الآلوسي و التشيع

اشارة

لجنة التاليف

كلمة المركز:

(بسم اللّه الرّحمن الرّحيم) كثيرة هي الكتب التي يفتري مؤلّفوها علي الشّيعة، و قديم هو التّأليف في هذا المجال …، و من بين هذه الكتب كتاب محمود شكري الآلوسي، الموسوم بعنوان:
«المنحة الإلهيّة، تلخيص ترجمة التّحفة الإثني عشريّة». و قد صدر في طبعة أولي في بومبي، و في طبعة ثانية في مصر.
يلفت عنوان هذا الكتاب اهتمام القارئ، و يحثّه علي قراءته، لكنّه لا يلبث أن يفاجأ بما يتضمّنه من افتراءات علي الشّيعة تصل إلي حدّ رميهم بالكفر، وعدّهم من الطّوائف الخارجة عن الإسلام.
و إن يكن هذا ليس جديدا في هذا المجال، فإن الآلوسي يزعم، و هو يتدفّق بسيل الشّتائم للشّيعة أنّه مسلم تقي، ينتمي إلي شيعة الإمام علي عليهم السّلام، و ينتسب إلي السلالة الحسينيّة الطّاهرة.
و إذا كان هذا الزّعم صحيحا فكيف يدين، كما يبدو في كتابه، بدين أعداء الموالين لأهل البيت عليهم السّلام، و مريدي إطفاء أنوار العترة الطّاهرة؟
لعلّه لا يعلم أن الشّيعة هم فرقة الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام المسمّون بشيعته في زمن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، و أن القول بتفضيل الإمام علي عليه السّلام و موالاته الذي هو معني التشيّع كان موجودا في عصر النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و استمرّ إلي اليوم؟
و إن لم يكن هذا الزّعم صحيحا، ألا يجدر به، بوصفه كاتبا يبحث في موضوع خلافي، أن يعود إلي كتب من يبحث في شأنهم فيكتسب معرفة ما، إن لم نقل معرفة
الآلوسي و التشيع، ص: 6
شاملة و عميقة، تؤهّله لأن يقول ما صار لديه به علم؟
إن الآلوسي، و للأسف، و كما يبدو من كتابه، لم يفعل ما هو جدير بمسلم تقي يزعم أنه يحبّ أهل البيت عليهم السّلام و ينتسب إلي سلالتهم، بل إنه لم يفعل ما هو جدير بأيّ باحث عن الحقيقة، ذلك أنه عاد إلي كتب خصوم الشّيعة، و استند إليها في سوق الافتراءات، و راح يكيل السّباب و الشّتائم …، ما يعني أن رياح الهوي البغيض عصفت به، فجعلته عاجزا عن البصر و التّبصر الجديرين بكاتب يعيش في هذا العصر.
و قد أدرك مؤلّف هذا الكتاب حقيقة ما صنع الآلوسي في كتابه، بعد أن قرأه بتمعّن، و تساءل: أليس من الظّلم الفاحش أن يحكم الإنسان علي أمّة كبيرة من المسلمين بالكفر، و لا يجد أمامه من مستند سوي ما يترامي إليه من أعدائها من افتراءات يتبرءون هم منها؟
و خشية من أن تغدو هذه الافتراءات حقائق متداولة، عزم المؤلّف علي مناقشة ما جاء به الآلوسي، محتكما إلي آيات كتاب اللّه البيّنات و أحاديث رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الجياد، فكان هذا الكتاب الذي نرجو من نشره أن نسهم في بيان الحقيقة، فعسي أن نكون قد وفّقنا، و اللّه الموفّق في كل حال.
مركز الغدير للدّراسات الإسلامية
الآلوسي و التشيع، ص: 7

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً
[النساء: 112]- صدق اللّه العليّ العظيم- الحمد للّه ربّ العالمين، و الصّلاة و السّلام علي نبيّه و صفيّه، و أفضل أنبيائه و رسله و أشرف خلقه محمّد و آله المعصومين خلفائه، و علي أصحابه الّذين نصروه في حياته و لم يبدّلوا بعد وفاته، و علي التّابعين له بإحسان.
كنت اطلعت علي الكتاب المسمي: (المنحة الإلهية تلخيص ترجمة التحفة الإثني عشرية) لمحمود شكري الآلوسي البغدادي المطبوع جديدا في مصر القاهرة [1] و لقد حداني اسمه إلي أن أقرأه قراءة من يتغاضي عن صغائر الهفوات، و كنت أثناء مروري علي صفحاته أري خلالها كلمات ترمز إلي الضلال و الإضلال، و علي الرغم من كثرة شطنها كنت أوطن النفس علي حسن الظن بمؤلّفه، و أرجو أن يكون الهدف الّذي ألّفه في سبيله حكمة بالغة و إن خانه النظر فأخطأ مقدماتها الصحيحة.
افتتح الآلوسي كتابه بالبحث عن الشيعة الإثني عشرية، و بعد أن رماهم باسم الكفر و الإلحاد نسب إليهم بعض الطوائف الخارجة عن الإسلام المنتحلة هذا الاسم ممن لا تعرفهم الشيعة، بل لا يصح عدّهم من فرق المسلمين كالخطابيين و الغلاة و غيرهم و قال إنهم من الشيعة، و رأيت فوق ذلك تحاملات و رهاء، و مزاعم جوفاء قد شحنه بعبارات الذم و القدح، بحيث تشمئز منها
__________________________________________________
[1] و للكتاب طبعة أولي بمطبعة بومبوي الهند، سنة (1301 ه) و هي التي ننقل عنها مزاعمه في هذا الكتاب، لأنه لا توجد لدينا نسخة من الطبعة الجديدة.
الآلوسي و التشيع، ص: 8
النفوس، و تقشعر منها الأبدان، و قد بلغ به الشطط إلي الحكم عليهم بالخروج عن الإسلام، بعد أن عزا إليهم كلّ أنواع المخازي و المرديات.
و الحق أن الآلوسي كتب عن الشيعة ما كتب و هو علي غير بيّنة من أمرهم، و لا يعرف أحدا من رجالاتهم، و لا قولا من أقوالهم، و لا يعرف شيئا عن عقائدهم، و خواصّهم، و كتبهم، و أحاديثهم، و إنما كتب ما كتب معتمدا علي أمثال ابن تيمية، و ابن خلدون، و ابن حزم، و الشهرستاني من خصوم الشيعة و أعدائها، دون أن يشعر أن الخصم لا يكون حكما، و ما تفرّد به لا يكون حجّة علي خصمه الّذي يتبرأ من مبدئه و رأيه.
و ليته علم أن سوء التفاهم يجر إلي الاختلاف، و حسن التفاهم و المجادلة بالتي هي أحسن يوجبان الائتلاف، و المؤمن من عشاق البرهان يميل معه حيث مال لا يلوي جيدا إلي مخالفته لهواه.
و نحن قد فحصنا عبارات الآلوسي و درسنا كلماته فلم نر فيها من ردّ و لا تفنيد و لا نقد و لا تدليل، بل كلّ ما وجدنا تحت عباراته و خلال كلماته تهجمات العاجز، و سباب المخذول، فهو لم يتصدّ للردّ علي شي‌ء من أقوالهم كما يزعم، و لم يبرهن علي بطلانها كما تبرهن العلماء.
و لعل فيما أدلي من السباب و الشتائم ما يحسبه أدلة رصينة و براهين متينة لدحض أقوالهم، و نحن نربا عن مقابلته بالمثل لأننا مؤمنون، و المؤمن مثال الفضيلة، و عنوان الإنسانية، و دعامة الأخلاق، و بيت العدل، و الذي يريد النزول في ميدان المناظرة، و يخوض معمعة المجادلات للوقوف علي الحقّ و الصواب، عليه أن يتسلح بسلاح الفضيلة، و يتصف بالإنصاف، و لا يزيل عقله بتيار هواه، فلا يمسّ العواطف، و يجرح الضمائر، و يثير النقمة، و يذبح الحقيقة، و يميت الدين، و يقضي علي الحق و اليقين، و هكذا صنع الآلوسي في كتابه مع أخصامه، فنال من الشيعة و من علمائهم، و تدارك عليهم بالكفر و الإلحاد.
أيها القارئ: إن علماء السّوء الّذين يكتمون علمهم عن النّاس و لا يزودونهم بعلمهم الّذي يوصلهم إلي سعادتهم في الدارين، بل يمرنونهم علي حب
الآلوسي و التشيع، ص: 9
الانتقام، و يولدون فيهم روح الحط من كرامة الآخرين و النيل منهم، و يوحون إليهم زخرف القول، و يموهون عليهم الحقائق بألسنة المكر و الخداع ليصدوهم عن دين اللّه، أولئك الّذين شغفهم حبّ الذات، و طاب لهم التبصبص حول العروش و التيجان، فهم يتفانون في سبيل أطماعهم و الاحتفاظ بوضعهم، فيبيعون الأمة بالثمن القليل من رواد المنافع و الأصفر الرنان، لهم أضرّ علي أمتنا من عدو اللّه إبليس اللّعين، و العالم المخادع أضر علي العالم من الشياطين.
إننا نمقت كلّ من يحيد عن طريق الحقّ، و ينحرف عن جادّة الصواب إزاء حبّ الإثرة و الأطماع، و نسمهم بسمات أهل الزيغ، و نسجلهم في سجل المشاغبين و صحائف أهل البغي و الضلال.
فها هي ذي كتب الشيعة الإمامية [1] مملوءة بالأدلة المفندة لآراء مخالفيهم، و مشحونة بالبراهين القويّة التي تزيّف مزاعم خصومهم، و تقلعها من جذورها، و تقطعها من أصلها، و قد ملأت الخافقين علي كثرتها، فليتصدّ من يروم التصدي للردّ عليها و تفنيدها بالأدلة المقبولة لا بالمفتريات و الطعون الكاذبة و الآراء الزائفة التي كانت تدلي بها عقول أناس لم يتفقهوا في الدين، و لم يعرفوا شيئا من أصوله و فروعه، الّذين ركبوا بغلة العناد، و أخذوا بزمام التعصب، و تسربلوا بسربال المكابرة، و انصرفوا لوحي شياطين الإنس، و اندفعوا بمؤثراتها، لا يعرفون باب الهدي ليدخلوا منه، و لا باب العمي فيبتعدوا عنه.
نحن و أيم اللّه قوم نحترم الدليل، و نستضي‌ء بنور البرهان، و نجلّ الأحاديث النبوية المتفق عليها بين الأمة، و نحتج بها علي خصمائنا في إثبات أقوالنا، و نبرهن علي صحتها بدلالتها، و نعرب عن جميل أصلها بحسن فرعها، فهلموا إلينا بما لديكم من حجج و أدلة مقبولة عند أهل النظر، و معتبرة عند أهل العرفان لنذعن للحقيقة و الصواب، أما أنكم تسيرون علي طرق معوجة، و خطوط متعرجة، و تدلون علينا بالمفتريات، و الشتم و السباب، فذلك ما نحن عنه بمعزل
__________________________________________________
[1] الشيعة الإمامية هم الذين يقولون بإمامة اثني عشر إماما، تسعة من ولد الإمام الحسين عليه السّلام كما نصّت عليه أحاديث الفريقين المتواترة.
الآلوسي و التشيع، ص: 10
لا نحرك له قلما، و لا نضيّع في سبيله ورقا و لو لا خشية أن تنطلي بمر الأيام علي أذهان البسطاء فيحسبوها يوما ما كحقائق راهنة لها أثرها و قيمتها.
إذ من المؤكد أن الأكاذيب الملفقة، و الحكايات المموهة إذا تناولتها الأقلام بالضبط لا بد أن تصبح يوما ما كحقائق عند الزعانف و الأغرار، لذا تري كثيرا من الناس مخدوعين بتلك المفتريات التي ألصقوها بالشيعة، دون أن يشعروا بما يفرضه العقل عليهم من التثبت و التحقيق تجاه تلك الأضاليل و التشنيعات الشائنة، خاصة إذا كانت مخالفة للعيان و الوجدان.
فالمذهب الشيعي عند الآلوسي مؤسس علي الكيد و الخداع، و ملفق من اليهودية و النصرانية، و المجوسية و الخارجية، بل مؤسس علي الكفر و الإلحاد، و الزندقة و العناد، و الشيعة أنفسهم كافرون منافقون، يكتبون بعض الكتب و ينسبونها إلي أعلام السنّة، و مع ذلك فهم كذابون ضالّون، يضعون الأحاديث في المسانيد، و لا يتوقفون عن الإنتصار لمذهبهم بكلّ وسيلة يأملون من خلالها إظهار مذهبهم و إن كانت لا صلة بينها و بين الحق أبدا، فهم يضعون الأحاديث التي توافق فكرتهم و ينسبونها إلي مشاهير علماء أهل السنّة، و بهذا أضلّوا كثيرا من أهل السنّة، بل و قد انخداع الكثير من أعلام أهل السنّة بهذا التمويه و الخداع، و هم يضعون علي لسان عليّ عليه السّلام ما من شأنه الكذب، و هم الّذين استفادوا مذهبهم بدون واسطة من رئيس المضلّين إبليس اللّعين، و كانوا منافقين جهروا بكلمة الإسلام و أضمروا في بطونهم عداوة أهله، و توصلوا بذلك النفاق إلي الدخول في زمرة المسلمين، كلّ ذلك مما سجله الآلوسي علي الشيعة و نسبه إلي مذهبهم، علي أننا لم نذكر سائر كلماته التي كلّها علي هذا النمط.
و سأوضح لك أيها القارئ ما اشتمل عليه كتابه و أدلته التي هي أو هي من بيت العنكبوت، و إنه لأوهن البيوت، و كيف أنه لم يحو سوي التناقض القبيح، و كيف أنه لم يقصد من ورائه إلّا التضليل و إثارة الفتنة المائتة، و إهاجة الضغائن الهادئة، تلميحا تارة و تصريحا أخري، و طريقتي في نقده هو أني أضع ملخص ما تناوله من المباحث المهمّة و المواضيع التي تستحق المناقشة ثم نعود إلي ما نراه
الآلوسي و التشيع، ص: 11
جديرا بالتفنيد، فنحكي ألفاظه بعينها، و نتبعها بما يزيح تمويهها و يجتث فسادها من منبته.
و قبل أن نخوض في هذه المباحث مع صاحب الكتاب يجب أن تعلم بأن الّذي يجب تحكيمه بيننا و بينه هو آيات كتاب اللّه البينات، و أحاديث رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الجياد التي اتفق الفريقان علي صحتها أو ما يشهد لصحته من صحيحها، و نجعل ذلك أصولا موضوعة نرجع إليها في قطع الخصومة و رفع النزاع، إذ لا مرجع إلّا إليهما لاتفاق الخصمين علي قبولهما، فبهما تقوم الحجّة علي المتناظرين كما تقوم الحجّة علي أحدهما فيما تثبت صحته في مذهبه و إن لم يكن صحيحا عند خصمه الآخر لكونه حجة عنده يلزمه العمل علي طبقه، و كلّ دليل لم يكن من هذا النوع فهو تضليل ساقط لا قيمة له.
و نحن لا نسلك في اقتناص الحقيقة غير هذا الطريق، و لا ننحو في طلب الحق غير هذا المنحا، و هو الكفيل في الحصول عليه لا سواه.
و يجدر بنا قبل أن نخوض في تزييف هذه المزاعم أن نذكر للقارئ صورة صغيرة من عقائد الشيعة توقفه علي حقيقة أمرها في طي تمهيد يتضمن ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في معني الشيعة الإثني عشرية.
المبحث الثاني: في ما تعتقده الشيعة من الأصول.
المبحث الثالث: في اعتقاد الشيعة في الفروع.
الآلوسي و التشيع، ص: 13

تمهيد

المبحث الأول: في معني الشيعة الإثني عشرية

الشيعة في القاموس: - شيعة الرجل بالكسر- أتباع الرجل و أنصاره، و قد غلب هذا الاسم علي من يتولّي عليّا و أهل بيته حتي صار اسما لهم خاصا.
و في تاج العروس: كلّ قوم اجتمعوا علي أمر فهم شيعة.
و في لسان العرب: - الشيعة- أتباع الرجل و أنصاره، و قد غلب هذا الاسم علي من يتولّي عليّا و أهل بيته- رضوان اللّه عليهم أجمعين- حتي صار لهم اسما خاصا، فإذا قيل فلان من الشيعة عرف أنه منهم، و أصل ذلك من المشايعة و هي المتابعة و المطاوعة.
و قال الأزهري: و الشيعة قوم يهوون هوي عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و يوالونهم.
و في المنجد: الشيعة أتباع الرجل، و قد غلب هذا الاسم علي من يتولّي عليّا و أهل بيته.
و هكذا صرح به بطرس البطراي في محيط المحيط.
و يقول ابن عباس حبر الأمة: لما نزلت هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ
[البينة: 7]
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ: «هم أنت و شيعتك، تأتي أنت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين، و يأتي عدوّك غضابا مقمحين» [1].
__________________________________________________
[1] أخرجه ابن الصباغ المكي المالكي في الفصول المهمة: 122، و ابن حجر الهيتمي في صواعقه في الآية الحادية عشرة من الآيات الواردة في فضائل أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الباب الحادي عشر:
159، و يشهد له ما
أخرجه مسلم في صحيحه ص 6 من جزئه الأول في باب حب الأنصار و عليّ عليه السّلام من الإيمان من كتاب الإيمان، و العسقلاني في إصابته: 271 من جزئه الرابع في الباب-
الآلوسي و التشيع، ص: 14
و قال الشيخ أبو محمّد الحسن بن موسي النوبختي: أصول الفرق أربع فرق- وعدّ منهم الشيعة- و قال: فالشيعة هم فرقة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام المسمون بشيعة عليّ في زمان النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ما بعده كانوا معروفين بانقطاعهم إليه و القول بإمامته، منهم المقداد بن الأسود، و سلمان الفارسي، و أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، و عمار بن ياسر و من وافق مودّته مودّة عليّ، و هم أول من سمي باسم التشيع في هذه الأمة؛ لأن اسم التشيع قديما كان لشيعة إبراهيم عليه السّلام و هكذا قال أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني في كتاب الزينة.
فهذه كلمات أساطين أهل اللّغة، و تلك السنّة النبوية الشريفة تلوناهما عليك لتعلم أن الشيعة هم فرقة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام المسمون بشيعته في زمن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ما بعده، و أن القول بتفضيل علي عليه السّلام و موالاته الذي هو معني التشيّع كان موجودا في عصر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و استمر إلي اليوم، و أنهم إنما سموا بهذا الاسم لأنهم شايعوا عليّا عليه السّلام و بنيه عليهم السّلام و تابعوهم و أطاعوهم لأن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أمر بطاعتهم، و كان صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ينظر إليهم بعين خاصة و جعلهم ولاة الأمر بعده.
فإذا كانت الشيعة قوما يهوون هوي عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و يوالونهم، و معروفين بانقطاعهم إليهم عليهم السّلام و القول بخلافتهم بعد سيّدهم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فلما ذا يا تري حكم هذا الآلوسي عليهم بالكفر؟ و الغريب منه زعمه أنه من شيعة عليّ عليه السّلام في ص: (25) من وريقاته! و هو قد حكم بكفر شيعته دون أن يشعر بأنه صار هو بذلك كافرا! بل ترقي و زعم أنه من المنتسبين إلي السلالة الحسينية الطاهرة و هو يدين بدين أعدائهم و مريدي إطفاء نورهم من الّذين تقدموا عليهم و دفعوهم عن مراتبهم التي رتبهم اللّه تعالي فيها، لذا كان من الحقيق بنا أن نقول فيه و في غيره من المتطفلين علي أهل البيت عليهم السّلام المنقطعين إلي مناوئيهم الألداء
__________________________________________________
- نفسه، و الخطيب في تاريخ بغداد: 417 من جزئه الثامن، و ابن عبد البر في ترجمة عليّ عليه السّلام من الاستيعاب: 472 و 474 من جزئه الثاني، و غيرهم من حفاظ أهل السنة عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (يا عليّ لا يحبّك إلّا مؤمن، و لا يبغضك إلّا منافق)
. الآلوسي و التشيع، ص: 15
كمعاوية بن أبي سفيان، و ابن النابغة عمرو بن العاص، و طلحة، و الزبير و غيرهم من المستبدين الظالمين للوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بما قاله الشاعر العربي:
إذا العلويّ تابع ناصبيا بمذهبه فما هو من أبيه
فإن الكلب أشرف منه طبعا لأن الكلب طبع أبيه فيه
و لو صح ما زعمه العدو من انتسابه إلي البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو إلي شيعتهم لاهتدي بهديهم و لم ينقطع إلي سواهم ممن لم يمتّ إليهم عليهم السّلام بنسب، و لم يتصل بهم بسبب، و لما نظر إليهم عليهم السّلام و إلي شيعتهم نظر العدو لعدوه البغيض، و استسهل في شأنهم كلّ شنيع و فظيع.
أيها القارئ أليس من الظلم الفاحش أن يحكم الإنسان علي أمة كبيرة من المسلمين بالكفر، و لا يجد أمامه من مستند سوي ما يترامي إليها من أعدائها من نسب قبيحة، و وصمات فظيعة تترفع عنها نقاوة ثيابهم النظيفة، و يتبرءون منها براءتهم من إبليس.
و بعد فإنا لا نريد بالشيعة عند ما نطلق عليهم هذا الاسم سوي المذهب الإمامي الإثني عشري السائد في كثير من أنحاء العالم، و هم الّذين ندافع عنهم و ننافح عن شرفهم و قداسة مذهبهم حينما تنتابهم دواعي الخطر و عوادي السوء من أعدائهم، أما سائر الفرق التي جاء الألوسي علي ذكرها، و من أجلها ثار، و فار، و طغي، و بغي عليهم فاجتاز خارج الحدود فهي مما لا تعرفه الشيعة، و تتبرأ منهم و ترفض آراءهم، و تنبذ عقائدهم، و تضرب بمذاهبهم عرض الحائط، و تلعنهم كما تلعن من ينسبها إليهم بهتانا و زورا.

المبحث الثاني: فيما تعتقده الشيعة من الأصول

الشيعة مسلمون مؤمنون يعتقدون للّه تعالي بالوحدانية، و لمحمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالرسالة، و أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خاتم الأنبياء و المرسلين، و يؤمنون بكلّ ما جاء به من عند اللّه بواسطة وحيه و أمينه جبرائيل عليه السّلام و يعتقدون بالمعاد الجسماني، و أن الأجسام سوف تعاد بعد تفرقها في المعاد للحساب، و أنه حق واقع، و أن الإسلام
الآلوسي و التشيع، ص: 16
هو الإقرار بالشهادتين و الالتزام بأحكام الشريعة كلّها، و أن هذا ما تدور عليه الأحكام من التناكح و التوارث و غير ذلك من لوازمه، و يعتقدون أن القرآن الكريم الموجود اليوم بأيدي المسلمين هو الّذي أنزله اللّه تعالي علي سيّد المرسلين صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم ينقص منه حرف و لم يزد فيه حرف، و يعتقدون كما يقول القرآن أن الإيمان معني أسمي من الإسلام و أخصّ منه علي ما اقتص خبره الكتاب العزيز:
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ
[الحجرات: 14].
فهم لا يفترقون عن المسلمين في أصول العقائد إلّا في مسألة الإمامة و عصمة الإمام و وجوب العدل علي اللّه تعالي، فإنهم يعتقدون عدله و أنه لا يظلم أحدا مثقال ذرة، و إلّا في مسألة أفعال المكلّفين فإنهم يعتقدون أن العباد هم الخالقون لأفعالهم و ليس الخالق لها هو اللّه تعالي.
و يعتقدون عصمة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الكبائر و الصغائر مطلقا في الصغر و الكبر، قبل البعثة و بعدها، و يعتقدون باستحالة أن يكون اللّه تعالي جسما أو حالّا في جسم، أو يحويه مكان، أو يري بالبصر مطلقا لا في الدنيا و لا في الآخرة، و يعتقدون كما يقول الكتاب أن القرآن كتاب اللّه محدث و ليس بقديم، لقوله تعالي: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ
[الشعراء:
5] و قوله تعالي: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ
[الأنبياء: 2] و يعتقدون بأنه تعالي منزّه عن المكان و الجهة، و تفصيل ذلك كلّه بدليله موكول إلي محلّه من كتبهم في علم الكلام.

المبحث الثالث: في اعتقاد الشيعة في الفروع

أما الضروري من الفروع كالصّلاة، و الزكاة، و الحج، و الصوم، و الجهاد في سبيل اللّه، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و نحوها من الضروريات فعلا كان أو تركا، مما نزل به القرآن و جاءت به السنّة القطعية و ثبت بالضرورة من دين المسلمين فلا يخالفون غيرهم من المسلمين في شي‌ء منها، و أما الفروع النظرية المتعلقة بالأمور العبادية، و المعاشية، و القضائية، و السياسية فإنهم و إن خالفوا
الآلوسي و التشيع، ص: 17
غيرهم في بعضها و لكن ليس هذا إلّا علي معني الاختلاف بين المذاهب الأربعة، بل ما من قول للشيعة إلّا فيه حديث من طريق أهل السنّة علي وجه يستطيع الباحث أن يحتج به علي خصومه، و إن أنت راجعت صحيحي البخاري و مسلم و غيرهما من صحاح أهل السنّة و مسانيدهم لتجلّي لك بوضوح صحة هذه الدعوي [1].
هذه صورة صغيرة عن الشيعة تلوناها عليك لتعرف كيف يكون بحث الآلوسي عنهم، و كيف أنه حكم عليهم بالكفر و البغي، في حين أنهم أثبتوا لدي الملأ في شتي أدوارهم و مختلف أجيالهم ألّا مذهب لهم إلّا مذهب أئمة أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا، و أنهم يستمدون العلم و الهدي باتباعهم عليهم السّلام لأن الحق معهم و فيهم و بهم، فهم الأئمة البررة الّذين يحملون العلم عن جدّهم النبيّ الأعظم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذي آتاهم من كلّ ما لديه من علوم و أحكام جاء بها القرآن، و قررته شريعته الخاتمة.
فهل يريد الآلوسي و أخوه الهندي من الشيعة أن يأخذوا بمذاهب اختلقها الغرباء و ابتدعها الأجانب ممن لا يربطه مع البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم رابط، و إنما اعتمد في أحكامه علي رواية الضعفاء و الفقهاء من سوانح القياس و الاستحسان، و الظنون و الآراء التي ما أنزل اللّه بها من سلطان و يتركوا مذهب أهل البيت عليهم السّلام الّذين هم الباب الوحيد الموصل إلي العلم و الهدي بعد جدهم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كما يشير إليه
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حديث الثقلين: (من تمسّك بهم كان علي الهدي، و من أخطأهم ضلّ و هوي)
و هيهات ذلك.
__________________________________________________
[1] و من أراد الوقوف علي شي‌ء من ذلك فليراجع كتابنا (أصول الشيعة و فروعها).
الآلوسي و التشيع، ص: 19

الفصل الأول عليّ عليه السّلام و الخلافة

حكم المتقاعد عن نصرة عليّ عليه السّلام

قال الآلوسي ص: (4): «الفرقة الأولي- من الشيعة- الشيعة الأولي و يسمّون بالشيعة المخلصين، بيد أن منهم من قاتل مع عليّ عليه السّلام في حرب صفين، و منهم من تقاعد عن القتال تورعا و احتياطا، و من مشهوري هذا عبد اللّه بن عمر بن الخطاب (رض) لكنه مع ذلك كان قائما بمحبته و تعظيمه ثم بعد ذلك ندم غاية الندم علي قعوده، و منهم من غلب عليه القضاء و القدر فوقع منه ما أدّي إلي قتاله كطلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة، فهم و إن وقع بينهم و بين الأمير عليه السّلام ما وقع يوم الجمل محبّون له عارفون له فضله، إذ ليس بين ذلك و بين القتال الواقع في البين تناف، لأن القتال لم يكن مقصودا بل وقع من غير قصد فوقع ما وقع إن شاء و إن أبي أبو الحسنين عليه السّلام فكلّ من الفريقين معذور:
وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً
[الأحزاب: 38].
ثم قال: قال الجد بعد ذلك الكلام علي القتال: لو فرض كان قصدا فهو بشبهة قوية عند المقاتل أوجبت عليه أن يقاتل و هو بزعمه من الدين و ليس من الغي، و متي كان كذلك فهو لا ينافي المحبة، و نحو هذا يجاب عن أصحاب صفين من رؤساء الفرقة الباغية علي عليّ عليه السّلام إلي أن قال: فقف عند مقدرك فما أنت و إن بلغت الثريا إلّا دون ثري نعال أولئك انتهي و بثري نعال أولئك» انتهي.
المؤلف: إن ما جاء به الآلوسي هنا فيه وجوه من الفساد و الخلل:
الأول: إنه لا يصح نسبة التشيّع لعليّ عليه السّلام إلي من خالفه و تقاعد عن نصرته، فضلا عن كونه من الشيعة المخلصين لما تقدم من معني الشيعة و أنها
الآلوسي و التشيع، ص: 20
المشايعة و المتابعة و الموالاة لشخص المتبوع من التابع، فلا يصح إطلاقه مطلقا لا لغة و لا عرفا و لا شرعا علي من خالفه و ترك إتباعه و عصي أمره، و إلّا لصح أن يكون إبليس شيعة للّه، و امرأة نوح عليه السّلام و ابنه شيعة لنوح عليه السّلام و نمرود شيعة لإبراهيم عليه السّلام و فرعون شيعة لموسي عليه السّلام و أبو جهل و غيره من المشركين شيعة لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و في القرآن يقول اللّه تعالي: فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَي الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ
[القصص: 15] و يقول تعالي: هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ
[القصص: 15] و هو يفيد أنه لا واسطة بين شيعته و بين عدوّه، فكلّ من خالفه كان من عدوّه، و كلّ من تابعه كان من شيعته.
فالآلوسي إما أن يقول بصحة إطلاق الشيعة علي مخالفي عليّ عليه السّلام و مقاتليه أو لا يقول بصحته، فإن قال بالأول- و هو قوله- صح أن يكون من خالف أبا بكر و عمر و عثمان (رض) و غيرهم من أوليائهم و قاتليهم شيعة لهم، سواء أ كان ذلك منهم قصدا أو من غير قصد، أو بشبهة قويّة أوجبت عليهم المخالفة و القتال، و هو بزعمهم من الدين و ليس من الغي- علي حدّ تعبير جدّه- فإن صح هذا عنده و التزم به كان طاعنا في نفسه مبذرا: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ
[الإسراء: 27] في تأليف هذا الكتاب الّذي يزعم أنه يردّ به علي الّذين خالفوا أولياءه و هم شيعة لهم علي ما اختاره و ارتضاه، و إلّا كان متناقضا مبطلا لا يفهم ما يقول، و أيّا كان فهو دليل علي فساد زعمه، فقعود الجماعة عن نصرة عليّ عليه السّلام و عدم القتال معه يمنع من إطلاق اسم الشيعة عليهم، فإذا بطل هذا ثبت أن عبد اللّه بن عمر (رض) في قعوده عن نصرة عليّ عليه السّلام كان من أعدائه لا من شيعته كما يزعم الآلوسي.
الثاني: إذا كان قعود عبد اللّه بن عمر عن نصرة عليّ عليه السّلام تورعا و احتياطا كان ندمه عليه باطلا؛ لأن التورع و الاحتياط في الدين مما أمر به الدين و حسّنه و هو فضيلة فلا يجوز الندم علي فعله بعد أن كان منه لا من غيره، و إنّما يصح الندم علي فعل المعصية دونه، و هل قول الآلوسي بذلك إلّا تناقض بيّن! ثم كيف يصح لعاقل أن يقول إن ابن عمر (رض) كان يهوي عليّا و بنيه عليهم السّلام الّذي هو
الآلوسي و التشيع، ص: 21
معني التشيع و مع ذلك يتقاعد عن نصرته و يتورع عن إتباعه؟! ذلك مما لا يمكن و لا يكون أبدا.
الثالث: لا يصح للآلوسي أن يقول: إن الجماعة قائمون بمحبته و عارفون له فضله و إن قاتلوه و استحلّوا قتله، سواء أ كان ناشئا من غلب القضاء و القدر عليهم- كما يزعم- أو من عدائهم له عليه السّلام كما هو الصحيح لقوله تعالي: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
[آل عمران: 31] فإنه يفيد انتفاء المحبة و التعظيم بانتفاء المتابعة مطلقا، و القوم لم يكتفوا بترك طاعته و متابعته دون أن يعمدوا إلي قتاله و إرادة قتله، فهل يا تري من شرط المحبّ أن يقاتل حبيبه و يستحلّ دمه، أو يا هل تري من شرطه أن يخالفه و يعصي أمره و يتقاعد عن نصرته؟
و يقابل هذا الحكم: أن المتقاعد عن نصرة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم تورعا و احتياطا، و من غلب عليه القضاء و القدر من مشركي قريش فوقع منهم ما أدّي إلي قتال النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و استحلال قتله كعتبة و شيبة و الوليد و أضرابهم من المشركين كلّهم كانوا قائمين بمحبته و تعظيمه، لعدم الفرق بين النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الإمام عليه السّلام في ذلك؛ لأنه قائم مقامه و سادّ مسدّه في غير الوحي الإلهي، لا سيما إذا لا حظنا
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في الصحيح المتفق عليه بين الفريقين: (يا عليّ حربك حربي و سلمك سلمي) [1].
و
يقول ابن حجر الهيتمي في الحديث السّادس عشر من الفصل الثاني، في سرد الأحاديث الواردة في أهل البيت عليهم السّلام من الباب الحادي عشر من صواعقه، عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال في عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليه السّلام: (أنا حرب لمن حاربتم و سلم لمن سالمتم) و أخرجه الحاكم في المستدرك علي الصحيحين في باب فضائل أهل البيت عليهم السّلام
فإذا صح هذا للآلوسي صح له ذلك و هذا مناف لما أوردناه من أدلّة.
__________________________________________________
[1] المستدرك للحاكم النيسابوري: 3/149 في فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام، سنن الترمذي: 5/227، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: 7/127، و غيرهم من حفاظ أهل السنّة.
الآلوسي و التشيع، ص: 22
الرابع: إذا لم يكن قتال طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة لعليّ عليه السّلام يوم الجمل مقصودا بل وقع من غير قصد كما يزعم، يلزمه أن يقول إن الّذين قاتلوه عليه السّلام يوم البصرة و علي رأسهم طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة كلّهم كانوا مجانين أو بهائم و تلك قضية تعليله (بأن القتال وقع عن غير قصد) و ما يقع عن غير قصد لا يكون إلّا فعل المجانين أو فعل البهائم أو الأطفال.
فإن كانوا مجانين كما يقتضيه تعليله بطل قوله إنهم كانوا محبين له عارفين له فضله؛ لأن ذلك لا يصح من المجانين و لا يدركونه، و إن كانوا عاقلين فاهمين كما هو الصحيح، كانوا قاصدين عامدين مصرّين علي قتاله عليه السّلام و عالمين بما هم قادمون عليه، فيدخلون جميعا في
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يا عليّ حربك حربي و سلمك سلمي)
و لا شك في أن حرب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ضلال و نفاق، فكذلك حرب عليّ عليه السّلام مثله ضلال و نفاق.

ليس من التورع التقاعد عن نصرة علي عليه السّلام

الخامس: ليس من التورع و الاحتياط في شي‌ء التقاعد عن نصرة عليّ عليه السّلام و ذلك لدخول المتقاعد حينئذ في الخاذلين له عليه السّلام فيكون مشمولا لقول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حديث الغدير المتواتر نقله بين الفريقين:
(من كنت مولاه فعليّ مولاه، أللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، و أحبب من أحبّه، و أبغض من أبغضه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله، و أدر الحقّ معه حيث دار)
[1] إذ لا شك في أن
__________________________________________________
[1] أخرجه ابن عقدة في كتابه عن خمس و مائة من الصحابة بخمس و مائة طريق، و أخرجه الطبري عن خمسة و سبعين من الصحابة بخمس و سبعين طريقا، كما أخرجه الجزري في جامع الأصول عن خمسة و ستين صحابيا بخمس و ستين طريقا كلّها صحيحة، و كلّ هؤلاء علم من أعلام أهل السنّة الّذين صنّفوا كتبا خاصة في حديث الغدير.
قال ابن حجر في صواعقه، الشبهة الحادية عشرة من شبهاته: إن الذهبي- مع تعنته- قد صحح عدّة طرق من طرق حديث الغدير، و
أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال لأصحابه يوم غدير خم: ألستم تعلمون أنّي أولي بالمؤمنين من أنفسهم- يكررها ثلاثا- فأجابوه ثلاثا: بلي، فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، و أحبّ من أحبه و ابغض من أبغضه، و أدر الحق معه حيث دار
).
الآلوسي و التشيع، ص: 23
المتقاعد عن نصرته عليه السّلام يكون خاذلا له عليه السّلام و من خذله عليه السّلام و لم ينصره فقد خذله اللّه كما يقتضيه نصّ الحديث، و الغريب من عبد اللّه بن عمر (رض) أنك تراه يترك بيعة عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام حقا و يتقاعد عن نصرته تورعا و احتياطا- كما يزعم الآلوسي- ثم هو يدخل علي الحجاج بن يوسف الثقفي- المشهور بسفك دماء الأبرياء- و يقول له: أخشي أن أموت و لم أكن قد بايعت أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان الأموي فمد يدك حتّي أبايع، فقال له الحجاج: إن يدي مشغولة فهاك رجلي، فمسح علي رجله ثم انصرف.
السّادس: لو كان كل من الفريقين معذورا، و كان أمر اللّه قدرا مقدورا، لتعدّي ذلك إلي كلّ من الفريقين- فريق المشركين أعداء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و فريق النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم- و كان كلّ من الفريقين معذورا، و كان أمر اللّه قدرا مقدورا، و ذلك لما تقدّم ثبوته بواضح الدليل أن حرب عليّ عليه السّلام هي حرب للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فإذا صحّ عذر المحاربين لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و كان مقبولا صح عذر المقاتلين عليّا عليه السّلام و كان مقبولا، و هذا كفر صراح و ذلك مثله كفر صراح.
السّابع: لو كان المقاتلون عليّا عليه السّلام يوم الجمل معذورين في قتالهم له عليه السّلام لكان
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم للزبير: «تقاتل عليّا و أنت له ظالم»
[1] باطلا، و إبطال قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مروق عن الإسلام، و في القرآن: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
[غافر: 52].
الثامن: لو كان معاوية و أصحابه معذورين في قتال عليّ عليه السّلام بصفين لكان قول الآلوسي و جدّه في معاوية و أتباعه أنهم من رؤساء الفرقة الباغية علي عليّ عليه السّلام باطلا لا معني له؛ و ذلك لأنهم من الدعاة إلي النّار، و الداعي إلي النّار لا يكون معذورا قطعا، و قد جاء التنصيص عليه
في حديث رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم
__________________________________________________
[1] أخرجه الحاكم في مستدركه: 3/933. في باب فضائل عليّ عليه السّلام و حكاه ابن عبد البر في استيعابه ص: 209 من جزئه الأول في ترجمة عليّ عليه السّلام و ابن قتيبة في الإمامة و السياسة في واقعة الجمل، و ابن عبد ربّه في العقد الفريد (ص: 100) من جزئه الثالث من الطبعة الأولي، فلتراجع فإنه متواتر.
الآلوسي و التشيع، ص: 24
في عمار بن ياسر بقوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلي الجنّة و يدعونه إلي النّار)
. و يقول ابن حجر العسقلاني في إصابته (ص: 274 من جزئه الرابع) في ترجمة عمار:
لقد تواتر عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قوله: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية)
الحديث، و أجمعوا علي أنه قتل مع عليّ عليه السّلام بصفين.
و أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 93) من جزئه الثاني في باب مسح الغبار عن النّاس في السبيل من كتاب الجهاد و السير، و أخرجه أيضا في (ص:
61) من جزئه الأول في باب التعاون في بناء المسجد من كتاب الصلاة من صحيحه، و حكاه الحاكم في مستدركه (ص: 386 من جزئه الثالث) و الذهبي في تلخيصه و حكما بصحته، و أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (ص: 243 من جزئه الثالث) و لاشتهار الحديث و تواتره اعتذر معاوية عنه، فقال: إنّما قتله من أخرجه، يعني عليّا عليه السّلام فأجابه عليّ عليه السّلام بأن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إذن يكون قاتلا لعمّه حمزة (رض) حيث أخرجه لحرب المشركين، فكيف يا تري يكون الباغي الداعي إلي النّار معذورا علي بغيه و دعوته إلي النار كما يزعم الآلوسي المتناقض، و اللّه تعالي في قرآنه أمر بقتال الباغي و تدميره، و لعن الدعاة إلي النّار، و
رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول: (سباب المسلم فسوق و قتاله كفر) [1]
و لا شك في أن عليّا عليه السّلام سيّد المسلمين و أمير المؤمنين أجمعين، فسبابه كفر كقتاله كفر بحكم هذا الحديث، و ما يأتي من
حديث: (من سبّ عليّا فقد سبّني)
و سباب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كفر و مثله الوصيّ عليّ عليه السّلام.
و حينئذ فلا يصح في منطق العقل أن يأمر اللّه تعالي بقتال المعذورين في شريعته بقتالهم عليّا عليه السّلام بعد أن وصفهم نبيّه الكريم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالفئة الباغية التي تدعوا إلي النّار، و نعتهم الآلوسي نفسه بالفرقة الباغية فتناقض فيه، فهو إما أن يقول بوجوب قتال الفئة الباغية التي تدعو إلي النّار- علي حد تعبير النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم-
__________________________________________________
[1] أخرجه البخاري في ص 12 من صحيحه من جزئه الأول، في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله و هو لا يشعر، من كتاب الإيمان.
الآلوسي و التشيع، ص: 25
أو لا يقول به، فإن قال بالأول بطل قوله إنهم معذورون في قتالهم عليّا عليه السّلام و إن قال بالثاني فقد طعن في القرآن الآمر بقتالهم و لعنهم و طعن في رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الحاكم بأنهم من الدعاة إلي النار، و طعن في نفسه و أبطل عليه قوله إنهم رؤساء الفرقة الباغية، و أيّا كان فهو دليل علي ضلاله و فساد مزعمته.
التاسع: إذا كان دخول الشبهة القويّة علي المقاتل عليّا عليه السّلام يوجب عليه قتاله لأنه بزعمه من الدين و ليس من الغيّ، و متي كان كذلك فهو لا ينافي المحبة- كما يزعم جدّ الآلوسي- كان
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حديث: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلي الجنّة و يدعونه إلي النّار)
باطلا، و كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حكمه عليهم بأنهم يدعون إلي النّار- و العياذ باللّه- ظالما جائرا، أو أنه كان جاهلا بدخول الشبهة القويّة عليهم أوجبت عليهم قتاله، و هو عندهم من الدين لا من الغيّ الموجب دخولهم إلي النّار، فحكم جازما بأنهم دعاة إلي النّار، و كلّ أولئك كفر و ضلال و خروج عن الإسلام.
فالآلوسي يري أن نسبته الظلم و الجهل إلي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهون عليه من نسبته إلي عدم العذر لرؤساء الفئة الباغية في قتالهم عليّا عليه السّلام و أن خروجه عن الإسلام و كفره باللّه العظيم أولي به من قوله بخروج الفئة الباغية عن الدين بحكم اللّه و حكم رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين أجمعين، فجدّ الآلوسي إمّا أن يقول بأن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان جاهلا بعدم المنافاة بين قتالهم عليّا عليه السّلام و محبتهم له، و كان هو عالما به و رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان جاهلا بتلك الشبهة القويّة عندهم التي أوجبت عليهم قتاله و كان هو عالما بها، و كان النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يعلم بأن قتالهم له عليه السّلام من الدين بسبب تلك الشبهة، و لا يعلم بأن ذلك لا يوجب لهم البغي و دخول النّار و جدّ الآلوسي علم ذلك كلّه، أو يقول بأن ما لفقه من العذر للفئة الباغية و ما ادعاه من الشبهة القويّة لهم لا يمنع من حكم النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليهم بالبغي، و أنهم يدعون إلي النّار فيدخلون في منطوق قوله تعالي: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَي النَّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ
[القصص: 41- 42] فإن قال بالأول كان كفرا صراحا، و إن قال بالثاني كان قوله فيما اعتذر به عنهم باطلا و ضلالا مبينا.
الآلوسي و التشيع، ص: 26
العاشر: إن ما اعتذر به الآلوسي عن القاسطين من بغاة صفين، و عن الناكثين في يوم الجمل، و أن قتالهم عليّا عليه السّلام لا يوجب ضلالهم و خروجهم عن الإسلام، و أن من قتل منهم بسيف عليّ عليه السّلام و أصحابه يومئذ يدخلون الجنّة بغير حساب، لا يتفق مع القرآن و مناقض للسنّة؛ أما من الكتاب فقوله تعالي: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ
[يونس: 32] و هو يفيد أنه لا واسطة بين الحقّ و الضّلال، فإن قال: إن الحقّ مع عليّ عليه السّلام كما هو الصحيح كان الضلال مع مقاتليه عليه السّلام و إن قال: إن الحقّ مع مقاتليه لزمه أن يلصق الضّلال بعليّ عليه السّلام و أصحابه، و في ذلك تكذيب للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم
في حديثه الصحيح المتفق عليه: (عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ، يدور معه حيث دار)
[1] و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مشيرا إلي عليّ عليه السّلام: (هذا و أصحابه علي الحقّ)
[2] و لا شك في أن تكذيب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مروق عن الدين.
و أما السنة
فقول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في الصحيح المتفق عليه بين الفريقين: (من خرج عن السّلطان شبرا مات ميتة جاهلية)
أي ميتة كفر، و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من خرج عن الطاعة و فارق الجماعة، ثم مات مات ميتة جاهلية)
و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)
و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (ليس أحد من الناس خرج من السّلطان شبرا فمات عليه إلّا مات ميتة جاهلية) [3].
__________________________________________________
[1] أخرجه الحاكم في مستدركه (ص: 119) من جزئه صحيحا علي شرط البخاري و مسلم، و الذهبي في تلخيصه معترفا بصحته علي شرطهما.
[2]
أخرج الحاكم في مستدركه (ص: 129) من جزئه الثالث صحيحا علي شرط البخاري و مسلم، عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (تكون بين النّاس فرقة و اختلاف، فيكون هذا و أصحابه علي الحقّ، و أشار إلي عليّ عليه السّلام)
و هو يفيد أن عليّا عليه السّلام أين ما كان الحقّ معه، عموما كما هو مفاد اسم الجنس المفرد المعرّف (بالألف و اللّام) في كلمة الحقّ، و متي كان كذلك كان الضلال في جانب المقاتلين له لقوله تعالي: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ
و من كان الضلال في جانبه كان في النار،
لقول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (و كلّ ذي ضلالة في النّار)
و
أخرج السيوطي في جامعه الصغير في أول (ص: 64) من جزئه الأول عن أحمد في مسنده، و النسائي، و ابن ماجة و صححه، عن جابر قال، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب اللّه، و إن أفضل الهدي هدي محمّد، و شرّ الأمور محدثاتها، و كلّ محدثة بدعة، و كلّ بدعة ضلالة، و كلّ ضلالة في النّار)
فمعاوية و أصحابه و غيرهم ممن قاتلوه كلّهم بحكم هذه الأحاديث في النار: أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ
[الزمر: 19].
[3] و
في صحيح البخاري في باب قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (سترون بعدي أمورا تنكرونها) ص 146 من جزئه-
الآلوسي و التشيع، ص: 27
و هذه الأحاديث الثلاثة أخرجها مسلم في صحيحه (ص: 127 و 128) من جزئه الثاني في باب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، فهذه الأحاديث كلّها تفيد فساد ذلك الاعتذار الّذي أدلي به الآلوسي لتصحيح ما قامت به الفئة الباغية و غيرهم من القتال لعليّ عليه السّلام بعد أن حكم النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بأن من مات بعد خروجه علي إمام زمانه مات ميتة جاهلية، و قد أجمع الفريقان من غير جدال علي أنّ عليّا عليه السّلام كان يومئذ هو إمام المقاتلين له و الخارجين عليه لا بشبر واحد بل بعشرات الألوف من الأشبار، و قد جاء التنصيص من النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه عهد إلي عليّ عليه السّلام في قتالهم
بقوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (أنت تقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين من بعدي) [1].

الاعتذار عنهم و ما فيه

و أما اعتذار أوليائهم عنهم بالاجتهاد و أنه لا إثم عليهم فأشبه باعتذار أولياء إبليس عنه في امتناعه من السّجود لآدم عليه السّلام لأنه و إن بغي و تكبّر لكنّه من المجتهدين مثل القاسطين و الناكثين و المارقين، و لعل جريمة إبليس دون جريمة الفرقتين، فإن إبليس إنما امتنع من السّجود فخالف أمر اللّه و لم يسبّ نبيّا، و لم يقاتل إماما، و لم يهرق دما لمؤمن، الأمر الّذي فعله الفرقتان و ارتكباه من إراقة دماء الأبرار و سباب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بسباب وصيّه عليّ عليه السّلام بل كيف يصح الاجتهاد ممن لعنه اللّه في الدنيا و الآخرة و أعدّ لهم عذابا مهينا بقوله تعالي: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً
[الأحزاب: 57] و
قد قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هي حديثه الصحيح عند الفريقين: (من آذي عليّا فقد آذاني، و من آذاني فقد
__________________________________________________
-الرابع عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (من خرج عن السّلطان شبرا مات ميتة جاهلية)
. [1] أخرجه الحاكم في مستدركه (ص: 139) من جزئه الثالث في باب فضائل عليّ عليه السّلام و صححه علي شرط البخاري و مسلم، و المتقي الهندي في منتخب كنز العمال بهامش الجزء الخامس من مسند أحمد بن حنبل (ص: 39) و الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ص: 340) من جزئه الثامن، و غيرهم من حفاظ أهل السنة.
الآلوسي و التشيع، ص: 28
آذي اللّه) [1]
و
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيه عليه السّلام: (من آذي عليّا بعثه اللّه يوم القيامة يهوديّا أو نصرانيا) [2].
و
يقول المحبّ الطبري في الرياض النضرة (ص: 177) من جزئه الثاني، و الحاكم في الصحيح من مستدركه علي شرط الشيخين (ص: 129 و 138) من جزئه الثالث، و ابن الصبّاغ المكّي المالكي في الفصول المهمة (ص: 123) بأسانيدهم الصحيحة عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال في عليّ عليه السّلام: (أنه إمام البررة، قاتل الفجرة، منصور من نصرة، مخذول من خذله)
فلو كان مقاتلوه في يوم الجمل و صفين مجتهدين مخطئين فيكونوا بذلك معذورين في قتالهم له عليه السّلام و لهم أجر واحد علي اجتهادهم- طبعا- علي زعم المخبولين، لكان قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في مقاتليه إنهم مخذولون فجرة كذبا باطلا، و القول بكذب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مروق عن الدين بإجماع المسلمين.
الحادي عشر: كيف يصح لمن له عقل أو شي‌ء من الدين أن يزعم أن قتال القاسطين و الناكثين لعليّ أمير المؤمنين عليه السّلام لا ينافي كونهم محبّين له عارفين فضله- كما يزعم ذلك الآلوسي؟- وهب أن ذلك كان لشبهة قويّة عند المقاتل أوجبت عليه القتال إلّا أن ذلك يمنع من بقاء المحبة و يمنع من تعظيمه، الأمر الّذي أوجب عليه أن يقاتله و يستحلّ لأجله دمه، و لو فرضنا- علي سبيل فرض المحال ليس بمحال- وجود شي‌ء من التعظيم و المحبّة له عند مقاتليه قبل ذلك، فإنهما يزولان قطعا بالإقدام علي قتاله و استحلال قتله، و هذا شي‌ء في الوضوح تكاد تراه بباصرة عينك إن لم تكن عليها غشاوة التعصب للباطل البغيض.
الثاني عشر: يقول أمناء الحديث و التأريخ عند أهل السنّة،
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يا عليّ لا يحبّك إلّا مؤمن و لا يبغضك إلّا منافق) [3]
فعلي ضوء هذا
__________________________________________________
[1] أخرجه السيوطي في جامعه الصغير (ص: 135) من جزئه الثاني، و الحاكم في مستدركه (ص:
127) من جزئه الثالث، و صححه علي شرط البخاري و مسلم.
[2] أخرجه أحمد في مسنده، و حكاه عنه العقيلي في (ص: 67) من نصائحه الكافية من جزئه الأول.
[3] أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 60) في باب الدليل علي حبّ الأنصار و عليّ من الإيمان، من جزئه الأول من كتاب الإيمان، و ابن حجر العسقلاني في إصابته (ص: 271) من جزئه الرابع في ترجمته-
الآلوسي و التشيع، ص: 29
الحديث، إذا كان المقاتلون له عليه السّلام محبين له عارفين له فضله- كما يزعم الآلوسي- و كانوا معذورين في قتالهم له- سواء أ كان القتال مقصودا أم لم يكن مقصودا- فكيف يا تري نستطيع أن نعرف المنافق و نميّزه عن المؤمن؟ و كيف نعرف المحبّ من المبغض؟
و ليت الآلوسي دلّنا علي الميزان الّذي يصح الرجوع إليه في معرفة المحبّ من المبغض، و المؤمن من المنافق، لنرجع إليه في معرفة العدوّ من المحبّ، و نميز به بين المؤمن و المنافق لنري هل هو ما عليه العقلاء أو يأخذ فيه طريقا يختلقه من طينته.
و قديما
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيما حكاه إمام أهل السنّة أحمد بن حنبل، و الحافظ الترمذي، عن جابر: (ما كنّا نعرف المنافقين إلّا ببغضهم عليّا) [1]
و يقول كلّ من له عقل إن من أظهر مصاديق البغض و العداء هو من حشّد العساكر و جيّش الجيوش و هاجم صريحا معلنا لحرب نفس الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم [2].
و يري وجوب قتله، كما لا يشك عاقل في أن هذا أقصي ما يصل إليه جهد العدوّ من الوقيعة في عدوّه، بأن يأتي علي نفسه و ينزل بها من الخطب الشنيع و الأمر الفظيع، فلا يصح بعد هذا كلّه أن يزعم الآلوسي أن المقاتلين عليّا عليه السّلام محبّون له عارفون له فضله، بل الصحيح أنهم مبغضون له جاحدون له فضله، و هذا أمر لا غبار عليه.

الغريب فيما ارتكبته عائشة

و الغريب من أم المؤمنين عائشة كيف طفقت تتوصل إلي تمزيق أبنائها، و كيف لم ينكسر عزمها باعتزال الزبير و معرفة نفسه أنه ظالم لأمير المؤمنين عليه السّلام
__________________________________________________
- لعليّ عليه السّلام و ابن عبد البر في استيعابه (ص: 473 و 474) من جزئه الأول في ترجمته لعليّ عليه السّلام و البغوي في مصابيحه (ص: 201) من جزئه الثاني، و الترمذي في سننه (ص: 215) من جزئه الثاني في باب فضائل عليّ عليه السّلام و الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ص: 417) من جزئه الثامن، و غير هؤلاء من أعلام أهل السنّة، و هو من الأحاديث المشهورة المتواترة بين الفريقين.
[1] تجده في المقصد الثالث من مقاصد الآية الرابعة عشرة من الآيات الواردة في فضائل أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في الباب الحادي عشر من الصواعق المحرقة لابن حجر.
[2] إشارة إلي آية المباهلة التي جعل اللّه تعالي فيها نفس عليّ عليه السّلام كنفس نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بقوله تعالي:
وَ أَنْفُسَنا
و قد أجمع المفسرون من أهل السنّة و الشيعة علي أن المراد بأنفسنا نفس عليّ عليه السّلام.
الآلوسي و التشيع، ص: 30
فهل يا تري يجدر بها و هي أم المؤمنين التي أمرها اللّه بأن تقرّ في بيتها: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولي
[الأحزاب: 33] أن تخرج من بيتها تدعو إلي التفريق بين أبنائها، و تتذرع إلي بث بذور الفتنة بينهم بكلّ ما لديها من قوّة، حتّي انخدع بها العدد الكبير من أبنائها ممن فتنتهم بخروجها، فبعثت بهم إلي مركز جيشها المتألب، و عند ذلك هجمت بهم و هي في طليعتهم علي سياج دين اللّه الأقوم، و سرادقه الأعظم، و كهفه الحصين، و صراطه المستقيم لتستطيح منه عمده الرفيعة، و تستبيح من حرمته كلّ منيع، و حينئذ فلا تسمع من أبنائها إلّا أصواتا خافتة، و أنفاسا هافتة، و هي لا تبرح بين ذلك كلّه تدعو إلي تمزيقهم و تخريقهم، فكأنها و هي زوجة ذلك المجاهد الأكبر و المنقذ الأعظم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذي صدع بدينه الحنيف، و شرعه المنيف لكي يقيل به هذا العالم من كبوته، و ينتشله من هوّنه، و ينقذه من ضلالته، و يعيده إلي الهدي و النور، تريد أن ترجع بأبنائها القهقري إلي عهد الجاهلية الأولي عهد الكفر و الإلحاد و الجحود و العناد، ذلك العهد المظلم بغياهب الجهل الّذي لم تنجل غبرته بنور الإسلام إلّا بعد أن تكبد صاحبه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في سبيل تأييده و توطيد أركانه من النكبات ما يقصر الكلام عن تعريفه، و القلم عن تعديده، و لقد فات الآلوسي أن يتمثل بقول الشاعر العربي:
يوم جاءت تقود بالجمل العسكر لا تتقي ركوب خطاها
فألحت كلاب حوأب نبحا فاستدلّت به علي حوباها [1]
يا تري أيّ أمة لنبيّ جاز في شرعه قتال نساها
أيّ أمّ للمؤمنين أساءت ببنيها ففرقتهم سواها
شتتهم في كلّ شعب و واد بئس أم عتت علي أبناها
نسيت آية التّبرج أم لم تدر أنّ الرحمن عنه نهاها
__________________________________________________
[1] يشير بذلك إلي ما
أخرجه الحاكم في الصحيح من مستدركه علي شرط الشيخين في (ص: 120) من جزئه الثالث، في باب فضائل عليّ عليه السّلام و ابن عبد ربه في العقد الفريد (ص: 105) من جزئه الثالث في واقعة الجمل، عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال مخاطبا زوجاته: (أيتكن صاحبة كلاب الحوأب، ثم نظر إلي عائشة، و قال: احذري أن تكوني أنت).
الآلوسي و التشيع، ص: 31
ذكرتنا بفعلها زوج موسي إذ سعت بعد فقده مسعاها
قاتلت يوشعا كما قاتلته لم تخالف حمراؤها صفراها
وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمي فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمي وَ أَضَلُّ سَبِيلًا
[الإسراء: 72].
ثم نقول لهذا الآلوسي: إن الشيعة و إن تناولت بعض الصحابة بالقدح إلّا أنهم محبّون لهم عارفون لهم فضلهم، إذ ليس بين ذلك و بين قدحهم تناف؛ لأن القدح لم يكن مقصودا فوقع ما وقع إن شاء بعضهم أو أبي، فكلّ من القادح و المقدوح معذور و كان أمر اللّه قدرا مقدورا، كما زعم ذلك في المقاتلين عليّا عليه السّلام.
و لو فرضنا كان القدح فيهم قصدا فهو بشبهة قويّة عند القادح أوجبت عليه القدح، و هو بزعمه أنه من الدين و ليس من الضلال، و متي كان كذلك فهو لا ينافي المحبة لهم- علي حد تعبير جدّ الآلوسي- و إذا كان الأمر كذلك عند هؤلاء المخبولين فلما ذا كلّ هذا الغيّ و البغيّ من الآلوسي علي الشيعة؟ و لما ذا يا تري نشر هذا الكتاب و ملأه بالسّباب و النيل من كرامتهم و نسبة الكفر و الضلال إليهم؟
و لما ذا يا تري جدد طبعه (محبّ الدين الخطيب) علي مرأي و مسمع من علماء مصر و مثقفيها؟ و الشيعة لم يأتوا بما جاءت به الفئات المقاتلة عليّا عليه السّلام فإنهم لم يقاتلوا أحدا من الخلفاء (رض) و لم يريقوا دما لأحد من أوليائهم، و لم يمسّوهم بسوء كما ارتكب ذلك كلّه الفئة المقاتلة عليّا عليه السّلام و هل تجد لذلك وجها غير كونهم موالين عليّا عليه السّلام و معادلين لمعاوية و غيره من الفئات المقاتلة عليّا عليه السّلام من أولياء الآلوسي، و من القبيح جدا أن تجرّ باؤه و باء الشيعة لا تجر.

قول جد الآلوسي و ما فيه

الثالث عشر: إن قول جد الآلوسي: (فقف عند مقدرك فما أنت و إن بلغت الثّريا إلّا دون ثري نعال أولئك) يعطيك صورة واضحة من صور الضلال لاستلزام قوله أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يقف عند مقدره حينما حكم علي معاوية و أصحابه بالبغي و أنهم من الدعاة إلي النّار، فعلي قول جدّ الآلوسي أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم
الآلوسي و التشيع، ص: 32
و إن بلغ ما بلغ من العلوّ و الرفعة فهو دون ثري نعال معاوية و أصحابه الدعاة إلي النار، و هل هناك كفر أعظم من هذا الكفر، فالآلوسي و جدّه إما أن يقولا بعدم التوقف في الحكم علي القاسطين بالبغي و أنهم دعاة إلي النار، أو يقولا بوجوب التوقف كما يقتضيه صيغة الأمر من كلمة (قف) في كلامه و إلّا كان دون ثري نعال أولئك البغاة الدعاة إلي النار؟
فإن قال بالأول بطل قوله: إن الحاكم عليهم بالبغي و الضلال دون ثري نعال أولئك، و إن قال بالثاني فقد صار إلي أمر عظيم، و هو الحكم علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بأنه دون ثري نعال أولئك؛ لأنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هو الّذي حكم ببغيهم و ضلالهم، و أنهم من الدعاة إلي النّار، و هو الكفر بعينه، و كان الأولي بالآلوسي ألّا يتعرض للشيعة بشي‌ء لئلّا يتضح للملإ المثقف الحر- إن وجدناهم- عواره و فساد استدلاله، و أنه يبرهن بكلامه علي إطفاء شعلة ذهنه و سبات عقله: وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ
[الرعد: 33].
فالشيعة تقول كما يقول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إن الفئة الباغية و سائر الطوائف العاثية في الأرض الفساد التي خرجت علي عليّ عليه السّلام زمان خلافته عليه السّلام و تحزّبت و شايعت و بايعت علي قتاله كلّهم بغاة و دعاة إلي النّار، و كلّهم داخلون في قوله تعالي: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَي النَّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ
[القصص: 41].
فإذا كان حكم الشيعة علي الفئات المقاتلة عليّا عليه السّلام بالبغي، و الضلال و دخول النار يعدّ ذنبا يؤاخذون عليه فالمسئول عنه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم سيّد الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فالأولي بالآلوسي أن يؤاخذ النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حكمه عليهم بذلك قبل أن يؤاخذ الشيعة في حكمهم؛ لأن للشيعة برسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الأسوة الحسنة.
ثم نقول للآلوسي: إن
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في عليّ عليه السّلام: (إنه إمام البررة قاتل الفجرة)
يفيد أن الفئة المقاتلة عليّا عليه السّلام كلّهم فجرة و ليس فيهم
الآلوسي و التشيع، ص: 33
بررة، و أن الفئة التي قاتلت معه كلّهم بررة، و يقول القرآن: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
[الإنفطار: 13- 14] فكيف يصح للآلوسي أن يساوي- عنادا للّه و لرسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم- بين الفريقين، فريق الأبرار الّذين كانوا مع عليّ عليه السّلام و فريق الفجّار الّذين قاتلوه، و يقول باطلا آثما: (فكلّ من الفريقين معذور و كان أمر اللّه قدرا مقدورا) و اللّه تعالي يقول في كتابه العزيز: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ
[الحشر: 20] و هو نص صريح في نفي المساواة بين الفريقين، و لا شي‌ء من ذلك بداخل في قوله تعالي: وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً
[الأحزاب: 38] لأن قتال الفئة الباغية و غيرها عليّا عليه السّلام لم يكن من أمر اللّه في شي‌ء و لا هو منه علي شي‌ء، بل الأمر معكوس علي هذا المستدلّ لأن اللّه تعالي أمرهم بطاعة عليّ عليه السّلام لا بقتاله عليه السّلام و جعل طاعته كطاعة نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فهذا
رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول: (من أطاع عليّا فقد أطاعني، و من عصي عليّا فقد عصاني) [1]
و
يقول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من أبغض عليّا فقد أبغضني، و من أبغضني فقد أبغض اللّه، و من أبغض اللّه فقد كفر) [2]
و
يقول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من آذي عليّا فقد آذاني، و من آذاني فقد آذي اللّه) [3]
و قال تعالي: وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
[التوبة: 61].
فلو كان قتالهم له عليهم السّلام من أمر اللّه- كما يزعم- لبطل هذا كلّه، و لما صح قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيهم أنهم بغاة و دعاة إلي النّار، إذ لا شي‌ء من أمر اللّه يدعو إلي النار.
و يزداد لديك فساد هذه المزعمة وضوحا إذا لاحظت ما قبل الآية الكريمة، و هو قوله تعالي: ما كانَ عَلَي النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً
[الأحزاب: 38]
__________________________________________________
[1] أخرجه الحاكم في مستدركه (ص: 127) من جزئه الثالث في باب فضائل عليّ، و صححه علي شرط البخاري و مسلم.
[2] أخرجه السّيوطي في جامعه الصغير (ص: 136) من جزئه الثاني و صححه من الطبعة الأولي، و أخرجه الهيتمي في صواعقه (ص: 121) من الطبعة الأخيرة، و هو الحديث السّابع عشر من الأحاديث التي أوردها في فضائل عليّ عليه السّلام في الفصل الثاني من الباب التاسع و حسّنه.
[3] أخرجه الحاكم في مستدركه (ص: 122) من جزئه الثالث، و الذهبي في تلخيصه، و قد اعترفا بصحته علي شرط الشيخين.
الآلوسي و التشيع، ص: 34
فإن معني الآية: إما أنه ليس علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من ضيق فيما أحلّ له من التزويج بامرأة ابن المتبني لأن حكمه غير حكم الولد الصلبي في تحريم زوجته علي أبيه، أو أنه تعالي فرض و أوجب علي نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن يتزوج بزينب بعد طلاق زيد بن حارثة لها كما يدلّ عليه ما قبل الآية ليبطل به حكم الجاهلية في الأدعياء و أنه لا يجري المتبني- بالفتح- في تحريم إمرأته إذا طلّقها علي الأب، و يعني قوله تعالي: ب سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ
[الأحزاب: 38] إما سنّته تعالي في الأنبياء الماضين و شريعته فيهم في رفع الحرج عنهم و عن أممهم بما أباح لهم من ملاذّهم، أو أنه تعالي أباح لهم كثرة الأزواج كما صنعه داود و سليمان عليه السّلام فكان لداود عليه السّلام مائة زوجة، و لسليمان ثلاثمائة زوجة و سبعمائة سرية، أو أنه تعالي يريد بسنّته أن النكاح من سنّة الأنبياء عليهم السّلام كما
جاء التنصيص عليه من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: (النكاح من سنّتي، فمن رغب عنه فقد رغب عن سنّتي)
و يعني تعالي بقوله: وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً
إما أن ما كان ينزّله تعالي علي أنبيائه عليه السّلام من الأمر الّذي يريده قضاء مقضيا، أو يعني أن أمره تعالي يجري علي مقدار لا تفاوت فيه من ناحية الحكمة، أو يعني أن القدر المقدور هو ما كان علي مقدار ما تقدم بلا زيادة و لا نقصان.

الآية لا تدلّ علي ما يبتغيه الآلوسي

و إنما تلوناه عليك بطوله لتعلم أن الآية الكريمة لا تريد ما يبتغيه الآلوسي و لا تدلّ عليه بإحدي الدلالات المنطقية، و شي‌ء آخر يلزم الآلوسي أن يقول به، و هو أن قوله تعالي: مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها
لا معني له و ليس له في الوجود صورة، و ذلك لأن كلّا من القاتل و المقتول معذور بعد أن كانا مشمولين لقوله تعالي: وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً
و لا مخرج لهما عن منطوقها، يدلك علي ذلك تعليله هذا بقوله: (فوقع ما وقع إن شاء و إن أبي أبو الحسنين، فكلّ من الفريقين معذور، و كان أمر اللّه قدرا مقدورا) فهو يفيد خروج القتل و القتال عن مشيئة كلّ من القاتل و المقتول بمقتضي تعليله العليل الموجب بطلان الدين في وعده و وعيده، بل يوجب بطلان التكليف و بطلان بعثة
الآلوسي و التشيع، ص: 35
النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لعدم الفائدة حينئذ فيها، إذا كان كلّ ما يرتكبه الإنسان بنفسه أو بالآخرين خارجا عن مشيئته، و أنه يقع إن شاء أو أبي و كان أمر اللّه- في ذلك- قدرا مقدورا، و القول بذلك كفر صريح نعوذ باللّه منه.
فالآلوسي بهذا المنطق المفلوج و البرهان المعكوس يحاول عبثا أن يعطي بغاة صفين و غيرهم من الخارجين علي عليّ عليه السّلام صفة المحبة له، و القيام بفضله خشية أن يدخل الفريقان المقاتلان له عليه السّلام و المستحلّان دمه في
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيما تقدم ذكره: (يا عليّ لا يحبّك إلّا مؤمن و لا يبغضك إلّا منافق)
و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يا عليّ حربك حربي و سلمك سلمي)
و في القرآن: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً
[النساء: 145] و يقول الكتاب: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ
[المائدة: 33].
فكلّ هذه الأحاديث الصحيحة المسجلة في صحاح أهل السنّة، و كلّ هذه الآيات الكريمة في القرآن دعت الشيعة الإمامية إلي الانحراف عن المقاتلين عليّا عليه السّلام و الإعتقاد فيهم غير ما يعتقده فيهم أعداء عليّ و بنيه عليهم السّلام إذ لا يجوز للشيعة و هم مسلمون مؤمنون أن يخالفوا اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و يكونوا حربا للّه و حربا لرسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و يريدوا غير ما يريدان- كما فعل ذلك الآلوسي-، و يؤكد عقيدتهم في الفئة الباغية من أهل صفين
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من سبّ عليّا فقد سبّني، و من سبّني فقد سبّ اللّه، و من سبّ اللّه فقد كفر) [1]
و قد ثبت بالتواتر القطعي أن رئيس الفئة الباغية معاوية و أصحابه قد سبّوا عليّا عليه السّلام علي المنابر و المنائر في الجوامع و المجامع من سنة سبع و ثلاثين من الهجرة إلي سنة تسع
__________________________________________________
[1] أخرجه السيوطي في جامعه الصغير (ص: 147) من جزئه الثاني و صححه، و الحاكم في مستدركه، و الذهبي في تلخيصه و صححاه علي شرط البخاري و مسلم في (ص: 121) من جزئه الثالث، و المتقي الهندي في منتخب كنز العمل بهامش الجزء الخامس عن مسند أحمد في باب فضائل عليّ عليه السّلام و غير هؤلاء من حفاظ أهل السنة.
الآلوسي و التشيع، ص: 36
و تسعين [1] حتي جعلوا ذلك من أورادهم اللّازمة في مختلف الأوقات، أللّهم إلّا أن يقول- الآلوسي كما قال غيره من أعداء الوصي و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم- إنهم مجتهدون فأدّي اجتهاد بعضهم إلي التقاعد عن نصرته و خذلانه، و بعضهم إلي قتله و قتاله [2] و إهراق دمه، و مع ذلك فهم محبون له عارفون له فضله فلهم أجر واحد علي اجتهادهم و إن لم يكونوا محقين و كانوا مبطلين.
كأن القوم يرون أن الاجتهاد من الدروع الحصينة التي تخول صاحبه صلاحية قتال عليّ عليه السّلام و وجوب قتله و إن كان ذلك الاجتهاد مقتنصا من الأهواء و الضلالات و الكفر و النفاق، و كان مخالفا
لقول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيما تقدم نصّه: (سباب المسلم فسوق و قتاله كفر)
بل و إن كان اجتهادهم في سبّ اللّه و سبّ رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و في حربهما، إذن فليرتكب المجتهدون ما شاءوا أن يرتكبوا من
__________________________________________________
[1] تجده في (ص: 214) من سنن الترمذي (و ص: 278) من صحيح مسلم من جزئه الثاني في باب فضائل عليّ عليه السّلام و (ص: 126) من الفصول المهمة لابن الصباغ المكّي المالكي، و هذا مما لا خلاف فيه بين الأمة بل هو معلوم حتي عند اليهود و النّصاري و سائر الملل الأخري إلي زمن عمر بن عبد العزيز.
[2] الغرابة في كون معاوية من المجتهدين و مالك بن نويرة ليس مجتهدا: يقول ابن حجر الهيثمي في خاتمه الصواعق: (إعتقاد أهل السنّة أن معاوية كان من المجتهدين فله أجر واحد علي اجتهاده) و الغريب أيها القارئ أن يكون معاوية من المجتهدين فله أجر واحد علي اجتهاده في سبّ عليّ عليه السّلام و قتاله، و مالك بن نويرة من المرتدين و ليس من المجتهدين فله أجر واحد علي اجتهاده في امتناعه من دفع زكاته و زكاة قومه إلي أبي بكر (رض) لذا فإن الشيعة تقول إن مالكا لم يصنع مع أبي بكر (رض) ما صنعه معاوية مع عليّ عليه السّلام من السّباب و القتال و استحلال قتله، فهل يا تري وجها لهذا الفارق بين الرجلين سوي أن مالكا خالف أبا بكر (رض) فقط و معاوية لم يكتف بمخالفته عليّا عليه السّلام دون أن قاتله و استحلّ سبابه و قتله، لذا كان مجتهدا فله أجر اجتهاده، أما مالك فكافر مرتد و ليس مجتهدا و له أجر اجتهاده، و لو كان الأمر معكوسا لانعكس الأمر عندهم فلو كان المخالف لأبي بكر (رض) و الممتنع عن دفع زكاته له معاوية و أصحابه لكان معاوية عندهم كافرا مرتدا خارجا عن الإسلام، و لما صح الاعتقاد عندهم أنه من المجتهدين فله أجر واحد علي اجتهاده.
فتفريق أهل السنّة- علي حدّ قول ابن حجر بين الرجلين- بين مالك بن نويرة الصحابي الكبير المحكوم عليه بالارتداد في محكمة خصوم الشيعة دون النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مع ثبوت إسلامه بشهادة كلّ من العدلين عندهم عبد اللّه بن عمر، و أبي قتادة عند أبي بكر (رض) كما في الإصابة لابن حجر العسقلاني، لأن مالكا كان مواليا لعليّ عليه السّلام و مخالفا لأبي بكر (رض) و لا يري له في عنقه بيعة و بين معاوية بن أبي سفيان المحكوم عليه في محكمة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالبغي و أنه من الدعاة إلي النّار فيما تواتر عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لوصيّه عليّ عليه السّلام و مستحلّ لحربهما و سبّهما يغني اللّبيب عن التحقيق إذا لم يكن له في العصبية من نصيب.
الآلوسي و التشيع، ص: 37
أنواع الضلالات و الموبقات و فعل المحرمات ما دام الاجتهاد قد خولهم صلاحية ذلك كلّه، كما يزعم أولياء الفئة الباغية من أهل صفين تصحيحا و تصويبا لما ارتكبوه من قتل النفوس و استحلال المحرّمات، و هتك الحرمات، و ما استحلّوه من عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما حرّم اللّه، و قديما
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (ستة لعنتهم لعنهم اللّه و كلّ نبيّ مجاب: الزائد في كتاب اللّه، و المكذّب بقدر اللّه تعالي، و المتسلّط بالجبروت فيعز بذلك من أذلّ اللّه و يذلّ من أعزّ اللّه، و المستحلّ لحرم اللّه، و المستحلّ من عترتي ما حرّم اللّه، و التارك لسنّتي) [1].
و هل يكون الطعن في رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و في دينه غير هذا، و يقابل هذا الاجتهاد اجتهاد إبليس، و اجتهاد المشركين، و اجتهاد قتلة عثمان، و ذلك مع الغضّ عن كون اجتهاد الفرقتين مانعا من حبّهم عليّا عليه السّلام و مانعا من أنهم عارفون له فضله- كما يزعم الآلوسي- لوضوح بطلان تحقق محبتهم له عليه السّلام مع انتفاء إطاعتهم له عليه السّلام كما تقدمت الإشارة إليه في صريح قوله تعالي: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
[آل عمران: 31] فإن إبليس قد اجتهد في مخالفة أمر اللّه كاجتهاد معاوية في مخالفة أمر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذي استحق من أجله أن يكون من الدعاة إلي النار، فلإبليس علي زعمه أجر واحد علي اجتهاده و إن لم يكن محقّا و كان مبطلا، و لا يمنع ذلك كونه محبّا للّه، و لا ينافي كونه عارفا له قدره حقّ قدره.
و كذا الحال في مشركي قريش فإنهم اجتهدوا في قتال النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و وجوب قتله لشبهة قويّة عند مقاتليه أوجبت عليهم أن يقاتلوه، و ذلك بزعمهم لا ينافي دينه، و لا يمنع من كونهم محبين له عارفين له فضله، فإن جاز مثل هذا الاجتهاد و المخالف لضرورة الدين، و المقابل لجميع نصوصه القطعية، و المصادم للأدلّة العقلية الفطرية عند أولياء الفرق الباغية جاز ذلك الاجتهاد لأولئك الأبالسة و الشياطين من كفرة قريش و غيرهم من الكافرين، و هذا لا يقول به ذو دين و ذلك مثله لا يقول به من له دين.
__________________________________________________
[1] أخرجه السيوطي في جامعه الصغير (ص: 32) من جزئه الثاني عن الترمذي و الحاكم عن عائشة، و الحاكم عن ابن عمر و صححه.
الآلوسي و التشيع، ص: 38

لما ذا اختار الشيعة عليّا عليه السّلام إماما بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم دون غيره

ثم إننا معاشر الشيعة إنما اخترنا عليّا و بنيه الأحد عشر عليه السّلام أئمة لنا بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم دون الآخرين؛ لأن اللّه تعالي قد اختاره لنا إماما و هاديا، و أمر نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن ينصّ عليه بالخلافة العامة علي الأمة من بعده، و ذلك لما أخرجه لنا حفاظ أهل السنّة في صحاحهم، و أمناء الحديث عندهم في مسانيدهم المعتبرة لديهم من أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نصّ عليه بالإمامة بعده، و كان يذكّرهم بذلك طيلة حياته و في مختلف أوقاته بمختلف حالاته، حتي في مرضه الّذي توفي فيه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الحجرة مملوءة بأصحابه،
فقال و هو صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك الحال من شدّة المرض: (أيّها النّاس إنّي مخلّف فيكم الثّقلين؛ كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا، و لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض، فلا تقدموهم فتهلكوا، و لا تأخروا عنهم فتهلكوا، و لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم) [1].
__________________________________________________
[1] أخرجه الترمذي في سننه (ص: 220) من جزئه الثاني عن نيف و ثلاثين صحابيا، و هو من الأحاديث المشهورة المتواترة بين الفريقين، و أخرجه الحاكم في مستدركه (ص: 110 و 148) من جزئه الثالث و صححه علي شرطي البخاري و مسلم، و نقله ابن حجر في صواعقه عن نيف و عشرين صحابيا في الفصل الأول من الباب الحادي عشر في فضائل أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في الآية الرابعة (ص: 89) من طبعة سنة (1324 ه) و أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ص: 442) من جزئه الثامن، و الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (ص: 17 و 14 و 26 و 59) من جزئه الثالث، و أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 279 و 280) من جزئه الثاني في فضائل أهل البيت عليهم السّلام.
حديث الثقلين و دلالته علي خلافة الأئمة من أهل البيت و في هذا الحديث من الدلالة علي خلافتهم بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من وجوه تمسّك بها الشيعة تبعا للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و نزولا عند سنّته القطعية:
الأول: إنه نصّ في الدلالة علي عدم خلو البيت النبويّ من رجل في كلّ زمان هو في وجوب التمسك به كالقرآن الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه مطلقا.
الثاني: إن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم جعل عترته أحد الثقلين أو الخليفتين، و حكم بأنهما لن يفترقا ما دامت الدنيا؛ لأن لن لنفي المستقبل عند أهل العربية فهو يفيد عدم افتراقهما في المعني أبدا حتي يردا عليه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الحوض، و هو دليل علي عصمتهم لعصمة القرآن فيتعين عصمة أعداله، و المعصوم أحقّ بالإمامة بل لا تصلح إلّا له، و الآخرون لم يكونوا معصومين إجماعا و قولا واحدا.
الثالث: إن الحديث نصّ صريح في أن عندهم علم القرآن، و هو دليل علي أفضليتهم من جميع-
الآلوسي و التشيع، ص: 39
__________________________________________________
- الأمة، و الأفضل لا يجوز أن يكون مأموما للفاضل فضلا عن المفضول
لقول الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (أحقكم بالإمامة أقرؤكم)
أي أفضلكم، علي ما أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (ص: 3 و 51 و 84) من جزئه الأول، و يقول ابن حجر في (ص: 10) من صواعقه في الفصل الثالث من الباب الأول،
قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللّه)
أي أعلمهم بالقرآن، و يقول البخاري في (ص: 43) من جزئه الثالث في باب و
قال اللّيث: حدثني يونس، من كتاب المغازي، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (ليؤمكم أكثركم قرآنا)
و
أخرج مسلم في صحيحه (ص: 236) من جزته الأول في باب من أحقّ بالإمامة عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (أحقهم بالإمامة أقرؤهم)
و
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللّه فأعلمهم بالسنّة).
و لأن إمامة المفضول للفاضل فضلا عن الأفضل قبيحة عقلا لذا لا يصح عند العاقل تقديم المبتدئ بالعلوم العربية علي الفقيه الجامع لشروط الفتوي، و تقديم الحائز علي شهادة الثانوية العامة علي الحائز لشهادة الدكتوراه.
الرابع: أن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم جعل عترته أعدال القرآن بنصّ حديثه و هو واجب الاتباع، فكذلك يجب إتباعهم في كلّ أمر و نهي و هو لازم الإمامة، و هذا معني وجوب التمسك بهم.
الخامس: أن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم رتب الضلال علي تركهما معا و الهدي علي التمسك بهما جميعا، فالأخذ بأحدهما دون الآخر لا يغني من الحق شيئا، بل التمسك بأحدهما دون الآخر لا يكون من الأخذ بأحدهما في شي‌ء، فكما أن المتخلّف عن القرآن لا يصيبه إلّا الضلال فكذلك المنحرف عن عترته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يصيبه إلّا الضلال، و هذا هو معني لا علم و لا هدي إلّا ما كان من طريقهم، و لا سعادة و لا نجاة إلّا في سلوك مذهبهم.
السادس: أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نهي عن التقدم علي عترته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في كلّ شي‌ء، و رتب الهلاك علي المتقدمين عليهم و المتأخرين عنهم أيّا كانوا، فهو نصّ صريح لا يقبل التأويل في هلاك المتقدمين عليهم من الغرباء و المتأخرين عنهم من الأجانب، و لقد فات الآلوسي أن يتمثل بقوم الإمام الشافعي:
و لمّا رأيت النّاس قد ذهبت بهم مذاهبهم في أبحر الغيّ و الجهل
ركبت علي اسم اللّه في سفن النّجا 1 و هم أهل بيت المصطفي خاتم الرسل
و أمسكت حبل اللّه 2 و هو ولاؤهم 3 كما قد أمرنا بالتمسك بالحبل
إذا افترقت في الدين سبعون فرقة 4 و نيّف كما قد جاء في محكم النقل
و لم يك ناج منهم غير فرقة فقل لي بها يا ذا الرجاحة و العقل
أفي الفرق الهلّاك آل محمّد أم الفرقة اللّاتي نجت منهم قل لي
فإن قلت في الناجين 5 فالقول واحد و إن قلت في الهلّاك حفت عن العدل
فخلّ عليّا لي إماما و نسله و أنت من الباقين في أوسع الحلّ
(1) يشير إلي حديث السفينة المشهور بني الفريقين و المتفق علي صحته بين الطائفتين من
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق- و في آخر هلك- و في ثالث هوي-).
و قد اعترف الآلوسي بثبوت صحته في صحاح قومه كما تأتي الإشارة إليه.
(2) يشير إلي ما سجّله ابن حجر الهيتمي في (ص: 90) من صواعقه في الفصل الأول في الآيات الواردة فيهم عليهم السّلام في الباب الحادي عشر في الآية الخامسة، عند قوله تعالي: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا
فقال إنهم عليهم السّلام هم حبل اللّه الّذي يجب التمسك به.
(3) يشير إلي ما أخرجه ابن حجر في الآية الثامنة من الباب الحادي عشر في الفصل الأول، في فضائل أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الصواعق المحرقة عند قوله تعالي: وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدي
أي اهتدي إلي ولاية أهل بيته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
(4) يشير إلي الحديث الصحيح من
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (ستفترق أمتي علي ثلاث و سبعين فرقة، فرقة منها ناجية و الباقية في النار) و قد أخرجه السيوطي في جامعه الصغير ص (42) من جزئه الأول، و صححه، و الحاكم في مستدركه، و الذهبي في تلخيصه (ص: 128) من جزئه الثاني بطريقين، قالا: و هذه أسانيد تقوم بها الحجّة، و أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (ص: 307) من جزئه الثالث عشر) و الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: 4/102.
(5) يشير إلي حديث السفينة المارّ ذكره.
الآلوسي و التشيع، ص: 40
و هناك غير هذا كأحاديث السفينة، و النجوم، و باب حطّه، و
حديث: (من أراد أن يحيي حياتي، و يموت ميتتي، فليتولّ عليّا و ذريته من بعدي، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدي، و لن يدخلوكم باب ضلالة)
فكيف يجوز علي شيعتهم أن يرجعوا إلي غيرهم، و يعدلوا بالخلافة عنهم إلي الآخرين ممن لم يمتّ إليهم بنسب و لم يتصل بهم بسبب، و يكونوا حرب اللّه و حرب رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيكونوا داخلين في قوله تعالي: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدي وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّي وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً
[النساء: 115] كما دخل فيها غيرهم من المنحرفين عنهم إلي أعدائهم.
لهذا كلّه و أضعاف أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي رواها لنا أعلام أهل السنّة الناصّة علي إمامة الأئمة من البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم دون غيرهم، تجد الشيعة لا تأخذ أحكام الشريعة إلّا منهم، و لا تصغي إلي مقالة غيرهم أيّا كانوا، و لا تعتدّ بمزاعم المنحرفين عنهم مهما كبروا في أعين النّاس، و غثاء البشر تمسكا منهم بسنّة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و امتثالا لأمره، و فرارا عما رتبه من الهلاك و الضلال علي المنحرفين عنهم و المتمسكين بغيرهم، و كيف ينقطعون إلي غيرهم كما صنع هذا الآلوسي و صاحبه الهندي و أضرابهما ممن ثبت انحرافهم عن الوصيّ و آل
الآلوسي و التشيع، ص: 41
النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الشيعة يرون بأمّ أعينهم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم شدد الأمر علي المتأخرين عنهم و المتقدمين عليهم حتّي رتّب عليهم أكبر محذور و هو الهلاك و الضلال:
أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا
[النساء: 88].

الطوائف التي ذكرهم الألوسي ليسوا من الشيعة

ذكر الآلوسي بعض الطوائف و شيئا ليس بقليل من عقائدها و نسبها إلي الشيعة، و لمّا لم تكن تلك الطوائف من الشيعة في شي‌ء و ليست هي من تلك علي شي‌ء، رأينا أن من الأحري أن نضرب الصفح عن ذكرها و نعدل إلي تزييف مزاعمه الزائفة:

الآلوسي و كيده

قال الآلوسي: «إذ قد فرغنا من عدّ الفرق فقد آن أن نشرع في ذكر بعض مكايدهم التي توصّلوا بها إلي ترويج مذهبهم الباطل و إضلال العباد، و هي كثيرة جدا لا تدري اليهود بعشرها و هذا الكتاب يضيق عن حصرها».
المؤلف: تعرّض الآلوسي لبعض الفرق المتسمية باسم الشيعة، و عدّ رجالا من الشيعة كعبد اللّه بن عمر و غيره ممن هو علي شاكلته، و قد عرفت أنهم ليسوا من الشيعة في شي‌ء، و ليست هذه منها علي شي‌ء لثبوت انحرافهم عن الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في عقائدهم و سلوكهم، فهو إذ يعزو إليهم الكيد لترويج مذهبهم- علي حدّ تعبيره- لا يعتمد إلّا علي الجهل بحال الشيعة تارة و علي العصبية المقيتة أخري، و هي التي تركته يرتكب من الشيعة ما حرّم اللّه فلا غرو من رواد المنافع إذا تقحموا في كلّ شي‌ء و لم يبالوا بما يقول النّاس فيهم، فإنك تراهم في كلّ ملّة و دين يبرزون صفحتهم للخزي، و يطرحون أنفسهم في الفضائح فيرتطمون في مراغة الذم، و حينئذ يصبحون مضغة في أفواه القارضين، و الغريب ممن يتلقي أباطيله و أضاليله بالقبول- كمحبّ الدين الخطيب المجدد لطبع هذا الكتاب من جديد في القرن العشرين قرن العلم و النور كما يقولون- و يحسب أن قذائفه و سبابه أدلّه رصينة و براهين مفنّدة لأقوال خصومه رافعا بها عقيرته، في حين أنها علامة العجز و الخذلان لا قيمة لها و لا وزن في سوق الحقائق.
الآلوسي و التشيع، ص: 42
و لتعلم أيها القارئ أن هذا الشاتم لشيعة آل محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يتوخ من رميهم بتلك القذائف، و لم يقصد من نيلهم بتلك الشتائم سوي إظهار فضيلته عند أبناء مذهبه ليقولوا فيه إنه من الراسخين في العلم في ردّه علي الشيعة، و تفنيده لأقوالهم دون أن يشعر و يشعروا إلي أنه من الجاهلين الّذين يملئون أشداقهم بالادعاء، و هم خالو الوطاب فارغوا الجراب إلّا من الإفك و السباب.
و لا نقول ذلك عن تكهن و هذا كتابه بين أيدينا يشهد لنا بصحة ما نقول، و كم من أمثاله بين ظهرانينا ممن لا يفرقون بين سوانح الخير و بوارح الشر، و لا يميزون بين السرّاء و الضرّاء تربعوا علي دست العلم في هذه الأمة و هم يفسدون و لكن لا يشعرون، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

ما تقتضيه المصلحة العامة

و نحن بدافع المصلحة العامة و الأخوّة الصادقة التي نتحراها لإخواننا المسلمين أجمعين من سنيّهم و شيعيهم، نريد أن ننصحهم بكلمة صغيرة تعود عليهم جميعا بأكبر الفوائد و تتقدم، بهم في شئونهم الاجتماعية كافّة، سواء في ذلك النواحي السياسية و الأدبية و القضائية و الصناعية و العسكرية، و أعظمها أن يجتنبوا أمثال أولئك الدجّالين الّذين همهم فتق الرتق و إشعال نيران الفتن بين المسلمين، بغية الوصول إلي شهواتهم البهيمية و مشتهياتهم الرخيصة، و إن أدّي ذلك إلي هلاكهم و القضاء علي أرواحهم.
نريد أن يحيدوا عنهم لئلّا ينخدعوا بآرائهم السّخيفة و مزاعمهم الهزيلة، فإنهم يا قوم يريدون أن يرجعوا بكم إلي الوراء، لذا ترونهم بأم أعينكم يذكرون أمورا تؤدي إلي انحلال جامعتكم، و فتق رتقكم و تشتت شملكم، حتي إذا أصبحتم هزيلي القوي تناولتكم أيدي- أرذل خلق اللّه و أشدّهم عداوة للّذين آمنوا- اليهود بالشر و السوء، فيدوسونكم دوس الحنظل، و يحصدونكم حصد السّنبل، نريد ألّا تمدوهم بالمال و لا تبذلوا لهم من أنفسكم كلّ نفيس و غال، فكونوا يا أخوان أكياسا أذكياء و لا تكونوا بلها بسطاء، فتنطلي عليكم أضاليلهم بألسنة مكرهم و تمويهاتهم بخداعهم، فإنها و أيم الحق لا توصل إلّا إلي تمزيق
الآلوسي و التشيع، ص: 43
وحدتكم و تفريق كلمتكم و تصديع كيانكم: وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً
[النحل: 92]، وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً
[آل عمران: 103] و نعمة اللّه هو إسلامه العظيم الّذي أمركم بالتوحيد و توحيد الكلمة:
وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ
[الأنفال: 46]، وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ
[آل عمران: 105].
و من المؤكد لدينا و من خلال الحوادث التأريخية التي مرّت علي هذه البسيطة بتداول الأيام و تعاقب الأجيال، أن معظم الأمم السّالفة من القرون الخالية في العصور المتقدمة إنما استمرت قاعدة علي هامات مجدها، و غارب رقيّها، و ضخامة ملكها، و اتساع سلطتها، و قوّة سلطانها زمنا طويلا من عمرها لمكان من فيها من أفذاذ الرجال و كبراء المصلحين الّذين غرسوا في نفوسهم جمع الكلمة، و توحيد الصف، و تعارف الأرواح بين مختلف طبقاتهم و تباين مذاهبهم، و تضارب أهوائهم، و كانوا يطاردون داعية كلّ شحناء و بغضاء في أقصي البلاد و أدناها، لئلّا يؤدّي السّكوت عنها إلي انحلالهم و اضمحلالهم، و كانوا يحثونهم علي الاتحاد و التعاضد في المصالح المشتركة، و ذلك لا شك في أنه عامل فعال من شأنه في الأقل أن يأخذ بيد تلك الأمة و هاتيك الشعوب و ترفعها إلي أعلي مراتب المجد و الرقي، و لمّا كان الأمر علي عكس ذلك في بعض القرون المنقرضة لم تلبث إلّا أياما قليلة حتي أصبحت عبرة لغيرها من الأمم و الشعوب المتأخرة، و ما ذاك إلّا لقيام بعض المفسدين فيهم من أهل الأهواء و الضلالات و النفوس الشريرة التي لا يهمها إلّا إشباع رغباتها الفاسدة و لو علي أشلاء الآخرين من أبناء الأمة، فأعطوه المقادة و سلّموا إليه القيادة فانتزع منهم روح الإخاء و الوحدة، و بث فيهم روح العداء و النقمة، فتدحرجت كرة عزّهم من جراء تلك الروح الخبيثة التي تسلقت إلي أدمغتهم بألسنة المكر و الخداع، فمزقت جسمهم، و نخرت عظامهم، و أنزلتهم إلي أعماق مهاوي الهوان و الذّل و الخسران: أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ
[إبراهيم: 28 و 29].
فإلام يا قوم تقابلون اليقظة بالسّنة، و النباهة بالبلاهة، و حتام لا تثقف
الآلوسي و التشيع، ص: 44
عقولكم التجارب و العبر و قد أصبحت بمرأي منكم عدد الرمل و الحجر، و بالطبع أن التباعد و التباغض و العداء و التفرقة التي نراها ما بين المسلمين في القرون الأولي و العصور المتوسطة و ما بعدها إلي هذه الآونة، ما هي إلّا من جراء دسائس أولئك الدجالين و وساوسهم الشيطانية، و نبزاتهم التي ألصقوها بالشيعة، و وضعوها علي ألسنتهم ليباعدوا بينهم و بين العامّة، و يغرسوا في أذهانهم ما يعزونه إليهم من نسب قبيحة و تهم شنيعة مما هم أبرّ و أتقي من أن يكون ذلك منهم.
و بهذا استمر العداء عبر القرون بين الفريقين، و استحكم الغلّ في نفوس الطائفتين، لذا تري علي الأثر أن العامة مخدوعون بما خطّه لهم أولئك الغواة الخرّاصون من الهمزات حول الشيعة حتي طفق ينظر كلّ فريق منهم إلي الفريق الآخر نظر العدوّ لعدوّه البغيض، و يتربص كلّ منهما بصاحبه الدوائر و يبتغي له الغوائل، و يريد الوقيعة فيه عند سنوح أية فرصة يستطيع من ورائها القضاء علي أخيه و الإتيان علي آخر نفس من أنفاس حياته، و لو أن هؤلاء الدجالين كفوا عن مهاجمة الشيعة و لم يزيدوا علي ذلك الطعن في أعراض من عرضهم أنقي من الثلج، و خفضوا قليلا من عضب لسانهم، لوجدوا الشيعة أقرب النّاس إليهم مودّة، و أشدّهم لهم رعاية، و لكن ما ذا تصنع الشيعة و هؤلاء يلجئونهم إلي تنظيم خطوط الدفاع لمّا وجدوهم هاجمين عليهم بالمكشوف، و زاحفين إليهم معلنين لهم القتال، و لمّا لم يجدوا هناك ممن بيده السّلطة الزمنية من الحكّام المعاصرين من يقف حائلا دون هذا الهجوم المدمّر، و لم يروا من ينتقم من الزاحفين المعتدين عليهم، و لا من ضارب علي أيدي العابثين بيد من حديد، كانوا أبعد الفريقين طبعا عن المسئولية التي تستتبعها هذه المنازلة و ذلك الدفاع، بل لا تتحمل شيئا من المسئولية تجاه ذلك الموقف، بعد أن كانوا مضطرين للدفاع عن أنفسهم و عن قداسة مذهبهم الّذي يحاول هؤلاء أن يدنّسوه بذنوبهم و يلوثوه بأكاذيبهم، و إلّا فالشيعة إلي السّلم أجنح منها إلي المناجزة، و إلي إيثار الدعة أميل منها إلي الدخول في المجادلة، و حسبك شاهدا علي ذلك أقوالهم و أعمالهم في مختلف أزمانهم بمختلف أجيالهم.
الآلوسي و التشيع، ص: 45

الفصل الثاني مباحث في آية الوضوء

آية الوضوء

قال الآلوسي ص: (29): «فمن مكايدهم يقولون إن أهل السنّة يخالفون القرآن المجيد، فإنهم يغسلون الأرجل بدل المسح، و الكتاب يدلّ ظاهرا علي المسح، و الجواب: أن آية الوضوء تواترت إلينا كسائر القرآن بالقراءات السّبع المتواترة، تواتر قراءتين منها ثابت بإجماع الفريقين بل بإجماع المسلمين- و هما قراءتا- النصب و الجر في الأرجل، و قد ثبت في أصول الفريقين أن القراءتين المتواترين إذا تعارضتا في آية واحدة فهما في حكم الآيتين، و أن الجمع بين الدليلين أولي من إلغاء أحدهما، و هاهنا كذلك إذ يمكن الجمع بينهما حسب قواعدنا بوجهين:
الأول: بحمل المسح علي الغسل، فإن قال الشيعة يلزم من ذلك الجمع بين الحقيقة و المجاز و هو ممتنع، قلنا: لا يلزم ذلك، لأنّا نقدّر لفظ اغسلوا قبل بأرجلكم أيضا، و إذا تعدد اللّفظ فلا بأس أن يتعدد المعني، فالمسح الّذي يتعلّق بالرءوس حقيقي و المتعلق بالأرجل مجازي.
الثاني: أن الجرّ بالجوار و هو بالتنزيل كثير الوقوع، فتئول قراءة الجرّ إلي قراءة النّصب، و جوّز سيبويه، و الأخفش، و أبو البقاء و سائر المحققين من النحاة جر الجوار بالنعت و العطف، أما النعت فكقوله تعالي: عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ
[هود:
26] فقد جر (أليم) بمجاورة (يوم) مع أنه نعت للعذاب، و أما العطف فكقوله تعالي: حُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ
[الواقعة: 22- 23] علي قراءة حمزة و الكسائي، فإنه مجرور بمجاورة: بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ
[الواقعة: 18] مع أنه معطوف
الآلوسي و التشيع، ص: 46
علي: وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ
[الواقعة: 19] و قد وقع هذا الجر في كلام العرب العرباء فلا يلتفت إلي إنكار الزجاج وقوع جرّ الجوار في المعطوف».
المؤلف: يريد الآلوسي و غيره من المموهين لوجه الحقائق أن يصرفوا آية الوضوء [1] عن وجهها، و يحملوها علي معني لا صلة بينها و بينه، لأجل هذه التمحلات الباردة و التمويهات العاطلة التي لا يأتي احتمالها في شي‌ء من كلام أهل العربية فضلا عن مثل الكتاب المنزل- لبيان تفهيم الأحكام- معجزة لنبوّة سيّد الأنام صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و سأوضح لك أيها القارئ ما في هذا الكلام من الخلط و التزوير و عدم الانتظام في طي أمور:

فساد ما قاله الآلوسي في آية الوضوء في طي أمور

الأمر الأول: (قوله): «و من مكايدهم يقولون إن أهل السنّة يخالفون القرآن».
فيقال فيه: إن كان ثمة من يقول بوجوب المسح علي الأرجل و مخالفة خصوم الشيعة له فهو اللّه تعالي في محكم كتابه العزيز، حيث يقول لعباده المؤمنين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرافِقِ
[المائدة: 6] و يفهم من هذا كلّ عربي حتي الغبي منهم أنه تعالي يريد منهم أن يغسلوا وجوههم و أيديهم، و لا يريد غيره و لو أراد غيره لبيّنه لهم، و لما لم يرد منهم الغسل فصّل بين قوليه، فقال: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ
فعلمنا من هذه الآية أنه يريد أن نمسح الرءوس و الأرجل، و لو أراد منّا غسلهما أو غسل أحدهما لعبّر به كما عبّر بالغسل في الآية الأولي حينما أراده، فكما لا يفهم أحد من الآية الأولي إلّا غسل الوجوه و الأيدي فكذلك لا يفهم من الآية الثانية إلّا مسح الرءوس و الأرجل، و لا يجوز علي اللّه تعالي أن يقول و امسحوا و هو يريد و اغسلوا كما يزعم الآلوسي، و اللّفظ بظاهره لا يدلّ عليه و لا يفيده.
__________________________________________________
[1] و هي قوله تعالي في سورة المائدة، آية 6: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ
.الآلوسي و التشيع، ص: 47
فهل تراه تعالي ملغزا مغريا بالجهل و يريد غير ما هو الموضوع له من ظاهر كلامه، و هو قبيح يستحيل علي اللّه تعالي أن يريده، و لنضرب لك مثلا نشاهد به أنه لا يريد في الآية الثانية إلّا المسح، و ذلك ما إذا قلت: (اضرب معاوية و عمرا، و أكرم عليّا و حسنا) فإنك لا تفهم من الجملة الثانية أنك تريد ضرب حسن، و إنما تفهم منها إكرام حسن و إكرام عليّ، كما لا تفهم من الجملة الأولي إلّا ضرب معاوية و عمرو، و لو أردت خلاف ذلك من ظاهر كلامك لعدّك العقلاء من زمرة الملغزين المموهين، و الآية من هذا القبيل لا تريد سوي غسل الوجوه و الأيدي في الفقرة الأولي، و مسح الرءوس و الأرجل في الفقرة الثانية، و ليس هناك شاهد علي خلاف ما تريده مطلقا لا من ظاهرهما و لا من غيرهما، فوجب الأخذ به و العمل عليه، فلا يعدل عن الظهور لأجل التحريف الّذي يرتكبه بعض أهل الزيغ في كتاب اللّه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ابتغاء تصحيح غير الصحيح.
الأمر الثاني: قوله: «و هما قراءتا النّصب و الجرّ، و قد ثبت في أصول الفريقين أن القراءتين المتواترتان إذا تعارضتا في آية واحدة».
فيقال فيه: لا يلزم من تواتر القراءتين و تساويهما في آية واحدة أن تكونا متعارضتين، و ليس بين قراءة من قرأ بالجر و بين من قرأ بالنصب من تعارض حتي يحتاج إلي الجمع العرفي بينهما- كما يزعم الآلوسي- إذ بتقدير الجرّ فإنه معطوف علي (رءوسكم) فيجب الاشتراك في الحكم علي معني يجب مسح الأرجل، لاتفاق أهل العربية علي أن الواو تشرك في الإعراب و الحكم، فيثبت حكم المسح الثابت للرؤوس للأرجل أيضا، و أما بتقدير النصب علي قراءة من قرأ به فإنه معطوف علي محلّ الرءوس إذ أن محلّها النصب، و التقدير امسحوا رءوسكم و أرجلكم، فأين التعارض الّذي يزعم هذا الخرّاص وجوده بين القراءتين، و لعله إنما ادعي هذا التعارض الموهوم ليجمع بينهما حسبما يهوي و شاء له مذهبه، و إن كان ذلك مخالفا لما عليه أهل هذا الفن في الجمع بين المتعارضين مطلقا، لذا تراه يقول بكلّ اطمئنان: (يحمل المسح علي الغسل جمعا) و قد عرفت عدم التعارض لكي نحتاج إلي الحمل و الجمع و الصرف و التأويل.
الآلوسي و التشيع، ص: 48
و جملة القول: ليس المقام من باب التعارض بعد تسليم تواتر القراءتين و تسليم كون التعارض في قراءة الآية الواحدة في حكم التعارض بين الآيتين، لوضوح عدم التنافي و التعارض بينهما في شي‌ء، و أن المتعيّن في كلّ من القراءتين هو وجوب مسح الأرجل.
الأمر الثالث: أما قوله: «يحمل المسح علي الغسل» فيرد عليه:
أولا: بالنقض بأن نقول: إذا جاز حمل المسح علي الغسل بتقدير اغسلوا قبل بأرجلكم جاز حمل الغسل في الأيدي علي المسح بتقدير لفظ امسحوا قبل أيديكم، و إذا تعدد اللّفظ فلا بأس أن يتعدد المعني، و لا يختص ذلك بالآية لو صح شي‌ء من ذلك بل يتعدي إلي غيرها، فلو قال قائل: قتل زيد و خالد بكرا، فلا يريد أن خالدا كان شريكا مع زيد في قتل بكر، و لا يكون قاتلا لبكر مع زيد و لا شي‌ء عليه شرعا، لأنّا نقدّر كلمة (أكرم) قبل خالد، فالقتل يتعلق بزيد حقيقي و المتعلق بخالد مجازي، و هكذا كما يزعم- الفيلسوف العربي الكبير الآلوسي المهول- في لفظ المسح المتعلّق بالرءوس تبعا للأهواء و المشتهيات مما لا يعرفه العرب في محاوراتهم و موارد استعمالاتها، أللّهم إلّا هذا الآلوسي و أخوه الهندي، بل لا يذهب إليه أيّ أحد من العرب.
ثانيا: ليس هذا القول من غلطات الآلوسي وحده، و إنما التقطه من وراء بعض أشياخه من غير تفكير و لا تعقّل، و هو شي‌ء اخترعه الزمخشري و غيره لما تفطّنوا إلي فساد ما تكلّفوه من العطف للقول بوجوب الغسل، فاعتذروا عن وقوع عطف الأرجل التي حكمها الغسل علي مذهبهم في الآية علي الرءوس التي حكمها المسح بأن قالوا: إن المراد بالمسح الغسل و إنما عبّر عنه بلفظ المسح للدلالة علي وجوب غسل الأرجل غسلا خفيفا، هذا تقرير كلام أئمة الآلوسي هذا، و ليس فيهم من يزعم ما زعمه من التعارض بين القراءتين و أنه يحمل المسح علي إرادة الغسل، و لو تفطّن إلي معني كلامه قبل إيراده لسبق لسانه إلي إختيار ما ذكرنا.
و أما الاعتذار المذكور فهو أشدّ فسادا من العطف علي وجوهكم لتصحيح الغسل لكونه من استعمال اللّفظ الواحد، و هو المسح الموضوع له معني واحد،
الآلوسي و التشيع، ص: 49
و هو المسح في أكثر من معني و هو لا يجوز حتي علي القول بجواز استعمال المشترك اللّفظي في أكثر من معني، و أعطف عليه فساد قوله: (و إنما عبّر عنه بلفظ المسح للدلالة علي وجوب غسل الأرجل غسلا خفيفا) و ذلك لعدم دلالة المسح علي وجوب الغسل مطلقا حتي يعبّر به عنه و يريد الدلالة عليه، لأن المسح هو غير الغسل لفظا و معني، فلا يكون التعبير عن أحدهما تعبيرا عن الآخر، و لو أراد الغسل لعبّر به أو بما يدلّ عليه و لو بالقرينة، ألا تراه لما أراد غسل الوجوه و الأيدي عبّر به و لم يعبّر بغيره، و كذا الحال لمّا أراد مسح الرءوس و الأرجل عبّر بالمسح لا بغيره، و إنما عبّر بلفظ المسح للدلالة علي أنه يريد معناه المطابقي و هو المسح.
و الخلاصة أن المسح غير الغسل لغة و عرفا و شرعا، و لا يدلّ المسح علي الغسل بإحدي الدلالات المنطقية لا بالمطابقة و لا بالتضمن و لا بالالتزام، و الموجود في الفقرة الثانية من الآية هو المسح، فكيف يا تري ينقلب إلي الغسل؟! و لأي شي‌ء جاز حمله علي الغسل و هو لا يفيده و لا يدلّ عليه و لا يجوز الاعتماد فيه علي هوي النفس، كما لا يجوز أن يقول من له عقل إن اللّه يقول و امسحوا و يريد اغسلوا، أو أنه كان عاجزا من أن يقول اغسلوا لو كان يريد الغسل، أو أن الآلوسي يريد غير ما يريد اللّه، و هل إرادته الغسل إلّا من قبيل:
أراد اللّه المسح و أردت الغسل و حينئذ نقول له: نحن نريد ما أراد اللّه لا ما أراده الّذين: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا
[المائدة: 13] و يتقولون علي اللّه و يكذبون عليه، و ينسبون إليه النقص و العيب، و هو المستحق لكلّ كمال أنفس، و كيف يتجرأ من له دين أن يصرف الآية عن معناها و يسلخها عن وجه دلالتها تبعا لهوي النفس، الأمر الّذي جعله الآلوسي أصلا يسير عليه في كتابه، لذا تراه يحمل ظواهر الآيات المحكمات و نصوص القرآن الواضحات علي خلاف ما يريد اللّه تعالي من ظاهرها.
الأمر الرابع: قوله: «إن الجرّ بالجوار و هو في التنزيل كثير الوقوع، فتئول قراءة الجرّ إلي قراءة النصب».
الآلوسي و التشيع، ص: 50
فيقال فيه، أولا: أن المنصوص عليه عند أهل العربية أن تغيير الإعراب بالمجاورة من الشواذّ الّذي لا يقع في كلام الفصحاء، مع أنه من القياس في اللغة و القياس فيها باطل، لأنها مستفادة من الاستقراء فلا يجوز فيها القياس لخروجه عن كلام العرب و عمّا كانوا يستعملونه في كلاهم، و إذا خرج إلي هذا الحدّ من الشذوذ نظير ما ورد شاذا في نصب الفاعل فيستحيل حمل كلام اللّه تعالي عليه.
ثانيا: قد صرّح جماعة من اللّغويين بامتناع الإعراب بالمجاورة في كتاب اللّه، بل صرّح غير واحد بعدم جوازه مطلقا و منهم الأخفش، فإنه صرّح بعدم ورود الإعراب بالمجاورة في كتاب اللّه فكيف يصح حمله عليه مع إنكار مثل هذا من علماء اللّغة.
ثالثا: إن الإعراب بالمجاورة بتقدير جوازه إنما يسوغ بشرطين، الأول:
عدم وقوع الفصل بحرف الجرّ و نحوه كما ذكروه في الأمثلة، كقولهم: (جحر ضبّ خرب) و ذلك بخلاف الآية، فإن حرف العطف فيها جاء فاصلا بين الجملتين للدلالة علي إرادة حكمين كلّ واحد منهما متعلق بموضوعين في الخارج، الأول:
غسل الوجوه و الأيدي، و الثاني: مسح الرءوس و الأرجل.
الشرط الثاني: عدم وقوع الالتباس في المعني لدي السّامع كما في المثال، فإن كون (خرب) صفة (لجحر) لا (لضبّ) يعرفه كلّ من ترعرع قليلا عن رتبة العوام، بخلاف ذلك في الآية لوقوع الالتباس بالعطف لدي السّامع بين كونه معطوفا علي ما يليه أو معطوفا علي المعطوف في الجملة السّابقة.
أما علي قراءة النصب، فهو معطوف علي محلّ الرءوس، لأن محلّها النصب علي المفعولية و هو كثير الوقوع في كلام الفصحاء، و القرآن مشحون بذلك، فيلزم تأويل قراءة النصب إلي قراءة الجرّ كذلك لأنه كثير الوقوع في القرآن، إلحاقا للفرد المشكوك بالأعمّ الأغلب، و الإعراب بالمجاورة شاذّ نادر بل غير واقع لا كما يزعمون فالجمع الّذي زعمه الآلوسي لتصحيح مذهبه معكوس عليه و مردود علي وجهه، فيقوي حينئذ تأويل قراءة النصب بالجرّ علي فرض التعارض لا تأويل قراءة الجرّ بالنصب لشذوذه بل لامتناعه رأسا.
الآلوسي و التشيع، ص: 51
الأمر الخامس: قوله «نقدّر لفظ اغسلوا قبل بأرجلكم».
فيقال فيه: إذا كان التقدير و الصرف و التأويل في ظواهر الكتاب الكريم بيد الآلوسي فمتي شاء أن يقدّر قدّر، و إن كان فيما لا يمكن فيه التقدير بدلالة القرآن، و متي شاء ألّا يقدّر لا يقدّر، و إن كان فيما يصح فيه التقدير بدلالة الكتاب، و إذا كان كلّ قول لم يشفع بدليل و لم يعضد ببرهان يستقبله النّاس باحتفال و إجلال إذن فليتبوأ كلّ من الآلوسي و ذلك الهندي مقعدا ليشار إليهما بالبنان.
فالآلوسي يري أن اللّه تعالي لا يستطيع أن يثبت لفظة اغسلوا قبل أرجلكم لو كان يفيد ما يبتغيه، أو يري أنه تعالي لا يستطيع بيانه، فأوكل أمر بيانه إلي (شيخ الإسلام) الآلوسي، أو يري أن في اللّه عيّا من أن يثبت لفظة اغسلوا قبل أرجلكم ليدلّ- لو كان فيه دلالة- علي ما يريده الآلوسي، و لا شك في أن مثل هذا النوع من التصرف و التأويل في آيات القرآن الكريم يغمز في إيمان صاحبه.
الأمر السّادس: قوله: «و جوّز سائر المحققين جرّ الجوار في النعت و العطف».
فيقال فيه: أما قوله تعالي: عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ
[هود: 26] فلا ربط له بما نحن فيه لوجود القرينة الحالية فيه، فإن كون أليم صفة للعذاب لا ليوم يعرفه كلّ عربي، و مثله لا يصلح أن يكون شاهدا علي شي‌ء من ذلك مطلقا، فكيف يقاس هذا علي ذاك و بينهما بون شاسع، أضف إلي ذلك بطلان القياس في مثل ذلك في اللّغة.
و أما قوله تعالي: وَ حُورٌ عِينٌ
[الواقعة: 22] علي قراءة من قرأ بالجرّ فمع أن أكثر القرّاء قرأ بالرفع و لم يقرأ بالجرّ غير حمزة و الكسائي فليس معطوفا علي:
بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ
[الواقعة: 18] كما توهمه الآلوسي، فهذا أبو عليّ الفارسي يقول في كتابه الحجّة: هو عطف علي قوله تعالي: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
[الواقعة: 19- 12] و يكون قد حذف المضاف و تقديره أولئك في جنّات نعيم و في مقارنة حور العين أو معاشرة حور العين.
الآلوسي و التشيع، ص: 52
الأمر السّابع: قوله: «و لا يلتفت إلي إنكار الزجّاج وقوع جرّ الجوار في المعطوف».
فيقال فيه: إذا كان لا يلتفت إلي إنكار الزجاج و غيره من علماء اللّغة فأي عاقل يا تري يلتفت إلي مزاعم الجاهلين كالآلوسي و أخيه الهندي، و يترك قول هؤلاء العلماء من أهل اللّغة، ثم لم يكن هذا من قول الزجّاج وحده بل هو قول كثيرين غيره من اللّغويين، فإنهم صرّحوا بامتناع وقوع ذلك في كلام أحد الفصحاء فكيف بكلام اللّه تعالي، فعدم وقوعه فيه أولي، هذا كلّه فيما إذا كانت الآية داخلة في مورد جرّ الجوار، أما إذا لم تكن من موارده- كما هو الصحيح- فلا يكون شاملا لها مطلقا، فلما ذا إذن كلّ هذا الطنين السّمج و الأنين المزعج من الآلوسي حول الآية، و جلب جرّ الجوار في النعت و العطف عليها و هي واضحة لا غموض فيها و لا التباس، و يفهم منها كلّ عربي له فهم مستقيم و ذوق سليم أنها تريد غسل الوجوه و الأيدي و مسح الرءوس و الأرجل، و من أي يا تري يفهم العربي من الفقرة المشتملة علي الأمر بمسح الرءوس و الأرجل أنها تريد مسح الرءوس و غسل الأرجل، فقل عربيا و أنطق عربيا و لا تقل ما لا تفهمه العرب، فإن العرب يقولون بامتناع وقوع شي‌ء من ذلك في كلام الفصحاء، فكيف يجوز وقوعه في كلام اللّه الّذي لا أفصح منه أبدا مطلقا.

فيما حكاه عن الشيعة في الجمع بين القراءتين

قال الآلوسي في ص: (20): «و قد ذكر الشيعة في الجمع بين القراءتين وجهين، الأول: أن تعطف قراءة النصب علي محلّ رءوسكم لا علي المنصوب السّابق لاستلزامه الفصل بين المعطوف و المعطوف عليه بجملة أجنبية، فحينئذ حكم الأرجل حكم الرءوس.
الثاني: أن الواو فيه بمعني مع كقولهم استوي الماء و الخشبة.
و في كلا الوجهين نظر من وجوه، أما الأول: فلان العطف علي المحلّ خلاف الظاهر بإجماع الفريقين، و قد استدلّوا علي خلاف الظاهر بقراءة الجرّ فقد سبق وجه رجوعها إلي قراءة النصب، علي أنها لا تدل علي مدّعاهم لاحتمال جرّ
الآلوسي و التشيع، ص: 53
الجوار، و أما ثانيا: فلأن استلزام الفصل بجملة أجنبية إنما يخل إذا لم يكن جملة و امسحوا برءوسكم لها تعلّق بما قبلها، و أما إذا قلنا إن المعني و امسحوا بعد الغسل برءوسكم فلا فصل كما هو مذهب أكثر أهل السنّة، و أما ثالثا: فلأنه لو عطف و أرجلكم علي محلّ رءوسكم جاز لنا أن نفهم منه معني الغسل، لأن من القواعد المقررة في العربية أنه إذا اجتمع فعلان متقاربان بحسب المعني جاز حذف أحدهما و عطف متعلق المذكور، و من ذلك قول لبيد بن ربيعة العادي:
فعلي فروع الأيهفان و أطفلت بالجبلتين ظباؤها و نعامها
أي باضت نعامها فإن النعام لا تلد بل تبيض، إلي أن قال: و منه قول الأعرابي: علفتها تبنا و ماء باردا أي سقيتها، و أما رابعا: فلأن حمل الواو علي معني مع بدون قرينة لا يجوز، و لا قرينة هاهنا بل القرينة علي خلافه لما تبيّن من وجوه التطبيق هذا، و لمّا حصل الجمع بين الفريقين و لزم الترجيح رجع المحققون إلي سنّة خير الوري إذ هي المبيّنة لمعاني القرآن المجيد، إلي أن قال: و قد كان (عليه الصّلاة و السّلام) و يتوضأ في اليوم و اللّيلة خمس مرات علي رءوس الأشهاد لأجل التعليم، و لم يرو واحد و لو بطريق الآحاد أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مسح الرجلين، إلي أن قال: و قد روي الجميع غسلهما بروايات متواترة، و قد اعترف بذلك الشيعة إلّا أنهم يقولون قد روي لنا المسح عن الأئمة، و ما روي أهل السنّة عن أولئك الأئمة فهو محمول علي التقية، هذا مع أن روايات غسل الرجلين عن الأئمة ثابت في كتب الإمامية الصحيحة المعتبرة، إلي أن قال: و لنذكر ما ورد في كتبهم من روايات غسل الرجلين التي لم يتصدّ أحد منهم للطعن فيها.
فقد روي العياشي، عن عليّ بن حمزة، قال: سألت أبا هريرة عن القدمين، فقال: تغسلان غسلا.
و
روي محمّد بن النعمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: إذا نسيت رأسك حتي تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك، و هذا الحديث أيضا رواه الكافي، و أبو جعفر الطوسي، بأسانيد صحيحة
، و لا يمكن حملها علي التقية لأن المخاطب شيعي خاص.
الآلوسي و التشيع، ص: 54
إلي أن قال: و كلّ ما يروونه في هذه المسألة عن أحد أئمة أهل السنّة فهو إفك و زور، فقد تبيّن أن هذا الكيد صار في نحورهم و دلّ بمخالفتهم للنصوص القرآنية علي كفرهم» انتهي.
المؤلف: اللّه ما أكذب هذا الرجل و ما أقلّ حياءه، و ما أضلّ في تلك المزاعم عقله، و أنت تراه من خلال هذه المفتريات قد حكم بكفر الشيعة و خروجهم عن الإسلام.

الجواب علي أقواله من وجوه

و سنجيبه عن مفترياته و أكاذيبه التي حاول أن يخلب بها أبصار الجاهلين من أتباعه، و إليك نصّ الجواب من وجوه:
الأول: قوله: «فلأن العطف علي المحلّ خلاف الظاهر بإجماع الفريقين».
منقوض، بأن العطف علي قراءة الجرّ علي الوجوه خلاف الظاهر بإجماع الفريقين، و أما قوله: (و قد سبق رجوعها إلي قراءة النّصب) فقد عرفت فساد هذا الرجوع، و أن الأمر فيه معكوس عليه و مردود علي ناصيته، و أما قوله: (علي أنه لا يدل علي مدّعاهم لوجود احتمال جرّ الجوار) فمدخول مضافا إلي أنه مناقض لزعمه تواتر القراءتين، علي معني لا يتأتي و الحالة هذه احتماله أن وجود احتمال النصب بالعطف علي محلّ الرءوس يمنع من رجوع قراءة الجرّ إلي قراءة النّصب، بل احتمال كونه معطوفا علي الرءوس في قراءة الجرّ يؤكد المنع في عدم رجوعه إلي قراءة النصب بالعطف علي لفظ الأيدي، فلا يدلّ علي مدّعي الآلوسي في شي‌ء، و العطف علي المحلّ مشهور عند أعلام اللّغة، بخلاف ذلك في جرّ الجوار فإنه شاذّ لا يلتفت إليه عندهم، علي أن العطف علي المحلّ أولي من جرّ الجوار لأمرين:
الأول: القرب، و هو معتبر في اللّغة، فإنهم اتفقوا علي مثل ضرب عيسي موسي أن الأقرب إلي الفعل هو الفاعل، و كذلك جعلوا أقرب الفعلين إلي المعمول عاملا، و هو معلوم من لغتهم، و في العطف علي لفظ الأيدي تفوت هذه الأولوية الملحوظة بعين الإعتبار في اللّغة.
الآلوسي و التشيع، ص: 55
الأمر الثاني: أنه من القبيح في لغة العرب الانتقال من حكم قبل تمامه إلي حكم آخر غير مشارك و لا مناسب له، بل فيه إغراء بالجهل لظهوره في العطف علي ما قبله مع عدم الفصل، و هذا هو الموافق للعربية الصحيحة الفصيحة و يعرفه كلّ عربي حتي الغبي، و لا شك في أن كلام اللّه من أفصح كلام العرب، كما أن الإغراء بالجهل من سائر النّاس قبيح، فكيف من اللّطيف الخبير الغنيّ المطلق فإن نسبة ذلك إليه أقبح، فكيف استساغ هذا الآلوسي حمل كلام اللّه تعالي عليه.
الوجه الثاني: قوله: «فلأن استلزام الفصل بجملة أجنبية إنما يخلّ إذا لم يكن جملة: امسحوا برءوسكم، لها تعلّق بما قبلها».
فيقال فيه: أيّ تعلّق يا تري يكون بين الجملتين- كما يزعم- و موضوع الحكم في الجملة الأولي هو غيره في الجملة الثانية، فإن موضوع الحكم في الجملة الأولي هو غسل الوجوه و الأيدي و موضوعه في الجملة الثانية هو مسح الرءوس و الأرجل، فأيّ تعلّق للثانية بما قبلها و أيّة صلة تجدها بين الحكم بوجوب غسل الوجوه و الأيدي و بين مسح الرءوس و الأرجل و هما مختلفان موضوعا و حكما صغري و كبري، و لو فرضنا جدلا أن جملة امسحوا لها تعلّق بما قبلها فإن شيئا من ذلك لا يرفع غائلة الالتباس، و لا يزيل الإغراء بالجهل لحكومة الظهور علي إرادة مسح الأرجل بمقتضي عطفه علي الرءوس المحكومة بوجوب المسح علي خلافه.
الوجه الثالث: قوله: «أما إذا قلنا إن المعني و امسحوا بعد الغسل برءوسكم فلا فصل».
فيقال فيه: أجل يصح هذا إذا طرح المسلمون مراد اللّه من ظاهر قوله و أخذوا بقول الآلوسي، الّذي يأخذ في تأويل الآيات بما يهوي و شاء له هواه، لذا تراه يقول: إذا قلنا إن المعني و امسحوا بعد الغسل برءوسكم، و هل هذا إلّا عين ما يدّعيه من الآية، فكيف يصح أن يجعل قوله دليلا علي صحة مدّعاه، و كونه صار مذهبا لأكثر أهل السنّة كما يقول فهو يدلّ علي أن هناك الكثير من أهل السنة لا يذهبون هذا المذهب، و يوافقون الشيعة علي مذهبهم، فيكون ذلك إجماعا من
الآلوسي و التشيع، ص: 56
الفريقين، و الحجّة في المجمع عليه بينهم دون ما اختلفوا فيه فإنه لا حجّة فيه، علي أن ذلك مناقض لقوله: و قد روي الجميع غسلهما بروايات متواترة، فإن وجود الكثير من أهل السنّة المخالف لأكثرهم يمنع من تواترها، كما أنه مناقض لقوله: و لم يرو واحد و لو بطريق الآحاد أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مسح الرجلين، لأن ذهاب الكثير منهم إلي وجوب المسح يعني وجود روايات كثيرة عندهم يروونها في وجوب المسح كما هو مذهب الشيعة، و مناقض أيضا لقوله: و كلّ ما يروونه في هذه المسألة عن أحد أئمة أهل السنّة فهو إفك و زور، لأن اعترافه بذهاب الكثير من أئمة أهل السنّة إلي وجوب المسح يعني وجود ما يروونه في هذه المسألة من الروايات في وجوبه.
فالآلوسي الّذي يكتب ما لا يفهم، و لا يفهم ما يكتب، إما أن يقول ببطلان مذهب الكثير من أهل السنّة الذاهبين إلي وجوب المسح خلافا لأكثرهم، و أن ما يروونه في هذه المسألة فهو إفك و زور، أو لا يقول ذلك، فإن قال بالأول فقد أبطل مذهب الكثير من أهل السنّة دون أن يمسّ مذهب الشيعة بشي‌ء، و إن قال بالثاني فقد أبطل مذهب أكثرهم دون مذهب الشيعة، و أيّا كان فهو دليل واضح علي تناقضه و بطلان مذهبه، وهب أنه صار مذهبا لأكثر أهل السنّة إلّا أن ذلك لا يقتضي أن يترك الآخرون قول ربّهم و سنّة نبيّهم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في قوله و فعله و تقريره صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لأجل أن أكثرهم يرون خلافهما و يعملون علي العكس من أمرهما، و لا شك في أن امرأ يختار خلاف ما يختاره اللّه تعالي و يريده لهو في ضلال مبين.
الوجه الرابع: قوله: «علي أنه لو عطف و أرجلكم علي محلّ رءوسكم جاز لنا أن نفهم منه معني الغسل».
فيقال فيه: من أين يا تري فهم الآلوسي أنه يجوز من عطف الأرجل علي محلّ الرءوس أن يفهم منه معني الغسل، و محلّ الرءوس النصب علي المفعولية و حكمها المسح، و التقدير: (و امسحوا رءوسكم و أرجلكم) فلا يفهم منه إلّا مسح الأرجل؟ و إنما ارتكب الآلوسي هذا الخطأ ليوهم أن الحمل علي محلّ الرءوس يفيد معني الغسل، و يقابل هذا بأن نقول إن جرّ الجوار في العطف في قوله تعالي:
الآلوسي و التشيع، ص: 57
وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ
أيضا يفيد معني المسح، فاحتمال إرادة المسح من جرّ الجوار في العطف في الآية يمنع من احتمال إرادة الغسل، علي أن أرجلكم منصوب بنزع الخافض علي قراءة النصب و هو كثير الوقوع في القرآن و في لغة العرب، فلا يدلّ علي كونه معطوفا علي لفظ الأيدي و لا يفهم منها الغسل مطلقا.
الوجه الخامس: قوله: «من القواعد المقرّرة في العربية أنه إذا اجتمع فعلان متقاربان بحسب المعني جاز حذف أحدهما».
فيقال فيه: كان علي الآلوسي أن يذكر لنا ما هي العلاقة بين ما جاء علي ذكره هنا و بين محلّ النزاع، إذ لا حذف في الآية حتي يعطف متعلّق المحذوف علي متعلّق المذكور- كما زعمه فيما أورده من المثال- الأمر الّذي يشهد عليه بأنه يكتب و لا يشعر بما يكتب فهو يكتب بشهوة و عاطفة مذهبية، لذا تراه يتخبط في بحثه خبط عشواء، علي أنه لا يقاس ما جاء به من المثال علي الآية لوجود القرينة فيه و عدمها فيها، و من حيث أنه أهمل ذلك و لم يأت علي ذكره علمنا أن ذلك من خرصه و تمويهه، يحاول به تصحيح ما هو باطل بالباطل و هيهات له ذلك.
الوجه السّادس: قوله: «فلأن حمل الواو علي معني (مع) بدون قرينة لا يجوز».
فيقال فيه: أولا: إذا كنت تعترف أن الحمل علي خلاف الظاهر بدون قرينة لا يجوز فكيف إذن جاز لك أن تحمل المسح علي الغسل في الآية بدون قرينة، فالآلوسي إما أن يقول بجواز حمل الظاهر علي خلاف ظاهره بدون قرينة أو لا يقول به، فإن قال بالأول- و هو قوله- بطل قوله الثاني، و إن قال بالثاني- و هو قوله- بطل قوله الأول، و حسبك هذا دليلا علي بطلان مذهبه.
ثانيا: متي قالت الشيعة إن الواو في الآية بمعني مع- و إن كانت تفيده- و أين قالوا و من هم الناقلون له، و أيّ حاجة بهم إلي أن يقولوا بأن الواو فيها بمعني مع و هي بمعناها تفيد الاشتراك في المعني و الحكم، و أن حكم المسح الثابت للرؤوس ثابت للأرجل بمقتضاها في اللّغة، و لقد أثبتت الشيعة غير مرّة أن
الآلوسي و التشيع، ص: 58
العطف هاهنا علي الأيدي ممتنع لا يجوز المصير إليه لأنه مبطل لقراءة الجرّ للتنافي بينهما، و قد اعترف الآلوسي بتواتر قراءة الجرّ، و قوله: و العطف علي لفظ الأيدي يؤكد لك كمال المناقضة بين قوليه إذ لا يبقي معه محلّ لقراءة الجرّ، لأن لفظ الأيدي منصوب لفظا و محلّا، و هذا بخلاف العطف علي الموضع، لأن به يحصل التوفيق بين القراءتين فيتعيّن المصير إليه، و هذا هو الجمع الصحيح إن كان هناك تعارض بين القراءتين دون ما زعمه هذا الآلوسي.
الوجه السّابع: قوله: «و لمّا حصل الجمع بين الفريقين لزم الترجيح».
فيقال فيه: لقد أثبتنا أن الآية لا دلالة فيها علي إرادة غسل الأرجل، بل تدلّ بوضوح علي وجوب مسحها و حرمة غسلها، و أن العطف علي لفظ الأيدي ممتنع لغة، و العطف علي محلّ الرءوس علي قراءة النّصب هو المتعيّن، و مما يضحك الثاكل الحزين قول هذا الجاهل: (و لمّا حصل الجمع بين الفريقين لزم الترجيح) بربّك قل لي أيها الناقد إذا كان يعترف بحصول الجمع بين الفريقين- إن أراد به القراءتين- فبأي وجه يا تري يلزم الترجيح، فإن المرجح إنما يلتمس في ترجيح أحد المتكافئين فيما إذا كانا متعارضين مطلقا، و لم يمكن الجمع بينهما علي ما تقتضيه قواعد فن الجمع بين المتعارضات، أما مع إمكان الجمع و حصوله- كما يزعم هذا الآلوسي- فلا يبقي محلّ للترجيح في شي‌ء، و إن أراد بالفريقين في قوله: (بين الفريقين) حصول الجمع و الوفاق بين المتخاصمين من أهل السنّة و الشيعة في هذه المسألة، و رجوع أكثر أهل السنّة إلي مذهب الشيعة أو رجوع الشيعة إلي أكثرهم فأقبح فسادا من دعوي حصوله الجمع بين القراءتين، فإنه ما برح مخالفا لنصّ الكتاب في غسلهما حتي هلك عليه، و لا زال خصومه موافقين لنصوص القرآن في مسحهما من زمن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة الطاهرين من آله و عصر الصحابة و التابعين و تابعيهم إلي اليوم، و ما بعده حتي قيام الساعة.

الثامن ما رواه أهل السنّة في وجوب مسح القدمين

الوجه الثامن: قوله: «و لم يرو أحد و لو بطريق الآحاد أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مسح الرجلين».
الآلوسي و التشيع، ص: 59
فيقال فيه: من أين لك أيها الخرّاص أنه لم يرو أحد أن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مسح علي الرجلين، إذ لا يجوز لك أن تنفيه و أنت لم تحط به خبرا، و إذا فعلت ذلك نفيت أشياء كثيرة واردة و الجهل بالشي‌ء لا يكون علما بعدمه فكيف ينفي ذلك مع وروده، أما الشيعة فإنهم يروون عن أئمتهم أعدال كتاب اللّه وجوب مسحهما، و لم يرد من طريقهم ما يدلّ علي الغسل مطلقا، و ما كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام ليخالفوا كتاب اللّه و هم يتّبعون سوره و يقتفون أثره، و للشيعة برسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الأسوة الحسنة.
و أما أهل السنّة فقد روي جماعة من أعلامهم وجوب مسحهما، و أن الأمين جبرائيل عليه السّلام نزل من عند اللّه تعالي بمسحهما و أبي الناس إلّا غسلهما، لذا ذهب جماعة كثيرة من علماء أهل السنّة إلي وجوب مسحهما [1] و قد اعترف الآلوسي بذلك، حيث قال: (إن وجوب الغسل هو مذهب أكثر أهل السنّة) و هو يرشد إلي أن الكثير من أهل السنّة ذهبوا إلي وجوب المسح فراجع (ص: 124).
من الجزء الأول من المسند للإمام عند أهل السنّة أحمد بن حنبل، و
فيه: (أن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مسح علي ظاهر القدمين)
و فعله حجّة لا فعل غيره، و الحجّة في هذا لأنه متفق عليه بين الفريقين، و ما كان مخالفا له فهو شاذّ لا يلتفت إليه، و إن صار مذهبا للآلوسي و غيره، و
في الحديث: (يد اللّه مع الجماعة، فمن شذّ فإلي النّار) [2].
و قد ذهب جماعة من الصحابة و غيرهم إلي وجوب مسح القدمين، فمنهم:
سيّد الأئمة من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و ابن عباس (حبر الأمة) و أنس بن مالك، و به قال أبو العاليه، و عكرمة و ذهب جماعة إلي التخيير بين المسح و الغسل، منهم: ابن جرير الطبري، و أبو الحسن البصري،
__________________________________________________
[1] تجد ذلك في (ص: 118) من الجزء الثاني من ميزان الشعراني من الطبعة الثالثة سنة (1344 ه).
و فيه يقول: إن جماعة كثيرة من علماء أهل السنّة ذهبوا إلي وجوب المسح علي القدمين.
[2] أخرجه الترمذي في سننه (ص: 390) من جزئه الثاني، و السيوطي في جامعه الصغير (ص: 178) من جزئه الثاني، مقتصرا علي
قوله: (يد اللّه مع الجماعة)
و معناه ثابت الصحّة علي ما في سنن الترمذي.
الآلوسي و التشيع، ص: 60
و قد صرّح السّخاوي من أكابر علماء أهل السنة في شرحه علي المنظومة للجزري:
أن المعتمد أن ليس في مسند أحمد بن حنبل شي‌ء موضوع، و
يقول السيوطي- من شيوخ أهل السنّة- في الدر المنثور (ص: 262) من جزئه الثاني، في تفسير آية الوضوء في سورة المائدة، مرفوعا: إن رسول اللّه قال: (لا تتم صلاة أحدكم حتي يسبغ الوضوء كما أمره اللّه، يغسل وجهه و يديه إلي المرفقين، و يمسح برأسه و رجليه إلي الكعبين)
و فيه عن ابن عباس: (الوضوء غسلتان و مسحتان) و فيه عن ابن جرير، عن الشعبي قال: (نزل جبريل بالمسح علي القدمين) و فيه عن ابن عباس، قال: (أبي النّاس إلّا الغسل، و لا أجد في كتاب اللّه إلّا المسح) و هكذا أخرجه ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري في شرح حديث البخاري (ص:
187) من جزئه الأول، فراجع ثمة حتي تعلم أن وجوب مسح القدمين ثابت عند الفريقين.
و لكن الآلوسي و غيره من المتطفلين علي الإسلام المنتحلين لبعض أحكامه أبوا إلّا الغسل، إنكارا علي اللّه و جحودا لوحيه و خلافا لرسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فإذا كان هذا كلّه ثابتا في صحيح أهل السنّة، و قد فعله رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام و السّابقون الأوّلون من المهاجرين و الأنصار و الّذين أتبعوهم بإحسان، و فعله كثيرون من علماء أهل السنّة فلا يهمنا بعد ذلك أن ينكره الآلوسي.

الشيعة لم ترو رواية الغسل

الوجه التاسع: قوله: «و قد روي الجمّ الغفير غسلهما بروايات متواترة».
فيقال فيه: متي روي الشيعة ذلك و أين روته؟ و في أي كتاب سطّرته؟ و من هم الناقلون له؟ فهذه أسئلة يجب الجواب عنها، و لما أهمل الجواب عنها و لم يأت بغير الكلام الفارغ علمنا أن ذلك من كذبه و زوره، و الحق الّذي لا ريب فيه أنه لم يرو أحد من الشيعة عن طريق أهل البيت عليهم السّلام ما يدلّ علي غسل الأرجل، و إنما المروي عنهم و في كتبهم- سواء في ذلك الحديث أو التفسير عن أئمتهم عليهم السّلام- هو وجوب مسحهما و أن غسلهما بدعة.
الوجه العاشر: قوله: «و اعترف الشيعة بذلك».
الآلوسي و التشيع، ص: 61
فيقال فيه: أرنا واحدا من الشيعة يعترف بروايات الغسل، و كيف يا تري يعترفون بها و هم قديما و حديثا لا يعتمدون في أحكامهم إلّا علي أهل البيت عليهم السّلام و يرون أن كلّ شي‌ء يرد عن غير طريقهم فهو جهل و ضلال، فإذا كان هذا شأنهم في أخذ الأحكام و أنهم لا يعتمدون في النقل علي غير طريق شيعتهم و مواليهم، فكيف يزعم هذا الآلوسي أنهم يعترفون بروايات الغسل و هي مخالفة للضروري من مذهب أئمتهم، فروايات الغسل ليست من رواياتهم و لا يعرفونها مطلقا.
الحادي عشر: قوله: «و فعل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم سالم عن المعارض بين الفريقين».
فيقال فيه: قد عرفت من الأحاديث التي أخرجها لنا حفاظ أهل السنّة أن فعل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و صحابته الكرام كان علي مسح الرجلين دون غسلهما، و فعله هذا سالم عن المعارض باتفاق الفريقين، لثبوت ذلك في صحاح الطائفتين، كما ألمعنا من ذهاب الكثير من علماء أهل السنّة إلي وجوب مسح الأرجل و عدم جواز غسلهما، و كما يقتضيه فحوي كلام الآلوسي- المارّ ذكره- من أن الغسل صار مذهبا لأكثر أهل السنّة فهو مذهب لأكثرهم دون جميعهم، و عليه يكون المجمع علي وجوبه بين الفريقين هو مسح الرجلين، فيتعيّن الأخذ به و ترك المختلف فيه لأنه المجمع عليه لا ريب فيه، فرواية غسل الأرجل موضوعة لا أصل لها، و ذهاب الآلوسي و غيره إلي مضمونها مع مخالفتها لنصّ القرآن و فعل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يخرجها عن الوضع و التزوير، لا سيّما و قد أعرض أكثر المسلمين من أهل السنّة و الشيعة عنها، فلا يجوز للآلوسي و غيره من العوام أن يأخذوا بها، و قد اختلف علماؤهم فيها فالواجب عليهم أن يأخذوا بما هو المتفق عليه بين العلماء و هو المسح، لأنه مبرئ للذمة من التكليف الواقعي باليقين، فإن اشتغال الذمة باليقين يستدعي اليقين بالبراءة و هو لا يحصل إلّا بمسح القدمين لا بغيره، لأنه هو الّذي فعله رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الّذين كانوا معه من أهل بيته و أصحابه، و هو المستفاد من ظاهر الآية لا سواه، بل هو الّذي لا خلاف في صحة روايته بين أهل الإسلام.
الوجه الثاني عشر: قوله: «و قد روي العياشي عن أبي هريرة».
الآلوسي و التشيع، ص: 62
فيقال فيه: إن أبا هريرة و غيره ممن هو مثله ليسوا من رواة الشيعة، و لا يعتمد الشيعة علي نقلهم عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو عن أحد الأئمة من أهل بيته عليهم السّلام و يكفي في ردّها علي عقبها، و أنها من وضع الأفّاكين كون الراوي لها أبا هريرة [1] و لقد فات الآلوسي أن يتمثل بقول الشاعر العربي:
أبو هريرة تصغير لهرّته فلا تصحّ روايات البزازين
و هل يعول في فتوي علي خبر يحكي عن الهرّ ما هذا من الدّين
الوجه الثالث عشر: قوله: «روي محمّد بن النّعمان».
فيقال فيه: أين روي هذه الرواية؟ و في أيّ كتاب سجّلها شيخ مشايخ الإسلام المفيد (ره) إن كان يريد بمحمّد بن النعمان، محمّد بن محمّد بن النعمان الملقب بالمفيد، فكان اللّازم عليه و هو يحاول أن يثبت ما يدّعيه أن يذكر لنا الرواية بسندها أو يشير إلي الكتاب الّذي نقلها عنه، و من حيث أنه لم يفعل ذلك و ألقي الكلام مهملا، علمنا أنه من خرصه و وضعه يريد به الإنتصار لمذهبه، و الغريب دعوي هذا الرجل أن مثل هذه الموضوعات مدوّنة في كتب الشيعة الصحيحة، و أنه لم يتصدّ أحد منهم للطعن فيها.
فالآلوسي الجاهل يري أنه أعلم بأحاديث الشيعة من الشيعة أنفسهم، و كأنه لا يعلم بأن الشيعة تعلم أنها من الكذب و الافتراء، و لو أنه صاغ غيرها في غير هذا لأمكنه التمويه به علي الرعاع من خصوم الشيعة و أعدائها، و لكن أنّي يمكنه التمويه بهذا و الأمر فيه أظهر من الشمس و أبيّن من الأمس، و عند الشيعة من الأحاديث المتواترة عن أئمتهم عليهم السّلام و الثابتة أيضا من طريق خصومهم، الموافقة لكتاب اللّه في وجوب مسح القدمين ما يملأ الطوامير، علي أن الرواية التي وضعها
__________________________________________________
[1] و لقد كتب الشيخ الكبير محمود أبو ريّة كتابا في أبي هريرة سمّاه: (شيخ المغيرة) أظهر فيه جرأة أبي هريرة المسرفة في الكذب علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و وضع الحديث عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و كذلك كتب علّامة جبل عامل المغفور له السيّد عبد الحسين شرف الدّين كتابا فيه سمّاه: (أبو هريرة) بيّن فيه ما وضعه أبو هريرة من الأحاديث التي لا يمكن لمن له عقل تصديق شي‌ء منها، يجدر بالباحثين الوقوف عليهما.
الآلوسي و التشيع، ص: 63
الآلوسي عن أبي هريرة و غيره من المنحرفين عن أهل البيت عليهم السّلام مخالفة للضروري من مذهبهم من الأوّلين و الآخرين إلي قيام يوم الدين.
و أما قوله: (إن الحديث رواه أيضا الكليني، و أبو جعفر الطوسي) فآية أخري علي إفكه و زوره لأن الباحث الورع إذا أورد حديثا فاللّازم عليه أن يذكر مصدره و الكتاب الّذي يحكيه عنه، و إلّا فلا يجوز التصديق بثبوته بمجرد الحكاية المرسلة، فإنها لا سيّما في باب المناظرة من الخصم لا تجدي فتيلا و لا تثبت قطميرا، بل يكفي في ردّها و الحكم عليها بالافتعال عدم إسناده لها إلي أحد كتب الطائفة التي ترجع إليها في أخذ أحكامها، خاصة إذا كانت الرواية مخالفة للضروري من مذهبها.
و أما قوله: «فلا يمكن حملها علي التقيّة».
فيقال فيه: أنها أشبه بالسّالبة المنتفية بانتفاء موضوعها، إذا الحمل علي التقيّة منوط بثبوت هذه الرواية عند الشيعة و أنها بأسانيد صحيحة، و قد عرفت أنها موضوعة لا أصل لها في كتبهم المعتبرة، و لو سلّمنا جدلا وجودها في كتاب من كتبهم فهي من أظهر مصاديق التقيّة و أبيّن أفرادها؛ لأنها موافقة لخصوم الشيعة و مخالفة للضروري من مذهبهم، و كون السّائل من الشيعة لا يمنع حملها علي التقيّة، فإن وجود من يخاف شرّه و بطشه من الظالمين حين السّؤال في مجلس الخطاب هو الّذي يدعو الإمام عليه السّلام إلي استعمال التقيّة و موافقة العامة في جوابه و عدم مجاهرة السّائل بخلافهم.
و نزيدك توضيحا أن كلّ حديث يرد فإن كان معارضا لأحاديث أهل البيت عليهم السّلام المعمول بها فهو باطل و ضلال، علي أن الترجيح في جانب أحاديثهم عليهم السّلام عند تعارضها- لو سلّمناه جدلا- و ذلك بأحاديث الثّقلين، و السّفينة، و النجوم، و باب حطّة و غيرها من المجمع عليها بين المسلمين أجمعين، الموجبة للرجوع في أخذ أحكام الشريعة من العترة النبويّة الطّاهرة الزكيّة عليهم السّلام لأن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أمر بالتمسّك بهم، و رتّب الضّلال علي المنحرفين عنهم، كالآلوسي و غيره من الّذين يستمدون علمهم و يأخذون أحكامهم عن أمثال أبي هريرة، و كعب الأخبار ابن
الآلوسي و التشيع، ص: 64
اليهودية، و سمرة بن جندب، و مروان ابن الحكم من أعداء الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فكلّ ما ترويه الشيعة عن طريق أهل البيت عليهم السّلام واجب إتباعه، و ما يخالفه واجب طرحه خاصة إذا كان مذهبا لأكثر خصومهم و موافقا لكثيرهم.

رواية مسح القدمين ثابتة عند أهل السنّة

الرابع عشر: قوله: «و كلّ ما يروونه في هذه المسألة عن أحد أئمة أهل السنّة فهو إفك و زور».
فيقال فيه: إن الشيعة لم ترو عن أحد أئمة أهل السنّة وجوب المسح علي القدمين حتي يقول هذا العدوّ إن ذلك إفك و زور، و إنّما الراوي له علماء أهل السنّة أنفسهم في كتبهم المعتبرة باعتراف الآلوسي: (إن الغسل صار مذهبا لأكثر أهل السنّة) و هو يفيد كما قدّمنا أن الكثير منهم وافقوا الشيعة فذهبوا إلي وجوب مسح القدمين و المنع من غسلهما، فهل يا تري يصح أن يذهب الجمع الكثير من علماء أهل السنّة إلي وجوب مسحهما و عدم غسلهما لأجل أن الشيعة رووا لهم روايات في وجوب مسحهما، إن شيئا من ذلك لا يمكن و لا يكون و إنّما كان ذهابهم إلي وجوب مسحهما لأجل ما يروونه هم من طرقهم عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من وجوبه و عدم جواز الغسل، فعلي الآلوسي أن يلصق الإفك و الزور بعلماء مذهبه لروايتهم وجوب مسحهما و المنع من غسلهما دون الشيعة، و يكفيك هذا دليلا علي فساد ما ذهب إليه و تناقضه فيه.
الخامس عشر: «و قد تبيّن أن هذا الكيد صار في نحورهم».
فيقال فيه: إن كان ذلك كيدا- كما يزعم- فقد صار في نحور الكثير من علماء مذهبه الّذين ذهبوا إلي وجوب المسح و حرمة الغسل لا في نحور الشيعة، فالآلوسي يلقي الكلام علي عواهنه دون أن يهتدي إلي رجوعه إلي تناقضه و الحطّ من قدر علمائه و بطلان مذهبه.
الوجه السّادس عشر: قوله: «و دلّ بمخالفتهم للنصوص القرآنية علي كفرهم».
الآلوسي و التشيع، ص: 65
فيقال فيه: كان علي الآلوسي أن يفكر في نتائج هذه الكلمة قبل أن يلقيها، و يتبصر بها قبل أن يمليها، و لكن من أين له التفكير و قد أسكرته العصبية حتي جعلته يفكر بغير عقل، و يكتب بغير فهم، و ينطق بما يؤول وباله عليه، فطفق يحفر و التراب يقع علي رأسه، يا هذا ألم تعترف بذهاب الكثير من علماء أهل السنّة إلي وجوب مسح القدمين و المنع من غسلهما مخالفين أكثرهم في وجوب الغسل؟ فإن كان ذلك منهم مخالفا للنصوص القرآنية- كما تزعم- كانوا جميعا مصداقا لقولك: (و دلّ بمخالفتهم للنصوص القرآنية علي كفرهم) دون الشيعة لأنك عدوّهم و هم عدوّك فلا يقبلون قولك لا في قليل و لا في كثير، بل لا يثبت عندهم طاقة حشيش، فأنت في هذا كالباحث عن حتفه بظلفه، و الجادع مارن أنفه بكفه، فقد أردت أن تحكم بكفر الشيعة فحكمت بكفر الكثير من علماء مذهبك من حيث تدري أو لا تدري:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة و إن كنت تدري فالمصيبة أعظم
الآلوسي و التشيع، ص: 67

الفصل الثالث أدلّة الأحكام الشرعية

الآلوسي و تشريعهم الأحكام

قال الآلوسي (ص: 22): «و من مكايدهم أنهم يقولون: إن أهل السنّة يشرّعون أحكاما من عند أنفسهم، كما جعلوا القياس دليلا شرعيا لثبوت كثير من الأحكام به.
و الجواب: أن هذا الطعن يعود حينئذ علي أهل البيت عليهم السّلام فإن الزيدية و أهل السنّة يروون القياس عن الأئمة، و قال أبو نصر هبة اللّه بن الحسين أحد علماء الإمامية بحجّية القياس، و تبعه علي ذلك جماعة، و قد ثبت ذلك في كتبهم بطرق صحيحة، فمن ذلك ما
روي أبو جعفر الطّوسي في التهذيب، عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر، قال: جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ما تقولون في رجل يأتي أهله ينزل؟ فقال الأنصار الماء من الماء، و قال المهاجرون:
إذا التقي الختانان وجب الغسل، فقال عمر (رض) لعليّ عليه السّلام: ما تقول يا أبا الحسن: فقال توجبون عليه الحدّ و لا توجبون عليه صاعا من ماء.
قال: فقاس هاهنا الغسل علي الحدّ بالصراحة، و أجاب الشيعة عن هذا القياس بأن ما قاله الأمير ليس بقياس بل هو استدلال بالأولوية، كدلالة: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ
[الإسراء: 23] علي حرمة الضرب و الشتم، و سواء في فهمه المجتهد و غيره، و فيه خبط لأن المساحقة موجبة للتعزير عند أهل السنّة و للحدّ عند الإمامية، و لا توجب الغسل بالإجماع، و كذا اللّواط إن كان بطريق الإيلاج فهو موجب للحدّ عند أهل السنّة و الإمامية و موجب للتعزير عند غيرهم و لا غسل في كتب أصول أهل السنّة».
الآلوسي و التشيع، ص: 68
المؤلف: ليس في نسبة الشيعة تشريع الأحكام إلي خصومهم من الكيد- كما يزعم- الّذي لم ير شيئا من كتب أشياخه ليعلم صحة هذه النسبة و غيرها في تشريع الأحكام إليهم، و إليك جانبا من ذلك، فمنه:
تشريعهم الحكم بعدالة الصحابة أجمعين علي ما حكاه عنهم خاتمة حفاظ أهل السنّة ابن حجر العسقلاني في الإصابة، و السيوطي في خصائصه الكبري، و النووي في منهاجه، و ابن عبد البر في استيعابه، و ابن حجر الهيتمي في صواعقه، و هذا شي‌ء لا يختلفون فيه و قد اعترف الآلوسي بصحة هذه النسبة في بعض كلماته مع أن القرآن و السنّة لم يأتيا بتشريعه، و في القرآن: وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَي النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلي عَذابٍ عَظِيمٍ
[آل عمران: 101] و يقول الكتاب مخاطبا الصحابة أنفسهم لا غيرهم: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلي أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلي عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
[آل عمران: 144] و قال تعالي: وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ
[التوبة: 56] و قال تعالي: وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا
[الأحزاب: 15] و قال تعالي: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ
[التوبة: 43] و قال تعالي: أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلي أَجَلٍ قَرِيبٍ
[النساء:
77] و قال تعالي: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَي الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَي الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
[الأنفال: 5- 8] و قال تعالي: وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً
[الأحزاب: 13] و قال
الآلوسي و التشيع، ص: 69
تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَي الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ
[التوبة: 38] و قال تعالي: وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ
[التوبة: 45- 47].
فإن الخطاب في هذه الآيات و أضعاف أمثالها كلّه موجه للصحابة قصدا و أولا و بالذات، و هي صريحة في وجود الكذابين و المنافقين و العصاة و المجادلين لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي القتال، و المتثاقلين عنه، و المنكرين عليه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الكارهين الخروج معه، و المصغين للفساد، و السّامعين كلمة الكفر من المشركين، و القاعدين عن القتال معه كما نصّت عليه هذه الآيات، فالحكم عليهم جميعا بالعدالة تشريع محرّم و حكم بغير ما أنزل اللّه تعالي فيهم في القرآن.
و أما السنّة فحسبك أحاديث الحوض، و البطانتين، و لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر المروية في الصحيحين [1] البخاري و مسلم و غيرهما من صحاح أهل السنّة مما لا خلاف فيه بين الأمة.
فهذا البخاري يقول في صحيحه (ص: 150) في باب بطانة الإمام و أهل مشورته من جزئه الرابع، عن أبي سعيد، و أبي أيوب، و أبي هريرة بأسانيدهم عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (ما بعث اللّه من نبيّ و لا استخلف من خليفة إلّا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف و تحضّه عليه، و بطانة تأمره بالشرّ و تحضّه عليه، فالمعصوم من عصمه اللّه).
و
يقول البخاري في (ص: 94) من صحيحة من جزئه الرابع، في باب الحوض كغيره من أهل الصحاح، بإسناده عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (بينا أنا قائم فإذا زمرة حتي إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم، فقال:
__________________________________________________
[1] و يقول الهيتمي في الصواعق المحرقة، في الباب الأول الّذي عقده لبيان كيفية خلافة أبي بكر، في الفصل الأول (ص: 5) من طبعة (1324 ه) ما لفظه: روي الشيخان في صحيحهما اللّذين هما أصحّ الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتدّ به.
الآلوسي و التشيع، ص: 70
هلمّ، فقلت: أين؟ فقال: إلي النار و اللّه، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدّوا بعدك علي أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة حتي إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم، فقال: هلمّ، قلت: أين؟ قال إلي النار و اللّه، قلت: ما شأنهم؟ قال:
إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم، فلا أري يخلص منهم إلّا مثل همل النعم)
و في النهاية الهمل: الضّالّ من الإبل، أي أن الناجي من الصحابة من النار في قلّة الإبل الضالّة.
و أخرج البخاري أيضا في (ص: 94) من جزئه الرابع في باب الصراط جسر جهنّم، عن سهل بن سعد، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إنّي فرطكم علي الحوض، من مرّ عليّ شرب و من شرب لم يظمأ أبدا، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم و يعرفوني ثم يحال بيني و بينهم، فأقول: إنهم منّي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا لمن بدّل بعدي).
و في (ص: 94) من صحيحه أيضا من جزئه الرابع في الباب نفسه، عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيجلون عنه، فأقول:
يا ربّ أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدّوا علي أدبارهم القهقري).
و أخرج أيضا في أواخر (ص: 85) في باب و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، من جزئه الثالث، عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين علي أعقابهم منذ فارقتهم).
و يقول البخاري في صحيحه (ص: 174) من جزئه الرابع في باب لتتبعن سنن من كان قبلكم عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، و ذراعا بذراع، حتي لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم، قلنا: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم اليهود و النصاري، قال: فمن).
و أنت تري هذه الأحاديث الصحيحة المتواترة عند أهل السنّة كلّها تنادي بصراحة بعدم عدالة الصحابة جميعا، و أن فيهم بطانة الشرّ، و فيهم المرتدين علي
الآلوسي و التشيع، ص: 71
أدبارهم القهقري، و فيهم التابعين لسنن من كان قبلهم، فالحكم عليهم جميعا بالعدالة تشريع محرّم و حكم بغير ما حكم به رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليهم.
و من تشريع خصوم الشيعة في الدين: حكمهم بوجوب بيعة أبي بكر (رض) و هي أول حدث وقع في الإسلام بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و منه تتابعت الويلات علي الشيعة بين آونة و أخري، و هي التي نقضوا بها السنن الشرعية و عفوا معالمها القيّمة، فإن هذه البيعة التي صنعوها في السّقيفة لا سبق لها في كتاب اللّه و لا في سنّة نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فالحكم بوجوب إتباعها تشريع محرّم، و حكم بغير ما نزل به القرآن الكريم و جاءت به السنّة الشريفة.

بعض الموارد التي اختلف فيها خصوم الشيعة

و من تشريعهم: حكمهم بوجوب الرجوع إلي أربعة أئمة في فقههم مع اختلافهم [1] في الآراء، و تضاربهم في الأحكام، و تصادمهم في الفتاوي، و حكم
__________________________________________________
[1] و إليك بعض الموارد التي اختلفت أهواؤهم فيها لأن الإتيان علي ذكرها جميعا يحتاج إلي كتاب مستقل.
فمنها: اختلافهم في كفن الزوجة، فبعضهم علي أنه واجب علي الزوج، و بعضهم أنه غير واجب، كما في (ص: 14) من الفتاوي الخيرية من جزئه الثاني، مع أن حكم الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في القضية واحد لا يختلف، فأحد المذهبين لا شك في أنه غير صحيح، لأن حكم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هو الحجّة لا حكم غيره، و حكم غيره إذا لم يكن من حكمه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان كفرا و ظلما و فسقا، بدليل قوله تعالي: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ
و قوله تعالي: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
كما في الآيات 45- 47 من سورة المائدة.
و لدخوله في قوله تعالي: أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
كما في الآية (50) من سورة المائدة.
و دعوي الاجتهاد فاسدة لأنه مخالف لحكم اللّه و حكم رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و كلّ ما كان كذلك فهو مشاقّة للّه و لرسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لأن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قد بيّن لهم حكم اللّه في كلّ قضيّة و هو لا تضارب فيه، فاتباع الأهواء و الضلالات في خلافه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خروج عن الدين جملة، و في القرآن يقول اللّه تعالي: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدي وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّي وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً
كما في الآية (115) من سورة النساء.
و من ذلك: اختلافهم في النكاح إذا كان بغير لفظه الدالّ عليه، فقال بعضهم: بانعقاده، و قال: آخرون لا ينعقد، كما في (ص 19) من الكتاب نفسه، و منها اختلافهم في المرأة إذا تزوجت غير الكفؤ بلا رضا أوليائها، فقال الكثير منهم: أنه لا ينعقد، و قال الأكثر: ينعقد، كما في (ص: 25) منه أيضا،-
الآلوسي و التشيع، ص: 72
__________________________________________________
- و منها: مسّ الرجل ذكره، فقال جماعة منهم: أنه ينقض الوضوء، و قال: آخرون ليس بناقض، كما في (ص: 32) من (الروضة الندية شرح درر البهية).
و منها: قول بعضهم ببطلان الصلاة بمرور الكلب الأسود و المرأة و الحمار أمام المصلّي، و بعضهم أنه غير مبطل، كما في كتاب الرحمة بهامش الجزء الأول من ميزان الشعراني (ص: 39) من الطبعة الثالثة سنة (1344 ه).
و منها: قول أبي حنيفة: إنه لا يجب التسليم في الصلاة، و قول الشافعي و أحمد و مالك بوجوبه، علي ما في (ص: 145) من ميزان الشعراني من جزئه الأول، و منها: قول بعض أئمتهم إن الستر شرط في الصلاة، و قول بعض إنه ليس بشرط، علي ما في ص: (135) من ميزان الشعراني من جزئه الأول.
و منها: قول بعضهم بوجوب الأذان و الإقامة، و قول بعضهم إنهما سنّة غير واجبة، علي ما في (ص:
132) من ميزان الشعراني من جزئه الأول، و منها: قول بعضهم بوجوب غسل اليدين قبل الوضوء، و قول بعض إنه ليس بواجب، علي ما في (ص: 116) من ميزان الشعراني من جزئه الأول.
و منها: قول أبي حنيفة بعدم وجوب القراءة بالفاتحة في الصلاة، و قول الثلاثة بوجوبها، علي ما (ص:
140) من ميزان الشعراني من جزئه الأول، و منها: قول بعضهم بوجوب التّسمية عند الوضوء، و قول بعضهم بعدم وجوبها، علي ما في (ص: 116) من ميزان الشعراني من جزئه الأول.
و منها: قول بعضهم بوجوب المضمضة في الوضوء، و قول بعضهم بعدم وجوبها، علي ما في كتاب الميزان للشعراني (ص: 116) من جزئه الأول، و منها: قول مالك و أحمد: بوجوب مسح جميع الرأس في الوضوء، و قول أبي حنيفة و الشافعي بوجوب مسح البعض، و اختلفا في قدره، كما في ميزان الشعراني (ص: 117) من جزئه الأول.
و منها: قول أبي حنيفة و الشافعي و مالك بعدم الاجتزاء بالمسح علي العمامة في الوضوء، و قول أحمد كفاية المسح علي العمامة بدل الرأس المنصوص عليه في القرآن، كما في (ص: 117) من ميزان الشعراني من جزئه الأول.
و منها: قول أبي حنيفة، و مالك: بعدم وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء، و قول أحمد، و الشافعي بوجوبه فيه، علي ما في (ص: 119) من ميزان الشعراني من جزئه الأول.
و منها: قول أبي حنيفة إنه لا يتعيّن لفظ (اللّه أكبر) بل تنعقد الصلاة بكلّ لفظ يعطي التعظيم مثل اللّه العظيم و الجليل، و قول الشافعي إنه يتعيّن لفظ اللّه أكبر فقط، كما في ص: (137) من ميزان الشعراني من جزئه الأول، و منها: قول أبي حنيفة بجواز القراءة بالفارسية، و قول الثلاثة بعدم جوازها بغير العربية، علي ما في ص: (143) من ميزان الشعراني من جزئه الأول، إلي غير ذلك و أضعاف أمثاله من الموارد التي اختلفت آراؤهم و أنظارهم فيها.
و من أراد المزيد فليراجع كتبهم الفقهية فإنه يجد الكثير من هذا القبيل، و اللّه يعلم و الناس كلّهم يعلمون أن فعل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم واحد و سنّنته واحدة و قوله و تقريره واحد لا يتبدل و لا يتغير مطلقا بعد انقطاع الوحي و التحاقه بالرفيق الأعلي، فأحد المذاهب لا شك في أنه غير صحيح، فعلي أيّها يا تري كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بأيّها كان يعمل، و أيّها باطل و خطأ؟ و في القرآن يقول اللّه تعالي: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ
الآلوسي و التشيع، ص: 73
اللّه في القضية الواحدة في حالة واحدة لا يختلف، فالحكم بوجوب اتباعهم و حرمة الرجوع إلي غيرهم تشريع محرم مخالف لما أنزل اللّه تعالي في القرآن بقوله تعالي: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ
[آل عمران: 19] و قوله تعالي: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا
[فاطر: 43] و مخالف لقول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيما تقدم ذكره
من حديثه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إنّي مخلّف فيكم الثّقلين: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، و لن يفترقا حتي يردّا عليّ الحوض، فلا تقدموهم فتهلكوا، و لا تأخروا عنهم فتهلكوا، و لا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم)
فالانحراف عنهم و الحكم بوجوب إتباع غيرهم حكم بغير ما جاء به رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أمر الناس باتباعه.
و من تشريعهم: حكم الأئمة الأربعة بالاكتفاء في الوضوء للصلاة بغسل الرأس بدل المسح، علي ما في (ص: 115) من ميزان الشعراني من جزئه الأول، و هو تشريع محرّم مخالف لنصّ القرآن الآمر بمسح الرءوس، بقوله تعالي:
وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ
و من تشريعهم: تجويزهم المسح علي الخفين بدل القدمين، و المسح علي العمامة بدل الرأس كما في (ص: 115) من ميزان الشعراني من جزئه الأول، و هو مخالف لنصّ لقرآن و صريح قولهم إن سورة المائدة محكمة فالقرآن يقول: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ
و الجماعة يقولون: و اغسلوا رءوسكم و امسحوا علي خفيكم فالحكم بذلك تشريع محرّم مخالف لما نزل به القرآن.
و من تشريعهم: تشريع أبي حنيفة استحباب تأخير صلاة الصبح و الظهر و صلاة الجمعة عن أوّل أوقاتها، و هو مخالف لنصّ القرآن الآمر بالمسارعة إلي
__________________________________________________
- أجل لا شك في أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان يعمل بما كان يعمل به أهل بيته الطاهرين المعصومين، لأنهم يعملون بما كان يعمل به صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا بغيره كما تقول الشيعة و تعتقد، لأن قولهم واحد و عملهم واحد و تقريرهم واحد و هداهم واحد لا يتبدل بحال، و هو ما كان عليه جدّهم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و سيّد الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لذا فإن الشيعة تمسّكوا بهم و انقطعوا إليهم و انحرفوا عن غيرهم كائنا من كان.
الآلوسي و التشيع، ص: 74
تحصيل ما يوجب المغفرة من اللّه تعالي، و المسابقة إلي استيفاء الخير، بقوله عزّ من قائل: وَ سارِعُوا إِلي مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
[آل عمران: 133] فالحكم بتأخيرها عن أوّل أوقاتها حكم بغير ما أنزل اللّه تعالي، و هو تشريع محرّم مخالف للقرآن.
و من ذلك: تشريع أبي حنيفة جواز افتتاح الصّلاة بأي اسم من أسمائه تعالي، مثل: اللّه العظيم، و اللّه الجليل إلي غير ذلك، و هو مخالف لما كان عليه النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و السّابقون الأوّلون، و مخالف لسنّته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و مخالف لأئمتهم الثلاثة، فالحكم بذلك تشريع محرّم.
و من ذلك: تشريع الشافعي جواز الزيادة علي كلمة اللّه أكبر، مثل اللّه عزّ و جلّ أكبر، و اللّه الجليل أكبر، و هو مخالف لفعل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قوله: (اللّه أكبر) فقط، و يقول شارح الينابيع علي ما في السنن الصحيحة: لقد جرت سيرة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي هذا فقط، فالحكم بذلك تشريع محرّم.
و منه: تشريع أبي حنيفة كفاية آية واحدة في الصلاة و لو من غير الفاتحة، و هو مخالف للسنّة المتواترة بين الفريقين، من
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب)
فالحكم بذلك تشريع محرّم.
إلي غير ما هنالك و أضعافه مما يجده القارئ في أمهات كتبهم الفقهية [1] من التشريعات التي ما أنزل اللّه بها من سلطان، و من أراد المزيد فليراجع ثمة حتي يعلم صحة ما نسبه الإمامية إليهم من تشريع الأحكام في الدين، كأنهم علي ما يرون أنهم شركاء للّه في تشريع أحكامه من حلاله و حرامه، أو يرون أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم- و العياذ باللّه- كان جاهلا بتشريعها و أحكامها، فلم يأت صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بشي‌ء مما جاء به هؤلاء من التشريعات و ألصقوها بدينه، أو أن اللّه تعالي كان لا يعلم بها و هم علموا بها، و هل هناك طعن في قداسة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قداسة دينه غير هذا؟
__________________________________________________
[1] تجد كلّ هذه الآراء المخالفة لنصوص القرآن و السنّة القطعية في كتاب الميزان لمحمّد بن عبد الوهاب الشعراني، في جزئه الأول و الثاني فلتراجع.
الآلوسي و التشيع، ص: 75

رواية القياس ليست من روايات الشيعة

و أما قوله: «مع أن طعنهم هذا يعود حينئذ علي أهل البيت فإن الزيدية و أهل السنّة يروون القياس عن الأئمة».
فيقال فيه: إنما يرد الطعن إذا كان ذلك ثابتا في مذهبهم، و أما إذا كان مخالفا للضروري من دينهم- كما هو التحقيق- فليس من الطعن عليهم في شي‌ء، و إنما هو من الطعن علي القائلين بتشريعه و هم غيرهم، و أما قوله: (و قد قال أبو نصر هبة اللّه بن الحسين أحد علماء الإمامية بحجيّة القياس).
فيقال فيه: ليس في علماء الإمامية من يقول بحجّية القياس و لا يصح نسبة ذلك إليهم بحال، و هو مخالف للضروري من مذهب أئمتهم، و الأخبار عنهم عليهم السّلام في عدم حجيّته متواترة لا يشك فيها اثنان منهم، و إنما القائلون به هم خصوم الشيعة من المنحرفين عن الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذين لا يتحرجون من التقول علي اللّه و تشريع الأحكام في الدين مما ينفيه الشرع القويم.
و أما ما حكاه عن أبي نصر هبة اللّه، و زعم أنه من الإمامية، و أنه قائل بحجيّة القياس فمدخول؛ بأن الإمامية لا تعرف هذا الرجل و ليس هو من علمائهم في شي‌ء- إن صح نسبة حجيّة القياس إليه- و إنما هو من أكابر علماء خصومهم، إلّا أن الأمر قد التبس فيه علي الشيخ الآلوسي كما التبس الأمر عليه في غيره فظنّه من أعلام الإمامية، و أكبر الظن أنه الحافظ الحسن بن هبة اللّه بن عبد اللّه بن الحسين المعروف بابن عساكر، و هو من أعاظم محدّثي أهل السنّة، و من أعيان فقهاء الشافعية، كما في (ص: 335) من وفيات الأعيان لابن خلكان من جزئه الأول، و أيّا كان فلا قائل من الإمامية بحجيّة القياس، فدونك كتبهم في علم الأصول و الفقه فإنهم صرّحوا ببطلانه، و أن من أقوي العوامل لمحق الدين و إبطال أحكامه و تحليل حرامه و تحريم حلاله هو العمل فيه بالقياس و الرأي و الاستحسان و الإعتبار و الظنون التي ما نزل بها القرآن.
و أما قوله: «قد ثبت حجيّة القياس في كتبهم الصحيحة، فمن ذلك ما رواه أبو جعفر الطوسي في التهذيب».
الآلوسي و التشيع، ص: 76
فيقال فيه: الرواية إن صحت فلا دلالة فيها علي اعتبار القياس في شي‌ء، لأن
قوله عليه السّلام: (أ توجبون عليه الحدّ و لا توجبون عليه صاعا من ماء)
مسوق لبيان الحكم الواقعي، و أن حكم اللّه في هذه الواقعة هو وجوب الغسل مضافا إلي الحدّ، و لكن لمّا أنكر القوم هذا و رتّبوا الحدّ عليه خاصة أجابهم بذلك للتنبيه، و الدلالة علي ما ألزموا به أنفسهم من تجويزهم القياس في الأحكام، فكأنه عليه السّلام أراد بذلك أن يقول: أ تراكم تجوّزون القياس في الأحكام فكيف تمنعونه هنا، مع أنه لو جاز شي‌ء منه لكان هذا من أظهر مصاديقه و أبين أفراده، و من حيث أن الآلوسي لم يهتد إلي معني كلامه عليه السّلام و لم يفهم شيئا من مغزاه، و لم ينتبه إلي مرماه، ظن أن ذلك من القياس الباطل، و أيّ حاجة به عليه السّلام إلي القياس و هو باب مدينة علم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عديل كتاب اللّه، و حامل علم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذي لا ينطق عن الهوي و عنده علم الكتاب، و القياس لا شك في أنه من الهوي و لا شي‌ء منه من عند اللّه.
و جملة القول إنه عليه السّلام أراد بذلك أن يبيّن الحكم الواقعي، و أن الغسل واجب عليه شرعا كوجوب الحدّ عليه، و إنما عبّر بذلك ليلزم المنكرين عليه و المخالفين له بمثل هذا الجواب القاطع لإنكارهم، و الرافع للجاجهم، و الحاسم لنزاعهم، و لو لم يجبهم بما هو عندهم حجّة لاختلفوا فيه و لامتنعوا عن قبوله، لا أنه عليه السّلام يريد القياس أو إثبات الملازمة بين الغسل و مطلق ما عليه الحدّ، بل و لا من باب الأولوية كما نسبه إلي الإمامية إفكا و زورا.
و أما قوله: «لأن المساحقة موجبة للتعزير و الحدّ و لا توجب الغسل».
فيقال فيه: إن أراد أن ذلك لا يوجب الغسل مطلقا و إن أنزلت ففساده واضح، و إن أراد به نفي الملازمة بين الغسل و الحدّ فقد عرفت عدم دلالة الرواية علي اللّزوم، و أن كلامه عليه السّلام كان مسبوقا لبيان الحكم الواقعي في هذه الواقعة، علي أنّا قد ألمعنا بأنه عليه السّلام ليس ممن يحتاجون إلي القياس لأنه أحد الثقلين الّذي لا يزال مع القرآن و القرآن معه، و إنما يحتاج إلي القياس الجاهل بالأحكام فيقول به في الدين بغير علم ممن لا حريجة له في الدين و هو غيره.
الآلوسي و التشيع، ص: 77

الاستدلال بالأولوية جائز

ثم إن الاستدلال بالأولوية جائز هاهنا و لا ينتقض بما أورده، لخروجه عن مورد الأولوية بالدليل القاطع لحكمه فيه لولاه لكان محكوما كذلك و لا محذور فيه، وهب جدلا أن ذلك من القياس فما يجديه نفعا لوجوب الاقتصار علي ما ثبت موضوعه بالدليل و لا يتعدي إلي غيره مطلقا، و ليس هذا من العمل بالقياس كما توهمه الآلوسي، و إنما هو من العمل بالدليل الموافق للقياس في مورده و هو واضح لا غبار عليه.

قوله في دلائل تجويز القياس فاسد

و أما قوله: «و أما دلائل تجويز القياس فمذكورة في علم الأصول».
فيقال فيه: لو كان الدليل علي تجويزه نصوص القرآن فذلك ما نتلقاه بالقبول و الإذعان، و كذلك السنّة المتفق عليها بين الفريقين، أما إذا كان الدليل علي تجويزه هو القياس و الاستحسان و الآراء الفاسدة التي أدلوا بها في أصولهم فذلك لا يصلح أن يكون دليلا علي إثبات فتيل فضلا من أن يكون دليلا علي إثبات اعتبار ما به تثبت الأحكام الشرعية، علي أن صريح القرآن قاض بعدم حجيّته، و في القرآن: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً
[يونس: 36] مطلقا أصلا كان أو فرعا، و قال تعالي: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ
[الأنعام:
116] داخل في منطوقها و لا مخرج له، و قال تعالي: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
[الإسراء: 36] و القياس ليس بعلم قطعا فهو مشمول للآية، و قال تعالي:
وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ
[الحاقة:
44- 46] و لا ريب في أن القياس من التقوّل عليه تعالي فهو داخل في منطوق الآية، و قال تعالي: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللَّهِ تَفْتَرُونَ
[يونس: 59].
و لا شك في أن اللّه تعالي لم يأذن بالقياس في دينه لكماله علي عهد نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بواسطة الوحي و لا شي‌ء من الوحي بقياس، فبطل أن يكون القياس منه، و قال تعالي مخاطبا نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:
الآلوسي و التشيع، ص: 78
وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ
[المائدة: 49] فلو كان القياس مما يجوز اتباعه في الشرعيات و يجوز العمل به لكانت هذه الآية باطلة لا معني لها؛ لأن القياس من الأهواء التي حذّر اللّه تعالي من أتباعها، و ليس هو مما أنزل اللّه في شي‌ء و لا هو منه علي شي‌ء، لذا تراه أمر نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بأن يحكم بما أنزله و نهاه عن إتباع أهواءهم، فمفهوم هذه الآيات واضح، و هي لا تتفق مع ما يدعيه الآلوسي من اعتبار القياس، بل هي أدلّة قويّة علي فساده و سقوطه عن الحجيّة و أنه ليس من الدين في شي‌ء.
و خلاصة القول، نقول لهذا الآلوسي: هل القياس من الدين أو لا؟ و هل هو من هدي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو ليس من هداه؟ و هل هو كالقرآن و السنّة في وجوب إتباعه أو لا؟ فإن قال: إنه من الدين- و هو قوله- فيقال له: فهل بيّنه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لأمته أو لا؟ فإن قال: بيّنه، فيقال له: أين بيّنه و متي بيّنه؟ و إذا كان بيّنه فهل عمل به أو لا؟ فإن قال: بيّنه و لم يعمل به، كان بيانه له عبثا صرفا و لغوا باطلا، تعالي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك، إذ كيف يا تري يكون القياس حجّة يجب العمل به كالقرآن و السنّة و رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يعمل به؟ أ فهل يجوز لمسلم أن يقول: إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ترك الواجب حيث لم يعمل به، ثم يقال إن ترك النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم العمل به إن كان حقا كان العمل به باطلا، و إن كان ترك العمل به باطلا لزم إلصاق الباطل بالنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هو كفر و ضلال.
و إن قال: بيّنه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عمل به، فيقال له: إن ما يعمل به النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يكون إلّا و حيا نازلا من عند اللّه، و حينئذ يكون القياس وحيا نازلا من اللّه، و هذا هو الكفر بعينه و ذلك لأن العامل بالقياس لا يكون إلّا الجاهل بحكم اللّه، و لا شك في أن نسبة الجهل بالحكم إلي وحي اللّه كفر صراح.
و هكذا الحال لو قال: إنه من هدي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لأن هداه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يكون إلّا من وحي اللّه، كما يقول القرآن: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوي إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحي
[النجم: 3- 4] و إذا بطل أن يكون من هدي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان العمل به مشاقّة لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لقوله تعالي: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ
الآلوسي و التشيع، ص: 79
الْهُدي وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّي وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً
[النّساء: 115] و سبيل المؤمنين هو هداه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و دينه الّذي أوحي اللّه تعالي به إليه، فليس القياس من دينه و لا من سنّته و قرآنه في شي‌ء، و ليست هي منه علي شي‌ء، و سيأتي المزيد من التوضيح في القريب إنشاء اللّه تعالي.

لا ينتقض ما قلناه في بطلان القياس بما هو ثابت الحجية

و لا ينتقض ما أدليناه عليك من بطلان القياس بخبر الواحد- بناء علي اعتباره مطلقا- و لا بالاستصحاب و غيره مما هو ثابت الحجيّة إجماعا و قولا واحدا، أما أولا:
فلأن القياس هو غير خبر الواحد و غير الاستصحاب و نحوه، فهما مختلفان موضوعا و محمولا، و النقض مشروط بوحدة الموضوع و هي منتفية هنا.
ثانيا: لا دليل علي خروج القياس [1] عن منطوق تلك الآيات بخلافها، لقيام الدليل علي خروجها عن منطوقها.
ثالثا: بما
أخرجه البيضاوي عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب و برهة بالسنّة و برهة بالقياس، و إذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا)
و بما
أخرجه الحاكم في مستدركه (ص: 430) من جزئه الرابع صحيحا علي شرط البخاري و مسلم، عن عوف بن مالك، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (ستفترق أمتي علي ثلاث و سبعين فرقة، أعظمها فرقة يقيسون الأمور برأيهم فيحرّمون الحلال و يحللون الحرام).
رابعا: إن قوله تعالي: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
[الحشر: 7] موجب لبطلان القياس، لأنه إما إن يكون القياس مما أتي به
__________________________________________________
[1] لأنّا نقول إن الأصل في الأحكام الفرعية المتعلّقة بفعل المكلّفين هو جواز العمل بالظن غير القياسي عند انسداد باب العلم، و نريد بالظن خصوص الظن الاجتهادي غير القياسي المتعلّق بالحكم الفرعي في ذلك الحال، فيكون القياس خارجا عنه موضوعا بنحو التخصص لا التخصيص بناء علي إفادته الظن، و به يندفع الإشكال بعدم جواز التخصيص في حكم العقل إذا كان حاكما بجوازه علي فرص انسداده.
الآلوسي و التشيع، ص: 80
الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أولا، فإن كان الأول لعمل به النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لما سبقه إليه أحد من العالمين، و قد ثبت أن ما أتي به النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يكون إلّا وحيا، و أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يعمل بغير ما أوحي إليه، و إلّا لزم نسبة التقول علي اللّه إليه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هو باطل و ضلال، و لما بطل أن يكون القياس وحيا بطل أن يكون مما أتي به صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فضلا عن كونه مما عمل به، و إن كان الثاني فبطلان العمل به أوضح.
خامسا: بما أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 84) في باب يا أيّها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك من جزئه الثالث، بسنده عن مرزوق، عن عائشة، قالت: (من حدّثك أن محمّدا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كتم شيئا مما أنزل اللّه فقد كذب) فلو كان القياس مما أنزل اللّه لبيّنه لو صح أن يكون منه، فعدمه دليل علي عدم كونه مما أنزل اللّه.
فإن قال الآلوسي: إن موضوع الظن عام و هو شامل للقياس و غيره من أفراد الظن، فيقال: إن ذلك باطل من وجهين:
الأول: إن كان القياس يفيد الظن فلا دليل علي خروجه عن الآيات الناهية عن العمل بالظن مطلقا، بل الدليل قائم علي عدم اعتباره و سقوطه عن الحجيّة في الشرعيات كما تقدم ذكره، و إن كان لا يفيده كان سقوطه عن الاعتبار أولي.
الثاني: نقول لهذا الآلوسي: إن موضوع الجسم الحساس المتحرك واحد فهو يشمل الآلوسي كما يشمل غيره من أفراد الجسم الحسّاس المتحرك، فهل يصح أن يكون حكم الحمار و غيره بنظر الإعتبار واحدا لأن كلّا منهما جسم متحرك حساس، ودع هذا و انظر إلي الحمار فإنك تجده شبيها لك في الخلق، فله أذنان و عينان و شفتان و غيرها مما هو يشبه الإنسان بها، فهل يصح عنده أن نلحق به أحكام الحمار، ثم يقال له: أن كلّا من رأسك و رجليك و نحوهما شبيه للآخر في العضوية فهل يصح لك أن تقيس رأسك علي رجليك لأن بعض أعضائك شبيه بالبعض الآخر، و هذا لا يصح و ذلك مثله لا يصح.
سادسا: أن قوله تعالي: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
[المائدة: 3] يفيد أن الدين كان كاملا علي عهد
الآلوسي و التشيع، ص: 81
النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا نقص فيه، و ليس الدين إلّا مجموعة من الأوامر و النواهي متعلّقة بفعل المكلفين أجمعين، و قد بيّنها النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بيانا وافيا شافيا رافعا للجهالة، و مزيلا لحيرة الضلالة و الوقوع في خلاف الحق، و أعطي الوقائع حكمها كاملا غير منقوض، و لم يكتم من الشريعة شيئا لا صغيرا و لا كبيرا كما تقدم ذكره عن صحيح البخاري في حديث عائشة، و القول بالقياس يعني إعطاء الفرع المجهول الحكم حكم الأصل المعلوم الحكم.
و بعبارة أوضح إلحاق مجهول الحكم بمعلوم الحكم، و معني هذا أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ترك حكم الفرع مجهولا أو ترك حكم بعض الوقائع، و أوكل أمره إلي القياس ليعطيه حكمه، أو أن دينه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان ناقصا فأعطي القياس صلاحية إكماله، أو أنه تعالي عند أهل القياس كان عاجزا عن إعطاء حكم الفرع و كان القياس قادرا عليه، فرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي زعمهم ترك دينه ناقصا ليكملوه بالرأي و القياس، أو كان عاجزا عن بيانه و هم غير عاجزين عنه، و كلّ أولئك كفر و ضلال و طعن في اللّه و في رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و دينه و هل يكون الخروج عن الدين غير هذا.
و من ذلك كلّه تفقه أن حكم القياس يختلف عن بقية الظنون اختلافا موضوعيا؛ لأن القياس إعطاء حكم لموضوع، و بعبارة أخري القياس عبارة عن جعل حكم لموضوع مجعول لموضوع آخر، و خبر الواحد و غيره طريق لحكم مجعول معلوم في الواقع، لذا كان القياس إدخالا في الدين ما ليس ذا خلاف فيه و هو بدعة ضلالة كما جاء التعبير عنه في الحديث المتقدم ذكره: (و إذا فعلوا ذلك ضلّوا).
ثم نقول لأهل القياس: إذا كان العمل به فضيلة فلما ذا يا تري لم يعط اللّه تعالي هذه الفضيلة لنبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لم يأمره به، و خصّ أهل القياس به دونه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم؟
و لما ذا يا تري نهاه عن التقوّل عليه بعض الأقاويل في دينه؟ و لما ذا نزّه نطقه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عن الهوي، و قال فيه: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوي إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحي
[النجم: 3- 4] فهل يا تري أعطي اللّه هؤلاء فضيلة القياس في دينه، و التقوّل عليه في شرعه و حرم نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم منها؟ أو أنه تعالي أعطاهم من الفضل و الفضيلة عند ما أباح لهم العمل بالقياس و لم يعط شيئا من ذلك لأحد من العالمين؟ فهل يا تري أن بينهم
الآلوسي و التشيع، ص: 82
و بين اللّه قرابة فحباهم بالقياس في دينه دون نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و دون غيره من النّاس أجمعين، حيث يقول مخاطبا أكرم خلقه و أعزّهم عليه و أقربهم منزلة منه: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلي شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
[الجاثية: 18] و لا شك في أن أهواء الّذين لا يعلمون المنهي إتباعه في منطوق الآية هو القياس و الرأي و الاستحسان، لأنهم لو كانوا من الّذين يعلمون، و كانوا متّبعين لشريعته التي جعله اللّه تعالي عليها، و رجعوا إلي الّذين يعلمون، أعدال كتاب اللّه و حملة علم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الأئمة الهداة من أهل بيته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لأغناهم ذلك عن القياس و الوقوع في الضلال، و لكن: وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ
[النمل: 81].

ما استدل به الخصم علي جواز العمل بالقياس باطل

و أما استدلال الخصوم بقوله تعالي: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ
[النساء: 105] علي جواز العمل بالقياس فمردود و حجّة لنا عليهم لا لهم:
أما أولا: فلظهور الآية بقرينة صدرها أنها تريد الحكم بما أنزل اللّه تعالي في القرآن و لا شي‌ء من القياس مما أنزله اللّه في الكتاب.
ثانيا: إن كلّ ما أنزله اللّه تعالي في الكتاب مقطوع بأنه حقّ و أنه من وحي اللّه تعالي إلي نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ليس القياس منه لأنه ليس بحق و لا أقلّ من الشكّ فيه فلا تشمله الآية، و التمسك، بها لإثباته دور صريح و هو باطل و ذلك مثله باطل.
ثالثا: لا يجوز الحكم بين النّاس إلّا بما أنزل اللّه و ما أنزل اللّه لا يكون إلّا وحيا و لا شي‌ء من القياس من وحي اللّه، و في القرآن يقول اللّه تعالي: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ
[المائدة: 44] و في آية أخري: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
[المائدة: 45] و في ثالث: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
[المائدة: 47] فلو كان يريد القياس لزم نسبة الحكم إلي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بين النّاس بغير ما أنزل اللّه و هو باطل، فالعمل بالقياس مثله باطل.
الآلوسي و التشيع، ص: 83
رابعا: أن الرؤية في منطوق الآية إما أن يراد بها العلم أو يراد بها المشاهدة بباصرة العين، فإن كان الأول فليس من القياس في شي‌ء إذ لا شي‌ء من القياس بعلم، و إن كان الثاني فغير داخل في مفهوم القياس و لا يشمله تعريفه في أصولهم، فأين يا تري دلالة الآية علي حجيّة القياس؟ و هو لا يفيد ظنا و لو أفاده فهو خارج عن منطوق الآية، علي أنه يستلزم أن يكون وحي اللّه قياسا لأن ما أراه اللّه تعالي لا يكون إلّا وحيا، و القول بأن وحي اللّه قياس كفر لاستلزامه نسبة الجهل إلي اللّه فيما أنزله علي رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إذ لا يرجع إلي القياس إلّا من كان جاهلا بحكم اللّه، لذا كان نسبة الجهل إلي اللّه تعالي في حكمه كفرا، ثم من أين لهذا الإنسان أن يحيط علما بخواصّ الأمور و فوائدها و منافعها، و مضارّها و مفاسدها، و مصالحها لكي يعطيها حكمها نفيا أو إيجابا، و الجهل له طبيعي، و مهما تخطّي فإلي قليل من العلم، و مجرد إدراك المشابهة بين شيئين لا يوجب أن يكون حكمهما واحدا، فإنه ليس بأولي من أن يكون ما بينهما من المباينة مانعا من أن يكونا واحدا حكما، و لا جائز أن يخفي أمره علي اللّه تعالي فلا يعطيه حكمه لو كان ثمة يشمله حكم الأصل و لا يخفي علي الإنسان فيعطيه حكمه حسبما يري و يهوي.
و يقول ابن حزم الأندلسي في كتاب ملخص إبطال القياس و الرأي و الاستحسان و التقليد و التعليل [1] ص (42): «قال بعضكم- يعني أهل القياس- طلاق العبد طلقتان و صيام العبد في الظهار شهر» فهلّا تماديتم و قلتم صلاته ركعتان و صيامه نصف رمضان و وضوؤه عضوان، و غسله نصف جسده، فو اللّه لأن جاز القياس هناك ليجوزن هنا لأنه كلّه قياس و كلّه خلاف النص.
و قال أيضا في ص: (48) منه: «إن اللّه جعل الحدّ في الزنا و لم يجعله في إتيان البهيمة و كلاهما محرّم، و جعل الحدّ بالقذف في الزنا و لم يجعله في القذف بالكفر، و جعل الحدّ في جرعة خمر و لم يجعله في شرب أرطال من الدم».
__________________________________________________
[1] المطبوع بدمشق سنة (1960 م) و الّذي حققه الأستاذ سعيد الأفغاني.
الآلوسي و التشيع، ص: 84
و قال أيضا في ص: (48) منه: «إن هذا إخراج لأحكام اللّه بالعقل، و ادعاء بلا برهان و لا نصّ، و إخبار عن اللّه بما لم يخبر، و تقويل لرسوله بما لم يقل».
و قال في ص: (49) منه: فأول ذنب عصي اللّه به التعليل لأوامر اللّه بلا نصّ، و ترك اتباع ظاهرها، و ذلك قول إبليس: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ
[الأعراف: 22] استنبط إبليس علّة النهي عن أكل الشجرة، و لم يصح التعليل عن صحابي، و لا قال به قط، أي أن التعليل محرّم إذ لم ينصّ عليه الشرع، أما إذا نصّ عليه فيكون حجّة متّبعة».
و قال ابن حزم أيضا في ردّ المستدلّين بالقياس، بقوله تعالي: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ
[الحشر: 2]، و قوله تعالي: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ
[يس: 78] ما نصّه: - «بأن قوله تعالي: فَاعْتَبِرُوا
جاء بعد قوله: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ
[الحشر: 2] فلو كان معني اعتبروا قيسوا لكان أمر الناس بأن نخرب بيوتنا كما خرّبوا بيوتهم، أما قوله: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ
فدليل علي إبطال القياس؛ لأن الإنشاء الأول للاختبار و الإنشاء الثاني للجزاء و الخلود، فاللّه سوّي بين هذا و ذاك بالقدرة و فرّق بين أحكامها».
و تقول الإمامية: إنما يصلح القياس في الأمور العادية و الأحكام العرفية، أما الأحكام الشرعية فلا يصح فيها القياس؛ لأن مبني الشرع علي تفريق المجتمعات و جمع المتفرقات، فتراه في الوضوء سوّي بين البول و الغائط و النوم، فجمع بين المختلفات و أعطاها حكما واحدا و هي كونها ناقضة للوضوء، و تراه في الحدّ فأمر بقطع يد من سرق ربع دينار دون من غصب مئات الألوف، و حرّم صوم يوم عيد الفطر مع أنه أمر بوجوب صوم ما قبله و ندب إلي صوم ما بعده ففرق بين المجتمعات، و هناك الكثير من هذا القبيل في أبواب الفقه ما لا يحصي و لا يعدّ.
و يقولون أيضا: إن دين اللّه لا يصاب بالعقول، فليس لأيّ إنسان مهما بلغ من العقل و العلم أن يستخرج من هوي نفسه عللا و أسبابا يسندها إلي اللّه من غير نصّ من الشارع العالم بالأسباب الخفية و المصالح الكامنة، لا سيّما إذا لا حظنا قوله تعالي: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ
[النساء: 160]
الآلوسي و التشيع، ص: 85
و قوله تعالي: وَ عَلَي الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ
[الأنعام: 146] و مفهوم الآيتين واضح، و فيهما دلالة صريحة علي أن العلّة في تحريم ذلك عليهم هو عصيانهم لا وصف ثابت للمذكورات، و حينئذ فلا يمكن الجزم بأن الجامع بين المقيس و المقيس عليه علّة للحكم لجواز أن تكون خصوصية الأصل المقيس عليه شرطا للحكم المنصوص، أو تكون خصوصية الفرع مانعة من إلحاق غير المنصوص بالمنصوص، أو تكون صفة المكلف هي التي أوجبت الحكم، فهذه كلّها دلائل واضحة علي بطلان إلحاق أمر غير منصوص عليه بآخر منصوص عليه في الحكم الشرعي الّذي هو القياس الباطل.

الاستدلال بالقلّة علي الحقية

قال الآلوسي (ص: 23): «و من مكايدهم أنهم يقولون إن مذهب الإثني عشرية حقّ لأنهم أقلّ من أهل السنّة، و قال تعالي: وَ قَلِيلٌ ما هُمْ
[ص: 24] وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ
[سبأ: 13].
و الجواب: أنه لا يخفي علي العاقل أن في هذا التقرير تحريفا لكلام اللّه، فإن اللّه تعالي قال في أصحاب اليمين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ
[الواقعة: 39- 40] و الثلّة الجم الغفير، و ليس في الآية الكريمة المذكورة بيان حقّية المذاهب و بطلانها، و علي تقدير كون القلّة و الذلّة موجبة للحقيّة، يلزم أن يكون النواصب و الخوارج و غيرهم أحقّ من الإثني عشرية لأنهم أقلّ منهم- إلي أن قال-: فبان كيدهم و خسر هنالك المبطلون».
المؤلف: أوّلا: قوله: «إنهم- أي الشيعة- يقولون إن مذهب الإثني عشرية حقّ لأنهم أقلّ من أهل السنّة».
فيقال فيه: إن أراد أن القلّة مطلقا تلازم الحقيّة علي معني أن كلّ قليل يكون الحقّ في جانبه من كلّ كثير، فذلك ما لا تقول به الشيعة الإثنا عشرية، و إن أراد الملازمة بينهما في الجملة فذلك ما تقول به الإمامية، و دليلهم علي ذلك قوله
الآلوسي و التشيع، ص: 86
تعالي: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ
[سبأ: 13] و لا شك في أن كل شاكر مسلم، و الإمامية مسلمون و هم قليلون بالنسبة إلي غيرهم من المسلمين، فإذا ثبت أنهم مسلمون قطعا و ثبت أنهم قليلون جزما ثبت أنهم هم الشاكرون، فأيّ تحريف يا تري في هذا التقرير كما يزعم الآلوسي، فإنه لم يأت بشي‌ء يبطل به الاستدلال بالآية علي حقيّة الإمامية سوي قوله: (إن في هذا التقرير تحريفا لكلام اللّه) و عدوله إلي آية أخري لا ربط لها بما نحن فيه مثله مثل الغريق يتشبث بالطحلب أو بأرجل الضفادع.
و من هنا يستشرف القارئ علي القطع بفساد تلفيقاته و بطلان تمويهاته التي حاول بها تحويل الحقيقة إلي الإفك و الزور ليقول فيها ما يشاء، ثم من أين لك أيها (الشيخ) أن الشيعة الإمامية تستدل علي حقيّتها بالقلّة، و متي استدلّوا بذلك، و أين استدلوا، و من هم المستدلون بها منهم، و من هم الناقلون له؟ بل لا حاجة بهم إلي الاستدلال بالآية علي حقيّتهم و هي و إن كانت لعمر اللّه مما يصح الاستدلال بها علي حقيّتهم إلّا أنهم يستدلون عليها بالصحاح المحمدية الجياد المتفق علي صحتها بين الفريقين، فهم غير محتاجين إلي الاستدلال بالقلّة، سواء أ كان الاستدلال بها صحيحا أم غير صحيح، و قد أغنتهم الأدلّة القاطعة لجذور الأباطيل علي أنهم هم الفرقة الناجية المستثناة من بين ثلاث و سبعين فرقة هالكة في النار، علي ما حدّثنا عنها حفاظ أهل السنّة و مشاهير أعلامهم في صحاحهم و مسانيدهم، و قد تقدم ذكره في أوائل الكتاب فلتراجع، و هو يدلنا علي نجاة فرقة واحدة، و قد احتدم النزاع في تعيينها و أدلت كلّ فرقة بما لديها من حبال و عصي لإثبات أنها هي، و لكنها كلّها مفككة العري مضمحلة القوي، لم يذهبوا بها مذهب العقل السّليم، و كلّها مصادرات و مغالطات تنقص قيمة الدليل و تذهب مزيته و تحوله إلي المشاغبة.
و قد أغنانا عن الإحتجاج بشي‌ء من ذلك في تعيينها الحديث المشهور الّذي لا ريب فيه و قد اعترف بصحته الجميع، و قد رواه معاريف حفاظ الحديث من أهل السنّة في صحاح كتبهم، و حكم الجلّ لو لا الكلّ منهم بصحته و اشتهاره، و قد
الآلوسي و التشيع، ص: 87
اعترف الآلوسي نفسه بثبوت نقله و صحته من
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح)
و قد تقدم ذكره، و لا شك في نجاة الفرقة التابعة لأهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الطائفة التي ما برحت تابعة لهم في أصولها و فروعها و عقائدها و سلوكها، و آخذة أحكامها و سائر أعمالها منهم عليهم السّلام هي الطائفة الإمامية الموالية لمن والوا و المعادية لمن عادوا، دون غيرها من سائر الطوائف.

آية ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين

و أما قوله تعالي: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ
[الواقعة: 39- 40] فعبارة أخري عن قوله تعالي: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ
و قوله تعالي: وَ قَلِيلٌ ما هُمْ
لا سيما إذا لا حظنا قوله تعالي قبلها: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ
[الواقعة: 13- 14] علي أن الثلة كما في مختار الصحاح و غيره جماعة من الناس، و أصله القطعة من قولهم ثلّ عرشه إذا قطع ملكه بهدم سريره، و ليس كما يزعمه الآلوسي أنها الجم الغفير، فإن هذا لم يرد في لغة العرب، وهب جدلا أنها الجم الغفير و مع ذلك فإنها تريد الكثير المقابل للأكثر، فالآية علي هذا تريد الكثير دون الأكثر، فهي لا تنطبق إلّا علي الشيعة الإمامية، لأنهم مسلمون و أقلّ من غيرهم من المسلمين، و غيرهم أكثر منهم، فهم المعنيون حتي علي قول الآلوسي، بقوله تعالي: وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ
فهم الثلّة من الآخرين المدلول عليهم في الآية الثانية، و هم القليل من الآخرين المدلول عليه في الآية الأولي في سورة الواقعة، فأهل السنّة خارجون عن منطوق هذه الآيات لكثرتهم من جهة و لأكثريتهم من جهة أخري، و أما غيرهم من النواصب و الخوارج فخارجون عنها بوصف الكفر و الخروج عن الإسلام.
و بعبارة أخري: الشيعة هي المعنية بقوله تعالي في الآيتين: وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ
و قوله تعالي: وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ
لأنهم ثلّة و قلّة من الآخرين المدلول عليهما في الآيتين لا أهل السنّة و لا غيرها، لخروج الأول بوصف الكثرة بالنسبة إلي القلّة، و بوصف الأكثر بالنسبة إلي الكثير- كما يزعم الآلوسي- و خروج الثاني بوصف الكفر.
الآلوسي و التشيع، ص: 88
ثانيا: قوله: «و ليس في الآية بيان حقيّة المذاهب».
فيقال فيه: ليس في الدين مذاهب [1] و إنما: الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ
و إنما
__________________________________________________
[1] و نحن نسأل الآلوسي و غيره عن هذه المذاهب و التي هي أربعة عندهم فقط: أ كان أهلها من أصحاب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو لا؟ و هل كانوا جميعا من التابعين الّذين لقوا أصحابه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فسمعوا منهم و رووا عنهم أو لا؟ أو أنهم تكلموا فيما بعد و تعلموا العلم من الآخرين، فتقرر إجماع المتأخرين من جمهور أهل السنّة من عهد الملك الظاهر بيبرس البندقداري في مصر سنة (655 ه) إلي يومنا هذا علي وجوب تقليدهم و الأخذ بقول واحد منهم و حرمة ما عداها، و أن من خالف ذلك إلي غيره لا يولّي إمامة الجماعة و لا منصب القضاء، و لا يباع و لا يشاري، و لا يصلّي علي جنازته كما سجّل ذلك كلّه المقريزي في خططه (ص: 161) من جزئه الرابع عند ذكره للملك المذكور.
أما الأول و الثاني: فلا بد و أن يقول في جوابهما: (لا)، و أما الثالث، فيقال له: هل في كتاب اللّه آية أم في السّنة النبوية صلّي اللّه عليه و آله و سلّم رواية تدل علي وجوب الأخذ بقول واحد منهم؟ و هل كانوا جميعا في زمان واحد؟ فلا بد أن يقول في جوابهما: (لا) لأنهم كانوا في أزمان متفرقة، فقد ولد أبو حنيفة النعمان سنة ثمانين و مات سنة خمسين و مائة، و ولد مالك سنة خمس و تسعين و مات سنة تسع و سبعين و مائة، و ولد محمد بن إدريس الشافعي سنة خمسين و مائة و مات سنة مائتين و أربع، و ولد أحمد بن حنبل سنة أربع و ستين و مائة و مات سنة إحدي و أربعين و مائتين، علي ما سجّل ذلك كلّه ابن خلكان في وفيات الأعيان في (ص: 17 و 26 و 32 و 429 و 447 و 448) من جزئه الأول (و ص: 163 و 166) من جزئه الثاني، و هكذا ذكره المقريزي في خططه من جزئه الرابع.
ثم يقال للآلوسي: هل كان هؤلاء كلّهم علي مذهب واحد و فتوي واحدة؟ فلا بد أن يقول: إنهم كانوا علي آراء مختلفة و عقائد متضادة كما صرح به المقريزي في خططه (ص: 186) من جزئه الرابع، و غيره من مؤرخي أهل السنّة ممن جاء علي ترجمتهم- و قد تقدم ذكر بعضها- و حينئذ يقال له: كيف جاز في الدين الاتفاق علي وجوب الاقتداء بهم و القرآن لم يأمر به و الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يرخص فيه مع ما هم عليه من الاختلاف الفاحش في الفتاوي، الأمر الّذي خرجوا به عن طريق النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الاتفاق و عدم الاختلاف، و تباعدوا بذلك عن قواعد الإسلام من وحدة العقيدة و اتحاد المبدأ و عدم التضاد في أحكامه من حلاله و حرامه في المجالات كلّها، كما يقول القرآن: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
[المائدة: 3] فإذا كان الدين كاملا في حياة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فلما ذا اختلف هؤلاء في حلاله و حرامه و تناقضوا في أهوائهم و تباينوا في آرائهم؟ فإن قال: إن هذا الاختلاف من الرواة الّذين رووا عنهم، فيقال له: فقد شهدت علي رواة الحديث عندك بالكذب أو الضلال و تبديل الإسلام، فكيف يجوز الوثوق بهم و الاعتماد عليهم فيما ينقلونه عنهم، و إن قال: هذا الاختلاف من الأئمة الأربعة أنفسهم لحاجة دعتهم إلي ذلك، أو لطلب ما ضاع و التبس عليهم من شرع النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
فقد شهدت علي نفسك بأن الدين لم يكن محفوظا و لم يترك النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لهم قيّما عليه و حافظا له من الضياع و قائما به، فكيف يجوز الاقتداء بمن يشهد علي ربّه و نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و شريعته بمثل هذه الأباطيل،-
الآلوسي و التشيع، ص: 89
__________________________________________________
- ثم يقال له: ما هي تلك الحاجة في أنفسهم التي دعتهم إلي هذا الاختلاف في دينهم و التضارب في آرائهم، مع أن المفروض بهم أن يكونوا واحدا قولا و فتوي و عقيدة، لأن هذا هو الدين الّذي أنزله اللّه تعالي علي نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أمره أن يدعو الناس إليه، اللّهم إلّا أن تكون تلك الحاجة التي في أنفسهم هي حبّ الظهور في مخالفة الشريعة و الانحراف عن الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذين أمرهم اللّه تعالي علي لسان نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالتمسك بهم و الرجوع إليهم و الاقتداء بهم في كلّ أمر و نهي، كما دلّت عليه نصوص الفريقين المتواترة، و إن قال: إن الدين كان تاما محفوظا، فيقال له: فأيّ شي‌ء يا تري ضاع منهم هو غير الدين و شريعة سيّد المرسلين صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حتي فتشوا عنه و وجدوا في الحصول عليه و اختلفوا لأجله هذا الاختلاف؟ فإن قال: قد اختلفوا من غير حاجة بهم إلي الاختلاف، فقد شهد عليهم أنهم أرادوا به تشويه سمعة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و تقبيح ذكره و تزهيد الناس في اتباع شريعته الحقّة، و أن يدخلوا في دينه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما لم يكن داخلا فيه و يخرجوا ما كان داخلا فيه، فكيف يجوز الاقتداء في الدين بمن كان متصفا بهذه الصفات، فإن قال: إنهم أعرف بالشريعة من اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أن لهم أن يزيدوا فيه و ينقصوا منه و يدخلوا فيه و يخرجوا منه ما شاءوا، و أنهم أتوا بما لم يأت به النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الهداية فقد خالف بذلك عقول العقلاء، و ناقض به مذاهب جميع الأنبياء عليهم السّلام و يلزمه أن يقول: إنهم أعلم من اللّه بنفسه و هذا هو الكفر بعينه.
ثم يقال له: إذا كان هؤلاء الأئمة في أزمان متفرقة و علي مذاهب مختلفة فلا يصح أن يكونوا جميعا علي الحقّ و الصواب، لأن الحق و الضلال لا يجتمعان في واحد، كما يقول القرآن: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ
و لما ذا لا يكونون جميعا علي الباطل مع أن ترجيح واحد منها علي غيره هو ترجيح بلا مرجح و هو باطل يوجب بطلان ما عداه من المذاهب الثلاثة، و يكون الحقّ مع من كان قبلهم من الصحابة و التابعين الّذين صحبوا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و التزموا بشريعته و اتبعوا التي هي طريقة واحدة، و لم يتعبّدوا بواحد من هذه المذاهب الأربعة المتأخرة عن عصرهم و هم خير القرون كما يزعمون.
فاتباع أهل بيت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم العظام عليهم السّلام و أصحابه الكرام إن لم يكن هو المتعيّن و أحق بالاتباع فلا أقلّ من الحكم بالمساواة بينهم و بين الأربعة، و هذا ما يوجب بطلان تعيين الرجوع إلي خصوص الأربعة و تحريم غيرها من المذاهب، ثم يقال له: لما ذا لا تكون المذاهب لو صح وجودها في الإسلام أكثر عددا أو أقل من أربعة؟ و من هذا الّذي حدّد هذا التحديد و جعل أئمة المذاهب أربعة لا يزيدون واحدا و لا ينقصون؟ و ليس لهذا التحديد في القرآن أثر و لا في شريعة سيّد الأنام صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خبر كما ليس في أدلة المسلمين ما يدل علي اختصاص الاجتهاد و استنباط الأحكام و معرفة الحلال و الحرام بالدليل بخصوص أرباب هذه المذاهب.
و كيف يصح لمن له عقل أو شي‌ء من الدين أن يزعم أن علوم الاجتهاد قد انمحت و درست معالمها عند جميع المسلمين لا سيّما عصر الصحابة و التابعين الّذين لم يتدينوا بشي‌ء من هذه المذاهب إلي السنّة المذكورة إلّا عند هؤلاء الأربعة؟ أو يزعم أن عقول المسلمين كلّهم إيفت و أفهامهم عقمت إلّا عقول الأربعة و أفهامهم؟ أو أن المسلمين قبل وجود أصحاب هذه المذاهب و بعد انقراضهم ليس فيهم من يعرف حكم اللّه بدليله و يقوم للّه بحجته غير الأربعة؟ فهل يصح لعاقل أن يزعم أنهم كانوا ورثة-
الآلوسي و التشيع، ص: 90
__________________________________________________
- الأنبياء عليهم السّلام أو ختم اللّه بهم الأوصياء و علّمهم علم ما كان و ما يكون، و آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، فاختصت علوم الشريعة بكتابها و سنّتها بهم، حتي صارت ملكا من أملاكهم إلّا ما يهبه هؤلاء لغيرهم، و لو فرضنا جدلا أن علوم الاجتهاد قد انمحت عند جميع المسلمين و خاصة أهل القرون الثلاثة، و فرضنا أنه لا يوجد فيهم من يعرف حكم اللّه بدليله ما عدا الأربعة، فكيف يا تري كان عملهم من ذي قبل؟ بل و كيف كان عمل الأربعة قبل بلوغهم رتبة الاجتهاد؟ فما بقي إلا أنهم كانوا جاهلين بأدلة الدين في تلك القرون الكثيرة و أعمالهم كلّها كانت باطلة، لأنهم لم يتعبدوا قطعا بشي‌ء من هذه المذاهب، و هذا لا يذهب إليه إلّا مجنون.
فإن زعم الآلوسي قيام الإجماع من المتأخرين علي هذا التحديد بالأربعة، فيقال له: أولا: إن قيام الإجماع في العصور الأولي و ما بعدها إلي السنة المذكورة علي جواز الرجوع إلي غير الأربعة حتي من الأربعة هو الحجّة علي من تأخر عن ذلك العصر لقربهم من عصر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بعد هؤلاء عنه فلا حجّة في إجماع المتأخرين مطلقا فكيف إذا صادمه إجماع أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و التابعين و تابعيهم، و هم أعرف بالأحكام من هؤلاء لوجودهم قرب الباب الحقيقي و الينبوع الأصليّ و هو النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
ثانيا: إن إجماع المتأخرين لا حجّة فيه، لأنه لا ينطبق عليه الإجماع المعتبر شرعا و ذلك فإن معناه اتفاق مجتهدي الأمة و هؤلاء المتأخرون لا مجتهد فيهم، بل كلّهم مقلّدون للأربعة، فإن كانوا مجتهدين فقد أبطلوا مذهبهم، و إن كانوا غير مجتهدين فلا قيمة لإجماع العوام الجهال.
ثالثا: لو فوضنا جدلا التعارض بين الإجماعين إجماع الصحابة و التابعين و تابعيهم إلي زمن الأئمة الأربعة و ما بعده علي جواز الاجتهاد مطلقا، و إجماع المتأخرين جميعا علي منعه بعدهم، و قطعنا النظر عن ترجيح إجماع الصحابة بما فيهم أصحاب المذاهب لإجماعهم علي حجّية إجماعهم و اختلافهم في غيره، كلّ ذلك علي سبيل التساهل معهم كان نصيب الإجماعين السقوط شأن المتعارضين مع انتفاء المرجح لأحدهما المعيّن، و حينئذ يجب الرجوع إلي غيره من أدلة المسلمين، و قد نظرنا فيها فوجدناها حاكمة بجواز الاجتهاد مطلقا و بطلان التقليد و الأخذ بقول الآخرين مع التمكن من تحصيله بالاجتهاد، و لو لم تكن حاكمة بجوازه مطلقا لحرّم الاجتهاد علي الأئمة الأربعة لا خصوص غيرهم، و قديما
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (حلال محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حلال إلي يوم القيامة، و حرامه حرام إلي يوم القيامة)
و إن قالوا إن المانع من الاجتهاد هو إجماع أصحاب المذاهب نفسها علي تحريمه، فيقال لهم: إن ذلك باطل من وجوه.
الأول: إن الإجماع: هو اتفاق أمة محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو مجتهدي الأمة جميعا علي أمر أو أمور في وقت واحد كما صرح به الآمدي في كتاب الأحكام، و عضد الملّة في شرحه لمختصر ابن الحاجب و غيرهما من علماء الأصول عند أهل السنّة، و طبيعي أن الأئمة الأربعة كانوا في أزمان مختلفة و أماكن متعددة، و خاصة إذا لاحظنا أنه لم يرد عنهم في خبر أنهم أجمعوا علي تحريمه.
الثاني: لا يجوز الأخذ بفتواهم شرعا مطلقا و لا السؤال منهم أبدا؛ و ذلك لأن اللّه تعالي أمر بالسؤال من أهل الذكر، بقوله تعالي: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
كما في آية (43) من سورة النحل، و هؤلاء لم يكونوا من أهل الذكر قطعا فلا تشملهم الآية، أما عدم كونهم من أهل الذكر فلعدم-
الآلوسي و التشيع، ص: 91
__________________________________________________
- عصمتهم إجماعا و قولا واحدا، و الآية تريد من أهل الذكر خصوص من كان معصوما، لأنها أمرت بالسّؤال من أهل الذكر علي الإطلاق، و من أمر اللّه بسؤاله علي سبيل الجزم و الإطلاق يجب أن يكون معصوما، و ذلك لأن وجوب السؤال يستلزم وجوب الجواب، و وجوب الجواب يستلزم وجوب العمل، و وجوب العمل مطلقا بقول المسئول موجب لعصمته من الخطأ، و إلّا وجبت الإطاعة لمن يجوز عليه الخطأ عن عمد أو سهو، و قد ثبت بالضرورة من دين المسلمين أنه لا شي‌ء من الخطأ بحكم اللّه جائز العمل به فضلا عن وجوبه، و من حيث أنه تعالي أمر بالعمل علي سبيل الجزم مطلقا بقول المسئول علمنا أنه يريد عصمته مطلقا، فالآية لا تنطبق علي الأئمة الأربعة و ليسوا من صغراها خاصة إذا لاحظنا تضاربهم في الفتوي و اختلافهم فيها، و لو سلّمنا جدلا إنهم من صغراها و لكن لا تشملهم و هم موتي و تلك قضية السؤال و الجواب الموجبة للحياة الممتنعة من الأموات، و حينئذ فلا يصح الرجوع إليهم علي الإطلاق.
الثالث: لو فرضنا أنهم أجمعوا علي منعه و مع ذلك فإن إجماعهم ليس بحجّة في شي‌ء لأنه ليس من الإجماع الحجّة المصطلح عليه بين علماء المسلمين أجمعين من أنه (اتفاق مجتهدي الأمة) و مجتهدوا الأمة قطعا لم ينحصروا في أصحاب المذاهب الأربعة و لم ينحصر هؤلاء بهم و إلّا بطل اجتهاد الصحابة و التابعين أجمعين، و ببطلانه يبطل كلّ إجماع أقاموه لا سيّما ما ادعوه في السّقيفة و بطلانه مما لا يقولون به بإجماعهم.
الرابع: لو فرضنا حجيّة إجماعهم فهو ساقط بإجماع علي جوازه في العصور الأولي و ما بعدها مطلقا.
الخامس: إن إجماعهم علي منعه مخالف لحكم العقل القاطع بفساده لاستلزامه تحجير عقول المسلمين في فهم الأحكام بالأدلة من غير دليل يقرّه العقل و يشهد به الدين، و موجب لبطلان أدلة الاجتهاد بالأحكام الثابتة باليقين عند المسلمين أجمعين، و في بطلانها بطلان اجتهاد الأئمة الأربعة لا خصوص من جاء بعدهم، و هو لا يذهب إليه أحد من المسلمين.
السادس: إن فتواهم بحرمة الاجتهاد موقوفة علي جواز اجتهادهم شرعا، و الجائز شرعا لا يكون حراما و لا يجوز نسخه بعد انقطاع الوحي لأن:
(حلال محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حلال إلي يوم القيامة)
الحديث المتقدم ذكره، و الجائز في أصل الشرع لا يكون جائزا لبعض و حراما علي آخرين بالضرورة من الدين، و إذا كان الاجتهاد حراما كان اجتهادهم في تحريمه حراما لأنّ
(حرام محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حرام إلي يوم القيامة)
كما تقدم في الحديث و هذا ما لا سبيل لهم إلي دفعه، و توهم اختصاص أدلة تحصيل الاجتهاد بهم من أوضح الباطل و أقبحه لعموم أدلة تحصيل الأحكام بالاجتهاد للمكلفين أجمعين في العصور الأولي و ما بعدها عند ما لم يكن واحد من الأئمة الأربعة و لا أحد من آبائهم إلي يومنا هذا فيكون تخصيصها بهم، لا سيما إذا لاحظنا عدم وجود أصحاب المذاهب زمن صدورها تخصيصا بلا مخصص و بطلانه واضح.
السابع: كيف يتسني لمن له عقل أن يغلق باب الاجتهاد في تحصيل الأحكام الشرعية في وجوه المسلمين بعد أن كان مفتوحا علي مصراعيه في القرون الثلاثة و ما بعدها، و من هذا الّذي يرضي لنفسه من حيث يشعر أو لا يشعر أن يقول إن ما جاء به رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من العلوم و الأحكام قد احتكره أئمة
الآلوسي و التشيع، ص: 92
اختلق المذاهب في الإسلام و ابتدعها في الدين فأماتوا بها السّنن جماعة من أهل الدجل، أما الإمامية فقد عرفت أنهم مصداق الآيات المتقدم ذكرها- في سورة الواقعة و سورة سبأ و سورة ص- و أنها لا تصدق علي الآخرين و لا تريدهم مطلقا.
ثالثا: في الآية دلالة واضحة علي صحة مذهب الإمامية و هي المصداق الوحيد لقوله تعالي: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ
[آل عمران: 19] و لو بمعونة ما ورد في صحيح الحديث في نجاتها و هلاك ما عداها من الفرق مطلقا، و لا ريب في أن من كان من الناجين يجب أن يكون من الشاكرين و هم قليلون، فيكونوا أفرادا للآيات و تكون دليلا علي أنهم علي الحق المبين و ما عداهم من الفرق في خسران مبين.
__________________________________________________
- تلك المذاهب لأنفسهم، و منعوا الآخرين من الوصول إلي شي‌ء منها عن طريق غيرهم و أنهم حرّموا التصرف فيه علي الآخرين، و لا يصح أن يقال فيهم أنهم أو صدوا بابه و صدّوا عن سبيله و اعتقلوا العقول عن إدراكه و جعلوا علي أبصار الناس غشاوة عن النظر إليه، و علي قلوبهم أكنة من أن يفقهوه، و في آذانهم و قرا من أن يستمعوه، و ختموا علي أفواههم عن النطق به، و وضعوا في أيديهم الحديد، و في أعناقهم الأغلال عن الوصول إليه، كلّا ثم كلّا كلّ ذلك لم يكن و لن يكون أبدا، ثم إنا نسأل الآلوسي عن مذهبه الّذي تبناه و اختاره من بين هذه المذاهب الأربعة و آثر الرجوع إلي الأجساد البالية و العظام النخرة، و أخلد إلي العجز، و ركن إلي الكسل، و رضي بالحرمان، و قنع بالجهل و التحجير علي عقله، فإن قال: إني حنفي المذهب، فيقال له:
أولا: لم اخترت هذا المذهب دون غيره من المذاهب؟ و من أين علمت أن الحق و الصواب في هذا المذهب؟ و أي دليل من الكتاب و السنّة دلّك علي أن النجاة في سلوك هذا المذهب؟ فإنك لمسئول عن هذا كلّه أمام اللّه تعالي يوم القيامة، فإن قال: إنما سلكت هذا المذهب لأن أبي كان عليه، فيقال له: كيف يجوز تقليد الآباء في الدين؟ و من أين ظهر له أن الحق فيما سلكه الآباء؟ و هو عاجز عن إثبات شي‌ء من ذلك بالدليل، فقوله هذا مصادم للحجّة و معدول به عن الدليل و البرهان، و قد حرّم اللّه تعالي تقليد الآباء في الدين فذم المقلّدين لهم و وبخهم بقوله: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ* بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلي أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلي آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ
و قال تعالي: بل قالوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلي أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلي آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ* قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدي مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
كما في كل من الآيات: 21- 25، من سورة الزخرف إلي غيرها من آيات الذكر الحكيم التي تدل بصراحة علي حرمة تقليد الآباء في أخذ الدين بلا دليل و هذا ما لا يمكنه رده.
الآلوسي و التشيع، ص: 93

النواصب و الخوارج خارجون عن الآية و إن كانوا قلّة

رابعا: قوله: «و إن كانت الأحقية بالقلّة لكان النواصب و الخوارج أحقّ من الإثني عشرية لأنهم أقلّ منهم».
فيقال فيه: إن الظاهر من الآية اختصاص الأحقيّة بالقلّة بوصف كونهم شاكرين، و غير المسلم لا يكون شاكرا، فيلزم القطع بأنها تريد المسلمين، فيخرج النواصب و الخوارج و غيرهما من الفرق الكافر عن مورد الآية فلا ينطبق عليهم شي‌ء من الآية، فيتعيّن ذلك في خصوص الشيعة الإمامية لأنهم مسلمون و هم قليلون، فهم الصغري للآية فتنطبق عليهم وحدهم انطباق الكليّ علي مصداقه و الطبيعي علي فرده.
الآلوسي و التشيع، ص: 95

الفصل الرابع تحريف القرآن

نسبة الآلوسي تحريف القرآن إلي الشيعة

قال الآلوسي (ص: 23): «و من مكايدهم أنهم يقولون إن أهل السنّة حرّفوا القرآن، يرومون بذلك الطعن علي أبي بكر و عمر (رض) و كبار الصحابة مع أن الشيعة هم القائلون بتحريفه».
المؤلف: أما القول بتحريف القرآن و نقصه فليس من عقائد الشيعة بل يحكمون بضلال من يقول بتحريفه، و إنما نسب إليهم ذلك الدجالون من أعدائهم، لأن الثابت بالضرورة من مذهبهم الإسلامي نفي التحريف عنه في الدين و العقل، نعم هناك طائفة من الأحاديث وردت عن طريق خصوم الشيعة تدل بصراحة علي تحريفه، فمن ذلك ما أخرجه السّيوطي في إتقانه (ص: 57) من جزئه الأول، و في الدر المنثور عن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قال: كنا نسمّي سورة التوبة الفاضحة حتي ظننا أنها تأتي علي آخرنا.
و عن ابن عباس: كنا نسميها الفاضحة لنزول مثالب غالب الصحابة فيها بأسمائهم، و يقول شيخ الحديث عند أهل السنّة البخاري في صحيحه من جزئه الرابع في أوائل (ص: 119) في باب رجم الحبلي من الزنا إذا أحصنت، من كتاب الحدود، عن ابن عباس، عن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) في حديث طويل جاء في آخره ما لفظه:
علي أن اللّه بعث محمّدا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالحقّ، و أنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل اللّه آية الرجم، فقرأناها و عقلناها و وعيناها، رجم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و رجمنا بعده، فأخشي إن طال بالناس زمان، أن يقول قائل: و اللّه ما نجد آية الرجم في كتاب
الآلوسي و التشيع، ص: 96
اللّه، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها اللّه، و الرجم في كتاب اللّه حقّ علي من زنا إذا أحصن من الرجال و النساء إذا قامت البيّنة، أو كان الحبل أو الاعتراف، ثم أنّا كنا نقرأ من كتاب اللّه: (أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم).
و نحن نسأل الآلوسي عن هذه الأحاديث لا سيّما الحديث الأخير الّذي هو مسجل في أصح الكتب بعد كتاب اللّه عند خصوم الشيعة، هل هي للشيعة أم هي من أحاديث أخصامهم؟ ثم نقول له: إنه لو جاز عليه التحريف لكان المحرّف له عثمان بن عفان؛ لأنه هو الّذي جمعه باتفاق الأمة، فكيف يا تري يصح نسبة تحريف القرآن إليهم و هم أبرّ و أتقي من أن يكون ذلك من مذهبهم، و يقول اللّه تعالي: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ
[الحجر: 9] و يقول: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
[فصلت: 42] و التحريف لا شك في أنه من الباطل فلا يأتيه مطلقا، فظهر من ذلك أن التحريف ليس من كيدهم و إنما هو من كيده لوروده عن ثقات أعلامه.

الشيعة لا تضع الأحاديث

قال الآلوسي ص: (24): «و من مكايدهم أن جماعة من علمائهم اشتغلوا بعلم الحديث و سمعوا الأحاديث من ثقات أهل السنّة و من محدثيهم، و حفظوا الأحاديث الصحيحة فأدرجوا في أثناء رواياتهم الأحاديث الصحيحة و موضوعاتهم».
المؤلف: أولا: كان علي الآلوسي أن يذكر لنا واحدا من علماء الشيعة الّذين اشتغلوا بعلم الحديث و سمعوا الأحاديث من ثقات أهل السنّة من هو؟ و أين هو؟
و ما هو اسمه؟ و ما هي تلك الكتب التي أدرج تلك الموضوعات فيها؟ أ هي الصحاح الستة بما فيها صحيحا البخاري و مسلم اللّذان أجمعوا علي أنهما أصح الكتب بعد القرآن؟ أم غيرها من مسانيدهم؟ و لمّا لم يأت علي ذكر واحد منهم علمنا أن ذلك من كذبه و زوره.
الآلوسي و التشيع، ص: 97
ثم كيف يا تري يخفي ذلك علي محدثي أهل السنّة و حفاظهم لا سيّما أهل الصحاح و هم الثقات عنده في جمع الحديث؟ و لما ذا لم يستخرجوا تلك الموضوعات المدرجة في أثناء رواياتهم الأحاديث الصحيحة- علي زعمه- من صحاحهم؟ و هل بلغ بهم الجهل و الغباوة إلي درجة لم يميّزوا بها بين الموضوعات المزعومة و بين غيرها من الصحاح؟ و لم يبلغ الجهل و الغباوة بالآلوسي ذلك المبلغ فلم يخف عليه ذلك، و إذا كان هذا شأنهم في عدم التمييز بين الغث و السّمين فكيف يصح للآلوسي أن يصفهم بالثقات، و أنهم من علماء الحديث، لأن من الواجب علي العالم بالحديث أن يكون عارفا بصحيحه و ضعيفه، و قويّه و جيّده، و موثّقه و حسنه، و مقبولة و موضوعه إلي غير ذلك مما يلزم العالم بالحديث أن يكون بصيرا به و واقفا عليه لكي يصح وصفه بأنه من الثقات في علم الحديث، و لا جائز أن يخفي أمر ذلك كلّه علي علماء الحديث من أهل السنّة الّذين بذلوا وسعهم في تنقيب الأحاديث، و وضعوا كتبا للجرح و التعديل و معرفة طرق الحديث و رجاله و مبلغ صدقهم من كذبهم بالحديث و تميّزهم بها الصحيح من غيره، و لا يخفي أمره علي هذا الآلوسي و أخيه الهندي، إن ذلك ليس بالممكن و لا بالمعقول أبدا.
ثانيا: لو سلّمنا جدلا أن هناك جماعة من علماء الشيعة أدرجوا الموضوعات في أثناء روايتهم الأحاديث الصحيحة و خفي أمر ذلك علي حفاظ أهل السنة، فذلك يعني سقوط صحاح أهل السنّة عن آخرها، لتقر به عين الآلوسي و غيره، و تلك قضية العلم الإجمالي بوجود الموضوعات في ضمن صحاحهم، و ليس هناك ما يميّزها عن صحيحها، و لا طريق لمعرفة غثها من سمينها؛ لأن كلّ ما فرضناه صحيحا نفرضه موضوعا لعلمنا بوجودهما في تلك الكتب، و هذا باطل لا يصح و ذلك مثله باطل.
ثالثا: لا يمكن للآلوسي أن يستر الحقيقة بمثل هذه الأكذوبة التي يعرفها حتي الأغبياء، فإن كتب أهل السنّة مشحونة بفضائل أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و آيات خلافتهم مروية من طريق أعاظم حفاظهم و ثقاتهم المعول عليهم عندهم في
الآلوسي و التشيع، ص: 98
علم المنقول، الّذين أفنوا أعمارهم في جمعها و تصحيحها ما يشهد لأئمة الهدي و مصابيح الدجي من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالتقدم علي سائر خير أمة، و أي شي‌ء بقي من الفضل لم يروه علماء الحديث من أهل السنّة في جميع كتبهم المعتبرة حتي تضع الشيعة الإمامية أحاديث ملفقة في صحاحهم في فضلهم عليهم السّلام و من ثم فليس من الممكن المعقول أن يقول الآلوسي إن الشيعة تضع الموضوعات في كتبهم الصحيحة في فضل الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إلّا إذا كان يريد أن يكون مجنونا أو مخبولا.
فإذا قال: ذلك- و هو قوله- كان ساقط القول لأجل خباله و جنونه، فالمعقول إذن إنه يروم بهذا الزعم المعلوم البطلان أن يسقط الصحاح المحمّدية التي دوّنها علماء أهل السنّة و محدثوهم الثّقات الدالّة علي أفضلية عليّ عليه السّلام و بنيه عليه السّلام علي سائر أفراد الأمة، و يحاول بهذا المنطق الأهوج أن ينكر ما تواتر نقله عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في فضل عترته، و أنهم أولي و أحقّ بإمامة الأمة من غيرهم، علي أن هناك أحاديث كثيرة واردة من طرق أهل السنّة في فضل أهل البيت عليهم السّلام و أفضليتهم من الآخرين مما لا وجود له في كتب الشيعة الإمامية، فلو كانت الشيعة الإمامية تضع الأحاديث في فضلهم عليهم السّلام في كتب أهل السنّة- كما يزعم- كان الأولي بهم أن يضعوها في كتبهم ثم في كتب غيرهم، فهو بهذا يريد أن يدخل نفسه في قوله تعالي: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ
[الصف: 8].
و ظنّي- و رب ظن يقين- أن الرجل لما رأي اشتهار الأحاديث في فضل أهل البيت عليهم السّلام و تواترها بكثرة في كتب أهل السنّة الدالّة بصراحة علي أنهم عليهم السّلام أفضل الناس بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أحقّ بإمامة الأمة من أئمة الآلوسي و خلفائه (رض) و أنه لم يرد العشر منها و لا فضيلة لهم، و لم يجد بدا من النزول علي حكمها التجأ إلي هذا الزور و البهتان و الظلم و العدوان علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته الطاهرين، يحاول بذلك كتمان فضائلهم و إخفائها عن أعين المسلمين و هيهات له ذلك.
الآلوسي و التشيع، ص: 99

من هم التابعون لأهل البيت النبوي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

قال الآلوسي ص: (25): «و من مكايدهم يقولون نحن أتباع أهل البيت الّذين قال اللّه تعالي فيهم: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
[الأحزاب: 33] و غير الشيعة تابعون لغير أهل البيت، فلزم كون الشيعة هي الفرقة الناجية، و يؤكدون ذلك
بقوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق).
و الجواب: إن هنا كلاما قد اختلط فيه الحق و الباطل، إلي أن قال: فإنا نسلّم أن أتباع أهل البيت ناجون، و أنهم هم المصيبون، و لكن أين الشيعة الطعام من أولئك السّادات الكرام و الأئمة العظام، لما مرّ من بيان ما لهم من الأحوال، و ذكر ما اعتقدوه من الكفر و الضلال، إلي أن قال: بل أهل السّنة هم أتباع بيت الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الأخيار، كيف لا و أبو حنيفة و مالك و غيرهما من العلماء الاعلام قد أخذوا العلم من أولئك الأئمة العظام».
قال المؤلف: أولا: «قوله إنهم يقولون نحن أتباع أهل البيت عليهم السّلام».
فيقال فيه: كيف لا تكون الشيعة الإمامية من أتباع أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هم قد أثبتوا في مختلف أدوارهم بمختلف أعمالهم و أقوالهم أنهم يأخذون أحكام الإسلام و تشريعاته في المرحلة الاعتقادية و العملية عن أهل البيت عليهم السّلام و لا يعتمدون علي غيرهم من أئمة الضلال و بغاة صفين، فها هي ذي كتبهم عليك بسبرها فإنك لا تجد فيها رواية واحدة يعتمدون عليها من غير طريق أهل البيت عليهم السّلام إلّا ما كان موافقا لروايتهم عليهم السّلام فهم لا شك في أنهم ناجون باتّباعهم لأولئك الأئمة العظام عليهم السّلام في أقوالهم و أعمالهم كافة علي رغم آناف أعدائهم و مناوئيهم عليهم السّلام.
ثانيا: قوله: «لما مرّ من بيان ما لهم من الأحوال و ما اعتقدوه من الكفر و الضلال».
الآلوسي و التشيع، ص: 100
فيقال فيه: الشيعة الإمامية مسلمون مؤمنون لما مرّ من بيان ما لهم من الأحوال في أوائل الكتاب، و ما اعتقدوه من الاعتراف للّه بالوحدانية، و لنبيّه محمّد ابن عبد اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالرسالة، و تصديقهم له صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بكلّ ما جاء به من عند اللّه، و ما رماهم به الآلوسي من الكفر و الضلال لم ينبعث إلّا عن ضلاله لثبوت انحرافه عن القرآن و عن أعداله أئمة الدين من آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و موالاته لبغاة صين و أمثالهم من الناكثين و المارقين من أعداء أهل البيت عليهم السّلام كما مرّ عليك بيانه مفصلا.
ثالثا: قوله: «بل الحق الحقيق أن أهل السنة هم أتباع أهل البيت عليهم السّلام».
فيقال فيه: لا يصح للآلوسي أن يقول هذا القول و هو يعتقد بوجوب إتباع ما قامت عليه السّقيفة من عقد البيعة لغير أهل البيت عليه السّلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و يري من الواجب علي إمام الشيعة الإمامية و سيّد أهل البيت عليهم السّلام متابعة المستخلفين بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أنه ليس له عليه السّلام و لا لغيره من أهل البيت عليهم السّلام أن يخالفوا لهم أمرا، أو ينقضوا لهم حكما، أو يعارضوهم فيما يفعلون، فهل يا تري من شرط التابع أن يكون متبوعا لمن يدّعي أنه تابع له؟ أو من شرطه أن يكون مطيعا لمن ثبتت إطاعته عليه؟ و ما أدري و ليتني كنت أدري كيف صار من الحق الحقيق أن خصوم الشيعة صاروا من أتباع أهل البيت عليهم السّلام أ تري أنهم صاروا من أتباعهم عليهم السّلام بإعطائهم الأجر و الثواب لمن قاتل سيّد أهل البيت عليهم السّلام عليّا عليه السّلام بصفين و الجمل و النهروان؟ أو يا هل تري صاروا من أتباعهم عليهم السّلام في أخذ أحكامهم من طريق سمرة بن جندب الخارجي [1]، الّذي قتل الألوف من أصحاب عليّ عليه السّلام أو من مروان بن الحكم الوزغ بن الوزغ [2] طريد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو من حريز بن عثمان الذي كان يسبّ
__________________________________________________
[1] تجده في (ص: 484) من الإستيعاب لابن عبد البر من جزئه الثاني، و (ص: 3) من منهاج السنّة لابن تيمية من جزئه الثالث، و يقول أحمد بن حنبل في: (ص: 25) من مسنده من جزئه الأول: أن سمرة بن جندب، أحد ولاة معاوية، و أمره في سفك دماء المؤمنين مشهور، كان يبيع الخمر أيام عمر، و كان عمر يقول: قاتل اللّه سمرة بن جندب أنه باع خمرا.
[2]
أخرج الحاكم في صحيح مستدركه (ص: 479) من جزئه الرابع: أنه كان لا يولد لأحد مولود إلّا أتي-
الآلوسي و التشيع، ص: 101
عليّا عليه السّلام في كلّ يوم سبعين مرّة، أو من معاوية ابن أبي سفيان الذي سنّ سبّ عليّ عليه السّلام [1] علي المنائر و المنابر، و في دبر كلّ صلاة، و في سائر الأوقات، أو من عمران بن حطان الخارجي الّذي مدح ابن ملجم علي قتله عليّا عليه السّلام بقوله.
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها إلّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إنّي لأذكره يوما فأحسبه أوفي البريّة عند اللّه ميزانا
أو من عكرمة الحروري [2] أو من مقاتل بن سليمان الخارجي الكذاب [3]
__________________________________________________
- به النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فدعا له، فأدخل عليه مروان بن الحكم، فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: هو الوزغ بن الوزغ، الملعون ابن الملعون
، و
عن عائشة في حديث أخرجه الحاكم و صححه علي شرط البخاري و مسلم في (ص:
487) من مستدركه من جزئه الرابع، قالت فيه: و لكن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لعن أبا مروان و مروان في صلبه، قالت فمروان قصص من لعنه اللّه.
[1]
أخرج مسلم في صحيحه (ص: 278) من جزئه الثاني في باب فضائل عليّ عليه السّلام و الترمذي في سننه عن عامر بن سعد ابن أبي وقاص عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان قل لسعد: ما منعك أن تسبّ أبا تراب، قال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم، سمعت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول له و قد خلّفه في بعض مغازيه، فقال له عليّ: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خلّفتني مع النساء و الصبيان، فقال له رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:
أما ترضي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسي، إلّا أنه لا نبوّة بعدي، و سمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، و دفع الراية له ففتح اللّه عليه، و لما نزلت هذه الآية:
نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ
دعا رسول اللّه عليّا و فاطمة و حسنا و حسينا، فقال: اللّهم هؤلاء أهلي.
[2] يقول القاضي الجعابي في كتاب الموالي عند ذكر عكرمة: أنه دخل في رأي الحرورية من الخوارج، و قال عليّ الأهوازي كما في ترجمة عكرمة من معجم ياقوت: إن عكرمة كان يري رأي الخوارج، و عن ابن أبي شيبة: أن عكرمة كذاب، و عن ابن المسيب: أنه كذّب عكرمة.
[3] قال الجوزجاني: كان مقاتل كذابا جسورا، و هكذا صرح به الذهبي في ميزان الاعتدال (ص: 208) من جزئه الثاني في جرحه عكرمة (و ص: 197) من جزئه الثالث، و الغريب أنك تري شيخ الحديث و أميره عند أخصام الشيعة محمّد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع المعروف عندهم يحتج بكل هؤلاء الخوارج الذين هو نفسه روي فيهم عدة أحاديث أنهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، منها ما في (ص: 184) من جزئه الثاني في أواسط باب علامات النبوّة و في بعث عليّ عليه السّلام إلي اليمن قبل حجة الوداع (ص: 50) من جزئه الثالث (و ص: 130) من جزئه الرابع في باب قتل الخوارج و الملحدين لخروجهم عن الدين، و أما احتجاجه بهم فإنك تجده في أبواب صحيحه فراجع (ص: 52) من جزئه الأول في باب إذا صلي في الثوب الواحد فليجعل علي عاتقيه، عن عكرمة (و ص: 6) من جزئه الثاني في باب أكل الربا و شاهده و كاتبه، و قوله تعالي:
الآلوسي و التشيع، ص: 102
إلي غير هؤلاء و أضعاف أمثالهم من الخوارج و النواصب من أعداء الوصي و آل النبي عليه السّلام الّذين جعلوهم رواة حديثهم، و أخذوا دينهم من طريقهم مما يضيق صدر هذا الكتاب عن تعدادهم، أو يا تري تابعوهم في انحرافهم عنهم عليهم السّلام إلي غيرهم من الأئمة الأربعة، فأخذوا عنهم فقههم و رجعوا إليهم في أخذ الأحكام من الحلال و الحرام دون أهل البيت عليهم السّلام إلي غير ذلك من موارد انحرافهم عن أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما لو أردنا استقصاءه لملأنا به الكتب.
و إنما تلونا عليك هذا القليل من أمارات انحرافه و أخيه و غيرهما عن أهل البيت عليهم السّلام في أحكام أفعالهم و اعتقادهم لتعلم ثمة أن الرجل أراد بزعمه: (أن أهل السنّة هم أتباع أهل البيت عليهم السّلام) أن يدفع عن نفسه و عمن حذا حذوه ما
__________________________________________________
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا- يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ
عن سمرة بن جندب (و ص: 31) من جزئه الثالث في باب غزوة الحديبية، عن مروان بن الحكم (و ص: 30) من جزئه الرابع في باب نقض الصور، عن عمران بن حطان، و غيرها من أبواب جامعه الصحيح، و يقول ابن تيمية في آخر (ص:
143) من منهاج السنّة من جزئه الرابع: و قد استراب البخاري في بعض أحاديثه- يعني الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام)- لما بلغه عن يحيي بن سعيد أن فيه كلاما فلم يخرج له، و
يقول ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب (ص: 103) من جزئه الثاني في ترجمة الإمام الصادق عليه السّلام: إن المديني سأل يحيي بن سعيد عنه، فقال: (في نفسي منه شي‌ء و مجالد أحبّ إليّ منه)
علي أن مجالدا هذا الّذي فضّله يحيي علي الإمام الصادق عليه السّلام ممن اشتهر بالكذب، و أدرجه علماء أهل السنّة في عداد الضعفاء فراجع (ص: 40 و 41) من تهذيب التهذيب من جزئه العاشر، لتعلم ثمة في أية منزلة وضع يحيي بن سعيد الخارجي الإمام الصادق عليه السّلام و أنت تري البخاري و ابن تيمية قد بلغا في العداء لآل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مبلغا قدّما علي صادقهم جعفر بن محمّد عليه السّلام الخوارج و النواصب و المارقين عن الدين المرتكبين للفجور الشاربين للخمور، و القاتلين للنفوس المحترمة، و هم يرون بأعينهم أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قد جعل عترته أهل بيته أعدال الكتاب و قدوة لأولي الألباب، و مع ذلك كلّه يزعم الآلوسي: (بل الحق الحقيق أن أهل السنّة هم من أتباع أهل البيت عليهم السّلام) كذبا و تمويها، و هيهات أن تستر السّماء بالأكمام، و شمس الضحي بالغربال، فإن انحراف خصوم الشيعة عن أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إلي غيرهم من الأئمة الأربعة، و غيرهم ممن تقدم عليهم يعرفه جنّة الأرض و ملائكة السّماء، لذا تري ابن خلدون يقول علي ما سجله محمّد إسعاف النشاشيبي في (ص: 329) من إسلامه: (و شذّ أهل البيت عليهم السّلام بمذاهب ابتدعوها و فقه انفردوا به و بنوه علي مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح و علي قولهم بعصمة الأئمة و رفع الخلاف عن أقوالهم و هي كلّها أصول واهية) فهل يا تري بعد هذا يصح ما زعمه الآلوسي أنهم هم من أتباع أهل البيت عليهم السّلام دون شيعتهم المقتفين أثرهم و المنحرفين عن أعدائهم كابن خلدون، و ابن تيمية، و البخاري و أضرابهم من مناوئيهم عليهم السّلام.
الآلوسي و التشيع، ص: 103
يترتب علي انحرافهم عن أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الضلال و الهلاك كما نصّت عليه أحاديث الفريقين المتواترة، لا أنهم علي الحقيقة تابعون لهم، و قد عرفنا عدائهم لهم عليهم السّلام و التزلّف إلي أعدائهم و الوقيعة في شيعتهم و مواليهم، و استسهاله نسبة الكفر إليهم لأنهم يوالون الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و يعادون معاديهم، كما هو الظاهر الواضح بين نبرات قلمه مما لا سبيل إلي إنكاره، و لو كان صادقا في دعوي المتابعة لهم عليهم السّلام لكان أول الداعين إليهم و المنوهين بفضلهم و المبتعدين عن أعدائهم المقاتلين لهم عليهم السّلام و الدافعين لهم عليهم السّلام عن مراتبهم التي رتبهم اللّه تعالي فيها.
بل لو صح ما زعمه من المتابعة لهم عليهم السّلام لاهتدي بهداهم و لم ينقطع إلي سواهم من الدخلاء و الأجانب، و لما نظر إلي شيعتهم و متابعيهم نظر العدوّ لعدوّه البغيض، و استسهل في شأنهم كلّ شنيع و فظيع، احتفاظا بكرامة أعدائهم و مريدي إطفاء نورهم كما تقدم البحث عنه مستوفي، و من حيث رأينا الأمر فيه علي عكس ذلك و أنه لم يزل يسعي في كتمان فضائلهم عليهم السّلام و إخفاء ذكرهم، و إحياء ذكر شانئيهم كمعاوية بن أبي سفيان، و ابن النابغة عمرو بن العاص و غيرهما من القاسطين و الناكثين و المارقين من أعداء أهل بيت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علمنا أن ما ادعاه من الولاء لهم عليهم السّلام كذب و انتحال لا أصل له، إذ من المستحيل الّذي لا يمكن أن يجتمع أبدا دعوي المتابعة لهم و المتابعة لأعدائهم المنحرفين عنهم عليهم السّلام علي صعيد واحد، و لقد فات الآلوسي أن يتمثل بقول الشاعر العربي:
تودّ عدوّي ثم تزعم أنني صديقك إن الرأي عنك لعازب
إذ لا واسطة بين الولاية و العداوة، كما يقول القرآن: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَي النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَي الظُّلُماتِ
[البقرة: 257].
ثالثا: قوله: «و لكن أين الشيعة الطغام من أولئك السّادات الكرام».
فيقال فيه: اللّه يعلم و كلّ الناس يعلمون- سواء في ذلك العالم و الجاهل، و البر و الفاجر، و المؤمن و الكافر- أن الشيعة الإمامية هم الّذين يهوون هوي عترة
الآلوسي و التشيع، ص: 104
النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و يوالونهم، و معروفون بالانقطاع إليهم عليهم السّلام و المتابعة لهم، و القول بخلافتهم بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بطلان خلافة غيرهم مطلقا كما هو صريح كلّ من جاء علي تعريف الشيعة من اللّغويين كتاج العروس، و لسان العرب، و القاموس فكيف يجوز أن يقال ذلك فيهم، أجل إنما يصح هذا القول في الآلوسي و غيره من المنقطعين إلي سواهم و الموالين لأعدائهم عليهم السّلام و القائلين بخلافة غيرهم، و مما يدلك بوضوح علي كذب الرجل في مقاله و عدم رجوعه فيه إلي دين و عقل ما حكاه كبير علماء خصوم الشيعة ابن خلكان في (ص: 350) من وفيات الأعيان في ترجمة: (عليّ بن جهم) و إليك نصّ قوله: (و كان عليّ بن جهم مع انحرافه عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و إظهار التسنن مطبوعا مقتدرا علي الشعر) و أنت تري من خلال هذه العبارة أن معني التسنن هو الانحراف عن عليّ و بنيه الطاهرين عليهم السّلام فكيف يزعم هذا الخرّاص أنه هو و إضرابه من المنحرفين عن أهل البيت عليهم السّلام طبعا من أتباع أهل البيت، و يخالف بذلك صريح قوله و فعله و قول أئمته و فقهاء مذهبه الّذين عوّل عليهم في أخذ دينه.
أ يريد الآلوسي بهذا التمويه و الافتراء أن يغري العامة و يلبس عليهم الحقيقة؟
و لكن أنّي يمكن له ذلك و قد اتضح لدي العام و الخاص انحرافهم عن أهل البيت عليهم السّلام و انقطاعهم إلي غيرهم، و أما تسمية نفسه بأهل السنّة ففي الحقيقة اسم علي غير مسماه (و تسمية الشي‌ء باسم ضدّه) لأن حقيقة هذه التسمية تعني متابعة السنّة النبويّة صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و العمل علي طبقها و النزول علي حكمها، و هو قد نبذها نبذا و رفضها رفضا، و تمسّك بخلافها و أخذ بغيرها، فالحق و الحقيقة أن أهل السنّة هم الشيعة الإمامية التابعون لأهل البيت عليه السّلام و المتمسكون بسنة جدّهم خاتم النبيّين و سيّد المرسلين صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كأحاديث الثقلين، و السّفينة، و النجوم، و باب حطّة المتواترة بين الفريقين، الدالّة علي وجوب انقياد الأمة بأسرها إلي أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الرجوع إليهم في كلّ أمر و نهي و تكليف و حكم، و أنه لا يجوز العدول عنهم إلي غيرهم أيّا كانوا، لأن فيه أكبر محذور و هو الوقوع في الضلال و الهلاك.
هذه هي عقيدة الشيعة الإمامية في أهل البيت عليهم السّلام و هذا ما نراه واجبا عليهم من اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في لزوم إطاعتهم و تنفيذ أمرهم و الابتعاد عن غيرهم.
الآلوسي و التشيع، ص: 105
أما الآلوسي و غيره من أعداء الشيعة فقد عدلوا عنهم عليهم السّلام و تشبثوا بأذيال غيرهم، و لم يكفهم هذا الانحراف حتي أوجبوا علي أهل البيت الّذين قد عرفت قول اللّه و قول رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بوجوب انقياد الناس إليهم و امتثال أوامرهم أن يتبعوا أولئك المتقدمين علي العترة النبويّة صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ممن صفق علي يده (الخليفة) عمر بن الخطاب (رض) و أربعة نفر من أتباعه في السّقيفة، و مع ذلك كلّه يزعم هذا الآلوسي أنهم متّبعون لأهل البيت، و أنهم شيعة لهم عليهم السّلام و خصوم الشيعة أنفسهم يعلمون قطعا بانحرافهم عنهم عليهم السّلام و رجوعهم إلي الآخرين ممن لا صلة لهم بهم، و ليسوا هم منهم عليهم السّلام في شي‌ء، و لا أولئك عليهم السّلام منهم علي شي‌ء.
رابعا: قوله: «كيف لا و أبو حنيفة و مالك و غيرهما من العلماء الأعلام قد أخذوا العلم من أولئك الأئمة العظام».
فيقال فيه: إن انحراف أبي حنيفة و مالك و غيرهما من أئمة خصماء الشيعة الّذين تقرر إجماع المتأخرين من السّلف علي وجوب تقليدهم و الأخذ بقولهم و حرمة ما عدا ذلك مما لا يختلف فيه اثنان من أهل البصيرة، فإن كنت في شك من ذلك فقارن بين عقائدهم و فقههم و بين عقيدة الأئمة العظام من أهل البيت عليهم السّلام و فقههم، فإنك تجد انحرافهم عن الأئمة الهداة من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ماثلا للعيان بأجلي المظاهر، و أما كونهم أخذوا العلم عن أولئك الأئمة العظام فمضافا إلي أنه أعظم شهادة من خصماء الشيعة علي أفضلية أهل البيت عليهم السّلام و أن لهم الفضل كلّه علي أئمته إلّا أنهم قابلوهم بالخلاف لهم و العدول عن علومهم عليهم السّلام حتي لقد أصحروا بالمخالفة لهم في مختلف أعمالهم بمختلف أسفارهم.
ثم إن أراد الآلوسي من قوله: (إنهم أخذوا العلم عنهم) أنهم أخذوا علم الأحكام الشرعية منهم عليهم السّلام و عملوا بها في شتي مجالات حياتهم فكذبه في هذا أوضح من أن يخفي علي الأغبياء، و يشهد لذلك مخالفة أفعالهم و آرائهم لأفعال أهل البيت و أحكامهم عليهم السّلام و الشاك في ذلك مكابر متعصب مبطل، و إن أراد أنهم تعلّموا العلم منهم و تلمذوا عليهم فهو و إن كان صحيحا إلّا أن ذلك لا يدل
الآلوسي و التشيع، ص: 106
علي إتباعهم لأولئك الأئمة العظام عليهم السّلام لأنه أعم منه و العام لا يدل علي إرادة الخاص، لا سيما قد أعلنوا مخالفتهم لهم عليهم السّلام في سائر شئونهم الاعتقادية و العملية، لأن مجرد أنهم طلبوا العلم و التعلّم منهم لا يوجب كونهم متّبعين لهم في شي‌ء بعد ثبوت انحرافهم عنهم، و اختراعهم أحكاما من عند أنفسهم حسبما يؤدي إليه آراؤهم و أهواؤهم، زاعمين أنهم مجتهدون فيها تاركين وراءهم تلك التعاليم القيمة و الأحكام العالية، أحكام اللّه المتعلقة بحلّ مشكلات الدين و الدنيا التي أخذوها عن صادق أهل البيت عليهم السّلام الإمام جعفر بن محمّد عليه السّلام ضاربين بها عرض الجدار، و مقيمين أركان آرائهم و أحكامهم علي رواية الضعفاء، و سوانح الأقيسة و الظنون، التي ما أنزل اللّه بها من سلطان، و قد طعن الخطيب البغدادي في عقيدة أبي حنيفة و في دينه، علي ما جاء تسجيله في تاريخ بغداد (ص: 393) إلي ما بعدها من جزئه الثالث عشر، و يقول الغزالي كما في (ص:
106) من كتاب غاية الكلام لمحمّد بشير الدين القنوجي: (إن أبا حنيفة قلب الشريعة ظهرا لبطن، و شوّه مسلكها، و خرم نظامها) فراجع ثمة حتي تري ما سجله علماء أهل السنّة في قدح أبي حنيفة الّذي يرجع إليه الآلوسي في أخذ دينه.

الآلوسي و نهج البلاغة

قال الآلوسي (ص: 26): بعد أن عزا إلي الشيعة ما من شأنه الكذب: «أنهم- أي الشيعة- ينسبون إلي الأمير من الروايات ما هو بري‌ء منها، و يحرفون ما ورد عنه، فمن ذلك نهج البلاغة الّذي ألّفه الرضي و قيل المرتضي، فقد وقع فيه تحريف كثير، و أسقط منه العبارات حتي لا يكون به مستمسك لأهل السنّة».
المؤلف: أولا: كان اللّازم علي الآلوسي أن يذكر لنا رواية واحدة ترويها الشيعة الإمامية عن أميرهم و إمامهم ما هو يتبرأ منه، و من حيث أنه لم يأت علي ذكر شي‌ء من ذلك و إنما ألقي الكلام علي عواهنه مبهما، فقد علمنا أنه كذب و انتحال لا أصل له، ثم يقال له: أ تري أنهم
رووا ما سجّله مسلم في صحيحه (ص: 91) في باب حكم
الآلوسي و التشيع، ص: 107
الفي‌ء من جزئه الثاني: «قال عمر لعليّ عليه السّلام و العباس (رض) فقال أبو بكر، قال: رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما نورّث ما تركناه صدقة، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا، ثم توفي أبو بكر، قلت أنا ولي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ولي أبي بكر، فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا) و أخرجه البخاري في صحيحه في أوائل (ص: 12) من جزئه الثالث في باب حديث بني النضير و مخرج رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم
فراجع ثمة حتي يتجلّي لك بوضوح صحة نسبة سائر الخطب المروية في نهج البلاغة إلي الأمير عليه السّلام لا سيّما الخطبة الشقشقية التي ذكر فيها تظلّمه من القوم لأخذهم حقّه و دفعهم عن مقامه الّذي أقامه اللّه تعالي فيه بعد نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قد اعترف غير واحد من أعلام أهل السنّة بصحة نسبتها إليه عليه السّلام فمنهم: ابن أبي الحديد الحنفي المذهب المعتزلي العقيدة في شرحه، و عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة في الإمامة و السياسة (ص: 9) من جزئه الأول، و هو مات قبل أن يتولد أبو السيّد الرضي، و أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل، فلا سبيل إلي الإنكار.
ثانيا: قوله: «و قد وقع فيه تحريف كثير».
فيقال فيه: علي المسلم الناقد أن يبيّن مورد ما ينتقده و إلّا فقد قال الكافرون إن كتاب اللّه سحر، و قال آخرون أساطير الأولين، و قال خصوم الشيعة وقع فيه تحريف، فهل يا تري ترك المسلمون كتاب ربهم لأن الكافرين يقولون بسحره، أو يا هل تري أوجب ذلك و هنا في كتاب اللّه، أم أنهم قوم يجهلون و هو واحد منهم، فإنه يزعم وقوع التحريف في النهج، فكان لزاما عليه أن يبيّن لنا ذلك بأسانيد تفيد العلم، و إلّا فمجرد اشتماله علي ثلب أوليائه ممن لا يرضي بثلبه لا يقال إن فيه تحريفا، لا سيّما إذا كان هناك ما يشهد لصحته من صحيح الأحاديث، و من حيث أنه لم يأت علي شي‌ء من ذلك علمنا أن ذلك لا أصل له.
ثالثا: قوله: «و أسقط منه العبارات حتي لا يكون به مستمسك لأهل السنّة».
فيقال فيه: إنه مدخول من وجوه: الأول: أن دعوي أنه أسقط منه العبارات من الدعاوي المجردة التي لا يقودها شي‌ء من البرهان، و إلّا كان عليه أن يبيّن لنا تلك العبارات المزعوم إسقاطها منه، نعم لما كانت تلك العبارات التي يزعم هذا
الآلوسي و التشيع، ص: 108
سقوطها بتقدير صحة هذا الزعم لم تكن من نهجه مطلقا، علمنا أن إسقاطها كان كسقوط ما يتمسك به لإثبات باطله.
الثاني: إن عدم وجدان جامعه لأكثر من ذلك لا يصح أن يقال فيه أنه أسقط منه العبارات، و لو كان يوجد غير ما جمعه لعثر عليه، لا سيّما أن الجامع له قد بذل منتهي ما في وسعه و جهده من قوة في سبيل تأليف شتاته و جمع متفرقاته، فلم يعثر علي غير ما نجده بين دفتي النهج، فعدم وجدانه لأكثر من ذلك و إن كان لا يدل علي عدم وجوده واقعا، و لكن لا يصح أن يقال فيه إنه أسقط منه العبارات علي حدّ تعبيره.
الثالث: من أين علم خصم الشيعة أن في غير ما عثر عليه جامعه دليلا و مستمسكا لتصحيح ما يبتغيه؟ أو ليس من الجائز أن يكون ذلك بعد فرض وجوده دليلا و مستمسكا لخصمه الشيعي و حجّة له عليه لا له، و يؤيد الأخير- بل يعينه- ما ورد عنه عليه السّلام في النهج في إبطال مذهبه و فساد خلافة من تقدم عليه، و أنهم أخذوها من أهل البيت عليهم السّلام غصبا، و يدلك علي هذا احتجاجه عليهم عند إبائه من البيعة فراجع (ص: 11 و 12) من الإمامة و السياسة لعبد اللّه بن مسلم بن قتيبة المطبوع بمطبعة مصر، و غيره من أهل السير و التواريخ ممن جاء علي ذكر البيعة كالطبري، و ابن الأثير في تاريخيهما، و ابن عبد ربه في العقد الفريد و غيرهم من علماء أهل السنّة، لتعلم أن غير الموجود من كلماته الشريفة في النهج و التي لم يعثر عليها جامعه إنما يصلح دليلا و مستمسكا لخصوم الآلوسي علي فساد مذهبه، لا مستمسكا له علي مذهبه في شي‌ء لو صحت مزعمته.
رابعا: قوله: (مع أن ذلك أمر ظاهر).
فيقال فيه: إنك قد عرفت ظهور ذلك في خلاف ما يريد، و أن ما جاء به معكوس عليه، و دليل لخصمه الشيعي، و لا شاهد له فيه علي صحة مذهبه بل هو شاهد علي بطلانه.
ثم أن أهل المعرفة بصياغة الكلام البليغ من ذوي الثقافة و العلم كلّهم لم يعلموا ما فيه من التحريف و إسقاط العبارات، إلّا هذا الآلوسي الّذي لم يعتمد في علمه إلّا علي العصبية الأثيمة المتمثلة في كلامه بأجلي مظاهرها.
الآلوسي و التشيع، ص: 109

حكاية الحجاج بن يوسف الثقفي

قال الآلوسي ص: (29): «و من مكايدهم أنهم يذكرون في كتب التأريخ حكايات موضوعة، و من تلك حكاية السّعدية مرضعة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أنها قدمت علي الحجاج الثقفي في العراق، و جري بينها و بينه حديث فيه تفضيلها لعليّ علي الأنبياء عليهم السّلام و قالت في بعض ما خاطبت به الحجاج: و أي فضل لأبي بكر و عمر (رض) حتي أفضّل عليّا عليه السّلام عليهما، و إنما أفضله علي آدم و نوح و إبراهيم و موسي و عيسي عليهم السّلام فاشتدّ حينذاك غضب الثقفي، فطلب منها أن تثبت ما ادّعت و إلّا قطّعها إربا إربا، ثم إنه سرد احتجاجها، و قال: انتهت الحكاية المكذوبة و القصة الأعجوبة التي لا يخفي ما فيها من البطلان علي الصبيان».
و سنشير إلي ذلك عند تفنيدنا لمزاعم هذا الآلوسي الّذي حاول بها إبطال احتجاجها علي الثقفي، إلي أن قال الآلوسي (ص: 35): «كما لا يخفي علي من تصفح كتب التأريخ و السير فإنها لم تدرك زمن الخلفاء (رض) بل اختلف في أنها أدركت زمن البعثة و آمنت بالنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ثم إنّا إذا راجعنا إلي ما نسبوه إلي حليمة من الشبهات و هاتيك الدلائل الواهيات وجدناها كسراب، و ذلك من وجوه، أما أولا: فلأن تفضيل الأمير عليه السّلام علي الأنبياء عليهم السّلام لا سيّما علي أولي العزم خلاف ما عليه العقلاء من سائر أهل الأنام، فضلا عن ملّة الإسلام، فإن الوليّ لا يصل إلي مرتبة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في كلّ شريعة من الشرائع، و نصوص الكتاب علي تفضيل الأنبياء عليهم السّلام علي جميع خلق اللّه.
و أما ثانيا: فلأن تلك الإحتجاجات مبنية علي ملاحظة مناقب الأمير عليه السّلام مع زلّات الأنبياء عليهم السّلام و لو لوحظت مع كمالاتهم و مناقبهم لخفيت علي الناظر، و مع ذلك يلزم عليهم أن الأمير عليه السّلام و أبا ذر، و عمار بن ياسر، و سلمان و غيرهم من الصحابة أفضل من النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إذا نظرنا إلي ما ورد في حقهم من الآيات المشعرة بمدحهم مع ما ورد من معاباته عليه السّلام (و علي آله) في عدة مواضع و لا يقول ذلك عاقل.
الآلوسي و التشيع، ص: 110
و أما ثالثا: فلأن آدم عليه السّلام أبو البشر و أصل النوع للإنسان، فكلّ ما يحصل لأولاده من الفضائل و الأعمال الصالحة فهي عائدة إليه، نعم خرج أولو العزم لخصوصيات أكرمهم اللّه تعالي بها.
و أما رابعا: فلأن الأزواج لا دخل لهن في المفاضلة، لأن الأمور العارضة لا دخل لها في الفضل الذاتي و الكمال الحقيقي، و إنما المناط بالأمور الذاتية و الصفات الحقيقية، فتفضيل زوجة عليّ عليه السّلام علي زوجة نوح عليه السّلام غير مستلزم لتفضيل عليّ عليه السّلام ألا تري أن زوجة فرعون كانت أفضل من زوجة نوح و لوط عليه السّلام و كذا زوجة الأمير عليه السّلام أفضل من أزواج النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا قائل بالتفضيل.
و أما خامسا: فلأن حديث: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» موضوع لا أصل له في كتب الحديث الصحيحة عند الفريقين، و علي فرض تسليم صحته فهو غير مفيد للتفضيل، لأن معناه لو رفعت الأحجبة عن وجه الواجب جلّ شأنه لازداد علي اليقين الحاصل لي بوجوده و صفاته الكاملة و كمال قدرته، و إبراهيم عليه السّلام كان في ذلك أعلي كعبا من الأمير عليه السّلام.
و أما سادسا: فلأن الأمير عليه السّلام كان يعلم أنه صبي، و عداوة الكفار له ليست بالذات، فلا طمع لهم في قتله، و مع ذلك فقد أخبره النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن الكفار لن يضروه إن هو نام علي فراشه، فزيادة إيمانه بذلك القول كان سببا لاطمئنانه، بخلاف موسي عليه السّلام فإنه ما كان له شي‌ء من ذلك بل كان الغالب علي ظنه حسب العادة أن فرعون يقتله.
و أما سابعا: فلأن سليمان عليه السّلام كما صرح المرتضي في كتابه (تنزيه الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام) إنما طلب ذلك الملك ليكون له معجزة علي نبوته، و شرط المعجزة ألّا يكون للغير قدرة عليها، و لا مزية للأمير عليه السّلام في تطليقه الدنيا عليه عليه السّلام علي أن طلب الملك لا ينافي التطليق، ألا تري أن الأمير طلب الخلافة بعد ذلك لأن مثله و أمثاله من الرجال إنما يطلبون المال و الملك للجهاد في الدين، مع أن ترك الدنيا علي الإطلاق ليس محمودا في الدين
الآلوسي و التشيع، ص: 111
المحمّدي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لو كان علي إطلاقه موجبا للتفضيل لزم أن يكون الرهبان و أمثالهم أفضل من سليمان و يوسف عليه السّلام.
و أما ثامنا: فلأن تعزير الأمير عليه السّلام للمغالين في محبته لا يوجب تفضيله علي عيسي عليه السّلام لأن المغالين في حبّ الأمير عليه السّلام قد أظهروا الكفر و الفسق بمرأي منه و مسمع فتمكن من الانتقام منهم، و غلاة عيسي عليه السّلام الّذين كانوا قائلين بالتثليث ظهروا بعد أن رفع إلي السّماء و في القرآن: قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ
[المائدة: 72] فردّ عليهم ما زعموه و وبخهم غاية التوبيخ.
و أما تاسعا: فإن ما ذكر في ولادة عيسي عليه السّلام غلط محض و كذب صريح، لأن الأصح أن مولده بيت لحم، و قيل فلسطين، و قيل مصر، و قيل دمشق و لم يقل أحد من المؤرخين إن مريم عليهم السّلام قد جاءها المخاض في المسجد الأقصي، و لئن سلّم ذلك فمن أين علم أنها أخرجت بالوحي، و أما القول بأنه قد أوحي إلي فاطمة بنت أسد بأن تضع في الكعبة فقول يضحك الثكلي و تضع منه الحبلي، و الصحيح في ذلك أن عادة الجاهلية أن تفتح باب الكعبة في اليوم الخامس عشر من رجب و يدخلون جميعهم للزيارة، و كانت العادة أن النساء يدخلن قبل الرجال بيوم أو يومين، و قد كانت فاطمة قريبة الوضع فاتفق أن ولدت هناك، علي أن ولادة الأمير عليه السّلام في الكعبة لو أوجبت تفضيله علي عيسي عليه السّلام لأوجبت تفضيله علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا قائل به، لأوجبت تفضيل حكيم بن خزام بن خويلد ابن أخ أم المؤمنين خديجة عليهم السّلام علي سائر الأنبياء عليهم السّلام و قد ولد في الكعبة و بطلان ذلك غير خفي».
المؤلف: و أنت تجد أيها القارئ خلال هذه المزاعم المطلقة التي لا يقودها إلّا القول الكذب من البغض لعليّ عليه السّلام و الجحد لفضائله وجوها من الفساد:

القصص التأريخية لا يحكم بكذبها مطلقا

الوجه الأول: قوله: «إنهم يذكرون في كتب التأريخ حكايات موضوعة و خرافات عجيبة».
الآلوسي و التشيع، ص: 112
فيقال: إنما يحكم بوضع الحكايات التأريخية المدونة في كتب التأريخ و السير من أي ملّة و دين إذا خالفت قرآنا محكما، أو سنّة قطعيّة، أو إجماعا ثابتا، أو دليلا عقليا قاطعا و إلّا مجرد كونها مخالفة لهوي النفس لا يصلح دليلا للحكم علي بطلانها و لا تدليلا علي فسادها، فضلا عن كونها شنيعة- كما يزعم و أخوه- و الحكاية المذكورة سالمة من ذلك كلّه كما يأتي، و من المعلوم أن الّذي دفع الآلوسي إلي إنكار ما تضمنته هذه الحكاية التأريخية، و حرّكت عضلاته المرتعشة، و أثارت غضبه فجعلته يهذي هذيان المحمومين، اشتمال هذه الحكاية علي تفضيل عليّ عليه السّلام إمام الأمة بعد أخيه النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي أوليائه، لذا تري روح العداء لعليّ أمير المؤمنين عليه السّلام ماثلة في يراعه و منطقه.
الوجه الثاني: قوله: «انتهت الحكاية المكذوبة و القصة الأعجوبة».
فيقال فيه: أولا: إن الظاهر من قول هذا الرجل، و هو: (أنهم يذكرون في كتب التأريخ حكايات موضوعة و من ذلك حكاية حليمة السّعدية) أن هذه الحكاية بما هي حكاية تاريخية مكذوبة و موضوعة، و الّذي يظهر من كلامه أخيرا أن ما فيها مكذوب، فهي إنما صارت مكذوبة عنده و أعجوبة لديه لما فيها من تفضيل عليّ عليه السّلام علي الخلفاء الثلاثة (رض) لا من حيث تفضيلها له علي الأنبياء عليهم السّلام فإن تفضيلها له علي الأنبياء عليهم السّلام أهون عند (الشيخ) من تفضيلها له عليه السّلام علي خلفائه (رض) لذا تراه تصدّي لتفنيد ما فيها بوجوه تكاد إذا نفخت لها تذوب.
ثانيا: أن الظاهر المشهور بين أمناء التأريخ ثبوت هذه الحكاية عن ابنة حليمة السّعدية- و أظنها حرّة- و إنما نسب الحكاية إلي أمها ليوهن به جانب القصة، و يحكم بوضعها بدعوي عدم وجودها في عصر الثقفي علي ما حكاه من تاريخ حياتها، وهبها لم تكن موجودة و أن الحكاية موضوعة كما يدّعي، فلما ذا يا تري شمّر عن ساعديه، و بذل كلّ ما في وسعه و جهده لإبطال ما فيها؟ و جاءنا بأمور تجهض الحبلي منها، و أقبح من ذلك و أطم أن يحسب أولئك الّذين قرضوا
الآلوسي و التشيع، ص: 113
كتابه أن أبحاثه ذات قيمة، مؤسسة علي أساس رصين من الحكمة، و هي في الحقّ ليست إلّا شعر شعرور أو شويعر أو متشاعر [1] لا تليق إلّا بمثل ذلك الكتاب الخارج عن الإعتبار في أعين الناس.
و عقيدتي أن الآلوسي و غيره لو عارضوا عاميّا من الشيعة بما جاء به في كتابه من الأضاليل المنكرة و المزاعم الفاسدة، لاستطاع ذلك العاميّ علي ردّها و تفنيدها بكلّ سهولة، فكان من اللّازم عليه قبل تحريره أن يلقي آراءه و سخافات أحلامه علي عوام الشيعة، فإن وجدهم قادرين علي ردّها و تزييفها كان ذلك كاف في ردعه و تنبيهه علي ألّا يضيّع شطرا كبيرا من عمره، و قسطا وافرا من أمواله في سبيل تحريره و نشره، إذ ما الفائدة في مزاعم و آراء يستطيع العوام علي تفنيدها، و إلّا فليكتب ما يشاء بأمانة و أدب كي لا يكون موضعا للسخرية و الاستهزاء بين طبقات ذوي الثقافة و الفضل و لا أضحوكة الدهر بينهم، فالآلوسي لم يحافظ علي هذا الأصل الأصيل في كتابه و لم يعتدل في مشيه، و كان كمن يمشي و القيد في رجليه فجاء بخرافات التقطها من وراء بعض الدجالين الّذين يرون الركض وراء كلّ بلية كياسة، ثم هو لم يبرهن علي بطلان ما في الحكاية كما يبرهن العقلاء علي بطلان الأشياء بل كلّ ما هنالك استغرابات و استبعادات و دعاو مجردة عن الدليل، و حكايات خالية إلّا من الإفك و السباب، خال الاستناد عليها يكون دليلا علي ردّها، و إذا ما كشفنا لك عنها تعلم أنها كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف.
الوجه الثالث: قوله: «أما أولا فلأن تفضيل الأمير علي الأنبياء لا سيما علي أولي العزم خلاف ما عليه العقلاء».
فيقال فيه: و أنت لا تري في هذه المزعمة ما يدل علي بطلان تفضيله عليه السّلام عليهم عليه السّلام سوي دعواه كون ذلك خلاف ما عليه العقلاء و مع ذلك، فنقول له:
__________________________________________________
[1] الشعرور بضم الشين: الشاعر الضعيف جدا، و دونه الشويعر، و دون الشويعر متشاعر، هكذا سجّله الفيروزآبادي في قاموسه المحيط في (ص: 59) من جزئه الثاني في مادة (شعر).
الآلوسي و التشيع، ص: 114
إن أراد من العقلاء نفسه و من كان مثله من المخبولين فإنا لا نشك في أنهم من الجهلاء الّذين يتقحمون فيما لا يعرفون و يفسدون و لا يشعرون، و إن أراد من العقلاء غيرهم من المسلمين فالمسلمون لا يشكّون في أن عليّا عليه السّلام أفضل من سائر الأنبياء و المرسلين عليهم السّلام إلّا محمّدا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ليس عند العقل ما يمنع ذلك مطلقا، ثم أن الحكم بتفضيل شي‌ء علي آخر يدور مدار المعرفة و الإحاطة بفضل كلّ من الأفضل و المفضول، و ليس للإنسان أن يحكم علي ما في باطن الغيب ما لم يطّلع عليه، و لا يصح أن يبدي رأيه فيه ما لم يحط به علما، و تفضيل بعض الأنبياء عليهم السّلام علي بعض كتفضيل بعض الأولياء علي بعض الأنبياء عليهم السّلام لا يعلمه إلّا اللّه و الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فليس لغير اللّه و غير رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من قبله تعالي أن يطّلع عليه أو يحيط به حتي يحكم فيه بنفي أو إثبات، و لمّا كان أمر التفضيل راجعا إلي اللّه تعالي كان تعيين الأفضل من قبله، و إن كان ثمة من هو أفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام إلّا رسول اللّه محمّد بن عبد اللّه خاتم الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فهو عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام بنصّ كتاب اللّه، قال تعالي في آية المباهلة: وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ
[آل عمران: 61] و لا خلاف بين الأمة في أن المراد من: أَنْفُسَنا
في الآية الكريمة نفس عليّ عليه السّلام [1] و لا جائز أن يريد أن هذه النفس هي عين تلك النفس بما هي علي نحو الحقيقة لأنها قطعا هي غيرها، و إنما يريد أن هذه النفس مثل تلك النفس، و ذلك ما يقضي بالمشاركة و المساواة للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في كلّ شي‌ء نزولا علي حكم عموم المنزلة و المشاركة في صريح الآية، إلّا أننا تركنا العمل بذلك
__________________________________________________
[1] راجع (ص: 278) من صحيح مسلم من جزئه الثاني في باب فضائل عليّ عليه السّلام و حكاه ابن حجر في صواعقه (ص: 72) في الفصل الأول من الباب التاسع في فضائل عليّ عليه السّلام في الحديث الثالث، و أخرجه جماعة آخرون من حفاظ أهل السنّة و مفسريهم، منهم: البيضاوي في تفسيره (ص: 22) من جزئه الثاني، و ابن جرير الطبري في تفسيره (ص: 192) من جزئه الثالث، و الخازن في تفسيره (ص:
302) من جزئه الأول، و النيشابوري في تفسيره بهامش الجزء الثالث من تفسير ابن جرير (ص: 206) و الفخر الرازي في تفسيره الكبير عند تفسيره للآية، و ابن حجر العسقلاني في إصابته (ص: 271) من جزئه الرابع في ترجمته لعليّ عليه السّلام و البغوي محيي السنّة عند أهل السنّة في ص: (302) من تفسيره بهامش الجزء الأول من تفسير الخازن، و جلال الدين السيوطي في الدر المنثور عند تفسيره للآية، و قد أجمع كلّهم علي أن المراد من: (أنفسنا) هو نفس عليّ عليه السّلام لا غير فلتراجع فإنه متواتر.
الآلوسي و التشيع، ص: 115
العموم في حق النبوّة و الفضل بالنسبة إلي خصوص سيّد الأنبياء عليه السّلام لقيام الدليل القطعي علي أن محمّدا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان نبيّا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ عليه السّلام لم يكن كذلك، و لانعقاد الإجماع القطعي علي أن محمّدا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان أفضل من عليّ عليه السّلام فيبقي ما عدا ذلك من العموم معمولا به، و من ذلك ما ثبت بإجماع الفريقين أن نفس محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أفضل من نفوس جميع الأنبياء عليهم السّلام و المرسلين عليهم السّلام فيجب أن يكون نفس عليّ عليه السّلام أفضل من جميع الأنبياء و المرسلين عليهم السّلام نزولا علي عموم ذلك الحكم فيما عدا ما خرج عن عمومه من الفضل و النبوّة صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في شأن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خاصة.
فلو لم يكن عليّ عليه السّلام أفضل منهم عند اللّه، لما جعل اللّه نفسه عليه السّلام كنفس نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و آتاه من الفضل ما لم يؤت أحدا من العالمين بعد نبيّه و صفيّه خاتم النبيّين صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لعمري إن هذه الآية من أقوي الأدلة علي أفضليته عليه السّلام منهم عليه السّلام و هي تكفي لقلع جذور إنكار الآلوسي تفضيله عليه السّلام عليهم عليه السّلام.

استلزام قول الآلوسي الكفر

الوجه الرابع: قوله: «فإن ذلك خلاف ما عليه العقلاء».
فيقال فيه: إن الآلوسي يكتب و لا يدري ما يكتب، فهو يكتب بدافع من عصبيته البغيضة، لذا تراه أورد هذه الكلمة دون أن يشعر بما تنطوي عليه من الكفر و النفاق، لأنه إن كان ثمة من يقول بأفضلية عليّ عليه السّلام من سائر الأنبياء عليه السّلام بعد كتاب اللّه هو رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فعلي زعمه أن أعقل العقلاء و أفضل الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم- و العياذ باللّه- ما كان من العقلاء حينما فضّله عليه السّلام عليهم عليه السّلام في حديثه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذي يرويه المؤالف و المخالف- و هو من الأحاديث المقبولة عند الفريقين-
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من أراد أن يري آدم في علمه، و نوحا في طاعته، و إبراهيم في خلّته، و موسي في هيبته، و عيسي في صفوته، فلينظر إلي عليّ بن أبي طالب)
[1] و هو نص لا يقبل التأويل في أن عليّا عليه السّلام كان
__________________________________________________
[1] أخرج هذا الحديث جماعة من أعلام أهل السنّة و ثقاتهم، منهم الفخر الرازي في تفسيره الكبير (ص: 472) من جزئه الثاني عند تفسير آية المباهلة، و منهم محبّ الدين الطبري في الرياض النضرة-
الآلوسي و التشيع، ص: 116
جامعا لجميع الفضائل المتفرقة فيهم عليهم السّلام و ذلك أقوي دليل و أمتن برهان لمن لم يتسربل بسربال العصبية، و لم يزل عقله بتيار الجهل و العمي علي أفضلية عليّ عليه السّلام من جميع الأنبياء عليهم السّلام و الفخر الرازي مع ما اشتهر عنه من التشكيك في الأمور البديهية حتي سمي: سيّد المشككين) لم يناقش في صحة هذا الحديث و لم يناقش في دلالة الآية علي ذلك، و لكن زعم انعقاد الإجماع علي: أن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أفضل ممن ليس بنبيّ، و أجمعوا علي أن عليّا ما كان نبيّا، فيلزم القطع بأن عليّا ليس بأفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام هذا تقرير كلام الرازي.
و لكن كان علي الرازي أولا: أن يحكي لنا ذلك الإجماع علي صحة كبري قياسه بأسانيد تفيد العلم، كما هو الشرط المعتبر في حجيّة الإجماع عند علماء الأصول، و إلّا فمجرد دعوي الإجماع علي ذلك لا يثبت فتيلا. ثانيا: أن دعوي الإجماع علي هذه الكلية من أن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي الإطلاق يكون أفضل ممن ليس بنبيّ لا سند له لا من الكتاب و لا من السنّة، فهي أشبه بدعوي الإجماع علي خلافة أبي بكر (رض) التي لا سند لها لا في القرآن و لا في سنّة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لذا فإن الشيعة لا تعرف هذا الإجماع و تنكره. ثالثا: أن الحديث المتقدم سابق علي الإجماع المدّعي لوضوح دلالته علي بطلان تلك الكلية فيتعين الأخذ به، فنحن لا نرفع اليد عن عموم الآية و دلالتها القوية علي أفضلية عليّ عليه السّلام من جميع الأنبياء عليهم السّلام بما فيهم أولو العزم- كما يقتضيه صريح الحديث- و لا نعدل عنه لأجل الدعاوي المجردة، ألّلهم إلّا إذا رجعوا في تخصيص عموم الآية إلي بغض الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.

قول محمّد عبده في آية المباهلة و فساده

نعم يقول محمّد عبده فيما حكاه عنه تلميذه محمّد رضا صاحب منار الخوارج: إن الروايات متفقة علي أن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم اختار للمباهلة عليّا و فاطمة
__________________________________________________
- (ص: 218) من جزئه الثاني، عن جماعة من الصحابة، و أخرجه أيضا في ذخائر العقبي من الطبعة الأولي بمصر القاهرة، عن جماعة من حملة العلم و الحديث من أهل السنّة، و أخرجه الحاكم في مستدركه (ص: 146) من جزئه الثالث، و الذهبي في تلخيصه و صححاه علي شرط البخاري و مسلم، و غيرهم من حفاظ أهل السنّة.
الآلوسي و التشيع، ص: 117
و ولديهما عليهما السّلام و مصادر هذه الروايات الشيعة و مقصدهم منها معروف، و لكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها علي الآية، فإن كلمة: (نساءنا) لا يقولها العربي و يريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج، و لا يفهم هذا من لغتهم، و أبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا عليّ.
و نحن نقول في جوابه: ألا هلمّ فاستمع أيها الناقد البصير- و ما عشت أراك الدهر عجبا- فإن تعجب فعجب قول محمّد عبده: (و لكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها علي الآية و أن مصادرها الشيعة) لأنك قد عرفت أن مصادرها حفاظ أهل السنّة و كبار مفسريها المعول عليهم في الحديث و التأريخ و التفسير، تجاهل عنها محمّد عبده و تلميذه ليبنيا علي تجاهلهما هذا الرأي السخيف، و ما ذنب الشيعة إذا قصدوا بذلك نشر الحقيقة التي أخفاها الدجالون تبعا للعصبية الجاهلية فغيروا دين اللّه بأمور تافهة، و كتموا حقائق شريعته، و في القرآن يقول اللّه تعالي: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدي مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا
[البقرة: 160].
و أما قوله: فإن كلمة: (نساءنا) (لا يقولها العربي و يريد بها بنته) فدليل الجاهل أو المتجاهل بلغة العرب الّذي لم يعرف شيئا من لغتهم و موارد استعمالاتهم و ذلك لصدق النساء علي البنات في لغتهم، و إليك قول اللّه العربي المبين: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ
[النساء: 11] فإنه يريد البنات بالإجماع لأنهن من أفراد النساء، فعلي زعم محمّد عبده و تلميذه أن القرآن ليس عربيا، و أن اللّه تعالي لا يعرف لغة العرب فأطلق ما لا يفهمون و كلف ما لا يعرفون، و هم عرفوا ذلك فأنكروا عليه هذا الإطلاق، نعوذ باللّه من الكفر و الهذيان، و بغض الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم. و يقول الكتاب: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
[يوسف: 2] فمن أنكر عربية القرآن فقد خرج عن الإسلام.
و أما قوله: (و أبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا نفس عليّ) فكلمة لا ينبغي صدورها ممن ترعرع قليلا عن رتبة العوام، ألم تعلم أيها (الشيخ) أن هذا الاستعمال مما شاع و ذاع في كلام العرب، كما يقول قائلهم لمحبوبه: (أنت
الآلوسي و التشيع، ص: 118
نفسي) فإنه يريد أنه أحبّ الناس إليه و أقربهم منه منزلة و أكثرهم عنده جاها، و لكن قاتل اللّه العصبية العصبية البغيضة و الحقد المقيت فإنها تجعل صاحبها لا يبصر بعينه و لا يفكر بعقله و لا يفقه بقلبه، و ما أدلي به هذا (الشيخ و تلميذه) هنا يدلك بوضوح علي صدق ما قلناه.
الآلوسي و التشيع، ص: 119

الفصل الخامس تفضيل عليّ عليه السّلام

قوله الوليّ لا يصل إلي مرتبة النبيّ فاسد

الوجه الخامس: قوله: «إن الوليّ لا يصل إلي مرتبة النبيّ».
فيقال فيه: من أراد أن يعرف الدعاوي المجردة و المزاعم الفاسدة فلينظر إلي مزاعمه التي أودعها كتابه، فإنك تراه لم يعتمد فيها علي غير الهوي و العصبية العمياء، و إلّا فمن أين علم أن الوليّ لا يصل إلي مرتبة النبيّ عليه السّلام في كلّ ملّة، و ليس في كتاب اللّه آية و لا في السنّة رواية ما يصلح أن يكون مستندا له.
و بعد فإن أراد أن الوليّ لا يصل إلي مرتبة النبيّ أنه لا يصير نبيّا فله صورتان:
الأولي: أن الوليّ لا يصل إلي مرتبة النبيّ بعد نبيّنا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خاتم الأنبياء عليه السّلام فإن أراد هذا فهو متين لا نزاع فيه و لا كلام لنا فيه.
الثانية: أن الوليّ لا يصل إلي مرتبة النبيّ قبل نبيّنا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فإن أراد هذا فهو ممنوع علي إطلاق أشدّ المنع؛ لأن هارون عليه السّلام كان خليفة موسي عليه السّلام و لو كان باقيا بعده لكان نبيّا، فكان اللّازم عليه ألّا يطلق المنع إلّا بعد العلم بأن الولي مطلقا لا يصل إلي مرتبة النبيّ، و إن أراد من أن الولي لا يصل إلي مرتبة النبيّ في الفضل ففاسد جدا؛ لأنا نري أن اللّه تعالي و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قد فضلا عليّا عليه السّلام علي جميع الأنبياء عليهم السّلام بما ألمعنا.
فقول الآلوسي: إن الوليّ لا يصل إلي مرتبة النبيّ من خرصه الّذي يريد به كما ضلّ هو أن يضل الناس بغير علم و لا هدي و لا كتاب منير، فيأتي بمزاعم يختلقها من طينته فيحسبها قذائف تهدم حصون الدين، و تزعزع أركان الشرع
الآلوسي و التشيع، ص: 120
المبين، و لعل صاحب الكتاب اعتمد علي ظن أن كتابه هذا لا يصل إلي أيدي العلماء من شيعة عليّ و بنيه عليه السّلام فيكشفون للملإ الشاعر عواره و قبيح تشنيعاته و فساد تهاويله، و يرجعون كلّ كيد من مكايده إلي نحره، و يكيلون له بصاعه، و يضعون كلّ سهم من سهامه في محلّه، لأنه كتب ذلك و هو في بلدة من بلاد الهند و أهلها عاكفون علي عبادة البقرة و الأوثان و الحجر، فهم لا يفرقون بين الحجر و البقر فكيف يرجي منهم أن يفرّقوا بين الحق و الباطل و الهدي و الضلال، و كيف أنهم يستطيعون الوقوف علي هذيان صاحب الكتاب و هذره و فساد آرائه و سوء تفكيره، و من كان هذا شأنهم فلا شك في أنهم جديرون بأن يتلقوا أباطيله بالقبول و يحسبوها أدلة الباحث الخبير.
الوجه السادس: قوله: «و نصوص الكتاب تنادي علي تفضيل الأنبياء علي جميع خلق اللّه».
فيقال فيه: إن هذا العبارة إن صح خروجها فإنما تصح من فم عالم يفهم معاني الآيات و يميّز بين عموماتها و مخصصاتها، و مطلقاتها و مقيداتها، و ناسخها و منسوخها، و محكماتها و متشابهاتها، و لكنهما ما برحا من طبقة من يقرءون القرآن علي غير بصيرة من أمره، و أصحاب هذه الطبقة طبعا لا يدخلون في حساب علماء الشريعة و إن وضعوا علي رءوسهم شعار أهل العلم و جلسوا مجلس العلماء بين الناس.
يا هذا إن عموم آيات تفضيل الأنبياء عليهم السّلام علي جميع خلق اللّه علي تقدير وجوده مخصص بالدليل القاطع من الكتاب و السّنة في غير عليّ عليه السّلام و الخاص يقضي علي العام و يخصصه عند العلماء، فالأخذ بالعمومات مع وجود المخصصات لا يجوز عند علماء الدين أجمعين.
فمن المخصصات آية المباهلة التي قد عرفت صراحتها في أفضلية عليّ عليه السّلام من سائر الأنبياء عليه السّلام و من السنّة- في الحديث المتواتر المار ذكره- فيكون علي هذا معني الآيات تفضيل الأنبياء عليهم السّلام علي جميع خلق اللّه إلّا عليّا عليه السّلام فإنه أفضل منهم ما عدا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بصريح الآية و نصّ الرواية.
الآلوسي و التشيع، ص: 121

تفضيل عليّ عليه السّلام علي الأنبياء عليهم السّلام لا يلزم تفضيل غيره من الصحابة (رض) عليهم عليهم السّلام

الوجه السابع: قوله: «و يلزم عليهم أن الأمير بل و أبا ذر و عمار و غيرهما من الصحابة أفضل من النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم».
فيقال فيه: إن من الغباوة و الجهالة أن يلزم المرء غيره بما ألزم به نفسه، فإن هذا الإلزام مبني علي ما ألزم الآلوسي به نفسه بنسبته الزلّة و العصيان إلي مقام النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أما المسلمون فلا يلزمهم ذلك لأنهم ينزهون النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عن العصيان الّذي لا يليق إلّا بمن جرتهم شقوتهم إلي تلويث نقاوة ثوب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالزلّة و المعصية، يبتغون بذلك أن يجحدوا قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في أفضلية عليّ عليه السّلام من أئمتهم؛ لأنه إذا ما ثبت كونه عليه السّلام أفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام ثبت كونه عليه السّلام أفضل من الخلفاء (رض) بالأولوية القطعية، لذا تراهم يحرصون أشدّ الحرص علي رفض ما قاله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في عليّ عليه السّلام من أفضليته عليه السّلام عليهم، و ينبذونه وراء ظهورهم عداوة للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بغضا للوصيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:
ظنّت سخينة أن ستغلب ربّها فليغلبنّ مغالب الغلّاب
و كيف يجوز لمسلم عرف اللّه و عرف رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن ينسب العصيان إليه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم دفاعا عن أئمته، في حين أنه لو جاز عليه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ذلك لبطل الغرض من بعثه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نبيّا لوجوب الانقياد إليه و إتباعه فيما يفعله، فإذا فعل الزلّة و المعصية لوجب إما إتباعه أو عصيانه و كلاهما باطلان، فتنتفي بذلك فائدة البعثة من وجوب الانقياد إليه و إتباع الناس أمره و نهيه و امتثالهم قوله و فعله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بل لو عصي لزم وجوب متابعته و وجوب عدمها، و ما يلزم من وجوده عدمه محال بالضرورة عقلا، و ذلك لوضوح عدم جواز ارتكاب الزلّة و المعصية قطعا، فمن حيث أنه نبيّ مرسل يجب تصديقه و إتباعه، و من حيث أن ما فعله و أمر به معصية لا يجوز إتباعه و ذلك كلّه باطل، و أما تخصيص وجوب إتباعه في غير فعل المعصية فباطل من وجهين:
الآلوسي و التشيع، ص: 122
الأول: أنه مخالف لنص آية الطاعة المطلقة الآبية عن التخصيص كلّ الإباء.
الثاني: أن المعصية و كون فعل الشي‌ء حراما أو واجبا لا يعرف إلّا من النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا من غيره، و غيره لا يعرفه لقوله تعالي: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
[الحشر: 7] و حينئذ فلا يصح الاستثناء لا في قوله و لا في فعله مطلقا، فمتي ما فعل شيئا علمنا أنه طاعة فيجب إتباعه فيه، و لا سبيل لنا إلي معرفة أنه معصية لنخالفه فيه لانحصار ذلك كلّه فيه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا في سواه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لأنه لو فعل المعصية أو نسي فأمر بخلاف أمر اللّه تعالي لوجب الإنكار عليه، لعموم وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر اللّذين علمناهما منه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و هو ينافي أمر الطاعة في قوله تعالي: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
[النساء: 59] و شي‌ء آخر: أن وجوب ردعه و زجره علي فعل المنكر لو فعله يوجب إيذاءه، و هو منهي عنه شرعا و محرم معاقب صاحبه بالعذاب الأليم بقوله تعالي: وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
[التوبة: 61] فيلزم من ذلك حرمة الشي‌ء الواحد و عدم تحريمه، و هو معلوم بالضرورة من الدين بطلانه.
فهذه صورة صغيرة عن عصمة الأنبياء عليهم السّلام قدمناها لك لتعرف كيف كان بحث عدو الشيعة عنهم عليهم السّلام و كيف أنه نسب إليهم عليهم السّلام زلّاته، و لوّثهم بذنوبه و ألصق بهم أكاذيبه و سيئات أعماله.
فإذا كان لا يسلم من قدح الآلوسي نبيّ من الأنبياء عليهم السّلام فكيف ترجو منه أن يسلم من سبّه و قذعه أهل البيت عليه السّلام فضلا عن شيعتهم و مواليهم عليهم السّلام.

ليس كلّ ما يصل لأولاد آدم عليه السّلام يصل إليه عليه السّلام

الوجه الثامن: قوله: «فلأن آدم أبو البشر و أصل النوع فكلّ ما يحصل لأولاده فهو عائد إليه».
فيقال فيه: أولا: إن هذا الوجه الركيك الذي أدلي به الآلوسي كسائر الوجوه ليوهن به ركن ذلك الدليل القاطع لجذور الأباطيل، إن صح فهو غير وارد من حيث تفضيل
الآلوسي و التشيع، ص: 123
عليّ عليه السّلام فقط علي آدم عليه السّلام أبي البشر، بل يتعداه إلي جميع الأنبياء عليهم السّلام حتي نبيّنا محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الحال أن كلّ واحد من أنبياء اللّه تعالي نوح عليه السّلام و إبراهيم عليه السّلام و عيسي عليه السّلام أفضل من آدم عليه السّلام و نبيّنا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام و الجميع أولاده عليهم السّلام.
فعلي ما زعمه يكون ملتقي لجميع فضائلهم مطلقا و منهم هؤلاء الأنبياء عليهم السّلام و اللّازم باطل إجماعا و قولا واحدا، فإن قال: إن أولي العزم فضّلوا عليه لخصوصيات أكرمهم اللّه تعالي بها، فيقال له:
أولا: كذلك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فضّله اللّه تعالي عليه و علي غيره من الأنبياء عليهم السّلام إلّا محمّدا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لخصوصيات موجودة فيه عليه السّلام متفرقة فيهم، أكرمه اللّه تعالي بها فامتاز بها علي جميع الأنبياء عليهم السّلام ثم أنه إذا كانت الأمور العرضية لا دخل لها في التفضيل الذاتي- علي حد تعبير الآلوسي- فكيف يزعم هنا أن كلّ ما يحصل لأولاده من الفضائل عائد إليه.
فالآلوسي إما أن يقول بأن الأمور العارضة لها دخل في التفضيل أو لا دخل لها فيه، فإن قال بالأول- و هو قوله- بطل قوله أنه لا دخل في التفضيل، و إن قال بالثاني- و هو قوله أيضا- بطل قوله أن كلّ ما يحصل لأولاده من الفضائل عائد إليه، و لو لم يكن لنا إلّا تناقضه هذا لكفي دليلا علي فساد مزعمته.
ثانيا: من أين علم أن آدم عليه السّلام أفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام سوي أولي العزم عليهم السّلام فإن إثبات ذلك يحتاج إلي الدليل القطعي، فكان عليه التدليل لإثبات هذه المزعمة التي لا يقودها سوي ما جاء به من التعليل الواهي من كونه عليه السّلام الأصل للنوع الإنساني، فإن هذا ما لم يستند إلي دليل شرعي لا ينهض دليلا لإثبات المدّعي، و لا ملازمة بين كونه عليه السّلام أصلا و بين رجوع ما لهم من الفضل إليه، فإن إعطاء الفضائل الثابتة لهم عليهم السّلام يحتاج إلي دليل و هو مفقود فيه، ثم يقال له: إن تعليلك العليل علي عمومه غير مستقيم، و ذلك لأن الطين هو الأصل للنوع البشري، لقوله تعالي: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ
[ص: 71] و قوله تعالي: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ
الآلوسي و التشيع، ص: 124
لازِبٍ
[الصافات: 11] فلا يصح لقائل أن يقول: إن الطين أفضل من آدم عليه السّلام لأنه أصله و هو فرعه إلّا إذا كان مدخول العقل.
ثالثا: أن عموم تعليله يقتضي طبعا رجوع كلّ ما لأولاده عليه السّلام إليه لا خصوص فضائلهم بل حتي زلّاتهم و قبائحهم و كفر بعضهم من أولاده عليه السّلام لوجود العلّة في الجميع، و اتحاد المناط فيهم أجمعين، و لا يمكن تخصيصه بخصوص فضائل أولاده عليه السّلام فضلا عن المرسلين عليهم السّلام لاستحالة التخصيص في عموم العلّة، ألا تري أنه لا يصح لقائل أن يقول: إن بعض النيران غير محرقة، فثبوت العلّة و هي كونه عليه السّلام أصلا لهم يقتضي بطبيعة الحال رجوع كلّ ما لهم إليه عليه السّلام سواء أ كان من الفضائل أو من الرذائل، و تلك قضية عموم العلّة، فالمقام من هذا القبيل لأنه إنما رجعت إليه لأنه الأصل لهم، فوجب رجوع كلّ ذلك إليه لوجود العلّة الموجبة في إرجاعها إليه عليه السّلام فإذا كانت الأصلية موجبة لرجوع ما لهم إليه و فضائلهم عليه- كما يزعم- لزمه الكفر المتناهي في القباحة لوجود عدو الشيعة و غيره من المنافقين و الكافرين في أولاده عليهم السّلام فيجب- علي قوله هذا- عود ذلك كلّه إليه و هذا هو الضلال البعيد.

أفضلية الزوجة لها دخل في أفضلية الزوج

و أما قوله: «إذ الأزواج لا دخل لهن في المفاضلة».
فيقال فيه: إن أفضلية الزوجة لا سيّما مثل فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم سيّدة نساء العالمين لأقوي دليل علي أفضلية زوجها من العالمين أجمعين إلّا خاتم النبييّن صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، و يدلك علي هذا ما
أخرجه الحافظ الكبير عند أهل السّنة المتقي الهندي في: (ص 31 و 38 و 39) من منتخب كنز العمال بهامش الجزء الخامس من مسند أحمد بن حنبل، عن ابن جرير و صححه، و سجله محبّ الدين الطبري في الرياض النضرة: (ص 180) من جزئه الثاني، قال: (جاء أبو بكر إلي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقعد بين يديه، فقال: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قد علمت من صحبتي و قدمي في الإسلام و إني و إني، قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ما ذاك؟ قال:
الآلوسي و التشيع، ص: 125
تزوجني فاطمة عليهم السّلام قال: فسكت عنه، قال: فرجع أبو بكر إلي عمر، فقال:
هلكت و أهلكت، قال: و ما ذاك؟ قال: خطبت فاطمة إلي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فأعرض عنّي، قال: مكانك حتي آتي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فأطلب مثل ما طلبت، فأتي عمر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقعد بين يديه، فقال: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قد علمت منّي صحبتي و قدمي في الإسلام و إني و إني، قال: و ما ذاك؟ قال تزوجني فاطمة، فسكت عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فرجع إلي أبي بكر، فقال: إنه ينتظر أمر اللّه بها، قم بنا إلي عليّ حتي نأمره بطلب مثل الّذي طلبنا، قال عليّ فأتياني و أنا أعالج فسيلا لي، فقالا: إنا جئناك من عند ابن عمك صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بخطبة، قال عليّ: فنبهاني لأمر فقمت أجر ردائي حتي أتيت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقعدت بين يديه، فقلت يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قد علمت قدمي في الإسلام و مناصحتي و إني و إني، قال: و ما ذاك؟ قلت: تزوجني فاطمة عليهم السّلام قال: و ما عندك؟ قلت فرسي و بزتي، قال: أما فرسك فلا بد لك منها، و أما بزتك فبعها، قال: فبعتها بأربعمائة و ثمانين درهما، قال: فجئت بها حتي وضعتها في حجر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقبض منها قبضة، فقال: أي بلال ائتنا بها طيبا، و أمرهم أن يجهزوا … إلي آخر الحديث).
و
أخرجه أبو حاتم، و أحمد في المناقب من حديث أبي يزيد المدائني، و يقول ابن جرير: إنه لما بلغ فاطمة ذلك بكت فدخل عليها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقال: مالك تبكين يا فاطمة؟ و اللّه لقد أنكحتك أكثرهم علما و أعظمهم حلما و أقدمهم سلما.
و
يحدثنا المحبّ الطبري أيضا في الرياض النضرة (ص: 182) من جزئه الثاني في فضل عليّ عليه السّلام عن ابن عباس، قال: (لما زوج رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فاطمة عليه السّلام بعليّ عليه السّلام قالت: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم زوجتني من رجل فقير لا شي‌ء له، قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: أما ترضين يا فاطمة أن اللّه اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أباك و الآخر بعلك).
و في ص: (183) من الرياض النضرة، من جزئه الثاني، قال: (و كان تزويج عليّ عليه السّلام بفاطمة عليها السّلام بأمر من اللّه تعالي).
الآلوسي و التشيع، ص: 126
و حكي ذلك جماعة آخرون من أعلام أهل السنّة في تواريخهم و أثبتوه في مسانيدهم و سجلوه في صحاحهم، و إنما أوردنا لك ذلك بطوله لتعلم أن قوله: إن تزويج فاطمة عليها السّلام بعليّ ليس فيه ما يدل علي أفضليته علي الأنبياء عليهم السّلام شي‌ء، لم يدفعه إليه إلّا حقده علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بغضه للوصيّ عليه السّلام فهو يريد أن يجعل ذلك الحقد دليلا يسير عليه في كتمان فضائلهم عليهم السّلام و إخفاء مناقبهم عليهم السّلام التي لا تحجبها الجبال فكيف تستر بالغربال، ثم أن
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (أما ترضين يا فاطمة أن اللّه اختار من أهل الأرض رجلين- إلي قوله- و الآخر بعلك)
لأدل دليل علي أفضليته من سائر الأنبياء عليهم السّلام و أنه ما تزوجها إلّا لكونه أفضل خلق اللّه بعد أخيه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لذا تراه أعرض عن كلّ من أبي بكر و عمر (رض) لمّا حاول كلّ منهما أن يتزوجها، و ما كان الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ليمتنع من تزويجها بأحدهما إلّا لأنهما دونها في الفضل، فهي لا كفؤ لها إلّا عليّ عليه السّلام أفضل الناس بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كما يرشد إليه
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في الحديث: (أكثرهم علما، و أعظمهم حلما، و أقدمهم سلما)
و أنهما الصفوة التي اختارها اللّه من أهل الأرض، كما يومي إليه
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إن اللّه اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوك و الآخر بعلك)
و حاصل القول إن من امتناع النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم تزويجها بأحد الرجلين مع ما
ورد عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (أن المؤمن كفؤ المؤمنة)
يستشرف القارئ علي القطع بأنهما لم يكونا بكفئين لها، و إلّا لزوجها من أحدهما قطعا.

الأمور العارضة علي الذات لها دخل فيها

و أما قوله: «فإن الأمور العارضة لا دخل لها في الفضل الذاتي و الكمال الحقيقي».
فيقال فيه: إن أراد أن الذات من حيث هي تكون حسنة كاملة ففساده واضح؛ لأن الشي‌ء من حيث هو بلحاظ ذاته لا يكون حسنا و لا قبيحا و إنما يكون كذلك بلحاظ ما يعرض علي ذاته من الصفات مطلقا، سواء أ كانت حسنة أم قبيحة، ألا تري أنه لا يحكم علي ذات الإنسان من حيث هو أنه عادل أو فاسق، و إنما يقال فيه إنه عادل أو فاسق بعد اتصافه بهما و لحوقها لذاته، فلا يقال ذلك
الآلوسي و التشيع، ص: 127
فيه قبله لقصور الذات من حيث هي عن تناوله بالحمل الذاتي، و إنما يلحقه بالحمل الشائع الصناعي الّذي يعرفه العلماء.
و إن أراد أن ما يعرض علي الذات بالواسطة ليس من العوارض الذاتية ففاسد أيضا؛ لأن العوارض إذا كانت لها واسطة في الثبوت فهي أيضا من العوارض الذاتية و الصفات الحقيقية، بل و كذا العوارض إذا كانت لها واسطة في العروض، فهي أيضا من العوارض الذاتية، و إلّا لم يكن الضحك العارض علي الإنسان بواسطة التعجب العارض هو الآخر عليه بواسطة إدراك الكليات الّذي هو من لوازم الفصل- من العوارض الذاتية- لأن له واسطة في العروض فإن واسطة عروضه تحتاج إلي واسطة أخري في الثبوت.
علي أن قول الآلوسي هنا مناقض لما سيأتي من قوله: (إن الأشياء لا توصف بصفة و أنها متساوية القدم في عالم الإمكان و الذات، و أنه ليس للعقل أن يحكم بحسن شي‌ء أو قبحه) فكيف يزعم هنا أن المناط في الفضل الأمور الذاتية و الصفات الحقيقية، و الشي‌ء عنده لا يكون متصفا بالحسن أو القبح إلّا بحكم الشارع دون العقل، و هل هذا إلّا قول متناقض مبطل لا يدري ما يقول.
و أما قوله: «فتفضيل زوجة عليّ عليه السّلام علي زوجة نوح عليه السّلام غير مستلزم لتفضيل عليّ عليه السّلام.
فيقال فيه: مع قطع النظر عما تقدم من دليل أفضليته عليه السّلام علي نوح عليه السّلام و غيره من الأنبياء عليه السّلام أن تزويج عليّ عليه السّلام بفاطمة عليها السّلام التي هي أفضل نساء العالمين، لأقوي دليل علي أفضليته عليه السّلام من نوح عليه السّلام و إلّا لجاز لنوح عليه السّلام أن يتزوج مثلها، فعدم تأتي ذلك له و لا لغيره من الأنبياء عليهم السّلام لعدم وجود مثلها عليه السّلام دليل علي وجود خصوصية في عليّ عليه السّلام يمتاز بها عليه و علي غيره من الأنبياء عليهم السّلام فهو بتزويجه فاطمة عليها السّلام يكون واجدا علي ما كان مفقودا في نوح عليه السّلام فتزويج عليّ عليه السّلام بفاطمة عليها السّلام هو أكبر فضيلة لعليّ عليه السّلام لم يشاركه فيها أحد و لم يساوه فيها نفر ممن تقدم أو تأخر، فعدم مشاركة نوح لعليّ عليه السّلام في هذه الفضيلة دليل علي أفضليته منه عليه السّلام.
الآلوسي و التشيع، ص: 128

خروج الآلوسي عن الموضوع فرار من الحجة

و أما قوله: «ألا تري أن زوجة فرعون كانت أفضل من زوجة نوح و لوط و كذا زوجة الأمير أفضل من أزواج النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا قائل بالتفضيل».
فيقال فيه: أولا: جاء الآلوسي بهذا التمويه و هو يحسب أنه يوهن به ذلك الأساس المتين دون أن يشعر إلي أنه لم يمسه بشي‌ء، و إنما أوهن قرنه قبل أن يوهنه، يا هذا لم يكن الكلام في زوجة من لا فضل فيه كفرعون و غيره من الكافرين لخروج هذا بموضوعه تخصصا عما نحن فيه، و الخروج عن الموضوع في باب المناظرة فرار من الحجّة، و غمط للحق، و محاولة للباطل، و هذا ما يتنزه عنه العلماء الّذين بيدهم أزمة الشرع و عليهم مدار حركات الحل و العقد و هم الذين يبحثون عن الحقيقة بإخلاص، أما الرعاع و الأغرار الّذين ينعقون مع كلّ ناعق- كما هو شأن كثيرين في كلّ ملّة و دين- فنحن ننبه إخواننا المسلمين بألّا يعولوا عليهم حتي في بسيط الأشياء و ساذجها، لأنهم ينقادون إلي العصبية و يتأثرون بالعاطفة، فلا يصلحون بوجه أن يكونوا مدارا للتميز في الأمور الدقيقة و المسائل العويصة.
ثانيا: أن زوجة الأمير عليه السّلام و إن كانت أفضل من أزواج النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لكن لما انعقد الإجماع علي أفضلية النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من عليّ عليه السّلام خرج هذا عن مورد ذلك الدليل، و هذا بخلاف ذلك في نوح عليه السّلام فإنه لا مخرج له فلا يقاس ما قام عليه الدليل بما لا دليل عليه لوضوح بطلانه.

حديث: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» غير موضوع

و أما قوله: «أما
حديث: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا»
فموضوع لا أصل له في كتب الحديث الصحيحة بين الفريقين».
فيقال فيه: هذا قول بجهالة، و رمي بسهام خاسئة، ويله كأنه أعلم بما في كتب الشيعة منهم، أو أنه يخفي عليهم كتبهم الصحيحة ليوهم علي العامة عدم وجود ذلك في كتبهم الصحيحة.
الآلوسي و التشيع، ص: 129
أما الحديث فترويه الشيعة بأسانيده الصحيحة، و أما أهل السنّة فقد أخرجه ابن حجر في صواعقه (ص: 77) في الفصل الثالث من الباب التاسع الّذي عقده في ثناء الصحابة عليه عليه السّلام فراجع ثمة حتي تعلم صحة الحديث و اشتهاره بين الفريقين، و أن ما زعمه من وضعه كذب و انتحال لا أصل له، و يشهد له ما
أخرجه المتقي الهندي في (ص: 33) من منتخب كنز العمال بهامش الجزء الخامس من مسند أحمد بن حنبل، عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (أعلم الناس باللّه عليّ بن أبي طالب)
و هو عبارة أخري عن
قوله عليه السّلام: (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا)
، و يعني هذا أنه عليه السّلام لا يزداد علما و إيمانا باللّه لبلوغه عليه السّلام في الإيمان به منتهاه، و وصوله فيه إلي أقصاه، بحيث لو فرض انكشاف الغطاء لا يزيده ذلك عرفانا و علما و إيمانا باللّه تعالي علي ما هو فيه من أقاصيه.
و قول الآلوسي: إن إبراهيم الخليل عليه السّلام كان أعلي كعبا من الأمير في ذلك عين المدعي، فكيف يجعله دليلا علي ثبوت الدعوي؟ بل و كيف يكون أعلي كعبا منه في ذلك و تلك خصوصية تفرّد بها لم تكن في إبراهيم عليه السّلام و لا في غيره من الأنبياء عليهم السّلام إلّا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و حسبك شهادة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بكونه عليه السّلام أعلم الناس باللّه تعالي علي أنه عليه السّلام أفضل منه عليه السّلام علي أننا قد أثبتنا فيما تقدم بشهادة آية المباهلة و الحديث الصحيح أفضليته عليه السّلام من سائر الأنبياء عليهم السّلام ما يقطع جهيرة كلّ أفاك عنيد.
حديث مبيت عليّ عليه السّلام علي فراش النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يقبل التحريف
و أما قوله: «أما حديث مبيت الأمير علي فراش الرسول فلأن الأمير كان يعلم أنه صبي، و معاداة الكفار له ليست بالذات فلا طمع لهم في قتله، و مع ذلك فقد أخبره النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن الكفار لن يضرّوه إن هو بات علي فراشه».
فيقال فيه: أما حديث مبيت عليّ عليه السّلام علي فراش النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الهجرة فهو من الأحاديث المتواترة، و قد اعترف هو بثبوته، و لكن دفعه حقده و بغضه إلي تحريفه و تحويره حسبما يهوي، ليقول فيه ما يشاء كما هو شأنه في سائر ما يرويه
الآلوسي و التشيع، ص: 130
من الأحاديث في فضل عليّ عليه السّلام فإنه لا يحكيها كما هي مدونة في كتب أئمته بل يأخذ في تحريفها و يخون في نقلها ليسقطها عن الدلالة علي أفضليته عليه السّلام من سائر الأمة و بلا استثناء، و قديما
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من لا أمانة له لا دين له).
و إليك نص الحديث الذي سجّله ابن عبد ربه في العقد الفريد (ص: 284) من جزئه الثالث من الطبعة الأولي في باب إحتجاج المأمون علي المخالفين، قال: (إن اللّه تعالي أمر رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن يأمر عليّا بالنوم علي فراشه، و أن يقي رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بنفسه، فأمره رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بذلك،
فبكي عليّ عليه السّلام فقال له رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: ما يبكيك يا عليّ، أ جزعا من الموت؟ قال: لا و الّذي بعثك بالحقّ نبيّا يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لكن خوفا عليك، أ فتسلم يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال: نعم، قال: سمعا و طاعة و طيبة نفس بالفداء لك يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ثم أتي مضجعه و اضطجع و تسجّي بثوبه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و جاء المشركون من قريش فحفّوا به لا يشكّون أنه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قد أجمعوا علي أن يضربه من كلّ بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطنا بدمه
. و قد اعترف بصحة ذلك كلّه غير واحد من فحول أعلام أهل السنّة، فمنهم:
إسحاق بن إبراهيم، و قاضي القضاة يومذاك يحيي بن أكثم، و منهم الشيخ محمّد بن عبد الجواد في كتابه: (خلاصة التحقيق في أفضلية الصدّيق) في الردّ علي إحتجاج المأمون علي علماء عصره، و قد تصدّي لتفنيده علّامة عصره و فريد دهره السيّد محمّد مهدي الكاظمي القزويني في كتابه الّذي سمّاه: (فاضحة اللّصوص بشموس النصوص) و ناهيك ما أدلي فيه من الأدلة القاطعة و البراهين الدامغة، زيّف فيه جميع ما جاء به من الأباطيل و ناقشه الحساب بدقة.
و ممن اعترف بصحته الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ص: 191) من جزئه الثالث عشر، فإنه أخرجه عن ابن عباس في قوله تعالي: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ
[الأنفال: 30] و المحب الطبري في الرياض النضرة من جزئه الثاني في فضائل عليّ عليه السّلام و غير هؤلاء من أهل السيرة و التاريخ من أهل السنّة.
الآلوسي و التشيع، ص: 131
و أنت تري أنه ليس في الحديث شي‌ء مما ذكره الآلوسي من أن الأمير عليه السّلام كان يعلم أنه صبيّ فلا طمع للكفار في قتله، و أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أخبره أن الكفار لن يضرّوه، و لا جرم أن ذلك من تحريفه الّذي يروم ترويج سلعته الفاسدة فيقلب الوقائع التاريخية رأسا علي عقب، و يأخذ في تأويل الأحاديث النبوية كيف شاء لأنها واردة في فضل الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و كيف يا تري أن الأمير عليه السّلام كان يعلم هذا و أن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أخبره كما يزعم، و أنت تراه بأمّ عينك يقول:
(أ فتسلم يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم؟ قال: نعم، فقال له: سمعا و طاعة و طيبة نفس بالفداء لك يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)
و كيف يعقل أن يقول ذلك و هو يعلم أن الكفار لن يضروه و لكونه صبيا لن يقتلوه كما يزعم الآلوسي، و لا شك في وضوح قوّة دلالته علي ثبات الأمير عليه السّلام و رسوخ إيمانه و عدم تزلزله، و أنه ممن لا يخافون و لا يضطربون كما اضطرب و خاف و تزلزل و حزن و بكي أشد البكاء إمامه في الغار و هو يعلم أنه لا شي‌ء عليه إطلاقا، و لقد فات الآلوسي أن يتمثل بقول ابن أبي الحديد الحنفي المعتزلي:
فتي لم يعرق فيه تيم بن مرّة و لا عبد اللّات الخبيثة أعصرا
و لا كان معزولا غداة براءة و لا عن صلاة أمّ فيها مؤخّرا
و لا كان يوم الغار يهفو جنانه حذارا و لا يوم العريش تستّرا
فعدم خوف الأمير عليه السّلام و عدم تزلزله و مفاداته للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بنفسه الطاهرة أكبر فضيلة له يمتاز بها علي موسي الكليم عليه السّلام علي أنّا قد ألمعنا فيما مضي قيام النصّ الجليّ في أفضلية عليّ عليه السّلام علي موسي عليه السّلام و أن قول الآلوسي:
إن عليّا عليه السّلام دونه في الفضيلة، لم ينبعث إلّا عن الجهل بالأحاديث تارة و الإنتصار لخلفائه (رض) مرّة، و البغض لعليّ عليه السّلام تارة أخري.

لا منقصة علي سليمان عليه السّلام في طلبه الملك و لا تكون سعة الملك مطلقا إعجازا

و أما قوله: «إذ لا منقصة علي سليمان عليه السّلام في طلبه الملك لأنه طلبه ليكون دليلا و إعجازا علي ثبوت نبوّته».
الآلوسي و التشيع، ص: 132
فيقال فيه: لا قائل بأن طلب سليمان عليه السّلام: (ملكا لا ينبغي لأحد) كان فيه منقصة عليه حتي يزعم هذا أن ذلك لا منقصة فيه، و ليس معني تفضيل عليّ عليه السّلام علي الأنبياء عليهم السّلام لقيام النصّ علي تفضيله أن يكون ذلك نقصا فيهم، و إلّا لزم من تفضيل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليهم أن يكون ذلك نقصا فيهم، بل و يلزم أن يكون في تفضيل اللّه بعض الرسل علي بعض نقص عليهم عليه السّلام لقوله تعالي: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلي بَعْضٍ
[البقرة: 253] و قوله تعالي: وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلي بَعْضٍ
[الإسراء: 55] و هذا ما لا يقول به ذو دين، و إنما نقول إن تطليق الدنيا و الزهد فيها مع القدرة علي تحصيلها و لو بطلب ذلك من اللّه تعالي- لا سيّما من مثل عليّ عليه السّلام مثال الإيمان و الإخلاص للّه تعالي و لرسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الخيرة التي اختارها اللّه من أهل الأرضين أجمعين- لأعظم مزية فيه تفضله علي من طلبها في المباح بل في الراجح شرعا، بل لو كان يلزم من طلب سليمان عليه السّلام الملك و لو لأجل أن يكون معجزة علي ثبوت نبوّته- كما يزعم- أن يكون أفضل ممن ليس له ذلك، و لو كان قادرا علي تحصيله بالطلب من اللّه لكان سليمان عليه السّلام أفضل من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لأنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أيضا ممن طلّق الدنيا و زهد فيها كما يعرف ذلك المتتبعون لسيرته و حاله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بل يلزم أن يكون أفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام لأنهم أيضا زهدوا فيها مع أنهم قادرون علي تحصيلها.
علي أن طلب سعة الملك لا يمكن أن يكون معجزة علي ثبوت النبوّة مطلقا، إذ لو كان يلزم من سعة الملك و اتساع نطاقه علي الإطلاق أن يكون إعجازا علي ثبوت النبوّة لزم أن يكون الكثير من أعداء أنبياء اللّه كشدّاد الّذي ملك شرق الأرض و غربها، و فرعون الّذي دعاه سعة سلطانه و اتساع سلطته و عظيم طغيانه إلي دعوي الربوبية، و في القرآن يقول اللّه تعالي: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسي فَبَغي عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ
[القصص: 76] و يقول الحافظ- عند أهل السنّة- السّيوطي في الدر المنثور (ص: 136 و 137) من جزئه الخامس: إن مفاتيح خزائن قارون كانت تنوف علي حمل أربعين بعيرا، فليس سعة الملك أو طلب سعته من حيث هو مطلقا يكون إعجازا لإثبات النبوّة لوجودها عند كثيرين من الكافرين باللّه، و شرط الإعجاز ألّا يكون أحد من المخلوقين قادرا عليه.
الآلوسي و التشيع، ص: 133

الخلافة صنو النبوّة و ليست ملكا

و أما قوله: «علي أن طلب الملك لا ينافي التطليق، ألا تري أن عليّا عليه السّلام طلب الخلافة بعد ذلك و سعي لها سعيها».
فيقال فيه: ليست الخلافة ملكا- كما يزعم- و إنما هي صنوّ النبوّة، و قائمة مقامها، و سادّة مسدّها، في غير الوحي الإلهي، و هي خلافة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حفظ الشريعة و إقامتها، و نشر أحكامها، و إقامة الحدود، و درء المفاسد، و الانتصاف للمظلوم من الظالم علي ضوء القانون الإلهي و القرآن السّماوي، و ما كان عليّ و هو أمير المؤمنين عليه السّلام وحده ليطلب الملك كما يزعم، و إنما طلبه و سعي له سعيه أولئك الّذين دفعوه عن حقّه، فسارعوا إلي إقامة السّقيفة ليبعدوه عن مقامه الّذي خصّه اللّه تعالي به حبّا لجاه الخلافة و طمعا بالإمارة، و قد كشف عن ذلك قول طلحة عند ما كتب الخليفة أبو بكر (رض) وصيّته لعمر (رض) بالولاية، فإنه قال مخاطبا عمر (رض): (ولّيته أمس و ولّاك اليوم) و
قول الأمير عليه السّلام في إحتجاجه عليهم مخاطبا عمر (رض): (احلب حلبا لك شطره، شدّ له اليوم يردّه عليك غدا، أم و اللّه لو لا أولئك الدافعون للخلافة عن أهلها و محلّها) [1]
ما كان للآلوسي و غيره من أعداء الوصيّ عليه السّلام و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم سلطان يعتمدون عليه، و لولاهم ما عاث في الدين عائث و لا ظهرت في الإسلام بدعة و لا تمزق ثقلا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم اللّذان أودعهما في الأمة، و طالما كان يوصي بهما حتي أكّد ذلك عليهم في مرضه الّذي توفي فيه و الحجرة مملوءة بهم، بل و لو لا قول الخليفة عمر (رض): إن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ليهجر، وردّه قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عند ما
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (آتوني بدواة و كتف أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا)
لما نزغ الآلوسي و غيره فألصقوا بأهل البيت عليهم السّلام و شيعتهم الوصمات إلي غير ما هنالك، مما يدعوننا هؤلاء إلي مكاشفتهم به و حينئذ نأتيهم بما لا قبل لهم به، و كلّ آت قريب و العاقبة الحساب.
__________________________________________________
[1] هكذا سجله ابن قتيبة في الإمامة و السياسة (ص 10) من جزئه الأول و غيره من مؤرخي أهل السنّة ممن جاء علي ذكره.
الآلوسي و التشيع، ص: 134
و أما قوله: «مع أن ترك الدنيا مطلقا ليس محمودا في الدين المحمّدي».
فيقال فيه: أولا: كان علي الآلوسي أن يذكر لنا الدليل علي أن ترك الدنيا مطلقا غير محمود في الدين المحمّدي، و من حيث أنه أهمل ذكره فقد علمنا أنه أراد بذلك أن يعيب عليّا عليه السّلام و يصحح ما فعله أولئك الّذين تربعوا علي دست الإمارة في هذه الأمة للمال الكثير و الجاه العريض و الغلّ الثابت في قلوب الكثير منهم للوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حتي إذا تقمصوها أخذوا يقضمون مال اللّه قضم الإبل نبتة الربيع، و يجرفون بأموال الأمة إلي بيوتهم و بيوت أبي معيط، علي أنه لا دخل لكثرة المال و قلّته في أمر الخلافة و إنما الخير كلّ الخير في هداية الناس إلي الطريق المنجي في العاجل و الآجل، و أن ترك الدنيا مطلقا مع إمكان الحصول عليها شي‌ء محمود حسن عند عباد اللّه الصالحين و أوليائه المقربين، فهذا
البخاري يقول، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: (لأن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم) [1].
ثانيا: لا ينتقض ذلك بالرهبان و أمثالهم حتي يقال أنه لو كان التطليق علي الإطلاق موجبا للتفضيل لزم أن يكون الرهبان أفضل من سليمان عليه السّلام و ذلك لأنه إنما يكون تركها علي الإطلاق موجبا للتفضيل، إذا كان التارك لها قادرا علي تحصيلها و مع ذلك تركها و زهد فيها، أما تركها مع عدم القدرة عليها كما في الرهبان و أمثالهم فلا يلزم منه التفضيل في شي‌ء لعدم صدق الترك لها و الزهد فيها علي أمثال أولئك الّذين ذكرهم، هذا الّذي خلط هنا و هناك خلطا فاحشا، فتراه يزعم تارة أن ترك الدنيا مطلقا غير محمود في الدين المحمّدي، و أخري ينتقل إلي قوله: و لو كان الترك مطلقا موجبا للتفضيل لزم تفضيل الرهبان و أمثالهم علي سليمان عليه السّلام و يوسف عليه السّلام فأيّ صلة يا تري بين الموضوعين، إذ من الجائز ألّا يكون الترك مطلقا في الشرائع السّابقة محمودا فكيف يقاس به إمام الأمة
__________________________________________________
[1] تجده في (ص 197) من صحيح البخاري من جزئه الثاني في باب مناقب عليّ عليه السّلام.
الآلوسي و التشيع، ص: 135
و خليفتها الأول في شريعتنا الّذي قد عرفت فيه
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يا عليّ لأن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم)
الدال بصراحة علي أن المناط في التفضيل هو العلم و التقي و رسوخ الإيمان باللّه تعالي و برسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هداية الناس إلي دينه، و هذه فضيلة لعليّ عليه السّلام قد امتاز بها علي سليمان عليه السّلام إضافة إلي ما تقدم من قيام البرهان علي أفضليته عليه السّلام منه عليه السّلام.

تعزير الأمير للمغالين فضيلة غير موجودة في عيسي عليه السّلام

ثالثا: قوله: «أما تعزير الأمير للمغالين في محبته فإنه لا يوجب تفضيله عليه السّلام علي عيسي عليه السّلام».
فيقال فيه: لا شك في أن المسارعة إلي إقامة الحدود و التعزير و النكاية بالكافرين و المبادرة إلي استئصالهم فضيلة لعليّ عليه السّلام لم تكن في عيسي عليه السّلام.
و أما قول الآلوسي: «إن عيسي عليه السّلام قد ردّ عليهم و وبخهم غاية التوبيخ».
فليس في الآيات ما يدلّ عليه، و يقول الكتاب: وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ
[المائدة: 72] فليس في الآية ما يدلّ علي أنه عليه السّلام وبخهم غاية التوبيخ فضلا عن التنكيل بهم، و إنما الموجود فيها أنه أمرهم بترك ما هم عليه من دعوي تأليهه، و بيّن لهم أن من يشرك باللّه فقد حرم عليه الجنّة و مأواه النار، فهو قد خوفهم و أرهبهم و أرعبهم باللّازم لقولهم و شركهم بما ينالونه في الآخرة من العذاب علي كفرهم و شركهم، و أين هذا من ذاك كما لا يخفي علي أولي الألباب.

المسئول في القيامة عما قاله بنو إسرائيل هو عيسي عليه السّلام دون عليّ عليه السّلام

رابعا: قوله: «ثم من أين لهم أن عيسي يسأل يوم القيامة و عليّ لا يسأل، و قد قال تعالي: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ
[الفرقان: 17].
الآلوسي و التشيع، ص: 136
هذا قول مدخول من وجهين:
الأول: لا شك في أن عيسي عليه السّلام يسأل عن ذلك يوم القيامة بدليل قوله تعالي مخاطبا إيّاه: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ
- إلي قوله- ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ
[المائدة: 116- 117].
و أما كون الأمير عليه السّلام لا يسأل فيمكن أن نقول فيه إن المغالين في حبّه عليه السّلام لم يعبدوه و لم يتخذوه إلها من دون اللّه و إنما وصفوه بصفات لا تليق إلّا باللّه وحده، كالخلق و الرزق و الحياة و الممات إلي غير ما هنالك من صفات اللّه العينية و الفعلية، و الظاهر من حال الغلاة المفرطين في حبّه عليه السّلام أنهم يعبدون اللّه و يعترفون للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بأنه مرسل من عند اللّه و لكنّهم غالوا في حبّه عليه السّلام فوصفوه بما لا يجوز أن يوصف به إلّا اللّه وحده بالأصالة.
الثاني: ليس في الإحتجاج المذكور ما يدل علي أن الأمير عليه السّلام لا يسأل حتي يقول: و من أين لهم أن عيسي عليه السّلام يسأل و عليّ عليه السّلام لا يسأل، فهو شي‌ء جاء به من نفسه ليصبّ عليه رأيه الفاسد.
و أما ما أورده من الآية الكريمة و استدل به علي أن الأمير عليه السّلام يسأل فمدخول بأن المروي عن الضحاك، و عن سيّد الآلوسي عكرمة أنها تريد الأصنام التي كانت تعبد من دون اللّه إذا أحياهم اللّه و أنطقهم، و هو الّذي تفيده كلمة (ما) الموصولة التي تستعمل غالبا في اللّغة لغير العاقل.

تناقض الآلوسي في قوله بظهور الغلاة بعيسي عليه السّلام بعد رفعه إلي السماء

و أما قوله: «إن القول بالتثليث إنما ظهر بعد رفع عيسي عليه السّلام إلي السّماء».
فيقال فيه: أنه إذا كان ظهور غلاة عيسي عليه السّلام بعد رفعه إلي السّماء فكيف يزعم هذا فيما تقدم عنه أنه عليه السّلام وبخهم غاية التوبيخ، و هل يعقل أن يكون قد وبخهم بعد رفعه إلي السّماء، فالآلوسي إما أن يقول بظهورهم قبل رفعه أو بعد
الآلوسي و التشيع، ص: 137
رفعه، فإن قال بالأول- و هو قوله- بطل قوله أنهم ظهروا بعد رفعه الّذي نفي عنه الإشكال، و إن قال أنهم ظهروا بعد رفعه- و هو قوله الثاني- بطل قوله الأول أنه وبخهم غاية التوبيخ، و لو لم يكن لنا إلّا تناقضه هذا لكفانا مؤنة الردّ عليه و قلع جذور أباطيله.

غلط الآلوسي في ولادة عيسي عليه السّلام

و أما قوله: «أما ما ذكر في ولادة عيسي عليه السّلام فغلط محض و كذب صريح، لأن الأصح أن مولده بيت اللّحم».
فيقال فيه: أظنك لا تعجب أيها القارئ إذا قلنا لك أن الآلوسي كتب ما كتب و هو لا يفهم ما كتب، و لخص ما لا يفهم فساده و لا يتعقل بطلانه، و كأنه يكتب لأمة غارقة في الجهالة و الضلالة من أسفلها إلي أعلاها، يا هذا كيف يصح لعاقل عربي فهم كلام العرب و عرف كيفية استعمالها أن يقول في شي‌ء أنه غلط محض و كذب صريح، ثم يعود بعد ذلك و يقول فيه إن الأصح فيه غيره، فإن العربي لا يقول إن زيدا أعلم من بكر إذا لم يكن بكر عالما، و لا يقول إن عمرا أقوي من خالد إذا لم يكن خالد قويا و هلمّ جرا، أيها العربي الفطن إن في باب العربية بابا يقال له باب التفضيل، و في ذلك الباب أن التفضيل صفة يلزم فيها المشاركة بين شيئين من جهة و المفارقة من أخري، فلا يقال في المدية أنها أمضي من العصي لعدم وجود معني المضي في العصي، نعم يصح أن يقال مدية بكر أمضي من مدية خالد لأن المضي أخذ في مفهوم المدية و هو قابل للتفاوت.
و هذا البحث من المبادئ الملقاة علي قارعة الطريق لا يمتاز به الذكي عن الغبي، فإذا كان المذكور في ولادة عيسي عليه السّلام شيئا غلطا محضا و كذبا صريحا- كما يزعم- فكيف يصح أن يقول فيه إن الأصح غيره لعدم وجود معني الصحيح في الغلط المحض و الكذب الصريح حتي يقول فيه أن هذا أصح منه أو أن الأصح غيره، بل لا بد للآلوسي أن يقول إن ما ذكره في ولادته شي‌ء صحيح (كما هو الصحيح) و لكن الأصح غيره و لا ينفك عنه هذا كما لا ينفك الظلام عن الأعمي، و لست أقصد من هذا الإطناب إلّا بيان جهله بمبادئ علوم العربية، و أن الموقف
الآلوسي و التشيع، ص: 138
الّذي وقف فيه ليس من نصيبه في شي‌ء و إنما هو من نصيب العلماء الّذين يكتبون و هم علي بيّنة مما يكتبون و يفهمون ما يكتبون و يكتبون ما يفهمون.

نفي الآلوسي لقول المؤرخين أن مريم عليها السّلام جاءها المخاض في المسجد

و أما قوله: «فإنه لم يقل أحد من المؤرخين أن مريم عليها السّلام جاءها المخاض في المسجد الأقصي».
فيقال فيه: من أين لك أنه لم يقل بذلك أحد من المؤرخين؟ و جهلك به لا يكون علما بعدمه، و عدم وجدانك له لا يكون دليلا علي عدم وجود القائل به، و لو كان الآلوسي ممن يتوخي الحقيقة لفتش عنها في منابتها و لكن يهون عليه أن يرتكب كلّ شي‌ء، ثم ليس في الإحتجاج ما يدل علي أن مولده لم يكن بيت لحم أو فلسطين أو غير ذلك حتي يقال فيه إنه كذب محض، و إنما الموجود في الإحتجاج أنه لما جاءها المخاض أمرها اللّه تعالي أن تخرج إلي الصحراء و تضع حملها تحت جذع النخلة و ليس في هذا ما يقتضي الكذب، و قد اقتص خبره القرآن بقوله تعالي: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلي جِذْعِ النَّخْلَةِ
[مريم: 22- 23].
فعلي زعمه يلزم أن يكون القرآن جاء بالكذب الصريح و هو كفر صراح نعوذ باللّه منه، و لا منافاة بين هذا و بين كون مولده في بيت لحم إذ أن بيت لحم- علي ما حكاه ابن كثير في (ص: 66) من البداية و النهاية من جزئه الثاني كغيره من مؤرخي أهل السنّة- موضع بني عليه ملوك الروم فيما بعد؛ أي فيما بعد ولادة عيسي عليه السّلام هناك، و هو أيضا كان في الصحراء علي ما قاله الفخر الرازي في تفسيره الكبير (ص 526) من جزئه الخامس، فراجع ثمة حتي تعلم جهل الآلوسي بالتأريخ، و أن قوله لم يقل ذلك أحد من المؤرخين لم ينشأ في الحقيقة إلّا عن عدم وقوفه علي ما أدليناه، و إليك ما قاله ابن كثير أحد مؤرخي علماء أهل السنّة في البداية و النهاية (ص: 63 و 64) من جزئه الثاني.
الآلوسي و التشيع، ص: 139
(إن مريم ابنة عمران ما برحت في المسجد تعبد اللّه بفنون العبادة، و كانت لا تخرج من المسجد إلّا في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لا بد منها، و لمّا جاءها المخاض و ألجأها الطلق اضطرت إلي الخروج منه و الذهاب إلي جذع النخلة حيث يكون محلّ ولادتها) و يشهد لهذا قوله في (ص: 65) عند قوله:
فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا
: أي انفردت وحدها شرقي المسجد الأقصي فيكون مجي‌ء الطلق لها و هي كذلك ما ألجأها إلي الخروج منه إلي هنالك حيث يكون موضع وضعها.

خروج مريم عليها السّلام من المسجد عند مخاضها كان بالوحي

و أما قوله: «و أما القول بأنه قد أوحي إلي فاطمة بنت أسد (رض) بأن تضع في الكعبة فقول يضحك الثكلي».
فيقال فيه: إن أراد أنه لا جائز أن يوحي إليها بذلك لامتناعه عقلا ففاسد جدا لعدم امتناعه، و إلّا لامتنع قوله تعالي: وَ أَوْحَيْنا إِلي أُمِّ مُوسي
[القصص: 7] و قوله تعالي: وَ أَوْحي رَبُّكَ إِلَي النَّحْلِ
[النحل: 68] و قوله تعالي: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَي الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا
[المائدة: 111] و قوله تعالي مخاطبا موسي عليه السّلام: إِذْ أَوْحَيْنا إِلي أُمِّكَ ما يُوحي
[طه: 38] و قوله تعالي فيما حكاه عن زكريا: فَخَرَجَ عَلي قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحي إِلَيْهِمْ
[مريم: 11] فلو كان ذلك يضحك الثكلي و تضع منه الحبلي- علي حد تعبير الآلوسي- كانت هذه الآيات كلّها تضحك الثكلي، و هو كفر صريح لا ينطق به إلّا كافر، و إن أراد أنه لم يثبت أنه قد أوحي إليها ففاسد أيضا، و ذلك لوروده عن أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
الّذين قد عرفت غير مرّة أن كلّ ما يأتي عنهم عليهم السّلام فهو الهدي و الحق و لا محذور فيه إطلاقا، و لعلّ الآلوسي فهم من قول القائل: و قد أوحي إلي فاطمة بنت أسد عليه السّلام أنه يريد وحي النبوّة الممتنع بعد ختم النبوّة بنبيّنا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لذا حكم جاهلا بأنه يضحك الثكلي دون أن يهتدي إلي أن هذا الوحي إليها هو كالوحي إلي أم موسي عليه السّلام لا وحي النبوّة لوضوح بطلانه عند من فهم و وعي.
الآلوسي و التشيع، ص: 140
و أما ما نسبه إلي كتب الشيعة أنه لم يوح إليها بذلك فكان عليه أن يذكر لنا ذلك الكتاب الّذي نقله عنه لنري صحته من فساده و إلّا فمجرد الحكاية عن كتبهم- لا سيّما من مثل الآلوسي الذي قد عرفت غير مرّة خيانته في النقل مطلقا- لا يكون دليلا علي صدق الناقل، و من حيث أنه أهمل ذكره علمنا أنه كذب لا أصل له.

خلاصة القول في ولادة عليّ عليه السّلام

و خلاصة القول في ولادته عليه السّلام ما ثبت في التأريخ الصحيح و صحيح الحديث: أن فاطمة بنت أسد عليه السّلام دخلت المسجد الحرام مبتهلة إلي اللّه تعالي بكلمات ملؤها الإيمان بعظمة اللّه، متوسلة إليه أن يسهّل ولادتها، و ييسّر لها ما تعسر من أمرها، متمسكة بأستار الكعبة و هي تقول: (ربي إني مؤمنة بك و بما جاء من عندك من رسل و كتب، و إني مصدّقة بكلام جدي إبراهيم الخليل عليه السّلام و أنه بني البيت العتيق، فبحق الّذي بني هذا البيت و بحق المولود الّذي في بطني لما يسّرت عليّ ولادتي)، فاستجاب اللّه دعاءها و أمرها أن تدخل الكعبة لتضع مولودها، فقال من حضر: رأينا البيت قد انشق و دخلت فاطمة عليها السّلام و مكثت هناك ثلاثة أيام، ثم خرجت و علي يديها ذلك المولود السّعيد، و كان أبو طالب عليه السّلام يدعو اللّه متوسلا إليه بالوليد المبارك، و هو يقول:
أدعوك ربّ البيت و الطّواف بالولد المحفوف بالعفاف
و كان يقول أيضا:
أطوف للإله حول البيت أدعوك بالرغبة محيّي الميّت
بأن تريني الشّبل قبل الموت غرّ نور يا عظيم الصّوت
فولادته عليه السّلام في بيت اللّه الحرام فضيلة من فضائله الخاصة التي تفرد بها و امتاز بها علي من سواه ممن كان قبله و من يأتي بعده إلي يوم القيامة، و قد أجمع المؤرخون و أهل السير علي أنه لم يولد في الكعبة مولود في الجاهلية أو في الإسلام غير أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام.
الآلوسي و التشيع، ص: 141
و أما قول الآلوسي: «علي أن ولادته لو أوجبت تفضيله علي عيسي لأوجبت تفضيله علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم».
فيقال فيه: لا ملازمة بين تفضيل عليّ عليه السّلام علي عيسي عليه السّلام و بين تفضيله علي سيّد الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ذلك لقيام النص القاطع علي أفضلية النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي عليّ عليه السّلام و غيره مطلقا، فيمنع ذلك من تفضيله عليه السّلام عليه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا دليل علي تفضيل عيسي عليه السّلام علي عليّ عليه السّلام بل النص قام علي أفضلية عليّ عليه السّلام منه عليه السّلام و من سائر الأنبياء و المرسلين، فيخرج ذلك عن مورده بدليله دونه.

دعوي الآلوسي ولادة غير عليّ عليه السّلام

و أما قوله: «و لأوجبت تفضيل حكيم بن خزام إذ قد ولد في الكعبة».
فيقال فيه: أولا: أن دعوي ولادة حكيم بن خزام في الكعبة دعوي باطلة لا أصل لها، فهي مردودة علي ناصية قائلها و صلابة خدّه بما حكاه لنا الحافظ الكبير من أهل السنّة ابن الصباغ المكّي المالكي في كتابه الفصول المهمة (ص: 14) من أنه:
«لم يولد أحد قبله عليه السّلام في الكعبة» و هكذا حكاه غيره من مؤرخيهم و حفاظهم فلتراجع.
ثانيا: كان اللّازم علي الآلوسي أن يثبت لنا ما يدّعيه من ولادة غير عليّ عليه السّلام في الكعبة و لو عن بعض المؤرخين من أهل مذهبه، و البيّنة علي المدعي و الأصل مع المنكر، و ليس علينا أن نأتي بما يبطل هذه الدعوي لأنها لم تثبت بل لم أر فيما أعلم أن واحدا من المؤرخين أو المحدثين المعول عليهم في الحديث و التأريخ عند أهل السنّة حكي غير ولادة عليّ عليه السّلام في الكعبة، و أن ذلك من خصائصه التي لم يشاركه أحد قبله و لا بعده.
ثالثا: لو فرضنا جدلا وجود ذلك في كتاب ما من كتب قومه و مع ذلك فلا حجّة فيه علي خصومه، بخلاف ذلك في عليّ عليه السّلام فإن ولادته في الكعبة ثابتة
الآلوسي و التشيع، ص: 142
بإجماع الأمة قاطبة، فلا ينتقض ما نحن فيه طردا و لا عكسا بمدعيات الآلوسي التي لا أساس لها من الصحة.
رابعا: لو فرضنا باطلا صدقه في هذه الدعوي فمن الجهل الفاضح أن يقول إن ذلك يوجب تفضيله علي الأنبياء عليهم السّلام و ذلك لقيام النصّ القالع لدبر هذا القياس الفاسد و غيره من أقيسته الباطلة علي أفضليتهم عليهم السّلام من جميع البشر إلّا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ و الأئمة المعصومين من بينه عليهم السّلام فإنهم عليهم السّلام أفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام و سيّدهم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أفضل من جميع خلق اللّه تعالي.

ما أورده الآلوسي من كتب قومه مما يزري بشأن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

قال الآلوسي (ص 34): «أن الشيعة يقولون إن أهل السنّة يروون في كتبهم الصحيحة ما يزري بشأن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و عدم الغيرة، فيقولون إنهم يروون، عن عائشة أنها قالت: رأيت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يسترني بردائه و أنا أنظر إلي الحبشة يلعبون بالدرق و الحراب يوم العيد، و أنهم يروون
عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «أ تعجبون من غيرة سعد و أنا أغير منه و اللّه أغير منّي».
و أدني الناس لا يرضي برؤية زوجته إلي الأجانب فكيف بسيّد الكونين صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و الجواب أن هذه وقعت قبل آية الحجاب و أن ذلك جائز باتفاق الفريقين، حتي
روي أن فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كانت تغسل الجراح التي أصابته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في غزوة أحد
بمحضر سهل بن سعد و الشي‌ء قبل تحريمه لا يكون فعله موجبا للطعن، فقد صح بين الفريقين أن سيّد الشهداء حمزة عليه السّلام و جماعة آخرين من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريمها، ثم أن عائشة إذ ذاك صبية غير مكلّفة فلو نظر مثلها إلي لهو فأي محذور فيه، و أما زجر عمر بن الخطاب للحبشة فلمكان ظن أن ذلك من سوء الأدب بمحضر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لهذا
قال له النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: يا عمر امتنع عن الإنكار.
و العجب من الشيعة أنهم يعدّون مثل هذا من قلّة الغيرة و هم يروون عن أئمة أهل البيت الطاهرين حكايات تقشعر منها جلود المؤمنين، فقد ثبت في كتبهم
الآلوسي و التشيع، ص: 143
الصحيحة
عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال لأصحابه و شيعته أن خدمة جوارينا لنا و فروجهن لكم
، و ذكر مقداد صاحب كنز العرفان الّذي هو أجلّ المفسرين عندهم في تفسير قوله تعالي: هؤُلاءِ بَناتِي
[الحجر: 71] أن لوط النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أراد بذلك الإتيان من غير الطريق المعهود بين الناس، فيا ويلهم من هذا الافتراء، و سحقا لهم بسبب هذه المقالة الشنيعاء».
المؤلف: أما نسبة خصوم الشيعة إلي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أمورا لا تليق نسبتها لعاقل فضلا عن أعقل العقلاء و أشرف الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فشي‌ء كثير أخرجوها في كتبهم الصحيحة، فمن ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 62) من جزئه الأول في باب أصحاب الحراب في المسجد
عن عائشة، قالت: (رأيت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يوما علي باب حجرتي و الحبشة يلعبون في المسجد، و رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يسترني بردائه أنظر إلي لعبهم).
و فيه أيضا (ص: 116) في باب الحراب و الدروق يوم العيد من جزئه الأول،
عن عائشة، قالت: (دخل عليّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عندي جاريتان تغنيان، فاضطجع علي الفراش و حوّل وجهه، و دخل أبو بكر فانتهرهن و قال مزمارة الشيطان عند رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فأقبل عليه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقال: دعهما، و كان يوم عيد و يلعب السودان بالدرق و الحراب، و قال أ تشتهين تنظرين؟ قلت: نعم، قالت: فأقامني وراءه خدي علي خده و هو يقول: دونكم يا بني رفدة، حتي إذا مللت، قال: حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي).
و
فيه (ص: 116) من جزئه الأول في باب الدعاء في العيد عن عائشة، قالت: (دخل أبو بكر و عندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر: أ مزامير الشيطان في بيت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ذلك في يوم عيد، فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا و هذا عيدنا).
و أنت تجد في هذه الأحاديث المروية في أصح الكتب عند خصوم الشيعة أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان يحب الغناء و يحب مزامير الشيطان، و أبو بكر كان لا
الآلوسي و التشيع، ص: 144
يحبهما، فأبو بكر يقول: مزامير الشيطان في بيت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول له: دعهما فإن لكلّ قوم عيدا و هذا عيدنا.
فرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: - و العياذ باللّه- يحب الباطل و هو مزمارة الشيطان، و أبو بكر لا يحب الباطل، و كأن مسجد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أسس علي أن يلعب فيه السّودان بالدرق و الحراب لا علي ذكر اللّه و العبادة فيه، فهل يا تري لم يجدوا مكانا في أرض اللّه الواسعة يلعبون فيه إلّا مسجد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مكان العبادة و موضع الدعاء، و كأن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عندهم لا يملك شيئا من الغيرة فيقول لزوجته: (أ تشتهين تنظرين) أو أنه يجوز علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن يأمر زوجته بالنظر إلي الأجانب، و يخالف بذلك قول ربّه الّذي أمر بوجوب الغضّ من أبصارهن بقوله تعالي:
وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ
[النور: 31] و هل هناك طعن في قداسة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عفافه غير هذا.
و
يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (ص: 142) من جزئه الثالث، و محب الدين الطبري في الرياض النضرة (ص: 210) من جزئه الأول: (إن شاعرا أنشد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم شعرا، فدخل عمر فأشار النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إلي الشاعر أن أسكت، و لما خرج عمر قال له: عد، فعاد، فدخل عمر فأومأ إليه بالسّكوت مرّة ثانية، فلما خرج، قال الشاعر: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من هذا الرجل؟
فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: هذا عمر بن الخطاب و هو رجل لا يحب الباطل).
و
يقول البخاري في صحيحه (ص: 48) من جزئه الثاني في باب الوقوف و البول عن سباطة قوم، عن حذيفة: (إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أتي سباطة قوم فبال قائما).
و أنت تري ما في هذه الأحاديث من نسب قبيحة و تهم شنيعة يكاد المسلم أن يموت منها أسفا و ينخلع فؤاده جزعا، و أقبحها أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يحب الباطل و كلّ من أبي بكر و عمر (رض) لا يحبان الباطل، و لو عرف هؤلاء رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حق معرفته لما نسبوا إليه ما يوجب تشويه سمعته، و التنقص من قدره، و الحط من كرامته عند أعداء الإسلام، و إذا تعدينا ما عزوه إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الوصمات إلي ما نسبوه إلي اللّه تعالي لرأينا الأمر فيه أدهي و أطم.
الآلوسي و التشيع، ص: 145

ما نسبه خصوم الشيعة إلي اللّه تعالي من القبائح

فهذا
الخطيب البغدادي يقول في تاريخ بغداد (ص: 44) من جزئه الثالث عشر: قالت عائشة: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إن اللّه تعالي يضحك من أياس العباد و قنوطهم، فقالت عائشة: قلت يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو يضحك ربنا؟ قال: و الّذي نفس محمّد بيده إنه يضحك، قلت: لن يعد منّا منه خير إذا ضحك).
و يحدثنا البخاري في (ص: 127) من جزئه الثالث في باب قوله تعالي:
«وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ»
عن أبي هريرة: (يقال لجهنم هل امتلأت و تقول هل من مزيد فيضع الربّ تبارك و تعالي قدمه عليها فتقول قط قط).
و فيه عن أبي هريرة، قال: (تحاجّت الجنّة و النار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين و المتجبرين، و قالت الجنّة: ما لي لا يدخلني إلّا ضعفاء الناس و سقطهم، فأما النار فلا تمتلئ حتي يضع رجله فتقول قط قط) [1] و يعني حديث أبي هريرة هذا- و العياذ باللّه- أن الأنبياء و المرسلين و الصديقين و الشهداء و الصالحين كلّهم من سقط الناس لأنهم جميعا يدخلون الجنّة، و هل هناك ضلال أعظم من هذا.
و
فيه (ص: 138) في باب يوم يكشف عن ساق من جزئه الثالث، عن أبي سعيد، قال: سمعت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كلّ مؤمن و مؤمنة».
و
أخرج في أول كتاب الاستئذان في باب بدء السلام (ص: 57) من جزئه الرابع من صحيحه، قال النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: «خلق اللّه آدم علي صورته طوله ستون ذراعا»
تعالي اللّه من أن تكون له ساق أو رجل أو صورة، و سبحانه عما يصفون.
و أخرج في باب الصراط جسر جهنّم (ص: 92) من جزئه الرابع من صحيحه، عن أبي هريرة: (تبقي هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم اللّه في غير
__________________________________________________
[1] تجده في (ص: 127) من صحيح البخاري في باب قوله تعالي: وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ
من جزئه الثالث.
الآلوسي و التشيع، ص: 146
الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ باللّه منك) [1] هذا مكاننا حتي يأتينا ربنا، فإذا أتانا عرفناه، فيأتيهم اللّه في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا،- إلي أن قال البخاري- و يبقي رجل مقبل بوجهه علي النار، فيقول: يا ربّ قد غشيني ريحها و أحرقني ذكاؤها فأصرف وجهي عن النار- إلي أن قال- فلا يزال يدعو فيقول لعلك إن أعطيتك أن تسأل غيره، فيقول: لا و عزتك لا أسألك غيره، فيصرف وجهه عن النار، ثم يقول بعد ذلك: يا ربّ قربني إلي باب الجنّة، فيقول: أليس قد زعمت أنك لا تسألني غيره؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، فيقول: يا ربّ لا تجعلني أشقي خلقك، فلا يزال يدعو حتي يضحك فإذا ضحك منه إذن له بالدخول فيها).
و أخرج في كتاب الدعوات (ص: 68) من جزئه الرابع في باب الدعاء نصف اللّيل من صحيحه، عن أبي هريرة، قال: (يتنزل ربنا تبارك و تعالي كلّ ليلة إلي سماء الدنيا حين يبقي ثلث اللّيل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فاغفر له) و يعني هذا الحديث أنه سبحانه و تعالي يوصف بالصعود و النزول، و القيام و القعود، سبحانه و تعالي عما يفترون.
و
أخرج في باب قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من آذيته فأجعله له زكاة و رحمة (ص:
71) من جزئه الرابع من صحيحه، عن أبي هريرة: أنه سمع النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول:
(أللّهم فأيّما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة)
نعوذ باللّه من هذا الافتراء علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و حاشاه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من أن يسبّ من لا يستحق السبّ، و قديما
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (سباب المسلم فسوق و قتاله كفر)
و هو ينطق عن الهوي، و الويل لمن سبّه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لعنه لعن من تناسل منه كمروان بن الحكم، و معاوية، و أبي سفيان، و ابنه يزيد و أضرابهم [2] من الأمويين الشجرة الملعونة في
__________________________________________________
[1] يظهر من هذا أن الّذي جاءهم كان بصورة شيطان لذا تعوذوا باللّه منه، فإنه لا يستعاذ باللّه إلّا من كلّ شيطان رجيم و كاذب أثيم.
[2]
يقول ابن الجوزي في تذكرته، قال الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام لمعاوية بن أبي سفيان: و أنت يا معاوية نظر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يوم الخندق إليك و إلي أبيك و هو علي جمل أحمر يحرّض الناس علي-
الآلوسي و التشيع، ص: 147
القرآن، و هم الّذين تزلّف إليهم أبو هريرة و غيره بوضع هذا الحديث و نحوه من أحاديثه، و عجائب أبي هريرة و خرافاته لا يسعها هذا الكتاب، و لكن شيخ الحديث عند خصوم الشيعة البخاري و غيره يتعبدون بها و يرتاحون إليها و يتعامون عن أنوار أهل البيت عليهم السّلام لا سيّما البخاري فإنه أهمل جميع فضائلهم و خصائصهم و لم يورد منها في صحيحه إلّا القليل النزر، و لكن مثل هذه الأباطيل أولي بالذكر عنده من حديث الثقلين و غيره من أحاديث فضل الوصيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أكثر هذه الخرافات مقتبسة من اليهود و موافقة لما بأيديهم من التوراة المحرّفة، و قد أخذها أبو هريرة عن كعب الأحبار المعروف بابن اليهودية، حاول بها تشويه
__________________________________________________
- قتاله، و أخوك عتبة يقود الجمل و أنت تسوقه فلعنكم جميعا و لعن أباك في كلّ موطن قاتلتماه فيه.
و
يقول الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ص: 181) من جزئه الثاني عشر (و ص: 403) من جزئه الرابع، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إذا رأيتم معاوية علي منبري فاقتلوه).
و
أخرج الحاكم في مستدركه (ص: 481) من جزئه الرابع و صححه علي شرط البخاري و مسلم، عن الشعبي، عن عبد اللّه بن الزبير، قال: (لعن اللّه الحكم و ولده)
، و
قال: استأذن الحكم بن أبي العاص علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مرّة فعرف صوته و كلامه، فقال: (ائذنوا له عليه لعنة اللّه و علي من يخرج من صلبه).
و
أخرج الخطيب في تاريخ بغداد (ص: 44) من جزئه التاسع: أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم رأي بني أمية في صورة القردة و الخنازير يصعدون منبره، فشقّ عليه ذلك، فأنزل اللّه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
و
أخرج أيضا في ص: (280) من جزئه الرابع، عن ابن عباس، قال: (رأي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بني أمية علي منبره فساءه ذلك، فأوحي اللّه إليه إنما هو ملك يصيبونه، فأنزل اللّه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
يملكها بعدك بنو أمية يا محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال القاسم: فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما و لا تنقص يوما).
و
أخرج أيضا في (ص: 191) من جزئه الرابع في تفسير قوله تعالي: وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ
من سورة الإسراء، عن ابن عمر، أن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال: رأيت ولد الحكم بن أبي العاص علي المنابر كأنهم القردة، و أنزل اللّه في ذلك: وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ
يعني الحكم و ولده.
و أخرجه النيشابوري في تفسير هذه الآية (ص: 55) بهامش الجزء الرابع عشر من تفسير ابن جرير و البيضاوي في (ص: 206) من تفسيره من جزئه الثالث، و الحاكم في مستدركه (ص: 480) من جزئه الرابع في كتاب الفتن و الملاحم، و الذهبي في تلخيصه معترفا بصحته علي شرط البخاري و مسلم، و يقول الرازي في تفسيره الكبير، في تفسير قوله تعالي: وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ
قال ابن عباس: (هي بنو أمية) و هكذا ذكره النيشابوري في تفسيره (ص: 55) بهامش الجزء الرابع عشر من تفسير ابن جرير في تفسير الآية، و البيضاوي في تفسيره.
الآلوسي و التشيع، ص: 148
سمعة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم النقية، و تلويث ثوبه النظيف عن كلّ دنس، و قديما
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من كذّب عليّ فليتبوأ مقعده من النار)
و أنذر بكثرة الكذابة عليه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
فالآلوسي يقول: إن الشيعة تقول إن أهل السنّة ينقلون في صحاحهم ما يزري بشأن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أهل السنّة أنفسهم- كما قدمنا- يثبتون في أصح كتبهم ما يوجب الطعن في النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و سقوط درجته الرفيعة عن درجة أقلّ النّاس، فما ذنب الشيعة إذا كان ذلك الازدراء و الاحتقار و إلصاق حب الباطل بالنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كلّها مسجلة في أصح الكتب عندهم، و ليس في إظهار الحق من غضاضة و إن غيظ المضل (علي أهلها جنت براقش).
و أما قول الآلوسي: «لأن هذه القصة- أي قصة الحبشة و لعبهم بالدرق في المسجد- وقعت قبل نزول آية الحجاب، و كنّ أمهات المؤمنين يخرجن إذ ذاك بلا حجاب».
فيقال فيه: أولا: من أين علم أن أمهات المؤمنين كن يخرجن إذ ذاك بلا حجاب؟ و من هم الناقلون له؟ و في أي كتاب هو مسطور؟ و كيف ساغ له الإخبار به جازما و هو لم يكن يومئذ موجودا ليطلع عليه؟ و من حيث أنه أهمل توضيح ذلك كلّه علمنا أنه من كذبه و خرصه الّذي يحاول به تصحيح الباطل بمثله.
ثانيا: لو فرضنا جدلا أنها وقعت قبل نزول آية الحجاب، و مع ذلك فهو لا يناسب مقام النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عظيم غيرته علي حريمه، و يتنافي مع سموّه و تعاليه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نعم يجوز ذلك علي من سجل عليه خصوم الشيعة من أنه يحبّ الغناء، و يحبّ مزامير الشيطان، و يطرب لغناء المغنيات، و يميل إلي المنكرات التي تنزه عنها أبو بكر (رض)- لشدّة إيمانه و عظيم تقواه- كما يزعمون فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.
أما النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الأعظم فالمسلمون كلّهم ينزهونه عن كلّ تهمة و وصمة وجهها إليه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أعداء الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و يقدسون زوجاته، و لا ينسبون
الآلوسي و التشيع، ص: 149
إليهن ما من شأنه التنقص من قدرهن و الحطّ من كرامتهن، أو يمسّ بشي‌ء من عفافهن كما صنعه معهن الخصوم.
فالشيعة يقدّرون رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حقّ قدره، و يحفظونه في زوجاته و أهله و لا يقولون فيه ما يوجب اللّوم عليه، فضلا عما يوجب الطعن في ربيع شأنه و علوّ مقامه.
و يعتقد النّاس أن الآلوسي الّذي عزا إلي أمهات المؤمنين خروجهن بلا حجاب بين طبقات بني آدم لا يري من الجائز في غيرته- لو كانت له غيرة- أن تخرج نساؤه بلا حجاب فكيف يري جواز ذلك في غيرة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم العظيمة و عفاف نسائه المصونة، و
في الحديث: (من لا غيرة له لا دين له).
ثالثا: لو سلّمنا جدلا أن هذه القصة وقعت قبل نزول آية الحجاب، و سلّمنا باطلا أن أمهات المؤمنين كنّ يخرجن إذ ذاك بلا حجاب- علي حد زعمه- و لكن هل يا تري كانت قصة المزامير و عمل الشيطان و قصة حبّ النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم للباطل و عدم حبّ عمر (رض) له قبل نزول التحريم؟ و إذا كان ذلك قبل نزول التحريم فكيف جاز لأبي بكر (رض) أن يقول إنه من عمل الشيطان؟ فهل يا تري أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما كان يعلم أن ذلك من عمل الشيطان؟ و أبو بكر (رض) علم ذلك؟! أو كان يعلم و لكن أراد اللّهو و الطرب و الاستماع إلي الغناء [1] و أبو بكر (رض) منع ذلك لأنه من الباطل، و هو لا يحب الباطل و رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يحبه نعوذ باللّه من ذلك كلّه، أو أن خصوم الشيعة أرادوا تنزيه أبي بكر و عمر (رض) عن كلّ منكر
__________________________________________________
[1] و قد أخرج السيوطي في الدرّ المنثور (ص: 159) من جزئه الخامس أكثر من عشرة أحاديث في تفسير قوله تعالي: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
أن لهو الحديث في الآية هو الغناء، و من ذلك ما
أخرجه عن ابن أبي الدنيا، و البيهقي، عن ابن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل)
و منها ما
أخرجه، عن أبي أمامة: أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال: (ما رفع أحد صوته بغناء إلّا بعث اللّه إليه شيطانين يجلسان علي منكبيه يضربان بأعقابهما علي صدره حتي يمسك)
و في أواخر (ص: 159) قال: قال يزيد بن الوليد الناقص: يا بني أمية إيّاكم و الغناء فإنه ينصل الحياء، و يزيد في الشهوة، و يهدم المروءة، و إنه لينوب عن الخمر، و يفعل ما يفعل السّكر، فإن كنتم لا بدّ فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنا) فلتراجع.
الآلوسي و التشيع، ص: 150
و دنس من طريق الغضّ من كرامة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هذه جرأة علي قداسة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يرتكبها ذو دين و من كان من المسلمين.
و أما قوله: (مع أنهن كنّ يخدمن الأزواج بحضور الأجانب باتفاق الفريقين).
فيقال فيه: إن أراد بالضمير في قوله (يخدمن) أزواج النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أن ذلك مما اتفق الفريقان عليه، فإن أراد أنهن يخدمن و هن محجبات فذلك مما لا كلام فيه، و إن أراد أنهن كن يخدمن و هن بلا حجاب فذلك ما تتبرأ الشيعة أشدّ البراءة منه و ممن ينسبه إليهم إفكا و زورا، إذ لا يجوز عند عقولهم- و هم القائلون بالتحسين و التقبيح العقليين- أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يدع زوجته سافرات بحضور الأجانب فضلا من أن يتفقوا عليه.
نعم هذا شي‌ء اتفق عليه خصوم الشيعة فيمن نسبوا إليه أنه يحبّ مزمارة الشيطان و يحبّ الأغاني و الطرب، و لا ينكر الباطل الّذي أنكره أبو بكر (رض) و شدّد النكير عليه في بيته علي مرأي منه و مسمع، و هذه هي الطامة التي يصغر عندها الطامات و هي الرزية التي ما أصيب الإسلام بمثلها أبدا.
و أما قوله: «كيف لا و
روي أن فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كانت تغسل جراحه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بمحضر سعد
». فيقال فيه: أولا: إنّا نطالب الآلوسي عمن روي هذا الحديث و أين رواه و من هم الناقلون له؟ لنري مبلغ صدقه من كذبه، و لما لم يأت علي ذكره علمنا أنه موضوع لا أصل له، أو مجهول ساقط لا يساوي فلسا.
ثانيا: لو سلّمنا به جدلا فإن أراد أنها كانت بلا حجاب بمحضر سعد فذلك باطل و هو من أقبحه، فإن المسلمين يربأون عن نسبة ذلك إلي الصدّيقة الطاهرة البتول عليه السّلام لا سيّما أن غسل جراحة بمحضر سعد لو صح لا يدل علي أنها كانت بلا حجاب، لأنه أعمّ منه و العام لا دلالة فيه علي إرادة الخاص عند العلماء، و إن أراد أنها كانت بحجاب فذلك لا محذور فيه و لم يكن كلامنا فيه.
الآلوسي و التشيع، ص: 151
و أما قوله: «مع أن الشي‌ء قبل تحريمه لا يكون فعله موجبا للطعن».
فيقال فيه: أولا: إنّا لو قطعنا النظر عن التحريم لكان خروجهن بلا حجاب بين الأجانب يعني- علي زعم الآلوسي- أنهن فاقدات الحياء: (و من لا حياء له لا غيرة له) و هل يكون الطعن في غيرة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و حياء نسائه غير هذا.
ثانيا: إن الشي‌ء قبل تحريمه لا يمنع من الطعن في ارتكابه لانتفاء الملازمة، إذ ربّ فعل لا يكون حراما أولا و بالذات و لكن فعله موجب للطعن كجلوس بعض الذوات الرفيعة مع زوجاتهم في المقاهي العامة من غير ضرورة، أو التجوال معهن في الأزقة جنبا إلي جنب أو يدا بيد و نحو ذلك مما يوجب عيبا و حطّا من قدرهم مع أنه ليس بحرام و قد يكون حراما ثانيا و بالعرض كما لو كان فعله مخالفا للمروءة كأكل العالم الديني الطعام ماشيا في الأسواق بين الناس، فإن ذلك يجعله موضع السّخرية و الاستهزاء بينهم.
و الخلاصة أن الطعن و عدمه في ارتكاب غير الحرام يختلف باختلاف أشخاص المكلفين رفعة و ضعة، فرب فعل يفعله الشريف و هو مناف لشرفه، و هو و إن لم يكن حراما و لكن فعله يوجب الطعن فيه، و علي العكس من ذلك لو فعله غيره فإنه لا يكون موجبا للطعن فيه و هلم جرا.

الّذي شرب الخمر هو غير سيّد الشهداء حمزة عليه السّلام

و أما قوله: «و قد صح بين الفريقين أن سيّد الشهداء حمزة شرب الخمر».
فيقال فيه: لم يصح شي‌ء من ذلك بين الفريقين كما يزعم هذا الآلوسي الّذي يحيف علي من يبغض، فيلصق به الدواهي و ينسب إليه العظائم.
نعم إنما صح بين الفريقين أن الخليفة عمر (رض) شرب الخمر بعد نزول آيات التحريم، و قد سجّل ذلك عليه
شيخ أهل السّنة شهاب الدين محمّد بن أحمد، في كتاب المستطرف (ص: 260) من جزئه الثاني، قال: (قد أنزل اللّه
الآلوسي و التشيع، ص: 152
تعالي في الخمر ثلاث آيات، فكان من المسلمين من شارب و من تارك، حتي شربها عمر (رض) فأخذ بلحي بعير و شجّ به رأس عبد الرحمن بن عوف، ثم قعد ينوح علي قتلي بدر بشعر الأسود بن يعفر، يقول:
و كائن بالقليب قليب بدر من الفتيان و العرب الكرام
أ يوعدني ابن كبشة [1] أن سنحيا و كيف حياة أصداء و هام
أ يعجز أن يردّ الموت عنّي و ينشرني إذا بليت عظامي
ألا من مبلغ الرّحمن عنّي بأنّي تارك شهر الصّيام
فقل للّه يمنعني شرابي و قل للّه يمنعني طعامي
فبلغ ذلك رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فخرج مغضبا يجرّ رداءه فرفع شيئا كان في يده فضربه به، فقال: أعوذ باللّه من غضبه و غضب رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فتلا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قوله تعالي: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
[المائدة: 91]، فقال عمر (رض): انتهينا انتهينا).
__________________________________________________
[1]
أخرج البخاري في باب ما جاء في ضرب شارب الخمر من كتاب الحدود (ص: 113) من جزئه الرابع من صحيحه، عن أنس بن مالك: (أن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ضرب في الخمر بالجريد و النعال)
و لا شك في أن الضرب بالنعال ادعي إلي التأديب لشارب الخمر عندهم.
الآلوسي و التشيع، ص: 153

الفصل السادس دفاع عن السنّة و الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

بطلان قوله: إن عائشة إذ ذاك كانت صبيّة غير مكلفة

و أما قوله: «أما عائشة فكانت إذ ذاك صبية غير مكلفة، فلو نظر مثلها إلي لهو فأيّ محذور فيه».
فيقال فيه: إن هذا الاعتذار بارد و غير وارد؛ لأنها إن كانت صبية غير مكلفة فكيف دخل بها النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قبل بلوغها و تكليفها، و قد أجمع المسلمون كلّهم أجمعون علي حرمة الدخول بالزوجة قبل بلوغها، و إن زعم الآلوسي أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عقد عليها قبل بلوغها و دخل بها بعد بلوغها فباطل من وجهين:
الأول: لا دليل علي ثبوته بين الفريقين فلا حجّة فيه علي شي‌ء.
الثاني: لا ضرورة تدعو إلي عقد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليها قبل بلوغها و الحديث ظاهر في بلوغها، و أيّ حاجة لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إلي أن يعقد عليها و لها من العمر ست سنين- كما يزعم أولياؤها- و هي في دور الحضانة، فهل يا تري كان صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يريد أن يحتضنها من دون من وجبت عليه حضانتها؟ أو كان يخشي من وليّها أبي بكر (رض) أن يزوجها بعد بلوغها من غيره رغبة منه في ذلك الغير دون النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فما بال الآلوسي يهرف بما لا يعرف و يركب رأسه و هو لا يدري، و لو سلّمنا جدلا أنها إذ ذاك كانت صبية غير مكلفة فلو نظر مثلها إلي لهو فلا محذور فيه علي حدّ زعمه، و لكن هل كان النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يومئذ غير مكلّف فلو نظر مثله إلي لهو فلا محذور فيه.
فالآلوسي يريد تصحيح ما ثبت في الصحيح عنده بما يرتعد من هو له فرائض أهل الدين، و ترجف منه قلوب المؤمنين، و يندي منه جبين الإنسانية حياء و خجلا، و كان الأجمل بالآلوسي أن يتجافي عن ذكر الشيعة رعاية لمذهبه الأود و سلوكه المعوج، فهو لم يكثر بذلك إلّا لجاجه، و لم يظهر للملإ إلّا اعوجاجه،
الآلوسي و التشيع، ص: 154
فأوقف الناس علي مواضع خطأه و خطيئته بجرأته علي مقام الجناب الأقدس المستحق لكلّ كمال أنفس، و علي نبيّه و صفيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خاتم النبيّين المنزّه عن كلّ رذيلة نسبها إليه أعداؤه و أعداء أهل بيته معدن الرسالة و أزواجه أهل العفة و النجابة، و اتضح لديهم ما وقع فيه من زلّات يستمر شؤمها سرمدا و عثرات لا تقال أبدا.

بطلان قوله: إنها كانت متسترة و إن لهو الحبشة كان لتعلم الحرب

ثامنا: قوله: «و لا سيما إذا كانت متسترة يعني أم المؤمنين عائشة».
فيقال فيه: قل لي بربك كيف كانت متسترة و
الحديث يقول: (يسترني بردائه)
فهل يا تري هذا قول متسترة أم مكشوفة سافرة: بَلْ رانَ عَلي قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ
[المطففين: 14].
و أما قوله: (أما لهو الحبشة و لعبهم كان لتعلّم الحرب).
فيقال فيه، أولا: ليس في الحديث ما يدل علي أن لهوهم و لعبهم كان لتعلّم الحرب لو صح أنهما كانا لتعلم الحرب علي حدّ زعمه.
ثانيا: لو سلّمنا ذلك جدلا فهل يا تري ضاقت عليهم الأرض بما رحبت حتي يتخذوا من مسجد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ملها و ملعبا، و ما هو الوجه يا تري في توقف معرفة الحرب و أساليبها علي اللّهو و الضرب بالطبل و اللّعب بالدرق لا سيما في مسجد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أغرب من ذلك أن يزعم الآلوسي حضور الملائكة مثل هذا اللّهو و اللّعب عازيا ذلك إلي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم تسامي قدره صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قدر ملائكة اللّه المكرمين من هذه المنكرات التي تصرخ منها جنّة الأرض و ملائكة السماء: وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ
[العنكبوت: 13].

زجر عمر (رض) للحبشة بحضرة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

و أما قوله: «و أما زجر عمر عن ذلك فلمكان ظن أن ذلك بمحضر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من سوء الأدب».
فيقال فيه، أولا: أن زجر عمر (رض) الحبشة عن ذلك بمحضر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إن صح كان هو الآخر من سوء الأدب بمحضره صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، إذ ليس له و لا لغيره من
الآلوسي و التشيع، ص: 155
أفراد الأمة أن ينهي و يزجر بحضوره صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أحدا مطلقا، و القرآن يقرر هذا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ
[الحجرات: 2] فما ارتكبه عمر من الزجر بمحضر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم داخل في النهي المدلول عليه في الآية.
ثانيا: أن سوء الأدب المذكور في فعل الحبشة بمحضر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إن كان حراما كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أولي بزجرهم من عمر (رض) و إن لم يكن حراما كان زجر عمر (رض) لهم حراما، لأنه زجر من لا يستحق الزجر شرعا، أللّهم إلّا أن يقول أولياء عمر (رض) إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما كان يعلم حرمته و علم ذلك عمر (رض) أو أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان يرغب في فعل الحرام بمحضره صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عمر (رض) ما كان يرغب فيه و ذلك كلّه هو الضلال البعيد.

وطي‌ء الإماء بالتحليل شرعا

و أما قوله: «و العجب من الشيعة أنهم يروون عن أهل البيت ما تمجّه أسماع المسلمين».
فيقال فيه: كان علي الآلوسي أن يذكر لنا هذه الرواية بتلك العبارة في أي كتاب من كتبهم الصحيحة موجودة؟ و من هم الناقلون لها بأسانيدها؟ لنري هل هي صحيحة أو أنها مكذوبة لا أصل لها؟ و من حيث أنه قد اقتصر علي ذكرها و لم يذكر شيئا من ذلك علمنا أنها موضوعة لا سيّما بعد أن عرفت غير مرّة عدم دقته في نقل الروايات، و أنه يذكر روايات مجهولة و الناقل لها مجهول و المعزيها إليهم جاهل متعصب مرذول، فليس علينا و لا علي أحد أن يفهم مدعيات هذا الآلوسي و مفترياته، فإنك تراه يسند إلي الشيعة أمورا لم يعتمد فيها علي ركن وثيق.
نعم يستباح وطء الإماء بالتحليل عند أكثر الإمامية، فإذا أحل الرجل لغيره نكاح جاريته جاز له وطؤها من غير حاجة إلي العقد عليها، و هو كما لو أباح له التصرف في شي‌ء من ماله، و يدل عليه قوله تعالي: وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلي أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
[المؤمنون: 5- 6]
الآلوسي و التشيع، ص: 156
فالآية تفيد جواز ذلك لأنها شاملة لملك العين و ملك المنفعة فيدخل ذلك فيها لفظا و مفهوما، و قد جزم به أكثر علماء الشيعة و خالف فيه خصومهم، لذا تري الآلوسي يقول إن هذا مما تمجّه أسماع (المسلمين) لأنه مخالف لهواه و لما أجمع عليه أهل الأهواء، فكأن الآلوسي يري أن أسماع المسلمين تمج ما جاء به كتاب اللّه، و أن جلود المؤمنين تقشعر من أحكام اللّه، فلا و ربك لا تمجه إلّا أسماع المعاندين، و لا تقشعر منه إلّا جلود أعداء الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و
قد ورد في الصحيح عن صادق أهل البيت عليهم السّلام الإمام جعفر بن محمّد عليه السّلام، قال: سألته عن امرأة أحلّت لابنها جاريتها، قال: هو له حلال، قلت: أ فيحلّ له ثمنها؟ قال: إنما يحلّ ما أحلّت له.
فإذا كان هذا ما حكاه اللّه تعالي في كتابه من حليّة ذلك، و إذا كان هذا ما حكاه أهل البيت عليهم السّلام عن جدّهم الأعظم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في إباحته، فكيف يزعم هذا العدو أن ذلك تمجّه أسماع المسلمين بهتانا و زورا.

ما نسبه إلي مقداد صاحب كنز العرفان في تفسير الآية كذب لا أصل له

و أما قوله: «و ذكر مقداد صاحب كنز العرفان الّذي هو أجلّ المفسرين عندهم في تفسير قوله تعالي: هؤُلاءِ بَناتِي
أن لوطا النبيّ عليه السّلام أراد بذلك الإتيان من غير الطريق المعهود».
فيقال فيه: لا غرابة أيها القارئ إذا قلنا لك إن الآلوسي لا يعرف شيئا عن مقداد بن عبد اللّه السّيوري، و لم يقف علي شي‌ء من كتابه، و لم يدر ما فيه، يدلك علي ذلك قوله: (هو أجلّ المفسرين عندهم) و الحال أنه ليس من مفسري الشيعة و إنما هو من مصنّفيهم في آيات الأحكام كما يرشد إليه قوله (رض) في تسمية كتابه: (كنز العرفان في فقه القرآن) و هو عبارة عن استخراج الآيات التي يستفاد منها الأحكام الشرعية و هي تسمي بفقه القرآن، فهذا كتابه (كنز العرفان) بين أيدينا، قال بعد ما أورد الآية الكريمة ما نصّه: (قالوا فيها دلالة علي جواز الوطء في الدبر، و تحرير القول هنا أن نقول: أكثر المخالفين منعوا منه، و أجازه مالك
الآلوسي و التشيع، ص: 157
- إلي أن قال-: و أما أصحابنا فلهم في ذلك روايتان، إحداهما: التحريم و هو
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (محاشّ النساء حرام علي أمتي).
و ثانيتهما: الحلّ، و هو
رواية عبد اللّه في الصحيح عن الصادق عليه السّلام (قال: سألته عن الرجل يأتي المرأة في دبرها؟ قال: لا بأس به- إلي أن قال-: و احتجوا لتأييد ذلك بآيات الأولي: هذه الآية نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّي شِئْتُمْ
[البقرة: 223] و لفظ أنّي للمكان كأين، يقال اجلس أنّي شئت أي أيّ موضع شئت، إن قيل: يحمل علي القبل لكونه موضع الحرث، قلنا: إنما يصح ذلك لو كان الحرث اسما للقبل، و أما إذا كان للنساء فلا، كيف و لو حمل علي القبل فقد لزم تحريم التفخيذ أيضا و لا قائل به، الثانية قوله: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ
[هود: 78] وجه الاستدلال: أنه علم رغبتهم في الدبر فيكون الإذن مصروفا إلي منزل الرغبة، الثالثة قوله: أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ
[الشعراء: 165] و في هذين نظر».
هذا ما قاله الشيخ الجليل مقداد (رضوان اللّه عليه) في كتابه المذكور، فهل يا تري أنه نسب في كلامه هذا إلي أهل البيت عليهم السّلام ما لا يوافق ذوق الآلوسي و طبعه؟
أم يا هل تراه قال عند الآية: (إن لوطا النبيّ عليه السّلام أراد بذلك الإتيان من غير الطريق المعهود) كما يزعم الآلوسي: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ
[النحل: 105] ألم تر أنه كان في مقام الإحتجاج بالآية و ذكر الاحتمالات التي يمكن تطرقها علي الاستدلال بها شأن العلماء في استدلالاتهم علي صحة الأشياء و عدمها، فكيف يزعم أنه نسب إلي أهل البيت عليهم السّلام أن لوطا النبيّ عليه السّلام أراد ذلك الإتيان من غير الطريق المعهود إفكا و زورا.
و أما قوله: «فيا ويلهم من هذا الافتراء و سحقا لهم بسبب هذه المقالة الشنيعاء»، فلسان حال الشيعة في جوابه يقول:
إذا نطق اللّئيم فلا تجبه فخير من إجابتك السّكوت
لئيم القوم يشتمني فيخطئ و لو دمه سفكت لما خطيت
فلست مشاتما أبدا لئيما جزيت لمن يشاتمه جزيت
الآلوسي و التشيع، ص: 158

خصوم الشيعة يجوزون الغناء المحرّم شرعا

قال الآلوسي ص: (35): «و من مكايدهم يقولون إن أهل السنّة يجوزون التغني و قد النهي عنه في الأحاديث، الجواب: هذا محض افتراء و كلام أشبه بالهراء فإن ذلك الغناء عند جميع أهل السّنة حرام، و لكن الشيخ المقتول ذكر في كتاب الدروس أنه يجوز الغناء بشروط في العرس، و تلك الشروط هي أن يكون المستمع إمرأة و ألّا يكون شعرا في الهجاء كذا في شرح القواعد، و هذا ما يقضي منه العجب و يزيد الطرب، و قد طعنوا أنفسهم و أصابهم سهمهم، و مكايدهم لا تحصي و لا تعدّ و لا ترسم و لا تحدّ».
المؤلف: أما قوله: «يقولون إن أهل السنّة يجوزون التغني و هو محض افتراء».
فيقال فيه: لقد تقدم منا أن شيخ الحديث عند أهل السنّة البخاري يقول في صحيحه عن عائشة: (أن جاريتين كانتا تغنيانها و رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مضطجع علي فراشه) و قد سجل جوازه عند أهل السنّة محمّد رضا في مناره بمصر القاهرة: (ج 3 م 17 ص 185) و نسب الحكم بكراهته إلي بعضهم، و كيف يا تري يكون حراما عندهم و هم يزعمون أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم منع أبا بكر (رض) من زجر المغنيتين حينما كانتا تغنيان لابنته عائشة في بيت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حديث البخاري المتقدم ذكره، فليس للآلوسي أن يزعم أن ذلك محض افتراء، و هو لم يقف علي شي‌ء من صحاح أئمته و فقهاء مذهبه و إلّا كان هو المفتري عليهم في نسبة المنع عنه إليهم دون خصومهم.

ليس في الغناء تشويق للعبادة كما يزعم الآلوسي

و أما قوله: «أللّهم إلّا إذا كان فيه تشويق للعبادة».
فيقال فيه: ما قاله إمامه يزيد بن الوليد الأموي علي ما تقدم تسجيله في الدر المنثور: (إن الغناء ينقص الحياء، و يزيد في الشهوة، و يهدم المروءة، و إنه لينوب
الآلوسي و التشيع، ص: 159
عن الخمر، و يفعل ما يفعل السّكر، و هو داعية الزني للنساء) فهو من أشدّ المرغبات للعهور و الفجور و فيه من التشويق إلي الزني و العبث بالنساء ما لا يخفي أمره علي أحد من العالمين، و كيف يا تري يكون فيه تشويق للعبادة و
رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول فيما تقدم في حديثه: (ما رفع أحد صوته بغناء إلّا بعث اللّه إليه شيطانين يجلسان علي منكبيه يضربان بأعقابهما علي صدره حتي يمسك)
و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل)
نعوذ باللّه من الخبط و الخلط و الكذب و الافتراء و سبات العقل.
و أما قوله: «إن الشيخ المقتول أجاز ذلك في الأعراس بشروطه».
فيقال فيه: إن جواز الغناء في الأعراس خاصة شريطة ألّا تكون المغنية من اللّواتي يدخل عليهن الرجال و لا ينطقن بالباطل و لا يلعبن بآلات اللّهو و الطرب فلقيام النص المخصص لعموم تحريمه في خصوص الأعراس بشروطه المذكورة عن أهل البيت عليه السّلام الّذين يجب علي الناس أجمعين الرجوع إليهم في أخذ الأحكام من حلال و حرام نزولا علي أمر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالتمسك بثقليه كتاب اللّه و عترته أهل بيته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في كافة شئون حياتهم العملية، فهو كما تراه يقضي منه العجب و يزيده الطرب من جواز الغناء في الأعراس بشروطه المقررة في الشريعة مستهزئا بحكم اللّه و جاحدا لأمره و آخذا بخلافه لأنه وارد عن ثقل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أعدال كتاب اللّه، و لا يقضي منه العجب و يزيده الطرب عند ما يقول بجواز الغناء إذا كان فيه تشويق للعبادة لأنه وارد عن المنحرفين عن الثقلين المستهزئين بهما: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ
[البقرة: 15].
و أما قوله: (و قد طعنوا أنفسهم و أصابهم سهمهم).
فنقول فيه: ما قاله الشاعر العربي:
و ذي سفه يواجهني بجهل فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا
الآلوسي و التشيع، ص: 161

الفصل السابع الرواية عند الشيعة

الخبر و أقسامه

قال الآلوسي (ص: 36): «الباب الثاني في بيان أقسام أخبار الشيعة: اعلم إنّ أصولها عندهم أربعة: صحيح، و حسن، و موثق، و ضعيف، أما الصحيح:
فكلّ ما اتصل رواته بالمعصوم بواسطة عدل إمامي، و علي هذا فلا يكون المرسل و المنقطع داخلا في الصحيح لعدم اتصالهما و هو ظاهر، مع أنهم يطلقون عليهما لفظ الصحيح كما قالوا روي ابن عمير في الصحيح، و لا يعتبرون العدالة في إطلاق الصحيح، فإنهم يقولون برواية مجهول الحال كصحيحة كالحسين بن الحسن بن أبان فإنه مجهول الحال نصّ عليه الحلّي في المنتهي مع أنها مأخوذة في تعريفه، و كذا لا يعتبر عندهم كون الراوي إماميا في إطلاق الصحيح فقد أهملوا قيود التعريف كلّها، و أيضا قد حكموا بصحة حديث من دعا عليه المعصوم بقوله:
أخزاه اللّه، و قاتله اللّه، أو لعنه اللّه، أو حكم بفساد عقيدته، أو أظهر البراءة منه، و حكموا أيضا بصحة روايات المشبّهة و المجسّمة و من جوّز البداء عليه تعالي، مع أن هذه الأمور كلّها مكفّرة و رواية الكافر غير مقبولة فضلا عن صحتها، فالعدالة غير معتبرة عندهم و إن ذكروها في تعريف الصحيح لأن الكافر لا يكون عدلا، هذا حال حديثهم الصحيح.
أما الحسن: فهو عندهم ما اتصل رواته بالمعصوم بواسطة إمامي ممدوح من غير نصّ علي عدالته، و علي هذا فلا يكون المرسل و المنقطع داخلين في تعريف الحسن مع أن إطلاقه عليهما شايع عندهم، حيث صرح فقهاؤهم بأن رواية زرارة في مفسد الحج إذا قضاه في عام آخر حسن مع أنها منقطعة، و يطلقون لفظ
الآلوسي و التشيع، ص: 162
الحسن علي غير الممدوح، حيث قال ابن المطهّر الحلّي: طريق الفقيه إلي المنذر بن جبر حسن، مع أنه لم يمدحه أحد من هذه الفرقة.
و أما الموثّق: و يقال له القويّ، فكلّ ما دخل في طريقه من نصّ الأصحاب علي توثيقه مع فساد عقيدته، كالخبر الّذي رواه السّكوني.
و بكلمة واحدة يعتقد الآلوسي: أن الشيعة قد أهملوا قيود التعريف التي أخذوها في تعريف أقسام الخبر- إلي أن قال-:
فأعلم أن العمل بالصحيح واجب عندهم اتفاقا مع أنهم لا يعملون بموجبها فهم يقولون ما لا يفعلون، ثم اعلم أن أكثر علماء الشيعة كانوا يعملون سابقا بروايات أصحابهم بدون تحقيق، و لم يكن فيهم من يميّز رجال الإسناد و لا من ألّف كتابا في الجرح و التعديل حتي صنّف الكشي» إلي نهاية ما قاله الآلوسي و ادعاءاته التي ستقف عليها.
المؤلف: و الحق أنه جاهل بخصوصيات الشيعة و جاهل بأحاديثهم و لا يعرف شيئا من كلمات علمائهم و لا يفهم مصطلحاتهم، و إنما كتب هذا و هو علي غير بيّنة من معناه و لا معرفة من مغزاه بل وجده مسجلا في كتبهم فظن و: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ
[الحجرات: 12] أن ذلك عندهم كما أدّي إليه نظره القاصر، وليته رجع قبل هذا في فهم مصطلحاتهم و معاني كلماتهم إلي علماء الشيعة في عصره ليعلّموه غامض ما اشتبه عليه من أقوالهم و يبيّنوا له معاني كلماتهم، لذا تري علي الأكثر أن الجاهلين بأقوال الفطاحل من أفذاذ الشيعة و أعلامهم يوردون عليهم و يطعنون فيهم و هم لا يفقهون شيئا من حديثهم و لا يدركون ما يهدفون إليه في أقوالهم، فيحشرون أنوفهم فيما لا يعرفون و يجادلون بما لا يعلمون، و هذا ما ارتكبه الآلوسي هنا، فإن اعتراضه علي علماء الشيعة أشبه باعتراض البيطار علي المنجم و الزارع علي الفقيه من وجوه:
الأول: قوله: «إن أصول الأخبار عند الشيعة أربعة».
فيقال فيه: إنّ الأقسام التي ذكرها أعلام الدراية في الحديث إنما كان بلحاظ لحوقها لذات الحديث مطلقا أولا و بالذات، و تلك قضية الموضوع في كلّ علم
الآلوسي و التشيع، ص: 163
لأنه إنما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية اللّاحقة لذاته مما هو مفاد كان الناقصة بصورة عامة من غير فرق بين الحديث المتضمن للحكم الشرعي و غيره، فإن البحث فيه عن ذات الخبر بما هو خبر لا بما هو متحمل للحكم الشرعي.

التعريف لأقسام الخبر شامل لأفراده طردا و عكسا

فالتعريف الثابت لكلّ قسم من هذه الأقسام للخبر الّذي جاء الآلوسي علي ذكره شامل لأفراده طردا و عكسا، و ينطبق عليها انطباق الكلّي علي مصداقه و الطبيعي علي فرده، و لا ينافيه عروض ما يحصل بسببه وقوع الاختلاف بين العلماء في تعيين بعض المصاديق الخارجية و كونها داخلة في هذا المفهوم أو غيره، كما هو الشأن في كلّ تعريف جامع مانع، فإنه يقع الاختلاف في فردية أحد المصاديق لأحد المفاهيم بسبب عروض ما يحصل معه الترديد و الاختلاف في الصغري لكلّ واحد منها، لذا كان إطلاق الصحيح عند بعضهم علي الضعيف عند آخرين لمكان ثبوت صحته عنده و أنه من مصاديق مفهوم ذلك التعريف، و علي عكس ذلك تراه عند بعضهم حسنا و هو ضعيف أو قوي عند قوم آخرين، و ذلك كلّه لا ينافي التعريف الجامع المانع لكلّ قسم من أقسام الخبر لأن الجميع متفقون علي صحة الكبري الكلّية و غير مختلفين في شي‌ء من تعريفها و إنما اختلفوا في صغريات الكبريات، فيري بعضهم أن هذا الحديث صغري لتلك الكبري و الآخر يري عكسه، فهذا لا يعني أنهم قد أهملوا قيود التعريف لأقسام الخبر- علي حدّ تعبير الآلوسي- بل هي في مرتبتها محفوظة عندهم في جميع مراتب الاختلاف، و إنما كان اختلافهم في ثبوت تلك القيود الثابتة باليقين للصحيح من الضعيف عند بعضهم و عدمه عند آخرين و كذا الحال في البعض الآخر، هذا كلّه في مرحلة الثبوت أما مرحلة الإثبات، و بعبارة أخري مرتبة العمل بالخبر المتضمن لحكم من الأحكام الشرعية فالضابط فيه عند الشيعة هو: أن كلّ ما كان من الحديث صحيحا بأن رواه العدول، أو كان محفوفا بالقرائن المفيدة للعلم، أو الوثوق و الاطمئنان بصدوره عن المعصوم عليه السّلام فهو حجّة عندهم، و كلّ ما كان ضعيف السند و لم يصل إلي هذه المرتبة، أو صحيح السند و لكن أعرض عنه العلماء من الشيعة
الآلوسي و التشيع، ص: 164
فليس بحجّة في شي‌ء عندهم، لذا تراهم يقولون فيما اشتهر عنهم: إن كلّ حديث و إن كان بأعلي مراتب الصحة مع كونه بمرأي من الأصحاب و مسمع منهم و قد أعرضوا عنه فهو أجدر ضعفا من غير الصحيح.

خلاصة القول في المناط في قبول الخبر عند الشيعة

و خلاصة القول في هذا: إنّ المناط عند الشيعة في قبول الحديث هو عملهم بالحديث لا مجرد كونه صحيحا أو مرويا في كتاب من كتبهم أكثر رواياته صحيحة، فقول الآلوسي: (فقد أهملوا قيود التعريف) كذب لا أصل له لما تقدم منّا أنهم لم يهملوا تلك القيود في أقسام الخبر، و إنما أطلقوا الصحة علي بعضها مع ضعفه أو إرساله أو توثيقه، فهو إما لثبوت صحته عند بعضهم فلا يدخل عنده في الضعيف و غيره كما لا يدخل عند من ثبت عدم صحته في الصحيح و يدخل في الضعيف أو المرسل، أو أنهم أطلقوا الصحيح علي الضعيف أو المرسل و الموثق باعتبار أنه معمول به عندهم، و أطلقوا الضعيف علي الصحيح لمكان إعراض العلماء عنه الموجب لضعفه و وهنه فلا يعمل به، و من ذلك كلّه يتضح لك عدم الملازمة بين صحة الخبر في نفسه و بين وجوب العمل به، و عدم الملازمة بين ضعف الخبر في نفسه و عدم جواز العمل بن عندهم، فالنسبة بين الخبر بالأقسام المذكورة و بين عملهم به عموم و خصوص من وجه، و إطلاق بعض هذه الأقسام علي بعض بلحاظ العمل مجازا لا يخرجه عن معناه الحقيقي، فالقيود التي أخذت في تعريف كلّ قسم من أقسام الخبر مطردة و منعكسة في تعريفه، و العمل بالخبر لم يؤخذ قيدا في تعريف كلّ قسم من أقسامه حتي ينخرم بانخرامه.

العبرة في قبول الخبر القطع بصدوره

الثاني: قوله: «و قد حكموا بصحة حديث من دعا عليه المعصوم».
فيقال فيه: أولا: إن قبول الخبر عند العقلاء ليس منوطا بعدم فسق الراوي أو عدم كفره، و إنما المعتبر في قبوله عندهم كونه محفوفا بالقرائن المفيدة للقطع بصحته
الآلوسي و التشيع، ص: 165
و ثبوت مضمونه مطلقا سواء أ كان مرويا عن المعصوم عليه السّلام أو عن غيره، إذ لا دخل لفسق الراوي و كفر الحاكي في ثبوته و صدوره إذا كان مقطوع الصدور، و لا ملازمة بين كفر ناقل الخبر أو فسقه و بين القطع بصدور مضمونه، و ليس في العقلاء من يحكم بصحة أخبار أولئك من حيث هي أخبار صادرة عنهم، و لا ملازمة بين قبول الخبر و بين كونه صحيحا بالمعني الّذي اصطلحوا عليه في تعريفه، و لا قائل منهم بصحة مثل هذه الأخبار لعدم توفر شروط الصحيح فيها.
ثانيا: من أين علم الآلوسي أن الشيعة يحكمون بصحة أخبار من لعنه المعصوم عليه السّلام أو دعا عليه أو كان من الكافرين، فإنه لا يوجد في الشيعة أحد يحكم بصحة أخبار هؤلاء في شي‌ء مطلقا، أجل إنما حكم بصحة حديث من لعنه الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و حكم بخروجهم عن الدين و مروقهم عن الإسلام خصماء الشيعة الّذين يرجعون إلي معاوية، و ابن النابغة عمرو بن العاص، و الحكم، و مروان و أمثالهم من المنافقين الأولين و الكافرين باللّه العظيم و يجعلونهم طريقا في أخذ أحكامهم و النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قد لعنهم و شدّد اللّعن عليهم كما مرّ عليك البحث عنهم مستوفي، و الشيعة أبرّ و أتقي من أن يجعلوا أولئك طريقا في أخذ أحكامهم، و هم أشدّ الناس حريجة في الدين.
ا

الشيعة لم تحكم بصحة روايات المشبّهة و المجسّمة بل خصومهم حكموا بها

الثالث: قوله: «و أيضا حكموا بصحة روايات المشبّهة و المجسّمة».
فيقال فيه: إن أراد من الحكم بصحة رواياتهم أنهم يحكمون بصحة ما ورد في التشبيه و التجسيم فهو كذب و افتراء لا أصل له، فإنهم ما برحوا يطاردون هذه الأخبار و لا يذكرونها إلّا بالوهن و الشذوذ و الضلال و الكفور، و إن أراد أنهم يحكمون بصحة ما يرويه المجسّم و المشبّه فهو افتراء كسابقه في الافتراء، فإنهم لا يحكمون بصحة أخبارهم في شي‌ء لعدم وجدانهم القيود المعتبرة في معني الصحيح.
نعم يعتمد الجل لو لا الكلّ من خصماء الشيعة علي أحاديث المجسّمة و المشبّهة كمقاتل بن سليمان الّذي هو من أجلّ مفسري خصومهم في تفسير
الآلوسي و التشيع، ص: 166
القرآن، فهذا ابن خلكان يحكي لنا في ترجمته من وفيات الأعيان (ص: 112) من جزئه الثاني، و الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ص: 161) من جزئه الثالث عشر، عن الإمام الشافعي، أنه قال: (الناس كلّهم عيال علي ثلاثة: علي مقاتل بن سليمان، في التفسير … ).
و يقول أبو حاتم في ترجمة مقاتل من وفيات الأعيان (ص: 113) من جزئه الثاني: (كان مقاتل يأخذ علم القرآن من اليهود و النصاري الّذي يوافق كتبهم، و كان مشبّها يشبّه الربّ بالمخلوقين، قال: و كان مع ذلك يكذّب بالحديث).
و قال أبو حنيفة إمام الآلوسي في ترجمة مقاتل من ميزان الاعتدال للذهبي (ص: 119) من جزئه الثالث: (و أفرط مقاتل حتي جعل اللّه مثل خلقه).
و هذا مذهب جماعة من أصحاب الحديث من خصوم الشيعة يعرفون بالحشوية، و قد ذكرهم الشهرستاني في الملل و النحل بهامش الجزء الأول من الفصل لابن حزم في الأشاعرة (ص: 119) و صرّح بأنهم من محدثي خصماء الشيعة، و ذكر منهم: - نصر، و كهمش، و أحمد الهجيمي و غيرهم، في ص: (139).
و قالوا أيضا: (إن معبودهم جسم و لحم و دم و له جوارح و أعضاء من يد و رجل و رأس و غير ذلك، و أنه أجوف من أعلاه إلي صدره و مصمد فيما سوي ذلك، و أن له وفرة سوداء و شعرا قططا، حتي قالوا إنه بكي علي طوفان نوح إلي أن رمدت عيناه فعادته الملائكة، و أن العرش ليئط من تحته كاطيط الرحل الجديد).
و يقول الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ص: 58) من جزئه الثامن: (إن الكرسي الّذي يجلس عليه الربّ ما يفضل منه إلّا قدر أربع أصابع، و أنه ليئط من تحته كاطيط الرحل الجديد) و لم يحكم بضعفه، و قد جرت سيرته علي تضعيف ما هو ضعيف مما يحكيه فيه.
فالحديث الّذي لم يتعرض لضعفه إما حسن أو صحيح أو جيد أو قوي و كلّها حجّة عند أهل السنّة، و كيف يمكنه أن يحكم بضعفه و قد أخرج بمعناه شيخهم و إمامهم في الحديث البخاري في صحيحه علي ما تقدم ذكره من مجي‌ء
الآلوسي و التشيع، ص: 167
اللّه تعالي يوم القيامة في صورة لا يعرفونه بها، ثم يأتيهم بصورته التي يعرفونه بها، حيث يكشف لهم عن ساقه فيسجدون، تعالي اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
فأمثال هؤلاء عند الآلوسي أولي بالاعتماد علي رواياتهم من الاعتماد علي روايات أهل البيت من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و من ذلك يتضح فساد ما جاء به من الهذيان و الهذر الّذي لا يفيد سوي الإكثار من سواد كتابه و إيضاح جهله بأئمة دينه و محدّثي مذهبه.

الخبر الصحيح ليس واجب العمل مطلقا عند الشيعة

الرابع: قوله: «إن العمل بالصحيح واجب عندهم اتفاقا».
فيقال فيه: لقد كشفنا فيما تقدم منا كذبه في هذه الدعوي و غيرها من مدعياته حول الشيعة، و أنهم متفقون علي عدم العمل بالخبر مطلقا و إن كان صحيحا إذا أعرض عنه العلماء، كما اتفقوا علي العمل به و إن كان ضعيفا إذا عمل به أصحابهم من علماء الدين و زعماء المسلمين رضوان اللّه عليهم أجمعين.
الخامس: قوله: «مع أنهم يروون بعض الأخبار الصحيحة و لا يعملون بموجبها».
فيقال فيه: ما تقدم من عدم الملازمة بين صحة الخبر في نفسه و بين وجوب العمل به عندهم لأن الخبر و إن كان بظاهره صحيحا لكن إعراض العلماء عنه يسقطه عن درجة الصحة في مرحلة العمل فلا يكون صحيحا واقعا، و مجرد اتصاله بالمعصوم عليه السّلام بواسطة عدل إمامي لا يكفي في الحكم بصحته بل يعتبر في ذلك أن يكون ما في سلسلة الخبر من الرواة كلّهم عدولا شريطة أن يكون واردا لبيان الواقع لا لغيره.

قوله إن الشيعة يقولون ما لا يفعلون باطل

السّادس: قوله: (فهم يقولون ما لا يفعلون).
فيقال فيه: ليس هذا واردا عليهم لأنهم لا يقولون بوجوب العمل بالخير الصحيح مطلقا و إن خالف الضروري من مذهبهم حتي يقول فيهم الآلوسي: (إنهم
الآلوسي و التشيع، ص: 168
يقولون ما لا يفعلون) و قد ألمعنا إلي أن عدم عمل العلماء بالصحيح ظاهرا المنكشف خلافه واقعا بإعراضهم عنه ليس من الصحيح المصطلح عليه عندهم في شي‌ء حتي يرد عليهم قول الآلوسي الّذي يحرص أشدّ الحرص علي الطعن في أعلام الشيعة الّذين بهم أسست قواعد الشريعة و بهم أقيم عمودها و اتسع رواقها.

بقاء الشريعة بعلماء الشيعة بشهادة علماء أهل السنّة

و قد شهد لهم بذلك غير واحد من أعلام أهل السّنة و رجال درايتهم، فمنهم: الذهبي في ميزان الاعتدال (ص: 4) من جزئه الأول في ترجمة أبان بن تغلب من أصحاب الإمام الصّادق جعفر بن محمّد عليه السّلام فإنه بعد أن نقل توثيقه عن جماعة من أئمة الجرح و التعديل كالإمام أحمد بن حنبل، و ابن معين، و ابن أبي حاتم، قال:
(و قد كثر التشيع في التابعين و تابعيهم مع الثقة و الديانة و الصدق و الأمانة، فلو ردّ ما نقلوه لذهبت جملة الآثار النبوية صلّي اللّه عليه و آله و سلّم انتهي نقل بعضه بالمعني، و أنت تري هذا الناقد للمنقول من أعلام أهل السنّة مع تعصبه المتين و حقده الدفين ما استطاع أن ينكر ما للشيعة من الآثار الجميلة التي تخلّد لهم الذكر إلي أبد الدهر، و أكبرها ثبوت قواعد الشريعة بأصولها و فروعها بسبب نقلهم لأحاديث النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كما قد رجع الكثير من علماء أهل السنّة و فقهائهم في علم الحديث و غيره إلي أعلام الشيعة و فقهائهم.
فهذا أبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام الحنفية جميعا قد أخذ عن الإمام الصّادق جعفر بن محمّد عليه السّلام و قد اعترف الآلوسي بذلك، و ذاك أحمد بن حنبل إمام الحنابلة كلّهم كان شيخه في العلم و الحديث محمّد بن فضيل بن غزوان الضبّي، و قد نصّ علي تشيّعه السّمعاني في كتاب الأنساب و ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب (ص: 406) من جزئه الثالث، و ذلك محمّد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح كان شيخه عبيد اللّه بن موسي العبسي الكوفي و كان من الشيعة، و قد نصّ عليه السّمعاني في الأنساب، و الذهبي في ميزان الاعتدال (ص: 170) من جزئه الثاني، و هؤلاء الترمذي، و أبو داود، و أبو
الآلوسي و التشيع، ص: 169
عروبة، و ابن خزيمة و خلائق كان شيخهم في الحديث إسماعيل بن موسي الفزاري الكوفي و كان من الشيعة نصّ علي تشيّعه الذهبي في (ص: 117) من ميزان الاعتدال من جزئه الأول.
و أولئك العلاء بن صالح، و صدفة بن المثني، و حكيم بن جبير كان شيخهم في الحديث جميع بن عميرة التميمي- تيم اللّه- و كان من الشيعة، نصّ عليه الذهبي في الميزان (ص: 195) من جزئه الأول، وها هم الثوري، و مالك بن مغول، و عبد اللّه بن نمير، و طائفة من تلك الطبقة كان شيخهم الحارث بن حصيرة الأزدي أبو النعمان الكوفي، نصّ عليه الذهبي في (ص: 195) من الميزان من جزئه الأول.
وها هم مسلم، و أبو داود، و البغوي و كثير من طبقتهم، كان شيخهم في الحديث عبد اللّه بن عمر بن محمّد بن أبان بن صالح بن عمير القرشي الكوفي الملقب مشكدانة و كان من الشيعة، نصّ عليه الذهبي في (ص: 95) من الميزان من جزئه الثاني، فراجع ثمة حتي يتجلّي لك بوضوح طغيان الآلوسي و بغيه علي الشيعة حينما رماهم بالكفر و هو يري بأم عينيه إن لم تكن عليهما غشاوة أئمته و فقهاء مذهبه قد رجعوا إليهم في أخذ العلم و الفقه و الحديث.

علماء الشيعة الذين يميّزون رجال الإسناد لا خصومهم

السّادس: قوله: «علي أن أكثر علماء الشيعة كانوا يعملون سابقا بروايات أصحابهم بدون تحقيق، و لم يكن فيهم من يميّز رجال الإسناد و لا من ألّف كتابا».
فيقال فيه: و أنت تري الآلوسي من وراء هذه المفتريات لم يدع لعلماء الشيعة ضلعا إلّا طحنه و ذراه في الهواء، و قد مرّ عليك أنه لو لا علماء الشيعة و علي رأسهم إمامهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و أولاده المعصومون الهداة عليهم السّلام لما عرف أهل السّنة شيئا من الأحاديث و لا أحدا من رجالها، بل لولاهم لانحلّت عري الدين و لذهب عودا علي بدء، فكيف يزعم هذا الآلوسي أنه لم يكن في علماء الشيعة الّذين أحكموا أصول الشريعة و بنوا قواعدها من يميّز
الآلوسي و التشيع، ص: 170
رجال الإسناد، و لو فرضنا جدلا أنه لم يكن فيهم من يميّز رجال الإسناد و لا من ألّف كتابا في هذا الشأن و كان ذلك موجودا (في علماء أهل السنّة) لما جاز علي علماء الشيعة أن يقتنعوا بالجهل بأحوال الرواة و ما عليه يبتني أدلة الدين في تلك القرون الكثيرة، و ليس بعزيز عليهم أن يرحلوا من جميع الأقطار إلي (علماء أهل السنّة) الّذين ميّزوا رجال الإسناد و ألّفوا كتبا فيه- كالآلوسي مثلا- و يتلقوا منهم ما يؤهلهم لتمييز رجال الإسناد و معرفة أحوال الرواة، و ذلك بالطبع أهون عليهم من تعليم مثل أبي حنيفة و أحمد بن حنبل و أمثالهما من أئمة خصومهم بأصول الحديث و الفقه و الحلال و الحرام و الأدلة و الأحكام.

قول الآلوسي: إن أول من ألف في الرجال هو الكشي باطل

السّابع: قوله: «حتي صنّف الكشي و كان مختصرا لم يزد الناظر فيه إلّا تحيّرا».
فيقال فيه: من أين علم الآلوسي أن أول من صنف في الرجال هو الكشي (رض) و مؤلّفوا الشيعة في علم الرجال و أحوال الطبقات كثيرون جهلهم الآلوسي كما جهل غيرهم من علماء مذهبه، فهو يريد أن يجعل جهله أصلا آخر يسير عليه في كتابه.

المؤلفون في الرجال و الدراية من علماء الشيعة

فباللّه عليك أيها القارئ إذا كان الآلوسي لا يعرف رجلا من علماء مذهبه و لا محدّثا من محدّثيهم و لا كتابا من كتبهم فكيف يا تري يستطيع أن يعرف شيئا من أحوال الرواة من الشيعة أو يعرف عالما من أعلامهم أو محدّثا من محدّثيهم أو يعلم شيئا من دخيلة أمرهم، إذن فلا تعجب و أنت تراه ينسب إليهم الإفك و الزور و يتكهن في نتائج أبحاثه العقيمة و أحكامه الظالمة القاسية الأثيمة.
يا هذا، إن أول من صنّف في علم الرجال من الشيعة هو عبيد اللّه بن أبي رافع كاتب أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام قال شيخنا شيخ الطائفة في فهرسته: (له كتاب من شهد معه الجمل وصفين و النهروان من الصحابة، و كان في المائة الأولي من الهجرة).
الآلوسي و التشيع، ص: 171
و منهم هشام بن محمّد بن السّائب الكلبي، و كان في أوائل القرن الثالث من الهجرة، و له في هذا الشأن مؤلفات كثيرة، و منهم محمّد بن عمر الواقدي و كان في القرن الثالث من الهجرة علي ما في (ص: 140 و 144) من فهرست ابن النديم، فراجع ثمة حتي تعلم جهله و خرصه، و أن أول من ألّف في علم الرجال و معرفة رجال الإسناد هم الشيعة و عنهم أخذ علماء أهل السّنة- كما أخذوا عنهم غير هذا علي ما قدمنا- ثم حادوا عنه إلي غيره.
أما مؤلفوا الشيعة في علم الدراية (دراية الحديث) فأول من تصدّي لذلك:
الحاكم أبو عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه النيشابوري المعروف بابن البيع، صنّف فيه كتابا سمّاه (معرفة علوم الحديث) علي ما في كشف الظنون (ص: 129) من جزئه الثاني في باب العين، و قد نصّ علي تشيّعه السّمعاني في كتاب الأنساب، و الذهبي في ميزان الاعتدال (ص: 85) من جزئه الثالث و (ص: 26) من تذكرة الحفاظ من جزه الثالث فتأمل.
و منهم: السّيد العلّامة جمال الدين أحمد بن موسي بن جعفر بن طاوس الحسيني، و منهم السيّد عليّ بن عبد الحميد الحسني، و منهم: المولي السّعيد الشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن عليّ العاملي، و غير هؤلاء من كبار أعلامهم الّذين رجع إليهم علماء أهل السّنة في أخذ علومهم و معارفهم ثم انحرفوا عنهم.

الأدلة عند الشيعة أربعة

قال الآلوسي (ص: 38): «اعلم أن الأدلة عندهم أربعة: كتاب، و خبر، و إجماع، و عقل، أما الكتاب: فهو القرآن المنزّل الّذي لم يبق حقيقا بأن يستدل به بزعمهم الفاسد لأنه لا اعتماد علي كونه قرآنا إلّا إذا أخذ بواسطة الإمام، و ليس القرآن المأخوذ من الأئمة موجودا في أيديهم، و القرآن المعروف غير معتدّ به عند أئمتهم بزعمهم، و أنه لا يليق بالاستدلال به لوجهين، الأول: لما ورد عن عن جماعة من الإمامية عن أئمتهم أن القرآن المنزّل وقع فيه تحريف في كلماته عن مواضعها، بل قد أسقط منه بعض السّور، و أن الموجود الآن في أيدي المؤمنين
الآلوسي و التشيع، ص: 172
هو مصحف عثمان الّذي كتبه، فلا يصحّ التمسك لإثبات العام و الخاص و الظاهر و النص و نحوها.
الثاني: أن نقلة هذا القرآن مثل ناقلي التوراة و الإنجيل، لأن بعضهم كانوا منافقين كالصحابة العظام- و العياذ باللّه- و بعضهم كانوا مداهنين في الدين كعوام الصحابة، فإنهم يتبعون رؤساءهم طمعا في زخارف الدنيا فارتدوا عن الدين كلّهم إلّا أربعة أو ستّة فغيّروا خطاب اللّه، فكما أن التوراة و الإنجيل لا يعمل بهما أصلا كذلك هذا القرآن» إلي نهاية ما قاله و بهتاته و إفكه و عدوانه.

تناقض الآلوسي في قوله الأدلة عندهم أربعة

المؤلف: أيها القارئ إذا كان الآلوسي يعترف أن الأدلة عند الشيعة أربعة فكيف يعود و يقول بعدم كون الكتاب دليلا عندهم و أنه لا يمكن الاستدلال به، فإذا كان لا يمكن أن يستدل به عندهم فكيف يا تري صار من الأدلة لديهم كما يزعم هذا المتناقض الذي لا يعلم بأنه سيعاقب عن كلّ ما يكتب: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواي أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ
[الروم: 10] و كيف لا يكون دليلا عندهم و أنت تراهم يستدلّون به علي خصومهم في إثبات آرائهم و أقوالهم، و لا يخفي بعد ذلك سقوط قوله: (و القرآن عندهم لا يليق بالاستدلال به) لأن الشيعة يعتقدون كما تقدمت الإشارة إليه أن القرآن الّذي هو بأيدي المسلمين اليوم هو المنزّل علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم ينقص منه حرف، و لم يزد فيه حرف و التحريف فيه مخالف للضروري من مذهبهم الإسلامي، و من نسب إليهم تحريفه فلا شك في أنه مفتر عليهم كالآلوسي الذي لا يري محذورا و لا إثما في ارتكاب الزور و البهتان ترويجا لسلعته الفاسدة، و نحن قد أدلينا عليك طوائف من الأحاديث مسجلة في أصح الكتب لخصومهم تنادي بصراحة علي وقوع التحريف فيه و النقص منه.
و نحن نسأل الآلوسي عن تلك الأحاديث: أ هي للشيعة أم لخصومهم؟ و هل الشيعة تذكرها إلّا بالوهن و الشذوذ، و أنها من وضع الخرّاصين لوضوح ثبوتها في صحاح أخصامهم، ثم لو صح ما زعمه الآلوسي من وقوع التحريف فيه لكان
الآلوسي و التشيع، ص: 173
المحرّف له (الخليفة) عثمان بن عفان (رض) لأنه هو الّذي أمر بجمعه و ترتيبه- كما اعترف به في بعض كلماته علي ما تقدم في أوائل الكتاب.
و أما قوله: (و عليه فلا يصح التمسك به علي مذهبهم).
فيقال فيه: إنه إنما لا يصح التمسك به علي مذهب الآلوسي الذي ثبت في صحاح أئمته لا سيما عن إمامه عمر (رض) وقوع التحريف فيه و إسقاط الكثير منه دون خصومه الّذين يعتقدون خلاف ذلك و يرون بطلانه.
و أما قوله: «لأنهم يزعمون أن نقلة هذا القرآن مثل ناقلي التوراة و الإنجيل».
فيقال فيه: إن الشيعة يقولون: إن الّذي جمع القرآن و رتبه كما أنزل اللّه تعالي هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و هو الموجود اليوم بأيدي المسلمين، و لكن لما وصل إلي أيدي الآخرين كعثمان و غيره قدّموا و أخروا بعض الآيات المكّية علي المدنيّة، فلم يكن ترتيبه في جمعه حينئذ علي حسب ترتيبه في النزول علي ما سجل ذلك السّيوطي في إتقانه و غيره من مفسري أهل السنة و ذلك لا يعني تحريفه إطلاقا.
و أما قوله: (كالصحابة العظام فإنهم يعتقدون فيهم أنهم منافقون).
فيقال فيه: سبحانك أللّهم من هذا الافتراء، فإن تعظيم أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم العظام و صحبه الكرام و إجلال شخصياتهم كاد أن يكون من الضروري في مذهبهم، نعم يقولون كما يقول القرآن في آيتي الانقلاب علي الأعقاب و المرود علي النفاق، و تقول الأحاديث المحمديّة الصحاح [1]: إن الصحابة انقسموا علي أنفسهم صنفين، صنف المؤمنين العدول، و صنف آخر غير مؤمن و لا عادل، فانحازت الطائفة الأولي إلي عليّ عليه السّلام و الطائفة الأخري إلي غيره، فإذا كان قول الشيعة بهذا الانقسام في أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم تمسّكا بقوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و نزولا علي حديثه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيهم يعدّ ذنبا فالمسئول عنه كتاب اللّه و خاتم
__________________________________________________
[1] و قد أشار إلي هذا الانقسام البخاري في أبواب صحيحه في أحاديث الحوض، و البطانتين، و لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، كما مرّ عليك تبيانه فتذكر.
الآلوسي و التشيع، ص: 174
الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إذ هما قالا و أخبرا بتكوين ذلك الانقسام بين صفوفهم و هما أعرف بهم من الآلوسي البعيد الّذي كال لهم جميعا و بلا استثناء من المدح و الثناء ما لا يستحقه منهم إلّا القليل، فليس للشيعة ذنب إذا قالوا بذلك الانقسام الّذي حكام اللّه في كتابه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في سنّته كما تقدم البحث عنه مستوفي، و لكن نفسه لم تسمح له بكشف الحقيقة و بيان الصواب خشية أن ينقلع بذلك جذور ما ذهب إليه، فإن المجاهرة بالحقائق المختبئة يقضي علي أمهات عقائده بالدمار و ينسف ما بناه سلفه الراحل من أساسه: أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
[التوبة: 13].
الآلوسي و التشيع، ص: 175

الفصل الثامن بحوث في الإمامة

لا اختلاف بين الشيعة في أصل الإمامة

قال الآلوسي (ص: 38): بعد أن ذكر أمورا تعدّ من المعلومات الأولية من ارتداد جمهرة الصحابة علي أعقابهم بعد التحاق النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالرفيق الأعلي، و عدم اعتبار الشيعة لناقلي الخبر من خصومهم المنحرفين عن أهل البيت عليهم السّلام قال:
«و بين الشيعة إختلاف كثير في أصل الإمامة و تعيين الأئمة و عددهم، و لا يمكن إثبات قول من أقوالهم إلّا بالخبر، لأن كتاب اللّه لا اعتماد عليه و مع ذلك فهو ساكت عن هذه الأمور، فلو توقف ثبوت الخبر و حجيّته علي ثبوت ذلك القول لزم الدور الصريح و هو محال».
المؤلف: أولا: قوله: «و بين الشيعة إختلاف عظيم في أصل الإمامة».
فيقال فيه: الشيعة لا يشكّون في وجوب أصل الإمامة، لقوله تعالي:
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلي نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الأنعام: 54] و لا ريب في أن الإمام من الرحمة، و قوله تعالي: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدي
[الليل: 12] و الإمام من الهدي قطعا فيلزم، و في القرآن يقول اللّه تعالي لعباده: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
[النساء: 59] و هذه آية ثالثة علي وجود من تجب إطاعته كإطاعة اللّه و إطاعة رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في كلّ زمان، و الّذي يجب إطاعته كإطاعة اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يكون إلّا الإمام المعصوم عليه السّلام و هو ثابت بنصّ كتاب اللّه.
أما ثبوته بحديث رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم
ففي الصحيح المتفق عليه بين الفريقين، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة
الآلوسي و التشيع، ص: 176
جاهلية) [1]
- أي ميتة كفر- فكيف تختلف الشيعة في أصل الإمامة و هي من الضروريات الأولية عندهم، و قد رتب نبيّهم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي التخلّف عنه أكبر محذور و هو الميتة الجاهلية، نعم إنما اختلف فيه من مات و لم يعرف إمام زمانه مثله و غيره من القاسطين و الناكثين و المارقين و أضرابهم من المنافقين الّذين ماتوا و ليس في عنقهم بيعة و خرجوا عن الطاعة، و كانوا يتبصبصون حول العروش و التيجان طمعا بزخارف الدنيا و حطامها، فلم يعترفوا بإمام الأمة من عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في عصورهم، و قد نصّ علي إمامته عليهم كتاب اللّه و السّنة المتواترة بين الأمة كما يأتي.

الشيعة لم تختلف في تعيين الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام

ثانيا: قوله: «و بينهم اختلاف في تعيّين الأئمة».
فيقال فيه: الشيعة لا يختلفون في تعيّين أئمتهم بعددهم و أسمائهم الّذين نصّ عليهم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالخلافة بعده.
و قد حكي ذلك جماعة من حملة الحديث من أعلام أهل السنّة، و دوّنوه في صحاحهم و مسانيدهم عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كتمه عداوة للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و حقدا علي آله عليه السّلام و جحودا لما جاء به صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.

ناقلوا الحديث في تعيين أئمة أهل البيت من أعلام أهل السّنة

فمنهم: حافظهم المعروف ابن أبي الفوارس في أربعينه، و هو حديث طويل نصّ فيه النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي أن أئمة الهدي بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إثنا عشر إماما، أولهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و آخرهم المهديّ عليه السّلام، و منهم شيخ الإسلام إبراهيم بن محمّد الحمويني في مناقبه، و منهم شهاب الدين بن عمر الهندي في مناقبه، و منهم عبد اللّه بن أحمد المعروف بابن الخشاب في كتابه الّذي
__________________________________________________
[1] أخرج هذا الحديث الحميدي في جمعه بين الصحيحين صحيح مسلم و صحيح البخاري، و قد سجّلا نحوهما في صحيحيهما كما مرّ ذكره فلتراجع.
الآلوسي و التشيع، ص: 177
وضعه لبيان تاريخ تولّد أئمة أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و منهم نور الدين عليّ بن محمّد المكّي المالكي المعروف بابن الصباغ في فصوله المهمة، و منهم حافظهم الكبير الگنجي محمّد بن يوسف بن محمّد في كتابه البيان و قد طبق ما ثبت من النصوص الموجودة في المهدي و آبائه عليهم السّلام علي ما تقول الشيعة، و منهم موفق ابن أحمد المكّي الحنفي في مناقبه، و منهم قطب العارفين الزهري في الفتوحات المكية (ص: 128) من الجزء الثاني من اليواقيت و الجواهر للعارف الشعراني في المبحث (65) و غير هؤلاء من مشاهير حملة الحديث من أهل السنّة، فراجع ليتجلي لك واضحا كذبه و زوره علي الشيعة بنسبته الاختلاف إليهم في تعيين أئمتهم بعددهم و أسمائهم أئمة الهدي و مصابيح الدجي من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
نعم إنما خالفهم و اختلف فيهم هو و غيره من المنحرفين عنهم و المنقطعين إلي أعدائهم بغضا للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و آله عليهم السّلام و في الحديث الّذي أخرجه الحاكم في مستدركه (ص: 149) من جزئه الثالث، و صححه علي شرط
البخاري و مسلم، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، و أهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة- اختلفوا فصاروا حزب إبليس).
ثالثا: قوله: «و لا يمكن إثبات قول من أقوالهم بالخبر».
فيقال فيه: أولا: «إذا كان لا يمكن إثبات قول من أقوالهم بالخبر فلا يمكن أيضا إثبات قول من أقوال النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالخبر، فإن صح هذا صح ذلك و هذا باطل و ذلك مثله باطل».
ثانيا: إن إثبات قولهم عليهم السّلام الّذي هو من قول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالخبر أولي من إثبات الأقوال التي ينسبها الدجالون إلي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أمثال كعب الأحبار، و مروان بن الحكم، و معاوية بن أبي سفيان و يزعمون أنها أحاديث صادرة عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بهتانا و زورا، و كم من هؤلاء كذّبوا علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فنسبوا إليه ما يتبرأ منه الدين الحنيف.
رابعا: قوله: «لأن كتاب اللّه لا اعتماد عليه».
الآلوسي و التشيع، ص: 178
فيقال فيه: إن كان ثمة من لم يعتمد علي كتاب اللّه في أحكام دينه فهم خصوم الشيعة الّذين قالوا في الدين بالرأي و الهوي، و أنكروا أحاديث رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم تعصبا، و ضربوا بكتاب اللّه عرض الجدار بغير هدي، و هذا هو الّذي فتح لهذا العدو و غيره من المضلّين باب تكفير المؤمنين الّذين لا يقبلون أهواءهم و لا ينزلون عند مدّعياتهم، و هو الّذي دعاه إلي أن ينبز الشيعة بالكفر و يعزو إليهم النفاق، و هو الّذي أدي إلي اعتياد الناس أن يأخذوا مسائل دينهم بدون وصلها بأصلها من كتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هذا لعمر إلهك هو القطع الفظيع لحبل اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بين المؤمنين.
أما شيعة آل محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فإنهم ما برحوا يأخذون مسائل الدين و أحكام الشريعة من الثقلين كتاب اللّه و عترة نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته، و يواصلون أحكامهم بأصلها من حبل اللّه المتين و صراطه المستقيم، و لا يرجعون إلي غيرهم في أقوالهم و أفعالهم مطلقا، و تشهد بذلك أعمالهم في شتّي أدوارهم بمختلف أجيالهم.
خامسا: قوله: «فلو توقف ثبوت الخبر و حجيّته علي ثبوت ذلك القول لزم الدور»، فمدخول:
أولا: بالنقض، بأن نقول: لا يمكن إثبات قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إلّا بالخبر، فلو توقف ثبوت الخبر و حجّيته علي ذلك القول لزم الدور، فما يكون جوابه هنا يكون هناك.
ثانيا: إن ثبوت الخبر من حيث هو لا يتوقف علي ذلك القول، و إنما الموقوف عليه هو الحجيّة و هو غيره، فحجيّة الخبر لا تتوقف علي ذلك القول الّذي أشار إليه و زعم لزوم الدور فيه، و إنما تتوقف حجيّته علي الدليل القطعي من الكتاب و العقل و الأخبار المتواترة و الإجماع القطعي لا منه كما توهمه.
سادسا: قوله: «و الأدلة عندهم كتاب و خبر».
فيقال فيه: ليس في الشيعة من يقول بهذه المقالة، و إنما الموجود في كتبهم، و المصرّح به في أقوالهم المشهورة: أن الأدلة، كتاب، و سنّة، و إجماع،
الآلوسي و التشيع، ص: 179
و عقل، فهو حرّف ذلك فوضع مكان السنّة (الخبر) ليوهم أن السّنة ليست من الأدلة عند الشيعة، في حين أن السّنة عندهم هي: قول المعصوم عليه السّلام أو فعله أو تقريره، أما الخبر فهو الحاكي لها و هي الأخري غيره كما مرّ ذكره.

الإجماع و ما يعتبر في حجيته عند الشيعة

قال الآلوسي (ص: 38): «أما الإجماع فباطل أيضا، لأن كونه حجّة ليس بالأصالة بل لكون قول المعصوم في ضمنه، فمدار حجيّته علي قول المعصوم لا علي نفس الإجماع، و ثبوت عصمة المعصوم و تعيّينه إما بخبره أو بخبر معصوم آخر فقد جاء الدور، و أيضا إجماع الصدر الأول أو الثاني يعني قبل حدوث الاختلاف في الأمة غير معتبر، لأنهم أجمعوا علي خلافة أبي بكر و عمر (رض) و حرمة المتعة، و تحريف الكتاب، و منع ميراث النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و غصب فدك من البتول، و بعد حدوث الاختلاف في الأمة و تفرقهم بفرق مختلفة كيف يتصور الإجماع و لا سيّما في المسائل الخلافية المحتاجة إلي الاستدلال» إلي نهاية أساطيره.
المؤلف: أولا: قوله: «أما الإجماع فباطل».
فيقال فيه: إن أراد من بطلانه عدم صحة إطلاق الإجماع علي اتفاق الجماعة التي علم دخول المعصوم فيهم لوجود مناط الحجيّة فيه كما يعتقد الشيعة من عدم خلوّ عصر من العصور عن المعصوم عليه السّلام و قد تقدم ثبوت ذلك من طريق خصوم الشيعة علي سبيل القطع مما لا سبيل إلي إنكاره ففاسد جدا، لصحة إطلاق الإجماع علي مثل ذلك شرعا و لغة، و في القرآن يقول اللّه تعالي:
وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ
[يوسف: 15] و المجمعون يومئذ هم أخوة يوسف عليه السّلام لا غيرهم.
و في اللّغة: أجمع القوم علي الأمر اتفقوا عليه، و يطلق علي الكثير و القليل فالموضوع له (الإجماع) في أصل وضع اللّغة هو ما يعم الكثير و القليل لا خصوص الأخير، و إن أراد من بطلانه عدم كونه اصطلاحيا ففاسد أيضا، لأنه إنما يكون باطلا علي مذهب مخالفي الشيعة القائلين بأن الإجماع هو اجتماع جميع
الآلوسي و التشيع، ص: 180
علماء الأمة علي أمر أو أمور في وقت واحد و إن كان فيهم من لا دليل علي اعتبار قوله، بل و إن قام الدليل علي عدم اعتباره بأن كان من الكاذبين أو المنافقين أمثال المنقلبين علي الأعقاب و المتمردين علي النفاق في المدينة، كما دلّ عليه كلّ من آية الانقلاب علي الأعقاب و المرود علي النفاق، و حديث الحوض و البطانتين المرويّين في الصحيحين و غيرهما من الصحاح عندهم.
أما في اصطلاح الأصوليّين من الشيعة فيكفي في تحققه اتفاق طائفة من علماء الشيعة علي أمر ديني علم دخول قول المعصوم عليه السّلام في أقوال المجمعين، بحيث يكون دلالته عليه بالتضمن، و إن أراد من بطلانه عدم حجيّته فأشدّ فسادا من سابقيه، إذ كيف لا يكون حجّة و قد تضمن قول المعصوم عليه السّلام الّذي لا يجوز عليه الخطأ، و إنما لا يكون حجّة إجماع من خلا إجماعهم من قول المعصوم عليه السّلام و دخل فيه الدجالون و المنافقون كما تقدم منا ذكره مفصلا.

عصمة الأئمة من أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ثابتة بالأدلة الثلاثة

ثانيا: قوله: «و ثبوت عصمة المعصوم و تعيينه إما بخبره أو بخبر معصوم آخر فقد جاء الدور».
فيقال فيه: أما عصمة الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام فليست بأخبارهم و إن كانت لعمر الحق تكفي في إثباتها عند من عرفهم عليهم السّلام حق معرفتهم، و لكننا نبرهن علي عصمتهم بالأدلة القاطعة و البراهين السّاطعة من المجمع عليها بين الفريقين من الكتاب و السنّة و العقل التي يجب علي كلّ من الفريقين الوقوف عندها و النزول علي حكمها، و لا محيص لهما عن الأخذ بها و العمل علي طبقها و التي لا يجحدها إلّا الّذي لربّه كنود.
أما من الكتاب فآيات، منها قوله تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
[النساء: 59] فإنه يفيد عصمة أولي الأمر، و تلك قضية وحدة السّياق و تساوي المتعاطفات في الحكم، و ذلك لأن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم معصوم فوجب عصمة أولي الأمر، و أولوا الأمر في منطوقها لا ينطبقون علي غير الأئمة من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فهم صغراها و كبراها، فإن غيرهم
الآلوسي و التشيع، ص: 181
لم يكن معصوما بالإجماع، و قد اعترف الفخر الرازي في تفسير هذه الآية من تفسيره الكبير و غيره من أعلام أهل السّنة بأن الآية تريد عصمة أولي الأمر لأن من تجب طاعته كطاعة اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يجب أن يكون معصوما علي أساس أن اللّه تعالي أمر بطاعته علي سبيل الجزم و الإطلاق، و من أمر اللّه بطاعته علي سبيل الجزم و الإطلاق يجب أن يكون معصوما، فأولوا الأمر في منطوقها معصومون فهي لا تريد إلّا عصمة الأئمة من البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا سواهم لوضوح بطلان عصمة غيرهم من الأمة إجماعا و قولا واحدا.
و منها، قوله تعالي: وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ
[الأعراف:
181]، و تقريب الاستدلال بهذه الآية علي عصمة الأئمة من البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هو: أنهم عليهم السّلام يهدون بالحق و به يعدلون و لو بقرينة إطلاقات أحاديث السّفينة، و باب حطّة، و النجوم، و
حديث: (فليتولّ عليّا و ذريته من بعدي، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدي و لن يدخلوكم باب ضلالة)
كما مضي، فترك التفصيل مع إطلاق الحكم بأنهم يهدون إلي الحق مطلقا دليل علي عصمتهم، و بعبارة أخري أن كونهم يهدون بالحق مطلقا يجب أن يكون ذلك في سائر أوقاتهم و في مختلف أحوالهم و تلك قضية إطلاق الآية و هذا هو معني عصمتهم، و أنهم لا يقولون إلّا الحقّ و إلّا لم تكن من الهداية بالحق في شي‌ء، و قد ثبت أنها من الهداية به مطلقا فثبت أنهم معصومون.
فأهل البيت عليهم السّلام يهدون بالحقّ و به يعدلون مطلقا، و كلّ من يهدي بالحق مطلقا مصيب مطلقا، و كلّ مصيب معصوم، فالنتيجة من هذا الشكل المنطقي أن أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم معصومون، و دليل صغري القياس قطعي، و أما كبراه فلأنه لو جاز عليهم الخطأ لجاز عليهم الضلال خطأ و لا شي‌ء من الضلال خطأ، يكون من الهدي بالحقّ، و قد ثبت أنهم يهدون بالحقّ مطلقا فثبت أنهم معصومون عليهم السّلام.
و منها، قوله تعالي: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
[النحل: 43] و وجه الاستدلال بهذه الآية هو: أن المراد من أهل الذكر في منطوقها خصوص
الآلوسي و التشيع، ص: 182
أهل العلم و أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هم المعنيون به دون الآخرين، و ذلك لأن وجوب السّؤال يستلزم وجوب الجواب و وجوب الجواب، يستلزم وجوب العمل مطلقا، و وجوب العمل مطلقا بجواب المسئول يقتضي عصمته، و ذلك لأنه لو لم يكن المسئول معصوما لأجاب بالخطإ و لا شي‌ء من الخطأ يجوز العمل به، و من حيث أنه يجب العمل بالجواب مطلقا كما يقتضيه إطلاق الآية علمنا أنهم معصومون، و لا قائل من الأمة بعصمة غيرهم عليهم السّلام إطلاقا.
و إن كنت في شك مما أدلينا عليك فدونك السنّة المتفق عليها بين الفريقين فإنها توضح لك ما عسي أن تجده في الآيات من الإجمال علي عصمة عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته عليهم السّلام.

دلالة السنّة علي عصمة الأئمة من البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

فمن السنّة روايات: منها حديث الثقلين المتواتر نقله عن نيف و ثلاثين صحابيا علي رواية الترمذي في سننه الصحيحة، و قد اعترف الآلوسي بإجماع الفريقين علي ثبوت صدوره و صحته عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فهو من الأدلة القطعية علي إثبات عصمتهم عليهم السّلام و هو الّذي يكشف لك غامض ما في الكتاب من الآيات التي ترمز إلي عصمتهم عليهم السّلام من
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إنّي مخلّف فيكم الثّقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا، و لن يفترقا حتي يردّا عليّ الحوض).
و هو نصّ صريح في عصمتهم عليهم السّلام ذلك لأن أهل البيت مع القرآن دائما، و كلّ من كان مع القرآن دائما مصيب دائما، و كل مصيب دائما معصوم، فالنتيجة من هذا القياس أن أهل البيت عليهم السّلام معصومون؛ و ذلك لأن أهل البيت يأمرون بالصواب مطلقا، و كلّ من يأمر بالصواب مطلقا معصوم فأهل البيت معصومون، و دليل الصغريّين من القياسين حديث الثقلين، أما دليل الكبريّين: فلأنه لو جاز عليهم الخطأ لفارقوا القرآن، إذ لا شي‌ء من القرآن بخطإ، و من حيث أنهم لم يفارقوا القرآن أبدا علمنا أنهم معصومون، و لأنه لو جاز عليهم الخطأ لجاز التمسك بهم في الأمر بالخطإ، و لا شي‌ء من الخطأ يجوز التمسك به مطلقا، و لمّا
الآلوسي و التشيع، ص: 183
علمنا وجوب التمسك بهم مطلقا من ظاهر إطلاق الأمر علمنا أنهم معصومون عليهم السّلام و حسبنا من السنّة هذا القدر لأنّا لو أردنا استقصاء ما جاء من الأحاديث في عصمتهم عليهم السّلام لضاق به الكتاب.

دلالة العقل علي عصمة الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام

أما العقل فتقريره من وجوه.
الأول: إنّ الحاجة لنصب الإمام بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إنما هو جواز الخطأ من الأمة، لأن غير المعصوم مطلقا قد يخطئ فيحصل بسبب ذلك الجهل و الضلال في كثير من الأحكام المتعلقة بأمور الدين و الدنيا، فلو جاز الخطأ علي الإمام أيضا لاحتاج إلي إمام آخر فيتسلسل أو يدور و هما محالان عقلا، فلا بد أن ينتهي إلي إمام لا يجوز عليه الخطأ و هو الإمام في الأصل.
الثاني: إن الأئمة حافظون للشريعة و قوامون بها، فيجب أن يكونوا معصومين لأن غير المعصوم يخطئ فيؤدّي خطأه إلي عدم إقامتها علي الوجه الّذي أمر اللّه به، كما أن الاجتهاد يخطأ فيؤدي إلي إضاعتها لا حفظها و رعايتها، و من حيث أن حفظها واجب فالعصمة أيضا واجبة، و ليس في الأمة من يدّعي العصمة لغير العترة من آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فوجب أن يكونوا هم الأئمة المعصومين عليهم السّلام لا سواهم.
الثالث: لو كان الإمام يخطأ لوجب الإنكار عليه، و هو مناف لأمر الطاعة في قوله تعالي: وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
[النساء: 59] و قد تقدم أن تخصيص الآية بغير المعصية غير ممكن؛ و ذلك لأن المعصية لا تعرف إلّا من طريقه، فلو فعل شيئا أو أمر به وجبت إطاعته سواء أ كان ذلك في الواقع واجبا أو حراما، أما الأول فواضح، و أما الثاني فلدلالة الأمر علي الوجوب اللازم إطاعته فيه، و اللّازم باطل فتجب عصمته مع أن الآية صريحة في الإطلاق و آبية عن التخصيص، علي أنه موجب للتفكيك بين المتعاطفات من غير دليل و هو باطل، كما أن الإمام لو عصي لانحطّت بذلك درجته فيكون أقل درجة من العوام، لأن عقله أقوي و معرفته باللّه أكثر و عقابه أعظم و هذا باطل لا يجوز علي الإمام مطلقا.
الآلوسي و التشيع، ص: 184
ثالثا: قوله: «أو بخبر معصوم آخر فقد جاء الدور».
فيقال فيه: لا دور في إخبار المعصوم بعصمة معصوم آخر، و ذلك لعدم التوقف من الجانبين في شي‌ء، لأن الّذي أخبر بعصمتهم هو النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فعصمتهم موقوفة علي إخبار النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عصمته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم موقوفة علي إخبار اللّه تعالي بعصمته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا علي إخبارهم عليه السّلام لكي يستلزم الدور، هذا كله من جهة النصّ الشرعي، أما من جهة العقل فلا دور مطلقا لأن المعصوم الّذي أخبر بعصمة معصوم آخر قد ثبتت عصمته بدليل العقل لا بإخبار المعصوم، و لو كان خبر المعصوم بعصمة معصوم آخر يستلزم الدور- كما زعم- لكان إخبار اللّه تعالي بعصمة نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أيضا يستلزم الدور و بطلانه واضح، نعم إنما يلزم الدور في اعتبار خلافة المستخلفين بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ذلك لأن اعتبار خلافتهم موقوف علي اعتبار قول من أجمعوا عليهم، فلو توقف اعتبار قولهم علي اعتبار خلافتهم لزم الدور و علي عكسه كذلك دور صريح.

إجماع الصدر الأول و ما فيه

رابعا: قوله: «أيضا إجماع الصدر الأول و الثاني- يعني قبل حدوث الاختلاف في الأمة-»، فباطل من وجهين:
الأول: إن أول إختلاف حدث في الأمة و منه نشأت الاختلافات بينهم هو الاختلاف الّذي حدث يوم السّقيفة (سقيفة بني ساعدة) الّذي كثر فيه اللّغط و النّزاع، و قام فيه علي ساق يبتغون بذلك عرض الحياة الدنيا فانتزعوا الأمر من أهله اختلاسا، و قول الآلوسي: (و قد أجمعوا علي خلافة أبي بكر) كذب و انتحال لا أصل له إذ كيف يا تري أجمعوا عليه- لو سلّمنا جدلا صحة مثل هذا الإجماع- و قد تخلّف عن بيعتهم عيون الصحابة و أفذاذهم و في طليعتهم إمام الشيعة و سيّد أهل البيت عليهم السّلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فإنه عليه السّلام لم يبايع أحدا منهم قط، و تخلّف عنها سعد بن عبادة فإنه لم يبايع أحدا من أبي بكر و عمر (رض) حتي قتل غيلة بحوران علي ما سجّل ذلك كلّ من جاء علي ذكره من أهل التاريخ و السيرة كالطبري و ابن الأثير في تاريخيهما و غيرهما من مؤرخي أهل
الآلوسي و التشيع، ص: 185
السنّة، كما تخلّف عنها قومه من الخزرج و جماعة من قريش، و إنما بايعه الخليفة عمر (رض) الّذي كان السّابق إليها و المحرّك الكبير فيها، و وافقه علي ذلك جماعة من أحلاس الدنيا و طلّاب أطماعها، فلم يكن هناك إجماع و لا بعض إجماع.
و معلوم أنه بعد ما استتب الأمر لهم و تربعوا علي ذلك الدست الّذي خصّه اللّه لوليّه عليه السّلام لا لهم، أخذوا يطاردون الّذين تخلّفوا عن بيعتهم فأجبروهم علي الدخول معهم حتي قتلوا الصحابي الكبير مالك بن نويرة و جماعة من قومه إزاء أطماعهم، و لم يمتنع عنها إلّا عليّ عليه السّلام و بنو هاشم و سعد فما استطاعوا علي قهره لكثرة أقوامه من الخزرج فخافوا فتنتهم فراجع (ص: 342) من استيعاب ابن عبد البر من جزئه الثاني، (ص: 9) من الإمامة و السياسة للمؤرخ الكبير عند أهل السنّة عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة من جزئه الأول، و (ص: 188) من تاريخ الخميس من جزئه الثاني، و آخر (ص: 37) من صحيح البخاري من جزئه الثالث في باب غزوة خيبر من كتاب المغازي، لتعلم ثمة كيف ينعقد إجماع مثل هذا و قد تخلّف عنه وجوه أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام و دخل الباقون فيما دخل فيه الأولون- علي فرض دخولهم- كرها و قهرا.
و إنما يصح لو صح شي‌ء من ذلك إذا دخلوا فيما دخل فيه الأكثر علي فرضه طوعا و رغبة، علي أن احتمال رجوع المتقدم قبل دخول المتأخر موجب لانحلال الإجماع لو كان ثمة إجماع و لو من بعضهم، ثم كيف يصح هذا الإجماع و في المجمعين أقوام مردوا النفاق و انقلبوا علي الأعقاب، و فيهم بطانة الشرّ كما اقتص بذلك خبرهم القرآن و أخبر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بوجودهم بأفصح بيان، فأي أثر يا تري لهذا الإجماع الملفق من هؤلاء في إثبات خلافتهم (رض) أجل و أي دليل دلّهم علي اعتبار قول عمر (رض) و من وافقه عليه إذ ليس في كتاب اللّه آية و لا في السنّة رواية تدل علي اعتبار أقوالهم في شي‌ء.
و لو فرضنا جدلا أن الخلافة فرع من الفروع و ليست بأصل من أصول الإسلام- كما يزعمون- فلا يجوز للأمة أو لآحادها أن تشرّع أحكاما و فروعا من عند أنفسهم، فهل يا تري أنهم شركاء اللّه في تشريع أحكامه من حلاله و حرامه
الآلوسي و التشيع، ص: 186
و سائر أحكامه؟ أو يا هل تري قصّر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في تبليغ رسالته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فترك دينه ناقصا ليكمّلوه بإجماعهم، و القرآن يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
[المائدة: 3].
و قد ثبت في صحاح القوم أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم وقف فيهم موقفا بيّن لهم جميع ما يحتاجون إليه إلي يوم القيامة، و ثبت بالإجماع
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (حلال محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حلال إلي يوم القيامة، و حرامه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حرام إلي يوم القيامة)
و ليس في الأمة من يجهل حدوث بيعتهم لأبي بكر (رض) في السّقيفة بعد وفاة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عدم كونها من دينه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لو كانت من دينه أو هداه لبيّنها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قطعا، و لحثّ الأمة علي اعتناقها و المسارعة إليها كما أمرهم بالبيعة لعليّ عليه السّلام في يوم الغدير، و أوجب عليهم المسارعة إلي التسليم عليه بإمرة المؤمنين كما دلّت عليه أحاديث الفريقين المتواترة.
بل لو كانت بيعة السّقيفة من الدين لدلّ النّاس عليها و لأقام أبا بكر (رض) علما في حياته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لئلّا يقع الاختلاف بينهم بعد وفاته، و كيف يرضي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن يترك شيئا يعلم أنه من دينه بل في تركه ذهاب الأحكام و درس الشريعة و تعطيل الحدود و لا يبيّنه لهم أو يوكل أمره إليهم مع ما هم عليه من إختلاف الطباع و تضارب الآراء و تصادم الأهواء و جهلهم بالصالح و غيره، و يخالف بذلك ربّه حيث يقول تعالي في الآية (123) من سورة هود: وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ
[هود: 123] و هو يفيد أن أمر الخلافة و غيره يعود إليه تعالي لا لغيره مطلقا، لا سيّما إذا لا حظنا كلمة (كلّ) في الآية- و التي ستتلي عليك بعدها- الدالّة علي الاستغراق و الاستيعاب.
فليس لهم و لا من حقّهم أن ينصّبوا لأنفسهم إماما و يخالفوا اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك، و قال تعالي: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‌ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ
[آل عمران: 154] و لا شك في أن أمر التكوين و التشريع في الآيتين يرجع إلي اللّه تعالي وحده لا شريك له في ذلك من أحد من العالمين أجمعين، و منه أمر الإمامة فإنه من أعظم الأمور و عليه تبتني مصالح العباد و البلاد الدينية و الدنيوية، و ذلك كلّه للّه وحده ليس لأحد أيّا كان نفيه أو إثباته إطلاقا، ألا
الآلوسي و التشيع، ص: 187
تراه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بأمّ العين قد أقام سيّد أهل بيته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إمام الشيعة عليّا إماما و هاديا عليه السّلام عليهم في ذلك اليوم لئلا يختلفوا فيه من بعده، و قد بايعه جميع المهاجرين و الأنصار و كانوا يومئذ يزيدون علي عشرين و مائة ألف.
و منهم هذا الّذي يزعم الآلوسي إجماع أهل السّقيفة عليه حتي قال (الخليفة) عمر (رض): (بخ بخ لك يا أبا الحسن لقد أصبحت مولاي و مولي كلّ مؤمن و مؤمنة) علي ما سجّله الحافظ الخوارزمي في مناقبه ص: (94) و (97) و الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ص: (290) من جزئه الثامن و غيرهما من حفاظ أهل السنّة و أعلامها، و هي من الشواهد الواضحة علي إمامة عليّ عليه السّلام و مبايعة القوم له عليه السّلام بالخلافة في ذلك اليوم، و لكن بعد هذا غلب الهوي لحبّ الرئاسة و حمل عمود الخلافة فتجاوزوا بها إلي غيره للمال الكثير و الجاه العظيم و الغل الثابت في قلوب جماعة للأمير عليه السّلام.
و جملة القول: إنه ليس بالممكن و لا بالمعقول أن يترك النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أمته تأخذ في شعاب الجهل و تسلك أودية الضلال بعده- علي قرب عهدهم بالكفر- و لا ينصّب عليهم من يقوم مقامه في غيبته الدائمة، كما لا يعقل أن يحيل أمر ذلك إليهم مع علمه بأن ذلك سيكون معرّضا للفتن و الخلاف لاختلافهم في الميول و الاتجاهات، لا سيّما أن المرأ حريص علي حبّ الجاه العريض و حبّ الإمارة، كما لا يرضي لأمته إمامة الجاهل بأحكام شريعته فيحكم فيها بالرأي و النظر، فهذا ابن حجر يحدّثنا في صواعقه في الفصل الثالث من الباب الأول الّذي عقده لخلافة أبي بكر (رض) ص: (16) [1] عن ميمون بن مهران، قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب اللّه فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضي به، و إن لم يكن في الكتاب [2] و علم من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك الأمر سنّة قضي بها، فإن أعياه
__________________________________________________
[1] من الطبعة الجديدة التي كانت سنة 1375 ه و قد ناقشنا ابن حجر الحساب بدقة في كتابنا (نقض الصواعق المحرقة لابن حجر) و أرجعنا كل طعنة من طعناته إلي نحره، يجدر بالباحثين الوقوف عليه.
[2] كيف يصح نسبة خلو الكتاب من ذلك و اللّه تعالي يقول في وصف كتابه: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُديً وَ رَحْمَةً وَ بُشْري لِلْمُسْلِمِينَ
كما في الآية (89) من سورة النحل، فتأمل.-
الآلوسي و التشيع، ص: 188
خرج فسأل المسلمين، و إن أعياه ذلك جمع رءوس الناس و خيارهم و استشارهم، فإن أجمع أمرهم علي رأي قضي به، و كان عمر يفعل ذلك.
و نحن نقول لو لم يجتمع رأيهم علي شي‌ء فما ذا تراه يصنع فهل يتوقف؟ و في توقفه هضم الحقوق و تعطيل القوانين و فساد سوق المسلمين، أو تراه يقول و يقولون برأيهم ما يشاؤون و شاء لهم الهوي و به هدم الدين و تحليل حرامه و تحريم حلاله.
أ رأيت كيف يجب أن نقول بعصمة الإمام و أنه يجب أن يكون عالما بجميع الأحكام لأن به تحفظ الشريعة و يصل به كلّ ذي حقّ في كتاب اللّه إليه حقّه، لذا تري إمام الشيعة عليّا عليه السّلام الّذي نعتقد أنه هو الخليفة بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قد تأخر عن بيعتهم، فهذا البخاري يقول في آخر ص: (123) من صحيحه في باب فرض الخمس من جزئه الثاني، و في ص: (38) من صحيحه في باب غزوة خيبر من جزئه الثالث:
(إن فاطمة ابنة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم سألت أبا بكر بعد وفات رسول اللّه أن يقسّم لها ميراثها ما ترك رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مما أفاء اللّه عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال: لا نورّث ما تركناه صدقة، فغضبت فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتي توفيت، و عاشت بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ستّة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها عليّ ليلا و لم يؤذن بها أبا بكر و صلّي عليها، و كان لعليّ من الناس وجه حياة فاطمة فلما توفيت استنكر عليّ وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر و مبايعته، و لم يكن يبايع تلك الأشهر).
و إنما أوردناه بطوله لتعلم ثمة تأخر عليّ عليه السّلام عن بيعتهم، و يقول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيما أخرجه الحاكم في مستدركه ص: (119) من جزئه الثالث، و الذهبي في تلخيصه و
قد صححاه علي شرط البخاري و مسلم: (عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ)
و
أخرج الحاكم أيضا في ص: (125) من مستدركه من جزئه الثالث عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (تكون بين الناس فرقة و اختلاف، فيكون هذا و أصحابه علي الحقّ- و أشار إلي عليّ-)
و هو يفيد أن الحقّ في جانب عليّ عليه السّلام في جميع قضاياه، لأن كلمة (الحقّ) اسم جنس قد دخله الألف و اللام فهو يفيد العموم مطلقا عند علماء الأصول من المسلمين أجمعين.
الآلوسي و التشيع، ص: 189
فالشيعة لمّا رأت تخلّف إمامهم عليه السّلام عن تلك البيعة و علمت أن الحق في تأخره عليه السّلام عنها بما سجّله لهم حفاظ أهل السنّة عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من أن الحق في جانب عليّ عليه السّلام عند إختلاف الناس علموا أن بيعتهم ليست حقّة و باطلة، و أما دعوي مبايعته عليه السّلام لهم فباطلة لأمرين:
الأول: ليس في حديث البخاري ما يدلّ علي مبايعته لهم غير
قوله عليه السّلام لأبي بكر (رض): (موعدك العشية للبيعة)
من حديثه في باب غزوة خيبر عن عائشة لا سيّما مع اشتماله علي لفظ المصالحة و هي ليست من البيعة في شي‌ء، و لو سلّمناه جدلا فهو معارض بحديثها الآخر في باب فرض الخمس الخالي مما لفقته في حديثها في باب غزوة خيبر من أمر المصالحة و البيعة، و الترجيح في جانب حديثها في باب فرض الخمس لأنه متفق عليه بين الفريقين، فيسقط حديثها في باب غزوة خيبر لأجله.
الثاني: لو سلّمناه باطلا فلا حجّة في حديث البخاري و لا في غيره مما لم يتفق عليه الفريقان فهو ساقط لا حجّة فيه مطلقا، و بعد فهل يا تري كانت خلافتهم باطلة في تلك المدّة ثم صارت حقّة؟ و كيف يا تري كان عملهم في أيام خلافتهم الباطلة؟

الناس كلهم تابعون لتصرف الشارع بهم

الوجه الثاني: إن النّاس كلّ النّاس تابعون لتصرف الشارع بهم، فليس لهم جميعا فضلا عن بعضهم أن يتصرفوا في أي أمر من أمورهم إطلاقا، سواء أ كان متعلقا بأمور معاشهم أو معادهم سلبا و إيجابا، فليس لهم أن يجعلوا من يتصرف في شئونهم الخاصة و العامة في أموالهم و أعراضهم و أنفسهم، لأن اللّه تعالي يقول: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ
[الأعراف: 3] و يعني هذا أنه لا يجوز إتباع غير ما أنزل اللّه، و أن كلّ من اتّبع غير ما أنزل اللّه فقد اتّبع من دونه أولياء، و من اتّبع من دون اللّه أولياء مشرك.
فإذا كان إعتقاد الشيعة بطلان خلافة الخلفاء (رض) يعدّ ذنبا فالمسئول عن
الآلوسي و التشيع، ص: 190
ذلك كتاب اللّه و سيّد الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ سيّد الأوصياء عليه السّلام و ما كان للشيعة أن يخالفوهم في شي‌ء أبدا.
أما كتاب اللّه فقد مرّت عليك آياته البيّنات الحاكمة بأنه ليس للناس من الأمر شي‌ء و إنّ الأمر كلّه للّه، و لا شك في أن أمر الإمامة من أهم الأمور فيرجع أمرها إلي اللّه تعالي وحده، و قد أمر اللّه نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بأن ينصّب عليّا عليه السّلام إماما من بعده، و جعله هاديا لأمته في أحاديث التي سجّلها حفاظ أهل السنّة في صحاحهم و دونوها في مسانيدهم، و قد مرّت عليك شذرة منها آمن بها قوم و جحدها قوم آخرون، فهي مقدمة علي الإجماع المدّعي لأبي بكر (رض) في السّقيفة و هي أحق بالاتباع منه لو كان ثمة إجماع، و أما رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقد أودع في الأمة الثّقلين كتاب اللّه و عترته أهل بيته عليهم السّلام و أمر النّاس بالتمسك بهما، و رتّب الضلال علي المنحرفين عنهما، و نهي أشدّ النهي عن التقدم عليهما و التأخر عنهما، و حكم بأنهما لن يفترقا حتي يردا عليه الحوض فنصّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نصّا واضحا جليّا علي خلافة عليّ و الأئمة الأحد عشر من بعده عليه السّلام و لم ينصّ علي خلافة المستخلفين بعده بإجماع الأمة، و لم يكن واحدا ممن زعم الآلوسي إجماع أهل السقيفة عليه من عترته أهل بيته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إطلاقا.
أما أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام فإنه لم يبايع أحدا منهم، فلو كانت خلافتهم حقّة لكان أول المبادرين إليها لما مرّ عليك
قول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور معه حيث دار)
و من حيث أنه تخلّف عنها و لم يبادر إليها علمنا بطلانها.
أما خلافة عمر (رض) فقد كانت بالنصّ من أبي بكر (رض) عليه، و هذا ما دعا (الخليفة) عمر (رض) يوم السّقيفة إلي أن يبادر إلي بيعته (رض) و يسبق الآخرين بها، و إن وصفها بعد ذلك: (بأنها فلتة وقي اللّه المسلمين شرها)، و رتب القتل علي من عاد إلي مثلها، علي ما سجّله الهيتمي في (ص: 34) من صواعقه في الشبهة السّادسة من شبهاته، أما الأمة فما أجمعت علي الأول (رض) منهم فضلا عن الثاني (رض) فأبو بكر (رض) كما تري قد نصّبه (الخليفة) عمر (رض)
الآلوسي و التشيع، ص: 191
فهو خليفة له (رض) لا لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أما عمر (رض) فبالطبع هو خليفة أبي بكر (رض) و يرشدك إليه أنهم لما وجدوا أن قولهم لعمر (رض)، خليفة خليفة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يطول قالوا له أنت أمير المؤمنين، قال: نعم أنتم المؤمنون و أنا أميركم [1].
فرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يستخلف أحدا منهم من بعده بإجماع الفريقين، أما الشيعة فواضح، و أما أهل السنّة فقد حكي هذا الإجماع عنهم النواوي في شرحه لحديث مسلم ص: (120) من جزئه الثاني في باب الاستخلاف، و تركه من صحيحه عند قول عمر بن الخطاب (رض) لما قيل له: (ألا تستخلف؟ فقال: فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير منّي- يعني أبا بكر- و إن أترككم فقد ترككم من هو خير منّي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم).
قال النواوي: (و في هذا الحديث دليل أن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم ينصّ علي خليفة و هو إجماع أهل السّنة) و من هذا تفقه أن كلّ واحد من (الخليفتين) (رض) قد خالف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في فعله و قوله، أما أبو بكر (رض) فقد استخلف عمر (رض) و أما عمر (رض) فقد خالف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و خالف أبا بكر (رض) لأنه جعل الأمر شوري في ستّة نفر لا يزيدون واحدا و لا ينقصون، لذا فإن الشيعة تقول: إن كان ترك الاستخلاف حقّا كان فعله باطلا، و إن كان فعله حقّا كان تركه باطلا، فإن قالوا بالأول- و هو قولهم- لزم أن يكون استخلاف أبي بكر لعمر (رض) باطلا، و إن قالوا بالثاني لزمهم أن يلصقوا الباطل بالنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لأنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ترك الاستخلاف فيما يزعمون، و أيّا قالوا فهو دليل علي بطلان خلافتهما معا.
__________________________________________________
[1] أخرجه الهيتمي في صواعقه ص: (88) في الفصل الثالث من الباب الرابع الّذي عقده في خلافة عمر (رض) قال: و قيل إن أول من سمّاه به المغيرة بن شعبة، و هذا الأخير معروف في عدائه و بغضه لأمير المؤمنين عليّ عليه السّلام.
الآلوسي و التشيع، ص: 193

الفصل التاسع حليّة المتعة

عقد المتعة كان حلالا علي عهد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لم يحرّمه مطلقا

خامسا: قوله: «و قد أجمعوا علي حرمة المتعة».
فيقال فيه: إن أردت أيها القارئ أن تعرف الكذب الصريح فأنظر إلي قول هذا، فإن أحدا من أعلام أهل السنّة لم يقل إن الصحابة الأولين أجمعوا علي حرمة المتعة و قد نزل بها كتاب اللّه علي مرأي منهم، و جاءت بها السنّة القطعية علي مسمع منهم، و فعلوها مع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فكيف يزعم هذا أنهم أجمعوا علي حرمتها، فهذا السّيوطي يحدّثنا في الدر المنثور ص: (140) من جزئه الثاني عند تفسير قوله تعالي: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ
[النساء: 24] عن عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن الأنباري في المصاحف، و الحاكم و صححه من طرق، عن أبي نضرة، قال: (قرأت علي ابن عباس فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً
قال ابن عباس: فما استمتعتم به منهن إلي أجل مسمي، فقلت ما نقرؤها كذلك، فقال ابن عباس: و اللّه لأنزلها كذلك.
و فيه عن سعيد بن جبير، عن قتادة، قال في قراءة أبيّ بن كعب: (فما استمتعتم به منهن إلي أجل مسمي).
و فيه عن عبد بن حميد، و ابن جرير، عن مجاهد: فما استمتعتم به منهن، قال: يعني نكاح المتعة.
و فيه عن ابن جرير، عن السدّي في الآية، قال: هذه المتعة الرجل ينكح المرأة بشرط إلي أجل مسمي، فإذا انقضت المدّة فليس له عليها سبيل، و هي منه بريئة، و عليها أن تستبرئ ما في رحمها، و ليس بينها ميراث ليس يرث واحد منهما صاحبه.
الآلوسي و التشيع، ص: 194
و فيه ص: (141) عن ابن عباس، قال: يرحم اللّه عمر ما كانت المتعة إلّا رحمة من اللّه رحم بها أمة محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لو لا نهيه عنها ما أحتاج إلي الزنا إلّا شقي، قال: و هي التي في سورة النساء فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ
إلي كذا و كذا من الأجل علي كذا و كذا، قال: و ليس بينهما وراثة، فإن بدا لهما أن يتراضيا بعد الأجل فنعم، و إن تفرّقا فنعم، و ليس بينهما نكاح، و أخبر أنه سمع ابن عباس يراها الآن حلالا.
و فيه من طريق عمار مولي الشريد، قال: سألت ابن عباس عن المتعة أ سفاح هي أم نكاح؟ فقال، لا سفاح و لا نكاح، قلت فما هي؟ قال: هي المتعة، كما قال اللّه، قلت هل لها من عدّة؟ قال: نعم.
و فيه، عن سعيد بن المسيب، قال: نهي عمر عن متعتين متعة النساء و متعة الحج.
و فيه، عن خالد بن المسيب، قال: نهي عمر عن متعتين متعة النساء و متعة الحج.
و فيه، عن خالد بن المهاجر، قال: أرخص ابن عباس في المتعة، فقال له ابن أبي عمرة الأنصاري: ما هذا يا ابن عباس؟ فقال ابن عباس: فعلت مع إمام المتقين.
و فيه ص: (140) من جزئه الثاني أيضا، عن ابن أبي شيبة، و البخاري، و مسلم، عن ابن مسعود، قال: كنا نغزو مع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ليس معنا نساؤنا، فقلنا ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، و رخص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلي أجل، ثم قرأ عبد اللّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
[المائدة: 87].
و يقول البخاري في صحيحه ص: (71) من جزئه الثالث في باب قوله:
وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ
[البقرة: 195] قال عمران بن الحصين: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لم ينزل
الآلوسي و التشيع، ص: 195
قرآن يحرّمه، و لم ينه عنها حتي مات، قال رجل برأيه ما شاء، قال محمّد- يعني البخاري- يقال إنه عمر.
و أخرج في باب قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
عن إسماعيل، عن قيس عن عبد اللّه، قال: كنا نغزو مع النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ليس معنا نساء، فقلنا ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، فرخّص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب، ثم قرأ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
ص: (84) من جزئه الثالث في باب تفسير سورة المائدة من كتاب التفسير.
و
يقول مسلم في صحيحه ص: (450) من جزئه الأول في باب نكاح المتعة، عن إسماعيل، عن قيس، قال: سمعت عبد اللّه يقول: كنا نغزو مع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ليس لنا نساء، فقلنا ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلي أجل، ثم قرأ عبد اللّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ

فيه، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت الحسن بن محمّد يحدّث، عن جابر بن عبد اللّه، و سلمة بن الأكوع، قالا: خرج علينا منادي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قد أذن لكم أن تستمتعوا، يعني متعة النساء.
و
فيه في أوائل ص: (451): أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أتانا فأذن لنا في المتعة.
و فيه: (451) عن جابر بن عبد اللّه، أنه قال: استمتعنا علي عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر و عمر.
و فيه ص: (451) قال: أخبرني أبو الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد اللّه، يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق الأيام علي عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر و عمر، حتي نهي عنها عمر في شأن عمر بن حريث) [1].
__________________________________________________
[1] قالوا: إن عمرو بن حريث تمتع بامرأة في أيام عمر (رض) و هو لا يعلم بها، فظهر أنها ابنته من امرأة تمتع بها من ذي قبل فحرّمها لذلك، و نحن نقول: إن ذلك إن أوجب الحكم بحرمتها لأوجب أيضا حرمة النكاح الدائم، و ذلك إن من الجائز لرجل من أهل-
الآلوسي و التشيع، ص: 196
و فيه ص: (451) قال: كنت عند جابر بن عبد اللّه فأتاه آت، فقال: ابن عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ثم نهانا عنهما عمر.
و يقول الفخر الرازي في تفسيره الكبير ص: (194) من جزئه الثالث عند تفسير آية المتعة، قال عمر بن الخطاب (رض): (متعتان كانتا علي عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حلالا أنا أنهي عنهما و أعاقب عليهما، متعة النساء و متعة الحج) و نحن الشيعة قبلنا شهادة عمر (رض) و اعترافه بأن متعة النساء كانت حلالا علي عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و فهمنا من مجموع كلامه و كلام جابر بن عبد اللّه المتقدم ذكره في حديث مسلم: (كنّا نستمتع الأيام علي عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر و عمر حتي نهي عنه عمر).
و بقية الأحاديث الواردة في هذا الباب عن حفاظ أهل السنّة أن هذه المتعة كانت حلالا في جميع أوقات حياة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و حياة أبي بكر (رض) و شطر من حياة عمر (رض) و أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم ينه عنها و لم ينزل وحي في تحريمها حتي مات عليها، كما يشير إليه مقاله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و يؤكده حديث ابن الحصين المسجل في صحيح البخاري، و يدلك علي ذلك قوله (رض): (أنا أنهي عنهما) فإنه أسند النهي عنهما إلي نفسه.
فلو كان النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نهي عنهما في وقت من الأوقات لأسند النهي إليه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا إلي نفسه، لكونه أدخل في الزجر، بل و لو كان صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قد نهي عنهما في وقت كان عليه أن يعلل نهيه عنهما بنهي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم دون نفسه، علي أن قوله (رض): (كانتا علي عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حلالا) يدلّ بوضوح علي أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم ينه عنهما أبدا، و أن نهي عمر (رض) عنهما كان من رأيه و اجتهاده،
__________________________________________________
- السنّة ممن لا يري حلية المتعة أن يتزوج بامرأة ثم يفارقها بالطلاق فيمضي عليها سنين فيتزوج بأخري و هو لا يعلم بها فيظهر أنها ابنته من تلك المرأة فيكون قد وطأ بنته، فيجب لهذا أن يحرّم كلّ نكاح لا خصوص المتعة لأن ما يرد عليها واردا علي الدائم، و كل ما يقولونه في الدائم نقوله في المتعة.
الآلوسي و التشيع، ص: 197
و هو باطل بشهادته و اعترافه بحلّيتها في عصر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و في سائر حياته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و باطل بما تقدم من الأحاديث الصريحة في حلّيتها علي عهد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عهد أبي بكر (رض) و المحرّم لها نفسه (رض) فيكون ذلك من الاجتهاد المقابل للنصّ المحجوج به.
و أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ص: (438) من جزئه الرابع، عن ابن الحصين، قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه، و عملنا بها مع رسول اللّه، فلم تنزل آية تنسخها، و لم ينه عنها حتي مات، و فيه ص: (439) من طريق حميد، عن الحسن، عن عمران مثله، و أخرج نحوه في ص: (325 و 356 و 363) من جزئه الثالث.
و يقول ابن جرير الطبري في ص: (9) من تفسيره، عند تفسير الآية من جزئه الخامس، عن شعبة، عن الحكم و هو من أكابر أعلام أهل السنّة، قال:
سألته عن هذه الآية: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ
أ منسوخة هي؟ قال: لا، قال الحكم [1]: و
قال عليّ عليه السّلام: (لو لا أن عمر نهي عن المتعة ما زني إلّا شفي).
و يقول ابن الأثير في نهايته في مادة شفي، قال ابن عباس: ما كانت المتعة إلّا رحمة رحم اللّه بها أمة محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لو لا نهيه- يعني عمر- عنها ما احتاج إلي الزنا إلّا شفي، أي قليل من الناس.
و يقول الرازي في: (ص 200) من تفسيره من جزئه الثالث، عن تفسير الطبري في تفسير آية المتعة،
عن عليّ عليه السّلام أنه قال: (لو لا أن عمر نهي عن المتعة ما زني إلّا شقي).
و إنما تلونا عليك ذلك كلّه ليتجلّي لك بطلان قول الآلوسي إجماع الصحابة الأولين علي حرمة المتعة، و أنها كانت حلالا علي عهدهم و ما بعده إلي يوم القيامة، و أن الّذي نهي عنها هو (الخليفة) عمر (رض) فقبله قوم و قدّموه علي قول
__________________________________________________
[1] و أخرجه السّيوطي في الدر المنثور من جزئه الثاني في أواخر ص: (140) عن عبد الرزاق، و أبي داود في ناسخه، و ابن جرير عن الحكم.
الآلوسي و التشيع، ص: 198
اللّه و قول رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و علي حكمهما بإباحتها، و لم تقبله الشيعة تمسّكا بكتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و نزولا علي حكمهما بحليتها.

دعوي أن آية المتعة منسوخة كدعوي إرادة النكاح الدائم من المتعة باطلتان

فإن قال خصومنا: إن آية المتعة منسوخة بنهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عنها في كثير من أحاديث، فيقال لهم:
أولا: إن حلّيتها قطعية فهي دراية، و ما قيل في نسخها رواية لا تتعدي مراتب الظنون، و الحكم القطعي لا ينسخه إلّا برهان قطعي مثله و هو مفقود.
ثانيا: إن ما ورد من النهي عنها كلّه آحاد، و قد عارضه ما هو أقوي منه سندا و أظهر دلالة، فهو لا يقتضي علما و لا عملا و لا يرجع بمثله عن الدليل القطعي.
ثالثا: لو سلّمنا جدلا معارضته لتلك الأحاديث الناصّة علي حليتها، كان الترجيح في جانب الأحاديث الحاكمة بتحليلها لموافقتها للكتاب و لما أجمع عليه المسلمون أجمعون علي حلّيتها فيجب طرحه لأجلها.
رابعا: إن شهادة- الخليفة- عمر (رض) و اعترافه بحلّيتها علي عهد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إضافة النهي عنها إلي نفسه تمنع القول من الخصوم بنسخها و إذ لو كانت منسوخة لأسند نهيه إلي نسخها، و من حيث أنه لم يقل ذلك علمنا أنها غير منسوخة أللّهم إلّا أن يقولوا بجواز النسخ بعد موت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و انقطاع الوحي، و ليس هناك مسلم يقول به.
خامسا: إن- الخليفة- عمر (رض) قرن بين [1] متعة الحج و متعة النساء في النهي، فوجب أن يكون حكم متعة النساء حكم متعة الحج، و لما كانت متعة
__________________________________________________
[1] متعة الحج التي نهي عنها عمر (رض) هي العدول عن حج الإفراد المندوب إلي عمرة التمتع كما نهي عن متعة النساء، إلّا أن أهل السنّة لم يقبلوا ذلك منه و قبلوه في متعة النساء، و نحن لم نقبل ذلك منه فيهما معا.
الآلوسي و التشيع، ص: 199
الحج غير منسوخة و لا محرّمة فوجب أن يكون حكم متعة النساء أيضا غير منسوخ و غير محرّم.
سادسا: إن نكاح المتعة من الطيّبات المدلول عليها بقوله تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
في قول عبد اللّه بن مسعود المتقدم ذكره، و قد نهي اللّه تعالي عن تحريم طيّبات ما أحلّه للنّاس و منها متعة النّساء، فكيف يصح نسبة النهي إليه تعالي عنها إذ لا شي‌ء بحرام طبعا و لا بمنسوخ من طيّبات ما أحلّه إطلاقا، و من ذلك تفقه أن متعة النّساء من الطيّبات الثابتة بنصّ الكتاب و السنّة في حال السّعة و ليست من الخبائث حتي يتوهم اختصاصها في حال الضرورة، و ابن مسعود هذا من أكابر علماء القرن الأول خير القرون عند أهل السنّة، و هو أحد الأربعة الّذين أوجب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الرجوع إليهم في تعلّم القرآن، فهذا
البخاري يقول في صحيحه من جزئه الثاني في آخر ص: (201) في باب مناقب عبد اللّه بن مسعود، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (استقرءوا القرآن من أربعة، من عبد اللّه بن مسعود … )
الحديث.
و إن قال خصومنا: بأن المراد من قوله تعالي: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ
فما انتفعتم و تلذذتم بالجماع من النّساء بالنكاح الشرعي الدائم.
فيقال لهم: أولا: إنّ حملها علي إرادة الانتفاع و التلذذ بعد تسليمه لا يخرجها عن مسمّي النّكاح الصحيح الشرعي لبداهة صحة نكاح المتعة في صدر الإسلام، و قد فعلها أهل القرون الثلاثة كما ألمعنا إليه.
ثانيا: إنّ عدم استنادهم في هذا الحمل علي آية محكمة أو سنّة ثابتة مانع من صحة إرادته من الآية، لا سيّما إذا لا حظنا أن صريح الأحاديث يريد منها نكاح المتعة المعمول به في عصر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيجب النزول عندها و العمل بمنطوقها و مفهومها دونه.
ثالثا: إنّ لفظ الاستمتاع و إن وقع في الأصل علي الانتفاع و التلذذ و لكن الشي‌ء الّذي يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار هو أن لفظ القرآن إذ احتمل أمرين،
الآلوسي و التشيع، ص: 200
أحدهما: وضع اللّغة، و الآخر: عرف الشّرع، فإنه يجب حمله علي الثاني، و من هنا حملوا لفظ الصّلاة و الحج و الزّكاة و غيرها علي عرف الشّريعة، و من الواضح أن لفظ الاستمتاع قد أضيف إلي النّساء و عليه يكون المراد: متي عقدتم عليهن بهذا العقد الخاص فآتوهن جميع أجورهن أي مهورهن، و لو لم يكن المراد المتعة المذكورة لم يجب شي‌ء من المهر علي من لم ينتفع من المرأة بشي‌ء بالنّكاح الدائم و اللّازم باطل و الملزوم مثله باطل، لأنه يجب و إن لم ينتفع بشي‌ء منها إجماعا.
توضيح البطلان: هو أنّ اللّه تعالي قد علّق وجوب إيتاء الأجور علي الاستمتاع بهن فلا يجب بدونه، و قد علمنا أنّه إذا طلّقها قبل الدخول لزمه نصف المهور في النّكاح الدائم فيكون معناه هذا النّكاح المنعقد بمهر معيّن إلي أجل معلوم.
و شي‌ء آخر: أنّه لو أراد النّكاح الدائم لوجب علي الزوج بحكم الآية جميع المهر بمجرد العقد، لقوله تعالي: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ
أي مهورهن و لا قائل به إجماعا، و إنّما تجب الأجور بتمامها بنفس العقد في نكاح المتعة خاصّة دونه.
رابعا: لو كانت الآية تريد النكاح الدائم لكان علي الخصوم أن يكتفوا في انعقاده بلفظ التمتع كما ينعقد بلفظ التزويج و النّكاح، لأن الآية صريحة في الاكتفاء بلفظ الاستمتاع في انعقاده، و من حيث أنّهم لا يكتفون بلفظ التمتع في انعقاده دواما علمنا باختصاصه في نكاح المتعة المدلول عليه في الآية.
خامسا: إن الاستمتاع أعمّ من الجماع، فتخصيصه به تخصيص بلا مخصص و هو باطل و إرادته من الآية خاصّة باطلة.

موسي جار اللّه و فساد قوله في المتعة

و إن عشت أراك الدهر عجبا فإن تعجب فعجب قول موسي جار اللّه في (و شيعته): «لو كان فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ
في حلّ المتعة بكفّ من بر فكيف يكون قوله تعالي بعد هذه الآية: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
[النساء: 25]
الآلوسي و التشيع، ص: 201
و هل يتصور عاقل أن يكون الإنسان عاجزا عن كف من بر، ثم يشتري و يملك يمينه جارية، و مجرد نزول هذه الآية بعد قوله: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ
يكفي في تحريم المتعة- إلي أن قال-: و لو كانت متعة الشيعة حلالا لكان قوله جلّ جلاله: وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّي يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
[النور: 33] مهملا لا معني له، عبثا باطلا ليس له في الوجود صورة، و أي معني لقوله: لا يَجِدُونَ نِكاحاً
لو حلّ التمتع بكف من بر، و أي معني لقوله: حَتَّي يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ
و أي حاجة إلي الاستعفاف، بل لو كانت متعة الشيعة حلالا في شرع القرآن لكان اللّه جلّ جلاله بقوله:
وَ لْيَسْتَعْفِفِ
قد غفل في شرع القرآن الكريم، لأن وجوب الاستعفاف عن العجز عن النكاح يناقض حلّ المتعة».
هذا تقرير كلام موسي جار اللّه في و شيعته التي زعم أنّه نقد بها كتب الشيعة، و قد ردّ عليه العلّامة المغفول له (السيّد محمّد مهدي الكاظمي القزويني) بأدلّة تثلج الصدور و تنقاد لها أعناق النقاد، زيّف بكتابة كلّ ما جاء به من السّمادير و أرجع طعناته إلي نصابها.
و نحن نقول في جوابه: ليس من الغريب أن نقول للقارئ إن الرجل بعيد عن لغة العرب و قليل المعرفة بأسرارها، لأنه كان يعيش في روسيا و أهلها يجهلون لغة القرآن و لا يفهمون شيئا منها، لذا تري موسي يلتمسها عند ما يظهر فيه عيّ عن مجابهة خصمه بالدليل العلمي و البرهان المنطقي، فيركن إلي التمويه و قلب الحقيقة ظنا منه أن كتابه الّذي تجشأه هذا الهرم لا تناله الأيدي بالنقد و التزييف، أو أن الناقد الخبير سيسكت عن كشف عواره فيخبط في بحثه خبط عشواء.
فإن أضرّ شي‌ء علي العلم و أهله أن يتلبس الجاهل بشي‌ء من صبغة العلم، و يتخطي بخطوات مرتعشة في مبادئه، و هو لم يصل إلي الجهل المركب بحدود إدراكه، لذلك تري موسي يقتحم حقيقة هو يعلم خروجها عن حدّ إدراكه فيخلط الحابل بالنابل، لأن الحكم بالتناقض و التعارض قبل إرساله موقوف علي معرفة
الآلوسي و التشيع، ص: 202
الحاكم بهما، و موسي لمّا لم يكن له نصيب من المعرفة بشي‌ء من ذلك أخذ يكثر من خبطه و خلّطه في تأويل المعاني اللّغوية الواردة في الكتاب، فزعم أنّ آية:
وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا
معارضة لآية: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ
و هي الأخري مناقضة لآية: وَ لْيَسْتَعْفِفِ
.و لكن كان عليه قبل هذا الحكم أن يراجع اللّغة في فهم معني (النكاح و الطول) فإن الأول ورد علي عدّة معان في لغة القرآن، منها: المهر كما في آية (وَ لْيَسْتَعْفِفِ)
و منها: العقد، و منها: الوطء، إلي غير ذلك من معانيه.
و الثاني: بمعني السّعة و الغني و القدرة دون المهر، كما توهمه (شيخ الإسلام) موسي، و لعلّ الّذي أوقعه في هذا الخطأ- و ما أكثر خطأه- توهمه الفاسد من أن لفظ النكاح إذا أطلق لا يتناول إلّا العقد الدائم، و هو غلط فاضح يكشف عن بطلانه قوله تعالي بعد ذكر المحرّمات من النّساء: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ
[النساء: 24] فإن الابتغاء يتناول من ابتغي المؤقت و المؤبد، بل الأول أشبه بالمراد لتعليقه علي مجرد الابتغاء، و المؤبد لا يحلّ عند الخصم إلّا بوليّ و شهود.
و أما اشتمال الآية علي نفي الإحصان و أن الإحصان لا يكون إلّا في الدائم عند الشيعة فباطل و غير صحيح.
أولا: لا دليل علي أن الإحصان لا يكون إلّا في العقد الدائم، و لم تقل به الشيعة إطلاقا.
ثانيا: لو سلّمنا تنازلا فإن المراد بالإحصان في الآية التعفف لا الإحصان الّذي يثبت به الرجم، و يعضده قوله تعالي بعدها: غَيْرَ مُسافِحِينَ
فأين التعارض و التنافي بين الآيتين يا موسي.
و بعد أليس من حقنا أن نخاطبه بما خاطب به عبد اللّه بن عباس عبد اللّه بن الزبير حيث كان يري حرمتها بقوله له: إنك لجلف جاف إنها- أي المتعة- كانت تفعل علي عهد إمام المتقين- يعني رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم-.
الآلوسي و التشيع، ص: 203
و لا يخفي بعد هذا كلّه سقوط قول موسي جار اللّه: (لم يكن في الإسلام نكاح متعة و لم ينزل في جوازها قرآن و ليس بيد أحد دليل لإباحتها) لوضوح دلالته علي أن صاحبه لم يطّلع علي آية من القرآن، و لم يقف علي رواية من روايات أئمته، و لا علي شي‌ء من أحوال الصّحابة حتي يعرف كذبه و بهتانه علي كتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لكن موسي لا يهمّه في قليل و لا كثير إذا قال باطلا و تحكّم جزافا.
أليس من البليّة علي الإسلام و أهله أن يقول موسي: (لم يكن في الإسلام متعة و لم ينزل في جوازها قرآن) إلي نهاية أسطورته الغريبة و أساطيره المهملة، و يضرب عرض الحائط كلّ ما سجّله حفّاظ أهل السنّة في صحاحهم من أحاديث رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حليّة المتعة، و يسخر من شهادة إمامه عمر (رض) و اعترافه بحلّيتها في الإسلام و نزول القرآن بجوازها كما تقدم البحث عن ذلك كلّه مستوفي، ثم أن قوله: (و مجرد نزول هذه الآية فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ
يكفي في تحريم المتعة) يفيد أنها كانت حلالا، و لكن ما زعمه من باطل القول صيّره حراما، و هذا إقرار منه بالحليّة- كإمامه عمر (رض)- فيؤخذ به دون ما زعمه من التحريم، فإنه دعوي مجردة و إقرار العقلاء علي أنفسهم حجّة، أللّهم إلّا أن يكون خارجا عنهم فيكون مجنونا و حينئذ يكون ساقط العبارة لأجل جنونه.

ما زعمه خصوم الشيعة في حرمة المتعة باطل

قالوا: «إنّ المتمتّع بها ليست مملوكة لبداهة بطلانه، و ليست زوجة لانتفاء لوازم الزوجية عنها كالعدّة، و الميراث، و الطلاق، و النفقة، و اللّعان و غير ذلك من لوازمها، لقوله تعالي: إِلَّا عَلي أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ*
فحصرت الآية أسباب حليّة الوطء بأمرين: الزوجية و ملك اليمين، و هما منتفيان في المتعة».
فيقال لهم: أما دعوي أنها ليست زوجة فمردودة بحديث ابن مسعود:
(و رخص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلي أجل) و رواية الربيع بن سبرة، بقوله:
(فتزوجت إمرأة) و أما دعوي أن انتفاء لوازم الزوجية عنها يثبت أنها ليست زوجة فمردودة.
الآلوسي و التشيع، ص: 204
أولا: إنّ انتفاء بعض الأحكام كعدم الإرث لا يقتضي خروجها عن مسمّي الزوجة لا لغة و لا شرعا كما تقدم إطلاق الزوجة عليها في حديث ابن مسعود و رواية الربيع.
ثانيا: إنّ الإرث و النفقة و غيرهما من الأحكام ليست من لوازم الزوجة مطلقا، بل هي تابعة لصفات زائدة عليها، كعدم الانقطاع و عدم الاختلاف في الدين و غيرهما، فهي تلازم الزوجة طردا و عكسا لسقوط الإرث بالقتل و الكفر و الرق و سقوط النفقة بالنشوز إجماعا و قولا واحدا، و ذلك كلّه لا يخرجها عن الزوجية.
و أما العدّة فثابتة عندنا لها بالإجماع، بل عند كلّ من أباحها، و أما الطلاق فليس من لوازم النكاح الدائم و ذلك لتحقق الانفصال بين الزوجين بالفسخ بسبب العيوب المنصوص عليها في الشريعة و هو ليس بطلاق، و هكذا حال التفريق بين الزوجين عند أهل السنّة فإنه ليس بطلاق، لأن الطلاق بيد من أخذ بالسّاق- كما نصّ عليه الحديث- و ليس التفريق منه في شي‌ء، و أما ما ادّعوه علي عليّ عليه السّلام من الرواية، و
أنه عليه السّلام روي أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نهي عن متعة النساء يوم خيبر
فباطل و غير صحيح، لأن الثابت بالضرورة من مذهب عليّ عليه السّلام و الأئمة الهداة من أبنائه عليه السّلام إباحتها و إنكار تحريمها، فهي مردودة و غير مقبولة مطلقا.
و أما ما رووه من طريق سبرة، عن أبيه، أنّه قال: شكونا الغربة في حجّة الوداع، فقال: استمتعوا من هذه النسوة، فتزوجت إمرأة، ثم عدوت علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هو قائم بين الركن و الباب، و هو يقول: إنّي كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع ألا إنّ اللّه قد حرّمها إلي يوم القيامة، فباطل و غير صحيح.
أمّا أولا: فلأنها ضعيفة السند و مضطربة اللّفظ و هي من آحاد الخبر لا سيّما فيما يعمّ به البلوي، و معارضة بما هو أقوي منها سندا و أظهر دلالة من المتفق عليه بين الفريقين، و مثلها لا تصلح و لا تقوي علي معارضة النّصوص الصحيحة الصريحة في بقاء شرعية المتعة بعد موت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من غير نسخ إلي يوم القيامة، و أنها من الطيبات التي لا يجوز لأحد تحريمها إطلاقا فهي الحجّة دونها.
الآلوسي و التشيع، ص: 205
ثانيا: إن الرواية مشتملة علي إباحتها في حجّة الوداع، و ما رووه عن عليّ عليه السّلام دالّ علي تحريمها يوم خيبر، و يعني ذلك كلّه أنها منسوخة مرتين لوضوح تأخر حجّة الوداع عن خيبر، و هذا مع ضعفه و عدم القول به لا يصح الاستدلال به مطلقا.
ثالثا: إنّها معارضة بحديث الحكم المارّ ذكره الصريح في أن آية المتعة غير منسوخة، و بما حكاه
عن عليّ عليه السّلام من قوله عليه السّلام: (لو لا أنّ عمر نهي عن المتعة ما زني إلّا شقي)
، و الترجيح في جانب حديث الحكم لأنه متفق عليه بين أهل السنّة و الشيعة فتسقط الرواية لأجله.

آية وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ‌

غير ناسخة لآية المتعة
و من الغريب بعد هذا كلّه أن يستدلّوا علي حرمة المتعة بقوله تعالي:
وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ
[المؤمنون: 5] زاعمين أنها ناسخ لآية المتعة من حيث لا يعلمون أو يعلمون أنّ آية المتعة مدنية و آية: وَ الَّذِينَ هُمْ
مكّية، و الّذي عليه المشهور و المذهب المنصور عندهم أن المكّي ما كان نزوله بمكّة و المدني ما كان نزوله بالمدينة، فكيف يا تري يعقل تقدم زمان الناسخ علي المنسوخ؟

آية المواريث و الطلاق غير ناسخة لآية المتعة

و أغرب من ذلك ما نسبوه إلي سعيد بن جبير، و عبد اللّه بن مسعود، و عليّ عليه السّلام من أن آية المواريث و الطلاق ناسخة لآية المتعة، لأن زوجة المتعة لا ميراث لها و لا طلاق.
و الجواب، أولا: أن النسبة غير صحيحة و باطلة، و هم أجلّ من أن يقولوا بذلك، و عليّ عليه السّلام أعلي كعبا و أجلّ قدرا من أن يخالف كتاب ربّه و سنّة نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو يتكلم بما لا يتكلم به أدني فقهاء المؤمنين.
ثانيا: يردّ عليه بالنقض بالزوجة الكافرة فإنها زوجة و لكنها لا ترث، و بالزوجة المملوكة و الزوجة القاتلة بغير حقّ فإنهما لا ترثان من الزوج بإجماع الخصمين.
الآلوسي و التشيع، ص: 206
ثالثا: بأن النّسخ عبارة عن رفع الحكم الشرعي عن موضوعه الّذي علّق عليه لانقطاع استمراره و دوامه في الواقع، أما زوجة المتعة فلم يثبت لها بأصل الشرع طلاق و ميراث، فأي شي‌ء يا تري ينسخ و هو من قبيل السّالبة المنتفية بانتفاء موضوعها؟ و إنّما لا ترث و لا يقع عليها طلاق بوجود النّص و الدلالة دون النسخ- كما مرّ- و يدلّك علي ذلك ما تقدم من حديث ابن جرير، عن السدّي: و ليس بينهما ميراث ليس يرث واحد منهما صاحبه، و حديث ابن عباس المتقدم ذكره:
و ليس بينهما وراثة.
رابعا: لو كانت آية المتعة منسوخة بآية الطلاق و المواريث فتكون زوجة المتعة بهما محرّمة لكانت الآيتان ناسختين لآية النكاح الدائم، لاستلزامه حرمة الزوجة المطلّقة مطلقا و حرمة الزوجة الكافرة أبدا، لأن الأولي مطلّقة فتحرم مطلقا و الثانية هي الأخري لا ترث فتحرم أبدا و بطلانه واضح، فإذا بطل هذا بطل ذاك، و من ذلك كلّه يظهر لك واضحا أن تحريم بعض الصحابة لها لم يكن إلّا عن طريق الاجتهاد، و هو فاسد في مقابل النصّ بل و إجماع الصحابة حتي من المحرّم نفسه كما مرّ عليك في حديث مسلم و ما حكاه العيني في شرحه لصحيح البخاري.
فإن زعم أولياؤه أن تحريمه (رض) كان بطريق الرواية عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيقال لهم، أولا: يبطله فعل الصّحابة لها في عهده كما هو صريح
حديث جابر: (استمتعنا علي عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر و عمر)
و نصّ قوله: (كنا نستمتع الأيام علي عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر و عمر حتي نهي عنه عمر في شأن ابن حريث).
ثانيا: لو كان تحريمه لها بطريق الرواية كيف خفي ذلك علي عامّة الصّحابة من زمن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و جميع خلافة أبي بكر (رض) و بعض خلافة المحرّم لها نفسه.
ثالثا: لو سلّمنا جدلا فإنه رجوع إلي قول صحابي و هو معارض بقول ابن عباس، و ابن مسعود و غيرهما من أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و مما يدلّ علي أن تحريمه لها كان عن طريق الاجتهاد و النظر لا عن رواية، و خبر قوله المشهور المتقدم
الآلوسي و التشيع، ص: 207
ذكره: (متعتان كانتا علي عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حلالا أنا أنهي عنهما و أعاقب عليهما) فإن قالوا: إنّ مراده من قوله: (أنا أنهي عنهما) أي أخبركم بالنهي و أوافق رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيه، فيقال فيه، أولا: ما تقدم من بطلانه بفعل الصّحابة لها في زمانه و أنّه رجوع إلي قول صحابي المعارض بقول غيره من الصحابة.
ثانيا: إنّ هذا الحمل من أفحش التأويل و أقبحه يستحي من ارتكابه، لأنّه لم يقل أنا أخبركم بالنهي و إنما قال: (أنا أنهي) فلا يدلّ عليه بإحدي الدلالات الثلاث، و لو أراد القائل أي قائل منه ذلك لعدّة العقلاء غالطا سفيها ملغزا و ذلك لا يصح نسبته إليه، و لو صح فلا يصح في المقام لأن متعة الحج مفروضة في كتاب اللّه فلا وجه لمنع صحة إحدي المتعتين و القول بها دون الأخري.
و يقول الترمذي في صحيحه: (إن رجلا من أهل الشام سأل ابن عمر (رض) عن متعة النّساء فقال: هي حلال، فقال إنّ أباك قد نهي عنها؟! فقال ابن عمر:
أ رأيت أبي كان نهي عنها و صنعها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أ نترك السنّة و نتبع قول أبي) و هو نص في أن هذه المتعة كانت علي عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم تفعل و أن نهيه (رض) عنها لم يكن إلّا عن طريق النظر.
و من ذلك كلّه و أضعافه تستشرف علي القطع بأن متعة النّساء من السنّة، و قديما
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من رغب عن سنّتي فليس منّي)
و من جميع ما أدليناه يتضح أن ما زعمه الآلوسي من إجماع الصّحابة علي حرمة المتعة كذب و انتحال لا أصل له.
الآلوسي و التشيع، ص: 209

الفصل العاشر مباحث في الإجماع

دعواه إجماع الصّحابة كلّهم علي أخذ فدك من فاطمة عليهم السّلام بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم باطلة

سادسا: قوله: «و قد أجمعوا- أي الصحابة- علي منع ميراث النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و غصب فدك من البتول».
فيقال فيه: إن أراد من ذلك أن جميع الصّحابة أجمعوا علي منع ميراث النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و غصب فدك من فاطمة عليهم السّلام بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فباطل و غير صحيح؛ لأن مثل هذا الإجماع لم يتحقق من جميعهم و بلا استثناء في حال، و إن أراد إجماع أهل الأطماع من رواد الأصفر الرّنّان فمما لا خلاف فيه بين الفريقين.
فهذا البخاري- و هو شيخ أهل الحديث- قد سجّل ذلك في باب فرض الخمس في أواخر ص: (123) من جزئه الثاني، و في باب
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: لا نورّث
، من كتاب الفرائض من جزئه الرابع من أبواب صحيحه و قد تقدم ذكره، و ذلك شيخ الإسلام عندهم مسلم قد سجّله في باب حكم الفي‌ء ص: (91) من جزئه الثاني من أبواب صحيحه، و أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في ص: (96) من مسنده من جزئه الأول، و غيرهم من محدثي أهل السنّة و حفّاظهم، فراجع ثمة حتي تعلم منعهم فاطمة عليهم السّلام بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ميراثها من أبيها صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و غصبهم نحلة أبيها صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فدك التي أعطاها إيّاها في حياته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
فهذا السّيوطي يحدثنا في الدر المنثور ص: (130) من جزئه الثاني في آخر باب، و من الدليل علي أن الخمس لنواب المسلمين، عن أبي يعلي، و ابن أبي
الآلوسي و التشيع، ص: 210
حاتم، و ابن مردويه و غيرهم، عن أبي سعيد، قال: لمّا نزل قوله تعالي: وَ آتِ ذَا الْقُرْبي حَقَّهُ
[الإسراء: 26] دعا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فاطمة عليهم السّلام و أعطاها فدك.
و فيه من طريق ابن عباس: إنّه لما نزلت أقطع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فاطمة فدكا)، و قد ثبت أن تفسير ابن أبي حاتم من التفاسير المعتمدة، و قد تابعه علي ذلك جم غفير من حفاظ أهل السنّة فلا سبيل إلي الإنكار.
و كان الأحري بهم احترامها عليهم السّلام و إجلالها و رعاية حقّها و حرمتها لا ظلمها و هضمها و دفعها عن إرثها و طردها عن تراثها، أ فتراهم لغيرها يورّثون و لها خاصة يمنعون فإنّا للّه و إنا إليه راجعون.

إختلاف أهل السّقيفة في تعيين الخليفة أول اختلاف حدث في الإسلام

سابعا: قوله: «و بعد حدوث الاختلاف في الأمة و تفرقهم».
فيقال فيه: لقد ألمعنا فيما تقدم منا أن أول إختلاف وقع في الأمة هو إختلاف أهل السّقيفة في تعيين الخليفة و قول عمر بن الخطاب (رض) البادئ في البيعة و المحرّك الكبير فيها: (إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقي اللّه المسلمين شرها فمن عاد إلي مثلها فاقتلوه) [1].
و لا شك في أن الفعل إذا استحق فاعله القتل كان من أعظم البدع في الدين و أكبر الضلال في الإسلام، و هذا ما يثبت لنا أن البيعة التي نتجت عنها تلك الخلافة في السّقيفة لم تكن من هدي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا من دينه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إلّا لو كانت من الدين لم يحكم عمر (رض)- و هو أعرف الناس بها- بقتل من عاد إلي مثلها، و من حيث أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حكم بقتل من أحدثها في الإسلام علمنا بارتكاب الرجلين ما يوجب القتل و لكن أحدا لم يعمل بموجبه فيهما، و هذا ما عناه اللّه تعالي بقوله:
__________________________________________________
[1] سجله عليه ابن حجر الهيتمي في صواعقه في الشبهة السادسة من شبهات كتابه، و البخاري في باب رجم الحبلي من الزنا إذا أحصنت ص: (119) من صحيحه من جزئه الرابع، و محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني في ص: (13) من الملل و النحل و هذا من المقطوع به بين الأمة.
الآلوسي و التشيع، ص: 211
وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلي أَعْقابِكُمْ
[آل عمران: 144] و عناه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في أحاديث الحوض و البطانتين و إتّباع سنن من كان قبلكم شبرا شبرا كما تقدمت الإشارة إليه.

إجماع أهل البيت هو الحجّة لا سواه

ثامنا: قوله: «و بعد تفرقهم بفرق مختلفة كيف يتصور الإجماع علي المسائل الخلافية».
فيقال فيه: إنما يرجع إلي إجماع المنقلبين علي الأعقاب و المتمردين علي النفاق من بغاة صفين و أمثالهم في مسائل الدين كلّ أفاك أثيم من المنحرفين عن عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أما الشيعة فيرجعون إلي إجماع أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا، و قرنهم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالقرآن، و جعلهم قدوة لأولي الألباب، و شبّههم بسفينة نوح عليه السّلام التي من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق و هوي، و جعلهم باب حطّة يأمن من دخلها، و أحد الثّقلين، لا يضلّ من تمسك بهما و لا يهتدي إلي اللّه من ضلّ عن أحدهما، و أنهم عليهم السّلام السّبل إلي اللّه و الهداة إلي الحقّ، و الأمان للأمة من الاختلاف، فإذا خالفتهم قبيلة اختلفوا فصاروا حزب إبليس كما دلّ علي ذلك كلّه أحاديث الفريقين المتواترة.
لذا فإن الشيعة يحكمون بحجيّة إجماع الصّحابة الكرام الّذين لا يخلوا إجماعهم من قول المعصوم من البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذين قصدهم النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيما أخرجه البخاري في صحيحه ص: (188) من جزئه الثاني في باب
حدثني ابن المثني، بقوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر اللّه لا يضرّهم من خذلهم و لا من خالفهم حتي يأتيهم أمر اللّه و هم علي ذلك).
و ما أخرجه في صحيحه ص: (174) من جزئه الرابع، في باب
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علي الحقّ)
، عن المغيرة بن شعبة، عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتي يأتيهم أمر اللّه و هم ظاهرون).
و ما أخرجه مسلم في صحيحه في آخر ص (143) من جزئه الثاني في باب
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علي الحقّ لا يضرّهم من خالفهم)،
الآلوسي و التشيع، ص: 212
عن معاوية، قال: سمعت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر اللّه، لا يضرّهم من خذلهم- أو خالفهم- حتي يأتي أمر اللّه و هم ظاهرون).
فكلّ أولئك أدلّة واضحة علي أن الطائفة التي ما برحت قائمة علي الحقّ لا يضرّهم من خالفهم و خذلهم و انحرف عنهم هم أهل بيت النبوّة صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و موضع الرسالة و مهبط الوحي و التنزيل، و شيعتهم الموالون لهم و المعادون لأعدائهم، و تلك قضية تعبير النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عنهم بالطائفة الظاهرة في القلّة كما يشير إليه القرآن، بقوله تعالي: وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ
[التوبة: 122] فهو لا ينطبق علي غيرهم و غير شيعتهم فهم المنصورون بالحجج و البراهين علي أعدائهم الكثيرين، و لا يضرّهم من خذلهم من الأمويّين و العباسيّين، و لا من خالفهم من أتباعهم الظالمين من المتقدمين و المتأخرين، أ يريد الآلوسي أن تأخذ الشيعة بمذاهب اختلقها الدخلاء و اخترعها الأجانب كما صنع هو و يتركوا أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الصّحابة الكرام، كلّا ما كان ذلك من الدين الّذي أمر اللّه تعالي به و دعا نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن يدعو الناس إليه.
تاسعا: قوله: «لا سيّما في المسائل الخلافية التي تحتاج إلي الاستدلال».
فيقال فيه: ليس بالمسلمين من حاجة إلي إجماع من حكم القرآن بمروده علي النفاق و انقلابه علي الأعقاب، و حكم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليه بدخول النار في إثبات المسائل الخلافية، و قد أغناهم كتاب اللّه الّذي فيه الهدي و النور لمن اتبعه الثقل الأكبر و سنّة رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الأمين علي وحيه، و إجماع أهل البيت الثقل الأصغر الّذين من تمسّك بهم كان علي الهدي و من أخطأهم ضلّ و هوي من المنحرفين عنهم و المتمسكين بأعدائهم الّذين جدعوا أنف الحقّ جدعا و رفعوا لواء الباطل رفعا.

العقل حجّة متبعة

قال الآلوسي ص: (38): «أما العقل فهو أيضا باطل، لأن التمسك به إما في الشرعيات أو غيرها، فإن كان في الشرعيان فلا يصح التمسك به عند هذه الفرقة، لأنهم منكرون أصل القياس و لا يقولون بحجيّته، و إمّا في غير الشرعيات
الآلوسي و التشيع، ص: 213
فيتوقف تجريده عن شوائب الوهم و الألفة و العادة و الاحتراز عن الخطأ في الترتيب و الفكر، و هذه الأمور لا تحصل إلّا بإرشاد إمام لأن كلّ فرقة من طوائف بني آدم يثبتون بعقولهم أشياء و ينكرون أشياء أخري، و هم متخالفون بينهم بالأصول و الفروع و لا يمكن الترجيح بالعقل فقط، فالتمسك إذن بقول الإمام و مع ذلك لا يمكن إثبات الأمور الدينية بالعقل الصرف لأنه عاجز عن معرفتها تفصيلا بالإجماع، نعم يمكنه معرفتها إذا كان مستمدا من الشريعة».

حكم العقل لا يدور وجودا و عدما مدار القياس

المؤلف: أولا: «قوله: إما في الشرعيات فلا يصح التمسك بالعقل عند هذه الفرقة لأنهم منكرون حجيّة القياس».
فيقال فيه: إن حكم العقل لا يدور وجودا و عدما مدار القياس حتي يكون إنكار حجيّته فيه إبطالا لحكم العقل مطلقا، أما القياس فهو كالظن إن لم يكن دونه، فلا يحكم بحجيّته في الشرعيات مطلقا من جهات مضافا إلي ما تقدم منافي بطلانه.
الأولي: فلاستلزامه تحليل الحرام و تحريم الحلال، إذ لا يؤمن أن يكون ما ثبت به الحلية حراما و بالعكس، فاعتبار القياس ليس من حكمه في شي‌ء حتي يكون إنكاره إنكارا لحكمه كما يزعم الخصم، و إنّما التمسك به كان لأجل هوي النفس، لأن العقل حاكم بقبحه فكيف يحكم بحجيّة ما حكم بقبحه، و هو لا يتردد و لا يشك إطلاقا بعد إدراك مناطه.
الثانية: لو جاز العمل بالقياس في اقتناص الشرعيات من النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لجاز العمل به في اقتناصها من اللّه تعالي مباشرة لاتحاد المناط فيهما، بل اقتناصها من اللّه أولي و الثاني معلوم بالضرورة بطلانه إذ يلزم منه بطلان بعثة الأنبياء عليهم السّلام إذ ما الفائدة فيها بعد جواز استلهام الأحكام من المصدر الحقيقي و الينبوع الأصلي بالقياس و هو باطل قطعا و ذلك مثله باطل.
الثالثة: إنّ حرمة العمل بالقياس من البديهيات الأولية عند عوام النّاس فضلا عن العلماء، و ذلك فإن من القبيح عند العقلاء أن يتكلف العبد من قبل مولاه بما
الآلوسي و التشيع، ص: 214
لم يعلم أنه صادر منه، فالالتزام بالحكم المقتنص بالقياس علي أنه من اللّه تعالي مع عدم العلم بأنه منه افتراء من العبد علي مولاه و هو قبيح و تشريع محرم لا يجوز، قال تعالي: وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَي اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَي اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ
[النحل: 116].

ليس العقل شريكا للّه في التشريع

ثانيا: قوله: «لأن التمسك به».
فيقال فيه: إن اعتبار حكم العقل عند الشيعة لا يعني كونه حاكما بحليّة الأشياء و حرمتها بالأصالة مطلقا، و بعبارة أوضح ليس معناه أنه يجوز له تشريع الحلال و الحرام إطلاقا كما ذهب إليه ظن الآلوسي و قد خاب ظنه و طاش سهمه و كثر جهله و ذهب لبّه، و إلّا لزم أن يكون العقل شريكا مع اللّه تعالي في تشريع حلاله و حرامه و سائر أحكامه و هذا ما لا يقول به من كان من الإسلام علي شي‌ء، نعم ذهب إلي هذا المذهب خصوم الشيعة الّذين يقولون في الدين بالرأي و الهوي و القياس و الاستحسان، و يرون أنهم شركاء اللّه في شرعياته تعالي.
أما الشيعة فيقولون: إنّ العقل في غير ما يستقل به كقبح الظلم و حسن العدل و قبح الخيانة و حسن الأمانة و قبح الكذب مع عدم الضرورة، و حسن الصدق و نحو ذلك متي ما قطع بموضوع أحد الأحكام الشرعية فإنه يوجب العمل به و النزول علي حكمه، كما إذا رتب الشّارع الحرمة علي الخمر و قطع المكلف بخمرية شي‌ء كان واجبا عليه ترتيب ما يلزمها من الآثار الشرعية كحرمة شربها و وجوب الاجتناب عنها و غير ذلك من لوازمها، و لا يتوقف شي‌ء منه علي الدليل الشرعي كما سيأتي توضيحه في الوجه الثالث.
ثالثا، قوله: (و أما في غير الشرعيات).
فيقال فيه: إنّ الثابت عند الشيعة أن الأدلة العقلية علي قسمين، القسم الأول: ما يتوقف علي الخطاب الشرعي فيكون حكمه فيه تابعا للأحكام الشرعية
الآلوسي و التشيع، ص: 215
في مرحلة الامتثال و الطاعة، فمتي جزم به حكم به، القسم الثاني: ما لا يتوقف علي الخطاب المولوي.

مع العقل في أقسام حكمه

أما القسم الأول فهو علي أنواع: الأول: كتوقف حكمه بوجوب المقدمة في الواجب المطلق علي خطاب المولي به، و كتوقف حكمه في وجوب المقدمة أو حرمتها علي وجوب ذي المقدمة أو حرمته، سواء أ كان مما يتوقف عليه وجوده و صحته كالطهارة للصلاة و قطع المسافة للحج، أو توقف العلم بوجوده عليه كتكرار الصّلاة عند اشتباه القبلة، أو تردد الصلاة الفائتة، أو غسل زيادة علي الحدّ المنصوص قليلا في الوضوء، أو الغسل الترتيبي، أو العلم بنجاسة أحد الثوبين المتعيّن فيهما السّاتر للصلاة، و ترك الإنائين المعلوم نجاسة أحدهما لا بعينه و هي المسماة بالمقدمة العلمية، و الحاكم في ذلك كلّه هو العقل، و إنّما سميت علميّة علي أساس أن العلم بالتكليف المولوي ثابت فيجب الخروج عن عهدته، و لا يحصل العلم بالخروج عنها إلّا بذلك، لأن اشتغال الذمة بالتكليف اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة.
الثاني: كتوقف حكمه باقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضدّه علي الأمر المولوي، و غير ذلك من الموارد لحكمه.
الثالث: دليل الخطاب و يسمي (بالمفهوم) كمفهوم الشرط و الحصر و الغاية و الوصف علي الخلاف في الأخير.
الرابع: حكمه عند تزاحم الواجبين أو الحرامين أو الواجب و الحرام بتقديم الأهم الثابت أهميته عقلا أو شرعا بموجب آثاره علي المهم، كتزاحم حرمة قطع الصلاة أو وجوبه مع وجوب إنقاذ الغريق من ذوي النفوس المحترمة علي القادرين، و كوجوب إنقاذه علي القادر بالتصرف بالمرور في أرض الآخرين بغير إذن منهم، إلي غير ما هنالك من موارد وقوع التزاحم بين الواجبات و المحرمات.
الآلوسي و التشيع، ص: 216
الخامس: الاستقراء إذا كانت العلّة فيه منصوصة، كما إذا ورد النصّ بلفظ:
(حرّمت الخمر لإسكارها) بأن كان الملاك في حرمتها هو وجود علّة الإسكار فيها الّذي يدور الحكم مداره وجودا و عدما، و قد وافق الشيعة في حرمة العمل بالقياس جماعة من أعلام أهل السنّة، فمنهم: النظّام، و يحيي الإسكافي، و جعفر بن مبشر و أمثالهم و كثير من المعتزلة، و قد مرّ عليك قول ابن حزم في بطلان القياس فتذكر، فمن هذا تفهم أن ما ذكره الآلوسي من بطلان دليل العقل عند الشيعة بدليل عدم قولهم بحجيّة القياس باطل و غير صحيح.
أما ما لا يتوقف من أحكام العقل علي الخطاب المولوي و إن ورد الدليل الشرعي في مورد حكمه فهو إرشادي مؤكد لحكومته للتلازم بين الحكومتين الشرعية و العقلية، و هو أيضا علي أنواع:
الأول: ما يستقلّ به العقل من الحسن أو القبح المعلومين بالبداهة، كوجوب ردّ الوديعة و وفاء الدين و الإنصاف و الشفقة و الصدق و نحو ذلك.
الثاني: حكمه علي الأشياء فيما لا نصّ فيه من الشارع بعدم الوجوب و الحرمة بعد إفراغ الوسع في البحث و الفحص عن الدليل و عدم وجدانه، و حينئذ فإنه يستقلّ بعدم وجوبه و عدم حرمته علي أساس حكمه بقبح العقاب بلا بيان و المؤاخذة بلا برهان و هي المسماة عندهم: (بالبراءة الأصلية).
الثالث: حكمه بإباحة المنافع.
فهذه أحكام العقل و هذه موارد حكمه و هذا هو معني حجيّة حكم العقل عندهم لا سواه.
الآلوسي و التشيع، ص: 217

الفصل الحادي عشر حديث العترة

الآلوسي و حديث الثقلين

قال الآلوسي ص: (39): «و هنا فائدة جليلة لها مناسبة، و هي
قول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم «إنّي تارك فيكم الثّقلين، إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي»
و هذا الحديث ثابت عند الفريقين أهل السنّة و الشيعة، و قد علم منه أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أمرنا في المقدمات الدينية و الأحكام الشرعية بالتمسك بهذين العظيمي القدر و الرجوع إليهما في كلّ أمر.
فمن كان مذهبه مخالفا لهما في الأمور الشرعية اعتقادا أو عملا فهو ضالّ و مذهبه باطل و فاسد و لا يعبأ به، و من جحدهما فقد غوي و وقع في مهاوي الردي.
و ليس المتمسّك بهذين الحبلين المتينين إلّا أهل السنّة لأن كتاب اللّه ساقط عند الشيعة عن درجة الإعتبار.
ثم أورد بعض الأخبار المكررة و عزاها إلي محمّد بن يعقوب الكليني (نوّر اللّه مرقده) إلي أن قال:
و أما العترة الشريفة فهي بإجماع أهل اللغة أقارب الرجل، و الشيعة ينكرون بعض العترة كرقيّة، و أم كلثوم بنتي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا يعدّون بعضهم داخلا في العترة كالعباس عمّ النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أولاده، و كالزبير بن صفية بل يبغضون أكثر أولاد فاطمة و يسبونهم كزيد بن عليّ- إلي أن قال-: فقد بان لك أن الدين عند هذه الطائفة الشنيعة قد انهدم بجميع أركانه و انفلّ ما تشيّد من محكم بنيانه … إلخ».
الآلوسي و التشيع، ص: 218

أولاد العباس (رض) خارجون عن عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حديث الثقلين

المؤلف: أولا:
قوله: «إني تارك فيكم الثقلين».
فيقال فيه: إن الآلوسي قد خان في نقل
الحديث: (و من لا أمانة له لا دين له)
فإنه أسقط ما في آخر الحديث من
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (و قد أنبأني اللّطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض)
و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (فلا تقدموهما فتهلكوا، و لا تقصّروا عنهما فتهلكوا، و لا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم)
علي ما [1] سجّل ذلك ابن حجر الهيتمي في حديث صحيح من صواعقه ص: (148) في الفصل الأول في فضائل أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الباب الحادي عشر، و أنه وارد عن نيف و عشرين صحابيا بألفاظ مختلفة، منها:
(إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السّماء إلي الأرض، و عترتي أهل بيته، و لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما).
و منها:
(إنّي أوشك أن أدعي فأجيب، و إنّي تارك فيكم الثّقلين كتاب اللّه حبل ممدود من السّماء إلي الأرض، و عترتي أهل بيتي، و إنّ اللّطيف الخبير أخبرني أنهما لم يفترقا حتي يردا عليّ الحوض، فانظروا بم تخلفوني فيهما).
و منها:
(إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن تبعتموهما)
إلي آخر الحديث.
و هو يدل بصراحة علي عدم مفارقة العترة لكتاب اللّه ما دامت الدنيا، و يعني ذلك وجود من تجب طاعته كالقرآن من رجل من أهل البيت عليهم السّلام في كلّ زمان، و إذا كان كذلك وجب أن يكون معصوما، لأن القرآن معصوم فكذلك من لا يفارقه أبدا مطلقا يكون معصوما و تلك قضية
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض)
و هذا ما يقتضي خروج من لم يكن مقارنا لكتاب اللّه و كان مفارقا له بتمامه من أولاد العباس عن العترة المعنيّة في منطوق الحديث و مفهومه لثبوت
__________________________________________________
[1] من الطبعة الجديدة التي كانت سنة 1375 ه.
الآلوسي و التشيع، ص: 219
انحرافهم عن القرآن بأفعالهم السّيئة المخالفة لروح الشريعة من ارتكاب الفسوق و الفجور و شرب الخمور و هتك الحرمات و قتل النفس المحرّمة بل النفوس الزكية الطّاهرة من عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و الآلوسي إنّما أسقط أواخر الحديث ليقول: (إن الشيعة يبغضون أولاد العباس (رض) مع أنهم من العترة و قد أوجب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم التمسك بالعترة لا بغضهم و سبّهم و تكفيرهم) فيخدع بذلك نفسه، و يغري العامة بتمويهه دون أن يشعر إلي أن المسلمين أبعد غورا و أكثر انتباها من أن تنطلي عليهم هذه التمويهات و الترهات، فالمسلمون إذن لا يشكّون في خروج أولئك الظالمين المفسدين في الأرض بالتخصص موضوعا من العترة ذاتا و أنهم ليسوا من العترة في شي‌ء و ليست هي منهم علي شي‌ء في منطوقه بالمرّة.
و ما أشدّ ما تعجب من هذا الآلوسي فإنك تراه هنا يقول: (إن الرجوع إلي غيرهم في كلّ أمر سواء أ كان اعتقادا أم عملا فهو ضلال و باطل، و من جحدهم فقد غوي و وقع في مهاوي الردي) و هو لم يعمل مطلقا بما قاله هاهنا، لأن من الواضح في عقيدته و سلوكه انحرافه عن العترة عليهم السّلام و لم يكفه ذلك الانحراف عنهم حتي أنه أوجب علي عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته أن يرجعوا إلي خلفائه و يطيعوا أمراءه في كلّ ما يأمرون به و ينهون عنه، و أن عليهم أن يصلّوا خلف أئمته و يتمسكوا ببيعتهم التي قد عرف العام و الخاص فلتتها و زلّتها علي حد تعبير المحرّك الكبير فيها كما تقدم بحثنا عنه فاستوفيناه.
فالآلوسي بهذا قد حكم علي نفسه بالغواية و الوقوع في مهاوي الردي من حيث يدري أو لا يدري، و زاد علي ذلك الطعن فيمن أسقط خلافة خلفائه (رض) من حسابه و لم يعتقد شرعيتها و لم يقل بصحتها كالشّيعة الذين تمسّكوا بعترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته عليهم السّلام و رجعوا إليهم خاصة في اعتقادهم و أعمالهم، و رفضوا الآخرين من أن يكونوا خلفاء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إطلاقا، و الأقبح من ذلك التناقض القبيح أنك تراه يزعم في أوائل كتابه: و قدّمته- أي الكتاب- لأعتاب خليفة اللّه في أرضه و نائب رسوله في إحياء سنّته و فرضه- إلي قوله-: و هو أمير المؤمنين
الآلوسي و التشيع، ص: 220
الواجب طاعته علي الخلق أجمعين سلطان البرّين و خاقان البحرين السّلطان ابن السّلطان السّلطان عبد الحميد)، و هاهنا تراه يقول إن الرجوع إلي غيرهم في كلّ أمر سواء أ كان اعتقادا أم عملا ضلال و باطل، و هل هذا إلّا قول متناقض مبطل؟!

مدح الآلوسي لعبد الحميد السّلطان العثماني

و ظنّي، و ربّ ظن يقين، أنّ الآلوسي لم يغال في عبد الحميد هذا الغلوّ الّذي كاد بسببه أن يدّعي فيه النبوّة لو لا الألوهية، و لم يعطه تلك الألقاب الضخمة كرما إلّا و هو علي ثقة من أنه سيصله بشي‌ء من الأصفر الرنّان أو يمنحه وظيفة القضاة و الحكام، لذا تراه باع آخرته بدنياه و تفاني في سبيله و بذل كلّ ما كان في استطاعته من حيلة و مكر و خديعة و ألفاظ معسولة ليتزلّف بها إليه ليسدل عليه بشي‌ء من حطام الدنيا، الأمر الّذي ترك الآلوسي يفرط بواجباته الدينية و الدنيوية لأجله، فهو إذ يحكم علي الشيعة بالكفر و الضلال لا يرتكز إلّا علي تحصيله الدرهم و الدينار لأنه علي يقين أن أميره الّذي أعطاه إمرة المؤمنين من خصماء الشيعة و أعدائها لثبوت انحرافه عن عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته عليهم السّلام فإذا ما طعن فيهم و نسب إليهم المخازي و المرديات علي مسمع منه فلا شك في أنه يستطيع من وراء ذلك أن يتزلّف إليه و يستدر عواطفه و يتقرب من ساحته، و هكذا كان علماء السّوء و روّاد المنافع في كلّ عصر من العصور يفعلون، فإنهم كانوا يتزلفون في تلك العصور المظلمة المتشبعة بروح الاستبداد إلي أمراء الجور بما يبيح لأولئك الظالمين أن يرتكبوا من شيعة الوصيّ عليه السّلام و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما كانوا يرتكبوا من أنواع العذاب و النكال.

عبد الحميد العثماني لا يصلح لخلافة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

ثم كيف يا تري صار عبد الحميد التركي خليفة اللّه في أرضه و نائب رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم؟ و متي يا تري استخلفه اللّه تعالي في أرضه و استنابه رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم؟
أجل و بأي شي‌ء صار أمير المؤمنين و واجبا طاعته علي الخلق أجمعين؟ و ليس في كتاب اللّه آية و لا في سنّة نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم رواية تدل عليه، و كيف يصح أن يستخلفه اللّه في أرضه و يستنيبه نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و نحن نسمع
رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول: (الخلافة في
الآلوسي و التشيع، ص: 221
قريش و لو بقي من الناس اثنان)
علي ما أخرجه البخاري في صحيحه ص: (154) من جزئه الرابع في باب الأمراء من قريش من كتاب الأحكام، و النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يؤكد هذا
بقوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (لا يزال الدّين قائما حتّي تقوم السّاعة أو يكون عليهم إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش)
علي ما سجله مسلم في صحيحه ص: (119) من جزئه الثاني في باب الناس تبع لقريش و الخلافة في قريش، و
يقول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يكون بعدي إثنا عشرا أميرا كلّهم من قريش)
علي ما أخرجه البخاري في صحيحه ص: (164) من جزئه الرابع في باب حدّثني محمّد بن المثني من كتاب الأحكام، و
يقول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (لا يزال الدّين قائما ما وليهم إثنا عشر خليفة من بني هاشم)
كما في ص: (440) من ينابيع المودّة للحافظ القندوزي من جزئه الثاني.
و لم يكن عبد الحميد و لا غيره من أمراء العثمانيين من قريش في شي‌ء و لا هي منهم علي شي‌ء فضلا من أن يكونوا عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته عليهم السّلام.
و من ذلك كلّه يتضح كذبه في دعواه و تناقضه فيما ادّعاه و أنّه كان يحاول بتلك الصّفات الهائلة التي كالها لعبد الحميد العثماني- لا بخلا و لا كرما- أن يصل إلي أغراضه الشخصية و مشتهياته النفسية، و لو سلّمنا جدلا أن العثمانيّين كانوا من قريش و مع ذلك فلا ينطبق عليهم شي‌ء من مضامين تلك الأحاديث من وجوه:
الأول: أنّهم ليسوا من عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته عليهم السّلام فلا يجوز إطاعتهم و لا التمسك بهم و لا الرجوع إليهم في شي‌ء مطلقا.
الثاني: إنّهم أكثر من إثني عشر فلا تنطبق عليهم كما لا تنطبق علي الأمويّين و العباسيّين و لا علي العلويّين في مصر من وجهين:
الأول: إنهم لم يكونوا إثني عشر و الحديث نصّ في أنهم اثنا عشر لا يزيدون واحدا و لا ينقصون.
الثاني: أن هؤلاء كلّهم لا يصلحون لخلافة النبوّة صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إمامة الرسالة لمخالفة أفعالهم و أقوالهم لصميم القرآن و قانون الإسلام علي ما سجّل ذلك عليهم التأريخ الصحيح المتفق عليه بين الفريقين مما لا سبيل إلي إنكاره.
الآلوسي و التشيع، ص: 222

حديث إثني عشر خليفة من قريش يريد عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته عليهم السّلام دون غيرهم

فالأحاديث المذكورة لا تريد بالخلفاء الإثني عشر كلّهم من قريش إلّا الأئمة الإثنا عشر من عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته عليهم السّلام كما تقول الشيعة و لا تنطبق علي غيرهم مطلقا، لأن أحدا لم يقل بانحصار الخلفاء في إثني عشر سواهم، فإن أئمتهم أئمة أهل البيت عليهم السّلام الّذين عناهم النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بهذه الأحاديث و غيرها لا يزيدون علي إثني عشر إماما فيتعيّن فيهم و يختص ذلك بهم فلا يدخل معهم في ذلك داخل، لا سيّما إذا لا حظنا
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (حتّي تقوم السّاعة)
التي هي عبارة أخري عن
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حديث الثقلين: (و لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض)
فوجب أن يكون المراد من
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش)
و لو بقرينة ما في حديث الثقلين و غيره هم الأئمة الإثني عشر من آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذي جعل الهدي باتباعهم و الضّلال في خلافهم.
فالشيعة يقولون و يعتقدون كما يقول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و يعتقد، أن الأئمة بعده صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إثنا عشر إماما، فأول أئمة الشيعة هو سيّد أهل البيت عليهم السّلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ثم من بعده سبط النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الأول الحسن بن عليّ عليه السّلام ثم من بعده سبط النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الثاني الحسين بن عليّ عليه السّلام ثم من بعده عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام ثم من بعده ابنه الباقر محمّد عليه السّلام ثم من بعده ابنه الصّادق جعفر عليه السّلام ثم من بعده ابنه الكاظم موسي عليه السّلام ثم من بعده ابنه الرضا عليّ عليه السّلام ثم من بعده ابنه التقيّ الجواد محمّد عليه السّلام ثم من بعده ابنه النقي الهادي عليّ عليه السّلام ثم من بعده ابنه الحسن العسكري عليه السّلام ثم من بعده ابنه الحجّة محمّد المهدي عليه السّلام.
فهؤلاء إثنا عشر إماما كلّهم أئمة الشيعة يوالونهم و ينقطعون إليهم و يعتقدون خلافتهم بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم واحدا بعد واحد كما جاء التنصيص عليهم من النبيّ الأعظم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، و يتبعونهم في أمورهم كافّة سواء أ كانت اعتقادية أم فرعية عملية
الآلوسي و التشيع، ص: 223
أم قولية، و يعتقدون بطلان خلافة من تقدم عليهم إطلاقا، فالإمام للشيعة حتي تقوم السّاعة كما نصّ عليه مسلم في صحيحه و غيره من حفّاظ أهل السّنة بعد أبيه الإمام الحسن العسكري عليه السّلام هو أبو القاسم محمّد المهدي الحجّة المنتظر من أهل البيت عليهم السّلام و هو الّذي نصّ النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليه بالإمامة بعد آبائه الطاهرين عليهم السّلام و عناه
بقوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (و لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض)
و هو إمام زمانهم الّذي يدعون به يوم القيامة.
فهم ما برحوا متمسكين به و آخذين أحكامهم منه و من آبائه عليهم السّلام من طريق رواة حديثهم الأمناء علي الدين و الدنيا سواء في ذلك بين من كان معاصرا لآبائه عليهم السّلام أو من كان في عصر نوابه عليهم السّلام الأربعة أو كان بعدهم من رواة حديثهم عليهم السّلام فهم لا شك علي الحقّ و الهدي باتباعهم لأولئك الأئمة الكرام البررة من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و غيرهم في مهاوي البوار و الردي، و قديما
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في صحيح الحديث: (من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) [1]
أي ميتة كفر.
و من المعلوم أن المراد بإمام الزمان في مثل هذا العصر و ما قبله إلي سنة إحدي و ستين و مائتين و ما بعد هذا العصر إلي قيام السّاعة هو الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السّلام الّذي كان مولده عليه السّلام سنة ست و خمسين و مائتين، و تاريخه نور لا سواه بقرينة ما في حديث الثّقلين الدال علي أنه عليه السّلام لا يفارق القرآن أبدا، و
حديث: (يكون بعدي إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش)
فكلّ أولئك لا ينطبق علي غيرهم، فالّذين لم يقولوا بإمامته بعد أبيه الإمام الحسن العسكري عليه السّلام حتي تقوم السّاعة و لم يتمسّكوا بأذيال طهارته و ماتوا و ليس له في عنقهم بيعة فليسوا من المسلمين علي شي‌ء بنصّ هذا الحديث المجمع عليه بين الأمة أجمعين.
و الشيعة الإمامية هم أول القائلين به و أول من آمن و صدّق بذلك كلّه.
__________________________________________________
[1] أخرجه الحميدي في جمعه بين الصحيحين صحيح مسلم و البخاري، و سجله محمّد الخضر حسين في ص: (25) من كتابه (نقض كتاب الإسلام و أصول الحكم).
الآلوسي و التشيع، ص: 224

الّذين يعتقد الآلوسي بإمامتهم بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

أما الآلوسي فيقول و يعتقد أنّ الخليفة بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (أبو بكر بن أبي قحافة (رض)) ثم من بعده (عمر بن الخطاب (رض)) ثم من بعده (عثمان بن عفان (رض)) ثم من بعده رئيس الفئة الباغية (معاوية بن أبي سفيان) ثم من بعده ابنه: (يزيد بن معاوية) ثم من بعده: (مروان بن الحكم) الوزغ ابن الوزغ طريد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ثم من بعده: (عبد الملك بن مروان) ثم من بعده: (الوليد بن عبد الملك) ثم من بعده: (هشام بن عبد الملك) ثم من بعده: (عبد العزيز بن عبد الملك) ثم من بعده: (عمر بن عبد العزيز) حتي تنتهي السلسلة التي أولي حلقاتها من عرفت و آخرها متصل بالحمار ثم من بعد الحمار.
يعتقد الآلوسي أن إمامه و خليفته: (أبو عبد اللّه السّفاح العباسي) و من بعده:
(الدوانيقي أبو جعفر المنصور) حتي تنتهي السلسلة إلي المستعصم العباسي و من بعدهم، يعتقد بخلافة التتر، و من بعدهم يعتقد بخلافة آل عثمان حتي انتهت النوبة إلي عبد الحميد سلطان الترك فيعتقد أنه خليفة اللّه في أرضه و نائب رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أنه أمير المؤمنين و واجب الطاعة عليه و علي مثله من المألوسين، و قد ثبت أنه ليس من عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بل ليس من قريش في شي‌ء فثبت أنه ليس هو خليفة علي شي‌ء.
و أن إطاعة الآلوسي له و حكمه بأنه (أمير المؤمنين و خليفة اللّه في أرضه و نائب رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) كان يمشي وراء ميوله و أطماعه، و أن تمسّكه به ليس من التمسك بواحد من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قد ثبت باعترافه أن غير المتمسّك بهم في اعتقاده و أعماله ضالّ و مذهبه باطل، فالآلوسي لا شكّ في أنّه ضالّ و مذهبه باطل علي حدّ اعترافه لأنه لم يتمسك بأبي القاسم المهدي عليه السّلام خاتمة الأئمة من أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذين قصدهم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حديث الثّقلين و غيره من أحاديثه، و إنّما أطاع في أعماله و اعتقاده كما تشهد بذلك أقواله: (عبد الحميد سلطان العنصر التركي) فدلّ قوله هذا علي ضلالة نفسه و بطلان مذهبه، فانظروا يا أولي الألباب إلي تناقض هذا الرجل و تداعي أركانه و انهدام أساس مذهبه، فإنّك
الآلوسي و التشيع، ص: 225
تراه هنا يقول و حقا ما يقول: (إن من تمسّك بأهل البيت في أعماله و اعتقاده بل في كلّ أمر يكون من أهل الهدي، و من خالفهم في ذلك يكون من أهل الغواية و الردي) و هناك تراه قد تمسك باطلا بالسلطان عبد الحميد و دعاه (خليفة اللّه في أرضه و نائب رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين الواجب إطاعته علي الخلق أجمعين) و هو ليس من عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته عليهم السّلام و لا من قريش أصلا.
و حسبك هذا دليلا علي انحرافه عن أهل البيت النبويّ عليه السّلام و تمسّكه بغيرهم عليهم السّلام من أهل الضلال، فوقع في مهاوي الردي الّذي جعله هو لغير المتمسّك بهم أيا كانوا، فهو قد حكم- و الحمد للّه- علي غواية نفسه بنفسه، و عبّر عن سوء أصله بدلالة قوله و يكفينا هذا وحده مؤنة الردّ عليه.

إمام الزمان في الحديث ليس هو القرآن

فإن قالوا: إنّ المراد من إمام الزمان في الحديث القرآن.
فيقال لهم: إنّ ذلك باطل و غير صحيح من وجوه أما:
أولا: فلأن أحدهما لا يفيد معني الآخر عند إطلاقه، فهما غير مترادفين فلا يكونان واحدا مفهوما، و بعبارة أوضح إنّ لفظ الإمام إذا أطلق فلا يفهم منه القرآن و كذا القرآن إذا أطلق فلا يفهم من لفظه معني الإمام، و إرادة ذلك سلب لمعناه المطابقي و تحميله معني لا صلة بينه و بينها، و ليس في الحديث قرينة مطلقا تدلّ علي إرادة خلاف الظاهر الموضوع لكلّ واحد منهما من المعني في اللّغة، فهل يا تري في النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عيّا من أن يأتي بلفظ القرآن بدلا من لفظ الإمام لو كان يريد القرآن؟ أو تراه ملغزا مغريا لأمته بالجهل فيطلق لفظا و يريد غير معناه المطابقي بلا قرينة ترشدهم إلي إرادة خلافه، و لو أراده لعبّر به لا بغيره، فذلك كلّه غير ممكن و لا معقول صدوره من أقلّ النّاس فكيف بأفصح العرب نطقا و أبلغهم لسانا.
الثاني: لو كان يريد بالإمام القرآن لكان تقييده بالزمان- أي زمان المكلف- لغوا عبثا باطلا- و ذلك لوجود القرآن علي مرّ الدهور و الأيام منذ نزوله علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا يختص بزمان دون زمان.
الآلوسي و التشيع، ص: 226
الثالث: لو كان يريد به القرآن لوجب علي أعيان المكلفين أجمعين تعلّم القرآن، و التالي باطل بالضرورة لا سيّما عند الإمام أبي حنيفة الّذي ثبت عنه أنه لا يوجب حتّي الفاتحة منه.
الرابع: إن
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حديث: (إنّي مخلّف فيكم أمرين: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي)
أوضح دليل علي أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يريد بالإمام معناه المطابقي المعروف و هو من يقوم مقامه بأمر الأمة في الدين و الدنيا، و يؤكد هذا ما في غيره من الأحاديث
كقوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيما مر: (من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)
و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من خرج عن السّلطان شبرا و مات فقد مات ميتة جاهلية)
فإنه لا يفهم منه في أيّ محاورة و لسان أنه يريد القرآن لأنّه لا يفيده.

خصوم الشيعة غير متمسكين بعترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته عليهم السّلام في شي‌ء

ثانيا: قوله: «و ليس المتمسّك بهذين الحبلين إلّا أهل السنة».
فيقال: نحن لا نشك في أن الآلوسي نفسه يعلم كذبه و افتراءه في هذا الأمر، و لكن يحاول عبثا أن يستر الحقيقة بهذا التمويه المكشوف عن وجه أبناء المسلمين.
و نحن نقف هنا قليلا و نسأل الآلوسي، فنقول له: بما ذا يا تري تمسّك أهل السّنة بهذين الحبلين؟ أ تراهم تمسّكوا بهما بقولهم في سيّد النبيّين (يهجر) عند ما أمرهم بأن يأتوه بدواة و كتف ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده أبدا، فقال- الخليفة- عمر (رض): إن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ليهجر، أو قال ما معناه: غلبه الوجع [1] حسبنا كتاب اللّه فالتعويل عليه، أي أنه يتكلم بكلام المرضي و هو عين قوله فيه يهجر، و كتاب اللّه يقول في وصف نبيّه: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوي إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحي
و يقول تعالي: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
[الحشر: 7].
__________________________________________________
[1] و قد أبدل أولياء الخليفة كلمة (يهجر) مع ثبوتها في صحاحهم إلي كلمة (غلبه الوجع) ليرفعوا بذلك ما فيها من الاستهجان دون أن ينتبهوا إلي أن ذلك لم يغيّر شيئا من معناها، لأن معناها أنه يتكلم بكلام المرضي و هو عين الهذيان و الهذر في قول عمر (رض) (و هل يصلح العطّار ما أفسد الدهر).
الآلوسي و التشيع، ص: 227
أو يا هل تري أنّهم تابعوا الثّقلين بنصبهم غير عليّ عليه السّلام للخلافة و دفعهم له عليه السّلام عن منصبه الّذي نصّبه اللّه تعالي فيه، فقال تعالي: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
[القصص: 68] إطلاقا لا في تكوين و لا في تشريع، و قال تعالي: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَي اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً
[الأحزاب: 36] و قد قضي اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن يكون عليّا إمام الأمة و خليفتها الأوّل بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم دون من تمسّكوا به.
أو يا هل تري تمسّكوا بالعترة بانحرافهم عنهم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في أخذ أحكامهم من الأئمة الأربعة، أو أنهم تابعوا عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بمنعهم فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إرثها من أبيها و سلبهم منها فدك، أو أنهم تمسّكوا بأهل البيت عليه السّلام في حربهم لنفس [1] رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قتلهم و قتالهم لعترته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم تحت كلّ حجر و مدر، أو أنهم تمسّكوا بالثّقلين في نقضهم بيعة عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام يوم الغدير و طلبوا بعد ذلك البيعة منه، و حاولوا قتله و حرق بيته و من فيه و كان فيه فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم [2] سيّدة نساء العالمين، و الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة من الأولين و الآخرين و ريحانتا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الدنيا، أو يا هل تري تمسّكوا بهم بترك الرواية عن العترة عليهم السّلام في صحاحهم و مسانيدهم، و عدم الإحتجاج بشي‌ء منها و الإعراض عنها و احتجاجهم بروايات أعدائهم، فهذا شيخ الحديث و أجلّ حفاظ أهل السّنة قد أعرض عن الرواية عنهم لا سيّما عن الصّادق جعفر بن محمّد عليه السّلام علي ما سجله ابن تيمية في منهاجه ص: (143) من جزئه الرابع حيث يقول: (و قد استراب البخاري في بعض أحاديث- يعني الإمام الصادق عليه السّلام- لما بلغه عن يحيي بن سعيد القطان فيه كلام فلم يخرّج له).
__________________________________________________
[1] كما دلّ عليه آية المباهلة من أن نفس عليّ كنفس رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من عليّ عليه السّلام و أنّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نبيّ و ليس عليّ عليه السّلام نبيّا كما مرّ.
[2] قد سجل هذا ابن قتيبة في الإمامة و السياسة، و ابن عبد ربه في العقد الفريد، و الشهرستاني في ص: (73) من الملل و النحل بهامش الجزء الأول من الفصل و غيرهم من مؤرخي أهل السنة.
الآلوسي و التشيع، ص: 228
و يقول ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب ص (103) من جزئه الثاني في ترجمة الإمام الصّادق عليه السّلام: (إن ابن المديني سأل يحيي بن سعيد عنه عليه السّلام فقال: في نفسي منه شي‌ء، و مجالد أحبّ إليّ منه).
هذا ما دعا البخاري علي قول ابن تيمية أن يترك الإحتجاج بحديث الصّادق عليه السّلام ممن اشتهر بالكذب و أدرجه علماء أهل السّنة في عداد الضعفاء كما تجده في ص: (40) و: (41) من تهذيب التهذيب من جزئه العاشر، فإذا كان شيخ الحديث عند أهل السنّة و الآخر شيخ إسلامهم و غيرهم من حفاظهم قد قدموا علي صادق أهل البيت عليهم السّلام الخوارج و النواصب و المارقين المرتكبين الفجور و الشاربين للخمور و القاتلين النفوس المحترمة من أعداء الوصيّ و أهل بيت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فكيف يزعم الآلوسي أنهم من أتباع الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إفكا و زورا.
فالشيعة يا هذا هم الّذين تمسّكوا بثقلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و دخلوا من الباب الّذي أمروا بالدخول منه: باب مدينة علم النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الإمام بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أخذوا أحكام الشريعة من كتابها و سنّتها و أوصلوا فرعها بأصلها، و ركبوا سفينة نجاة الأمة من كلّ هلكة، و التجئوا إلي أمانها، و جاءوا من باب حطّتها، و اعتصموا بالعروة الوثقي التي لا انفصام لها من هدي آل محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يحرّمون حرامهم و يحللون حلالهم، و ينشرون أحكامهم و يبيّنون للملإ فضائلهم عليهم السّلام و يظهرون للناس ضلالة من خالفهم و كفر من جحد ولايتهم عليهم السّلام و آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي الحقّ و الهدي الّذي كان عليه جدّهم سيّد الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أعداؤهم علي الضلال و العمي، فكيف يجوز علي شيعتهم و هم المتمسّكون بهم شي‌ء مما ينسبه إليهم الخرّاصون، و يقوله فيهم المبطلون الّذين يخلطون الضلال بالهدي و لا يميزون بين أهل الحقّ و الباطل، قاتل اللّه الحرص علي الدنيا و قبّح اللّه التفاني في الخسائس و التهالك في الرذائل، فبئس ما سوّلت لهم أنفسهم أن سخط اللّه عليهم و في العذاب هم خالدون، نبذوا حكم اللّه وراء ظهورهم طمعا في المال، و حكموا بما تقتضيه رغبة ملوكهم و أمرائهم جشعا
الآلوسي و التشيع، ص: 229
بزخارف الدنيا و حرصا علي الوظائف و المناصب، فأرجفوا في المؤمنين و شتّتوا شمل المسلمين، و فرّقوا كلمتهم، و مزّقوا جامعتهم، و خرقوا وحدتهم، و لو لا أولئك الدجالون لائتلفت قلوبهم، و اتّحدت نفوسهم، و تعارفت أرواحهم، و لأصبح الجميع إخوانا يقوّي بعضهم بعضا، و لكن و للأسف غلبهم أولئك المفسدون، و استحوذوا علي مشاعرهم بالتمويه فخلبوا أبصارهم بأصباغه، و لعبوا أفكارهم بألوانه، فنحروا دين اللّه في سبيل أغراضهم الشخصية، و ضحّوا عباده المخلصين بإزاء أهوائهم النفسية: وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
[الشعراء: 227].

كتاب اللّه ساقط عند خصوم الشيعة لا عندهم

ثالثا: قوله: «لأن كتاب اللّه ساقط عند الشيعة».. إلي نهاية قوله.
فيقال فيه: قد عرفت غير مرّة أن القائل بسقوط كتاب اللّه و تحريفه هم خصوم الشيعة علي ما سجله عليهم السّيوطي في الدر المنثور و في إتقانه و البخاري في صحيحه كما مرّت الإشارة إليه فلا حاجة إلي التكرار بالإعادة.
و أما ما حكاه هذا العدو عن الكليني (رض) ففاسد و هو من أقبحه، إذ يكفي في كذبه و افترائه أنه موافق لخصوم الشيعة فهي من رواياتهم المسجلة في أصح كتبهم- كما مرّ ذكره- و ليس هو من أخبار الشيعة في شي‌ء، بل الشيعة تطعن فيه و تنبذه.
رابعا: قوله: «أما العترة ففي اللّغة أقارب الرجل».
فيقال فيه: مضافا إلي ما ألمعنا من عدم دخول غير الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام في الحديث و أنه لا ينطبق علي غيرهم مطلقا، أنه لا يريد بعترة في الحديث بقرينة قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (أهل بيتي) إلّا أخصّ أقاربه- و هم عليّ و فاطمة و أولادهم الطاهرون سلام اللّه عليهم أجمعين- و لو لم يقل: (أهل بيتي) لجاز لمتوهم أن يتوهم أنه يريد غيرهم أيضا، و يؤكد هذا ما رواه مسلم في صحيحه في آخر ص: (278) من جزئه الثاني في باب فضل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عند آية المباهلة و حديث الكساء،
عن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: (دعا رسول
الآلوسي و التشيع، ص: 230
اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليّا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال: هؤلاء أهلي)
و حينئذ فلا يدخل معهم في ذلك داخل و لا داخلة و لا دخيلة.

الشيعة لا ينكرون بعض العترة

خامسا: قوله: «و الشيعة ينكرون نسبة بعض العترة كرقية و أم كلثوم ابنتي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم».
فيقال فيه: الشيعة لا ينكرون ما هو المراد من العترة في الحديث، و لا ينكرون أقارب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إنّما ينكرون من ألصق نفسه بآل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم- كالآلوسي مثلا- من الدخلاء و الأجانب و قديما:
(لعن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الداخل في غير نسبه و الخارج عنه).
و أما قوله: «كرقية و أم كلثوم ابنتي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم».
فيقال فيه: إن ما ادعاه من وجود بنات لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم غير فاطمة الزهراء عليهم السّلام لم يأت عليه بدليل كعادته من الاقتصار علي صرف الدعاوي المجردة التي لا يقودها سوي العصبية المقيتة، و قد فاته أن يتمثل بقول الشاعر العربي:
و الدّعاوي ما لم تقيموا عليها بيّنات أبناؤها أدعياء
أما أن فاطمة عليها السّلام وحدها بنته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فثابت بالضرورة لا يختلف فيها من المسلمين اثنان، و أما غيرها فقد اختلفوا فيهن فبين مثبت و بين ناف، فمدعي الإثبات يحتاج إلي التدليل بأدلة مقبولة، أما أن الخصم يدلي علي خصمه بأحاديثه الخاصة لإثبات أن غير فاطمة عليهم السّلام بناته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فليس من الحجّة علي خصمه المنكر في شي‌ء و الدليل علي المدّعي و الأصل مع المنكر، و ليس علي المنكر أن يأتي بما يبطل هذه الدعوي و ينفيها لأنها غير ثابتة عنده، و ليس عليه النزول عند مدعيات خصمه لأنه ليس بأولي من عكسه.
و طبيعي إلي درجة البداهة بين الفريقين أن لفاطمة عليه السّلام- و هي أصغر هاتيك سنا- من رفيع الشرف و عظيم القدر أجلّه و أعلاه:
(أن اللّه يرضي لرضاها و يغضب لغضبها)
فهذا ابن حجر العسقلاني يحدّثنا في إصابته ص: (158) من
الآلوسي و التشيع، ص: 231
جزئه الثاني في ترجمته لفاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم
عن عائشة، و قال: فيه صحيح علي شرط البخاري و مسلم، عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال لفاطمة عليها السّلام: (يا فاطمة إن اللّه يرضي لرضاك و يغضب لغضبك).
و
يقول البخاري في صحيحه ص: (198) من جزئه الثاني في باب مناقب قرابة الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، و منقبة فاطمة بنت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إن فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة).
و
يقول مسلم في صحيحه في أواخر ص: (290) من جزئه الثاني في باب فضائل فاطمة عليه السّلام قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إن فاطمة سيّدة نساء المؤمنين و سيّدة نساء هذه الأمة).
هذا ما أوحي اللّه تعالي به لنبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في أن يعطيه لابنته الصدّيقة الكبري فاطمة الزهراء عليهم السّلام من الفضل أعلاه و من القدر أسماه، الأمر الّذي لم ينله غيرها من أقرانها مطلقا، و لم يرد في شأن رقية و أم [1] كلثوم من اللّاتي يقولون أنهن بناته شي‌ء من الفضل، و لم تكن لهما ميزة علي سائر النّساء بفضل إطلاقا، و إنما الوارد من طريق خصوم الشيعة بالأسانيد الصحيحة شي‌ء من الفضل لغيرهما ما لم يرد مثله و لا بعضه فيهما، فهذا المؤرخ الكبير عند أهل السنّة ابن عبد البر في استيعابه يقول في ص: (774) من جزئه الثاني، و ذاك ابن حجر العسقلاني يقول في إصابته ص: (160) من جزئه الثاني في ترجمة فاطمة بنت أسد (رض) أم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:
(لمّا توفيت فاطمة بنت أسد (رضوان اللّه عليها) ألبسها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قميصه المبارك و اضطجع في قبرها، فقيل له:
يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما شاهدناك تصنع ما صنعت لفاطمة؟ قال: لم يكن بعد أبي طالب عليه السّلام أبرّ بي منها، ألبستها قميصي لتكسي من حلل الجنّة، و اضطجعت في قبرها ليهون عليها).
__________________________________________________
[1] قيل إن رقية و أم كلثوم كانتا ابنتي هالة أخت خديجة (رض) و القائل بذلك غير واحد من أمناء الحديث و التأريخ، و من ذلك يقوي القول إنهما ليستا بناته، و قال جماعة آخرون كانتا ربيبتيه من جحش، و لعلم الهدي (رض) السيّد المرتضي تحقيق جميل فيهما يجدر بالمحققين الوقوف عليه.
الآلوسي و التشيع، ص: 232
و
في الإصابة أيضا أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (كفّنها في قميصه، و قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: لم ألق بعد أبي طالب عليه السّلام أبرّ بي منها).
و
قال: (قال ابن سعد. و كانت امرأة صالحة، و كان النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يزورها).
و
يقول العسقلاني في ص: (114) و: (312) و: (414) من جزئه الثامن، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في أم أيمن: (إنها إمرأة من أهل الجنّة).
و
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في سميّة أم عمار و في زوجها ياسر: (إنّ موعدكم الجنّة).
و لم يرد شي‌ء من هذا القبيل و لا بعضه بأسانيد صحيحة في أم كلثوم و رقية، و الّذي يوجب قوة القول بعدم كونهما ابنتيه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما أخرجه العسقلاني في إصابته ص: (161) من جزئه الثاني، و
حكاه محبّ الدّين الطبري في الرياض النضرة من جزئه الثاني قالا: (أهدي للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حلّة إستبرق فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام:
(اقسمها أخمرة بين الفواطم؛ فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و فاطمة بنت أسد، و فاطمة بنت حمزة)
قال: و لم يذكر غيرهن، و لعلّ الباقية فاطمة زوجة عقيل، فلو كانتا ابنتيه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لكان من غير الممكن المعقول أن يؤثر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي ابنتيه غيرهما من الأخريات و هما أقرب إليه رحما و أشدّهنّ به صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نوطا، و
هو صلّي اللّه عليه و آله و سلّم القائل في الصحيح المتواتر: (الرحم شحنة من الرحمن قال اللّه من وصلك وصلته و من قطعك قطعته)
. و هو صلّي اللّه عليه و آله و سلّم القائل فيما أخرجه البخاري في صحيحه ص: (34) من جزئه الرابع في باب من وصل وصله اللّه من كتاب الأدب: (قالت الرحم هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك و أقطع من قطعك، قالت: بلي يا ربّ، قال: فهو لك) فراجع ثمة حتي تعلم أن قول الآلوسي إنهما ابنتاه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يرتكز إلّا علي التقليد الأعمي الّذي لا يعتمد علي فهم و لا يستند إلي منطق و إن أدي ذلك بصاحبه إلي الكفر و الخروج عن الدين فيختار القول في رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قطع رحمه في تلك القسمة، و أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أمر بوصلها و خالف هو صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما أمر به فقطعها في ما ادعاه الخصم من ابنتيه، و أنه خالف قول اللّه تعالي حيث يقول: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلي بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ
[الأنفال: 75]
الآلوسي و التشيع، ص: 233
فقدّم في وصله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من أمر اللّه تعالي بتأخيره و أخّر من أمر اللّه بتقديمه، أو أنّه أمر الآخرين و نسي نفسه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فكان داخلا في قوله تعالي: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ
[البقرة: 44] و كلّ هذا لعمر اللّه كفر صراح نعوذ باللّه منه.

أولاد العباس غير داخلين في عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حديثه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

خامسا: قوله: «و لا يدخلون- أي الشيعة- أولاد العباس في العترة».
فيقال فيه: قد عرفت فيما تقدم أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هو الّذي أخرج أولاد العباس من حديثه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إخراجا، و لم يدخلهم مع عترته موضوعا و ذاتا، فالحديث لا ينطبق علي أحد منهم أبدا كما لا ينطبق المؤمن علي المنافق و المسلم علي الكافر، و لقد فات الآلوسي قول أبي فراس الحمداني في قصيدته العصماء مخاطبا بني العباس (رض) و مشيرا إلي ما ارتكبوه مع عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من ألوان العذاب و النكال و القتل و التشريد كما يحدّثنا بذلك أمناء التأريخ عند أهل السنّة ممن جاء علي ذكرهم:
ما نال منهم بنو حرب و إن عظمت تلك الجرائم إلّا دون نيلكم
يا جاهدا في مساويهم يكتمها غدر الرّشيد بيحيي كيف ينكتم
كم غدرة لكم في الدّين واضحة و كم دم لرسول اللّه عندكم
و أنتم آله فيما ترون و في أظفاركم من بنيه الطّاهرين دم
هيهات لا قربت قربي و لا رحم يوما إذا قست الأخلاق و الشّيم
كانت مودّة سلمان لهم رحما و لم يكن بين نوح و ابنه رحم [1]
__________________________________________________
[1] يشير بقوله هذا إلي قول اللّه تعالي فيما اقتصّه في القرآن من خبر ابن نوح عليه السّلام: وَ نادي نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ
كما في الآيتين (45- 46) من سورة هود، و في الآية دلالة واضحة علي أن الصّلاح هو الملاك في إلحاقه بأهله لا مجرد كونه خارجا من صلبه، لذا تراه تعالي نفاه عن أهله حكما لأنه غير صالح فلا يصلح أن يكون منهم، فبنو العباس من هذا القبيل فقد تركوا سفينة النجاة من كلّ هلكة و لم يركبوا فيها، و لم يكتفوا بذلك-
الآلوسي و التشيع، ص: 234
باءوا بقتل الرّضا من بعد بيعته و أبصروا بعض يوم شرّهم و عموا
بئس الجّزاء جزيتم في أبي حسن أباهم العلم الهادي و أمّهم
لا بيعة ردعتكم عن دمائهم و لا يمين و لا قربي و لا ذمم
لا يطغين بني العباس ملكهم بنوا عليّ مواليهم و إن رغموا [1]
أ تفخرون عليهم لا أبا لكم حتّي كأن رسول اللّه جدّكم
منكم عليه أمّ منهم و كان لكم شيخ المغنين إبراهيم أم لهم
يا باعة الخمر كفّوا عن مفاخركم لمعشر حبّهم يوم الهياج دم
إذ تلوا آية غنّي خطيبكم قف بالدّيار الّتي لم يعفها قدم
بنوا عليّ رعايا في ديارهم و الأمر تملكه النّسوان و الخدم
ليس الرّشيد كموسي بالقياس و لا مأمونكم كالرّضا إن أنصف الحكم
و من الطبيعي إلي درجة البداهة عند المسلمين أجمعين أن التبري من أعداء آل محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الضروريات الأولية في الدين الإسلامي، و لا شك في أن من عادي الصالحين منهم و إن كان من قرباهم- كبني العباس مثلا- كانوا من أظهر أفراد القاطعين لرحمهم، و من أقذر الجرائم و أقبحها قتلهم ذرّية المصطفي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و تمزيقهم كلّ ممزق، حتي ضيّقوا عليهم الأرض بما رحبت و أوسعوهم قتلا و تشريدا و ملئوا منهم السّجون و الطوامير، و جعلوهم في الأسس و بنوا عليهم الإسطوانات إلي غير ذلك مما يفتّت الأكباد و يمزّق المرائر و يملأ قلوب الإنسانية دما.
ألا هلم فاستمع أيها المسلم إلي ما يقول كتاب اللّه: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ
[هود: 113] و يقول تعالي: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
[القصص: 77] و يقول تعالي: وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
[الأعراف: 56] و يؤكد القرآن
__________________________________________________
- حتي خرّقوها خرقا و مزّقوها مزقا فكانوا من المغرقين و في زمرة الكافرين.
[1] يشير بهذا إلي أمّ العباس (رض) فقد أثبت التاريخ أنها كانت أمة لعبد المطّلب (رض) و لمّا ولدت العباس (رض) اجتمع أولاد عبد المطّلب إلي أبيهم و قالوا له إن العباس هو مولي لنا فليس له التقدم علينا في شي‌ء و لا يقاسمنا في شي‌ء مطلقا فتأمل.
الآلوسي و التشيع، ص: 235
ذلك بقوله تعالي: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمي أَبْصارَهُمْ
[محمّد: 22].
فأي قطع يا تري من بني العباس لأرحامهم قربي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أفظع من قتلهم و تذليلهم و تحقيرهم و تشريدهم و بناء الإسطوانات عليهم و في طليعتهم أئمة الهدي من عترة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فإنهم عليهم السّلام لاقوا من العباسيّين العتاة المردة أنواع التعذيب و الأذي حتي خرجوا من الدنيا مقتولين و مسمومين علي أيدي الأمويّين و العباسيّين، فهل يا تري هناك فسادا أعظم من ذلك الفساد؟ أو يا تري هناك قطع رحم أشدّ قطعا من قطعهم؟ و لا شكّ في أنّ من لا يجوز الركون إليه في مدلول الآية يجب مناواته و بغضه أيّا كانوا، فالظالمون لآل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من آل العباس في هذا القبيل، لذا يجب بغضهم و معاداتهم لأنهم قطعوا أرحامهم و عاثوا في الأرض الفساد فهم داخلون في منطوق الآيات.
فالشيعة إنما يبغضون العباسيّين الّذين أذلّوا ذريّة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قتلوهم، لأن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نهي عن بغضهم حتي جعل الموت علي بغضهم موتا علي الكفر و النفاق، فقال فيما تواتر
عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من أبغضهم فقد أبغضني، و من أبغضني فقد أبغض اللّه، و من أبغض اللّه فقد كفر)
و يقول القرآن: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها
[التوبة: 68] و يقول الكتاب: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
[المجادلة: 22] و مفهوم هذه الآيات واضح و هو لا يتفق مع ما يدّعيه الآلوسي من حبّه لبني العباس العتاة الطغاة الّذين حادّوا اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و كذبوا بفضل ذرّيته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قطعوا فيهم صلته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا أنالهم اللّه تعالي شفاعته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
لذا فإن الشيعة لا يتوقفون عن بغضهم تبعا لكتاب اللّه و تمسّكا بسنّة نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم اللّذين أمرا ببغض أعداء الوصي و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قالا إنه لا إيمان لمن أحبّ عدوهم و أشاد بذكرهم المائت كالآلوسي و أخيه الهندي، و قديما لعن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم المستحلّين من عترته أهل بيته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما حرّم اللّه كما تقدم تفصيله مستوفي.
الآلوسي و التشيع، ص: 236
فإذا كان هذا ما حكاه اللّه تعالي في كتابه عن مبغضي نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إذا كان هذا ما قاله رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في مبغضي عترته أهل بيته، فكيف يجوز علي شيعتهم ألّا يبغضوا أعداء اللّه و أعداء رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الهداة من أهل بيته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و اللّه تعالي يقول: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
[التوبة: 71].

الشيعة لا يخالفون اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في بغض من أبغضاه

و ما كانت الشيعة ليخالفوا كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا يبغضون من أبغضه اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إن سرّ الآلوسي أن يخبّ في أثره قوم عمون، و يقول القرآن: الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ
[التوبة: 67] لذا كان طبيعيا ألّا يبغض الآلوسي و أخوه الهندي طغاة العباسيّين و مردة الأمويّين لأنهما منهم أو من بعضهم.
فأيّ مسلم بعد هذا كلّه يشكّ في وجوب بغض المنافقين المفسدين في الأرض و العاثين فيها الفساد من العباسيين و المروانيّين و أبناء أبي سفيان الطّلقاء و أمثالهم من البغاة الّذين أماتوا الدين و المسلمين [1] حينما تملّكوا رقابها و أحيوا سنن الجبارين عند ما أخذوا بزمامها و أبادوا الأبرار بالقتل و السمّ و النار و أبقوا الأشرار المستحقّين عذاب النار: أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ
[الأنعام: 70].

الشيعة لا يبغضون أولاد فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

سادسا: قوله: «فهم- أي الشيعة- يبغضون أولاد فاطمة عليه السّلام».
فيقال فيه: إنّ الشيعة لا يبغضون أبناء فاطمة عليهم السّلام و إنما يبغضون أعداءها
__________________________________________________
[1]
أخرج الحاكم في مستدركه ص: (489) من جزئه الرابع بإسناده الصحيح علي شرط البخاري و مسلم إلي أبي ذر من طريقين، عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (إذا بلغ بنو أمية أربعين اتخذوا عباد اللّه خولا، و مال اللّه دخلا، و كتاب اللّه دغلا)
و
أخرج أيضا في ص: (480) من مستدركه من جزئه الرابع و الذهبي في تلخيصه معترفا بصحته علي شرط الشيخين، عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال اللّه دولا، و عباده خولا، و دينه دغلا).
الآلوسي و التشيع، ص: 237
و أعداء بعلها و بنيها عليه السّلام أولئك الذين أبغضهم اللّه تعالي و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لعنهم و أعدّ لهم عذابا أليما من المناوءين لآل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كالآلوسي و غيره من أهل الدجل.
نعم إنّما أبغض أبناء فاطمة عليها السّلام و جاهر بالعداء لهم هو هذا الآلوسي و أشياخه من بني أمية و بني العباس الّذين تتبعوهم أحياء و أمواتا فقتلوهم و قتلوا شيعتهم، و كان أولئك الكافرون بأنعم اللّه يقتلونهم علي الظنّة و التهمة حتي ألجأوهم إلي ملازمة التقيّة خوفا من الاستئصال و الاضطهاد، و ما ذا يا تري يصنع الضعيف العاقل إذا ما ابتلي بذلك، و لا شكّ في أن مجرد الخوف علي النّفس أو المال أو العرض من استيلاء أولئك الظّالمين عليها يكفي في مشروعية العمل بها لوجوب دفع الضرر المحتمل عقلا و شرعا عند ظهور أماراته، فضلا عمّا إذا كان الضرر مقطوعا به كما كان يتعرض له أولئك البررة من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و شيعتهم المخلصون لهم من عتاة الأمويّين و فراعنة العباسيّين في تلك العصور المظلمة التي كان النّاس فيها عبيد ملوكهم و أمرائهم، فتشبعت أفكارهم بروح الانتقام من أخصامهم و الإجهاز علي حياتهم، و القرآن يعزز هذا و يقرره بقوله تعالي: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ
[النحل: 106] و يقول الكتاب: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ‌ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً
[آل عمران: 28] و قال تعالي: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
[التغابن: 16] و قال تعالي: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
[الحج: 78] و سيأتي تفصيل ذلك في بابه إن شاء اللّه تعالي.
سابعا: قوله: «و سيأتي في الأبواب الآتية مخالفتهم- أي الشيعة- للثّقلين في كلّ مسألة».
فيقال فيه: و ستعلم أيها القارئ هناك من الموافق و من المخالف لهما في عقيدته و سلوكه، و تعلم الصّادق من الكاذب، و أنّ ما زعمه من مخالفة الشيعة للثّقلين معكوس و منكوس عليه و حجّة لنا عليه لا له، و قد عرفت ذلك غير مرّة فيما سلف، و سيجي‌ء إنّ من أظهر مصاديق المخالفين لهما و المنحرفين عنهما هو و أخوه الهندي و غيرهما من أعداء الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
الآلوسي و التشيع، ص: 238

طعن الآلوسي في الشيعة طعن في نفسه

قال الآلوسي ص: (40): «إن أسلاف الشيعة و أصول الضلالات كانوا عدّة طبقات، الطبقة الأولي: هم الّذين استفادوا هذا المذهب بدون واسطة من رئيس المضلّين إبليس اللّعين، و هؤلاء كانوا منافقين جهروا بكلمة الإسلام و أضمروا في بطونهم عداوة أهله، و توصلوا بذلك النفاق إلي الدخول في زمرة المسلمين و مقتداهم علي الإطلاق عبد اللّه بن سبأ اليهودي الصنعاني، فقال: إنّ الأمير (كرم اللّه وجهه) هو وصيّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أفضل النّاس بعده و أقربهم إليه، و احتج علي ذلك بالآيات الواردة في فضائله و الآثار المروية في مناقبه، و أنّ النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم استخلفه بنصّ صريح، و هو قوله تعالي: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا
الآية، و لكن الصّحابة قد ضيّعوا وصيّه و غلبوا الأمير بالمكر و الزور و ظلموه، فعصوا اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ارتدّوا عن الدّين إلّا القليل منهم محبّة للدنيا و طمعا في زخارفها.
و استدل علي ذلك فيما وقع بين فاطمة عليه السّلام و بين أبي بكر (رض) في مسألة فدك- إلي أن قال- و قال: إنّ الأمير يصدر منه ما لا يقدر عليه بشرّ من قلب الأعيان و الإخبار بالمغيّبات و إحياء الموتي و بيان الحقائق الإلهية و الكونية و فصاحة الكلام و التقوي و الشجاعة و الكرم إلي غير ذلك مما لا عين رأت و لا أذن سمعت- إلي أن قال-:
الطبقة الثانية: جماعة ممن ضعف إيمانهم من أهل النفاق، و هم قتلة عثمان و أتباع عبد اللّه بن سبأ الّذين كانوا يسبّون الصحابة».
ثم تكلّم بسلسلة طويلة من الهراء من ص: (42) إلي ص: (51) و ألصق أمورا بالشيعة قد افتري في بعضها عليهم كعادته في الافتراء، و أورد من كلمات سيّد البلغاء بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في ذمّ أناس لا تعرفهم الشيعة و قال إنهم من الشيعة، و هم في واقع الأمر من أظهر أفراد أسلاف (الشيخ) الآلوسي من رؤساء الخوارج و النواصب من المنافقين الأولين الأعداء الألدّاء لعليّ و بنيه الطّاهرين عليهم السّلام.
الآلوسي و التشيع، ص: 239
ثم ذكر عقائد أسلافه في التجسيم و الحلول و رؤية اللّه و غير ذلك من عقائد اليهودية و النصرانية و المجوسية و خرافاتهم و كفرهم التي تقدم عليك بعضها مشفوعا بدليله من صحيح البخاري و غيره، فنسب ذلك كلّه إلي كبار عبّاد اللّه الصّالحين من شيعة آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قد أبت علي الآلوسي نفسه ألّا يدع شيئا من التشنيعات و المفتريات في تلك الأساطير المهملة إلّا و يلحقها بالشيعة يبتغي بذلك مرضاة أميره (التركي) عبد الحميد ليعطيه ما يريد، لذا تراه قد أتعب من أجله نفسه فطعن في وجدانه و ضميره، فصرف شطرا كبيرا من عمره في تسجيل تلك المفتريات و نشر هاتيك الخزعبلات دون أن يشعر بأن اللّه تعالي سبحانه عن ذلك كلّه حسابا عسيرا.

لا وجود لعبد اللّه بن سبأ في كون الوجود إطلاقا

المؤلف: و نحن نجيبه علي الإجمال عن تلك الأسطورة و تجد التفصيل في باب الطعون من وجوه:
الأول: إنّ عبد اللّه بن سبأ [1] من قبيل العنقاء و الغيلان لا وجود له إلّا في مخيلة خصوم الشيعة، و هم الّذين نحتوا هيكله ليبنوا عليه الطعن في الشيعة و النيل من كرامتهم، ليزعموا أن مقتداهم علي الإطلاق عبد اللّه بن سبأ، فإذا كان من الثابت المعلوم بالبداهة أن قصّة السّبائية و أسطورتها و بطلها عبد اللّه بن سبأ كلّها مختلقة لا وجود لها إلّا في مخيلة قصّاصيها، فكيف يزعم هذا تقليدا للآخرين من أسلافه بلا تفكير و لا فحص و لا تنقيب أن بطلهم الخيالي و أسطورته الكاذبة هو مقتدي الشيعة علي الإطلاق، و لو فرضنا جدلا أن عبد اللّه بن سبأ قد تجسد في مخيلتهم ثم صار شخصا مرئيا في الخارج فإن الشيعة قديما و حديثا تتبرأ منه و تلعنه كما تتبرأ من أصحاب السّبت و تلعنهم و تلعن من ينسبه إليهم إفكا و زورا، فإذا كانت الشيعة يتبرءون منه و يلعنونه فكيف يصح لعاقل أن يقول إنه مقتداهم و مؤسس مذهبهم إذ لا يجوز عقلا أن يتبرءوا من مقتداهم لو صح ما يزعمه
__________________________________________________
[1] و قد أثبت منشأ الأسطورة السّبئية و اختلاقها الفاضل المحقق المعاصر السيّد مرتضي العسكري في كتابه: (عبد اللّه بن سبأ) يجدر بالمحققين الّذين يريدون الوقوف علي حقيقة قصته أن يرجعوا إليه.
الآلوسي و التشيع، ص: 240
الدجالون، ألا تري أنه لا يجوز لمن اقتدي في مذهبه بمذهب أبي حنيفة، أو محمّد بن إدريس الشافعي، أو مالك، أو أحمد بن حنبل أن يتبرأ منهم و يلعنهم و ينكر نسبة مذهبه إلي واحد منهم.
ثم أن الذين جاء الآلوسي علي ذكرهم و عدّهم من الشيعة كالخطابيّين و الغلاة و أضرابهم ليسوا من الشيعة و لا يصح عدّهم من فرق المسلمين، و الشيعة تتبرأ منهم كما تتبرأ من المتمردين علي النفاق و المنقلبين علي الأعقاب، و تتبرأ من بطانة الشرّ كما جاء التنصيص علي ذكرهم في القرآن و الأحاديث المتواترة بين الفريقين، فما ذنب الشيعة إذا كان هناك من يعتقد خلاف ما يعتقد المسلمون، إذ لا يجوز في عرف النقد أن يطعن الآلوسي في المسلمين أجمعين لوجود بعض الطوائف تستوجب الطعن، كما لا يصح التعويل علي مزاعم ينسبها إليهم أعداؤهم، و لا يجوز الأخذ بأباطيل يرميهم بها خصماؤهم، و لكن الآلوسي لم يراع هذه الأصول الأصيلة في باب المناظرة مع خصومه لذا تراه يذكر عقائد بعض الغلاة الخارجين عن الإسلام بحكم الشيعة و يزعم أنهم من الشيعة، نعوذ باللّه من كلّ خوّان أثيم و نستجير به من كلّ متزلّف إلي الظالمين بالحيف علي من يبغض فيلحق بهم من الدواهي و عظائم الأمور ما يقتضيه بغضه و يوجبه حقده و يوحيه إليه ضميره الخبيث، و لا يراقب اللّه و لا يخشي حسابه في الآخرة: وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً
[الأعراف: 58].

أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام هو وصيّ النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

الثاني: قوله: «إن الوصيّ بعد رسول اللّه أمير المؤمنين و أفضل النّاس بعده و أقربهم منه».
فيقال فيه: إن الآلوسي ذكر هذه الجملة و لم يعقبها بشي‌ء يبطلها أو يخدش في شي‌ء من صحتها، و من حيث أنه لم يأت بما يبطل هذه الدعوي علمنا صحتها، و مع ذلك فإنا نقول له: أما كون عليّ عليه السّلام وصيّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حقّا فثابت بالأدلة القاطعة المفيدة المقنعة لمن لم يتسربل بسربال الجهل و التعصب، فمن ذلك ما أخرجه إمام أهل السنّة أحمد بن حنبل في مسنده ص: (111)
الآلوسي و التشيع، ص: 241
و (331) من جزئه الأول، و السّيوطي في الدر المنثور ص: (97) من جزئه الخامس، و محبّ الدين الطبري في الرياض النضرة ص: (168) من جزئه الثاني:
أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أوصي إليه عليه السّلام فلتراجع.
و حسبك قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام عند نزول آية: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
[الشعراء: 214]
(إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا)
علي ما سجله حفاظ أهل السنّة و مؤرخوها و أهل التفسير منهم كالطبري في تفسير سورة الشعراء، و الثعلبي، و السّيوطي، و ابن كثير في تفسيره ص:
(351) من جزئه الثالث، غير أنه غيّر فيه و بدّل فوضع مكان
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم)
أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال: (كذا و كذا) ليموه علي النّاس الحقيقة عتوّا منه علي اللّه و جحودا لرسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بغضا لوصيّ نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و سجله الطبري في تاريخ الأمم و الملوك ص: (217) بطرق مختلفة من جزئه الثاني، و أرسله ابن الأثير إرسال المسلّمات في ص: (22) من كامله من جزئه الثاني، و أخرجه الحاكم في مستدركه ص: (132) من جزئه الثالث و الذهبي في تلخيصه معترفا بصحته، و الخازن في ص: (105) من تفسيره من جزئه الخامس، و محيي السنّة عند أهل السنّة البغوي في تفسيره بهامش تفسير الخازن ص: (105) من جزئه الخامس، و حكاه محمّد حسنين هيكل في كتابه حياة محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ص: (104) من الطبعة الأولي و قد حذفه من الطبعة الثانية إطفاء لنور اللّه، وَ يَأْبَي اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ
[التوبة: 32].
و يقول ابن سعد في ص: (61) و (63) من القسم الثاني من طبقاته من جزئه الثاني: إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم (عهد إلي عليّ عليه السّلام أن يغسله و يجهزه و يدفنه) و أخرجه أيضا كلّ من أبي الشيخ، و ابن النجار علي ما نقله عنهما المتقي الهندي في ص: (52) و (54) من كنز العمال من جزئه الرابع.
و
أخرج الذهبي في ميزانه عند ذكره لشريك ص: (446) من جزئه الأول، عن محمّد بن حميد الرازي، عن سلمة الأبرش، عن ابن إسحاق، عن أبي ربيعة الأيادي، عن ابن بريدة، عن أبيه بريدة، عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (لكلّ نبيّ وصيّ
الآلوسي و التشيع، ص: 242
و وارث، و إن وصيّي و وارثي عليّ بن أبي طالب) ثم قال: إنه كذب، و زعم أن شريكا لا يحتمله، و قال: إن محمّد بن حميد الرازي ليس بثقة).
و لكن الذهبي لم يعتدل هنا في ميزانه إذ حكم بكذب هذا الحديث دون أن يعقبه بما يكون تبريرا له عما رماه به من الكذب سوي قوله: إن شريكا لا يحتمله، مع أن كلا من الإمام أحمد بن حنبل، و البغوي محيي السنّة عند أهل السنّة، و ابن جرير و ابن معين إمام الجرح و التعديل عندهم و غير هؤلاء من طبقتهم قد حكموا بوثاقة محمّد بن حميد و رووا عنه فهو شيخهم في الحديث، فالرجل غير متهم بالرفض و لا بالتشيّع و إنما هو من سلف الذهبي فلا وجه لاتهامه في الحديث إلّا بغض الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و
أخرج الطبراني في معجمه الكبير و هو الحديث: (2570) من أحاديث كنز العمال في نهاية ص: (155) من جزئه السادس، بالإسناد إلي سلمان الفارسي، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إن وصييّ و موضع سري و خير من أترك بعدي ينجز عدتي و يقضي ديني عليّ بن أبي طالب عليه السّلام)
و الحديث نصّ في أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم وصيّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إمام أمته بعده.
و
أخرج الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء، و نقله عنه ابن أبي الحديد المعتزلي في ص: (250) من المجلد الثاني من شرح نهج البلاغة، عن أنس قال:
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يا أنس أول من يدخل عليك هذا الباب إمام المتقين، و سيّد المسلمين، و يعسوب الدين، و خاتم الوصيّين، و قائد الغرّ المحجّلين، قال أنس: فجاء عليّ، فقام إليه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مستبشرا فاعتنقه، و قال له: أنت تؤدّي عنّي، و تسمعهم صوتي، و تبيّن لهم ما اختلفوا فيه من بعدي).
و
أخرج الطبراني في معجمه الكبير بالإسناد إلي أبي أيوب الأنصاري، و هو الحديث: (2541) من أحاديث كنز العمال ص: (143) من جزئه السادس، عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (يا فاطمة أما علمت أنّ اللّه عزّ و جلّ اطّلع علي أهل الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبيّا، ثم اطّلع ثانية فاختار بعلك، فأوحي إليّ فأنكحته و اتخذته وصيّا).
الآلوسي و التشيع، ص: 243
و أخرج الحاكم في مستدركه ص: (111) من جزئه الثالث صحيحا علي شرط البخاري و مسلم، عن ابن عباس، قال: (لعليّ أربع خصال ليست لأحد غيره: هو أول من صلّي مع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هو الّذي كان لواؤه معه في كلّ زحف، و هو الّذي صبر معه يوم فرّ عنه غيره، و هو الّذي غسّله و أدخله قبره) و حكاه ابن عبد البر في استيعابه في ترجمته لعليّ عليه السّلام.
و
أخرج الحاكم في صحيح مستدركه علي شرط الشيخين في باب فضائل عليّ عليه السّلام: (أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عهد إلي عليّ بأن يبيّن لأمته ما اختلفوا فيه من بعده).
و يقول البخاري في صحيحه ص: (64) من جزئه الثالث في باب مرض النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من كتاب الوصايا، و مسلم في كتاب الوصايا ص: (14) من جزئه الثاني، (عن إبراهيم، عن الأسود، قال: ذكر عند عائشة: أنّ النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أوصي إلي عليّ، فقالت: من قاله؟ … الحديث.
و أخرج البخاري في صحيحه أيضا ص: (83) من جزئه الثاني في باب الوصايا من كتاب الوصايا، عن الأسود، قال: (ذكروا عند عائشة أن عليّا كان وصيّا، فقالت: متي أوصي إليه؟) و لا يخفي علي الفطن بأن الشيخين البخاري و مسلما أخرجا هذا الحديث في صحيحيهما دون أن يتفطنا إلي صراحته في وصيّة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إلي عليّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إلّا لكتماه كما كتما غيره من أحاديث فضله المتواترة بعضها لفظا و بعضها معني، كلّ ذلك لئلّا يتسلح بها خصومهم لهدم عروش السّقيفة لا سيّما أنّ لهم في كتمان الحديث مذهبا معروفا سجّله ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري ص:
(160) من جزئه الأول في شرح حديث البخاري في باب من خص بالعلم قوما دون قوم في أواخر كتاب العلم، فإن الذاكرين لعائشة أنّ النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أوصي إلي عليّ عليه السّلام كانوا من أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو التابعين الّذين لا يبالون في مكاشفة عائشة بما لا ترغب في مكاشفتها به لأنه مناف لما قامت عليه السّقيفة، و لا شكّ في أنّ الّذين ذكروا عندها وصيّة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إلي عليّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يكونوا خارجين
الآلوسي و التشيع، ص: 244
عن أمته بل كانوا من أصحابه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هم خير القرون و الّذين يلونهم عند الخصوم، لذا فإنها قد اضطربت اضطرابا عظيما عند ما سمعت حديثهم عن الوصيّة إليه عليه السّلام يدلك علي ذلك بوضوح ردّها البارد غير الوارد.
و من ذلك كلّه يتضح أن عليّا عليه السّلام وصيّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حقّا، و ليس لعاقل وقف علي ما سجله جهابذة أهل السنّة في حفظ الحديث و إخراجه أن يجحد وصيّة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام أو يكابر فيها إلّا إذا كان في قلبه بغض الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فإنه لا يفيد معه ألف دليل و دليل.

عليّ عليه السّلام أفضل النّاس بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بشهادة ما حكاه أهل السنّة عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

و أما كونه عليه السّلام أفضل النّاس بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فلما
أخرجه الحاكم في الصحيح [1] من مستدركه علي شرط البخاري و مسلم في باب فضائل عليّ عليه السّلام عن البيهقي، أنه ظهر عليّ بن أبي طالب من البعد، فقال النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (هذا سيّد العرب، فقالت عائشة: أ لست سيّد العرب؟ فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: أنا سيّد العالمين و هو سيّد العرب).
و
أخرج أيضا صحيحا علي شرطهما عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (أنا سيّد ولد آدم و عليّ سيّد العرب)
و أما كونه عليه السّلام أقرب النّاس من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم منزلة فناهيك من آية المباهلة الصريحة في أنّ نفس عليّ كنفس رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في الفضائل و المناقب إلّا نبوته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أفضليته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من عليّ عليه السّلام فهي وحدها تكفي لإثبات كونه عليه السّلام أقربهم منه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم منزلة.
__________________________________________________
[1] و أخرجه ابن حجر في ص: (73) في الفصل الثاني في فضائله عليه السّلام من الباب التاسع من صواعقه، و ابن عبد البر في استيعابه ص: (473) و (474) من جزئه الثاني، و المتقي الهندي في منتخب كنز العمال بهامش الجزء الخامس من مسند أحمد ص: (33) و المحبّ الطبري في ذخائره العقبي ص:
(58) و (59) و (78) و في رياضه النضرة ص: (193) من جزئه الثاني، و أبو نعيم في حلية الأولياء ص: (65) من جزئه الأول، و غير هؤلاء من حملة الحديث عند أهل السنّة.
الآلوسي و التشيع، ص: 245
و إن أردت المزيد فإليك ما أخرجه شيخ الحديث عند أهل السنّة البخاري في صحيحه في أواخر ص: (75) في باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان ابن فلان من جزئه الثاني من كتاب الصلح، و
أخرجه في أواخر ص: (196) من صحيحه في باب مناقب عليّ بن أبي طالب من جزئه الثاني عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال لعليّ: (أنت منّي و أنا منك)
فإنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يقله لغيره مطلقا، و حسبك هذا فإن الأحاديث في مثل ذلك من طرق أهل السنّة كثيرة متواترة لا يسع المقام تعدادها.

آية الانقلاب علي الأعقاب و حديث الحوض آيتان علي انقلاب الجمهور

الثالث: قوله: «و احتج علي ذلك بالآيات الواردة في فضله».
فيقال فيه: إنها لعمر الحق آيات بيّنات و حجج و دلالات تأخذ بأعناق النقاد إلي الإذعان بها و التسليم لها و النزول عند حكمها، إذ في مخالفتها حرب اللّه و حرب رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فدونكها نصوصا واضحة علي خلافته عليه السّلام بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بطلان خلافة المتقدمين عليه و قد مرّت عليك شذرة منها فراجع.
الرابع: قوله: «و لكن الصّحابة ارتدوا».
فيقال فيه: ليس هذا القول من بطل أسطورة الآلوسي المصنوع من خياله و إنما هو من قول اللّه تعالي و قول رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فإن كنت في شك من ارتداد جمهور الصّحابة و انقلابهم علي أعقابهم فانظر إلي ما أنزل اللّه في القرآن من آية الانقلاب علي الأعقاب و المرود علي النفاق، و إلي ما أخرجه حفاظ أهل السنّة و جهابذة الحديث عندهم عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حكمه بارتدادهم، فهذا البخاري يحدّثنا في أبواب صحيحه عن هذا الارتداد، فمن ذلك ما أخرجه في باب الحوض في آخر ص: (93) و (94) من جزئه الرابع، و في باب قوله تعالي:
وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا
[النساء: 125] ص: (154) من جزئه الثاني من كتاب بدء الخلق، و في باب قوله تعالي: وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ
[المائدة:
117] في أواخر ص (85) من جزئه الثالث،
عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (ليردن عليّ
الآلوسي و التشيع، ص: 246
ناس من أصحابي الحوض حتّي إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي، فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك).
و
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إنّي فرطكم علي الحوض، من مرّ عليّ شرب، و من شرب لم يظمأ أبدا، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم و يعرفوني، ثم يحال بيني و بينهم، فأقول:
إنهم منّي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سحقا سحقا لمن بدّل بعدي).
و
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض، فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا علي أدبارهم القهقري).
و
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (بينا أنا قائم فإذا زمرة، حتّي إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم، فقال: هلم، فقلت: أين؟ قال: إلي النار و اللّه، قلت: و ما شأنهم؟ قال:
إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة حتّي إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم، فقال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلي النار و اللّه، قلت: و ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل النعم).
و
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إنّ أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول:
أصحابي، فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدّين علي أعقابهم منذ فارقتهم).
و
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إنّه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول:
يا ربّ أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين علي أعقابهم القهقري منذ فارقتهم).
و إنما أوردنا لك ذلك كلّه لتعلم ثمة أن ارتداد جمهور الصّحابة علي الأعقاب منذ فارقهم النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن من أقاصيص عبد اللّه بن سبأ المزعوم وجوده في زعم خصوم الشيعة، و لا من أسطورته المتجسدة في أدمغتهم المخبولة كما يزعم الآلوسي غمطا للحق و تغطية لوجه الحقيقة، و إنما هو من قول اللّه و قول
الآلوسي و التشيع، ص: 247
رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم اللّذين حكما بأن الّذي يخلص من الصّحابة من النار: (مثل همل النعم) و ليس الهمل في اللّغة إلّا الضّال [1] من الإبل، و يعني ذلك أن الّذي لا يدخل النّار منهم في قلّة الإبل الضّالة، و هذه القلّة النّاجية هي التي عناهم القرآن في آخر آية الانقلاب بقوله: وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
[آل عمران: 166].
و بعد فإن اللّه يعلم و كلّ النّاس يعلمون أنه لم تحدث حادثة بعد وفاة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كما هو المدلول عليه بقوله
في الحديث: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)
سوي بيعة أهل السّقيفة التي نصّبوا فيها أبا بكر خليفة (رض) دون اللّه و دون رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هذا شي‌ء لا يختلف في علمه الذكي و الغبي، و العالم و الجاهل، و المسلم و الكافر، فإذا كان القول بذلك يعدّ ذنبا فالمسئول عنه كتاب اللّه و خاتم الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كما تقدم منّا لأنهما قالا بذلك، و ما كان الشيعة و هم شيعة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام ليخالفوا اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في شي‌ء من عقائدهم و أقوالهم، و إن ساء الآلوسي ألّا يصغي إلي مزاعمه أحد من المسلمين فإن ذلك لا يضرّنا لا في قليل و لا كثير.

الاستدلال بما وقع بين فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر (رض) صحيح

الخامس: قوله: «و قد استدلوا علي ذلك- أي علي بطلان خلافة أبي بكر (رض)- فيما وقع بين فاطمة عليه السّلام و أبي بكر في أمر فدك».
فيقال فيه: كان اللّازم علي الآلوسي أن يذكر لنا الوجه في بطلان الاستدلال بما وقع بين فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بين أبي بكر (رض) و من حيث أنه لم يأت علي ذكره و اقتصر علي مجرد القول علمنا صحته و صوابه، و قد مرّ عليك حديث النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيما سجّله العسقلاني في إصابته بسند صحيح، و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يا فاطمة إنّ اللّه يرضي لرضاك و يغضب لغضبك).
__________________________________________________
[1] تجده في مادة همل من نهاية ابن الأثير و غيره من أهل اللّغة.
الآلوسي و التشيع، ص: 248
و عرفت أن فاطمة عليها السّلام ماتت و هي غضبي عليه (رض) فيما سجّله البخاري في آخر ص: (123) في باب فرض الخمس من صحيحه، كما أنه أخرج في ص: (198) من جزئه الثاني من صحيحه في باب مناقب قرابة الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و منقبة فاطمة بنت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم
أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال: (فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني) [1].
و
أخرج أيضا في أول صفحة: (176) من صحيحه في باب ذبّ الرجل عن ابنته، أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال: (فاطمة بضعة منّي يريبني ما يريبها، و يؤذيني ما يؤذيها) [2].
و في القرآن يقول اللّه تعالي: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ
[الأحزاب: 57] فراجع ثمة حتّي تعلم صحة موتها غضبي عليه، فإذا كان هذا ثابتا في أصح الكتب عند خصوم الشيعة فليخبرنا الآلوسي عن برهان بطلان ما قاله خصمه الشيعي في بطلان خلافة المستخلّفين بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
[البقرة: 111].

الّذين قتلوا عثمان (رض) هم أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا غيرهم

السادس: قوله: «و جماعة ممن ضعف إيمانهم من أهل النفاق و هم قتلة عثمان و هم أتباع عبد اللّه بن سبأ».
فيقال فيه: ما برح الآلوسي يضرب علي طنبور ابن سبأ، و يرينا نغمة أخري من نغماته التي يحاول بها عبثا أن يثبت أنّ الّذين قتلوا عثمان هم أتباع تلك
__________________________________________________
[1] و أخرجه أيضا في ص: (202) من صحيحه في باب مناقب فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عن المسور بن مخرمة، و أخرجه مسلم في صحيحه ص: (294) من جزئه الثاني في باب فضائل فاطمة بنت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أخرجه أحمد بن حنبل في ص: (323) من مسنده من جزئه الثالث.
[2] و أخرجه الترمذي في سننه ص: (227) و صححه، و كلّ هذه الأحاديث متواترة بين الفريقين لا يخالف فيها اثنان من أهل الإسلام، و حينئذ فلا يصح في الشرع و لا عند العقل خلافة النبوّة للمغضوب عليه من اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أ رأيت كيف صح الاستدلال بما وقع بين فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بين أبي بكر (رض) علي عدم صحة خلافته بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
الآلوسي و التشيع، ص: 249
الشخصية التي تشبه في خرافتها أقاصيص ألف ليلة و ليلة و هيهات ذلك، يا هذا إن الّذين قتلوا عثمان بن عفان (رض) هم أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من المهاجرين و الأنصار أهل الحلّ و العقد الّذين نصّبوه و نصّبوا من كان قبله علي دست الخلافة في هذه الأمة، بعد أن شاهدوا منه ما ترتعد لهوله فرائص أهل الدين، و ما ارتكبه في بيت مال المسلمين، و من تأميره قومه المنافقين أمثال معاوية، و الوليد بن عقبة، و عبد اللّه بن أبي سرح، و مروان و غيرهم من بني عمه الأمويّين، و إعطائه مروان بن الحكم طريد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خمس إفريقيا [1] إلي غير ذلك من أقذار المنكرات و البدع التي رآها المسلمون من عثمان، فطلبوا منه العدل في الرعية و القسمة بالسويّة فامتنع من ذلك بعد ما وعد فغدر، فوثبوا عليه فقتلوه و أراحوا المسلمين من سوء فعله و وبال أمره، و يتجلّي لك بوضوح تلك الفوضي الجارفة و المفاسد المهلكة في أيام إمارته بأقل وقفة بسيطة علي تأريخ حياته التي قامت بسببها تلك القيامة و هاتيك الضوضاء و الطّامة التي لم تهدأ فورتها إلّا بقتل عثمان و القضاء علي حياته.
و لم يكن القاتل له (عبد اللّه بن سبأ و أصحابه) الّذين لا وجود لهم في كون الحياة إطلاقا كما يزعم هذا، و كيف يخفي علي أحد قاتلوه و المسلمون كلّهم يعلمون أن الّذين قتلوه هم الّذين نصّبوه من أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و في طليعتهم أم المؤمنين عائشة تحرّض النّاس علي قتله و هي تقول مشبهة له باليهودي: (نعثل) الّذي كان في المدينة: (اقتلوا نعثلا قتله اللّه فقد غيّر و بدّل) كما يحدّثنا بذلك التأريخ الصحيح و صحيح الحديث [2] مما لا سبيل إلي إنكاره.
ثم يقال للآلوسي: لما ذا كان المقاتلون عليّا عليه السّلام المستحلّون قتله من القاسطين و الناكثين مجتهدين مخطئين و لم يكونوا منافقين بحكم النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم
__________________________________________________
[1] راجع ص: (35) من تاريخ ابن الأثير من جزئه الثالث، و قد ذكر ذلك كلّ من جاء علي ذكره كالطبري في تاريخه، و الحلبي في سيرته، و السيوطي في تاريخه، و ابن عبد ربه في العقد الفريد، و غيرهم من مؤرخي أهل السنّة.
[2] راجع ص: (27) و ما بعدها من الإمامة و السياسة لشيخ أهل السنّة ابن قتيبة و غيره ممن جاء علي ذكره من مؤرخيهم.
الآلوسي و التشيع، ص: 250
و كان الّذين قتلوا عثمان منافقين غير مجتهدين؟ و هل لذلك وجه غير بغض الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.

رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هو الّذي بذر بذرة التشيع

و أما قوله في مبدأ كلامه: «إن أسلاف الشيعة و أصول الضلالات كانوا عدّة طبقات، الطبقة الأولي: هم الّذين استفادوا هذا المذهب بدون واسطة من رئيس المضلين إبليس اللّعين).
فيقال فيه: إنّ أول من بذر بذرة التشيع و سقاها فأزهرت فأينعت و أثمرت فكانت الشّجرة الطيّبة التي أصلها ثابت و فرعها في السّماء هو رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم سيّد الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فهذا ابن حجر يحدّثنا في صواعقه في الآية الحادية عشرة من الآيات الواردة في فضائل أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الباب الحادي عشر ص: (159) من الطبعة الجديدة، عن ابن عباس، أنه لما نزل قوله تعالي: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ: (هم أنت و شيعتك، تأتي أنت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين و يأتي عدوك- غضابا مقمحين).
و قد عرفت فيما تقدم أنّ كلمة الشيعة إذا أطلقت فلا يفهم منها إلّا من شايع عليّا عليه السّلام و تابعه، و هذا ما أطلقه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي التابعين له عليه السّلام دون غيره في أحاديث المتواترة بين الشيعة و أهل السنّة، فإذا كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول إنّ الطبقة الأولي من الشيعة هم شيعة عليّ عليه السّلام و مقتداهم في ذلك هو الوصيّ عليه السّلام و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أنهم استفادوا هذا المذهب من عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فكيف استساغ الآلوسي أن يقول إنّ مقتدي الشيعة في ذلك هو إبليس، و إنهم استفادوا مذهبهم من رئيس المضلّين اللّعين فيطعن في رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هذه الطعنة النّجلاء فيخرج عن دين اللّه بلا خلاف و لا امتراء.
الآلوسي و التشيع، ص: 251

الفصل الثاني عشر بحوث كلامية

النّظر في معرفة اللّه واجب عقلا لا نقلا

قال الآلوسي ص: (51): «إنّ النظر في معرفة اللّه واجب بالاتفاق، و لكن وقع الخلاف في أنّ هذا الوجوب هل هو عقلي أو شرعي، فذهب الإمامية إلي الأول و ذهب إلي الثاني أهل السنّة قائلين: إن الوجوب سمعي، بمعني أن النظر في المقدمة غير واجب بدون حكم اللّه، و ليس للعقل حكم في أمر من أمور الدين، و مذهب الإمامية هنا مخالف للكتاب و العترة، أما مخالفته للكتاب فلأنه قال سبحانه: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ
[الأنعام: 57] و قال تعالي: أَلا لَهُ الْحُكْمُ
[الأنعام: 62] و قال تعالي: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ
[الرعد: 41] و قال تعالي: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ
[المائدة: 1] و قال تعالي: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّي نَبْعَثَ رَسُولًا
[الإسراء: 15] إذ لو كان أمرا واجبا بحكم العقل لوقع العذاب بترك ذلك الواجب قبل بعثة الرسل و اللّازم باطل فكذا الملزوم.
أما مخالفة العترة فلأنه
قد روي الكليني في الكافي، عن الإمام أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال: (ليس للّه علي خلقه أن يعرفوا، و لا للخلق علي اللّه أن يعرّفهم)
فلو كانت المعرفة واجبة بحكم العقل لكانت معرفته واجبة علي الخلق مثل تعريفه، و هو خلاف قول الصادق».
المؤلف: أولا: «قوله و ليس للعقل حكم في أمر من أمور الدين».
فيقال فيه: أنظر أيّها الباحث بإخلاص إلي تناقض هذا الجاهل و تداعي أركانه، فإنك تراه هنا يقول: (و ليس للعقل أن يحكم في أمر من أمور الدين) و في ص: (38) من كتابه يقول: (إن دليل العقل باطل عند الشيعة لأنهم ينكرون حجيّة
الآلوسي و التشيع، ص: 252
القياس) و يعني هذا أن حجيّة القياس عند أهل السنّة تثبت بحكم العقل، و لا شك في أن هذا هو الآخر أيضا من حكم العقل في أمر من أمور الدين عندهم، و قد نفي هنا أن يكون للعقل حكم في أمر من أمور الدين، فالآلوسي يريد أن يحتج علي خصومه بالمتناقضات الباطلة علي إثبات مذهبه المتناقض الباطل دون أن يهتدي إلي أن ذلك كلّه باطل.
ثانيا: قوله: «و مذهب الإمامية هنا مخالف للكتاب و للعترة».
فيقال فيه: لا شكّ في أن من يطّلع علي كتاب الآلوسي يراه يضرب أخماسا بأسداس، و يعتمد الشّبهات و ينكر البديهيات، فإذا ما كشفنا لك عن حال زعمه هذا فستقف مستغربا حينما تري الأمر فيه معكوسا عليه من وجهين.

بطلان ما زعمه الآلوسي أنّ وجوب النّظر شرعي من وجهين

أما الأول: فلأنه لو كان النّظر في معرفة اللّه واجبا بالسّمع لا بالعقل لزم الدور الصريح المعلوم بالضرورة بطلانه، و ذلك لتوقف معرفة الوجوب علي معرفة الموجب، فإذا كنّا لا نعرف الموجب بشي‌ء من الاعتبارات فنعلم بالبداهة أنّا لا نعرف أنّه موجب، فلو توقّف معرفته علي معرفة الموجب كان دورا صريحا.
و بعبارة أوضح أنّ وجوب معرفة اللّه موقوف علي أمره تعالي بوجوب معرفته، فلو توقّف أمره بمعرفته علي وجوب معرفته لزم الدور، فتعليل وجوب معرفته بأمره محال باطل.
الثاني: إنّ المعرفة لو كانت واجبة بالأمر الشّرعي لكان الأمر بها إمّا أن يتوجه إلي العارف و العالم باللّه تعالي أو إلي غيرهما، و التاليان باطلان بالضرورة، أما التالي الأول فلأنه تحصيل حاصل و هو باطل لأن الشي‌ء لا يحصل مرتين، و أمّا الثاني فلأن غير العارف باللّه يستحيل أن يعرف أن اللّه تعالي أمره لأن كون الأمر من اللّه يتوقف علي معرفته، فلو توقفت معرفته علي أمره فقد جاء الدور الصريح بل أمره في نفسه مستحيل، و ذلك لأن كون امتثال أمره واجبا يتوقف علي أن يعرف أنّ اللّه تعالي قد أمره و أن امتثال أمره واجب، و إذا كان من المستحيل أن
الآلوسي و التشيع، ص: 253
يعرف أن اللّه أمره لأنه غير عارف به كان أمره مستحيلا و إلّا كان تكليفا بما لا يطاق، و كلّ ذلك معلوم بالبداهة بطلانه.

الآلوسي لم يأت علي دليل الشيعة بتمامه في وجوب النّظر عقلا لا شرعا

ثم إنّ الآلوسي لم يقرر دليل الشيعة بتمامه، علي أن معرفة اللّه تعالي واجبة بالعقل و ممتنعة بالسّمع، و إنما ارتكب ذلك التدليس لعلمه بأنه لا يستطيع بتقريره له بتمامه أن يقوم بردّه و تفنيده، و لا يمكنه تحريفه لجهله بمرماه و عدم إحاطته بمعناه لقصور باعه و قلّة اطلاعه، لذا تراه أعرض عن ذكر أدلّتهم القالعة لخلطه و لغطه و أورد آيات لا صلة بينها و بين وجوب النّظر سواء أ كان عقليا أم شرعيا، بل هي أوضح دليل علي ارتباكه و إزجاء بضاعته و جهله بمثل هذه المسائل العويصة و الأمور الصعبة التي يقصر إدراكه عن نيل واحدة منها.
أما كون معرفة اللّه مستفادة من العقل، و أنّ مجي‌ء السّمع بقوله تعالي: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ
[محمد: 19] مؤكد لحكومته في مورده فيدلّ عليه وجهان:
الأول: أنّ شكر المنعم واجب بالضرورة، و لا شكّ في أنّ آثار نعمه علي النّاس أظهر من الشّمس و أبين من الأمس فيجب شكر فاعلها، و شكره لا يحصل إلّا بمعرفته.
الثاني: إنّ معرفة اللّه دافعة للخوف الحاصل من التردد و الاختلاف عند النّظر في مسألة وجود اللّه تعالي، و إنّ لهذه النّعم الظّاهرة منعما الأمر الّذي لا يشكّ اثنان من أهل المذاهب و الأديان في كونه من أبرز أفراد محلّ الاختلاف بينهم، و لا شكّ في أنّ دفع الخوف واجب فطري و هو لا يتحقق إلّا بالمعرفة، فحينئذ تكون المعرفة واجبة بالضرورة.

ما أورده الآلوسي من الآيات خارج عن موضوع وجوب النظر

ثالثا: إنّ ما ذكره الآلوسي من الآيات لا ينطبق شي‌ء منها علي موضوع وجوب النظر و إنما هي من الشواهد للشيعة علي بطلان مذهب هذا الخصم- لو كان يشعر- أما قوله تعالي: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ
فنقول فيه:
الآلوسي و التشيع، ص: 254
الأول: إنّ جميع ما أورده الآلوسي من الآيات إن كانت دالّة علي ذلك فهي مؤكدة لحكم العقل و هو لا نزاع فيه.
ثانيا: إنّ كون هذا الحكم من اللّه يتوقف علي معرفة اللّه، فلو توقفت معرفته تعالي علي أن هذا الحكم منه لزم الدور المعلوم بطلانه.
ثالثا: إنّ الآية صريحة في بطلان القياس لأنه ليس من حكم اللّه بل حكم اللّه تعالي ببطلانه كما تقدم بيانه و صريحة في بطلان خلافة الخلفاء (رض) لأن خلافتهم لم تكن بحكم اللّه و لا من أمره، و إنّما كانت بحكم أهل السّقيفة- و هم غير اللّه قطعا- و صريحة في بطلان المذاهب الأربعة لأنها لم تكن من حكم اللّه و لا من أمره، و إنّما كانت من حكم بيبرس البنقداري و أمره- كما تقدمت الإشارة إليه، إلي غير ذلك مما دان به خصوم الشيعة- و لم يكن من حكم اللّه و لا من أمره في شي‌ء يضيق الكتاب عن تعداده.
و أما قوله تعالي: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ
فمعناه واضح و هو: أنّه لا رادّ لحكمه و لا ناقض لقضائه، و مع خروجه عن موضوع وجوب النّظر فيردّ علي الاستدلال به عليه ما ورد علي الاستدلال بما قبله من أن كون ذلك من حكمه يتوقف علي معرفته، فلو توقفت معرفته علي معرفة كونه من حكمه لزم الدور الباطل و لازم الباطل مثله باطل.
و أما قوله تعالي: يَفْعَلُ ما يَشاءُ*
و يَحْكُمُ ما يُرِيدُ
فيردّ علي الإحتجاج به:
أولا: إنّ كونه من حكمه أو من فعله يتوقف علي معرفته تعالي، فلو توقفت معرفته عليه لزم الدور المحال.
ثانيا: أن هذه الآية و نحوها من الآيات من أظهر الأدلّة علي بطلان خلافة الخلفاء (رض) و فساد المذاهب الأربعة و بطلان القياس و الرأي و الاستحسان و غيرها من عقائد خصومنا لأنه تعالي حكم: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ
[آل عمران: 19] و ليس في القرآن آية تدلّ علي أن المذاهب الأربعة من حكمه تعالي، و كذلك خلافة الخلفاء (رض) لم تكن من حكمه و لا من فعله، و إنّما هو من فعل
الآلوسي و التشيع، ص: 255
عمر (رض) و حكمه و الأربعة الّذين كانوا معه، و يقول القرآن: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالي عَمَّا يُشْرِكُونَ
[القصص: 68] فاللّه تعالي هو الّذي خلق عليّا عليه السّلام و اختاره إماما بعد نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم دون الثلاثة (رض) بنصّ هذه الآية، و بقرينة ما تقدم من الرواية المتواترة بين الفريقين، كما فيها دلالة صريحة علي أنّ من اختار غير ما اختاره اللّه فقد أشرك مع اللّه غيره كما صنع ذلك أهل السّقيفة، فما ارتكبوه لم يكن مختارا للّه و لا كان من أمره، و قال تعالي: ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَي اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً
[الأحزاب: 36] فهي صريحة في بطلان خلافة المتقدمين عليه، و ذلك لأن خلافتهم إن كانت مما قضي اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بنفيها فليس لأهل السّقيفة و لا لغيرهم إطلاقا إثباتها، لأنهما قضيا بإثباتها لعليّ عليه السّلام دونهم (رض) و إن قضيا بإثباتها فليس لهم الخيرة فيها مطلقا لا نفيا و لا إثباتا، و أيّا كان فهو دليل واضح علي بطلانها لهم و صحتها لعليّ عليه السّلام كما دلّت عليه نصوص الفريقين المتواترة.
و أما قوله تعالي: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ
فيرد علي الاستدلال بها:
أولا: إنّ كون المبعوث رسولا من عند اللّه يتوقف علي معرفة اللّه قطعا، فلو توقفت معرفته علي كونه رسولا من عنده لزم الدور الباطل.
ثانيا: إنّ هذه الآية من الأدلة المتينة علي نفي العذاب شرعا علي التكليف مع عدم البيان التام الواصل إلي المرتبة الفعلية و التنجز، و هو تابع للمعرفة فلا يمكن أخذه دليلا في إثباتها، و بعبارة أخري أن هذا فرع ثبوت المعرفة و الفرع لا يثبت قبل ثبوت أصله.
ثالثا: أن الآية موافقة لحكم العقل في غير ما استقلّ به- لقبح العذاب بلا بيان و المؤاخذة بلا برهان- علي التكاليف الشرعية من الواجبات و المحرمات قبل إرسال الرسل و إقامة الحجّة، و ليس فيه ما يدلّ علي وجوب المعرفة أو عدم جوازها بالعقل فهو خارج بموضوعه عن مورد الآية، و لو علم الآلوسي استحالة ما ذهب إليه من وجوب المعرفة بالسّمع لاستلزامه الدور الصريح لعدل إلي إختيار
الآلوسي و التشيع، ص: 256
وجوبها بالعقل، و لكن قال هذا و هو علي غير بصيرة من أمره و كذلك كان حاله في مسائله التي أوردها في كتابه و خالها أدلة لتفنيد أقوال خصمائه، فإنّه جاء علي ذكرها و هو لا يشعر بما في طيّها من المحاذير و الممتنعات العقلية الباطلة.
ثم يقال للآلوسي لا ملازمة بين وجوب الشي‌ء في نفسه و لزوم ترتب العقاب عليه مطلقا، علي أنّ في الشريعة أمورا كثيرا محرّمة و لكن لا يترتب علي ارتكابها عقاب لإمكان التدارك مطلقا، فما جاء به من التعليل عليل لا يشفي له غليل.

الشيعة غير مخالفة للعترة عليهم السّلام في أن وجوب النّظر عقلي

رابعا: قوله: (و أما مخالفته للعترة).
فيقال فيه: إنّ الخبر الّذي أورده الآلوسي و عزاه إلي الشيخ الكليني- رضوان اللّه عليه- فمع اضطرابه في نفسه و إجماله لفظا لا دلالة فيه، علي أنّ وجوب المعرفة شرعي من وجوه:
الأول: من الجائز أن يكون المراد من قوله: (ليس للّه علي خلقه أن يعرفوا) ألّا يعرفوا الأحكام الشرعية الصّادرة منه تعالي التي هي من متفرعات معرفته، و يشهد لهذا ما في آخر الخبر بقوله: (و لا للخلق علي اللّه أن يعرّفهم).
الثاني: أنه إذا لم يجب تعريفهم فلا يجب عليهم معرفته، لأن وجوب معرفته يتوقف علي أمره بالوجوب- كما يزعم الآلوسي- و الخبر صريح في أنه لا يجب عليه أن يعرّفهم مطلقا، و هذا هو مذهب الأشاعرة القائلين بأنه لا واجب عليه تعالي و لا قبح منه، و علي فرض التسليم جدلا فهو من آحاد الخبر لا يجدي الإحتجاج به نفعا، و لو سلّمنا تنازلا فإن عدم وجوب تعريفهم إطلاقا كما يقتضيه صريح الخبر موجب لبطلان الاستدلال به علي وجوب معرفته بالسّمع، فيتعيّن وجوب معرفته بالعقل فيكون دليلا لنا عليه لا له.
الثالث: أن مفاد الخبر أنّه لا يجب علي الخلق معرفته بحقيقته و كنهه لأن ذلك مستحيل، و ليس عليه تعالي أن يعرّفهم ذلك لأنه غير ممكن، و حينئذ فهو لا يريد أن معرفته غير واجبة قبل تعريفه المستلزم للدور الفاسد كما يزعم الخصوم.
الآلوسي و التشيع، ص: 257

الحسن و القبح عقليان لا شرعيان

قال الآلوسي ص: (51): «و اعلم أن تحقيق هذه المسألة و بيان الاختلاف فيها يتوقف علي تحقيق مسألة الحسن و القبح، فلا بدّ من بيان ذلك فنقول:
الحسن و القبح يطلقان علي ثلاثة معان، أحدهما: كمال الشي‌ء كالعلم و نقصانه كالجهل، و ثانيهما: ملائمة الطبع كالعدل و العطاء و منافرته كالظلم، و يقال لهما بهذا المعني مصلحة و مفسدة، و ثالثهما: استحقاق المدح و الذم و الثواب و العقاب عاجلا و آجلا.
و لا نزاع لأحد في كونهما عقليّين بالمعنيّين الأولين، و إنّما النّزاع في كونهما عقليّين أو شرعيّين بالمعني الثالث، فقالت الأشاعرة: إنّ الحسن و القبح بهذا المعني شرعيان لا غير؛ بمعني أن الشرع إذا قال بأن هذا الفعل حسن أي مستحق فاعله للمدح و الثواب، و ذلك الفعل قبيح أي مستحق فاعله للذمّ و العقاب، و لا يوصفان بالحسن و القبح، إذ لا يحكم العقل مستبدا علي الأفعال بهذا المعني في خطاب اللّه لعدم كون الجّهة المحسّنة و المقبّحة في أفعال العباد هي عندهم مطلقا لا لذاتها و لا لصفاتها و لا لاعتباراتها فيها، بل كلّ ما أمر به الشّارع فهو حسن و كلّ ما نهي عنه فهو قبيح، حتّي لو انعكس الحكم لانعكس الحال كما في النسخ من الوجوب إلي الحرمة فليس للعقل حكم في حسن الأفعال و قبحها، و إنّما الحسن ما حسّنه الشّارع و القبيح ما قبّحه الشّارع، و تمسّكوا علي ذلك بوجوه، الأول: إنّ الأفعال كلّها سواء ليس شي‌ء منها في نفسه يقتضي مدح فاعله و ذمّه، لأن اقتضاءها لما ذكر إما أن يكون لذاتها أو لصفاتها أو لاعتبارات فيها، انفرادا أو اجتماعا، تعيّينا أو إطلاقا، فهذه ثمانية احتمالات كلّها باطلة».
المؤلف: أولا: قوله: «فليس للعقل حكم في حسن الأفعال و قبحها بل الحسن ما حسّنه الشّارع و القبيح ما قبّحه الشارع».
فيقال فيه: إنّ تلك الوجوه التي اعتمد عليها الآلوسي لنفي الحسن و القبح العقليّين فاسدة جدا، لأن العقل إذا كان لا يحكم بالحسن و القبح فكيف يا تري
الآلوسي و التشيع، ص: 258
حكم بحسن القياس و جوازه في الأحكام عندهم؟ فالآلوسي إما أن يقول إن للعقل حكما في حسن الأفعال و قبحها أو لا، فإن قال بالأول- و هو قوله، في حجيّة القياس المستفادة لديه من حكم العقل علي حد زعمه- هناك بطل قوله هنا، و إن قال بالثاني- و هو قوله- بطل قوله هناك، و كلّ ما يقوله هنا نقوله هناك لأن القياس داخل في الشّق الثالث من معان الحسن و القبح في تقسيمه، و حسبك هذا التناقض علي فساد قوليه معا.

العقلاء لا يشكّون في أن في الأفعال ما هو معلوم الحسن و القبح

ثم من الطبيعي إلي درجة البداهة عند كلّ ذي عقل سليم من أيّ ملّة و دين و من أي صنف يكون أن في الأفعال ما هو معلوم الحسن و القبح بضرورة العقل الإنساني كعلمنا بحسن الصّدق النافع و قبح الكذب الضّار، فإن العقلاء لا يشكّون في ذلك و ليس قطع العقل بهذا الحكم البديهي بأقل من حكمه بحاجة الممكن الذاتي إلي السبب المؤثّر، كما لا شكّ في أن هناك ما لا يقدر العقل علي العلم و الإحاطة بحسنه أو قبحه فيستفيد ذلك بكشف الشارع عنها للملازمة بين الحكومتين كالأفعال العبادية من الصّلاة، و الصّيام و نحوهما من العبادات.
و خالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك فذهبوا إلي أن الحسن و القبح شرعيان، فما حكم الشّارع بحسنه فهو حسن و ما حكم بقبحه فهو قبيح، و لا يحكم العقل بقبح شي‌ء و لا بحسنه بالمرّة، فجعلوا الأفعال سواء في نفس الأمر و أنها غير منقسمة في ذواتها إلي حسن و قبح، و لا يتميّز القبيح بصفة تقتضي قبحه بأن يكون هو هذا القبيح، و كذا لا يتميّز الحسن بصفة تقتضي حسنه بأن يكون هو الحسن، فليس العقل عندهم منشأ لحسن شي‌ء أو قبحه، و يعني هذا أنه لا فرق عندهم بين السّجود لإبليس و السّجود للّه في نفس الأمر، و لا بين الصّدق و الكذب، و لا بين النكاح و السّفاح، إلّا أن الشرع أوجب هذا و حرّم ذاك، فمعني كونه حسنا أنه مأمور به من الشارع و كونه قبيحا أنه منهي عنه من الشرع، لأن منشأ قبحه كونه منهيا عنه و منشأ حسنه كونه مأمورا به، و صرائح العقول تحكم ببطلان ذلك كلّه، بل الفطرة السّليمة تشهد بفساده و كتاب اللّه صريح في فساده، لأن اللّه
الآلوسي و التشيع، ص: 259
تعالي فطر النّاس علي استحسان الصّدق النافع و العدل و الإحسان و العفّة و النجابة، و فطر نواميسهم علي استقباح أضدادها، و نسبة هذا إلي مرتكزاتهم الفطرية كنسبة الحلو و الحامض إلي أذواقهم، و الرائحة الطيّبة و النتنة إلي مشامّهم، و الصوت الحسن و عدمه إلي أسماعهم علي حدّ سواء، إلي غير ما هنالك مما يفرقون بفطرتهم قبحه و حسنه، و نفعه و ضره و هذا كلّه هو القبح العقلي و حسنه.
و أما ما ذكره الآلوسي من الأقسام و أنه يعترف لحكم العقل بتحسين كمال الشي‌ء و قبح نقصانه كالجهل، و يعترف بحسن العدل و قبح الظلم فهو بعينه راجع إلي التحسين و التقبيح العقليّين الّذي أنكر حكمه بهما من استحقاق المدح و الذم و الثواب و العقاب، و نفي من أن يكون له حكم في شي‌ء من ذلك لأن الكمال و النقص إنما يجريان في الأفعال، و الاعتراف بالحسن و القبح بهذا المعني في الأفعال مستلزم للقول بالحسن و القبح الّذي جعله محلّ النّزاع من استحقاق المدح و الذم و الثواب و العقاب، لأن بداهة العقل تحكم بأنه لا يجوز علي الحكيم الكامل أن ينهي عن الصّدق النافع و يجعله متعلّقا للذم و العقاب، و لا يجوز عليه أن يأمر بالكذب الضارّ و يجعله متعلّقا للمدح و الثواب، كما زعم ذلك هذا الرجل في قضية النّسخ من الواجب إلي الحرام و بالعكس، فإنكار هذا لا شكّ في أنه من كمال المناقضة مع الاعتراف بذلك.
ثانيا: قوله: «و تمسّكوا علي ذلك بوجوه».
فيقال فيه: إنّ تلك الوجوه التي أشار إليها هذا الآلوسي و التي أخذها تقليدا لنفي الحسن و القبح العقليّين و أنه لا حسن و لا قبح عندهم بالعقل هي بعينها واردة علي ما اعترف به من القسمين الأولين الّذي زعم أنهما قسيمان للمعني الثالث مع أن الجميع واحد في المعني فحكمه واحد، أما التقسيم الّذي جاء به فإنما هو من مخترعات المتأخرين من الخصوم، حاولوا به الفرار من فساد سلعتهم و بطلان مزعمة رئيسهم الأشعري، فإن هذا التقسيم قديما لم يكن في أقوالهم كما يتضح لمن راجع كلماتهم لا سيما كلمات الأشعري في هذا الباب، و قد ألمعنا غير مرّة إلي وجود كمال المناقضة بين اعترافهم بحكمه بهما في الأولين من النقص
الآلوسي و التشيع، ص: 260
و الكمال و العدل و العدوان و إنكارهم لحكمه بهما في الأخير من المدح و الثواب و الذم و العقاب الّذي هو الآخر مستلزم لذلك و تابع للأفعال الحسنة، و أنّه من المستحيل الّذي لا يكون أبدا أن يأمر الحكيم الكامل بالقبيح في نفسه كالكذب الضارّ و يمدح فاعله و يثيبه، أو ينهي عن الحسن في نفسه كالصّدق النّافع و يذم فاعله و يعاقبه عليه، و هذا شي‌ء يدرك قبحه حتّي الجهلاء و الأغبياء فكيف الحال بالعلماء.
ثم كيف يا تري يستطيع الآلوسي بتلك الوجوه الواهية أن ينكر ما يعلمه كلّ عاقل بفطرته من حسن الصّدق النّافع و قبح الكذب الضارّ، و هما من أظهر مصاديق حكم العقل في هذه المسألة مطلقا سواء أ كان هناك شرع أم لا، و كيف لا يستقلّ بترتب المدح علي الأول و الذم علي الثاني و العقاب علي الثاني و الثواب علي الأول، و لسنا نريد من حكم العقل بترتب الثواب و العقاب في الصورتين ترتبهما بخصوصياتهما المعلومة في عرف الشّرع، و إنّما نريد حكمه بترتب الثّواب علي العبد المطيع الفاعل لما يوجب المدح فيستحقّ العطاء من سيّده العدل الحكيم، و حكمه بترتب العقاب علي العبد العاصي الفاعل لما يوجب الذمّ فيستحقّ العقاب من مولاه اللّطيف الخبير.
و بعبارة أوضح: أنّ العقل بطبيعته يحكم حكما جازما لا مرية فيه بأنّ من فعل شيئا علي وفق أمر الحكيم يجزيه خيرا، و إذا فعل خلاف نهيه يجزيه شرا، و هذا الأمر في الوضوح إلي درجة لا يختلف العقلاء بوجوده عند أنفسهم فكيف بإله العالمين.
و إذا عرفت هذا فهلم معي لأريك الوجوه الباطلة الّتي تمسّك بها الخصوم لإثبات مذهبهم:
قال الآلوسي: «أما بطلان الأول يعني اقتضاء ذوات الأفعال للمدح و الذّم و الثواب و العقاب فلأن فعلا واحدا قد يتصف بالحسن و القبح معا باعتبارين كلطم اليتيم ظلما و تأديبا، فلو كان هذا الاتصاف لذات الفعل فقط كما هو المفروض في هذا الاحتمال فإن كانت الذات مقتضية لهما معا لزم صدور الأثرين المتضادين من
الآلوسي و التشيع، ص: 261
مؤثر واحد و اجتماع النقيضين أو لأحدهما مطلقا لزم تخلّف المعلول عن العلّة الموجبة في الأخري، و بالإطلاق تخلفهما جميعا و ترجيح بلا مرجح في الاقتضاء و اللّوازم كلّها باطلة».

ما جاء به من الوجوه لإثبات أن الحسن و القبح شرعيان باطل

المؤلف: أولا: قوله: «فلأن فعلا واحدا».
فيقال فيه: و يرد عليه بالنقض بأن نقول: إنّ الشي‌ء الواحد قد يتصف بالحسن و القبح باعتبارين كجهل الإنسان بالفقه و علمه بالنحو، و قد اعترف الآلوسي بأنّ الحسن و القبح بمعني النقص و الكمال، و ملائمة الطبع و عدمه كالعدل و الظلم مما يحكم العقل بهما، و إذا كان كذلك فإن كانت الذات في المثال مقتضية لهما معا لزم صدور الأثرين المتضادين عن مؤثر واحد و اجتماع النقيضين، بل جميع ما ذكره من المحاذير العقلية التي زعم أن ذلك من موردها، و كلّ ذلك باطل و ما ذهب إليه أيضا باطل، فإيراده بهذا الوجه و نحوه من الوجوه علي القول بالتحسين و التقبيح العقليّين بمعني استحقاق الذّم و المدح لو صح ورودها فليست واردة علي الشيعة وحدها بل هي أيضا واردة عليه لأنه هو الآخر ممن يقول به بالمعني المتقدم في مثاله، فيكون قول الآلوسي موردا لإيراده بهذا الوجه و غيره، و حينئذ فهو إمّا أن يقول بصحة هذا الإيراد بهذا الوجه و نحوه من الوجوه المذكورة، و إما أن يقول بصحة حكم العقل بالحسن و القبح بمعني النقصان و الكمال و العدل و الظلم، فإن قال بالأول- و هو قوله أيضا- بطل قوله الثاني، و أن قال بالثاني- و هو قوله أيضا- بطل قوله الأول، و علي هذا فاسحب سائر الوجوه الفاسدة التي جاء بها و ظنها براهين متينة علي فساد قول خصومه بلا تثبت و لا روية، و لو كان الآلوسي ممن ينتبه إلي تناقضه و تناقض الآخرين من سلفه في بحثه، و تفطن إلي أن آراءهم و أقوالهم تذبح بعضها بعضا و تنقض بعضها البعض من غير أن يحتاج الناقد البصير إلي التدليل بالأدلة علي فسادها لسبق لسانه إلي إختيار ما ذكرنا و لعجّل بالرجوع إلي مذهبنا.
ثانيا: قوله: «فلو كان هذا الاتصاف لذات الفعل».
الآلوسي و التشيع، ص: 262
فمدخول من وجوه:
الأول: إن اتصاف ذات الفعل بصفة من جهة و اتصافه بأخري من جهة أخري ليس من باب استلزام صدور الأثرين المتضادين من مؤثر واحد، و لا قائل بأن ذات الفعل من حيث هي بلحاظها أولا و بالذات تكون حسنة و قبيحة حتي يلزم منه صدور أثرين متضادين من مؤثر واحد كما توهمه الآلوسي، و إنّما هو من صدور الأثرين المتضادّين من مؤثرين لأن المؤثر في حسنه هو ذلك الإعتبار و المؤثر في قبحه اعتبار آخر، و مع الاختلاف في الاعتبار يكون ذلك من باب صدور الأثرين من مؤثرين و لا محذور فيه إطلاقا، و لكن الآلوسي لما خلط بين كون الشي‌ء حسنا باعتبار لأنه مؤثر في حسنه و قبيحا باعتبار آخر لأنه مؤثر في قبحه و بين كون الشي‌ء الواحد بذاته يكون حسنا و قبيحا بلحاظه الأوليّ بني علي خلطه هذا البناء المنهار علي رأسه.
فالقائلون بالتحسين و التقبيح العقليّين لا يقولون إن الشّي‌ء من حيث هو يكون حسنا و قبيحا حتّي يستلزم تلك اللّوازم الباطلة في زعم الخصوم، و إنّما يقولون إنّ العقل إذا ما أدرك حسن فعل لجهة اقتضت حسنه فإنه يحكم بحسنه، و إذا ما أدرك قبح شي‌ء لصفة اقتضت قبحه فإنه يحكم بقبحه، فما هذر به الآلوسي كلّه خارج عن الموضوع يحاول به إرهاب قلوب الزعانف ليقال فيه إنه فنّد أقوال الشّيعة بأدلّة عقلية دون أن يشعر هو و يشعرون بأنه لم يأت بغير التخليط الّذي لا قوام له و لا يقوي به إلّا علي من اختلط عقله.
الثاني: إنّ ما زعمه هاهنا لا يتفق مع المثال الّذي جاء به من ضرب اليتيم ظلما و تأديبا، و ذلك لاختلاف الفعل فيه من جهتين كلّ واحدة منهما موجبة لأثرها، لأن العقل يدرك قبح ضربه ظلما فيحكم بقبحه لهذه الجهة و يحكم بحسنه تأديبا لجهة أخري لا صلة لها بتلك الجهة التي حكم من أجلها بقبحه، و ليس في هذا ما يقتضي أن يكون الضّرب بذاته حسنا و قبيحا ليكون منشأ جاء به من دعوي اجتماع النقيضين في واحد، و تخلّف المعلّول عن علّته، و الترجيح بلا مرجح و غير ذلك مما هو معلوم الخروج عن الموضوع أصلا و فرعا، نعم يلزم القول
الآلوسي و التشيع، ص: 263
بإنكار التحسين و التقبيح العقليّين الخلوّ المحال المعلوم بالبداهة بطلانه، و ذلك لأن العقل لا يحكم بحسن شي‌ء و لا بقبحه مطلقا- علي حدّ زعمه- و الشي‌ء بلحاظ ما يعرض عليه إما أن يكون حسنا أو قبيحا، و لا يعقل أن يكون بذلك اللّحاظ لا حسنا و لا قبيحا، كضرب اليتيم مثلا مطلقا سواء أ كان ظلما أم تأديبا، و سواء أ كان هناك شرع أم لا ليس بقبيح و لا حسن و هو محال عقلا، لأنه علي سبيل المنفصلة الحقيقية إما قبيح و إما حسن فتأمل.

اقتضاء الذّات لصفتين متضادتين ليس علّة تامّة في التأثير

الثالث: إن اتصاف ذوات الأفعال بصفتين متضادتين بنحو الاقتضاء لا يستلزم صدور أثرين عن مؤثر واحد لعدم كون اقتضاء الذات لهما موجبة تامة في التأثير لتوقف تأثير المقتضي علي عدم المانع و ثبوت الشّرط، لأن تأثير العلّة في معلولها مطلقا منوط بتحقق شروطها و مع فقدها لأحد الشروط المعتبرة في التأثير طبعا تنتفي العلّة الموجبة، و شروط العلّة ثلاثة: 1- وجود المقتضي. 2- عدم المانع لتأثير المقتضي بمقتض آخر، 3- الشرط لتأثير المقتضي و هو قابلية الموضوع لتأثير المقتضي فيه، فإذا تحققت هذه الشروط و توفرت فيه تحققت الموجبة في التأثير و إلّا فلا، و المقام من هذا القبيل فلأن كون الذّات مقتضية لهما معا فمع قطع النظر عن كون ذلك باعتبارين موجبين لهما كما تقدم لا يلزم منه صدور أثرين متضادين من مؤثر واحد في آن واحد؛ لأن تأثير أحد المقتضيّين بنحو الموجبة التّامة هو مانع من تأثير المقتضي في الآخر قطعا.
و بعبارة أخري أن الذّات المقتضية لأحدهما خاصة تكون علّة موجبة في التأثير فتمنع من تأثيره المقتضي في الآخر فيكون القوي من المقتضيّين في التأثير مانع من تأثير الضعيف، و ذلك ما لو فرضنا أنّ العقل قد أدرك حسن شي‌ء لجهة اقتضت حسنة فيكون موجبة تامّة للحكم بحسنه، و هذا ما يمنع علّة الحكم بقبحه لعدم توفر شروطه و مجرد الاقتضاء لا يكون موجبة تامّة في التأثير لعدم تحقق شروطه كما ألمعنا.
و من ذلك تعرف فساد قول الآلوسي: (و إن كانت الذات مقتضية لأحدهما مطلقا لزم تخلّف المعلوم عن العلّة الموجبة في الآخر) لأن التخلّف الباطل إذا
الآلوسي و التشيع، ص: 264
كان الآخر علّة موجبة للتأثير إمّا إذا كان من سنخ المقتضي فلا تكون موجبة لعدم اجتماع شروطه فلا يكون الآخر علّة موجبة للتأثير مع وجود المانع و لا يلزم من ذلك الترجيح بلا مرجح في الاقتضاء كما توهمه الخصم، لأن المرجح لأحد المقتضيّين هو العقل بعد إدراكه جهة الترجيح في أحدهما فيمنع ذلك من الرجحان بلا مرجح، علي أنّه رجوع إلي منع إدراك العقل بدعوي الترجيح بلا مرجح و هو عين الدعوي فلا يصح أن يكون دليلا علي إثبات المدّعي.
قال الآلوسي ص: (52): «و إما بطلان الثاني- يعني أن اقتضاء الأفعال المدح و الذم لصفاتها- فلأنه إن كانت الصّفات لازمة للذات لزم اجتماع النقيضين مطلقا و الصدور و التخلف إن كانت العلّة الموجبة لهما صفة واحدة و هو ظاهر، و إن كانت من العرض المفارق فلأن عروضها إما لذات الفعل أو لصفة أخري لها لا سبيل إلي الثاني لبطلان التسلسل و كذا إلي الأول لبطلان قيام العرض بالعرض أو لمجموعها فينتقل الكلام إلي عروض تلك الصّفة الأخري فحينئذ يلزم هاهنا ما لزم ثمة».

هاهنا تضحك الثكلي و تجهض الحبلي

المؤلف: ينبغي هاهنا أن تضحك الثكلي و تجهض الحبلي- فيا للحكماء و المتكلمين هكذا فليكن سحر البيان و الحكمة و إلّا فلا، و الّذي يظهر من كلمات الآلوسي أنه في الأصل لم يفهم كلام ذلك الهندي فقصد تلخيص كلماته العربية في هذا الموضع، و لكنه لم يهتد إلي فهمها بل و لم ينتبه ذلك الهندي إلي هذيانه هاهنا، و إنّما أورده لأنه رأي شيئا مسطورا في كتب أشياخه من غير أن يفهمه أو يدري ما هو فجاء به و هو يحسب أن مثل هذا الهذيان و الهراء دليل علي إبطال التحسين و التقبيح العقليّين، و نحن لا نعذله و لا نعذل ذلك الهندي علي هذيانهم لأن مسألة الحسن و القبح العقليّين لا يتحملها إلّا ذوو العقول النيّرة و الأفهام المستقيمة، و لا يدرك مغزاها إلّا أولوا البصائر، و لا يصل إلي غورها إلّا أولوا الألباب، أما الجاهلون الّذين لا يدركون حسن الشي‌ء و قبحه فليس لهم أن يدخلوا في أمثال هذه المسائل التي زلّت فيها أقدام كثيرين من الأعلام، و ليس من حقّهم
الآلوسي و التشيع، ص: 265
أن يحشروا أنوفهم فيما لا يعرفون و هم يدرون، و لكن الجاهل المغرور يتقحم فيما لا يعلم و يلج فيما لا يدري و هذا شأنهم في كلّ أمة و في كلّ مصر، فإنهم يضعون أنفسهم مواضع العلماء فيضعون علي رءوسهم شعار أهل العلم يغرون به العوام و رجرجة الناس.
و من المؤكد أن أولئك العامة من الأمة لو كانوا يعلمون فراغه من كلّ علم و امتلاءه بكلّ جهل لولّوا منهم فرارا، و لألبسوهم شعار الخزي و العار و الفضيحة و الشنار، و لعرفوا أنهم جاهلون و أنهم خالو الوطاب فارغوا الجراب.
أما جواب ما هذر به هاهنا فهو- و إن كان لعمر اللّه ليس جديرا بالجواب- إذ لا جواب للهذيان و التناقض، و مع ذلك فإنّا نجيبه توضيحا لما ارتكبه من الهراء.
أما قوله: (فلأنه إن كانت الصّفات لازمة للذات لزم اجتماع النقيضين).
فيقال فيه: أولا: ما قلناه في إيرادنا علي أول الوجوه من أن صفة العدل و الظّلم و النقص و الكمال التي اعترف الآلوسي بأن العقل حاكم بالحسن و القبح فيها إمّا أن تكون لازمة للذات أو لا، فعلي الأول يلزم اجتماع النقيضين و الصّدور و التخلّف إلي نهاية ما زعمه واردا علي هذا القول و علي الثاني كذلك، فهو إمّا أن يقول بصحة هذيانه هنا أو بصحة قوله هناك من حكم العقل بهما، فعلي الأول يبطل قوله الثاني هناك و علي الثاني يبطل قوله الأول هنا، و لو لم يكن لنا إلّا تناقضه هذا الدالّ بدلالته علي فساد قوليه لكفانا مؤنة الردّ عليه و بطلان ما ذهب إليه.
ثانيا: ليست الصّفات المتّصفة بها الذّات من لوازمها حتّي يستلزمها اجتماع النقيضين، و إنما هي صفات لا حقة للذات مقتضية لحكم العقل بحسنه أو قبحه بحسب الاقتضاء كالصّدق و العدل و الحياء و نحوها من الصّفات العارضة علي الذوات المقتضية لحكم العقل البديهي بمدح صاحبها، و علي عكسه ينعكس حكمه كما لو اتّصف بالكذب و الخيانة و الظّلم و خبث الحصانة فإنها تقتضي حكم العقل بذمه و طرده و تبعيده و عقابه.
الآلوسي و التشيع، ص: 266
و أما قوله: «و إن كانت من العرض المفارق فلأن عروضها إما لذات الفعل أو لصفة أخري لها لا سبيل إلي الثاني و كذا الأول لبطلان قيام العرض بالعرض».
فيقال فيه: نحن نختار العروض لذات الفعل فإن كانت مقتضية لحسنه حكم العقل بحسنه و إن اقتضت قبحه حكم بقبحه.
و أما قوله: (و كذا الأول لبطلان قيام العرض بالعرض).
فنقول فيه: أولا: إن ذلك كلّه وارد علي ما اعترف به من حكمه بهما بمعني كمال الشي‌ء و نقصه كصفة العلم و الجهل، و بمعني ملائمة الطبع كصفة العدل و الظلم.
ثانيا: نحن لا نشك في أن الآلوسي يكتب بغير عقل و يفقه بغير قلب فيملي هذيانه لا عن شعور و لا دراية علي مسامع (محبّ الدين) الخطيب صاحب مجلّة (الأزهر) الذي قام أخيرا بتجديد طبع هذا الكتاب الّذي كلّه جهل و تناقض و ضلال فكشف عن سوءة مؤلفه فبان للناس فحمة ذاته.
فإنك تراه يقول: (فلأن عروضها إما لذات الفعل أو لصفة أخري لها) ثم بعد هذا يقول (لا سبيل إلي الثاني لبطلان التسلسل) فكان من اللّازم عليه أن يبيّن لنا الوجه في هذا التسلسل المزعوم، لو كان يريد به توقف تلك الصّفة علي صفة أخري و هكذا فإن بطلانه واضح، فإن لحوق صفة الصّدق مثلا للذات لا يتوقف علي صفة أخري حتي يترامي في الوجود إلي ما لا نهاية له من الصّفات لكي يلزم التسلسل علي حدّ زعمه، و لو صح لكان واردا علي ما اعترف بصحته بالمعنيّين المتقدمين فما يكون جوابه هناك يكون هنا، و إذا راعك منه هذا الخلط فانظر إلي قوله: (و كذا الأول لبطلان قيام العرض بالعرض) فإن قيام العرض بالعرض إنّما هو من لوازم قوله الثاني، أعني قوله: (أو لصفة أخري لها) إذ ليس في عروضها لذات الفعل الّذي هو عين قوله الأول من قيام العرض بالعرض حتّي يعلل بطلانه بقيام العرض بالعرض لعدم وجود عرض هاهنا، و إنّما هو ذات الفعل قد عرضت عليه صفة أوجبت إما حسنه أو قبحه فأي عرض يا تري في البين حتي يكون بعروض تلك الصّفة علي الذات قائما بالعرض لا بالذات؟
الآلوسي و التشيع، ص: 267
فالآلوسي كتب ما كتب و هو إلي هنا لا يفرق بين الذات و بين العرض و لا يعرف شيئا من أمرهما، و إنّما نقل ذلك عن كتاب هندي بلا تعقل و لا روية و بالطبع أن ذلك الهندي أيضا التقطه من وراء كتب بعض أشياخه فنقله إلي اللّغة العربية و هو غير عارف بمعني ما نقله سوي أنه رأي ألفاظا هندية خطّها أحد علماء سلفه حول أمثال هذه القضايا الفلسفية، فأراد أن يظهر للناس نفسه علي أساس حبّ البروز الشخصي من جهة و الحقد الشخصي علي الشّيعة من جهة أخري، و أن يبيّن للناظرين من أبناء قومه الهنود جهله و بغيه فسطّرها في كتابه علي فسادها و هو غير عارف بشي‌ء من معناها، و من المقرر عند أهل الفن أن المفروض بمن يريد أن يترجم أية لغة إلي لغة أخري أن يفهم أولا تلك اللّغة جيّدا حتّي يتسني له ترجمته إلي تلك اللّغة المطلوبة، لذا لا يصح لمن كان هنديا لا يحسن شيئا من لغة العرب سوي الخبط في الألفاظ أن يترجم شيئا من الهندية إلي العربية، كما لا يصح لمن يجيد العربية و لا يفهم شيئا من اللّغة الهندية أن ينقل شيئا من الهندية إلي العربية، و كذا الحال في كافة اللّغات فإنه يجب علي الناقل أن يجيد كلّا من لغة المنقول عنه و المنقول إليه لكي تأتي الترجمة صحيحة متقنة سالمة من الغلطات اللّفظية و المعنوية.
و لكن الهندي لم يراع هذه القاعدة في ترجمته فترجم ما لا يفهم و لم يفهم ما ترجم، و جاء (شيخ الإسلام) محمود الآلوسي من وراء ظهره فنقل ما سطّره الهندي في أساطيره المهملة دون أن يتفطن حين نقله إلي غلطاته فتناقض هو و إيّاه في أبحاثه أقبح تناقض.

الاعتبارات أمور غير عدمية

قال الآلوسي: «و أما بطلان الثالث- أي اقتضاء الأفعال المدح و الذم بالاعتبارات- فلأن الاعتبارات أمر عدمي و لا يكفي في العليّة وجود المنشأ، و الحسن و القبح بالمعني المتنازع فيه من الوجوديات، و لا يكون علّة الوجودي اللّاوجودي، مع أنّ ما يضاف إليه تلك الاعتبارات أفعال أيضا، فحسنها و قبحها إن كان بالمعني المتنازع فيه لزم الدور أو التسلسل أو بمعني غيره، فلا يلزم سراية الحسن و القبح بالمعني المتنازع فيه باعتباره في المضاف للتباين».
الآلوسي و التشيع، ص: 268
المؤلف: هذه صورة ثانية من فلسفة الآلوسي المقتبسة من ذلك الهندي الّذي تخبّطه الشّيطان من المسّ، فخلط الحابل بالنابل في فلسفته العوراء و نظريته الحمقاء التي ما توهمها و أهم و لا خطرت علي ذهن فاهم فكيف بالآلوسي و أخيه الهندي.
أما قوله: «فلأن الاعتبارات أمر عدمي».
فيقال فيه: أولا: بالنقض فيما اعترف به من حكم العقل بالحسن و القبح بمعني النقص و الكمال كالعلم و الجهل، و ملائمة الطبع كالظلم و العدل، فإنه يأتي عليه كلّ ما يأتي علي ذاك لو صح شي‌ء من ذلك فما يكون جوابه هناك يكون هنا، و كلّ ما يقوله هو فنحن نقوله.
ثانيا: إنّ الأمور الاعتبارية ليست عدمية و إنّما هي أمور وجودية بالإضافة إلي الذات، فإن زيدا مثلا باعتبار صدقه يكون حسنا و عمرو باعتبار كذبه يكون قبيحا، و المضاف إلي الوجودي وجودي، فالاعتبارات منتزعة عن أمور وجودية نظير الرّقيّة و الحريّة و الفوقية و التحتيّة و نحوها من الأمور الاعتبارية المنتزعة عن الأمور الوجودية فهي ليست بأعدام كما توهمه الجهّال.
و أما قوله: «و الحسن و القبح بالمعني المتنازع فيه من الوجوديات» فيرد عليه بالنقض.
أولا: أن الحسن و القبح بمعني النّقص و الكمال و بمعني ملائمة الطبع من الوجوديات، فإن صح ورود هذا عليهما صح وروده عليه و وروده عليهما غير صحيح و باطل فذلك وروده عليه باطل و غير صحيح، و كلّ ما يقوله فيهما نقوله فيه.
ثانيا: إنّ الشي‌ء باعتبار عدم حسنه يكون قبيحا، و باعتبار عدم قبحه يكون حسنا، و علي الأول باعتبار عدم حسنه يكون مذموما، و علي الثاني باعتبار عدم قبحه يكون ممدوحا، فالحسن و القبح بالمعني المتنازع فيه أيضا أمور اعتبارية
الآلوسي و التشيع، ص: 269
إضافية لأن عدم القبح حسن ممدوح و عدم الحسن قبح مذموم و هو عين المتنازع فيه، و لا يخفي بعد هذا سقوط قوله: (و لا يكون علّة الوجودي اللّاوجودي) لأن الاعتبارات أمور وجودية مقتضية لاتصاف ما تضاف إليه بالحسن أو القبح.
و أما قوله: «مع أن ما يضاف إليه تلك الاعتبارات أفعال فحسنها و قبحها إن كان بالمعني المتنازع فيه لزم الدور».
فيقال فيه: أولا: إن كان ثمة ما يلزم فيه الدور بالمعني المتنازع فيه فإنه يلزم الدور فيه أيضا بالمعنيّين المعترف بهما من الآلوسي، فما يكون جوابه هناك يكون هنا.
ثانيا: كان من اللّازم عليه أن يصور لنا الدور المزعوم فيه و يبيّن لنا توقف الشّي‌ء من الجانبين صريحا أو مضمرا، أو التوقف علي ما لا نهاية له، و من حيث أنه أهمل بيانه علمنا أنه نقل مقال ذلك الهندي دون أن يفهم هذيانه، و الهندي هو الآخر حكاه و هو لا يفهم ما يحكي و يحكي ما لا يفهم، و لعلّه يريد كما قيل إن تلك الاعتبارات التي تضاف إلي الأفعال إن كان حسنها أو قبحها بمعني ترتب الثواب أو العقاب عليها يتوقف علي معرفة المدح أو الذم علي الأفعال المضافة إلي تلك الاعتبارات، فلو توقفت معرفتهما عليها لزم الدور، فإن أراد هذا ففساده غني عن البيان، و ذلك لأن المدح أو الذم علي الأفعال المضافة إلي تلك الاعتبارات لا يتوقف علي معرفة المدح أو الذم لكي يلزم الدور و إنما يتوقف علي حكم العقل بترتب المدح أو الذم علي تلك الأفعال المضافة إليها، و إذا اختلفت جهة الموقوف و الموقوف عليه ارتفع الدور- لو كان ثمة دور-.
و إن كان يريد أنّ الحكم بحسن الفعل أو قبحه بالإضافة إلي تلك الاعتبارات إن كان بمعني المدح أو الذم لزم أخذ ما هو متأخر طبعا و هو المدح أو الذم فيما هو المتقدم طبعا و هو الحسن و القبح و هو محال.
فجوابه واضح: و هو أن المسألة المتنازع فيها هي حكم العقل باستحقاق الذم أو المدح علي فعل القبيح أو الحسن، و إنّما يحكم جزما بترتب ذلك عليه بالإضافة إلي تلك الاعتبارات المقتضية لحسنه، و علي عكسه يحكم جازما بترتب
الآلوسي و التشيع، ص: 270
الذم عليه، فحكمه بالمدح أو الذم علي ارتكاب الفعل تابع لحكمه بحسنه أو قبحه و هو غير مأخوذ فيه بالإضافة إلي تلك الاعتبارات، فتلك الاعتبارات المضافة إلي الفعل علّة موجبة لحكم العقل بحسنه أو قبحه المستتبع لحكمه بترتب المدح أو الذم علي فاعله فلا دور و لا خلف فيه إطلاقا إن أردنا من الحسن و القبح المدح و الذم علي تلك الأفعال المضافة إلي تلك الاعتبارات، و إنّما يأتي الدور الصريح علي القول بأنهما شرعيان كما ستقف عليه عند تقرير أدلة المذهب المنصور علي مذهب الخصوم.
و أما قوله: «أو بمعني غيره فلا يلزم سراية الحسن و القبح بالمعني المتنازع فيه».
فيقال فيه: أولا: إذا كان لا يلزم سراية الحسن و القبح بالمعني المتنازع فيه، إذا كان بمعني غيره- علي حدّ زعمه- فلا يلزم سرايتهما، كذلك أيضا إذا كان بمعني الكمال و النقص و ملائمة الطبع المعترف بحكمه بهما من الآلوسي نفسه، فما يجيب به هناك نجيب به نحن هنا.
ثانيا: إنّ الحسن أو القبح هو بمعني المدح أو الذم في الأفعال المضاف إليها تلك الاعتبارات لا غير، و قد استقلّ العقل بالمدح في الأول و الذم في الثاني، كالصدق مثلا فإنه ممدوح و الكذب فإنه مذموم عقلا، و هذا يطّرد و يسري في كافة الأفعال بالوجوه و الاعتبارات الواقعة عليها، و ما زعمه الخصم من عدم السّراية خلط و خبط ناشئ من عدم فهمه بمحل النزاع فيبني عليه ما يشاء.
و جملة القول: إنّ محلّ النزاع هو إعطاء العقل صلاحية الحكم بالمدح علي فعل الحسن و الذم علي فعل القبيح، و الثواب للأول و العقاب علي الثاني سواء أ كانا مستندين إلي الصّفات القائمة بالأفعال أو بالوجوه و الاعتبارات الواقعة عليها.
ثم إنّ الآلوسي لم يذكر أدلّة المذهب المنصور القائلين بالتّحسين و التّقبيح العقليّين، و إنّما اقتصر علي ذكر أمور فاسدة و حكاية أباطيل خارجة عن الموضوع يحاول بها تضليل العقول، و لا شك في أنّ هذا ليس من صفات المسلم الباحث
الآلوسي و التشيع، ص: 271
عن الحقائق للوقوف علي الحقيقة و الصّواب، و ليس من سمات من يريد تهذيب النفوس و تحلّيها بالعقائد الحقّة و رفع ما يختلج في أذهان النّاس من الشك و الشبهة، و إنّما هو غش و تدليس لا يرتكبهما إلّا من يريد إماتة الدين و الإتيان علي آخر نفس من أنفاس الحقّ و اليقين، و قديما
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (ليس منّا من غشّنا) [1]
و
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (ليس منّا من غشّ مسلما)

البرهان علي أن الحسن و القبح عقليان

وها أنا ذا أيها القارئ أحرر لك ذروة من البراهين علي كونهما عقليّين علي سبيل الإجمال مراعاة للاختصار، ليتجلّي لك واضحا فساد مذهب الآلوسي و انهدامه من أساسه، ثم نعرّج بعد ذلك علي تزييف مزاعمه الزائفة:
الأول: إنّ كون الحسن و القبح شرعيّين يعني ليس للعقل أن يمدح أو يذم إطلاقا، و يلزم هذا القول إنكار كلّ ما هو بديهي و معلوم عند جميع العقلاء من حسن الصّدق النافع و المدح عليه، و قبح الكذب الضّار و الذم عليه، و لا ينكر هذا إلّا السّفسطائيون الّذين ينكرون بياض النّهار و سواد اللّيل.
الثاني: ما هو ثابت بالعيان و يحكم به الوجدان من أن العاقل المختار الّذي لم يسمع شيئا عن الشّرائع، و لم يعلم شيئا من أحكامها، بل نشأ في إحدي البوادي الخالية عن كلّ شريعة فخيّروه بين أن يصدق في خبره و يمنح دينارا أو يكذب فيه و يعطي دينارا أيضا، فلا شك في أنه يرجح جانب الصّدق علي الكذب، و لو لا حكم عقله بقبح الكذب و ترتب الذم عليه، و حسن الصّدق و المدح عليه لما فرّق بين الموضوعين- موضوع الصدق و موضوع الكذب- و كيف يا تري يختار الصّدق دائما مع تساويهما في الداعي لو لا حكومة عقله بحسن الأول و قبح الثاني.
هذا بخلاف القول بأنّهما شرعيان، و أنّ ما حسّنه الشّارع فهو الحسن، و ما قبّحه فهو القبيح، سواء أ كان قبيحا في نفسه و أمر بحسنه أو حسنا في نفسه و أمر
__________________________________________________
[1] أخرجه السيوطي في جامعة الصغيرة ص: (117) من جزئه الثاني و صححه.
الآلوسي و التشيع، ص: 272
بقبحه كما هو مذهب الآلوسي من أنّه أمر بالصّدق فصار بأمره حسنا و نهي عن الكذب فصار بنهيه قبيحا، و بالعكس يكون الحكم عكسا علي نحو يجوز أن ينهي عن الصّدق مطلقا و يأمر بالكذب مطلقا، و بطلان هذا عند عقول البشر أظهر من بطلان القول بأن الواحد ليس نصف الإثنين.
و لا جائز أن يقول الآلوسي: إنّ الصّدق و الكذب قبل الأمر و النهي كانا مشتملين علي جهة الحسن و القبح بمعني النقص و الكمال دون الجهة المحسّنة و المقبّحة بمعني المدح و الذم للتناقض الصريح بين قوليه، و ذلك فإن قوله أخيرا:
(إنّ الأفعال لا اقتضاء لها في نفسها بشي‌ء من الحسن و القبح مطلقا بحيث يستحق عليه المدح و الذم، و إنما صار حسنا بأمره و قبيحا بنهيه حتّي لو انعكس لانعكس الحكم، بأن أمر بالقبيح و نهي عن الحسن) كما في ص: (52) من مزخرفاته.
و هذا القول يعني أنها لا توصف بشي‌ء من الحسن و القبح مطلقا و إنّما حسنها و قبحها منوطان بأمر الشّارع و نهيه، و قوله:
(أولا باشتمال الأفعال علي الحسن و القبح بمعني النقص و الكمال كالعلم و الجهل و ملائمة الطبع كالظلم و العدل) يقتضي أنها توصف بشي‌ء من الحسن و القبح، و هل هذا إلّا تناقض فاضح و جزاف في الحكم و التحكم علي اللّه بغير علم، علي أنّه لا يجوز النهي عن الصّدق بالضرورة و إلّا لزم المساواة بين الصّدق و الكذب و الإيمان و الشرك هكذا، و القائل بهذا لا يحسن الكلام معه لأنه ساقط العبارة، و منه يتضح بطلان ما ذهب إليه من أنه أمر به فصار بأمره حسنا، و كذا الكلام في الظلم و العدل و نحوهما من التحسين و التقبيح العقليّين فإنه ليس بد من النزول علي حكم العقل بهما.
الثالث: لو كان الحسن و القبح شرعيّين لما حكم من ينكر الشرائع بأسرها كالبراهمة بحسن الحسن و قبح القبيح و المدح علي الأول و الذم علي الثاني، لأنهم لا يعتقدون بشريعة و لا يدينون بدين مطلقا مع أنهم يحكمون بالحسن و القبح اعتمادا علي حكم العقل الضروري بذلك، و لم يكن اعتمادهم علي حكمه فيه إلّا من حيث أنّ عند عقولهم قبل ورود الأمر و النهي جهة موجبة لحسن الصّدق و صفة
الآلوسي و التشيع، ص: 273
موجبة لقبح الكذب، و لا يلزم من إنكارهم هذا عدم معرفتهم بالثواب في الأول و العقاب في الثاني لأنهم و إن أنكروا الشّرائع كلّها إلّا أنهم لم ينكروا شيئا من الإلهيات كي لا يعرفوا الثواب و العقاب علي الأفعال، و إنّما قالوا إنّ المعرفة بذلك غير موقوفة علي إرشاد المرسلين عليه السّلام و تعليم النبيّين عليه السّلام لأن حكم العقل به كاف عن إرشادهم عليهم السّلام فراجع ص: (69) من الفصل في الملل و الأهواء و النحل لابن حزم من جزئه الأول لتعلم ثمة بطلان ما زعمه هذا الآلوسي و صحة ما نقول.
الرابع: حكم العقل بقبح التكليف بغير المقدور، كتكليف الأعمي بتنقيط المصحف، و المقعد بالطيران إلي السّماء، و حسن التكليف بالمقدور و حكمه الضروري بقبح ذم العلماء لعلمهم، أو الزهاد لزهدهم و حسن مدحهم، و حكمه بقبح مدح الجهال لجهلهم و حسن ذمهم عليه، و حكمه بقبح العبث من العاقل، كما لو دفع شخص لآخر في سلعة له مائة دينار في بلده و دفع إليه آخر مائة دينار في بلدة أخري بشرط أن يحملها إليه و يتحمل عناء السّير و عناء السّفر مع تساوي القيمتين هنا و هناك فاختار الأخير، إلي غير ما هنالك من حكمه البديهي مما لا سبيل إلي إنكاره و جحده حتّي من الصبيان الّذين لا يتأتي لهم غالبا الحصول علي الضروريات إلّا من هذا الآلوسي و أخيه الهندي و غيرهم من خصوم الشيعة و أعدائها.
الخامس: لو كان الحسن و القبح شرعيّين و ليس للعقل فيهما حكم لما قبح من اللّه شي‌ء كما يعتقد الخصوم من أنه لا قبح منه و لا واجب عليه، لذلك أسندوا جميع الأفعال إليه تعالي سواء أ كانت حسنة أم قبيحة بنظر العقل، فجوّزوا علي اللّه أن يظهر المعجزات و خوارق العادات علي أيدي الكاذبين، و تجويز ذلك علي اللّه من أقوي العوامل علي سدّ باب معرفة النبوّة و غلق باب الرسالة، و ذلك لأن كلّ نبيّ لو أظهر المعجزة بعد ادعائه النبوّة فلا يمكن الحكم بصدقه مع جواز إظهار المعجزة علي يد الكذابين في دعوي النبوّة و تلك قضية كونهما شرعيّين، علي أنّ من الواضح قبح الحكم عقلا بعدم قباحة صدور القبائح المعلوم قبحها بالبداهة العقلية من اللّه تعالي، فكيف يحكم هؤلاء بعدم قباحة صدورها من الحكيم الكامل الغني المطلق.
الآلوسي و التشيع، ص: 274
و أما زعم الآلوسي: «أنّ عدم إظهاره تعالي المعجزة علي يد الكذّابين ليس لكونه قبيحا بل لعدم جريان عادة اللّه علي إظهار المعجزات علي أيدي الكذابين».
فهذا شي‌ء التقطه من وراء أشياخه دون أن يفكر في عدم صحته، و ذلك فإنه إذا كان: (لا واجب عليه تعالي و لا قبح منه) كما يقول الخصم فلا يجب عليه إجراء تلك العادة، و حينئذ فلا يوجب إظهارها القطع بصدق دعوي النبوّة، ثم إنّ عدم جريان عادة اللّه علي إظهار المعجزات علي أيدي الكاذبين- كما يقول الخصوم- موقوف علي العلم بجريان عادته علي عدم إظهاره المعجزة علي يد الكاذب، فلو توقف العلم بجريان عادته علي عدم إظهار المعجزة علي يد الكاذب لزم الدور الصريح و هو باطل، و ما يتوقف علي الباطل باطل.
السادس: لو كان كلّ من الحسن و القبح شرعيّا و لا قبح من اللّه و لا واجب عليه لكان من الحسن أن يأمر اللّه تعالي بالكفر و عبادة الأصنام و السّجود للأوثان و تكذيب الأنبياء عليهم السّلام و السّرقة و الزنا و نحوها من أقذار القبائح العقلية و لحسن منه تعالي أن ينهي عن العبادة الواجبة كما يزعم الآلوسي في ص: (52) من كتابه بقوله: (و كلّ ما نهي عنه فهو قبيح حتّي لو انعكس الحكم لانعكس الحال كما لو نسخ الوجوب إلي الحرمة) و يعني هذا تحريم العبادة الواجبة لأن تلك الجرائم و المنكرات غير قبيحة في نفسها و إنّما حسنها و قبحها بأمر اللّه و نهيه.
و حينئذ فلا فرق بينها و بين الأمر بالإطاعة، فشكر المنعم مثلا و الصّدق و الأمانة و العدل ليست حسنة في نفسها، فلو نهي اللّه تعالي عنها لصارت قبيحة، و لكن بالصّدفة أنه أمر بهذه الحسنات بلا حكمة و لا غرض فصارت حسنة كذلك، و بالصدفة أنه نهي عن تلك السيّئات فصارت قبيحة لعدم الفرق قبل تعلّق الأمر و النهي بينهما في نفس الأمر، و الواقع كما يزعم الخصم من أن الأفعال في نفس الواقع متساوية في عدم اقتضاء شي‌ء منها الحسن و القبح مطلقا، علي أن هذه الصّدفة أو قولهم جري العادة أو اتفق أنّه تعالي أمر بتلك و نهي عن هذه كلّها أيضا محتاجة إلي مثلها في الوجود، فالصّدفة تحتاج إلي صدفة و هكذا العادة و الاتفاق، فإما أن تتسلسل أو تدور علي نفسها و بطلان ذلك كلّه واضح، و لا شك في أن من
الآلوسي و التشيع، ص: 275
جرّه عقله إلي الإعتقاد بمثل هذه المزاعم المعلوم بالبداهة فسادها لا يصح في منطق العقل و الوجدان عدّه من أهل التمييز و العرفان، لذا تراها أثّرت علي ذهن الهندي فاتصل أثرها بعقل أخيه الآلوسي من خصوم الشيعة و أعدائها.
السابع: لو كان الحسن و القبح سمعيّين لبطل وجوب معرفة اللّه تعالي الواجبة بالضرورة، و ذلك لأن شكر النعمة واجب بالضرورة عقلا، و إنّما صار واجبا لحكم العقل بحسنه و المدح عليه فيجب قطعا شكر فاعلها، و هو لا يحصل إلّا بمعرفته فتتوقف معرفته علي أمره بشكر نعمته الّذي يكون حسنا بأمره، لأنه ليس حسنا عقلا علي مذهب الخصوم، فلو توقف أمره بشكر نعمته علي معرفته لزم الدور المعلوم بالبداهة عقلا بطلانه.
الثامن: لو كان اعتبار الحسن و القبح مستفادا من السّمع لزم منه توقف وجوب سائر الواجبات علي ذهاب الشّريعة، و هو ما يؤدي إلي إفحام جميع الأنبياء عليه السّلام.
و تقريبه أن الأنبياء عليه السّلام إذا جاءوا إلي المكلفين و أمروهم بتصديقهم و إتباعهم لم يجب ذلك عليهم إلّا بعد أن يعلموا بصدقهم و أنهم مرسلون من عند اللّه تعالي، لأن مجرد الدعوي لا تثبت صدقهم بل و لا مجرد إظهار المعجزة علي أيديهم ما لم ينضم إلي ذلك أمران، الأول: أن تكون هذه المعجزة من عند اللّه، فعلها لغرض التصديق بأنبيائه عليهم السّلام، الثاني: أن كلّ من حكم اللّه بصدقه فهو صادق، و كلّ ذلك يتوقف علي الأمر و الأمر موقوف عليه فيدور، و لما كان علمنا بصدقهم موقوفا علي هذين الأمرين لم يكن ضروريا بل نظريا لتوقفه علي أمر الشّارع.
و حينئذ فللمكلفين أن يقولوا لا نعرف صدقهم إلّا بالنظر و النظر لا نجريه و لا نعمله إلّا إذا وجب علينا و عرفنا وجوبه و إلّا فلا حجّة في قولهم عليهم السّلام علينا، و أما معرفتنا لهذا الوجوب فلا يكون إلّا بقولهم و قولهم ليس بحجّة إلا بعد علمنا بصدقهم، و صدقهم لا يكون إلّا بأمرهم، و حينئذ تنقطع بذلك حجّتهم عليه السّلام و تنتفي فائدة إرسالهم، و اللّه تعالي يقول: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَي اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الآلوسي و التشيع، ص: 276
الرُّسُلِ
[النّساء: 165] إذ معه لا يحصل الانقياد إليهم و الإطاعة لقولهم عليهم السّلام و يكون المخالفون لهم معذورين في مخالفتهم فلا حجّة بعد ذلك تبقي لهم إطلاقا.
و الخلاصة في هذا الوجه: أنه إذا كان الحسن و القبح عقليّين فبالبداهة نعلم أن مدرك وجوب النّظر عقلي، لأن ترك النّظر موجب للخوف علي أساس أنّ العاقل يحتمل بغريزة الفطرة أنّ له إلها واجب الإطاعة يؤاخذه إذا جهله و يعذبه إذا ترك النظر في معرفته، و حينئذ فلا شكّ في كونه دافعا للخوف، و دفع الخوف حسن واجب فالنظر حسن واجب بالضرورة عقلا، فالنظر إذا لم يكن موجبا للقطع الّذي يأمن معه المكلّف من العقاب فلا أقلّ من أن يكون موجبا للأمان من جهله، لذا كان النّظر غاية ما يقدر عليه، و كان في تركه و الإخلال به يحصل الخوف بالضرورة و لا يزول ذلك إلّا به، فعلي هذا لو جاء رجل موصوف بالكمال و معه ما يعجز الإنسان علي الإتيان بمثله، فقال: أنا نبيّ مرسل من عند اللّه ولديّ من المعجزات ما يشهد بصحة دعواي، فلا شك في أن من كان له عقل سليم ينقدح في ذهنه الخوف من المخالفة، و دفع الخوف بديهي أولي واجب عقلا فتصديقه واجب بالضرورة، و هذا بخلاف ما إذا كانا شرعيّين فيكون وجوب النّظر شرعيا فإنه لا واجب حينئذ إلّا بعد ثبوت الأمر الشرعي، و هذا ما يدعو المكلّف إلي أن يقول لمدّعي النبوّة: اثبت لنا إنّك نبي ثم ادعنا إلي امتثال أمرك و لزوم إطاعة قولك فأيّ حجّة تبقي له بعد هذا، علي أنه قد تقدم منّا أن كونه نبيّا يتوقف علي الأمر الشرعي بكونه نبيّا، فلو توقف الأمر بنبوّته علي نبوّته لزم الدور المحال فمذهب الآلوسي محال.
التاسع: إن الإنسان العاقل يفرق بفطرته بين من أحسن إليه دائما و بين من أساء إليه دائما، فيري حسن المدح للأول و الذم للثاني، و ما ذاك إلّا لحكومة عقله و من شك في ذلك فقد خولط في عقله و كابر وجدانه و طعن فيه.

قول الآلوسي إنّ العبد غير مستبد في إيجاد فعله و ما فيه

قال الآلوسي ص: (53): (إنّ العبد غير مستبدّ في إيجاد فعله، بل أفعاله مخلوقة للّه تعالي، فلا يحكم العقل بالاستقلال علي ترتب الثّواب و العقاب).
الآلوسي و التشيع، ص: 277
المؤلف: إن أراد الآلوسي من عدم استبداد العبد في إيجاد فعله أن اللّه تعالي لم يخلق فيه القوة و القدرة علي إيجاد أفعاله الصّادرة عنه بالاختيار، و أنّه تعالي لم يعطه شيئا من ذلك إطلاقا حتّي يستطيع القيام به علي إيجاد أفعاله بل هي منه لا من اللّه تعالي فذلك ما لا يقول به ذو عقل، و إن أراد أن أفعاله الاختيارية من حركاته و سكونه الصادرة عنه بالوجدان في الخارج بالإرادة مخلوقة للّه تعالي كما يقتضيه قوله: (بل أفعاله مخلوقة للّه تعالي) فهو ضلال و إضلال لا يحتمله إنسان له عقل أو شي‌ء من الدين، و ذلك لأن كلّ عاقل لا يشك في الفرق بين حركاته الاختيارية و الاضطرارية، و هو من المرتكزات العقلية الموجودة عند عقل كلّ عاقل، بل هو ثابت في المجانين و الأطفال ألا تري أن الطفل إذا ضربه غيره بحجارة تؤلمه فإنه بطبيعته يدين الرامي له دون الحجارة، و لو لا ارتكاز ذلك الأمر الفطري في قلبه من كون الرامي فاعلا دون الحجارة لما استحسن ذم الرامي دونها، و لعلّ ثبوته في الحيوانات أمر لا ينكر فكيف يا تري جاز للآلوسي أن يزعم أن أفعال العبد مخلوقة للّه تعالي و خلافه جبلّيّ فطري في كافة الكائنات الحيوانية من حميرها و بقرها و نحوها من البهائم.

آيات نفي التعذيب مع عدم البيان أجنبية عن المقام

قال الآلوسي ص: (53): (الرابع: لو كان حسن الفعل و قبحه عقليّين لزم تعذيب تارك الواجب و مرتكب الحرام سواء ورد الشرع أم لا، و اللّازم باطل لقوله تعالي: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّي نَبْعَثَ رَسُولًا
[الإسراء: 15]).
المؤلف: أورد الآلوسي عدّة آيات بذلك المضمون و خالها دليلا علي صحّة مذهبه، و هي كلّها لا مستمسك له بها علي مبتغاه لخروجها موضوعا و حكما عن محلّ النزاع، و هكذا استمر في كتابه يحتج بأمور هي بعيدة بمراحل عن الموضوع و لا تتفق معه بوجه من الوجوه.
و خلاصة المقال: إنّ الآلوسي جاء بتلك الآيات و هو علي غير بيّنه من أمرها و لا يفهم شيئا من معناها و لا مدلولها و لا يعرف مورد ما تنطبق عليه، فهو يحاول
الآلوسي و التشيع، ص: 278
بهذا الأسلوب من الاستدلال أن يثبت الشي‌ء بغير دليل و يقصد من وراء سردها هنا و هناك الإغواء و التضليل، و طبيعي أن العامّي من أهل مذهبه لا يعرف شيئا عن تلك الآيات و لا مواقع الإحتجاج بها و لا يهتدي إلي أنه يوردها في غير موردها، و كلّ ما يعرفه هو أنها خرجت من رجل وضع علي رأسه شعار أهل العلم و يعتقد فيه أنه من العلماء الربانيّين، و أن ما يورده من الآيات و الأحاديث للإحتجاج بها علي الخصماء كلّها أدلّة واردة في موردها، و بذلك أضلّوا كثيرا و ضلّوا عن سواء السّبيل، و حذرا من أن يتسلّق ذلك أذهان نفر ينصتون لها علي غير هدي نلقي عليك كلمة صغيرة تقف من خلالها علي خروج تلك الآيات بأسرها عمّا وقع فيه النزاع، و لتعلم أن جميع الآيات الواردة في نفي التعذيب مع عدم البيان الواصل إلي مرتبة التنجّز- بالنسبة إلي الواجبات و المحرّمات الشرعية- موافقة لحكم العقل في غير ما استقلّ به (لقبح العقاب بلا بيان و المؤاخذة بلا برهان) عقلا كما تقدم ذكره و لا شي‌ء مخالفا لحكمه إطلاقا.
و أما قول الآلوسي «بأن الحسن و القبح لو كانا عقليّين لزم تعذيب تارك الواجب و مرتكب الحرام، سواء ورد الشرع أم لا و اللّازم باطل لقوله: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّي نَبْعَثَ رَسُولًا
، فيقال فيه:
أولا: إن أراد بطلان الملازمة في معلوم الحرمة بإدراك العقل لقبحه كالظّلم و الكذب و الشرك و معلوم الوجوب كالصّدق و العدل و التوحيد فالملازمة ممنوعة، لأنّ الآية نصّ في نفي التعذيب مع عدم البيان و عدم العلم بالمحرّمات و الواجبات، أما مع العلم بها فيكون العذاب مع البيان و المؤاخذة مع البرهان كما هو الحال في المستقلّات العقلية المتقدم ذكرها، فيخرج ما وقع النزاع فيه بموضوعه عن مورد الآيات كلّها و لا شي‌ء منها يدلّ عليه بإحدي الدلالات.
و إن أراد لزوم العذاب علي ما لا يدرك العقل حسنه و لا قبحه كالعبادات و نحوها و المحرمات الشرعية فهو خارج موضوعا عن محلّ النّزاع، لأن القائلين بالتحسين و التقبيح العقليّين لا يقولون بترتب العذاب أو الثواب علي ما لا يدرك العقل حسنه أو قبحه و لا علي ما لا يجزم بهما، و إنّما يقولون كما مرّ ذكره: إنّ
الآلوسي و التشيع، ص: 279
في الأفعال ما يعلم حسنه كالصدق و العدل و التوحيد فيحكم بترتب الثواب و المدح عليه، و منها ما يعلم قبحه كالكذب و الظلم و الشرك فيحكم بقبحه و ترتب الذم و العقاب عليه، أمّا ما لا يدرك حسنه و لا قبحه فيدركه بكشف الشريعة عنه للملازمة بين الحكومتين الشرعية و العقلية، و هذا الأخير هو مورد الآيات الدالّة علي نفي التعذيب مع عدم بيانه بيانا يستطيع به المكلّف علي الامتثال و الإطاعة لخروجه عن إدراكه فلا يحكم قبله في بشي‌ء مطلقا.
ثانيا: إنّ المراد من الرسول في الآية الأنبياء عليهم السّلام و قد ثبت فيما مضي أن القول بكون الحسن و القبح شرعيّين يقتضي تكذيب الأنبياء عليهم السّلام فثبوت كونهما شرعيّين يتوقف علي ثبوت كون أولئك الرسل أنبياء عليهم السّلام أرسلهم اللّه، فلو توقف ثبوت نبوّتهم عليهم السّلام علي كونهما شرعيّين لزم الدور الباطل، فيجب تخصيص عموم الآيات بغير المستقلّات العقلية، فيخرج ذلك كلّه عن مورد الآية و نحوها مما هو بمضمونها بالدليل القطعي، أو تكون الآيات مؤكدة لحكم العقل فيما استقلّ به كما ألمعنا.
ثالثا: إنّ المراد من الرسول ما يعمّ البيان العقلي و النقلي، لأن الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هو المبلّغ و هو يعمّ العقل لأنه أيضا مبلّغ، فالآية صريحة في نفي فعلية التعذيب مع عدم المبلّغ بالواجب و الحرام، أما مع المبلّغ و هو حكم العقل بالقبح أو الحسن، فلا يكون من التعذيب مع عدم البيان و التبليغ، و يؤكد هذا
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إنّ للّه حجّتين حجّة ظاهرة و حجّة باطنة، أما الحجّة الظاهرة فالرسل، و أمّا الحجّة الباطنة فالعقل).
رابعا: إنّ صريح الآية وقوع التعذيب سابقا بعد البحث و التنقيب كما يدلّ عليه إتيانه بصيغة الماضي، و حينئذ فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السّالفة في الأجيال الماضية دون العذاب الأخروي فتأمل، و من جميع ذلك تعرف فساد ما جاء به الآلوسي في ص: (53- 57) من الأباطيل و الأضاليل التي تبطل نفسها بنفسها، و تبرهن بدلالتها علي ضلالتها، و تخبر بفرعها عن سوء أصلها، و حسبك واحدا من الأدلّة التي أدليناها عليك في قلع جذور ما ذهب إليه.
الآلوسي و التشيع، ص: 280

ما زعمه الآلوسي في صفات اللّه تعالي

قال الآلوسي ص: (58): «الثاني: إنّ اللّه حيّ بالحياة، و عالم بالعلم، و قادر بالقدرة، و علي هذا القياس صفاته ثابتة له كما يطلق الأسماء علي الذات، و قالت الإمامية ليست للّه صفات و لكن يطلق علي ذاته الأسماء المشتقة من تلك الصّفات، و أنت خبير بأن عقيدتهم هذه مع كونها خلاف المعقول، لأن إطلاق المشتق علي ذات لا يصح بدون قيام مبدأ بها، إذ الضارب إنّما يطلق علي ذات قام الضرب بها و بدون قيامه لا يحمل و لا يطلق- مخالفة للثقلين، أما الكتاب فأورد منه آيات علي عادته مما لا صلة له بمحلّ النزاع، كقوله تعالي: وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‌ءٍ مِنْ عِلْمِهِ
[البقرة: 264] و قوله تعالي: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
[النساء: 166] و قوله تعالي: وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً
[الأعراف: 156] و أما العترة فلما ذكر في نهج البلاغة من خطب الأمير عليه السّلام في أكثر المواضع من هذه الصفات».
المؤلف: و يرد عليه:
أولا: أما قوله: «إنّه تعالي حيّ بحياة و قادر بالقدرة إلي نهاية قوله» فمدخول من جهات:
الأولي: إنّه لو فرضنا أن اللّه تعالي حيّ بحياة و قادر بقدرة لزم احتياجه تعالي إلي معاني تلك الصّفات القائمة بذاته، و لا شك في أنّ الحاجة من صفات الحادث الفاني دون القديم الباقي، و حينئذ فلا يكون قديما غنيا مطلقا و بطلانه واضح.
الثانية: إنّه إن أراد بذلك أنه تعالي يكتسب هذه الصّفات من غيره، علي معني أنّه حيّ بحياة غيره، و قادر بقدرة غيره، و عالم بعلم غيره إلي آخر صفاته التي هي عند المسلمين عين ذاته و تمام حقيقته نقلنا الكلام إلي ذلك الغير، فإن كانت صفاته أيضا مكتسبة من غيره فإن عاد إلي سابقه لزم الدور، و إن أحيل إلي لاحقه لزم التسلسل و هما باطلان و ما يتوقف عليهما مثلهما باطل، علي أنه يستلزم أن يكون فاعلا قابلا و محلا لآثاره و التوالي كلّها باطلة، فلا بد و أن ينتهي ذلك إلي ذات علم كلّه و قدرة كلّه و حياة كلّه بل هو كلّ العلم و الحياة و القدرة بلا تعدد و لا اثنينية.
الآلوسي و التشيع، ص: 281
الثالثة: إنّه لو كان تعالي حيّا بحياة و قادرا بقدرة لزم التعدد و الاثنينية، و ذلك لأنّ كلّ صفة من هذه الصّفات ليس هو و إنما هو غيره كما يزعم الخصوم، فإن كانت تلك الصّفات التي هي غيرة تعالي مصداقا و مفهوما حوادث لزم قيام الحوادث بالواجب القديم و هو محال، لأن ما يخلو من الحوادث حادث غير قديم و قد ثبت أنه تعالي قديم، و قدم الحوادث محال باطل.
فالّذي عليه أهل الإسلام أن اللّه تعالي عالم بما هو قادر، و قادر بما هو حيّ، و عالم بما هو سميع، و بصير بما هو قادر، و عالم بما هو حيّ بلا مغايرة جهة، و لا تخالف و لا تعدد في شي‌ء تعالي اللّه ربّ العالمين.
الرابعة: لو كانت هذه المعاني قائمة بذاته و موصوفا بها كانت حقيقته تعالي مركّبة من ذاته و من تلك المعاني القائمة بها، و قد ثبت بالبداهة أن كلّ مركّب مفعول يحتاج إلي فاعل يركّبه فيكون اللّه تعالي عن ذلك ممكنا لا واجبا، و قد ثبت بالضرورة وجوبه فثبت بطلان كونها قائمة بذاته و حالّة فيها.
ثانيا: قوله: (و أنت خبير بأن عقيدتهم خلاف المعقول).
فيقال فيه: بربّك قل لي أيها العاقل العارف باللّه أيّة عقيدة خلاف المعقول الّذي يقول إن اللّه مثله كان جاهلا فاكتسب العلم من غيره، و ميّتا مثله فصار حيّا بغيره، و عاجزا مثله فصار قادرا بقدرة غيره، أو الذي يقول و هو خصم الآلوسي إنّ اللّه تعالي هو كلّ العلم و الحياة و القدرة، عليم بما هو قدير، و قدير بما هو خبير، معطي الحياة للموات، و خالق الأرضين و السّموات و جميع الكائنات، عالم بما هو حيّ، و حيّ بما هو سميع إلي آخر صفاته التي يعتقد أنها عين ذاته و تمام كنهه بلا تغيير و لا تبديل، سبحانه و تعالي عمّا يقول الجاهلون علوّا كبيرا.
ثم إذا كان اللّه تعالي يكتسب العلم و الحياة و القدرة و نحوها من صفاته من غيره فليخبرنا الآلوسي عن الفرق بينه و بين اللّه تعالي عن ذلك ما هو و بما ذا يمكن تميّزه عن مخلوقاته؟ و إذا كانت تلك الصّفات ليست من غيره فما بقي إلّا إنّها منه نفسه، و يعني هذا أنه أعطي الحياة و القدرة و العلم و غيرها من الصّفات لنفسه و هو محال لا يمكن أن يكون إطلاقا، لأن غير الحيّ و القادر و العالم و نحوها من
الآلوسي و التشيع، ص: 282
الصّفات لا يمكن أن يعطيها للآخرين علي أساس القاعدة العقلية الضرورية: (أن فاقد الشي‌ء لا يعطي ما فقده) (و المعطي غير فاقد).

ما قاله في المشتق باطل

ثالثا: قوله: «لأن إطلاق المشتق علي ذات لا يصح بدون قيام مبدأه بها، إذ الضارب إنما يطلق علي ذات قام الضرب بها).
فيقال فيه: إن خبطه هنا و خلطه كان ناشئا عن جهله بهذا الفن، و عدم معرفته بأنحاء التلبس الناشئة من اختلاف المواد و الهيئات و المبادئ و الصور، و غير خفي علي من له يدان أو يد في هذا الشأن أن المعتبر في صدق المشتق علي الذات و جريه عليها تلبس الذات بالمبدأ بأي نحو من أنحاء التلبس الناشئة من إختلاف المبادئ تارة و اختلاف الهيئات أخري، فيكون القيام و التلبس تارة صدورا كالضارب و مرة حلولا كالمؤلم و طورا وقوعا عليه أو فيه و أخري منتزعا عنه مفهوما و متّحدا معه خارجا كما في صفاته تعالي، فإنه يكفي في جريان المشتق عليه المغايرة في المفهوم بين المبدأ و بين ما يجري المشتق عليه و إن كانا واحدا مصداقا، و تلك قضية صفاته تعالي مثل العالم و القادر و الحيّ و غيرها من صفاته التي هي عين ذاته مصداقا فيكون إطلاقها عليه حقيقة، فإن المبدأ فيها و إن كان عين ذاته خارجا إلّا أنه غيره مفهوما.
و بعبارة أوضح: أن قيام الصّفة في الشّي‌ء علي قسمين: قسم يقوم به في نفس الأمر كالعلم بالنسبة إلي زيد مثلا، و القسم الآخر: عرض لا يقوم به كالعالم و القادر بالنسبة إليه، فإنهما عين زيد في الخارج لصحة حملهما عليه مواطأة بالحمل الشائع الصناعي و زائدان علي حقيقته، فالصفة من القسم الأول زائدة علي اللّه في الخارج و الثاني عينه فيه، و المراد أنّ صفاته من القسم الثاني دون الأول الزائد علي الذات في الخارج و قيام المبدأ غير لازم مطلقا، ثم أنه إن أراد من عدم صدق المشتق بدون قيام المبدأ بالذات أنه لا يصح إطلاقه عليه مطلقا فقد عرفت فساده من الاختلاف في كيفية التلبس و القيام من الحلول و الصدور و الوقوع، علي أن ما جاء به في المثال لا يتفق مع قوله إنه لا يصدق المشتق بدون قيام المبدأ
الآلوسي و التشيع، ص: 283
بالذات و أنه لا يصح إطلاقه عليه بدونه، لأن المبدأ في الضارب و هو الضرب ليس قائما بالذات التي جري عليها المشتق و إنما هو قائم بالمضروب فما هذا العثار.
رابعا: قوله: «فلما ذكر في نهج البلاغة».
فيقال فيه: ليس في نهج البلاغة ما يدلّ علي أن اللّه تعالي اكتسب صفاته من غيره أو من نفسه، و إنّما الموجود فيه أن صفاته تمام حقيقته و كمال ذاته، فإنك تراه
يقول عليه السّلام في بعض خطبه: (و كمال معرفته التّصديق به، و كمال التّصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنه غير الصّفة، فمن وصف اللّه فقد قرنه، و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّأه، و من جزّأه فقد جهله)
إلي آخر خطبته الشريفة التي سجّلها محمّد عبده في ص: (154) من شرح نهج البلاغة فراجع ثمة حتي تعلم أنه عليه السّلام نفي عنه معاني الصّفات، و ما ذكره الآلوسي من الصّفات عن عليّ عليه السّلام فإنما هي عين الذات و تمام حقيقتها لا غيرها، و كذلك ما أورده من الآيات فإنها كلّها أدلة للإمامية و حجّة لهم عليه لا له، لأنهم لا ينكرون صفاته التي هي عين ذاته حتي يستدلّ علي بطلان ذلك بما ورد من الآيات المتضمنة إثبات صفاته التي هي هو لا غيره مع الاثنينية و التعدد كما يزعم الخصوم.

ما زعمه الآلوسي في صفات اللّه الذاتية باطل

قال الآلوسي ص: (58): «إن صفاته الذاتية قديمة لم يزل موصوفا بها، ثم نسب إلي بعض أولياء اللّه القول: بأنّ اللّه خلق لنفسه علما و سمعا كما خلقها لبعض المخلوقات، فصار عالما سميعا بصيرا و مخالفة هذه العقيدة لكتاب اللّه أظهر من الشّمس، فإنه وقع في كثير من مواضعه (و كان عليما حكيما و عزيزا حكيما). (و سميعا بصيرا) و مخالفة العترة، فلما رواه الكليني عن أبي جعفر عليه السّلام لم يكن شي‌ء غيره و لم يزل عالما، و مع هذا يرد عليهم أن يكون اللّه محلّا للحوادث و هو باطل بالضرورة».
الآلوسي و التشيع، ص: 284
المؤلف: الّذي عليه العقلاء كافة و جاء التنصيص عليه من الشريعة أن اللّه تعالي مخصوص بالقدم، و أنّه ليس في الأزل سواه، و أنّ كلّ ما عداه ممكن و كلّ ممكن حادث، و يقول القرآن: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ
[الحديد: 3] و يقول هذا الآلوسي و غيره من خصوم الشيعة: إنّ مع اللّه تعالي معان قديمة ثمانية هي علل في الصفات؛ كالقدرة و العلم و الحياة و السّميع و البصير و نحوها، فيلزم علي هذا القول ممتنعات عقلية و محالات ضرورية.
الأول: إثبات قديم غير اللّه، و الغريب أنّ هؤلاء حكموا علي النّصاري بالكفر لأنهم قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة فأثبتوا ثلاثة قدماء، و خصوم الشيعة قد أثبتوا ثمانية قدماء بل تسعة مع اللّه تعالي عن ذلك و ما حكموا بكفر أنفسهم.
الثاني: افتقاره تعالي في كونه عالما إلي إثبات معني يكون هو العلم أو القدرة أو السّمع و غير ذلك من الصفات ما لولاها لم يكن متصفا بها، و قد ثبت بالضرورة أنّه تعالي منزّه عن الحاجة لأن كلّ مفتقر إلي غيره ممكن و الممكن حادث، و قد علمنا بالضرورة أنه تعالي قديم.
الثالث: إنّ قول هذا الآلوسي: (أن هذه المعاني غير الذات و لا هي نفس الذات) غير معقول في نفسه و ذلك لأن الشي‌ء إذا نسب إلي آخر فإما أن يكون غيره أو يكون هو، و لا يعقل سلبهما معا لاستحالة الخلوّ و لازم المحال محال باطل بالضرورة فما قاله باطل بالضرورة.
الرابع: لزوم التسلسل المعلوم بالضرورة بطلانه، و ذلك لأن العلم بالشّي‌ء غير العلم بما عداه قطعا، لأن من شرط العلم المطابقة للمعلوم و من المحال عند العقل أن يطابق الشي‌ء الواحد أمورا متغايرة متخالفة بذاتها و حقيقتها، و لكن المعلومات بالطبع غير متناهية فيكون له علوم غير متناهية مرّات عديدة غير متناهية باعتبار كلّ علم يفرض في كلّ مرتبة من المراتب غير المتناهية.
توضيح ذلك أنّ العلم بالشي‌ء مغاير للعلم بذلك الشي‌ء، ثم العلم بالعلم بالشي‌ء غير العلم بالعلم بالعلم بذلك الشي‌ء و هلمّ جرا إلي ما لا نهاية له في كلّ واحد من هذه المراتب غير متناهية و هذا غير معقول، فالمغايرة في صفاته غير معقولة.
الآلوسي و التشيع، ص: 285
أما ما أورده من الآيات فإنّها صريحة في كونه عالما قادرا سميعا بصيرا حكيما و لا دلالة في شي‌ء منها علي ثبوت تلك الصّفات و وجودها قديمة في أنفسها هي غير اللّه تعالي عمّا يقول الضالّون علوّا كبيرا، و علي الجملة أنّ صدور العلم عنه تعالي يستدعي أن يكون عالما و ذلك إنما يكون بعد كونه عالما فيكون الشّي‌ء مشروطا بنفسه فيدور أو يتسلسل، و إن شئت فقل: إنّ صدور العلم عنه موقوف علي أن يكون عالما، فلو توقف كونه عالما علي صدور العلم منه لزم الدور و إن أحيل إلي غيره لزم التسلسل، و لا يتوقف ثبوت الصّفة للموصوف علي وجود الصّفة في نفسها و قيامها في الأزل بذاتها.
و لو كانت الصّفات زائدة علي الذات في حقيقته تعالي لاحتاج في التكميل إلي الصّفة المغايرة له، و كلّ ما هو مغاير له فلا شكّ في أنّه ممكن لاستحالة تعدد الواجب، و علي قول الخصوم يلزم ألّا يكون مستكملا في حدّ ذاته بل محتاجا إلي الممكن في التكميل، و قد ثبت باليقين أنه غنيّ عن العالمين، و معه يبطل ما زعموه من المغايرة، فالواجب بذاته لا يفتقر في ذاته إطلاقا إلي غيره، و ليس في اتصافه بصفة كمال هي غيره من الكمال في شي‌ء، لأن الغيرية في الصّفة مستلزمة لافتقار الذات المستلزم للإمكان الموجب للنقص ثم الكمال بعروضه، نعم إنّما يكون كما لا في الناقصين الجاهلين لو كانت لهم أهلية الاتصاف بالكمال دون اللّه الغنيّ المطلق، فدونكها أدلة جادعة لأنوف المضلّين المزيلة لانتحال المبطلين و الحمد للّه رب العالمين.

اللّه تعالي قادر علي كلّ مقدور

قال الآلوسي ص: (58): «إنّه تعالي قادر علي كلّ شي‌ء، خالف الشيخ أبو جعفر الطوسي، و الشّريف المرتضي و جمع كثير من الإمامية، فإنهم قالوا: إنّ اللّه لا يقدر علي عين مقدور العبد، و يكذبهم قوله تعالي: وَ اللَّهُ عَلي كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ
[البقرة: 284] و هو كاف لتكذيبهم».
المؤلف: أولا: قوله: (خالف جمع كثير من الإمامية في ذلك) يرشد إلي عدم مخالفة أكثر الإمامية في ذلك لخصومهم و هو من الجهل بمذهبهم و من
الآلوسي و التشيع، ص: 286
الافتراء عليهم، لأنهم متفقون جميعا علي أن اللّه تعالي قادر علي كلّ مقدور لم يخالف في ذلك أحد منهم.
ثانيا: قوله: «فإنهم قالوا إنّ اللّه لا يقدر علي عين مقدور العبد».
فيقال فيه: إنّما قال بعدم قدرته علي عين مقدور العبد جماعة من خصوم الشيعة، و قال آخرون منهم إنّه تعالي لا يقدر علي القبيح، و قال غيرهم- و هم منهم- إنّه لا يقدر علي غير مقدور العبد، إلّا أنّهم تناقضوا في ذلك أقبح تناقض، فنسبوا أفعالهم كلّها إلي اللّه- تعالي عن ذلك- لذا تري الآلوسي يقول: (و يكذبهم قوله تعالي: وَ اللَّهُ عَلي كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ*
و قوله تعالي: خالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ
[الأنعام: 102] و يعني هذا في زعمه أنّه تعالي خالق حتّي القبائح و الرذائل و الفسق و الفجور و العهور لأنّها شي‌ء، و قد ألصق الآلوسي به ذلك كلّه لأنه تعالي: خالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ
تعالي عمّا يقول الجاهلون علوّا كبيرا.
أما إختلاف خصوم الشيعة في ذلك فقد سجّله عليهم شيخهم و كبيرهم الفضل بن روزبهان في كتابه الّذي سمّاه و ما أكثر ما تكذب الأسماء: (إبطال الباطل) فليراجع ثمة من أراد الوقوف علي أقوال أئمته في مثل ذلك، لذا كان من اللّازم علي الآلوسي أن يقول إنه تعالي فاعل كلّ شي‌ء من أنواع الفسوق و الفجور و الفواحش و أمثالها من أقذار المنكرات و القبائح، و هي جرأة كبيرة علي مقام الذات المقدّسة لا يرتكبها من له عقل أو شي‌ء من الدين.
و يؤكد لك هذا قوله: (بل أفعال العبد مخلوقة للّه ص: (53)) فإنّه يدخل في فعل العبد شرب الخمر و الزنا و اللّواط و الظلم و العدوان و الشرك و الكفر، و قتل النفس المحرّمة و الفساد في الأرض، و أكل أموال النّاس بالباطل و غير ذلك من الجرائم، و قد نسب في مقاله كلّ هذه المنكرات القبيحة إلي ذات اللّه تعالي عن ذلك علوّا كبيرا.
ثالثا: قوله: «و يكذبهم قوله تعالي: وَ اللَّهُ عَلي كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ*
فمدخول من وجهين:
الأول: من الجائز أن يكون لفظ القدير في الآية بمعني المقدور، و حينئذ فلا دلالة في الآية علي العموم، لأن القدير يأتي في اللّغة بمعني اسم المفعول،
الآلوسي و التشيع، ص: 287
و هو كثير الوقوع في الذكر الحكيم و في كلام العرب العاربة، فطروء مثل هذا الاحتمال في الآية موجب لبطلان الاستدلال بها علي إرادة العموم.
الثاني: إنّ الاستدلال بالآيات إنّما يصح من عالم عرف معناها و سبر غورها و وقف علي عموماتها و فهم مخصصاتها و مقيداتها، أمّا الّذين لا يعرفون شيئا من ذلك إطلاقا فليس لهم أن يخوضوا في الآيات بغير علم و لا هدي، و قديما
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار).
أما قوله تعالي: وَ اللَّهُ عَلي كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ*
فإنّه صريح الدلالة في تعلق قدرته تعالي بكلّ مقدور ممكن في ذاته دون ما كان ممتنعا و محالا في ذاته، فهل يا تري يصح للخصوم أن يستدلّوا بالآية علي تعلّق قدرته بخلق شريك له في الوجود؟ أو هل يا تري يصح لهم أن يقولوا بتعلّق قدرته تعالي علي خلق ذاته؟
فالعموم لو كان موجودا في الآية لوجب تخصيصه بغير ما تقدم ذكره، فمقتضي الآية تعلّق قدرته بالمقدور و هو الممكن الذاتي فيكون اللّه تعالي قادرا علي جميع المقدورات، لأنه واجب الوجود بالذات و كلّ ما عداه ممكن الوجود إلّا ما كان ممتنعا عقلا كما قدّمنا، و لا شك في أنّ كلّ ممكن يصدر عنه أو يصدر عمّا هو صادر عنه.

اللّه عالم بكلّ شي‌ء

قال الآلوسي ص: (59): «إنّ اللّه تعالي عالم بكلّ شي‌ء قبل وجوده- إلي أن قال-: و جماعة من الإثني عشرية من متقدميهم و متأخريهم منهم مقداد صاحب كنز العرفان، قالوا: إنّ اللّه تعالي لا يعلم الجزئيات قبل وقوعها».
المؤلف: أما ما نسبه إلي بعض الإثني عشرية من القول بأنّ اللّه تعالي لا يعلم الجزئيات قبل وقوعها فهو كذب و افتراء لا أصل له، فإنّ الإمامية متفقون جميعا علي أنّ اللّه تعالي عالم بكلّ شي‌ء، و أن علمه بها حضور حقائقها بأجزائها و جزئياتها بين يديه، علي العكس من علمنا فإنه حضور صورها في أذهاننا، فكيف يزعم هذا المختلق أنّ الشيعة الإثني عشرية تنفي علم اللّه تعالي عن الجزئيات قبل وقوعها، و هم يعتقدون أنّه عالم بكلّ شي‌ء، و أنّ علمه به قبل وجوده كعلمه به بعد
الآلوسي و التشيع، ص: 288
وجوده لا يتغير و لا يتبدّل، نعم إنّما منع علمه بالجزئيات إطلاقا، و حجر عليه خصوم الشيعة الّذين أشركوا مع قدمه تعالي معان تسعة قديمة موجبة لنفي العلم عنه مطلقا لا خصوص نفيه عن الجزئيات كما مرّت الإشارة إليه فتذكر فإن فيه عبرة لمن استبصر.

القرآن كلام اللّه لا تحريف فيه

قال الآلوسي: «إنّ القرآن كلام اللّه لم يتطرق فيه التحريف، و قالت الإثنا عشرية إنّه محرّف».
المؤلف: قد عرفت غير مرّة أنّ الرجل مرجف كاذب، لأن التحريف في القرآن منفيّ عنه بضرورة مذهبهم الإسلامي، و أنّ القائلين بتحريفه هم خصوم الشيعة الّذين يأوي إليهم هذا الآلوسي في أخذ الأحكام دون التابعين لأهل البيت من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فإنهم لا يقولون بهذه المقالة و لا يعتقدون هذه العقيدة، و يحكمون بضلال من قال به من أخصامهم.

اللّه مريد و ما قاله الآلوسي في ذلك فاسد

قال الآلوسي ص: (60): «اللّه تعالي مريد، و إرادته أزلية قديمة، و يعتقد الإمامية خلاف ذلك، ثم أورد عدّة آيات علي عادته مما لا شاهد له فيه علي شي‌ء من ذلك، و قال: إنّ عقيدتهم مخالفة لهذه الآيات».
المؤلف: الشيعة تقول إنّ اللّه تعالي مريد كما جاء التنصيص عليه في القرآن، و لكن لا يقولون بأن إرادته أزلية في قبال ذاته كما يزعم الخصوم لما عرفت من فساد هذه العقيدة و أنها مستلزمة لإنكار واجب الوجود بالذات الّذي لا قديم سواه، و قد مرّ البحث عنه في باب أنّ صفاته تعالي عين ذاته بلا تعدد و لا اثنينية و لا مغايرة فلا حاجة إلي التطويل بالإعادة.
أما ما جاء به من الآيات فهي لا تفيد أن إرادته قديمة كقدمه، و إنما هي صريحة في أن إرادته الأشياء إذا كانت تكوينية فهي فعله و إيجاده لها، و إذا كانت تشريعية
الآلوسي و التشيع، ص: 289
فهي تعلقها بتحديد سلوك العبد و ما فيه صلاحه، و أين هذا من الدلالة علي قدمها الموجبة للشرك مع اللّه في القدم غيره و الناسفة لتوحيده إطلاقا كما يزعم الآلوسي.
الآلوسي ص: (60): (إنّ إرادة اللّه عامّة لجميع الكائنات كالشرور و المعاصي و الفسوق إلي نهاية أقواله و تخرصات ذلك الهندي).
المؤلف: أيّها القارئ إنّ من أخطر الأمور علي عقل الإنسان أن يحاكي رواسب غيره من غير تمحيص و تدقيق و يتلقفها تلقف الكرة، و يحرك عضلاته نحوها علي غير بصيرة من أمرها، و هذا ما حدث للآلوسي في كتابه فإنه أدلي بدلوه في الدلاء مع أولئك، و قفز خلفهم كما قفزوا، و هو لا يدري لما ذا وضع قدمه في موضع قدمهم.
و نحن قد ألمعنا أن إرادة اللّه تعالي إن تعلقت بالتكوين فهي تعني فعله و إيجاد كما نصّ عليه القرآن: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[يس: 82] و إن تعلقت بالتشريع فتعني أمره و إيجابه كما يقول كتاب اللّه: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ
[النساء: 26] وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ
[الأنفال: 7- 8] حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ
[الحجرات: 7] و علي عكس ذلك إذا كره شيئا لقوله تعالي: وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ
[الحجرات: 7] و علي هذا الضوء فإن كلّ عاقل يعلم أنّه إذا أراد شيئا من غيره علي سبيل القطع فإنه يأمره به، و إذا كره فعله منه ينهاه عنه، و لا يشك عاقل في أن الأمر و النهي دليلان عنده علي الإرادة و الكراهة إلّا هذا الآلوسي، فإنك تراه يزعم أن اللّه تعالي يريد ما يكرهه، فإن اللّه تعالي نهي عن الكفر و الفسق و الفجور و ارتكاب اللّواط و الزنا، و كره ذلك و أضعافه من المنكرات القبيحة كما جاء التنصيص عليه في القرآن، و مع ذلك فهو يريده علي زعم الآلوسي و أنّه يعاقب علي ارتكابها، و هذا ما يوجب عزل اللّه تعالي عن العدل و سلبه منه و وصفه بالظلم و العدوان و غير ذلك من الصّفات الناقصة الرذلة التي هي من صفات الأشقياء الّذين دعتهم عصبيتهم إلي أن نسبوا إلي اللّه تعالي العظائم و يعزوا إليه كلّ نقص و عيب تعالي عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.
الآلوسي و التشيع، ص: 290
و هل قول الآلوسي في ذلك إلّا كما قاله الشاعر العربي:
ألقاه في اليمّ مكتوفا و قال له إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء
و لعمر الحقّ إن استلزام الأمر و النهي للإرادة و الكراهة و أنهما أمارتان عليهما يعرفه حتي الأطفال و المجانين، فإذا كان العاقل المختار لا يأمر بشي‌ء إلّا و هو يريده و لا ينهي عن شي‌ء إلّا و هو يكرهه، و إذا ما كان الأمر و النهي دليلين علي الإرادة و الكراهة عند العقلاء و أنهم ينسبون من يأمر بما لا يريد أو ما يكره و ينهي عمّا لا يكره أو ينهي عما يريد إلي السّفاهة و الجهالة، فكيف استساغ الآلوسي أن ينسب ذلك إلي اللّه، و كيف طاوعه ضميره و لم ينهه عن عكس القضية، و لكن: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا
[الفرقان: 44].

اللّه لا يرضي بكفر أحد من عباده

قال الآلوسي ص: (62): «إنّ اللّه تعالي لم يرض بكفر أحد من عباده و ضلالته لقوله تعالي: وَ لا يَرْضي لِعِبادِهِ الْكُفْرَ
[الزمر: 7] قال الإثنا عشرية يرضي ضلالة غير الشيعة».
المؤلف: أما القول بأنّ اللّه يرضي بضلالة عباده فهو من معتقدات هذا الخصم الّذي مرّ عليك زعمه أنّ اللّه تعالي يريد جميع الكائنات كالشرور و المعاصي و الفسوق، و أنّه خالق أفعال العبد كالكفر و الشرك و الضلال و النفاق، لأنّه خالق كلّ شي‌ء فهي داخلة في ذلك الشي‌ء كلّه، و أنّه تعالي هو الّذي أراد ذلك منهم- كما يزعمون- أما الشيعة فإنهم بريئون مما يقوله الخصوم مطلقا.

آيات الهداية و الضّلالة لا تريد غير ما أراده اللّه

أما آيات الهداية و الضلالة، فإن الهداية فيها مستعملة لغة بمعني الدلالة و الإرشاد و التوفيق، نحو قوله تعالي: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدي
[اللّيل: 12] كما و أنها مستعملة فيها بمعني الفوز و النجاة، كقوله تعالي:
الآلوسي و التشيع، ص: 291
لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ
إبراهيم: 21] أي لو أنجانا اللّه لأنجيناكم، و نحو قوله تعالي: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ
[البقرة: 264] أي لا ينجيهم، و مستعملة بمعني الحكم و التسمية، نحو قوله تعالي: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ
- إلي قوله تعالي- أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ
[النساء: 88] و المعني أ تريدون أن تسموا مهتديا أو تحكموا عليه بالهداية من سمّاه اللّه تعالي ضالّا و حكم عليه بالضّلال باختياره الضّلال و تقديمه له علي الهدي.
و أما كلمة الضّلال الواردة في القرآن فإنها تطلق في اللّغة علي معان كثيرة، منها: الضياع نحو قوله: وَ وَجَدَكَ ضَالًّا
[الضحي: 7] أي ضائعا كما قيل: (عالم ضاع بين جهّال) و منها الهلاك، و منها الحكم و التسمية، و منها المصادفة و الوجدان، كقوله تعالي: وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلي عِلْمٍ
[الجاثية: 23] أي وجده و صادفه ضالّا، و منها العذاب و الهلاك، نحو قوله تعالي: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ
[القمر: 47] أي في عذاب و هلاك، و منها النسيان نحو قوله تعالي: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْري
[البقرة: 282].
و منها الإبطال نحو قوله تعالي: الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ
[محمّد: 1] أي أبطلها، و منها الإغواء و ليس في القرآن و لا في السنّة من ألفاظ الضّلال بمعني الإغواء شي‌ء يضاف إلي اللّه تعالي إطلاقا، علي أنّه لم يرد في لغة العرب أن لفظة أضلّ بمعني خلق الضّلال في الإنسان، و لا لفظة هدي بمعني خلق الهداية فيه.
فظهر لك من هذا كلّه أن القول بكون اللّه تعالي هو المغوي عن الدين، و المضلّ عن الرشد، و أنّ كلّ ضلالة هو فاعلها- تعالي عن ذلك- إنّما هو من مزاعم الآلوسي و غيره من خصماء الشيعة القائلين إنّ اللّه تعالي مريد و خالق لجميع أفعال الخلائق أجمعين، كالكفر، و الشرور، و المعاصي، و العهور و غير ذلك من أنواع الفسق و الفجور، و لا شك في أنّ ذلك لو تم للخصوم لبطل كلّ أمر و نهيّ، و سقط كلّ تكليف و فرض، بل يبطل الإحتجاج عليهم بالكتب المنزّلة من عند اللّه و المرسلين المبعوثين من عنده تعالي، و يبطل كلّ وعد و وعيد إذ لا فائدة حينئذ في
الآلوسي و التشيع، ص: 292
بعث الأنبياء عليهم السّلام إليهم ما دام اللّه تعالي أراد لهم في زعم الخصوم أن يرتكبوا كلّ ألوان الفساد و الكفر و الزندقة و العناد، و كلّ ذلك رجوع إلي شريعة الغاب و به تقر عين الآلوسي و أخيه الهندي و أضرابهما.
ثم يقال لهذا الخصم: إنّ العقل حاكم بطبيعته بأنّ اللّه تعالي عادل حكيم لا يكلّف بغير الطاقة و لا يؤاخذ بغير ذنب، فكيف يا تري ينهي هو عن الإضلال و الإغواء، ثم هو نفسه تعالي عن ذلك يفعله علي زعم الآلوسي، فإن من الواضح الّذي لا شك يعتريه أنه لا يليق بأقل العقلاء أن يفعل ما ينهي عنه الآخرين، فكيف يجوز في منطق العقل نسبة ذلك إلي اللّه ربّ العالمين، و في القرآن العربي المبين يقول اللّه العظيم: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ
[البقرة: 44] و لقد غفل الآلوسي و ما أشدّ غفلته عن قول الشاعر العربي:
لا تنه عن خلق و تأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
أ تري يرضي الآلوسي و غيره من الخصوم إذا قلنا لهم إنكم فعلتم كلّ فساد و ارتكبتم كلّ موبقة و عملتم كلّ قبيح و شنيع، و أضللتم العباد و أغويتم الغافلين و أضللتموهم عن طريق الهدي و الرشاد، و أوصدتم الباب في وجوههم أللّهم كلا، بل يطعنون فينا كلّ الطعن و يرفعون عقيرتهم علينا بالسّباب إذا نسبنا إليهم تلك الصّفات الناقصة و الرذائل الفظيعة.
فإذا كانوا لا يرضون لأنفسهم صفات النقص و تشمئز نفوسهم من إضافتها إليهم فكيف يا تري ساغ لهم أن يضيفوا ذلك كلّه إلي اللّه المنزّه عن كلّ نقص و عيب، و المستحق لكلّ كمال أعلاه و أسماه إله العالمين و أحكم الحاكمين و أرحم الراحمين، و هم غير خائفين من سطوته و غير و جلين من غضبه بما نسبوه إليه تعالي عنه.

الآيات القرآنية دالّة علي خلاف ما ذهب إليهم الخصم

و لو تعدينا ذلك إلي آيات الكتاب لوجدناها صريحة الدلالة علي خلاف ما ذهب إليه الخصم، قال تعالي: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً
[الإنسان: 3] و قال تعالي: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
الآلوسي و التشيع، ص: 293
زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها
[الشمس: 7- 10] و قال تعالي: هُديً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدي
[البقرة: 185] و قال تعالي: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمي عَلَي الْهُدي
[فصلت: 17] و قال تعالي: وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدي
[الإسراء: 94] إلي كثير من آيات القرآن الدالة بصراحة علي أنّه تعالي قد هدي النّاس جميعا و ما أضلّ أحدا منهم، و إنّما أضاف الإضلال إلي أنفسهم، فقال تعالي:
وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدي
[طه: 7] و قال تعالي: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
[ص: 26] و قال تعالي فيما اقتصه من خبر إبليس اللّعين: وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ
[النساء: 119] و قال تعالي: وَ أَضَلُّوا كَثِيراً
[المائدة: 77] و قال تعالي:
قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ
[المائدة: 77] و قال تعالي: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ
[إبراهيم: 30] و قال تعالي: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ
[البقرة: 36] و قال تعالي: وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
[الأنعام: 43] و قال تعالي: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا
[الأعراف: 38] و قال تعالي: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ
[فصلت: 29] و قال تعالي: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ
[التوبة: 117] و قال تعالي: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا
[الأحزاب: 67] إلي كثير من آيات الذكر الحكيم ما يضيق المقام عن تعداده، و حسبكها برهانا قاطعا لإرجاف المرجفين و دليلا ساطعا لدفع أقوال الآلوسي.

ما نسبه الآلوسي إلي الشيعة في معني قولهم يجب علي اللّه

قال الآلوسي ص: (62): «إنّ اللّه لا يجب عليه شي‌ء كما هو مذهب أهل السنّة، و قالت الشيعة و اتفقوا علي وجوب كثير من الأشياء عليه، و ليس هذا يلائم مرتبة الربوبية، و قال جميع الإمامية أيضا بوجوب التكليف عليه تعالي، بمعني يجب عليه أن يكلف المكلفين بأن يأمرهم و ينهاهم و أن يخبرهم بذلك بواسطة الرسل، و لا يقتضي العقل أصلا أن يكلّف الكافر بالإيمان و الفاجر بالطاعة.
و أيضا لو وجب التكليف لكان لا بد أن يرسل في كلّ قرية و بلدة الرسل متواليا. و لم يقع زمن الفترة، و لم يخل قطر و ناحية من الرسل، لأن العقل لا
الآلوسي و التشيع، ص: 294
يكفي في معرفة التكاليف بالإجماع، و الحاجة للرسل ماسّة بالضرورة، و أيضا كان علي اللّه تعالي أن ينصّب بعد موت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إماما غالبا غير خائف … إلي آخر أقواله».
المؤلف: ليس الوجوب الّذي تقول به الشيعة كما صوره الخصم، و إنّما هو بمعني أن اللّه تعالي بمقتضي حكمته و عدله أوجب علي ذاته القدسية ألّا يخلّ بالواجب و لا يفعل القبيح كما جاء التنصيص عليه في كثير من آيات القرآن الكريم، كقوله تعالي: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلي نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الأنعام: 54] و قوله تعالي:
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدي
و قوله تعالي: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: 47] و قوله تعالي: قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلي نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الأنعام: 12] و قوله تعالي:
وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
[الحج: 40].
و مفهوم هذه الآيات واضح، و هو يدلّ بصراحة علي أنّه تعالي كتب علي نفسه و أوجب عليها نصر المؤمنين و نصر من نصره، كما أوجب عليه الرحمة و كتبها علي نفسه، و ذلك لا يعني إيجاب غيره عليه إطلاقا علي خصومه، و كم من فرق بين ما أوجبه اللّه تعالي علي نفسه بنفسه المدلول عليه في هذه الآيات، و بين ما يوجبه غيره عليه، و الّذي ذهب إليه الشيعة هو الأول دون الثاني فإنه لا قائل به.
و أما قول الآلوسي: (إنّهم يقولون إنه يجب علي اللّه أن يكلّف المكلفين) فهو كذب لا أصل له، لأنهم إنّما يقولون إنّ اللّه تعالي لم يكلّف أحدا فوق طاقته، و لم يلزمه الإتيان بغير المقدور، و إنّه تعالي لم يفعل شيئا عبثا، بل إنما يفعله لمصلحة و حكمة كما جاء القرآن به، كقوله تعالي: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ
[الأنبياء: 16] و قوله تعالي: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ
[المؤمنون: 115] و قوله تعالي: ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
[الذاريات: 56] و لكن الآلوسي و غيره من خصماء الشيعة خالفوا هذه الآيات و نحوها، و قالوا إنّه لا يجوز أن يفعل اللّه تعالي لغرض و لا لمصلحة، و يجوز أن يؤلم العبد بغير غرض و لا مصلحة تعود إلي العبد.
الآلوسي و التشيع، ص: 295
و قالت الشيعة: إنّ اللّه تعالي لم يفعل القبيح، و لم يخلّ بالواجب، و إن جميع أفعاله صواب و حكمة ليس فيها ظلم و لا عدوان و لا كفر و لا بهتان، لأنه غنيّ عن القبيح مطلقا، و عالم به فلا يفعله.
و قد خالف هذا الخصم فزعم أنّه تعالي يفعل القبيح، و أنه تعالي خالق لجميع القبائح و المفاسد و الشرور، و ليس ذلك من فعل الإنسان لأنه لا قبح من اللّه و لا واجب عليه، بل فاعل كلّ شي‌ء و خالق كلّ شي‌ء و مريد كلّ شي‌ء، و القبائح هي الأخري داخلة في ذلك الشي‌ء، كما ترشد إليه كلمات هذا الآلوسي، و يقول القرآن: وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ
[البقرة: 205] و لا شك في أن نسبة حبّ الفساد و كونه مريدا له تكذيب للّه تعالي عمّا يقول الكاذبون علوّا كبيرا.
و قالت الشيعة: إنّ اللّه تعالي يريد الطاعات سواء وقعت أو لا، و يكره المعاصي سواء وقعت أو لا، و خالف هذا الآلوسي فقال: إنّ إرادة اللّه عامّة لجميع الكائنات كالشرور و المعاصي، و إنّ كلّ شي‌ء يقع في الوجود من العبد هو مراد للّه و اللّه خالقه، و ليس العبد إلّا آلة فيها (كالمنشار بيد النجار) هذا ما يقوله الآلوسي و غيره من خصوم الشيعة، و القرآن يقول: وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ
[غافر: 31] و يقول: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً
[الإسراء: 38] و يقول:
وَ لا يَرْضي لِعِبادِهِ الْكُفْرَ
[الزمر: 7] إلي كثير من أمثال هذه الآيات الدالّة علي أنّه تعالي يريد الطّاعات و يكره المعاصي.
و من جميع ذلك يتضح لك جليّا مخالفة الآلوسي لهذه الآيات، و أنّه من الّذين هم عن الصراط ناكبون، (فأين تذهبون و أنّي تؤفكون و الأعلام قائمة و الآيات واضحة، و المنار منصوبة، فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون).

ما زعمه الآلوسي في اللّطف باطل

قال الآلوسي ص: (63): (و أيضا يعتقدون أن اللّطف واجب علي اللّه، و معناه ما يقرّب العبد إلي الطاعة و يبعده عن المعصية، و هذا أيضا باطل لأن اللّطف لو كان واجبا لم يكن لعاص أن يتيسر له أسباب العصيان، ثم أورد بعض الآيات التي تشهد علي جهله بمعني اللّطف، و أنّها لا صلة بينها و بين ما جاء به من الهذر).
الآلوسي و التشيع، ص: 296
المؤلف: اللّطف عبارة أخري عن قوله تعالي: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلي نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
و قوله تعالي: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها
[الشمس: 8- 9] و قوله تعالي: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدي
فإنّه تعالي أوجب علي نفسه بمقتضي حكمته أن يبيّن لعباده طرق السّعادة و النّجاة و طرق الشقاوة و الهلاك، و يدعوهم إلي الأول و ينهاهم عن الثاني، و ليس ذلك علّة تامة لعدم العصيان أو علّة تامة لفعل الطاعة كما توهمه الخصم، و في القرآن يقول اللّه تعالي لعباده: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ
[المائدة: 3] و يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ
[البقرة: 83] و يقول: وَ لِلَّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
[آل عمران: 97] و يقول: وَ لا تَقْرَبُوا الزِّني
[الإسراء: 32] و نحو ذلك من الآيات المتضمنة للأحكام الواجبة و المحرّمة فليس معناها أنها قاهرة للمكلّف و مجبرة له علي فعل الطاعة و ترك المعصية، فإن ذلك لا يقول به ذو عقل و لا يفهمه من قولهم من له ذرّة من الفهم، لأن اللّطف الّذي يقولون به هو ما كان من سنخ المقتضي الموقوف تأثيره علي إختيار طاعة المكلّف فعل الواجب و ترك الحرام، و ليس معني الواجب ما لا يمكن لأحد تركه، و ليس معني الحرام ما لا يمكن لأحد فعله.
و بعبارة أخري أن الأمر و النهي إذا تعلّقا بفعل المكلّف فإنّما يراد بهما الإرادة التشريعية الممكن تخلّفها و ليست هي من الإرادة التكوينية التي لا يمكن تخلّفه عنها إطلاقا، لذا لم يكن فعل المكلّف من لوازم الواجب المأمور به و المحرّم المنهي عنه بحيث لا يمكنه التخلّف عنهما أبدا، ألا تري إلي الآلوسي فإنّ اللّه تعالي قد حرّم عليه الغش و التدليس و الظلم و العدوان و الكذب و البهتان و القذع و السباب بغير حق، و أوجب عليه العدل و الإنصاف و قبول قول الحقّ، و مع ذلك تراه قد ارتكب تلك المحرّمات و ترك تلك الواجبات، فلو كان كلّ من الأمر و النهي علّة تامة للترك و الفعل لاستحال عليه التخلّف عنهما.
و من غريب تناقض الآلوسي أنّك تراه يزعم تارة أنّ إرادة اللّه عامّة لجميع الكائنات كالشرور و المعاصي و الفسوق و الكفور، و أخري يقول إنّ اللّه تعالي لا يريد الكفر لعباده و لا يرضي لهم الضّلالة أبدا، و لا شك في أنّ كلّ متناقض مبطل.
الآلوسي و التشيع، ص: 297

فعل الأصلح واجب

قال الآلوسي: «و أيضا يعتقدون- أي الشيعة- وجوب الأصلح عليه و هذا باطل، و لو كان الأصلح واجبا لما يسلّط الشيطان علي بني آدم و هو عدوهم».
المؤلف: إنّ اللّه تعالي لم يسلّط الشّيطان، و إنّما اتبع الشيطان و عبده من تابع هواه فأعمي بصره و بصيرته، و اللّه تعالي قد حذره و نهاه عن متابعة هواه بقوله تعالي:
أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
[يس: 60] و قوله تعالي: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ
[الحجر: 42] و قوله تعالي: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلي رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَي الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ
[النحل: 99- 100] و نحوها من الآيات الصريحة في وجوب الابتعاد عن مسالكه و حرمة إتباع خطواته.
فاللّه تعالي لم ينه عن الركون إليه و لم يأمرهم باجتنابه و الكفر به إلّا رحمة بعباده، و قد كتبها علي نفسه و أوجبها علي ذاته بذاته ليتميّز الخبيث من الطيّب، و الضالّ من المهتدي، و المبطل من المحق فكيف يزعم هذا الخرّاص أنّ ذلك خلاف الأصلح دون أن يصغي إلي قول اللّه تعالي، و يعرف به فساد ما ذهب إليه.
ثم أن المراد من الأصلح في علمه و حكمته هو أنّه تعالي لا يفعل القبيح و لا يخلّ بالواجب، و قد كتب ذلك علي نفسه كما تقدمت الإشارة إليه في غير واحد من آيات كتابه، و أما تعليل الآلوسي بطلان وجوب الأصلح بتسليط الشيطان علي بني آدم و هو عدوّهم- علي حدّ تعبيره- فباطل و غير صحيح بدليل ما تقدم من الآيات الكريمة الدالّة علي أنّه ليس له سلطان علي الّذين آمنوا و علي ربّهم يتوكلون، و إنّما سلطانه علي الّذين اتبعوه و تولّوه و الّذين هم به مشركون، فكان سلطانه عليهم ناشئا عن سوء اختيارهم لقيادته و إتباعهم خطواته فأعطوه المقادة فسلك بهم سبيل الغواية فأوردهم النّار و بئس القرار.
ثم لا يخفي علي الفطن أن كلمة الشيطان صفة تنطبق علي الإنس و الجن لا خصوص الجن كما يعتقده الجهال، و إن كان الشيطان الأول من الجن و ذلك
الآلوسي و التشيع، ص: 298
بدليل قوله تعالي: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلي بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً
[الأنعام: 112] و قوله تعالي: وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلي شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ
[البقرة: 14] و الشيطان في أصل معناه اللّغوي مأخوذ من شطن، و هو كلّ عات متمرد ظالم مجتاز لحدود اللّه من الإنس و الجنّ معا.

الأعواض علي الألم واجبة

قال الآلوسي ص: (64): «و يعتقدون أيضا أن الأعواض واجبة عليه تعالي، و عقيدتهم هذه بعد دراية ما بين العبد و ربّه من علاقة المالكية و المملوكية باطلة، إذ العوض يجب فيما إذا تصرّف في ملك المالك و لا ملك في العالم لغيره تعالي، و نعيم الجنّة تفضّل منه … إلي نهاية أقواله».
المؤلف: الّذي يعتقد الشيعة في اللّه تعالي أنّه لم يفعل شيئا عبثا، و إنما يفعله لغرض و حكمة، و هذا هو الّذي يعترف العقلاء به من أهل الملل و النحل جميعا و لا يختلف فيه اثنان منهم، و ليس هناك أحد من الشيعة يقول بوجوب العوض علي اللّه كما يزعم الخصم، و إنّما يقولون إنّ ما ينتاب الإنسان في هذه الحياة من الآلام مع قدرته تعالي علي دفعها و عدم حاجته إليها لأنه الغنيّ المطلق لا يجري عليه ما يجري علي المخلوقين، فلا يخلو من وجهين:
الأول: أن يكون علي وجه الانتقام و العقوبة المستحقّة لقوله تعالي: وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ
[البقرة: 65].
الثاني: أن يكون علي وجه الابتلاء، و هو لا يحسن فعله من اللّه تعالي و لا التخلية بينه و بينها إلّا بشرطين علي أساس أن جميع فعله حكم و صواب منزه عن التشهي و العبث و المحاباة و المجون، الشرط الأول: أن يكون مشتملا علي المصلحة إما للمتألم أو لغيره، و هو نوع من العطف و المنّة لأنه لو خلا عن ذلك كان مجونا عبثا و اللّه تعالي لا يكون عابثا لاعبا إطلاقا، الثاني: أن يكون في مقابله عوض للمتألم يزيد علي الألم بحيث لو عرض علي المتألم الألم و العوض لاختار
الآلوسي و التشيع، ص: 299
الألم لضخامة العوض و إلّا لزم الظلم من اللّه علي عبده تعالي عن ذلك، لأن إيلام الكائن الحيّ أو تعذيبه بغير ذنب و لا فائدة تصل إليه و لا لغيره ظلم واضح، فلا يجوز نسبته إلي اللّه تعالي في حال.
و لكن الخصم يري من الجائز علي اللّه تعالي أن يؤلم عبده بأنواع الألم من غير ذنب و لا جريمة و بلا غرض و لا غاية و لا فائدة إطلاقا و لا عوض أبدا، فهو يري من الجائز عليه تعالي أن يعذب الأطفال و المجانين و الأنبياء و المرسلين عليهم السّلام من غير فائدة و لا مصلحة و لا يعوضهم علي ذلك بشي‌ء مطلقا، مع انّا نعلم بالضرورة أن من فعل هذا من النّاس كان عند العقلاء قاطبة ظالما جائرا سفيها سفّاكا للدماء، فكيف يا تري يجوز لهذا الظالم أن ينسب إلي اللّه الرحيم بعباده مثل هذه النقائص و العظائم التي تكاد السّماوات يتفطرن منها و تخرّ الجبال هدّا و لا يخشي عقابه و حسابه: وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَي الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَي اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْويً لِلْمُتَكَبِّرِينَ
[الزمر: 60].

ليس العوض علي الألم استحقاقا حقيقيا

و من ذلك كلّه يتضح جليا أنّا لا نريد من استحقاق العبد العوض علي الألم هو الاستحقاق الحقيقي لكي يأتي عليه بأن ذلك باطل بعد دراية ما بين العبد و ربّه من علاقة المالكية- علي حدّ زعمه- الجاهل بمعني العوض الّذي تقول الشيعة بوجوبه، و إنّما تريد به بمعني التفضّل من اللّه تعالي و المنّة منه و الرحمة التي كتبها علي نفسه، و من حيث أنّه تعالي كتبها علي ذاته القدسية في كثير من آيات كتابه- كما ألمعنا- علمنا بوجوب العوض منه لينتفي الظلم و العبث من فعله.
أما خصوم الشيعة فقد خالفوا ذلك كلّه فزعموا أنّه لا يجوز أن يفعل الألم لغرض من الأغراض و لا لمصلحة من المصالح، بل يؤلم العبد بغير فائدة و لا مصلحة إطلاقا، و يجوز أن يخلق خلقا و يدخلهم النّار مخلّدين فيها أبدا من غير أن يكون قد عصوا أمرا أو خالفوا نهيا، و هذا هو الظلم عينه الّذي أشار إليه تعالي في كثير من آيات كتابه، قال تعالي: وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ
[غافر: 31] و قال تعالي:
وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
[فصلت: 46] و قال تعالي: وَ ما ظَلَمْناهُمْ
[هود: 101]
الآلوسي و التشيع، ص: 300
و نحوها من الآيات القاضية باستحالة ذلك منه، و إذا جاز عليه أن يخلّد العبد في النار من غير موجب و لا عصيان لم يكن علي زعم الخصم عادلا حكيما بل يكون- و العياذ باللّه- جائرا، تعالي اللّه عمّا يصفون.

اللّوازم الباطلة في قوله الخصم بنفي الغرض في فعل اللّه تعالي

ثم إذا كان لا يجوز علي اللّه تعالي أن يفعل الألم لغرض و لا لمصلحة تعود علي العبد بأكبر النفع- كما يزعم الخصوم- لزمهم علي ذلك أمور ممتنعة و محاذير قبيحة.
الأول: يلزمهم أن ينسبوا إلي اللّه تعالي فعل العبث و لا معني للعابث اللّاعب غير أنّه يفعل لا لغرض و لا مصلحة، و قد حكم القرآن بفساد هذه العقيدة، فقال تعالي: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ
[الدخان: 38] و قال تعالي: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا
[آل عمران: 191] و لا شك في كون الفعل باطلا إذا لم يكن لفاعله غرض فيه، و ليس الغرض عائدا إليه لكي يلزم منه استكماله به و إلّا لزم استكماله بوجوب الشّكر له تعالي في قوله: اشْكُرْ لِي
[لقمان: 14] و قوله تعالي: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
[إبراهيم: 7] فيكون هو تعالي مكملا لوجود ذلك الفعل و لا يشك من له عقل في أن الغرض كالإحسان و نحوه أولي و أرجح عند اللّه تعالي من عدمه و الأنفع أرجح في نفس الأمر و هو عالم قطعا بأرجحيته في الواقع، فلو انعكس الأمر لزم عدم علمه بكونه أنفع فيكون نقصا فيه تعالي عنه، علي أنه من الجائز أن يكون فعله لغرض يعود إليه و لا يلزم أن يكون نقصا فيه قبل حصوله لإمكان أن يكون حصول ذلك الغرض في أمثال تلك الأزمان كمالا فلا يلزم منه أن يكون الواجب قبل حصوله ناقصا و لا أن يكون خاليا عن صفة الكمال، بل اللّازم أن يكون خاليا عن شي‌ء لم يكن كمالا إلي ذلك الوقت.
ثم إن احتياج الفاعل في الفاعلية إلي الغير لا يوجب النقص فيه لأنه تعالي محتاج في اتصافه بالصّفات الفعلية إلي مخلوقاته، فإن كونه خالقا يحتاج إلي مخلوق و رازقا إلي مرزوق و هكذا الحال في جميع صفات أفعاله التي يدخلها التخصيص في حال و لا يمكن سلبها عنه في كلّ حال، و ليس في الإمكان أن
الآلوسي و التشيع، ص: 301
يكون اللّه تعالي موجبة تامة لإيجاد الحوادث و إلّا لزم أن تكون قديمة بقدمه و اللّازم باطل فالملزوم مثله باطل، فيحتاج إيجاده إلي حادث آخر و هكذا فيجب أن يكون كلّ حادث مسبوقا بمواد غير متناهية و الاحتياج في فاعليته إليها لا يستلزم النقص فيه إطلاقا فلا يكون الاحتياج فيها إلي الأغراض مستلزما للنقص في شي‌ء، لأنه أيضا يحتاج في إيجاد العرض إلي وجود المحلّ و في إيجاد الكلّ إلي وجود الجزء، فوجود المحلّ له دخل في وجود العرض و وجود الجزء في وجود الكلّ و هو الخالق الموجد للكلّ.

تعليل أفعال اللّه بالأغراض مخصوص بصفاته الفعلية

ثم إن تعليل أفعاله تعالي بالأغراض إنّما يرجع إلي الصّفات الكمالية الفعلية كخالقية العوالم و رازقية العباد، و الخلوّ عن هذه في بعض الحالات ليس نقصا قطعا و إنّما النقص خلوّه عن صفات الذات كالعلم و القدرة و الحياة التي هي عين ذاته.
علي أنّه إذا لم يكن يفعل لغرض و لا مصلحة لزم بطلان حجيّة القياس المعتبر عند خصومنا، لأن حجّيته فرع كون أفعاله تعالي معلّلة بالأغراض، كما أن حكم العقل بعدم خلوّ فعل العاقل المختار عن الفائدة و الغرض لا سيّما إذا كان حكيما كاف في ثبوته.
ثم يقال لهم: إذا كان اللّه تعالي لم يفعل لغرض لزم ألّا يكون محسنا لعباده و لا راحما و لا منعما و لا كريما و هو مخالف لكتاب اللّه و السنّة المتواترة و إجماع الأمة، فإنهم متفقون علي وصف اللّه تعالي بتلك الصّفات علي نحو الحقيقة دون المجاز، و ذلك لأنه إنما يصح أن يصدق الإحسان و الإنعام و الإكرام و غيرها من الصّفات لو فعل المحسن نفعا لغرض الإحسان إلي المنتفع، أما إذا فعله لا لذلك لم يكن محسنا إطلاقا لذا تري لا يصحّ أن يقال لمن أطعم الدابة ليسمّنها حتي يذبحها أنه محسن إليها، كما يلزمهم أن يقولوا إن جميع المنافع التي جعلها اللّه تعالي منوطة بالأشياء غير مقصودة و لا معلّلة بالفائدة، و إنما خلقها و وضعها في مواضعها عبثا باطلا فلا يكون خلق الأعين لأن يبصروا بها و لا الآذان ليسمعوا بها
الآلوسي و التشيع، ص: 302
و غيرها من الأعضاء و الجوارح التي خلقها لمنافع تعود علي الإنسان و غيره، و كذا الحال في الكائنات التي خلقها لمنفعة العباد، فإذا كانت غير مقصودة و لا مخلوقة لغرض- كما يزعم الآلوسي- لزم اللّغو و العبث في ذلك كله من اللّه تعالي عن ذلك علوّا كبيرا.
الثاني: إنه لو لم يكن فعله لغرض و مصلحة لزم إبطال النبوّة رأسا و عدم القطع بصدق نبيّ منهم، بل يحصل لنا في هذا الحال الجزم بكذبهم.

نبوّة كلّ نبيّ لا تتم إلّا بأمرين

لأن نبوة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا تتم إلّا بأمرين:
الأول: أن يكون اللّه تعالي قد خلق المعجزة علي يده لغرض التصديق به.
الثاني: أن كلّ من حكم اللّه بصدقه فهو صادق قطعا.
فإذا أسقطنا القول بأحد الأمرين فقد أسقطنا دليل النبوّة و ذلك لأن اللّه تعالي لو خلق المعجزة لا لغرض التصديق بطل أن يكون دليلا علي صدق مدعي النبوّة لانتفاء الفرق بين النبيّ و بين غيره بعد أن فرضنا أن خلق المعجزة لم يكن لغرض التصديق بصاحبها، و حينئذ فلكلّ أحد أن يدعيها و يقول إن اللّه تعالي صدّقني و بطلانه واضح.
ثم يقال لهم: إنّه إن لم يكن يخلق المعجزة لغرض التصديق لزم الإغراء بالجهل لأنه دالّ عليه، لأنّا لو فرضنا أن شخصا ادّعي النبوّة و قال إنّ اللّه تعالي يصدّقني بأن يجري علي يدي شيئا لا يقدر أحد من النّاس عليه و كان ذلك مقارنا لدعوته، و تكرر ذلك منه عقيب تكرر دعوته، فلا شك في أن كلّ عاقل يقطع بصدقه، فلو لم يفعله لأجل التصديق به لكان اللّه تعالي بذلك مغريا بالجهل و هو قبيح علي اللّه يستحيل نسبة صدوره إليه، و يكون مدّعي النبوّة حينذاك كاذبا بقوله إن اللّه تعالي خلق المعجزة علي يدي لأجل تصديقي.
فإذا كان لا يجوز أن يفعل لغرض كما يزعم الخصوم فكيف يجوز للنبيّ أن يدّعي هذه الدعوي الموجبة لتكذيبه.
الآلوسي و التشيع، ص: 303
أما الأمر الثاني و هو: أن كلّ من حكم اللّه بصدقه كان صادقا فممنوع عند خصومنا، لأنهم يقولون إن اللّه تعالي خالق كلّ أنواع الضّلال و الشرور و المعاصي الصّادرة من الإنسان لدي العيان، و إن إرادته عامّة لجميع ذلك فلا يمتنع عليه تصديق الكاذب لأنه لا واجب عليه، كما سنذكره عند تقرير كلام الآلوسي الّذي تلقي تلك المزاعم ممن تقدم عليه بالقبول تقليدا و بلا تفكير في مغبتها و لا تثبت في عاقبتها، و كان عليه في الأقل أن يطلق عقله من عقال التقليد و فكره من قيد التبعية، و ينظر بعين بصيرة إلي أدلة الطائفة الحقّة و الفرقة المحقّة التابعة للوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لينبلج له عمود الصبح عن محضه و يتجلّي له الحقّ بعينه، فإنه لا يصح لمن له عقل أو شي‌ء من الدين أن يرضي لنفسه عقيدة توجب إبطال النبوّة مطلقا، و تحكم عليه بالمساواة بين النبيّين عليهم السّلام و بين الكذابين أمثال مسيلمة و سجاح و العنسي.
الثالث: لو كان اللّه تعالي لا يفعل لغرض لزم تكذيب القرآن العزيز، و قد مرّت عليك عدّة آيات منه صريحة في أن أفعاله لا تكون إلّا لغرض و مصلحة، و أنها تتعالي عن اللّغو و العبث.
الرابع: إنه إذا لم يكن يفعل لغرض لجاز عليه تعالي أن يعذّب أعظم المرسلين كالنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بأشدّ ألوان العذاب، و يمنح أعظم العاصين كإبليس اللّعين بأكبر الثّواب، لأنه إذا كان لا يفعل لكون الفعل حسنا و لا يترك لكونه قبيحا، بل كان عابثا لاعبا لا لغرض إطلاقا- علي زعمهم- لم يبق فرق بين سيّد المرسلين صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إبليس في الثواب و العقاب، لأنه لا يثيب المطيع لطاعته و لا يعاقب العاصي لعصيانه، و هذان الوصفان طبعا إذا تجردا عند الإعتبار في الانتقام و الإثابة لم يكن لأحدهما أولوية الثواب و لا العقاب دون الآخر.
فباللّه عليك أيّها العاقل المستعمل عقله، و المسلم المفكر المتحلل من قيود التعصب، و المتحرر من التقليد الأصم هل يسمح لك عقلك و فكرك و يطاوعك ضميرك و وجدانك أن تعتقد بهذه العقيدة و تعزوها إلي خالقك، و أنت تري بأمّ عينك لو أن عاقلا نسب الإساءة إلي من أحسن إليه و عزا الإحسان إلي من أساء
الآلوسي و التشيع، ص: 304
إليه، لثار و فار و باء بغضب منه، فكيف يجوز أن ينسب إلي ربّه ما لا يرضي به أقلّ النّاس قدرا و لا يبوء بغضب من اللّه و عقابه.

الإنسان هو الفاعل لأفعاله و ليست من خلق اللّه تعالي

قال الآلوسي ص: (64): «جميع ما يصدر من الإنسان أو الجنّة أو الشياطين أو غيرهم من المخلوقين، من خير و شرّ و كفر و إيمان و طاعة و معصية و حسن و قبح من خلق اللّه بإيجاده، و ليس للعبد قدرة علي خلقه، نعم له كسبه و العمل به، و بهذا الكسب و العمل سيجزي إن شرّا فشر و إن خيرا فخير، فهذا هو مذهب أهل السنّة، و قالت الإمامية إن العبد يخلق أفعاله و لا دخل للّه في أفعالهم الإرادية، و هذه العقيدة مخالفة للكتاب و العترة، أما الكتاب فقوله تعالي: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ
[الصافات: 96] و قوله تعالي: خالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ
[غافر: 62] و أما العترة، فقد روي الإمامية بأجمعهم عن الأئمة: أن أفعال العباد مخلوقة للّه تعالي».
المؤلف: أولا: إن الضرورة العقلية قاضية بالفرق بين الحركتين الاختيارية و الاضطرارية، فإن العقلاء جميعا يفرّقون بينهما و ينسبون الأول إلي الإرادة، و يقولون في الثاني إنها خارجة عنها غير داخلة فيها، و يقولون إن الأولي مقدورة كتحريك يده أو عضو من أعضائه اختيارا، و الثانية غير مستطاعة و لا مقدورة كحركة المرتعش، و الواقع من أعلي المنارة و غير ذلك من الموارد التي يفرّق بينهما أهل العقول، و هذا من الأمور المشاهدة بالعيون الّذي لا يشكّ فيه اثنان منهم.
ثانيا: إنه من القبيح علي اللّه تعالي أن يكلّف العبد بفعل الطاعة و اجتناب المعصية، و هو لا يقدر علي مخالفة القديم، و ذلك لأنه إذا كان الفاعل للمعصية فينا هو اللّه تعالي- كما يزعم الخصوم- لم يقدر العبد علي الطاعة، لأن اللّه تعالي إن خلق فيه فعل الطاعة كان لازم الحصول دائما و إن لم يخلقه كان ممتنع الحصول أبدا، فلو لم يكن العبد قادرا علي الفعل و الترك كانت أفعاله جارية مجري حركات الجمادات التي يحرّكها الإنسان كيفما شاء، و الضرورة العقلية
الآلوسي و التشيع، ص: 305
قاضية بامتناع أمر الجماد و نهيه و مدحه و ذمه و إثابته و تعذيبه، فعلي زعم الخصوم يجب أن يكون الأمر كذلك في فعل العبد، لأنه تعالي يريد منه فعل المعصية و يخلقها فيه، فكيف و هو العاجز الضعيف يستطيع أن يمانع الجبّار القوي، ألا تري أن المنشار الّذي بيد النجّار لا يستطيع أن يمانعه في تحريكه يمنة و يسرة فكذلك يكون الإنسان من هذا القبيل لو صح ما زعمه الخصم.
علي أنه إذا طلب اللّه من العبد أن يفعل فعلا و هو لا يمكن صدوره منه و إنما هو صادر من اللّه، كان اللّه تعالي- علي زعمه- من العابثين اللّاعبين و كان من المكلّفين بغير المقدور القبيح الّذي يستحيل أن يفعله.

ما زعمه الآلوسي أن للعبد كسبه و عمله باطل

و أما قول الآلوسي: «إن للعبد كسبه و عمله».
فيقال فيه: كان اللّازم علي الآلوسي أن يفكر في جملته هذه قبل أن يوردها مقلّدا للآخرين فيها، ليعلم ثمة أن خصوم الشيعة إنما التجئوا إلي هذه الكلمة ليدفعوا بها عن أنفسهم ما يترتب علي مزعمتهم من إنكار البديهيات الأولية كالواحد نصف الإثنين، إلّا أنهم ألقوها و هم علي غير بيّنة من أمرها و لا بصيرة من معناها، و ذلك لأن أصل القدرة و الإرادة و إن كانتا مخلوقتين في العبد لكن الفعل إنما يتحقق بالإرادة الجازمة الجامعة للشروط و الفاقدة للموانع و هي بالطبع اختيارية.
و لنضرب لك مثلا تستطيع من ورائه أن تقطع بصحة ما قلناه و فساد ما زعموه، و ذلك فيما إذا علم أحدنا أن في هذا الفعل نفعا فلا شك في تعلّق إرادته علي إختياره، و لكن مجرد تعلق إرادته به وحدها لا تكفي في حصول مراده ما لم تكن جازمة محركة لعضلاته نحوه، فلا بدّ حينئذ من انتفاء ردع النفس عنه حتي تكون إرادته جزمية موجبة تامة لفعله، فإنّا بالوجدان قد نريد شيئا و مع ذلك نأباه، و هذا أمر طبيعي ثابت لكلّ إنسان له عقل، و ليس من شك في أن ذلك الكفّ و المنع أمر اختياري يستند وجوده علي تقدير تحققه إلي وجود الداعي المحرّك إليه، إذ أن عدم علّة الوجود علّة العدم.
الآلوسي و التشيع، ص: 306
فالإرادة الجازمة اختيارية لاستنادها إلي عدم الكفّ المعتبر فيها إلي الإختيار و إن لم تكن نفسها اختيارية، و لا يلزم التسلسل المحال بدعوي توقف عدم الكفّ علي عدم كفّ آخر لأنها مدفوعة بأنه من التسلسل في الأعدام و هو لا محال فيه إطلاقا، و بعبارة أوضح أنهم إن أرادوا بالكسب الّذي أضافوه إلي العبد أن وقوع الفعل بإيجاد المكلّف و بفعله بطل قولهم: إن جميع ما يصدر من الإنسان من خلق اللّه و بإيجاده، و إن أرادوا أنه ليس بإيجاد المكلّف و لا هو من فعله لزمهم أن يقولوا بجواز التكليف بغير المقدور و هو محال باطل، و أيّا قالوا فهو دليل علي بطلان القول بالكسب.
ثم كان علي الآلوسي أن يوضح لنا معني قوله: (للعبد كسبه و العمل به) و معني قوله: (ليس للعبد قدرة علي خلقه) و علي ما ذا يعود الضمير في قوله:
(العمل به) و في: (خلقه) فإن كان يعود إلي الكسب فلا معني لقوله: (و العمل به إلّا إرادة تحصيل الحاصل) و هو باطل، لأن كسب العبد عمله و لا شي‌ء غيره [1].
و إن كان يريد إعادته إلي فعل العبد فلا معني له أيضا، لأن فعل العبد و كسبه و عمله كلّها نظائر و هو قادر عليه فلا معني لقوله: (ليس للعبد قدرة علي خلقه) إلّا إرادة تحصيل الحاصل الباطل أيضا، ثم إنّا لا نري في مظانّ اللّغة فرقا بين قولنا للعبد كسبه و عمله و قولنا للعبد فعله و خلقه، و ذلك لأنه إذا كان قادرا علي كسبه كان قادرا علي فعله و عمله و خلقه، فإن المعني في الجميع واحد و حكمه واحد فلا يصح سلب القدرة عنه في واحد دون الآخر بعد أن كان معني الجميع واحدا، و من حيث أن الآلوسي لم يأت علي توضيح مزعمته علمنا أنه ألقاها و هو لا يفهم معناها فهو فيها أشبه بقول القائل:
كأنّنا و الماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء
__________________________________________________
[1] و الدليل علي ذلك قوله تعالي: لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ
[البقرة: 286] أي لها ثواب ما عملت من الطاعات و عقاب ما عملت من المعاصي، و عليه يكون معني قوله: (و للعبد كسبه و العمل به) هكذا و للعبد كسبه و الكسب به و هو لا ينطق به عربي، و كذا الحال في قوله: (ليس للعبد قدرة علي خلقه) لأن خلق العبد هو فعله لا سواه، و هو ما يتعلق بإيجاد الشي‌ء و هكذا فعله و كسبه و هذا لا غبار عليه.
الآلوسي و التشيع، ص: 307
فإن المعني في البيتين واحد.
أما كلمة (الخلق) فلا دليل علي حرمة إطلاقها علي ما يصدر من العبد، و حينئذ فلا فرق بين أن نقول خلق الخمر أو عملها و بين أن نقول فعل الخمر أو صنعها، لأن المدلول عليه في الجميع واحد مفهوما و مصداقا للترادف بينها.
و من هنا يتضح جليا بأن الآلوسي لما رأي المتقدمين عليه من خصوم الشيعة يقولون إن العبد مكلّف بالكسب فرارا من الممتنعات العقلية التي وقعوا فيها- كما ألمعنا- سجل تلك الكلمة في كتابه ظنا منه بأن لها معني محصلا مقصودا، فهو لا يدري و لا هم يدرون ما معناها و لا يعرفون مغزاها، و لكن الناس كلّهم يعلمون أنها لا ترجع إلي معني محصل مفهوم إلا إذا كان المقصود فعله، و معه يبطل قوله.
ثالثا: لو كان الخالق لأفعالنا هو اللّه و لسنا فاعلين شيئا لزمهم أن ينكروا بداهة العقل، و ذلك فإن العقل حاكم بالضرورة بأن مدح المحسن حسن و ذمه قبيح، و ذمّ المسي‌ء حسن و مدحه قبيح، و هذا شي‌ء لا يختلف فيه اثنان من أهل العقل، لذا تري العقلاء يحكمون جازمين بحسن من يفعل الطاعات دائما و لا يفعل شيئا من المعاصي، لا سيّما إذا أكثر في إحسانه إلي النّاس و بذل الخير لكلّ أحد و ساعد الضعفاء في أمور معاشهم و ما يتصل بمعادهم، و قضي حوائجهم و سدّ حاجاتهم، كما أنهم يحكمون جميعا بقبح ذم من كان سلوكه في فعل الطاعة و عمل الخير، و لا يشكّون في نذالة الذام له و سفالته و يبالغون في ذمه و إهانته و تحقيره، و يزداد حكمهم بقبحه إذا كان ذمه لأجل إحسانه و فعله الطّاعة و عمل الخير، و لو انعكس الأمر لانعكس حكمهم.
لذلك تراهم يحكمون حكما قطعيا بقبح المدح لمن يفعل الظلم و الجور و الغصب و العدوان، لا سيّما علي من بالغ في ظلمه و عدوانه، و يحكمون طبعا بسفاهة المادحين له علي ظلمه و اعتدائه، و يكونون مذمومين مدحورين عندهم، كما أنهم يحكمون بالضرورة بقبح من ذمّ إنسانا لأجل كونه طويلا أو قصيرا، أو لأن السّماء فوقه و الأرض تحته، و لا مماراة في أنه إنما يحسن هذا المدح و الذم
الآلوسي و التشيع، ص: 308
لو كان الفعلان صادرين من الإنسان نفسه، فإنه لو لم يصدر عنه لم يحسن مدحه و ذمه، و هذا لعمر اللّه من المرتكزات الفطرية و الأمور الجبلّيّة التي لا يشك فيها من يميّز بين يمينه و شماله، و أنت تري الآلوسي يمنع هذا الحكم العقلي البديهي، فهو يمنع حسن مدح اللّه علي نعمه، و يمنع حمده علي آلائه الظاهرة و الباطنة علي عباده و يمنع شكره و الثناء عليه، و يري من القبيح ذم إبليس و لعنه و لعن من كان مثله من المنافقين و الكافرين، فكيف يا تري تنخدع أيها العاقل اللّبيب بهذه المزاعم التي تأباها الفطرة السليمة و ينبذها التوحيد الخالص.
ثم نقول للآلوسي: إن وجود الإختيار و القدرة في الفاعل الّذي هو العبد و كسبه و مباشرته للأفعال إن كانت داخلة في إيجاده الفعل تم مطلوبنا من استناد الفعل إليه لا إلي اللّه تعالي، و إن لم تكن داخلة فيه لزم الجبر الباطل مطلقا، و ذلك لأنه إذا لم يكن لقدرة العبد في إيجاد الفعل دخل لم يبق فرق بين إيجاده و عدمه، فيكون تعذيبه حينئذ من تعذيب العبد علي فعل لم يكن منه و هو قبيح عقلا و شرعا، و في القرآن يقول اللّه تعالي: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْري
[الأنعام: 164].
رابعا: لو لم تكن الأفعال صادرة عنّا- كما يزعم الخصوم- لزمهم أن يقولوا بجواز ما لا يجوز بالضرورة، و ذلك لأن فعلنا إنما يقع علي الوجه الّذي نريده و نقصده و لا يقع علي الوجه الّذي نكرهه، و كلّنا يعلم أننا إذا أردنا الحركة إلي اليمين لم يقع منّا إلي اليسار و بالعكس لو أردنا الحركة إلي اليسار لم يقع منّا إلي اليمين، و هذا أمر طبيعي يشعر به كلّ إنسان، فلو كانت أفعالنا مخلوقة للّه تعالي و صادرة منه تعالي و ليست صادرة منّا لجاز أن تقع علي عكس ما نريده، فيجوز أن تقع الحركة إلي اليمين و نحن نريد الحركة إلي اليسار، و أن تقع إلي اليسار و نحن نريد اليمين، و هذا معلوم بالضرورة بطلانه.
فقدرتنا علي أفعالنا إن لم تكن مؤثرة في إيجادها فليست من القدرة لنا في شي‌ء و لا هي منّا علي شي‌ء.
خامسا: لو كان الخالق لأفعالنا هو اللّه تعالي دوننا- كما يزعمون- لزمهم أن يقولوا بأن اللّه الرءوف الرحيم أظلم الظّالمين- تعالي عن ذلك- و ذلك فإنه
الآلوسي و التشيع، ص: 309
تعالي إذا خلق فعل المعصية فينا و لم يكن لنا فيها أثر إطلاقا ثم عذبنا علي فعله تعالي تلك المعصية التي خلقها فينا و عاقبنا علي صدورها منه لا منّا- كما يزعم خصمنا- كان ذلك بأقصي مراتب الظلم- تعالي اللّه عمّا يصفون- فكيف يا تري يرضي من له عقل أو شي‌ء من الإيمان أن يقول في اللّه تعالي أنه أظلم الظالمين، و يكذب اللّه فيما وصف به نفسه المقدّسة بأرحم الراحمين و أكرم الأكرمين، فهل يا تري هناك راحما سواه أو كريما غيره، أو يا هل تري من الرحمة و اللّطف و العفو و الكرم أو يعذبنا علي فعل صدر عنه و معصية لم تصدر عنّا بل منه لا حيلة لنا في دفعها كما يزعم خصومنا.
سادسا: لو كانت أفعالنا صادرة عن اللّه تعالي لا من أنفسنا- كما يزعمون- لزمهم أن يقولوا بكذب القرآن، و ذلك لأن صراحة آياته قاضية باستناد أفعالنا إلينا و صدورها عنّا لا عن خالقنا تعالي عن ذلك.

صريح القرآن حاكم بأن أفعال العبد صادرة عنه لا عن اللّه تعالي

أما الآيات الصريحة في أننا فاعلون لأفعالنا و أنها صادرة عنّا لا عن اللّه تعالي- كما يزعم الآلوسي- فكثيرة، و إليك قسم منها، فمن ذلك قوله تعالي:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ
[البقرة: 79] و قوله تعالي: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ
[الأنعام: 116] و قوله تعالي: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
[مريم: 37] و قوله تعالي:
بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً
[يوسف: 18] و قوله تعالي: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ
[الطور: 21] و قوله تعالي: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
[النساء: 123] و قوله تعالي: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ
[المائدة: 30].
و قوله تعالي حكاية عن إبليس: ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي
[إبراهيم: 22] و قوله تعالي: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ
[الزلزلة: 7] و نحوها من الآيات الكريمة التي هي نصوص صريحة تدل علي أننا فاعلون أفعالنا دون اللّه.
و أما التأويل بالرأي في نصوص الآيات المحكمة فهو من تحريف الكلم عن مواضعه و الإضلال بكلامه علي غير ما أنزل اللّه، و القول علي اللّه بغير علم و لا
الآلوسي و التشيع، ص: 310
هدي و لا كتاب منير، و قديما
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار).
و هناك طائفة أخري من الآيات نزلت في مدح المؤمنين علي إيمانهم و وعدهم بأثواب علي إطاعتهم و ذم الكافرين علي كفرهم، و الوعيد لهم بالعقاب علي معصيتهم، فكيف يمكن أن يجتمع هذا مع ما يزعمه الآلوسي أن أفعالنا كلّها مخلوقة للّه و صادرة عنه، لأنه لو كان كذلك لم يصح شي‌ء من المدح و لا الذم- كما تقدم ذكره- لأنا لم نفعل شيئا نستحق عليه المدح أو الذم بعد أن كان الفاعل له غيرنا كما يدّعي الخصم.

ما نزل في القرآن في مدح المؤمنين و ذمّ العاصين

فمن تلك الآيات قوله تعالي: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ
[الرحمن:
60] و قوله تعالي: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
[النمل: 90] و قوله تعالي:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها
[الأنعام: 160] و قوله تعالي: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي
[طه: 124] و قوله تعالي: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا
[البقرة: 86] و قوله تعالي: قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ
[آل عمران: 86] و قوله تعالي: الْيَوْمَ تُجْزي كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ
[غافر: 17].
و قوله تعالي: وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
[يس: 54] و قوله تعالي:
لِتُجْزي كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعي
[طه: 15] و قوله تعالي: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْري
[الأنعام: 164] و قوله تعالي: وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّي
[النجم: 37] و قوله تعالي: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ
[المطففين: 36] و هذه الآية صريحة الدلالة و نصّ لا يقبل التأويل في نسبة الفعل إلي الكفار لا إلي اللّه تعالي كما يقول الإمامية.
إلي غير ما هنالك من الآيات الدالّة بصراحة علي أننا فاعلون لأفعالنا لا سوانا، فلو لم يكن ذلك باختيارنا لما حسن مدحنا و لا ذمّنا إطلاقا، و إنّما يحسن لو كنّا فاعلين.
الآلوسي و التشيع، ص: 311
و جملة القول: إن مدح المؤمنين علي إيمانهم لا يصح إلّا إذا كانوا مؤمنين باختيارهم، فلو لم يكونوا مختارين في إيمانهم فلا موضوع حينئذ لمدحهم علي أساس إيمانهم لانتفائه بانتفاء إيمانهم، و كذا الحال في الكافرين فإنه إنما يحسن ذمّهم و عذابهم إذا كانوا كافرين باختيارهم، فلو لم يكونوا كافرين بسوء اختيارهم لم يبق محلّ لعقابهم لأجل كونهم كافرين، لأن الكفر لم يكن من فعلهم بل كان من خلق اللّه و فعله- كما يزعمون- و القرآن يبطله بقوله: ما كانُوا يَفْعَلُونَ‌

آيات تنزيه اللّه من كون فعله مثل أفعال عباده

و هناك طائفة أخري من الآيات تدلّ بصراحة علي أن أفعال اللّه تعالي منزّهة من أن تكون كأفعالنا و ما فيها من التفاوت و الظلم و الاختلاف.
فمن ذلك قوله تعالي: ما تَري فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ
[الملك: 3] و قوله تعالي: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقَهُ
[السّجدة: 7] و الكفر و غيره من أقذار الجرائم و المعاصي ليست حسنة فليست من خلقه و لا من فعله.
و قوله تعالي: وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ
[الحجر: 85] و الشرك و الظلم و غيرهما من الشرور ليست حقا فليست من خلقه و لا من فعله.
و قوله تعالي: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
[النساء: 40] و قوله تعالي: وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
[فصلت: 46] و قوله تعالي: وَ ما ظَلَمْناهُمْ
[هود: 101] و قوله تعالي: وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا
[النساء: 59] و قوله تعالي: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ
[يس: 54].
فهذه الآيات واضحة الدلالة في أن الظلم ليس من خلقه و لا من فعله و إنما هو من فعل العبيد و ظلم بعضهم بعضا، كما يقول اللّه تعالي: وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
[هود: 101] و يقول تعالي: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[يونس: 44] فكيف يصح لمن يؤمن باللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و كتابه أن ينسب خلق الظلم و فعله إلي اللّه تعالي و هو يري هذه
الآلوسي و التشيع، ص: 312
الآيات بأم عينه نسبت ذلك كلّه إلي العباد و نفته أشدّ النّفي عن اللّه تعالي إن امرؤ يعتام غير ما أنزل اللّه في القرآن لهو في ضلال مبين.

آيات ذم الكافرين

و هناك آيات أخري تدل علي ذمّ النّاس علي كفرهم، فمن ذلك قوله تعالي: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
[البقرة: 28] و قوله تعالي: وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ
[إبراهيم: 7].
و لا شك في أن تهديده تعالي لنا بالعذاب الشّديد علي الكفر مع عجزنا عنه لأنه تعالي هو خالقه و فاعله دوننا- كما يزعم الخصوم- محال عند العقول، فالآلوسي يقول: إن اللّه تعالي خلق الكفر و أراده منّا و إن كنّا غير قادرين علي غيره و مع ذلك يعذبنا عليه بأشدّ العذاب و لا يكون ذلك من الظلم في شي‌ء، وليته دلّنا علي معني الظلم الّذي نفاه اللّه عن نفسه و نسبه إلي خلقه في كثير من آياته لنري هل هو كما نزل به القرآن أو يأخذ في معناه طريقا لا تعرفه لغة القرآن، و إذا كان للظلم معني آخر غير ما وضع بإزاء لفظه في اللّغة فلما ذا أهمل الآلوسي بيانه و لم يأت علي ذكره في مقاله لنعرف ما هو؟ و هيهات أن يكون له معني غير ما نفاه اللّه تعالي عن نفسه المقدسة و أثبته للآلوسي و غيره.
ثم إن الآية الثانية أثبتت العذاب الشّديد علي الكفر، فلو كان هو الخالق و الفاعل له تعالي عن ذلك- كما يزعم- كان العذاب الشّديد عائدا عليه لا علي الكافر به و هو واضح في فساده، أللّهم إلّا إذا كان يصح عند الآلوسي أن يقول بما قاله الشاعر العربي:
ألقاه في اليمّ مكتوفا و قال له إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء
و هناك الكثير من آيات الكتاب نزلت في توبيخ العباد و الإنكار عليهم و تهديدهم بالعقاب علي ارتكاب القبائح و أسندت ذلك كلّه إليهم لا إليه تعالي عنه يضيق المقام عن تعداده.
الآلوسي و التشيع، ص: 313

ما نزل من الآيات في اختيار الأفعال

و أما الآيات النازلة في تعليق أفعالنا علي اختيارنا و إناطة أعمالنا بمشيئتنا و إرادتنا فكثيرة، فمن ذلك قوله تعالي: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ
[الكهف: 29] و قوله تعالي: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
[فصلت: 40] و قوله تعالي: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ
[التوبة: 105] و غيرها من الآيات الدالّة علي أن أفعالنا و أعمالنا منوطة بإرادتنا، و أننا مختارون فيها فإن شئنا فعلنا و إن شئنا تركنا كما نصّت عليه الآيتان، و هذا لا يتفق مع ما يزعمه الخصوم من أنها مخلوقة للّه و الفاعل لها هو اللّه دوننا، لأن ما يفعله تعالي و يخلفه منوط بمشيئته، و الآيتان صريحتان في إناطة أفعالنا و أعمالنا بمشيئتنا، و الفرق بينهما واضح يعرفه من يفهم.

الآيات التي تحثّ علي الطاعة

و أما الآيات النازلة في أمر العباد بالمسارعة إلي فعل الطاعات فكثيرة أيضا، فمن ذلك قوله تعالي: وَ سارِعُوا إِلي مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
[آل عمران: 133] و قوله تعالي: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ
[الأحقاف: 31] و قوله تعالي:
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ
[الأنفال: 24] و قوله تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ
[الحج: 77] و قوله تعالي: وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
[الزمر: 55].
إلي غير ما هنالك من الآيات التي تحثنا علي المسارعة إلي فعل الطاعات، و هي لا تجتمع مع زعم الآلوسي أن أفعالنا مخلوقة للّه و أن الفاعل لها هو اللّه، فلو صح ما زعمه خصومنا من استناد أفعالنا إليه تعالي عنها لا إلينا لكانت هذه الآيات كلّها باطلة و ليس لها في الوجود صورة و بطلانها من أوضح الكفور.

استدلال الآلوسي بآية خلقكم و ما تعملون

و أما الآيتان اللّتان أوردهما الآلوسي و خال أنهما دليلان علي أن الخالق لأفعالنا هو اللّه دوننا، فلا تدلان إلّا علي عكس ما يريد، أما قوله تعالي:
الآلوسي و التشيع، ص: 314
خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ
[الصافات: 96] فإنه لم يأت علي ذكر الآية بكاملها لأن في ذلك ما ينافي مبتغاه، لذلك اقتصر علي جملة: (خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ)
ليوهم أن الآية تريد خلق أعمالنا كما تريد خلقنا، ظنا منه بأن ذلك يخفي علي الباحثين عن الحقيقة بإخلاص، أو أنهم لا يهتدون إلي أنها لا تريد أفعالنا الاختيارية الصادرة عنا بالاختيار، بدلالة ما قبل هذه الجملة التي لها الصلة الأكيدة بها، و هي قوله تعالي: قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ
[الصافات: 95- 96] فهي تعني أن اللّه تعالي هو الخالق للأحجار و الأخشاب التي نحتوها و عملوا لهم منها أصناما يعبدونها من دون اللّه، و أين هذا من دلالة الآية علي إرادة أعمالنا، ألا تراه نسب نحتها إلي عابديها لا إليه تعالي، و لو كانت تريد خلق أعمالهم لكان المناسب أن يقول: (أ تعبدون ما نحته اللّه لكم) و لما لم يقل هذا علمنا بطلان ما زعمه الخصوم.
و يقرر هذا و يعززه كلمة (ما) الموصولة لغير العاقل في الجملتين، و عطف الثانية علي الأولي فإنه يفيد إرادة ما كانوا يعملون منه أصنامهم كما ألمعنا، و الشيعة لا تخالف خصومهم فيما خلقه تعالي من حجر و مدر أو حيوان و شجر.
و لكن هذا كما تراه خارج موضوعا عن أفعالنا المستندة إلينا بالاختيار كالظلم و الفساد و المعاصي و الشرور، ثم أن إنكاره تعالي عليهم و توبيخه لهم في الفقرة الأولي من الآية علي عبادة ما ينحتون من الأصنام، و قوله تعالي بعد ذلك:
وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ
يفيد إرادة تنبيههم و إرشادهم إلي أن الّذي يستحق العبادة هو من خلقهم و خلق تلك الحجارة دونها، فإنها لا تغني من جوع و لا تؤمن من خوف و لا تستحق شيئا من ذلك إطلاقا، فالآية لا تفيد مطلقا ما يبتغيه الآلوسي للفرق الواضح بين ما يخلقه اللّه تعالي من الموجودات الّذي هو مفاد الآية و بين ما يفعله الناس الّذي هو بعيد جدا عن مفادها، لذا تري لا يصح أن يقال فيمن عمل خمرا من التمر أو العنب إنّ اللّه خلق الخمر لأنه خلق الكرم و التمر، فالآية من هذا القبيل لا يصح أن يقال إن اللّه عمل الأصنام التي عبدوها و نحتها لهم لأنه خلق أحجارها، فإن هذا لا يقول به من كان علي شي‌ء من العقل أو الدين.
الآلوسي و التشيع، ص: 315

استدلال الآلوسي بآية خالق كل شي‌ء علي إرادة أفعال العباد

و أما استدلال بقوله تعالي: خالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ
[الرعد: 16] فقد ألمعنا فيما تقدم أنه مخصص بدليل العقل و النقل بما عدا ذاته المقدسة و أفعال عباده، أما النقل فقوله تعالي: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ
[النمل: 18] و من حيث أن الكفر و النفاق و الفسوق و الفجور و جميع المعاصي ليست متقنة علمنا بالضرورة أنها ليست من صنعه.
و قوله تعالي: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقَهُ
[السجدة: 7] و لمّا لم تكن المعاصي و لا عبادة الأصنام و لا عملها بحسن علمنا أنها ليست من خلقه، و قوله تعالي: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ
[المؤمنون: 14] و لمّا كان الشرك و الكفر و نحوهما من المعاصي ليست حسنة إطلاقا علمنا أنها ليست من خلقه في شي‌ء.
و من جميع ما أدليناه يستشرف القطع بفساد ما أدلي به الآلوسي في كتابه من الأباطيل و الأضاليل، و أن العقل و النقل متفقان علي بطلانه.

لا قرب بين اللّه و عبده في المكان

قال الآلوسي ص: (68): «إن العبد ليس له اتصال مكاني و لا قرب جسماني باللّه تعالي، و قال أكثر فرق الإمامية بالقرب المكاني و يحملون المعراج علي الملاقاة، … إلي نهاية مقولته».
المؤلف: ليس في الإمامية من يقول بالقرب المكاني و لا بالجسماني مطلقا، و إنّما القائلون به هم خصوم الشيعة و أعداؤها، فإنهم أجازوا علي ربّهم الملامسة و المصافحة و الصعود و النزول، و أنه جالس علي العرش جلوسك علي الأرض، و قد نصّ علي نزوله إلي سماء الدنيا في كلّ ليلة جمعة بل في كلّ ليلة، ذكر ذلك ابن تيمية في كتابه شرح حديث النزول.
و قال بعضهم: إن معبودهم صورة ذات أعضاء و أبعاض، و أن المخلصين منهم يعاينونه في الدنيا و الآخرة، كما نصّ عليه شيخ الحديث البخاري في
الآلوسي و التشيع، ص: 316
صحيحه كما تقدم، و سيمرّ عليك صريح قول الآلوسي في بابه، و أنهم يزورونه في عرشه، و أنه بكي علي طوفان نوح عليه السّلام حتي رمدت عيناه فعادته الملائكة، و أن العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الجديد، و أنه أجوف من أعلاه إلي صدره و مصمد ما سوي ذلك، و أنّ له و فرة سوداء و شعرا قططا، فراجع ص: (119) و (139) في الأشاعرة من كتاب الملل و النحل بهامش الجزء الأول من الفصل لابن حزم الظاهري الأندلسي لتعلم ثمة أن هذه الضلالات و الكفور كلّها من عقائد خصماء الشيعة و أعدائها.
و يشهد لجميع ذلك ما تقدمت حكايته عن صحيح البخاري من مجي‌ء اللّه تعالي يوم القيامة بصورة لا يعرفه بها أهل المحشر، ثم يأتيهم بصورته التي يعرفونه بساقه حيث يكشف لهم عنها، و أنّ النّار لن تمتلئ حتي يضع رجله فيها، و أنه خلق آدم علي صورته طوله ستون ذراعا، و أنّه يضحك كما يضحك أحدنا بملئ شدقيه، تعالي اللّه من أن يكون له رجل أو صورة أو جوارح أو ساق أو يجري عليه ما يجري علي المخلوقين: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً
[الكهف: 5].
فباللّه عليك أيها المسلم العاقل و يا أيها المسلمة العاقلة هل ترضيان باعتناق هذه السّخافات و الخرافات الملتقطة من التوراة المحرّفة التي جاء بها مقاتل بن سليمان، و أبو هريرة، و كعب الأحبار ابن اليهودية الّذين كانوا يأخذون علم القرآن من التوراة و يدخلونه علي الإسلام ليشوهوا سمعته و يزهّدوا الناس في اعتناقه، و هل يا تري تقبلان بمذهب هذه عقائد و أصول أركانه، حاشا كما إن كنتما من العقلاء أن تأخذا به و أنتما تريان بأم العين ما فيه من الضلال و الكفور.

رؤية اللّه مستحيلة عقلا و نقلا

قال الآلوسي ص: (69): (إن رؤية اللّه ممكنة عقلا، و هذا مذهب أهل السنّة و تمسّكوا علي هذا المطلب بالنقل و العقل، أمّا النقل فقوله تعالي حكاية عن موسي عليه السّلام: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَي الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي
و وجه الاستدلال أمران:
الآلوسي و التشيع، ص: 317
الأول: أن سؤال موسي عليه السّلام الرؤية يدلّ علي إمكانها لأن العاقل فضلا عن النبيّ عليه السّلام لا يطلب المحال و لو بتكليف الغير و لا مجال للقول بجهل موسي بالاستحالة، فإن الجاهل بما لا يجوز علي اللّه لا يصلح للنبوّة، إذ الغرض من النبوّة هداية الخلق إلي العقائد الحقّة، و أيضا لا يصح أن يقال إنما سأل موسي الرؤية لتكليف القوم حيث قالوا لن نؤمن لك حتي نري اللّه جهرة و قالوا أرنا اللّه جهرة، إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب عليه أن يبيّن جهلهم و يزيح شبهتهم كما فعل بهم لمّا قالوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً
و أيضا لو كان سألها لتكليفهم لقال ربّ أرهم ينظروا إليك.
و الثاني: أنّه تعالي علّق الرؤية علي استقرار الجبل و هو أمر ممكن في نفسه، و المعلّق علي الممكن ممكن، لأن معني التعليق الإخبار بوقوع المعلّق عند وقوع المعلّق عليه و المحال لا يثبت علي شي‌ء، و أيضا ما صح عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: (سترون ربّكم عيانا يوم القيامة كما ترون هذا القمر) و مما يدل علي الرؤية قوله تعالي: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلي رَبِّها ناظِرَةٌ
[القيامة: 23- 24] و النظر المتعدي بإلي بمعني الرؤية.
أما العقل: فإنّا نري الأعراض كالألوان و الأضواء و غيرهما و الجواهر و الطول و العرض في الجسم فلا بد لها من علّة مشتركة بينها ليكون المتعلّق الأول للرؤية، و ذلك الأمر إما الوجود أو الحدوث أو الإمكان و الأخيران عدميان لا يصلحان لتعلّق الرؤية بهما فلم يبق إلّا الوجود و هو مشترك بين الواجب و الممكنات فيجوز رؤيته عقلا، و المراد بالوجود مفهوم مطلق الوجود الحقيقي و ما به الموجودية.
و بالجملة أن المعتمد في مسألة الرؤية إجماع الأمة، و قد أنكر الرؤية جميع فرق الشيعة إلّا المجسّمة منهم، و قالوا: يستحيل رؤية اللّه، و عقيدتهم هذه مخالفة للكتاب لقوله تعالي: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلي رَبِّها ناظِرَةٌ
و قوله تعالي في حق الكافرين: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ
[المطففين: 15] فعلم أن المؤمنين لا يكون لهم حجاب عن ربهم.
الآلوسي و التشيع، ص: 318
الثاني: أن متمسك هؤلاء ليس إلّا الاستبعاد و قياس الغائب علي الشاهد و اشتباه العاديات بالبديهيات، في آية لا تدركه الأبصار نفي الإدراك الّذي بمعني الإحاطة لا نفي الرؤية و لا يستلزم نفيه نفيها، لأن الإدراك و الرؤية متباينان في الحقيقة، و الإدراك في اللّغة: الإحاطة بدليل قوله تعالي: حَتَّي إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ
.«و أما العترة فقد روي ابن بابويه.. إلخ».

الرائي لا يري إلّا بالحاسة

المؤلف: أولا: «قوله إن رؤية اللّه ممكنة، و أن الكاذبين سيرون عذابه في أسفل درك من الجحيم».
فيقال فيه: أجمع العقلاء كافة علي أن الرائي لا يري إلّا بالحاسة، و الرائي بالحاسة بالضرورة لا يري إلّا ما كان مقابلا كالجسم، أو حالّا في المقابل كاللّون، أو في حكم المقابل كالوجه في المرآة، و من حيث أن اللّه تعالي لم يكن جسما و لا حالّا في المقابل و لا في حكم المقابل علمنا استحالة رؤيته مطلقا، و خالف هذا الخصم محتجا ببعض الخرافات المقتبسة من التوراة المحرّفة التي تلقاها أعداء الإسلام بالقبول فنسبوها إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إفكا و زورا، و من الطبيعي إذا كانت مقدمات الدليل هي الخرافات و الأباطيل التي كان يدلي بها عقول هؤلاء فلا تكون النتيجة إلّا خرافات و أباطيل.

فساد إمكان رؤية اللّه

و إذا ما كشفنا لك عنها فإنك تعرف أنها مزاعم لم يرجعوا فيها إلي منطق العقل و إنما تلقوها من الآخرين بلا تفكير و لا تمحيص.
ثانيا: قوله: «إن سؤال موسي الرؤية يدل علي إمكانها».
فيقال فيه: إن مجرد السؤال لا يدل علي إمكان المسئول عنه، و ذلك فإن قوله تعالي: لَنْ تَرانِي
[الأعراف: 143] أوضح دليل علي امتناع رؤيته إطلاقا، و تلك قضية: (لن) التي تفيد نفي التأبيد عند أهل اللّغة، و هذه القرينة في الآية من
الآلوسي و التشيع، ص: 319
أظهر الشواهد علي نفي رؤيته في المستقبل مطلقا، فلا بدّ للآلوسي من أن يدلي بدليل علي إمكان جوازها أو وقوعها في المستقبل بحيث يصلح أن يكون مخصّصا لعموم النفي في الآية، و أنّي له بذلك فإن دون إثباته خرط القتاد [1].
ثالثا: قوله: «فإن العاقل فضلا عن النبيّ لا يطلب المحال».
فيقال فيه: أيّها القارئ إنّ في علم المعاني و البيان بابا يقال له باب تجاهل العارف، و هو تنزيل العالم بالشي‌ء نفسه منزلة غير العالم، و تتمثل العربية: (و كم سائل عن أمره و هو عالم) و هو من محاسن الكلام العربي المبين، و قد نزل به القرآن في كثير من آياته، و استعمله العرب العاربة مما يضيق المقام عن تعديده.
فسؤال موسي عليه السّلام كان من هذا القبيل، و من قبيل قوله تعالي فيما اقتصّه من قول سليمان عليه السّلام: ما لِيَ لا أَرَي الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ
[النمل: 20] و قوله تعالي: ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسي
[طه: 17] فلم يكن سيمان عليه السّلام جاهلا بغيبة الهدهد و لا الجليل جلّ و علا كان جاهلا بما في يمين موسي عليه السّلام فكذلك موسي عليه السّلام لم يطلب المحال بسؤاله، و إنما سأل متجاهلا مع عرفانه عدم إمكان المحال.
و هكذا الحال فيما حكاه اللّه تعالي عن خليله إبراهيم عليه السّلام بقوله: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتي قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلي وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
[البقرة: 260] فلا يصح أن يقال إن إبراهيم عليه السّلام بسؤاله كان جاهلا بقدرة اللّه علي إحياء الموتي، أو أنه طلب المحال من تحصيل ما هو حاصل لديه من العلم بعظيم قدرته علي مثل ذلك مطلقا.
ثم من المعلوم أن سؤال موسي عليه السّلام مع عرفانه كان لأجل إصرار قومه عليه و طلبهم ذلك منه و تكليفهم له إيّاه، فأراد بسؤاله أن يؤكد لهم تطبيقيا امتناعه و عمليا عدم إمكانه بقرينة قوله تعالي: لَنْ تَرانِي
و أنه يمتنع رؤيته مطلقا، و تلك قضية صيرورة الجبل ترابا و زواله أصلا.
__________________________________________________
[1] القتاد شجر له شوك.
الآلوسي و التشيع، ص: 320

إسقاط الآلوسي للآيتين

ثم إن الآلوسي لم يأت علي ذكر قوله تعالي: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسي لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّي نَرَي اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
[البقرة: 55] و لم يذكر قوله تعالي: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسي أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ
[النساء: 153].
و لتكن أيها القارئ علي يقين من أن الآلوسي إنما أسقط هاتين الآيتين من حسابه و أهمل ذكرهما في مورد الإحتجاج خشية أن ينكشف بذكرهما فساد ما جاء به، و ذلك لأن رؤيته تعالي لو كانت ممكنة- كما يزعم الخصم- لكان من المحال علي اللّه تعالي أن يعذّب قوم موسي عليه السّلام بإنزال الصّاعقة عليهم لأنهم طلبوا منه ما يمكن وقوعه، بدليل قوله تعالي: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسي أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ
[النساء: 153] لأنّا نعلم بالضرورة من الدين أن اللّه لا يرضي بعذاب أمة علّقوا إيمانهم علي أمر ممكن و جائز الوقوع و طلبوه منه و اعترفوا بأنهم يؤمنون بعد وقوعه كما يدل عليه قوله تعالي حكاية عنهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّي نَرَي اللَّهَ جَهْرَةً
[البقرة: 55] فلو كانت رؤيته ممكنة كما يزعم الخصوم لأخبرهم بإمكانها لا بإنزال الصّاعقة عليهم لا سيّما بعد ملاحظة قوله تعالي: وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ
[الضحي: 10] و قوله تعالي حكاية عنهم: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلي أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ
[الأعراف: 134- 136] فإنهم علّقوا إيمانهم علي كشف الرجز عنهم و هو أمر ممكن الوقوع، لذا كان الانتقام منهم بعد كشفه عنهم و هذا بخلاف الآية، فإن الصّاعقة نزلت عليهم بمجرد أنهم طلبوا رؤيته، فلو كانت رؤيته ممكنة لأجابهم إلي طلبهم فإن نكثوا بعد ذلك كانوا مستحقّين لإنزال الصّاعقة عليهم، كما كان الحال في كشف الرجز عنهم و من حيث أنهم استحقوا العذاب لأنهم طلبوا الرؤية التي علّقوا عليها إيمانهم فلم يجبهم إليه، و أجابهم إلي كشف الرجز الذي علّقوا إيمانهم عليه علمنا أن الأول و هو الرؤية ممتنعة و أن الثاني و هو
الآلوسي و التشيع، ص: 321
كشف الرجز أمر ممكن الوقوع لذا استحق الفريق الثاني الانتقام بنكثه و الفريق الأول بسؤاله.

الخلاصة في آية لن تراني

و الخلاصة إن قوم موسي عليه السّلام لما سألوا أولا أن يكلّمهم اللّه تعالي و أجاب اللّه تعالي مسألتهم تكرما منه و منّة عليهم فازداد طمعهم و جرّهم إلي أن يسألوا أكبر من ذلك و هو رؤيته تعالي فمنعهم موسي عن ذلك و نهاهم عنه، و يدلّ عليه ما ورد في سبب نزول الآية و سياق قوله تعالي: إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسي لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّي نَرَي اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
[البقرة: 55] مع قوله تعالي: أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا
[الأعراف: 155].
و حينئذ فليس من المعقول أن يعذّب اللّه تعالي أمّة علّقت إيمانها علي أمر ممكن الوقوع و لو في الآخرة و سألوا الهداية من نبيّهم عليهم السّلام بعد حصوله فلم يجبهم إليه، بل أنزل عليهم العذاب، أللّهم إلّا إذا كان سؤالهم متعلّقا بطلب ظلم عظيم و أمر غير ممكن في نفسه إطلاقا، لذلك استحقّوا العذاب علي مجرد طلبه كما يدلّ عليه قوله تعالي: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ
[النساء: 153].
رابعا: قوله: «إنه تعالي علّق الرؤية علي استقرار الجبل و هو ممكن في نفسه».
فيقال فيه: إن المعلّق عليه لم يكن الجبل في نفسه و إنّما علّق الرؤية علي عدم استقرار المعلّق عليه و هو الجبل في ذلك الحال بقوله تعالي: فَلَمَّا تَجَلَّي رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا
[الأعراف: 143] أي جعله مستويا و الأرض علي أحد الأقوال، أو أنه ساخ في الأرض حتي فني عن الحسن، أو أنه صار ترابا كما عن ابن عباس، أو صار قطعا قطعا.
و أيّا كان فلم يتحقق إمكان الاستقرار في الجبل الّذي علّق الرؤية علي استقراره، فإذا كان هذا ما تراه في حال الجبل فأي استقرار يتصور فيه حتّي يزعم هذا أنّه ممكن الاستقرار، لا سيّما بعد ملاحظة قوله تعالي: لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَي الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ
و قوله تعالي: جَعَلَهُ دَكًّا
فإنه يفيد تعليقه الرؤية علي أمر
الآلوسي و التشيع، ص: 322
غير ممكن الاستقرار، فتعليل وقوع الرؤية باستقرار الجبل محال، و المعلّق علي المحال محال، فإذا ثبت لديك أن المعلّق عليه لم يقع لاستحالته في ذلك الحال ثبت أن المعلّق لم يقع لاستحالته هو الآخر.
خامسا: قوله: «و أيضا صح عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم».
فيقال فيه: إن صحيحه غير صحيح و فاسد، بل هو كذب و افتراء علي سيّد الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ما كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ليخالف كتاب اللّه في شي‌ء مطلقا أبدا، و أنت تري صريح القرآن دالّا علي عدم الجواز إطلاقا، فإذا كان لا يسلم من افتراء هذا الرجل خاتم الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فكيف ترجو أن يسلم الشيعة من كذبه و افترائه.

النظر ليس بمعني الرؤية مطلقا

سادسا: قوله: «وجوه يومئذ ناضرة إلي ربها ناظرة».
فيقال فيه: إن النظر ليس بمعني الرؤية مطلقا كما توهمه الخصوم بل بينهما عموم و خصوص من وجه، و ذلك فإن النظر يثبت عند انتفاء الرؤية فتقول نظرت إلي الهلال فلم أره، و تثبت الرؤية عند انتفاء النظر فتقول في اللّه رأي و لا تقول نظر، و تأتي الرؤية عقيب النظر فتقول نظرت فرأيت، و يكون النظر وصلة للرؤية فتقول أنظر لعلك تري، و يكون غاية في الرؤية فتقول ما زلت أنظر حتي رأيت، فمن أين علم الخصم أن النظر بمعني الرؤية مطلقا حتي يحتج به علي إثبات مبتغاه و هو أخص من المدّعي من وجه و أعم منه من وجه آخر، فالنسبة بين النظر و الرؤية كالنسبة بين الأبيض و الإنسان لا يدل أحدهما علي إرادة الآخر عند الإطلاق كما لا يخفي علي أولي الألباب، و أما قوله: (و النظر المتعدي- بإلي- بمعني الرؤية) ففاسد و هو من أقبحه من وجهين.
الأول: عدم وروده في اللّغة فيكون القول به تعصبا و عنادا.
الثاني: منقوض بقوله تعالي: وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ
[الأعراف: 198] فكيف يصح ما زعمه الخصم من أن النّظر المتعدّي بإلي بمعني الرؤية و القرآن العربي يبطله و يحكم بكذبه.
الآلوسي و التشيع، ص: 323
سابعا: قوله: «أما العقل فهو إنّا نري الأعراض كالألوان».
فيقال فيه: يريد الآلوسي بهذا التقرير من رؤيته للأعراض و الألوان و الأجسام و أمثال ذلك أن يثبت رؤيته للّه الّذي هو ليس بجسم و لا جوهر و لا عرض و لا لون و لا يشبهه شي‌ء، و ليس في جهة و لا في محلّ ليجري عليه ما يجري علي الآخرين من المخلوقين فيمكن رؤية، أللّهم إلّا أن يزعم الخصوم أن إلههم الّذي عكفوا علي عبادته كواحد من هذه الموجودات فيرونه بباصرة أعينهم، و لا شك في أن قياسهم لواجب الوجود بالذات الّذي ليس له حدّ محدود و لا أمد ممدود علي الممكنات الموجودة من أقبح القياس و أشدّه فسادا، بل لا يصح أن يقول به أهل القياس لعدم وجود المشابهة بين الخالق و المخلوق في شي‌ء: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
[الشوري: 11] و يحسن بنا أن نذكر لك تقريره لتعرف بذلك ارتباكه و عجزه، و أن ما خاله دليلا عقليا علي صحة مذهبه لم يكن إلّا من الشواهد علي هذيانه.
أما قوله: «و ذلك الأمر المتعلّق للرؤية إما الوجود أو الحدوث أو الإمكان، و الأخيران عدميان لا يصلحان لتعلّق الرؤية بهما، فلم يبق إلّا الوجود و هو مشترك بين الواجب و الممكنات فيجوز رؤيته».
فيقال فيه: بربك قل لي أيها العاقل هل تري هناك مناسبة بين مقدمات كلامه و بين النتيجة التي يقول فيها: (فيجوز رؤيته) و أي شكل هذا يا تري من أشكال الأقيسة المنطقية حتّي تكون نتيجة ذلك الشكل جواز رؤيته؟ و ما هي الصلة بين قوله: فلم يبق إلّا الوجود، و بين قوله: فيجوز رؤيته، فإن رؤية وجود الممكنات غير رؤيته تعالي بوجوده الخاص الّذي هو عين ذاته.
ثم إنه إن أراد من رؤية الوجود المطلق أو مطلق الوجود و هو الّذي قال فيه إن المراد بالوجود مفهوم الوجود أن رؤية مطلق الوجود تكون رؤية له فهو بأقصي مراتب السقوط.
أما أولا: فلأن رؤية مطلق الوجود فمع كونه مفهوما منتزعا ليس له في الخارج صورة و لا يمكن رؤيته بالعيان و الحسّ، و لا النظر إليه بالبصر، و لا يمكن
الآلوسي و التشيع، ص: 324
تعلّق الرؤية به بالمرّة، و إنما المتعلّق به الرؤية هي الموجودات الخارجية التي هي من أفراد ذلك المفهوم؛ أعني كلّي الوجود الصّادق علي كلّ موجود منها، المتشخصة في كون الوجود بخصوصياتها، و الوجود من حيث هو لا يمكن أن يري بباصرة العين أبدا، فإن كلامنا كان في رؤية اللّه تعالي بوجوده الخاص الّذي هو عين حقيقته و كنهه و ما هو إنيّته في كون الوجود كرؤية غيره من الموجودات الممكنة، و لم يكن الكلام في رؤية مطلق الوجود علي فرض إمكان رؤيته فإنه خارج موضوعا عن محلّ النزاع، فما زعمه الخصم من إمكان رؤية مطلق الوجود المستحيل لإثبات رؤية اللّه المستحيل هو الآخر عقلا من أوضح الدليل علي خبطه و خلطه و خروجه عن الموضوع، و الخروج عن الموضوع آية الهزيمة و ملجأ الهارب.
ثانيا: رؤية المطلق علي فرض إمكانه لا يكون من الرؤية لأفراده الخاصة و مصاديقه الجزئية الخارجية، بل رؤية المطلق من كلّ شي‌ء لو أمكن لا يكون من الرؤية لأفراده في شي‌ء إطلاقا.
و لنفرض- و فرض المحال ليس بمحال كما يقال- إنه يمكن رؤية مطلق الحيوان إلّا أن رؤيته لا تكون رؤية للإنسان، أو أنه يمكن رؤية مطلق الإنسان إلّا أن رؤيته لا تكون رؤية أفراده كزيد و خالد و غيرهما من أفراده في الخارج، بل رؤية بعضها لا تكون للبعض الآخر، و هذا في البداهة إلي درجة لا يشك فيه أي إنسان له عقل.
و الآلوسي لما تفطن إلي فساد هذا القول و أنه مما يأباه العقل و العقلاء و لا يقرره إلّا المصاب في عقله قال: (و بالجملة إن المعتمد في مسألة الرؤية هو الإجماع) فأبطل بقوله هذا جميع ما جاء به أولا و آخرا من الباطل لإثبات مذهبه، وليته تفطن إلي أن الإجماع الّذي ادّعاه هنا لإثبات رؤية اللّه أشدّ سقوطا و فسادا من تلك المزاعم الفاسدة، و ذلك لأن الإجماع لو سلّمنا جدلا وجوده فهو لا قيمة له في أمثال هذه المسائل العقلية، لا سيّما أنّ العقل حاكم جزما بامتناع رؤيته، و القرآن صريح في امتناعه و أن طالب رؤيته ظالم مستحق لإنزال الصّاعقة عليه كما
الآلوسي و التشيع، ص: 325
مرّت الإشارة إليه في قصة قوم موسي عليه السّلام و ليس استحالة رؤيته عنده بأقل من استحالة وجود شريك الباري.

الإجماع الّذي ادعاه الآلوسي علي الرؤية

ثم إنّا نقول للآلوسي: إن الإجماع المدّعي علي إثبات رؤية اللّه فاسد من وجود:
الأول: إننا لم نر فيما نعلم أن واحدا من سلفه ادعي الإجماع علي مثل هذه المسألة التي قام النزاع فيها بين الأمة علي ساق، و حينئذ فلا نشك في أن ذلك من مخترعاته و اختلاقه فالرجل لمّا أفلس من الحجّة و لم يظفر بالسند و عجز عن إقامة الدليل العلمي علي إثباتها ادعي إجماع الأمة علي ذلك ليغري العامة فيقول إن مثل هذه المسألة التي يأباها العقل و الدين و ما لا تسنده الأدلة المنطقية ثابتة بإجماع المسلمين بهتانا و زورا.
الثاني: إن أراد بإجماع الأمة أن الأمة جميعا من أهل السنّة و الشيعة أجمعوا علي رؤية ففاسد جدا، لأن جميع الشيعة و كافة المعتزلة من أهل السنّة علي خلاف ذلك، و إن أراد به إجماع المتقدمين في عصر الصّحابة فأقبح فسادا من سابقه، و ذلك لأن مسألة إمكان الرؤية من معتقدات الأشعري و أتباعه، و ليس هو من الصّحابة و لم يكن في عصرهم و علي فرض التسليم جدلا فهو من الإجماع المنقول، و قد انفرد بنقله هذا الآلوسي وحده و المنقول في نفسه غير مقبول فكيف إذا كان الناقل له خائنا كاذبا.
الثالث: إن هذا الإجماع المزعوم لو كان محصلا لما نهض دليلا في مثل هذه المسألة و غيرها مما هو من أظهر مصاديق حكم العقل المؤيد بحكم الكتاب الحاكم بفساده.
الرابع: كان علي الآلوسي أن ينقل لنا ذلك الإجماع بأسانيد تفيد العلم كما هو شريطة نقل الإجماع عند علماء الأصول من الفريقين، و من حيث أنه أهمل ذلك و لم يأت علي ذكره علمنا بطلانه.
الآلوسي و التشيع، ص: 326
الخامس: إن أراد بالإجماع الأشاعرة وحدهم ففاسد أيضا، لأنه لا أثر لإجماعهم و لا حجّة فيه علي شي‌ء إطلاقا فلا يكون دليلا منطقيا له حجيّته لأن الخصم لا يكون حكما، و ما تفرّد به لا يكون حجّة علي خصمه المخالف له في الرأي و المبدأ.
ثامنا: قوله: «و أنكر جميع الشيعة رؤية الإله إلّا المجسّمة منهم».
فيقال فيه: أولا: إن الظاهر من مقال هذا الخصم إن القول برؤية اللّه ملازم للقول بتجسيمه، فكلّ من قال بإمكان رؤيته قال بتجسيمه و أن له أبعادا من الطول و العرض و العمق، و عليه يكون الآلوسي مجسّما للإله في دعوي رؤيته.
ثانيا: ليس في الشيعة من يقول بتجسيم الإله إطلاقا، بل يعتقدون كما مرّ أنه ليس بجسم، و إنما قال بتجسيمه خصوم الشيعة و أعداؤها الّذين قالوا إنه جالس علي العرش كجلوسهم علي الأرض كما ألمعنا.
ثم إن إنكار رؤيته تعالي ليس من خواص الشيعة وحدهم، بل أنكر ذلك كافة أهل العقل و علي هذا الإنكار جميع الفلاسفة و المتكلمين و المعتزلة من أهل السنّة، و لم يخالف في ذلك إلّا الأشاعرة كما يجد ذلك كلّ من راجع كلماتهم في هذا الباب من كتب الفلسفة و الكلام.
تاسعا: قوله: «و عقيدتهم هذه مخالفة للكتاب و العترة».
فيقال فيه: إنما خالف الكتاب و العترة في عقيدته و سائر أقواله و أعماله هو و غيره من المنحرفين عن الثقلين كتاب اللّه و عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته عليهم السّلام الّذين قالوا إنّ اللّه يدا و رجلا و ساقا و أعضاء و جوارح، و أنّه ينزل في كلّ ليلة جمعة علي حمار في صورة شاب أمرد و ينادي إلي الصباح: هل من مستغفر هل من تائب، أما خصوم الآلوسي فيعتقدون في اللّه تعالي أنه ليس كمثله شي‌ء، و هو خالق كلّ شي‌ء، و لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللّطيف الخبير، لا إله إلّا هو ربّ العالمين، و قد أدلينا عليك فيما مرّ فساد احتجاجه بآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ
علي رؤيته، و أن الآية صريحة في المنع لا سيّما بلحاظ حكم العقل القاطع بامتناع رؤيته.
الآلوسي و التشيع، ص: 327

ما قاله في آية أنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون

عاشرا: قوله: «و يدل علي ذلك قوله تعالي في حقّ الكافرين: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ
.فيقال فيه: أولا: إنه أخص من المدّعي فلا يجوز جعله دليلا علي صحة الدعوي.
ثانيا: لا دلالة فيه علي جواز رؤية اللّه، إذ لا ربط بين كون الكافرين محجوبين عن رحمة ربهم- كما هو مفاد الآية- و بين رؤية المؤمنين له في القيامة الخارج عن منطوقها.
و كم من فرق بين كون الكافرين محجوبين عن رحمة ربهم لكفرهم كما تدل عليه الآية و بين رؤية المؤمنين له تعالي، فإن هذا الأخير لا يفهم من الآية و لا تفيده فكيف يصح أن يستدلّ بها عليه، و هي لا تلوح منها عليه لائحة و لا تشم منها رائحة.
فالآلوسي لم يزل يأتي بآيات لا علاقة لها بمحلّ النزاع و لا صلة بينها و بينه فيحتج بها في غير موردها، و يعرف ذلك كلّ من اطلع علي كتابه و قرأ ما فيه، و ما أورده هنا من الآيات شاهد عدل علي ما نقول.

الشيعة لا يستندون في إنكار رؤية اللّه إلي الاستبعاد

الحادي عشر: قوله: «مع أن متمسك هؤلاء المنكرين في نفي الرؤية ليس إلّا الاستبعاد، و غاية سوء الأدب لمن يؤول آيات الكتاب بمجرد استبعاد عقله الناقص، و يصرفها عن الظاهر و لا يتفكر و لا يتأمل في معانيها فيه».
فيقال فيه: إنما يركن إلي الاستبعاد الناشئ عن عقله الناقص و فهمه القاصر و عن سوء تفكيره هو هذا الخصم الّذي أفلس من كلّ حجّة، وفاته كلّ سند علي إثبات مدعياته، ثم إذا كان هناك من يصرف الآيات عن ظواهرها و لا يلتزم بوجه دلالتها، و يؤولها حسبما يهوي من دون تفكير و لا تأمل في معانيها، فأساء إلي
الآلوسي و التشيع، ص: 328
القرآن إساءة يستمر شؤمها سرمدا فهو صاحب الكتاب من خصماء الشيعة و أعدائها الّذين يصرفون محكمات الكتاب عن وجه دلالتها، و يأخذون في تأويلها بما يوافق أهواءهم و أذواقهم، و حسبك شاهدا علي صدق ما نقول ما جاء به في كتابه من المزاعم التي يتبرأ منها الدين، و ينبذها كلّ ذي عقل سليم بل الفطرة البشرية تأباها كلّ الإباء و تضربها بيد عنيفة في وجهه.

ما قاله الآلوسي في آية لا تدركه الأبصار

الثاني عشر: قوله: «و في آية لا تدركه الأبصار نفي للإدراك الّذي بمعني الإحاطة في اللّغة لا نفي الرؤية».
فيقال فيه: ليس الإدراك بالبصر لغة بمعني الإحاطة بجوانب المرئي- كما يزعم الخصم- و إنما أصل معناه كما نصّ عليه أهل اللّغة بمعني النيل و الوصول، و لكن ليس في هذا ما يدل علي أن الإدراك بالبصر المنفي في صريح الآية بمعني الرؤية علي وجه الإحاطة بجوانب المرئي، كما يقول الآلوسي الّذي تلقي هذا و نحوه من المتقدمين عليه دون أن يتفطن إلي وضوح بطلانه، و ذلك لأن الإدراك بالبصر المنفي في الآية هو عين الرؤية بالبصر و لا يغايره إلّا لفظا فهما واحدا مفهوما و معني.
الثالث عشر: قوله: «فهما متباينان في الحقيقة و بملاحظة إسناده إلي الأبصار صار بوجه أخص منها».
فيقال فيه: إنه إن أراد أن الإدراك بالبصر المنفي في الآية مباين للرؤية بالبصر فقد عرفت فساده، علي أن البصر جسم كثيف محدود فليس من الممكن المعقول أن يري اللّطيف الّذي ليس له حدّ، فقوله تعالي و هو اللّطيف الخبير آية ثانية علي أنه لا تراه العيون الكثيفة.
و إن أراد أنهما متباينان في نفسيهما فمع خروج ذلك عن مورد الآية فاسد أيضا، لأن النسبة بينهما أيضا عموم و خصوص من وجه لا نسبة التباين، فالمتنازع فيه أن الإدراك بالبصر الّذي هو المنفي في صريح الآية هو الرؤية بالبصر أولا لا
الآلوسي و التشيع، ص: 329
أن الإدراك هو بمعني الرؤية أولا، و قد عرفت أن الموجود في لغة العرب أن الإدراك بالبصر عين الرؤية بالبصر لا غير.
الرابع عشر: قوله: «فنفي أحد المتباينين لا يستلزم نفي الآخر» فيرد عليه.
أولا: بالتناقض بقوله: (و بملاحظة إسناده إلي الأبصار صار بوجه أخص منها) و ذلك لأن النسبة بينهما مع إسناده إلي الأبصار المنفي بذلك الإسناد في صريح الآية عموم و خصوص من وجه لا تباين، فكيف يزعم هذا المتناقض أن نفي أحد المتباينين في المقام لا يستلزم نفي الآخر، في حين أن النسبة بينهما عموم من وجه علي حدّ زعمه الآخر.
ثانيا: لما عرفت أنهما متساويان بالإسناد إلي البصر في المعني فنفي أحد المتساويين يستلزم نفي الآخر قطعا. فكلّ ما ليس بإنسان ليس بناطق، فنفي الإدراك بالبصر المنفي عنه تعالي في الآية نفي لرؤيته بالبصر.
الخامس عشر: قوله: «و كذا نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم».
فيقال فيه: ليست النسبة بينهما عموما و خصوصا مطلقا لما تقدم ذكره من أن النسبة بينهما بالإسناد إليه تساو، و الغريب في تناقضه أنك تراه تارة يقول إن بينهما تباينا، و مرة يقول و بملاحظة إسناده إلي الأبصار صار بوجه أخصّ، و أخري يقول كما هنا و كذا نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم فأثبت أن بينهما عموما و خصوصا مطلقا، و لو لم يكن منه إلّا هذا التناقض لأغنانا عن بطلان مزاعمه.
السادس عشر: قوله: «أما ما يرادف العلم فهو المصطلح لا غير لأن الإدراك بمعني العلم و الإحساس ليس في اللّغة».
فيقال فيه: إن أراد من نفي كون الإدراك في اللّغة بمعني العلم و الإحساس عدم كونهما مشمولين لمفهوم الإدراك فالمنع فيه أظهر من أن يخفي لصدق الإدراك علي العلم و الإحساس، و إن أراد عدم تفسير أهل اللّغة ذلك بهما و إن كان ذلك التفسير صادقا عليهما فلا يفيده شيئا، لأن الظاهر من حال اللّغويين أنهم يضعون بعض الألفاظ لمعان كلية و مفاهيم عامة صادقة علي أفرادها من غير أن
الآلوسي و التشيع، ص: 330
يتعرضوا لتفاصيل الأفراد التي تنطبق عليها تلك المفاهيم الكلية عند الوضع، بل يكفي عندهم في الوضع أن تكون تلك الأفراد مصاديق لبعض تلك المعاني علي وجه يصح أن يحكم عليها بذلك، و هذا واضح عند من يفهم لغة العرب و يعرف معاني ألفاظها و كيفية وضعها و موارد استعمالاتها.
السابع عشر: قوله: «و بالإجماع يجوز رؤية الجن و الشيطان».
فيقال فيه: لو فرضنا جدلا صدق الآلوسي في جواز رؤية الجن و الشيطان و فرضنا قيام الإجماع عليه كلّ ذلك من باب التساهل معه و لكن أين الدليل فيه علي جواز رؤية اللّه تعالي الذي ثبت امتناعها إطلاقا بالعقل و النقل، و أي ربط يا تري بين جواز رؤية الشيطان و الجن- كما يزعم الخصم- لو سلّمناه و بين رؤيته تعالي، و ما هي المناسبة بينهما ليكون الدليل علي إثبات أحدهما دليلا علي إثبات الآخر، و كم من فرق بين اللّه و بين الجنّ و الشيطان، و أيهما الأصل في قياس الآلوسي و أيهما الفرع، و ما هو وجه الشبه بينهما و بينه تعالي حتي يكون قيام الإجماع المدّعي في قول الآلوسي علي جواز رؤيتها قياسا علي جواز رؤية اللّه تعالي، ألم يكن الأولي بالآلوسي أن يكفّ عن إيراد أمثال هذه المزاعم الباطلة و الآراء المضحكة التي أسقط من أجلها نفسه في نظر قراء كتابه، و الأطم من ذلك أن يدّعي الإجماع عليه.
الثامن عشر: قوله: «و من طريق العترة، فلما رواه ابن بابويه من جواز رؤية اللّه».
فيقال فيه: إن هذا الافتراء ليس بأول مفتريات الآلوسي علي أئمة الشيعة، فإنه لم يزل يعزو إليهم الأكاذيب ترويجا لخباله و تمشية لهناته، فهو إذ يكذب عليهم و ينسب إليهم الباطل لا يعتمد إلّا علي ما خطّه له سلفه من الكذب عليهم و كم فيهم من كذّب علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فنسب إليه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الأحاديث انتصارا للمذهب و تصحيحا لما ارتكبوه من المخالفة لقوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و فعله و تقريره، و ليت الآلوسي علم أن أهل البيت عليهم السّلام أعلي كعبا و أجلّ قدرا، و هم أعدال كتاب اللّه و حملة علم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من أن يخالفوا القرآن في شي‌ء و هم لا يفارقونه أبدا، فلا
الآلوسي و التشيع، ص: 331
يصح في حال نسبة ذلك الباطل إليهم و هم أعرف الناس بآياته، و أعلمهم بمتشابهه و محكمه و ناسخه و منسوخه.

بعثة الأنبياء عليهم السّلام واجبة

قال الآلوسي ص: (70): «اعلم أن الشيعة يعتقدون أن بعثة الأنبياء عليهم السّلام واجبة علي اللّه و لا يليق ذلك بمرتبة الربوبية فإن اللّه هو الحاكم الموجب، فمن يحكم عليه بوجوب شي‌ء نعم بعثة الأنبياء عليهم السّلام و تكليف العباد واقع حتما و لكن بمحض فضله، و لو كانت بعثة الأنبياء عليهم السّلام واجبة عليه لم يمنن ببعثهم في كثير من الآيات» ثم أورد جملة من الآيات علي عادته في سردها علي غير هدي، و ستقف أخيرا علي مخالفة ذلك لما تقول به الشيعة.
المؤلف: إن مذهب الشيعة أن اللّه تعالي لا يفعل القبيح و لا يخلّ بالواجب، و أن جميع أفعاله حكم و صواب، و أن ما يجب عليه يفعله، و قد مرّ عليك معني هذا الوجوب، و أنه كتبه علي نفسه بنفسه لا أن غيره أوجبه و كتبه عليه، و خالفهم خصومهم في ذلك، فقالوا: لا يفعل القبيح لأنه لا قبح منه، و لا يفعل الواجب لأنه لا واجب عليه، لذا تراهم أسندوا إلي اللّه تعالي جميع أفعال العباد الواقعة في كون الوجود من الكفور و الفجور و الشرور و العهور علي أساس أنه لا يقبّح منه فعل شي‌ء منها إطلاقا.
فالآلوسي يري أن هذا يليق بمقام الربوبية و يليق به- و العياذ باللّه- فعل الشرك و اللّواط و شرب الخمر و الزنا و السّرقة و كل أنواع الفسق و الشرور و أنها مرادة له، و لكنه يري أنه لا يليق به تعالي علي أساس منه، و كرمه و لطفه بعباده أن يوجب علي نفسه بنفسه أشياء بمقتضي حكمته لأنه حكيم لا يفعل إلّا عن حكمة و مصلحة كبيرة لعباده كما تقول الشيعة، و قد مرّ عليك برهانه من كتاب اللّه و منطق العقل، فالآلوسي خالف آية: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلي نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
و آية: قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلي نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
و غيرهما من الآيات، فنسب إليه تعالي جميع معاصيه و آثامه، فهو يري أن من الرحمة أن يترك اللّه عباده المنتشرين في الأقطار و الأمصار
الآلوسي و التشيع، ص: 332
تأخذ في شعاب الجهل و تسلك أودية الضلال مع ما هم عليه من حبّ الأثرة و الأطماع و الظلم و الجور و لا يرسل إليهم من يهديهم إلي سبيل الرشاد و يبيّن لهم طرق السّعادة و الهلاك، و لا يري خصومنا أن هذا هو عين الفساد الّذي نفاه عن نفسه القدسية و تسامي عنه في كثير من آياته.

ما زعمه من حتمية بعثة الأنبياء عليهم السّلام ليس بحتمي علي مذهبه

ثانيا: قوله: «نعم بعثة الأنبياء عليهم السّلام و تكليف العباد واقع حتما».
فيقال فيه: إنه إذا كان لا واجب عليه فكيف يا تري يكون ذلك حتما عليه؟
أم كيف يقع ذلك و الشي‌ء ما لم يجب لم يوجد؟ و من أين علم الآلوسي أنه واقع و هو يعتقد أنه لا واجب عليه؟ فهذا الحتم المزعوم في قوله أيضا غير واجب و لا يحصل القطع به إطلاقا.

لا يخلو عصر من نبيّ أو إمام

قال الآلوسي ص: (71): «إن الإمامية لا بد عندهم ألّا يخلو زمان من نبيّ أو وصي قائم مقامه، و هم يعتبرون بعث النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو نصب الوصيّ واجبا علي اللّه، و عقيدتهم هذه مخالفة للكتاب و العترة».
المؤلف: قد عرفت مما تقدم ذكره أن إعتقاد الشيعة في بعثة الأنبياء و إرسال الرسل عليهم السّلام هو عين ما قاله اللّه تعالي في كتابه من إيجابه ذلك علي نفسه المقدسة، و قول هذا الخصم: (و عندهم لا بد ألّا يخلو زمان من نبيّ) كذب و انتحال لا أصل له: قَدْ خابَ مَنِ افْتَري
[طه: 7].
فالشيعة يعتقدون بوجوب الإمامة علي اللّه تعالي في كلّ زمان لأنه من الرحمة و قد كتبها تعالي علي نفسه، و لأنه من الهدي و قد كتبه أيضا علي ذاته المقدسة، و خالف الآلوسي قول اللّه في القرآن و تمسّك بآراء أناس لم يتفقهوا في الدين و لم يعرفوا أصوله و لا فروعه فقلدهم في كافة مزاعمهم تقليدا أعمي، و هذا التقليد لهم في اللّفظ و المعني لا يليق بالباحث الّذي يريد الوقوف علي الحقائق، و لا يجوز له أن يلقي نفسه في أحضان هذا تارة و في غيره أخري و يلتحق بتلفيقاتهم.
الآلوسي و التشيع، ص: 333

ما قاله في أفضلية الأنبياء عليهم السّلام من جميع خلق اللّه

قال الآلوسي ص: (71): «إن الأنبياء أفضل من جميع خلق اللّه … و هذا هو مذهب أهل الحق و جميع فرق الإسلام إلّا المعتزلة في الملائكة المقرّبين، و الإمامية في الأئمة الأطهار، و لهم في ذلك تنازع و تخالف، و أكثرهم أجمعوا علي أن الأمير أفضل من غير أولي العزم، و ليس بأفضل من خاتم النبيّين، و أما غيره من سائر أولي العزم فقد توقف فيه بعضهم كابن المطهر، و يعتقد بعضهم أنه مساو لهم.
ثم أورد رواية و عزاها إلي الكليني (رض) و فيها الحكم بضلالة من قال بأفضلية الأئمة من الأنبياء عليهم السّلام.
و قال: «و القرآن يدل علي أن جميع الأنبياء أفضل من جميع العالم، و العقل يدل صريحا علي أن جعل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم واجب الإطاعة و حاكما علي الإطلاق و الإمام نائبا و تابعا له لا يعقل بدون أفضلية النبيّ عليه و لمّا كان هذا المعني موجودا في حقّ كلّ نبيّ و مفقودا في حقّ كلّ إمام لم يكن إمام أفضل من نبيّ أصلا بل يستحيل، لأن النبيّ متوسط بين العبد و الرب في إيصال الفيضان إليهم، فمن يستفيض منه لو كان أفضل منه أو مساو له لزم أن يكون أرفع منه في إيصال الفيض، و متمسك الإمامية في هذا الباب عدّة شبهات واهية ناشئة من عدة أخبار أثبتها متقدموهم فحكموا بموجبها.
ثم أخذ يكثر من الكلام و يزعم معارضة أخبار الإمامية بعضها لبعض، إلي أن قال: «و لنذكر شبهاتهم و نبيّن عدم دلالتها».
الأولي: أن الأئمة كانوا أزيد من الأنبياء عليهم السّلام علما فكانوا أفضل منهم رتبة، لأن اللّه تعالي يقول: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
[الزمر:
9] و قد روي الراوندي عن الصّادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه فضّل أولي العزم من الرسل
الآلوسي و التشيع، ص: 334
علي الأنبياء بالعلم فورثنا علمهم، ففضلنا عليهم بعلم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مما لا يعلمون و علمنا علم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الجواب عن هذه الشبهة: بأن هذا الخبر بعد تسليم صحته يدل علي زيادة الأئمة في العلم و استيعابهم علوم المرسلين، لأن المتأخر يكون مطّلعا علي علوم المتقدم و ناظرا فيه فيحيط بعلمه بخلاف المعاصر و المتقدم، فإن لا يمكن له ذلك.
ثم مثل بأئمة النحو من المتقدمين منهم و المتأخرين، و أن وقوف المتقدم في البابين علي العلمين بالأصالة فضيلة لا يسبقها من تأخر عنهما سلمنا، و لكن لا يلزم كثرة العلم الثواب، و مدار الفضل عند اللّه علي كثرة الثواب لا علي كثرة العلم، و إلّا فيلزم تفضيل الخضر علي موسي عليه السّلام و هو خلاف الإجماع، و الدليل علي هذا المدّعي أن كل نبيّ لو لم يكن العلم الّذي عليه مدار الإعتقاد و العمل حاصلا له بوجه أتم كيف يخرج عن عهدة التبليغ، و مع قطع النظر عن هذه الأمور كلّها لا يذهب عليك من الخلل و الفساد في الخبر، فإن توريث الأئمة علم الأنبياء عليهم السّلام و تفضيلهم عليهم بذلك التوريث كما ذكر فيها يلزم منه أن يكون الأئمة أفضل من نبيّنا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إذ وجه التوريث و هو توريث العلم ثابت هاهنا و هو فاسد البتة بالإجماع».

أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام

المؤلف: أولا: قوله: «و لكنهم أجمعوا علي أن الأمير أفضل من غير أولي العزم».
فيقال فيه: قد أدلينا عليك فيما مرّ أنّ عليّا أمير المؤمنين عليه السّلام أفضل من جميع الأنبياء و المرسلين عليهم السّلام إلّا خاتم النبيّين محمّدا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بنص آية المباهلة، و نصّ الحديث المقبول عند الفريقين الّذي لا يشك فيه إلّا آثم قلبه، و أما ما عليه أهل السّقيفة و أتباعهم فإنهم يفضلون المستخلفين بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي من فضّله اللّه تعالي علي جميع الأنبياء عليهم السّلام.
كأنهم يرون أنفسهم أعلم من اللّه بالأفضل عنده، فأيهما يا تري أهدي سبيلا الّذين اتّبعوا كتاب اللّه و عملوا بنصوص آياته و نيّر بيّناته و تلوا نصوص نبيّهم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مقتفين في ذلك أثره- و هم الشيعة الإثنا عشرية- أم الّذين ضربوا الكتاب عرض
الآلوسي و التشيع، ص: 335
الجدار و أسقطوه من الحساب، ففضلوا الآخرين عليه و رفضوا قول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في تفضيله علي الأنبياء عليهم السّلام فضلا عن الخلفاء (رض) و لم يقبلوا قوله بل تمسّكوا بقول غير اللّه و غير رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من أفراد الناس في المجالات كلّها، و مع ذلك لا يقبل الآلوسي إحتجاج أهل الحق بتصريح القرآن و النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بأفضلية عليّ من الأنبياء عليهم السّلام فضلا عن هؤلاء مع أنه أحاديث أئمته:
يأبي الفتي إلّا إتّباع الهوي و منهج الحقّ له واضح‌

الأئمة من البيت النبويّ عليهم السّلام أفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام ما عدا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

أما غير أمير المؤمنين عليه السّلام من أئمة البيت عليهم السّلام فهم أفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام إلّا جدّهم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ذلك بدليل قوله تعالي لخليله إبراهيم عليه السّلام لما طلب الإمامة لذريّته: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
[البقرة: 124- 125].
و لا شك في أن الأئمة من آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من ذريّة إبراهيم الخليل عليه السّلام و لم يكونوا ظالمين في حال مطلقا، و قد نصّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي إمامتهم واحدا بعد واحد [1] إلي الثاني عشر منهم كما دلّت عليه أحاديث الفريقين
__________________________________________________
[1] فساد قول ابن تميمة: إن الأحاديث في الخلفاء أعظم تواترا من حديث النص في أهل البيت عليهم السّلام و
قد ذكر القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة ص: (445) عن الحمويني، و موفق بن أحمد، عن سلمان الفارسي، أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال للحسين عليه السّلام: (أنت إمام ابن إمام أخو إمام، و أنت سيّد ابن سيّد و أخو سيّد، و أنت حجّة و ابن حجّة و أخو حجّة و أبو حجج تسعة تاسعهم قائمهم).
و
قد تواتر عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال للحسين عليه السّلام: (هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم، اسمه اسمي و كنيته كنيتي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا).
و قد اعترف (شيخ الإسلام) ابن تيمية في منهاجه بثبوت هذا الحديث ص: (210) من جزئه الرابع، و لكن ادّعي أن ما ورد في الخلفاء (رض) أعظم تواترا من نقل هذا النصّ، و قد فات علي ابن تيمية من أن الشيعة جميعا تري ما يدعيه مزوّرا موضوعا لا أصل له إلّا في مخيلة ابن تيمية و غيره من خصوم الشيعة فلا حجّة فيه عليهم، بخلاف ما اعترف به من النصّ علي الأئمة من البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أنه-
الآلوسي و التشيع، ص: 336
المتواترة، و نصّ كلّ إمام علي إمامة من يأتي بعده، فإذا ثبتت إمامتهم بالنصّ الجليّ من النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ثبتت أفضليتهم من جميع الأنبياء و المرسلين عليهم السّلام و ذلك لأن للإمامة مراتب أتمها و أكملها ما ثبت للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لذا كان صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أفضل الأنبياء أجمعين، و لا شك في أن مرتبة إمامة الفرع في مرتبة إمامة أصله، فإمامة الأئمة من البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أيضا هي الأخري أتمّ مراتب الإمامة، و إلّا لم تصح أن تسدّ مسدّها و تقوم مقامها علي أساس أنها أصلها و هي فرعها، و ذلك مفقود في جميع الأنبياء عليهم السّلام و موجود في الأئمة من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و يدلّ علي أفضليتهم عليهم السّلام منهم عليهم السّلام أيضا الحديث المتواتر نقله في صحاح الخصوم، و قد أخرجه جماعة من حملة الحديث عندهم من ائتمام عيسي عليه السّلام (و هو نبيّ من أولي العزم) بخاتمة الأئمة من البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هو الإمام المهدي المنتظر عليه السّلام.
و قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيما تواتر عنه: (يؤمّ القوم أقرؤهم) أي أعلمهم فالمهدي عليه السّلام، من أئمة أهل البيت عليهم السّلام الّذي ختم اللّه به الأئمة من آل نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أفضل من عيسي عليه السّلام و غيره من الأنبياء عليهم السّلام و حال آبائه عليهم السّلام كحالته في كونهم أفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام إلّا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فراجع ص: (99) في الآية الثانية عشرة في الفصل الأول من الباب الحادي عشر في فضائل أهل البيت النبويّ من الصواعق المحرقة لابن حجر، لتعلم ثمة أن المهدي المنتظر عليه السّلام من أئمة أهل البيت عليهم السّلام أفضل من المرسلين أجمعين.
فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً
[فاطر: 39].
و أما ما نقله الآلوسي عن الكلين (رض) و غيره من محدّثي الشيعة، فقد عرفت غير مرّة خيانة الرجل في نقل الحديث و كذبه كذبا مبينا فلا حجّة في نقله ما
__________________________________________________
- متواتر و تلك قضية مفاد (افعل) التفضيل في قوله: إن الأحاديث في خلفائه أعظم تواترا، و هو يعني تواتر النصّ في أئمة أهل البيت عليهم السّلام من قبل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فهو حجّة لنا علي خصومنا يلزمهم النزول علي حكمه إن كانوا مؤمنين به صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
الآلوسي و التشيع، ص: 337
لم يذكره بسنده، و كونه صحيحا معمولا به و أنّي له ذلك و الشيعة لا تعرفه بل أجمعت علي بطلانه.

آيات تفضيل الأنبياء علي جميع خلق اللّه مخصص بغير أئمة أهل البيت عليهم السّلام

ثانيا: قوله: «و الكتاب يدل بجميع آياته علي تفضيل الأنبياء عليهم السّلام.
فيقال فيه: إن دليل الخاص من الكتاب أو السنّة المتواترة يقضي علي عموم إطلاق الآيات و يخصصها، فلا حجّة في العام في مخصصاته عند العلماء جميعا، فعموم إطلاقات آيات تفضيل الأنبياء عليهم السّلام علي جميع خلق اللّه مخصص بالدليل القطعي من الكتاب و السنّة بغير عليّ و الأئمة من ذريته عليه السّلام فهي شاملة للآخرين دونهم عليهم السّلام بحكم المخصص.

فساد ما ذكره من دليل العقل علي تفضيل الأنبياء عليهم السّلام علي أئمة أهل البيت عليهم السّلام

ثالثا: قوله: «و العقل يدلّ عليه صريحا من أن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حاكم علي الإطلاق و الإمام تابع له فلا يعقل أن يكون مساو له أو أفضل» فاسد من وجهين:
الأول: إن قيام النصّ القطعي علي اختصاص عموم الحكم بأفضلية الأنبياء عليهم السّلام من الخلق كافة بغير الأئمة من البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يكون رافعا لموضوع حكم العقل، فينتفي حكمه علي فرض وجوده بانتفاء موضوعه فيخرج ذلك عن العموم بلحاظ حكومته بنحو التخصص ذاتا.
الثاني: إن حكم العقل بتقدير وجوده إنّما يأتي بالنّسبة إلي كلّ نبيّ و من يقوم مقامه من الأئمة فلا يتمشي حكمه بالنسبة إلي غيرهم من الأئمة القائمين مقام غيره من الأنبياء لقصور حكمه عن تناول ذلك لانتفاء مناط حكمه هاهنا، ألا تري أنه لا يجب الامتثال و الإطاعة في كثير من الأحكام التي جاء بها أولئك الأنبياء عليهم السّلام إلي أممهم المنسوخة بشريعة خاتم النبيّين صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالنسبة إلينا فضلا عن أئمتنا أئمة المسلمين فلا حاكمية لهم علي أئمتنا عليهم السّلام إطلاقا، و ليسوا تابعين
الآلوسي و التشيع، ص: 338
لهم عليهم السّلام حتي لا يعقل أن يكونوا أفضل منهم- علي حدّ زعم الخصوم- فتعليل الخصم أفضلية الأنبياء عليهم السّلام علي الأئمة من أهل البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالتابعية مطلقا و الحاكمية علي الإطلاق منهم عليهم السّلام عليهم فاسد جدا، و بفساده لا حكم للعقل لارتفاع موضوع حكمه.
رابعا: قوله: (و لمّا كان هذا المعني موجودا في حقّ كل نبيّ و مفقودا في حقّ كلّ إمام لم يكن إمام أفضل من نبيّ).
فيقال فيه: إن ثبوت ذلك في حقّ كلّ نبيّ و حقّ كلّ إمام بعد ذلك النبيّ لا يستلزم ألّا يكون إمام أفضل من نبيّ مطلقا، لأن المناط لحكم العقل في عدم أفضلية الإمام علي النبيّ لو سلّمناه ثبوت الحاكمية و التابعية للنبيّ علي كلّ إمام ممن يقوم بعده لا كلّ إمام علي الإطلاق، و إن لم يكن من لعدم التساوي بينهم و لانتفاء موضوع حكمه، فالقياس الّذي أدلي به الآلوسي لإثبات ما دان به- فمع كونه من الاستدلال بالباطل- ليس صحيحا إطلاقا.
خامسا: و أما قوله: (بل يستحيل لأنه متوسط بين العبد و الربّ في إيصال الفيضان إليه، فمن يستفيض منه لو كان أفضل منه لزم أن يكون أرفع منه في إيصال الفيض).
ساقط من أصله لوجهين:
أما الأول: فلأنه إذا كان يعترف أن من يستفيض من غيره لا يكون أفضل من المستفيض منه فكيف يزعم أفضلية الخلفاء (رض) علي عليّ المرتضي عليه السّلام و هم يستفيضون منه علم كلّ شي‌ء حتّي ما جهلوه من لفظة (كلالة و أبّ) و غير ما هنالك مما لم يعرفوه كما دلّت عليه أحاديث الفريقين المتواترة مما لا سبيل إلي إنكاره.
الثاني: إنما يستفيض من ذلك النبيّ عليه السّلام الإمام الّذي يقوم بعده و الأمة التي بعث إليها دون الأئمة لغيره من الأنبياء عليهم السّلام لعدم كونهم مستفيضين منه حتي لا يجوز أن يكونوا أفضل منه، فالتعليل الّذي جاء به الآلوسي لإثبات العموم فمع أخصيته و ضعفه في نفسه باطل.
و أما قوله: (فهم يقولون الإمامة نيابة النبوّة).
الآلوسي و التشيع، ص: 339
فيقال فيه: ما أشدّ تجاهل هذا الآلوسي و ما أعظم روغانه، فإن قولهم هذا لا يدل علي أفضلية غير نبيّنا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليهم عليهم السّلام لأنهم لم يقولوا إن إمامة الأئمة من آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هي نيابة لكلّ نبيّ مرسل حتّي يلزمهم عدم أفضليتهم عليهم السّلام منهم علي أساس: (أن مرتبة النيابة لن تبلغ مرتبة الأصالة علي حدّ زعمه) و إنّما قالوا إنها نيابة عن إمامة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هي أتم مراتب الإمامة كما ألمعنا و إمامتهم فرع عنها، فهي الأصل لإمامتهم لا الإمامة عن كلّ نبيّ لوضوح بطلانه.

بطلان ما قاله الآلوسي إن مرتبة النبوّة أصالة و الإمامة نيابة فلن تبلغ مرتبة الأصالة علي إطلاقه

ثم إنه إن أراد من أصالة مرتبة النبوّة أن مرتبة الإمامة لا تصل إليها مطلقا فباطل، و ذلك لأن هارون عليه السّلام كان إماما و خليفة لموسي عليه السّلام و قد بلغ مرتبة النبوّة، و إن أراد من أصالة النبوّة الإمامة الثابتة للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أن مرتبة الإمام الّذي يقوم مقامه لا تبلغ تلك المرتبة فقد أريناك فساد هذا الزعم، و أنه يجب أن تكون مرتبة إمامة الفرع في مرتبة إمامة الأصل، و إلّا لم يصلح بطبيعة الحال أن يقوم مقامه في الإمامة إذا كان فاقدا لتلك المرتبة.

صحّة الخبر الدال علي أفضلية الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام من الأنبياء عليهم السّلام

سادسا: قوله: «إن هذا الخبر بعد تسليم صحته».
فيقال فيه: إنّما يشك في صحة هذا الخبر من لا يعرف شيئا من أسانيد الأحاديث، و لم يطّلع علي خبر من أخبار أئمته ليعلم أن هذا الحديث قد شهد صحيح الحديث بصحة معناه، و كلّ ما شهد صحيح الحديث بصحة معناه فهو صحيح عند علماء الحديث إجماعا و قولا واحدا، فإليك ما
سجله المتقي الهندي في منتخب كنز العمال بهامش الجزء الخامس من مسند أحمد بن حنبل ص:
(94) و ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ص: (450) من جزئه الثاني، و الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء في باب فضل أهل البيت عليهم السّلام ص: (86)
الآلوسي و التشيع، ص: 340
من جزئه الأول، و صاحب كنز العمال في آخر ص: (217) من جزئه السّادس، عن ابن عباس:
قال: قال النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من سرّه أن يحيا حياتي و يموت ميتتي، و يسكن جنّة عدن التي غرس ربّي قضبانها بيده، فليوال عليّا من بعدي و ليوال وليّه، و ليقتد بأهل بيتي من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي و رزقوا فهمي، فويل للمكذبين بفضلهم من أمتي القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم اللّه شفاعتي).
و هل هناك دلالة أوضح من
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (خلقوا من طينتي و رزقوا فهمي)
علي أفضليتهم من غيرهم مطلقا، فإن أحدا من العالمين من الأولين و الآخرين لم يخلقوا من طينته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لم يرزقوا فهمه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إلّا عترته أهل بيته عليهم السّلام فهم بحكم هذا الحديث أفضل الأولين و الآخرين بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم سواء في ذلك الأنبياء عليهم السّلام و غيرهم.
سابعا: قوله: «و الجواب عن هذه الشبهة: أنه يدل علي زيادة الأئمة في العلم و استيعابهم علوم المرسلين عليهم السّلام).
فيقال فيه: إن الّذي لا يفرّق بين الشبهة و الدليل القالع لجذور الباطل لجدير به أن يقول في مثل هذا الدليل إنه شبهة، و كيف يتجرأ مسلم أن يقول فيما ورد عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في أفضلية أهل بيته عليهم السّلام من الأنبياء عليهم السّلام إنه شبهة.
و أما ما جاء به الآلوسي من المثال في أن المتقدم في كلّ فن يكون أفضل من المتأخر مهما كان فلا ينطبق شي‌ء منه علي الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام و لا يصلح أن يكون شاهدا علي صحة مزعمته، إذ مضافا إلي ضعفه في نفسه و فساده علي إطلاقه من أفضلية الأنبياء عليهم السّلام علي أئمة أهل البيت عليهم السّلام أن الخصم قد اعترف بوجدان الأئمة من البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لما عند الأنبياء عليهم السّلام من العلم و زيادة، و لا شك في أن زيادة العلم فيهم عليهم السّلام هو المقتضي لتفضيلهم علي الأنبياء عليهم السّلام لأن عندهم علم الأنبياء عليهم السّلام و علم النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذي ليس هو عند الأنبياء عليه السّلام فشاركوهم فيما عندهم و زادوا عليهم بما ليس عندهم، فوجدان الأئمة عليهم السّلام لما عند الأنبياء عليهم السّلام من العلم يقتضي المساواة بينهما، و وجدان
الآلوسي و التشيع، ص: 341
الأئمة زيادة علي ما عندهم من علم النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقتضي تفضيلهم عليهم السّلام علي الأنبياء عليهم السّلام مطلقا.
و أما مثال الآلوسي الّذي حاول تطبيقه علي ما نحن فيه ففاسد من وجوه:

مثال الآلوسي لأفضلية المتقدم مطلقا علي المتأخر مطلقا

الأول: إنّا نمنع كون المتقدم مطلقا في أي فن أفضل من المتأخر لا سيما إذا وصل المتأخر بطول باعه وسعة اطلاعه إلي ما لم يصل إليه المتقدم، و لو كان المتقدم مطلقا أفضل من المتأخر مطلقا لزم الخصم أن يقول بتفضيل الأنبياء المتقدمين علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لأن عندهما عندهم و زيادة علي ما ليس عندهم، و هذا معلوم بالضرورة بطلانه.
الثاني: إنّ التفضيل كما مرّ صفة يلزم فيها المشاركة من جهة و المفارقة من أخري، فإذا قيل فلان أفضل من فلان فلا بد و أن يشتركا معا في صفة الفضل و يزداد الأفضل بصفة مفقودة في الفاضل و هي التي أوجبت أفضليته منه، فكيف يصح للخصم أن يزعم أن المتقدم في أي فن مطلقا يكون أفضل من المتأخر في ذلك الفن مطلقا، و إن بلغ المتأخر في العمق و الإحاطة إلي ما لم يصل إليه المتقدم مع فرض أنه واجد لما عند المتقدم و زاد عليه بسعة الباع و كثرة الإطلاع و الفحص و التتبع.
الثالث: إن تفضيل المتقدم في أمثال تلك الفنون علي المتأخر فيها و إن زاد علي المتقدم فيها بتقدير جوازه لا يتمشي في ذوات الأنبياء المتقدمين و الأئمة المتأخرين عنهم عليهم السّلام الّذين ورثوا علمهم، و ذلك لأن علم الأنبياء عليهم السّلام من علم اللّه تعالي و ليس هو بالتعلم من الآخرين كما في غيرهم من سائر النّاس، و تلك قضية ما في الأمثلة المذكورة فتعليل الأفضلية بذلك فاسد و قياسه عليه باطل.
و جملة القول: إنّ الأئمة عليهم السّلام ورثوا العلم الّذي احتوي عليه الأنبياء عليهم السّلام و زاد هؤلاء عليهم السّلام عليهم عليهم السّلام بما عند رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من العلم الّذي هو مفقود في أولئك الأنبياء عليهم السّلام فعلوم الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام من
الآلوسي و التشيع، ص: 342
الفيوضات الربانية و الإمدادات الإلهية و ليست هي مكتسبة كالتي ضرب لها من الأمثلة، و لا يأتي سعة الباع و كثرة الفحص و التتبع في علوم الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام لأنها غير موقوفة علي شي‌ء من ذلك حتي يقال فيهم إن المتقدم منهم أفضل من المتأخر و إن بلغ هذا الأخير في سعة الباع إلي ما لم يصل إليه المتقدم كما يزعم الخصم.
ثامنا: قوله: «و لو لم يكن العلم الّذي عليه مدار الإعتقاد و العمل حاصلا للنبيّ بوجه أتم كيف يخرج عن عهدة التبليغ».
فيقال فيه، أولا: إنه أخص من المدّعي فلا يصلح أن يكون دليلا علي صحة عموم الدعوي.
ثانيا: إنه منقوض بقصة الخضر عليه السّلام مع موسي عليه السّلام.
ثالثا: إنه لو كان يلزم وجود العلم في كل نبيّ علي الوجه الأتم كونه أفضل لزم الخصم أن يقول بعدم إمكان تفضيل نبيّ علي نبيّ مطلقا، توضيح ذلك: إن وجود العلم في كلّ منهم لا بد أن يكون علي الوجه الأتم و إلّا لم يمكنه الخروج عن عهدة التبليغ- علي حدّ زعمه- فالأتميّة بالعلم لا بدّ من حصولها في كلّ واحد من الأنبياء عليهم السّلام فإذا كان كلّ منهم واجدا له علي الأتمية لم يكن واحد منهم أفضل من الآخر، و لا يكون نبيّنا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أفضل الأنبياء عليهم السّلام لأن الأفضل لا بد و أن يكون في العلم أتمّ، و إذا كان الفاضل أيضا مثله في العلم أتمّ كان ذلك بالنسبة إليه مساو له لا أفضل منه، و إنما لا يكون كذلك إذا كان العلم الّذي يكون عليه غير الأفضل علي وجه التمام حتّي يكون فيه أتمّ ليكون أفضل، فتعليل الأفضلية مطلقا بالأتمية في العلم مطلقا فاسد جدا لاستلزامه المساواة بينهم جميعا، و اللّازم باطل بالإجماع، و كتاب اللّه صريح في تفضيل بعض النبيّين علي بعض، قال تعالي: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلي بَعْضٍ
[البقرة: 253] و قال تعالي: وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلي بَعْضٍ
[الإسراء: 55].
تاسعا: قوله: (و لكن لا يلزم من كثرة العلم كثرة العلم كثرة الثواب و مدار الفضل عند اللّه علي كثرة الثواب).
الآلوسي و التشيع، ص: 343
فيقال فيه: أولا: كان البحث مبنيا علي الأفضلية بالعلم و أن من كان أكثر علما كان هو الأفضل
لقول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يؤمكم أقرؤكم)
أي أعلمكم و أفضلكم، فعدول الآلوسي عن ذلك إلي دعوي أن الأفضلية بكثرة الثواب خروج عن الموضوع و هزيمة من ميدان النقض و الإبرام و عجز عن المناجزة، أما الأفضلية بكثرة الثواب فمرتبة أخري لا صلة لها بمحلّ النزاع.
ثانيا: لقد عرف القارئ فيما تقدم أن مذهب الخصم الّذي يزعم هاهنا فرارا- و لات حين مناص- أن الأفضلية بكثرة الثواب فضلا عن كثرته فكيف بأكثريته حتّي يكون دليلا علي الأفضلية، لأنه لا يجب علي اللّه أن يعطي ثوابا و لا قبح منه إذا أبدله عقابا كما يعتقده الأشعري.
ثالثا: إن الأئمة من البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام حتّي في الثواب، و ذلك لثبوت عصمتهم بالأدلة القطعية من الكتاب و السنّة و ثبوت أعلميتهم من سائر المرسلين عليهم السّلام في كلّ شي‌ء، و الأعلم المعصوم لا شك في أنه أتقي، و قد قال تعالي: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ
كما في الآية: (13) من سورة الحجرات، و لو لم يكن الأعلم المعصوم أفضل من غيره بالثواب لزم ألّا يكون النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أفضل من غيره من الأنبياء بالثواب و اللّازم باطل بالإجماع، فأعلمية أهل البيت عليهم السّلام من جميع الأنبياء عليهم السّلام و عصمتهم موجبة تامة لأفضليتهم من الأنبياء في أكثرية الثواب.
عاشرا: قوله: (فإن توريث الأئمة علم الأنبياء عليهم السّلام و تفضيلهم عليهم بذلك التوريث يلزم أن يكون الأئمة أفضل من نبيّنا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم).
فيقال فيه: نحن نمنع الملازمة، و ذلك فإن قيام الدليل القطعي علي أفضلية نبيّنا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الخلق أجمعين يمنع من أفضلية الأئمة عليهم السّلام علي سيّد النبيّين صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا ملازمة بين كون النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أفضل منهم عليهم السّلام و بين أن يكون الأنبياء عليهم السّلام أفضل منهم لقيام النصّ في نبيّنا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي تفضيله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليهم عليه السّلام و قيامه علي تفضيل الأئمة عليهم السّلام علي الأنبياء كما مرّ تبيانه.
الآلوسي و التشيع، ص: 344
الحادي عشر: قوله: «علم الأئمة تابع لعلم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و فرع لعلمه، و علم الأنبياء عليهم السّلام أصل و أول و بالذات و ما بالتبع لا يبلغ درجة ما بالذات».
فيقال فيه: أولا: لو كان علم الأنبياء عليهم السّلام أصلا و يوجب أعلميتهم للزم الآلوسي أن يقول بأنهم عليهم السّلام أفضل من نبيّنا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أيضا، لأن علمه أيضا تابع لعلم الأنبياء عليهم السّلام و فرع لعلمهم لأنهم هم الأصل لتقدمهم عليه، فعلمهم أصل و أول و بالذات و ما بعدهم مطلقا فرع لعلمهم و ما بالتبع لا يبلغ درجة ما بالذات، كما يزعم الخصم الّذي لا يفهم ما يلزم زعمه من الباطل بالإجماع، فبطل أن يكون تقدمهم في العلم موجبا مطلقا لأفضليتهم علي الإطلاق، فتعليل أفضليتهم عليهم السّلام بتقدمهم في العلم معلوم بالضرورة بطلانه.
ثانيا: إنّ ما ورثه الأئمة علم الأنبياء عليهم السّلام بعينه فهم ورثوا جميع علوم الأنبياء عليهم السّلام و زادوا عليهم بعلم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذي لا يعلمه الأنبياء عليهم السّلام فهم قد حووا علي ما يعلمه الأنبياء عليهم السّلام و ما لا يعلمونه، و لا تتمشي هاهنا قضية الأصل و الفرع، و أن ما في الأنبياء عليهم السّلام من العلم أصل و أول و بالذات- علي زعم الخصوم- حتي يأتي عليه بأن ما بالتبع لا يصل درجة ما بالذات و ذلك لعدم الفرعية و التبعية في علم الأئمة عليهم السّلام لعلمهم عليهم السّلام إطلاقا، و إنما هو و زيادة علي ما عندهم عليهم السّلام عند الأئمة عليهم السّلام لذلك كانوا عليهم السّلام أفضل منهم عليهم السّلام.
الثاني عشر: قوله: (مع أن هذا الاستشهاد بالآية المذكورة أغرب لأن معناها عدم الاستواء بين العالم و الجاهل كما هو الظاهر، و الأنبياء عليهم السّلام ما كانوا جاهلين بالإجماع).
فيقال فيه: إن أفضلية الأئمة علي الأنبياء عليهم السّلام لا يعني جهل الأنبياء عليهم السّلام و إلّا لزم جهل بعضهم بتفضيل اللّه البعض الآخر عليه بصريح قوله تعالي: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلي بَعْضٍ
[البقرة: 253] و اللّازم معلوم البطلان، أما الآية فلم أجد فيما أعلم أن عالما من الشيعة استشهد بها علي تفضيل الأئمة عليهم السّلام علي الأنبياء، لأن الظاهر منها بقرينة ما قبلها و هو قوله تعالي: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ
الآلوسي و التشيع، ص: 345
ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ
[الزمر: 9] إنها تريد نفي الإستواء بين من عرف اللّه تعالي فسهر ليله بعبادته و بين من لم يعرفه فلم يعبده، فيراد من الإستواء المنفي في منطوقها نفي التساوي بين الّذين عرفوا اللّه و عبدوه و بين الّذين ما عرفوه فما عبدوه، و لكن الآلوسي لا يري من الإثم إذا كذب علي علماء الشيعة فنسب إليهم ما يوجب الحطّ من قدرهم و المسّ من كرامتهم، و لسان حالهم يقول:
و إذا أتتك مذمّتي من ناقص فهي الشّهادة لي بأنّي كامل
ثم إنه لا حاجة إلي أن أملي عليك أكثر من ذلك بعد وضوح أفضلية الأئمة من البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من جميع الأنبياء عليهم السّلام بنصّ الكتاب و الصحاح المحمّدية الجياد المتفق عليها بين الفريقين، و من جميع ذلك تعرف فساد ما تمحّله الخصم.

الأنبياء عليهم السّلام معصومون

قال الآلوسي ص: (75): «إنّ الأنبياء عليهم السّلام معصومون من التقوّل و قول الكذب و البهتان مطلقا عمدا و سهوا، و قال الإمامية: يجوز عليهم ذلك من البهتان و قول الكفر … إلخ».
المؤلف: الشيعة كافّة يعتقدون بعصمة الأنبياء عليهم السّلام و يعتقدون بعصمة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي الإطلاق في الصغر و الكبر قبل البعثة و بعدها و إنما قال بعدم عصمتهم خصوم الشيعة، فإنهم أثبتوا لهم العصيان و السّهو و النسيان في كثير من الموارد، و أجازوا عليهم الزلّات و ارتكاب القبائح و الرذائل، و قالوا في سيّد النبيّين صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يهجر، و أنه يحبّ مزمارة الشيطان في بيته، و يحبّ الغناء الّذي قال فيه فيما مرّ: (إنه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل).
و قد اعترف الآلوسي نفسه فيما تقدم ذكره بجواز الزلّات علي الأنبياء عليهم السّلام فجاء هنا ينقضه و يزعم أن القائلين به هم الشيعة بهتانا و زورا، و ممن صرّح بجواز الزلّات علي الأنبياء عليهم السّلام و اعترف به شيخ أعداء الشيعة و أحد أعلام خصومهم:
الفضل بن روزبهان في كتابه الّذي سمّاه و ما أطول اسمه (إبطال نهج الباطل و إهمال كشف العاطل) و هو شبيه في طوله بكتاب الآلوسي فزعم أنه ألّفه في الردّ
الآلوسي و التشيع، ص: 346
علي كتاب: (كشف الحقّ و نهج الصّدق) للعلّامة علي الإطلاق و حجّة الخاصّة علي العامّة سديد الدين الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي (رضوان اللّه تعالي عليه) و قد تصدي لتزييف كتاب الفضل العلّامة الكبير و المفكر الخطير قاضي القضاة نور اللّه التستري (رضوان اللّه تعالي عليه) و أسماه ب (إحقاق الحق و إزهاق الباطل) و ناقشه الحساب بدقة، و أرجع كلّ طعنة من طعناته إلي نحره، فراجع ثمة حتّي تعلم أن القول بعدم عصمة الأنبياء عليهم السّلام هو من مقال خصماء الشيعة.

علم الأنبياء عليهم السّلام بالأحكام كلّها مطلق

قال الآلوسي ص: (75): «إن الأنبياء عليهم السّلام لا بد لهم من معرفة الواجبات الإيمانية قبل البعثة و بعدها، و قد أجمع علي هذه العقيدة حتي اليهود و النصاري إلّا الإمامية، فقالوا: لا يكون معرفة أصول العقائد حاصلة للأنبياء عليهم السّلام».
المؤلف: ما برح الآلوسي يكذب علي الشيعة و ينسب إليهم آراء سلفه، و يقول إنها من عقائد الشيعة، و لقد قال باطلا و نطق آثما أما و شرّ القول الكذب إنه يقول فيكذب.
إن الّذين يعتقدون بعصمة الأنبياء عليهم السّلام مطلقا و أنهم لا يعصون و لا يسهون في الصغر و الكبر قبل البعثة و بعدها، و أنهم: عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ
هم الشيعة الإمامية وحدهم لا يدخل معهم في ذلك داخل من الدخلاء إطلاقا، فليس يصح ما نسبه إليهم الخرّاصون الّذين لا دين لهم و لا يخافون المعاد، فيلصقون بالمؤمنين اعتقادهم و إعتقاد من تقدمهم من أسلافهم، فهم في ذلك كما قيل: (رمتني بدائها و انسلّت).

عصمة الأنبياء عليهم السّلام من جميع الذنوب

قال الآلوسي ص: (75): «إن الأنبياء عليهم السّلام معصومون من صدور ذنب يكون الموت عليه هلاكهم خلافا للإمامية، فإنهم رووا في حقّ بعضهم صدور هذا الذنب … إلخ».
الآلوسي و التشيع، ص: 347
المؤلف: كذب الّذين زعموا أن الشيعة تروي صدور المعصية من بعض الأنبياء عليهم السّلام و هم يعتقدون عصمتهم علي الإطلاق، و إنما زعم هذا الزعم الباطل خصومهم، فدونك كتاب (منهاج السنّة) لشيخ إسلامهم ابن تيمية الّذي يزعم أنّه ألّفه في الردّ علي منهاج الكرامة للعلّامة، و قد تصدّي للردّ علي ابن تيمية العلّامة الكبير السيّد محمّد مهدي الكاظمي القزويني (رضوان اللّه تعالي عليه) (بمنهاج الشريعة) فإنه أفاد فيه و أجاد و أصاب و أوضح بباهر حججه طريق الصواب، قد زيّف جميع ما جاء به ابن تيمية من المزاعم الفاسدة و الآراء الباطلة، و وقف معه في الحساب بدقّة، و بيّن للملإ فيه اعوجاج منهاج ابن تيمية و التوائه، فراجع ثمة حتّي تعلم أن هذه المزاعم الفاسدة التي ألحقها هذا الآلوسي بالشيعة هي من مزاعم أوليائه المنحرفين عن أهل البيت عليهم السّلام و ليت الآلوسي دلّنا علي عامّي من عوامّ الشيعة يقول بهذه المقالة ليكون تبريرا له عمّا رماهم به من البهتان، و من حيث أنه لم يفعل ذلك و ألقي الكلام فارغا علمنا و علم كلّ النّاس كذبه و بهتانه.
فظهر من جميع ما ذكرنا فساد ما سجّله الآلوسي في كتابه من المفتريات التي عزاها إلي الشيعة في ص: (76) إلي نهاية ص: (80) و ناهيك بما قدمناه لك من الأدلّة لدفع تلك العلّة و إزاحة هاتيك المضلّة.
الآلوسي و التشيع، ص: 349

الفصل الثالث عشر في وجوب الإمامة

وجوب الإمامة كالنبوّة

قال الآلوسي ص: (81): «الباب الخامس في الإمامة إنّ أوّل ما اختلف فيه من مسائل هذا الباب هو كون نصب الإمام واجبا علي العباد أو علي اللّه، فأهل السنّة علي الأول و الشيعة علي الثاني و الفطرة شاهدة للأول، إذ كلّ فرقة تقرر لأنفسهم رئيسا بينهم و كذا الشرع، إذ الشارع أوضح شرائط الإمام و أوصافه و لوازمه بوجه كلّي كما هو شأنه في الأمور الجعلية كالنكاح و لوازمه، و أيضا لا معني للوجوب عليه تعالي بل هو مناف للألوهية، و أيضا كلّ ما يتعلّق بوجود الرئيس العام من أمور المكلّفين من إقامة الحدود علي أحد واجب عليه.
ألا تري أن الوضوء و تطهير الثوب و ستر العورة واجب علي المصلّي لا عليه تعالي، و أيضا إن تأملنا علمنا أن نصب الإمام من قبل الباري يتضمن مفاسد كثيرة لأن آراء العالم مختلفة و أهواءهم متفاوتة، ففي تعيين رجل لتمام العالم في جميع الأزمنة إلي منتهي بقاء الدنيا إيجاب لتهييج الفتن، فمع هذا قولهم نصب الإمام لطف في غاية السّفاهة يضحك عليه، إذ لو كان لطفا لكان بالتأيّيد و الإظهار لا بغلبة المخالفين و الإنتصار، أجاب عنه بعض الإمامية: بأن وجود الإمام لطف و نصرته و تمكينه لطف آخر، و عدم تصرف الأئمة إنما هو من فساد العباد و كثرة الفساد فإنهم خوفوهم و منعوهم، و إذا ترك الناس نصرتهم بسوء اختيارهم فلا يلزم قباحة في كونه واجبا عليه تعالي، و الاستتار و الخوف من سنن الأنبياء فقد اختفي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في الغار خوفا من الكفار ففيه غفلة عن المقدمات المأخوذة في الاعتراض، إذ المعترض يقول الوجوب بشرط النصرة لطف و بدونه متضمن لمفاسد، فالواجب التعرض لدفع لزوم المفاسد و لم يتعرض له كما لا يخفي».
الآلوسي و التشيع، ص: 350

إمام الأمة مثل رئيس كلّ فرقة عند الآلوسي

المؤلف: أولا: قوله: و الفطرة شاهدة، إذ كلّ فرقة تقرر لأنفسهم رئيسا».
فيقال فيه: لقد التقط الآلوسي هذه المقالة من بعض من تقدمه من أسلافه دون أن يفكر في فساده لأنه جاهل بمعني الإمامة و لا يدري ما هي، لذا تراه قاس ما تفعله كلّ فرقة من تقرير رئيس لأنفسهم علي الإمامة العامّة و الحكومة المطلقة بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لكن كان عليه قبل هذا القياس أن يسأل العلماء عن الفرق بين الخلافة و الجلافة، و بين ما يفعله اللّه تعالي و ما يفعله الناس ليكون علي بصيرة من أمره، فإن الناس غالبا ما يختارون لأنفسهم رئيسا جاهلا و فاسقا فاجرا، و قد يختارون الرضيع و الطفل الصغير لأنه ابن الرئيس الهالك أو ابن عمه أو أقرب الناس إليه، و قد يختارون زوجة الرئيس الميّت و هكذا، فلا يفرّقون بين الأحمق الجاهل و بين الطفل الصغير في اختياره رئيسا عليهم، و أين هذا من خلافة النبوّة و نيابة الرسالة حتي يصح قياسه عليه.
معني الخلافة أما الخلافة: فهي الرئاسة العامّة و الزعامة الكبري في أمور الدين و الدنيا، و هي النيابة عن الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في إقامة الحدود، و نشر الأحكام، و درء الفساد، و حفظ الشريعة، و الانتصاف للمظلوم، و قطع دابر الشغب، و استئصال شأفة الفتن و غير ذلك من فوائدها اللّازمة علي الوجه الشرعي و القانوني الإلهي.
و بالضرورة أن هذه الفوائد المعتبرة في الإمام شرعا لا يمكن معرفتها لكلّ أحد لأنها عبارة أخري عن العصمة التي هي شرط أكيد في الإمام عند العقلاء، و هي من الأمور الخفية التي لا يطّلع عليها إلّا اللّه و ليست هي من وظائف الناس، فأي فطرة تستطيع إدراكها و الإحاطة بها و الوقوف عليها لتعيّنه في تقرير مصيرها في هذه الحياة و ما يتصل بحياة الآخرة.
فإذا فقد الشخص واحدا من هذه الشروط بأن كان جاهلا بالأحكام و فاسقا متعدّ لحدود اللّه، أو كان غير معصوم من السّهو و النسيان و الخطأ و العصيان فلا
الآلوسي و التشيع، ص: 351
يصلح أن يكون إماما علي الأمة و نائبا عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في شي‌ء، بل يكون وجود مثله في الخلافة أو إختيار هذا اللّون من الناس ضررا علي الدين و موجبا لضياع الشريعة و اضمحلالها لا حفظها و رعايتها فحفظ الشريعة و رعايتها بالشكل الّذي أنزله اللّه تعالي علي رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يمكن أن يكون إلّا بإمام جامع لجميع صفات الكمال، عالم بسائر الأحكام، معصوم من الزلل و العصيان و الخطأ و النسيان كالنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و أما قياس الخصوم للإمامة علي الرئاسة المختارة من بعض الفرق فبأقصي مراتب السّخافة، لأن الشروط المعتبرة شرعا في الإمام غير ملحوظة و لا معتبرة، حتي بعضها عندهم فيمن يختارونه رئيسا عليهم، و أكبرها كونه محيطا بجميع أحكام الشريعة و ألّا يكون عاجزا عن حلّ أيّة مشكلة من المشكلات السّياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و القضائية و نحوها، و هذا الشرط من أهم الشروط المعتبرة في الإمام بعد العصمة.
و بعبارة أخري: إن تلك الرئاسة غير شرعية و لا دينية لعدم وجود شي‌ء من القيود المعتبرة شرعا فيها في تلك الرئاسة و هي فاسدة بنظر الشرع، فكيف تحكم الفطرة بقياس ما هو شرعي علي ما ليس بشرعي- كما يزعم الآلوسي- و لكن الّذي فات عليه و لم يهتد إليه هو إنه أبطل بهذه الفطرة خلافة الخلفاء (رض) و لم يثبتها؛ و ذلك لأن الثابت بحكومة الفطرة ليست هي خلافة النبوّة شرعا كما اعترف به فيما يأتي من اعتبار ما لا يعتبر فيما هو الثابت بالفطرة في الخلافة الشرعية، و الآلوسي يزعم ثبوت خلافتهم (رض) بالفطرة، و الثابت بها طبعا غير شرعي علي حدّ اعترافه فخلافتهم حينئذ غير شرعية و لا دينيّة، فهي ليست من الدين: وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ
[آل عمران: 68].

تناقض الآلوسي

و أما قوله: (إذ الشارع قد أوضح شرائط الإمام).
فيقال فيه: إنه فاسد من وجهين:
الآلوسي و التشيع، ص: 352
الأول: إن القارئ ليفقه من هذه الجملة أن الشارع قد اعتبر شروطا في الإمام و هي بطبيعة الحال غير ملحوظة و لا معتبرة في أمر الرئاسة التي تقررها كلّ فرقة لأنفسهم كالإحاطة بكافة الأحكام الشرعية التي هي شرط أصيل في الإمام و ليس هو بالبداهة شرطا فيمن تقرره للرئاسة علي أنفسهم.
فباللّه عليك إذا كان هذا الخصم يعترف أن هناك شروطا أوضحها الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في الإمام و أنها قيود شرعية معتبرة فيه فكيف يقيس أمرها علي أمر الرئاسة التي تقررها كلّ فرقة لأنفسهم فتختار من بينها من تريد مطلقا و إن كان جاهلا بالأحكام الشرعية و القوانين الإلهية، و هل هذا إلّا قول متناقض لا يفهم ما يقول.
الثاني: إن قول الآلوسي: (إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أوضح شرائط الإمام) يدلّك بوضوح علي أنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم ينصّ علي إمام بعينه، و إنما أوضح شروطه و أوكل أمر تعيينه إليهم، و قد عرفت فساد هذا الزعم فيما مرّ من أن أمر التعيين ليس من وظائف الأمّة لأن من أهم شروطه العصمة قطعا، فلا يقدر أحد من أفراد الأمة أن يطّلع عليها، فإذا تعذر عليهم الإطلاع علي ما هو شرطه فلا يستطيعون تعيينه إطلاقا، فإذا بطل تعيينه من الأمة ثبت وجوب تعيينه من اللّه تعالي وحده، ثم كيف يا تري يكون من الممكن المعقول أن يجعل أمر تعيينه إلي الأمة مع علمه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بما هم عليه من حبّ الجاه و اختلاف الأهواء و الطباع، بل فيه أعظم الفتن و إيثار الفساد، و ذلك لا يمكن صدوره من الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حال.
ثانيا: قوله: (و أيضا لا معني للوجوب عليه تعالي).
فيقال فيه: إن كان لا معني للوجوب عليه علي حدّ زعمه فلا معني لقوله تعالي: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلي نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الأنعام: 12] لأن الإمام من الرحمة فيجب، و لا معني لقوله تعالي: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدي
[الليل: 12] و الإمام من الهدي أو طريقه فيلزم، فلو لم يكن واجبا لكانت هذه الآيات مهملة لا معني لها و ليس لها في الوجود صورة و هو باطل، و ذلك مثله باطل فالوجوب متعيّن.
الآلوسي و التشيع، ص: 353
ثم إذا كان لا معني له- كما يزعم الخصم- فكيف أوجبه اللّه تعالي علي نفسه؟ و هل يجوز لمسلم أن يريد خلاف ما أراد اللّه و خلاف ما كتبه علي نفسه من الهدي و الرحمة في تعيين الإمام و نصبه علي عباده، و ما كان لمسلم و لا مسلمة أن يتبعا الآلوسي في مزعمته و يخالفا بذلك كتاب اللّه و يكونا حرب اللّه.

المقدمة غير واجبة إلّا بوجوبه فيها

ثالثا: قوله: (لأن مقدمة ما يجب علي أحد واجب عليه).
فيقال فيه: إن وجوب المقدمة فرع وجوب ذي المقدمة، فلا يجب علي المكلّف تحصيل ما يتوقف عليه الواجب من الإطاعة و الامتثال و الانقياد للإمام إلّا بعد وجوبه من اللّه دون ما أوجبه الناس علي أنفسهم من الانقياد و الإطاعة لبعضهم ممن يجعلونه رئيسا علي أنفسهم، فإن ذلك حرام محرم في الشريعة مأثوم و معاقب صاحبه بدليل قوله تعالي: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ
[الأعراف: 3] فهذه الآية صريحة في أن إتباع الناس لمن يجعلونه رئيسا علي أنفسهم فيما توحيه إليهم أهواؤهم إتباع من دون اللّه أولياء، و كلّ من اتبع من دون اللّه أولياء مشرك، و الأطمّ من ذلك قول الخصم: (إنّه حيث كان تحصيل ما يتوقف الواجب عليه واجبا عليهم أن ذلك الواجب أيضا واجب عليهم) إذ كيف يجب عليهم ما ليس بواجب من اللّه عليهم لوضوح أن وجوب تحصيل المقدمات يتوقف علي ما أوجبه اللّه علي الإطلاق و إلّا فلا وجوب حيث لا يكون هناك واجب منه تعالي، و لا يجب أبدا تحصيل مقدمات ما لا واجب منه، و أما إيجاب الناس فلا يساوي عند اللّه جناح بعوضة و مخالفة إيجابهم قد أمر بها كتاب اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أطبق علي وجوب مخالفتهم أهل السّماء و الأرض من المؤمنين أجمعين.
رابعا: و قوله: (ألا تري أن الوضوء).
فيقال فيه: لو لا وجوب الصّلاة و تكليف الإله عباده لها لما وجب عليهم تحصيل مقدماتها من وضوء و غيره مما هو من مقدماتها شرعا، و ليس في هذا ما يدل علي أن وجوب مقدماتها كان لأجل أن وجوبها من النّاس، بل هو لعمر الحق
الآلوسي و التشيع، ص: 354
معكوس عليه و دليل لنا عليه لا له، لأن وجوب تحصيلها كان لأجل وجوبها من اللّه تعالي لا من الوثنيين الّذين يطيعون المخلوقين من دون اللّه تعالي.
فوجوب الانقياد للإمام و لزوم إطاعته ما هو إلّا لوجوبه من اللّه تعالي وحده لا يشاركه في ذلك أحد من العالمين كما يقول القرآن: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ
[الأعراف: 54] لا لسواه من العاكفين علي عبادة العجل، فما يوجبه العبيد لا يجوز علي الناس امتثاله و الانقياد إليه فضلا عن وجوبه عليهم ليجب تحصيل مقدماته، إذ لا دليل علي جواز الانقياد لمن اختاره بعضهم بل كلّهم لو صح حصوله من كلّهم و جعلوه رئيسا علي أنفسهم طمعا أو خيفة بل الدليل قائم علي حرمته و ضلاله ضلالا مبينا، و إنّما يجب عليهم ما أوجبه اللّه تعالي وحده فلا قيمة في اختيارهم و لا في قولهم، و لو كان في إختيار النّاس قيمة عند اللّه لكان ما اختاره بنو إسرائيل من عبادة العجل قيمة عند اللّه بل اختيارهم لمن يعقل أشد ضررا علي العباد و البلاد من اختيارهم ما لا يعقل بدليل قوله تعالي: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلي حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلي وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ* يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ* يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلي وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ
[الحج: 11- 13].
فالفقرة الأولي من الآية تدل بصراحة بقرينة (ما) الموصولة التي تستعمل غالبا لغير العاقل، علي أن إطاعة غير العاقل و الدعوي إليه و العكوف علي عبادته لا يدفع عن المرء ضرا و لا يجلب له نفعا، فهي تعني الأصنام المصنوعة من الأحجار و نحوها من الجمادات.
و الفقرة الثانية من الآية صريحة الدلالة بقرينة (من) الموصولة التي تستعمل للعاقل (و لام التأكيد الداخلة عليها) علي أن إطاعة الأوثان البشرية و هياكلها القذرة و الدعوة إليها و الالتفاف حولها و تطبيق رواسب أفكارها من دون اللّه لأجل إختيار الناس لهم لا خير فيهم و لا نفع بل ضرّ كلّهم و مذمومون كلّهم سواء في ذلك المطيع منهم و المطاع، بدلالة قوله تعالي: لَبِئْسَ الْمَوْلي وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ
و إن
الآلوسي و التشيع، ص: 355
كنت في شك مما قلناه في عدم جواز إطاعة من لم يكن مختارا من اللّه لإمامة النّاس فهذا كتاب اللّه شاهد عدل علي ما نقول، قال تعالي لنبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ
و في هذا دلالة قوية و شهادة صريحة علي أنه لا حجّة في قول من لم يقم دليل من اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي حجيّة قوله، و أنه لا يجوز الأخذ بأمره و نهيه و لا يجوز الانقياد إليه، و حينئذ فلا دليل علي جواز إطاعة من إقامة بعض النّاس في السّقيفة و لا حجّة في قوله، و لا قيمة لأمره و نهيه بل الدليل قائم علي عدم اعتباره من الكتاب و السنّة كما مرّ عليك بيانه، و لأن اعتبار قوله علي أساس إمامته موقوف علي اعتبار قول المختارين له، فلو توقف اعتبار قول المختارين له علي اعتبار قوله علي أساس خلافته لزم الدور الصريح، فإذا بطل أن يكون قوله حجّة بطل أن يكون إماما لانتفاء الغرض من إمامته و هو وجوب الانقياد إليه و إطاعة أمره و نهيه و غير ذلك من فوائده اللّازمة الموقوفة علي حجيّة قوله و اعتبار فعله شرعا، و لأن الإمام من تجب إطاعته و الآلوسي يزعم أنه ليس بواجب علي اللّه تعالي تعيين من يجب انقياد النّاس إليه في الأحكام و غيرها، فإذا لم يكن واجبا من اللّه لم يجب علي النّاس تحصيل مقدماته و المختار من النّاس لا يعتد بقوله و لا فعله إطلاقا.
و خلاصة القول: إن الناس كلّهم تابعون لتصرف الشارع بهم فليس لهم و لا لآحادهم أن يتصرفوا بأقل ما يتصور في شئون أنفسهم، فكيف يجوز أن يتصرفوا في شئون أنفس الآخرين و في أموالهم و أعراضهم و دمائهم، و في القرآن يقول اللّه تعالي: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
فعموم نفي الخيرة لهم مطلقا من أقوي الأدلة علي عدم اعتبار ما يختارونه مطلقا، و غير المعتبر شرعا لا حجّة فيه أصلا و فرعا.

ما زعمه من المفاسد في نصب الإمام من اللّه في بعث النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أيضا

خامسا: قوله: «إذا تأملنا علمنا أن نصب الإمام من قبل اللّه تعالي يتضمن مفاسد كثيرة».
فيقال فيه: إن ما زعمه هنا فاسد من وجهين:
الآلوسي و التشيع، ص: 356
الأول: إذا كان نصب الإمام و تعيينه من اللّه يتضمن مفاسد كثيرة- كما يزعم الخصم- لكان أيضا بعث النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و تعيينه من اللّه يتضمن مفاسد كثيرة، و ذلك لأن التعليل الّذي جاء به هذا الآلوسي لمنع أن يكون النصب من قبله تعالي للإمام هو أيضا موجود في بعث النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و نصبه من (إختلاف آراء العالم و تفاوت أهوائهم و تفارق نفوسهم) فالعلة فيهما واحدة، فيجب أن يكون حكمهما واحدا لو صح شي‌ء من تعليله.
و بعبارة أوضح: إن ما تأمله الآلوسي و تفكّر فيه، أو علي الأصح ما قلّد غيره فيه بلا تأمل و لا تفكير فأنتج هذا الرأي الذي ينبذه دين اللّه و يرفضه كتابه هو بعينه جار في نصب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و تعيينه من إختلاف الطباع و الأهواء و الآراء و الأذواق، بل لو صح ما زعمه من دعوي الفساد في تعيين اللّه تعالي و نصبه لكان تعيين النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بعثه من قبله أشدّ فسادا من تعيين الإمام و نصبه من قبله؟
و ذلك لأن فيه إضافة علي زعمه من لزوم المفاسد إذا كان التعيين من قبله تعالي (اختلاف أديانهم و تباين مذاهبهم) فهو يريد أن يدعو إلي دين جديد و يمنعهم عن العكوف علي ما هم عليه من الدين السّخيف الّذي ما برحوا عاكفين عليه مدّة من الزمن حتي شغفهم حبّه و تعصّب الناس لأديانهم و عقائدهم و التفاني في سبيل الحفاظ عليها، و مناجزة من يحاول النيل منها بشي‌ء أمر لا ينكر، و تلك قضية الأنبياء عليهم السّلام مع أممهم و رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مع هذه الأمة، فإذا جاز أن يكون في تعيين الإمام و نصبه من اللّه مفاسد كثيرة- كما يزعم- جاز أيضا أن يكون في تعيين النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بعثه من قبل اللّه مفساد كثيرة بل أكثر، و المنع فيه حينئذ يكون أولي و هذا ما لا يقول به من كان له دين أو شي‌ء من العقل، أ تري يقول من له دين فضلا من أن يكون من المسلمين إن اللّه تعالي أراد بإرساله الرسل و تعيينه خلفائهم كثرة الفساد و شدّة الفتن- علي حد زعم الخصم- فإذا بطل هذا و ذاك وجب أن يكون النصب و التعيين من قبله تعالي لا من سواه.
الثاني: إن التعيين من قبل النّاس يتضمن أكبر المفاسد و أعظمها إضاعة الشريعة، و تعطيل الحدود، و إعانة الظالم، و قتل النفس المحرّمة، و صرف أموال
الآلوسي و التشيع، ص: 357
بيت المسلمين في الأهواء و الأغراض كما هو المعلوم من سيرة أمراء بني أمية و بني العباس و غيرهم من أمراء الجور و أئمة الضلال الّذين انتخبهم النّاس و جعلوهم أئمة علي أنفسهم و أعانوهم علي أن يظهروا في الأرض الفساد، و قد ارتكب عثمان بن عفان (رض) المنصوب من قبل النّاس في أيام خلافته من تأميره بني عمومته علي رقاب المؤمنين و علي تخويله لهم السّلطة علي بيت المال، الأمر الّذي كان من أقوي العوامل المؤدية إلي فشله و قتله، و لم يكن ذلك كلّه إلّا لأن الّذي عيّنه الناس لم يكن معصوما فوقع منه هذا الفساد.
وهب أنا قلنا جدلا إنه من المجتهدين و لكن لا يمنع اجتهاده من أن يصرف الأموال في أغراض نفسه باجتهاد أنه فيما يجب صرفها فيه، و يقيم الحدود في غير محلّها باجتهاد أنه مظلوم، و يوقع المفاسد باجتهاد أنها مصالح، و المجتهدون طبعا لا يستطيعون أن يحفظوا أنفسهم من الوقوع في الخطأ فكيف يستطيعون أن يحفظوا الشريعة من الضياع، فإن غير المعصوم يخطئ و يجوز أن يقع منه الفساد خطأ، فمن يا تري يرفع فساده و يرجعه إلي الصّواب إن لم يكن ثمة إمام معصوم فينتفي الغرض من نصبه و الحاجة إلي جعله.
و هذا بخلاف التنصيص من اللّه تعالي عليه فإن فيه أكبر المصالح و أعظمها عصمة الإمام القائم مقام نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في نشر الأحكام (أحكام اللّه المتعلّقة بأمور الدين و الدنيا) علي الوجه الّذي أمر اللّه تعالي به، و الاجتهاد من الإمام لا يجوز كما لا يجوز من النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ذلك لأن الإمامة صنو النبوّة و قائمة مقامها و سادّة مسدّها غير أن الإمام لا يوحي إليه كما يوحي إلي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و مع الاجتهاد لو صح منه لا يحصل القطع بالحكم الإلهي، و أن ما يقوله هو من عند اللّه، لجواز أن يكون من رأيه و قد ورد النهي عن الأخذ بما ليس من اللّه و في القرآن: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللَّهِ تَفْتَرُونَ
[يونس: 59] و الاجتهاد- كما مرّ- لا يغني صاحبه من الخطأ فبالأولي لا يغني من حفظ الشريعة من الضياع، و لأنه لا يكون من نشر الأحكام و إقامة الحدود علي الوجه الّذي أمر اللّه تعالي به لجواز خطأه، و لأن المجتهد يمكن إفحامه فللمكلّف أن يقول له إني اجتهدت فأدّي نظري إلي عدم
الآلوسي و التشيع، ص: 358
قبول قولك هنا أو هناك، فأيّ حجّة تجدها للّه علي الناس بعد هذا و أي فوضي أقبح من هذا.
و أما قبول قوله فلا يجب إلّا علي العوامّ الّذين لا يستطيعون تحصيل الأحكام بالاجتهاد علي فرض تعذر العلم و انسداد بابه، أما المستطيع لا سيّما في عصر الصّحابة فإن الجميع بحمد اللّه (مجتهدون و ليس فيهم جاهل بحكم من الأحكام الشرعية) كما يزعم الخصوم فلا يجب عليهم أن يقبلوا قول أبي بكر (رض) و غيره من (المجتهدين) في شي‌ء لعدم حجيّة قول المجتهد علي مجتهد آخر، فمالك بن نويرة و قومه من بني يربوع كانوا من المجتهدين فأدّي اجتهادهم إلي ألّا يعطوا أبا بكر (رض) شيئا من زكاة أموالهم، فإلزام أبي بكر (رض) إيّاهم علي ذلك و قتله لهم كان قتلا للمجتهدين المخالفين له في اجتهاده و ذلك غير جائز في الشريعة قطعا، و إن منعوا اجتهادهم منعنا اجتهاد غيرهم من الّذين استحلّوا قتلهم و قتالهم فيكون الأمر في ذلك علي الخصوم أشدّ جرما و أعظم مخالفة للدين، و كون أبي بكر (رض) مصيبا في ذلك الاجتهاد ليس بأولي من عكسه، و لو سلّمنا جدلا فلا يوجب ذلك قتلهم و هم مسلمون مؤمنون لأن قتال المجتهد المخطئ غير جائز إطلاقا.
و قد رتب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، علي ذلك أكبر محذور
فقال فيما تواتر عنه: (سباب المسلم فسوق و قتاله كفر)
فإذا كان لا يجوز قتال المسلم و أن قتاله فضلا عن قتله كفر- علي حدّ قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم- فكيف الحال فيما إذا كان المسلم المقتول مجتهدا مصيبا في اجتهاده، و الفرقة التي قاتلته و قتلته مخطئة إن لم نقل فيها إنه لا نصيب لها من الاجتهاد إطلاقا لعدم الدليل عليه إلّا ما يزعمه الخصوم فيهم تعصبا لهم.
و إذا كان لم يجب قبول قوله و امتثال أمره بالاجتهاد علي خلافه بطل أن يكون إماما لانتفاء الغرض و الفائدة من إمامته- كما ألمعنا- ثم لا يجوز الاجتهاد مع إمكان تحصيل الأحكام بالعلم، كما لا يجوز مع وجود النصّ علي ما سيجي‌ء توضيحه إنشاء اللّه.
الآلوسي و التشيع، ص: 359

فساد ما زعمه من تعيين رجل لتمام العالم في جميع الأزمنة

سادسا: قوله: «ففي تعيين رجل لتمام العالم في جميع الأزمنة إيجاب لتهييج الفتن».
فيقال فيه: لقد فات علي الآلوسي
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (لا يزال الدين قائما حتي قيام السّاعة و يكون عليهم إثنا عشر إماما كلّهم من قريش)
و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يكون بعدي إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش)
و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يكون بعدي إثنا عشر أميرا كلّهم من قريش)
و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).
و في هذه الأحاديث المتواترة دلالة صريحة علي أن الأئمة بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إثنا عشر كلّهم من قريش لا تعيين واحد لتمام العالم في جميع الأزمنة كما يزعم الآلوسي ليبني عليه قوله الفاسد (إن فيه إيجابا لتهيّيج الفتن) فالشيعة تقول كما يقول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إنه لا يخلو زمان من إمام يجب علي أهل كلّ زمان أن يعرفوه و يتبعوه و يؤمنوا به و يعينه كما تقدم ذكره من حديث الثقلين، الّذي جاء فيه التنصيص علي عدم خلوّ البيت النبويّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من رجل في كلّ زمان هو كالقرآن في وجوب التمسّك به، و قد آمن به الشيعة و كفر به خصومهم.

قول الآلوسي موجب لبطلان نبوّة كلّ نبيّ

ثم لو فرضنا أن اللّه تعالي عيّن رجلا واحدا لتمام العالم في جميع الأزمنة، و هذا الفرض و إن كنا لا نقول به إلّا علي سبيل التساهل مع الآلوسي، و مع ذلك فإنه لا يوجب شيئا من تهييج الفتن إطلاقا، لأنه لو كان يوجبه لأوجبه في تعيين رجل واحد لزمان واحد، و ذلك لأن تهييج الفتن لا يحصل إلّا من ناحية اختلاف الناس في الأهواء و الطباع و الميول و الاتجاهات و الأذواق و الأفكار، و حينئذ فلا فرق في ذلك بين أن يكون في زمان واحد أو في كلّ الأزمنة لوحدة المناط، فكما يوجب تعيينه تهييج الفتن لأجل ذلك في كلّ الأزمان يوجبه في زمان واحد لاشتراك الجميع في العلّة الموجبة فيكون حكمه واحدا، و هو معلوم البطلان
الآلوسي و التشيع، ص: 360
لاستلزامه بطلان نبوّة كلّ نبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في كلّ زمان، فلو كان التعيين تابعا لأهواء النّاس و رغباتهم و ميولهم و اتجاهاتهم، و أن كلّ ما يرغبه الناس في كلّ زمان أو في الأزمان كلّها يفعله اللّه تعالي و ما لا يرغبونه لا يفعله، لزم بطلان نبوّة جميع الأنبياء عليهم السّلام في كلّ الأزمان، فيلزم منه خراب الدنيا و فسادها و هذا ما يبتغيه الخصوم: وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ
[المؤمنون: 71].

لا سفاهة في اللّطف

سابعا: قوله: «فمع هذا قولهم نصب الإمام لطف في غاية السفاهة».
فيقال فيه: قد ألمعنا فيما تقدم منّا أن اللّطف عبارة أخري عن قوله تعالي: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلي نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
فأوجب تعالي علي نفسه بما اقتضته حكمته أن ينصّب خلفاء بعد أنبيائه ليقوموا مقامهم في نشر شرائعهم و حفظها، و ذلك من أعظم نعم اللّه تعالي علي عباده، و لا يضرهم كفر من كفر بها و جحد من جحدها، و إنما أضرّوا أنفسهم بجحودهم و كفرهم بتلك النعمة العظيمة التي أسبغها اللّه تعالي عليهم منّة منه و رحمة.
لذا تري أن من كفر بالصّلاة و جحد الزكاة و أنكر الحج و الجهاد في سبيل اللّه و نحوها من الفرائض و الواجبات لم يكن كفره موجبا لوهنها و لا رافعا لوجوبها، فإذا كان إعراض النّاس بسوء اختيارهم عن فعل الطاعات و إقبالهم علي ارتكاب المحرّمات و جحد الضروريات و إنكار الواجبات التي فرضها اللّه تعالي عليهم و ألزمهم بها كلّ ذلك لا يقضي بسقوطها و عدم الأمر بها و عدم تشريعها كان إعراضهم بسوء اختيارهم و خبث حصانتهم عن الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام و خذلانهم لهم و عصيانهم لأوامرهم و قتلهم الأنبياء عليهم السّلام و تخويفهم أهل بيت نبيّهم عليهم السّلام و سعيهم في قتلهم الأمر الذي ألجأهم إلي الاستتار و الاختفاء مخافة القتل و الاستئصال أيضا لا يقضي بعدم وجوب نصبهم و لا بجواز مخالفتهم و الانحراف عنهم و الركون إلي النماردة و الفراعنة.
الآلوسي و التشيع، ص: 361
فلو كان ذلك من السّفاهة كما يزعم الخصم لزمه نسبة السّفاهة إلي اللّه تعالي لأنه أوجب ذلك عليهم و ألزمهم بالطاعة للأنبياء عليهم السّلام و امتثال أوامر الأئمة عليهم السّلام و كتب عليهم إقامة الصّلاة و إيتاء الزكاة لأهلها و فرض عليهم الجهاد في سبيل اللّه إلي غير ما هنالك من الواجبات التي ألزمهم بفعلها و المحرمات التي نهاهم عن ارتكابها، و هو تعالي يعلم بعصيان عاصيها و ترك تاركيها و جحد جاحديها، فإذا كان جحدها و عصيانها موجبين لسفاهة الأمر بها و النهي عنها كان خذلان النّاس للأئمة عليهم السّلام و قتلهم الخلفاء عليهم السّلام و إعراضهم عنهم أيضا موجبة لسفاهة نصبهم و تعيينهم، و إذا كان قتلهم الأنبياء عليهم السّلام و تحقيرهم لهم عليهم السّلام و تكذيبهم و عصيانهم و عدم إطاعتهم موجبة لسفاهة إرسالهم و بعثهم و تعيينهم كان عصيانهم للأئمة من آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قتلهم لهم و خذلانهم و عصيانهم موجبة لسفاهة تعيينهم و نصبهم، لأن الجميع من واد واحد و حكمه واحد و لا أحسب أن أحدا علي الإطلاق من أي ملّة و دين و من أي عنصر يكون فضلا عن كونه يدين بدين الإسلام يتجرأ أن يزعم أن عصيان النّاس و جحدهم لأوامر اللّه تعالي و قتلهم الأنبياء عليهم السّلام و الأئمة و خذلانهم لهم يقتضي ألّا يأمرهم اللّه تعالي بشي‌ء و لا ينهاهم عن شي‌ء و لا يرسل لهم أنبياء و لا ينصب بعدهم أئمة و خلفاء لأن القول بذلك خروج عن الأديان كلّها.
نعم يجوز ذلك كلّه عند خصم الشيعة، لذا تراه يقول بكلّ اطمئنان: (إن غلبة المخالفين) [1] للأئمة عليهم السّلام و خذلانهم لهم و عصيانهم لأمرهم تقتضي ألّا يجب علي اللّه تعالي نصبهم و لا تعيينهم، لأن ذلك من السّفاهة علي حدّ زعمه، و يقابل هذا كما قدّمنا القول فيه إن غلبة المخالفين للأنبياء عليهم السّلام و خذلانهم لهم و عصيانهم لأوامرهم بل و قتلهم لهم تقتضي أيضا ألّا يجب علي اللّه نصبهم و لا تعيينهم و لا إرسالهم، لأن ذلك أيضا من السّفاهة و إلّا لكان الواجب عليه تعالي تأيّيدهم دائما و إظهارهم علي مخالفيهم أبدا- كما لا يزعم الخصم- المتجرئ علي اللّه تعالي بنسبة السّفاهة إليه و هذا هو الكفر بعينه.
__________________________________________________
[1] إن
حديث: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بالحقّ لا يضرّها من خالفها و خذلها)
أوضح دليل علي صحة ما نقول و بطلان ما يقول، و قد تقدم ذكره عن صحيح البخاري و غيره من الصحاح فلتراجع.
الآلوسي و التشيع، ص: 362

عدم اشتراط اللّطف بالتصرف دائما

ثامنا: قوله: «إذ المعترض يقول بشرط التصرف و النصرة لطف».
فيقال فيه: إن اعتبار هذا الشرط في تحقق اللّطف مبنيّ علي تجاهل الآلوسي بمعني اللّطف الّذي تقول به الشيعة، فإنهم لا يقولون بشرطية النّصرة دائما و الغلبة أبدا في تحققه حتّي يلزمون به، و إنّما معناه عندهم علي ما حكاه الخصم نفسه في ص: (63) من كتابه: (هو ما يقرّب العبد إلي الطاعة و يبعّده عن المعصية) و لا يخفي حتّي علي الأغبياء، معني هذه الجملة و هو أن الأمر بما يقرّب العبد إلي الطاعة ليس علّة تامة للاقتراب إلي الطاعة و النهي عما يبعده عن المعصية ليس علّة موجبه لدفعه عن المعصية و ابتعاده عنها علي وجه لا ينفك ذلك عنه لاستلزامه سلب الاختيار عنه، و هو خلاف اللّطف عندهم فإنهم لا يريدون من اللّطف غير أن اللّه تعالي لمّا أوجب علي نفسه الرحمة و أوجب عليها هداية النّاس أمرهم بما فيه خيرهم و صلاحهم في الدنيا و الآخرة، و نهاهم عمّا فيه فسادهم و هلاكهم كذلك أيضا، و قد علموا ذلك كله بواسطة أنبيائه عليهم السّلام و خلفائهم عليهم السّلام فمن أطاع و امتثل كان من المقرّبين الداخلين في جنّات النعيم، و من خالفه و عصاه كان من المعذّبين و النازلين في الجحيم.
هذا هو قول الشيعة في اللّطف و هذا ما تعتقده و تري وجوبه، و لمّا كان في وجود الإمام صلاح العباد و البلاد و هداية النّاس إلي الرشاد و نهيهم عن الفساد في الأرض كان و لا شك في أن نصبه من الرحمة و تعيينه من الهدي بعد الأنبياء عليهم السّلام لئلّا يضيع أمر دين اللّه، و حينئذ فيجب علي النّاس إطاعة أمرهم و الانتهاء عن نهيهم، و ليس أمرهم و نهيهم من العلل الموجبة لعدم التخلّف و إلّا لاستلزم الجبر المعلوم بالضرورة من العقل و الدين بطلانه، بل لو كان ذلك موجبة تامة لكان في أمر اللّه و نهيه أشدّ و هو باطل قطعا، لذلك تقوم الحجّة بهم للّه علي النّاس، فمن أطاعهم كان ناجيا و من عصاهم و خذلهم و قتلهم علي دعوتهم إلي اللّه كان هالكا و خالدا في العذاب الأليم.
الآلوسي و التشيع، ص: 363
أما كونهم منتصرين علي العباد دائما و ظاهرين عليهم أبدا و قاهرين لهم علي فعل الطاعة و ترك المعصية التي أناطها اللّه تعالي بالاختيار فلا شي‌ء منه بمأخوذ في مفهوم اللّطف إطلاقا، بل القهر و الجبر علي ذلك خلاف اللّطف و خلاف الرحمة و المنّة عليهم و هو قبيح منزّه عنه و يستحيل وقوعه منه و لا يجوز نسبته إليه مطلقا، كما أن اشتراط التصرف دائما و الانتصار و الظهور أبدا في مفهومه موجب لأكبر المفاسد و أعظمها المغالاة فيهم و اتخاذهم آلهة من دون اللّه، لأنهم إذا كانوا ظاهرين أبدا و منتصرين دائما بما أعطاهم اللّه من المعجزات أيقنوا أنهم أرباب و آلهة، و ليس هذا من اللّطف في شي‌ء.
و لقد فات الآلوسي أن يستمع إلي قول الشاعر العربي:
و لو أنّهم فيما لهم من معاجز علي خصمهم طول المدي لهم النّصر
لغالي بهم كلّ الأنام و أيقنوا بأنّهم الأرباب و التبس الأمر
لذلك طورا ظافرين تراهم و آخر فيهم ينشب النّاب و الظفر

فساد لزوم التأييد و الانتصار في معني اللطف

تاسعا: بقوله: «إذا لم يكن التأييد في البين و الإنتصار أبدا لم يكن لطفا».
فيقال فيه: إن أراد أن إرسال الأنبياء عليهم السّلام و نصب الخلفاء بعدهم يهدون العباد إلي- الحقّ و ينهونهم عن الضّلال ليس بلطف من اللّه عليهم و لا رحمة لهم لزمه إن يقول أن اللّه تعالي بذلك كلّه كان لاعبا عابثا، لأن ذلك إن لم يكن لطفا و رحمة فيما بقي إلّا أن يكون عبثا و نقمة، و إن أراد أنه ليس بلطف و لا رحمة للأنبياء عليهم السّلام و الأئمة لأنهم مقهورون و مغلوبون من قبل أعدائهم و مخالفيهم و غير منتصرين علي خصمائهم و غير مؤيدين دائما لزم الآلوسي أن يقول إنّ اللّه تعالي أراد بذلك أن ينتقم من أنبيائه و خلفائهم عليهم السّلام و ما أراد لهم الرحمة و ما كان لطيفا بهم، و أنه لو كان يريد لهم الرحمة أو اللّطف لجعلهم منصورين أبدا و غالبين دائما كما يزعم الخصم الّذي يلقي كلامه و هو لا يدري أو يدري بما ينطوي عليه من الطعن في اللّه و الكفر به.
الآلوسي و التشيع، ص: 364
فظهر من ذلك كلّه أن اعتبار شرط الانتصار دائما و الغلبة أبدا في تحقق اللّطف شي‌ء اخترعه المنافقون الّذين يقولون في اللّه تعالي إنه أراد الانتقام من أنبيائه و خلفائهم، و ما أراد لهم الرحمة و لم يكن لطيفا بعباده بل كان ظلوما غشوما تعالي عما يقول المنافقون لأنهم مغلوبون مقتولون و مقهورون و مخذولون من أعدائهم و مخالفيهم- كما يزعم الخصوم-: أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَي اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ
[الأعراف: 169].
ثم إن ما ابتلي به اللّه تعالي نبيّه أيوب عليه السّلام و غيره من الأنبياء عليهم السّلام- كان علي زعم هذا الخصم العنيد- أنه تعالي أراد الانتقام منه لأنه لا عوض علي زعمه، و كذا الحال في يوسف و يعقوب عليه السّلام و غيرهما من الأنبياء عليهم السّلام الماضين، فإن منهم من قتلوه قتلا، و من نشروه بالمناشير، و من ذبحوه ذبحا، و من طبخوه طبخا، و من رسّوا عليه الأرض رسّا، و كان بنو إسرائيل يقتلون في كلّ ليل إذا يغشي أو نهار إذا تجلّي عدا كبيرا من أنبياء اللّه تعالي، و قد استعملت معهم أممهم كلّ ألوان التحقير و العذاب و الإهانة و الاضطهاد إزاء دعوتهم إلي اللّه تعالي و هدايتهم إلي سبيل الهدي و طريق الرشاد، و كان أعظمهم أذي في ذات اللّه هو نبيّنا خاتم الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حتي
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت)
و هذا معلوم لدي كلّ أحد، فعلي قول الخصوم إنه تعالي لم يرسل الأنبياء عليهم السّلام إلّا لينتقم منهم و ما جعل خلفاءهم بعدهم خائفين مقهورين مغلوبين مستترين إلّا ليلعب و يعبث و ينتقم منهم أيضا- تعالي اللّه عمّا يصفون-.
و لو عرف الخصم بما في ذلك من اللّطف العظيم و الثواب الأوفي و الرحمة الواسعة و الدرجات الرفيعة و المقام المحمود عند اللّه، و ما أعدّه لهم من عظيم الزّلفي لعاد أخيرا إلي كلامه و محاه بالماء الّذي يتقطر من جبهته خجلا.

تخويف النّاس للأئمة معلوم بالضرورة

قال الآلوسي ص: (82): «و أيضا ما ذكروه من تخويف النّاس للأئمة غير مسلّم و هذه كتب التأريخ في البين، و أيضا التخويف الموجب للاستتار إنّما هو إذا
الآلوسي و التشيع، ص: 365
كان بالقتل و هذا لا يتصور في حقّ الأئمة لأنهم يموتون باختيارهم كما أثبت ذلك الكليني في الكافي، و أيضا لا يفعل الأئمة أمرا إلّا بإذنه تعالي، فلو كان الاختفاء بأمره و قد مضت مدّة و الخفاء هو الخفاء فلا لطف بلا امتراء، و أيضا إن كان واجبا لزم ترك الواجب في حقّ الّذين لم يكونوا كذلك كزكريا و يحيي و الحسين عليهم السّلام و إن لم يكن واجبا بأن كان مندوبا لزم علي من اختفي ترك الواجب الّذي هو التبليغ لأجل مندوب و هو فحش، و إن كان أمر اللّه مختلفا بأن كان في حقّ التاركين بالندب مثلا و في حقّ المستترين بالفرض لزم ترك الأصلح الواجب بزعم الشيعة و هذا باطل أيضا.
نقول: الاختفاء من القتل نفسه محال لأن موتهم باختيارهم و إن كان من خوف إيذاء البدن يلزم أن الأئمة فرّوا من عبادة المجاهدة و تحمّل المشاقّ في سبيله و هذا بعيد عنهم، و مع هذا لا معني لاختفاء صاحب الزمان عليه السّلام بخصوصه فإنه ليعلم باليقين أنه يعيش إلي نزول عيسي عليه السّلام و لا يقدر أحد علي قتله، و إنه سيملك الأرض بحذافيرها فأي شي‌ء يتخوف منه و يختفي، و لم يظهر الدعوي و يتحمل المشقّة كما فعله سيّد الشهداء عليه السّلام فالاختفاء مناف لمنصب الإمامة الّذي مبناه علي الشجاعة و الجرأة، فهلّا خرج و صبر و استقام إلي أن ظفر، و استتار سيّد الأبرار من خوف الكفار فكلام واقع في غير موقعه لأن استتاره لم يكن لإخفاء دعوة النبوّة بل كان من جنس التورية في الحرب و هذا أيضا كان ثلاثة أيام فقياس ما نحن فيه عليه غاية حماقة و وقاحة … انتهي».
المؤلف: أولا: قوله: «و أيضا ما ذكروه من تخويف الناس للأئمة غير مسلّم».
فيقال فيه: لقد علم المسلم و الكافر و البر و الفاجر و العالم و الجاهل أن بني أمية و أمراء بني العباس و ولاتهم الظالمين المفسدين في الأرض قد أخذوا علي الأئمة من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أطراف الأرض و آفاق السّماء، و لم يراعوا فيهم إلّا و لا ذمة و لا احتراما لحقوقهم و لا رعاية لحرمتهم، بل استعملوا معهم كلّ أنواع التحقير و التذليل و القتل و الإهانة حتي أتوا علي آخر نفس من أنفاس حياتهم
الآلوسي و التشيع، ص: 366
الزكية، و أنزلوا بهم من الأمر الشنيع و الخطب الفظيع ما يملأ قلوب الإنسانية قيحا، و يفجّر عيونها دما.
و بكلمة واحدة يعرف كلّ أحد أنه ما مات منهم أحد حتف أنفه و ما منهم إلّا مسموم أو مقتول، فدونك السير و التواريخ لمن جاء علي ذكرهم من خصوم الشيعة لتعلم ثمة كذب هذا الخصم المنتصر لأعداء أهل البيت عليهم السّلام بقلبه و لسانه و قلمه، و أن ما زعمه من عدم تخويف النّاس لهم عليهم السّلام افتراء لا أصل له.
و كيف يا تري لا يلتجئون إلي الاختفاء خوفا من أعدائهم الأمويّين و العباسيّين من أسلاف الآلوسي الّذين كانوا يتقربون إلي أوثانهم بسفك دمائهم حتّي لو أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أوصاهم بقتلهم و نهبهم و تحقيرهم و تذليلهم لما تجاوز ذلك عمّا فعلوا بهم و ارتكبوا منهم، فكيف يزعم هذا العدو دفاعا عن أئمته بغاة صفين و الدعاة إلي النار أنهم لم يخوفوا أهل البيت عليهم السّلام بشي‌ء و لم ينالوهم بسوء، و ما ذا يا تري يريد الآلوسي بعد هذا كلّه أن يصنعوا معهم حتي يشفي غليله و يلين أعاليه، فإن القوم لم يتركوا شيئا إلّا فعلوه مع أهل البيت عليهم السّلام من القتل و السلب و الأسر و الهتك و الاستبداد كما تحدّثنا بذلك سلسلة الحوادث التأريخية التي اتصل أولي حلقاتها بأولهم و آخرها بآخرهم.

الموت غير القتل

ثانيا: قوله: «أيضا التخويف الموجب للاستتار إنما هو القتل، و القتل لا يتصور في حقّ الأئمة لأنهم يموتون باختيارهم»، فمدخول لوجهين:
الأول: إن إبطال حياة الحيّ الناشئ عن القتل بالسيف و نحوه غير الموت حتف الأنف، و لا يلزم من وجود إحداهما وجود الآخر بدليل قوله تعالي: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
[آل عمران: 144] و قوله تعالي: ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا
[آل عمران: 156] و قوله تعالي: وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ
[آل عمران: 158].
و ليس من الجائز أن يكون التأكيد و التكرير في اللّفظين: (الموت و القتل) يرجعان إلي معني واحد عند أهل العربية، فلا يصح حمل القرآن عليه لاستلزامه
الآلوسي و التشيع، ص: 367
أن يكون المعني في الآيات هكذا: (أ فإن مات أو مات) (و لئن متم أو متم) (ما ماتوا و ماتوا) مع ما فيه من تحصيل الحاصل الباطل، و لأنّا نعلم بأن اللّه تعالي ليس قاتلا لمن مات حتف أنفه، ألا تري إلي العقلاء أنهم يعيبون القائل في ميّت أن اللّه قتله و يحكمون بخطئه.
و أما القتل المسند إلي اللّه تعالي في قوله: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّي يُؤْفَكُونَ
[التوبة: 30] فيعني اللّعن الإلهي الّذي هو عبارة عن الطرد علي وجه السخط و الغضب عن رحمته و هو الّذي يقتضيه واقع الحال في الآية.
و لأن الموت و القتل عرضان و ليسا جسمين، و القتل وليد الأسباب الخارجية و محلّه حياة أجسام الأحياء و الموت معني يخالف حياة الحيّ فلا يصح حلوله في الأجسام، و لأن القتل مقدور للخلق و الموت من خلق اللّه كالحياة لا يقدر عليه أحد إلّا اللّه بدليل قوله تعالي: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ
[الملك: 2] أما كون الأئمة لا يموتون إلّا باختيارهم كما هو مفاد الخبر فإنه يريد أنهم يموتون حتف أنفهم باختيارهم تكرما من اللّه تعالي عليهم و لا محذور فيه إطلاقا، أما القتل الّذي هو من فعل الآدميّين فليس في الخبر شي‌ء يدلّ علي أنه باختيارهم و لا جائز أن يريده، لأن ما هو من فعل الآخرين و اختيارهم لا يمكن أن يكون من اختيار غيرهم مطلقا.
و بعبارة أوضح: أن صريح الخبر أنهم يموتون باختيارهم لا أنهم يقتلون و لا ملازمة بينهما، و ثبوت أحدهما لا يلزم منه ثبوت الآخر، و المسبب فيهما و إن كان واحدا لكن السبب في الأول غيره في الثاني، و صريح الخبر يريد المسبب المسند إلي الإختيار الناشئ عن حتف الأنف دون الناشئ عن الذبح و القتل، و لا تلازم بين السببين بل هما علي نحو التضادّ لذا كان القتل بغير حق جريمة موبقة يستحق فاعله القصاص إذا كان عن عمد و عليه الديّة إن كان عن خطأ، و لو كان من فعل اللّه و خلقه لم يجب شي‌ء من ذلك إطلاقا و تلك قضية الموت حتف الأنف.
الثاني: إن المراد باختيارهم في الخبر هو ما يختاره اللّه تعالي لهم لأن اختيارهم عليهم السّلام من اختياره تعالي فيكون معناه موافقا لقوله تعالي: وَ ما تَشاؤُنَ
الآلوسي و التشيع، ص: 368
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
[الإنسان: 30] و يقرر هذا
قول الإمام أبي عبد اللّه الحسين بن عليّ عليه السّلام: (رضا اللّه رضانا أهل البيت، نصبر علي قضائه فيوفينا أجور الصّابرين).
و إن كنت في ريب مما ذكرنا فدونك ما أخرجه المحبّ الطبري في الرياض النضرة ص: (165) من جزئه الثاني
في حديث طويل جاء في آخره: يا أحمد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم- المتكلم ملك الموت عزرائيل عليه السّلام- ما فعل ابن عمك عليّ، فقلت: و هل تعرف ابن عمّي عليّ؟ قال: و كيف لا أعرفه و قد وكّلني اللّه بقبض أرواح الخلائق ما خلا روحك و روح ابن عمّك عليّ بن أبي طالب فإن اللّه يتوفاكما بإرادته و اختياره انتهي)
نقل بعضه بالمعني، و حال أبنائه المعصومين كحاله عليه السّلام لأنهم لا يختارون غير ما يختاره اللّه لهم و رضا اللّه رضاهم، و هم بأمره يعملون و إلي سبيله يرشدون.
ثالثا: قوله: «و أيضا لا يفعل الأئمة إلّا بإذنه، فلو كان الاختفاء بأمره و قد مضت مدّة».
فيقال فيه: المسلمون لا يشكون في أن الأئمة لا يفعلون شيئا إلّا بأمر اللّه و لا يشك به إلّا الجاحدون، و كيف يفعلون خلاف أمره و هم خلفاؤه في أرضه و حججه علي بريته، و هذا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يفعل شيئا إلّا بأمر اللّه قد نصبهم أئمة عليهم السّلام علي أمته و جعلهم أعدال كتاب اللّه لا ينفكون عنه ما دامت الدنيا، و من كان لا يفارق القرآن معصوم و المعصوم لا يفعل خلاف أمر اللّه و نهيه فلا يجوز علي من كان في وجوب التمسك به ككتاب اللّه أن يريد غير ما أراد اللّه، فلو جاز عليهم خلافه لفارقوا القرآن قطعا إذ لا شي‌ء من القرآن مخالفا لأمره بل هو لا غيره، و قد ثبت بحكم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عدم مفارقتهم لكتاب اللّه فعلمنا أنهم عليهم السّلام لا يخالفونه أبدا.

إنما يجب الاختفاء عند حصول موجبه

رابعا: قوله: «و أيضا إن كان واجبا- أي الاختفاء- لزم ترك الواجب في حقّ الّذين لم يكونوا كذلك».
الآلوسي و التشيع، ص: 369
فيقال فيه: لا يجب الاختفاء إلّا عند حصول موجبه، و من حيث لم يتحقق ذلك في الّذين لم يختفوا علمنا عدم وجوبه عليهم لانتفاء موجبه فلا يلزم من تركهم الاختفاء تركهم للواجب- علي زعم الخصم- و كيف يخاف من خرج بأهل بيته و أصحابه قاصدا العراق من الطريق العام حتي قيل له: لو تنكبت الطريق كما فعل ابن الزبير لكان أولي،
فقال عليه السّلام: (لاها اللّه لا يكون ذلك أبدا)
و نسبة الخوف إليه إنّما هو من مفتريات الآلوسي الّذي يروم أن يستحلّ من سبط النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الإمام الحسين بن عليّ عليه السّلام ما حرّم اللّه من نسبة ترك الواجب إليه و هو ترك الاختفاء عند حصول موجبه الأمر الّذي لم يحصل له إطلاقا، علي أن لكلّ إمام من أولئك الأئمة عليهم السّلام كالأنبياء عليهم السّلام تكليفا يخصّه، و له مخططا خاصا خطّه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم له ليسير عليه، فلا يصح بطبيعة الحال قياس أحدهما علي الآخر في شي‌ء لانتفاء علّة المساواة بين هذا و ذاك.
خامسا: قوله: «و أيضا نقول الاختفاء من القتل نفسه محال، لأن موتهم باختيارهم».
فيقال فيه: قد عرفت فيما ألمعنا فساد ما كرره هنا، و أنه لا تلازم بين القتل و الموت حتف الأنف، و أن ما في الخبر هو عين ما في كتاب اللّه فتبصر لتبصر أن الآلوسي لم يقصد بتكرار مزاعمه الفارغة إلّا تضخيم حجم كتابه ليقال فيه إنه ردّ علي الشيعة بكتاب عدد ورقه كذا، دون أن يشعر إلي أنه لم يأت بغير الأشياء المكررة و المعاني غير الصحيحة التي لا تخطر إلّا علي ذهنه هو.

تناقض الآلوسي في قوله لا معني لاختفاء صاحب الزمان عليه السّلام

سادسا: قوله: «لا معني لاختفاء صاحب الزمان، فإنه يعلم أنه يعيش إلي نزول عيسي عليه السّلام».
فيقال فيه: إنه مردود من وجوه:
الأول: قد أثبتنا بمقتضي الأحاديث أن أهل البيت عليهم السّلام لا يفعلون شيئا إلّا بأمر اللّه تعالي و لا يريدون غير ما يريد اللّه، و قد اعترف الخصم بحديث الثّقلين
الآلوسي و التشيع، ص: 370
و أنه مما لا خلاف فيه بين الأمة، و لكن لما جهل معناه طفق يزعم هنا و هناك أنه لا معني لاختفاء صاحب الزمان عليه السّلام.
أيها القارئ إذا كان هذا الآلوسي يعترف بصحة الحديث و صحة مضمونه فكيف يزعم أنه لا معني لاختفائه، و الحديث نصّ في أن أهل البيت عليهم السّلام لا يفعلون شيئا إلّا بإذنه، و إذا كان يعترف و يقول كما تقدم أن أهل البيت عليهم السّلام مصيبون في أفعالهم و أعمالهم لأنهم مع القرآن و القرآن مصيب فكيف يا تري ينتقدهم و يقول لا معني لاختفاء قائمهم، و هل هذا إلّا قول متناقض مبطل يعترف بثبوت شي‌ء ثم هو ينفي عين ما يعترف بثبوته، و هذا حاله في جميع ما جاء به من المتناقضات نعوذ باللّه من الجهل و اختلال العقل.
الثاني: هل لنا أن نسأل الآلوسي فنقول له: إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان يعلم أن المشركين لا يصلون إليه و لا يستطيعون قتله، و أنه سيظهر علي قريش و يعيش سنين طويلة و لا يموت إلّا في اليوم الّذي يموت فيه، أو ما كان يعلم ذلك؟ فإن قال: يعلم، فيقال له: فلما ذا إذن اختفي في الغار و خرج ليلا و أمر عليّا عليه السّلام أن ينام علي فراشه و يقيه بنفسه و هو يعلم أن المشركين لا يصلون إليه بشي‌ء من الأذي، فإن قال: كان ذلك بأمر اللّه، قلنا: الجواب هو الجواب، لأن أهل البيت عليهم السّلام أيضا لا يعملون شيئا إلّا بأمر اللّه- كما مرّ بيانه- و إن قال: لا يعلم، فيقال له: إن ذلك و إن كان خلاف الحقيقة فنقول به في ابنه صاحب الزمان عليه السّلام أيضا.
الثالث: نقول لهذا الخصم: أ تري أن اللّه تعالي كان يعلم أن فرعون لا يستطيع أن يقتل موسي عليه السّلام و لا يناله بسوء، و أن هلاك فرعون سيكون بسببه و لا يموت إلّا بعد ذلك بمدّة أو ما كان يعلم؟ فإن قال: كان يعلم، فيقال له: فلما ذا إذن أمر أم موسي عليه السّلام بقذفه في اليم و هو يعلم أنه لا يصل إليه شي‌ء مما يخاف منه عليه من فرعون سواء ألقي في اليم أم لم يلق؟ فإن قال: كذلك كان أمر اللّه مفعولا، فيقال له: كذلك كان أمر اللّه في صاحب الزمان مفعولا، و إن قال: ما كان اللّه يعلم، فقد كفر و كفانا مؤنة الردّ عليه، و لقد فات الآلوسي أن يتمثل بقول الشاعر العربي.
الآلوسي و التشيع، ص: 371
و قولك إنّ الاختفاء مخافة من القتل شي‌ء لا يجوّزه الحجر
فقل لي لما ذا غاب في الغار أحمد و صاحبه (الصدّيق) إذ حسن الحذر
و لم أمرت أمّ الكليم بقذفه إلي نيل مصر حين ضاقت به مصر
و كم من رسول خاف أعداه فاختفي و كم أنبياء من أعاديهم فرّوا
أ يعجز ربّ الخلق عن نصر دينه علي غيرهم كلّا فهذا هو الكفر
و هل شاركوه في الّذي قلت إنّه يؤول إلي جبن الإمام و ينجر
فإن قلت هذا كان فيهم بأمر من له الأمر في الأكوان و الحمد و الشّكر
فقل فيه ما قد قلت فيهم فكلّهم علي ما أراد اللّه أهواؤهم قصر
و من جميع ما تلوناه عليك تعرف فساد ما أدلي به الخصم في كتابه الذي يلقاه يوم القيامة منشورا: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفي بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
[الإسراء: 14].
مهلا أيها الآلوسي و لا تبتهج بما سوّدت به صحيفة أعمالك فإن ما أوردته من الوجوه حجّة لنا عليك لا لك، و الحقّ يدوم و إن طالت الأيام و الباطل مخذول و إن نصره أقوام، و هيهات هيهات أن تستر السّماء بالأكمام و الحقّ أضحي من ذكاء و أجلي من شمس الضحي.

وجوب الاستتار ما دام موجبه موجودا مطلقا

سابعا: قوله: «لأن استتار النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في الغار لم يكن لإخفاء دعوة النبوّة».
فيقال فيه: إذا جاز للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الاختفاء خوفا من أعدائه جاز لابنه المهدي عليه السّلام أن يختفي خوفا من أعدائه لكونهما واحدا موضوعا فيكونان واحدا حكما.
و أما قول الآلوسي: «لم يكن الاستتار لإخفاء دعوة النبوّة» فخارج عن الموضوع، لأن الكلام كان في جواز الاختفاء خوف الأعداء و دعوة النبوّة و الإمامة لا تخفي باختفائهما البتة، فلا يكون الاختفاء سببا لذهاب الدعوة و لذهاب الإمامة حتّي يقال إن الاختفاء لم يكن لإخفاء الدعوة علي زعم الخصم.
الآلوسي و التشيع، ص: 372
ثامنا: قوله: «و هذا كان أيضا ثلاثة أيام فقياس ما نحن فيه غاية حماقة و وقاحة».
فيقال: إذا كان الاختفاء واجبا عند ظهور الخوف من الأعداء كما اعترف به الخصم، فالعقلاء لا يفرّقون في وجوبه بين أن يكون يوما أو يومين أو أكثر و إنما يدوم وجوبه بدوام ما وجب الاختفاء لأجله، فمتي ما كان الموضوع الّذي من أجله رتب عليه ذلك الحكم باقيا فحكمه لا محالة باق لا يزول إلّا بزواله و لا يرتفع إلّا بارتفاعه، و هذا واضح عند كلّ إنسان له عقل يميّز به بين السرّاء و الضرّاء، فظهر لك جليا أن ما حاول الآلوسي أن يجعله دليلا علي إنكار وجوب الاختفاء عند ثبوت موجبه و استمرار بقائه ببقائه الّذي أراد من ورائه أن يجحد لطف اللّه و نعمه علي عباده كان من أظهر الشواهد علي فساد طريقته المعوجّة، و أن السّهم الّذي رمي به خصمه عاد إلي أحشائه.

فساد ما زعمه الآلوسي أنه هو و أخوه الهندي من أهل الجنّة

تاسعا: قوله: «و تفكر في هذا المقام تري الفلاح و أن الحق عند أصحاب الجنّة و أهل السّنة».
فيقال فيه: إنه إن أراد من أهل السنّة أنه هو و أخوه و الهندي و غيرهما فقد عرفت لا مرّة أن عملهم كان علي خلاف السنّة، و أنهم ما برحوا متمسكين بغيرها و متجاوزين عنها و منقطعين إلي ضدّها، فلا يصح و الحالة هذه أن يكونوا منهم إطلاقا، و إن أراد بها أهل الجنّة فهم لا شك قليلون: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ
[سبأ: 13] و قد ألمعنا فيما مرّ منّا أن المقصود بهذا القليل في منطوق الآية هم الشيعة الّذين تابعوا أهل البيت عليهم السّلام من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لأنهم مسلمون و هم قليلون، فلا تنطبق الآية إلّا عليهم و لا مصداق لها سواهم لخروج الآلوسي و غيره من خصوم الشيعة بوصف الكثرة عن مدلولها كخروج غيرهم من الطوائف بوصف الكفر عنها، و لا قليل من المسلمين الشاكرين إلّا الشيعة بالنسبة إلي أعدائهم فهم لا شك أصحاب الجنة.
الآلوسي و التشيع، ص: 373

نفي الآلوسي اشتراط العصمة في الإمامة

قال الآلوسي ص: (84): «العدالة شرط الإمامة لا العصمة بمعني امتناع صدور الذنب كما في الأنبياء عليهم السّلام خلافا للشيعة الإمامية و هو مخالف للكتاب و العترة، أما الكتاب فقوله تعالي: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً
[البقرة: 247] فكان واجب الطاعة بالوحي و لم يكن معصوما بالإجماع … ثم أورد بعض الآيات من هذا القبيل و بعض الأحاديث المكذوبة و نسبها إلي الشيعة، ثم قال:
«و أدلّتهم هو أن المحوج للنصب هو جواز الخطأ للأمة فلو جاز الخطأ عليها لزم التسلسل، و يجاب بمنع ما ذكر بل المحوج له هو تنفيذ الأحكام و درأ المفاسد و حفظ بيت الإسلام سلمنا، لكن التسلسل ممنوع بل تنتهي السلسلة إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم سلمنا لكنه منقوض بالمجتهد النائب عن الإمام في الغيبة عند الإمامية و ليس بمعصوم إجماعا، و من أدلتهم أنه حافظ للشريعة، و يجاب: بالمنع بل هو مروج و الحفظ من العلماء و أيضا، إذا كان الحفظ بالعلماء زمن العترة و في الغيبة علي ما في كشكول الكرامة ففي الحضور كذلك سلّمنا، لكن الحفظ بالكتاب و السنّة و الإجماع لا بنفسه ممتنع الخطأ في هذه الثلاثة و الآراء لا دخل لها سلّمنا، و لكن ذلك منقوض بالنائب، و قد يقال: بأن وجود المعصوم لو كان ضروريا للأمن من الخطأ لوجب أن يكون في كلّ قطر بل في كلّ بلدة إذ الواحد لا يكفي للجميع بل هو مستحيل ببداهة العقل، لانتشار المكلفين في الأقطار و الحضور مستحيل عادة و نصب نائب لا يفيد لجواز الخطأ و عدم إمكان التدارك لا سيّما في الغيبة … إلي نهاية ما قاله».
المؤلف: أولا: قوله: «و هو مخالف للكتاب».
فيقال فيه: إنما خالف الكتاب من نسب إلي الأنبياء عليهم السّلام العظائم، و عزا إليهم المخازي و المرديات، و أجاز عليهم الكفر و العصيان دون الّذين اتّبعوا آياته و تلوا نصوصه، و اقتفوا أثره و نزّهوا أنبياء اللّه تعالي من وصمة الكذب و الخطأ و النسيان و العصيان و هم الشيعة لا غيرهم.
الآلوسي و التشيع، ص: 374
و أما قوله: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ
فأوضح دليل علي جهله و بهتانه لأن ما أورده من الآيات في هذا المقام فمع أخصيته من المدّعي لا دلالة في شي‌ء منه علي نفي العصمة مطلقا، فكيف يكون دليلا علي نفيها عن الأئمة عليهم السّلام و لو سلّمنا جدلا دلالته علي عدم عصمة طالوت فأيّ ربط يا تري بين عدم عصمته و بين عصمة الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام ألا تري أن الآية لا تدل علي وجود هذه الصفات في آخرين غيره، و عدم عصمة طالوت لو سلّمناه لا يدل علي انتفاء العصمة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام و دعواه أن طالوت كان واجب الطّاعة بالوحي مناقضة لدعواه عدم عصمته، لأن من تجب طاعته بالوحي لا يكون إلّا نبيّا و النبيّ عليه السّلام لا يكون إلّا معصوما علي ما اعترف به هذا المتناقض بقوله:
(العصمة بمعني امتناع صدور الذنب كما في الأنبياء عليهم السّلام).
فالآلوسي أما أن يقول بعصمة طالوت لوجوب إطاعته بالوحي أو يقول بعدم عصمته، فإن قال بالأول- و هو قوله- بطل قوله الثاني الّذي ادّعي الإجماع عليه، و إن قال- بالثاني و هو قوله- بطل قوله الأول، و لو سلّمنا جدلا أن طالوت لم يكن نبيّا يوحي إليه و لكن وجوب طاعته علي الإطلاق بتنصيص نبيّ آخر عليه موجب لعصمته، و إلّا لم تجب طاعته مطلقا، و لما وجبت طاعته مطلقا علمنا أنه معصوم و حسبك هذا التناقض دليلا علي فساد قوليه.
و إذا راعك منه هذا التناقض فإليك ما أدلي به فيما مرّ من قوله: (أن أهل البيت عليهم السّلام مصيبون في أفعالهم) فإذا كانوا مصيبين في أفعالهم كانوا معصومين إذ ليس المعصوم إلّا من كان مصيبا في أفعاله مطلقا، و تلك قضية الظاهر المستفاد من إطلاق كلامه، و لكن سرعان ما نقض قوله هنا فزعم عدم عصمتهم، و لتكن علي يقين أن الآلوسي لمّا لم يجد دليلا من الكتاب و السنّة علي نفي العصمة عن أهل البيت عليهم السّلام و علم قطعا أنهم عليهم السّلام معصومون بنصّ الكتاب و السنّة كما مرّ عليك بيانه مفصلا، و لم يستطع أن يعتق رقبته من رق التقليد لتأثره بالعاطفة و انقياده إلي العصبية البغيضة عمد إلي التمويه و المغالطة فأورد بعض الآيات فنصبها أدلة في غير محلّها كما هو الظاهر لمن نظر إليها و عرف وجه دلالتها، و ما
الآلوسي و التشيع، ص: 375
أوردناه لك من آية (طالوت) التي اعتبرها دليلا علي نفي العصمة عن أهل البيت عليهم السّلام شاهد عدل علي ما نقول.
ثم إن الإجماع الّذي ادّعاه علي عدم عصمة طالوت لم يكن إلّا من مخترعاته و اختلاقه، و مثله لو كان من المحصل لكان الإحتجاج به علي إثبات المدّعي ساقط لا حجّة فيه، فكيف به و هو منقول خاصة و الناقل له متهم لدي الوجدان في نقله بالكذب و الافتراء.

رجوع الآلوسي في قوله إلي القول بعصمة الإمام عليه السّلام

ثانيا: قوله: «إن المحوج للإمام هو تنفيذ الأحكام».
فيقال فيه: إن تنفيذ الأحكام- أحكام اللّه المتعلقة بأفعال المكلّفين- يجب أن تكون علي الوجه الّذي أمر اللّه تعالي بها و جاء بها رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هذا بعينه رجوع من الخصم إلي القول بوجوب عصمة الإمام، و لكن لما كان الآلوسي ينقل مفاسد الآخرين و مناقضاتهم في هذا الكتاب من غير تفكير لم يهتد إلي تناقضه في قوله، و ذلك لأن غير المعصوم قد يخطئ و قد يجور فيكون تنفيذه لها علي غير ما أراد اللّه و غير ما جاء به رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و التالي باطل فالمقدّم مثله، فإذا بطل هذا ثبت وجوب عصمته علي الإطلاق.
ثالثا: قوله: «و الحاجة إليه لدرء المفاسد و حفظ بيت الإسلام».
فيقال فيه: إنه فاسد من وجهين:
الأول: هلا حافظ (الخليفة) عثمان بن عفان (رض) علي بيت الإسلام، و لما ذا يا تري قسّم أمواله علي بني عمه من الأمويّين و صرفها في أغراضهم و أغراض نفسه؟ و أيّة مفسدة أعظم من استيلاء بني أمية علي أموال المسلمين و رقابهم من المهاجرين و الأنصار أهل الحلّ و العقد- عند خصوم الشيعة- الذين وثبوا عليه حينئذ فقتلوه و منعوا الناس من دفنه، فلو كان معصوما لم يقع منه كلّ هذا.
الثاني: لو جاز علي الإمام الخطأ لوقع منه الفساد كما وقع غير مرة من المستخلّفين بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الآلوسي يعترف أن الحاجة إليه لدرء المفاسد
الآلوسي و التشيع، ص: 376
فتنتفي الفائدة من نصبه، لأن غير المعصوم قد يخطئ و قد يجور فتقع منه المفاسد، فمن يا تري يزيل مفاسده إن لم يكن ثمة إمام معصوم.

عدم مانعية الاجتهاد و العدالة من ضياع الشريعة

رابعا: قوله: (بل الاجتهاد و العدالة).
فيقال فيه: كان علي الآلوسي أن يفكر في مقاله قبل إيراده ليري أن الاجتهاد لا يغني صاحبه من حفظ نفسه عن الخطأ، فكيف يمكنه أن يغني من حفظ الشريعة عن الضياع، فإن المجتهد قد يخطئ فيؤدي خطؤه إلي تفرّقها و تلاشيها لا حفظها و رعايتها.
أما العدالة التي هي دون مرتبة العصمة فلا تجدي نفعا، لأن العادل قد يجور خطأ فيصرف أموال بيت الإسلام في أغراض نفسه، و يقيم الحدود في غير محلّها، و يتركها في موضعها بالاجتهاد كما فعل ذلك عثمان بن عفان (رض) الّذي يقول الخصم باجتهاده، فالعصمة لا بدّ منها في الإمام و لا محيص عن القول بها فيه.

بطلان قول الآلوسي بانتهاء المتسلسل إلي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

خامسا: قوله: (سلّمنا لكن التسلسل ممنوع لانتهاء السلسلة إلي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم).
فيقال فيه: أنه فاسد من وجوه:
الأول: إن انتهاء السلسلة إلي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم باطل، لأن الآلوسي يزعم عدم عصمة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أنه يجوّز عليه الزلّات و الخطأ و النسيان كما تقدم نقله عن صحيح البخاري، و اعتراف الخصم بثبوت الزلّات له صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
الثاني: كان بحثنا في أن الحاجة لنصب الإمام هو جواز الخطأ من الأمة فلو جاز الخطأ من الإمام لاحتاج إلي إمام آخر فيلزم التسلسل، فلا بد من انتهائه إلي إمام لا يجوز عليه الخطأ و هو الإمام في الأصل، و ما كان بحثنا في النبوّة التي هي غير الإمامة حتّي يزعم الآلوسي بانتهاء السلسلة إلي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و كم من فرق بين الموضوعين، موضوع النبيّ و موضوع الإمام الّذي يدركه من يفهم.
الآلوسي و التشيع، ص: 377
الثالث: إنّ التسلسل هو وجود سلسلة المعلولات المتعددة في الأزمنة المتعددة قبل وجود عللها و هو محال عقلا كتوقف وجود زيد علي وجود بكر و بكر علي خالد إلي ما لا نهاية له في الوجود، و لا شكّ في أن وجود فعلية الإمامة موقوف علي فقد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا علي وجوده، فكيف يصح أن تنتهي السلسلة إليه بعد فقده، و الإمام لو لم يكن معصوما لوجب أن يكون له إمام آخر موجود لا مفقود، فيخرج ما ذكره عن موضوع التسلسل أصلا و فرعا، لأن أحد الموقوف عليه مفقود و الآخر موجود، و شرط التسلسل الترامي في الوجود إلي ما لا نهاية له و هو هنا لا وجود له إطلاقا، و لكن خلط الرجل و خبطه بين الموضوعين و عدم تميّيزه بين النبيّ و الإمام، و عدم فهمه لمورد التسلسل، و أنه في أي شي‌ء يكون و متي يكون دعاه إلي أن يقول: (لكن التسلسل ممنوع لانتهاء السلسلة إلي النبيّ) يروم بهذه القفزة التي كسرت ساقيه أن يمنع هذه السلسلة التي غلّ بها عنقه.

المجتهد غير الإمام فلا ينتقض أحدهما بالآخر

سادسا: قوله: (سلّمنا لكنه منقوض بالمجتهد النائب عن الإمام في الغيبة).
فيقال فيه: أنّه مردود لوجهين:
الأول: إنّ من شروط النقض وحدة الموضوع و المحمول و الزمان و المكان و غيرها من الشروط المعتبرة في تحقق التناقض و هي ثمانية عند علماء المنطق، و المجتهد هو غير الإمام مطلقا سواء في ذلك زمان حضوره أو زمان غيبته، فكيف ينتقض هذا بذاك و بين الموضوعين صغري و كبري و قياسا بون شاسع، و لكن يهون علي الآلوسي أن يلقي الكلام جزافا و يهون عليه أن يمشي و القيد في رجليه.
الثاني: إنّما يجوز الاجتهاد عند تعذر العلم و انسداد بابه و عدم إمكان تحصيله، أما مع إمكان العلم و انفتاح بابه فلا يجوز الركون إليه لأنه من الظنون التي يمنع العقل من الرجوع إليها مع العلم، و إنما أجاز الرجوع إلي الظن مع تعذر العلم لكونه يؤدّي الوظيفة العملية في ذلك الحال و لا سبيل له سواه لا مطلقا و علي كلّ حال.
الآلوسي و التشيع، ص: 378
سابعا: قوله: (إنّ الإمام هو مروج الأحكام و الحافظ العلماء).
فيقال فيه: إن أراد بالعلماء نفسه و من كان مثله فنحن لا نشك في أنهم من الجاهلين، و إن أراد بهم المجتهدين في الأحكام و أنهم حافظون للشريعة من الزيادة أو النقصان و الضياع و الاضمحلال ففيه ما تقدم ذكره من أن المجتهدين قد يخطئون فيؤدي خطؤهم إلي إضاعة الشريعة و إدخال النقص أو الزيادة فيها، و أن اجتهادهم لا يغنيهم من حفظ أنفسهم من الخطأ فكيف يحفظون غيرهم، فإذا كانوا لا يسلمون علي حفظ أنفسهم فكيف يا تري يسلم غيرهم: (و الفاقد لا يعطي و الناقص لا يكمل).

زعم الآلوسي حفظ الشريعة بالكتاب و السنّة و الإجماع

ثامنا: قوله: «سلّمنا لكن الحفظ بالكتاب و السنّة و الإجماع».
فيقال فيه: أمّا الكتاب فهو نفسه يحتاج إلي حافظ و ذلك الحافظ يجب أن يكون معصوما، لأن غيره ينسي و يخطأ فلا يصلح أن يكون حافظا، و لو كان نفسه حافظا من دون قيّم عليه لبطل
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (إنّي تارك فيكم الثّقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، و لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض)
لأنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إنما قرن عترته أهل بيته عليهم السّلام بكتاب اللّه ليكونوا قائمين به، و مبيّنين للناس أحكامه، و حافظين له من تحريف الضالّين و انتحال المبطلين، و القول ببطلان قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كفر و ضلال، و من ثم لا يمكن أن يكون حافظا للشريعة لعدم إتيانه علي كافة الأحكام التفصيلية من صلاة و زكاة و حج و نحوها، و لاشتماله علي الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه.
و غير المعصوم يخطئ فيختلط عليه أمر الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه و لا يهتدي إلي فهم معناه كلّ أحد، و قال تعالي: وَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ
[يس: 12] فلا بد أن يكون هناك إمام مبيّن لغوامضه و أسرار دقائقه و تفصيل أحكامه و ناسخه و منسوخه، و هذا شي‌ء لا يستطيع عليه حتي المجتهدون فضلا عن غيرهم من الجاهلين الّذين يحكمون في الدين بالرأي و الهوي و العصبية
الآلوسي و التشيع، ص: 379
العمياء، و أما السنّة فكذلك لعدم إتيانها علي جميع الأحكام التفصيلية و إلّا لبطل الاجتهاد و فسد القياس المعتبر عند الآلوسي و غيره من خصوم الشيعة، و بطلت المذاهب الأربعة التي يرجع إليها الآلوسي و غيره في أخذ دينهم.
و أما الإجماع فكذلك، لأنه إذا جاز علي كلّ واحد من المجمعين الخطأ جاز الخطأ علي المجموع إن لم يكن ثمة معصوم معهم، و ذلك فإن معناه ضم من يجوز عليه الخطأ إلي مثله في جواز الخطأ عليه فلا عاصم لهذا المركب مع عدم وجود المعصوم فيهم، و لأن إجماعهم ليس لدلالة و إلّا لاشتهرت و لا لإمارة إذ من الممتنع اتفاق الناس في سائر البقاع علي الإمارة الواحدة، إذ لا يمكن اتفاقهم علي أكل طعام معين في وقت واحد كما هو معني الإجماع.
وجهة أخري أن الإجماع عند خصوم الشيعة من الأمور المستحيلة و أنه ليس بالممكن المعقول وجوده بالمرّة علي ما حكاه العضدي في شرحه للمختصر، و البيضاوي في منهاجه، و الآمدي في أصول أحكامه [1].
و حكي عن إمامه أحمد بن حنبل، أنه قال: (من ادعي وجود الإجماع فهو كاذب) و غيرهم من أعلام أهل السنّة في أصولهم، فكيف يكون المستحيل حافظا للشريعة علي زعم هذا الخصم الّذي لم ير شيئا من مقررات أئمته و أعلام مذهبه، ثم إن الموارد التي أجمعوا عليها في المسائل الشرعية قليلة جدا و الموارد التي اختلفت فيها أهواؤهم و آراؤهم كثيرة و قد مرّ عليك بعضها فتذكّر، فكيف يكون حافظا مع هذا الاختلاف الفاحش بينهم، فلو صح أن يكون الإجماع حافظا كما يزعم الآلوسي لحفظهم من ذلك الاختلاف الّذي بدّلوا به الدين و سنن سيّد المرسلين صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أ رأيت كيف يجب أن يكون الإمام هو الحافظ و أنه هو الّذي يجب
__________________________________________________
[1] تجد أقوالهم مفصلا في ص: (282- 284) من جزئه الأول المطبوع سنة (1332 ه)، و حكي ذلك أيضا الصدّيق حسن أحد شيوخ أهل السنّة في كتابه (مطالب الحصول في المأمول من علم الأصول) ص: (43) و ما بعدها المطبوع سنة (1289 ه). و هو تلخيص كتاب (إرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول) للشوكاني، و هكذا سجّله العضدي في شرحه ص: (123) من جزئه الأول المطبوع سنة (1307 ه).
الآلوسي و التشيع، ص: 380
الرجوع إليه ليبيّن للنّاس وجه الصواب فيما اختلفوا فيه و يرشدهم إليه حفاظا علي أمر دينه، و أن علي النّاس أن يخضعوا له و ينقادوا إليه.

زعم الآلوسي أن وجود المعصوم بالضرورة يوجب التعدد في كلّ محل

تاسعا: قوله: (و لو كان وجود المعصوم ضروريا لوجب أن يكون في كلّ محلّ و قطر).
فيقال فيه: من الغريب أن يقول الآلوسي إن وجود المعصوم بالضرورة يوجب تعدده في كلّ قطر بل في كلّ بلدة، ألم أقل لك إنه يلتقط الآراء من هنا و هناك و هو علي غير بيّنة من فسادها، بربك قل لي ما هي الملازمة بين ضرورة وجود المعصوم و بين وجوب تعدده في كلّ قطر، و القرآن يقول: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
[النساء: 59] و عقيدتي أن الأغبياء لا يعسر عليهم فهم ما ينطوي عليه منطوق هذه الآية من وجود من تجب طاعته كطاعة اللّه و طاعة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في كلّ زمان، نعم لا يجوز بنظر الآلوسي أن يكون الواحد كافيا للجميع للتعليل الّذي جاء به: (من انتشار المكلّفين و عدم عصمة النائب) فيلزم علي علّته التي ابتلي بها إما عدم عصمة الأنبياء عليهم السّلام التي اعترف بعصمتهم أو تعدد الأنبياء عليهم السّلام في كلّ قطر بل في كلّ بلدة: (لأن الواحد لا يفيد للجميع بل هو مستحيل ببداهة انتشار المكلّفين و النائب عنه لا يكفي لأنه غير معصوم) علي زعمهم، فالآلوسي إما أن يقول بعدم عصمة الأنبياء عليهم السّلام للتعليل الّذي جاء به من وجوب تعدد المعصوم في كلّ قطر و محلّ إذا كان وجود المعصوم ضروريا و الّذي من أجله حاول مستحيلا إبطال وجوب عصمة الإمام أو يقول بعصمتهم، فإن قال بالأول بطل قوله الثاني و هو اعترافه لهم بالعصمة، و إن قال بالثاني- و هو قوله- بطل تعليله الفاسد من وجوب تعدده في كلّ قطر و محلّ، و أيّا كان فهو دليل علي فساد مزعمته.
ثم نقول للآلوسي: أ تري أن اللّه تعالي ما كان يعلم بانتشار المكلفين في الأقطار و البلدان؟ و ما كان يعلم بكفاية الواحد المعصوم؟ فإن قال: يعلم، فيقال له: فكيف يا تري أرسل محمّدا نبيّا واحدا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ختم به الأنبياء عليهم السّلام فدعا إلي
الآلوسي و التشيع، ص: 381
دينه الحقّ جميع الخلق؟ فهل يا تري توقف ذلك علي أن يرحل بنفسه الزكية صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إلي جميع الأقطار المسكونة ليدعوهم إلي اعتناق دينه و العمل علي تطبيقه؟ أو يا هل تري لم يكتف بنصب النائب و إرسال الداعي عنه مع علمه بعدم عصمة النائب و الداعي، أو يا هل تري كان مقصّرا في تبليغ دعوته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مع عصمته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مطلقا عند المسلمين أجمعين، فإن قال بكفاية الواحد المعصوم و كفاية من ينصّبه عنه من النواب مع علمه بعدم عصمتهم بطل قوله بعدم كفاية الواحد المعصوم، و بطل قوله بعدم كفاية النائب عنه مع علمه بعدم عصمته، و إن قال بأن اللّه تعالي ما كان يعلم بكفاية الواحد المعصوم و ما كان يعلم بكفاية نائبة غير المعصوم فقد جعل نفسه أعلم من اللّه، و هو كفر صراح يكفينا مؤنة الردّ عليه.
و من ذلك تفقه أنّ الرجل يدسّ في الدين الإسلامي من عقائد الوثنية و عبادة البقر ما تأباه الفطرة السليمة و ينبذه التوحيد الخالص.

وجوب النص علي الإمام

قال الآلوسي ص: (85): (الإمام لا يلزم أن يكون منصوصا عليه من البارئ، و قالت الإمامية لا بد أن يكون منصوصا من قبله تعالي، و هذا مخالف للعقل و النقل، أما الأول: فقد مرّ، و أما الثاني: فلقوله تعالي: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً
[الأنبياء: 73] وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَي الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
[القصص: 5] و لم يكن في أحد من تلك الفرق نصّ، بل كان برأي أهل الحلّ و العقد).
المؤلف: لقد ألمعنا فيما تقدم منا إلي أن شرط الإمامة العصمة، و أنها من الأمور الخفية التي لا يطّلع عليها إلّا اللّه تعالي وحده، لذا وجب أن يكون النصب من قبله، و ليس هو من وظيفة الأمة و ليس لها و لا لآحادها أن تشرّع أحكاما و تضع قوانين، و من سمّاهم الآلوسي أهل الحلّ و العقد فقد أبطل القرآن حلّهم و عقدهم بقوله تعالي: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
فليس لهم الخيرة في حلّ شي‌ء أو عقده مطلقا أبدا بل ذلك للّه تعالي وحده.
الآلوسي و التشيع، ص: 382
و قال تعالي: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‌ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ
فالأمر كلّه للّه سواء في ذلك نصب الإمام أو غيره من الأمور بدلالة لفظة: (كلّ) الدالّة علي الاستيعاب، فبيده تعالي حلّ الأمور و عقدها لا بيد غيره، و قال تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ
[الحجرات: 10] فمن سمّاهم الآلوسي أهل الحلّ و العقد إن كانوا مؤمنين فقد حرّم اللّه عليهم أن يحلّوا أو يعقدوا لأن ذلك تقديم منهم بين يدي اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قد نهاهم عنه أشدّ النهي و أبلغه، فليس لهم أن ينصّبوا أحدا مطلقا لحرمته عليهم، و قال تعالي: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَي اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
فنصب الإمام مما قضي اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم به، فليس لهم في نصبه حظ و نصيب إطلاقا، فما أوجب اللّه هو الواجب و ما حرّمه هو الحرام، و من نصّبه فهو المنصوب و من عزله فهو المعزول، دون ما أوجبه بعض النّاس أو كلّ النّاس علي أنفسهم أو أنفس غيرهم، فإنه ليس بجائز الطاعة فضلا عن وجوبها، فإيجاب خصوم الشيعة بيعة السّقيفة علي النّاس فمع أنه مما أوجبه (الخليفة) عمر (رض) دون غيره من أفراد الأمة ليس هو مما أوجبه اللّه تعالي عليهم بل منعه و حرّمه و رتّب العقاب علي من ارتكبه في الدين كما أشار إليه قول مبدعها و المحرّك الكبير فيها عمر (رض) نفسه:
(إن بيعة أبي بكر فلتة وقي اللّه المسلمين شرها فمن عاد إلي مثلها فاقتلوه) فهو يعني بقوله فلته أنها زلّة و بدعة عظيمة و ضلالة كبيرة يستحق فاعلها القتل لذا تراه قال (رض): (فمن عاد إلي مثلها فاقتلوه).
و أما الآيتان اللّتان ذكرهما الآلوسي فهما من الأدلة الصريحة و الحجج القوية لنا عليه لا له.

نصب الإمام من اللّه دون الناس

أما الأولي: فصريحة في أن جعل الأئمة من قبله تعالي لقوله تعالي:
وَ جَعَلْناهُمْ
[الأنبياء: 73] فأضاف الجعل إلي نفسه لا إلي الأمة، و لأنه لم يقل و أوكلنا أمر جعلهم إلي الناس حتّي يفهم منه أنه تعالي خولهم صلاحية جعلهم حتي يزعم الخصم خلافا للّه و إنكارا عليه و جحودا لنصوص آياته أن الجاعلين لهم
الآلوسي و التشيع، ص: 383
هم ما أسماهم بأهل الحلّ و العقد، و كم من فرق بين إسناد الجعل إليه تعالي لهم كما هو صريح الآية و بين إسناده إلي النّاس الّذي تأباه الآية و لا تفيده إطلاقا، بل في الآية دلالة علي المنع من جعل النّاس، و أنه ليس من وظائفهم و إنما هو من وظائفه تعالي وحده.
أما الثانية: فصريحة في أن الإرادة من قبله و الجعل منه، و ما قال فيها و أوكلنا إرادة جعلهم من الناس و الإرادة المقرونة بالمنّة المسندة إليه تعالي في الآية دلالة علي وقوع الفعل للمراد، فيتعيّن إرادته منه لا من سواه لا سيّما إذا لاحظنا اقتران إرادته تعالي بالمنّة فإن ذلك لا يصح من غيره.
فالآلوسي أورد الآيتين و هو يحسب أنهما دليلان له علي إلزام خصمه دون أن يهتدي إلي أنهما دليلان لخصمه علي فساد مذهبه، و لو كان من الّذين يفهمون معناهما و يفهمون أنهما دلائل لخصمه عليه لا له لكفّ عن إيرادهما، إلّا أنه لم يزل هو و أخوه من الّذين: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ
[البقرة: 17].
و أما قوله: (و لم يكن في تلك الفرق نص) فمردود:
بأن ظاهر الآية أن جعل الأئمة من قبله تعالي لا من سواه، و إذا كان الأمر علي ما ذكرنا وجب أن يكون المجعول معصوما قطعا لاستحالة أن يكون المجعول من قبله تعالي غير معصوم، فإذا كان الجعل الإلهي لا يتعلق إلّا بالمعصوم و إرادته لا تتعلق بغيره لعدم أهلية غير المعصوم لتعلق إرادته بنصبه كان من القبيح في أوائل العقول تعلّق الجعل و الإرادة من اللّه تعالي بغيره، و إذا كانت العصمة من الأمور الخفيّة التي لا يعرفها إلّا اللّه دلّ ذلك أبلغ الدلالة علي أن التعيين من قبله لا من قبل النّاس مطلقا.

وجوب كون الإمام أفضل أهل زمانه

قال الآلوسي (ص: 85): (لا يلزم أن يكون الإمام أفضل أهل العصر، و الشيعة علي خلاف ذلك و قد علت ردّهم).
الآلوسي و التشيع، ص: 384
المؤلف: أما اعتبار الأفضلية في الإمام من الرعية كافة فمما جاء به الكتاب و السنّة و العقل.
أما الكتاب، فقوله تعالي: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدي فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
[يونس: 35] فالآية صريحة الدلالة علي أن المحتاج في الهداية إلي غيره لا يصح اتباعه و لا يصلح أن يكون هاديا للآخرين، و العقل بفطرته يحكم بأن فاقد الشي‌ء لا يعطيه و الناقص لا يكون مكملا، فالجاهل لا يعطي العلم و المحتاج إلي الهداية لا يكون هاديا و هلمّ جرا، و لا شك في أن الجاهل محتاج إلي العالم و المفضول محتاج إلي الفاضل فضلا عن الأفضل، و من القبيح أن ينسب إلي اللّطيف الخبير تقديم الجاهل أو المفضول المحتاجين إلي التكميل علي العالم و الفاضل الكامل.
و أما السنّة:
فقول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في الصحيح المتواتر نقله في الصحاح: (يؤمكم أفضلكم)
و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يؤمكم أكثركم قرآنا)
و
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يؤمكم أقرؤكم)
أي أعلمكم، و
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (أعلم النّاس بعدي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام)
و
قال فيه: (عليّ أقضاكم)
و
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيه: (أكثرهم علما و أعظمهم حلما و أولهم سلما)
[1] فيتعيّن أن يكون ذلك فيه لا في غيره كما مرّ.
أمّا العقل، فحاكم بقبح تعظيم الجاهل أو المفضول و إهانة العالم و الفاضل، و في تقديم الجاهل أو المفضول علي العالم و الفاضل رفع لمرتبة الجاهل أو المفضول، و خفض لمرتبة العالم و الفاضل و ذلك إهانة لهما قطعا، و كيف يحسن عند العقل أن ينقاد الأعلم و الأزهد و الأتقي و الأشرف حسبا و نسبا و حلما و شجاعة و كرما و تدبيرا إلي غير ما هنالك من الخصال العالية و الأخلاقية الرفيعة التي هي شر أكيد في الإمام علي الأمة بإجماع المسلمين، و التي توفرت
__________________________________________________
[1] نجد هذه الأحاديث في فضائل عليّ عليه السّلام و ترجمته في كلّ من الإصابة لابن حجر العسقلاني، و الرياض النضرة للمحبّ الطبري، و المستدرك للحاكم النيسابوري و الذهبي في تلخيصه، و المتقي الهندي في منتخب كنز العمال بهامش الجزء الخامس من مسند أحمد، و في كنز العمال و غيرهم من حفاظ أهل السنّة.
الآلوسي و التشيع، ص: 385
كلّها في سيّدها و إمامها و خليفتها الأول بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام إلي من هو دونه بمراتب كثيرة: فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
[يونس: 35] و من ثم كان الأفضل الجامع لجميع صفات الكمال حتي العصمة أولي بحفظ الحوزة علي الوجه الشرعي ممن ليس كذلك بل لا تصلح لغيره إطلاقا.

العقلاء لا يقدّمون غير الأفضل

هذا كلّه إذا كان نصب الإمام من اللّه تعالي، و أما إذا كان من الناس فكذلك، و ذلك لأن تقديم المبتدئ بالعلوم العربية مثلا علي الفقيه الجامع لشرائط الفتوي أو التلميذ علي الحائز علي شهادة (الدكتوراه) قبيح عند كلّ إنسان له عقل، و ليس من الممكن المعقول أن من كان أعلم الناس و أشرفهم و أزهدهم و أشجعهم و أكرمهم مع كونه معصوما من الخطأ و النسيان يكون غيره أعلم منه بحفظ الحوزة علي الوجه المطابق للقانون الشرعي و القرآن الإلهي، و لكن الآلوسي لمّا قدّم غير عليّ عليه السّلام بالخلافة عليه عليه السّلام و لم يستطع إنكار ما لعليّ عليه السّلام من الصفات المثلي و أعلاها علمه بجميع أحكام الشريعة، و عصمته من كلّ خطأ و دنس، التجأ إلي دعوي عدم اعتبار الأفضلية في الخلافة ليصحح بها خلافة المستخلّفين بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خلافا لكتاب اللّه و نصوص آياته البيّنات، و خلافا لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في صحاحه الجياد، و خلافا للعقل في حكمه بقبح تقديم المفضول علي الفاضل فضلا عن الأفضل.
و الأقبح من ذلك دعوي أن تقديم المفضول علي الفاضل كان لمصلحة رآها أهل السّقيفة فعدلوا عن عليّ عليه السّلام و ضربوا بنصّ الخلافة من قبل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليه عرض الحائط و تجاوزوا بها إلي غيره.
فخصوم الشيعة يرون أن أهل السّقيفة أعلم من اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالمصلحة، أو أن اللّه تعالي و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يعلمان أن المصلحة في تخصيص عليّ عليه السّلام بالخلافة دون غيره، فهم يرون أنهم علموا ما لم يعلم اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نعوذ باللّه من سبات العقل و قبح الزلل.
الآلوسي و التشيع، ص: 386

بطلان ما أورده الآلوسي في فضل الخليفة

ثم إن الآلوسي سرد بعض الآيات كعادته علي غير هدي و بصيرة يحاول أن يثبت به خلافة أبي بكر (رض) التي قد عرفت غير مرّة أنها لم تكن من الدين و لا من هدي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا سبق لها في كتاب اللّه و لا في سنّة نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إنما حدثت بعد التحاق النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالرفيق الأعلي باتفاق جماعة من أهل السّقيفة، و كان السّابق إليها هو (الخليفة) عمر بن الخطاب (رض) الّذي قد عرفت قوله (رض) المتواتر فيها: (إن بيعة أبي بكر كانت فلته وقي اللّه المسلمين شرّها، فمن عاد إلي مثلها فاقتلوه) فلو كانت لها سبق في كتاب اللّه أو سنّة نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم تكن شرّا محضا يجب قتل من عاد إلي مثلها- علي حدّ قول المحرّك الكبير فيها- فإن هدي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خير محض و تلك شر محض، و لا يصح في منطق العقل أن يجتمع الخير و الشرّ علي صعيد واحد، و إنّما سبق (الخليفة) عمر (رض) الآخرين من أهل السّقيفة إلي بيعته ليعيدها بعد موته إليه، و إلي هذا أشار
أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام مخاطبا عمر (رض): (احلب حلبا لك شطره، شدّ له اليوم يردّه عليك غدا).
و لم يكتف الآلوسي بسرد تلك الآيات دون أن يردفها بجملة من الروايات زعم أنها واردة في إثبات خلافته (رض) دون أن يشعر إلي أن الخصم لا يعترف بشي‌ء منها و يراها موضوعة وضعها أولياؤه تعصبا له.
و لقد فات الآلوسي بأن (الخليفة) أبا بكر (رض) نفسه لا يعرف شيئا من تلك الآيات و الروايات، لذلك لم يستدلّ بشي‌ء منها علي خلافته يوم السّقيفة كما استدل به الخصم في هذا اليوم و بعد تلك السنين الطويلة، و إنّما المتواتر عن أبي بكر (رض) أنه قال للأنصار: (نحن الأمراء و أنتم الوزراء) فقال حباب بن المنذر:
(و اللّه لا نفعل منّا أمير و منكم أمير) فقال أبو بكر: (لا و لكنّا نحن الأمراء و أنتم الوزراء) و قال: (الخلافة في قريش) يحاول بذلك أن يدفع الخلافة عنهم.
و بعد أن طال النزاع بينهم و كادت الفتنة أن تقع بين الأوس و الخزرج قال عمر لأبي بكر (رض): أمدد يدك، فمدّ أبو بكر (رض) يده فبايعه ثم بايعه أسيد بن
الآلوسي و التشيع، ص: 387
حضير زعيم الأوس خوفا من سعد بن عبادة زعيم الخزرج من أن يستلم الخلافة فيأتي عليه و علي عشيرته لما بينهما من ضغائن الجاهلية، ثم بايعه أبو عبيدة بن الجراح، و سالم مولي أبي حذيفة، و بشير بن سعد بن عبادة فهؤلاء الأربعة هم الّذين بايعوه بعد عمر (رض) علي ما سجّله أهل السير و التواريخ من أهل السنّة ممن جاء علي ذكر السّقيفة كعلي بن برهان الدين الحلبي الشافعي في كتابه السيرة الحلبية ص: (358) من جزئه الثالث، و محمد حسين هيكل ص: (64) من كتابه في أبي بكر (رض) و البخاري في صحيحه ص (191) من جزئه الثاني في باب فضل أبي بكر، فلو كان هناك شي‌ء مما زعمه الآلوسي لاستدلّ به علي من نازعه فيها، و هو في ذلك اليوم أحوج ما يكون إلي شبه حديث و احتمال آية نزلت فيه ليدفع به منازعيه في السّقيفة، بل لو كان هناك رائحة حديث في أمره لقال أولياؤه في السّقيفة كعمر و غيره ممن اتفقوا سابقا علي بيعته لما ذا كلّ هذا النزاع و أنتم تعلمون أن أبا بكر (رض) هو الخليفة لنزول ما زعمه الآلوسي فيه من الآيات و ورود ما اختلقه فيه من الروايات؟
و من حيث لم يقل واحد منهم شيئا من ذلك مع طول النزاع علمنا بطلان ما وضعه الآلوسي فيه تعصبا له، و لا جائز أن يخفي أمر تلك الآيات و هاتيك الروايات علي (الخليفة) أبي بكر (رض) أو ينساها مع قربه من النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا يخفي أمرها علي أوليائه البعيدين عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إذا جاز أن يخفي عليه أو ينساها فلا جائز أن يخفي أمرها علي أهل السّقيفة أو ينسوها مع كثرتهم فيحتدم النزاع بينهم إلي حدّ وقوع الفتنة و هم العدول عند الخصوم، و لا يخفي ذلك علي الآلوسي البعيد عنهم هذه السنين، و إذا جاز أن يخفي أمرها عليه أو عليهم مع قربهم من الصدر الأول و لا يخفي أمرها علي أوليائه كان أولياؤه أعلم منه و منهم بالسنّة و هذا ما أجمعوا علي بطلانه، فإذا بطل هذا ثبت أن ما زعمه الآلوسي من نزول آيات و ورود روايات في صدقه و فضله و أن له من الكمال ما أهّله للخلافة، كلّه كذب و انتحال لا أصل له حتّي عند إمامة أبي بكر (رض) و غيره من أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فضلا عن الشيعة التي لا تعترف له بشي‌ء من ذلك إطلاقا، فاحتجاج الآلوسي به عليهم باطل علي باطل.
الآلوسي و التشيع، ص: 388

الأدلة القطعية علي خلافة عليّ عليه السّلام بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

قال الآلوسي ص: (94): (اعلم أن الشيعة استدلوا علي إثبات إمامة الأمير بلا فصل بدلائل، إلي أن قال: الثالث الدلائل الدالة علي إمامته بلا فصل مع سلب استحقاق الإمامة من غيره من الخلفاء، و هذه في الحقيقة مختصة بمذهب الشيعة و هم منفردون باستخراجها، و نحن نورد القسم الأخير بالاستيعاب و الاستيفاء، و لا يخفي أن مقدمات تلك الدلائل و مباديها لا بد و أن تكون مسلّمة الثبوت عند أهل السنّة، إذ الغرض من إقامتها إلزامهم، فعلي هذا إما أن تكون تلك الدلائل آيات الكتاب و الأحاديث المتفق عليها، أو الدلائل العقلية المأخوذة من المقدمات المسلّمة عند الفريقين، أما الآيات فمنها قوله تعالي: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ
[المائدة: 55] تقرير الاستدلال بهذه الآية ما يقولون: إن أهل التفسير أجمعوا علي نزولها في حقّ الأمير إذ أعطي السائل خاتمه في حالة الركوع، و كلمة (إنّما) مفيدة للحصر و لفظ (الولي) بمعني المتصرّف في الأمور، و ظاهر أن المراد هاهنا التصرف العام في جميع المسلمين المساوي للإمام بقرينة ضم ولاية اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فتثبت إمامته و انتفت إمامة غيره للحصر المستفاد و هو المدّعي.
أجاب عنه أهل السنة بوجوه، الأول: النقض بأن هذا الدليل كما يدل علي نفي إمامة الأئمة المتقدمة كما قرر يدل علي سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرة، و بذلك التقرير فيلزم أن السبطين و من بعدهما من الأئمة الأطهار لم يكونوا أئمة، فلو كان مذهب الشيعة هذا يصح تمسكهم بهذا الدليل لأن الاستدلال في مقابل أهل السنّة مبني علي كلمة الحصر و الحصر كما يضر أهل السنّة يكون مضرا للشيعة و مذهب أهل السنّة و إن بطل بذاك لكن مذهب أهل الشيعة ازداد في البطلان، و أكثر منه فإن لأهل السنّة نقصان الأئمة الثلاثة و للشيعة نقصان أحد عشر و لا يمكن أن يقال إن الحصر إضافي إلي من تقدم لأنّا نقول إن حصر الولاية فيمن استجمع هذه الصفات لا يفيد إلّا إذا كان حقيقيا، بل لا يصح لعدم استجماعها فيمن تأخر عنه، و إن أجابوا عن هذا النقض
الآلوسي و التشيع، ص: 389
بأن المراد حصر الولاية في جنابه في بعض الأوقات يعني زمن إمامته لا وقت إمامة السّبطين من بعدهما، قلنا فمذهبنا أيضا هذا أن الولاية العامة كانت محصورة فيه في وقت إمامته لا قبله و هو زمن الخلفاء، فإن قالوا إن الأمير لو لم يكن في زمن الخلفاء الثلاثة صاحب ولاية عامة يلزمه نقص بخلاف وقت إمامة السّبطين فإنه لمّا لم يكن حيّا لم يصر إمامة غيره موجبة لنقص في حقّه، لأن الموت رافع لجميع الأحكام الدنيوية قلنا هذا استدلال آخر غير ما هو بالآية لأن مبناه علي مقدمتين:
الأولي: كون صاحب الولاية العامة في ولاية الآخر و لو في وقت من الأوقات نقص له.
الثانية: إن صاحب الولاية العامة لا يلحقه نقص بأي وجه و أي وقت كان.
و هاتان المقدمتان أني تفهمان من الآية و تسمي هذه الصنعة في عرف المناظرة فرارا بأن ينتقل من دليل إلي آخر سلّمنا، و لكن نقول إن هذا الاستدلال منقوض بالسّبطين فإنهما في زمن ولاية الأمير لم يكونا معتقلين بالولاية بل كانا في ولاية الآخر، و أيضا منقوض بالأمير فإنه في عهد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان كذلك فلا نقص لصاحب الولاية العامة بكونه في بعض الأوقات في ولاية الآخر.
الجواب الثاني: إن ولاية الّذين آمنوا غير مرادة زمن الخطاب البتة بالإجماع، لأن زمن الخطاب عهد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الإمامة نيابة للنبوّة بعد الموت، فلما لم يكن زمن الخطاب مرادا لا بد و أن يكون ما أريد به زمانا متأخرا عن موت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا حدّ للتأخير سواء كان بعد أربع سنين أو بعد عشر سنين أو أكثر، فقام هذا الدليل في غير محلّه.
إلي أن قال: ثم نمنع أولا: إجماع المفسرين علي نزولها فيمن قالوا، بل اختلف علماء التفسير في سبب نزول هذه الآية، لأنه روي الجم الغفير نزولها في أبي بكر، و أما رواية نزولها في عليّ فهي للثعلبي و لا يعد المحدثون من أهل السنّة روايات الثعلبي قدر شعيرة.
الآلوسي و التشيع، ص: 390
و نقول ثانيا: إن لفظ الولي مشترك فيه المعاني الكثيرة منها المحبّ، و الناصر، و الصديق، و المتصرف في الأمر، و لا يمكن أن يراد من المشترك معني معين إلّا بقرينة خارجية، و القرينة هاهنا في السياق تعيّن ما سبق، و هذه الآية مؤيدة لمعني الناصر، و هو قوله تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ
[المائدة: 57].
و ثالثا: إن العبرة بعموم اللّفظ لا خصوص السبب كما هي قاعدة أصولية، و كلمة (الذين) من ألفاظ العموم أن مساوية لها باتفاق الإمامية، فحمل الجمع علي الواحد متعذر، و حمل العام علي الخاص خلاف الأصل، فإن قالت الشيعة إن الضرورة متحققة هاهنا إذ التصدق علي السّائل في حالة الركوع لم يقع من أحد غيره، قلنا: أين ذكرت في هذه الآية هذه القصة بحيث يكون مانعا من حمل الموصول و صلاته علي العموم، و أيّا ما فإن معني الركوع الخشوع لا الركوع الاصطلاحي، و لو تنزّلنا و قلنا إن هذه الآية و إن كانت دليلا لحصر الإمامة في الأمير، و لكن يعارضها الآيات الأخر في ذلك فيجب الاعتداد بها كما يجب علي الشيعة أيضا التمسك بتلك الآيات المعارضات في إثبات إمامة الأئمة الأطهار الآخرين، و الدليل إنما يتمسك به إذا سلم عن المعارض، و تلك الآيات المعارضات هي الآيات الناصّة علي خلافة الخلفاء المحررة فيما سبق» انتهي.
و لقد فات علي كلّ من الآلوسي و أخيه الهندي أن يتمثل بقول الشاعر العربي:
بحبّ عليّ تزول الشّكوك و تجلي النّفوس و تحلو الثّمار
فمهما رأيت عدوّا له ففي أصله نسب مستعار
فلا تعذلوه علي بغضه فحيطان دار أبيه قصّار
الآلوسي و التشيع، ص: 391

الفصل الرابع عشر أفضلية عليّ عليه السّلام و وجوب إمامته

آية الولاية نصّ في خلافة عليّ عليه السّلام بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بلا فصل

المؤلف: أولا: «قوله الدلائل الدالّة علي خلافة الأمير بلا فصل مختصة بمذهب الشيعة».
فيقال فيه: إن دعوي اختصاص الدلائل الدالّة علي خلافة عليّ عليه السّلام بلا فصل بمذهب الشيعة من خرص الآلوسي الّذي يحاول به إسقاط الصحاح المحمّدية الجياد التي دوّنها أئمته في صحاحهم و سجّلوها في مسانيدهم الناصّة علي خلافته بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من غير فصل، و كيف يستطيع من له شي‌ء من العلم أن ينكر ذلك أو يخدش فيها أو يدّعي اختصاصها بمذهب الشيعة، و هو يري بأمّ عينه أمناء الحديث عنده قد اهتموا بإخراجها و أثبتوا صحتها بأسانيدها الصحيحة، أللّهم إلّا إذا تناهي به الجحود إلي إنكار دلائل النبوّة و براهين الرسالة.
ثانيا: قوله: «كما تدل الآية علي نفي إمامة الثلاثة- يعني أبا بكر و عمر و عثمان (رض)- تدل علي نفي إمامة الأئمة بعده».
فيقال فيه: أسمعت أيها القارئ مقالة الآلوسي و اعترافه بدلالة الآية علي بطلان خلافة الثلاثة، فكيف إذن ساغ له إن كان مسلما أن يأخذ بخلافها و يكون حرب اللّه و حرب رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و نحن يكفينا دلالة الآية بمنطوقها و مفهومها علي بطلان خلافتهم، و أنها لم تكن مؤسسة علي أساس شرعي و ليست من الدين في شي‌ء، و حسبك في بطلانها أن تري الآلوسي و هو العدوي البغيض يعترف بدلالة الآية علي فسادها.
الآلوسي و التشيع، ص: 392
أما إمامة العترة الطاهرة فليس إثباتها موقوفا علي خصوص هذه الآية و لا ينافيها إطلاقا، و ذلك لأن إمامة كلّ واحد من الأئمة عليهم السّلام ليست في عرض إمامة الآخر كاستحقاق الشركاء بالنسبة إلي ما اشتركوا فيه، و إنما كانت إمامة كلّ واحد منهم عليهم السّلام في طول إمامة الآخر علي سبيل الترتيب، بأن يكون الإمام في كلّ عصر واحدا و يكون كلّ واحد منهم قائما مقام الآخر، لذا فإنه يصح حصر الولاية في المرتّب عليه لرجوع ولاية المترتب إلي ولاية الأمير عليه السّلام فيصح حصر الولاية فيه لرجوع ولاية سائر الأئمة عليهم السّلام إلي ولايته عليهم السّلام.
و كذا يصح حصر الولاية في النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لرجوع ولاية الجميع إلي ولايته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كما يصح حصر الولاية في اللّه تعالي لأنه الأصل في الولاية و ولاية النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة مترتبة علي ولايته تعالي، و هذا بخلاف ولاية المترتب فإنه لا يصح حصر الولاية فيه لعدم رجوع ولاية المرتب عليه إلي ولايته، و لهذا فإن الحصر لا يتم علي مذهب الخصم الّذي جعل عليّا عليه السّلام متأخرا عن خلفائه و يكون باطلا علي مذهبه و في إبطاله إبطال للقرآن، و من ذلك يتضح أن الحصر في الآية علي مذهب الشيعة تامّ لا نقص فيه و لا بطلان يعتريه إطلاقا.
و يؤكد لك ذلك حصر الولاية في اللّه تعالي فإنه لو كان يوجب بطلان حصرها في المترتب عليه لزم بطلان ولاية النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و تلك قضية الحصر الموجب قصر الحكم علي المحصور و نفيه عمّا عداه و هو باطل، و بهذا ينكشف جليّا صحة حصر الولاية في الأمير عليه السّلام و الأئمة الهداة من أبنائه المعصومين عليهم السّلام و عدم صحته بالنسبة إلي الخلفاء الثلاثة (رض).
فالآية صريحة الدلالة في اختصاص الإمامة بالأمير و بطلان خلافة المتقدمين عليه، و لا يخفي بعد هذا عليك سقوط قول الآلوسي: (إن ذلك يعني الحصر مضر للشيعة) لوضوح ثبوت أن الآية من أقوي الأدلّة علي بطلان خلافة الخلفاء (رض) و مناظهر الشواهد علي ثبوت خلافة الأمير و الأئمة من ولده عليه السّلام مع قطع النظر عن الآيات النازلة فيهم عليهم السّلام و الأحاديث المتواترة بين الفريقين الدالّة علي خلافتهم بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كما تقدم البحث عن بعضها مستوفي.
الآلوسي و التشيع، ص: 393

الحصر علي بطلان خلافة الثلاثة (رض) فقط

ثالثا: قوله: (و لا يمكن أن يقال إن الحصر إضافي بالنسبة إلي ما تقدمه).
فيقال فيه: إن الآية بعد أن كانت صريحة في بطلان خلافة الثلاثة (رض) كما اعترف به الآلوسي بقرينة الحصر كفي ذلك دليلا علي فسادها سواء أ كان الحصر فيها إضافيا أو حقيقيا، لأن المطلوب فعلا بطلان خلافة الخلفاء (رض) لا إثبات خلافة الأئمة من آل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الثابتة بآياتها النيّرات و بيّناتها الواضحات التي لا ينكرها إلّا جاحد بالضروريات، علي أنّا أوضحنا لك أن الحصر في الآية لا تضرّ خلافة الأئمة من أهل البيت و لا تضرّ شيعتهم، و إنّما أضرّت خصومهم بنصوصيتها علي بطلان خلافة أئمتهم (رض).
رابعا: قوله: (فإن قيل إن المراد حصر الولاية في جنابه في بعض الأوقات أي وقت إمامته، قلنا أيضا: إن الولاية العامة محصورة في وقت إمامته لا قبله و هو زمان خلافة الخلفاء).
فيقال فيه: إن وقت إمامته عليه السّلام هو اليوم الّذي توفي فيه النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا بعد زمان خلافة الخلفاء (رض) لثبوت بطلانها بمقتضي الحصر في الآية من جهة، و من جهة أخري أنها حصرت الولاية العامة بالأمير عليه السّلام في ذلك الوقت كما يقتضيه الحصر و تقديم غيره عليه في ذلك الوقت مخالف لنصّ الآية في حصر الولاية به عليه السّلام.
و بعبارة أوضح: أن الآية حصرت الولاية به في وقت ولايته، و من حيث أن وقت الإمامة هو اليوم الّذي توفي فيه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بقرينة الحصر إذ لا ولاية فعلية قبل وفاته- كما يزعم الخصوم- و إنما الولاية بعد وفاته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قد ثبت أن الولاية محصورة فيه بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بنص الآية فثبت أن الولاية له عليه السّلام بعد وفاته بلا فصل.
خامسا: قوله: (هذا استدلال آخر ما هو بالآية).
الآلوسي و التشيع، ص: 394
فيقال فيه: ليس هذا الاستدلال إلّا بالآية لا بشي‌ء خارج عنها غير داخل في مفهومها و منطوقها كما يزعم الخصم، و ذلك لأن الآية بعموم إطلاقها اللّفظي تدل صريحا علي حصر الولاية العامة في عليّ عليه السّلام في جميع أوقاته، و من المعلوم أن تقديم الآخرين عليه خلاف الحصر الدالّ علي كمال المحصور فيه الولاية في سائر أوقاته، إذ لا يعقل حصر الولاية العامة بغير الكامل إطلاقا، فسلب الولاية عنه في بعض أوقاته نقص فيه و هو خلاف الآية الدالّة علي كماله، و أن له الولاية في جميع أزمانه فهو من الاستدلال بالآية لا بغيرها، ألا تري أن في تقديم الآخرين علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و سلب الولاية عنه في وقت يكون نقصا فيه، فكذلك المعطوف في الولاية التي هي امتداد لولايته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و تلك قضية وحدة السّياق و تساوي المتعاطفين في الحكم، فالآية تريد أن تقول لمّا كان اللّه تعالي هو الوليّ المطلق كان هو الكامل المطلق، فخصّ نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالكمال بتخويله الولاية العامّة ثم أعطاها للأمير عليه السّلام بعده صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا لسواه ممن تقدم عليه لخروج المتقدمين عليه عن الآية مفهوما و منطوقا، فيكون تقديمهم عليه نقصا واضحا فيه، و الآية صريحة في كماله كما قدمنا فتقديمهم عليه مناف للآية و مخالف لها مطلقا، و كلّ ما كان كذلك كان باطلا فخلافتهم (رض) باطلة بحكم الآية.

الاستدلال بالآية غير منقوض بإمامة السّبطين عليهم السّلام

سادسا: قوله: (إن هذا الاستدلال منقوض بإمامة السّبطين).
فيقال فيه: إنه فاسد من وجهين:
الأول: إن شرط التناقض اتحاد الزمان و وحدة الموضوع و غيرهما من الشروط المقررة في علم المنطق و كلّ أولئك مفقود هاهنا، و مع انتفائها لا نقض مطلقا.
الثاني: لا يلحق الحسنين عليه السّلام نقص باعتبار كونهما في إمارة أبيهما كما لا يلحق الحسين عليه السّلام نقص باعتبار كونه في إمارة أخيه الحسن عليه السّلام لأن أباهما أفضل و أكمل منهما، و هذا ما أهله للتقدم عليهما و جعل الولاية
الآلوسي و التشيع، ص: 395
العامّة له عليه السّلام عليهما عليهم السّلام و علي غيرهما، و كذا الحال في السّبطين عليهما السّلام و هذا بخلاف الخلفاء المتقدمين علي الأمير عليه السّلام فإنهم دون عليّ عليه السّلام بمراتب، فسلب الولاية العامة الثابتة له في زمانهم (رض) عنه من أكبر النقص فيه لا سيّما و له الولاية بحكم عمومها عليهم (رض) و علي كافة أفراد الأمة كما هي للّه و لرسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بنصّ هذه الآية و غيرها من النّصوص المتواترة بين الفريقين.
سابعا: قوله: «و أيضا منقوض بالأمير فإنه في عهد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم».
فيقال فيه: إنه باطل لوجهين، الأول: ما مرّ عليك من بطلان النقض لاختلاف الموضوع و الزمان و اتحادهما و غيرهما من الشروط شرط في تحققه عند العلماء لا سيّما أن الخصوم يزعمون ألّا ولاية لأحد إلّا بعد موت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فكيف ينتقض هذا بذاك يا منصفون.
الثاني: إن أفضلية النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أكمليته من عليّ عليه السّلام تمنعان من لحوق النقص به، و إنما يلحق النقص إذا كان من له الولاية العامّة مأموما لمن هو دونه أو أدون منه بمراتب كثيرة، و تلك قضيّة الخلفاء (رض) مع إمامهم الشرعي بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.

كون ولاية الّذين آمنوا غير مرادة زمن الخطاب لا ينفع الخصم

ثامنا: قوله: (إن ولاية الّذين آمنوا غير مرادة في زمان الخطاب).
فيقال فيه: إنه مردود من وجهين:
الأول: إن دعوي كون ولاية الّذين آمنوا غير مرادة في زمان الخطاب منافية لصريح الآية الدالّة علي إرادتها و تخصيصها بغير زمان الخطاب تخصيص بلا مخصص و هو واضح البطلان، و إنّما ركن الخصم إلي ذلك و ادّعي الإجماع عليه و ما أكثر ما يدّعيه من الإجماعات التي لا وجود لها، و لو كان لها وجود فهي لا تساوي عند خصومه فلسا لأنه يريد أن يثبت عدم جواز الخلافة في زمان
الآلوسي و التشيع، ص: 396
النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هو علي إطلاقه باطل لأن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قد استخلف عليّا عليه السّلام علي المدينة في حياته و أعطاه [1] جميع منازل هارون من موسي عليه السّلام إلّا النبوّة، و منها الخلافة و الإمامة و قد أعطاها عليّا عليه السّلام بنص قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لم يعزله حتّي التحق بالرفيق الأعلي، و لو سلم جدلا فالمنفي الإمامة الفعلية علي معني الاستقلال في التصرف في شئون الأمة مع وجوده صلّي اللّه عليه و آله و سلّم دون الشأنية الثابتة فعليتها عند أول آنات وفاته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
الثاني: لو فرضنا جدلا أن زمان الخطاب غير مراد فهو من الحجّة لنا علي بطلان خلافة الثلاثة (رض) لأن الخصوم إنّما منعوا إرادة زمان الخطاب لزعمهم نفي الخلافة و منع الولاية في حياة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لكن فات عليهم أن هذا النفي و المنع يرتفع مباشرة بعد وفاته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي وجه لا يعطي مجالا لأي ولاية تأتي بعده سوي ولاية الأمير عليه السّلام المحصورة به لا بغيره بعد وفاة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و تلك قضية الحصر في الآية فهو يمنع تقدم الآخرين عليه فقده صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيكون وقت ولاية الأمير عليه السّلام أول أوقات وفاة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و بعبارة أوضح: لو لا وجود النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لكان الأمير عليه السّلام هو الإمام و الخليفة دون غيره مطلقا فكان المانع حياة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم وحده و قد ارتفع بوفاته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فوجب ثبوت الولاية لعليّ عليه السّلام بعده بلا فصل و تلك قضية الحصر، وهب أن زمان الخطاب لم يكن مرادا و إنّما أريد به زمانا متأخرا و لا حدّ له كما يزعم الآلوسي، و لكن الآية صريحة في حصر الولاية به عليه السّلام مطلقا، و مهما فرض ذلك فهو زمان خلافته عليه السّلام و بطلان خلافة من تقدم عليه سواء أراد زمانا متأخرا بعيدا أو قريبا فما يجديه نفعا إطلاقا بعد أن كانت الآية بمقتضي الحصر صريحة في بطلان خلافتهم (رض) و ثبوتها لعليّ عليه السّلام دونهم (رض).
__________________________________________________
[1]
حديث المنزلة من الأحاديث المتواترة بين الفريقين، و هو قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ: (أنت منّي بمنزلة هارون من موسي، إلّا أنه لا نبيّ بعدي)
و حسبك في تواتره إخراج الشيخين البخاري و مسلم له في صحيحيهما، و غيرهما من أهل الصحاح عند أهل السنّة في باب فضائل عليّ عليه السّلام و مناقبه.
الآلوسي و التشيع، ص: 397

تناقض الخصوم في أن ولاية الّذين آمنوا غير مرادة زمان الخطاب

ثم إن خصوم الشيعة و منهم هذا الآلوسي إنّما منعوا إرادة ولاية الّذين آمنوا في زمان الخطاب لزعمهم عدم جواز الإمامة في حياة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لكن سرعان ما نقضوا زعمهم هذا بما سجّله ابن حجر الهيتمي في ص: (13) في الفصل الثالث من الباب الأول الّذي عقده لولاية أبي بكر (رض) و خلافته في الحديث السّابع من الصواعق المحرقة لابن حجر فإنه أورد صلاة أبي بكر (رض) بالمسلمين في مرض النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و زعم دلالته علي إمامة أبي بكر (رض) و أنه كان معروفا بأهلية الإمامة في زمان النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و علي ذلك انعقاد إجماعهم [1].
فالآلوسي إما أن يقول بأن صلاة أبي بكر (رض) لو صحت لا تدل علي إمامته للمسلمين بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو يقول بدلالتها علي ذلك، فإن قال بالأول بطل قوله إن ولاية الّذين آمنوا غير مرادة في زمان الخطاب و ثبتت إرادة ولاية الّذين آمنوا في زمان الخطاب و في ذلك ثبوت ولاية عليّ عليه السّلام و بطلان خلافة المتقدمين عليه.
و إن قال بالثاني بطل قوله الأول و ثبت بطلان خلافة أبي بكر (رض) و بطلان صلاته بالمسلمين في زمن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بطلان أهليته للخلافة و فساد قولهم و كان معروفا بأهلية الإمامة في زمان النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بطل قوله بعدم جواز الإمامة و الخلافة في عهد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بطل ما ادّعاه من الإجماع عليه، و هكذا يكون مصير المبطلين الّذين: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ
[الحشر: 2].

آية الولاية في عليّ عليه السّلام خاصة دون أبي بكر (رض)

تاسعا: قوله: (منعنا إجماع المفسرين فيما قالوا و إنما نزلت في أبي بكر).
__________________________________________________
[1] لقد ناقشنا الهيتمي الحساب العسير في كتابنا: (نقض الصواعق المحرقة لابن حجر) و أظهرنا للملإ الشاعر عوار سقطاته و قبيح سيئاته، يجدر بكل باحث متحرر من التقليد الأصمّ للآباء و الأمهات يريد الوقوف علي الحقائق أن يطلع عليه.
الآلوسي و التشيع، ص: 398
فيقال فيه: ليس هذا بأول آية جحدها هذا الآلوسي من آيات ولاية عليّ عليه السّلام بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بطلان خلافة المتقدمين عليه، بل هناك آيات كثيرة أنكرها و جحدها، و كم من آية نزلت في ولاية عليّ و إمامته عليه السّلام بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بلا فصل قد أوّلها في تفسيره [1] و صرفها عن معناها المطابقي، و حملها علي معني لا يتفق و روح القرآن في شي‌ء بغضا للوصي عليه السّلام و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و مخافة أن تقضي علي عروش السّقيفة بالانهدام فهو ينكر كلّ آية نزلت فيهم و فسرت بهم، و يرفض كلّ حديث ورد فيهم و إن كان ذلك مما ترويه أئمته في صحاحهم، بل و إن أجمع المسلمون جميعا علي صحته ما دام مخالفا لما قامت عليه السّقيفة، و مع ذلك كلّه يزعم أنه من شيعة أهل البيت عليهم السّلام و من أتباعهم و مواليهم كذبا و زورا و كيف يجوز أن يكون من شيعتهم و مواليهم و هو ينكر ما لا يمكن لأحد أن ينكره حتّي الخوارج من أعداء عليّ و بنيه عليه السّلام.
أما نزول آية الولاية في عليّ عليه السّلام خاصة فقد أثبته عامّة مفسيرهم في تفاسيرهم المعتمدة و صحاحهم المعتبرة، علي أنه يكفي في تحقق إجماع المفسّرين علي نزول الآية في عليّ عليه السّلام موافقة بعض أعلام أهل السنّة للشيعة فيه فضلا عن تحقق إجماعهم حال النزول قبل ظهور المخالفين كالآلوسي و غيره من الحادثين المتأخرين بقرون عن عصر نزولها، فهم يرومون بجحودهم لها أن يطفؤا نور اللّه: وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ
كما في آية (8) من سورة الصف.

المفسّرون من أهل السنّة الّذين فسروا آية الولاية بعليّ عليه السّلام خاصة

و‌ها أنا ذا أيها القارئ أذكر لك الّذين سجّلوا نزول الآية في عليّ عليه السّلام من أعلام أهل السنّة و أكابر حفاظهم في تفاسيرهم لتستشرف علي القطع
__________________________________________________
[1] للآلوسي تفسير سمّاه روح المعاني و تسمية الشي‌ء باسم ضده، أوّل فيه كلّ ما نزل من الآيات في ولاية عليّ و خلافته بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بلا فصل بما لا يخطر علي ذهن أفّاك أثيم، يبتغي بذلك أن يغضب اللّه تعالي و يسخطه و يرضي به رجرجة النّاس و غثاء البشر، و لعلّ اللّه يوفقنا في القريب للقيام بمناقشته و ردّ عاديته و إبادة نازلته غير العادلة في كتاب مستقل ليري النّاس أنه ينشد بذلك بغض الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و نحن ننشد به مرضاته و فضله و الولاء للنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عترته أهل بيته عليهم السّلام.
الآلوسي و التشيع، ص: 399
بكذب الآلوسي و بهتانه و صدق ما قلناه بأن الآية نزلت في ولاية عليّ عليه السّلام لا سواه.
فمنهم: الفخر الرّازي في تفسيره الكبير ص: (417) من جزئه الثالث، و ابن جرير الطبري في تفسيره ص: (165) من جزئه السّادس، و البيضاوي في تفسيره ص: (165) من جزئه الثاني، و الزمخشري في تفسيره ص: (264) من جزئه الأول، و البغوي في تفسيره بهامش الجزء الثاني من تفسير الخازن، و ابن كثير في تفسيره ص: (71) من جزئه الثاني، و ابن حيان في تفسيره الكبير ص: (513) من جزئه الثالث، و محمّد عبده في تفسيره الّذي عزاه إليه تلميذه محمّد رضا صاحب المنار ص: (442) من جزئه السّادس، و غير هؤلاء من أفذاذ أهل السنّة و أعاظم أعلامها.
و قد أجمع كلّهم علي نزول الآية في عليّ عليه السّلام عند ما تصدّق بخاتمة علي ذلك السّائل و هو راكع في صلاته بمحضر الصّحابة فراجع ثمة حتّي تعلم أن إنكار إجماع المفسّرين نزول الآية في عليّ عليه السّلام و عدول الخصم عن ذلك و ادعاؤه النزول في أبي بكر (رض) كان من مدّعيات الآلوسي و مفترياته.
و علي فرض التسليم جدلا فهو باطل في نفسه لعدم كونه متفقا عليه فليس هو من الأصول الموضوعة بين الخصمين الّذي يرجع إليه المتخاصمان في فصل الخصومة، و حلّ النزاع فهو شاذ لا يصح الاستدلال به علي شي‌ء بخلاف ذلك في عليّ عليه السّلام فإنه مجمع عليه بين الفريقين فالحجّة فيه لا في غيره مطلقا.
و الغريب من هذا الآلوسي أنك تراه يقول بعدم حجيّة المختلف فيه بين الطائفتين، و هنا تراه يستدلّ برواية موضوعة وضعها الدجّالون في حقّ صاحبهم، و يحتج بها علي خصومه الّذين ينكرون عليه كلّ حديث و آية يزعمون وروده أو نزولها في إعطاء فضيلة لخلفائهم (رض) و يرون أن عامّة ما يرويه الخصوم في فضلهم مزوّر لا أصل له، فكان اللّازم علي الآلوسي أن يستدلّ بما هو المجمع عليه من الأصول المسلّمة بين الفرقتين حتّي يكون الاحتجاج صحيحا و موجبا لنزول خصومه عنده، و إلّا لو صح احتجاج أحد الخصمين بما تفرّد به وحده علي
الآلوسي و التشيع، ص: 400
خصمه الآخر لصح احتجاج اليهود و النصاري و غيرهم من الكافرين بما تفرّدوا به علي المسلمين أيضا.
و إذا كان ذلك ملزما لخصمه أن يأخذ به كان واجبا علي المسلمين أن يقبلوا قول اليهود و النصاري و غيرهم فيما يقولون و لكان استدلالهم علي المسلمين بآرائهم و أخبارهم ملزما للمسلمين أن يأخذوا بها، و يعني هذا في زعم الآلوسي خروج المسلمين عن دينهم و التدين بغير دينهم فيكونون داخلين في قوله تعالي:
وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ
[آل عمران: 85] و ذلك لا يقول به من له دين أو شي‌ء من العقل.
فاحتجاج الآلوسي علي الشيعة بما تفرّد بنقله من هذا القبيل، فلو كان ذلك ملزما للشيعة أن يأخذوا به لم يكن أولي من عكسه، و هو أن يأخذ الآلوسي بما تفرّد الشيعة في نقله، و الأخذ بقول الشيعة هو المتعيّن علي أساس قاعدة الترجيح بين المتعارضين بما مرّ عليك من أحاديث الثّقلين، و السّفينة، و النجوم، و باب حطّة، لذا كان احتجاجه علي الشيعة باطلا من سائر الوجوه بخلاف احتجاجهم عليه و تفنيدهم لمزاعمه، فإنه من الاحتجاج بما هو الحجّة عنده و عليه باعتبار أنه متفق عليه، و قد عرفت اتفاقهم علي نزول آية الولاية في عليّ عليه السّلام فوجب عليه أن يأخذ بما اتفقوا عليه و يترك ما اختلفوا فيه، لا سيّما أن الآلوسي يزعم أن الإجماع حافظ للشريعة، فإذا كان حافظا لها فلما ذا يا تري شذّ عنه و لم يأخذ بما أجمع المسلمون كلّهم عليه.
كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ
[الصف: 385] و من هذا كلّه يتضح للقارئ أن جميع ما جاء به الآلوسي من المزاعم الباطلة و المنكرات الهائلة التي حاول بها تأويل الآية و جعلها في غير أهلها لا يعتمد إلّا علي العصبية الأثيمة التي يرزح تحت جورها و يئن من ثقل قيودها.
عاشرا: قوله: (أما رواية نزولها في عليّ عليه السّلام فإنما تفرّد به الثعلبي).
فيقال فيه: ما قال اللّه تعالي: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدي مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ
الآلوسي و التشيع، ص: 401
كما في آية (159) من سورة البقرة، و قد عرفت أن حديث نزولها في عليّ عليه السّلام كان من المتفق عليه بين المفسّرين من أهل السنّة و الشيعة، و إنّما تفرّد برواية نزولها في أبي بكر (رض) عكرمة و هو العدوّ الألدّ للأمير عليه السّلام و قد طعن فيه أئمة الجرح و التعديل و قالوا فيه أنه كذوب، و كان لا يحسن الصّلاة، و يكذّب علي عبد اللّه بن عباس، و كان علي رأس الخوارج، و يميل إلي استماع الغناء، و دخل في مذهب الخوارج فراجع ترجمته في معجم ياقوت و ص: (208- 209) من ميزان الاعتدال للذهبي من جزئه الثاني كما مرّ، لتعلم ثمة سقوطه عن درجة الإعتبار عند علماء الدراية و الرجال من أهل السنّة، و أن حديثه لا يساوي عندهم قدر شعرة، فكيف يتجرأ مسلم أن يعدل عمّا أجمع المسلمون عليه من نزولها في عليّ عليه السّلام خاصّة إلي رواية تفرّد بنقلها عكرمة الكذوب الخارجي عدوّ الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
الحادي عشر: قوله: (و لا يعد المحدثون من أهل السنّة روايات الثّعلبي قدرة شعيرة).
فيقال: أما الثّعلبي فهو أبو إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم الثعلبي النيشابوري المفسّر المشهور، و هو من أعاظم أئمة أهل السنّة و أفذاذ رجالهم، لذا قال ابن خلّكان في وفيات الأعيان ص: (22) من جزئه الأول (أحمد الثعلبي) كان أوحد زمانه في علم التفسير، و صنّف التفسير الكبير الّذي فاق غيره من التفاسير- إلي أن قال- قال أبو القاسم القشيري: رأيت ربّ العزّة في المنام و هو يخاطبني و أخاطبه، فكان في أثناء ذلك أن قال الربّ تعالي: أقبل الرجل الصالح، فالتفت فإذا أحمد الثعلبي مقبل).
و يقول النووي في شرحه لصحيح مسلم ص: (77) من جزئه الأول: (إن أبا إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم الثعلبي كان إماما من الأئمة، انتهي) [1] نقله بالمعني فراجع ثمّة حتّي تعلم كذب الآلوسي و خرصه، و أنه لم يتجرأ علي إمامه
__________________________________________________
[1] في باب صدق الإيمان و إخلاصه.
الآلوسي و التشيع، ص: 402
الثّعلبي هذه الجرأة إلّا لأنه روي حديث نزول الآية في عليّ عليه السّلام في تفسيره، و لمّا كان نزولها في الأمير يخالف فكرته الخارجية رمي إمامه بالدجل و قال فيه إنه لا يميّز بين الرطب و اليابس.
أما عكرمة الخارجي الكذّاب الّذي لا يحسن الصّلاة فقد تلقّي روايته بالقبول، لأنه روي حديث نزولها في أبي بكر (رض) و نسب نزولها إلي الجمّ الغفير، مع أن الراوي له عكرمة وحده، و لو كان الأمر معكوسا لانعكس أمره عند الآلوسي، و لو جاهر بالحقيقة فقال إني أبغض عليّا عليه السّلام و بنيه عليه السّلام و لا اعترف بهم بشي‌ء من الفضل لأراح نفسه و استراح من سرد هذه المفتريات.

لفظ الوليّ في الآية بمعني الأولي بالتصرّف

الثاني عشر: قوله: (إن لفظ الوليّ مشترك فيه المعاني، و لا يمكن أن يراد من المشترك معني معيّن بلا قرينة).
فيقال فيه: أولا: إن المعني الشائع المنصرف إليه الإطلاق من لفظ الولي هو مالك الأمر فوليّ الصغير من يملك أمره، و وليّ المرأة من يملك أمر نكاحها، و وليّ الأمر من له المطالبة بالقود، و وليّ المقتول من له القصاص، و وليّ العهد من يملك عهد السلطنة و هذا واضح عند من له أدني فهم بلغة العرب و ما تستعمله في كلامها و ما تنطق به في محاوراتها، فالوليّ بمعني الأولي و الأحقّ هو الظاهر المتبادر من هذه اللّفظة عند إطلاقها فهو الّذي يتعيّن الأخذ به لا سواه.
ثانيا: إن القرينة علي إرادة الأولي و الأحقّ من لفظ الولي في الآية ثابتة في منطوقها من وجهين:
الأول: لمّا كان إسناد الوليّ في قولنا وليّ الصغير و وليّ المرأة و وليّ العهد و نحوها قرينة عند أهل العرف علي إرادة مالك الأمر علي وجه لا يحتمل أحد من أهل اللّسان إرادة الحبّ أو الناصر في تلك الجمل و يحكمون جازمين بإرادة مالك الأمر، فكذلك إسناد الوليّ إلي من كانت له السّلطة الثابتة شرعا أو عرفا قرينة قطعية عندهم علي إرادة مالك الأمر، لذا تراهم لا يفهمون من قولك: (وليّ
الآلوسي و التشيع، ص: 403
الرعيّة السّلطان و وليّ عهده و القائم مقامه) إنك تريد المحبّ أو الناصر، بل يحكمون قاطعين أنك تعني مالك الأمر لا سواه.
فالوليّ في الآية من هذا القبيل، و ذلك لأن سلطان اللّه تعالي ثابت علي الخلائق أجمعين بالضرورة عقلا، و كذلك سلطان رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي الأمة جميعا من حيث رسالته و خلافته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عن اللّه تعالي، و إذا تسجّل هذا لديك تعيّن الوليّ في الآية بمالك الأمر، و أن عطف ولاية الّذين آمنوا الّذين يقيمون الصّلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون علي ولاية اللّه تعالي أو علي رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قرينة قطعية علي إرادة اشتراك المعطوف مع المعطوف عليه في الحكم كما يقتضيه العطف، و حينئذ فيلزم أن تكون الولاية الثابتة لمن آتي الزكاة في حال الركوع هي عين الولاية الثابتة للّه تعالي و لرسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هي الولاية بمعني الأولوية و الأحقّية و ملك الأمر بالتصرف في شئون الناس كافة.
الثاني: إن أداة الحصر و هي كلمة: (إنّما) المفيدة للحصر باتفاق أهل اللّغة قرينة قطعية علي أن الآية تريد من الوليّ من له السلطة و ولاية الأمر و أولوية التصرف لا سواه من المعاني لو صح شي‌ء منها من لفظ الوليّ في منطوقها، و ذلك لأن غيرها من المعاني غير منحصرة في اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين فيها بل يتعدي إلي غيرهم من المؤمنين أجمعين.

لا قرينة في سياق الآية علي إرادة المحبّ من الوليّ

الثالث عشر: قوله: (و القرينة من السّياق و هو ما بعده هذه الآية تعيّن إرادة المحبّ).
فيقال فيه: إنّ الآية بحكم الوجدان مفصولة عمّا قبلها من الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء، و مجرد كون الولي في آية أخري سابقة أو لاحقة مفصولة عن هذه الآية بمعني المحبّ لا يستلزم أن يكون معني الوليّ في آية الولاية بمعناها إطلاقا لعدم الملازمة بينها و بين الآية، بل المناسب لسابقها و لاحقها أن يكون معني الولي في هذه الآية بمعني ولي الأمر و الأولي و الأحق بالتصرف في الأمور
الآلوسي و التشيع، ص: 404
فهي ترشد المؤمنين إلي ولي أمركم هو اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنون الموصوفون بإيتاء الزكاة حال الركوع، و أنتم أيها الناس كلّكم تحت ولاية أمرهم، و لا يجوز لكم الإختيار في اتخاذ المودّة بينكم و بين الكافرين بهم سواء في ذلك أهل الكتاب أو غيرهم، و عليكم بالطاعة لمواليكم و امتثال أمرهم و الانتهاء بنهيهم، فالآية فيها من التأكيد للنهي في السّابق و اللّاحق من الآيات ما لا يخفي علي أولي الألباب، كما أن وجود القرينة القطعية في هذه الآية علي إرادة الأولي بالتصرف لا سيما و قد انضم إلي ذلك ما لا يمكن الترديد في إرادة الأولي و الأحق بالتصرف و هو ولاية اللّه تعالي لأوضح دليل علي إرادة الولاية العامة في كلّ شي‌ء، و قد عرفت أن ولاية اللّه تعالي عامة فكذلك الحال في ولاية النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الوليّ عليه السّلام و التفكيك مخالف للحصر و مخالف للسياق و لنصّ الآية و موجب لبطلانها.

إرادة المحبّ من الوليّ في الآية تضر الآلوسي

و لو سلّمنا جدلا أنها تريد بالولي المحبّ و مع ذلك فهو يستلزم الإمامة لقوله تعالي: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
[آل عمران: 31] و تعني هذه الفقرات الكريمة بمقتضي (إن) الشرطية عدم تحقق المحبّة بدون الطاعة، فعليّ عليه السّلام واجب المحبّة مطلقا، و كلّ واجب المحبّة مطلقا واجب الطاعة مطلقا، و كلّ واجب الطاعة مطلقا صاحب الإمامة فعليّ عليه السّلام صاحب الإمامة.
و دليل الصغري آية الولاية و آية المحبّة دليل الكبري في القياس، و لو تفطّن الآلوسي إلي هذه النتيجة لاختار للآية معني آخر لا تمت إليها بصلة لئلّا تدلّ علي خلافة عليّ عليه السّلام بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إلّا أنه وجد من كان قبله يقول إن الولي في الآية بمعني المحبّ، فقال بمقالته تقليدا و بدون أن يشعر بهذه النتيجة الحاصلة مما عيّنه من إرادة المحبّ من الوليّ فيها، و هو ما تقدّم ذكره من ثبوت إمامة عليّ عليه السّلام بنصّ ما عيّنه من معناها فتأمل.
الرابع عشر: قوله: (و ثالثا: إن العبرة بعموم اللّفظ فمفاد الآية حصر الولاية لرجال معدودين).
الآلوسي و التشيع، ص: 405
فيقال فيه: أولا: إن إرادة العموم موجبة لإبطال الوصف الثابت في الآية و هو إيتاء الزكاة حال الركوع و هو باطل، و لأنه يلزم أن يكون من شرط المؤمن إيتاء الزكاة حال الركوع و بطلانه واضح، فإرادة العموم للمؤمنين أجمعين كما يزعم باطلة.
ثانيا: إن إرادة العموم لا تجدي الآلوسي فتيلا، و ذلك لعدم دخول من يريد الآلوسي إدخالهم في الآية لخروجهم عنها و لا دليل له علي دخولهم فيها إطلاقا إذ لا ولاية لهم علي أحد البتة، علي أن من الجائز أن يكون الإتيان بصيغة الجمع لأجل التعظيم للّذين آمنوا و هو عليّ عليه السّلام و هو كثير الوقوع في القرآن الكريم فلا يفيد العموم لا سيّما بلحاظ ما ورد في نزولها فيه عليه السّلام كما يجوز أن يكون الإتيان بلفظ الجمع للدلالة علي لزوم تعدد الإمام، فيكون معناها مطابقا لحديث النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم المتواتر بين الفريقين
بقوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (يكون بعدي إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش)
الّذي قد عرفت عدم انطباقه إلّا علي الأئمة الاثني عشر من أهل البيت عليهم السّلام لا سواهم مطلقا.
ثالثا: إن إرادة العموم موجبة لبطلان معني الآية، و ذلك لأن قوله تعالي:
إِنَّما وَلِيُّكُمُ
يقتضي قطعا أن مرجع الضمير في: (وليّكم) المؤمنون أنفسهم، فلو كان يريد العموم كما يزعم الخصم لزم أن يكون معني الآية هكذا: (إنما ولي المؤمنين المؤمنون) فيكون من إسناد الشي‌ء إلي نفسه، و هو محال باطل لا يجوز حمل كلام اللّه عليه.
الخامس عشر: قوله: «فحمل الجمع علي الواحد متعذر و حمل العام علي الخاصّ خلاف الأصل».
فيقال فيه: إنه مردود من وجهين:
الأول: ما تقدم من إن إرادة جميع المؤمنين بمقتضي العموم تعني حمل الآية علي إرادة المحال و هو معلوم البطلان.
الثاني: إنما يتعذر حمل الجمع علي الواحد و يكون حمل العام علي الخاص خلاف الأصل إن لم يكن ثمة قرينة توجب حمله علي الواحد أو لا يوجد خصوص
الآلوسي و التشيع، ص: 406
يقتضي حمل العام عليه، أما مع القرينة و الخاص فهو المتعيّن عند الراسخين في العلم، و قد عرفت وجود الخاص و القرينة فلا محالة أنه متعيّن فيه لا في غيره.
السّادس عشر: قوله: (أين ذكرت هذه الآية أن التصدق لم يكن من أحد غير عليّ عليه السّلام).
فيقال فيه: إنّما ذكر ذلك أعاظم أعلام أهل السنّة في تفاسيرهم و أخرجوه في صحاحهم، و أنه لم يتصدّق يومئذ أحد غير عليّ عليه السّلام و كان ذلك هو السبب في نزول الآية فيه عليه السّلام و من لا يدري أين ذكرت هذه القصة لا ينبغي له أن يبني علي عدم درايته علما و من يدري حجّة علي من لا يدري و جهلك بذلك لا يكون علما بخلافه، و إذا كانت الآية لم تأت علي ذكر المتصدّق باسمه و نعته فقد جاء حديث النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي ذكره و تعيينه بما أخرجه حفاظ أهل السنّة، و قال تعالي:
وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
[الحشر: 7] فهو صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الّذي ذكر أن التصدّق لم يكن يومئذ من أحد غير عليّ عليه السّلام لذا فلا يجوز لمسلم أن يعدل عنه إلي غيره.
و إذا كان هذا ثابتا في صحاح أهل السنّة فلا يهمنا بعد ذلك أن ينكره الآلوسي و غيره من المبغضين للوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.

استعمال الركوع بمعني الخشوع في القرآن لا يوجب إرادة الخشوع من الركوع في آية الولاية

السابع عشر: قوله: (الركوع بمعني الخشوع مستعمل في القرآن).
فيقال فيه: إنه مردود من وجوه:
الأول: إن استعمال الركوع بمعني الخشوع خلاف الأصل الموضوع له من المعني في اللّغة، فإطلاق أحدهما لا يفيد معني الآخر إلّا مع القرينة و هي مفقودة في الآية.
الثاني: إن استعمال الركوع بمعني الخشوع في القرآن مع القرينة في بعض الآيات لا يقتضي حمل الركوع المستعمل في غيرها بمعناه الحقيقي المتبادر منه عند إطلاقه علي الخشوع بلا قرينة، لذا فلا يصح العدول في الآية عن معناه
الآلوسي و التشيع، ص: 407
الحقيقي الموضوع له في اللّغة و هو الانحناء كالهيئة المرعية في الصّلاة شرعا إلي معني الخشوع لأنه لا يفهم منه و لا يفيده.
الثالث: إن الأمر في آية الولاية معكوس علي الآلوسي، و ذلك لوجود القرينة في الآية علي عدم إرادة الخشوع من الركوع، و هي قوله تعالي: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ
فيكون المعني الّذين يؤتون الزكاة حال ركوعهم في الصّلاة، و الركوع في الصلاة هو الانحناء المرعي فيها في الشريعة و هذا ما يفهمه كلّ عربي عرف لسان العرب و عرف ما تستعمله في كلامها، كما أن إجماع المفسّرين القائم علي أنه عليه السّلام أعطي السّائل خاتمه و هو راكع في صلاته قرينة أخري علي عدم إرادة الخشوع من ظاهر لفظ الركوع.
الرابع: لو سلّمنا جدلا أن الآية تريد من الركوع الخشوع و مع ذلك فلا يدخل فيها من يريد الآلوسي إدخالهم، إذ لا نسلّم له أنهم من الخاشعين حتّي يكونوا من أفرادها، و مهما تكلّف الآلوسي في صرف الآية بالتأويل عن وجه دلالتها و سبب نزولها تبعا للهوي لإثبات دخول أئمته فيها، فلا يجد به نفعا بعد أن كان ذلك كلّه منطوقا و مفهوما لا يتفق مع مزعمته أبدا.

ما زعمه من التناقض و التخالف في إرادة عليّ عليه السّلام من الوليّ في آية الولاية

الثامن عشر: قوله: (و لا يجوز حمل كلام اللّه علي التناقض و التخالف).
فيقال فيه: كان علي الآلوسي إن يذكر لنا موردا واحدا من التناقض و التخالف توجبه إرادة عليّ عليه السّلام من الوليّ في الآية، و لو صح ما زعمه لزمه أن يقول إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان جاهلا بمعني هذا التناقض و التخالف، فحمل كلام اللّه عليهما إذ نصّ علي أن الوليّ في الآية بعده صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هو عليّ عليه السّلام فرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بزعم الآلوسي ما كان يعلم بهذا التناقض الّذي علمه هو فامتنع من حمل كلام اللّه عليه دون النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو كان صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يعلم به و لكنه أراد أن يحمل كلام اللّه عليه بتنصيصه بالولاية فيها علي عليّ عليه السّلام بعده و هل هناك كفور أعظم من هذا الكفور.
الآلوسي و التشيع، ص: 408
و الغريب من هذا الآلوسي أنك تراه يزعم أن إرادة عليّ عليه السّلام من الولي في الآية توجب حمل كلام اللّه علي التناقض و التخالف علي زعمه دون أن يشعر إلي ما زعمه هنا في عليّ عليه السّلام بعينه يأتي علي زعمه: (و قد روي الجم الغفير نزول الآية في أبي بكر) فإرادة عليّ عليه السّلام من الولي عند الآلوسي توجب حمل كلام اللّه علي التناقض و التخالف، أما إرادة أبي بكر (رض) فلا توجب شيئا من ذلك عنده.
و هل يا تري هناك تناقضا و تعصّبا أعمي للباطل أقبح من هذا، و من ثم فإنه يرد عليه كلّ ما زعمه واردا علي تفسير الآية في عليّ عليه السّلام أللّهمّ إلّا أن يخصصه بغض الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ثم أن إيتاء الزكاة في الصّلاة لا ينافي الصّلاة مطلقا، لأن الزكاة عبادة دخلت في عبادة أخري، و تداخل العبادات بعضها في بعض شي‌ء جاءت به الشريعة و رجحته في كثير منها.
و أما قول الخصم: (إن ذكر الزكاة بعد إقامة الصلاة مضر لكم لأن المراد بالزكاة الزكاة المفروضة لا الصدقة).
فيقال فيه: إنه مردود لوجهين الأول: إن حمل الزكاة علي إرادة خصوص الزكاة المفروضة من التصرف في عموم الآية بلا قرينة و هو باطل، و الزكاة في منطوقها أعمّ من المفروضة فتخصيصها بالمفروضة تخصيص بلا مخصص و هو باطل.
الثاني: لا دلالة في الآية علي أن الزّكاة التي أعطاها الأمير إلي السّائل كان من التصدّق المندوب، و لفظ الصدقة يعم المندوبة و غيرها، و الصدقات هي عين الزكوات المدلول عليها في القرآن بقوله تعالي: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ
[التوبة: 60] و الآية تعني الزكوات المفروضة، و قياس الآلوسي قول اللّه تعالي في الآية علي قول القائل: (إنما يليق بالسّلطنة من بينكم من له ثوب أحمر) من أقبح القياس الموجب لإسقاط كلام اللّه و حمله علي اللّغو، و ذلك فإن إيتاء الزكاة حال الركوع فضيلة لعليّ عليه السّلام لم تكن لسواه لوقوعها في خير مواضعها حتي أنزل اللّه تعالي فيه قرآنا، و ربّ صفة تعلو بصاحبها إلي ما شاء ربك و من
الآلوسي و التشيع، ص: 409
ذلك هذه الصفات التي اتصف بها إمام الأمة و خليفتها الأول بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فكيف يجوز للآلوسي أن يقيس هذا علي ذاك و يحمل كلام اللّه تعالي لأجله علي اللّغو و الجزاف، نعوذ باللّه من البغي و النفاق.

لا تعارض بين آية الولاية و بقية الآيات الدالّة علي إمامة الأئمة الأطهار عليهم السّلام

التاسع عشر: قوله: (إن هذه الآية و إن كانت دليلا علي حصر الولاية في عليّ عليه السّلام لكن يعارضها الآيات الدالّة علي إمامة الأئمة الأطهار).
فيقال فيه: إن التعارض يعني تنافي الدليلين من جميع الوجوه علي وجوه لا يمكن التوفيق بينهما و يكون العلم بصدق أحدهما كذب للآخر، و من المستحيل أن يكون شي‌ء منه واقعا في كتاب اللّه فإن كتاب اللّه كلّه صدق صدق كلّه، فكيف يجوز أن يقع فيه شي‌ء من التعارض بين آياته كما يزعم الخصم الّذي لا يفهم معني التعارض و لا يدري ما هو فينسب إلي كتاب اللّه ما لا يجوز لمسلم أن ينسبه إليه، و بعد فإن تلك الآيات الدالّة علي إمامة الأئمة الأطهار عليهم السّلام لا تصادم آية الولاية، و ليس بينهما تعارض مطلقا لورودها في جهة و ورود تلك في جهة أخري لا دخل لإحدي الجهتين بالأخري، فهما مختلفان موضوعا و محمولا و مع اختلاف الموضوع في الدليلين فلا تعارض في البين.
و إن أراد التعارض بينهما لمكان الحصر في آية الولاية فمردود بما تقدم ذكره من صحة حصر الولاية في المترتب عليه في السلسلة الطولية لرجوع ولاية المترتب إلي ولاية عليّ عليه السّلام و ليست هي في عرضها حتي ينافيها.

عدم وجود آية فضلا عن آيات في خلافة الخلفاء الثلاثة (رض)

العشرون: قوله: «و تلك الآيات المعارضات هي الآيات الناصّة علي خلافة الخلفاء (رض)».
فيقال فيه: لو كانت هناك آية فضلا عن آيات في خلافة الخلفاء الثلاثة لاحتج بها أبو بكر (رض) يوم السّقيفة علي من نازعه في الخلافة، و لكان اللّازم
الآلوسي و التشيع، ص: 410
عليه أن يوردها لهم بدلا من أن يقول لهم: (نحن الأمراء و أنتم الوزراء) فإنه كان يومئذ في أمسّ الحاجة إليها لو كانت نازلة في خلافته، بل لو كانت لأوردها أولياؤه في السّقيفة تقربا له، و لو كان هناك آيات في خلافتهم فلما ذا لم يذكرها أبو بكر (رض) حينما استخلف عمر (رض) من بعده و قد قالوا له: (ما أنت قائل لربّك إذا سألك عن تولية عمر علينا و قد تري غلظته، فقال أبو بكر: باللّه تخوفني، أقول اللّهم استخلفت عليهم خير أهلك، فإن عدل فذلك ظني فيه و علمي به، و إن بدّل فلكلّ امرئ ما اكتسب، و الخير أردت و لا أعلم الغيب) [1].
فأين عنه تلك الآيات المزعومة في خلافته ليدلي بها عليهم و يذكرها لهم إن كان ثمة آيات كما يزعم الآلوسي، بل لو كانت هناك آية فضلا عن آيات ناصّة علي خلافة عمر (رض)- كما يزعم- لكان المناسب أن يجيب ذلك القائل بها لا بغيرها، و كان عليه أن يقول لو صح شي‌ء منها في خلافته: (ليس لي بدّ من استخلافه عليكم، لأن اللّه أنزل في استخلافه عليكم آيات، و نصّ بها عليه بالخلافة).
و من حيث أن أبا بكر (رض) لم يقل ذلك و قال: (استخلفت عليهم خير أهلك فإن عدل أو بدل) الدالّ علي ترديده الموجب لشكّه فيه و المنصوص عليه من اللّه طبعا لا يمكن أن يقع الشكّ و الترديد فيه إطلاقا، علمنا أن ما زعمه الخصم من الآيات في خلافته كذب و افتراء، و لا جائز علي الخلفاء ألّا يعلموا بتلك الآيات الناصّة علي خلافتهم فيتركوها و هي أقوي سلاح لهم في إثباتها، أو ينسوها فلا يذكروها و يعلم بها الآلوسي و لا ينساها، كما لا يجوز عليهم ألّا يعرفوا وجه دلالتها و أنها لا تريد واحدا منهم أبدا فلم يذكروها و عرف ذلك الآلوسي فزعم دلالتها علي خلافتهم (رض) و إذا كان الخلفاء (رض) لم يعرفوا وجه دلالتها فأعرضوا عنها فلا جائز علي أهل السّقيفة ألّا يعرفوا ذلك فلا يذكروه مع قربهم من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إذا بطل هذا بطل ما زعمه الخصم من الآيات في خلافتهم (رض).
__________________________________________________
[1] هكذا سجله الهيتمي في ص (87) في الفصل الثاني من الباب الرابع في خلافة عمر بن الخطاب (رض) من الصواعق المحرقة لابن حجر.
الآلوسي و التشيع، ص: 411
و أما خلافة عثمان فأثبتوها بزعمهم بالشوري التي ابتكرها الخليفة عمر (رض) و لم يذكر أحد نزول آية في خلافته فضلا عن نزول آيات فيها كما يزعم [1].
فالآلوسي يورد الآيات و يزعم أنها ناصّة علي خلافة الخلفاء (رض) و الخلفاء أنفسهم (رض) لا يعرفون شيئا من أمرها و لم يأتوا علي ذكر آية واحدة منها في إثبات خلافتهم، فهو ينسب الجهل بتلك الآيات إلي الخلفاء (رض) فيطعن فيهم طعنا صريحا و يفتري عليهم افتراء فظيعا، فيعزي إليهم ما يجهلون، كما نسب الجهل إلي الصحابة جميعا بمفهومها و وجه دلالتها، لأن واحدا منهم لم يقل عند ما احتدم النزاع في السّقيفة: (لما ذا تتنازعون و هذه الآيات التي أوردها الآلوسي ناصّة علي خلافة أبي بكر (رض) تمنعكم من التنازع و توجب عليكم الخضوع لها و التسليم لأمرها) و من حيث أن شيئا من ذلك لم يقع إطلاقا علمنا أن ما ادعاه الآلوسي من الآيات الناصّة علي خلافة الثلاثة كذب و انتحال لا أصل له حتي عند الخلفاء الثلاثة (رض).

بطلان الإحتجاج بغير المسلّم ثبوته

و الغريب من الآلوسي- و إن كانت مزاعمه كلّها غريبة- أنك تراه تارة يزعم:
(أن الإحتجاج بالآيات أو الأحاديث لا بدّ و أن تكون مسلّمة الثبوت عند الخصم لأن الغرض من إقامتها إلزامه بما هو حجّة لديه و عليه) و أخري كما تراه هنا يحتج بآيات يزعم أنها ناصة علي خلافة الخلفاء (رض) مما لا تعرفه الشيعة و تطعن أشدّ الطعن فيه، بل يحكمون بكذب كلّ حديث تفرّد به خصومهم في فضل الخلفاء الثلاثة (رض) و يعتقدون أن كلّ آية أو رواية زعموا نزولها أو ورودها فيهم (رض) هي من وضع أوليائهم فيهم تعصبا لهم لا سيّما عصر معاوية بن أبي سفيان و غيره من الأمويّين و العباسيّين، ذلك العصر المظلم بغياهب الظلم و الفساد و التعصب و العناد و السّجون و الإرهاب فكيف يسوغ له الإحتجاج بذلك عليهم و هم يتبرءون منه، و ناهيك بتناقضه هذا دليلا علي جهله بأصول المناظرة.
__________________________________________________
[1] تجد قصة الشوري في ص 103- 104، في الباب السادس في خلافة عثمان بن عفان (رض) من الصواعق المحرقة لابن حجر.
الآلوسي و التشيع، ص: 412
فظهر من جميع ما تلوناه عليك سلامة الآية عن المعارض مطلقا، و أنها نصّ صريح في إمامة عليّ عليه السّلام بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بطلان خلافة المتقدمين عليه، و أن ما أدلي به الآلوسي من القول و ضعيف الرأي ليوهن به ركن الآية قد أوهن به قرنه قبل أن يوهنها أو يمسّها بشي‌ء: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ
[المائدة: 67] [1].

تمسك الشيعة بآية الولاية لم يكن بخبر الواحد

قال الآلوسي ص: (101): بعد كلام طويل فارغ لا لب فيه قال: «إن تمسك الشيعة بهذه الآية كان باطلا أيضا، لأن التمسك بالآية التي يتوقف دلالتها علي خبر الواحد لا يجوز في مسألة الإمامة».
فيقال فيه: لا زال الآلوسي يعطينا صورا متنوعة من صور الافتراء ليخدع بمزاعمه القراء، و لا أحسب أن هذه المفتريات تنشب بذهن مسلم عرف الدين و وقف علي أصوله و فروعه وقفة الباحث البصير.
فإن قوله: «فيتوقف دلالة الآية علي خبر الواحد و هو لا يجوز في مسألة الإمامة» فاسد من وجهين:
الأول: ما تقدم ذكره من أن دلالة الآية كانت بالأحاديث المتواترة بين الفريقين، و أن إجماع المفسرين من أهل السنّة و الشيعة قائم علي نزولها في ولاية عليّ عليه السّلام لا في غيره.
الثاني: لمّا كان خبر الواحد حجّة عند خصوم الشيعة في مسألة الإمامة كان الاستدلال به عليهم إلزاما لهم بما ألزموا به أنفسهم من حجيّة آحاد الخبر صحيحا لا ريب فيه، و كيف لا يكون حجّة في مسألة الإمامة و قد قامت خلافة أهل السّقيفة عليه، فإن حديث الخلافة في قريش الّذي أورده أبو بكر (رض) ليدفع به الأنصار
__________________________________________________
[1] و يقول ابن حجر في الفصل الثالث من الباب التاسع في ثناء الصحابة علي عليّ عليه السّلام ص: (125) من الصواعق المحرقة لابن حجر، عن ابن عباس، قال: (ما أنزل اللّه يا أيّها الّذين آمنوا إلّا و عليّ أميرها و شريفها، و لقد عاتب اللّه أصحاب محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في غير مكان و ما ذكر عليّا إلّا بخير).
الآلوسي و التشيع، ص: 413
عن منصب الخلافة هو من آحاد الخبر، لأن الراوي له واحد و هو أبو بكر (رض) و عليه بنوا صحة خلافته عندهم و لكن بغض الآلوسي للوصيّ عليه السّلام و حقده علي آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم منعاه من التمسك بالآية علي ولاية الأمير عليه السّلام لا ما زعمه من توقف دلالتها علي خبر الواحد، إذ لو كان صادقا في زعمه لبطل قوله بدلالة الآية علي ولاية أبي بكر (رض) و تناقض فيه لأن الراوي نزولها فيه (رض) هو عكرمة الحروري، و هو من آحاد الخبر لا يقتضي علما و لا عملا و: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ
[القمر: 26].
قال الآلوسي ص: (102): «و منها قوله تعالي: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
[الأحزاب: 33] قالت الشيعة: أجمع المفسرون علي نزولها في حق عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام و هي تدل علي عصمتهم دلالة مؤكدة و غير المعصوم لا يكون إماما، و هذه المقدمات كلّها مخدوشة، أما الأولي: فلكون إجماع المفسرين علي ذلك ممنوعا لما روي نزولها في نساء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم- إلي أن قال-: و الظاهر من ملاحظة السّياق إرادة خطاب الأزواج المطهّرات و افتتاح كلام جديد مخالف للبلاغة التي هي أقصي الغاية في كلام اللّه تعالي.
و أما إبراز ضمير جمع المذكر في (عنكم) فبملاحظة لفظ الأهل فإن العرب تستعمل صيغ التذكير في المؤنث، و في الصحيح أن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم دعا هؤلاء الأربعة و أدخلهم في عباءته و دعا لهم و
قال: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا، و قالت أم سلمة: أشركني فيهم، قال: أنت علي خير و أنت علي مكانتك)
فهو دليل صريح علي أن نزولها كان في حقّ الأزواج فقط، و لو كان نزولها في حقّ الأربعة لما كانت الحاجة إلي الدعاء، و ما كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ليفعل تحصيل حاصل».
ثم تكلم بسلسلة طويلة من الهراء إلي أن قال:
«لأن وقوع مراد اللّه غير لازم لإرادته عند أهل السنّة، فرب أشياء يريد اللّه وقوعها و يمنعه الشيطان و الإنسان من أن يوقع ذلك، لو كانت هذه الكلمة مفيدة
الآلوسي و التشيع، ص: 414
للعصمة ينبغي أن يكون الصّحابة لا سيّما الحاضر في غزوة بدر قاطبة معصومين، لأن اللّه تعالي قال في حقّهم في مواضع و لكن يريد ليطهّركم و يتم نعمته عليهم.
أما المقدمة الثانية: فلأن غير المعصوم لا يكون إماما مقدمة باطلة ممنوعة يكذبها الكتاب و أقوال العترة سلّمنا، و لكن يثبت من هذا الدليل صحة إمامة الأمير عليه السّلام أما كونه إماما بلا فصل فمن أين؟ إذ يجوز أن أحدا من السّبطين يكون إماما قبله و لا محذور و التمسك بالقاعدة التي لم يقل بها أحد دليل العجز إذ المعترض لا مذهب له».

نزول آية التطهير في عليّ و فاطمة و الحسنين عليهم السّلام

المؤلّف: أولا: قوله: (فلكون إجماع المفسّرين علي ذلك ممنوعا).
فيقال فيه: إن مراد الشيعة من إجماع المفسّرين هاهنا و في مثله اتفاق المفسرين من أهل السنّة و الشيعة علي ذلك، و هذا المعني ثابت بموافقة بعض المفسّرين من علماء أهل السنّة لهم، فضلا عمّا إذا كان أكثر المفسرين عليه لا سيّما إذا كان المخالف حادثا متأخرا عنهم بقرون، فيكون من المجمع عليه بين الفريقين و الحجّة فيه لا فيما اختلف فيه الفريقان فإنه لا حجّة فيه علي الخصم المخالف، فدعوي الآلوسي نزول الآية في نساء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فمع كونها فاسدة في نفسها بقرينة سياق الآية و غيره لا يكون حجّة علي الشيعة لتفرّده بنقله، و هذا بخلاف نزولها في الأربعة فإنه متفق عليه بين الخصمين فهو الحجّة عليهم لا سواه، مع أن المخالف مسبوق بالإجماع علي خلافه فلا يعتد به خاصة إذا علمنا بغضه للوصيّ عليه السّلام و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أنّه علي هذا الأساس فسرها في أزواجه فحملوا الآية علي غير أهلها مخالفين في ذلك الدليل و البرهان.
فهذا ابن حجر يقول في صواعقه ص: (85) في الفصل الأول من الباب الحادي عشر في فضائل أهل البيت النبويّ: (أكثر المفسّرين علي إنّها نزلت في عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين) و لا شك في أن الترجيح مع الأكثر لتقدمه و حدوث المتأخر لا سيّما بملاحظة اتفاق الشيعة معهم علي ذلك.
الآلوسي و التشيع، ص: 415

الآية لا تريد أزواج النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

ثانيا: قوله: (و الظاهر من ملاحظة سياق الآية إرادة الأزواج).
فيقال فيه: إنه مردود من وجوه:
الأول: إنّ في تغيير الأسلوب في الآيات المتقاربة المسوقة لذكر أهل البيت عليهم السّلام و أزواج النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و العدول عن خطاب المؤمنات إلي الذكور (دقيقة) لم يهتد لها الآلوسي، و إنما زعم نزولها في الأزواج تبعا للآخرين تقليدا و بغير تفكير و تلك هي، إن مقام أهل البيت عليهم السّلام عند اللّه هو غير مقام أزواجه عليه السّلام و لا يمكن لإحداهن الوصول إليه إطلاقا لذا أخرجهن اللّه عن أهل البيت عليهم السّلام إخراجا كما ستقف عليه.
الثاني: إن إطلاق أهل البيت علي الأزواج ليس علي أصل وضع اللّغة و إنما هو إطلاق مجازي لا يصار إليه إلّا مع القرينة، لذا تري الآلوسي اعتبر السّياق قرينة علي إرادة الأزواج دون أن يشعر إلي أن قرينة السّياق مخالفة لإرادته و مدمّرة لمبتغاه، و لو كان من المشترك اللّفظي لعيّنته قرينة السياق التي تأبي إرادة الأزواج كلّ الإباء مع قطع النظر عمّا ورد في نزولها في الأربعة باتفاق الفريقين.
الثالث: إنّ الآية نصّ صريح في حصر التطهير بأهل البيت عليه السّلام من الرّجس- أي مطلق الذنب- و قصره عليهم بقرينة: (إنّما) و الإرادة دلالة علي وقوع الفعل للمراد لاستحالة تخلّف مراده عن إرادته التكوينية، لقوله تعالي: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[يس: 82] و حينئذ فلا يجوز وقوع الذنب ممن طهّره اللّه من مطلق الذنب.
فلو كانت الآية تريد الأزواج لزم حمل كلام اللّه علي التنافي و التناقض لأجل أزواج النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي حدّ زعم الآلوسي و هو لا يجوز، فذلك مثله لا يجوز، و لمّا كان التناقض في قوله تعالي مستحيلا كانت إرادة الأزواج من الآية مستحيلة أيضا.
توضيح ذلك هو: أنه لو كان يريد الأزواج لكان قوله تعالي في السياق:
إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَ
[الأحزاب: 28]
الآلوسي و التشيع، ص: 416
- أي أطلقكن- مناقضا لتطهيرهن من مطلق الذنوب، لأنها ملعبة و مفاخرة بغير تقوي اللّه بقرينة ما بعدها من قوله تعالي: وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ
[الأحزاب: 29] فلو كان أهل البيت في الآية هم نساء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لبطل هذا التفصيل و لم يكن له في الوجود صورة و القول ببطلانه كفر و ضلال.
الرابع: لو صح أن الآية تريد نساء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لكان ذلك أيضا مناقضا لقوله تعالي في السياق: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ
[الأحزاب: 30] لأن فيه دلالة واضحة علي جواز الفاحشة عليهن، فأين هذا من التطهير و عدم جواز الفاحشة علي أهلها كما هو مفادها.
الخامس: لو كانت الآية تريد نساء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فما معني قوله تعالي:
عَسي رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ
[التحريم: 5] أ و ليست هذه آية أخري علي أن اللّه تعالي قد أباح لرسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم طلاقهن، و لما ذا يا تري أباح له ذلك و النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من قد عرفناه و عرفنا قول اللّه تعالي فيه: وَ إِنَّكَ لَعَلي خُلُقٍ عَظِيمٍ
[القلم: 4] أو ليس ذلك لصدور ما يوجب غضبه و تنفره من بعضهن، و ليس من الممكن المعقول أن يقدم النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و من كان ذلك شأنه علي مفارقة بعض زوجاته بالطلاق إلّا لحدوث عظائم الأمور منهن، و أين هذا من التطهير من كلّ الذنوب المدلول عليه في الآية.
السّادس: لو صح أنها تريد الأزواج فأي معني يا تري لقوله تعالي في السياق: أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً
[التحريم: 5] أو ليس هذا يرشد: لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَي السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ
[الأحزاب: 6] إلي أن هناك نساء في عصرهن خير منهن قبل أن يتزوج بهن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لا شك في أن طهارة تلك النّسوة من الذنوب باطلة بإجماع الأمة فكيف يا تري يكون من المعقول أن غير المعصومات في عصر نسائه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خير من نسائه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لو كنّ معصومات كما يزعم الخصوم.
و إنّما أوردنا لك ذلك كلّه لتعلم أن ما زعمه الآلوسي من نزول الآية في نساء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يعتمد إلّا علي التقليد الأعمي الّذي هو آفة الأيمان الذي يورد صاحبه إلي الجحيم.
الآلوسي و التشيع، ص: 417

احتجاج الآلوسي (و أزواجه أمهاتهم)

و أما الإحتجاج بقوله تعالي: وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ
[الأحزاب: 32] ففاسد كفساد أوله و ذلك لأنه آية علي تفضيل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و تعظيمه و ليس فيه ما يدلّ علي تفضيلهنّ و تعظيمهنّ و كونهنّ أمهات المؤمنين لا يمنع من عدم إيمانهن فضلا عن عدم عصمتهن، إذ لا ملازمة بين كونهن أمهات المؤمنين و بين عصمتهن أو إيمانهن، فإن أم المؤمن قد تكون غير مؤمنة فضلا عن كونها غير معصومة.
و أما قوله: و يدل علي ذلك قوله تعالي: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ
[الأحزاب: 32] فمعطوف بفساده علي فساد قوله الأول، و ذلك لأنه مشروط بالتقوي كما يقتضيه قوله تعالي في آخر الآية: إِنِ اتَّقَيْتُنَ
فالشرط بعد لم يحصل فالمشروط مثله لم يحصل، فأيّ فضيلة لهن في هذا و لا دليل لخصومنا علي حصوله أصلا و فرعا، و لو سلّمنا جدلا حصوله فلا يدلّ علي شي‌ء من العصمة مطلقا.
و أما التدليل بقوله تعالي: إِنْ تَتُوبا إِلَي اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما
[التحريم 4] علي تفضيلهن فمعكوس علي هذا المستدل لوضوح ظهوره في سبق العصيان منهما كما يقتضيه قوله: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما
و أما صدر الآية فلا يشعر بشي‌ء من التوبة منهما البتّة، بل فيه دلالة صريحة علي عدم تحققها بقرينة المقابلة من قوله تعالي: وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ
[التحريم: 4] و هما أم المؤمنين عائشة و حفصة (رض) كما في الدر المنثور و غيره من تفاسير أعلام أهل السنّة في تفسير هذه الآية من سورة التحريم، و أخرجه البخاري في بابين من أبواب صحيحه ففي ص: (47) من جزئه الثاني في باب إماطة الأذي، و في ص: (175) من جزئه الثالث في باب غيرة النّساء و وجدهن، فأين العصمة المزعومة لهن في زعم الخصوم؟ كما أن: (إن) الشرطية في علم البيان لا تفيد القطع بالوقوع بل تفيد الشك بوقوع ما بعدها و الأصل يقتضي عدمه.
الآلوسي و التشيع، ص: 418

مجي‌ء آية التطهير في سياق آيات نساء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم غير مخلّ بالبلاغة

ثالثا: قوله: «و افتتاح كلام جديد مخالف لوظيفة البلاغة».
فيقال فيه: إنه مردود من وجوه:
الأول: إن مجي‌ء آية التطهير في سياق آيات النّساء لو كان مخلّا بالبلاغة لزم الآلوسي أن يقول بمخالفة البلاغة في كثير من آيات الذكر الحكيم و اللّازم باطل فالملزوم مثله، و ذلك لوجود الاستطراد بين الكثير من كلماته المتناسقة بإيراد جملة أجنبية كما في الآية و في غيرها، و من ذلك قوله تعالي: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ
[يوسف: 29] فقد استطرد قوله: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا
بين كلاميه و هي أجنبية عنهما.
و منها قوله تعالي فيما حكاه عن بلقيس: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ
[النمل: 34- 35] فقوله: وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ
مستطرد من جهة اللّه تعالي بين كلام بلقيس، و نحو هذا كثير الوقوع في الكتاب و السنّة و كلام العرب العرباء يضيق المقام عن تعداده، فما زعمه الآلوسي من أنّ ذلك إخلال لوظيفة البلاغة هو الإخلال الفظيع و التصرف القبيح و صرف لآيات الكتاب العزيز عن معناها بغير دليل.
فآية التطهير جاءت من هذا القبيل معترضة بين آياتها للتنبيه و البيان علي شدّة عناية اللّه تعالي بأهل بيت نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم (عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين) عليهم السّلام و ترغيب أزواج النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إلي العفّة و الصلاح و التزام جادّة الصواب، و لئلا ينال الأربعة و لو من جهتهن لومة لائم.
الثاني: لا خلاف في وقوع الاختلاف في ترتيب نزول الآيات، و أن ترتيبه لم يكن علي حسب ترتيبه في النزول إجماعا و قولا واحدا، فهناك آيات مدنية مقدمة علي آيات نزلت بمكّة، و ذلك حينما جمع الكتاب غير أهله فقدّم و أخّر في
الآلوسي و التشيع، ص: 419
ترتيبه لحاجة في نفسه، فالاحتجاج بالسّياق لو لم يكن دليلا لنا عليه بذلك التحقيق فلا يكون دليلا له علي شي‌ء، بل و لا يصادم الصحاح الناصّة علي نزولها في الأربعة الّذين هم تحت الكساء علي حدّ تعبيرها بالإجماع.
الثالث: لو فرضنا جدلا معارضة السّياق لها، و مع ذلك فلا وثوق حينئذ بنزولها في ذلك السّياق مع وجود الاختلاف في ترتيب نزول الآيات لا سيّما و قد عرفت عدم إمكان تطبيق الآية علي نسائه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لسن بصغري لها في شي‌ء، و أما حمل الآية علي خلاف سياقها فلا ينافي البلاغة كما مرّ خاصة إذا كانت القرينة موجودة في نفس السّياق علي خلافه فضلا عمّا إذا قام الدليل القطعي عليه كما ألمعنا.
رابعا: قوله: (فإن العرب تستعمل ضمير التذكير في المؤنث).
فيقال فيه: إن استعمال العرب ضمير المذكر في المؤنث مع القرينة لا يقتضي حمل الآية عليه بدون قرينة لا سيّما لو كان يريد النّساء لكان الخطاب في الآية بما يصلح للإناث من قوله: عنكنّ و يطهّركنّ لأن هذا هو المناسب كما في غيرها من آيات النّساء، فتذكير ضمير الخطاب فيها خاصة دون غيرها من آياتهن قرينة واضحة لذي بصيرة علي عدم إرادة نسائه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ليس في اللّه تعالي عيّ من أن يأتي بضمير النّسوة لو كان يريد نساءه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مع علمه تعالي بأن الموضوع له الضمير في: عَنْكُمُ
و يُطَهِّرَكُمْ
للذكور، و إطلاقه علي الإناث و لو للتعظيم إطلاق علي غير ما وضع له و هو غير صحيح إلّا مع القرينة، و قد أريناك أنه تعالي نصّب القرينة علي عكس ذلك في سياق الآية فلا يصح حمل الآية عليه بدعوي أنّ العرب تستعمله أحيانا مع القرينة و الآية لا ترضي به و تطعن فيه.

ما قاله الآلوسي من تحصيل حاصل في دعاء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

خامسا: قوله: (و لو كانت نازلة في حقهم لما كانت الحاجة إلي الدعاء، و ما كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ليفعل تحصيل حاصل).
فيقال فيه: إن
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (اللّهم هؤلاء أهل بيتي)
من أظهر الأدلّة و أقواها علي أن الأربعة هم أهل بيته لا غيرهم من نسائه، فهو صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يريد تنبيه
الآلوسي و التشيع، ص: 420
القوم علي أنه لا أهل له سوي هؤلاء الأربعة الّذين هم تحت الكساء خشية أن يقول قائل إن نساءه أهله الّذين نزلت فيهم الآية، و لكي يكون إنكار الآلوسي و غيره من خصوم الشيعة بعد هذا لهم عليهم السّلام و كونهم أهله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا سواهم دليلا علي جحودهم و ردّهم قول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ردا مكشوفا واضحا لا ما توهمه الخصم من استلزام ذلك طلب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم تحصيل حاصل.
و لو كان ذلك من تحصيل الحاصل لما أنكر الآلوسي كونهم أهله و زعم أن نساءه أهله دونهم، فالنبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مع تأكيده علي القوم و تنبيهه لهم بأن هؤلاء الأربعة أهلي فاحفظوني فيهم و لا تنكروهم بعدي و تقولوا أن أهل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:
(هم أزواجه) تري هذا الآلوسي المتناقض المبطل يقول: إنهم ليسوا من أهله و إنّما أهله نساؤه، ثم يقول: إن دعاء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:
(اللّهم هؤلاء أهلي)
تحصيل حاصل.
و يدلك علي ما ذكرنا
قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في الصحيح: (أذكركم اللّه في أهل بيتي، قالها ثلاثا)
و
قول أم المؤمنين أم سلمة: (إني رفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي، و قال: إنك علي خير)
و
في حديث آخر إنها سألته: (أ لست من أهل البيت؟ قال: إنك علي خير)
فراجع ثمة حتي تعلم كذب هذا الآلوسي في تقريره عدم نزول الآية في الأربعة و أنها نازلة في نسائه، و أنت تري رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يعترف لأم سلمة بأنها من أهل البيت عليهم السّلام و إنّما جذب الكساء من يدها و منعها من الدخول معهم، و
قال لها: (أنت علي خير أو أنك علي خير)
مع أنها من أهل اللّسان، فلو كانت من أهل البيت عليهم السّلام لما سألته بقولها: أ لست من أهل البيت.
فكل هذا دلائل واضحة عند من لم يعصب عينيه بعصابة سوداء علي عدم كونها من أهل البيت عليهم السّلام و أن الآية ما عنتها و ما عنت غيرها من نساء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إطلاقا.
و أما قول الآلوسي: (و قالت أم سلمة: اشركني فيهم،
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (أنت علي خير و أنت علي مكانتك)
فهو دليل صريح علي أن نزولها كان في حق الأزواج).
الآلوسي و التشيع، ص: 421
فيقال فيه: إن النتيجة الحاصلة من مقال النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أم سلمة معكوسة علي الآلوسي و حجّة لخصمه عليه لا له؛ و ذلك لو كانت الآية نازلة في حقّ الأزواج- علي حدّ زعمه- لا شركها مع من كان تحت الكساء، إذ لا يناسب كونها من أهل الآية و رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يمنعها من الدخول معهم، و
يقول لها: (أنت علي خير، و أنت علي مكانتك)
اللّهم إلّا أن يقول الآلوسي إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أراد بذلك أن يغمط حقّها و يخرجها عن الآية و هي من أهلها فخالف بذلك ربّه و عصي أمره بمنعه لها من الدخول معهم و هذا هو الكفر بعينه، فإذا بطل كون أم سلمة من أهل البيت لأنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يشركها معهم بطل أن تكون الآية نازلة في حقّ الأزواج، و إنما كان نزولها في خصوص الأربعة لم يدخل معهم فيها داخل و لا داخلة و لا دخيلة من نسائه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و أما ما روي عن أم سلمة، أنها قالت: و أنا من أهل البيت، فساقط في نفسه و معارض بحديثها الصحيح المتفق عليه الّذي فيه قولها: اشركني معهم، و
قول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لها: (إنك علي خير، و أنت علي مكانتك)
و الحجّة في هذا لأنه من المتفق عليه بين الفريقين بخلاف ذلك فإنه مزور موضوع صاغه الأمويون و أذنابهم ليصرفوا الآية عن محلّها فلا حجّة فيه مطلقا.
فإذا كانت الآية لا تتفق مطلقا مع ما يدّعيه الآلوسي من نزولها في أزواج النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إذا كان هذا ما حكاه اللّه تعالي عن حال أزواجه في كتابه المبين فلا يتجرأ من له شي‌ء من الدين علي أن يزعم نزول الآية في نساء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و كيف يا تري ترقي نساؤه منزلة فوق منزلتهن؟
و إن رمت المزيد فإليك ما أخرجه البخاري في ص: (47) من صحيحه في باب إماطة الأذي من جزئه الثاني، عن ابن عباس في حديث طويل سأل فيه ابن عباس عمر بن الخطاب (رض) عن المرأتين من أزواج النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم اللّتين قال اللّه فيهما: إِنْ تَتُوبا إِلَي اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما
فقال عمر (رض): (وا عجبا لك يا ابن عباس، هما عائشة و حفصة كانتا تغضبان النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و تهجرانه اليوم إلي اللّيل، فدخلت علي حفصة فإذا هي تبكي، قلت: ما يبكيك؟ أولم أكن حذرتك
الآلوسي و التشيع، ص: 422
أطلقكن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قالت: لا أدري) انتهي نقل بعضه بالمعني و من هذا و نحوه تعرف الفرق بين أهل بيت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أزواجه، و يتضح لك حال خصم الشيعة و قبيح مفترياته.

فساد ما زعمه من أن مراد اللّه غير لازم الوقوع لمنع الشيطان و الإنسان له عن إيقاع مراده

سادسا: قوله: (لأن وقوع مراد اللّه غير لازم لإرادته، لأن الشيطان و الإنسان يمنعانه من وقوع ذلك).
فيقال فيه: إن كان يريد أن إرادة اللّه التكوينية المتعلّقة بخلق الأشياء و إيجادها لا تلازم وقوعها و يمكن تخلفها، و أن الشيطان و الإنسان قادران علي منع وقوعها كما يقتضيه قوله: (فرب أشياء يريد اللّه وقوعها و يمنعه الشيطان و الإنسان) فذلك تكذيب للقرآن لقوله تعالي: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[يس: 82] و قوله تعالي: وَ إِذا قَضي أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[البقرة: 117] و قوله تعالي: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‌ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[النحل: 40] و نحوهما من الآيات الصريحة في وقوع الأشياء و تكوينها بمجرد تعلّق إرادته تعالي بها، و أنه لا يمكن لأيّ مخلوق أيّا كان أن يمنع من وقوع مراده، و القول بذلك هو التعطيل عينه و هو كفر صراخ.
و إن كان يريد أن إرادته التشريعية المتعلّقة بفعل المكلفين لا تلازم مراده و يجوز تخلّفها فإن أراد من منع الشيطان و الإنسان من وقوعه سلب القدرة عن اللّه و أنه لا يقدر علي قهر الشيطان و الإنسان علي وقوعه كان ذلك يعني نسبة الضعف إلي اللّه و القوّة إلي الشيطان و الإنسان، و أنهما أقوي من اللّه تعالي لذا يمنعانه من وقوع مراده علي حدّ زعمه و هذا هو الكفر المبين، و في القرآن يقول اللّه تعالي:
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ
[الأنفال: 52] و يقول تعالي: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
[المجادلة: 21] و يقول تعالي: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ
[هود: 66] و يقول تعالي: أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً
[البقرة: 165] و نحوها من الآيات الدالة علي أن القوّة للّه و ما عداه تعالي من المخلوقين يستمدّونها منه،
الآلوسي و التشيع، ص: 423
فكيف يستطيع الضعيف العاجز أن يمنع القوي القادر من وقوع مراده أو يمنعه من تحقيق فعله كما يزعم الآلوسي المجادل بالباطل ليدحض به الحقّ فقال بالتعطيل و التفويض بغير عقل.
فالإرادة في آية التطهير من القسم الأول من إرادته تعالي الّذي لا يقدر علي منعه مانع و لا يستطيع علي دفعه دافع و ليست هي من القسم الثاني، و ذلك لعدم اختصاصها بأهل البيت عليهم السّلام بل هي شاملة لجميع المكلّفين فلا يصح حصرها في فئة دون أخري مطلقا، و من حيث أنه تعالي أراد تطهير أهل البيت عليهم السّلام من كلّ الذنوب كانت إرادته تعالي دلالة كاملة علي وقوع ذلك لمراده، و أنّهم مطهّرون من كلّ دنس و رجس علي الإطلاق.

عدم نزول آية لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‌

في الصحابة
سابعا: قوله: (و لو كانت هذه الكلمة مفيدة للعصمة ينبغي أن يكون الصحابة معصومين، لأن اللّه قال في حقّهم في مواضع: لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
.فيقال فيه: إنه مردود من وجوه:
الأول: ليس في القرآن أكثر من آيتين مشتملتين علي لفظ: (ليطهركم) إحداهما في سورة المائدة آية (6) و الأخري في سورة الأنفال آية (11) فكيف يزعم هذا الآلوسي افتراء علي اللّه تعالي أنه قال في حقّ الصحابة في مواضع (ليطهركم) ألم يسمع قول اللّه حيث يقول: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَري عَلَي اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
[الأنعام: 144].
الثاني: إن الآلوسي لم يذكر من الآية إلّا بعضها ليوهم دلالتها علي التطهير، و حينئذ فيبني عليه إبطال دلالة آية التطهير علي عصمة أهل البيت عليهم السّلام بما زعمه من أن كلمة: (ليطهركم) لو كانت مفيدة للعصمة لأفادتها في عصمة الصّحابة لما أدلي به من الآيتين و زعم نزولها في حقّ الصحابة علي حد تعبيره، و من حيث أنها لا تفيد عصمة الصحابة فلا تفيد عصمة أهل البيت عليهم السّلام.
الآلوسي و التشيع، ص: 424
و لكن الشي‌ء الّذي غاب عن ذهن الآلوسي أن مثل هذا الضرب من الاستدلال لا يقرّه الدين و العقل، و‌ها أنا ذا أيها القارئ سأتلو عليك الآية بكاملها لمسيس الحاجة إلي ذلك لتعلم ثمة صدق ما قلناه، قال تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضي أَوْ عَلي سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
[المائدة: 6].
هذه هي الآية الأولي التي حاول الآلوسي بدلالة (ليطهركم) فيها أن يبطل دلالة آية التطهير علي عصمة أهل البيت عليه السّلام و هي التي زعم نزولها في أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم تلوناها علي مسامع القرّاء ليعرفوا الكذب و البهتان اللّذين لا يتحرج هذا الآلوسي في ارتكابهما علي اللّه ما داما يبطلان دلالة آية التطهير علي عصمة الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
أما الآية الكريمة فمفهومها واضح و هو لا يتفق مع ما يدعيه الخصم مطلقا، و ذلك لنزولها في مشروعية الطهارة المائية و الترابية من الوضوء و الغسل و التيمم عند وجوب الصّلاة، و ليس في لفظ (ليطهركم) دلالة علي إرادة العصمة من الرجس حتي يستقيم زعم الآلوسي أن لفظ التطهير إن دلّ علي العصمة فيها كان دالّا أيضا علي عصمة الصّحابة الّذين ادّعي نزول هذه الآية و غيرها في حقّهم خاصة إفكا و زورا.
الثالث: إن الإرادة المتعلّقة بطهارة أهل البيت عليهم السّلام من الرّجس إرادة تكوينية و هي خاصة بهم لم يدخل معهم فيها داخل و لا دخيلة كما مرّ، و الإرادة في آية مشروعية الطهارة إرادة تشريعية و هي عامة للمكلّفين أجمعين سواء في ذلك أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و غيرهم، و الإرادة التشريعية لا تفيد العصمة إطلاقا فكيف يجوز للآلوسي أن يقيس أحدهما علي الآخر مع اختلافهما موضوعا و محمولا و قياسا.
الآلوسي و التشيع، ص: 425
الرابع: إن الاستدلال علي عصمة أهل البيت عليهم السّلام كان بجميع آية التطهير لا بخصوص (ليطهّركم) حتّي لا يفيد عصمة أهلها كما لم يفدها في تلك الآية للصحابة لو سلّمنا جدلا نزولها فيهم و لم نقل أنها عامّة لجميع المكلّفين كما قدمنا.
فما جاء به الآلوسي من المزاعم لإبطال دلالة آية التطهير علي عصمة أهل البيت كلّه باطل.
و أما آية: (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ)
فسأتلوها عليك تامّة غير منقوصة لتعرف الغش و التدليس و ذرّ الرماد في العيون، الأمر الّذي ارتكبه الآلوسي ابتغاء صرف آية التطهير عن دلالتها علي عصمة أهل البيت عليهم السّلام بغضا للوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لذا فهو لم يذكر من الآية الثانية سوي جملة: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ
ليوهم دلالتها علي العصمة فيسقط آية التطهير من حسابه، و إليك نصّها قال تعالي: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ
[الأنفال: 11].
و هذه هي الآية الثانية التي صال بها الآلوسي و جال لإسقاط آية التطهير عن دلالتها علي عصمة الأربعة: (عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام) و زعم نزولها في أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقط، و أن لفظ: (ليطهركم) لو دلّ في آية التطهير علي عصمة الأربعة لكان دالّا علي عصمة الصّحابة، و ذلك لا قائل به فيجب ألّا نقول به في عصمة الأربعة (هكذا فليكن الاستدلال علي صحة الأشياء و فسادها).
و بهذا النوع من الإحتجاج يريد الآلوسي إلزام خصمة الشيعي، و بهذا اللّون من الإحتجاج أسقط الآلوسي نفسه و أبطل مذهبه، فباللّه عليك أيها الناقد البصير أخبرني في أية فقرة من فقرات هذه الآية دلالة تفيد العصمة، أ هي في قوله تعالي:
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ
أو من قوله تعالي: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ
أو ليس الضمير في: (به) يعود إلي الماء، فهل يا تري أن التطهير بالماء من الأحداث و الأخباث يقتضي عصمة صاحبه من مطلق الذنوب كما تقتضيه آية التطهير الدالّة علي عصمة أهلها.
الآلوسي و التشيع، ص: 426
أو هل يا تري فهم الآلوسي العصمة من قوله تعالي: وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ
و هو يعني وسوسة الشيطان بقوله للمقاتلين في واقعة بدر إنه ليس لكم بالمشركين طاقة كما يقتضيه ما قبل الآية بقوله تعالي: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ
لتسكن به قلوبهم يوم بدر لقلّتهم و كثرة المشركين و لتزول الوسوسة عنها.
و المراد من الشيطان في منطوق الآية ما يعمّ الجنّ بدليل قوله تعالي:
شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلي بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً
[الأنعام:
122] و قوله تعالي: وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلي شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ
[البقرة: 14] فهو يريد بالشياطين من يرجع إليه المنافقون من الكفار و غيرهم في امتثال أمرهم بتكذيب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إذ ليس الشيطان إلّا كلّ طاغ و باغ مجتاز لحدود اللّه و كافر بها، و هو ينطبق علي الإنس و الجنّ معا، لذا كان المراد من الشيطان المسند إليه الرجز في الآية المنافقين الّذين كانوا يثبطون عزائم المؤمنين عن القتال بما يلقونه في قلوبهم من الخوف و الاضطراب.
و من ذلك كلّه تفقه عدم دلالة الآية علي عصمة أحد و ليس فيها ما يفيد العصمة إطلاقا و ليست معارضة لآية التطهير في شي‌ء لاختلافهما موضوعا و حكما، كما لا ملازمة بين عصمة أهل البيت عليهم السّلام بدلالة الآية عليها و بين انتفاء العصمة عن الصحابة لعدم دلالة الآيتين عليها مطلقا كما ألمعنا.

غير المعصوم لا يكون إماما

ثامنا: قوله: (فلأن غير المعصوم لا يكون إماما مقدمة باطلة ممنوعة يكذّبها الكتاب و أقوال العترة).
فيقال فيه: كان اللّازم علي الآلوسي أن يدلي علينا آية واحدة من الكتاب تدلّ علي جواز إمامة غير المعصوم أو جواز إمامة المفضول المحتاج إلي التكميل في كلّ شي‌ء حتي فيما يعرفه الصبيان من لفظة: (كلالة و أبّ).
الآلوسي و التشيع، ص: 427
أو يذكر لنا رواية واحدة متفق عليها تدلّ علي صحة مزعمته، و لكن ما برح الآلوسي في كتابه يكذّب علي اللّه و علي رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و علي أهل بيته فينسب إليهم الكذب و الزور انتصارا لمذهبه، و لا خير في مذهب إذا نفخت عليه يكاد يذوب، و قد تقدّم منّا دلالة الكتاب و السنّة و العقل و إجماع العقلاء جميعا علي قبح تقديم المفضول المحتاج إلي التكميل علي الفاضل الكامل، و أنه ليس من الدين و العقل تقديم المستخلّفين بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام الذي علّم النّاس العلوم كلّها و رجع الصّحابة كلّهم إليه في كشف الأمور و حلّ معضلاتها حتّي قال عمر (رض) في عدّة مواطن: (لو لا عليّ لهلك عمر) [1] و كان يقول: (لا أبقاني اللّه لمعضلة ليس فيها أبو الحسن) الّذي
قال فيه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: (أنا مدينة العلم و عليّ بابها، و من أراد العلم فليأت الباب)
و
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيه: (يا عليّ لا يحبّك إلّا مؤمن و لا يبغضك إلّا منافق)
و
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيه: (عليّ مع القرآن و القرآن مع عليّ).
الّذي اختاره اللّه تعالي زوجا لسيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السّلام بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من دون غيره من أصحابه ليري الناس أنه لا كف‌ء لها عليه السّلام سواه عليه السّلام من الأولين و الآخرين، الّذي قال فيه أئمة الحديث و أمناؤه عند أهل السنّة كالإمام أحمد بن حنبل، فإنه قال: ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعليّ عليه السّلام و كالإمام إسماعيل القاضي، و النسائي، و أبو عليّ النيسابوري فإنهم قالوا: لم يرد في حقّ أحد من الصّحابة بالأسانيد الحسان مثل ما جاء في عليّ عليه السّلام علي ما سجّله الهيتمي في ص: (72) في الفصل الثاني من الباب التاسع الّذي عقده في فضائل عليّ عليه السّلام من الصواعق المحرقة لابن حجر، و قال الهيتمي نفسه ما لفظه: (و هي كثيرة عظيمة شهيرة) و بعد هذا حكي ما ذكره فيه عليه السّلام عمّن تقدّم ذكرهم من الحفاظ عند أهل السنّة.
__________________________________________________
[1] تجد هذا الحديث و ما بعده في ترجمة عليّ عليه السّلام من الاستيعاب، و الرياض النضرة، و مستدرك الحاكم و الذهبي في تلخيصه، و الإصابة لابن حجر العسقلاني و غيرهم ممن جاء علي ذكره عليه السّلام من مؤرخي أهل السنّة و حفاظهم.
الآلوسي و التشيع، ص: 428

لما ذا قدّم الشيعة عليّا عليه السّلام علي الخلفاء الثلاثة (رض)

فهذا و أضعاف أمثاله مما ورد فيه عليه السّلام عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مما حدثنا به الأكابر من حفاظ خصومنا دعانا معاشر الشيعة إلي تقديم عليّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي غيره من الخلفاء الثلاثة (رض) و هو الّذي أخذ بأعناقهم إلي الانقياد إليه دون غيره لئلّا يكون في مخالفتهم له محاربين للّه تعالي و لرسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كما صنع الآلوسي و غيره من أعداء الوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فانحرفوا عنهم إلي الآخرين ممن ثبت بالقطع و اليقين عدم صلاحهم لإمرة المؤمنين.

تسليم الآلوسي غير المعصوم لا يكون إماما و إبطاله خلافة خلفائه

تاسعا: قوله: (سلّمنا و لكن يثبت من هذا الدليل صحة إمامة الأمير عليه السّلام أما كونه إماما بلا فصل فمن أين).
فيقال فيه: (الحق ينطق منصفا و عنيدا) أما كونه عليه السّلام إماما بلا فصل فمن قولك: (سلّمنا) الّذي يفيد تسليمك هذا أن غير المعصوم لا يكون إماما، فإذا تسجل لديك اعتبار عصمة الإمام بطلت إمامة خلفائك الثلاثة (رض) لأنهم ما كانوا معصومين بالإجماع و لم يدّعه لهم أحد من العالمين أجمعين، فتتعين الإمامة في عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بلا فصل لعصمته و عدم عصمة الخلفاء (رض): انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلي أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
[الأنعام: 24].
و لو علم الآلوسي أن في هذا التسليم حتفه و فناءه و انتحاره بمديته و انهدام بنيانه الّذي بناه في كتابه بيده من أساسه و الّذي يحرص أشدّ الحرص علي تشيّيده و الحفاظ عليه و لو بالخروج عن دين اللّه تعالي لكسر قلمه و قطع لسانه، فإنه أهون عليه بكثير من هذا التسليم الهادم لعروش السّقيفة علي رأسه: فَأَتَي اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ
[النحل: 26].
عاشرا: قوله: (إذ يجوز أن أحد السّبطين يكون إماما قبله فلا محذور).
الآلوسي و التشيع، ص: 429
فيقال فيه: أيها القارئ البصير أحسب أنه قد تجلّي لك بطلان الرجل و سبات عقله، فإن العصبية قد أخذت بخناقه فمنعته من المجاهرة بالحقّ الّذي انبلج لذي عينين في هذه المباحث، يا هذا هب أنا جارينا الآلوسي و قلنا بجواز أن يكون أحد السّبطين إماما قبل أبيهما فما ذا يجديك نفعا و أنت تحاول المستحيل بتصحيح خلافة خلفائك الثلاثة (رض) و هذا ما يقضي بفسادها لهم فسادا مبينا و ذلك لعصمة السّبطين عليهم السّلام و انتفائها عنهم (رض) فأيّ ربط يا تري بين جواز أن يكون أحد السّبطين إماما قبله عليه السّلام و بين صحة خلافة الخلفاء (رض) الباطلة.
و أملي بالقارئ لحسن ظنّي به أن يربأ بنفسه عن الاستماع لمزاعم هذا الآلوسي المفككة العري المضمحلة القوي التي لا يقودها إلّا العمي و العصبية الحمقي.
و بعد فإن تقديم أحد السّبطين عليهم السّلام علي الأمير عليه السّلام لا يجوز لقول الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في الصحيح المتقدم ذكره:
(يؤمكم أقرؤكم)
و
ثبت قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في عليّ عليه السّلام: (أكثركم علما و أعظمكم حلما و أوّلكم سلما)
علي ما سجله كلّ من جاء علي ذكره عليه السّلام من حفاظ أهل السنّة في صحاحهم و مسانيدهم، و ذلك كلّه يفيد أن عليّا عليه السّلام أفضل من السّبطين عليهم السّلام و حينئذ ففي تقديمهما عليه عليه السّلام مخالفة الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و فيه تمام المحذور لا سيما بملاحظة ما تقدم من آية المباهلة فتذكر.

إجماع أهل المعقول علي قاعدة قبح تقديم المفضول علي الفاضل

الحادي عشر: قوله: (و التمسك بالقاعدة التي لم يقل بها أحد دليل العجز).
فيقال فيه: إن قاعدة قبح تقديم المفضول علي الفاضل قد أجمع عليها أهل العقول و لم يخالف فيها إلّا المغزولون عن العقل، فإن العقلاء كافة لا يستسيغون تقديم المبتدئ بالعلوم العربية مثلا علي حامل شهادة الدكتوراه فيها، و لا يعطون صلاحية التدريس لمن تخرج من المدارس (الابتدائية) في المدارس (الثانوية) كما لا يعطونه صلاحية القيام بإدارة شئونها و هذا لا يختلف في قبحه اثنان من أهل
الآلوسي و التشيع، ص: 430
العقل، و قد تقدم دلالة القرآن عليه و إنكاره بشدّة علي من يقدم المفضول علي الفاضل، اللّهم إلّا هذا الآلوسي فإنه منّي خالف العقلاء كافة فقدم من لا يعرف أبّا و لا كلالة، و من قال كلّ الناس أفقه منه حتي ربّات الحجال، علي أفضل الناس و أعلمهم و أتقي الناس و أشجعهم بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بغضا للوصيّ و آل النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
الثاني عشر: قوله: (إذ المعترض لا مذهب له).
فيقال فيه: إن من لا مذهب لا ينبغي له أن يبني علي عدم مذهبه مذهبا، و من له مذهب حجّة علي من لا مذهب له، ثم يقال لهذا الآلوسي إن المذهب في ذلك كتاب اللّه، فإذا كان المعترض لا مذهب له فليس كتاب اللّه طبعا من مذهبه، و من لم يكن القرآن له مذهبا فليس من الإسلام علي شي‌ء و ليس لغير المسلم أن يحتجّ بعدم مذهبه علي المسلمين في شي‌ء إطلاقا، و عدم المذهب دليل العدم و العدم شرّ محض فلا يكون العدم دليلا علي الإثبات.
فاتضح من جميع ما ذكرنا أن آية التطهير من أقوي الأدلّة علي خلافة عليّ عليه السّلام و بطلان خلافة الخلفاء (رض) و أن ما التقطه الآلوسي من وراء ظهره من المزاعم الفاسدة و الآراء الزائفة التي حاول بها إسقاط الآية و إنكارها لا قوام لها و لا يقوم بها التدليل.
هذا آخر ما كتبناه في الجزء الأول من كتابنا في تزيّيف مزاعم الآلوسي الزائفة و يليه الجزء الثاني إن شاء اللّه تعالي.
و كان الفراغ من استنساخه في يوم الجمعة (15) من ربيع الأول سنة (1385 ه) علي يد مؤلفه السيّد أمير محمّد بن العلّامة الكبير المجاهد في سبيل اللّه السيّد محمّد مهدي الكاظمي القزويني عفا اللّه عنهما و ستر عيوبهما بمنّه و فضله و كرمه.
الآلوسي و التشيع، ص: 431

أهم مصادر الكتاب

- القرآن الكريم
1- تفسير البغوي
2- تفسير ابن جرير
3- تفسير البيضاوي
4- تفسير النيشابوري
5- تفسير الرازي
6- تفسير السيوطي
7- تفسير الخازن
8- تفسير الثعلبي
9- صحيح البخاري
10- صحيح مسلم
11- صحيح الترمذي
12- الجامع الصغير للسيوطي
13- مسند أحمد بن حنبل
14- صواعق ابن حجر الهيتمي
15- إتقان السيوطي
16- حلية الأولياء لأبي نعيم
17- تاريخ الطبري
18- تاريخ ابن الأثير
19- العقد الفريد لابن عبد ربه
20- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
الآلوسي و التشيع، ص: 432
21- الإمامة و السياسة لابن قتيبة
22- تفسير محمد عبده
23- الرياض النضرة لمحب الدين الطبري
24- مناقب الحمويني
25- أربعين أبي الفوارس
26- مناقب شهاب الدين بن عمر الهندي
27- تاريخ عبد اللّه بن الخشاب في بيان
..- ولادة أئمة أهل البيت عليه السّلام
29- الفصول المهمة لابن الصباغ المكي المالكي
30- البيان لمحمد بن يوسف الكنجي
31- مناقب موفق بن أحمد المكي الحنفي
32- فتوحات قطب العارفين الزهري
33- إسلام النشاشيبي
34- المنحة الإلهية للآلوسي
35- استيعاب ابن عبد البر
36- ينابيع المودة للقندوزي
37- منهاج ابن تيمية
38- تاريخ الخطيب البغدادي
39- منتخب كنز العمال للمتقي الهندي
40- كنز العمال
41- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني
42- ميزان الذهبي
43- وفيات الأعيان لابن خلكان
44- الملل و النحل للشهرستاني محمد بن عبد الكريم
45- قاموس المحيط للفيروزآبادي
46- النهاية لابن الأثير
الآلوسي و التشيع، ص: 433
47- تاج العروس
48- لسان العرب
49- المنجد للويس معلوف
50- محيط المحيط لبطرس البطراي
51- كتاب الزينة لأبي حاتم السجستاني
52- جامع الأصول للجزري
53- مصابيح البغوي
54- كتاب الحجة لأبي علي الفارسي
55- الفتاوي الخيرية
56- الروضة الندية شرح درر البهية
57- كتاب الرحمة
58- ميزان محمد بن عبد الوهاب الشعراني
59- الأحكام للآمدي
60- شرح مختصر ابن الحاجب للعضدي
61- كتاب الموالي للجعابي
62- معجم ياقوت
63- تهذيب التهذيب للعسقلاني
64- غاية الكلام لمحمد القنوجي
65- الأوائل لأبي هلال العسكري
66- البداية و النهاية لابن كثير
67- مستطرف شهاب الدين محمد بن أحمد
68- تاريخ الخميس
69- كامل ابن الأثير
70- تفسير ابن كثير
71- حياة محمد (ص) لمحمد حسين هيكل
72- طبقات ابن سعد
الآلوسي و التشيع، ص: 434
73- فتح الباري لابن حجر العسقلاني
74- منهاج البيضاوي
75- مطالب الحصول للصديق حسن
هذه أمهات المصادر في التفسير و الحديث و التاريخ و السيرة و اللّغة اعتمدنا عليها في هذا الكتاب كلّها لخصوم الشيعة ليس للشيعة فيها مصدر واحد إلّا كتاب اللّه و به نستعين و عليه نتكل.
الآلوسي و التشيع، ص: 435

فهرس المواضيع

كلمة المركز 5
المقدمة 7
تمهيد
المبحث الأول: في معني الشيعة الإثني عشرية 13
المبحث الثاني: فيما تعتقده الشيعة من الأصول 15
المبحث الثالث: في إعتقاد الشيعة في الفروع 16
الفصل الأول: علي عليه السّلام و الخلافة
حكم المتقاعد عن نصرة عليّ عليه السّلام 19
ليس من التورع التقاعد عن نصرة عليّ عليه السّلام 22
الاعتذار عنهم و ما فيه 27
الغريب فيما ارتكبته عائشة 29
قول جدّ الآلوسي و ما فيه 31
الآية لا تدلّ علي ما يبتغيه الآلوسي 34
لما ذا اختار الشيعة عليا عليه السّلام إماما بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم دون غيره 37
الطوائف التي ذكرهم الآلوسي ليسوا من الشيعة 40
الآلوسي و كيده 40
ما تقتضيه المصلحة العامة 41
الفصل الثاني: مباحث في آية الوضوء
آية الوضوء 45
فساد ما قاله الآلوسي في آية الوضوء في طي أمور 46
فيما حكاه عن الشيعة في الجمع بين القراءتين 52
الجواب علي أقواله من وجوه 54
الآلوسي و التشيع، ص: 436
الثامن: ما رواه أهل السنة في وجوب مسح القدمين 58
الشيعة لم ترو رواية الغسل 60
رواية مسح القدمين ثابتة عند أهل السنّة 64
الفصل الثالث: أدلة الأحكام الشرعية
الآلوسي و تشريعهم الأحكام 67
بعض الموارد التي اختلف فيها خصوم الشيعة 71
رواية القياس ليست من روايات الشيعة 75
الاستدلال بالأولوية جائز 77
قوله في دلائل تجويز القياس فاسد 77
لا ينتقض ما قلناه في بطلان القياس بما هو ثابت الحجيّة 79
ما استدل به الخصم علي جواز العمل بالقياس باطل 82
الاستدلال بالقلّة علي الحقيّة 85
آية ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين 87
النواصب و الخوارج خارجون عن الآية و إن كانوا قلّة 93
الفصل الرابع: تحريف القران
نسبة الآلوسي تحريف القرآن إلي الشيعة 95
الشيعة لا تضع الأحاديث 96
من هم التابعون لأهل البيت النبوي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 99
الآلوسي و نهج البلاغة 106
حكاية الحجاج بن يوسف الثقفي 109
القصص التاريخية لا يحكم بكذبها مطلقا 111
استلزام قول الآلوسي الكفر 115
قول محمد عبدة في آية المباهلة و فساده 116
الفصل الخامس: تفضيل علي عليه السّلام
قوله: الوليّ لا يصل إلي مرتبة النبيّ فاسد 119
الآلوسي و التشيع، ص: 437
تفصيل عليّ عليه السّلام علي الأنبياء صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يلزم تفضيل غيره من الصحابة عليهم عليه السّلام 121
ليس كلّ ما يصل لأولاد آدم عليه السّلام يصل إليه عليه السّلام 122
أفضلية الزوجة لها دخل في أفضلية الزوج 124
الأمور العارضة علي الذات لها دخل فيها 126
خروج الآلوسي عن الموضوع فرار من الحجّة 128
حديث: لو كشف لي الغطاء ما ازددت إلّا يقينا، غير موضوع 128
حديث مبيت عليّ عليه السّلام علي فراش النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يقبل التحريف 129
لا منفعة علي سليمان عليه السّلام في طلبه الملك و لا تكون سعة الملك مطلقا إعجازا 131
الخلافة صنوّ النبوة و ليست ملكا 133
تعزير الأمير للمغالين فضيلة غير موجودة في عيسي عليه السّلام 135
المسئول في القيامة عما قاله بنو إسرائيل هو عيسي عليه السّلام دون عليّ عليه السّلام 135
تناقض الآلوسي في قوله بظهور الغلاة بعيسي عليه السّلام بعد رفعه إلي السماء 136
غلط الآلوسي في ولادة عيسي عليه السّلام 137
نفي الآلوسي لقول المؤرخين أن مريم عليها السّلام جاءها المخاض في المسجد 138
خروج مريم عليها السّلام من المسجد عند مخاضها كان بالوحي 139
خلاصة القول في ولادة عليّ عليه السّلام 140
دعوي الآلوسي ولادة غير عليّ عليه السّلام 141
ما أورده الآلوسي من كتب قومه مما يزري بشأن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 142
ما نسبه خصوم الشيعة إلي اللّه تعالي من القبائح 145
الذي شرب الخمر هو غير سيّد الشهداء حمزة عليه السّلام 151
الفصل السادس: دفاع عن السنة و الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم
بطلان قوله: إن عائشة إذ ذاك كانت صبيّة غير مكلفة 153
بطلان قوله: أنها كانت متسترة و أن لهو الحبشة كان لتعلم الحرب 154
زجر عمر (رض) للحبشة بحضرة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 154
الآلوسي و التشيع، ص: 438
وطئ الإماء بالتحليل شرعا 155
ما نسبه إلي مقداد صاحب كنز العرفان في تفسير الآية كذب لا أصل له 156
خصوم الشيعة يجوزون الغناء المحرّم شرعا 158
ليس في الغناء تشويق للعبادة كما يزعم الآلوسي 158
الفصل السابع: الرواية عند الشيعة
الخبر و أقسامه 161
التعريف لأقسام الخبر شامل لأفراده طردا و عكسا 163
خلاصة القول في المناط في قبول الخبر عند الشيعة 164
العبرة في قبول الخبر القطع بصدوره 164
الشيعة لم تحكم بصحة روايات المشبهة و المجسمة بل خصومهم حكموا بها 165
الخبر الصحيح ليس واجب العمل مطلقا عند الشيعة 167
قوله أن الشيعة يقولون ما لا يفعلون باطل 167
بقاء الشريعة بعلماء الشيعة بشهادة علماء أهل السنة 168
علماء الشيعة الذين يميّزون رجال الإسناد لا خصومهم 169
قول الآلوسي: أن أول من ألف في الرجال هو الكشي باطل 170
المؤلفون في الرجال و الدراية من علماء الشيعة 170
الأدلة عند الشيعة أربعة 171
تناقض الآلوسي في قوله الأدلة عندهم أربعة 172
الفصل الثامن: بحوث في الإمامة
لا اختلاف بين الشيعة في أصل الإمامة 175
الشيعة لم تختلف في تعيين الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام 176
ناقلوا الحديث في تعيين أئمة أهل البيت من أعلام أهل السنة 176
الإجماع و ما يعتبر في حجيّته عند الشيعة 179
عصمة الأئمة من أهل البيت النبوي عليهم السّلام ثابتة بالأدلة الثلاثة 180
دلالة السنة علي عصمة الأئمة من البيت النبوي عليهم السّلام 182
دلالة العقل علي عصمة الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام 183
الآلوسي و التشيع، ص: 439
إجماع الصدر الأول و ما فيه 184
الناس كلهم تابعون لتصرف الشارع بهم 189
الفصل التاسع: حلية المتعة
عقد المتعة كان حلالا علي عهد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و لم يحرّمه مطلقا 193
دعوي أن آية المتعة منسوخة كدعوي إرادة النكاح الدائم من المتعة باطلان 198
موسي جار اللّه و فساد قوله في المتعة 200
ما زعمه خصوم الشيعة في حرمة المتعة باطل 203
آية: (وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ)
غير ناسخة لآية المتعة 205
آية المواريث و الطلاق غير ناسخة لآية المتعة 205
الفصل العاشر: مباحث في الإجماع
دعواه إجماع الصحابة كلهم علي أخذ فدك من فاطمة عليهم السّلام بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم باطلة 209
اختلاف أهل السقيفة في تعيين الخليفة أول اختلاف حدث في الإسلام 210
إجماع أهل البيت عليهم السّلام هو الحجّة لا سواه 211
العقل حجّة متبعة 212
حكم العقل لا يدور وجودا و عدما مدار القياس 213
ليس العقل شريكا للّه في التشريع 214
مع العقل في أقسام حكمه 215
الفصل الحادي عشر: حديث العترة
الآلوسي و حديث الثقلين 217
أولاد العباس (رض) خارجون عن عترة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حديث الثقلين 218
مدح الآلوسي لعبد الحميد السلطان العثماني 220
عبد الحميد العثماني لا يصلح لخلافة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 220
حديث اثني عشر خليفة من قريش يريد عترة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته عليه السّلام دون
غيرهم 222
الذي يعتقد الآلوسي بإمامتهم بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 224
الآلوسي و التشيع، ص: 440
إمام الزمان في الحديث ليس هو القرآن 225
خصوم الشيعة غير متمسكين بعترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أهل بيته عليهم السّلام في شي‌ء 226
كتاب اللّه ساقط عن خصوم الشيعة لا عندهم 229
الشيعة لا ينكرون بعض العترة 230
أولاد العباس غير داخلين في عترة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حديثه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 233
الشيعة لا يخالفون اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في بغض من أبغضاه 236
الشيعة لا يبغضون أولاد فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 236
طعن الآلوسي في الشيعة طعن في نفسه 238
لا وجود لعبد اللّه بن سبأ في كون الوجود إطلاقا 239
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام هو وصي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 240
علي عليه السّلام أفضل الناس بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بشهادة ما حكاه أهل السنة عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 244
آية الانقلاب علي الأعقاب و حديث الحوض آيتان علي انقلاب الجمهور 245
الاستدلال بما وقع بين فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر (رض) صحيح 247
الذين قتلوا عثمان (رض) هم أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا غيرهم 248
رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هو الذي بذر بذرة التشيع 250
الفصل الثاني عشر: بحوث كلامية
النظر في معرفة اللّه واجب عقلا لا نقلا 251
بطلان ما زعمه الآلوسي أن وجوب النظر شرعي من وجهين 252
الآلوسي لم يأت علي دليل الشيعة بتمامه في وجوب النظر عقلا لا شرعا 253
ما أورده الآلوسي من الآيات خارج عن موضوع وجوب النظر 253
الشيعة غير مخالفة للعترة عليهم السّلام في أن وجوب النظر عقلي 256
الحسن و القبح عقليان لا شرعيان 257
العقلاء لا يشكّون في أن في الأفعال ما هو معلوم الحسن و القبح 258
ما جاء به من الوجوه لإثبات أن الحسن و القبح شرعيان باطل 261
الآلوسي و التشيع، ص: 441
اقتضاء الذات لصفتين متضادتين ليس علّة تامة في التأثير 263
هاهنا تضحك الثكلي و تجهض الحبلي 264
الاعتبارات أمور غير عدمية 267
البرهان علي أن الحسن و القبح عقليان 271
قول الآلوسي أن العبد غير مستبد في إيجاد فعله و ما فيه 276
آيات نفي التعذيب مع عدم البيان أجنبية عن البيان 277
ما زعمه الآلوسي في صفات اللّه تعالي 280
ما قاله في المشتق باطل 282
ما زعمه الآلوسي في صفات اللّه الذاتية باطل 283
اللّه تعالي قادر علي كل مقدور 285
اللّه عالم بكل شي‌ء 287
القرآن كلام اللّه لا تحريف فيه 288
اللّه مريد و ما قاله الآلوسي في ذلك فاسد 288
اللّه لا يرضي بكفر أحد من عباده 290
آيات الهداية و الضلالة لا تريد غير ما أراده اللّه 290
الآيات القرآنية دالة علي خلاف ما ذهب إليهم الخصم 292
ما نسبه الآلوسي إلي الشيعة في معني قولهم يجب علي اللّه 293
ما زعمه الآلوسي في اللطف باطل 295
فعلي الأصلح واجب 297
الأعواض علي الألم واجبة 298
ليس العوض علي الألم استحقاقا حقيقيا 299
اللوازم الباطلة في قول الخصم بنفي الغرض في فعل اللّه تعالي 300
تعليل أفعال اللّه بالأغراض مخصوص بصفاته الفعلية 301
نبوة كل نبي لا تتم إلا بأمرين 302
الإنسان هو الفاعل لأفعاله و ليست من خلق اللّه تعالي 304
ما زعمه الآلوسي أن للعبد كسبه و عمله باطل 305
الآلوسي و التشيع، ص: 442
صريح القرآن حاكم بأن أفعال العبد صادرة عنه لا عن اللّه تعالي 309
ما نزل في القرآن في مدح المؤمنين و ذمّ العاصين 310
آيات تنزيه اللّه من كون فعله مثل أفعاله عباده 311
آيات ذم الكافرين 312
ما نزل من الآيات في اختيار الأفعال 313
الآيات التي تحث علي الطاعة 313
استدلال الآلوسي بآية خلقكم ما تعملون 313
استدلال الآلوسي بآية خالق كل شي‌ء علي إرادة أفعال العباد 315
لا قرب بين اللّه و عبده في المكان 315
رؤية اللّه مستحيلة عقلا و نقلا 316
الرائي لا يري إلا بالحاسة 318
فساد إمكان رؤية اللّه 318
إسقاط الآلوسي للآيتين 320
الخلاصة في آية لن تراني 321
النظر ليس بمعني الرؤية مطلقا 322
الإجماع الذي ادعاه الآلوسي علي الرؤية 325
ما قاله في آية أنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون 327
الشيعة لا يستندون في إنكار رؤية اللّه إلي الابتعاد 327
ما قاله الآلوسي في آية لا تدركه الأبصار 328
بعثة الأنبياء عليهم السّلام واجبة 331
ما زعمه من حتمية بعثة الأنبياء عليهم السّلام ليس بحتمي علي مذهبه 332
لا يخلو عصر من نبيّ أو إمام 332
ما قاله في أفضلية الأنبياء عليهم السّلام من جميع خلق اللّه 333
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام أفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام 334
الأئمة من البيت النبوي عليهم السّلام أفضل من جميع الأنبياء عليهم السّلام ما عدا رسول
اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 335
الآلوسي و التشيع، ص: 443
آيات تفضيل الأنبياء علي جميع خلق اللّه مخصص بغير أئمة أهل البيت عليهم السّلام 337
فساد ما ذكره من دليل العقل علي تفضيل الأنبياء عليهم السّلام علي أئمة أهل البيت عليهم السّلام 337
بطلان ما قاله الآلوسي أن مرتبة النبوّة أصالة و الإمامة نيابة فلن تبلغ مرتبة الأصالة علي إطلاقه 339
صحة الخبر الدال علي أفضلية الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام من الأنبياء عليهم السّلام 339
مثال الآلوسي لأفضلية المتقدم علي المتأخر مطلقا 341
الأنبياء عليهم السّلام معصومون 345
علم الأنبياء عليهم السّلام بالأحكام كلّها مطلق 346
عصمة الأنبياء عليهم السّلام من جميع الذنوب 346
الفصل الثالث عشر: في وجوب الإمامة
وجوب الإمامة كالنبوّة 349
إمام الأمة مثل رئيس كل فرقة عند الآلوسي 350
معني الخلافة 350
تناقض الآلوسي 351
المقدمة غير واجبة إلّا بوجوبه فيها 353
ما زعمه من المفاسد في نصب الإمام من اللّه في بعث النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أيضا 355
فساد ما زعمه من تعيين رجل لتمام العالم في جميع الأزمنة 359
قول الآلوسي موجب لبطلان نبوّة كلّ نبيّ 359
لا سفاهة في اللّطف 360
عدم اشتراط اللّطف بالتصرف دائما 362
فساد لزوم التأييد و الانتصار في معني اللطف 363
تخويف الناس للأئمة معلوم بالضرورة 364
الموت غير القتل 366
إنما يجب الاختفاء عند حصول موجبه 368
تناقض الآلوسي في قوله لا معني لاختفاء صاحب الزمان (عج) 369
الآلوسي و التشيع، ص: 444
وجوب الاستتار ما دام موجبه موجودا مطلقا 371
فساد ما زعمه الآلوسي أنه هو و أخوه الهندي من أهل الجنة 372
نفي الآلوسي اشتراط العصمة في الإمامة 373
رجوع الآلوسي في قوله إلي القول بعصمة الإمام عليه السّلام 375
عدم مانعية الاجتهاد و العدالة من ضياع الشريعة 376
بطلان قول الآلوسي بانتهاء المتسلسل إلي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 376
المجتهد غير الإمام فلا ينتقض أحدهما بالآخر 377
زعم الآلوسي حفظ الشريعة بالكتاب و السنة و الإجماع 378
زعم الآلوسي أن وجود المعصوم بالضرورة يوجب التعدد في كل محلّ 380
وجوب النص علي الإمام 381
نصب الإمام من اللّه دون الناس 382
وجوب كون الإمام أفضل أهل زمانه 383
العقلاء لا يقدّمون غير الأفضل 385
بطلان ما أورده الآلوسي في فضل الخليفة 386
الأدلة القطعية علي خلافة عليّ عليه السّلام بعد النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 388
الفصل الرابع عشر: أفضليته عليه السّلام و وجوب إمامته
آية الولاية نص في خلافة علي عليه السّلام بعد النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بلا فصل 391
الحصر علي بطلان خلافة الثلاثة (رض) فقط 393
الاستدلال بالآية غير منقوض بإمامة السبطين عليه السّلام 394
كون ولاية الذين آمنوا غير مرادة زمن الخطاب لا ينفع الخصم 395
تناقض الخصوم في أن ولاية الّذين آمنوا غير مرادة زمان الخطاب 397
آية الولاية في عليّ عليه السّلام خاصة دون أبي بكر (رض) 397
المفسرون من أهل السنة الّذين فسروا آية الولاية بعليّ عليه السّلام خاصة 398
لفظ الولي في الآية بمعني الأولي بالتصرف 402
لا قرينة في سياق الآية علي إرادة المحب من الولي 403
إرادة المحبّ من الوليّ في الآية تضر الآلوسي 404
الآلوسي و التشيع، ص: 445
استعمال الركوع بمعني الخشوع في القرآن لا يوجب إرادة الخشوع من الركوع في آية الولاية 406
ما زعمه من التناقض و التخالف في إرادة عليّ عليه السّلام من الوليّ في آية الولاية 407
لا تعارض بين آية الولاية و بقية الآيات الدالة علي إمامة الأئمة الأطهار عليه السّلام 409
عدم وجود آية فضلا عن آيات في خلافة الخلفاء الثلاثة (رض) 409
بطلان الاحتجاج بغير المسلّم ثبوته 411
تمسك الشيعة بآية الولاية لم يكن بخبر الواحد 412
نزول آية التطهير في عليّ و فاطمة و الحسنين عليهم السّلام 414
الآية لا تريد أزواج النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 415
احتجاج الآلوسي ب (و أزواجه أمهاتهم) 417
مجي‌ء آية التطهير في سياق آيات نساء النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم غير مخلّ بالبلاغة 418
ما قاله الآلوسي من تحصيل حاصل في دعاء النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 419
فساد ما زعمه من أن مراد اللّه غير لازم الوقوع لمنع الشيطان و الإنسان له عن إيقاع مراده 422
عدم نزول آية (لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
في الصحابة) 423
غير المعصوم لا يكون إماما 426
لما ذا قدّم الشيعة عليا عليه السّلام علي الخلفاء الثلاثة (رض) 428
تسليم الآلوسي غير المعصوم لا يكون إماما و إبطاله خلافة خلفائه 428
إجماع أهل المعقول علي قاعدة قبح تقديم المفضول علي الفاضل 429
أهم مصادر الكتاب 431
فهرس المواضيع 435

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.