولا يكون بالنسبة إليه قبل وبعد ومقارنة وكان ويكون ؛ قال بعض الفضلاء : قال الحكماء : علمه - تعالى - ليس زمانيا - أي : واقعا في الزمان - كعلم أحدنا بالحوادث المختصّة بأزمنة معيّنة ، فانّه واقع في زمان مخصوص ، فما حدث منها في ذلك الزمان كان واقعا في الحال وما حدث قبله أو بعده كان واقعا في الماضي أو المستقبل. وامّا علمه - تعالى - فلا اختصاص له بزمان أصلا ، فلا يكون ثمّة حال ولا ماض ولا مستقبل ، فانّ هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى ما يختصّ بجزء منه - إذ الحال معناه زمان حكمي هذا والماضي زمان قبل زمان حكمي هذا والمستقبل زمان بعد زمان حكمي هذا - ، فمن كان علمه ازليا محيطا بالزمان غير محتاج في وجوده إليه وغير مختصّ بجزء معيّن من أجزائه لا يتصوّر في حقّه حال ولا ماض ولا مستقبل ، فاللّه - سبحانه - عالم عندهم بجميع الحوادث الجزئية وأزمنتها الواقعة هي فيها. لا من حيث أنّ بعضها واقع الآن وبعضها في الماضى وبعضها في المستقبل ، بل يعلمها علما شاملا متعاليا منزّها عن الدخول تحت الازمنة ثابتا أبد الدهر.

وتوضيحه : انه - تعالى - كما لم يكن مكانيا فكان نسبته إلى جميع الامكنة على السواء - فليس فيها بالقياس إليه قريب وبعيد ومتوسط - ، كذلك لمّا لم يكن هو وصفاته الحقيقية زمانيا لم يتصف الزمان مقيسا إليه بالمضيّ والاستقبال والحضور ، بل كان نسبته إلى جميع الأزمنة على سواء ، فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له كلّ في وقته ، وليس في علمه كان وكائن وسيكون ، بل هي حاضرة عنده في أوقاتها. فهو عالم بخصوصيات الجزئيات وأحكامها ، لكن لا من حيث دخول الزمان فيها بحسب / 169 DA / أوصافها الثلاثة - إذ لا تحقّق لها بالنسبة إليه تعالى -. ومثل هذا العلم يكون ثابتا مستمرّا لا يتغيّر أصلا كالعلم بالكلّيات.

قال بعض الفضلاء : وهذا معنى قولهم : انّه - تعالى - يعلم الجزئيات على وجه كلّي لا ما توهّمه بعضهم من أنّ علمه محيط بطبائع الجزئيات وأحكامها دون خصوصياتها وما يتعلّق بها من الأحوال ، كيف وما ذهبوا إليه من أنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول

ص: 260

ينافي ما توهّموه! ؛ انتهى.

ثمّ اعلم! ، انّ عدم كون علمه - سبحانه - زمانيا وبراءته عن الوقوع في الزمان وكونه عالما بالاشياء جميعا في الأزل على نهج واحد من دون تغيّر وتجدّد إنّما يتصوّر لأحد من أمور أربعة :

الأوّل : أن يكون ذلك لأجل كون علمه صوريا كلّيا حاصلا من الأسباب والعلل المتسلسلة المنتهية إلى الجزئيات المتغيّرة ، فانّه - سبحانه - إذا علم الجزئيات بصورتها الكلّية وطبائعها المجردة من عللها وأسبابها يكون هذا العلم مقدّسا عن الوقوع في الزمان ؛ وعلى هذا لا تكون الأشياء معلومة له - تعالى - بحضوراتها العينية.

ومفاسد هذا الوجه كثيرة - كما عرفت -.

وأنت تعلم انّ هذا الامر هو الوجه الثاني بعينه ، فيكون الوجه الثاني داخلا تحت الوجه الثالث وواحدا من اقسامه.

الثاني : أن يكون لأجل علمه - تعالى - في الأزل بذواتها العينية على التفصيل والجزئية بأن تكون بأنفسها ووجوداتها العينية ثابتة له - تعالى - في الأزل حاضرة منكشفة / 169 MB / عنده فيه بخصوصياتها وإن لم توجد بعد في الخارج ، لما حقّقناه سابقا من انّه - تعالى - لمّا كان محيطا بالزمان متعاليا عنه وجميع اجزاء الزمان بالنسبة إليه كان واحدا في معية الوجود فيكون الزمان بأسره والزمانيات برمتها موجودة له - تعالى - في الأزل وإن لم تكن موجودة بأنفسها - على ما مرّ مفصّلا -.

الثالث : أن يكون لاجل علمه بذواتها على التفصيل والجزئية لا لكونها حاضرة عنده - تعالى - بوجوداتها العينية ، بل لكونها معلولاته - تعالى - ولوازم ذاته الفائضة المترشّحة عنه - سبحانه - ، فانّ كونها من مقتضيات ذاته المندرجة فيه - سبحانه - يقتضي انكشافها مفصّلة متخصّصة عنده - تعالى - ، على ما قررناه وذكرنا انّه أيضا ممّا يتصحّح به العلم الحضوري.

الرابع : أن يكون لأجل علمه - تعالى - بذواتها لكونه من مقتضيات ذاته - تعالى - ، لكن على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل ؛ والعلم الاجمالي على الاحتمال الأوّل

ص: 261

- أعني : بمعنى الانكشاف الاجمالي - لا تغيّر فيه. وعلى هذا الأمر الرابع لا يكون الأشياء معلومة له - تعالى - بخصوصياتها ، ولذلك يكون باطلا.

وقد ظهر ممّا ذكرناه انّ علمه - سبحانه - بالأشياء ليس زمانيا وإنّ السبب في ذلك هو الأمر الثاني أو الثالث دون الأوّل والرابع.

فهنا مطلبان :

الأوّل : عدم كون علمه زمانيا ؛

والثاني : كون السبب في ذلك هو ما ذكر. فلا بدّ لنا من تنقيح القول فيهما وردّ ما أورد عليهما. فنقول :

أمّا المطلب الأوّل فوجهه ظاهر ممّا تقدّم ، فانّ الواجب - سبحانه - لمّا كان محيطا بالزمان والزمانيات متعاليا عنهما فلا معنى لوقوع علمه تحت الزمان ، والكلام الّذي نقله بعض الفضلاء عن الحكماء - كما ذكرناه - واف لاثبات هذا المطلب.

وقد أورد عليها العلاّمة الخفري بعض الايرادات ، فلا بدّ لنا من ذكرها ودفعها.

فقال : لا شبهة في أنّ علمه - تعالى - بالجزئيات باعتبار وجودها العينى - أعني : حضورها - ، بل الحاضر باعتبار ذلك الوجود زماني واقع في الزمان ، فانّ الحوادث لمّا كانت مختصّة بأزمنة معينة كان حضورها باعتبار الوجود العينى مختصّا بتلك الأزمنة المعينة. ولا يخلو إمّا أن تكون تلك الحوادث بعينها باعتبار الوجود العينى علما بها أو حضورها وانكشافها باعتبار ذلك الوجود علما بها ؛ وعلى التقديرين كان العلم بها باعتبار الوجود العينى زمانيا - أي : واقعا في الزمان -. نعم! ، العلم المتقدّم على الايجاد ليس زمانيا ولا تغير فيه أصلا وهو إمّا اجمالى وهو عين ذات واجب الوجود. ولا يخفى انّ الجزئيات باعتبار هذا العلم معلومة على الوجه الجزئي ولا يصحّ القول بأنّها معلومة بهذا العلم على الوجه الكلّى.

فان قيل : انّها معلومة على الوجه الكلّى باعتبار هذا العلم ، كما وقع في عبارة بعض الحكماء ، فانّه يصحّ بأحد التأويلين اللّذين أحدهما من المحقّق الطوسي وهو : انّ مرادهم بالقول بأنّ واجب الوجود يعلم الجزئيات بوجه كلّي لا جزئي انّه - تعالى - يعلم الجزئيات

ص: 262

بالكلّية ، أي : بجميعها بحيث لا يعزب عنه / 169 DB / - تعالى - شيء منها لا انّه - تعالى - يعلم بعضها ويعزب عنه بعض آخر - كما هو شأن الممكن - ؛ وثانيهما من بعض المتأخّرين ، وهو : انّ مرادهم انّه - تعالى - يعلم الجزئيات بوجه يشابه الكلّي في آن لا يتغيّر العلم بها. وإمّا تفصيلي فلا حاجة إلى شيء من هذين التأويلين ، فانّ الجزئيات قبل الايجاد الخارجي إنّما يعلم على الوجه الكلّي ، فانّ كلّ شخص من الأشخاص قبل الايجاد يكون معلوما بوجه كلّي منحصر في شخص وفي وقت الايجاد يكون معلوما بذاته على وجه يكون مانعا من وقوع الشركة. وغير خفي بأنّ المراد من العلم التفصيلي المتقدّم هنا هو المرتبة الأولى والمرتبة الثانية من مراتب العلم التفصيلي المتقدّمة ، فانّ في هاتين المرتبتين لا يحصل إلاّ الصور الكلّية - كما تقدّم -. وإنّما خصّصنا العلم التفصيلي بهاتين المرتبتين بقرينة قوله : « فانّ كلّ شخص من الأشخاص يكون قبل الايجاد معلوما بوجه كلّى منحصر في شخص » ، فالواجب يعلم الجزئيات بهذا العلم قبل ايجادها على الوجه الكلّي - أي : بصورة غير مانعة من الشركة - باعتبار ارتسام تلك الجزئيات في العقول والنفوس الفلكية والنفوس الناطقة الانسانية ، فانّها وما فيها حاضرة عنده - تعالى -. وليس المراد انّ العلم التفصيلي المتقدّم على الايجاد بالجزئيات حينئذ منحصر بالوجه الكلّي ، بل المراد انّ هذا العلم - أي : العلم بالوجه الكلّي - أيضا يحصل له وإن تحقّق له - تعالى - العلم بها قبل الايجاد على الوجه الجزئي أيضا - كعلمه بالجزئيات المرتسمة في الآلات الجزئية المادّية والخيالات الفلكية ، فانّها مع ما فيها أيضا منكشفة عنده تعالى - ؛ انتهى ما ذكره بأدنى توضيح.

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الاختلال ، لأنّ المحيط بالزمان والمتعالي عنه كيف يكون صفاته زمانية - أي : واقعة في الزمان؟! - ، فانّ ذلك مخالف للقواعد العقلية والنقلية. فهذا العلاّمة إن أراد انّ علم الواجب - تعالى - بمعنى الانكشاف حادث زماني ، فهو باطل عقلا وشرعا ؛ وإن اراد انّ العلم بمعنى المعلوم حادث زماني ، فلا نزاع في ذلك. وقد عرفت / 170 MA / انّ مناط علم الواجب بالأشياء - سواء كانت زمانية أو غير زمانية - ليس نفس وجوداتها وحقائقها ، وإلاّ لزم أن يكون علمه انفعاليا وحادثا ،

ص: 263

وهو باطل ؛ بل مناط علمه بالأشياء هو حضور ذاته عند ذاته وعلمه بذاته ، فالاشياء معلومات لا علوم.

وأيضا قد عرفت ممّا قرّرناه وحقّقناه انّ الأشياء قبل ايجادها في الخارج حاضرة له - تعالى - في الأزل ومنكشفة عنده بوجوداتها العينية على التفصيل ولا تفاوت في علمه بها قبل ايجادها وبعده ، فالقول بأنّ العلم قبل الايجاد إمّا اجمالي جزئي أو تفصيلي كلّي ، باطل ؛ لاستلزام الأوّل جهله - سبحانه - بخصوصيات الاشياء فيعلم بعضها ويفوت عنه بعض آخر ، واستلزام الثاني جهله - تعالى - بالجزئيات من حيث انّها جزئيات ؛ هذا.

وأورد عليه بعض الأفاضل بأنّ كون المعلوم باعتبار الحضور زمانيا لا يوجب كون العلم به زمانيا ؛

وهذا من العجائب! ، ووجهه ظاهر ممّا تقدّم.

وبما ذكرناه يظهر ضعف ما ذكره بعد ذلك بقوله : « انّ علمه - تعالى - الحادث المتعلّق بالحادث باعتبار وجوده العينى مخصوص بالزمان ، فيتصوّر باعتباره وباعتبار الصفات الاعتبارية الحادثة المخصوصة بالأزمنة - كالايجادات وفعلية التكلّم وارسال الرسل ونحوها - حال وماض ومستقبل - كما وقع في القرآن المجيد - ؛ انتهى.

ووجه الضعف ما عرفت من أنّ علمه - تعالى - لا يكون متعلّقا بالزمان. وأمّا افعاله - تعالى - فهي من حيث استنادها إليه - تعالى - وصفاته الاعتبارية من حيث أنّها صفات له - تعالى - فليست أيضا زمانية ، وإلاّ لزم اتصافه - تعالى - بالزمان.

ويمكن أن يقال : انّها لعدم كونها من الصفات الأزلية الكمالية لا منع في كونها زمانية لعدم استلزام كونها زمانية لاتصافه - تعالى - بالزمان ، فانّ الايجاد وفعلية التكلّم بحدوثها وعدم كونهما من الصفات الكمالية الأزلية لا منع في كونهما ازليتين كما لا منع في حدوثهما. وأمّا مثل العلم الّذي يجب ثبوته له - تعالى - في الأزل فلا يمكن كونه زمانيا.

ثمّ أورد على ما تقدّم في الكلام المنقول عن الحكماء لا ثبات انّ الحال والماضي و

ص: 264

المستقبل صفات عارضة للزمان بالقياس إلى ما يختصّ بجزء منه - لقولنا : إذ الحال معناه زمان حكمي هذا ... الى آخره - : بأنّه إن اريد بالحكم الحكم القديم لم يناسب هذا إلاّ مذهب الأشعري ، وإن اريد به مطلق الحكم الحادث - أي : أعمّ من أن يكون هذا الحكم الحادث من الواجب أو من العبد - أو أريد به الحكم المطلق الشامل / 170 DA / للحكم القديم والحادث فلا يدلّ على ما هو المطلوب - أعني : كون علمه - تعالى - زمانيا ؛ انتهى بأدنى تغيير.

وتوضيح كلامه - على ما يستفاد من كلام بعضهم - : انّه لا شكّ أنّ المراد من تفسير كلّ واحد من الأوصاف الثلاثة بما ذكر إنّما هو لأجل أن يظهر منه انّ هذه الأوصاف الثلاثة بهذه التفسيرات لا يمكن أن يثبت له - سبحانه - ، فإذا كان الحال مثلا معناه زمان حكمي هذا فلا يمكن أن يكون ثابتا له - تعالى - ، لأنّه لا يكون لحكمه - تعالى - زمان يختصّ به.

فنقول : المراد من الحكم إن كان هو الحكم القديم - أي : الّذي يسمّى بالكلام النفسي المتعلّق بالكلام اللفظى الحادث - فلا ريب في عدم كونه زمانيا ، لأنّ القديم لا يتعلّق بالزمان. فإذا قلنا : الحال زمان حكمي هذا يكون مختصّا بالحكم الحادث ومنحصرا بالحكم الصادر عن العبد ، فلا يكون لحكمه - تعالى - حال. ولكن هذا لا يناسب إلاّ لمذهب الأشاعرة ، فانّهم لمّا قالوا بالكلام النفسى كانت الأوامر والنواهي الإلهية عندهم قديمة ، فلا تكون زمانية ، فالحكم الزماني يختصّ بحكم العبد بكونه حادثا. وأمّا المعتزلة فلمّا لم يقولوا بالكلام النفسي - لعدم معقوليته - لم يفرّقوا بين حكم اللّه وحكم العبد ، فكما انّ حكم العبد عندهم حادث زماني كذلك حكم اللّه - تعالى - عندهم حادث زماني. فتفسير الحال بزمان حكمي هذا على أن يخرج منه حكم اللّه - تعالى - لا يناسب لمذهبهم ، بل إنّما هو يناسب لمذهب الأشاعرة فقط.

وإن كان المراد من الحكم المذكور مطلق الحكم الحادث - سواء كان حكم الواجب أو حكم العبد - أو الحكم المطلق - أي : سواء كان قديما أو حادثا - فلا يدلّ على المطلوب - الّذي هو اثبات أن ليس للواجب وعلمه حال وماض ومستقبل - ،

ص: 265

/ 170 MB / لأنّ الحال مثلا إذا كان زمان الحكم الحادث أو المطلق الشامل له يكون بالنسبة إليه - تعالى - وعلمه حال بمعنى انّ له زمان الحكم الحادث. وغير خفي بأنّ كلامه على هذا الحال لا يكون خاليا عن اختلال ، لأنّ مراده من الحكم في قوله : « إن اريد بالحكم الحكم القديم » هو الحكم الواقع في تفسير الحال فقط حتّى يكون المراد انّ الحال معناه هو زمان الحكم القديم فقط. فيظهر منه نقيض المطلوب ، لأنّه لا يكون لحكم العبد حينئذ زمان أصلا ويختصّ بحكم الواجب ، ولا يناسب هذا مذهب أحد - لا الأشعري ولا غيره -. وإن كان مراده منه الحكم الّذي يراد اثبات عدم تعلّقه بالأوصاف الثلاثة بقوله في الشقّ الآخر وإن كان المراد مطلق الحكم الحادث لا معنى له ، فانّه لا يذهب أحد إلى القول بعدم تعلّق حكم العبد بالاوصاف الثلاثة.

ويمكن أن يقال : انّ غرضه انّ المراد من الحكم في تفسير الحال إن كان هو الحكم القديم فلا يناسب إلاّ لمذهب الأشعري من حيث انّ غيره لم يذهب إلى كون حكمه - تعالى - قديما - وإن كان تخصيص الحكم الزمانى بالقديم لم يناسب لمذهب الأشعري أيضا - ، وإن كان المراد منه مطلق الحكم الحادث لزم خلاف المطلوب - أعني : عدم كون علمه زمانيا - ، لأنّه إذا كان حادثا يكون زمانيا البتّة.

وقيل : غرضه انّ المراد من الحكم الواقع في تفسير الأوّل إن كان هو الحكم القديم فجريان الأوصاف الثلاثة بهذا التفسير لا يتصوّر بالنسبة إليه - تعالى - عند غير الأشعري حتّى يحتاج إلى نفيه - لأنّ أحدا لم يذهب إلى أنّ القديم يمكن تعلّقه بالزمان إلاّ الأشعري - فاثبات عدم جريان الأوصاف الثلاثة بعد تخصيص الحكم بالقديم إنّما يناسب مذهب الاشعري ، وعند غيره لا يحتاج إلى الاثبات بداهة ؛ وإن كان المراد منه أعمّ من الحكم القديم والحادث فلا يدلّ على ما هو المطلوب - أعني : عدم جريان الأوصاف الثلاثة بالنسبة إليه تعالى - مطلقا. لجريانها في حكمه - تعالى - الحادث ، أو توهّم جريانها بالنسبة إليه - تعالى - مطلقا لعدم تصوّر جريانها في حكمه القديم.

ثمّ الجواب عمّا ذكره : إنّ المراد من الحكم هو الحكم المطلق الشامل للقديم والحادث ، ولا يلزم كون حكمه زمانيا أصلا ؛

ص: 266

أمّا إذا كان قديما ، فظاهر ؛

وأمّا إذا كان حادثا فلأنّ افعاله - تعالى - من حيث استناده إليه - تعالى - ليست زمانية ، وكذا صفاته الاعتبارية من حيث أنّها صفات له - تعالى - ، إذ لو كانت زمانية لزم اتصافه بالزمان ، وهو باطل.

على أنّا نقول : انّ صفاته - تعالى - الّتي هي صفات كمالية ازلية غير زمانية ، وأمّا صفاته الفعلية الّتي ليست من الصفات الكمالية الأزلية - كالايجاد وفعلية التكلّم - فلا مانع من كونها زمانية ، لأنّ كونها زمانية لا يوجب اتصافه - تعالى - بالزمان. فالمراد من الحكم إن كان هو العلم بمعنى الانكشاف فهو صفة كمالية ازلية ، فلا يكون / 170 DB / حادثا زمانيا ؛ وإن كان ممّا يجوز كونه حادثا ممّا لا يكون كمالا له - تعالى - فلا يمتنع كونه زمانيا.

ثمّ قال : الصواب أن يقال في تفسير الحال : انّه زمان فيه وجودي وتكلّمي ، والماضي زمان قبل زمان وجودي وتكلّمى ، والمستقبل زمان بعد زمان وجودي وتكلّمي ؛ انتهى.

والفرض انّ الحال زمان يختصّ وجودي وتكلّمى به وعدم جريانه في حقّه - سبحانه - لعدم اختصاص وجوده - تعالى - به ، لا لعدم اختصاص التكلّم به ، فالمراد أنّه ليس زمان يختصّ تكلّمه - تعالى - به مع كون وجوده أيضا مخصوصا به ، فلا بدّ من ملاحظتهما معا. وأخذ الوجود والتكلّم معا إنّما هو لخروج الواجب بناء على مذهب المعتزلة ، فانّ التكلّم عندهم وإن جاز أن يكون في الحال لكن وجوده - سبحانه - لا يجوز أن يكون زمانيا عندهم - لأنّه قديم مرتفع عن الزمان - ، فإذا أخذ في تعريف الحال أن يكون ظرف الوجود والتكلّم معا يخرج الواجب - جلّ شأنه - ولا يكون حكمه حينئذ حاليّا.

وأنت بعد الاحاطة بما ذكرناه لا يخفى عليك جلية الحال فيما ذكره.

ثمّ قال الخفري موردا على قولنا في الكلام المنقول عن الحكماء : « فمن كان علمه ازليا محيطا بالزمان ... إلى آخره » : إن اريد بهذا العلم العلم الّذي هو عين ذات واجب الوجود - تعالى - فلا حاجة إلى ذلك التطويل في بيان انّ الجزئيات من حيث هي جزئية معلومة باعتبار هذا العلم ؛

ص: 267

وإن اريد به العلم الزائد على الذات لم يناسب إلاّ مذهب البعض الّذين قالوا بالعلم القديم الزائد على الذات ، ولا يناسب مذهب أهل الحقّ من المحقّق الطوسي وغيره ؛ انتهى.

والجواب : انّ المراد من العلم إمّا ما هو المناط للانكشاف - وهو عين ذاته تعالى - ، أو نفس الانكشاف الّذي هو أيضا عين ذاته بالمعنى المتقدّم. والتطويل ليس لبيان انّ الجزئيات معلومة بهذا العلم ، / 171 MA / بل لبيان معلوميتها به مع عدم كونه زمانيا. ثمّ إنّا لا نقول بالعلم الزائد مطلقا - لا القديم ولا الحادث - ، وتخصيص الخفري العلم الزائد عند غير الأشاعرة بالعلم القديم مبنيّ على ما زعمه من أنّ العلم الزائد على الذات حادث ، لأنّه حضوري ، فيحدث بحدوث الممكنات ؛ ونسب ذلك أيضا إلى المحقّق الطوسي.

ثمّ القول بالعلم القديم الزائد متناول لمذهب الأشعري - القائل بأنّ العلم صفة زائدة على ذاته ، - ولمذهب الحكماء المشائين - القائلين بالصور الكلّية الحاكية عن الموجودات العينية القائمة بذاته - ، ولمذهب الحكماء - القائلين بالصور القديمة الزائدة على ذاته القائمة بغير ذاته من العقول والنفوس الفلكية - ، بل لمذهب افلاطون - القائل بالصور القديمة القائمة بذاتها - أيضا ، فانّ هذه المذاهب الاربعة غير مناسبة لما ذهب إليه أهل الحقّ من عدم ازلية غير ذات واجب الوجود وعلمه الّذي هو نفس ذاته.

ثمّ قال في تلو قولنا في الكلام المذكور : « فاللّه - سبحانه وتعالى - عالم بجميع الحوادث الجزئية ... إلى آخره : » لا شبهة في تحقيق هذا العلم لكن لا ينحصر علمه - تعالى - في ذلك ، بل له علم آخر حادث وهو الّذي يعبّر عنه عند الأشعري بتعلّق العلم القديم ، وانكار الانكشاف الحادث حين الايجاد العيني كفر! ؛ انتهى.

وغير خفي بأنّ الكفر إنّما هو انكار أصل الانكشاف ، وأمّا انكار الانكشاف الحادث فليس كفرا ، بل القول به كفر شرعي وعقلي - كما صرّح به جماعة من أهل التحقيق -.

ثمّ قال في تلو قولنا في الكلام المذكور : « لم يتصف الزمان مقيسا إليه - تعالى - بالمضي والاستقبال والحضور - ... إلى آخره » : لا خفاء في أنّ الزمان لم

ص: 268

يتصف بالمضيّ ومقابليه مقيسا إلى ذات واجب الوجود وصفاته الحقيقية ، وأمّا الاتصاف بها باعتبار الأحوال الحادثة والصفات الاعتبارية الحادثة فهو متحقّق بلا شبهة - كما دلّ عليه الكتاب العزيز - ؛ انتهى.

وما ذكره من جواز اتصافه - تعالى - بالمضيّ واخويه باعتبار الأفعال الحادثة والصفات الاعتبارية الحادثة ، قد عرفت جلية الحال فيه.

ثمّ قال في تلو قولنا في الكلام المذكور : « فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له - تعالى - ... إلى آخره » : هذا إنّما يصحّ في العلم المقدّم على الايجاد العيني لا في العلم بذوات الحادثات باعتبار وجودها العينى ، فانّه في هذا العلم يتحقّق كان وكائن وسيكون ؛ انتهى.

وقد عرفت انّ العلم المقدّم على الايجاد العيني قد يطلق ويراد به ذاته - تعالى - بذاته من حيث انّه مبدأ الانكشاف ومناطه ، وقد يطلق ويراد به نفس الانكشاف وهو العلم بذوات الحادثات / 171 DA / أيضا ، فانّ المراد من العلم بذوات الحادثات الّذي يتحقّق فيه كان وسيكون نفس الانكشاف ، فهو باطل لتحقّقه في مرتبة ذاته ؛ وإن أراد به نفس المعلوم فهو حقّ ولا نزاع لأحد فيه.

ثمّ قال بعد قولنا في الكلام المذكور : « بل هي حاضرة عنده في أوقاتها ... إلى آخره » : لمّا كان كلّ منها حاضرا في وقته ولا يكون حاضرا في الوقت المقدّم على ذلك ولا في الوقت المؤخّر عنه كان علمه - تعالى - بذوات الجزئيات الخاصّة حال كونها ملحوظة مع الوجود العيني واحكامها الواقعة في أزمنتها من حيث دخول الزمان باوصافه الثلاثة فيها. ففي قوله : « ومثل هذا العلم يكون ثابتا مستمرا لا يتغيّر أصلا كالعلم بالكلّيات » بحث لا خفاء فيه ؛ وهو : انّك عرفت انّ علمه - تعالى - بالجزئيات العينية إنّما هو من حيث دخول الزمان فيها بحسب الأوصاف الثلاثة ، وكون هذا العلم ثابتا مستمرّا غير متغير يستلزم نفي هذه الحيثية ، فلا يكون ثابتا غير متغير ، بل يكون متغيرا بحسب الوجود الخارجي والحضور قطعا. نعم! ، كون واجب الوجود بحيث يحضر عنده جميع الجزئيات الخاصّة كلّ في وقته لا تغيّر فيه ، لكن هذا ليس عبارة عن

ص: 269

العلم الحدوثي الّذي هو عبارة عن الحاضر الحادث في وقت وجوده العيني وان كان مستلزما له ، وعبارة الفلاسفة تقتضي نفي الحضور الحادث الزمانى ؛ فهذا التأويل لا يناسب مقتضى عبارتهم ؛ انتهى.

وحاصل كلامه هنا : إن اريد بقولهم : « بل هي حاضرة عنده في أوقاتها ... إلى آخره » عدم التغير في الحضورات الحادثة الزمانية بالنسبة إليه - تعالى - ، ففيه : انّ علمه - تعالى - بها انّما هو من حيث دخول الزمان فيها بحسب الأوصاف الثلاثة ، وهو لا محالة يستلزم تغير الحضورات الزمانية ؛ وإن اريد عدم التغيّر في كونه - تعالى - بحيث يحضر عنده الجزئيات كلّ في وقته - لا عدم التغير في الحضورات الزمانية - ، ففيه : انّ عدم التغير في كونه بحيث يحضر عنده الجزئيات / 171 MB / كلّ في وقته ليس عدم التغيّر في علمه بالجزئيات ، إذ الكون المذكور ليس عبارة عن العلم الحدوثي التفصيلي بالجزئيات وإن كان هذا العلم الحدوثي لازما للعلم الّذي لا تغير فيه - أعني : كونه تعالى بحيث يحضر عنده الجزئيات كلّ في وقته -.

ثمّ صرّح بأنّ تأويل ما ذكره الحكماء من كون الجزئيات حاضرة عنده - تعالى - كلّ في وقته ومن عدم التغيّر بالمعنى الثاني - أي : بكونه تعالى بحيث يحضر عنده كلّ في وقته من غير تغيّر فيه لا بعدم التغيّر في الحضورات الحادثة الزمانية - لا يناسب مقتضى عباراتهم ، فانّ هذا التأويل إنّما هو بناء على تسليم التغيّر الحدوثى ، وهم مصرّحون بنفي العلم الحدوثي المتغير ، وعباراتهم صريحة في نفي التغيّر في الحضورات الحادثة الزمانية. فانّ تصريحهم بنفي التغيّر في علمه - تعالى - بالجزئيات يقتضي نفي التغير في الحضورات الزمانية ، فليس كلامهم مجملا حتّى يقبل التأويل المذكور ؛ هذا حاصل كلامه.

واندفاعه ظاهر عليك بعد الاحاطة بما تقدّم ، فانّ علمه - تعالى - بذوات الجزئيات بمعنى الانكشاف لا تغير فيه أصلا - لما عرفت مرارا - ، وبمعنى المعلوم متغير إلاّ انّه غير محلّ النزاع. فالحضورات الّتي صرّح بثبوت التغيّر فيها إن كان مراده منها هو الانكشاف الثابتة للواجب - سبحانه - ، فلا نسلّم كونها متغيرة ولا حادثة ولا زمانية ؛ وإن كان مراده منها هو المعلومات الحاضرة ، فكونها متغيرة مسلّم ، إلاّ انّه غير قادح في

ص: 270

مطلوبنا.

وبذلك ظهر اندفاع ما أورده من البحث الّذي لا خفاء فيه على قولهم بكون علمه بالجزئيات ثابتا مستمرّا غير متغير.

وظهر أيضا انّ مراد الحكماء من عدم التغير في علمه - تعالى - بالجزئيات هو عدم التغيّر في انكشاف جميع الأشياء الزمانية الحادثة عنده ، ولم يقل أحد منهم بثبوت الانكشاف الحادث الزماني له - تعالى - ، ولم يثبت أحد منهم علما حادثا له - تعالى - كما يظهر من كلام هذا العلاّمة ، فانّ في كلامه مواضع يدلّ على أنّ للواجب - سبحانه - علمين : أحدهما قديم ثابت ، والاخر حادث متغير. وقد صرّح بذلك في كلامه المتقدّم أيضا ، وفساده اظهر من أن يخفى على أحد.

ثمّ قال : وخلاصة ما حصل من الأبحاث المذكورة انّ علم واجب الوجود الإجمالي الّذي هو عين الذات يعلم به جميع خصوصيات الجزئيات وأحكامها كما يعلم به جميع الصور الكلّية ولا دخل للزمان فيه ولا تغيّر فيه أصلا - كما لا يخفى -. / 171 DB / وأمّا العلم التفصيلى الّذي لا تفصيل بعده هو عين الموجودات العينية عند المحقّق الطوسي ، ويعبر عنه عند البعض بتعلّق العلم القديم وعند البعض بالرؤية العينية ، فهو انّما يكون باعتبار الزمان. وفيه تغيّر ما بحيث لا يوجب نقصا ، فانّ ذلك التغيّر ليس في العلم بالذات ، بل إنّما يكون في العلوم من حيث هي معلومات. والحاصل : انّ التغيّر ليس أوّلا وبالذات في العلم التفصيلي ، بل إنّما يكون هذا التغيّر في العلوم باعتبار انّ تلك العلوم معلومات ، فالتغير بالحقيقة وبالذات إنّما هو في المعلومات وفي العلوم انّما يكون بالعرض وبتبعية المعلومات ، فهذا التغيّر من لوازم عدم التغيّر في العلم القديم ، لأنّ الواجب - تعالى - يعلم بهذا العلم القديم جميع الجزئيات المتغيّرة على ما هي عليه. وهذا العلم عبارة عن كونه - تعالى - بحيث يصدر عنه جميعها منكشفة عنده وصدور تلك الجزئيات المتغيّرة عنه - تعالى - على وجه كونها متغيرة لازم لهذا العلم الغير المتغير ، وهو المقتضي لحدوث المتغيّرات على الوجه الّذي وقعت ، لأنّه اقتضى تغيّر المتغيّرات وتجدّدها في أوقات وجوداتها المختلفة بحسب المصالح وتأدية الأسباب المؤدّية إليها ، وكان علمه التفصيلي بها

ص: 271

عين وجوداتها المتجددة المستلزمة لتجدّد ذلك العلم الّذي هو عينها. فهذا التغيّر من لوازم عدم تغيّر اقتضاء هذا العلم الغير المتغير ، إذ لو لم يتغيّر هذا العلم - وذلك لعدم تغيّر المعلومات - لزم التغيّر في علمه القديم المقتضي لتغير تلك المعلومات ، إذ ما لم يجز تغيّر العلم القديم لم يجز تغيّر مقتضاه ، وهو هذا التغيّر - أعني : تغير المعلومات -. فلو جاز تغيره لجاز عدم وقوع هذا التغيّر الواقع. فظهر انّ هذا التغيّر واقع لعدم ذلك التغيّر - أي : امتناع التجدّد والتغير في علمه القديم هو المستلزم لتغير علمه بالمتغيرات - ، وهذا أمر غريب! ؛ انتهى كلامه مع توضيحه.

وغير خفي بأنّ القول باستناد التغيرات الحادثة إلى العلم القديم إذا كان اجماليا لا تفصيليا - كما هو زعم هذا العلاّمة - مشكل جدّا ، إذ لا امتياز في العلم الاجمالي ، فكيف يستند التغيرات والتجددات إليه؟!.

ثمّ إنّك قد عرفت انّ مذهب العلاّمة الخفري في العلم هو انّ للواجب - سبحانه - علمين : أحدهما : العلم الاجمالي الّذي هو عين ذات الواجب - وهو كون الذات بحيث يصدر عنه الجميع معلومة له - ؛ وثانيهما : العلم التفصيلي الّذي هو عين وجودات الأشياء. وتطبيق كلامه هنا على هذا المذهب إنّما هو بأن يحمل قوله : « يعلم به جميع خصوصيات الجزئيات » على أنّ المراد منه انّه يعلم منه خصوصيات / 172 MA / الجزئيات عند وجوداتها العينية لا في الأزل ، إذ لو حمل على أنّ مراده انّه يعلم من ذاته خصوصيات الجزئيات في الأزل لكان اعترافا بتحقّق العلم التفصيلي القديم المتحقّق له - تعالى - قبل ايجاد الأشياء ، وهو متحاش عنه - على ما ظهر من كلماته السابقة -. وحينئذ فالمراد من قوله : « ولا دخل للزمان فيه » : انّه لا دخل للزمان في العلم الاجمالي الّذي هو نفس ذاته لا في ما ينشأ ويصدر منه من انكشاف خصوصيات الجزئيات وحضوراتها ، لما صرّح في كلامه السابق من أنّ حضورات الجزئيات العينية متعلّقة بالزمان وللزمان مدخلية فيها.

ثمّ انّه لا تصريح في كلماته بأنّ العلم بمعنى الانكشاف هل هو متحقّق له - سبحانه - أم لا ؛ وعلى فرض تحقّقه له - تعالى - بأيّ طريق يكون متحقّقا له - أي : هل يكون أزليا

ص: 272

ثابتا أم حادثا متغيرا - فانّ لم يكن قائلا بثبوته له - تعالى - أصلا حتّى يكون العلم عنده منحصرا بالعلم الاجمالي بمعنى مجرّد ذاته وبالعلم التفصيلي بمعنى مجرّد وجودات الأشياء فهو كفر وزندقة يدفعه قاطع البرهان ويتبرّأ عنه أهل الملل والاديان ؛ وإن كان قائلا به إلا انّه قال بحدوثه بحدوث الأشياء العينية الّتي هي العلوم التفصيلية فهو أيضا باطل - للزوم جهله وفقده صفة كمالية في مرتبة ذاته -. وهذا هو الظاهر من كلماته بعد ملاحظة السوابق واللواحق والجمع بينهما ، فانّه قسّم العلم إلى العلم الحقيقي الّذي هو الحاضر بالذات أو غير الغائب - وهو المناط للانكشاف والمصحح له ، وجعل وجودات الأشياء هو العلم بهذا المعنى. وهذا هو العلم التفصيلي عنده - ؛ وإلى العلم بالمعنى الاضافي الّذي هو الانكشاف ؛ وإلى العلم الاجمالي الّذي هو مجرّد ذاته - سبحانه - وجعل العلم الاجمالي قديما غير متغير والعلم بالمعنيين الآخرين حادثا زمانيا ، إلاّ أنّه جعل التغير الاضافي وزمانيته تابعا لتغير العلم التفصيلي - كما هو الظاهر من كلامه هنا -. ولو حمل كلامه هنا على أنّ العلم الاجمالي الّذي هو عين ذاته يعلم به خصوصيات الجزئيات في الأزل من غير مدخلية للزمان فيه فيكون رجوعا إلى الحقّ الصريح من كون انكشاف الأشياء / 172 DA / مفصّلة عنده قديما سابقا على الايجاد وعدم كون هذا الانكشاف زمانيا ، وكون العلم الحقيقي - الّذي هو مناط الانكشاف - مجرّد ذاته الحقّة دون وجودات الأشياء.

هذا هو الحقّ الّذي اخترناه من كون ذاته مناط الانكشاف التفصيلي ومنشأه وثبوت الانكشاف التفصيلي له - تعالى - في الأزل من غير كونه زمانيا ، وكون الأشياء بجزئياتها وخصوصياتها منكشفة عنده - تعالى - أزلا وأبدا على نهج واحد من غير تغيّر وتجدّد.

والحقّ انّ حمل كلامه هنا على هذا المعنى لا يناسب أكثر كلماته السابقة ، بل هو خلاف ما اشتهر من مذهبه في العلم ، بل لا يناسب لكلامه هنا أيضا ؛ لأنّه صرّح هنا بلزوم التغيّر في العلم التفصيلي الّذي لا تفصيل بعده. فان كان مراده من هذا العلم التفصيلي هو مجرّد وجودات الأشياء دون الانكشاف فيلزم عدم ثبوت انكشاف تفصيلي له - تعالى - قبل ايجاد الأشياء ؛ وإن كان مراده منه الانكشاف فيلزم كونه زمانيا وحادثا وإن كان تابعا لتغير المعلومات - كما صرّح به -. وهذا هو الظاهر من كلماته ، و

ص: 273

لهذا أورد عليه بعض الأفاضل بأنّ علمه القديم إنّما يقتضي تجدّد المتجدّدات فيما بينها لا بالنسبة إليه - تعالى - ، وعلمه التفصيلى إنّما هو عين المتجدّدات من حيث انتسابها إليه وحضورها وانكشافها لديه وهي من تلك الحيثية غير متجدّدة أصلا. فالجزئيات المتجدّدة مع كونها متجدّدة ومتغيرة وكون علمه - تعالى - بها عين وجوداتها المتغيّرة لا يستلزم تغير علمه - تعالى - بها من حيث هو علم بها ؛ هذا.

وأمّا المطلب الثاني فهو كما عرفت انّ السبب في عدم تغيّر علمه - سبحانه - أحد الوجهين :

أوّلهما : كون ذاته علّة لجميع الأشياء ومقتضية لها اقتضاء تامّا ، والعلم بالعلّة يوجب العلم بمعلولاتها مفصّلة على نحو واحد من دون تغيّر وتجدّد.

وثانيهما : كون الأشياء بوجوداتها العينية حاضرة عنده - سبحانه - في الأزل وإن لم يوجد بعد - لاحاطته بالزمان وكون جميع الاجزاء عنده متساوية في الحضور وكون الزمان باسره عنده واحدا في معية الوجود -. وهذان الوجهان كما يصحّحان كون علمه بالمتجدّدات ثابتا غير متغير يصحّحان حضور المعدومات عنده - كما مرّ - ، فانّ ذاته - تعالى - إذا كان علّة تامّة للجزئيات / 172 MB / في الأزل وكان العلم بالعلّة مستلزما للعلم بالمعلول وكان حضور العلّة أقوى من حضور المعلول في باب انكشاف المعلول أو كانت اجزاء الزمان متساوية بالنسبة إليه وكان محيطا بالجميع متعاليا عنه ولم يكن داخلا تحت الزمان كان الجميع منكشفا عنده في الأزل والأبد على نهج واحد ، فالاشياء بأسرها في حال عدمها تكون حاضرة عنده يصحّ علمه بها مع كونها معدومة ولا يتجدّد علمه بها بتجدّدها وتغيرها ، فصحّ عدم التغيّر في علمه.

وأمّا الوجهان الآخران لتصحيح عدم التغيّر في علمه - تعالى ، أعني : كون علمه سبحانه حصوليا صوريا حاصلا من الأسباب والعلل المؤدّية إلى الجزئيات ، إذ كونه عالما بالجزئيات قبل ايجادها على سبيل الإجمال والعلم الاجمالي لكونه بسيطا وحدانيا لا تغير ولا تجدّد فيه - فقد عرفت فسادهما.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ في تصحيح عدم التغيّر في ذاته وفي صفاته الحقيقية

ص: 274

مذاهب :

الأوّل : ما اخترناه ؛

والثاني : ما اختاره العلاّمة الخفري - رحمه اللّه - من عدم التغيّر في العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني - أعني : مجرّد ذاته - وتسليم التغيّر في الانكشاف والحضورات الزمانية ونفي البأس عنه ؛

والثالث : القول بأنّ العلم الكمالي منحصر بالعلم الاجمالي بالاحتمال الأوّل بمعنى انّ ذاته بمنزلة المجمل للأشياء والعلم بذاته بمنزلة الانكشاف الاجمالي - أي : المعقول البسيط بالنسبة إلى الأشياء - ؛

والرابع : كون علمه - تعالى - حصوليا صوريا ؛

وقد ذهب إلى كلّ من هذه المذاهب جماعة ، ووقع في كلام بعضهم الاشتباه من أنّ مختاره ما ذا من المذاهب المذكورة. وقد نسب القول بنفي العلم بالجزئيات من حيث انّها جزئيات إلى القائلين بالعلم الحصولي أيضا. فلا بدّ لنا من الاشارة إلى تحقيق الحال في هذه الأمور.

فنقول : ما اخترناه من تصحيح عدم التغيّر في علمه - تعالى - من الوجهين قد اختار كلاّ منهما جماعة ؛ امّا الوجه الّذي هو القول بكون الأشياء حاضرة له - تعالى - بوجوداتها العينية في الأزل وإن لم توجد بعد ، فقد اختاره جماعة من محقّقي المتأخّرين وكلّ من صحّح علمه - تعالى - بالمعدومات بهذا الوجه قد صحّح عدم تغيّر علمه - تعالى - أيضا به. وممّن صرّح بهذا الوجه المحقّق الدواني في بعض كلماته حيث قال : / 172 DB / جميع اجزاء الزمان بما فيها حاضرة عنده - تعالى - دائما. وأمّا الوجه الآخر - أعني : القول بكون انكشاف العلّة مستلزما لانكشاف المعلول بخصوصياته - فقد اختاره أيضا جماعة ؛ وإلى هذا الوجه يشير ما ذكره بعض الأفاضل حيث قال : انّ العلم بالأشخاص الجسمانية من حيث انّها اشخاص معينة يتصوّر من وجهين :

أحدهما : من جهة الإحساس بآلة متجزّئة ، وذلك العلم هو العلم بالاحساس الّذي لا يكون إلاّ انفعاليا مستفادا من وجود المعلوم. ويعبر عن ذلك العلم بالعلم الجزئي على

ص: 275

الوجه الجزئي ؛

وثانيهما : من جهة الاحاطة بجميع الأسباب والعلل المتسلسلة المنتهية إلى الاشخاص الجسمانية. وهذا العلم يعبّر عنه بالعقل التامّ الغير الزماني وبالعلم الجزئي على الوجه الكلّي ، إمّا لأنّه كتعقّل الطبائع الكلّية في الثبات على حالة واحدة ، أو لأنّ المراد من الوجه الكلّي هو انّ الواجب - تعالى - يعلم الجزئيات بالكلّية - أي : بجميعها - بحيث لا يعزب عنه - تعالى - شيء منها ، لا انّه يعلم بعضها ويعزب عنه بعض آخر ، فلا يتصوّر في عدم علمه تنقّل من معلوم إلى معلوم آخر - كما هو شأن الممكن -. وكما انّ القسم الأوّل لا يكون إلاّ انفعاليا كذلك القسم الثاني لا يكون إلاّ فعليا ، فالمعلوم في القسم الثاني مرتّب على العلم وفي القسم الأوّل بالعكس ، ولاجل ذلك لا يكون القسم الثاني يتغيّر بتغير المعلوم ولا يتجدّد بتجدّده أصلا ، والمتغير والمتجدّد والزماني انّما هو المعلوم دون العلم. وهذا هو العلم التامّ الّذي أتم العلوم كلّها وأكملها والعلم التامّ بالعلّة التامّة إنّما يوجب العلم التامّ بالمعلول ، لا أنّه يوجب الإحساس بالمعلول ، بل الإحساس قد يكون مستحيلا كما بالنظر إلى الواجب - تعالى - ، لانّ الإحساس لا يكون إلاّ بالقوة الهيولانية - كالحواس الجسمانية - وهو نقص على الواجب - تعالى -. وهذان القسمان من العلم وإن كانا نحوين من العلم إلاّ أنّ المعلوم بهذين العلمين ليس إلاّ أمرا واحدا بعينه ، فالاشخاص الجسمانية الّتي نعلمها علما احساسيا جزئيا يعلمها الواجب علما تعقّليا من جهة الاحاطة بجميع الأسباب والعلل ، والعلم الاحساسي يكون متغيرا ومتجدّدا بتغير المعلوم وتجدّده بخلاف العلم التعقّلى ؛ انتهى.

فان قيل : العلم بالأشياء إذا كان حاصلا من العلم بعلّتها لم يمكن أن يكون الأشياء معلومة بهذا العلم لوجوداتها العينية وعلى الوجه / 173 MA / الجزئى ، لأنّ العلم الحاصل بالمعلول من العلّة إنّما يتصوّر بأن يعلم انّ معلول هذه العلّة يجب أن يكون كذا وكذا من الأوصاف ، وهذه الأوصاف لا تكون إلاّ كلّية ، والأوصاف المخصّصة إذا كانت كلّية لا تفيد الجزئية وإن بلغت إلى غير النهاية.

والجواب : انّ العلم بالعلّة إذا كان حصوليا صوريا حاصلا من المخصّصات

ص: 276

الكلّية كان العلم المستفاد منها بعلّته أيضا كذلك ؛ وأمّا إذا كان العلم بالعلّة حضوريا اشراقيا حاصلا من حضور ذات العلّة عند العاقل كان ذلك علما بلوازمها ومقتضياتها الّتي هي من سنخ ذاتها على سبيل الحضور والانكشاف أيضا بخصوصياتها المعينة وأوقاتها المخصوصة ، فواجب الوجود بالذات لمّا كانت ذاته حاضرة عند ذاته وكان عالما بذاته بالعلم الحضوري الانكشافي كان جميع لوازمه ومقتضياته الّتي هي من سنخ ذاته حاضرة منكشفة لديه بخصوصياتها ولوازمها وعوارضها وأوقاتها من دون احتياج إلى ارتسام صورها ، ويعلم انّ كلاّ منها يكون في أيّ وقت موجودا عينيا وفي أيّ زمان يكون معدوما ، فتكون وجوداتها العينية أيضا منكشفة عنده ؛ فلا يعزب عنه شيء من انحاء ما من شأنه المعلومية عن علمه - سبحانه -.

على أنّك قد عرفت انّ الوجه الأوّل - أعني : كون جميع الأشياء بوجوداتها العينية حاضرة عنده سبحانه في الأزل - وإن لم يوجد بعد متحقّق في الواقع ونفس الأمر ، وبه يثبت علمه الحضوري الاشراقي بجميع لوازمه بخصوصياته المعينة ، وتكون الموجودات بأسرها - حاصلها وممكنها وأزليها وأبديها وكائنها وفاسدها ، كلّيها وجزئيها إلى اقصى الوجود - ظاهرة لديه منكشفة بين يديه وإن قطع النظر عن هذا الوجه.

ثمّ كلام المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم ظاهر في انّ السبب في عدم تغيّر علمه - تعالى - هو ما اخترناه من أحد الوجهين ، فانّه قال : « انّ الحكماء الظاهريين قالوا : إنّه - تعالى - عالم بجميع الجزئيات على الوجه الكلّي لا على الوجه الجزئي ؛ فقيل لهم : لا يمكن أن تنكروا وجود الجزئيات على الوجوه الجزئية المتغيّرة ، وكلّ موجود فهو في سلسلة الحاجة يستند إلى الباري الّذي هو مبدئه وعلّته الاولى ، وعندكم انّ العلم التامّ بالعلّة / 173 DA / التامّة يستلزم العلم بمعلولها وإنّ علم الباري - تعالى - أتمّ العلوم ، فانتم بين أن تعترفوا بعلمه بالجزئيات على الوجوه الجزئية المتغيّرة وبين أن تقرّوا بانثلام إحدى المقدّمات المذكورة ، إذ من الممتنع أن يستثنى من الاحكام الكلّية العقلية بعض جزئياتها الداخلة فيها كما يستثنى من الاحكام النقلية بعضها - كتعارض

ص: 277

الأدلّة السمعية - (1).

والحاصل : انّه وقع التدافع بين مقدّمتين وصرّحوا بها ؛

إحداهما : انّ العلم التامّ بالعلّة مستلزم للعلم بالمعلول ؛

وثانيهما : نفي علمه - تعالى - بالجزئيات على النحو الجزئى مع كونه - تعالى - علة لها باعترافهم.

ثمّ ذكر تحقيقا حاصله : انّ تكثّر الأشياء إمّا أن يكون بحسب حقائقها ؛ وإمّا أن يكون بحسب تعدّدها مع اشتراكها في حقيقة واحدة ، والكثرة المتفقة الحقيقية إمّا أن تكون آحادها غير قارّة - أي : لا توجد معا - أو تكون غير قارة توجد معا ؛ والأوّل من هذين القسمين لا يمكن أن يوجد إلاّ مع زمان ، والثاني لا يمكن أن يوجد إلاّ في مكان أو مع مكان ، فالطبائع المعقولة إذا تحصّلت في اشخاص كثيرة تكون الأسباب الأولى لتعيين اشخاصها وتشخصها هي إمّا الزمان - كما للحركات - أو المكان - كما في الأجسام - أو كلاهما - كما في الأشخاص المتغيّرة المتكثّرة بحسب نوع من الانواع - ؛ وما لا يكون زمانيا ولا مكانيا فلا يتعلّق بهما - أي : بالزمان والمكان - ، ويقبح القول باستناده إليهما. كما إذا قيل : الانسان من حيث الطبيعة الانسانية متى يوجد ، أو اين يوجد أو كون الخمسة نصف العشرة في أيّ زمان يكون وفي أيّ بلدة يكون ، بل إذا تعين شخص منها كهذا الانسان أو هذه الخمسة والعشرة فقد يتعلّق بهما بسبب تشخّصه.

ثمّ أورد كلاما لبيان علمه بالجزئيات من حيث انّها جزئيات مع عدم لزوم التغيّر في علمنا.

هذا كلامه مع توضيحه.

واعلم! ، انّه إذا كان المدرك متعلّقا بزمان أو مكان فانّما يكون الادراك منه بآلة جسمانية لا غير ، كالحواس الظاهرة والباطنة فانّه يدرك المتغيّرات الحاضرة في زمانه ويحكم بوجودها وبفوت ما يكون وجوده في زمان غير ذلك الزمان / 173 MB / ويحكم بعدمه ؛ بل نقول : انّه كان أو يكون وليس الآن. ويدرك المتكثّرات الّتي يمكن أن يشير

ص: 278


1- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، المسألة العاشرة ، ص 38.

إليها ويحكم عليها بانّها في أيّ جهة منه وعلى أيّ بعد ومسافة إن بعد عنه. وأمّا المدرك الّذي لا يكون كذلك ويكون ادراكه تامّا فانّه يكون محيطا بالكلّ عالما بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان من الأزمنة وكم يكون بينه وبين الحادث الّذي بعده أو قبله من المدّة ، ولا يحكم بالعدم على شيء من ذلك ، بل بدّل ما يحكم المدرك الأوّل بأنّ الماضي ليس موجودا في الحال - أي : ليس الماضي موجودا في زمان هو ظرف وجودي في حالة الحكم - ، إذ الحال هو زمان وجود الحاكم في حال الحكم - يحكم هو بأنّ كلّ موجود في زمان معين لا يكون موجودا في غير ذلك الزمان من الازمنة الّتي تكون قبله أو بعده ، لأنّ الحاكم إذا لم يكن وجوده مقارنا لزمان من الأزمنة ولا واقعا فيه لم يصحّ منه الحكم بكون الماضي غير موجود في زمان هو زمان وجوده ، لكن يحكم هو بدله بأنّ كلّ موجود في زمان معيّن لا يكون موجودا في غير ذلك الزمان ، فيحكم بأنّ الماضي الّذي هو أيضا من الموجودات في زمان معيّن لا يكون موجودا في زمان الحال الّذي هو زمان بعد ذلك الزمان ، وبأنّ المستقبل هو موجود أيضا في زمان معيّن لا يكون موجودا في زمان الحال الّذي هو زمان قبل ذلك الزمان. ودخول هذا الحكم تحت الحكم الكلّي المذكور أوّلا ظاهر إذا كان المراد بالماضي والمستقبل الشيء الّذي يمضي زمانه والشيء الّذي سيأتى زمانه ؛ وأمّا إذا كان المراد بهما نفس الزمانين فالظاهر دخوله تحته وترتّبه عليه أيضا ، إذ كلّ منهما زمان لوجود نفسه - كما تقرّر في موضعه -.

قيل : كان الاظهر أن يقول المحقّق : « ويحكم هو بدله بأنّ ما هو موجود في زمان يكون ماضيا بالنسبة إلى زمان آخر بعده ليس موجودا في ذلك الزمان المسمّى بالحال » ليطابق البدل ما هو بدل منه صريحا.

ثمّ انّ المدرك الغير الزماني يدرك في حكمه بأنّ الماضي لا يكون موجودا في الحال أنّ الماضي إنّما هو ماض بالنسبة إلى موجود واقع بعد ذلك الزمان الماضي ، وكذا الأمر في الحال فيحكم / 173 DB / بأنّ ما هو ماض بالنسبة إلى موجود واقع في زمان بعد زمان ذلك الماضي ليس موجودا في ذلك الزمان البعد الّذي هو حال بالنسبة إلى ما هو موجود ، فظهر انّه لا يعزب عن علمه كون الماضي ماضيا بالنسبة إلى ما هو ماض بالقياس إليه و

ص: 279

لا كون الحال حالا بالنسبة إلى ما هو حال بالقياس إليه ولا يكون ما هو ماض غائبا عمّا هو حال.

ثمّ قال : ويكون - أي : المدرك الّذي لا يكون كذلك ، أي : لا يكون زمانيا - عالما بأنّ كلّ شخص في أيّ جزء يوجد من المكان وأيّ نسبة تكون بينه وبين ما عداه ممّا يقع في جميع جهاته وكم الابعاد بينهما على الوجه المطابق للحكم ، ولا يحكم على شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم أو موجود هناك أو معدوم أو حاضر أو غائب ، وذلك لان « الآن » عبارة عن الزمان المقارن لوجود الحكم حالة الحكم وذلك فرع كون الحاكم زمانيا ، و « هناك » اشارة إلى مكان يكون بعيدا عن مكان الحاكم حالة الحكم كما انّ « هاهنا » اشارة إلى مكان قريب لمكان الحاكم ، وكلّ ذلك يقتضي كون الحاكم مكانيا. بل الحكم بأنّ الشيء موجود هناك هو الحكم بأنّه موجود في مكان معروض البعد عن مكان آخر ، وعدم حكمه بأنّه حاضر أو غائب لاستلزام حكمه بالحضور والعينيّة كون الحكم زمانيا أو مكانيا ، لأنّ المراد بالحضور والغيبة هما الحضور الزمانيان أو المكانيان بالنسبة إلى الحاكم. فظهر انّ الحكم بالموجودية والمعدومية في الآن أو هناك وبالحضور والغيبة لا ينفكّ عن الزمان والمكان ، فلا يكون ثابتا للمدرك الّذي كلامنا فيه ، لأنّه ليس بزماني ولا مكاني ، بل نسبة جميع الازمنة والامكنة إليه نسبة واحدة. وإنّما اختصّ بالآن أو بهذا المكان أو ذلك المكان أو بالحضور أو الغيبة وبأنّ هذا الجسم قدامي أو خلفي أو تحتي أو فوقي من وقع وجوده في زمان معيّن ومكان معيّن ؛ وعلمه - تعالى - بجميع الموجودات اتمّ العلوم وأكملها. وهذا هو المعبر بالعلم بالجزئيات على الوجه الكلّي ؛ انتهى.

قيل : العلم بالجزئيات بحيث لا يختصّ بالآن أو المكان أو بالحضور أو الغيبة - وامثال ذلك - هو معنى العلم بها على الوجه الكلّي ، فانّ العلم بالكلّي يكون من هذا القبيل - أعني : غير مختصّ بشيء من الأمور المذكورة -.

وقيل : التعبير عنه بالكلّي لعدم خروج شيء منه - أي : يعلم الجزئيات بالكلّية -.

قيل : وإلى هذا الاصطلاح - أي : اصطلاح تغيير العلم بالجزئيات بوجه لا يكون فيه كان وكائن وسيكون بالعلم الجزئي على الوجه الكلّي بمعنى عدم خروج شيء منه -

ص: 280

اشار المحقّق في كتاب التجريد بقوله : « ذاته يعلم الجزئيات على وجه كلّي » (1) ، أي : يعلم جميع الجزئيات بالكلّية بحيث لا يعزب عن علمه شيء منها.

قال بعض الأفاضل في شرح ما نقلناه من المحقّق من الكلام لبيان علمه بالجزئيات من غير لزوم تغيّر فيه : اعلم! ، أنّ تعلّق شيء بالزمان يكون على وجوه :

أحدها : أن يكون تجدّد أوضاع الفلك الراسم بحركته للزمان واقعا بالنسبة إلى ذات هذا الشيء سواء كان حدوثه و/ 174 MA / وجوده مشروطا بقطعة معينة من الزمان أو لا ، وبهذا الوجه يكون جميع الأجسام والجسمانيات ما عدا الفلك الراسم زمانية ؛

وثانيها : أن يكون التجدّد الراسم للزمان واقعا في أوضاعه ، وبهذا المعنى يكون الفلك الراسم زمانيا أيضا ؛

وثالثها : أن يكون حدوثه ووجوده متعلّقا بجزء معيّن من الزمان سواء كان تجدّد اوضاع الفلك الراسم بالقياس إلى ذاته أو لا ، وبهذا الوجه تكون جميع الحوادث - مادّية أو مجرّدة - زمانية. وتعلّق الشيء بالمكان إمّا بأن يكون أوضاع الأمكنة وجهاتها واقعا بالنسبة إلى ذاته ، أو بأن يكون وجوده لا بدّ أن يقع في المكان. ولا يتصور شيء يكون وجوده وحدوثه مشروطا بمكان من الامكنة إلاّ بالعرض ، فانّ المكان من اللوازم المتأخّرة من وجود الجسم بخلاف الزمان ، فانّه علّة معدّة لوجود الحوادث. فجميع الأجسام والجسمانيات - حادثة أو قديمة - تكون مكانية بالمعنيين ؛ بخلاف جسم كرة العالم الجسماني من حيث هو مجموع ، فانّه لا يتصوّر اختلاف جهات الأمكنة والأوضاع بالنسبة إليه ، فهو مكاني بالمعنى الثاني فقط ، وليس شيء من المجرّدات حادثة أو قديمة مكانيا بشيء من المعنيين.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انّ المدرك الزماني والمكاني إنّما يكون ادراكه بالآلة الجسمانية لأنّه من حيث هو زماني ومكاني لا يمكن أن يكون إلاّ جسما ، والجسم من حيث هو جسم ليس من شأنه الادراك وإلاّ لكان كلّ جسم مدركا ، بل لا بدّ أن تكون له قوّة من شأنها الادراك وتكون تلك القوّة لا محالة قائمة به ، وهذه القوّة هو المراد بالآلة

ص: 281


1- ما عثرت على هذه العبارة في متن التجريد.

الجسمانية. وإنّما يجب / 174 DA / أن يكون المدرك بآلة جسمانية لا يدرك إلاّ ما هو حاضر في زمانه أو مكانه ، لأنّ المدرك لمّا كان ذا وضع ومكان وجهة فكذا مدركه لا بدّ أن يكون كذلك ، والزمانيات والكائنات مختلفة في الأمكنة والجهات بحسب القرب والبعد ، والادراك عبارة عن حصول المدرك عند المدرك ، فلا يمكن أن يكون جسم من الأجسام في أيّ مكان كان وفي أيّ جهة وعلى أيّ وضع وفي أيّ زمان حاضرا لجسم آخر كذلك بدون مناسبة خاصّة وقرب مخصوص ووضع معيّن لتحقّق الحضور الّذي به يتحقّق الادراك ؛ وذلك ظاهر ؛ وأمّا المدرك إذا لم يكن زمانيا ولا مكانيا بل متعاليا عن الزمان والمكان لا يكون اختلاف الأوضاع والأمكنة والجهات والأزمنة الواقعة في الزمانيات والكائنات كائنا بالنسبة إليه - تعالى - ، بل يكون كائنا فيما بينها ونسبة بعضها إلى بعض ، فلا يتصوّر لشيء عنها قرب بالنسبة إليه أو بعد ؛ فكل منها حاضر عنده غير غائب عنه بوجه من الوجوه. ولذلك كان مدركاتها دفعة واحدة ومرّة غير مستمرّة بلا تقديم وتأخير ويكون قرب بعضها إلى بعض وبعده عنه وكذا تقدّمه عليه وتأخّره عنه أيضا مدركا له ؛ انتهى.

وأنت إذا احطّت بكلام هذا المحقّق فلا أظنّك أن تشكّ في أنّ مراده من هذا الكلام هو ما اخترناه وقررناه ؛ فانّ قوله : « فانّه يكون محيطا بالكلّ عالما بأنّ أيّ حادث يوجد في ايّ زمان من الأزمنة - ... إلى آخره - » صريح في أنّ هذا العلم ثابت له دائما قبل ايجاد الحوادث وبعده ولا يمكن أن يكون ذلك عنده بالصور ، لأنّه أورد هذا الكلام لتصحيح علمه - تعالى - بالأشياء الجزئية على سبيل الجزئية وردّ ما ذكره الظاهريون من الحكماء من قولهم بعلمه بالجزئيات على سبيل الكلّية لا الجزئية ولو كان العلم الصوري مصحّحا لعلمه بالجزئيات من حيث هي جزئيات فالحكماء قائلون به ، فلم يرد عليهم ايراد حتّى يحتاج إلى ذكر هذا من عند نفسه ، بل كان له أن يوجّه قولهم بذلك ولا ينسبهم إلى الظاهرية.

ولا يقال : ما ذكره توجيه لكلامهم! ، لأنّه قال أوّلا : انّهم قالوا انّه عالم بالجزئيات على الوجه الكلّي دون الجزئي ، ومع ذلك ذكروا انّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ،

ص: 282

فحصل من ذلك التدافع في كلامهم ، ثمّ أورد هذا الكلام - الّذي مبناه على العلم الصوري - لتوجيه كلامهم ، فبين انّ العلم الحصولي يستلزم حضور جميع الأشياء له - تعالى - في الشهود العلمي بحيث لا يخرج عن علمه شيء منها لا كلّيا ولا جزئيا ؛ فانّ العلم الصوري وإن لم يستلزم حضور جميع الأشياء له - تعالى - دائما في الشهود العيني إلاّ أنّه يستلزم حضور صورها وأمثلتها جميعا بحيث لا يخرج عن علمه شيء منها ، فتكون جميعها حاضرة عنده في الشهود العلمي. وبعد بيان ذلك صرّح بأنّ غرض الحكماء حينئذ من قولهم : « انّه عالم بالجزئيات على الوجه الكلّي دون الجزئي » : انّه يعلم جميع الجزئيات بالكلّية بحيث لا يعزب عن علمه شيء منها.

لأنّا نقول : سوق كلامه يدلّ على أنّ هذا الكلام ممّا لم يقل به الحكماء ، ولذا نسبهم إلى الظاهرية. / 174 MB /

وأيضا كيف يمكن أن يجعل ما ذكره توجيها لمذهب الحصوليين مع أنّ العلم الحصولي الصوري القائم بالمجرّد لا يكون إلاّ صورة كلّية مجرّدة؟! ، إذ الصورة الجزئية المادّية لا تقوم إلاّ بالآلات الجسمانية مع انّه صرّح في كلامه بأنّه عالم بالجزئيات المادّية من حيث انّها جزئيات ، فلو كان علمه بها صوريا لزم كونه جسمانيا - تعالى عنه علوّا كبيرا - ؛ فلا يصحّ ما ذكره إلاّ على القول بالعلم الحضوري ، فانّ عند من يقول بأنّ علمه - تعالى - بالحضور لا يكون ادراك الجزئيات المادّية بالآلات الحسّية بالنسبة إليه - تعالى - ، فيصدق حينئذ إن ادراكها وانكشافها للواجب لا يكون بالآلات الجسمانية ، لأنّه - تعالى - يعلمها منكشفة بعين وجوداتها العينية ، لتعاليه - سبحانه - عن أن يدركها به.

قال بعض المشاهير : كلام هذا المحقّق صحيح في نفسه من أوّله إلى آخره ، وهو يوجب كونه - تعالى - عالما بالجزئيات بالكلّية - أي : جميعها - بحيث لا يعزب عنه - تعالى - شيء منها ، لا انه - تعالى - يعلم بعضها ويفوت عنه بعض آخر - كما هو شأن الممكن -. لكن في تأويل كلام الفلاسفة سيّما المتأخّرين إليه بحث من وجهين ؛ كما لا يخفى عند الرجوع إلى كلامهم.

قيل : الوجهان أوّلهما : انّ الظاهر المتبادر من كلام الحكماء سيّما المتأخّرين انّ الكلّي

ص: 283

هذا هو بالمعنى المصطلح ، لأنّ قولهم « بوجه / 174 DB / كلّي » لا يساعده أن يحمل على الجميع ، لانّ مفاد هذا اللفظ ليس إلاّ انّ وجه معلومية الجزئيات وجه كلّي تجردي لا جزئى مادّي ، فالحمل على المعنى المذكور بعيد جدّا.

وثانيهما : انّ الحكماء لم يثبتوا العلم بالحضورات الزمانية والجزئيات الجسمانية لاستلزامه التغيّر في العلم - كما صرّحوا به - ، فكيف يصحّ هذا التوجيه من جانبهم؟!.

وقيل : أوّلهما : انّهم لا يجوّزون التغيّر في العلم التفصيلي ؛

وثانيهما : انّ الشيخ صرّح بأنّه لا يجوز أن يكون واجب الوجود لذاته عاقلا للمتغيرات مع تغيرها عقلا زمانيا محضا. وهذا الوجه المنقول من كلام الشيخ هو بعينه الوجه الثاني في القول الأوّل ، وحاصله : انّ تصريحاتهم شاهدة بأنّ علمه - تعالى - بالجزئيات المتغيّرة ليس من حيث انّها متغيّرة ومتبدّلة ، وليس علمه - تعالى - متغيرا أصلا ، وهذا الحمل يقتضي خلاف ذلك.

ويمكن أن يقال : أحد الوجهين هو كون العلم الحصولي كليا البتة وكثير من كلماتهم مصرّحة بكون علمه - تعالى - بالجزئيات بصور كلّية منحصرة كلّ منها في فرد ، فلا يمكن بناء عليه أن يقال بعلمه بالجزئي من حيث هو جزئي ، فانّه إذا سلّم انّ الحكماء ليسوا قائلين بالعلم الحضوري الانكشافي يلزم عليهم نفي علمه بالجزئيات من حيث هي جزئيات وبالوجودات العينية من حيث هي وجودات عينية ، وبذلك يتعلّق التكفير بهم ولا ينفعهم توجيه من قبلهم أصلا ؛

وثانيهما : ما ذكر أوّلا على القول الأوّل.

وإذ علمت أنّ كلام هذا المحقّق صريح في انّ العلم ثابتا له دائما - سواء كان قبل ايجاد الحوادث أو بعده - ثبت انّه لا يمكن أن يكون ذلك عنده بالصور لعدم انطباق كلامه على العلم الصوري ، فيجب أن يكون ذلك عنده بانكشاف ذوات الموجودات منه - تعالى - دفعة واحدة بلا قبلية ولا بعدية ، إذ لا تدريج ولا قبلية ولا بعدية لها بالنسبة إليه - تعالى - وإنّما هي فيما بينها - كما مرّ غير مرّة -.

ومعلوم انّ هذا ليس إلاّ أحد الوجهين اللذين اخترناهما ويمكن تطبيقه على كلّ

ص: 284

منهما.

فان قيل : يمكن أن يحمل كلامه على العلم الاجمالي المقدّم على ايجاد العين حتّى يكون مراده من حضور الأشياء عنده دفعة واحدة بلا قبلية ولا بعدية هو الحضور في الشهود العلمي على سبيل الإجمال ، فيكون مذهبه انّ الأشياء الزمانية في الشهود العلمي الاجمالي تكون حاضرة دفعة من دون أن يتصف علمه بها بالتغيّر والآن والمضيّ والاستقبال ، وفي الشهود العلمى التفصيلي تكون حاضرة على ترتيب وجودها في الخارج ويتصف علمه بها حينئذ بالتغيّر والقبلية والبعدية ولا بأس به ، لأنّه تغيّر في الاضافة - كما اشار إليه في التجريد بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن » - (1).

وممّا يدلّ على ذلك ما ذكره في شرح الرسالة بعد كلامه المنقول : « وامّا العلم بالجزئيات على الوجه الجزئي المذكور - أي : على وجه الإحساس بالحواسّ الظاهرة والباطنة - فهو إنّما يصحّ لمن يدرك ادراكا حسيا بآلة جسمانية في وقت معيّن ومكان معيّن ، وكما أنّ الباري - تعالى - يقال انّه عالم بالمذوقات والمشمومات والملموسات ولا يقال انّه ذائق أو شامّ أو لامس لأنّه منزّه عن أن يكون له حواسّ جسمانية ولا يتسلّم ذلك في تنزيهه بل يؤكّده ، كذا نفي العلم بالجزئيات المشخّصة على الوجه المدرك بالآلات الجسمانية عنه - تعالى - لا يتسلّم ذلك في تنزيهه بل يؤكّده ، ولا يوجب ذلك تغيرا في ذاته الوحدانية ولا في صفاته الذاتية ، وإنّما يوجب التغيّر في معلوماته ومعلولاته والاضافات الّتي بينه وبينها فقط » (2) ؛ انتهى.

فانّ قوله : « وإنّما يوجب التغيّر في معلوماته ومعلولاته والاضافات الّتي بينه وبينها » يدلّ على جواز التغيّر في / 175 MA / الاضافات الّتي هي الحضورات العينية عنده ، فيكون التغيّر عنده جائزا في العلم التفصيلى - أعني : في المعلومات المفصّلة وفي الانكشافات المتعلّقة بها - ، فيكون كلامه راجعا إلى ما اختاره العلاّمة الخفري - رحمه اللّه - من عدم التغيّر في العلم الاجمالي بمعنى انّ ذاته مبدأ لجميع الموجودات الكائنة و

ص: 285


1- راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 222.
2- راجع : شرح رسالة مسئلة العلم ، المسألة العاشرة ، ص 40.

الفاسدة كلّية كانت أو جزئية ، فيصدر عنه جميعها منكشفة. وهذا المعنى لا تغيّر فيه أصلا ، إذ كون جميع المتغيرات المحسوسات حاضرة بذواتها عند واجب الوجود في أوقات كونها موجودة في الاعيان لا يقبل التغيّر ، إنّما التغيّر في العلم التفصيلي - أعني : المعلومات - أو بمعنى حضورها ، وهو تغيّر في النسبة والاضافة لا في الذات ، ولا محذور فيه. وقد ادعى هذا العلاّمة تطبيق الكلام المنقول من شرح الرسالة على ما اختاره.

قلت : حمل كلامه على / 174 DB / العلم الاجمالي المختار عند الخفري - رحمه اللّه ، أعنى : الاحتمال الثاني - باطل ؛

أمّا أوّلا : فلأنّ العلم الاجمالي بهذا المعنى إنّما هو كون الذات أزلا وأبدا بحيث لو أوجد شيئا كلّيا أو جزئيا متغيرا أو غير متغير لكان منكشفا عنده ، فلا يكون انكشاف الجميع ثابتا له دفعة أزلا وأبدا ، بل يحدث كلّ انكشاف له في زمان خاصّ. وفي مواضع من الكلام المنقول تصريح بكون انكشاف جميع الأشياء حاصلا له بالفعل دفعة دائما من دون تغيّر وتجدّد - مثل قوله : « فانّه يكون محيطا بالكلّ عالما بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان ... إلى آخره ؛ أو قوله يكون عالما بأنّ كلّ شخص يوجد في أيّ مكان ... إلى آخره - ؛ ومع ذلك فكيف يحمل هذا على ذاك؟!. وحمل العلم على الكون المذكور ممّا لا يقبله فهم سقيم فضلا عن فهم قويم ، بل حينئذ يصير كلامه مختلّة كما لا يخفى عند التدبّر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ عدم التغيّر في العلم الاجمالي - أعني : الكون المذكور - أمر بديهي وحينئذ فيكون مئونة اثبات كون الزمانيات إليه نسبة واحدة لغوا ، إذ لا يتصوّر لها في الكون المذكور قبلية وبعدية وتجدّدا وتغيّرا ، وحينئذ فيكون ما ذكره أخيرا من جواز تغير الاضافات اشارة إلى جواز تغيرها من حيث انتسابها إلى الأشياء المعلومة لا من حيث انتسابها إليه - تعالى - ؛ فتأمّل.

وربما قد ظهر لك انّه لا يمكن حمل كلامه على العلم الاجمالي على الاحتمال الأوّل أيضا ، لأنّ في مواضع من كلامه دلالة صريحة على علمه بخصوصيات الأشياء وتعيّناتها. على انّه لم يعلم من كلام هذا المحقّق في مواضع من كتبه ذهابه إلى القول بالعلم

ص: 286

الاجمالي على الاحتمال الأوّل ، وإنّما المعلوم في موضع من شرح الرسالة قوله بالعلم الاجمالي على الاحتمال الثاني - كما أشرنا إليه قبل ذلك -. وإذ بطل حمله على شيء من المذكورات من العلم الصوري والاجمالي على الاحتمالين فتعين حمله على أحد الوجهين اللّذين اخترناهما ؛ وهو المطلوب.

ثمّ لا يخفى بأنّ الكلام الّذي نقلناه من المحقّق يخالف الظاهر من كلماته في سائر المواضع ، فانّك قد عرفت انّ مذهبه في شرح الاشارات وفي شرح الرسالة انّ علمه بالمعلومات القريبة إنّما هو بحضورها عنده وبالمعلولات البعيدة بالصور المرتسمة في المعلولات القريبة ، ولا ريب في عدم تطبيق كلامه المنقول من شرح الرسالة على ذلك. قال بعض الأفاضل : كلام المحقّق في شرح الرسالة مخالف لما علم من مذهبه من أنّ كلّ شيء ممّا مضى أو حضر أو يستقبل أو يوصف بهذه الصفات على أيّ وجه كان يكون مثبّتا في جوهر عقلي يعبر عنه بالكتاب المبين ، فانّه ظاهر في أنّ مذهبه انّ علمه - تعالى - بجميع الموجودات إنّما هو بالصور الحاصلة في الجوهر العقلى - كما هو مختار تالس الملطي - ، فليس ينطبق على التحقيق الّذي ذكرت على مذهبه. ثمّ قال : وتأويل كلامه في شرح الرسالة بالعلم قبل الايجاد يوجب كون مئونة اثبات نسبة الزمانيات إليه نسبة واحدة لغوا ، لأنّه لا يتصوّر اختلاف نسبة العلم قبل الايجاد. على انّه يكون علمه قبل الايجاد بالصور وبعده بالحضور - لما علم من مذهبه -. فيلزم كون علمه قبل الايجاد على سبيل الكلّية ، فلا يكون عالما بالجزئي من حيث هو جزئي. فهذا خلاف ما بصدده من ردّ كلام الحكماء في نفيهم العلم بالجزئي من حيث هو جزئي. ثمّ قال : ولا ريب في أنّ المحقّق يقول بكون علمه - تعالى - بانكشاف ذوات الموجودات على النحو الواقع عنده - على ما ظهر من كلام شرح الرسالة - بحيث لا ينبغي أن يرتاب في ذلك ، كيف ومخالفته مع الحكماء في نفي علمه - تعالى - بالجزئيات وتشنيعه عليهم في ذلك - لشدّة مبالغته في أن يستند جميع الأزمنة والأمكنة إليه تعالى نسبة واحدة ، فلا يلزم تغيّر في علمه من كونه عالما بالجزئيات - صريحة في أنّه إنّما خالفهم وشنع عليهم في قولهم بالعلم الصوري الحصولي ونفيهم العلم الانكشافي الحضوري ، وهذه مخالفة أخرى وراء المخالفة في

ص: 287

الارتسام في ذاته. والتشنيع في / 175 MB / نفيهم العلم بالجزئي إنّما هو في النفي اللازم من العلم الحصولي ، إذ الحكماء مع قولهم بالعلم الحصولي لا ينفون علمه - تعالى - بالجزئيات رأسا ، فلو لم يكن تشنيعهم / 175 DB / لأجل قولهم بالعلم الصوري بل لنفيهم العلم بالجزئيات رأسا لم يكن تشنيعه متوجّها عليهم - لعدم نفيهم ذلك رأسا - ، فاللازم حينئذ أن يؤوّل ما علم من مذهبه من أنّ علمه بالمادّيات بالصور المرتسمة في جوهر عقلي بأن يقال : مراده من الجوهر العقلي الّذي فسّر بالكتاب المبين عبارة عن شخص الانسان الكبير الّذي هو العالم الأكبر بجميع اجزائه ، فانّ مجموع العالم الأكبر من حيث المجموع - كما صرّح به المحقّقون - شخص وحداني صادر عنه - تعالى - بالابداع ، وهو من هذه الحيثية جوهر - وهو ظاهر - ، وعقلي إذ خلق ابداعا بلا مادّة. ولاشتماله على اعيان جميع الموجودات وصورها يكون كتابا ثبت فيه جميع ما صدر عن الباري - تعالى - بواسطة وبدونها من الأزل إلى الأبد ، وتعبير المحقّق عن « الكتاب المبين » قبيل الكلام المذكور « بدفتر الوجود » يؤيّد هذا الحمل كما لا يخفى ؛ انتهى.

وأنت خبير ببعد هذا التأويل ، مع انّه إذا كان المراد بالجوهر العقلي هو العالم الأكبر بجميع اجزائه وكان حينئذ مراد من قال بعلمه بالموجودات بالصور المرتسمة في الجوهر العقلى انّ علمه بالموجودات إنّما هو بحصولها في العالم الاكبر - أي : بصيرورتها موجودة في الخارج - لزم عدم علمه بالأشياء قبل الايجاد ؛ والظاهر انّ هذا المحقّق لا يقول به. على انّه قال بأنّ علمه بالمعلولات البعيدة إنّما هو بارتسام صورها في المعلولات القريبة لا في الجوهر العقلي ، ولا ريب في انّه لا يمكن تأويل المعلولات القريبة بالعالم الأكبر بجميع اجزائه - كما لا يخفى -.

ثمّ قال : والأولى أن يحمل مذهب المحقّق على التفصيل باعتبار المعلولات القريبة - أعني : المجرّدات وغير الزمانيات - والمعلولات البعيدة - أعني : المادّيات والزمانيات - ، كما يشعر به كلامه في شرح رسالة العلم - على ما نقلنا فيما سبق - من الفرق بين المعلولات القريبة والبعيدة ؛ وكما يدلّ عليه كلامه في شرح الاشارات - من الفرق بين المعلولات الذاتية وغير الذاتية - حيث قال : « فاذن المعلولات الذاتية للفاعل

ص: 288

العاقل لذاته حاصلة له من غير أن يحلّ فيه » (1) ، فانّ المراد من المعلولات الذاتية هي المعلولات القريبة - أعني : المبادي العالية المجرّدة عن الموادّ -. فيصير حاصل مذهبه على هذا التفصيل كون علمه بالمعلولات القريبة - أعني : المجرّدات - بحضور ذواتها بأنفسها وبالزمانيات والمادّيات بحصول صورها في المعلولات القريبة مطلقا - أعني : قبل وجوداتها وبعدها - حيث لا يتصوّر هناك - أي : في الصور المرتسمة بين المعلولات القريبة - قبلية وبعدية. وحينئذ فيكون مراده من كلامه المذكور من شرح الرسالة كون جميع الأزمنة على السوية بالنسبة إليه - تعالى - في علمه بالمعلولات البعيدة - أعني : المادّيات والزمانيات - في الشهود العلمي الارتباطي أو في الوجود العيني. لكن لا بمعنى كون جميعها حاضرة عنده وكون نسبة حضوراتها العينية بالنسبة إليه - تعالى - على السوية من غير قبلية وبعدية حتّى يرجع إلى ما ذكرنا من كون الأشياء حاضرة له بوجوداتها العينية عنده في الأزل وإن لم يوجد بعد ؛ بل بمعنى انّه لا يمكن أن يحصل لشيء من الزمانيات والمكانيات نسبة حضور معه - تعالى - أصلا. ولا يمكن أن يحمل مذهبه على التفصيل باعتبار قبل الوجود وبعده بأن يكون مراده انّ علمه بالأشياء قبل أزمنة وجوداتها بالصور الزائدة على ذواتها وعند وجوداتها وبعده بنفس ذواتها ، لأنّه إذا قال بحضور الزمانيات والمادّيات عنده - تعالى - بحسب الوجود العيني بعد كونها موجودة لزمه أن لا يكون فرق بين قبل الوجود وعنده وبعده - بمقتضى الكلام المنقول عن شرح الرسالة -. فلا معنى لكون علمه - تعالى - بها قبل أزمنة وجوداتها بالصور الزائدة على ذواتها وعند وجوداتها بنفس ذواتها مع استواء نسبتها حينئذ إليه من دون قبلية وبعدية بمقتضى الكلام المذكور ، فانّ بعد تسليم حضورها مع استواء نسبة أزمنة وجوداتها إذا كانت موجودة يوجب الاعتراف بكونها كذلك قبل الوجود أيضا - بمقتضى الكلام المذكور -.

ثمّ يلزم على مذهبه - بناء على الحمل المذكور - عدم حضور المادّي بوجوده العيني عند الواجب كما ذهب إليه الحكماء من قولهم بعدم حضور المادّي عند المجرّد والزماني عند غير الزماني ، ولذا / 176 DA / قالوا بالعلم الصوري. وحينئذ فيكون الفرق بين

ص: 289


1- راجع : شرح الطوسي على الاشارات ، ج 3 ص 305.

مذهبه ومذهبهم في مجرّد انّهم قالوا بالعلم الصوري في المجرّدات والمادّيات معا وهو قال به في المادّيات فقط. وممّا يؤيد ما ذكرناه انّ مثل هذا الاضطراب الّذي في كلام المحقّق قد وقع في كلام الحكماء أيضا ، فانّ الكلام الّذي نقله بعض الفضلاء منهم في هذا المقام - كما ذكرناه - مضمونه بعينه ما ذكره المحقّق في شرح الرسالة ، وحاصله كون نسبة جميع الأزمنة بالنسبة إليه على السواء مع كونهم غير قائلين بموجبه ، فانّ موجبه كون جميع الأشياء حاضرة له - تعالى - دفعة ، فيكون عالما بذواتها لا بصور زائدة عليها ؛ مع انّهم مصرّحون بخلافه. فمرادهم من ذلك الكلام ما ذكرناه بعينه في توجيه / 176 MA / كلام المحقّق من كون جميع الأزمنة على السوية بالنسبة إليه في الشهود العلمى الارتباطى أو في الوجود العينى ، لكن بمعنى انّه لا يمكن أن يحصل لشيء من الزمانيات والمكانيات نسبة حضور معه أصلا لا بمعنى حصول الحضور مع استواء النسبة حينئذ للوجه الّذي ذكرناه من حضور الموجودات اللايزالية بوجوداتها العينية عند الواجب في الأزل لكونه محيطا بالزمان متعاليا عنه ؛ انتهى ما ذكره بعد تنقيحه وتوضيحه -.

وأنت خبير بفساد هذا الحمل ، لأنّ ما أورده من التحقيق في شرح الرسالة إنّما هو بعد ردّ كلام الحكماء في قولهم بالعلم الصوري الكلّي وعدم قولهم بعلمه بالجزئيات من حيث انّها جزئيات ؛ ومعلوم انّهم قالوا بكون جميع الازمنة على السوية بالنسبة إليه في الشهود العلمي ، فلو كان مراده أيضا كذلك فأيّ ردّ تحصل منه لكلامهم؟! ، وكيف يتصحّح بذلك علمه - تعالى - بالجزئيات من حيث انّها جزئيات؟! ، فانّ العلم الحضوري لا يكون إلاّ كلّيا ولو تحقّق فيه استواء نسبة الزمانيات إليه - تعالى -. وحمله على استواء النسبة في عدم حصول حضور شيء من الزمانيات بالنسبة إليه - تعالى - يخالف الصريح من كثير عباراته المذكورة ، فانّه صرّح بكونه محيطا بالكلّ عالما بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان ، وبكونه عالما بأنّ كلّ شخص في أيّ جزء من المكان يوجد ؛ ولا ريب في أنّ أمثال تلك العبارات لا يناسب الحمل المذكور. ومن احاط بكلمات هذا الفاضل في هذا المقام في تحقيق كلمات المحقّق الطوسي يجد فيها اختلالا كثيرا! ، كما انّ من احاط بكلام المحقّق في مسئلة العلم يجد فيه اختلافا! ، فانّك قد عرفت انّ ما نقلناه منه في

ص: 290

شرح الرسالة ظاهر في ما اخترناه وهو خلاف سائر كلماته!. ومن كلماته الّتي لا تخلو عن المسامحة عند المحصّلين ما ذكره في شرح الاشارات بعد قول الشيخ : « فالواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علما زمانيا حتّى يدخل فيه الآن والماضي والمستقبل » بقوله : « واعلم! ، انّ هذه السياقة تشبه سياقة الفقهاء في تخصيص بعض الأحكام العامّة بأحكام يعارضها في الظاهر ، وذلك لانّ الحكم بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول إن لم يكن كلّيا لم يمكن أن يحكم باحاطة الواجب بالكلّ ، وان كان كلّيا وكان الجزئي المتغير من جملة معلولاته أوجب ذلك الحكم أن يكون عالما به لا محالة. فالقول بأنّه يجوز أن يكون عالما به - لامتناع كون الواجب موضوعا للتغير - تخصيص لذلك الحكم الكلّي بحكم آخر عارضه في بعض الصور ، وهذا دأب الفقهاء ومن يجري مجراهم. ولا يجوز أن يقع أمثال ذلك في المباحث المعقولة لامتناع تعارض الاحكام فيها ». ثمّ قال : « فالصواب أن يؤخذ بيان هذا المطلوب من مأخذ آخر ، وهو أن يقال : انّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ولا يوجب الاحساس ، وادراك الجزئيات المتغيّرة من حيث هي متغيرة لا يمكن إلاّ بالآلات الجسمانية - كالحواسّ وما يجري مجريها من التخيل والتوهّم - ، والمدرك بذلك الادراك يكون موضوعا للتغير لا محالة. أمّا ادراكها على الوجه الكلّي فلا يمكن أن يدرك إلاّ بالعقل ، والمدرك بهذا الادراك يمكن أن لا يكون موضوعا للتغيّر ؛ فاذن الواجب الأوّل وكلّ ما لا يكون موضوعا للتغير بل كلّ ما هو عاقل يمتنع أن يدركها من جهة ما هو عاقل على الوجه الأوّل ، ويجب أن يدركها على الوجه الثاني » (1) ؛ انتهى.

ووجه المسامحة هو انّ ما ذكره في الصواب هو عين ما ذكره الشيخ ، فانّ مراد الشيخ من قوله : « يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علما زمانيا - ... إلى آخره - » ليس إلاّ نفي الإحساس واثبات علمه بالجزئيات / 176 DB / على سبيل الكلّية ، وهو أيضا نفى عنه الإحساس واثبت له العلم الكلّي ؛ فمأخذ الدفع هو التدافع. وحينئذ يرد عليه ما يرد على الشيخ من أنّ الجزئيات المتغيّرة من حيث أنّها متغيرة معلولة له - تعالى - و

ص: 291


1- راجع : شرح الطوسي على الاشارات ، ج 3 ص 316.

المفروض انّ العلم بالجزئيات المتغيّرة من حيث انّها متغيرة منحصر في جهة الإحساس ، وهو ممتنع في حقّه - سبحانه - ؛ فيلزم أن لا يكون القول بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول كلّيا ، فلا يتمشّى حينئذ احاطة علم الواجب بجميع الأشياء.

ثمّ انّه قد أورد على حديث التعارض : بأنّه لا يتصوّر التعارض بين ما يوجبه المقدّمة القائلة بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول وبين نفي علم الواجب بالجزئيات علما زمانيا متغيّرا ، فانّ العلم هناك مطلق وهناك مقيد ، فلا يظهر وجه للزوم التعارض. والحاصل : انّ المقدمة القائلة بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول تفيد العلم بجميع الأشياء - سواء كانت كلّية أو جزئية ، متغيرة أو غير متغيرة -. ونفيهم العلم الزماني المتغيّر عن الواجب لا ينافي ذلك ، فانّ المنافي للعلم الزماني المتغير قابل لعلمه - تعالى - بالجزئيات الزمانية المتغيرة. إلاّ انّه يقول انّ علمه بها بحيث لا يوجب التغير في علمه ؛ إمّا لذهابه إلى أنّ علمه بها على سبيل الكلّية - كما ذهب إليه الشيخ وأمثاله - ؛ وإمّا لذهابه إلى أنّ جميع الجزئيات من حيث هي جزئيات حاضرة عنده - تعالى - باحد الوجهين اللّذين ذكرناهما. وعلى هذا فلنا منع ما ذكره المحقّق من ادراك / 176 MB / الجزئيات المتغيّرة من حيث هي متغيرة لا يمكن إلاّ بالآلات الجسمانية ، لأنّ ادراك الجزئيات المتغيّرة من حيث هي متغيرة إنّما يكون بالآلات الجسمانية بالقياس إلينا ، لا بالنظر إلى الواجب - لما ذكرناه من الوجهين -.

وإذ عرفت انّ الكلام المذكور المنقول من شرح الرسالة منطبق على ما اخترناه فهو صحيح في نفسه ولا يرد عليه شيء من الايرادات الّتي أوردها عليه بعض أفاضل المحقّقين ، ولا بدّ لنا من نقلها وردّها حتّى يظهر جلية الحال.

فمنها : انّ فيما ذكره اعترافا بأنّ بعض معلولاته - تعالى ، كالجزئيات المتشخّصة على وجه يدرك بالآلات الجسمانية وكالحضور والغيبة - غير معلوم له - تعالى عن ذلك - ، مع أنّ القاعدة المذكورة - أعني : استلزام العلم بالعلّة للعلم بالمعلول - تقتضي معلومية كلّ ما هو معلول له ، وهذا بالحقيقة تسليم الايراد ، أي : ما ذكره المحقّق من قوله : « وكذا نفى العلم بالجزئيات المتشخّصة على الوجه المدرك بالآلات الجسمانية عنه - تعالى - لا ينسلم

ص: 292

في تنزيهه بالحقيقة » تسليم واعتراف لقول المعترض - وهو : انّه لو كان علمه تعالى بالجزئيات بوجه كلّى يلزم عدم علمه بها -.

وأجيب عنه : أنّه ليس في كلام المحقّق اعتراف بأنّ بعض معلولاته - تعالى - غير معلوم له - تعالى - ، بل مراده انّ الجزئيات المشخّصة معلومة له - تعالى - بالاطلاع الحضوري لا بالصور ولا بالآلات الجسمانية بأن يكون محتاجة إليها على نحو احتياجنا إليها. وأمّا الحضور والغيبة فهما معلومتان له - تعالى - بالنسبة إلى الممكنات بمعنى انّ الحضور والغيبة الّتي تتحقّقان لبعض الممكنات بالنسبة إلى بعض آخر فهما معلومتان له - تعالى -. وأمّا الحضور والغيبة بالنسبة إليه - تعالى - بأن يكون بعض الأشياء تارة حاضرا عنده - تعالى - وتارة غائبا عنه - تعالى - فممّا لا يتصوّران في حقّه - تعالى - ، إذ المراد بالحضور هنا هو حضور أمر من شأنه الغيبة وكلّ شيء عنده حاضر دائما ولا يغيب عنه قطّ ، فلا يتحقّق الحضور بهذا المعنى في حقّه - تعالى - كما لا يتحقّق الغيبة بأيّ معنى كان في حقّه - سبحانه - قطّ.

قيل : ويمكن أن يكون المراد من الحضور المنفي في كلامه هو الحضور في مكان المتكلّم أو زمانه - كما يعلم من قوله : « لأنّه ليس بزماني ولا مكاني » - على أن يكون المراد منه أنّه ليس له - تعالى - زمان أو مكان يختصّ به حتّى يقال هو - تعالى - ليس في غيره من الأزمنة. ومعلوم انّ الحضور بهذا المعنى - أي : كون الشيء حاضرا في مكانه تعالى أو زمانه - لا يتصور في حقه - سبحانه ، لتعاليه عن المكان والزمان المختصّين به -.

وأنت خبير بأنّ هذا القول مبني على عدم استواء نسبة جميع الأزمنة إليه - تعالى - ، بل المنفيّ عنه إنّما هو الزمان المخصوص به ويمكن أن يكون زمانيا / 177 DA / بمعنى كونه موجودا في جميع الأزمنة.

وأنت تعلم انّ هذا مخالف لما جوزنا من كونه متعاليا عن المكان والزمان مطلقا وكونه خارجا منها ، فالمراد بقوله : « ليس بزماني » انّه لا تعلّق له بالزمان أصلا وجميع الأزمنة عنده - تعالى - متساوية في عدم تعلّقه بها ، وليس المراد به - كما ظنّ - انّه ليس له زمان يختصّ هو به ، بل هو موجود في جميعها ، لأنّه إذا كان متعاليا عنه محيطا به

ص: 293

فلا معنى لكونه موجودا في جميعها. فنفي الحضور عن زمانه - سبحانه - لعدم حضور الزمان في حقّه أصلا لا لعدم زمان مختصّ له ، فلا يجوز أن يقال : ليس هو - تعالى - في غيره من الأزمنة لذلك لا لأنّه لا يكون في زمان أصلا.

والحاصل انّ المنفيّ في قول المحقّق إنّما هو ادراك الجزئيات المشخّصة على وجه يدرك بالآلات الجسمانية - أي : على وجه يكون به مشارا إليها « بهاهنا » و « هناك » - ، وهو كونها مشارا إليها بالاشارة الحسية. ومعلوم انّ نفي هذا الادراك - لكونه نقصا ، لتعاليه عن الزمان والمكان - لا يستلزم نفي المعلومية بالكلّية ، فانّ انكشافها بالاطلاع الحضوري عنده - تعالى - أتمّ وأقوى من الانكشاف الحاصل من الإحساس بالآلات الجسمانية. وكذا المنفى من الحضور في كلامه إنّما هو حضور أمر من شأنه الغيبة ، ومعلوم انّ نفي الحضور بهذا المعنى لا يوجب نفي الحضور مطلقا.

ثمّ كما انّ نفي الادراك على وجه الاشارة الحسية ونفي الحضور بالمعنى المذكور لا يستلزم نفي المعلومية بالاطّلاع الحضوري والانكشافي الاشراقي فكذلك لا يستلزم نفي معلومية الادراكات الحسية والحضور والغيبة الّتي تحصل لبعض الممكنات بالنسبة إلى بعض آخر ، فجميع ما يحصل بين الممكنات من الادراكات على وجه الاشارة الحسية وعلى وجه يكون المدركات به مشارا إليها « بهاهنا » و « هناك » - وكذا الحضورات والغيبات وغير ذلك من الأوضاع والأحوال الّتي يتحقّق بين الممكنات - معلومة له - تعالى - بالاطّلاع الشهودي.

ويمكن أن يقال : انّ المعترض توهّم انّ المنفي في قول المحقّق : « ولا يحكم على شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم أو موجود هناك أو معدوم » : إنّما هو الادراك الّذي يتحقّق به كون الشيء مشارا إليه بالاشارة الحسية ، وهو كون الشيء مشارا إليه بالنسبة إلى ما هو مثله في كونه زمانيا بمعنى انّ الادراكات والحضورات المكانية والزمانية الّتي تقع بين الممكنات لا تكون معلوما له - تعالى - ، لتوقّف ذلك أيضا على الآلات الجسمانية.

وحينئذ فالجواب عنه : انّ التوقّف على الآلات الجسمانية إنّما هو إذا حصل الادراك بالاحساس لا إذا حصل / 177 MA / الادراك الاحساسي بالاطلاع الحضوري ؛ والمنفي

ص: 294

هو الأوّل دون الثاني ، إذ نفيه لا يستلزم نفيه وهو ظاهر.

ومنها : انّ ما ادّعاه من انّ المدرك لا بآلة جسمانية غير زماني ونسبة جميع الأزمنة إليه نسبة واحدة ظاهرة الفساد ، لأنّ نسبة الزمانيات إلى الزمان بالمعية في الوجود - سواء كانت منطبقة أو غير منطبقة - ، والمنطبقة هي الحركة الموجودة في الزمان على سبيل الانطباق لأنّ الزمان مقدار الحركة القطعية ، فالحركة والزمان بينهما انطباق. وغير الحركة القطعية من الأشياء الزمانية موجودة في الزمان ، لكن لا على سبيل الانطباق ، لأنّ الزمان أمر غير قارّ الذات ، فالّذي ينطبق عليها يجب أن يكون أيضا غير قارّ الذات وليس شيء من الأشياء الزمانية غير قارّ الذات سوى الحركة ، فلا يكون الموجود في الزمان على سبيل الانطباق سوى الحركة. ولو كان نسبة كلّ زماني إلى الزمان بالانطباق ولم يكف نسبة المعية في الوجود لم يكن الاجسام في زمان ولم يعرض لها التغير زمانيا ، لأنّ نسبتها إلى الزمان ليست إلاّ بالمعية في الوجود وليست منطبقة عليه.

وإذا كان معية الشيء مع الزمان في الوجود كافيا - لكونه زمانيا - نقول : لا شكّ انّ المجرّد المدرك لا بآلة جسمانية مع انّه بريء عن التغيّر يصدق عليه انّه مع الزمان في الوجود ، ولا خفاء في أنّ نسبة جميع الأزمنة إليه ليست نسبة واحدة ؛ فانّ اختلاف نسبة الشيء إلى الزمان يكون على جهتين :

أحدهما : اختلاف نسبته إليه باختلاف ذلك الشيء كالحادث اليومي ، فانّه كائن في اليوم لكونه معه في الوجود ، ومعدوم في الماضي لفقدانه فيه ؛

والثاني : اختلاف نسبته إليه ليست اختلاف الزمن ، كالفلك ، فانّه (1) / 177 DB / كائن في اليوم لكونه معه في الوجود وغير كائن في الغد ، لفقدان الغد. واختلاف نسبة المجرّد المذكور إلى اجزاء الزمان من هذا القبيل - أي : من قبيل نسبة الفلك إلى الزمان باعتبار اختلاف الزمان لا باعتبار اختلاف الفلك ، لأنّ الفلك قديم عندهم - ، فهو - أي : المجرّد المذكور - في الزمان الماضي كائن فيه لا في الحال والمستقبل لفقدانهما أيضا لا لفقدانه ، لكونه قديما. وحاصل هذا الايراد انّه لا يشترط في كون الشيء زمانيا إلاّ

ص: 295


1- الاصل : + في.

كونه موجودا معه ، وهذا لا يقتضي أن يكون هذا الشيء منطبقا على الزمان كانطباق الحركة وغيرها من الأمور التدريجية عليه بأن يكون كلّ جزء منه بإزاء جزء منه وإلاّ يلزم عدم كون الأجسام زمانية لعدم تدريجها بأن يكون لها أوّل ووسط وآخر - لما بيّن في موضعه من امتناع وقوع الحركة في مقولة الجوهر -. فإذا تقرّر ذلك فليس الزمان وغيره ممّا وقع فيه بالنسبة إليه - تعالى - على السواء ، لأنّ المعية في الوجود مع الزمان يمكن أن يتغيّر بتغير الزمان وما في حكمه لا بتغير الواجب وسائر المجرّدات. فالواجب مع براءته عن التغيّر يجوز أن ينسب إلى الزمان بالمعية. وحينئذ فلا خفاء في أنّ نسبة جميع الأزمنة إليه ليست نسبة واحدة ، لأنّه يجوز أن ينسب الواجب - تعالى - وغيره من المجرّدات في كلّ زمان معيّن - كهذا اليوم مثلا - إلى ذلك الزمان المعيّن بكونه معه في الوجود ؛ وظاهر انّ نسبة جميع الازمنة بالنسبة إلى هذا اليوم ليست على السواء ، فنسبتها إلى المجرّد الّذي معه أيضا ليست على السواء.

والجواب عن هذا الايراد انّه لا ريب في انّه يصدق في هذا اليوم على المجرّد إنّه موجود معه بمعنى أن يكون اليوم ظرفا للصدق ولا يصدق في هذا اليوم انّ المجرّد موجود معه على أن يكون اليوم ظرفا للمجرّد حتّى يكون معنى قولنا : « موجود معه » : انّه كائن فيه. ومعلوم انّ مجرّد الصدق على المجرّد في هذا اليوم بأنّه موجود معه على أن يكون هذا اليوم ظرفا للصدق لا للمجرد ولا بجعله زمانيا ، لأنّ حاصله انّه يصدق في هذا اليوم إنّه موجود ولا ريب في انّ الصدق على الشيء في زمان بانّه موجود لا يجعل هذا الشيء منسوبا إلى هذا الزمان ، بل ما يجعله منسوبا إلى الزمان يصدق عليه في زمان أنّه كائن فيه ؛ على أن يكون هذا الزمان ظرفا له. ولا ريب في انّه لا يصدق على المجرّد ذلك ، إذ لا تعلّق للمجرّد بهذا اليوم وبغيره من الأزمان أصلا ولا نسبة إليه سوى كونه معه في أصل الوجود ، وكما أنّه يصدق في هذا اليوم ان المجرّد موجود معه في أصل الوجود كذلك يصدق في هذا اليوم انّه موجود مع سائر الازمنة في أصل الوجود ، لأنّ نسبة جميع الأزمنة والأمكنة بالنسبة إليه - تعالى - نسبة واحدة وهو غير مختصّ بشيء منها ، بل هو محيط على الجميع ولا يعزب عنه ما يوجد في أحد الأزمنة والأمكنة ، بل جميع الموجودات في

ص: 296

الأزمنة والأمكنة - ذاتها وأزمنتها وأمكنتها وسائر متعلّقاتها - حاضرة عنده على نحو واحد من غير اختلاف ، فظهر انّ عدم كون نسبة الأزمنة إلى هذا اليوم على السواء لا يستلزم عدم كون نسبة بعضها إلى المجرّد الموجود معه أيضا على السواء ، وذلك لاختصاص وجود هذا اليوم بهذا اليوم وعدم اختصاص وجود المجرّد بهذا اليوم.

بيان ذلك : انّ نسبة الحادث اليومى إلى اليوم ليست مجرّد النسبة في أصل الوجود ، بل لها خصوصية زائدة عليها - وهي كون وجوده حادثا فيه -. ونسبة الفلك إلى اليوم أيضا ليست مجرّد المعية في أصل الوجود ولا المعية الّتي للحادث مع اليوم - أعني : حدوث وجوده فيه - ، لأنّ الفلك مقدّم على اليوم. بل إن كان الفلك هو الفلك الراسم كان نسبته مع اليوم كونه موضوعا للأوضاع / 177 MB / المخصوصة الّتي تجدّدها كان راسما لهذا اليوم المخصوص ؛ وإن كان غير الفلك الراسم كان نسبته مع اليوم كون تجدّد الاوضاع المخصوصة للفلك الراسم لهذا التجدد المخصوص بهذا اليوم واقعا بالنسبة إليه. ولا ريب في أنّ تينك النسبتين نسبتان زائدتان على المعية في أصل الوجود الّتي تكون للمجرّد بالنسبة إلى اليوم ، وكلّ واحدة عنها غير النسبة الّتي تكون لأحد الفلكين مع يوم آخر بالتقدّم والتأخّر اللذين هما من مشخّصات أجزاء الزمان ، فنسبة الفلك إلى كلّ يوم غير / 178 DA / نسبته إلى يوم آخر مغايرة بالشخص ، فلا يمكن اجتماعهما بالنسبة إليه - لكونهما غير قارّين - ، بخلاف نسبة المجرّد إلى اليوم ، فانّها مجرّد معية في أصل الوجود. فكون الفلك اليوم في اليوم ليس بمجرّد معية معه في أصل الوجود ، بل بخصوصية زائدة عليها الّتي لا يمكن أن تتحقّق في الغد ، فعدم كونه اليوم في الغد إنّما هو لفقدان المعية الّتي له مع الغد لا لفقدان نفس الغد بحسب النسبة في أصل الوجود ، فانّ الغد انّما هو مفقود في اليوم بالقياس إلى ذاته وذات اليوم لا بالقياس إلى معيته مع الفلك في أصل الوجود.

وأمّا نسبة المجرّد إلى اليوم لمّا لم يكن زائدة على المعية في أصل الوجود فكما انّه يكون اليوم في اليوم - يعنى يكون له معية معه في أصل الوجود - يكون اليوم في الغد أيضا - أي : يكون له معية معه في أصل الوجود - ، وثبوت هذا المعنى - أعني : معية المجرّد مع الغد في أصل الوجود - لاجل انّ النسبة في أصل الوجود من غير خصوصية زائدة لا يمكن أن

ص: 297

يختلف في كونها نسبة كذلك.

والحاصل انّ القواعد العقلية والنقلية وكلمات أساطين الحكمة متفقة الدلالة على أنّ الواجب - تعالى شأنه - وغيره من المجرّدات الصرفة متعال عن الزمان ومحيط به ، وليس له ربط ونسبة إليه أصلا ، وقد تقرّر في الحكمة انّ نسبة المتغير إلى المتغير « الزمان » ونسبة الثابت إلى المتغير « الدهر » ونسبة الثابت إلى الثابت « السرمد » عند القائلين بأزلية المبدعات وقدمها ؛ وعند القائلين بحدوثها الدهري وعدم ازليتها فنسبة الثابت - أعني : الواجب - إليها أيضا « الدهر » ، وفي كلامهم تنصيصات بأنّ الشيء ما لم يكن فيه نحو من التغيّر لا يتصوّر له ربط بالزمان. مثلا الجسم بما هو موجود ليس له ربط بالزمان بل إنّما يتصوّر له ربط به باعتبار الحركة والسكون - الّذي هو عدم الحركة عمّا من شأنه الحركة - ، وبالجملة ما لم يقع الشيء في التغير لم يكن له ربط بالزمان. والثابتات الصرفة لمّا لم يتصوّر وقوعها في التغير فلا يتصوّر لها ربط بالزمان ، ولهذا قال الحكماء : انّ العقول فوق الزمان والمكان ؛

وكيف لا؟! والعقول فوق الفلك والزمان مؤخّر عن الحركة والحركة متأخّرة عن الفلك ، فيكون الزمان مؤخّرا عن العقول بمراتب ، فيكون العقول فوق الزمان متعالية عنه ، فيكون الواجب - تعالى - المتقدّم على العقول متعاليا عنه بطريق أولى ؛ وبهذا يظهر انّ كلام المعترض خارج عن قانون الحكمة ؛ هذا.

وقال العلاّمة الخفري - رحمه اللّه - في الجواب عن الايراد المذكور : انّ المراد من قول المحقّق : « نسبة جميع الأزمنة والأمكنة بالنسبة إليه - تعالى - نسبة واحدة مع أنّه - تعالى - غير مختصّ باحد من الازمنة والامكنة بل هو محيط على الجميع ولا يعزب عنه - تعالى - ما يوجد في أحد الأزمنة والأمكنة بل جميع الموجودات في الأزمنة والأمكنة حاضرة بذواتها عنده - تعالى - كلّ في وقته ومكانه والتغير انّما يكون في المعلومات والعلوم الّتي هي عينها وفي الحضورات الّتي هي النسبة بينه - تعالى - وبينها وليعلم انّ التغير في الحضورات إنّما هو باعتبار اختصاص كلّ حضور بزمان معيّن ومكان معيّن وان لم يكن فيها تغيّر باعتبار انها واقعة في الازمنة والامكنة كلّ في زمانه ومكانه

ص: 298

فاعلم ذلك » ؛ انتهى ؛ اعلم : انّك قد عرفت انّ الحقّ انّه لا تغير في علمه أصلا ولا تغير في الاضافات والحضورات بالنسبة إليه - تعالى - أصلا ، وجميع الأشياء أيضا حاضرة منكشفة لديه أزلا وأبدا - سواء وجدت أو لا -. وليس حضور كلّ منها عنده - تعالى - منحصرا بالحضور في وقته ؛ وحينئذ نقول : ما ذكره هذا العلاّمة من تسليم التغيّر في الحضورات والاضافات إن اراد انّه يحصل التغيّر فيها بالنسبة إليه - تعالى - فهو باطل ؛ وإن اراد انّ التغيّر فيها ليس بالذات بل بالعرض والتبعية بمعنى انّه نعلم انّ هذه الجزئيات المتجدّدة مختلفة النسب والاضافات فاختلاف نسبة الباري - تعالى - إليها ليس إلاّ بطريق وصف الشيء بحال متعلّقه فهو مسلّم مطابق لما ذكرناه.

وقوله : « حاضرة بذواتها عنده - تعالى - كلّ في وقته ومكانه » الظاهر انّه اراد بحضور كلّ في وقته أن « يكون في وقته » ظرفا للحضور ، أي : كلّ منها حاضرة في وقته - كما يدلّ عليه قوله بعد ذلك : « وليعلم انّ التغير في الحضورات إنّما هو باعتبار اختصاص كلّ حضور بزمان معين ومكان معيّن » وهذا ليس مذهب التحقيق ولا مراد المحقّق ، لأنّه إذا كان حضور كلّ في وقته لا دائما لم يكن لاستواء نسبة الأزمنة إليه - تعالى - معنى ، بل / 178 MA / الحقّ انّ كلاّ منها / 178 DB / في وقته حاضر عنده - تعالى - أزلا وأبدا لاستواء نسبة جميع الأزمنة إليه - تعالى - ، فالصواب أن يجعل « في وقته » ظرفا « لكلّ » وفائدته أنّ كل شيء مع كونه في وقته حاضر عنده - تعالى - دائما.

قال بعض الأفاضل في توجيه كلام الخفري - رحمه اللّه - : انّ غرضه انّ للأزمنة والأمكنة وما فيها من الحوادث ثلاث حالات :

إحداها : النسبة الّتي تغير بالقياس إليه - تعالى - ، وهي - أي : الأزمنة بما فيها بهذه النسبة المسمّاة « بالدهر » - مساوية - أي : لا يكون فيها تغير وتجدّد أصلا ، سواء كانت حضورات المتجدّدات والمتغيّرات باعتبار اختصاص كلّ حضور بزمان معيّن ومكان معيّن أو لا - ، ففي تلك النسبة لكونها دهرية متعالية عن حيطة الزمان لا تغير بوجه من الوجوه

ص: 299

وثانيتها : النسبة الحاصلة باعتبار اختصاص كلّ واحد من المتجدّدات والمتغيّرات بزمان معيّن ومكان معيّن بالقياس إلى حضور تلك المعلومات والعلوم الّتي هى عينها بعضها الى بعض.

وثالثها : النسبة الحاصلة باعتبار وقوع تلك المتجدّدات والمتغيّرات باعتبار وقوعها في الأزمنة والأمكنة من حيث انّها واقعة في الأزمنة والأمكنة من غير وقوع كلّ في وقته الخاصّ أو مكانه الخاصّ ، وهذه النسبة أيضا ثابتة غير متغيرة ، وإلى الاولى أشار بقوله : « بل جميع الموجودات في الأمكنة والأزمنة حاضرة بذواتها عنده تعالى كلّ في وقته ومكانه - ؛ وإلى الثانية بقوله : « والتغير إنّما يكون في المعلومات والعلوم ... إلى آخره » ؛ وإلى الثالثة بقوله : « وإن لم يكن فيها تغير باعتبار انّها واقعة في الأزمنة والأمكنة ». وما يتراءى من التنافي بين كلام السابق - وهو قوله : « نسبة جميع الأزمنة والأمكنة إليه نسبة واحدة ... الى آخره » - وبين كلامه اللاحق - وهو قوله : « والتغير انّما يكون في المعلومات والعلوم الّتي عينها وفي الحضورات الّتي هى النسبة بينه تعالى وبينها » فانّ كلامه الأوّل صريح فى عدم اختلاف نسبة الأشياء بالنسبة إليه والثانى صريح في اختلاف نسبتهما إليه تعالى - ؛ مدفوع بأنّ اختلاف النسبة بالقياس إليه - تعالى - ليس بالذات ، بل بالعرض ، أي : يعلم هو بأنّ هذه المتجدّدات مختلفة النسبة ، فاختلاف نسبة الباري - تعالى - ليس إلاّ بطريق وصف الشيء بحال متعلّقه ، فكلامه اللاحق لا ينافي كلامه السابق ، لأنّ المراد منه عدم اختلافها بالذات - أي : بالقياس إلى ذاته بذاته - ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّه على ما ذكرناه يرد على كلام العلاّمة الخفري - رحمه اللّه - أمران :

أحدهما : انّه يظهر من كلامه انّ حضور كلّ شيء عند الواجب انّما هو في وقته - كما دلّ عليه قوله : « حاضرة بذواتها عنده تعالى كلّ في وقته » - ؛

والثانى : قوله بوقوع التغير في الحضورات والنسب بينه - تعالى - وبين الأشياء.

وهذا الفاضل لم يتعرّض لتوجيه الأمر الأوّل وتصحيحه بما ذكرناه من جعل « في وقته » ظرفا « لكلّ » وإن كان لكنا ، إلاّ أنّ الظاهر من كلماته السابقة انّ حضور كلّ

ص: 300

شيء عنده - تعالى - انّما هو في وقت وجوده لا حين عدمه ، فتوجيه هذه العبارة بحيث تدلّ على حضور كلّ شيء عنده دائما توجيه لا يرضى به صاحب العبارة.

وأمّا الأمر الثاني فما ذكره هذا الفاضل فى توجيهه من انّ المراد انّ التغير انّما هو في المتجدّدات بنسبة بعضها إلى بعض لا بالقياس إلى الواجب إلاّ بالعرض فهو صحيح بنفسه مطابق لما صرّح به أهل التحقيق من أنّ التغير والتجدّد في الاضافات انّما هو بالنسبة إلى الزمانيات لا بالنسبة إلى الواجب ، إلاّ أنّ الظاهر من كلماته السابقة لهذا العلاّمة انّه يلزم تغير الاضافات بالنسبة إليه - تعالى - أيضا ، وحينئذ فتوجيه كلامه بما ذكر لا يخلوا عن تكلّف ؛ وقد ذكرنا انّ قوله بذلك مخالف للتحقيق ومناف لما ذكره أساطين الفن.

وممّا يؤكّد ذلك ما قاله العلاّمة الشيرازي في شرح حكمة الاشراق بقوله : « وممّا يجب أن يعلمه ويحققه انّه ليس للحقّ الواجب اضافات مختلفة يوجب اختلاف حيثيات فيه ، بل له اضافة واحدة هي مبدأ يصحّح جميع الاضافات - كالرازقية والمصوّرية ونحوهما -. ولاسلوب فيه كذلك ، بل له سلب واحد يتبعه جميع السلوب وهو سلب الامكان ، فانّه يدخل تحته سلب الجسمية والعرضية وغيرهما كما يدخل تحت سلب الجماد من الانسان سلب الحجرية والمدرية عنه ؛ وإن كان السلوب يتكثّر على كلّ حال » (1).

والغرض انّ الاضافات والسلوب المختلفة قد تكون باعتبار حيثيات مختلفة موجودة في ذات المضاف إليه والمسلوب عنه فيحصل التكثر والتركب في ذاتهما ؛ / 179 DA / مثال الأوّل كاضافة العالمية لزيد ، فانّه لقيام صورة زائدة مع ذاته بذاته ؛ وكاضافة القادرية له ، فانّه لقيام قوّة زائدة على ذاته بذاته. ومثال الثاني كسلب الجمادية عن الانسان ، فانّه باعتبار حيثية النموّ في الانسان وسلب الشجرية عنه ، فانّه باعتبار حيثية الحساسية فيه ؛ وكسلب الفرسية عنه ، فانّه باعتبار حيثية الناطقية فيه. فمثل هذه الاضافات والسلوب يوجب التكثّر والتركّب في ذات المضاف إليه والمسلوب عنه.

ص: 301


1- راجع : شرح حكمة الاشراق ، ص 313.

/ 178 MB / مثال الأوّل اضافة القيومية للواجب - تعالى - ، فانّه يتبعها الاضافات المختلفة من غير لزوم تكثّر في ذاته - تعالى - ، كالعالمية والقادرية والرازقية وغير ذلك - ؛ ومثال الثاني كسلب الامكان عنه - تعالى - ، فانّه يترتّب عليه السلوب المختلفة من غير لزوم تكثّر في ذاته - كسلب الجسمية والجوهرية والعرضية وسلب الافتقار إلى علّة وغير ذلك -. فالاضافات والسلوب في حقّه - تعالى - من قبيل الاضافات والسلوب الّتي لا توجب التكثّر ولا التغيّر في ذاته - تعالى -.

ومنها - أي : ومن الايرادات الموردة على الكلام المنقول المذكور من المحقّق - : إنّ قوله : « لا يحكم بالعدم على شيء من ذلك » غير مسلّم ، وكذا قوله : « لا يحكم على شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم » ، إذ قد عرفت انّ نسبته إلى اجزاء الزمان تختلف باختلاف اجزائه ، فلم لا يجوز أن يحكم بعدم ما هو معدوم في الحال مع علمه بأنّه كان في الماضي أو يكون في المستقبل؟! ، كما انّا قد نحكم بعدم شيء في الحال مع ذلك العلم وان نحكم بأنّ شيئا موجود الآن حين كونه مع هذا الآن في الوجود دون آخر ، فانّ الاشارة إلى الآن ليست حسية حتّى يقال ما هو بريء عن الحاسّة لا يصحّ أن يشير إليه.

وأمّا قوله : « لا يحكم على شيء بأنّه موجود هناك أو معدوم » ، فان اراد بلفظة « هناك » الاشارة إلى مكان قريب من مكان المجرّد المذكور فمسلّم ، لأنّه ليس له مكان فلا يكون مكان قريب من مكانه. لكنّا أيضا لا نحكم على شيء بأنّه موجود هناك مشيرا إلى مكان قريبا من مكان المجرّد المذكور ، بل نشير إلى مكان قريب من مكاننا ؛

وإن اراد الاشارة إلى مكان قريب من مكاننا فلم لا يجوز أن يحكم المجرّد مشيرا إلى هذا المكان إشارة عقلية؟! ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ قوله : « غير مسلّم » خارج عن القانون ، لأنّ المحقّق في صدد منع لزوم المحذور - أعني : التغير في ذاته على تقدير علمه تعالى بالجزئيات المتغيّرة - ، فمنعه غير موجّه.

ثمّ الجواب عن جميع ما ذكره لا يخفى عليك بعد الاحاطة بما ذكرناه ؛ لانّك قد عرفت انّ نسبة المجرّد إلى جميع أجزاء الزماني نسبة واحدة - لكونها معية في أصل الوجود فقط -

ص: 302

، فلا يكون حكمه زمانيا متعلّقا بالآن والماضي والمستقبل ، ولا مكانيا متعلّقا بهنا وهناك وان كان عالما بجميع اجزاء الزمان والحوادث الواقعة فيها والنسب الحاصلة بينها على الوجه المطابق للواقع - كما ذكرناه مفصّلا -. والمانع في عدم تعلّق حكمه بالآن وهناك ليس منحصرا في كون الاشارة حسّية حتّى إذا جاز الاشارة العقلية ارتفع المانع رأسا ، لأنّ عدم كونه - تعالى - زمانيا ومكانيا واستواء نسبته إلى جميع اجزائهما مانع من التعلّق المذكور أيضا. وجواز اشارة المجرّد إلى هذا الزمان أو هذا المكان لا يثبت التعلّق المذكور - كما لا يخفى -.

ثمّ ما ذكره - من : انّه قد عرفت أنّ نسبة المجرّد إلى اجزاء الزمان يختلف باختلاف اجزائه - قد عرفت فساده ، وعلمت عدم اختلاف نسبته إلى أجزائه باختلاف اجزائه ؛ هذا.

وقد اجاب العلاّمة الخفري - رحمه اللّه - بأنّ المراد من قوله : « لا يحكم بالعدم على شيء من ذلك » : انّه - تعالى - لا يحكم بالعدم المطلق أو بالعدم في الحال بمعنى زمان مخصوص بالمتكلّم ؛ ومن قوله : « لا يحكم على شيء » : بأنّه موجود الآن أو معدوم انّه لم يحكم على شيء بانّه موجود في آن وجوده أو معدوم فيه ؛ والمقصود انّه - تعالى - منزّه عن أن يقال انّ بعض الأزمنة ماض وبعضها مستقبل وبعضها حال بالنسبة إلى ذاته - تعالى - ووجوده.

وأمّا قول المعترض : « وامّا قوله : لا يحكم على شيء بأنّه موجود هناك - ... إلى آخره - » ، فدفعه أن يقال : المراد الشقّ الأوّل من الترديد ، ولا محذور فيه ، إذ قوله : « لكنّا أيضا لا نحكم على شيء بانّه موجود هناك - ... إلى آخره - » لا يخلّ بالمقصود ؛ انتهى. / 179 DB /

ولا يخفى انّ هذا الجواب مبني على تسليم عدم استواء جميع الأزمنة بالنسبة إليه - تعالى - ، وتأويل كلام المحقّق بما لا يوجبه ويبعد ارادته عن عبارته. وذلك لأنّه أوّل الحال في كلامه بزمان مخصوص بالمتكلّم بمعنى كون وجود المتكلّم مختصّا به ليس قبله ولا بعده ، فمعنى قول العلاّمة الخفري - رحمه اللّه - في تأويل كلام المحقّق : « لا يحكم بالعدم المطلق أو بالعدم في الحال - ... إلى آخره - » : انّ الواجب - سبحانه - لا يحكم على عدم

ص: 303

شيء أعمّ من أن يكون عدما واقعا في الآن بدون اختصاصه بالمتكلّم أو عدما واقعا في الآن باعتبار اختصاص المتكلّم به ، لأنّ حكمه لا يكون واقعا في آن مخصوص بالمتكلّم. فالمنفيّ في كلام المحقّق هو الحكم الواقع في الآن باعتبار اختصاص المتكلّم به بمعنى كون وجوده مختصّا به ليس قبله ولا بعده ، لأنّ وجوده ليس مختصّا بزمان دون زمان ، فيصحّ ذلك النفي عنه ؛ وليس المنفي هو الحكم الواقع في الآن مع قطع النظر عن اختصاص المتكلّم به ، فانّ ذلك جائز بالنسبة إليه - تعالى -. ومعنى قوله : « انّه يحكم على شيء بأنّه موجود في آن وجوده » : لا يحكم على شيء بأنّه موجود في آن وجوده - سبحانه - بالمعنى المذكور - أي : في الآن المخصوص به -. وعدم هذا الحكم لأنّه لا يكون وجوده مخصوصا بزمان حتّى يكون معدوما في غيره ، بل هو موجود في جميع الأزمنة. ومعنى قوله : « والمقصود انه - تعالى - منزّه عن أن يقال : انّ بعض الأزمنة - ... إلى آخره - » : انّه - تعالى - ليس بحيث يوجد بعض الأزمنة قبل وجود الواجب حتّى يكون ماضيا بالنسبة إليه بهذا المعنى - أي : يكون ماضيا بالنسبة إلى تمام مدّة وجوده - ؛ وكذا بعضها لا يوجد بعد وجود الواجب حتّى يكون مستقبلا كذلك ، وكذا لا يكون الزمان الّذي مع وجود الواجب زمانا مختصّا بوجوده بحيث لا يكون وجوده قبل ذلك الزمان ولا بعده. فتحقق الماضي / 179 MA / والمستقبل والحال بهذا المعنى للواجب باطل ، لأنّ وجوده - تعالى - لا قبل له ولا بعد له ، بل أزلي وأبدي فلا مضيّ ولا حال ولا مستقبل بهذا المعنى له وإن وجدت هذه الأوصاف الثلاثة له باعتبار تغيرات الزمان. ومقصود المحقّق نفي الثلاثة بالمعنى المذكور عن الواجب لا بالمعنى المنوط بتغير الزمان. هذا هو مراد العلاّمة الخفري - رحمه اللّه - في تأويل كلام المحقّق.

وأنت تعلم انّه لا يطابق الواقع ولا كلامه ؛ لما عرفت من كونه - سبحانه - خارجا عن حيطة الزمان متعاليا عنه ، فلا يتحقّق هذه الأوصاف الثلاثة بالنسبة إليه - تعالى - أصلا - لا باعتبار المعنى المذكور ولا باعتبار تغيّرات الزمان -.

ثمّ ما ذكره الخفري - رحمه اللّه - أخيرا بقوله : « لكنّا أيضا لا نحكم على شيء بأنّه موجود هناك - ... إلى آخره - لا يخلّ بالمقصود » يرد عليه انّ المقصود هو انّه ليس علمه

ص: 304

- تعالى - كعلمنا ، لا مجرد إنّ وجوده - تعالى - ليس كوجودنا. فهذا الجواب لا يفيد ، بل الجواب ما ظهر ممّا ذكرناه.

ثمّ انّه من الأفاضل من حمل قول الخفري على انّ مراده انّ حكمه - تعالى - لا يتعلّق بعدم شيء بالنسبة إليه - سبحانه - ، بل يتعلّق بالعدم بالنسبة إلى الغير بمعنى انّه يحكم بعدم بعض الحوادث بالنسبة إلى بعض آخر ؛ فقال في تفسير قوله : « لا يحكم بالعدم المطلق أو بالعدم في الحال - ... إلى آخره - » اى : لا يحكم اللّه - سبحانه - على عدم شيء أعمّ من أن يكون بالنسبة إليه - تعالى - أو بالنسبة إلى الغير بأن يكون بعض الحوادث معدوما بالقياس إلى شيء من الأمور الزمانية ، لأنّه لا يحكم على النحو الأوّل لأنّه لا يتصوّر عدم المعلول بالنسبة إليه ، بل إنّما يحكم على النحو الثاني.

ولا يخفى بعد هذا الحمل وعدم انطباق أكثر كلماته عليه ؛ فالصواب انّ مراد الخفري - رحمه اللّه - هو ما ذكرناه - لتصريحه به في كلماته السابقة أيضا - ؛ هذا.

ثمّ الظاهر من كلام المحقّق الدواني في بعض تصانيفه في تصحيح عدم التغيّر في علمه - سبحانه - بالجزئيات اختياره العلم الاجمالي وقوله بأنّه لا يلزم تغيّر في العلم الاجمالي بالجزئيات ، فبهذا العلم يعلم الجزئيات من حيث هو جزئيات مجملة من دون لزوم تغيّر فيه ؛ فانّه قال بعد نقل شبهة لزوم التغيّر في ذاته - تعالى - أو جهله - سبحانه - في علمه بالجزئيات المتغيّرة ، قلت : انّه - تعالى - يعلم المتغيّرات على وجه لا يتطرّق إليه تغيّر مع كونه مطابقا للواقع ، مثلا يعلم انّ الحادث الفلاني يوجد في الآن الفلاني أو الزمان الفلاني ويعدم في الآن أو الزمان الّذي بعده. وهكذا في سائر الحوادث ، فانّه يعلمها بعلم اجمالي هو عين ذاته على وجه لا يتطرّق إليه تبدّل - كما في علمنا الاجمالي بالأمور المترتّبة المتعاقبة -. وإنّما يلزم التغيّر فيه / 180 DA / لو كان علمه بسبب حضوره في الآن أو الزمان ، مثل أن تعلم أنّ زيدا قائم الآن وإذا قعد فلا بدّ أن يتغيّر وتعلم انّه قاعد الآن وإلاّ كنت جاهلا بحاله ، وكان استمرار علمك بقيامه جهلا مركّبا. وأمّا إذا فرضنا أن تعلم انّ زيدا في ذلك الآن أو في ذلك البعض من الزمان بصفة القيام وفي ذلك البعض الآخر بصفة القعود ولم يتعين الزمان والآن بالحضور عندك - بل بالأشياء

ص: 305

المقتضية له ، وهكذا في جميع الأحوال - فلا يلزم منه تغيّر وتبدّل. ويمكن تمثيله للتوضيح تارة بالأحوال المترتبة المتعاقبة السابقة ، فانّ ذلك العلم لا يتغيّر مع انّه ليس فيه كذب ؛ وأخرى بأن يفرض أنّ أحدا منّا اطّلع على الأحوال المتعاقبة اللاحقة بسبب الاطّلاع على الأسباب المؤدّية إليها ، كما في المنجّم المطّلع على الأوضاع المتعاقبة المترتبة بحيث لم يكن في هذا العلم تغيّر أصلا. وهذا ممّا لا يشتبه على ذي فطنة أصلا ؛ انتهى.

وظاهر كلامه يدلّ على انّه اختار العلم الاجمالي بالاحتمال الأوّل ، وبه صحّح عدم لزوم التغير في علمه بالمتجدّدات المتغيّرات - كما يشعر به تمثّله بعلمنا بالأمور المترتّبة المتعاقبة -.

ثمّ تمثّله بعلم المنجّم المطّلع على الأوضاع - ... إلى آخره - لا يدلّ على اختياره العلم الحصولي في تصحيح عدم التغيّر في علمه - تعالى - ، لأنّ العلم بالشيء من العلم باسبابه وعلله لا يلزم أن يكون بحصول الصورة ، لما تقدّم في كلامنا من أنّ حضور العلّة من أقوى بواعث حضور المعلول وانكشافه من دون احتياج إلى حصول صورته.

ثمّ انّك لمّا عرفت بطلان القول بالعلم الاجمالي لا يخفى عليك حقيقة كلام هذا المحقّق ؛ هذا.

وبقي الكلام فيما نسب إلى الحكماء القائلين بالعلم الحصولي من نفيهم علمه - سبحانه - بالجزئيات من حيث انّها جزئيات ، ولذلك كفّرهم جماعة.

فنقول لتحقيق ذلك : انّه لا ريب في انّ العلم الحصولي علم كلّي يعلم به الأشياء على سبيل الكلّية دون الجزئية ، ولا يعلم به الوجودات العينية للأشياء ، وهذا ظاهر ممّا تقدّم. وقد صرّح القائلون بالعلم الحصولي - كالشيخ وأمثاله - بأنّ الواجب يعلم الأشياء على سبيل الكلّية دون الجزئية ، وزعموا انّ عدم التغيّر في علمه - سبحانه - انّما يتصحّح بذلك. قال الشيخ في الشفا : لا يجوز أن يكون واجب الوجود لذاته عاقلا للمتغيرات مع تغيرها من حيث هي متغيرة عقلا زمانيا محضا ، بل على نحو آخر نبيّنه ، فانّه لا يجوز أن يكون تارة يعقل عقلا زمانيا أنّها معدومة وتارة انّها موجودة غير معدومة فتكون لكلّ واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحدة من الصورتين

ص: 306

تبقى مع الثانية ، فيكون واجب الوجود متغيّر الذات ، ثمّ الفاسدات إن عقلت بالماهية المجرّدة وما يتبعها مما لا يتشخّص لم يعقل بما هي فاسدة وان ادركت / 179 MB / بما هي مقارنة للمادة وعوارض مادية ووقت وتشخّص لم تكن معقولة بل محسوسة أو متخيلة ، ونحن قد بيّنا في كتب أخرى انّ كلّ صورة محسوسة وكلّ صورة خيالية فانها تدرك من حيث هي محسوسة أو متخيلة بآلة متجزّئة ، وكما انّ اثبات كثير من الافاعيل للواجب الوجود نقص له كذلك اثبات كثير من التعقلات ، بل واجب الوجود إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلى ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصى ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض ؛ وهذا من العجائب الّتي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة » (1) ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ قوله : « إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّي » صريح في أنّ الواجب - تعالى - لا يعلم الجزئيات من حيث انّها جزئيات ، بل إنّما يعلمها بالصور الكلّية. وكيف يمكن أن يكون مذهب الشيخ غير ذلك مع انّه قائل بالعلم الحصولي والعلم الحصولي لا يكون إلاّ بالصور الكلّية المجردة؟!. وحينئذ فقوله : « ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي - ... إلى آخره - » اشارة إلى انّه عالم بجميع الجزئيات ولا يخرج شيء شخصي عن علمه إلاّ انّ علمه بها بوجه كلّي ، فانّه إذا علم كلّ جزئي بوجه كلّي يصدق أن لا يخرج شيء عن علمه. ولا ريب في أنّ القول بعدم علمه بالجزئيات بوجه جزئي نقص في حقّه - تعالى - ، والداعي لهذا النفي ليس إلاّ لزوم التغيّر في حقّه ، فانّ الشيخ وأمثاله زعموا انّه - تعالى - إذا علم الجزئيات من حيث أنّها جزئيات لزم التغيّر في علمه ، لأنّه تعقل حينئذ وجودها / 180 DB / تارة وعدمها أخرى ويكون لكلّ واحد من تعقّل وجودها وتعقّل عدمها صورة عقلية على حدة لا يجتمعان معا في الوجود ، فيكون علمه حينئذ متغيّرا. فيجب أن يكون علمه بها بالصور الكلّية المجرّدة حتّى لا يتصور فيه تارة وتارة ويمكن بقاء الصورتين معا ، فلا يلزم حينئذ تغيّر في علمه.

ص: 307


1- راجع : الشفا / الالهيات ، ص 359. وبين العبارة المنقولة في المتن وما في المصدر اختلاف بيّن.

وفيه : انّ لزوم التغيّر والتحقّق تارة وتارة وعدم بقاء إحدى الصورتين إذا كان علمه بالجزئيات المتغيّرة الزمانية بحضورها وفرض علمه بها بالحضور زمانيا ، فلأنّه يلزم حينئذ التغيّر في العلم ولا يمكن بقاء الصورتين - أي : المعلومين بحضور الذات معا - إذا كانا في الزمانين ، إذ لا حضور لاجزاء الزمان معا بحسب الزمان. وأمّا إذا كان علمه بها حضوريا متعاليا على الزمان بريئا عن الوقوع فيه - كما اخترناه - فنقول حينئذ : لا يلزم التغيّر في علمه ولا تحقّق تارة وتارة ، بل يعقل مرّة واحدة انّها موجودة في ذلك الوقت ومعدومة في غير ذلك الوقت ، ولا يغيب عنه واحدة من الصورتين أصلا - كما قرّرناه وبيّناه غير مرّة -.

ثمّ انّه يرد على قوله : « وان ادركت بما هي مقارنة للمادة ... إلى قوله : بآلة متجزّئة » بأنّ مقارنة المادّة وعوارضها إنّما يمنع من التعقّل إذا كان الادراك بحلول صورة الشيء في المدرك وإذا كان بحضور ذاته له - كما في حضور المعلول عند العلّة - ، فلا يمنع منه أصلا ، فالجزئيات المادّية لمّا لم تكن مدركة لنا إلاّ بحصول صور زائدة فينا ولم يكن حصولها في أنفسنا المجرّدة بل يجب أن يكون في قوانا المادّية المتجزئة ، فلذلك لم يكن ادراكنا لها تعقّلا ، بل احساسا وتخيلا. ولكونها حاضرة بذواتها عند جاعلها الحقّ - لكونها معلولات له - فلا حاجة في إدراكه لها إلى حصول صورها فيه - تعالى عن ذلك - ، فيكون ادراكه - تعالى - لها عقلا. ولا حاجة هناك إلى آلة متجزئة ، فالجزئيات المادّية بما هي جزئية ومادّية شخصية وممتنعة الفرض بين كثيرين معلومة له - تعالى - من غير نقص وحاجة إلى آلة متجزئة. فظهر انّ ما ذكروه لنفي علمه - تعالى - بالجزئيات المتغيّرة من حيث هي جزئيات إنّما ينفي علمه بها على تقدير كون علمه - تعالى - حصوليا ، وكذا على تقدير كونه حضوريا - زمانيا - كما مرّ -. وأمّا على تقدير كونه حضوريا وبريئا عن الوقوع في الزمان - كما هو الحقّ - فلا يتغيّر أصلا. قال العلاّمة الخفري - رحمه اللّه - بعد نقل ما نقلناه من كلام الشيخ : « أقول : يعلم من كلامه المذكور انّ الموجودات الكائنة الفاسدة لا تنكشف عند واجب الوجود إلاّ بالصور الكلّية الموجودة قبل ايجادها ، ولا تنكشف عنده - تعالى - باعتبار وجودها العيني الّتي هي متغيرة باعتباره ، ونفي هذا

ص: 308

الانكشاف كفر صريح إنّما نشأ من غطاء على البصيرة ؛ ولهذا حكم الغزالي وغيره بكفر القائل بذلك النفي ، فانّ واجب الوجود - تعالى - مبدأ لجميع الموجودات الكائنة والفاسدة - سواء كانت كلّية أو جزئية - ، فيصدر عنه - تعالى - منكشفة إذ لا مانع عن الانكشاف أصلا ، فانّ واجب الوجود يعلم بذاته كلّ موجود عيني وكلّ صورة حسية كائن أو عقلية بذاتها حين كونهما موجودين ، ولا يحتاج في ادراكه - تعالى - إلى الآلة. والعجب - كلّ العجب! - انّ هذا القائل صرّح بأنّ واجب الوجود مبدأ لكلّ وجود وبأن لا يعزب عنه شيء شخصيّ ومع ذلك حكم بأنّ المحسوس الموجود في الخارج غير حاضر عنده - تعالى - باعتبار الوجود العيني - تعالى من ذلك علوّا كبيرا - ، بل لا يعزب عنه شيء من الجزئيات / 180 MA / والكلّيات أصلا - لا باعتبار الوجود العيني ولا باعتبار الوجود الظلّي -. قال اللّه - تعالى - : ( وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) (1). فانّ قوله - تعالى - : « ما يعزب عن ربّك » اشارة إلى عدم الخفاء لذرّة من الذرّات باعتبار الوجود العيني ؛ وقوله - تعالى - : « ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين » اشارة إلى الحضور باعتبار الوجود العلمي المقدّم على الايجاد العينى ، فانّ جميع المتغيّرات المحسوسات بذواتها واجب الوجود في أوقات كونها موجودة في الأعيان ، والتغير في حضورها إنّما يكون تغيرا في النسبة والاضافة لا في الذات ؛ ولا محذور فيه - كما اشار إليه المحقّق الطوسي بقوله : « وتغيّر الاضافات / 181 DA / ممكن » - ؛ انتهى.

أقول : ما ذكره من : « انّه يعلم من كلام الشيخ انّ الموجودات الكائنة الفاسدة لا تنكشف عنده - تعالى - إلاّ بالصور الكلّية » حق لا ريب فيه ؛ وكذا ما ذكره من « انّه يظهر من كلامه من أنّها لا تنكشف عنده - سبحانه - باعتبار وجودها العيني » ، لأنّ الجزئيات إذا كانت مدركة بالصور الكلّية المجرّدة - كما هو عند الشيخ وغيره من القائلين بالعلم الحصولي للواجب تعالى - ، يلزم عدم انكشافها عنده - تعالى - على النحو المتغير المتجدّد بحسب وجوداتها الخارجية. بل الظاهر من مذهب القائلين بارتسام

ص: 309


1- كريمة 61 ، يونس.

الصورة في ذاته - تعالى - انّ الموجودات مطلقا - سواء الكائنات الفاسدات أو المبدعات الباقيات - بما هي موجودات عينية ليس معلومة له إلاّ بالعرض ، والمعلوم بالذات منها انّما هو صورها الحاصلة في ذاته - تعالى -.

وأمّا ما ذكره من انّ ذلك كفر ، فيعلم حقيقة الحال فيه.

وأمّا ما ذكره من : « أنّ واجب الوجود يعلم كلّ موجود عيني وكلّ صورة حسّية وعقلية حين كونهما موجودين » ، فمبني على ما اختاره من أنّ معلومية الأشياء للواجب بالعلم الاشراقي الحضوري إنّما هو عين وجودها ، وقبل ايجادها لا تكون معلومة إلاّ بالعلم الاجمالي بالاحتمال الثاني ، بمعنى أنّ ذات الواجب بحيث يصدر تلك الأشياء عنه منكشفة.

وقد عرفت ضعف هذا المذهب وحقيقة ما اخترناه من كونها منكشفة عنده دائما.

وأمّا ما ذكره لثبوت التناقض في كلام الشيخ بقوله : « والعجب - كلّ العجب! - انّ هذا القائل - ... إلى آخره - » ، ففيه : انّ مبدئية الواجب لكلّ وجود والقول بعدم عزوب شيء شخصي عنه لا يستلزمان خصوص العلم الحضوري ولا ينافيان نفي هذا النحو الخاصّ من العلم ، بل انّما يستلزمان علما مطلقا وينافيان نفي العلم رأسا ، واين ذلك من نفي الحضور باعتبار الوجود العيني؟! - كما صرّح به -. والحاصل : انّ كونه - تعالى - مبدأ لكلّ وجود وعدم خروج شيء من علمه بنحو خاصّ - أعني : بنحو كلّي - لا يوجبان كون جميع الأشياء حاضرة عنده - تعالى - بوجوداتها العينية ، فالتناقض غير لازم من كلام الشيخ وإن كان القول بكون علمه كلّيا وعدم الأشياء معلومة عنده بوجوداتها العينية باطلا.

وامّا ما ذكره من : « انّ قوله - سبحانه - ولا اصغر ولا اكبر إلاّ في كتاب مبين اشارة بحضورها باعتبار الوجود العلمي المقدّم على الايجاد - ... إلى آخره - » اشارة إلى أنّ المراد بالكتاب المبين ذوات المبادي العالية بقيامها بذواتها لا بصور الموجودات.

وأنت خبير بأنّه على ما اخترناه أيضا يمكن أن يكون الكتاب المبين عبارة عن ذلك - أعني : ذوات المبادي العالية باعتبار انتقاشها بصور الموجودات - ، فانّه على ما

ص: 310

اخترناه كما يكون ذوات الأشياء بوجوداتها العينية منكشفة عنده - تعالى - أزلا وأبدا كذلك يكون صورها المرتسمة في أي محلّ كان منكشفة عنده دائما.

وقيل : يمكن أن يكون « الكتاب المبين » على هذا المذهب - أي : على المذهب المختار - عبارة عن لوح الوجود باعتبار حضوره مع ما فيه دفعة واحدة ومرّة غير مستمرّة عنده - تعالى - ، ويعبّر عنه باللوح المحفوظ أيضا. وحينئذ يكون علمه الّذي به يرسم تلك النقوش في ذلك الكتاب ولوح العقل الأوّل ارادته - تعالى - المتعلّقة بافاضة الوجودات والخيرات على الدوام ؛ ويمكن أن يكون « اللوح المحفوظ » عبارة عمّا ذكرنا ؛ و « الكتاب المبين » عبارة من طومار الزمان وصفحة المادّة الكلّية باعتبار انتقاشها بصور ما في الكون تدريجا كلّ في وقته. وحينئذ يكون « القلم » باعتبار اللوح المحفوظ ما ذكرنا ، وباعتبار الكتاب المبين مجموع العقول.

وأمّا القضاء والقدر فالأوّل عبارة عن الكتاب المبين بالمعنى الأوّل - أعني : اللوح المحفوظ - ، والثاني عبارة عن الكتاب المبين بالمعنى الثاني ، فالقضاء لا يقبل التغيّر والقدر يقبله.

وأمّا ما ذكره من : « أنّ التغيّر في حضورها إنّما يكون تغيرا في النسبة والاضافة - ... إلى آخره - » ، ففيه : ما عرفت من أنّ التغير في حضورها إنّما هو فيما بينها ولبعضها بالنسبة إلى بعض لا بالنسبة إليه - تعالى - فان جميعها / 180 MB / حاضرة عنده - تعالى - دفعة واحدة ، ولو كان ذلك التغيّر في الحضور بالنسبة إليه - تعالى - لزم التغيّر فيه / 181 DB / البتة - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا -.

وإذا عرفت ما ذكرناه تعلم انّه لا ريب في أنّ كلام الشيخ - ككلام غيره من القائلين بالعلم الحصولي - صريح في أنّ علمه - سبحانه - بالجزئيات إنّما هو بالصور الكلّية وانّه - تعالى - لا يعلم الجزئيات بوجه الجزئية. ولو لم يعترفوا به لكان ذلك مخالفا لمذهبهم من العلم الحصولي ، لكونه لازما له.

وبذلك يعلم ضعف قول بعض الأفاضل حيث أورد على العلاّمة الخفري - رحمه اللّه - بأنّ كلام الشيخ لا يدلّ على ذلك ، ولا يلزم نفي علمه بالجزئيات من حيث أنّها

ص: 311

جزئيات كونه عالما بوجه كلّى ؛ فقال : « اعلم! ، انّ قول الشيخ صريح في نفي العلم الزمانى المتجدّد لا نفي العلم مطلقا ، لأنّه قيّد العلم المنفي بالزماني المحض حيث قال : « عقلا زمانيا محضا ». وقوله : « على نحو آخر » صريح أيضا في أنّ الواجب - تعالى - له علم بالمتغيرات لكن لا بوجه يكون ذلك العلم متغيرا متجدّدا زمانيا ؛ لأنّه لم ينحصر العلم بالمتغيرات بكون ذلك العلم متغيرا متجددا زمانيا ، بل يتصوّر أن يكون العلم بالمتغيرات بوجه لا يكون متغيرا متجدّدا زمانيا. وبالجملة كلام الشيخ يأبى - كلّ الإباء - عن حمله على نفي العلم بالمتغيرات راسا ، وكون المعلوم من المتغيّرات إنّما هو الطبيعة الكلّية وعدم كون الأشياء المتغيّرة المشتملة على الطبيعة معلومة بالذات ، بل كون المعلوم بالذات هو الطبيعة. وكأنّ من حمل كلام الشيخ على هذا قصر نظره في قوله : « إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّي » ، واغترّه لفظ « الكلّي » ولم ينظر إلى ما وقع بعد تلك العبارة بلا فاصلة ، وهو قوله : « ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض ».

ثمّ قسم العلم بالأشخاص الجسمانية من حيث أنّها اشخاص جسمانية إلى قسمين :

أحدهما : العلم الاحساسي الانفعالي المستفاد من وجود المعلوم الحاصل بآلة متجزّئة ؛

وثانيهما : العلم الحاصل من جهة الاحاطة بجميع العلل والأسباب المسلسلة المنتهية إلى الاشخاص الجسمانية من حيث هي أشخاص جسمانية ، وهذا يعبر عنه بالعقل التامّ وبالعلم بالجزئي على الوجه الكلّي إمّا لأنّه كتعقّل الطبائع الكلّية في الثبات أو لأنّه - تعالى - يعلم بهذا العلم بالجزئيات بالكلّية.

ثمّ قال : « وغرض الشيخ من الكلام المذكور ليس إلاّ نفي القسم الأوّل عنه - تعالى - واثبات القسم الثاني له - سبحانه ، - فانّ قوله : « بل واجب الوجود إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّي » ليس مراده إلاّ أنّ الجزئيات المتغيّرة يعلمها الواجب علما تعقّليا فعليا ويعلم جميعها معا لا بقياس وفكر وبنقل من معلوم إلى معلوم ، بل يعلم جميعها علما تامّا محيطا بالكلّ. وهذا العلم - كما اشير إليه - يعبر عنه بالعقل التامّ الغير الزماني. وينادي على ذلك بأعلى الصوت قوله : « ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي ولا يعزب عنه

ص: 312

مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض ». ونعم ما قال الشيخ : « وهذا من العجائب الّتي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة ».

وجميع ما ذكرناه يستفاد من كلماته في التعليقات حيث قال في موضع منه : تعقّل الأوّل - تعالى - عقل بسيط لذاته وللوازم عنها وللموجودات كلّها - حاصلها وممكنها ، أبديها وكائنها وفاسدها وكلّيها وجزئيها - إلى اقصى الوجود معا لا بقياس وفكر وتنقّل في المعقولات ، فانّه تعقّلها - كلّها - معا على الترتيب السببي والمسببي. وقال في موضع آخر منه : الأوّل يعرف الشخص وأحواله الشخصية ووقته الشخصي ومكانه الشخصي من أسبابه ولوازمه الموجدة له المؤدّية إليه. وهو يعرف كلّ ذلك من ذاته ، إذ ذاته سبب الأسباب ، فلا يخفى عليه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرّة. فما نسب إلى الشيخ من أنّه قائل بأنّ علمه بالأشياء بالصور الكلّية وانّ الأشياء غير منكشفة له - تعالى - بوجودها العيني ونفي هذا الانكشاف كفر صريح ، اشتباه ناش من عدم فهم كلام الشيخ! ، فانّه لا ريب في أنّ نفي هذا الانكشاف كفر صريح في الشريعة ، بل كفر صريح في مذاق العقل وشريعة البرهان أيضا ؛ إلاّ انّ كلام الشيخ في براءة عمّا نسبوا إليه » ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ القسم الثاني - الّذي حمل كلام الشيخ عليه - هو احد الوجهين اللّذين اخترناهما في تصحيح علمه بالمعدومات وعدم التغيّر في علمه ، وهو انّه - تعالى - لكونه عالما بذاته وكون ذاته علّة لجميع الأشياء - لكون الأشياء منكشفة عنده تعالى حين وجودها وحين عدمها ، لأنّ حضور العلّة في باب انكشاف المعلول أقوى من حضور المعلول بذاته - فيكون الأشياء المعلومة له / 182 DA / - تعالى - بأسرها معلومة له منكشفة عنده ، وتكون الجزئيات معلومة له بوجه جزئي.

وأنت خبير بأنّ حمل كلام الشيخ على ذلك مجرّد تعسّف لا يقبله طبع قويم وذهن مستقيم! ؛ كيف والشيخ قائل بالعلم الحصولي وهذا القسم الّذي حمل هذا الفاضل كلام الشيخ عليه ليس إلاّ علما حضوريا - كما عرفت سابقا - ، فكيف يمكن أن يكون مذهب الشيخ ذلك؟!.

وهذا الفاضل هو الّذي اعتقد انّ الشيخ قائل بالعلم الحضوري ، وقد عرفت فساد

ص: 313

هذا الاعتقاد.

ثمّ لا يخفى على أحد بأنّ عبارات الشيخ في كلامه المنقول هنا صريحة في كون علمه - تعالى - بالجزئيات علما صوريا كلّيا ، وقد صرّح بأنّ علمه بها بوجه كلّي. وهذا الفاضل لم يأت في تصحيح ما ادّعاه إلاّ بالاستبعاد والطعن على أجلة الاذكياء الّذين حملوا كلام الشيخ على ما هو صريح فيه.

* * *

بقي الكلام في أنّ ما ذهب إليه الشيخ وأضرابه من الحصوليين من كون علمه بالجزئيات كلّيا وعدم علمه بها بوجه جزئي هل هو موجب للكفر أم لا؟ ، وهل يجوز تكفيرهم حينئذ أم لا؟.

فنقول : أوّل من حكم بكفر هؤلاء الحكماء القائلين بكونه - تعالى - عالما بالجزئيات بوجه كلّي دون جزئي وعدم انكشافها عنده - تعالى - بوجوداتها العينية الغزالي ، فانّه قال في تهافت الفلاسفة : « انّه يلزم على الحكماء بناء على القول بعدم علمه - تعالى - بالجزئيات على الوجه الجزئية المتغيّرة أنّ زيدا مثلا لو أطاع اللّه أو عصاه لم يكن اللّه عالما بما يتجدّد من احواله ، لأنّه لا يعرف زيدا بعينه / 181 MA / بأنّه شخص وأفعاله حادثة بعد أن لم يكن ، وإذا لم يعرف زيدا لم يعرف أفعاله وأحواله ، بل لا يعرف كفره واسلامه! ، بل إنّما يعرف انسانا واسلاما مطلقا كلّيا لا مخصوصا بالأشخاص. ويلزم على هذا أن لا يعرف محمّدا - صلی اللّه علیه و آله - وأن لا يعرف انّه أرسله بعينه بالنبوّة وانّه تحدّى بها وكذلك في كلّ نبي معيّن ، واللّه - تعالى - إنّما يعلم من الناس من يتحدّى بالنبوّة وإنّ صفة أولئك المتحدّين بها كذا ؛ وأمّا النبيّ بشخصه فلا يعرف بأحواله وصفاته ، فيلزم استبطال الشريعة بالكلّية » (1) ؛ انتهى.

وقد عرفت انّ العلاّمة الخفري - رحمه اللّه - أيضا وافق الغزالي في التكفير.

ثمّ انّ جماعة كثيرة من المتأخّرين تشمّروا لدفع التكفير عنهم ، فقال بعضهم : انّه

ص: 314


1- راجع : تهافت الفلاسفة ، المسألة 13 ، ص 231.

لا ريب في أنّ ما نقل عن الحكماء ونسب إليهم يفضي إلى أن لا يكون له - تعالى - علم ببعض الأشياء ؛ ولكن مع ذلك لا يجوز تكفيرهم ، لأنّهم مع هذا اعترفوا بأنّه - تعالى - عالم بالكلّيات والجزئيات بحيث لا يعزب عن علمه - تعالى - مثقال ذرّة في الأرضين والسموات ، وما هو من ضروريات الدين ليس إلاّ انّه عالم بجميع الأشياء قاطبة ، لا انّ علمه - تعالى - على وجه كلّي أو جزئي. ولهذا لا يكفّر من اعترف بعلمه - تعالى - من المتكلّمين ويقول : انّ العلم قديم والتعلّق حادث ؛ أو يقول : انّ علمه - تعالى - اضافة مستدعية لأن يكون لها طرفان ولا يمكن أن يوجد أحد طرفيها في الأزل ، مع انّ قولهم هذا ملزوم لأن لا يكون الواجب - تعالى - عالما بالحوادث قبل وجودها ، لأنّ العلم ما لم يتعلّق بشيء لا يصير ذلك الشيء معلوما. وبالجملة إذا كان العلم اضافة مستدعية لوجود طرفيها ولم يكن في الأزل أحد الطرفين لم يكن العلم متحقّقا في الأزل ، فقولهم هذا يفضي إلى نفي العلم ومع ذلك لم يكفّرهم أحد! ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ أوّل هذا الجواب لدلالته على تسليم عدم علمه ببعض الأشياء ينافي ما بعده من التصريح بأنّه لا يخرج عن علمه مثقال ذرّة في الأرضين والسموات ، فان بني الأمر على ما يدلّ عليه أوّله - من خروج بعض الأشياء عن علمه - فلا ريب في كونه كفرا وزندقة ، وإن بنى الأمر على ما بعده فيرجع إلى التوجيهات الآتية ؛ وتعلم حقيقة الحال فيها.

ثمّ ما نقل عن بعض المتكلّمين تأييدا لعدم التكفير يمكن للمكفّرين أن يقولوا : انّ هذا البعض من المتكلّمين إن علموا فساد قولهم - وهو افضائه إلى نفي العلم عن الواجب قبل ايجاد الأشياء - ومع ذلك قالوا به فيجوز تكفيرهم أيضا ؛ وإن لم يعلموا ذلك فهو أمر آخر. وعلى هذا فيمكن أن يقال من قبل الحصوليين أيضا بأنّهم إن لم يعلموا انّ القول بعلمه بالجزئيات على وجه كمّي يفضي إلى نفي علمه ببعض الأشياء ؛ فلا يجوز تكفيرهم ، وإلاّ فيجوز.

ثمّ انّ أكثر المتأخّرين الدافعين التكفير عن الحكماء الحصوليين جزموا بأنّه لا يلزم على قولهم عدم معلومية بعض الأشياء له - تعالى - ، فالتكفير لا يتوجّه عليهم ؛ لأنّه إنّما

ص: 315

يتّجه تكفيرهم في ذلك لو قالوا انّ بعض الأمور ليس معلوما له - تعالى ، كما زعمه المكفّرون - / 182 DB / وليس كذلك.

ثمّ قال بعضهم في ذبّ التكفير : انّه على ما ذهب إليه الحكماء وإن لم يعلم الواجب الجزئيات الجسمانية - كما نعلمها بحواسّنا - إلاّ انّه يعلم كلّ واحد منها على وجه لا ينطبق في الخارج إلاّ عليه دون ما عداه ، وبهذا القدر يحصل التمييز بين الأشخاص. وكذا يعلم أحوال كلّ شخص وأفعاله على وجه يتميز كلاّ منها عن الآخر ويعلم أوقاتها المعينة ، إلاّ انّه لما لم يكن بالنسبة إليه - تعالى - ماض وحال ومستقبل لم يعلم انّ بعضها واقع في الآن وبعضها في الماضي وبعضها في المستقبل - لتعاليه عن الدخول تحت الأزمنة باعتبار ذاته وصفاته - ، بل يعلم كلاّ من الأشخاص وأفعالها بحيث يتميز كلاّ منها عن الآخر ؛ وهذا كاف في اجراء احكام الشريعة ؛ انتهى.

وقال بعض آخر : لا يخفى انّ كلام الشيخ في الشفا وغيره - من النجات وسائر كتبه - ناد على أنّ الشيخ غير ملتزم بخروج شيء من الجزئيات عن علمه - تعالى - ، بل يقول : انّ اللّه - تعالى - يعلم كلّ شيء بصورة كلّية بل بالعلم الكلّي وإن كان المعلوم جزئيا مادّيا ، وأورد كلام اللّه - تعالى - سندا لعقيدته - وهو قوله سبحانه : « ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض » -. وذكر بعده كونه من العجائب لأنّه عجب أن يكون العلم مجرّدا ومع هذا يكون مطابقا للمعلوم الجزئي المادّي المتغير. ولكن هذا العجب وغيره من الأمور الّتي لا يجوز في غيره - تعالى - يجوز في حقّه - تعالى - ، كما أنّ ادراك المسموع والمبصر في الغير لا يتصوّر بدون آلة السمع والبصر وفي حقّه - تعالى - يتصوّر بارجاعهما إلى العلم ، فكذلك يجوز هذا الأمر العجب المذكور في حقّه - تعالى -. فالشيخ غير معترف بخروج شيء من علمه - تعالى -.

فان قيل : يلزم عليه خروج بعض الأشياء عن علمه - بناء على ما ذهبوا إليه - ؛

قلنا : دعوى الالزام مع عدم اعترافه به وحكمه بكونه عجيبا والأمر بتحصيل لطف القريحة في دركه لا يلزم الكفر على الشيخ - سواء تمّ كلامه في هذا الباب أو لا يتمّ -. وينبغي أن يعلم انّه كما انّ عند من يقول انّ علمه - تعالى - بالأشياء يكون بحضورها

ص: 316

بنحو وجودها على ما هي عليه - ومن جملتها الجزئيات المتغيّرة وهي حاضرة قبل وجودها على وجه الإجمال ، أي : بالعلم المقدّم / 181 MB / على الايجاد ، أعني : بالعلم الّذي هو نفس ذاته تعالى - لا على وجه التفصيل ، وعدم انكشافها بوجه التفصيل قبلها لا يكون نقصا للواجب تعالى لعدم كمالية علم التفصيلي له تعالى ، فكذا عند من يقول بحصول عدم ارتسام الجزئيات في ذاته - تعالى - على وجه التغيّر والتجدّد المستلزم للآلة المتجزّئة مع ارتسامها على وجه أعلى وأشرف - أي : الوجه التجرّدي - لا يوجب نقصا البتّة ، فالتكفير عليه غير صواب.

فلو قلت : سبب التكفير على القائلين بالحصول - ومنهم الشيخ - هو انّه يلزم خروج الجزئيات على نحوها المتغير من تأثيره - تعالى - ، والقول به يوجب تعدّد الواجب. بيان اللزوم : إنّه إذا كانت تلك الصور وسائط وشرائط لوجوداتها وهي لا تعين ولا تخصّص تلك الجزئيات فلا يصدر من الواجب ، فيجب انتهائها إلى واجب آخر ؛ وهو كفر صريح.

قلت : كون تلك الصورة مجرّدة لا يمنع أن تكون واسطة لايجاد الأمور الجزئية المادّية وإلاّ يلزم عدم وصول الوجود من المجرّد إليها قطّ ، والواقع خلافه لصدور المادّي - كالفلك - من العقل المجرّد فما هو وجه التخصيص هاهنا فهو وجهه هناك. وإذا علمت هذا فيجوز أن تكون تلك الصور الّتي هي مفاتيح الغيب عندهم وسائط نزول الوجود من اللّه - تعالى - إلى هذه الجزئيات المتغيّرة المتجدّدة ؛ ومع هذا ليست كمالا له - تعالى - ، بل الكمال هو منشأ تلك الصور وهو كون الواجب بحيث يصدر عنه تلك الصور منكشفة من غير صورة أخرى ، وبواسطتها تصدر عنه الأشياء العينية.

هذا نهاية التوجيه من قبل القائلين بالعلم الحصولي.

ولكن المستبان بالبرهان - على ما سبق - : انّ علمه - تعالى - بالأشياء يجب أن يكون بالحضور - أي : بحضور ذاته لذاته - الّذي هو منشئا لكلّ حضور. بل هو حضور كلّ شيء ، لأنّا نجد انّ العلم بكل شيء - سواء وجد أم لم يوجد - يكون كمالا للموجود بما هو موجود ، وكلّ ما هو كمال للموجود بما هو موجود يجب أن يكون ثابتا لله - تعالى -

ص: 317

بحيثية ذاته الكاملة ، فعلمه بكلّ شيء عين ذاته ، فهو في مرتبة ذاته يكون محلاّ لحضور كلّ شيء. وهذا هو علمه بالحقيقة لا الأمور المفصّلة الخارجة عن ذاته ، لأنّها ليست كمالا له - تعالى - ؛ وعلمه من الصفات الكمالية ، فيجب كون علمه - تعالى - غير خارج عنه بحسب الحقيقة / 183 DA /. وإن قيل لهذه علوم تفصيلية يتعين أن يراد بها أمورا مفصّلة ومظاهر لما هو علم بالحقيقة - أعني : ذاته المقدّسة من كلّ نقصان - ؛ انتهى.

وقال بعض آخر : انّه لا فرق في تعلّق علمه - تعالى - بين الكلّي والجزئي في أنّ كلاّ منها إنّما هو بصورة كلّية تحتمل عند العقل الكثرة ، إلاّ انّ في الأوّل كما انّه يحتمل الكثرة عند العقل يصدق على الكثرة في الخارج أيضا ، وفي الثاني يحتمل الكثرة في العقل ولا يصدق على الكثرة في الخارج ، بل هذا المحتمل للكثرة عند العقل منحصر في الخارج في فرد ، فلا يعزب عن علمه شيء من الأشياء في نفس الأمر. وحاصله : انّه يعلم زيدا مثلا بعنوان كونه ماهية انسانية محفوفة بمجموع عوارض كلّ واحد من تلك العوارض معلومة بماهية كلّية ، والصورة المعقولة من مجموع تلك العوارض وإن كانت كلّية إلاّ أنّها في نفس الأمر منحصرة في شخص هو زيد بعينه. لأنّ ضمّ كلّي إلى كلّي وإن لم يفد الشخصية لكن قد يفيد الانحصار في شخص ، وكذا يعلم عمروا بعنوان كونه ماهية انسانية محفوفة بمجموع عوارض أخرى كلّ واحد منها كلّي والمجموع من حيث هو مجموع كلّي أيضا ، إلاّ انّه منحصر في الواقع في شخص ، وهذا المجموع وإن امكن كونه مشاركا لذلك المجموع في كثير من العوارض إلاّ أنّ هذا المجموع من حيث هو مجموع غير ذلك المجموع. من حيث هو مجموع وقس على ذلك كلّ جزئي من جزئيات الجواهر والأعراض ؛ وإلى ذلك أشار الشيخ بقوله : « ومع ذلك - أي : مع كون علمه بالجزئي على نحو كلّي ، أي : بحسب امكان فرض العقل - لا يعزب عنه شيء شخصي - أي : بحسب نفس الأمر والواقع -.

والحقّ انّ هذا النحو من العلم بالجزئيات أمر ممكن بحيث لا يفوت منه - تعالى - جزئي من الجزئيات ومثقال ذرّة في الأرض والسموات ، ولا نقص فيه بحسب الكمية - كما زعمه الجمهور وشنعوا عليهم به - ، إلاّ أنّه لكونه علما صوريا حصوليا لا انكشافيا

ص: 318

حضوريا فيه نقص عظيم من حيث الكيفية ؛ انتهى.

وغير خفي بأنّ مآل جميع هذه التوجيهات إلى شيء واحد ، وهو انّ العلم الحصولي وإن كان نقصا بحسب الكيفية - نظرا إلى أنّ الحضوري أقوى ، لايجابه انكشاف الأشياء بوجوداتها العينية ؛ بخلاف الحصولي ، لأنّه لا يعلم به إلاّ صور الأشياء - إلاّ انّه لا يوجب التكفير ، لأنّه لا نقص فيه بحسب الكمية ، لأنّه لا يخرج عنه شيء من الأشياء ويعلم به جميع الأشياء كلّياتها وجزئياتها ؛ ولا أنّ نحو المعلومية فيه - أعني : في الحصولي - أنقص من نحو المعلومية من الحضوري الانكشافي. واعتقاد انّ علمه - تعالى - بوجه أنقص لا يوجب التكفير ، لأنّ ما هو من ضروريات الدين أنّ الواجب يعلم جميع الأشياء ، لا أنّ علمه على نحو أقوى. وإلى ذلك اشار بعض الموجّهين حيث قال : « إنّما يلزم الكفر لو لزم غروب شيء من الأشياء عنه - تعالى - في نفس الأمر ، وقد علمت انّه لا يلزم ذلك. وما هو من ضروريات الدين - الّذي يلزم من انكاره كفر - / 1982 MA / هو كونه - تعالى - عالما بجميع الأشياء ؛ وأمّا خصوص كيفية نحو من انحاء العلم فلم يشتبه على أحد عدم كونه من ضروريات الدين. وظاهر انّ النزاع في كون العلم حضوريا أو حصوليا نزاع في كيفية العلم لا في أصله ، فالغزالي وأمثاله لمّا توهّموا من ظاهر كلامهم انّه - تعالى - يعلم الجزئيات على النحو الكلّي وانّه - تعالى - لا يعلم الجزئيات من حيث هي متغيرة وانّهم قائلون بكونه - تعالى - عالما بطبائع الجزئيات ومفهوماتها الكلّية لا لشيء من ذواتها حملهم ذلك على تكفير هؤلاء ، وذلك افتراء عليهم وتوهّم من كلامهم. وأمّا من لم يتوهّم ذلك من كلامهم فلا ينبغي له تكفيرهم بمجرّد انكار نحو من أنحاء العلم وكيفية من كيفياته ، وان صحّ تخطئتهم ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره هؤلاء الأعلام من عدم خروج شيء من علمه لم يأتوا فيه ببيان يظهر منه حقيقة الحال ، ولم يتعرّضوا لدفع ما ذكره المكفّرون لخروج بعض الأشياء عن علمه. فلا بدّ من ذكر ما أورده المكفّرون لخروج بعض الأشياء عن علمه ، ثمّ نقل ما قيل في دفعه ؛ ثمّ تحقيق ما هو الحقّ.

فنقول : انّ من ادّعى انّه يلزم على القول بالعلم الحصولي خروج بعض الأشياء

ص: 319

عن علمه احتجّ بأنّ تصوّر الماهيّة إنّما يمنع فرض الشركة بواسطة أمر مخصوص منضمّ إليه - وهو المسمّى « بالتشخّص » - ، ولمّا لم يدرك ذلك الأمر المخصّص كان المدرك كلّيا. وإذا ادرك وقيد الماهية النوعية صار المدرك جزئيا ، فعلمه - تعالى - بالجزئيات على الوجه الكلّي مبني على عدم علمه بالمخصّص. ويؤكّد ذلك أنّ الحكماء يمنعون حصول صور الجزئيات المادّية للمجردات ، فيلزم على قولهم نفي علمه - تعالى - بالأشخاص المادّية. قال المحقّق الدواني فيما أضاف على الحواشي القديمة في مبحث / 183 DB / التشخّص بعد تقرير مذهب الجماعة القائلين بزيادة التشخّص على الماهية في الخارج : ثمّ انّ هذا الامر - يعنى : الأمر الّذي يسمّونه تشخّصا - في الماديات يكون مادّيا لا محالة ، فيلزم أن لا يحصل العلم بها للمبادي العالية. وهذا هو منشأ التشنيع على الحكماء ، لانّهم ينفون علمه - تعالى - بالجزئيات ؛ انتهى.

وغرضه انّ منشأ لزوم علمه - تعالى - بالشخص انّما هو مادّيته ، اذ لو لم يكن مادّيا لم يلزم على الحكماء عدم عمله - تعالى - به وإن لم يكن له ماهية كلّية ، لانّه يجوز ادراك المجرد للمجرد من حيث هو جزئي ، والاحساس انّما هو بطريق ادراك الجزئيات المادية. فاذا فرض أنّ هذا الشخص المشخّص - بزعم المتأخّرين مجرّد لا يلزم عدم علمه - تعالى - به على زعم الحكماء. فقولهم : انّه - تعالى - يعلم الجزئيات على الوجه الكلّي لئلاّ يلزم الاحساس المختصّ عندهم بالجزئيات المادّية ، فلذلك قال الدواني : « إنّ هذا الأمر يكون مادّيا » حتّى يلزم على الحكماء عدم علمه - تعالى - به.

ثمّ انه قد اجاب عن الاحتجاج المذكور بعض من متعصبى الفلاسفة - كالمحقّق الدواني وصدر المحقّقين - : بأنّ تحقيق مذهبهم انّ مناط الكلّية والجزئية بنحو من الادراك لا التفاوت في المدرك ، فهم يثبتون علمه - تعالى - بجميع الأمور الممكنة الموجودة بحيث لا يشذّ عنه شيء عن الأشياء ولا يعزب عن علمه - تعالى - مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء. ولكن علمه - تعالى - بها بوجه كلّي لا يمنع الشركة ، فكلّ ما ندركه نحن بطريق الاحساس كالتخيل فهو مدرك له بطريق التعقّل. مثلا إذا علّمت لمخاطبك ما علمته بالحسّ وقلت مثلا قطرة ماء متقدّرة بالمقدار الكذائي في

ص: 320

الأين الفلانى إلى غير ذلك حتّى يدرك المخاطب قطرة ماء متصفة بجميع الصفات الّتي ادركت القطرة متصفة بها في الحسّ ، فتصوّرك للقطرة المذكورة يمنع الشركة وتصوّر مخاطبك لا يمنع عنها مع انّ المتصوّر واحد. فلا تفاوت بين ادراكنا للجزئيات وادراكه - تعالى - لها ، إلاّ أنّ ادراكنا بطريق الاحساس وادراكه بطريق التعقّل. وكما أنّ كثيرا من الصفات في حقّه نقص وان كان ذلك في غيره - تعالى - كمالا ، كذلك الادراك التخيلى مثلا نقص في حقّه - تعالى -. فهم لا ينفون علمه - تعالى - بشيء من الأشياء ، بل ينفون عنه التخيل والاحساس مع اثبات ادراكه - تعالى - جميع المحسوسات والمتخيلات ، ولا يثبتون في الأشخاص المادّية ما ليس له ماهية كلية حتّى لا يمكن ادراكه بطريق التعقّل. ومن البيّن انّه لا يتعلّق بهذا القدر تكفير ، سواء تمّ دليلهم على ذلك أو لا ، وسواء طابق الواقع أو لا ؛ انتهى.

وأورد على هذا الجواب : بأنّ القول بأنّ التفاوت بين الكلّي والجزئي ليس إلاّ بنحو الادراك لا التفاوت في المدرك مخالف لما نصّ عليه الشيخ في الشفا حيث قال : وامّا طبيعة النوع وحده فما لم يلحقه أمر زائد عليه لا يجوز أن يقع فيه كثرة. ثم قال بعد ذلك : بأنّ قولنا الانسان معناه انّه حيوان ناطق وقولنا انسان شخصي هو هذه الطبيعة مأخوذة مع عرض يعرض لهذه الطبيعة عند مقارنتها للمادّة ؛ انتهى.

ولا ريب فى أنّ قوله : « واما طبيعة النوع وحدة ... إلى آخره » إلى البرهان على أنّه بين الكلّي والجزئى فرقا بحسب المعنى ، لأنّ تكثّر النوع بالأشخاص إنّما يتصوّر بعد انضمام العوارض المشخّصة إلى ذلك النوع ، وإلاّ يلزم أن يكون احد الشخصين عين الشخص الآخر. مثلا إذا لم يكن بين الانسان وبين زيد تفاوت إلاّ بنحو من الادراك فلم يكن بين زيد وعمرو تفاوت بحسب المعنى أصلا ، فيكون كلّ أمر في زيد ثابتا لعمرو أيضا ثابتا ، وهذا يوجب رفع الاثنينية ؛ وهو باطل. فلا بدّ من انضمام العوارض إلى النوع ليحصل تكثّر الاشخاص. فانكشف لذلك أنّ / 188 MB / القول بأنّ مناط الكلّية والجزئية بنحو من الادراك لا التفاوت في المدرك باطل.

ولو استدل عليه بأنّه إذا سئل عن الشخص بما هو لا يقع في الجواب إلاّ النوع

ص: 321

فلا يكون بين الشخص والنوع تفاوت إلاّ بنحو من الادراك ، نقول في دفعه : انّ المطلوب عن السؤال بما هو تحصيل تمام الماهية المشتركة لا الماهية المختصّة ، ولهذا وضع مطلب آخر للهويات الشخصية وهو « مطلب من » - كما هو مذكور في الشفا والاشارات - ، فكما انّ للنوع « مطلب ما » كذلك للشخص « مطلب من » ؛ هذا.

وقال العلامة الخفري - رحمه اللّه - في دفع أنّ مناط الكلّية والجزئية بنحو من الادراك لا التفاوت في المدرك ما توضيحه : انّ في تأويل كلام الفلاسفة على ذلك الوجه تأمّلا ، لأنّ حاصل التحقيق الّذي هو مبنى ذلك التأويل أن يكون شخص واحد بوجه والسرّ معلوما لعالمين بحيث يكون عند أحدهما جزئيا مانعا من فرض الشركة فيه / 184 DA / - بواسطة انّه مدرك بطريق الإحساس كالتخيل - وكلّيا غير مانع من فرضها فيه عند الاخر - بواسطة انّه مدرك بطريق التعقّل -. وهاهنا ثلاثة احتمالات :

أحدها : أن يكون المعلوم بالذات لذينك العالمين واحد ، يعنى يكون المعلوم الّذي يكون مدركا أوّلا وبالذات لذينك العالمين كالشيء الخارجي عند من يقول بالعلم الحضوري وكالصورة عند من يقول بالانطباع ، فانّ الصورة عنده معلومة بالذات والأمر الخارجي معلوم بالعرض وبالواسطة واحدا ولا ريب في أنّ معلومية شيء واحد بعينه أولا وبالذات لعالمين لا يكون إلاّ بالاطلاع الحضوري فيكون العلمان كلاهما حضوريين إذ في العلم الحصولي لا بدّ من أن يكون المعلوم بالذات أي الصورة الحاصلة لاحدهما غير المعلوم بالذات لآخر لامتناع حصول صورة واحدة بعينها لكل منهما بل لا بدّ من التعدد قطعا وحينئذ لا شبهة في انّ المعلوم إذا كان مانعا عن فرض الشركة فيه عند احدهما كان مانعا عنه عند الاخر أيضا ومنعه مكابرة صريحة.

وثانيها : أن يكون المعلوم بالعرض لهما واحدا ويكون المعلوم بالذات لأحدهما مانعا عن فرض الشركة فيه ، والمعلوم بالذات للآخر غير مانع عنه. وهذا إنّما يتصوّر على القول بالحصول ، فيكون العلمان كلاهما حصوليين. وهذا الاحتمال مع ما فيه لا دخل له في تصحيح التأويل المذكور. بيان الأوّل يعنى ما فيه هو انّ علم كلّ واحد

ص: 322

منهما بصورة مطابقة فلو كانت إحداهما كلّية والأخرى جزئية لزم أن تكون الصورة الّتي هي المعلومة بالذات بالنسبة إلى معلوم شخصي جزئي - أعني : المعلوم بالعرض الّذي هو الامر الخارجي - مانعة وغير مانعة مع أنّ الأمر الخارجي محكيّ عنه والصورة حاكية وإذا كان المحكيّ عنه واحدا يجب عدم تخالف الحاكي أيضا.

وأمّا بيان الثاني - يعنى : عدم مدخليته للتصحيح المذكور - فهو انّ المقصود منه بيان انّ نفس هذا الشخص الجزئي بوجه يكون مانعا للشركة ومنكشفا عنده - تعالى - حتّى يتصحّح بذلك انّ علمه - تعالى - بنحو لا يعزب عنه شيء أصلا ولا يلزم التغيّر مع انّه على هذا يكون علمه بالصورة المتقدّمة على الايجاد الّذي لا يستلزم التغيّر بزعمهم ، فيلزم أن لا يعزب عنه الأشياء باعتبار الوجود العيني الّذي فيه التغيّر. والحاصل : انّه إذا كان كلّ من العلمين حصوليا يلزم لا محالة نفي الحضور الانكشافي عنه - تعالى - ؛ والحال انّ التكفير إنّما يتعلّق بذلك ، فيجوز كون واحدة من الصورتين جزئية والاخرى كلّية ؛ وعلى تقدير التسليم ليس تصحيح كلامهم من حيث هو متعلّق بالتكفير.

قيل : وجه عدم مدخليته للتصحيح المذكور انّ الكلام في تصحيح جواز كون أمر واحد بعينه معلوما لأحد من العالمين بالوجه الجزئي وللعالم الآخر بالوجه الكلّي ، فيجب أن يكون أمر واحد بعينه معلوما لأحد العالمين بالوجه الجزئي وللعالم الآخر بالوجه الكلّي ، فيجب أن يكون أمر واحد بعينه معلوما للعالمين. وفي صورة العلم الحصولي يكون المعلوم بالذات متعدّدا والمعلوم بالعرض واحدا ، فلم يكن المعلوم بالذات بالقياس إلى العالمين واحدا ، بل يكون المعلوم بالذات لأحدهما غير المعلوم بالذات للآخر ، لأنّ المعلوم بالذات لأحدهما هو الصورة الجزئية وللآخر هو الصورة الكلّية ؛ فلا دخل لهذا الاحتمال في تصحيح التأويل المذكور.

وثالثها : أن يكون الشخص المذكور - أي : الشخص الّذي يكون معلوما للعالمين - مع الاختلاف بحسب الكلّية والجزئية هو المعلوم بالذات لأحدهما والمعلوم بالعرض للآخر ؛ وعلى هذا الاحتمال يكون أحد العلمين حضوريا والآخر حصوليا. وذلك قسمان في بادي النظر :

ص: 323

أحدهما : أن يكون فرض الشركة بالنسبة إلى من هو معلوم له بالذات وعدم الشركة بالنسبة إلى من هو معلوم له بالعرض حتّى يكون المعلوم بالذات مناط الكلّية والمعلوم بالعرض مناط الجزئية ؛

وثانيهما : أن يكون بالعكس من ذلك.

وفي ثانى النظر - أي : بعد التأمّل - يظهر بطلان أحد القسمين ، وهو القسم الأوّل ؛ لأنّ المعلوم بالذات هو المعلوم بالعلم الحضوري والمعلوم بالعرض هو المعلوم بالعلم الحصولي ، فإذا كان المعلومية بالذات مناط الكلّية والمعلومية بالعرض مناط الجزئية لزم أن يكون ذات الشيء المعلوم بالعلم الحضوري مناط الكلّية والصورة الحاصلة منه مناط الجزئية. وهذا باطل ، لظهور امتناع كلّية الشخص المعلوم بالعلم الحضوري من حيث هو كذلك مع جزئية الصورة الحاصلة منه ، لأنّ ذوات / 183 MA / الأشياء جزئيات والكلّيات ليست إلاّ مفهوماتها وماهياتها / 14 DB / الحاصلة في الاذهان. وامّا القسم الثاني فهو في حكم الاحتمال الثاني في انّه لا يصلح لتوجيه كلامهم ؛ لأنّه على هذا القسم يكون علمه - تعالى - بالصورة ، فيعزب عنه الموجودات العينية باعتبار الوجود العيني الّذي فيه التغيّر.

وقيل : القسمان المتصوّران في بادي النظر : أحدهما : كون هذا الشخص معلوما بالذات للواجب وبالعرض لنا ؛ والثاني : كونه على عكس ذلك - أي : كونه للواجب معلوما بالعرض ولنا معلوما بالذات -. وفي ثانى النظر يظهر بطلان أحد القسمين وهو القسم الثاني ، للزوم كون علمه - تعالى - بالشخص المذكور حصوليا وعلمنا به حضوريا ، وهو يستلزم كون انكشافه بالقياس إلينا أتمّ منه بالنسبة إليه - تعالى -. والقسم الأوّل مثل الاحتمال الثاني في البطلان ، لأنّه إذا كان الشخص المذكور معلوما بالذات بالقياس إلى الواجب ومعلوما بالعرض بالقياس إلى غيره لم يتحقّق حينئذ أمر واحد يكون معلوما بالذات بالقياس إلى العالمين ويكون بالقياس إلى أحدهما جزئيا وبالقياس إلى الآخر كلّيا ، بل المعلوم بالذات لأحدهما حينئذ يكون غير المعلوم بالذات للآخر ؛ هذا ما ذكره العلامة الخفري - رحمه اللّه - في هذا المقام بتوضيحه.

ص: 324

وأورد على قوله في الاحتمال الأوّل : « ولا شبهة في أنّ هذا المعلوم - أي : المعلوم بالعلم الحضوري - إذا كان مانعا عن فرض الشركة فيه عند أحدهما كان مانعا عنه عند الآخر أيضا - : بأنّه يجوز تعدّد الحضور بالاعتبار ، فربما يكون للمادّي مثلا حضور عند المادي يكون بحسبه جزئيا عنده مع امتناع هذا الحضور عند المجرد ، وله حضور آخر عند المجرّد يكون بحسبه كلّيا - كما في الصورة -.

وأورد على الاحتمال الثاني الّذي ذكره : بأنّه يجوز للقائل بالانطباع أن يختار هذا الاحتمال ويقول : انّ المعلوم بالذات لواحد من العالمين صورة مجرّدة كلّية وللآخر صورة مادية تخييلية جزئية مع الاتحاد في المعلوم بالعرض - أعني : الجزئي المشخّص -.

وما قيل : من انّه في هذا الاحتمال انّ علم كلّ واحد من العالمين بصورة مطابقة والصورة المطابقة لشيء واحد جزئي لا يمكن أن يكون مانعة وغير مانعة ؛

ففيه ؛ انّ هذا الكلام إنّما يصحّ على تقدير تسليم كون الكلّية والجزئية بنحو من الادراك ؛ وعلى هذا التقدير لا وجه لهذا الكلام.

وأيضا : كون كلّ من الصورتين مطابقة لا ينافي كون إحداهما كلّية والأخرى جزئية - لجواز كون الشيء الواحد كلّيا وجزئيا باعتبارين - ، ونفي هذا ليس إلاّ مجرّد استبعاد لا يسمع في المطالب العلمية.

وما قيل في بيان عدم مدخلية هذا الاحتمال لتصحيح التأويل المذكور ؛

فأورد عليه : انّ المعلوم بالذات - الّذي هو الصورة المجرّدة - نائبة مناب الإحساس والتخيل ، فيتناول اتمّ منها بالنسبة إلى اللّه - تعالى -.

ولا يخفى ما في هذا الايراد ، فانّ الإحساس والتخيل يتناولان الجزئية والصورة المجردة الكلّية لا يتناولها.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ ما ذكره العلاّمة الخفري - رحمه اللّه - ليس تامّا في دفع انّ التفاوت ما بين الكلّية والجزئية بنحو من الادراك ، لا التفاوت في الدرك ولم يأت بشيء يظهر منه جليلة الحال.

وقد ذكر بعد كلامه المذكور كلمات آخر لتحقيق المقام ، فلا بدّ لنا أن نوردها ونشير

ص: 325

إلى حقيقة الحال فيها ، ثمّ نشير إلى ما هو الحقّ في المقام. فقال - رحمه اللّه - بعد كلامه المذكور : وفي الجملة لا خفاء في أنّ الممكنات المتغيّرة - الّتي هي معلومات بذواتها - والحوادث المتغيرة إن كانتا معلومتين بذاتهما للواجب الوجود بالذات لزم التغير في علمه - تعالى - المتعلّق بهما في الشهود العيني ، والفلاسفة يتحاشون عنه ؛ وإن لم يكونا معلومين له - تعالى - إلاّ بالعرض - أي : بالعلم المقدّم على الايجاد - لزم أن يعزب عنه شيء باعتبار الوجود العينى - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا - ، وهذا هو الّذي يتعلّق به كفرهم ؛ انتهى

وأنت خبير بأنّه إذا لم يكن تفاوت بين الموجود العيني والمدرك الذهني إلاّ في نحو الادراك على ما هو زعم المؤوّلين لا يلزم عزوب شيء أصلا ، فالمهمّ في ردّ كلامهم إنّما هو اثبات انّ التفاوت بين الكلّية والجزئية ليس بمجرّد نحو من الادراك ، وقد عرفت انّ ما ذكره هذا العلاّمة حينئذ لاثبات ذلك ليس تامّا.

ثمّ ما ذكره من أنّ الممكنات المتغيّرة والحوادث المتغيّرة إن كانتا معلومتين بذاتيهما / 185 DA / لواجب الوجود بالذات لزم التغيّر في علمه ، قد عرفت انّه مبني على ما ذهب إليه هذا العلاّمة من أنّ مناط انكشاف الأشياء للواجب هو وجوداتها العينية ، ولذا التزم التغيير في علمه - سبحانه - ، وقال : لا فساد فيه - لأنّه تغيّر في الاضافات - ، وقد نسب ذلك إلى المحقّق الطوسي أيضا. وعلى ما اخترناه وقرّرناه من أنّ مناط علمه - سبحانه - ليس هو وجودات الأشياء بل مناط علمه بذاته وتغيّر ذاته من معلولاته هو علمه بذاته وحضور ذاته / 183 MB / عند ذاته فلا يلزم من انكشاف الأشياء بماهياتها وجزئياتها عنده - تعالى ، بالوجه الّذي قررناه - تغيّر وتبدّل في علمه - سبحانه - وإن لزم التغيّر في المعلولات.

نعم! ، لو كان علمه - تعالى - هو نفس وجودات الأشياء المعلومة المتغيّرة - كما اختاره هذا العلاّمة - لزم التغيّر في علمه ، بل لزم أن يكون علم الواجب ممكنا لا واجبا ؛ ولزم أيضا أن يكون علمه - تعالى - زائدا على ذاته ، وقد عرفت انّ ذلك باطل ، فانّ الصفات الكمالية له - تعالى - يجب أن يكون عين ذاته.

ص: 326

ثمّ ما ذكره من أنّه إذا كانت معلومة بالعلم المتقدّم على الايجاد تكون معلومة بالعرض : غرضه إنّ الأشياء إذا كانت معلومة بالعلم الصوري المتقدّم - كما هو مذهب الفلاسفة - يلزم كون الحوادث المتغيّرة الموجودة في الخارج معلومة بالعرض ، لكون المعلوم بالذات حينئذ هو صورها الكلّية. وغير خفيّ بأنّه على ما ذكره هذا العلاّمة من أنّ مناط الانكشاف بالذات هو وجودات الأشياء ويكون الأشياء معلومة بالذات حين الوجود لا قبله يلزم أن يكون الأشياء معلومة بالعرض أيضا بالعلم المتقدّم على الايجاد وإن كان هذا العلم المتقدّم حضوريا ، لأنّه يكون علما إجماليا - كما صرّح به - ، وأمّا على ما اخترناه من انّ مناط علمه - تعالى - ليس وجودات الأشياء - بل هي لغو في مناطية الانكشاف - وانّما مناطه هو ذاته وعلمه بذاته ، فتكون الأشياء معلومة بالذات بالعلم المتقدّم الحضوري التفصيلي ، ويكون علما فعليا مقدّما ، وليس فيه تغيّر وتبدّل ولا يكون له علم انفعالي أصلا.

ثمّ قال العلاّمة : وأيضا ذلك - أي : عزوب شيء عن علمه - ينافي قولهم من أنّ انكشاف العلّة عند ذاتها مستلزم لانكشاف معلولها عندها ، فقول هذه الجماعة المؤوّلين - من انّه انّما يتّجه تكفيرهم في ذلك لو قالوا بأنّ بعض الأمور ليس معلوما له تعالى عن ذلك ... إلى آخره - إن كان في العلم المقدّم على الايجادات العينية لورد عليهم انّ كلام المتأخّرين في التكفير ليس إلاّ في العلم الّذي هو مع الايجادات ، فكون المشخّص بذاته - أعني : المخصّص الّذي ينضمّ إلى الماهية ليتشخّص وهو المسمّى « بالتشخص » - متحقّقا في الاشخاص المادّية لا يوجب خروجه عن متعلّقات هذا العلم الّذي هو عبارة عن الحضور ، بل الحاضر بذاته ؛ لما عرفت من أنّ العلم التفصيلي للواجب ليس عبارة عن نفس الحضور بل عبارة عن الحضار بذاته والحضور لازم له ، لما تقدّم من أنّ العلم التفصيلي للواجب هو الموجودات الخارجية. وإذا لم يلزم خروج هذا الشخص عن متعلّق هذا العلم ممّن اعتقد بخروجه يلزم خروج بعض الأمور عن علمه ، ولا ريب في أنّ ما صرّح الفلاسفة في علمه - تعالى - بالجزئيات من امتناع تعلّق علمه بما لا ماهية له كلّية يوجب خروج هذا المشخّص عن علمه ؛ فالقول بأنّ الفلاسفة قائلون بعدم خروج شيء

ص: 327

عن علمه التفصيلي الّذي مع الايجادات خلاف مذهبهم. نعم! ، ذلك المشخّص على تقدير تحقّقه لا يمكن أن يكون ايجاده مسبوقا بالعلم المغاير لذات العلّة على اعتقادهم. والحاصل : انّه انّما لا يخرج الجزئيات المادّية بحضورها الجزئي مع المشخّص المتشخّص بذاته عن علمه - تعالى - لو اثبت العلم الّذي هو مع ايجادات الجزئيات بأن يكون نفس وجوداتها علما ، والقائلون بالعلم الحصولي لا يثبتون هذا العلم ؛ نعم! ، يقولون بالعلم المقدّم على الايجاد وهو العلم الحصولي في الكلّي المتقدّم على ايجاد الموجودات - كلّية كانت أو جزئية - ، ويقولون : انّ ذلك المشخّص على تقدير تحقّقه لا يمكن أن يكون ايجاده مسبوقا بالعلم المغاير لذات العلّة على اعتقادهم - أعني : العلم الصوري الكلّي الّذي هو زائد على ذاته تعالى - ، لأنّ هذا العلم لكلّيته لا يتناول هذا / 185 DB / المشخّص الجزئي. وحينئذ يكون الضمير في اعتقادهم راجعا إلى القائلين بالعلم الحصولي ، ويكون المراد من العلم المغاير هو العلم الصوري الكلّي.

وقيل : يمكن أن يكون هذا الضمير راجعا إلى غيرهم ممّن اثبت العلم التفصيلي ، ويكون المراد من العلم المغاير هو العلم الصوري لا العلم التفصيلي. وحاصل كلامه حينئذ : انّه إن كان المراد انّ المتغيّرات لا يشذّ عن علمه - تعالى - بهذا العلم الجزئي المتغير الحاصل مع المعلوم المؤخّر بذاته - أعني : العلم الثاني التفصيلي - ، لا الأوّل الاجمالي ، لأنّه هو العلم الّذي لا يوجب خروج الجزئي المتغير عن كونه متعلقا به ، فالفلاسفة لا يثبتونه ولا يقولون به - للزوم التغيّر في ذاته -. نعم! ، غيرهم يثبتونه ويقولون : انّ ذلك المشخّص على تقدير وجوده لا يمكن أن يكون مسبوقا بالعلم الّذي هو غير العالم الّذي هو ذات الواجب - أعني : العلم الصوري الكلّي ، أو العلم التفصيلي - ، لأنّه عين الموجودات الخارجية ، فلو تقدّم عليها لزم تقدّم الشيء على نفسه. وعلى التقديرين لا يفيد ذلك للقائلين بأنّ مدار العلم بالشيء - الّذي هو غير العالم - ارتسام صورته ، لأنّه على القول بالعلم التفصيلي لا ارتسام ، فلا علم على القول بلزوم الارتسام ، فيلزم عليهم نفي علمه - تعالى - بالجزئيات المتغيّرة من حيث أنهّا متغيرة.

وأنت خبير بأنّ كلام هذا العلاّمة هاهنا لا يخلوا عن اختلال في تأدية المرام ، لافتقاره

ص: 328

في الدلالة على مطلوبه على الحملين إلى تقديرات ، وإن كان الحمل الثاني أبعد بكثير!.

ثمّ أكثر كلماته هاهنا أيضا مبنية على ما ذهب إليه من قوله بالعلم التفصيلي المتغاير لذاته - تعالى - وكونه عين وجودات الأشياء المتغيّرة ، وقد عرفت انّ علمه بذاته وبجميع ما يغاير ذاته ليس إلاّ عين ذاته ، وليس له تجدّد / 184 MA / وتغيّر. فما ذكره من أنّ كلام المتأخّرين في التكفير ليس إلاّ في العلم الّذي مع الايجاد - وهو الحضورات الزمانية الّتي لم يتحقّق قبل الايجاد - يرد عليه : انّ الحضورات الزمانية إذا لم يتحقّق قبل الايجاد ، وقد تحقّق بعده. فنقول : لا ريب في أنّ الحضور له والانكشاف عنده حالة وجودية وحقيقية ، فقد تجدّد بالنسبة إليه - تعالى - أمر وجودي فكان قد بقى له حالة منتظرة ، وهو محال ؛ وقد عرفت انّ التغيّر والتجدّد في الاضافات بالنسبة إليه - تعالى - ليس بجائز. والحاصل : انّ المتجدّد له - تعالى - لو كان علما فقد تجدّد له - تعالى - علم ، وهو محال ؛ وإن لم يكن علما لم يلزم من نفيه نفي علمه - تعالى - أصلا ، فلا يصحّ التكفير.

ثمّ قال العلاّمة المذكور بعد كلامه المذكور : وإذا تقدّم هذا ظهر حال قولهم - أي : قول المؤوّلين - ، فنسبوا إليهم انّهم ينفون علمه - تعالى - بالأشخاص المادّية ، فانّهم إن ارادوا بذلك العلم العلم المقدّم على الايجاد فلم ينسبوا إليهم نفيه ، وإن اريد به العلم الّذي هو الحضور المتجدّد الزماني صحّ القول بأنّهم نسبوا إليهم نفيه ، وبذلك يتعلّق كفرهم. وأيضا ظهر حال قولهم : « فهم يثبتون علمه - تعالى - بجميع الأمور الممكنة الموجودة - ... إلى آخره - » ، فانّه إن اريد به العلم الّذي هو الحضور الزماني - الّذي هو باعتبار الوجود العيني - فلم يخف على أحد عند التأمّل في كلامهم انّهم لم يثبتوا ، وبذلك تعلّق كفرهم ؛ انتهى.

ولا ريب في أنّ الحصوليين ينفون علمه - تعالى - بالأشخاص المادّية الجزئية من حيث هي جزئيات ، لما عرفت من أنّ العلم الحصولي الصوري ليس إلاّ كلّيا. والثابت بالبرهان والمقرّر عند أهل الملل والأديان انّ الأشياء بأسرها - كلّية كانت أو جزئية ، مجرّدة كانت أو مادية - منكشفة عنده بجميع خصوصياتها الثابتة لها من الكلّية و

ص: 329

الجزئية وغير ذلك من صفاتها وأحوالها انكشافا دائميا مقدّسا عن شوائب التغيّر والتجدّد. وبذلك يظهر فساد ما ذهب إليه الحكماء الحصوليين من القول بالعلم الارتسامي الكلّي ؛ وكذا يظهر فساد ما ذكره هذا العلاّمة بقوله : « وان اريد به العلم الّذي هو الحضور المتجدد الزماني » ، وبقوله : « فانّه إن اريد به العلم الّذي هو الحضور الزماني الّذي هو باعتبار الوجود العينى - ... إلى آخره - » ، فانّ الحضور المتجدّد والحضور الزماني ليس علما للواجب - تعالى - ، بل الحضور المتجدّد الزماني إنّما هو المعلوم حقيقة وليس للواجب علمان / 186 DA / أحدهما زماني متغير والآخر غير زماني غير متغير ، بل علمه علم واحد مقدّس عن الزمان وعن التجدّد والحدثان ويكون ثابتا مستمرّا أزلا وأبدا فنفي علمه - تعالى - بمعنى الحضور الزماني المتجدد لا يتعلّق به كفر ، بل الاعتقاد به إنّما كاد أن يكون كفرا!.

ثمّ قال بعد هذا الكلام المنقول : وأيضا ظهر حال قولهم - أي : قول المؤوّلين - : فكلّ ما ندركه نحن بطريق الإحساس كالتخيل فهو مدرك له - تعالى - بطريق التعقّل ، فانّه إن اريد بالتعقّل ما هو اصطلاح الفلاسفة - على ما يعلم من كلام بهمنيار حيث قال : « المعلوم المجرّد عمّا سواه أو ما يقارنه مقارنة مؤثّرة يسمّى معقولا والمعلوم بما هو مخالط لغيره يسمّى محسوسا - ورد عليه : انّ الكلام ليس فيه ، لأنّ الكلام في علمه - سبحانه - بالماديات الجزئية من حيث هي ماديات متجزئة ؛

وإن اريد به ادراك المحسوس والتخيل بالحاسّة المدركة بل بحضور ذاته وصورته الحسّية والخيالية - كما هو حاضر عند النفوس الناطقة - ورد عليه : انّ هذا هو الّذي نفاه الفلاسفة - لكونه مستلزما للتغير - ، ويتعلّق بذلك النفي كفرهم ؛ انتهى.

وتوضيح كلام بهمنيار : إنّ ما يسمّى « معقولا » على قسمين :

أحدهما : المعلوم المجرّد عمّا سواه ، أي : المعلوم الّذي جرّد عن غيره ، يعنى يكون مجرّدا عمّا يلحقه من العوارض المادّية ؛ وبالجملة يكون مجردا بحتا - مثل العقول المفارقة - ؛

ص: 330

وثانيهما : المعلوم الّذي يقارنه ما سواه لكن مقارنة غير مؤثرة - أي : غير موجبة للمادية - ، وأمّا كالنفس الناطقة فانّها وإن كانت مقارنة لما سواها إلاّ انّ مقارنتها ليست له مقارنة موجبة لمادّيتها ، فتكون مجرّدة ؛ وكالطبيعة الموجودة في الأشخاص ، فانّها مع مقارنتها بالأمور المادّية يمكن تجريدها عنها وجعلها معقولة ، فانّ هذه المقارنة لا تجعلها مادية صرفة بأن لا تبقى لها جهة مجرّدة ، وهي الطبيعة من حيث هي.

ثمّ ما ذكره هذا العلاّمة هاهنا قد ظهر حاله ممّا سبق.

ثمّ قال بعد هذا الكلام : وأيضا ظهر حال قولهم - أي : قول المؤوّلين - : « بل ينفون عنه التخيل والإحساس مع اثبات ادراكه - تعالى - لجميع المحسوسات والمتخيلات » ، فانّه إن اريد باثبات ادراك المحسوسات والمتخيلات ادراكها باعتبار الحضور العيني ، ورد عليهم إنّهم / 184 MB / لم يثبتوا ذلك - كما يعلم من التأمّل فيما نقل عن صاحب الشفا ، وفيما قاله في الاشارات وهو قوله : « فالواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علما زمانيا حتّى يدخل فيه الآن والماضي والمستقبل فيعرض لصفة ذاته انّ تغيّر ، بل يجب أن يكون علمه بالجزئيات على الوجه المقدّس المتعالي عن الزمان والدهر » ؛ وقوله قبل القول المذكور : « ثمّ ربما وقع ذلك الخسوف الجزئي ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بانّه وقع أو لم يقع وان كان معقولا له على النحو الأوّل ، لأنّ هذا ادراك آخر جزئي يحدث مع حدوث المدرك ويزول مع زواله » ، وهذا القول كفر صريح - تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا -. وبهذا وما نظيره - كالقول بقدم العالم - حكم الغزالي بكفر قائله ؛

وإن اريد ادراكها - أي : ادراك المحسوسات والمتخيلات - باعتبار اثبات صورتها الظلية لا باعتبار حضور ذاتيهما بحسب الوجود العينى ، ورد عليه ما ورد على اختيار الشق الأوّل - أعني : لزوم عدم علمه بالموجودات من حيث انها موجودات عينية - ، وهذا كفر. وأيضا يظهر حال قولهم : « ولا يثبتون في الأشخاص المادّية ما ليس له ماهية كلية حتّى لا يمكن ادراكه بطريق التعقّل » ، فانّ هذا الكلام - سواء كان مطابقا للواقع أو لا - لا دخل له فيما حكم الغزالى وغيره بكفر قائله - كما مرّ - ، فانّ منشأ التكفير ليس إلاّ

ص: 331

نفيهم علمه - سبحانه - بالجزئيات المتغيّرة باعتبار وجوداتها العينية ، وهو لازم من كلامهم - سواء أثبتوا في الأشخاص المادّية ما ليس له ماهية كلّية أم لا - ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ الشقّ الأوّل من كلامه هو إرادة اثبات ادراك المحسوسات والمتخيلات باعتبار الحضور العيني ، وما ورد عليهم هو انّهم لم يثبتوا ذلك ، فيلزم عليهم عدم علمه بالموجودات العينية من حيث انّها موجودات عينية ؛ وهذا هو اللازم عليهم أيضا في الشق الثاني ، فالفساد / 186 DB / الوارد على الشقّين واحد.

ثمّ ما نسب إلى الشيخ وأمثاله من الفلاسفة من نفيهم ادراكه - تعالى - للمحسوسات والمتخيلات باعتبار الوجود العيني واستشهد بذلك على ما ذكره الشيخ في الاشارات فقد ردّ عليه بعض الأفاضل وانكر دلالة عبارات الاشارات على ذلك ؛ فلا بدّ لنا من نقل تمام عبارته مع توضيح ما يحتاج إلى الايضاح ، ثمّ نقل ما ذكره بعض الأفاضل ، ثمّ الاشارة إلى ما هو الحقّ.

فنقول : قال الشيخ : « اشارة الأشياء الجزئية قد تعقل كما تعقل الكلّيات من حيث تجب بأسبابها منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه بتخصيص به ، كالكسوف الجزئي فانّه قد يعقل وقوعه بسبب توافي أسبابه الجزئية واحاطة العقل بها وتعقّلها كما تعقل الكلّيات. وذلك غير الادراك الجزئى الزماني الّذي يحكم انّه وقع الآن أو قبله أو يقع بعده ، بل مثل أن تعقل أنّ كسوفا جزئيا يعرض عند حصول القمر وهو جزئي ما وقت كذا ، وهو جزئي ما في مقابلة كذا. ثمّ ربما وقع ذلك الكسوف ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بأنّه وقع أو لم يقع وإن كان معقولا له على النحو الأوّل ، لان هذا ادراك آخر جزئي يحدث مع حدوث المدرك ويزول مع زواله ، وذلك الأوّل يكون ثابتا لدهر كلّه وإن كان علما بجزئي » (1) ؛ انتهى.

ثمّ قال بعد فصل آخر : « تذنيب. فالواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علما زمانيا - ... إلى آخر ما نقله العلاّمة الخفري رحمه اللّه -.

وإذا عرفت تمام كلامه فنقول في إيضاح بعض الفاظه : انّ قوله : « الأشياء الكلّية

ص: 332


1- راجع : شرح الطوسي على الاشارات ، ج 3 ص 307.

قد تعقل كما تعقل الكلّيات » إشارة إلى انّها قد تدرك من حيث طبائعها المجردة عن المخصّصات والمشخّصات ، وقيد بقوله : « من حيث يجب باسبابها » ليكون الادراك لها على نحو الكلّية يقينيا غير ظنيّ ، فانّ العلم اليقيني بالأشياء ما يحصل من عللها واسبابها. وقوله : « منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه » معناه : انّ تلك الأشياء منسوبة إلى مبدأ طبيعة النوعية منحصرة في ذلك الشخص ؛ والمراد : انّ تلك الأشياء الجزئية انّما يجب بأسبابها من حيث انّ تلك الأسباب طبائع أيضا ، فكما انّ الأشياء الجزئية تعقل من حيث انّها طبائع كذلك أسبابها أيضا تعقل من حيث انّها طبائع منحصرة في ذلك الشخص. وقوله : « يتخصّص به » معناه يتخصّص تلك الأشياء الجزئية بذلك المبدأ الّذي نوعه منحصر في شخصه. وإنّما قال : « منسوبة إلى مبدأ كذلك » ولم يقل : « معلولة له » ، لأنّ الجزئى من حيث هو جزئي لا يكون معلولا لطبيعة غير جزئية ولا الطبيعة علّة له من حيث هو كذلك. كذا ذكره العلاّمة الطوسي في شرحه (1)

وقال صاحب المحاكمات : « لو كان الكلام في الجزئيات من حيث انّها طبائع فمن الجائز استنادها إلى الطبائع ، فمعلوم من ذلك انّ الكلام في الجزئيات من حيث هي جزئية. والوجه في ذلك انّه اشارة إلى أنّ العلم بالأسباب الجزئية المعينة غير لازم من العلم بالمسببات الجزئية ، بل العلم بالأسباب المطلقة كاف فيه كما انّ العلم بالكسوف الجزئي يتوقّف على العلم بكون القمر في عقدة معينة في وقت معيّن ، وكون القمر في تلك / 185 MA / العقدة في ذلك الوقت أمر كلّي وإن انحصر نوعه في شخصه » (2) ؛ انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم! ، انّ مراد العلاّمة الخفري - رحمه اللّه - انّ غرض الشيخ من هذه الكلمات بيان انّ علم الواجب - سبحانه - بالجزئيات إنّما هو بنحو كلّي مقدّس عن التغيّر ويلزمه خروج المشخّصات والوجودات العينية عن علمه - سبحانه -. وبعض من اعتقد انّ مذهب الشيخ في علم الواجب هو العلم الحضوري دون الحصولي حمل

ص: 333


1- راجع : نفس التعليقة السالفة.
2- راجع : المحاكمات - المطبوع في ذيل شرح الطوسي على الاشارات - ، ج 3 ص 311.

عبارته المفتتحة بالاشارة على بيان ما يكون لغير الواجب - أعني : العقول والنفوس من قسمي العلم - ، وعبارته المفتتحة بالتذنيب على بيان انّ علم الواجب علم غير زماني مقدّس عن التغير لكونه حاصلا من العلل والأسباب لا لكونه حصوليا كلّيا ، فقال في شرح العبارة الاولى : الغرض من هذه الاشارة بيان انّ العلم الجزئي المتغير بالقياس إلينا لا بالقياس إلى الواجب يتصوّر على قسمين :

أحدهما : العلم بالجزئي المتغير بوجه لا يكون متغيرا ، وذلك إذا عقل الجزئي بالوجه الكلّي لا بالوجه الجزئي ، مثل أن يعقل المنجّم اسباب الحوادث المعينة فيحكم انّ تلك الحوادث تقع في أزمنة معينة وانّما يعقل المنجّم نكتا باسباب / 187 DA / والحوادث بوجه كلّي منحصر في فرد ، لأنّه يجوز أن يكون بدل كلّ من تلك الأسباب والحوادث شخص آخر مثله ، فلا يعقل إلاّ بوجه كلّي منحصر في الفرد. وذلك العلم يكون ثابتا أبد الدهر كلّه ، ولا يتغيّر أصلا ؛

وثانيهما : العلم بالجزئي بالوجه الجزئي ، وهذا لا يحصل إلاّ بالمشاهدة ، ولهذا بعد ما حكم المنجّم بأنّ الحادث الكذائي يكون في الوقت الكذائي يحصل له علم آخر انفعالي حادث جزئي يتغيّر بتغير المعلوم.

ويؤيّد ما ذكرناه - من : أنّ مراد الشيخ بيان قسمي العلم بالنسبة إلى غير الواجب - ما ذكره بقوله : « واحاطة العقل بها » ، وقوله : « ونعقلها كما نعقل الكلّيات ». ووجه التأييد انّ هاتين العبارتين ظاهرهما هو بيان حال العقل والنفس في ادراك الجزئيات المتغيّرة وبيان انّ الواجب لا يعلم الجزئيات المتغيّرة إلاّ بالوجه الكلّي دون الجزئي ، وفائدة بيان حال العقل والنفس هنا في العلم بالجزئيات المتغيّرة هي أن تشير إلى انّه كما انّ العقل له علم غير متغير بالقياس إلى الجزئيات الغير المتغيّرة كذلك للواجب علم بالجزئيات المتغيّرة من حيث أنّها جزئيات كعلم العقل بها من حيث عدم التغيّر ، لا مطلقا - أي : لا من حيث الكلّية أيضا - ، فانّ العقل لا يعلم الجزئيات المتغيّرة بوجه جزئي إلاّ بالآلات الجسمانية ، بخلاف الواجب - تعالى - فانه يعلم الجزئيات المتغيّرة من حيث انها جزئيات متغيرة ، لا بالآلات الجسمانية ، بل من جهة الاحاطة بجميع العلل و

ص: 334

الأسباب - على ما عرفت سابقا -. فقول الشيخ : « ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بأنّه وقع أو لم يقع » ليس معناه : انّ الواجب ليس له احاطة بأنّه وقع أو لم يقع حتّى يلزم الكفر العقلي والشرعي معا ، بل المراد من « العاقل الأوّل » هو العاقل الّذي يعلم الجزئيات المتغيّرة بوجه كلّي لا بوجه جزئي ، وذلك العاقل هو « العقل » أو « النفس ». فالعاقل الأوّل في عبارة الشيخ عبارة عن العقل أو النفس المدركين للجزئيات المتغيّرة بوجه كلّي لا بوجه جزئي ، لا انّه عبارة عن الواجب - تعالى - أو عن الأعمّ عنه - تعالى - وعن العقل والنفس حتّى يتّجه التكفير.

ثمّ قال في شرح العبارة الثانية المفتتحة بالتذنيب : مقصود الشيخ انّ الواجب - تعالى - لمّا كان محيطا بجميع العلل والأسباب المسلسلة المنتهية إلى الجزئيات المتغيّرة بشخصيتها يكون كلّ واحد من الجزئيات المتغيّرة معلوما له - تعالى - بالوجه الجزئي ، لكن على الوجه المقدّس العالي عن الزمان والدهر ، لأنّ العلم الّذي يكون زمانيا يكون علما انفعاليا وعلم الواجب - سبحانه - لا يكون إلاّ فعليا ، فالزمان فيه معلول له - تعالى - ومعلوم له - تعالى - ، فعلم الواجب منزّه عن أن يكون زمانيا. فليس في علمه كان وكائن ويكون ، بل علمه بالأشياء بعد تكوّنها كعلمه بها قبل تكوّنها ؛ ولا يدخل كان وكائن ويكون إلاّ في علوم الممكنات.

وبالجملة ادراك الجزئيات المتغيّرة بالوجه الجزئي يتصوّر من وجهين :

أحدهما : من طرق الحواسّ - كما هو بالنظر إلينا - ؛

وثانيهما : من جهة الاحاطة بجميع الأسباب والعلل المتسلسلة المنتهية إلى تلك الجزئيات. والواجب - تعالى - محيط بالكلّ لان الكلّ معلول له ، فيعلم الجزئيات المتغيّرة على الوجه الجزئي من جهة الاحاطة بجميع الأسباب. وهذا القسم من العلوم يكون أتمّ العلوم وأكملها ، ويكون متعاليا عن الزمان والدهر.

وليس مقصوده انّه - تعالى - يعلم الجزئيات المتغيّرة بالوجه الكلّي الّذي لا يتغيّر ولا يعلمها بالوجه الجزئي المتغير ، والاّ يلزم التغيّر في علمه - على (1) ما يتوهّم من ظاهر

ص: 335


1- الاصل : - على.

كلامه - ؛ انتهى.

وقد عرفت انّ حمل كلام الشيخ على ذلك في غاية التعسّف! ، وخلاف ما ثبت وتقرّر من قوله بالعلم الحصولي الكلّي ، وعباراته في جميع كتبه صريحة في قوله بالعلم الحصولي الكلّي ولا يوجد في كلامه ما يمكن حمله على العلم الحضوري بنحو ما ذكره هذا الفاضل.

ولا ريب في أنّ مراد الشيخ من العبارة الاولى بيان انّ العلم المطلق بالجزئيات - أعم من علم الواجب أو غيره - على قسمين :

أحدهما : كلّي غير متغير ؛

وثانيهما : جزئي متغير ، ولذا فرّع عليه في العبارة الثانية - بفاء التفريع - بأنّ علم الواجب بالجزئيات من القسم الأوّل - أي : الكلّي الغير المتغير -. ولو كان مراده من العبارة الاولى بيان / 185 MB / علم غير الواجب لم يكن لتفريع العبارة الثانية عليها معنى ، فالشيخ لمّا حكم في العبارة الاولى بأنّ العاقل للجزئي على النحو الكلّي ربما وقع الجزئي / 187 DB / ولم تكن عنده احاطة بانّه وقع أو لم يقع وحكم في العبارة الثانية بأنّ علم الواجب بالجزئيات يجب أن لا يكون على الوجه الجزئي المتغيّر بل يجب أن يكون على الوجه المقدّس العالى عن الزمان والدهر - يعنى يكون على الوجه الكلّي الغير المتغيّر - فيحصل من مجموع هذين الحكمين : انّه يجوز أن يقع جزئي ولم يكن عند العاقل الأوّل - أعني : الواجب - احاطة بأنّه وقع أو لم يقع.

ثمّ إنّ بعضا آخر من الأفاضل قال : انّه لا ريب في أنّ غرض الشيخ بيان كلّية علم الواجب بالجزئيات ، وليس غرضه من مجموع هاتين العبارتين إلاّ تقسيم مطلق العلم إلى قسمين : كلّي غير متغيّر ، وجزئي متغير ، وجعل علم الواجب بالجزئيات من الأوّل. إلاّ أنّ كون علمه بها كلّيا متعاليا عن الزمان لا يوجب عدم علمه بالمشخّصات الجزئية والوجودات العينية ، نظرا إلى أنّ مناط الكلّية والجزئية بنحو الادراك لا التفاوت في المدرك.

وحينئذ نقول : قوله : « ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بأنّه وقع أو لم يقع ، أي :

ص: 336

في الآن » ليس المراد به نفي علمه بهذا الوقوع الخاصّ حتّى يلزم عزوب الجزئي عن علمه ويتوجّه الكفر ، لأنّ « الآن » ظرف للحكم لا للمحكوم عليه ، لأنّ غرض الشيخ ليس إلاّ نفي التغيّر عنه - تعالى - وعن علمه - سبحانه - ، وما يستلزم التغيّر في الحكم إنّما هو الأوّل - لأنّ حكمه بالوقوع أو عدمه في الآن بأن يكون الآن ظرفا للحكم يوجب كونه زمانيا - ؛ دون الثاني ، فانّ كون الآن ظرفا للمحكوم عليه وكونه - تعالى - عالما بأنّ هذا الآن ظرف لهذا المحكوم عليه لا يوجب تغيرا فيه - سبحانه -. فقول الخفري - رحمه اللّه - : « وهذا القول كفر صريح » ليس على ما ينبغى ، لأنّه إنّما يلزم أن يكون كفرا لو كان نفي الوقوع في الآن على أن يكون الآن ظرفا للمحكوم به ، وليس كذلك : لانهم إنّما قالوا بذلك النفي حذرا عن لزوم التغير ، وظاهر انّه لا يلزم التغير على هذا التقدير - أعني : تقدير كون الآن ظرف للمحكوم عليه - ، بل إنّما يلزم التغير على تقدير تعلّق الظرف بالحكم ، فهو المنفي.

إذا عرفت ذلك فاعلم! : انّه لا ريب في أنّ التأمّل في هاتين العبارتين يفيد أنّ مراد الشيخ منهما ليس إلاّ بيان أنّ علم الواجب الأوّل - سبحانه - بالجزئيات كلّي غير متغير مقدّس عن الزمان والدهر ، وأمّا كون هذا العلم الكلّي بحيث لا يخرج عنه شيء من المشخّصات والمخصّصات الجزئية والوجودات العينية أو لا يخرج عنه شيء منهما فلا يعلم منهما صريحا - كما في أكثر عبارات القائلين بالحصول -. نعم! ، الظاهر من قوله : « ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بأنّه وقع أو لم يقع » : انّه - سبحانه - لا يكون عالما بأنّ هذا الشيء الخاصّ وقع في الآن أو في الوقت الفلاني أو لم يقع ، كما فهمه العلاّمة الخفري - رحمه اللّه - وكفّر قائله للزوم خروج بعض الأشياء حينئذ - وهو كون الحادث الفلاني موجودا في الوقت الفلاني - من علمه - تعالى -. وما نقلنا من القول بكون الآن أو الوقت ظرفا للحكم دون المحكوم عليه خلاف الظاهر من العبارة ، لأنّه على تقدير تعلّق الظرف بالمحكوم عليه دون الحكم يكون المراد إنّ حكم الواجب بالوقوع أو اللاوقوع ليس زمانيا متعلّقا بهذا الآن أو الوقت الخاصّ وإن كان المحكوم عليه زمانيا متعلّقا بذلك وكان الواجب عالما بذلك ؛ ولا ريب في أنّ الظاهر من قوله : « ولم يكن عند العاقل الأوّل

ص: 337

احاطة - ... إلى آخره - » : إنّ الأوّل - تعالى - ليس عالما بوقوعه في الآن أو الوقت الفلاني وتعلّقه بهما.

وإذا احطت بما ذكرناه هنا وبما قرّرناه فيما سبق لا اظنّك شاكّا في أنّ مذهب الحصوليين إنّ علم الواجب بالجزئيات كلّي ، وكون ذلك كفرا مبني على أنّه هل يخرج عنه بعض الأمور أم لا. وقد عرفت انّه قد وقع الخلاف في ذلك بين المتأخّرين ، فجلّهم وجّهوا كلام الحصوليين وقالوا : إنّ مناط الكلّية والجزئية عندهم بنحو من الادراك لا التفاوت في المدرك ؛ وبعضهم قالوا : إنّ ذلك باطل - لظهور التفاوت بين المدرك بالادراك الكلّي والمدرك بالادراك الجزئي - ، ولم يأت شيء من الفريقين بما يظهر منه حقيقة الحال. فالمهمّ هنا بيان ذلك - أي : بيان انّ مناط الكلّية والجزئية هل بمجرّد نحو من الادراك دون التفاوت في المدرك حتّى لا يخرج شيء من الجزئيات المعلومة بالعلم الكلّي أو بالتفاوت في المدرك حتّى يخرج شيء منها -.

فنقول لتحقيق ذلك : لا ريب في أنّ الجزئي هو الكلّي بانضمام التشخّص ؛ فكلّ جزئي إن علم بانّه الجزئي يكون معلوما بطبيعته وشخصه ، وإن علم بالنحو الكلّي يكون معلوما بطبيعته دون شخصه ، فلا بدّ لنا من بيان انّ التشخّص هل هو أمر محقّق في الواقع خروجه / 188 DA / مستلزم لخروج أمر عن علمه ، أم لا. فلا بدّ لنا أوّلا أن نذكر انّ التشخّص ما ذا؟ ، ثمّ نشير إلى أنّ خروجه عن العلم هل هو خروج أمر محقّق عن علمه ويلزم منه الكفر ، أم لا؟.

فنقول : قد ذهب جماعة إلى أنّ التشخّص أمر موجود في الخارج زائد على الماهية ينضمّ إليها وتصير الماهية به جزئية حقيقية وشخصية ، ونسبته إلى الماهية نسبة الفصل إلى الجنس. وذلك الأمر لا ماهية له كلّية ليحتاج الى تشخّص آخر ، واشتراكه بين التشخّصات ليس إلاّ مفهوم عرضي. وذهب / 186 MA / جماعة من المحقّقين إلى أنّ التشخّص الموجود أمر اعتباري نفس أمري غير زائد في الخارج على الماهية المتشخّصة بمعنى أنّ الجاعل كما يجعل الماهية في الخارج بحيث تصير مبدئا للآثار ومصدرا للاحكام وينتزع منها العقل باعتبار تلك الحيثية مفهوم الوجود بدون أن يكون لذلك الانتزاع منشأ

ص: 338

في الخارج سوى ذلك الجعل فكذلك يجعلها في الخارج بحيث يمتنع اشتراكها بين كثيرين فيه ، وينتزع منها العقل باعتبار هذه الحيثية التشخّص بدون أن يكون لذلك الانتزاع منشئا في الخارج سوى ذلك الجعل ؛ ولهذا ذهب بعضهم إلى أنّ الوجود والتشخّص أمر واحد بالذات متغاير بالمفهوم والاعتبار ، وعلى هذا يكون التشخّص نحو الوجود المحقّق في الخارج ، وما به التشخّص لا يكون إلاّ نفس كون الماهية مرتبطة بجاعلها الحقّ المشخّص بذاته ارتباطا خاصّا بها ، كما أنّ ما به الوجود ليس إلاّ كونها مرتبطة بجاعلها الموجود بنفس ذاته كذلك. وامّا العوارض المكتنفة بالشّخص فليس إلاّ أمارات للتشخص. وأمّا المادّة والمادّيات فليست إلاّ معدّة للماهية لقبول الارتباطات المختلفة بالجاعل الحقّ ، فالشخص ليس إلاّ الماهية المجعولة المرتبطة بجاعلها على وجه خاصّ. فالعقل إذا اعتبر الماهية من حيث هي هي بدون هذا الارتباط الخاصّ يجوّز اشتراكها بين كثيرين بأن يكون لها في الخارج انحاء ارتباطات بالجاعل ، فهي من هذه الحيثية تكون كلّية مشتركة بين كثيرين واعتبرت في الخارج مرتبطة بالجاعل بارتباط خاصّ لا يجوز ذلك الاشتراك ، فهي من هذه الحيثية تكون جزئيا حقيقيا وشخصيا ، فمناط الجزئية والكلّية هو ذلك الارتباط الخاصّ وعدمه ، فكل ماهية واقعة في الخارج ومرتبطة بالجاعل بما هي واقعة فيه ليست إلاّ جزئيا حقيقيا ممتنعا فرض اشتراكه بين كثيرين - سواء ادركت أو لا - ، ولا يكون كلّيا إلاّ إذا ادركت واعتبرت من حيث هي هي.

وإذا علمت ذلك فاعلم! : انّ جماعة من المحقّقين - كالمحقّق الدواني وصدر المحقّقين وأمثالهما - زعموا أنّ تشنيع المتأخّرين على الحكماء في نفيهم علمه - تعالى - بالجزئيات على الوجه الجزئي واثبات علمه - تعالى - بها على الوجه الكلّي مبني على زعم الجماعة الاولى القائلين بزيادة التشخّص على الماهية في الخارج ، لأنّه لا شبهة في أنّ علمه إذا كان على النحو الكلّي دون الجزئي لا يخرج عنه التشخّص والتشخّص إذا كان أمرا زائدا على الماهية في الخارج فيصدق أنّ بعض الأمور الحقيقية الخارجية خارج عن علمه. قال المحقّق الدواني في مبحث التشخّص في حواشيه القديمة بعد تقرير مذهب القائلين بزيادة التشخّص : ثمّ إن ذلك الأمر - أعني : الأمر الّذي يسمّونه تشخّصا - في المادّيات يكون

ص: 339

مادّيا لا محالة ، فيلزم أن لا يحصل العلم بها للمبادي العالية ، وهذا هو منشأ التشنيع على الحكماء بانّهم ينفون علم الواجب بالجزئيات وانّهم لا يعتقدون احاطة علمه - تعالى - بجميع المعلومات - تعالى عن ذلك -. ثمّ بيّن انّه ليس في الممكنات تشخّص لا يكون حقيقة نوعه امّا منحصرة في فرد أو منتشرة في افراد ولا يوجد ما يسمّى تشخّصا يكون بنفس حقيقته جزئيا. ثمّ قال : ثمّ ان تلك الحقائق إذا ادركت بالحواسّ كان صورها الادراكية جزئية وإذا ادركت بالعقل كان صورها كلّية ، فالاختلاف في الكلّية والجزئية لاختلاف نحو الادراك لا لاختلاف المدرك. وادراك الواجب يتعلّق بجميعها على وجه التعقّل ، فاذن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. فحاصل كلام / 188 DB / الحكماء نفي التخيل والإحساس عنه - تعالى - واثبات ادراك جميع الموجودات له على نحو التعقّل الصرف المقدّس عن الشوائب والقصور ؛ انتهى.

وقال صدر المحقّقين في هذا المبحث : ليس التشخّص الجوهري مثلا إلاّ الماهية النوعية المقترنة بالكمّ والكيف والوضع وغيرها من المقولات التسعة العرضية ، ولا يدخل فيه أمر زائد على الماهية النوعية. ولذلك إذا سئل عنه « بما هو؟ » يقع النوع في الجواب ، فانّ ادراك الشخص المذكور بالحسّ كان تصوّره مانعا عن فرض الشركة وإن ادرك لا بالحسّ كان تصوّره غير مانع من فرضها ، وإن كان المدرك واحدا في الصورتين. مثلا إذا علّمت لمخاطبك ما علمته بالحسّ وقلت مثلا قطرة الماء المتقدّرة بالمقدار الكذائي في الأين الفلاني - إلى غير ذلك - حتّى يدرك المخاطب قطرة ماء متصفة بجميع الصفات الّتي ادركت القطرة متصفة بها في الحسّ فتصوّرك للقطرة المذكورة يمنع الشركة وتصوّر مخاطبك لا يمنع عنه ، مع أنّ المتصوّر واحد. فظهر أنّ منشأ المنع المذكور هو الادراك الحسّى الّذي يخصّصه بحيث يصير جزئيا ، كيف / 186 MB / لا وتصوّر الشبح البعيد إذا كان بالحسّ كان مانعا عن فرض الشركة فيه وإن كان أكثر صفاته - بل مهيته أيضا - مجهولة له حينئذ.

وإذا عرفت أنّ تصوّر معنى واحد قد يكون مانعا عن فرض الشركة فيه وقد لا يكون مانعا عن فرضها بحسب نحوي الادراك فاعلم : أنّ ما ذهب إليه الحكماء من أنّ

ص: 340

علمه - تعالى - بالجزئي على الوجه الكلّي اشارة إلى أنّ علمه - تعالى - بالجزئي على النحو الثاني ؛ ولا يلزم من ذلك أن يخرج عن علمه الشامل مفهوم الجزئي - كما توهّم بعض الناس وشنع على الحكماء بذلك - ، بل جميع المفهومات - جزئيا كان أو كلّيا - معلوم له - تعالى - بجميع الوجوه. غاية الأمر إنّ علمه بالجزئي لا يمنع عن فرض الشركة كما لا يمنع المخاطب في المثال المضروب عنه ؛ ولا محذور في ذلك ؛ انتهى.

أقول : حاصل كلام هذين المحقّقين أنّ ما يدرك بالعقل يكون كلّيا وما يدرك بالحسّ يكون جزئيا وان كان المدرك في الصورتين واحدا ، فمناط الكلّية والجزئية هو الادراك بالعقل أو الحسّ ولا يعزب عن الادراك العقلي ما يكون مدركا في الادراك الحسّى ، بل المدرك واحد وان كان أحد الادراكين غير مانع عن فرض الاشتراك والآخر مانعا عنه.

غير خفي بأنّ هذا الكلام ممّا لا يروي القليل ولا يشفي العليل!.

ويرد عليه : انّه لا يشكّ عاقل في أنّ أحد الادراكين إذا لم يكن مانعا عن فرض الشركة والآخر كان مانعا عنه يلزم البتّة أن يتحقّق في الادراك الثاني ما لا يتحقّق في الادراك الأوّل حتّى يكون ذلك مصحّحا ومنشئا لمانعية الاشتراك. ومجرّد اختلاف المدرك بكونه عقلا في الأوّل ونفسا في الثاني لا يصحّح ذلك ، لا بأن ينكر كون ادراك العقل كلّيا وادراك الحسّ جزئيا. ولكن نقول : مناط الفرق بين الكلّية والجزئية لا يمكن أن يكون بالتفاوت في المدرك - بالكسر - بأن يكون كلّما يدركه العقل كان كلّيا وكلما يدركه الحسّ كان جزئيا ، وإلاّ لم يكن للعقل أن يدرك الجزئيات مع انّه يدركها بالعلم الحضوري الانكشافي - كما لا يخفى - ، فلا بدّ أن يكون بالتفاوت في المدرك - بالفتح -. والحاصل : إنّ تحقّق المنع عن فرض الشركة في الادراك الجزئي وعدمه في الادراك الكلّي لا بدّ له من مقتض ؛ والمقتضي إمّا أن يكون من جانب المدرك - بالكسر - أو من جانب المدرك - بالفتح - ؛ والأوّل باطل - لما ذكر ، ولأنّ المدرك سواء كان عقلا أو غيره إذا ادرك الشيء بجميع خصوصياته ومشخّصاته وبنحو وجوده الخارجي فمع ذلك لا معنى لكونه مشتركا بين كثيرين - ، فيثبت الثاني - أعني : كون المقتضي من جانب المدرك بالفتح - ، و

ص: 341

ما هو إلاّ إدراك أمر فيه لا يدرك هذا الأمر في الادراك الكلّي ، وهو التشخّص الّذي به يصير الماهية جزئية.

إذا عرفت ذلك فتعلم أنّ الادراك الكلّي لا يتناول التشخّص ، بل التشخّص يخرج عنه ؛ فلا بدّ من التأمّل في أنّ خروج التشخّص هل هو مستلزم للتكفير أم لا؟.

فنقول : الحقّ انّ التشخّص ليس أمرا زائدا على الماهية في الخارج منضمّا إليها به تصير جزئية ، لأنّ كلّ ما يتصوّر من العوارض المنكشفة بالشخص وغيرها من الخصوصيات لها حقيقة كلّية ولا يوجد / 189 DA / شيء يكون بنفس مفهومه جزئيا ، بل الجزئية (1) انّما يتحقّق بحصول الشيء في الخارج. فالحقّ أنّ التشخّص إنّما هو نحو الوجود الخارجي للشيء - أعني : نحو الارتباط بالجاعل - ، فمناط الجزئية الّتي هي من عوارض المفهوم إنّما هو ادراك ذلك النحو من الارتباط الواقعى - أعني : الادراك المرتبط بهذا النحو الخاصّ من الارتباط - ، ومناط الكلّية - الّتي هي أيضا من عوارض المفهوم - إنّما هو بالادراك لا بهذا النحو ؛ فالاشياء الموجودة في الخارج بحسب انحاء وجوداتها الخارجية كلّها اشخاص. فان ادرك بالعلم الحصولي أو بالصورة الحاكية لنحو الارتباط الخارجي - كما في الصورة الخيالية - كانت جزئيات ، وإن ادركت بالصورة الغير الحاكية لنحو الارتباط - كأن تكون الصورة حاكية عن نفس الماهية لا عن نحو وقوعها وارتباطها بالجاعل الحقّ - كانت كليات ؛ فمناط الجزئية هو ادراك نحو الارتباط - سواء كان بالحسّ أو بغيره - ، ومناط الكلّية ادراك غير ذلك النحو من الارتباط.

وحينئذ نقول : لا ريب في أنّه على القول بالعلم الحصولي الكلّي يخرج عنه نحو الوجود الخارجي للأشياء وارتباطها الخاصّة بجاعلها - سواء كانت الأشياء ماديات أو مجردات - إذ الصورة العقلية الكلّية غير حاكية / 187 MA / عن نحو الوقوع الخارجي للأشياء وان كانت مجرّدة ؛ وحينئذ فلا وجه لتخصيص نفي علم الواجب والمبادي العالية على الوجه الجزئي بالماديات والحوادث الجزئية.

وما قيل : من أنّ النفي مختصّ بالماديات - لأنّ توهّم امتناع حكاية الصورة العقلية

ص: 342


1- الاصل : + بل الجزئية.

عن نحو الوجود الخارجي إنّما هو في المادّيات لا في المجرّدات - ؛ لا يخفى ضعفه.

وإذ ثبت انّه يخرج عن العلم الحصولي نحو الوجود الخارجي والارتباط نقول : لا ريب في أنّ من علم انّ العلم الحصولي مستلزم لذلك بأن يعلم انّ الصورة العقلية الكلّية غير حاكية عن نحو الوجود الخارجي ومع ذلك اعتقد به فيجوز تكفيره ، لأنّه اعتقد حينئذ جهله - سبحانه - بصفة واقعة ثابتة لجميع الأشياء ، لأنّ نحو الوجود الخارجي أمر محقق في نفس الأمر. وإن كان اعتباريا فليس اعتباريا محضا ، بل اعتباري نفس أمري له منشأ انتزاع في الخارج والواقع ، فخروجه عن علمه خروج أمر واقعي عن علمه. وان لم يعلم بذلك الاستلزام - بل توهّم انّ الصورة العقلية الكلّية حاكية عن نحو الوقوع الخارجي - فلا يجوز التكفير من هذه الجهة وإن صحّ التخطئة والتشنيع ، لأنّه حينئذ اعتقد ما هو الحقّ وإن أخطأ الطريق.

ثمّ نقول : لا ريب في أنّ الحكماء الحصوليين لم يتنبّهوا بالاستلزام المذكور وجزموا بأنّ الصورة العقلية حاكية عن التشخّص ومتناول له - سواء كان التشخّص نحو الوقوع الخارجي أو غيره - ، وفي عبارات الشيخ تصريحات بذلك كتصريحه بأنّه لا يعزب عنه مثقال ذرّة وتصريحه بتعقّله للموجودات كلّها - حاصلها وممكنها وأزليها وأبديها وكائنها وفاسدها وكلّيها وجزئيها - إلى اقصى الوجود ، وتصريحه بأنّه - سبحانه - يعرف الشخص وأحواله الشخصية ووقته الشخصي ومكانه الشخصي ، وأمثال تلك العبارات في كلامه كثيرة ، وحينئذ لا يصحّ التكفير وان صحّ التخطئة والتشنيع.

ثمّ على ما اخترناه فادراك نحو الوقوع الخارجي إنّما هو بالعلم الحضوري ، فانّ جميع الجزئيات يمكن أن يدرك بالنحو الجزئي بالعلم الحضوري الاشراقي والممتنع ادراكها بالوجه الجزئي إنّما هو بالعلم الحصولي الكلّي.

فما ذكره المحقّق الدوانى والسيد السند من أنّ الادراك على الوجه الجزئي إنّما هو بالاحساس ظاهر الفساد.

والمثال الّذي أورده السيد السند فالتحقيق فيه : انّ علمك به إنّما يكون جزئيا ، لادراكك نحو وقوعه في الخارج بسبب الإحساس لا لخصوصية الإحساس وعدم امكان

ص: 343

ادراك القطرة جزئية بنحو آخر غير الإحساس ، إذ لو امكنك الاطّلاع الحضوري بها بدون الإحساس لأدركتها جزئية ، ولو أمكنك تعليمك مخاطبك بذلك النحو من الوقوع لكان ادراكه أيضا جزئيا. وحينئذ يرد على ما تمسّك به - من أنّ تصوّر الشبح البعيد إذا كان بالحسّ ... إلى آخره - : انّ الادراك الّذي هو مانع عن فرض / 189 DB / الاشتراك إنّما هو العلم بنحو وقوع الشيء في الخارج ، لا بمهيته أو باكثر صفاته ، فحيث حصل لنا العلم بوجه وقوع الشبح في الخارج - سواء كان بالحسّ أو بالعلم الحضوري - كان جزئيا مانعا عن فرض الاشتراك ، وجهلنا بالماهية وصفاته لا يقدح في كونه ممتنع الاشتراك.

وممّا قرّرناه وحقّقناه من ذهاب الفلاسفة إلى العلم الحصولي ولزوم كونه كلّيا وخروج التشخص عنه ظهر بطلان توجيهين ذكرا من قبل الفلاسفة تاويلا لقولهم بكون علم الواجب بالجزئيات على الوجه الكلّي دون الجزئي ؛

أحدهما من المحقّق الطوسي ، وهو : انّ مرادهم بالقول بأنّ واجب الوجود يعلم الجزئيات بوجه كلّي لا جزئي انّه - تعالى - يعلم الجزئيات بالكلّية - أي : جميعها - بحيث لا يعزب عنه - تعالى - شيء عنها ، لا انّه - تعالى - يعلم بعضها ويعزب عنه بعض آخر - كما هو شأن الممكن -.

وقد تقدّم ما يرد على هذا التوجيه مفصّلا ونقلنا ما أورد عليه بأنّ في تاويل / 187 MB / كلام الفلاسفة - سيّما المتأخّرين إليه - بحث من وجهين ، وبينّا وجهي البحث بما لا مزيد عليه.

وثانيهما من صاحب المحاكمات وبعض آخر ، وهو : انّ مرادهم بالقول بأنّ واجب الوجود يعلم الجزئيات بوجه كلّي لا بوجه جزئي : انّه - تعالى - يعلم الجزئيات بوجه يشابه الكلّي في أن لا يتغيّر العلم بها.

ويرد عليه - مضافا على ما أورد على التوجيه الأوّل - : شدّة بعد حمل العبارة عليه ، لأنّ الانتقال من « وجه كلّي » أو « الوجه الكلّي » إلى « وجه يشابه الكلّي » من قبيل الانتقال من اللفظ إلى المعنى لا دلالة له عليه باحدى الدلالات ، وإنّما كان الانتقال ممكنا لو كان العبارة « على الوجه الكلّي » أو « على وجه كلّي » على سبيل الاضافة دون

ص: 344

التوصيف.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه انّ القول بالعلم الحصولي الكلّي باطل ، وكذا القول بالعلم الاجمالي والتفصيلي ؛ وانّ الحقّ المختار هو انّ علم الواجب - سبحانه - علم واحد حضوري تفصيلي فعلي غير زماني وغير متغير ومتجدّد ومقدم على ايجاد الأشياء يعلم به الأشياء - كلّياتها وجزئياتها - على الوجه الجزئي أزلا وأبدا على نهج واحد من غير تغيّر وتجدّد ، وانّ علمه المتعلّق بالأشياء اضافة اشراقية انكشافية وليس فيه تغيّر بالنسبة إلى ذاته ، ومناط هذا الانكشاف مجرّد ذاته الحقّة ، وليس هذا الانكشاف حادثا بحدوث الأشياء - كما زعمه الخفري - رحمه اللّه - ونسبه إلى المحقّق الطوسي - ، وانّ مصحّح انكشاف الأشياء وحضورها بأنفسها عنده قبل وجودها العيني مع توقّفه على الوجود الخارجي هو كونها لوازم ذاته ومقتضيات وجوده مع كونها ثابتة له - تعالى - في الأزل وإن لم يوجد فيه - على ما مرّ مفصلا -. وهو الّذي دلّ عليه قواطع البرهان ويشهد به شواهد القرآن ونطقت به الاخبار الواردة عن النبي وآله الكرام - عليهم الصلاة والسلام - ، كما عرفت مفصلا ؛ هذا

وامّا الفرقة الرابعة - وهم الّذين قالوا انّ الواجب تعالى لا يعلم الحوادث قبل وقوعها - ؛ فشبهتهم في ذلك : انّه لو علم الواجب الحوادث قبل وقوعها لزم أن تكون تلك الحوادث ممكنة وواجبة معا ، والتالى باطل - للتنافي بين الوجوب والامكان -.

بيان الملازمة : انّها ممكنة لكونها حادثة وواجبة لوجوب وجودها بالنظر إلى تعلّق العلم بها وعدم جواز تخلّفها عنه - سبحانه - ، فانّها لو لم تكن واجبة وأمكن أن لا توجد لانقلب علمه - تعالى - جهلا.

والظاهر - كما قيل - : انّ هذا الدليل لا اختصاص له بالحوادث ، بل لو تمّ لدلّ على أنّه - تعالى - لا يعلم الممكنات مطلقا - سواء كانت قديمة أو حادثة -. ومناط الدليل استنباط وجوب الأشياء من علمه - تعالى - لو علم ، وانّه لا يجتمع مع الامكان ، ولا دخل للحدوث في ذلك.

والجواب : بأنّ الوجوب الغيري لا ينافي الامكان الذاتي ؛ مشترك.

ص: 345

ثمّ قد أجيب عنه بوجهين :

أوّلهما : انّ العلم تابع للمعلوم ، فلا يكون علّة له ومفيدا لوجوبه.

وأورد عليه : بأنّه لا يلزم من كون العلّة تابعا وغير علّة وغير مفيد للوجوب أن لا يكون الحادث واجبا - لجواز استناد وجوبه إلى أمر آخر - ، كيف لا وقد دلّ البيان على وجوبه؟! ، ولا بدّ له من علّة. ونفي العلّة المخصوصة لا يدلّ على نفي العلّة مطلقا.

وحاصله : انّ المستدلّ جعل علمه - تعالى - واسطة بالنسبة إلى الوجوب لا واسطة للثبوت ، فنفي كون علمه علّة لا يضرّ المستدلّ ، إذ هو لا يدّعي انّ علة وجوبه علمه / 190 DA / - تعالى - ، بل جعل علمه دليلا على وجوبه بمعنى أنّ تعلّق علمه بحدوث الحادث يدلّ على وجوبه وتحقّق علمه لهذا الوجوب من دون تعيين لهذه العلّة ، ولا يلزم من كون الشيء دليلا كونه علّة ، فنفي العلّية المخصوصة لا يضرّ المستدلّ. وبهذا اشار بقوله : « ودلّ البيان على وجوبه » ؛ فلا يتوهّم انّ كلام المورد منع على المنع ، بل مطلوبه انّ منع المجيب غير مضرّ.

ثمّ البيان الدالّ على وجوبه هو : انّه لو لم يجب وجود المعلوم على الوجه الواقع في الوجود لزم جهله - تعالى - وانقلاب علمه إلى الجهل ، فيتحقّق بهذا البيان وجوب الحادث - سواء كان علّته العلم أم لا - ، فانتفاء الخاصّ لا يوجب انتفاء العامّ.

ويمكن أن يكون البيان الدالّ هو ما تقرّر وبيّن من أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فالحوادث الموجودة قد صارت واجبة البتّة.

وقد أورد على الجواب المذكور أيضا : بأنّ العلم الّذي يكون تابعا للمعلوم هو العلم الانفعالي ، لأنّ العلم الفعلي لمّا كان سببا للمعلوم فيكون المعلوم تابعا له دون العكس ؛ وأمّا العلم الانفعالي لم يكن سببا للمعلوم / 188 MA / بل مسبّبا عنه ، فيكون تابعا له. مع أنّه قد تقرّر انّ مناط علم الواجب - سبحانه - بذاته وبجميع الأشياء ليس إلاّ ذاته بذاته ، فعلمه فعلي وليس له علم انفعالي ، فالقول بأنّ علمه - تعالى - تابع للمعلوم لا وجه له أصلا ؛ فعلمه بالأشياء ليس إلاّ علما فعليا. وعلى هذا فما قيل من أنّ العلم تابع للمعلوم يمكن أن يقال : ليس المراد بالتابعية الانفعال ، بل المراد بها ما ذكره العلاّمة الطوسي في

ص: 346

بحث الأعراض من التجريد (1) من : أنّ المراد بالتابعية هو أصالة المعلوم في التوازن والتطابق بمعنى انّه إذا أوجد العلم من حيث انّه حكاية عن المعلوم والمعلوم محكي عنه فيكون المعلوم بهذا الاعتبار أصلا والعلم تابعا له ، لأنّ الحكاية تابعة للمحكيّ عنه. وهذا المعنى لا ينافي كون العلم سببا في نفس الامر للمعلوم ، لانّ اعتبار الحكاية غير اعتبار العلية.

ثمّ توهّم كون علمه - تعالى - فعليا منافيا للقدرة قد تعلم جوابه من المباحث السابقة.

وقد ظهر بما ذكر انّ الوجه الأوّل للجواب عن الشبهة المذكورة ليس بصحيح.

وثانيهما : انّ الوجوب الغيري لا ينافي الامكان الذاتي ، فالحوادث ممكنة لذواتها وواجبة لغيرها. وإلى هذا الجواب اشار المحقّق الطوسي في التجريد بقوله : « ويمكن اجتماع الوجوب والامكان باعتبارين » (2). وهذا الجواب هو الصحيح ، وحاصله : انّ التالي المذكور في الشبهة غير باطل ، لجواز اجتماع الوجوب بالغير والامكان في ذاته ، إذ لا تنافي بينهما ، إنّما التنافي بين الوجوب بالذات والامكان.

ثمّ الغير - الّذي هو العلّة لوجوب الحوادث - هو العناية والعلم بالاصلح مطلقا عند من يستند (3) جميع الموجودات إليه - سبحانه - ؛ وأمّا عند من قال : انّ افعال العباد ليست معلولة لعلم واجب الوجود - تعالى - وواجبة باقتضائه ففي تعيين علّة وجوب الحوادث تفصيل ذكره بعض المشاهير ، وهو أن يقال : الحادث إمّا فعل العبد ، أو لا ؛ ووجوب القسم الثاني إنّما نشأ من علم الواجب بالمصلحة ، ووجوب القسم الأوّل انّما نشأ من الأسباب الّتي من جملتها اختيار الفاعل ؛ فلهذا قال المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم : « فالذي ينظر إلى الأسباب الأول ويعلم انّها ليست بقدرة الفاعل ولا بإرادته يحكم بالجبر - وهو غير صحيح مطلقا ، لأنّ السبب القريب للفعل هو قدرته وارادته - ،

ص: 347


1- راجع : الفصل الخامس من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ، ص 151.
2- المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 222.
3- الاصل : + جميع.

والّذي ينظر إلى السبب القريب ينظر بالاختيار والتفويض - وهو أيضا ليس بصحيح مطلقا ، لأنّ الفعل لم يحصل باسباب كلّها مقدورة ومرادة له - ، والحقّ ما قال بعضهم : لا جبر ولا تفويض لكنّه أمر بين أمرين » ؛ انتهى.

اعلم! : انّ المراد « بالأسباب الأول » هي الأسباب الّتي ما سوى اختيار العبد وما باختياره ، مثلا إذا أراد زيد أن يكتب فالقلم والمداد والقرطاس وما اشبهها ليست من فعل زيد وبقدرته - لأنّه ليس موجدا لشيء من الأجسام - ، بل انّما هو بفعل زيد وقدرته هو الحركات الّتي تكون لها مدخلية في وجود الكتابة ؛ فالسبب القريب هو حركات زيد والأسباب البعيدة هي ما عداها. فحاصل كلام المحقّق : إنّ من نظر إلى السبب البعيد الّذي ليس بقدرة العبد أصلا توهّم انّ العبد مضطرّ في فعله / 190 DB / وليس له دخل أصلا ، ومن نظر إلى السبب القريب توهّم انّ العبد مستقل في فعله. ثمّ حكم ببطلان هذين التوجيهين وصرّح بأنّ الحقّ ما روى عن أهل البيت - علیهم السلام - من انّه لا جبر ولا تفويض ولكنّه أمر بين أمرين. فعلى ما ذكره هذا المحقّق يكون « الجبر » عبارة عن كون فعل العبد مخلوقا لله - تعالى - بدون مدخلية العبد فيه أصلا ، و « التفويض » عبارة عن كون العبد مستقلاّ في فعله بلا مدخلية من اللّه فيه أصلا ، و « الأمر بين الأمرين » هو كون الفعل واقعا بقدرة العبد واختياره وكون قدرته واختياره مستندين إلى اللّه - تعالى - ، فيكون الأسباب البعيدة على الاضطرار والقريبة على الاختيار. فالانسان ليس بمختار مطلقا ولا بمضطرّ مطلقا. وعلى هذا فيكون مراد المحقّق في / 188 MB / التجريد من قوله : « يمكن اجتماع الوجوب والامكان باعتبارين » : انّ في غير فعل العبد من الحوادث يكون الوجوب فيه بالنظر إلى العلم بالأصلح والامكان فيه بالنظر إلى ذاته ، وفي فعل العبد فالوجوب فيه بالنظر إلى الأسباب الأول - ومن جملتها إرادة اللّه وعلمه - والامكان بالنظر إلى الأسباب القريبة - ومن جملتها إرادة العبد -. ويوافق ذلك ما قال بهمنيار : « فان قيل : هل لنا قدرة على الفعل أم لا؟ ، قلنا : انّ لنا قدرة على الفعل بالقياس إلى الايجاد ، وامّا بالقياس إلى الكلّ فليس لنا قدرة إلاّ على المقدور - أي : على ما علم واجب الوجود صدوره منا - ، وهو جرّ الأسباب إلى

ص: 348

اختيارنا ايّاه ؛ انتهى.

وتوضيح كلام بهمنيار : انّ لنا قدرة بالقياس إلى كلّ واحد واحد من الآحاد الّذي هو في سلسلة الأسباب وله دخل في صدور الفعل إذا اعتبر منفردا وقطع النظر عمّا تقدّمه منها ، لأنّ من جملتها قدرتنا واختيارنا وارادتنا وهي مقدورة لنا. وأمّا بالقياس إلى الكلّ - أعني : مجموع سلسلة الأسباب من وجود القدرة واسبابها القريبة والبعيدة والأسباب الّتي بها ينبعث اشواقنا - فليس لنا قدرة إلاّ على المقدور الّذي علم اللّه - تعالى - انّه يصدر عنّا بالقدرة والاختيار وصدور ما علمه - تعالى - صدوره عنّا ، وهو يحصل اسباب الفعل منضمّا إلى اختيارنا له ، فيحصل عنّا الفعل فيجتمع حينئذ فيه الوجوب بالقياس إلى جميع الأسباب الّتي من جملتها قدرتنا واختيارنا ، والامكان بالنسبة إلى ذات الفعل مع قطع النظر عن اجتماع تلك الأسباب وبالنسبة إلى نفس قدرة القادر من حيث انّها قدرة من غير انضمام أمر آخر من الأمور المرجّحة لأحد طرفيها على الآخر. والحاصل : انّ قدرة العبد من جملة الأسباب ، فإذا لوحظ الفعل من حيث قدرة العبد بدون ملاحظة جميع الأسباب المتسلسلة المنتهية إلى ذلك الفعل فهو مقدور له ، وإذا لوحظ من حيث حضور جميع الأسباب المتسلسلة المنتهية إلى ذلك الفعل وجب ذلك الفعل حينئذ وليس مقدورا للعبد.

ثمّ تفصيل الكلام في هذا المقام وتحقيق الحقّ في هذا المرام قد تقدّم مع النقض والإبرام.

ص: 349

ص: 350

الفصل الثالث : في اثبات حياته - سبحانه -

اشارة

ص: 351

( الفصل الثالث )

( في اثبات حياته - سبحانه - )

اتّفق كافّة أهل الأديان وجمهور العقلاء على أنّه - تعالى - حيّ ، وثبت من الشريعة المقدّسة اطلاق الحياة عليه - سبحانه -.

ثمّ الحياة في الحيوان عبارة عن صفة تقتضي الحسّ والحركة الارادية ، فالحياة بهذا المعنى يتمّ بادراك - هو الإحساس - وفعل - هو التحريك - منبعثين عن قوّتين مختلفتين.

ولا ريب في تنزيهه - سبحانه - عن الحياة بهذا المعنى ، فاختلف العقلاء في معنى الحياة الذي يطلق عليه - سبحانه -.

فقال جمهور المتكلّمين : انّها صفة توجب صحّة العلم والقدرة ؛

وقال الحكماء وبعض المعتزلة : انّها كونه - تعالى - بحيث يصحّ أن يعلم ويقدر.

ولا ريب في أنّ قول المتكلّمين لايجابه اثبات صفة زائدة على ذاته باطل ، فالحقّ ما ذهب إليه الحكماء. وتحقيق مذهبهم هو ما اشار إليه بهمنيار بقوله : « الحيّ هو الدراك الفعّال. وهذان الوصفان له - تعالى - بذاته ؛ ومعنى قولي : « بذاته » : إنّ وجوده - تعالى - هو كونه بحيث يصدر عنه افعال الحياة. وشرح ذلك : هو إنّ الحى هو أن يكون الشيء بحيث يصدر عنه الفعل / 191 DA / والادراك ، وذلك على وجهين :

فأحد الوجهين : أن يكون وجوده حياته ؛

ص: 352

والثاني : أن يكون حياة الشيء معنى زائدا على وجوده ، كحياة الانسان فانّه ما لم ينضمّ إلى الجسم النفس لم يوصف ذلك الجسم بأنّه حيّ ، لأنّه إن كان وجود الجسمية هو حياته لكان كلّ جسم حيّا ، وقد عرفت إنّ إنّيته - تعالى - حياته ، فانّ إنّيته هي كونه بحيث يصدر عنه افعال الحياة » (1) ؛ انتهى.

أقول : لا ريب في أنّ الحياة ما هو مبدأ ومنشأ للأفعال والآثار الصادرة عن الحيّ من العلم والقدرة والحسّ والحركة وغير ذلك. وهذا المعنى في الحيوان صفة زائدة على ذاته ، وأمّا في الواجب - تعالى - فالمبدأ ليس إلاّ ذاته ، لأنّ ذاته بذاته يعلم ويفعل ، فذاته حياته. قال بعض المشاهير : قد مرّ إنّ الوجود الحقيقي ما يكون الشيء باعتباره موجودا ، فواجب الوجود لمّا كان باعتبار ذاته موجودا كان وجوده الحقيقي عين ذاته ، وكذلك الحياة الحقيقية فانّها ما يكون الشيء باعتباره حيّا. ولمّا كان ذات الواجب باعتبار ذاته حيّا كان الحياة عين ذاته ؛ وكذا حال باقي الصفات / 189 MA / الحقيقية من العلم والإرادة وغيرهما ، فانّهما عين ذاته - تعالى - ولا تغاير بينهما إلاّ بالاعتبار - كما لا يخفى - ؛ انتهى.

وما أشار إليه من معنى عينية الصفات هو المذهب الحقّ - على ما تقدّم في بعض كلماتنا -. وهذه المسألة - أعني : مسئلة عينية الصفات - وإن لم يكن هنا موضع بيانها إلاّ أنّ هذا القائل وبعض أخرى لمّا تعرّض لبيانها هنا فلا بأس بأن نتعرّض لها نحن أيضا.

فنقول : المذاهب المعروفة في تصحيح عينية الصفات ثلاثة :

الأوّل : ما أشار إليه هذا القائل هنا ، وهو المذهب الحقّ المنصور. وبيانه : إنّ ذاته - تعالى - مصدر جميع الصفات ومحض ذاته بذاته منشأ الجميع ومناطه ومصحّحه ، بل هو فرد لكلّ واحد من الصفات قائم بذاته ، وليس له صفة زائدة على ذاته - كما فينا - ؛ فانّه - سبحانه - وان وصف بالحياة والعلم والجود والقدرة والإرادة وامثالها لكن ليس ذلك لأجل اتصافه بها من حيث انّها معان متميّزة فيه ، بل من حيث انّه - تعالى - بمحض ذاته البسيطة الواحدة الحقّة الّتي هي صرف الوجود الخالص البحت منشأ

ص: 353


1- راجع : التحصيل ، ص 579.

لجميعها بحيث لا يلزم منه تركّب وتكثّر ، فهو أحدي فرد ذاتا وصفة - كما قال الشيخ في التعليقات : « إنّ الأوّل لا يتكثّر لأجل تكثّر صفاته ، لأنّ كلّ واحد من صفاته إذا حقّقت تكون عين الصفة الأخرى بالقياس إليه ، فتكون قدرته حياته وحياته قدرته وتكونان واحدة ، فهو حيّ من حيث هو قادر وقادر من حيث هو حيّ ، - وكذلك الحال في سائر صفاته » - (1). قال بعض العرفاء : ومشيته - تعالى - قدرته وما يدركه بصفة يدركه بجميع الصفات ، إذ لا اختلاف هناك.

ثمّ صفاته - تعالى - منها حقيقية كمالية - كالجود والقدرة والعلم - ، وهي لا تزيد على ذاته ، بل عين ذاته بمعنى انّ ذاته من حيث حقيقته مبدأ لانتزاعها عنه ومصداق لحملها عليه ، ويطابق الحكم بها عليه بلا ملاحظة أمر آخر زائد عليه قائم به أو منتزع عنه ، بل حيثية ذاته - تعالى - هي بعينها حيثية جميع صفاته الكمالية ، فليس الواجب - سبحانه - بسبب اطلاق تلك الصفات على ذاته ذا معان متميزة يسمّى بهذه الأسماء المختلفة ، بل هو - سبحانه - يستحقّ لاطلاق هذه الأسماء لا بحيثية أخرى وراء احدية ذاته.

ومنها اضافية محضة - كالمبدئية والمبدعية والخالقية والرازقية وأمثالها -. وهذه الصفات زائدة على ذاته متأخّرة عنه وعن ما اضيف بها إليه ، لأنّ الاضافات لا يمكن أن يكون عين الحقائق المتأصّلة ، فكيف يكون عين ما هو أصل الحقائق ومنبع الذوات؟!. ولا يخلّ بوحدانيته كونها زائدة عليه ، فانّ الواجب - تعالى - ليس كماله ومجده بنفس هذه الصفات الاضافية ، بل بكونه في ذاته بحيث ينشأ منه هذه الصفات. وهو إنّما هو كذلك بنفس ذاته ، فانّ كماله ليس إلاّ بذاته لا غير.

ومنها سلبية محضة - كالقدوسية والفردية والازلية وغيرها - والاتصاف بها يرجع إلى سلب الاتصاف بصفات النقص. وصفاته الحقيقية لا يتكثّر ولا يتعدّد ولا اختلاف فيها إلاّ بحسب التسمية ، بل يكون كلّها معنى واحدا وحيثية واحدة هي بعينها حيثية الذات ، فانّ ذاته بذاته - تعالى - مع كمال فردانيته يستحقّ هذه الاسماء

ص: 354


1- قريب منه يوجد في التعليقات ، ص 181.

لا بحيثية أخرى وراء حيثية ذاته ، كما قال المعلم الثاني : وجود كلّه وجوب كلّه علم كلّه قدرة كلّه / 191 DB / حياة كلّه ، لا أنّ شيئا منه أو جهة منه علم وشيئا آخر أو جهة منه قدرة ليلزم التركيب في ذاته المقتضي للاحتياج إلى الاجزاء المنافي لوجوب الوجود ، ولا أنّ شيئا فيه علم وشيئا آخر فيه قدرة ليلزم التكثّر في صفاته الحقيقية ويكون محلاّ للأعراض ممكن الاتصاف بها ، بل حيثية ذاته وهويته البسيطة الّتي لا تكثّر ولا امكان فيه أصلا هي بعينها حيثية صفاته الحقيقية. نعم! ، في التعبير عنها تغاير وترتّب بمحض اعتبار الذهن وملاحظة العقل لا بحسب الخارج. فكما انّه من حيث هو منشئا للآثار وجود كلّه كذلك من حيث هو منشئا لانكشاف الأشياء علم كلّه ومن حيث هو منشئا لصحّة الفعل والترك قدرة كلّه ومن حيث هو مبدأ لرجحان فعل القائم - أعني : النظام الأكمل والأصلح بحال العالم بل وجوب صدوره عنه - إرادة كلّه - وقس عليها غيرها - ؛ وجميعها راجعة إلى حيثية وجوده الّتي هي عين حيثية ذاته.

وأمّا صفاته الاضافية فهي أيضا لا يتكثّر معناها وان كانت زائدة على ذاته ؛ وكذا صفاته السلبية ، فانّ اضافاته إلى الأشياء وان تعدّدت اساميها واختلفت لكن كلّها يرجع إلى معنى واحد واضافة واحدة هي قيوميته الايجابية للأشياء يصحّح جميع الاضافات / 189 MB / - كالرازقية والخالقية والمصورية وغير ذلك - ، وتغايرها بتغاير الأشياء المضاف إليها. وترتّبها حسب ترتّبها ؛ كترتب مبدئيته لها ، فمبدئيته بعينها رازقيته وبالعكس ، وهما بعينهما رحمته ولطفه وبالعكس.

وصفاته الاضافية وإن كانت ذات أسام مختلفة لكنّها ليست معانى مختلفة وإلاّ لوجب اختلاف حيثيات في ذاته - تعالى - ، فيتكثّر ذاته الأحدية بها - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا -. والتعدّدات والتجدّدات الواقعة فيها إنّما هي بالقياس إلى الأشياء المتعلّقة بها المتعدّدة أو المتجدّدة في أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض لا بقياسها إلى بارئها القيوم - جلّ ذكره - ؛ كما قيل : « ليس عند ربّك صباح ولا مساء » ، أي : نسبة الواجب - تعالى - المتعالى عن وصمة التغيّر إلى جميع الامور المتجددة المتعاقبة نسبة واحدة ومعية قيومية غير زمانية.

ص: 355

والحاصل : إنّ اضافته إلى الأشياء اضافة واحدة بحسب المفهوم ، وهي إمّا مترتّبة ترتيبا سببيا أو مسببيا على حسب ترتّب المعلولات الواقعة في سلسلة الايجاد المنتهية إلى الواجب - سبحانه - الّتي يقال لها « السلسلة الطولية » ، فلا يوجب تعدّدها تكثّرا في ذاته كما لا يوجب صدور معلولاته الكثيرة المترتّبة اختلافا في وحدته الحقّة. وهذا معنى قولهم : « إنّ نسبة الأوّل إلى الثاني أمّ جميع النسب » ؛ وإمّا متجدّدة حسب تجدّد الأشياء الواقعة في سلسلة الاعداد الّتي يقال لها « السلسلة العرضية » ، فلا يوجب تغيّرا في ذاته كما لا يوجب صدور الزمانيات عنه - تعالى - تحوّلا له عمّا هو عليه في ثباته وبقائه.

وأمّا صفاته السلبية فهي أيضا مع تكثّرها وتعدّدها يرجع إلى سلب واحد هو سلب الامكان عنه. ومناطه وجوب الوجود ، فوجوب الوجود له - تعالى - يوجب سلب جميع النقائص عنه - تعالى - ، لا أن يكون سلب بعضها لأجل تحقّق معنى آخر فيه ليلزم التركيب إمّا في ذاته أو في صفاته الحقيقية الكمالية كسلب العرضية والجمادية والشجرية والفرسية من الانسان ، فانّ صدق كلّ منهما لأجل تحقّق معنى واحد من المعاني المتحقّقة فيه ؛ كالجوهرية والنموّ والحياة والنطق ، بخلاف سلب الجمادية عنه المندرجة تحته سلب الحجرية والمدرية وغير ذلك ، إذ جميعها تابعة له. فلا يكون صدقها بإزاء معانى مختلفة في الانسان ، بل بإزاء معنى واحد وهو النموّ. والحاصل : إنّ ذاته بذاته منشئا لجميع صفاته الحقيقية متحقّقة له في مرتبة ذاته وصفاته الاضافية متأخرة ، إلاّ أنّ تأخّرها لا يوجب نقصا ، لأنّ الصفات الإضافية ليست كمالات حقيقية له - تعالى -.

ثمّ إنّ اتصافه - تعالى - بتلك الصفات - سواء كانت حقيقية أو اضافية - لا يوجب تكثّرا وتركّبا واختلاف جهات وحيثيات فيه - سبحانه - ، لأنّ الصفات الإضافية - كلّها - راجعة إلى اضافة واحدة مصحّحة لجميع الإضافات المختلفة وهي اضافة المبدئية والقيومية ؛ فإنّ معنى القيومية يلزمها الخالقية والرازقية والمصوّرية وغير ذلك ، وكذا السلوب - كلّها - راجعة إلى سلب واحد / 192 DA / مصحّح لجميع السلوب وهو سلب الامكان ، فانّه يلزمه سلب الجسمية والعرضية وغير ذلك من السلوب ، فكون ذاته - سبحانه - مبدأ وموجدا للأشياء يلزمه جميع الصفات الاضافية

ص: 356

والسلبية متأخرة عن ذاته ، فلا يلزم من هذه الجهة اختلاف حيثيات وتكثّر جهات فيه - سبحانه -.

وأمّا صفاته الحقيقية وإن كانت موجودة في مرتبة ذاته ومتغايرة بحسب المفهوم إلاّ أنّها ليست معانى متميزة موجودة فيه - تعالى - حتّى يلزم التركب ، فانّ الانكشاف والحياة والقدرة وغير ذلك من الصفات الحقيقية وإن كانت أمورا نفس أمرية إلاّ أنّها ليست موجودة فيه - سبحانه - بوجودات متميزة متغايرة حتّى يلزم التركّب في ذاته.

فان قلت : لا ريب في أنّ ذات الواجب - تعالى - شيء بسيط واحد من جميع الجهات وهذه الصفات أمور متغايرة مقتضية للآثار المختلفة ، فانّ حقيقة العلم الّذي هو الانكشاف غير حقيقة القدرة بأيّ معنى أخذ - لأنّ القدرة ببعض معانيها هي ايجاد الأشياء في الخارج وببعض معانيها الآخر هي التمكّن من الفعل والترك ، والانكشاف هو ظهور الأشياء عنده ، ولا ريب في أنّ ايجاد حقيقة الشيء في الأعيان غير ظهوره عنده ، ولذا قد يكون شيء ظاهرا عندنا ولا نتمكّن من ايجاده -. وإذا كان الأمر كذلك فنقول : كيف يمكن أن يكون بسيط من جميع الجهات علّة ومنشئا لأمور متعدّدة مع أنّ المناسبة بين العلّة والمعلول لازمة؟! ، والواحد من حيث هو واحد لا يناسب الكثير من حيث هو كثير؟!.

قلت : / 190 MA / الواجب الحقّ ليس إلاّ صرف الوجود المجرّد ، ومعلوم انّ التجرّد ليس صفة يوجب التركيب والتكثّر ، بل يوجب البساطة والوحدة ؛ فالوجود الصرف ليس إلاّ واحدا حقّا. ولا ريب في أنّ هذا الواحد لكونه وجودا صرفا يلزمه القيومية الّتي هي بمعنى القيام بذاته ؛ والمقوّمية للغير ، لأنّ القيوم هو القائم بذاته المقيم لغيره. ووجه الاستلزام ظاهر ، لأنّ بحت الوجود وصرفه يجب أن يكون موجودا بذاته وموجدا لغيره ، ولولاه لما شمّ ماهية من المهيات رائحة الوجود. ولا ريب في أنّ القيومية المطلقة مع التجرّد صفة واحدة يلزمها سائر الصفات الكمالية والاضافية ، لأنّ المجرّد القائم بذاته يلزمه انكشاف الأشياء عنده والقائم بذاته يلزمه كونه قديما أزليا ، و

ص: 357

المقوّم للأشياء يلزمه كونه قادرا - ببعض المعاني - وموجودا وجوادا ورازقا ومصوّرا - إلى غير ذلك من الصفات الاضافية - ، والمقيم للأشياء العالم بها يلزمه كونه حيا - لأنّ الحيّ هو الفعّال الدرّاك ، كما علمت - ، فاللازم لذاته - سبحانه - ليس إلاّ صفة واحدة هي القيومية المطلقة. ولزومها له - سبحانه - من حيث انّها صفة واحدة بسيطة ولها جهة وحدة لا من حيث انّها كلّية ولها جهة كثرة يندرج لأجلها جميع الصفات تحتها ، فمن حيث إنّ لزومها له - تعالى - من جهة وحدتها وبساطتها لا من جهة كثرتها ومن حيث انّ كلّ الصفات مندرجة تحتها يتحقّق ما يشترط تحقّقه بين العلّة والمعلول - من التكافؤ والمناسبة -. واشتمالها على جهة الكثرة من حيث اندراج كلّ الصفات تحتها لا يوجب رفع المناسبة بين العلّة والمعلول وصدور الكثير من الواحد لأنّ ما يرفع المناسبة بين العلّة والمعلول إنّما هو إذا كان المعلول كثيرا غير مشتمل على جهة وحدة وصدر من حيث انّه كثير من الواحد من حيث هو واحد ، وأمّا إذا كان للكثير جهة وحدة ومن هذه الجهة صدر عن الواحد أو كان صدور الكثرة في مراتب فلا منع فيه ، فانّه لو كان للكثير اشتراك في جهة واحدة يكون التعلّل بينه وبين علّته الواحدة البسيطة بهذا الاعتبار ، أو كان صدور الكثير عن الواحد في مراتب لكان الصادر عن الواحد بالحقيقة واحدا ؛ فلا يلزم ارتفاع المناسبة بين العلّة والمعلول. فقد ثبت انّ الوجود الصرف يلزمه جميع الصفات الكمالية من دون لزوم اختلاف جهات وتغاير حيثيات فيه.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه إنّ صفاته - تعالى - سواء كانت حقيقية غير ذات اضافة - كالحياة والأزلية - أو حقيقية ذات اضافة - كالعلم والقدرة - أو اضافة محضة - كالخالقية والمصوّرية وغيرهما - ليس لها مبدأ زائد في ذاته كما هو فينا ، فانّ لكلّ واحد من هذه الصفات إذا أخذ / 192 DB / بالقياس إلينا يكون له مبدأ عرضي قائم بنفوسنا ، فانّ الانكشاف الحاصل لنا يتوقّف على صورة علمية قائمة بأنفسنا والقدرة بمعنى التمكّن من الفعل والترك يتوقّف على قوّة قائمة بانفسنا - إلى غير ذلك - ؛ والمبدأ لجميع هذه الصفات - الّتي هي معان ومفهومات - بعضها متحقّق في مرتبة ذاته - تعالى - وبعضها متحقّق بعد ذاته ليس إلاّ ذاته - سبحانه - من دون افتقار إلى صورة وملكة و

ص: 358

قوّة زائدة قائمة بذاته - سبحانه - ، واستناد علمه بمعنى الانكشاف الشهودي إلى تجرّده المقتضي لزيادة البساطة والوحدة. واستناد سائر صفاته - تعالى - إلى قيوميته المطلقة المستندة إلى ذاته وعدم كون القيومية معنى زائدا على ذاته قائما به لا يلزم تكثّر ولا اختلاف جهات وحيثيات في ذاته ، وهو معنى عينية صفاته.

ثمّ انّه على هذا المذهب - كما أشير إليه - يصدق هذه الصفات على ذاته بأن يقال : إنّ ذاته علم وإرادة وقدرة. وبيان ذلك : انّ كلّ واحد من تلك الصفات يطلق على ثلاثة معان :

أحدها : المعنى الانتزاعى الاضافي المصدري الّذي يشتقّ منه الفعل ؛

وثانيها : ما يحصل به هذا المعنى الاضافي كائنا ما كان ؛

وثالثها : الملكة الّتي يقتدر بها على استحصال تلك المعاني الاضافية بالفعل.

مثلا العلم بالمعنى الأوّل هو الاضافة الاشراقية الشهودية ؛ وبالمعنى الثاني ما ينكشف به الشيء - وهو العلم الحقيقي - ؛ وبالثالث هو القوّة والملكة الّتي يقتدر بها على استحصال المنكشفات بالذات.

ولا ريب في صدق كلّ صفة بالمعنى الثاني على ذاته - تعالى - ، لأنّ ذاته بذاته هو الّذي يتحصّل به كلّ صفة / 190 MB / بالمعنى الأوّل ، فانّ ما ينكشف به الأشياء ليس إلاّ بحت ذاته وصرف وجوده ، فذاته هو العلم الحقيقي. وكذا الحال في غير العلم من الصفات.

وأمّا الصفات بالمعنى الأوّل والثالث فلا يجوز صدقها عليه - تعالى - ، لعدم كون ذاته معنى اضافيا أو ملكة يقتدر بها على استحصال شيء ، وإذا كان ذاته ممّا يصدق عليه الصفة بالمعنى الثاني حتّى يكون محلاّ لانتزاع الصفات الاضافية الاعتبارية فلا منع في أن يكون ذاته المقدّسة فردا من كلّ صفة كمالية قائما بنفسه ؛ وقد تقرّر في محلّه انّه لا يلزم في صدق المشتقّ حقيقة على شيء قيام مبدأ الاشتقاق به حقيقة ، بل لو كان مبدأ الاشتقاق - كالعلم مثلا - قائما بنفسه بحيث يترتّب عليه آثار المشتقّ كان أحقّ باسم المشتقّ ممّا قام به المبدأ ، فاللّه - سبحانه - عالم حقيقة لا بعلم قائم به ، قادر لا بقدرة يقوم

ص: 359

به ، مريد لا بإرادة يعرضه ، بل هو نفس العلم والقدرة والإرادة ؛ وكذلك سائر الصفات الحقيقية.

ولو نازعنا في ذلك بعض أهل اللغة لا نبالي به ، إذ الغرض تحقيق المعاني لا تبيين الالفاظ.

وحينئذ يندفع ما أورد بأنّه يلزم على هذا كون حقيقته المقدّسة مشاركة للأعراض في ماهياتها الداخلة تحت المقولات ، أو القول بالاشتراك اللفظى ؛ لأنّ بناء هذا الايراد على كون كلّ صفة هي مبدأ ومنشئا للمعاني الاضافية قوّة عرضية زائدة قائمة بالموصوف - لكون صفة العلم بمعنى ما ينكشف به الشيء صورة علمية قائمة بالعالم - ؛ وهذا ليس بلازم ، فانّه كما انّ مفهوم الوجود المطلق معنى واحد أحد أفراده قائم بذاته هو حقيقة الواجب - تعالى - والباقي عارضة بالماهيات الممكنات ، وهو أمر اعتباري عارض للجميع كذلك يمكن أن يكون لكلّ من هذه المفهومات فرد واحد بسيط هو عين حقيقة الواجب - تعالى - غير داخلة تحت مقولة ، وسائر أفرادها اعراض داخلة تحت المقولات ولها أجناس وفصول ، وتكون المطلق من كلّ منهما اعتباريا عارضا للجميع. فكما انّ مطلق العلم بمعنى الانكشاف والظهور أمر اعتباري عارضي بالنسبة إلى الصورة الحاصلة بالعالم فكذلك بالنسبة إلى ذاته القائمة بذاته ؛ وكما أنّ الصورة والقوّة العرضية فينا منشئا ومصحّح لانتزاع هذا المطلق - لأجل مناسبة بينهما - فكذا ذاته - سبحانه - منشئا له للمناسبة ؛ وكما انّ مطلق العلم بمعنى الانكشاف أمر عرضي وانتزاعه من القوّة القائمة بالمدرك لا يصير موجبا لتركيب القوّة وتكثّرها فكذلك انتزاعها عن ذات الواجب أيضا لا يوجب تركّبه وتكثّره ؛ وكما انّ تلك القوّة فرد من العلم بمعنى انّه يصدق عليها مطلق / 193 DA / العلم ويحمل عليهما فكذلك ذاته - سبحانه - فرد من العلم بهذا المعنى - كالوجود المطلق ووجوده الخاصّ من دون تفاوت -. وبالجملة على هذا المذهب لا فرق بين ذاته - سبحانه - والصورة العلمية القائمة بالمدارك في منشئيتهما ومناطيتهما للانكشاف والظهور ، وفي كون كلّ منها فردا للعلم ومصداقا له ، فذاته بذاته منشأ لجميع الصفات الانتزاعية الّتي تكثّرها لا يوجب تركّبا وتكثّرا فيه وفرد ومصداق لجميعها ، و

ص: 360

هو معنى العينية. وفي غيره - سبحانه - منشأ تلك الصفات الاضافية لا بدّ ان يكون قوّة زائدة قائمة به.

وبما ذكرنا ظهر فساد ما قيل : إنّ العينية بهذا المعنى يرجع إلى نفي الصفات عنه - تعالى - واثبات لوازمها وآثارها له ، فانّ القول بنفي الصفات عنه - سبحانه ، كما ذهب إليه بعض العرفاء - ليس حقّا عندنا - كما يأتى مفصّلة -. نعم! ، يرجع العينية بهذا المعنى إلى نفي الصفات الحقيقية الزائدة على ذاته - تعالى عنه سبحانه -.

المذهب الثاني في تصحيح عينية الصفات : إنّ ذاته - سبحانه - نائب مناب جميع الصفات بمعنى انّ ما يترتّب على الصور العلمية الزائدة القائمة بنفوسنا مثلا من الانكشاف يترتّب ذلك في الواجب على ذاته ، وحقيقة العلم هو تلك الصورة الزائدة القائمة بغيره ، لأنّ العلم صفة والصفة الحقيقية من حقّها أن تكون قائمة بغيره ، فما هو القائم بذاته - أعني : ذاته ، سبحانه - لا يطلق عليه شيء من الصفات ولا يكون فردا منها بل هو ذات مجهولة الكنه نائب مناب / 191 MA / صفة العلم والقدرة والإرادة وغيرها - أي : يترتّب عليه ما يترتّب على غيرها من المعاني الاضافية ؛ أعني : الانكشاف وصحّة الصدور واللاصدور وغيرهما -.

وعلى هذا فالفرق بين المذهب الأوّل - أعني : القول بكون ذاته فردا من كلّ صفة - وهذا المذهب : انّ الذات على هذا المذهب لا يكون فردا من الصفات ولا يحمل عليه تلك الصفات حقيقة ، بخلاف المذهب الأوّل وان كانا مشتركين في ان الذات على كلّ منهما منشئا للمعاني الاضافية ويترتّب عليه من دون افتقار إلى أمر عرضي زائد قائم به.

وغير خفي بأنّ لزوم كلّ صفة بمعنى المناط والمنشأ للصفات الاضافية قائمة بغيرها ممنوع ؛ بل كلّ من الصفات الكمالية بمعانيها الحقيقية يمكن أن يكون قائما بذاته ، فانّه كما يطلق العلم على الصورة العلمية القائمة بالنفس - لاقتضائها الانكشاف - فلم لا يطلق على ذات المجرد مع اقتضائه ذلك؟! ؛ فالفرق بينهما في الصدق وعدمه وفي الفردية وعدمها تحكّم!.

ولو سلّم انّ اللغة لا يساعد ذلك فلا يضرّنا ، لأنّ الحقائق الخارجية لا مدخل فيه

ص: 361

للعرف واللغة.

ثمّ انك قد عرفت فيما تقدّم بأنّه يمكن أن يرجع القول بالنيابة إلى القول بالفردية ، بأن يقال : المراد من قولهم : « انّ ذاته - تعالى - نائب مناب جميع الصفات » انّ ذاته بالنسبة إليه - سبحانه - بمنزلة ما يقوم بنفوسنا من القوى والصور الزائدة العرضية بالنسبة إلينا ، فكما انّ الصورة الحاصلة في الذهن فرد من العلم بالمعنى الحقيقي - أي : بمعنى ما يحصل به الانكشاف - والقوّة القائمة بالنفس المصحّحة للفعل والترك فرد من القدرة بالمعنى الحقيقي - أي : بمعنى ما تحصّل به القدرة بالمعنى الاضافي الاعتباري - فكذلك ذاته - سبحانه - فرد للعلم والقدرة بالمعنى المذكور ؛ فاطلاق النيابة إنّما هو إذا اعتبر بالنسبة إلينا. ولو لم يحمل القول بالنيابة على ذلك وبني على ما هو الظاهر منه - من أنّ ذاته ليس فردا من الصفات بالمعنى الحقيقي - كان قولا ظاهر البطلان! ، لأنّ المعنى الحقيقي للعلم هو ما ينكشف به الأشياء ، فإذا كان ذاته بحيث ينكشف به الأشياء من دون مدخلية شيء آخر فما الباعث حينئذ في عدم كونه فردا من مطلق ما ينكشف به الأشياء؟! ، وما السبب في عدم اطلاق هذا العلم بهذا المعنى عليه؟! ؛ وقد عرفت انّ اللغة لا مدخلية له في المباحث العقلية ، مع انّ منع اللغة للفردية وعدم الإطلاق ممنوع - كما لا يخفى على العارف -.

ولا يقال : إنّ المراد من القول بالنيابة انّ ذاته - سبحانه - نائب مناب الصفات بالمعنى الاضافي الاعتباري ، إذ لا ريب في أنّ العلم بمعنى الانكشاف مثلا لا يطلق على ذاته - سبحانه - وليس ذاته فردا من الانكشاف ، لأنّ ذاته حقيقة خارجية بل هو محقّق الحقائق والانكشاف أمر اعتباري وكذا الحال في سائر / 193 DB / فرد من الانكشاف مثلا ، لأنّ هذا لا معنى له ، فانّ انكشاف الأشياء لا يمكن أن يكون له فرد قائم بذاته ، بل هو يكون ثابتا لشيء البتّة. وأيضا حقيقة الانكشاف ثابتة له - تعالى - كما هو ثابت لغيره - سبحانه - ، فلا معنى لكون ذاته نائبا عنه ، وكون حقيقته ثابتا لغيره. وأيضا النيابة إنّما تكون في ترتّب الأثر ، والأثر إنّما هو الصفات الاضافية - كالانكشاف وغيره - ، فإذا كان الانكشاف في غير الواجب أصل العلم وحقيقته وكان

ص: 362

ذاته - سبحانه - نائبا عنه فما يبقى أمر آخر حتّى يترتّب على النائب والمنوب عنه ؛ وقس على الانكشاف غيره من الصفات الاضافية الاعتبارية.

المذهب الثالث في تصحيح عينية الصفات : ما ذهب إليه بعض المتأخّرين ؛ وهو : انّ الصفة هاهنا بمعنى الخارج المحمول - كالعالم والقادر والمريد - ، وهو عين ذاته - تعالى - بحسب الحمل المواطاة.

وتوضيح هذا المذهب - كما قيل - ، انّ الموجود ما يعبّر عنه بالفارسية ب- « هست » ، وهذا لا يستدعى قيام الوجود به ، وكذا العالم ما يعبّر عنه ب- « دانا » ، والقادر ما يعبّر عنه ب- « توانا » ، وتفسير الموجود بما قام به الوجود والعالم بما قام به العلم والقادر بما قام به القدرة إنّما هو بمقتضى اللغة. ولما دل البرهان على عدم قيام الوجود والعلم والقدرة وكذا سائر الصفات به - تعالى - وانّه موجود عالم قادر علم انّ قيام المبدأ به غير لازم.

فيقال بعد تمهيد ذلك : انّ صفة الشيء على قسمين :

أحدهما : ما يقوم به في نفس الأمر - كالعلم بالنسبة / 191 MB / إلى زيد مثلا - ،

وثانيهما : عرضي لا يقوم به كالعالم والقادر بالنسبة إليه ، فانّهما عين زيد في الخارج - لصحّة حملهما عليه مواطاة - وزائدان على مهيته. والصفة بالمعنى الأوّل مغاير للموصوف في الواقع وبالثاني عينه فيه. والمراد بقولهم : « انّ صفاته - تعالى - عين ذاته » : انّ صفاته - سبحانه - من القسم الثاني لا الأوّل الزائد على الذات ، وقد عرفت أنّ قيام المبدأ غير لازم ، فصحّ كون الصفات عين الذات من غير تكلّف. وبالجملة الصفة الّتي تكون عين الذات إنّما هي الصفة بمعنى الخارج المحمول على الموصوف مواطاة - مثل العالم والقادر وأمثالهما -.

وهذا المذهب في غاية الفساد.

أمّا أوّلا : فلأنّ امثال العالم والقادر والمريد إنّما يعدّ من الاسماء لا الصفات ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ كون الصفة بهذا المعنى عين ذاته - سبحانه - لصحّة حملها عليه مواطاة مشتركة بين الواجب بالذات والممكن ، وحينئذ فلا معنى للقول بأنّ صفات

ص: 363

الواجب عين ذاته دون غيره - كما هو مذهب الحكماء والمعتزلة - ، لأنّ الصفة بمعنى الخارج المحمول مواطاة عين في الواجب والممكن بهذا المعنى المذكور بلا تفاوت ؛

وأمّا ثالثا : فلأنّكم لمّا اعترفتم بأنّ مبدأ اشتقاق كلّ صفة محمولة عليه غير قائم به - تعالى - فيلزمكم الاعتراف بأنّ ذاته - سبحانه - بذاته منشئا ومناط للآثار والمعاني الاضافية المترتبة على الصفات الزائدة ، فيرجع ما ذكرتم إلى أحد المذهبين الأوّلين ، إذ لو قلتم بعدم منشئية ذاته - سبحانه - لها لزمكم القول بعدم انكشاف الأشياء له - تعالى - أصلا وبعدم تمكّنه على ايجاد الأشياء وهكذا ، فيلزم نفي جميع الصفات الكمالية وآثارها المترتّبة عليها عنه - تعالى - ؛ وهو كفر وزندقة عقلا وشرعا ؛

وأمّا رابعا : فلانّه يعتبر في الخارج المحمول أن لا يكون محمولا ذاتيا للموضوع وإلاّ لم يكن خارجا ، والمعبّر عنه بمفهوم الموجود والعالم والقادر والمريد - وغيرهما من الصفات الكمالية - يكون ذات الواجب - جل شأنه - بمحض ذاته مع قطع النظر عن جميع ما عدا ذاته ، ولا احتياج في ثبوت هذه المفهومات له - تعالى - إلى حيثية تقييدية ولا إلى حيثية تعليلية ، فيكون ثبوتها له - تعالى - ضرورية ذاتية ، فيكون نسبتها إلى ذات الواجب نسبة الذاتي وإذا كانت نسبتها نسبة الذاتي فلا يصحّ القول بكون شيء منها خارجا محمولا ، بل الجميع محمولات ذاتية غير خارجة.

تتميم

ذهب جماعة إلى أنّ كلّ ما يوصف به - تعالى - من الصفات الحقيقية والاضافية والسلبية اعتبارات يحدثها عقولنا عند مقايسة ذاته - سبحانه - إلى الغير من غير أن يكون موجودة له - سبحانه - في نفس الأمر فالصفات بأسرها منفية عنه - سبحانه - ولا يتصف بشيء منها في الواقع ونفس الأمر ، إذ الاتصاف بشيء منها في نفس الأمر يوجب النقص والتركيب / 194 DA / والتكثّر ، فكمال معرفته نفي الصفات عنه وذلك هو التوحيد المطلق والاخلاص المحقّق الّذي هو نهاية العرفان وغاية سعى العارف من كلّ حركة حسّية وعقلية. وما يكون في نفس الأمر من غير تعقّل نقص فهو

ص: 364

الوحدة المطلقة المبراة عن كلّ لاحق ؛ وقد أشار إلى ذلك سيدنا أمير المؤمنين - علیه السلام - في بعض خطبه بقوله : « وكمال الاخلاص نفي الصفات عنه » ؛ فليس للواجب - سبحانه - في نفس الأمر صفة ثبوتية ولا سلبية. وجميع ما يوصف به - سبحانه - من الصفات إنّما هو اعتبارات محضة يحدثها عقولنا عند مقايسة ذاته - سبحانه - إلى غيرها.

والباعث في هذا الوصف - كما وردت به الكتب الالهية والسنن النبوية - أمران :

أحدهما : ليعمّ التوحيد والتنزيه كلّ طبقة من الناس ؛

والثاني : انّه لمّا كان دأب العقلاء أن يصفوا خالقهم - سبحانه - بما هو أشرف طرفي النقيض - لما تقرّر في عقولهم من أعظميته ومناسبة أشرف الطرفين للأعظمية - كان وصف اللّه - تعالى - به من الصفات الحقيقية والاضافية والسلبية كلّها كذلك من غير أن تكون تلك الصفات ثابتة له - تعالى - في الواقع. وربما احتجّوا على ذلك بما روي عن الامام الهمام محمّد بن عليّ الباقر - عليه وعلى آبائه السلام - : « هل يسمّى عالما وقادرا إلاّ لأنّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين؟! ؛ وكلّما ميزتموه بأوهامكم في ادقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ، والباري - تعالى - واهب الحياة ومقدّر الموت. ولعلّ النمل الصغار يتوهّم انّ لله - تعالى - زبانيتين فانّهما كمالها ويتصوّر انّ عدمهما نقصان لمن لا يكونان له » ؛ هكذا حال الفضلاء فيما يصفون اللّه - تعالى - به / 192 MA / فيما احسب وإلى اللّه المفزع.

أقول : لمّا كان حاصل هذا المذهب على الظاهر انّه ليس للواجب - سبحانه - شيء من الصفات في الواقع ونفس الأمر ، لذا لم نجعلها معدودا من المذاهب المعروفة لتصحيح عينية الصفات ؛ لأنّ العينية فرع اثبات الصفة وعلى هذا المذهب لا يثبت صفة بوجه ، فهو يوجب التعطيل في حقّه - سبحانه -. وقد أتى ببطلانه شرائع الأنبياء وصرّح بفساده أساطين الحكماء. كيف ولو جوّز العقل أن ينفى عنه العلم والقدرة والحياة وغير ذلك من الصفات الكمالية لوجب عزل العقل في باب معرفة اللّه - تعالى - رأسا! ، فلا يمكن أن يثبت له البساطة ، أو يقال انّه محض الوجود ، أو ليس بجاهل ، أو ليس بمركّب ، أو يجب ان يكون على أعلى طرفي النقيض ، أو واجب الوجود ، أو موجد للكلّ

ص: 365

أو غير ذلك ؛ بل ليس له أن يدرك افتراقه عن الممكن وتميّزه عنه ، فان ذلك فرع التفاوت في الصفة. ولا ريب في أنّ ذلك مخالف للقواعد العقلية ومناف لما اعطته الشرائع النبوية. ومن وصفه - سبحانه - بالصفات الكمالية الكثيرة وكونها مجرّد اعتبار يحدثها العقول من غير ثبوتها له - تعالى - في الواقع لا ينفى التعطيل عنه - سبحانه - في الواقع. والمراد من نفي الصفات في قول امير المؤمنين - علیه السلام - : « كمال الإخلاص نفي الصفات عنه » (1) : هو نفي الصفات الزائدة عنه ، أو نفي صفات المخلوقين - كما صرّح به علیه السلام في آخر الخطبة - ؛ أو نفي الصفات بالنظر إلى الموحّد العارف لا بالنظر إلى الواقع بمعنى انّ كمال اخلاص العقول البشرية أن يعتبر ذاته - سبحانه - فقط من غير ملاحظة شيء آخر ؛ وهذا إنّما يتصوّر لها عند غرقها في أنوار كبرياء اللّه ونقص كلّ ما عداه عنه وتنزيهه عن كلّ لاحق له وطرحه عن درجه الاعتبار وان كان ثابتا في الواقع ونفس الأمر ، وهو التوحيد المحقّق والاخلاص المطلق المسمّى في عرف المجرّدين ب- « مقام التجلية والنقص والتفريق ».

وأمّا الكلام المنقول عن الامام أبي جعفر الباقر - علیه السلام - ، فيمكن ان يكون المراد منه : انّ اطلاق العالم والقادر عليه - تعالى - ليس كاطلاقهما على واحد منّا ، فانّ اطلاقهما على واحد منّا إنّما يكون باعتبار قيام مبدأ اشتقاقهما - أعني : العلم والقدرة - به ، واطلاقهما عليه - تعالى - ليس بذلك الاعتبار لامتناع قيام الشيء به - تعالى -. وانّما اطلقوا لفظ العالم عليه من حيث وجدوا انّه - تعالى - هو الّذي وهب العلم للعلماء وافاضه عليهم ، والمفيد لغيره كمالا لا يمكن أن يكون عاريا عنه ، فحكمنا عليه - تعالى - / 194 DB / بأنّه عالم لأجل ذلك. وعدم كون الشيء عاريا عن الكمال لا يوجب ان يكون بقيام الكمال به ، بل يمكن أن يكون لكونه عين ذاته ؛ وفي الواجب - تعالى - إنّما هو كذلك. وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية. قال بعض المشاهير بعد نقل الحديث المذكور : « هذا كلام حقّ دافع لقول من قال بزيادة الصفات الحقيقية على الذات ومؤيّد لقول من قال : صفاته الحقيقية عين ذاته ، لأنّه نفى كون صفاته مثل صفاتنا الزائدة ، بل

ص: 366


1- راجع : نهج البلاغة ، الخطبة الأولى ص 39.

ليس له - تعالى - إلاّ كونه منشئا وواهبا لهذه الصفات فلا صفة حقيقية قائمة به ، وإنّما هو الذات البحت المنشأ والواهب لهذه الصفات ، وهذا هو المراد من العينية.

وقيل : معنى الحديث انّه لا يفهموا ان اللّه - تعالى - موصوف بما وصفتموه - من العلم والقدرة والحياة وغير ذلك - بالمعانى الّتي فهمتموها من تلك الصفات ، لأنّ كلّما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق - أي : حادث ممكن - مصنوع مثلكم - أي : في الامكان والحدوث والاحتياج إلى المادّة - مردود إليكم (1) - أي : بالحقيقة انتم مرجع هذا المميز - ؛ فلا ينبغي الاعتقاد بأنّه - تعالى - موصوف بمثل هذه الأشياء بهذه المعانى الّتي ميزتموها ، بل حالكم في هذا كحال النمل الصغار. فالعقلاء لمّا وجدوا انّ اللّه - تعالى - واهب العلم والقدرة وقصدوا بوصف خالقهم ما هو الأشرف عندهم وصفوه بهذه الصفات الّتي كانت أشرف عندهم من الطرف المقابل ، إلاّ أنّ في نفس الامر لا يوصف - تعالى - بهذه الأشياء ، بل له الطرف الأشرف من جميع الامور وإن لم يفهم انّه بأيّ نحو وما هذا الطرف الأشرف. وعلى هذا يكون الثابت له من الصفات ما هو الأشرف وعلى النحو الّذي هو الأشرف في الواقع ونفس الامر ، لا على النحو الّذي نفهمه ونتصوّره أشرف.

وغير خفي بأنّ هذا القائل إن كان مراده انّ معنى الحديث انّ الواجب كون الواجب - تعالى - على ما هو الأشرف في الواقع ونفس الأمر من الصفات وكيفية اتصافه بها وعدمها له أصلا وانّا لا نعلم ما هو الأشرف في الواقع مطلقا ؛

ففيه : انّه إذا لم يكن لنا سبيل إلى / 192 MB / تعقّل ما هو الأشرف في الواقع مطلقا وكان للواجب - تعالى - الطرف الأشرف في الواقع دون غيره لم يكن لنا القطع إلى اثبات شيء من الصفات له وعدم اثباته له وإلى اثبات نحو اتصافه - تعالى - بها ، فيلزم التعطيل المنفي بالعقل والنقل من الحديث المذكور ، مع أنّ هذا القائل صرّح بأنّ مضمون الحديث بالحقيقة نفي هذه الصفات ومؤيّد القول بالعينية. على انّه يلزم حينئذ عدم جواز حكمنا بوجوب اتصافه - سبحانه - بالطرف الأشرف في الواقع - لجواز كون

ص: 367


1- راجع : بحار الأنوار ، ج 69 ص 293.

ذلك أيضا نقصا في حقّه - ، فانّ العقل إذا كان معزولا في معرفته بالكلّية لم يكن له الحكم بذلك أيضا. وإن كان مراده انّ معنى الحديث إنّ بعض ما هو الأشرف يمكن لنا تعقّله فيجب أن نحكم بثبوته له - تعالى - في الواقع ولكن بعض آخر من الصفات وعدمها أو نحو اتصافه بها ممّا لا يمكن لنا تعقّل اشرفيته في الواقع وان حكم عقولنا ظاهرا بالأشرفية ، مثل انّا نعلم انّ هذه الصفات الكمالية المشهورة من الطرف الأشرف له وعدم كونها زائدة بل كونها عينا له أيضا من الطرف الأشرف في الواقع ، إلاّ انّا لا نعلم انّ العينية الّتي هو الأشرف في الواقع حقيقته ما ذا؟ ، وانّ كون تلك الصفات على الكمال الأتمّ الّذي لا يتصوّر أتمّ وأقوى وأكمل منه كما يليق بجناب قدسه كيف هو؟ ؛

ففيه : انّ ذلك مسلّم ونحن نقول به ، إذ المعقول لنا انّ تلك الصورة الكمالية ثابتة له - تعالى - مع عينيتها له - سبحانه - ، إلاّ انّ حقيقة تماميتها وكونها فوق التمام - كما يليق بجناب كبريائه - فغير معقولة لنا بكنهها كذاته - سبحانه - ، إلاّ انّ ذلك لا ينافي علمنا بعينيتها له في الواقع ونفس الأمر.

ويمكن أن يحمل قول القائلين بنفي الصفات عنه - تعالى - على هذا ؛ وحينئذ فيكون صحيحا ؛ فتأمّل.

اعلم! ، أنّ المحقّق الطوسي قال في شرح رسالة العلم : « المستند في اثبات حياته - تعالى - انّ العقلاء قصدوا وصفه - تعالى - بالطرف الأشرف من طرفي / 195 DA / النقيض ، ولمّا وصفوه بالعلم والقدرة ووجدوا انّ كلّ ما لا حياة له يمتنع الاتصاف بها وصفوه - تعالى - بالحياة ، لا سيّما وهو أشرف من الموت - الّذي هو ضدّها -. ونعم ما قال عالم من أهل بيت النبوّة - علیهم السلام - : هل يسمّى عالما وقادرا - ... إلى آخر الحديث الّذي نقلناه عن ابى جعفر الباقر علیه السلام - » (1).

ومراد المحقّق - كما قيل - : انّ طريق اثبات الحياة وغيرها من الصفات الكمالية للواجب - تعالى - عند العقلاء هو ان ينظروا إلى اشرف طرفي النقيض - أي : الّذي هو كمال للموجود بما هو موجود - ، ثمّ اثبتوه له - تعالى - ، فانّهم يقولون : انّ الواجب

ص: 368


1- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، المسألة الخامسة عشرة ، ص 43.

- تعالى - ينبغي أن يكون صرف الوجود التامّ المبرّى عن كلّ قصور ونقصان ، فانّه إذا كان أحد طرفي النقيضين أشرف من الآخر ويكون كمالا للموجود المطلق من غير لزوم فقر ونقصان لجاز أن يكون للواجب - تعالى - ، وكلّما يجوز له - تعالى - بالامكان العامّ يجب - وإلاّ يلزم عدم الواجب بهذا الوجه ، وهو مناف للوجوب الذاتى الرافع لجميع انحاء العدم والبطلان عن ذاته -. مثلا ينظرون إلى الوجوب المنقسم إلى الوجوب بالذات وإلى الوجوب بالغير ، وكذا إلى العلم المنقسم إلى العلم التامّ المحيط بكلّ شيء من غير مدخلية تأثير الغير فيه وإلى العلم الناقص المستفاد من الغير المفقود بالنظر إلى ذات العالم ، ويحكمون بانّ الوجوب الذاتي وكذا العلم الذاتى بالقياس إلى الموجود بما هو موجود لا يوجبان النقص والعدم وهما ثابتان له - تعالى - ، بخلاف الغيري منهما - فانّهما معدومان مع قطع النظر عن تاثير الغير فيهما ، فلا يصلحان ان يثبتا للواجب سبحانه -.

وبهذا يندفع الايراد عليه بأنّه لو كان الأمر كذلك من اثبات اشرف طرفي النقيضين له - تعالى - يلزم اثبات الحسّ والحركة والذوق وغيرها له - تعالى - ، لأنّها أشرف من طرفها المقابل لها ؛

ووجه الاندفاع : انّ هذه ليست من الكمالات للموجود المطلق ، بل للموجود المقيد المخصّص بالاستعداد لنوع خاصّ من الموجود الناقص ، وغرض المحقّق عن ايراد كلام الامام - علیه السلام ، وهو قوله : « هل يسمّى عالما وقادرا إلاّ لأنّه وهب العلم » إلى العلماء إلى آخر ما نقل - : ان العقلاء مكلّفون إلى معرفته - تعالى - بالصفات الكمالية على وجه التنزيه عن النقائص والامكان وأن يثبتوا له - تعالى - مثلا العلم التامّ وكذا القدرة الكاملة الذاتية وكذا الإرادة الذاتية وغيرها من الصفات خارجة عن جنس ما نعقله نحن ، لأنّ كلّما حصل في المدرك - بل في عالم الامكان والتقييد - فهو راجع إلينا في كونه ممكنا محتاجا ، فلا يصلح أن / 193 MA / يكون له - تعالى - ، بل ينبغى ان يجعلوها من حيث انّها مدركة وعنوان للأمر اللائق بجنابه - تعالى - فما ندركه نحن له جهتان : جهة انّه مدرك لنا ، وهو بهذه الحيثية لا يليق به - تعالى - ، بل هو مثل الزبانيتين المثبتين له - تعالى - بالنسبة إلى النملة المستكملة بهما الحاكمة بنقص من فقد عنهما ؛

ص: 369

وجهة انّه حاكية من الأمر الكمالي المجهول بالكنه ، وهو بهذا الاعتبار يجوز أن يثبت له - تعالى كما اثبتها في محكم كتابه في مواضع عديدة لذاته المقدّسة عن كلّ قصور -.

وأنت تعلم ان حاصل ما ذكره هذا القائل مقصودا للمحقق من كلام الامام - علیه السلام - هو : انّا نعلم انّ تلك الصفات الكمالية ثابتة له - تعالى - ، إلاّ ان ثبوتها ليس من جهتها الّتي فيها نقص وامكان ، بل من جهتها الّتي ليس فيه ذلك وهو الجهة الّتي ليست معقولة لنا وإن علمنا اجمالا انّ تلك الصفات من جهة غير معقولة لنا ثابتة له - تعالى - في الواقع.

وأنت تعلم انّ ذلك راجع إلى ما ذكرناه ، لا إلى التعطيل المنفي.

وقريب منه ما ذكره المحقّق الدواني حيث قال بعد نقل كلام الامام - علیه السلام - : هذا الكلام دقيق رشيق أنيق صدر عن مصدر التحقيق ومورد التدقيق ، والسرّ في ذلك انّ التكليف لمعرفة اللّه إنّما هو بحسب الوسع والطاقة ، فانّهم كلّفوا بأن يعرفوه بالصفات الّتي الفوها فيهم مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إليهم. ولمّا كان الانسان واجبا لغيره عالما قادرا مريدا حيّا متكلّما سميعا بصيرا كلّف بأن يعتقد أنّ تلك الصفات في حقّه - تعالى - مع سلب النقائص / 195 DB / الناشئة من انتسابها إلى الانسان بأن يعتقد انّه واجب لذاته لا لغيره عالم بجميع المعلومات قادر على جميع الممكنات مريد لجميع الكائنات - وهكذا في سائر الصفات - ، ولم يكلف باعتقاد صفة فيه - تعالى - لا يوجد مثاله ومناسبة بوجه ، ولو كلّف به ما امكن تعقّله بالحقيقة ، وهكذا اخذ معنى قوله - علیه السلام - : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » (1) مع انّه - تعالى - قال : ( وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (2).

وإذا عرفت معنى عينية الصفات وعلمت جلية الحال فاعلم! : أنّ الحياة في الواجب لمّا كان عبارة عن صحّة العلم والقدرة فهي كسائر صفاته تكون عين ذاته ، بمعنى أنّ ذاته بذاته منشئا لها. وليست هي أمرا زائدا ممتازا موجودا في ذاته حتّى يلزم التركّب والتكثّر ، بل هي مفهوم اعتباري تغايرها من سائر الصفات ليس إلاّ

ص: 370


1- راجع : بحار الانوار ، ج 2 ص 32.
2- كريمة 91 ، الانعام ؛ وغيرها من الآيات.

بالاعتبار. ونسبتها إلى العلم والقدرة - أعني : صحّة الفعل والترك - كنسبة القدرة إلى الفعل والترك ، بمعنى انّه كما انّ صفة القدرة مثلا - أعني : صحّة الفعل والترك - منشئا لهما فكذا صفة الحياة - أعني : صحّة العلم والقدرة - منشئا لهما ، والمنشأ الّذي هو حقيقة الكلّ ليس إلاّ ذاته - سبحانه -.

وأمّا الحياة في الحيوان فقد عرفت انّها صفة تقتضي الحسّ والحركة ، وينبغى أن تكون هذه الصفة مغايرة للحسّ والحركة ولقوّة التغذية أيضا. واستدلّ الشيخ في القانون على مغايرتها لهما بأنّ العضو المفلوج حيّ وإلاّ لتعفّن وليس فيه الحسّ والحركة الارادية ؛ وعلى مغايرتها لقوّة التغذية بأنّ العضو الزائل حيّ وليس بمتغذّ.

وأورد على الأوّل : بأنّ العضو المفلوج ليس مسلوب الحسّ بالكلّية ؛

وعلى الثاني : بأنّه يجوز أن تكون قوّة التغذية في العضو الزائل ضعيفة بحيث تكون تغذيتها أقلّ من التحلّل ، فلذلك يظهر الذبول.

وقيل : لو استدلّ على الأوّل بالعضو المنحدر لكان أتمّ.

وفيه : إنّ ما أورد على العضو المفلوج قائم هنا أيضا ، فانّه يمكن أن يقال : انّ العضو المنحدر ليس مسلوب الحسّ والحركة بالكلّية ، فكلّ واحد منهما فيه غير تمام لا أنّه غير حاصل بالتمام.

وغير خفي بأنّ الإيرادين المذكورين موجّهان على طريقة البحث والنظر. والبيان الّذي أورده غياث الحكماء - في شرح اثبات الواجب لأبيه - لدفعهما ليس بتمام. إلاّ أنّه قال بعضهم : انّه يعلم وجود الحياة في العضو المفلوج بدون قوّة الحسّ والحركة بالبداهة أو الحدس. قال صاحب المقاصد : الحقّ ان مغايرة المعنى المسمّى بالحياة للقوّة الباصرة والسامعة وغيرهما من القوى الحيوانية ممّا لا يحتاج إلى بيان ، والغرض انّ الروح الحيواني هو جسم لطيف بخاري يتكوّن من لطافة الأخلاط وينبعث من التجويف الأيسر في القلب ويسري في البدن بسريان عروق نابتة من القلب يسمّى بالشرائين هي محلّ الروح ، وهذا الروح حامل لقوى الحسّ والحركة والحياة. وقد علم بالحدس انّ الحياة غير الحسّ والحركة ، لأنّ زوال الحياة مستلزم للنقص وزوال الحسّ والحركة

ص: 371

غير مستلزم له - كما في العضو المفلوج - ، فتحدس من ذلك انّ هذا الروح من شأنه أن يفيض الحياة على عضو وان لم يفض عليه الحسّ والحركة. وذلك إمّا بأن يكون من شأنه افاضة الحياة على عضو وان لم ينفذ فيه وتوقّف افاضته للحسّ والحركة بنفوذه فيه ، فالعضو المفلوج لمّا لم ينفذ فيه هذا الروح لم يوجد فيه الحسّ والحركة. إلاّ انّه لاتصاله بما نفذ فيه هذا الروح افيض عليه الحياة ، ولذا لم ينقص أو بطريق آخر كان / 193 MB / ينفذ في عضو روح ضعيف كان من شأنه افاضة الحياة دون الحسّ والحركة ؛ فتأمّل! (1).

ص: 372


1- ما وجدته. وانظر : شرح المقاصد ، ج 4 ص 138.

الفصل الرابع : في اثبات إرادته - سبحانه -

اشارة

ص: 373

( الفصل الرابع )

( في اثبات إرادته - سبحانه - )

اعلم! أنّه اتّفق أهل الملّة وأرباب الحكمة على أنّه - سبحانه - مريد. وقد استدلّ الأشاعرة على وجوب كونه مريدا بأنّ تخصيص بعض الممكنات بالوقوع دون البعض في بعض الاوقات دون البعض مع استواء نسبة الذات إلى الكلّ لا بدّ أن يكون لصفة شانها التخصيص - لامتناع التخصيص بلا مخصّص وامتناع احتياج الواجب في فاعليته إلى امرّ منفصل - ؛ وتلك الصفة هي المسمّاة بالارادة.

وحاصل هذا الاستدلال أنّ ذات الواجب باعتبار القدرة لا يكفي في الايجاد والتأثير ، لأنّ الذات باعتبار القدرة يكون نسبته إلى الفعل والترك وكذا إلى الضدّين متساوية - لأنّ القدرة هى صحّة الفعل والترك -. / 196 DA / وكذا مطلق العلم يتعلّق بالطرفين وبالضدين ، فنسبته إلى الطرفين والضدّين على السواء ، فالعلم المطلق أيضا لا يمكن أن يكون مخصّصا ، فلا بدّ من أمر آخر لتخصيص أحد الطرفين وأحد الضدّين ، وذلك الامر الآخر المخصّص لأحد الطرفين هو الإرادة.

ويرد على هذا الاستدلال : إنّ الصفة الّتي هي الإرادة كما يمكن تعلّقها بأحد الضدين يمكن تعلقها بالضدّ الآخر أيضا ، فالتعلّق بأحدهما دون الآخر إمّا أن لا يحتاج إلى مخصّص ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح مع لزوم عدم الاحتياج إلى الإرادة حينئذ رأسا لكفاية القدرة حينئذ في الايجاد والتأثير نظرا إلى مساواة الإرادة لها في استواء نسبتها إلى

ص: 374

الطرفين والضدّين -. فلمّا جوّز تعلّق الإرادة بأحد الطرفين والضدّين دون الآخر فليجوّز ذلك في القدرة أيضا بلا تفاوت ؛

أو يحتاج إلى مخصّص آخر ، فننقل الكلام إليه ؛ فيلزم التسلسل.

فإن قيل : ذات الإرادة كافية للترجيح ؛

قلنا : قد علم بطلان ذلك فيما سبق. مع أنّه لو صحّ أن يقال ذلك لصح أن يقال :

ذات القدرة أيضا كافية للترجيح.

وإن قيل : لا نسلّم أنّ نسبة الإرادة إلى الطرفين أو الضدّين على السواء ، لجواز أن يكون أحدهما ممتنعا فلا يتعلق به الإرادة ؛

قلنا : هذا جار في القدرة بعينه من دون تفاوت.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ مسلك الأشاعرة في اثبات الإرادة باطل ، فالمسلك الصحيح في اثباتها - بعد اجماع المليين والفلاسفة واطباق شرائع الأنبياء - كونها صفة كمال ، فيكون الفاعل بالارادة اشرف من الفاعل لا بالارادة. وكونه - سبحانه - خالقا لصاحب الإرادة فيجب أن يكون مريدا ، كما أنّ خالق العلماء يجب أن يكون عالما. قال المحقّق الطوسي في شرح الرسالة : « الإرادة في الحيوان هو شوق إلى حصول المراد أو داع يدعوا إلى تحصيله لما يتخيّل أو يتعقّل من ملائمته. ولمّا كان من دأب العقلاء أن يصفوا بارئهم بما هو أشرف طرفي النقيض وحسبوا أنّ كلّ ما يوجد بإرادة أشرف ممّا يصدر الفعل عنه من غير إرادة وصفوه بالارادة. وهي اخصّ من العلم ومرتبة فوقه ، لأنّ كلّ ما لا يعلم لا يمكن أن يراد وقد يعلم ما لا يراد » (1).

وإذا علمت ذلك فاعلم : أنّ الإرادة فينا شوق متأكّد يحصل عقيب داع هو تصوّر الشيء الملائم تصورا علميا أو ظنيا أو تخييليا موجبا لتحريك الاعضاء الآلية لأجل تحصيل ذلك الشيء.

وأمّا في الواجب - سبحانه - فالأشاعرة على أنّها صفة قديمة زائدة على الذات قائمة متغايرة للعلم والقدرة وسائر الصفات ؛

ص: 375


1- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، المسألة الثانية عشرة ص 41.

والجبائية على أنّها صفة زائدة قائمة بغير محلّ ؛

والكرامية على أنّها صفة حادثة قائمة بالذات ؛

وبعضهم على أنّها صفة سلبية بمعنى كون الفاعل غير مكره وغير ساء ؛

والكعبى على أنّ إرادته لفعله - تعالى - هو علمه به ، ولفعل غيره هو الأمر ؛

والمحقّق الطوسي وجمع من رؤساء المعتزلة على أنّها هي العلم

الخاصّ بما في وجود المخلوقات من المصالح الراجعة إليهم - أي : العلم بالنفع ، وهو الداعي - ؛

والفلاسفة علي انها هي العلم بنظام الكلّ على الوجه الاتمّ الاكمل.

ثمّ بطلان مذهب الأشاعرة ومن يقربهم من الجبائية والكرامية في غاية الظهور ؛

أمّا أوّلا : فلبطلان كون صفاته - سبحانه - زائدة على ذاته قائمة بها - للزوم التركّب والتكثر والنقص والافتقار - ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة وإن كانت قديمة عند الأشاعرة إلاّ أنّ تعلّقها حادث ، ففي تعلّقها بأحد الطرفين أو الضدّين لا بدّ له من مرجّح سوى الإرادة - كما عرفته مرارا -. والأشاعرة قالوا : لا حاجة إلى مرجّح في هذا التعلّق - لأنّ ترجيح الفاعل المختار بلا مرجّح جائز ، انّما المحال الترجّح بلا مرجّح -. وأنت قد عرفت فساد هذا القول ، فانّ الإرادة وإن كانت كافية لترجيح نفس الفعل لكن تعلّقها به لا مرجّح له ؛ ولذا إن سئل : لم اردت هذا الطرف دون الطرف الآخر لم يحر جوابا / 194 MA / ولم يستطع أن يقول : لأني أردته!. على أنّ الترجّح بلا مرجّح مستلزم للترجيح بلا مرجّح ، لأنّ الترجيح لا ينفكّ عن الترجّح - يقال : رجّحته فترجّح ، فانّ التفعّل مطاوع فعل - ؛ فاذا كان الأصل - أعني : الترجيح - بلا مرجّح كان المطاوع - أعني : / 196 DB / الترجّح - أيضا كذلك. على أنّ معنى الترجّح بلا مرجّح هو اختيار الفعل لأحد الطرفين مع تساوي نسبته إليهما ، ونحن نقول مع تساوي نسبة الطرفين إلى إرادة الفاعل إذا تعلّق إرادته بأحدهما من غير سبق إرادة اخرى بكون مرجّح لحدوث الإرادة الأولى يكون حدوث هذه الإرادة ترجّحا بلا مرجّح لا ترجيحا بلا مرجّح لأنّ الإرادة شيء من الأشياء موجود من

ص: 376

الموجودات والفرض أنّ حدوثها وعدم حدوثها بالنسبة إلى أحد الطرفين على السواء ولا رجحان على عدم حدوثها ، ومع ذلك إنّها وجدت وحدثت من دون مرجّح من الارادات المتسلسلة إلى غير النهاية. والفاعل من حيث هو فاعل من دون انضمام مرجّح آخر لا يصحّ لأن يكون مرجّحا لحدوث هذه الإرادة ؛ فاذا حدثت مع ذلك لترجّحت وجودها على عدمها من دون رجحان - وهو الترجّح بلا مرجّح -. فالمتحقّق في هذه الصورة ليس إلاّ الترجّح بلا مرجّح حتّى يتحقّق الاستلزام ، لأنّ رجحان وجود الإرادة على عدمها ناش من قبل نفسها لا من قبل الفاعل ، فيكون ترجّحا لا ترجيحا.

وقال بعض تابعي الأشعري : إنّ هذا الاستلزام مندفع بالتخصيص.

وهذا القول يحتمل وجهين :

أحدهما : إنّه وإن لزم الترجّح بلا مرجّح في تعلّق الإرادة بأحد طرفي المقدور - لاستواء نسبتهما إليه - ، لكن هذا القسم من الترجّح - أي : الّذي في صورة الإرادة - جائز ، فانّ الترجيح المحال انّما هو الترجيح الّذي لا يكون في ضمن الترجيح بلا مرجّح بالارادة ؛ وأمّا إذا كان في ضمنه - كما فيما نحن فيه - فهو جائز. والحاصل : إنّ قولنا : إنّ الترجيح بلا مرجّح انّما يتحقّق إذا لم يكن هناك فاعل مرجّح بإرادته ، وإذا كان فاعل مرجّح بإرادته فلا يلزم ترجّح بلا مرجّح أصلا.

وأنت خبير بانّ كلا الوجهين في غاية السقوط ؛

امّا الأوّل : فلأنّ الترجيح بلا مرجّح باطل مطلقا - سواء كان في ضمن الترجيح بلا مرجّح أو لا - ، والتخصيص فيه تخصيص في القواعد العقلية ؛

وامّا الثاني : فلما عرفت من أنّ الترجيح لا ينفكّ عن الترجّح ، فاذا فرض تساوي نسبة تعلّق إرادة الفاعل إلى الفعل أو الترك حتّى كان ترجيحه بلا مرجّح لكان الترجيح المترتّب عليه أيضا بلا مرجّح وإن كان الفاعل مختارا ، لأنّ تساوي اختياره في التعلّق بالطرفين من غير تعلّق الإرادة متسلسلة لا إلى نهاية يوجب لزوم الترجّح بلا مرجّح من غير آخرية لأحدهما.

وقد ظهر بما ذكر أنّه لا ريب في بطلان مذهب الأشاعرة وما يقربه من المذاهب

ص: 377

المذكورة ما عدا المذهبين الاخيرين - أعني : مذهب المحقّق الطوسي ورؤساء المعتزلة ومذهب الفلاسفة - ، فلنتكلّم في هذين المذهبين.

فنقول : أمّا مذهب المحقّق - أعني : القول بكون الإرادة عين الذات ، أعني : العلم بالمصلحة والنفع - فاستدلّوا عليه بأنّه لا يمكن أن يكون الإرادة أمرا آخر سوى الداعي ، إذ لو كانت أمرا آخر سواه لزم التسلسل ، وإلى هذا اشار المحقّق الطوسي في التجريد بقوله : « وليست زائدة على الداعي وإلاّ لزم التسلسل أو تعدّد القدماء » (1).

ثمّ قيل : ان المحقّق الطوسي ومن تبعه في كون الإرادة هو الداعي لمّا ذهبوا إلى أنّ الداعي هو عين الذات فحاصل الدليل : أنّ الإرادة - الّتي هي أمر لا يترجّح أحد متعلّقى القدرة على الآخر إلاّ به - ليست زائدة على الذات ، وإلاّ لزم التسلسل في الإرادة - كما التزمه بعض مشايخ المعتزلة - ، أو تعدّد القدماء - كما التزمه بعض المتكلّمين - ، وكلاهما محالان. وحينئذ يندفع ما أورد على هذا الدليل المذكور : بأنّ لزوم التسلسل أو تعدّد القدماء لازم على أيّ حال إذا كانت الإرادة زائدة على الذات - سواء كانت نفس الداعي أو أمرا آخر / 197 DA / زائدا عليه -. والحاصل : إنّ الإرادة لو كانت زائدة على الذات يلزم أحد الامرين من تعدّد القدماء أو التسلسل - سواء كانت الإرادة زائدة على الداعي أو لا - ، فلا يثبت بهذا المدّعى - وهو عينية الإرادة للداعى - ، إذ لنا أن نسلّم عينية الإرادة للذات وعدم عينيتها للداعى. وحينئذ لا يلزم شيء من المحذورين المذكورين ، إذ بعد عينيتها للذات لا مجال ليتصوّر لزوم التسلسل أو تعدّد القدماء وإن كانت غير الداعي.

ووجه الاندفاع : إنّ الداعي هو عين الذات عند من استدلّ بهذا الدليل - أعني :

المحقّق وامثاله - ، فمقصودهم من قولهم : إنّ الإرادة غير زائدة على الداعي أنّها غير زائدة على الذات أيضا ، بل هي عين الذات وإلاّ لزم أحد الامرين المذكورين من التسلسل أو تعدّد القدماء.

وردّ الدفع المذكور بأنّه على هذا لا يكون القدرة أيضا زائدة / 194 MB / على الداعي ، فانّ الصفات كلّها عين الذات عند المحقّق وامثاله ، فلا وجه لحكمهم بانّ الإرادة

ص: 378


1- راجع : المسألة الرابعة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 223.

ليست زائدة على الداعي دون القدرة وباقي الصفات المذكورة. والحاصل : إنّ الكلام في الصفات المتغائرة بالاعتبار ، وهو لا ينافي عينية الكلّ للذات - تعالى شأنه -. ولا يلزم أن يكون البحث عن الصفات واثباتها ونفيها على مذهب العينية لغوا محضا ، فلا بدّ للمستدلّ من اثبات أنّ الإرادة ليست مغايرة للداعى بالاعتبار أيضا وليست اعتبارا آخر للذات سوى الداعي.

فحاصل الايراد المذكور على الدليل المذكور : إنّ ما ذكر من التسلسل أو تعدّد القدماء يلزم على زيادة الإرادة على الذات ، فيدلّ على عينيتها للذات دفعا للمفسدة ، ولا يلزم منه أن يكون عين الداعي كما لا يلزم من عينية الصفات للذات أن يكون بعضها عين بعض حتّى لا يتعدّد الصفات بالاعتبار أيضا. والحاصل إنّ عينية الداعي للذات بحسب الواقع والخارج لو كان منشئا للحكم بأنّ الإرادة عين الداعي كذلك يوجب الحكم بانّها عين القدرة والتكلّم والحياة وغيرها كذلك ، لأنّ جميعها عين الذات في الخارج وإن كانت متغايرة ومغايرة للذات بالاعتبار ، فالتخصيص تحكّم!.

وإن قيل : المراد إنّ الداعي عين الذات بحسب الاعتبار أيضا بمعنى أنّه لا تغاير بينهما ولو بحسب الاعتبار ، والإرادة أيضا عين الداعي كذلك - أي : لا تغاير بينهما ، لا في الخارج ولا في الاعتبار -.

قلنا : هذا بديهى البطلان! ، لأنّ التغاير الاعتباري بين الذات والداعي وبين الإرادة والداعي ممّا لا يمكن أن ينكره عاقل. على أنّه لو صحّ هذا القول لصحّ اجرائه في باقي الصفات بالنسبة إلى الذات وبنسبة بعضها إلى بعض أيضا ، فالتخصيص تحكّم باطل!.

وأجيب عن هذا الردّ : بأنّ الداعي كالارادة عين الذات عند المحقّق ، فمراده من قوله : إنّ الإرادة عين الداعي : أنّها عين الذات وحينئذ يتمّ الدليل ، لأنّ المورد معترف بانّ الدليل تمام على تقدير اجرائه على عينية الإرادة للذات. للداعى ايماء إلى أنّ علمه - تعالى - بصلاح نظام العالم وبمنافع الغير وترتيب الخير - المسمّى بالداعي - هو نفس الإرادة المرجّحة لأحد طرفي المقدور ، وهذا ممّا لا يحتاج إلى دليل. وما ذكر ليس دليلا

ص: 379

لذلك ، بل هو دليل لعينية الإرادة للذات. وحينئذ لا يرد على المحقّق ومن تابعه إنّ عينية الداعي للذات لو كان موجبا لعينية الإرادة له يلزم عينية جميع الصفات الحقيقية بعضها للبعض - كعينية القدرة للارادة وعينية السمع للكلام بمعنى التكلّم ، الّذي هو أيضا عين ذاته وإن كان الكلام بمعنى المؤلّف من الحروف والاصوات زائدا على ذاته تعالى -. وخلاصة هذا الجواب : إنّ مراد المحقّق وغيره ممّن استدلّ بهذا الدليل على بيان عينية الإرادة للذات لا للداعي حتّى يرد أنّ الفساد اللازم من هذا الدليل - أعني : التسلسل وتعدّد القدماء - يلزم على تقدير كون الإرادة زائدة على الذات وإن كانت عينا للداعي ، وإن وقع ذلك بأنّ الداعي عند المحقّقين عين الذات ، فالمقصود إنّ الإرادة عين الذات أيضا.

وردّ عليه حينئذ أنّ جميع الصفات كذلك ، فتخصيص هذا الحكم بالارادة تحكّم!. وأمّا إذا كان المراد بيان مجرّد عينية الإرادة للذات دون الداعي فلا يرد شيء ممّا ذكر ، غاية ما في الباب إنّه عبّر عن الذات بالداعي للنكتة المذكورة.

وأنت تعلم أنّ هذا الجواب ليس / 197 DB / بشيء ، لأنّ لبيان عينية الصفات للذات - سواء كانت إرادة أو غيرها - مبحثا على حدة ؛ وقد اشار المحقّق أيضا بعد ذلك إلى عينية جميع الصفات ، فتخصيص عينية الإرادة حينئذ هنا بالذكر لا وجه له. على أنّ المحقّق وغيره ممّن استدلّ بهذا الدليل مذهبهم أنّ الإرادة عين الداعي ، فلا بدّ لهم من اقامة برهان على ذلك ، فلو لم يجعل هذا الاستدلال برهانا على ذلك لنفي مذهبهم هذا يكون مجرّد دعوى من دون حجّة لاثباته.

وما اشار إليه المجيب المذكور من : « أنّ عينية الإرادة لعلمه - تعالى - بصلاح نظام الخير لا يحتاج إلى دليل لظهوره » في غاية الوهن والضعف! ، لانّه إن كان مراده من العينية هو العينية الشاملة للعينية بحسب الاعتبار والمفهوم أيضا فبطلانه لا يحتاج إلى بيان ، لأنّا نعلم بديهة أنّ الإرادة مغايرة بحسب الاعتبار للعلم بالاصلح ؛ وإن كان مراده من العينية هو العينية بحسب الخارج دون الاعتبار فجميع صفات الواجب عين ذاته بهذا المعنى وبعضها عين البعض الآخر كذلك ، فاذا لم يحتج عينية الإرادة منها للداعي لم يحتجّ عينية الإرادة وغيرها من الصفات للذات أيضا إلى دليل. وممّا يدلّ على أنّ حكم المحقّق

ص: 380

الطوسي بعينية الإرادة للداعى ليس منشأه هو كون الداعي عين ذاته حتّى يكون أصل غرضه اثبات عينية الإرادة للذات / 195 MA / إنّه - رحمه اللّه - قد حكم بعدم زيادة الإرادة على الداعي في الممكنات أيضا ، حيث قال في مبحث الاعراض من التجريد : « ومنها - أي : ومن الكيفيات النفسانية - الإرادة والكراهة ، وهما نوعان من العلم » (1).

وغير خفيّ بأنّ التأويل المذكور لا يجري في إرادة الممكنات ، لأنّ عينية الصفات للذات عند المحقّق لا يكون إلاّ في الواجب دون الممكنات. وقد ظهر ممّا ذكر أنّ الاستدلال المذكور على كون إرادته - سبحانه - عين علمه بالأصلح غير تامّ. وبذلك يظهر عدم تمامية ما ذهبوا إليه من كون الإرادة في الواجب - تعالى - نفس العلم بالاصلح مع أنّ الظاهر مغايرة الإرادة للعلم بالأصلح ، لأنّ الإرادة مقابل الكراهة ويعبّر عنها بالفارسية ب : « خواستن » ، ومعلوم بالضرورة أنّ هذا المعنى غير العلم بالأصلح بمعنى الظهور والانكشاف وإن كان مبدأهما ومنشأهما ذاتا واحدة هو الواجب - سبحانه - ؛ هذا.

وقيل : يمكن أن يوجّه كلام المحقّق الطوسي - أعني : الاستدلال المذكور - بحيث يكون تماما بأن يقال : إنّ مراده أنّ الإرادة الّتي قلنا أنّها مخصّصة للايجاد لو كان غير الداعي الّذي هو العلم بالنفع لكان غير الذات باعتبار أنّه علم بالنفع ، ولو كان غير الذات باعتبار أنّه علم بالنفع لكان غير الذات مطلقا ، لأنّ الذات من غير اعتبار كونه علما بالنفع لوجود حادث في وقت معيّن بدون ملاحظة أنّ بعض الأوقات اصلح للصدور نسبته - سبحانه - إلى جميع الأوقات والممكنات على السواء - كما ذكر في أدلّة عموم قدرته تعالى - ، والإرادة لا يكون نسبتها إلى الجميع على السواء ، فلا يكون عين الذات بدون الاعتبار المذكور - أي : اعتبار كونه علما بالنفع - ، بل يكون مغايرا له ؛ فاذا لم يكن عين الذات مع الاعتبار المذكور أيضا - أعني : اعتبار كونه علما بالنفع الّذي يسمّى بالداعي - كان مغايرا للذات مطلقا. وحينئذ نقول : إن كانت هذه الإرادة المغايرة للذات قديمة يلزم تعدّد القدماء ؛ وإن كانت حادثة يلزم التسلسل. والحاصل : إنّ المحقّق و

ص: 381


1- راجع : المسألة الخامسة والعشرون من الفصل الخامس من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ، ص 194.

المعتزلة قالوا : لا بدّ لترجيح الفاعل المختار سوى ذاته من أمر مرجّح لوجود الفعل على عدمه في نظره ، فهذا المرجّح ليس من طرف الفاعل بل لا بدّ من حصول اختلاف خارجي قطعا حتّى يختلف نسبة الفاعل إلى الأشياء باختلافه وملاحظته والتعلّق به من طرف الفاعل ، فاذا لم يكن كذلك لم يمكن اقدام المختار على الفعل عندهم ؛ ويسمون العلم بهذا المرجّح وملاحظته داعيا. وقالوا : هذا العلم هو مخصّص لتعلّق الايجاد بشيء دون شيء وفي وقت دون وقت باعتبار معلومه المختلف بحسب اختلاف نفسه ، ويسمون هذا المخصّص الكذائى بالارادة أيضا.

واستدلّ المحقّق على أنّ هذا العلم هو المخصّص الكذائي دون شيء آخر بانّا لو قطعنا النظر عن هذا العلم بالمعلومات المختلفة الّذي هو في الواجب - تعالى - عين الذات وكان المخصّص غيره وقد ذكرنا أنّه لا بدّ في المخصّص من اختلاف النسبة حتّى يصلح للتخصيص والذات الأحدي / 198 DA / من غير اعتبار علمه المختلف نسبته باعتبار اختلاف المعلومات لا يختلف نسبته بشيء من الاشياء قطعا ، فيلزم كونه أمرا خارجا مغايرا للذات ؛ فان كان قديما يلزم تعدّد القدماء ؛ وإن كان حادثا يلزم التسلسل. وعلى هذا لا يرد عليه ما أورد عليه من : أنّه لا دخل لكون الإرادة عين الذات أو غيره في التزام الفسادين ، بل انّما يلزمان من زيادة الإرادة ، فان كانت زائدة يلزم الفسادان وإلاّ فلا ؛ فمن لم يقل بزيادتها فلا فساد عليه سواء قال بانّها عين الداعي أو لا. ووجه عدم الورود انّك قد عرفت أنّ كونها غير الداعي حتّى بالاعتبار يستلزم كونها غير الذات مطلقا ، فيلزم الفسادان. وعلى ما ذكر فما ذكره المحقّق في التجريد بقوله : « وتخصيص بعض الممكنات بالايجاد في وقت يدلّ على إرادته » (1) لا يثبت منه سوى وجود مخصّص يقتضي تخصيص الايجاد بشيء دون شيء ووقت دون وقت ، وسمّاه بالارادة. واستدلّ على أنّها نفس العلم بالنفع ، ولم يثبت عنده شيء سوى المخصّص المذكور كميل وعزم حتّى يقال : إنّه غير الداعي أو عينه. والحاصل : إنّ ما ثبت عند المحقّق الطوسي أنّه لا بدّ من وجود أمر للتخصيص وسمّاه بالارادة ، واثبت أنّه هو الداعي بالدليل المذكور ، ولم يثبت

ص: 382


1- راجع : المسألة الرابعة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 223.

عنده أزيد من ذلك حتّى ينظر أنّه أيّ شيء هو ، ومن اثبت شيئا آخر زائدا على المخصّص المذكور - كميل وعزم وامثالهما وسمّاه بالارادة وقال : انّها زائدة على الداعي - فلا يضرّ المحقّق وامثاله ، لأنّ مدّعاه انّ المخصّص هو الداعي - لأنّ كلّ ما اثبته أحد هو الداعي - ، وقد ثبت بالدليل المذكور أنّ مناط التخصيص ومنشأه لا يمكن أن يكون سوى العلم المذكور ولم يقصد بالمخصّص سوى ما هو مناطه. ولو قال أحد : إنّه يحصل من هذا المناط شيء آخر سمّاه بالارادة ، فلا مضايقة معه ؛ إلاّ أنّه لم يثبت ذلك عند المحقّق ، بل ما ثبت عنده هو أنّه لا بدّ من وجود مخصّص والمخصّص ليس إلاّ العلم بالنفع ، ومعلوم أنّ / 195 MB / الإرادة أيضا مخصّصة ، فسمّى العلم بالنفع إرادة » ؛ انتهى.

اقول : غير خفيّ بانّ الإرادة مغايرة بالمفهوم للعلم بالأصلح ، فانّ ما يفهم من الإرادة هو ما يعبر عنه بالفارسية ب : « خواستن » ، وما يفهم من العلم هو الانكشاف ، وتغاير هذين المعنيين بالاعتبار ممّا لا ريب فيه ، فانّه يمكن أن يتحقّق العلم بصلاح شيء من دون أن تحقّق إرادته ، فالعلم بالأصلح مقدّم على إرادته ؛ ولهذا يصحّ أن يقال : علم صلاحية وجود الأمر الفلاني ثمّ اراده. فكما أنّ جميع الصفات - من العلم والقدرة والحياة والبقاء - إذا اخذت بمعانيها الاضافية الاعتبارية متغايرة بالمفهوم ومغايرة للذات أيضا وليست متغايرة بحسب الحقيقة والمصداق وجميعها عين الذات بمعنى أنّه ليس لكلّ منها مبدأ عرضي خارجي قائم بالذات بل منشأ الجميع ومصحّحه ومناطه هو الذات فقط من دون افتقار إلى شيء آخر ، فكذلك الإرادة والعلم بالأصلح متغايران بالمفهوم متحدان بحسب الحقيقة والمصداق بمعنى أنّ منشأهما مجرّد الذات بذاته ؛ فالحكم باتحادهما إن كان المراد منه الاتحاد بحسب المفهوم والاعتبار فهو باطل - لما عرفت من أنّ مفهوم الإرادة غير مفهوم العلم بالأصلح -.

وأمّا ما استدلّ به القائل المذكور لاتحادهما من : أنّه لو كان غير الداعي - الّذي هو العلم بالنفع - لكان غير الذات باعتبار أنّه علم بالنفع - ... إلى آخره - ؛

ففيه : إنّه لا ريب في أنّ الإرادة بمعنى الصفة الاضافية مغايرة للذات باعتبار أنّه علم بالنفع ومغايرة للذات مطلقا أيضا - كباقي الصفات - ؛ وأمّا الإرادة الحقيقية - أي :

ص: 383

ما هو المبدأ والمنشأ للارادة الاضافية - فلا ريب في كونها عين الذات - كباقى الصفات أيضا بمعانيها الحقيقية -. فما ذكره من أنّ الإرادة لو كانت زائدة على الذات مطلقا لزم قدمها أو التسلسل ؛

ففيه : إنّ الإرادة الحقيقية - أي : ما هو المبدأ والمنشأ - فهو عين العلم بالأصلح بمعناه الحقيقى وعين الذات مطلقا أيضا ، إلاّ أنّ جميع الصفات بمعانيها الحقيقية بعضها عين بعض وجميعها عين الذات أيضا. والإرادة بالمعنى الاضافية لا يوجب قدمها فسادا ، لأنّ قدم الأمر الاعتباري الاضافي لا يوجب قدم أمر خارجي كقدم سائر الصفات الاضافية في الذات باعتبار كونه منشئا لانكشاف علم حقيقي ، وباعتبار كونه منشئا للصدور واللاصدور قدرة حقيقية وباعتبار كونه مرجّحا لوجود العالم على عدمه إرادة حقيقية. ومن قال الإرادة نفس العلم بالأصلح يقول الذات باعتبار الذات بدون اعتبار كونه علما بالنفع وبالنظام الأعلى هو القدرة ، وباعتبار أنّه علم بالنظام الأعلى هو الإرادة / 198 DB / المرجّحة. وبذلك يندفع ما يقال : إنّه إذا كانت الإرادة المرجّحة لأحد طرفي المقدور عين الذات لم تكن القدرة عين الذات ، إذ المعتبر فيها تعلّقها بالطرفين على السواء.

وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّ القول بأنّ الإرادة نفس العلم بالأصلح - كما هو مذهب المحقّق الطوسي ورؤساء المعتزلة - أو نفس العلم بالنظام الكلّي الجملي - كما نسب إلى الحكماء - ضعيف ، لأنّ الإرادة انّما هو بعد العلم. واثبات صفة اضافية هي الإرادة سوى العلم للواجب لا يوجب نقصا فيه ، وإلاّ لتأتّى ذلك في غيرها من الصفات أيضا. فمطلق العلم هو الانكشاف ، والعلم بالأصلح هو انكشاف هذا الأصلح ، والقدرة هو التمكّن من الفعل أو الترك بالنظر إلى الذات ، والمشية هو القصد أو الميل إلى الفعل أو الترك بحسب المصلحة أو المفسدة بحيث يحتملهما جميعا ، والاختيار هو ايثار أحد الطرفين وترجيحه والميل إليه بسبب المصلحة ، والإرادة تعلّق القصد بأحد الطرفين الّذين اختاره ومال إليه. فالمشية بعد تعيّن أحد الطرفين يصير اختيارا والاختيار بعد العزم والجزم يصير إرادة ، فالمختار من ينظر في أحد الطرفين ويميل إليه ، والمريد هو

ص: 384

الناظر العازم إلى الطرف الّذي مال إليه ، فالاختيار متوسّط بين المشية والإرادة ، لأنّ الفاعل يشاء أوّلا ثمّ يرجّح أحد الطرفين ثمّ يعزم عليه ؛ فالمشية إذا عزمت تصير إرادة. وإلى هذا يشير ما روي عن أبي الحسن الرضا - علیه السلام انّه قال : يا يونس تعلم ما المشية؟ ؛

قال : لا ؛

قال : هي الذكر الأوّل ؛ فتعلم ما الإرادة؟ ، / 196 MA /

قال : لا ؛

قال : هي العزيمة على ما يشاء (1).

ثمّ إن منع إطلاق القصد على مشيته وإرادته - تعالى - فليعبّر عنهما بالرضا أو الابتهاج أو الحثّ أو ما يناسبها ممّا يعبر عنه بالفارسية ب : « خواستن ». على أنّ ما ذهب إليه الفلاسفة من امتناع تحقّق القصد أو الميل أو العزم أو ما يشابهها للواجب - سبحانه - دليلهم على ذلك إنّ الفاعل بالقصد يكون فعله لغرض البتة ، والفاعل بالغرض يكون مستكملا به أعمّ من أن يكون الغرض عائدا إلى ذاته أو إلى غيره ، لأنّ اتصال النفع إلى الغير إن كان لأجل قصد شوقي يوجب الاستكمال مع أنّه - سبحانه - منزّه عن الاستكمال ، بل هو الجواد الحقّ المطلق وهو الّذي تفيض منه الفوائد لا لشوق منه ولا بطلب قصدي لشيء يعود إليه ، إذ الجود هو افادة ما ينبغى لا لعوض ولا لاحسان ومدح وثناء ولا للتخلص عن المذمّة.

ولا ريب في أنّ هذا الايراد - أعني : لزوم تأتّي الغرض - يرد ظاهرا في صورة كون إرادته بنفس العلم بالأصلح ، وما يجاب به عنه هنا يمكن أن يجاب به في صورة كون إرادته القصد أو الميل أو امثالهما.

وسنشير إلى حقيقة الحال في ذلك.

ثمّ إنّ ما نسب إلى الحكماء من أنّ الإرادة عندهم نفس العلم بنظام الخير فالظاهر إنّه خلاف الواقع ، فانّ الظاهر من كلام الشيخ إنّ إرادته - سبحانه - عندهم ما يعبّر عنه

ص: 385


1- راجع : بحار الأنوار ، ج 5 ص 117.

بالفارسية ب : « خواستن » من الرضا أو الابتهاج أو الحبّ أو العشق أو امثال ذلك ، فانّه قال في رسالته لاثبات المبدأ الأوّل في بيان إرادته - تعالى - : « هذه الموجودات كلّها صادرة من ذاته - تعالى - ومن مقتضى ذاته ، فهي غير منافية له. ولانّه يعشق ذاته ، فهذه الاشياء كلّها مرادة لأجل ذاته ، فكونها مرادة له ليس لأجل غرض ، بل لأجل ذاته - لانّها مقتضى ذاته -. فليس يريد هذه الموجودات لانّها هي ، بل لأجل ذاته ولانّها مقتضى ذاته. مثلا لو كنت تعشق شيئا لكان جميع ما يصدر عنه معشوقا لك لأجل ذلك الشيء ، ونحن انّما نريد لأجل الشهوة واللذة لا لأجل ذات الشيء المراد ». ثمّ قال : « فنقول : هذه المعلومات صدرت عن مقتضى ذات واجب الوجود بذاته المعشوقة له مع علم منه بأنّه فاعلها وعاقلها ، وكلّ ما صدر عن شيء على هذه الصفة فهو غير مناف لذلك الفاعل وكلّ فعل يصدر عن فاعل وهو غير مناف له فهو مراده ، فاذن الاشياء كلّها مرادة للواجب - تعالى - وهو المراد الخالي عن الغرض ، لأنّ الغرض في رضاه بصدور تلك الأشياء عنه أنّه مقتضى ذاته المعشوقة ، فيكون رضاه بتلك الأشياء لأجل ذاته ، فيكون الغاية في فعله ذاته. ومثال هذا إذا أحببت شيئا لأجل انسان كان المحبوب بالحقيقة ذلك الانسان ، فكذلك المعشوق المطلق هو ذاته. ومثال الإرادة فينا : انّا نريد شيئا فنشتاقه - لانّا محتاجون إليه - ، وواجب الوجود يريده على الوجه الّذي ذكرناه ، ولكنه لا يشتاق إليه - لانّه غني عنه -. فالغرض لا يكون إلاّ مع الشوق ، فانّه يقال : لم طلبت هذا؟ ؛ فيقال : لأنّه اشتاقه ؛ وحيث لا يكون الشوق لا يكون / 199 DA / الغرض » ؛ انتهى.

وغير خفيّ بأنّ في هذا الكلام مواضع تدلّ على أنّ إرادته - سبحانه - ليست عين علمه بنظام الكلّ ، بل ارادته لشيء هو رضاه - تعالى - أو ابتهاجه به أوجبه له - أو غير ذلك ممّا يناسب امثال تلك الألفاظ -.

وقد ظهر ممّا قرّرناه أنّ الداعي للايجاد هو العلم بالأصلح وهو منشئا ومصحّح للارادة ، وهي غير الداعي بالاعتبار.

ثمّ إن قيل : لمّا كانت الإرادة - سواء كانت نفس الداعي أو غيرها - على ما اخترت عين الذات بمعنى أنّ الذات بذاته كانت منشئا لها كان المرجّح مجرّد الذات فلا يمكن صدور

ص: 386

الطرف الآخر عنه - لأنّ مقتضى الذات ممتنع الانفكاك عنه - فلا يكون الذات قادرا حينئذ - إذ يعتبر في القدرة أن يكون تعلقها بالطرفين على السواء - ؛

قلنا : القدرة عند الحكماء هو التمكّن من فعل العالم مع العلم وإن وجب بالنظر إلى الذات ولم يمكن الترك ، والإرادة عندهم هو عين العلم بالنظام الكلّي - كما نسب إليهم في المشهور - أو غيره بالاعتبار كالرضا والابتهاج ومثلهما - على ما ظهر من كلام الشيخ - ، والقدرة عند المتكلّمين هو امكان الفعل والترك بالامكان الذاتي أو الوقوعى. وقد عرفت فيما سبق أنّ الاكثر نسب القول بالقدرة بمعنى امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات إلى الحكماء أيضا ، ولكنّه قد عرفت ما فيه. والإرادة عندهم - أي : عند المتكلّمين - إمّا العلم بالأصلح - كما اختاره العلاّمة الطوسي وبعض رؤساء المعتزلة - أو غيره ممّا يعبر عنه / 196 MB / بالفارسية ب : « خواستن » كالرضا والابتهاج ومثلهما ، فعلى الأوّل - أعني : على القول بكون القدرة هو التمكّن من ايجاد العالم وإن وجب بالنظر إلى الذات وكون الإرادة عين العلم بالنظام الأصلح ، كما ذهب إليه الحكماء - فلا يرد الشبهة المذكورة أصلا ، لأنّ القدرة بهذا المعنى لا ينافي الإرادة بهذا المعنى مطلقا ، فانّ حاصل هذا القول : إنّ ذات الواجب بذاته اقتضى تمثّل نظام الخير في ذاته وانكشافه لذاته ، واقتضى هذا التمثل والانكشاف صدوره عنه - سبحانه - ؛ فهذا الصدور مع العلم هو القدرة ، وهذا العلم هو الإرادة.

وعلى هذا لا يرد أيضا لزوم تأتّي الغرض في فعله ، ولا لزوم التفات العالي إلى السافل. وعلى الثاني - أعني : كون القدرة هو التمكّن من ايجاد العالم مع العلم وكون الإرادة ما يلزم من العلم بنظام الخير من الرضا أو الابتهاج وما شابههما - فالشبهة المذكورة أيضا غير واردة أصلا ، لأنّ الرضا والابتهاج بالفعل لا ينافي القدرة بمعنى التمكّن من الفعل مع وجوبه ، فانّ القدرة بهذا المعنى لا ينافي الوجوب ، فلا ينافي الإرادة الموجبة أيضا.

نعم! ، يرد حينئذ كون فعله - تعالى - معلّلا بالغرض ، لأنّ الرضا والابتهاج بفعل يكون مشتملا على الغرض البتة إمّا عائدا إلى ذات الفاعل أو إلى غيره ، وعلى

ص: 387

الصورتين يلزم الاستكمال ، ويلزم أيضا التفات العالي إلى السافل ؛ والحكماء لا يقولون به.

والجواب عنه هو ما ظهر من كلام الشيخ في العبارة المنقولة عنه ، وحاصل الجواب : أنّ الممكنات المعلولة له الصادرة عنه لمّا كانت من لوازم ذاته ورشحات فيضه فرضاه وابتهاجه بها انّما هو لأجل كونها لوازم ذاته لا لأجل انفسها حتّى يلزم استكماله بها ، فانّه لمّا علم ذاته الّذي هو أجلّ الأشياء بأجلّ علم يكون مبتهجا بذاته اشدّ الابتهاج ، ومن ابتهج بشيء ابتهج بجميع ما يصدر عن ذلك الشيء من اجل أنّه يصدر عن ذلك الشيء ؛ فالواجب - تعالى - لا يريد الأشياء لا لأجل ذواتها من حيث ذواتها ، بل لأجل أنّها صدرت من ذاته - تعالى -. فالغاية بهذا المعنى في الايجاد نفس ذاته - تعالى - ، وكلّ ما كان فاعليته لشيء على هذا السبيل يكون فاعلا وغاية معا لذلك الشيء. وما قالوا من أنّ العالي لا يلتفت إلى السافل ولا يريده في فعله وإلاّ لزم أن يكون مستكملا به - لكون وجوده أولى له من عدمه والعلّة لا يستكمل بالمعلول - ، لا ينافي ذلك ؛ إذ المراد من الإرادة والالتفات المنفيين عن العالي بالقياس إلى السافل هو ما يكون بالذات لا بالعرض ، فلو أحبّ واجب الوجود مفعوله وأراده لأجل كونه أثرا من آثار ذاته ورشحا من رشحات فيضه وجوده لا يلزم أن يكون وجوده له بهجة وخيرا ، بل بهجته انّما هي بما هو محبوب بالذات - وهو ذاته المتعالية الّتي كلّ جمال وكمال رشح وفيض من جماله وكماله -. فلا يلزم من حبه - تعالى - وإرادته له استكماله بغيره ، لأنّ المحبوب والمراد بالحقيقة نفس ذاته ، كما انّك إذا أحببت انسانا فتحبّ آثاره لكان المحبوب لك بالحقيقة ذلك الانسان. قال الشيخ في التعليقات : « ولو أنّ انسانا عرف الكمال الّذي هو حقيقة واجب الوجود ثمّ / 199 DB / كان ينظم الأمور الّتي بعده على مثاله حتّى كانت الأمور على غاية النظام لكان غرضه بالحقيقة واجب الوجود بذاته - الّذي هو الكمال - ، فان كان واجب الوجود بذاته هو الفاعل فهو أيضا الغاية والغرض » (1) ؛ انتهى.

قيل : ومن هاهنا يظهر حقيقة ما قيل : لو لا العشق ما يوجد سماء ولا أرض ولا بحر

ص: 388


1- راجع : التعليقات ، ص 18.

ولا برّ.

ثمّ إنّ الحكماء كما قالوا إنّ الواجب - تعالى - غاية بالمعنى المذكور قالوا إنّه - تعالى - غاية بمعنى أنّ جميع الأشياء في حركاتها وأفاعيلها طالبة للتشبه به ، ولكلّ منها عشق وشوق إليه اراديا كان أو طبيعيا ؛ ولذا حكم الإلهيون بسريان العشق والشعور في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتهم ؛ وحكم الشيخ في التعليقات بأنّ القوى الأرضية كالنفوس الفلكية في أنّ الغاية في افاعيلها ما فوقها - إذ هي لا يحرّك المادّة ليحصل ما تحتها من المزاج وغيره وإن كانت هذه من التوابع اللازمة - ، بل الغاية لفعل كلّ منها تحصيل الكمال الّذي يتصوّر في حقّه واستكماله بما فوقه وتشبّهه به إلى أن تنتهي سلسلة الاستكمالات والتشبّهات إلى الغاية الأخيرة والكمال الاقصى - أعني : الواجب سبحانه -. ومن هنا يظهر سرّ كلامهم : لو لا عشق العالي لانطمس السافل.

فان قيل : كيف يكون ذات الواجب باعتبار علمه بنظام الخير غاية وغرضا له - تعالى - في الايجاد عند الحكماء مع أنّهم صرّحوا بأنّ العلّة الغائية ما يقتضي فاعلية الفاعل ، فيلزم أن يكون ذاته - تعالى - علّة لذاته! ؛

قلت : / 197 MA / أجابوا عنه : بأنّ المراد من الاقتضاء والاستلزام مطلق عدم الانفكاك سواء كان مع التغاير بين العلّة الغائية والفاعلية أم لا ، فاقتضاء العلّة الغائية هنا - أعني : ذاته تعالى - لفاعليته - سبحانه - بمعنى عدم انفكاك ذاته عن فاعليته وإن لم يتحقّق التغاير ولم يقم ضرورة ولا برهان على أنّ الفاعل المختار لشيء والغاية له يجب أن يكونا متغايرين في الحقيقة ، بل ربما يكونان متحدين في الحقيقة ، فانّ الفاعل هو ما يفيد الوجود والغاية هي ما يفاد لأجله الوجود - سواء كانت نفس الفاعل أو أعلى منه -. ولو كانت الغاية قائمة بذاتها وكانت بحيث يصدر عنها أمر لكانت فاعلا وغاية معا ، فذات الواجب علّة فاعلية من حيث إنّه يفيد وجودات الأشياء وعلّة غائية لها من حيث أنّ افادته وجودها لأجل ذاته من حيث علمه بنظام الخير.

فان قيل : الحكماء صرّحوا بانّ الغاية متقدّمة على الفعل بحسب المشيئة والتعقّل و

ص: 389

متأخّرة عنه بحسب الوجود ، فلو كان الواجب - تعالى - فاعلا وغاية لجميع الأشياء لزم أن يكون متقدّما عليها ومتأخّرا عنها ، فيلزم أن يكون شيء واحد أوّل الأوائل وآخر الأواخر! ؛

قلت : قد اجابوا عن ذلك بأنّ تأخّر الغاية عن الفعل في الوجود انّما هو إذا كانت من الأمور الواقعة بحسب الكون دون الأمور المتعالية عنه الواقعة فوقها ، فانّهم قسّموا المعلول إلى مبدع وكائن وقالوا : الغاية في القسم الأوّل مقارنة ماهية ووجودا مع وجود المعلول وفي القسم الثاني متأخّرة وجودا عنه وإن تقدّمت بالماهية عليه. وأنت تعلم بانّ الحكم بمقارنة وجود الواجب لوجود معلولاته ظاهر الفساد ؛ ولذا قيل في الجواب عن الايراد المذكور : إنّ الحقّ إنّ الواجب - تعالى - أوّل الأوائل من جهة ذاته ووجوده وعلّيته الفاعلية والغائية لجميع ما سواه وآخر الأواخر من جهة كونه غاية بالمعنى الآخر - أعني : غاية قصد الأشياء وتشوّقها إليه وطلب التشبّه به والاستكمال إرادة وطبعا - ، لأنّه الخير المطلق والكمال الحقيقي. فمصحّح الاعتبار الأوّل ذاته بذاته ومصحّح الاعتبار الثاني صدور الأشياء عنه على وجه يلزمها عشق يقتضي حفظ كمالاته الأوّلية وشوق إلى تحصيل ما يفقد عنها من الكمالات الثانوية ليشبّه بمبدئها الحقّ بقدر الامكان.

فان قيل : الحكماء مصرّحون بأنّ افعال اللّه غير معلّلة بالأغراض ؛

قلت : انّهم يقولون : إنّ افعاله - تعالى - منزّهة عن غاية هي غير نفس ذاته - من كرامة أو محمدة أو لذّة أو ايصال نفع إلى الغير - ، لا عن غاية هي نفس ذاته - سبحانه - ، لأنّ الباعث لهم في ذلك هو لزوم الاستكمال ومعلوم أنّ كون ذاته غاية لفعله لا يوجب الاستكمال.

ثمّ الظاهر من كلام الحكماء إنّ كل فاعل لفعل ليس له غرض حقّ فيما دونه وقصد صادق لأجل معلوله ، لانّه لو كان للفاعل غرض وقصد في فعله لزم أن يكون مستكملا بهذا المقصود فيكون هذا المقصود أشرف من الفاعل وقصده مع كونه علّة فاعلية له ، وهو باطل. وما يتراءى من قصد بعض الفواعل في أفاعيلهم إلى ما هو

ص: 390

دونهم - كقصد الطبيب في معالجة شخص حصول الصحّة له - فانّما هي فواعل / 200 DA / بالعرض لا بالذات ، فانّ المبدأ بالذات لحصول الصحّة هو واهب الكمالات على الموادّ بعد استعدادها ، فالطبيب انّما هو يهيّئ المادّة والمفيد هو الواجب - سبحانه -.

ثمّ إن فرض أنّ الفاعل بالذات قصد في فعله ما هو احسن من ذاته ومن قصده فانّما هو على سبيل الغلط والجزاف.

فان قيل : لو لم يكن للواجب غرض في الممكنات وقصد إلى منافعها فكيف صدر منه وجود الممكنات على النحو المشاهد من غاية الاحكام والاتقان ونهاية ما يتصوّر من الحكم والمصالح - على ما يشهد به التأمّل في الآيات الآفاقية والأنفسية -؟! ؛

قلت : الحكماء يجيبون عن ذلك بأنّ الحكم والمصالح الّتي يشتمل عليها فعله - تعالى - وإن لم تكن مقصودة له - تعالى - لأجل المعلولات ولا لأجل ذاته حتّى تكون مقصودة له بالذات ويكون لفعله علّة غائية خارجة عن ذاته إلاّ أنّ ذاته - تعالى - لكونه منبع جميع الخيرات والكمالات وملزوما لكلّ ما يكون على افضل انحاء الوجود والاتقان لا يحصل الأشياء منه إلاّ على أتمّ ما ينبغي وأبلغ ما يتصوّر من الاتقان والاحكام ، فكلّ ما يصدر عنه يصدر على اقصى ما يتصوّر في حقّه من الحكم والمصالح والخيرية والكمال سواء كانت من المصالح الضرورية - كوجود العقل للانسان والنبيّ للأمّة - أو النسبية - كانبات الشعر على الحاجبين وتقعّر الأخمصين من القدمين -.

وجميع ما ذكر هنا / 197 MB / انّما هو مبنيّ على قواعد الحكمة لا على ما اعتقدناه. وامّا على المعنى الثالث - وهو كون القدرة عبارة عن صحّة الصدور واللاصدور بالامكان الذاتي أو الوقوعي وكون الإرادة نفس العلم بالأصلح أو ما يلزم منه من الرضا والابتهاج وأمثال ذلك ممّا يعبر عنه ب : « خواستن » - فالجواب عن الشبهة المذكورة : إنّ منشئية الذات بذاته لارادة طرف الوجود وترجيح وجود العالم على تركه انّما هو لكون طرف الوجود على نحو ما وجد أكمل وأشرف ووجوب صدور ما هو الأكمل الأشرف عنه - سبحانه - ، لاقتضاء الذات ذلك بحيث لا يتمكّن من الطرف الآخر ، بل لاقتضاء اكملية طرف الوجود ذلك وإن تمكّن الذات عن ايقاع كلّ من الطرفين.

ص: 391

والحاصل إنّ التصرف انّما هو في جانب المعلول بمعنى انّ المعلول هو الّذي يتعلّق به العلم بالأصلح ويصير مرادا وهذا انّما هو ايجاد الأشياء على نحو ما وجد ، فذاته - سبحانه - اقتضى مشية وإرادة هما عين ذاته - تعالى - بها يرجّح كلّ ما هو أكمل وأصلح بالنسبة إلى نظام الكلّ من طرفي الفعل - أعني : وجوده وعدمه - ، فاذا صار وجود زيد مثلا أصلح من عدمه اقتضى ذاته - تعالى - ترجيحه عليه لكونه خيرا وصلاحا لا لخصوصية كونه وجود زيد مثلا ، ولم يقتض عدمه لكونه شرّا ومقابلا لما هو أصلح لا لخصوصية كونه عدم زيد. وكذا إذا صار عدمه أصلح اقتضاه لذلك لا لشيء آخر ، فامتناع صدور عدمه الّذي هو مقابل الوجود حين ترجيح الوجود انّما هو بسبب عارض هو كونه خيرا لا لأمر ذاتي ، فلا ينافي الامكان الذاتي ولا الوقوعي أيضا لجواز صيرورة ما هو خير وصلاح في وقت شرا وفسادا في وقت آخر. ويظهر من هذا عدم كون شيء من المقدورات خيرا وصلاحا بالذات أو كونه شرا وفسادا بالذات ، بل كلّ ما هو خير فانّما هو خير بالنسبة إلى نظام الكلّ وكلّ ما هو شرّ فانّما هو شرّ كذلك ، وينحصر الخير بالذات في واجب الوجود بالذات والشرّ بالذات في ممتنع الوجود بالذات ؛ وانكشف أيضا انّ مشيته - تعالى - بالذات انّما هو لذاته فقط لا لشيء آخر. وإلى الجواب المذكور أشار المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم حيث قال بعد أن صرّح بأنّ صحّة الصدور واللاصدور هي المسمّى بالقدرة وهي لا تكفي في الصدور إلاّ بعد أن يترجّح أحد الجانبين على الآخر والترجيح انّما هو بالقصد الّذي يسمّى بالارادة أو بالداعي ، وعند القدرة والإرادة يجب الصدور وعند فقد أحدهما أو كليهما يمتنع الصدور.

فان قيل : إذا كان فاعلية الفاعل لفعل وعلمه بذلك نفس ذات الفاعل لم يمكن صدور مقابل ذلك الفعل عنه ، فلم يكن قادرا على ذلك الفعل إذا اعتبر في القدرة أن يكون تعلّقها بالطرفين سواء ؛

قلت : الملازمة ممنوعة ، فانّ صدور ذلك الفعل عنه بواسطة أنّه يستعدّ لصدوره عنه دون مقابله - لانّه أكمل من مقابله - لا بواسطة أنّ ذات الفاعل يستدعي خصوصية

ص: 392

ذلك الفعل حتّى لو كان مقابله اكمل يصدر عنه ويكون فاعليته وعلمه بذلك عين / 200 DB / ذاته ؛ فليتأمّل » انتهى.

قال بعض المشاهير : خلاصة كلام المحقّق إنّ الإرادة متعلّقة في الأزل بوجود الفعل فيما لا يزال من الأوقات المفروضة ، فيكون الإرادة والتعلّق الازليان موجبين بوجود الفعل في وقت معيّن ممّا لا يزال دون الأزل ضرورة أنّ القدرة تؤثّر على وفق الإرادة ويكون مرجّح تعلّق الإرادة بوجود الفعل في ذلك الوقت هو كونه أصلح على نحو ما قال الحكماء في نظام العالم وهذا هو بعينه ما قال الغزالي في جواب الخيام حيث سأل الخيام عنه من مخصّص ايجاد العالم في الآن الّذي اوجده وليس قبله زمان بعد أن سأل الغزالي عنه من مخصّص مقدار الفلك الأعلى ومخصّصات مناطق الافلاك ومخصّصات مقادير حركاتها ؛

واجاب الخيام عنه : بانّ تلك الامور من مقتضيات النظام الأعلى ؛

فقال الغزالي : وجود العالم في الآن الّذي اوجده فيه هو أيضا من مقتضيات النظام الاعلى ؛ انتهى.

والظاهر انّ مراد الخيام من الزمان في قوله : « وليس قبله زمان » هو الزمان الموجود الّذي يصلح كلّ جزء من اجزائه للتخصيص ، لا الاعمّ منه ومن الزمان الموهوم الّذي اجزائه كنفسه وهمية ولا يصلح شيء منها للتخصيص ويمكن وقوع الايجاد في كلّ جزء منه حتّى يرد أنّ عدم مطلق الزمان لا الموجود ولا الموهوم قبل آن الايجاد هو المخصّص لايجاد العالم في آن الايجاد ، لأنّ عدم وقت / 198 MA / أصلا قبله تعيّن الايجاد فيه - كما افاده المحقّق بقوله : « واختصّ الحدوث بوقت إذ لا وقت قبله » (1) - ؛ فلا معنى لجعل الخيام عدم الوقت موجبا لعدم المخصّص. فمراد المحقّق من الوقت مطلق الوقت الشامل للموجود الخارجي وللوهمي ومراد الخيام من الزمان هو الموجود الخارجي ، وغرضه إنّه إذا لم يتحقّق زمان خارجي يصلح اجزائه للتخصيص وتحقّق زمان وهمى لا يصلح اجزائه لذلك ، فما مخصّص الايجاد في الآن الوهمي الّذي وجد

ص: 393


1- المسألة الرابعة من الفصل الثالث من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ، ص 126.

العالم فيه؟!.

وحينئذ فلا منافاة.

فان قلت : إذا كان المرجّح في طرف المعلولات بمعنى أنّ اصلحية وجودها على ما وجدت عليه منشئا لترجيح طرف الوجود من دون وجود مرجّح من طرف الفاعل - كما ذهب إليه المحقّق ورؤساء المعتزلة - يلزم كون أفعاله معلّلة بالاغراض ، لأنّ ايجاد الأشياء على النحو الواقع إن كان لأجل كونه أصلح من دون اقتضاء حتميّ من الذات له يلزم أن يكون الغاية في فعله هو كون الفعل حسنا لا لانّه محسن والمحسن يصدر عنه الحسن البتة ، ومعلوم إنّ هذه الغاية غاية زائدة على ذات الفاعل - إذ من يفعل فعلا لأجل كونه حسنا يفعل هذا الفعل ليكون محسنا أو ليحسن إلى غيره - ، وعلى التقديرين يلزم الاستكمال ؛

قلت : القائلون بهذا القول - أعني : المحقّق وأمثاله - لا يتحاشون عن اثبات غرض في فعله إذا لم يكن عائدا إلى ذاته ، فانّهم يقولون : إنّ اتقان هذه الموجودات وإحكامها واشتمالها على غرائب الحكم والمصالح وتضمّنها لعجائب البدائع والمنافع لا ينفكّ عن الاغراض والغايات الراجعة إلى الممكنات ، إلاّ أنّ الغايات إذا كانت عائدة إلى الغير لا يستلزم منه الاستكمال ، فانّ الفاعل يمكن أن يكون تامّا فوق التمام بحيث لا يتصوّر اكمل منه ومع ذلك يفعل فعلا يكون غايته ايصال النفع إلى الغير. ولا يوجب ذلك استكمالا فيه وإن كان هذا الايصال لأجل قصد شوقي ، لأنّ الاستكمال انّما يلزم لو كان لهذه الغاية - أعني : ايصال النفع إلى الغير - غاية اخرى راجعة إلى ذاته - كمحمدة أو التخلّص من مذمّة أو صيرورته أحسن أو اكمل ممّا كان - ؛ أمّا إذا لم يكن لهذه الغاية غاية اخرى بل غاية فعله كان مجرّد ايصال النفع إلى الغير - حتّى إذا قيل له : لم اخترت ايصال النفع إلى الغير وأيّ فائدة فيه بالنسبة إلى ذلك؟ ؛ فقال : لانّه ايصال النفع إلى الغير ولا يتفاوت به ذاتي وصفاتي ولا يحصل منه فائدة لي ؛

وان قيل له : لم كنت شائقا به؟

فقال : لكونه نفعا للغير وكونه مجرّد الصلاح والخير - لم يلزم منه الاستكمال أصلا. و

ص: 394

لا استبعاد في أن يكون غاية فعل فاعل مجرّد ايصال النفع إلى الغير بحيث لا يكون له فيه غرض لذاته أصلا.

هذا غاية ما يمكن أن يقال من قبلهم.

وبما ذكر ظهر أنّه لا فرق بين مذهب الحكماء ومذهب المحقّق وأمثاله في حقيقة الإرادة ، إذ كلّ منهما قائل بانّ الإرادة هو العلم بالأصلح - أو ما يلزمه من الرضا والبهجة وامثالهما ممّا يعبّر عنه بالفارسية ب : « خواستن » - ، وانّما الفرق في أنّ / 201 DA / الحكيم يقول : إنّ هذا الأصلح هو مقتضى ذاته ولوازم فيضه وواجب الصدور عنه لا يمكن أن ينفكّ عنه ، وهذا الاقتضاء الذاتي هو المرجّح للصدور ؛ والمحقّق والمعتزلة يقولون : إنّه ليس واجب الصدور عنه بالنظر إلى ذاته ، بل وجوب الصدور انّما هو للأصلحية بحال الغير ، وهو المرجّح للصدور.

تتميم

اعلم! أنّ الظاهر من اخبار ائمّتنا الراشدين - علیهم السلام - كون إرادة اللّه - سبحانه - حادثة ؛ كما روى عاصم بن حميد عن الصادق - علیه السلام - قال : قلت له : لم يزل اللّه مريدا؟ ، فقال : إنّ المريد لا يكون إلاّ لمراد معه ، بل لم يزل اللّه عالما قادرا ثمّ أراد (1). ومثله اخبار آخر.

وربما استدلّ على حدوثها بقوله - سبحانه - : ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) . وجه الاستدلال : إنّ قوله - سبحانه - : « إذا أراد شيئا - ... إلى آخره - » قضية شرطية لزومية وإلاّ جاز أن يتحقّق الإرادة بدون لفظ « كن » وبالعكس ، والثاني باطل بالبديهة ؛ والأوّل أيضا باطل للحصر المستفاد من كلمة « انّما » ، فثبت كونه قضية شرطية لزومية وإذا كانت شرطية لزومية يلزم عدم انفكاك قول « كن » عن إرادته - سبحانه - ، ولا ريب أنّ قول « كن » حادث ، فيكون الإرادة أيضا حادثة.

ولدلالة الاخبار والآية على حدوث / 198 MB / الإرادة ذهب بعض مشايخنا

ص: 395


1- راجع : التوحيد ، ص 146.

الامامية إلى أنّها من صفات الفعل - وهي ما يتّصف الواجب تعالى بها وبمقابلاتها ، فانّ الواجب يتصف بالارادة وبمقابلها كالكراهة ، وكذلك المشية -. والحقّ إنّ المراد من الإرادة في الاخبار والآية هو تعلّقها بالمراد - كما دلّ عليه قول الصادق علیه السلام : « إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه » - ، ولا ريب في حدوث تعلّقها. وأمّا نفس الإرادة وحقيقتها فلا ريب في كونها صفة ازلية ، كيف ولو كان نفس الإرادة حادثة فان كانت عين العلم بالاصلح لزم كونه - تعالى - فاقدا للصفة الكمالية في مرتبة ذاته! ، ولزم أيضا التغيّر والتجدّد في صفاته - سبحانه -! ، وكونه محلاّ للحوادث!.

فان قيل : على ما اخترتم من أنّ الإرادة غير العلم بالأصلح بل هي لازمة له فتكون موقوفة عليه توقّف المسبّب على السبب - لأنّ تحقّقها انّما هو بعد العلم بالأصلح - فتكون متأخرة عن العلم والتأخّر ينافي الازلية - لأنّ التقدّم والتأخر من لوازم الغيرية والتعدد المنافيين للازلية - ؛

قلنا : الصفات الأزلية باسرها منشأها مجرّد الذات وهي لازمة له غير منفكّة عنه في حاقّ مرتبته ، وسببية بعضها لبعض انّما هو بالاعتبار وهو لا ينافي الازلية ، كالعلم والحياة فانّ العلم يتوقّف على الحياة ، فلو كان مجرّد هذا التوقّف منافيا للازلية لما كان العلم صفة أزلية ؛ وهو باطل بالاتّفاق.

ص: 396

الفصل الخامس : في سمعه وبصره بل ادراكه جميع المحسوسات

ص: 397

( الفصل الخامس )

( في سمعه وبصره )

( بل ادراكه جميع المحسوسات )

اعلم! أنّ المعلوم بالضرورة من دين نبيّنا - صلی اللّه علیه و آله - إنّه - تعالى - سميع بصير ، وقد نطق بذلك الكتاب والسنة بحيث لا يمكن انكاره ، وانعقد عليه اجماع الأمّة بحيث لم يخرج منه أحد.

وقد اختلفوا في المراد من السمع والبصر ، فذهب بعض أشياخنا الامامية - ومنهم العلاّمة الطوسي في شرح رسالة العلم - إلى انّهما نفس العلم بالمسموعات والمبصرات علما حضوريا جزئيا. وإليه ذهب الشيخ ابو الحسن الأشعري ، لكنّه قائل بكونهما زائدين على الذات. فهما عند المحقّق وشركائه من الامامية نفس الذات ، فالذات من حيث هو مدرك للمبصرات بذاته هو البصير ومن حيث هو مدرك للمسموعات بذاته هو السميع ؛ وعند الأشعري زائدتان على الذات - كما هو الأمر في سائر الصفات عندهم - ، إلاّ أنّهما غير زائدتين على العلم بل هما نفسه ، فالزيادة على الذات عند الأشعري لكون العلم زائدا كما أنّ العينية عند المحقّق لعينية العلم للذات.

وذهب الفلاسفة النافون لعلمه على الوجه الجزئي المخصوص المثبتون علمه - تعالى - بكلّ شيء على الوجه الكلّي إلى انّهما نفس العلم بالمسموعات والمبصرات على

ص: 398

الوجه الكلّي ، فيكون الواجب عالما بالمسموعات والمبصرات علما حصوليا كلّيا مستفادا من الاسباب والعلل الكلّية كعلمه بسائر الأشياء.

وذهب اكثر المتكلّمين إلى انّهما صفتان زائدتان على العلم مغايرتان له ، وليس هذا مبنيا على اعتقادهم التجسّم أو مباشرة الأجسام ، بل على اعتقادهم / 201 DB / أنّ الاحساس في حقّه - سبحانه - يحصل بلا آلة - لبراءته عن القصور - ، فانّهم قالوا :

الاحتياج لنا إلى الآلة بسبب عجزنا وقصورنا وذات الباري - تعالى - لبراءته عن القصور يحصل له بلا آلة ما لا يحصل لنا إلاّ بها. فتلك الأشياء الّتي ندركها نحن بالحواسّ الظاهرة والباطنة وبتلك القوى الجسمانية يدركها الواجب أيضا بهذا الوجه الّذي ندركها لكن لا بالآلات المذكورة ، لغنائه - جلّ شأنه - عنها ، وفقرنا إليها انّما هو لأجل نقصاننا.

ثمّ إنّ القائلين بكونهما نفس العلم الحضوري الجزئى احتجّوا بانّ كونهما زائدين على نفس العلم بالمسموعات على الوجه الجزئى لا يتصوّر إلاّ بأن يكون ادراك المسموعات والمبصرات بالاحساس - إذ غير الاحساس في ادراك المبصرات والمسموعات على الوجه الجزئى ليس إلاّ العلم بهما على الوجه الشهودي الاشراقي - ، وحقيقة الاحساس لا يحصل إلاّ بتأثّر الحاسّة وهو في حقّه - سبحانه - محال ، وإذا كان هذا محالا فلا يبقى لادراكهما على الوجه الجزئي معنى آخر سوى العلم بهما على الوجه الحضوري الاشراقى. والحاصل : إنّ السمع والبصر إمّا مجرّد الاحساس ، أو العلم بالمحسوسات ؛ وقد علم أنّ مناط الجزئية امّا الاحساس - وهو لا يحصل إلاّ بتحقّق الآلة وتأثّر الحاسة ولا يتصوّر ذلك في الواجب - ، وإمّا الشهود الاشراقي ، فهو لا ينافي التجرّد عن الموادّ والآلات. وقد علم أنّه - تعالى - / 199 MA / عالم بجميع الجزئيات على جزئيتها وماديتها ومن جملتها المسموعات من الحروف والأصوات والمبصرات من الأجسام والأضواء والالوان ، فثبت منه أنّ الواجب - سبحانه - يعلم الاصوات والالوان علما حضوريا اشراقيا وينكشف لديه انكشافا شهوديا نوريا بنفس ذاته المقدّسة الّتي به يظهر ويتنور جميع الأشياء ، فذاته - تعالى - بهذا الاعتبار سمعه وبصره بلا تأويل. وأمّا عدم وصفه بالشام والذائق مع علمه بالمشمومات والمذوقات علما حضوريا شهوديا على الوجه الجزئي -

ص: 399

كعلمه بالمبصرات والمسموعات من دون تفاوت - فلعدم ورود هذه الألفاظ في الشريعة النبوية لايهامه التجسّم والنقص. قال المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم : « ولمّا كان السمع والبصر ألطف الحواسّ واشدّها مناسبة للعقل عبّر بهما عن العلم ، ولأجل ذلك وصفوا الباري - تعالى - بالسميع والبصير دون الشامّ والذائق واللامس وعنوا بهما العلم بالمسموعات والمبصرات » (1).

قيل : وإلى هذا المذهب - أي : كون السميع والبصير وسائر اخواتهما نفس العلم بمتعلّقاتها على الوجه الجزئى الحضوري - اشار المحقّق الطوسي في التجريد بقوله : « والنقل دلّ على اتصافه بالادراك والعقل على استحالة الآلات » (2) ، لأنّ مراده من هذه العبارة أنّه - تعالى - متصف شرعا بالادراك - أي : ادراك المسموعات والمبصرات وسائر اخواتها - ، وإذا ثبت بالشرع أنّه - تعالى - متّصف بالادراك ثبت أنّه - تعالى - عالم بجميع المحسوسات وغيرها بذاته ، فكان بذاته عالما بالمسموعات والمبصرات وسائر اخواتهما بالوجه الّذي ندركه بالحواسّ ؛ فيكون مدركا لجميع المحسوسات بذاته من دون الاحتياج إلى الآلات ، لأنّ العقل يدلّ على استحالة الآلات وبالجملة المراد من الادراك هو نفس العلم بمتعلّقه الّذي هو المدرك باعتبار الوجود العيني. غاية ما في الباب أنّه ورد في الشريعة السميع والبصير بمعنى العلم بالمسموعات والمبصرات باعتبار وجودهما العيني ولم يرد فيها سائر اخواتهما بالمعنى المذكور.

ثمّ تخصيص الادراك الواقع في عبارة المحقّق بالسميع والبصير - كما ارتكبه الشارح الجديد (3) - لا يناسب عموم عبارة المتن ، لأنّ الادراك أعمّ من السمع والبصر ؛ بل المناسب أن يقال : مراده إنّ السمع يدلّ على أنّه - تعالى - متصف بادراك جميع المحسوسات وهو نوع من العلم المطلق ، والعقل دلّ على استحالة الآلات ، فذاته - تعالى - مدرك جميع المحسوسات. فذاته - سبحانه - بذاته سميع بمعنى أنّه عالم بالمسموعات باعتبار

ص: 400


1- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، المسألة التاسعة ص 37.
2- راجع : المسألة الخامسة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 224.
3- راجع : الشرح الجديد على التجريد ، ص 315.

الوجود العيني وبصير بمعنى أنّه عالم بالمبصرات ، وكذلك عالم بذاته بجميع المذوقات والمشئومات ومدركات اللامسة. قال سيد المحقّقين : لا شكّ أنّ السماع والابصار نحوان مخصوصان / 202 DA / من العلم بالمعنى الاعمّ وإنّ تخصيصهما انّما هو بانكشاف معلوميهما بوجهين مخصوصين بهما ، وإنّ السمع والبصر ما يتّصف به الشيء بالسماع والابصار. ولمّا ثبت أنّ الباري - تعالى - عالم بجميع الأشياء الموجودة بذاته فلا محالة يكون عالما بالمسموعات والمبصرات بالوجه الّذي يدرك الحواسّ بذاته ، فيكون له هذان النحوان من العلم - اللذان هما السماع والابصار - بمنزلة السمع والبصر ؛ فعلى هذا يصدق عليه السميع والبصير بالحقيقة بلا تكلّف. ولا يلزم تعدّد القدماء ، لأنّ السمع وكذا البصر كالعلم نفس الذات باعتبار. قال بعض المشاهير بعد نقل هذا الكلام من السيد : هذا كلام حقّ وهو بعينه ما اختار المحقّق الطوسي في شرح الرسالة في ادراك جميع المحسوسات. ولا غبار عليه على ما قرّره المحقّق من أنّ الجزئيات على الوجه الجزئي الّذي هو مانع من فرض الشركة موجود في الخارج ، وامّا على الوجه الّذي قرّره السيد المذكور في موضع آخر غير ما نقلناه منه هنا من أنّ منع الشركة انّما نشأ من نحو الادراك الحسّي فيكون هذا الكلام منه متغيرا ، إذ يلزم حينئذ أن لا يكون الشيء الجزئي من حيث أنّه مانع للشركة مدركا له - تعالى - لعدم امكان ادراك الحسّي له - تعالى -. والحاصل : إنّه على تقدير كون مناط منع الشركة هو الادراك الحسّي الممتنع بالنسبة إليه - تعالى - ، كما قال به السيد - كيف يمكن تصحيح هذين النحوين من العلم - أعني : انكشاف المسموع من حيث أنّه مسموع وكذا انكشاف المبصر من حيث أنّه مبصر له تعالى -؟! ، وأمّا على تقدير كون مناط منع الاشتراك هو نفس وجود المدرك الحسّي - كما قال به المحقّق - فلاعتبار علمه. وتوضيح ذلك : انّ مذهب المحقّق إنّ الجزئية صفة للموجود الخارجي ، / 199 MB / والكلّية والجزئية انّما هو بالتفاوت في المدرك - لأنّ الكلّية والجزئية بنحو الادراك لا التفاوت في المدرك - ، ولا يتصف بهما المعلوم ، بل الموصوف بهما انّما هو العلم - كما قال به السيّد والمحقّق الدواني وأشرنا إلى فساده - ، فالمحقق الطوسي لمّا كان قائلا بأنّ الموجود الخارجي متصف بالجزئية والجزئية وصف له وما لم يكن الشيء مشخّصا جزئيا

ص: 401

في الخارج لا يتصف بالجزئية وما لم يكن كلّيا غير متشخّص فيه لا يتصف بالكلّية نظرا إلى أنّ التفاوت بين الجزئية والكلّية انّما هو بالتفاوت في المدرك لا بمجرد التفاوت في نحو الادراك ، فيصح أن يقول : إنّ المسموعات والمبصرات وكذا غيرهما من المحسوسات على الوجه الّذي تكون مدركة لنا تكون مدركة للواجب أيضا للعلم الحضوري الشهودي من دون افتقار إلى الآلات. وامّا من قال : إنّ الكلّية والجزئية ليسا وصفين للمدرك بل هما وصفان للادراك نظرا إلى كون التفاوت بينهما بنحو الادراك والثابت للواجب هو الادراك على سبيل الكلّية - كما اختار السيّد السند في توجيه كلام الفلاسفة - فلا يصحّ له أن يقول : إنّ المسموعات والمبصرات وغيرهما على الوجه الّذي يدركهما الحواسّ يكون مدركة للواجب - سبحانه - ، لأنّ تلك الأمور مدركة لنا على الوجه الجزئي المانع من فرض الشركة بناء على اصلهم من أنّ الكلّية والجزئية وصفان للادراك وأنّ الأشياء مدركة له - تعالى - على الوجه الكلّي دون الجزئي - كما صرّح به السيد السند فيما تقدّم في تصحيح كلام الفلاسفة - لم يمكن له أن يقول : إنّ المسموعات والمبصرات معلومة له - تعالى - على الوجه الّذي يدركه الحواسّ.

فان قيل : السيد وغيره ممّن قال بذلك قائلون بأنّه لا يعزب عن علمه - سبحانه - مثقال ذرّة في الارض ولا في السماء - كما صرّحوا به ونقلناه من كلام الشيخ أيضا - ، فالمحسوسات الّتي ندركها نحن بالحسّ وإن لم يكن جزئية في نفس الأمر بزعمهم لكنهم يقولون إنّه معلومة له - تعالى - على النحو الموجود في الخارج بدون الاحساس على سبيل الكلّية ، وهذه المعلومية هو الابصار والسماع ، فهما أيضا بالنسبة إلى الواجب - تعالى - على الوجه الكلّي عندهم إلاّ أنّ فهمه يحتاج إلى لطف قريحة - كما صرّح به الشيخ -. فمن زعم أنّ الادراك على الوجه الكلّي الحصولي لا يتصوّر بالنسبة إلى الموجود العيني من حيث هو كذلك وحكم بانّه على القول بالحصولي يخرج العلم بالوجود العيني من حيث هو كذلك - لتوقّفه على العلم الحضوري - ، حكم بكون كلام السيد متغيّرا.

قلت : قد تقدّم إنّ العلم الحصولي / 202 DB / لكونه كلّيا يخرج عنه التشخّص ولا يعلم به الموجودات العينية من حيث أنّها موجودات عينية ، وحينئذ فمع تسليم كون

ص: 402

علمه - سبحانه - بالمحسوسات من المسموعات والمبصرات وغيرها حصوليا كلّيا لا يمكن أن يقال مع ذلك انّها مدركة له - تعالى - على الوجه الكلّي الّذي لنا مدرك بالحسّ - لكون المحسوسات لنا مدركة لنا بتشخّصاتها ووجوداتها الخارجية - ، فالكلام المنقول من السيد السند هاهنا وإن كان صحيحا إلاّ أنّه لا يوافق ما صرّح به فيما قبل من اعتقاده بالعلم الحصولى. نعم! ، يمكن أن يقال : ما صرّح به السيد فيما قبل انّما هو لتصحيح كلام الحكماء وتوجيهه وذلك لا يستلزم أن يكون موافقا لهم في الاعتقاد ، بل اعتقاده ما نقلناه منه هنا ، فيكون قائلا بالعلم الحضوري ؛ هذا.

ثمّ لا يخفى أنّ الكلام المنقول من السيد هاهنا ليس صريحا في أنّ السمع والبصر عين العلم بالمسموعات والمبصرات ، بل يحتمل كونها زائدا على العلم الحضوري ، فانّ قوله : « يكون عالما بالمسموعات والمبصرات بالوجه الّذي يدركه الحواسّ بذاته » ظاهر في أنّ ادراكه - تعالى - للمسموعات والمبصرات على الوجه الزائد على وجود العلم الحصولي ، لأنّ ادراك الشيء بالعلم الحضوري ليس مثل ادراك البصر للمبصر المسمّى بالرؤية ، فان الرؤية مشتملة على أمر زائد على العلم الحضوري. وإطلاق السيد لفظ العلم عليه لا ينافي ذلك ، لأنّ كلّ واحد من الاحساسات قسم من العلم ، إلاّ أنّ هذا القسم من العلم غير العلم الحضوري المتعارف بينهم ؛ وسيجيء بيان ذلك مفصّلا. / 200 MA /

وكذا قوله : « ويصدق عليه السمع والبصر بالحقيقة بلا تكلّف أيضا » يدلّ على ما نقلناه - كما لا يخفى - ؛ هذا.

وامّا القول بكون السمع والبصر نفس العلم بالمسموعات والمبصرات على الوجه الكلّي كما ذهب إليه الحصوليون فيعلم فساده ممّا تقدّم.

وأمّا القائلون بكونهما صفتين زائدتين على العلم فاحتجّوا على كونهما غير العلم بأنّا إذا علمنا شيئا كاللون مثلا علما تامّا ثمّ رأيناه فانّا نجد بين الحالتين فرقا ضروريا ، ونعلم بالضرورة أنّ الحالة الثانية تشتمل على أمر زائد مع حصول العلم ، فذلك الزائد هو الابصار.

وأجاب عنه بعض المشاهير : بانّ ذلك الفرق لا يمنع كونه علما مغايرا لسائر العلوم ،

ص: 403

فانّ في كلّ من افراد العلوم زيادة خصوصية لا توجد في غيره.

ومن الأفاضل من اجاب عن هذا الاحتجاج : بانّ هذا الاستدلال انّما يصحّ لو امكن العلم بمتعلّق الادراك الحسّي بطريق آخر غير الحسّ ، وهو باطل ؛ لأنّ الحسّ لا يتعلّق إلاّ بالجزئيات من حيث خصوصياتها ولا سبيل إلى ادراكها من هذه الجهة سوى الحسّ. وحاصله : إنّه لا يمكن ادراك الأمر المحسوس بغير الاحساس حتّى يصحّ أن يقال : نجد الفرق بين الادراكين ، لأنّ المدرك بالحسّ ليس ممّا يدرك بغير هذا الوجه من الادراك ، فلا يصدق حينئذ تحقّق الادراكين ، فلا يتمّ الدليل المبني على تحقّقهما.

وغير خفيّ بانّ هذا الجواب يمكن توجيهه بوجهين : الأوّل : إنّه إنّما ينفع استدلالكم بالفرق بين الحالتين إن امكنت الحالة الثانية - أعني : الرؤية بدون الاحساس - حتّى يتصور ثبوته للواجب - تعالى - ، وهذا باطل ؛ لانّه لا سبيل إلى تحصيل الحالة الثانية إلاّ بالحسّ وهو ممتنع في حقّه - سبحانه -.

ويرد على هذا التوجيه : إنّه يمكن ادراك الجزئيات من حيث خصوصياتها بطريق الاطّلاع الحضوري.

فان قيل : الاطّلاع الحضوري لا يشتمل على أمر زائد على العلم سيّما مع كون مطلق علمه - سبحانه - حضوريا ، فبطل ما ذكره المستدلّ من اشتمال الحالة الثانية على أمر زائد ، وهو يكفي للجواب ؛

قلنا : لو سلّم القول بأنّ الاطّلاع الحضوري للمسموعات والمبصرات للواجب القائم مقام الاحساس فينا ليس مغايرا لمطلق علمه ولا يشتمل على أمر زائد فهو جواب آخر عن الاستدلال المذكور ، ولا ينطبق كلام المجيب المذكور عليه. وكذا إن لم يسلّم عدم المغايرة وسلّم اشتماله على أمر زائد لكنه قيل : إنّه علم مغاير لسائر العلوم لأنّ في كلّ فرد من افراد العلوم زيادة خصوصية لا توجد في غيره لانه هو الجواب الّذي نقلناه عن بعض المشاهير. وما ذكره هذا المجيب على هذا التوجيه لا ينطبق عليه ، لانه منع تحقّق أصل الحالة الثانية في الواجب. فاذا قيل : إنّ الحالة الثانية هو الاطّلاع الحضوري يدفع جوابه. والتوجيه الثاني إنّه انّما يصحّ فرقكم بين الحالتين لو كان الجزئى هو معلوما بعينه

ص: 404

قبل الرؤية حتّى يصحّ أن يقال : إنّه لما كان العلم حاصلا قبل الرؤية فما يزيد عليه بعدها هو الابصار ، لكن لا نسلّم إنّه معلوم قبل الرؤية إذ لا يمكن العلم بالمحسوسات بطريق آخر سوى الحسّ فلا يكون هو معلوما قبل الرؤية ، فلا يثبت قبل رؤية الجزئي العلم به حتّى يثبت شيء زائد حتّى يكون هو الابصار.

قيل : على هذا / 203 DA / التقرير للجواب لا يصحّ ردّه على التقرير الأوّل بأن يقال : يمكن ادراك الجزئي قبل الرؤية بطريق الاطّلاع الحضوري ، لأنّ ذكر امكان الاطّلاع الحضوري على هذا التقرير لو ارتبط انّما يكون لتصحيح العلم بالمحسوسات قبل الاحساس بالرؤية مثلا ، ولا يخفى حينئذ أنّ كون الحالة الثانية مشتملة على أمر زائد على الحالة الأولى الّتي هي الاطّلاع الحضوري ليس أمرا ضروريا ، بل يكون ممنوعا ؛ انتهى.

والظاهر عدم الفرق بين التقريرين في امكان الدفع بالرد المذكور وعدمه ، فكما أنّه على التقرير الأوّل بعد الردّ بامكان ادراك الواجب المحسوسات بطريق الاطّلاع الحضوري - إن جاز أن يقال - فحينئذ لا يثبت شيء زائد على العلم السابق عليه. ويجاب بأنّ هذا جواب آخر غير ما ذكره المجيب ، فيجوز ذلك - أي : ايراد هذا السؤال مع الجواب على التقرير الثاني أيضا - ، وإن لم يجز ذلك على التقرير الأوّل - لضرورة / 200 MB / المغايرة - فلا يجوز على التقرير الثاني أيضا.

ثمّ يمكن رد التقرير الثاني بأنّ الفرق بين الحالين لا يتوقف على كون الجزئي هو المعلوم بل يكفى وجدان الفرق بين العلم بشيء ورؤية شيء آخر وإنّ هذه الحالة غير تلك الحالة ، فللمستدلّ أن يقول : انّا إذا علمنا شيئا ورأينا شيئا آخر فانّا نجد بين الحالتين فرقا ضروريا ، فانّ الحالة الثانية بالنسبة إلى الشيء الثاني يشتمل على أمر زائد على مرتبة العلم ، وهو الابصار. وحينئذ فالجواب عن الاستدلال أن يقبل الفرق ويقال : إنّ الفرق لا يمنع كونهما نوعين من العلم ، لأنّ في كلّ فرد من العلم خصوصية لا توجد في غيره.

أقول : غير خفيّ بانّ مراد المستدلّ إنّ التفاوت والزيادة حاصل في حقيقة الرؤية المعبّر عنه بالفارسية ب : « ديدن » بالنسبة إلى مطلق العلم - سواء كان حصوليا أو حضوريا وبالنسبة إلى جميع افرادهما كائنا ما كان - ، لأنّه لا ريب في أنّ لكلّ واحد من

ص: 405

الادراكات الحسّية - أعني : الابصار والسمع والذوق والشمّ واللمس - خصوصية لا توجد في شيء من افراد العلم حصوليا كان أو حضوريا. فانّ من علم بدنه بالعلم الحضوري من دون أن يراه بالباصرة - كمن يولد أعمى - ثمّ فرض رؤيته له فلا ريب في أنّه يحصل له من الرؤية خصوصية لم تكن حاصلة له من العلم الحضوري ، كيف وكلّ أحد يعلم أنّ الادراك بهذا الوجه الحاصل - أي : ما يعبر عنه بالفارسية ب- « ديدن » - مغاير لأيّ فرد فرض من افراد العلم الحضوري والحصولي! ؛ وكذا من علم بالعلم الحضوري بأنّ زيدا مثلا في وقت كذا يتكلّم بكلمات خاصّة من غير استماعه لها ثمّ سمعها فلا ريب أنّه يحصل من الاستماع خصوصية لم تكن حاصلة من العلم بها ، كيف لا وكلّ عاقل يعلم أنّ هذا الاحساس الخاصّ - المعبّر عنه بالفارسية ب- « شنيدن » - مغاير للعلم بالكلمات والأصوات! ؛ وقس عليهما الحال في سائر المحسوسات.

وإذا علمت ما ذكر فنقول : ما ذكر في جواب هذا الاستدلال من أنّ الفرق والتفاوت بين العلم والرؤية لا يمنع كونهما نوعين من العلم - فانّ في كلّ من افراد العلوم زيادة خصوصية لا توجد في غيره - لا يخفى ما فيه من الوهن والفساد! ، لأنّ بناء الاستدلال إنّ هذا المعنى البديهي المعبر عنه ب- « ديدن » مغاير لأيّ فرد فرض من افراد العلم ، فاذا كان الابصار في الواجب - سبحانه - بمعنى العلم - سواء كان حصوليا أو حضوريا - لا يثبت له - تعالى - هذا الأمر البديهى المغاير لكلّ فرد من العلم سواء كان كلّيا حصوليا أو اطّلاعا حضوريا مع أنّ الظواهر دالّة على ثبوت هذا الأمر البديهى له - تعالى -. فالجواب الابصار في الواجب - تعالى - إذا كان بمعنى الاطّلاع الحضوري يكون مغايرا لسائر افراد العلوم لا مدخلية له في ردّ الاستدلال أصلا ، لأنّ للمستدلّ أن يقول : مغايرة هذا الاطّلاع الحضوري القائم مقام الرؤية في الواجب لسائر افراد العلم غير قادح في دليلي ، لأنّ دليلي : انّ حقيقة الرؤية مغايرة لهذا الاطّلاع الحضوري أيضا لا من افراد العلم الحضوري ، والرؤية مغايرة لكلّ فرد من افراد العلم الحضوري والحصولي. على أنّ الكلام في علم الواجب - سبحانه - ، فاذا كان الابصار فيه بمعنى اطّلاعه الحضوري بالمبصرات لم يكن هذا مغايرا لسائر علومه ، فانّ علمه بجميع الأشياء انّما هو بالاطّلاع

ص: 406

الحضوري على نحو واحد. وبالجملة ليس في علومه مغايرة وتفاوت جلاء وخفاء سواء قيل بأنّ علمه حصولي أو حضوري ، لأنّ علمه بالأشياء جميعا إمّا بحصول صورها في ذاته أو بانكشافها لديه ، وعلى التقديرين يكون علمه بنحو واحد. ولا يوجد في بعض / 203 DB / علومه خصوصية بالظهور والخفاء لا يوجد في غيره وإلاّ لزم النقص والجهل. وعلى هذا فينحصر الجواب عن الاستدلال المذكور بأن يقال : هذه الخصوصية المتحققة في الرؤية والسمع وغيرهما من الاحساسات دون الاطّلاع الحضوري ليست صفة كمالية حتّى يكون عدمها نقصا للواجب ، بل ربما صحّ القول بانّ وجودها نقص ، وما هو صفة الكمال في مطلق الادراك - أعني : الظهور والجلاء - فهو في العلم الحضوري الّذي للواجب أشدّ من الظهور والجلاء الّذي في الرؤية والسمع بمعناهما المتعارف.

وبما ذكرناه ظهر أنّه لا بدّ من التأمّل في أنّ اثبات هذه الاحساسات على الوجه الجزئي الخاصّ البديهي الّذي يعرفه كلّ أحد للواجب - سبحانه - بدون الآلات هل هو نقص أم لا؟! ، وهل الظهور الّذي فيها أشدّ من الظهور في مطلق العلم الحضوري أم لا؟!.

فنقول : ذهب جماعة إلى أنّ اثبات الرؤية بهذا المعنى الخاصّ للواجب / 201 MA / - سبحانه - بدون الآلة على الوجه الّذي ثابت لنا بالآلة ليس فيه نقص واستحالة ، وثبوت هذا الأمر بدون الآلة ليس فيه استبعاد. وممّا يكسر سورة الاستبعاد مشاهدة النفس في الرؤيا اشياء كثيرة رؤيتها لها من دون استعانة بآلة البصر. ثمّ الابصار بهذا الوجه الخاصّ وإن كان نوعا من العلم إلاّ أنّه ليس من العلم الحصولى ولا الحضوري بالمعنى المعروف ، بل هو نوع آخر من العلم ربما كان الجلاء والظهور فيه بالنسبة إلى بعض الهيئات وبالنسبة إلى الأشياء المبصرة أشدّ من العلم الحضوري المتعلّق بهذه الأشياء المبصرة ، وحينئذ تقدّم ثبوته للواجب نقص للزوم فقد خصوصية الأظهرية الثابتة للابصار عنه - سبحانه -. ولا يوجب ثبوته أيضا للواجب تكثّر ولا تركّب ولا اختلاف حيثيات وجهات ، لكونها صفة اضافية كسائر الصفات الاضافية. وقس عليه الحال في السمع ، فانّ نفس استماع الصوت - المعبّر عنه بالفارسية ب : « شنيدن » - غير العلم به ، لأنّ الجلاء والظهور في نفس الاستماع أشدّ من العلم به ، فعدم ثبوته للواجب

ص: 407

يوجب فقدان مرتبة من الظهور عنه - سبحانه - مع أنّ اثباته له بدون الآلة لا يوجب نقصا ولا تكثّرا. فمن أرجعهما إلى الاطّلاع الحضوري وصرّح بأنّ جميع المبصرات والمسموعات حينئذ مدركة له - تعالى - بالوجه الّذي تدركه الحواسّ من دون الاحتياج إلى الآلات إن أراد بهذا الاطّلاع الحضوري والادراك بالوجه المدرك للحواسّ هو الرؤية والسماع بالمعنى الخاصّ البديهي الّذي يعبّر عنه ب : « ديدن » وب : « شنيدن » فنعم الوفاق! ؛ وهو بعينه مذهب المتكلّمين القائلين بمغايرة السمع والبصر للعلم بالمعنى المعروف وكونهما زائدين عليه ؛ وإن أراد منه العلم بالألوان والأصوات من دون تحقّق نفس الرؤية والاستماع له - تعالى - بأن يعلم أنّ الجسم الفلاني اخضر وعلم أنّ الخضرة ما ذا وإنّ زيدا حصل منه في وقت كذا صوت خاصّ وعلم أنّ الصوت ما ذا - كما يحصل لنا أيضا بعينه - من دون حصول نفس الرؤية والاستماع ؛

ففيه : إنّ سلب نفس الرؤية والاستماع من الواجب مع كونهما صفتي الكمال وعدم نقص فيهما لا باعث له بعد ثبوتهما من الشرع ودلالة الظواهر المتواترة عليهما. نعم! ، سائر الاحساسات - أعني : الشمّ والذوق واللمس - فهي راجعة إلى الاطّلاع الحضوري بمعنى أنّه - سبحانه - عالم بانّ كلّ واحد من الأشياء المشمومة يتضمّن رائحة كذا وكلّ واحد من المذوقات يتضمّن طعم كذا وكلّ واحد من الملموسات يتضمّن أيّ كيفية من الكيفيات الملموسة من الحضونة والنعومة وغيرهما ، وتعلم أنّ حقيقة كلّ رائحة وكلّ طعم وكلّ كيفية ملموسة ما ذا ، وكيف هو. وليس الشمّ والذوق واللمس بأنفسها ثابتة له - سبحانه - بان يحصل له نفس الشمّ المعبر عنه ب- « بوئيدن » ونفس الذوق المعبر عنه ب : « چشيدن » ونفس اللمس المعبر عنه ب : « ماليدن » ، لأنّ هذه من خواصّ الأجسام واثباتها نقص ، فسلبها عن الواجب لا يوجب نفي صفة كمالية عنه ، بل اثباتها يوجب اثبات النقص له - تعالى -.

وهذا هو السرّ في إطلاق البصير والسميع عليه - تعالى - في الشريعة دون الشامّ والذائق واللامس. وإلى ما ذكر اشار المحقّق الدوانى حيث قال : إنّه لا يظهر وجه لارجاع هذين الوصفين بخصوصهما - أعني : السمع والبصر - إلى العلم دون سائر الصفات من

ص: 408

القدرة والإرادة والحياة. مع أنّ ظواهر النصوص المشعرة بالمغايرة الذاتية والاحتياج إلى الآلة انّما هو في حقّنا ، فانّ الباري - تعالى - يدرك المبصرات والمسموعات على النحو الجزئي بذاته / 204 DA / بناء على ما ذهب إليه جمهور المتكلّمين من أنّه - تعالى - يدرك الجزئيات بالوجه الجزئى ، فما الباعث حينئذ على تخصيص هذين الادراكين بالرجوع إلى العلم؟!. بل الظاهر انّهما صفتان زائدتان على العلم بخلاف ادراك سائر المحسوسات ، فانّه يرجع إلى العلم حيث لم يرد السمع باثبات صفة اخرى بإزائهما - كالذائق والشامّ واللامس - ، فيحكم برجوعه إلى العلم. وليت شعري ما الباعث للشيخ الأشعري على ذلك مع شيمته وطريقته المحافظة على ظواهر النصوص؟! ؛ انتهى.

وأورد عليه بعض المشاهير : بأنّه إذا كان ادراك المحسوسات الّتي هي غير المبصرات والمسموعات راجعا إلى العلم - كما قرّره هذا القائل - كان ذلك كافيا في كون ادراكهما راجعا إلى العلم أيضا - كما لا يخفى - ، فذلك هو وجه ارجاع الابصار والسماع إلى العلم المخصوص ، فانّ مجرّد إطلاق لفظي السميع والبصير في الشرع على الباري - تعالى - لا يكفي في الحكم بانّهما صفتان مغايرتان للعلم ، فبملاحظة أنّ الابصار و/ 201 MB / السماع فينا ليسا إلاّ ادراكين متعلّقين بالمبصرات والمسموعات بآلتين مخصوصتين يعلم أنّ استعمالهما في الباري - تعالى - بحسب الشرع ليس إلاّ بمعنى ادراك المبصرات والمسموعات على النحو الجزئي بذاته ، فيكونان راجعين إلى العلم ؛ انتهى.

وأورد عليه بانّ ارجاع غير السمع والبصر من الاحساسات إلى العلم - لكونها من خواصّ الأجسام واستلزامها للنقص - وعدم ورود الشرع باثباتها بخصوصها لا يوجب ارجاع السمع والبصر أيضا إليه مع ورود الشرع باثباتهما بخصوصهما وعدم استلزامهما لنقص مطلقا ، فالفرق بينهما وبين سائر الاحساسات قائم شرعا وعقلا ، فاثبات السمع والبصر بخصوصهما على النحو الخاصّ البديهى الّذي يعرفه كلّ أحد للواجب - سبحانه - بدون آلة كانّه ممّا يجب الاذعان به من حيث الشرع ، ولم تقم دلالة عقلية على امتناعه ، فارجاعهما إلى العلم مع عدم ضرورة عقلية خارج عن صوب الصواب.

ص: 409

وقال بعض المحقّقين : الظاهر إنّ السمع والبصر حقيقتان في الادراكين المخصوصين مطلقا أعمّ من أن يكون حقيقة لهما بآلة أو بدونها ، ولو فرضنا كون الحصول بآلة معتبرا في معناهما الحقيقي فلا شكّ أنّ المعنى المذكور - أعني : الادراك المخصوص بلا آلة - أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقى وهو ممكن في حقّه - سبحانه - ، إذ كون الآلة شرطا في حصوله مطلقا ممنوع. والتحقيق أنّ ذلك الادراك ثابت له - تعالى - في جميع انواع المحسوسات وذلك غير العلم الحضوري بها ، إلاّ أنّ السمع ورد في خصوص السمع والبصر لكونهما ألطف الحواسّ وكون الادراك بهما بلا مباشرة جسم ، فلا حاجة إلى تأويل بخلاف سائر الحواس. وحينئذ فكون السمع والبصر عبارة عن العلم بالمسموعات والمبصرات مطلقا - كما هو مذهب الأشعري - ليس بصحيح. وما ذكره المحقّق الخفري - رحمه اللّه - من أنّ المراد بهما هو العلم الحضوري محلّ نظر.

فان قلت : ما الفرق بين العلم الحضوري والاحساس؟ ؛

قلت : الفرق بينهما مثل الفرق بين العلم الحصولي والحضوري - وهو التفاوت بالشدّة والضعف في الجلاء والخفاء - ، ألا ترى أنّ علم النفس بذاتها علم ضروري وكذا علمها بالصورة الحاصلة فيها ، ولو فرض أن يتعلّق الرؤية بواحدة منها لم يشكّ العقل في أنّ الانكشاف حينئذ يكون أتمّ ما دام العالم متلبّسا بهذه الخصوصية وحاصلا في هذه النشأة؟!. نعم! ، يمكن أن يتبدّل له نشأة وخصوصية اخرى يكون فيها ادراكها العقلي اجلى من الحسّي ، والغرض ثبوت التفاوت بين العلمين.

ثمّ اقول : فرق بين العلم بالمعقولات والمهيات وبين العلم بالجزئيات سيّما المحسوسات ، فانّ الاحساس بالمعقول لو فرض تحقّقه لم يكن أتمّ من العلم به ، لكن الاحساس في المحسوسات أتمّ من العلم بها. وأيضا أقول : العلم الحضوري انّما كان أتمّ من الحصولي لأنّ الأوّل يستلزم انكشاف وجود المعلومات وحقيقتها والثاني انكشاف ماهيتها فقط ، ولا شكّ أنّ الخصوصية في الوجود الحسّي أزيد من الخصوصية في الوجود العقلي ، فانّ الخصوصيات في العقليات إمّا عين ذواتها أو من لوازمها ؛ بخلاف ما في المحسوسات ، فالعلم الحضوري انّما هو علم بأصل الوجود دون العلم بالخصوصية ،

ص: 410

فاثبات أصل العلم الحضوري لا يغني عن اثبات الاحساس الّذي المراد به هو انكشاف الخصوصيات الزائدة على أصل الوجود ؛ انتهى.

هذا ما ذكروه في هذا المقام.

وأنت تعلم أنّ العلم الحضوري الّذي للواجب بالنسبة إلى جميع الأشياء يكون أشدّ ظهورا وانجلاء / 204 DB / من جميع الادراكات سواء كان علما كلّيا أو جزئيا حضوريا أو احساسيا بالحواسّ الباطنية أو الظاهرية ، فحينئذ علمه الحضوري بالمبصرات والمسموعات يكون الظهور والانجلاء فيه أشدّ من الرؤية والسماع البديهيين الّذين فينا ، ولا يخرج منه شيء من الخصوصيات الّتي فيهما ، وبالجملة : علمه الحضوري بالمبصرات والمسموعات من الظهور والانجلاء بحيث لا يخرج شيء عن الخصوصيات الثابتة للاحساسات سوى ما هو نقص من تأثير الحواسّ والانطباع وخروج الشعاع والمباشرة وغير ذلك ، ولا شبهة في أنّ ادراك المحسوسات بخصوصياتها المعينة بدون الآلات والمباشرة والتأثير - وغير ذلك ممّا يعتبر في الاحساسات الّتي فينا - ليس إلاّ علما حضوريا. فالحقّ أنّ ادراكه - تعالى - للمحسوسات مطلقا سواء كانت مبصرات أو مسموعات أو مذوقات أو ملموسات أو غير ذلك راجع إلى علمه الحضوري بها. وهذا العلم لا يخرج عنه شيء من الخصوصيات ، والظهور والانجلاء فيه أشدّ من الاحساسات البديهية الّتي فينا. فما ورد في الشريعة من إطلاق السميع والبصير عليه - تعالى - دون الشامّ والذائق واللامس انّما هو لكونهما ألطف الحواسّ واقربيتهما إلى العلم واشعار غيرهما بالملاصقة والمباشرة.

ثمّ الظاهر إنّ مذهب الامامية بأسرهم هو ذلك - أي : كون السمع والبصر راجعين إلى / 202 MA / العلم -. وقيل : الظاهر إنّ مذهب المحقّق الطوسي وغيره من أساطين الامامية هو مذهب المعتزلة دون ما اختاره الأشعري ؛ كما اشار إليه بعض أهل التحقيق بقوله : إنّ ما هو المشهور بين طلبة أصحابنا من كون السمع والبصر العلم بالمسموعات والمبصرات مطلقا وهو مذهب اصحابنا موضع تأمّل ، سيّما كون ذلك مذهب المحقّق الطوسي ؛ بل الحقّ انّهما صفتان زائدتان على العلم كما هو مذهب المعتزلة. والدليل على

ص: 411

أنّ المحقّق قال بزيادتهما على العلم إنّه بعد ما بيّن في التجريد أنّ علمه - تعالى - بجميع الأشياء كلّية كانت أو جزئية ، مجرّدة كانت أو محسوسة قال : « والنقل دلّ على اتصافه بالإدراك » (1) ، ومعلوم أنّ الادراك في عبارته هذه ليس هو المطلق ، المرادف للعلم المطلق ولا العلم بالجزئيات مطلقا ، ولا العلم بالمحسوسات بايّ طريق كان ، لأنّ جميع ذلك ممّا سبق بالأدلّة السابقة ؛ بل المراد منه هو الادراك المتعلّق بالمحسوس بما هو محسوس - أي : الّذي إذا كان صادرا يسمّى احساسا -. وهذا النحو الخاصّ من الادراك له - تعالى - لم يثبت بما ذكر سابقا من أدلّة العلم ، بل ربما يدعى عدم امكان اثباته بالدليل العقلي والعلم الحضوري الثابت له - تعالى - بجميع الأشياء وإن كان شبيها بهذا النحو من الادراك المسمّى عندنا بالاحساس ، إلاّ أنّه ليس احساسا حقيقة ، ولهذا جزم المحقّق - رحمه اللّه - بانّ ثبوت هذا النحو من الادراك انّما هو بالسمع. فحصر دليل اثباته على السمع دليل واضح على أنّ المراد به ليس شيئا من معانى العلم المذكورة ، بل المراد به ما هو المسمّى عندنا بالاحساس. فحاصل كلامه : إنّ السمع دلّ على أنّ له - تعالى - احساسا ، فانّ النصوص متظافرة متواترة على كونه - تعالى - سميعا بصيرا والسمع حقيقة ليس إلاّ احساس المسموعات وكذا البصر ليس إلاّ احساس المبصرات ، إلاّ أنّ ذلك الاحساس فينا لا يمكن إلاّ بآلة جسمانية ودلّ العقل على استحالتها عليه - تعالى - ؛ فيجب بمقتضى اثبات الاحساس له - تعالى - وبمقتضى العقل نفي كونه بآلة.

وامّا كلامه المنقول عن شرح الرسالة - أعني قوله : « عبر بهما عن العلم » - ليس المراد به أنّ المراد بهما هو العلم المطلق ، بل مراده من العلم هو الادراك الاحساسى كما يدلّ عليه آخر كلامه المنقول - أعني قوله : « على النحو الّذي يدركه الحواسّ » -.

أقول : كلام المحقّق في التجريد وإن امكن حمله على ما ذكره هذا القائل - أعني : على أنّ المراد بالادراك في كلامه هو الاحساس - إلاّ أنّ كلامه في شرح الرسالة صريح في ارجاعهما إلى العلم - كما لا يخفى على المتأمّل فيه -.

ثمّ لا ريب في أنّه بعد ارجاع السمع والبصر إلى العلم الحضوري يمكن اثباتهما

ص: 412


1- راجع : المسألة الخامسة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 224.

بالعقل ، لأنّ كلّ ما يدلّ حينئذ على كونه - تعالى - عالما بالاشياء يدلّ على كونه سميعا بصيرا ؛ ومن جعلهما زائدين على العلم قال : دليلهما منحصر بالسمع. وربما قيل بامكان اثباتهما حينئذ بالدليل العقلي أيضا ، وهو : إنّ ادراك المحسوسات من حيث أنّها محسوسات بالوجه الاحساسي يدخل فيه بعض خصوصياتها الّتي يخرج عنها لو لم يدرك بهذا الوجه وادراك العلم بالعلم الحضوري ، ولا ريب في أنّ الادراك على وجه يشمل جميع الخصوصيات أكمل من الوجه الّذي خرج منه بعضها. ولمّا حكم / 205 DA / العقل بأنّ الواجب - سبحانه - علّة لجميع الأشياء بجميع خصوصياتها وإنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول فيحكم أنّه يجب أن لا يخرج شيء من الخصوصيات من علمه - سبحانه - ، فيجزم بانّ الواجب يرى المبصرات بالنحو الاحساسي البديهي بدون آلة ويسمع المسموعات بهذا الوجه أيضا.

وفيه : إنّ الادراك بالعلم الحضوري لا يخرج شيء من الخصوصيات أصلا ، بل الواجب - سبحانه - يعلم المبصرات والمسموعات بجميع خصوصياتها المعينة بالعلم الحضوري ، فلا حاجة إلى الاحساس على النحو الثابت لنا مع اشتماله على النقص - كما يظهر ذلك عند التحقيق والتدبّر -.

وقد استدلّ على السمع والبصر الزائدتين أيضا بأنّه - تعالى - حيّ ، وكلّ حيّ يصحّ كونه سميعا بصيرا ، وكلّما يصحّ له - تعالى - من الكمالات ثبت له بالفعل ؛ لأنّ الخلو من صفات الكمال في حقّ من يصحّ اتصافه بها نقص وهو على اللّه - تعالى - محال.

وأورد عليه : بأنّ هذا الدليل لا بدّ فيه من بيان أنّ الحياة في الغائب أيضا يقتضي صحّة السمع والبصر. وغاية متشبّثهم في ذلك طريق السبر والتقسيم ، فانّ الجماد لا يتصف بقبول السمع والبصر وإذا صار حيا يتّصف به إن لم تقم به آفة. ثمّ إذا سبرنا صفات الحيّ لم نجد ما يصحّ قبوله للسمع والبصر سوى كونه حيا ، ولزم القضاء بمثل ذلك / 202 MB / في حقّ الباري - تعالى -. وأيضا لا سبيل إلى بيان استحالة النقص والآفة على الباري - تعالى - سوى الاجماع المستند حجّيته إلى الأدلّة السمعية ، ولا خفاء

ص: 413

في ثبوت الاجماع وقيام الأدلّة السمعية على كونه - تعالى - سميعا بصيرا ، فليعوّل على الاجماع في هذه المسألة بل على الأدلّة السمعية القطعية ابتداء ، لأنّ الظواهر الدالّة على السمع والبصر أقوى من الظواهر الدالّة على حجية الاجماع ، إذ يتّجه على هذه اعتراضات كثيرة احتاجوا إلى دفعها ؛ وإن اثبتنا حجية الاجماع بالعلم الضروري من الدّين ، فذلك العلم الضروري ثابت في المسألة الّتي نحن فيها سواء بسواء. وحاصل هذا الايراد أنّ الحياة في الواجب يجوز أن يغاير الحياة في الحيوان ، بل الحقّ تغايرهما ، لأنّ الحياة في الحيوان ما يصحّ لاجله الحسّ والحركة وفي الواجب ما يصحّ لاجله العلم والقدرة ، فكما أنّ حياة الحيوان تقتضي الحركة وحياة الواجب لا تقتضيها فكذلك يجوز أن تقتضي السمع والبصر وحياة الواجب لا تقتضيهما. نعم! ، من ارجع السمع والبصر إلى العلم - كما اخترناه - يمكن أن يستدلّ بمثل هذا الدليل بأن يقول : لمّا كان معنى الحيّ في الواجب هو الدرّاك الفعّال كان لا محالة سميعا بصيرا بمعنى أنّه - تعالى - مدرك لجميع المسموعات والمبصرات بالعلم الحضوري ، فانّ كمال الحياة - لا سيّما كونها مع كمال التجرد - تقتضي ادراك المسموعات والمبصرات بل ادراك المحسوسات ، ولا خفاء في تحقّق كمال الحياة مع كمال التجرد فيه - تعالى -. وبهذا ثبت أنّه - تعالى - سميع بصير مدرك بالمعنى المذكور. وعلى هذا فما قيل : « إنّ طريق اثبات السمع والبصر ليس إلاّ بالشرع والعقل لا يدلّ عليه » يكون المراد منه : إنّ استعمال الفاظ الادراك والسمع والبصر في صفاته - تعالى - يكون بالسمع ، وامّا اثبات معانيها المذكورة - أعني : كونه تعالى عالما بالمسموعات والمبصرات ، بل بجميع المحسوسات - يكون بالعقل أيضا.

وغير خفيّ أنّ الايراد المذكور على الاستدلال المذكور لاثبات السمع والبصر بمعناهما الخاصّ البديهى المغاير للعلم الحضوري متّجه ، إذ مجرّد الحياة لا يقتضي صحّة ذلك. على أنّ المحقّق الطوسي قال في نقد المحصل : « إنّ قولهم الحيّ يصحّ اتصافه بالسمع والبصر ليس بمطّرد ، لأنّ اكثر الهوامّ والسمك لا سمع له والعقرب والخلد لا بصر لهما والديدان لا سمع لها ولا بصر ، فلو لم يمتنع اتصاف تلك الانواع بالسمع والبصر لما خلا جميع

ص: 414

أشخاصها منها » (1).

ثمّ ما ذكر في الايراد المذكور من أنّه لا سبيل إلى بيان استحالة النقص والآفة على الباري - تعالى - سوى الاجماع ، ففساده ظاهر ؛ إذ لا شكّ في أنّ صفة الوجوب الذاتي مستلزم لاستحالة النقص والآفة على واجب الوجود ، فلا حاجة إلى التمسّك بالاجماع في استحالة هذين الأمرين على الباري - تعالى - ؛ هذا.

ثمّ النافي لثبوت السمع والبصر للواجب - سبحانه - رجّح بوجهين :

الأوّل : أنّهما تأثّر الحاسّة عن المسموع والمبصر أو مشروطا به كسائر الاحساسات ، وأنّه محال في حقّه - تعالى -

واجاب عنه القائلون بالزيادة : بمنع المقدّمة الأولى ، إذ لا يلزم من حصولهما مقارنا للتأثير فينا كونهما نفس ذلك التأثير أو مشروطين به ، وإن سلّم أنّه كذلك في الشاهد فلا نسلّم أنّه في الغائب كذلك ، فانّ صفاته - تعالى - مخالفة بالحقيقة لصفاتنا ، فجاز أن لا يكون سمعه وبصره نفس التأثير ولا مشروطا به.

/ 205 DB / وأنت خبير بأنّ الاظهر هو الجواب الآخر ، وحاصله : إنّ العقل لمّا دلّ على استحالة الآلات في حقّه - سبحانه - ولم يقم دلالة عقلية على وجوب كون الاحساس على النحو الخاصّ مطلقا بالآلة وتأثّرها فيحكم بجواز كون الاحساس في الواجب غير منوط بتأثر الآلة. وعلى ما اخترناه من ارجاعهما إلى العلم اندفاع الايراد ظاهر.

وبما قرّرناه تعلم جلية الحال في الجواب الّذي ذكره القائلون بالزيادة.

الثاني : إنّ اثبات السمع والبصر في الأزل ولا مسموع ولا مبصر فيه خروج عن المعقول ؛

وأجاب عنه القائلون بالزيادة : بأنّ كلاّ منهما نفس ذات الواجب وله تعلّقات حادثة كالعلم والقدرة. والحاصل إنّ مصحّحهما ومناطهما ليس إلاّ ثبوتهما له - سبحانه - بمعناهما الاضافي في الأزل مع عدم تحقّق مسموع ومبصر فيه ، كثبوت العلم بالحوادث له

ص: 415


1- راجع : نقد المحصّل ، ص 288.

- تعالى - في الأزل مع عدم تحقّق المعلوم فيه - أي : بما يصحّح به هذا يصحّح به ذاك أيضا - ؛ وهو ظاهر.

وعلى ما اخترناه جواب هذا الايراد مع كيفية الحال في الجواب الّذي ذكره القائلون بالزيادة ظاهر.

ص: 416

الفصل السادس : في كلامه - سبحانه -

اشارة

ص: 417

( الفصل السادس )

( في كلامه - سبحانه - )

قد تواتر عن الأنبياء واطبقت الشرائع كلّها على أنّه / 203 MA / - تعالى - متكلّم ، إذ ما من شريعة إلاّ وفيها أنّه - تعالى - أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا ؛ وكلّ ذلك من اقسام الكلام.

ثمّ لما ثبت صدق الأنبياء بدلالة المعجزات من غير توقّف على اخبار اللّه - تعالى - عن صدقهم بطريق التكلّم فلا يلزم من اثبات تكلّمه - تعالى - بالشرع دور بلا شبهة. وبالجملة لا خلاف لأرباب الملل والاديان في كونه - سبحانه - متكلّما ، وانّما الخلاف في معنى كلامه وفي قدمه وحدوثه. فالحنابلة قالوا إنّ كلامه - تعالى - حروف واصوات ، إلاّ انهم قالوا انّها حادثة قائمة بذاته - تعالى ، نظرا إلى تجويزهم قيام الحوادث بذاته سبحانه - ، وهذا هو المطابق لما نسب إليهم شارح المواقف. وامّا المذكور في المقاصد وشرحه فهو إنّ مذهب الكرامية إنّ الكلام هو قدرته - تعالى - على التكلّم وهو قديم والمنتظم من الحروف ليس كلامه ، بل هو قوله وهو حادث. قال صاحب المقاصد ما توضيحه : إنّه لمّا رأت الكرامية انّ بعض الشرّ أهون من بعض وانّ مخالفة الظواهر أشنع من مخالفة الدليل فلم يخالفوا الظواهر - أعني : كون المنتظم من الحروف حادثا - وخالفوا مقتضى الدليل القائم على عدم جواز قيام الحوادث بذاته - تعالى - ،

ص: 418

فقالوا : إنّ المنتظم حادث قائم بذاته - تعالى - وإنّ المنتظم هو قول اللّه - تعالى - لا كلامه ، فانّ كلامه قدرته التكلّم وهو قديم وقوله حادث لا محدث ، فانّ كلّ ماله ابتداء وإن كان مبائنا للذات فهو محدث بقول « كن » لا بالقدرة فقط ، وإن كان قائما بالذات فهو حادث بالقدرة فقط لا بقول « كن » ، إذ لو كان وقوع كلّ شيء بقول « كن » لزم أن تكون كلمة « كن » واقعة بمثلها ، فيلزم التسلسل. وعلى ما ذكر فالفرق بين الحادث والمحدث عندهم بالقيام بذاته - تعالى - وعدم القيام به ، فانّ القائم هو الحادث والمباين الغير القائم هو المحدث.

ولا يخفى انّه كما يأتي إنّ الكلام يطلق على التكلّم ، وعلى ما به التكلّم - أعني :

الكلمات والاصوات -. والتكلّم في الواجب انّما هو بمعنى قوّة الإلقاء وهو قديم ؛ فما ذهب إليه الكرامية - على قول صاحب المقاصد - من أنّ الكلام بمعنى القدرة على التكلّم انّما هو بمعنى التكلّم القديم لا بمعنى ما به التكلّم. فهم لم يطلقوا الكلام على ما به التكلّم ، بل اطلقوا عليه القول.

والمعتزلة قالوا كلامه - تعالى - أصوات وحروف وهي حادثة لكنّها ليست قائمة بذاته - تعالى - ، بل خلقها في غيره - تعالى - كجبرئيل أو النبيّ - صلی اللّه علیه و آله -. ومعنى كونه متكلّما حينئذ إنّه خلق الكلام في بعض الأجسام على قصد الإلقاء من عنده - تعالى - واعلام الغير ، فاندفع ما قيل من : أنّه لمجرد الخلق لا يلزم التكلّم كما لا يلزم من خلق كلام زيد عند تكلّمه - على ما هو مذهب الأشاعرة - تكلّمه. ووجه الاندفاع إنّ خلق الواجب - تعالى - كلام زيد عند صدوره عنه ليس بقصد اعلام الغير - أي : ليس هذا بقصد منه سبحانه - ، بل هو مجرّد الايجاد.

فان قيل : لا ريب في أنّ زيدا مثلا يقصد من كلامه اعلام الغير ، وعند الأشاعرة كما أنّ ايجاد كلامه من الواجب - تعالى - فكذا ايجاد قصده منه - سبحانه - ، فيصدر من الواجب خلق الكلام بالقصد المذكور ، / 206 DA / فالايراد غير مندفع! ؛

قلنا : فرق بين ايجاد القصد والاتصاف به ، إذ الواجب - تعالى - عندهم أوجد هذا القصد القائم بالغير حين ايجاد الكلام فيه من دون اتصافه به ، والمعتبر في كون الشيء

ص: 419

متكلّما أن يكون متصفا بهذا القصد.

والأشاعرة قالوا : إنّ كلامه - تعالى - ليس من جنس الأصوات والحروف ، بل هو معنى قائم بذاته يسمّى « الكلام النفسي » وهو مدلول الكلام اللفظي المركّب من الأصوات والحروف ، وهو قديم.

قال بعض الفضلاء : منشأ الخلاف في ذلك هو أنّ هاهنا قياسين متعارضين :

أحدهما : إنّ كلامه - تعالى - صفة له - تعالى - وكلّ ما هو صفة له - تعالى - فهو قديم ، فكلامه قديم ؛

وثانيهما : إنّ كلامه - تعالى - مؤلّف من اجزاء مترتّبة متعاقبة في الوجود ، وكلّ ما هو كذلك فهو حادث ، فكلامه حادث. فاضطرّوا إلى / 203 MB / القدح في أحد القياسين ومنع بعض المقدمات ضرورة امتناع حقّية النقيضين. فالحنابلة صحّحوا القياس الأوّل ومنعوا كبرى القياس الثاني ؛ والكرامية قالوا بصحّة القياس الثاني وقدحوا في كبرى القياس الأوّل ؛ والمعتزلة صحّحوا القياس الثاني وقدحوا في كبرى القياس الأوّل ؛ والأشاعرة صحّحوا القياس الأوّل وقدحوا في صغرى القياس الثاني.

قيل : إنّ الأشاعرة لم يقدحوا في صغرى القياس الثاني إذا اخذوا الكلام الّذي هو موضوعها بمعنى الكلام اللفظي ، وانّما قدحوا فيها إذا اخذوه بمعنى الكلام النفسي ، فهم يصحّحون القياسين المذكورين بأن جعلوا الكلام المذكور في القياس الأوّل بمعنى الكلام النفسي والكلام المذكور في القياس الثاني بمعنى الكلام اللفظي. والحاصل : إنّه إن جعل الكلام المذكور في الدليلين بمعنى الكلام النفسي قدحوا في صغرى القياس الثاني ، وإن جعل بمعنى الكلام اللفظي قدحوا في صغرى القياس الأوّل ، وإن جعل معناه مختلفا في القياسين على النحو المذكور لم يقدحوا ؛ انتهى.

وغير خفيّ بأنّ جواز اخذ الأشاعرة الكلام في صغرى القياس الثاني بمعنى الكلام اللفظي حتّى يصحّحوا القياسين ولم يقدحوا في شيء منهما مبنيّ على أنّ الكلام عندهم على قسمين : نفسي قديم ؛ ولفظي حادث ، إذ لو كان الكلام عندهم منحصرا بالنفسي لما امكنهم أن يأخذوا الكلام في صغرى القياس الثاني بمعنى الكلام اللفظي ، فلا بدّ لهم

ص: 420

من القدح فيها البتة.

ثمّ إنّه لا بدّ هاهنا من تحقيق ما هو الحقّ في كلامه - سبحانه - ، ثمّ نشير إلى ما توجّه من الصحّة والفساد فيما ذكره الطوائف.

فنقول الكلام يطلق على ثلاثة معان :

أحدها : القدرة على احداث الأصوات والحروف في جسم من الأجسام وقوّة القائها إلى الغير ؛

وثانيها : نفس هذا الاحداث والإلقاء ، وهو المعنى المصدري. والغالب اختصاصهما باسم التكلّم دون الكلام سيّما المعنى الأوّل ؛

وثالثها : ما به التكلّم - أي : نفس الأصوات والحروف الّتي يحصل التكلّم بها - ، فانّ مثل تكلّمت كلاما بكلام دقيق وقع فيه « كلاما » مفعولا مطلقا لقولنا : تكلّمت ، فيكون بمعنى تكلّما. وقولنا : « بكلام دقيق » بمعنى ما به التكلّم - أي : الحروف والاصوات - ، فالمعنى : تكلّمت تكلّما بمنتظم دقيق.

ثمّ لا ريب في أنّ تكلّمه - سبحانه - بالمعنى الأوّل هو بعينه قدرته - سبحانه - على خلق الاصوات والحروف في بعض الاجسام ، فكونه متكلّما بهذا المعنى هو كونه قادرا على احداث الكلام في جسم من الأجسام كما أنّ إطلاق المتكلّم بهذا المعنى علينا باعتبار قوّتنا على احداث الكلام في بعض الأجسام الّتي لنا قدرة على تحريكها - كالهواء وغيره -.

ثمّ إنّ هذه القوّة هي ما يحصل به التكلّم بالمعنى الثاني ، وهي فينا ملكة قائمة بذواتنا نتمكّن بها من القاء ما في روعنا إلى الغير ، وفي الواجب - سبحانه - عين ذاته بمعنى أنّ ذاته بذاته هو منشأ احداث الأصوات والحروف ومناط ايجادها من دون افتقار إلى صفة زائدة وملكة قائمة ، فيخلقها في أيّ جسم يريد لافادة ما في قضائه السابق على من يشاء من عباده. وعلى هذا يكون التكلّم بهذا المعنى عين ذاته - سبحانه - بمعنى أنّ ذاته بذاته هو منشأ الإلقاء الفعلي كما أنّ التكلّم بهذا المعنى فينا عين الملكة القائمة المصحّحة للالقاء الفعلي - أي : احداث الحروف والاصوات في جسم

ص: 421

من الأجسام لإعلام / 206 DB / الغير -. وبما ذكر ظهر أنّ المتكلّم من قام به التكلّم ، وهو أحد المعنيين الأوّلين ، لا من قام به الكلام - أي : ما به التكلّم ، أعني : الحروف والاصوات -.

ثمّ لا ريب في أنّ التكلّم بالمعنى الأوّل ثابت للواجب بالعقل لدلالة أدلّة عموم القدرة عليه ، وهو قديم ؛ وأمّا التكلّم بالمعنى الثاني فهو حادث ، وثبوته بالشرع دون العقل ، إذ لا طريق للعقل إلى اثبات تحقّق الإلقاء الفعلي عنه - سبحانه - وانّما عرفنا من الشريعة بالتواتر القطعي النفسي المؤكّد بالمعجزات أنّ الواجب انزل ما انزل من الكتب إلى انبيائه الكرام وأوجد الكلام فيما اوجد لإعلام بعض اصفيائه العظام وبعد ثبوت التكلّم بالمعنى الثاني يثبت الكلام بالمعنى الثالث أيضا ، لأنّ التكلّم الفعلي لا ينفكّ عمّا به التكلّم من الاصوات والحروف ، فهو أيضا حادث.

وبما ذكر ظهر أنّ قول العلاّمة الطوسي في التجريد : « وعمومية قدرته تدلّ على ثبوت الكلام » (1) اشارة إلى اثبات الكلام بالمعنى الأوّل ، يعنى : أنّ قدرته - تعالى - شاملة لجميع الممكنات ومن جملة الممكنات القاء الكلام بمعنى الحروف والاصوات الدالّ على المعنى المراد إلى الغير لا علامه ، فعموم قدرته يدلّ على الكلام بمعنى قوّة الإلقاء ؛ فالدليل العقلي يدلّ على قوّة الإلقاء. / 204 MA / فالثابت من كلام المحقّق انّما هو هذا المعنى فقط. وامّا التكلّم بمعنى نفس الإلقاء المستلزم لما به التكلّم فانّما ثبت من الشرع ، فبالعقل والشرع يثبت الكلام بمعانيه الثلاثة - أعني : قوّة الإلقاء الثابت بالعقل ، ونفس الإلقاء ، وما به التكلّم اللازم لنفس الإلقاء - ، وهما ثابتان بالشرع.

وإذا عرفت ذلك نقول : على المعنى الأوّل انّما يصحّ القياس الأوّل دون الثاني ، لكذب صغراه ، فانّ التكلّم الحقيقي الّذي هو قدرة الإلقاء نفس ذات الواجب - كما أشير إليه - فيكون قديما بلا تعدّد القدماء. وعلى المعنى الثاني لا يصحّ شيء من القياسين ؛ أمّا الثاني فلكذب صغراه ؛ وأمّا الأوّل فلمنع كبراه ، فانّما يمتنع كون كلّ صفة له قديمة ، فانّ المسلّم إنّ الصفات الحقيقية له - تعالى - قديمة ، وأمّا صفاته الاضافية فليست قديمة ، و

ص: 422


1- راجع : المسألة السادسة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 224.

الكلام بالمعنى الثاني انّما هو من الصفات الاضافية. وعلى المعنى الثالث انّما يصحّ القياس الثاني لا القياس الأوّل ، لكذب الصغرى.

وعلى هذا فلا حاجة إلى القدح في أحد القياسين ، لامكان أن يحمل الكلام في القياس الأوّل على المعنى الأوّل وفي القياس الثاني على المعنى الأخرى. فالحقّ إنّ التدافع بين ذينك القياسين انّما نشأ من فهم عدم اشتراك اللفظ وجعل الكلام المذكور فيهما بمعنى واحد ، وتوهّم جريان الحكم بالمعنى الآخر فيه مع كون اللفظ مشتركا بين معان ومخالفة حكم كلّ منهما للآخر.

وإذ ظهر ما هو الحقّ في كلامه - تعالى - فلنشير إلى ما يرد على المذاهب المذكورة ؛ فنقول : أمّا مذهب الحنابلة ففساده أظهر من أن يخفى على أحد! ، فإنّ القول بأنّ كلامه - تعالى - منحصر بالحروف والاصوات وهي قائمة بذاته وقديمة والقول بأنّ الجلد والغلاف قديمان ممّا يشمئزّ عنه من له ادنى مسكة! ، ولعمري كفى شاهدا في حماقتهم ما نقل عنهم : إنّ الجسم الّذي كتب فيه القرآن صار قديما بعد ما كان حادثا!.

ولعدم صدور امثال هذه الهفوات عن انسان أوّل جماعة كلامهم ؛

فقيل : لعلّهم لم يعرفوا معنى القدم والحدوث وحسبوا أنّ نسبة الحدوث إلى كلامه - تعالى - ولو بمعنى ما به التكلّم إهانة ؛

وقيل : لعلّ امتناعهم من إطلاق الحادث على المصحف وتوابعه لأجل أن لا يتوهّم حدوث الكلام بمعنى التكلّم القائم بذاته ؛

وقيل : لمّا كلّفوا بالقول بأنّ كلامه - تعالى - مخلوق ولفظ المخلوق مشترك بين الحادث والمفترى لم يجوّزوا إطلاق هذا اللفظ عليه لئلاّ يذهب من لا وقوف له على أنّ مرادهم من المحدث إلى انّهم اعترفوا بكون هذا المؤلّف مفترى ، وقالوا : انّه غير مخلوق - أي : غير مفترى - حتّى الجلد والغلاف فنسبوا إليهم انّهم قالوا بقدمه. ثمّ انهم التزموا عدم إطلاق المحدث أيضا عليه لانّهم لو اطلقوا عليه لفظ المحدث والحادث الّذي هو أحد معنيى المخلوق لاستلزم جواز إطلاق المخلوق أيضا ، وهو توهم كون القرآن مفترى.

وأنت تعلم بأنّ هذا التأويل يجعل حماقتهم أكثر! ، مع أنّه لا معنى لكون الجلد و

ص: 423

الغلاف غير مفترى!.

وقيل : إنّ مرادهم بقدم الكلام قدم علم الباري - تعالى - ، ولهذا قالوا بقدم الجلد / 207 DA / والغلاف ، فانّ العلم بهما أيضا قديم.

وغير خفيّ بأنّ ما ذكروه لا يلائم شيئا من هذه التأويلات ؛ بل الأولى الاعراض عن التأويل ، فانّه جار في اكثر المذاهب الباطلة والتعرّض له انّما نشأ من التعصّب المبرّى عنه أهل الحقّ.

وامّا مذهب الكرامية ففيه : أنّه لا معنى لقيام الاصوات والحروف بذاته - تعالى - ، سواء قالوا بانحصار كلامه فيها - على ما في شرح المواقف - أو قالوا بانّ قوله وكلامه هو قدرته على التكلّم - كما في شرح المقاصد -. نعم! ، الفساد في الأوّل أشدّ ، لانّه مع لزوم قيام المنتظم بذاته يلزم جعل كلامه منحصرا به - أي : بما به التكلّم - مع أنّ التكلّم الحقيقى هو القدرة على التكلّم والاضافي هو نفس احداث الحروف والاصوات.

وامّا مذهب المعتزلة فالظاهر ممّا نقلنا عنهم انّهم قالوا بالكلام بالمعنى الثاني والثالث وبحدوثهما ؛ وأمّا قولهم بالمعنى الثالث فظاهر ممّا نقلنا عنهم ؛ وأمّا قولهم بالمعنى الثاني فلأنّهم قالوا - كما نقلنا عنهم - : إنّ معنى كونه - تعالى - متكلّما : أنّه خلق الكلام في بعض الأجسام ، والظاهر المتبادر من الخلق : الخلق بالفعل ، وهو نفس الاحداث والإلقاء الّذي هو معنى اضافي. وأمّا قولهم بحدوثهما فلتصريحهم به - كما نقلناه عنهم -. ولا ريب في أنّ القول بهما وبحدوثهما / 204 MB / من دون القيام بذاته - تعالى - وإن كان حقّا نقول به إلاّ أنّه ليس في كلامهم أثر من الكلام بالمعنى الأوّل - أعني : القدرة على الإلقاء - ، فانّ قولهم : « معنى كونه متكلّما إنّه خلق الكلام - ... إلى آخره - » لا يثبت منه إلاّ التكلّم الاضافي الحادث الّذي هو المعنى الثاني دون التكلّم الحقيقى الّذي هو المعنى الأوّل ، إذ المتبادر من الخلق هو الخلق بالفعل ، وهو ليس من الصفات الحقيقية لكونه حادثا غير ثابت في الأزل. وبالجملة التكلّم المذكور في كلامهم هو المعرّف بأنّه خلق الحروف والاصوات في بعض الأجسام ؛ وهو ليس من الصفات الحقيقية ، لأنّ التكلّم الحقيقى يعرف بأنّه أمر هو مصدر تأليف الكلمات أو القدرة على ذلك التأليف وخلقه ، و

ص: 424

هو نفس ذات واجب الوجود عند المحقّقين ، فانّه - تعالى - قادر بذاته على تأليف الكلمات. فثبت أنّ التكلّم الحقيقي غير مصرّح به في كلامهم لظهور دخوله تحت عموم القدرة ، حتّى لو كانوا قائلين به أيضا - وإن لم يتعرضوا له هاهنا كما هو الظاهر - فيكون مذهبهم في الكلام مطابقا للحقّ وموافقا لما اخترناه ، وإن كان عدم تصريحهم به لعدم اثباتهم ايّاه ؛ فحصل المخالفة بيننا وبينهم من هذه الجهة.

ويرد عليهم أنّه لا وجه لاخراج الكلام الحقيقي عن أقسام الكلام.

ثمّ إنا قد ذكرنا في المباحث السابقة أنّ المعتزلة قدحوا في صغرى القياس الأوّل ، وهذا إنّما يتأتّى إذا حمل الكلام المذكور فيه على المعنى الثالث - أعني : ما به التكلّم - ، إذ لو حمل على المعنى الثاني - أعني : التكلّم الفعلي الّذي هو من الصفات الغير الحقيقة ، أي : ايجاد الكلام بالفعل - ينصرف القدح إلى كبرى القياس الأوّل ، ويندفع القدح عنه بالكلّية إن أريد بالتكلّم ما هو من الصفات الحقيقية.

وأمّا مذهب الأشاعرة - أعني : القول بالكلام النفسي - فيرد عليه : إنّ الكلام النفسي لا يرجع إلى معنى محصّل سوى العلم بمدلولات الألفاظ ومعانيها وعباراتها أو تخيّل الألفاظ ، وتوهّم ما يوجد من الكلام - أعني : ما يسمّى بحديث النفس -. والأوّل عين صفة العلم ، والثاني لا يليق بساحة كبريائه - سبحانه - لتقدّسه عن خطرات الأوهام وتخيّل ما يتجدّد من الألفاظ والكلام وسائر ما يتخيّله العوامّ.

قال بعض المشاهير ما توضيحه : إنّ للكلام معنيين :

أحدهما : التكلّم ؛

وثانيهما : ما به التكلّم. فالاشاعرة إن ارادوا بقولهم : « كلامه - تعالى - ليس من جنس الاصوات والحروف » : إنّ تكلّمه - تعالى - ليس من جنس الاصوات والحروف ، فيرد عليه : إنّ التكلّم مطلقا - أي سواء كان من اللّه تعالى أو من غيره - ليس من جنس الاصوات والحروف ، فلا وجه لتخصيص كلامه - سبحانه - بهذا المعنى بأنّه ليس من هذا الجنس ؛

ويرد عليهم أيضا : انّه لا معنى حينئذ لقولهم : « أنّ الكلام النفسي مدلول الكلام

ص: 425

اللفظي » ،

لأنّ التكلّم سواء كان بمعنى قوّة الإلقاء أو نفس الإلقاء ليس مدلولا للحروف والألفاظ. إلاّ أن يصرف عن ظاهره ويقال : إنّ مرادهم من كون التكلّم مدلولا للكلام اللفظي - أعني : الحروف والاصوات - : إنّه يعرف بسبب الكلام اللفظي انّ في الشخص صفة التكلّم ، على أن يكون من قبيل دلالة المعلول على العلّة لأنّ التكلّم سواء اخذ / 207 DB / صفة حقيقة أو اضافية علّة للكلام اللفظي ومبدأ له ، فدلالة الكلام اللفظي عليه من قبيل دلالة المعلول على العلّة فيكون المراد من الدلالة الدلالة العقلية دون الوضعية. وهذا صرف عن الظاهر ، لأنّ المتبادر من الدلالة عند الاطلاق الدلالة اللفظية الوضعية ، فإرادة الدلالة العقلية خلاف الظاهر.

ثمّ إذا أريد بالتكلّم التكلّم الحقيقي الّذي هو القدرة على تأليف الكلمات أو الانتزاعي الاضافي الّذي هو نفس الاحداث وصرف قولهم إنّه مدلول الكلام اللفظي عن ظاهره - كما ذكرناه - ، يصحّ الحكم على رأي الأشاعرة بأنّه قديم ومعنى قائم بذاته ، لانّهم قائلون بزيادة الصفات على ذاته - تعالى عن ذلك - وإن لم يصحّ القيام عندنا ؛ لأنّ التكلّم الحقيقي عين ذاته والاضافي صفة اعتبارية انتزاعية ؛

وإن ارادوا بالكلام المذكور ما به التكلّم فلم يصحّ قولهم ، بل هو معنى قائم بذاته - تعالى - ، لأنّ الحروف والاصوات ليست قائمة بذاته - تعالى - إلاّ على القول بأنّ الموجودات في الشهود العلمى قائمة بذاته - تعالى - كما ذهب إليه الحصوليون ، فانّ علمه - تعالى - بالاشياء إذا كان حصوليا يكون جميع الأشياء قائمة بذاته - تعالى - قياما علميا بمعنى أنّ صورها قائمة به - تعالى - / 205 MA / قديمة ، والكلام بمعنى ما به التكلّم أيضا من جملة الأشياء ، فيكون قائما به - تعالى - في الشهود العلمى. فما به التكلّم ليس قائما بالمتكلم إلاّ في الشهود العلمي ؛ يعنى إنّ صور الحروف والألفاظ قائمة به - تعالى -.

ثمّ لو أريد من القيام القيام في الشهود العلمي فمع كونه خلاف الظاهر يرد عليهم أيضا : أنّ الكلام بهذا المعنى متعدّد باعتبار ذاته كالألفاظ - أي : كما أنّ الألفاظ الموجودة في الخارج متعدّدة كذلك هذه الألفاظ باعتبار الشهود العلمي متعددة - ، فلا يصحّ قولهم

ص: 426

: انّ كلامه - تعالى - واحد عندنا وانقسامه إلى الأمر والنهى والخبر والنداء والاستفهام انّما هو بحسب التعلّق ، لأنّ هذا الحكم - أعني : الوحدة والانقسام بحسب التعلّق - انّما يصحّ في الكلام بمعنى التكلّم الّذي هو صفة حقيقية له - تعالى - لا في الكلام بمعنى ما به التكلّم ، إلاّ أن يراد به - أي : بالكلام الواحد المنقسم بحسب التعلّق - العلم الاجمالي الّذي هو عين ذات الحقّ ، أو العلم الانتزاعى الاجمالي الّذي هو منتزع عن ذاته - تعالى -. وحينئذ يرد عليهم : أنّه لا يصحّ الحكم بقيامه بذاته - تعالى - ، لأنّ العلم الاجمالي عين ذاته - تعالى - وانّه لا يكون مدلولا للكلام اللفظي إلاّ بالصرف عن الظاهر - كما سبق -.

على أنّه يلزم على هذا التوجيه خلاف ما تقرّر عند الأشاعرة من أنّ كلامه - تعالى - صفة له غير العلم والقدرة وغيرهما من الصفات ، فاذا رجع الكلام إلى العلم الاجمالي يلزم كون الكلام عين صفة العلم ، وهو خلاف مذهبهم. وبالجملة الحكم بأنّ الكلام - بمعنى ما به التكلّم - معنى واحد قائم بذاته - تعالى - وهو مدلول الكلام اللفظي المركّب من الحروف بدون رجوعه إلى العلم الاجمالي الّذي هو غير زائد على ذاته - تعالى - لا وجه لمعقوليته ، ومع ذلك الرجوع لا يصحّ الحكم بقيامه بذاته - تعالى - ، لأنّ العلم الاجمالي نفس ذاته - تعالى -. نعم! ، لو قالوا بالعلم الاجمالي الواحد الزائد على ذاته - تعالى - يصحّ الرجوع المذكور. وحينئذ لا نزاع للمعتزلة معهم إلاّ في زيادته ، ولا ريب في أنّ تلك الزيادة لا يصحّ في العلم بمعنى مناط الانكشاف ، لانّه عين ذاته - تعالى - ، بل انّما يصحّ في العلم الانتزاعي الزائد في التعقّل - أعني : العلم المصدري الّذي سيق منه علم ويعلم وعالم - ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّ التأويلات المذكورة لكلام الأشاعرة من التعسّفات الباردة وهي لا تلائم ما صرّحوا به ، فانّهم ذكروا : أنّ الكلام لفظي وهو المؤلّف من الحروف ؛ ونفسي وهو المعنى القائم بالمتكلّم وقالوا هو مدلول الكلام اللفظي - كما قال شاعرهم :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وانّما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا (1)

وصرّحوا بانّ الكلام النفسي مغاير للعلم والإرادة والكراهة وسائر الصفات

ص: 427


1- البيت لأخطل. راجع : شرح المقاصد ، ج 4 ص 150.

المشهورة ، وهو عبارة عن نسبة أحد طرفي الخبر إلى الآخر القائمة بنفس المتكلّم. واستدلوا على كون هذه النسبة القائمة بالمتكلم مغايرة للعلم بأنّ المتكلّم قد يخبر عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ؛ وعلى كونها مغايرة للارادة بأنّه قد يأمر الرجل بما لا يريده ، كالمخبر لعبده هل لطعه أم لا ، وكالمعتذر من ضرب عبده لعصيانه ، فانّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه ؛ وعلى كونها مغايرة للكراهية بأنّه قد / 208 DA / ينهى الرجل عمّا لا يكرهه ، بل يريده في صورتي الاختيار والاعتذار. واستدلّوا على قيام تلك النسبة المسمّاة بالكلام النفسي بالمتكلم بأنّ المتكلّم من قام به الكلام لا من أوجد الكلام ولو في محلّ آخر ، للقطع بأنّ موجد الحركة في جسم آخر لا يسمّى متحركا ، وإنّه لا يسمّى من يخلق الاصوات مصوّتا وإنّا إذا سمعنا قائلا يقول : أنا قائم نسمّيه المتكلّم وإن لم نعلم إنّه الموجد لهذا الكلام ، بل وإن علمنا أنّ موجده هو اللّه - سبحانه كما هو رأي الأشاعرة - ، وحينئذ فيجب قيام الكلام بذاته - تعالى - حتّى يكون متكلّما. ولا ريب في أنّ الكلام القائم بذات الباري لا يجوز أن يكون هو الحسّي - أعني : المنتظم من الحروف المسموعة - ، لانّه حادث ضرورة أنّ له ابتداء وانتهاء وأنّ الحرف الثاني لكلّ كلمة مسبوق بالأوّل مشروط بانقضائه ، فيكون له أوّل فلا يكون قديما ، والحرف الأوّل أيضا لمّا كان له انقضاء لا يكون قديما - لامتناع طريان العدم على القديم - فالمجموع المركّب منهما أيضا لا يكون قديما. والحادث يمتنع قيامه بذات الباري - تعالى - ، فتعيّن أن يكون هو المعنى الثاني إذ لا ثالث يطلق عليه اسم الكلام ، وهو الّذي يسمّى بالكلام النفسي. فانّ من يراد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو اخبار أو استخبار أو غير ذلك يجعل في نفسه معانى يعبّر عنها بالالفاظ الّتي نسمّيها بالكلام الحسّي ، فالمعنى الّذي يجده من نفسه ويدور في الخارج ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات / 205 MB / ويقصد المتكلّم حصوله في نفس السامع ليجري على موجبه هو الّذي نسمّيه كلام النفس وحديثها.

ثمّ إنّ المعتزلة المنكرين للكلام النفسي قالوا : إذا صدر من المتكلّم خبر فهناك ثلاثة أشياء :

ص: 428

أحدها : العبارة الصادرة عنه ؛

والثاني : علمه بثبوت النسبة أو انتفائها بين طرفي الخبر ؛

والثالث : ثبوت تلك النسبة أو انتفائها في الواقع.

والاخيران ليسا كلاما حقيقيا بالاتفاق ، فتعيّن الأوّل.

وإذا صدر عنه أمر أو نهي فهناك شيئان :

أحدهما : لفظ صادر عنه ؛

والثاني : إرادة أو كراهة قائمة بنفسه متعلّقة بالمأمور به أو بالمنهي عنه.

وليست الإرادة والكراهة أيضا كلاما حقيقيا اتفاقا ، فتعيّن اللفظ. وقس على ذلك سائر اقسام الكلام. والحاصل : أنّ مدلول الكلام اللفظي الّذي يسمّيه الأشاعرة كلاما نفسيا ليس أمرا وراء العلم في الخبر ، والإرادة في الأمر ، والكراهة في النهي.

ثمّ اجابوا عن الدليل الّذي ذكره الأشاعرة للمغايرة بين الكلام النفسي والعلم بأنّ المعنى النفسي الّذي يدّعون أنّه قائم بنفس المتكلّم ومغاير للعلم في صورة الاخبار عمّا لا يعلمه هو ادراك مدلول الخبر - أعني : حصوله في الذهن مطلقا ، أي : سواء كان مع التصديق بنسبته أم لا -. والحاصل : أنّ الأشاعرة إن أرادوا بقولهم : « إنّ النسبة المذكورة المسمّاة بالكلام النفسي مغايرة للعلم » : انّها مغايرة للعلم التصديقي ، فهو مسلّم ، إلاّ أنّ ذلك لا يضرّنا ؛ وإن أرادوا به : أنّه مغاير للعلم التصوري أيضا ، فهو ممنوع ، لأنّ هذا المدلول هو حصول الخبر في الذهن ، والعلم ليس إلاّ ذلك.

ثمّ ما ذكروه عن المغايرة بين الكلام النفسي وبين الإرادة والكراهة ففيه : انّ المغايرة بين المدلول والإرادة والكراهة في صورتي الأمر بما لا يريده والنهى عمّا يريده بل في صورتى الأمر بما يريده والنهى عمّا يريده أيضا مسلّمة ، إلاّ أنّ هذا المدلول حاصل في ذهن المتكلّم ، والحصول في الذهن مطلقا ليس أمرا وراء العلم بمعنى الادراك المطلق - كما في صورة الخبر عمّا لا يعلمه - ؛ هذا.

والجواب عمّا ذكروه - من أنّ المتكلّم من قام به الكلام لا من اوجد الكلام في محلّ آخر - ، ففيه : إنّ لفظ المتكلّم انّما اشتقّ من التكلّم ، فمعناه بحسب اللغة انّما هو ما قام به

ص: 429

التكلّم ، فالمتكلم من قام به الكلام بمعنى التكلّم لا بمعنى ما به التكلّم ، فانّ ما به التكلّم باعتبار الوجود العيني انّما قام بالهواء لا بالمتكلّم ، بل انّما قام بالمتكلّم ايجاد ما به التكلّم والقائه إلى المخاطب لا عدم الغير ، وهو - أعني : ايجاد الكلام بقصد الافادة والاعلام - هو التكلّم. فمراد من قال : « إنّ المتكلّم أوجد الكلام » : إنّ المتكلّم أوجد الكلام على قصد الافادة والاعلام ، فلا يرد أنّه على زعم الأشاعرة موجد كلام العباد - بل كلّ افعالهم - هو اللّه ، فيلزم أن يكون هو - سبحانه - متكلّما باعتبار خلق كلامهم ، ولا شك أنّه لا يطلق عليه - تعالى - المتكلّم بهذا الاعتبار ؛ وذلك لانّه ليس خلق / 208 DB / كلام العباد منه - تعالى - لقصد الافادة والاعلام من جانبه - تعالى - مع أنّ هذا معتبر في إطلاق المتكلّم على خالق الكلام.

وما ذكروه من أنّ موجد الحركة في جسم آخر لا يسمّى متحرّكا ، ففيه : انّ المتحرّك ما قام به التحرّك ، لا ما قام به التحريك ، ولهذا لا يسمّى موجد الحركة في جسم آخر متحرّكا.

والحاصل : أنّ المتكلّم من قام به التكلّم الّذي هو مبدأ اشتقاق الصيغة ومعناه خلق الكلام ، فلا شكّ في أنّه صادق على موجد الكلام ؛ والمتحرّك ما قام به التحرّك ، ومعناه الحركة لا خلق الحركة ؛ فقياس المتكلّم على المتحرّك خطاء وإن كان كلاهما مشتركين في قيام مبدأ اشتقاق الصيغة بالفاعل ، إلاّ أنّ مبدأ اشتقاق المتكلّم - أي : التكلّم - معناه على زعم المعتزلة خلق الكلام في الهواء ومبدأ اشتقاق المتحرّك - أي : التحرّك - هو الاتصاف بالحركة ، وكلا المبدءين قائمان بالفاعل المتصف بذلك المشتقّ.

وما ذكروه من أنّا إذا سمعنا قائلا يقول : أنا قائم نسمّيه المتكلّم وإن قلنا أنّ موجده هو اللّه - سبحانه - ، ففيه : إنّ الايجاد المأخوذ في تعريف التكلّم - كما تقدّم - هو الإلقاء على قصد الاعلام سواء كان ايجادا حقيقيا أو لا ، ففي الصورة المذكورة الملقي هو المتكلّم ، فانّه يقصد الاعلام بإلقاء الكلام وإلاّ كان موجد الكلام هو اللّه - سبحانه -. نعم! ، لو اوجد اللّه الكلام في العباد بقصد الاعلام من جانبه - تعالى كما في الشجرة أو لسان الملك - لكان ذلك كلاما له - تعالى - وكان هو المتكلّم دون الشجرة والملك ، وهو مسلّم

ص: 430

عند الكلّ.

وبما ذكرناه ظهر ضعف قولهم : إنّ الكلام القائم بذات الباري لا يجوز أن يكون هو الحسّي ، فتعيّن أن يكون هو المعنى ؛ إذ قد عرفت أنّ الكلام القائم بذات الباري - تعالى - هو بمعنى التكلّم لا بمعنى ما به التكلّم - أعني : الألفاظ الدالّة على المعانى أو معانيها الدالّة على أمور أخر الّتي هي المقصودة بالذات بإلقاء الألفاظ الدالّة عليها بناء على ما ذهب إليه الغزالى من أنّ هذا هو الكلام بالحقيقة على ما يأتي الاشارة إليه - ، والتكلّم ليس إلاّ ايجاد ما به التكلّم وهذا الايجاد ليس شيئا من اللفظ / 206 MA / والمعنى. على أنّ قيام المعنى الّذي هو الكلام النفسي عند الأشاعرة بذات الواجب غير جائز ، لأنّ هذا المعنى أيضا يكون حادثا فلا يجوز أن يقوم بذاته - تعالى - كما قالوا في الالفاظ بعينه. ولا يصحّ إطلاق القديم عليه ، لأنّ إطلاق الكلام النفسي القديم على معانى الالفاظ الحادثة غير معقول ؛ وهذا هو معنى قول المحقّق الطوسي : « والنفساني غير معقول - ، أي : الكلام النفسي القديم - وهو معاني الألفاظ - غير معقول.

فان قيل : مراد من قال بالكلام النفسي القديم : إنّ العلم الاجمالي بالكلام قديم ؛

قلنا : هذا تأويل فيه ارتكاب مجاز في مقابلة الخصم المحقّ ، فيشمّ منه رائحة النفسانية والتعصّب ؛ ولذا قال بعض الفضلاء : إنّ في قول المحقّق : « والنفساني غير معقول » حيث لم يقل : « وكلام النفسي » أو « النفسي » ايماء تطبيقا بأنّ اثبات هذا الكلام بارتكاب التمحّل لا يخلو عن النفسانية والتعصّب!.

ثمّ إنّ المعتزلة تمسّكوا لاثبات أنّ الكلام هو المنتظم من الحروف وأنّ النفسي القديم الّذي يدّعيه الأشاعرة ليس كلامه بوجوه لا بدّ لنا من ايرادها وذكر ما يتعلّق بها من الفوائد وما قيل للجواب عن بعضها وتحقيق ما هو الحقّ ، وبيان أنّها هل هي تنتهض حجة لما اخترناه ، أو لا؟ ، وعلى التقدير الثاني هل يكون شيء منها منافيا لشيء ممّا اخترناه ، أم لا؟.

فمنها : انّه قد علم بالضرورة من دين نبيّنا محمّد - صلی اللّه علیه و آله - إنّ هذا القرآن هو الكلام المؤلّف المنتظم من الحروف المسموعة المفتتح بالتحميد المختتم

ص: 431

بالاستعاذة ، وعليه انعقد اجماع السلف وأكثر الخلف.

ومنها : إنّ ما اشتهر وثبت بالنص والاجماع من خواصّ القرآن انّما يصدق على هذا المؤلّف الحادث لا المعنى القديم ، وتلك الخواصّ كونه ذكرا - لقوله تعالى : ( وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ ) (1) - ؛ عربيّا - لقوله - تعالى - : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) (2) - ؛ ومنزلا على النبيّ - صلی اللّه علیه و آله - بشهادة النصّ من تلك الآية وأمثالها واجماع الأمّة ؛ ومقروء بالالسن للاجماع ؛ ومسموعا / 209 DA / بالاذان للاجماع ولقوله - تعالى - : ( حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ) (3) ؛ ومقرونا بالتحدّي لكونه معجزا اجماعا ؛ ومفصّلا إلى السور والآيات - لقوله تعالى : ( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ) (4) - ؛ وقابلا للنسخ ؛ وهو من آيات الحدوث ، لانّه إمّا رفع أو انتهاء وشيء منها لا يتصوّر في القديم ، لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ؛ وواردا عقيب إرادة التكوين - لقوله تعالى : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (5) ، إذ معناه : انّا إذا أردنا شيئا قلنا له كن فيكون ، قوله « كن » أمر وهو قسم من كلامه - تعالى - متأخّر عن الإرادة الواقعة في الاستقبال - لكونه جزء له - ، فيكون حادثا -.

فان قيل : وقوع كلمة « كن » عقيب إرادة تكوين الأشياء على ما يقتضيه كلمة الجزاء وإن دلّ على حدوثها لكن عموم لفظ شيء حيث وقع في سياق النفي يقتضي قدمها ، إذ لو كانت حادثة لكانت واقعة بكلمة « كن » آخر سابقة وتسلسلت.

وإن جعل هذا الكلام مجازا - كما قال البيضاوي : « إنّه تمثيل لتأثير قدرته في مراده بامر المطاع للمطيع في حصول المامور من غير امتناع وتوقّف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعا لمادّة الشبهة وهو قياس قدرة اللّه على قدرة العبد » (6) - فلا يكون له دلالة على حدوث كلمة كن ؛

ص: 432


1- كريمة 50 ، الأنبياء.
2- كريمة 4 ، يوسف.
3- كريمة 6 ، التوبة.
4- كريمة 1 ، هود.
5- كريمة 40 ، النحل.
6- ما وجدت العبارة في البيضاوي. وانظر : نفس التفسير ، ص 356. ذيل هذه الكريمة.

قلنا : قد اجيب عنه بوجوه :

أحدها : إنّ المراد من الآية أنّه ليس قولنا لشيء من الأشياء عند تكوينه إلاّ هذا القول - أي : قول « كن » - ، وهذا لا يقتضي ثبوت هذا القول لكلّ شيء ، بل غايته أنّه لو قيل فيما يراد تكوينه قول لكان هذا القول - أعني : قول « كن » - ، كما تقول : ما أقول لأحد عند ارشاده إلاّ أن اقول له اعلم! ، فانّه لا يدلّ على أنّك تقول اعلم لكلّ أحد ترشده ، بل على أنّك لو قلت شيئا لأحد عند ارشاده لكان القول لفظ اعلم. وحينئذ نقول : لا يلزم أن يكون قول « كن » ممّا يلزم أن يقال فيه قول حتّى يكون مسبوقا بمثله.

ومنها : إنّ الواقع بكلمة « كن » - كما نقل سابقا عن شرح المقاصد - هو المحدث لا الحادث ، فانّه واقع بمجرّد القدرة ، ولا ريب في أنّ قوله - سبحانه - لا يكون محدثا بل يكون حادثا ، فلا يلزم مسبوقيته بكلمة « كن » ، فلا يلزم التسلسل.

ومنها : إنّ ظاهر قوله - تعالى - : « إذا اردناه » يدلّ على اختصاصه بالزمانيات ، لأنّ « إذا » للتوقيت ، فلا يكون وقوع / 206 MB / القديم - كصفات الواجب سبحانه إذا كانت زائدة على الذات كما هو مذهب الأشاعرة ، ووقوع الحوادث الغير الزمانية - بأمر « كن » ، ومكتوبا في المصاحف للاجماع. ولا ريب في أنّ المكتوب في المصحف ليس هو الصور والاشكال - كما توهّم - ، بل المكتوب انّما هو اللفظ لأنّ الكتابة تصوير اللفظ بحروف هجائية. نعم! ، المثبت في المصحف هو الصور والاشكال.

وأورد عليه صدر المحقّقين : بأنّه لا يلزم من كون الكتابة تصوير اللفظ بحروف الهجائية أن يكون المكتوب لفظا ، فانّ نقش الفرس على الجدار مثلا تصوير الفرس بالنقش ومن البيّن أنّ النقش ليس فرسا ، بل نقشه المشعر به ، فكذا المكتوب صورة اللفظ المشعرة به لا نقشه. والحاصل : إنّ اللفظ انّما هو الحروف المرتّبة المنتظمة المسموعة من قبيل الاصوات وما هو مكتوب انّما هو نقش الألفاظ وصورتها وليس بألفاظ حقيقة ، بل هو دالّ على الالفاظ. وعلى هذا يصحّ أن يقال : اللفظ مكتوب والفرس منقوش بمعنى أنّ اللفظ الّذي هو الحروف المنتظمة المسموعة مصورة - أي : وضع صورته في القرطاس مثلا - ، لأنّ الكتابة انّما هو تصوير اللفظ والفرس الّذي هو حقيقة خارجية

ص: 433

جعل منقوشا - أي : وضع نقشه في الجدار - ؛ ولا يصحّ أن يقال : المكتوب لفظ والمنقوش فرس ، لأنّ المكتوب انّما هو الصورة وصورة الشيء ليس حقيقة ذلك الشيء ، وكذا المنقوش انّما هو النقش ونقش الشيء ليس حقيقة ذلك الشيء.

وغير خفيّ بأنّ هذا الايراد غير وارد ، لأنّ من قال : إنّ الكتابة تصوير اللفظ ، لم يقل : إنّ الصور هو اللفظ حتّى يلزم عليه كون المنقوش هو الفرس ، بل قال : إنّ المصوّر - وهو المكتوب - هو اللفظ - أي : ذو الصورة هو اللفظ -. وعلى هذا يلزم أن يكون المنقوش هو الفرس - أي : ذو النقش هو - ، ولا فساد في ذلك. فانّ / 209 DB / ذا الصورة هو اللفظ وذا النقش هو الفرس قطعا. وبالجملة الكتابة لمّا كانت معناها جعل اللفظ أو غيره ذا صورة ونقش لم يصدق المكتوب حقيقة على النقش والصورة ، إذ الصورة لم يجعل ذا صورة - إذ هي عين الصورة - والنقش لم يجعل ذا نقش - إذ هو عين النقش - وانّما جعل اللفظ أو المعنى ذا صورة ونقش ، وهذا لا ريب فيه. فالمكتوب والمصوّر هو اللفظ والحقيقة الخارجية حقيقة دون الصور والنقش. نعم! ، المثبت هو الصور والنقوش حقيقة - كما ذكر أوّلا في جواب من توهم أنّ المكتوب هو الصور والاشكال دون الألفاظ -. والفرق بين الكتابة والاشكال ظاهر.

وبما ذكر ظهر أنّ المكتوب هو الألفاظ دون الصور والاشكال ، وايراد صدر المحققين غير وارد.

وقال بعض المشاهير : لا خفاء في أنّه لمّا كان الكتابة هو تصوير اللفظ كان اللفظ مكتوبا - أي : مصوّرا - لا محالة ، فانّ كون الكتابة عبارة عن تصوير اللفظ مستلزم لكون المكتوب عبارة عن اللفظ. والحاصل : إنّ العادة جارية بأن يقال : إنّ الألفاظ مكتوبة وأرادوا من هذا القول أنّ الصور الدالّة عليها مكتوبة ، وبمقتضى هذه العادة يقال : إنّ الكتابة تصوير اللفظ وإلاّ فبالحقيقة الكتابة تصوير الصور الدالّة على الألفاظ لا تصوير الألفاظ ؛ ولا يخفى حال نظير الكتابة - كالتنقيش - إذا نسب إلى الفرس ونحوه ؛ انتهى.

وغير خفيّ بأنّ ما ذكره أوّلا من قوله : « لا خفاء ... إلى قوله عبارة عن اللفظ » كلام حقّ ؛ توضيحه ما ذكرناه في دفع ايراد صدر المحققين ؛

ص: 434

وامّا ما ذكره بقوله : « والحاصل أنّ العادة - ... إلى آخره - » رجوع عن الحقّ والتزام لارتكاب المسامحة والتجوّز في القول بانّ اللفظ مكتوب والمكتوب بالحقيقة هو الصورة ، والعادة تجري بإطلاق المكتوب على اللفظ على خلاف الحقيقة ؛ ولا يخفى فساده ممّا حقّقناه.

ثمّ ما ذكره من أنّ الكتابة تصوير اللفظ ، ففيه : إنّه إن أراد بتصوير الصور اثبات صور الصور فهو اشنع كلّ شنيع! ؛ وإن أراد به : اثبات الصور الدالّة على الألفاظ ، فهو معنى تصوير الألفاظ ، لأنّ معنى تصوير الألفاظ هو اثبات صورها الدالّة عليها.

ثمّ لا يخفى أنّ الدليلين المذكورين للمعتزلة لا يدلاّن إلاّ على أنّ القرآن وكلام اللّه يطلقان على هذا المؤلّف المنتظم المخصوص ؛ وأنّ الصفات والخواصّ المذكورة - أعني : كونه ذكرا عربيا ومنزلا ومقروء بالالسن ... إلى آخره - انّما هي صفات وخواصّ لهذا المؤلّف المنتظم ؛ ولا يدلاّن على عدم إطلاق كلام اللّه على قدرة القاء هذا المؤلّف وعلى نفس القائه. والظاهر إنّ المعتزلة أيضا لم يريدوا منهما اثبات عدم إطلاق القرآن وكلام اللّه على مدلول هذا المؤلّف الّذي هو الكلام النفسي. وأنت خبير بانّهما لا يدلاّن على ذلك / 207 MA / أيضا ، ولذا اجاب الأشاعرة عن هذا الدليلين بأنّه لا نزاع في إطلاق اسم القرآن وكلام اللّه - تعالى - على هذا المؤلّف الحادث - وهو المتعارف عند العامّة والقرّاء والأصوليين والفقهاء ، وإليه ترجع الخواصّ الّتي هي من صفات الحروف وسمات الحدوث - ، وانّما كلامنا في انّهما يطلقان بطريق الاشتراك على مدلوله الّذي هو القديم أيضا ، وهذان الدليلان لا ينفيان هذا الاطلاق.

واعترض صدر المحققين على هذا الجواب بوجهين :

أحدهما : إنّ المعتزلة اقاموا أدلّة ظاهرة على أنّ القرآن هو الألفاظ المسموعة المؤلّفة من الحروف وحكموا بأنّ ذلك من ضرورة دين نبيّنا - محمّد صلی اللّه علیه و آله - ، ومن البيّن أنّ القياسين المتعارضين المذكورين جاريان فيه ، والأشاعرة ما قدحوا في أدلّتهم ولم ينكروا الضرورة المذكورة ، بل سلّموا أنّ القرآن بهذا المعنى هو المتعارف عند الجمهور وذكروا في معرض الجواب أنّ للقرآن معنى آخر لا يجري فيه

ص: 435

القياسان المذكوران ؛ وذلك لا يجدي نفعا! ، لظهور أنّ الاشكال في القرآن بهذا المعنى - أي : بمعنى المؤلّف - يجري فيه القياسان ولا يندفع عنه الاشكال بأنّ للقرآن معنى آخر لا يجري فيه القياسان المذكوران - كما لا يخفى - ؛ انتهى.

وفيه : إنّ الجواب الّذي ذكره الأشاعرة ليس جوابا عن جريان القياسين المتعارضين في كلامه - سبحانه - ، بل هو جواب عن قول المعتزلة : إنّ معنى القرآن وكلام اللّه - تعالى - منحصر في الألفاظ والعبارات بالدليلين المذكورين ، فانّ / 210 DA / الدليلين المذكورين انّما يدلاّن على أنّ القرآن والكلام يطلقان على الألفاظ ، وامّا انّهما لا يطلقان إلاّ عليهما فلا يكون مقتضى الدليلين. فعدم نفع الجواب المذكور انّما يكون إذا كان محلّ النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة في أنّ هذا المؤلّف المنتظم هل هو كلام اللّه أم لا؟ ؛ والحال إنّ ذلك ليس محلّ النزاع بين الفريقين ، لانّهما متّفقان في أنّ هذا المنتظم من الحروف كلام اللّه - سبحانه - ؛ والنزاع في أنّ كلام اللّه - سبحانه - هل هو منحصر في ذلك أو يكون له معنى آخر سوى هذا المؤلّف الحادث؟. فالمعتزلة يقولون بالحصر والأشاعرة يقولون بعدم الحصر والدليلان المذكوران من جانب المعتزلة لا يفيدان الحصر المذكور ، بل يفيدان كون هذا المؤلّف الحادث كلام اللّه ، والأشاعرة غير متنازعين في ذلك ؛ فجوابهم بأنّ هذين الدليلين لا يفيدان الحصر يدفع قول المعتزلة ويثبت به مدّعاهم.

ثمّ قول السيد المحقّق في الاعتراض : « ومن البيّن أنّ القياسين المتعارضين المذكورين جاريان فيه - أي : في المؤلّف المنتظم من الحروف - » ، إن أراد به أنّ القياسين المذكورين جاريان فيه لا على سبيل التعارض ، ففيه : إنّ الجاري فيه حينئذ ليس إلاّ القياس الثاني ، ولذا قد تقدّم انّهم - أي : المعتزلة - قدحوا في صغرى القياس الأوّل نظرا إلى كون كلامه - سبحانه - منحصرا عندهم بالمؤلّف الحادث ؛ وإن أراد انّهما جاريان فيه على سبيل التعارض فهو ممنوع ، إلاّ أنّهما جاريان على سبيل التعارض في المعنى الآخر الّذي اثبته الأشاعرة أيضا. وبالجملة تخصيص كلامه - سبحانه - بمعنى المؤلّف الحادث بجريان القياسين فيه لا وجه له أصلا.

ص: 436

وثانيها : إنّ مدلول الكلام اللفظي انّما هو مسمّيات الأسامي من العبارات وهي ليست صورا ذهنية - كما ذهب إليه الحكماء - ، لأنّ المتكلّمين ينكرون الوجود الذهني ، فهى من اعيان الموجودات كالسماء والارض ؛ ومن البيّن أنّ بعض الأعيان جواهر قائمة بذواتها وبعضها اعراض قائمة بالجواهر ، ولا يظهر لقيام اعيان الموجودات بذاته - تعالى - ولا لقيامها بغيره وجه وجيه ؛ انتهى.

وحاصله ابطال الكلام النفسي بأنّه عند الأشاعرة مدلول الكلام اللفظي وهو مسمّيات الأسامى والألفاظ ، والمسمّيات لما لم تكن موجودات ذهنية لانكار المتكلّمين الوجود الذهنى فهي من الموجودات الخارجية ، ولا معنى لقيام الموجود الخارجى بذاته - سبحانه - ، فقول الأشاعرة بقيام الكلام النفسي بذاته - تعالى - لمّا كان راجعا إلى قيام موجود خارجي بذاته - تعالى - فهو بيّن البطلان.

ويمكن أن يقال بعنوان العلاوة : لو جوّز كون المسمّيات الّتي هي الكلام النفسي من الموجودات الذهنية لكانت راجعة إلى العلم ، فلا يكون شيئا وراء العلم مع أنّ الأشاعرة قالوا بمغائرتها للعلم.

ثمّ لا يخفى إنّ هذا الوجه دليل على حدة لابطال الكلام النفسي ، ولا مدخلية له لتصحيح الدليلين المنقولين من المعتزلة لحصر كلامه - سبحانه - في اللفظي ، ولا ينتهض ايرادا على الجواب الّذي ذكره الأشاعرة منهما ، لأنّ حاصل جوابهم عنهما انّهما يدلاّن على إطلاق كلام اللّه - سبحانه - على هذا المؤلّف المخصوص ولا يفيدان حصر كلامه فيه ، فإقامة دليل على حدة على انحصار كلامه فيه وبطلان الكلام النفسي لا يجعل الدليلين المذكورين تامّين.

والجواب المذكور ساقط ، وهو ظاهر.

وبما ذكرناه يظهر / 207 MB / أنّ ما ذكره بعض الأفاضل بأنّه يمكن تتميم الدليلين بحيث يفيدان الحصر - بأن يقال : لمّا ثبت بهما أنّ هذا المنتظم من الحروف كلام اللّه ولم يقم دليل عقلي ولا نقلي على وجود أمر آخر هو الكلام النفسي ولا على كونه كلام اللّه سبحانه ، فيلزم الحصر - ليس على ما ينبغي ، لأنّ ضميمة قولنا : « ولم يقم دليل عقلي -

ص: 437

... إلى آخره - » يخرج الدليلين عن حقيقتهما ويصيّرهما دليلين آخرين. وكذا مثل هذه الضميمة ، إذ اقامة دليل على مجرّد بطلان الكلام النفسي يكفي لمطلوب المعتزلة وإن لم يتعرّضوا لاطلاق كلام اللّه على هذا المؤلّف الحادث ، لأنّ الأشاعرة موافقون لهم في هذا الاطلاق ، فلا حاجة إلى بيانه واثباته ؛ هذا.

ثمّ إنّ بعض المشاهير أجاب عن ثاني وجهي اعتراض السيد المحقّق بأنّ المتكلّمين / 210 DB / وإن انكروا الوجود الذهني لكنّهم قد اثبتوا الثبوت بدل الوجود الذهني ، فمسمّيات الأسامي والعبارات مندرجة عندهم في الأعيان الثابتة ، فهي عندهم قديمة باعتبار الثبوت قائمة بذاته - تعالى - على نحو قيام العلم بالأعيان الثابتة بذاته - تعالى - ، فقوله : « فهو من أعيان الموجودات كالسماء والارض » وهم. نعم! ؛ يرد عليه : أنّ مدلول الكلام اللفظي أمور متعدّدة ، فكيف يصحّ القول بأنّه أمر واحد في الأزل ومتعلّق فيما لا يزال بالامور المتعدّدة - كما قالوا في تصحيح مذهبهم كما مرّ وسيأتي -؟! ، فيحتاج إلى رجوعه إلى العلم الاجمالي الّذي هو عين ذاته. أو يقال المراد بمدلول الكلام اللفظي مدلوله بحسب الالتزام - أي : القوّة على تأليف الكلمات - ، فانّ ذاته - تعالى - بذاته قادر على تأليف الكلمات والقائها ، وحينئذ يرجع الكلام النفسي إلى التكلّم الحقيقى الّذي هو عين الذات ويصير النزاع لفظيا ، لأنّ النزاع المعنوي بين الأشاعرة والمعتزلة في أنّه هل يكون للواجب - جل شأنه - صفة حقيقة غير العلم والقدرة هي الكلام النفسي أم لا؟ ؛ فالاشاعرة قالوا بأنّ الكلام النفسي صفة حقيقية له - تعالى - غير العلم والقدرة وغيرهما من الصفات الحقيقية ؛ والمعتزلة ينازعونهم في ذلك ، فاذا يلزم على الأشاعرة ارجاع الكلام النفسي إلى العلم والقدرة ، فلا يبقى إلاّ النزاع في إطلاق لفظ الكلام النفسي على العلم والقدرة ، وهذا كلام لفظي ؛ انتهى بأدنى توضيح.

ويرد على ما ذكره أوّلا : « إنّ المتكلّمين اثبتوا الثبوت - ... إلى آخره - » : بانّ الذين اثبتوا الثبوت هم المعتزلة ، والأشاعرة غير قائلين بالثبوت ، فلا يصحّ هذا الجواب من قبل الأشاعرة ، فيبقى اعتراض السيد واردا عليهم ؛

وما ذكره اخيرا - من امكان تاويل الكلام النفسي إلى العلم الاجمالي أو التكلّم

ص: 438

الحقيقي - فقد عرفت حاله فيما سبق.

تذنيب

قد ظهر ممّا قرّرناه أنّ الكلّ متّفقون على إطلاق القرآن وكلام اللّه على هذا المؤلّف المنتظم من الحروف ، وقد اتّفق الكلّ أيضا على أنّ إطلاق هذين اللفظين عليه ليس لمجرّد أنّه دالّ على كلامه القديم - أي : الكلام النفسي عند الأشاعرة وقوّة الإلقاء عند غيرهم - حتّى لو كان مخترع هذه الألفاظ غير اللّه - تعالى - لكان هذا الاطلاق بحاله ، بل لأنّ له اختصاصا آخر به - تعالى - وهو أنّه اخترعه بأن اوجد أوّلا الاشكال في اللوح المحفوظ - لقوله - تعالى - : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (1) - ، والأصوات في لسان الملك - لقوله - تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) (2) -.

وقد اختلف القوم في انّهما هل هما اسمان لهذا المؤلّف بشرط قيامه باوّل لسان اخترعه فيه أو اسمان له من حيث هو من دون اعتبار المحلّ ؛ فقيل بالأوّل - أي : انّهما اسمان لهذا المؤلّف المخصوص القائم بأوّل لسان اخترعه اللّه تعالى فيه حتّى أنّ ما يقرأه كلّ أحد من سواه بلسانه يكون مثله ، لا عينه - ؛ وقيل بالثانى - أعني : انّهما اسمان له لا من حيث تعيّن المحلّ - ، فيكون واحدا بالنوع ويكون ما يقرأه القاري - أيّ قارئ كان - نفسه لا مثله. وهذا الحكم في كلّ شعر وكتاب ينسب إلى مؤلّفه.

وهذا هو الأصحّ ؛ ويدل عليه قوله - تعالى - : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ) (3).

فان قيل : إذا أريد بكلام اللّه - تعالى - المنتظم من الحروف المسموعة من غير اعتبار تعيين المحلّ فكلّ أحد منّا يسمع كلام اللّه - تعالى - ، فما وجه اختصاص موسى - علیه السلام -؟ ؛

ص: 439


1- كريمة 22 ، البروج.
2- كريمة 40 ، الحاقّة.
3- كريمة 6 ، التوبة.

قلنا قد ذكر القوم لهذا الاختصاص وجوها ، فلنذكرها ونشير إلى ما هو الحقّ.

منها : ما ذكره الغزالي ، وهو : إنّه كان يسمع كلامه الأزلي بلا صوت وحرف كما ترى في الآخرة ذاته - تعالى - بلا كيف وكمّ. وهذا على مذهب من يجوّز تعلّق الرؤية والسماع بكلّ موجود حتّى الذات والصفات ، لكن سماع غير الصوت والحروف لا يكون إلاّ بطريق خرق العادة.

أقول : مراده من كلامه الأزلي إن كان هو الكلام النفسي فقد عرفت عدم معقوليته فضلا عن أزليته ؛ وإن كان هو القدرة / 208 MA / على ايجاد ما به التكلّم أو نفس ايجاده فلا معنى لسماعه. قال بعض المشاهير : لا حاجة إلى التقييد بقوله : « الأزلي » ، بل لا معنى له إلاّ باعتبار أنّ المسموع له - تعالى - نوع من الثبوت في الأزل على الوجه الاجمالي الّذي / 211 DA / ذهب إليه بعض المتكلّمين ، أو باعتبار أنّ للواجب - سبحانه - علما ازليا هو عين ذاته - تعالى -. فيكون معنى قوله : « كلامه الازلي » : الكلام الأزلي الّذي كان العلم به ازليا ، فيكون « الأزلي » وصفا « للكلام » بحال متعلقه.والحاصل : أنّ المسموع ليس وراء الكلام بمعنى ما به التكلّم ، وهو ليس ازليا ؛ وإن كان المراد منه المعنى المقصود بإلقاء اللفظ - على ما يأتي من أنّه الكلام بالحقيقة عند الغزالي لأنّه بهذا المعنى أيضا لا يعقل ازليته إلاّ بأحد من التأويلين المذكورين الجاريين في الكلام اللفظي الّذي يلزمه الحرف والصوت ، بل في جميع الموجودات -. فلا حاجة إلى ذكر الأزلي في هذا الجواب ، لأنّه لا يفيد تخصيص الكلام المذكور بالمعنوي الّذي هو مراد الغزالي ، فلا يكون محتاجا إليه ؛ انتهى بادنى توضيح.

وأنت خبير بأنّ عدم الاحتياج إليه ظاهر على مذهب اهل الحقّ القائلين بانّه لا يعقل أزلية الكلام المعنوي إلاّ بأحد التأويلين ؛ وامّا على زعم الأشاعرة القائلين بأنّ الكلام المعنوي صفة ازلية للواجب سوى العلم والقدرة والإرادة وسائر الصفات بلا تأويل فقيد الأزلية مخصوص بالمعنوي وفائدته اخراج اللفظى ، وكأنّه منظور الغزالي ؛ فلا بحث إلاّ على أصلهم.

ثمّ القول بتحقيق نوع من الثبوت للحوادث في الأزل بيّن الفساد ، مع أنّ الغزالي

ص: 440

من الأشاعرة وهم لم يثبتوا الثبوت ، بل المعتزلة اثبتوه. وما ذكره من جعل الأزلي وصفا لمتعلّق الكلام - أعني : العلم به - فحاصله أنّ كلامه الّذي نفسه حادث والعلم به قديم سمعه بلا صوت وحرف ، وهذا وإن لم يكن فيه فساد إلاّ أنّه خلاف ظاهر قول الغزالي. وإذا لم يكن لأزلية الكلام المسموع معنى ينبغي التأمّل في أنّه إذا قطع النظر عن ازليته - بل قيل : بكونه حادثا - هل يجوز أن يكون مسموعا بلا حرف وصوت كما ذكره الغزالي أم لا؟.

فنقول : قال بعض المشاهير لبيان ذلك : إنّ الكلام الّذي هو مسموع بلا صوت ولا حرف باعتبار الوجود العيني - أي : ما ليس له صوت ولا حرف في الوجود العيني أعني : عالم الملك وإن كان له صوت وحرف في عالم المثال أو عالم العقل - له معنيان :

أحدهما : اللفظ الدالّ على المعنى المراد بإلقائه باعتبار الوجود المثالي البرزخى على نحو ما يسمع في المنام ، لا العقلي على نحو الالهام العقلي ؛

وثانيهما : المعنى الّذي هو مقصود بالذات بإلقاء اللفظ الدالّ عليه ، وهذا هو الكلام بالحقيقة عند الغزالي. نظير هذا ما قال من أنّ حقيقة الحمد هي اظهار الصفة الكمالية سواء كان باللفظ الدالّ عليها أم لا ؛ فانّ اللفظ الدالّ عليها بالحقيقة هو الحمد باعتبار الدلالة عليها ، وخصوص اللفظ لا دخل له في كونه حمدا. فعلى هذا انّما يكون الكلام اللفظى عنده كلاما باعتبار أنّه دالّ على ما هو المراد بالذات بإلقاء اللفظ بحيث لو امكن القاء هذا المعنى بدون القاء اللفظ يكون كلاما ، والقائه يكون تكلّما ؛ فليس خصوص اللفظ شرطا لا في الكلام ولا في التكلّم. فعلى الأوّل يكون المراد من سماع موسى - علیه السلام - كلامه بلا صوت وحرف : أنّه - علیه السلام - سمع الألفاظ المثالية البرزخية الّتي ليست لها صوت وحرف في العين وإن كان لها صوت وحرف في عالم المثال ؛ وعلى الثاني يكون المراد منه : انّه القى على روعه المعاني المقصودة من دون توسّط لفظ أصلا ؛ واطلق على هذا الالقاء التكلّم وعلى المعاني المتلقّاة الكلام لما ذكر مفصّلا. ومراد الغزالي هو الثاني.

وأنت خبير بانّه لا مانع شرعا وعقلا من تحقّق أحد المعنيين المذكورين ، لأنّ تحقّق

ص: 441

كلّ منهما في الواقع ونفس الأمر ممّا لا موجب لانكاره ؛ أمّا الأوّل فكما يسمع في المنام أو بالالهام العقلي ؛ وامّا الثاني فكما في كلّ معنى يلقى إلى النفس ، إلاّ أنّ الثاني راجع إلى العلم وليس كلاما بحسب اللغة والعرف ، والأوّل وإن امكن منع كونه كلاما أيضا إلاّ أنّ الظاهر تحقّق العرف الخاصّ على اطلاق الكلام عليه.

فان قيل : مطلق الكلام هل هو عند الغزالي مشترك لفظي بين الكلام اللفظي وبين الكلام الّذي هو مسموع بلا صوت وحرف بالمعنى الثاني؟ ، أو مشترك معنوي بينهما؟ ، أو مجاز في الثاني؟ ؛

قلنا : الظاهر / 211 DB / من مذاقه أنّ اطلاق الكلام بمعنى ما به التكلّم على اللفظي وعلى الّذي بلا صوت وحرف بالاشتراك المعنوي ، فانّ معناه ما ينبئ عن الواقع أو يسفر عن الطلب ونحوه ، سواء كان الانباء والاشعار بلا واسطة - كمعان الألفاظ - أو بواسطة - كالالفاظ الدالّة على المعاني المنبئة عن الواقع ، كالقضايا العقلية أو المشعرة عن الطلب / 208 MB / أو التحسّر أو التمني كالانشائيات - ، وعلى هذا يطلق الكلام بالاشتراك المعنوي على ثلاثة اقسام :

أحدها : الكلام اللفظي الّذي هو في عالم الحسّ ، وعلى هذا لا يكون إلاّ بالحرف والصوت ؛

وثانيها : الكلام اللفظي ، لكن باعتبار عالم المثال ؛

وثالثها : مجرّد المعنى المقصود ، وهو الّذي لا يكون من جنس الحروف والأصوات مطلقا. وهذان الأخيران بلا صوت وحرف في عالم الحسّ وإن كان الثاني بالصوت والحرف في عالم المثال. فما ذكرناه سابقا من أنّ المعنى المقصود بإلقاء الألفاظ هو الكلام بالحقيقة عند الغزالي المراد منه انّه أقوى الفردين وإن كان الفرد الاضعف - أعني : اللفظى - أيضا كلاما بالحقيقة. ومن نظر إلى أنّ معاني الألفاظ هي المنبئة عن الواقع أو المشعرة عن الطلب ونحوه بلا واسطة حكم بأنّ استعمال الكلام فيها بالحقيقة وفي غيرها بالمجاز وإن اشتهر فيه ؛ ولهذا قال الشاعر :

ص: 442

إنّ الكلام لفي الفؤاد وانّما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا(1)

ومنهم من ذهب إلى عكس ذلك - كالمعتزلة - ، فالنزاع ليس إلاّ في أنّ اطلاق الكلام على معاني الألفاظ هل هو بطريق المجاز - كما هو رأي المعتزلة - ، أو بالحقيقة بأن يكون قسما من الكلام - كما هو مختار الغزالي - ، أو بأن يكون استعماله في اللفظ بالمجاز المشهور - كما هو رأي بعض - ؛ وقد عرفت ما هو الحق.

فان قيل : هل المتحقق لموسى - علیه السلام - سماع الكلام بلا صوت وحرف بالمعنى الأوّل؟ ، أو بالمعنى الثاني؟ ، أو بكلا المعنيين؟ ، وهل بينهما تلازم من الطرفين من أحدهما أم لا؟ ؛

قلت : قد ذكر بعض المشاهير أنّه تحقّق لموسى - علیه السلام - كلا السماعين ، فانّهما يتحقّقان معا ما دام الملقى إليه متعلّقا بعالمي الملك والمثال ؛ وأمّا إذا لم يتحقّق للملقى إليه تعلّق بأحدهما فانّما يتحقق له سماع الكلام بالمعنى الثاني ، وهذا هو مقام يتمنّاه العارفون ؛ انتهى.

اقول : إنّ المعنى الأوّل - كما عرفت - هو اللفظ الدالّ على المعنى المراد باعتبار الوجود المثالي أو العقلي ، والمعنى الثاني هو المعنى الملقى. وحينئذ نقول : إنّ المعنى الملقى الّذي هو الكلام بالمعنى الثاني إن كان مشروطا بتجرّده عن الألفاظ المثالية والعقلية فلا يمكن اجتماع السماعين بالنسبة إلى معنى واحد في وقت واحد بأن يكون هذا المعنى في وقت واحد مسموعا في ضمن الألفاظ المثالية ومجرّدا عنها معا - لاشتراط الأوّل بوجود الألفاظ المثالية والثاني بعدمها - ، وحينئذ فلا يثبت بين المعنيين تلازم أصلا. وعلى هذا فما حكم هذا القائل بتحقق السماعين معا لموسى - علیه السلام - منظور فيه ، إلاّ أن يقال : ليس غرضه من تحققهما له تحقّقهما له بالنسبة إلى معنى واحد في وقت واحد بأن يكون معنى واحد في وقت واحد مسموعا له بالالفاظ المثالية وبدونها ، بل غرضه تحقّقهما له بالنسبة إلى معان متعددة بأن يكون بعض المعاني مسموعا له في ضمن الألفاظ المثالية أو العقلية وبعضها مسموعا له مجردا عنها وإن لم يكن مشروطا بتجرّده عنها ، بل

ص: 443


1- البيت لأخطل. راجع : شرح المقاصد ، ج 4 ص 150.

كان المراد منه هو المعنى الّذي هو مقصود بإلقاء اللفظ الدالّ عليه - سواء كان مجردا عن الألفاظ المثالية أو العقلية أو في ضمنها - ؛ وحينئذ يكون الكلام بالمعنى الثاني أعمّ من الكلام بالمعنى الأوّل. فكلّما تحقّق الأوّل تحقّق الثاني ، لأنّ المراد بالأوّل ليس مجرّد الألفاظ المثالية أو العقلية من دون اشتمالها على معنى ، بل هي الألفاظ المثالية المتضمّنة لمعنى البتة ، وعلى هذا يثبت التلازم بينهما من أحد الطرفين عكسا دون الطرف الآخر. فاذا تحقّق الخاصّ - أعني : الكلام بالمعنى الأوّل - يثبت في ضمنه الكلام بالمعنى الثاني ويمكن أن يتحقّق الكلام بالمعنى الثاني ، فلا يتحقّق الكلام بالمعنى الأوّل. وحينئذ فما ذكره القائل المذكور من تحقّق كلا السماعين لموسى - علیه السلام - الظاهر أنّه لم يرد منه تحقّق السماع / 212 DA / بالمعنى الثاني في ضمن السماع بالمعنى الأوّل ، لأنّ هذا تحقّق أحد السماعين والاستماعين بالمعنى الأوّل المشتمل على المعنى الثاني الّذي هو كالجنس ، وعلى الألفاظ المثالية الّتي هي كالفصل. ولا يصحّ أن يعبّر عن تحقّق الخاصّ المشتمل على العام وعلى الفعل المميز بتحقّق الخاصّ والعامّ معا ، بل أراد منه تحقّق السماع بالمعنى الأوّل بالنسبة إلى المعنى وتحقّق السماع بالمعنى الثاني لا في ضمن الألفاظ المثالية ، بل مجرّدا عنها بالنسبة إلى معنى آخر.

ثمّ الظاهر اشتراط السماع بالمعنى الثاني بالتجرّد من الألفاظ المثالية ، لأنّ هذا السماع فوق السماع بالمعنى الأوّل ، ولذا حكم القائل المذكور بانّه انّما يتحقّق للمتخلّقين - أي : إنّ تحقّقه مقصور عليهم ولا يتحقّق لغيرهم - ، وحكم بانّه ممّا يتمنّاه العارفون. فالمراد من تحقّقهما معا لموسى - علیه السلام - تحقّقهما له بالنسبة إلى معان متعدّدة في أوقات متعدّدة ، ويكون تحقّق السماع بالمعنى الأوّل له في وقت كان متعلّقا بعالم الملك أو المثال بعدد تحقّق السماع بالمعنى الثاني بعد انخلاعه منهما.

فان قيل : كيف يصحّ السماع بدون الحرف والصوت؟ ؛

قلنا : قد اجاب عنه بعض المشاهير : بأنّ / 209 MA / المراد بالسماع ليس إلاّ الاطّلاع الحضوري الخاصّ لمن ألقي إليه الكلام بالمعنى المذكور - أي : ما ينبئ عن الواقع ، وهو الّذي يتعلّق بالتكلّم الّذي هو القائه -. وحاصله : انّ سماع الكلام بدون

ص: 444

الصوت والحرف يتصوّر بأنّ السماع لا يكون إلاّ الاطّلاع الحضوري الخاصّ ، ويجوز أن يحصل لمن ألقي إليه الكلام - بالمعنى المذكور - الاطّلاع الحضوري على الكلام الّذي هو قائم بالمتكلّم.

وأورد عليه : بأنّ هذا راجع إلى العلم الحضوري ، والعلم الّذي يحصل بالسماع انّما هو علم خاصّ يحصل بحصول صورة المسموع في السامعة - على ما بيّن في موضعه - ؛ إلاّ أن يقال : إنّه يجوز أن يحدث الواجب - جلّ شأنه - صورة المسموع في السامعة بدون أن يحصل الصوت أوّلا في الهواء ثمّ يتموّج إلى أن يصل إلى السامعة - على ما هو المتعارف في السماع -. والحقّ أن يقال : أنّ السماع بلا حرف وصوت حسّيّين إمّا أن يكون بالحروف والأصوات البرزخية ، فهو كما يكون في المنام ؛ أو بالحروف والاصوات العقلية ، فهو كما يكون في الالهامات العقلية ؛ فكما أنّ السماع بالأصوات والحروف الحسّية نوع خاصّ من السماع لا يمكن انكاره لاحساسه ، فكذا السماع بالحروف والأصوات البرزخية والعقلية نوع خاصّ من السماع لا يمكن انكاره لادراكه بالقوى البرزخية والقوّة العقلية ؛ وأمّا السماع بدون حرف وصوت أصلا فهو راجع إلى الاطّلاع الحضوري الخاصّ.

فان قيل : ما الدليل على أنّ موسى - علیه السلام - سمع الكلام بلا صوت وحرف؟ ؛

قلنا : الدليل على ذلك - على ما ذكره بعض المشاهير - : إنّه لم يسمع كلّ ما سمع موسى - علیه السلام - كلّ من له أذن حسّاسة على تقدير كونه قريبا منه.

فان قيل : عدم سماع الغير لا يدلّ على أنّ كلامه - تعالى - مع موسى - علیه السلام - بدون الحرف والصوت ، لأنّه يجوز أن يتحقّق كلامه المسموع لموسى - علیه السلام - بالآذان أيضا بايجاده له إيّاه في الهواء المجاور لصماخه - أي : يكون الكلام المذكور بالحروف والأصوات الموجدة منه تعالى في الهواء المجاور لصماخه علیه السلام - ، لغرض استماعه دون غيره ؛

قلنا : على تقدير هذا التحقّق اختصّ السماع بجهة مخصوصة ، لأنّ ما قام بالهواء فله وضع حقيقي ، فلا يسمع إلاّ من جهة مخصوصة مع أنّه قد نقل أنّ موسى - علیه السلام - سمع من جميع الجهات ، أي : سمع على نحو ستّة إلى جميع الجهات على السوية ، لا أنّه سمع

ص: 445

في الجهات حقيقة ، لأنّ سماع موسى - علیه السلام - على ما هو الفرض راجع إلى تعقّل إجمالي ولا يتصوّر في المعنى كونه في الجهات.

وربما يورد عليه : بأنّه لو اوجد الألفاظ في صماخ موسى - علیه السلام - لامكن أن يكون نسبته إلى جميع الجهات على السوية ، لأنّه لم يجيء من جهة خاصّة بل انّما يوجد هناك ، ولو فرض استماعه من جميع الجهات حقيقة فيجوز أن يوجد اللّه الكلام في الهواء المحيطة بموسى - علیه السلام - من جميع الجهات لا من جهة واحدة حتّى يلزم خلاف النقل. على أنّه يرد على أصل الدليل بأنّه يجوز أن يحدث / 212 DB / اللّه - تعالى - في سمع من كان قريبا من موسى - علیه السلام - مانعا يمنعه عن السماع.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ ما ذكر دليلا لسماع موسى - علیه السلام - بلا صوت وحرف ليس تامّا ؛ ومنه يظهر عدم الوجه المنقول من الغزالي لاختصاصه - علیه السلام - بكونه كليما.

وقال بعض الفضلاء : الدليل على سماع موسى بلا صوت وحرف هو أنّه يمكن السماع بلا صوت وحرف بأن يحدث الواجب - تعالى - صورة المسموع في السامعة بدون أن يحصل الصوت أوّلا في الهواء ثمّ تموّج إلى أن يصل إلى الصماخ - على ما هو المتعارف في السماع -. ونظير هذا في الرؤية أنّ المتعارف في الرؤية أنّه يشترط فيها مقابلة المرئي وعدم القرب والبعد / 209 MB / المفرطين وغير ذلك من الشرائط ، ومع ذلك ذكر أنّه يجوز أن يحصل صورة المرئي في الحسّ المشترك بدون مقابلة المرئى في الخارج وبدون تأدية البصر إلى الحسّ المشترك - كما هو المتعارف -. لكن هذا بطريق خرق العادة ، فيكون معجزة ، فلا يكون إلاّ للانبياء - على ما حقّقه الشيخ في إلهيات الشفا -.

وأنت خبير بأنّ امكان السمع بلا صوت وحرف على المنهج المذكور لا يفيد القطع بأنّ سماع موسى - علیه السلام - كان بهذا النحو ، غاية ما في الباب أنّه يفيد جواز السماع بدون حرف وصوت ، ولا كلام فيه ؛ انّما الكلام في كون سماع موسى - علیه السلام - كذلك.

ثمّ ما ذكره عن الغزالي في الوجه المنقول عنه من تشبيه السماع بلا صوت وحرف

ص: 446

برؤية ذاته - سبحانه - في الآخرة بلا كمّ وكيف ، ففيه : أنّه لا يمكن رؤية ذاته - سبحانه على ما بيّن بالأدلّة القاطعة -. والمراد من الرؤية الّتي وردت في الظواهر محمولة على العلم اليقيني. وما ذكره من أنّ السماع بلا صوت مبني على مذهب من يجوّز تعلّق الرؤية والسماع بكلّ موجود حتّى الذات والصفات يدلّ على أنّ المراد بالسماع بلا صوت وحرف هو الاطّلاع الحضوري ، لأنّ السماع والرؤية اللذان يجوز تعلّقهما بكلّ موجود هما قسمان من الاطّلاع الحضوري ، ولذا يصحّ تعلّقهما بغير المحسوسات.

فان قيل : السماع إذا كان بمعنى حصول الاطّلاع الحضوري للمخاطب على ما يلقى إليه ، فلا يكون لخرق العادة مدخل فيه ، فلا معنى لما يقال في هذا المقام أنّ هذا بطريق خرق العادة ؛

قلت : قال بعض المشاهير في جواب ذلك : إنّ ما هو خرق العادة هاهنا أن يطّلع المخاطب على المعانى الّتي هي الملقاة من المتكلّم بدون الاطّلاع على الألفاظ الدالّة أوّلا ثمّ يطّلع على الألفاظ لا من جهة مخصوصة ، فانّ العادة جارية بأن يطّلع المخاطب على المعاني بعد الاطّلاع على الألفاظ الدالّة عليها في جهة مخصوصة. والحاصل : إنّ التكلّم في الانسان انّما يتعلّق بالالفاظ أوّلا وإن كان المقصود الأصلي منه القاء المعانى ، فيسمع الملقى إليه الكلام الالفاظ أوّلا ثمّ يحصل له الكلام الّذي بلا صوت قائم بالهواء ، وأمّا التكلّم بالنسبة إلى اللّه في الوحي فانّه هو القاء المعانى أوّلا ثمّ القاء الألفاظ باعتبار الوجود الكلّي المثالي أو بلسان الملك المنزل. وجاز أن يحصل احيانا بلسان النبيّ القاء الألفاظ بتبعية القاء المعاني بايجادها في الهواء. وذلك الجواز هو عقلي ، فمتعلّقات تكلّم الباري - تعالى - على عكس متعلّقات تكلّم الانسان غالبا. وأمّا الالهام الإلهي - وهو الّذي يسمّى الالفاظ المتعلّقة به « الحديث القدسي » - فهو القاء المعانى بالقلب دون القاء الألفاظ الدالّة عليها ؛ انتهى.

اقول : تحقيق الكلام في هذا المقام بحيث يكون تفصيلا لهذا الكلام ويظهر به جلية الحال - فيما سبق ممّا نقلناه عن الغزالي وغيره - هو : أنّ حصول العلم للانسان انّما يتصوّر على انحاء ثلاثة :

ص: 447

الأوّل : أن يكون بطريق الفكر والنظر ، ويسمّى « اكتسابا » و « استبصارا » ، وهو طريق النظّار من العلماء ؛

الثاني : أن يكون بطريق التهجّم والالقاء من حيث لا يدري من دون أن يطّلع على السبب المفيد له ، ويسمّى « حدسا » و « الهاما » و « نفثا في الروع » ؛

والثالث : أن يكون بطريق التهجّم والالقاء مع الاطّلاع على السبب المفيد له - وهو الملك الملهم للحقائق من قبل اللّه - ، ويسمّى « وحيا » ، وهو طريق الأنبياء.

ثمّ كيفية الوحي على طريق الحكماء هي أنّ نفس النبيّ لكمال قوّته النظرية وشدّة نوريتها وقوّة حدسها شديدة التشبّه بالروح الاعظم ، فتتصل به متى أراد من غير تعمّل وتفكّر ويفيض عليه ما شاء من العلوم من غير / 213 DA / توسّط تعليم بشري ، ولذلك يمكن أن يحصل له في أقصر زمان من العلوم / 210 MA / ما لا يحصل لغيره في أزمنة متطالية وينتهي بقوّة حدسه إلى آخر المعقولات في أسرع أوان ويدرك امورا يقصر عن ادراكها سائر آحاد الناس. وقوّته المتخيّلة مع كونها في غاية القوّة في نهاية الانقياد والاطاعة لنفسه القدسية بحيث لو اتصلت بالروح الأعظم وارتسمت بصور المعقولات انجذبت المتخيلة إليها بحيث كلّ صورة انتقشت في النفس على سبيل التجرّد والكلّية انتقشت مثال وشبح منها في المتخيّلة على سبيل التمثّل والجزئية ، فتحاكي القوّة المتخيلة جميع مدركات القوّة العقلية ؛ فان كانت مدركاتها ذاتا مجرّدة حاكتها بصور اشخاص يكون أفضل افراد المحسوسات الجوهرية في غاية الحسن والصفا ونهاية البهجة والبهاء ، وإن كانت معاني مجردة وأحكاما كلّية حاكتها بصور اللفظ المفردة محفوظة في غاية الفصاحة والبلاغة وارتسام المتخيلة بالصور المذكورة على غاية القوّة والظهور يؤدّيها إلى الحسّ المشترك بحيث يصير صور الدّواب المجردة مدركة بحسّ البصر وصور الالفاظ مدركة بحسب السمع فيشاهد أنّ شخصا في غاية الحسن والبهاء يلقي كلاما في نهاية البلاغة والفصاحة. ولمّا كان افاضة الروح الأعظم ما يفيض من العلوم والأحكام باذن اللّه - سبحانه - فيكون الشخص المرئي ملكا كريما نازلا من اللّه ، والفاظه المسموعة كلاما صادرا من عنده - سبحانه - ؛ فكما أنّ في المادّيات يرى الشخص

ص: 448

المادّي في الخارج أوّلا ثمّ يصير متخيّلا ثمّ يصير معقولا ففي المجرّدات على عكس ذلك - أي : يعقل ذات المجرّد أوّلا ثمّ يتخيّل ثمّ يصير مرئيا -. وكما أنّ المادّي بعد صيرورته معقولا لا يكون قائما بذاته - بل يكون قائما بالنفس العاقلة - فكذلك المجرّد بعد صيرورته محسوسا لا يكون قائما بذاته - بل يكون قائما بالحسّ المشترك - ، فالملك المنزل ينزل أوّلا على قلب النبيّ - أعني : نفسه الناطقة القدسية - ثمّ على خياله ثمّ يدرك بحسّه الظاهر.

وكذلك الحال في كلامه - سبحانه - ، فانّه يلقي المعاني أوّلا على قلب النبيّ ثمّ تصير متخيلة ثمّ تصير الفاظا مسموعة بالسمع الظاهر ؛ وكلام المخلوق بعكس ذلك ، فانّه يسمع الألفاظ أوّلا بالسمع الظاهر ثمّ تصير متخيّلة ثمّ تصير معانيها معلومة للنفس. وإلى ما ذكرنا يشير ما ذكره الحكماء في القوّة المتخيلة حيث قالوا : « وممّا يتعلّق بهذه القوّة مشاهدة الوحي للأنبياء - علیهم السلام - في اليقظة ، فانّهم لقوّة انفسهم وانجذابهم إلى الملكوت وقدرتهم على قوّتي الوهم والخيال يحصل لهم في اليقظة ما يحصل لغيرهم في المنام من ادراك الأمور الغيبية ، فيدركون الشيء بحاله أو بمثاله ويتمثّل لهم شبح حامل الوحى من جبرائيل - علیه السلام - أو غيره من الملائكة المقرّبين ، فيشاهدونه ويتمثّل لهم ما يدركونه من المعانى ، فيسمعون منه خطابا بألفاظ مسموعة مقروءة ، وهذه نبوّة مختصّة بالقوّة المتخيّلة ؛ وهاهنا نبوات أخرى متعلقة بالقوة العقلية » ؛ انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم! : أنّ المراد من المعنى الثاني الّذي ذكره الغزالي لسماع الكلام بلا صوت وحرف - أعني : المعنى الّذي هو المقصود بالذات بإلقاء اللفظ الدالّ عليه هو الوحى على ما هو الظاهر - ففيه : أنّ الوحي حاصل لجميع الرسل ، فلا وجه لتخصيص موسى - علیه السلام - بكونه كليم اللّه لقضية الطور والشجرة ؛ اللّهم إلاّ أن يقال : كلّ رسول كليم اللّه إلاّ أنّه اطّرد لوجه التسمية وشيوعها.

وهو كما ترى!. مع أنّ المعنى الثاني - على ما ذكره - هو مجرّد القاء المعاني في الروع من دون حرف وصوت أصلا ، وهو الّذي ذكرنا أنّه يسمّى بالالهام ؛ والوحى - على ما ذكره الحكماء - لا ينفكّ عن اللفظ والصوت. وإن كان المراد منه مجرّد ما نفهمه من ظاهره - أعني : القاء المعاني من دون حصول شروط الوحى فيه وكان الوحى عنده

ص: 449

هو المعنى الأوّل - ، ففيه : أنّه لا وجه حينئذ لكون المعنى الثاني أعلى مرتبة من المعنى الأوّل - كما حكم به بعض المشاهير - ، لأنّه لا ريب في أنّ الوحى على مراتب ، فسماع الكلام للبشر ومجرّد القاء المعانى / 210 MB / في الروع - أعني : الالهام - يحصل لأكثر الناس ، فلا وجه لكونه خرقا للعادة.

وثانيها - أي : ثانى وجوه تخصيص / 213 DB / موسى علیه السلام بكونه كليم اللّه - : انّه - علیه السلام - سمع الكلام بصوت وحرف من جميع الجهات على خلاف العادة.

وأورد عليه : بانّه إذا كان سماع الصوت من جميع الجهات لم يكن الصوت متحقّقا في الأعيان ، لأنّ الصوت باعتبار الوجود العيني انّما يقوم بالهواء ، فله وضع حقيقي لا محالة ، فلا يسمع إلاّ من جهة مخصوصة. فعند التأمّل يرجع هذا الجواب إلى الجواب الأوّل ، لأنّ الصوت يكون معتبرا فيه باعتبار الوجود الظلّي المثالي - كما في الجواب الأوّل -. فحاصل الجواب الأوّل : إنّ المسموع كان بلا صوت وحرف موجودين في الأعيان ، ولذا يسمع من جميع الجهات ؛ وحاصل الجواب الثاني : إنّ المسموع انّما يسمع من جميع الجهات ، وهذا المسموع لا يصحّ أن يكون بالصوت الموجود في الأعيان - كما لا يخفى -. فهذا المسموع إن حكم عليه بانّه صوت فانّما يصحّ إن أريد بالصوت ما هو المسموع في المنام من الأصوات ، فانّه انّما هو صوت موجود بالوجود الظلّي المثالي ، فمحصّل الجوابين واحد لا تغاير إلاّ بالاعتبار والعبارة.

نعم! ، لو حمل الجواب الأوّل على أنّ المراد منه أنّ المسموع بلا صوت وحرف مطلقا - أي سواء اعتبر وجودهما العيني أو المثالي - كان مغايرا للجواب الثاني ؛ وحينئذ يكون حاصل الجواب الأوّل : أنّ المسموع انّما هو المعاني الملقاة بدون الألفاظ العينية وبدون وجودها المثالي ، وحاصل الجواب الثاني : أنّ المسموع هو الألفاظ باعتبار وجودها المثالي ؛ انتهى.

وفيه : انّه يجوز أن يتحقّق الصوت في الهواء المحيط بموسى - علیه السلام - ، فيكون له باعتبار الوجود العيني وضع حقيقي بالنسبة إلى جميع الجهات ، فيسمع حينئذ من جميع الجهات على خلاف العادة. وحينئذ لا يرجع هذا الجواب إلى الجواب الأوّل ،

ص: 450

لأنّ السماع من جميع الجهات غير مأخوذ في الجواب الأوّل ومأخوذ في الجواب الثاني ؛ ولا حاجة إلى حمل الجواب الثاني على أنّ المسموع هو الألفاظ باعتبار وجودها المثالي ، إذ الظاهر أنّه اعتبر فيه الصوت الخارجي ولا ضير فيه ، ويتصوّر سماعها باعتبار وجودها العيني من جميع الجوانب - كما قررناه -.

والحاصل : إنّ الهواء محيط بالسامع من جميع الجهات ، فربما أوجد اللّه - تعالى - الصوت في جميع الهواء المحيط فسمعه من جميع الجهات ، وتحقّق وضع حقيقي للهواء لا ينافي ذلك. نعم! ، لو لم يكن الهواء في بعض الجهات كان كذلك ، وما سمعنا من جهة خاصّة مع أنّ الهواء محيط بنا في جميع الجهات لأنّه لا يحدث منشأ الصوت إلاّ من جهة خاصّة ، فاذا لم يختصّ المنشأ في جهة خاصة بأن أوجدها اللّه - تعالى - في كلّ الهواء المحيط به - علیه السلام - دفعة بنسبة واحدة لا يلزم الاختصاص بجهة خاصّة ؛ هذا.

واعلم! ، أنّه يمكن في حقّنا أيضا سماع الصوت من جميع الجهات بأن يفرض أنّ شخصا من الأشخاص احاط بجميع جوانبه اشخاص ينادونه دفعة ، فانّه يسمع من جميع الجوانب في آن واحد ؛ فكما يجوز ذلك في حقّنا يجوز ذلك في حقّ نبيّ اللّه - علیه السلام - بطريق الأولى. غاية ما في الباب أن يكون موسى - علیه السلام - سمع من جميع الجهات كلام اللّه - تعالى - ونحن نسمع كلام المخلوق كذلك.

وثالثها : أنّ موسى - علیه السلام - سمع من جهة لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا ؛ وحاصله : أنّه - تعالى - اكرم موسى - علیه السلام - فافهمه كلامه بصوت تولّى بخلقه من غير كسب لأحد من خلقه. وعلى هذا الوجه يكون المسموع هو الألفاظ الموجودة في الأعيان بايجاده - تعالى - بدون كسب المخلوق.

وأورد عليه : أمّا أوّلا بانّ هذا ليس موافقا للنقل المذكور - أي : ما نقل من أنّه علیه السلام سمع من جميع الجهات - ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّه يلزم على هذا الجواب أن يسمع من هو قريب من الشجرة المشهورة أو الطور ، وليس كذلك ؛ لأنّ الوحى على الأنبياء - علیهم السلام - لا يسمعه غيرهم من / 211 MA / الحاضرين. وأيضا ملقي الكلام إلى جميع الأنبياء هو اللّه

ص: 451

- سبحانه - فما وجه تخصيص موسى - علیه السلام - بكونه كليم اللّه من بينهم؟.

ودفع ذلك : بأنّ القائه - سبحانه - الكلام إلى جميع الأنبياء بتوسّط الملائكة من جبرئيل أو غيره ، والالقاء بدون / 214 DA / توسّط الملك انّما هو الالقاء الّذي حصل لموسى - علیه السلام - في الطور.

ويمكن دفع الايراد الثاني بأنّه يجوز أن يخلق اللّه - تعالى - الكلام في هواء خاصّ له خصوصية وضع بالنسبة إلى موسى - علیه السلام - دون غيره ؛

وبأنّه يجوز أن يوجد اللّه - تعالى - مانعا في سمع من هو قريب منه ؛

وبأنّه ربما أوجد اللّه - تعالى - الصوت لموسى - علیه السلام - في الهواء الّذي في صماخه ، فلا يلزم سماع غيره.

ثمّ الايراد الثاني يرد على الجواب الثاني أيضا لو اعتبر فيه الوجود الخارجي للصوت والحرف ، ودفعه بمثل ما ذكر في دفعه من الجواب الثالث كأن يقال : إنّه - تعالى - أوجد الصوت في الهواء المجاور لصماخه ، وكونه من جميع الجهات باعتبار أنّ نسبته إلى جميع الجهات على السواء ؛ هذا.

والصحيح في الجواب أن يجمع بين الوجهين الأخيرين بأن يقال : إنّه - علیه السلام - سمع الكلام بصوت وحرف خارجيين من جميع الجهات وكان ملقي الكلام هو اللّه - سبحانه - من غير كسب لأحد من خلقه ، فنحن وإن سمعنا كلام اللّه - سبحانه - لكن لا نسمعه من اللّه - تعالى - بخلاف ما سمعه موسى - علیه السلام - ، فانّه يسمع من اللّه - تعالى ، أي : يكون ملقي الكلام الّذي سمعه موسى علیه السلام هو اللّه تعالى - ، فهذان الوجهان - أعني : السماع من جميع الجهات وكون الملقى هو اللّه تعالى - هما الباعثان لاختصاص موسى بكونه كليم اللّه - تعالى -.

وربما يجمع في الجواب بين الوجوه الثلاثة ، وهو أيضا لا يخلوا عن قوّة ؛ بأن يقال : إنّه - علیه السلام - سمع الكلام من جميع الجهات لا بألفاظ موجودة في الخارج بل بألفاظ مثالية ، وكان ملقيها هو اللّه - سبحانه - من دون توسّط أحد من خلقه ، وتحقّقه

باعتبار الوجود الخارجي - الّذي هو التحقق في الهواء - ليس شرطا للوحى قبل

ص: 452

ظهوره في لسان الأنبياء - علیهم السلام - وايجاده - تعالى - إيّاها فيه. والحاصل : انّ ايجاد اللّه - تعالى - الالفاظ في لسان النبيّ - علیه السلام - ليس شرطا لوجود الوحي ، بل شرطا لظهور الوحى ؛ وذلك الظهور بالنسبة إلى الغير لا بالنسبة إلى الّذي يوحي إليه كموسى - علیه السلام -. نعم! ؛ يمكن أن يقال بجواز مقارنة تحقّق الألفاظ للوحي بمجرد الاحتمال العقلي.

وإذ ثبت أنّ القرآن وكلام اللّه اسمان لهذا المؤلّف المخصوص لا من حيث تعيين المحلّ - ولذلك يكون واحدا بالنوع - فحينئذ ما يقال : أنّ المكتوب في كلّ مصحف والمقروء بكلّ لسان كلام اللّه فباعتبار الوحدة النوعية ؛ وما يقال : إنّه حكاية عن كلام اللّه - تعالى - ومماثل له وانّما الكلام هو المخترع في لسان الملك فباعتبار الوحدة الشخصية.

ثمّ الاختراع في لسان الملك إمّا أن يكون في عالم الملك ، أو عالم المثال ، أو عالم الملكوت - أي : عالم التجرد الصرف - ؛ وعلى الاخيرين يكون استعمال اللسان على سبيل التشبيه والمجاز. وربما قيل : تحقّق اللسان على الحقيقة في عالم المثال ، وهو اللسان اللطيف المثالي - كما في المنام -. وجميع الأقسام الثلاثة واقع على ظاهر كلام أهل الشريعة.

وأمّا الحكماء وبعض المتكلّمين فهم القائلون بالقسمين الأخيرين - أعني : الاختراع في عالم المثال والاختراع في عالم الملكوت - ولا يقولون بوقوع اختراع كلام اللّه في عالم الملك وإن كان المقروء بالألسن بحسب وجوده في عالم الملك بعد اختراعه من عند اللّه - تعالى - في عالمي التجرد والمثال كلام اللّه - تعالى - عندهم ، فالكلام المنزل أوّلا لا يكون بالصوت القائم بالهواء ضرورة أنّ الانزال في الملكوت مقدم على الانزال في عالم المثال المقدّم على الانزال الملكي.

ثمّ وجود الألفاظ في عالم الملكوت انّما هو وجود ظلّي عقلي كما أنّ وجودها في عالم المثال وجود ظلّي مثالي. والوجود / 211 MB / الظلّي هو الوجود الّذي يسمّى الاشراقيون ما في عالم الملك مثالا بالنسبة إليه ، فانّهم يسمّون الموجودات الخارجية في

ص: 453

عالم الملك « مثالا » بالنسبة إلى تلك الموجودات باعتبار وجودها الظلّي ؛ هذا.

وقال بعض المشاهير : إنّ الكلام اللفظي له أربعة اعتبارات بكلّ اعتبار منها يحكم عليه بانّ له نحوا من الوجود - وإن كان بالمجاز في بعض الاعتبارات - :

أحدها : اعتبار أنّه قائم بالهواء ، وبهذا الاعتبار موجود في الأعيان / 214 DB / وليس لاجزائه قرار في الوجود ؛

وثانيها : اعتبار تحقّقها في العالم اللطيف الّذي يسمّى بعالم المثال ، ويكون له في هذا العالم حدوث بالتدريج وبقاء بجميع اجزائه. وأمّا إنّه يمكن أن يكون له حدوث في هذا العالم دفعة - كحدوث النقش الحادث في قطعة الشمعة من وضع الخاتم المنقوش عليها - فهو محتمل عند العقل ، وادّعى البعض وقوعه ؛

وثالثها : اعتبار اندراجه في العلم في عالم المجرّدات ، وتحقّقه في هذا العالم دفعي حدوثا مع البقاء ؛

ورابعها : اعتبار اندراجه في العلم السابق على الممكنات - أعني : العلم الإجمالي الّذي هو عين ذات الواجب -. وبهذا الاعتبار لم يحكم عليه بالحدوث ، ولا يكون مخلوقا ، ويكون سائر الممكنات شريكا له في ذلك الاندراج. فجميع ما يندرج في هذا العلم الاجمالي الأزلي الّذي هو عين الذات عند المحقّقين تكون متعلّقات لهذا العالم متّصفة بالمعلومية بهذا العلم. ومن جملة متعلّقات هذا العلم الكلام اللفظي العيني ، فيكون معلوما بالعلم الإجمالي كسائر الأشياء. وله صفة أخرى غير المعلومية وهي كونه متعلّق التكلّم الأزلي الّذي هو عين الذات ومغاير بالاعتبار للعلم والقدرة وغيرهما من سائر الصفات الحقيقية الّتي هي عين الذات. ولمّا كان عند المحققين ما وجد في الذهن موافقا لما يوجد في الخارج في الحقيقة كان الألفاظ الموجودة في الخارج موافقة الماهية للالفاظ الموجودة في الاذهان والمجرّدات ، ولذلك كان للكلام اللفظى فردان كلّ منهما بحيث لو استعمل فيه الكلام كان حقيقة.

وهذا هو المنشأ لما اختاره الشهرستاني في تصحيح كلام الأشعري من أنّ الكلام النفسي عبارة عن الألفاظ الدالّة باعتبار وجودها في الذهن لكن لا يصحّ الحكم بانّه

ص: 454

قديم إلاّ باعتبار اندراجه في العلم القديم الّذي هو عين ذات الواجب - تعالى - ، فيكون بالحقيقة العلم الّذي هو عين ذاته - تعالى - قديما. ولا نزاع للمعتزلة في ذلك ، بل نزاعهم انّما هو في كون الكلام الّذي هو متعلّق التكلّم قديما باعتبار ذاته ، لا باعتبار العلم الإجمالي الّذي هو عين ذات الواجب ؛ انتهى.

أقول : انّك قد عرفت فيما سبق اطلاق القول بالعلم الإجمالي ، فيكون الاطلاق الرابع للكلام اللفظى عندنا باعتبار اندراجه في العلم التفصيلي الّذي هو عين ذاته بالمعنى المذكور.

ثمّ العلم بالكلام اللفظى - أي : الألفاظ الدالّة على معانيها المخصوصة - يتناول العلم بنفس الالفاظ الدالّة والعلم بمعانيها ، فما اختاره الشهرستاني في تصحيح كلام الأشعري من أنّ الكلام النفسي عبارة عن الألفاظ الدالّة باعتبار وجودها في الذهن ليس شيئا وراء العلم بنفس الألفاظ ، إذ ليس الألفاظ الدالّة باعتبار وجودها في الذهن إلاّ العلم بها.

ثمّ من حيث انّها معلومة للواجب - سبحانه - يكون العلم بها قديما ، ومن حيث انّها معلومة لغيره - تعالى - يكون العلم بها غير قديم ، وهو ما قيل في المشهور من : أنّ الكلام النفسي انّما هو معاني الألفاظ الموجودة في الاذهان من حيث هي حاكية عن الأمور الخارجة - وذلك في الأخبار - ، ومن حيث هي مقتضية للطلب - وذلك في الأمر والنهي - بأن يكون معاني الألفاظ بحيث يمكن أن يفهم من الفاظها الدالّة عليها طلب الفعل أو الترك أو من حيث هي مشعرة للتغيير ونحوه ليس شيئا وراء العلم بمعاني الالفاظ ، إذ معاني الألفاظ الموجودة في الاذهان ليس إلاّ العلم بها ؛ فهذا العلم قديم إن كان من الواجب - تعالى - وحادث إن كان من غيره.

فان قيل : كلّ واحد من الألفاظ ومعانيها الموجودة في الاذهان إذا اخذت من حيث هي يكون غير العلم بها وإن لم ينفكّ بوصف الموجودية في الاذهان من العلم بها ، إلاّ أنّ أحدها / 212 MA / من حيث هي ممكن ؛ فالكلام النفسي على توجيه الشهرستانى هي الالفاظ من حيث هي ، وعلى توجيه المشهور هي المعانى من حيث هي. وعلى هذا

ص: 455

فيكون الكلام النفسي - أعني : نفس الألفاظ أو المعانى - غير العلم بها ، ولذا قالوا لا يصحّ / 215 DA / الحكم على الكلام النفسي بهذين التوجيهين بانّه قديم باعتبار ذاته. نعم! ، يصحّ الحكم على العلم به - أي : العلم المقدّم الّذي هو غير زائد على ذات الواجب تعالى - بانّه قديم.

قلنا : انّهم صرّحوا بأنّ الكلام النفسي هو الألفاظ أو المعاني الموجودة في الأذهان ، فقيد الموجودية في الاذهان معتبر في تعريف الكلام النفسي عندهم. ولا ريب في أنّ بعد اعتبار هذا القيد لا يكون الكلام النفسي إلاّ العلم بالالفاظ أو معانيها ، كيف ولو لم يؤخذ هذا القيد داخلا في التعريف لم يبق معنى محصّلا للكلام النفسي؟! ، إذ القول بانّ الكلام النفسي هو الألفاظ أو المعانى من دون وجودها في الذهن غير معقول. ومع اعتبار هذا القيد وإن تحقّق معنى معقول إلاّ أنّه ليس شيئا سوى العلم ؛ والمعتزلة أيضا قائلون به مع أنّ النزاع بينهم وبين الأشاعرة مشهور وتتبّع كلام الأشاعرة يعطي الجزم بانّ الكلام النفسي عندهم غير العلم ، بل قد صرّحوا بذلك - كما نقلناه سابقا -. وقد عرفت أيضا أنّ الكلام النفسي عندهم غير الكلام الحقيقي الّذي هو الصفة الازلية وغير زائد على ذات الواجب - تعالى - ، لأنّ التكلّم الحقيقي كما عرفت - عبارة عن قوّة القاء الكلام اللفظى وايجاده ، فيكون فردا من القدرة.

ومعلوم أنّ الأشاعرة لا يجعلون الكلام النفسي فردا من القدرة وبذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المشاهير حيث قال : وظنّي إنّ من حكم بانّ الكلام النفسي قديم انّما أراد به معنى التكلّم الحقيقى الّذي هو أمر مغاير للعلم والقدرة وغير زائد على الذات ، فانّ ذاته - تعالى - يقتضي القاء الكلام إلى الغير ، فالمتكلّم الحقيقى هو عبارة عن ذاته - تعالى - من حيث أنّه يقتضي القاء الكلام اللفظي أو المعنوي إلى من يصحّ أن يكون مخاطبا ، وهذا معنى غير العلم والقدرة وغيرهما من باقي الصفات الحقيقية بالاعتبار ؛ انتهى.

ووجه الضعف أمّا أوّلا : فلما عرفت من أنّ كلام الأشعري - على ما نقل عنهم - لا يمكن حمله على ذلك وإن كان ذلك في نفسه صحيحا ؛ كيف ولو كان مراد الأشاعرة ذلك لم يكن لأحد ايراد عليهم وارتفع النزاع بين الفريقين! ؛

ص: 456

وأمّا ثانيا : فلما اشير إليه من أنّ التكلّم الحقيقي فرد من القدرة ، فالحكم على الاطلاق بانّه غير القدرة محلّ نظر ؛ هذا.

وقيل : إنّ من قال إنّ كلام اللّه - سبحانه - ليس قائما بلسان أو قلب ولا حالاّ في مصحف أو لوح فيراد به الكلام الحقيقي الّذي هو الصفة الازلية ، ومنعوا من القول بحلول كلامه - تعالى - في لسان أو قلب أو مصحف وإن كان المراد هو اللفظي رعاية للتأديب واحترازا عن ذهاب الوهم إلى الحقيقي الأزلي ؛ على أنّ اطلاق اسم المدلول على الدالّ وكذا اجراء الصفات الدالّ على المدلول شائع ذائع ، مثل : سمعت هذا المعنى من فلان وقرأته في بعض الكتب وكتبته بيدي ، فاطلاق اسم كلّ من الكلام الحقيقي واللفظى على الآخر واجراء صفاته على الآخر لا بأس به ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّ القائل بهذا القول إن كان هو الأشعري فلا ريب في أنّ مراده من الكلام الّذي ليس قائما بلسان أو قلب هو الكلام النفسي ، لا الحقيقى - على ما يظهر من تتبع كلماتهم -.

وقال بعض المشاهير بعد نقل هذا الكلام قد عرفت أنّ الكلام : الحقيقى الأزلي انّما هو بمعنى التكلّم الحقيقي الّذي هو عبارة عن كون الواجب بحيث يقتضي القاء الكلام اللفظى أو معناه إلى المخاطب ، أو بمعنى العلم بما يتكلّم به - أي : العلم الاجمالى الّذي هو غير زائد على ذاته تعالى - ، فحينئذ يكون معنى الكلام الحقيقى الازلي : الكلام الحقيقى الّذي هو ازلى العلم ، وحينئذ يكون وصف الكلام بالازلى وصفا بحال متعلّقه - وهو العلم به -. ولا يخفى عليك أنّ المعنى الأوّل - أي : / 212 MB / التكلّم الحقيقى الّذي يكون ازليا حقيقية - كاف في الاعتذار المذكور ، فلا حاجة فيه إلى اعتبار المعنى الثاني - أعني : كونه بمعنى العلم بما يتكلّم به - ، لأنّ فيه ارتكاب تمحّل في الوصف بالازلية. لكن قوله : « على أنّ اطلاق اسم المدلول - ... إلى آخره - » لا يلائم إلاّ المعنى الثاني ، لأنّ في المعنى الأوّل الّذي هو التكلّم الحقيقي ليس دالاّ ولا مدلولا إلاّ بالتأويل ؛ انتهى.

وقد عرفت أنّ ارجاع كلام الأشاعرة / 215 DB / إلى التكلّم الحقيقى أو العلم بالكلام اللفظى تعسّف كلماتهم تأبى عن الحمل على ذلك.

ص: 457

وحديث العلم الإجمالي قد عرفت ما فيه مرارا.

الثالث من أدلّة المعتزلة على أنّ كلامه - سبحانه - ليس أزليا : إنّ كلامه - تعالى - لو كان ازليا لزم الكذب في إخباره ، لأنّ الإخبار بطريق المضيّ كثير في كلام اللّه - تعالى - ، مثل : ( إِنَّا أُرْسِلْنا ) و ( قالَ مُوسى ) و ( فَعَصى فِرْعَوْنُ ) إلى غير ذلك ؛ وصدقه يقتضي سبق وقوع النسبة ولا يتصوّر السبق على الأزلي ، فتعيّن الكذب ، وهو محال على اللّه - تعالى -.

وغير خفيّ بأنّ هذا الدليل يثبت الكلام اللفظي وحدوثه ولا ينافي ثبوت الكلام بمعنى نفس الالقاء ، لأنّه أيضا حادث ؛ ولا ثبوت الكلام الحقيقي الّذي هو عين الذات ، لأنّه ليس مدلولا للكلام اللفظي حتّى يلزم من حدوثه حدوثه.

وبذلك يظهر أنّ هذا الدليل يدلّ على بطلان الكلام النفسي القديم الّذي قال به الأشاعرة ، لانّهم إن حملوا الاخبار المذكورة الّتي وقعت بطريق المضيّ في كلامه - سبحانه - على الكلام النفسي لزم حدوثه - لما ذكر ؛ وإن حملوها على الكلام اللفظي بأن يقولوا إنّ المتصف بالمضي وغيره انّما هو اللفظ الحادث دون المعنى القديم أو قالوا إنّ كلامه - تعالى - في الأزل لا يتصف بشيء من الماضي والحال والاستقبال - لعدم الزمان - وانّما يتّصف بها فيما لا يزال بحسب التعلّقات وحدوث الازمنة والأوقات ؛ وبالجملة اتصافه بتلك الاوصاف ليس إلاّ باعتبار تعلّقه بالكلام اللفظي فيما لا يزال ؛ ففيه : إنّ تصحيح هذا الأمر - أعني : براءة كلامه تعالى في الأزل من الاوصاف المذكورة وعدم اتصاف المدلول بهما - غير جائز ، لوجوب التطابق بينهما.

وقال بعض المشاهير من جانب الأشاعرة : إنّ ما قالوا من أنّ كلامه الأزلي لا يتّصف بالمضيّ واخويه مرادهم منه كلامه بمعنى التكلّم الحقيقى - أعني : القدرة على ايجاد الكلام اللفظي - أو العلم بمدلول الكلام اللفظي ، وهما ليسا مدلولين للكلام اللفظي ، والمتصف بالمضيّ ومقابليه هو المعنى الّذي هو مدلول اللفظ بالحقيقة ، وبتبعية اتصافه باحدها يتّصف اللفظ الحادث به ، فيكون مدلول اللفظ الحادث حادثا لا محالة. وبالجملة لا شبهة في أنّه لا معنى للمعنى القديم غير التكلّم الحقيقي الّذي هو عين الذات أو

ص: 458

العلم الإجمالي لمدلول الألفاظ وبالالفاظ ، فوجب حمل كلامهم على أحدهما ، وهما ليسا مدلولين للكلام اللفظي. وما قالوا : إنّ ازلية الأزلي مدلول الكلام اللفظي انّما هو الازلى التأويلي - أي : ازلي القدرة أو العلم - ، فالمدلول الّذي هو أزلي ليس ازليته إلاّ باعتبار القدرة أو العلم الّذي هو غير زائد على ذاته ، فوصف المدلول بالازلي انّما هو وصف بحال المتعلّق - كما مرّ غير مرّة -.

ثمّ الظاهر أنّ مرادهم من مدلول الكلام اللفظي الّذي يكون العلم أو القدرة به أزليا إنّما هو المدلول الالتزامى الّذي هو الكلام بمعنى التكلّم ، وحينئذ فيكون الكلام الأزلي الواقع في كلامهم بمعنى التكلّم الأزلي الّذي هو غير زائد على ذاته - تعالى - ، وحينئذ فلا اشكال ؛ انتهى.

وحاصل ما ذكره : إنّ المراد بالكلام الأزلي هو الكلام بمعنى التكلّم الحقيقي حقيقة أو العلم الإجمالي بمدلول الكلام اللفظي ، وهما ليسا مدلولين للكلام اللفظي بالحقيقة كما أنّ المدلول الحقيقي للكلام اللفظي ليس ازليا بالحقيقة لأنّ مدلوله بالحقيقة انّما هو المعقول المفهوم منه. و/ 213 MA / هذا المعنى المعقول منه هو الموصوف بالمضى وغيره أوّلا وبالذات ، واتصاف اللفظ بهما انّما هو بتبعية اتصافه بهما ، فيكون مدلول اللفظ الّذي هو حادث حادثا لا محالة ثمّ يوصف هذا المدلول بالازلية تجوزا ، كما أنّ كلّ واحد من التكلّم الحقيقي والعلم بوصف المدلولية كذلك ؛

بيان الأوّل : إنّ المدلول الحقيقي يوصف بالأزلية باعتبار القدرة أو العلم الّذي هو غير زائد على ذاته ، فيقال : هذا المدلول الّذي هو الكلام النفسي حقيقة ازلية القدرة المتعلّقة به أو ازلي العلم / 216 DA / المتعلّق به ، فوصف المدلول بالازلي انّما هو وصف بحال متعلّقه ؛

وبيان الثاني : إنّه قد يقال : إنّ المتكلّم الحقيقي مدلول الكلام اللفظي ، وغرضهم من مدلوليته بالنسبة إليه أنّه فائض عنه وناش منه ووجود المعلول دال على وجود العلّة ، فهذه الدلالة ليست من قبيل الدلالة اللفظية الوضعية ، بل من قبيل الدلالة العقلية. وقد يقال : العلم المتعلّق بمدلول الكلام اللفظي مدلول له. وغرضهم من مدلوليته أنّ صدور

ص: 459

الكلام اللفظي على هذا التأليف العجيب والنظم الغريب يدلّ على سبق العلم الكمالي وثبوته له - تعالى - ، فيكون هو أيضا مدلولا له بالدلالة العقلية لا الوضعية. وبالجملة لمّا لم يكن للقول بالمعنى القديم الزائد على ذاته معنى أصلا - للزوم تعدّد الواجب - وجب حمل المعنى القديم على العلم الإجمالي المتعلّق بمدلول الألفاظ وبالالفاظ ، فحينئذ يجب حمل المدلول الواقع في كلماتهم - من أنّ مدلول الألفاظ قديم ازلى غير قائم بلسان وغير حالّ في محلّ - على المدلول الالتزامي ، وهو التكلّم ، فانّ الكلام اللفظي يدلّ على وجوده ، فيكون منشئا لما هو مدلول اللفظ بالمطابقة ، فالدّلالة عليه بطريق الالتزام. وهو ازلى من غير ريب ، لأنّه عين ذاته المقدّسة ، وهو التكلّم الحقيقى أو العلم الإجمالي المتعلّق بالكلام اللفظي - كما مرّ -.

وأنت خبير بانّ كون التكلّم الحقيقى - أعني : القدرة على الكلام اللفظى - أو العلم به ازليا وان كان صحيحا في نفسه إلاّ أنّ حمل كلام الأشاعرة على أحدهما تعسّف بارد ؛ فانّهم مصرّحون بانّ الكلام النفسي الّذي هو مدلول الكلام اللفظى قديم ، فيرد عليهم : انّ مدلول الحادث حادث. وما ذكره من التأويلات - مع كونها تأويلات بعيدة - لا يناسب الاطلاقات اللغوية والعرفية ، وتأبى كلام الأشاعرة عنها.

الرابع : انّ كلامه يشتمل على أمر ونهي واخبار واستخبار ونداء وغير ذلك ، فلو كان ازليا لزم الأمر بلا مأمور والنهى بلا منهي والاخبار بلا سامع والنداء والاستخبار بلا مخاطب ، وكلّ ذلك سفه وعبث لا يجوز أن ينسب إلى الحكيم!.

وأجاب عنه عبد اللّه بن سعيد الأشعري : بانّ كلامه - تعالى - في الأزل ليس بأمر ولا نهي ولا خبر وغير ذلك ، وانّما تصير أحد الاقسام فيما لا يزال.

وفيه : إنّ وجود الجنس من غير أن يكون أحد الأنواع غير معقول ، وإنّ التغيير على القديم محال.

وما قيل : انّ المراد أنّه امر واحد يعرض له التنوّع بحسب التعلّقات الحادثة من غير أن يتغيّر هو في نفسه ؛ لا يخفى ضعفه.

وقال بعض المشاهير : إنّ جواب عبد اللّه بن سعيد صريح في أنّ المراد بالكلام

ص: 460

الازلي هو ما به التكلّم ، فانّ كلامه لا يصحّ إلاّ باعتبار هذين المعنيين ، وكونه امرا واحدا يعرض له التعلّقات الحادثة انّما يصحّ أيضا لو كان المراد به أحد المعنيين. وحينئذ فحاصل كلام الأشعري : انّ الواجب الوجود بذاته متكلّم في الأزل ولا يحتاج في تكلّمه إلى أمر زائد على ذاته - تعالى - ، فذاته - تعالى - من حيث يقتضي القاء الكلام إلى المخاطب تكلّم ولا يحتاج الواجب في تكلّمه إلى أمر زائد على ذاته من لسان أو غيره ، فكذلك لا يحتاج في العلم الإجمالي إلى ما به التكلّم الّذي هو الكلام اللفظى واحضاره ، ولا إلى صورة خيالية أو غيرها ، فينحصر له - تعالى - ، فانّ ذاته كاف في احضار ما به التكلّم وانكشافه. فذاته - تعالى - علم اجمالي بما تكلّم - تعالى - به ، فذاته كاف في التكلّم واحضار ما به التكلّم. فما به التكلّم له نحو من الوجود باعتبار / 213 MB / اندراجه في المعلومات بالعلم الّذي هو غير زائد على الذات ، فهو كسائر المعلومات مندرج في علمه الكمالي ، فانّ للانسان تكلما وما به التكلّم - وهو الصورة الخيالية للالفاظ أو الصورة المثالية لمعانى الألفاظ - ؛ وفي التكلّم يحتاج إلى اللسان وفي ما به التكلّم إلى الخيال أو ما في حكمه - كالحسّ المشترك والحافظة وغيرهما من القوى الجزئية للنفس -. وامّا ذات الواجب - تعالى - فلا يحتاج في التكلّم إلى الغير ، فهو بذاته متكلّم ، فتكلّمه - تعالى - غير زائد على ذاته ولا يحتاج أيضا إلى امر زائد على الذات فيما به التكلّم. فنسبة ذاته - تعالى - إلى ما به التكلّم كنسبة الصور الخيالية للالفاظ فينا في تلك الالفاظ الّتي هي ما به التكلّم ، فكما أنّ الصورة الخيالية باعتبار وجودها في النشأة الخيالية علم بما به التكلّم من غير احتياج إلى صورة اخرى في انكشافه فكذلك نفس ذاته - تعالى - علم بما به التكلّم من غير احتياج / 216 DB / إلى تلك الصورة وغيرها ، بل ذاته - تعالى - منشئا لانكشاف الألفاظ ومعانيها. فذاته - تعالى - بمنزلة هذه الصورة في الانكشاف ، بل لا نسبة بينهما ، فذاته - تعالى - من حيث أنّه منشئا لانكشاف الالفاظ ومعانيها سبب لأن يكون للألفاظ ومعانيها نحو من الوجود الإجمالي ووحدة باعتبار لو تأمّلت يرجع ذلك الوجود وتلك الوحدة إلى العلم الإجمالي بها. ولأجل أنّ الالفاظ والمعاني مندرجان في العلم الإجمالي وهما بهذا الاعتبار واحد والكلام النفسي راجع إلى

ص: 461

العلم الإجمالي. قيل : الكلام النفسي القائم بالمتكلّم هو شامل للفظ والمعنى ، لأنّه عين العلم الإجمالي الّذي هو شامل لهما. فيكون كلام اللّه هو الكلام النفسي باعتبار أنّه مثبت في صقع الربوبية في مكمن الغيب بنحو من الثبوت العلمي على نحو العلم الإجمالي ، لأنّ الكلام النفسي الراجع إلى العلم الإجمالي لمّا كان شاملا للفظ والمعنى ؛ وهما عبارتان عن الكلام اللفظى ، لأنّه المؤلّف المخصوص الدالّ على المعاني المخصوصة. ويكون كلام اللّه - تعالى ، أي : كلامه اللفظى - هو كلامه النفسي ، باعتبار اندراجه في العلم الإجمالي الّذي هو الكلام النفسي وهو معنى ثبوته في صقع الربوبية. وتنزيله عبارة عن تعلّق الظهور به في عالم الممكنات والشهادة. وهذا مأخوذ من كلام الشهرستاني في تصحيح كلام الأشعري.

وبالجملة ليس للمعتزلة نزاع في تحقّق المعاني المذكورة - أعني : اقتضاء الالقاء والقوّة عليه والعلم بالالفاظ ومعانيها - ، بل نزاعهم ليس إلاّ في اطلاق الكلام بمعنى ما به التكلّم على علمه الإجمالي بمعنى ما به التكلّم بالحقيقة ؛ أي : نزاعهم في أنّ الكلام بهذا المعنى - أي : معنى ما به التكلّم باعتبار اندراجه في العلم الإجمالي - هل يطلق عليه الكلام المذكور حقيقة أم لا يكون حقيقة غير العلم الإجمالي؟ ، وتسميته بالكلام اللفظي نوع من التجوّز وليس إلاّ باعتبار أنّ متعلّقه كلام بهذا المعنى حقيقة وهم محقّون في ذلك؟. وغاية توجيه الأشعري أن يقال : لذات الواجب - تعالى - تكلّم ازلي غير زائد على ذاته وللتكلّم الأزلي ما به يتعلّق ذلك التكلّم في الأزل وهو الكلام الأزلي وكفى في تحقيق التكلّم الأزلي علمه - تعالى - الأزلي بما يتكلم به ، فالعلم الازلي بما يتكلم به هو ما يتعلّق به التكلّم الأزلي ، ولا نعنى بالكلام النفسي إلاّ ما يتعلّق به التكلّم.

وتوضيح هذا التوجيه في اطلاق الكلام بمعنى ما به التكلّم على علمه الإجمالي هو أنّ لذات الواجب تكلما ازليا غير زائد على ذاته - سبحانه - ، وهذا التكلّم هو الكلام الازلى لاطلاق الكلام على هذا المعنى أيضا حقيقة ، وكونه - تعالى - متكلّما في الأزل أي يقتضي أن يوجد الكلام - الّذي هو بمعنى ما يتكلّم به - في الأزل ، بل يكفى في تحقّقه كونه بحيث يمكن أن يصدر عنه ما يتكلّم به على وفق العلم الإجمالي الازلى السابق عليه المتعلّق بهذا الكلام ، فالكلام النفسي الّذي هو العلم الإجمالي المتعلّق بما به التكلّم هو الكلام بمعنى ما به

ص: 462

التكلّم باعتبار الوجود العلمي الاجمالي. فهذا العلم الّذي هو نفس ما يتكلّم به بوجه الاندراج باعتبار كونه متعلّق التكلّم الازلى كلام بمعنى ما به التكلّم حقيقة ، لأنّا لا نعني بالكلام الّذي بهذا المعنى إلاّ أن يكون متعلّق الكلام الأزلي.

وفي هذا التوجيه تمحّل! ، فانّ التكلّم الازلي الّذي هو عين الذات لا يتعلّق بالعلم الأزلي حتّى يصحّ كون متعلّق التكلّم الأزلي ازليا ، بل انّما يتعلّق بشيء هو معلوم بالعلم الأزلي ، وذلك هو ما به التكلّم ، وهو حادث / 214 MA / والعلم به ازلي. فيكون المعلوم كلاما لا نفس العلم ، والأزلي هو نفس العلم لا المعلوم ، فلا يتحقّق الكلام الأزلي. ونهاية تأويل الكلام الأشعري أن يقال : حقّق في الانسان التكلّم وما به التكلّم وهذه الألفاظ الموجودة في الأعيان وعلم بتلك الألفاظ ، وهو - أي : المعلوم بتلك الالفاظ - الكلام النفسي ، فالكلام النفسي عنده ما يتعلّق به التكلّم بمعلومه. ولأجل أنّ العلم بما يتكلّم به في الانسان كلام نفسي اطلق الأشعري الكلام الأزلي على العلم بالكلام اللفظي الّذي هو متعلّق التكلّم. وحاصل هذا التوجيه والتأويل تسليم أنّ تعلّق التكلّم انّما هو بالمعلوم. لكن اطلاق الكلام على العلم باعتبار تعلّق التكلّم بمعلومه ، فكما أنّه تحقّق في الانسان ثلاثة أمور منها الكلام / 217 DA / النفسي - وهو العلم بالكلام اللفظي - فكذا في حقّه - تعالى - أيضا ؛ فاطلاق الكلام النفسي على العلم بما يتكلّم به الّذي يتعلّق به التكلّم اطلاق حقيقي والعلم ازلي ، فالكلام باعتبار هذا الاطلاق ازلي. وهذا الاطلاق أيضا ممّا لا يرتضيه المعتزلة. وأيضا على تقدير صحّته انّما يصحّ في العلم الّذي هو عين المعلوم لا العلم الإجمالي المذكور ؛ وتوضيح ذلك : أنّ اطلاق الكلام على العلم - سواء طابق المقصود أم لم يطابق - ممّا لا يرتضيه المعتزلة ، لأنّ العلم هو المنشأ للانكشاف والكلام ليس كذلك. وعلى تقدير الارتضاء لا يطابق المقصود من اطلاق الكلام - بمعنى ما به التكلّم - على العلم إلاّ أن يراد بالعلم العلم التفصيلي الزائد على الذات الّذي يمكن أن يكون نفس الكلام بمعنى ما به التكلّم ، لا العلم الإجمالي المباين له.

والغرض من هذا التطويل أنّ كلامه بلا تأويل بأحد من المعنيين المذكورين في معنى الكلام الأزلى لا يصحّ أصلا ؛ انتهى ما ذكره بتوضيح.

ص: 463

وليس ملخّص كلامه إلاّ أنّ مراد الأشاعرة من الكلام النفسي هو العلم الإجمالي وإنّ اطلاقه عليه صحيح ، إمّا بالتوجيه الّذي ذكره أوّلا أو بالتأويل الّذي ذكره أخيرا.

وهما مع بعدهما ومخالفتهما للاطلاقات العرفية واللغوية ممّا يأبى عنه كلام الأشاعرة ، فانّ ظاهر كلامهم عدم كون الكلام النفسي - الّذي قالوا - به هو التكلّم الحقيقى أو العلم الّذي هما غير زائدين على الذات ، فانّهم قالوا بزيادة الكلام النفسي والكلام الأزلي ؛ كيف وجميع الصفات عندهم زائدة على ذاته - سبحانه -؟!.

والحاصل أنّه فرق بين أن يقال : مرادهم ذلك ، وبين أن يقال : المعقول ذلك ؛ والمسلّم هو الثاني دون الأوّل. ولقد احسن اخيرا حيث صرّح بعدم صحّة كلام الأشاعرة بدون التأويل ، ويظهر أنّ هذا التأويل صدر عن غيرهم لا عنهم ؛ هذا.

وقد اجيب عن الدليل المذكور للمعتزلة - أعني : الدليل الرابع - : بانّ السفه والعبث انّما يلزم لو خوطب المعدوم وأمر في عدمه ، وأمّا على تقدير وجوده بأن يكون طلبا للفعل ممّن سيكون - كما في طلب الرجل تعلّم ولده الّذي أخبر صادق بانّه سيولد - وكما في خطاب النبيّ - صلی اللّه علیه و آله - بأوامره ونواهيه كلّ مكلّف يولد إلى يوم القيمة أو اختصاص خطاباته باهل عصره وثبوت الحكم فيمن عداهم بالاجماع أو القياس بعيد جدّا.

وأورد عليه : بانّ طلب الرجل تعلّم ولده ليس طلبا حقيقة ، بل هو العزم على الطلب وتخيّله ، وهو ممكن وليس نفسه ؛ وأمّا نفس الطلب فلا شكّ في كونه سفها ؛ بل قيل : هو غير ممكن ، لأنّ وجود الطلب بدون من يطلب منه محال.

قيل : وهذا الجواب مشهور بين الجمهور وكلامهم متردّد في أنّ معناه إنّ المعدوم مأمور في الأزل بأن يتمثّل ويأتي بالفعل على تقدير الوجود أو المعدوم ليس بمامور في الازل ، لكن لمّا استمرّ الأمر الأزلي إلى زمان وجوده صار بعد الوجود مأمورا.

قال بعض المشاهير : التحقيق أنّ ذاته - تعالى - بحيث يقتضي التكليف والأمر بعد ايجاد المكلّفين ، فمن نظر إلى أنّ ذاته - تعالى - بذاته يقتضي التكليف وأنّ ذاته منشأ للتكليف حكم بانّ المعدوم مأمور في الأزل بمعنى أنّ منشأ الأمر تحقّق في الأزل ، ومن

ص: 464

نظر إلى استمرار الأمر الأزلي - وهو منشأ الأمر إلى زمان وجود المامور به وأنّه بعد وجوده يصير مأمورا بالفعل - حكم بانّ المعدوم ليس مأمورا به في / 214 MB / الأزل ؛ انتهى.

وحاصله التوجيه لكلّ واحد من المتخاصمين بارتكاب التجوّز ، وهو : إنّ من قال : الأمر في الأزل يتعلّق بالمعدوم ، فبناء كلامه على أنّ منشأ الأمر - وهو ذاته تعالى الأزلى - موجود في الأزل ، فكان الأمر المتعلّق بالمعدوم موجودا ؛ ومن قال بعدم تعلّق الأمر في الازل بالمعدوم - بل يستمرّ إلى زمان وجوده ؛ وبعده يتعلّق به مراده - إنّ منشأ الأمر وهو ذات اللّه - تعالى - بسرمديته مستمرّ ، فكان امره مستمرّا.

وأورد عليه : بانّ استمرار الأمر الأزلي لا دخل له في الحكم بانّ المعدوم / 217 DB / ليس بمأمور ، فيكفي أن يقال : ومن نظر إلى أنّ المعدوم بعد وجوده يصير مأمورا بالفعل حكم بانّ المعدوم ليس بمامور ، فانّ استمرار الأمر الأزلي إن لم يكن مضرّا بهذا الحكم لا يكون نافعا له.

وأجيب عنه : بانّ المراد إنّه وإن استمرّ الأمر الأزلي بمعنى منشأ الأمر عند هذا الناظر إلاّ أنّ الأمر لا يصير بالفعل عنده إلاّ بعد الوجود.

أقول : في جواز تعلّق خطاب المشافهة بالمعدومين اختلاف مشهور بين علماء الأصول ؛ والحقّ - على ما بيّناه في كتبنا الأصولية - جواز ذلك ؛ لكن لا على سبيل الحقيقة ، بل على سبيل المجاز إن تعلّق بالمعدومين فقط ، أو التغليب أو مجاز المشارفة إن تعلّق بالمعدومين والموجودين معا. وبذلك يظهر أنّ ما قيل : إنّ خطاب الحاضرين يكون قصدا والغائبين والمعدومين يكون ضمنا وتبعا انّما يجري فيما يكون متعلّق الخطاب الموجودين والمعدومين معا.

وقد ظهر ممّا ذكر - من صحّة تعلّق خطاب المشافهة بالمعدومين تجوّزا - أنّ الدليل المذكور غير تامّ ، لأنّه مبنيّ على ما ذكر من كون الأمر بلا مأمور والنهي بلا منهي والاخبار بلا سامع والنداء بلا مخاطب.

الخامس : إنّ الأمر لو كان ازليا لكان ابديا ، لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، فيبقى

ص: 465

التكليف في دار الجزاء ؛ وهو باطل اجماعا.

السادس : إنّ الكلام لو كان ازليا لاستمرّ ازلا وابدا - لما ذكر آنفا ، - فلم يختصّ مكالمة موسى - علیه السلام - بالطور ؛ وهو باطل اجماعا.

السابع : إنّ القديم يستوي نسبته إلى جميع ما يصحّ تعلّقه به - كما في العلم - ، فيتعلّق الأمر والنهي بكلّ فعل حتّى يكون المأمور منهيا وبالعكس ؛ واللازم باطل قطعا. وهذا الوجه منهم الزامي على الأشاعرة حيث لا يقولون بالحسن والقبح العقليين ليمنعوا صحّة تعلّق الأمر بما يتعلّق به النهي وبالعكس.

وأجيب عن هذه الأدلّة الثلاثة : أنّ الكلام وإن كان ازليا لكن تعلّقاته بالأشخاص والأفعال حادثة بإرادة من اللّه - تعالى - واختيار ، فيتعلّق الأمر بصلاة زيد بعد بلوغه وينقطع عند موته ، ويتعلّق الكلام بموسى - علیه السلام - في الطور.

وأورد على الخامس أيضا : بانّ ابدية الأمر لا يقتضي بقاء التكليف ، لأنّ وجود الأمر - بل كلّ خطاب دائما - لا يقتضي إلاّ حصول مفاده ومقتضاه دائما ، وليس مفاد الأمر الاتيان بالفعل في كلّ وقت حتّى إذا حصل مفاده لزم حصول التكليف في دار الجزاء ، بل مفاده الاتيان بالفعل في دار الدنيا وهو باق دائما ، والتكليف به واقع دائما حتّى يصدق أنّ المكلف مأمور في العقبى بالاتيان بالفعل في دار الدنيا. وهذا ما قالوا : إنّ صدق المطلقة دائمي ، نظيره لو قال أحد مخاطبا لزيد : افعل كذا في اليوم الجمعة المخصوصة مثلا وفرضنا صدور هذا الكلام منه دائما قبل هذا اليوم وبعده لا يقتضي إلاّ اتيان زيد بالفعل المذكور في يوم الجمعة المخصوصة دون فعله دائما ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّه لو كان للكلام النفسي القديم معنى محصّل لم يكن هذه الأدلّة الثلاثة صالحة لإبطاله ، لما ذكر من الجواب والايراد. فالعمدة في ابطاله ما تقدّم من أنّه ليس له معنى محصّل سوى الكلام الحقيقي أو العلم الكمالي ، وهو غير متنازع فيه.

ثمّ لا ريب في أنّ غرض المعتزلة من هذه الأدلّة ابطال الكلام اللفظي الأزلي دون التكلّم الحقيقى ، فهى غير دالة على عدم اعتقادهم بالتكلّم الحقيقي ؛ هذا.

وقال بعض المشاهير : جميع هذه الأدلّة إنّما تنتهض في الكلام اللفظي باعتبار

ص: 466

وجوده العيني وفي معناه باعتبار كونه مدلولا له بالعقل ، وجميع الأجوبة مبنية على أنّ الكلام الازلي هو التكلّم الحقيقى الّذي هو أمر واحد غير زائد على ذاته - تعالى - ، أو العلم الاجمالي / 215 MA / بالكلام مع اقترانه باقتضاء القاء الكلام للاعلام في وقته لا الالقاء بالفعل في الأزل وإن كان الاقتضاء ازليا ، وهو - أي : العلم الإجمالي - أمر واحد غير زائد على ذاته عند المحقّقين ؛ انتهى.

وأنت بعد الاحاطة بما تقدّم تعلم حقّية هذا الكلام ؛ هذا.

وبقى لنا من هذا المبحث أن نذكر كلاما أورده صاحب المواقف في تحقيق كلام / 215 DA / اللّه النفسي ونشير إلى حقيقة الحال فيه. وحاصل ما أورده هو : أنّ اللفظ يطلق تارة على مدلول اللفظ ، وأخرى على الأمر القائم بالغير. فالشيخ الأشعري لمّا قال الكلام هو المعنى النفسي فهم الاصحاب منه أنّ مراده مدلول اللفظ وحده وهو القديم عنده ، وأمّا العبارات فانّما يسمّى كلاما مجازا لدلالتها على ما هو كلام حقيقة. حتّى صرّحوا بانّ اللفظ حادث على مذهبه أيضا ، لكنّها ليست كلامه - تعالى - حقيقة. ومذهب الّذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة - كعدم تكفير من أنكر كلاميّة ما بين دفّتي المصحف مع أنّه علم من الدين ضرورة كونه كلام اللّه تعالى حقيقة ؛ وكعدم المعارضة والتحدّي بكلام اللّه تعالى الحقيقي ؛ وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتفطّن في الاحكام الدينية - ؛ فوجب حمل كلام الشيخ على أنّه أراد المعنى الثاني. فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات اللّه - تعالى - وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور ، وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة ، إذ هي من أفعال البشر. وعلى هذا يكون الفرق بين الملفوظ والتلفّظ وبين المكتوب والكتابة وبين المقروء والقراءة وبين المحفوظ والحفظ بالقدم والحدوث.

وما يقال من : أنّ الحروف والألفاظ مترتّبة متعاقبة فيكون حادثة فلا يمكن أن يكون الأمر الشامل لها وللمعنى جميعا قديما مع أنّ الكلام اللفظي النفسي عند الشيخ الأشعري قديم ؛ فجوابه : إنّ ذلك الترتيب انّما هو في اللفظ بسبب عدم مساعدة الآلة ، فالتلفّظ

ص: 467

حادث ، والأدلّة الدالّة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ - جمعا بين الأدلّة -. وهذا الّذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخّروا اصحابنا إلاّ أنّه بعد التأمّل يعرف حقيقته. وقد قال بعض الفضلاء : هذا المحمل لكلام الشيخ ممّا اختاره الشهرستاني في كتابه المسمّى بنهاية الاقدام ؛ ولا شبهة في أنّه اقرب إلى الاحكام الظاهرة المنسوبة إلى قواعد الملّة ؛ انتهى كلام صاحب المواقف.

قال بعض المشاهير : الظاهر إنّ فهم الاصحاب إنّ مراد الشيخ هو مدلول اللفظ وحده ليس من مجرّد قوله : « انّ الكلام هو المعنى النفسي » ، بل الظاهر أنّ باعث فهمهم هو ذلك مع ضميمة أخرى لم ينقل هنا ، إذ لو كان باعث فهمهم مجرّد ما ذكره امكن أن يحمل كلامه بانّ مراده بالكلام النفسي هو المعنى النفسي - على ما هو الكلام بمعنى التكلّم ، أي : كون الذات بحيث يقتضي القاء الكلام إلى المخاطبين - ؛ وحينئذ يصحّ كلامه بلا تأويله إلى ما ذكره صاحب المواقف ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الكلام بطوله لا طائل تحته! ، فانّك قد عرفت أنّ الكلام النفسي الّذي قال به الشيخ الأشعري لا يمكن حمله على التكلّم الحقيقي ، فانّ المتبادر من مجرّد الكلام النفسي هو مدلول اللفظ وفهم قدرة ايجاد الكلام اللفظي منه خلاف الظاهر ، ففهم الاصحاب منه ذلك في موضعه ، مع قطع النظر عن سائر أقاويله الصريحة في أنّ مراده منه ذلك دون التكلّم الحقيقي.

فالحقّ أنّ ما فهم اصحاب الشيخ الأشعري من كلامه والتأويل الّذي / 215 MB / ذكره صاحب المواقف لكلامه كلاهما باطلان! ؛

أمّا الأوّل فقد عرفت وجه فساده مفصّلا ، ونزيدك هنا ونقول : لا ريب في أنّ مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون قديما لأنّه مثل اللفظ في الحدوث ؛ قال بعض المشاهير : كون المدلول قديما انّما يصحّ أن لو كان المراد بمدلول الألفاظ المدلول الالتزامي الّذي هو التكلّم القائم بالمتكلّم - كما مرّ - ؛ وامّا المدلول المطابقي فلا خفاء في أن لا فرق بينه وبين اللفظ في كونهما حادثين وفي التأويل إلى العلم ، فانّ اللفظ - مثل : « قال فرعون » - والمدلول المطابقي سيّان في الحدوث ، وفي العلم بهما قديم.

ص: 468

ويرد على ما ذكره من قولهم : « فامّا العبارات فانّما يسمّى كلاما مجازا » : أنّ المتبادر المشهور في استعمال الكلام انّما هو العبارات والألفاظ الدالّة عليه ، وهو علامة كونه حقيقة فيها. ولهذا قال المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم : « الأصل في الكلام هو المؤلّف من الحروف / 218 DB / المسموعة الدالّة بالوضع على ما قصد دلالته عليه ليحصل التفاهم بين أشخاص النوع ، ووجوده لا يتحصّل إلاّ بعد العلم بالمعاني وتقدير ترتيب اجزاء المؤلّف ، وبعينه الحروف المرتّب بعضها على بعض بحسب الوجود العلمي حتّى يمكن تأليف الكلام باعتبار الوجود العيني على وفق ترتيب الذهنى ، فبعض الناس - كالمنطقيين - يطلقون اسم الكلام على ذلك التقدير في الذهن ، وبعضهم يطلقون على ذلك العلم. والمتكلّمون يصفونه - تعالى - بالكلام لورود الشريعة بذلك ، إذ لولاه لما يتوهّم العوامّ الوحي ؛ فمنهم من قال : إنّه هو العلم ؛ ومنهم من قال : إنّه زائد على العلم قديم غير مؤلّف ولا مسموع ؛ ومنهم من قال : زائد محدث أو قديم مؤلّف ليس بمسموع ، لكن يطابق المسموع ، ومنهم من قال : إنّه مؤلّف مسموع. والّذين يقولون إنّه مع ذلك قديم لا يتفكّرون في معنى قولهم » (1) ؛ انتهى.

وقد اشار بقوله : « الأصل في الكلام هو المؤلّف » إلى أنّه أيّ معنى عن المعاني المغايرة لهذا المعنى إذا استعمل فيه الكلام والكلمات كان ذلك على سبيل المجاز - كمعاني الألفاظ ، والموجودات العينية ، والعلم بالالفاظ ، كما ورد في حقّ عيسى علیه السلام : ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ) (2) علیهاالسلام ؛ وقال تعالى : ( - إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) (3) ؛ وقال امير المؤمنين علیه السلام : « أنا كلام اللّه الناطق » (4) ؛ وكما قيل : ان بسائط الموجودات حروف ومركّباتها كلمات -. قال بعض المشاهير : فان قيل : يمكن اثبات اللفظية بالقياس - كما هو المشهور - ، فيمكن به اثبات أنّ الكلام موضوع لما يعمّ الألفاظ والمعاني ، فانّ كلامية الألفاظ الموضوعة انّما يكون لأجل كونه حكاية عن الواقع

ص: 469


1- راجع : شرح رسالة مسئلة العلم ، المسألة السابعة عشرة ص 43.
2- كريمة 171 ، النساء.
3- كريمة 10 ، فاطر.
4- راجع : بحار الأنوار ، ج 82 ص 199.

- كما في الاخبار - أو مشعرا للطلب ونحوه - كما في الانشائيات - ، وتلك الحكاية وذلك الاشعار انّما يوجدان بالذات في معاني الألفاظ ؛ وبذلك يعلم أنّ كلاّ من الألفاظ الموضوعة ومعانيها كلام. وأيضا الكلام الّذي ينقسم إلى الخبر والأمر والنهي وأمثالها انّما يكون بالحقيقة معاني الألفاظ الموضوعة ، فانّ الخبر ما يحتمل الصدق والكذب ، والأمر ما يقتضي الطلب ، والصدق والكذب انّما يعرضان للمعاني بالذات ؛ وكذلك اقتضاء الطلب ونحوه انّما هو من عوارض المعاني.

وأيضا إذا قيل في الأمر بالقيام مثلا بالعربى أو بلغة أخرى لا يختلف الأمر بالحقيقة وإن اختلف العبارات ، وهذا هو الباعث للحكم بانّ القديم بالحقيقة هو معانى الألفاظ المؤلّفة الموضوعة ؛

قلنا : على كلّ من التقديرين المذكورين - أي : كون الكلام هو اللفظ فقط ، أو اللفظ والمعنى - لا يصحّ الحكم على الكلام بانّه صفة لذات / 216 MA / الحقّ وقديم إلاّ بتأويله إلى العلم الإجمالي به - كما اختاره الطائفة الّتي أشار إليها المحقّق الطوسي في الكلام المنقول عنه بقوله : « ومنهم من قال بانّه هو العلم » - ، أو إلى العلم به مع ضميمة اقتضاء الذات لا لقائه إلى المخاطبين - كما ذهب إليه الطائفة الّتي أشار إليها بقوله : « ومنهم من قال بانّه زائد على العلم قديم غير مؤلّف ولا مسموع » -. وامّا القول بانّه مؤلّف قديم ليس بمسموع وزائد على العلم ، فلا يصحّ الحكم عليه بانّه صفة لذات الحقّ ، لأنّه إذا كان الكلام مؤلّفا فلا بدّ له من تمييز بعض الأجزاء عن بعض وترتيب فيما بينهما ، وهذا لا يتصوّر إلاّ باعتبار الوجود العيني أو الوجود الارتسامي في شيء موجود في الخارج ، فلا يكون صفة لذات الحقّ إلاّ على مذهب من قال بالعلم التفصيلي القديم. وكان معنى زيادته على العلم أنّ له ضميمة قصد القائه إلى المخاطبين. وقوله - أي : قول المحقّق - : « ومنهم من قال إنّه مؤلّف مسموع » اشارة إلى ما اختاره من مذهب المعتزلة. وقوله : « والذين يقولون ... إلى آخره » اشارة إلى مذهب الحنابلة. وقوله : « ولا يتفكّرون في معنى قولهم » اشارة إلى انّهم لا يفهموا معنى الحدوث والقدم ؛ انتهى.

وغير خفيّ بأنّ ما ذكره - في جواب السؤال المذكور من أنّ الكلام سواء كان هو اللفظ

ص: 470

أو المعنى لا يمكن أن يكون صفة لذات الحقّ - وإن كان حقّا إلاّ أنّ الأصوب في الجواب عنه منع صحّة اثبات اللغة بالقياس - كما هو مقرّر عند أهل التحقيق من علماء الأصول -.

ثمّ ما ذكر في السؤال لبيان اطلاق الكلام حقيقة على المعاني - بأنّ الحكاية عن الواقع والإشعار للطلب انّما يوجدان بالذات في المعانى - ، ففيه منع ظاهر ؛ لأنّ الاشعار / 219 DA / بالذات انّما يكون في الألفاظ ، فانّ التفهيم والتفهم انّما يحصلان بالألفاظ ، فاذا كان طريق فهم المعاني منحصرا بالالفاظ فالمفسّر للطلب والحكاية ليس إلاّ الألفاظ.

وما ذكر من : « أنّ الكلام الّذي ينقسم إلى الخبر والأمر والنهي وأمثالها انّما يكون بالحقيقة معانى الالفاظ - إلى قوله انّما هو من عوارض المعاني » ، فيه : انّا لا نسلّم أنّ معانى الألفاظ ينقسم إلى الخبر والانشاء ، بل الألفاظ ينقسم إليها. ومعنى قولهم : « الخبر ما يحتمل الصدق والكذب » : إنّ الخبر لفظ معناه يحتمل الصدق والكذب ، لأنّ كلمة « ما » في « ما يحتمل » عبارة عن اللفظ ، ومعناه : الخبر لفظ يحتمل معناه الصدق والكذب ؛ وكذا الأمر لفظ معناه يقتضي الطلب. ونظير ذلك كثير ، مثل ما يقال : إنّ الاسم ما دلّ على معنى في نفسه ، بلفظ ما وإن كانت عامّة بحسب الظاهر لكن العموم ليس بمراد ، بل المراد الخاصّ - وهو اللفظ -. وبالجملة الخبر والانشاء لا يكون حقيقة صفة لشيء غير اللفظ. وما قيل من : « أنّه إذا قيل في الأمر بالقيام - ... إلى قوله - : لا يختلف الأمر بالحقيقة وإن اختلف العبارات » ، ففيه : إنّه انّما يتمّ ذلك إذا لم يكن لخصوصية لفظ دون لفظ دخل في الأمر بالقيام ، والأمر ليس كذلك ، فانّه وضع في اللغة العربية لفظ خاصّ للأمر بالقيام ولا يصحّ الأمر بدون غيره من الألفاظ العربية ؛ وكذا في التركى وغيره من اللغات لفظ خاصّ للأمر بالقيام ولا يصحّ بغيره ، فلخصوصية لفظ كلّ طائفة دخل في الأمر بالقيام ، ولا يحصل الغرض بدون ذلك اللفظ حتّى يؤدّي بغيره ، لاختلاف الأمر بالحقيقة ؛ هذا.

وممّا يرد على ما فهم اصحاب الأشعري من كلامه المفاسد الّتي اشار إليها صاحب المواقف ، وقد تقدّم بعضها وقد عرفت أنّه قد اجاب عنها بعضهم بأنّه لا نزاع في اطلاق اسم القرآن وكلام اللّه - تعالى - بالاشتراك اللفظي على هذا المؤلّف الحادث ، و

ص: 471

انّما يقول الأشعري انّهما يطلقان على معنى آخر هو الكلام النفسي ، فلا يلزم شيء من المفاسد المذكورة من لزوم عدم المعارضة والتحدّي وعدم كون المقروء والمحفوظ كلام اللّه حقيقة وعدم تكفير من أنكر كلامية ما بين دفّتي المصحف ، / 216 MB / فانّ من أنكر كلامية ما بين دفّتي المصحف انّما يكفّر لو اعتقد أنّه ليس كلام اللّه - تعالى - بمعنى أنّه من مخترعات البشر ، أمّا إذا اعتقد أنّه ليس كلام اللّه - تعالى - بمعنى أنّه ليس صفة قائمة بذاته - تعالى - بل هو دالّ على ما هو صفة حقيقة وهو من مبدعات اللّه - تعالى - ومخترعاته - بأن اوجده في لسان الملك أو في لسان النبي - صلی اللّه علیه و آله - أو اوجد نقوشا دالّة عليه في اللوح المحفوظ - فليس من الكفر في شيء ؛ بل هو مذهب اكثر الأشاعرة ، فلا ينبغي أن يتوهّم كونه كفرا.

وأورد بعض المشاهير على هذا الجواب : بانّ الكلام عند الخصم - أعني : المعتزلة - حقيقة في الأصوات والحروف ، والاشتراك اللفظى الّذي ادّعاه المجيب غير مسلّم عند الخصم. وأيضا كلّ واحد من معنيي الكلام - اللّذين التزمهما المجيب - حادث باعتبار الوجود الخارجي وإن كان قديما باعتبار اندراجه في علم الواجب ، فلا يمكن أن يكون المدلول الّذي هو الكلام أيضا عند الأشعري قديما صفة لذات الحقّ. ومراد صاحب المواقف من المفسدة الأخيرة إنّه علم من الدين ضرورة كون ما بين دفّتي المصحف كلام اللّه - تعالى - حقيقة لا بالمجاز - أي : أوجده اللّه تعالى حقيقة لا مجازا - ، وينبغي أن يكفّر من ينكره على الاطلاق وإن لم يحكم بكفره مع التأويل الّذي ذكره المجيب. وعلى ما فهم أصحاب الأشعري من أنّ اطلاق الكلام على العبارات والألفاظ مجازا يلزم عدم كفر من ينكره مطلقا ، لأنّه يفهم من ظاهر كلامهم حينئذ أنّ ما بين دفّتي المصحف ليس من مخلوقات الواجب وموجدا لله - تعالى - حقيقة ، بل ما هو من موجداته ومخلوقاته - تعالى - حقيقة هو المعانى ، فيلزم عدم كفر المنكر المطلق مع أنّ من انكره كافر مطلقا - أي : سواء كان اطلاق الكلام على ما بين الدفّتين حقيقة أو مجازا -.

والحاصل : انّ اعتراض صاحب المواقف على / 119 DB / من فهم كلام الأشعري مجازية الكلام اللفظي بانّه مخالف لضروري الدين ، ويلزم عدم تكفير المنكر المطلق مع

ص: 472

أنّه ينبغي تكفيره ، وليس مراده أنّه لا يمكن تأويل كلام الأشعري بغير ما ذكره نفسه كتاويل المجيب حتّى لا يكون انكار من ينكره كفرا ، لأنّه لا ينكره مطلقا. ولا يستلزم ذلك عدم تكفير من ينكره مطلقا ، فانّه على تقدير الاشتراك اللفظي أيضا من ينكر كلامية ما بين دفّتي المصحف فهو كافر. نعم! ، من ينكر كلامه بمعنى أنّه صفة قائمة بذاته لا يكون كافرا. والملخّص انّ صاحب المواقف لا ينكر تأويل المجيب لكلام الأشعري بطريق الاشتراك اللفظي الّذي لا يستلزم عدم تكفير المنكر المطلق ، ويسلّم أنّه على تقدير الاشتراك اللفظي لا فساد في عدم التكفير بالمعنى الّذي ذكره المجيب ، وانّما اعتراضه على من قال بالمجاز المستلزم لعدم تكفير المنكر المطلق.

ثمّ على تقدير الاشتراك اللفظي انّما يلزم عدم تكفير من ينكر الكلامية بمعنى كونه صفة قائمة بذاته - تعالى - ؛ هذا.

والظاهر أنّ الأشاعرة قائلون بكون الكلام اللفظي كلاما حقيقة وانّما يدّعون وجود الكلام بمعنى آخر ، فالتكفير المترتّب على انكار ما بين دفّتي المصحف كلاما غير لازم عليهم.

فان قلت : إن أريد من ما بين دفّتي المصحف النقوش الدالّة على الألفاظ الّتي هي كلام اللّه فظاهر أنّ هذه النقوش ليست كلام اللّه حقيقة ، فلا وجه لتكفير من ينكر كونه كلام اللّه حقيقة ؛ وإن أريد منه مدلول تلك النقوش - أعني : الألفاظ - ، فلا ريب في كونها كلام اللّه حقيقة إلاّ انّها ليست ما بين دفّتي المصحف حقيقة ، فلا وجه للقول بأنّ ما بين دفّتي المصحف كلام اللّه حقيقة ، لأنّ ما بين دفّتي المصحف حقيقة هي النقوش واطلاق كلام اللّه عليها مجاز من قبيل اطلاق اسم المدلول على الدالّ ؛

قلنا : إنّ تلك النقوش وإن لم تكن كلام اللّه حقيقة لكن أجرى عليها شرعا احكام كلام اللّه - تعالى - ، ولهذا لا يجوز مسّ تلك النقوش بدون الطهارة ، فكأنّها كلام اللّه - تعالى - حقيقة شرعا ؛ فالتكفير المرتّب على انكار كونها كلام اللّه - تعالى - شرعي لا عقلي.

وأمّا الثاني - أعني : ما ذهب إليه صاحب المواقف في توجيه كلام الشيخ

ص: 473

الأشعري من أنّ الكلام النفسي شامل للفظ والمعنى معا وإنّ ترتيب الحروف انّما هو في اللفظ دون الملفوظ / 217 MA / حتّى يكون التلفّظ حادثا دون الملفوظ وإنّ الترتيب فينا انّما هو لقصور الآلة - ، فيدلّ على بطلانه : أنّ ذلك أمر خارج عن طور العقل ، وما ذلك إلاّ مثل أن يقال : يمكن أن تكون حركة تكون اجزائها مجتمعة في الوجود ولا يكون لبعضها تقدّم على البعض ، وانّما يتعاقب اجزاء الحركة فينا لعدم مساعدة الآلة. وإذا كان عدم الترتب في الملفوظ باطلا لزم كونه حادثا ويكون المعنى أيضا حادثا ، فلا يمكن أن يكون ما هو شامل لهما قديما صفة لذات الحقّ.

وأجاب عنه بعض المشاهير : بانّ ذلك انّما يكون خارجا عن طور العقل باعتبار الوجود الخارجي ، وأمّا باعتبار الوجود العلمي أو العقلي أو الظلّي أو المثالي فليس خارجا عنه وبهذا الاعتبار قيل : إنّ كلام اللّه بمعنى التكلّم على أقسام ستّة :

أحدها : التكلّم الحقيقي الّذي هو غير زائد على ذاته - تعالى - وكونه - تعالى - باعتبار ذاته بحيث يقتضي الأوامر والنواهي وشبههما والقاء الاخبار إلى المخاطبين ؛ وهو الّذي يسمّى ب- « الخطاب القديم » ؛

وثانيهما : هو التكلّم الّذي بينه وبين المجرّد القدسي ، وهو القاء الواجب - تعالى - ما يحكم ويوجد إلى العلم الإجمالي بالقلم الأعلى ؛

وثالثها : التكلّم الّذي هو القاء الواجب - تعالى - ما يحكم ويوجد بواسطة القلم إلى اللوح المحفوظ ، وكتابته فيه ما يحكم ويوجد ؛

ورابعها : التكلّم النفسي الّذي هو القاء الواجب - تعالى - إلى النفوس المجردة الاحكام والاخبار ؛

وخامسها : التكلّم المثالي الّذي هو القاء الألفاظ المثالية الدالّة على المعاني المقصودة إلى النفوس الإنسانية في عالم المثال ؛

وسادسها : التكلّم الّذي هو القاء الألفاظ الدالّة على المعانى المقصودة إلى النفوس الانسانية في عالم الملك ، وبإزاء كلّ تكلّم كلام لائق بمعنى ما به التكلّم.

وحاصل هذا الجواب إنّ الترتّب في الألفاظ انّما يكون باعتبار الوجود الخارجي

ص: 474

لا باعتبار الوجود العقلي أيضا ، فمراد صاحب المواقف أنّ الألفاظ ليس فيها ترتيب باعتبار الوجود العقلي. / 220 DA /

ولا يخفى ما في هذا الجواب! ، فانّه وإن كان في نفسه حقّا إلاّ أنّه لا يمكن حمل كلام صاحب المواقف عليه ، لأنّ قوله : « وترتّب الحروف والألفاظ انّما هو فينا لعدم مساعدة الآلة » يأبى عن هذا التوجيه ، لأنّ عدم الترتّب في الألفاظ باعتبار الوجود العقلي ليس مختصّا بالواجب - تعالى - ، بل فينا أيضا كذلك ؛ فلا وجه حينئذ لقوله : « انّما هو فينا لعدم مساعدة الآلة ». فلا بدّ من الحمل على الوجود الخارجي حتّى يتصوّر في بادى الرأي أنّ ترتّب الحروف والألفاظ باعتبار الوجود الخارجي انّما هو فينا لعدم مساعدة الآلة ؛ وحينئذ يتوجّه عليه الايراد المذكور.

وأورد المحقّق الدواني على توجيه صاحب المواقف أيضا بانّه كيف يتصوّر أن تكون الصفة القائمة بذاته - تعالى - والأصوات القائمة بنا متّحدة الحقيقة حتّى يصحّ أن يقال : إنّ تلك الاصوات قائمة بذاته - تعالى - من غير ترتّب فينا ، وترتّبه لقصور الآلة.

وهذا الايراد يمكن تقريره على وجهين :

أحدهما : إنّه باعتبار تلك الأصوات متّحدة مع صفته - تعالى - ، فينبغي أن لا يكون منتظمة مؤلّفة وباعتبار انّها اصوات ينبغى أن تكون مترتّبة منتظمة ، فكيف يجتمع هذان الأمران؟! ؛

وثانيهما : إنّه لا يجوز اتحاد صفة اللّه - تعالى - مع الحقيقة الممكنة حتّى يقال : إنّ حقيقة الأصوات باعتبار انّها صفة للواجب - تعالى - لا تكون مع ترتيب ، وباعتبار انّها مع الممكنات تكون مرتبة. على أنّه إذا كان / 217 MB / الشيء متّحد الحقيقة يجب أن لا يختلف بحسب الحقيقة ، فيجوز أن لا يختلف تلك الاصوات في الترتيب وعدمه ، لأنّه لو جاز هذا لجاز أن لا يكون الحركة في محلّ تدريجية الوجود وفي محلّ آخر غير تدريجية الوجود ؛ وهذا ليس إلاّ السفسطة الصريحة!.

فان قيل : يجوز هذا باعتبار الوجودين - أعني : الذهني والخارجي - ؛

قلنا : كون الحروف والاصوات صفة للواجب - تعالى - يقتضي كونها من

ص: 475

الموجودات الخارجية ، ومع اتحاد حقيقتها للموجودات الخارجية الحاصلة في الألسن المرتّبة بعضها على بعض يقتضي القول بكونها مرتّبة في الواجب أيضا ؛ هذا خلف!.

ثمّ أجاب بعض المشاهير عن ايراد المحقّق : بأنّ صاحب المواقف لم يصرّح بأنّ الكلام النفسي بالمعنى المذكور صفة له - تعالى - ليرد الايراد المذكور ، بل صرّح بقيام الأمر الشامل للفظ والمعنى بذاته - تعالى - ، وأراد به نحو قيام الصور العلمية بذاته - تعالى ، على ما ذهب إليه الشيخ - ؛ بل أراد به اندراجه في علمه القديم ليتناول المذهبين في العلم - أعني : كون العلم القديم هو العلم الإجمالي أو الصور القائمة بذاته تعالى أيضا ، كما ذهب الشيخ والفارابي - ؛ انتهى.

وفيه : إنّ صاحب المواقف صرّح بأنّ الكلام النفسي عند الشيخ الأشعري مجموع اللفظ والمعنى ويكون ذلك المجموع قائما بذاته - تعالى - ، وظاهر أنّ ما هو قائم بذاته - تعالى - صفة له - تعالى - ، فالتصريح بالقيام في حكم التصريح بكونه صفة. ويدلّ على ذلك قوله : « وترتيب الحروف والألفاظ انّما هو فينا لعدم مساعدة الآلة » ، لأنّ هذا صريح في أنّ الألفاظ قائمة به - تعالى - بدون الترتيب.

وما ذكره من أنّ مراد صاحب المواقف أنّ هذا الأمر الشامل للفظ والمعنى مندرج في علمه القديم ، ففيه : إنّه حينئذ يرجع الكلام النفسي إلى العلم ، وليس هو مذهب الأشاعرة. فلو كان مراد الأشاعرة من الكلام النفسي هو العلم لا تقع المخالفة بينهم وبين المعتزلة - كما أشير إليه مرارا -.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما صرّح به هذا القائل بعد ذلك أيضا بأنّ المراد بالقيام - الّذي ذكره صاحب المواقف - هو الاندراج في علم اللّه المقدّم على الايجاد.

ثمّ هذا القائل قال بعد هذا الكلام : فان قيل : يمكن أن يقال : المراد بذلك القيام نحو قيام الصور العلمية بذاته - تعالى - كما ذهب إليه بعض الحكماء من أنّ الصور العلميّة قائمة بذاته - تعالى - بدون تأثير ذاته - تعالى - منه واكماله - تعالى - به ؛

قلت : هذا انّما يصحّ عند من قال بالتغاير بين ذاته - تعالى - وصفاته ، ولم يقل به الأشعري. ويمكن أن يقال : الأشعري لم يقل بالتغاير في الصفات الكمالية وانّما في

ص: 476

غيرها ، فهو قائل به. ومن هذا القبيل قيام الصور العلمية التفصيلية عند من قال به ؛ والظاهر أن يكون الأشعري قائلا بذلك القيام.

فان قيل : هذا مناف لقول الأشعري من أنّ الكلام النفسي أمر واحد يتكثّر متعلّقاته - كما هو المشهور - ؛

قلت : قد مرّ غير مرّة / 200 DB / من أنّ هذا الحكم انّما يستقيم في الكلام بمعنى المتكلّم أو في العلم الإجمالي بالكلام ، فعلى هذا يجب حمل قول صاحب المواقف على الاندراج في العلم الإجمالي ؛ انتهى.

وغير خفيّ بأنّ المشهور أنّ الأشاعرة قائلون بزيادة الصفات الكمالية ومثبتون للقدماء السبعة ، ومن ثمّ كفّرهم المعتزلة حيث قالوا : أنّ النصارى انّما كفروا لما أثبتوا مع ذاته - تعالى - صفات ثلاثة قديمة يسمّوها اقانيم - هي : العلم والوجود والحياة - ، فكيف لا يكفّر من اثبت مع ذاته - تعالى - صفات سبعا أو اكثر؟.

والأشاعرة اجابوا عن ذلك - بعد تسليم زيادة الصفات - : بانّ النصارى انّما كفّروا لانّهم اثبتوها ذوات لا صفات - وإن تحاشوا عن التسمية بالذوات وسمّوها صفات - ، فانهم قالوا بانتقال اقنوم العلم إلى المسيح والمنتقل لا يكون إلاّ ذاتا ، واثبات المتعدد - أعني : الذوات القديمة - هو الكفر دون اثبات الصفات القديمة في ذات واحدة. وعلى ما ذكر من أنّ الأشاعرة قائلون بزيادة الصفات فمرادهم من قولهم : « انّ صفاته - تعالى - لا هو ولا غيره » : أنّ صفاته - سبحانه - ليست عين ذاته - تعالى - ولا غيرا مبائنا منفصلا ، بل تكون صفاته قائمة / 218 MA / بذاته. وبذلك يظهر أنّ الأشاعرة قائلون بالمغايرة والقيام كما صرّح به هذا القائل أخيرا ، إلاّ أنّ جواز القيام والمغايرة عند الأشاعرة لا يصحّح كون الكلام النفسي صورة علمية قائمة بذاته - تعالى - ، لما عرفت مرارا من أنّ كلماتهم صريحة في مغايرة الكلام النفسي للعلم. على أنّ العلم عند الأشاعرة ليس بحصول صور الأشياء في ذاته - تعالى ، كما يقول به بعض الفلاسفة - ، بل العلم عندهم صفة واحدة قائمة بذاته - تعالى - لها اضافات وتعلّقات إلى المعلومات ، كما أنّ القدرة عندهم صفة واحدة قائمة بذاته - تعالى - لها تعلّقات إلى المقدورات ، فبعد

ص: 477

ارجاع الكلام النفسي إلى العلم لا يكون قيامه عندهم كقيام الصور العلمية بذاته وحصولها فيه - تعالى - ؛ هذا. وما اشار إليه أخيرا من استقامة ارجاع الكلام النفسي الّذي هو أمر واحد ويتكثّر متعلّقاته إلى التكلّم الحقيقي أو العلم الإجمالي ، قد عرفت حقيقة الحال فيه مرارا ؛ فلا نطيل الكلام باعادته.

ثمّ إنّ المحقّق الدواني بعد ما ردّ توجيه صاحب المواقف قال : إنّ في هذا المقام - أي : في تحقيق كلام الأشعري - كلام يقتضي تمهيد مقدّمة ؛ وهي : أنّ صفة التكلّم فينا عبارة عن قوّة تأليف الكلام ، وكلامنا عبارة عن الكلمات الّتي هي مترتّبة لنا في الخيال. وبعد تمهيد هذه المقدمة أقول : إنّ صفة الكلام القائمة بذاته - تعالى - صفة هي مصدر تأليف الكلمات وإنّ كلامه - تعالى - هي الكلمات الّتي مؤلّفة له - تعالى - بذاته في علمه القديم بغير واسطة ، وهذا الكلام خطاب متوجّه إلى مخاطب مقدّر وامتيازه عن العلم ظاهر ، فانّ كلام غيره - تعالى - معلوم له وليس كلامه - كما أنّ كلام غيرنا معلوم لنا وليس كلامنا - ، فقد تحقّق العلم بدون صفة الكلام تخلف الكلام ، فلم يلزم تحقّق الكلام في أيّ موضع تحقّق العلم.

وهذا الّذي ذكرناه ليس ما ذهب إليه الحكماء من أنّ كلامه - تعالى - علمه ؛ ولا ما ذهب إليه الحنابلة ومن يحذوا حذوهم من أنّ كلامه - تعالى - حروف وأصوات يقومان بذاته وانّها قديمة ؛ وليس مثل كلام صاحب المواقف من أنّ كلامه الأصوات والحروف الموجودة أو ما يشمل الحروف والاصوات والمعاني معا ، ولا ما هو المشهور من الأشعري من أنّ كلامه - تعالى - انّما هو المعنى المقابل للفظ ، بل هو تحقيق وتنقيح لمذهب الأشعري - كما يظهر بالتأمّل الصادق -.

ولمّا كان علمه - تعالى - واحدا محيطا بجميع المعلومات كان كلامه أيضا واحدا مشتملا على اقسامه من الكتب والصحف واللغات المختلفة والاخبارات والانشائيات ، ولمّا كان كلامه ازليا كان الخطاب فيه متوجّها إلى المخاطب المقدّر لا مخاطب موجود في الأزل ، فيكون المضيّ والحضور والاستقبال فيه بالنسبة إلى الزمان المقدّر للمخاطب المقدّر ، فلا اشكال في ورود بعضها بصيغة الماضي وبعضها بصيغة الحال وبعضها بصيغة

ص: 478

الاستقبال.

فان قلت : قد اطّرد العرف على أنّ من انشأ كلاما بكتابة يسمّى متكلّما وينسب إليه ذلك الكلام بانّه قوله وكلامه - كما / 221 DA / يقال : قال : الشافعى كذا وكذا ، و: ابو حنيفة كذا - ؛ وانّما ينسب إليهم هذه الأقوال بأنّهم كتبوه ، فلم لا يجوز أن يكون كلام اللّه - تعالى - من هذا القبيل - كما يقول المعتزلة -؟ ، فيكون نسبته إليه - تعالى - بسبب أنّه كتب في الألواح المحفوظة أو أوجده في لسان الملك أو الرسول.

قلت : أمّا أوّلا فلأنّ من لم يقدّر على تأليف الكلمات في النفس لا يسمّى متكلّما وإن أوجد النقوش ، وكذلك من علم أنّه ليس له قصد إلى تلك الألفاظ والحروف لا يسمّى متكلّما ، ونسبة القول إلى من كتب شيئا من الكلام بسبب اعتقاد أنّه دالّ على كلامه النفسي حتّى لو علم أنّه ليس له الكلام النفسي لم يسمّ متكلّما أصلا ، كما لو فرضنا أنّه صدر هذه النقوش عن غير الانسان ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ النصوص السمعية دالّة على اثبات صفة الكلام له - تعالى - ، وظواهر تلك النصوص انّها صفة مغايرة لسائر الصفات - كالعلم والقدرة والإرادة - ، والقول بما قاله المعتزلة يؤدّي إلى أن لا يكون الكلام صفة اخرى بل راجعة إلى القدرة على خلق الكلمات في محالّها ، والتجاوز عن الظاهر من غير ضرورة مستنكر!. على أنّه لا يمكن الدلالة على نفي الكلام النفسي ، ولو نفوه لزم القدح في كونه متكلّما بالمعنى العرفي. وبعد ثبوت الكلام النفسي يتمّ ما ذكرناه / 219 MB / من تحقيق مذهب الأشعري من غير خلل ؛ انتهى.

قال بعض المشاهير : وأنت إذا تأمّلت فيهما علمت انّهما راجعان إلى مذهب من قال : « إنّ كلامه - تعالى - القديم هو العلم الإجمالي بالكلام مع ضميمة التوجّه إلى المخاطب المقدّر - كما مرّ الاشارة إليه - » ؛ وأنت قد عرفت أنّ كلام صاحب المواقف ليس راجعا إلى العلم الإجمالي.

وامّا كلام هذا المحقّق فظاهره أنّ صفة التكلّم له - تعالى - عبارة عن قوّة الالقاء والقدرة على تأليف الكلمات ، وهذا هو التكلّم الحقيقي وهو حقّ نقول به - كما مرّ

ص: 479

الاشارة إليه -. وكلامه - تعالى - هي الكلمات المؤلّفة الموجودة في علمه القديم من حيث كونها خطابا إلى مخاطب مقدّر ، وهذا هو الكلام النفسي عنده. ومعلوم انّ هذا راجع إلى العلم ، لأنّ الكلمات الموجودة في علمه القديم هو العلم بالكلمات ، وقد تقدّم أنّ بعضهم وجّه الكلام النفسي بمثل ذلك ، وأشرنا إلى أنّه راجع إلى العلم وهو خلاف ما يفهم من كلمات الأشاعرة ، لأنّه يرفع النزاع بينهم وبين المعتزلة مع أنّ الخلاف بينهم مشهور والردّ والجرح فيما بينهم في كتبهم مسطور.

ثمّ إنّه اعترض على الكلام المنقول من المحقّق الدواني بوجوه :

منها : انّ قوله : « إنّ صفة التكلّم فينا عبارة عن قوّة تأليف الكلام - ... إلى آخره - » يستلزم أن يكون صفة التكلّم راجعا إلى صفة القدرة ، لأنّ قوة التأليف هي القدرة عليه بمعنى أنّه قسم خاصّ من القدرة لا أنّه عين القدرة المطلقة حتّى يتوجّه عليه أنّه ليس عين القدرة المطلقة ، لانّها قد تحقّق بدون الكلام ؛ ولا نزاع للمعتزلة في ثبوت صفة التكلّم بهذا المعنى. على انّا بحثنا في الكلام اللفظي لا في التكلّم ولا في الكلمات المترتّبة في الخيال ، لأنّ وجودها في الخيال وجود علمي ، فيكون راجعا إلى العلم. والقول بأنّ الأشياء تحصل بانفسها في الذهن لا باشباحها لا ينفع في هذا المقام ، لأنّ اللازم من حصول الأشياء بانفسها في الذهن هو حصول حقيقة الأشياء وماهياتها لا اشخاصها ، لأنّ الشخص الذهني غير الشخص الخارجي - على ما تقرّر في موضعه - ؛ فالّذي حصل في الذهنى حقيقة الكلام اللفظي لا فرد الكلام اللفظي. وبالجملة لا نسلّم أنّ الألفاظ المترتّبة في الخيال هي فرد من الكلام اللفظى. ولهذا لو كان شخص رتّب في خياله الفاظا دالّة على المعاني بالوضع ولم يتلفّظ بها في الخارج صحّ أن يقال : إنّه لم يتكلّم ولم يأت بكلام.

ومنها : إنّ قوله : « صفة الكلام القائمة بذاته - تعالى - صفة هي مصدر تأليف الكلمات » محصّله يرجع إلى قدرة تأليف الكلمات ، ولا نزاع للمعتزلة في ذلك ، فلا يكون كلامه - تعالى - صفة اخرى غير العلم والقدرة وسائر الصفات - على ما هو مذهب الأشاعرة - ، فلا يصلح هذا أن يكون وجها لكلامهم.

ص: 480

ومنها : إنّ قوله : « وكلامه - تعالى - هي الكلمات الّتي هي مؤلفة له - تعالى - بذاته في علمه القديم بغير واسطة » / 221 DB / إن أراد انّ تلك الكلمات لها وجود علمي في ذاته - تعالى سواء كان العلم عين الذات أم لا - ، فهو حقّ لا نزاع للمعتزلة في ذلك ، لأنّ جميع الأشياء - سواء كانت الفاظا أو غير الفاظ - معلومة له - تعالى - في الأزل ، لكن الألفاظ والكلمات المترتّبة باعتبار وجودها العلمي ليست فردا من الكلام اللفظي ، ولهذا لو تخيّل واحد منّا كلمات مرتّبة مدّة مديدة ولم يتلفّظ بها في الخارج يصحّ أن يقال في حقّه : أنّه لم يتكلّم في تلك المدّة.

وإن أراد أنّ تلك الكلمات المرتّبة تصدر عنه في الخارج بسبب علمه القديم والقدرة القديمة ، فهو أيضا حقّ لا نزاع للمعتزلة فيه.

وأيضا الكلام هو ما يكون من جنس الحروف والاصوات ، فالّذي في علمه القديم إن كان من جنسهما يلزم قدم غيره - سبحانه - ، وهو باطل ؛ ومع ذلك يلزم جواز اشتراك الواجب والممكن في صفة من الصفات باعتبار الجنس أو النوع ، وهي الكلام - لأنّ كلام الممكن أيضا من جنس الأصوات والحروف -.

وإن لم يكن ما في علمه القديم من جنس الأصوات والحروف ومع ذلك كان فردا من الكلام اللفظي لزم جواز أن يكون لطبيعة واحدة فردان : أحدهما فيه تعاقب وتدريج - كالكلام اللفظى الموجود في الخارج - ، والآخر ليس فيه / 219 MA / تدريج وتعاقب - كالكلام اللفظي الّذي في علمه القديم ، على ما هو الفرض -.

فاذا جاز ذلك فنقول : فليتّجه أن يكون لطبيعة الحركة فردان : أحدهما أن لا يكون أجزائها مجتمعة ، والآخر أن يكون أجزائها مجتمعة ، وهو بديهى البطلان - على ما ذكره هذا المحقّق في شرح العقائد -. ويظهر أنّ الكلام اللفظي إذا حصل في الذهن لا يكون فردا من الكلام اللفظي ، بل يكون فردا من العلم.

فان قلت : مذهب التحقيق إنّ علم الواجب - سبحانه - بالاشياء حضوري ، ومن جملة الأشياء الكلمات المركّبة من الأصوات والحروف ، فتكون جميع الكلمات حاضرة بأنفسها عند الواجب - سبحانه - ، وهذه الكلمات الحاضرة بانفسها عند الواجب يجوز

ص: 481

أن تكون هي الكلام النفسي ؛ وبذلك يتّضح الكلام النفسي الّذي قال به الأشعري ؛

قلت : الكلمات المعلومة للواجب بالعلم الحضوري الحاضرة بانفسها عنده لها اعتباران :

أحدهما : من حيث أنّه موجودات خارجية ، ولا ريب في أنّها من هذه الحيثية أمور مترتّبة متعاقبة الاجزاء ، فتكون حادثة ولا يمكن أن تكون صفة لذات الحقّ ؛

وثانيهما : من حيث أنّها منكشفة للواجب ، وانكشافها ليس سوى العلم ، فلا يتحقّق شيء زائد على العلم يكون هو الكلام النفسي.

ومنها : إنّ قوله : « وهذا الكلام الأزلي خطاب متوجّه إلى مخاطب مقدّر » ، فيه : إنّ الّذي هو ازلي ليس إلاّ العلم والقدرة ، لا الكلام حتّى يصحّ أن يكون خطابا متوجّها إلى مخاطب مقدّر ، لأنّ الخطاب فرع الكلام.

ومنها : إنّ قوله : « وامتيازه عن العلم ظاهر - ... إلى آخره - » لا يفيد مطلوبه ، لأنّ غاية ما يلزم منه إنّ كلامه - تعالى - ليس عين طبيعة علمه ، لأنّ علمه يتحقّق في موضع ولا يتحقّق كلامه فيه ، ولا نزاع للمعتزلة في ذلك ، لأنّ ما ذكرناه - من أنّ الكلام النفسي على ما وجّهه راجع إلى العلم - لم نرد منه إنّه عين العلم المطلق ، بل مرادنا منه أنّه فرد منه ، فيكون الكلام النفسي قسما من العلم وأخصّ منه ، فتحقّق العلم في موضع بدون تحقّق الكلام النفسي فيه لا يدلّ على أنّه ليس فردا منه.

وأيضا يتوجّه عليه نقض أورده بعض الأفاضل ، وهو : أنّه لو تمّ ما ذكره يصحّ أن يقال : إنّ علمنا قد يتعلّق بغير أحوالنا وهو معلوم لنا وليس أحوالنا ، فلا يكون علمنا باحوالنا من باب علمنا ، وهو كما ترى!.

وأيضا : علمنا المتعلّق ببناء في قصدنا أن نبنيه غير علمنا ببناء زيد مثلا ، فلا يكون الأوّل منهما علما بالبناء بل صفة أخرى ، إذ لنا أن نبني بهذا العلم هذا البناء وليس لنا أن نبنيه بالعلم بالآخر ؛ فلا يكون مبدأ أحدهما هو مبدأ الآخر.

فالحقّ أنّ هاهنا علمين : أحدهما : علمنا بكلامنا ؛ وثانيهما : علمنا بكلام غيرنا. والأوّل منهما علم فعلي يمكن أن يوجد به كلامنا في الخارج وليس الثاني منهما كذلك ، و

ص: 482

لا يلزم منه أن يكون الأوّل منهما أصواتا مركّبة ليكون هناك كلام. ولذا صحّ أن يقال : انّي قصدت أن اذكر كلاما ولم اذكره ؛ كيف ولو كان ما رتّبناه في علمنا كلاما لكفر أحد منّا اذا تخيّل في ذهنه كفرا!.

ومنها : إنّ قوله : « وهذا الّذي ذكرناه ليس / 222 DA / ما ذهب إليه الحكماء » ، فيه : إنّ من ادّعى من الحكماء أنّ كلامه - تعالى - راجع إلى علمه مراده : أنّ كلامه فرد من العلم وقسم خاصّ منه ، وقد عرفت أنّ ما جعله هذا المحقّق كلاما نفسيا - أعني : الالفاظ الموجودة في العلم القديم - ليس إلاّ قسما خاصّا من العلم وفردا منه ، فما ذكره عين ما ذكره الحكماء.

ومنها : إنّ قوله : « ولمّا كان علمه - تعالى - واحدا محيطا - ... إلى آخره - » ، يرد عليه : أنّه لا يلزم من شمول العلم لجميع المعلومات شمول كلامه لجميع اقسام الكلام من اللغات المختلفة والاخبارات والإنشاءات ، وكيف يتصوّر أن يكون كلام واحد عربيا وعبريا وسريانيا وفارسيا وتركيا!. وبالجملة لا يتصوّر أن يكون ما هو كلام لذات واحدة بدون ارجاعه إلى العلم كلاما واحدا شاملا لجميع أقسام الكلام. نعم! طبيعة الكلام من حيث هي شاملة لجميع اقسام الكلام ومنقسمة إليها ، وليست طبيعة الكلام قائمة بالهواء ، بل ما هو الكلام / 219 MB / حقيقة هو القائم بالهواء وهو فرد لطبيعة الكلام.

ومنها : إنّ قوله : « فلأنّ النصوص السمعية دالّة على اثبات صفة الكلام وظواهر تلك النصوص انّها صفة مغايرة لسائر الصفات » ، يرد عليه : أنّه إن أريد أنّ ظواهر النصوص دالّة على انّها مغايرة بالذات فهو ممنوع ؛ وإن أريد : انّها دالّة على المغايرة في الجملة فهو ممنوع ، والمغايرة في الجملة حاصلة فيما نحن فيه. والحاصل : إنّه ورد في الشرع أنّ صفات الواجب بعضها مغاير للبعض بالذات - كالعلم والقدرة - ، وبعضها ليس كذلك - كالمعطي والرازق ، فانّ الرازق أخصّ من المعطي ، ومثل ذلك كثير - ، فلم لا يجوز أن يكون الخالق والمتكلّم مثل المعطي والرازق بأن يكون الخالق أعمّ من المتكلّم؟ - لأنّ المتكلّم هو الخالق الخاصّ -. وفائدة ورود المتكلّم بعد ورود الخالق - على ما ذكره المحقّق الطوسي في شرح الرسالة - هي أنّه لو لا ورود الشرع بكونه - تعالى -

ص: 483

متكلّما لتوهّم العوامّ أنّ القرآن ليس كلام اللّه - تعالى - بأن يكون معنى القرآن من اللّه - تعالى - ولفظه من الرسول - صلی اللّه علیه و آله - ، لأنّه يجوز أن يكون معنى كونه - تعالى - خالق كلّ شيء أنّه خالق كلّ شيء اعمّ من أن يكون بواسطة أو بغيرها ، فيتوهّم أنّ خلق الكلام بواسطة النبيّ - صلی اللّه علیه و آله - ؛ فورد الشرع بانّ اللّه خالق الكلام اللفظي كالنبيّ - صلی اللّه علیه و آله - وغيره من افراد الانسان. غاية ما في الباب أنّ غيره - تعالى - محتاج إلى الآلة المخصوصة بخلافه - سبحانه - ، كما ان اللّه - تعالى - سميع وبصير من دون الاحتياج إلى الآلة المخصوصة.

ومنها : إنّ قوله : « ولو بقوّة لزم القدح في كونه متكلّما » ، يرد عليه : أنّ هذا انّما يرد لو نفوا كونه - تعالى - موجدا للأصوات والحروف الدالّة على المعنى بالوضع ، وهم لا ينفون ذلك ، بل يبالغون في اثباته! ، وانّما ينفون الكلام النفسي الّذي اثبته الأشاعرة لقيام البرهان على بطلانه ؛ ولا يلزم من هذا النفي القدح في اثبات ما هو الكلام حقيقة ، بل هو نصرة في اثباته ؛ هذا.

وقال العلاّمة النيشابوري في تفسيره : إنّه لا برهان على أنّ كلّ صوت يقوم بجسم ولا على أنّ كلّ حرف فانّما يقدر عليه ذو جارحة ، بل لعلّ ذلك في الشاهد فقط. فالكمال القديم كمال قديم ناطق وسميع وبصير ولا آلة ولا جارحة ، كما أنّه ادراك وعلم من غير قوى وعضو. ومن لم يدركه كما ينبغي فلا يلومنّ إلاّ نفسه ، فانّ كلامه كتابه وكتابه صواب وقوله فصل وحكمه عدل ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّ هذا الكلام انّما يصحّ على قول من قال : أنّ اللفظ موضوع للمعنى المشترك بين الوجود الذهني والوجود العيني ، فانّه على هذا القول يصحّ أن لا يكون الحروف قائمة بالجسم. وأيضا قوله : « فالكلام القديم إلى آخره - » إنّه يصحّ لو حمل الكلام على المعنى المصدري - أي : كون الذات بحيث تحصل منه القاء الكلام بمعنى ما به التكلّم إلى المخاطب - ، أو حمل على ما يتكلّم به ؛ وحكمه عليه بالقدم باعتبار اندراجه في العلم القديم.

قال بعض المشاهير : وليعلم أنّ مرجع تحقيق صاحب المواقف والمحقّق الدوانى و

ص: 484

العلاّمة النيشابوري ومن قال إنّ تكلّمه بالقرآن - الّذي هو عبارة عن كتابته على اللوح المحفوظ - راجع إلى العلم وإنّ علمه - تعالى - بالأشياء على الوجه الّذي عليه في الوجود بمنزلة نقش الأشياء وكتابته / 222 DB / على لوح الوجود ، واحد ؛ وجميع هذه التحقيقات الأربعة بناها على أنّ المراد من الكلام النفسي هو العلم. وتنقيحها يحتاج إلى مقدّر ، وهي : أنّ الاتصاف بالتكلّم هل يمكن بدون الكلام بمعنى ما به التكلّم أم لا؟ - كما حكم به المحقّق الطوسي حيث قال في شرح رسالة العلم في بيان المسألة الثامنة عشر : « وهي إنّه تعالى يصحّ وصفه بأنّه متكلّم أزلا أم لا؟ ، والقائلون بقدم الكلام يحكمون بصحّة وقوعه والقائلون بحدوثه يحكمون بامتناعه » (1) - ؛ انتهى كلام المحقّق.

فنقول : إن أرادوا بالتكلّم ما ينافي السكوت والآفة ، أي : القاء الكلام إلى المخاطب بالفعل لم يوجد بدون الكلام والمخاطب فيكون الشيء ذا كلام تعلّق به قدرة القائه القائمة بذلك الشيء أي كان المراد بكون الشيء متكلّما ثبوت الكلام الّذي تعلّق به قدرة الالقاء له وإن لم يوجد المخاطب كان التكلّم واتصافه - تعالى - بالكلام / 220 MA / حينئذ نافعا لثبوت الكلام له - تعالى - ، فانّ تحقّق الكلام له في الأزل مع قطع النظر عن المخاطب بان يثبت له الكلام القديم بأحد المعاني المذكورة لتوجيه كلام الأشعري كان اتصافه - تعالى - في الأزل ، وثبت له التكلّم في الأزل ، وإن كان كلامه حادثا ولم يثبت له الكلام القديم كان الاتصاف به حادثا ؛ وإن أرادوا به قدرة القائه الكلام إلى المخاطب على تقدير وجوده مع إرادة الالقاء لم يكن اتصافه - تعالى - به في الأزل مستلزما لتحقّق الكلام ، كما أنّ إرادة ايجاد الكلام في الأزل لا يستلزم وجود الكلام فيه ، لجواز أن يكون الوجود الأزلى ممتنعا على غيره - تعالى -. والحقّ أنّ التكلّم الكمالي هو المعنى الأخير وهو مستلزم للعلم بالكلام ، فيتحقّق كلام الأشعري أنّ الكلام القديم الّذي هو ضروري في اتصافه - تعالى - بالتكلم في الأزل انّما هو العلم بالكلام اللفظي بناء على أنّه حقيقة عند اطلاق الكلام ، بمعنى أنّ المتبادر من الكلام انّما هو الكلام اللفظى ، واطلاق الكلام على غيره مجاز ، والعلم بمعنى الكلام اللفظى بناء على أنّ الكلام حقيقة في معنى الكلام

ص: 485


1- راجع : شرح رسالة مسئلة العلم ، المسألة الثامنة عشرة ص 44.

اللفظي أو العلم بما هو أعمّ منهما بناء على أنّه حقيقة فيما يعمّ اللفظ والمعنى - على ما مرّ -. ويجب أن يحمل على العلم الإجمالي ليصحّ وصفه بالقدم والوحدة - كما هو مذهب الأشعري -. وبالجملة صحّة التحقيقات الأربعة المذكورة في تصحيح مذهب الأشعري - أعني : تحقيق صاحب المواقف وتحقيق المحقّق الدواني والعلاّمة النيسابوري ومن قال إنّ تكلّمه بالقرآن عبارة عن كتابته - ... إلى آخره - » انما يكون باعتبار رجوعها إلى أنّ الكلام القديم هو العلم الإجمالي الّذي تحقّقه بمنزلة تحقّقه - كما لا يخفى - ، والمحقّق الطوسي لا ينكر ذلك التأويل ، بل كلامه ليس إلاّ في عدم الاحتياج إليه.

فان قيل : كيف يقول المحقّق لا احتياج إلى التأويل المذكور مع أنّ الاحتياج إليه حاصل لوجهين : أحدهما : كون التكلّم صفة كمالية ، وثانيهما : العبارات الواقعة في الشريعة - مثل قوله تعالى : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (1) ؛ ومثل قوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) (2) - فانّ تلك الآيتين تدلاّن على أنّ القرآن الّذي هو كلام اللّه - تعالى - انزل من العلم إلى العين ، فالمندرج في العلم الإجمالي القديم هو القرآن الّذي هو كلام اللّه القديم باعتبار هذا الاندراج. وهذا خلاصة التحقيقات الأربعة المذكورة ، فانّ الاختلاف فيها انّما هي في العبارة.

قلت : لا شيء من هذين الباعثين - أعني : كون التكلّم صفة كمالية والعبارات الواقعة في الشريعة - بوثيق عند المعتزلة والمحقّق الطوسي ؛

أمّا الأوّل : فلانّهم يمنعون كون التكلّم الّذي لا بدّ له ممّا به التكلّم صفة كمالية قديمة حتّى يحتاج إلى اثبات شيء أزلي يطلق عليه الكلام ، لأنّ مثل هذا التكلّم - أعني : التكلّم بالفعل - صفة اعتبارية لا صفة كمالية ، لانّها حادثة والحادث لا يصحّ أن يكون صفة كمالية له - تعالى - ، بل التكلّم الكمالي عندهم قدرة القاء الكلام على تقدير وجود المخاطب وإرادة القائه. ولا يخفى أنّه لا يستلزم وجود هذا المعنى في الأزل ثبوت شيء هو ما به التكلّم في الأزل ، لأنّه راجع إلى القدرة ؛

وامّا الثاني - أعني : العبارات الواقعة في الشريعة - فلأنّ المراد : أنّ القرآن المجيد

ص: 486


1- كريمة 22 ، البروج.
2- كريمة 4 ، يوسف.

صورته في اللوح المحفوظ وذلك لا يقتضي اطلاق اسم القرآن المجيد على الصورة المثبتة في اللوح / 223 DA / المحفوظ ، بل على ذي الصورة. ويمكن أن يقال : اطلق اسم القرآن المجيد على ما في اللوح المحفوظ - أعني : علمه القديم - على سبيل التجوّز ، فانّ اطلاق اسماء الأشياء على تلك الأشياء إذا كانت موجودة في الاذهان شايع وإن لم يكن على سبيل الحقيقة. وقس على هذه الآية أمثالها ؛ انتهى ما ذكره بعض المشاهير بالتوضيح وذكر مقدّماته المطلوبة.

وحاصله ليس إلاّ ارجاع الكلام النفسي إلى العلم الإجمالي بالكلام اللفظي وتأويل التحقيقات الأربعة إليه. وأنت قد عرفت مرارا أنّ هذا تعسّف فاسد وتكلّف بارد! ، فانّ مراد الأشاعرة من الكلام النفسي ليس العلم الإجمالي ؛ كيف ولو كان مرادهم ذلك لارتفع النزاع بينهم وبين المعتزلة مع أنّ التنازع بينهم ممّا لا يمكن / 220 MB / انكاره؟!.

ثمّ إنّه لا ريب في أنّ الواجب - سبحانه - عالم في الأزل بجميع الألفاظ والحروف والكلمات والعبارات الّتي توجد منه - سبحانه - ومن غيره لا بالعلم الإجمالي - لبطلانه عندنا ، كما عرفت - ، بل بالعلم التفصيلي الاشراقي - على ما مرّ مفصّلا -. إلاّ أنّ هذا العلم ليس صفة تكلّمه - تعالى - ، بل صفة تكلّمه الّتي هي من الصفات الازلية الكمالية هي قدرته على الالقاء عند إرادته صفة تكلّمه الّتي هي من صفاته الاضافية هي نفس الإلقاء الفعلي وكلامه هو الكلمات والألفاظ الصادرة عنه - سبحانه - بهاتين الصفتين. وبين تلك الكلمات والألفاظ ترتّب وتدريج ، بل هي قائمة بالهواء أو جسم آخر إن كان صدورها عنه في عالم الشهادة ، ويمكن عدم الترتّب والقيام بجسم إن كان صدورها عنه في عالم التجرّد أو المثال ؛ فتأمّل!.

ص: 487

الفصل السابع : في صدقه - سبحانه -

ص: 488

ص: 489

( الفصل السابع )

( في صدقه - سبحانه - )

قد اتفق أهل الأديان على أنّ الكذب في كلامه - تعالى - محال ؛ وقد استدلّ المعتزلة على ذلك بوجهين والأشاعرة بوجوه.

امّا الوجهان اللّذان استدلّ بهما المعتزلة :

فاوّلهما هو : أنّ الكذب في الكلام قبيح ، نظرا إلى أنّ الكلام الّذي يتّصف بالصدق والكذب عند المعتزلة من قبيل الأفعال دون الصفات ، لأنّ الكلام عندهم إمّا بمعنى

التكلّم الحقيقي - أعني : كون المتكلّم على وجه يمكن منه القاء الكلام اللفظي إلى من يريد تفهيمه - ، أو بمعنى ما به التكلّم - أعني : الألفاظ المنتظمة الدالّة على المعاني المقصودة - ، أو بمعنى الكلام المصدري وهو التكلّم بالفعل ، وهو خلق الألفاظ الدالّة على المعاني المقصودة. ومعلوم أنّ التكلّم الحقيقي الّذي هو من الصفات لا يتّصف بالصدق والكذب ، فالمتصف بالكذب أوّلا وبالذات هو الكلام اللفظي - أعني : الألفاظ الدالّة على المعاني المقصودة - وثانيا وبالتبع هو التكلّم بالفعل - الّذي هو خلق الألفاظ - ، فانّ اتصافه بالكذب بتبعية اتصاف الكلام اللفظي به. ولا ريب في أنّ الكذب في تكلّمه - تعالى - الفعلي - وإن كان بالتبع - قبيح. ومع قطع النظر عن اتصاف التكلّم الفعلي بالكذب نقول : لا ريب في أنّ اتصاف الكلام اللفظي به وخلق الألفاظ

ص: 490

الدالّة على المعاني الكاذبة قبيح ، واللّه - سبحانه - لا يفعل القبيح اصلا ، اي : لا يجوز أن يفعله وإن كان مشتملا على حسن ، كالكذب النافع. فاندفع ما قيل من : أنّ الكذب قد يكون حسنا لكونه نافعا ، وذلك بأنّ الكذب النافع لا يخرج عن كونه قبيحا وإن كان له حسن بوجه ما.

قيل : يتراءى منه المنافاة لما قيل في دفع الشبهة الثنوية من : « أنّه يجوز أن يفعل الواجب - سبحانه - ما كان خيريته غالبة على شرّيته ، وليس ذلك قبيحا » ؛

وأجيب عنه : بانّه لا شيء من الكذب بحيث يكون حسنه غالبا على قبحه.

وهو كما ترى!.

وتقرير الاشكال في المقام : إنّه ما وجه عدم صدور الكذب المشتمل على الحسن - كنفع الغير - عنه مع أنّ الكلام له معان ثلاثة :

أحدها : ما به التكلّم ، وهو الألفاظ الدالّة على المعاني ؛

وثانيها : خلق الألفاظ الدالّة على المعاني

وثالثها : التكلّم الحقيقي - أعني : كون الذات بحيث يقتضي القاء الكلام إلى من يريده - ، / 223 DB / والمتّصف بالصدق والكذب انّما هو الكلام بالمعنى الأوّل والثاني دون الكلام بالمعنى الثالث. ولا ريب في أنّ الكلام بالمعنيين الأوليين من قبيل أفعاله - سبحانه - دون صفاته ، وما هو من صفاته انّما هو الكلام بالمعنى الثالث.

ثمّ الممتنع كون صفاته - تعالى - مشتملة على القبح دون افعاله ، إذ لم يثبت عدم جواز اشتمال بعض أفعاله وبعض ما يترتّب على ايجاده على قبح ما ، بل هو واقع! - كما في الشيطان والسموم المهلكة والاشخاص الشريرة وغيرها - ؛ فانّه لا نزاع في أنّ الشرور والقبائح واقعة في عالم الوجود ، غاية ما في الباب انّهما مستندان إلى الأشياء الصادرة عنه - تعالى - بالذات وإليه - سبحانه - بالعرض - على ما تقرّر في موضعه - ، فيجوز أن يصدر عنه - سبحانه - الكذب المشتمل على حسن ما ويكون مستندا إلى الألفاظ الدالّة على المعاني الّتي هي صادرة عنه - تعالى - بالذات وإلى الايجاد الّذي هو فعله - سبحانه - بالعرض.

ص: 491

وأجاب بعض الأفاضل عن هذا الاشكال : بانّه لو صدر هذا القسم من الكلام - أعني : الكذب المشتمل على النفع - عنه - تعالى - فلا يخلو من أنّه - تعالى - إمّا أن لا يقدر ايصال هذا النفع المترتّب عليه بوجه آخر إلى الغير من حيث هو فاعل ، فيلزم عجزه المنافي لقدرته الكاملة ؛ أو لا يعلم وجها آخر حتّى يتمكّن به من ايصال / 222 MA / النفع إلى الغير ، وهذا أيضا ظاهر البطلان. ولا يمكن وصول هذا النفع إلى الغير بدون هذا الكذب بالنظر إلى هذا القابل واستحقاقه ، لا بالنظر إلى الفاعل ، لأنّ استحقاق القابل أيضا ممّا له مدخل في جلب المنفعة له ، وهذا أيضا باطل ، أمّا أوّلا فلأنّ القبح لا يورث النفع اللائق للمكلّف - وهو الارتقاء من حضيض الطبيعة إلى ذروة الكمال اللائق للنشأة الأخرى - ، فان القبيح كالسمّ المنافي لصحّة النشأة الباقية. فكيف يصير سببا لحصولها ومبنى الشريعة الترغيب والتحريص على تحصيلها؟! ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ صدور الكلام الكاذب عنه - تعالى - المشتمل على الحسن - أعني : النفع للغير - يوجب صدور الشرّ الكثير المشتمل على الخير بوجه بالذات من الخير المحض المبرّى عن كلّ نقص وآفة ؛ وهذا باطل ، لاستلزامه جهة النقيصة في ذاته - تعالى -.

وغير خفيّ بانّه يمكن المناقشة في مواضع من هذا الجواب.

وقريب من الشقّ الأوّل من هذا الجواب ما ذكره بعض الفضلاء من أنّ من كان قادرا وحكيما على الاطلاق بحيث يكون جميع الموجودات تحت قدرته يحكم العقل بديهة بأنّ ايجاد الكلام الكاذب منه قبيح وإن كان ذلك الكلام الكاذب مشتملا على حسن ؛ نعم! ، الكلام الكاذب الّذي يكون مشتملا على حسن لا يكون قبيحا في بعض الأوقات بالنسبة إلى من لم تكن قدرته مشوبة بالعجز أصلا ولا يكون قادرا عالما حكيما على الاطلاق ، فالعقل يحكم بأنّ الكذب في كلامه قبيح وإن كان مشتملا على حسن.

والأصوب في الجواب عن الاشكال المذكور أن يقال : الفرق متحقّق بين ايجاد الألفاظ الدالّة على المعاني الكاذبة وبين ايجاد الشيطان ومثله من الموجودات المشتملة على الشرور والقبائح ، فانّ المحرق مثلا يكون محمولا على النار حقيقة وعلى فاعل النار

ص: 492

بالمجاز وبالعرض ، وكذا الشرير يحمل على الشيطان حقيقة وبالذات وعلى فاعله وموجده بالعرض وبالمجاز ؛ وأمّا الكلام الكاذب فكما يحمل عليه الكاذب بالذات وبالحقيقة فكذلك يحمل على ملقي الكلام وموجده أيضا من دون تفاوت ، لأنّ حمل الكاذب والصادق على المتكلّم حقيقي وذاتي وليس مجازيا عرضيا ، لأنّ الصادق معناه بالفارسية : « راست گو در قول خود » ، والكاذب معناه بالفارسية : « دروغ گو در قول خود » ، فلو جاز ايجاده - تعالى - كلاما كاذبا يلزم جواز حمل الكاذب عليه - تعالى - حقيقة وبالذات ، فيلزم النقص في صفته - تعالى - ؛ وهو محال ، لأنّ ما يحمل عليه - تعالى - حقيقة وبالذات يجب أن يكون كمالا على الاطلاق بحيث لا يكون فيه نقص بوجه من الوجوه. وبالجملة العقل السليم حاكم بأنّ الكذب والتلبيس واظهار ما هو خلاف الواقع ونفس / 224 DA / الأمر نقص وقبيح يجب تقديسه - تعالى - عنه.

ولا ريب في أنّ هذا الدليل بناء على المذهب الحقّ من ثبوت حكم العقل بحسن الأفعال وقبحها تامّ صحيح لا خدشة عليه.

وثانيهما : أنّ الكذب ينافي مصلحة العالم ، لأنّه إذا جاز وقوع الكذب في كلام اللّه - تعالى - ارتفع الوثوق عن اخباره بالثواب والعقاب وسائر ما اخبر به من احوال الآخرة والأولى ، وفي ذلك فوات مصالح لا يحصى ، والأصلح واجب عليه - تعالى - عندهم ، فلا يجوز اخلاله به.

قال بعض الأفاضل : كذبه - سبحانه - أو جواز كذبه مع اطّلاع العباد عيه ينافي مصلحة العالم ويرتفع الثقة معه ، أمّا لو وقع الكذب في الواقع أو جاز ولم يقع ولكن يحفظ الحال - تعالى - بحيث لا يطّلع عليه أحد لا يلزم خلاف المصلحة وارتفاع الثقة ولا ينافي وجوب الأصلح عليه - تعالى - ؛

وغير خفيّ بانّه لو جاز الكذب عليه - تعالى - يعرف العقلاء ذلك كلّيا وإن لم يطّلعوا عليه بخصوص القضايا الخارجية ؛ وبه يحصل ارتفاع الثقة ومنافاة مصلحة العالم. وأمّا الوجوه الّتي استدلّ الأشاعرة بها على استحالة الكذب عليه - تعالى - :

فمنها : إنّ الكذب نقص ، والنقص على اللّه - تعالى - محال اجماعا ؛

ص: 493

وأيضا : لو صدر عنه الكذب لزم أن نكون نحن أكمل منه - تعالى - في بعض الأوقات - أعني : وقت صدقنا وكذبه سبحانه -.

ثمّ استحالة النقص على الواجب - سبحانه - يدلّ عليه العقل أيضا ، وليس طريق اثباته مجرّد الاجماع ، وبذلك يندفع ما قيل : إنّ اثبات حجّية الاجماع موقوف على صدق الرسول الموقوف على صدقه - تعالى - ، فاثبات صدقه - تعالى - بالاجماع دور ؛ / 222 MB / هذا.

وقيل : وهذا الوجه من وجوه الأشاعرة - أعني : لزوم النقص على تقدير الكذب في كلامه ، تعالى - انّما يدلّ على صدق الكلام النفسي الّذي هو صفة قائمة بذاته - تعالى - ، إذ لو وقع الكذب فيه لزم نقصان صفته - تعالى - مع كمال صفتنا ، ولا يدلّ على صدقه - تعالى - في الكلام اللفظي الّذي يخلقه في جسم دالاّ على معنى مقصود منه ، لأنّه على تقدير وقوع الكذب في الكلام اللفظي الّذي يخلقه انّما يلزم النقص في فعله - تعالى - والنقص في فعله ليس لنقص في صفاته الكمالية الّذي يقول الأشعري باستحالته على اللّه - سبحانه - ، بل هو القبح العقلي بعينه ، إذ لا فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي فيه إلاّ بمجرد العبارة ؛ فرجع هذا الوجه للأشاعرة إلى الوجه الأوّل للمعتزلة. مع أنّ الأشاعرة لا يقولون بالقبح العقلي ، فلا يمكنهم التمسّك بلزوم النقص في افعاله - تعالى - في دفع الكذب عن كلامه اللفظي مع أنّ الأهمّ بيان صدقه - تعالى - في الكلام اللفظي ، إذ أمر التكليف للعباد انّما يفهم منه لا من النفسي.

وادّعى بعض الأعلام استلزام كذب الكلام اللفظي لكذب النفسي حيث قال : مرجع الصدق والكذب انّما هو المعنى دون اللفظ ، ولمّا كان الكلام النفسي عندهم عين مدلول الكلام اللفظي ومعناه كان كذب الكلام اللفظي راجعا إلى كذب الكلام النفسي ولزم النقص في صفته - تعالى -.

واعترض عليه : بأنّ القاء الكلام اللفظي إلى آخر وايجاده على ثلاثة أقسام :

أحدها : ايجاده بدون قصد القاء المعنى المقصود منه ؛

وثانيها : ايجاده مع الاعتقاد بمدلوله ؛

ص: 494

وثالثها : ايجاده بدون الاعتقاد بمدلوله.

ولا يلزم من كذب الكلام اللفظى الكذب في الكلام النفسي الّذي هو الصفة القائمة بالذات إلاّ في الصورة الثالثة لا في الصورتين الأوليين ، لأنّه إذا اعتقد المتكلّم مدلول كلامه اللفظي الّذي القاه إلى المخاطب وكان اللفظي الدالّ كاذبا لزم كون المتكلّم معتقدا لخلاف الواقع ، وأمّا إذا لم يقصد المتكلّم القاء المعنى أو قصد ولم يعتقد مدلوله فلا يلزم من كذبه اعتقاد المتكلّم لخلاف الواقع ، فلا يلزم النقص في الصفة بمجرّد خلق الحروف والكلمات الدالّة على المعاني الكاذبة في الأجسام.

وأنت خبير بأنّ الصورة الأولى لا يتصوّر بالنسبة إلى جنابه - سبحانه - ، لأنّه - تعالى - عالم بجميع الأشياء بحيث لا يعزب عن علمه شيء أصلا.

قيل : والصورة الثانية أيضا مندفعة بأنّ كلّ كلام لفظي فله مدلول ، فان كان مدلوله / 224 DB / مطابقا للواقع كان صادقا - سواء كان المتكلّم اعتقد بمدلوله أم لا ، وسواء كان اعتقد بنقيضه أم لا - ؛ وبالجملة لا دخل لاعتقاد المتكلّم في صدقه وكذبه ؛ وإن لم يكن مدلوله مطابقا للواقع كان كاذبا - سواء كان المتكلّم اعتقد بمدلوله أم لا ، وسواء كان اعتقد بنقيضه أم لا -. ولمّا كان الكلام النفسي عندهم مدلول الكلام اللفظي فذلك المدلول إن كان مطابقا للواقع كان الدالّ عليه صادقا ، وإن لم يكن مطابقا للواقع كان الدالّ عليه كاذبا ، فلا يتصوّر أن ينفكّ صدق / 223 MA / أحدهما عن صدق الآخر وكذب أحدهما عن كذب الآخر ، لأنّ صدق الكلام اللفظي وكذبه تابع لصدق الكلام النفسي وكذبه ؛ انتهى.

وفيه : إنّ كلاّ من صدق الكلام اللفظي وكذبه وإن كان منوطا بمطابقته للواقع وعدمه ولم تكن لاعتقاد المتكلّم وعدمه مدخلية في ذلك - على ما هو الحقّ - إلاّ أنّ المتكلّم إذا لم يعتقد مدلول هذا الكلام اللفظي وكان غير مطابق للواقع لم يكن المتكلّم معتقدا لما هو خلاف الواقع ، فلا يلزم نقص في صفته وإن كان هذا الكلام كاذبا ؛ بخلاف ما لو اعتقد مدلوله وكان كاذبا ، فانّه يلزم حينئذ اعتقاده بخلاف الواقع ، فيلزم النقص في صفته. فالواجب - سبحانه - إذا صدر منه كلام لفظي كاذب علم خلافه ولم يتعلّق

ص: 495

علمه بمدلوله لم يلزم من كذبه نقص في صفته - سبحانه -. ولذا اعرض بعضهم عن هذا الوجه - لاندفاع الصورة الثانية - وقال لبيان عدم تصوّرها بالنسبة إليه - تعالى - بأنّ ايجاد الكلام اللفظي مع قصد الالقاء بدون الاعتقاد بمدلوله - كما في صورة الامتحان - ، ولا يعدّ ذلك سفها. وقد ثبت ممّا ذكر أنّ الصورة الأولى لا تتصوّر بالنسبة إلى جنابه - تعالى - ، والصورة الثانية يتصوّر بالقياس إليه - تعالى - ولا يلزم فيها من كذب الكلام اللفظي كذب الكلام النفسى ، فلزوم كذب النفسي من كذب اللفظي منحصر بالصورة الثالثة ؛ إلاّ أنّه مع ذلك نقول : لا يلزم نقص في صفة كمالية ، لأنّ مدلول الكلام اللفظي المطابقى ليس صفة لذاته - تعالى - ، كالكلام اللفظي ولا أمرا واحدا ، بل انّما يكون الصفة القائمة بذاته هو التكلّم الحقيقي الّذي هو القدرة على الالقاء أو العلم بالكلام وبمدلوله. ولا يخفى أنّه لا يلزم من كذب الكلام اللفظي وكذب مدلوله اللّذين هما من الأفعال النقص في قدرته على الالقاء وعلمه بالكلام اللّذين هما من الصفات ، اذ لا يلزم من القدرة على ايجاد الخبر الكاذب الملقى أو العلم التصوّري بمضمونه نقص في الادراك.

وأنت بعد ما عرفت من أنّ الكلام النفسي الّذي هو مدلول الكلام اللفظى ليس له معنى محصّل وما هو الثابت الواجب في الواقع ونفس الامر ليس إلاّ التكلّم الحقيقي الواقع إلى قدرة خاصّة أو العلم بالكلام ولا يلزم من كذب الكلام اللفظي كذب فيهما تعلم أنّه لا يلزم من كذب الكلام اللفظي إلاّ نقص في فعله - سبحانه - ، ولا يلزم منه نقص في صفة من صفاته الكمالية. إلاّ أنّ العقل السليم حاكم بأنّ مجرّد القاء الكلام الكاذب وإن كان صفة اعتبارية نقص وهو - سبحانه - منزّه عنه.

وعلى هذا فالفرق بين هذا الدليل والوجه الأوّل للمعتزلة : إنّ بناء الوجه الأوّل على لزوم القبح العقلى وبناء هذا الدليل على لزوم النقص في الصفة الاعتبارية ، فيمكن للأشعري الاستدلال بهذا الدليل وإن لم يمكنه الاستدلال بالقبح العقلى.

وأنت بعد التأمّل تعلم انّهما راجعان إلى أمر واحد ، والتفريق بينهما مشكل ، لأنّه مع قطع النظر عن الحسن والقبح العقليين لا نعلم أنّ الكذب قبيح حتّى يكون القائه نقصا.

ص: 496

فان قيل : النقص في الصفة الاعتبارية ممّا لا فساد فيه ، ألا ترى أنّ ايجاد الأعمى والأصمّ والأشلّ وغيرهم من المخلوقات الناقصة ايجاد ناقص متحقّق؟!.

قلنا : التحقيق إنّ النقص لا يدخل في صفة من صفاته - سبحانه - أصلا - سواء كانت حقيقية أو اعتبارية - ، ولا في فعل من افعاله مطلقا ؛ قال المعلّم الثاني : « الأوّل - تعالى - تامّ القدرة والحكمة والعلم كامل في جميع أفعاله لا يدخل في أفعاله خلل البتة ولا يلحقه عجز ولا قصور. والافات والعاهات الطبيعية انّما هي تابعة لضرورات اختلاف المهيات والاستعدادات بحسب الكمال والنقصان ولعجز المادّة من / 225 DA / قبول النظام التامّ » ؛ انتهى.

فليس في الايجاد نقص وقصور أصلا ، بل النقص والقصور انّما هو من جهة القابل ولا قصور من جانب الفاعل أصلا ، ولا بخل في جوده مطلقا.

وقال صاحب التحصيل ما حاصله : إنّ هذا القصور قد لا يكون لعلّة ، إذ من البيّن أنّه ليس للماهيات الممكنة في ذواتها ولا في كونها ممكنة سبب ولا في حاجتها إلى علّة لوجودها سبب ولا يكون المتضادّين متمانعين في الوجود ولا يكون كلّ كائن فاسد علّة ولا لقصور الممكن عن الوجود الواجبي ونقصانه عن رتبته علّة ولا لكون النار محرقة وكون المحترق في قبوله الاحراق علّة ، إذ كلّ ذلك من مقوّمات المهيات وطبائع الامور أو من لوازمها. ولهذا نظائر ، مثل كون إحدى غايات بعض الموجودات مضرّة ببعض الموجودات ومفسدة له ، كما أنّ غاية القوّة الغضبية مضرّة بالعقل وإن كانت خيرا بحسب القوّة الغضبية. فهذه نقصانات ليس لأجل علل معدّة مرتبة ، فانّ نقصان الأرض عن رتبة ، الواجب لذاته اكثر من نقصان الشمس عن رتبته وليس هذه لعلّة معدّة ، بل لاختلاف المهيات في ذواتها. فلو كان النقصان في جميع المهيات منشأ لها لكانت المهيات واحدة ، وكما أنّ ماهية الانواع متفاوتة في ذلك كذلك مهيات الاشخاص التي تحت الانواع.

ثمّ النقصان قد تكون من / 223 MB / المعدّات الموجبة لنقصان الاستعدادات العارضة للموادّ ، لكن يجب انتهائها إلى حركة واحدة دورية أزلية أبدية يكون التغيّر والتبدل ذاتيا لها لئلاّ يلزم الدور أو التسلسل ، وهي ملزومة أن تكون للموادّ استعدادات

ص: 497

متعاقبة يكون كلّ واحد منها علّة ذاتية لما هو معها من المعدّات وعلّة عرضية لما يوجد بعدها فلا يلزم من حدوث الحوادث علل غير متناهية ؛ انتهى.

وعلى هذا فكلّ ما يصدر عنه - تعالى - يصدر على وجه لا يتصوّر أكمل ممّا هو واقع ، وإلاّ لكان صدور ما هو أنقص منه - تعالى - ملزوما لترجيح المرجوح على الراجح. فالواجب - سبحانه - أظهر بنور فيضه وجود كلّ ما هو قابل لفيضانه ، فالكلّ من اللّه بحسب الوجود كما يشير إليه قوله - تعالى - : ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) .

وامّا النقائص الواقعة في عالم الوجود فليست إلاّ من قصور ذاتيّ غير معلّل ومن قصور غير ذاتي معلّل - كما مرّ مفصّلا في كلام بهمنيار -. وقد اشير إلى ذلك في قوله - سبحانه - : ( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) (1). والسّر في ذلك - على ما مرّ - أنّ الخير هو الوجود والشرّ هو العدم ، والوجود لا يكون إلاّ فائضا من جنابه - تعالى - والعدم انّما هو مقتضى الفطرة الامكانية ، فكلّ خير وكمال انّما هو من اللّه وكلّ شرّ ونقص فهو من طبيعة الممكن لا منه - سبحانه -.

وإذا عرفت ذلك نقول : لا ريب في أنّه إذا صدر الكلام الكاذب منه - سبحانه - يكون هذا الكذب نقصا مستندا إليه - تعالى - لا إلى الماهية القابلة ، فيجب تنزيهه - سبحانه - عنه.

ومنها : أنّه - سبحانه - لو اتصف بالكذب لكان كذبه قديما - إذ لا يقوم الحادث بذاته تعالى ، فيلزم أن يمتنع عليه الصدق المقابل لذلك الكذب وإلاّ لجاز زوال ذلك الكذب ، وهو محال - فانّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه - ؛ واللازم - وهو امتناع الصدق عليه تعالى - باطل ، فانا نعلم بالضرورة إنّ من علم شيئا امكنه أن يخبر عنه على ما هو عليه.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه انّما يدلّ على كون الكلام النفسي صادقا دون اللفظي ، مع أنّ الأهمّ بيان صدق اللفظي دون النفسي.

وربما أجيب عن ذلك بما قيل في الوجه الأوّل من أنّ مرجع الصدق والكذب انّما

ص: 498


1- كريمة 79 ، النساء.

هو المعنى دون اللفظ ، فكذب الكلام اللفظي راجع إلى كذب الكلام النفسي - كما ذكر في الوجه الأوّل - ، وكذب الكلام النفسى قديم فكذب اللفظي أيضا قديم ، وحينئذ يلزم ما ذكر من المحذور في الكلام اللفظي أيضا ، فثبت منه عدم وقوع الكذب فيه.

وردّ بعضهم هذا الجواب : بأنّ الأشاعرة لمّا جوّزوا حدوث الكلام اللفظي مع قدم الكلام النفسي فان جوّزوا حدوث صفة اللفظي - أعني : حدوث كذبه - كان أولى وبقبول العقل أحرى ، وإذا كان كذبا حادثا عندهم فلا يجري هذا الدليل فيه. / 225 DB /

وقال بعض المشاهير : إنّ هذا الوجه كالوجه الأوّل في اجراء الجواب المذكور ، وتفصيل اجرائه في هذا الوجه أن يقال : إذا كان مرجع الصدق والكذب هو المعنى دون اللفظ وكان الكلام النفسي عبارة عن مدلول الكلام اللفظي فلا يتصوّر كذب الكلام اللفظى بدون كذب الكلام النفسي ، فكذب الكلام اللفظي انّما يكون بكذب الكلام النفسي ؛ فلو كذب الكلام اللفظي كذب الكلام النفسي ؛ وكذبه انّما يكون قديما بما ذكر.

أقول : إن كان مراده إنّ القدم في الكذب منحصر في الكلام النفسى - لأنّه إذا كان الكلام اللفظي حادثا ومدلوله قديما يجوز أن يكون كذب أحدهما قديما وكذب الآخر حادثا ، فالملازمة وعدم الانفكاك انّما يكون بين أصل كذب الكلام اللفظي وكذب الكلام النفسى لا بين وصف الكذبين أيضا ، أعني : القدم والحدوث لجواز أن يكون كذب أحدهما قديما وكذب الآخر حادثا - ، ففيه : انّ كذب الكلام اللفظي لو كان حادثا يجري هذا الوجه في ابطال كذبه ووجوب صدقه ؛

وإن كان مراده انّ كذب اللفظي ككذب النفسي قديم ، ففيه : إنّه لا يتصوّر كون أصل الكلام اللفظي حادثا وكون صفته - أعني : كذبه - قديما ، وهو ظاهر بديهي. فظهر أنّ جريان الجواب المذكور في هذا الوجه باطل ، ومنه يظهر عدم دلالة هذا الوجه على بطلان كذب الكلام اللفظي.

فان قيل : على ما ذكرت يكون كذب الكلام اللفظي حادثا وتجويز حدوثه لا يمكن أن يتحقّق بدون كذب الكلام النفسي - بناء على الجواب المذكور - ، فيلزم منه تجويز كذب الكلام النفسي وهو باطل بالدليل المذكور - أعني : الوجه الثاني للأشاعرة - ،

ص: 499

/ 224 MA / فيجب أن يدفع الجواب المذكور بما نقلناه عن بعض المشاهير في الوجه الأوّل من أنّ القاء الكلام اللفظي إلى آخر وايجاده على ثلاثة اقسام ، ولا يلزم من كذب الكلام اللفظي الكذب في الكلام النفسي إلاّ في القسم الثالث دون القسمين الأوّلين ؛

قلت : تجويز حدوث كذب الكلام اللفظي انّما هو بعد تسليم وقوع الكذب فيه ، ونحن بيّنا عدم جواز كذب كلام اللّه اللفظي بلزوم القبح العقلي والنقص في فعله لولاه ، وهما باطلان عندنا ؛

وأيضا قد عرفت أنّ الكلام النفسي ليس له معنى معقول ولا يرجع إلى معنى محصّل ، اللّهم إلاّ أن يرجع إلى التكلّم الحقيقي أو العلم وإن لم يكن مطابقا لقول الأشعري ولا معنى لوقوع الكذب فيهما ، فاذا لم يدلّ هذا الوجه على بطلان كذب اللفظي أيضا يثبت سقوطه بالكلّية.

ثمّ ما ذكره بعض المشاهير في رفع الجواب المذكور قد عرفت حاله.

هذا ؛ مع أنّه يرد على ما ذكر في الوجه المذكور - من أنّه مع قدم الكذب يمتنع الصدق وإلاّ جاز زوال الكذب - : بانّا لا نسلّم أنّه بالصدق يزول الكذب. وتفصيل ذلك : أنّه إن أريد بزوال الكذب : زوال مدلول اللفظ الكاذب بعد حصول معنى صادق أو زوال اللفظ الكاذب بعد حصول لفظ صادق فهو ممنوع ، لأنّه لا تنافي بين قيام المعنى الصادق والكاذب كليهما بذات واحدة - كما في أنفسنا حين اخبارنا بما علمنا إنّه مخالف للواقع - ، انّما المحال اعتقادهما معا ، فيجوز أن يصدر خبر واحد عن شخص واحد مرّتين في إحداهما كان مدلوله صادقا وفي الأخرى كان مدلوله كاذبا وكلاهما كانا قائمين بهذا الشخص الواحد ؛ وكذا حال اللفظ الصادق والكاذب ، فانّه باللفظ الصادق لا يزول اللفظ الكاذب. والحاصل : إنّ الكلام النفسي ليس أمرا واحدا قائما بذاته - تعالى - عندهم حتّى يمتنع أن يكون صادقا وكاذبا ، بل المشهور عندهم أنّ الكلام النفسي عبارة عن مدلول الكلام اللفظي ومدلول الكلام اللفظي يتعدّد بتعدّد الكلام اللفظي ، وإذا كان الكلام اللفظي أمورا متعدّدة فيجوز أن يكون بعضها صادقا وبعضها كاذبا ، فما هو صادق يكون صادقا ابدا وما هو كاذب يكون كاذبا ابدا ؛

ص: 500

وإن أريد : أنّه يزول الاعتقاد بالكاذب فانّه يدلّ على امتناع اعتقاده - تعالى - وتصديقه بالكاذب ، ولا ريب في أنّ عدم الاعتقاد بالكاذب قد كان حاصلا قبل حصول الصادق أيضا ولم يكن قبله اعتقاد به / 226 DA / حتّى يزول بالصادق ، ولا شبهة في أنّ امتناع الاعتقاد بالكاذب لا يستلزم امتناع الكاذب بدون الاعتقاد - بل مع علمه بانّه خلاف الواقع - ، فعلى هذا الشقّ يلزم قدم كذب مدلول اللفظ ، لأنّه إذا كان المدلول قديما وجاز كذبه ولم يلزم من حصول الصدق زواله يكون الكذب قديما البتة. ولا يلزم منه زوال قديم أصلا ، بل يلزم أن يقوم به - تعالى - الصادق والكاذب - أي : مدلول اللفظين أو اللفظان - مع اعتقاده باحدهما وعدم اعتقاده بالآخر ازلا وابدا. فلا يدلّ هذا الدليل على امتناع كذب مدلول اللفظ ولا اللفظ بالنسبة إليه - تعالى - نظرا إلى عدم اعتقاده بالكذب ، بل امتناع اعتقاده. وكذا الدليل الّذي قبله ، فانّ اعتقاد الكذب نقص لا قيام مدلول كاذب به - تعالى - بطريق التصوّر أو غيره. نعم! ، يتمّ الدليل الّذي قبله بما ذكرناه من أنّ صدور الألفاظ الكاذبة منه - تعالى - قبيح ؛ هذا.

وقيل : لو تمّ هذا الدليل لدلّ على امتناع صدقه - تعالى - أيضا بأن يقال : إنّه - تعالى - لو اتصف بالصدق لكان صدقه قديما ، فيمتنع عليه الكذب المقابل لذلك الصدق ، لكنّا نعلم ضرورة أنّ من علم شيئا امكن أن يخبر عنه لا على ما هو عليه ، فيلزم أن لا يتّصف بالصدق أصلا ؛ انتهى.

وفيه : انّا لا نسلّم أنّ الواجب - تعالى - لو علم شيئا امكن أن يخبر عنه لا على ما هو عليه ، فهل الكلام إلاّ فيه؟!. فيجوز أن يكون الاخبار لا على ما هو عليه محالا بالقياس إليه - تعالى - لاستلزامه النقص.

فان قيل : الاستدلال بامتناع الاخبار لا على ما هو عليه بايجابه النقص رجوع إلى الوجه الأوّل ؛

قلنا : هذا الاستدلال هنا جعل سندا للمنع وفي الوجه الأوّل كان عين الدليل.

ومنها : اجماع الأنبياء - علیهم السلام - والعلماء على صدقه - سبحانه - وعدم وقوع الكذب في كلامه ، وقد ثبت صدقهم بدلالة المعجزات من غير توقّف على ثبوت

ص: 501

كلام اللّه - سبحانه - فضلا عن صدقه. وقد صرّح اتباع / 224 MB / الأشعري بأنّ هذا الدليل هو المعتمد ، لبراءته عن المناقشات ودلالته على الصدق في الكلام النفسي واللفظي معا.

وغير خفيّ بانّه بعد بطلان الكلام النفسي وعدم وقوعه في كلام الأنبياء والحكماء وأساطين العلم لا معنى لتناول اجماعهم لصدقه ، وامّا اجماعهم على صدق كلامه الّذي يجري فيه الصدق والكذب - أعني : كلامه اللفظي - فلا ريب في تحقّقه.

إلاّ أنّه أورد عليه : بأنّ ما ثبت بدلالة المعجزات - لو سلّم دلالتها على تقدير شرعية الحسن والقبح العقليين دون عقليته ، على ما هو رأي الأشعري - انّما هو صدقهم بمعنى انّ ما قالوا كلامه - تعالى - ومن جانبه - سبحانه - لا من عند أنفسهم ، وامّا إنّه حقّ مطابق للواقع فيتوقّف العلم به على العلم بأنّ الكذب محال على اللّه - تعالى - ؛ فحينئذ نقول : اثبات صدق كلام اللّه - تعالى - بالاجماع موقوف على حجّية الاجماع وحجّية الاجماع موقوف على العلم بصدق قول النبيّ - صلی اللّه علیه و آله - في الواقع « إنّه لا تجتمع أمّته على الخطاء » ، والعلم بصدق قول النبيّ - صلی اللّه علیه و آله - بمعنى كونه من جانب اللّه وإن لم يتوقّف على شيء سوى المعجزة ، إلاّ أنّ العلم بصدق قوله في الواقع - أي : مطابقته للواقع ، بمعنى أنّ هذا القول الّذي من جانب اللّه مطابق للواقع - يتوقّف على العلم بصدق كلامه - تعالى - ، لأنّ المعجزة انّما تدلّ على أنّ هذا القول من قبل اللّه - تعالى - لا من عند نفس النبيّ - صلی اللّه علیه و آله - ولا يدلّ على أنّه مطابق للواقع ، فلا يظهر بالمعجزة إلاّ أنّه كلام اللّه - تعالى - لا أنّه مطابق للواقع ؛ فلو كان كلام اللّه صادقا كان هذا صادقا في الواقع ، وإلاّ فلا. فظهر انّ حجّية الاجماع يتوقّف على صدقه - تعالى - ، فاثبات الصدق به دور.

وأيضا : إذا جاز كذبه - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا - لا يلزم من تصديقه - تعالى - للنبيّ في نبوّته باظهار المعجزة ثبوته في الواقع ، لأنّه بمنزلة قوله : « هذا صادق في نبوّته » ، وإذا جاز كذبه جاز كذب هذا التصديق ولم يصحّ منه شيء على قاعدتهم ، فلم يثبت نبوّته عادة ، وإذا لم يثبت نبوّته لم يثبت حجّية الإجماع.

ص: 502

والقول بأنّ المعجزة تدلّ عادة على مطابقة كلام النبيّ - صلی اللّه علیه و آله - للواقع ظاهر الفساد ، بل لو سلّم فانّما / 226 DB / تدلّ على أنّ كلامه - تعالى - من جانب اللّه ، وأمّا صدقه في الواقع فلا يتمّ بدون الحسن والقبح العقليين.

على أنّه إذا جوّز العقل امثال تلك الاحتمالات المذكورة لم يثبت نبوّة نبيّ أصلا ، فكيف يثبت نبوّة نبيّ بدلالة المعجزة عادة؟! - إذ ثبوت شيء بالعادة فرع العلم بتكرار الوقوع -. فظهر أنّ اثبات صدقه - تعالى - باجماع الأنبياء والعلماء انّما يصحّ على رأي أهل الحقّ من قولهم بالحسن والقبح العقليين ، لا على رأي الأشاعرة المنكرين له.

ومنه يظهر أنّه وإن صحّ عند الاستدلال على صدقه بالاجماع ولزوم النقص في فعله إلاّ أنّه يتوقّف على التمسّك بالحسن والقبح العقليين والقول بانتفاء القبح عنه - تعالى - ، فالعمدة في اثبات صدقه انتفاء القبح عنه - تعالى - ، كما اشار إليه العلاّمة الطوسي في التجريد بقوله : « وانتفاء القبح يدلّ على صدقه » (1).

ص: 503


1- راجع : المسألة السادسة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 225.

الفصل الثامن : في سرمديته وبقائه

ص: 504

ص: 505

( الفصل الثامن )

( في سرمديّته وبقائه )

اعلم! ، أنّ البقاء والدوام نفس السرمدية ومرادفاتها - أعني : الأزلية والقدم والدوام - إلاّ ، أنّ ما يدلّ على ثبوته للواجب وعينيته لذاته - تعالى - يدلّ على ثبوتها له وعينيتها لذاته ، وبالعكس. ولذا ترى بعض الأقوام يستدلّون على اثبات البقاء واثبات عينيته لذاته - تعالى - بالدلائل الّتي يستدلّ بها الآخرون على اثبات السرمدية ومرادفاتها واثبات عينيتها لذاته - سبحانه - ، فانّ الدلائل الدالّة على عدم زيادة البقاء هي بعينها دالّة على عدم زيادة السرمدية ومرادفاتها وبالعكس. والأكثر اختاروا السرمدية أو أحد مرادفاته في التعرّض ، لأنّ اثبات الأخصّ واثبات عدم زيادته مستلزمان لاثبات الأعمّ - أعني : البقاء وعدم زيادته -.

ثمّ لا يخفى إنّ ثبوت هذا المطلب في غاية الوضوح ؛ والبرهان عليه : إنّ حقيقة واجب الوجود ما يمتنع عليه العدم ، وكلّ ما يمتنع عدمه يكون وجوده باقيا أزلا وأبدا.

ثمّ إنّ الأشاعرة ذهبوا إلى أنّ البقاء صفة زائدة على الذات حتّى يكون الصفات ثمانية ؛

وذهب الحكماء والمحقّقون من الكلاميّين إلى أنّه ليس صفة زائدة ، بل هو عين

ص: 506

الذات كسائر صفاته الكمالية ؛

وذهب الكعبي واتباعه إلى ثبوت البقاء في الممكنات ونفيه عن الواجب - تعالى -.

واحتجّ / 225 MA / الأشاعرة على الزيادة بأنّ الواجب باق بالضرورة ، فلا بدّ أن يقوم به معنى هو البقاء - كما في العالم والقادر ، لأنّ البقاء ليس من السلوب والاضافات - ، وهو ظاهر ، وليس أيضا عبارة عن الوجود ، بل زائد عليه إذ الوجود يتحقّق دونه - كما في آن الحدوث - ؛

وفيه : إنّ كون الواجب باقيا لا يتوقّف على أن يكون البقاء امرا زائدا قائما بذاته - سبحانه - ، بل كونه عين ذاته بأحد المعنيين المذكورين - أعني : كون الواجب فردا من مفهوم البقاء قائما بذاته سبحانه أو كونه نائبا منابه بأن يكون ذاته تعالى مصحّحا لانتزاع مفهوم البقاء عنه من دون احتياج إلى صفة زائدة - يكفي لتصحيح كونه باقيا ، - كما في سائر صفاته الكمالية -.

وتفصيل القول في عينية الصفات قد مرّ بما لا مزيد عليه ، فذات الواجب الّذي هو صرف الوجود عين البقاء بالمعنى المذكور وإن كان مفهوم البقاء زائدا عليه في العقل.

قال بعض المشاهير : كلّ من السرمدية والبقاء أمر انتزاعي ينتزع من ذات الواجب باعتبار ذاته ، فقيامه ليس إلاّ على نحو قيام الأمور الانتزاعية - أي : كون الذات بحيث ينتزع عنه - ، فزيادته على الذات ليست إلاّ في التعقّل ، لا في الخارج. والحاصل : إنّ الأشعري إن أراد أنّ صدق « الباقي » و « السرمدي » على اللّه - تعالى - يستلزم قيام مبدأ بالاشتقاق الحقيقي - أعني : الصفة الكمالية من البقاء والسرمدية ، أعني : منشأ الانتزاع - بالمعنى المصدري منهما فلا نسلّم هذا الاستلزام ؛ وإن أراد أنّ صدقهما عليه - تعالى - يقتضي كونه بحيث يمكن انتزاعهما من ذاته المقدّسة بمعنى انّهما انتزاعيان قائمان به زائدان عليه في التعقّل نسلّم ، ولكن لا يفيد المطلوب - أعني : كون معناهما الحقيقي وهو الصفة الكمالية منهما له تعالى قائما به في الخارج -. وامّا زيادته على الوجود فبالاعتبار لاشتماله على معنى زائد على الوجود - بناء على أنّ معناه الموجودية على نعت / 227 DA / الاستمرار - ؛ فنفي الزيادة إن كان المراد منه نفي الزيادة

ص: 507

على الذات فالمقصود منه نفي الزيادة في الخارج ، وإنّ ذات الواجب باعتبار ذاته سرمدي وباق لا بانضمام أمر إليه في الخارج ؛ وإن كان المراد منه نفي الزيادة على الوجود الانتزاعي كان المقصود منه نفي الزيادة بالذات بمعنى أنّه ليس ذات البقاء زائدا على ذات الوجود وإن كان زائدا عليه بحسب الاعتبار ، فهذان المعنيان الانتزاعيان - أعني : البقاء والسرمدية - لا يكونان زائدين على الوجود الانتزاعي بحسب تحقّقه وبالذات ، بل زيادتهما عليه بمجرّد اعتبار اشتماله على معنى زائد عليه ، لأنّه نفس الموجودية على نعت الاستمرار بناء على أنّ معناه الموجودية على نعت الاستمرار ؛ انتهى مع التوضيح وادنى تغيير.

وما ذكرناه من : أنّ المراد من نفي الزيادة على الذات هو نفي الزيادة في الخارج ، فيه : إنّ مجرّد نفي الزيادة في الخارج ليس معنى لعينيته ، لأنّ كثيرا من الصفات العرضية للأشياء ليست زائدة عليها في الخارج - كالوجود والتقدّم والتأخّر بالنسبة إلى الممكنات - مع أنّها ليست عينها ، بل المراد بالعينية نفي الزيادة الخارجية مع كون الذات بذاته مصحّحا للانتزاع ؛ والظاهر إنّ هذا مسامحة في العبارة ، والمراد واضح.

ثمّ ما ذكر في دليل الأشاعرة من أنّ البقاء غير الوجود - لتحقّق الوجود دونه ، كما في آن الحدوث - نقص بالحدوث ، فانّه غير الوجود لتحقّق الوجود بعد الحدوث. وتوضيح هذا النقض أن يقال : لو تمّ دليلكم على زيادة البقاء على الوجود لدلّ على زيادة الحدوث على الوجود أيضا ، لأنّ الحادث يكون له الحدوث في آن الحدوث وبعد آن الحدوث يكون الوجود دون الحدوث ، فبعد آن الحدوث يتحقّق الوجود بدون الحدوث ، فيكون الحدوث غير الوجود - كالبقاء - والحال أنّ الحدوث عندهم عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم وليس زائدا عليه عندهم.

وقال بعضهم في حل هذا النقض : إنّ البقاء وجود مخصوص - لأنّه وجود مستمرّ - كما أنّ الحدوث أيضا كذلك ، لأنّه وجود بعد العدم عندهم ذا عين الوجود - أعني : الوجود المطلق - ، وعلى هذا فزيادة كلّ منهما على الوجود لوجود صلاحية فيه دون الوجود.

وقال بعض المشاهير في حلّه : إنّ الحدوث صفة للوجود - بناء على أنّه عبارة عن

ص: 508

مسبوقية الوجود بالعدم -. وغرضه من هذا أنّ النقص انّما يتوجّه لو سلّم وفرض أنّ الحدوث عبارة عن الوجود وليس كذلك ، بل هو صفة للوجود بناء على أنّه عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم - كما أنّ البقاء صفة للوجود بناء على أنّه عبارة عن استمراره - ، وعلى هذا فكون الحدوث زائدا على الوجود كالبقاء لكن صفة له - أي : صفة زائدة على الوجود بالحقيقة - لا أنّه نفسه ومغايرته له بمجرّد الاعتبار ، لأنّه هو المسبوقية العارضة للوجود. وذلك كما أنّ زيادة البقاء على الوجود أيضا بحسب الحقيقة والذات بناء على أنّ البقاء هو استمرار عارض للوجود لا الوجود على نعت الاستمرار ؛ والفرق بينهما ظاهر.

والحاصل : إنّ البقاء غير الوجود لكن صفة له وليس المراد إنّه زائد على الوجود بحيث يكون أمرا غير مربوط بالوجود حتّى لا يكون صفة للوجود أيضا ، فيرد النقض بالحدوث بانّه يلزم على الدليل المذكور كونه زائدا على الوجود بالمعنى المذكور - أي : كونه مغايرا اجنبيا للوجود - ، وهو ظاهر البطلان ؛ بل المراد بزيادة البقاء على الوجود كونه مغايرا له بانّه صفة له لا أزيد من ذلك. ولا فساد في جريان هذا في الحدوث أيضا إذ هو أيضا ، صفة للوجود كالبقاء ، فلا يتخلّف الدليل في نفس الأمر في الحدوث ولا نقض على الدليل.

ثمّ الظاهر من كلام السيد الشريف في شرح المواقف إنّ هذا النقض الزامي على الشيخ الأشعري بناء على أنّه قال بعدم زيادة الحدوث على الوجود ؛ وحينئذ لا يفيدان الحلاّن المذكوران ، إلاّ أن يقال : مراد الشيخ الأشعري من عدم الزيادة ليس هو العينية ، بل غرضه منه عدم كون الحدوث / 227 DB / شيئا مغايرا اجنبيّا للوجود ، وحينئذ يفيد الحملان ، لأنّ الحدوث إذا كان وجودا خاصّا أو صفة للوجود لا يكون اجنبيا للوجود ، فاذا كان البقاء أيضا كذلك يكون حكمهما واحدا ، فلا نقض. إلاّ أنّ حمل ما ذهب إليه الشيخ الأشعري من عدم الزيادة على عدم المغايرة والاجنبية دون العينية خلاف الظاهر - كما لا يخفى -.

وربما يدفع النقض المذكور بمنع كون الوجود متحقّقا في الزمان الثاني بدون

ص: 509

الحدوث ، لأنّ الوجود في الزمان الثاني أيضا يصدق عليه أنّه مسبوق بالعدم ، وهو معنى الحدوث.

قد حمل بعضهم الحمل الّذي نقلناه عن بعض المشاهير على ذلك ، وهو تعسّف! ، والصحيح إنّ مقصوده ما قرّرناه.

وهذا الدفع يرد عليه : إنّ الحدوث عند الشيخ الأشعري هو الخروج من العدم إلى الوجود ، وهو غير متحقّق في الوجود في الزمان الثاني ؛ هذا.

وأنت بعد ما عرفت من كون الواجب صرف الوجود وعينية وجوده لذاته وعينية البقاء لذاته بالمعنى المذكور تعلم سقوط الدليل الّذي ذكره الأشاعرة على زيادة البقاء للوجود ، ومنه يظهر حال النقض والحلّ الّذي ذكروه ؛ هذا.

واستدلّ القائلون بالعينية عليها بوجوه :

الأوّل : إنّ المعقول من البقاء استمرار الوجود ، ولا معنى لذلك سوى الوجود من حيث انتسابه إلى الزمان الثاني.

وأورد عليه بعض المشاهير : بأنّ هذا الدليل إن تمّ لم يدلّ إلاّ على عدم الزيادة على الوجود ، لا على الذات - كما هو المطلوب -.

لا يقال : لمّا كان الوجود عينا لذات واجب الوجود - تعالى - ولم تكن السرمدية والبقاء زائدتين على الوجود لم تكونا زائدتين على الذات ؛

لأنّا نقول : البقاء انّما هو استمرار الوجود الانتزاعي الّذي هو مغاير للذات ، فباعتبار الدليل المذكور يكون كلّ من السرمدية والبقاء / 225 MB / عبارة عن الوجود الانتزاعي المستمرّ ، فلم تكونا زائدتين على الوجود الانتزاعي الّذي هو زائد على الذات في التعقّل. نعم! ، لو كان المراد بعدم الزيادة عدم الزيادة في الخارج لتمّ ذلك الدليل ؛ انتهى.

وحاصل ما ذكره في جواب « لا يقال » : إنّه يجوز أن يكون البقاء عين الوجود الانتزاعي الّذي لا يكون عين الذات كالوجود الانتزاعي ؛

وفيه : إنّ مراد المستدلّ عدم زيادتهما بحسب معنييهما الحقيقيّين اللّذين هما من

ص: 510

الصفات الذاتية الحقيقية ، ولا شكّ انّهما بهذا الاعتبار نفس الوجود الحقيقي الّذي هو نفس ذاته. والحاصل : إنّ معنى عينية الصفات ليس أنّ مفهوم الوجود والعلم والقدرة وغيرها عين الذات ، بل المراد انّ ما يعبّر عنه بتلك المفهومات - أعني : ما هو مبدأ هذه المفهومات ومصحّحها ومنشأ انتزاعها - يكون عين الذات ، فالوجود الانتزاعي وإن كان زائدا على الذات لكن ما هو مبدأ الوجود الانتزاعي ومنشأها يكون عين الذات ، فاذا كان البقاء عين الوجود الانتزاعي يكون حاله كحاله في أنّ مفهومه أمر اعتباري منشأه ليس صفة زائدة قائمة بالذات ، بل منشأه مجرّد الذات بمعنى أنّ الذات فرد من هذا المفهوم أو نائب مناب الصفة القائمة بالذات المصحّحة لانتزاع هذا المفهوم ، وعلى هذا فيرجع هذا الدليل إلى ما قيل في المشهور في بيان عينية الصفات.

قال بعض الأفاضل : إنّ حمل « الباقي » و « السرمدي » على الواجب - جلّ شأنه - من قبيل حمل الذاتيات ، لأنّ ذاته - تعالى - بذاته يكون مصداق حمل الباقي والسرمدي ؛ وقد عرفت فيما سبق أنّ القول بأنّ الصفات الكمالية عين له - تعالى - ليس المراد منه أنّ مفهوم عالم وقادر مثلا عين ذاته - تعالى ، لأنّ المفهومات زائدة على ذاته تعالى - ، بل المراد منه انّ المعبّر عنه بهذا المفهوم يكون عين ذاته ، فمفهوم الباقي والسرمدي ومفهوم البقاء والسرمدية أيضا زائدة على ذاته - تعالى - ، لكن المعبّر عنه بهذا المفهوم عين ذاته - تعالى - ، انتهى.

ويمكن أن يقال : قد أشار بعض المشاهير إلى حمل الدليل المذكور على ما ذكرناه بقوله : « نعم! ، لو كان المراد بعدم الزيادة عدم الزيادة في الخارج ... » ؛ إلاّ انّا قد أشرنا إلى أنّ ذلك مسامحة ؛ والمراد واضح.

الثاني : إنّ الواجب لو كان باقيا بالبقاء الّذي هو ليس / 228 DA / نفس ذاته لما كان واجب الوجود لذاته ، لأنّ ما هو موجود لذاته فهو باق لذاته - ضرورة أنّ ما بالذات لا يزول ابدا - وإذا فسّر البقاء بصفة يعلّل بها الوجود في الزمان الثاني لكان لزوم المحال أظهر ، لأنّه يؤول إلى أنّ الواجب موجود في الزمان الثاني لأمر سوى ذاته.

واعترض عليه : بأنّ اللازم ليس إلاّ افتقار صفة إلى صفة أخرى نشأت من

ص: 511

الذات ، ولا امتناع فيه ، كالارادة يتوقّف على العلم والعلم على الحياة.

وردّ بأنّ افتقار الوجود إلى أمر سوى الذات ينافي الوجوب بالذات ؛ وهو بديهي.

قيل : وعلى هذا يعود هذا الوجه الثاني إلى الوجه الأوّل ، إذ لا بدّ في اتمامه من أنّ البقاء وجود خاصّ ، فباقي المقدّمات مستدرك.

وفيه : انّ الكلام في أنّه لا يصلح أن يكون البقاء صفة يعلّل بها الوجود ، وبناء هذا الاستدلال على ذلك ، إذ حاصل الاستدلال انّ كون الوجود معلّلا بغير الذات ينافي وجوب الوجود سواء كان لذلك الغير صفة من صفات الذات أو لا ؛ وظاهر أنّ هذا البيان لا يحتاج إلى اخذ كون البقاء وجودا خاصّا ، لأنّه لو لم يكن البقاء وجودا خاصّا أيضا لتمّ هذا البيان ، لأنّ بناء هذا البيان على أنّه لا يصحّ أن يكون لوجود الواجب علّة سوى الذات ، فظهر الفرق بين الوجهين.

الثالث : إنّ الذات لو كان باقيا بالبقاء لا بنفسه فان افتقر صفة البقاء إلى الذات لزم الدور - لتوقّف ثبوت كلّ في الزمان الثاني على الآخر - ؛ وإن افتقر الذات إلى البقاء مع استغنائه عنه كان الواجب هو البقاء لا الذات ، هذا خلف ؛ وإن لم يفتقر أحدهما إلى الآخر - بل اتفق تحقّقهما معا - لزم تعدّد الواجب ، لأنّ كلاّ من الذات والبقاء يكون مستغنيا عمّا سواه ، إذ لو افتقر الباقي إلى شيء آخر لافتقر إلى الذات ضرورة افتقار الكلّ إليه ، والمستغني عن جميع ما سواه واجب قطعا ؛ هذا.

مع أنّ ما فرض من عدم افتقار البقاء إلى الذات محال ، لأنّ افتقار الصفة إلى الذات ضروري.

الرابع : إنّ البقاء لو كانت صفة ازلية زائدة على الذات قائمة به كانت باقية بالبقاء ويتسلسل.

فان قيل : هو باق بالبقاء من نفسه لا زائد عليه حتّى يتسلسل ؛

قلنا : فحينئذ يجوز أن يكون الباري - تعالى - باقيا ببقاء هو نفسه.

اعلم! ، أنّ الدليل الثاني والثالث يدلاّن على أنّ عدم زيادة البقاء انّما هو من خواصّ الواجب ، وأنّ وجوب الوجود يدلّ على نفي الزيادة ، فهذان الدليلان يمكن

ص: 512

اجرائهما في نفي زيادة كلّ صفة من صفاته - سبحانه -. وامّا الدليل الأوّل والرابع فيدلاّن على أنّ البقاء من حيث هو بقاء لا يمكن أن يكون زائدا ، وأنّ هذه الصفة من شأنها عدم الزيادة ، فمقتضاها إنّ البقاء في الممكنات أيضا غير زائدة على ذواتها. / 226 MB /

ثمّ هذه الادلّة وإن صرّح فيها بعدم زيادة البقاء إلاّ انّها يجري في عدم زيادة السرمدية ومرادفاتها من دون تفاوت أصلا ، وقد اشرنا إلى ذلك في أوّل المبحث.

وقال بعضهم : اثبات عينية البقاء مستلزم لاثبات عينية السرمدية وبالعكس وإن قطع النظر عن اشتراك الأدلّة. أمّا الأوّل - أعني : استلزام ثبوت عينية البقاء لثبوت عينية السرمدية - فلأنّ البقاء لمّا كان أعمّ من السرمدية - نظرا إلى أنّ البقاء هو الموجودية المستمرّة ، سواء كانت دائمة أو في قطعة من الزمان - والسرمدية هي الموجودية ازلا وابدا فكما انّ نفي العامّ مستلزم لنفي الخاصّ فكذلك نفي زيادة العامّ على شيء يستلزم نفى زيادة الخاصّ عليه ، فمن نفي زيادة البقاء على ذاته - تعالى - يعلم نفي زيادة السرمدية عليها.

وامّا الثاني - أعني : استلزام عينية السرمدية لعينية البقاء - لأنّ عينية الخاصّ مع اشتماله على زيادة لشيء يستلزم عينية العامّ له.

ويرد على الأوّل : إنّه قد يكون معنى عينيا لشيء غير زائد عليه ، والخاصّ الّذي هو فرد منه من حيث انّه خاصّ يكون زائدا عليه ، كالحيوان الناطق فانّه غير زائد على النوع الطبيعى - أعني : الانسان - وفرده - كزيد المحفوف بالشخص زائد على حقيقة الانسان ، لأنّ التشخّص الّذي داخل في حقيقة زيد من عوارض حقيقة الانسان ، فمجرّد / 228 DB / بيان نفي زيادة البقاء لكونه عامّا لا يوجب عدم زيادة السرمدية الّتي هي اخصّ منه.

ويرد على الثاني : منع الاستلزام.

فان قيل : العامّ إذا كان ذاتيا للخاصّ وثبت أنّ الخاصّ لا يكون زائدا على شيء معيّن وجب أن يكون عام ذلك الخاصّ أيضا غير زائد على ذلك الشيء ؛

ص: 513

قلنا : هذا انّما يتمّ إذا ثبت أنّ البقاء ذاتي للسرمدية وجزء له ، وهو في محلّ المنع. وأيضا إذا كانت السرمدية عينا للواجب وجب أن لا تكون مركّبة ، بل وجب أن تكون حقيقتها حقيقة بسيطة بحيث لا يكون تكثّرا فيها أصلا ، فلا يمكن أن يكون البقاء جزء وذاتيا له - لاستلزامه التركيب -.

وبما ذكرناه يظهر أنّ المناط في استلزام عينية كلّ من البقاء والسرمدية لعينية الآخر هو جريان الدلائل المذكورة فيهما معا.

ثمّ إنّه بعد دلالة الأدلّة المذكورة على عدم زيادة السرمدية والبقاء يثبت عينيتهما بالمعنى المذكور - أي : يكون الذات الّذي هو صرف الوجود بذاته منشئا لانتزاع مفهوميهما -. وحقيقتهما هي عين الذات في الخارج والذهن وإن كان مفهوماهما الاعتباري الانتزاعي زائدا على الذات الّذي هو عين حقيقتهما.

وقال بعض المشاهير : إن أريد بتلك الزيادة المنفية الزيادة على الذات مطلقا - أي : في كلّ من طرفي الذهن والخارج - اتّجه عليه أنّ الدلائل المذكورة لا يدلّ عليه ، بل انّما يدلّ على عدم زيادته في الخارج ، فالمتّجه أنّ المراد بعدم الزيادة هو عدم الزيادة في الخارج ؛ انتهى.

وقد عرفت بما ذكرناه ما فيه من التسامح والاختلال!. ونزيدك بيانا بما ذكره بعض الأفاضل رادّا عليه حيث قال : وفيه إنّ ما ذهب إليه الأكثرون هو أنّ البقاء عين الذات - كالوجود والعلم والقدرة - ، ومعنى عينية الصفات في الواجب - تعالى - على ما ذكر هو أنّ اللّه - سبحانه - باعتبار ذاته مصداق حمل موجود وعالم وباق وغيرها ، بل مصداق حمل وجود وعلم وبقاء - بناء على أنّه تعالى نفس الوجود والعلم والبقاء - وليس المراد أنّه - تعالى - نفس مفهوم العلم والعالم والوجود والموجود ، لأنّ جميع المفهومات عرضية بالقياس إليه - سبحانه - ، بل إنّ ما يعبّر عنه بالوجود أو العلم وغيرهما من الصفات هو ذات الواجب - سبحانه -. وكذا الحال في الانسان بالقياس إلى زيد مثلا ، لأنّ الانسان الّذي يكون ذاتيا لزيد ليس هو مفهوم الانسان ، بل الذاتي له انّما هو المعبّر عنه بمفهوم الانسان وهو النوع الطبيعى الموجود في الخارج بوجود

ص: 514

الاشخاص الخارجية ، فالذي يكون ذاتيا لشيء ولا يكون زائدا بالقياس إليه يكون ذاتيا له في الخارج والذهن معا ؛ ولا معنى لكون الذاتي ذاتيا في ظرف دون ظرف ، لأنّ الذاتية والعرضية انّما يكون في نفس الأمر لا باعتبار ظرف الذهن أو الخارج.

وإذا علمت ذلك نقول : إنّ ما ذكره بقوله : « اتّجه عليه أنّ الدلائل المذكورة - ... إلى آخره - » غير متوجّه ، لأنّ الدلائل المذكورة دلّت على عينية البقاء ، وإذا كان البقاء عينا يكون ذاتيا لا عرضيا ، فلا يكون زائدا أصلا لا في الخارج ولا في الذهن ، وقد ذكر هذا القائل في مبحث نفي / 227 MA / الشريك إنّ الوجود الحقيقي والوجوب الحقيقي - أي : ما يعبّر عنه بمفهوم الوجود الانتزاعي والوجوب الانتزاعي - عين له - تعالى - في الذهن والخارج جميعا. والغرض إنّ ما هو عين له انّما هو المعبّر عنه بمفهوم الوجود والبقاء وغيرهما من الصفات الكمالية ، وذلك المعبّر عنه يكون عينا له في الخارج والذهن جميعا ؛ وامّا المفهوم فهو ليس بعين ، بل زائد مطلقا. ومعنى كونه عينا في الذهن انّه لو جاز حصوله في الذهن لما جاز انفكاكه عنه في الذهن أيضا.

حجّة الكعبي واتباعه : إنّ البقاء مقارنة الوجود لأكثر من زمان واحد بعد الزمان الأوّل ، وذلك لا يعقل فيما لا يكون زمانيا. واعتبر الحكم بكون الكلّ اعظم من جزئه ، فانّه لا يمكن أن يقال : إنّه واقع في زمان أو في جميع الازمنة كما لا يقال إنّه واقع في مكان أو في جميع الأمكنة. وإذا كان الحكم التصديقي كذلك فما يتوقّف عليه الحكم أولى بأن يكون كذلك ؛ وعلّة الزمان لا يكون زمانيا ، فكيف مبدأ الكلّ؟ ؛ فاذن الواجب - سبحانه - لا يتّصف بالبقاء وانّما اتصافه به نوع من التشبيه بالزمانيات.

وأجيب عنه : بأنّ البقاء إذا كان / 229 DA / حقيقة في الزمانيات فيلزم أن يكون اطلاق « الباقي » عليه مجازا ، والحال أنّ الباقى من اسمائه الحسنى. فالاولى أن يقال : البقاء على قسمين : أحدهما بقاء زماني ؛ والآخر بقاء حقّ ؛ والأوّل - تعالى - باق بالبقاء بالمعنى الثاني دون الأوّل.

أقول : قد عرفت فيما سبق أنّ الواجب - سبحانه - متعال عن الزمان ومحيط به وليس وجوده - الّذي هو عين ذاته - زمانيا ، فلا يكون وجوده في الزمان حتّى يكون

ص: 515

بقائه بمعنى وقوعه في الزمان المستمرّ. كيف ولو كان بقائه بهذا المعنى لزم أن لا يكون بقائه دائميا حتّى يكون سرمديا ازليا - لأنّ الزمان حادث - ؛ إلاّ أن يعمّم الزمان بحيث يشمل الزمان الموهوم. وقد عرفت بطلانه. فالسرمدية والبقاء بمعنى ثبوت وجوده في الوعاء اللائق به - أعني : السرمد - ، ومعنى الامتداد فيه يظهر لنا بتصوير أنّه لو وقع في الزمان لكان له امتداد. وتوضيح ذلك يظهر لمن تدبّر فيما ذكرناه في بحث الحدوث الدهري.

والظاهر أنّ المراد من البقاء الحقّ الّذي تقدّم في الجواب هو هذا المعنى ، ولا ريب في أنّ البقاء حقيقة في هذا المعنى في عرف الشريعة والعقلاء وإن لم يكن حقيقة فيه عند اللغويين - نظرا إلى عدم تعقّلهم لذلك -.

ص: 516

الباب الثاني : في صفاته السلبيّة

اشارة

ص: 517

( الباب الثاني )

( في صفاته السلبيّة )

اعلم! ، أنّ الصفات الّتي تسلب عنه - سبحانه - هي الصفات الّتي ثبوتها له - تعالى شأنه - يوجب تركّبا أو احتياجا أو نقصا - كثبوت التركيب بايّ وجه كان والشريك في وجوب الوجود والجوهرية والعرضية والتحيّز والحلول والجهة وحلول الحوادث -. ونفي كلّ منها راجع إلى تجرّده وتنزيهه عمّا لا يليق بساحة كبريائه.

ونحن نبيّن نفي ما يجب أن يبيّن نفيه منه في فصول.

ص: 518

الفصل الأوّل : في نفي التركيب عنه - تعالى -

اشارة

ص: 519

( الفصل الأوّل )

( في نفي التركيب عنه - تعالى - )

اعلم! ، أنّ التركيب والكثرة المنفيين عنه - سبحانه - إمّا تركيب وكثرة مع الذات - وهو الكثرة الّتي يتصوّر باعتبار الذات والوجود أو الذات والعكس - ؛

أو كثرة بعد الذات - وهو الكثرة الّتي يتصوّر باعتبار الانقسام إلى الذات والصفات الكمالية - ؛

أو كثرة قبل الذات - وهي الكثرة الّتي تكون باعتبار تركّب الذات والماهية من الأجزاء - ، وهذا على قسمين :

أحدهما : التركيب من الأجزاء العقلية الذهنية - كالجنس والفصل - ؛

وثانيهما : من الأجزاء الخارجية ، سواء كانت اجزاء مقدارية متشابهة أو غير متشابهة ، أو اجزاء غير مقدارية - كالمادّة والصورة -.

ثمّ إنّ تجرّده - سبحانه - عن هذه التركيبات يسمّى بالأحدية كما أنّ تفرّده عن الشريك في وجوب الوجود يسمّى بالواحدية ، لأنّ الأحدية انّما هو معنى عدم الانقسام إلى الأجزاء - سواء كانت اجزاء من قبل الذات أو معه أو بعده - ؛ والواحدية هو عدم الانقسام إلى الأجزاء والجزئيات.

والمفهوم من كلام الشيخ في الاشارات إنّ الاحدية هي عدم قبول القسمة إلى

ص: 520

الأجزاء والجزئيات والصفات القائمة بذاته وعدم التحليل إلى الماهية والوجود ؛ وعلى هذا يكون الأحدية أخصّ من الواحدية ؛ وعلى ما ذكرناه أوّلا يكونان متباينين.

وبالجملة لمّا كان نفي التركيب متصوّرا على أقسام ثلاثة فهنا ثلاثة أبحاث.

البحث الأوّل : في عدم تركيبه من الماهيّة والوجود واثبات أنّ كلاّ من وجوده وتعيّنه عين ذاته
اشارة

أمّا الأوّل فهو المعبّر عنه بتوحيده في أصل وجوده ، والمراد إنّ ذاته المقدّسة كما انّها حقيقة موجودة بمحض ذاته من غير حاجة إلى علّة توجدها كذلك هي موجودة بخالص حقيقته من / 227 MB / غير حاجة إلى صفة ولا حيثية ولا اعتبار زائد على صريح ذاته وبحت حقيقته ، بخلاف الممكنات الموجودة بوجود زائد على ماهياتها ؛ وبالجملة لأنّه صرف الوجود ومحض الموجود من غير ثبوت غير الوجودية وممازجة سواه معه.

والدليل عليه : انّ غير الوجود ليس إلاّ الماهية الفاقدة في مرتبة ذاته ، وتقرّرها للفعلية وفقد الفعلية والوجود في أيّ مرتبة كانت ينافي كون الشيء واجبا ، لتطرّق العدم حينئذ فيه.

وبتقرير آخر : لو كان له ذات وماهية غير الوجود وكان كونها موجودة بوجود أو اعتبار - وبالجملة بمعنى غير محض / 229 DB / ذاته - لكانت تلك الماهية في نفسها معدومة ، ولا تكون موجودة إلاّ بعد العدم ، فكانت ممكنة لا واجبة.

وأيضا : لو كان الوجود زائدا على ذاته لكان اتصاف الذات به محتاجا إلى علّة ، والعلّة لا يمكن أن تكون نفس الماهية - لأنّ الماهية مع قطع النظر عن وجودها ليست موجودة ، فضلا عن أن تكون موجدة - ، ولا غيرها - وإلاّ لزم كونها ممكنة ، لأنّ المحتاج في صيرورته موجودا إلى الغير ممكن -. ولا يرفع ذلك فرض كون الوجود لازما لتلك الماهية ، بخلاف مهيات الممكنات ، فانّ الوجود عرض مفارق لها كما زعمه المتكلّمون وبه يفرّقون بين الواجب والممكن. وذلك لأنّ هذا الوجود الزائد لا يخلوا إنّه إمّا بنفس

ص: 521

مفهومه ومعناه واجب التحقيق والثبوت من غير حاجة إلى ماهية ولا فاعل ولا شيء أصلا ، فهو اذن واجب الوجود لا تلك الماهية المحتاجة في تحقّقها إلى غيرها - أعني : ذلك الوجود - ، أو إنّه أيضا محتاج إلى فاعل يفعله وماهية تحمله ، ففاعله اذن لا يجوز أن يكون تلك الماهية الّتي هي قابلة له ، لامتناع كون الفاعل والقابل شيئا واحدا - كما علم فيما سبق - ؛ ولأنّ تلك الماهية بنفسها معدومة ، فكيف تكون موجدة لما لا تكون موجودة إلاّ به؟!. فبقى أن تكون فاعله شيئا ثالثا ، فكانت الماهية موجودة بفاعل ومستفيدة للوجود من غيرها ، فلا تكون هذه الماهية واجبة بذاتها ولا الوجود لازما لها. فقد بين أنّ واجب الوجود عين مهيته وأن لا ماهية له سوى الوجود وانّه محض الوجود وصرف الموجود ، ولا يدخل في ذاته وهويته غير ذلك ؛ بخلاف الممكن ، فانّ مهيته غير الوجود ، بل الوجود زائد على ذاته يوصف به ويفاض عليه من علّة خارجة.

ثمّ هذا المطلب - أعني : كون الواجب صرف الوجود وعدم زيادة وجوده على ذاته - ممّا صرّح به جميع أساطين الحكمة والعرفان ، والمحقّقون من أهل الكلام. واستدلّوا عليه بالبرهان الّذي نقلناه وبغيره من البراهين القاطعة ، فلنذكر كلمات بعضهم تقوية وتأييدا لئلاّ يبقى شبهة لطالبى الحقّ واليقين ، فانّ هذا المطلب ممّا يبتنى عليه مسائل مهمّة وفوائد جمّة من جملتها سلب جميع النقائص عنه - سبحانه - ، فانّ بعد ثبوت كونه صرف الوجود ومحض الموجود يثبت تجرّده وتنزّهه عن جميع الصفات السلبية والنقائص الامكانية - ممّا أشير إليه من التركّب والجسمية والشركة في وجوب الوجود والجهة والحدّ وحلول الحوادث - ، وما لم يشر إليه من الرذائل والنقائص. فذكر كلمات المشاهير الأعلام وأساطين الحكمة والكلام مهمّ في هذا المقام ، لأنّ وفاق أجلّة الفنّ على مسئلة واجتماعهم على تمامية دليله ممّا يقوي الاعتماد ويطمئنّ به النفس.

فنقول : قال بعض الأفاضل : إنّ واجب الوجود يجب أن يكون عين الوجود ، لأنّه لو لم يكن عين الوجود لم يكن الوجود في مرتبة ذاته وما لم يكن في مرتبة ذات الشيء فثبوته له لا يكون إلاّ من علّة ، فلا بدّ لثبوت الوجود له من علّة ؛ فتلك العلّة إمّا ذاته ، فهو باطل ، لأنّ الشيء ما لم يكن محفوفا بالوجود لم يتصوّر أن يكون علّة لشيء ما من

ص: 522

الأشياء ؛ أو غير ذاته ، فيلزم أن يكون ما فرض أنّه واجب بالذات غير واجب بالذات ، فاذن يلزم أن يكون نفس الوجود. فلا يكون هناك ماهية ووجود ، بل نفس الوجود فقط ؛ انتهى.

واستدلاله قريب ممّا ذكرناه.

وقال شيخ الإشراق في التلويحات : إنّ الّذي فصل الذهن وجوده عن مهيته فماهيته إن امتنع وجودها لعينه لا يصير شيء منها موجودا ، وإن لم يمتنع وصار شيء منها موجودا فهو كلّي له جزئيات أخرى معقولة غير ممتنعة لذاتها ولماهياتها إلاّ لمانع ، بل ممكنة إلى غير النهاية وقد علمت أنّ كلّ كلّي وقع بعض جزئياته بقي الامكان في جزئيات أخرى معقولة بعد. وإذا كان هذا الواقع واجبا وله ماهية وراء الوجود فاذا أخذت هذه الماهية كلّية أمكن وجود جزئي آخر لها لذاتها ، إذ لو امتنع الوجود لجزئيات معقولة غير واقعة بماهياتها لكان ما فرض واجبا ممتنع الوجود باعتبار مهيته ، لأنّ اقتضاء الماهية لا يختلف بالنسبة إلى افرادها ، وهو محال. غاية ما في الباب أن تمتنع تلك الجزئيات المعقولة بسبب غير نفس الماهية ، فتكون ممكنة في أنفسها. وإذا كانت جزئيات الماهية / 230 DA / وراء ما وقع ممكنات باعتبار ماهيتها ولم تكن واجبة لكان الواجب أيضا باعتبار مهيته ممكنا ، لأنّه إذا كان / 228 MA / بعض أفراد مهيته ممكنا باعتبار مهيته كانت الافراد الأخر أيضا كذلك - لما عرفت من عدم اختلاف الماهية بالنسبة إلى افرادها -. وكون الواجب باعتبار مهيته ممكنا محال ؛ فاذن إن كان في الوجود واجب فليس له ماهية وراء الوجود ؛ وهو الوجود الصرف البحت الّذي لا يشوبه شيء من خصوص وعموم (1) ؛ انتهى بادنى توضيح.

وحاصله : أنّه لو كان للواجب ماهية ووجود لكان مهيته كلّية - لأنّ الماهية من حيث انّها ماهية تكون كلية - ، فاذا كان فرد منها - أعني : الواجب - موجودا في الخارج لكان افراد آخر معقولة لم تقع ممكنة أو واجبة ، إذ امتناعها يوجب امتناع الواجب أيضا لعدم اختلاف اقتضاء الماهية بالنسبة إلى افرادها ، وامكانها يوجب امكان الواجب أيضا

ص: 523


1- راجع : التلويحات ، ص 34.

لما ذكر ، ووجوبها يوجب وقوع افراد غير متناهية ، وهو باطل. والحقّ إنّ هذا البرهان تامّ لا يرد عليه شيء.

واعترض عليه بوجهين ، فلنذكرهما ونشير إلى دفعهما :

أحدهما : إنّه لم لا يجوز أن يفصل العقل أمرا موجودا إلى موجود معروض له هو الماهية ويكون ذلك المعروض جزئيا شخصيا لا كلّيا؟.

وهو مدفوع بأنّ بناء البرهان الّذي أورده الشيخ الإلهي على أنّ تشخّص الشيء نحو وجوده - كما هو التحقيق عند أساطين الحكمة كالمعلّمين وغيرهما - ، فكلّ ما يفصله الذهن إلى معروض وعارض هو الوجود كان في مرتبة ذاته مع قطع النظر عن العارض الّذي هو الوجود كلّيا بالضرورة ، وكلّ كلي نفس تصوّره لا يأبى عن أن يكون له جزئيات غير متناهية إلاّ لمانع خارجي ، فاذن لمّا كان الوجوب والامتناع والامكان من لوازم الماهية فلو كان ما فرض واجبا معنى غير نفس الوجود يكون معنى كليا له جزئيات بحسب العقل ، فتلك الجزئيات إمّا أن تكون جميعها ممتنعة لذاتها أو واجبة لذاتها ، أو ممكنة لذاتها ؛ لا سبيل إلى الأوّل وإلاّ لما تحقّق شيء منها مع أنّ الكلام على فرض تحقّق فرد واجب منها ، فلا يمتنع شيء منها لماهيتها ، فان امتنع شيء منها ممّا لم يوجد لم يكن ذلك لماهيته المشتركة بل لأمر آخر ؛ ولا سبيل أيضا إلى الثاني وإلاّ لوقع الكلّ ، وهو محال ؛ ولا إلى الثالث وإلاّ لكان هذا الواقع أيضا ممكنا مع أنّه واجب ، هذا خلف. فاذن إن كان في الوجود واجب بالذات فليس له ماهية وراء الوجود بحيث يفصّله الذهن إلى أمرين ، فهو الوجود الصرف.

وثانيهما : بأنّ القول بأنّ الواجب لو كان له ماهية كلية لكان لها عند العقل جزئيات غير متناهية ممنوع ، ولم لا يجوز أن يكون لماهية كلّية افراد معدودة متناهية لا يمكن أن يتعدّى عنها في الواقع وإن جاز في التوهّم التعدّي عليها ؛ وحينئذ نقول : غاية ما يلزم من كون الماهية الكلّية للواجب أن يكون لها افراد متعدّدة متناهية واجبة ، وبطلان ذلك لم يثبت بعد ، والرجوع إلى ادلّة نفي الشريك في وجوب الوجود يوجب عدم فائدة في هذا الدليل.

ص: 524

ثمّ لو سلّم عدم التناهي فهو بمعنى لا يقف ، وبطلان اللازم حينئذ أيضا ممنوع ، لجواز أن تكون ماهية كلية لها افراد واجبة غير متناهية بهذا المعنى. ولو سلّم عدم التناهي بالمعنى الآخر أيضا ، فغاية ما يلزم منه أن تكون الواجبات غير متناهية.

ولقائل أن يمنع بطلان ذلك محتجّا بأنّ دلائل بطلان التسلسل لو تمّت لدلّت على امتناع ترتيب أمور غير متناهية موجودة معا ، ولزوم الترتيب بين الأفراد الواجبة غير مبيّن.

والجواب عن الأوّل : إنّ كلّ ماهية بالنظر إلى ذاتها لا يقتضي شيئا من التناهي واللاتناهي أصلا ، فاذا قطع النظر عن الأمور الخارجة عن نفس ماهيتها لا يأبى عند العقل عن أن يكون لها افراد غير متناهية ، فيكون الأفراد الغير المتناهية ممكنة بالنظر إلى ماهيتها ، فيكون الواجب أيضا ممكنا - لما ذكر -.

والجواب عن الثاني والثالث : إنّ الكلام هنا ليس في بطلان التسلسل في الواجبات حتّى قيل : إنّ بطلانه في اللايقفي وفي الأمور / 228 MB / الموجودة الغير المترتّبة منظور فيه وإن كان البطلان في الثاني عندنا ثابتا - كما بينّاه في المقدّمات - ، بل الكلام في أنّه إذا كانت للواجب - تعالى - ماهية كلّية يمكن أن تعرض لها جزئيات غير واقعة وإن / 230 DB / فرض وقوع جزئيات غير متناهية لها أو الماهية لما لم تكن من حيث هي إلاّ هي كان الوقوع واللاوقوع كلاهما خارجين عن نفس حقيقتها فلا تأبى بالنظر إلى ذاتها عن أن يكون لها افراد غير واقعة.

ولمّا كان كلّ من الوجوب والامتناع والامكان من لوازم الماهية فاذا وجب فرد كلّ ماهية كلّية كان جميع افراد تلك الماهية واجبة ، وإن امتنع فرد منها كان جميع افرادها ممتنعة ، وإن امكن الجميع فنقول : تلك الافراد المفروضة الغير الواقعة لا يجوز أن تكون واجبة لذاتها وإلاّ لما عدمت ، بل كانت واقعة ؛ ولا ممتنعة وإلاّ لكان هذا الواقع أيضا ممتنعا مع انّا نتكلّم بعد اثبات الواجب لذاته ؛ ولا ممكنة وإلاّ لكان الواجب لذاته ممكنا لذاته ، هذا خلف ؛ فثبت أنّ الواجب - سبحانه - لو كانت له ماهية كلّية لزم خلوّه عن الموادّ الثلاث ، وهو محال ؛ هذا.

وقال بعض أعاظم العرفاء في اثبات المطلوب : كلّ ماهية يعرض لها الوجود ففي

ص: 525

اتصافها بالوجود وكونها مصداقا للحكم عليها بالوجود يحتاج إلى فاعل يجعله كذا ، لأنّ كلّ عرضي معلّل امّا بمهيته المعروضة له أو بامر خارج عنها وقد علم من قبل امتناع تأثير الشيء في وجود نفسه من جهة أنّ العلّة يجب أن تكون مقدّمة على المعلول بالوجود ، وتقدّم الماهية على وجودها بالوجود غير معقول بخلاف تقدّمها على صفاتها اللازمة سوى الوجود ، فلا محالة تحتاج تلك الماهية في وجودها إلى أمر خارج عنها ، وكلّ ما يحتاج في وجوده إلى أمر آخر فهو ممكن الوجود ، فلو كان الواجب ذا ماهية لزم كونه ممكن الوجود ؛ هذا خلف ، فواجب الوجود لا ماهية له سوى الانية.

وهذه الحجّة أيضا قريبة ممّا ذكرناه أوّلا. ويقرب منها أيضا ما ذكره بعض آخر من الأذكياء ، وهو : انّ وجود الواجب لو كان زائدا على ذاته لكانت معلولا للذات لا معلولا للغير - وإلاّ لزم احتياج الواجب إلى الغير ، وهو باطل - ، وإذا كان معلولا للذات لزم كون الذات مقدّما على الوجود بالوجود - لأنّ تقدّم العلّة بالوجود على المعلول بديهي عقلي - ، فنقول : هذا الوجود المقدّم إن كان عين الوجود المتأخّر لزم الدور ؛ وإن كان غيره ننقل الكلام إلى هذا الوجود المقدّم واتصاف الذات به ، فيلزم ، التسلسل وهو باطل ؛ هذا.

والشيخ الرئيس بيّن في الشفا في هذا المقام أوّلا عدم كون وجوب الوجود جزء من ماهية الواجب وحقيقته حتّى تكون ماهية الواجب مركّبة من وجوب الوجود وشيء آخر ويحصل له كثرة قبل الذات من حيث تركّب حقيقته من وجوب الوجود وشيء آخر ، لأنّ الكثرة قبل الذات انّما يتصوّر باعتبار تركّب الماهية سواء كان من وجوب الوجود وشيء آخر أو من جنس وفصل أو غيرهما ؛ ثمّ بين المطلوب الّذي نحن بصدده - أعني : نفي التركيب مع الذات الّذي هو عينية الوجود لماهيته وعدم كون وجوده زائدا على ذاته - ، فقال في بيان الأوّل : إنّ واجب الوجود لا يجوز أن يكون على الصفة الّتي فيها تركّب حتّى يكون هناك ماهية ما وتكون تلك الماهية واجبة الوجود ، فيكون لتلك الماهية معنى غير حقيقتها - أعني : جزئها الّذي يصدق عليه أنّه معنى غير حقيقة المركّب - ، لأنّ حقيقة الجزء غير حقيقة الكلّ الّذي هو المركّب و

ص: 526

ذلك المعنى الّذي هو الجزء هو وجوب الوجود ، فلو فرضنا أنّ تلك الماهية هو الانسان ووجوب الوجود جزئه لصدق أنّ الانسان غير واجب الوجود ، فحينئذ نقول : لا يخلوا إمّا أن يكون لقولنا : « وجوب الوجود هناك » حقيقة أو لا يكون ، ومحال أن لا تكون لهذا المعنى - أعني : وجوب الوجود - حقيقة وهو مبدأ كلّ حقيقة - بل هو يؤكّد الحقيقة ويصحّحها - ، وإن كانت له حقيقة وهي غير تلك الماهية نظرا إلى انّها جزء من تلك الماهية المركّبة فان كان ذلك الوجوب من الوجود - أي : كان ذلك وجوب الوجود - الّذي هو يؤكّد الوجود - يلزم أن يتعلّق بتلك الماهية ولا يجب بدونها - أي : كان من لوازمه أن يتعلّق بتلك الماهية وبدون تعلّقه بها لم يكن هذا الوجود المتأكّد واجبا - لزم أن لا يكون واجب الوجود من حيث هو واجب الوجود / 229 MA / واجبا ، أي : لم يكن الواجب بالذات واجبا باعتبار ذاته ، بل باعتبار أمر آخر صار سببا لوجوبه - أعني : الماهية المركّبة الّتي هي غيره - ، لأنّ المفروض أنّه بدون التعلّق بها لا يكون واجبا ، فيكون معنى واجب الوجود من حيث هو واجب الوجود يوجد لشيء ليس هو ؛ / 231 DA / وهذا خلف ، لأنّ الوجوب المطلق الّذي للذات لا يكون معلولا ، فبقى أن يكون واجب الوجود بالذات متحقّقا من حيث هو واجب الوجود بنفسه من دون كون تلك الماهية عارضة لذات واجب الوجود المتحقّق القوام بنفسه إن كان يمكن عدم العروض. والغرض انّ واجب الوجود يكون متحقّق القوام بنفسه ولا يحتاج في قوامه إلى تلك الماهية ، فان كانت تلك الماهية بحيث يمكن عدم عروضها ولحوقها بالنسبة إلى واجب الوجود بالذات فيصدق أنّ واجب الوجود بالذات يكون متحقّقا من حيث هو واجب الوجود بنفسه من دون تعلّقه بتلك الماهية ومن دون كون تلك الماهية عارضة أوّلا لهذا الواجب الوجود المتحقّق القوام بنفسه ؛ وإن لم يكن عدم عروض تلك الماهية وعدم لحوقها له فلا يضرّنا ، لأنّ كلّ معلول يكون متعلّقا بعلّته التامّة وعارضا لها لاحقا به ، وانّما المحال تعلّق العلّة بالمعلول وعروضها له وتحقّق قوامها منه ، فاللازم حينئذ كون واجب الوجود من حيث هو واجب الوجود متحقّق القوام بنفسه من دون احتياج إلى الماهية وإن كان قوام الماهية متحققا بها ولاحقا بالنظر إليها ، وحينئذ فواجب الوجود

ص: 527

المشار إليه بالعقل يتحقّق واجبا وإن لم يكن تلك الماهية ، لأنّ لحوقها به وعروضها له إن لم يكن عدم العروض انّما يصحّح معلولية تلك الماهية له لا علّيتها له ، والمعلول من حيث هو لا مدخلية له في تحقّق قوام العلّة ، فاذن ليست تلك الماهية المركّبة الّتي فرضت انّها ماهية لواجب الوجود بالذات ماهية للشيء المشار إليه بالعقل إنّه واجب الوجود بالذات ، بل الواجب بالذات أمر آخر وتلك الماهية ماهية شيء آخر لا حقة به إن لم يمكن عدم اللحوق وقد فرض ماهية لواجب الوجود بالذات ، وهو خلاف الفرض. ففرض تركيب الواجب من الماهية ووجوب الوجود بالذات باطل ، فلا ماهية لواجب الوجود غير أنّه واجب الوجود ؛ انتهى بتوضيحه.

وإلى هنا تمّ مطلوبه الأوّل - أعني : كون وجوب الوجود جزء من مهيته سبحانه -.

ثمّ شرع في بيان المطلوب الثاني وهو الّذي نحن بصدد بيانه - أعني : عدم زيادة وجوده على مهيته - ، فانّ ثبوت المطلوب الأوّل لا يستلزم ثبوته ، لجواز أن لا يكون وجوب الوجود جزء من مهيته - تعالى - ولكنّه يكون صفة زائدة على مهيته عارضة أو لازمة ، فقال متّصلا بما نقلناه : « وهذه - أي : ماهية الواجب الّتي ليس شيئا وراء أنّه واجب الوجود - هي الإنّية ، يعنى إنّ مهيته عين وجوده ومعناه انّ الإنّية والوجود لو صار للماهية حتّى تكون الإنّية الّتي هي الوجود زائدا على الماهية ، فلا يخلوا إمّا أن يلزمها لذاتها أو لشيء آخر ، ومحال أن يكون لذات الماهية لأنّ التابع لا يتبع إلاّ موجودا ، فيلزم أن يكون للماهية وجود قبل وجودها ، وهذا محال. فنقول : إنّ كلّ ماله ماهية غير الانية فهو معلول ، وذلك لانّك علمت انّ الانية والوجود لا يقوم من الماهية الّتي هي خارجة عن الانية مقام الأمر المقوم - أي : لا يكون الوجود جزء ذاتيا مقوّما للماهية ، بل يكون زائدا عليها - فيكون من اللوازم ، ولا محالة إمّا أن يلزم الماهية لانّها لتلك الماهية ؛ وإمّا أن يكون لزومها ايّاه بسبب شيء ، ومعنى قولنا : « للزوم اتباع الوجود وأن يتبع موجودا لا معدوما » ، أي : معنى اللزوم اتباع وجود الشيء لشيء آخر واتباع وجود الشيء لا يكون إلاّ لشيء موجود ، فان كانت الانية تتبع الماهية و

ص: 528

يلزمها بنفسها فيكون الانية قد بقيت في وجودها موجودا ، فكان متبوعة - أعني : الماهية موجودا بالذات قبله - ، فيكون الماهية موجودة بذاتها قبل وجودها ؛ هذا خلف. فبقي أن يكون الوجود فيها عن علّة ، فكلّ ذي ماهية هو معلول وسائر الأشياء غير الواجب فلها مهيات ، فتلك المهيات هي الّتي بانفسها ممكنة الوجود ، وانّما يعرض لها وجود من خارج ، فالأوّل لا ماهية له وذوات المهيات يفيض عليها الوجود منه ، فهو مجرّد الوجود بشرط سلب العدم وسائر الاوصاف عنه - أي : هو مجرّد الوجود الّذي لا يكون فيه شائبة عدم وقوّة - ، ولا الاوصاف الزائدة على ذاته - أعني : الصفات الكمالية الزائدة - ثمّ سائر الأشياء الّتي هي مهيات فانّها ممكنة توجد به ، فهى لا تخلوا عن العدم والقوّة ، لأنّ جميعها باعتبار ذواتها / 231 DB / داخلة تحت معنى ما بالقوة.

وهذا البرهان أيضا قريب ممّا ذكرناه أوّلا ، إذ حاصله أنّ وجود الواجب إذا كان زائدا على ذاته فلا يكون الوجود / 229 MB / أمرا ذاتيا له ، فثبوته له لا يكون إلاّ من علّة ، فتلك العلّة لا تخلو : إمّا تكون ذات الواجب ومهيته ، فهو باطل - لأنّه إذا فرض أنّ أمرا يكون علّة لامر آخر فتلك العلّة ما لم تكن محفوفة بالوجود يمتنع أن يتبع لها أمر آخر ، لأنّ تابعية شيء لا يتصوّر إلاّ لشيء موجود - ؛ أو يكون أمرا سوى الواجب بالذات ، فيلزم أن يكون ما فرض أنّه واجب الوجود بالذات ممكن الوجود بالذات ؛ هذا خلف.

قال بعض الأفاضل : إنّ وجود العلّة وإن لم تكن علّة لمعلول تلك العلّة لكن يكون وجود تلك العلّة متقدّما على معلول تلك العلّة ، لأنّ الشيء ما لم يثبت له الوجود لا يصحّ أن يتبع لها امر آخر وإذا لم يجز أن يكون شيء علّة للآخر ما لم يكن محفوفا بالوجود ، فاذا فرض أنّ واجب الوجود بالذات علّة لوجوده فلا بدّ أن يكون علّة بالوجود لوجوده فذلك الوجود الّذي هو العلّة إمّا أن يكون عين الوجود الّذي هو معلول فيلزم تقدّم الشيء على نفسه ؛ أو غيره ، فننقل الكلام إليه ؛ فامّا أن يذهب إلى غير النهاية ، وهو باطل - لبطلان التسلسل ، وللزوم كون شيء واحد هو جزئي حقيقي موجودا بوجودات متعدّدة ؛

ص: 529

وأيضا : من قال أنّ الواجب بالذات علّة لوجوده يلزم عليه أن يكون الشيء موجدا وخالقا لنفسه ، لأنّ كلّ مفيض للوجود وعلّته موجد وخالق ؛

وأيضا : إذا فرض أنّ الواجب ذاته علّة لوجوده يكون الذات باعتبار ذاته علّة للوجود ، وإذا كان باعتبار ذاته علّة للوجود ويكون الذات باعتبار ذاته منشئا للآثار فيلزم أن يكون الذات عين الوجود - لأنّ الوجود ليس إلاّ ما هو منشأ الآثار - ، فاذا كان الذات منشأ الآثار يكون معنى الوجود ، فيلزم الكرّ إلى ما منه الفرّ ؛ انتهى.

وبما ذكرنا ظهر أنّ عينية وجود الواجب لذاته وعدم زيادته على مهيته ممّا ادلّته قاطعة تامّة ، وآراء اجلّة الفن عليه متطابقة.

فان قيل : الحجّة الّتي ذكرتها وما هو في معناها ويقرب منه معارضة بالماهيات الامكانية ، لانّها قابلة للوجود متصفة به والقابل للشيء المتصف به يجب أن يكون متقدّما عليه بالوجود ، فيلزم تقدّم الماهية الممكنة بالوجود على الوجود ، وهو باطل ؛ فما يقال هنا في الجواب فهو الجواب عن لزوم تقدّم الواجب بالوجود على الوجود لو كان زائدا على ذاته ؛

قلنا : الماهية القابلة للوجود لا يلزم تقدّمها على ذلك الوجود بالوجود ، بل يمتنع ذلك لانّها لا تتجرّد عن الوجود إلاّ في نحو من انحاء ملاحظة العقل لا بأن يكون في تلك الملاحظة منفكّة عن الوجود ، لأنّ تلك الملاحظة أيضا نحو وجود عقلي كما أنّ الكون في الخارج وجود خارجي ، بل بأنّ العقل من شأنه أن يلاحظها وحدها من غير ملاحظة الوجود وعدم اعتبار الشيء ليس اعتبار العدم. والسرّ في عدم تجرّدها عن الوجود إنّ اتّصاف الماهية بالوجود أمر عقلي وليس كاتصاف الجسم بالبياض الّذي يمتاز بحسب الموصوف والصفة ، فانّ الماهية ليس لها وجود منفرد ولعارضه المسمّى بالوجود وجود آخر حتّى يمتنع اجتماع القابل والمقبول ، بل الماهيّة إذا كانت فكونها بعينها هو وجودها ، ففي الخارج ليس شيء هو الماهية وشيء آخر هو الوجود ، بل وجودها ليس إلاّ ظهورها من العدم إلى الأعيان وصيرورتها منشئا للآثار الخارجية. واظهار المعدوم في الأعيان وجعله بالحمل البسيط ليس من قبيل اتصاف شيء بشيء

ص: 530

آخر حتّى يتوقّف على قابل ومقبول - كما أنّ قول الخطّ وجعله لا يتوقف على ذلك - ، فحقيقة اتصاف المهيات بالوجود لا يتحقّق إلاّ بمعدومية المهيات قبل صيرورتها موجودة ، فقابل الوجود لا يلزم تقدّمه بالوجود على الوجود. وأمّا قابل الوجود وقابل غير الوجود من الأوصاف فيجب تقدّمها بالوجود على الوجود والأوصاف. فقد ظهر أنّ ما يقال : « إنّ الماهية قابلة للوجود » فالمراد انّها قابلة له عند وجودها في العقل فقط ، وفي الخارج ليس قابل ومقبول ؛ فالماهية مع / 230 MA / قطع النظر عن وجودها ليست فاعلة لشيء ولا منشئا لأثر أصلا.

وما قيل : « إنّ لوازم الماهية مستندة إلى الماهية من حيث هي من دون مدخلية وجود الماهية » ، فمعناه : إنّ وجود الماهية لا دخل له في لازم الماهية ، لا أنّ الماهية حال كونها منفكّة عن الوجود وعارية عنه تكون علّة تلازمها ، بل وجود / 232 DA / الماهية يكون مع العلّة - أعني : الماهية بالقياس إلى لازمها -. والحاصل : انّ المراد أنّ الماهيّة بعد وجودها علّة للازمها ، فمع قطع النظر عن وجودها ليس لها علّة وتاثير أصلا ؛ هذا.

واعلم! ، أنّه ليس معنى عينية وجود الواجب لذاته انّ لمطلق الوجود الانتزاعي البديهى المعلوم لكلّ أحد حصولا بنفسه في الخارج وهو الواجب ؛ وكذا ليس معنى زيادة وجود الممكن على ذاته أنّ له عروضا انضماميا لماهيات الممكنات وقياما حقيقيا بها في الأعيان ، إذ الوجود المطلق الّذي ليس إلاّ مفهوما اعتباريا لا يصلح أن يكون عين ماهية موجودة في الخارج أو غيرها قائما بها فيه ، بل المراد بعينيّته في الواجب أنّ الواجب ذاته بذاته منشأ انتزاع الوجود المطلق الاعتباري ومناطه - أي : هو بحيث إذا حصل في الذهن ينتزع العقل منه هذا المفهوم البديهي الاعتباري ، لا بملاحظة حيثية أخرى أيّ حيثية كانت انضمامية أو ارتباطية - ؛ ومعنى زيادته في الممكن أنّ ذاته من حيث هي ليست بحيث إذا حصلت في الذهن ينتزع منها العقل الوجود المطلق الاعتباري ، أو ماهية الممكن من حيث هي لا يلزمها الوجود ، بل انتزاع الوجود منها يتوقّف على ملاحظة حيثية اخرى سوى نفس ذاته ومهيته - وهي كون الماهية منتسبة

ص: 531

إلى موجبها التامّ صادرة عنه -. وبالجملة وجود المطلق لكونه انتزاعيا لا بدّ له من منشأ الانتزاع فكلّ ذات منشأ انتزاع هذا الوجود منه نفس ذاته فالوجود عين ذاته - كما في الواجب - ، وكلّ ذات منشأ انتزاعه منه غير ذاته فوجوده زائد على ذاته - كما في الممكن.

وتحقيق الكلام في هذا المقام : انّا قلنا : إنّ الواجب - سبحانه - صرف الوجود في الخارج ، ولا ريب في أنّ المراد منه ليس أنّه صرف الوجود العامّ البديهي ، لأنّه ليس إلاّ المفهوم والمفهوم من حيث هو لا يكون عين حقيقة خارجية ، فالمراد : إنّه - سبحانه - صرف الوجود الحقيقي الّذي موجود بنفسه في الخارج وقائم بذاته وهو محقّق الحقائق ومذوّت الذوات ومفيض جميع الموجودات الامكانية بحيث يفيض على كلّ ذي حقّ حقّه.

ثمّ إنّ حقيقة الوجود الحقيقي الّذي هو عين الواجب ليس معلوما لنا بالكنه ، فحكمنا عليه - سبحانه - بانّه صرف الوجود الحقيقي وخالص الوجود وبحته مبني على أنّ مرادنا من صرف الوجود هو الحقيقة الحقّة البسيطة الصرفة القائمة بنفسها الّتي ذاتها بذاتها من دون ملاحظة ذات آخر وحيثية أخرى منشأ الآثار الخارجية ومناط انتزاع الوجود المطلق ، ولمّا كان ذات الواجب - سبحانه - في غاية البساطة والتجرّد وكان بذاتها من دون ملاحظة شيء آخر وحيثية اخرى منشئا للآثار الخارجية ومناطا ومصحّحا لانتزاع الوجود المطلق عنه حكمنا بانّه صرف الوجود وبحته ، وانّه عين الوجود الحقيقي الّذي لو لاه ما شمّ غيره رائحة الوجود وفائحة الظهور.

ثمّ اعلم! ، أنّ ذات الشيء إن اعتبرت من حيث انّها موجودة في الخارج سمّيت « حقيقة » ، وإن اعتبرت من حيث وجودها في الذهن سميت « ماهية » ، فالحقيقة هي الماهية باعتبار وجودها في الخارج كما ان الماهيّة هي الحقيقة باعتبار وجودها في الذهن ؛ فالماهيّة تكون منتزعة عن الحقيقة. مثلا الانسان بالطبع الموجود في الخارج يسمّى « حقيقة الانسان » ، وما ينتزع منه العقل من المفهوم الكلّي يسمّى « ماهية الانسان ». وعلى هذا فالوجود الحقيقي الّذي هو عين الواجب في الخارج يسمّى حقيقة وما ينتزع

ص: 532

منه العقل يسمّى ماهية ، فماهيات الأشياء منتزعة عن حقائقها.

ثمّ ما يحصل في الذهن من الماهيّة لا يمكن أن يكون مع الوجود الخارجي وإلاّ كان الذهن خارجيا ، بل ما يحصل في الذهن ليس إلاّ المنتزع من الوجود الخارجي.

ثمّ الموجود لمّا كانت مركّبة من الماهية والوجود فالعقل يحلّلها إلى شيئين : حقيقة ، ووجود خارجي ، وما ينتزع من حقائقها فهو المهيات ، وما ينتزع من وجوداتها الخاصّة الخارجية فهو الوجود الاعتباري الانتزاعي ؛ وامّا الواجب فلمّا كان وجوده عين حقيقته ولم يكن له حقيقة سوى الوجود فما ينتزع منه لا يكون ماهيّة ، بل المنتزع / 232 DB / هو الوجود الاعتباري الانتزاعي ، ولهذا صرّح المحقّقون بنفي الماهية عنه - سبحانه -. وما هو القائم مقام الماهية في الواجب ليس إلاّ مفهوم الوجود ، إذ كما أنّ المهيات تنتزع / 230 MB / من حقائق الممكنات من غير اعتبار أمر خارج كذلك مفهوم الوجود ينتزع من صرف الوجود الّذي هو عين ذات الواجب بلا ملاحظة أمر آخر ، فالماهية في الواجب - أي : ما ينتزع من ذاته - ليس إلاّ مفهوم الوجود المنتزع ، إذ لو انتزع منه - سبحانه - سوى هذا المفهوم مفهوم آخر هو الماهية لزم أن ينتزع من واحد بسيط بنفسه من دون اعتبار حيثية أخرى مفهومان مختلفان ، وهو باطل ، فماهية الواجب عين وجوده في الذهن - وهو الوجود الاعتباري المنتزع - ، كما أنّ وجوده الحقيقي - أي : ما هو منشأ انتزاع الوجود الاعتباري - عين حقيقته في الخارج. وهذا هو ما صرّح به المحقّقون من أنّه كما أنّ الوجود الحقيقي للواجب عين حقيقته في الخارج فكذلك الوجود المنتزع عنه عين مهيته في الذهن ، فالماهية بالحقيقة منفية عنه - سبحانه -. ولذا صرّح الحكماء بأنّ الواجب ليس له كنه ، لأنّ المراد من « الكنه » هو الماهية من دون الوجود ، ولو كان المراد من الكنه هو الوجود الخارجي وكان مرادهم من نفي الكنه عنه حينئذ انّ كنهه لا يمكن أن يصير معقولا - لأنّ الوجود الخارجى من حيث هو وجود خارجى لا يحصل في الذهن - ، ورد عليه : إنّ نفي تعقّل الكنه بهذا المعنى لا يختصّ بالواجب ، لأنّ كلّ موجود خارجي من حيث انّه موجود في الخارج لا يمكن أن يحصل في الذهن.

ص: 533

تتميم

قد ظهر من البراهين الّتي ذكرناها لاثبات عينية الوجود وكون ذاته - تعالى - صرف الوجود انّه يلزم أن يكون بحت الوجود متحقّقا في الخارج وقائما بذاته وهو الواجب - سبحانه - ، وبهذا الطريق يحصل برهان على اثبات الواجب - سبحانه - هو اوثق البراهين. بيانه : إنّه لو لم يكن صرف الوجود موجودا وكان جميع الموجودات زائدة على المهيات لكانت المهيات في اتصافها بها والوجودات في حصولها لها محتاجة إلى العلّة ، والعلّة لا يمكن أن تكون نفس المهيات - لأنّ الشيء لا يمكن أن يفيض وجوده بنفسه - ، فتعيّن أن يكون غيرها ؛ والغير إن كان ما هو وجوده زائد على مهيته فننقل الكلام إليه ، فيلزم التسلسل ، وهو باطل ، فيلزم أن يكون صرف الوجود موجودا حتّى ينتهى إليه سلسلة الوجودات الامكانية. وقريب من هذا الطريق ما قيل في اثباته - سبحانه - : إنّ الموجود إمّا متعلّق بغيره بوجه من الوجوه ، أو غير متعلّق بشيء أصلا ، والمتعلّق بغيره إمّا يكون تعلّقه من حيث امكانه ؛ أو من حيث كونه ذا ماهية ؛ أو من حيث كونه موجودا بعد العدم. أمّا الأوّل - أعني : الامكان - فهو أمر اعتباري سلبي ، لأنّ مفهومه سلب ضرورة الوجود والعدم عن الماهية ، فلا يوجب تعلّقا بغيره ولا يكون متعلّقا بما سواه كما لا يكون معلولا لعلّة مباينة للمعلول أصلا - لكونه من لوازم المهيات الامكانية كما أنّ الحدوث من لوازم الوجودات الحادثة - ؛ وأمّا الثاني - أعني : الماهية - فهى ليست سببا للحاجة إلى العلّة ولا هي أيضا مجعولة متعلّقة بالجاعل ولا موجودة إلاّ بالعرض وبتبعية الوجودات ؛ وأمّا الثالث - أعني : كونه موجودا بعد العدم - إذا حللناه يحصل أمور ثلاثة : عدم سابق ؛ ووجود ؛ وكون هذا الوجود بعد ذلك العدم السابق. والعدم بما هو عدم نفي محض لا يصلح أن يتعلّق بشيء ، وكون الوجود بعد العدم من اللوازم الضرورية للموجود بعد كونه معدوما ، فلا يكون متعلّقا بالغير - لأنّ لوازم الشيء لذاته غير مجعولة - ، فالمتعلّق بالغير في الموجود الّذي تعلّق بغيره هو أصل وجوده لا مهيته ، ولا شيء آخر ؛ والوجود المتعلّق بالغير المقوّم به

ص: 534

يستدعي أن يكون مقوّمة له وما يفيضه وجودا أيضا - إذ غير الوجود لا يتصوّر أن يكون مقوّما للوجود وموجدا له - ؛ فان كان ذلك المقوّم الموجد قائما بنفسه فهو المطلوب ؛ وإن كان قائما بغيره فننقل الكلام إلى ذلك المقوّم وهكذا إلى أن يتسلسل أو يدور أو ينتهى إلى موجود قائم بذاته غير متعلّق بغيره. والأوّلان باطلان ، فتعيّن الثالث ، فلا بدّ من الانتهاء إلى وجود / 233 DA / غير متعلق لشيء أصلا ، وهو صرف الوجود وبحته. وهو الواجب - سبحانه - ، وما سواه رشحات فيضه وجوده ؛ هذا.

وامّا كون تعيّنه وتشخّصه عين ذاته - سبحانه - فقد ظهر ممّا ذكرناه ، لأنّ تشخّصه لو كان زائدا على ذاته فان كان هو في كونه موجودا متعيّنا مشخّصا مفتقرا إلى هذا الزائد كان ممكنا ، وإن كان موجودا متعيّنا بدونه كان اعتباره باطلا. وأيضا : التشخّص إمّا نحو الوجود - كما هو مذهب التحقيق - ، أو الخصوصيات والأعراض المنضمّة إلى الكلّي الّتي تجعله جزئيا بحيث لا يصدق على كثيرين ، وهذه الخصوصيات مثل الكمّ والكيف والوضع المعينين وغير ذلك. فعلى الأوّل - أعني : كون التشخّص نحو الوجود - فالعينية ظاهرة ، لأنّ نحو الوجود ليس زائدا على الوجود الّذي هو عين الذات ؛ وعلى الثاني - أعني : كون التشخّص / 231 MA / عبارة عن العوارض المنضمّة - نقول : لا ريب في أنّ ضمّ تلك العوارض والخصوصيات إلى الماهية الكلّية محتاج إلى علّة ، ولا يمكن أن يكون تلك العلّة غير الواجب تعالى - للزوم احتياجه تعالى إلى غيره - ؛ ولا يمكن أن يكون ذات الواجب أيضا - لأنّ الشيء لا يكون علّة ما لم يكن موجودا ولا يكون موجودا ما لم يكن متشخّصا - ؛ اقول : وكذلك لا يكون متشخّصا ما لم يكن موجودا على ما قيل : « الشيء ما لم يوجد لم يتشخّص ». فلو كان الواجب علّة لتشخّص ذاته فيجب أن يكون متشخّصا حتّى يكون علّة تشخّصه لنفسه ، فالشخص المقدّم إن كان عين الشخص المعلول لزم تقدّم الشيء على نفسه. وإن كان غيره ننقل الكلام إليه حتّى يلزم التسلسل ، وهو باطل ، فيجب أن يكون تشخّصه - سبحانه - بنفس ذاته.

وقد ظهر من هذا أنّ ذات الواجب لا يمكن أن يكون ماهية كلّية - أي : ماهية تكون معروضة للتشخّص - كما أنّه لا يمكن أن يكون ماهية معروضة للوجود ، فالوجود و

ص: 535

التشخّص كلاهما في الواجب عين الذات.

ثمّ اعلم! ، أنّ الماهية المعروضة للوجود تكون كلّية كماهية الانسان المعروضة لوجوده ، وتكون جزئية كماهيّة زيد المعروضة لوجوده ؛ وأمّا الماهيّة المعروضة للتشخّص فلا تكون إلاّ كلّية ، فانّ الماهيّة المعروضة لتشخّص الانسان والمعروضة لتشخّص زيد ماهية واحدة كلّية ، لأنّ تشخّص زيد هو بعينه تشخّص الانسان أيضا ، ومعروض التشخّصين واحد. وأمّا معروض وجودهما ليس واحدا وإن كان وجود زيد هو بعينه وجود الانسان أيضا ، لأنّ وجود زيد من حيث أنّه وجود زيد معروضه مجموع ماهية الانسان مع التشخّص ، ومن حيث أنّه وجود انسان معروضه ماهية الانسان بدون التشخّص.

البحث الثاني : في نفي التركيب الّذي يتصوّر باعتبار الانقسام إلى الذات والصفات عنه - سبحانه ، أعني : اثبات عينية صفاته الكمالية لذاته وعدم زيادتها عليه -

ونحن قد بيّنا فيما تقدّم ما هو الحقّ في معنى عينية الصفات وقرّرنا ذلك مفصّلا ومشروحا ، فهاهنا نكتفي بذكر بعض البراهين الدالّة على نفي زيادة صفاته على ذاته - تعالى -. والبراهين على ذلك كثيرة :

فمنها : إنّ وجوب الوجود يدلّ على نفي الصفات الزائدة كما أنّه يدلّ على نفي التركيب مطلقا ، لأنّ الصفات الزائدة إن كانت واجبة لذاتها لزم تعدّد الواجب ، وهو باطل ؛ وإن كانت ممكنة لذاتها فالموجب لها إن كان ذات الواجب لزم أن يكون الواحد قابلا وفاعلا ، وهو باطل - على ما مرّ - ؛ وإن كان غيره لزم افتقار الواجب إلى غيره.

ومنها : إنّ صفاته - سبحانه - لو كانت زائدة على ذاته قائمة بها لكانت متأخّرة بالذات عن الذات - سواء كانت مستندة إليه سبحانه أو إلى غيره - ، فذات الواجب

ص: 536

يكون في مرتبة الذات المتقدّمة على الصفات خالية عن الصفات الكمالية ، وهو يوجب النقص والتركيب. أمّا لزوم النقص فلأنّ خلوّه في مرتبة الذات عن الصفات الكمالية نقص لا محالة ، فيكون في مرتبة ذاته مشتملا على النقص ؛ وأمّا لزوم التركيب فلأنّه - تعالى - في مرتبة ذاته المقدّمة الّتي لم توجد فيه الصفات تكون له - تعالى - قوّة الاتصاف بها ، فتكون هذه المرتبة ظرفا لامكان تلك الصفات وتكون هذه الصفات ممكنة له - سبحانه - ، فيلزم أن يكون الواجب - تعالى - في مرتبة الذات مشتملا على جهة امكانية ، فيلزم أن يكون مركّبا من جهتي الوجوب والامكان ، لأنّ الوجوب والامكان لا يمكن أن يتحقّقا من جهة واحدة ؛ ولا ريب في بطلان تركّبه - تعالى - من جهتين / 233 DB / الوجوب والامكان ، لأنّ واجب الوجوب بالذات واجب الوجود من جميع الجهات.

ومنها : انّه لو كان له - تعالى - صفات زائدة على ذاته لكان محتاجا إليها في صدور الآثار ، والاحتياج إلى الصفة الّتي هي غير الذات في صدور الآثار نقص ؛ ولو قطع النظر عن لزوم النقص نقول : لا ريب في أنّ الوجود المستغني في صدور الآثار عن الصفات أكمل من الوجود المحتاج فيه إليها - كالوجودات الناقصة الامكانية الّتي تحتاج في صدور كلّ نوع من الآثار إلى صفة - ، ولا ريب في أنّ وجود الواجب أكمل انحاء الوجودات وأجمل انحاء الموجودات مستغن عن الصفة في صدور الآثار ، فيجب أن يكون وجود الواجب مستغنيا عنها فيه.

ومنها : إنّ صفاته - سبحانه - كالعلم والقدرة والإرادة لو كانت زائدة على ذاته لكانت معلولة للواجب - سبحانه - ؛ فصدورها من الذات إمّا بواسطة تلك الصفات بعينها ؛ أو بواسطة غيرها من / 231 MB / نوع تلك الصفات ؛ أو بلا واسطة صفات أصلا ، والأوّل يوجب تقدّم الشيء على نفسه ، والثاني يوجب التسلسل ، والثالث يوجب كونه - تعالى - فاعلا موجبا بالنسبة إلى ايجاد تلك الصفات ، والايجاب بهذا المعنى - أي : صدور الفعل بدون العلم والقدرة والإرادة عنه ، سبحانه - باطل باجماع العقلاء.

ومنها : إنّ صفاته - تعالى - لو كانت زائدة على ذاته فامّا أن تكون حادثة ، أو

ص: 537

قديمة ؛ والأوّل يوجب كون ذاته - سبحانه - محلاّ للحوادث ؛ والثاني يوجب تعدّد القدماء.

ثمّ الأشاعرة القائلون بزيادة الصفات أوردوا على القائلين بالعينية بانّه يلزم عليكم نفي الصفات رأسا - إذ لا فرق بين عينية الصفات وعدمها - ، فيلزم خلوّ الواجب عن الصفات الكمالية ، وهو نقص.

والجواب : إنّه يلزم الخلوّ عن الصفات إذا انتفى آثارها ، وامّا مع ترتّب آثارها فلا يلزم نقص أصلا ، إذ لا ريب في أنّ ترتيب آثار الصفة على مجرّد الذات من دون احتياج إلى الصفة أكمل من الترتيب مع وجود الصفة الزائدة. على أنّ القائلين بالعينية لا يقولون بعدم الصفة مصداقا ومفهوما ، بل يثبتون مفهوم الصفة ويقولون : انّ مصداقه مجرّد الذات الحقّة البسيطة ؛ ولا يشترطون في تحقّق مفهوم الصفة مصداقا مغايرا للذات ، بل يقولون : إنّ المصداق أعمّ من أن يكون مغايرا للذات - كما فينا - أو عين الذات - كما في الواجب -.

البحث الثالث : في نفي التركيب والكثرة قبل الذات عنه - سبحانه ، أعني : تركيبه سبحانه من اجزاء خارجية أو عقلية -

وهو المعبّر عنه بتوحيده - تعالى - في ذاته.

اعلم! ، أنّ الادلّة على ذلك كثيرة بعضها يدلّ على نفي التركيب من الأجزاء مطلقا ، سواء كانت اجزاء وجودية خارجية مقدارية متشابهة أو غير متشابهة ، أو غير مقدارية - كالمادّة والصورة الخارجيتين - أو اجزاء وجودية عقلية بشرط اللاّئية - كالمادّة والصورة الذهنيتين - أو اجزاء عقلية حدّية حملية لا بشرطية - كالجنس والفصل -. وبعضها يدلّ على خصوص نفي تركّبه من اجزاء خارجية أو نفي اجزاء عقلية وإن كان ما دلّ على نفي تركّبه من الأجزاء العقلية دالاّ على نفي تركّبه من الأجزاء

ص: 538

الخارجية أيضا - كما سنشير إليه -. ونحن نذكر أوّلا ما يدلّ على نفي تركّبه من الاجزاء مطلقا ثمّ نذكر ما يدلّ على نفي خصوص كلّ من الاجزاء الخارجية أو العقلية ؛ فنقول : يدلّ على الأوّل - أعني : نفي تركّبه من الاجزاء مطلقا - وجوه :

منها : إنّ كلّ مركّب من اجزاء خارجية - بأيّ نحو كان - أو اجزاء عقلية فاجزائه لا محالة متقدّمة عليه وهو متأخّر عنها بالذات ، فذاته انّما صارت موجودة بعد ما كانت معدومة في مرتبة وجود اجزائها ؛ أمّا إن كانت الأجزاء خارجية فظاهر ، وامّا إن كانت عقلية فلأنّ كونه موجودا لا يصحّ إلاّ وقد تحصّلت ذاته وتمت بعد تحصيل أجزائه ، ولا ريب في أنّ الموجود بعد العدم ممكن ، فيلزم أن يكون الواجب ممكنا ؛ وهو باطل.

ومنها : إنّه - تعالى - لو كان مركّبا لكانت اجزائه متقدّمة عليه بالطبع ، وكان وجوده موقوفا على وجود اجزائه لا محالة - سواء كانت اجزاء خارجية كاجزاء البيت والسرير والمركبات العنصرية واجزاء العناصر من الهيولى والصورة او أجزائها المتشابهة ، أو اجزاء ذهنية كالجنس والفصل -. والتوقّف / 234 DA / في الأجزاء الخارجية ظاهر ، وأمّا الأجزاء الذهنية وإن لم يكن كلّ واحد منها موجودا بوجود على حدة في الخارج - بل في الذهن فقط ، لأنّ الأجزاء الذهنية هي الأجزاء الّتي إذا حصلت الماهية في العقل يحللها إليها ولم يكن شيء منها موجودا في الخارج بوجود على حدة ، فيكون وجود الأجزاء ذهنيا ووجود المركّب من حيث أنّه مركّب أيضا ذهنيا ، ولا يحصل تركيب في الخارج مع أنّ التوقّف على الأجزاء الّذي يحصل منه الاحتياج المنافي للوجوب انّما هو التوقّف على الأجزاء الموجودة في الخارج ، لأنّ التقسيم إلى الموادّ الثلاث انّما هو بحسب الوجود الخارجى - ، إلاّ أنّه لا شبهة في أنّ الأجزاء الذهنية لها وجود وهي نفس أمري لا وجود ذهني اختراعى ، ووجود النفس الأمري راجع إلى الوجود الخارجى ، فلو تركّب الواجب - سبحانه - من الأجزاء العقلية لتوقّف / 232 MA / وجوده في نفس الأمر على وجود الأجزاء النفس الامرية ، فتوقّف المركّب على الاجزاء - سواء كانت خارجية أو عقلية - لازم. وإذا كان متوقّفا عليها يكون مفتقرا إليها ، والمفتقر إلى الغير وإن كان ذلك الغير جزء لها لا يكون واجب الوجود ، بل

ص: 539

ممكنا ؛ فكلّ مركّب لا يكون واجب الوجود ، فواجب الوجود يمتنع أن يكون مركّبا.

وفرق هذا الدليل عن سابقه انّما هو بلزوم الامكان فيه من طريق الاحتياج إلى الغير وفي السابق بموجوديته بعد العدم ، وإن كان الاحتياج إلى الغير والموجودية بعد العدم متلازمين ؛ فمآل الدليلين واحد.

ومنها : انّه لو كان الواجب مركّبا من الأجزاء فامّا أن يكون كلّ واحد من تلك الأجزاء واجب الوجود ، أو ممكن الوجود ، أو يكون بعضها واجب الوجود وبعضها ممكن الوجود. والأوّل باطل ، لأنّ كلّ حقيقة تألّف من الأجزاء تألّفا طبيعيا - نوعيا كان أو جنسيا ، لا اعتباريا ولا مصنوعيا ، لا بدّ أن يكون بين اجزائه علاقة لزومية وارتباط طبيعي ، إذ لا يتصوّر تركّب حقيقة نوعية أو جنسية من أمور متباينة مستغنية بعضها عن بعض بحسب الوجود - وقد تبيّن ذلك في العلم الإلهي - ، فالأجزاء الخارجية للطبائع النوعية سواء كانت الاجزاء المادّية لها - كاجزاء الماء والنار وغيرهما ، أو الهيولى والصورة لها - والأجزاء العقلية لها كاجناسها وفصولها لا بدّ أن تكون بينهما علاقة لزومية وارتباط ايجابي وحينئذ لو تركّب الواجب - سبحانه - من الأجزاء لزم أن تكون هذه الأجزاء متلازمة ، اذ يكون تركّبه تركّبا طبيعيا حقيقيا لا مصنوعيا أو اعتباريا ؛ إذ الأوّل بديهي البطلان - لافتقاره إلى صانع - ؛ والثاني يرجع إلى تعدّد واجب الوجود وتحقّق العلاقة اللزومية بين الواجبات باطل - إذ يلزم افتقار كلّ واجب إلى الآخر - ؛ والاخيران - أعني : كون جميع الأجزاء ممكنة أو بعضها ممكنا وبعضها واجبا - أيضا باطلان ، للزوم احتياج الواجب في قوام ذاته وتحقّق حقيقته إلى الممكن ولزوم تقدّم الممكن على الواجب بحسب الذات ، وهو محال.

ومنها : انّا قد بيّنا انّ الواجب - سبحانه - صرف الوجود ، وصرف الوجود لا يمكن أن يكون مركّبا من الاجزاء الخارجية والذهنية ، لأنّه لو كان له اجزاء لكانت تلك الأجزاء غيرها - لأنّ الشيء نفسه لا يكون جزء نفسه - ، فتلك الأجزاء الّتي هي غير صرف الوجود واجزاء له لا بدّ أن تكون مقدّمة بالوجود في الخارج أو في العقل - على ما هي اجزاء له ، أعني : صرف الوجود - ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه ؛ وهو

ص: 540

باطل.

ومنها : إنّ الواجب صرف الوجود - كما بيّناه - ، فلو تركّب من الاجزاء فاجزائه إن كانت غير الوجود خرج الواجب عن كونه صرف الوجود ؛ وإن كان كلّ واحد منها أيضا صرف الوجود لزم التعدّد والتكثّر في صرف الوجود ، مع انّا نبيّن في بيان نفي الشريك في وجوب الوجود عنه - سبحانه - إنّ صرف الوجود لا يتعدّد - لا بالانفراد والاستقلال ولا بالتركيب -. وأيضا نحن بيّنا إنّ صرف الوجود هو القائم بذاته والمنشأ للآثار الخارجية ولانتزاع مفهوم الوجود بنفسه من غير احتياج إلى شيء آخر ، فلو كان اجزائه أيضا صرف الوجود فان كان كلّ واحد منها أيضا قائما بنفسه منشئا للآثار وانتزع مفهوم الوجود بنفسه فلا معنى لتركّبها والتيامها ؛ أمّا أوّلا فلأنّ كونه / 234 DB / جزء وكونه قائما بذاته لا يجتمعان ؛ وأمّا ثانيا فلأنّ التركيب يكون حينئذ لغوا غير مرتّب عليه شيء وإن لم يكن كلّ منها كذلك ولم يكن صرف الوجود ، وقد فرضناه صرف الوجود ، هذا خلف ؛ هذا.

وقد استدلّ الشيخ في النجاة على المطلوب - أعني : بطلان تركّب الواجب بالذات من الأجزاء مطلقا - بما حاصله : إنّ الواجب لذاته لا جزء له وإلاّ لامكن الواجب لذاته ، لكن التالى باطل ؛ فكذا مقدّمه. أمّا بطلان التالي فهو ظاهر ؛ وأمّا الملازمة فلأنّ كلّ ما هذا شأنه وصفته كان ذات جزء منه ومفهومه ليس هو ذات الجزء الآخر ومفهومه ولا ذات المجتمع ومفهومه ؛ وحينئذ إمّا أن يصلح لكلّ واحد من اجزائه مثلا وجود منفرد ولا يصحّ للمجتمع ولا لبعضها الآخر وجود دونها ، فما لا يصحّ له هذا من المجتمع والاجزاء لا يكون واجب الوجود لذاته ، / 232 MB / بل الواجب هو الّذي يصحّ له ذلك ؛ وإن كان لا يصحّ لتلك الاجزاء مفارقة الجملة في الوجود ولا للجملة مفارقة الأجزاء وكان وجود كلّ واحد متعلّقا بالآخر وليس واحد أقدم بالذات فليس شيء منها بواجب. على أنّ الأجزاء بالذات أقدم من الكلّ. وليس يمكننا أن نقول : إنّ الكلّ أقدم بالذات من الأجزاء ، فهو إمّا أن يكون متأخّرا ، وامّا يكون مقارنا ؛ فالأوّل باطل - لأنّ ما فرض أنّه واجب بالذات لا يكون شيء أقرب منه إلى الوجود - ؛ والثاني

ص: 541

أيضا باطل ، لأنّ العقل يحكم بأنّ الجزء الحقيقي والكلّ لا يكونان في مرتبة واحدة ؛ هذا.

وأمّا ما يدلّ على خصوص أنّ الواجب - سبحانه - ليس له اجزاء مقدارية فهو إنّه لا ريب في تشابه الجزء المقداري وكلّه في الحقيقة النوعية - كما قرّره الحكماء في ردّ مذهب ذيمقراطيس -. وحينئذ نقول : لو كان للواجب جزء مقداري فهو إمّا ممكن - فيلزم أن يخالف الجزء المقداري كلّه في الحقيقة ، وهو خلاف ما قرّروه - ؛ وإمّا واجب فيكون الواجب بالذات غير موجود بالفعل ، بل بالقوة - لأنّ الأجزاء المقدارية ليست موجودة بالفعل بل اجزاء تحليلية بالقوة - ، وهو - أعني : كون الواجب بالقوّة - بديهى البطلان.

ويقرب من هذا الاستدلال ما استدلّ به بعض الأفاضل حيث قال : إنّ الواجب لذاته لمّا كان هو الوجود المتأكّد فان كان له اجزاء مقدارية تحليلية فجزؤه المقداري التحليلي إمّا وجود متأكّد أو أمر آخر ، وعلى الأوّل يلزم كون ذلك الجزء واجبا لذاته - بناء على ما سبق من أنّ الوجود المتأكّد يكون واجبا لذاته - ؛ وعلى الثاني يكون ذلك الجزء ممكنا لذاته - لأنّ ما عدا الوجود المتأكّد لا يكون واجبا - ، فيلزم أن يخالف الجزء المقداري كلّه في الحقيقة ، مع أنّه قد تقرّر عندهم أنّ الجزء التحليلي لا يخالف الكلّ في الحقيقة. قال بهمنيار في التحصيل : اعلم! أنّ الماء والخمر مثلا لا يصلح أن يكون بينهما وحدة بالاتصال حقيقة ، فانّ الموضوع للمتصل بالحقيقة جسم بسيط متفق بالطبع ، والحكماء ردّوا مذهب ذيمقراطيس بأنّ الأجزاء الفرضية لتلك الأجسام يشارك الكلّ في الحقيقة ويشارك باقي الأجزاء فيها ، فكون الجزء ممكنا مع كون الكلّ واجبا باطل - بناء على ما قرّروه -.

فان قيل : توافق الأجزاء المقدارية للكلّ في الحقيقة ممنوع ، ولم لا يجوز أن تكون الحقائق المتباينة لها اتصال واحد؟! ، ونظير ذلك ما ذكره المشّاءون من أنّ ما فيه الحركة إذا كان كيفا فهناك كيفية بسيطة متصلة صالحة لأن ينقسم إلى كيفيات مختلفة الحقيقة ، وبالجملة العقل لا ينقبض في بادي الرأي من أن يكون للأجسام المختلفة الحقيقة اتصال واحد ، ولا بدّ لنفي ذلك من بيان.

ص: 542

قلنا : قد أشرنا فيما سبق أنّ كلّ حقيقة نوعية أو جنسية لا بدّ أن يكون بين اجزائها علاقة لزومية وارتباط ايجابي وإلاّ لم يتصوّر تركّبها من تلك الأجزاء وحصول التأليف بينها ، ولا ريب في أنّ الأمور المتباينة المتفاصلة المستغنية بعضها عن بعض لا يتصوّر بينها علاقة لزومية ، وهذا مع بداهته وحكم الفطرة السليمة عليه قد تبيّن في العلم الإلهي بوجوه برهاني.

ثمّ الحق إنّ الأجزاء المقدارية التحليلية وإن لم تكن اجزاء موجودة بالفعل إلاّ أنّه لا ريب في انّها اجزاء نفس أمرية واقعية ، كيف وقد بيّنا أنّ الأجزاء العقلية اجزاء واقعية نفس امرية ، فكيف لا تكون الأجزاء المقدارية كذلك؟! ، / 235 DA / فلو تركّب الواجب منها لزم افتقاره إلى غيرها ؛ ولزم تقدّم غير الواجب عليه بالوجود.

وبذلك يظهر تمامية ما استدلّ به المعلم الثاني في الفصوص على نفي تركّبه - سبحانه - من اجزاء القوام حيث قال : إنّ وجوب الوجود لا ينقسم باجزاء القوام - مقداريا كان أو معنويا - وإلاّ لكان كلّ جزء منه إمّا واجب الوجود - فيتكثّر واجب الوجود - ، وإمّا غير واجب الوجود وهو أقدم بالذات من الجملة ، فيكون الجملة ابعد من الوجود (1) ؛ انتهى.

ومراده من الشقّ الثاني إنّ كلّ ما هو جزء الشيء يجب أن يكون متقدّما بالوجود على ما هو جزء له ، فاذا فرض أنّ غير الواجب يكون جزء له فلا بدّ أن يكون ذلك الغير متقدّما عليه بالوجود ويكون أقرب إلى الوجود بالقياس إلى الواجب مع كون ذلك الغير ممكنا ، فيلزم أن يكون الممكن متقدّما على الواجب بالذات / 233 MA / بالوجود ؛ وهو باطل.

وأيضا إذا فرض أنّ الشيء يكون واجب الوجود فلا معنى لكون شيء آخر اقرب منه إلى الوجود ، لأنّه ليس شيء أقرب إلى الوجود من الواجب بالذات ، لأنّ نسبة الوجود إلى الواجب بالذات نسبة الذاتي - بناء على عينية الوجود في الواجب بالذات - ، ونسبة الوجود إلى الممكن بالذات نسبة العرض الخارج عن الذات المعلّل لغير الذات ،

ص: 543


1- راجع : فصوص الحكم ، الفص 9 ؛ نصوص الحكم ، ص 46.

فيكون وجود الممكن بالذات أمرا غريبا مستفادا من الغير.

والوجه في تماميته ما ذكره المعلم الثاني : إنّ الأجزاء المقدارية كما عرفت اجزاء واقعية نفس أمرية ، فلو تركّب الواجب منها يلزم ما ذكره من الفساد.

والعجب أنّ المحقّق الدواني بعد نقل هذا الاستدلال من الفارابي قال : وهذا كلام مظلم! ، لأنّ الأجزاء التحليلية للشيء ليس لها تقدّم على الشيء ، لأنّ ذلك الشيء بسيط لا يسبقه وجود تلك الأجزاء ، فتلك الأجزاء اجزاء وهمية له ، فلا يلزم تقدّمها عليه بحسب الوجود الخارجى ؛ انتهى.

ودفعه ما ذكرناه من أنّ الأجزاء التحليلية اجزاء نفس أمرية واقعية ، فتقدّمها على الكلّ بديهي. على انّك قد عرفت أنّ الأجزاء الفرضية لتلك الأجسام يشارك الكلّ في الحقيقة ويشارك باقي الاجزاء فيها ، فيصحّ عليها من الافتراق والاتصال ما يصحّ على غيرها من الأجزاء الموجودة بالفعل ، فحينئذ ما يتصوّر أن يكون له جزء تحليلي يلزم أن يكون له جزء خارجي ، فيكون الواجب لذاته مفتقرا إلى الجزء الخارجي. وحينئذ نعود ونقول : إنّ ذلك الجزء إن كان وجودا متأكّدا كان واجبا لذاته ، فيكون موجودا بالفعل لا جزء تحليليا ، مع أنّه يلزم تعدّد الواجب بالذات ؛ وإن كان غير الوجود المتأكّد يكون ممكنا لذاته ، فتغاير الكلّ بالحقيقة ويكون جزء خارجيا أيضا لا تحليليا ، مع أنّه يلزم منه تركّب الواجب من الممكن.

ثمّ إنّه قد أجيب عن ايراد المحقّق الدواني أيضا : بأنّ ذات الجزء التحليلي مقدّم على البسيط بمعنى أنّ العقل إذا قاس الكلّ وذلك الجزء إلى الوجود يحكم بتقدّم ذات الجزء عليه ، وذلك لا ينافي تأخّر وصف الجزئية عنه ، فذات الجزء مقدّم ووصف الجزئية متأخّر.

وهذا الجواب عند التأمّل أيضا صحيح لا غبار عليه ، لأنّه لا ريب في تقدّم ذات الجزء على الكلّ ، وهو كاف للزوم الفساد.

وما قيل في دفعه ظاهر الضعف!.

وحاصل الدفع : إنّ ذات الجزء التحليلي أمر ينتزع العقل بمعونة الوهم من

ص: 544

المتصل ؛ فان أريد بالذات هذا المعنى فهو ليس متقدّما على المتصل في الوجود الخارجي ؛ وإن أريد به مأخذ هذا الجزء وما انتزع هو منه فذلك هو المتصل نفسه ، فلا يتقدّم على نفسه. وبالجملة إنّ المتصل الواحد ما لم ينفصل إلى الأجزاء لم تكن هناك إلاّ ذات واحدة لا ذوات متعدّدة ، وإذا انفصل إلى الأجزاء فقد انعدمت الذات الواحدة وحدث ذوات متعدّدة ، فلم يتحقّق ذات واحدة مشتملة على الذوات المتعدّدة ؛ انتهى.

ووجه الضعف : إنّ ذات الجزء المقداري له تحقّق في الواقع ونفس الأمر مع قطع النظر عن انتزاع الوهم ، فله تقدّم بحسب الواقع ونفس الأمر.

ثمّ إنّه لمّا ثبت أنّ الواجب ليس له اجزاء مقدارية يظهر منه أنّه - سبحانه - ليس جسما ولا جسمانيا - لعدم انفكاك الجسم عن الأجزاء المقدارية -.

ثمّ / 235 DB / لمّا كان تجرّد الباري - سبحانه - عن الجسمية ركنا عظيما في باب التوحيد واثباته من أهمّ المطالب الإلهية ، نظرا إلى مخالفة بعض الطباعية - خذلهم اللّه ، حيث ذهبوا إلى قدم الافلاك والعناصر وكونها موجودة بذاتها ومؤثّرات فيما بعدها من الموجودات واجبة بانفسها من دون احتياج إلى مؤثّر - ، فلا بدّ لنا من اقامة بعض آخر من البراهين على عدم كون الواجب جسمانيا - تقوية للاعتقاد وازالة للشبهات الوهمية -.

فنقول : من البراهين على ذلك إنّ الجسم مركّب من الأجزاء المقدارية ومن الهيولى والصورة ، وتلك الأجزاء متقدّمة عليه بالوجود وهو مفتقر في تحقّقه إليها ، فلو كان الواجب جسما لكان غيره متقدّما عليه بالوجود وكان محتاجا إلى الغير ؛ وهو باطل ؛ ولا يجوز أن يكون جسمانيا - أعني : قوّة لجسم أو صورة له - لتوقّف وجوده على الجسم. والقول بأنّه ليس كلّ قوّة أو صورة لجسم عرضا قائما به - إذ / 233 MB / من القوى والصور ما لا يكون عرضا ولا قائما بالجسم من حيث ذاته ولا محتاجا إليه من كلّ وجه ، فيجوز أن يكون ذات الصورة أمرا مقوّما للجسم مقدّما عليه ، ثمّ يتوقّف في أفعاله ولوازمه وتعيناته على ذلك الجسم - ، ففيه : إنّ توقّف الصورة في أفعالها ولوازمها على الجسم يكفي لنفي كونها واجبة ، إذ الاحتياج بأيّ وجه كان ينافي وجوب الوجود.

على أنّه لا ريب في أنّ الصورة بنفسها من دون انضمامها إلى الهيولى لا يمكن أن تكون

ص: 545

موجودة ، فهى في تحقّقها في الخارج ووجودها في الأعيان محتاجة إلى الغير ، وقد صرّحوا بأنّ الصورة محتاجة في وجودها إلى المادّة والاحتياج ينافي وجوب الوجود ، فلا يمكن أن تكون الصورة واجبة الوجود. وكذا لا يمكن أن تكون الهيولى واجبة الوجود ، إذ المادة انّما هي محض القوّة ولا يمكن أن يكون شيء في الواجب بالقوّة ، إذ لو وجد في الواجب ماهية القوّة لكانت ممكنة الحصول له وإلاّ لم يكن معنى لكونها بالقوّة ، فيكون للواجب قوة واستعداد بالنسبة إلى هذا الأمر الّذي له بالقوة مع أنّه - سبحانه - موجود بالفعل ، فيكون مشتملا على القوّة والفعل معا ، وكلّ مشتمل على القوّة والفعل يكون مركّبا ، فيكون الواجب مركّبا ؛ وهو باطل - كما تقدّم -.

وأيضا : لو كان للواجب شيء ممكنا فان لم يكن حصوله متوقّفا على شيء خارج عن الذات بل كان متوقّفا على مجرّد الذات لم يجز أن يكون ذلك الشيء بالقوّة - لأنّ الذات موجودة بالفعل وهو علّة مستقلّة له ، ووجود العلّة مستلزم لوجود المعلول - ؛ وإن كان متوقّفا على أمر آخر سوى الذات لزم احتياجه إلى الغير ؛ وهو باطل.

ومنها : إنّ تاثير كلّ جسم في غيره انّما هو بمشاركة الوضع ولا يتصوّر وضع بالنسبة إلى ما لم يوجد - ولذا حكموا بأنّ الجسم لا يوجد جسما آخر - ، فلو كان الواجب جسما لم يقدر على ايجاد شيء أصلا ، فلزم أن لا يكون غيره موجودا - لعدم تصوّر وضع له بالقياس إلى غيره ممّا لم يوجد من المجرّدات والمادّيات -.

ومنها : إنّ كلّ جسم مركّب من المادّة والصورة وكلّ مركّب من المادّة والصورة مفتقر إلى فاعل من خارج عن ذاته ، لأنّ الجزء المادّي في ذاته أمر مبهم لا يتحصّل إلاّ بالصورة ، والجزء الصوري لو كان فاعلا لمادّته مستغنية به في وجودها عن فاعل آخر ولم يكن قيامه بمادّة بل كلّ ذي مادّة كما يفتقر إلى تلك المادّة في وجوده وكذا يفتقر إلى المادّة في فعله وايجاده ، لأنّ الايجاد متقوّم بالوجود ، فالمفتقر إلى شيء في الوجود يلزمه أن يفتقر إليه في الايجاد أيضا ، فلا يمكن أن تكون الصورة فاعلة للمادّة ، فلو كان الواجب - تعالى - جسما يلزم افتقاره إلى خالق آخر في وجوده وفي صنعه جميعا ، واللازم باطل ، فكذا الملزوم ؛ هذا.

ص: 546

وأمّا ما يدلّ على خصوص أنّ الواجب ليس له اجزاء عقلية فوجوه :

منها : إنّ احتياج الجنس إلى الفصل ليس في مفهومه من حيث هو هو - كما هو مقرّر عندهم - ، بل في أن يوجد ويحصل بالفعل ، فانّ الفصل كالعلّة المفيدة للجنس باعتبار بعض الملاحظات العقلية ، فلو كان للواجب جنس وفصل فجنسه إمّا يكون مفهوما غير الوجود / 236 DA / المتأكّد - فيكون واجب الوجود ذا ماهية ، وقد تقدّم أنّه ليس له ماهية سوى الوجود - ؛ وإمّا عين الوجود المتأكّد - فلا يحتاج في أن يوجد إلى فصل ، فيكون ما فرضناه فصلا غير فصل ، وكذا ما فرضناه جنسا غير جنس -. وإذا انتفت عنه - سبحانه - الأجزاء العقلية يلزم منه انتفاء الأجزاء العينية - كالمادّة والصورة الخارجيتين - ، إذ كلّ بسيط في التصوّر بسيط في الخارج دون العكس. فجميع ما يدلّ على انتفاء الاجراء العقلية عنه - سبحانه - يدلّ على انتفاء الأجزاء الخارجية عنه - تعالى - أيضا.

ومنها : إنّه لو كان للواجب اجزاء عقلية فلا يخلوا : إمّا أن يكون جميعها أو بعض منها محض حقيقة الوجود ، أو لا يكون شيء منها كذلك ، وعلى التقادير يمتنع الحمل ، وهو خلاف الفرض.

ومنها : إنّ الواجب لو كان له اجزاء عقلية من الجنس والفصل لكان حقيقة نوعية ، وإذا كان حقيقة نوعية احتاج في وجوده الخارجي إلى تشخّص زائد على حقيقته - سواء كان محصورا في فرد كالعقل أو الشمس أو لا ، اذ الماهية النوعية لكونها كلّية لا يمكن أن يكون التشخّص عين ذاتها -. وإذا كان تشخّصه زائدا على ذاته نقول : إنّ التشخّص انّما هو سبب في كون الشيء موجودا بالفعل لا في تقويم معنى الذات وتقريره ، وكما أنّ النوع لا يحتاج إلى الفصل في كونه متصفا بالمعنى الجنسي - بل في كونه محصّلا / 237 MA / بالفعل - فكذلك الشخص لا يحتاج إلى التشخّص في كونه متصلا بالمعنى الّذي هو النوع ، بل يحتاج إليه في كونه متصفا بالوجود.

ثمّ إنّه لمّا ثبت أنّ واجب الوجود مهيته عين وجوده فكلّ ما كان مقوّما لوجوده يكون مقوّما لسنخ حقيقته ، فلو كان حقيقته متشخّصة بتشخّص زائد على ذاته لكان

ص: 547

التشخّص محتاجا إليه في تحقّق المعنى النوعى وتقويمه ، وهو باطل - كما أشير إليه - ، فيجب أن يكون الواجب بالذات متشخّصا بنفس حقيقته لا بأمر زائد عليه - أي : يكون حقيقته عبارة عن تشخّصه ، كما أنّه عبارة عن نفس وجوده ، بل الوجود والتشخّص أمر واحد فيه سبحانه ، كما أشير إليه قبل ذلك - ؛ وحينئذ فالواجب - سبحانه - هو الوجود البحت فلا يكون نوعا مركّبا من الجنس والفصل ولا جنسا ولا يوصف بأنّه كلّي وجزئي - أي : شخص لطبيعة مرسلة - ، بل هو متميز بذاته منفصل بنفسه عن سائر الموجودات لا بامر فصلي أو عرضي ؛ وإذ لا جنس له ولا فصل له فلا حدّ له واذ لا حدّ له فلا علّة له.

وأمّا ما يدلّ على أنّ الواجب - سبحانه - ليس من الأجزاء العقلية - أعني : الجنس والفصل - فهو أنّ الأجزاء العقلية اجزاء تحليلية غير مستقلّة في الوجود ، وعدم الاستقلال في الوجود ينافي وجوب الوجود. وأيضا لا يمكن أن يكون الواجب جنسا ، لأنّ الجنس جزء الذات لا تمامه ، فلا بدّ له من جزء آخر يكون فصلا له ، فيلزم التركيب ؛ وهو باطل.

ص: 548

الفصل الثاني : في نفي الشريك عنه - سبحانه -

اشارة

ص: 549

( الفصل الثاني )

( في نفي الشريك عنه - سبحانه - )

وهو توحّده في وجوب وجوده.

والبراهين على هذا المطلب الأسنى أكثر من أن يحصى ، ونحن نكتفي هنا بذكر عدّة براهين هي اقوى البراهين وأتمّها.

فمنها : إنّه قد ثبت أنّ الواجب - سبحانه - صرف الوجود ومحض الموجود ولا تعدّد في صرف الشيء ومحوضته ، وهذا بديهي حدسي كشفي ، قال الشيخ الإلهي في التلويحات : « صرف الوجود الّذي لا أتمّ منه كلّ ما فرضته ثانيا فاذا نظرت فهو هو ، إذ لا ميز في صرف شيء » (1).

وتوضيح ذلك : انّ الواجب يجب أن يكون لمحوضة الوجود موجودا من غير ثبوت غير الوجود وممازجته معه ، لأنّ غير الوجود ليس إلاّ الماهية الفاقدة في مرتبة تقرّرها للفعلية ، وفقد الفعلية والوجود في أيّ مرتبة كانت ينافي كون الشيء واجبا - لتطرّق العدم حينئذ فيه - ، فلو كان الواجب متعدّدا فلا يوجد - لمحوضة الوجود ، لأنّ التعدّد والامتياز بعد زوال الجهة المشتركة الساذجة إلى مقام التعدّد والغيرية -. و

ص: 550


1- راجع : التلويحات ، ص 35.

التالي - أعني : عدم كون الواجب موجودا يعرضه الوجود - باطل ، فكذا المقدّم - أعني : تعدّد الواجب -.

وإلى ما ذكرناه أشار بعض المشاهير حيث قال : صرف الوجود من حيث هو موجود لا يتوهّم كثرته وتعدّده ، فصرف الوجود موجود باعتبار ذاته ولا يتكثّر من حيث هو موجود ؛ وهو المطلوب ، إذ لا نعنى بوحدة واجب الوجود إلاّ كونه موجودا بدون الكثرة ، ولهذا قيل : إنّ الوحدة في واجب الوجود من لوازم نفي الكثرة وفي غيره نفي / 236 DB / الكثرة من لوازم الوحدة ؛ انتهى.

والمراد من قوله : « ولهذا قيل : انّ الوحدة في واجب الوجود - ... إلى آخره - » الاستشهاد بكلام القوم على أنّ الواجب بمحض ذاته موجود من دون تصوّر الكثرة فيه. ولاقتضائه نفي الكثرة يكون واحدا ، فانّه - تعالى شأنه - لمّا كان موجودا بمحوضة الوجود والاطلاق من غير أن يكون له ماهية أو ارتباط بالسبب فهو بنفس ذاته بحيث ينتزع منه نفي الكثرة ، وهو مستلزم للوحدة ، فالوحدة في الواجب من لوازم نفي الكثرة ، فانّه ما لم يتحقّق سلب جميع وجوه الكثرة واقسامها لم يتحقّق الوحدة الصرفة الحقّة ، فالوحدة الصرفة الحقّة من لوازم سلب الكثرة. وأمّا الممكن لمّا لم يكن موجودا بصرافة الوجود واطلاقه بل بالماهية المشخّصة المرتبطة بالجاعل التامّ فهو بحسب مهيته يحتمل الكثرة ، لأنّ له جنسا وفصلا ولكن بحسب الجاعل يكون واحدا موجودا ، فوحدته ليست من لوازم نفي الكثرة ، بل نفي الكثرة من لوازم وحدته الحاصلة من الجاعل.

ثمّ اعترض على هذا الدليل بانّه انّما يتمّ لو كان معنى عينية الوجود في الواجب كونه عين معنى الوجود - لأنّ عين الوجود ومحضه لا يتكثّر - ، و/ 234 MB / أمّا على التحقيق الصحيح في معنى العينية من كون الواجب لمحض ذاته موجودا فلا يتمّ ذلك الدليل ، لورود الشبهة بانه ربما كان ذاتان أو اكثر كذا - أي : كون الجميع لمحض ذاته موجودا - ؛ انتهى.

وفيه : انّا بيّنا بالبراهين القاطعة أنّ الواجب صرف الوجود وعينه ، فالاعتراض

ص: 551

مندفع.

ومنها : إنّه لا يمكن تعدّد الواجب بالذات ، إذ حقيقته محض الوجود من حيث هو وجود وكلّ شيء حقيقته محض الوجود يكون متشخّصا بنفس حقيقته ، إذ لا يمكن أن يكون تشخّص حقيقة الوجود بشيء آخر ، وإلاّ لزم الاحتياج المنافي للوجوب.

ومنها : إنّ الواجب - كما علم - صرف الوجود ومحض الموجود ، ولا يتصوّر في محوضة المعنى الواحد التعدّد - لتساوي محض الشيء بالنسبة إلى مراتب الأعداد الّتي فوق الواحد -. والحاصل : إنّ الواجب - سبحانه - يجب أن يكون موجودا بمحوضة الوجود في الخارج ، ونسبة محض الشيء إلى المراتب الكثيرة الّتي فوق الواحد في أن يوجد متساوية ، فلو كان الواجب متعدّدا فوجوده في مرتبة من مراتب الأعداد الّتي فوق الواحد دون سائر المراتب يوجب الترجيح بلا مرجّح.

والفرق بين هذا الدليل والّذي قبله : إنّه أخذ في هذا الدليل تساوي مراتب الاعداد إلى الواحد الصرف وجعل ذلك برهانا على عدم التعدّد في محوضة المعنى الواحد ؛ وفي الدليل السابق لم يؤخذ ذلك ، بل ثبت عدم التعدّد في صرف الوجود من طريق آخر - كما ذكرناه -.

وإلى هذا الدليل اشار بعض المشاهير حيث قال : حقيقة وجوب الوجود الّذي هو محض الوجود يجب أن يكون لصرافته ومحوضته موجودا ، ولا يتصوّر في محوضة المعنى الواحد التعدّد - لتساوي مراتب الاعداد فوق الواحد - ؛ فواجب الوجود موجود واحد لا شريك له في محوضة الوجود ، ووجوب الوجود ووحدته عبارة عن وجوده بلا شريك أو نظير ؛ انتهى.

وقوله : « وحدته عبارة - ... إلى آخره - » اشارة إلى دفع ما ربما يقال : إنّه يلزم على هذا الدليل أن يكون حقيقة وجوب الوجود مقتضية للوحدة ، وهذا غير موافق للتحقيق ، لأنّ المذهب الحقّ أنّ وحدة الواجب - تعالى - ووجوده وسائر صفاته الكمالية عين ذاته وليس ذات الواجب شيئا مغايرا مقتضيا لوحدته ، ووجوده وسائر صفاته الكمالية ؛

ص: 552

وحاصل الدفع : إنّ المراد من اقتضاء الوحدة هو أنّه موجود بلا شريك ، لا أنّه يقتضي الوحدة أو غيرها.

واعترض على هذا الدليل : باحتمال وجود صرف الوجود في جميع المراتب بأن يكون وجود محوضة المعنى في جميع مراتب الاعداد الّتي فوق الواحد معنى يكون الواجب غير متناهي الافراد ، وعدم التناهي هنا لا يمكن ابطاله بأدلّة بطلان التسلسل - لعدم وقوع الترتيب بين الافراد -.

والجواب عنه : أمّا أوّلا إنّ وجود محوضة المعنى الواحد في جميع المراتب يوجب الترجيح بلا مرجّح أيضا ، لأنّ وقوعه في جميع المراتب مع امكان وجوده في سائر المراتب الّتي فوق الواحد تحكّم بحت وترجيح من غير مرجّح ؛

وامّا ثانيا : إنّا بيّنا بطلان عدم التناهي في الأمور الموجودة وإن لم يقع الترتيب بينها ؛ هذا.

والأكثر جعلوا هذا البرهان / 237 DA / برهانين مستقلّين ، فانّهم جعلوا ما ذكر أوّلا من عدم تصوّر التعدّد في محوضة المعنى الواحد برهانا وجعلوا ما ذكروا ثانيا - أعني : تساوي نسبته إلى المراتب الّتي فوق الواحد - برهانا آخر. بيان الأوّل : انّه قد ثبت أنّ واجب الوجود يجب أن يكون صرف وجوب الوجود ، يعنى يكون واجب الوجود عين وجوب الوجود فقط لا وجوب الوجود مع أمر آخر ، فاذا كان الواجب صرف وجوب الوجود فلم يتصوّر التعدّد ، لأنّ كلّ معنى من المعاني باعتبار صرافته ومرتبة محوضته لا يتصوّر فيه تكثّر أصلا ، ولا خصوصية لهذا الحكم بوجوب الوجود ، فانّ الانسان أيضا باعتبار صرافته ومحوضته لا يتصوّر فيه تكثّر ، فاذا كان الأمر كذلك فلا يتصوّر تعدّد الواجب. وبهذا القدر يتمّ البرهان ولا يحتاج إلى ضمّ شيء آخر. وهذا البرهان قريب من سابقه.

وبيان الثاني : إنّ الحقائق إمّا مادّية يكون لها امكان استعدادي ؛ أو مجرّدة ، والحقائق المجرّدة يجب أن يكون كلّ منها منحصرا في الفرد - لأنّ مراتب الاعداد فوق الواحد متساوية بالنسبة إليه - ، فثبوت بعض من تلك المراتب دون بعض آخر ترجيح

ص: 553

بلا مرجّح بخلاف الحقائق المادّية - أي : الحقائق الّتي لها امكان استعدادي ، فانّه لمّا كان لها امكان استعدادي يجوز أن يثبت لها بعض تلك المراتب دون بعض آخر منها بواسطة الامكان الاستعدادي ، فلا يلزم ترجيح بلا مرجّح - ؛ ووجوب الوجود بالذات من الحقائق الّتي ليس لها امكان استعدادي ، فمن ثبوت بعض مراتب الاعداد فوق الواحد له دون بعض يلزم الترجيح.

وقد ذكر ذلك الشيخ في مواقع من الشفا لاثبات انّ الطبائع الّتي ليس لها امكان استعدادي يجب أن يكون منحصرة في الفرد ؛ وإلى هذا البرهان أشار بعض المشاهير حيث قال : ومن براهين / 235 MA / التوحيد إنّ الوجود الحقيقي الّذي هو عين ذات الوجود امّا أن يمتنع تعدّده أو لا ؛ فعلى الأوّل يلزم المطلوب ؛ وعلى الثاني يلزم الترجيح بلا مرجّح ، لأنّ نسبة جميع الاعداد إليه واحدة ، فترجيح الاثنى أو عدد آخر على باقي الأعداد ترجيح بلا مرجّح ، وهو محال ؛ فبقى الأوّل الّذي هو مستلزم للمطلوب.

ومنها : إنّ وجوب الوجود الّذي هو تأكّد الوجود ومحض حقيقة الوجود وهو الواجب - سبحانه - إمّا أن يقتضي الوحدة ؛ أو يقتضي التعدّد ؛ أو لا يقتضي شيئا منهما ؛ فعلى الأوّل يلزم المطلوب - إذ حقيقة وجوب الوجود إذا اقتضى وحدة لم يكن مشتركا وكان واحدا محضا - ، وعلى الثاني يلزم تحقّق الكثير بلا واحد ، لأنّ صرف الوجود حينئذ ليس مقتضاه الوحدة بل مقتضاه الكثرة ، فكلّ ما صدر عنه يكون كثيرا لا واحدا ، لأنّه مخصّص للكثرة. وأيضا كلّ فرد من تلك الحقيقة المقتضية للكثرة يكون مشتملا على تلك الطبيعة ، والمفروض انّها علّة تامّة للكثرة ، فيكون حكم الفرد والطبيعة واحدا ، فكيف يتصوّر وجود الواحد؟. قال المعلم الثاني : المعنى الوحداني لا يتكثّر بذاته وإلاّ لم يوجد الكثرة أيضا ، لأنّ الكثرة مركّبة من الآحاد ، فاذا فرضنا أنّ المعنى الواحد يتكثّر بذاته فقد ابطلنا الكثرة ؛ انتهى.

وبالجملة الكثرة لا يجوز أن يكون من لوازم حقيقة واحدة بمعنى أنّ الحقيقة الواحدة تصير متكثّرة بذاتها بلا مدخلية أمر آخر وانضمام شيء آخر إليها. وعلى الثالث يلزم الاحتياج إلى الممكن الّذي لا اقتضاء له أصلا ، لأنّ أحدهما - أعني :

ص: 554

الوحدة والتعدّد - واقع قطعا ، فلا بدّ له من مقتض ، فلو لم يكن مقتضيه نفس حقيقة الوجود - على ما هو الفرض - لكان مقتضيه غيره من الممكنات ، فلزم الاحتياج إلى الممكن ، وهو باطل. وأيضا لا خفاء في أنّ ذلك الاحتياج - أي احتياج تحقّق الوحدة أو التعدّد إلى الممكن - يعود إلى اقتضاء حقيقة بعض الوجود - أي : إلى اقتضاء وجوب الوجود - ، لأنّ اقتضاء الممكن إلى الشيء ينجرّ إلى اقتضاء حقيقة الواجب - أي : يؤول إلى أنّ حقيقة الوجوب يقتضي التعدّد أو الوحدة - لوجوب انتهاء سلسلة الامكانيات إليه / 237 DB / - تعالى - ، فرجع حينئذ الأمر إلى اقتضاء حقيقة الوجود الوحدة أو التعدّد ، والأوّل يستلزم المطلوب ، والثاني يوجب تحقّق الكثير بما هو واحد ، وهو باطل - كما مرّ -.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ كون غير الوجود المحض - أعني : الممكن - مقتضيا لأحدهما - أعني : التعدّد والوحدة - باطل بوجهين :

أحدهما : إنّ الممكن لا اقتضاء له أصلا ؛

وثانيهما : إنّه ينتهى اقتضاء الممكن إلى اقتضاء حقيقة الوجود. وإذ ابطل هذا الشقّ - أعني : الشقّ الثالث - بقي الشقّان الأوّلان - أعني : اقتضاء حقيقة الوجود الوحدة أو التعدّد - ، والأوّل يستلزم المطلوب والثاني باطل للزوم تحقّق الكثير بلا واحد.

ثمّ إنّه اعترض على هذا الدليل أمّا أوّلا : فبانّه إن أراد بحقيقة الوجود الّذي يقتضي الوحدة أو التعدّد الوجود الخاصّ الّذي ثبت كونه عين الواجب نختار إنّه يقتضي الوحدة ولا يثبت به الوحدة الّتي هي المطلوب ، لجواز أن يكون الوجود الخاصّ لكلّ من المتعدّد مغايرا بالذات للوجود الخاصّ للآخر ويكون عين كلّ منها ومقتضيا للوحدة ، وهو واحد ، إذ كلّ منهما واحد وما ثبت اشتراكه معنى انّما هو الوجود المطلق لا الخاصّ ؛ وإن أراد بحقيقة الوجود الوجود المطلق نختار الشقّ الثالث - أعني : عدم اقتضائه لأحدهما -. وما ذكر من أنّه يلزم حينئذ الاحتياج إلى الممكن ، فهو ممنوع ، إذ الوجود المطلق زائد على ذات الواجب ، فجاز أن يكون مقتضى تعدّد هذا الوجود الزائد

ص: 555

أو وحدته هو ذات الواجب المغاير بالذات لذات الواجب الآخر - تعالى عن ذلك - ؛

وأمّا ثانيا : فبأنّا نختار الشقّ الثاني - أي : إنّ حقيقة الوجود يقتضي التعدّد - ، وما ذكر من أنّه يلزم حينئذ تحقّق الكثير بلا واحد فهو ممنوع ، لجواز أن يكون مقتضيا لتعدّد مخصوص لكونه اثنين أو ثلاثا مثلا - أي : مقتضيا لأن يكون نوعا منحصرا في ثلاثة أفراد أو اثنين مثلا - ، فيكون مقتضيا لأن يكون كلّ فرد من افراده موجودا مع فرد آخر منه أو / 235 MB / مع اثنين آخرين ، ولا محذور فيه ؛ انتهى.

والجواب عن الاعتراض الأوّل : إنّ المراد بحقيقة الوجود الّذي ورد فيه بانّه يقتضي الوحدة أو التعدّد هو صرف الوجود البحت الموجود في الخارج المتحقّق في الأعيان ، وهو الوجود الواجبى الخاصّ الّذي هو عين ذاته دون المطلق الاعتباري الزائد على الذات. وما ذكر من أنّه يجوز أن يكون وجود الخاصّ متعدّدا ويكون كلّ من الوجود الخاصّ مغايرا بالذات للوجود الخاصّ الآخر ويكون كلّ وجود خاص واجبا وعينا للذات ومقتضيا لوحدة نفسه ، ففيه : إنّ الوجود الخاصّ الواجبي انّما هو بحت الوجود الخاصّ - كما تقدّم بيانه - ، وبحت الوجود ومحضه لا يتعدّد بنفسه حتّى يكون فردا منه مغايرا بالذات للفرد الآخر منه - لكونه حقيقة واحدة ومعنى واحدا - ؛ وحينئذ فامّا أن يقتضي الوحدة ، فيلزم المطلوب ؛ أو التعدّد ، فيلزم الفساد المذكور.

والجواب عن الاعتراض الثاني : انّه إذا اقتضى الوجود المحض التعدّد فلا معنى لتحقّق فرد واحد منه ، وإذا لم يتحقّق الواحد لم يتحقّق الكثير.

ومن تأمّل يعرف ما في هذا الاعتراض من الاختلال والاشتباه.

ومنها : إنّ حقيقة وجوب الوجود - أعني : محض الوجود - إمّا أن يكون مقتضيا لأن يكون عين الذات الموجود المتعيّن ، أو يكون شرط وجوب الوجود أن يكون متحقّقا في الموجود المتعيّن ، وعلى التقديرين لا يتحقّق بدون ذلك المتعيّن ، ولا يمكن أن لا يكون مقتضيا لأن يكون عين وجود متعين ولا مشروطا بتحقّقه فيه ، لأنّ المعنى الواحد والحقيقة الصرفة البسيطة لاثبات المختلفات ، فيجب أن يكون مقتضيا لعينية المتعيّن أو مشروطا بتحقّقه فيه وإن كان لغيره مدخل في تحقّقه فيه وذلك الغير ممكن

ص: 556

لا محالة ، وليس للممكن اقتضاء باعتبار ذاته ، فيعود هذا القسم أيضا إلى اقتضاء حقيقة وجوب الوجود ، فحقيقته يقتضي الوحدة ونفي التشريك.

ومنها : إنّ حقيقة الوجود المحض لا يمكن أن لا يقتضي عدم كثرة الافراد ، وإلاّ لكان لغيره مدخل في ذلك الاقتضاء ، لأنّ الوحدة ما حصل فيه قطعا - وإلاّ لم يحصل الفرد أصلا - ، فعدم الكثرة حاصل في فرده البتة. فاذا لم يقتضيه الوجود المحض كان / 238 DA / للغير مدخل في اقتضاء عدم الكثرة المذكورة ، وغير محض الوجود يحتاج في التحقّق إلى الوجود ، فيعود اقتضاء ذلك الغير بالحقيقة إلى اقتضاء الوجود ، فاذا كان الوجود المحض يقتضي عدم كثرة الافراد كان باعتبار ذاته واحدا لا شريك له ؛ وهو المطلوب.

والفرق بين هذا الدليل والدليل السابق عليه باعتبار تفاوت طريق عود مدخلية الغير إلى الاقتضاء المذكور ، فانّه في السابق باعتبار الامكان وفي هذا باعتبار الوجود.

فان قيل : قد أخذ في هذا الدليل عدم كثرة الافراد مسلّما ، ثمّ بيّن بأنّ مقتضيه يجب أن يكون حقيقة الوجود لا غيره - للزوم الفساد المذكور - ، مع أنّ الخصم لا يسلّم عدم كثرة الافراد ، فلا وجه لتسليمه وطلب علّته! ؛

قلنا : هذا البرهان مبني على بطلان أمرين قد علم من الادلّة السابقة ؛ أحدهما : كون حقيقة الوجود المحض مقتضية للكثرة ؛ وثانيهما : عدم كونها مقتضية رأسا لا للكثرة ولا للوحدة ، فبقي احتمال ثالث وهو أنّ حقيقة الوجود المحض هل هي مقتضية لعدم كثرة الافراد بذاتها أو لا؟ ، بل عدم كثرة الأفراد ثابت لها باقتضاء غيرها وبسبب غيرها لا باقتضاء ذاتها. واستدلّ على ابطال اقتضاء الغير بانّه لو اقتضى الغير لكان اقتضائه راجعا إلى اقتضاء حقيقة الوجود المحض ، فتعيّن الأوّل - وهو أن يكون المقتضي لعدم كثرة الافراد هو حقيقة الوجود المحض - ؛ هذا.

وقال بعض المشاهير : جميع براهين اثبات وحدة الواجب موقوف على اتحاد حقيقة الوجود - أي : الوجود الحقيقي الّذي باعتباره يتحقّق الموجودات - ، وهو الّذي يعبّر عنه بوجوب الوجود ؛ وتلك الوحدة بديهية حدسية. وهذا أظهر من الشمس

ص: 557

عندي ، فانّ الوجود الحقيقي الّذي باعتباره تكون الموجودات متحقّقة هو شمس عالم العقول والنفوس ، بل نور السموات والارض ؛ وهو في غاية الظهور وبه ظهور كلّ شيء وادراك كلّ ذي ادراك ، وكذلك وحدته بحسب الحقيقة ظاهر عند كلّ من له وجدان صحيح ؛ انتهى.

وقال بعض أعاظم العرفاء : إنّ البراهين الدالّة على وحدة الواجب عندي كثيرة ، لكن تتميم جميعها متوقّف على أنّ حقيقة واجب الوجود بالذات هو الوجود البحت القائم بذاته وأنّ ما يعرضه الوجوب بالتبع فهو في / 236 MA / حدّ ذاته ممكن ووجوبه - كوجوده - انّما يستفاد من الغير ، فلا يكون واجبا. وهذه المقدّمة ممّا انساق إليه البرهان وصرّح به في كتب الفن - كالشفاء وغيره -.

وستعلم أنّ بعض براهين اثبات التوحيد لا يتوقّف على تسليم كون صرف الوجود واحدا.

ثمّ لا يخفى إنّ البراهين المذكورة تامّة على اثبات وحدة الواجب. ولا يرد على تلك البراهين شبهة ابن كمونة أصلا ، لأنّ حاصل هذه الشبهة : إنّ معنى واجب الوجود ومعنى كون الوجود عين الذات هو أن يكون الذات بمحض الذات من دون اعتبار شيء خارج معها منشئا لانتزاع الوجود منها ، والحكم بانّها موجودة بخلاف الممكن ، فانّه ما لم يعتبر معه علّته لم يصحّ ذلك. وليس معنى وجوب الوجود وعينية الوجود أن يكون الوجود متحقّقا في الخارج ويكون عين الذات ، ولا أن يكون مفهوم الوجود الّذي لا يحصل إلاّ في الذهن عين الحقيقة الخارجية ، وانّكم تجوّزون أن يكون مفهوم الوجود مشتركا بينه - تعالى - وبين غيره وأن يكون معنى واحد لازما لحقائق مختلفة ، فحينئذ لم لا يجوز أن يكون حقيقتان مختلفتان بتمام الماهية ويكون كلّ واحدة منهما بذاتها منشئا لانتزاع الوجود منها ويكون وجوب الوجود عرضيا لازما مشتركا بينهما ومنتزعا من ذات كلّ واحدة منها بنفس ذاتها - كمفهوم نفس الوجود - ولا يتحقّق بينهما ما به اشتراك ذاتي حتّى يلزم التركيب في ذاتهما من جنس وفصل أو احتياجهما في التشخّص إلى أمر خارج عن ذاتهما. ولا ريب في أنّ مبنى هذه الشبهة على كون

ص: 558

وجوب الوجود أمرا عرضيا وعدم كون الذات صرف الوجود ، ومبنى البراهين المذكورة على أنّ وجوب الوجود هو يؤكّد الوجود وكون الواجب صرف الوجود ومحضه وخالص الموجود وبحته وعدم جواز التعدّد في محوضة الشيء ؛ وحينئذ لا مدخلية لهذه الشبهة بالنسبة إلى البراهين المذكورة أصلا ، ولا ورود لها عليها مطلقا.

وقال بعض أعاظم العرفاء : وبما ذكرناه - من كون الواجب صرف الوجود القائم بذاته - يندفع ما يتكذّب به أذهان الأكثرين بما قيل : لم لا يجوز أن تكون هناك هويّتان بسيطتان مجهولتا الكنه مختلفتان بتمام الماهيّة البسيطة يكون كلّ منهما واجبا لذاته ويكون مفهوم واجب الوجود مخترعا منهما مقولا عليهما قولا عرضيا؟ ؛ إذ قد علمت أنّه لو كان كذلك لكان عروض هذا المفهوم لكلّ منهما أو لأحدهما إمّا معلولا لذات / 238 DB / المعروض ، فيلزم تقدّمه بالوجود على نفسه ، وهذا محال ؛ أو معلولا لغيره ، فاستحالته أظهر. بل نقول : لو نظرنا إلى نفس مفهوم الوجود المعلوم بوجه من الوجوه بديهة أو بالنظر إلى أنّ حقيقته وما ينتزع هو منه أمر قائم بذاته هو الواجب الحقّ والوجود المطلق الّذي لا يشعر به عموم ولا خصوص ولا تعداد كلّ ما وجوده هذا الوجود فرضنا لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضا هذا الوجود مباينة وتغاير أصلا ، فلا يكون اثنان ، بل يكون هناك ذات واحدة ووجود واحد ؛ كما اشار إليه صاحب التلويحات بقوله : « صرف الوجود الّذي لا اتمّ منه كلّما فرضته ثانيا فاذا نظرت فهو هو إذ لا ميز في صرف شيء » (1) ، فوجوب وجوده الّذي هو ذاته يدلّ على وحدته كما اشير إليه في الكتاب الإلهي بقوله - تعالى - : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ) (2).

ثمّ إنّه يأتي بيان ورود هذه الشبهة على بعض البراهين الآتية وحلّها بوجه آخر.

ومنها : الدليل المشهور من الحكماء ، وتقريره : أنّه لو كان واجب الوجود اثنين لكان معنى وجوب الوجود - وهو معنى واحد بالضرورة - مشتركا بينهما ، فيلزم اعتبار جهة ما به الامتياز ، لأنّ حصول الاثنينية بدون ما به الامتياز محال ؛ ولا ريب في أنّ ما به الامتياز غير ما به الاشتراك ، فيلزم التركيب ، وهو محال.

ص: 559


1- راجع : التلويحات ، ص 35.
2- كريمة 18 ، آل عمران.

وأورد على هذا الدليل الشبهة الكمونية المشهورة بافتخار الشياطين ؛ وقد عرفت أنّ اثبات التوحيد ممكن من البراهين المتقدّمة الّتي لا يتوهّم ورود هذه الشبهة عليها. وأمّا دفعها عن هذا الدليل المشهور فهو : إنّ وجوب الوجود لو كان عرضيا لكان عروضه لهما محتاجا إلى علّة ، فعلّته إن كانت ذات الواجبين من دون اتصافهما بوجوب الوجود لزم أن يكون غير واجب الوجود علّة لوجوب الوجود ، وهو باطل ؛ وإن كانت ذاتهما / 236 MB / مع اعتبار وجوب الوجود فان كان وجوب الوجود الّذي هو العلّة عين وجوب الوجود الّذي هو المعلول لزم تقدّم الشيء على نفسه ، وإن كان غيره ننقل الكلام إليه ، فيلزم التسلسل.

فان قيل : الوجود العامّ المنتزع من الواجب عرضىّ ، فيلزم من عرضيته أحد المفاسد المذكورة ؛

قلنا : الوجود الانتزاعي ليس ممّا يتوقّف عليه العلّة ، لأنّ العلّة انّما هو الوجود الخاصّ وهو الوجود الواجبي ، فيمكن أن يكون علّة لانتزاع هذا المفهوم ، فتقدّم الواجب عليه انّما هو بالوجود الخاصّ ووجوب الوجود - لأنّه يتحقّق حقيقة واجب الوجود مع قطع النظر عنه -.

وقيل في الجواب عن الشبهة المذكورة : إنّ وجوب الوجود إن لم يكن هو نفسه ذاتيا لهما جنسا أو نوعا حتّى يلزم التركب بل كان عرضا عامّا منتزعا عنهما نقول : هذا العرض إمّا واجب ، أو ممكن ؛ والأوّل باطل ، إذ العرض محتاج إلى المحلّ والمحتاج لا يمكن أن يكون واجب الوجود ؛ والثاني - أعني : كون هذا العرض ممكنا - أيضا باطل ، لأنّ علّته إن كانت أحدهما فقط دون الآخر لكان معلولا لواجب ودونه ، وإن كانا هما علّة له فان كانت العلّة مستندة إلى أمر مشترك ذاتي لزم التركب ، وإن لم تكن مستندة إليه - بل كانت مستندة إلى ذاتيهما المتخالفين - لزم اشتراك معنى واحد بين حقائق مختلفة من دون أن يكون تبعا لأمر مشترك ذاتي ، وهو باطل ؛ لأنّ المختلفين من حيث انّهما مختلفان من دون جهة الاشتراك لا يناسبان معنى واحدا حتّى يكونا علّتين له ، فيلزم توارد علّتين مختلفين على معلول واحد شخصي ، ويلزم ارتفاع المناسبة بين العلّة و

ص: 560

المعلول. فنمنع اشتراك معنى واحد بين حقائق مختلفة إلاّ تبعا لمشترك ذاتي بينهما ؛ وهذا ما يقال : « انّ ما به الاشتراك العرضي تابع ومستند إلى ما به الاشتراك الذاتي ».

وإن شئت بيانا أوضح من ذلك فنقول : قد عرفت أنّ حقيقة الوجود - أعني : ما هو منشأ انتزاع الوجود العامّ - كما هو عين ذات الواجب في الخارج فكذلك ماهية الواجب عين مفهوم وجوده في الذهن ، ومفهوم وجوب الوجود معنى واحد غير مختلف ، فلو كان هذا المفهوم منتزعا من حقيقتين مختلفين لزم أن يكون لحقيقتين مختلفين ماهية واحدة غير مختلفة وهو محال ، إذ حقيقته - كما عرفت - ليست إلاّ الماهية باعتبار وجودها في الخارج ، بل الحقيقة ليست في الحقيقة إلاّ / 239 DA / منشأ انتزاع الماهيّة ، فلو كان مفهوم واجب الوجود معنى واحد غير مختلف منتزعا من حقيقتين مختلفين لزم أن يكون معنى واحد غير مختلف تمام ماهية حقيقتين مختلفتين ، وبطلانه من أجلى البديهيات ؛ هذا.

وما قاله جماعة في جواب الشبهة المذكورة على الدليل المذكور يرد عليه اشكال قوي ، وهو : انّه إذا كان ما به الاشتراك العرضي تابعا لما به الاشتراك يلزم أن لا يكون مفهوم الوجود عين الوجود العامّ المنتزع مشتركا معنويا بين الواجب والممكنات ، لأنّه إذا كان مشتركا معنويا بينهما يلزم أن يكون مستندا إلى ما به الاشتراك ذاتي بينهما - بناء علي المقدّمة المذكورة - ، فيلزم التركّب في الواجب - سبحانه -. ولأجل ذلك ذهب جماعة إلى القول بالاشتراك اللفظي ؛ وفساد هذا القول أظهر من أن يخفى على أحد.

وأنكر الأكثر المقدّمة المذكورة وقالوا : لا مانع من انتزاع أمر وحدانى من أمور متخالفة بأنفسها ؛

وأجابوا عن الشبهة الكمونية بما ذكرناه سابقا من أنّ وجوب الوجود ليس عرضيا ، إذ وجود الواجب - سبحانه - عين ذاته والوجوب ليس إلاّ تأكّد الوجود - أي : كون الشيء موجودا في حدّ ذاته من غير افتقار إلى شيء - ، فهو أيضا عين الذات ؛ وإذا كان عين الذات فلا يمكن أن يكون عرضيا. والحقّ إنّ وجوب الوجود ليس عرضا وهو تأكّد الوجود - أي : صرف الوجود ومحضه - ، فلا يمكن أن يكون متعدّدا - كما

ص: 561

تقدّم - ، فجواب الأكثر مطابق للواقع ونفس الأمر. والتزام كون وجوب الوجود عرضيا خلاف التحقيق ، إلاّ أنّ التحقيق إنّ المقدمة المذكورة لا يمكن انكارها ، إذ لو لم يكن ما به الاشتراك العرضي مستندا إلى ما به الاشتراك الذاتي لزم ارتفاع المناسبة بين العلّة والمعلول وجواز صدور الواحد الشخصي عن العلل المتخالفة ؛ وهو بعيد عن الحقّ والصواب.

وربما يجاب عن الاشكال المذكور الوارد على انتزاع مفهوم الوجود مع كونه واحدا عن الواجب والممكن بأنّ هذا الوجود المنتزع وإن كان مشتركا معنويا إلاّ أنّه مقول على افراده بالتشكيك ، فالوجود المنتزع من الوجود الخاصّ الواجبي القائم بذاته الغير المحتاج إلى علّة أقوى وأشدّ من المنتزع عن الوجودات الخاصّة الامكانية القائمة بالواجب المحتاجة إليه ، فانّ الوجود الخاصّ / 237 MA / الواجبي الّذي هو صرف الوجود القائم بذاته وإن كان مخالفا لنفسه للوجودات الامكانية المعلولة له إلاّ أنّ الوجودات الامكانية بعد صدورها يكون منشئا للآثار الخارجية ولانتزاع مفهوم الوجود عنها كالوجود الواجبى ، إلاّ أنّ منشئية الآثار وانتزاع مفهوم الوجود الّتي للوجود الحقّ القائم بذاته ممتازة عن منشئية الآثار وانتزاع الوجود العامّ الّتي للوجودات المعلولة الامكانية بالكمال والنقص والشدّة والضعف ، وإن كان الآثار بالحقيقة صادرة عنهما ومفهوم الوجود بالحقيقة منتزعا عنهما وكان صدور الآثار ومفهوم الوجود مشتركين معنويين إلاّ أنّ الآثار الصادرة والواردة المنتزع من الوجود الخاصّ الواجبى مغاير بالكمال والتمامية عن الآثار الصادرة والوجود المنتزع عن الوجودات الخاصة الامكانية. والاختلاف بالكمال أو النقص لا يخالف الاشتراك المعنوي ، وصدور الأمر الواحداني العامّ الاعتباري الّذي كان افراده الذهنية الاعتبارية مختلفة بالكمال عن الأشياء المخالفة بأنفسها لا مانع فيه ، لأنّه حينئذ لا يوجب ارتفاع المناسبة بين العلّة والمعلول ، فانّ الفرد الصادر عن كلّ منها مغاير بالكمال أو النقص عن الفرد الآخر.

ولا يخفى عدم تمامية هذا الجواب ، لأنّ مفهوم الوجود الّذي هو مقول بالتشكيك وإن كان بالنسبة إلى افراد مختلفة بالكمال والنقص إلاّ أنّ كلّ مقول بالتشكيك يكون

ص: 562

افراده الممتازة بالكمال والنقص مشتركة في أمر ذاتي ، فيكون افراد الوجود العامّ الذهنية مشتركة في أمر ذاتي. وإذا كان مشتركا في أمر ذاتي فيجب أن يستند ذلك الأمر المشترك - لعرضيته بالنسبة إلى الوجود الواجبي والوجودات الامكانية - إلى أمر مشترك ذاتي بينهما ، وعلى هذا فيلزم أن يكون الامتياز بين الوجود الخاصّ للواجب والوجودات / 239 DB / الخاصة الممكنة بنفس الكمال والنقص مع اشتراكهما في أمر ذاتي مشترك. وحينئذ إن كان نفس الكمالية والنقص شيئا على حدة أو كان بينهما ما به الامتياز يلزم التركب في وجود الواجب ، وإن لم يتحقّق ما به الامتياز أصلا لزم اتحاد وجود الواجب والممكن.

ويمكن أن يقال : لا مانع من اشتراك الوجود الخاصّ الواجبي مع الوجودات الخاصّة الامكانية مع امتياز الوجود الواجبى بالكمال الّذي هو فوق التمام ، فانّ الوجودات تترتّب وتتصاعد كمالا إلى أن ينتهى إلى ما هو أكمل ولا يتصوّر أكمل منه ويكون فوق التمام ، وهو الوجود الصرف القائم بنفسه والامتياز بنفس الكمالية والنقصان مع الاشتراك في ذاتي لا يوجب تركّبا ولا نقصا ولا اتحاد وجود الواجب مع وجود الممكنات ، لأنّ الأكملية التامّة والأتمية الكاملة المترتّبة على محوضة الوجود والقيام بالذات من دون افتقار إلى علّة خارجة كافية للامتياز التامّ وحصول الاثنينية ، فلا يتحقّق اتحاد بوجه ؛ وحينئذ فيجوز أن يكون مفهوم الوجود منتزعا عن وجود الواجب والممكنات ومشتركا معنويا بين الجميع مع امتياز افراده الذهنية بالكمال والنقص كالوجودات الخاصّة بعينها من دون فرق.

والاظهر أن يقال في الجواب : إنّ المفهوم الواحد لا يجوز أن ينتزع من الامور المتخالفة المتباينة بانفسها إذا لم تكن تلك الأمور مشتملة على أمر واحد مشترك أو لم تكن تلك الأمور مرتبطة ومنتسبة إلى واحد حقيقي ، والوجود العامّ وإن كان معنى واحدا منتزعا عن الأشياء المتخالفة بانفسها - أعني : الواجب والوجودات الخاصة الامكانية المتخالفة بانفسها - إلاّ أنّ جميعها لمّا كانت مرتبطة منتسبة إلى الواجب معلولة له ومترشّحة عنه فلا مانع من انتزاعه مع وحدته عن الواجب وعن الوجودات المترشّحة

ص: 563

عنه الفائضة منه وإن كانت متخالفة بانفسها ؛ فتأمّل.

ومنها : إنّه لو كان واجب الوجود ماهية نوعية متحقّقة في ضمن اثنين وإن كان وجوب الوجود تمام ماهية الفردين وكان امتيازهما بعوارض مشخّصة فلا ريب في أنّ تلك العوارض المشخّصة لا يمكن أن تكون واجبة لأنّ العارض محتاج إلى المعروض والاحتياج ينافي الوجوب ، فتعيّن أن تكون ممكنة ، والممكن محتاج إلى العلّة وعلّته إن كانت ذات الفردين - والمفروض إنّ ذات الفردين واحدة هي وجوب الوجود وانّما امتيازهما بعوارض - لزم. / 237 MB / أن يكون العارض في الفردين واحدا ، فلا يتحقّق الاثنينية ، وإن كانت علّته خارجة عن ذات الفردين لزم عدم تعيّن الفردين في حدّ ذاتهما مع قطع النظر عن الأمر الخارج ، فلا يكون الفردان مع قطع النظر عن الغير موجودين ، فلا يكونان واجبي الوجود ، فلو كانت ماهية الواجب متكثّرة الافراد بالعوارض المعلولة لغير الذات لزم أن لا يكون الواجب موجودا في حدّ ذاته.

ويمكن أن يورد الشبهة الكمونية على هذا الدليل أيضا ، فيجاب أيضا بما تقدّم.

ومنها : إنّه لا يمكن تعدّد الواجب وإلاّ فالتعين الّذي به الامتياز إن كان نفس الماهيّة الواجبية أو معلّلا بها أو بلازمها فلا تعدّد ، وإن كان معلّلا بأمر منفصل عن الذات - فلا وجوب بالذات لامتناع احتياج الواجب في تعينه إلى أمر منفصل ، لأنّ الاحتياج في التعيّن يقتضي الاحتياج في الوجود ، إذ الشيء ما لم يتعيّن لم يوجد -.

واعترض عليه : بأنّ هذا من قبيل اشتباه المفهوم بما صدق عليه ، فانّ الماهيّة الواجبة أريد بها في أوّل شقي الترديد مفهومها ، وفي الآخر ما صدقت هي عليه ، ليستقيم الكلام ، فانّ قوله : « إن كان نفس الماهية الواجبية فلا تعدّد » ، إن أريد بالواجب ما صدق هو عليه ورد المنع على اللزوم ، فانّه يجوز أن يوجد واجبان تعيّن كلّ واحد منهما نفس ذاته بلا محذور ؛ وكذا قوله : « وإن كان معلّلا بأمر منفصل عن الواجب فلا وجوب بالذات » ؛ وإن أريد به المفهوم ورد المنع على اللزوم ، فانّه يجوز أن يكون تعيّن كلّ واجب معلّلا بأمر منفصل عن مفهوم الواجب - أعني : ذات الواجب - بلا محذور.

ص: 564

لا يقال : الانفصال بين ذات الواجب ومفهومه فلا يمكن أن يقال : إنّ الأمر المنفصل عن مفهوم الواجب هو ذات الواجب ، إذ / 240 DA / الظاهر أنّ المراد من الأمر المنفصل هو أن لا يكون بينهما اتصال ويمكن الافتراق بينهما ، وليس المفهوم بالنسب إلى الذات كذلك ؛ لانّا نقول : فحينئذ يتحقّق شقّ خامس في الجواب نختاره ، وهو أن يكون التعيّن معلّلا بذات الواجب. والحاصل : انّا لا نقول حينئذ : أنّ ذات الواجب أمر منفصل عن المفهوم ، بل نقول : انّكم قلتم : انّ التعيّن إمّا نفس الماهية الواجبة ، أو معلّلا بها ، أو بلازمها ، أو بأمر منفصل عن مفهوم الذات. ويرد على كلّ واحدة منها مفسدة. وأنا أقول : بقي قسم خامس هو أن يكون التعلّل معلّلا بذات الواجب ، وهذا على تقدير أن يكون المراد من الواجب المفهوم ، فانّ ذات الواجب هو ما صدق عليه لا المفهوم ، فيكون قسما خامسا. وحاصل هذا الاعتراض : إنّ لكلّ من وجوب الوجود والموجود والوجود مفهوما ومصداقا ، والكلام انّما هو في المصداق لا في المفهوم ، لأنّ من قال : إنّ وجوب الوجود والوجود والموجود عين ذاته - سبحانه - ليس مراده أنّ مفهوم هذه الأمور عين له - تعالى - ؛ مع أنّ ما ذكر في الدليل المذكور - من أنّ ما به الامتياز إن كان نفس الماهية الواجبة ... إلى آخره - انّما يستقيم في المفهوم ، إذ لو أريد بالماهية الواجبة المصداق لورد أنّه يجوز أن يكون واجبان تعيّن كلّ منهما عين ذاته ووجوب الوجود عرضي لهما ؛ وهذا الاعتراض هي الشبهة الكمونية.

وأجاب بعض المشاهير من هذا الاعتراض : بأنّ المراد بالماهية الواجبة في الدليل حقيقة محض الوجود ، فانّ الوجوب هو تأكّد الوجود. وذلك لأنّه قد سبق أنّ الوجود الحقيقي ليس زائدا على حقيقة الواجب ، لا في التعقّل ولا في الخارج. وأيضا : قد مرّ الشبهات على أنّ الوجود الانتزاعي واحد والغرض منها التنبيه على أنّ الوجود الحقيقي واحد - على ما مرّ تفصيله -. والحاصل : أنّ الوجود الحقيقي الّذي هو أمر واحد وعين حقيقة الواجب لا يخلوا عن الاقسام الاربعة المذكورة الّتي رابعها محال بالبديهة ، والأقسام الباقية مستلزمة للمطلوب ، لأنّ التعيّن الّذي به الامتياز إذا كان عين محض الوجود الّذي هو حقيقة الواجب أو معلّلا بها أو بلازمها كان الواجب واحدا ولم يتصوّر

ص: 565

التعدّد. وبالجملة : إنّ مراد القوم بالماهية الواجبة ليس مفهوم الوجود الانتزاعي الّذي هو أمر عرضي غير موجود في الخارج ، بل المراد منها حقيقة محض الوجود بلا ممازجة شيء من الأمور الخارجة عن حقيقة الوجود من الماهية والكمّ والكيف والوضع وغيرها ، فانّ الوجوب هو تأكّد الوجود ، فيكون نفس حقيقة الوجود المبرّى عن كلّ مداخل ، وإلاّ يلزم الاحتياج المنافي لوجوب الوجود. وإذا كان الوجوب نفس حقيقة الوجود الّذي هو غير زائد على ذات الواجب - تعالى - لا في العقل ولا في الخارج فيجب أن يكون حقيقة الواجب وماهيتها نفس ذاته - تعالى - لا أمرا عرضيا انتزاعيا - كما فهمه المعترض وبنى الاعتراض عليه بقوله بافتخار الشياطين / 238 MA /.

وبما ذكر يندفع ما فهمه ، ووجه الاندفاع : إنّه قد مرّ انّ الوجود الّذي قد حكم بانّه عين حقيقة الواجب وذاته انّما هو الوجود الحقيقي الّذي تصوّره بالوجه الممكن بديهي ، وقد مرّ أنّ الحكم بكونه واحدا بديهي حدسي يتحدّس بوحدته بملاحظة الموجودات وما توجد باعتباره وملاحظة وحدة الوجود الانتزاعي ، فانّ الموجودات كلّها بحيث يمكن انتزاع مفهوم الوجود المصدري الانتزاعي منها ، والموجودات الممكنة لا يمكن أن يكون منشأ الانتزاع إلاّ بسبب مدخلية الوجود الحقيقي الّذي غير محتاج في كونه منشئا لانتزاع هذا المفهوم إلى أمر آخر من فاعل أو قابل أو ارتباط بشيء من الأشياء ، وعلى هذا فمراد المستدلّ من قوله : الماهيّة الواجبة الوجود الحقيقي الّذي قد مرّ الاشارة إلى وحدته وإلى كونه عين حقيقة الواجب ، وهو لا يخلوا عن الأقسام الاربعة الّتي رابعها باطل بالبديهة والثلاثة الباقية مستلزمة للمطلوب.

وقال بعض الأفاضل في بيان التحدّس من الموجودات بالوجود الحقيقي ووحدته : إنّ مفهوم الوجود المنتزع من الموجودات لمّا كان مشتركا معنويا بين الموجودات فيكون مفهوم الوجود معنى واحدا مشتركا بين الموجودات ، والمفهوم الواحد لا يجوز أن يكون بإزائه / 240 DB / معان مختلفة ، لأنّه لا يكون المفهوم الواحد إلاّ بإزاء معنى واحد ، لأنّ العقل يحكم بديهة بأنّ الأمور المتخالفة المتباينة من حيث انّها متخالفة متباينة وباعتبار محض ذواتها المتباينة لا يكون منشئا ومبدأ ومستلزما لحصول معنى واحد بعينه منها

ص: 566

في العقل ، بل المفهوم الواحد لا يمكن أن ينتزع من المخالفات إلاّ إذا كانت مشتملة على أمر واحد يكون مشتركا بينها أو تكون تلك الأمور المتخالفة منتسبة ومرتبطة إلى أمر واحد أو أمور متشابهة. ثمّ إنّ الوجودات الامكانية الّتي ينتزع منها مفهوم الوجود متخالفة بانفسها ، فليس بينها أمر مشترك ، فيجب أن يكون منتسبة ومرتبطة إلى واحد قائم بذاته ، وهو الوجود الحقيقي الّذي هو عين الواجب - تعالى -.

فان قيل : الامكان والشيئية وكذا سائر الأمور العامّة يكون انتزاعها من الحقائق المتباينة الّتي ليس بينها قدر مشترك مثل الجوهر والعرض ؛

قلت : الامكان والشيئية من المعقولات الثانية. وبيان انتزاع المعقولات الثانية عن الحقائق المتباينة من أدقّ مسائل الحكمة ؛ وقد بيّنا ذلك في بعض الحواشي.

ويمكن أن يقال : إنّ الوجود وكذا الموجود لمّا كان مشتركا معنويا فيكون معنى واحدا منتزعا من الموجودات ولا يصحّ أن يكون خصوصية شيء من الممكنات لها مدخل في انتزاع هذا المفهوم وإلاّ لما صحّ انتزاعه من غيرها ، وإذا لم يكن لشيء من الخصوصيات مدخل فلا بدّ أن يكون ما بإزاء ذلك المعنى أمرا آخر خارجا عن الموجودات الممكنة واحدا ، لأنّه لا يجوز استناد أمر واحد إلى أمور متكثّرة ؛ لأنّه إذا فرض أنّ أمرا واحدا يكون مستندا إلى أمرين فنقول : لا يخلوا من أن يكون خصوصية شيء من ذينك الأمرين لها مدخل في ذلك الأمر المستند أو لا ، فان كان لها مدخل فكيف يتصوّر وجود ذلك الأمر المستند بدونها؟! ؛ وإن لم يكن لشيء من الخصوصيّتين مدخل فلا يكون شيء منهما علّة لذلك الأمر المستند ، بل العلّة هي القدر المشترك بينهما ، فاذا لم يكن بينهما قدر مشترك فيجب أن يكون هذا المعنى مستندا إلى أمر خارج عنها ، ويكون هذا المعنى منتزعا من الموجودات المتخالفة الممكنة لأجل انتسابها وارتباطها إلى ذلك الأمر الخارج - وهو الوجود الحقيقي القائم بذاته - ، فثبت من انتزاع مفهوم الوجود من الموجودات وجود حقيقة الوجود ووحدته ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل في توجيه الدليل المذكور : إنّ غرض المستدلّ هو أنّ المعبّر عنه بمفهوم وجوب الوجود معنى واحد - بناء على نفي الاشتراك اللفظي - ، فذلك المعنى

ص: 567

الواحد لا يخلوا من أن يكون حقيقة شخصية مشخّصة بذاتها ويكون تشخّصها عينها ، أو يكون حقيقة كلّية يكون لها افراد وتشخّصات زائدة ؛ فعلى الأوّل يمتنع التعدّد ؛ وعلى الثاني فلا يخلوا إمّا أن يكون طبيعة نوعية أو جنسية ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل تكون طبيعة عرضية. فعلى تقدير كونها طبيعة نوعية أو جنسية يكون لها تشخّص زائد وتعيّن زائد ، فذلك التعيّن الّذي به امتاز أحد الفردين عن الآخر لا يخلوا من أن تكون معلّلة بتلك الطبيعة أو بلازمها ، فلا تعدّد ، لأنّ اقتضاء الطبيعة أو لازمها ليس إلاّ واحدا ، وإن كان معلّلا بأمر منفصل فلا وجوب بالذات ، وعلى تقدير كونها طبيعة عرضية يلزم أن لا يكون الواجب بالذات واجبا في مرتبة الذات.

فان قيل : للمعترض أن يقول إنّ طبيعة وجوب الوجود طبيعة نوعية أو جنسية ويكون لها افراد متعينة ويكون تعيّن كلّ فرد نفس ذات ذلك الفرد وزائدا بالنظر إلى الطبيعة الكلّية ، فلا يلزم المحذور أصلا ،

قلت : بناء على ذلك الفرض يكون كلّ فرد منها له ماهية كلّية وكلّ شيء يكون له ماهية كلية وتعيّن يكون تعيّنه عارضا بالنسبة إلى تلك الطبيعة الكلّية ، فلا بدّ له من علّة ، وتلك العلّة لا يجوز أن تكون ذات ذلك الفرد المتعيّن ، لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون علّة لتعينه وتشخّصه ، فبقى أن تكون العلّة إمّا الطبيعة المعروضة لذلك التعيّن أو أمر آخر ؛ فعلى الأوّل يلزم الانحصار ؛ وعلى الثاني يلزم أن لا يكون ما فرض / 238 MB / واجبا بالذات واجبا بالذات. وبالجملة الشيء الّذي له ماهية كلّية وتعيّن وتشخّص لا يجوز أن يكون تعينه نفس ذاته ، بل المتعيّن يكون جزء له ولا يصحّ أن يكون الشيء علّة لجزئه.

وأنت خبير بأنّ هذا التوجيه وإن كان صحيحا في نفسه / 241 DA / إلاّ أنّ الدليل المذكور غير منطبق عليه ظاهرا ، فالصحيح في توجيهه ما نقلناه عن بعض المشاهير.

ثمّ إنّه يرد على ما ذكره المعترض أخيرا بقوله : « لا يقال : لا انفصال بين ذات الواجب ومفهومه ، لانّا نقول : فحينئذ بتحقّق شقّ الخامس نختاره في الجواب - ... إلى آخره » : إن أريد بالواجب في الترديد الوجوب الحقيقي الّذي هو عين حقيقته لا يتصوّر

ص: 568

قسم خامس ، لأنّه لا يتصوّر انفصال أصلا بين الذات وبين مفهوم الواجب المراد هنا - وهو الوجود الحقيقي الّذي هو باعتبار ذاته موجود - ، كيف والبرهان قد حكم بأن فرد الواجب لا يكون إلاّ صرف طبيعة الواجب ، لا أنّ هناك طبيعة الواجب أوّلا ثمّ يلحق بها العوارض الخارجة عن تلك الطبيعة ويحصل الفرد؟! ، والقسم الخامس انّما يتصوّر إذا أريد بالواجب مفهوم الواجب الانتزاعي الّذي هو مغاير للذات في التعقّل ؛ مع أنّ المستدلّ لم يرد ذلك ، بل أراد منه - أي : من الواجب - ما يعبّر عنه بالمفهوم الانتزاعي - وهو عين الذات - ، فلا يتصوّر انفصال بينه وبين الذات ، فلا يتصوّر قسم خامس.

ومنها : إنّه لو كان الواجب اكثر من واحد لكان لكلّ منهما تعيّن ضرورة ، وحينئذ إمّا أن يكون بين الوجوب والتعيّن لزوم أو لا ، فان لم يكن بل جاز انفكاكهما لزم جواز الوجوب بدون التعيّن ، وهو محال - لأنّ كلّ موجود متعيّن - ، أو جواز التعيّن بدون الوجوب وهو ينافي كون الوجوب ذاتيا ، بل يستلزم كون الواجب ممكنا حيث يتعين بلا وجوب ؛ وإن كان بين التعيّن والوجوب لزوم ، فان كان الوجوب بالتعين لزم تقدّم الوجوب على نفسه ضرورة تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب. بيان ذلك : انّه إذا كان الوجوب بالتعين يكون الوجوب معلولا للتعيّن والتعين علّة له ، والعقل يحكم بتقدّم العلّة على المعلول بحسب الوجوب - لأنّ العلّة يجب أوّلا ثمّ يجب المعلول بها - ، ولا فرق في ذلك بين كون العلّة والمعلول موجودين في الخارج أو في نفس الأمر. غاية ما في الباب إنّه لو كان المعلول موجودا في الخارج يكون تقدّم العلّة على المعلول بالوجوب بحسب وجوده الخارجى ولو كان موجودا في نفس الأمر دون الخارج يكون تقدّم العلّة على المعلول بحسب ذلك النحو من الوجود لا الوجود الخارجي أيضا. وبالجملة : إذا كان التعيّن متقدّما بالوجود على الوجوب نظرا إلى علّته له فالوجوب المتقدّم إن كان عين الوجوب المتأخّر يلزم تقدّم الشيء على نفسه وإن كان غيره فننقل الكلام إليه ونقول : لا يخلو من أن يكون بينهما لزوم أم لا - ... إلى آخر الكلام - وهكذا ، فيلزم التسلسل ، فان التعين بالوجوب أو كلاهما بالذات لزم خلاف المفروض - وهو تعدّد الواجب - ، لأنّ تعيّن المعلول لازم غير متخلّف ، فلا يوجد الواجب بدونه. قيل : لمّا

ص: 569

كان المراد من التعيّن الّذي وقع الترديدان بينه وبين الوجوب لزوما أم لا هو / 239 MA / التعيّن المتعيّن لا تعيّن ما فلا ريب في أنّه لو كان مستندا إلى الوجوب لزم نفي الكثير ، لأنّه لو كان التعيّن التعيّن مستندا إلى الوجوب لكان الوجوب لا يتحقّق بدون ذلك التعيّن فلا يتحقّق فرد آخر للوجوب غير ذلك الفرد ، لأنّه لو تحقّق فرد آخر يلزم اجتماع ذلك التعيّن بعينه في الفرد الآخر فيلزم كون الشخص الواحد شخصين ، وهو محال ؛ ولو كان المراد من التعيّن في دليل المستدلّ تعيّنا ما لا التعيّن المعيّن لم يلزم من استناده إلى الوجوب نفي التكثّر ، لأنّ كون تعيّن ما مستندا إلى الوجوب لا يوجب نفي التكثّر ، لأنّه لا مانع من وجود واجبين يكون وجوب أحدهما مقتضيا لتعيّن ما ووجوب الآخر مقتضيا لتعيّن آخر - وسيجيء لذلك زيادة بيان - ؛ وإن كان التعيّن والوجوب لأمر منفصل لم يكن الواجب واجبا بالذات - لاستحالة احتياجه في الوجوب والتعين ، بل في أحدهما إلى أمر منفصل ، وهو ظاهر -.

ثمّ إنّه قد اعترض على هذا الدليل بوجوه لا بدّ لنا من ذكرها والاشارة إلى دفعها :

أوّلها : إنّ قول المستدلّ : « لزم تقدّم الوجوب على نفسه ضرورة تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب » ، فيه : إنّ تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب انّما هو على تقدير كون المعلول موجودا خارجيا ، والمعلول هنا ليس كذلك ، لما سبق من أنّ الوجوب من الأمور الاعتبارية انتهى.

والجواب عنه : أمّا أوّلا فيما تقدّم من أنّه لا فرق في لزوم تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب بين كون العلّة والمعلول موجودين في الخارج / 241 DB / ونفس الأمر ، غاية ما في الباب إنّ العلّة والمعلول لو كانا موجودين في نفس الأمر يكون تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب بحسب نفس الأمر ، ولا ريب في أنّ الوجوب لو كان من الأمور الاعتبارية يكون من الاعتبارات النفس الامرية - فيكون الفساد المذكور - أعني : تقدّم الشيء على نفسه - ، أو التسلسل.

وأمّا ثانيا : فبانّ خلاصة الدليل المذكور إنّه على تقدير تعدّد الواجب امّا أن يكون بين الوجوب الّذي هو الوجود الحقيقي الّذي هو الوجود المتأكّد الّذي يكون

ص: 570

الواجب به موجودا والتعيّن الّذي يتشخّص به الواجب الواحد لزوم أم لا ؛ وعلى الثاني جاز انفكاك كلّ من الوجود المتأكّد والتعيّن عن الآخر ولزم جواز تحقّق التعيّن بدون وجوب الوجود ، وهذا مستلزم لكون الواجب ممكنا ، وعلى الأوّل يلزم أحد من الأقسام المذكورة الّتي بعضها مستلزم للمطلوب وبعضها محال.

وعلى هذا يندفع الاعتراض المذكور ، لأنّ المراد بوجوب الوجود إذا كان هو الوجود الحقيقي المتأكّد الّذي تحقّق الواجب باختياره فلا تبقى شبهة في تحقّقه في الخارج - لكونه عين حقيقة الواجب ، كما مرّ سابقا -.

وثانيها : إنّ الوجوب الموقوف مغاير للوجوب الموقف عليه ، لأنّ أحدهما وجوب الذات والآخر وجوب التعيّن ؛ وحاصله : أنّه لا يلزم من تقدّم وجوب التعيّن على وجوب الذات تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّ هاهنا وجوبين : أحدهما : وجوب التعيّن ؛ والآخر : وجوب الذات ، فالمتقدّم هو وجوب التعيّن والمتأخّر هو وجوب الذات ، فلا يلزم تقدّم الشيء على نفسه.

والجواب عنه : أمّا أوّلا : فبانّه لو نقل الكلام إلى وجوب التعيّن - كما ذكرنا - لزم تقدّم الشيء على نفسه ، أو التسلسل ؛

وأمّا ثانيا : فبأنّ وجوب الذات ليس إلاّ وجوب مجرّد الذات - إذ بدون الوجود الحقيقي يتحقّق انعدام الذات - ، فيلزم تقدّم وجوب الوجود على نفسه على تقدير كون التعيّن علّة لوجوب الوجود. والحاصل إنّ وجوب الذات ليس إلاّ عين وجوب وجود الذات - لأنّ معنى وجوب الذات هو أنّ وجودها واجب بالذات ، لأنّه بدون وجوب وجود الذات يتحقّق انعدام الذات - ، ووجوب وجود الذات عبارة عن الوجود المتأكّد الّذي هو الوجود الحقيقي ، فوجود وجوب الذات هو الوجود الحقيقي وكونه معلولا يستلزم تقدّم الشيء على نفسه بالضرورة.

وثالثها : إنّ قوله : « إمّا أن يكون بين الوجوب والتعيّن لزوم ، أو لا » إن اراد بالتعيّن الواحد المعيّن من التعيّنين اللّذين للواجبين ، نختار أنّه لا لزوم بينه وبين الوجوب ؛

ص: 571

قوله : « إن جاز انفكاكهما لزم جواز وجود الوجوب بدون التعيّن » ؛

قلنا : ممنوع ، وانّما يلزم لو لم يكن هناك تعيّن آخر ؛

وإن أراد بالتعيّن أحد التعيّنين المذكورين لا على التعيين فقوله : « إن كان التعيّن بالوجوب أو كلاهما بالذات لزم خلاف المفروض وهو تعدّد الواجب » ممنوع.

قوله : « لأنّ التعيّن المعلول لازم غير متخلّف » ؛ قلنا : مسلّم ، لكن لزوم أحد التعيّنين لا على التعيين لا ينافي التعدّد ؛ انتهى.

وأجاب عنه بعض المشاهير : بأنّ المراد هو الشقّ الأوّل - وهو أن يراد بالتعيّن الواحد المعيّن من التعيّنين - ، ولا خفاء في أنّه إذا لم يتحقّق بينه وبين وجوب الوجود لزوم جاز انفكاك كلّ منهما عن الآخر ، فجاز انفكاك التعيّن ، وهو باطل - للزوم تحقّق التعيّن بدون الوجوب وهو يستلزم الامكان - ؛ وذلك يكفي في اتمام الدليل.

ولعلّ اللزوم اشتبه بالتلازم عند المعترض ولا حاجة إلى اعتبار التلازم في اتمام الدليل المذكور ، بل اعتبار اللزوم كاف.

وحاصل هذا الجواب : إنّ الاستدلال المذكور ليس مبنيّا على وجوب تحقّق التلازم بين الوجوب والتعيّن - أي : ليس مبنيّا على أنّه لا يجوز وجود التعيّن بدون الوجوب ولا وجود الوجوب بدون التعين - حتّى يرد ما أورد عليه المعترض ، لأنّه إذا جاز الانفكاك بين الوجوب والتعيّن المعيّن لا يلزم جواز وجود الواجب بدون التعيّن لوجود تعيّن آخر ، بل الاستدلال انّما هو مبني على وجوب اللزوم بين الوجوب والتعيّن المعيّن ؛ ولا ريب في أنّه لو لم يكن بين الوجوب والتعيّن لزوم فيصحّ وجود أحدهما بدون الآخر فيجوز وجود التعيّن بدون الوجوب ، وهو يستلزم امكان ما فرض أنّه واجب ، فيلزم أن يكون بينهما لزوم. وعلى فرض نفي اللزوم يعلم جواز وجود التعيّن بدون الوجوب للتسلسل ، وهو يكفي للزوم الفساد المثبت للمطلوب. / 242 DA / فلا يحتاج إلى التعرض - لجواز تحقّق الوجوب / 239 MB / بدون التعيّن - حتّى يرد عليه : بأنّ جواز تعقّله بدون تعيّن لا يستلزم جواز تحققه بدون التعيّن مطلقا - لوجود تعيّن آخر -. ثمّ السرّ في عدم ورود الايراد المذكور في الصورة الأولى ووروده في الصورة الثانية

ص: 572

إنّ التعيّن لما كان اثنين فاذا أخذنا واحدا معينا منهما وقلنا بجواز انفكاكه عن وجوب الوجود - أي : وجوده بذاته - لزم امكان الواجب ، فمن مجرّد جواز انفكاك التعيّن عن الوجوب يلزم المطلوب ؛ وامّا وجوب الوجود فلمّا كان أمرا واحدا كلّيا مشتركا بين الواجبين فاذا جاز انفكاكه عن أحد التعيّنين - أي : وجوده بدونه - فيمكن أن يكون متعينا بتعين آخر ؛ فلا يلزم الفساد المذكور - أعني : وجود الشيء بدون التعيّن -.

وتوضيح المقام : إنّ التلازم نسبة بين شيئين موجبة لاستصحاب أحدهما الآخر ، ومقتضى هذا الاستصحاب إمّا كون أحد الشيئين المتلازمين علّة للآخر ، أو كونهما معلولين لثالث ؛ وإذا كان التلازم عبارة عن شبه بين شيئين يستصحب أحدهما الآخر فأحدهما لا على التعيين أيضا لازم ، فنفي التلازم انّما يعلم بجواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر بأن يجوز وجود كلّ منهما بدون الآخر ، ولا يكفى في نفيه جواز انفكاك واحد معين منهما عن الآخر بدون العكس - أي : يجوز وجود هذا الواحد المعيّن بدون الآخر بأن يكون هذا الواحد لازما أعمّ ، بخلاف العكس بأن لا يجوز وجود الآخر لكونه ملزوما بدون اللازم المذكور - ، فاذا كان بين الواجب والتعين المعيّن تلازم ولا يعلم أيّهما ملزوم وأيّهما لازم فنفيه انّما يعلم بجواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر ، ولا يكفي مجرّد جواز انفكاك أحدهما عن الاخر. وحينئذ كما أنّه لا بدّ في فرض نفيه من القول بانّه يجوز انفكاك التعيّن عن الوجوب لا بدّ أيضا من القول بانّه يجوز انفكاك الوجوب عن التعيّن. وحينئذ - إذا بيّن فساد ذلك بانّه مستلزم لجواز وجود الواجب بدون التعيّن ثبت منه التلازم بينهما - يرد عليه الإيراد المذكور.

وأمّا اللزوم فلمّا كان عبارة عن تحقّق المصاحبة بين شيئين بايّ نحو كان ، فنفيه انّما يعلم بارتفاعها بالكلّية ، وهو انّما يعلم بجواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر ، فاذا كان بين وجوب الوجود والتعيّن المعيّن لزوم فنفيه انّما يعلم إذا علم جواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر ، فاذا فرض نفيه يعلم منه جواز انفكاك التعيّن عن الوجوب البتة. وبذلك يتمّ المطلوب ؛ ولا يحتاج إلى التعرّض لجواز انفكاك الوجوب عن التعيّن حتّى يرد عليه الايراد المذكور ، وإن كان هذا الجواز أيضا حاصلا ؛ هذا.

ص: 573

وقيل : إنّ المعترض لم يشتبه عنده اللزوم بالتلازم ، لأنّ المستدلّ أخذ في دليله جواز تحقّق التعيّن بدون الوجوب ، وكذا جواز تحقّق الوجوب بدون التعيّن ، وبحث المعترض انّما هو على دليل المستدلّ وما ذكره المجيب دليل آخر ، لأنّه أسقط المقدّمة الّتي هي مناط البحث - أعني : جواز تحقّق الوجوب بدون التعيّن -. وقول المستدلّ : « وإن كان بين التعيّن والوجوب لزوم فان كان الوجوب بالتعين لزم كذا وإن كان التعيّن بالوجوب أو كلاهما بالذات لزم كذا » صريح في أنّ المستدلّ أخذ اللزوم بمعنى التلازم.

وغير خفيّ بانّه لمّا كان الدليل المذكور ممّا يمكن تصحيحه بحيث يندفع عنه الاعتراض المذكور بنحو ما ذكره المجيب فلا ضير لو كان قصور في التقرير الّذي ذكره المستدلّ ، فانّ أصل الدليل حينئذ يكون تامّا ناهضا باثبات المطلوب.

ثمّ لا يخفى بأن الفرق بين اللزوم والتلازم بنحو ما مرّ ليس كلّيا ، لأنّه في الغالب يستعملان بمعنى واحد ؛ هذا.

وقال المجيب المذكور : نعم يرد على الدليل المذكور إنّه لا حاجة في تتميمه إلى اثبات محالية جواز الوجوب بدون التعيّن بالدليل المذكور ، وهو قوله : لأنّ كلّ موجود متعيّن ؛ بل يمكن اثبات محالية ذلك الجواز بأن يقال : لمّا جاز تحقّق الوجوب بدون المعين فلا بدّ من علّة لمقارنته له ، فامّا أن تكون تلك العلّة هي ذلك المعيّن ، فلزم المحذور المذكور - وهو تقدّم الوجوب على نفسه ، ضرورة / 242 DB / تقدّم العلّة على المعلول بالوجوب والوجود - ، وإمّا ان تكون تلك العلّة أمرا منفصلا لزم امكان الواجب ، فعلى هذا التقدير يمكن اعتبار كلّ من اللزوم والتلازم بين الوجوب والتعيّن المعيّن بما ذكر بأن يقال : يجب أن يكون بينهما لزوم ، لأنّه لو لم يكن بينهما لزوم لزم جواز وجود أحدهما بدون الآخر ، فلا بدّ من علّة لمقارنة أحدهما للآخر ، فامّا أن تكون تلك العلّة - ... إلى آخره - ؛ وأن يقال : يجب أن يكون بينهما تلازم وإلاّ يلزم جواز وجود كلّ منهما بدون الآخر ، فلا بدّ من علّة لمقارنة كلّ منهما للآخر ، وتلك العلّة إمّا أن تكون - ... إلى آخر - ؛ فعلى هذا التقدير لا يرد الايراد المذكور ، أي : لا يمكن أن يقال : إن أريد بالتعين واحد معين من التعيّنين نختار إنّه لا لزوم بينه وبين الوجوب ولا يلزم جواز وجود الوجوب

ص: 574

بدون التعيّن لوجود تعيّن آخر هناك ، لأنّه لا ريب في مقارنة تعيّن معين للوجوب ، فلا بدّ من علّة لمقارنته له ، وتلك العلّة امّا نفس ذلك التعيّن - فيلزم المحذور المذكور - ، أو أمر منفصل - فيلزم امكان الواجب - ؛ هذا.

ولا خفاء في توجيه نظير الايراد الّذي أورد على الدليل السابق - أعني : الشبهة الكمونية - على هذا الدليل أيضا بأن يقال : إن أريد بالتعين التعيّن الخاصّ فهو لا يكون بالوجوب ، بل يكون بالذات ولا ينفكّ عن الذات أصلا ؛ وإن أريد به تعيّن ما فهو لطبيعة الوجوب ولا ينفكّ عنهما ؛ وحينئذ لا يتمّ الدليل لجواز أن يكون في الوجود واجبان بالذات يكون كنههما مجهولين ويكون المعيّن والخاصّ / 240 MB / لكلّ منهما بذاته ومطلق التعيّن لطبيعة الوجوب. ودفعه ما مرّ من أنّ المراد بوجوب الوجود حقيقة محض الوجود المنزّه عن الماهيّة ، وانّ اتحاد حقيقة محض الوجود بديهي حدسي.

قيل : ويمكن دفعه بوجه آخر ، وهو : إنّه لو تعدّد الواجب بالذات فلا بدّ أن يكون هناك لكلّ واحد منهما وجوب وتعيّن ، لأنّ الوجوب معنى واحد - بناء على ثبوت الاشتراك المعنوي - ولا يتصوّر في معنى واحد تكثّر إلاّ بانضمام أمر إليه ، فلا بدّ من انضمام التعين إلى الوجوب ليحصل بانضمام كلّ تعيّن فرد من الواجب ، فالمتعين يكون جزء للفرد الواجب ، فلا يكون التعيّن مستندا إلى الفرد - أعني : الذات - ، وإلاّ يلزم كون الشيء علّة لجزئه ؛ وهو باطل.

وبهذا يظهر بطلان ما ذكره المعترض المذكور بقوله : « فانّه يجوز أن يكون تعيّن كلّ واجب معلّلا بأمر منفصل عن مفهوم الواجب - أعني : ذات الواجب - ». ووجه البطلان إنّه : إذا كان تعيّن ذات الواجب معلّلا بذات الواجب يلزم أن يكون الشخص علّة لتشخّصه ، وذلك باطل ؛ لأنّ كلّ تشخّص إمّا أن يكون عين الشخص - كما في الواجب بالذات - أو جزئه - كما في الممكن - ، وعلى أيّ تقدير لا يصحّ كون الشخص علّة لتشخّصه. وأيضا نقول : إنّ المنضمّ إلى الوجوب يكون أمرا خارجيا عن الوجوب والأمر الخارج عن الوجوب إمّا ممكن أو ممتنع ، والممتنع لا يجوز أن يكون جزء لموجود خارجي ، فبقى أن يكون ممكنا ، فيلزم أن يكون الواجب مركّبا من الواجب والممكن ،

ص: 575

فلا يكون ما فرض أنّه واجب بالذات واجبا بتمامه ، بل ببعضه ؛ فالواجب بالذات هو ذلك البعض لا المركّب ، فلا يلزم تكثّر الواجب بالذات ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّه إذا كان في الوجود واجبان تعيّن كلّ منهما بذاته ، بمعنى أن يكون تعيّن كلّ منهما عين ذاته كما نقول نحن ذلك في الواجب لا يلزم أن يكون الشخص علّة لتشخّصه ، لأنّ تشخّصه حينئذ ليس إلاّ ذاته ، فالصحيح في الجواب ما ذكر أوّلا.

ومنها : برهان أورده بعض الأزكياء ، وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمتين :

الأولى : إنّ الوجود وكذا الوجوب من المشتركات المعنوية دون اللفظية - كما ثبت في محلّه - ؛

والثانية : إنّ كلاّ منهما عين في الواجب - سبحانه - وليس شيء منهما زائدا عليه - كما قرّرناه -.

وبعد تمهيد هاتين المقدّمتين نقول : لو كان في الوجود واجبان بالذات لكان وجوب الوجود مشتركا معنويا بينهما لا لفظيا - لما عرفت - ، فلا يخلوا إمّا أن يكون ذاتيا لهما أو عرضيا ، والثاني باطل - للزوم الاحتياج إلى حيثية تقييدية أو تعليلية ، والبرهان الدالّ على عينية الصفات دلّ على أنّه سبحانه لا يحتاج في حمل واجب أو عالم أو قادر وغيرها من الصفات الكمالية عليه تعالى إلى حيثية تقييدية أو تعليلية ، بل ذاته تعالى بذاته مصداق حمل تلك المحمولات. وبالجملة قد حكم البرهان بأنّ نسبة تلك الصفات / 243 DA / الكمالية إلى ذاته تعالى كنسبة الانسانية إلى الانسان من حيث عدم الاحتياج إلى حيثية تقييدية أو تعليلية - ، فبقي أن يكون وجوب الوجوب قدرا مشتركا ذاتيا ؛ فحينئذ إمّا أن يكون جنسا أو نوعا أو فصلا ، والأوّل - أعني : كونه جنسا - باطل ، لأنّه لو كان جنسا لكان حقيقته ووجوب الوجود مبهمة في مرتبة الذات ولا يكون متعينة في مرتبته بذاتها ، فلا بدّ لها من التعيّن ومن رافع لابهامها ، والرافع لابهامها هو الفصل ، والفصل خارج عن حقيقة الجنس ، فيلزم أن يكون ما يرفع الابهام عن حقيقة وجوب الوجود خارجا عنها ، والخارج عن حقيقة وجوب الوجود ممكن أو ممتنع ، والممتنع لا يصلح لذلك - وهو ظاهر - ، فبقي أن يكون ممكنا ، وهو ظاهر البطلان!.

ص: 576

والثاني - أعني : كونه نوعا - أيضا باطل ، لأنّه لو كان نوعا لكان له تشخّص خارج عنه ، والخارج عن حقيقة وجوب الوجود إمّا ممكن أو ممتنع ، وشيء منهما لا يصلح أن يكون الامتياز ، فيكون كلّ منهما مركبا من حقيقة وجوب الوجود ومن غيرها فيلزم أن لا يكون فصلا - لأنّ الفصل يكون مميزا اذا كان ما بين الواجبين مشترك ذاتي - ، فيكون كلّ منهما مركّبا من حقيقة وجوب الوجود ومن غيرها ، فليزم أن لا يكون ما فرض واجبا بالذات بتمامه ، بل ببعضه ، فيلزم خلاف الفرض. وهذه المفسدة آتية على تقدير كون حقيقة وجوب الوجود جنسا أو نوعا أيضا ، لانّها إذا كانت جنسا أو نوعا لكان فردها النوعي أو الشخصي مركّبا من الجنس وغيره ، أو من النوع وغيره ، وذلك الغير يكون ممكنا لا ممتنعا ، فيلزم أن لا يكون الواجب واجبا بتمامه ، بل ببعضه ؛ فظهر أنّ مفهوم وجوب الوجود يجب أن يكون بإزاء الذات والهوية جميعا والمفهوم الّذي بإزاء ذات الشيء وهويته جميعا يمتنع أن يتصوّر له فردان فضلا عن جواز وقوعهما - وإلاّ لزم أن يكون الشخص كلّيا -. ونعم ما قيل : إنّه كما أنّ تعدّد الواجب بالذات ممتنع كذلك تصوّر التعدّد في وجوب الوجود ممتنع.

ثمّ لا يخفى بانّه بعد اثبات أنّ وجوب الوجود لا يمكن أن يكون عرضيا بين الواجبين بل لو اشترك بينهما لكان ذاتيا يمكن أن يقال في تتميم البرهان : إنّه يلزم حينئذ التركيب لاحتياجهما إلى ما به الامتياز ، إلاّ أنّ هذا طريق آخر سوى ما نقلناه عن بعض الأذكياء.

ومنها : ما ذكره الشيخ في الشفا ، وهو : إنّ وجوب الوجود إذا كان صفة لشيء وموجودا له فامّا أن يعيّن وجوب الوجود على سبيل الوجوب كونه صفة لهذا الشيء ، فلا يوجد في غيره ؛ وإمّا أن يكون كونه صفة لهذا الشيء المعيّن معلّلا بأمر غير وجوب الوجود ، فيكون ممكنا. ثمّ قال : وبعبارة أخرى نقول : إنّ كون الواحد واجب الوجود وكونه هو إمّا أن يكون واحدا ، فيكون كلّ ما هو واجب الوجود ، فهو هذا الواحد بعينه ولا يكون غيره واجبا ، لأنّه لمّا كان وجوب الوجود بمعنى واحدا فاذا كان التعيّن والهوية عند ذلك المعنى فلا يتصوّر أن يكون لذلك المعنى شخصان وإلاّ يلزم أن يكون

ص: 577

الشخص الواحد شخصين ؛ وإن كان كونه واجب الوجود غير كونه هو بعينه فمقارنة واجب الوجود لما هو بعنيه إمّا أن يكون أمرا لذاته من حيث هو واجب الوجود أو لعلّة وسبب غيره ، فان كان لذاته - أي : لأنّه / 241 MA / واجب الوجود - فيكون كلّ ما هو واجب الوجود هذا المعيّن بعينه ، فلا يكون غيره واجب الوجود ؛ وإن كان بسبب وموجب غير الذات من حيث هو واجب الوجود فيكون لكون واجب الوجود هذا بعينه سبب ، فيكون هذا ممكنا معلولا ، وقد فرضناه فردا لواجب الوجود بالذات.

وقريب ، من هذا الدليل ما ذكره أيضا في الشفا بأنّ الواحد بما هو واجب الوجود يكون ما هو به هو وهو ذاته ومعناه ، أمّا مقصور عليه لذات ذلك المعنى لا لعلّة ، فان كانت حقيقة الواجب الوجود لأجل نفسها هي هذا المعيّن استحال أن يكون تلك الحقيقة ليست هذا ، فلا يمكن أن يوجد / 243 DB / لغيره ؛ وإن كان تحقّق هذه الحقيقة لهذا المعيّن لا عن ذاتها بل عن غيرها فيكون وجود الخاصّ له مستفادا من غيره ، فلا يكون واجب الوجود هذا خلف ؛ فاذن حقيقة واجب الوجود واحد فقط. وكيف يكون الماهيّة المجرّدة - أي الماهية الصرفة - بلا لحوق أمر آخر إليه للذاتين والشيئان انّما يكون اثنين امّا بسبب المعنى - أي : بسبب نفس الماهيّة وأصل المعنى - أو بسبب الخاصّ للمعنى ، فالوضع للعرض أو العلّة للمعلول ؛ وإمّا بسبب الوضع والمكان ؛ أو بسبب الوقت والزمان ، وبالجملة لعلّة من العلل ؛ لأنّ كلّ اثنين لا يختلفان بالمعنى فانّما يختلفان لشيء عارض للمعنى مقارن له ، وكلّ ما ليس له وجود إلاّ وجود معيّن ولا يتعلّق بسبب خارج أو حالة خارجية فبما ذا يخالف مثله؟.

ومنها : ما ذكره الشيخ أيضا في الشفا بقوله : وبالجملة إنّ الفصول وما يجري مجريها لا يتحقّق بها حقيقة المعنى الجنسى من حيث معناه - أي : ليس متمّما وداخلا في معناه - ، بل انّما كانت علّة لتقديم الحقيقة موجودة والوجود امر خارج عن حقيقة المعنى الجنسي في غير الواجب ، فانّ الناطق ليس شرطا يتعلّق به الحيوان في أنّ له معنى الحيوان وحقيقته ، بل في أن يكون موجودا معينا ، وإذا كان المعنى العامّ - أي : الّذي فرض أنّه جنس - وما يوجب التعيّن فصله أو نوع وما يوجب التعيّن بشخصه نفس

ص: 578

واجب الوجود وكان الفصل يحتاج إليه في أن يكون واجب الوجود موجودا فقد دخل ما هو كالفصل في ماهية ما هو كالجنس لأنّه يحصل به الوجود الّذي هو نفس الجنس على الفرض المذكور ، فيلزم أن يكون للفصل دخل في أصل حقيقة الجنس. والحاصل : انّ حقيقة واجب الوجود هو الوجود ، فاذا فرض أنّه جنس والفصل لتقويم الحقيقة الموجودة فيدخل الفصل في حقيقة الجنس وهو خلاف سائر الفصول بالنسبة إلى الأجناس. والحال فيما يقع به اختلاف غير فصلي في جميع هذا أظهر - أي : حال ما يوجب الاختلاف والتعدّد في الماهيّة غير الفصل ممّا ذكر من الموضوع والزمان والمكان وغيرها اظهر في جميع ما ذكرنا من الاحكام من أنّه لا بدّ أن لا يكون لهذه الأمور دخل في أصل المعنى الجنسي أو النوعي -. وإذا كان هذه الأمور موجبة لتعيّن الواجب يلزم أن يكون لها دخل في أصل المعنى العامّ بناء على أنّه هو الوجود ولهذه الأمور دخل في الوجود قطعا. وإلى هذا الدليل اشار بهمنيار في التحصيل حيث قال : اعلم! أنّ كلّ معنى عامّ فامّا أن يتحصّل بالفصل أو بالعرض ، والفصل والعرض لا يفيدان ماهية الجنس ولكنهما يفيدان قوام وجود الجنس بالفعل ، والعرض لا يفيد ماهية النوع بل يفيد قوام وجودها. وحيث ماهية الجنس أو النوع عين الوجود وفرض دخول فصل أو عرض عليه لزم أن يكون الفصل يفيد ماهية الجنس والعرض يفيد ماهية النوع ، فالموجود الّذي لا سبب له إن فرض له جنس وفصل أو ماهيّة نوعية والفصل يفيد وجود الجنس والعرض يفيد وجود النوع يلزم أن يكون ما لا علّة له معلولا ؛ فتبيّن من هذا أنّ الموجود الّذي لا سبب له والموجود الّذي مهيته إنّيته لا يتكثّر بالفصول والعوارض ، فلا شركة لواجب الوجود بالذات.

وقريب من هذا الدليل ما ذكره أيضا في الشفا : بأنّ الواحد بما هو واجب الوجود يكون ما هو به هو وهو ذاته ومعناه ، أمّا مقصور عليه لذات ذلك المعنى لا لعلّة ، فان كانت حقيقة الواجب الوجود لأجل نفسها هي هذا المعيّن استحال أن يكون تلك الحقيقة ليست هذا ، فلا يمكن أن يوجد / 243 DB / لغيره ؛ وإن كان تحقّق هذه الحقيقة لهذا المعيّن لا عن ذاتها بل عن غيرها فيكون وجود الخاصّ له مستفادا من

ص: 579

غيره ، فلا يكون واجب الوجود ، هذا خلف ؛ فاذن حقيقة واجب الوجود واحد فقط. وكيف يكون الماهيّة المجرّدة - أي : الماهية الصرفة - بلا لحوق أمر آخر إليه للذاتين والشيئان انّما يكون اثنين امّا بسبب المعنى - أي : بسبب نفس الماهيّة وأصل المعنى - أو بسبب الخاصّ للمعنى ، فالوضع للعرض أو العلّة للمعلول ؛ وإمّا بسبب الوضع والمكان ؛ أو بسبب الوقت والزمان وبالجملة لعلّة من العلل ، لأنّ كلّ اثنين لا يختلفان بالمعنى فانّما يختلفان لشيء عارض للمعنى مقارن له ، وكلّ ما ليس له وجود إلاّ وجود معيّن ولا يتعلّق بسبب خارج أو حالة خارجية فبما ذا يخالف مثله؟ ؛ فاذن لا يكون لله مشارك في معناه ، فالأوّل لا ندّ له.

ومنها : ما ذكره الشيخ أيضا في الشفا بقوله : وبالجملة إنّ الفصول وما يجري مجريها لا يتحقق بها حقيقة المعنى الجنسى من حيث معناه - أي : ليس متمّما وداخلا في معناه - ، بل انّما كانت علّة لتقديم الحقيقة موجودة والوجود امر خارج عن حقيقة المعنى الجنسي في غير الواجب ، فانّ الناطق ليس شرطا يتعلّق به الحيوان في أنّ له معنى الحيوان وحقيقته ، بل في أن يكون موجودا معينا ، وإذا كان المعنى العامّ - أي : الّذي فرض أنّه جنس - وما يوجب التعيّن فصله أو نوع وما يوجب التعيّن بشخصه نفس واجب الوجود وكان الفصل يحتاج إليه في أن يكون واجب الوجود موجودا فقد دخل ما هو كالفصل في ماهية ما هو كالجنس ، لأنّه يحصل به الوجود الّذي هو نفس الجنس على الفرض المذكور ، فيلزم أن يكون للفصل دخل في أصل حقيقة الجنس. والحاصل : انّ حقيقة واجب الوجود هو الوجود ، فاذا فرض أنّه جنس والفصل لتقويم الحقيقة الموجودة فيدخل الفصل في حقيقة الجنس ، وهو خلاف سائر الفصول بالنسبة إلى الاجناس ، والحال فيما يقع به اختلاف غير فصلي في جميع هذا اظهر - أي : حال ما يوجب الاختلاف والتعدّد في الماهيّة غير الفصل ممّا ذكر من الموضوع والزمان والمكان وغيرها أظهر في جميع ما ذكرنا من الأحكام ، من أنّه لا بدّ أن لا يكون لهذه الأمور دخل في أصل المعنى الجنسى أو النوعي - ، وإذا كان هذه الأمور موجبة لتعين الواجب يلزم أن يكون لها دخل في أصل المعنى العامّ بناء على أنّه هو الوجود ولهذه الامور دخل في الوجود قطعا. وإلى هذا الدليل اشار بهمنيار في التحصيل حيث قال : اعلم! ، أنّ كلّ

ص: 580

معنى عامّ فامّا أن يتحصّل بالفصل أو بالعرض ، والفصل والعرض لا يفيدان ماهية الجنس ولكنّهما يفيدان قوام وجود الجنس أمرا بالفعل ، والعرض لا يفيد ماهية النوع بل يفيد قوام وجودها ، وحيث ماهية الجنس أو النوع عين الوجود وفرض دخول فصل أو عرض عليه لزم أن يكون الفصل يفيد ماهية الجنس والعرض يفيد ماهية النوع ، فالموجود الّذي لا سبب له ان فرض له جنس وفصل أو ماهيّة نوعية والفصل يفيد وجود الجنس والعرض يفيد وجود النوع يلزم أن يكون ما لا علّة له معلولا ، فتبيّن من هذا أنّ الموجود الّذي لا سبب له والموجود الّذي مهيته انيته لا يتكثّر بالفصول والعوارض ، فلا شركة لواجب الوجود بالذات.

ومنها : ما ذكره الشيخ أيضا في إلهيات الشفا بقوله : إنّ واجب الوجود بذاته لا يصحّ أن يكون فيه كثرة ؛ ولنورد ما مرّ على وجه مختصر ، وهو : أنّه إن كان واجب الوجود يقتضي لذاته ولأنّه واجب الوجود بذاته وكان شرطا فيه أن يكون مثلا « آ » لم يصحّ أن يكون غير « آ » ، فلا يكون واجب الوجود بذاته إلاّ « آ » ؛ وإن كان بسبب ما صار « آ » كان واجب الوجود بذاته واجب الوجود بغيره.

والظاهر إلى هذا الدليل المختصر اشار بهمنيار بقوله : « فالموجود الّذي لا سبب له لا يصحّ أن يتكثّر ، لأنّه لو كان كثيرا لكان لوجود تلك الكثرة سبب ».

ومنها : إنّه لو تعدّد الواجب لكان كلّ واحد منهما بحيث / 241 MB / يمكن انتزاع مفهوم واجب الوجود منه ، وهذا المفهوم وإن كان عرضيا لذات الواجب - سبحانه - ولكن لا ريب في أنّه ليس مصحّح عروضه إلاّ ذاته المقدّسة - كسائر العوارض بالنسبة إلى معروضاتها - ، فهو من الأعراض اللازمة لذاته - تعالى - الحاكية عن حاقّ ذاته - كالانسانية العرضية المنتزعة عن نفس / 244 DA / حقيقة الانسان ، لأنّ ايجاد الجاعل بالجعل البسيط نفس حقيقة ما هو الانسان بحسب الواقع كافيا في انتزاع الانسانية المصدرية -. وكون كلّ واحد من الواجبين بهذا الوجه - أعني : كونه بنفس ذاته من غير مدخلية الغير وتأثيره فيه - منشئا لانتزاع هذا المفهوم يقتضي اشتراكهما في أمر حقيقي يكون منتزعا منه لهذا المفهوم ، وإلاّ يلزم كون انتزاعه من أحدهما بمجرّد

ص: 581

الانتزاع والحال أنّه ليس كذلك - لانّهما متساويان في كونهما منشأين لانتزاع مفهوم وجوب الوجود في نفس الأمر -.

وتوضيحه : انّ الانسانية المصدرية الحاكية عن كون الشيء انسانا في الواقع من زيد وعمرو مثلا لو لم يكن بسب تحقّق الجهة الجامعة الذاتية لهما لكان ينبغي أن يكون نسبة هذا المعنى المصدري الانتزاعي إليهما عند العقل كنسبته إلى ما هو فرد للانسان وما لا يكون فردا منه - كزيد والحجر - ، وبطلان التالي مستلزم لبطلان المقدّم ، فيجب تحقّق جهة الجامعة بينهما بحسب نفس الحقيقة والطبيعة الّتي بها يكون الشيء في الوقع انسانا ، فظهر منها أنّ احد الواجبين لو كان بنفس ذاته من غير مدخلية تأثير الغير فيه مصداقا لمفهوم الوجوب الانتزاعي ؛ ولا شك أنّه يجب أن يكون له محكى عنه بحسب نفس الأمر وإلاّ يلزم انتزاعه بمجرد اختراع العقل - كانتزاع الانسانية من الجدار - ؛ وهو باطل. فان لم يكن الواجب الآخر أيضا بهذا الوجه - أعني : كونه مصداقا بنفس ذاته بهذا المفهوم - لم يكن واجبا ، هذا خلف ؛ وإن كان ولم يشترك مع الآخر في جهة جامعة ذاتية بينهما لزم أن يكون انتزاع هذا المفهوم بينهما كانتزاع مفهوم الانسانية الحاكية عن حقيقة الانسان والفرسية الحاكية عن حقيقة الفرس من الفرس بأن يكون للوجوب الانتزاعي معنيين في الواجب على الاشتراك اللفظي وهذا باطل ، لأنّ الوجوب الانتزاعي الّذي هو يؤكّد الوجود الانتزاعي ليس مشتركا لفظيا ، بل مفهوما. فظهر من هذا التحقيق إنّ تعدد الواجبين يستلزم اشتراكهما في أمر ذاتي بينهما وجهة الامتياز فيهما ، فلا يخلوا حينئذ من أن يكون هذا الأمر المائز بينهما نفس جهة الاشتراك أو لازمها أو معلول لازمها ، فيلزم رفع التعدّد المفروض ؛ هذا خلف ؛ أو بسبب أمر آخر غير الواجب - تعالى - ، فيلزم الاحتياج المنافي للوجوب ؛ فثبت أنّ الواجب واحد لا شريك له ، وهو المتفرّد في السلطنة وانفاذ نور الوجود وبسطه في هياكل المهيات.

ومنها : ما ذكره بعض أعاظم العرفاء ، وهو : إنّ الواجب لمّا كان منتهى سلسلة الحاجات والتعلّقات فليس متوقّفا على شيء ، فيكون بسيط الحقيقة من جميع الوجوه ، فذاته واجب الوجود من جميع الجهات كما أنّه واجب الوجود بالذات ،

ص: 582

فليست فيه جهة امكانية ، أو امتناعية وإلاّ لزم التركيب الموجب للامكان ، وذلك محال. وإذا تمهّدت هذه المقدّمة الّتي مفادها أنّ كلّ وجود وكلّ كمال لوجود يجب أن يكون حاصلا لذاته - تعالى - فائضا عنه مترشّحا من لدنه على غيره ، وهما - أي : الوجود وكلّ كمال الوجود - عين ذاته - تعالى - فلو كان في الوجود واجب غيره فيكون لا محالة منفصل الذات عنه - لاستحالة أن تكون بين الواجبين علاقة ذاتية موجبة لتعلّق أحدهما بالآخر ، وإلاّ لزم معلولية أحدهما أو كليهما وهو خلاف الفرض - ، فلكلّ منهما إذا مرتبة من الكمال الوجودي ليس للآخر ولا منبعثا منه فائضا عنه ، فيكون كلّ منهما عاريا لكمال وجودي ، فذات كلّ منهما لا يكون محض حيثية الفعل والوجوب ، بل يكون ذاته بحسب ذاته مصداقا لحصول شيء وفقدان شيء آخر كلاهما من طبيعة الوجود بما هو وجود ، فلا يكون ذاته وجودا محضا ولا واحدا حقيقيا والتركيب ينافي الوجوب الذاتي ، فواجب الوجود بالذات يجب أن يكون من فرط العلّية وكمال التحصيل جامعا لجميع النشئات الوجودية ؛ فلا مكافى له في الوجود ولا ندّ ولا شبيه له ، بل ذاته من / 242 MA / تمام الفعلية بحيث يكون مستند جميع الكمالات ومنبع كلّ الخيرات ، فيكون بهذا المعنى تامّا وفوق التمام.

ومنها : برهان أورده بعض أعاظم العرفاء أيضا وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي : انّك كما قد تعقل المتصل مثلا نفس المتصل - كالجزء الصوري للجسم من حيث / 244 DB / هو جسم - وقد تعقل شيئا ذلك الشيء هو المتصل - وذلك كالهيولى للجسم ، فانّها متّصفة بكونها متّصلة ، لأنّها ليست نفس المتصل - ، فكذلك قد تعقل واجب الوجود بما هو واجب الوجود وقد تعقل شيئا ذلك الشيء هو واجب الوجود ، وكلّ واجب الوجود لم يكن نفس واجب الوجود ، بل له حقيقة تلك الحقيقة متصفة بكونها واجب الوجود ، ففي اتصافها به يحتاج إلى عروضه لها وإلى جاعل يجعلها كذلك أو يجعلها ، وبنفس الجعل يتصف به - على اختلاف القولين - ، فهي في حدّ ذاتها ممكنة الوجود وبذلك الجعل لكانت واجبة الوجود. وكلّ ما كان كذلك لا يكون واجب الوجود لذاته ، فكلّ واجب الوجود بذاته فهو نفس واجب الوجود بذاته.

ص: 583

وأمّا ما قال بعضهم من : « أنّ ماهية الأوّل - تعالى - أعلى من واجب الوجود ، بل هي ماهية للاسم لها وإذا عقلت يلزمها في التعقّل انّها واجبة الوجود » ، فيجب أن يؤوّل بأنّ معنى قوله : « اعلى من وجوب الوجود ويلزمها في العقل وجوب الوجود » هو أنّه لا يمكن أن يتصوّر وجوب الوجود إلاّ مع تركيب ، فيكون للوجود مفهوم وللوجوب مفهوم آخر. وأمّا الوجود الّذي وجوبه تأكّده وكماليته وهو بسيط فلا يمكن تعقّله ولا اسم له يدلّ عليه على ما يليق بكماليته وبساطته. وهذا التركيب المأخوذ بحسب مفهوم اللفظ انّما هو لازم من لوازمه. فقد ثبت وتحقّق أنّ واجب الوجود بذاته واجب الوجود بحسب الحقيقة - أي : حقيقة الوجود المتحقّق - ؛ وثبت أيضا أنّ مطلق الوجود شيء واحد بحسب المفهوم.

وإذا ثبت هذه المقدّمة نقول : لو تعدّد الواجب بالذات فكان اثنين مثلا - تعالى عن ذلك - ، فلا يخلوا إمّا أن يتحدا في الحقيقة ، أو لا ؛ فعلى الأوّل علّة اختلافهما يكون أمرا غير الوجود المتأكّد وغير حقيقتهما ، فيلزم امكانهما جميعا أو امكان واحد منهما ؛ وعلى الثاني يكون وجوب الوجود عارضا لهما جميعا أو لأحدهما ، وقد ثبت أنّ واجب الوجود لا حقيقة له سوى نفس الوجود.

ومنها : إنّه لو تعدّد الواجب لأمكن أن يكون أثر احدهما بعينه أثرا للآخر لاتفاقهما في وجوب الوجود الّذي هو معنى واحد وهو عين كلّ منهما ، وهو المناط في التأثير في كلّ ما هو ممكن. وحينئذ استناد كلّ أثر إلى أحدهما دون الآخر يوجب الترجيح بلا مرجّح ، وصدوره عنهما جميعا يوجب صدور أمر واحد بالشخص عن متعدّد ، وكلاهما محال ؛ فتعدّد الواجب محال.

ومنها : إنّه لا يمكن أن يكون في الوجود واجبان بالذات ، إذ لو كان الواجب اثنين لكان الوجود حينئذ نفس الماهية لهما وكان لازم النوع متفقا بينهما ، والعارض الغريب محتاج إلى مخصّص خارجي. ولا يصحّ أن يخصّص كلّ واحد منهما نفسه بشيء وإلاّ لتقدّم تخصيصه على تخصّصه ؛ ولا أن يخصّص كلّ منهما الآخر بشيء فيتقدّم تخصيص كلّ واحد منهما للآخر على تخصّصه - أي : تخصّص هذا المخصّص - ، فيتقدّم تعينه على تعيّن نفسه ؛ وهو محال.

ص: 584

ومنها : برهان أورده بعض الأعاظم وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، هي : أنّ مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق صدقه بالذات مع قطع النظر عن أيّة حيثية كانت لا يمكن أن تكون حقائق متخالفة متباينة بالذات غير مشتركة في ذاتي أصلا ، وظنّي انّ كلّ سليم الفطرة يحكم بأنّ الأمور المتخالفة من حيث كونه متخالفة بلا حيثية جامعة لا تكون مصداقا لحكم واحد ومحكيا عنها به. نعم! ، يجوز ذلك إذا كانت الأمور متماثلة من جهة كونها متماثلة - كالحكم على زيد وعمرو بالانسانية من جهة اشتراكهما في تمام الماهية لا من حيث اختلافهما بالعوارض المشخّصة - ، أو كانت مشتركة في ذاتى من جهة كونها كذلك - كالحكم على الانسان والفرس بالحيوانية من جهة اشتمالها عليها - ، أو في عرضي - كالحكم على الثلج والعاج بالابيضية من جهة / 242 MB / اتصافهما معا بالبياض - ؛ أو كانت تلك الامور المتباينة منتسبة إلى أمر واحد - كالحكم على مقولة الممكنات بالوجود من حيث انتسابها إلى الوجود الحقّ - تعالى - ، أو كانت متّفقة في أمر سلبي كالحكم عليها بالامكان لأجل كونها مسلوبة عنها ضرورة الوجود وامّا ما سوى تلك الوجوه المذكورة فلا يتصوّر فيها ذلك ضرورة.

وبعد تمهيد هذه المقدّمة نقول : لو تعدّد مفهوم الواجب بالذات لكان كلّ واحد منهما من حيث ذاته بذاته ممّا ينتزع مفهوم الوجود والوجوب عنه ويحكم بالموجودية / 245 DA / والواجبية عليه ، فلا بدّ أن يتحقّق بينهما أمر مشترك ذاتي - سواء كان عين حقيقتهما أو جزء منهما - ؛ وكلّ واحد منهما باطل.

وهذا قريب من البرهان المشهور ، ولكنّه قد قرّر بوجه لا ترد عليه الشبهة الكمونية.

وقد قرّره بعض المحقّقين بوجه أوضح ؛ وحاصله : إنّ الواجب لو كان متعدّدا فتجب لها جهة جامعة ذاتية حتّى يستند إليها معنى العرضي المشترك بينهما - أعني : الوجوب - وإلاّ يلزم توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد ، وهو باطل عند التحقيق. والاشتراك في الجهة الجامعة الذاتية يستلزم الجهة المميزة - أعني : التعيّن - وما يجري مجراه - أعني : الفصول - إن كان المشترك فيه جنسا. فبعد تحقّق الجهة المشتركة والمميزة يلزم

ص: 585

التركّب المنافي للوجوب - لوجود احتياج كلّ مركّب إلى اجزائه - ، فالواجب لا يمكن أن يحتاج في تحقّقه وتقوّمه إلى الغير.

وأيضا : المحتاج من حيث هو محتاج معدوم في مرتبة المحتاج إليه ، والواجب - تعالى - ما انسد جميع انحاء العدم عنه.

وأيضا : لا يخلوا إمّا أن يكون ما به الامتياز من لوازم ما به الاشتراك - فيلزم اشتراك الجهة المميزة ، أي : كونها مشتركة فيها - فلا يكون المميز مميّزا ، هذا خلف ؛ أو مستندا إلى أمر منفصل - فيلزم احتياج الواجب بالذات إلى الغير في الوجود - ، فيكون الواجب بالذات واجبا بالغير ؛ هذا خلف.

وأورد عليه : بانّه يجري في صورة وحدة الواجب أيضا ، لأنّ اشتراكه مع الممكن في الشيئية يوجب وجود جهة جامعة ذاتية بينهما بعين ما ذكرتم ، فلا نسلّم!.

والجواب بأنّ الشيئية والوجود المشتركين من الأمور الانتزاعية فلا يحتاج إلى سبب حتّى يحتاج في الاستناد إلى أمر ذاتي بخلاف وجوب الوجود فانّه أمر محقّق في الخارج لأنّه محقّق الحقيقة ومحصّل الموجود ومحقّق الشيء أحقّ بالتحقيق ؛ لا يجدي نفعا ولا ينقلع به مادّة الاشكال ، لأنّ ما يجب تحقّقه وتأصّله فهو الوجوب الخاصّ لكلّ واحد من الواجبين لا العامّ الانتزاعي المشترك بينهما.

وأيضا : محالية توارد العلّتين على المعلول الواحد انّما هي بالقياس إلى الواحد الشخصى لا النوعى ، لأنّ الواحد بالوحدة العمومية كثيرة بحسب الواقع ، فبازاء تعدّد العلّة يتحقّق تعدّد المعلول ، فجاز على تقدير تعدّد الواجب استناد الوجوب العرضي إلى المتعدّد من الواجبين من غير استناده إلى أمر ذاتي مشترك بينهما.

أقول : الاشكال الوارد على انتزاع وجود العامّ من الواجب والممكنات قد تقدّم الجواب عنه ؛

وأمّا انتزاع الخصوصيات الثابتة - من الشيئية وغيرها - من الحقائق المتباينة فقد تقرّر جوازه في كتب الحكمة ، وهو من أدقّ مسائلها.

ومنها : برهان التمانع. وتقريره : إنّه لو كان الواجب اثنين فان أراد أحدهما وجود

ص: 586

ممكن فالآخر إمّا أن يقدر على إرادة عدمه أو لا ؛ فان لم يقدر على ذلك لزم عجزه - لأنّ عدمه ممكن في حدّ ذاته - ؛ وإن كان قادرا على إرادة عدمه فيفرض أنّه أراد ذلك ، وحينئذ فيحصل التخالف بينهما في اختيار وجود الممكن وعدمه ، وحينئذ إمّا أن يحصل مرادهما معا ، أو لا يحصل مراد شيء منهما ، أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر ؛ والأوّل مستلزم لاجتماع النقيضين ؛ والثاني موجب لارتفاعهما ، مع عجز الواجبين ؛ والثالث مقتض لعجز أحدهما. والأمور الثلاثة باطلة ؛ فتعدّد الآلهة مستلزم لامكان التخالف ، وامكان التخالف مستلزم لامكان أحد المحالات الثلاثة.

واعترض عليه المحقّق الدواني : بأنّه لقائل أن يقول : إنّا نختار أنّه مع إرادة أحدهما وجود ممكن لا يقدر الآخر على إرادة عدمه ولا يلزم عجزه ، لأنّ العجز عبارة عن عدم القدرة على الشيء ، واستحالة تعلّق الإرادة بشيء / 243 MA / لا يستلزم انتفاء القدرة.

فان قيل : يلزم العجز من الإرادة لكون الطرف الآخر - أعني : طرف العدم - ممكنا في حدّ ذاته ، والمفروض أنّ الواجب الاخر لا يقدر على إرادة هذا الطرف ؛

قلنا : هذا الطرف وإن كان ممكنا بالذات إلاّ أنّه صار ممتنعا بسبب إرادة أحد الواجبين الطرف المقابل - أعني : طرف الوجود في فرضنا - ، وامتناع تعلّق الإرادة بشيء ممتنع بالغير لا يستلزم العجز ، فانّه يستحيل أن يتعلّق إرادة الباري - سبحانه - بوجود شيء بشرط عدمه ، مع أنّه لا يلزم عجز من ذلك.

ثمّ قرّر هذا البرهان بوجه لا يرد عليه هذه الخدشة ، / 254 DB / وحاصل ما قرّره : إنّه إمّا أن يكون في قدرة أحدهما وارادته ضعف ، أم لا ؛ فان كان ضعف في قدرة أحدهما لزم نقصه ؛ وإن لم يكن ضعف في قدرة أحدهما وارادته فيمكن أن تتعلّق إرادة أحدهما بطرف من طرفي الممكن وإرادة الآخر بالطرف الآخر في آن واحد من غير تقدّم لارادة أحدهما ؛ وحينئذ إمّا أن يحصل مرادهما ، أو لا يحصل مراد شيء منهما ، أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر ؛ والأوّل مستلزم لاجتماع النقيضين ؛ والثاني مستلزم لارتفاعهما ؛ والثالث موجب لعجز أحدهما ، مع لزوم الترجيح بلا مرجّح - لأنّ المفروض عدم النقصان والضعف في قدرة كلّ منهما -.

ص: 587

ويمكن أن يقرّر هذا البرهان بوجهين آخرين :

أحدهما : إنّه لمّا كان كلّ منهما قادرا على جميع الممكنات فان لم يكن تعلّق إرادة أحدهما بأحد الطرفين مانعا من تعلّق إرادة الآخر بالطرف الآخر لكان تعلّق إرادة الآخر بالطرف الآخر ممكنا ، فيلزم أحد المحالات الثلاثة ؛ وان كان مانعا لزم الترجيح بلا مرجّح ، إذ ليس إرادة أحدهما بمنع إرادة الآخر أولى من العكس.

وثانيهما : إنّه لا يخلو إمّا أن يكون كلّ منهما قادرا على جميع الممكنات ، أو لا ؛ والثاني باطل ، فتعين الأوّل ، وحينئذ يلزم أن لا يوجد ممكن أصلا ، إذ لو وجد ممكن من الممكنات لزم الترجيح بلا مرجّح ، أو توارد علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، أو عجزهما. بيان الملازمة : إنّ الممكن الّذي يصير موجودا إمّا أن يصير موجودا من أحدهما ، أو من كليهما ، أو لا يكون موجودا بشيء منهما ، والأوّل يوجب الترجيح بلا مرجّح - لأنّ نسبة الممكنات إليهما على السواء ، فصيرورته موجودا من أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح - ، وعلى الثاني يلزم توارد علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، وعلى الثالث يلزم عجزهما ، لعدم استقلال كلّ منهما بالايجاد.

وقد اشير إلى هذا البرهان - أعني : برهان التمانع - في الكتاب الالهي بقوله - سبحانه - : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (1). قال بعض العرفاء : البرهان المستفاد من هذه الآية أقوى البراهين وأتمّها ، وبيان ذلك : إنّ لفظ الجلالة موضوع في الجاهلية والاسلام لصانع العالم المستجمع لجميع الصفات الكمالية والسمات الجلالية الجمالية المنفرد بايجاد كلّ فرد فرد من الممكنات الكلّية والجزئية العالم بجميع الكلّيات والجزئيات بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا اصغر من ذلك ؛ ويدلّ على ذلك قوله - سبحانه - : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (2) ، وعلى هذا فلو كان الآلهة متعدّدة لكان كلّ واحد منها بهذه الصفة - وإلاّ لم يكن إلها - ، فيكون تأثير كلّ واحد منها في كلّ فرد من اجزاء النظام الجملي بحيث لو لم يكن غيره من الآلهة موجودا لكان العالم على ما هو عليه منتظما من غير افتقاره في جزء

ص: 588


1- كريمة 22 ، الأنبياء.
2- كريمة 25 ، لقمان.

من اجزائه إلى شيء ، وكان التدبير تماما ؛ وعلى هذا نقول : لو كان الإله اثنين مثلا لكان كلّ واحد منهما كافيا في التأثير في جميع الحقائق الوجودية مستقلاّ بايجاد هذا النظام الكلّي على ما هو عليه من غير افتقار إلى الآخر ، وحينئذ لو كان للواحد الحقّ والغنيّ المطلق الّذي هو كاف في ايجاد عالم الامكان ومستقل في التأثير في كلّ فرد من أفراد العالم شريك في الالهية لكان مثله في جميع الكمالات والاستقلال في التأثير في كلّ فرد من اجزاء العالم ؛ وحينئذ إن أوجد الثاني من كلّ فرد من افراد العالم ما أوجد الأوّل بعينه لزم أن يكون كلّ شخص من أشخاص العالم شخصين وكلّ شيء من اجزائه شيئين ، ولزوم الفساد منه ظاهر ؛ وإن اوجد من كلّ شيء ازيد ممّا أوجده الأوّل - أعني : القدر الّذي يقتضيه مرتبة هذا الشيء واستحقاق وجوده - لكان فساده أظهر ، لأنّ ايجاد الشيء / 243 MB / أزيد على قدر وسعه مفسد له كما أنّ ايجاده انقص من ما تقتضيه مرتبته مضيع له ؛ وإن كان تأثير الثاني على خلاف تأثير الأوّل ، ولا ريب في أنّ تأثير الأوّل هو الايجاد واعطاء الوجود ، فيكون تاثير الثاني الاعدام والابقاء على العدم ، وفساده أوضح من فساد الأوّلين.

تحقيق : مشتمل على تقسيم يظهر منه نفي الشركة عنه - سبحانه - في أيّ مفهوم كان

اعلم! ، أنّ الوحدة قد تكون ذات الواحد بما هو واحد - وهي الوحدة الحقّة والبساطة الصرفة - ؛ وقد تكون غيرها ، وهي انّما تكون بحسب شركة ما إمّا في المحمول أو في الموضوع ؛ والأولى تنقسم إلى الوحدة / 246 DA / النوعية كما تقول : زيد وعمرو واحد ، أي : محمولها واحد وهو الانسان ، فهما موضوع شيء واحد ، ويسمّى هذه الوحدة - أي : الاتحاد في الموضوع - « مماثلة » ؛ وإلى الوحدة الجنسية ويسمّى « مجانسة » ؛ والوحدة الكيفية ويسمّى « مشابهة » ؛ والوحدة الكمية ويسمّى :

ص: 589

« المساواة » ؛ والوحدة الوضعية ويسمّى « مطابقة » ؛ والوحدة الاضافية ويسمّى « مناسبة » ؛ والثانية - أعني : الوحدة في الموضوع - كما تقول الحلو والأبيض واحد ، أي : هما محمولا شيء واحد وموضوعهما واحد هو السكّر مثلا.

ثمّ لا ريب في أنّ شرف كلّ موجود بغلبة الوحدة فيه ، وكلّ ما هو أبعد من الكثرة فهو أشرف وأكمل ، فالأحقّ بالوحدة الحقيقية - أي : الوحدة الحقّة الصرفة الّتي هي ذات الواحد بما هو واحد - موجد الكلّ وقيّوم العالم ، فهو لا ينقسم أصلا لا في الكمّ ولا في الحدّ لا بالقوّة ولا بالفعل ، ولا ينفصل وجوده عن مهيته. وسائر الأشياء يستفيد الوحدة منه ، إذ له الوحدة بالذات ولسائر الأشياء الوحدة بالغير ؛ بل هو الوحدة فقط ووحدة سائر الأشياء بالارتباط إلى وحدته الحقّة. فواجب الوجود لا يوصف بشيء من انحاء الوحدة الغير الحقيقية ، فلا شريك له في شيء من المعاني والمفهومات بالحقيقة ، فاذ لا جنس له فلا مجانس له ، وإذ لا نوع له فلا مشاكل له ، ولا يوصف بكيف فيشابه ولا بكم فيساوى ولا بوضع فيطابق ، واضافته إلى الأشياء ليس إلاّ قيوميته الايجابية لها الّتي لا توجد في غيره - تعالى - ، فلا يناسبه شيء أصلا.

تذنيب

اعلم! ، أنّ للقوم في اثبات التوحيد مسلكين :

أحدهما : اثبات وحدة الواجب بالذات ، ووحدة إله من دون التقييد بالعالم ؛

وثانيهما : اثبات وحدة إله العالم.

وجميع البراهين المتقدّمة انّما دلّت على اثبات وحدة الواجب بالذات ولا يثبت منه وحدة إله العالم ، إذ مجرّد وحدة الواجب بالذات لا يوجب كون الإله المؤثّر في العالم واحدا ، فلا بدّ لنا من اثبات وحدة الإله الخالق للعالم.

فنقول : القوم استدلّوا على ذلك بوحدة العالم ؛ وتقرير هذا الاستدلال : إنّ اجزاء العالم يرتبط بعضها ببعض وينتفع بعضها من بعض بحيث لا ينظم حال بعض بدون آخر - كما في اعضاء حيوان واحد - فانّ من لاحظ العالم بجميع اجزائه يجد أنّ فيما بين اجزائه

ص: 590

افتقارا بحيث يكون جميعها في سلسلة واحدة - ولهذا قال بعضهم : « إنّ مجموع العالم بمنزلة حيوان واحد واجزائه بمنزلة اعضائه » - وإذا كان أجزاء العالم مرتبطا بعضها ببعض على الوصف الحقيقي والنظم الحكمي بحيث كانت جميع اجزائه في سلسلة النظام كثيرة الفوائد والمصالح لدلّت على أنّ مبدعها واحد محض وصانعها فرد صرف. وكما أنّ كون اعضاء شخص واحد من الانسان مؤتلفة تأليفا طبيعيا مرتبطة بعضها ببعض منتفعة بعضها عن بعض في رباط واحد وإن وجد كلّ واحد منّا ممتازا عن غيره بحيث الطبيعة يدلّ على أنّ مدبّرها وممسكها عن الانحلال قوّة واحدة ومبدأ واحد فكذلك الحال في اجسام العالم وقواها حال كونها مع انفصال بعضها عن بعض وتفرد كلّ منها بطبيعة خاصّة وفعل خاصّ يمتاز به عن غيره مرتبطة منتظمة في رباط واحد مؤتلفة ائتلافا طبيعيا يدلّ على أنّ مبدعها ومدبرها وممسكها عن أن ينفصم واحد حقيقي ، إذ لو كان في العالم خالقان لتميز صنع كلّ واحد منهما عن صنع غيره ، فكان ينقطع الارتباط ويختلّ النظام - كما دلّ عليه قوله سبحانه : ( لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) (1) - ، ولمّا كان العالم واقعا على هذا الانتظام ، بل كان فيه خلل وفساد - كما دلّ عليه قوله - تعالى - : / 244 MA / ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (2) - ، وبالجملة كون جملة العالم مع تفنّن حركاتها وتخالف اشكالها وتغيّر آثارها المتولدة من تاثير الاباء العلوية في الأمهات السفلية مؤسّسة على الاختلاف الطبيعي والرصف الحكمي دالّة بوحدتها الطبيعية الاجتماعية على الوحدة الحقّة الحقيقية.

وممّا يدلّ على وحدة إله العالم إنّه قد ثبت أنّ واجب الوجود بذاته واحد لا شريك له في الوجوب الذاتي - بل في حقيقة الوجود - ، وكلّ موجود سواه ممكن بذاته وبه صار واجبا وموجودا ، فمن وجوب استناد كلّ الموجودات / 246 DB / وارتقائها إليه - تعالى - يلزم أن يكون وجودات الأشياء كلّها من واحد هو الواجب الوجود بذاته ؛ بل نقول : قد تحقّق أنّ الواجب بذاته هو الوجود الحقيقي والموجود في حدّ ذاته وغيره ليس موجودا في نفسها وإنّما يكون موجوديته باعتبار انتسابه إليه - تعالى - ، وإنّ

ص: 591


1- كريمة 91 ، المؤمنون.
2- كريمة 22 ، الأنبياء.

التأثير والايجاد حقيقة انّما هو افادة الفاعل نفس ذات المعلول متعلّقة ومرتبطة بنفسه بحيث يصير بارتباطها به مبدأ لانتزاع الوجود عنها ومصداقا لحمل الموجود عليها - إذ الشيء ما لم يكن وجودا وموجودا في نفس حقيقته لا يصير شيء آخر لأجل ارتباطه به موجودا -. وبذلك ثبت أنّ التأثير والايجاد الحقيقي والفاعلية الحقيقية يختصّ بواجب الوجود بالذات ، كما أنّ الوجود الحقيقي يختصّ به - تعالى - ، وهو واحد - كما بيّناه بالبراهين القاطعة - ، فلا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه.

ص: 592

الفصل الثالث : في نفي الجوهرية عنه - سبحانه -

ص: 593

( الفصل الثالث )

( في نفي الجوهرية عنه - سبحانه - )

اعلم! ، أنّ عدم كونه - تعالى - جوهرا على قواعد الحكماء ظاهر ، لأنّ الجوهر عندهم ماهية إذا وجدت في الخارج كائن لا في موضوع.

وأيضا : الجوهر عندهم جنس لما تحته ، ولمّا ثبت أنّ الواجب صرف الوجود وأنّ وجوده عين ذاته وليس له ماهية سوى الوجود وأنّه ليس جنسا يثبت منه عدم كونه جوهرا.

وأمّا المتكلّمون فلمّا لم يعتبروا الماهية في حدّ الجوهر وقالوا : إنّه موجود لا في موضوع سواء كانت له ماهية أم لا ، فلا يقبح عقلا عندهم اطلاق الجوهر عليه - سبحانه - ؛ إلاّ أنّهم قالوا : إنّ أسماء اللّه - سبحانه - توقيفية ولم يطلق في الشريعة « الجوهر » على اللّه - سبحانه - ، فاطلاقه عليه - سبحانه - ممتنع شرعا.

ص: 594

( الفصل الرابع ) : ( في اثبات عدم كونه محلاّ للحوادث )

ص: 595

( الفصل الرابع )

( في اثبات عدم كونه محلاّ للحوادث )

اعلم! ، أنّ كافّة العقلاء اتّفقوا على أنّ الواجب يمتنع أن يتصف بالحادث - أي : الموجود بعد العدم - ؛ وخالف في ذلك الكرامية حيث قالوا بحلول الكلام فيه - سبحانه - ، وهو حادث.

ويدلّ على نفي محلّيته للحوادث وجوه :

منها : إنّ الاتصاف بالحادث الّذي يتصف به - سبحانه - إن كان من صفات الكمال كان الخلوّ عنه مع جواز الاتصاف به نقصا ، وقد خلا عنه - سبحانه - قبل حدوثه ؛ وإن لم يكن من صفات الكمال امتنع اتصاف الواجب به ، لأنّ كلّ ما لم يتّصف به يلزم أن يكون من صفات الكمال.

واعترض عليه : بمنع كون الخلوّ عن صفة الكمال نقصا على الاطلاق ، لأنّ لزوم النقص مسلّم إذا لم يكن حال الخلوّ متصفا بكمال يكون زواله شرطا لحدوث هذا الكمال ، وذلك بأن يتصف دائما بنوع كمال يتعاقب افراده لا إلى نهاية ويكون حصول كلّ لاحق مشروطا بزوال السابق ؛ فالخلوّ عن كلّ فرد يكون شرطا لحصول كمال آخر ، بل لاستمرار كمالات غير متناهية ، فلا يكون نقصا.

والجواب عنه : إنّه يلزم حينئذ أن لا يخلوا ذات الواجب عن الحوادث دائما ،

ص: 596

فيلزم إمّا حدوث الواجب أو ازلية بعض الحوادث ، ومنع ذلك مكابرة صرفة.

ومنها : إنّه قد ثبت فيما تقدّم أنّ الواجب - سبحانه - متعال عن الزمان والزمانيات - لاحاطته بهما وارتفاعه عنهما - ، فلا تغيّر فيه أصلا ، ولو كان بمجرّد معنى الانتقال من حال إلى حال لا بمعنى التغيّر في الواجبية أو التأثير والانفعال عن الغير ، لأنّ مطلق التغيّر من لوازم الزمان فلا يتّصف به إلاّ الزمانيات ، والباري - سبحانه - / 244 MB / متقدّس عنه محيط به. ولا ريب في كون الاتصاف بالحوادث تغيرا وكونه من صفات الزمانيات ، فالواجب الحقّ والقيوم المطلق متعال عنه.

فان قيل : إنّه - سبحانه - صار موجودا وخالقا للعالم بعد ما لم يكن وصار عالما بانّه وجد بعد أن كان عالما بانّه سيوجد ، فقد حدث فيه الخالقية وصفة العلم ؛ وكذا انّه - تعالى - متكلّم سميع بصير ولا يتصوّر هذه الأمور إلاّ بوجود المخاطب والمسموع والمبصر ، وهي حادثة توجب حدوث هذه الصفات ؛

قلنا : قد بيّنا في كيفية علمه - سبحانه - بالأشياء المتغيرة بانّها على وجه لا يلزم التغيّر فيه أصلا ، ولا ريب في أنّ السمع والبصر أيضا راجعان إلى العلم ؛ وأمّا الخالقية والتكلّم فالخلق والتكلّم اللذان هما عين ذاته - أعني : القدرة على ايجاد الأشياء بالفعل وعلى ايجاد الكلام اللفظي - فلا تغير ولا حدوث فيهما أصلا ؛ وأمّا الخلق بمعنى الايجاد الفعلي والتكلّم بمعنى ايجاد الكلام بالفعل فليسا من الصفات القائمة بذاته ، بل هما من الاضافات المحضة والتغيّر فيهما جائز. وبالجملة التغيّر والحدوث اللذان يتوهّمان في بعض الصفات إنّما هو تغير في الاضافة بالنسبة إلى الأشياء ، والحادث انّما هو تعلّق تلك الصفات ، والتغيّر والتجدّد والحدوث في التعلّقات والاضافات لا منع فيه ، لأنّه يلزم منه محلّيته - تعالى - لحادث ، وهو / 247 DA / باطل.

وبعد ما ثبت أنّ الواجب - سبحانه - صرف الوجود ومحض الموجود وليس فيه نقص وافتقار وانّه ليس جسما وجسمانيا يثبت منه نفي التحيّز والحلول والاتحاد والألم واللذّة المزاجية عنه - سبحانه -.

ص: 597

* * *

وبذلك يتمّ مباحث الصفات السلبية ، وهو آخر ما أردنا ايراده في هذا الكتاب.

والحمد لله على تأييده على الإتمام والصلاة والسلام على سيّد الأنام وعلى عترته أمناء الإسلام. وقد وقع اتمامه في أوّل يوم من شهر الربيع الأوّل من شهور سنة 1193 - ثلاث وتسعين ومائة بعد الألف - من الهجرة المباركة النبوية وقد كان ذلك عند تراكم الهموم والأحزان وتفاقم الغموم والأشجان وفرط الملال وضيق البال من هجوم المصائب والمحن وتواتر النوائب والفتن من ابتلائنا أوّلا في بلدة كاشان - حماها اللّه عن طوارق الحدثان - بالزلازل الهائلة المفزعة والزحفات المزعزعة المزعجة وانهدام جميع الأبنية والمساكن وجلّ البيوت والمواطن وهلاك كثير من الأصدقاء والأحباب وذهاب غير واحد من الأحبّة والأصحاب ، ثمّ ابتلائنا بالأمراض الشديدة الغريبة والأسقام الوبائية العجيبة بعد ارتحالنا - لعدم السكنى وغيره من اختلال الأمور - إلى بعض القرى ، واحتراق فؤادي بذهاب بعض أولادي الّذي تقرّ به عيني في ظلمات الأحزان والهموم وتسكن إليه قلبي عند اضطرابه من هجوم الأشجان والغموم ، ثمّ وقوعنا في الداهية العظمى والفتنة الكبرى - أعني : موت السلطان - ووقوع الاضطراب والوحشة بين أهل إيران. فاحمد اللّه على السرّاء والضرّاء وفي الشدّة والرخاء على العافية والبلاء ، ونسأله أن يكون ذلك آخر الرزايا والمصائب لي وخاتمة البلايا والنوائب بي ، وأن يصلح جميع أمور المسلمين بمحمّد وآله سادات الخلق أجمعين.

---------------

قد تمّ تسويد هذا الكتاب المستطاب المسمّى ب- « جامع الأفكار وناقد الأنظار » بعون اللّه الملك الوهّاب وبنصرة رسوله الّذي أوتى له فصل الخطاب - صلوات اللّه عليه وعلى آله إلى يوم الحساب - من مصنّفات أستادي بل استاد الكلّ في الكلّ أفضل

ص: 598

أعاظم المدقّقين وأكمل أفاخم المحقّقين الفائق على الأوائل والأواخر في الأوّلين والآخرين الوحيد في عصره والفريد في دهره جامع المعقول والمنقول حاوي الفروع والأصول الجامع بين مرتبتي العلم والعمل الحافظ نفسه الشريف من الخطأ والزلل خاتم الحكماء والمجتهدين في أوانه وزبدة الفضلاء المتبحّرين في زمانه محمّد مهديا أيّده اللّه وأبقاه ومن حلاوة التوفيق لا أخلاه وأدام اللّه ظلّه على رءوس المتنعّمين بمنهجه منهج الرشاد إلى يوم التناد بمحمّد وآله الهادين إلى سبيل السداد.

ولعمري إنّ هذا الكتاب أحسن ما كتب من الكتب والمصنّفات وأنفس ما جمع من الزبر والمؤلّفات ، لا يعرف قدره إلاّ من أيّد من عند اللّه ولا ينتفع به إلاّ من هو أوتي من فضل اللّه ؛ وقد جمع في هذا الكتاب جواهر عزيزة وفرائد نفيسة ، لم يجمع إلى الآن في كتاب ولا رسالة ، فالمدح الّذي املأ المصنّفون كتبهم منه بهذا الكتاب أوجب وحفظه عن الجاهلين المتفلسفين المتحصّلين أولى وأنسب ، وينبغي منعه عن الأغبياء من الطلاّب لئلاّ يكون كحصى الدّرّ في أعناق الكلاب. فاستمع أيّها الطالب المنصف هو المقال ليوزع عنك ما قيل أو يقال. سوّده بيمناه الخاسرة الخاطئة الفانية المفتاق إلى رحمته الشاملة الكاملة من النسخة الّتي كانت بخطّه - زيد احترامه - أقلّ تلامذته الفقير إلى اللّه الهادي ابن الحاج طالب محمّد الطاهرآبادي - أصلح اللّه حاله في الأولى والآخرة - مع تشتّت البال وتفرّق الحال في اليوم الثلثاء السابع عشر من شهر محرّم الحرام من شهور سنة 1194 الهجرية - أربع وتسعين ومائة بعد الألف من الهجرة النبوية ، على هاجرها ألف سلام وصلاة وتحيّة -. والمرجوّ من الناظرين أن يدعوا له ولي ولوالدينا بصالح الدعاء.

كتاب فيه ما فيه! ، بديع في معانيه! *** إذا عاينت ما فيه رأيت النور يحويه!

ص: 599

ص: 600

الفهارس الفنّية

اشارة

1 - فهرس آيات القرآن الكريم

2 - فهرس الأحاديث

3 - فهرس الأعلام

4 - فهرس أسماء الفرق والجماعات

5 - فهرس أسماء الكتب

6 - فهرس الأشعار

ص: 601

ص: 602

1 - فهرس آيات القرآن الكريم

صدرالقطعة المستشهد بها / رقم السورة / رقم الآية / الصحيفة

إنّ في خلق السموات 2 164 4 : (2)

يعلم ما بين ايديهم 2 255 218 : (2)

شهد اللّه أنّه 3 18 559 : (2)

قل كلّ من عند اللّه 4 78 497 : (2)

وكلمته ألقاها إلى 4 171 469 : (2)

ما أصابك من حسنة 4 79 498 : (2)

ذلك فضل اللّه 5 54 239 : (2)

واللّه بكل شيء عليم 5 97 226 : (2)

وما قدروا اللّه حقّ 6 91 370 : (2)

لا إله إلاّ هو 6 102 311 : (2)

إنّ ربّكم اللّه 7 54 214 : (1)

قل لا أملك لنفسي 7 188 331 : (1)

ليهلك من هلك عن 8 42 325 : (1)

حتّى يسمع كلام اللّه 9 6 432 : (2)

كتاب أحكمت آياته 11 1 432 : (2)

إنّا أنزلناه قرآنا 12 4 486

يمحو اللّه ما يشاء 13 39 361 : (1)

وما أرسلنا من رسول 14 4 195 : (1)

إنّما قولنا لشيء 16 40 432 : (2)

ص: 603

الّذي أعطى كلّ شيء 20 50 329 : (1)

لو كان فيهما آلهة 21 22 591

لا يسأل عمّا يفعل 21 23 245

وهذا ذكر مبارك 21 50 432 : (2)

لذهب كلّ إله بما 23 91 591 : (2)

ولئن سألتهم من خلق 31 25 588 : (2)

كلّ يوم هو في شأن 31 28 217 : (2)

لا يعزب عنه مثقال ذرّة 34 3 309

هل من خالق غير اللّه 35 3 311 : (1)

إليه يصعد الكلم الطيّب 35 10 469 : (1)

سبحان ربّك ربّ العزة 37 180 359 : (1)

اللّه خالق كلّ شيء 39 62 311 : (1)

والسموات مطويات بيمينه 39 67 217 : (1)

فقضاهنّ سبع سماوات 41 12 214 : (1)

ما خلقكم ولا بعثكم 55 29 217 : (1)

ألا يعلم من خلق 67 14 222 : (1)

بل هو قرآن مجيد 85 22 486

2 - فهرس الأحاديث

اللّه أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون .... الصادق - ع - 386 :(1)

اللّهم أنت كلّفتني من نفسي ما أنت أملك به مني. أحدهم - ع - 330 :(1)

اللّهم ومن الضعف خلقتنا وعلى الوهن نشأتنا. السجّاد - ع - 330 :(1)

أنا كلام اللّه الناطق. عليّ - ع - 469 :(2)

إنّا لا نملك مع اللّه شيئا ولا نملك إلاّ ما ملّكنا. عليّ - ع - 330 :(1)

إنّ اللّه ابتدع الأشياء على غير مثال كان قبله. الباقر - ع - 149 :(2)

ص: 604

إنّ اللّه كان لم يزل بلا زمان وهو الآن كما كان. أبو ابراهيم - ع - 205 : (1)

إنّ اللّه لا يوصف بزمان ومكان ولا حركة وانتقال. أبو ابراهيم - ع - 205 :(1)

إنّ اللّه لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان. أبو ابراهيم - ع - 205 :(1)

إنّ المريد لا يكون إلاّ لمراد معه. الصادق - ع - 395 : (2)

علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين. على - ع - 221 :(2)

القدرية مجوس هذه الأمّة. النبيّ - ص - 475 : (1)

كان اللّه ولا شيء غيره ولم يزل عالما بما كوّن. الباقر - ع - 221:(2)

كان اللّه ولم يكن معه شيء. النبيّ - ع - 194 : (1) 208: (1) 239 (1)

كنت كنزا مخفيا. معدود في القدسيات 197 : (1)

لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين. عن أحدهم - ع - 348 /318

لا يكون العبد فاعلا ولا متحرّكا إلاّ والاستطاعة معه ... الصادق - ع - 385 :(1)

لا يكون من العبد قبض ولا بسط إلاّ باستطاعة ... الصادق - ع - 385 :(1)

لم يزل اللّه عالما بالأشياء قبل أن يخلق كعلمه ... الكاظم - ع - 221 :(2)

لم يسبق له حال حالا فيكون أوّلا قبل. عليّ - ع - 221 :(2)

لو كان الدين بالثريا لتناوله رجال من فارس. النبيّ - ص - 475 :(1)

له معنى الربوبية إذ لا مربوب وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه. الرضا - ع - 221:(1)

ما كان خلوا من الملك قبل انشائه ولا يكون ... الباقر - ع - 221 :(2)

من زعم أنّ اللّه من شيء أو في شيء ... الصادق - ع - 205 :(1)

من عرف نفسه فقد عرف ربّه. غير منسوب 370 :(2)

وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه. عليّ - ع - 365 :(2)

هل يسمّى عالما وقادرا إلاّ لأنّه وهب العلم للعلماء ... الباقر - ع - 365 :(2)

ص: 605

3 - فهرس الأعلام

ابراهيم - ع - 136 : (1)

ابن سينا 97 / 96 / 95 / 93 / 85 / 74 / 41 / 31 / 30 / 25 / 13 : (1)

298 / 253 / 243 / 238 / 236 / 173 / 172 / 166 / 111 / 108 / 106 / 100 441 / 437 / 392 / 367 / 332 / 309 / 302 128 / 127 / 126 / 125 / 124 / 120 / 75 / 74 / 73 / 62 / 59 / 31 / 4 : (2)

180 / 171 / 169 / 168 / 163 / 162 / 161 / 156 / 154 / 133 / 131 / 130 292 / 291 / 284 / 259 / 246 / 245 / 242 / 232 / 210 / 206 / 204 317 / 316 / 314 / 313 / 312 / 311 / 310 / 309 / 308 / 307 / 306 441 / 437 / 392 / 367 / 331 386 / 371 / 354 / 343 / 337 / 335336 / 334 / 333 / 332 / 310 / 309 578 / 577 / 554 / 541 / 526 / 520 / 446 / 402 / 389 / 388 / 387 581 / 580

ابن كمونه 558 : (2)

أبو ابراهيم - ع - 205 : (1)

أبو البركات البغدادي 305 / 303 : (1)

أبو جهل 320 /319 : (1)

أبو حنيفة 479 : (2)

أبو هاشم _ ( الجبائي )

أبو هذيل العلاّف 358 : (1)

أرسطو 302 / 184 / 182 / 181 : (1)

197 / 194 / 165 / 51 : (2)

أستاذنا _الخواجوئي

الأشعري 328 / 318 / 314 / 271 / 265 / 264 / 263 / 258 / 256 / 158 : (1) 397 / 382 / 380 / 377 / 371 / 370 / 367 / 357 / 337 455 / 454 / 411 / 410 / 409 / 398 / 268 / 266 / 265 : (2)

486 / 485 / 482 / 486 / 485 / 482 / 479 / 478 / 477 / 476 / 473 / 472 / 71 / 468 /

ص: 606

520 / 509 / 507 / 502 / 500 / 496 / 494 / 463 / 462 / 457 / 456

أفلاطون 302 / 184 / 182 / 181 : (1)

268 / 133 / 130 : (2)

الإمام _الرازي

أمير المؤمنين - ع - عليّ - ع -

انكسيماليس الملطي 171 / 153 / 113 : (2)

أوميرس 29 : (2)

أهرمن 472 / 473 / 455 : (1)

بارع المحقّقين _ الطوسي

الباقر - ع - 368 / 366 / 365 / 221 / 149 : (2) 210 : (1)

البصري 386 / 385 : (1)

بعض أئمّتنا 318 : (1)

بعض أصحابنا القميّين 209 : (1)

بعض أعاظم العرفاء 583 / 582 / 559 / 558 / 525 / 201 :

بعض الأعاظم 585 / 213 / 209 / 180 / 155 / 148 / 97 / 35 : (2)

بعض الأعلام 437 / 429 / 381 / 331 / 258 / 229 / 174 / 38 : (1) 494 / 187 / 58 : (2)

بعض الأفاضل 209 / 166 / 159 / 104 / 89 / 88 / 80 / 79 / 74 / 35 : (1) 411 / 406 / 395 / 389 / 356 / 347 / 341 / 292 / 288 / 277 / 276 / 243 471 / 425 482 / 437 / 311 / 287 / 275 / 258 / 246 / 207 / 177 / 98 / 91 : (2) 567 / 566 / 542 / 529 / 522 / 514 / 511 / 493 / 492

بعض أفاضل المتأخّرين 84 : (1)

ص: 607

بعض الحكماء 181 / 117 / 61 : (1)

224 / 3 : (2)

بعض العرفاء 439 / 136 : (1) 588 / 361 / 354 / 218 / 215 / 204 / 165 : (2)

بعض العقلاء 77 : (2)

بعض الفضلاء / 492 / 446 / 431 / 262 / 260 / 178 / 6 : (2)

بعض المتأخّرين 119 : (1) 363 : (2)

بعض المتكلّمين 440 / 378 : (2)

بعض المحدّثين من أصحابنا 119 : (1)

بعض المحقّقين / 410 / 246 / 205 / 177 / 157 / 141 / 131 / 6 / 2 : (2)

بعض المشاهير 393 / 366 / 353 / 347 / 232 / 229 / 155 / 103 / 68 / 65 : (2) 454 / 450 / 447 / 445 / 444 / 443 / 441 / 440 / 438 / 434 / 403 / 401 484 / 479 / 476 / 474 / 472 / 469 / 468 / 466 / 464 / 460 / 458 / 457 572 / 557 / 554 / 552 / 551 / 500 / 499 / 487

بعض الناهجين منهج الحكماء 202 : (1)

بعض أهل التحقيق 411 / 181 / 165 / 130 : (2)

بعض تابعي الأشعري 377 : (2)

بعض قدماء الفلاسفة 109 : (2)

بعض مشايخنا الامامية 395 : (2)

البلخي _ الكعبي

بوذرجمهر 475 : (1)

بهمنيار 407 / 404 / 332 / 331 / 311 / 308 / 307 / 301 / 235 / 82 : (1) 68 / 6567 / 55 / 47 / 43 / 42 / 39 / 37 / 35 / 33 / 32 / 31 / 29 : (2) 179 / 171 / 170 / 169 / 168 / 167 / 164 / 162 / 160 / 158 / 154 / 133 581 / 580 / 579 / 542 / 479 / 352 / 349 / 348 / 330

البيضاوي 432 : (2)

ثقة الاسلام _ الكليني - رض -

ص: 608

تالس الملطي 287 / 172 / 113 : (2)

جاماسب 475 : (1)

الجبائي 358 : (1)

جبرائيل 419 : (1)

452 / 449 : (2)

جهم بن صفوان 318 : (1)

الحاتم 159 : (1)

الخفري 297 / 69 / 66 : (1) 242 / 241 / 225 / 212 / 181 / 179 / 173 / 172 / 160 / 159 / 158 : (2) 268 / 267 / 263 / 262 / 257 / 255 / 253 / 252 / 251 / 250 / 247 / 244 314 / 311 / 308 / 305 / 304 / 303 / 300 / 298 / 286 / 285 / 272 / 271 410 / 345 / 337 / 333 / 332 / 331 / 329 / 327 / 326 / 325 / 324

الخليل - ع - ابراهيم - ع

الخواجوئي 211 / 210 : (1)

الخوارزمي _ الزمخشري

الخيام 393 : (2)

الداماد 224 / 219 / 210 / 201 / 184 / 180 / 178 / 90 / 70 / 69 / 66 : (1) 313 / 308 / 285 / 238 160 / 83 / 82 : (2)

الدواني 298 : (1) 408 / 401 / 370 / 343 / 329 / 320 / 305 / 275 / 259 / 254 / 4 : (2) 587 / 544 / 486 / 484 / 483 / 481 / 480 / 479 / 478 / 476 / 475

ذيمقراطيس 184 / 24 / 29 / 13 : (1) 542 : (2)

رئيسهم ( : رئيس الفلاسفة ) _ ابن سينا

الرازي ( : قطب الدين الرازي ) _ صاحب المحاكمات

الرازي 248 : (1) 367 / 328 / 304 / 272 / 257 /

100 / 62 / 60 : (2)

ص: 609

الرسول - ع - محمّد - ع -

الرضا - ع - 210 : (1)

385 / 221 : (2)

الزمخشري 272 : (1)

سابور بن أردشير بن بابك 454 : (1)

سلمان - رض - 320 / 319 : (1)

سقراط 184 / 181 : (1)

السماكي 69 / 66 : (1)

السهروردي 303 / 298 / 173 : (1)

210 / 207 / 199 / 198 / 193 / 191 / 171 / 155 / 139 / 120 / 70 / 8 : (2)

559 / 550 / 524 / 240 / 238 / 237

سيّد الحكماء _ الداماد

السيّد الداماد _ الداماد

السيّد السند _ صدر المحقّقين

السيّد الشريف 509 / 418 / : (2)

سيّد المحقّقين _ صدر المحققين

شارح التلويحات _ ابن كمونه

الشارح الجديد 297 : (1)

400 / 232 / 230 : (2)

الشارح المحقّق _ الطوسي

شارح المقاصد 372 : (1)

الشافعي 479 / 7 : (2)

الشهرزوري 129 : (2)

الشهرستاني 455 : (1)

468 / 462 / 455 / 454 / 113 : (2)

الشيخ _ ابن سينا

شيخ الاشراق _ السهروردي

الشيخ الأشعري _ الأشعري

ص: 610

الشيخ الإلهي _ السهرورد

الشيخان ( : أبو نصر والرئيس ) 46 / 31 / 4 : (2)

الشيرازي 69 / 67 : (1)

301 : (2)

الشيطان 473 / 470 / 455 : (1)

493 / 492 / 491 : (2)

صاحب الاشارات _ ابن سينا

صاحب الاشراق _ السهروردي

صاحب التحصيل _ بهمنيار

صاحب التلويحات _ السهروردي

صاحب المحاكمات 286 / 238 : (1)

333 : (2)

صاحب المقاصد 419 / 371 : (2)

صاحب الملل والنحل _ الشهرستانى

صاحب المواقف 475 / 474 / 473 / 472 / 471 / 468 / 467 / 110 / 109:(2)

486 / 484 / 479 / 478 / 477 / 476

الصادق - ع - 386 / 385 / 205 : (1)

396 / 395 : (2)

صدر المحقّقين 365 / 261 : (1)

435 / 435 / 434 / 433 / 403 / 402 / 401 / 343 / 320 / 239 : (2)

438

الصدوق - رض - 385 / 205 : (1)

الطبرسي - رض - 199 : (1)

الطوسي / 236 / 230 / 229 / 198 / 159 / 158 / 153 / 100 / 97 / 44 : (1) 336 / 330 / 326 / 303 / 297 / 264 / 251 / 250 / 243 / 241 / 240 / 238 394 / 384 / 371 / 368 / 367 / 365 / 362 / 361 / 358 / 348 / 343 / 339 478 / 476 / 453 / 448 / 439 / 438 / 432 129 / 128 / 125 / 118 / 110 / 103 / 93 / 92 / 91 / 90 / 86 / 65 / 27 : (2)

ص: 611

237 / 231 / 230 / 229 / 225 / 206 / 198 / 173 / 172 / 168 / 155 / 132 247 / 242 / 241 / 238 / 299 / 289 / 287 / 284 / 281 / 277 / 271 / 268 304 / 303 / 302 / 294 / 293 / 292 / 291 / 290 / 262 / 258 / 256 / 255 / 378 / 377 / 375 / 370 / 368 / 348 / 347 / 345 / 344 / 333 / 326 / 309 / 401 / 400 / 398 / 394 / 393 / 392 / 387 / 384 / 382 / 381 / 380 / 379 503 / 486 / 485 / 483 / 470 / 469 / 431 / 422 / 414 / 412 / 411

عاصم بن حميد ( : من رواة سيّدنا الصادق - ع - ) 395 : (2)

عبد الجبار المعتزلي 159 : (1)

علاّف _ أبو هذيل العلاّف

العلاّمة الشهرزوري _ الشهرزوري

العلاّمة الشيرازي _ الشيرازي

العلاّمة النيسابوري _ النيسابوري

عليّ - ع - 210 / 206 / 60 : (1)

469 / 366 / 365 / 221 / 103 : (2)

عيسى - ع - 454 : (1)

477 / 469 : (2)

عين القضاة الهمداني 141 : (1)

الغزالي 141 : (1)

446 / 443 / 442 / 441 / 440 / 431 / 331 / 319 / 314 / 309 / 144 : (2)

449 / 447

غياث المدقّقين _ غياث الحكماء

غياث الحكماء 261 / 196 / 195 : (1)

371 / 106 : (2)

الفارابي 437 / 298 / 232 / 181 / 100 / 41 : (1)

163 / 162 / 161 / 159 / 156 / 135 / 130 / 77 / 60 / 55 / 43 / 42 / 4 : (2)

554 / 544 / 543 / 497 / 355 / 187 / 177 / 171 / 167 / 164

الفاضل اللاهيجي _ اللاهيجى

فرعون 468 : (2)

ص: 612

فرفوريوس / 213 / 131 : (2)

فيثاغورس 6 : (1)

قطب الدين الرازي _ صاحب المحاكمات

الكاظم - ع - 221 : (2)

كبير الفلاسفة _ فارابى

الكعبي 476 / 475 / 358 / 252 / 158 : (1)

515 / 507 : (2)

الكليني - رض - 386 / 385 / 360 / 205 : (1)

اللاهيجي 69 / 67 : (1)

مانى 475 / 454 : (1)

المحقّق الدواني _ الدواني

المحقّق الطوسي _ الطوسي

المحقّق المازندراني _ الخواجوئي

محمّد - ص - 475 / 320 : (1)

449 / 448 / 447 / 435 / 432 / 431 / 419 / 398 / 391 / 345 / 314 : (2)

599 / 598 / 503 / 502 / 484 / 464

محمّد بن على الباقر - ع - _ الباقر - ع -

معمّر بن عباد 433 / 358 : (1)

معن ( بن زائدة ) 169 : (1)

مقدّم الفلاسفة _ الفارابي

الملك المنزل 447 : (2)

محمّد طالب الطاهرآبادي ( : كاتب نسخة الأصل ) 599 : (2)

محمّد مهدي ( المصنّف ) 3 : (1)

598 : (2)

مريم - ع - 469 : (2)

المسيح - ع - _ عيسى - ع -

المعلّم الأوّل _ أرسطو

المعلّم الثاني _ الفارابى

ص: 613

المعلّمين 524 : (2)

موسى - ع - 451 / 450 / 449 / 446 / 444445 / 443 / 441 / 439 / : (2)

466 / 453 / 452

مهديّ بن أبي ذر _ محمّد مهدي

النبلي 386 / 385 : (1)

النظّام 476 / 475 / 159 : (1)

نوح 224 : (1)

النيسابوري 486 / 485 / 484 : (2)

واصل بن عطاء 159 : (1)

يزدان 473 / 472 / 455 : (1)

يونس ( : من اصحاب سيّدنا الرضا - ع - ) 385 : (2)

4 - فهرس أسماء الفرق والجماعات

آله ( : آل نبيّنا محمّد - ص - ) 599 / 598 : (2)

أئمّتنا الراشدين 360 / 317 / 145 : (1)

395 : (2)

أئمّتنا المعصومين 230 : (1)

أئمّتنا النقباء 149 : (2)

أئمّتهم ( : أئمة الفلاسفة ) 181 : (1)

أتباع الأشعري 502 : (2)

أتباع أرسطو 51 : (2)

أتباع الكعبي 158 : (1)

515 / 507 : (2) أتباعه

184 / 24 : (1)

ص: 614

أجلّة الفنّ 530 / 522 : (2)

الأحباب 64 : (2)

أرباب الحكمة 374 : (2)

أرباب الشريعة 194 : (1)

أرباب الملل والأديان 418 : (2)

أساطين الإمامية 411 : (2)

أساطين الحكمة / 335 / 307 / 219 : (1)

524 / 522 / 365 / 298 / 171 / 113 / 43 : (2)

أساطين الحكمة والعرفان 522 : (2)

أساطين الحكمة والكلام 522 : (2)

الأساطين السبعة 113 : (2)

أساطين العلم 502 : (2)

أساطينهم ( : أساطين الفلاسفة ) 171 : (1)

الأشاعرة 228 / 211 / 167 / 160 / 157 / 156 / 155 / 154 / 153 / 4 : (1) 279 / 276 / 271 / 269 / 268 / 264 / 263 / 258 / 47257 / 243 / 240 / 376 / 375 / 371 / 367 / 366 / 361 / 357 / 350 / 338 / 327 / 317 / 314 432 / 430 / 422 / 421 / 415 / 414 / 409 / 404 / 396 / 382 420 / 419 / 410 / 377 / 376 / 375 / 374 / 269 / 266 / 256 / 105 : (2) 438 / 437 / 436 / 435 / 433 / 431 / 430 / 429 / 428 / 427 / 426 / 425 476 / 473 / 472 / 466 / 464 / 460 / 458 / 457 / 456 / 441 / 426 / 439 / 507 / 506 / 503 / 499 / 494 / 493 / 490 / 487 / 484 / 481 / 480 / 478 / 537 / 50

الإشراقيون 6 : (1)

454 / 214 / 71 / 70 / 69 : (2)

الأصحاب 65 : (2)

أصحاب الأشعري 472 / 471 / : (2)

أصحاب ماني 454 : (1)

أصحاب المعاني 358 : (1)

ص: 615

أصحاب الوحي 126 : (1)

أصحابنا الإمامية 317 : (1)

أصفيائه العظام 422 : (2)

الأصوليون 435 : (2)

أعاظم الأولياء 10 : (2)

أعاظم الحكماء 30 : (1)

أفاخم الفلاسفة 181 : (1)

الأقدمين 13 : (1)

الأكثرون 25 : (1)

الإلهيون 76 / 61 : (1)

389 : (2)

الإمامية 411 / 398 / : (2)

الأمّة 3 : (1)

الأنبياء 430 / 319 / 245 / 236 / 194 / 193 / 158 / 1 : (1)

588 / 503 / 502 / 453 / 452 / 448 / 418 / 375 / 365 / 150 / 10 : (2)

591

الأنبياء الكرام 422 : (2)

أهل الاختيار 341 : (1)

أهل الأديان 193 : (1)

490 : (2)

أهل الإسلام 197 : (1)

أهل بيت النبوّة - ع 386 / 381 / 145 : (1)

368 : (2)

أهل التألّه والذوق 6 : (1)

82 : (2)

أهل التحقيق 268 : (2)

أهل التفسير 214 : (1)

أهل الحقّ 440 / 268 : (2)

ص: 616

أهل الشريعة 453 : (2)

أهل الكشف من الصوفية 138 : (1)

أهل اللغة 214 : (1)

أهل الملّة 374 : (2)

أهل الملل والأديان 329 / 273 : (2)

أهل النظر 65 : (2)

البحارية 318 : (1)

البشرية 358 : (1)

الثنوية 476 / 472 / 471 / 465 / 463 / 454 : (1)

الجبائية 476 / 475 / 159 : (1)

376 : (2)

الجماعة المؤوّلين 327 : (2)

جماعة من الحكماء 52 : (2)

جماعة من الفضلاء 36 : (1)

الجمهور 464 / 436 / 318 / 252 / 251 : (2)

جمهور قدماء المعتزلة 158 : (1)

الجهمية 316 : (1)

الحصوليّين 426 / 403 / 344 / 339 / 331 / 330 / 316 / 315 / 284 : (2)

الحكماء 68 / 66 / 61 / 52 / 46 / 45 / 44 / 39 / 34 / 31 / 30 / 19 : (1) 154 / 153 / 152 / 145 / 136 / 134 / 120 / 119 / 118 / 117 / 91 / 70 / 178 / 176 / 174 / 171 / 169 / 168 / 164 / 162 / 159 / 157 / 156 / 155 / 215 / 210 / 196 / 195 / 193 / 192 / 190 / 187 / 182 / 181 / 180 / 179 / 243 / 239 / 237 / 235 / 232 / 230 / 228 / 227 / 226 / 225 / 220 / 218 / 272 / 271 / 268 / 269 / 267 / 265 / 263 / 261 / 260 / 259 / 258 / 251 / 308 / 307 / 305 / 303 / 302 / 301 / 300 / 298 / 295 / 280 / 278 / 277 / 356 / 355 / 354 / 353 / 351 / 343 / 342 / 341 / 340 / 328 / 320 / 312 / 444 / 432 / 421 / 418 / 414 / 413 / 411 / 398 / 397 / 390 / 360 / 359 / 477 / 476 / 471 / 462 / 451 / 450 / 448 / 447

ص: 617

120 / 106 / 86 / 77 / 68 / 65 / 40 / 39 / 35 / 29 / 23 / 11 / 4 / 3 : (2)

/ 261 / 241 / 225 / 221 / 219 / 215 / 214 / 206 / 184 / 180 / 179 / 133 / 289 / 288 / 285 / 284 / 283 / 278 / 272 / 271 / 269 / 268 / 265 / 263 / 342 / 341 / 340 / 331 / 321 / 317 / 316 / 315 / 307 / 299 / 291 / 290 / 391 / 390 / 389 / 388 / 387 / 385 / 384 / 371 / 365 / 364 / 352 / 344 / 502 / 483 / 478 / 477 / 453 / 450 / 449 / 448 / 437 / 403 / 395 / 393 / 599 / 594 / 559 / 542 / 533 / 506

الحكماء الظاهريّين 277 : (2)

حكماء الفرس 475 : (1)

الحكماء المشّائين 268 : (2)

الحكيم 174 / 70 : (1)

395 : (2)

الحنابلة 478 / 471 / 423 : (2)

الخصم 34 / 33 : (1)

الخطّاط 19 : (1)

الدهرية / 184 / 172 : (1)

الديصانية 473 / 472 / 458 / 455 : (1)

رؤساء المعتزلة / 395 / 384 / 377 : (2)

الرواقيّون 139 : (1)

76 : (2)

الرياضيون 213 : (2)

السفراء - ع - 3 : (1)

سلف الحكماء 220 / 218 : (2)

الشاعر 443 : (2)

شيوخ المعتزلة 358 : (1)

الصائبة 476 : (1)

الصبّاغ 19 : (1)

الصوفية 140 / 6 : (1)

ص: 618

180 / 179 / 85 / 83 : (2)

الضعفاء 470 : (1)

الطباعية 184 : (1)

545 : (2)

الطبيب 391 : (2)

الطبيعيّون 172 / 61 : (1)

213 : (2)

طوائف الأنبياء 610 : (2)

طوائف العقلاء 233 : (1)

الظاهريّين من الحكماء 283 / 282 : (2)

العارف 365 : (2)

العارفون 453 : (1)

العامّة 435 : (2)

العدلية 473 / 470 : (1)

العرفاء 139 : (1)

عظمائهم ( : عظماء الصوفية ) 141 : (1)

العقلاء 264 / 233 / 216 / 187 / 181 / 180 / 84 / 61 / 60 / 25 / 13 : (1) 477 / 455 / 451 / 428 / 383 / 352 / 368 / 365 / 352 / 145 / 132 / 112 / 110 / 84 / 82 / 77 / 11 / 7 : (2) 516 / 493 / 375 / 369

العلماء 503 / 502 / 448 / 375 / 369 / 186 / 104 / 103 / 102 : (2)

علماء الاصول 465 : (2)

علماء الفريقين 194 : (1)

العوامّ 484 : (2)

غير المحقّقين من المتفلسفة 448 : (1)

فرق الأنام 60 : (1)

فضلاء فارس 475 : (1)

الفقهاء 435 / 291 : (2)

ص: 619

الفلاسفة 206 / 181 / 177 / 174 / 171 / 160 / 159 / 155 / 153 / 90 : (1) / 309 / 307 / 306 / 304 / 282 / 272 / 261 / 260 / 259 / 254 / 233 / 232 / 476 / 475 / 448 / 431 / 418 / 407 / 391 / 357 / 341 / 337 / 329 / 327 / 323 / 321 / 315 / 284 / 271 / 110 / 109 / 56 / 7 / 6 : (2)

/ 478 / 402 / 398 / 385 / 378 / 375 / 345 / 333 / 331 /

القائلون بارتسام الصور في ذاته 309 : (2)

القائلون بالعلم الحصولي للواجب 311 / 309 : (2)

القدرية 475 : (1)

القدماء 133 : (2)

قدماء المعتزلة 252 : (1)

القرّاء 435 : (2)

القوم ( : الحكماء ) 16 : (1)

590 / 566 / 440 / 439 / 107 : (2)

الكرامية 338 : (1)

596 / 424 / 420 / 419 / 418 / 376 : (2)

المانوية 458 / 454 : (1)

المؤوّلين 331 : (2)

متابعوه ( : متابعو الرئيس ) 172 : (1)

متابعوه ( : متابعو بلخي ) 476 : (1)

متابعوه ( : متابعو نظّام ) 476 : (1)

متأخّروا أصحابنا ( : أصحاب الأشعريين ) 468 : (2)

المتأخّرين 307 / 261 / 237 / 232 / 229 / 198 / 190 / 84 / 20 / 19 : (1) / 342 / 337 / 321 / 316 / 285 / 284 / 276 / 264 / 171 / 159 / 156 / 91 / 35 : (2)

/363 / 345 / 340 / 339 / 330 / 328 /

متعصّبي الفلاسفة 320 / 64 : (2)

المتقدّمون من الفضلاء 25 : (1)

المتكلّمين 137 / 136 / 119 / 107 / 100 / 94 / 90 / 68 / 49 / 45 / 39 : (1)

ص: 620

/ 399 / 387 / 378 / 352 / 316 / 214 / 203 / 3 : (2200 / 199 / 198 / 187 / 182 / 181 / 178 / 172 / 158 / 157 / 153 / 145 / 247 / 243 / 240 / 237 / 233 / 232 / 225 / 216 / 213 / 209 / 202 / 201 / 343 / 397 / 391 / 371 / 366 / 359 / 357 / 353 / 305 / 296 / 280 / 265 / / 438 / 437 / 409 / 408) / 594 / 521 / 469 / 453 / 440

المجرّدين 366 : (2)

المجوس 476 / 475 / 474 / 472 / 455 : (1)

المجوسية 454 : (1)

المحصّلين 181 : (1)

291 : (2)

المحصّلين من المشائين 141 : (2)

المحقّقون 70 : (1)

محقّقي المتأخّرين 275 : (2)

محقّقي المتكلّمين 180 : (1)

المحقّقين / 476 : (1)

533 / 454 / 425 / 288 / 239 / 11 : (2)

المحقّقين من أهل الكلام 522 : (2)

المحقّقين من المتكلّمين 506 : (2)

المرسلين - ص - 430 : (1)

المشائين 6 : (1)

542 / 269 / 192 / 142 / 133 / 132 / 113 / 77 / 74 / 71 / 70 / 69 : (2)

المظلومين 470 / 469 : (1)

المعتزلة / 252 / 251 / 177 / 160 / 159 / 158 / 157 / 156 / 155 / 154 : (1)

/ 279 / 273 / 271 / 270 / 266 / 265 / 263 / 262 / 260 / 259 / 254 / 253 / 375 / 371 / 367 / 366 / 365 / 358 / 341 / 340 / 338 / 317 / 295 / 433 / 430 / 421 / 414 / 405 / 387 / 386 / 383 / 382 / 381 / 376 / 476 / 448 / 435 / 377 / 376 / 364 / 352 / 268 / 266 / 133 / 130 / 129 / 112 / 104 : (2)

ص: 621

425 / 424 / 420 / 419 / 412 / 411 / 395 / 394 / 387 / 384 / 382 / 378 / 458 / 456 / 443 / 441 / 439 / 438 / 437 / 436 / 435 / 431 / 430 / 428 / 490 / 487 / 480 / 479 / 477 / 476 / 472 / 471 / 467 / 463

المكفّرون 319 : (2)

المكلّفين 464 : (2)

الملائكة المقرّبين 449 : (2)

الملّة 196 : (1)

الملحدون 182 : (1)

الملك 453 / 449 / 448 : (2)

المليّين 162 / 159 / 153 : (1)

375 / 7 : (2)

المنجّم 334 / 306 / 259 : (2)

المنجّمين 475 / 475 : (1)

المنطقيّين 97 : (1)

469 / 40 : (2)

اللغويّين 516 : (2)

النبيّ - ع - ( على نحو عامّ ) 472 : (2)

النصارى 454 : (1)

477 : (2)

النظّار من العلماء 448 : (2)

اليهود 41 : (1)

5 - فهرس أسماء الكتب

القرآن المجيد 436 / 435 / 433 / 432 / 423 / 398 / 345 / 269 / 264 : (2)

ص: 622

559 / 487 / 486 / 485 / 484 / 471 / 453 / 439

أثولوجيا 302 / 219 / 183 / 79 : (1)

165 : (2)

الأربعين 272 / 257 / 248 / 198 : (1)

الإشارات والتنبيهات 448 / 363 / 362 / 349 / 304 / 97 / 94 : (1)

521 / 332 / 331 / 322 / 231 / 131 / 125 / 120 : (2)

بعض الحواشي ( من مصنّفات المصنّف ) 567 : (2)

بعض تصانيفه ( : تصانيف الدواني ) 305 : (2)

تجريد الكلام 371 / 367 / 365 / 359 / 336 / 297 / 250 / 241 / 237 / 4 : (1) 453 / 432 / 394 / 378 / 348 / 347 / 285 / 281 / 255 / 232 / 229 / 172 / 90 / 86 / 65 : (2)

503 / 422 / 412 / 400 / 382 / 381

التحصيل 580 / 579 / 542 / 133 / 68 / 29 : (2)

التعليقات ( : للشيخ الرئيس ) 328 / 253 / 100 : (1)

389 / 388 / 354 / 313 / 210 / 169 / 135 / 126 / 124 / 73 / 59 : (2)

التعليقات ( : للمعلّم الثاني ) 42 : (2)

تفسير العلاّمة النيسابوري 484 : (2)

التلويحات / 559 / 550 / 523 : (2)

التوحيد 382 / 205 : (1)

تهافت الفلاسفة 314 : (2)

جامع الأفكار وناقد الأنظار 599 / 598 : (2) / 3 : (1)

الجمع بين رأيى الحكيمين 183 / 181 : (1)

الحواشي القديمة ( : للدواني ) 339 / 320 : (2)

الحواشي على الشرح الجديد 3 : (1)

دليل الهدى 195 : (1)

رسالة اثبات الذات والصفات رسالة اثبات الواجب

رسالة اثبات الواجب 365 / 261 : (1)

رسالة الأسئلة والأجوبة ( للرئيس ) 180 : (2)

ص: 623

الرسالة الّتي ألّفها المازندراني في مسئلة الزمان الموهوم 210 : (1)

رسالة الحدود 100 : (1)

رسالة الكلّيات 286 : (1)

رسالة المبدأ والمعاد ( : للرئيس ) 386 / 180 / 131 : (2)

رسالة الهيولى ( : للرئيس ) 75 : (2)

الزبدة 141 : (1)

سائر كتبه ( : كتب الشيخ ) 316 : (2)

شرح اثبات الواجب ( : لغياث الحكماء ) 261 : (1)

291 / 288 / 287 / 371 : (2)

شرح الإشارات والتنبيهات 232 / 172 / 132 / 120 / 118 / 114 / 92 : (2)

238

الشرح الجديد 3 : (1)

شرح العقائد ( : للدواني ) 781 / 27 : (2) / 303 : (1)

شرح المقاصد / 433 / 424 / 418 : (2)

شرح المواقف 509 / 424 / 87 : (2) / 476 / 265 : (1)

شرح حكمة الاشراق / 301 / 70 : (2)

شرح رسالة العلم 241 : (1)

286 / 285 / 277 / 240 / 239 / 230 / 206 / 173 / 120 / 119 / 118 : (2) 400 / 398 / 392 / 375 / 368 / 347 / 292 / 290 / 289 / 288 / 287 / 485 / 483 / 469 / 412 / 401

شرح رسالة زينون الكبير 86 : (1)

الشفاء 437 / 392 / 333 / 332 / 309 / 303 / 253 / 236 / 85 / 74 / 25 : (1) 316 / 306 / 242 / 206 / 204 / 135 / 130 / 126 / 125 / 120 / 73 : (2) 581 / 580 / 579 / 578 / 577 / 558 / 554 / 526 / 446 / 331 / 322 / 321

الصحيفة السجادية 330 : (1)

فصل الخطاب 141 : (1)

فصوص الحكم 543 / 165 / 162 / 161 : (2) / 392 : (1)

القانون 371 : (2)

ص: 624

القبسات 180 : (1)

قرّة العيون ( للمصنّف نفسه ) 167 / 83 : (2)

الكافي الشريف 360 / 205 : (1)

الكتاب الإلهي القرآن المجيد

الكتب الحكمة 586 / 198 / 90 : (2)

كتب القوم كتب الحكمة

الكتب ( : الكتب السماوية ) 422 : (2)

الكتب الكلامية 110 : (2) / 271 / 148 : (1)

كتبنا الأصولية 465 : (2)

كتبه ( : كتب محقّق الطوسي ) 286 : (2)

المباحث المشرقية 60 : (2) / 304 : (1)

المبدأ والمعاد 40 : (1)

مجمع البيان 199 : (1)

المحصّل 349 / 336 / 229 / 178 / 136 / 62 / 61 / 42 / 40 / 39 / 27 / 5 : (1)

100 : (2)

مصارع المصارع 439 / 303 : (1)

المطارحات / 139 / 8 : (2) / 298 : (1)

المقاصد 418 / 371 : (2)

الملل والنحل 455 : (1)

المواقف 109 / 89 / 87 : (2) / 476 / 265 : (1)

النجاة 541 / 316 : (2) / 253 : (1)

نقد المحصّل 414 : (2) / 336 : (1)

نهاية الاقدام 468 : (2)

نهج البلاغة 330 / 206 : (1)

هذا الكتاب جامع الافكار

الهياكل ( : هياكل النور ) 303 : (1)

ص: 625

6 - فهرس الأشعار

مرتّبا على حسب القوافي

أوّلا : بالعربية

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما *** جعل اللسان على الكلام دليلا

443 / 427 : (2)

ثانيا : بالفارسية

ذات نايافته از ، هستى بخش *** كى تواند كه شود هستى بخش

82 : (1)

سيه روئى ز ممكن در دو عالم *** جدا هرگز نشد واللّه أعلم!

40 : (1)

ص: 626

الفهرس التفصيلى

الفصل الثاني

في علمه - تعالى -

البحث الأوّل :

في إثبات كونه عالما بذاته وبكلّ

ما عداه من الموجودات وانكشاف الجميع عنده

وجوه تدلّ على هذا المعنى :... 2

منها ( : الوجه الأوّل )... 2

تقرير هذا الوجه... 2

تقرير آخر لهذا الوجه... 2

منها ( : الوجه الثاني )... 3

دلالة هذا الدليل أوّلا على علمه - تعالى - بأفعاله وثانيا على علمه بذاته... 4

إيراد لبعض الفضلاء على هذا الدليل... 4

تقرير آخر لهذا الدليل... 4

إيراد بعض الفضلاء على هذا التقرير... 5

توضيح المصنّف حول هذا الايراد... 5

قول بعض الفضلاء ببداهة أنّ كلّ من علم الغير يعلم ذاته... 6

اعتراضان على هذا القول... 6

أحدهما... 6

ثانيهما... 7

ص: 627

الجواب عن الاعتراض الأوّل... 7

قول الشافعي بجواز أن يوجد نظام يكون أعلى وأكمل من النظام الواقع... 7

قاعدة إمكان الأشرف وتقريرها... 7

جريان هذه القاعدة - على قول الشيخ الإلهي في المطارحات في - ما فوق الكون لا في ما تحتها 8

إشكال أورد على هذه القاعدة ودفعه... 9

دفع آخر عن هذا الاشكال... 10

منها ( : الوجه الثالث )... 11

مقدّمات يتوقّف بيان هذا الوجه عليها... 11

المقدّمة الأولى... 11

بيان أقسام الادراك وانّه على ثلاثة أقسام... 13

الأوّل : الادراك بالحواسّ الظاهرة... 13

الثاني : الادراك بالقوّة العاقلة... 18

الثالث : القوّة العاقلة للأشياء بأنفسها لا بتصوّر زائد على ذاتها... 20

المقدّمة الثانية... 27

قول بهمنيار في التحصيل... 29

الوجود إمّا وجود في نفسه أو وجود لغيره... 29

تقسيمات لهذين القسمين... 30

وجهان محتملان في قول بهمنيار والبحث عنهما... 31

بطلان الوجه الثاني من هذين القسمين... 33

الوجه الأوّل لا يثبت المطلوب أيضا... 35

تأييد المصنّف كلام بهمنيار ونقده على جزء آخر منه... 37

تضعيفه كلام صاحب التحصيل وبيان وجه الضعف... 38

حاصل ما ذكره المصنّف تبيينا لكلام بهمنيار... 42

الاستشهاد بكلام ثاني المعلّمين في التعليقات... 43

الرابطة بين المدرك والمدرك... 46

بيان أنّ اقوى أقسام الحضور وعدم الغيبة هو حضور الذات للذات... 46

حقيقة العلم والتعقّل... 47

ص: 628

منشأ التعقّل ومصحّحه هو التجرّد... 52

إيراد ربما يورد على هذا الكلام... 53

الجواب عن هذا الايراد... 53

إشارة إلى عينية صفات الواجب لذاته... 54

العلم يطلق على ثلاثة معان... 55

تحقّق علم الحصولي للمجرّد الزائد وجوده على مهيته بواسطة علاقة خارجية... 57

إيراد على هذا المبنى والجواب عنه... 58

جواب بعض الأعلام الإلهيّين عن هذا الايراد... 58

الاستشهاد بكلام الشيخ في التعليقات... 59

تحليل المصنّف هذا الكلام... 59

اعتراض الامام الرازي على عدم كون علوم المجرّدات بذواتهم غير زائد على ذواتهم... 60

جواب المصنّف عن هذا الاعتراض... 60

الجواب عن هذا الاعتراض على مبنى الفارابي وبهمنيار... 60

حاصل هذا الجواب ببيان المصنّف... 61

إشكال المصنّف على هذا الجواب... 62

إشكال المصنّف على كلام بعض الأعلام... 63

إشكال آخر على كلامه... 64

اشارة إلى طريقة المتصوّفة في وحدة الوجود والصفات... 64

نقد لطيف للمصنّف على هذه الطريقة... 64

المسالك لاثبات كون كلّ مجرّد عاقلا وتوضيح المسلك الثالث... 65

اعتراضات على هذا المسلك... 67

الاعتراض الأوّل... 67

الاعتراض الثاني... 67

الاعتراض الثالث... 67

ردّ على هذا الاعتراض... 67

نقل مذهب الاشراقيّين والمشائين فيما هو منشأ العلم عند كلّ منهم... 69

الأشياء عند الاشراقيّين على أربعة أقسام... 69

ص: 629

اعتراض المشائين على الاشراقيّين فيما هو منشأ العلم عندهم... 70

حكومة المصنّف بين الطائفتين... 71

شبهتان ربما توردان هاهنا... 72

الجواب عن الشبهة الأولى... 72

الجواب عن الشبهة الثانية... 73

جواب قيل في دفع الشبهة الثانية... 73

جواب آخر للمصنّف عن هذه الشبهة... 74

حاصل الأجوبة الثلاثة... 74

إشكال على كلام للشيخ في هذا الموضع والجواب عنه... 75

إشكال المصنّف على هذا الجواب... 75

إشكال آخر وجواب المصنّف عنه... 76

جواب آخر قيل في دفع هذا الاشكال... 76

ورود هذا الاشكال على مبنى المشائين وعدم وروده على مبنى الرواقيّين... 76

ما هو المراد من العالمية المختصّة بالمجرّد... 76

الاستشهاد بكلام ثانى المعلّمين في التعليقات... 77

أقسام المدركات في الادراك الحصولي للحواسّ... 78

لا يكون لشيء من الحواس ادراك على المذهب الثاني... 79

إشكال ربما يورد على هذا المذهب... 79

توقّف ادراك النفس على القوى في كلا المذهبين لقصور في تجرّدها... 80

المقدّمة الثالثة... 81

بثبوت تلك المقدّمات الثلاث يظهر تمامية الدليل الثالث لاثبات علمه... 81

قول بعض المشاهير بأنّ في هذا الدليل سرّ ينبغي التأمّل فيه... 81

ذكروا لبيان هذا السرّ وجوها... 81

منها ( : الوجه الأوّل )... 81

منها ( : الوجه الثاني )... 81

نقد للمصنّف على هذا الوجه... 81

منها ( : الوجه الثالث )... 81

إيراد على هذا الوجه... 81

ص: 630

منها ( : الوجه الرابع )... 82

منها ( : الوجه الخامس )... 82

تأييد السيّد الداماد هذا الوجه... 82

بيان للمصنّف في تبيين الفرق بين وجهي الرابع والخامس... 82

ابطال المصنّف هذا الوجه وإرجاعه إلى كتابه الآخر : « قرّة العيون »... 83

لا وجه لجعل ذلك سرّا للدليل المذكور... 83

منها ( : الوجه السادس )... 83

استشهاد المصنّف بكلام السيّد الداماد... 83

تأييد بعض العرفاء هذا الوجه... 84

نقد المصنّف هذا الوجه... 85

منها ( : الوجه السابع )... 85

نقد المصنّف هذا الوجه... 85

منها ( : الوجه الثامن )... 85

نقد المصنّف هذا الوجه... 86

منها ( : الوجه الرابع )... 86

إيراد على هذا الوجه... 86

دفع الايراد... 86

نقصان على هذا الدفع... 87

إيراد آخر على هذا الوجه... 87

تقرير آخر لهذا الدليل لا يرد عليه هذه الايرادات... 87

قول بعض الفضلاء في تفسير « الحضور » وإشكال المصنّف عليه... 88

جواب المصنّف عن المنع الثاني... 89

ارجاع المصنّف هذا الدليل إلى الدليل السابق ، وانّهما عنده واحد... 89

استشهاد المصنّف لارجاعه هذا بكتب الحكمة... 90

إشكال للمصنّف في كلام المحقّق الطوسي... 91

قول بعض الفضلاء شرحا لكلام المحقّق... 91

نقد المصنّف على هذا الشرح... 92

شرح هذا الفاضل لقطعة أخرى من كلام المحقّق... 92

ص: 631

إيراد أورد على هذا الشرح... 93

بيان المصنّف في تبيين الطريق الثاني لاثبات كون العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول... 94

تحقيق الكلام في بيان انّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول... 95

إشكال على هذا التحقيق ودفع المصنّف عنه... 96

إشكال آخر وجواب المصنّف عنه... 96

إشكال المصنّف على كلام بعض الأعاظم... 97

كلام آخر لبعض الأفاضل ونقد المصنّف عليه... 98

تبيين المصنّف مراد القوم من قولهم : « العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول »... 100

تأييد المصنّف كلام الفخر في المحصل ودفعه ما أورد عليه بعض الأفاضل... 100

بيان وجه الاندفاع... 101

منها ( : الوجه الخامس )... 101

مناقشة في هذا الدليل... 101

جواب المصنّف عن هذه المناقشة... 101

بيان هذا الوجه على وجه لا ترد عليه المناقشة... 102

إشكال على هذا البيان والجواب عنه... 101

منها ( : الوجه السادس )... 103

امكان اثبات القدرة والإرادة والحياة بهذين الدليلين الأخيرين... 103

توضيح لكلام سيّدنا أمير المؤمنين : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه »... 103

منها ( : الوجه السابع )... 104

إيراد يورد على هذا الوجه... 104

الجواب عنه على طريقتى المعتزلة والأشاعرة... 104

إيراد على هذا الجواب... 104

امكان اثبات العلم بواسطة القدرة... 105

منها ( : الوجه الثامن )... 105

إيراد يورد على هذا الوجه... 105

الجواب عن هذا الايراد وردّ هذا الجواب أيضا... 105

ص: 632

نقد المصنّف على هذا الردّ... 105

ردّ المصنّف هذا الوجه... 106

بيان مراد القوم من التمسّك بالأدلّة السمعية في اثبات علمه - تعالى -... 107

إشكال على هذا المبنى وجواب المصنّف عنه... 107

تفسير قيل في بيان مراد القوم من التمسك بالأدلّة السمعية في اثبات علمه - تعالى - 107

إيراد يورد على هذا التفسير... 108

إيراد على هذا الايراد ودفعه... 108

إرجاع المصنّف هذا الايراد على الايراد السابق ووحدتهما عنده... 108

تتميم

انكار بعض الملاحدة من الفلاسفة أصل علمه - تعالى -... 109

نقل هذا المبنى عن صاحب المواقف والمحقّق الطوسي... 109

قول بعض المشاهير في تبيين مرام النّافين وتوضيح المصنّف حوله... 110

المخالفون لعلم الواجب على النهج الحقّ ، وهم خمس فرق... 110

البحث الثاني :

في كيفية علمه - تعالى - بالأشياء

المذاهب في كيفية علمه - تعالى -... 112

الأوّل : مذهب المعتزلة... 112

الثاني : مذهب افلاطون الإلهي... 112

الثالث : مذهب فرفوريوس ومن تبعه من المشائين... 112

الرابع : مذهب جمهور المشائين... 112

توضيح هذا المذهب... 112

الخامس : مذهب تالس الملطي... 113

بيان الفرق بين هذا المذهب والمذهب الرابع... 113

ذهاب المحقّق الطوسي إلى هذا المذهب... 114

في الصورة العلمية أمران... 117

تحقيق مذهب المحقّق الطوسي من بين المذاهب الخمسة... 120

ص: 633

تحقيق مذهب الرئيس من بين المذاهب الخمسة... 120

نقل كلمات الرئيس من الشفا إيضاحا لمذهبه... 120

تفصيل كلام الرئيس في دفع ثلاثة من مفاسد العلم الحصولي الأربعة... 123

دفع المفسدة الأولى... 123

دفع المفسدة الثانية... 123

دفع المفسدة الثالثة... 124

المفسدة الرابعة الّتي لم يتعرّض الشيخ لدفعه... 124

استشهاد المصنّف بكلام الشيخ في التعليقات تبيينا لمذهبه... 124

استعجاب المصنّف من بعض الأفاضل حيث حمل كلمات الشيخ على خلاف الظاهر منها

... 125

نقل كلمات الشيخ والشارح المحقّق من الاشارات وشرحه دفعا لما ذهب إليه هذا الفاضل

... 125

السادس : مذهب جماعة... 128

توضيح هذا المذهب... 128

السابع : مذهب شيخ الاشراق ومتابعيه... 129

الفرق بين هذا المذهب والمذهب الخامس... 129

تحقيق الحقّ من بين المذاهب المذكورة وابطال الباطل منها... 129

تحقيق المذهب الأوّل... 129

دليلان على بطلان هذا المذهب... 129

تحقيق المذهب الثاني والقول بالمثل... 130

قول الشيخ في تفسير المثل... 130

قول بعض أهل التحقيق في تفسير المثل... 130

إيراد للمصنّف على نظرية المثل... 130

إيراد آخر للمصنّف على نظرية المثل... 131

تحقيق المذهب الثالث... 131

بطلان هذا المذهب القائل باتّحاد العاقل والمعقول... 131

تشنيع الشيخ في كتبه كالاشارات على القائل بهذا المذهب... 131

قول بعضهم برجوع الشيخ إلى هذا المذهب في

ص: 634

كتابه « المبدأ والمعاد »... 131

نقد المصنّف هذا القول تبعا لبعض المحقّقين... 131

إشكال آخر على هذا المبنى وجواب المصنّف عنه... 131

إيراد على هذا المذهب... 131

تحقيق المذهب الرابع... 132

وجوه تدلّ على بطلان هذا المذهب... 132

منها ( : الوجه الأوّل )... 132

منها ( : الوجه الثاني )... 132

منها ( : الوجه الثالث )... 132

منها ( : الوجه الرابع )... 132

منها ( : الوجه الخامس )... 132

نقل هذه الوجوه الخمسة من كلام الشارح المحقّق... 132

دفع الوجه الأوّل عن العلم الحصولي... 133

دفع الوجه الثاني عن العلم الحصولي... 133

نقل هذا الدفع عن كلام صاحب التحصيل... 133

توضيح للمصنّف حول هذا الدفع... 134

ردّان للمصنّف على هذا الدفع... 134

إشكال والجواب عنه... 134

ورود هذا الوجه على المذهب الرابع... 134

دفع الوجه الثالث عن العلم الحصولي بكلام الشيخ... 135

استشهاد بكلام المعلّم الثاني... 135

نقد المصنّف على هذا الدفع... 136

ورود هذا الوجه على المذهب الرابع... 136

تأويل كلام المعلم الثاني المستشهد به... 136

دفع الوجه الرابع عن العلم الحصولي... 136

بطلان هذا الوجه وعدم وروده على المذهب الرابع... 137

دفع الوجه الخامس عن العلم الحصولي... 137

ضعف هذا الدفع... 137

ص: 635

منها ( : الوجه السادس )... 137

تقرير آخر لهذا الوجه... 138

الجواب عن هذا الوجه... 138

وجهان يدلاّن على بطلان هذا الجواب... 138

منها ( : الوجه السابع )... 139

الجواب عن هذا الوجه... 139

منها ( : الوجه الثامن )... 139

الجواب عن هذا الوجه بالنقض والحلّ... 140

بطلان هذا الجواب... 140

منها ( : الوجه التاسع )... 141

مقدّمات يتوقّف هذا الوجه عليها... 141

المقدّمة الأولى... 141

أدلّة ثلاثة لاثبات هذه المقدّمة... 141

المقدّمة الثانية... 141

المقدّمة الثالثة... 141

وجوه أربعة لتفسير هذه المقدّمة... 142

بطلان الوجوه الثلاثة الأول... 142

نتيجة هذا الوجه... 143

منها ( : الوجه العاشر )... 144

تلخيص القول في علمه الحضوري على الوجه الجزئي... 145

إشكال على هذا المبنى والجواب عنه... 145

منها ( : الوجه الواحد بعد العشر )... 145

تقرير هذا الوجه... 146

منها ( : الوجه الثاني عشر )... 146

بيان مبني هذا الوجه... 146

إشكال والجواب عنه... 147

بطلان هذا الوجه وعدم وروده على العلم الحضوري... 148

منها ( : الوجه الثالث عشر )... 148

ص: 636

تقرير هذا الوجه... 148

إشكال والجواب عنه... 148

منها ( : الوجه الرابع عشر )... 149

تقرير هذا الوجه... 149

منها ( : الوجه الخامس عشر )... 149

تقرير هذا الوجه... 149

منها ( : الوجه السادس العشر )... 149

تقرير هذا الوجه... 149

استشهاد بكلام سيّدنا الباقر - سلام اللّه عليه وعلى آبائه وأولاده -... 149

اشارة إلى بطلان العلم الحصولي... 150

دليل القائلين بالعلم الحصولي على صحّته... 150

إيراد أورد على هذا الدليل... 150

اعتراض على هذا الايراد... 150

الجواب عن هذا الاعتراض... 150

دفع المصنّف هذا الايراد... 151

جواب المصنّف عن هذا الدليل... 151

دليل آخر أقامه القائلون بالعلم الحصولي على صحّته... 152

جواب المصنّف عن هذا الدليل... 152

اعتراض أبي البركات البغدادي على هذا الدليل... 152

جواب بعض الأعاظم عن اعتراض أبي البركات البغدادي... 152

اشارة من المصنّف إلى الاجمال والاخلال الواقع في اعتراض أبي البركات وجواب هذا المجيب عنه 153

تأييد القول بالعلم الحصولي بكلام انكسيمالس الملطي... 153

نقد للمصنّف على هذا الدليل... 153

جواب بعض المحقّقين عن كلام انكسيمالس المشتمل على ردّين... 153

اعتراض بعض العرفاء على هذا الجواب وإشارة المصنف إلى بطلانه... 154

تلخيص القول في بطلان العلم الحصولي... 154

تحقيق المذهب الخامس... 154

ص: 637

إيراد يورد على هذا المذهب... 154

إبطال الشيخ هذا المذهب... 154

قول بعض المشاهير تفسيرا لكلام الشيخ ، ونقد المصنّف عليه... 155

اختيار المحقّق الطوسي هذا المذهب بتقريب... 155

إيراد بعض المشاهير على كلام المحقّق الطوسي... 155

التفاوت بين هذا المذهب ومذهب شيخ الاشراق... 155

تحقيق المذهب السادس... 156

توضيح المصنّف حول هذا المذهب... 156

عدم اختصاص القول بالعلم الاجمالي بالقائلين بالعلم الحضوري ، واشتراك الحصوليّين معهم فيه 156

احتمالان يجريان في ما ذكروه في بيان العلم الاجمالي... 156

عدم جريان الاجمالى والتفصيل في الوجه الثاني... 157

أكثر المتأخّرين جزموا في مقام بيان العلم الاجمالي بالوجه الثانى... 158

استشهاد المصنّف بكلام العلاّمة الخفري... 158

استشهاد المصنّف بكلام بهمنيار... 158

استشهاد المصنّف بكلام الفارابي... 159

على الوجه الأوّل لا ريب في كونه - تعالى - عالما ومعلوما... 159

العلم يطلق على ثلاثة معان... 160

انطباق كلام بهمنيار على الاحتمال الأوّل... 160

توضيح المصنّف حول كلام الفارابي حتّى يظهر انطباقه على الاحتمالين... 160

إشكال على هذا التوضيح وجوابان للمصنّف عنه... 161

تفسير قيل حول عبارة المعلّم الثاني... 163

تفسير آخر قيل حول عبارة المعلّم الثاني... 163

تفسير ثالث قيل حول عبارة المعلّم الثاني... 163

رأي المصنّف حول هذه التفاسير الثلاثة... 163

انطباق كلام المعلّم الثاني على ما ذهب إليه المعلّم الأوّل... 165

توضيح هذا الانطباق... 166

احتمالان يجريان في هذا الكلام... 166

ص: 638

نقد للمصنّف على هذين الوجهين... 167

تعيين مذهب الفارابى في مجال علم الواجب... 167

تعيين مذهب بهمنيار في مجال علم الواجب... 167

المراد ب- « الاتصاف » المنفي في كلامهم... 168

استشهاد المصنّف بكلام الشيخ في التعليقات... 169

تبيين اغراض الشيخ من هذه العبارة... 169

العلم على أقسام ثلاثة... 170

قيل المعقول فهو على قسمين... 170

استعجاب المصنّف من بعض أفاضل المتأخّرين حيث حمل جميع عبارات بهمنيار على العلم الحصولي 170

قول بعض المشاهير تعقيبا لكلام بهمنيار... 170

حاصل كلامه ببيان المصنّف... 171

نسبة العلاّمة الخفري القول بالعلم الاجمالي إلى المحقّق الطوسي... 172

ردّ المصنّف هذه النسبة... 172

قول بعض مؤيّدا لكلام الخفري... 173

ردّ المصنّف هذا التأييد... 173

تفسير الخفري على عبارة المحقّق في شرح رسالة العلم... 173

تأييد المصنّف هذا التفسير... 173

عود إلى ما سبق من تحقيق الحقّ في العلم الإجمالي... 174

تفسير للقوم على العلم الاجمالي... 174

إيراد أورد على هذا التفسير... 175

جواب القوم عن هذا الايراد... 175

إشكال المصنّف في هذا الجواب... 175

إيراد أورد على الاحتمال الأوّل من العلم الاجمالى... 176

احالة الجواب عن هذا الايراد إلى ما سيأتي إن شاء اللّه... 177

إشكال بعض الأفاضل على العلم الاجمالي وجوابه عنه... 177

نقدان للمصنّف على هذا الجواب... 178

جواب لبعض الفضلاء وتأييد المصنّف هذا الجواب... 179

ص: 639

كلام الخفري في شرح العلم التفصيلي الثاني... 179

نقد المصنّف على هذا الكلام... 180

قول بعض الأفاضل ردّا على هذا الكلام... 180

للعلم ثلاثة معان... 181

ردّان للمصنّف على كلام الأشعري... 18

قول بعض أهل التحقيق تبيينا للاحتياج إلى هذه المراتب في علمه - تعالى -... 181

ردّان للمصنّف عليه... 182

قيل : على هذا القول يندفع الاشكالان على القول بأن العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول

... 184

وجه اندفاع هذا الاشكال... 184

المناطات الثلاثة للاتصاف بالعلم... 184

توضيح ذلك من كلام المصنّف... 185

الرجوع إلى الجواب عن إشكال أحال المصنّف الجواب عنه إلى ما سيأتي... 186

ليس الاجمال والتفصيل وصفين لعلمه - سبحانه - ، بل هما وصفان للمشهود العلمى والخارجي 187

نقد المصنّف على هذا الكلام... 188

ثانى الاشكالين الموردين على القول بأنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول... 188

جواب قيل في دفع هذا الاشكال... 189

الجواب عن هذا الجواب... 189

جواب آخر قيل في دفع هذا الاشكال... 189

نقد المصنّف على هذا الجواب... 190

الصحيح في الجواب عن هذا الاشكال على رأي المصنّف... 190

تلخيص القول في بطلان المذهب السادس... 191

تحقيق المذهب السابع... 191

توضيح هذا المذهب... 191

قول قيل في احتياج هذا المذهب إلى أن يبحث الانسان عن علمه بذاته... 192

استدلال للشيخ الإلهي لهذا المذهب... 193

مؤيّد لصحّة هذا المذهب... 194

ص: 640

انّ هذه الطريقة ظهرت للشيخ الإلهي من بيان المعلّم الأوّل حيث رآه في بعض خلساته 194

حكاية هذه الخلسة من كتاب التلويحات... 194

رأي المصنّف في حقّية هذا المذهب من بين المذاهب المذكورة... 197

توضيح هذا المذهب... 197

ما نسب إلى الشيخ الإشراقي في كتب القوم... 198

الحقّ ما نسب إليه ، فقوله لا يوافق مذهبنا وفاقا تامّا... 198

رأي الشيخ الإلهي في علم غيره - سبحانه - من المجرّدات... 198

استدلال الشيخ الإلهي على عدم جواز ارتسام الصور في الجواهر العقلية... 199

جواب المصنّف عن هذا الاستدلال... 199

إشكالات أورد على المذهب المختار... 199

منها ( : الاشكال الأوّل )... 199

ما أورده الشيخ الإلهي على نفسه ثمّ أجاب عنه... 199

منها ( : الاشكال الثاني )... 200

ما أورده الشيخ الإلهي أيضا على نفسه ثمّ أجاب عنه... 200

حاصل هذا الايراد والجواب... 200

إيراد المصنّف على هذا الجواب... 200

الحقّ في الجواب عن هذا الاشكال على المذهب المختار... 200

منها ( : الاشكال الثالث )... 201

تقرير هذا الاشكال... 201

جواب بعض أعاظم العرفاء عن هذا الاشكال... 201

تفسيران للعلم الفعلي... 202

الجواب عن إيراد لزوم عدم كون علمه - تعالى - فعليا... 203

منها ( : الاشكال الرابع )... 204

تقرير هذا الاشكال... 204

الجواب عن هذا الاشكال... 204

تفصيل ما أجملناه من كلام بعض المحقّقين... 205

منها ( : الاشكال الخامس )... 206

ص: 641

تقرير هذا الاشكال... 206

منها ( : الاشكال السادس )... 207

تقرير هذا الاشكال الّذي هو عمدة الاشكالات وأصعبها... 207

أجوبة عن هذا الاشكال... 207

الجواب الأوّل ؛ ما ظهر من كلام شيخ الاشراق... 207

نقل هذا الجواب عن كلام بعض الأفاضل... 207

نقد المصنّف هذا الجواب... 208

دفاع عن هذا الجواب وجواب المصنّف عنه... 208

جواب آخر أجاب به بعضهم... 208

نقد المصنّف هذا الجواب... 209

إشكال وجواب المصنّف عنه... 209

كلام بعض الأعاظم لبيان انّ عدم تقدّم الاضافة الاشراقية على وجودات الأشياء لا يوجب نقصا في حقّه 209

استشهاد هذا الفاضل بكلام الشيخ في التعليقات... 210

حاصل هذا الكلام من بيان المصنّف... 211

إيراد المصنّف على هذا الكلام... 211

إيراد آخر للمصنّف على هذا الكلام... 211

إيراد ثالث للمصنّف على هذا الكلام... 211

ضعف ما قال هذا القائل بعد كلامه هذا وبيان وجه الضعف... 212

الجواب الثاني... 213

تفصيل هذا الجواب عن كلام بعض الأعاظم من العرفاء... 213

نقد لطيف للمصنّف على هذا الجواب... 214

الجواب الثالث... 214

تفصيل هذا الجواب... 214

توضيح للمصنّف حول هذا الجواب... 215

إشكال على هذا المعنى والجواب عنه... 215

تحقيق تامّ للمصنّف حول عدم اختلاف نسبة ذاته إلى مخلوقاته بالمعية واللامعية... 216

إشكال أورد على هذا المعنى... 218

ص: 642

جواب المصنّف عن هذا الاشكال... 219

إشكال آخر والجواب عنه... 220

تأييد المصنّف هذا الوجه... 220

استشهاد المصنّف باخبار ائمّتنا الراشدين - ع - على حقّية هذا المذهب... 221

تقرير آخر للمصنّف لبيان هذا المعنى... 222

تقرير المطلب عن كلام بعض الأعلام... 223

إشكال المصنّف على جزء من هذا الكلام... 223

مناط علمه - تعالى - بذاته وبمعلولاته... 223

استشهاد المصنّف بكلام الخفري تأييدا لما ذهب إليه... 224

عدم ملائمة كلامه هذا مع كثير من كلماته الأخر... 225

إيراد أورد على كلام الخفري ، وهذا الايراد وارد على العلم الاجمالي أيضا... 225

الجواب عن هذا الايراد... 225

إشكال والجواب عنه... 226

إيراد أورد على الجواب الّذي اجاب به المصنّف عن الايراد السابق... 226

الجواب عن هذا الايراد... 227

تلخيص القول في علمه الحضوري التفصيلي... 227

فرق خالفوا هذا التفصيل وذهبوا إلى قصور علمه في بعض النواحي... 227

ذكر الفرق وآرائهم وابطالها... 228

أمّا الفرقة الأولى... 228

بيان شبهتهم وجواب بعض عنه... 228

للمصنّف نظرات في هذا الجواب... 228

أمّا النظر الأوّل... 228

أمّا النظر الثاني... 228

أمّا النظر الثالث... 228

أمّا النظر الرابع... 229

الجواب الصحيح عن هذه الشبهة... 229

قيل وإلى هذا الجواب أشار المحقّق أيضا في التجريد... 229

ص: 643

تفسير بعض المشاهير لهذه العبارة... 229

نقد للمصنّف على هذا التفسير... 230

أمّا الفرقة الثانية... 231

بيان شبهتهم... 231

الجواب عن هذه الشبهة على مبنى القائلين بالعلم الحضوري... 231

الجواب عن هذه الشبهة على مبنى القائلين بالعلم الحصولي... 231

جواب الشيخ في الاشارات عن هذه الشبهة وردّ الشارح المحقّق عليه... 231

بيان هذا الردّ عن عبارة التجريد... 232

عبارة التجريد يمكن حملها على معنيين... 232

الدليل على معنيين... 234

إيراد أورد على المعنى الثاني... 234

جواب بعض المشاهير الأعلام عن هذا الايراد... 234

على ما اخترناه ليس الحصول بالفعل للمعلول في الخارج شرطا للانكشاف... 235

للعلم ثلاثة معان... 235

أيّا من هذه المعانى الثلاثة يجوز في حقّه - تعالى -؟... 235

تقرير سؤال مشهور يورد في هذا المقام ويندفع على ما ذكرنا... 236

بيان وجه الاندفاع... 236

نقل عبارة الطوسي من شرح الاشارات... 238

إيراد المصنّف على هذه العبارة... 238

إيراد آخر للمصنّف على هذه العبارة... 239

استشهاد المصنّف بكلام للمحقّق في شرح رسالة العلم... 240

إيراد على كلام الخفري... 241

إشكال والجواب عنه... 243

قول بعض الأفاضل في هذا المقام... 244

اشكالان للمصنّف على هذا القول... 244

تفسير للمصنّف على كلام الخفري... 245

قول قيل في بيان غرض الخفري من نقل كلام الشيخ... 245

مراد الشيخ من قوله هذا... 246

ص: 644

قول للشيخ دالّ على ذهابه إلى العلم الاجمالي... 246

تقرير للخفري في مقام اندفاع سؤالات مشهورة تورد في هذا المقام... 247

نقد المصنّف جوابه عن السؤال الأوّل... 247

وجه اندفاع آخر قيل جوابا عن السؤال الثالث... 248

وجه اندفاع ثالث قيل جوابا عن السؤال الثالث... 248

اشارة المصنّف إلى الجواب عن هذا السؤال... 248

أمّا الفرقة الثالثة... 248

احتجاجهم على شبهتهم الأولى... 248

قول قيل في تناول هذا الاحتجاج جميع الجزئيات المتغيّرة... 248

إيراد أورد على هذا القول... 248

الجواب عن هذا الايراد... 249

تحقيق للمصنّف حول موضوع التغيّر... 249

الرجوع إلى ما يتعلّق بالدليل المذكور... 250

نقص هذا الدليل عن أن ينتهض حجة للزوم التغيّر في ذاته إذا علم الجزئيات المتغيّرة... 251

نقل كلام الخفري وجرح المصنّف اياه... 252

قول بعض الأعلام إيضاحا لكلام الخفري... 252

تقرير مبنى التقرير المجمل الّذي ذكره الخفري... 253

تقرير الشبهة بوجه آخر عن كلام المحقّق الدواني... 254

رأي المصنّف في رجوع هذا التقرير إلى التقرير الماضي... 254

الجواب عن هذه الشبهة بوجوه ثلاثة... 254

الوجه الأوّل... 254

للمصنّف نظر في هذا الوجه... 255

إشكال للمصنّف في جواب الطوسي عن هذه الشبهة... 255

جواب الخفري عن هذه الشبهة... 255

نقد المصنّف هذا الجواب... 256

إيراد آخر أورد على هذا الجواب... 256

إشكال وجواب المصنّف عنه... 256

ص: 645

إيراد بعض الأفاضل على تقرير الخفري... 257

نقد المصنّف هذا الايراد... 257

جواب بعض الأفاضل عن الشبهة المذكورة... 258

نقد المصنّف هذا الجواب... 258

الوجه الثاني... 259

تقرير هذا الوجه... 259

بطلان هذا الوجه عند المصنف... 259

بطلان هذا الوجه عند القائلين بعلمه - تعالى - بالجزئيات... 259

الوجه الثالث... 260

تقرير هذا الوجه ، وهذا الوجه هو المختار عند المصنف... 260

عدم كون علمه - تعالى - زمانيا يتصوّر لأحد من أمور أربعة... 261

بيان الأمر الأوّل وإشارة إلى مفاسده... 261

بيان الأمر الثاني... 261

بيان الأمر الثالث... 261

بيان الأمر الرابع... 261

بطلان الأمر الرابع... 262

تلخيص القول في عدم كون علمه زمانيا وأنّ السبب في ذلك هو الأمر الثاني أو الثالث ، فهاهنا مطلبان 262

المطلب الأوّل : بيان عدم كون علمه زمانيا... 262

ايرادات للخفري أوردها على هذا المطلب... 262

الأوّل من ايراداته... 262

إشكال المصنّف على هذا الايراد... 263

إشكال آخر للمصنّف على هذا الايراد... 264

إيراد بعض الأفاضل على هذا الاشكال... 264

استعجاب المصنّف عن هذا الايراد... 264

بيان ضعف ما ذكره الخفري بعد ذلك... 264

إيراد الخفري على الكلام المنقول عن الحكماء... 264

توضيح قيل حول هذا الايراد... 265

ص: 646

نقد المصنّف على هذا التوضيح... 266

الثاني من ايراداته... 267

جواب المصنّف عن هذا الايراد... 268

الثالث من ايراداته... 268

جواب المصنّف عن هذا الايراد... 168

الرابع من ايراداته... 268

جواب المصنّف عن هذا الايراد... 269

الخامس من ايراداته... 269

جواب المصنّف عن هذا الايراد... 269

السادس من ايراداته... 269

توضيح هذا الايراد... 270

جواب المصنّف عن هذا الايراد... 270

السابع من ايراداته... 271

جواب المصنّف عن هذا الايراد... 272

بيان رأي الخفري في علمه - تعالى - وعدم تلائم كلامه هنا مع كلماته السابقة... 273

إيراد أورده بعض الأفاضل على كلامه... 273

المطلب الثاني : السبب في عدم كون علمه زمانياهو الأمر الثاني والثالث... 274

توضيح هذا المطلب وبيان فساد الوجهين الآخرين... 274

تلخيص القول في تصحيح عدم التغيّر في ذاته وصفاته الحقيقية... 274

هنا مذاهب أربعة ، وتحقيق المصنّف في كلّ منها... 275

ما اخترناه هو مختار المحقّق الدواني أيضا... 275

الوجه الآخر وبيانه عن كلام بعض الأفاضل... 275

إشكال والجواب عنه... 276

ذهاب المحقّق في شرح رسالة العلم إلى ما ذهبنا إليه... 277

قطعة أخرى من كلام المحقّق مع توضيحه... 278

نقد بعض على هذا الكلام... 279

ص: 647

أقوال في تفسير قطعات من كلامه... 280

قول بعض الأفاضل في شرح ما نقلناه من كلام المحقّق... 281

تأييد المحقّق ما اخترناه وقرّرناه... 282

إشكال على هذا المعنى... 282

الجواب عن هذا الاشكال... 283

اشارة بعض المشاهير إلى صحّة كلام المحقّق وكون بحث من وجهين في كلام المتأخّرين عنه

... 283

قول قيل في تفسير هذين الوجهين... 283

قول آخر قيل في تفسير هذين الوجهين... 284

قول المصنّف في تفسير هذين الوجهين... 284

إشكال على هذا التفسير... 285

تأييد هذا الاشكال بكلام المحقّق في شرح رسالة العلم وتجريد الكلام... 285

وجهان في الجواب عن هذا الاشكال... 286

عدم تلائم بعض كلمات المحقّق في كتبه مع بعض آخر... 287

نقل هذا المعنى عن بعض الأفاضل... 287

استبعاد المصنّف هذا التأويل... 288

إشكال للمصنّف في هذا التأويل... 288

قطعة أخرى من كلام هذا الفاضل واستشهاده بكلام المحقّق في شرح الرسالة وشرح الاشارات 288

تأييد هذا الفاضل كلامه بما نقله عن الحكماء... 290

نقد المصنّف على هذا الكلام... 290

نقد المصنّف على غير هذا الكلام من كلمات هذا الفاضل... 290

إيراد آخر للمصنّف على كلام هذا الفاضل... 291

ايرادات أوردها بعض أفاضل المحقّقين على الكلام المنقول من شرح الرسالة... 292

منها ( : الايراد الأوّل )... 292

جواب أجيب به عن هذا الايراد... 293

قول قيل في بيان المراد من الحضور المنفي في كلام المحقّق... 293

نقد المصنّف على هذا القول... 293

ص: 648

منها ( : الايراد الثاني )... 294

بيان حاصل هذا الايراد... 294

الجواب عن هذا الايراد إيراد للمصنّف على جزء من هذا الايراد... 296

جواب الخفري عن الايراد المذكور... 298

قول بعض الأفاضل في توجيه كلام الخفري... 299

ايرادان للمصنّف على كلام الخفري... 299

الاستشهاد بكلام الشيرازي في شرح حكمة الاشراق... 301

منها ( : الايراد الثالث )... 302

إشكال للمصنّف على هذا الايراد... 302

الجواب عن هذا الايراد... 302

إيراد آخر للمصنّف في هذا الكلام... 303

جواب الخفري عن هذا الايراد... 303

نقد للمصنّف على هذا الجواب... 303

إيراد آخر على قطعة أخرى من كلام الخفري... 304

قول بعض الأفاضل في تفسير كلام الخفري... 305

إيراد المصنّف على هذا القول... 305

كلام في هذا المقام للمحقّق الدواني... 305

نقد المصنّف هذا الكلام وقلعه من اصله... 306

الكلام في نفى الحصوليّين علمه - تعالى - بالجزئيات من حيث انّها جزئيات... 306

توضيح للمصنّف حول العلم الحصولى... 306

نقل كلام الشيخ في الشفا... 306

تفسير المصنّف على قطعة من كلام الشيخ... 307

نقده عليها... 308

نقد آخر منه عليها... 308

كلام الخفري تعقيبا لكلام الشيخ... 308

نقد المصنّف على هذا الكلام... 309

نظرات للمصنّف في أجزاء هذا الكلام... 310

ص: 649

قول قيل في تفسير قطعة من كلام الخفري... 311

ضعف ما أورده بعض الأفاضل على كلام الخفري... 311

تقسيم هذا الفاضل العلم بالأشخاص الجسمانية إلى قسمين... 312

استشهاد هذا القال بكلام الشيخ في التعليقات... 313

نقد المصنّف هذا الكلام... 313

هل القول بكون علمه - تعالى - بالجزئيات كلّيا وعدم علمه بها بوجه جزئي موجب لكفر أم لا 314

أوّل من حكم بكفر هؤلاء هو الغزالى... 314

نقل كلامه من تهافت الفلاسفة... 314

موافقة الخفري إيّاه في هذا التكفير تشمّر جماعة كثيرة من المتأخّرين لدفع التكفير عن الحصوليّين 314

محاولة بعضهم لهذا الدفع... 314

اعتراض المصنّف على هذه المحاولة... 315

الدافعين التكفير عن الحصوليّين جزموا بأنّه لا يلزم على قولهم عدم معلومية بعض الأشياء له - تعالى - 315

محاولة أخرى في ذبّ التكفير عنهم... 316

محاولة اخرى أيضا في ذب التكفير عنهم... 316

استشهاد هذا المحاول بكلام الشيخ في كتبه... 316

إشكال على هذا المبنى والجواب عنه... 316

إشكال آخر والجواب عنه... 317

محاولة رابعة لدفع التكفير عنهم... 318

الاستشهاد بكلام الشيخ... 318

رأي المصنّف في مآل هذه التوجيهات... 329

استشهاد المصنّف بكلام بعض الموجّهين... 319

نقد المصنّف على كلام الدافعين بكونه ناقصا غير صالح للدفاع عنهم... 319

احتجاج المكفّرين على خروج بعض الأشياء عن علمه - تعالى - على القول بمذهب الحصول 320

استشهاد المصنّف بكلام المحقّق الدواني... 320

ص: 650

جواب بعض من متعصبي الفلاسفة عن هذا الاحتجاج... 320

إيراد أورد على هذا الجواب... 321

كلام الخفري في دفع انّ مناط الكلّية والجزئية بنحو من الادراك لا التفاوت في المدرك 322

إيراد أورد على قوله في الاحتمال الأوّل... 325

إيراد آخر أورد على قوله في الاحتمال الثاني... 325

إشكال في هذا المقام والجواب عنه... 325

إشكال آخر والجواب عنه... 325

القول بعدم مدخلية هذا الاحتمال لتصحيح التأويل المذكور... 325

إيراد أورد على هذا القول... 325

إيراد المصنّف على هذا الايراد... 325

تلخيص القول في ضعف كلام المنقول عن الخفري... 325

كلام آخر للخفري لتحقيق المقام... 326

إشكال للمصنّف في هذا الكلام... 326

إشكال آخر له في كلامه... 326

إشكال ثالث له في كلامه... 327

تفسير قيل على كلام الخفري... 328

نقد للمصنّف على هذا الكلام... 328

مبنى كلمات الخفري ومذهبه الّذي أسّس كلماته عليه... 329

إيراد للمصنّف في كلامه... 329

قطعة أخرى من كلام الخفري... 329

إيراد المصنّف على هذا الكلام... 329

قطعة أخرى من كلام الخفري أيضا... 330

استشهاد بكلام بهمنيار... 330

توضيح المصنّف حول كلام بهمنيار... 330

نقد للمصنّف على كلام الخفري... 331

قطعة أخرى أيضا من كلام الخفري... 331

استشهاد الخفري بكلام الشيخ في الاشارات... 331

ص: 651

إيراد للمصنّف على هذا الكلام... 332

انكار بعض الفضلاء دلالة عبارات الاشارات على ما استشهدها به الخفري... 332

نقل كلام الشيخ ليتّضح أنّ الحقّ هل هو كلام الخفري أم كلام هذا الفاضل... 332

إيضاح المصنّف بعض ألفاظ الاشارات... 332

شرح بعض الأفاضل على هذه القطعة من كلام الشيخ... 334

تأييد المصنّف كلام نفسه بعبارات من الشيخ... 334

شرح هذا الفاضل على قطعة أخرى من كلام الشيخ... 335

نقد المصنّف هذا الشرح... 336

قول بعض آخر في شرح غرض الشيخ... 336

رأي المصنّف في غرض الشيخ من هاتين العبارتين... 337

تلخيص القول في تبيين مذهب الحصوليين... 338

مناط الكلية والجزئية هل بمجرد نحو من الادراك دون التفاوت في المدرك أو بالتفاوت في المدرك 338

تحقيق المصنّف حول هذه المسألة... 338

بيان هذه المسألة يتوقّف على بيان معنى التشخّص... 338

ذهب جماعة إلى أنّ التشخّص أمر موجود في الخارج... 338

ذهب جماعة إلى أنّ التشخّص أمر اعتباري نفس أمري... 338

زعم جماعة انّ التشنيع على الحكماء مبنى على زعم الجماعة الأولى القائلين بزيادة التشخص على الماهية في الخارج 339

استشهاد المصنّف بكلام المحقّق الدواني في الحواشي القديمة حول هذا المبحث... 339

استشهاد المصنّف بكلام صدر المحقّقين حول هذا المبحث... 340

حاصل كلام هذين المحقّقين ببيان المصنّف... 341

رأي المصنّف حول هذا الكلام... 341

نقد المصنّف على هذا الكلام... 341

خروج التشخّص هل هو مستلزم للتكفير أم لا؟... 342

رأي المصنّف في عدم زيادة التشخّص على الماهية في الخارج... 342

تلخيص القول في هذا الرأي... 342

الجواب عن هذا الاشكال... 343

ص: 652

على أيّ اعتقاد يجوز التكفير في نظر المصنّف وعلى أيّ اعتقاد لا يجوز... 343

تلخيص القول في عدم جواز تكفير الحصوليّين وان جاز التخطئة والتشنيع... 343

ممّا حقّقناه ظهر بطلان توجيهين ذكرا من قبل الفلاسفة... 344

أوّلهما من المحقّق الطوسي... 344

ردّ المصنّف هذا التوجيه... 344

ثانيهما من صاحب المحاكمات... 344

ردّ المصنّف هذا التوجيه... 344

تلخيص القول في بطلان العلم الحصولى الكلّي والقول بالعلم الاجمالى التفصيلى... 345

الفرقة الرابعة... 345

شبهتهم في ذلك... 345

قيل : هذه الشبهة تعمّ علمه بجميع الممكنات... 345

جوابان عن هذه الشبهة... 346

أوّلهما... 346

إيراد على هذا الجواب... 346

حاصل هذا الايراد... 346

إيراد آخر على هذا الجواب... 346

تلخيص القول في بطلان الجواب الأوّل عن هذه الشبهة... 347

ثانيهما... 347

إشارة المحقّق الطوسي إلى هذا الجواب... 347

صحّة هذا الجواب على رأي المصنّف وبيان حاصله... 347

تفصيل ذكره بعض المشاهير في تعيين علّة وجوب الحوادث... 347

استشهاد هذا القائل بكلام المحقّق في شرح رسالة مسئلة العلم... 347

حاصل كلام المحقّق ببيان المصنّف... 348

استشهاد المصنّف بكلام بهمنيار... 348

توضيح المصنّف كلام بهمنيار... 349

ارجاع المصنّف لتحقيق الحقّ في هذا المقام إلى ما سبق من الكلام... 349

الفصل الثالث

ص: 653

في اثبات حياته - سبحانه -

اتفاق كافّة أهل الأديان وجمهور العقلاء على كونه - تعالى - حيّا... 352

ثبت من الشريعة المقدسة أيضا اطلاق الحيّ عليه... 352

معنى الحياة في الحيوان... 352

تنزيهه - تعالى - عن الحياة بهذا المعنى... 352

اختلف العقلاء في معنى حياته - سبحانه -... 352

رأي جمهور المتكلّمين... 352

رأي الحكماء وبعض المعتزلة... 352

رأي المصنّف بابطال ما ذهب إليه المتكلّمون وصحّة رأي الحكماء... 352

تحقيق مذهب الحكماء بنقل عبارات بهمنيار في التحصيل... 352

عدم زيادة معنى الحياة على ذاته وقول بعض المشاهير فيه... 353

مسئلة عينية الصفات والذات... 353

المذاهب المعروفة في تصحيح عينية الصفات ثلاثة... 353

المذهب الأوّل ما أشار إليه هذا القائل وهو مختار المصنّف... 353

الاستشهاد بكلام الشيخ في التعليقات... 354

تقسيم صفاته - تعالى - إلى ثلاثة أقسام... 354

الاستشهاد بكلام المعلّم الثاني... 355

اتّصافه - تعالى - بتلك الصفات لا يوجب تكثّرا وتركّبا فيه... 356

بما ان الواحد لا يناسب الكثير فكيف يتّصف الواحد من جميع الجهات بهذه الصفات المتغايرة

... 356

الجواب عن هذا الاشكال... 358

تلخيص القول في أنّ صفاته ليس لها مبدأ زائد في ذاته... 358

على هذا المذهب يصدق هذا الصفات على ذاته بأن يقال ان ذاته علم وقدرة وإرادة... 359

صفاته - تعالى - يطلق على ثلاثة معان... 359

عدم ملائمة هذا المعنى مع مبانى اللغويّين وعدم مبالاتنا بذلك!... 360

ذكر ما أورد في هذا المقام وبيان اندفاعه... 360

بما ذكرنا ظهر فساد ما ذهب إليه بعض العرفاء... 361

ص: 654

المذهب الثاني... 361

تقرير هذا المذهب... 361

الفرق بين هذا المذهب والمذهب الأوّل... 361

عدم ملائمة هذا المعنى أيضا مع مبانى اللغويّين... 362

ارجاع القول بالنيابة إلى القول بالفردية... 362

بيان المراد من القول بالنيابة ، وردّ المصنّف هذا البيان... 362

المذهب الثالث... 363

تقرير هذا المذهب... 363

صفات الأشياء على قسمين... 363

هذا المذهب باطل في رأي المصنّف ، وتدلّ على فساده وجوه... 363

الوجه الأوّل... 363

الوجه الثاني... 363

الوجه الثالث... 363

الوجه الرابع... 364

تتميم

ذهب جماعة إلى القول بكون صفاته - تعالى - اعتبارات يحدثها عقولنا عند مقايسة ذاته إلى الغير 364

الاستشهاد على صحّة هذا المذهب بقول من سيّدنا أمير المؤمنين - ع -... 365

الباعث في ذهابهم إلى هذا القول... 365

استشهادهم بما قرّروه عن سيّدنا الباقر - ع -... 365

عدم جعل المصنّف هذا المذهب من المذاهب المعروفة لتصحيح عينية الذات والصفات... 365

بطلان هذا المذهب على رأي المصنّف ، ومخالفته لشرائع الأنبياء - ع -... 365

تفسير المصنّف على ما مضى من كلام سيّدنا أمير المؤمنين واستشهادهم بآخر خطبته - ع - 366

تفسير المصنّف على ما مضى من كلام سيّدنا الباقر - ع -... 366

تفسير بعض المشاهير على هذا الحديث... 366

ص: 655

قول قيل في تفسير هذا الحديث... 366

نقد المصنّف على هذا القول... 367

نقد آخر للمصنّف على هذا القول... 367

نقد ثالث للمصنّف على هذا القول... 368

محمل صحيح لحمل كلام القائلين بنفي الصفات عنه - تعالى - عليه... 368

نقل كلام المحقّق عن شرح رسالة العلم... 368

قول قيل في بيان مراد المحقّق من كلامه هذا... 368

إيراد أورد على كلام المحقّق وبيان وجه دفعه... 369

بيان حاصل ما ذكره هذا القائل... 370

رجوع هذا القول إلى ما ذكرناه... 370

ما ذكره الدواني تعقيبا لكلام الامام الباقر - ع -... 370

عود إلى ما مضى من أبحاث الحياة... 370

عينية الحياة مع الذات في الواجب - تعالى -... 370

مغايرة الحياة مع الذات في الحيوان ، واستدلال الشيخ على ذلك في قانون... 371

إيرادان على جزء من كلام الشيخ... 371

إيراد آخر على كلامه... 371

إشكال على هذا الايراد... 371

تمامية إيرادين المذكورين ، وعدم تمامية ما أورده غياث الحكماء لدفعهما... 371

الفصل الرابع

في اثبات كونه - تعالى - مريدا

اتّفاق أهل الملّة وأرباب الحكمة على كونه - تعالى - مريدا... 374

استدلال الأشاعرة على كونه - تعالى - مريدا... 374

بيان حاصل هذا الاستدلال... 374

إيراد على هذا الاستدلال... 374

دفع هذا الايراد... 374

دفع هذا الدفع... 375

دفع آخر والجواب عنه... 375

ص: 656

تلخيص القول في بطلان مذهب الأشاعرة واستدلالهم... 375

استدلال المصنّف على كونه مريدا ، وهو بالنظر إلى كون الإرادة صفة كمال... 375

ماهية الإرادة فينا... 375

ماهية الإرادة في الواجب... 375

قول الأشاعرة في هذه المسألة... 375

قول الجبائية في هذه المسألة... 376

قول الكرامية في هذه المسألة... 376

قول بعضهم في هذه المسألة... 376

قول الكعبي في هذه المسألة... 376

قول المحقّق الطوسي في هذه المسألة... 376

الدلائل على بطلان مذهب الأشاعرة والجبائية والكرامية... 376

الدليل الأوّل... 376

الدليل الثاني... 376

قول بعض تابعي الأشعري واحتمالان فيه... 377

سقوط هذين الاحتمالين في رأي المصنّف... 377

أمّا أوّلا... 377

أمّا ثانيا... 377

الكلام في المذهبين الآخرين... 378

مذهب المحقّق الطوسي... 378

دفع ما أورد على هذا المذهب... 378

ردّ على هذا الدفع... 378

إشكال والجواب عنه... 379

الجواب عن هذا الجواب... 379

خلاصة هذا الجواب... 380

ردّ على هذا الجواب... 380

بطلان هذا الجواب عند المصنّف... 380

عدم جريان تأويل المذكور في إرادة الممكنات والاستشهاد بكلام المحقّق الطوسي... 381

ص: 657

تلخيص القول في عدم تمامية هذا الاستدلال على كون ارادته - سبحانه - عين علمه بالأصلح 381

قول قيل في توجيه كلام المحقّق الطوسي... 381

استدلال المحقّق على كون العلم هو المخصّص... 382

عدم ورود ما أورد على هذا الاستدلال... 382

تغاير العلم والإرادة على مذهب المصنّف... 383

إشكال في ما استدلّ به هذا القائل لبيان اتحادهما... 383

إشكال آخر في كلامه... 384

ضعف ما نسب إلى الطوسي ورؤساء المعتزلة والحكماء... 384

استشهاد المصنّف بكلام من سيّدنا أبي الحسن الرضا - ع -... 385

ورود هذا الاعتراض في صورة كون إرادته نفس العلم بالأصلح... 385

عدم ملائمة ما نسب إلى الحكماء مع المحكي عنهم... 386

استشهاد المصنّف بكلام الشيخ... 386

تلخيص القول في أنّ الداعي للايجاد هو العلم بالأصلح... 386

إشكال على ما ذهبنا إليه... 386

الجواب عن هذا الاشكال... 387

إشكال آخر على هذا المبنى... 387

الجواب عن هذا الاشكال والاستشهاد بكلام الشيخ في التعليقات... 388

شرح على كلامهم : لو لا عشق العالي لانطمس السافل... 389

إشكال والجواب عنه... 389

إشكال آخر... 389

الجواب عنه... 390

بطلان هذا الجواب... 390

جواب آخر عن هذا الاشكال... 390

إشكال آخر والجواب عنه... 390

إشكال على خلوّ أفعاله - تعالى - عن الغاية... 391

الجواب عنه... 391

جميع ما ذكر هنا انّما هو مبنيّ على قواعد الحكمة ، لا على ما اعتقدناه... 391

ص: 658

الجواب عن الشبهة المذكورة على المعنى الثالث... 391

إشكال آخر والجواب عنه... 392

خلاصة كلام المحقّق عن بيان بعض المشاهير وحكاية ما جرى بين الغزالي والخيّام... 393

توضيح حول كلام الخيّام... 393

إشكال والجواب عنه... 394

تلخيص القول في ما اشتركت وما افترقت فيه مذاهب المحقّق والمعتزلة والحكماء... 394

تتميم

الظاهر من أخبارنا كون إرادة اللّه حادثة... 395

الاستشهاد على هذا الكلام بما رواه عاصم به حميد عن الصادق - ع - ، وبكريمة قرآنية

... 395

بيان وجه الاستدلال بهذه الكريمة... 395

بطلان هذا الظهور ، وبيان المراد من الإرادة في هذه الاخبار... 396

إشكال والجواب عنه... 396

الفصل الخامس

في سمعه وبصره

كون اللّه سميعا بصيرا هو من ضروريّات دين نبيّنا - ص -... 398

انعقاد الاجماع على كونه سميعا بصيرا ، وهذا من ضروريات الكتاب أيضا... 398

الخلاف في معنى المراد من السمع والبصر... 398

رأي الطوسي في هذه المسألة... 398

رأي الشيخ الأشعري في هذه المسألة... 398

رأي الفلاسفة النافين لعلمه على الوجه الجزئي في هذه المسألة... 398

رأي المتكلّمين في هذه المسألة... 399

احتجاج القائلين بكون السمع والبصر نفس العلم الحضوري... 399

عدم اطلاق الشامّ والذائق عليه - تعالى - مع كونه مدركا لهما... 399

استشهاد المصنّف بكلام المحقّق في شرح رسالة العلم... 400

ص: 659

قيل : وإلى هذا المذهب أشار في التجريد أيضا... 400

إشكال للمصنّف في كلام القوشجى... 400

شرح المصنّف عبارة المحقّق... 400

استشهاده بكلام سيّد المحقّقين... 401

قول بعض المشاهير تعقيبا لكلام السيّد... 401

توضيح المصنّف حول هذا الكلام... 401

إشكال والجواب عنه... 402

القول بكون السمع والبصر نفس العلم بالمسموعات والمبصرات... 403

اشارة المصنّف إلى فساد هذا المذهب... 403

احتجاج القائلين بكونهما صفتين زائدتين على العلم... 403

جواب بعض المشاهير عن هذا الاحتجاج... 403

جواب بعض الأفاضل عن هذا الاحتجاج... 404

توجيه هذا الجواب بوجهين... 404

الوجه الأوّل... 404

إيراد على هذا الوجه... 404

إشكال والجواب عنه... 404

الوجه الثاني... 404

قول قيل في بيان الفرق بين الوجهين... 405

الظاهر عدم الفرق بين التقريرين... 405

تبيين المصنّف غرض هذا المستدلّ... 405

نقد للمصنّف على هذا الجواب... 406

جواب المصنّف عن الاستدلال المذكور... 407

ذهب جماعة إلى أنّ اثبات الرؤية بمعناها الخاصّ للواجب ليس نقصا له - تعالى -... 407

السرّ في اطلاق البصير والسميع عليه دون الشامّ والذائق... 408

اشارة المحقّق الدواني إلى هذا المعنى... 408

إيراد بعض المشاهير على قول الدواني... 409

إيراد أورد على هذا الايراد... 409

ص: 660

قول بعض المحقّقين في ماهية السميع والبصير... 410

إشكال والجواب عنه... 410

مذهب الامامية بأسرهم كون السمع والبصر راجعين إلى العلم... 411

قيل : مذهب الامامية ومنهم الطوسي هو مذهب المعتزلة... 411

الاستشهاد لهذا القول بكلام بعض المشاهير واستشهاده بكلام المحقّق في التجريد... 411

رأي المصنّف حول هذه العبارة من التجريد... 412

يمكن اثبات السمع والبصر بالعقل وإن أرجعا إلى العلم... 412

استدلال على اثبات السمع والبصر الزائدتين على العلم... 413

إيراد على هذا الاستدلال... 413

إيراد آخر عليه... 414

اتّجاه هذا الايراد للعلم الحضوري على رأي المصنّف... 414

نقد على الايراد المذكور... 415

وجهان استدلّ بهما النافون لثبوت السمع والبصر للواجب... 415

الوجه الأوّل... 415

جواب القائلين بالزيادة عن هذا الوجه... 415

عدم ارتضاء المصنّف هذا الوجه ، وإشارة منه إلى دفعه... 415

جواب آخر أجاب به المصنّف عن هذا الوجه... 415

الوجه الثاني... 415

جواب القائلين بالزيادة عن هذا الوجه... 415

اشارة المصنّف إلى بطلان هذا الجواب ، وارجاعه للجواب عنه إلى ما اختاره فيما سبق 416

الفصل السادس

في كلامه - سبحانه -

قد تواتر عن الأنبياء والشرائع كونه - تعالى - متكلّما... 418

أجمعت الأمّة أيضا على كونه متكلّما ، ولا خلاف بينهم فيه... 418

وقوع الخلاف في معنى كلامه ، وفي قدمه وحدوثه... 418

ص: 661

رأي الحنابلة في ذلك... 418

رأي الكرامية في ذلك... 418

نقل عبارات صاحب المقاصد بتوضيحه... 418

رأي المعتزلة في ذلك... 419

إشكال والجواب عنه... 419

رأي الأشاعرة في ذلك... 420

قول بعض الفضلاء في بيان منشأ الخلاف بين الفرق... 420

قول قيل في بيان رأي الأشاعرة على هذا القول... 420

توضيح للمصنّف حول هذا القول... 420

معانى الكلام الثلاثة... 421

معنى كونه - تعالى - متكلّما على المعنى الأوّل من هذه المعانى... 421

هذا المعنى ثابت للواجب - سبحانه -... 422

تبيين مراد المحقّق من كلامه في التجريد... 422

رجوع إلى نقد المذاهب المذكورة... 423

نقد مذهب الحنابلة ، وكون فساده بديهيا... 423

تأويلات لصرف كلامهم عن ظاهره... 423

تأويل قيل ( التأويل الأوّل )... 423

تأويل آخر قيل ( التأويل الثاني )... 423

تأويل ثالث قيل ( التأويل الثالث )... 423

نقد المصنّف على هذه التأويلات الثلاثة... 423

تأويل رابع قيل ( التأويل الرابع )... 424

تلخيص القول في هذه التأويلات الأربعة... 424

نقد مذهب الكرامية... 424

إيراد المصنّف على هذا المذهب... 424

نقد مذهب المعتزلة... 424

وجوه الاشتراك والافتراق بين رأيي المصنّف والمعتزلة... 425

إيراد المصنّف على المعتزلة... 425

نقد مذهب الأشاعرة... 425

ص: 662

إيراد المصنّف على هذا المذهب... 425

قول بعض المشاهير في نقد كلام الأشاعرة... 425

اشكالات لهذا القائل عليهم... 426

نقد المصنّف كلام هذا القائل... 427

استشهاد المصنّف ببيت لأخطل... 427

ماهية كلام النفسي على رأي الأشاعرة القائلين به... 428

المعتزلة النافون لكلام النفس قالوا : في الخبر ثلاثة أشياء وفي الأمر والنهي شيئان... 429

ارجاع المعتزلة الكلام النفسي إلى العلم في الخبر والإرادة في الأمر والكراهة في النهي... 429

جواب المعتزلة عن دليل الأشاعرة للمغايرة بين الكلام النفسى والعلم... 429

إشكال آخر على كلامهم... 429

جواب المعتزلة عن قول الأشاعرة في تعيينهم معنى التكلّم... 429

إشكال آخر في قطعة أخرى من كلامهم... 430

تلخيص القول في هذه الأجوبة... 430

إشكال آخر أيضا على كلامهم... 430

ايرادان على قولهم : إنّ الكلام القائم بذات الباري لا يجوز أن يكون هو الحسّي... 431

إشكال والجواب عنه... 431

لطيفة استنبطها بعض الفضلاء عن كلام المحقّق : « والنفساني غير معقول »... 431

أدلّة المعتزلة لاثبات ما ذهبوا إليه... 431

منها : ( الدليل الأوّل )... 431

استشهادهم بالمباركات القرآنية... 432

الأجوبة عن هذا الوجه... 433

الجواب الأوّل... 433

الجواب الثاني... 433

إيراد أورده صدر المحقّقين على هذا الدليل... 433

ردّ للمصنّف على هذا الايراد... 434

قول بعض المشاهير لبيان أنّ اللفظ هو المكتوب... 434

ص: 663

تأييد المصنّف قطعة من كلامه... 434

ايرادان للمصنّف في كلامه... 435

اعتراضان لصدر المحقّقين على هذا الجواب... 435

إشكال للمصنّف على اعتراض السيّد السند... 436

إشكال آخر على كلامه... 436

منها : ( الدليل الثاني )... 437

كون هذا الدليل دليلا على حدة لابطال الكلام النفسي... 437

جواب بعض المشاهير عن ثاني وجهي اعتراض السيّد السند... 438

إيراد المصنّف على ما ذكره هذا القائل... 438

تذنيب

اتّفاق الكلّ على اطلاق القرآن على هذا المؤلّف المنتظم من الحروف... 439

اتفاق الكلّ على أنّ اطلاق اسم القرآن وكلام اللّه على هذا المؤلّف لأجل اختصاص له به - تعالى - 439

اختلاف القوم في أنّ هذين الاسمين هل هما اسمان له بشرط قيامه بأوّل لسان اخترعه - تعالى - فيه أو اسمان له من حيث هو من دون اعتبار المحلّ... 439

قيل بالأوّل... 439

وقيل بالثاني... 439

ذهاب المصنّف إلى الثاني ، واستشهاده بكريمة قرآنية... 439

إشكال على مذهب المصنّف ، وهو أنّه إذا كلّنا نسمع كلام اللّه ، فما وجه اختصاص موسى - ع - بكونه كليم اللّه؟ 439

وجوها ذكرها القوم لبيان اختصاص موسى - ع - بكونه كليم اللّه... 440

منها ( : الوجه الأوّل )... 440

إشكال للمصنّف على هذا الوجه... 440

إشكال آخر عن بعض المشاهير... 440

توضيح المصنّف كلام بعض المشاهير... 440

قول بعض المشاهير في بيان معني الكلام المسموع بلا صوت وحرف... 441

رأي المصنّف حول هذا القول... 443

ص: 664

إشكال والجواب عنه عن كلام بعض المشاهير... 444

إيراد أورد على هذا الجواب... 445

إشكال والجواب عنه عن كلام بعض المشاهير أيضا... 445

إشكال آخر والجواب عنه... 445

إيراد يورد على هذا الجواب... 446

تلخيص القول في بطلان هذا الوجه... 446

استدلال بعض العقلاء على كون سماع موسى - ع - بلا صوت وحرف... 446

إشكال المصنّف على هذا الاستدلال... 446

إشكال للمصنّف على جزء من كلام الغزالي... 446

إشكال وجواب بعض المشاهير عنه... 447

تحقيق للمصنّف في هذا المقام يظهر به جلية الحال... 447

حصول العلم للانسان يتصوّر على انحاء ثلاثة... 448

كيفية الوحى على طريقة الحكماء... 448

إشكال آخر للمصنّف على كلام الغزالي... 449

اشكالان للمصنّف أيضا على كلام الغزالي... 449

منها : ( الوجه الثاني )... 450

إيراد على هذا الوجه... 450

إرجاع هذا الوجه إلى الوجه الأوّل وحاصل الوجهين... 450

حمل الجواب الأوّل على معنى آخر... 450

إشكال على هذا الحمل... 450

منها : ( الوجه الثالث )... 451

إيراد أورد على هذا الوجه... 451

إيراد آخر أورد على هذا الوجه... 451

إيراد ثالث أورد على هذا الوجه... 451

الجواب عن الايراد الثالث... 452

الجواب عن الايراد الثاني... 452

جواب آخر عن الايراد الثاني... 452

الجواب الصحيح عن هذا الوجه على رأي المصنف... 452

ص: 665

الجمع في الجواب بين الأجوبة الثلاثة... 452

تلخيص القول في كون القرآن كلام اللّه أو حكاية كلام اللّه... 453

قول بعض المشاهير في اعتبارات الكلام... 454

بيان منشأ مختار الشهرستاني في تصحيح كلام الشيخ الأشعري... 454

رأي المصنّف حول مختار الشهرستاني... 455

إشكال على هذا المبنى... 455

الجواب عن هذا الاشكال... 456

الردّ الأوّل على هذا الجواب... 456

الردّ الثاني على هذا الجواب... 456

منها : ( الدليل الثالث )... 458

دلالة هذا الدليل على بطلان الكلام النفسي أيضا... 458

قول بعض المشاهير من جانب الأشاعرة... 458

حاصل ما ذكره هذا القائل... 459

منها : ( الدليل الرابع )... 460

جواب عبد اللّه بن سعيد الأشعري عن هذا الدليل... 460

الجواب عن هذا الجواب... 460

الجواب عن هذا الجواب والجواب عنه... 460

قول بعض المشاهير تبيينا لكلام عبد اللّه بن سعيد توجيه طويل لكلام كلّ من الأشاعرة والمعتزلة 461

في هذا التوجيه تمحّل... 463

بيان حاصل هذا الكلام... 464

نقد المصنّف على هذا الكلام... 464

جواب آخر عن الدليل الرابع... 464

الجواب عن هذا الجواب... 464

قول قيل في ترديد الجمهور في المعنى المراد من هذا الجواب... 464

قول بعض المشاهير في تبيين هذا الجواب حاصل هذا القول ببيان المصنّف... 465

إيراد أورد على هذا القول... 465

ص: 666

الجواب عن هذا الايراد... 465

إرجاع المصنّف تحقيق الحقّ في هذا المقام إلى علم الاصول ، وتلخيص قوله فيه... 465

تلخيص القول في عدم تمامية هذا الدليل على رأي المصنّف... 465

منها : ( الدليل الخامس )... 465

منها : ( الدليل السادس )... 466

منها : ( الدليل السابع )... 466

هذا الوجه الزامي على الأشاعرة حيث لا يقولون بالحسن والقبح العقليّين... 466

الجواب عن هذه الأدلّة الثلاثة... 466

الجواب عن الدليل الخامس... 466

عدم صلاحية هذه الأدلّة الثلاثة لابطال الكلام النفسي... 466

قول بعض المشاهير حول هذه الأدلّة الثلاثة ورأي المصنّف بحقّيّته... 466

تحقيق حول ما اورده صاحب المواقف في تحقيق كلام اللّه النفسي... 467

حاصل ما أورده صاحب المواقف... 467

قول بعض المشاهير توضيحا لكلام صاحب المواقف... 468

بطلان ما أورده صاحب المواقف بطوله عند المصنّف... 468

أدلّة بطلان ما فهمه اصحاب الأشعري من كلامه وما أورده صاحب المواقف... 468

أمّا بطلان الأوّل... 468

استشهاد المصنّف بكلام بعض المشاهير... 468

إيراد آخر عليه... 469

استشهاد المصنّف بكلام المحقّق في شرح رسالة العلم... 469

توضيح للمصنّف حول هذا الكلام... 469

إشكال مقدّر أورده بعض المشاهير... 469

جواب هذا القائل عنه... 470

رأي المصنّف حول هذا الجواب... 470

رأي المصنّف حول ما ذكره هذا القائل في سؤاله المقدّر... 471

جواب بعض من المفاسد الّتي أشار إليها صاحب المواقف... 471

إيراد بعض المشاهير على هذا الجواب... 472

ص: 667

حاصل هذا الايراد... 472

إشكال والجواب عنه... 473

أمّا بطلان الثاني... 473

جواب بعض المشاهير عن هذا الجواب... 474

انّ كلام اللّه بمعنى التكلّم على ستّة أقسام... 474

حاصل هذا الجواب... 474

رأي المصنّف ببطلان هذا الجواب... 475

إيراد للمحقّق الدواني على قول صاحب المواقف... 475

تقرير هذا الايراد بوجهين... 475

إشكال والجواب عنه... 475

جواب بعض المشاهير عن إيراد المحقّق الدواني... 476

إيراد للمصنّف على هذا الجواب... 476

إيراد آخر للمصنّف على هذا الجواب... 476

إيراد ثالث للمصنّف على هذا الجواب... 476

جزء آخر من جواب هذا القائل... 476

إشكال أورد على الأشاعرة وجوابهم عنه... 477

إشكال آخر في كلام هذا القائل... 478

جزء آخر من كلام المحقّق الدوانى ردّا على صاحب المواقف... 478

إشكال أورده الدواني على نفسه... 479

جواب للمحقّق الدواني عن هذا الاشكال... 479

جواب ثان للمحقّق الدوانى عن هذا الاشكال... 479

اعتراضات على الكلام المنقول عن المحقّق الدواني... 480

منها : ( الاعتراض الأوّل )... 480

منها : ( الاعتراض الثاني )... 480

منها : ( الاعتراض الثالث )... 481

إشكال والجواب عنه... 481

منها : ( الاعتراض الرابع )... 482

منها : ( الاعتراض الخامس )... 482

ص: 668

نقض أورده عليه بعض الأفاضل... 482

إشكال آخر عليه... 482

منها : ( الاعتراض السادس )... 483

منها : ( الاعتراض السابع )... 483

منها : ( الاعتراض الثامن )... 483

منها : ( الاعتراض التاسع )... 484

قول العلاّمة النيسابوري في تفسيره... 484

اعتراضان للمصنّف على قول النيسابوري... 484

حكم بعض المشاهير باتّحاد مرجع هذه التحقيقات الأربعة... 485

إشكال مقدّر وجواب هذا القائل عنه... 486

حاصل كلام هذا القائل ببيان المصنف... 487

نقد المصنّف على هذا الكلام... 487

الفصل السابع

في صدقه - سبحانه -

اتّفاق أهل الأديان على أنّ الكذب في كلامه محال... 490

قد استدلّ المعتزلة على ذلك بوجهين والأشاعرة بوجوه... 490

الوجهان اللّذان استدلّ بهما المعتزلة... 490

الوجه الأوّل... 490

إشكال على هذا الوجه لمنافاته مع ما مضى في دفع شبهة الثنوية... 491

الجواب عن هذا الاشكال... 491

رأي المصنّف حول هذا الجواب... 491

تقرير آخر لهذا الاشكال... 491

جواب بعض الأفاضل عن هذا الاشكال... 492

رأي المصنّف حول هذا الجواب... 492

قول بعض الفضلاء في هذا المقام ، وهو قريب من هذا الجواب... 492

جواب المصنّف عن هذا الاشكال... 492

تلخيص القول في صحّة هذا الدليل على رأي المصنّف... 493

ص: 669

الوجه الثاني... 493

قول بعض الأفاضل ردّا على هذا الوجه... 493

نقد المصنّف على هذا القول... 493

الوجوه الّتي استدلّ بها الأشاعرة... 493

منها : ( الوجه الأوّل )... 493

وجه آخر أتى به المصنّف في ذيل هذا الوجه... 493

دلالة العقل أيضا على استحالة صدور الكذب منه - تعالى - ، وعدم تعدية هذا الوجه إلى الدور 494

قول بعض بدلالة هذا الموجه على صدق كلامه النفسى لا اللفظي... 494

ادّعاء بعض الأعلام استلزام كذب كلام اللفظي لكذب النفسي ، ردّا على هذا القائل 494

الاعتراض على هذا المدّعى... 494

رأي المصنّف حول هذا الاعتراض... 495

قول بعض دفاعا عن مبنى الأشاعرة... 495

إشكال المصنّف على هذا القول... 495

بيان الفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل للمعتزلة... 496

نقد المصنّف على هذا الفارق... 496

إشكال والجواب عنه... 497

حاصل ما قاله صاحب التحصيل... 497

منها : ( الوجه الثاني )... 498

النقض بهذا الوجه بأنّه دالّ على صدق الكلام النفسي ، لا اللفظي... 498

الجواب عن هذا النقض... 498

ردّ بعضهم على هذا الجواب... 499

قول بعض المشاهير بجريان الجواب المذكور في الوجه الأوّل في هذا الوجه أيضا ، وتفصيل إجرائه فيه 499

نقد المصنّف هذا القول... 499

عدم دلالة هذا الوجه على بطلان كذب الكلام اللفظى... 499

إشكال والجواب عنه... 499

ص: 670

إشكال آخر للمصنّف في كلام بعض المشاهير... 500

قيل : لو تمّ هذا الدليل لدلّ على امتناع صدقه - تعالى -!... 501

إشكال على هذا القول... 501

إشكال آخر والجواب عنه... 501

منها : ( الوجه الثالث )... 501

هذا الدليل هو المعتمد عند أصحاب الأشعري... 502

رأي المصنّف حول معقد هذا الدليل... 502

إيراد أورد على هذا الرأي... 502

إيراد آخر على هذا الدليل... 502

تلخيص القول في بطلان هذا الدليل واستشهاد المصنّف بكلام المحقّق في التجريد... 503

الفصل الثامن

في سرمديته وبقائه

البقاء والدوام نفس السرمدية والأزلية والقدم... 506

كلّ ما يدلّ على ثبوت البقاء للواجب - تعالى - وعدم زيادته عليه يدلّ على الثبوت وعدم زيادة غيره أيضا 506

اختيار الاكثر « السرمدية » في مجال البحث ، لأنّ اثبات الأخصّ واثبات عدم زيادته مستلزمان لاثبات الأعمّ 506

برهان أورده المصنّف لثبوت البقاء له - تعالى -... 506

ذهاب الأشاعرة إلى أنّ البقاء صفة زائدة على ذاته - تعالى -... 506

ذهاب الحكماء ومحقّقي المتكلّمين إلى عينيته لذاته - تعالى -... 506

ذهاب الكعبي واتباعه إلى ثبوت البقاء في الممكنات ونفيه عن الواجب... 507

احتجاج الأشاعرة على مذهبهم... 507

نقد للمصنّف على هذا الاحتجاج... 507

احالة المصنّف هذا البحث إلى ما مضى في مبحث عينية الصفات للذات... 507

قول بعض المشاهير مع توضيح للمصنّف... 507

نقد المصنّف هذا القول... 508

ص: 671

نقض أورده المصنّف على ما نقلناه عن الأشاعرة... 508

قول بعض الأشاعرة في حلّ هذا النقض... 508

قول بعض المشاهير في حلّ هذا النقض... 508

حاصل هذا القول... 509

كلام شارح المواقف وردّ المصنّف عليه... 509

دفع آخر للنقض المذكور... 509

إيراد على هذا الدفع... 510

تلخيص القول في بطلان ما ذكره الأشاعرة من النقض والحلّ... 510

دلائل القائلين بالعينية... 510

الدليل الأوّل... 510

إيراد بعض المشاهير على هذا الاستدلال... 510

إشكال والجواب عنه... 510

تبيين المصنّف هذا الجواب... 510

إشكال على هذا الجواب... 510

قول بعض الأفاضل في هذا المقام... 511

الدليل الثاني... 511

اعتراض على هذا الدليل... 511

ردّ على هذا الاعتراض... 512

قيل : على هذا يعود هذا الدليل إلى الدليل الأوّل... 512

ردّ على هذا القول واثبات الفرق بين الدليلين... 512

الدليل الثالث... 512

الدليل الرابع... 512

إشكال والجواب عنه... 512

مدى دلالة كلّ من هذه الأدلّة الأربعة... 512

أمّا الثاني - أعني : استلزام عينية السرمدية لعينية البقاء -... 513

البرهان على هذا المطلب... 513

إيراد على الأوّل... 513

إيراد على الثاني... 513

ص: 672

إشكال والجواب عنه... 513

قول بعض المشاهير في هذا المقام... 514

ردّ المصنّف على هذا القول... 515

ردّ بعض الأفاضل على هذا القول... 515

حجّة الكعبي واتباعه... 515

الجواب عن هذه الحجّة... 515

جواب آخر للمصنّف عن هذه الحجّة... 515

الباب الثاني

في صفاته السلبية

تعريف الصفات السلبية ومناطها... 518

يشتمل هذا الباب على فصول... 518

الفصل الأوّل

في نفي التركيب عنه - سبحانه -

أقسام التركيب والكثرة المنفيّين عنه - سبحانه -... 520

تجرّده عن التركيب يسمّى بالأحدية ، كما أنّ تفرّده عن الشريك في الوجوب يسمّى بالواحدية 520

الفرق بين ما قلنا وبين المفهوم من كلام الشيخ في الاشارات... 520

لمّا كان التركيب المنفي على ثلاثة أقسام ، فهنا ثلاثة أبحاث... 521

البحث الأوّل

في عدم تركيبه من الماهية والوجود

واثبات أنّ كلاّ من وجوده وتعينه عين ذاته

الدليل على الأوّل - وهو المعبّر عنه بالتوحيد -... 521

تقرير آخر لهذا الدليل... 521

دليل آخر على هذا المطلب... 521

هذا المطلب من أجلّ مطالب الحكمة ، ويبتنى عليه فوائد جمّة... 522

اتفاق الكلّ من اساطين الحكمة والكلام والعرفان على هذا المطلب... 522

ص: 673

نقل كلمات أجلاّء القوم تقوية للاعتماد... 522

قول بعض الأفاضل في هذا المضمار... 522

قول شيخ الاشراق في هذا المجال في التلويحات... 523

حاصل كلام الشيخ الإلهي ببيان المصنّف... 523

تمامية هذا البرهان عند المصنّف... 524

أعترض على هذا البرهان بوجهين... 524

أحدهما... 524

دفع هذا الاعتراض... 524

ثانيهما... 524

الجواب عن هذه الاعتراضات... 525

قول بعض أعاظم العرفاء في اثبات المطلوب... 525

هذه الحجّة الّتي أقامها هذا القائل قريبة مما ذكرناه أوّلا... 526

قول الشيخ في الشفا في هذا المقام... 526

بيان المطلوب الثاني في كلام الشيخ في الشفا... 528

هذا البرهان أيضا قريب ممّا ذكرناه أوّلا ، وبيان حاصله... 529

تتميم هذا البرهان من كلام بعض الأفاضل... 529

تلخيص القول في حقّية عينية وجود الواجب لماهيته... 530

إشكال والجواب عنه... 530

معنى عينية وجود الواجب لذاته... 531

الحقيقة والماهية ، ونسبة كلّ منهما إلى الأخرى... 532

تتميم

ممّا مضى يحصل برهان على اثبات الواجب ، وهو أوثق البراهين... 534

طريق آخر لاثبات الواجب ، وهو قريب من هذا الطريق... 534

كون تعيّنه وتشخّصه - تعالى - عين ذاته على ما سلكناه... 535

البحث الثاني

في نفي التركيب الّذي يتصوّر

ص: 674

باعتبار الانقسام إلى الذات والصفات عنه

قد تقدّم بيان معنى عينية الصفات مفصّلا ومشروحا ، فلا نعيده... 536

البراهين الدالّة على نفي زيادة صفاته على ذاته... 536

منها : ( البرهان الأوّل )... 536

منها : ( البرهان الثاني )... 536

منها : ( البرهان الثالث )... 537

تقرير آخر لهذا البرهان... 537

منها : ( البرهان الرابع )... 537

منها : ( البرهان الخامس )... 537

إشكال أورده الأشاعرة القائلين بالزيادة على القائلين بالعينية... 538

البحث الثالث

في نفي التركيب والكثرة قبل الذات عنه

هذا المبحث هو المبحث المعبّر عنه بتوحيده - تعالى -... 538

الأدلّة الدالّة على نفي تركّبه من الأجزاء مطلقا... 539

منها : ( الدليل الأوّل )... 539

منها : ( الدليل الثاني )... 539

منها : ( الدليل الثالث )... 540

منها : ( الدليل الرابع )... 541

استدلال قريب من هذا الاستدلال ذكره بعض الأفاضل... 542

استشهاد هذا الفاضل بكلام بهمنيار في التحصيل... 543

إشكال على هذا المعنى... 542

الجواب عن هذا الاشكال... 543

تأييد المصنّف كلام المعلّم الثاني... 543

استعجاب المصنّف من كلام الدواني تعقيبا على كلام الفارابى... 544

دفع كلام المحقّق الدواني... 544

جواب آخر أجيب به عن كلام المحقّق الدواني... 544

تأييد المصنّف هذا الجواب... 544

ص: 675

دفع بعضهم هذا الجواب... 544

بيان ضعف هذا الدفع... 545

لمّا ثبت أنّ الواجب ليس له أجزاء مقدارية يظهر منه أنّه ليس جسما ولا جسمانيا... 545

براهين آخر لاثبات عدم كون الواجب جسما وجسمانيا... 545

منها : ( البرهان الأوّل )... 545

منها : ( البرهان الثاني )... 546

منها : ( البرهان الثالث )... 546

الوجوه الدالّة على أنّ الواجب ليس له أجزاء عقلية... 547

منها : ( الوجه الأوّل )... 547

منها : ( الوجه الثاني )... 547

منها : ( الوجه الثالث )... 547

برهان على أنّ الواجب ليس من الأجزاء العقلية... 548

برهان آخر على هذا المطلب... 548

الفصل الثاني

في نفي التركيب عنه - سبحانه -

ونفى التركيب عنه هو توحده - تعالى -... 550

ذكر براهين على هذا المطلب الأسنى وهي أتمّ البراهين... 550

منها : ( البرهان الأوّل )... 550

تقرير البرهان من كلام الشيخ الإلهي... 550

توضيح هذا البرهان... 550

تقرير البرهان من كلام بعض المشاهير... 551

اعتراض على هذا الدليل... 551

نقد هذا الاعتراض... 551

منها : ( البرهان الثاني )... 552

منها : ( البرهان الثالث )... 552

الفرق بين هذا الدليل والدليل الّذي قبله... 552

ص: 676

بيان هذا الدليل من كلام بعض المشاهير... 552

اعتراض على هذا الدليل... 553

جوابان عن هذا الاعتراض... 556

منها : ( البرهان الرابع )... 554

الاستشهاد بكلام المعلّم الثاني... 554

وجهان لبطلان كون غير الوجود المحض مقتضيا للوحدة أو التعدّد... 555

اعتراض على هذا الدليل... 555

اعتراض آخر على هذا الدليل... 555

الجواب عن الاعتراض الأوّل... 556

الجواب عن الاعتراض الثاني... 556

إشارة المصنّف إلى الاختلال الواقع في ثاني الاعتراضين... 556

منها : ( البرهان الخامس )... 556

منها : ( البرهان السادس )... 557

إشكال والجواب عنه... 557

قول بعض المشاهير بتوقّف جميع براهين اثبات وحدة الواجب على اتّحاد حقيقة الوجود 557

قول بعض أعاظم العرفاء مؤيّدا لهذا القول... 558

نقد المصنّف هذا القول... 556

عدم ورود شبهة ابن كمونة على هذا البرهان... 558

تقرير هذه الشبهة... 558

قول بعض أعاظم العرفاء دفعا لما يتكذّب بعض أذهان الأكثرين... 559

الاستشهاد بكلام الشيخ الإلهي في التلويحات... 559

منها : ( البرهان السابع )... 560

ورود الشبهة الكمونية على هذا الدليل... 560

دفع الشبهة الكمونية عن هذا الدليل... 560

إشكال والجواب عنه... 560

جواب آخر عن الشبهة المذكورة... 560

هذا الجواب ببيان أوضح... 561

ص: 677

إشكال قوي على ما قاله جماعة في جواب الشبهة المذكورة... 561

إنكار الأكثر هذه المقدّمة وجوابهم عن الشبهة الكمونية... 561

الجواب على انتزاع مفهوم الوجود مع كونه واحدا عن الواجب والممكن... 562

الجواب الأصحّ على رأي المصنّف... 563

منها : ( البرهان الثامن )... 564

منها : ( البرهان التاسع )... 564

اعتراض على هذا البرهان... 564

إشكال والجواب عنه... 565

جواب بعض المشاهير عن هذا الاعتراض... 565

دفع ما فهمه هذا المعترض... 566

قول بعض الأفاضل في بيان التحدّس من الموجودات بالوجود الحقيقي ووحدته... 566

إشكال والجواب عنه... 567

إرجاع المصنّف لبيان انتزاع المعقولات الثانية عن الحقائق المتباينة إلى بعض حواشيه... 567

قول بعض الأفاضل في توجيه الدليل المذكور... 567

إشكال والجواب عنه... 568

نقد المصنّف هذا التوجيه... 568

منها : ( البرهان العاشر )... 569

اعتراضات على هذا الدليل... 570

الاعتراض الأوّل... 570

جوابان عن هذا الاعتراض... 570

تأييد المصنّف الجواب الثاني... 571

الاعتراض الثاني... 571

جوابان أيضا عن هذا الاعتراض... 571

الاعتراض الثالث... 571

جواب بعض المشاهير عن هذا الاعتراض... 572

حاصل هذا الجواب ببيان المصنّف... 572

السرّ في عدم ورود الايراد المذكور في الصورة الأولى ووروده

ص: 678

في الصورة الثانية... 572

قول قيل دفاعا عن المعترض بأنّه لم يشتبه عنده اللزوم بالتلازم... 574

توجيه الشبهة الكمونية على هذا الدليل أيضا... 575

دفع هذه الشبهة عن هذا الدليل... 575

دفع آخر لهذه الشبهة... 575

وجه بطلان ما ذكره المعترض أخيرا... 575

نقد المصنّف هذا الدفع... 576

منها : ( البرهان الواحد بعد العشر )... 576

مقدّمتين يتوقّف هذا البرهان عليهما... 576

منها : ( البرهان الثاني عشر )... 577

هذا البرهان ذكره الشيخ في الشفا... 577

برهان آخر قريب من هذا البرهان ذكره الشيخ أيضا في الشفا... 578

منها : ( البرهان الثالث عشر )... 578

ما ذكره الشيخ أيضا في الشفا... 578

تقرير هذا البرهان ببيان بهمنيار في التحصيل... 579

برهان آخر قريب من هذا البرهان ذكره الشيخ في الشفا أيضا... 579

منها : ( البرهان الرابع عشر )... 580

ما ذكره أيضا الشيخ في الشفا... 580

تقرير هذا البرهان ببيان بهمنيار في التحصيل... 580

منها : ( البرهان الخامس عشر )... 581

ما ذكره الشيخ أيضا في الشفا... 581

تقرير هذا الدليل ببيان بهمنيار... 581

منها : ( البرهان السادس عشر )... 581

منها : ( البرهان السابع عشر )... 582

دليل ذكره بعض أعاظم العرفاء... 582

منها : ( البرهان الثامن عشر )... 583

دليل ذكره بعض أعاظم العرفاء أيضا ، وهذا البرهان يتوقّف على مقدّمة... 583

منها : ( البرهان التاسع عشر )... 584

ص: 679

منها : ( البرهان العشرين )... 584

منها : ( البرهان الواحد والعشرين )... 585

دليل أورده بعض الأعاظم ، وهو يتوقّف على مقدّمة... 585

هذا البرهان قريب من البرهان المشهور ، ولكنّه قرّر بوجه لا ترد عليه الشبهة الكمونية 585

تقرير البرهان ببيان بعض المحقّقين... 585

منها : ( البرهان الثاني والعشرون )... 586

وهذا البرهان هو البرهان المشتهر بالتمانع... 586

اعتراض المحقّق الدواني على هذا البرهان... 587

إشكال اورده الدواني وأجاب عنه... 587

تقرير الدواني هذا البرهان على وجه لا يرد عليه هذه الشبهة... 587

تقرير هذا البرهان بوجهين آخرين... 588

الوجه الأوّل... 588

الوجه الثاني... 588

بيان برهان التمانع بكريمة قرآنية... 588

قول بعض العرفاء بكون هذا البرهان أقوى البراهين وأتمّها... 588

تحقيق

في نفي الشركة عنه في أيّ مفهوم كان

الوحدة ، أقسامها وأحكامها... 589

تذنيب

مسلكان للقوم في اثبات التوحيد... 590

أحدهما : اثبات وحدة إله من دون التقييد بالعالم... 590

ثانيهما : اثبات وحدة إله العالم... 590

جميع ما مضى من البراهين يدلّ على اثبات وحدة الواجب ، لا وحدة إله العالم... 590

اثبات وحدة الإله الخالق للعالم... 590

تقرير هذا الاستدلال... 590

ص: 680

الفصل الثالث

في نفى الجوهرية عنه - سبحانه -

عدم كونه - تعالى - جوهرا على قواعد الحكماء... 594

برهان آخر على هذا المطلب... 594

عند المتكلّمين يصحّ اطلاق الجوهر عليه شرعا ويمتنع عقلا... 594

الفصل الرابع

في اثبات عدم كونه محلاّ للحوادث

اتفاق كافة العقلاء على امتناع اتصافه - تعالى - بالحادث... 596

خلاف الكرامية في ذلك ، حيث قالوا بحلول الكلام فيه... 596

أدلّة على عدم محلّيته للحوادث... 596

منها : ( الدليل الأوّل )... 596

اعتراض على هذا الدليل... 596

الجواب عن هذا الاعتراض... 596

منها : ( الدليل الثاني )... 597

إشكال والجواب عنه... 597

تلخيص القول في نفى التحيّز والحلول والاتّحاد عنه... 597

ختام الكتاب... 598

ص: 681

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.