بحوث أخلاقية

اشارة

من محاضرات

آية الله العظمى

الحاج السيد صادق الحسيني الشيرازي

(دام ظله)

الطبعة الأولى

423ه_ 2003م

ملاحظة:

ألقيت هذه المحاضرات القيمة باللغة الفارسية

على جمع من العلماء والفضلاء والمؤمنين الكرام

في قم المقدسة

وقد تم تعريبها تعميماً للفائدة

مؤسسة المرتضى للطباعة والنشر

بيروت لبنان

ص ب 5955 / 3

الحجّة المنتظر عجّل الله فرجه منّة الله على المستضعفين في الأرض

الحجّة المنتظر عجّل الله فرجه منّة الله على المستضعفين في الأرض

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ((ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلَهم أئمّة ونجعلهم الوارثين. ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون))( ).

هاتان الآيتان المباركتان من الآيات الواردة في صاحب الزمان المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه عليه وعجّل الله تعالى فرجه الشريف.

ويشهد على ذلك _ إضافة إلى الأحاديث الكثيرة المرويّة في كتب الفريقين في تفسير الآية _ تحمله الآية نفسها، ونعنونه في النقطتين التاليتين:

أ. التأكيد على وقوع الفعل في المستقبل

قد لا تجد في القرآن الكريم كلّه آية مشابهة لهاتين الآيتين من هذه الجهة؛ حيث بلغ عدد أفعال المستقبل فيهما _ على قصرهما _ ستّة أفعال، وهي (ونريد.. أن نمنّ.. ونجعلهم أئمّة.. ونجعلهم الوارثين.. ونمكّن لهم.. ونري..).

وما هذا التكرار في استعمال صيغة المستقبل إلاّ للتأكيد على أنّ هذا الفعل سيقع في المستقبل وأنّ وقته لم يحن بعد، فهو لم يصدر في الماضي ولا هو صادر في الحاضر، بل إنه سيصدر في ما يأتي من الزمان ويقع لاحقاً وفي المستقبل.

ب. شمول دائرة المنّة لكلّ أهل الأرض

لقد نهانا الله عن المنّة فقال يخاطب نبيّه الكريم: ((ولا تمنن تستكثر))( ). أي أنّك لو تصدّقت بمليون دينار على الفقراء _ مثلاً _ فلا تستكثرها ولا تمنّ في ذلك.

وقال _ يخاطب المؤمنين _ في آية أخرى: ((يا أيّها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى))( ). وقال أيضاً: ((الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يُتبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذىً))( ).

وحيث إنّ الله تعالى نهانا عن المنّة، نراه سبحانه لم يستعمل تعبير المنّة _ في القرآن الكريم _ في ما تفضّل به على عباده، إلاّ في ثلاث حالات:

الحالة الأولى: على أنبيائه (عليهم السلام) حيث قال عزّ من قائل مخاطباً نبيّه الكريم محمداً صلّى الله عليه وآله: ((ولقد منَنّا عليك مرّة أخرى))( ).

وقال في آية أخرى يمنّ على نبيّيه الكريمين موسى وهارون عليهما السلام: ((ولقد منَنّا على موسى وهارون))( ).

الحالة الثانية: منّ الله فيها على المؤمنين في مورد واحد فقط، وذلك في قوله تعالى: ((لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً))( ).

فقد توسّعت الدائرة هنا وجُعلت المنّة على المؤمنين ببعث الرسول الكريم.

الحالة الثالثة: على أهل الأرض كلّهم، أي أنّ الدائرة هنا أصبحت

عامّة وشملت كلّ البشرية، حيث لم يحدّد سبحانه الذين يمنّ عليهم بالمستضعفين من الأنبياء ولا من المؤمنين بل قال: ((ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض)).

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا غيّر الله تعالى الأسلوب في الحالة الثالثة، فعندما تحدّث عن بعثة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) قال: ((لقد منّ الله على المؤمنين))، ولكن عندما وصل الدور في هذه الآية إلى صاحب العصر والزمان المهدي الموعود (عجّل الله فرجه الشريف) وسّع من إطار منّته (تعالى) حتى شملت كلّ الكرة الأرضية؛ إذ قال: ((ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض)) مع أنّ لكلّ كلمة واستعمال في القرآن غاية وأبعاداً ينبغي التوقّف عندها؟!

والجواب واضح، وهو أنّه لم تعمّ منّة الله على أهل الأرض كلّهم حتى اليوم، فمازال حتى الآن وفي كلّ مكان وزمان أُمم وألوف بل ملايين من الناس لم تبلغهم حجّة الله وأحكام دينه ولا عرفوا الله عزّ وجلّ. فهناك اليوم أكثر من ثلاثة آلاف مليون غير مسلم على وجه الكرة الأرضية، فهل تمّت منّة الله عليهم؟ كلاّ بالطبع؛ إذ بأيّ شيء منّ الله عليهم؟ هل بالمال ولا قيمة له عند الله تعالى ولا ذُكِر بعنوان المنّة؟ أم بالوجود البحت ولا قيمة له عند الله أيضاً، وكذا الصحّة وكلّ الدنيا؛ لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله يخبرنا: ((إنّ الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة))( ).

إنّ الشيء الذي له قيمة عند الله تعالى ومنّ به على البشر هو معرفته سبحانه وتعالى؛ وأن يعرف الإنسان لماذا خُلق ومن أين أتى، ولماذا جاء إلى هذا الوجود، وإلى أين سينتهي!

ولذلك نلاحظ أنّ الله تعالى لم يمنّ على الناس لأنّه أعطاهم الصحّة، ولا يمنّ على من

يدخلهم الجنة، بل قال تعالى: ((فمَن زُحزِح عن النار وأُدخِل الجنّة فقد فاز))( )، في حين نراه منّ على المؤمنين ببعثة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله.

فحقّ لنا أن نسأل: ما هو هذا الأمر الذي يستوجب منّة الله على الناس كلّهم كما استوجب المنّة على المؤمنين خاصة ببعث الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله؟ أليس في هذا إشارة إلى الحجّة المنتظر عجّل الله فرجه، وأنّه كجدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) تماماً إلاّ في مقام النبوّة؟!

انظر إلى منزلة صاحب الزمان عجّل الله فرجه، فهو كجده أمير المؤمنين (عليهما السلام) له ما للنبي (صلّى الله عليه وآله) إلا النبوة، كما ورد ذلك في كتب السنة والشيعة على السواء؛ من ذلك ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده من عدة طرق؛ يرفع أحدها إلى سعيد بن المسيب قال: حدثنا مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلي بن أبي طالب: ((أَوَ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي)) ومن بعض روايات أحمد بن حنبل إلا النبوة( ).

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ((معاشر الناس ما من علم إلا وقد أحصاه الله فيّ، وكل علم علّمنيه قد علمته علياً والمتقين من ولده))( ).

فإن قيل: لماذا يمنّ الله على مستضعفي الأرض كلّهم بظهور الحجّة؟

نقول: لأنّ المهدي (عجّل الله فرجه) يحقّق النتيجة النهائية التي أرادها الله تعالى من وراء بعثة الرسل والأنبياء كلّهم من لدن آدم حتى الخاتم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ومن الطبيعي أن تقرن هذه النتيجة العظمى بالمنّ كما قرنت ببعثة الرسول صلّى الله عليه وآله.

خلاصة الدليل

تبيّن إذن أنّ

الله تعالى لم يذكر المنّة في القرآن الكريم إلاّ في ثلاثة مواضع؛ الأوّل على أنبيائه في آيتين، والثاني على المؤمنين وكلها وردت بصيغة الماضي (لقد منَنّا.. ولقد منَنّا.. لقد منّ الله على المؤمنين..) لكن هنا (في آية القصص) تبدّلت الصيغة إلى زمان المستقبل، وكانت المنّة شاملة لكلّ أهل الأرض.

وهكذا نرى أنّ هذه الآية هي من الآيات الواردة في شأن الإمام المنتظر، ناهيك عن الأحاديث التي تؤيّد الموضوع من كتب الفريقين.

ما يحول دون تشرّفنا بلقاء المهدي

إنّ موضوع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من المواضيع العميقة والواسعة وهو متشعّب الجوانب كثير الفروع، الأمر الذي يتطلّب من كلّ منّا أن يزيد من مطالعاته في هذا الموضوع الهام، لكنّي أحببت أن أثير سؤالاً في هذا المجال، وهو: إذا كان الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه) موجوداً بين ظهرانينا _ كما هو الحق _ فلماذا لا نراه مع أنّه يرانا سلام الله عليه؟.

في جواب هذا السؤال أذكر لكم قصّة رواها المرحوم والدي تعود إلى الأيّام التي كان يعيش فيها في سامرّاء العراق:

يقول والدي (رحمه الله): كان أحد العلماء يكثر من ارتياد سرداب الغيبة( ) في أيام الجمع وغبرها، يخلو فيه .. يقرأ دعاء الندبة والعهد وزيارة صاحب الزمان ويدعو الله بفنون الدعوات على أمل اللقاء بالإمام عليه السلام.

يحكي والدي عن هذا العالِم أنّه قال:

مرّ زمان وأنا على هذه الحال أرتاد السرداب مشتاقاً لرؤية صاحب الزمان صلوات الله عليه. وفي أحد الأيام وبينما أنا جالس وحدي _ ولم يكن في السرداب أحد غيري _ منشغلاً بالدعاء والمناجاة، مفكّراً في حالي وأنّ المدّة قد طالت وأنا مواظب على الحضور إلى هذا المكان دون أو أوفّق للقاء الإمام عليه الصلاة والسلام، متسائلاً مع نفسي عن السبب الذي

يحول دون تشرّفي برؤيته، قائلاً: ماهو ذنبي ولماذا لا يمنّ عليَّ الإمام بشرف رؤية طلعته... وبينما أنا ساهم في هذه الحالة إذ أُلهمت بأنّ الإمام سيدخل السرداب حالاً، لقد وقع هذا الموضوع في قلبي على نحو اليقين وليس وقوع تخيّل ومجرّد تصوّر، بل عرفت ذلك من ضميري وأيقنت _ بوجداني _ أنّ الإمام سيدخل السرداب الآن، وشعرت أنّي سأوفّق للقائه.

ولكن ما إن عرضت لي الفكرة الأخيرة (أي قرب التشرّف والتوفيق للقاء الإمام) حتى تملّكتني هيبة عصرتني عصرة لم أشعر معها إلاّ وأنا خارج من السرداب الذي تزيد درجات سلّمه على الثلاثين.. وبدأ قلبي يدقّ بشدّة. فأدركت أنّه لم يحن بعد الوقت الذي أكون لائقاً ومؤهّلاً للقاء الإمام الحجّة.

قصة الرجل المحبّ للضيف

ولكي أوضّح لكم الموضوع أكثر أنقل لكم الرواية التالية:

يحكى أن رجلاً شكا إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه يحب إقراء الضيف لكن زوجته تكره ذلك وتعكّر عليه، فقال (صلّى الله عليه وآله) قل لها:((إنَّ الضَّيْفَ إذَا جَاء جَاءَ بِرِزْقِهِ وإذَا ارتَحَلَ ارتَحلَ بِذُنُوبِ أَهْلِ البيتِ))( ).

أي أن الله سيضيف في رزق أهل ذلك البيت ما ينفقونه في إقرائه، ثم إذا انصرف عنهم بعد ذلك وارتحل ارتحلت ذنوبهم معه.

يقال: إن الرجل عاد ثانية إلى النبي وأخبره أن ذلك لم ينفع معها.

وهنا أمره النبي أن يمسح بيده على وجهها إذا حل الضيف.

وفعل الرجل ذلك، فأصبحت المرأة تتمنى إقراء الضيف بعد ذلك؛ لأنها رأت الأمور التي أخبرها بها زوجها عن النبي (صلّى الله عليه وآله) على حقيقتها، بعد أن مسح على وجهها بأمر النبي (صلّى الله عليه وآله)، أي رأت الضيف عندما يدخل الدار ترافقه أنواع الأطعمة والفواكه، وعندما يخرج تخرج معه الأوساخ والعقارب والحيات مثلاً.

نستفيد من هذا

الحديث أموراً عديدة؛ منها أمران لهما صلة بموضوعنا وهما:

الأمر الأوّل: الولاية التكوينية لرسول الله صلّى الله عليه وآله. فمع أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يقم هنا بفعل، فلم يمسح بيده الشريفة على وجه المرأة _ مثلاً _ بل أمر الزوج أن يمسح هو بيده على وجهها، ومع ذلك أثّر في تكوين المرأة، أي أنّ أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) وكلامه يكفي لتغيير الكون، ولا حاجة حتى لفعله المباشر، بل تكفي إرادته وقوله. والإمام كالنبي في هذا.

الأمر الثاني: هو أنّ الذنوب قاذورات وأوساخ وحيّات وعقارب تحيط بنا من الرأس إلى القدم وتكون مانعاً من تشرّفنا بلقاء صاحب الزمان عجّل الله فرجه، أي أننا لا نكون جديرين بسببها للقائه (عليه السلام) فنحرم هذا التوفيق.

ويمكن تقريب هذا الموضوع بمثال:

لو أنّ رجلاً دقّ عليك الباب وأنت في غرفتك. وعندما فتحت الباب رأيته كريه المنظر والرائحة لكثرة ما علق به من قاذورات ونجاسة وأوساخ وديدان وعقارب وحيات.. فهل ستسمح له بالدخول إلى المكان النظيف الذي تجلس فيه؟ كلاّ بالطبع.

هذا يعني أنّك لو كنت في مكان صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) لما أذنت بلقاء رجل يحمل كلّ هذه القاذورات العالقة بلسانه وعينه وأذنه وأنفه ويده ورجله وبطنه وفكره.

عرفنا إذن لماذا لا نرى الإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه، فكلّ المشكلة تكمن هنا.. فينا نحن.

إنّ ذلك العالِم الديني تهيّب للقاء الإمام فلم يره. أما نحن فلم نصل حتى إلى هذه الدرجة، فذلك الرجل العالِم كان قد قطع شوطاً للقاء الإمام (عجّل الله فرجه) أما نحن فلم ننتهج الطريق بعد.

إنّ الإمام صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) يرانا ويرى أعمالنا كما ورد في تفسير قول الله تعالى ((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم

ورسوله والمؤمنون)).

وفي الروايات أنه ((مؤيّد بروح القدس، بينه وبين الله عز وجل عمود من نور يرى فيه أعمال العباد، وكل ما يحتاج إليه))( ).

فهو يرى كلامنا واجسامنا وكلّ ما يظهر منّا، ويرى كذلك ما وراء الكلام والسطور وهو الفكر والنوايا. فهو يرى الشيء الذي نفكّر فيه عندما نتكلّم أو نكتب.. وفيما إذا كانت نيّاتنا وأفكارنا لله، أم لكي يقول الآخرون عنا أننا نجيد الكلام أو الكتابة وأنّ مواضيعنا أفضل من غيرنا. هذه الأمور يراها الإمام أيضاً.. يراها منا في كلّ ساعة وفي كلّ لحظة.

وكما أنّك تطلب من الشخص المنتن الذي أتى لزيارتك أن يذهب أوّلاّ ويزيل عنه الأوساخ والقاذورات ويرمي العقارب والديدان عنه ثم تقول له: تفضّل أهلاً وسهلاً فبابنا مفتوح لك، فكذلك صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) فاتح بابه لكلّ إنسان ولكنه يطلب منا أن نتطهّر أوّلاً ثمّ نأتي للقائه.

فلنعاهد الله في هذه المناسبة أن نبدأ بسلوك الطريق؛ فلعلّنا نبلغ المقصود بعد زمان طال أو قصر، فإنّ من سلك الطريق لابدّ وأن يصل، وصاحب الزمان عليه الصلاة والسلام يعرف عن قلبك وقلبي إن كنّا سالكي الطريق حقّاً أم لا؛ فإن علم صدقنا فسيأخذ بأيدينا. ولو أنّ أحدنا تقدّم إليه بمقدار خمسة في المائة من الطريق فإنّه (عجّل الله فرجه) سيتقدّم إليه في الباقي ويفتح له ذراعيه، ولكن علينا أن نجعل أنفسنا أهلاً لذلك.

إن الأرواح النجسة غير لائقة للقاء الإمام، والأعين الخطّاءة لا تستحق أن تطلّ على حضرته، والآذان المليئة بالمعاصي غير جديرة بسماع صوته، وأنّى لهذه الشفاه التي صدرت من بينها آلاف المعاصي أن تتشرّف بتقبيل يديه!.

وإلاّ فلِمَ لا يسمح لنا الإمام بلقائه وهو أهل الكرم والجود؟ ألم يلتقِ السيد الفلاني والشيخ الفلاني والبقّال

الفلاني والعطّار الفلاني بل وأشخاصاً أمّيين لا يعرفون القراءة والكتابة، فلماذا لا يسمح لي ولك نحن المتعلّمين؟ إلاّ بسبب ذنوبنا؟ فإنّ الإمام لا ينظر إلى أبداننا بل ينظر إلى قلوبنا وأرواحنا وعقولنا.

ذكرى مولد الإمام المنتظر فرصة لمراجعة أنفسنا

لنعاهد الله على أن نكون عند مرور ذكرى مولد الإمام في كلّ سنة أحسن من السنة السابقة. ولنبدأ الطريق بأن يسعى كلّ منا لتقليل نقاط ضعفه وإصلاح نفسه، فلو أصلحنا أنفسنا فإنّ صاحب الزمان هو الذي سيأتي إلينا قبل أن نذهب إليه.

لنخطّط لأرواحنا قبل أن نخطّط لبطوننا وأيدينا وبيوتنا وأهلينا ولنسِرْ قليلاً بهذا الاتّجاه لنحظى بلقيا المولى صاحب الزمان.

ختاماً: بودّي أن أذكر شيئاً عسى أن نكون بذلك قد عملنا خدمة ولو صغيرة لصاحب الزمان. فلعلّ كثيراً من الشيعة لا يعلم شيئاً عن صاحب الزمان، والذنب في ذلك يعود علينا نحن المتعلّمين.

إننا بحاجة إلى مليارات النسخ من المطبوعات عن صاحب الزمان فإنّ نفوس العالَم لم يعُد بالملايين بل بلغ المليارت، فليخصّص كلّ واحد منكم منذ الآن مقداراً من المال يطبع فيه كتاباً عن صاحب الزمان، ولا مانع من طلب العون من أهله وأقربائه ومن زوجته وابنه وأخيه وأخته في هذا المجال بأن يضع سهماً من عنده وأسهماً من أقربائه وأصدقائه ثمّ يقوم بطبع الكتاب ولا يُشترط أن يكون الكتاب ضخماً فكلٌّ حسب سعته. وإذا لم تستطع أن تعطي مبلغاً خلال يوم فقد تستطيع أن تعطيه خلال شهر وقد تستطيع من خلال الاستعانة بأهلك وأقربائك وأصدقائك.

فهذا شيء بسيط وأقلّ ما يمكن أن نقوم به لخدمة صاحب الزمان عجّل الله فرجه الشريف.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

2 الحرية في الإسلام

2 الحرية في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

قال الله تعالى في كتابه الكريم: «لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ، فمَن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم»( ).

? معنى الطاغوت

الطاغوت من الطغيان، وطغيان كل شيء _ في اللغة _ زيادته وتجاوزه عن الحدّ [ قال تعالى: «إنّا لمّا طغى الماء حملناكم في الجارية»( ) ].

ويستعمل الطغيان في الفكر أيضاً، ويراد به عادةً المناهج المنحرفة عن سبيل الله، ويُسمّى مَن كان في قمة الفكر المنحرف طاغوتاً.

? العروة الوثقى

يقول تعالى: «فمَن يكفر بالطاغوت» أي بالإفراط الفكري «ويؤمن بالله فقد اسمتسك بالعروة الوثقى» أي المحكمة الشديدة الإحكام، ثم وصفها بأنّها: «لا انفصام لها» أي أنّها ليست ضعيفة فتنقطع بل لا انقطاع لها أبداً، لأنّها عروة حقيقية وصادقة وليست بكاذبة ومزيّفة. فإنّه لا انقطاع وانفصام في الحق والصدق، خلافاً للكذب، فحبله _ كما قيل _ قصير سرعان ما يقطع بصاحبه.

مثال: فلو أنّك أردت شراء دار وسألت صاحبها عنها، فأخبرك أنّها صالحة وليس فيها عيوب أو مشاكل، وكان صادقاً في إخباره، فإنّك سوف تستمرّ في سكنى هذه الدار دون أن تعترض عليه أو ينقطع تصديقك له. أمّا إذا كان كاذباً، فإنّك قد تصدّقه حين الشراء، ولكن هذه الحالة ستزول عندما تكتشف _ أو أحد أبنائك أو أحفادك _ أنّ الأمر لم يكن كذلك. أي سيحدث انفصام وانقطاع في كلامه.

أمّا دين الله تعالى فلا انفصام فيه. فعندما يخبر الله تعالى الإنسان ويعده أنّه سيسعده إذا ما اتّبع سبيله، فإنّ المسلم الحقيقي لاشكّ سينعم بالسعادة ما حيي، خلافاً لبقية المبادئ التي تعِد الناس ولا تفي ثم يظهر كذبها عاجلاً أو آجلاً.

? حرية اختيار الدين في الإسلام

من أصول الإسلام المسلّمة والمؤكّدة مسألة حرية اختيار الدين؛ قال تعالى: «لا إكراه في الدين».

ليكن معلوماً _ قبل كلّ شيء _ أنّ الإسلام وحده هو دين الحرّية. فحتّى المدارس والمبادئ الأخرى التي ظهرت منذ قرون وما زالت ترفع شعار الحرّية لا واقع للحرية فيها وراء الاسم. أمّا الإسلام فهو دين الحريات مبدأً وشعاراً، وواقعاً وعملاً. وهذا موضوع طويل الذيل يتطلّب من الباحث أن يطالع الفقه الإسلامي بتعمّق _ من أوّله إلى آخره _ لكي يعرف كيف أنّ الإسلام التزم بمبدأ «لا إكراه في الدين»، في مختلف مجالات

الحياة.

? رسول الله (صلى الله عليه وآله) القدوة في تطبيق هذا المبدأ

لقد شنّ أهل مكّة حرباً ظالمة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قليلة النظير في التاريخ. فلقد عُرف (صلى الله عليه وآله) بينهم بالصدق والأمانة حتى لقّبوه بالصادق الأمين، ولكنهم مع ذلك حاربوه _ إلاّ قليلاً منهم _ بمختلف أنواع الحروب العسكرية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وبلغ بهم الأمر أنّهم كانوا لا يردّون تحيّته إذا حيّاهم( ).

فكان الشخص منهم _ وهو مشرك _ يخشى إذا ردّ تحيّة النبي (صلى الله عليه وآله) أن يراه الرائي من المشركين فلا يتبايعون معه بعد ذلك ولا يزوّجونه ولا يتزوّجون منه.

وطردوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومَن معه إلى أطراف مكّة وحاصروهم في شعب أبي طالب، فكان لا يحقّ لهم دخول مكّة، وإذا دخلها أحدهم فدمه هدر. واستمرّت الحالة هذه مدّة ثلاث سنين.

وبعدما هاجر الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة شنّ المكّيون عليه عشرات الحروب أو دفعوا الكفّار إليها. ودامت الحالة عشرين سنة يحارب أهل مكّة النبي (صلى الله عليه وآله) بمختلف أساليب الحروب حتى أذن الله له بالفتح .. وجاء (صلى الله عليه وآله) مكّة فاتحاً .. وأصبحت مكّة في قبضته وتحت سلطته.

ورغم كل ما فعله المشركون من أهل مكّة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ أنّ التاريخ لم يحدّثنا أنّه (صلى الله عليه وآله) أجبر حتى شخصاً واحداً على الإسلام، ولو أنّه (صلى الله عليه وآله) أراد أن يجبر أهل مكّة على الإسلام لأسلموا كلّهم تحت وطأة السيف، لكنّه (صلى الله عليه وآله) لم يفعل ذلك ولم يجبر أحداً على الإسلام. أمّا دعوى إسلام أبي سفيان فكان بتحريض وتخويف من العباس بن عبد المطلب (عمّ النبي) وليس من النبي (صلى الله عليه

وآله) نفسه، فالعباس هو الذي طلب من أبي سفيان أن يُسلم حفاظاً على دمه ولئلا يقتله النبي (صلى الله عليه وآله) وكلام العباس ليس حجّة ولا تشريعاً، بل كان من عند نفسه. ولو أنّ أبا سفيان لم يسلم لما أجبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الإسلام. فكثيرون من أمثال أبي سفيان كانوا موجودين في مكّة ولم يقتل النبيّ أحداً منهم بسبب عدم إسلامه، ولا أجبره على الإسلام، بل تركهم على دينهم مع أنّ دينهم باطل وخرافي لكيلا يسلبهم حرية الفكر والدين.

حقاً هل رأيتم مثيلاً لسلوك نبينا (صلى الله عليه وآله) في التاريخ؛ يحاربه قومه مع ما يعرفونه من صدقه وأمانته ونبله وكرم أخلاقه، بمختلف أنواع الحروب القاسية ويطردونه من موطنه ومسقط رأسه، ثم يتركهم أحراراً وما يختارون من دين وطريقة حياة!

نعم كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يهديهم وينصحهم ويوضّح لهم طريق الرشد ويميّزه عن طريق الغيّ ثم يترك الاختيار لهم «فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر»( )، «قد تبيّن الرشد من الغيّ فمَن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى»( )، «وهديناه النجدين»( )، «إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً»( ). هذا هو أسلوب الإسلام، لاضغط ولا إكراه فيه.

وهكذا الحال في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع اليهود والنصارى. فلقد ردّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عشرات الحروب والاعتداءات التي شنّها أهل الكتاب دون أن يجبر أحداً منهم على الإسلام. لم يسجّل التاريخ حالة واحدة أجبر فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذمياً على اعتناق الإسلام، والتاريخ حافل بسيرة النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) سجّل وحفظ الدقائق عن حياته. فالعلاّمة المجلسي (رحمه الله) وحده خصّص

في موسوعته (بحار الأنوار) عشرة مجلّدات ذات أربعمئة صفحة أي ما مجموعه أربعة آلاف صفحة أو أكثر كلّها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحروبه وأخلاقه وسيرته مع المسلمين ومع المشركين وأهل الكتاب.. لا تجدون فيها موقفاً واحداً أجبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصرانياً أو يهودياً على الإسلام، بل تجدون أنّه كان له صديق مسيحي أو جار يهودي دون أن يجبره على الإسلام مع أنّه كان الحاكم الأعلى في الجزيرة العربية وكان بيده السيف والمال والقوّة الكافية.

? أمثلة من سيرة أمير المؤمنين عليه السلام

ولو انتقلنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أهل بيته (عليهم السلام) لرأينا الحالة نفسها. فها هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان مبتلىً بأشخاص ذوي نفسيات وضيعة تردّ عليه وتقطع كلامه وتجادله بالباطل بل تتطاول عليه، وهو مع ذلك لا يأمر بقطع رؤوسهم وهو الحاكم الأعلى الذي بايعته الأمّة قاطبة ناهيك عن كونه منصوباً من قِبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبأمر من العلي القدير، بل كان يصفح عنهم ويترك لهم حرية العقيدة ما لم يتآمروا ويلجأوا إلى استعمال القوة والسيف.

فثم شخص يُسمى ابن الكوا، ملحد زنديق، مشاغب مشعوذ، ذو مشاكل ومتاعب، يردّ على أمير المؤمنين (عليه السلام) ويناقشه كل حين، حتى والإمام على المنبر، ومع ذلك تركه الإمام وشأنه يعيش في المجتمع دون أن يفرض عليه شيئاً.

وهناك جرثومة أخرى باسم «عمرو بن حريث».. من طراز معاوية وأبيه، منافق ملعون، مهما تقول فيه فقليل. كان ممّن يحضر المسجد ويستمع إلى خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم يقطع حديثه منتقداً. وإذا أخبر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أمور غير ظاهرة (غيبية) ترك ابن حريث هذا أعماله وجرى خلف ما أخبر به أمير

المؤمنين (عليه السلام) يزعم أنّه يريد أن يكشف للناس كذب أبي تراب!! وظلّت هذه الحسرة في نفس ابن حريث تنغّص عليه حياته حتى ذهب إلى القبر دون أن يفلح في كشف كذبة لأبي تراب؛ فليس لأبي تراب كذبة. وعاش هذا المنافق في ظلّ عليّ (عليه السلام) وبعده، والإمام علي (عليه السلام) لم يصنع معه أيّ شيء، ولم يقل له يوماً تخلّ عمّا أنت عليه وإلاّ ضربت عنقك! لأنّه إمام الإسلام؛ دين حرية الفكر والعقيدة.

أجل، إنّ من عرف الحقّ ولم يترك الباطل فإنّ مصيره يوم القيامة إلى جهنّم وبئس المصير. أمّا في الدنيا ف«لا إكراه في الدين» ليتمّ الامتحان ويُعرف الطالح من الصالح، والخبيث من الطيّب. فإنّ ابن حريث هذا امتدّ به العمر حتى كان من الشهود ضدّ ميثم التمّار (رضوان الله عليه) حينما أراد الطغاة الطغام من بني أمية قتله، فقال وهو يدلي بشهادته ضد ميثم أنّه من أصحاب عليّ عليه السلام: «هذا الكذّاب مولى الكذّاب» _ قاصداً علي بن أبي طالب (عليه السلام) مولى الصادقين وإمام المتّقين _.

أرأيت نفسية هذا المنافق الحقيرة؟! إنّ رجلاً مثل هذا عاش مع أمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاثين سنة وكان (عليه السلام) رئيساً وحاكماً بيده القوّة، ومع ذلك لم ينل منه! هل رأيتم في تاريخ العالَم رئيس دولة كعلي؟! وهل رأيتم سماحة كسماحة الإسلام؟ وهل رأيتم حرية كقوله تعالى: «لا إكراه في الدين»؟!

عن ابن عباس قال: مرّ أمير المؤمنين (عليه السلام) بالحسن البصري وهو يتوضأ، فقال: «يا حسن أسبغ الوضوء. فقال: يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله، يصلون الخمس ويسبغون الوضوء، فقال له أمير

المؤمنين (عليه السلام): قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدوّنا؟ فقال: والله لأصدقنّك يا أمير المؤمنين، لقد خرجت في أوّل يوم فاغتسلتُ وتحنطتُ وصببتُ عليَّ سلاحي، وأنا لا أشك في أنّ التخلّف عن أمّ المؤمنين عائشة هو الكفر، فلمّا انتهيت إلى موضع من الخريبة نادى منادٍ: يا حسن إلى أين؟ ارجع فإنّ القاتل والمقتول في النار، فرجعت ذعراً وجلست في بيتي فلمّا كان اليوم الثاني لم أشكّ أن التخلف عن أمّ المؤمنين عائشة هو الكفر، فتحنّطتُ وصببتُ عليَّ سلاحي وخرجت إلى القتال حتى انتهيت إلى موضع من الخريبة فناداني منادٍ من خلفي: يا حسن إلى أين؟ مرّة بعد أخرى، فإنّ القاتل والمقتول في النار. قال علي (عليه السلام): صدقتَ أفتدري مَن ذلك المنادي؟ قال: لا. قال (عليه السلام): ذاك أخوك إبليس وصدقك، إنّ القاتل منهم والمقتول في النار. فقال الحسن البصري: الآن عرفتُ يا أمير المؤمنين أنّ القوم هلكى»( ).

? مقارنة

حقاًَ هل يجرؤ أحد من الرعية أن يكلّم رئيساً بهذا الكلام _ والإمام مع ذلك يلاطفه ويحاوره _ حتى في عصرنا هذا؛حيث يمضي على صدر الإسلام أربعة عشر قرناً، وتطوّر العالَم حتى صار يسمّى عصرنا بعصر الحرّيات؟!

لقد قتل وشرّد «لينين» وحده في عصر الحرية والتقدّم خمسة ملايين إنسان من أجل تطبيق مادّة قانونية واحدة من قانون المزارع الجماعية في الاتّحاد السوفياتي السابق!!

وفي العراق كان عبد الكريم قاسم يخطب فانبرى أحد المواطنين ليردّ عليه ويناقشه، فقام الجلاوزة باعتقاله وسجنه وتعذيبه وقتله، لأنّه قال كلمة ينتقد فيها رئيساً في القرن العشرين!!

وحدث شبيه لهذه القصة في بلد آخر _ كما نشرته الصحف في حينه _ وكان مصيره مصير صاحب عبد الكريم قاسم!! كل ذلك ونحن

في ما يُسمّى بعصر الحريات. فهل هذه هي الحرية أم الحرية في ظلّ الإسلام؟!

لقد أُقصي الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عما نصبه الله تعالى خمساً وعشرين سنة ثم توجّهت إليه الأمّة وتزاحمت على بابه للبيعة حتى لقد وطئ الحسنان( ) كما قال (عليه السلام) في خطبته المعروفة بالشقشقية. ومع ذلك ذكر المؤرخون _ سنّة وشيعة _ أنّ الإمام بعدما بويع، ارتقى المنبر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان المسجد مكتظّاً بالناس الذين حضروا لاستماع أوّل خطبة لابن عمّ رسول الله ووصيّه وخليفته الحقيقي الذي أُبعد عن قيادة المسلمين المنصوصة من قبل الله تعالى خمساً وعشرين سنة، بعد أن آل إليه الحكم الظاهري، ثم أمر جماعة من أصحابه أن يتخلّلوا الصفوف وينظروا هل هناك مَن لا يرضى بخلافته. فقال الناس بأجمعهم: يا أمير المؤمنين سمعاً لك وطاعة، أنت إمامنا( ). وحتى طلحة والزبير لم يخالفا في هذا المجلس بل نكثا بعد ذلك، فلم يعترض أيّ أحد في هذا المجلس ولو اعترض لما عاقبه الإمام بالقتل ولا السجن ولا الضرب ولا قال له شيئاً يهينه أوينال منه! فهل رأيتم أو سمعتم مثل هذا في عصر الديمقراطيات الحديثة؟!

الديمقراطية تعني حكم الأكثرية، فلو حصل شخص ما على واحد وخمسين في المائة من الأصوات فهذا يخوّله لأن يصبح رئيساً للبلاد في أغلب القوانين _ وهذا من أكبر أخطاء الديمقراطية، وبحثه موكول إلى محلّه _ أمّا الإمام علي (عليه السلام) فقد بايعته الأكثرية المطلقة من الناس ومع ذلك يصعد المنبر ليبحث إن كان هناك معارض له، وما هو سبب معارضته! هل تجدون لهذا نظيراً في التاريخ؟!

لقد كتب محبّو «صلاح الدين الأيوبي»( ) والذين يشيدون بشخصيته ويعظّمونه أنّه قتل

قرابة مليون إنسان ليس إلاّ لأنّهم يختلفون معه في الرأي.

فأين هذا من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) الذي حاربه قومه عشرين سنة وأخرجوه من داره، ولكنّه عندما عاد إليهم ظافراً بنصر الله وعزّته وقدرته لم يجبر أحداً منهم على اتّباع رأيه ودينه، بل قال: «مَن أغلق بابه فهو آمن، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن، ومَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»( ). ولم يقل مَن أسلم وحسب فهو آمن، أو مَن شهد الشهادتين فهو آمن، مع أنّ مهمّته (صلى الله عليه وآله) هي تبليغ الشهادتين.. ولكنّ حرية الرأي في نظام الله وقانون الإسلام أكثر تقديساً حتى من الشهادتين. فالإسلام يريد أن يجعل الناس أحراراً. قال تعالى: «يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم»( ).

? أنت حرّ ما لم تضرّ

يقول لك الإسلام: اعمل ما تشاء، فلك حرية العمل شريطة أن لا تضرّ غيرك؛ فإنّه (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)، والإسلام يعاقب بشدّة الظالم ومَن يريد إلحاق الضرر بالآخرين، فإذا ضمنت ذلك فأنت حرّ في كل أمورك، أيّ عمل تعمل، وأيّ مكان تعمل، وما هو نوع العمل. وأنت حرّ في ذهابك ومجيئك وسفرك و...، فلا ضغط ولا جبر ولا إكراه ولا كبت للحرية في الإسلام، ولكن ثمة توجيهات وإرشادات تبيّن لك السلوك الأحسن، تقول: هذا صحيح وهذا مستحبّ وهذا مفضّل وهذا مكروه.

فلنقرأ عن الإسلام، ولنقرأ عن غيره أيضاً ثم نقارن بينهما. ففي القرون الوسطى كان العالِم يُقتل لمجرّد إبداء رأيه في قضية وإن كانت قضية علمية محضة لا علاقة لها بالدين وتشريعاته!!!

فقتلوا القائل بكروية الأرض، وكذلك الرجل الذي ترجم الكتاب المسمّى عندهم بالمقدّس؛ فقد كان هذا الكتاب حكراً على رجال الدين فقط ولا يعرف لغته غيرهم.

هكذا كانت حالة أوربا

في القرون الوسطى أي بعد مرور أربعمئة سنة على الإسلام. فهل يصحّ مقارنتها مع عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ كلاّ بالطبع؛ إذ كيف يصحّ مقارنة الصفر بالكثير بل لابدّ أن يكون مقابل الكثير عدد لتصحّ المقارنة. ومن هنا قيل: مَن فضّل علياً على معاوية فقد كفر، لأنّ معاوية لا فضل عنده ليكون علي أفضل منه. بل لا يقاس بآل محمد من هذه الأمّة _ ولا من غير هذه الأمّة _ أحد، فصلوات الله عليهم أجمعين، فلقد كانوا في سيرتهم يمثّلون القرآن.

? التزم بتوجيهات الإسلام ولا تكن عبد غيرك

هناك تهمة وجّهها بعض المستشرقين إلى الإسلام ويردّدها بعض الشباب الذين لا يعرفون الإسلام. فهم يقولون: إنّ الإسلام كلّه محرّمات وقيود وأوامر ونواهي. ونحن نقول لهم: بالعكس تماماً فإنّ الحرية الموجودة في الإسلام لا يوجد لها نظير في أي مكان!

خذوا أكثر بلدان العالَم اليوم حرية، ترى القيود الكثيرة للسفر منها وإليها. فهذه القيود موجودة في كل دول العالَم وإن كانت في بلداننا أشدّ. أمّا الإسلام فلا يوجد فيه مثل هذا! لا يقول لك الإسلام: أين تسكن؟ وأين تذهب؟ وكيف تذهب؟ ومتى تذهب؟ بل يقول لك: إنّ الله خلقك وهو الذي أعطاك الفكر والعقل فلا تكن عبد غيرك، ولا يجب أن تخبر الدولة عن خروجك ودخولك، وإقامتك ورحيلك، وما تستورد وما تصدّر _ ما لم يكن ممّا حرّمه الله _. وإنما الإسلام يضع لك التوجيهات ويقول لك إن التزمت بها تفلح وإلاّ تخسر!

الإسلام يهدي ويرسم الطريق، وبعده لا إكراه في الدين أي كل أنواع الإكراه يرفضها الدين. (والحريات الموجودة في الإسلام لا نظير لها في التاريخ. وكانت تلك نماذج وهناك مئات بل آلاف النماذج في سيرة النبي وأهل بيته عليهم السلام).

فمَن يؤمن بالله فقد

استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها. ومَن يتمسّك بالطاغوت ويذهب وراء المبادئ الهدّامة والطواغيت البشرية والفكرية فإنّما يتمسّك بعروة لها انفصام، حيث سيكتشف بعد مرور عدّة أيام أو أعوام أنّه كان مخطئاً.

إذن: الحرية التي يمنحها الإسلام في مختلف المجالات ليس لها نظير ولا شيء يقرب منها في تاريخ العالَم حتى في هذا اليوم المسمّى بعصر الحريات.

وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

3 العلم! العلم! العلم!

3 العلم! العلم! العلم!

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

نوم مع علم خير من صلاة مع جهل

هناك حديث نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، صغير العبارة، كبير المحتوى والمعنى؛ فلقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: ((نوم مع علم خير من صلاة مع جهل)) ( ).

إنّ الهدف من خلق الإنسان هو العبادة؛ يقول الله تعالى: ((وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ))( ).

والصلاة رأس كلّ العبادات وأهمها، بل هي العبادة التي ((إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدّت ردّ ما سواها)) من الطاعات والعبادات، كما في الحديث الشريف( ).

ومع ذلك نرى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ((نوم مع علم خير من صلاة مع جهل))! فكيف يكون ذلك؟

إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي يعرّف لنا العبادة، ويعرّفنا بالصلاة وشأنها، ومنطقه منطق القرآن والإسلام والواقع، وها هو يخبرنا بنفسه أنّ نوم العالِم خير من الصلاة (وهي أهمّ الطاعات والعبادات) إن كانت مع جهل.

حقّاً لو أنّ هذا التعبير _ عن تفضيل العلم على الصلاة هكذا _ لم يرد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى لسانه، لما أمكن لأيّ عالِم _ غير أئمة أهل البيت عليهم السلام _ أن يتفوّه بمثله أبداً؛ إذ كيف يكون النوم (مع أنّ النائم لا يعمل شيئاً) خيراً من الصلاة (وهي رأس العبادات وأهمها)؟

نعم، لو كانت الصلاة باطلة، فمن الواضح أنّ عدمها خير من وجودها، والنوم ترك أي عدم، ولكنّ الحديث لم يقيّدها بالبطلان أو عدم القبول وما أشبه، بل فضّل النوم _ إن كان مع علم _ على مطلق الصلاة _ إن كانت مع جهل _.

نوم العالِم حسنة والجهل في كلّ أحواله سيئة

إنّ نوم العالِم ليس مجرد ترك بل هو مقدّمة وجود؛ لأنّ العالِم إذا نام استراح، واستراحته هذه تمثّل مقدّمة للخدمة والهداية وإرشاد الناس

وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الجحيم إلى الجنّة. فنوم العالِم حسنة إذاً.

أمّا الصلاة مع جهل فكثيراً ما تكون سيئة، لأنّ الجاهل إذا لم يصلّ الصلاة الواجبة فتلك سيئة، وإذا صلاها باطلة فسيئة أيضاً؛ يستوي في ذلك الجهل عن تقصير أو قصور.

فصحيح أنّ القاصر لا شيء في حقّه، لأنّ من أصول الإسلام العدل، والله سبحانه وتعالى عادل، ومن عدله أن لا يعذّب القاصر، فمن وُلد في مكان أو زمن أو ظرف بحيث كان قاصراً لا يتوجه خطاب ولا عقاب بالنسبة إليه، أي لا يُعذَّب ولا يُعاقَب ولا تكتب له سيئة.. ولكن نوم العالِم أفضل من صلاته (أي صلاة الجاهل القاصر) أيضاَ.

والجاهل المقصّر كالعالِم العامد، فلننتبه جيداً

أمّا الجاهل المقصّر فقد ادّعى المحقّقون الأعاظم من الفقهاء والأصوليين الإجماع على أنّ حكمه حكم العالِم العامد خطاباً وعقاباً.

فكما أنّ العالِم العامد (أي الذي يعمل عملاً ويعلم أنّه حرام مثلاً)، لا إشكال عقلاً في توجّه الخطاب أو النهي إليه، فكذلك الجاهل المقصّر يتوجّه إليه الخطاب والعقاب دون أن يكون إشكال فيه عقلاً.

ولا يمكن أن يوجد بيننا نحن _ طلبة العوم الدينية _ جاهل قاصر، ولكن قد يوجد بيننا _ مع احترامي لكم _ الجاهل المقصّر. فإنّه لا يقصد بالجاهل المقصّر مَن كان مستواه الدراسي أوطأ أو كانت معلوماته أقل، بل مَن يجهل أحكام الله، فيعمل الحرام وهو لا يعلم أنّ عمله هذا حرام.

فيا أيها الأخوة! مادام المؤمن باذلاً عمره في سبيل الله سبحانه وتعالى.. يعطي وقته وساعاته ودقائق حياته في طاعة الله مصلياً أو صائماً أو حاجاً أو معتكفاً أو قارئاً للقرآن... فليخصّص الحظّ الأوفر للعلم، وأعني به العلم بأصول الدين وأحكام الإسلام وأخلاقه وآدابه.

وعلينا بعلم الأخلاق أيضاً فليست أخلاق

الإسلام وآدابه كلّها لا اقتضائيات _ حسب الاصطلاح العلمي _ أي ليست كلّها مستحبّات ومكروهات فقط بل إنّ فيها الواجبات والمحرّمات أيضاً. فهذا كتاب جامع السعادات _ وهو كتاب أخلاقي _ وذلك باب الأخلاق في البحار وتلك كتب الأخلاق الأخرى راجعوها تجدوها مليئة بالواجبات والمحرّمات.

إذا عرفتم مكانة العلم وموقعه وأنّ من الأخلاق واجبات ومحرّمات فاعلموا أنّ الأخلاق جزء من العلم المطلوب أيضاً.

ورع الشيخ عبد الكريم الحائري وعلمه

ولكي تدركوا أهمّية العلم وكيف أنّ ال_((نوم مع علم خير من صلاة مع جهل))، أنقل لكم الحكاية التالية.

لا يزال بين ظهرانينا اليوم مئات الأشخاص ممن أدركوا الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم _ وهم من الشيوخ الذين تجاوزت أعمارهم السبعين _ وينقل بعضهم عنه قصصاً مباشرة أي دون واسطة.

والقصة التي سأرويها لكم سمعتها من أحد العلماء الذين عاصروا الشيخ عبد الكريم الحائري، وربما سمعتها من أكثر من واحد. وهذه القصة وأمثالها تنفعنا نحن، باعتبارنا في طريق العلم، عسى أن تكون نبراساً يضيء لنا الطريق فلا نكون من الجاهلين المقصّرين.

حدّثني العالِم قال: نزل أحد أصدقاء الشيخ (المرحوم عبد الكريم الحائري) ضيفاً عليه في أحد الأيام، ولم يكن معهما ثالث إلاّ الله؛ ولذلك فإنّ ناقل القصة الأوّل لا يعدو أن يكون الضيف أو الشيخ نفسه أو كليهما.

يقول الراوي: مُدّ خوان متواضع وجاء الشيخ بما كان عنده من طعام عادي وبسيط في بيته، وأخذ الضيف يأكل والشيخ عبد الكريم كذلك. ولكن فجأة سحب الشيخ يده للحظات وتأمل، ثم مدّ يده ثانية إلى الطعام واقتطع قطعة من اللحم، وقام ودخل إلى الدار ثم عاد بعد ذلك واعتذر للضيف قائلاً:

لقد انتبهت فجأة أنّ كلّ اللحم الذي اشتريته اليوم قد طهته زوجتي ووضعته أمامنا. (تعلمون أنه

لم يكن في تلك الأيام ثلاّجات أو مجمدات ليكون عندهم طعام آخر في البيت).

يقول الشيخ: ولما كانت الزوجة واجبة النفقة عليَّ، فقد أحسست على الفور أنّي قد وقعت في مشكلة، فقلت: أن أعتذر للضيف خير لي من أن أقع في إشكال شرعي؛ كان الخوف الذي تملّكني من الناحية الشرعية، هو أن أترك زوجتي هكذا من دون طعام، لأنّ هذا العمل خلاف للمروءة، بل لعله ترك واجب. قلت مع نفسي: صحيح أنها هي التي قامت بذلك العمل بنفسها وقدّمت لنا كلّ الطعام، ولكن ينبغي لي أن أكون منصفاً.

والآن انظروا إلى ورع الشيخ وكيف أنقذه علمه! فلو كان غيره لقال: إنّ هذا تصرّف مشين. فمن المخجل والمخزي أن يرفع أحدنا الطعام من أمام ضيفه ليذهب به إلى أهله.

كلّ مستحبّ محدود بعدم ترك واجب أو ارتكاب محرّم

أقول: أجل، إنّ الكرم خصلة محمودة، وكذا السخاء والإنفاق وإقراء الضيف، فكلّ ذلك عمل مقبول ومحبّذ، ولكن إلى حيث لا يؤدي إلى ترك واجب أو ارتكاب محرّم. ولعلّ كثيراً منا لا يعلم أنّ مثل التصرّف الذي قام به الشيخ قد يكون واجباً. فها هنا يأتي دور العلم لينفع صاحبه ويقول له: إنّ إقراء الضيف محدود بعدم ترك الواجب، ولو أنّ أحداً حلّ به ضيف ثم قام بجلب طعام مَن تجب نفقته عليه وقدّمه بين يدي الضيف من دون رضا واجب النفقة ووجود طعام بديل له، فإنّ إقراءه هذا غير جائز، وهذا ما يقوله كلّ مراجع التقليد. سلوا أيّ مرجع شئتم لو أنّ المرء قدّم طعام واجب نفقته الذي لا يملك غيره ومن دون رضاه للضيف فهل يعدّ عمله هذا جائزاً، سيخبركم أنه غير جائز قطعاً.

والآن هل رأيتم كيف أنّ علم الشيخ الحائري نفعه. فهذا هو الذي نومه خير من

صلاة مع جهل، لأنّ الإنسان الذي عنده علم لا يعمل الحرام في سبيل ترك مكروه، ولا يترك واجباً من أجل الإتيان بعمل مستحبّ. وهو يتحمّل ما يُخجل ولا يعمل الحرام. ولاشكّ أنّ الشيخ عبد الكريم قد خجل وشعر بالحرج ومن المؤكد أنّ الأمر لم يكن عليه يسيراً، ولكنه مع ذلك لم يبال بهذه الأمور، لأنّ ما هو أخطر منها في نظره أن يقع في معصية مولاه عز وجل. وكان لعلمه الأثر المهم في ذلك، وإلاّ فلو كان جاهلاً بالقضية لما تصرّف هكذا.

فصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث يقول: ((نوم مع علم خير من صلاة مع جهل)).

معنى »وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون«

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ((..... وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون))( ).

صحيح أنّ صدر الآية وردت في الظالمين، ولكن ثمة تفاسير تقول: إنها في فريق من الناس أيضاً، يظنون أعمالهم في الدنيا حسنات لكنها تبدو لهم في الآخرة سيئات. ومن الأمثلة على ذلك إقراء الضيف بطعام واجب النفقة من دون رضاه أو وجود البديل. أرأيتم إلى الإقراء _ المظنون أنه حسنة _ كيف عاد سيئة؟!.

وكان ذلك مثالاً واحداً تبرز فيه أهمية العلم وتفضيل نوم صاحبه على الصلاة مع جهل، وإلاّ فإنّ أكثر أعمال الجاهل سيئات. فلو أخذنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من باب المثال أيضاً، لرأينا الشيء نفسه؛ لأنّ الجاهل إذا لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر _ وكان واجباً عليه _ فقد ارتكب سيئة، وإن أمَر ونهى فلا يبعد أن يكون أمره ونهيه سيئة، لأنه لا يعلم الكيفية والوقت والأسلوب اللازم للأمر والنهي الواجبين عليه. بل قد يقول عن المكروه إنه حرام، أو عن المستحب إنه واجب، فيصدر منه _ والعياذ

بالله _ الحكم بما لم ينزّل الله.

لقد شاهدت أحد الأشخاص يعظ في محضر أحد مراجع التقليد، فذكر مكروهاً من المكروهات وقال عنه إنه حرام اعتماداً على رواية طالعها. فكان من بين الحضور رجل كبير السن يعرف شيئاً من المسائل الشرعية انتابه الشك، فذهب إلى المرجع وسأله عن الموضوع، فقال له المرجع: كلاّ إنّ هذا الأمر مكروه وليس حراماً. فجاء الرجل إلى المتكلّم الذي كان يرشد الناس وقال له: لقد سألت المرجع وأخبرني أنّ ما حدّثت عنه أنه حرام ليس حراماً بل مكروه.

فتأثر ذلك الواعظ وجاء إلى المرجع وعاتبه بأنّ كرامته ذهبت أمام ذلك الشخص لإخباره بخلاف حديثه.

عند ذلك قال المرجع: لقد فكّرت في كلامك ورأيت أنه خلاف الإجماع أي أنّ المسألة لم تكن خلافية بأن يقول أحد العلماء بكراهيتها ويقول آخر بحرمتها بل لم يقل أحد إنه حرام على الإطلاق.

وهنا أجاب الشخص: لكنّي وجدت رواية تنهى عن ذلك.

فقال له المرجع: ليست كلّ رواية فيها نهي، فهي دالّة على الحرمة. إنّ العلماء والمجتهدين يتعبون أنفسهم عشرات السنين لكي يعرفوا هل النهي الفلاني يدلّ على الحرمة أم لا، وهل الأمر الفلاني دالّ على الاستحباب أم الوجوب.

وكان هذا مثالاً لمن يتصوّر أنه محسن مع أنّ عمله عين الإساءة، ونحن نرجو أن يكون ذلك الواعظ _ وقد توفّي رحمه الله _ من القاصرين.

أما نحن فلا أتصور أن يوجد بيننا جاهل قاصر بعد كلّ هذا، وإذا وُجد فهو مقصّر لا قاصر، والجاهل المقصّر _ حسب أعاظم الفقهاء والأصوليين والمحقّقين _ كالعالِم العامد خطاباً وعقاباً. فإن لم يأت بالواجب فتلك سيئة، وإن أتى به ولكن مع المنافيات _ غير عالم بها حتى وافاه الأجل دون أن يتعلّمها _ فتلك سيئة أيضاً.

ومن

هنا يتّضح لنا بعض الشيء قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ((نوم مع علم خير من صلاة مع جهل)).

صالح بن سهل وما أخذه من الإمام حياءً

تأمّل في هذا الحديث الصحيح الأعلائي _ على حد تعبير بعض العلماء _ .

فإنّ الكليني يروي هذا الحديث عن علي بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن هاشم. فالسلسلة هؤلاء الثلاثة فقط: الكليني، وعلي بن إبراهيم، وأبوه إبراهيم الذي ينقل القصّة التي شهدها بنفسه في مجلس الإمام الجواد (عليه السلام)، يقول:

((... صالح بن محمد بن سهل وكان يتولى له الوقف بقم، فقال: يا سيدي اجعلني من عشرة آلاف في حل فإنّي أنفقتها. فقال له: أنت في حل، فلمّا خرج صالح قال أبو جعفر عليه السلام: أحدهم يثب على أموال حقّ آل محمد وأيتامهم ومساكينهم وفقرائهم وأبناء سبيلهم فيأخذه ثم يجيء فيقول: اجعلني في حل، أتراه ظن أنّي أقول لا أفعل، والله ليسألنّهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً))( ).

انظر كيف أنّ الإمام المعصوم (عليه السلام) يقول له _ في رواية صحيحة _: ((أنت في حلّ)) ثم يخبر أصحابه أنه لا فائدة من ذلك. لماذا؟ الجواب: لأنّ الرجل لا يخلو إما أن يكون عالِماً أو جاهلاً مقصّراً، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. وما أخذه من الإمام إنّما أخذه حياءً (أتراه ظن أنّي أقول لا أفعل).

المهم أنّ المطلوب هو العلم. فإن الإنسان لا يدري بماذا سيُبتلى وكيف ينبغي له أن يتصرّف وكيف يتحدّث لئلاّ يكون من الذين ((بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون))( )، فينفق ويتصوّر إنفاقه حسنة، أو يكتب أو يخطب ويتصوّرهما حسنة ثمّ ينكشف له بعد ذلك أنّ أعماله كلها كانت سيئات. ونحن أهل العلم أَولى بالالتفات والانتباه إلى هذا الأمر الخطير.

الحسين بن روح وخوفه من الجواب دون علم

لقد كان الحسين بن روح (رضوان الله تعالى عليه) من نوّاب الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف. سأله بعض الشيعة

عن الشلمغاني وكان عالِماً أيضاً، ولكنه ورد النهي عن المعصوم (عليه السلام) في اتّباعه، بل ورد عن الإمام الحجّة (عليه السلام) التحذير منه في قصّة لا يعنينا ذكرها الآن.

سئل الحسين بن روح عن كتب الشلمغاني بعدما ذُمّ وخرجت فيه اللعنة فقيل له: فكيف نعمل بكتب ابن أبي العزاقر وبيوتنا منها مليء؟ فقال (الحسين بن روح): ((أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي _ يعني الإمام العسكري _ صلوات الله عليهما وقد سئل عن كتب بني فضال فقالوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها مليء؟ فقال عليه السلام: خذوا بما رووا وذروا ما رأوا)) ( ). {أي إذا رأيتم روايات رووها عنّا فاعملوا بها، أما آراؤهم وفتاواهم فذروها}.

بعد ذلك _ وهنا محل الشاهد _ سأل السائل الحسين بن روح وقال: هذا منك أو من الإمام عليه السلام؟

وهنا أطلق (رضوان الله عليه) في الجواب عبارة عظيمة جداً تناسب مقامه الرفيع، وقال: ((لئن أخر من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح من مكان سحيق أحب إلي من أن أقول في دين الله برأيي و من عند نفسي بل ذلك من الأصل و مسموع من الحجة صلوات الله و سلامه عليه)) ( ).

أقول: فهل يُعذر بعد ذلك مَن يقول بجهل مقصّراً؟ كلاّ إنه ليس بمعذور.

إننا بحاجة إلى تعبئة في أصول الدين

إنّ كثيراً من المطالب المهمّة في أصول الدين قد تغيب على كثير منا.

نقل لي أحدهم _ ولا أرى من المناسب أن أذكر درجته العلمية، وهو الآخر قد توفّي رحمه الله _ قال: سألني أحد الناس في مكان ما يوما وقال: ما هو الدليل على وجود الله سبحانه وتعالى؟ يقول: فكّرت قليلاً ثم رأيت أنه لا ينبغي أن أتحدث هكذا من دون علم

ثم يظهر للشخص أنني لم أكن أعرف شيئاً، فخلّصت نفسي منذ البداية وقلت: إنّ هذا ليس من اختصاصي!

والآن هل هذا يليق برجل العلم؟ أليس من واجباته الأمر بالمعروف وإرشاد الجاهل؟ أم ليس وجود الله تعالى أساس كلّ الدين وأصل أصوله؟

ثقوا أنّ كثيراً من مطالب أصول الدين نحتاج إلى تعلّمها سواء بالدراسة أو المطالعة أو المباحثة، وكذا الحال بالنسبة لكثير من الأحكام الشرعية.

إننا اليوم بأمسّ الحاجة إلى تعبئة علمية حتى لمعرفة كثير من الأحكام الشرعية التي هي محلّ ابتلائنا أيضاً، سواء في عملنا الشخصي أو في مقام الهداية والإرشاد وتعليم الأحكام، بله مسائل هداية الضلاّل وأصحاب الديانات والمذاهب الباطلة والأفكار المنحرفة.. فهذا كلّه من الواجبات العينية.

أطلبوا العلم ولو بالصين

لقد ورد في الحديث المأثور عن النبي (صلى الله عليه وآله) في كتب الفريقين، وهو موجود في البحار وغيره، قوله صلّى الله عليه وآله: ((أطلب العلم ولو بالصين))( ).

وتعلمون المسافة بين الحجاز والصين، وصعوبة قطعها خاصة في مثل تلك الأيام؛ بل ينقل إنه حتى ما قبل بضع مئة سنة كان على المسلم الذي يريد الحج من الصين أن يخصص مدة سنتين تستغرقها سفرته إلى بيت الله الحرام. هذا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمئات السنين فكيف بزمانه صلّى الله عليه وآله؟

هذا ولا يكفي أحدنا _ لكي يصدق عليه أنه يطلب العلم _ أن يقتصر على الدرس أو التدريس قليلاً، وإن كان هذا لا بأس فيه، بل على المرء أن يتعلّم إلى جنب دروسه، الحلال والحرام وأصول الدين والأخلاق والآداب الإسلامية.

كتب الأخلاق مشحونة بالفرائض

والأخلاق الإسلامية ليست لااقتضائية حسب الاصطلاح العلمي. فكثير مما يعبّر عنه اصطلاحاً بالأخلاق هو من المحرّمات فإنّ التكبّر والعُجب مثلاً ليسا من المكروهات، بل هما من المحرّمات، وكذلك الرياء والمراء، وهو الجدال بالباطل.

فمثلاً لو قال أحدنا كلمة وكانت حقاً مئة في المئة وكان يعلم أنها كذلك ثم عارضه أحد فنوى ردّه، فإن كان ردّه لإثبات أنّ قوله هو الصحيح، فهذا هو المراء الباطل الذي أفتى جمهرة من أعاظم العلماء بحرمته، وهكذا يكون إثبات الحقّ حراماً إن كان بهذه النية، إلاّ أن يكون الردّ بهدف إثبات الحقّ نفسه، فلا خلاف في صحّته بل قد يكون واجباً عينياً.

وهنا يتبيّن أهمية العلم وكيف أنّ النوم مع علم خير من صلاة على جهل. فهذه هي من المسائل الأخلاقية. ولذا لا ينبغي أن نضع درس الأخلاق جانباً بذريعة أنه يتناول المستحبّات والمكروهات.

لقد ذكرت لأحدهم مرة، عن كتب الأخلاق،

فقال لي: أنا مشغول بالفرائض. فقلت له: وكتب الأخلاق مشحونة بالفرائض.

لن_زيد من أوقاتنا ولننتهز كلّ فرصة في سبيل العلم

فلنخصّص من أوقاتنا وراحتنا ومن أعمالنا الأخرى وبأقصى ما نستطيع لتعبئة أكثر في هذا المجال، و موسم الدرس مناسبة جيدة، والتسهيل من الله تعالى.

لننتهز كلّ فرصة ولا نضيّع حتى دقيقة واحدة من حياتنا؛ كأن نحمل معنا الرسالة العملية التي قرأناها في أيام شبابنا من أولها إلى آخرها. فمن الممكن أن لا نذكر كثيراً منها أو ثمّة أمور غير ملتفتين ولا منتبهين إليها. ليحمل أحدنا الرسالة العملية معه حتى إذا أُتيحت له فرصة ولو بمقدار خمس دقائق، قرأ ولو صفحة واحدة من الرسالة. حتى إذا تكرّرت معه الحالة مرات تأكّد لديه أنه كان عنده جهل مركّب في بعض المسائل، حيث كان يتصوّر أنه يعرفها مع أنه لم يكن يعرفها على الوجه الصحيح.

قصّة فيها عِبرة

نقل لي أحدهم _ وقد توفّي أيضاً رحمه الله _ قال: كنت ذاهباً إلى حجّ بيت الله الحرام وكان الناس يسألونني مسائل فأجيب عليها.

ثم قال: تصوّرت أنّ إجابتي لبعض المسائل صحيحة، لكنّني لم أكن مطمئناً فيها واستحييت أن لا أجيب، فأجبت ثم كتبت الإجابات على ورقة لكي أراجعها إذا رجعت من الحجّ.

يقول:عندما راجعت المسائل لاحظت أني أخطأت في اثنتي عشرة مسألة؛ كانت خلاف الإجماع، أي أنني قمت بتعليم الناس خطأ.

الوقت ضيّق

أنا وأنتم سنكون غدا _ واليوم _ في معرض هذه الأمور والحالات. فلنهتمّ بمسألة العلم أكثر.

إنّ عندكم الاهتمام بالعلم بحمد الله، ولكن ليزدد اهتمامكم، واعلموا أنّ العلم يعني أصول الدين وأحكام الإسلام وأخلاقه وآدابه وهداية الضلاّل.

فإنّ الزمان قليل حقّاً لو لاحظنا هذه الأمور. فلو أنّ أحدنا يعمّر مئة سنة فهي قليل تجاه ما يجب عليه. فكيف وأعمارنا أقصر من ذلك؟!

نسأل الله سبحانه ببركة رسول الله (صلى الله عليه وآله) صاحب هذا الكلام وببركة أهل بيته الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أن يبصّرنا في هذا المجال أكثر من ذي قبل. وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين

4 في استقبال شهر رمضان المبارك

4 في استقبال شهر رمضان المبارك

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

استقبال شهر رمضان

من واجبات طلاب العلوم الدينية: الترويض والهداية وجمال التعبير.

تُروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عدّة خطَب في استقبال شهر رمضان المبارك، منها الخطبة المعروفة التي خطبها في آخر جمعة من شهر شعبان، ومطلعها: ((أيّها الناس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة)) ( ).

ويمكن أن يُستظهر من بعض الروايات أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يستقبل شهر رمضان من كلّ سنة بخطبة خاصّة، إمّا في أوّل الشهر أو قبل حلوله. فهناك عدّة خطَب مرويّة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في استقبال هذا الشهر الفضيل، منها هذه الخطبة التي يرويها الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) وينتهي بسندها إلى الإمام الرضا، عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم جميعاً صلوات الله، والتي تبدأ -كما قلنا- بقوله صلى الله عليه وآله: ((أيّها الناس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله...))، ولعلّ العديد منكم يحفظها فأنتم أهل علم ووعظ وإرشاد( ).

أفضل الأعمال في شهر رمضان

لست الآن بصدد تفسير الخطبة ومفرداتها، فهي خطبة عظيمة وتحتاج إلى بيان وتفسير واسع، ويمكن أن تقال بشأنها وحول بنودها مطالب وكلمات كثيرة. لكنّي أريد هنا أن أذكر شيئاً واحداً وهو: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذكر للمؤمنين في هذه الخطبة عشرين بنداً _ أو يزيد _ وحثّ المؤمنين عليها وشجّعهم نحوها، ولكن حينما توجّه إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهاية الخطبة بسؤال عن أفضل الأعمال في هذا الشهر _ ومن المعلوم أنّ سؤال الإمام ليس لنفسه بقدر ما هو لي ولك ولعامّة الناس _ لم يذكر النبيّ (صلى الله عليه وآله) في جوابه أيّاً من البنود التي جاء على ذكرها في فقرات خطبته، أي لم يقل له مثلاً: إنّ

قراءة القرآن أفضل الأعمال في هذا الشهر أو الإطعام أو أيّ شيء آخر، بل أجابه بأمر آخر لم يكن ضمن بنود الخطبة الشريفة؛ قال: ((الورع عن محارم الله)) ( ).

ما هو ورعنا نحن؟

والورع أفضل الأعمال في كلّ وقت وزمان وفي هذا الشهر أيضاً. فما هو الورع؟ وما هو ورعنا نحن _ الخطباء والوعّاظ وطلاّب العلوم الدينية _ في هذا الشهر العظيم؟

إنّ أدنى الورع وأقلّ درجاته أن يلتزم الإنسان بالواجبات وأن ينتهي عن المحرّمات فهذه أوّل درجات الورع.

ولاشكّ أنّ كلّ إنسان تتناسب تكاليفه وواجباته مع مقدار معرفته ومدى فهمه وعلمه، فكلّما ازداد الإنسان علماً ومعرفة تضاعفت مسؤولياته وواجباته.

فما هو ورعنا نحن _ أعني أهل العلم والمرشدين المتصدّين لهداية الناس _؟

الواجب الأوّل: ترويض النفس

هناك واجبان بالنسبة لنا، بدونهما لا يتحقّق الورع عندنا:

الواجب الأوّل: ترويض النفس؛ فإنّ النفس لا يمكنها أن تستقيم هكذا بسهولة وبسرعة من دون حاجة إلى ترويض ومقدّمات. بل هي بحاجة إلى رياضة مستمرّة وكما يقول مولانا أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في بعض كلماته:

((وإنّما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر)) ( ).

فترويض النفس إذن من أهمّ الواجبات العينية بالنسبة إلى كلّ فرد، ويتأكّد بالنسبة لنا -نحن الوعّاظ والمبلّغين وعلماء الدين- لأنّ كلّ واحد منّا يتعلّم منه أفراد وربّما جماعات ويتلقّون منه ويقتبسون ويقتفون أثره، ويتأثّرون بكلامه وحركاته وتصرّفاته.

فإنّك وإن كنت فرداً في وجودك الخارجي لكنّك لست كذلك في العمل؛ لأنّ هناك مَن يعتبرونك مرشداً وهادياً وهم يقتدون بأفعالك سواء كنت خطيبا ً أم عالماً.

الناس يقتدون بالعلماء في كلّ شيء

أنقل لكم قصّة أحد العلماء الماضين رضوان الله عليهم، كما رواها لي بنفسه؛ قال:

((عدت إلى قريتي ومسقط رأسي لزيارة أهلي وذويَّ بعد أن فارقتهم سنوات للدراسة. وجاء أهل القرية بدورهم لزيارتي والاحتفاء بي.

وفي أحد الأيّام سألني قريب لي وقال: هل يستحبّ تقديم الرجل اليمنى إذا أريد الدخول في خزانة الماء في الحمّامات؟

يقول العالم: قلت: لا. فهذا الحكم (أي تقديم اليسرى عند الدخول واليمنى عند الخروج) مختصّ ببيت الخلاء، أمّا بالنسبة لغيره كالحمّامات وأحواض الماء فلم يُروَ هذا الحكم.

قال لي: إنّ فلاناً ينقل عنكم ذلك.

قلت: أنا لا أعلم هذا الشيء، فكيف ينُقل عنّي؟!

قال: لكن فلاناً ملتزم به خلال هذه المدّة وينقله للآخرين وقد تعلّموا منه هذا الحكم لأنّه ينقله عنكم.

يقول العالم: عجبتُ من الأمر، لأنّني لم أرَ هذا الحكم طيلة حياتي ولا سمعت به، فكيف أخذه هذا الشخص عنّي، وما هذا الشيء قلته له ولا علم لي به؟

يقول:

فطلبت ذلك الشخص وسألته: أ أنت نقلتَ عنّي استحباب تقديم الرجل اليمنى عند دخول خزانة الحمّام وتقديم اليسرى عند الخروج؟ قال: نعم.

قلت: أنا متى قلت لك هذا؟

قال: إنّك لم تقله لي مباشرة، لكنّني وعندما كنتُ في أحد الأيّام في الحمّام، نظرت إليك فلاحظتُك تعمل هكذا (أي تقدّم رجلك اليمنى حين الدخول واليسرى حين الخروج).

قلت: هذا شيء عادي وليس بعنوان كونه مستحبّاً)).

والآن أيّها الإخوة انظروا إلى قصّة هذا العالم واعتبِروا! لقد اتّخذوه أسوة حتّى في العمل العادي. وهذا يثبت لنا أنّنا لسنا أفراداً في العمل وإن كنّا كذلك في وجوداتنا الخارجية، بل إنّ كلّ واحد منّا هو مرجع تقليد بمستوى معيّن ونسبة ما. لا فرق في ذلك بين طالب العلم والخطيب وعالم القرية والعاصمة، فكلّ على قدره ومستواه.

إنّنا غير مسؤولين عن أنفسنا فحسب، بل عن أولئك الذين يتعلمّون منّا أيضاً، وهم يلاحظوننا في كلّ شيء، حتّى في أعمالنا وحركاتنا الصغيرة والعفوية. فما ذكرته لكم لا ينحصر بذلك العالِم، ولا أنّه كان مرجع تقليد في وقته.

تغيير النفس بحاجة إلى مقدّمات

فإذا كان تغيير النفس من الواجبات العينية بالنسبة لنا، فهذا يعني أنّ على الإنسان أن يمهّد السبل والأساليب التي تجعله لا يعصي الله تعالى، وهذا أمر لا ينبغي الاستهانة به، بل لابدّ له من مقدّمات وتمهيدات وزمن ورياضة وكما قال الإمام عليه السلام: ((أروضها)).

وإنّ رياضة النفس أكثر صعوبة من رياضة البدن لأنّه في الأخيرة إذا وجد المقتضي _ كالجسم المستعدّ _ فلا توجد هناك موانع كتلك التي توجد في رياضة النفس وهي موانع قوية جدّاً من قبيل:

كيف الخ_لاص وكلّهم أعدائي نفسي وشيطاني ودنياي والهوى

هذه الموانع تواجهنا جميعاً وهي تتطلّب همّة قويّة للتغلّب عليها. وشهر رمضان مناسبة جيّدة جدّاً؛ لأنّه _ وكما ورد

في هذه الخطبة المباركة نفسها _ يُغلّ الشياطين في هذا الشهر، بيد أنّ عمل بني آدم قد يفتح الغلّ من الشيطان فيتسلّط عليه من جديد، فلنكن حذرين يقظين منتبهين جدّاً.

في رمضان؛ التغيير أسهل

فأيّة فرصة للرياضة الروحية وترويض النفس أعظم من الصوم؛ لأنّ الإنسان الخاوي البطن تقلّ شهواته، كلّ حسب الأجواء الروحية التي تقرّبه إلى الله تعالى. وهذه الأجواء الرائعة متوافرة في شهر رمضان، أي أنّ أجواء هذا الشهر تساعد الإنسان على ترويض نفسه. فلنتّخذ من هذا الشهر الكريم مناسبة لتغيير أنفسنا فيه حقيقة.

وهذا شيء ممكن، وهو في هذا الشهر أسهل؛ لأنّ الإنسان مهما كان _ والعياذ بالله _ بعيداً عن الخير والصلاح والتقوى، يمكنه أن يستفيد من أجواء هذا الشهر لتغيير نفسه. فإنّ الله تعالى أودع هذه القدرة في الإنسان، وشهر رمضان فرصة مناسبة جدّاً لهذا الأمر.

إمكانية الترويض والتغيير

أنقل لكم فيما يلي قصّة أحد العلماء المتّقين في هذا المجال، وكف أنّه تغيّر تغيّراً كبيراً حتّى أصبح مسلّم العدالة في عصره. ولا أذكر اسمه بسبب البداية السلبية في قصّته؟

إنّني لم أدركه بالطبع لكنّي سمعت قصّته من الذين عاشرتهم من أبناء الجيل السابق، حيث تعود القصّة إلى زهاء ثمانين سنة.

سأنقل لكم قطعتين من تاريخه وانظروا كيف يمكن للإنسان أن يتغيّر:

القطعة الأولى من بداية حياته: وكان طالب علم يدرس العلوم الدينية في العراق، ولكنّه كان شابّاً كأيّ من الشباب في عصره. وكان بعض الشباب آنذاك إذا أراد الزواج هيّأ بدلة (حلّة) من قماش خاصّ يأتون به من سوريا خصّيصاً لليلة الزواج. فإن كان طالب علوم دينية كصاحبنا عملوا له منه جبّة أو قباء مثلاً.

وأتت مناسبة زواج هذا الشاب الحوزوي، ولكن اتّفق نفاد هذا القماش في الأسواق. ومهما عمل للحصول عليه لم يفلح. وكان يوجد من أنواع الأقمشة الأخرى بالعشرات، لكن هذا النوع بعينه كان مفقوداً، وكان بعض الشباب -أقول بعض الشباب وليس كلّهم- إذا أراد أن يتزوّج لا يرضى عن ذلك

القماش بديلاً!

ولم تكن الطائرات والسيارات كما هي اليوم لتلبية رغبة هذا الشاب الطالب! وربما لم يكن يملك المال الكافي لإرسال مَن يأتي له به من سوريا على عجل؛ فما كان منه إلاّ أن أخّر زواجه لمدّة سنة كاملة أو أكثر أو أقل، لا أعلم تحديداً.

لقد أخّر زواجه كلّ هذه المدّة ليس إلاّ ليكون في ليلة زواجه مرتدياً من ذلك القماش! انظروا كم كان هذا الشاب عابداً لنفسه، بل كم كان بعيداً عن التقوى.

عن هذا الشاب نفسه أنقل لكم القطعة الثانية من تاريخه، وقد نقلها لي والدي رحمه الله.

يقول: في النجف الأشرف كانت العادة أن الناس لا يصلّون خلف أيّ كان من العلماء والمراجع وغيرهم، ولكنّهم كانوا يصلّون خلف هذا الشخص؛ لأنّه كان قد وصل إلى مرتبة بحيث كانوا يعبّرون عنه بمسلّم العدالة عند الكلّ. فحتّى مراجع التقليد كالمرحوم السيّد الحكيم والمرحوم والدي والمرحوم السيّد عبد الهادي الشيرازي والمرحوم السيّد حسين الحمامي كانوا يصلّون خلفه ويأتمّون به.

هكذا وإلى هذا المستوى تغيّر هذا الشاب!! بحيث صار يصلّي خلفه أشخاص أصبحوا فيما بعد مراجع تقليد للمسلمين.

إذن من الممكن أن يغيّر الإنسان نفسه ولو خطوة خطوة. وشهر رمضان مناسبة جيّدة جدّاً للتغيير.

الشيطان لا يدعنا

لا تقولوا: نحن طلاّب علوم دينية _ إن شاء الله _ نصلّي ونصوم ونقرأ القرآن وندرس وندرّس ونخطب ونكتب؛ فإنّ الشيطان يركّز عليكم أكثر، ولا حاجة به إلى غيركم مع طمعه فيكم، فأنتم همّه الأوّل والأكبر.

عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((إنّ الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهم عن دينه فإذا فعلوا ذلك استلقى على قفاه وتمدّد ثمّ قال: فزت)) ( ).

إنّ الشيطان يحاول أن يؤثّر فينا مهما وسعه، ثمّ يتشجّع للتقدّم أكثر.

فلو استطاع أن يؤثّر في مجموعنا بنسبة الواحد في المليون كان ذلك العمل عنده خطوة إلى الأمام، فيطمع بالاثنين بالمليون ثمّ الواحد بالألف فالواحد في المائة حتّى يصل _ لا سمح الله _ إلى التسعة التسعين في المائة.

إذاً نحن _ جميعاً _ بحاجة إلى ترويض وانتباه بحيث إذا دخل أحدنا شهر رمضان وخرج منه يكون قد تغيّر ولو قليلاً. وملاك التغيّر هو العمل بالمستحبّات وترك المكروهات، وهي السور الثاني أو القنطرة الثانية التي ينبغي اجتيازها إذا اعتبرنا الواجبات والمحرّمات السور أو القنطرة الأولى.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ((إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، وما منكم من أحد إلاّ وله شيطان. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلاّ أنّ الله تعالى أعانني عليه

فأسلم))( ).

الشقي مَن حُرم رضوان الله

يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه الخطبة الشريفة: ((فإنّ الشقيّ مَن حُرم رضوان الله)).

والألف واللام الداخلة على كلمة ((شقي)) في هذه العبارة تدلّ على الحصر _ ما تعرفون في علم البلاغة _، أي أنّ مَن حُرم غفران الله في هذا الشهر فهو الشقي لا غير. إذن هذا الشهر مناسبة جيّدة للتغيير.

فإذا انتهت هذه المناسبة ومرّت دون أن يحصل الشخص على شيء فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول عنه إنّه شقيّ؛ لأنّ عشرات الأبواب بل مئات الأبواب بل ألوف الأبواب فُتحت لصلاح الإنسان في هذا الشهر، لكن هذا الفرد لم يحصل على شيء منها ولا استفاد من أيّ باب، فهو الشقيّ إذاً.

أنفسنا مرهونة بأعمالنا

إنّ الزمام بأيدينا نحن، وليس بأيدي غيرنا.. كلّ واحد منّا زمام نفسه بيده.

ما معنى قوله (صلى الله عليه وآله) في هذه الخطبة: ((إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم، ففكّوها باستغفاركم...))؟

الجواب: كما أنّ أحدكم إذا رهن داره إلى غيره لا يستطيع أن يتصرّف فيها ما لم يفكّ رهنها بالمال، فكذلك أنفسكم رهينة بأعمالكم، أي هي رهينة هذه النظرات والكلمات والأفكار والرواح والمجيء والنوم واليقظة.. إنّ أنفسكم مرهونة بهذه الأشياء، فافتحوها باستغفاركم. والاستغفار جزء منه قول: ((أستغفر الله ربّي وأتوب إليه))، ولكنّه ليس كلّ الاستغفار كما تعلمون، بل منه ترويض النفس أيضاً، وهو من الواجبات العينية كما قلنا. وكلّ ما علينا أن نعزم ونهمّ بالأمر، والتوفيق من الله.

أرأيتم كيف وُفِّق ذلك الطالب الشابّ عندما نوى التغيير مع أنّه لم يكن معصوماً ولا مرجعاً لكنّه تحوّل ذلك التحوّل العجيب حتّى صار مقتدىً وإمام جماعة للعديد ممّن أصبحوا مراجع للتقليد.

ونحن في أيّ مرتبة كنّا من مراتب التقوى والورع والرياضة النفسية فهناك المزيد من المجال للتحوّل

والارتقاء. وعلينا أن ننتهز الفرص كشهر رمضان فهو كما قلنا أحسن فرصة لترويض النفس وتغييرها.

الثواب في رمضان يضاعَف سبعين ضعفاً

في بعض الأحاديث الواردة حول شهر رمضان المبارك أنّ كل فريضة في رمضان لها ثواب سبعين فريضة في غيره. أي أنّك لو أمرت بالمعروف في هذا الشهر أو نهيت عن المنكر فثواب عملك سيكون سبعين ضعفاً.

ولو ألّفت كتاباً في شهر رمضان أو خطبت خطبة أو أسّست مكتبة أو هيئة لإرشاد الناس، أو قمت بالتدريس، أو ساعدت المحتاجين في هذا الشهر (أو سعيت لترويض نفسك وتغييرها)، فثوابه عند الله يعادل سبعين مرة ما لو عملت مثله في شهر شعبان أو شوّال مثلاً. فمجلس واحد في شهر رمضان يعادل سبعين مجلساً في غيره أي ما يربو على شهرين بكاملهما في غير رمضان.

الواجب الثاني: هداية الناس

أنتم طلبة فقه وأصول وتعرفون أنّ الواجب الكفائي قد ينقلب عينياً إذا لم يوجد مَن فيه الكفاية. ومن جملة الواجبات الكفائية هداية الناس وإرشادهم. ولكنّي أسأل: هل يوجد العدد الكافي اليوم لهداية كلّ الناس؟ فهذا العدد الهائل من الغافلين والجاهلين بفروع الدين وأصوله من أتباع الديانات والمذاهب المختلفة؛ هل يوجد مَن فيه الكفاية لهدايتهم وإرشادهم؟ كلاّ. إذن التصدّي للإرشاد والهداية واجب عيني أيضاً. وله مقدّمتان كلتاهما مهمّتان:

المقدّمة الأولى: تحصيل العلوم الإسلامية

الناس في هذا الزمان خصوصاً الشباب ولا سيّما طلاّب المدارس والجامعيين منهم بأمسّ الحاجة لمَن يقول لهم ما هي الواجبات وما هي المحرّمات، فهؤلاء أكثرهم أذهانهم محشوّة بعشرات بل مئات الأسئلة حول الإسلام بانتظار مَن يجيبهم. وهذا يحتاج إلى علم ودراسة وتعزيز علمي، فلا يتمكّن كلّ شخص أن يجيب عن أسئلتهم بسهولة ويعرّض نفسه للجواب والخطاب والكتاب والنقاش من دون علم، بل إنّ ذلك يحتاج إلى أرضية وتعبئة علمية ومقدّمات.

ومقدّمة الوجود للواجب المطلق _ حسب اصطلاح العلماء _ واجبة أيضاً. فإذا وجب شيء على الإنسان وتوقّف ذلك الشيء على شيء آخر صار ذلك الشيء الآخر واجباً عليه أيضاً.

فمَن وجبَ عليه الحجّ _ مثلاً _ لا يُقال له: يجب عليك ركوب الطائرة أو السيّارة أو إعطاء النقود لهذا الغرض، بل هذه الأمور تجب عليه من باب وجوب الحجّ عليه وتوقّف الحجّ عليها.

وهكذا الأمر بالنسبة لإرشاد الناس وهدايتهم. فهو واجب كفائي لمَن توجد فيه الكفاءة، ولهذا الواجب مقدّمات قد تصبح واجبة من باب كونها مقدّمات وجود الواجب. فالمهمّ والواجب هو أن يتمّ إرشاد الناس وهدايتهم وانتشالهم من الضلال، فإذا توقّف هذا المهمّ على مقدّمات كالتهيّؤ والاستعداد العلمي وجبت هي الأخرى.

فنحن مهما أوتينا من العلم فهناك ألوف الأسئلة التي لا نعرف

لها جواباً يلزم أن نتهيّأ لها. وشهر رمضان مناسبة جيّدة أيضاً، يستثمرها كلّ منّا حسب مقدرته. ولاشكّ لا يوجد مَن يستطيع العمل المتواصل ليل نهار (لمدّة 24 ساعة يومياً)، فالمقدار الضروري من النوم والذي لا نستطيع مقاومته نعذر فيه، ولكن الباقي لا عذر لنا فيه؛ لأنّ كسب هذه المقدّمات هي من الواجبات المهمّة.

تحصيل العلم الديني هو الأهم

إنّ تهيئة هذه المقدّمات أهمّ حتّى من قراءة القرآن في شهر رمضان، لأنّ قراءة القرآن مستحبّة لكنّ التهيّؤ العلمي للقيام بدور الإرشاد والتبليغ واجب.

لاشكّ أنّ قراءة القرآن مقدّمة لمعرفته، ومعرفته مقدّمة للعمل به ومقدّمة لتعليمه للآخرين، وهي مقدّمة لإرشاد الناس إلى القرآن.

بيد أنّ القراءة بذاتها مستحبّة، وهذا الأمر (التحصيل العلمي) مقدّم عليها، إلاّ إذا أصبحت _ القراءة _ هي الأخرى مقدّمة وتعبئة علمية، فقد تكون قراءة القرآن ضمن مقدّمات الوجود في مجال ترويض النفس، بأنّ يروّض الإنسان نفسه بقراءة القرآن والتفكير عميقاً في معاني القرآن والتأمّل في آياته.. فهذه أيضاً من أساليب ترويض النفس. أمّا الأكثر من ذلك فيكون مجرّد قراءة وهي مستحبّة طبعاً.

صحيح أنّ كلّ آية يقرؤها الإنسان في شهر رمضان _ كما في الحديث الشريف _ تعدل قراءة القرآن كلّه في غير شهر رمضان؛ لكن الحديث في الواجبات مقدّم. فإذا كانت القراءة من باب المقدّمية للواجب فهي واجبة بلا شكّ وإلاّ ف_((لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض))( )، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام.

فإرشاد الناس هو من الفرائض العينية فعلاً، ومن الفرائض الكفائية بذاته؛ لأنّ علماء الإسلام يجمعون أنّ الواجب الكفائي ينقلب عينياً إن لم يوجد من به الكفاية. كلّ على قدر سعته.

نعود إلى القول إنّ هداية الناس أفضل من مجرّد القراءة للاستحباب، ونقول: عليكم أنتم طلاّب العلوم الدينية

أن تكونوا مشغولين دائماً بالدراسة والتدريس والكتابة. وشهر رمضان أفضل مناسبة لهذا الأمور.

المقدمة الثانية: جمال التعبير في القلم والكلام

المقدّمة الثانية لهداية الناس وإرشادهم هي إناء الإرشاد وظرفه ووعائه وهو الكلام والقلم.

فالطعام مهما كان لذيذاً وطيّباً لا يُرغب فيه إن وُضع في إناء أو وعاء غير نظيف وغير صحّي، فالإنسان لا يمدّ يده نحو مثل هذا الطعام ليرى إن كان لذيذاً أم لا، وذلك لأنّه موضوع في وعاء غير مناسب.

أمّا إذا أتوا لك بطعام عادي ولكن في إناء نظيف وجميل وجذّاب فسوف تتناوله بشوق حتّى إن لم يكن بمستوى الطعام الأوّل.

ووعاء الهداية والإرشاد هو القلم واللسان. فكلّما كانت الكتابة أجمل كان التأثير أفضل وأحسن.

انظروا إلى القرآن وكلام الرسول وأهل البيت عليهم السلام، أوَليس كلّ ذلك لنا قدوة؟

إنّ الأمور التي يطرحها القرآن الكريم هي أمور صحيحة وجميلة فما الحاجة إلى أن يطرحها بأسلوب بلاغي معجِب ومعجِز؟ إنّ القرآن الكريم كتاب هداية فلماذا يهتمّ بجمال الأسلوب والتعبير؟ نقول في الجواب: إنّ ذلك جزء من عملية الهداية. وهكذا الحال بالنسبة لكلام المعصومين.

فالألوف من العلماء الكبار، ومن علماء المشركين والنصارى واليهود، اهتدوا عن طريق جمال التعبير في القرآن الكريم.

إنّ الجمال مهمّ ومطلوب لهداية الناس، فلا يكفي أن يكون المطلب صحيحاً وجميلاً بل لابدّ من جمال الأسلوب والتعبير أيضاً.

إذا كان الناس يبحثون عن البروتين في اللحم فلماذا لايكتفون بتناوله وحده هكذا من دون توابل ومرق و... مع أنّه هو الأساس، بل نراهم يخلطون معه عشرات الأشياء لكي يصبح لذيذاً ومقبولاً؟ هكذا الحال مع المعنى الصحيح اجعلوه في وعاء جميل لكي يقبله الناس منكم.

وهذا الأمر بحاجة إلى تعلّم وتمرين، ولا يأتي هكذا عفواً بأن ينام الشخص مثلاً في الليل ويستيقظ في اليوم التالي وقد أصبح أديباً. وشهر

رمضان فرصة جيّدة لنا لتطوير قابليّاتنا في هذا المجال أيضاً.

فبالإضافة إلى ما نستفيده في هذا الشهر من الفضائل والأخلاق لنستفِد من هذين الأمرين المهمّين أيضاً، أعني: ترويض النفس، وإرشاد الناس وهدايتهم.

أسأل الله سبحانه أن يوفّقنا في هذا الشهر جميعاً لكلّ الصالحات ولكلّ أمور الخير لاسيّما هذين الأمرين: ترويض النفس وهداية الناس.

وصلى الله على محمّد وآله الطاهرين

5 في ذكرى ميلاد الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

5 في ذكرى ميلاد الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

علماء الدين مسئوليتهم مضاعفة

في هذه الأيام المباركة المنتسبة لولي الله الأعظم صاحب العصر والزمان الإمام الحجّة المنتظر (صلوات الله وسلامه عليه) من المناسب أن نذكر كلمات نعرب فيها عن حبّنا له وتكون تذكيراً لنا جميعاً إن شاء الله.

أعرض لموضوعين على نحو الاختصار؛ الأول يتعلّق بالإمام نفسه، والثاني بنا. أمّا الموضوع الأول فقد روي في رواية متواترة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: ((مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية))( ) أي مات على الكفر.

معرفة الله والنبي متوقّفة على معرفة الإمام

فكما أن معرفة الله هي شرط الإيمان ولكنها لا تكفي ما لم تقترن بمعرفة النبي، فكذلك معرفة النبي لا تفكي وحدها من دون معرفة الإمام. أي أنّ معرفة الله والنبي لا تنفع من دون معرفة الإمام، بل ليسا بمعرفة من دونها بالمعنى الدقّي.

كلّ قوى الكون تحت تصرّف الإمام

لقد جعل الله تبارك وتعالى كل قوى الكون تحت تصرّف الإمام، وهذا الأمر مستدلّ عليه من كلمات المعصومين (عليهم السلام) أنفسهم. هناك زيارة لسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) مروية عن الإمام الصادق عليه السلام، وهي رواية صحيحة رواها الشيخ الصدوق في ((من لا يحضره الفقيه)) وقال: ((وقد أخرجت في كتاب الزيارات وفي كتاب مقتل الحسين (عليه السلام) أنواعاً من الزيارات واخترت هذه لهذا الكتاب لأنها أصح الزيارات عندي من طريق الرواية وفيها بلاغ وكفاية))( ). وفيها يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : ((من أراد الله بدأ بكم)) .

وفي الزيارة التي رواها الشيخ الكليني في الكافي وابن قولويه في كامل الزيارات ولها أسانيد متعددة وهي رواية صحيحة، يقول الإمام الصادق عليه السلام: ((إرادة الربّ في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم، والصادر عمّا فُصِّل من أحكام العباد…))( ).

إنّ أهل العلم الأفاضل يعلمون جيداً أنّ الجمع المضاف يفيد العموم، أي له ظهور في العموم. وكلمة ((الأمور)) جمع وقد أُضيفت إلى ضمير مرجعه ((الرب)) (إرادة الربّ في مقادير أموره…).

ما هي أمور الله؟ هل يوجد شيء في الكون ليس من أموره عزّ وجلّ؟ إنّ كلّ ما سوى الله هو مصداق لأمور الله. فخلق الإنسان والحيوان والأفلاك والملائكة والجنّ والحور والجنّة والنار… كلّها من مصاديق ((أموره)).

أمّا المقادير فهي مصدر ميمي وهي جمع مقدار. فيكون معناها إعطاء كلّ شيء قدره. مثلاً: مَن يأتي إلى الدنيا ومتى؟

ما هي الأمور التي تجري عليه؟ وما مصيره؟ متى يموت، ومَن ذرّيته، وإلامَ ستستمرّ؟ وهكذا تقديرات غير الإنسان كالحيوانات والصحاري والبحار والملائكة وجبرئيل وميكائيل وحملة العرش وعزرائيل والجنّ والجنّة والنار ووقت ظهور الإمام نفسه (سلام الله عليه) و… هذه كلّها مصاديق لمقادير أموره.

ولو كانت العبارة هكذا: (إرادة الربّ في مقادير أمور عباده) لم يكن لها هذه العمومية، لأنّها كانت في إطار أمور العباد، ولكن العبارة ((في مقادير أموره)) أي أمور الربّ. أمّا لماذا لم يقل إرادة الله، فتلك قضية دقيقة ولكن لندع الآن البحث الأدبي، ولنعد إلى القضية المهمّة وهي أنّ إرادة الله تعالى في كلّ ما هو مصداق لأموره، أي كلّ الأمور التي تصدر عنه (سبحانه) تهبط إلى الأئمة وتصدر من بيوتهم. وهذا معناه: إنّ كلّ ما يريده الله تعالى بالنسبة إلى أموره _ التكوينية والتشريعية _ لم يجعل له إلاّ طريقاً واحداً وهو طريق أهل البيت عليهم السلام؛ لأنّ أمور الله تشمل التكوينيات والتشريعيات. ولو قلنا إنّ الجملة الأولى تتحدّث عن التكوينيات ظاهراً بقرينة ما بعدها، فإنّ الجملة التالية ستشمل التشريعيات أيضاً، يقول الإمام عليه السلام: ((والصادر عمّا فُصِّل من أحكام العباد…)). وهذه هي التشريعيات، فيكون معنى الجملتين: إنّ كلّ ما يرتبط بالله تعالى من التكوين والتشريع _ ولا وجود لتكوين أو تشريع (صحيح) واحد لا يرتبط بالله وليس من أمره _ لم يجعل الله له إلاّ طريقاً واحداً وهم المعصومون الأربعة عشر، وفي عصرنا الإمام الحجّة بقيّة الله المنتظر صلوات الله وسلامه عليه.

إذن كل ما يتعلّق بمقدّراتنا _ فرداً فرداً _ وتبدّلها أو نقصانها وزيادتها فيما يخصّ العائلة والمجتمع والإقليميات والقوميات وكلّ ما يتعلّق بنا يشكّل صغرى من صغريات هذا الحديث الصحيح

الشريف. ويتبيّن مما مرّ أنّ كلّ شؤون الكون وقواه جعلها الله تعالى بيد الإمام المعصوم سواء فيما يتعلّق بالأشخاص أو الأشياء بالنسبة إلى الماضي أو المستقبل. وتوجد عندنا روايات متواترة على هذا الأمر، والرواية التي عرضنا لها آنفاً إحدى تلك الروايات الصحيحة.

المعصومون أعرف منا بفضلهم ولا ينقص منهم شيء مهما أعطوا

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إن ّالمعصومين (عليهم السلام) هم أعرف منّا بفضلهم وأنّه لا يقلّ من شأنهم مهما أعطوا . إذا كان أحدنا يملك مليون دينار وأعطى منه ديناراً واحداً فإن المليون سينقص بمقدار الواحد، ولا يعود مليوناً بتمامه. ولو كان يملك ملياراً وأعطى واحداً نقص المليار وكسر بذلك المقدار، وهكذا حتى لو كان المبلغ ألف مليار فإنّه ينقص بالعطاء، بل حتى المحيطات والبحار لو أدخلت فيها إبرة _ بل رأس إبرة صغيرة ودقيقة _ وأخرجتها فإنّ شيئاً ولو قليلاً من الرطوبة سيعلق بها وينقص ماء البحر بذلك المقدار. صحيح أنّ ذلك لا يصدق بالحمل الشائع عرفا لأنّه لا يظهر ولكنّه نقص حقيقةً. أمّا أهل البيت عليهم السلام _ ومنهم بقيّة الله الأعظم صاحب الأمر عجّل الله تعالى فرجه _ فهم يعلمون أفضل منك أنّك لو سألتهم ألف حاجة كبيرة وأعطوكها فإنّه لا ينقص منهم شيء أبداً، بل لو أنّ كلّ البشر المتجاوز عددهم ستّة مليارات نسمة سألوا الإمام كلٌّ آلاف الحاجات فهو (عليه السلام) قادر على إعطائها دون أن ينقص منه بمقدار الرطوبة العالقة من ماء البحار برأس الإبرة.

المشكلة فينا فليكن طلبنا بالنحو المقتضي

ولكن المشكلة فينا نحن. فكلّ منّا _ مع احترامي لكم _ فيه ما يمنع المعصوم من أن يفيض عليه، لأنّ الإمام المعصوم حكيم ولا يضع الشيء في غير موضعه. ينبغي أن يكون إدراكنا ونوع حاجاتنا وأسئلتنا وكيفيتها بنحو بحيث تقتضي الحكمة استجابتها.

هذا مختصر عن الإمام وقطرة من ملايين الملايين ممّا ينبغي الحديث عنه وعن عظمته صلوات الله عليه.

طالب العلم الديني إمّا جندي الإمام أو وكيله

أمّا الموضوع الآخر المتعلّق بنا نحن أهل العلم الذين نعدّ أنفسنا من المنتسبين إلى الإمام ولا نعلم هل انتسابنا مقبول، وهذه هي المسألة المهمّة بالنسبة لنا، والتي تستحقّ أن نبذل الوقت والجهد من أجلها لكي نصل إلى نتيجة، وإلاّ فلسنا على شيء، ومهما يكن عندنا فهو مساوق للعدم إن لم يكن أسوأ من العدم؛ فإنّ علماً لا ينتفع به صاحبه لا يزيده إلاّ بعداً عن الله تعالى؛ ((العلم إذا لم يُعمل به لم يزد صاحبه إلاّ كفراً ولم يزدد من الله إلاّ بعداً))( ) والعياذ بالله.

نحن _ طلبة العلوم الدينية _ على قسمين؛ القسم الأول أولئك الذين لم يبلغوا مقام الاجتهاد والتقوى والعدالة اللازمة، فهؤلاء مازالوا في مرتبة جنود الإمام. أمّا القسم الآخر فهم الذين وُفّقوا لبلوغ مقام العدالة والاجتهاد، وهؤلاء هم الوكلاء العامّون للحجّة عجّل الله فرجه. وتعرفون أنّ الوكيل إذا تصرّف بالنحو اللائق فأهمّيته عند موكّله أكثر من تصرّف الإنسان العادي. وكذا الجندي بالطبع إذا أحسن التصرّف بين يدي قائده ومولاه كان جديراً بالاحترام أكثر من غيره من الأشخاص العاديين.

ولكن عكس الحالة صحيح أيضاً، فلو كان تصرّف الوكيل والجندي غير صحيح والعياذ بالله كان استحقاقهما للعقوبة أشدّ وآكد.

الفضل بن شاذان نموذج للوكيل الجيّد

من بين الأمثلة الكثيرة أذكر لكم نموذجين فقط؛ الأوّل: الفضل بن شاذان رضوان الله تعالى عليه مثالاً للوكيل الجيد، والنموذح الآخر المضادّ: علي بن أبي حمزة البطائني، ومثله الحسين بن منصور الحلاّج ومن على شاكلتهما.

كان الفضل بن شاذان من الوكلاء الجيّدين للأئمة، فقد روي في وسائل الشيعة والكافي وأمثالهما أنّ الفضل بن شاذان أرسل مبعوثاً إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام، وقال مبعوث الفضل بعد ذلك إنّ الإمام العسكري (عليه السلام) قال له: ((أغبطُ أهل

خراسان لمكان الفضل بن شاذان بمكانه بين أظهرهم))( ).

إنّكم أهل علم وتعرفون ماذا تعني الغبطة هنا؛ فإنّه ينبغي القول إنّ المقصود بالغبطة هنا معناها المجازي وليس الحقيقي لأنّ الغبطة تقابل الحسد، فالحسد هو تمنّي زوال نعمة الغير وهو من الرذائل، أمّا الغبطة فليس فيها تمنٍّ لزوال نعمة الغير بل هو تمنّي مثلها للنفس. وهي من الفضائل، ولكن حتى الغبطة لا يمكن أن تكون من شأن الإمام المعصوم. فما هو ذلك الشيء الجيّد الذين يتوفّر عليه أحد الناس ولا يوجد أحسن منه عند المعصوم ليكون مثار غبطة المعصوم؟ بل أيّ فضائل المعصومين توجد عند غيرهم من الناس؟!

فلاشكّ إذن أنّ الغبطة هنا غير مقصودة بمعناها الحقيقي بل لابدّ أن تكون بالمعنى المجازي لها، ويُعرف أقرب المجازات عن طريق القرائن الخارجية، فهنا _ مثلاً _ يكون معنى قول الإمام عليه السلام (أغبط أهل خراسان): أنّ من شأن مَن لم يكن في خراسان أن يغبط أهلها على نعمة الاستفادة من جوار الفضل بن شاذان _ وكانت خراسان يومذاك تعني معظم بلاد إيران اليوم _ وهذا يعني أن عمل الوكيل بواجبه جيّداً يوصله إلى هذه الدرجة.

علي بن حمزة البطائني من الوكلاء الذين ساءت عاقبتهم

أمّا إذا كان عمل الوكيل سيّئاً والعياذ بالله فستكون عاقبته كعاقبة علي بن أبي حمزة البطائني؛ فرغم أنّه كان وكيلاً لأكثر من معصوم وكان هو السبب في هداية بعض عمّال بني أميّة، فعندما قدّم أحدهم إلى الإمام الصادق (عليه السلام) للتوبة قال ذلك الشخص للإمام: ((جُعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت في مطالبه. فقال أبو عبد الله عليه السلام: لولا أنّ بني أمية وجدوا مَن يكتب لهم ويجبي لهم الفي ء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا

حقّنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلاّ ما وقع في أيديهم. قال: فقال الفتى: جُعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال: إن قلت لك تفعل؟ قال: أفعل. قال: فاخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم فمَن عرفت منهم رددت عليه ماله ومَن لم تعرف تصدّقت به وأنا أضمن لك على الله الجنة. فأطرق الفتى طويلا ثمّ قال له: قد فعلت جُعلك فداك)) ( ).

فهذا ممن صار ابن أبي حمزة سبباً في هدايتهم ولكن انظروا إلى عاقبة أمره هو.

يقول الراوي كنت عند الإمام الرضا في خراسان فقال عليه السلام: ((مات علي بن أبي حمزة البطائني في هذا اليوم وأُدخل في قبره الساعة ودخلا عليه ملكا القبر فساءلاه مَن ربك؟ فقال: الله. ثم قالا: مَن نبيّك؟ فقال: محمّد. فقالا: مَن وليّك؟ فقال: علي بن أبي طالب. قالا: ثمّ مَن؟ قال: الحسن. قالا: ثمّ مَن؟ قال: الحسين. قالا: ثم مَن؟ قال علي بن الحسين. قالا: ثمّ مَن؟ قال: محمّد بن علي. قالا: ثم مَن؟ قال: جعفر بن محمّد. قالا: ثمّ مَن؟ قال: موسى بن جعفر. قالا: ثمّ مَن؟ فلجلج فزجراه وقالا: ثمّ مَن؟ فسكت فقالا له: أفموسى بن جعفر أمرك بهذا؟ ثمّ ضرباه بمقعمة من نار فألهبا عليه قبره إلى يوم القيامة))( ). ونحن في سنة 423ه_ مازال علي بن أبي حمزة معذّباً إلى الآن؛ فالإمام قال: ((إلى يوم القيامة)).

لقد كان وكيلاً للإمام الصادق والكاظم (عليهما السلام) ولكنّه مازال يُضرب بمقمعة من نار، والمقمعة عمود من حديد ولكن قد يكثّف الله تلك النار حتى يكون لها سمك( )، والله أعلم، فهذه أيضاً من مقادير أموره.

لنكن حذرين جدّاً

هذا حال وكيل الإمام المعصوم الحاضر، فلنكن يقظين وحذرين

جدّاً فإنّ المسألة دقيقة جدّاً وذات حدّين قاطعين. فلو أنّ المرء كان يجد العذر الشرعي لاعتزال هذا الأمر لاختار كلّ مَن يملك العقل أدنى درجة من العقل طريق التخلّي والاعتزال، ولكن كما قلت إنّ الحدّين قاطعين فلا يمكن الاعتزال والتخلّي عن هذا الأمر ولا عذر للمرء في ذلك.

ومن جهة أخرى فإنّ العالِم مسؤول وكما في الحديث: ((لنحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم))( ). وليس المراد من العلماء هنا المراجع وحدهم، بل العالِم بالمعنى اللغوي وهو يشمل كلّ مَن يتحمّل مسؤولية هداية الناس.

الحلاّج مثال آخر للوكيل السيّئ

لقد كان الحلاّج أحد العلماء المهمّين ولكن انظروا عاقبته وماذا يقول عنه الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة، وكذلك النعماني والشيخ المفيد؛ وهؤلاء كانوا معاصرين له أو مقاربين لعصره.

يقول الطوسي عنه: ((الحلاّج الحيّال الصوفي المتصنّع)).

مسؤوليتنا مضاعفة

فنحن أهل العلم إمّا أن نكون ضمن جنود الإمام سلام الله عليه، أو ممن حصل على مقام الوكالة والنيابة العامّة وكما قال الإمام عليه السلام: ((انهم حجّتي عليكم))( ). وكلا المقامين رفيع إذا تصرّف الإنسان فيهما تصرّفاً صحيحاً، وإلاّ فمشكل جدّاً.

قال الإمام الصادق (عليه السلام) لأحد أصحابه: ((الحسن من كلّ أحدٍ حسن ومنك أحسن لمكانك منّا، والقبيح من كلّ أحد قبيح لمكانك منّا))( ).

أعمالنا تعرض على الإمام

فلنحسن التصرّف، فإنّ الإمام عالِم بأعمالنا ونيّاتنا. ففي الكافي وغيره أنّه في كلّ يوم تُعرض قائمة أعمالنا وأقوالنا ونيّاتنا على الله تعالى وعلى النبي الأكرم وعلى الإمام المعصوم، أي هناك ثلاثة قوائم أو قائمة واحدة تُعرض على الله فالرسول فالإمام.

ففي بعض الروايات أنّها تُعرض كلّ صباح( ) فلا تسوءوه.

السقوط من القمّة مهلك

إنّ ارتقاء المدارج العالية يشبه صعود الجبل. فلو أنّ شخصاً سقط من ارتفاع متر جرح جرحاً بسيطاً ولكن كلّما كان صعوده من مكان أعلى كانت إصابته أشدّ ونتائجها أسوأ. فمَن سقط من ارتفاع 200م ليس كمن سقط من ارتفاع مترين مثلاً، فكيف بمن يسقط من قمّة الجبل؟!

مَن بلغ إلى قمّة الجبل يشار إليه بالبنان، لكن السقوط منها يقضي على الإنسان تماماً. وكذلك السقوط من المقامات العالية ينتج أمثال الحلاّج والهلالي والشريعي والبطائني وغيرهم ممن خرجت اللعنة عليهم.

فما أسوأ حال من تناله اللعنة من صاحب أرأف قلب في الوجود!

وختاماً

لنحاول في هذه المناسبة تحصيل رضا الإمام فإنّه رضا الله. ورضا الإمام هو في أن نعمل بوظائفنا وعقائدنا. فنحن _ ولله الحمد _ نعرف وظائفنا ولو سألَنا شخص لأجبناه ولكن علينا بالعمل.

أرجو من الله تعالى ببركة المولى صاحب العصر (عجّل الله فرجه الشريف وصلوات الله وسلامه عليه) أن يزيد في توفيق العاملين، ويوفّق الباقين، وصلّى الله على محمّد وآله.

6 قصة أصحاب الحجر

6 قصة أصحاب الحجر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

قال الله تعالى في كتابه الكريم: «ولقد كذّب أصحاب الحجر المرسلين. وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين»( ).

? مَن هم أصحاب الحجر؟

أصحاب الحجر هم قوم النبي صالح (عليه السلام). وهو مدفون مع النبي هود (عليه السلام) حيث مدفن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في وادي السلام في النجف الأشرف. ويستحبّ زيارتهما بعد الفراغ من زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) كما يستحبّ زيارة آدم ونوح عليهما السلام؛ فهما مدفونان هنالك أيضاً.

أمّا الحجر فهو اسم المنطقة التي بُعث فيها النبي صالح (عليه السلام) لهداية أهلها، فسُمّوا بها. ولم يكن صالح أوّل نبي يكذّبونه فلقد كذّبوا أنبياء آخرين سبقوه بعثهم الله إليهم قبل صالح (عليه السلام)؛ وكان هؤلاء الأنبياء الذين أرسلهم الله إليهم مشفوعين بالآيات والمعجزات التي تثبت كونهم مبعوثين من قِبل الله تعالى؛ ولكن ذلك لم ينفع مع أصحاب الحجر وكانوا _ أخبر الله تعالى عنهم _ معرِضين عن تلك الآيات والدلالات!

فلقد لبث صالح (عليه السلام) فيهم _ كما في الروايات الواردة عن المعصومين صلوات الله عليهم _ يدعوهم إلى الله مدّة مائة وست عشرة سنة، لم يؤمن به خلالها أكثر من سبعين منهم أي بمعدّل أقل من شخص واحد خلال كل سنة!

وفي هذا دلالة على أنّنا ينبغي أن لا نتعب أو نملّ ونضجر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كانت الاستجابة قليلة والتأثير بسيطاً؛ فإنّ الله سيثيبنا على أتعابنا مهما كانت النتيجة. فلو أنّ أحداً منّا أيقظ ولده لصلاة الفجر مرّتين وثلاثاً وأربعاً وخمساً، دون أن يرى استجابة منه، فليوقظه في اليوم السادس أيضاً ولا ييأس، فلعلّه يتأثّر ويستجيب، والله تعالى

هو طرف المعاملة مع العبد وهو الذي يعطيه أجره في كلّ حال. يقول الله تعالى مخاطباً نبيه (صلّى الله عليه وآله): «فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب»( ).

? الإعراض عن الآيات

ولا يكون الإعراض إلاّ بعد أن يتبيّن الأمر، ولذلك نرى القرآن الكريم يذكره بعد ذكر إيتاء الآيات والبينات. فإنّ مَن لا يعلم أنّ الحجّ واجب بالنسبة إليه ولا يحجّ لا يسمّى معرضاً. أمّا مَن علم بوجوب الحجّ عليه ولم يحجّ مع ذلك يقال إنّه أعرض عن الحجّ. وهكذا الحال مع أصحاب الحجر فإنّهم استمرّوا في تكذيب أنبياء الله حتى بعد نزول الآيات ومشاهدة المعجزات، أي أنّهم أعرضوا عن الآيات.

? آية صالح عليه السلام

وأعظم آية ومعجزة للنبي صالح (عليه السلام) هي الناقة. فقد طالبه جماعة من قومه أن يُخرج لهم ناقة من بطن الجبل ليتبيّن لهم صدق دعواه. فإنّه إن كان نبياً استجاب الله دعوته. ولم يردّ صالح (عليه السلام) طلبهم فتوجّه إلى الله تعالى وسأله ذلك. فخرج صوت رهيب من الجبل لأنّه انشقّ إلى نصفين، وخرجت ناقة عظيمة قيل إنّها كانت تعادل في ضخامتها عشرات النوق؛ يتبعها فصيلها. وهذا ليس بعزيز على الله، فلقد خلق آدم وحواء من قبل من دون أبوين، وخلق عيسى من أمّ فقط. يقول الله تعالى: «إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون»( ).

وكانت الناقة وبراء جميلة تسير بسيرة الإنسان العاقل الحكيم الذي لا يؤذي أحداً. فكانت لا تؤذي شخصاً ولا حيواناً ولا زرعاً ولا شيئاً، كالإنسان المؤمن الحكيم. وكانت تأكل من حشائش الأرض حتى إذا وصلت زرع الناس لم تنل منه حتى بمقدار حبة، وكانت لا تطأ في سيرها زرع أحد أو أنساناً أو حيواناً أو حشرة رغم ضخامتها بل كانت تتحاشى ذلك في مشيها وسيرها؛ وكانت الحيوانات الأخرى تخشاها بقدرة الله تعالى. وهكذا كانت إعجازية في كل شيء، وليس في انوجادها فقط. فلقد كانت تشرب في اليوم الواحد ماء

القرية بأكمله، أي الماء الذي يشرب منه مئة ألف إنسان مثلاً، وتدع اليوم الذي يليه لأهل القرية يشربون منه. فكان لها شرب ولهم شرب يوم معلوم كما ورد في الآية الكريمة في قوله تعالى: «قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم»( ). وكانت تعطي الحليب كل يوم بمقدار الماء الذي شربته. وتلك معجزة أخرى. فإنّ الحيوانات التي تعطي الحليب لا تعطي بمقدار ما شربته من ماء بل أقلّ منه بكثير، لكن هذه الناقة كانت معجزة في كلّ شؤونها!

? عقر الناقة

أعرض أصحاب الحجر عن الآيات كلها وقرّروا قتل الناقة بزعم أنّها تحرمهم من الماء يوماً كاملاً، مع أنّهم كانوا يستفيدون حليباً! ولكنّه الطغيان والعياذ بالله!

ووعظهم نبيهم قائلاً: إن عقرتم الناقة فإنّ الله تعالى سينزل عليكم عذاباً من عنده. فقالوا: فلينزل علينا العذاب فلا نبالي! ولم يبالوا بتحذيرات النبي صالح (عليه السلام) وعقروا الناقة؛ عقرها شخص يسمّى (قيدار) كان أشقاهم. وقتلوا فصيلها أيضاً، وقيل: إنّه عاد إلى الجبل مفجوعاً! ثم تقاسموا لحم الناقة بينهم!

? نزول العذاب، والعبرة من القصة

وهنا أخبرهم نبيهم (عليه السلام) أنّ الله سينزل عليهم العذاب بعد ثلاثة أيام، تصفرّ وجوههم في اليوم الأوّل، وتحمرّ في اليوم الثاني، وتسودّ في اليوم الثالث! ثمّ ينزل عليهم العذاب إن لم يرجعوا حتى ذلك الحين!

سبحان الله! وما أعظم رحمته! فمع أنّ هؤلاء القوم كذّبوا المرسَلين واستمرّوا في تكذيبهم حتى بعد نزول الآيات، يمهلهم الله تعالى ثلاثة أيام عسى أن يتوبوا فيعفو عنهم ويقبلهم، ولكنّهم لم يرجعوا مع ذلك واستمرّوا في غيّهم، حتى كان اليوم التالي فاصفرّت وجوه الذين لم يؤمنوا بصالح (عليه السلام)، فقال ضعفاؤهم لكبرائهم: لقد اصفرّت وجوهنا وإنّ صالحاً صدق فيما قال. فأجابوهم: دعوها تصفرّ! وفي اليوم الثاني احمرّت وجوه القوم، لكنّ الأشقياء أجابوا المعترضين: لعلّ صالحاً سحركم، دعوها تحمرّ. حتى كان اليوم الأخير فاسودّت وجوههم فقالوا: لن نؤمن له ولو هلكنا! فأنزل الله عليهم جبرئيل فصاح فيهم صيحة تقطّعت نياط قلوبهم وأصبحوا في ديارهم جاثمين!!!

إذن على المرء أن ينتبه إلى نفسه، فلو أنّه سقط في كل الامتحانات والعياذ بالله، فلا يسقطن في الامتحان الأخير.

وصلّى الله على محمدٍ وآله الطاهرين

7 لنعرف إمامنا

في ذكرى ميلاد منقذ البشرية المهديّ المنتظر

عجّل الله فرجه الشريف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

لنعرف إمامنا ووظيفتنا بصورة أفضل

لنعرف إمامنا ووظيفتنا بصورة أفضل

في هذه الأيام من شهر شعبان المبارك، التي تنتسب للمولى صاحب العصر والزمان (عليه وعلى آبائه السلام) أودّ التعرّض لموضوعين؛ الأوّل: يتعلّق بالإمام (عليه السلام وعجّل الله تعالى فرجه الشريف)، والآخر: يتعلّق بنا وبوظيفتنا في عصر الغيبة.

لنعرف إمامنا أكثر

أمّا الموضوع الأوّل فقد روي عن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: ((مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية))( ).

فكما تكون الميتة الجاهلية على كفر وشرك وإلحاد؛ لأنّها ليست في ظلّ الإسلام، فكذلك تكون حال مَن يموت ولا يعرف إمام زمانه، أي يموت وحكمه حكم المشرك والملحد والكافر.

المهديّ عجّل الله فرجه من الأمور المسلّمة، ومنكره منكر للبديهيات

إنّ البحث العلمي حول هذا الموضوع واسع ومتشعّب، ولكنّي لا أريد التعرّض إلى تفاصيله. فأصل وجود المولى (صاحب الزمان)، ومعرفته بصفته إماماً مفترض الطاعة، يُعدّ من أصول الإسلام، وهو من الأمور المسلّمة والمتواترة. وإذا ما بلغ أمرٌ حدّ التواتر، فإنّ الجدال فيه يكون من باب السفسطة وإنكار الوجدانيات( ).

إنّ المولى سيشرّفنا بحضوره إن شاء الله، ويظهر للناس كافة، ويعلن للعالم أنّه المهديّ من آل محمّد (صلّى الله عليه وعلى آبائه الطيّبين أجمعين). فكيف سيكون هو (عليه السلام) في ذلك اليوم المبارك؟ وكيف سيكون حال الناس؟!

إنّه يصدع بالحكمة والموعظة الحسنة

قال الله (تعالى) يخاطب نبيّه الكريم: ((ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ))( ). فمن صفات الرسول (صلّى الله عليه وآله) أنه يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة.

هذا التعبير نفسه، وهاتان المفردتان عينهما (الحكمة والموعظة الحسنة) وردتا في زيارة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) المروية عن المعصوم (عليه السلام) حيث تصفه بأنّه ((الصادع بالحكمة والموعظة الحسنة))( ).

فهو كجده (صلّى الله عليه وآله) يبدأ بالحكمة والموعظة الحسنة.

ويسير بسيرة جدّه أمير المؤمنين عليه السلام

روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: ((إنّ قائمنا إذا قام سار بسيرة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام))( ).

وتقول الروايات أيضاً: إنّ علياً (عليه السلام): ((سار بالمنّ والكفّ))( )، أي أنّه (عليه السلام) كان لا يعاقب بل يمنّ.

إذا أردتم أن تعرفوا سيرة الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه) في التعامل مع الأصدقاء والأعداء فانظروا إلى سيرة أمير المؤمنين عليه السلام. فهذا تاريخه (صلوات الله عليه) بين أيديكم دوّنه الشيعة والسنّة والنصارى واليهود وغيرهم في صفحات مشرقة.

جانب من سيرة أمير المؤمنين عليه السلام

لقد كان (عليه السلام) يدفع مَن ناهضه وبارزه بالنصح والموعظة ما أمكن، وكان يسعى للحؤول دون وقوع الحرب وإراقة الدماء، سواء عن طريق المواعظ الفردية والجماعية أو غيرها.. ولكن إذا وصل الأمر بالطرف الآخر أن يهجم ويريد القتال قام الإمام بدور الدفاع لا أكثر، ولكن ما إن يتراجع الخصم أو ينهزم حتّى يتوقّف الإمام عن ملاحقته ولا يسعى للانتقام منه. ولم يبدأ أحداً بقتال أبداً.

وهذا الأمر مشهود في تاريخ أمير المؤمنين سلام الله عليه.

ومع أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يصرّح له بالقول: ((يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي))( ) نلاحظ أنّ الإمام (عليه السلام) لم يأسر من أعدائه حتّى فرداً واحداً، ولا صادر أو سمح لأصحابه بمصادرة أيّ شيء من أموال الخصم وإن كان رخيصاً أو عديم الثمن.

تروى في هذا المجال أمور لا نظير لها، لا في التاريخ، ولا في الحاضر ولا في الآتي، إلاّ ما كان عن الإمام أمير المؤمنين وما سيكون من الحجّة المنتظر سلام الله عليهما.

فقد روي أنّ الإمام (عليه السلام) لم يسمح بمصادرة حتّى ((ميلغة)) واحدة من العدوّ( )!*

ويلبس ثياب عليّ عليه السلام

أما عن سيرته الشخصية، فقد روى البرقي عن حماد بن عثمان قال:

((حضرت أبا عبد الله (عليه السلام)، وقال له رجل: أصلحك الله ذكرت أنّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ونرى عليك اللباس الجديد. فقال له: إنّ عليّ بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمن لا يُنكر ولو لبس مثل ذلك اليوم شهّر به. فخير لباس كلّ زمان لباس أهله غير أنّ قائمنا أهل البيت إذا قام لبس ثياب عليّ وسار بسيرة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام))( ).

فهو (عجّل الله

فرجه الشريف) لا يرتدي طيلة عهده الشريف والمبارك حتّى حلّة ثمينة واحدة مع أنّ الله تعالى يملّكه الدنيا وما فيها. فكلّ شيء في الوجود هو من أجل المعصومين عليهم السلام _ كما في حديث الكساء الشريف _ لكنّهم يزهدون عنها، ويعيشون في بساطة كسائر الناس العاديين بل أبسط( )؛ وذلك ((كيلا يتبيّغ بالفقير فقره))( ) كما يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام). أي لا يتأذّى الفقير بفقره إذا رأى كيف يعيش زعيم القوم وإمام المسلمين وقائدهم ورئيسهم وأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه( ).

هذه هي حياة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

وهكذا ستكون حياة الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه).. سائراً بسيرة جدّه أمير المؤمنين. فهو سيدعو نوّابه الخاصّين في عصر الظهور ووكلاءه الثلاثمئة والثلاثة عشر ويأخذ منهم العهود والمواثيق أن لاتكون وسائدهم وثيرة، لكي يواسوا المقترين، وإن ندروا في ذلك الزمان.

أهل البيت عليهم السلام كلّهم رحمة

هل تريدون أن تعرفوا عن حكومة المهديّ (عجّل الله فرجه) أكثر؟ إذن انظروا إلى تاريخ الرسول وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما). وإليكم بعض الأمثلة:

هرع المشركون لحرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واستبَقوا حتّى مياه بدر، وكان الرسول قد سبقهم، وقد قطع المشركون مسافة بعيدة فقد قدموا من مكّة ولكن لم يستطيعوا الوصول إلى مياه بدر، والماء _ كما هو واضح _ مسألة حيوية وخاصة للجند والمقاتلين، ولم يكن في تلك النواحي ماء ليستفيدوا منه غير ماء بدر، فقرّروا العودة رغم قطعهم تلك المسافة الشاسعة وتعبئتهم القوّات والناس لقتال الرسول (صلّى الله عليه وآله) مدّة طويلة وحملهم السلاح وإنفاقهم الأموال و… . إذ كيف سيحاربون ولا ماء عندهم؟!

وهنا ادّعى أبو سفيان أنّه سيحلّ المشكلة.

قيل له: كيف؟

قال: عن طريق الرسول نفسه [ وكان يسمّيه باسمه

المبارك فقط أي محمّد صلّى الله عليه وآله ].

قالوا: وكيف؟

قال: نطلب منه أن يعطينا الماء.

قالوا: وهل سمعت أنّ أحداً يطلب الماء من عدوّه في ساحة القتال؟ وهل تتوقّع أن يستجيب لك وقد جئت تريد قتاله؟

قال لهم: إنّكم لا تعرفونه كما أعرفه( ).

وهكذا أرسل أبو سفيان مَن يخبر النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله) بالأمر ويطلب منه الماء.

واستجاب لهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) وسمح لهم بحمل الماء إلى معسكرهم.

وهذا التصرّف هو عين الواقعية؛ فإنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) مبعوث من قِبَل ربٍّ أبرزُ أسمائه التي تكرّرت في القرآن هما: ((الرحمن الرحيم))، كما أنّ نبيه (صلّى الله عليه وآله) نبيّ الرحمة، والهدف من بعثة الأنبياء هداية الناس. فأيّ وسيلة للهداية أفضل وأجمل وأبلغ من النفوذ في قلوب الضالّين؟!

قد لا يكون لهذا التصرّف أثر آني، ولكن أمثال هذه التصرّفات هي التي تجمّعت في فتح مكّة وبعده حتّى بلغ الأمر إلى فتح قلوب الناس أجمعين وصاروا ((يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً)).

هذا المشهد نفسه تكرّر في صفّين مع الإمام عليّ (عليه السلام)، وحصل أيضاً مع الحسين (عليه السلام) في طريق كربلاء إزاء الحُرّ وأصحابه.

وهكذا يعمل الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف.

ما أعظم أهل البيت وما أحلى العيش في ظلّهم!

إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يبدأ حرباً، بل إنّ العدوّ هو الذي كان يتعرّض للرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله)، وهكذا كان حال الإمام عليّ (عليه السلام)، وكذلك الإمام الحسين (عليه السلام)؛ فمع أنّ العدوّ كان قد حاصره يقول عليه السلام: ((إنّي أكره أن أبدأهم بقتال))( ).

هذا هو واقع أهل البيت عليهم السلام.

إذا أردتم أن تعرفوا الحجّة (عجّل الله فرجه) فانظروا إلى هذه الوقائع عن حياة الرسول والأئمّة المعصومين من أهل بيته سلام الله

عليهم أجمعين، وكيف كانوا يعيشون، وكيف كانت معاشرتهم للناس، وكيف كانوا في الحرب والسلم.

لقد استشهد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهو مدين، وكذلك الإمام عليّ (عليه السلام)، وروي أنّ الإمام الحجّة يستشهد أيضاً، فهل يستشهد وهو غير مدين؟ لا أراه مستثنى من هذه القاعدة.

إنّ الأئمة لا يصبحون مدينين بسبب حاجاتهم الشخصية، بل لأنّهم يعطون ما لديهم، فإذا نفد ما تحت أيديهم استقرضوا للعطاء أيضاً.

وهذا هو حال الأئمّة كلّهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فما أحلى العيش وأطيبه في ظلّهم!

الإمام المهدي مرآة المصطفى والمرتضى صلوات الله عليهم أجمعين

والإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو مرآة كاملة المظهر للرسول (صلّى الله عليه وآله) في كلّ شيء، ما عدا مقام نبوّته.

وهو (عجّل الله فرجه) مرآة كاملة للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلّ شيء ما عدا مقام أفضليته (عليه السلام). فما أحلى العيش وأطيبه آنذاك: في ظلّ الإمام صاحب العصر (عجّل الله فرجه)!

لنطالع الروايات قليلاً ونبحث فيها، ونتأمّل في مضامينها.

حقّاً إنّ التعلّق بالإمام المهديّ وحبّه هو تعلّق وحبّ لشخصه وللحياة الطيّبة التي تكون في ظلّ حكومته أيضاً، صلوات الله وسلامه عليه.

أحوال الناس في زمن الظهور

كانت تلك نبذة عن حال الإمام (عليه السلام) وسيرته في عصر ظهوره. أمّا حال سائر الناس في زمن الظهور فيروى عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: ((إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم))( ). واليد هنا تعني القدرة كما في قوله تعالى: ((يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم))( ) أي إنّ قدرة الله فوق قدرة كلّ أحد. وهكذا الإمام (عجّل الله فرجه) فإنّه يضع يد _ قدرته _ على رؤوس العباد فتكمل عقولهم.

ولهذا الأمر معنى طبيعي وآخر غيبيّ، ولا مانع أن يكونا معاً، أي بعض يشمل بالأوّل وبعض بالثاني، كما في الحيوانات حيث تتآلف ويسود التعايش حتّى بين المتعادية منها. فقد يكون هذا من ضمن ((يضع يده)) أيضاً وإن كان النصّ يقول: ((على رؤوس العباد)) لأنّه كما قلنا لا مانع أن يكون لهذا الأمر معنى غيبي أيضاً، يكون هذا من مصاديقه؛ إلى جانب المعنى الطبيعي للجملة (على رؤوس العباد) أي البشر.

وإذا كمل عقل الإنسان فإنّه لا يلهث بعد ذلك وراء حطام الدنيا، لأنّ ضعف العقل هو الذي يسوقه صوب التهافت على الدنيا.

وإذا كمل عقل الإنسان لم يركض خلف

أهوائه، فهل سيكون ثمّة ظلم أو فقر أو بؤس؟ كلاّ بالطبع.

وإذا كمل عقل الإنسان كملت عقيدته وكمل إيمانه بل كملت حياته أيضاً. فتكون حياة الناس هانئة طيّبة ومريحة بل أحسن حياة يحياها جيل من الأجيال. وهذا سيكون حال معظم الناس يومذاك وليس حالة استثنائية لبعض الناس. فمعظم الناس سيحيون في راحة وهناءة ورغد وعيش كريم.

لنعرف وظيفتنا بنحو أفضل

لنعرف وظيفتنا بنحو أفضل

أمّا الموضوع الثاني الذي أودّ الإشارة إليه في هذه الليلة المباركة، فهي معرفة وظيفتنا في عصر الغيبة.

إنّ الوظيفة شيء والرغبة شيء آخر، ويحسن الفصل بينهما جيّداً. تأمّلوا في هذا المثال: إذا مرض شخص ما أصبحت بعض الأغذية مضرّة بالنسبة إليه، وهذا لا يعنى أنّ هذه الأغذية مضرّة بذاتها بل هي حسنة ولكنّها لا تصلح لهذا الشخص بسبب مزاحمة الأهمّ في حقّه. فتناول هذه الأغذية تشكّل رغبة لهذا الشخص، ولكنّها ليست وظيفته. فكذلك الحال بالنسبة لنا تجاه صاحب الزمان (عليه السلام وعجّل الله تعالى فرجه الشريف).

إنّ لنا في لقاء صاحب الزمان رغبة، ولنا إزاءه وظيفة. فإذا كان هذان الأمران قابلين للجمع فما أحسن ذلك! أمّا إذا لم يمكن الجمع بينهما فهل على الفرد أن يسعى لتحقيق الرغبة أم العمل بالوظيفة؟ لا شكّ أنّ الواجب هو السعي للعمل بالوظيفة.

إنّ علقتنا الشديدة _ جميعاً _ بوليّ العصر (صلوات الله وسلامه عليه) هو الذي يدفعنا لأن نهتمّ ونعمل ونجدّ ونجتهد لسلوك الطريق الذي ينتهي بنا إلى توفيقنا لزيارة حضرته في عصر الغيبة، وهو مطلب مهمّ بالطبع ورغبة عظيمة؛ ومن وُفّق لها فقد نال مقاماً شامخاً وشرفاً رفيعاً، ولكنّها ليست الوظيفة.

إنّه شرف كبير وكرامة عظيمة أن يلتقي الإنسان بإمامه عن قرب ويقبّل يده، لا شكّ في ذلك ولا شبهة، ولكن السؤال هل هو ما يريده

الإمام منّا؟ وهل هذه هي وظيفتنا؟

الوظيفة تعلّم الإسلام والعمل به وتعليمه

إنّ الوظيفة هي تعلّم الإسلام والعمل به وتعليمه سيّان كان الشخص رجلاً أو امرأة، زوجاً أم زوجة، أولاداً أو آباءً وأمّهات، أساتذة أم تلاميذ، وباعة أو مشترين، ومؤجّرين أم مستأجرين، وجيراناً أو أرحاماً، وفي كلّ الظروف والأحوال.

على كلّ فرد منّا أن ينظر ما هي وظيفته تجاه نفسه وتجاه الآخرين؛ ما هي الواجبات المترتّبة عليه، وما هي التروك والمحرّمات التي ينبغي له الانتهاء عنها.

إنّ على كلّ فرد منّا أن يعرف ما هي الواجبات بحقّه وما هي المحرّمات عليه. فعلى الزوج أن يعرف واجباته تجاه نفسه وتجاه عائلته، وتجاه الآخرين، وكذا المرأة عليها أن تسعى لمعرفة ما يجب عليها تجاه زوجها وأولادها والمجتمع. وهكذا الأولاد تجاه والديهم والوالدين تجاه الأبناء، وكذا الإخوة فيما بينهم، وهكذا الجيران والأرحام والمتعاملون بعضهم مع بعض.

إنّ الوظيفة أن يعرف الإنسان أحكامه _ ولا أقلّ من الواجبات والمحرّمات _ ثم يلتزم بها. وعلى رأس الواجبات معرفة المولى صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه وعجّل الله فرجه الشريف. وهذا واجب الجميع فإنّه ((مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)). ولكي لا يموت أحدنا بحكم الكافر، ولا يكون حال الموت بحكم المشرك، عليه أن يعرف ما هي واجباته وما هي المحرّمات عليه، فيما يخصّ العقائد والعمل، لنفسه وللآخرين.

يقول الفقهاء إنّ على كلّ شخص أن يسعى للحصول على ملَكة العدالة في نفسه، وهذا من المسلّمات، وهو على حدّ تعبيرنا _ نحن الطلبة _ مقدّمة وجود الواجب المطلق.

إذن على كلّ فرد منّا سواء كان رجلاً أو امرأة، شاباً أم شيخاً، أهل علم أو كان كاسباً أن يحصل على ملَكة تحصّنه من ارتكاب المحرّمات أو التخلّف عن الواجبات. ثمّ عليه بتعليم

الآخرين حسب مقدرته ومعرفته.

أمّا ما لا يعرفه ويستطيع أن يتعلّمه فيلتعلّمه، ثمّ يعلّمه للآخرين فإنّ نسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى العلم هي نسبة الواجب المطلق، وليس المشروط، ولكنّه واجب كفائي، فإذا لم يكن مَن فيه الكفاية صار واجباً عينياً أيضاً. أي أنّ على كلّ شخص مكلّف أن يتعلّم ويعرف ما هي الواجبات والمحرّمات عليه وعلى الآخرين للعمل بها وتعليمها والأمر بها حتّى الوصول إلى حدّ تتحقّق فيه الكفاية. فهذه هي الوظيفة، وهذا ما يسرّ الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه) ويجعله يرضى عنّا. فإنّ مَن أدّى وظيفته بصورة صحيحة كان مرضيّاً عند الإمام، أمّا مَن لم يؤدِّ وظيفته فليس بمرضيّ عنده.

الوظيفة مقدّمة على الرغبة

صحيح أنّ الذين وفّقوا أو سيوفّقون أو هم موفّقون لنيل هذا الشرف العظيم بلقاء الإمام الحجّة وزيارته في الغيبة الكبرى، هم _ في الغالب وحسب القاعدة _ ممّن يعرفون الوظيفة ويعملون بها، وإلاّ لما حصلوا على هذا الشرف، ولكن هذا (أي الطموح للقائه عجّل الله فرجه) ليس هو الوظيفة، فلو أمكن الجمع فما أحسن ذلك! وإلاّ فإنّ الوظيفة مقدّمة على الرغبة، والوظيفة هي معرفة الواجبات والعمل بها وتشخيص المحرّمات والاجتناب عنها، تجاه النفس والآخرين، وبتعليم الجاهلين كلّ حسب قدرته ومعرفته، والسعي لكسب المزيد من المعرفة على هذا الطريق.

الشيخ المفيد نال أوسمة من الحجّة لم ينل مثلها أحد

أنقل لكم هنا القضيّة التالية وفكّروا أنتم في معناها:

انظروا في كلّ ما وصلنا من عبارات المدح والتقريظ من الإمام الحجّة (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين) بشأن كلّ الأفراد، ونوّابه الأربعة الخاصّين، والسفراء الآخرين ووكلائه( )…

.. هل تجدون في كلّ كلمات المديح والتقريظ التي تفضّل بها الإمام بحقّ الأشخاص من نوّاب خاصّين وسفراء وغيرهم ما يرتقي لمستوى ما قاله (عليه السلام) بحق الشيخ المفيد؟ لا أظنّ ذلك.

ينقل العلاّمة المجلسي رسالتين عنه (عليه السلام) في البحار إلى الشيخ المفيد( ), والبحار كتاب موجود ومتداول، فراجعوه ولاحظوا هاتين الرسالتين، تجدون أنّ الإمام يذكر فيهما بعض المطالب، ويرد في موارد منها مدح للشيخ المفيد، لا تجدون له نظيراً حتّى في حقّ الحسين بن روح أو السمري أو العمريّين، وهم نوّابه الخاصّون.

أقول: من خلال هاتين الرسالتين والعبائر الأخرى التي نُقلت عنه (سلام الله عليه) بحقّ المفيد نلمس تقريظاً قد لا نلمسه _ من حيث المجموع _ بحقّ أيّ شخصية أخرى على الإطلاق، ممّن تشرّفوا بلقاء الحجّة (عليه السلام).

فمما ورد في إحدى الرسالتين الموجّهة للشيخ المفيد رحمه الله قوله (عجل الله

فرجه الشريف):

للأخ السديد والولي الرشيد الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان أدام الله إعزازه

من مستودع العهد المأخوذ على العباد:

بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: سلام عليك أيها المولى المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا نبينا محمد وآله الطاهرين، ونعلمك أدام الله توفيقك لنصرة الحق، وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق، أنه قد أُذن لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قبلك أعزهم الله بطاعته، وكفاهم المهمّ برعايته لهم وحراسته. فقف أمدّك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه على ما نذكره، واعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله نحن، وإن كنا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا يحيط علمنا بأنبائكم ولا يعزب عنا شي ء من أخباركم ومعرفتنا بالزلل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً و نبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، إنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم يهلك فيها من حمّ أجله و يحمى عليه من أدرك أمله و هي أمارة لأزوف حركتنا و مباءتكم بأمرنا و نهينا و الله متمّ نوره و لو كره المشركون ... و الله يلهمك الرشد و يلطف لكم بالتوفيق برحمته...

هذا كتابنا عليك أيها الأخ الولي والمخلص في ودنا، الصفي والناصر لنا، الوفي. حرسك الله بعينه

التي لا تنام، فاحتفظ به ولا تظهر على خطنا الذي سطرناه بما له ضمناه أحداً، وأدّ ما فيه إلى من تسكن إليه، وأوص جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين( ).

أعود وأقول: إنّه لشرف كبير ومصدر فخر واعتزاز أن يمثل الشخص بين يدي الإمام ويكون في حضرته؛ يزوره عياناً ويتشرّف برؤيته وتقبيل يده. فهنيئاً _ وآلاف المرّات هنيئاً _ لأمثال الحاجّ عليّ البغدادي والسيّد بحر العلوم وغيرهما ممّن نالوا هذا الشرف الكبير وهذا المجد الرفيع وهذه الكرامة. ولكن _ اعلموا أيّها الإخوان _ إنّ هذه ليست هي الوظيفة فإنّه لم يبلغنا عن الشيخ المفيد أنّه التقى بالحجّة _ لا يُعرف ما هو السبب، وربما التقاه ولم يصلنا _ ولكنّه مع ذلك نال هذه الأوسمة منه عليه السلام.

بمقدار ما نعمل بوظائفنا يرضى عنّا الحجّة

على كلّ حال إنّ وظيفتنا هي التي يرضى بها الإمام عنّا إن نحن عملنا بها، وإذا أردنا أن نعرف نسبة رضاه عنّا _ وكم هي في المئة مثلاً _ فلنفكّر مع أنفسنا مدى معرفتنا للوظيفة وعملنا بها _ تجاه أنفسنا والآخرين، أقرباء وأرحاماً وسواهم _ هذه أهم مسألة وواجب علينا ودور لنا في عصر الغيبة، وإنّ الدرجات التي تُمنح في الآخرة ستكون على هذا الأساس أيضاً.

نسأل الله أن نبقى أحياء حتّى ندرك ظهور الحجة (عجل الله تعالى فرجه) ونكون في خدمته وفي ركابه، ولكن اعلموا أنّه حتّى درجات ذلك اليوم تعطى على أساس دورنا وعملنا وإنجاز وظيفتنا اليوم.

أويس القرني أفضل من كثير من الصحابة!

ولتكن لنا في أويس القرني قدوة وعبرة، فإنّ هذا العبد الصالح لم يوفّق لأن يدرك الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع أنّه كان في عصره، فقد كان يعيش في اليمن، وعندما توجّه منها إلى المدينة لرؤية الرسول (صلّى الله عليه وآله) وزيارته لم يدركه أيضاً، فقد كان (صلّى الله عليه وآله) قد استشهد. وتأثّر أويس لذلك كثيراً. ولكن هل تعلمون أنّ أويساً هذا مقدّم على كثير ممّن صحبوا الرسول (صلّى الله عليه وآله).

إذا أردتم التحقّق من ذلك فانظروا إلى سيرته:

يُنقل أنّه كان أحد الأشخاص يسبّ أويساً كلّما مرّ به أو التقاه. وفي إحدى المرّات رآه أويس يقبل من بعيد فغيّر طريقه. هل تدرون لماذا؟

ربّما كثير من الناس يتجنّب المواجهة مع مَن يريد سبّه، لأنّه قد تتوتّر أعصابه أو يراق ماء وجهه بين الناس. ولكن أويساً لم يغيّر طريقه لهذه الأسباب. فعندما سألوه عن السبب في تغيير مسيره أجاب: لئلاّ يقع (أي ذلك الشخص) في المعصية( ).

هل صحيح هذا؟ أجل ولِمَ لا!

إذن فلنكن مثله إن شاء الله.

ختاماً

ونحن في عصر الغيبة إن أردنا أن نكسب رضا وليّ العصر وصاحب الزمان، فإنّ هذا الأمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً وأكيداً بمدى معرفتنا للوظيفة والواجب الملقى علينا والعمل بهما.

أرجو من الله تعالى ببركة هذه الأيام، وببركة ميلاد الإمام ووجوده المقدّس وآبائه الطاهرين عليه وعليهم السلام، أن يزيد في توفيق مَن كانت عنده هذه الخصلة (أي معرفة الوظيفة في عصر الغيبة) وأن يمنحها لمَن ليست عنده بعد.

والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

ليلة النصف من شعبان / 423ه_

پي نوشتها

( ) القصص: 5و 6.

( ) المدّثر: 6.

( ) البقرة: 264.

( ) البقرة: 262.

( ) طه: 37.

( ) الصافات: 114.

( ) آل عمران: 164.

( ) مستدرك الوسائل ج2، ص419.

( ) آل عمران: 185.

( ) كتاب الطرائف، ج1، ص56.

( ) كتاب اليقين، ص394.

( ) الذين وُفّقوا لزيارة قبر الإمامين العسكريين (عليهما السلام) في سامرّاء يعلمون جيداً أنّ هناك سرداباً متعلّقاً بالإمام الحجّة عليه السلام، وهو السرداب الذي حصلت غيبته الأولى فيه أي منه غاب عن الأنظار. ولذلك يؤمّه الزوّار والشيعة وكلّ المتشوّقين للقائه، فقد روي أنّه رُئي فيه عدّة مرّات. وهذا لا يعني أنّه لم يُرَ في غيره أو أنّه مختبئ فيه، بل لقد رُئي في الصحراء وفي السفينة في البحر وفي كلّ مكان؛ لكن مكانة هذا السرداب هي لاعتبار قرب الصلة بالإمام ولأنّه منسوب إليه (عجّل الله فرجه).

( ) مستدرك الوسائل ج : 16 ص : 259 ح 11.

( ) بحار الأنوار ح25، ص117.

( ) سورة البقرة: 256.

( ) سورة الحاقة: 11.

( ) لاشكّ أنّ النبيّ (ص) لم يكن يحيّيهم بتحية الإسلام وهي «السلام عليكم» بل كان يحييهم بأنواع التحية الأخرى؛ لأنّ ههنا مسألة وهي أنّه

يجوز للمسلم أن يحيّي الكفّار بمختلف التحيات باستثناء «السلام عليكم» فلا يجوز للمسلم أن يسلّم على كافر أو مشرك قائلاً له «السلام عليكم»بل يجوز له أن يقول له: أنعِم صباحاً أو أنعِم مساءً، أهلاً وسهلاً، تحية طيّبة، وما أشبه، أمّا كلمة «السلام عليكم» فمختصّة بالمسلمين، ووردت فيه أحاديث عن النبي (ص) وأهل بيته المعصومين عليهم الصلاة والسلام، فلقد كان رسول الله (ص) يحيّي المشركين بمختلف التحيات إلاّ كلمة «السلام عليكم»، فلقد وُضعت للمسلمين خاصة. فإذا حيّى مسلم مسلماً قال له: «السلام عليكم» والحديث المعروف وهو «تحية الإسلام السلام» يعني أنّ هذه التحيّة خاصّة بالإسلام.

( ) سورة الكهف: 29.

( ) سورة البقرة: 256.

( ) سورة البلد: 10.

( ) سورة الإنسان: 3.

( ) بحار الأنوار، ج2، ص141.

( ) الحسنان _ بسكون السين _ الإبهامان من القدمين. وقرأ بعضٌ: الحسنان _ بفتح السين _ أي الحسن والحسين عليهما السلام.

( ) راجع: بحار الأنوار، ج32، ص27.

( ) ولا أقول «فساد الدين» لأنّ الدين لا فساد فيه، وإنما الفساد من دنيا الناس وتكثر مشاكلهم ويُظلمون وتُهضم حقوقهم. أمّا الدين فصالح ومتين أبداً.

( ) بحار الأنوار، ج97، ص17.

( ) سورة الأعراف: 157.

( ) بحار الأنوار ج1، ص185.

( ) الذاريات: 56.

( ) فلاح السائل، ص127.

( ) الزمر: 47.

( ) الكافي ج1، ص548.

( ) الزمر: 47.

( ) بحار الأنوار، ج2، ص252.

( ) بحار الأنوار، ج44، ص273.

( ) بحار الأنوار ج1، ص77، وج105، 15.

(1) وسائل الشيعة ج10، ص313؛ بحار الأنوار ج93، ص356، باب46.

(2) كان سماحته يلقي كلمته على طلاّب العلوم الدينية في استقبال شهر رمضان.

(1) وسائل الشيعة ج10، ص313؛ بحار الأنوار ج93، ص356، باب46.

(1) نهج البلاغة، من كتاب له إلى عثمان بن

حنيف.

(1) الكافي، ج3، ص345.

(2) بحار الأنوار ج60، ص329.

(1) وسائل الشيعة ج4، ص286.

( ) بحار الأنوار ج32، ص331.

( ) من لا يحضره الفقيه ج3، ص598.كما رواها الشيخ الكليني في الكافي وابن قولويه في كامل الزيارات، ولها أسناد متعدّدة.

( ) الكافي ج4، ص576.

( ) الكافي ج1، ص44.

( ) تهذيب الأحكام ج10، ص49، جامع الرواة ج2، ص5. وكان الفضل بن شاذان آنذاك في نيسابور ومزاره اليوم هناك، وقد وفّقت لزيارته مراراً، ونيسابور تقع على طريق مشهد وحريّ بالذاهبين إلى مشهد لزيارة الإمام الرضا (عليه السلام) أن يعرّجوا على نيسابور لزيارة الفضل، بل إنّه حتى لو لم يكن في طريق مشهد كان يستحقّ أن تُشدّ الرحال لزيارته.

( ) بحار الأنوار ج47, ص382.

( ) بحارالأنوار ج49، ص58.

( ) وفي الروايات أنّها مقمعة طويلة ذات 360 عقدة في كلّ عقدة 360 حلقة من نار.

( ) بحارالأنوار ج2، ص22.

( ) غيبة الطوسي، ص290.

( ) شرح نهج البلاغة ج18، ص205.

( ) انظر: بحار الأنوار ج17، ص131.

( ) سورة الحجر: 80 و81.

( ) سورة الرعد: 40.

( ) سورة النحل: 40.

ورد في تفسير هذه الآية قيل: إنّ الله تعالى لا يحتاج حتى إلى قول: «كن» فإنّ إرادته تكفي ولكن التعبير الوارد في الآية لغرض التفهيم؛ لأنّنا بحاجة إلى مراحل ثلاث لإيجاد الشيء؛ هي: الإرادة والتعبير عنها ومرحلة العمل. فلو أنّك أردت أن تبني مسجداً مثلاً، فإنّك تريد ذلك أوّلاً ثم تعبّر عنه ثانياً وفي المرحلة الثالثة تبذل المال وتوفّر المواد والبناء، وهكذا. أمّا الله سبحانه فلا يحتاج إلى التعبير ولا إلى العمل الخارجي بل إنّ إرادته وحدها تكفي لتحقّق ما يريد.

( ) سورة الشعراء: 155.

( ) بحار الأنوار، ج23، ص78، باب وجوب معرفة الإمام.

( )

هناك أشخاص تضخّمت عندهم قوة التخيّل حتّى صاروا ينسبون كلّ شيء إلى الخيال وينكرون الوجدانيات والأمور المتعلّقة بالعلم الوجداني كالمتواترات؛ فلا شيء عندهم يسمى العلم. وإنكارهم لوجود المولى (صاحب الزمان) من هذا القبيل، إي هو إنكار للوجدانيات والمتواترات.

( ) النحل: 125.

( ) بحار الأنوار، ج99، ص101، زيارة الإمام المستتر عن الأنظار.

( ) بحار الأنوار، ج47، ص54.

( ) بحار الأنوار، ج53، ص353.

( ) بحار الأنوار، ج34، ص261.

( ) والميلغة: هي الإناء الذي يلغ فيه الكلب، فهي اسم آلة مشتقّ من الفعل ((ولغ))، وكان الناس آنذاك إذا كسرت كيزان الماء الخزفية لم يرموا بكعوبها بل يتّخذون منها أوعية للماء الذي تلغ فيه الكلاب.

* ففي الحديث أنه: بعث النبي (صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد على صدقات بني المصطلق حيّ من خزاعة، وكان بينه وبينهم في الجاهلية ذحل فأوقع بهم خالد فقتل منهم، واستاق أموالهم ، فبلغ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ما فعل فقال : اللّهمّ أبرأ إليك ممّا صنع خالد، وبعث إليهم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بمال وأمره أن يؤدي إليهم ديات رجالهم وما ذهب لهم من أموالهم، وبقيت معه من المال زعبة، فقال لهم: هل تفقدون شيئا من متاعكم؟ فقالوا: ما نفقد شيئا إلاّ ميلغة كلابنا، فدفع إليهم ما بقي من المال فقال: هذا لميلغة كلابكم. وما أنسيتم من متاعكم، وأقبل إلى النبيّ (صلى الله عليه واله) فقال: ما صنعت؟ فأخبره بخبره حتّى أتى على حديثه، فقال النبيّ صلى الله عليه واله: أرضيتني رضي الله عنك يا عليّ أنت هادي أمّتي، ألا إنّ السعيد كلّ السعيد مَن أحبّك وأخذ بطريقتك، ألا إنّ الشقي كلّ الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم

القيامة. (بحار الأنوار، ج21، ص143، باب27، ذكر الحوادث بعد الفتح).

( ) بحار الأنوار، ج47، ص54.

( ) في كتاب الكافي كثير من المطالب حول أحوال الأئمّة وقد جمعها المجلسي في (البحار)؛ منها: أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) قال له: يابن رسول الله إنّ الحكومة والرئاسة بيد أعدائكم وهم منعّمون، فليتها كانت بأيديكم وكنتم أنتم الرؤساء والأمراء. فقال عليه السلام – ما مضمونه -: وإن كنّا نحن الرؤساء فإنه سيبقى لباسنا خشناً ومأكلنا جشباً. لا تظنّوا أنّا لو أصبحنا رؤساء فإنّ أحدكم سيكون في نعمة وترف لقربه منّا. كلاّ.

( ) الكافي، ج1، ص410.

( ) يُنقل أنّ الإمام أمير المؤمنين وعندما كان رئيس أكبر دولة على الكرة الأرضية كان يخطب يوماً على المنبر ويحرّك بيده لباسه الذي يرتديه لكي يجفّ، وذلك لإنّه لم يكن يملك غيره وقد غسله ولم يكن عنده الوقت الكافي لكي ينتظره حتّى يجفّ، فاضطرّ لأن يرتديه ويأتي إلى المسجد ليخطب في الناس في الموعد المقرّر وهو مبتلّ.

يشير لهذا الموضوع الإمام (عليه السلام) بنفسه في نهج البلاغة في رسالته إلى عثمان بن حنيف واليه على البصرة عندما يقول: ((ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه)) أي بقميص واحد وإزار واحد يرتديهما لا غير، فقد كان لباس الناس في ذلك الوقت يتألّف من قطعتين؛ قميص وإزار. ولم يكن الإمام يملك أكثر منهما، وهذا هو المقصود بقوله (عليه السلام): بطمريه. أي ما يكتفي لملبس واحد فقط.

( ) وكما قال الله تعالى: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاستَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)) .

( ) بحار الأنوار، ج45، ص4.

( ) البحار، ج53، ص338.

( ) الفتح: 10.

( ) فإنّ السفراء هم غير النوّاب الأربعة، فقد أطلق تعبير السفير على غير هؤلاء الأربعة،

وإن أُطلق عليهم أيضاً، فهم السفراء المطلقون، وكان هناك للإمام سفراء محدّدون كمَن كاتبوا الإمام (عليه السلام) وأجابهم، وثمّة بعض الكتب التي كتبها الإمام ابتداءً لبعض أصحاب أبيه وجدّه عليهم السلام.

( ) قال المجلسي وآخرون أنّ هذه الرسائل كانت ثلاثاً ضاعت واحدة منها ولم تصلنا.

( ) بحار الأنوار، ج53، ص174، باب 31 (ما خرج من توقيعاته عليه السلام).

( ) انظر: تاريخ مدينة دمشق، ج9، ص421.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.