علي و مناوئوه

اشارة

‏سرشناسه: جعفر، نوري - ۱۹۱۴
‏عنوان و نام پديدآور: علي و مناوئوه نوري جعفر؛ قدم له عبدالهادي مسعود؛ راجعه و علق عليه مرتضي الرضوي
‏مشخصات نشر: قاهره مطبوعات النجاح ۱۳۹۶ق = ۱۹۷۶م = ۱۳۵۵.
‏مشخصات ظاهري: ص ۲۲۰
‏فروست: (مطبوعات النجاح بالقاهره‏۱۱)
‏وضعيت فهرست نويسي: فهرستنويسي قبلي
‏يادداشت: كتابنامه ص []۲۱۸
‏موضوع: علي‏بن ابي‏طالب ع، امام اول ۲۳ قبل از هجرت - ق‏۴۰
‏شناسه افزوده: مسعود، عبدالهادي
‏شناسه افزوده: رضوي مرتضي - ۱۳۲۶
‏رده بندي كنگره: BP۳۷/۳۵/ج‏۷ع‏۸
‏رده بندي ديويي: ۲۹۷/۹۵۱
‏شماره كتابشناسي ملي: م‏۷۰-۵۰۳۱

كلمة مجلة المسلم و جريدة المساء القاهرية

حول كتاب: «علي ومنائوه»
في رحلتي الي القاهرة عام 1394 ه موافق 1974 م لنشر كتابي «مع رجال الفكر في القاهرة» كنت قد راجعت كتاب: «علي ومناوئوه» للدكتور نوري جعفر وعلقت عليه في الهامش بعض التعاليق التي كان يجب التنبيه عليها والاشارة اليها وكنت اهملتها في الطبعة الثانية لضيق الوقت آنذاك وهذه الطبعة هي الطبعة الثالثة كما تجدها كاملة والحمد لله.
وقد نشرت مجلة المسلم الغراء في عددها الرابع في السنة الخامسة والعشرين الصادر في ذي القعدة عام 1394 ه الكلمة التالية:
علي ومناوئوه:
اصدر السيد الرضوي في سلسلة مطبوعات النجاح بالقاهرة كتاب: «علي ومناوئوه» للدكتور نوري جعفر بتقديم الاستاذ عبدالهادي مسعود وبتعليق السيد مرتضي الرضوي، وهو حديث مفصل عن الفتنة الكبري بين علي ومعاوية بتحقيق حديث في نحو مائتي صفحة من القطع الكبير، وطباعة فيها عناية واضحة، واهتمام بالغ.
وقد نشرة جريدة المساء القاهرية في عددها الصادر يوم السبت 28 ديسمبر عام 1974 م الكلمة التالية:
مكتبة النجاح في طهران اصدرت بحثا تاريخيا عن الامام علي رضي الله تعالي عنه في تعليق السيد مرتضي الرضوي وتقديم العالم الاسلامي المصري عبدالهادي مسعود.
الكتاب في مائتي صفحة ويتناول تاريخ صدور الاسلام، وما كان بين رجال الشوري واهل الحل والعقد بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم ويعرض لنا المؤلف خاصة ما دار من حروب بين علي ومعاوية وبين اهل العراق واهل الشام وما كان من مقتل علي وتولي معاوية للخلافة من بعده فانتقل نظام الحكم في الاسلام من الشوري والاجماع الي حكم السيف والقوة، والاستبداد.
مرتضي الحاج سيد محمد الرضوي
[صفحه 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كان من واجبي ان اعترف علي نفسي بالتقصير او القصور، اذ كتبت ترجمات عديدة عن شخصيات اوربية او اجنبية ولم اتمكن من الكتابة عن عظماء التاريخ الاسلامي، وعلي رأس هؤلاء الامام علي عليه السلام.
ولم يكن بد كما يحدث غالبا ان القي بظلال هذا العتاب علي الظروف والملابسات التي مرت ولاتزال تمر بي لأدفع عن نفسي هذا القصور والتقصير امام جمهور احبه كل الحب بل احبه الي حد العشق وهو جمهور القارئين في الاقطار العربية والاسلامية الشقيقية.
وتقدم الي الاستاذ مرتضي الرضوي لاكتب مقدمة لكتاب الدكتور نوري جعفر: «علي ومناوئوه»، وكان ذلك في منتصف شهر شعبان 1394 ه الموافق اواخر الشهر الثامن اغسطس 1974 م، فقلت مالنا ومناوئيه ولست منهم ولاشك ايها القاريء الكريم، كما وانني لست منهم علي التحقيق، ولقد اقبل الموسم القضائي ايها الصديق المرتضي ولنا فيه معارك علي ساحة مجلس الدولة، مما قد يشغلنا عن كثير مما يتوجب بذل الجهد والوقت فيه من قضايا الفكر والعقيدة والايمان.
كنت اتوق الي الكتابة عن الامام عاي بن ابي طالب منذ امد بعيد وهو اول فتي في الاسلام وفارس فرسانه، وكنت ولازلت اتوق لان تكون الكتابة عنه تمهيدا لي وتمهيدا للقراء ان اكتب عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم.
[صفحه 6]
والكتابة عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب كتابة عن الايمان وكتابة عن الحكم الاسلامي في ظل الايمان، وكتابة عن الاسلامية الصحيحة، ودفاع عن المسلمين علي مر العصور، من حضر منهم في عهد علي عليه السلام، ومن حضر بعده او قبله، منذ نزلت الرسالة علي رسول الله محمد بن عبدالله صلي الله عليه وآله وسلم.
كان عليّ ان انتظر سانح فرصة.. لأسجل بعض ما خطر في ذهني عن هذا الرجل العظيم.
وكان علي بن ابي طالب عليه السلام كما ورد في «الاصابة»: قد اشتهر بالفروسية والشجاعة والاقدام فهل كانت شهرته قاصرة علي هذا المجال فحسب؟!
لقد اجمع الرواة وتري ذلك متواترا طبقة عن طبقة أن علي بن ابي طالب هو اول فتي دخل في الاسلام، وسارت الركبان بهذا الحديث يسوقونه علي انه ميزة لعلي، بمعني انه لم يعش الجاهلية، وانما يكاد يكون مسلما منذ ادرك فهل كانت هذه هي ميزته فحست؟!
كان علي ابن عم الرسول الاعظم ومتبناه.
وكان علي اخا لرسول الله والرسول اخوه كما يروي الرواة الثقات نقلا عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم نفسه، حيثما كان يتحدث عن ابن عمه علي.
وكان بمنزلة هارون من موسي، غير انه لم يكن ثمة نبي بعد محمد بن عبدالله صلي الله عليه وآله وسلم.
وكان هو وزير النبي وخليفته من بعده [1].
[صفحه 7]
وتلك نصوص قاطعة عن الرسول، قاطعة الدلالة علي امامة علي، فهل تكفي هذه الاشارات اللامحة للكشف عن احقيته في الامامة عليه الاسلام؟!
قال ابن مسعود في شأن الامام: «كنا نتحدث عن ان افضل اهل المدينة هو علي».
بل ان عمر نفسه كان يتعوذ من معضلة ليس لها ابوالحسن، وكان يقول: «لولا علي لهلك عمر».
وهناك جوانب اخري عديدة يجب ان نجليها لانفسنا وللعالم كله علي السواء …
لقد نقض بعض الذين بايعوا عليا، ونقضوا ما عقدوا عليه العزم وكانت الحروب بين المسلمين ان انتهي صراعها بانتصار الاقوياء، ولم تنته المعارك بانتصار الحق، اذ لو انتصر الحق لكان علي عليه السلام هو الحقيقة المجسدة، وكان نصره فوق كيد الكائدين، وقوة المال والسلاح، وسطوة البغي والغرض، والدهاء والاغراء.
ولأمر ما اراد الله ان تدخل دولة المسلمين في محنة كبري، ولما تستقر اصول الاسلام في نفوس الناس، ولاسرت روحه في دمائهم علي الوجه الذي كنا نظنه في اول دراسة لنا لقضية صدر الاسلام، ومن المعلوم الذي يجب ان يكون بديهة في نفوس الباحثين ان نعلم ان الاسلام هو صحوة المستقبل للعالم كله، ولم يكن كما كنا نتخيل احيانا دعوة الزمن الذي ظهر فيه وحده … لان اطاره المكاني هو العالم كله، والاطار الذي يتحرك من خلاله من حيث الازمنة والعصور هو كل الازمنة وكل العصور، منذ ظهر الرسول صلوات الله عليه حتي يرث الله الارض ومن عليها.
ولقد علمنا من الصراع بين علي عليه السلام وبين معاوية ان السلطة قد انتقلت الي معاوية بن ابي سفيان بن حرب … وامه هند آكلة الاكباد.. التي نهشت جسد عم الرسول حمزة عليه السلام، وفلقت رأسه.. واكلت كبده.. شفاء لحقدها علي الرسالة واهلها حينذاك واستبد معاوية بالناس، واحال
[صفحه 8]
الخلافة ملكا عضوضا، واستحصل من الناس جبرا وقسرا علي عهد لابنه «يزيد».. ونحن نعلم من هو «يزيد» وما كان عجبا ان يكون هو «يزيد» لانه وارث القسوة والفجر، ومستمد الفساد من شجرة الفساد.. والعرق دساس … ونحن لانجري الابحاث مع الاسف الشديد عن شجرة الرجال، واصول الرجال.
لقد عمل اليهود من خلال كل الجهود علي تدمير علم الانساب لتختلط العائلات ويمكن من خلال هذا الاختلاط ان يندس في وسط كل قطر من اقطار الاسلام طبقة من اليهود يدعون الاسلام ليفسدوا فيه، وكانوا يناصرون كل من يدعو للفتنة.
ولكن بنية الاسلام القوية رغم كل ما مر بها لم تتوقف عن النماء ولم يزعزع عقيدة الاسلام ما مارسه بنو امية من طغيان.
ولقد احاط المفسدون بحكام الدولة الاسلامية ليحولوا بينهم وبين كل اصلاح … محاولين ايقاع الفتنة في دولة المسلمين.
لقد قيل: ان بناء الجماعة تصدع علي عهد علي، ومن قبله كان الثائرون يحاصرون بيت عثمان، فهل قرر هذا او ذاك: مصير الاسلام والقرآن؟!
ان هذا الدين الخالد مر بهذه المحنة وبغيرها من المحن وخرج منها اقوي مما كان من قبلها. ذلك ان بنية العقيدة اقوي من ان تحطمها الرضوض والآلام.
اكلت الحروب بين علي وخصومه عددا كبيرا من المسلمين ولم يكن متوقعا ان يحدث ذلك علي وجه من الوجوه، الا ان اتساع الملك والسلطان كان يقتضي ذلك، وكان يقتضي غيره من الوان الصراع … وكانت هذه المحن في رأيي هي درجة الغليان التي احاطت بالدين الجديد فحفظت الشعب ان ينهار امام الحضارات المجاورة، وامام الفتوحات الوسيعة المدي، بما تحتويه من افكار جديدة، واتجاهات متعددة مختلفة الالوان والاحجام.
[صفحه 9]
ان علينا ان ندرس كل اولئك حين ندرس شخصية هذا البطل العظيم في تاريخ الاسلام علي بن ابي طالب عليه السلام.
وعلينا ان نعلم: ان انفصام عري الوحدة بين المسلمين، وتفرقهم في الآراء والمذاهب والاحزاب؛ كل ينصر رأيه بالقول وبالعمل علي رأي خصمه، وكل يصارع في سبيل عقيدته هذه او تلك بالفكرة حينا وبالسلوك احيانا، وعلينا ان ندرك ان هذا كله وغيره ليس الا دلائل صحة، لا دلائل وهن او هزيمة، وان الصراع دائما يدل علي اليقظة لا علي الموت، ما دام لا يفضي الي انشقاق في صفوف الامة، او مواجهة عدائية بين الطوائف.
وقد اكتمل الدين حينما اكتمل نزول القرآن، ولقد كان الاسلام علي عهد الرسول دعوة وفكرة اكثر منه دولة وسلطانا، واذا كان النبي صلي الله عليه وآله وسلم قد اقام دولة علي اساس من التشريع القرآني، فقد كانت دولة صغيرة الحدود علي اية حال، ولكنها كانت نوية قوية، قابلة دائما علي النمو والازدهار، وبقي ان تكتمل الدولة بعد ذلك فتوسع من آفاقها وتنشر من سلطانها علي هذه الاسس السليمة، كانت نواة في مثل صلابة «الجرانيت» يحمل لواءها نفر من المؤمنين الاتقياء لا يبالون اين يكون الموت، اذ هو عندهم دور من ادوار الحياة، ومرحلة من مراحل الوجود، فهم لا يخشون شيئا ولا احدا ولا دولة من الدول، ولاحكومة من الحكومات، وانما يذيعون نظريتهم في مجال الفكر وفي مجال التطبيق علي السواء، وقد بدأ صفوة المسلمين وعلي رأسهم علي عليه السلام يتوقون الي بناء الدولة الوليدة، علي اساس من النظرية والعقيدة، واختلفت الآراء بين الصفوة وبين عامة من المسلمين، ممن لم تتدخل العقيدة في مسري دمائهم …
كانت الدولة وليدة في المهد، وقد تعرض والوليد لكل ما يتعرض له الوليد من محن تكبر في عينه هو، وان صغرت في عين الزمن، الذي اثبت دائما ان البقاء للاصلح، وان الخلود للايمان.
[صفحه 10]
مرت دولة المسلمين في محنة كبري فآذت المحنة دولتهم، ولم تنل من دينهم، وللنشأة الجديدة ثورات وحركات وصراعات، سنري جوانب منها حين ندرس الامام، وما احاط به، وبالمسلمين من حوادث، واحداث …
وسنري جوانب منها حين نطالع صفحات هذا الكتاب.
عبدالهادي مسعود
القاهرة في
18 شعبان 1314ه
5 سبتمبر 1974 م
[صفحه 11]

مقدمة المولف

خالجتني فكرة البحث في هذا الموضوع منذ زمن بعيد، غير ان امورا كثيرة قد حالت مع الاسف الشديد بيني وبين اخراجها الي حيز الوجود، وعند ما قررت الحكومة العراقية اعفائي عن الخدمة بالشكل المعروف ساورني الم وامتعاض شديدان، فطفت ابحث عن وسائل تعينني علي التعبير عن ذلك الالم وهذا الامتعاض، وما هذه الدراسة في جوهرها الا احد الجوانب الايجابية لذلك التعبير، وقد شجعني علي ذلك عامل اشار اليه ابوجعفر ابن ابي زيد نقيب البصرة قبل زهاء سبعمائة عام ذكره ابن ابي الحديد حين قال: «قلت لابي جعفر النقيب ما سبب حب الناس لعلي.. دعني في الجواب من حديث الشجاعة والعلم والفصاحة؟ … فضحك وقال … ان اكثر الناس موتورون في الدنيا. اما المستحقون فلا ريب في ان اكثرهم محرومون! نحو عالم يري ان لاحظ له في الدنيا، ويري جاهلا غيره مرزوقا وموسعا عليه، وشجاع قد ابلي في الحرب.. وليس له عطاء يكفيه.. ويري غيره وهو جبان مالكا لقطر عظيم.. وعاقل سديد التدبير قد قدر عليه رزقه، وهو يري غيره احمق مائقا تدر عليه الخيرات.
فاذا عرفت هذه المقدمة فمعلوم ان عليا كان مستحقا محروما، بل هو امير المستحقين المحرومين.
ومعلوم ان الذين ينالهم الضيم يتعصب بعضهم لبعض.. وعلي رجل عظيم القدر جليل الخطر كامل الشرف جامع للفضائل.. وهو مع ذلك محروم محدود قد جرعته الدنيا علاقمها.. وعلا عليه من هو دونه.. ثم كان في آخر الامر ان قتل هذا الرجل الجليل في محرابه، وقتل بنوه وسبي حريمه ونساؤه، وتتبع اهله وبنوه بالقتل والطرد والتشريد والسجون، مع فضلهم وزهدهم وعبادتهم وسخائهم وانتفاع الخلق بهم» [5].
[صفحه 12]
طفقت اذن ابحث في هذا الموضوع المعقد الشائك، وقد انار امامي سبيل البحث كبار المؤرخين المسلمين من حيث تدوين الوقائع التاريخية، كما انار سبيلي كذلك من حيث تحليل تلك الحوادث وتفسيرها فريق من الكتاب المصريين المحدثين، فانقسمت هذه الدراسة من حيث وحدة موضوعها الي ثلاثة اقسام:
بحثت في القسم الاول منها: قصة الخلافة بثلاثة فصول، تطرقت في الفصل الاول الي مسألة الوصية، وفي الفصل الثاني الي حديث السقيفة الذي بدأ علي ما اري والرسول مسجي علي فراش الموت، وانتهي بمقتل عثمان، لا بخلافة ابي بكر كما هو معروف، وبحثت في الفصل الثالث خلافة الامام.
اما القسم الثاني من الكتاب فيتضمن البحث فيما سميته «قميص عثمان» ويقع في ثلاثة فصول ايضا، تطرقت في الفصل الاول منها الي حركة الناكثين اصحاب الجمل.
وفي الفصل الثاني الي تمرد القاسطين: اصحاب صفين.
وفي الفصل الثالث الي مسألة التحكيم وخروج المارقين ومصرع الامام.
لقد ساقني البحث في معرض التحدث عن قميص عثمان الي الاعتقاد بأن الصراع بين علي ومناوئيه ما وهو في جوهره الا صراع بين فلسفتين: فلسفة خلقية مثلي تستمد اصولها من القرآن وسنة الرسول سار عليها الامام في حكمه، وفلسفة ملتوية غادرة تستمد مقوماتها من حياة العرب في جاهليتهم انغمس فيها مناوئوه الي الاذقان. ولعل الصراع بين علي ومناوئيه يعيد الي الذاكرة قصة الصراع الذي حدث بين النبي وكفار قريش تحت زعامة الامويين. واذا كان النصر قد كتب للنبي في نزاعه مع مناوئيه لاعتصامهم بالاوثان فان النصر لم يكن في متناول الامام لتقمص مناوئيه [5] رداء الاسلام.
[صفحه 13]
فكان خصوم الرسول المندحرين من الامويين ومن هم علي شاكلتهم قد حاربوا ابن عمه بعقائد آبائهم الكامنة وراء ستار الاسلام. فمعاوية مثلا هو ابن هند آكلة الاكباد، وابوه ابوسفيان اول المشركين في كل حرب، ورأسهم في كل فتنة، لم ترفع علي الاسلام راية الا وكان صاحبها. تظاهر بالاسلام غير منطو عليه، واخفي الكفر غير مقلع عنه، ويلوح لي ان غدر معاوية قد اصاب روح الاسلام قبل ان يصيب ابا تراب [5] فقد انفسح باغتيال علي المجال واسعا امام قوي الشر التي حبسها الامام في نطاق ضيق من خشية الله، ومباديء الدين الحنيف. فتلاشت من القلوب حرارة الايمان التي كانت تجمع بين قلب الخليفة الكبير وقلوب رعاياه. واستهان الولاة والحكام بتطبيق مباديء الاسلام علي شئون الحياة، وعمدوا الي كسب ولاء الناس بوسائل فاسدة من الرشوة والملاينة، او الارهاب والتجويع. فذري روح الاسلام وانطوت مبادئه علي نفسها بدلا من ان تسير في طريق التوسع والانتشار. وكانت حصيلة ذلك انتشار التذمر والالحاد في جسم المجتمع العربي وتدني المستويات الخلقية الرفيعة بين الحكام والمحكومين علي السواء. فبرز الاستهتار والظلم والخروج علي القرآن، وتعاليم الرسول من جهة الحاكمين، والانقياد والملق والنفاق من جهة الرعايا. واختفي القائلون بالحق وراء سحب المطاردة والاضطهاد. فأصبح المطالبون بحقوقهم «زنادقة» و «ملحدين» و «رافضة» وصار الوصوليون والمنافقون اصحاب الحظوة والكلمة النافذة، فجريرة معاوية اذن اكبر من مجرد غدره بالامام لانها اصابت صرح الاسلام من حيث هو نظام للحكم ومجموعة من المثل العليا ومكارم الاخلاق.
ذلك ما يتصل بالقسمين الأول والثاني من هذه الدراسة.
اما القسم الثالث فيروي للقاريء مقتطفات من سيرة الامام رواها كبار المؤرخين المسلمين ونماذج من سيرة معاوية اثناء نزاعه مع الخليفة. وبما اني كتبت هذا البحث متأثرا بالمثل العليا التي جاء بها محمد؛ والتي حرص عليٌّ علي تطبيقها في الحكم وبخاصة ما يتصل منها بتوزيع العدالة الاجتماعية بين الناس وبالتحلي بمكارم الاخلاق.
[صفحه 14]
فلا عجب ان وجدني القاريء انتقد الذين خرجوا علي تلك المثل في الاقوال وفي الاعمال من الحكام والامراء والولاة. قال تعالي في سورة آل عمران: «ان الذي يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط بين الناس فبشرهم بعذاب اليم. اولئك الذين حبطت اعمالهم في الدنيا والاخرة وما لهم من ناصرين 3: 21و 22».
وذكر مسلم بن الحجاج في صحيحه بأسانيد مختلفة عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: «قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: «اربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتي ينزعها: اذا حدث كذب، واذا عاهد غدر؛ واذا وعد اخلف، واذا خاصم فجر» [5].
والمنافقون؛ كما وصفهم الله في سورة المنافقين الاية: 3 «اتحذوا ايمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله انهم ساء ما كانوا يعملون».
وسوف نتخذ هاتين الآيتين والحديث الآنف الذكر مقياسا للحكم علي علي ومناوئيه اثناء البحث في «قميص عثمان».
حق وباطل، ابديان سرمديان. لكل زمان حقه وباطله. ولكل زمان علي ومناوئوه.
بغداد في: 1/ 1 / 1956
نوري جعفر
[صفحه 16]

قصة الخلافة (11 35 ه)

اشاره

1 الفصل الاول: مسألة الوصية
2 الفصل الثاني: حديث السقيفة
أ ابوبكر الصديق (11 13 ه)
ب عمر بن الخطاب (13 23 ه)
ج عثمان بن عفان (23 35 ه)
3 الفصل الثالث: خلافة الامام (35 40 ه)
[صفحه 17]

مسالة الوصية

الخلافة بنظر فريق من المسلمين مركز ديني ودنيوي في آن واحد. فهي دينية من حيث كونها تستند الي تعاليم الاسلام في تصريف شئون الناس فيما يتعلق بصلاتهم في جميع مظاهرها من جهة ومن حيث كون صاحبها معصوما من الخطأ كعصمة الأنبياء عالما بجميع أمور الدين ومن جهة اخري، وهي دنيوية فيما يتصل بكون الخليفة شخصا لا ينزل عليه الوحي؛ وانما هو مكلف، بنص من النبي ووحي من الله بالمحافظة علي تعاليم الدين وتطبيقها علي سنن الحياة والنهوض بالرسالة النبوية وبثها بين البشر كافة.
فالخلافة علي هذا الاساس ظاهرة تأتي بعد مرتبة النبوة مباشرة في القدسية والاهمية؛ فلا غرابة والحالة هذه، علي ما يقول حملة هذا الرأي، ان امر الله نبيه محمدا بالنص علي ولاية خليفته من بعده: وهذا الخليفة هو الامام علي بن ابي طالب غير ان قسما من المسلمين حسب وجهة النظر هذه قد سلب الامام عليا حقه في الخلافة حينما نقلها منه الي غيره من الصحابة، ولكن الامام عليا مع هذا بنظر هؤلاء هو الخليفة الحقيقي للمسلمين بعد الرسول، وان لم يمارس منصبه هذا بحكم طبيعة الظروف التي عاش فيها.
والاساس الذي يستند اليه هذا الفريق من المسلمين في اعتباره الخلافة منصبا دينيا؛ هو ان الرسول، بعد ان فارق الحياة الدنيا تاركا تعاليمه الدينية. كان لابد له من تولية شخص يأتي من بعده في الكفاءة والخلق ليقوم بتصريف امور الناس وذلك لان الغاية من نزول الدين ليست محصورة علي تطبيقه في عهد الرسول وبين قريش او العرب وحدهم، ولابد لتطبيق تعاليمه بعد وفاته من شخص كما ذكرنا، اقرب الناس اليه من حيث فهمه لاصول الدين واتصافه بمتانة الاخلاق.
[صفحه 18]
وليس من المعقول ان يترك امر المسلمين، بعد وفاة الرسول، الي الصدف والظروف في هذه المسألة الحيوية التي يتوقف عليها مصير الشريعة السمحاء من حيث التطبيق والانتشار. وان قصة اختيار المسلمين لخليفتهم بعد النبي، امر علي جانب كبير من الخطر والمجازفة.
فمن هم الذين يوكل اليهم اختيار الخليفة الجديد؟ هل هم جميع المسلمين؟ ام فئة خاصة منهم؟ ما خصائص هذه الفئة؟ هل هي مقصورة علي ابي بكر وعمر وابي عبيدة في باديء الامر ونفر من الانصار اجتمعوا في السقيفة كما سنري؟ اليس استبعاد علي وبني هاشم وسعد بن عبادة وابنه، وسلمان الفارسي، وابي ذر الغفاري، والمقداد بن الاسود، وعمار بن ياسر والزبير بن العوام وخالد بن سعيد، وحذيفة بن اليمان وبريدة وغيرهم «وهم من خيرة اصحاب النبي» بجعل الخلافة، وفي حالة اقتصارها علي رأي فئة خاصة من الصحابة، غير كاملة الشروط؟
هل يمكن ان يتوصل المسلمون الي اختيار افضلهم للخلافة مع ما بينهم من احقاد وعنعنات قبلية جاهلية لم يستأصلها الاسلام كما سنري؟
هل كان الرسول راغبا في اثارة تلك العصبيات؟
كيف يجري اختيار الخليفة: بالتصويت الشفوي؟ ام بالكتابة؟
كم من المسلمين يستطيعون ان يقرأوا ويكتبوا آنذاك؟
اين يجري الانتخاب؟ افي الحواضر والبوادي؟ وكيف يمهد لذلك الانتخاب؟ وكم يستغرق من الوقت؟ وكيف تصرف شئون المسلمين اثناء فترة الانتخاب
تلك اسئلة محيرة … ؟
لقد مر بنا ذكر رأي فريق من المسلمين في قضية خلافة الرسول. وقد لخص احد الباحثين موضوع الخلافة والوصية من وجهة النظر هذه بقوله [56].
[صفحه 19]
«اجمع رسول الله الخروج الي الحج في سنة عشر من مهاجره، وآذن في الناس بذلك. فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به في حجته تلك التي يقال عليها: حجة الوداع … ولم يحج غيرها منذ هاجر الي ان توفاه الله …
ولما قضي مناسكه وانصرف راجعا الي المدينة.. ووصل غدير خم من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين، نزل عليه جبرائيل عن الله يقول: «يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك [52]».. وامره ان يقيم عليا علما للناس..
ثم قام الرسول خطيبا.. واخذ بيد علي فرفعها.. فقال: ان الله مولاي وانا مولي المؤمنين.. والولاية لعلي، من كنت مولاه فعلي مولاه [53].. ثم نزلت الآية: «اليوم اكملت لكم دينكم» [54].
فقال رسول الله: [الحمد لله] [55] علي اكمال الدين واتمام النعمة … والولاية لعلي من بعدي».
ومن الطريف ان نذكر هنا ان المقريزي [56] قد اشار الي احتفال قسم من المسلمين القدامي بذكري عيد الغدير حين قال:
«اعلم ان عيد الغدير لم يكن عيدا مشروعا، ولا عمله احد من سالف الامة المقتدي بهم، واول ماعرف في الاسلام بالعراق ايام معز الدولة علي بن بابويه، كان احدثه في سنه اثنتين وخمسين وثلثمائة، فاتخذه الشيعة من حينئذ عيدا، واصلهم فيه ماخرجه الامام احمد في مسنده الكبير من حديث البراء بن عازب قال:
كنا مع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في سفرتنا فنزلنا بغدير خم ونودي:
[صفحه 20]
الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله تحت شجرتين فصلي الظهر، واخذ بيد علي بن ابي طالب فقال: الستم تعلمون اني اولي بالمؤمنين من انفسهم؟ قالوا: بلي.. قال:
من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. قال:
فلقيه عمر بن الخطاب فقال: هنيئا لك يا ابن ابي طالب اصبحت مولي [52] كل مؤمن ومؤمنة. (وغدير خم) علي ثلاثة اميال من الجحفة يسرة الطريق وتصب فيه عين وحوله شجر كثير.
ومن سننهم في هذا العيد وهو ابدا اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ان يحيوا ليله بالصلاة ويصلوا في صبيحته ركعتين قبل الزوال، ويلبسوا فيه الجديد ويعتقوا الرقاب، ويكثروا من عمل البر ومن الذبائح.
ولما عمل الشيعة هذا العيد بالعراق ارادت عوام السنة مضاهدة فعلهم ونكايتهم فاتخذوا في سنة تسع وثمانين وثلثمائة بعد عيد الغدير بثمانية ايام عيدا اكثروا فيه من السرور واللهو وقالوا:
هذا يوم دخول رسول الله الغار هو وابوبكر.
وبالغوا في هذا اليوم في اظهار الزينة.. ولهم في ذلك اعمال مذكورة في اخبار بغداد!!» [53].
والخلافة. بنظر فريق آخر من المسلمين: مركز دنيوي صرف من حيث وجوده، وان كان مبنيا علي الدين من حيث الاسس النظرية التي ينبغي ان يسير وفق مستلزماتها، وعلي هذا الاساس فليس هناك نص صريح من جانب الرسول علي توليته خليفة للمسلمين، لانتفاء الضرورة الدينية الي ذلك.
[صفحه 21]
ولهذا السبب نجد بعض المسلمين يجتمعون، بعد وفاة الرسول في سقيفة بني ساعدة [54] كما سنري، لاختيار الخليفة لتسلم هذا المنصب الرفيع. فاختير ابوبكر، ثم عمر، فعثمان، فعلي، فهؤلاء اذن هم الخلفاء الراشدون مرتبون حسب تسلسهم الزمني وحسب منزلتهم الدينية، علي ما يقول حملة هذا الرأي، والحجة التي يستند اليها هذا الفريق من المسلمين هي: ان التعاليم الدينية قد اصبحت كاملة وواضحة بعد وفاة الرسول، ولم تكن هناك ضرورة سماوية لتعيين المشرف علي تطبيقها علي شئون الحياة. وقد وضع هذا الرأي بشكله المعتدل احد الكتاب المعاصرين [55] حين قال: «الخلافة الاسلامية كنظام من نظم الحكم هي في حقيقتها وليدة رأي، وليست وليدة نص ديني ثابت لا يحتمل التأويل. ورسول الله وهو يستقبل ربه لم يوص لأحد بعده بالحكم وصية صريحة، وان بدرت منه في اوقات شتي اشارات وتلميحات تاه اصحابه في تفسيرها عقب وفاته بين الاحتمال والترجيح.
وثمة احاديث فيها من الصراحة ما قد يرسم لنا صورة المستخلف كحديث الغدير [56] وحديث خاصف النعل.
وهناك فريق ثالث من المسلمين وقف في نظرية الخلافة موقفا وسطا بين الفريقين المختلفين، فهو يتفق مع الفريق الثاني في اعتبار الخلافة منصبا دنيويا خالصا وينكر وجود النص الدال بصراحة علي وصية النبي لعلي خليفة للمسلمين من بعده، علي الشكل الذي ذكره الفريق الاول من المسلمين ولكن مع هذا يعتبر عليا اولي بالخلافة من ابي بكر لانه افضل المسلمين علي الاطلاق.
[صفحه 22]
وقد لخص هذا الرأي احد الباحثين حين قال: [52] «اتفق شيوخنا كافة.. علي ان بيعة ابي بكر صحيحة شرعية، وانها لم تكن عن نص وانما كانت بالاختيار الذي ثبت بالاجماع وبغير الاجماع كونه طريقة الي الامامة، واختلفوا في التفضيل.
فقال قدماء البصريين: كأبي عثمان وعمرو بن عبيد: ان ابا بكر افضل من علي.. وهؤلاء يجعلون ترتيب الاربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة.
وقال البغداديون قاطبة قدماؤهم ومتأخروهم:
ان عليا.. افضل من ابي بكر: والي هذا المذهب ذهب من البصريين ابوعلي محمد بن عبدالوهاب الجبائي، والشيخ ابوعبدالله الحسين بن علي البصري.. وقاضي القضاة ابوالحسن عبدالجبار بن احمد.. وابومحمد الحسن بن متوية..
وذهب كثير من الشيوخ الي الوقف فيهما، وهو قول ابي حذيفة واصل ابن عطاء، وابي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف. وهما وان ذهبا الي التوقف بينه وبين ابي بكر وعمر.. قاطعان علي تفضيله علي عثمان.
واما نحن فنذهب الي ما يذهب اليه شيوخنا البغداديون من تفضيله عليهم»
وقد ذهب الباحث الآنف الذكر، في موضع آخر [53]، الي القول في موضوع الخلافة: ان الذي استقر عليه رأي المعتزلة بعد اختلاف كثير بين قدمائهم في التفضيل وغيره:
ان عليا افضل الجماعة، وانهم تركوا الافضل لمصلحة رأوها، وان لم يكن هناك نص يقطع الغموض وانما كانت اشارة وايماء لا يتضمن شيء منهما صريح النص، وان عليا نازع ثم بايع. ولو اقام علي الامتناع لم نقل بصحة البيعة ولا لزومها.
وبالجملة اصحابنا يقولون:
[صفحه 23]
ان الامر كان له وكان هو المستحق والمتعين، فان شاء اخذه لنفسه، وان شاء ولاه غيره فلما رأينا قد وافق علي ولاية غيره. اتبعناه ورضينا لما رضي».
اي ان هذا الفريق من المسلمين يقول: بأفضلية علي علي ابي بكر وبالتالي بأحقيته بالخلافة دون ان يعترف بالنص علي وصية الرسول له، وذلك تصبح خلافة ابي بكر سابقة لخلافة علي من الناحية الزمنية الواقعية او «دوفاكتو» كما يقول المشرعون المعاصرون» في حين ان خلافة الامام سابقة لها من الناحية الشرعية «دوجوري».
كان موضوع الخلافة وما زال محور الخلاف، واساس الفرقة بين طوائف المسلمين، وقد تفرعت عنه خلافات اخري كثيرة، نظرية وعملية، وما زالت قائمة بين المسلمين منذ وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم الي اليوم.
وتعصب كل فريق لرأيه، واعتبر نظريته في الخلافة هي النظرية السلمية وما عداها فاختلاق وبهتان، وليس امام الباحث من سبيل لتقريب وجهات النظر المختلفة، ذلك، لان التسليم بأحدها يستلزم اهمال النظريتين الاخريين، واذا اغفل الباحث، امر التحدث عن وصية النبي لعلي في الخلافة من بعده علي الشكل الذي يقول فيه فريق من المسلمين ونظرا الي مسألة الخلافة من الناحية الزمنية الصرفة فليس لديه علي ما نري من الادلة القاطعة ما يدعوه الي التسليم بأن الرسول صلي الله عليه وسلم كان قد اهمل امر التفكير فيمن يخلفه من بعده في تصريف شؤون المسلمين، وهنا تتوارد الي الذهن جملة قضايا تاريخية مهمة، وفي مقدمتها قضية «القرطاس والدواة» يقول ابن الاثير [54]:
«اشتد برسول الله مرضه ووجعه فقال: ائتوني بدواة وبيضاء [55] فكان النبي صلي الله عليه وآله وسلم يؤلمه وقوع مثل هذه الاشياء التي تؤول بالامة الي الفرقة بعد الاجتماع، والعداوة بعد الاخاء فأراد صلي الله عليه وآله وسلم ان يقرر مصير الامة وان يجدد موقفها ليقطع بذلك كل طريق يوصل للخلاف المؤدي الي الضلال فقال: ايتوني بدواة … الحديث اراد ان يضع الامة نظاما يسيرون عليه دوما في قضية الخلافة وتحديد الشخصية التي تليق بأن تخلفه في منصبه.
ومن البديهي ومالا يقبل الشك ان عليا هو تلك الشخصية التي تتجسد فيها آمال الامة ولكن حدث ما حدث فما اعظم من ذلك الموقف علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم فقال لهم متأثرا: ابعد الذي قلتم، ومات والالم يحز نفسه ولكن اراد ان يطوق الامة بواجب لامفر لهم من الالتزام به، الا وهو العناية بأهل بيته فقال صلي الله عليه وآله وسلم: «اوصيكم بأهل بيتي خيرا، الله الله في أهل بيتي واخرجوا اليهود من جزيرة العرب، وهي آخر ما تكلم به صلي الله عليه وآله وسلم كما سيأتي. «الناشر».@ اكتب لكم
[صفحه 24]
كتابا لاتضلون بعدي ابدا، فتنازعوا ولاينبغي عند نبي تنازع فقالوا: ان رسول الله يهجر، فجعلوا يعيدون عليه. فقال: دعوني فما انا فيه خير مما تدعونني اليه، فأوصي بثلاث: ان يخرج المشركون من جزيرة العرب وان يجازي الوفد بنحو مما كان يجيزهم، وسكت عن الثالثة عمدا وقال: نسيتها»، وذكر البخاري [56] فقال: «حدثنا سفيان عن سليمان الاحول عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: اشتد برسول الله وجعه فقال: ائتوني اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا، فتنازعوا ولاينبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما شأنه اهجر؟ استفهموه، فذهبوا يرددون عليه؟ فقال: دعوني فالذي انا فيه خير مما تدعونني اليه، واوصاهم بثلاث قال: اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، واجيزوا الوفد بنحو ما كنت اجيزهم، وسكت عن الثالثة، او قال: فنسيتها.
وحدثنا علي بن عبدالله، حدثنا عبدالرزاق، اخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله
[صفحه 25]
ابن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله صلي الله عليه وسلم وفي البيت رجال، فقال النبي.. هلموا اكتب لكم كتابا لاتضلوا بعده، فقال بعضهم: ان رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، وحسبنا كتاب الله؟ فاختلف اهل البيت واختصموا. فلما اكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله: «قوموا».
وذكر ابن سعد [52]: «ان الرسول عندما حضرته الوفاة وكان معه في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال: هلموا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده، فقال عمر «ان رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله؟ فاختلف اهل البيت واختصموا، فلما كثر اللغط والاختلاف … قال النبي: قوموا عني». فما الذي حمل عمر يا تري علي ذلك؟ وهل تجيز آداب المجاملة او العرف او الدين ان يقول عمر: ان الوجع قد غلب النبي وعندنا كتاب الله فهو حسبنا؟ وما قصده بذلك القول؟ وهل يتفق موقف عمر مع قوله تعالي في وصف النبي بأنه: «لا ينطق عن الهوي ان هو الا وحي يوحي» [53]؟
وممن يلفت النظر حقا في هذا الموضوع الخطير: ان اصحاب النبي علي مايذكر المؤرخون قد سألوه قبيل وفاته عن كثير من الامور التي تبدو بنظرنا اقل وجاهة من موضوع الخلافة؟ فقد سألوه علي ما يحدثنا ابن خلدون [54]: «عن مغسله؟ فقال: الادنون من اهلي، وسألوه عن الكفن؟ فقال: في ثيابي، او ثياب مصر، او حلة يمانية … وسألوه عمن يدخل القبر معه؟ فقال: اهلي». فهل من المعقول ان يغيب عن اذهانهم موضوع الاستفسار عن الخلافة؟ او ان يغفله النبي نفسه؟ ويستطرد ابن خلدون بعد الذي ذكرنا فيقول: المصدر نفسه والصفحة نفسها «ثم قال النبي: ائتوني بدواة وقرطاس، اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده؟ فتنازعوا وقال بعضهم: اهجر؟ ثم ذهبوا يعيدون عليه فقال: دعوني فما انا فيه خير مما تدعونني اليه».
[صفحه 26]
تري ماذا اراد الرسول ان يكتب؟ ولماذا امتنع القوم عن تلبية الطلب؟ هل اراد ان يثبت النص الشفوي علي الخلافة «حسب وجهة نظر بعض المسلمين بالكتابة زيادة في التأكيد، ودفعا للالتباس؟ ثم ايجوز ان يقال: بأن الرسول يهجر في واحدة من ثلاث قالها بالتتابع في آن واحد؟ اي ان الرسول كان يهجر [55] بنظرهم في مسألة الدواة والقرطاس فقط علي حين انه لم يكن كذلك بنظرهم في اخراج المشركين من جزيرة العرب ومجازاة الوفد بمثل ماكان يجيزهم فيه؟ لقد نفذ أبو بكر الجزء الخاص من وصية الرسول هذه فيما يتصل بجيش اسامة. ومحاربة المشركين في جزيرة العرب، في حين ان الرسول قال ذلك في الوقت الذي طلب فيه الدواة والقرطاس.
ومن الطريف ان نذكر هنا ان ابن عباس قد روي محاورة طريفة جرت بينه وبين عمر بن الخطاب في اوائل عهده بالخلافة ملخصها: ان عمر قال له: «يا عبدالله عليك دماء البدن ان كتمتها.. هل بقي في نفس علي شيء من امر الخلافة؟ قلت: نعم، قال: ايزعم ان رسول الله نص عليه؟ قلت: نعم. فقال عمر: لقد كان في رسول الله من امره ذروه من قول، لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا، ولقد كان يربع في امره وقتا ما، ولقد اراد في مرضه ان يصرح باسمه فمنعت من ذلك اشفاقا وحيطة علي الاسلام.. فعلم رسول الله اني علمت ما في نفسه فأمسك [56]». واذا صحت هذه الرواية فان عمر يبدو كأنه احرص علي الاسلام من نبيه وهو امر كان المفروض في عمر ان لا يهبط اليه.
واذا اغفلنا؛ لغرض سهولة البحث بقدر ما يتعلق الامر بموضوع الخلافة من الناحية الدنيوية، امر الاستشهاد بالنصوص التاريخية التي ينفرد بذكرها الفريق
[صفحه 27]
الاول من المسلمين وركزنا اهتمامنا في النصوص التي يذكرها الفريق الثاني من المسلمين اصبح بمقدورنا ان نجعل دراستنا لهذا الموضوع تسير في هذا المرحلة من مراحلها بالاتجاه التالي:
تري ما الذي حال بين علي والخلافة بمعناها الزمني بعد وفاة الرسول؟ وقبل ان نتصدي للاجابة علي هذا السؤال يجمل بنا ان ننبه القاريء الي ان ليس لدينا من الادلة المقنعة ما يحول بيننا وبين الاعتقاد باندثار كثير من النصوص التاريخية المهمة المتعلقة بالنقطة موضوع البحث بطريقة عرضية، او مقصودة، او بتحريف بعض آخر، او وضع نصوص تاريخية معاكسة وبخاصة في صدر الدولة الاموية.
ولكننا مع هذا تمشيا مع وحدة البحث وعدم تشتيت موضوعه قد اعتمدنا قدر المستطاع علي النصوص التاريخية التي تذكرها امهات كتب التاريخ والسير.
اما حوادث الاعتداء علي الطالبيين باللسان والسيف والقلم منذ وفاة الرسول فتكاد لاتقع تحت حصر فقد اتخذ الوصوليون من رجال الدين والقضاة، والامراء من انتقاص الطالبيين واتباعهم وسيلة يتقربون بها من الفئة الحاكمة في العهدين الاموي، والعباسي!! وقد شجعتهم الفئة الحاكمة بدورها علي ذلك وفي معرض التحدث عن هذا الجانب من جوانب الموضوع يقول احد المؤرخين [52]:
«روي ابوالحسن علي بن محمد بن ابي سيف المدائني في كتاب الاحداث قال:
كتب معاوية الي عماله بعد عام الجماعة ان برئت الذمة ممن روي شيئا من فضل ابي تراب واهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة وعلي كل منبر يلعنون عليا ويبرءون منه ويقعون فيه وفي اهل بيته.
وكتب معاوية الي عماله في جميع الآفاق: الا يجيزوا لاحد من شيعة علي واهل بيته شهادة. وكتب اليهم: ان انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه، واهل ولايته والذين يرون مناقبه وفضائله فادنوا مجالسهم وقربوهم واكرموهم واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل واسمه، واسم ابيه وعشيرته؟ ففعلوا ذلك حتي اكثروا
[صفحه 28]
فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه اليهم من الصلات.. ثم كتب الي عماله: ان الحديث عن عثمان قد كثر.. فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الي الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الاولين، ولا تتركوا خبرا يرويه احد من المسلمين في ابي تراب الا واتوا بمناقض له في الصحابة.. فقرأت كتبه علي الناس فرويت اخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها.. ومضي علي ذلك الفقهاء والقضاة والولاة».
لقد مر بنا الاستفسار عن العوامل التي حالت بين علي وبين ارتقائه منبر النبي بعد وفاته مباشرة، وللاجابة علي ذلك ينبغي لنا ان نستعرض صفات الامام منذ نشأته الي وفاة الرسول ومواقفه من الرسول، ومن الاسلام، وموقف الرسول منه في حالتي السلم والحرب، عسانا نعثر علي مفتاح قفل الخلافة.
اننا نحاول بعبارة اخري ان نجيب عن السؤالين التاليين:
هل كان الامام كفؤا للخلافة بعد الرسول؟ واذا كان كذلك فما الذي حال بينه وبينها؟.
والبحث في الشق الاول من هذا الموضوع اهلية الامام للخلافة بعد وفاة الرسول مباشرة يستلزم التطرق الي ظروف ملازمته للدعوة الاسلامية منذ نشوئها. ولابد في هذه المناسبة من الالمام الي موقف ابويه من النبي ومن رسالته قبل ذكر مواقفه هو من الرسول ومن الاسلام في حالتي السلم والحرب. وبما ان مواقف ابي طالب وزوجه فاطمة بنت اسد من النبي معروفة لدي من لهم ادني المام بتاريخ الرسول فاننا سنكتفي بذكر نماذج من ذلك علي سبيل التمثيل لا الحصر: ذكر ابن هشام [53] بصدد التحدث عن صد ابي طالب كفار قريش في صدر الدعوة الاسلامية عن البطش بالرسول «لما رأت قريش ان رسول الله لا يعتبهم من شيء انكروا عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا ان عمه ابا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم مشي رجال من اشراف قريش الي ابي طالب: عتبة، وشيبة ابنا ربيعة ابن عبدشمس، وابوسفيان بن حرب بن امية. فقالوا: ياابي طالب، ان ابن اخيك قد
[صفحه 29]
سب آلهتنا وعاب ديننا. فاما ان تكفه عنا واما ان تخلي بيننا وبينه. فنكفيكه؟ فقال لهم ابوطالب قولا رقيقا، وردهم ردا جميلا. ثم انهم مشوا له ثانية فردهم. ثم ان قريشا حين عرفوا ان ابا طالب قد ابي خذلان رسول الله. مشوا اليه بعمارة بن الوليد بن مغيرة فقالوا: يا ابا طالب هذا عمارة بن الوليد: انهد فتي في قريش واجمله … فخذه واسلم الينا ابن اخيك فقال لبئس ماتسومونني اتعطونني ابنكم اغذوه واعطيكم ابني تقتلونه!» وقال ابن سعد [54]: «لما توفي عبدالمطلب قبض ابوطالب رسول الله. وكان يحبه حبا شديدا لايحب ولده. وكان لاينام الا الي جنبه ويخرج فيخرج معه. وصب به ابوطالب صبابة لم يصب مثلها بشيء قط» ويذكر ابن الاثير [55] في حديث عن موقف ابي طالب في حماية الرسول ضد قريش: ان قريشا عندما رأت الاسلام يفشو ويزيد … وعاد اليهم عمرو ابن العاص … من النجاشي بما يكرهون من منع المسلمين عنهم وامنهم عنده، ائتمروا في ان يكتبوا بينهم كتابا يتعاقدون علي ان لا ينكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا يتباعوا منهم شيئا. فكتبوا بذلك صحيفة ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا لذلك الامر علي انفسهم … فأقاموا علي ذلك سنتين او ثلاثا. فاعتزل الناس بني هاشم وبني المطلب. واقام رسول الله صلي الله عليه وسلم وابوطالب ومن معهما بالشعب ثلاث سنين» فأكلت الارضة الصحيفة واخبر النبي عمه بذلك، «وكان ابوطالب لا يشك في قوله فخرج من الشعب الي الحرم فاجتمع الملأ من قريش» فأخبرهم ابوطالب ان الارضة اكلت صحيفتهم … وانشد:
وقد كان في امر الصحيفة عبرة
متي ما يخبر غائب القوم يعجب
محا الله منهم كفرهم وعقوقهم
وما نقموا من ناطق الحق معرب
فأصبح ما قالوا من الامر باطلا
ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب
فلا عجب ان اشتد كفار قريش عليه بعد وفاة عمه ابي طالب حتي قال رسول الله
[صفحه 30]
صلي الله عليه وآله وسلم: «ما نالت قريش شيئا مني اكرهه حتي مات ابوطالب» [56].
والخلاصة كما يقول ابن خلدون [52]: «ان عبدالمطلب جد النبي توفي بعد ولادته بثمان سنين وعهد به الي ابنه ابي طالب فأحسن ولايته وكفالته. وكان شأنه في رضاعه وشبابه ومرباه عجبا. وتولي حفظه وكلاءته من مفارقة احوال الجاهلية وعصمته [53] من التلبس بشيء منها». ثم توفي «ابوطالب وخديجة، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين فعظمت المصيبة واقدم عليه سفهاء قريش بالاذاية والاستهزاء، والقاء القاذورة في مصلاه» [54].
ذلك ما يتعلق بأبي طالب وموقفه من الرسول ومن دعوته.
اما موقف السيدة فاطمة ام علي فيتضح بما صنعه الرسول عند وفاتها حزنا عليها لما ابدته من عطف عليه وعلي رسالته. فقد تقدم رسول الله عند موت فاطمة بنت اسد زوج ابي طالب وام علي واسبق نساء العالمين الي الاسلام بعد خديجة فألبسها فوق كفنها قميصه، ثم نزل الي القبر فسواه بيده الكريمة فاضطجع الي جوارها فيه» [55].
ذلك ما يتعلق بالبيت المشبع بالعطف علي النبي والايمان برسالته حيث نشأ ابن ابي طالب وترعرع متنقلا بينه وبين بيت الرسول نفسه وفي كنف السيدة خديجة ام المؤمنين.
اما اذا نظر الباحث الي مواقف الامام نفسه في حماية الدعوة الاسلامية وصاحبها من مؤامرات كفار قريش، تلك المواقف التي دلت علي كفاءته لتسلم خلافة الرسول بعد وفاته من جهة، والتي اهلته بدورها لتسنم ذلك المنصب الرفيع
[صفحه 31]
من جهة اخري. فانه يجد تلك المواقف المشرفة كثيرة العدد «تتزاحم بالمناكب وتتدافع بالراح» بحيث يصبح امر الموازنة بينها «لاختيار بعضها للاستشهاد به» من اصعب الامور. وقبل ان نتطرق الي ذكر اهمها يجمل بنا ان نشير الي الظروف الخاصة التي ربطت بين علي والاسلام من جهة، وبينه وبين النبي من جهة اخري، وبقدر ما يتعلق الامر بصلة الاسلام بعلي، او صلة علي بالاسلام يمكننا ان نقول مع العقاد: «لقد ملأ الدين الجديد قلبا لم ينازعه فيه منازع من عقيدة سابقة، ولم يخالطه شوب بكدر صفاءه ويرجع به الي عقابيله، فبحق ما يقال: ان عليا كان المسلم الخالص علي سجيته المثلي، وان الدين الجديد لم يعرف قط اصدق اسلاما منه ولا اعمق نفاذا فيه» [56].
فقد بعث النبي علي مايقول الدكتور طه حسين: وعلي عنده صبي فأسلم.. وظل بعد اسلامه في حجر النبي يعيش بينه وبين خديجة ام المؤمنين وهو لم يعبد الاوثان قط.. فامتاز بين السابقين الأولين بأنه نشأ نشأة إسلامية خالصة. وامتاز كذلك بأنه نشأ في منزله الوحي بأدق معاني هذه الكلمة» [52].
اما الآثار العميقة التي تركتها هذه البيئة الاسلامية الصافية في الامام في عقله، وقلبه، ولسانه، ويده فتعتبر من اوليات الامور المسلم بها عند الباحثين الحديثين في علم النفس، وعلم الاجتماع. واما اروع مواقفه في نصرة الاسلام ونبيه وصدي ذلك عند الرسول وموقف الرسول منه فيتجلي فيما يلي:
1 في مبيته في فراش النبي يوم ازمع كفار قريش علي قتله، الامر الذي اضطره الي الهجرة من مكة الي المدينة. وفي معرض التحدث عن ذلك يقول ابن هشام: ان رسول الله امر عليا قبل هجرته ان ينام علي فراشه ويتسجي ببردة الحضرمي الاخضر بعد ان اخبره بخروجه من مكة تفاديا لبطش كفار قريش، اي ان قريشا بعبارة اخري لما علمت «ان رسول الله قد صار له شيعة وانصار من غيرهم.. وانه مجمع علي اللحاق بهم.. تشاوروا ما يصنعوه في امره،
[صفحه 32]
واجتمعت لذلك مشيختهم في دار الندوة عتبة، وشيبة وابوسفيان من بني امية.. فتشاوروا في حبسه او اخراجه عنهم، ثم اتفقوا علي ان يتخيروا من كل قبيلة منهم فتي شابا جلدا فيقتلونه جميعا فيتفرق دمه في القبائل ولا يقدر بنو عبدمناف علي حرب جميعهم. واستعدوا لذلك من ليلتهم … فلما رأي ارصادهم علي باب منزله امر علي بن ابي طالب ان ينام علي فراشه ويتوشح ببرده» [53].
وقد امر النبي عليا «ان يتخلف بعده بمكة حتي يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس … فأقام علي بمكة ثلاث ليال وايامها حتي ادي عن رسول الله الودائع … حتي اذا فرغ منها لحق برسول الله» [54] فقطع الامام المسافة بين مكة والمدينة وحده ماشيا حتي ورمت قدماه [55].
2 مؤاخاة الرسول له حين آخي بين اصحابه من المهاجرين والانصار حيث اخذ بيد علي بن ابي طالب وقال: هذا اخي» [56].
3 في دفاعه عن الاسلام ونبيه اثناء حروبه ضد الكفار وبخاصة في موقعة احد حيث تعرض الرسول ورسالته لاعظم محنة عسكرية … وقد ناول علي سيفه لفاطمة عند رجوعه من احد قائلا:
«فوالله لقد صدقني اليوم.. كما صدق سهل بن حنيف سيفه كذلك علي ما ذكر الرسول، ثم انشد يقول:
افاطم هاك السيف غير ذميم
فلست برعديد ولا بمليم
لعمري لقد قاتلت في حب احمد
وطاعة رب بالعباد رحيم
[صفحه 33]
وسيفي بكفي كالشهاب اهزه
اجد به من عائق وحميم [52].
4 في ارساله من قبل النبي الي مكة عندما نزلت سورة براءة.. «حدثني محمد ابن الحسين قال:
حدثنا احمد بن المفضل قال: حدثنا اسباط عن السدي قال:
«لما نزلت هذه الايات الي رأس الاربعين يعني: من سورة براءة فبعث بهن رسول الله مع ابي بكر وامره علي الحج، فلما صار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة اتبعه بعلي فأخذها منه. فرجع ابوبكر الي النبي صلي الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله بأبي انت وامي انزل في شأني شيء؟؟ قال: لا، ولكن لا يبلغ عني غيري او رجل مني … » [53].
5 في خروجه الي اليمن مبعوثا من قبل النبي «وكان ارسل قبله خالد ابن الوليد اليهم يدعوهم الي الاسلام فلم يجيبوه. فأرسل النبي عليا وامره ان يعقل خالدا ومن سار من اصحابه ففعل. وقرأ علي كتابا من رسول الله علي اهل اليمن، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد … » [54].
6 في موقف النبي منه في غزوة تبوك حيث خلفه علي اهله في المدينة عندما تخلف فيها عبدالله بن ابي المنافق فيمن تبعه من اهل النفاق» [55] وقد قال الامام ابوالحسن مسلم بن الحجاج في صحيحه [56]:
[صفحه 34]
«حدثنا يحيي بن يحيي التميمي وابوجعفر محمد بن الصباح وعبدالله القواريري وسريح بن يونس.. عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن ابي وقاص عن ابيه قال:
قال رسول الله لعلي: انت مني بمنزلة هارون من موسي غير انه لا نبي بعدي.
وحدثنا ابوبكر بن شيبة عن سعد بن ابي وقاص قال:
خلف رسول الله عليا في غزوة تبوك. فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟ قال: اما ترضي ان تكون مني بمنزلة هارون من موسي؟ غير انه لا نبي بعدي؟».
7 في موقف النبي منه في غزوة خيبر. قال الامام مسلم في صحيحه:
«حدثنا قتيبة بن سعيد … عن ابي هريرة ان رسول الله صلي الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لاعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله … قال عمر بن الخطاب:
ما احببت الامارة الا يومئذ. قال: فتساورت لها رجاء ان ادعي لها. قال: فدعا رسول الله صلي الله عليه وسلم علي بن ابي طالب فأعطاه اياها» [52].
وهناك امور اخري تتصل بأهلية الامام لتولي منصب الخلافة بعد وفاة الرسول مباشرة لا بد من ذكرها في هذه المناسبة:
أ تفهمه جوهر الدين الاسلامي والمامه به من جميع اطرافه وايمانه به ايمانا صافيا،بيده، وقلبه، ولسانه، فقد كان علي محظوظا من دون الصحابة بخلوات كان يخلوها مع رسول الله «ص» لا يطلع احد من الناس علي ما يدور بينهما، وكان كثير السؤال للنبي عن معاني القرآن … واذا لم يسأل ابتدأه النبي بالتعليم والتثقيف، ولم يكن احد من اصحاب النبي كذلك، بل كانوا اقساما، فمنهم من يهابه ان يسأله، وهم الذين يحبون ان يجيء الاعرابي او الطاريء فيسأله وهم يستمعون.
[صفحه 35]
ومنهم من كان بليداً بعيد الفهم قليل الهمة في النظر والبحث.
ومنهم من كان مشغولا عن طلب العلم، وفهم المعاني اما بعبادة او دنيا.
ومنهم المبغض الشانيء الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته بالسؤال عن دقائقه وغوامضه» [53].
ب اشراك الرسول اياه في تنفيذ اوامره المهمة التي تتصل بجوهرة العقيدة الاسلامية واعتماده عليه في المواقف الحاسمة من تاريخ التبشير بالدعوة الاسلامية، فكأن الرسول اراد بذلك تدريبه وتهئيته لتولي شئون المسلمين من بعده.
يقابل ذلك من الناحية الثانية ان الرسول لم يعهد لكبار الصحابة وفي مقدمتهم ابوبكر وعمر بأمثال تلك الامور الخطيرة.
ومما يؤيد وجاهة ما ذهبنا اليه ان ابا بكر قد قام اثناء خلافته بعمل مشابه لما ذكرنا فيما يتصل بعمر بن الخطاب الذي ولي الخلافة من بعده فقد هيأه الي تسنم كرسي الخلافة من بعده عن الطريق ايداعه له كثيرا من الامور المهمة المتصلة بسياسة الدولة العليا.
ج وهناك امر ثالث يتصل بترشيح الرسول عليا للخلافة من بعده، ويتعلق هذا الامر بقضية جيش اسامة. وتفصيل ذلك علي ما يقول ابن سعد [54]:
«ولما كان يوم الاثنين لاربع ليال بقين من صفر سنة احدي عشرة من مهاجر رسول الله: امر رسول الله بالتهيؤ لغزو الروم، فلما كان من الغد دعا اسامة ابن زيد فقال:
«سر الي موضع مقتل ابيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فأغر صباحا علي اهل ابني [55] وحرق عليهم واسرع السير وتسبق الاخبار، وان ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الادلاء وقدم العيون والطلائع امامك».
[صفحه 36]
فلما كان يوم الاربعاء بديء برسول الله فحم وصدع. فلما اصبح يوم الخميس عقد لاسامة لواءاً بيده، ثم قال:
«اغز باسم الله، فقاتل من كفر بالله».
فخرج بلوائه معقودا فدفعه الي بريدة بن الحصيب الاسلمي وعسكر بالجرف [56] مع وجوه المهاجرين والانصار، فيهم ابوبكر وعمر وابوعبيدة … فتكلم قوم وقالوا: ايستعمل هذا الغلام علي المهاجرين الاولين؟ فغضب الرسول غضبا شديدا، فخرج وقد عصب علي رأسه عصابة … فصعد المنبر … وقال:
اما بعد ايها الناس فما مقالة قد بلغتني عن بعضكم في تأميري اسامة، ولئن طعنتم في امارة اسامة لقد طعنتم في امارة أبيه من قبله. وايم الله ان كان للامارة لخليقا، وان ابنه من بعده لخليق للامارة ان كان لمن احب الناس الي وانهما لمحلان لكل خير، فاستوصوا به خيرا فانه من خياركم».
ثم نزل فدخل بيته وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الاول … وثقل رسول الله وجعل يقول:
«انفذوا بعث اسامة».
فلما كان يوم الاحد اشتد برسول الله وجعه فدخل اسامة معسكره والنبي مغمور مغمي عليه.. فطأطأ اسامة فقبله ورسول الله لايتكلم فجعل يرفع يديه الي السماء ثم يضعها علي اسامة، قال:
فعرفت انه يدعو لي، ورجع اسامة الي معسكره فأمر الناس بالرحيل، فبينما هو يريد الركوب … توفي رسول الله … » أي ان رسول الله قد بعث قبيل وفاته ببضعة ايام بعثا الي الشام واميرهم اسامة بن زيد مولاه … واوعب مع اسامة
[صفحه 37]
المهاجرون الاولون منهم ابوبكر وعمر، فبينما الناس علي ذلك ابتدأ رسول الله مرضه … فتأخر مسير اسامة … فخرج النبي عاصبا رأسه من الصداع … وامر بانفاذ جيش اسامة …
وخرج اسامة فضرب بالجرف: العسكر وتمهل الناس وثقل رسول الله … ولم تشغله شدة مرضه عن انفاذ امر الله» [52] اي ان الرسول عند رجوعه من حجة الوداع علي ما يقول ابن خلدون [53]:
«ضرب علي الناس … بعثا الي الشام وامر عليهم مولاه اسامة بن زيد بن حارثة. امره ان يوطيء الخيل تخوم البلقاء والداروم الي الاردن من ارض فلسطين ومشارف الشام فتجهز الناس واوعب معه المهاجرون الاولون فبينما الناس علي ذلك ابتدأ رسول الله بشكواه التي قبضه الله فيها …
وخرج رسول الله عاصبا رأسه من الصداع وقال:
لقد بلغني ان اقواما تكلموا في امارة اسامة، ان يطعنوا في امارته لقد طعنوا في امارة ابيه من قبله، وان كان ابوه لحقيقا بالامارة وانه لحقيق بها. انفروا».
غير ان جيش اسامة لم يصدع بامر النبي علي الرغم من الحاح الرسول علي تنفيذ امره.
وقد ذكر اسامة نفسه انه: «لما ثقل رسول الله هبطت انا ومن معي الي المدينة فدخلنا عليه وقد اصمت [54] فلا يتكلم، فجعل يرفع يده الي السماء ثم يضعها عليّ فعلمت انه يدعو لي» [55].
والغريب في الامر هو: الحاح الرسول علي ضرورة مسير جيش اسامة الي
[صفحه 38]
الوجهة التي وجهها اياه علي الرغم من مرضه، واعجب من ذلك هو تلكؤ القوم وتملصهم عن تنفيذ امر النبي، فكأن هناك امرا خفيا يتنازع عليه الطرفان.
تري لماذا الح الرسول علي إنفاذ الجيش في تلك اللحظة الحاسمة من حياته؟
لماذا وضع في الجيش كبار الصحابة وفي مقدمتهم ابوبكر وعمر واستثني علي بن ابي طالب؟.
ولماذا جعل اسامة قائدا للجيش رغم احتجاج كبار الصحابة؟
لماذا احجم القوم عن تنفيذ اوامره؟
هل رغب الرسول في اخلاء الجو لعلي؟ وشعر القوم بذلك فأحجموا؟
تلك اسئلة محيرة دون شك.
ثم هل هناك من صلة بين مسألة جيش اسامة وبين رواية الدواة والقرطاس؟
ومما يجعل هذا الامر المعقد اكثر تعقيدا، هو: ان الرسول قد فقد قدرته علي النطق قبيل وفاته [56] واثناء الانشغال بجيش اسامة، ولكن اشارته باليد الي اسامة ابلغ وسيلة للتعبير عن رغبته في انفاذ ذلك الجيش الذي لو نفذ لتغير مجري التاريخ الاسلامي تغيرا كبيرا.
[صفحه 39]

حديث السقيفة

ابوبكر الصديق

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع ان نقول:
ان عليا كان مهيئا للخلافة بعد الرسول، هذا اذا نظرنا للخلافة من جوانبها الزمنية، وان صلاته بالرسول وبالاسلام، وصلات الاسلام والرسول به تؤهله لذلك.
ولو احتج المسلمون اثناء السقيفة بعد وفاة النبي: «ان عليا كان اقرب الناس اليه، وكان ربيبه، وكان خليفته علي ودائعه، وكان اخاه. بحكم تلك المؤاخاة، وكان ختنه وابا عقبه، وكان صاحب لوائه؛ وكان خليفته في اهله، وكانت منزلته منه بمنزلة هارون من موسي بنص الحديث عن النبي «ص» نفسه.
لو قال المسلمون هذا كله واختاروا عليا بحكم هذا كله لما ابعدوا ولا انحرفوا.
وكان كل شيء يرشح عليا للخلافة … قرابته من النبي، وسابقته في الاسلام، ومكانته بين المسلمين، وحسن بلائه في سبيل الله، وسيرته التي لم تعرف العوج قط، وشدته في الدين، وفقهه بالكتاب والسنة، واستقامة رأيه» [57].
وقد لخص ابن حجر العسقلاني اهم خصائص الامام حين قال: [58].
علي بن ابي طالب.. اول الناس اسلاما في قول كثير من اهل العلم، ربي في حجر
[صفحه 40]
النبي، ولم يفارقه، وشهد معه المشاهد الا غزوة تبوك، فقال له بسبب تأخيره له بالمدينة:
الا ترضي ان تكون مني بمنزلة هارون من موسي …
وكان لواؤه بيده في اكثر المشاهد. ولما آخي النبي اصحابه قال له: انت اخي. ومناقبه كثيرة حتي قال الامام احمد بن حنبل لم ينقل لاحد من الصحابة ما نقل لعلي.
وقال غيره: كان سبب ذلك بغض بني امية له. فكان كل من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يثبته. وكلما ارادوا اخماده وهددوا من حدث بما فيه لا يزداد الا انتشارا …
ولم يزل بعد النبي متصديا لنصرة العلم والفتيا …
ومن خصائص علي قول الرسول يوم خيبر:
لادفعن الراية غدا الي رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله … فدفعها لعلي.
فقال عمر: ما احببت الامارة الا ذلك اليوم …
وبعثه يقرأ براءة علي قريش وقال: لا يذهب الا رجل مني وانا منه..
وقال: علي وليي في الدنيا والاخرة. واخذ رداء فوضعه علي علي وفاطمة وحسن وحسين، وقال:
«انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت … الاية» [59].
ولبس ثوبه ونام في مكانه، وكان المشركون قصدوا قتل النبي … وقال:
انت ولي كل مؤمن بعدي. وسد الابواب الا باب علي [60] فيدخل المسجد جنبا، وهو طريقه ليس له طريق غيره. وقال:
من كنت مولاه فعلي مولاه.. ولما نزلت هذه الاية: «قل تعالوا ندع ابناءنا
[صفحه 41]
وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم … الاية» [61] دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: اللهم هؤلاء اهلي..
واخرج الترمذي باسناد قوي عن عمران بن حصين في قصة قال فيها رسول الله: ما تريدون من علي؟ ان عليا مني وانا من علي، وهو ولي كل مؤمن بعدي».
فما الذي حال اذن دونه ودون ارتقاء منبر النبي بعد وفاته مباشرة؟
ان الاجابة علي هذا السؤال تستلزم ان يتطرق الباحث الي ذكر ظروف وفاة الرسول؛ وانشغال الامام بتغسيله وتجهيزه ودفنه والصلاة عليه من جهة، وباجتماع الانصار في سقيفة بني ساعدة وموقف عمر بن الخطاب من ذلك كله من جهة اخري، والي قول ذكره عمر، علي ما يظن، وتردد علي ألسنة بعض القرشيين يتضمن كرههم ان تجتمع النبوة والخلافة للهاشميين.
وخلاصة الامر ان الرسول توفي داره بالمدينة سنة 11 ه وانشغل علي بأمر تغسيله وتكفينه والصلاة عليه. وكان الجو السياسي خارج دار النبي آنذاك نشطا مملوءاً بالمفاجآة والاحداث الجسام، وفي مقدمتها مسألة خليفة الرسول.
اجتمع عمر بأبي عبيدة بمسجد المدينة وتشاورا في امر الخلافة، واجتمع سعد ابن عبادة بسقيفة بني ساعدة يشاور الاوس والخزرج في امر الخلافة ايضا. واجتمعت في اماكن شتي زمر اخري تتحدث في هذا الامر الخطير. علي حين ان الامام عليا قد لازم في دار النبي، وكان منهمكا باعداد الجثمان لوضعه في مثواه الاخير يساعده نفر من اهل البيت المفجوعين، ومنهم ابوبكر [62].
ومما يلفت النظر ان ابا بكر قد قدم من السنح [63] بعد ان بلغه خبر وفاة الرسول،
[صفحه 42]
فدخل دار النبي في حين ان عمر بن الخطاب قد بقي خارج الدار.
وفي زحمة تلك الظروف طرق باب دار النبي رجل اوفده ابن الخطاب يدعو ابا بكر لمقابلة عمر للتشاور معه في امر عظيم، فخرج ابوبكر والتقي بصاحبه وسارا معا الي السقيفة، حيث اجتمع الاوس والخزرج بسعد بن عبادة.
استمر الامام المفجوع منهمكا في امر الجثمان والالم يحز نفسه علي وفاة الرسول.
وساور العباس عم النبي قلق شديد يتصل بارث النبي، وبالمهة السرية التي قدم عمر متكتما من اجلها للتداول مع ابي بكر دون سواه ممن في الدار، فهم بمبايعة الامام.
غير ان عليا رفض ذلك بشدة احتراما لجلال الموقف الرهيب..
وتقدم ابوسفيان لمبايعة الامام بالخلافة ايضا فنهره … ثلاث مرات …
ويلوح الباحث ان اجتماع الانصار بابن عبادة في السقيفة لم يكن في ابتدائه راميا للاستئثار بتراث النبي بقدر ما كان راميا لتقرير منزلتهم في العهد الجديد.
ومهما يكن الامر فقد رافق اجتماع السقيفة شيء من التأزم والامتعاض، وبخاصة عندما حضره ابوبكر وابوعبيدة بن الجراح، غير انه انتهي بمبايعة ابي بكر علي الشكل المعروف.
وخلاصة ذلك [64] ان الانصار من الاوس والخزرج وفيهم سعد بن عبادة الذي كان مريضا حينذاك قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول مباشرة للتداول في تقرير مصيرهم في العهد الجديد فقال سعد بن عبادة لبعض بنيه:
[صفحه 43]
انه لا يستطيع ان يسمع المجتمعين صوته لمرضه، وامره ان يتلقي منه قوله ويردده علي مسامع الناس، فكان سعد يتكلم ويستمع اليه ابنه، ويرفع صوته بعد ذلك.
قال سعد: يخاطب الحاضرين: «ان لكم سابقة الي الدين، وفضيلة في الاسلام ليست لقبيلة من العرب … ان رسول الله لبث في قومه بضع عشرة يدعوهم الي عبادة الرحمن وخلع الاوثان. فما آمن من قومه الا قليل، حتي اراد بكم خير الفضيلة وساق اليكم الكرامة وخصكم بدينه، فكنتم اشد الناس علي من تخلف عنه، واثقلهم علي عدوه من غيركم. ثم توفاه الله وهو عنكم راض.. فشدوا ايديكم بهذا الامر فانكم احق الناس واولاهم به».
واتي الخبر عمر فأتي باب منزل النبي واستدعي ابا بكر كما ذكرنا وخرجا الي السقيفة، وخطب ابوبكر في المجتمعين فقال:
«انا معاشر المسلمين المهاجرين اول الناس اسلاما. ونحن عشيرة رسول الله.. وانتم انصار الله.. واخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في الدين، وفيما كنا فيه من خير فأنتم احب الناس الينا واكرمهم علينا.. وانتم المؤثرون علي انفسهم حين الخصاصة، واحق الناس ان لايكون انتقاض هذا واختلاطه علي ايديكم، وانا ادعوكم الي ابي عبيدة: او عمر، فكلاهما قد رضيت لهذا وكلاهما اراه له اهلا، فقال عمر وابوعبيدة: ماينبغي لاحد من الناس ان يكون فوقك.. فأنت احق الناس بهذا الامر.. فقام الحباب بن المنذر من الجموع فقال:
«يا معاشر الانصار املكوا عليكم ايديكم.. والله ما عبدالله علانية الا عندكم، فأنتم اهل الايواء والنصرة. واليكم كانت الهجرة.. فان ابي هؤلاء فمنا امير ومنهم امير».
فقال عمر: هيهات..
فلما رأي بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الانصار من تأمير سعد ابن عبادة، وكان حاسدا له: وكان من سادات الخزرج قام فقال:
[صفحه 44]
«ايها الانصار انا وان كنا ذوي سابقة فانا لم يرد بجهادنا، واسلامنا الا رضا الله وطاعة نبينا.. ان محمدا رجل من قريش وقومه احق بميراث امره.. فاتقوا الله ولاتنازعوهم».
فقام ابوبكر وقال: «هذا عمر وابوعبيدة، بايعوا ايهما شئتم، فقالا: «والله لا نتولي هذا عليك.. ابسط يدك نبايعك».
فلما بسط يده وذهبا يبايعانه.. سبقهما اليه بشير بن سعد فبايعه.. فناداه الحباب ابن المنذر:
«يابشير عقق عقاق، والله ما اضطرك الي هذا الامر الا الحسد لابن عمك».
ولما رأت الاوس ان رئيسا من رؤساء الخزرج قد بايع قام اسيد بن حضير وهو رئيس الاوس فبايع حسدا لسعد ايضا ومنافسة له ان يلي الامة فبايعت الاوس كلها لما بايع اسيد.
وحمل سعد بن عبادة وهو مريض فأدخل الي منزله فامتنع عن البيعة.
ثم خرج الي الشام فاغتيل في اواخر خلافة ابي بكر، وقد اتهم خالد بن الوليد بتدبير مؤامرة الاغتيال.
وبعد الانتهاء من ذلك قصد البراء بن عازب دار النبي وفيها جثمان الرسول وحوله علي واهل بيته فخاطبهم قائلا:
«لقد شهدت ابا بكر بعد السقيفة بعيني: الي يمينه عمر، والي يساره ابن الجراح لا يمر بهم احد ولايمرون بأحد الا قدموا يده شاء ام ابي فمسحوها علي يد ابي بكر» [65].
تلك قصة السقيفة، وهي قصة لاتخلو من امور واحداث تسترعي انتباه الباحثين
[صفحه 45]
فمن يتصفح اجتماع السقيفة بدقة وامعان ويتأمل النتيجة التي ادي اليها ذلك الاجتماع الذي اسفر عن ارتقاء ابي بكر منبر النبي لا يسعه ان يغفل الدور الحاسم الذي لعبه عمر بن الخطاب في هذا الموضوع الخطير.
ولاندري لماذا احجم ابن الخطاب عن دخول دار النبي والمساهمة في تهيئة الجثمان ووضعه في مثواه الاخير.
ولماذا احجم ثانية عن دخول الدار «حينما رأي اجتماع الاوس والخزرج في السقيفة، للاتصال مباشرة بأبي بكر؟.
لماذا فضل عمر ان يمكث بباب دار النبي ويرسل شخصا غيره يدعو ابا بكر ليقابله خارج الدار؟.
ولماذا اقتصرت المشاورة علي ابي بكر دون سواه من اهل البيت ومن اصحاب الرسول؟.
هل كان وجود ابي بكر داخل دار النبي وبقاء عمر خارجها طليقا يتصل ويفاوض، من الامور التي وقعت مصادفة؟ ام كان موضوعا وفق خطة معينة اتفق عليها الرجلان؟
هل بقي ابوبكر في دار النبي رقيبا علي من فيها لضمان عدم مفارقتها اياها ولمعرفة من يتصل بهم من الاشخاص الموجودين خارجها لتحديد هذا الاتصال في حالة حدوثه، او لمنع حدوثه بمجرد وجوده هناك؟
هل هناك علاقة بين هذه الحادثة، وبين جيش اسامة وقضية الدواة والقرطاس؟
ما هي الامور التي تم الاتفاق عليها بين عمر، وابن الجراح، عندما كانا يتناجيان في مسجد المدينة قبل ان يدعي اليهما ابوبكر؟
لماذا احتج ابوبكر علي الانصار بأفضلية المهاجرين؟
هل كان ابوبكر يعني المهاجرين اطلاقا، ام الذين حضروا السقيفة هو وعمر وابوعبيدة لكسب معركة الرئاسة؟
واذا كان المهاجرين اولي بميراث النبي من غيرهم لسابقتهم في الاسلام
[صفحه 46]
ولكونهم عشيرة النبي علي حد قول ابي بكر، افلا يصبح الهاشميون اولي من قريش؟ وعلي اولي من الجميع؟ لان مقياس الفضل الذي وضعه ابوبكر في كلمته التي ذكرناها، كان ينحصر في السابقة الي الاسلام وفي القرابة من النبي.
لماذا رشح ابوبكر صاحبيه للخلافة دون سائر المهاجرين؟ ماحقه في ذلك الترشيح؟
ما اثر رضائه عن عمر، وابي عبيدة من الناحية الشرعية؟
الم يكن باستطاعنه ان يدعو الانصار الي مبايعة من يرتضونه من المهاجرين اذا كان لابد من حصر الخلافة في المهاجرين؟
لماذا اقتصر ترشيحه علي عمر، وابي عبيدة؟
ولماذا رفض عمر وابوعبيدة هذا الترشيح؟ ورشحا ابا بكر؟
هل حدث ذلك صدفة ام انه كان جاريا وفق اتفاق سابق؟
هل لتلك الاحداث علاقة بجيش اسامة؟ وبمناجاة عمر وابي عبيدة في مسجد المدينة؟ وباجتماعهما بأبي بكر اثناء المسير الي السقيفة؟
اين كان المهاجرون الاخرون اثناء اجتماع السقيفة.
هل حصل التنابز بين الانصار الاوس والخزرج عفوا؟ ام كانت هناك اياد خفية اثارته في تلك اللحظة الحاسمة من التاريخ؟
هل كان باستطاعة ابي بكر او عمر عن يقترحا علي الانصار تأجيل البت في امر الخلافة الي ما بعد الانتهاء من دفن جثمان الرسول؟
هل لذلك صلة بحديث الدواة والقرطاس. وبجيش اسامة.
تلك اسئلة تسترعي انتباه الباحثين.
وعندي ان الاجابة عليها ذات صلة وثقي بشخصية عمر بن الخطاب، «ان الذي يؤخذ علي ابن الخطاب حقا انه دعا ابا بكر من دار النبي ولم يدع معه احدا من آل الرسول.. وأنه وضع أبا بكر في كفة الترجيح دون مشورة رجل واحد غير أبي عبيد ابن الجراح كأنه وكل بقلوب المسلمين يكشفها، وبألسنتهم يجري عليها الكلام رغم
[صفحه 47]
تخلفه عن كثيرين منهم وسبقهم عليه بالاسلام..
ولقد كانت في الرجل دفعة لامراء، عرفت فيه ابان اسلامه وشركه.. استبدت به جاهليته ذات ليلة … فأقسم ليمشين الي محمد فيقتله.. تلك كانت دفعة عمر عرفت فيه كبعض خلقه، راضها الاسلام.. ولكنه لم يأت عليها.. حتي في حضرة الرسول كانت تملكه..
وكذلك كان يوم الحديبية.. فان عمر لم يتحر مشورة رجل واحد من المسلمين قبل ان يبعث رسوله الي دار النبي يدعوا صاحبه اليه.. لم يتحر مشورة مسلم واحد في ترشيح الرجل الذي ستصير اليه قيادة الاسلام» [66].
لقد مر بنا وصف مجمل للظروف التي احاطت بوفاة الرسول وبيعة ابي بكر.
وهناك امر آخر يتعلق اشد التعلق بموضوع تحويل الخلافة من علي اشار اليه الجاحظ فيما يتصل بموقف زعماء قريش من علي بعد وفاة الرسول لابد من ذكره في هذه المناسبة.
فالامام في حروبه مع النبي ضد قريش كان قد وترها كما يقول الجاحظ: «وسفك دماءها وكشف عن منابذها.. وليس الاسلام بمانع من بقاء الاحقاد في النفوس.. هب انك كنت من سنتين او ثلاث جاهلياً..
وقد قتل واحد من المسلمين ابنك او اخاك ثم اسلمت، اكان اسلامك يذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه؟..
هذا اذا كان الاسلام صحيحا.. لا كاسلام كثير من العرب فبعضهم تقليدا، وبعضهم للطمع والكسب، وبعضهم خوفا من السيف، وبعضهم عن طريق الحمية والانتصار لعداوة قوم آخرين من اضداد الاسلام واعدائه.
واعلم ان كل دم اراقه رسول الله بسيف علي وبسيف غيره فان العرب بعد
[صفحه 48]
وفاته عصبت تلك الدماء بعلي وحده لانه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعتهم وعادتهم ان يعصب به تلك الدماء الا علي وحده» [67].
يتضح مما ذكرنا ان الذي حال بين علي والخلافة بعد وفاة الرسول مباشرة، اذا استثنينا النص علي وصيته الذي يقول به فريق من المسلمين، ليس هو شيئا متعلقا بأهليته لتحمل مسئولية هذا المنصب الخطير ولكنه كان، كما رأينا، نتاج ظروف اجتماعية خاصة نتجت عن انشغال الامام بجثمان الرسول وعن تنازع بعض كبار المهاجرين والانصار للاستئثار بتراث الراحل العظيم.
ولو انصف الناس حق الانصاف لارجأوا البيعة حتي يتم لهم مواراة جثمان الرسول.. كان ذلك ادني الي الصواب ان لم يكن هو الصواب ان يترك القوم من المهاجرين والانصار لايتنازعون سلطان محمد بينهم، ومحمد ما زال مسجي علي فراشه لم يغيبه عن عيونهم مثواه» [68] ومهما يكن من الامر فقد نحي الامام علي عن الخلافة، ولكنه مع ذلك، تعاون مع ابي بكر بقلبه ولسانه ويده في جميع الامور التي تتصل بجوهر الاسلام والمحافظة عليه، استمع اليه يقول:
«اما بعد، فان الله بعث محمداً نذيراً للعالمين.. فلما مضي تنازع المسلمون الامر بعده، فوالله ماكان يلقي في روعي ولايخطر ببالي ان العرب تزعج هذا الامر من بعده عن اهل بيته، ولا انهم منحوه عني من بعده، فما راعني الا انثيال الناس علي فلان [69] يبايعونه. فأمسكت بيدي حين رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام …
فخشيت ان لم انصر الاسلام واهله ان اري فيه ثلما او هدما تكون المصيبة به عليّ اعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع ايام قلائل» [70].
[صفحه 49]
ولم يختلف الامام مع ابي بكر او مع الذين جاءوا من بعده الا في الامور التي ساقه اجتهاده الشخصي اليها حرصا علي الاسلام كذلك.
ويتجلي كبر نفس الامام في هذا الباب اذا تذكرنا بعض المواقف الغليظة التي وقفها منه ابوبكر في صدر خلافته، ربما بتأثير من عمر، وبخاصة في قضية ميراث فدك:
«فقد سبقت الشائعات خطوات ابن الخطاب وهو يسير الي دار فاطمة … لطلب البيعة لابي بكر. وهل علي ألسنة الناس عقال يمنعها ان تروي قصة حطب امر به ابن الخطاب فأحاط بدار فاطمة وفيها علي وصحبه!! [71].
وخلاصة قصة فدك: قرية حجازية قريبة من المدينة، سكنها اليهود منذ زمن بعيد وعمروها وزرعوها.
وفي السنة السابعة للهجرة اعلن سكانها خضوعهم للرسول دون حرب فأصبحت فدك خالصة للنبي من دون المسلمين وفق منطوق الاية الكريمة: «وما افاء الله علي رسوله منهم فما اوجفتم عليه من خيل ولا ركاب» [72].
وقد وهب الرسول فدك في حياته لابنته فاطمة بعد ان غرس فيها بيده الكريمة احدي عشرة نخلة. فكانت السيدة فاطمة هي التي تتصرف بفدك منذ ان وهبها لها ابوها حتي وفاته حيث انتزعها منها ابوبكر بعد توليته الخلافة مباشرة.
وقد اشار الي ذلك الامام في احدي رسائله الي عثمان بن حنيف حين قال:
«بلي كانت في ايدينا فدك من كل ما اظلته السماء فشحت بها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين … » [73].
[صفحه 50]
فالسيدة فاطمة اذن تستحق ميراث فدك من ناحيتين. هما الميراث والنحلة.
وكان علي الخليفة وقد ارتأي انتزاعها منها ان يبقيها تحت تصرفها مجاملة للرسول ولها، ويقترح في حالة اختلافه معها انفاق بعض غلتها في وجوه الخير التي يتفق عليها الطرفان.
هذا اذا سلمنا جدلا بأنها لاترث ابيها، وان النبي لم يهبها اياها في حياته.
كما كان علي الخليفة كذلك، من الناحية القانونية العرفية، وقد قرر ان ينتزعها من السيدة، ان يستبقيها في يدها الي ان يثبت له عدم احقيتها بها.
ومن الطريف ان نذكر قبل التصدي للبحث في طبيعة النزاع بين الزهراء وابي بكر في قضية فدك، ان فدك بقيت بيد الخلفاء الراشدين.
فلما استولي معاوية علي الملك قسمها مثالثة بين مروان بن الحكم، وعمرو ابن عثمان بن عفان، ويزيد ابنه وهو امر علي جانب كبير من الغرابة غير انها قد اصيحت خالصة لمروان في خلافته فوهبها لابنه عبدالعزيز الذي وهبها بدوره لابنه عمر الذي ردها عند توليته الخلافة، لاولاد فاطمة. وكان رده اياها، علي ما يقول المؤرخون:
اول ظلامة ردها، فلما ولي يزيد قبضها منهم فصارت في ايدي بني مروان، وبقيت كذلك الي سقوط دولتهم.
فما جاء العباسيون ردها السفاح الي اهلها. ثم قبضها المنصور.
وردها ابنه المهدي، وقبضها الهادي والرشيد.
وردها المأمون بعد ان ناظره في امرها شيخ طاعن في السن. ثم قبضها المعتصم
وبعد ذلك ضاعت معالمها علي المؤرخين.
ويلوح مما ذكرنا ان فدك كانت وسيلة بيد الخليفة ان شاء ردها لاهلها، وان شاء قبضها عنهم وفق مزاجه الخاص وحالته النفسية من جهة، وموقف الطالبيين في زمانه من الاحداث السياسية العامة في الدولة من جهة اخري.
[صفحه 51]
ولما كان ارجاع فدك الي ورثة السيدة فاطمة قد حصل في عهد المأمون بشكل يدعو الي التأمل ويشير بصراحة، لا لبس فيها ولاغموض، الي حق السيدة في فدك لذلك نري هنا اثباته هنا بالشكل الذي ذكره البلاذري [74]:
«ولما كانت سنة عشرة ومئتين امر المأمون.. برد فدك الي ولد فاطمة وكتب بذلك الي قثم بن جعفر عامله علي المدينة:
اما بعد، فان المؤمنين بمكانة من دين الله وخلافة رسوله والقرابة به، اولي من استن سنته ونفذ امره وسلم لمن منحه منحة وتصدق عليه بصدقة منحته وصدقته.
وقد كان رسول الله اعطي فاطمة بنت رسول الله فدك وتصدق بها عليها. وكان ذلك امراً ظاهرا معروفا لا اختلاف فيه..
فرأي امير المؤمنين ان يردها الي ورثتها ويسلمها اليهم تقربا الي الله باقامة حقه وعدله والي رسول الله بتنفيذ امره وصدقته.
فأمر باثبات ذلك في دواوينه والكتابة به الي عماله:
فلئن كان ينادي في كل موسم بعد ان قبض الله رسوله أن يذكر كل من كانت له صدقة او عدة ذلك فيقبل قوله وينفذ عدته، ان فاطمة لاولي بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله لها. وقد كتب امير المؤمنين الي المبارك الطبري مولي امير المؤمنين يأمره برد فدك علي ورثة فاطمة بنت رسول الله بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة اليها وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلك الي: محمد بن يحيي بن الحسين ابن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب، ومحمد بن عبدالله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب لتولية امير المؤمنين اياهمها القيام بها لاهلها.
فأعلم ذلك من رأي امير المؤمنين وما الهمه الله من طاعته ووفقه له من التقرب اليه والي رسوله. واعلمه من قبلك.
[صفحه 52]
وعامل محمد بن يحيي ومحمد بن عبدالله بما كنت تعامل به المبارك الطبري واعنهما علي ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها ان شاء الله والسلام».
وقد كتب ذلك في يوم الاربعاء لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة 210 ه وتصدي ابوبكر للرد علي السيدة فاطمة [75] في موضوع فدك من ناحية الميراث الي حديث انفرد بذكره علي مايبدو، هو:
«نحن معاشر الانبياء لا نورث. ما تركناه صدقة».
وقد انفرد ابوبكر كذلك بذكر حديث آخر عندما اختلف المسلمون في محل دفن النبي فقال: سمعت رسول الله يقول: «ما قبض نبي الا ودفن حيث قبض» في حين ان التاريخ علي ما يذكر الطبري يخبرنا ان الكثيرين من انبياء بني اسرائيل قد دفنوا في غير الاماكن التي قبضوا فيها.
وقد استغربت السيدة من ذلك اشد الاستغراب، وكانت هي دون شك اولي من غيرها بسماعه، لانه يخصها اكثر مما يخص ابي بكر.
كما ان عليا لم يسمعه كذلك بدليل ان فاطمة لم تخرج الي ابي بكر مطالبة بميراثها من فدك الا بعلم منه واذن منه كذلك.
ولاندري لماذا همس الرسول بهذا الحديث الي ابي بكر دون سائر المسلمين.
وقبل ان يصبح ابوبكر طرفا في النزاع علي هذا الميراث الذي يتصل بفاطمة وبنيها اشد الاتصال؟.
ومما يضعف هذا الحديث بنظر فاطمة انه يتنافي هو وكثير من الآيات القرآنية الصريحة في هذا الباب.
[صفحه 53]
فقد جاء في ذكر الميراث بشكل مطلق دون ان يستثني الانبياء من ذلك قوله تعالي في سورة النساء: «يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين» [76].
وجاء في ذكر الميراث الذي وقع بالفعل للانبياء الذين سبقوا محمدا قوله تعالي في سورة النمل: «وورث سليمان دواد وقال يا ايها الناس علمنا منطق الطير واوتينا من كل شيء ان هذا لهو الفضل المبين» [77].
وخاطب زكريا ربه في سورة مريم «قال رب اني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم اكن بدعائك رب شقيا، واني خفت الموالي من ورائي وكانت امرائتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا، يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا [78]».
لقد اشارت السيدة فاطمة الي ذلك كله في مناقشتها لابي بكر بمحضر جماعة من الصحابة، ثم ختمت محاورتها مع الخليفة قائلة:
«فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك … فنعم الحكم الله … والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون …
ياابن ابي قحافة افي كتاب الله ان ترث اباك ولا ارث ابي؟ لقد جئت شيئا فريا، افعلي عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء اظهركم؟
الم تسمع قوله تعالي: «واولوا الارحام بعضهم اولي ببعض في كتاب الله؟
اخصكم الله بآية اخرج ابي منها؟ ام تقولون: اهلي ملتين لا يتوارثان؟ اولست انا وابي من اهلي ملة واحدة؟ ام انتم اعلم بخصوص القرآن وعمومه من ابي وابن عمي؟».
ولما رأت السيدة فاطمة ان الخليفة مصر علي رأيه تركت الامر واعرضت عنه. ويلوح للباحث ان السيدة فاطمة كانت عارفة منذ البداية ان الخليفة سوف
[صفحه 54]
لا يعيد لها فدك، وانها ذهبت اليه لالقاء الحجة عليه، ولعل ذلك راجع الي انها لم تعرف من حيث الاساس بشرعية خلافته، فالشخص الذي له القدرة والجرأة علي سلب الخلافة من صاحبها الشرعي بنظرها لهو اقدر علي سلب فدك وامثالها!؟
واذا امعن الباحث في الحديث الذي ذكره ابوبكر في ضوء سيرة الرسول بصورة عامة امكنه ان يقول:
ان الرسول لم يستثن نفسه من الخضوع للقواعد العامة التي جاء بها الاسلام.
فما عرف عنه انه قال: «نحن معاشر الانبياء لا نصلي او لا نصوم.. الخ» فكيف يعزل عن ميراث فدك وحده!
فهل لقضية فدك جانب سياسي؟
هل قصد بذلك اخضاع السيدة فاطمة وزوجها لاوامر الخليفة لارغامها علي الاعتراف بخلافته التي قابلاها بالصدود والامتعاض؟
وهل لهذا الموضوع جانب اقتصادي؟ هل قصد بذلك حرمان علي من التمتع بواردات فدك وهي مورده الوحيد، لكيلا يصبح مكتفيا من الناحية الاقتصادية وليصرفه ذلك عن المطالبة بالخلافة؟
هل لموضوع فدك جانب مالي يتصل بوضع الدولة الاسلامية آنذاك وحاجتها الي المال لمواجهة الذين اتهموا بالارتداد عن دفع الزكاة؟
هل لقضية فدك جانب معنوي يتعلق بمحاولة تضعيف موقف آل النبي عند عامة المسلمين؟ فيقال: ان النبي قد حرمهم كل شيء حتي ميراثه من فدك؟ فتضعف حجتهم بالمطالبة بالخلافة؟ هل لموضوع فدك اكثر من عامل واحد؟ ثم لماذا وضع الرسول ان صح الحديث الذي استشهد به الخليفة صيغته بهذا الشكل من الاطلاق بحيث جعله يشمل معاشر الانبياء كافة؟ ما الهدف الذي كان يرمي اليه الرسول من هذا الحديث!
هل كان يخشي ان تتصرف السيدة فاطمة بعوائد فدك في غير اوجهها السليمة! واذا كان الامر كذلك فلماذا وضعها تحت تصرفها في حياته!!
[صفحه 55]
ويجمل بنا قبل ان نتصدي لبحث فدك من ناحية النحلة ان ننبه القاريء الي اننا عثرنا علي نقاش رائع من حيث الفكرة والاسلوب حصل بين قاضي القضاة والشريف المرتضي ذكره ابن ابي الحديد [79] الاول: ينفي ان يورث الانبياء، والثاني: يثبته.
يدلل الاول علي رأيه بأن ما ورد في القرآن لا يتضمن الا وراثة العلم والفضل.
ويبرهن الثاني علي ان الارث يتضمن المال والعقار او لا، ومن ثم العلم والفضل من باب التجوز؛ وان كلمة ميراث في اللغة، وما يتصل بها من المشتقات تعني بميراث الامور المعنوية من باب التجوز والاتساع، وان الدلالة اذا دلت في بعض الالفاظ علي معني المجاز فلا يجب ان يقتصر عليه، بل يجب ان نحمل معناها علي الحقيقة التي هي الاصل اذا لم يمنع من ذلك مانع. واذا فرضنا جدلا ان الميراث يقتصر علي العلم والفضل، الا يكون آل النبي، بحكم ذلك الميراث، اولي من غيرهم بالخلافة!
ذلك ما يتصل بموضوع فدك من ناحية الميراث.
اما ما يتصل به من ناحية النحلة فقد ذكرت السيدة فاطمة لابي بكر.
ان رسول الله قد وهبها فدك. فطلب الخليفة منها البينة علي ذلك، فقدمت له عليا، وام ايمن مربية الرسول فلم يلتفت الي ذلك وبدا كالمتشكك في شهادة سيدة، قمين بأبي بكر ان يسمو بها عن التشكك [80].
فليس من المتوقع ان تكذب السيدة فاطمة علي ابيها بعد موته بعشرة ايام فقط، وفي مسألة تافهة كفدك، او ان تكذب ام ايمن العجوز الجليلة التي رافقت الرسول من المهد الي اللحد ام ايمن التي خرجت مهاجرة الي رسول الله من مكة الي المدينة، وهي ماشية وليس معها زاد ام ايمن زوج زيد بن حارثة مولي النبي وام اسامة بن زيد!! او ان يكذب ابن ابي طالب!!
[صفحه 56]
ولاندري كيف فات ابا بكر ان يتذكر ان الله قد انزل قرآنا في علي وفاطمة واذهب عنهما الرجس [81].
وقد كان المتوقع ان يكتفي الخليفة برواية فاطمة وحدها كما اكتفي ابوها قبل ذلك حين نازعه اعرابي في ناقة ادعي كل منهما انها ناقته.
فشهد خزيمة بن ثابت للرسول فأجاز شهادته وجعلها شهادتين فسمي ذا الشهادتين، ولكن موضوع السيدة فاطمة مع هذا لا يحتاج الي شهود ذلك لانها روت رواية عن ابيها، كما روي ابوبكر رواية اخري.
وان السيدة فاطمة لم تطلب منه البينة علي ما ادعاه علي الرغم من شكها في صحته اما الشهود فموقعهم في الدعوي.
استمع الي قوله تعالي في سورة البقرة: «يا ايها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين الي اجل مسمي فاكتبوه … واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان» [82].
والجحة التي نستند اليها في اهمية شهادة فاطمة ان موقفها عند الرسول من حيث صدقها لا يقل، علي اسوأ الفروض، عن موقع خزيمة بن ثابت.
ويصدق الشيء نفسه علي ام ايمن، وابن ابي طالب الذي لم يعرف عنه قط الا اتباع الحق وقول الصدق.
فموقف ابي بكر غريب في بابه: واغرب منه انه ترك سيف رسول الله، ونعله، وعمامته، في يد علي علي سبيل النحلة بغير بينة ظهرت ولا شهادة قامت.
كما انه لم ينتزع من علي الخاتم والسيف اللذين وهبهما له النبي اثناء مرضه.
ولم يطالب كذلك بثياب الرسول التي مات فيها فأخذتها فاطمة بعد موته. ولا بحجر رسول الله التي بقيت بيد نسائه.
[صفحه 57]
ولم يطلب ابوبكر من جابر علي رواية البخاري [83] البينة علي دعواه حين زعم ان رسول الله وعده باعطائه مقدارا معينا من المال، بل سلمه اياه عندما ورده مال من قبل العلاء بن الحضرمي.
كما ان ابا بكر ايضا ام يطلب البينة عندما قدم عليه مال من البحرين من ابي بشير المازني حين ادعي ان النبي قال له اذا جاءنا شيء فائتنا، وانما دفع له حفنتين او ثلاثا من ذلك المال.
واذا كان النبي لايورث، وما تركه صدقة، فكيف يجوز ان يواري جثمانه في الحجرة التي كانت تسكنها زوجته عائشة بنت الخليفة؟
لان تلك الحجرة قد اصبحت صدقة بعد وفاة الرسول مباشرة بحكم ذلك الحديث».
ثم كيف نوفق بين ذلك الحديث وبين الحديث الآخر الذي انفرد بذكره ابوبكر القائل بأن الانبياء يدفنون حيث يقبضون؟ افي الحديث ناسخ ومنسوخ؟
ثم كيف نفذ الخليفة محتويات «الحديثين» علي تناقضهما؟
وبقدر ما يتعلق الامر بالحديث الثاني يمكننا ان نقول: ان النبي يموت في احد موضعين: ما كان يملكه قبل وفاته! وما كان يملكه غيره من الناس.
ولايجوز ان يدفن جثمانه في المحل الاول لانه اصبح صدقة علي رواية ابي بكر عن النبي، كما لا يجوز دفنه في المحل الثاني لان ملكيته عائدة لغيره.
كيف السبيل الي الخروج من هذا المأزق الحرج؟
ثم كيف جاز لابي بكر نفسه ان يطلب بدفن جثمانه قرب النبي؟ في ارض لاحق له بها من الناحية الشرعية؟.
واذا كان دفن جثمان النبي علي الشكل الذي ذكرناه مستندا الي الحديث الذي ذكره ابوبكر، فالي اي حديث يستند ابوبكر في طلب دفنه بجوار النبي؟
هل قال النبي: يدفن الخليفة الاول قريبا مني؟
[صفحه 58]
كل ذلك غريب في بابه، واغرب منه ان كثيرا من المفسرين قد تكلفوا فيما بعد تفسير آيات الميراث، فزعموا للرد علي من طعن بصحة الحديث بأن الوراثة المذكور في القرآن مقصورة علي العلم والفضل، دون سائر الامور.
ولسنا نعلم كيف يورث العلم والفضل، وهو امر يخالف ما الفه الناس من قديم الزمان، ويتعارض مه ابسط مباديء علم النفس وعلم الاجتماع؟
واغرب من ذلك كله ان الخليفة يحرم السيدة فاطمة ميراث فدك ليطبق الحديث الذي انفرد بذكره في الوقت الذي يخالف فيه حديثا آخر اجمع الرواة علي صحته باعتراف ابي بكر نفسه:
«فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذي الله» [84].
ولاندري، بالاضافة الي كل ماذكرنا. كيف فات ابا بكر ان يتذكر موقف الرسول من ابي العاص بن الربيع زوج زينب بنت خديجة زوج النبي حين اسر في بدر مع المشركين.
والي القاريء تلك القصة علي مارواها ابن الاثير [85].
«وكان في الاساري ابوالعاص بن الربيع بن عبدالعزي بن عبدشمس زوج زينب بنت خديجة [86].
[صفحه 59]
فما بعثت قريش في فداء الاساري بعثت زينب بفداء ابي العاص زوجها بقلادة لها كانت خديجة ادخلتها معها، فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة، وقال:
ان رأيتم ان تطلقوا اسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا، فأطلقوا لها اسيرها وردوا القلادة …
فلما كان قبل الفتح خرج ابوالعاص تاجرا الي الشام بأمواله واموال رجال قريش.
فلما عاد لقيته سرية لرسول الله فأخذوا ما معه وهرب منهم، فما كان الليل اتي الي المدينة فدخل علي زينب.
فلما كان الصبح خرج رسول الله الي الصلاة فنادت زينب من صفة النساء:
«ايها الناس اني قد اجرت ابا العاص.. فقال رسول الله: ان رأيتم ان تردوا عليه الذي له فانا نحب ذلك، واذا ابيتم فهو في الله الذي افاء عليكم وانتم احق به.
قالوا: يا رسول الله نرده عليه، فردوا ماله كله حتي الشظاظ» [87].
نقول: الم يكن باستطاعة ابي بكر في حالة التسليم معه بأن السيدة فاطمة لا ترث ابيها، وان النبي لم يهب فدكا لها ان يتخذ موقفا كهذا الذي اشرنا اليه؟ مع وجود الفارق الكبير بين الحالتين، فقد وهب المسلمون حقهم لابي العاص المشرك، وكانوا دون شك علي استعداد تام لوهب حقوقهم في حالة التسليم بصحة الاجراءات التي اتخذها الخليفة الي ابنة الرسول. الم يكن تصرف الرسول مع ابي العاص في الحالتين سنة! فهل يعتبر ترك ابي بكر لها في هذه الحالة منسجما مع السنة!!
[صفحه 60]

عمر بن الخطاب

اما والله لقد تقمصها ابن [88] ابي قحافة، وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحي.. فسدلت دونها ثوباً.. حتي اذا مضي الاول لسبيله فأدلي بها الي ابن الخطاب بعده.. فصبرت علي طول المدة وشدة المحنة.. فواعجبا بينما هو يستقيلها في حياته اذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعيها».
وهكذا كان: انتقلت الخلافة التي تسلمها ابوبكر، بجهود عمر كما ذكرنا في حديث السقيفة، الي عمر نفسه بعد وفاة صاحبه، وقبل ان يوصي ابوبكر بالخلافة من بعده لعمر، استدعي قبل وفاته عبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، لاستشارتهما في موضوع تخليفه عمر بن الخطاب، فسألهما رأيهما في عمر، فكان جواب الاول:
ان عمر «افضل من رأيك فيه» [89] مع العلم ان عمر كان يحتل المركز الاول
[صفحه 61]
عند ابي بكر، فكيف به اذا كان احسن من رأي ابي بكر فيه!!؟
وكان جواب الثاني «ان سريرته خير من علانيته، وان ليس فينا مثله» [90].
ولاندري فيما اذا كان الرجلان يؤمنان حقا بما قالاه، ام انهما عرفا اتجاه الخليفة فجاملاه!!؟
وعلي اي حال فقد امر ابوبكر عثمان ان يكتب عهده لعمر كما هو معروف.
ويذكر المؤرخون: ان ابا بكر عندما كان يملي عهده لابن الخطاب علي عثمان اغمي عليه قبل ان يذكر اسم ابن الخطاب.
وان عثمان وضعه من نفسه مستدلا علي ذلك من الاتجاه العام لمجري الامور.
فلما افاق ابوبكر: قرأ العهد عثمان عليه، فأقره واستحسنه ولسنا نعلم كيف اجاز عثمان لنفسه ذلك؟ اينسجم ذلك العمل مع اوليات مبدأ الامانة؟
ولو فرضنا ان ابا بكر قد توفي اثناء تلك الاغماءة، فهل يجوز اعتبار العهد سليما من الناحية الشرعية؟
ولا ندري لماذا استشار ابوبكر عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان دون سائر الصحابة، ولماذا فكر ابوبكر في امر الخلافة بعده، من الناحية المبدئية العامة بغض النظر عن تولية عمر بالذات في حين ان الرسول صلي الله عليه وآله وسلم من وجهة نظر ابي بكر، لم يفكر في هذا الامر؟
واذا كانت مصلحة المسلمين تستلزم ذلك، فهل يكون ابوبكر احرص من النبي صلي الله عليه وسلم عليها، واذا كان ترك الرسول امر الخلافة من بعده للمسلمين انفسهم حسب وجهة نظر بعض المسلمين سنة، فهل ايصاء ابي بكر لعمر يتفق مع السنة؟
ثم لماذا سأل ابوبكر: عبدالرحمن وعثمان عن رأيهما في عمر بالذات دون سواه من المسلمين! والشيء الذي لا يرقي اليه الشك هو:
[صفحه 62]
«ان ابا بكر رأي لعمر عليه حقا حين استخلفه.. ولكن الاسلوب الذي انتهجه عند الاختيار كان اسلوبا يستطاع وسمه بالهنات والاخطاء!
فان الشيخ لم يتناول الامر بالصراحة الواجبة، بل بدأ كأنه اضمر التثبيت، وشاء تدبيره علي غير علم من آل بيت الرسول، ووقع بهذا في الخطأ الذي وقع فيه عمر من قبل عند وفاة الرسول..
اسقط ابوبكر من حسابه: عليا، الذي كان اولي بالرعاية وبالحساب من سواه» [91].
ومما يلفت النظر في الامر حقاً، كما سلف ان ذكرنا، ان ابا بكر الذي كان يذهب مذهب القائلين بأن النبي ترك امر الخلافة من بعده للمسلمين قد اوصي بالخلافة من بعده لعمر!؟.
«حتي اذا مضي الثاني لسبيله جعلها في جماعة زعم اني احدهم.. فيا لله وللشوري متي اعترض الريب فيّ مع الاول منهم حتي صرت اقرن الي هذه النظائر!!» [92].
قال عمر بن ميمون الاسدي، علي ما يذكر ابن الاثير [93]:
«لما طعن عمر بن الخطاب [94] قيل له: يا امير المؤمنين لو استخلفت؟ فقال:
[صفحه 63]
من استخلف؟ لو كان ابوعبيدة حيا لاستخلفته وقلت لربي ان سألني سمعت نبيك يقول: انه امين هذه الامة.
ولو كان سالم مولي حذيفة حيا لاستخلفته وقلت لربي ان سألني سمعت نبيك يقول: «ان سالما شديد الحب لله».
وعندي لو ان ابا عبيدة كان حيا لاستخلفه عمر، لا لكونه امين هذه الامة علي حد تعبير ابن الخطاب ولكن لانه كان ثالث: اصحاب السقيفة، ولتأخر بذلك استخلاف عثمان بن عفان، ولاصبح الخلفاء الراشدون خمسة في حالة وصول الخلافة لعلي، وجريان الاحداث في عهد عثمان الخليفة الرابع علي الشكل الذي جرت عليه في عهده وهو: الخليفة الثالث.
ولاندري ما الذي حال بين عمر وبين دفع الخلافة الي ابي عبيدة بعد وفاة الرسول مادام قد سمع قول النبي الآنف الذكر!! وان يقترح علي الانصار في السقيفة ان يحولوا الخلافة الي ابن الجراح، او الي سالم!! او ان يقول لابي بكر آنذاك حين طلب من الانصار ان يبايعوا عمراً وابا عبيدة اننا نبايع ابا عبيدة او سالما، لان الرسول قال فيهما: كذا وكذا!!
ولماذا بايع ابن الخطاب ابا بكر بالخلافة دون ان يقول فيه الرسول ماقاله في ابي عبيدة او في سالم؟؟. ولماذا لم يقترح عمر علي ابي بكر ان يسلم الخلافة من بعده الي ابي عبيدة بدلا من عمر نفسه؟ [95].
[صفحه 64]
واذا كانت شروط الخلافة لاتخرج عن توافر حب الشخص لله او كونه امين هذه الامة بشهادة الرسول فعلي بن ابي طالب اولي من غيره؛ فكيف غاب عن ذهن عمر قول رسول الله يوم خيبر علي ما ذكره الامام مسلم في صحيحه [96].
«لاعطين هذه الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله» الي آخر الحديث وتسليمه الراية لعلي؟
ومهما يكن من شيء فقد استدعي عمر بن الخطاب قبيل وفاته علي بن ابي طالب وعثمان بن عفان وسعد بن ابي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوام وقال لهم: «اذا مت تشاوروا ثلاثة ايام، وليصل بالناس صهيب، ولا يأتين اليوم الرابع الا وعليكم امير منكم، وليحضر عبدالله بن عمر مشيرا.. وطلحة بن عبيد الله [97] شريككم في الامر. فان قدم الثلاثة فاحضروه امركم.
وقال لابي طلحة الانصاري: اختر خمسين رجلا من الانصار فاستحث هؤلاء الرهط حتي يختاروا رجلا منهم.
وقال للمقداد بن الاسود: اذا وضعتموني في حفرتي [98] فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتي يختاروا رجلا منهم.. فان اجتمع خمسة وابي واحد فاشرخ رأسه بالسيف.
وان اتفق اربعة وابي اثنان فاضرب رؤوسهما.
وان رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا، فحكموا عبدالله بن عمر، فان لم يرضوا فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف [99].
واقتلوا الباقين ان رغبوا عما اجتمع عليه الناس
فلما مات عمر واخرجت جنازته صلي عليه صهيب، فلما دفن جمع المقداد اصحاب
[صفحه 65]
الشوري … وطلحة غائب … فقال عبدالرحمن:
ايكم يخرج منها نفسه.. علي ان يوليها افضلكم؟ فلم يجبه احد، فقال:
فأنا انخلع منها، فقال عثمان: انا اول من رضي، وقال القوم: قد رضينا، وعلي ساكت، فقال:
ما تقول يا ابا الحسن؟ قال:
اعطني موثقا لتؤثرن الحق، ولاتتبع الهوي، ولاتخص ذا رحم، ولاتألوا الامة نصحا» [100] فأعطاه الموثق المطلوب [101].
وبعد نقاش طويل بين الحاضرين نظر ابن عوف الي علي بن ابي طالب وقال: «ابايعك علي كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين ابي بكر وعمر، فقال علي:
بل علي كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي:
فعدل عنه الي عثمان، فعرض عليه ذلك، فقال: نعم، فعاد علي علي.، فأعاد قوله … فعل ذلك عبدالرحمن ثلاثا.
فلما رأي عليا غير راجع عما قاله، وان عثمان ينعم بالاجابة صفق علي يد عثمان وقال: السلام عليك يا امير المؤمنين.. ويقال:
ان عليا قال: والله ما فعلتها الا لانك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه» [102].
[صفحه 66]
فهل فعل ذلك عبدالرحمن عفوا ام انه امر مبيت قبل الاجتماع؟!
اليس القصد من وضعه شرط اتباع سيرة الشيخين يتضمن سلما اخراج علي من الموضوع. علي ان موضوع الشوري مع هذا يحتاج الي مناقشة وتدقيق.
وقبل ان نتصدي لمناقشته يجمل بنا ان نشير الي الامرين التاليين:
1 ذكر الطبري [103] رواية تتعلق بتصريح لعمر بن الخطاب اثناء انشغاله في قضية الشوري فحواه: ان عمر لما طعن ورفض امر الاستخلاف، وندم علي وفاة ابي عبيدة وسالم، كما ذكرنا.
قال لبعض عائديه من الصحابة وفيهم علي قبل تعيين رهط الشوري «اني كنت قد اجمعت قبل مقالتي لكم ان انظر فأولي رجلا امركم هو احراكم ان يحملكم علي الحق واشار الي علي.
ورهقتني غشية فرأيت رجلا دخل جنة ثم غرسها. فجعل يقطف كل غضة ويانعة فيضمه اليه، ويصيره تحته. فعلمت ان الله غالب علي امره، ومتوف عمر، فما اريد ان اتحملها حيا وميتا.
عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله: انهم من اهل الجنة:
سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل منهم، ولست مدخله.. وما اظن ان يلي الامر الا احد هذين الرجلين: علي وعثمان، فان ولي عثمان فرجل فيه لين.
وان ولي علي ففيه دعابة واحري به ان يحملهم علي طريق الحق»
2 وكتب مؤرخ آخر [104] ان عمر كان قد استدعي قبل ان يبت في امر الشوري كلا من الزبير وطلحة قبل سفره من المدينة وسعد وعبدالرحمن
[صفحه 67]
وعلي وعثمان، وقال:
«ما انت يا زبير! … يوما انسان ويوما شيطان.
وما انت ياطلحة! فقد مات رسول الله ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم انزلت آية الحجاب وفي رواية اخري:
«الست القائل: ان قبض محمد انكح ازواجه من بعده، فما جعل الله محمداً احق ببنات اعمامنا منا! فأنزل الله فيك قوله:
«وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا ازواجه من بعده ابداً» [105].
قال شيخنا ابوعثمان الجاحظ: لو قال لعمر قائل: انت قلت: ان رسول الله مات وهو راض عن الستة فكيف تقول لطلحة: انه مات ساخط عليك للكلمة التي قلتها، لكان قد رماه بمشاقصة..
ثم اقبل عمر علي سعد فقال: اما انت فصاحب مقنب من هذه المقانب تقاتل به وصاحب قنص وقوس، ومازهرة والخلافة، وامور الناس! ثم اقبل علي عبدالرحمن فقال. ليس يصلح هذا الامر لمن فيه ضعف كضعفك وما «زهرة» وهذه الامرة!
ثم اقبل علي علي فقال: لله انت لولا دعابة فيك!
اما والله لئن وليتهم لتحملنهم علي الحق الواضح.
ثم اقبل علي عثمان فقال: هيا اليك كأني بك قد قلدتك قريش هذا الامر فحملت بني امية وبني ابي معيط علي رقاب الناس وآثرتهم بالفيء».
واذا امعنا النظر في قضية الشوري، علي الشكل الذي ذكرناه، اتضح لنا ان عمر قد حددها تحديدا دقيقا وبين رأيه فيها فجعلها شوري مشروطة لا مطلقة.
واول ما يتبادر الي ذهن المرء في هذا الاشتراط هو رغبة عمر في حصول الاجماع بين رجال الشوري. وهو امر دون شك علي جانب كبير من الوجاهة
[صفحه 68]
من الناحية المبدئية، غير ان عمر قد قيد الشرط ايضا اي انه جعل الشرط نفسه مشروطا، ان جاز هذا التعبير فأمر المشرف علي شئون الشوري ان يشرخ رأس من يخالف الاكثرية، ورؤوس المخالفين في حالة انقسام المؤتمرين فيما بينهم الي نصفين للرأي المخالف للنصف الذي فيه عبدالرحمن ابوعوف.
ولسنا نعرف السر الذي دفع عمر الي ايثار ابن عوف بذلك سوي علاقات شخصية بين الرجلين ذكر الطبري [106] طرفا منها!!
ولم يعر ابن الخطاب علي مايبدو اية اهمية للأسس التي يستند اليها من يخالف رأي اكثرية المجتمعين، او رأي النصف الذي ينحاز اليه ابن عوف.
وهل يجيز القرآن او سنة الرسول ضرب اعناق رجال من المسلمين لمجرد انهم يجتهدون برأي يخالف الرهط الذي فيه عبدالرحمن بن عوف.
فكيف وهؤلاء المسلمين من خيرة اصحاب النبي بشهادة عمر نفسه؟ فقد استباح ابن الخطاب دماءهم بعد ثلاثة ايام فقط من بدء التداول في امر الشوري الذي يتوقف عليه مصير المسلمين.
ثم الم يكن تفكير عمر في امر خلافة المسلمين من بعده، كما فعل ابوبكر، يخالف سنة الرسول الذي مات من وجهة نظر عمر ولم يوص بالخلافة لاحد من بعده؟
ثم الا يجوز لنا ان نسأل عن حق هؤلاء الرهط في تقرير مصير الخلافة دون سائر المسلمين؟ واذا كان مجرد رضا النبي عنهم، اذا فرضنا صحة ذلك، مع العلم ان بعض المؤرخين كما سلف ان ذكرنا قد اشار الي غضب الرسول علي طلحة كافيا لترشيحهم للشوري، فلماذا لم يدخل عمر آخرين ممن كان الرسول راضيا عنهم من المهاجرين والانصار؟
[صفحه 69]
واذا كان سعيد بن عمرو بن نفيل حائزا علي شروط الشوري، باعتراف عمر نفسه كما ذكرنا فماذا استثناه عمر وحرمه من المساهمة في هذا الامر العظيم؟ وحرم رجال الشوري من رأيه؟
ومن الغريب ان يصف عمر عليا بالدعابة، ولم نسمع احدا غير عمر وصفه بذلك فقد كان علي معروفا بالزكانة والبعد عن المزاح والدعابة.
هذا معلوم ضرورة لمن سمع اخباره.. وقد روي عن ابن عباس انه قال:
كان امير المؤمنين اذا اتي هبنا ان نبدأه بالكلام.
وهذا لا يكون الا من شدة التزمت والتوقر، وما يخالف الدعابة والفكاهة [107] ثم الا يوجد تفاوت كبير بين رجال الشوري من حيث موقعهم من الرسول واثرهم في الاسلام. فلماذا اعتبرهم عمر علي درجة واحدة من الاثر في هذا الباب.
ثم اليست هناك روابط عائلية ومصلحية بين رجال الشوري.
الا تؤثر تلك الروابط علي سلامة الاختيار.
الم يقل عمر للزبير: انك يوما شيطان ويوما انسان … ولطلحة:
ما انزله الله فيه من قرآن. ولسعد … «فمن ذا يستطيع ان يقول: ان عمر لم يحدد موقفه من الشوري غاية التحديد.
ولم يقطع علي علي بالتلميح او التصريح الطرق الي ولاية الناس …
لقد الب عمر علي علي احقاد قريش. فمن لعلي برضي تيم وقد نافس شيخها ابا بكر
وهذا طلحة التميمي!، ومن له بمحو الاحقاد الاموية من بني هاشم.
وهذا عثمان! وقد ضمت الشوري ايضا سعد بن ابي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف، وكلا الرجلين من زهرة ولكليهما نسب موصول ببني امية.
اتي الاول من ناحية امه حمنة بنت سفيان.
[صفحه 70]
واتي الثاني من ناحية زوجه ام كلثوم بنت عقبة اخت عثمان [108].
ولنعد ثانية الي نص عبارة ابن الخطاب لرجل الشوري.
اليست صيغتها توحي بترشيح عمر عثمان لولاية المسلمين.
وهل الدعابة المزعومة في علي علي فرض وجودها جدلا عامل حاسم في ابعاد علي عن الخلافة علي الرغم من انه يحملهم بشهادة عمر نفسه، علي الحق الواضح.
ثم اذا كان عمر علي مايروي الطبري قد ارتأي ان يولي امور المسلمين رجلا هو احراهم ان يحملهم علي الحق واشار الي علي فماذا اقلع عن ذلك لالشيء وجيه سوي طيف الم به علي ما ذكر هو حسب رواية الطبري.
والخلاصة «ان قصة الشوري جديرة بأن يتلكأ عندها برهة ذهن المتدبر، لان فيها … خروجا علي مبدأ الشوري.. وتحكم الفرد في الجماعة … وفي نفر اختاره وفق تقديره ان لم يكن وفق هواه …
وفيها تعسف التسوية بين ستة تجاهر المزايا والفوارق بأنهم ليسوا سواء … وفيها تكتل القوي العصبية» [109].
ذلك ما يتصل بأمر الشوري بشكل عام.
اما ما يتصل بتفاصيل اجتماع رجالها بعد وفاة الخليفة، فان اول شيء «مكر به عبدالرحمن انه ابتدأ فأخرج نفسه من الامر ليتمكن من صرفه الي من يريد ليقال: انه لولا ايثاره للحق، وزهده في الولاية، لما اخرج نفسه منها» [110].
ولاندري فيما اذا كان تصرف ابن عوف قد حصل عفوا، ومن وحي الساعة ام انه امر متفق عليه قبل وفاة الخليفة!
[صفحه 71]
ثم ان عبدالرحمن باخراجه نفسه من الموضوع قد حصل علي امتياز خاص جعل امر الخلافة منوطا به، وقد حصل علي ذلك الامتياز دون ان يخسر شيئا في الواقع، ذلك لانه اخرج نفسه من امر الخلافة ما زال الي وقت خروجه منه غير مبتوت فيه.
فلماذا اذن وقف ابن عوف موقفه المعروف فخلع نفسه من الخلافة وهو امر لا يملكه قبل عملية الشوري وفي حالة انتخابه للخلافة.
ثم الم تؤثر صلة نسبه بعثمان في موقفه من علي.
ولماذا اشترط عبدالرحمن ان يسير علي علي ما سماه «سيرة الشيخين» بالاضافة الي القرآن وسنة الرسول.
هل سار الشيخان علي القرآن وسنة النبي وسيرة الشيخين. ام علي القرآن والسنة حسب اجتهاد كل منهما كما اراد علي ان يسير.
ثم هل هناك شيء محدد اسمه «سيرة الشيخين».
الم يختلف الشيخان اختلافات كثيرة فيما بينهما. وبقدر ما يتعلق الامر باختلاف سيرة ابي بكر في الخلافة عن سيرة عمر في كثير من القضايا يمكننا ان نذكر بعض الامثلة علي سبيل التمثيل لا الحصر.
ويجمل بنا قبل ذلك ان نشير الي ان عمر نفسه كثيرا ما تختلف سيرته عن سيرة النبي في بعض التصرفات العامة من ذلك مثلا طريقته في تقسيم العطاء بين المسلمين: اذ لابد ان حضرته آنذاك عوامل رجحت لديه رأيه.
ولكن مما لا ريب فيه ان عوامل اخري اقوي من السالفة قد غابت عنه، وكان اجدي به.. ان يعدل عما حزم عليه امره.. ولكنه رأي رأيا فالتزمه … وان رسول الله صاحب خير الآراء كان يسير علي نقيضه.
وكذلك نحا نحوه الخاص فلم يجعل الناس سواسية عند التقسيم، فبينما نسمع
[صفحه 72]
الصديق يأبي ان يفضل اهل السابقة الي الاسلام علي غيرهم.. اذ بابن الخطاب من بعده يخالفه» [111].
«ولعل آفة عمر كانت دفعته تلك التي اوقفته دائما مواقف انكرها من نفسه كلما فاتت آونتها واتسع امامه مجال التفكير …
وقد طالما افتي بالحكم ثم عاد فنقضه اذ يتروي.
وقد طالما دفعته الرغبة في الاصلاح الي سن الشرعة.. فاذا بها لا تلبث ان تتقوض امام شرعة اعلي جرت علي لسان غيره» [112].
وطالما عمل عملا بالاستناد الي قناعته الشخصية ثم عاد فأقلع عنه اذا تغيرت قناعته من ذلك، مثلا:
أ اتاه رجل فقال: «يا امير المؤمنين ان فلانا ظلمني فأعدني عليه، فرفع في السماء درته وضرب رأسه، وقال: تدعون عمر وهو معرض لكم، وحتي اذا شغل بأمر المسلمين اتيتموه: اعدني!! فانصرف الرجل يتذمر.
فقال عمر: عليّ بالرجل، فجيء به. فألقي اليه المخفقة فقال: اقتص، قال:
بل ادعه لله ولك، قال: ليس كذلك، بل تدعه اما لله وارادة ما عنده، واما تدعه لي، قال: ادعه لله، قال. انصرف.
ثم جاء حتي دخل منزله.. فصلي ركعتين خفيفتين، ثم جلس فقال:
يا ابن الخطاب، كنت وضيعا فرفعك الله، وكنت ضالا فهداك … ثم حملك علي رقاب الناس، فجاء رجل ليستعديك علي من ظلمه فضربته، ماذا تقول لربك غدا» [113].
[صفحه 73]
ب «استعمل عمر: النعمان بن عدي بن نفيلة علي ميسان. فبلغه عنه الشعر الذي قال فيه:
ومن مبلغ الحسناء ان خيلها
بميسان يسقي من زجاج وحنتم
اذا شئت غنتني دهاقين قرية
وصناجة تحد علي كل منسم
فان كنت ندماني فبالاكبر اسقني
ولا تسقني بالاصغر المتثلم
لعل امير المؤمنين يسوؤه
تنادمنا بالجوسق المتهدم
فكتب اليه:
اما بعد.. فقد بلغني قولك.. وايم الله انه يسوؤني، فأقدم فقد عزلتك.
فلما قدم عليه قال: يا امير المؤمنين ما شربتها قط، وانما هو شعر طفح علي لساني، واني لشاعر!
فقال عمر: اظن ذاك، ولكن لاتعمل لي عملا ابداً» [114].
ج استعمل عمر رجلا من قريش علي عمل، فبلغه عنه انه قال:
اسقني شربة تروي عظامي
واسق بالله مثلها ابن هشام
فأشخصه اليه، وفطن القرشي فضم اليه بيتا آخر، فلما مثل بين يديه قال:
انت القائل: اسقني …
قال: نعم يا امير المؤمنين، فهلا ابلغك الواشي ما بعده.
قال: ما الذي بعده؟ قال:
عسلا بارداً بماء غمام
انني لا احب شرب المدام
فقال: ارجع الي عملك» [115].
[صفحه 74]
د سأل عمر احد امراء الشام عن سيرته وما يصنعه بالقرآن والاحكام؟ فأجابه بما يرضيه، فاستحسن ذلك منه واقره علي عمله، وامره بالالتحاق به، «فلما ولي رجع فقال: يا امير المؤمنين اني رأيت البارحة رؤيا اقصها عليك.
رأيت الشمس والقمر يقتتلان ومع كل واحد منهما جنود من الكواكب؟
فقال: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر.
فقال عزلتك، لان الله قال: «وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة» [116].
ه لما كتب النبي كتاب الصلح في الحديبية بينه وبين سهيل بن عمرو كان في الكتاب: ان من خرج من المسلمين الي قريش لا يرد.
ومن يخرج من المشركين الي النبي يرد اليهم، غضب عمر وقال لابي بكر:
ماهذا؟ … ثم جاء الي النبي فجلس بين يديه … وقال:
علام نعطي الدنية في ديننا! فقال رسول الله: افعل ما يأمرني به ربي …
فقام عمر مغضبا «وقال: والله لو اجد اعوانا لما اعطيت الدنية ابدا» [117].
و «خرج عمر بن الخطاب … وعبدالرحمن بن عوف ليلا يطوفان في المدينة، فرفع لهما مصباح، فقال عمر: الم انه عن المصابيح بعد النوم؟ فانطلقنا فاذا قوم علي شراب لهم، قال: انطلق فقد عرفته، فلما اصبح ارسل اليه. قال:
يا فلان كنت واصحابك البارحة علي شراب؟ قال: وما اعلمك يا امير المؤمنين؟ قال:
شيء شهدته: قال او لم ينهك الله عن التجسس؟ فتجاوز عنه» [118].
[صفحه 75]
ذلك ما يتعلق باختلاف سيرة عمر نفسه حسب اختلاف وضعه النفسي.
اما ما يتعلق باختلاف سيرته عن الرسول فيمكننا ان نذكر الامثلة التالية، بالاضافة الي طريقته في تقسيم الغنائم التي مر بنا ذكرها:
1 «غزا رسول الله خيبر في سنة سبع، فطاوله اهلها وما كثوه وقتلوا: المسلمين. فحاصرهم رسول الله قريبا من شهر، ثم انهم صالحوه علي حقن دمائهم … ثم قالوا لرسول الله: ان لنا بالعمارة والقيام علي النخل علما فأقرنا، فأقرهم رسول الله وعاملهم علي الشطر من الثمر … فلما كانت خلافة عمر بن الخطاب … اجلاهم وقسم خيبر بين من كان له فيها سهم من المسلمين» [119].
2 «حدثنا عمر الناقد، حدثنا يزيد بن هارون، اخبرنا يحيي بن سعيد عن بشير ابن يسار: ان النبي … دفع خيبر الي اليهود يعملونها علي نصف [ما] خرج منها، فلم يزل علي ذلك حياة رسول الله، وابي بكر.
فلما كان عمر وكثر المال في ايدي المسلمين وقووا علي عمارة الارض اجلي اليهود الي الشام وقسم الاموال بين المسلمين» [120].
3 «اتي رسول الله وادي القري، فدعي اهلها الي الاسلام، فامتنعوا عن ذلك وقاتلوا، ففتحها رسول الله عنوة.. وترك النخيل والارض في ايدي اليهود، وعاملهم علي نحو ما عامل عليه اهل خيبر، فقيل:
ان عمر اجلي يهودها وقسمها بين من قاتل عليها» [121].
واما ما يتعلق باختلاف سيرة عمر عن سيرة ابي بكر فنذكر منها، بالاضافة الي ما ذكرناه، الحوادث التالية:
[صفحه 76]
أ «جاء عيينة بن حصين والاقرع بن حابس الي ابي بكر فقال:
يا خليفة رسول الله ان عندنا ارضا سبخة ليس فيها كلأ ولامنفعة، فان رأيت ان تقطعناها لعلنا نحرثها ونزرعها، ولعل الله ان ينفع بها بعد اليوم؟
فقال ابوبكر لمن حوله من المسلمين: ما ترون؟ قالوا:
لا بأس، فكتب لهما كتابا، واشهد فيه شهودا، ولم يكن عمر حاضرا …
فلما سمع عمر ما في الكتاب اخذه منهما … فمحاه، فتذمرا.. فقال:
ان رسول الله كان يتألفكما والاسلام يومئذ ذليل … وان الله قد اعز الاسلام فاذهبا … فذهبا الي ابي بكر يتذمران.
وجاء عمر وهو مغضب، حتي وقف علي ابي بكر فقال:
اخبرني عن هذه الارض التي اقطعتها هذين، اهي لك خالصة، ام بين المسلمين عامة؟ قال: بين المسلمين عامة، قال: من حملك علي ان تخص بها هذين دون جماعة المسلمين؟ قال: استشرت الذين حولي، فأشاروا بذلك؟
فقال: افكل المسلمين اوسعهم مشورة ورضا؟» [122].
ب ذكر بعض الرواة في حديث فدك:
ان ابا بكر حينما قابلته السيدة فاطمة وذكرت له ان فدك لها نحلة من الرسول، اقتنع بذلك بعد تردد، فكتب لها كتابا بذلك، غير ان عمر علي ما يذكر اولئك الرواة قد صادفها في الطريق عائدة الي دارها من عند ابي بكر، فذكرت له الكتاب، فطلبه منها ومزقه، ولام ابا بكر علي ذلك؟
ج ويبدو اختلاف السيرتين واضحا في قضية خالد بن الوليد مع مالك ابن نويرة، وهي قضية مهمة؛ ونري وجوب ذكرها بشيء من التفصيل. فقد ارتكب خالد علي ما نري سلسلة من الاخطاء الاجتماعية والدينية في هذه القضية:
[صفحه 77]
فقد سار الي مالك وصحبه دون امر من الخليفة، وقاتلهم دون ان يكون هناك مبرر للقتال من الناحية الدينية، وامر بقتل مالك بشكل من الغدر لا يجيزه الاسلام.
ونكح زوج مالك بشكل يتنافي هو والعفة والشرف وكبر النفس … فاستحق بذلك اكثر من عقوبة، غير ان ابا بكر عفا عنه فامتعض عمر من ذلك وعزله اثناء خلافته والي القاريء ملخص القصة المذكورة:
ذكر ابن الاثير [123]: «سار خالد بعد ان فرغ من فزارة، واسد، وطيء، يريد البطاح [124] وبها مالك بن نويرة قد تردد عليه امره. وتخلف الانصار عن خالد، وقالوا:
ما هذا بعهد الخليفة الينا، ان الخليفة عهد الينا ان نحن فرغنا من بزاخة [125] واسبرنا بلاد القوم ان نقيم حتي يكتب الينا، فقال خالد:
انا الامير.. هذا مالك بن نويرة بحيالنا، فانا قاصد اليه ومن معي من المهاجرين..
وكان قد اوصاهم ابوبكر [126] ان يؤذنوا اذا نزلوا منزلا.
فاذا اذن القوم، فكفوا عنهم، وان لم يؤذنوا فقاتلوهم.
[صفحه 78]
وان اجابوا الي داعية الاسلام فسألوهم عن الزكاة، فان اقروا فاقبلوا منهم.
وان ابوا فقاتلوهم، فجاءت خالدا الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة ابن يربوع، فاختلفت السرية فيهم.
وكان فيهم ابوقتادة فكان فيمن شهد انهم قد اذنوا وصلوا.
فلما اختلفوا امر بهم خالد فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء، فأمر خالد مناديا فنادي ادفئوا اسراكم وهي في لغة كنانة القتل … فقتلوهم … فتزوج خالدا ام تميم، امرأة مالك.
فقال عمر لابي بكر: ان سيف خالد فيه رهق، واكثر عليه في ذلك، فقال:
هيه ياعمر!! تأول فأخطأ فارفع لسانك عن خالد.
فدخل خالد علي ابي بكر فأخبره الخبر واعتذر اليه، فعذره وتجاوز عنه، وعنفه في التزويج.
وقدم متمم بن نويرة علي ابي بكر يطلب بدم اخيه ويسأله ان يرد عليهم سبيهم؟ فأمر ابوبكر برد السبي، وودي مالكا من بيت المال».
وقد روي علي ما يقول البلاذري [127] «ان متمم بن نويرة دخل علي عمر ابن الخطاب [128]
فقال له عمر: ما بلغ وجدك علي اخيك مالك.
قال: بكيته حولا حتي اسعدت عيني الذاهبة [129] عيني الصحيحة، وما رأيت نارا
[صفحه 79]
الا كدت انقطع لها اسفا عليه، لانه كان يوقد ناره الي الصبح، مخافة ان يأتيه ضعيف فلا يعرف مكانه».
لابد ان القاريء قد لاحظ معنا، في رواية ابن الاثير، جملة مخالفات قام بها خالد بن الوليد:
1 فقد سار، كما ذكرنا، الي قتال مالك دون ان يتلقي بذلك امرا من الخليفة.
2 اهمل المبدأ العام الذي وضعه ابوبكر لمعالجة مشكلة المسلمين الذين اتهموا بالامتناع عن دفع الزكاة ذلك المبدأ الذي يتلخص، كما ذكرنا، بأن يؤذن في وقت الصلاة مؤذن من جيش المسلمين، فان اذن المتهمون بالامتناع عن دفع الزكاة فلا يجوز قتالهم ابتداء. ثم يسألون عن امر الزكاة. فان اقروا اي اعترفوا بوجوبها حرمت علي خالد وصحبه دماؤهم واموالهم.
اي ان الخليفة لم يشترط اخذ الزكاة من القوم وانما اشترط اقرارهم بها. فاذا اقروا بذلك، صانوا ارواحهم واموالهم من عبث العابثين،
وقد شهد ابوقتادة كما ذكرنا بأن اصحاب مالك بن نويرة قد اذنوا واقاموا وصلوا اي انهم ذهبوا الي ابعد من مجرد الاذان الذي جعله الخليفة كافيا لتحريم قتالهم.
3 ان خالدا امر بقتلهم غدرا بذلك الشكل الشنيع فأدفأهم علي لغة كنانة [130] وكان باستطاعته وقد اصبحوا في اسره، وتحت رحمته ان يرسلهم الخليفة بعد ان يتأكد من خروجهم علي مباديء الاسلام، واصرارهم علي ذلك الخروج ليفعل الخليفة بهم ما يشاء.
4 وتزوج خالد ام تميم امرأة مالك في الوقت الذي قتل فيها زوجها وفي هذا ما فيه من خروج علي مباديء الدين الحنيف وتدن عن المستويات الخلقية الرفيعة.
[صفحه 80]
علي اننا اذا نظرنا الي مأساة مالك من زاوية اخري امكننا ان نلاحظ فيها الامور التالية:
(أ) لقد تردد امر الزكاة علي مالك كما يقول ابن الاثير.
والتردد غير الامتناع، لانه يتضمن التريث والاحجام وهي فترة وسطي بين الامتناع والانصياع. فاذا حصل الامتناع، فانه مع ذلك لايجوز قتاله برأينا، الا اذا كان الامتناع مشروطا لا مطلقا اي ان يكون حصوله نتيجة للانتقاض علي العقيدة الاسلامية.
ومما يؤيد وجاهة ما ذهب اليه ابن الاثير: ان مالكا الذي كان واليا علي صدقات قومه بني يربوع من قبل النبي، لما بلغته وفاة الرسول امسك عن اخذ الصدقة من قومه وقال لهم: تربصوا بها حتي يقوم قائم بعد النبي وننظر ما يكون من امره، وقد صرح بذلك في شعر:
وقال رجال: سدد اليوم مالك
وقال رجال: مالك لم يسدد
فان قام بالامر المجدد قائم
اطعنا وقلنا: الدين دين محمد
فصرح مالك اذن انه استبقي الصدقة في ايدي قومه رفقا بهم، وتقربا اليهم، الي ان يقوم بالامر من يدفع له ذلك» [131].
(ب) لقد تجاوز ابوبكر عن خالد رغم اصرار عمر علي ضرورة معاقبته بدافع الرأفة به والشفقة عليه، ولكن ذلك التجاوز قد حصل علي حساب اقامة الحدود الدينية علي ابن الوليد.
فقد اخطأ خالد باعتراف ابي بكر، واخطأ خالد واقر بخطئه واعتذر عنه.
ولاندري ايجوز الصفح عن المجرم اذا ندم واعتذر؟
[صفحه 81]
وهل يجوز الاجتهاد في معرض النص؟
ولعل هذه الحادثة وامثالها هي التي جعلت عليا يمتنع عن الزام نفسه بالسير وفق سيرة الشيخين حين عرض عليه ذلك عبدالرحمن بن عوف اثناء الشوري.
(ج) ومما يؤيد عدم قناعة ابي بكر ببراءة خالد انه امر برد السبي وودي مالكا من بيت المال عندما قدم عليه متمم بن نويرة يطالبه بدم اخيه ويسأله ان يرد عليهم سبيهم. علي اننا لانعلم فيما اذا جاز لابي بكر من الناحية الدينية ان يدفع من بيت مال المسلمين تعويضا عن جريمة شخصية ارتكبها ابن الوليد!!
اما كيفية وقوع مالك وبعض صحبه اسري بيد خالد بن الوليد، وما جري لهم بعد الاسر، وموقف عم من ذلك، فقد لخصه احد الرواة [132] بقوله:
«ان السرية التي بعث بها خالدا لما غشيت القوم تحت الليل راعوهم، فأخذ القوم السلاح.
فقال اصحاب خالد: نحن المسلمون.
فقال اصحاب مالك: ونحن المسلمون. فقال اصحاب خالد: مابال السلاح معكم!! فلما وضعوا السلاح ربطوا اساري، فأتوا بهم خالدا، فحدث ابوقتادة خالد بن الوليد: ان القوم نادوا بالاسلام، وان لهم امانا.
فلم يلتفت خالد الي قوله، وامر بقتلهم وتقسيم سبيهم.
وحلف ابوقتادة ان لايسير تحت لواء خالد في جيش ابدا. وركب فرسه شاذا الي ابي بكر، فأخبره الخبر، وقال:
اني نهيت خالدا عن قتل مالك فلم يقبل قولي، واخذ بشهادة الاعراب الذين غرضهم الغنائم، وان عمر لما سمع ذلك تكلم فيه عند ابي بكر فاكثر، وقال:
ان القصاص وجب عليه.
[صفحه 82]
فلما دخل خالد المسجد قام اليه عمر … وقال: ياعدو نفسه عدوت علي امريء مسلم فقتلته، ونزوت علي امرأته … والله لنرجمنك بأحجارك.
وقد روي ايضا ان عمر لما ولي جمع من عشيرة مالك بن نويرة من وجد منهم واسترجع ما وجد عند المسلمين من اموالهم واولادهم ونسائهم، فرد ذلك عليهم جميعا.
وقيل: انه ارتجع بعض نسائهم من نواحي دمشق وبعضهن حوامل فردهن علي ازواجهن، فالامر ظاهر في خطأ خالد، وخطأ من تجاوز عنه».
وكانت حجة مالك واصحابه في تأجيل دفع الزكاة علي ما يحدثنا بعض الرواة [133] انهم فسروا الاية التي وردت في سورة التوبة: «خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم» [134].
بأنها تتضمن ضرورة صلاة النبي عليهم صلاة تكون سكنا لهم، ليأخذ صدقة من اموالهم يزكيهم بها وتلك الصفات، برأيهم، لاتتحقق في غير النبي، لان غير النبي بنظرهم لايطهر الناس، ولايزكيهم بأخذ الصدقة منهم، ولاتكون صلاته سكنا لهم اي انهم بعبارة اخري، ترددوا في اعطاء الزكاة الي غير النبي الي ان يثبت لهم وجود من يمثله، وهو امر دون شك، لا يعني عدم اعترافهم بالزكاة كأساس من اسس الدين لانهم لم يجحدوا وجوبها، ولكنهم قالوا:
انه وجوب مشروط. فتأولوا، وربما اخطأوا، كما تأول خالد فأخطأ برأي ابي بكر.
واذا كان ابوبكر قد تجاوز عن خالد لانه تأول الخطأ، افلا يجوز ان يقال عن اولئك، علي اسوأ الفروض: انهم تأولوا فأخطأوا!!
[صفحه 83]
يتضح من كل ما ذكرنا ان خالد بن الوليد واصحابه قد غرروا بضحاياهم وخدعوهم تحت ستار الدين، فجردوهم عن السلاح اولا وقتلوهم بعد ذلك علي الشكل الذي ذكرناه ويلوح للباحث في شهادة ابي قتادة ان خالدا لمرض في نفسه ربما كان له صلة بأم تميم زوج مالك، قد اخذ بشهادة الاعراب الذين غرضهم الغنائم والسلب والنهب، وهي امور ابعد ما تكون عن جوهر الدين.
وقد وصفهم الله في كتابه بالغلظة والنفاق.
هذا الي المؤرخين كما سلف ان ذكرناها:
لم يؤيدوا خروج مالك وصحبه علي مباديء الدين، او منعهم الزكاة او جحودهم وجوبها، فهم اذن لا يستحقون القتل اطلاقا، فكيف به وقد وقع بذلك الشكل من الغدر!!
ان الشيء الذي كانوا بحاجة اليه هو التنبيه والارشاد، هذا اذا كانوا مخطئين في تفسير الاية التي ذكرنا في قضية الزكاة.
اما مالك نفسه فقد كان مسلما، بشهادة عمر بن الخطاب؛
وان خالدا بشهادة عمر كذلك؛ قد اعتدي عليه ونزي علي زوجه.
وهناك امر آخر لابد من ذكره في هذه المناسبة لتعلقه بمبدأ عام يتصل بموضوع المتهمين بالامتناع عن دفع الزكاة، لا بموضوع مالك بن نويرة حسب ما ذكره البخاري حين قال [135]:
«حدثنا يحيي بن بكير؛ حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب، اخبرني عبيد الله ابن عتبة ان ابا هريرة قال: لما توفي النبي واستخلف ابوبكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر:
يا ابا بكر كيف تقاتل الناس. وقد قال رسول الله امرت ان اقاتل الناس حتي يقولوا: لا اله الا الله؛ فمن قال ذلك فقد عصم مني ماله ونفسه الا بحقه وحسابه علي الله». وهناك امور اخري اقترفها خالد بن الوليد لا تقل شناعة عما
[صفحه 84]
ذكرنا منها: اغتياله سعد بن عبادة وهو في محل اقامته في الشام في اواخر خلافة ابي بكر، او مساهمته بذلك الاغتيال.
ومنها ما رواه الطبري [136] حين قال:
«حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة عن محمد بن اسحق قال: حدثني بعض اهل العلم عن رجل من جزيمة قال: لما امرنا خالد بوضع السلاح قال رجل منا يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة.
ما بعد وضع السلاح الا الاسار ثم ما بعد الاسار الا ضرب الاعناق.
والله لا اضع سلاحي ابدا. قال: فأخذه رجال من قومه، فقالوا: يا جحدم؛ اتريد ان تسفك دماءنا! ان الناس قد اسلموا.. فلم يزالوا به حتي نزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد؛ فلما وضعوه امر بهم خالد عند ذلك فكتفوا، ثم عرضهم علي السيف، فقتل منهم من قتل.
فلما انتهي الخبر الي رسول الله رفع يديه الي السماء وقال: اللهم اني ابرأ اليك مما صنع خالد بن الوليد. ثم دعا علي بن ابي طالب، فقال: ياعلي اخرج الي هؤلاء القوم فانظر في امرهم، واجعل امر الجاهلية تحت قدميك، فخرج علي ومعه مال قد بعثه رسول الله به، فودي لهم الدماء وما اصيب من الاموال.
حتي اذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال. فقال لهم علي حين فرغ منهم: ابقي لكم دم او مال لم يرد؟ قالوا: لا، قال:
فاني اعطيكم هذا البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله مما لايعلم ولا تعلمون ففعل، ثم رجع الي رسول الله فأخبره الخبر. فقال: اصبت واحسنت».
فاذا كان هذا عمل خالد في زمن النبي، فكيف به وقد انتقل الرسول الي الرفيق الاعلي!!
[صفحه 85]
ومع ذلك كله، فقد تجاوز عنه ابوبكر، لانه تأول فأخطأ «علي حد تعبيره» فاختلفت سيرة ابي بكر، في هذه القضية الخطيرة، عن سيرة عمر الذي عزل خالدا. فقد كان اول كتاب كتبه عمر علي ما يقول ابن الاثير [137] موجها «الي ابي عبيدة ابن الجراح بتولية جند خالد، وبعزل خالد، لانه كان عليه ساخطا في خلافة ابي بكر كلها، لوقيعته بابن نويرة … وقال عمر: لا يلي خالد لي عملا ابدا.
وكتب الي ابي عبيدة.. ان انزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله».
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع ان نقول:
ان ليس هناك شيء يصح ان يدعي «سيرة الشيخين» من حيث التوافق التام في جميع التصرفات العامة الدينية والزمنية ولعل ذلك احد الاسباب التي ادت بالامام حين عرض عليه ابن عوف الخلافة وقت الشوري الي عدم الموافقة علي الشرط الثالث «سيرة الشيخين». وعلي بموقفه هذا، قد استبعد «سيرة الشيخين» من ان تصبح بحد ذاتها سنة تتبع، لعدم وجود ما يبرر اتباعها من الناحية الدينية ما دام القرآن وسنة الرسول هما دستور الاسلام بنظره.
وهناك امر آخر لابد من ذكره في هذه المناسبة، هو ان جواب الامام، بالصيغة التي ورد فيها، كان يدل دلالة قاطعة وصريحة علي التيهؤ لتحمل المسئولية، وعدم نثر الوعود التي لا يمكن الالتزام بها اثناء تسلم المنصب الخطير.
فعلي لا يريد ان يلزم نفسه مقدما بشيء يستحيل عليه ان يعمل وفق مستلزماته بعد تسلمه الخلافة للاسباب التي ذكرناها. ولعل الشيء الذي يبدو غريبا في امر الشوري هو قبول علي الاشتراك فيها مع علمه بِأفضليته واحقيته بالخلافة. غير ان ذلك الاستغراب يزول عندما نتذكر ان عليا صرح بأنه يدخل الشوري،
[صفحه 86]
لان ابن الخطاب قد اهله الان للخلافة «وكان من قبل يقول: ان النبوة والخلافة في بيت واحد لاتجتمعان» [138].
اما موقفه من شرط ابن عوف فأمر كان متوقعا ذلك، لان الامام كان علي يقين من ان كلا من الشيخين قد سار في حدود اجتهاده الشخصي، وانه من غير الممكن ان يلتزم هو بالكتاب والسنة وبسيرة الشيخين وتتجلي روعة موقفه هذا اذا ما تذكرنا موقف زميله عثمان الذي كان ينعم بالاجابة لابن عوف حتي كسب الخلافة، ولكنه لم يسر كما سنري علي الكتاب والسنة، بله سيرة الشيخين؟؟
[صفحه 87]

عثمان بن عفان

«فقام ثالوث القوم، وقام بنو امية يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع.. إلي أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته … فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ، ينثالون علي من جانب حتي لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالامر نكثت طائفة، ومرقت أخري، وقسط آخرون» [139].
إرتقي عثمان بن عفان منبر النبي بعد وفاة عمر وبالشكل الذي وصفناه في قصة
[صفحه 88]
«الشوري». واول عمل قام به الخليفة الجديد هو: تعيين ذويه واقربائه من الامويين وآل ابي معيط مستشارين، وامراء علي الامصار، وبخاصة اولئك الذين كانت لهم إو لآبائهم سيرة غليظة معروفة في محاربة الاسلام ونبيه، الامر الذي اورثهم احقادا من الجاهلية علي الرسول واهل بيته وتعاليمه، زرعها امية بن عبدشمس ونجله حرب، وتعهدها من بعدهما: ابوسفيان، وزوجه هند بنت عقبة، ونجلهما معاوية الذي حارب النبي في بدر مع ابيه فهرب بعد ان قتل اخ له، واسر آخر كما سنري.
وقد ادي اعتماد عثمان علي اولئك النفر وعلي مروان بن الحكم الي تقويض دعائم الخلافة الاسلامية، وطوح بحياة عثمان وعلي مروان بن الحكم الي تقويض الخلافة الاسلامية، وطوح بحياة عثمان وعلي من بعده، وبالتالي الي اندحار مباديء العدالة الاجتماعية التي تبناها الاسلام، واراد الرسول الكريم بثها بين الناس علي اختلاف اجناسهم ومواقعهم الجغرافية.
وقد زرعت تصرفات الامويين الذين اعتمد عليهم عثمان في تدوير شئون المسلمين، كما سنري، فأصبح الحكام بعد مصرع الخليفة الثالث كما سنري، بذور الفسلد والتفسخ في الخلق العربي عند الحكام والمحكومين علي السواء، فأصبح الحكام بعد مصرع الخليفة الثالث كما سنري يستعملون شتي اساليب الغدر والمواربة، والكذب، والدس واضرابها من الرذائل السياسية والخلقية لكسب ولاء الجماهير لحكمهم الفاسد من جهة، وللايقاع بخصومهم من جهة اخري. والف المحكومون الا ما ندر هذه التصرفات الملتوية، مع توالي الايام، واستحسنوها وكيفوا سلوكهم وفقا لها.
وبما اننا لانؤرخ في هذه الدراسة اثر الامويين [140] في الخلق العربي والاسلامي، وانما نحن بصدد البحث في الدور الذي لعبوه في خلافة عثمان، فسوف
[صفحه 89]
نحصر بحثنا في هذه النقطة المعينة، ولكي تفهم ذلك الاثر علي الوجه الاكمل نري لزاما علينا ان نستعرض مواقفهم من الاسلام في عهد الرسول:
لقد الب الامويون كفار قريش علي حرب النبي صلي الله عليه وسلم فوقعت بدر وقتل منهم حنظلة بن ابي سفيان بن حرب بن امية بن عبدشمس.
والعاص بن سعيد بن العاص بن امية بن عبدشمس، وعبيدة بن سعيد بن العاص ابن امية بن عبدشمس.
والوليد بن عقبة بن ربيعة بن عبدشمس «صهره اخو هند زوج ابي سفيان» وشيبة بن ربيعة بن عبدشمس، وعقبة بن ابي معيط «والد الوليد اخي عثمان لامه»
واسر من الامويين يوم بدر ابوالعاص بن الربيع بن عبدالعزي بن عبدشمس،
والحرث بن وجزة بن ابي عمر بن امية بن عبدشمس.
وكان عمرو بن ابي سفيان زوج بنت عقبة بن ابي معيط من اسري بدر كما ذكرنا فاقترح بعض المقربين الي ابي سفيان ان يفدي عمرواً؟ فأجاب: «ايجمع عليّ مالي ودمي؟ قتلوا حنظلة وافدي عمروا!! دعوه في ايديهم.. وبينما هو اي عمرو كذلك محبوس في المدينة اذ خرج سعد بن النعمان بن اكال اخو بني عمرو بن عوف … معتمرا … وكان شيخا مسلما … فعدا [141] عليه ابوسفيان بمكة فحبسه بابنه عمرو، ثم قال مفتخرا:
ارهط ابن اكال اجيبوا دعاءه
تعاقدتموا لاتسلموا السيد الكهلا
فان بني عمرو لئام اذلة
لئن لم يفكوا عن اسيرهم الكبلا [142].
وقالت هند بنت عتبة زوج ابي سفيان، وام معاوية تبكي اباها يوم بدر:
[صفحه 90]
يريب علينا دهرنا فيسوؤنا
ويأبي فما نأتي بشيء نغالبه
فأبلغ ابا سفيان عني مالكا
فان القه يوما فسوف اعاتبه
فقد كان حرب يسعر الحرب انه
لكل امريء في الناس مولي يطالبه [143].
وفي ضوء ماذكرنا نستطيع ان نقول ان الامويين قد اصيبوا بنكسة مريعة في بدر، فتحركت حفائظهم، واثيرت ضغائهم القديمة، واحقادهم الجديدة، فالبوا من جديد كفار قريش، والبهم الكفار، علي حرب النبي.
وكان ابوسفيان «رأس المؤلبين والحاقدين» قد هيا كفار قريش وهيئوه لاعلان حرب جديدة علي النبي!!؟ وتجهز الناس وارسلوا اربعة نفر منهم عمرو بن العاص.. فساروا في العرب يستنفرونهم.
وكان ابوسفيان قائد الناس، فخرج بزوجه هند.. وخرج غيرهم بنسائهم.. الحرث بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد اخت خالد … وعمرو بن العاص بريطة بنت منبه.. وكان مع النساء الدفوف يبكين علي قتلي بدر ويحرضن بذلك المشركين» [144].
فخرجت قريش «بحدها واحابيشها ومن معها من بني كنانة واهل تهامة وخروجوا معهم بالظعن إلتماس الحفيظة، ولئلا يفروا.
فخرج ابوسفيان بن حرب قائد الناس ومعه هند.. وكانت هند كلما مرت بوحشي او مر بها قالت ايه ابا دسمة! استف واشتف.
واقبل خالد بن الوليد علي خيل المشركين.. واقبل ابوسفيان يحمل اللات والعزي، [145] وقامت هند في النسوة اللاتي معها واخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضنهم وانشدت هند:
[صفحه 91]
ويهاً بني عبد الدار
ويهاً حماة الاديار
ضربا بكل بتار
ان تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق
او تدبروا نفارق
فراق غير وامق [146].
وانشد عمرو بن العاص يوم احد يصف خروجهم لقتال النبي:
خرجنا من الفيفا عليهم كأننا
مع الصبح رضوي الحبيك المنطق
فما راعهم بالشر الا نجاءة
كراديس خيل في الازقة تمرق [147].
ووقفت هند والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلي من اصحاب الرسول.
«يجدعن الاذان والانف حتي اتخذت هند من آذان الرجال خدما» «جمع خدمة وهي الخلخال» وقلائد.
وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها.. ثم علت صخرة مشرفة فصرخت بأعلي صوتها:
نحن جزيناكم بيوم بدر
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي صبر
ولا اخي وعمه وبكر [148].
وكان الحليس بن زبان «علي مايروي ابن هشام في سيرة النبي محمد 2 / 44 و 45» قد «مر بأبي سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبدالمطلب وهو جثة هامدة ويقول: ذق عقق.
ولما انصرف ابوسفيان ومن معه نادي: ان موعدكم بدرا للعام القادم» ثم التفت الي زوجه هند وانشد مفتخرا [149]:
اباك واخوانا له قد تتابعوا
وحق لهم من عبرة بنصيب
[صفحه 92]
وسلي الذي قد كان في النفس انني
قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرما كريما ومصعبا
وكان لدي الهيجاء غير هيوب
وكانت هند حين انصرف المشركون منتصرين من احد تنشد:
رجعت وفي نفسي بلابل جمه
وقد فاتني بعض الذي كان مطلبي
ولكنني قد نلت شيئا ولم يكن
كما كنت اجو في مسيري ومركبي [150].
اما اسلام هند في الظاهر فقد حصل بالشكل التالي:
«لما فتح النبي مكة حضرت اليه هند مع نساء مكة ليبايعنه.
فلما تقدمت هند لمبايعته اشترط شروط الاسلام عليها.. فأجابته بأجوبة قوية
فما قاله لها: تبايعينني علي ان لاتقتلي اولادك؟! فقالت هند:
اما نحن فقد ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر.. فقال: وعلي الا تزنين!؟ فقالت هند: وهل تزني الحرة؟ قالوا: فالتفت رسول الله الي العباس وتبسم» [151].
يتضح مما ذكرنا جانب من جوانب تعبير الامويين عن مقتهم للدين الحنيف ولصاحبه، فقد شنوها كما رأينا حربا شعواء لاهوادة فيها علي النبي، غير انهم اندحروا في بدر كما رأينا وكادوا ينالون من النبي في موقعة احد.
فقتلو عمه حمزة ومثلوا به علي شكل من الوضاعة والبشاعة قل ان يعثر المرء علي مثلهما في التاريخ. ولولا انه خيل اليهم ان الرسول قد قتل لما رجعوا من المعركة.
غير انهم سرعان ما اجمعوا امرهم علي الرجوع الي النبي في احد حينما بلغهم انه نجا من سيوفهم الظالمة فلقي «معبد الخزاعي، ابا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء.
[صفحه 93]
وقد اجمعوا الرجعة الي رسول الله واصحابه، وقالوا:
اصبنا جل اصحابه وقادتهم واشرافهم ثم رجعنا قبل ان نستأصلهم، لنكرّنّ علي بقيتهم فلنفرغن منهم فلما رأي ابوسفيان معبدا قال: ماوراءك يا معبد؟
قال: محمد، قد مرج في اصحاب يطلبكم في جمع لم ار مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا … قال: فوالله لقد اجمعنا الكر عليهم لنستأصل بقيتهم.
قال: فاني انهاك عن ذلك … قال: فثني ذلك ابا سفيان ومن معه» [152].
ولكن اخفاق ابي سفيان «في مؤامرته المسلحة لوَأدِ الاسلام والمسلمين في احد» لم يثنه عن مواصلة الكفاح المرير لاثارة وقائع اخري ضد النبي.
وقد نذر ابوسفيان «ان لا يمس رأسه ماء من جنابة حتي يغزو محمداً [153] في كل فرصة ملائمة للاجهاز عليه، وعلي الدين الحنيف.
فألب الاحزاب في حرب الخندق … ومابعدها … ولم يعلن اسلامه في الظاهر الا حين رأي ان ذلك اجدي من السيف لتحطيم الاسلام.
وهكذا كان ابوسفيان يثيرها حروبا متصلة الحلقات للايقاع بالنبي وبدينه وبصحبه، فأثار حرب بدر، وأحد، والاحزاب في الخندق، وتآمر مع اليهود للوصول الي تحقيق غرضه الدنيء.
لقد مر بنا طرف من حوادث ايذاء قريش وفي مقدمتهم بنو امية من النساء والرجال للنبي، وللمسلمين، وللعقيدة الاسلامية طوال مكوث النبي في مكة «وقد ظهر ذلك الايذاء بشكل فردي مبعثر احيانا، وبشكل جماعي منظم احيانا اخري.
وتفنن المشركون من الامويين خاصة في ابتداع الوسائل المختلفة لايذاء الرسول
[صفحه 94]
فبعثوا النضر بن الحرث وعقبة بن ابي معيط [154] الي احبار اليهود لتأليبهم علي النبي وتسفيه رسالته، وارسلوا عبدالله بن ابي ربيعة، وعمرو بن العاص [155] الي الحبشة لاقناع النجاشي بطرد المسلمين الذين هاجروا الي الحبشة، تخلصا من ايذاء المشركين.
وقد نزل قرآن في ذم كثير من اولئك الذين بالغوا في الاعتداء علي الرسول، كأم جميل بنت حرب بن امية حمالة الحطب [156].
وكان ذلك كله يجري بمكة طوال مكوث النبي فيها.
فلما هاجر النبي الي المدينة واصل كفار قريش تحت زعامة الامويين من النساء والرجال ايذاء الرسول، هذه المرة عن طريق الحرب، فامتشق [157] الامويون الحسام والبوا قريشا، وحاربوا النبي في سلسلة من الحروب الفاشلة التي ذكرناها.
ولما رأي المشركون من بني امية واتباعهم فشلهم المتواصل لجأوا الي اتّباع اسلوب جديد للايقاع بالاسلام وكان هذا الاسلوب في واقعه اكثر الاساليب ايجاعا للعقيدة الاسلامية.
فتقمص قادتهم الاسلام والتزموا ببعض مظاهره ليتمكنوا من اعلانها حربا شعواء علي الدين من داخله؛ بعد ان اعياهم امره في حربهم اياه من الخارج.
فأسلم ابوسفيان قائدهم في الظاهر يوم فتح مكة بعد ان لجأ الي العباس عم النبي مضطرا والتمسه ان يأخذه الي الرسول، فلما اتي به العباس قال له رسوله الله: الم يأن لك ان تعلم ان لا اله الا الله؟ فقال: بأبي انت وامي ما احلمك واكرمك واوصلك
والله لقد علمت لو كان معه اله غيره اغني عنا! فقال:
[صفحه 95]
ويحك الم يأن لك ان تعلم اني رسول الله؟ قال: بأبي انت وامي ما احلمك واكرمك واوصلك!! اما هذه ففي النفس منها شيء.
فقال العباس: ويحك اسلم قبل ان يضرب عنقك! فأسلم» [158].
وقد حاول ابوسفيان ان يضبط اعصابه التي نشأت علي الكفر وتشربت ببغض الاسلام فتظاهر بنبذ عبادة الاوثان والاعتراف بالدين الجديد.
ولكن ذلك لم يعصمه في مناسبات كثيرة من غمز الدين الجديد، من ذلك، مثلا: ما ذكره ابن هشام [159] حينما خاطب الحرث بن هشام ابا سفيان بعد فتح مكة بقوله: «اما والله لو اعلم ان محمداً نبي لاتبعته!! فقال ابوسفيان: لا اقول شيئا، لو تكلمت لاخبرت عني الحصا!» فلو كان ابوسفيان مسلما صحيح الاسلام لانبري لتنفيذ زعم ذلك المشرك البغيض.
اما اقراره لرأي الحرث ضمنيا كما يبدو من عبارته فدليل قاطع علي وثنيته.
ذلك ما يتصل بأبي سفيان، اما ما يتصل بغيره من شيوخ الامويين الذين اعتمد عليهم عثمان في تدوير شئون المسلمين فمعروف لدي من لهم ادني المام بالتاريخ الاسلامي في عهد الرسول، فالحكم ابومروان وزير عثمان قد خاض من فحش القول مع الرسول ما يندي من ذكره جبين المسلم الامر الذي اضطر النبي الي نفيه من المدينة الي الطائف، قال البلاذري [160]:
«حدثني محمد بن سعد الواقدي عن محمد بن عبدالله الزهري، وحدثني عباس ابن هشام الكلبي عن ابيه عن جده، ان الحكم بن العاص بن امية عم عثمان ابن عفان كان جارا للنبي في الجاهلية، وكان اشد جيرانه اذي له في الاسلام.
فكان يمر خلف النبي فيغمز به ويحكيه ويخلج بأنفه وفمه، واذا صلي قام خلفه فأشار بأصابعه … واطلع علي ذلك رسول الله ذات يوم في بعض حجر
[صفحه 96]
نسائه فعرفه وخرج اليه … ثم قال: لا يساكني هو ولا ولده فغربهم جميعا الي الطائف، فلما استخلف عثمان ادخلهم المدينة».
وابن ابي سرح الذي اختبره النبي في كتابة الوحي فحرف وبدل في التنزيل، فأهدر النبي دمه.
والوليد بن عقبة بن ابي معيط الذي نزل فيه قرآن يصفه بالنفاق في قضية بني المصطلق المعروفة قال تعالي: «يا ايها الذين آمنو ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة [161]».
وكان المسلمون في عهد الرسول «يسمون ابا سفيان وامثاله من الذين اسلموا بأخرة، ومن الذين عفا النبي عنهم يوم الفتح بالطلقاء.
ومهما يقال عن معاوية فهو ابن ابي سفيان قائد المشركين … وابن هند التي اغرت بحمزة حتي قتل ثم بقرت بطنه ولاكت كبده» [162].
وقد ذكر الزبير بن بكار في الموفقيات «عن المغيرة بن شعبة قال: قال لي عمر يوما: يا مغيرة هل ابصرت بعينك العوراء منذ اصيبت؟ قلت: لا.
قال: اما والله ليعورن بنو امية الاسلام كما اعورت عينك هذه، ثم ليعمينه حتي لايدري اين يذهب ولا اين يجيء» [163].
وذكرالبخاري في صحيحه 8 / 49» «حدثنا خلاد بن يحيي، حدثنا سفيان عن منصور، والاعمش عن ابي واتل عن ابن مسعود قال: قال رجل يا رسول الله اتؤاخذنا بما عملنا في الجاهلية «قال: من احسن في الاسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية.
ومن اساء في الاسلام اخذ بالاول والاخر».
[صفحه 97]
لقد ظهر من تقريب عثمان للأمر بين خلافته وايثارهم دون غيرهم علي سائر المسلمين اشكالا مختلفة: اوضحها الجانب المالي، والجانب السياسي الاداري وبقدر ما يتعلق الامر بالجانب المالي يمكننا ان نقول: ان عثمان اغدق العطايا علي اقربائه من بيت مال المسلمين دون حساب، من ذلك، مثلا: ان عثمان قد منح مروان بن الحكم زوج ابنته ام ابان، كما منح ابنته عائشة التي زوجها من الحرث بن الحكم اخي مروان يوم العرس «مئتي الف من بيت المال، سوي ما كان قد اقطعه من قطائع، فلما اصبح الصباح جاءه زيد بن ارقم خازنه حزينا.. يرجو ان يقيله.
علي ان هذه الواقعة لم تكن الا حلقة من حلقات سخاء عثمان.
وذات اليوم الاول لخلافته منح ابا سفيان شيخ بني امية مئة الف درهم [164]،
واعطي عثمان كذلك «رجلا من ذوي قرابته مقدارا ضخما من بيت المال.
واستكثر عامله علي بيت المال هذا المقدار فلم يخرجه، فألح عثمان. فأبي الخازن. فلامه عثمان … وقال: ما انت وذاك؟ انما انت خازن! قال له صاحب بيت المال: ما اراني خازنا لك..
لقد كنت اراني خازنا للمسلمين، ثم اقبل بمفاتيح بيت المال فعلقها علي منبر النبي وجلس في داره» [165] وتفصيل ذلك علي ما رواه البلاذري «انساب الاشراف 5 / 58، 59» انه: «كان علي بيت مال عثمان عبدالله بن الارقم.. فاستسلف عثمان من بيت المال مئة الف درهم.
ثم قدم عليه عبدالله بن اسيد بن ابي العيص من مكة، وناس معه غزاة، فأمر لعبدالله بثلاثمائة الف درهم؛ ولكل رجل من القوم بمئة الف درهم وصك بذلك الي ابن الارقم فاستكثره ورد الصك له.
فقال عثمان: انما انت خازن لنا فما حملك علي ما فعلت؟ فقال ابن الارقم: كنت اراني خازنا للمسلمين؛ وانما خازنك غلامك والله لا الي لك بيت المال ابداً
[صفحه 98]
وجاء بالمفاتيح فعلقها علي المنبر..
وبعث عثمان الي عبدالله بن الارقم ثلاثمائة الف درهم فلم يقبلها».
وقد استمر عثمان علي هذا المنوال من ايثار بني عمومته والمقربين اليه من بيت المال علي حساب المسلمين، حتي تحدث الناس ذات يوم بأن عثمان اخذ من جوهر كان في بيت المال فخلي به بعض اهله فغضب الناس لذلك، ولاموا عثمان فيه حتي اغضبوه، فخطب، فقال: لنأخذ حاجتنا من هذا الفيء وان رغمت انوف اقوام؟
فقال عمار بن ياسر: اشهد الله ان انفي اول راغم من ذلك.
فقال عثمان: أعلي يا ابن المتكأ تجتريء!! خذوه؟ فأخذ.
ودخل عثمان فدعا به فضربه حتي غشي عليه، ثم اخرج محمولا حتي اتي به منزل ام سلمة زوج النبي، وظل مغشيا عليه سائر النهار. ففاته الظهر والعصر والمغرب. فلما افاق توضأ وصلي وقال.
الحمد لله، هذه ليست اول مرة اوذينا فيها في الله، ويقال: ان ام سلمة او عائشة اخرجت شيئا من شعر النبي وثوبا من ثيابه ونعلا من نعاله وقالت:
هذا شعر النبي وثوبه، ونعله لم يبل وانتم تعطلون سنته!!.
وضج الناس، وخرج عثمان عن طوره حتي لا يدري مايقول» [166].
واذا صحت الرواية المذكورة فان عثمان قد ارتكب خطئين في آن واحد: تبذير اموال المسلمين، والاعتداء علي رجل من خيرة الصحابة.
«ولسنا بحاجة الي ان نناقش في صحة ما جاءت به الرواية من ان عثمان اعطي مروان بن الحكم خمس الغنيمة التي غنمها المسلمون في افريقية.. ومن أنه اعطي الحكم عمه.
واعطي ابنه الحارث ثلثمائة الف.
[صفحه 99]
واعطي عبدالله بن خالد بن اسيد الاموي ثلثمائة الف.
واعطي كل واحد من الذين وفدوا مع عبدالله بن خالد مائة الف.
واعطي الزبير بن العوام ستمائة الف، واعطي طلحة بن عبيد الله مائة الف.
واعطي سعيد بن العاص مائة الف، وزوج ثلاثا او اربعا من بناته لنفر من قريش، فأعطي كل واحد منهم مائة الف دينار» [167].
ويقول البلاذري في هذا الصدد [168] «حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن اسامة بن زيد بن اسلم، عن نافع مولي الزبير عن عبدالله بن الزبير قال:
اغزانا عثمان سنة 27 افريقية، فأصاب عبدالله بن سعيد بن ابي سرح غنائم جليلة. فأعطي عثمان مروان بن الحكم خمس الغنائم …
وحدثني عباس بن هشان الكلبي عن ابيه.. عمن حدثه قال:
كان عبدالله بن سعد بن ابي سرح اخا عثمان من الرضاعة، وعامله علي المغرب، فغزا افريقية سنة 27 ه فافتتحها فابتاع خمس الغنيمة بمئة الف او مئتي الف.
فكلم عثمان فوهبها له، فأنكر الناس ذلك علي عثمان …
وحدثني، محمد بن سعد عن الواقدي عن عبدالله بن جعفر، عن ام بكر عن ابيها قالت: قدمت ابل الصدقة علي عثمان فوهبها للحارث بن الحكم بن ابي العاص.
وحدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا الحجاج الاعور عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: كان مما انكروا علي عثمان انه ولي الحكم بن ابي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلثمائة الف درهم فوهبها له حين اتاه بها..
ولما اعطي عثمان مروان بن الحكم ما اعطاه.
[صفحه 100]
واعطي الحارث بن الحكم بن ابي العاص ثلثمائة الف درهم..
واعطي زيد بن ثابت الانصاري مائة الف درهم جعل ابوذر يتلو قول الله:
«والذين يكنزون الذهب، [169] فرفع ذلك مروان بن الحكم الي عثمان..
فأرسل الي ابي ذر نائلا مولاه: ان انته عما بلغني عنك فقال:
اينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله وعيب من ترك امر الله فوالله لسخط عثمان احب الي وخير لي من سخط الله».
ولعل تصرف عثمان في بيت المال علي الشكل الذي وصفناه، وايقاعه بالصحابة الذين اعترضوا علي ذلك، يبدو بشكل اوضح مما ذكرناه اذا قارناه حسب قاعدة: وبضدها تتميز الاشياء بتصرف علي اثناء خلافته في بيت المال وبموقفه ممن لامه علي اتباعه الحق، بله الباطل الذي هو اسمي من ان يهبط اليه.
«نزل بالحسين ابنه ضيف، فاستسلف درهما اشتري به خبزا، واحتاج الي الإدام فطلب من قنبر خادمهم ان يفتح لهم زقا من زقاق عسل جاءتهم من اليمن.
فأخذ منها رطلا، فلما طلبها علي ليقسمها، قال: ياقنبر، اظن انه حدث بهذا الزق حدث!، فأخبره، فغضب، وقال: عليّ بحسين. فقال له: ما حملك ان اخذت من قبل القسمة؟ قال: ان لنا فيه حقا فاذا اعطينا رددناه، قال:
وان كان لك حق فليس ان تنفتح بحقك قبل ان ينفتح المسلمون بحقوقهم.. ثم دفع ال قنبر درهما كان مصروا في ردائه، وقال:
اشتر به خير عسل تقدر عليه» [170].
وذكر عقيل بن ابي طالب لمعاوية بن ابي سفيان عندما التحق به فارا من عدل الامام «اصابتني مخمصة شديدة. فجمعت صبياني وجئت عليا بهم، والبؤس والضر
[صفحه 101]
ظاهران عليهم! فقال ائتني عشية لادفع اليك شيئا، فجئته يقودني احد ولدي، فأمره بالتنحي، ثم قال: الا دونك، فأهويت حريصا قد غلبني الجشع اظنها صرة فوضعت يدي عل حديدة تلتهب نارا، فلما قبضتها نبذتها وخرت كما يخور الثور تحت يد جزار [171].
والي هذه الحادثة يشير الامام في احدي خطبه:
«رأيت عقيلا وقد املق حتي استماحني من بركم صاعا. ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الالوان من فقرهم، عاودني مؤكدا وكرر علي القول مرددا، فأصغيت اليه سمعي، فظن اني ابيعه ديني واتبع قياده مفارقا طريقي، فأحميت له حديدة، ثم ادنيتها من جسمه ليعتبر من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من المها..
فقلت له: ثكلتك الثواكل ياعقيل.. اتئن من حديدة احماها انسانها للعبه، وتجرني الي نار سجرها جبارها لغضبه!!» [172].
ويتجلي اروع مواقف الامام في ضبط النفس في معاملته للخوارج الذين هم علي باطل، من وجهة نظره علي كل حال فلم نشهد له موقفا معهم علي باطلهم يشبه موقف عثمان مع عمار علي حقه يقول الدكتور طه حسين [173].
«جاء عليا احد الخوارج «وهو الحريث بن راشد السامي فقال له: والله لا اطعت امرك، ولا صليت خلفك.. فلم يغضب علي لذلك، ولم يبطش به انما دعاه الي ان يناظره ويبين له وجه الحق لعله ان يثوب اليه، فقال الحريث: اعود غدا، فقبل منه علي.».
ولم يقف تمزيق عثمان لاموال المسلمين عند حد تفريقه اياها علي الاصهار وذوي القرابة؛ انما تعداه الي الاصدقاء والمقربين والاتباع.
[صفحه 102]
فقد وصل عثمان «الزبير بن العوام بستمائة الف.
ووصل طلحة بمائة الف ونزل عن دين كان له عنده» [174].
وبقدر ما يتعلق الامر بهذا الجانب من جوانب سياسة ابن عفان يمكننا ان نقول بنشوء هوة سحيقة بين المقربين اليه من الاقرباء والاصهار والاصدقاء من جهة وبين سائر المسلمين من جهة اخري.
فبينما نجد اكثرية المسلمين تعيش علي الطوي ويحرم القسم الكبير منها حقه في بيت المال نري المقربين الي الخليفة بالاضافة الي ذوي قرابته الذين استأثروا بحصة الاسد من غنيمة اموال المسلمين، يبلغ ترفهم وثراؤهم الي الاذقان.
ففي ايام عثمان علي ما يروي المسعودي [175].
«اقتني جماعة من اصحابه الضياع والدور، منهم: الزبير بن العوام، بني داره بالبصرة وهي المعروفة في هذا الوقت وهو سنة 332 ه اثنتين وثلاثين وثلثمائة تنزلها التجار وارباب المال..
وابتني ايضا دورا بمصر والكوفة والاسكندرية، وما ذكر من دوره وضياعه فمعلوم..
وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين الف دينار، وخلف الزبير الف فرس. والف امة..
وكذلك طلحة بن عبيدالله التميمي ابتني داره المشهورة في الكوفة.
وكان غلته من العراق كل يوم الف دينار وقبل اكثر من الف.
وبناحية سراة اكثر مما ذكرنا وشيد داره بالمدينة وبناها بالآجر والجص والساج.
وكذلك عبدالرحمن بن عوف الزهري ابتني داره ووسعها، وكان علي مربطه الف فرس، وله الف بعير وعشرة الاف من الغنم
[صفحه 103]
وبلغ بعد وفاته ربع ثمن ماله اربعة وثمانين الفا».
يتضح مما ذكرنا «ان السياسة المالية التي اصطنعها عثمان منذ ان نهض بالخلافة كانت كلها موضع نقمة وانكار من اكثر الذين عاصروه ومن اكثر الرواة والمؤرخين.
كان عثمان قبل ان يلي الخلافة كثير المال.
فلما تولي الخلافة شغلته عن التجارة.. ولم يكن له بد من ان ينفق علي نفسه واهله وذوي قرابته بعد الخلافة كما كان ينفق قبلها، فكان يري فيما يظهر ان الخلافة يجب الا تغير من سيرته في المال شيئا، فاذا لم يسعفه ماله الخاص وجب ان تسعفه الاموال العامة» [176].
واذا استباح الخليفة لنفسه ان ينفتع ببيت المال لاغراضه الآنفة الذكر.
فان ذلك قد شجع عماله علي السير في مال المسلمين سيرة امامهم، فأعطوا واقرضوا والتوي بعضهم بالدين، فاستقال عبدالله بن مسعود في الكوفة.
كما استقال عبدالله بن الارقم في المدينة.
واذا اطلق الامام يده واطلق العمال ايديهم في الاموال العامة علي هذا النحو لم يمكن غريبا ان يحتاج الجند الي المال فلا يجدون، وان اضطر الامام ان ينفق علي الحرب من اموال الصدقة فيعرض نفسه لما تعرض اليه من الانكار..
واذا اطلق يده في الاموال العامة علي هذا النحو لم يكن غريبا ان تمتد هذه الايدي الي اموال الصدقة للانفاق علي الحرب بل للعطاء وصلة الرحم.
كما يروي ان عثمان ارسل الحارث بن الحكم مصدقا علي قضاعة. فلما جاء بصدقاتهم وهبها له … علي ان عثمان لم يقتصر علي السائل من المال بل تجاوز الي الجامد ايضا.
فقد نقم الناس من عثمان انه كان يقطع القطائع الكثيرة في الامصار لبني امية.
[صفحه 104]
وقد دافع اهل السنة والمعتزلة عن هذا الاقطاع بأن عثمان انما اقدم عليه استصلاحا لهذه الارض..
ويرد الشيعة عليهم بأن عثمان نفسه لم يدافع عن نفسه هذا الدفاع، وكان من الممكن ان يرد الشيعة ايضا بأن بني امية لم يكونوا اخصائين من دون قريش في استصلاح الارض» [177].
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع ان نقول مع الدكتور طه حسين [178] «ان السياسة المالية لعثمان كانت تنتهي الي نتيجتين كلتاهما شر: الاولي انفاق الاموال العامة في غير حقها..
والاخري انشاء هذه الطبقة الغنية المسرفة في الغني التي تستجيب لطمع لاحد له، فتتوسع في ملك الارض واستغلال الطبقة العاملة، ثم تري لنفسها من الامتياز ما ليس لها، ثم تتنافس في التسلط».
وقد حدث ذلك بالفعل واستفحل في خلافة الامام علي كما سنري.
ذلك: ما يتعلق بأسلوب عثمان في صرف المال وبسياسته العامة في هذه الناحية.. اما ما يتعلق بسياسته الادارية فمن الممكن ان يقال عنه:
بأن عثمان كان يعتمد بالدرجة الاولي من حيث الولاة والمتنفذين، علي مروان بن الحكم مستشاره ووزيره وعلي ولاة آخرين من اصهاره وذوي قرابته مر بنا ذكر اسمائهم وقد اخذ هؤلاء الولاة القساة الفجرة، بدورهم كما سنري.
يعبثون بشئون المسلمين والاسلام بشكل لم يألفه الناس من قبل.
وعثمان من ورائهم يسندهم ويختلق لهم المعاذير التبرير افعالهم الناشزة.
[صفحه 105]
وانكي من ذلك ان عثمان نفسه كان علي الرغم مما عرف فيه من وداعة ولين علي جانب كبير من القسوة في معاملة اجلة الصحابة، بله عامة الناس..
وموقفه الغليظ من عبدالله بن مسعود، وابي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، معروف لدي الكثيرين.
والانكي من ذلك كله:
ان هؤلاء الرجال الصالحين بشهادة الرسول قد امتهنهم الخليفة واعتدي عليهم بالضرب المبرح والنفي والكلام الجارح، دون ان يقوموا بعمل يستحقون عليه العقاب.
اللهم الا اذا اعتبرنا عتابهم لعثمان علي بعض تصرفاته الناشزة شيئا يستحقون عليه العقاب. قال البلاذري [179] «حدثنا محمد بن عيسي بن سميع عن محمد بن ابي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال:
ولما ولي عثمان كره ولايته نفر من اصحاب رسولالله.. وكان كثيرا ما يولي من بني امية من لم يكن له مع النبي صحبة. وكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم فلما كان في الست الاواخر استأثر ببني عمه فولاهم.
وولي عبدالله بن سعد بن ابي سرح مصر فمكث فيها سنين، فجاءه اهل مصر يشكونه ويتظلمون منه … فكتب اليه كتابا يتهدده فيه، فأبي ان ينزع عما نهاه عثمان عنه.
وضرب بعض من كان شكاه الي عثمان من اهل مصر حتي قتله.
فخرج من اهل مصر وفد الي المدينة فنزلوا المسجد وشكوا ما صنع بهم ابن ابي سرح في مواقيت الصلاة الي اصحاب محمد، فقام طلحة الي عثمان فكلمه بكلام شديد.
وارسلت اليه عائشة تسأله ان ينصفهم من عامله».
[صفحه 106]
وقد كتب الي عثمان جماعة من الصحابة فيهم: المقداد، وعمار، وطلحة، والزبير، علي مايقول البلاذري: [180] «كتابا عدوا فيه احداث عثمان وخوفوه ربه واعلموه انهم موائبوه ان لم يقلع، فأخذ عمار الكتاب واتياه به، فقرأ سطرا منه.
فقال له عثمان: اعلي تقدم من بينهم؟ فقال عمار: لاني انصحهم لك.
فقال: كذبت يا ابن سمية، فقال: انا والله ابن سمية وابن ياسر.
فأمر غلمانه فمدوا بيديه ورجليه، ثم ضربه عثمان برجليه وهي في الخفين علي مذاكيره فاصابه الفتق، وكان ضعيفا كبيرا، فغشي عليه».
ويلوح للباحث في ضوء ما ذكرناه ان السياسة العامة للدولة كانت مبنية في جوانبها المالية والاداريه علي العبث بمقدرات المسلمين، وعلي الخروج علي روح الاسلام لكسب ولاء الناس للامويين من جهة، وللتنكيل بمن يناوئونهم او ينتصرون للدين الحنيف وحتي «لسيرة الشيخين» تلك السيرة التي تسلم عثمان الخلافة علي اساس السير وفق مستلزماتها كما ذكرنا عند البحث في الشوري من جهة اخري قال الواقدي [181]:
«انكر الناس علي عثمان اعطاءه سعيد بن العاص منه الف درهم، فكلمه عليّ وآخرون في ذلك، فقال:
ان له قرابة ورحما، قالوا: افما كان لابي بكر وعمر قرابة وذو رحم؟ فقال:
ان ابا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما، وانا احتسب في اعطاء قرابتي».
فهل هذه السياسة نتفق مع «سيرة الشيخين»؟ ويبدو الباحث كذلك.. ان سيرة عثمان في رعيته لم تكن في كثير من وجوهها غير منسجمة مع «سيرة الشيخين» فحسب، بل كانت «في كثير من الاحيان» غير متفقة كل الاتفاق مع نصوص القرآن وسنة الرسول وجملة القول:
ان عثمان في كثير من تصرفاته بالاضافة الي سياسته المالية التي ذكرناها «وبالاضافة الي سياسته الادارية التي سنذكرها، كان مجافيا لروح الاسلام
[صفحه 107]
ذلك ما يتصل بالسياسة المالية لابن عفان:
اما ما يتصل بالسياسة الادارية «والسياسية» فقد اعتمد عثمان في ادارته علي ذوي قرابته بالدرجة الاولي وليس في ذلك ضير، وان كان الناس منذ قديم الزمان ينكرون علي حكامهم ايثار ذوي قرباهم بشئون الحكم والادارة وما ينتج عنهما. هذا اذا كان ذوو القرابة من اصحاب الكفاءة والسيرة الحسنة، فكيف بهم اذا كانوا من النوع الذي اعتمد عليه عثمان!؟ فبعضهم نزل بهم قرآن في نفاقهم وكذبهم.
وهانحن نقص علي القاريء جانبا من سيرتهم علي سبيل التمثيل لا الحصر.
لنبدأ بالوليد بن عقبة بن ابي معيط والي الكوفة، متتبعين تاريخه منذ عهد الرسول. ذكر ابن هشام [182] ان النبي بعث «الي بني المصطلق، بعد اسلامهم، الوليد بن عقبة بن أبي معيط … يطالبهم بالصدقة.. فرجع الي الرسول فأخبره ان القوم قد هموا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم … فبيناهم علي ذلك قدم وفدهم الي رسول الله، فقالوا:
يارسول الله سمعنا برسولك فخرجنا اليه لنكرمه ونؤدي ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعا، فبلغنا انه زعم انا خرجنا لنقتله.
فانزل الله فيه: «يا ايها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي مافعلتم نادمين [183]».
وذكر بعض الرواة [184] ان امرأة الوليد بن عقبة جاءت الي النبي تشتكي اليه الوليد لانه كان يضربها، فأمرها النبي بالرجوع اليه واخباره بأن الرسول قد اجارها، فانطلقت
[صفحه 108]
ثم رجعت «فقالت: انه ما اقلع عني، فقطع الرسول هدية من ثوبه، وقال:
اذهبي بها اليه وقولي: ان رسول الله قد اجارني، فانطلقت، فمكثت ساعة ثم رجعت، فقالت: مازادني الا ضربا».
وذكر المسعودي [185] في معرض التحدث عن هذا المنافق اثناء توليته «من قبل عثمان» امرة الكوفة:
ان الوليد بن عقبة كان يشرب مع ندمائه ومغنيه من اول الليل الي الصباح، فلما اذن المؤذن للصلاة خرج منفصلا في غلائله، فتقدم الي المحراب في صلاة الصبح، فصلي بهم اربعا، وقال: تريدون ان ازيدكم؟ وقيل: انه قال في سجوده وقد اطال: اشرب واسقني؟ فقال له بعض من كان خلفه في الصف الاول:
والله لا اعجب الا ممن بعثك الينا والياً وعلينا اميراً.
وخطب الناس الوليد: فحصبه الناس بحصباء المسجد، فدخل قصره يترنح ويتمثل بأبيات تأبط شراً:
ولست بعيداً عن مدام وقينة
ولا بصفا صلد عن الخير معزل
ولكنني اروي من الخمر هامتي
وامشي الملا بالساحب المتسلسل [186].
وكان الوليد زانيا يشرب الخمر، فشرب بالكوفة وقام ليصلي.. فتقيأ في المحراب بعد ان قرأ بهم رافعا صوته:
علق القلب الربابا
بعد ما شابت وشابا
فشخص اهل الكوفة الي عثمان فأخبروه بخبره وشهدوا عليه بشرب الخمر، فأتي به، فأمر رجلا من المسلمين ان يضربه الحد، فلما دنا منه قال:
نشدتك الله وقرابتي … فتركه، فخاف علي ان يعطل الحد فقام اليه فحده بيده … فخرج رهط من اهل الكوفة الي عثمان في امر الوليد، فقال؛
[صفحه 109]
اكلما غضب رجل علي اميره رماه بالباطل!!.. فاستجاروا بعائشة، واصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة.
فقال: اما يجد فساق العراق ومراقها ملجأ الا بيت عائشة!! فسمعت عائشة، فرفعت نعل رسول الله وقالت: تركت سنة صاحب هذا النعل [187]؟».
ويذكر بعض الرواة ان سبب امارة الوليد بن عقبة الكوفة من قبل عثمان «انه لم يكن يجلس مع عثمان علي سريره الا العباس بن عبد المطلب، وابو سفيان بن حرب، والحكم بن ابي العاص، والوليد بن عقبة.
ولم يكن سريره يسع الا عثمان وواحدا منهم، فأقبل الوليد يوما فجلس فجاء الحكم بن ابي العاص، فأومأ عثمان الي الوليد فرحل له عن مجلسه، فلما قام الحكم قال الوليد:
لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك آثرت عمك علي ابن عمك.
وكان الحكم عم عثمان، والوليد اخاه لامه، فقام عثمان:
ان الحكم شيخ قريش، فما البيتان؟ قال الوليد:
رأيت لعم المرء زلفي قرابة
دوين اخيه حادثا لم يكن قدما
فأملت عمرا ان يشب [188] وخالدا
لكي يدعواني يوم نائبة عما
فرق له عثمان، وقال: قد وليتك الكوفة [189]».
ذلك ما يتصل بالوليد بن عقبة كيفية توليته امارة الكوفة وموقفه من الرسول والاسلام في عهد النبي، وعبثه بالشريعة السمحاء في تصرفاته التي وصفنا طرفا منها،
[صفحه 110]
حتي ليقال ان الوليد بن عقبة « … حين دخل الكوفة واليا عليها مكان سعد قال له سعد: ازائرا ياابا وهب؟ ام اميرا؟
قال الوليد: بل اميرا يا ابا اسحاق، قال سعد:
والله ما ادري، احمقت بعدك، ام كست بعدي؟؟ قال الوليد ما حمقت بعدي، ولا كست بعدك؟ وانما ولي القوم الامر فاستأثروا، قال سعد: ما اراك الا صادقا [190]».
اما ما يتصل بالولاة الاخرين فمعروف نذكر منهم: عبد الله بن عامر الذي ولاه عثمان البصرة، وكان شابا حدثا «لم يتجاوز سنه الخامسة والعشرين بعد، وان في المهاجرين والانصار وغيرهم من العرب من هم اكبر منه سنا واكثر تجربة واقدم منه سابقا في الدين [191]».
اما عبد الله بن سعد بن ابي سرح الذي ولاه عثمان مصر فكان عثمان نفسه يعلم ان الله انزل في دمه قرآنا … وان النبي كان قد اهدر دمه يوم الفتح [192]».
تلك جوانب من تصرفات ولاة عثمان.
اما تصرفات عثمان نفسه تجاه بعض كبار الصحابة الذين انكروا عليه بعض اعماله او اعمال ولاته لعدم انسجامها مع مباديء الدين الحنيف، فهي الاخري كانت علي جانب كبير من الغلظة: فقد خالف عبدالله بن مسعود عثمان بن عفان رأيه في جمع القرآن، فلم يعالجه عثمان بالاقناع او يصرفه بالمعروف.
بل امر به ان يؤدب لاجترائه. فصر به بعض عبيده وضربوا به الارض امعانا منهم في الشدة عليه حتي كسروا اضلاعه. ثم لم تقر عين الخليفة حتي اتبع هذا التعذيب بقطع العطاء عنه.».
[صفحه 111]
وراع ابا ذر اسراف عثمان وتبديده اموال المسلمين علي ذوي قرباه فأنكر ذلك عليه واستكثره واستشهد بآيات من القرآن.
«وقد شكا مروان بن الحكم الي عثمان مقالة ابي ذر هذه، فأرسل عثمان اليه مولاه ينهاه. فقال ابو ذر: لئن ارضي الله بسخط عثمان احب الي من ان ارضي عثمان بسخط الله. فنفاه عثمان الي الربذة فمات هناك.» [193].
وعندما بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال رحمه الله علي ما يحدثنا البلاذري [194] فقال: عمار بن ياسر نعم.. فرحمة الله من كل انفسنا. فقال له عثمان:
يا عاض اير ابيه اتراني ندمت علي تسييره!
وامر فدفع في قفاه وقال: الحق بمكانه، فلما تهيأ للخروج جاء بنو مخزوم الي علي فسألوه ان يكلم عثمان فيه.
فقال له علي: ياعثمان اتق الله فانك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فمات في تسييرك. ثم انت الان تريد ان تنفي نظيره.
وجري بينهما كلام حتي قال عثمان لعلي: انت احق بالنفي منه.
فقال علي: رم ذلك ان شئت.
واجتمع المهاجرون فقالوا:
ان كنت كلما كلمك رجل سيرته ونفيته فان هذا شيء لايسوغ. فكف عن عمار.».
وتداول الزبير بن العوام الرأي كما ذكرنا، مع نفر من الصحابة، في سوء الاوضاع العامة فانتهي بهم الامر الي كتاب رفعوه الي عثمان فحمله عمار بن ياسر اليه
فلما دخل عمار علي عثمان ومعه مروان، قال مروان لعثمان:
[صفحه 112]
ان هذا العبدالاسود قد جرأ عليك الناس، وانك ان قتلته نكلت به من وراءه..
فما اسرع ان قره عثمان علي رأيه العجيب البغيض.
وتناول عصاه فضرب بها الشاكي واعانه علي الضرب اهل بيته، ومن حضر مجلسه من بني امية. حتي فتقوا بطن الرجل والقوه علي جانب الطريق في ذلك اليوم البارد الممطر [195].
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع ان نقول مع الدكتور طه حسين:
ان عثمان مهما يكن اعتذار اهل السنة والمعتزلة عنه فانه قد اسرف وترك عماله يسرفون في العنف بالرعية ضربا ونفيا وحبسا. وهو نفسه قد ضرب او بضرب رجلين من اعلام صحابة النبي.
ضرب عمار بن ياسر حتي اصابه الفتق، وامر من اخرج عبدالله بن مسعود من مسجد النبي اخراجا عنيفا حتي كسر بعض اضلاعه.
ومهما يكن من امر هذين الرجلين الجليلين.. فما نعلم انه حاكمهما واقام عليهما الحجة واباح لاحد منهما الدفاع عن النفس وانما سمع فيهما قول عماله او قول حاشيته. ثم عاقبهما دون ان يقيم البينة.
وليس له من هذا كله شيء.. وهو نفسه شق علي أبي ذر حتي نفاه لا لشيء، الا لانه انكر سياسته العامة في الاموال..
ثم هو أذن لعماله ان يخرجوا الناس من ديارهم كلما آنسوا منهم بعض ما يكرهون. فجعل عماله يتقاذفون فريقا من اهل الكوفة يرسلهم سعيد الي معاوية ثم يردهم معاوية الي سعيد، ثم يرسلهم سعيد الي عبدالرحمن بن خالد دون ان يحاكموا او تقوم عليهم البينة، ويسمع منهم دفاعهم عن انفسهم [196]».
[صفحه 113]
وقد روي لنا البلاذري [197] قصة عزل عثمان عبدالله بن مسعود عن بيت المال في الكوفة واسباب ذلك العزل ونتائجه. اما التعليق علي ذلك فنتركه للقاريء:
«لما قدم الوليد بن عقبة واليا علي الكوفة الفي ابن مسعود علي بيت المال» فاستقرضه مالا … سس فأقرضه.. ثم انه اقتضاه اياه، فكتب الوليد في ذلك الي عثمان فكتب عثمان الي عبدالله بن مسعود: انما انت خازن لنا فلا تعرض للوليد في اخذ المال. فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال:
كنت اظن اني خازن للمسلمين. فأما اذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي في ذلك
واقام بالكوفة بعد القائه مفاتيح بيت المال» فكتب الوليد بذلك الي عثمان «فكتب اليه عثمان يأمره باشخاصه وشيعته اهل الكوفة فأوصاهم بتقوي الله ولزوم القرآن. فقالوا له:
جزيت خيرا. فلقد علمت جاهلنا، وثبت عالمنا، واقرأتنا القرآن، وفقهتنا في الدين …
وقدم أبن مسعود المدينة وعثمان يخطب علي منبر الرسول. فلما رآه قال:
انه قدمت عليكم دويبة سوء..
فقال ابن مسعود: لست كذلك ولكنني صاحب رسول الله:
ثم أمر عثمان به فأخرج من المسجد اخراجا عنيفا وضرب به عبدالله بن زمعة الارض [198].
فأقام عبدالله بن مسعود بالمدينة «لا يأذن له عثمان في الخروج منها الي ناحية من النواحي … حتي توفي قبل مقتل عثمان بسنتين..
ولما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه اتاه عثمان عائدا.
فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي.
[صفحه 114]
قال فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: افلا آمر لك بعطائك؟ قال:
منعتنيه وانا محتاج اليه، وتعطنيه وانا مستغن عنه.
قال: يكون لولدك. قال: رزقهم علي الله. فقال عثمان: استغفر الله لي يا ابا عبدالرحمن.
قال: اسأل ان يأخذ لي منك بحقي. واوصي ان لايصلي عليه عثمان» [199].
لقد أنكر المسلمون علي عثمان تصرفاته التي ذكرنا جانبا منها، لخروجها علي روح الاسلام، وسنة الرسول و «سيرة الشيخين».
كما انكروا تصرفات اخري كثيرة.. كان بعضها خروجا سافرا علي القرآن وسنة النبي.
وقد لخصها الدكتور طه حسين بقوله: «لقد انكر خصوم عثمان عليه انه لم يكن يبدأ خلافته حتي عطل حداَ من حدود الله. وخالف نصا من نصوص القرآن خلافا خطيرا. وذلك حين عفا عن عبيد الله بن عمر بن الخطاب ولم يقتص منه للهرمزان وجفينة، وبنت ابي لؤلؤة.
فقد كان الهرمزان اميرا فارسا مسلما وكان الاخران ذميين. والله قد عصم دماء المسلمين ودماء الذميين وبين الحدود التي تقام حين يعتدي أحد علي بعض أولئك او هؤلاء.. فقال المعارضون: ان اقامة الحد علي عبيد الله واجبة بنص القرآن [200].
وقال عثمان: قتل ابوه امس واقتله اليوم [201] والمهم هو ان عثمان عفا عن
[صفحه 115]
عبيد الله ثم عاب المسلمون المعاصرون لعثمان عليه بعد هذه القصة مخالفته للسنة المعروفة المستفيضة عن النبي وعن الشيخين وعن عثمان نفسه في صدر من خلافته، وذلك حين اتم الصلاة في مني وقد قصرها النبي، والشيخان وقصرها عثمان نفسه اعواما..
وقد ينبغي ان تعلم ان مصدر هذا الذي اصاب اصحاب النبي حين رأوا عثمان يتم الصلاة بمني هو مخالفة السنة الموروثة اولا. وشيء آخر عظيم الخطر جدا في نفوس المهاجرين، وهو:
ان النبي بعد الهجرة قد اتخذ المدينة له ولاصحابه دار اقامة، واتخذ مكة وما حولها دار غربة، وكره لنفسه واصحابه ان يصلوا الاقامة بمكة حتي لايظن انهم يرجعون او يهمون بالرجوع اليها بعد ان هاجروا منها، وكره ان يموت بعض اصحابه المهاجرين في مكة.
وانكر خصوم عثمان عليه شيئا آخر يتصل بركن آخر من اركان الدين. فقالوا:
انه اخذ الزكاة علي الخيل، وكان النبي قد اعفي من زكاة الخيل وسار الشيخان سيرته.
وعاب المسلمون علي عثمان انه حمي الحمي، والله ورسوله قد اباحا الماء والهواء والكلأ للناس جميعا..
وهناك اعتراض آخر وجهه خصوم عثمان اليه وهو انه اخذ من اموال الصدقة فأنفق منها في الحرب وفي غير الحرب من المرافق العامة. [202].
قال المعترضون: ان لاموال الصدقة مصارف معينة بينها الله في قوله:
«انما الصدقات للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم [203]»
وعاب خصوم عثمان عليه: انه حمل الناس علي مصحف واحد.. فحرق ما عدا هذا المصحف من الصحف التي كتب فيها القرآن.. فليس علي عثمان بأس
[صفحه 116]
في دينه من هذه الناحية. وقد يمكن ان تعترض عليه في انه كلف كتابة المصحف نفرا قليلا من اصحاب النبي وترك جماعة من القراء الذين سمعوا من النبي وحفظوا عنه وعلموا الناس في الامصار.. وهنا نفهم غضب ابن مسعود. فقد كان ابن مسعود من احفظ الناس للقرآن … اخذ من فم النبي سبعين سورة من القرآن ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد. فايثار عثمان لزيد بن ثابت واصحابه وتركه لابن مسعود وغيره من الذين سبقوا الي استماع القرآن عن النبي وحفظه عنه قد اثار عليه بعض الاعتراض..
وربما تحرج المسلمون من تحريق ما حرق عثمان من الصحف..
واذا لم يكن علي عثمان جناح فيما فعل من جهة الدين ولا من جهة السياسة فقد يكون لنا ان نأسف لتحريق تلك الصحف، لانه ان لم يكن قد اضاع علي الاسلام شيئا من دينهم فقد اضاع علي العلماء والباحثين كثيرا من العلم بلغات العرب ولهجاتها علي ان الامر اعظم خطرا وارفع شأنا من علم العلماء وبحث الباحثين عن اللغات واللهجات..
وانكر المنكرون علي عثمان خصلة اخري ما نعرف ان العذر يمكن ان يقوم له فيها. ذلك انه رد عمه الحكم بن أبي العاص واهله الي المدينة وكان النبي صلي الله عليه وسلم قد اخرجهم منها اخراجا عنيفا.
وكان بيت الحكم بن أبي العاص في الجاهلية مجاورا لبيت النبي. فكان الحكم يؤذي جاره الكريم اشد الاذي واقبحه..
وقد اقبل الحكم بعد فتح مكة مسلما ولكن اسلامه لم يكن الا جنة يتقي بها الموت. وآية ذلك أنه استمر يؤذي النبي بقوله وفعله، فكان يسعي وراءه ويغمزه ويقلد حركاته ساخرا منه..
فقد كان أيسر الرعاية لحرمة النبي يقتضي الا يرده عثمان الي المدينة، ليساكن النبي فيها ميتا بعد أن أبي النبي أن يساكنه فيها حيا.
وقد دلت سيرة عثمان مع الحكم وبنيه بعد ذلك علي انه انما ردهم الي المدينة
[صفحه 117]
ايثارا لهم بالخير وتكاثرا بهم علي غيره من المسلمين واستعانة بهم علي امور السياسة.
وقد ولي عثمان الحارث بن الحكم شئون المدينة فأسرف علي الناس وعلي نفسه وسار سيرة لاتلائم الامانة، ولا التورع … ثم لا يقف عثمان عند هذا الحد.
وانما اعطي الحارث مالا كثيرا.
ثم اختص عثمان بمروان بن الحكم فأعطاه، وحباه، واتخذه لنفسه وزيرا ومشيرا.. ولم يكن عثمان ليقف بأحداثه عند هذا الحد وانما تجاوزه، هو وعماله الي اشياء كثيرة تمس حقوق الناس ومصالحهم وحرياتهم» [204].
ومما زاد الوضع الحرج حراجة ان قسما من اهل بيت عثمان ومن المقربين اليه وممن ساعد علي جعله خليفة قد بدأ يؤلب الناس عليه.
«فهذا محمد بن ابي حذيفة.. آذاه ان يؤثر الخليفة عليه سواه من اهله.. فكان يلقي الرجل عائدا من غزوة الروم فيتخابث ويسأل:
امن الجهاد؟ فيجيبه الرجل بنعم، فيشير بابهامه الي ناحية الحجاز ويقول:
لقد تركنا خلفنا الجهاد.. جهاد عثمان.. حتي مضي وحقده رائده الي مصر يلوذ بجماعات المخالفين، [205].
والي هذه الحادثة يشير البلاذري [206] بقوله:
«وكانت غزاة ذات الصواري في المحرم سنة 34 وعليها عبدالله بن سعد، فصلي بالناس، فكبر ابن ابي حذيفة تكبيرة افزعه بها.. وجعل ابن ابي حذيفة يقول:
يا اهل مصر انا خلفنا الغزو وراءنا يعني غزو عثمان.
وبعث عثمان الي ابن ابي حذيفة بثلاثين الف درهم ويحمل عليه كسوة.
[صفحه 118]
فأمر به فوضع في المسجد وقال: يامعشر المسلمين الا ترون الي عثمان يخادعني عن ديني ويرشدني عليه فازداد اهل مصر عيبا لعثمان وطعنا عليه».
وذاك عبدالرحمن بن عوف يقول للناس: «لو استقبلت من امري ما استدبرت لما وليت عثمان شسع نعلي.
وقال: وهو علي فراش الموت: عاجلوه.. عاجلوه قبل ان يتمادي في ملكه» [207].
وذكر البلاذري [208]:
«حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن ابراهيم بن سعد ان ابيه قال:
لما توفي ابو ذر بالربذة، تذكر علي وعبدالرحمن بن عوف فعل عثمان فقال علي:
هذا عملك.
فقال عبدالرحمن: اذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي. انه قد خالف ما اعطاني
وحدثني مصعب بن عبدالله الزبيري عن ابراهيم بن سعد عن ابيه ان عبدالرحمن اوصي ان لا يصلي عليه عثمان» [209] وذلك عمرو بن العاص، الذي وجد علي عثمان حين عزله عن مصر..
فكان يؤلب الناس ويحرضهم عليه ما وسعه ذلك سرا. علي انه لم يتردد اذ قال لعثمان جهرة في المسجد: انك ركبت بالناس امورا، وركبناها معك فتب الي الله فنتب. وتلقي عثمان ذلك اسوأ لقاء فلما اشتدت الفتنة، وعرف عمرو انها منتهية الي غايتها آثر ان يعتزلها في طورها ذاك. فخرج الي ارض كان يملكها بفلسطين فأقام فيها وجعل يتنسم الاخبار.
وكان عمرو وابناه علي ماهم عليه بفلسطين حتي جاءهم النبأ بقتل عثمان. فقال
[صفحه 119]
عمرو: انا ابوك عبدالله ما حككت قرحة الا ادميتها. يريد انه مهد للفتنة والثورة لعثمان فأحكم التمهيد وانتهي الامر الي غايته» [210].
ويحدثنا عمرو نفسه عن بعض ما فعله في التأليب علي عثمان وهو في طريقه الي فلسطين فيقول: والله اني كنت لالقي الراعي فأحرضه علي عثمان!» [211] وقد هدد عمرو بن العاص عثمان، حين حضر الحصار الاول قائلا: انك ياعثمان ركبت بالناس النهابير.
فاتق الله وتب اليه. فقال:
يا ابن النابغة وانك ممن يؤلب علي الطغام لاني عزلتك عن مصر. فخرج الي فلسطين فأقام بها في ماله هناك، وجعل يحرض الناس علي عثمان حتي رعاة الغنم. فلما بلغه مقتله قال:
أنا أبو عبدالله، اني اذا حككت قرحة نكأتها،» [212].
وتلك عائشة ام المؤمنين خرجت بقميص النبي، فقالت للناس:
للناس «هذا قميص رسول الله لم يبل وعثمان قد ابلي سنته. ثم تقول: اقتلوا نعثلا. قتل الله نعثلا» [213].
ولقد كانت عائشة «اشد نساء النبي انكارا علي عثمان. ولم تتحرج ان تصيح به من وراء سترها علي المنبر حين عاب عبدالله بن مسعود فأسرف في عيبه.
ولم تكن تتحفظ من الاعتراض علي كثير من أعمال عثمان، ومن سيرة عماله حتي ظن كثير من الناس انها كانت من المحرضين علي الثورة به» [214].
وكانت عائشة تؤلب الناس علي عثمان «وتدعوا الي قتله بكل مكان.. ولم تبق بالمدينة لتكف عنه أذي الناس حين حصروه بداره.. وتمضي علي الاثر الي مكة فلا يمنعها خروجها لاداء واجب ديني مقدس من محاولة التخذيل عن الشيخ، وبث كراهيته في نفوس الحجيج القادمين من كافة الاقطار..
[صفحه 120]
ثم راحت، وهي بموطن الاحرام لاتني تستنبيء كل قادم، وتتنسم اخبار المدينة بلهفة.
فلما القي اليها ذات يوم بنبأ مكذوب نم عن انتصار الشيخ علي خصومه، وقتله المصريين، صاحت بغضب واستنكار:
ايقتل قوما جاءوا يطلبون الحق وينكرون الظلم؟ «[215] وكانت عائشة، قبل خروجها الي مكة، كما ذكرنا كثيرة النقد لعثمان. وقد اغلظت له ذات يوم علي مايحدثنا البلاذري [216] «واغلظ لها. وقال:
وما أنت وهذا؟ أنما أمرك الله أن تقري في بيتك.. فغضبت واخرجت شعرا من شعر رسول الله وثوبا من ثيابه ونعلا من نعاله. ثم قالت: ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم! وهذا شعره، وثوبه، ونعله، لم يبلي!!».
فنشأ عن ذلك كله تذمر عام انتشر في ارجاء بلاد الاسلام وبخاصة في الحجاز ومصر والعراق. والغريب في الامر هو: ان عثمان لم يصغ لنصح الناصحين من اعلام الصحابة.. بل استمر خاضعا لتوجيهات مروان بن الحكم، وتصرفات عماله وامرائه الذين كانوا في الواقع مصدر القلق وموضع الشكوي في بلاد الاسلام.
ولما اخذ الامر يتفاقم علي عثمان، وبدأ الميزان السياسي بالاختلال، جمع عثمان 34 ه علي ما يقول الرواة كبار امرائه:
معاوية بن أبي سفيان، وعبدالله بن أبي سرح، وعبدالله بن عامر، وسعيد ابن العاص ليستشيرهم فيما يجب عليه ان يتخذه من الاجراءات لتطليف حدة التوتر بينه وبين رعيته.
«فلما التأمت جماعتهم قال عثمان: أن لكل امام وزراء، وانكم وزرائي..
فامأ معاوية فلم يزد علي أن طلب اليه أن يرد العمال الي امصارهم..
وان يعتمد عليهم في ان يضبط كل واحد مصره ويحزم امره..
واما سعيد بن العاص فأشار عليه ان يقتل قادة المعارضة وزعماء الفتنة.
[صفحه 121]
واما عبدالله بن سعد بن أبي سرح: فأشار عليه ان يترضي الناس ويعطيهم من بيت المال ويأخذهم عن طريق اطماعهم.
واما عبدالله بن عامر: فأشار عليه بأن يرسل الناس الي الجهاد ويشغلهم بالحرب ويطيل اقامتهم بالثغور» [217].
ويلاحظ القاريء أن هذا المؤتمر بالاضافة الي أن اعضاءه هم مصدر الشكوي والتذمر لم ينجح في الاتفاق علي حل للمشكلة التي واجهها عثمان.
وسبب ذلك علي مايبدو هو: ان اعضاءه لم يتفهموا طبيعة المشكلة التي كانت تهدد خلافة عثمان وحياته علي السواء.
وقد شغل اعضاؤه انفسهم كما رأينا في ابتداع اساليب فاسدة جديدة لالهاء الناس في أمور خارجية وصرفهم عن التحدث بمشكلات الساعة اي ان المؤتمرين واجهوا المشكلة بالهروب عنها وعدم التعرض لها.
ومما يلفت النظر: ان عثمان نفسه لم يبد رأيه في المشكلة اطلاقا، ولم يتخذ اي اجراء وقائي او علاجي لمواجهة الموقف المتأزم، بله محاولة التغلب عليه.
وخطب عثمان في المتذمرين: ولكنه بدلا من ان يعالج الموقف المتأزم قد ساعد علي جعله اكثر تأزما وحراجة حين قال: «اما بعد: فان لكل امة آفة وان لكل نعمة عاهة.
وان آفة هذه الامة وعاهة هذه الملة قوم عيابون طعانون..
اما والله يا معشر المهاجرين والانصار لقد عبتم علي اشياء ونقمتم في امور قد اقررتم لابن الخطاب بمثلها. ولكنه وقمكم وقما..
اما والله لانا اكثر من ابن الخطاب عدداً»..
فعثمان، كما يبدو، من خطابه هذا، يشجب الذين انتقدوا سياسته لعدم
[صفحه 122]
انسجامها مع القرآن والسنة وسيرة الشيخين كما رأينا ويصفهم بأنهم عيابون طعانون، دون ان يشير الي الامور التي يعيبونها عليه ويطعنون بها علي سياسته العامة، ودون ان يناقش تصرفاته، وتصرفات عماله وذوي قرابته في ضوء الاحداث القائمة آنذاك.
وانكي من ذلك ان عثمان حاول تبرير ما اخذه المسلمون عليه بقوله:
ان عمر بن الخطاب كان قد فعل مثله دون ان ينقم المسلمون عليه.
والانكي من كل ذلك انه ختم خطبته بالتهديد والوعيد.
وكان الاولي به ان يختمها بذكره وجوه الاصلاح الذي كان الناس يتوقون اليه، والوعد بالابتعاد عما اعتبره المسلمون المعاصرون لعثمان خروجا علي الدين.
ومهما يكن من الامر فقد ازداد التذمر، وانتشر بين صفوف الجيش في الثغور.
وعاد عبدالله بن سعد ظافراً بقهر اسطول الروم في موقعة ذات الصواري.
ولكنه عاد وقد افسد عليه أبن أبي حذيفة جيشه بما اظهر من النكير عليه وعلي خليفته، وبما كان يقوله للمحاربين:
انكم تسعون الي الجهاد والجهاد وراءكم في المدينة حيث يقيم عثمان فيسوس الامة علي غير كتاب الله، وسنة رسوله، وسياسة صاحبيه.
ويعزل اصحاب رسول الله من العمل، ويولي أمور المسلمين جماعة من الفساق واصحاب المجون.
انظروا الي واليكم وقائدكم الي الجهاد انه نزل القرآن بكفره واهدر النبي دمه.
ولكن عثمان يوليه امركم علي ذلك لانه اخوه في الرضاعة» [218].
وقد نتجت عن ذلك كله بالاضافة الي ماذكرنا معارضة شعبية خفية تجري بها الالسنة ولا يعرف صاحبها. كالذي كان حين وسع عثمان مسجد النبي فقال الناس:
[صفحه 123]
يوسع مسجد النبي ويترك سنته، وكالذي كان حين كثر الحمام في المدينة واقبل الشباب علي الرمي فتقدم عثمان الي الناس في ذبح الحمام.
وولي رجلا يمنع الرمي بالبندق، فقال الناس: يأمر بذبح الحمام، ويؤوي طريد رسول الله!! يشيرون بذلك الي ايواء عثمان للحكم بن أبي العاص وبنيه» [219].
قال البلاذري [220] «حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن محمد بن عبدالله عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: خطب عثمان فأمر بذبح الحمام.. فقال الناس: يأمر بذبح الحمام وقد آوي طرداء رسول الله».
والسؤال الذي لابد من طرحه وتلمس الاجابة عليه هو:
«اين نشأت المعارضة لسياسة عثمان؟ انشأت في المدينة مستقر الخلافة؟ ام نشأت في الامصار؟ وبعبارة ادق..
هل نشأت المعارضة بين أصحاب النبي من المهاجرين والانصار ثم انتقلت عنهم الي الجند المرابطين في الامصار؟
ام نشأت في الجند ثم انتقلت الي اصحاب النبي في المدينة؟
وواضح جداً ان للاجابة علي هذا السؤال خطراً وأي خطر.
فان نشأة المعارضة في المدينة معناها: ان اصحاب النبي قد كانوا اول من انكر علي عثمان بعض سياسته فتبعهم الناس.
ونشأة المعارضة في الامصار معناها: ان الجند هم الذين سبقوا الي الخلاف ثم اقحموا فيه وفي نتائجه اصحاب النبي.. ونري ان المعارضة لم تنشأ في المدينة وحدها، وانما نشأت فيها وفي الاقاليم، بل لعلها نشأت في المدينة ثم في اطراف الاقاليم» [221].
[صفحه 124]
ومن الادلة علي ذلك ما سلف ان ذكرناه من مواقف كبار الصحابة من تصرفات ابن عفان. فقد مر بنا ذكر جانب من موقف ابي ذر، وعبدالله ابن مسعود، وعمار بن ياسر.
وفي التاريخ الاسلامي امثلة كثيرة اخري من هذا القبيل، ويلوح للباحث ان النقمة علي عثمان قد انتقلت في عاصمة النبي من طبقات كبار الصحابة الي من يأتون بعدهم مباشرة في المركز الاجتماعي والديني.
وموقف جبلة بن عمرو الساعدي وامثاله معروف لدي الكثيرين.
وقد ذكر البلاذري [222] موقف جبلة هذا حين قال: «مر عثمان بن عفان علي جبلة بن عمرو الساعدي وهو علي باب داره وقد انكر الناس عليه ما انكروه. فقال: يا نعثل والله لاقتلك ولاحملنك علي قلوص جرباء.. اطمعت الحارث ابن الحكم السوق وفعلت ما فعلت!!
وكان عثمان ولي الحارث بن الحكم السوق. فكان يشتري الحليب بحكمه ويبيعه بسومه ويجبي مقاعد المتسوقين، ويصنع صنيعا منكراً.
فكلم في اخراج السوق من يده فلم يفعل. وقيل لجبلة في امر عثمان وسئل الكف عنه فقال: والله لا القي الله غداً فأقول: انا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا» [223].
وقد دفع ذلك الامتعاض والاضطراب الذي حدث في بعض الاقاليم الاسلامية اصحاب الرأي فيها الي ان يرسلوا بعض وجوههم وفوداً الي عاصمة الخلافة لمقابلة عثمان والتداول معه في الامر لايجاد مخرج من هذه الازمة الحادة والفتنة الغليظة المظلمة.
غير أن تصرفات مروان بن الحكم وزير الخليفة وموضع سره ومصدر توجيهه قد أفسدت الامر. ومع ذلك فقد رجعت الوفود الي امصارها يحدوها اليأس الذي لا يخلو من أمل في الاصلاح، وتساورها الرهبة من البطش ممزوجة بالرغبة في التريث وانتظار مجريات الامور.
[صفحه 125]
ولكن مؤامرات مروان لم تقف عند حد فاختلق علي لسان الخليفة كتابه المعروف للايقاع بأهل مصر.
واطلع هؤلاء علي المؤامرة قبل أن تطأ اقدامهم أرض الكنانة فانقلبوا راجعين.. فثار الناس علي عثمان فقتلوه.. [224].
لقد مر بنا التحدث عن مقتل عثمان ويجمل بنا قبل أن نتطرق الي ذكر انتقال الخلافة الي علي بن ابي طالب أن ننبه القاريء الي أن مروان بن الحكم، ومعاوية بن أبي سفيان قد بدءا منذ ان سمعا بمقتل عثمان، وبيعة المسلمين لعلي بالتهيؤ للخروج علي امام زمانهما متذرعين بالمطالبة بدم الخليفة القتيل.
وكانت باكورة اعمالهما ارسال جملة كتب الي من آنسا فيهم القدرة علي مشاركتهما اساليبهما واهدافهما تمهيداً للقيام بعصيان مسلح ضد الخليفة الجديد.
والي القاريء نبذاً من تلك الرسائل:
كتب مروان الي معاوية.. «اني كتبت اليك هذا الكتاب بعد مقتل عثمان.
[صفحه 126]
بعد أن وثبوا عليه وسفكوا دمه وانقشعوا عنه انقشاع سحابة قد افرغت ماءها منكفئين قبل ابن ابي طالب انكفاء الجراد ابصر المرعي.
فأخلق ببني أمية أن يكونوا من هذا الامر بمجري العيوق فان لم يثأره ثائر فان شئت أبا عبدالرحمن أن تكونه فكنه».
فلما ورد الكتاب علي معاوية امر بجمع الناس ثم خطبهم خطبة ابكي منها العيون وقلقل القلوب حتي علت الرنة وارتفع الضجيج وهم النساء ان يتسلحن.
ثم كتب الي طلحة بن عبيد الله، والزبير بن والعوام، وسعيد بن العاص، وعبدالله ابن عامر، والوليد بن عقبة، ويعلي بن امية. فكان كتاب طلحة:
«أما بعد فانك اقل قريش في قريش وتراً مع صباح وجهك، وسماحة كفك، وفصاحة لسانك، فأنت بازاء من تقدمك في السابقة، وخامس المبشرين بالجنة، ولك يوم أحد وشرفه، وفضله، فسارع الي ما تقلدك الرعية من أمرها مما لا يسعفك التخلف عنه ولا يرضي الله منك الا بالقيام به. فقد احكمت لك الامر من قبلي، والزبير غير متقدم عليك بفضل. وايكما قدم صاحبه فالمقدم الامام وامر من بعده للمقدم له».
وكتب الي الزبير: أما بعد فانك الزبير ابن عمة رسول الله وحواريه وسلفه وصهر ابي بكر وفارس المسلمين.
اعلم ان الرعية اصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي. فسارع الي حقن الدماء.
فقد احكمت لك الامر من قبلي ولصاحبك، علي ان الامر المتقدم ثم لصاحبه من بعده..
ثم كتب معاوية الي مروان بن الحكم: أما بعد.. فقد وصل الي كتابك بشرح خبر أمير المؤمنين.. فاذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد لايصطاد الا غيلة ولا يتشازر الا عن حيلة، وكالثعلب لا يفلت الا روغاناً.
[صفحه 127]
واخف نفسك منهم اخفاء القنفذ رأسه عند لمس الاكف. وامتهن نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره … وانفل الحجاز فاني منفل الشام..
وكتب الي سعيد بن العاص.. يابني امية عما قليل تسألون ادني العيش من ابعد المسافة فينكركم من كان بكم عارفا ويصد عنكم من كان لكم واصلا، متفرقين في الشعاب تتمنون لمظة المعاش. ان امير المؤمنين عتب عليه فيكم وقتل في سبيلكم. ففيم القعود عن نصرته والطلب بدمه؟!
وانتم بنو ابيه ذوو رحمة واقربوه وطلاب ثأره اصبحتم مستمسكين بشظف معاش زهيد عما قليل ينزع منكم عند التخاذل.. وكتب الي عبدالله بن عامر..
كأني بكم يابني امية شعار يرك كالاوراك تقودها الحدأة.. فثب الآن قبل أن يستشري الفساد..
واجعل اكبر عدتك الحذر، وأحد سلاحك التحريض، واغضض عن العوراء وسامح اللجوج، واستعطعف الشارد، ولاين الاشوس، وقو عزم المريد..
وكتب الي الوليد به عقبة.. فلو قد استتب هذا الأمر لمريده ألفيت كشريد النعام يفزع من ظل الطائر. وعن قليل تشرب الرنق وتستشعر الخوف.
وكتب الي يعلي بن امية.. فكان اعظم ما نقموا علي عثمان وعابوه عليه ولايتك علي اليمن وطول مدتك عليها.. حتي ذبحوه ذبح النطيحة.. وهو صائم معانق المصحف.. علي غير جرم.. وأنت تعلم ان بيعته في اعناقنا وطلب ثأره لازم لنا.. فشمر لدخول العراق.
فأما الشام فقد كفيتك أهلها، واحكمت امرها.
وقد كتبت الي طلحة بن عبيد الله ان يلقاك بمكة حتي يجتمع رأيكما علي اظهار الدعوة والطلب بدم عثمان المظلوم.
[صفحه 128]
وكتبت الي عبدالله بن عامر يمهد لكم العراق..
واعلم يا ابن امية ان القوم قاصدوك باديء بدء لاستنزاف ما حوته يداك من المال.
وكتب اليه مروان جوابا علي كتابه.. زعيم العشيرة وحامي الذمار.. أنا علي صحة نيتي، وقوة عزيمتي، وتحريك الرحم لي، وغليان الدم مني غير سابقك يقول ولا متقدمك بفعل.
وأنت ابن حرب طلاب التراث وابي الضين. وكتابي اليك.
وانا كحرباء السبسب الهجير يرقب عين الغزالة، وكالسبع المفلت من الشرك يفرق من صوت نفسه.
منتظرا لما تصح به عزيمتك، ويرد به أمرك فيكون العمل به والمحتذي عليه..
وكتب اليه عبدالله بن عامر.. فان امير المؤمنين كان الجناح الحاضنة تأوي اليها فراخها. فلما اقصده للسهم صرنا كالنعام الشارد.. والذي اخبرك به ان الناس في هذا الامر تسعة لك وواحد عليك.
ووالله للموت في طلب العز احسن من الحياة في الذلة. وانت ابن حرب فتي الحروب، ونصار بني عبد شمس، والهمم بك منوطة وانت منهضها.. ولنعم مؤدب العشيرة انت، وانا لنرجوك بعد عثمان.
وها انا اتوقع ما يكون منك لامتثله واعمل عليه.
وكتب الوليد بن عقبة.. فانك اسد قريش عقلا، واحسنهم فهما واصوبهم رأيا. معك حسن السيرة وانت موضع الرئاسة، تورد بمعرفة وتصدر عن منهل.
واما اللين فهيهات.. والعار منقصة، والضعف ذل.. قد عقلت نفسي علي الموت عقل البعير، واحتسبت اني ثاني عثمان او أقتل قاتله.
[صفحه 129]
فعملي علي ما يكون من رأيك فانا منوطون بك متبعون عقبك …
وكتب اليه يعلي بن امية: انا وانتم يابني امية كالحجر؛ لا يبني بغير مدر، وكالسيف لايقطع؛ الا بضاربه … ثكلتني من انا ابنها ان تمت عن طلب وتر عثمان..
اري العيش بعد قتل عثمان مراً..
اما سعيد بن العاص فانه كتب بخلاف ماكتب هؤلاء» [225].
[صفحه 130]
خلافة الامام
«لقد كان علي موفقا كل التوفيق، ناصحا للاسلام كل النصح..
صبر نفسه علي ما كانت تكره.
وطابت نفسه للمسلمين بما كان يراه حقا..
بايع علي ثاني الخلفاء كما بايع اولهم كراهية للفتنة.. ونصحا للمسلمين.
ولم يظهر مطالبته بما كان يراه حقا له. ونصح لعمر كما نصح لابي بكر..
وقد بايع عثمان كما بايع الشيخين. وهو يري انه مغلوب علي حقه. ولكنه علي ذلك لم يتردد في البيعة، ولم يقصر في النصح للخليفة الثالث، كما لم يقصر في النصح للشيخين من قبله.. فكان طبيعيا اذن حين قتل عثمان ان يفكر علي في نفسه، وفيم غلب عليه من حقه.
ولكنه مع ذلك لم يطلب الخلافة، ولم ينصب نفسه للبيعة حين استكره علي ذلك استكراها.
وحين هدده بعض الذين ثاروا بعثمان بأن يبدوا به فيلحقوه بصاحبه المقتول» [226].
أما كيفية مبايعة المسلمين لعلي بالخلافة فيصفها الطبري [227] بقوله:
«حين قتل عثمان واجتمع المهاجرون والانصار ومنهم طلحة والزبير، فأتوا علياً وقالوا: يا أبا الحسن هل نبايعك؟ فقال: لاحاجة لي في امركم، فمن اخترتم فقد رضيت به..
[صفحه 131]
فقالوا: مانختار غيرك.. فاختلفوا اليه بعد ما قتل عثمان مراراً..
وخرج علي الي السوق في يوم السبت لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة فاتبعه الناس وبشوا في وجهه. فدخل حائط بني عمرو بن مبذول وقال لابي عمرة ابن عمر بن محصن: اغلق الباب. فجاء الناس فقرعوا فدخلوا وفيهم طلحة والزبير فقالا: ياعلي ابسط يدك فبايعه طلحة والزبير.
فنظر حبيب بن ذئب الي طلحة حين بايعه فقال: اول من بدأ بالبيعة يد شلاء»
وقد اوجز الامام سياسته العامة في اول خطبة خطبها حين استخلف فقال:
«ان الله انزل كتابا هاديا يبين فيه الخير والشر. فخذوا الخير ودعوا الشر.
والفرائض ادوها.. اتقوا الله عباد الله في عباده وبلاده..
وانكم مسئولون حتي عن البقاع والبهائم» [228].
كلمات قصار ولكنها تتضمن اجراء تغيير واسع المدي، وعميق الغور في علاقات المسلمين ببعضهم وبالخليفة.
ومما تجدر الاشارة اليه في هذا الصدد ان الامام كما يحدثنا مؤرخوه قد اعتذر مرارا عن قبول الخلافة علي الرغم من الحاح المسلمين عليه.
وقد مر بنا طرف من ذلك.
ولقد اشار الامام نفسه الي ذلك في مواطن شتي من «نهج البلاغة» قال يصف تزاحم المسلمين عليه والحاحهم الشديد علي مبايعته:
«دعوني والتمسوا غيري. فانا مستقبلون امرا له وجوه والوان، لاتقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وان الآفات قد اغامت، والمحجة قد تنكرت.
واعلموا اني ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم، ولم اصغ الي قول القائل، وعتب العاتب» [229] فلما اصر القوم علي مبايعته، ورأي ان واجبه الديني يدعوه الي
[صفحه 132]
تلبية الدعوة كشف لهم عن حقيقة نفسه فراعهم والب الكثيرين منهم عليه حين قال: «ذمتي بما اقول رهينة وانا به زعيم. ان من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات احجزته التقوي عن تقحم الشبهات.
الا وان بليتكم قد عادت لهيئتها يوم بعث الله نبيكم..
والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة. ولتسلطن سوط القدر حتي يعود اسفلكم اعلاكم، واعلاكم اسفلكم. وليسبقن سباقون كانوا قصروا، وليقصرن قاصرون كانوا سبقوا [230]»
فالامام اذن يري انهم سوف يضيقون به ذرعا لعدالته وشدته في التزام الحق فيعصون امره، ولا يستطيعون ان يثنوه عن خطته.
ثم يصف الامام: «في خطبة اخري» اقبال المسلمين علي مبايعته فيقول:
«وبسطتم يدي فكففتها. ومددتموها فقبضتها. ثم تداككتم عليّ تداك الابل الهيم علي حياضها يوم وردها، حتي انقطع النعل وسقط الرداء ووطيء الضعيف» [231].
واشار الامام «في خطبة اخري» الي المعني نفسه حين قال: «فما راعني الا والناس كعرف الضبع ينثالون الي من كل جانب.
ولقد وطيء الحسنان وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم.
فلما نهضت بالامر نكثت طائفة، ومرقت اخري، وقسط آخرون» [232].
[صفحه 134]

قميص عثمان

اشاره

=1 الفصل الرابع: الناكثون أصحاب الجمل 36 ه
2 الفصل الخامس: القاسطون أصحاب صفين 37 ه
3 الفصل السادس: التحكيم، المارقون، ومصرع الإمام: 38 40 ه
[صفحه 135]

الناكثون

اشترك طلحة، والزبير، وعائشة في تأليب المسلمين علي عثمان، كما ساهم كل منهم بقلبه ولسانه في قتل الخليفة علي الشكل الذي وصفناه.
وكان اشد الثلاثه وطأة علي عثمان الزبير بن العوام، واخفهم طلحة بن عبيد الله. هذا مع العلم بأن عثمان كان يقول عن طلحة وهو اخفهم وطأة عليه كما ذكرنا:
«ويلي من طلحة! اعطيته كذا ذهبا وهو يروم دمي … اللهم لا تمتعه به ولقه عواقب بغيه» [233].
ويلوح للباحث ان طلحة قد تظاهر بالمطالبة بدم عثمان في اوائل خلافة الامام وهو ادري من غيره بقتلة الرجل وبالدور الذي لعبه هو والزبير وعائشة في هذا الشأن ليغالط الناس ويوهمهم «انه بريء من دمه. فلقد قال علي لطلحة وعثمان محصور:
انشدك الله الا رددت الناس عن عثمان؟ قال طلحة:
لا والله حتي تعطي بنو امية الحق من انفسها.
ويروي الطبري: ان عثمان كان له علي طلحة خمسون الفاً. فخرج عثمان يوماً الي المسجد فقال له طلحة: قد تهيأ مالك فأقبضه» فقال: هو لك يا ابا محمد معونة لك علي مروءتك.
قال: فكان عثمان يقول وهو محصور: جزاء سنمار.
وروي المدائني في كتاب «مقتل عثمان»: أن طلحة منع من دفنه ثلاثة ايام. وان حكيم بن حزام … وجبير بن مطعم. استنجدوا بعلي علي دفنه، فأقعد طلحة
[صفحه 136]
لهما في الطريق ناساً بالحجارة» [234] ولم يكن طلحة علي مايقول الدكتور طه حسين: «ليخفي ميله مع الثائرين ولا تحريضه لهم ولا اطماع فريق منهم في نفسه. وكثيرا ماشكا منه عثمان في السر والجهر.
والرواة يتحدثون بأنه استعان عليه بعلي نفسه، وبأن عليا استجاب له فذهب الي طلحة ورأي عنده جماعة ضخمة من الثائرين. وحاول ان يرده عن خطته تلك فلم يستجب له طلحة» [235].
واما عائشة فقد مر بنا ذكر موقفها من عثمان، فقد خرجت مرارا كما ذكرنا بقميص النبي مؤلبة علي عثمان وقائلة.
اقتلوا نعثلا. وكثيرا ما كانت تصيح به من وراء سترها وهو علي المنبر؛ كما ذكرنا، تلومه علي بعض فعاله.
فقد كانت عائشة والحق يقال من اعظم المؤلبين علي الخليفة الثالث والمخذلين عن نصرته حتي انه حين بلغها وهي في بيت الله الحرام:
ان عثمان قد انتصر علي اعدائه صرخت بأعلي صوتها.
ايقتل قوما جاءوا يطلبون الحق وينكرون الباطل.
وقد سأل سعيد بن العاص ام المؤمنين، قبل سفرها الي البصرة.
«أين تريدين يا ام المؤمنين؟ فقالت: اريد البصرة. وماذا تصنعين؟
اطلب بدم عثمان. فأجابها سعيد: ان قتلة عثمان معك يا ام المؤمنين» [236].
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع ان نقول: ان ابطال حركة الجمل كانوا قادة الثورة علي عثمان ورءوس الفتنة التي انتهت بمصرع ثالث الخلفاء الراشدين.
[صفحه 137]
وقد كان هؤلاء دون شك عارفين حق المعرفة كغيرهم من المسلمين آنذاك من هم قتلة عثمان؟
تري لماذا البوا الناس علي علي؟!
وهل هناك عوامل خفية قريبة وبعيدة ساقتهم الي القيام بعصيانهم المسلح ضد النظام القائم متخذين من قميص عثمان ذريعة لذلك؟
ولماذا بايع طلحة، والزبير عليا بالخلافة؟
هل المطالبة بدم عثمان ان صحت تستلزم الثورة علي النظام القائم ام تتم علي اساس تقديم شكوي، من قبل اولياء عثمان الذين عينهم القرآن بصراحة في سورة الاسراء [237] الي الحكومة لتجري التحقيق في ذلك وتتخذ الاجراءات القانونية بحق الذين تثبت ادانتهم؟
وما حق عائشة وطلحة والزبير من الناحية الشرعية بالمطالبة بدم عثمان؟ ان ولي عثمان هو ابنه عمرو؟!
وما شأن البصرة الثورة علي عثمان؟
لماذا لم يتجهوا الي مصر المؤلبة؟ وبقدر مايتعلق الامر بالسيدة عائشة نستطيع ان نقول: ان جفاء حصل بين عائشة وعلي منذ عهد الرسول ايام غزوة بني المصطلق التي سنذكرها..
وهناك عامل آخر اشار اليه بعض الباحثين المحدثين [238] ملخصه:
ان السيدة عائشة وجدت علي الامام من الناحية النفسية فحسدته لعقمها، ولان عقب الرسول قد انحصروا في بنيه من فاطمة زوج علي، ولكي نعرض علي
[صفحه 138]
القاريء عوامل الجفاء بين السيدة عائشة وعلي بن ابي طالب نري لزاما علينا ان نترك السيدة عائشة نفسها تقص علي القاريء ملابسات الموضوع.
قالت السيدة عائشة [239] «كان رسول الله اذا اراد سفرا اقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. فلما كانت غزوة بني المصطلق (6 ه) اقرع بين نسائه كما كان يصنع فخرج سهمي عليهن. فخرج بي رسول الله.. فلما انتهي من سفر؟؟؟ وجه قافلاً حتي اذا كان قريباً من المدينة نزل منزلا فبات فيه بعض الليل ثم اذن في الناس بالرحيل.
فلما ارتحل الناس خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي.. فلما فرغت انسل عقدي ولا ادري.
فلما رجعت الي الرحيل ذهبت التمسه في عنقي فلم اجده.
وقد اخذ الناس في الرحيل فرجعت.. الي المكان الذي ذهبت اليه، فالتمسته حتي وجدته.. ورجعت الي المعسكر وما فيه داع ولا مجيب؛ قد انطلق الناس. فلفلفت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني، فوالله اني لمضطجعة اذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي وقد كان تخلف عن المعسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس في المعسكر فلما رأي سوادي اقبل حتي وقف علي فعرفني.. ثم قرب البعير فقال: اركبي.. فركبت.
فانطلق سريعا يطلب الناس.. ثم قدمنا المدينة فلم امكث ان اشتكيت شكاية شديدة.. وقد انتهي الحديث الي رسول الله والي ابوي.
فأنكرت من رسول الله بعض لطفه بي. حتي وجدت في نفسي مما رأيت من جفائه عني. فقلت:
يا رسول الله لو اذنت لي فانتقلت الي امي فمرضتني، قال:
لا عليك، فانتقلت الي امي.
وجاء رسول الله فدخل علي: ودعا علي بن ابي طالب.
[صفحه 139]
فقال علي: يا رسول الله ان النساء لكثير، وانك لقادر علي ان تستخلف؛ وسل الجارية فانها تصدقك.
فدعا رسول الله بريرة يسألها.. فقام اليها علي فضربها ضربا شديداً وهو يقول:
اصدقي رسول الله … فوالله ما برح رسول الله مجلسه حتي تغشاه من الله ما يتغشاه. فسجي بثوبه ووضعت وسادة من ادم تحت رأسه.. ثم جلس فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: ابشري يا عائشة فقد انزل الله براءتك.
ثم امر بمسطح بن اثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بن جحش وكانوا ممن افصح بالفاحشة فضربوا حدهم».
يتضح من رواية السيدة عائشة انها خرجت مع النبي في مسيرة مع جيشه الي بني المصطلق، وانها اثناء رجوع القوم الي المدينة شذت عن الركب لبعض حاجتها دون ان يعلم بها احد من الناس، ثم عادت الي الركب. ولكنها تفقدت عقدها اثناء عودتها فلم تجده في جيدها. فعادت الي المكان الذي جاءت من عنده دون ان يراها احد من الناس فعثرت علي العقد. ثم عادت الي الركب فلم تجده. فمكثت في مكانها بعد ان سار الركب دون ان يتفقدها احد.
فمر بها صفوان الذي هو الاخر كما تحدثنا السيدة عائشة نفسها قد شذ عن الركب لبعض حاجته، وقد مر صفوان علي رسله صدفة بالمكان الذي كانت السيدة عائشة جاثمة فيه. فأركبها علي ناقته واتجه بها نحو المدينة كي يلحق بالركب.
وقد ارتاب بعض القوم، بما فيهم حسان بن ثابت في موضوع عائشة وصفوان فرموهما بالفاحشة … واشار علي علي النبي عندما استشاره بأمرها في حضورها ان يطلقها.
ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة ان البخاري في صحيحه قد نقل رواية السيدة عائشة مفصلة. والي القاريء رواية البخاري [240].
[صفحه 140]
«قالت عائشة: كان رسول الله اذا اراد سفرا اقرع بين ازواجه فأيهن خرج سهمها خرج بها رسول الله معه. قالت عائشة:
فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي. فخرجت مع رسول الله.. فسرنا حتي اذا فرغ رسول الله من غزوته تلك ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل. فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتي جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت الي رحلي فلمست صدري فاذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه. قالت:
واقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فاحتملوا هودجي فرحلوه علي بعيري الذي كنت اركب عليه وهم يحسبون اني فيه.
وكان النساء آنذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم، انما يأكل الملعقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه.
وكنت جارية حديثة السن.. ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش.
فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولامجيب. فتيممت منزلي الذي كنت به.
فبينما انا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت
وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش. فأصبح عند منزلي. فرأي سواد انسان نائم فعرفني، وكان رآني قبل نزول آية الحجاب. فاستيقظت باسترجاعه.. وهوي حتي اناخ راحلته فوطيء علي يدها.
فقمت اليها فركبتها. فانطلق يقودها». اي ان السيدة عائشة حسب رواية البخاري شذت عن الجيش لبعض شأنها في اللحظة التي آذنوا بالرحيل ليلا، دون ان تخبر أحداً منهم بذلك او تطلب منهم انتظارها. وان الاشخاص الموكلين يحمل هودجها لم يشعروا بخلوه منها لان النساء آنذاك جميعهن لا السيدة عائشة وحدها كن نحيفات الاجسام لقلة ما يتناولنه من الطعام.
[صفحه 141]
ولأن السيدة عائشة بالذات كانت صغيرة اللسن، بالاضافة الي خفة وزن جسمها فلم يستنكروا خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وهو خلو منها.. ثم انها نامت بعد ان يئست من القوم، وكان صفوان من وراء الجيش، فأدركها نائمة فعرفها وهو سائر في الصحراء ليلا لانه كان قد رآها قبل الحجاب، اي حينما كانت سافرة قبل ان يأمرها الله بالتحجب من الرجال، فحملها صفوان علي بعيره واوصلها الي مكان امنها.
ذلك مايتصل ببعض عوامل الجفوة بين ام المؤمنين وعلي بن ابي طالب.
وهنالك عوامل اخري، غير مباشرة، تتعلق بالجفاء الذي كان بين السيدة فاطمة «بنت النبي من خديجة» وبين السيدة ام المؤمنين بنت ابي بكر.
فقد كانت السيدة عائشة تريد الاستئثار بحب النبي وتحويل ما تبقي من ذلك الحب الي ابيها بدلا من علي زوج فاطمة. ويذكر بعض الرواة [241]: ان للسيدة عائشة والسيدة حفصة بنت عمر زوج النبي ضلعا في تأخير جيش اسامة في عهد الرسول.
هذا بالاضافة الي العامل النفسي المتصل بحرمان السيدة عائشة من النسل كما اشار الي ذلك الدكتور طه حسين، والاستاذ عبدالفتاح عبدالمقصود.
اما مايتصل بموقف الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله تجاه امام زمانهما فيمكننا ان نكشف عوامله القريبة والبعيدة بسهولة ويسر.
فقد كان كل من طلحة والزبير راغبا في الخلافة منذ زمن ليس بالقصير وقد مر بنا ترشيح عمر لها في رهط الشوري. فلما انتقلت الخلافة الي عثمان حاول الرجلان في صدر خلافته ان ينتفعا به الي اقصي حدود الانتفاع.
وعندما رأي الرجلان تأزم الاحوال العامة علي الخليفة ساهما في ذلك الي حد كبير علي الشكل الذي وصفناه ظنا منهما ان الامر بعد اندحار عثمان سوف
[صفحه 142]
لاينتقل لعلي غير ان انتقال الخلافة للامام قد راعهما. فبايعاه علي مضض. ثم سألاه عن ولايتي الكوفة والبصرة فلم يجبهما.
يضاف الي ذلك ان موقف الامام الشديد في تطبيق مباديء الدين كان هو الآخر من اقوي عوامل انتقاض الرجلين علي الخليفة. فلكل منهما مصالح مركزة في جسم الدولة.
ويلوح للباحث ان طلحة والزبير كانا قد اعتادا علي الاستئثار ببعض الموارد العامة بعد وفاة الرسول.
وقد مر بنا ذكر بعض ما وصلهما به عثمان.
اما ماحصلا عليه في عهد الشيخين فنذكر منه المثالين التاليين:
قال البلاذري [242]: «حدثني الحسين بن علي الاسود العجلي قال: حدثنا يحيي بن آدم، حدثنا ابو معاوية عن هشام بن عروة عن عروة قال: اقطع ابو بكر: الزبير، بين الجرف الي قناة. واخبرني المدائني قال:
قناة واد يأتي من الطائف ويصب الي الارحضية وقرقرة الكدر ثم يأتي سد معاوية ثم يمر علي طرف القدوم ويصب في اصل قيدر الشهداء بأحد.
وحدثني الحسين بن علي العجلي قال: حدثنا حفص بن عتاب عن هشام بن عروة قال: خرج عمر يقطع الناس، وخرج معه الزبير، فجعل عمر يقطع حتي مر بالعقيق. فقال اين المستقطعون؟.. ما مررت بقطعة اجود منها.
فقال الزبير: اقطعنيها. فأقطعه اياها «.
فلا عجب ان رأي الزبير وطلحة في قميص عثمان ضالتهما المنشودة للانقضاض علي الامام.
وقد روي احد المؤرخين [243] ملابسات الموقف بين علي من جهة وطلحة والزبير
[صفحه 143]
من جهة اخري حين قال: «ارسل طلحة والزبير الي علي قبل خروجهما الي مكة محمد بن طلحة يقولان: اننا اصلحنا لك الامر ووطدنا لك الامرة، واجلبنا علي عثمان حتي قتل. فلما طلبك الناس لامرهم جئنا واسرعنا اليك وبايعناك وقدنا اليك اعناق العرب، ووطيء المهاجرون والانصار اعقابنا في بيعتك. حتي اذا ملكت عنانك استبددت برأيك عنا ورفضتنا رفض التريكة واذللتنا ذل الاماء.
فلما جاء محمد بن طلحة ابلغه ذلك. فقال: اذهب اليهما فقل لهما: فما الذي يرضيكما، فذهب وجاء فقال: انهما يقولان: ول احدنا البصرة، والآخر الكوفة. فقال:
لها الله!! اذن يحكم الاديم ويستشري الفساد، وتنتقض علي البلاد من اقطارها.
والله اني لا آمنهما وهما عندي بالمدينة فكيف آمنهما وقد وليتهما العراقين!. فاستأذناه في الخروج الي مكة للعمرة. فأذن لهما بعد ان احلفهما الا ينقضا بيعته ولايغدرا به، ولا يشقا عصا المسلمين ولايوقعا الفرقة بينهم، وان يعودا بعد العمرة الي بيوتهما فحلفا علي ذلك كله. ثم خرجا ففعلا ما فعلا.
وكان الامام قد خاطبهما قبل خروجهما الي مكة فقال:
الا تخبراني اي شيء كان لكما فيه حق حتي دفعتكما عنه؟ ام اي قسم استأثرت عليكما به؟ ام اي حق رفعه الي احد من المسلمين ضعفت عنه ام جهلته ام اخطأت بابه؟ والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولافي الولاية اربة. ولكنكم دعوتموني وجملتموني عليها. فلما افضت الي نظرت الي كتاب الله وما وضع لنا وامرنا بالحكم به فاتبعته. وما استن النبي فافتديته.
فلم احتج في ذلك الي رأيكما ولا رأي غيركما.
ولو وقع حكم جهلته فأستشيركما».
وقد وصف الامام فتنة طلحة والزبير واعوانهما بقوله:
[صفحه 144]
«والله ما انكروا علي منكرا، ولا جعلوا بيني وبينه نصفا، وانهم ليطلبون حقا هم تركوه … ودما هم سفكوه، [244].
خرج الزبير وطلحة وعائشة يريدون البصرة مدعين بأنهم يطالبون بدم عثمان. وقد ارتكبوا بعملهم هذا. كما سلف ان ذكرنا جملة اخطاء من الناحية الدينية والزمنية، فليس من حقهم ان يطالبوا بدم عثمان لانهم ليسوا اولياءه الذين اجازت لهم الشريعة الاسلامية ان يطالبوا بذلك.
ان وليه كما ذكرنا ابنه عمرو. وانهم اتبعوا اسلوبا فظا للتوصل الي مازعموا انهم يسعون اليه بدلا من ان يرفعوا اذا جاز لهم ذلك طلبهم الي الخليفة الذي له وحده الحق بحكم كونه خليفة المسلمين في اجراء التحقيق وانزال العقوبة بالجناة.
وانهم ارتكبوا من الافعال البشعة ومن القتل، والنهب والاعتداء كما سنري ما يتضاءل دونه بمراحل مصرع الخليفة الذبيح علي اهميته، ومالا تجيزه الشريعة السمحاء ومباديء الشرف والاخلاق.
وانهم قصدوا البصرة دون مصر للبحث عن القاتلين.
وان السيدة عائشة بالذات لايجوز لها ان تساهم في مثل هذه الامور، وقد اوصاها الله ان تقر في بيتها [245].
[صفحه 145]
ثم هل يجوز شرعا ان تعالج فتنة باثارة فتنة اغلظ منها؟ وقد حصل ذلك كله مع علم الثائرين ان الامام نفسه بريء من دم عثمان براءة الذئب من دم ابن يعقوب. [246].
يضاف الي ذلك ان الامام في سياسته العامة لم يتجه اطلاقا الي الاستعانة بالذين ثاروا علي عثمان او تقريبهم او الاعتماد عليهم في الادارة او المال. [247].
فلا غرو ان رأينا اولئك الثوار قد نقموا عليه، كما نقموا علي عثمان من قبله «مع فرق كبير في عوامل تلك النقمة في الحالتين». فقد نقموا علي عثمان: خروجه في سياسته العامة علي مباديء الدين، ونقموا علي علي: تقيده في سياسته العامة بمباديء الدين.
لذلك نجد الامام لم يقربهم اليه او يعين بعضهم في القضاء اوالامارة او الادارة
وقد اصبح الوضع الجديد اشد وطأة عليهم منه في عهد عثمان.
اي ان الامام، بعبارة اخري، قد ارتقي منبر النبي بعد ثورة لم يساهم فيها.
اي انه اقتطف ثمار ثورة لم يقتطفها الذين قاموا بها. يضاف الي ذلك ان الثوار اخذوا يشعرون بأن الامام سوف يقتص من قتلة عثمان بعد حصول البينة عنده.
وطلحة، والزبير، وعائشة يعرفون ذلك حق المعرفة. وعلي نفسه عارف بأنهم عارفون به.
ومهما يكن من شيء فقد خرج الناكثون وعلي رأسهم طلحة وابن الزبير وبنت ابي بكر من مكة يريدون البصرة. ومرت ابلهم في طريقها علي ماء الحوأب [248]» فنبحتهم كلابه. فنفرت صعاب ابلهم.
فقال قائل منهم: لعن الله الحوأب فما اكثر كلابها!!
فلما سمعت عائشة قالت:
ردوني … اني سمعت رسول الله يقول:
كأني بكلاب الحوأب قد نبحت بعض نسائي ثم قال: اياك ياحميراء ان تكونيها …
[صفحه 146]
فقال الزبير لعائشة: مهلا فانا قد جزنا ماء الحوأب.. فلفق لها الزبير وطلحة خمسين اعرابيا شهدوا بذلك. فكانت هذه اول شهادة زور في الاسلام.. وكتب علي عثمان بن حنيف واليه في البصرة: اما بعد فان البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا [249].
فاذا قدموا عليك فادعهم الي الطاعة … فان اجابوا فأحسن جوارهم.
فلما وصل الكتاب ارسل عثمان بن حنيف ابا الاسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي، فانطلقا. فدخلا علي عائشة ووعظاها.. فقالت: القيا طلحة والزبير … فقاما من عندها ولقيا: الزبير فكلماه، فقال لهما: اننا جئنا للطلب بدم عثمان … فقالا له: ان عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب بدمه فيها، وانت تعلم من هم قتلته واين هم، وانك وصاحبك وعائشة كنتم اشد الناس عليه واعظمهم اغراء بدمه … وقد بايعتم عليا طائعين.. فقال لهما.. اذهبا فالقيا طلحة.
فقاما الي طلحة فوجداه خشن الملمس.. في اثارة الفتنة واضرام نار الحرب.
وأتي طلحة والزبير عبدالله بن حكيم التميمي فأتي بكتب كان كتباها اليه، فقال لطلحة: أما هذه كتبك الينا؟ قال: بلي.
قال: فكتبت امس تدعونا الي خلع عثمان وقتله، حتي اذا قتلته اتيتنا ثائراً بدمه.
وخرج عثمان بن حنيف الي طلحة والزبير في اصحابه فناشدهما الله والاسلام وذكرهما بيعتها لعلي … فقالا نطلب بدم عثمان، فقال لهما: ما انتما وذاك؟ أين بنوه … الذين احق منكم؟ فشتماه شتما قبيحا..
ثم كتب الطرفان كتاباً للصلح … الي ان يقدم الخليفة … فمكثوا كذلك اياما.
ثم ان طلحة والزبير … اجتمعا علي مراسلة القبائل واستمالة العرب … فبايعهم علي ذلك الازد، وضبة، وقيس بن غيلان … وبنو عمرو بن تميم، وبنو حنظلة … وبنو دارم كلهم الا نفرا من بني مجاشع ذووي دين وفضل.
[صفحه 147]
فلما استوثق لطلحة والزبير امرهما، خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ومعهما اصحابهما قد البسوهم الدروع وظاهروا فوقها بالثياب. فانتهوا الي المسجد وقت صلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف اليه واقيمت الصلاة فتقدم عثمان ليصلي بهم فأخره اصحاب طلحة والزبير، وقدموا الزبير، فجاءت السيابجة [250] فأخروا الزبير وقدموا عثمان بن محنيف، فغلبهم أصحاب الزبير فقدموا الزبير وأخروا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتي كادت الشمس تطلع، وصاح بهم: المسجد.. فغلب الزبير فصلي بالناس.
فلما انصرف من صلاته صاح بأصحابه المسلمين: ان خذوا عثمان بن حنيف، فأخذوا وضربوه ضرب الموت، ونتف حاجباه واشفار عينيه وشعر رأسه ووجهه واخذوا السيابجة … فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف الي عائشة.. فأمرت بذبح السيابجة، فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف اول غدر كان في الاسلام» [251].
ويجمل بنا اكمالا للبحث في هذه النقطة أن ننقل للقاريء قصة الناكثين كما رواها ابن الاثير [252]:
«خرجت عائشة الي مكة وعثمان محصور، ثم خرجت من مكة تريد المدينة، فلما كانت بسرف [253] لقيها رجل من اخوالها من بني ليث يقال له: عبيد الله بن ابي سلمة وهو ابن أم كلاب فقالت له: مهيم؟ قال: قتل عثمان وبقوا ثمانيا.. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا علي بيعة علي فقالت:
ليت هذه انطبقت علي هذه.. ردوني.. فانصرفت الي مكة تقول: قتل عثمان.
[صفحه 148]
مظلوما [254]، فقال لها عبيد الله بن ابي سلمة:
ان اول من امال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر.
فمنك البداء ومنك الغير
ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الامام
وقلت لنا: انه قد كفر
فهبنا اطعناك في قتله
وقاتله عندنا من أمر
فانصرفت الي مكة فقصدت الحجر فتسترت فيه، فاجتمع الناس حولها، فقالت: ايها الناس ان الغوغاء من اهل الامصار.. سفكوا الدم الحرام.. والله لاصبع عثمان خير من طباق الارض.
وقدم عليهم عبدالله بن عامر من البصرة بمال كثير، ويعلي بن امية بن منية من اليمن فلقيا عائشة، فاستقام الرأي علي البصرة، وكان ازواج النبي مع عائشة علي قصد المدينة، فلما تغير رأيها الي البصرة تركن ذلك.
وخرجت عائشة ومن معها من مكة، فلما خرجوا منها اذن مروان بن الحكم
ثم جاء طلحة والزبير وقال: علي ايكما اسلم بالامرة، فقال عبدالله بن الزبير علي ابي، وقال محمد بن طلحة علي ابي، فأرسلت عائشة الي مروان وقالت له:
أتريد أن تفرق أمرنا؟ ليصل بالناس ابن أختي عبدالله بن الزبير.
وكان معاذ بن عبدالله يقول: والله لو ظفرنا لاقتتلنا، ماكان الزبير يترك طلحة والامر، ولا كان طلحة يترك الزبير والامر.. فلما بلغوا ذات عرق لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم واصحابه بها فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم علي اعجاز الابل وراءكم؟ يعني عائشة، وطلحة والزبير، اقتلوهم ثم ارجعوا الي منازلكم.
[صفحه 149]
ثم خلا بطلحة والزبير فقال: ان ظفرتما لمن تجعلان الامر؟ ومضي القوم، ومروا بماء الحوأب فنبحتهم كلابه، فأتوا الحفير.
ولما بلغ ذلك اهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن الحصين، وابا الاسود الدؤلي وقال لهما: انطلقا الي هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها.
فخرجا: فأتيا اليها بالحفير، فأذنت لهما فدخلا وسلما، وسألاها عن سبب خروجها.
فقالت: المطالبة بدم عثمان … فأتيا طلحة … فقال: المطالبة بدم عثمان، فأتيا الزبير وقال لهما: مثل قول طلحة، فرجعا الي عثمان بن حنيف وأخبراه …
واقبلت عائشة فيمن معها حتي انتهوا الي المربد … فتكلم طلحة بالناس وذكر عثمان وفضله … ودعا الي الطلب بدمه وحثهم علي الاخذ به.
وكذا فعل الزبير، وعائشة … واقبل جارية بن قدامة السعدي وقال: يا أم المؤمنين:
والله لقتل عثمان اهون من خروجك من بيتك … وقد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وابحت حرمتك …
وخرج غلام شاب من بني سعد الي طلحة والزبير وقال: هل جئتما بنسائكما؟
صنتم حلائلكم وقدتم امكم
ذا لعمرك قلة الانصاف
أمرت بجر ذيولها في بيتها
فهوت تشق البيد بالايجاف
غرضا يقاتل دونها ابناؤها
بالنيل والخطي والاسياف
تكت بطلحة والزبير ستورها
ذا المخبر عنهم والكاف
وجرت بين الطرفين مناوشات باللسان وبالسيف
ثم كتبا كتابا للصلح وتهادنا.. وجاء في كتاب الصلح:
هذا ما اصطلح عليه طلحة والزبير ومن معهما … وعثمان بن حنيف ومن معه.
ان عثمان يقيم حيث ادركه الصلح علي مافي يده، وان طلحة والزبير يقيمان
[صفحه 150]
حيث ادركهما الصلح علي مافي ايديهما.. ولايضار واحد من الفريقين في مسجد ولا سوق ولا طريق.. ولكن طلحة والزبير جمعا رجالهما في ليلة مظلمة ذات رياح ومطر.
ثم قصد المسجد فوافقا صلاة العشاء.
فقاتلوا أصحاب عثمان بن حنيف في المسجد.. وأخذوا عثمان أسيرا.
وضربوه اربعين سوطا ونتفوا لحيته، وحاجبيه واشفار عينيه وحبسوه.
وكتبت عائشة الي زيد بن صوحان:
من عائشة أم المؤمنين حبيبة رسول الله الي ابنها الخالص زيد بن صوحان اما بعد: فان اتاك كتابي هذا فأقدم فانصرنا فان لم تفعل فخذل الناس عن علي، فكتب اليها:
اما بعد: فأنا ابنك الخالص ان اعتزلت ورجعت الي بيتك. والا فأنا اول من نابذك. وقال زيد:
رحم الله أم المؤمنين امرت ان تلزم بيتها وامرنا ان نقاتل، فتركت ما امرت به وامرتنا به وصنعت ما امرنا به ونهيتنا عنه.
وقام طلحة والزبير خطيبين يطالبان بدم عثمان.. فقال الناس لطلحة: يا ابا محمد قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا.. ثم قام رجل من عبد قيس فقال:
يا معشر المهاجرين.. لما توفي الرسول بايعتم رجلا منكم فرضينا وسلمنا.. ثم مات واستخلف عليكم رجلا فلم تشاورونا في ذلك فرضينا وسلمنا.
فلما توفي جعل امركم الي ستة نفر فاخترتم عثمان وبايعتموه عن غير مشورتنا
ثم انكرتم منه شيئا فقتلتموه عن غير مشورة منا.
ثم بايعتم عليا عن غير مشورة منا. فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ هل استأثر بفيء؟ ام عمل بغير الحق؟ أو أتي شيئا تنكرونه؟ فنكون معكم عليه. والا فما هذا؟ فهموا بقتل ذلك الرجل فمنعته عشيرته.
فلما كان الغد وثبوا عليه وعلي من معه فقتلوا منه سبعين.
[صفحه 151]
وبقي طلحة والزبير [بعد اخذ عثمان بن حنيف] بالبصرة ومعهم بيت المال والحرس.
وتجهز علي الي الشام. فبينما هو كذلك اتاه الخبر عن طلحة والزبير وعائشة. فتوجه الي البصرة ووقعت الحرب وانتصر علي، فدخل البصرة … وراح الي عائشة وهي في دار عبدالله بن خلف.. وكانت صفية زوجة عبدالله مختمرة … فلما رأته كلمته بكلام غليظ. فلم يرد عليها شيئا، ودخل علي عائشة وسلم عليها وقعد عندها. ثم قال: جبهتنا صفية … فلما خرج اعادت صفية عليه قولها. فكف بغلته وقال:
هممت أن افتح هذا الباب واشار الي باب في الدار واقتل من فيه. وكان فيه ناس من الجرحي فأخبر علي بمكانهم فتغافل عنهم.
وكان مذهبه الا يقتل مدبرا ولا يدنف علي جريح [255] ولا يكشف سترا ولا يأخذ مالا.
ولما خرج علي … قال له رجل من أسد: والله لاتغلبنا هذه المرأة. فقال له:
لا تهتكن سترا، ولا تدخلن داراً، ولا تهيجن امرأة بأذي، وان شتمن أعراضكم وسفهن امراءكم وصلحاءكم.. ومضي فلحقه رجل فقال يا امير المؤمنين:
قام رجلان علي الباب فتناولا من هو امض شتما لك من صفية. قال:
ويلك لعلها عائشة! قال نعم، فبعث القعقاع بن عمرو الي الباب فأقبل بمن كان عليه فأحالوا علي رجلين من ازد الكوفة وهما: عجلان، وسعد، ابنا عبدالله، فضربهما مئة سوط واخرجهما من ثيابهما.
ثم جهز عائشة بكل ما ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك، وبعث معها كل من نجا ممن خرج معها الا من احب المقام، واختار لها اربعين امرأة من نساء البصرة والمعروفات.
وسير معها اخاها محمد بن ابي بكر.
[صفحه 152]
فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه اتاها علي فوقف لها.
وحضر الناس، فخرجت وودعتهم، وقالت:
يا بني لا يعتب بعضنا علي بعض، انه والله ما كان بيني وبين علي في القديم الا ما يكون بين المرأة وأحمائها … وشيعها علي اميالا وسرح بنيه معها يوما.
وقال عمار حين ودعها: ما ابعد هذا المسير من العهد الذي عهد اليك؟ قالت: والله انك ما علمت تقول الحق. قال: الحمد لله الذي قضي علي لسانك لي».
تلك هي قصة الناكثين. ولا نشك في ان القاريء قد لاحظ معنا الجرائم الكثيرة التي قاموا بها؛ ومدي صلتها بالمطالبة بدم الخليفة الذبيح. فقد لفق الزبير وطلحة خمسين شاهد زور لعائشة في ماء الحوأب.
وكانت اول شهادة زور في الاسلام، علي مايروي المؤرخون. وفي معرض التحدث عن شهادة الزور بنظر النبي يقول البخاري في صحيحه (ج 8 ص 48) بأسانيده المختلفة عن ابي بكرة قال: «قال النبي اكبر الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور ثلاثاً اقولها، او اقول شهادة الزور.
فما زال يكررها، قلنا: ليته سكت!!».
علي أن أم المؤمنين لو كانت جادة في امر عودتها الي المدينة قبل ان تبلغ البصرة لما ثناها عن ذلك برأينا شهود الزور. ذلك لانهم لم ينفوا مرورهم بالحوأب وانما قالوا: انهم مروا به قبل فترة.
وقد نكث الزبير وطلحة بيعتهم لعلي، ونقضا عهدهما لعثمان بن حنيف مخالفين بذلك نص الاية الكريمة:
«وأوفوا بالعهد ان العهد كان مسئولا»
كما اعتديا علي حرمة المسجد وعلي الصلاة وقتلا السيابجة غدراً وصنعا ماصنعا بعثمان
[صفحه 153]
ابن حنيف والي البصرة، ولعل موقف الناكثين في باطلهم من عثمان بن حنيف في حقه يعيد الي الذاكرة علي قاعدة وبضدها تتميز الاشياء موقف النبي علي حقه من سهيل بن عمرو وهو علي باطل حين قال عمر بن الخطاب للنبي علي مايحدثنا الطبري [256].:
«انتزع ثنيتي سهيل بن عمرو السفليين، يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيباً في موطن ابداً. فقال رسول الله: لا امثل به فيمثل الله بي وان كنت نبياً».
فقد امتنع الرسول الكريم عن التمثيل بأحد شيوخ المشركين، في حين ان عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير قد مثلوا بأمير البصرة وهو شيخ من افاضل المسلمين دون ان يقترف ذنبا يستحق عليه العقاب اللهم الا الوقوف بوجه العصاة علي الخليفة ومن ورائه كتاب الله وسنة الرسول.
ولسنا نعلم صلة ذلك بالمطالبة بدم عثمان.
وهل: الاعتداء علي عثمان بغض النظر عن مسبباته اكثر فظاعة من الاعتداء علي عثمان بن حنيف واصحابه؟
ولماذا اعتدي طلحة والزبير علي مسلمي البصرة؟
هل يجيز الدين الحنيف ذلك الاعتداء من حيث المبدأ العام؟ ومن حيث الشكل الذي وقع فيه؟
ذكر الامام مسلم [257] بأسانيده المختلفة عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: «قال رسول الله: اربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتي يدعها: اذا حدث كذب، واذا عاهد غدر، واذا وعد اخلف، واذا خاصم فجر».
[صفحه 154]
والمنافقون، كما وصفهم الله في سورة المنافقين:
«واتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله ألا ساء ما كانوا يعملون» [258].
ونحن نترك للقاريء تقدير الخلال الاخري «تزيد عن الخلال الاربع» التي اتصف بها الناكثون.
ويتجسم ذلك الموقف اذا ما وازنه القاريء بموقف الامام الكريم، في حربه وسلمه، مع خصومه وانصاره علي السواء.
[صفحه 155]

القاسطون

لقد مر بنا الحديث في فصل سابق عن حركة الناكثين، تلك الحركة التي زرعت بذور التمرد علي النظام في جسم المجتمع الاسلامي في عهد الامام
وحركة الناكثين ماهي في الواقع الا جانب واحد من جوانب الصراع المسلح بين علي ومناوئيه، وهي صورة من اروع صور الصراع بين الحق والباطل.
وقد شجعت فتنة الجمل القاسطين الحائرين معاوية واصحابه علي القيام بعصيان مسلح علي نظام الحكم في البلاد، كما أتاحت لهم فرصة التجمع وحشد قوي الشر والارهاب لمقاومة مباديء الدين الحنيف الممثلة في خلق الامام وفي سياسته العامة.
وقد انضوي تحت لواء معاوية كل من كان حاقداً علي الامام لعدالته وسلامة معتقداته في السياسة والدين والاخلاق. من ذلك مثلا:
أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب كان قد التحق بمعاوية «خوفا من علي ان يقيده بالهرمزان. وذلك ان ابا لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة قاتل عمر كان في ارض العجم غلاما للهرمزان فلما قتل عمر شد عبيد الله علي الهرمزان فقتله …
وكان الهرمزان عليلا في الوقت الذي قتل فيه عمر.. فعفا عثمان عن عبيد الله فلما صارت الخلافة لعلي اراد قتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان لقتله اياه ظلما من غير سبب استحقه. فلجأ الي معاوية» [259].
[صفحه 156]
ولجأ الي معاوية كذلك مصقلة بن هبيرة الشيباني عامل علي في احدي خطط فارس.
وسبب ذلك ان مصقلة كان قد اشتري اسري الخوارج من جماعة الخريت بن راشد السامي ولكنه التوي بما شرطه علي نفسه من ثمنهم. «فلما طالبه ابن عباس بأداء الدين قال: لو طلبت اكثر من هذا المال الي ابن عفان مامنعني اياه.
ثم احتال حتي هرب من البصرة ولحق بمعاوية. فتلقاه معاوية احسن لقاء واطمعه وارضاه حتي طمع مصقلة في ان يحمل اخاه نعيم بن هبيرة علي ان يلحق به.» [260].
وهكذا نجد ابن هند يحتضن الجناة الفارين من وجه العدالة ويغدق عليهم العطاء من بيت مال المسلمين فيزرع بتصرفه هذا بذور فساد الاخلاق في المسلمين ويشجع الناس علي الخروج علي مباديء الدين الحنيف.
ولم تقتصر نتائج ذلك الزمن الذي عاش فيه ابن أبي سفيان بل تعدته فسارت في سجل الزمن منذ مصرع الإمام حتي يومنا هذا.
لقد تمرد معاوية علي الخليفة وتنكر لمباديء الدين متظاهرا بالطلب بدم عثمان ابن عفان [261] ومعاوية كما ذكرنا هو:
ابن هند آكلة الاكباد، وأبوه ابو سفيان: الذي حارب النبي … ولم يسلم الا بأخرة حين لم ير من الاسلام بداً، وحين لم يكن الا ان يختار بين الاسلام والموت …
ولم تكن ام معاوية بأقل من أبيه تنكراً للاسلام وبغضا لاهله وحفيظة عليهم.. حتي فتحت مكة فأسلمت كارهة كما اسلم زوجها كارها. [262].
[صفحه 157]
وكان علي معاوية اذا فرضنا انه يجوز له ان يطالب بدم عثمان [263] ولو انصف واخلص نفسه للحق ان يبايع كما بايع الناس.
ثم يأتي الي علي مع اولياء عثمان فيطالبون بالاقادة ممن قتله. ولكن معاوية لم يكن يريد ان يثأر لعثمان [264] بمقدار ما كان يريد ان يصرف الامر عن علي. وآية ذلك ان الامر استقام له بعد مصرع الامام فتناسي ثأر عثمان ولم يتبع قتلته..
فالطلب بدم عثمان اذن لم يكن الا اقصوصة اشترك في صوغها كل منافس لعلي، حاقد عليه. وقد وسع كل شيء ووصل الي كثير من الغايات الا الثأر للشيخ القتيل».
[صفحه 158]
وكان رأي علي في الموضوع كما يذكر ابن حجر العسقلاني [265] «أن يدخل معاوية واصحابه في الطاعة.
ثم يقوم ولي دم عثمان بن عفان فيعمل الامام معه ما فيه حكم الشريعة.».
وقد اشار الامام علي الي ذلك في احدي رسائله الي اهل الامصار بعد صفين حين قال [266]:
«وكان بدء امرنا ان التقينا والقوم من اهل الشام والظاهر ان ربنا واحد ونبينا واحد ودعوتنا في الاسلام واحدة … والامر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء. فقلنا تعالوا نداوي مالا يدرك باطفاء الثائرة وتسكين العامة حتي يشتد الامر ويستجمع فنقوي علي وضع الحق في مواضعه.
فقالوا: بل نداويه بالمكابرة. فأبوا حتي ضجت الحرب.. فلما ضرستنا واياهم ووضعت مخالبنا فينا وفيهم اجابوا عند ذلك الي الذي دعوناهم اليه.».
ويلوح للباحث ان الخروج علي ما توطا الناس عليه من العرف والخلق كان هو القاعدة العامة للاسرة الاموية في الجاهلية والاسلام.
وكتب التاريخ العربي زاخرة بالامثلة علي ذلك. وقد مر بنا في فصل سابق ذكر كثير من الشواهد والامثلة في هذا الباب عندما تظاهر رؤوس الامويين في الانضواء تحت لواء الاسلام.
أما في الجاهلية فيجد الباحث:
علي الرغم من قلة الاخبار الموثوقة عن سيرتهم قصصا ممتعة في هذا المضمار. من ذلك مثلا ماذكره ابن الاثير [267] حين قال:
«كان لعبدالمطلب جار يهودي يقال له: أذينة: يتجر وله مال كثير. فغاظ ذلك
[صفحه 159]
حرب بن امية.. فأغري به فتيانا من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله. فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار وصخر بن حرب بن عمرو بن كعب التيمي جد ابي بكر».
وتتلخص حركة القاسطين من حيث وقوع حوادثها من الناحية التاريخية علي الشكل التالي [268]:
«لما عاد علي الي البصرة بعد فراغه من الجمل قصد الكوفة … وبعث جرير بن عبدالله البجلي … وكتب معه كتابا الي معاوية يدعوه فيه الي الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والانصار من طاعته، فسار جرير الي معاوية.
فلما قدم عليه ماطله معاوية واستنظره، واستشار عمرو بن العاص فأشار عليه ان يجمع اهل الشام ويلزم عليا دم عثمان ويقاتله بهم. ففعل معاوية ذلك. وكان اهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان الذي قتل فيه مخضوبا بالدم..
وضع معاوية القميص مدة وهو علي المنبر. واقسموا الا يمسهم الماء للغسيل من الجنابة والا يناموا علي الفراش حتي يقتلوا: قتلة عثمان، ومن قام دونهم قتلوه.
فلما عاد جرير الي علي واخبره خبر معاوية واجتماع اهل الشام علي قتاله. خرج علي فعسكر بالنخيلة.. وسرح الاشتر ببعض الجند امامه.. وقال له:
اياك ان تبدأ القوم بقتال: ولاتدن منهم دنو من يريد ان ينشب الحرب، ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس. حتي اقدم عليك..
واصبح علي علي غدوة الاشتر..
وكان معاوية قد سبق.. فأخذ شريعة الفرات.. فطلب اصحاب علي شريعة غيرها فلم يجدوا. فأتوا عليا فأخبروه بعطشهم.. فدعا صعصعة بن صوحان. فأرسله الي معاوية يقول له:
[صفحه 160]
انا سرنا سيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الاعتذار اليكم. فقدمت لنا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل ان نقاتلك، ونحن من رأينا الكف حتي ندعوك ونحتج عليك. وهذه اخري قد فعلتموها، منعتم الناس عن الماء.. فأبعث الي اصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء … لننظر فيما بيننا وبينك، وفيما قدمنا له..
فأصر معاوية واصحابه علي المنع..
فلما علم علي بذلك قال:
قاتلوهم علي الماء … فقاتلوهم حتي خلوا بينهم وبين الماء.
وصار الماء في ايدي اصحاب علي، فقالوا:
والله لاتسقيه اهل الشام، فأرسل علي الي اصحابه ان خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنهم..
ثم ان عليا دعا أبا عمر وبشير بن عمرو بن محصن الانصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم: ائتوا هذا الرجل وادعوه الي الله والي الطاعة والجماعة … فأتوه.. فبتدأ بشير … وقال يامعاوية:
انشدك الله ان تفرق هذه الامة وتسفك دماءها بينها..
فقطع معاوية عليه الكلام وقال:
ونترك دم عثمان؟ والله لا افعل ذلك ابداً. فذهب سعيد بن قيس يتكلم فبادره شبث بن ربعي … فقال: يامعاوية.
والله لايخفي علينا ما تطلب، انك لم تجد شيئا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم الا قولك قد قتل امامك مظلوما، فنحن نطالب بدمه.. وقد علمنا انك ابطأت عنه بالنصر واحببت له القتل لهذه المنزلة التي اصبحت تطلب.
فاتق الله يا معاوية ولا تنازع الامر اهله، قال معاوية:
ان اول ماعرفت به سفهك … ان قطعت علي هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه، ثم … كذبت ولؤمت ايها الاعرابي الجلف …
[صفحه 161]
انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم الا السيف.. فأتوا عليا فأخبروه بذلك.. فجرت مناوشات بالسلاح بين الفريقين بدأها أهل الشام في اوخر عام 36 ه.
ثم دخلت سنة 37 ه وفيها جرت موادعة بين علي ومعاوية، توادعا علي ترك الحرب بينهما حتي ينقضي المحرم طمعاً في الصلح.
واختلف بينهما الرسل.. فلم يسفر ذلك عن شيء.. فلما انسلخ المحرم.. خرج معاوية وعمرو يكتبان الكتائب ويعبثان الناس.. وعلي يقول لاصحابه:
لا تقاتلوهم حتي يقاتلوكم، فأنتم علي حجة وترككم قتالهم حجة اخري، فاذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً، ولاتجهزوا علي جريح، ولاتكشفوا عن عورة، ولاتمثلوا بقتيل.
ولاتهتكوا ستراً، ولاتدخلوا داراً، ولاتأخذوا شيئاً، ولاتهيجوا امرأة وان شتمن اعراضكم وسببن امراءكم وصلحاءكم.
وكان علي يقول بهذا المعني لاصحابه في كل مكان».
ذلك مايتصل بالمرحلة التمهيدية لحرب صفين قبل ان ينشب القتال بين الطرفين، ونحسب ان القاريء قد لاحظ معنا جملة أمور:
منها: سعي الامام الي دعوة ابن ابي سفيان بالطرق السليمة المألوفة الي عدم شقه عصا الطاعة علي النظام، واحداث الفتنة بين المسلمين، ليتسني للخليفة بعد ذلك ان ينظر في الطلب الذي يقدمه له عمرو بن عثمان بن عفان ولي عثمان حسب منطوق الآية التي ذكرناها بشأن المتهمين بقتل عثمان كي يجري التحقيق اللازم ويتخذ الاجراءات القانونية بحق الجناة.
ولكن معاوية ألب الناس علي الامام واتخذ قميص عثمان ستاراً للخروج علي النظام؛ وسار بجيوشه متمرداً باغيا يريد العراق. واستولي علي ماء الفرات في موقع تجمع الجيشين ومنع اصحاب الامام الذين لم يخرجوا لقتاله بل للتفاوض معه عساه يثوب الي رشده فيحقن دماء المسلمين.
[صفحه 162]
فاضطر الامام الي دعوة اصحابه لقتالهم علي الماء فقط، بعد ان فشلت مساعي صعصعة ابن صوحان كما رأينا، وبعد أن بلغ العطش بأصحابه حداً لا يطاق.
وعندما اصبح الماء بحوزة اصحابه امرهم بالسماح لخصومه بالاستقساء.
ولم يثنه غدر ابن ابي سفيان وامشاجه وخروجهم متمردين من الشام، وابتداؤهم اصحابه بالقتال وحجزهم الماء عنهم عن مواصلة مساعيه السلمية.
فأرسل بشير الانصاري، وسعيد الهمداني، وشبث التميمي، لمفاوضة معاوية واقناعه بالانصياع الي اوامر الله وسنة الرسول.
فأغلظ معاوية لهم القول وشتمهم وطردهم بعد ان حاول ان يوقع بين سعيد، وشبث العداوة والبغضاء باثارة العصبية الجاهلية التي حاربها الاسلام. فأبي معاوية الا الاستمرار في الطيش والعبث بأرواح الناس ومقدراتهم والاستهانة بمباديء الدين الحنيف.
فحدث القتال المرير بين الجانبين وانهزمت قوي الشر امام جيوش الامام. فلجأ معاوية الي الحيلة والغدر كعادته فرفعت المصاحف وحصل التحكيم وخرج المارقون واغتيل الامام كما سنري.
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع ان نقول مرة اخري:
ان الصراع بين القاسطين وبين قوي الامام ماهو في جوهره الا صراع بين رجلين يختلفان كل الاختلاف في الخلق وفي العقيدة. فمعاوية: «رجل لم يردعه وازع عن التماس اي اسلوب … مشروع او غير مشروع للوصول الي هدفه وهو انتزاع الحكم من الامام ولم ير حرجا في الدس، ولافي الغدر ولافي الادعاء الباطل.
فقد كان همه ان يغدر وان وطئت قدمه الملوثة قدس الحق وقيم الاخلاق.
وكانت الخطة التي درج عليها الامام تغاير ذلك.
لهذا فقد تباينت الاسلحة. فهي في يد علي معدومة وفي يد خصمه وفيرة، وتعددت ميادينها امام معاوية وضاقت حلقتها علي الامام الا ما أقره منها الدين وارتضته المثل
[صفحه 163]
الانسانية الرفيعة» [269].
وتباين المقربون كذلك في الخلق والدين والهدف. فهم عند علي من خيرة اصحاب النبي وهدفهم السير وفق مستلزمات الاسلام. وهم عند معاوية من الوصوليين الانتهازيين:
عمار بن ياسر ومن هم علي شاكلته من جهة، وعمرو بن العاص ومن لف لفه من جهة اخري.
وتباين الاتباع كذلك. فقد كان معاوية يحارب الامام «بمئة الف ما فيهم علي حد قوله من يفرق بين الناقة والجمل» [270].
وقد بلغت طاعة اهل الشام لمعاوية حداً يفوق الوصف [271].
فقد صلي بهم علي ما يذكر المسعودي عند مسيرهم الي صفين الجمعة: يوم الاربعاء، واعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها».
وفي معرض التحدث عن موقف اهل الشام ازاء معاوية.
يقول المسعودي [272]: ان احد اخوته من اهل العلم قال له: «كنا نقعد فنتناظر في ابي بكر وعمر، وعلي ومعاوية، فقالت لي ذات يوم بعض اهل الشام وكان من اعقلهم. واكبرهم لحية كم تظنون في علي ومعاوية؟
فقلت له: من هو علي؟ فقال … قتل علي في غزوة حنين مع النبي.
ولما خرج عبدالله بن علي في طلب مروان الي الشام … وجه الي ابي العباس السفاح اشياخا من اهل الشام من ارباب النعم والرئاسة، فحلفوا للسفاح انهم ما علموا لرسول الله قرابة ولا اهل بيت يرثونه غير بني امية حتي وليتم الخلافة»
[صفحه 164]
وكان ذلك دون شك من آثار معاوية في تضليل الناس والتغرير بهم. فيكون معاوية بالاضافة الي ما ذكرنا مسئولا عن تشويه كثير من حقائق التاريخ الاسلامي وتزوير حوادثه.
أما أساليبه في الغدر بمناوئيه وتدبير المؤمرات لاغتيالهم فمعروفة لدي الكثيرين، فقد دبر قضية سم الاشتر والحسن، بعد ان نكث عهده.
وتتلخص قضية الاشتر النخعي في ان الامام عليا قد ولاه مصر بعد ان عزل عنها محمد بن ابي بكر. «ولكن الاشتر لم يكد يصل الي القلزم حتي مات».
واكثر المؤرخين يتحدثون بأن معاوية اغوي صاحب الخراج في القلزم … ان هو احتال في موت الاشتر، فدس هذا الرجل للاشتر سما في شربة من عسل فقتله ليومه.
وكان معاوية وعمرو يتحدثان فيقولان ان لله جنودا من عسل» [273]، وكان غدره يترواح بين الشدة واللين حسب الظروف، فيلجأ الي القسوة اذا اعيته الحيلة والمراوغة والدس، من ذلك مثلا:
انه اختار بسر بن ارطأة المعروف بقساوته، وسيره علي رأس جيش لتعقب خصومه.
وقد اوصي معاوية بسر بن ارطأة أن يقسو علي البادية من شيعة علي.
فمضي بسر ونفذ وصية معاوية واضاف لها من عنده قسوة وغلظة واسرافاً في الاستخفاف بالدماء، والاموال، والحقوق والحرمات، فكان كثير الفتك في البادية، وجاء المدينة فروع اهلها … وامرهم بالبيعة لمعاوية ففعلوا مرغمين.
ومضي الي اليمن ففر عنها عامل علي واعوانه.
ونشر فيها الروع بالاسراف في القتل، ثم اخذ البيعة لمعاوية.
وبلغ خبره علياً فأرسل جارية بن قدامة ليرده عن اليمن، ففر عنها بسر بن ارطأة ورجع الي الشام مفسداً في الارض اثناء رجوعه ومسرفاً في القتل والنهب حتي ذبح ابني عبيد الله بن العباس وكانا صبيين.
[صفحه 165]
ورد جارية اليمن الي طاعة الامام، وعاد الي مكة فعرف فيها ان عليا قد قتل» [274].
يتضح مما ذكرنا ان خلق معاوية كان اقرب الي الوحشية منه الي الانسانية، علي انه كان في وحشيته الخلقية كالوحش المفترس تارة، وكالثعلب المراوغ تارة اخري اما الامام فكان انسانا كاملا في دينه، وسياسته واخلاقه، فقد امتلأت نفسه الكبيرة من خشية الله، وحب الناس، ونشر العدالة والاخاء بين المسلمين.
وكان موقف اتباعه منه علي حقه مغايراً لموقف اتباع معاوية له علي باطله كما رأينا.
والي القاريء طائفة من اقوال الامام لاتباعه وهو في احرج ساعات نزاعه مع مناوئيه: «أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم ليس لانهم اولي بالحق منكم ولكن لاسراعهم الي باطلهم وابطائكم عن حقي.
ولقد اصبحت الامم تخاف ظلم رعاتها، واصبحت اخاف ظلم رعيتي.
أيها الشاهدة ابدانهم الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة اهواؤهم المبتلي بهم امراؤهم، صاحبكم: يطيع الله وانتم تعصونه، وصاحب اهل الشام: يعصي الله وهم يطيعونه
والله لكأني بكم فيما اخالكم ان لو حمس الوغي وحمي الضرب قد انفرجتم عن ابن ابي طالب انفراج المرأة عن قبلها، واني لعلي بينة من ربي، ومنهاج من نبي، واني لعلي الطريق الواضح القطه لقطاً» [275]، وقال في مكان آخر:
«ولكن بمن والي من! أريد ان اداوي بكم وانتم دائي» كناقش الشوكة بالشوكة
[صفحه 166]
وهو يعلم ان ضلعها معها» [276] وأشار الامام في مناسبة اخري الي العامل الرئيسي في تقاعسهم عن نصرة الحق فقال: «أتأمرونني ان أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟؟
والله لا اطور به ما سمر سمير … ولو كان المال لي لسويت بينكم فكيف وانما المال مال الله؟؟ وان اعطاء المال في غير حقه تبذير واسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله» [277].
وخاطب اتباعه في موقع آخر فقال:
«أيتها النفوس المختلفة، الشاهدة ابدانهم والغائبة عنهم عقولهم، اظأركم علي الحق وانتم تنفرون منه، هيهات ان اطلع بكم سرار العدل، او اقيم اعوجاج الحق؟؟
اللهم انت تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك»، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من سننك» [278]
[صفحه 167]
وخاطبهم في موقف آخر فقال: «لم تكن بيعتكم اياي فلتة [279]؛ وليس امري وامركم واحداً، اني اريدكم لله وانتم تريدونني لانفسكم.
ايها الناس اعينوني علي انفسكم، وايم الله لانصفن المظلوم من ظالمه، ولاقودن الظالم بخزامته حتي اورده منهل الحق وان كان كارها» [280].
[صفحه 168]

التحكيم، المارقون، و مصرع الامام

لقد حاول علي جهد استطاعته ان يتجنب الحرب التي سعي معاوية ما امكنه الي اشعال نارها. كما حاول عبثا اقناع معاوية وصحبه بالكف عن ايذائه وايذاء رعاياه. فأوكل مضطراً أمره الي السيف. فبدأت الحرب بين الجانبين.
«ولما رأي عمرو بن العاص أن أمر العراق قد اشتد وخاف الهلاك قال لمعاوية: هل لك في أمر اعرضه عليك لايزيدنا الا اجتماعا ولايزيدهم الا فرقة؟
قال: نعم.
قال: نرفع المصاحف ثم نقول لما فيها بيننا وبينكم.
فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا حكم كتاب الله بيننا وبينكم. فلما رآها الناس قالوا: نجيب كتاب الله. فقال لهم علي: عباد الله امضوا علي حقكم وصدقكم وقتال عدوكم. فان معاوية وعمرو وابن ابي معيط، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن.
أنا اعرف منكم بهم قد صحبتهم اطفالا ثم رجالا. ويحكم ما رفعوها الا خديعة.
فقال اصحابه: لا يسعنا ان ندعي الي كتاب الله فنأبي ان نقبله. فقال لهم علي: انما اقاتلهم ليدينوا لحكم كتاب الله. فانهم قد عصوا الله فيما امرهم. فأصر اصحابه الا وقف القتال وقبول التحكيم.
واقترح اصحاب معاوية ان يبعث كل فريق من يمثله علي ان يعمل الحكمان بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم يتبع الفريقان ما اتفق عليه الحكمان، فاختار اهل الشام عمرو، وبعض اهل العراق ابا موسي الاشعري.
فقال علي لقومه: قد عصيتموني في أول الامر فأوقفتم القتال فلا تعصوني الآن.
[صفحه 169]
اني لا اري ان اولي ابا موسي. فانه ليس بثقة. قد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب مني. فأبوا الا ابا موسي.
فقال: فاصنعوا ما اردتم.. فكتب كتاب التحكيم:
هذا ما تقاضي عليه علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان.
اننا ننزل عند حكم الله وكتابه.. فما وجد الحكمان في كتاب الله عملا به، وما لم يجداه.. فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة.
وأخذ الحكمان؛ من علي، ومعاوية، ومن الجندين، من العهد والمواثيق انهما آمنان واهليهما والامة» [281].
وشهد علي مافي الكتاب من اصحاب علي:
«الحسن والحسين ابنا علي بن ابي طالب، وعبدالله بن عباس، وعبدالله ابن جعفر بن ابي طالب، والاشعث بن قيس، والاشتر بن الحارث، وسعيد ابن قيس، والحسين والطفيل ابنا الحارث بن عبدالمطلب وابو سعيد بن ربيعة الانصاري وعبدالله بن خباب ابن ارت وسهل بن حنيف، وابو بشر بن عمر الانصاري وعون بن الحارث بن عبدالمطلب، ويزيد بن عبدالله الاسلمي، وعقبة ابن عامر الجهني، ورافع بن خديج الانصاري، وعمرو بن الحمق الخزاعي، والنعمان بن العجلان الانصاري، وحجر بن عدي الكندي، ويزيد بن حجية النكري، ومالك بن كعب الهمداني، وربيعة بن شرحبيل، والحارث بن مالك، وحجر بن يزيد، وعلبة بن حجية.
ومن اهل الشام: حبيب بن مسلمة، وابو الاعور السلمي، وبسر بن ارطأة القرشي، ومعاوية بن خديج الكندي، والمخارق بن الحارث، ومسلم بن السكسكي، وعبدالرحمن بن خالد بن الوليد، وحمزة بن مالك، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعلقمة بن يزيد الكلبي، وخالد بن الحصين
[صفحه 170]
السكسكي، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، ويزيد بن ايجر العيسي، ومسروق بن جبلة العكي، وبسر بن ابي يزيد الحميري، وعبدالله بن عامر القرشي، وعتبة بن ابي سفيان، ومحمد بن ابي سفيان، ومحمد بن عمرو بن العاص، وعمار بن الاحرص الكلبي، ومسعدة بن عمرو العتبي، والصباح بن جهلمة الحميري، وعبدالرحمن بن ذي الكلام، وتمامة بن حوشب، وعلقمة بن حكم» [282].
ثم اتفق علي ومعاوية علي ما يذكر الدينوري [283] «علي ان يكون مجتمع الحكمين بدومة الجندل وهو المنصف بين العراق والشام. ووجه علي مع ابي موسي شريح بن هانيء في اربعة الاف من خاصته وصير عبدالله بن عباس علي صلاتهم وبعث معاوية عمرو بن العاص وابا الاعور السلمي في مثل ذلك من اهل الشام.
فساروا من صفين حتي وافوا دومة الجندل. وانصرف علي بأصحابه حتي وافي الكوفة [284]، وانصرف معاوية بأصحابه حتي وافي دمشق، ينتظران ما يكون من امر الحكمين.
وكان علي اذا كتب الي ابن عباس في امر اجتمع اليه اصحابه فقالوا: ماكتب اليك امير المؤمنين؟.. وتأتي كتب معاوية الي عمرو بن العاص فلا يأتيه أحد من اصحابه يسأله عن شيء من امره.. وعندما اجتمع الحكمان وتداولا في الامر [285] قال عمرو لابي موسي. وأين انت من معاوية؟ قال ابو موسي:
ما معاوية موضعا لها.. قال عمرو: الست تعلم ان عثمان قتل مظلوماً؟ قال بلي.
[صفحه 171]
قال: فان معاوية وليّ عثمان.. قال ابو موسي: ان ولي عثمان ابنه عمرو. ولكن ان طاوعتني احيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره بتوليتنا ابنه عبدالله..
هلم نجعلها للطيب ابن الطيب. قال عمرو:
يا ابا موسي لايصلح لهذا الامر الا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما ويطعم بالآخر.
قال ابو موسي: اري ان نخلع هذين الرجلين علياً ومعاوية ثم نجعلها شوري بين المسلمين يختارون لانفسهم من احبوا.
قال عمرو: فقد رضيت بذلك، وهذا الرأي الذي فيه صلاح الناس».
كان ابو موسي قد عوده عمرو ان يتقدم في الكلام عليه.
وكثيراً ما كان عمرو يقول له: «أنت صاحب رسول الله واسن مني فتكلم واتكلم، وتعود ذلك ابو موسي، واراد عمرو بذلك ان يقدمه في خلع علي.
فلما اتفقا علي خلع علي ومعاوية.. اقبلا الي الناس وهم مجتمعون. فقال عمرو:
يا ابا موسي اعلمهم ان رأينا اتفق، فتكلم ابو موسي فقال:
ان رأينا اتفق علي امر نرجو ان يصلح الله به امر هذه الامة.
فقال عمرو: صدق وبر. تقدم ياابا موسي فتكلم فتقدم ابو موسي ليتكلم فقال ابن عباس: ويحك اني والله لاظنه قد خدعك، ان كنتما قد اتفقتما علي رأي فقدمه ليتكلم به قبلك، ثم تكلم بعده، فانه رجل غادر ولا آمن ان يكون قد اعطاك الرضا بينكما. فاذا قدمت في الناس خالفك.
وكان ابو موسي مغفلا فقال: انا قد اتفقا وقال: ايها الناس انا قد نظرنا في امر هذه الامة فلم نر اصلح لامرها ولا الم لشعثها.. الا ان نخلع عليا ومعاوية، ويولي الناس امرهم من احبوا.. واني قد خلعت عليا ومعاوية..
ثم تنحي واقبل عمرو فقام وقال: ان هذا قد قال ماسمعتموه وخلع صاحبه. وانا اخلع صاحبه كما خلعه؛ واثبت صاحبي معاوية فانه وليّ ابن عثمان والطالب بدمه واحق الناس بمقامه.
[صفحه 172]
قال ابو موسي الاشعري لعمرو: لاوفقك الله غدوت وفجرت.
انما مثلك كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث وان تتركه يلهث، قال عمرو:
ان مثلك كمثل الحمار يحمل اسفاراً.. والتمس اهل الشام ابا موسي فهرب الي مكة.
ثم انصرف عمرو واهل الشام الي معاوية فسلموا عليه بالخلافة» [286].
يتضح مما ذكرنا: ان رفع المصاحف حيلة دبرها عمرو بن العاص للحيلولة بين القاسطين وبين الفرار امام جيوش الامام.
وقد فطن الامام الي ذلك ووصف عمرو معاوية وابن ابي معيط بأنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن.
وقد مر بنا ذكر شيء من سيرة معاوية وابن ابي معيط، ونود في هذه المناسبة ان ننقل الي القاريء قبل الاسترسال في موضوع التحكيم طرفاً من سيرة عمرو بن العاص ليتبين الاسس التي استند اليها علي في وصمه عمرواً وصاحبيه بالبعد عن الدين والقرآن، وعمرو هو: ابن العاص السهمي الذي «كان من المستهزئين بالنبي.
وقد انزل الله فيه قول: ان شانئك هو الابتر» [287].
أما المستهزؤون الآخرون فقد ذكرهم ابن خلدون [288] بقوله:
«ولما رأت قريش النبي قد امتنع بعمه وعشيرته، وانهم لايسلمونه، طفقوا يرمونه عند الناس ممن يفد علي مكة بالسحر والكهانة والجنون والشعر، يرومون بذلك صدهم عن الدخول في دينه ثم انتدب جماعة منهم لمجاهرته بالعداوة والايذاء، منهم:
عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعقبة بن ابي معيط احد المستهزئين.
وابو سفيان من المسهتزئين، والحكم بن امية من المستهزئين ايضاً.
[صفحه 173]
والعاص بن وائل السهمي وابنا عمه: نبيه ومنبه.
وقاموا يستهزئون بالنبي ويتعرضون له بالاستهزاء والاذاية حتي لقد كان بعضهم ينال منه بيده». اما ام عمرو بن العاص «فثمة صحيفة من صحائف فجور الجاهلية تنتشر عن الباغية ام عمرو كامرأة تلقفتها آونة مضاجع الرجال.
فلما خرج ابنها الي النور تهامست الالسن عن ابيه وتاهت حقيقة نسبة بين بضعة نفر.. منهم العاص ومنهم ابو سفيان. ولكن الام حزمت امرها علي ان تلصق وليدها بأول الرفيقين اذ كان اوفر النفر ثروة واسخاهم عليها في الانفاق فكأنها بهذا الاختيار قد ضربت لابنها اول مثل في تغليب المادة علي اوثق العلاقات وانه لمبدأ رضعه من ثدييها وظل يدين بناموسه مدي عمره المديد» [289].
هذا هو البيت الذي نشأ فيه عمرو بن العاص.
أما مواقف عمرو نفسه من الاسلام في اوائل عهده فمعروفة لدي الكثيرين.
فقد كان اشد الكفار خصومة للنبي يوم احد.
ويحضرنا في هذه المناسبة بعض شعره:
لما رأيت الحرب ينزو شرها بالرضف نزوا
ايقنت أن الموت حق والحياة تكون لغوا
حملت أثوابي علي عُتَد يبذ الخيل رهوا [290].
ولما يئس عمرو من الانتصار علي النبي في الحرب لجأ الي الغدر والدس والتواري عن الانظار. قال عمرو، علي ما يذكر ابن هشام [291]:
«لما انصرفنا من الاحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني. فقلت لهم: اني اري أمر محمد يعلو الامور علواً
[صفحه 174]
منكراً.. فأري ان نلحق بالنجاشي فنكون عنده. فان ظهر محمد علي قومنا كنا عند النجاشي، فانا ان نكون تحت يديه احب الينا ان نكون تحت يدي محمد.
وان ظهر قومنا: فنحن من عرفوا.»
وقد كان عمرو كما رأينا من أكبر المؤلبين علي عثمان.
وهو الذي صرفه عن تطبيق حد الله في عبيد الله بن عمر بن الخطاب لقتله الهرمزان.
«فقد اقبل ابن العاص علي عثمان حين رأي عثمان أن ينظر في الاقتصاص من عبيد الله …
فقال له: يا أمير المؤمنين ان الله قد اعفاك ان يكون هذا الحدث كان ولك علي المسلمين سلطان. انما كان الحدث ولاسلطان لك» [292].
ولما بلغ عمرو وهو بفلسطين كما ذكرنا بأن الناس قد بايعوا عليا بأن معاوية يأبي البيعة اتصل عمرو بمعاوية وحبذ له فكرة المطالبة بدم عثمان.
ومن الطريف ان نذكر في هذه المناسبة : ان المؤرخين يكادون يجمعون علي ذكر قصة استشارة عمرو لولديه عبدالرحمن ومحمد، وهو بفلسطين في شأن موقفه من النزاع بين علي ومعاوية «فقال له عبدالله: ان كنت لابد فاعلا فالي علي. قال عمرو: اني ان اتيت علياً يقول لي: انما انت رجل من المسلمين. وان اتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في الامر. وكان محمد ابنه الآخر علي هذا الرأي.
فقال لهما عمرو: اما انت ياعبدالله فقد اخترت لآخرتي.
واما انت يامحمد فقد اخترت لدنياي.. وقدم عمرو علي معاوية.. وسأله اتري اننا خالفنا عليا لفضل منا عليه؟.. لا والله ان هي الا الدنيا نتكالب عليها» [293].
[صفحه 175]
ولاندري ما صلة ذلك بالمطالبة بدم عثمان!!
هذا هو ممثل معاوية في التحكيم.
أما ممثل علي فهو ابو موسي الاشعري الذي كان يخذل الناس عن نصرة الخليفة حين كان واليا له علي الكوفة الامر الذي اضطر الخليفة الي عزله.
ولنعد الآن الي موضوع التحكيم.
فاذا نظرنا اليه من الناحية المبدئية العامة اي تحكيم كتاب الله وسيرة نبيه فيما يحصل من اختلاف بين وجهات نظر المسلمين في امورهم الدينية، والدنيوية فان الامام علي لا يرضي بغير ذلك بديلاً.
وقد بني سياسته العامة في السلم والحرب ومع انصاره واعدائه علي السواء وفق مستلزمات القرآن والسنة. وتألب عليه خصومه وهرب منه بعض انصاره لتمسكه بذلك في جميع تصرفاته. وقد مر بنا رفضه قبول الخلافة اثناء الشوري لوضع شرط ثالث بجانب الكتاب والسنة. كما مر بنا جانب من موقفه مع الناكثين ودعوته اياهم الي تحكيم الكتاب والسنة فيما خرجوا عليه، فلم يعترض الامام «اذن» علي التحكيم الذي دعا اليه معاوية واصحابه من حيث المبدأ.
وانما اعترض علي الشكل الذي جاء فيه والظروف التي احاطت به.
فقد رفع خصومه المصاحف علي الرماح في الوقت الذي كانت فيه جيوشه سائرة الي نصرها المبين.
ودعوا (كاذبين) الي تحكيم القرآن الذي حاربوا، وحاربوا من انزل عليه في الجاهلية والاسلام.
واخترقوا نصوصه (وسنة الرسول) في تصرفاتهم العامة من الناحيتين الدينية والدنيوية.
فقد امر معاوية باقتراح من ابن العاص كما ذكرنا اصحابه ان يربطوا المصاحف علي اطراف القنا، فربطت المصاحف.
واول ما ربط مصحف دمشق الاعظم، ربط علي خمسة ارماح يحملها خمسة رجال.
[صفحه 176]
ثم ربطوا سائر المصاحف، جميع ما كان معهم. واقبلوا في الغلس [294] ونظر اهل العراق الي اهل الشام قد اقبلوا وامامهم شيبه بالرايات، فلم يدروا ما هو حتي اضاء الصبح، فنظروا فاذا هي المصاحف. واقبل ابو الاعور السلمي علي برذون [295] اشهب وعلي رأسه مصحف وهو ينادي:
يا أهل العراق هذا كتاب الله حكماً فيما بيننا وبينكم.
فتكلم علي وقال:
عباد الله انا احري من اجاب الي كتاب الله … ان القوم ليسوا يريدون بذلك الا المكر، وقد عضتهم الحرب، والله لقد رفعوها وما رأيهم العمل بها. وليس يسعني مع ذلك ان ادعي الي كتاب الله فلا اجيب. وكيف! وانما قاتلتهم ليدينوا بحكمه!» [296].
وعندما وقف القتال، وانصاع القاسطون في الظاهر الي رأي الامام في تحكيم القرآن والسنة لحسم النزاع بين المعسكرين.
وافق الامام علي قبول التحكيم التحكيم الذي هو مبدؤه في تصرفاته كافة استمع اليه يخاطب ابن ابي سفيان: ان البغي والزور يوقعان بالمرء في دينه ودنياه … ويبديان خلله عند من يعيبه. قد علمت انك غير مدرك ما قضي فواته.
وقد رام اقوام امراً بغير الحق فتأولوا علي الله فأكذبهم … وقد دعوتنا الي حكم لقرآن ولست من اهله. ولسنا اياك اجبنا ولكننا اجبنا القرآن في حكمه» [297].
وخاطبه في موضع آخر فقال: «لقد ابتلاني الله بك وابتلاك بي. فجعل
[صفحه 177]
أحدنا حجة علي الآخر. فغدوت علي طلب الدنيا بتأويل القرآن وطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني، وعصيته انت واهل الشام بي. والب عالمكم جاهلكم وقائمكم قاعدكم» [298] فالامام اذن لم يعترض علي مبدأ التحكيم.
بل التحكيم بالشكل الذي دعاه اليه معاوية والظروف التي حصل فيها. وبعد ان زالت تلك الظروف ووضعت الحرب اوزارها اختفت عوامل ممانعة الامام بقوله.
غير ان الامام اعترض بعد ذلك علي تعيين بعض اصحابه ابا موسي الاشعري ليمثله في ذلك.
وقد كان اعتراض الامام مبنياً من حيث الاساس علي القول بأن الممثل يجب ان يتبني فكرة من يمثله بغض النظر عن سلامتها ليتسني له القيام بواجبه علي وجهه الاتم. فعمرو بن العاص خير من يمثل معاوية في هذه الناحية.
فلما اصر اصحاب الخليفة علي رأيهم في تعيين ابي موسي رجع الامام الي نفسه علي مايبدو وقلب الامر علي وجوهه فلم ير بأسا من الموافقة علي ذلك لان موضوع التحكيم سوف يسير حسبما اتفق الجانبان المتعاقدان علي نصوص القرآن وسنة النبي حيث ينكشف لابي موسي زيفه السابق في التخذيل عن الامام.
وما دام موضوع التحكيم برأي الامام منصبا علي حسم الخلاف بينه وبين معاوية وهو نزاع يتصل علي ما ادعي معاوية بالمطالبة بدم الخليفة القتيل، فسوف ينظر الحكمان في القرآن والسنة فيما اذا كان عثمان قد قتل مظلوماً من جهة؟
وفيما اذا كان لمعاوية الحق في المطالبة بدم عثمان من الناحية الشرعية اي انه ولي عثمان من جهة ثانية؟
وفيما اذا كان الاسلوب الذي اتبعه معاوية للمطالبة المذكورة في حالة شرعيتها هو الاسلوب السليم من جهة ثالثة؟
وفيما ينبغي للخليفة ان يفعله من جهة رابعة؟
[صفحه 178]
فاطمأن علي الي ذلك كل الاطمئنان.
غير أن اجتماع الحكمين قد جعل الموضوع يسير باتجاه آخر لا صلة له اطلاقاً بموضوع المطالبة بدم عثمان ابن عفان.
فأغفل عمرو صاحبه ابتداءً كما رأينا.
والقي في روعه ان موضوع التحكيم ينحصر في تعيين خليفة جديد للمسلمين كأن خلع علي من الخلافة قد بات أمراً مفروغاً معه.
فاقترح عمرو اسم معاوية فرفضه ابو موسي كما رأينا. واقترح عمرو بعد ذلك اسم ابنه عبدالله فرفضه ابو موسي ايضا، الامر الذي حدا بأبي موسي ان يتقدم هو بمرشح جديد. وهو عبدالله بن عمر بن الخطاب.
ولما اطمأن عمرو الي ثبوت ذلك الرأي في ذهن زميله اي فكرة خلع الخليفة وتعيين آخر بدله جعل موضوع البحث ينحصر في الاتفاق علي المرشح الجديد.
ولما ظهر انهما لم يتفقا علي شخص معين بالذات، طلب من ابي موسي ان يقترح حلا للخروج من ذلك المأزق الحرج الذي يتوقف عليه مصير الحكم في البلاد والذي يرقبه المسلمون بفارق الصبر في كل مكان.
فتقدم ابو موسي باقتراح جديد ظنه كسبا له واندحار لعمرو بن العاص.
فقد خيل اليه انه سينتصر اذا ماوافق عمرو علي «خلع» معاوية بعد أن بات خلع الامام امرا متقفا عليه. فوافق عمرو في الظاهر علي الفكرة واغراء باعلانها علي الناس، ثم عاد فغدر به علي الشكل الذي وصفناه.
وقد برز عمرو في ذلك كله بأبشع مايبرز فيه الرجل من الخداع، والدس، والتدني عن مستويات الاخلاق الرفيعة. فأغفل صاحبه وأغراه علي خلع علي ومعاوية علي السواء ليترك الامر للمسلمين يختارون من يشاؤون.
فلما اعلن ابو موسي رأيه علي الناس كما مر بنا نهض عمرو فأكد خلع علي
[صفحه 179]
وتثبيت ابن ابي سفيان. ولاندري علاقة ذلك كله بالمطالبة بدم عثمان!! وهل تنازع علي ومعاوية علي الخلافة؟
وهل كان معاوية خليفة حتي يخلعه ابو موسي ويثبته ابن العاص؟
ومهما يكن من شيء فقد حصل خلع الامام وتثبيت معاوية. فارتاع دعاة التحكيم في عسكر الامام.
فظهر المارقون من الخوارج.. وقالوا: لاحكم الا لله وهي كلمة حق يراد بها باطل علي ما ذكر الخليفة. واراد اصحاب علي قتال الخوارج في باديء الامر ولكنه ابي عليهم ذلك وانكره كشأنه في مواقفه الاخري ضد مناوئيه وقال:
«ان سكتوا تركناهم وان تكلموا حاججناهم وان افسدوا قاتلناهم» [299].
بدأ المارقون نشر الفساد في المناطق التي كانوا يسكنون فيها، فنهبوا واغتالوا وتعاطوا كثيرا من الموبقات. «فقتلوا عبدالله بن الخباب بن الارت وخباب من خيرة الصحابة وقتلوا نسوة كن مع عبدالله. وجعلوا يتعرضون الناس ويذيعون الذعر.
فأرسل اليهم علي رجلاً من اصحابه يسألهم عن هذا الفساد.
فلم يكد هذا الرسول يدنو منهم حتي قتلوه» [300].
فلم يجد علي بداً من مقاتلتهم في النهروان.
وقد وجد الامام نفسه مع ذلك كله، وامام هذه الامور العظام، وفي قلب هذه الفتنة الغليظة المظلمة.. كأحسن ما يجد الرجل نفسه.
صدق ايمان، ونصحاً للدين، وقياماً بالحق، واستقامة علي الطريق المستقيمة، لاينحرف ولا يميل ولا يداهن من أمر الاسلام في قليل ولاكثير.
وانما يري الحق فيمضي اليه لا يلوي علي شيء ولايحفل بالعاقبة، ولا يعنيه
[صفحه 180]
ان يجد في آخر طريقه نجحا او اخفاقا، ولا ان يجد في آخر طريقه حياة او موتا.
وانما يعنيه كل العناية ان يجد اثناء طريقه وفي آخرها رضا ضميره ورضا الله» [301].
فلا عجب ان رأينا حياته بعد النهروان خاصة، علي ما يقول الدكتور طه حسين [302].
«محنة شاقة الي اقصي حدود المشقة، كان يري الحق واضحا صريحا.. وقد ظل الخوارج معه بعد ذلك يعايشونه في الكوفة؛ ويعايشون عامله في البصرة، وينبثون في اطراف السواد بين المصريين.. وكانوا يكيدون للامام.
يشهدون صلاته ويسمعون خطبه واحاديثه، وربما عارضه منهم المعارض فقطع عليه الخطبة والحديث، وهم علي ذلك مطمئنون الي عدله.
ويأخذون تعيينهم من الفيء وحظوظهم من المال!!
فأطمعهم عدله واسماحه، واغراهم لينه وبره.
جاء احدهم ذات يوم وهو: الحريث بن راشد السامي فقال له: والله لا اطعت امرك ولا صليت خلفك.. فلم يغضب علي ذلك ولم يبطش به، وانما دعاه الي ان يناظر ويبين له وجه الحق لعله ان يثوب اليه.
فقال له الحريث: اعود اليك غداً فقبل منه علي فانصرف الرجل الي قومه.
ثم خرج بهم في ظلمة الليل من الكوفة يريد الحرب. ولقي الحريث واصحابه في طريقهم رجلين سألوهما عن دينهما.
وكان احدهما يهوديا، فلما انبأهم بدينه خلوا سبيله.
وأما الآخر فكان مسلما من الموالي، فلما انبأهم بدينه سألوه عن رأيه في علي
[صفحه 181]
فقال خيراً، فوثبوا عليه فقتلوه» [303].
واستمر الحريث واصحابه علي عبثهم وفسادهم بأرواح الناس وممتلكاتهم مما اضطر الامام الي تجهيز حملة لتأديبهم وانقاذ الناس من اعتدائهم.
ولم يقف امتحان الامام عند الحد الذي وصفناه من خروج الناكثين فالقاسطين فالمارقين، وانما تعداه الي ابن عباس عامله علي البصرة اقرب الناس اليه. «وكان لابن عباس من العلم بأمور الدين والدنيا، ومن المكانة في بني هاشم وفي قريش عامة، وفي نفوس المسلمين جميعاً ما كان خليقا ان يعصمه من الانحراف» [304].
ويلوح للباحث ان ابن عباس «آثر نفسه بشيء من الخير وسار في بيت المال سيرة تخالف المألوف من امر علي ومن امره هو.
وكأنه أنس من صاحب بيت المال وهو ابو الاسود الدؤلي شيئاً من النكير فأغلظ له في القول ذات يوم.
وضاق ابو الاسود بما رأي وسمع فكتب الي علي … فروعه …
ولكن علياً صبر نفسه علي ما تكره، كما تعود ان يفعل دائما..
فكتب الي ابن عباس … بلغني عنك امر ان كنت فعلته فقد اسخطت ربك وخنت امانتك وعصيت امامك وخنت المسلمين.
فارفع الي حسابك، واعلم ان حساب الله اشد من حساب الناس..
وليس غريبا ان يكتب علي الي ابن عباس ما كتب، فهو لم يتعود الرفق في امر المال، ولا الادهان في امر من امور المسلمين..
ولكن ابن عباس اعرض عن هذا كله، فاعتزل عمله ولكنه مع ذلك لم يستعف
[صفحه 182]
امامه ولم ينتظر ان يعفيه، وانما اعفي نفسه وترك البصرة، ولحق بمكة حيث لا يبلغه سلطان الامام».
غير ان ابن عباس «لم يكتف بما بلغ من هذه المغاضبة، ولا بما انتهي اليه من هذا التصرف الغريب بل اضاف اليه شراً عظيما لم يسوء به الامام وحده.
وانما اساء به الرعية كلها وعامة اهل البصرة خاصة.
فهو قد ازمع الخروج الي مكة ولكنه لم يخرج منها فارغ اليدين من المال كما دخلها حين ولي عليها.
وانما خرج منها وقد ملأ يديه بما كان في بيت المال مما ينقل.
وهو يعلم ان ليس له في هذا المال حق الإ مثل ما لأهل البصرة جميعا فيه» [305].
فمضي امتحان علي «علي هذا النحو المر: خيانة من الوالي، وكيدا من العدو. وهو بين ذلك كله مصمم علي خطته الواضحة، لا يرضي الدنية من الامر، ولايداهن في دينه ولايتحول عن سياسته الصريحة قليلا ولا كثيراً.
والمحن تتابع عليه ويقفو بعضها اثر بعض، وهو ماض في طريقه لا ينحرف عنه الي يمين او شمال» [306].
وفي غمرة النضال وزحمة الصراع مع الباطل تصدي له ابن ملجم فأصاب منه مقتلا «ويروي المؤرخون: ان عليا امر من حوله ان يحسنوا اطعام ابن ملجم ويكرموا منواه. فان بريء من ضربته نظر، فاما عفا واما اقتص.
وامرهم: ان مات ان يلحقوه به ولا يعتدوا: ان الله لا يحب المعتدين».
[صفحه 183]

بين علي و معاوية

اشاره

1 الفصل السابع: مقتطفات من سيرة الامام
2 الفصل الثامن: نماذج من تصرفات معاوية
[صفحه 184]

مقتطفات من سيرة الامام

اشاره

أشرنا في الفصول السابقة الي كثير من الحوادث التي دلت علي تمسك الامام بكتاب الله وسنة رسوله فيما يتعلق بتصرفاته العامة والخاصة، في زمن الحرب وفي وقت السلم، مع أنصاره وخصومه علي السواء. وها نحن ننقل الي القاريء بعض آثاره التي رواها كبار المؤرخين المسلمين.
[صفحه 185]

فلسفة الحكم

تتلخص فلسفة الحكم عند الامام في عهده للأشتر الذي ولاه مصر فدس له السم في الطريق احد الاشخاص بتحريض من معاوية وعمرو بن العاص كما يحدثنا الرواة. والي القاريء ملخص العهد [307]:
«هذا ما امر به عبدالله أمير المؤمنين مالك بن الحارث الاشتر في عهده اليه حين ولاه مصر.. أمره بتقوي الله وايثار طاعته واتباع ما امر به في كتابه..
ثم اعلم يا مالك اني قد وجهتك الي بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وان الناس ينظرون من امورك في مثل ما كنت تنظر فيه الي امور الولاة قبلك.
ويقولون فيك ما كنت تقوله فيهم..
فليكن أحب الذخائر اليك خيرة: العمل الصالح.
أشعر قلبك الرحمة للرعية.. فإنك فوقهم..
أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوي من رعيتك.. وليكن أحب الامور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضي الرعية. فإن سخط العامة، يجحف برضاء الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضي العامة..
وليكن أبعد رعيتك منك.. أطلبهم لمعايب الناس.. إن شر وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيراً، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة..
ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بالحق لك.. ألصق بأهل الورع والصدق، ثم حثهم علي أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله..
[صفحه 186]
ولايكونن المحسن والمسيء عندك سواء: فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة علي الإسائة.
والزم كلا منهم ماالزم نفسه، واعلم أنه ليس شيء أدعي الي حسن ظن وال برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤنات عليهم..
لا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة..
وصلحت عليها الرعية.
ولاتحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن..
وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء..
واعلم: أن الرعية طبقات لايصلح بعضها الا ببعض ولا غني لبعضها عن بعض؛ فمنها الجنود، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل وعمال الإنصاف وأهل الجزية والخراج من أهل الذمة، ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات ومنها الطبقة السفلي من ذوي الحاجات والمسكنة.
وكل قد سمي الله له سهمه، ووضع علي حده وفرضه في كتابه أو سنة نبيه..
إن فضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية..
اختر للحكم بين الناس: أفضل رعيتك في نفسك ممن لاتضيق به الامور ولا تمحكه الخصوم.. ثم انظر أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وإثرة..
أسبغ عليهم الارزاق، فإن ذلك قوة لهم علي استصلاح أنفسهم، وغني لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم ان خالفوك أمرك..
ثم تفقد اعمالهم وابعت العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم.. وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في اصلاحهم صلاحا لمن سواهم.. لأن الناس كلهم عيال علي الخراج..
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً.. واعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضر للعامة وعيب علي الولاة.
[صفحه 187]
فامتنع من الاحتكار، فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه فنكل به وعاقبه من غير اسراف.
ثم الله الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين..
إجعل لهم قسما من بيت المال.. ولا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم.
وتفقد أمور من لايصل اليك منهم. ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع لترفع إليك أمورهم..
واجعل لذوي الحاجات وقتاً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه..
وتعقد عنهم جندك وأعوانك من حراسك وشرطك حتي يكلمك مكلمهم غير متعتع.. ثم احتمل الخرق منهم والعيّ ونح عنهم الضيق..
ولا تطولن احتجاجك عن رعيتك.. فالاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه.. فيشاب الحق بالباطل. وانما الوالي بشر لايعرف ما تواري عنه الناس من الامور. وليست علي الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب..
ثم ان للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة انصاف في المعاملة:
فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الاحوال..
وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد..
وحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالامانة.. فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس اشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود..
ولا تغدرن بذمتك.. واياك والدماء وسفكها بغير حلها.. ولاعذر لك عند الله ولاعندي في قتل العمد..
وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الإطراء..
[صفحه 188]
وإياك والمن علي رعيتك بإحسانك..
أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك.. وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها أو التساقط فيها عند إمكانها …
فضع كل أمر موضعه.. أملك حمية انفك وسورة حدك وسطوة يدك وغرب لسانك.
واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة حتي يسكن غضبك فتملك الاختيار».

حرصه علي بيت المال

لقد مر بنا جانب من ذكر حرص الإمام علي أموال المسلمين عندما تحدثنا عن موقفه من ولده الحسين في قضية العسل، ومن أخيه عقيل حين قدم عليه طالباً زيادة حصته من الدقيق.
وإلي القاريء طائفة من الامثلة الاخري في هذا الباب.
قال هارون بن عنترة عن أبيه: دخلت علي علي بالخورنق وهو فصل شتاء وعليه خلق قطيفة وهو يرعد فيه فقلت:
يا أمير المؤمنين إن الله جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً؛ وأنت تفعل هذا بنفسك؟ فقال:
والله ما أرزأكم شيئا. وماهي الا قطيفتي التي اخرجتها من المدينة» [308].
ولم ينزل الإمام علي ما يحدثنا الرواة «القصر الابيض بالكوفة إيثاراً للخصاص التي كان يسكنها الفقراء. وربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام.
وروي النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة قال: دخلت علي علي فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته وكسرة يابسة. فقلت: يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا؟
[صفحه 189]
فقال لي: يا أبا الجنوب كان رسول الله يأكل أيبس من هذا، ويلبس أخشن من هذا وأشار الي ثيابه فإن لم آخذ بما أخذ به خفت الا الحق به» [309].
وكتب ابن الأثير: ان عاصم بن كليب روي عن ابيه انه قال: «قدم علي علي مال من اصبهان فقسمه علي سبعة اسهم. فوجد فيه رغيفاً فقسمه علي سبعة ودعا امراء الاسباع فأقرع بينهم لينظر ايهم يعطي أولاً.
وذكر يحيي بن مسلمة: أن علياً استعمل عمرو بن مسلمة علي أصبهان «فقدم ومعه مال كثير وزقاق فيها عسل وسمن.
فأرسل أم كلثوم بنت علي الي عمرو تطلب منه سمناً وعسلاً. فأرسل اليها ظرف عسل وظرف سمن. فلما كان الغد خرج علي واحضر المال والسمن والعسل ليقسم. فعد الزقاق فنقصت زقين. فسأله عنهما. فكتمه وقال: نحن نحضرهما. فعزم عليه الا ذكرهما له. فأخبره. فأرسل الي أم كلثوم فأخذ الزقين منها فرآهما قد نقصا، فأمر التجار بتقويم مانقص منهما، فكان ثلاثة دراهم.
فأرسل اليها فأخذها منها!، ثم قسم الجميع..
وقال سفيان: إن علياً لم يبن آجرة علي آجرة، ولا لبنة علي لبنة، ولاقصبة علي قصبة.
وقيل: إنه أخرج سيفاً الي السوق فباعه وقال: لو كان عندي اربعة دراهم ثمن إزار لم ابعه، وكان لا يشتري ممن يعرفه، واذا اشتري قميصاً قدر كمه علي طول يده وقطع الباقي، وكان يختم علي الجراب الذي فيه دقيق الشعير الذي يأكل منه ويقول:
لاأحب ان يدخل بطني الا ما اعلم» [310].
[صفحه 190]

تواضعه و عدله

ذكر الشعبي علي مايقول ابن الأثير [311]:
إن علياً وجد درعاً عند نصراني «فأقبل الي شريح قاضيه وجلس الي جانبه يخاصم النصراني مخاصمة رجل من رعاياه، وقال: انها درعي ولم أبع ولم اهب، قال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟
قال النصراني: ما الدرع الا درعي وما أمير المؤمنين بكاذب؟!
فالتفت شريح، الي علي يسأله. يا أمير المؤمنين، هل من بينة؟ فضحك علي..
وقال: اصاب شريح، مالي من بينة؟ فقضي بالدرع للنصراني فاخذها ومشي.. وأمير المؤمنين ينظر اليه.. الا ان النصراني لم يخط خطوات حتي عاد يقول: أما أنا فأشهد ان هذه أحكام أنبياء.. أمير المؤمنين يدينني الي قاضيه.. وقاضيه يقضي عليه، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين».
وكان الإمام، لشدة تواضعه وحرصه علي إقامة العدل بين رعيته، اذا أراد أن يشتري شيئا بنفسه، علي ما يذكر الدكتور طه حسين «تحري بين السوقة رجلا لا يعرفه فاشتري منه ما يريد.
وكان يكره ان يحابيه البائع ان عرف انه أمير المؤمنين، ثم كان لايرضي عن نفسه الا اذا أدي للناس حقهم عليه في دينه فأقام لهم صلاتهم وعلمهم بالقول والعمل وقام علي اطعام فقرائهم طعام العشاء وتحري ذوي الحاجة منهم فأغناهم عن المسألة.
وكان يخلو لنفسه اذا كان الليل فينصرف عن الناس الي عبادته الخاصة مصلياً مجتهداً حتي يتقدم الليل، فإذا اخذ بحظه من النوم غلس بالخروج الي المسجد» [312].
[صفحه 191]

تحليل لسياسته العامة

أعلم أن قوماً ممن لم يعرفوا حقيقة فضل علي بن ابي طالب، زعموا: أن عمر ابن الخطاب كان أسوس منه، وإن كان هو أعلم من عمر، وصرح بذلك أبو علي ابن سينا: وعلي بن ابي طالب كان مقيداً بقيود الشريعة مدفوعاً الي اتباعها.
ورفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير اذا لم يكن للشرع موافقاً.
فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره ممن يلتزم بذلك، ولسنا بهذا القول زارين علي عمر.. ولكن عمر كان مجتهداً يعمل بالقياس..
ويري تخصيص عمومات النص بالآراء والاستنباط من أصول تقضي خلاف ما يقتضيه عموم النص، ويكيد خصمه ويأمر أمراءه بالكيد والحيلة، ويؤدب بالدرة والسوط من يغلب علي ظنه أنه يستوجب ذلك، ويصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقون به التأديب.
ولم يكن علي يري ذلك، وكان يقف مع النصوص لا يتعداها الي الاجتهاد والاقيسة، ويطبق امور الدنيا علي أمور الدين ويسوق الكل مساقاً واحداً.
ولا يرفع ولا يضع إلا بالكتاب والنص..
ولم يكن يري مخالفة الشرع لاجل السياسة سواء اكانت سياسته دينية ام دنيوية.
أما الدنيوية: فنحو أن يتوهم الإمام في انسان أنه يروم فساد خلافته من غير ان يثبت ذلك عليه يقيناً.
فإن علياً لم يكن يستحل قتله ولا حبسه ولا يعمل بالتوهم وبالقول غير المحقق.
وأما الدينية: فنحو ضرب المتهم بالسرقة فإنه لم يكن يعمل به بل يقول: أن يثبت عليه بإقرار أو بينة أقمت عليه الحد والا لم اعترضه.
[صفحه 192]
… واذا كان مذهبه ما قلناه وكان معاوية عنده فاسقاً وقد سبق عنده مقدمة اخري ويقينية هي: ان استعمال الفاسق لا يجوز، ولم يكن ممن يري تمهيد قاعدة الخلافة بمخالفة الشريعة فقد تعين مجاهرته بالعزل، وإن أفضي ذلك الي الحرب.. وجواب علي الاعتراض علي عزله معاوية وهو: أنا علمنا أن الاحداث التي نقمت علي عثمان.. توليته معاوية الشام مع ماظهر من جوره وعدوانه ومخالفته احكام الدين.. وقد خوطب عثمان في ذلك فاعتذر..
فلو أن علياً فتح عقد الخلافة له بتوليته معاوية الشام واقراره فيه أليس كان يبتدي.
أول أمره بما انتهي اليه عثمان في آخره؟..
ولو كان اقراره معاوية في حكم الشريعة سائغاً والوزر فيه مأموناً لكان غلطاً قبيحاً في السياسة وسبباً قرباً للعصيان والخالفة. ولم يكن يمكن علياً ان يقول للمسلمين.
إن حقيقة رأيي هي: عزل معاوية عند استقرار الامر وطاعة الجمهور.
وإن قصدي بإقراره علي الولاية مخادعته وتعجل طاعته.. لان اظهاره لهذا العزم كان يتصل خبره بمعاوية فيفسد التدبير الذي شرع فيه..
ومما اعترض علي علي به: أنه ترك طلحة والزبير حتي خرجا الي مكة وأذن لهما في العمرة، وظهر عنه الرأي في ارتباطهما قبله ومنعهما من البعد عنه في عهد عمر .
وقد روي عن عليّ أنه قال لهما .
والله ما تريدان العمرة وانما تريدان الغدرة وخوفهما بالله من التسرع الي الفتنة.
وأخذ عليهما عهد الله وميثاقه في الرجوع الي المدينة؛ وما كان يجوز له في الشرع ان يحبسهما، ولا في السياسة، فلإنه لو اظهر التهمة لهما وهما من افاضل السابقين وجلة المهاجرين لكان في ذلك من التنفير عنه ما لا يخفي ومن الطعن عليه ما هو معلوم..
[صفحه 193]
لاسيما وأن طلحة كان اول من بايعه. والزبير لم يزل مشتهراً بنصرته» [313].

بعض أقواله المأثورة

1 الدنيا منتهي بصر الاعمي لا يبصر مما وراءها، والبصير ينفذها بصره ويعلم أن الدار وراءها، فالبصير منها شاخص والاعمي اليها شاخص، والبصير منها متزود والاعمي لها متزود [314].
2 ليس لواضع المعروف في غير حقه وعند غير أهله الا محمدة اللئام وثناء الاشرار ومقالة الجهال ما دام منعماً عليهم.
3 إنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء اخفي من الحق ولا اظهر من الباطل ولا اكثر من الكذب علي الله.. ولا في البلاد شيء انكر من المعروف ولا اعرف من المنكر.
4 اذا أقبلت الدنيا علي قوم اعارتهم محاسن غيرهم، واذا أدبرت عنهم سلبتهم محاسن انفسهم.
5 خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم، وإن عشتم حنوا اليكم.
6 إحذروا صولة الكريم اذا جاع، واللئيم اذا شبع.
7 هلك فيّ رجلان: محب غال ومبغض قال.
8 احذروا أهل النفاق فإنهم الضالون المضلون..
يمشون الخفاء ويدبون الضراء.. لهم بكل طريق صريع.
[صفحه 194]
وإلي كل قلب شفيع، ولكل شجو دموع، يتقارضون الثناء ويتراقبون الجزاء.
إن سألوا ألحفوا، وإن عذلوا كشفوا، وإن حكموا اسرفوا.
وقد اعدوا لكل حق باطلا، ولكل قائم مائلا، ولكل حي قاتلاً، ولكل باب مفتاحاً، ولكل ليل مصباحاً.
9 احذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه ويكره لعامة المسلمين.
واحذر كل عمل يعمل به في السر ويستحي منه في العلانية.
واحذر كل عمل اذا سئل صاحبه أنكره أو اعتذر منه.
10 فاعل الخير خير منه وفاعل الشر شر منه.
11 الصبر صبران: صبر علي ما تكره وصبر عما تحب.
12 من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه.
13 إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن احب الدنيا وتولاها ابغض الآخرة وعاداها.
وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماش بينهما كلما قرب من واحد بعد من الآخر.
14 صاحب السلطان كراكب الاسد يغبط بموقعه وهو أعلم بموضعه.
15 من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته.
16 العدل صورة واحدة والجور صور كثيرة، ولهذا سهل ارتكاب الجور وصعب تحري العدل، وهما يشبهان الإصابة في الرماية والخطأ فيها.
وإن الإصابة تحتاج الي ارتياض وتعهد، والخطأ لا يحتاج الي شيء من ذلك.
17 أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها. ولم يصب صاحبها منها شيئاً إلا فتحت له حرصاً عليها ولهجاً بها.
[صفحه 195]
18 لقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه الا إدباراً والشر فيه الا إقبالاً … اضرب بصرك حيث شئت من الناس، فهل تبصر الا فقيراً يكابد فقراً أو غنياً بدل نعمة الله كفراً او بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفراً.. أو متمرداً كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقراً.. لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به.
19 يا أبا ذر: غضبت لله فارج من غضبت له.
إن القوم خافوك علي دنياهم وخفتهم علي دينك، فاترك في أيدهم ماخافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما احوجهم الي ما منعتهم، وما أغناك عما منعوك!
20 إن لسان المؤمن من وراء قلبه، وإن قلب المنافق من وراء لسانه، لأن المؤمن اذا اراد ان يتكلم بكلام تدبره في نفسه، فإن كان خيراً أبداه، وإن كان شراً واراه. وان المنافق يتكلم بما اتي علي لسانه، لايدري ماذا له وماذا عليه.
21 والله ما معاوية بأدهي مني، ولكنه يغدر ويفجر.
22 ومن وصية له للحسن كتبها اليه بحاضرين من صفين:
من الوالد الفاني.. المستسلم للدهر …
الي المولود المؤمل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك.. تاجر الغرور، وغريم المنايا.. وصريع الشهوات.
أوصيك بتقوي الله اي بني ولزوم امره. وامر بالمعروف تكن من اهله، وانكر المنكر بيدك ولسانك.. ولاتأخذك في الله لومة لائم..
وخض الغمرات للحق حيث كان.
وتفقه في الدين، وعود نفسك التصبر علي المكروه.
وأخلص في المسألة لربك..
واعلم: أنه لا خير في علم لا ينفع، ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه..
[صفحه 196]
اي بني: إني وان لم اكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في اعمالهم، وفكرت في اخبارهم، وسرت في آثارهم حتي عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهي الي من امورهم قد عمرت مع اولهم الي آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره، اعلم يا بني ان احب ما أنت آخذ به وصيتي تقوي الله والاقتصار علي ما فرضه الله عليك.
يابني اجعل من نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك. فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك او اكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب ان تظلم، واحسن كما تحب ان يحسن اليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك.
وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قَّل ماتعلم.
واعلم: انك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا.. وانت طريد الموت الذي لا ينجو منه هارب.. فكن منه علي حذر ان يدركك وانت علي حالة سيئة.
وإياك ان تغتر بما تري من اخلاد اهل الدنيا اليها وتكالبهم عليها.. فإنما أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية يهر بعضها علي بعض ويأكل عزيزها ذليلها.. سلكت بهم الدنيا طريق العمي، فتاهوا في حيرتها.. ونسوا ما وراءها.
واعلم يابني: ان من كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وان كان واقفاً..
واكرم نفسك عن كل دنية وان ساقتك اليه الرغائب … وماخير؛ خير لا ينال الا بشر، وبشر لا ينال الا بعسر.. وتلافيك ما فرط من صمتك ايسر من ادراكك ما فات من منطقك.. والحرفة مع العفة خير من الغني مع الفجور.
إحمل نفسك من اخيك عند صرمه علي الصلة، وعند صدوده علي اللطف والمقاربة.. وعند جرمه علي العذر، حتي كأنك له عبد.. وإياك ان تضع ذلك في غير موضعه..
لا تتخذ من عدو صديقك صديقا، فتعادي صديقك، وامحض اخاك النصيحة حسنة كانت ام قبيحة.
ولن لمن غالظك فإنه يوشك ان يلين لك.
[صفحه 197]
إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع اليها إن بدا له ذلك يوما ما..
ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغني..
استدل علي مالم يكن بما قد كان، فإن الامور اشباه، ولاتكون ممن لاتنفعه العظة الا اذا بالغت في ايلامه، فإن العاقل يتعظ بالآداب، والبهائم لاتتعظ الا بالضرب.

ما ينطبق عليه من آي الذكر الحكيم

سورة النساء: «ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً».
سورة فصلت: «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تنزل عليهم الملائكة ألاتخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي انفسكم ولكم فيها ماتدعون»
سورة المنازعات: «وأما من خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوي، فإن الجنة هي المأوي:».
[صفحه 198]

نماذج من تصرفات الخليفة الجديد

اشاره

قد مر بنا نماذج من تصرفات معاوية تجاه خصومه واتباعه معاً. وكان طابع تلك التصرفات، كما لاحظ القاريء، الغدر والإيقاع بالخصوم، وبذل المال وتوزيع المناصب علي الأتباع.
أي ان سياسة معاوية كانت سياسة وصولية انتهازية تسير علي المبدأ القائل: بأن الوسائل تبررها الغايات، ولو كانت الغايات نبيلة عادلة تهدف الي توزيع العدل الاجتماعي بين الناس لكان هناك مجال امام الباحث للدفاع عنها، ولكنها كما رأينا:
أهداف شخصية نفعية غرضها الظاهر التوصل إلي الحكم بمختلف الأساليب والوسائل.
وهدفها البعيد تحطيم روح الإسلام والقضاء علي مثله العليا في السياسة والاخلاق.
وقد نجح معاوية مع الاسف الشديد فيما كان يتوق الي التوصل إليه، فاستولي علي خلافة المسلمين، وسار بها وفق أهوائه ومصالحه، وخلف للمسلمين والعرب هذا التراث الاجتماعي البغيض وهذه العصبية الطائفية والقبلية المجرمة التي نكتوي بنارها في الوقت الحاضر.
وإلي القاريء نماذج اخري من تصرفات ابن ابي سفيان، سقناها لغرض موازنتها بتصرفات ابن ابي طالب، ليري القاريء الفرق الكبير بين الرجلين، ومدي التدهور الذي اصاب نظام الحكم في الإسلام، وقديماً قيل: وبضدها تتميز الاشياء.
[صفحه 199]

ماساة حجر بن عدي

ذكر ابن الأثير [315] قصة حجر واتباعه فقال: «دخلت سنة إحدي وخمسين وفيها قتل حجر بن عدي واصحابه وسبب ذلك ان معاوية استعمل المغيرة بن شعبة علي الكوفة سنة احدي واربعين. فلما امره عليها دعاه وقال:
قد اردت ايصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتماداً علي بصرك، ولست تاركاً ايصاءك بخصلة: لاتترك شتم علي وذمه، والترحم علي عثمان، والعيب لاصحاب علي، والإفصاء لهم، والإطراء بشيعة عثمان، والإدناء لهم.
فأخذ المغيرة يشتم علياً.. فإذا سمع ذلك حجر بن عدي قال:
بل إياكم ذم الله ولعن. أنا أشهد ان من تذمون احق بالفضل.
وقد حبس المغيرة أرزاق حجر واصحابه. فكان حجر يناديه بقوله:
مر لنا ايها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا وليس ذلك لك.
ثم توفي المغيرة وولي زياد فاستمر علي الفعل نفسه.
وجمع زياد من أصحاب عدي اثنا عشر رجلا في السجن واحضر شهوداً وقال: إني لأحب ان يكون الشهود أكثر من اربعة، فدعا الناس ليشهدوا فشهد جمع كبير منهم: اسحق، وموسي، ابنا طلحة بن عبيد الله، والمنذر بن الزبير، وعمار ابن عقبة ابن ابي معيط.
ثم دفع زياد حجر بن عدي وأصحابه الي وائل بن حجر الحضرمي وكثير ابن شهاب وامرهما ان يسيرا بهم الي الشام فخرجوا عشية فلما بلغوا الغريين لحقهم شريح بن هاني واعطي وائلا كتابا فقال: ابلغه امير المؤمنين فأخذه. وساروا حتي انتهوا بهم الي مرج عذراء عند دمشق وكانوا:
[صفحه 200]
حجر بن عدي الكندي، والارقم بن عبدالله الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيع العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكدام بن حسان، وعبدالرحمن العنزيان، ومحرر بن شهاب التميمي، وعبدالله بن حوية السعدي..
وأتبعهم برجلين هما: عتبة بن الاخمس بن سعد بن بكر، وسعد بن نمران الهمداني. فتموا اربعة عشر رجلا.
ودفع وائل الي معاوية كتاب شريح بن هاني. فإذا فيه: بلغني ان زياداً كتب شهادتي وان شهادتي علي حجر انه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر حرام الدم والمال».
وروي الطبري [316] مأساة ابن عدي وصحبه علي الشكل التالي:
«جاء قيس بن عباد الشيباني الي زياد فقال له: ان شخصا منا من بني همام يقال له صيفي بن فسيل من رؤوس اصحاب حجر وهو اشد الناس عليك، فبعث اليه زياد فأتي به فقال له زياد: يا عدو الله ما تقول في ابي تراب قال: ما اعرف ابا تراب.
قال: اما تعرف علي بن ابي طالب؟ قال: بلي. قال: فذاك ابو تراب.
قال: كلا ذاك ابو الحسن والحسين.
فقال له صاحب الشرطة: يقول لك الأمير هو ابو تراب؟ وتقول انت لا. قال: وإن كذبت الأمير اتريد ان اكذب واشهد له علي باطل كما شهد. قال له زياد: وهذا ايضا مع ذنبك!!! عليَّ بالعصا. فأتي بها فقال ما قولك؟
قال: احسن قول انا قائله في عبدمن عباد الله المؤمنين
[صفحه 201]
قال: اضربوا عاتقه بالعصا حتي يلتصق بالارض فضرب حتي لزم الارض.
ثم قال: اقلعوا عنه فسأله: إيه ما قولك في علي.
قال: والله لو شرحتني بالمواسي والمدي ما قلت إلا ما سمعت مني.
قال: لتلعننه او لاضربن عنقك قال: اذا تضربها والله قبل ذلك فإن ابيت الا ان نضربها رضيت بالله وشقيت انت قال: ادفعوا في رقبته.
ثم قال: اوقروه حديداً والقوه في السجن.
ويستمر الطبري علي سرد تلك المأساة فيروي لنا قصة شهادة الزور الكبري التي لفقتها حكام المسلمين آنذاك علي هؤلاء النفر من المسلمين.
«هذا ما شهد عليه ابو بردة بن ابي موسي لله رب العالمين شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة وفارق الجماعة.
وجمع اليه الجموع يدعوهم الي نكث البيعة وخلع امير المؤمنين معاوية وكفر بالله عز وجل كفرة صلعاء. فقال زياد:
علي مثل هذه الشهادة فاشهدوا، أما والله لاجدن علي قطع خيط عنق الخائن الاحمق.
فشهد رؤوس الارباع علي مثل شهادته وكانوا اربعة.
ثم إن زياداً دعا الناس فقال: اشهدوا علي مثل شهادة رؤوس الارباع.
فقرأ عليهم الكتاب فقال اول الناس عناق بن سرجيل بن ابي دهم التيمي فقال: زياد: أبدأوا بأسامي قريش ثم اكتبوا اسم عناق في الشهود ومن نعرفه ويعرفه امير المؤمنين.
فشهد إسحق بن طلحة بن عبيد الله، وموسي بن طلحة، واسماعيل بن طلحة والمنذر بن الزبير، وعمارة بن عقبة بن ابي معيط، وعبدالرحمن بن هناد، وعمر ابن سعد بن ابي وقاص، وعامر بن مسعود بن امية، ومحرز بن ربيعة بن عبدالعزي
[صفحه 202]
ابن عبدشمس، وعبيد الله بن مسلم بن شعبة الحضرمي، وعناق بن شرجيل بن ابي دهم ووائل بن حجر الحضرمي، وكثير بن شهاب ابن حصين الحارثي وقطن ابن عبدالله بن حصين والسري بن وقاص الحارثي.
وكتبت شهادته وهو غائب في عمله والسائب بن الاقرع الثقفي وشبث ابن ربعي وعبدالله بن ابي عقيل الثقفي، ومصقلة بن هبيرة الشيباني والقعقاع بن شور الدهلي، وشداد بن المنذر بن الحارث بن وغلة الذهلي.. وحجار بن ابجر العجلي، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، ولبيد بن عطارد التميمي، ومحمد بن عمير ابن عطارد التميمي، وسويد بن عبدالرحمن التميمي واسماء بن خارجة القزاري، وشمر بن ذي الجوشن العامري وشداد ومروان ابنا الهيثم الهلاليان، ومحصن ابن ثعلبة بن عائدة القرشي، والهيتم بن الاسود النخعي وكان يعتذر اليهم وعبدالرحمن بن قيس الاسدي، والحارث وشداد ابنا الازمع الهمدانيان وكريب بن سلمة بن يزيد الجعفي، وعبدالرحمن بن ابي سبرة الجعفي، وزحر بن قيس الجعفي، وقدامة بن العجلان الازدي، وعزرة بن عزة الاحمس.
وكتبت شهادة هؤلاء الشهود في صحيفة ثم دفعها زياد الي وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب الحارثي، وبعثهما عليهم، وامرهما ان يخرجا بهم.
وكتب في الشهود شريح بن الحارث القاضي وشريح بن هاني الحارثي.
فأما شريح القاضي فقال:
سألني عن حجر فأخبرته أنه كان صواماً قواماً.
وأما شريح بن هاني الحارثي فكان يقول:
ما شهدت ولقد بلغني ان قد كتبت شهادتي فأكذبته ولمته.. فمضوا بهم حتي انتهوا الي الغريين فلحقهم شريح بن هاني معه كتاب.
فقال لكثير: بلغ كتابي هذا أمير المؤمنين.
[صفحه 203]
ودفع وائل بن حجر كتاب شريح بن هاني فقرأه فإذا به: أما بعد فإنه بلغني أن زياداً كتب اليك بشهادتي علي حجر بن عدي وان شهادتي علي حجر انه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر حرام الدم والمال».
وأما من قتل من أصحاب حجر فهم كما يقول الطبري:
«حجر بن عدي وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة ابن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب السعدي ثم المنقري، وكدام بن حيان العنزي وعبدالرحمن بن حسان العنزي الذي رد الي زياد فدفن حياً» [317].
وقد رثت هند بنت زيد بن مخرمة الانصارية حجراً:
ترفع أيها القمر المنير
تبصر هل تري حجراً يسير
يسير الي معاوية بن حرب
ليقتله كما زعم الأمير
ألا يا حجر حجر بن عدي
توقتك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أرضي عديا
وشيخاً في دمشق له زئير
يري قتل الخيار عليه حقاً
له من شر أمته وزير
وهكذا انتهت، علي ما يقول الدكتور طه حسين [318]:
«هذه المأساة المنكرة التي استباح فيها أمير من أمراء المسلمين ان يعاقب الناس علي معارضة لا إثم فيها، وأن يكره وجوه الناس واشرافهم علي ان يشهدوا عليهم زوراً وبهتاناً، وان يكتب شهادة القاضي علي غير علم منه ولا رضا …
استباح أمير من امراء المسلمين لنفسه هذا الإثم، واستحل هذه البدع واستباح إمام من ائمة المسلمين ان يقضي بالموت علي نفر من الذين عصم الله دماءهم، دون ان يراهم او يسمع لهم او يأذن لهم في الدفاع عن انفسهم».
[صفحه 204]

نماذج أخري من غدر معاوية

لقد مر بنا الإلماع الي بعض حوادث غدر معاوية بخصومه، وبخاصة تدبيره مؤامرة قتل الاشتر في طريقه الي مصر. ولعل ابرز تلك الحوادث:
غدره بالحسن بن علي بعد الصلح المعروف الذي عقد بين الطرفين.
ولم يكتف معاوية بالنكث بذلك العهد، وإنما ذهب إلي تدبير مؤامرة قتل الحسن.
قال المسعودي [319] «وذكر أن امرأة الحسن جعدة بنت الاشعث بن قيس الكندي سقته السم، وقد كان معاوية دس لها».
وذكر المسعودي كذلك [320] «أن عبدالله بن العباس وفد علي معاوية فقال: والله إني لفي المسجد اذ كبر معاوية في الخضراء فكبر أهل الخضراء.. فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبدالمناف وهي زوج معاوية بن ابي سفيان من خوخة لها فقالت:
سرك الله يا أمير المؤمنين ماهذا الذي بلغك فسررت به؟ قال موت الحسن» وفعل معاوية شيء مشابه لما ذكرناه في قضية تدبيره مؤامرة قتل عبدالرحمن ابن خالد بن الوليد.
[صفحه 205]

الحاقه زياد بن أبية بأبي سفيان

ذكر المسعودي [321]: «ولما هم معاوية بإلحاق زياد بأبي سفيان أبيه وذلك في سنة أربعين شهد عنده زياد بن اسماء الحرمازني، ومالك بن ربيعة السلوي، والمنذر بن الزبير بن العوام ان ابا سفيان اخبر أنه ابنه … ثم زاده يقيناً إلي ذلك شهادة ابي مريم السلولي.
وكان أخبر الناس ببدء الامر، وذلك انه جمع بين ابي سفيان وسمية ام زياد في الجاهلية علي زني، وكانت سمية من ذوات الرايات بالطائف تؤدي الضريبة الي الحرث بن كلدة وكانت تنزل في الموضع الذي تنزل فيه البغايا بالطائف وخارجاً عن الحضر في محلة يقال لها حارة البغايا … »
ثم ذكر المسعودي نص شهادة الاستلحاق: «قال ابو مريم السلولي:
أشهد ان أبا سفيان قدم علينا بالطائف. وانا خمار في الجاهلية فقال: ابغني بغياً فأتيته وقلت لم اجد الا جارية الحارث بن كلدة سمية.
فقال: ائتني بها علي ذفرها وقذرها.
فقام يونس بن عبيد اخو صفية مولاة سمية.
فقال: يا معاوية قضي الله ورسوله ان الولد للفراش وللعاهر الحجر وقضيت ان الولد للعاهر.. مخالفة لكتاب الله». ويستطرد المسعودي في ذكر هذه القصة الطريفة فيروي ما قاله عبدالرحمن بن ام الحكم في ذلك من شعر:
ألا أبلغ معاوية بن حرب
مغلغلة عن الرجل اليماني
أتغضب ان يقال: ابوك عف
وترضي ان يقال: أبوك زاني
[صفحه 206]
فأشهد أن رحمك من زياد
كرحم الفيل من ولد الأتان
وفي زياد وإخوته يقول خالد البخاري:
إن زياداً ونافعاً وأبا
بكرة عندي أعجب العجب!!
إن رجالا ثلاثة خلقوا
من رحم أنثي مخالفي النسب
ذا قرشي فيما يقول: وذا
مولي وذا ابن عمه عربي
ويروي ابن ابي الحديد [322] ظروف قصة الاستلحاق علي الوجه التالي: «فلما ورد الكتاب علي زياد قام فخطب الناس وقال: العجب من ابن آكلة الاكباد ورأس النفاق يهددني، ثم كتب الي علي وبعث بكتاب معاوية في كتابه.. وكتب له الإمام:
إن معاوية كالشيطان الرجيم يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذره ثم احذره … فلما قتل علي بقي زياد في عمله وخاف معاوية جانبه وعلم صعوبة ناحيته وأشفق من ممالأته الحسن … فكتب إليه …
أما بعد: فإنك عبدقد كفرت النعمة واستدعيت النقمة … لا أم لك، بل لا أب لك.
يا ابن سمية إذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة وأسرع الإجابة.. وإلا اختطفتك بأضعف ريش ونلتك بأهون سعي. وأقسم قسماً مبرراً ان لا اوتي بك إلا في زمارة، تمشي حافيا من أرض فارس الي الشام حتي اقيمك في السوق وابيعك عبداً واردك الي حيث كنت فيه وخرجت منه …
فلما ورد الكتاب علي زياد غضب غضباً شديداً وجمع الناس وصعد المنبر.
وقال: إن ابن آكلة الأكباد وقاتلة اسد الله، ومظهر الخلاف، وسر النفاق، ورئيس الاحزاب.
ومن أنفق ماله في إطفاء نور الله، كتب الي يرعد ويبرق عن سحابة جفل لا ماء فيها.
[صفحه 207]
ثم نزل، وكتب إلي معاوية.. لقد وصل الي كتابك.. فوجدتك كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب ويتعلق بأرجل الضفادع.. ولولا حلم ينهاني عنك.. لانرت لك مخازي لايغسلها الماء.. وإن كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة.
أما زعمك أنك تخطفني بأضعف ريش، فهل سمعت بذئب أكله خروف.
فلما ورد كتاب زياد علي معاوية غمه واحزنه وبعث الي المغيرة بن شعبه فخلا به.
قال المغيرة.. إن زياداً رجل يحب الشرف والذكر وصعود المنابر، فلو لاطفته المسألة، وألنت له الكتاب، لكان لك أميل وبك وأوثق، فاكتب اليه وأنا الرسول.
فكتب معاوية.. الي زياد بن ابي سفيان.. حملك سوء ظنك بي وبغضك لي علي ان عققت قرابتي وقطعت رحمي.. حتي كأنك لست أخي وليس صخر بن حرب أباك وابي. وشتان ما بيني وبينك. أطلب بدم ابن العاص وأنت تقاتلني.
فرحل المغيرة بالكتاب حتي قدم فارس فلما رآه زياد قدمه وأدناه ولطف به فرفع اليه الكتاب. فجعل يتأمله ويضحك.
ثم جمع الناس.. وصعد المنبر.. وقال: لقد نظرت في امور الناس منذ قتل عثمان.. فوجدتهم كالاضاحي في كل عيد يذبحون.
وكتب كتاب الجواب الي معاوية:
الحمد لله الذي عرفك الحق وردك الي الصلة. ولست ممن يجهل معروفاً ولا يغفل حسباً..
وروي المدائني قال: لم اراد معاوية استلحاق زياد وقد قدم عليه من الشام جمع من الناس وصعد المنبر واصعد زياداً معه.
ثم قال: إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد، فمن كان عنده شهادة فليقم بها.. فقام ابو مريم السلولي وكان خماراً في الجاهلية فقال:
إن أبا سفيان قدم علينا بالطائف، فأتاني فاشتريت له لحماً وخمراً وطعاماً،
[صفحه 208]
فلما أكل قال: يا أبا مريم اصب لي بغياً. فخرجت فأتيت بسمية.. تجر ذيلها فدخلت معه.
وروي شيخنا ابو عثمان: أن زياداً مر وهو والي البصرة بأبي العريان العدوي وكان شيخاً مكفوفاً ذا لسن وعارضة شديدة. فقال ابو العريان ماهذه الجلبة؟ قالوا:، زياد ابن ابي سفيان. قال: والله ماترك ابو سفيان الا يزيد ومعاوية وعتبة وعنبسة وحنظلة ومحمداً، فمن أين جاء زياد: فبلغ الكلام زياداً.
وقال قائل له: لو سددت عنك فم هذا الكلب فأرسل إليه بمائتي دينار! فقال له رسول زياد: إن ابن عمك زياداً الامير قد ارسل إليك مائتي دينار.. ثم مر به زياد من الغد في موكبه. فوقف عليه وسلم. وبكي ابو العريان. فقال مايبكيك؟ قال: عرفت صوت ابي سفيان في صوت زياد. فبلغ ذلك معاوية فكتب الي ابي العريان:
ما ألبثتك الدنانير التي بعثت
أن لونتك أبا العريان ألوانا
أمسي إليك زياد في أرومته
نكراً فأصبح ما أنكرت عرفانا
لله در زياد لو تعجلها
كانت له دون ما يخشاه قربانا
فلما قريء كتاب معاوية علي ابي العريان قال: أكتب جوابه ياغلام:
أحدث لنا صلة تحيا النفوس بها
قد كدت يا ابن أبي سفيان تنسانا
أما زياد فقد صحت مناسبه
عندي فلا أبتغي في الحق بهتانا
من يسد خيراً يصبه حين يفعله
أو يسد شراً يصبه حيثما كان [323].
وقد تم ذلك سنة 56 ه أي قبل ان ينتصف القرن [الاول] علي وفاة النبي ورحم الله الحسن البصري فقد كان يقول فيما يروي الطبري: «أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه علي هذه الامة بالسفهاء حتي ابتزها امرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة؛
[صفحه 209]
واستخلافه ابنه بعده سكيراً وخميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله:
الولد للفراش وللعاهر الحجر؛ وقتله حجر بن عدي» [324].

اقواله المأثورة

1- ذكر أبن الأثير [325]:
لما مرض معاوية مرضه الذي مات فيه دعا ابنه يزيد فقال: يابني إني كفيتك الشد والترحال، ووطأت لك الامور، وذللت لك الاعداء، واخضعت لك رقاب العرب، وجمعت لك مالم يجمعه أحد.
وإني لست أخاف عليك ان ينازعك في هذا الامر الا اربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، وعبدالرحمن بن ابي بكر.
فأما ابن عمر فإنه رجل قد وقدته العبادة. فإذا لم يبق أحد غيره بايعك.
وأما الحسين بن علي فإنه رجل خفيف ولن يتركه أهل العراق حتي يخرجوه..
وأما ابن أبي بكر فإنه رأي أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله، وليس همه الا في النساء واللهو.
وأما الذي يجثم لك جثوم الاسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإن امكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير.
فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطعه إرباً إرباً» [326].
[صفحه 210]
2 قال معاوية لما حضرته الوفاة: إن رسول الله كساني قميصاً فحفظته، وقلم أظفاره فأخذت قلامة فجعلتها في قارورة. فإذا مت فألبسوني ذلك القميص واسحقوا تلك القلامة وذروها في عيني وفمي فعسي الله ان يرحمني ببركتها [327].
3 ذكر الطبري بأسانيده المختلفة عن أبي مسعدة الفزاري قال:
قال لي معاوية: يا ابن مسعدة رحم الله ابا بكر لم يرد الدنيا ولم ترده.
وأما ابن حنتمة اي عمر فأرادته الدنيا ولم يردها.
وأما عثمان فأصاب من الدنيا واصابت منه، وأما نحن فتمرغنا فيها [328].
4 أغلظ رجل لمعاوية فأكثر، فقيل له: أتحلم عن هذا؟
فقال: إني لا احول بين الناس والسنتهم مالم يحولوا بيننا وبين ملكنا [329].
5 لام معاوية [330] عبدالله بن جعفر علي الغناء [331] فدخل يوما ومعه بديح ومعاوية واضع رجلا علي رجل، فقال عبدالله لبديح إيهاً! فتغني فحرك معاوية رجليه وقال: إن الكريم طروب.
6 قام معاوية خطيباً بعد أن دس السم للأشتر فقال:
[صفحه 211]
أما بعد فإنه كانت لعلي يمينان فقطعت إحداهما بصفين وقطعت الاخري اليوم [332].
7 سأل معاوية عمرو بن العاص: مابلغ من عقلك؟ قال: مادخلت في شيء قط الا خرجت منه، قال معاوية: لكنني مادخلت في شيء قط واردت الخروج منه [333].
8 لو ان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت:
إذا شدوها أرخيتها وإذا أرخوها شددتها [334].
9 جاء في الطبري ان معاوية كان يأكل في اليوم سبع مرات ويقول: والله ما اشبع وإنما اعيا [335].
10 روي الوافدي ان عمرو بن العاص دخل يوما علي معاوية بعد ما كبر.
فقال له: ما بقي مما تستلذه؟ فقال: أما النساء فلا إرب لي فيهن.
وأما الثياب فقد لبست من لينها وجيدها حتي وهي بها جلدي، فما ادري ايها الين.
وأما الطعام فقد اكلت من لذيذه وطيبه حتي ما ادري ايه الذ واطيب.
فما شيء الذ عندي من شراب بارد في يوم صائف ومن ان انظر الي بنيّ وبني بنيّ يدورن حولي [336].
[صفحه 212]

معاوية في الميزان

كل شيء في الحياة الانسانية هين اذا هان الخلل في موازين الانسانية. وانها لاهون من ذلك اذا جاوز الامر الخلل الي انعكاس الاحكام وانقلابها من النقيض الي النقيض. فمن الناس من يحب ان تتغلب المنفعة علي الحقيقة او علي الفضيلة … لانه يرجع الي طبيعته فيشعر بحقارتها اذا غلبت مقاييس الفضائل المنزهة والحقائق الصريحة، ولانه يكره ان يدان الناس او تقاس الاعمال بمقاييس المثل العليا فيلوم نفسه ولايقدر علي التماس المعذرة لها في نقيصتها او في طبيعتها التي لافكاك منها.
وليس ابغض الي الإنسان من احتقاره لنفسه؛ وليس احب اليه من اعتذاره لها عن حقيقتها. إنه يتعصب في كل شعور يدفع به النقص ويمهد به العذر وينفي به الاضطرار الي الاقرار بسبق السابقين له، وارتفاع المرتفعين عليه.
وإنه ليعترف بالجهل اذا استطاع ان يدعي لنفسه تعلة يسمو بها علي اهل المعرفة.
وإنه ليعترف بالعجز اذا استطاع ان ينزل بالقادرين الي «مستواه» بخديعة من خداع النفس.
وإنه ليعترف بالرذيلة اذا استطاع ان يلوث الفضيلة التي يمتاز بها عليه ذوو الفضائل البينة … ويكفي ان ينسب الي العظيم المثالي عمل من الاعمال التي لايقدر عليها النهاز ولايسعي اليها ليشعر النهاز بالاختلاف والجفوة بينه وبين ذلك العمل العظيم المثالي … ويضطره الي ذلك وقوفه بين طريقين:
أحدهما غريب يصغره في نظر نفسه، والآخر مألوف يطرقه كل يوم.
واذا لم يرجح من اخبار فترة النزاع بين علي ومعاوية بعد مقتل عثمان الا الخبر الراجح
[صفحه 213]
عن لعن علي علي المنابر بأمر معاوية لكان فيه الكفاية لإثبات ما عداه مما يتم به الترجيح بين كفتي الميزان.
فإن الذي يعلن لعن خصمه علي منابر المساجد لا يكف عن كسب الحمد لنفسه في كل مكان وبكل لسان، ولو لم يرد من اخبار تلك الفترة الا ان معاوية كان يغدق الاموال علي الاعوان ومن يرجي منهم العون لكان لعن خصمه علي المنابر كافيا للإبانة عما صنعه لكسب الثناء عليه وإسكات القادحين فيه.
ولكن اخبار الاموال المبذولة لتغيير الحقائق في هذه الفترة تفيض بها كتب المادحين والقادحين ومن لايمدحون ولايقدحون.
جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي عن الإمام احمد بن حنبل أنه سأل أباه عن علي ومعاوية؟ فقال:
اعلم ان علياً كان كثير الاعداء، ففتش له اعداؤه عيباً فلم يجدوا، فجاءوا الي رجل قد حاربه وقاتله فأطروه كياداً منهم له [337].
وقتل عثمان فانقسمت الرقعة الإسلامية قسمين: أحدهما لا خلاف فيه وهو الشام حصة معاوية، والآخر لا وفاق فيه وهو حصة عليّ من الحجاز والعراق، وقد تدخل مصر فيها حيناً وتخرج منها اكثر الاحايين..
فكانت أعباء الخلافة كلها علي علي، وكانت احوال الملك كلها مع معاوية، مواتية له، محيطة به فيما يريد.. وفيما لا يريد.
كان الناس مع علي ينظرون الي سنة الرسول.
وكان الناس مع معاوية ينظرون الي هرقل وكسري …
[صفحه 214]
فكان المجتمع الإسلامي مجتمعين.. افترقا غاية افتراقهما في النزاع بين علي ومعاوية.
فكان علي يكبح تياراً جارفا لا حيلة في السير معه ولا في دفعه.
وكان معاوية يركب ذلك التيار رخاء سخاهم بغير مدافعة وبغير حيرة …
وسبب آخر من اسباب الولع بالحديث عن الدهاء انه اصبح كفؤاً للشجاعة او راجحاً عليها في موازين الصفات الاجتماعية.
فإذا عيب رجل من رجالهم بقلة الشجاعة وجد العزاء وفوق العزاء بشهرة الدهاء.
فالدهاء عندهم مزية وضرورة وعزاء وغطاء للخوف والجبن..
لقد كانوا يطلقون الدهاء علي كل وسيلة غير صريحة يبلغ بها صاحبها مأربه.
وأبرع ما برع فيه معاوية من ألوان الدهاء إلقاء الشبهة بين خصومه.
وقد احتال بمثل هذه الحيلة علي قيس بن سعد حتي اوقع الريبة منه في نفس الإمام.
وحيلة أخري لانجزم بها ولكننا نشير اليها في مكانها مما رواه الرواة عن الوسائل الخفية التي توسل بها معاوية للغلبة علي خصومه ومنافسيه..
ومات الحسن، ومات مالك بن الأشتر.. ومات عبدالرحمن بن خالد بن الوليد وعوجلوا جميعاً بغير علة ظاهرة فسبق الي الناس ظن كاليقين انها غيلة مدبرة، وان صاحبها من كان له نفع عاجل بتدبيرها، وهو: معاوية.
لقد علم المراقبون لطبائع الحيوان ان المطاردة عنده تقوم علي حركات متتابعة ولا تقوم علي حركة واحدة.
فإذا لمح الحيوان من خصمه انه يجفل منه أخذ في الهجوم.
وإذا عدا خصمه امامه اخذ في العدو وراءه.
وإذا ادركه ولم يجد منه مقاومة تمادي في صرعه وافتراسه.
وقد دخل حجر بن عدي علي معاوية ومعاوية ينتظر منه صدمة يتبعها حذر
[صفحه 215]
لواجب الحلم والأناة، فلما دخل حجر محيياً له بالإمارة وزال الحاجز الاول زالت معه الحواجز الاخريات، ولم يعلم الرجل اين يكون الوقوف. ونظن ان هذه الخليقة قد اوشكت ان تبرز في طوية معاوية من وعيه الباطن الي وعيه الظاهر.
وقد صبر معاوية علي الوان من الخضوع في طلب وجاهته السياسية لا يصبر عليها كثير من عامة الناس … واحتاج ان يقول مرة كما جاء في الطبري مستنداً الي سعيد بن سويد: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا … ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم.
ثم نشبت الفتنة الوبيلة في خلافة عثمان، ومعاوية بمعزل منها.
وقتل عثمان فاتخذ مقتله ذريعة للخروج علي الإمام وإنكار بيعته.
وأسرف كل الإسراف في التذرع بهذه الذريعة قبل استقلاله بالخلافة.
فما كان له من مسوغ يتعلل به غير مقتل عثمان يردده في كل حديث وفي كل خطاب وفي كل جواب. وعلي قدر اللهج بهذه الفاجعة قبل استقلاله بالخلافة سكت عنها واغفلها بعد ذلك فلم يعد إليها قط لا ليعتذر الي قرابة الخليفة المقتول من سكوته وإغفاله.
وكان معاوية عظيم العناية بأطايب الخوان، كثير الزهو بالثياب الفاخرة والحلية الغالية، وكان يأكل ويشرب في آنية الذهب والصحاف المرصعة بالجوهر ويأنس للسماع واللهو ولا يكتم طربه بين خاصة صحبه.
وقد ألجأته الحاجة الي إنفاق المال في أبهة الملك والإغداق علي الاعوان والخدم الي ارهاق الرعية بالضرائب ومخالفة العهود مع اصحاب الجزية.
فكان من الولاة من نطيعه ومنهم من يحيبه معترضاً.
ومن الولاة الذين انكروا ان تستصفي الاموال لبيت مال الخليفة: والي خراسان الذي كتب اليه زياد يأمره الا بقسم في الناس ذهباً ولا فضة، فكتب الوالي الي زياد:
بلغني ماذكرت من كتاب امير المؤمنين وإني وجدت كتاب الله تعالي قبل كتاب
[صفحه 216]
كتاب أمير المؤمنين.. وليس أضل ضلاله ولا اجهل جهلاً من المؤرخين الذين سموا سنة إحدي وأربعين هجرية بعام الجماعة لانها السنة التي استأثر فيها معاوية بالخلافة.
فلم يشاركه أحد فيها لان صدر الإسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الامة كما تفرقت في تلك السنة، ووقع فيها الشتات بين كل فئة من فئاتها كما وقع فيها.
إذ كانت خطة معاوية في الأمن والتأمين قائمة علي فكرة واحدة وهي التفرقة بين الجميع.
ولم يقصر هذه الخطة علي ضرب خصومه ببعضهم.. كضرب الشيعة بالخوارج. والعرب بالموالي.. واليمانية بالقيسية.. بل كان يفعل ذلك في صميم البيت الاموي من غير السفيانيين.
وواضح من هذه التفرقة انه كان يكف يده عن البطش والنكاية في معاملتهم جميعا.. لانه كان يغري بعضهم ببعض فيستغني بالوقيعة بينهم عن الإيقاع بهم، ولكنه علي هذا كله كان يؤيد سياسة الإيقاع مهما يكن من قسوتها.
وكان يختار لها من الولاة من يعلم انه يفرط فيها ولا يقتصد في شرورها وبقاتها.
ولا يبالي ان يأخذ البريء يذنب الاثيم ولا ان ينكل بالقريب قصاصاً من البعيد
وخرج معاوية من الملك بالأيام التي قضاها في نعمته وثرائه ولانقول في صولته وعزه فقد كان يذل لكل ذي بيعة منشودة ذلا لم يصبر من بايعوه علي مثله. أما تبعته العامة في امر الملك فأمر جسيم لا تعد له جسامة عمل في عصره لانه نكص بالملك خطوات … ولو انه أنشأ هذا الملك والناس لا يعرفون غيره لخف نصيبه من اللوم … غير ان الناس عرفوا في زمانه فارقا شاسعا بين ولي الامر الذي يتخذ الحكم خدمة للرعية … وبين الحكم الذي يجري علي سنة المساومة ويملي لصاحبه في البذخ والمتعة ويجعله قدوة لمن يقتدون به في السرف والمغالاة بصغائر الحياة.
[صفحه 217]

ما ينطبق علي تصرفاته من القرآن

سورة آل عمران: «إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم. أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين 3: 21، 22»
سورة يونس: «إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون 10: 7، 8»

پاورقي

[1] انظر المستدرك علي الصحيحين 3 / 109، مسند الامام احمد 4 / 281، الطبعة الاولي خصائص الامام علي للحافظ النسائي ص 21 طبعة مصر تفسير الفخر الرازي 13 / 48 49، اسباب النزول للواحدي 135 طبعة مؤسسة الحلبي حياة محمد للأستاذ محمد حسين هيكل الطبعة الاولي ص 104 جريدة السياسة المصرية ملحق عدد 2751.
[2] يدنف: اي يجهز عليه بالقال.
[3] معاوية ومن هم علي شاكلته، ومن المحزن حقا ان يتخذ بعض الناس من هؤلاء ابطالا يدرسون سيرتهم للناشئة في الوقت الذي يريدون من تلك الناشئة ان تتحلي بمكارم الاخلاق التي جاء بها الدين الحنيف، فالاستقامة التي يدعو اليها الدين، والغدر الذي سار عليه معاوية ضدان لايجتمعان.
[4] لامجال للتفكيك بين الاسلام وعلي عليه السلام «الناشر».
[5] انظر صحيح مسلم ج 1 ص 42.
[6] عبدالحسين احمد الاميني النجفي «الغدير في الكتاب والسنة والادب» الطبعة الاولي مطبعة الغري في النجف؛ 1945 م، ص 8 11.
[7] المائدة: الاية 67.
[8] انظر «عبقات الانوار» مجلد حديث الولاية.
[9] المائدة: الاية 3.
[10] ما بين المعقوفين سقط من الاصل. (الناشر).
[11] الخطط 1/ 288 389.
[12] وفي نسخة: مولاي ومولي.. الخ. (الناشر).
[13] يراجع: سيرة ابن هشام، والسيرة الحلبية، والبخاري، وعيد الهجرة: في ربيع الاول.
[14] السقيفة اسم لايوان كبير كانت تجتمع فيه العرب في الجاهلية للمشورة والمداولة بالامور الباطلة، ومجازا يطلق علي الكلام التافه، انظر غياث اللغات طبعة الهند، مادة «سقف» (الناشر).
[15] عبدالفتاح عبدالمقصود الامام علي بن ابي طالب لجنة النشر للجامعين بالقاهرة 1953 م، ج 5 ص 104.
[16] راجع الغدير للشيخ الاميني صدر منه 11 جزءاً طبع في العراق وايران ولبنان.
[17] ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة 1 / 3 الطبعة الاولي.
[18] شرح النهج 2 / 572 الطبعة الاولي طبعة مصر. (الناشر).
[19] الكامل في التاريخ: 2 / 217.
[20] قضية ايتوني بدواة وبيضاء: ان النبي صلي الله عليه وآله وسلم علم وهو في مرض موته ما حدث في المجتمع الاسلامي من تطورات ووقوع احداث يخشي علي الاسلام منها فقد كثرت القالة حول الخلافة من بعده من تنفيذ امره «بغدير خم» او يعود الامير للمجتمع في الاغلبية الساحقة التي تعارض تلك الفكرة وهل هناك مجموعة تسعي لكسب الاكثرية لاخذ الحكم وما هو موقف الانصار وكبار الصحابة من هذا الامر … الخ.
[21] صحيح البخاري 5 / 137 و 138 طبع مصر.
[22] الطبقات الكبري 4 / 60 61.
[23] النجم: 3 و4.
[24] كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر 2 / 297.
[25] قال ابن الاثير في النهاية 5 / 246 في مادة هجر؟ الهجر بالضم هو الخنا والقبيح من القول ومنه حديث مرض النبي صلي الله عليه وآله وسلم: ما شأنه: اهجر؟.. والقائل كان عمر. «الناشر».
[26] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 3 / 97 وذكر هذا الخبر احمد ابن ابي طاهر صاحب كتاب «تاريخ بغداد» في كتابه مسندا.
[27] ابن ابي الحديد شرح النهج 3 / 16 الطبعة المصرية الاولي.
[28] سيرة النبي محمد 1 / 276 279.
[29] الطبقات الكبري 1 / 101.
[30] الكامل في التاريخ 2 / 59 62.
[31] ابن الاثير «الكامل في التاريخ» 2 / 59 63.
[32] كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر 2 /171.
[33] يذهب الشيعة الامامية الي من عصمة النبي (ص) ذاتية «الناشر».
[34] المصدر نفسه 2 / 179 و 180.
[35] عبدالفتاح عبدالمقصود: الامام علي بن ابي طالب 1 / 70.
[36] عبقرية الامام: للعقاد ص 13.
[37] الفتنة الكبري: عثمان بن عفان ص 151.
[38] سيرة النبي محمد: لابن هشام 2 / 95.
[39] ابن خلدون: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر 2 / 187.
[40] ابن الاثير: الكامل في التاريخ 2 / 75.
[41] ابن هشام: سيرة النبي محمد 2 / 95 و 98 و 111.
[42] الطبري: «تاريخ الامم والملوك» 3 / 154 والمسعودي «مروج الذهب» 2 / 284.
[43] الطبري: «تاريخ الامم والملوك» 3 / 154.
[44] ابن الاثير: الكامل في التاريخ 2 / 25.
[45] ابن الاثير: الكامل في التاريخ 2 / 70.
[46] صحيح مسلم 2 / 323.
[47] «صحيح مسلم» 2 / 324.
[48] ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة 3 / 17 طبعة مصر الاولي.
[49] الطبقات الكبري لابن سعد 4 / 3 و4.
[50] كذا وجدناه في المطبوع.
[51] الجرف بالضم ثم السكون محل بينه وبين المدينة ثلاثة اميال من ناحية الشام، قاله: في مراصد الاطلاع طبعة عيسي الحلبي بالقاهرة 1 / 326. «الناشر».
[52] ابن الاثير «الكامل في التاريخ» 2 / 215.
[53] كتاب «العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في ايام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر» 2 / 265.
[54] هذا مخالف لرأي اكثر العامة والخاصة، لانهم ذكروا ان النبي (ص) كان يتكلم الي حين وفاته. «الناشر».
[55] ابن الاثير، المصدر نفسه.
[56] راجع تعليقنا علي هامش الصفحة المتقدمة من ان النبي (ص) لم يكن ليفقد قدرته علي الكلام. «الناشر».
[57] الدكتور طه حسين: «الفتنة الكبري، عثمان بن عفان» 152 و 153.
[58] الاصابة في تمييز الصحابة 2 / 501 و 502.
[59] الاحزاب: 33.
[60] حديث سد الابواب الا باب علي. ذكره السمهودي في وفاء الوفاء. «الناشر».
[61] آل عمران: 61.
[62] ابوبكر لم يكن من المفجوعين بوفاة النبي (ص) ليساعد الامام علي في اعداد جثمان الرسول في مثواه الاخير وانما دخل دار الرسول (ص) ليتطلع الاخبار ويدبر امر الخلافة راجع كتابنا مع رجال الفكر في القاهرة.
[63] السنح بالضم، ثم السكون، وآخره حاء مهملة احدي محال المدينة. كان بها منزل ابي بكر، وهي منازل بني الحارث بن الخزرج، بقوا الي المدينة. 1 ه «مراصد الاطلاع» لابن عبدالحق البغدادي 2 / 745 طبعة عيسي الحلبي بالقاهرة. «الناشر».
[64] هذه الخلاصة موجودة في امهات كتب التاريخ الاسلامي، وهي هنا ملخصة عن الطبري: تاريخ الامم والملوك.
[65] عبدالفتاح عبدالمقصود (الامام علي بن ابي طالب) 1 / 149.
[66] عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 1 / 184.
[67] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 3 / 283 طبعة اولي.
[68] عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 1 / 184.
[69] كناية عن ابي بكر بن ابي قحافة.
[70] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 4 / 164: 165 الطبعة الاولي بمصر.
[71] عبدالفتاح عبدالمقصود: الامام علي بن ابي طالب 1 / 216.
[72] الحشر: 6.
[73] ابن ابي الحديد: «شرح نهج البلاغة» 4 / 78 الطبعة الاولي بمصر.
[74] فتوح البلدان ص 46 و 47.
[75] وقد امتعضت السيدة فاطمة من موقفه، ولم تكلمه الي ان توفيت بعد وفاة ابيها باثنتين وسبعين ليلة وذكر البخاري في الصحيح ان النبي صلي الله عليه وسلم قال: فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها. «الناشر».
[76] النساء 11.
[77] النمل 16.
[78] مريم 5 و 6.
[79] شرح نهج البلاغة 4 / 78 103.
[80] عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 1 / 216.
[81] انظر: الاحزاب 33.
[82] البقرة 282.
[83] صحيح البخاري 3 / 180.
[84] اخرجه البخاري في صحيحه. «الناشر».
[85] الكامل في التاريخ 2 / 93 95.
[86] وامه هالة بنت خويلد اخت خديجة زوج رسول الله، فسألته ان يزوجه زينب ففعل قبل ان يوحي اليه، فلما اوحي اليه آمنت به زينب وبقي ابوالعاص مشركا، ولم يستطع الرسول في باديء الامر ان يفعل شيئا تجاه زينب المسلمة او زوجها المشرك، فلما هاجر الي المدينة ووقعت بدر واسر ابوالعاص واطلق سراحه كما ذكرنا اخبر النبي بأنه سوف يرسل اليه زينب الي المدينة، فأرسل الرسول زيد بن حارثة مولاه ورجلا آخر من الانصار ليصحبا زينب من مكة. فلما قدم ابوالعاص امرها باللحاق بالنبي ففعلت ذلك. المؤلف .
[87] شظاظ، علي وزن كتاب، وهو خشبة عقفاء تجعل في عروتي الجولقين.
[88] تقمصها، جعلها كالقميص مشتملة عليه، والضمير للخلافة، ولم يذكرها للعلم بها … فسدلت: ارخيت … ومضي لسبيله: مات … وقوله فأدلي بها من قوله تعالي «ولاتأكلوا اموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الي الحكام البقرة 188» اي تدفعوها اليهم رشوة. واصلها من ادلت الدلو في البئر ارسلتها … كان علي يري العدول عنه الي غيره اخراج لها الي غير جهة الاستحقاق … من باب الاستعارة. ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 1 / 50 67، الطبعة الاولي.
[89] عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 1 / 239.
[90] عبدالفتاح عبدالمقصود: الامام علي بن ابي طالب 1 / 240.
[91] عبدالفتاح عبدالمقصود 1 / 238.
[92] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 1 / 50 67 الطبعة الاولي.
[93] الكامل في التاريخ 3 / 34.
[94] والي القاريء ما ذكره ابن خلدون في مسألة مصرع الخليفة الثاني «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر 2 / 362» «كان للمغيرة بن شعبة مولي من نصاري العجم اسمه ابولؤلؤه، وكان يشدد عليه في الخراج، فلقي يوما عمر في السوق فشكا اليه وقال: اعدني علي المغيرة، فانه يثقل عليّ في الخراج درهمين في كل يوم، قال: وما صناعتك؟ قال: نجار، حداد، نقاش، فقال: ليس ذلك بالكثير علي هذه الصنائع.. وقد بلغني انك تقول: اصنع رحي تطحن بالريح، فاصنع لي رحي، قال: اصنع لك رحي يتحدث الناس بها!؟ وانصرف، فقال عمر: توعدني العلج!! فلما اصبح الصباح خرج عمر الي الصلاة … ودخل ابولؤلؤة وبيده الخنجر، فضرب عمر».
[95] لان سالما قتل في اوئل خلافة ابي بكر اثناء حرب الذين اتهموا بالامتناع عن اداء الزكاة.
[96] صحيح مسلم 2 / 224.
[97] وكان غائبا عن المدينة آنذاك.
[98] تذكر ان جثمان الرسول لم يوضع في حفرته وعقد اجتماع السقيفة المشهور.
[99] تذكر شهادة عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان عند ابي بكر بشأن استخلافه عمر، وما صنعه عثمان عند كتابته عهد ابي بكر لعمر.
[100] ابن الاثير «الكامل في التاريخ» 3 / 35 و 36.
[101] وما اكثر اعطاء المواثيق في امثال هذه الامور الخطيرة لغرض الحصول علي الغاية المرجوة. ومن ثم يبدأ التسويف والمماطلة والانحراف، وما اكثر الذين يدفعهم ايمانهم الخالص الي وضع تلك المواثيق ظنا منهم انهم ما داموا لا يستطيعون ان يخرجوا علمها فان غيرهم لايستطيع ايضا ان يخرج عليها.
[102] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 1 / 50 67 الطبعة الاولي. ويظهر من كلام الامام عليه السلام ان اتفاقا سابقا كان بين ابي بكر وعمر حول تولي الخلافة «الناشر».
[103] «تاريخ الامم والملوك» 5 / 34 و 35.
[104] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 3 / 170 طبعة مصر الاولي.
[105] الاحزاب: 53.
[106] «تاريخ الامم والملوك 5 / 20 و 51 و 4 / 162 وكان ابن عوف من اكابر المترفين في الجاهلية والاسلام «وكان مترفا في طعامه ولباسه وسكنه، وقد سمح له الرسول، علي ما يذكره الرواة: ان يلبس الحرير لحكة كانت في جلده.
[107] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 3 / 170 طبعة مصر الاولي.
[108] عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 1 / 275 و 276.
[109] المصدر نفسه 1 / 123 و 124.
[110] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 3 / 172 طبعة / مصر الاولي.
[111] عبدالفتاح عبدالمقصود: «الامام علي بن ابي طالب» 2 / 9 و 10.
[112] المصدر نفسه 1 / 250 و 251.
[113] ابن ابي الحديد: «شرح نهج البلاغة» 3 / 97 طبعة مصر الاولي.
[114] ابن ابي الحديد: «شرح نهج البلاغة» 3 / 98.
[115] المصدر نفسه 3 / 98.
[116] ابن ابي الحديد: «شرح نهج البلاغة» 3 / 98 الآية: 12: الاسراء.
[117] المصدر نفسه 3 / 19.
[118] ابن الاثير «الكامل في التاريخ» 3 / 30.
[119] البلاذري: «فتوح البلدان» ص 36.
[120] المصدر نفسه ص 39.
[121] المصدر نفسه ص 47.
[122] ابن ابي الحديد: «شرح نهج البلاغة» 3 / 108 الطبعة الاولي.
[123] الكامل في التاريخ 2 / 242 و 243.
[124] البطاح كغراب وهو منزل لبني يربوع وفي «مراصد الاطلاع» طبع عيسي الحلبي بالقاهرة 1 / 203 «بطاح بالضم : ماء في ديار بني اسد بن خزيمة» 1 ه، مصححة. «الناشر».
[125] بزاخة بالضم، والخاء معجمة : قال الاصمعي: ماء لطيء، بأرض نجد. وقال ابوعمرو: لبني اسد، فيه كانت وقعة المسلمين مع طليحة في الردة قال القعقاع يذكر يوم بزاخة:
ويوما علي ماء البزاخة خالد
اثار بها في هبوة الموت عثيرا
1 ه من «مراصد الاطلاع» 1 / 192 طبعة عيسي الحلبي بالقاهرة. «الناشر».
[126] فيما يتصل بموقفهم من الذين امتنعوا عن اداء الزكاة باليسير اليهم الا في قضية مالك ابن نويرة التي لم يثبت للخليفة آنذاك امتناعه.
[127] فتوح البلدان 107 و 108.
[128] اثناء خلافته حيث انشده مرثيته المشهورة التي يقول فيها:
وكنا كندمائي جذيمة حقبة
من الدهر حتي قيل: لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا.
[129] اسعدت عيني الذاهبة: الاسعاد لايكون الا في البكاء قاله في المقاييس، مادة «سعد» 3 / 75 طبعة عيسي الحلبي بالقاهرة. «مصححه».
[130] مما لاشك فيه ان خالدا قصد بعبارة «ادفئوا اسراكم» قتلهم، لانه حبسهم «عند ضرار بن الازور … وكان كنانيا». ابن خلدون في «كتاب العبر» 2 / 278.
[131] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 4 / 184.
[132] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 4 / 184 الطبعة الاولي.
[133] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 4 / 185: الطبعة الاولي بمصر.
[134] التوبة: 103.
[135] صحيح البخاري 8 / 50 طبعة مصر.
[136] «تاريخ الامم والملوك» 3 / 124.
[137] الكامل في التاريخ 3 / 293.
[138] عبدالفتاح عبدالمقصود: «الامام علي بن ابي طالب» 1 / 28.
[139] ابن ابي الحديد: «شرح نهج البلاغة» 1 / 50 67، الخضم: اكل بكل الفم، وضده القضم وهو: أكل بأطراف الاسنان وقيل: الخضم اكل الشيء الرطب، والقضم أكل الشيء اليابس والمراد علي التفسيرين لا يختلف، وهو: انهم علي قدم عظيمة من التهم وشدة الاكل وامتلاء الافواه.
قال أبو ذر عن بني أمية: يخضمون ونقضم.
وانتكث قتله: انتقض واجهز عليه عمله: ثم قتله وكبت به بطنته، كبا الجواد: إذا سقط بوجهه، والبطنة. الاسراف في الشبع وثالث القوم عثمان … والعطفان. الجانبان من المنكب إلي الورك … والمعني. خدش جانباي، لشدة الاحتكاك منهم والازدحام … وعرف الضبع ثخين، ويضرب به المثل في الازدحام وينثالون. يتتابعون.. وكربيضة الغنم. يصف شدة ازدحامهم حوله، وجئومهم بين يديه.. فأما طائفة الناكثين. فهم أصحاب الجمل والقاسطين، أصحاب صفين. والمارقين. أصحاب النهروان.
[140] ربما ساعدتنا الظروف في المستقبل فقمنا بدراسة ذلك بشيء من التفصيل، راجع الصراع بين الامويين ومباديء الاسلام المؤلف.
[141] ابن هشام «سيرة النبي محمد» 2 / 294.
[142] علي الرغم مما بين الطرفين من عهد بعدم التعرض للحجيج او المعتمرين الا بخير.
[143] ابن هشام: سيرة النبي محمد 2 / 414، 415.
[144] ابن الاثير: الكامل في التاريخ 2 / 103.
[145] الطبري: تاريخ الامم والملوك 3 / 10، 14.
[146] ابن هشام «سيرة النبي محمد» 3 / 12 و 13.
[147] المصدر نفسه 3 / 11.
[148] المصدر نفسه 3 / 41.
[149] المصدر نفسه 3 / 21، 22.
[150] ابن هشام (سيرة النبي محمد) 3 / 159.
[151] ابن الطقطقي الفخري في «الاداب السلطانية» ص 76 و 77 لعل ابتسامة النبي تشير الي حادثة الزني التي رمي بها الفاكهة بن المغيرة زوجه هند، فطلقها فتزوجها ابوسفيان.
[152] الطبري «تاريخ الامم والملوك» 3 / 28 و 29.
[153] ابن الاثير «الكامل في التاريخ» 2 / 98.
[154] ابن هشام: «سيرة النبي محمد» 1 / 320.
[155] المصدر نفسه 1 / 357 360.
[156] المصدر نفسه 1 / 376 378.
[157] امتشقته: اقتطعته، صحاح اللغة مادة «مشق».
[158] ابن خلدون «كتاب العبر» … الخ 2 / 234.
[159] سيرة النبي محمد 4 / 33.
[160] انساب الاشراف 5 / 27.
[161] الحجرات: 6.
[162] الدكتور طه حسين: الفتنة الكبري، علي وبنوه 155.
[163] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 3 / 115.
[164] عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 2 / 20 و 21.
[165] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، علي وبنوه» ص 94.
[166] الدكتور طه حسين: «الفتنة الكبري» عثمان بن عفان 167، والبلاذري «انساب الاشراف» 5 / 48.
[167] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، عثمان بن عفان» ص 193.
[168] انساب الاشراف 5 / 27 / 28 / 52.
[169] التوبة: 34.
[170] ابن ابي الحديد: «شرح نهج البلاغة» 3 / 81 83 هذا النص مخالف لما عليه الشيعة الامامية «الناشر».
[171] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة».
[172] المصدر نفسه 3 / 80.
[173] «الفتنة الكبري علي وبنوه» ص 125.
[174] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، عثمان بن عفان» ص 77.
[175] مروج الذهب ومعادن الجوهر، 2 / 222.
[176] الدكتور طه حسين. «الفتنة الكبري، عثمان بن عفان» ص 190.
[177] الدكتور طه حسين: «الفتنة الكبري، عثمان بن عفان» ص 193 و 194.
[178] المصدر نفسه: عثمان بن عفان ص 195.
[179] انساب الاشراف 5 / 25 26.
[180] البلاذري «انساب الاشراف» 5 / 49.
[181] المصدر نفسه 5 / 27.
[182] سيرة النبي محمد 3 / 340 و 341.
[183] الحجرات: 6.
[184] ابن ابي الحديد: «شرح نهج البلاغة» المجلد الرابع ص 195 طبعة مصر.
[185] المسعودي: مروج الذهب 2 / 224 و 225.
[186] ويذكر المسعودي في «مروج الذهب 2 / 225» ان ابا الوليد كان يهوديا.
[187] المسعودي: مروج الذهب 2 / 224.
[188] يعني عمراً، وخالدا، ابني عثمان بن عفان.
[189] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 4 / 193.
[190] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، عثمان بن عفان» ص 187.
[191] المصدر نفسه: عثمان بن عفان ص 188.
[192] عبد الفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 2 / 33.
[193] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، عثمان بن عفان» ص 163.
[194] انساب الاشراف 5 / 54 و 55.
[195] عبد الفتاح عبد المقصود «الامام علي بن ابي طالب» 2 / 34 و 35.
[196] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، عثمان بن عفان» ص 198 و 199.
[197] انساب الاشراف 5 / 54 و 55.
[198] المصدر نفسه 5 / 36.
[199] البلاذري «انساب الاشراف» 5 / 37.
[200] البقرة والنساء والمائدة.
[201] وليس في القرآن ما يشير الي استثناء الشخص الذي يقتل ابوه من التعرض لاقامة الحدود الدينية بسبب ذلك القتل. وجريرة عبيد الله انه بعد أن قتل ابو لؤلؤة أباه تناول السيف فقتل ابا لؤلؤة، كما قتل الهرمزان، وجفينة، وبنت أبي لؤلؤة دون ان يثبت اشتراكهم في القتل.
وكان الواجب علي عبيد الله ان يتقدم بالشكوي الي الخليفة حسب الاصول المعروفة.
[202] اعتراض غير وجيه لان الانفاق من الصدقات سواء كان في الحرب او في غيره من المرافق العامة «الناشر».
[203] التوبة: 60.
[204] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري. عثمان بن عفان» ص 175 176.
[205] عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 2 / 48.
[206] انساب الاشراف 5 / 50 و 51.
[207] عبدالفتاح عبدالمقصود الامام علي بن ابي طالب 2 / 47.
[208] انساب الاشراف 5 / 74.
[209] فصلي عليه الزبير بن العوام علي رواية، وسعد بن ابي وقاص علي اخري، وكان ذلك سنة 32 ه.
[210] الدكتور طه حسين: «الفتنة الكبري، علي وبنوه» ص 67 و 68.
[211] عباس محمود العقاد «عبقرية الامام» ص 83.
[212] البلاذري «انساب الاشراف» 5 / 74.
[213] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 458.
[214] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، علي وبنوه» ص 29.
[215] عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 2 / 276 278.
[216] انساب الاشراف / 48 و 49.
[217] الدكتور طه حسين: «الفتنة الكبري: عثمان بن عفان» ص 206 و 207.
[218] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، عثمان بن عفان» ص 128.
[219] الدكتور طه حسين: «الفتنة الكبري» عثمان بن عفان ص 168.
[220] «انساب الاشراف» 5 / 27.
[221] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، عثمان بن عفان» ص 136.
[222] انساب الاشراف 5 / 47.
[223] الأحزاب: 67.
[224] يجد القاريء نص الكتاب وملابسات القضية موجودة في أمهات كتب التاريخ، وقد وجدنا تلخيصاً جميلاً لذلك كله في «الاصابة في تمييز الصحابة» 2 / 455 و 456، لابن حجر العسقلاني، وفي كتاب «الوزراء والكتاب» للجهشياري ص 22 30 مطبعة مصطفي محمد، الطبعة الاولي بمصر عام 1938 م، قال الجهشياري: «لما صار المصريون بأيلة راجعين عن عثمان مر بهم راكب انكروا شأنه فأخذوه، فاذا هو غلام لعثمان علي جمل له معروف، وكان عثمان يحج عليه، ففتشوه فوجدوا معه قصبة من رصاص فيها صحيفة عليها خاتم عثمان، ففتحوا الصحيفة فاذا فيها كتاب من عثمان الي عبدالله بن سعد عامله علي مصر فيه: اذا قدم عليك فلان وفلان، وفلان وفلان فاضرب اعناقهم، وفلان وفلان فاقطع أيديهم وأرجلهم … فكروا راجعين … فأقرءوا الكتاب اصحاب النبي، فعاتب قوم عثمان علي ذلك، فقال: أما الخط فخط كاتبي مروان، وأما الخاتم فخاتمي، والله ما أمرت بذلك … فقال القوم: ان كنت كاذباً فلا امامة لك، وان كنت صادقاً فليس يجوز أن يكون اماما من كان بهذه المنزلة من الغفلة».
[225] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 580 / 583.
[226] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، علي وبنوه» ص 20 22.
[227] تاريخ الامم والملوك 5 / 152 و 153.
[228] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 3 / 157 طبعة مصر الاولي.
[229] المصدر نفسه 2 / 170.
[230] ابن ابي الحديد: «شرح نهج البلاغة» 1 / 90 الطبعة الاولي بمصر.
[231] المصدر نفسه 3 / 181 التداك: الازدحام. الهيم: العطاش.
[232] المصدر نفسه 1 / 50 67 لقد مر بنا شرح كلامه في فصل سابق.
[233] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري: علي وبنوه» ص 8.
[234] ابن ابي الحديد: «شرح نهج البلاغة» 2 / 505 و 506 الطبعة الاولي بمصر.
[235] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، علي وبنوه» ص 8.
[236] عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 3 / 427 و 428.
[237] «ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ومن قتل مظلوما لقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصوراً» الاسراء: 33، بغض النظر عن شرعية القتل او عدمها.
[238] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري»، وعبدالفتاح عبدالمقصود: «الامام علي ابن ابي طالب».
[239] الطبري «تاريخ الامم والملوك 3 / 76 70.
[240] صحيح البخاري 3 / 154 و 156 و 5 / 55 و 56.
[241] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة».
[242] فتوح البلدان ص 26.
[243] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 3 / 4 9 الطبعة الاولي.
[244] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 2 / 403 405.
[245] في لقاء لي مع: الدكتور طه حسين عام 1965 م سألته: عن رأيه في عائشة اجاب بقوله: كان احد الاساتذة يقول: لو ادركت عائشة لاوجعتها ضرباً حتي اقعدتها في بيتها لقوله تعالي: «وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولي» الاحزاب: 33. راجع كتابنا: «مع رجال الفكر في القاهرة» ص 160 / 175 الطبعة الاولي القاهرة مطبعة حسان عام 1974 م. «الناشر».
[246] هذا التشبيه غير مؤدب «الناشر».
[247] وهو ماء لبني عامر بن صعصعة يقع في بادية العراق الجنوبية.
[248] ويذكر التاريخ ان الامام استعان علي جملة منهم كعمار بن ياسر ومحمد بن ابي بكر ومالك الاشتر وغيرهم «الناشر».
[249] يشير الي بيعة الزبير وطلحة له، ثم نكوصهما عن ذلك، والي عهدهما له حين خرجا للعمرة من المدينة لمكة بالرجوع الي المدينة وخرقهما لذلك العهد.
[250] وهم: الشرطة حرس بيت المال، وهم قوم من السند كانوا بالبصرة جلاوزة وحرس سجون.
[251] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 2 / 497 501.
[252] الكامل في التاريخ: 5 / 105 133.
[253] موقع بين مكة والمدينة.
[254] لابد ان القاريء قد لاحظ ان السيدة عائشة لم تعلق بشيء حين سمعت بمقتل عثمان، ولكنها ثارت لمجرد سماعها باجماع المسلمين علي بيعة علي فطلبت ان يردوها الي مكة واصبح عثمان مظلوما بنظرها.
[255] يدنف: اي مجهز عليه بالقال. «الناشر».
[256] تاريخ الامم والملوك 2 / 289.
[257] صحيح مسلم 1 / 42.
[258] المنافقين: 2.
[259] المسعودي «مروج الذهب ومعادن الجوهر» 2 / 261.
[260] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، علي وبنوه» ص 127.
[261] في حين ان ولي عثمان الذي يسوغ له المطالبة بدمه من الناحية الشرعية هو ابنة عمرو كما ذكرنا.
[262] عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 2 / 61.
[263] عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 2 / 301.
[264] ليس لدي الباحث من الادلة المقنعة ما يمنعه من الاعتقاد باشتراك معاوية بطريقة غير مباشرة في التآمر علي قتل عثمان، فقد وهن العظم من عثمان وبلغ من الكبر عتيا. وليس من الممكن او المعقول ان تنتقل الخلافة الي معاوية دون ان يقتل عثمان، وان بقاء عثمان سنتين او ثلاثا في الحكم وتعديل سيرته السياسية لم يكن في صالح معاوية واذا لم يكن معاوية قد الب الناس علي الشيخ او خذلهم عن نصرته فقد تقاعس عن مساعدته في احرج الظروف، فقد ساهم في قتله من الناحية السلبية علي أسوأ الفروض. ذلك لان معاوية، بحكم مركزه في الشام الذي استمر زهاء عشرين عاما كان هو الوالي الوحيد الذي باستطاعته انقاذ حياة ابن عفان. ويجمل بنا في هذا الصدد، ان نذكر القاريء بالمحاورة الطريفة التي جرت بين معاوية وابي الطفيل حول تقاعس كل منهما عن نصرة عثمان. فقد سأل معاوية ابا الطفيل متخابثا عن تقاعسه عن نصرة الخليفة، فأجاب هذا بأن تقاعسه كان ضمن التقاعس العام الذي ابداه المهاجرون والانصار. ثم وجه السؤال نفسه الي معاوية فأجابه بأن طلبه بدمه في خلافة علي نصرة له. فضحك ابو الطفيل ثم قال: انت وعثمان كما قال الشاعر:
لا الفينك بعد الموت تندبني
وفي حياتي ما زودتني زادي
هذا الي ان معاوية باسناده امارة مصر لابن العاص الذي عزله عثمان عنها فجعله من المؤلبين عليه قد برهن بوضوح علي ان المطالبة بدم عثمان وسيلة للثورة علي علي.
[265] الاصابة في تمييز الصحابة 2 / 501 و 502.
[266] شرح نهج البلاغة 4 / 161 و 162.
[267] الكامل في التاريخ 2 / 9.
[268] ابن الأثير: «الكامل في التاريخ» 3 / 141 160.
[269] عبدالفتاح عبدالمقصود: «الامام علي بن ابي طالب» 5 / 66 و 67.
[270] عباس محمود العقاد: «عبقرية الامام» ص 50.
[271] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر 2 / 334.
[272] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر 2 / 51.
[273] الدكتور طه حسين: «الفتنة الكبري، علي وبنوه» ص 131.
[274] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري علي وبنوه» ص 150.
[275] «شرح نهج البلاغة» لابن ابي الحديد 2 / 182 185.
(حمس الوغي. اشتد وعظم. الوغي في الاصل: الاصوات والجلبة، وسميت الحرب نفسها وغي لما فيها من ذلك. وانفراج المرأة عن قبلها أي وقت الولادة. وقوله القطه لقطا يريد ان الضلال غالب علي الهدي وأنه التقط طريقه من ههنا وههنا كما يسلك الانسان طريقاً دقيقة قد اكتنفها الشوك والعوسج من جانبيها كليهما فهو يلتقط النهج التقاطا).
[276] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» ص 261 و 262.
ولكن بمن كنت اعمل ذلك والي من اخلد في فعله.. واما الحاضرون لنصرتي فأنتم وحالكم معلومة في الخلاف والشقاق والعصيان.
واما الغائبون من شيعتي كأهل البلاد النائية فالي ان يصلوا قد بلغ العدو غرضه مني ولم يبق من اخلد اليه في اصلاح الامر وابرام هذا الرأي … الا اذا استعين ببعضكم علي بعض فأكون كناقش الشوكة بالشوكة.
يقول: لا تستخرج الشوكة الناشبة في رجلك بشوكة مثلها فان احداهما في القوة والضعف كالاخري. فكما ان الاولي انكسرت لما وطئتها فدخلت في لحمك فالثانية اذا حاولت استخراج الاولي بها تنكسر في لحمك.
[277] ابن ابي الحديد «شرج نهج البلاغة» 2 / 305.
[278] المصدر نفسه 378 و 379 أظأركم: اعطفكم.. والسرار آخر ليلة في الشهر وتكون مظلمة، ويمكن عندي: ان يفسر علي وجه آخر وهو: ان يكون السرار ههنا بمعني السرر، وهي: خطوط مضيئة في الجبهة.. فيكون معني الكلام هيهات ان تلمع بكم لوامع العدل، وتتجلي اوضاعه، ويبرق وجهه وهو يمكن ان يكون فيه ايضا وجه آخر وهو ان ينصب سرار ههنا علي الظرفية ويكون التقدير: هيهات ان اطلع بكم الحق زمان استسرار العدل واستخقائه فيكون قد حذف المفعول به.
[279] الفلتة: الامر يقع في غير تدبر ولا روية. وفي الكلام تعريض ببيعة ابي بكر لان المشهور عن عمر انه قال: «ان بيعة ابي بكر فلتة وقانا الله شرها».
[280] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 2 / 403.
[281] ابن الاثير: «الكامل في التاريخ» 3 / 160 168.
[282] الدينوري، «الاخبار الطوال» ص 198 و 199.
[283] الاخبار الطوال: ص 200 203.
[284] فامتنع الذين اصروا علي وقف القتال، وقبلوا التحكيم من اصحاب الامام من دخول الكوفة مع الامام، فيكون منهم المارقون الذي ارغموا الامام بعد ذلك علي حربهم بالنهروان.
[285] واوحي عمرو الي رفيقه: ان موضوع خلع علي من الخلافة قد بات مفروغاً منه، وان المشكلة هي اتفاقهما علي من سيخلفه.
[286] ابن الاثير «الكامل في التاريخ» 3 / 160 168.
[287] ابن الاثير «الكامل في التاريخ» 2 / 49 و 50.
[288] ابن خلدون «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر» 2 / 177.
[289] عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 2 / 275.
[290] ابن هشام «سيرة النبي محمد» 3 / 116. ينزو: يرتفع ويثب. وارضف الحجارة المحماة بالثار، العتد: الفرس الشديد، يبذ: يسبق، والرهو: الساكن، اللين.
[291] سيرة النبي محمد: 2 / 177.
[292] عبدالفتاح عبدالمقصود الامام علي بن ابي طالب 4 / 83، واذا كان الامر كذلك فقد قتل عثمان وليس لعلي سلطان علي الناس فلماذا اقام عمرو الدنيا عليه واقعدها.
[293] عباس محمود العقاد «معاوية بن ابي سفيان» ص 53 55.
[294] الغلس: بعد العشاء الآخرة وقبل الفجر «الناشر».
[295] البرذون، صنف من الخيل الغير العربية «الناشر».
[296] الدينوري: «الاخبار الطوال» ص 191 و 192.
[297] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 4 / 113 و 114.
[298] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 4 / 160 والاشارة هنا الي مقتل عثمان.
[299] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، علي وبنوه» ص 113.
[300] المصدر نفسه ص 113.
[301] الدكتور طه حسين: «الفتنة الكبري، علي وبنوه» ص 122.
[302] المصدر نفسه 122 126.
[303] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري. علي وبنوه» ص 133.
[304] المصدر نفسه ص 130 و 138.
[305] الفتنة الكبري علي وبنوه ص 129.
[306] المصدر نفسه ص 183.
[307] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 4 / 119 و 152.
[308] العقاد: «عبقرية الإمام علي» ص 13، وابن الأثير: «الكامل في التاريخ» 3 / 200.
[309] عباس محمود العقاد «عبقرية الإمام علي» ص 25.
[310] الكامل في التاريخ 3 / 200 202.
[311] الكامل في التاريخ 2 / 201 و 202.
[312] الدكتور طه حسين: «الفتنة الكبري علي وبنوه» ص 159.
[313] ابن أبي الحديد «شرح نهج البلاغة» 2 / 573 583.
[314] هذا القول وما بعده من الاقوال مأخذوة من «شرح نهج البلاغة» لابن ابي الحديد.
[315] الكامل في التاريخ 3 / 233 239.
[316] تاريخ الامم والملوك 6 / 149 155.
[317] تاريخ الامم والملوك 6 / 155.
[318] الفتنة الكبري. علي وبنوه ص 243.
[319] مروج الذهب ومعادن الجوهر 2 / 303.
[320] المصدر نفسه 2 / 307.
[321] مروج الذهب ومعادن الجوهر 2 / 310 312.
[322] شرح نهج البلاغة 4 / 68 72.
[323] ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 4 / 68 70.
[324] الدكتور طه حسين «الفتنة الكبري، علي وبنوه» ص 248.
[325] الكامل في التاريخ 3 / 259 و 260.
[326] يذكر بعض الرواة ومنهم ابن الأثير نفسه أن عبدالرحمن بن ابي بكر كان قد مات قبل معاوية. وقيل: إن يزيد كان غائباً من مرض ابيه وموته، وإن معاوية احضر الضحاك بن قيس، ومسلم بن عقبة المري فأمرهما أن يؤديا عنه رسالته التي ذكرناها في المتن الي يزيد ابنه.
[327] الكامل في التاريخ 3 / 260. ومما يلفت النظر حقا أن يحتفظ معاوية بقلامة ظفر النبي ولا يحافظ علي سنته!!.
[328] الطبري: «تاريخ الامم والملوك» 6 / 186. وفي رواية اخري «اما انا فقد تضجعتها ظهراً لبطن وانقطعت إليها فانقطعت لي».
[329] الطبري، «تاريخ الامم والملوك» 6 / 187.
[330] المصدر نفسه 6 / 187 و188.
[331] هذا الحديث مخالف لما عليه المؤرخون من قداسة عبدالله بن جعفر لما ذكروه من جلالة قدره وتوثيقه. راجع تاريخ الطبري، والاستيعاب لابن عبدالبر واسد الغابة لابن الأثير وغيرها. «الناشر».
[332] العقاد «معاوية بن ابي سفيان» ص 74. ويقصد بذلك عمار بن ياسر والاشتر.
[333] المصدر نفسه ص 77.
[334] المصدر نفسه ص 82.
[335] المصدر نفسه ص 126.
[336] المصدر نفسه ص 132.
[337] هذه الفترة وما يليها مقتطفات من كتاب العقاد «معاوية بن ابي سفيان في الميزان» ص 9 و 11 و 12 و 14 و 16 و 17 و 35 و 38 و 48 و 49 و 70 و 71 و 112 115 و 181 و 182 و 185 191 و 203 205.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.