المؤلف:
المرجع الديني الراحل
الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي
أعلي الله درجاته
الناشر:
مؤسسة المجتبي للتحقيق والنشر
كربلاء المقدسة
الطبعة الأولي 1427ه
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الظروف العصيبة التي تمر بالعالم.. والمشكلات الكبيرة التي تعيشها الأمة الإسلامية.. والمعاناة السياسية والاجتماعية التي تقاسيها بمضض.. وفوق ذلك كله، الأزمات الروحية والأخلاقية التي يئنّ من وطأتها العالم أجمع.. والحاجة الماسة إلي نشر وبيان مفاهيم الإسلام ومبادئه الإنسانية العميقة التي تلازم الإنسان في كل شؤونه وجزئيات حياته وتتدخل مباشرةً في حلّ جميع أزماته ومشاكله في الحرية والأمن والسلام وفي كل جوانب الحياة.. والتعطش الشديد إلي إعادة الروح الإسلامية الأصيلة، وبلورة الثقافة الدينية الحيّة، وبثّ الوعي الفكري والسياسي في أبناء الإسلام كي يتمكنوا من رسم خريطة المستقبل المشرق.. كل ذلك دفع المؤسسة لأن تقوم بنشر مجموعة من المحاضرات التوجيهية القيمة التي ألقاها المرجع الديني الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلي الله مقامه) في ظروف وأزمنة مختلفة، حول مختلف شؤون الحياة الفردية والاجتماعية، وقد قام سماحته ? بتهذيبها والإضافة عليها، فقمنا بطباعتها مساهمةً منا في نشر الوعي الإسلامي، وسدّاً لبعض الفراغ العقائدي والأخلاقي لأبناء المسلمين من أجل غدٍ أفضل ومستقبل مجيد.. وذلك انطلاقاً من الوحي الإلهي القائل:
?لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ?(
). الذي هو أصل عقلائي عام يرشدنا إلي وجوب التفقه في الدين وإنذار الأمة، ووجوب رجوع الجاهل إلي العالم في معرفة أحكامه في مواقفه وشؤونه.. كما هو تطبيق عملي وسلوكي للآية الكريمة:
?فَبَشِّرْ عِبَادِ ? الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبَابِ? ().
إن مؤلفات الإمام الشيرازي (أعلي الله مقامه) تتسم ب:
أولاً: التنوّع والشمولية لأهم أبعاد الإنسان والحياة، لكونها انعكاساً لشمولية الإسلام.. فقد أفاض قلمه المبارك الكتب والموسوعات
الضخمة في شتي علوم الإسلام المختلفة، بدءً من موسوعة (الفقه) التي بلغت المائة والستين مجلداً، حيث تُعدّ أكبر موسوعة علمية استدلالية فقهية في العالم الإسلامي، مروراً بعلم الحديث والتفسير والكلام والأصول والسياسة والاقتصاد والاجتماع والحقوق وسائر العلوم الحديثة الأخري.. وانتهاءً بالكتب المتوسطة والصغيرة التي تتناول مختلف المواضيع والتي تتجاوز بمجموعها ال (1300) كتاب وكراس.
ثانياً: الأصالة حيث إنها تتمحور حول القرآن الكريم والسنة المطهرة وتستلهم منهما الرؤي والأفكار.
ثالثاً: المعالجة الجذرية والعملية المستبصرة بمشاكل الأمة الإسلامية ومشاكل العالم المعاصر. رابعاً: التحدث بلغة علمية رصينة في كتاباته لذوي الاختصاص ك(الأصول) و(البيع) وغيرها، وبلغة واضحة سهلة يفهمها الجميع في كتاباته الجماهيرية، مدعومة بشواهد من واقع الحياة.
نرجو من المولي العلي القدير أن ينفع بذلك، إنه سميع مجيب.
مؤسسة المجتبي للتحقيق والنشر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين.
قال الله تعالي: ?لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً?().
هذه الآية الكريمة تدل علي أهمية الاصلاح الاجتماعي، قال الإمام الصادق عليه السلام: ?صدقة يحبها الله: إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بعضهم إذا تباعدوا?().
وقال عليه السلام: ?ما عمل رجل عملا بعد إقامة الفرائض خيرا من إصلاح بين الناس، يقول خيرا، أو يتمني خيرا?().
وقد كان رسول الله صلي الله عليه و اله وأمير المؤمنين عليه السلام وسائر أهل البيت عليهم السلام خير مصداق للإصلاح بين الناس..
يقول الإمام الصادق عليه السلام: ?إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي?().
وروي في بحار الأنوار: عن غير واحد من أصحاب (ابن
دأب) قال:
لقيت الناس يتحدثون أن العرب كانت تقول: أن يبعث الله فينا نبيا يكون في بعض أصحابه سبعون خصلة من مكارم الدنيا والآخرة، فنظروا وفتشوا هل يجتمع عشر خصال في واحد فضلا عن سبعين، فلم يجدوا خصالا مجتمعة للدين والدنيا، ووجدوا عشر خصال مجتمعة في الدنيا، وليس في الدين منها شي ء..
قال ابن دأب: ثم نظروا وفتشوا في العرب، وكان الناظر في ذلك أهل النظر، فلم يجتمع في أحد خصال مجموعة للدين والدنيا بالاضطرار علي ما أحبوا وكرهوا إلا في علي بن أبي طالب عليه السلام فحسدوه عليها حسداً أنغل القلوب وأحبط الأعمال، وكان أحق الناس وأولاهم بذلك؛ إذ هدم الله عزوجل به بيوت المشركين، ونصر به الرسول صلي الله عليه و اله واعتز به الدين في قتله من قتل من المشركين في مغازي النبي صلي الله عليه و اله.
قال ابن دأب: فقلنا لهم: وما هذه الخصال؟
قالوا: المواساة للرسول صلي الله عليه و اله وبذل نفسه دونه، والحفيظة ودفع الضيم عنه، والتصديق للرسول صلي الله عليه و اله بالوعد، والزهد، وترك الأمل، والحياء، والكرم، والبلاغة في الخطب، والرئاسة، والحلم، والعلم، والقضاء بالفصل، والشجاعة، وترك الفرح عند الظفر، وترك إظهار المرح، وترك الخديعة والمكر والغدر، وترك المثلة وهو يقدر عليها، والرغبة الخالصة إلي الله، وإطعام الطعام علي حبه، وهوان ما ظفر به من الدنيا عليه، وتركه أن يفضل نفسه وولده علي أحد من رعيته، وطعمه أدني ما تأكل الرعية، ولباسه أدني ما يلبس أحد من المسلمين، وقسمه بالسوية، وعدله في الرعية، والصرامة في حربه، وقد خذله الناس، فكان في خذل الناس وذهابهم عنه بمنزلة اجتماعهم عليه، طاعة لله وانتهاء إلي أمره، والحفظ، وهو الذي تسميه العرب: العقل،
حتي سمي (أذنا واعية)، والسماحة، وبث الحكمة، واستخراج الكلمة، والإبلاغ في الموعظة، وحاجة الناس إليه إذا حضر، حتي لايؤخذ إلا بقوله، وانفلاق ما في الأرض علي الناس حتي يستخرجه، والدفع عن المظلوم، وإغاثة الملهوف، والمروءة، وعفة البطن والفرج، وإصلاح المال بيده ليستغني به عن مال غيره، وترك الوهن والاستكانة، وترك الشكاية في موضع ألم الجراحة، وكتمان ما وجد في جسده من الجراحات من قرنه إلي قدمه، وكانت ألف جراحة في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود ولو علي نفسه، وترك الكتمان فيما لله فيه الرضي علي ولده … والحديث مفصل.
إلي قال ابن دأب: فهل فكر الخلق إلي ما هم عليه من الوجود بصفته إلي ما مال غيره، ثم حاجة الناس إليه وغناه عنهم، إنه لم ينزل بالناس ظلماء عمياء كان لها موضعا غيره، مثل مجي ء اليهود يسألونه ويتعنتونه، ويخبر بما في التوراة، وما يجدون عندهم، فكم يهودي قد أسلم، وكان سبب إسلامه هو، وأما غناه عن الناس، فإنه لم يوجد علي باب أحد قط يسأله عن كلمة، ولا يستفيد منه حرفا، ثم الدفع عن المظلوم وإغاثة الملهوف..
قال: ذكر الكوفيون: أن سعيد بن قيس الهمداني رآه يوما في فناء حائط، فقال: يا أمير المؤمنين، بهذه الساعة؟!
قال عليه السلام: ?ما خرجت إلا لأعين مظلوما، أو أغيث ملهوفا?، فبينا هو كذلك، إذ أتته امرأة قد خلع قلبها، لا تدري أين تأخذ من الدنيا، حتي وقفت عليه، فقالت: يا أمير المؤمنين، ظلمني زوجي، وتعدي علي، وحلف ليضربني، فاذهب معي إليه.
فطأطأ عليه السلام رأسه، ثم رفعه، وهو يقول: ?حتي يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، وأين منزلك؟?
قالت: في موضع كذا وكذا.
فانطلق عليه السلام معها حتي انتهت إلي منزلها،
فقالت: هذا منزلي.
قال: فسلم، فخرج شاب عليه إزار ملونة فقال عليه السلام: ?اتق الله، فقد أخفت زوجتك؟!?.
فقال: وما أنت وذاك، والله لأحرقنها بالنار لكلامك! …
قال عليه السلام له: ?آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، وترد المعروف؟ … ?.
قال: وأقبل الناس من السكك يسألون عن أمير المؤمنين عليه السلام حتي وقفوا عليه، قال: فأسقط في يده الشاب، وقال: يا أمير المؤمنين، اعف عني عفا الله عنك، والله لأكونن أرضا تطؤني.
فأمرها بالدخول إلي منزلها، وانكفأ وهو يقول: ?لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. الحمد لله الذي أصلح بي بين مرأة وزوجها، يقول الله تبارك وتعالي: ?لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ومَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً?().
قال ابن دأب: ثم المروءة، وعفة البطن والفرج، وإصلاح المال، فهل رأيتم أحدا ضرب الجبال بالمعاول، فخرج منها مثل أعناق الجزر، كلما خرجت عنق، قال: بشر الوارث، ثم يبدو له فيجعلها صدقة بتلة إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها، لينصرف() النيران عن وجهه، ويصرف وجهه عن النار، ليس لأحد من أهل الأرض أن يأخذوا من نبات نخلة واحدة حتي يطبق كلما ساح عليه ماؤه.
قال ابن دأب: فكان يحمل الوسق فيه ثلاثمائة ألف نواة، فيقال له: ما هذا؟ فيقول: ?ثلاثمائة ألف نخلة، إن شاء الله?. فيغرس النوي كلها فلا يذهب منه نواة ينبع وأعاجيبها. ثم ترك الوهن والاستكانة، إنه انصرف من أحد() وبه ثمانون جراحة، يدخل الفتائل من موضع ويخرج من موضع، فدخل عليه رسول الله صلي الله عليه و اله عائدا وهو مثل المضغة علي نطع، فلما
رآه رسول الله صلي الله عليه و اله بكي وقال له: إن رجلا يصيبه هذا في الله لحق علي الله أن يفعل به ويفعل?..
فقال عليه السلام مجيبا له وبكي: بأبي أنت وأمي، الحمد لله الذي لم يرني وليت عنك، ولا فررت، بأبي أنت وأمي كيف حرمت الشهادة؟?
قال صلي الله عليه و اله: ?إنها من ورائك إن شاء الله?.
قال: فقال له رسول الله ?: ?إن أبا سفيان قد أرسل موعده بيننا وبينكم حمراء الأسد?. فقال: ?بأبي أنت وأمي، والله لو حملت علي أيدي الرجال ما تخلفت عنك? قال: فنزل القرآن: ?وكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وما ضَعُفُوا ومَا اسْتَكانُوا واللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ?().
ونزلت الآية فيه قبلها: ?وما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلا ومَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ومَنْ يُرِدْ ثَوابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ?()..
ثم ترك الشكاية في ألم الجراحة، شكت المرأتان إلي رسول الله صلي الله عليه و الهما يلقي وقالتا: يا رسول الله، قد خشينا عليه مما تدخل الفتائل في موضع الجراحات، من موضع إلي موضع، وكتمانه ما يجد من الألم. قال: فعد ما به من أثر الجراحات عند خروجه من الدنيا فكانت ألف جراحة من قرنه إلي قدمه صلوات الله عليه.()
نعم، هكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام وكذلك كان رسول الله صلي الله عليه و اله من قبل، وكذلك هم أهل البيت عليهم السلام، وهكذا يلزم أن يكون تابعيهم والمقتدين بسيرتهم بعون الله.
الكفاءة والقدرة هي من مقومات الإصلاح الاجتماعي. وما نراه اليوم من كثرة المشاكل في بلاد المسلمين فإن من أسبابها عدم القدرة والكفاءة القيادية.
وليس المقصود بالكفاءة مجرد الادعاء
بالكفاءة والأهلية، أو إطلاق الشعارات الخالية من المضمون، بل هي الحالة الواقعية للكفاءة التي يلزم أن نوجهها وننميها علي مستوي الأفراد وعلي مستوي الجماعة، بل علي مستوي الأمة؛ لأنه لا فرق في الحاجة إلي ذلك كله، أي إلي كفاءة الفرد وكفاءة المجتمع، حيث يعتبر أحدهما مكملاً للآخر، ولذا يلزم السعي الجاد والمتواصل من أجل تنمية الكفاءات للحصول علي ثمراتها بالشكل الأفضل والمطلوب.
ومن الواضح أن وجود المؤهلات وعدمها في الفرد أو الأمة، يتضح من خلال أداء وإنجاز الأعمال الموكلة للفرد أو للأمة، ودرجة النجاح أوالفشل فيهما، فنقول مثلاً: إن الشخص الفلاني، أو الأمة الفلانية، لديها القدرة والكفاءة علي أداء مهمتها، أو نقول العكس من ذلك: بأن ذلك الشخص أو تلك الأمة ليست لها القدرة أو الكفاءة علي أداء مهامها في هذا المجتمع أو ذاك. وهذا التقييم موجود في المجتمعات كافة، سواء كانت تلك المجتمعات غربية أو شرقية، أو مجتمعات إسلامية.
ونحن المسلمين وخاصة في القرن الأخير خرجنا من الامتحان بنتائج غير موفقة، قابلها العالم بردود فعل معاكسة، وكانت ذلك بطبيعة الحال مؤشراً واضحاً علي عدم أهلية وقدرة المسلمين علي أداء الدور الريادي الذي خلفه لهم الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله وإمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام في إدارة الأمة، مما جعل أمورهم أي المسلمين تصبح تحت تسلط الغربيين والشرقيين، وأصبح بعض المسلمين بأفعالهم عوناً لأعداء الإسلام وأعداء الدين علي الإسلام والمسلمين، كما قال أحد الشعراء العرب:
وإخوانٍ تخذتهم دروعاً
فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاما صائبات
فكانوها ولكن في فؤادي()
والأمة الإسلامية حينما أدت الدور الرسالي، واستطاعت أن تثبت قدرتها علي ريادة العالم وقيادته إلي شاطئ الأمن والسعادة، كانت ملتفة بقيادة رسول الله صلي الله عليه و اله وأمير
المؤمنين عليه السلام، فكانت مصداقاً حقيقياً للآية المباركة: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ? ().
فهنا في هذه الآية الكريمة تنبيه إلي لزوم الدعوة إلي الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
?كُنْتُمْ? أيها المسلمون، وكان لمجرد الربط، لا بمعني الماضي ?خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ? أي: خير جماعة ظهرت للناس، فإن كل أمة تظهر للناس في فترة، ثم تختفي وتغيب، لتأخذ مكانها أمة أخري. وإنما كان المسلمون خير أمة لخصال ثلاث، بها تترقي الأمم إلي أوج عزّها هي: ?تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ? فإن المجتمع إذا خلا من هذين الواجبين أخذ يهوي نحو السُّفل، لما جُبل عليه من الفساد والفوضي والشغب، فإذا تحلّي المجتمع بهذين الأمرين أخذ يتقدم نحو الكمال بمدارج الإنسانية والحضارة الحقيقية، حتي يصل إلي قمة البشرية ?وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ? إيماناً صحيحاً لا كإيمان أهل الكتاب والمشركين، والإيمان الصحيح بالله رأس الفضائل، فإنه مع قطع النظر عن كونه إدراكاً لأعظم حقيقة كونية، فهو محفّز شديد نحو جميع أنواع الخير، ومنفّر قوي عن جميع أصناف الشر ?وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ? إيماناً صحيحاً بعدم الشرك، وقبول قول الله سبحانه في نبوة نبي الإسلام محمد صلي الله عليه و اله ?لَكانَ? إيمانهم ?خَيْراً لَهُمْ? في دينهم ودنياهم، حتي تنظم دنياهم علي ضوء الإسلام، فتخلو من الجهل والمرض والفقر والرذيلة، ويكونون في الآخرة سعداء ينجون من عذاب الله، وليس المراد ب (خير) معني التفضيل، بل هو تعبير عرفي، حيث يظهر للناس أنهم في خير في الجملة وعلي هذا يكون إيمانهم أكثر خيراً وأفضل.. ثم بين سبحانه أن ليس كل الذين كانوا من أهل الكتاب
بقوا علي طريقتهم فإن ?مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ? بالله وبالنبي صلي الله عليه و اله وبما جاء به كالنجاشي وابن سلام وغيرهما، ?وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ? الخارجون عن طاعة الله باتباع أهوائهم المضلّة وطرائقهم الزائفة().
ولا يخفي ما لهذه الآية الكريمة من التأثير علي إصلاح المجتمع. فإن الإصلاح بحاجة إلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبحاجة إلي الإيمان بالله وبرسوله صلي الله عليه و اله وبالأئمة الأطهار عليهم السلام.
ولكن الأمة الإسلامية في يومنا هذا، فبعد أن حمل آباؤنا وأجدادنا مشاعل العلم والنور والحياة الحرة إلي العالم، أصبحنا اليوم بالإضافة إلي كوننا غير قادرين علي أداء مهماتنا الأساسية نهدم ما بناه السابقون من مجد وشموخ.
لذا فعلي المسلمين إن أرادوا الحصول علي مافقدوه من الكرامة والعزة والقدرات والإمكانات التي تؤهلهم لتحمل المسؤولية بالشكل المطلوب، أن يهتموا بالإصلاح، وهو يشمل إصلاح النفس أولاً، ثم إصلاح المتجمع، والمجتمع علي قسمين:
1: مجتمع صغير.
2: مجتمع كبير.
قال الإمام الرضا عليه السلام: ?وأروي: أن رجلاً سأل العالم عليه السلام() عن قول الله عز وجل: ?قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً?() قال: يأمرهم بما أمرهم الله، وينهاهم عما نهاهم الله، فإن أطاعوا كان قد وقاهم، وإن عصوه كان قد قضي ما عليه?().
وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد ? قال: ?لا يزال المؤمن يورث أهل بيته العلم والأدب الصالح حتي يدخلهم الجنة جميعاً، حتي لا يفقد فيها منهم صغيراً ولا كبيراً ولا خادماً ولا جاراً، ولا يزال العبد العاصي يورث أهل بيته الأدب السيئ حتي يدخلهم النار جميعاً، حتي لا يفقد فيها منهم صغيراً ولا كبيراً ولا خادماً ولا جاراً?().
وعنه عليه السلام أنه قال: ?لما نزلت: ?يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً?() قَالَ النَّاسُ: كيف نقي أنفسنا وأَهلينا؟
قال: ?اعملوا الخير وذكروا به أَهليكم وأَدبوهم علي طاعة الله? ثم قال أَبو عبد الله عليه السلام: ?إِنَّ اللهَ تعالي يقول لنبيِه ?: ?وأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها?() وقَالَ: ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولا نَبِيًّا ? وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا?() ?().
يشكل الناس في هذه الحياة من حيث انتسابهم إلي العائلة أو المدرسة ونحوها مجتمعاً صغيراً، وهذه المجتمعات الصغيرة باندماجها مع بعض تكون مجتمعات كبيرة.
والمجتمع الصغير تقع مسؤولية إصلاحه علي الأب والأم والمعلم، فاللازم علي الأبوين أن يتعاملا مع الأطفال تعاملاً متزناً يجمع بين العقل والعاطفة معاً، بدون إهمال أو تشديد؛ حتي تستكمل التربية جميع جوانبها العقلية والعاطفية، لأجل أن يستشعر الطفل بالأمن والاستقرار النفسي، وفي الوقت نفسه يعلمانه النظام والانضباط والنظافة والأدب والعمل، وحب الآخرين والمشاركة الإيجابية معهم، وعدم الاستبداد بالرأي، وأن لا يكون أنانياً.
ولما كانت الأم قريبة علي الطفل فإنها تتمكن من التعرف علي خصائص طفلها ومشاعره وأحاسيسه، فالأم لها الدور الأعظم بتربية الطفل تربية صالحة، كما قال الشاعر:
والفضل للآباء في تلقيحهم
غرس البنين بأنفس الأعلاق
والأم أولي الوالدين بولدها
تسقيه من دم قلبها الخفاق
الأم مدرسة البنين وحسبهم
أن يغتدوا من ثديها المهراق
هي ترضع الأجسام والأرواح ما
في صدرها من صحة وخلاق()
أو كما قال الشاعر الآخر:
من لي بتربية النساء فإنها
في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم روض إن تعهده الحيا
بالري أورق أيما اوراق
الأم أستاذ الأساتذة الألي
شغلت مآثرهم مدي الآفاق()
ومن قبل ذلك قال رسول الله صلي الله عليه و اله: ?الجنة تحت أقدام الأمهات?().
وهذا لا يعني إلغاءً لدور الأب كما هو واضح، فإن للأب دوراً تربوياً مهما، بل بمعني بيان أهمية دور الأم، وإثبات الشيء لا
ينفي ما عداه.
أما المدرسة، فهي محل التربية الفكرية والعملية، وتقويم الطفل فيها أصعب من تقويمه في البيت، لاختلاط الأجواء الحسنة والسيئة، والنفس في اكتساب السيئات أسرع من اكتسابها الحسنات غالباً.
أما في مرحلة الشباب والمراهقة، وخاصة عندما ندرك أن هذه المرحلة مرحلة حساسة وخطيرة؛ لأنها مرحلة تفتح ونضوج الشهوات والغرائز، يكون من اللازم إدامة التربية والتثقيف والتوعية الإسلامية، والمواظبة علي الحذر الشديد خوفاً من سراية، أو استفحال العادات والأفعال السيئة بين صفوف الجيل الناشئ.
ومن هنا يلزم علي الوالدين والمعلمين في المدارس، والمربين في المجتمع، كالخطباء والكتاب و … أن يهتموا بالشباب أكثر من غيرهم، لحساسية مرحلتهم في تكوين شخصيتهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي.
ولا يخفي أن المجتمع الصغير مندمج في المجتمع الكبير، أو هو جزء لا يتجزأ منه، بل إن المجتمعات الصغيرة أساس تكونه، فيلزم أن نصلح الأساس والأصل، وهو العائلة، التي هي بمثابة اللبنة الأساسية لتكوين مجتمع صالح، وأساس صلاح العائلة هو صلاح الأبوين، إضافة إلي عناصر التربية الأخري كالمدرسة والبيئة الصغيرة، ومن هنا يلزم التوجيه الصالح والحسن في كل فقرات هذا المجتمع الصغير، من بعده يصل الأمر إلي المجتمع الكبير.
أما إصلاح المجتمع الكبير، فهو من أكثر الأمور تعقيداً وخطورة؛ إذ تتداخل في إصلاحه وتغييره نحو الأحسن عوامل كثيرة، منها: عامل الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والعمران، والتربية.
والتأثير علي سيرة المجتمع وضبط سلوكه وتوعيته وتهذيبه، يحتاج إلي جيش من المثقفين والمبلغين والمصلحين والمفكرين، فإن محاربة تعاطي الخمور والمواد المخدرة والانحراف والشذوذ الجنسي مثلا لا يتم فقط بفتح مدرسة، أو إخراج مجلة، وما أشبه ذلك؛ لأنها أمور جزئية لايمكن تخليص المجتمع الكبير بها وحدها من هذه الآفة، وإنما هذا النوع من الإصلاح بحاجة إلي تخطيط عام وبرنامج كامل يشمل
أموراً وجوانب متعددة ويعالج المشاكل من جذورها.
وأول الإصلاح هو أن يكون القائمون به صالحين، وإلا فإن: فاقد الشيء لا يعطيه.
والتخطيط العام لإصلاح المجتمع يبني علي دعائم وهي عديدة منها:
1: الإيمان.
2: توزيع القدرات (العلم والحكم والمال).
أما الإيمان، فإنه الوحيد الذي يمكن به تعديل الصفات والملكات والعواطف والأعمال، بحيث يجعلك مرتبطاً في كل أعمالك بالله تعالي، فلن تجد الظلم أو السرقة أو شر ب الخمر أو الزنا وما شابه ذلك من المحرمات في مجتمع يسوده الإيمان.
والأمر الثاني: هو التكافؤ الموضوعي، أي الموازنة الدقيقة، والتعادل بين العلم والمال والحكم، لرفع الطغيان والاحتكار والتسلط، فإن في ذلك وقاية للمجتمع عن الانحراف والاستبداد، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج، فإن أحد الأمور الثلاثة، إذا لم يكن في متناول الجميع علي حد سواء باستثناء عدم امتلاك البعض قابلية الأخذ والاستيعاب من جهة عدم الاستطاعة الذاتية فكرياً أو جسمياً أوجب ذلك الحرمان، والحرمان ينتهي إلي الانحراف؛ ولذا يلزم تحرير هذه الثلاثة من نير الرأسمالية()..
والشيوعية().. ونحوهما، حتي يكون الميزان: الكفاءة والعمل، فالكل سيقدر علي أن يحصل علي فرص كسب المال بقدر الآخر، وكل يقدر علي أن يحصل علي أرقي مراتب العلم (الجامعة وفوقها)، وكلّ يقدر علي أن يحصل علي الحكم بعد وجود المؤهلات له من الشرائط الشخصية، كالعلم والعدالة.
فإذا حصلت الموازنة الصحيحة بين المعنويات (الإيمان والعلم) والماديات (المال والحكم) لم ينزلق المجتمع في مهاوي الانحراف، بخلاف ما إذا لم تحصل الموازنة، كما إذا كان المقام أو المنصب عند من لا علم له، أو العلم عند من لا تقوي لديه، أو المال عند من لا يمتلك الإيمان والرأفة علي الفقراء، أو ما أشبه ذلك، فإن المجتمع حينئذٍ يصبح محلاً خصباً للانحراف.. فعندها تثار التساؤلات
والاحتجاجات العديدة: لماذا الشاب الفلاني يقدر علي دخول الجامعة، وأنا لا أقدر مع أن مستواه الفكري مثلي؟
ولماذا تمكن فلان من الوصول إلي مجلس الأمة ولم أتمكن أنا؟
فهل ذلك لأنه من حاشية الحاكم، وأنا لست من حاشيته؟
وهل ميزان العدالة حاشية السلطان؟
ولماذا لا أتمكن أنا من كسب المال الكافي لشؤوني مع كوني أمتلك الكفاءة والاستعداد الجيد للعمل؟
إلي غير ذلك من أسباب تواجد الطبقية المنحرفة في كل من العلم والمال والحكم، مما يؤدي أن يكون الاجتماع محلاً لولادة الانحراف والظلم.
أما إصلاح النفس وهو اللبنة الأولي في إصلاح المجتمع، فيعني تزكية النفس وتطهيرها من الذنوب والآثام، وتنقيتها من العيب أو النقص. فإن الصالحين هم الذين صلحت نفوسهم وأعمالهم، قال الله تعالي عنهم: ?وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ
رَفِيقاً? ().
وقال عز اسمه: ?وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ?().
والصلاح علي مراتب، فمنها ما هو مرتبة سامية وشريفة، ومنها متوسطة، وهكذا كل إنسان بحسب قدرته وقابليته علي جهاد نفسه، فعن الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله أنه قال: ?جاهدوا أنفسكم علي شهواتكم تحلّ قلوبكم الحكمة?().
وعن إمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: ?ذروة الغايات لا ينالها إلا ذوو التهذيب والمجاهدات» ().
لأن الغاية من صلاح النفس هي رضا وطاعة الله تعالي والابتعاد عن معاصيه والفوز بالجنة، فلا يتمكن الإنسان من الوصول إليها إلا بتهذيب النفس ومجاهدتها من كل ظلم وطغيان، وعدم اتباع هواها، والالتزام بإطاعة الله وطاعة من أوجب طاعته من ولي الأمر المعصوم الواجب اتباعه، وطلب العلم، وتقديم التوبة.
وإن أفضل الجهاد، وهو جهاد النفس، وثمرته الفوز برضا الله تعالي والجنة، فإنها غاية الغايات، قد وقد جاء
عن أمير المؤمنين عليه السلام: «إن المجاهد نفسه علي طاعة الله وعن معاصيه عند الله سبحانه بمنزلة بر شهيد» ().
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ?إن رسول الله? بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟
فقال: جهاد النفس، وقال: إن أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه?().
وقال أبو عبد الله عليه السلام: ?كان في وصية أمير المؤمنين عليه السلام لأصحابه: إذا حضرت بليةٌ فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم، وإذا نزلت نازلةٌ فاجعلوا أنفسكم دون دينكم. واعلموا أن الهالك من هلك دينه، والحريب من حرب دينه، ألا وإنه لا فقر بعد الجنة، ألا وإنه لا غني بعد النار؛ لا يفك أسيرها ولا يبرأ ضريرها?().
كان مدير بلدية كربلاء المقدسة في مدة من الزمن رجل يدعي (مكي جميل)، وقد قام هذا الشخص يوماً بجمع المهندسين وبعض طلبة الكليات المتخصصين في مجال العمارة والبناء، وطلب منهم أن يقدموا تقريراً هندسياً حول كيفية تجديد بناء قبة الإمام الحسين?؟ ().
فكان جوابهم له: إن هذا العمل في غاية الصعوبة، ويتطلب تنفيذه الاستعانة بمهندسين من خارج البلاد، وعلي الأقل من البلدان المجاورة كتركيا وإيران مثلاً، وحتي لو توفر ذلك الكادر فإن المدة اللازمة لإنجاز هذا العمل تقدر بستة أشهر علي أقل تقدير. وبعد مدة جاء معماري (من أهل الخبرة في البناء) من مدينة النجف الأشرف يدعي (الحاج سعيد)، وقال: إنه مستعد لإنجاز هذا العمل بمدة لا تزيد علي (أربعين يوماً) فيما إذا توافرت له كل الوسائل والإمكانات الضرورية، فوضع مدير كربلاء المقدسة كل ما يحتاجه هذا المعمار تحت تصرفه، وفعلاً جاء وأزال البناء القديم وأقام البناء الجديد بمدة أربعين يوماً،
وكان ذلك طبعاً بفعل المهارة والكفاءة والخبرة التي يحملها ذلك المعماري.
هذه الواقعة تشير إلي أن وجود بعض الناس في مواقع لا يستحقونها، بل وإنهم يعتبرون خطراً علي المجتمع بتقليدهم المناصب الكبيرة، بحيث اتخذوا من شهادتهم العلمية رمزاً يعلق علي الجدران، وعند الأمور الصعبة والمحتاجة إلي بذل الوسع والجهد والتفكر، تراهم يتجهون فوراً إلي غيرهم وخصوصاً البلاد الخارجية، ولم يحاولوا لجهد بسيط في إنجاز أعمالهم.
وبسبب هؤلاء وغيرهم، نري أن الغرب قد وضع يده علي ثرواتنا وممتلكاتنا ومشاريعنا العمرانية والإنتاجية، في حين أن هناك في مجتمعاتنا من هو قادر وكفء علي إقامة مثل هذه المشاريع وبتكاليف قليلة ومدة أقل، ولكنه لم يأخذ مكانه الصحيح، وغيره الذي يحمل عناوين كبيرة غير واقعية، من شهادات جامعية وما أشبه، تراه في مكان ليس هو أهلاً له. ونري بعض الحكومات تحارب هذه الكفاءات والقدرات الجيدة والحقيقية، بحجة أنهم خطر علي الدولة، أو مرتبطون بفئة معادية، وحقيقة الأمر هي غير ذلك.
وفي مثل هذه القصة لا يحتاج الإنسان إلي أكثر من الهمّة العالية والإمكانيات التي هي دائماً متوفرة في البلاد الإسلامية.
مبادئ الإسلام هي القوام للاصلاح الاجتماعي، ومن أهم ما تعانيه مجتمعاتنا المعاصرة هو ترك العمل بمبادئ الإسلام، في حين استفاد الغرب من هذه المبادئ، وتفهم تجربتنا، وأخذ يعمل بها، فنري اليوم الكثير من القوانين الإسلامية يعمل بها في الغرب، ورغم أنها ليست بشكلها السليم الحقيقي لكنها تؤتي بثمارها عندهم وتوجب بعض الاصلاح الاجتماعي لديهم..
فمثلاً، لو ذهب شخص إلي الغرب وحصل علي الإقامة الأصولية في بلادهم، نراهم يقدمون له كل ما يحتاجه في تطوير حياته، فعندما يريد أن يشتري بيتاً فإنهم يساعدونه بتقديم القرض لشراء الدار، وإذا أراد أن ينشأ مؤسسة ذات منفعة
عامة للمجتمع، تدفع له الدولة مبلغاً ربما يساوي نصف كلفة تلك المؤسسة دون عوض، إيماناً منهم بأن هذه المؤسسة ستقوم بشكل أو بآخر بتقديم خدمة لبلدهم ولشعبهم..
وهذا هو نوع من الضمان الاجتماعي المعمول به في بلاد الغرب، والمفقود في بلاد الإسلام غالباً.
قال رسول الله صلي الله عليه و اله:
?أيها الناس من ترك مالا فلأهله وورثته، ومن ترك كلّا أو ضياعا فعلي وإلي?().
وفي بعض الروايات: ?ومن ترك دينا فعلي?()
وعن عطاء عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك، إن علي ديناً إذا ذكرته فسد علي ما أنا فيه؟
فقال عليه السلام: ?سبحان الله، وما بلغك أن رسول الله ? كان يقول في خطبته: من ترك ضياعاً فعلي ضياعه، ومن ترك ديناً فعلي دينه، ومن ترك مالاً فلورثته، فكفالة رسول الله صلي الله عليه و اله ميتاً ككفالته حياً، وكفالته حياً ككفالته ميتاً?..
فقال الرجل: نفست عني جعلني الله فداك().
وقال أبو عبد الله عليه السلام قال: ?قال رسول الله صلي الله عليه و اله: أيما مؤمن أو مسلم، مات وترك ديناً لم يكن في فساد ولا إسراف فعلي الإمام أن يقضيه، فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك؛ إن الله تبارك وتعالي يقول:
?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ?() الآية فهو من الغارمين وله سهمٌ عند الإمام فإن حبسه فإثمه عليه?().
وجاء في بعض الروايات أنه وبسبب هذه المقولة من رسول الله? أسلم عامة اليهود؛ لأن معني ذلك أنه لو مات أحد وعليه دين فإن الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله هو الذي يقضي دينه، ولو ترك عيالاً دون معيل فإن الرسول الأعظم? هو كفيلهم، ولهذا أسلم عامة اليهود لأنهم عرفوا وتيقّنوا أن وعود الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله
لهم ستأخذ محلها للتطبيق قطعاً.
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ?إن النبي صلي الله عليه و اله قال: أنا أولي بكل مؤمن من نفسه، وعلي أولي به من بعدي، فقيل له: ما معني ذلك؟ فقال: قول النبي صلي الله عليه و اله: من ترك ديناً أو ضياعاً فعلي، ومن ترك مالا فلورثته، فالرجل ليست له علي نفسه ولايةٌ إذا لم يكن له مالٌ، وليس له علي عياله أمرٌ ولا نهيٌ إذا لم يجر عليهم النفقة، والنبي وأمير المؤمنين ? ومن بعدهما ألزمهم هذا، فمن هناك صاروا أولي بهم من أنفسهم، وما كان سبب إسلام عامة اليهود إلا من بعد هذا القول من رسول الله صلي الله عليه و اله وإنهم آمنوا علي أنفسهم وعلي عيالاتهم?().
فلو نظرنا بإمعان إلي حديث الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله والذي جعل اليهود يعتنقون الدين الإسلامي، لرأينا وقتنا الحاضر عكس ما قد جري؛ فإن الغربيين يطبقون بعض مصاديق حديث الرسول صلي الله عليه و اله ويشجعون الإعمار والتأسيس والتقدم، بإعطاء نصف كلفة المشاريع لأجل ازدياد المؤسسات الخدمية والاجتماعية والدينية والتقدم الحضاري، فيكون مدعاة لجلب الناس إلي المعتقدات الغربية وتبهرهم الحضارة، في حين أن الإسلام هو أساس الحضارات، وقد استفاد منه غيرنا ونحن نعيش في ما يسمي بالعالم الثالث بعدما كنا نحن أسياد العالم.
من أهم ما يشترط في المصلحين أن يتحلوا بروح التضحية في سبيل الله وفي خدمة الآخرين.
كان الميرزا (علي آغا)() نموذجاً فريداً في كل تصرفاته، وقد نقل أحد تلامذته هذه القصة حيث قال:
بينما كنت أمشي في أحد الأيام في سوق الخضار في النجف الأشرف، رأيت الميرزا (علي آغا) وهو يشتري الخس، وعندما اقتربت منه فإذا به
يختار من الخس ما هو رديء وذابل، فقلت مع نفسي: ربما لديه حيوان داجن في داره ويريد أن يأخذ هذا الخس علفاً له، ولما سألته عن سبب اختياره للخس الرديء؟
أجابني: سأخبرك ولا يحق لك أن تنقل هذا الخبر عني للآخرين ما دمت حياً، والحقيقة هي أنني اختار الخس الرديء الذابل لأني أريد أن أدخل السرور علي قلب البائع؛ وذلك لأن الناس يأتون ويختارون من الخس ما هو جيد وسالم، ويبقي هذا الخس الرديء دون طالب، ولربما سبّب ذلك لهذا البائع خسارة ما!!
يا تري كم هو عدد هؤلاء الرجال اليوم بين المسلمين، الذين يفكرون في الآخرين قبل أن يفكروا في أنفسهم، ويهتموا لنفع الآخرين دون أنفسهم؟!
قال الإمام الصادق عليه السلام: ?من أحب الأعمال إلي الله عزوجل إدخال السرور علي المؤمن، إشباع جوعته، أو تنفيس كربته، أو قضاء دينه?().
سبق أن قلنا بأن ترويض النفس ومخالفة الهوي شرط للإصلاح، وقد كان والدنا (أعلي الله مقامه)() من العلماء الذي يسعون دائماً إلي بناء النفس وترويضها بما يرضي باريها، وله قصص كثيرة في هذا الباب، وكان ? ينشد الكثير من الشعر، ولكن للأسف الشديد وقع أغلب ما كتبه بيد طغاة البعث في العراق() ولا يعرف مصيرها حتي الآن، ومن جملة شعره قصيدة تقرب أبياتها المائتين في مدح الإمام صاحب الزمان (أرواحنا لمقدمه الفداء)، وكانت القصيدة بائية ومن أبياتها:
أري وجد نفسي مستطيل الجوانب
وفيض دموعي مستهل الذوائب
وفي الصدر من نار الفراق شرارة
يفور لظاها في زوايا الترائب
وقال ? في قصيدة أخري:
يا رب إنا من نبات نعمتك
فلا تصيرنا حصاد نقمتك
ونقل لي بعض الثقاة أن الوالد ? كان يذهب إلي المقبرة ويدخل قبراً خالياً، وينام فيه ليتذكر القبر وأحواله، وكان يفترض أنه الميت، ثم
يقول بصوت عال: ?رَبِّ ارْجِعُونِ ? لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا
تَرَكْتُ? () وكان يبكي من خوف الله وخوف القبر كثيرا، ثم ينادي نفسه ويقول: يا فلان لم يجيبوك ب ?كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا ? بل أرجعوك! فاعمل صالحا واستعد لآخرتك.
الإنسان يتمكن أن يقوي جسمه ونفسه حتي لا تؤثر فيهما الأهواء والشهوات، كما يتمكن أن يسيطر علي الطبيعية بزمام العلم، حتي لاتطغي عليه وقد جعل سبحانه وتعالي الكون مسخراً للإنسان، لا أنه جعل الإنسان مسخراً للكون، حيث قال تعالي: ?أَلَمْ تَرَوْاْ أَنّ اللّهَ سَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ?().
وقال سبحانه: ?وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَي آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ?(). هذا بالإضافة إلي الأسباب الغيبية التي هي من وراء الماديات.
تبين مما سبق بعض مقومات الإصلاح الاجتماعي والسبل الكفيلة لتجديد وإعادة المجتمع الإسلامي نحو الخير والتقدم والفضيلة، فإن العالم اليوم استبدت بقيادات غير رشيدة، وحكومات فاسدة، وهي من أهم أسباب تأخر المجمتع الإسلامي.
علما بأن الإصلاح الاجتماعي لا يقتصر علي البلدان الإسلامية، فالواجب الشرعي والإنساني يقتضي السعي نحو المجتمع الصالح للبشرية جمعاء؛ لأن الإسلام هو دين البشرية علي الإطلاق، فيلزم علي الدعاة إرشاد الناس وهدايتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالي:
?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ?().
وإعادة المجتمع نحو الصلاح تكون بإذن الله تعالي بأسس خمسة وهي:
فعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال: ?ونظم أمركم?().
ولأن أساس كل تنظيم وإصلاح هو الجماهيرية، فلابد من التوجه إلي الجماهير، لأنها المبدأ والقاعدة، وكل حركة اتخذت الصنمية والفردية والأنانية والاستبداد انفصلت عن الجماهير وكان مصيرها السقوط الحتمي.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته للحسن عليه السلام قال: ?اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك?().
التوعية المناسبة والمواكبة للعصر بعد الإيمان بالله تعالي وبرسله عليهم السلام هي الرشد والنضوج والفهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيرها من الأمور المرتبطة بإدارة البلاد والعباد، فقد ورد في الزيارة الجامعة لأئمة أهل البيت عليهم السلام: ?وساسة العباد?().
من شروط إصلاح المجتمع اتخاذ منهج السلم واللاعنف. أما العنف فهو سبب للفساد والإفساد.
قال جل اسمه: ?يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَي صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ?().
وقال سبحانه: ?وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَي إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ
مُؤْمِناً?().
وقال تعالي: ?هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ
السّلاَمُ ?().
وقال جل وعز: ?وَاللهُ يَدْعُو إِلَي دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَي صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ?(). ودار السلام من أسماء الجنة.
وقال تبارك وتعالي: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ?().
وقال عزوجل: ?فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا?().
وقال تعالي: ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ?().
نعم، فإن السلام نبتة لا تقلعها العواصف، وشعار الإسلام:
?السلام?، وحتي الدولة المرهوبة الجانب خير لها أن تحل مشاكلها بسلام؛ لأنه أحمد عاقبة، وأهنأ فراقاً، والقوة وضعت لأقصي حالات الاضطرار؛ ولذا نري شعار الأنبياء عند دعوتهم (السلام)، وقد روي عن المسيح عليه السلام في الإنجيل: ?أحبوا أعداءكم، وصلوا قاطعيكم، واعفوا عن ظالميكم، وباركوا علي لاعنيكم?().
وقال رسول الله صلي الله عليه و اله: ?السلام اسم من أسماء الله، فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مرّ بالقوم فسلّم عليهم فإن لم يردوا عليه، يرد عليه من هو خير منهم وأطيب?().
وقال صلي الله عليه و اله: ?ما فشا السلام في قوم إلاّ آمنوا من العذاب، فإن فعلتموه دخلتم الجنة? (). وقال صلي الله عليه
و اله: ?أفشوا السلام تسلموا? ().
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: ?وأفشوا السلام في العالم، وردوا التحية علي أهلها بأحسن منها?().
وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: ?قال النبي صلي الله عليه و اله للمسلمين وهم مجتمعون حوله: أيها الناس،.. أحيوا القصاص، وأحيوا الحق، ولا تفرقوا، وأسلموا وسلموا تسلموا? ().
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: ?أفشوا سلام الله، فإن سلام الله لاينال الظالمين?().
وعن أحدهما ? قال: ?ما طلعت الشمس بيوم أفضل من يوم الجمعة، وإن كلام الطير فيه إذا التقي بعضها بعضاً: سلام سلام، يوم صالح?().
وهذا أمر واقعي سهل المنال إن وعت الأمة ذلك الأمر وعياً سياسياً دينياً، فإن في هذا الأسلوب تحكيم عبر الانتخابات الحرة للفقهاء المراجع الذين هم نواب الأئمة عليهم السلام بملء حرية المجتمع، بدون ديكتاتورية الدولة وتسلطها علي المرجعية، وبمعاونة أهل الخبرة الذين يعتمد عليهم المجتمع، لقوله تعالي: ?وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ?()، وحينئذ لا يكون ضغط في التقليد أيضاً.
فإذا أراد جماعة من المجتمع أن يقلدوا مجتهدا آخر غير من هو في السلطة العليا يكون لهم ذلك بدون مزاحم.
وأبناء المجتمع هم الذين يختارون هذه السلطة العليا (شوري الفقهاء المراجع) بالترشيح، وبمعاونة أهل الخبرة من أهل العلم والعدالة وأيضاً زعماء الأحزاب الحرة الإسلامية، وبدون تدخل من السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية لأنهم تحت السلطة العليا (شوري الفقهاء المراجع)().
فكل محتاج إلي غيره منقاد له.
نعم الاحتياج الاجتماعيً الطبيعيً لا مانع منه، فأبناء المجتمع بعضهم يحتاج البعض لإمرار الحياة والمعاش، يقول الشاعر:
والناس بالناس من حضر وبادية
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم()
أما الحاجة التي تسبب أسر صاحبها وفقدان حريته، سواء كانت الحاجة شخصية أم عامة، علي صعيد الفرد أم الأمة، فهي كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: ?احتج إلي من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل علي من شئت تكن أميره?().
إن جميع البشر من بدوٍ ومن حضرٍ بعضهم يخدم بعضاً؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يوفّر كل شيء بمفرده ما لم يتعاون مع الآخرين، فالحاجة الاجتماعية حاجة متبادلة وضرورية لإقامة المجتمع الإنساني وديمومته، أما الحاجة التي تفقد شخصية صاحبها، وتجعله ينقاد إلي الآخرين، ويستسلم لإرادتهم، فهي التي لا ينبغي أن تكون عند المؤمن؛ لأنها تذله وتدمر شخصيته، وتسلب صفة القيادة عنده، وتفقده استقلاليته، وهي التي قال عنها أمير المؤمنين?:
?احتج إلي من شئت تكن أسيره?.
ونحن اليوم حينما نحتاج إلي الغرب أو الشرق، ولا نعتمد علي مؤهلاتنا وقدراتنا الذاتية، ولا نعتمد علي أنفسنا، فإن ذلك هو الذل والأسر ذاته، فيلزم علينا أن نحرر شعوبنا الإسلامية، وذلك بتنمية قدراتنا وطاقاتنا وتحقيق الاكتفاء الذاتي().
قال رسول الله صلي الله عليه و اله: ?إذا أعسر أحدكم فليضرب في الأرض ويبتغي من فضل الله ولا يغم نفسه?().
وروي: أن سلمان المحمدي() كان يسف الخوص وهو أمير علي المدائن ويبيعه ويأكل منه، ويقول: لا أحب أن آكل إلا من عمل يدي، وقد كان تعلم سف الخوص من المدينة().
وفي كتابه إلي عمر بن الخطاب قال: وأما ما ذكرت أني أقبلت علي سف الخوص وأكل الشعير، فما هما مما يعير به مؤمنٌ ويؤنب عليه. وأيم الله يا عمر، لأكل الشعير وسف الخوص والاستغناء عن رفيع المطعم والمشرب، وعن غصب مؤمنٍ حقه، وادعاء ما ليس له بحق، أفضل وأحب إلي الله عز وجل وأقرب للتقوي، ولقد رأيت رسول الله صلي الله عليه و اله إذا أصاب الشعير أكل وفرح به، ولم يسخطه().
وسأل الإمام الصادق? عن معاذ بياع الكرابيس()؟
فقيل له: ترك التجارة.
فقال: ?عمل عمل الشيطان؛ من ترك التجارة ذهب ثلثا عقله، أما علم أن رسول الله صلي الله عليه و اله لما قدمت عير من الشام فاشتري منها واتجر وربح فيها ما قضي دينه?.()
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ?ما غدوة أحدكم في سبيل الله بأعظم من غدوة يطلب فيها لولده وعياله ما يصلحهم?.()
وقال عليه السلام: ?الشاخص في طلب الرزق الحلال كالمجاهد في سبيل الله?().
وروي أن رسول الله صلي الله عليه و اله وقف بغزوة تبوك بشاب جلد يسوق أبعرة سمانا، فقال أصحابه: يا رسول الله، لو
كان قوة هذا وجلده وسمن أبعرته في سبيل الله، لكان أحسن! فدعاه رسول الله ? فقال: ?أرأيت أبعرتك هذا أي شي ء تعالج عليها؟?.
قال: يا رسول الله، لي زوجة وعيال، وأنا أكتسب بها ما أنفقه علي عيالي، فأكفهم عن الناس وأقضي دينا علي.
قال: ?لعل غير ذلك؟?.
قال: لا، فلما انصرف قال رسول الله ?: ?لئن كان صادقا إن له لأجراً مثل أجر الغازي وأجر الحاج وأجر المعتمر?().
وقال صلي الله عليه و اله: ?تحت ظل العرش يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله رجل ضارب في الأرض يطلب من فضل الله ما يكف به نفسه ويعود به علي عياله?().
وحكي عن داود عليه السلام: أنه كان يتوخي من تلقاه من بني إسرائيل فيسأله عن حاله()؟ فيثني عليه، حتي لقي رجلاً فقال: نعم العبد لولا خصلة فيه، فقال: ?وما هي؟? قال: إنه يأكل من بيت المال، فبكي داود عليه السلام وعلم أنه قد أتي، فأوحي الله عزوجل إلي الحديد: ?أن لن لعبدي داود?. فألان الله له الحديد، فكان يعمل كل يوم درعا يبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة وستين درعاً فباعها بثلاث مائة وستين ألفاً، فاستغني عن بيت المال().
وقال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: ?كان أمير المؤمنين عليه السلام يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة ? تطحن وتعجن وتخبز?().
وروي أن رجلا سأل الإمام الصادق عليه السلام فقال: أسمع قوما يقولون: إن الزراعة مكروهة؟ فقال عليه السلام: ?ازرعوا واغرسوا، فلا والله ما عمل الناس عملا أحل ولا أطيب منه، والله ليزرعن وليغرسن النخل بعد خروج الدجال?().
إذاً، يلزم علينا الاهتمام كثيرا بموضوع الإكتفاء الذاتي، ودراسته من كافة الجوانب، لننهض بالمجتمع الاسلامي اقتصادياً واجتماعيا.
كما يلزم علينا أن نتجنب الأخطاء في العمل عند السعي لبناء
المجتمع، فلا نفسح المجال لدخول الانتهازية والنفعية التي لا تؤمن بها الجماعة، وأن يكون البرنامج مفهوما ومعلوما لدي الجميع، بحيث لا يكون الهدف منه مجهولا وغامضا، ورفع حاجز الخوف المسيطر علي الناس نتيجة التجارب السابقة التي كانت في الساحة، ودراسة الأخطاء الماضية، التي أوقعت الجماعات الأخري في متاهات التبعية والانقياد إلي القوي المهيمنة المستبدة والابتعاد عن الجماهير.
ولابد من التمتع بكل أشكال الحرية عند تطبيق الأسس الخمسة المذكورة؛ وهي: (التنظيم، والتوعية، والسلم، وشوري المراجع، والإكتفاء الذاتي) إذ إن الأصل في الإنسان الحرية، وقد دعم الإسلام هذا الأصل، كما جاء في قوله تعالي: ?وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ?() إلا في المحرمات التي نهي الإسلام عنها وهي محددة في الشريعة، وبذلك ترتفع كل أشكال التبعية عند التطبيق، ويتنعم المجتمع الإسلامي بالسعادة والرفاه، نتيجة هذا الإصلاح والتطبيق العملي للأسس والمبادئ الراسخة التي جاء بها الإسلام.
وعند تطبيق هذه البنود الخمسة: (التنظيم، والتوعية، والسلم، وشوري المراجع، والإكتفاء الذاتي) علي ما مر من بيانها واشتمالها علي الإيمان بالله والرسول صلي الله عليه و اله والكتاب والعترة عليهم السلام، تتمكن الأمة الإسلامية بإذن الله تعالي من الإصلاح الاجتماعي ولو بالتدريج، وما ذلك علي الله بعزيز.
? اللهم صل علي محمد خاتم الأنبياء، وآله البررة الأتقياء، وعلي عترته النجباء، صلاة معروفة بالتمام والنماء، وباقية بلا فناء وانقضاء.
اللهم رب العالمين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، أسألك من الشهادة أقسطها، ومن العبادة أنشطها، ومن الزيادة أبسطها، ومن الكرامة أغبطها، ومن السلامة أحوطها، ومن الأعمال أقسطها، ومن الآمال أوفقها.. ومن الهمم أعلاها، ومن القسم أسناها، ومن الأرزاق أغزرها، ومن الأخلاق أطهرها، ومن المذاهب أقصدها، ومن العواقب أحمدها ومن الأمور أرشدها ومن التدابير أوكدها.. اللهم إني أسألك
قلبا خاشعا زكيا، ولسانا صادقا عليا، ورزقا واسعا هنيئا، وعيشا رغدا مريا.. ?().
قال تعالي: ?إِنْ أُرِيدُ إِلاَ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ?().
وقال عزوجل: ?وَقَالَ مُوسَي لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ?().
وقال جل وعلا: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ?().
قال عزوجل: ?وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ? فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ? قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ? وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا?().
وقال سبحانه: ?إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنْفُسِهِمْ?().
وقال جل وعلا: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ?().
قال تعالي: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ
عَالِمِينَ?().
وقال عز وجل: ?وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ?().
وقال سبحانه: ?وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّي نُؤْتَي مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ?().
قال جل وعلا: ?كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ?().
وقال تعالي: ?وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَ مَا سَعَي?().
وقال عزوجل: ?وَإِنَّ كُلاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ?().
وقال سبحانه: ?وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ?().
قال تعالي: ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ?().
وقال عزوجل: ?وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ?().
قال رسول الله صلي الله عليه و اله: ?أفضل الصدقة إصلاح ذات البين?().
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ?من أصلح الأضداد بلغ المراد?().
وقال الإمام الحسين عليه السلام: ?وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلي الله عليه و اله أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام فمن قبلني بقبول الحق فالله أولي بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتي يقضي الله بيني وبين القوم..?().
قال رسول الله صلي الله عليه و اله: ?حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر?().
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ?جاهد نفسك وحاسبها محاسبة الشريك شريكه، وطالبها بحقوق الله مطالبة الخصم خصمه، فإن أسعد الناس من انتدب لمحاسبة نفسه?().
وقال الإمام الصادق عليه السلام: ?من لم يجعل لله له من نفسه مواعظ فإن مواعظ الناس لن تغني عنه شيئاً? ().
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ?..فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هديّ وهدي، فأقام سنة معلومة وأمات بدعه مجهولة..?().
وقال عليه السلام أيضاً: ?أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش..?().
قال رسول الله صلي الله عليه و اله: ?يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، إني رسول الله إليكم، وإني شفيق عليكم لا تقولوا: إن محمداً منا، فوالله ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلا المتقون.. ألا وإني قد أعذرت فيما بيني وبينكم وفيما بين الله عز وجل وبينكم وإن ?لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ
عَمَلُكُم?()? ().
وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: ?من رقي درجات الهمم عظمته الأمم?().
وقال الإمام الصادق عليه السلام: ?أقصر نفسك عما يضرها من قبل أن تفارقك، واسع في فكاكها كما تسعي في طلب معيشتك، فإن نفسك رهينة بعملك?().
وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: ?ينبغي أن يكون التفاخر بعلي الهمم?().
قال رسول الله صلي الله عليه و اله: ?لا مظاهرة أوثق من المشاورة ولا عقل كالتدبير?().
وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: ?شاور في حديثك الذين يخافون الله، وأحبب الإخوان علي قدر التقوي..?().
وقال عليه السلام: ?لا تستبد برأيك فمن استبد برأيه هلك?().
وقال الإمام الصادق عليه السلام: ?لا يطمعن القليل التجربة المعجب برأيه في رئاسة?().
() سورة التوبة: 122.
() سورة الزمر: 17-18.
() سورة النساء: 114.
() الكافي: ج2 ص209 باب الإصلاح بين الناس ح1.
() وسائل الشيعة: ج18 ص441 ب1 ح24007.
() الكافي: ج2 ص209 باب الإصلاح بين الناس ح3.
() سورة النساء: 114.
() في بعض النسخ: (ليصرف). انظر الاختصاص: ص157 من كتاب ابن أبي دأب في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام.
() معركة أحد: حدثت في السنة الثالثة من الهجرة، وكان سببها أن قريشاً لما رجعت من بدر الكبري إلي مكة، وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر قال أبو سفيان: يا معشر قريش، لا تدعوا نساءكم يبكين علي قتلاكم؛ فإن البكاء والدمعة إذا خرجت أذهب الحزن والحرقة والعداوة لمحمد صلي الله
عليه و اله ويشمت بنا محمد صلي الله عليه و اله وأصحابه. فلما أرادوا أن يغزوا رسول الله صلي الله عليه و اله ساروا إلي حلفائهم من كنانة وغيرهم وجمعوا الجموع والسلاح، وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس وألف راجل، وأخرج أبوسفيان زوجته هند بنت عتبة، وخرجت معهم عمرة بنت علقمة الحارثية. فلما بلغ رسول الله صلي الله عليه و اله ذلك جمع أصحابه وأخبرهم: أن الله قد أخبره أن قريشا قد تجمعت تريد المدينة، وحث أصحابه علي الجهاد والخروج. فضرب رسول الله صلي الله عليه و اله عسكره مما يلي طريق العراق، وقعد عبد الله بن أبي وجماعة من قومه، ولم يخرجوا للقتال. ووافت قريش إلي أحد وهو جبل قريب من المدينة، وكان رسول الله صلي الله عليه و اله قد عدّ أصحابه، وكانوا سبعمائة رجل، فوضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة علي باب الشعب وأشفق أن يأتي كمينهم في ذلك المكان، فقال رسول الله صلي الله عليه و اله لعبد الله بن جبير وأصحابه: ?إن رأيتمونا قد هزمناهم حتي أدخلناهم مكة فلا تخرجوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتي أدخلونا المدينة فلا تبرحوا، والزموا مراكزكم? ولما نظر أصحاب عبد الله بن جبير إلي أصحاب رسول الله صلي الله عليه و اله ينهبون سواد القوم، قالوا لعبد الله بن جبير: تقيمنا هاهنا، وقد غنم أصحابنا، ونبقي نحن بلا غنيمة؟ فقال لهم عبد الله: اتقوا الله فإن رسول الله صلي الله عليه و اله قد تقدم إلينا أن لا نبرح، فلم يقبلوا منه، وأقبل ينسل رجل فرجل حتي أخلوا من مركزهم، وبقي عبد الله بن جبير في اثني عشر
رجلا، وقد كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العدوي من بني عبد الدار، ضربه أمير المؤمنين عليه السلام علي فخذيه فقطعهما جميعا فسقط علي ظهره، وسقطت الراية، فذهب علي عليه السلام ليجهز عليه فحلفه بالرحم فانصرف عنه، فقال المسلمون: ألا أجهزت عليه؟ قال: ?قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبدا?، وأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله علي عليه السلام وسقطت الراية علي الأرض، فكان كلما يأخذها أحد المشركين كان يقتله أمير المؤمنين عليه السلام، فقتل أمير المؤمنين عليه السلام يومها تسعة من بني عبد الدار، وكثير من غيرهم. وانحط خالد بن الوليد علي عبد الله بن جبير وقد فر أصحابه وبقي في نفر قليل فقتلوهم علي باب الشعب، واستعقبوا المسلمين فوضعوا فيهم السيف، ونظرت قريش في هزيمتها إلي الراية قد رفعت فلاذوا بها، وأقبل خالد بن الوليد يقتل المسلمين، فانهزم أصحاب رسول الله صلي الله عليه و اله هزيمة قبيحة، وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كل وجه، فلما رأي رسول الله صلي الله عليه و اله الهزيمة كشف البيضة عن رأسه، وقال: ?إني أنا رسول الله، إلي أين تفرون عن الله وعن رسوله؟?. وبقيت مع رسول الله صلي الله عليه و اله نسيبة بنت كعب المازنية، وكانت تخرج مع رسول الله صلي الله عليه و اله في غزواته تداوي الجرحي، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع، فحملت عليه فقالت: يا بني، إلي أين تفر عن الله وعن رسوله؟ فردته، فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها فحملت علي الرجل فضربته علي فخذه فقتلته، فقال رسول الله صلي الله عليه و اله: ?بارك الله عليك يا نسيبة? وكانت تقي رسول الله
صلي الله عليه و اله بصدرها وثدييها ويديها حتي أصابتها جراحات كثيرة، فقال رسول الله صلي الله عليه و اله: ?لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان?. وانقطع سيف أمير المؤمنين عليه السلام فجاء إلي رسول الله صلي الله عليه و اله فقال: ?يا رسول الله، إن الرجل يقاتل بالسلاح وقد انقطع سيفي?. فدفع إليه رسول الله صلي الله عليه و اله سيفه ?ذا الفقار? فقال: ?قاتل بهذا?، ولم يكن يحمل علي رسول الله صلي الله عليه و اله أحد إلا يستقبله أمير المؤمنين عليه السلام، فإذا رأوه رجعوا فانحاز رسول الله صلي الله عليه و اله إلي ناحية أحد، فوقف وكان القتال من وجه واحد، وقد انهزم أصحابه، فلم يزل أمير المؤمنين عليه السلام يقاتلهم حتي أصابه في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة فتحاموه، وسمعوا مناديا ينادي من السماء: ?لا سيف إلا ذوالفقار، ولا فتي إلا علي?. فنزل جبرئيل علي رسول الله صلي الله عليه و اله فقال: ?هذه والله المواساة يا محمد?، فقال رسول الله صلي الله عليه و اله: ?لأني منه وهو مني? وقال جبرئيل: ?وأنا منكما?. وكان حمزة بن عبد المطلب عليه السلام يحمل علي القوم، فإذا رأوه انهزموا
ولم يثبت له واحد، وكانت هند بنت عتبة قد أعطت وحشيا عهداً: لئن قتلت محمداً أو علياً أو حمزة، لأعطيتك رضاك. فقتل وحشي حمزة غدراً ومثلت هند بجثمانه أبشع تمثيل. وتراجعت الناس فصارت قريش علي الجبل، فقال أبو سفيان وهو علي الجبل: أعل هبل، فقال رسول الله صلي الله عليه و اله لأمير المؤمنين عليه السلام: ?قل له: الله أعلي وأجل?. فقال: يا علي، إنه قد أنعم علينا، فقال علي
عليه السلام: ?بل الله أنعم علينا? ثم قال أبو سفيان: يا علي، أسألك باللات والعزي، هل قتل محمد؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ?لعنك الله ولعن الله اللات والعزي معك، والله ما قتل محمد صلي الله عليه و اله وهو يسمع كلامك?، فقال: أنت أصدق، لعن الله ابن قميئة زعم أنه قتل محمداً.
للتفصيل انظر تفسير القمي: ج1 ص110 سورة آل عمران، غزوة أحد.
() سورة آل عمران: 146.
() سورة آل عمران: 145.
() بحار الأنوار: ج40 ص97 ب91 ح117.
() الأبيات للشاعر ابن الرومي (221ه 283ه) علي بن العباس بن جريج أو جورجيس، الرومي، شاعر كبير من طبقة بشار والمتنبي، رومي الأصل، كان جده من موالي بني العباس، ولد ونشأ ببغداد ومات بها مسموماً.
() سورة آل عمران: 110.
() راجع تقريب القرآن إلي الأذهان: ج4 ص22 سورة آل عمران.
() أي الإمام موسي بن جعفر عليه السلام.
() سورة التحريم: 6.
() مستدرك الوسائل: ج12 ص200 ب8 ح13879.
() مستدرك الوسائل: ج12 ص201 ب8 ح13881.
() سورة التحريم: 6.
() سورة طه: 132.
() سورة مريم: 54 55.
() مستدرك الوسائل: ج12 ص201 ب8 ح13882.
() الأبيات للشاعر أحمد تقي الدين (1306 1354ه).
() الأبيات للشاعر حافظ إبراهيم المولود في مصر (1288 1351ه) لقب بشاعر النيل.
() مستدرك الوسائل: ج15 ص180 ب70 ح17933.
() الرأسمالية: نظام اقتصادي يتميز بنمط من الإنتاج علي تقسيم المجتمع إلي طبقتين أساسيتين: طبقة مالكي وسائل الإنتاج (الأرض، والمواد الأولية، وآلات وأدوات العمل) سواء كانت مكونة من أفراد أو شركات أو مؤسسات الذين يشترون قوة العمل لتشغيل مشاريعهم. وطبقة البروليتاريا المجبرة علي بيع قوة عملها؛ لأن ليس لأفرادها وسائل للإنتاج، ولا رأس المال الذي يتيح لهم العمل لحسابهم الخاص.
وإلي جانب هاتين الطبقتين طبقات اجتماعية أخري من
ضمن إطار الرأسمالية، وهم صغار الحرفيين وصغار الفلاحين وصغار التجار. وعلي رغم ذلك فليس بوسع الرأسمالية البقاء والازدهار إلا بوجود الميزتين الأساسيتين المشار إليهما: احتكار وسائل الإنتاج لمصلحة طبقة من المالكين، ووجود طبقة محرومة من وسائل العيش والثروة الطبيعية، وهي مضطرة لبيع قوة عملها لتأمين عيشها، وهذا النمط الرأسمالي يولد ظروف وجودها. وقد مرت الرأسمالية بثلاث مراحل تاريخية ارتبطت كل واحدة منها بثورة صناعية وتبدلات عميقة في العلاقات بين الطبقات الاجتماعية. وقد ظهرت آلات العمل المسيرة بقوة البخار، وفتحت الفروع الأساسية للمصانع كصناعة النسيج وصناعة الفحم وصناعة صهر الحديد وغيرها من الصناعات والاستثمارات، حيث تمركزت رؤوس الأموال خاصة في الفروع الصناعية الجديدة، ولبعض الشركات الكبري المهيمنة علي الإنتاج ووسائله. والثورة التكنولوجية التي غذتها الحروب التي كانت تعصف بالبلدان الأوربية، كالحرب العالمية الأولي، والحرب العالمية الثانية، والحروب الباردة بين القطبين المتناحرين روسيا وأمريكا. وفي أحداث هذه الطفرة التكنولوجية فقد حلت الآلات الأوتوماتيكية محل الآلات غير الأوتوماتيكية، وحل الطيران وصناعة الكومبيوتر والمنشآت الكهربائية والبتروكيمياوية محل صناعة الحديد والمنشآت الميكانيكية. فتلك عوامل مهمة ساعدت علي نهوض النظام الرأسمالي في العالم.
راجع موسوعة السياسة: ج2 ص788 حرف الراء.
() الشيوعية: مذهب سياسي يهدف إلي القضاء علي الرأسمالية والملكية الخاصة. وتعد الشيوعية من أشد المذاهب الاشتراكية تطرفاً، وتتميز بأنها حركة ثورية تري أن تحقق إنشاء مجتمع يتساوي أفراده في الحقوق لا يكون إلا باستعمال القوة المسلحة؛ فهي لذلك تحارب الديمقراطيات وخاصة التي تشجع الرأسمالية.
يرجع ظهور الحركة الشيوعية في روسيا إلي عام 1903م عندما انشق أتباع كارل ماركس إلي معسكرين: إصلاحي وراديكالي بزعامة لينين. فلما حاز هذا الأخير الأغلبية عرف بحزب الأغلبية التي يعبر عنها في الروسية بكلمة: بولشفيك، ومن هذا قامت العلاقة
اللفظية بين البلشفية والشيوعية التي هي مذهب سياسي. تميزت سياسة لينين ومن بعده تروتسكي بمحاولة نشر المبادئ الشيوعية في العالم باستخدام القوة، وذلك بتشجيع الثورة بين الطبقات العاملة في المجتمعات الرأسمالية كما وضحه ماركس في الإعلان الشيوعي لهذا تناهض الشيوعية القوميات والديانات، وتطلب من الشيوعي الولاء التام لعقيدته ولزعمائه. كما أصبحت سياسة الدول الرأسمالية لاسيما الولايات المتحدة تهدف إلي حصر الشيوعية، والعمل علي وقف تسللها وغل يديها عن اكتساب مناطق نفوذ جديدة، فأقامت الأحلاف والقواعد العسكرية علي حدود الدول الشيوعية، كما منحت الدول التي يخشي وقوعها في نطاق نفوذ الشيوعية قروضاً وإعانات لرفع مستواها الاجتماعي أو لتقوية دفاعاتها، وقد كانت الحرب الكورية والفيتنامية أمثلة لهذا الصراع العقائدي بين الرأسمالية والشيوعية.
تعرف الدول الشيوعية بالدول الاشتراكية، في حين أطلق الغرب عليها اسم دول الستار الحديدي أو الدول البلشفية أو الدول الحمراء، ومع أن اتحاد الجمهوريات السوفيتية يعتبر قاعدة العالم الشيوعي إلا أن المبادئ الشيوعية كما صورها ماركس لم توضع موضع التطبيق الكامل فيها، بل أن الساسة السوفييت بعد وفاة لينين وفي مقدمتهم ستالين لم يروا ضيراً في الانحراف عن المبادئ الماركسية بعض الشيء، وانتهاج سياسة أخري في معالجة التطبيقات الاقتصادية كحقوق الملكية الخاصة، ومن ثم بدأ الانشقاق العقائدي في المعسكر الشيوعي، فاعتبرت الصين الشعبية ومعها ألبانيا أن الاتحاد السوفيتي قد تنكر للمبادئ الماركسية الأصيلة، كما سبق أن كان الانشقاق في المعسكر الشرقي بسبب الخلاف حول مدي تبعية الدول الاشتراكية لموسكو، وعلي هذا الأساس نشبت الحرب الباردة في داخل المعسكر الشيوعي بين الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا. انظر القاموس السياسي: ص704 «شيوعية».
ووصلت الشيوعية إلي البلاد الإسلامية ومنها العراق، حيث تغلغلت الأفكار الشيوعية بين أوساط البسطاء من الناس عبر عملاء الاستعمار،
الذين طبّلوا وزمروا كثيراً لتلك الأفكار المزيفة والشعارات الفارغة، فأخذ البعض يطالب بتحقيق ما يسمي بالعدالة الاجتماعية وفق مبدأ الشيوعية، وعلي اثر ذلك شعر الإمام الراحل? الذي كان عمره الشريف لم يتجاوز الثلاثين والكثير من العلماء بمسئوليتهم تجاه تلك الأفكار الفاسدة والآراء المنحرفة، فتصدوا لها عبر الحكمة والموعظة الحسنة ونشر الوعي الديني، موضحين أن الإسلام وحده هو القادر علي تحقيق العدالة الاجتماعية. وقد ذكر الإمام الراحل ? بعض تلك الأساليب التي اتبعها في مواجهة الشيوعية في الجزء الأول من كتابه القيم (تلك الأيام) نشر مؤسسة الوعي الإسلامي، ووصف بعض ما مر علي المجتمع نتيجة ظهور تلك الأفكار.
للتفصيل انظر من مؤلفات الإمام الشيرازي الراحل ?: كتاب (تلك الأيام) ص126. و(الفقه: السياسة): ج106، و(مباحثات مع الشيوعيين)، و(القوميات في خمسين سنة)، و(ماركس ينهزم)، وغيرها.
() سورة النساء: 69.
() سورة الأنبياء: 75.
() تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص121.
() غرر الحكم ودرر الكلم: ص240 ق3 ب2 ف1 ح4847.
() غرر الحكم ودرر الكلم: ص242 ق3 ب2 ف1 ح4909.
() وسائل الشيعة: ج15 ص163 ب1 ح20216.
() وسائل الشيعة: ج16 ص192 ب22 ح21320.
() تحتل بناية الحضرة الحسينية المقدسة القسم الوسطي من الروضة المطهرة، وهي علي شكل مستطيل طوله (55 مترا) وعرضه (45 مترا) وارتفاع جدرانه الخارجية يبلغ (12مترا) يتوسط القبر المقدس لسيد الشهداء عليه السلام غرفة الضريح التي تعتبر بمثابة قلب الروضة، ويغطي القبر الشريف صندوق فضي ذو سقف ذهبي طوله خمسة أمتار وعرضه أربعة أمتار، أما غرفة الضريح فيبلغ طولها (14 متراً) وعرضها (9 أمتار). وتقوم فوقها قبة مرتفعة ترتكز علي أربع دعامات ضخمة ذات مقاطع مستطيلة طول كل منها (3.50 متر) وعرضها (2،50 متر) وترتفع القبة حوالي (27 متر) عن مستوي أرضية الحضرة
الشريفة، وهي ذات رقبة طويلة تتخللها نوافذ ذات عقود مدببة عددها (12)، وطليت القبة من الخارج بقشرة خفيفة من الذهب، عدا نطاق من البلاط القاشاني نقشت عليه الآيات القرآنية الكريمة، ويتوج الرقبة مخطوط بلون أبيض علي أرضية زرقاء داكنة، وتكسو القبة من الداخل تشكيلات زخرفية رائعة مغطاة بقطع صغيرة من المرايا.
() مستدرك الوسائل: ج13 ص399 ب9 ح15721.
() مستدرك الوسائل: ج13 ص401 ب9 ح15726.
() راجع تهذيب الأحكام: ج6 ص211 ب84 ح11.
() سورة التوبة: 60.
() الكافي: ج1 ص407 باب ما يجب من حق الإمام علي الرعية وحق الرعية علي الإمام ح7.
() الكافي: ج1 ص406 باب ما يجب من حق الإمام علي الرعية … ح6.
() هو السيد الميرزا علي آغا ابن السيد محمد حسن الشيرازي، وهو النجل الثاني للسيد المجدد الشيرازي، عالم كبير وفقيه قدير وورع زاهد، ولد في النجف الأشرف سنة 1287ه، هاجر به والده إلي سامراء سنة 1291ه وهو ابن أربع سنوات، فتربي ونشأ فيها بين العلماء والمجتهدين وكبار طلبة العلم. درس علي أبيه وعدد من العلماء، كالسيد محمد شفيع بن محمد تقي الكازروني، والسيد إسماعيل الصدر وغيرهم. كان السيد الميرزا علي آغا علي سر أبيه في سيرته وورعه ونسكه وزهده وجلالة منزلته، وهو معروف عند مختلف فئات الناس وخاصة عند أهل العلم والتقي والفضيلة. وبعد وفاة والده بسنتين أي في سنة (1314ه) سافر إلي مدينة مشهد الإمام الرضا?، ورجع بعد سنة من الإقامة فيها إلي سامراء، فكان ملازماً لدرس وبحث العالم المجاهد والفقيه الورع الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي ? لسنين طويلة. في سنة (1333ه) ترك سامراء وانتقل إلي مدينة الكاظمية حيث سكنها برهة من الزمن، ثم أقام في النجف الأشرف، ولما توفي الشيخ الميرزا
الشيرازي في كربلاء المقدسة سنة (1338ه) رجع إليه خلق كثير في التقليد وطبع رسالته العملية.
كان له مجلس درس وبحث في الفقه والأصول عامر بفحول العلماء أمثال: آية الله السيد عبد الهادي الشيرازي، وآية الله الميرزا مهدي الشيرازي، وآية الله السيد هادي الميلاني، والعلامة الحجة الشيخ محمد علي الأردوبادي، وغيرهم. وفي خضم الثورة العراقية الكبري ثورة العشرين اقترح عليه بعض العلماء ورؤساء العشائر ممن أسهموا في هذه الثورة بأن يكون هو ملك العراق، لكنه أبي وقال: إن اشتغالي بالعلم أهم عندي من ذلك. توفي ? في النجف الأشرف ليلة الأربعاء (18 ربيع الأول 1355ه) وشيع جثمانه بإجلال وتعظيم، ودفن إلي جوار والده في مقبرته الخاصة المتصلة بباب الطوسي، وأقيمت له مجالس التأبين العديدة في مختلف مدن العراق وإيران والهند وغيرها من البلدان الإسلامية.
له مؤلفات عديدة، أهمها: الرسالة العملية بالعربية، والرسالة العملية بالفارسية، والرسالة العملية بالتركية، ومقدمة كتاب هدية الرازي إلي الإمام الشيرازي..
() الكافي: ج2 ص192 باب إدخال السرور علي المؤمنين ح16.
() هو الميرزا مهدي ابن الميرزا حبيب الله ابن السيد آغا بزرك ابن السيد ميرزا محمود ابن السيد إسماعيل الحسيني الشيرازي، فوالد السيد الميرزا مهدي هو ابن أخ المجدد الشيرازي صاحب ثورة التنباك الشهيرة، ولد في مدينة كربلاء سنة (1304ه) وظل بها إلي سنين شبابه الأولي فدرس علي أساتذتها مقدمات العلوم من نحو وصرف وحساب ومنطق وسطوح الفقه والأصول، ثم سافر إلي سامراء واشتغل فيها بالبحث والتحقيق والتدريس لفترة طويلة، ثم سافر إلي مدينة الكاظمية، وبعدها إلي مدينة كربلاء وبقي فيها فترة من الزمن مواصلاً الدرس والبحث، إلي أن انتقل إلي النجف الأشرف وأقام بها ما يقرب من عشرين عاماً.
درس الخارج علي فحول العلماء والمراجع في
عصره أمثال: السيد الميرزا علي آغا نجل المجدد الشيرازي، والشيخ محمد تقي الشيرازي، والعلامة الآغا رضا الهمداني صاحب مصباح الفقيه، والسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي صاحب العروة الوثقي وغيرهم. وكان يحضر في كربلاء المقدسة بحثاً علمياً في غاية الأهمية يسمي في الحوزة ببحث الكمباني تحت رعاية المرحوم السيد الحاج آغا حسين القمي ? وكان البحث يضم جمعاً من أكابر ومشاهير المجتهدين في كربلاء. بعد وفاة السيد القمي سنة (1366ه) استقل بالبحث والتدريس واضطلع بمسؤولية التقليد والمرجعية الدينية ورجع الناس إليه في أمر التقليد.
له مواقف سياسية شهيرة أهمها: شارك في ثورة العشرين، وفي سنة (1360ه) أفتي بطرد الإنجليز من العراق، وفي نهاية الخمسينات وقف بوجه المد الشيوعي وأصدر فتوي بتكفيرهم، كما وقف بوجه المد الشيوعي في عهد حكومة عبد الكريم قاسم في العراق، وبادر ? إلي استنهاض همم مراجع الدين الكبار في النجف الأشرف لاتخاذ موقف جماعي قوي إزاء الخطر الإلحادي علي العراق، فالتقي بالمرجع الديني الكبير السيد محسن الحكيم ? وأصدر الأخير فتواه الشهيرة بتكفير الشيوعية.
له عدة مؤلفات منها: ذخيرة العباد، ذخيرة الصلحاء، الوجيزة، تعليقة علي العروة الوثقي، رسالة حول فقه الرضا، كشكول في مختلف العلوم.
توفي ? في الثامن والعشرين من شهر شعبان سنة (1380ه) وشيع جثمانه في موكب مهيب قلما شهدت كربلاء مثله، ودفن في مقبرة العالم المجاهد الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي في صحن الروضة الحسينية الشريفة، وأقيمت علي روحه الطاهرة مجالس الفاتحة والتأبين بمشاركة مختلف فئات وطبقات المجتمع استمرت لعدة أشهر.
() حزب البعث العربي الإشتراكي: حزب تسلط علي حكم العراق منذ (17/ تموز/ 1968م حتي 9/ 4/ 2003م)، حيث أسقط علي يد أسياده الأمريكان، وهو حزب قومي علماني يدعو إلي الانقلاب الشامل
في المفاهيم والقيم العربية والإسلامية لصهرها وتحويلها إلي التوجه الاشتراكي
في سنة (1932م) عاد من باريس قادماً إلي دمشق كل من ميشيل عفلق وهو نصراني ينتمي إلي الكنيسة الشرقية، وصلاح الدين البيطار، وذلك بعد الدراسة المكثفة في فرنسا علي يد كبار المستشرقين، ومن أشهرهم: لويس ماسنيون الذي يقول عن عفلق: هو أخلص تلميذ تتلمذ علي يدي. فعادا عفلق والبيطار محملين بأفكار قومية وثقافة غربية، وعملا في مجال التدريس، ومن خلاله أخذا ينشران أفكارهما بين والطلاب والشباب. وأصدرا مجلة الطليعة بالاشتراك مع الماركسيين سنة (1934م) وكانوا يطلقون علي أنفسهم اسم جماعة الإحياء العربي. وفي نيسان (1947م) تم تأسيس حزب باسم: حزب البعث العربي، وكان المؤسسين: ميشيل عفلق، صلاح البيطار، جلال السيد، زكي الأرسوزي، وغيرهم، كما أصدروا مجلة باسم البعث. في سنة (1953م) اندمج كل من حزب البعث العربي وحزب العربي الاشتراكي الذي كان يقوده أكرم الحوراني في حزب واحد أسمياه: حزب البعث العربي الاشتراكي.
استولي أحد أجنحة الحزب المنشقة علي السلطة في العراق بعد أحداث دامية، ففي الرابع عشر من شهر تموز عام (1958م) حدث انقلاب علي النظام الملكي بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، فقتل الملك فيصل الثاني وولي عهده عبد الإله ومن عثر عليه من أفراد العائلة المالكة، ونوري السعيد وأعوانه، فاسقط النظام الملكي، وبذلك انتهت الملوكية في العراق، ودخل العراق دوامة الانقلابات العسكرية.
وبعد عشرة أيام من نشوب الثورة وصل ميشيل عفلق إلي بغداد وحاول إقناع أركان النظام الجديد بالانضمام إلي الجمهورية العربية المتحدة سوريا ومصر ولكن الحزب الشيوعي العراقي أحبط مساعيه ونادي بعبد الكريم قاسم زعيما للعراق. وفي الثامن من شباط عام (1963م) قام الحزب بانقلاب علي عبد الكريم قاسم، وقد شهد هذا الانقلاب
قتالاً شرسا وأحداثاً دموية رهيبة في بغداد ومدن العراق، وبعد نجاح هذا الانقلاب تشكلت إثره أول حكومة بعثية، وسرعان ما نشب خلاف بين البعثيين في العراق فاغتنم عبد السلام عارف هذه الفرصة، وأسقط أول حكومة بعثية في تاريخ العراق في (18/ تشرين الثاني /1963م). أوصي ميشيل عفلق بتعيين صدام حسين عضوا في القيادة القطرية لفرع حزب البعث العراقي. وبعد مقتل عبد السلام عارف في حادث الطائرة المدبر في عام (1966م) استلم أخوه عبد الرحمن عارف رئاسة الجمهورية في العراق.
وبإيعاز من المخابرات الأمريكية والبريطانية إلي عبد الرزاق النايف وإبراهيم الداود وبتحالف مع البعثيين وعلي رأسهم أحمد حسن البكر قاموا بتغيير السلطة في العراق، فيما عرف بانقلاب تموز (1968م) ونفي عبد الرحمن عارف إلي تركيا. وفي اليوم الثلاثين من الشهر نفسه طرد حزب البعث كافة من تعاونوا معه في انقلابه، وعين أحمد حسن البكر نفسه رئيساً لما يسمي بمجلس قيادة الثورة ورئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للجيش، وأصبح صدام التكريتي نائباً له، ومسؤولاً عن الملف الأمني.
تمت تصفيات عديدة في صفوف الحزب قادة وكوادر كان مهندسها ومخططها صدام التكريتي، وكان من أشهر ضحايا هذه التصفيات الفريق الركن حردان التكريتي في الكويت، الذي كان عضواً في مجلس قيادة الثورة، ونائبا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرا للدفاع. وتم اغتيال فؤاد الركابي في السجن، وكان المنظر الأول للحزب، وأحد أبرز قادته، واعدم ناظم كزار رئيس جهاز الأمن وخمسة وثلاثين شخصا من أنصار انقلابه الفاشل الذي قاموا به. وفي عام 1979م أصبح صدام التكريتي رئيسا للجمهورية بعد انقلاب علي البكر وتم تجريده من جميع مناصبه وفرضت الإقامة الجبرية عليه في منزله، ثم قتل بظروف غامضة قيل أن صدام أمر بحقنه بابرة ترفع السكر في دمه
وذلك عام 1982م. وفي عام 1979م أيضاً قام صدام بحملة إعدامات واسعة طالت أكثر من ثلث مما يسمي مجلس قيادة الثورة، وأكثر من خمسمائة عضو من أبرز أعضاء حزب البعث بحجة كشف مؤامرة انقلابية. وممن تم إعدامهم: غانم عبد الجليل وزير التعليم، ومحمد محجوب وزير التربية، ومحمد عايش وزير الصناعة، وعدنان الحمداني، والدكتور ناصر الحاني، ثم قتل مرتضي سعيد الباقي تحت التعذيب، وقد سبق لكل من الأخيرين أن شغلا منصب وزير الخارجية، وقد بلغ عدد من أعدمهم صدام خلال أقل من شهر واحد ستة وخمسين شخصاً من كبار أعضاء حزبه.
أما عن سلوكيات ومبادئ حزب البعث في العراق، فقد نادي مؤسس الحزب بضرورة الأخذ بنظام الحزب الواحد؛ لأنه وكما يقول عفلق: إن القدر هو الذي حملنا هذه الرسالة، وخولنا أيضا حق الأمر والكلام بقوة والعمل بقسوة لفرض تعليمات الحزب.
ومن ثم لا يوجد أي مواطن يتمتع بأبسط قدر من الحرية الشخصية أو السياسية في قبال ذلك؛ فكل شيء في العراق يخضع لرقابة بوليسية صارمة، وتشكل دوائر المباحث والمخابرات والأمن قنوات الاتصالات الوحيدة بين المواطنين والنظام. وتركز سياسة الحزب علي قطع كافة الروابط بين العروبة والإسلام، وتنادي بفصل الدين عن السياسة، والمساواة بين شريعة حمورابي وشعر الجاهلية وبين الدين الإسلامي.
وادعت سياسة الحزب أن تحقيق الاشتراكية شرط أساسي لبقاء الأمة العربية ولإمكان تقدمها، مع أن النتيجة الحتمية للسياسة الاشتراكية التي طبقت في العراق لم تجلب الرخاء للشعب، ولم ترفع مستوي الفقراء، ولكنها ساوت الجميع في الفقر، وبعد أن كان العراق قمة في الثراء ووفرة الموارد والثروات، أصبح بطيش الحزب الحاكم عاجزاً عن توفير القوت الأساسي لشعبه، كما قام بتجريد الدستور العراقي من كل القوانين التي لها صلة بالإسلام، فأصبحت
العلمانية هي دستور العراق، ومعتقدات صدام وحزبه ومبادئه هي مصدر التشريع لقوانينه، واتجه صدام التكريتي وحزبه إلي إعلان الحرب علي الإسلام والعاملين له في كافة المجالات بضراوة وشراسة شديدة، فقام بقتل العلماء ومهاجمة الحوزات العلمية، وأصدر أوامره بإغلاق مئات المساجد والحسينيات والمراكز الدينية؛ لمجرد أن الشباب المسلم يلتقي فيها، وإلقاء القبض علي من يتردد إليها، وتتابعت القرارات بإعدام عشرات الآلاف من الأبرياء. وقد جلب من وسائل التعذيب في سجون ومعتقلات بلاده ما تقشعر لهوله الأبدان، وعرف عن جلاوزته أنهم يلجئون إلي أبشع وسائل التعذيب شناعة وقساوة في سبيل انتزاع الاعترافات من المساجين أو ثنيهم عن معتقداتهم، حتي فاق طغاة التأريخ في الإرهاب من أمثال الحجاج وزياد بن أبيه وابنه وهارون ومن شاكلهم في الجرم والإجرام.
لا شك أنه بشخص صدام ونظامه انكشف زيف وكذب ادعاءات وشعارات حزب البعث الحاكم في العراق، حيث أصبح مرفوضا علي المستوي المحلي والعربي والإسلامي، بسبب أسلوبه الهمجي في التعامل مع جيرانه وأشقائه ومواطنيه، كما أصبح صدام ممقوتا من حيث جبلته الشريرة وغريزته العدوانية المسعورة، وجنون العظمة المسيطر علي تصرفاته، ولجوئه إلي المخادعة بعد أن انكشفت نواياه الخبيثة في التعامل مع شعبه وفي حربه مع إيران، ثم في انقلابه علي الكويت الداعمة له في حربه السابقة. ورغم تظاهر الحزب بالمطالبة بإتاحة أكبر قدر من الحرية للمواطنين فإن ممارساته القمعية فاقت كل تصور وانتهكت كل الحرمات ووأدت كل الحريات وألجأت الكثيرين إلي الهجرة والفرار بعقيدتهم من الظلم والاضطهاد.
() سورة المؤمنون: 99 100.
() سورة لقمان: 20.
() سورة الأعراف: 96.
() سورة سبأ: 28.
() نهج البلاغة، الخطب: 47 من وصية له عليه السلام للحسن والحسين ? لما ضربه ابن ملجم لعنه الله..
() نهج البلاغة، الخطب:
31 من وصية له عليه السلام للحسن بن علي عليه السلام كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
() مفاتيح الجنان: الزيارة الجامعة الكبيرة.
() وللإمام الراحل (أعلي الله مقامه) كتاب (الفقه: السلم والسلام) وفيه بحوث شيقة حول نظرية السلم والسلام في الإسلام.
() سورة المائدة: 16.
() سورة النساء: 94.
() سورة الحشر: 23.
() سورة يونس: 25.
() سورة البقرة: 208.
() سورة النساء: 90.
() سورة الحج: 78.
() شرح نهج البلاغة: ج10 ص159.
() مستدرك الوسائل: ج8 ص362 ب33 ح9678.
() مستدرك الوسائل: ج8 ص363 ب33 ح9682.
() مستدرك الوسائل: ج8 ص364 ب33 ح9684.
() مستدرك الوسائل: ج8 ص371 ب39 ح9703.
() مستدرك الوسائل: ج18ص171 ب6 ح22416.
() مستدرك الوسائل: ج8 ص361 ب33 ح9673.
() الكافي: ج3 ص415 باب فضل يوم الجمعة وليلته ح11.
() سورة الشوري: 38.
() للتفصيل يراجع كتاب: (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، و(طريق النجاة)، و(الفقه السياسة)، للإمام الراحل (أعلي الله مقامه) وكتاب (شوري الفقهاء) لآية الله السيد مرتضي الشيرازي، و(شوري الفقهاء مفتاح الصلاح العام) للشيخ ناصر الأسدي.
() البيت لأبي العلاء المعري، أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري(363 449ه) شاعر وفيلسوف، له: لزوم ما لا يلزم، وسقط الزند، وضوء السقط.
() الإرشاد: ج1 ص303 باب طرف من أخبار أمير المؤمنين عليه السلام وفضائله ومناقبه والمحفوظ من كلامه وحكمه..
() كتب بعض الباحثين: أنه تحول الإنسان المسلم من الاكتفاء الذاتي والقناعة بالموجود والمتاح، إلي التهافت علي الاستهلاك والإنفاق العشوائي بلا حساب، وبدأت تتضح خفايا خطة استعمارية مدروسة لتوجيه العقول إلي البطون، والدخول في متاهة الركض وراء لقمة العيش وتأمين متطلبات الحياة التي لا تنتهي. وكان من أبرز معالم الخطة تخريب وسائل الإنتاج بأي شكل من الأشكال وضرب الزراعة، وفرض حظر علي الزراعات الغذائية الحيوية في
حياة الإنسان كزراعة الحنطة والشعير وما أشبه؛ لضمان بقاء يد الشعوب ممدودة للخارج تتسول حيناً وتشتري بدم قلبها لقمة عيشها اليومية أحياناً أخري. وأسهمت التحولات الاجتماعية والقوانين والأنظمة الجائرة والممارسات المغلوطة في مصادرة الأراضي أو ما يسمي بتأميم المصانع والهجرة من الريف إلي المدن، وتشجيع هجرة الأدمغة والخبرات والعمال المهرة إلي الخارج في تدمير البنيان الاقتصادي والاجتماعي، كما أسهمت سياسة ترويج الاستهلاك والإنفاق الباذخ علي الشعوب في إكمال عملية التدمير، فأصبحنا نأكل ما لا نزرع، ونلبس ما لا نحيك، ونستخدم ما لا نصنع. وزاد في حدة الأزمة أن الأمر لم يعد يقتصر علي الحاجيات الضرورية، بل امتد بشكل شره إلي الكماليات والسلع المغرية، مما أدي إلي تسريع خطوات الانهيار والوصول إلي حالة الإفلاس الاقتصادي. والمؤسف أن الوقوع في هذا الفخ المحكم حدث رغم التجارب السابقة والدروس التي كان يجب تعلمها، فكم من شعوب نالت استقلالها وتغلبت علي الاستعمار بسبب اعتمادها علي نفسها ونجاحها في تحقيق الاكتفاء الذاتي، بعد أن تحملت الحرمان ورفضت الاستسلام لوحش الاستهلاك. وكم من شعوب أخري قامت من بين الركام، وقاست الأمرين وقست علي نفسها ورضيت بالقليل، لتبني اقتصاداً قوياً متيناً يفرض وجوده علي العالم كله وينتقم للهزيمة التي تعرض لها. وجاءت الفورة المصطنعة في العقد الماضي لتزيد من حدة الأزمة وتخلق حالة من الشراهة والتسابق علي الإنفاق الاستهلاكي دون التنبه للمخاطر أو الموازنة بإنفاق علي مشروعات إنتاجية تمنع اتساع الفجوة وتسد بعض العجز. وكانت النتيجة السقوط في فخ آخر هو فخ الاقتراض والانجرار وراء المغريات التي قدمت لتسهيل عملية سوق الضحية إلي المذبح! مما خلق واقعاً مراً وأليماً نتيجة للاستسلام لوحش الاستهلاك وإغراءات التوسع في طلب القروض، حتي جاء يوم لم
تعد فيه غالبية دول العالم الثالث، قادرة علي سداد فوائد الديون وعلي رأسها الدول العربية والإسلامية الغنية بالثروات. مما جعلها أسيرة الدائنين وشروطهم ومطالبهم، وكأن الاستعمار العسكري خرج من الباب ليدخل الاستعمار الاقتصادي من النافذة. واكتشفنا بعد فوات الأوان، أن الاستقلال الحقيقي ليس مجرد علم ونشيد وطني وجيش، بل هو عمل وعلم وإنتاج وجهد وعرق واكتفاء ذاتي من الإبرة إلي المدفع، ومن الرغيف إلي الصاروخ.
وأحد أسرار عظمة الشعبين الألماني والياباني هو قدرتهما علي بناء أسس متينة لصناعة جبارة وتطوير وسائل الإنتاج لتحقق الاكتفاء الذاتي، وغزو الأسواق العالمية. فقد خرج البلدان من الحرب العالمية الثانية بحالة إفلاس ودمار شامل طال البني التحتية والمرافق العامة. ولكنهم لم يستسلموا للهزيمة، وشمروا عن السواعد للبناء والتحدي وأقبلوا علي العلم وكبتوا شهواتهم ونزعاتهم الإنسانية، واكتفوا بالحد الأدني من مقومات الحياة، وحرموا أنفسهم من مختلف أنواع الكماليات إلي أن حققوا المعجزة الاقتصادية التي حولت ألمانيا واليابان إلي اثنتين من أقوي الدول اقتصادياً. وهذه هي المعضلة التي نعاني منها، فبدلاً من أن نحد من الإنفاق ونخفض الاستهلاك، نتباري في الهدر والتبذير ونعطل حركة الإنتاج.. وأمامنا مئات الأمثلة الحية التي تبدأ من التماثيل والصور واللافتات التمجيدية إلي السيارات الفارهة والمظاهر الفارغة والدعايات الممجوجة لأفراد وسياسات، والمآدب السخية التي تقام لأفراد قلائل بينما هي تكفي لإطعام المئات.
وقد سمعنا خلال السنوات الأخيرة عن فضائح كثيرة وقصص المآسي التي خلفها الفساد وآثار الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عنه، وما الكشف عن الثروة الخارجية لصدام المخلوع إلا صورة واقعية واحدة من صور كثيرة لهذه الازدواجية والقدوة السيئة. فبعد أن كان يتحدث عن توزيع الثروة، والذين يملكون والذين لا يملكون، تبين أنه يملك البلايين في مصارف الغرب وشركاته.
وفي بعض
المقالات:
تتبين الفجوة الكبيرة بين ما تنفقه الأنظمة والحكومات علي جهود ومصاريف الإعمار والصحة وما تنفقه علي مصاريف شراء وتصنيع الأسلحة الفتاكة والهدم والقتل وتلويث الإنسان والبيئة، من خلال ملاحظة الأرقام التالية:
فقد أنفق برنامج الأمم المتحدة للبيئة وهو المنظمة المسؤولية عن حماية البيئة العالمية علي مدي السنوات العشر الأخيرة (450 مليون) دولار، أي ما يعادل أقل من خمس ساعات من الإنفاق العسكري العالمي. ويبلغ إجمالي قيمة المساعدات الإنمائية الرسمية السنوية المقدمة إلي البلدان النامية (35 مليار) دولار أي ما يعادل (15 يوما) من الإنفاق العسكري العالمي. و(67 ساعات) من الإنفاق العسكري العالمي يمكن استخدام تكلفتها للقضاء علي الملاريا، ذلك المرض القاتل الذي يفتك بأرواح مليون طفل سنويا. وأن يوم ونصف اليوم من الإنفاق العسكري العالمي يكلف (3.10 مليار دولار) تساوي التكاليف السنوية لحماية الأراضي التي لم تتأثر بالتصحر واستصلاح تلك المناطق التي تأثرت بدرجة معتدلة. و(3 أيام) من الإنفاق العسكري العالمي تكلف (7 مليارات دولار) تساوي تمويل الغابات الاستوائية لمدة خمس سنوات. وان طائرة هليكوبتر واحدة من طراز أباتشي تكلف (12 مليون دولار) تساوي تركيب
(80.000) مضخة يدوية لتمكين القري في العالم الثالث من الحصول علي مياه مأمونة. وأن نظام واحد من صواريخ باتريوت يكلف (123 مليون دولار، دون الصواريخ) يساوي إنشاء (5000) وحدة سكنية منخفضة التكاليف لإنقاذ (5000) أسرة من المعيشة في الأحياء الفقيرة. وأن اليوم الواحد من حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي في عام (1991م) كلف (1.5 مليار دولار) يساوي برنامج عالمي مدته خمسة أعوام لتحصين الأطفال ضد ستة أمراض قاتلة، والحيلولة دون وفاة مليون طفل سنويا.
وذكر أيضاً في تقرير آخر أن سكان الأرض يتوزعون بين (800 مليون ثري)
و(4 مليارات) فقير و(400 مليون) متوسط
الحال.
وأن (17 مليون) طفل يموتون سنوياً في العالم لعدم حصولهم علي لقمة غذاء.
وبعد عقود من التقدم الصناعي والعلمي لم تتقلص الفروقات الاجتماعية بين الشمال والجنوب، بل ازدادت الفجوة بين فقراء العالم وأغنيائه في الثلاثين سنة الماضية بمقدار ثلاثين مرة. وهناك (3/1 مليار) شخص في العالم يعيشون في فقر مدقع فيما لا يتمتع قرابة (5/1 مليار) شخص بأبسط الخدمات والعناية الصحية، وأن (70%) من المحرومين في العالم نساء، وفي نهاية القرن العشرين سيكون هناك ملياران من الفقراء في العالم.
أما عن المجاعة فقد حذرت منظمات الإغاثة الدولية من خطر المجاعة التي تهدد آلاف السودانيين في جنوب السودان إذا لم تقدم مساعدات عاجلة لهؤلاء المحتاجين للأغذية والدواء.
وقالت منظمة (وورلد فيجن) العاملة في مجال الإغاثة إن معظم منطقة ولاية بحر الغزال في جنوب السودان تعاني من نقص في الأغذية، وأن الناس يحاولون العيش اعتمادا علي أوراق الأشجار والجوز (البندق) البري. وتقول وكالات الإغاثة الدولية إن ما يزيد عن (350 ألف) شخص مهددون بخطر المجاعة في ولاية بحر الغزال. وفي تصاعد لوتيرة الأحداث في جنوب السودان حذرت وكالات الإغاثة الدولية والمنظمات الإنسانية من خطر المجاعة التي تهدد قرابة النصف مليون شخص في ولاية بحر الغزال في جنوب السودان. ويتخوف العاملون في وكالات الإغاثة الدولية من أن المجاعة هذه المرة ستكون أسوأ من المجاعة التي شهدتها المنطقة نفسها في الثمانينات والتي راح ضحيتها حوالي (300 ألف) شخص.
علما أن الابحاث والدراسات تشير إلي أمكانية أن تكون أرض السودان وحدها تكفي لإطعام كل البشر الموجودون علي وجه الأرض، إذا استغلت بشكل سليم زراعيا فهي سلة غذاء العالم!
وذكرت وكالات الإغاثة الدولية أن مئات الآلاف من الناس في أكثر من 12 دولة يواجهون خطر المجاعة.
()
مستدرك الوسائل: ج13 ص7 ب1 ح14566.
() هو سلمان المحمدي ابن الإسلام، أبو عبد الله، أول الأركان الأربعة مولي رسول الله صلي الله عليه و اله وحواريه الذي قال فيه: ?سلمان منا أهل البيت?. وأصله من إصبهان من قرية يقال لها (جي). قيل: إن اسمه مابه بن بوذخشان بن مور سلان بن بهنوذان بن فيروز بن سهرك من ولد أب الملك. وقيل: كان أسمه بهبود، وقيل: روزبه بن خشنوذان وقيل: خشبوذان.
هاجر في طلب العلم والدين وهو صبي وآمن بالنبي صلي الله عليه و اله قبل أن يبعث، وعرفه بالصفة والنعت لما هاجر إلي المدينة، سماه رسول الله صلي الله عليه و اله سلمان بن عبد الله، مولي رسول الله صلي الله عليه و اله. ألقابه: سلمان الخير، وسلمان ابن الإسلام، وسلمان المحمدي. شهد مع رسول الله صلي الله عليه و اله الخندق وقيل: شهد بدراً وأحداً. وهو الذي أشار علي النبي صلي الله عليه و اله بحفر الخندق في معركة الأحزاب، والذي أدي إلي انتصار المسلمين علي قريش وأحزابها. هذا وقد ورد المدح والثناء عليه بما لا ينكر، فقد قال رسول الله صلي الله عليه و اله:
?سلمان منا أهل البيت?. وقال صلي الله عليه و اله: ?لو كان الدين في الثريا لناله سلمان?. وقال صلي الله عليه و اله أيضاً: ?أمرني ربي بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم: علي وأبو ذر والمقداد وسلمان?. وروي عن عائشة: كان لسلمان مجلس من رسول الله صلي الله عليه و اله ينفرد به الليل حتي كاد يغلبنا علي رسول الله صلي الله عليه و اله. ولما قبض رسول الله صلي الله عليه و اله لزم أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يبايع
أبا بكر حتي أكره علي البيعة ووجئت عنقه. فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: ?إن سلمان عليه السلام أدرك العلم الأول والآخر?. وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام: ?إن سلمان الفارسي بحر لا ينزف?. وعن الفضل بن شاذان: أنه كان يقول: ما نشأ في الإسلام رجل من كافة الناس أفقه من سلمان الفارسي. وذكره ابن شهر آشوب في (معالم العلماء): أنه أول من صنف في الإسلام بعد ما جمع أمير المؤمنين عليه السلام تفسير كتاب الله عزوجل. تولي حكومة (المدائن) في زمان عمر بأمر علي عليه السلام وتوفي بها سنة (34) من الهجرة علي الأصح، وقيل: (سنة 33 أو 35 أو 36 أو 37 للهجرة) وعمره إذ ذاك ثلاثمائة وخمسون سنة. وقيل: مائتان وخمسون سنة. وذكر سلمان في المعمرين حيث قيل: إنه أدرك بعض أوصياء عيسي عليه السلام وقرأ الكتابين..
() مستدرك الوسائل: ج13 ص59 ب26 ح14748.
() الاحتجاج: ج1 ص131 باب احتجاج سلمان الفارسي علي عمر بن الخطاب في جواب كتاب كتبه إليه..
() الكرابيس: جمع كرباس، وهو القطن.
() غوالي اللآلي: ج3 ص193 باب التجارة ح5.
() غوالي اللآلي: ج3 ص194 باب التجارة ح6.
() مستدرك الوسائل: ج 13 ص12 ب3 ح14584.
() غوالي اللآلي: ج3 ص194 باب التجارة ح8.
() غوالي اللآلي: ج3 ص194 باب التجارة ح9.
() اي عن حال نفسه، حال داود عليه السلام.
() غوالي اللآلي: ج3 ص199 باب التجارة ح18.
() من لا يحضره الفقيه: ج3 ص169 باب المعايش والمكاسب والفوائد والصناعات..
ح3640.
() غوالي اللآلي: ج3 ص203 باب التجارة ح39.
() سورة الأعراف: 157.
() بحار الأنوار: ج 91 ص155 ب32 ح22.
() سورة هود: 88.
() سورة الأعراف: 142.
() سورة الحجرات: 10.
() سورة الشمس: 7-10.
() سورة الرعد: 11.
() سورة الحشر:
18.
() سورة الأنبياء: 51.
() سورة البقرة: 124.
() سورة الأنعام: 124.
() سورة المدثر: 38.
() سورة النجم: 39.
() سورة هود: 111.
() سورة الأنعام: 132.
() سورة آل عمران: 159.
() سورة الشوري: 38.
() جامع السعادات: ج2 ص216 الإصلاح.
() غرر الحكم ودرر الكلم: ص445 ق6 ب4 ف4 ح10195.
() بحار الأنوار: ج44 ص329 ب37 ضمن ح2.
() وسائل الشيعة: ج16 ص99 ب96 ح21082.
() غرر الحكم ودرر الكلم: ص236 ق3 ب2 ف1 ح4737.
() أمالي الشيخ المفيد: ص28 المجلس3 ح10.
() نهج البلاغة، الخطب: 164 من كلام له عليه السلام لما اجتمع الناس إليه وشكوا ما نقموه علي عثمان وسألوه مخاطبته لهم.
() نهج البلاغة، الكتب: 45 من كتاب له عليه السلام إلي عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله علي البصرة..
() بحار الأنوار: ج 68 ص188 ب64 ح51.
() بحار الأنوار: ج93 ص233 ب27 ح30.
() غرر الحكم ودرر الكلم: ص448 ق6 ب4 ف8 ح10270.
() وسائل الشيعة: ج15 ص297 ب39 ح20560.
() غرر الحكم ودرر الكلم: ص448 ق6 ب4 ف8 ح10280.
() وسائل الشيعة: ج12 ص39 ب21 ح15583.
() بحار الأنوار: ج71 ص18 ب13 ح7.
() غرر الحكم ودرر الكلم: ص443 ق6 ب4 ف1 ح10111.
() بحار الأنوار: ج72 ص98 ب48 ح2.