كيفية العمل لله تعالى

اشارة

اسم الكتاب: كيفية العمل لله تعالى

المؤلف: حسينى شيرازى، صادق

الموضوع: اخلاق

اللغة: عربى

عدد المجلدات: 1

الناشر: ياس الزهراء

مكان الطبع: قم

تاريخ الطبع: 1426 ه

الطبعة: اول

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

قال الله تعالى في محكم كتابه: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( ).

مقدمة

يحاول الإنسان غالباً أن يُحسن ظاهره، بل هو مجبول على ذلك وعلى إخفاء عيوبه ونواقصه، ولذلك فهو يسعى أن يخفي حقيقته وباطنه لئلا يكتشف الآخرون اختلافه عن ظاهره وما يتظاهر به؛ لأنّ المفترض - عادة - مطابقة الظاهر مع الباطن، وهو الانطباع المأخوذ عن كل إنسان في الوهلة الأولى إلاّ أن يثبت خلافه.

فإذا رأيت شخصاً يواظب على الحضور في صلاة الجماعة، تحكم بأنّه إنسان خيّر وأنّه ملتزم بالحضور إلى صلاة الجماعة بدافع قلبي. وهكذا الحال إذا رأيت شخصاً عالِماً أو شخصاً يرتاد الأماكن المقدّسة أو المساجد، أو يحضر مجالس العلماء أو يختم القرآن عدة مرات في شهر رمضان، فإنّك ستحمل عن واقعه فكرة إيجابية تحاكي الظاهر نفسه. أي أنّك تعتبر ظاهره هذا دليلاً على أنّه إنسان خيّر في مجمل جوانب حياته.

في بعض خطب الإمام أمير المؤمنين عليّ سلام الله عليه يصف المنافق بقوله: . . . وقارب من خطوه وشمّر من ثوبه . . . ( )، أي جعل ظاهره بنحو يأخذ الناس عنه انطباعاً أنّه رجل خيّر، فيقال: إن الدليل على ذلك التزامه بترك المكروهات فضلاً عن المحرمات، ومواظبته على المستحبات حتى الصغيرة؛ ولذلك تراه إذا مشى لا يمشي بسرعة بل يمشي بوقار وسكينة، موحياً للآخرين أنّ ما يصدر عنه نابع من سكينة القلب في

حين إنّه ليس كذلك!

وإذا كان الإنسان قادراً على خداع أخيه الإنسان بظاهره، فإنّه لا يقدر على ذلك مع الله لأنّ الله سبحانه وتعالى يعلم ما في الضمائر وما تخفي الصدور، وكما في الحديث الشريف: إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم وإنّما ينظر إلى قلوبكم( ).

فكأنّ الله تعالى يقول للإنسان: جمّل باطنك فأنا عالِم بالباطن وعلى أساسه سأحاسبك، وكلّ ثوابي وعقابي منصبّ على الباطن وليس الظاهر وحده.

وهذا لا يعني البتة أنّ الظاهر لا ينبغي أن يكون جميلاً، بل المقصود أن جمال الباطن مطلوب مع جمال الظاهر. فلا عقد سلبٍ هنا للقضية - على حدّ تعبير المنطقيين - بل لها عقد إيجاب كما في قوله تعالى: يَاأيّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقولونَ مَا لا تَفعَلونَ ? كَبُرَ مَقتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقولوا مَا لا تَفعَلونَ ( ). فهل معنى الآية سقوط الواجبات كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن الشخص الذي يعمل بعض المنكرات؟ أو هل معناه أنّه لا يجوز لشارب الخمر مثلاً أن ينهى غيره عن شرب الخمر؟

كذلك فإن في صيغة التعبير في الآية نوع من التحريض، كما لو قيل للشخص: مادمتَ تأمر بالحسن، فمن الأَولى بك أن تأتمر به أوّلاً، أو مادمتَ تنهى عن القبيح فالأحرى أن تنتهي عنه أيضاً! فلا يقال للمصلّي إذا كان شارباً للخمر: مادمتَ تصلّي من جهة وتشرب الخمر من جهة أخرى، فلا تصلِّ إذاً، بل يقال له: مادمتَ تصلّي فانتهِ عن شرب الخمر. وهذا النوع من التحريض والترغيب موجود في العرف أيضاً، ومثاله أن يقال لشخص: لماذا تفعل كذا وأنت ابن فلان؟

أشدّ آية في القرآن

في مجلس ضمّ بعض العلماء والفضلاء دار الحديث عن أشدّ وأشقّ آية في القرآن على الإنسان، فأدلى

كلّ بدلوه؛ قال بعضهم: إنّ أصعب آية وأشدّها قوله تعالى: فاستقم كما أُمرتَ ( )، فإنّ الاستقامة شاقّة على الإنسان، والدليل على ذلك أنّ فئة قليلة من البشر يستقيمون، فقد روي عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله أسرع إليك الشيب؟ قال: شيّبتني هود (أي سورة هود)...( ). قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله آية كانت أشدّ عليه ولا أشقّ من هذه الآية يعني فاستقم كما أُمرتَ ( ).

أقول: صحيح إنّ الاستقامة صعبة وشاقّة جداً، ولكنّها قد لا تكون كذلك بالنسبة لبعض الأشخاص. ففي بعض الظروف لا يغدو العمل بهذه الآية شاقاً كما لو كان الشخص مجبولاً على التقشّف والزهد بأن يحبّ من أعماقه الأكل الجشب واللباس الخشن ولا يفكّر بالفراش الوثير والدعة والعيش في رفاه، بل هو مصدود عنها على أثر معاشرته الأتقياء والزهاد. فمثل هذا الشخص إذا ابتلي مدّة في مكان لا يوجد فيه أكل لذيذ ولا فراش وثير ولا راحة، تراه يستلذّ بدلاً من التذمّر. ومن هنا لا أرى أنّ هذه الآية أشق آية في القرآن على النفس.

وقال آخرون: إنّ أصعب آية في القرآن قوله تعالى:

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ( ).

حقاً فمن ذا الذي يترك كلّ العلائق الدنيوية ويضحّي بها من أجل الله ورسوله وجهاد في سبيله كلما حصل تعارض بينهما، خصوصاً وأنّ أغلب الناس يضحّون حتى بنفوسهم من أجل هذه الأشياء!! لا شكّ أنّ هذا الموقف يتطلّب بطولة نادرة تجعل من هذه الآية أصعب آية في القرآن.

ولكن بدر إلى

ذهني أنه لا تلك أصعب آية ولا هذه بل إنّ الآية التي تأخذ - حسبما أرى - بمجامع القلوب ولابدّ أن تستوقف الإنسان كلّ يوم عشرات المرّات قوله تعالى: ثمَّ جَعَلنَاكمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِن بَعدِهِم لِنَنظرَ كيفَ تعمَلونَ . ومركز الصعوبة في الآية كلمة «كيف» فإنّ الملايين من المسلمين يتّجهون إلى القبلة يومياً سواء في صلوات الجماعة أو فرادى.. وكلّهم يصلّون الصلاة نفسها، ولكن ما يختلف فيها هو كيفيّتها. ولعلّ الآلاف يقومون لأداء صلاة الليل في مدينة واحدة كما هو الحاصل في بعض المدن المقدسة، ولكنّها تختلف فيما بينها من ناحية الكيف.

أهمية الكيف

تخبرنا الآية المباركة أنّ الله تعالى لم يقبض أسلافنا لأنّه سبحانه كان ينظر إليهم نظرة سلبية، وأنّه تعالى لم يجعلنا خلائف في الأرض من بعدهم، لأنّ نظرته إزاءنا إيجابية، فلا أولئك أساءوا كافّة فاستحقّوا الإماتة ولا أننا أحسنّا جميعاً فأُعطينا الحياة من بعدهم، بل إنّ الله تعالى أعطى كلاًّ فرصة في هذه الحياة لينظر كيف نعمل.

والكيف هو المهمّ في العمل، وإلاّ فقد يتشابه عملان من حيث الظاهر، وهما مختلفان في الكيف اختلافاً فاحشاً، وخير مثال على ذلك البون الشاسع بين صلاة أصحاب الإمام الحسين عليه سلام الله في يوم عاشوراء وبين صلاة عمر بن سعد وجماعته عليهم لعائن الله، فإنّ بينهما ما لا يُحصى من الدرجات.

إذن: الكيف أصعب ما نواجهه يومياً عشرات المرات. فالإنسان يواجه عائلته وأقرباءه وأصدقاءه وأعداءه وأساتذته وطلاّبه، وهو يواجه المال أيضاً ولكلّ منها كيفية في التعامل، كما يختلف بعض الناس عن بعض في كيفية إنفاق المال، وكذلك صرف الوقت. قد يكون هناك شخصان يقرآن القرآن الكريم في آن واحد لكن يوجد بينهما بون شاسع من حيث الكيف، فالأوّل

يقرأ ليختمه، بينما الثاني يقرأه لينتبه من غفلته، ولا شكّ أنّ بينهما فرقاً كبيراً مع أنّ كليهما يقرآن القرآن. ومن الأمثلة على ذلك:

• رجلان أنفقا مالهما في سبيل الله، أحدهما أنفق ماله رياءً، والآخر أنفقه تشجيعاً للغير.

• رجلان أدّيا صلاة الليل وكان كلاهما فرحاً بها، الأوّل فرحته فرحة موفقية، أما الثاني ففرحه فرح عُجب! والعياذ بالله.

•ذكرتُ مرّة أنّ اثنين من أئمة الجماعة - في قصّتين مختلفتين ومن بلدين متباعدين - وقعت لهما حادثة متشابهة وهي أنهما تذكّرا في أثناء الصلاة عدم كونهما على الوضوء، مما حدا بكل منهما أن يبطل صلاته

- لأنّها لا تعدو صلاة صورية؛ لعدم توفّرها على شرط الصحّة وهو الطهارة - ثم استقبل كلّ منهما المأمومين وهم يواصلون صلاتهم، وقال: أيّتها الجماعة لقد تذكّرتُ أنّي لستُ على وضوء، فأكملوا صلاتكم فرادى.

بيد أنّ الفرق بينهما -كما استمعتُ لقصّة كلّ منهما على انفراد- أنّ الأوّل عمل ذلك فوراً لئلاّ يوسوس له الشيطان، فكان إبطاله لصورة الصلاة، عملاً خالصاً لله كما يظهر من نقله. أما الثاني فقال: عندما انتبهت أنّي لست على وضوء خجلت أن أعلن ذلك للناس وقلت في نفسي: قد يقول الناس إنه كان متوضّئاً قبل الصلاة ولكن صدر منه أثناء الصلاة ما ينقض الوضوء؛ فتدارك الأمر بهذه الصورة!

يقول: عند هذه النقطة بالذات خطرت? في ذهني فكرة، وقلت في نفسي: لا بأس بما يظنّه المصلّون؛ إنّ هذه فرصة جيّدة قد تحقّقت لي، وذلك لأنّ المأمومين سيزداد حسن ظنّهم بي ويقولون: إنّ هذا الرجل إمام جماعة متديّن جيداً بحيث إنّه لم يخفِ علينا الواقع خجلاً بل بادر بإعلانه وتوقّف عن إمامتنا في الصلاة!

فكلا الرجلين قطع صلاته لكونها غير مستوفية لشرط الطهارة، ولكنّ الأوّل قطعها

بنيّة رحمانية، بينما الثاني قطعها بنيّة شيطانية، رجاء أن يكثر المأمومون خلفه. وقد بلغني بعد ذلك أنّ المأمومين قد كثروا بالفعل ووصل الرجل إلى مطلوبه. ولكن شتّان ما بينهما، وسيجازى كلّ حسب نيّته ولا يجازى الاثنين جزاءً واحداً مع أنّ العمل واحد!

مثال من واقع الحياة

لو اتّفق أن التقيت صديقاً فدعاك إلى وليمة مفاجئة، وكانت الدعوة مثار دهشتك لأنّه لم يدعُك طيلة عمره. ثم اكتشفتَ عند دخولك داره أنّ الوليمة كانت معدّة بالأساس من أجل صديق حميم له وأنّ دعوته لك كانت محض مصادفة، ربما لأنّه فكّر أن ينتهز فرصة متاحة لدعوتك على هامش دعوة ذاك الصديق.. فهل سيكون امتنانك لمضيفك وشعورك بفضله كما لو كانت الدعوة موجّهة لك في الأساس واستقلالاً؟!

لاشكّ أنّ الأثر الذي ترتّبه على كلّ حالة يختلف عن الأخرى مع أنّ الصورتين واحدة في الظاهر. فكلاهما دعاك إلى موضوع واحد، وربما كان الطعام عند الأوّل أدسم، ولكنّك لا تنظر إلى الطعام أو الصورة بل إنّ نظرك يتّجه إلى القلب في حال أردتَ أن ترتّب الأثر.

من علامات الكيف المقبول

ذكر بعض علماء الأخلاق علامات للكيف المطلوب والمقبول في عمل ما، في قوله تعالى: لننظر كيف تعملون منها: أن لا تتزعزع ثقة العبد بالله على أثر تبدّل حال قدوته وشيوخه في الدين أو انحرافهم( ).

أعرف شخصاً كان من المؤمنين الأخيار، أو هكذا كان يبدو من أفعاله، كإنفاقه وبذله في سبيل الله وتعامله الحسن مع الناس، وتصرّفاته العامة حيث كان يظهر منها أنّها منبعثة عن نفس مؤمنة، وهذا الأمر صار سبباً لأن يتأثّر به كثير من الشباب، وكان من جملتهم شابّ تأثّر به إلى حدّ كبير حتى صار من المؤمنين الملتزمين.

ولكن اتّفق بعد مدّة أن صدرت من ذلك الشخص بعض زلاّت، فكان لها أثر سيئ في ذلك الشابّ حيث ترك الإيمان بعد أن عاش في ظلّه عدة سنوات، مما يدلّ على أنّ كيفية ارتباطه بالله كانت مختلّة، فلم تكن خيوطه معقودة بالله بل بذلك الرجل. ولو كان ارتباطه بالله حقاً لما تغيّر، وما

كان ينبغي له أن يحدث ذلك ضعفاً ووهناً في ثقته وإيمانه بالله.

هناك ظاهرة خاطئة في المجتمع، وهي أنّ كثيرين من الناس يقولون إذا كان فلان _ مع ما له من المقام الاجتماعي أو العلمي أو الديني _ يعمل المنكرات أو في حياته زلات، فماذا تتوقّعون منّا نحن الناس العاديين؟

لا شك أن هذا الكلام ليس صحيحاً، بل هو يمثل ظاهرة خاطئة، ويدلّ على أنّ قلب المتفوّه به غير مرتبط بالله، بل بغيره، وكأنه قد نسي أن الله سبحانه وتعالى ينظر إلى قلوبنا ولا ينظر إلى صورنا! كما تقدّم آنفاً .

إننا نتبع علماءنا وقادتنا ونتعلّم منهم، ولكن لو انحرف أيّ منهم بمقدار أنملة فلا ينبغي لنا أن ننحرف معه وإن كان هو السبب في هدايتنا؛ وذلك لأنّ القلب يجب أن يرتبط بالله تعالى والله ينظر إلى قلوبنا إن كانت مرتبطة به أم لا؟ فإن كانت مرتبطة به وحده فهو الكيف المطلوب الذي خُلقنا من أجله حيث قالت الآية: لننظر كيف تعملون ، وإلاّ فلا فائدة ترتجى في العمل.

مثال مادّي: والغريب أنّ هذا الأمر ندركه جيداً ونمارسه في المادّيات، ولكن إدراكنا له في الأمور المعنوية صار صعباً؛ لضعف تأمّلنا. ومثاله المادّي لو أنّ صديقاً أرشدك إلى محلّ لبيع بضاعة بسعر أرخص ونوعية أجود مما كنت تشتريها من محلّ آخر لا علم لك به، فلا شكّ أنّك ستتحوّل إلى ما أرشدك صديقك إليه وتكون شاكراً له أن هداك إليه.

ولو افترضنا أنّ صديقك امتنع بعد مدة عن التسوّق من صاحب هذا المحلّ وبدأ يطعن في بضاعته لسبب من الأسباب، فهل ستستجيب وتترك التسوّق من هذا المحلّ مع أنّ بضاعته أجود وأرخص، أم لا تكترث بتغيّر حال مَن أرشدك إليه لأنّه

كان مصيباً في ما هداك إليه، ولا تعلم سبب طعنه به مادامت بضاعته على ما هي عليه من الرخص والجودة؟

لا شكّ أنّ تصرّفك سيكون هو الثاني؛ والسبب في ذلك أنّ ارتباطك وعلاقتك التسوّقية ليست بهذا الصديق الذي كان واسطة أوّل الأمر، بل بصاحب المحلّ نفسه، ولا داعي لتخريبها مادمت لمستَ بنفسك صدقه ورخْصَ بضاعته وجَودتها.

المؤمن يرتبط قلباً بالله لا بغيره

إذا كان الأمر هكذا في المادّيات، فلماذا إذاً تنحرف الأمم غالباً بانحراف قادتها؟ الجواب: لأنّ الناس في العادة متماثلون في المادّيات ولكنّهم قليلو المعرفة في المعنويات.

إذن، من علامات الكيف المقبول للعمل وارتباطه بالقلب هو أن لا ينحرف الإنسان حتى إذا انحرف الأشخاص الذين يعتبرهم قدوته في الإيمان والتقوى والعلم، ولا يُحدث انحرافهم أدنى ثغرة في إيمانه وإن كان ارتباطه بالله قد تمّ بواسطتهم. إلا أن يكون إيمانه مستودعاً ويتقلب مع الزمن، كما روي عن الامام جعفر الصادق سلام الله عليه في تفسيره لقوله تعالى: فمستقرّ ومستودع أنه قال: فالمستقر ما ثبت من الإيمان، والمستودع المعار...( ) وهذا يعني أنّ ارتباطه ليس بالقلب، وإنّ الله لا يقبل هذا الإيمان من صاحبه، لأنّه ليس الكيف المطلوب.

فلنختبر قلوبنا، ونتصوّر لو أنّ فلاناً الذي نعتقد بإيمانه المتفوّق علينا منذ أكثر من خمسين سنة مثلاً، ظهر لنا في يوم ما أنّه كان مرائياً، فهل سنزلّ ويتزعزع إيماننا، أم سنواصل المسير لأنّنا نعتقد أنّه هدانا إلى الطريق الصحيح وإن انحرف بعد ذلك، فنأسى لحاله دون أن يفتّ في عزيمتنا وثقتنا بالله تعالى؟!

إنّ الإنسان إذا وجد الحقيقة فهل سيكترث بالأمور الاعتبارية بعد ذلك؟ وإذا كانت الأمور الاعتبارية تتغيّر وتختلف في أسعارها وقيمها حسب العرض والطلب في السوق - كالثلج الذي يرتفع سعره في الصيف خاصة إذا اقترن

بانقطاع التيار الكهربائي وينخفض في الشتاء لقلّة الطلب عليه - فإنّ الحقيقة لا تغيّر فيها، والله تعالى هو الحقيقة المطلقة، لأنه تعالى هو غاية الغايات، ومنبع كلّ خير.

لو أنّ قلوبنا ارتبطت حقاً بالله فهي لا تتغيّر بتغيّر القلوب الأخرى وإن كانت – كما كنا نراها قبل انحرافها - أحسن حالاً منا. ولئن قيل: إذا زلّ العالِم يزلّ بزلّته العالَم( )، فنرجو أن لا نكون ممّن يتأثّرون بزلّة العالِم، لأنّ ذلك دليل على خلل في كيفية ارتباطنا بالله تعالى.

إنّ مَن وجد الله تعالى لا يكترث بعد ذلك بما حصل لزيد أو عمرو. تعلّم من زيد وعمرو إن كانا أهلاً لذلك وأرشداك إلى الإيمان وبصّراكَ منبع الخير، ولكن بعد أن وجدتَ منبع الخير وهو الله تعالى وثّق اتصالك به واستعِن به دائماً واستعذ به من الشرور ومن الشيطان ومن النفس الأمارة حتى لا تتأثر حالك ونيّتك وإخلاصك بتغيرات أحوال الآخرين.

فلو كان شخص ما بنظرنا أكبر قدّيس أو عابداً ثم زلّ أكبر زلّة فيجب أن لا يتغيّر إيماننا، إلاّ أن يكون إيماناً صوريّاً، ولنعرف أنّ الله ينظر إلى قلوبنا، وأنّه بمقدار لياقتنا يعطينا توفيقاً وقابلية وسعادة، إذ ليس من الحكمة - والله أحكم الحاكمين - أن يعطي إنساناً فوق لياقته واستحقاقه.

فإذا كنّا نحن البشر على صغر عقولنا نحاول أن لا نعمل ما ليس بحكمة فكيف نتوقع ذلك من الله سبحانه؟!

أمثلة:

? إذا لم يكن إمام الجماعة عادلاً فنحن لا نأتمّ به، وهذه من الحكمة قبل أن تكون تشريعاً فقهياً.

? إنّنا لا نسلّم ثروة بالملايين لسفيه لأنّه ليس من الحكمة فعل ذلك، فكذلك لا يسلّمنا الله الجواهر الثمينة ما لم نكن لائقين بها.

لابد أن يكتشف الإنسان في الآخرة سبب عدم

استجابة دعائه في الدنيا ويعلم لماذا لم يكن لائقاً للاستجابة.

الرب أعرف بمصلحة المربوب وحاله

من مشاهدات الحياة الاجتماعية أنّ بعض الأطفال يتوسّل إلى أبيه أن لا يسجّله في المدرسة ويقول: إنّي لا أحب الدراسة ولا أريد أن أصبح طبيباً مثلاً، فيقول له الأب: قد تصبح ذا مهنة وضيعة إذاً، فيقول الطفل: لا بأس. وهنا قد يجبر الأب ابنه وربما يضربه لحمله على الدراسة، ولا يفهم الطفل أنّ أباه إنما يفعل ذلك من أجل مصلحته إلاّ بعد أن يكبر، وحينذاك يدرك الطفل أنّه لم يكن من الصحيح أن يستمع أبوه إلى كلامه ويعمل ما يتمنّاه بأن لا يسجّله في المدرسة ويدعه يلعب ويرتاح. ولو فعل الأب غير ما فعل واستجاب لرغبات ابنه، فلربما لعن الابن أباه حين يكبر ويرشد.

قيل إنّ حمّالاً سُئل: مَن أنت؟ فقال: ابن فلان - وكان أبوه معروفاً - فقال له السائل: نِعمَ الأب وبئس الولد.

فقال بل قولوا: نِعمَ الجدّ وبِئس الأب، وذلك لأنّ جدّي عني بشأن أبي فبلغ ما ترون، أما أبي فأهمل أمري فصرت حمّالاً.

والحقّ برأيي مع الحمّال، وكلامه أجمل من الكلام الذي قيل له.

لنهتمّ إذاً بكيفية أعمالنا وبنيّات قلوبنا لنزداد ثقة وإيماناً بالله ولا نضعف لو انكشف لنا ضعف إيمان قادتنا أو معلّمينا أو مَن عرّفونا بالله. فإنّ مَن يبلغ الهدف حقّ أن يتمسّك به ولا يكترث بمَن تخلّى عنه بعد أن أوصله إليه.

أسأل الله التوفيق لي ولكم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

پي نوشتها

( ) يونس: 14.

( ) نهج البلاغة: 74 رقم 32، أصناف المسيئين.

( ) شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين عليه السلام، لابن ميثم البحراني: 36.

( ) الصف: 2-3.

( ) هود: 112.

( ) الخصال: 1 / 199 ح10 باب الأربعة، عنه تفسير نور الثقلين للعروسي: 4 / 334 تفسير سورة هود.

( ) مجمع

البيان للطبرسي: 5 / 199 عنه بحار الأنوار: 17 / 52.

( ) التوبة: 24.

( ) لا شكّ أنّ المعصومين سلام الله عليهم مستثنون من هذا الأمر أي من الزلّة والانحراف لأنّ الله تعالى هو الذي عصمهم وطهّرهم فلا يتصوّر انحرافهم أصلاً؛ روي أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال لعمار بن ياسر: يا عمار إن رأيت عليّاً قد سلك وادياً وسلك الناس كلّهم وادياً فاسلك مع علي فإنّه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى (الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لابن طاووس: 24- 25، عنه بحار الأنوار: 38 / 38)؛ ما يعني أنّ المعصوم هو مقياس الحقّ، لكنّ هذا لا يصدق في غير المعصوم، فلا ينبغي للمؤمن أن يتغيّر وتضعف ثقته بالله إذا رأى بعض الكبراء في الدين يزلّ أو ينحرف أو تضعف ثقته بالله.

( ) قرب الإسناد لأبي العباس القمي: 203، عنه بحار الأنوار: 66 / 212، ح6.

( ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «إنما أتخوّف على أمّتي من بعدي ثلاث خصال: أن يتأوّلوا القرآن على غير تأويله، أو يتّبعوا زلّة العالِم أو يظهر فيهم المال حتى أنّه يطغوا ويبطروا» الخصال: 1 / 164، ح216.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.