الإصلاح الزراعي في الإسلام

اشارة

المرجع الديني آية الله العظمي

السيد صادق الحسيني الشيرازي

دام ظله

كلمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله علي أعدائهم إلي يوم الدين.

ما أوحش الإسلام بين أهله، وما أوسع البون بينه وبين منتحليه، وما أكثر من أبنائه من لا يعرف من الإسلام إلاّ اسمه..؟

إنّه مما يوخز في الأحشاء، ويحزّ في الضمير، ويدعو إلي الفكر والحركة لإنقاذ الإسلام من هذه العزلة الفكرية والانزواء في مجال الحياة …

وذلك لا يكون إلاّ بأن يتحرك كلُّ مسلم، وبجميع إمكاناته لينصر الإسلام حسب قدرته وطاقته، فمن له قلم بالقلم، ومَنْ له لسان بالبيان، ومَنْ له مال بالمال، ومَنْ له منصب وجاه بالمنصب والجاه، وذلك بالحكمة وبالتي هي أحسن، ليرجع الإسلام إلي حياة المسلمين، كما تقلص منها منذ ما يقرب من قرن.

وقد هبّت نسائم الرحمة في السنوات الأخيرة، فقيّض الله من المسلمين الواعين نخبة لنصرة الإسلام بالبيان والبنان، والقلم والقدم، وهذا مما يبشّر بخير إنْ شاء الله تعالي.

وقد رأت هيئة محمّد الأمين صلي الله عليه و اله في قم المقدسة، أنْ تشارك الواعين في هذا الشعور بطبع الكتب الإسلامية التي اُلّفت لهذه الغاية الرفيعة، والمقصد النبيل. وقد وفقها الله سبحانه لأنْ تطبع بعض الكتب، وكان مما شجّعها الإقبال المتزايد علي مطبوعاتها.

وها هي تقدّم لقرائها الكرام كتاباً آخر، يبحث عن (الإصلاح الزراعي) وقد تعرّض إلي نظام الإصلاح الزراعي، الغربي والشرقي، ثمّ ذكر رأي الإسلام حول ذلك في مقارنة منطقية معززة بالأدلة والبراهين، والنصوص والشواهد.. وهو تأليف المرجع الديني الكبير آية الله العظمي السيد صادق الحسيني الشيرازي رحمة الله عليه.

ورجاء المؤسسة أنْ ينظر المسلم إلي الكتاب بالمنظار العقلي والفكري، ليري البون الشاسع بين (زراعة الإسلام للأرض) وبين

(زراعة سائر الأنظمة لها).

والله المسؤول، أنْ يتقبل الكتاب بقبول حسن، ويوفق المؤلف وسائر المسلمين لمّا يحب ويرضي، أنّه هو المستعان.

هيئة محمّد الأمين صلي الله عليه و اله / قم المقدسة

17 محرّم الحرام 1426ه

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

كان العالم قبل الإسلام يتخبط في ظلال من التدهور العام، والانحطاط الواسع اللذَين شملا جميع جوانب الحياة، ولم يدعا ناحية للحياة ناجية عن براثنها.

فالشذوذ العقائدي المسمي ب(الكفر) و(الإلحاد) والتقهقر الصحي، والتسافل الخلقي، والتراجع الاقتصادي، والتوغل في الجهل.. كانت محتضنة للحياة في العصر الجاهلي، آخذة بآفاق الدنيا آنذاك، غارزة من مخالبها الدموية في جسم عامة الأفراد وجميع البلاد. فالكفر سار في العقائد كلّها، والرذيلة متسلمة للزمام بأجمعه، والفقر عمّ الناس كلهم، والجهل بسط جناحه الأسود علي الأقطار جميعاً، والمرض كاد أنْ يشمل الرطب واليابس ويفتك بهم. تلك هي الحالات المأساوية الفظيعة التي أوسمت ذلك الدور بوسام (الجاهلية).

ثمّ جاء الإسلام، وبشرّ به الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله ودعا الناس إليه واعتنقته الجماهير والجماعات. فانقشعت تلك السحب السوداء، وولّت مقومات الجاهلية دبرها، وأصبح الناس يعيشون في ظلال الاعتدال العقائدي المسمي بالإيمان وسمو العلم، وراحة الفضيلة، ونعيم الصحة، وجنة الغني والكرامة، سعداء من جميع الجوانب، بعد ما باتوا أشقياء في كلِّ النواحي وهكذا أخذ الإسلام

بأنظمته السماوية الحكيمة يدبّر دفة الحياة، والناس ينعمون بالأسس الخمسة للحياة الخيرة: الإيمان، والفضيلة، والعلم، والصحة، والغني.

لا تكدر لهم حياة، ولا ينغص عليهم عيش.

حتّي حسد المسلمين علي ما آتاهم الله من فضله المستعمرون، وأوفدوا إلي بلاد الإسلام أنظمتهم وقوانينهم، وحكّموا فيهم بكل قهر وعنف، وصلافة ووقاحة، فتراجعت البلاد الإسلامية تراجعها القهقري، وانقلبت رأساً علي عقب، وفشت فيها الكفر والرذيلة، والجهل، والفقر والمرض، وأكثرت هذه المشاكل من الإيغال

في المسلمين أيضاً بعد ما كانت تغمر بلاد الكفر وحدها.

فعادت الجاهلية الأولي بكاملها، ورجعت بجميع مساوئها ومآسيها، بل بأسوأ مما كانت عليه قبل الإسلام.

فأصبحنا نعيش في عالم متفسخ، وعصر متوغل في الفساد من جميع النواحي، بالرغم من أنا نعيش في القرن الخامس عشر الهجري، وفي عصر العلم و(عصر النور) وعصر الذرة وعصر الفضاء و(عصر التقدّم العلمي والتطوّر الصناعي) علي ما يزعمون.

والعجيب: إنّه كلما يتقدم العلم، وتتوسع المعلومات، وتخطو البشرية خطوات أكثر نحو الاختراع والاكتشاف، كلما تشتد توغّلاً في الانحطاط، وتترسّخ نشوباً في الحضيض.

وما ذلك إلاّ من جرّاء هذه القوانين الوضعية المستوردة، المستوحاة من أفكار بشرية لا تحيط حتّي بنفسها، لا تعلم ما يدور وما يوجد حولها من كوامن وأسرار. ومن جرّاء ترك الأنظمة الشرعية الإلهية التي نسجت بعد الحيطة بجميع العصور والأمور، وكل البلاد والعباد، نسجاً حكيماً جعلها صالحة للتطبيق الأبدي، والأخذ بالقيادة العامة للعالم إلي يوم يبعثون.

هذا الكتاب إنما هو محاولة بسيطة موجزة لبيان رأي الإسلام في النظام الزراعي والعمراني، وبيان أحدث الآراء العالمية في الإصلاح الزراعي الوضعي.

ثمّ مقايسة خاطفة جزئية بين الزراعة والعمران في ظل نظام الإسلام الحكيم، وبين الإصلاح الزراعي الوضعي الحاكم في البلاد اليوم. ليُعرف كيف كانت الأراضي في ظل نظام الإسلام العادل عامرة بالزرع والبناء في شرق البلاد الإسلامية وغربها، وجنوبها وشمالها في العهد الإسلامي. وكيف أصبحت الأراضي اليوم وفي ظل قانون الإصلاح الزراعي الوضعي يباساً، جرداء خالية عن الزرع والعمران.

وهذا كله رغم توفر الوسائل العظيمة الحديثة لنظام الإصلاح الزراعي الوضعي هذا اليوم، وانعدامها إطلاقاً في العهد الإسلامي الزاهر الغابر.

ليظهر للقارئ بجلاء:

أنّ الإسلام أفضل نظاماً، وأصلح دستوراً للحياة من غيره، والله الموفق وهو الهادي إلي سواء السبيل.

كربلاء المقدسة

صادق مهدي الحسيني

الشيرازي

21/ 10/ 1381ه

مستند النظام العمراني في الإسلام

من الدعائم التي أرساها الإسلام لمطاردة الفقر، ونشر الغني في الناس هو نظامه العمراني المعروف عند الفقهاء ب «إحياء الموات».

وهو يعني: أنّ الإسلام يبيح للناس الأراضي، ويعطيها لهم مجاناً وبدون عوض، شريطة أن يزرعوها، أو يعمروها ببناء، أو إخراج عين أو إحداث نهر، أو غير ذلك.

وهناك نصوص كثيرة هي المستند لهذا النظام تصرّح بذلك نذكر جملة منها:

النصوص الشرعية في العمران

روي السيد الرضي رحمة الله عليه في المجازات النبوية: عن النبيّ صلي الله عليه و اله أنّه قال: «مَنْ أحيي أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق» ().

وعن النبيّ صلي الله عليه و اله أنّه قال: «موتان الأرض لله ولرسوله، فمَنْ أحيي منها شيئاً فهو له» ().

وعنه صلي الله عليه و اله أنه قال: «عادي الأرض لله ولرسوله، ثمّ هي لكم مني: فمَنْ أحيي مواتاً فهي له» ().

وروي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «أيما قوم أحيوا شيئاً من الأرض، أو عمّروها فهم أحق بها» ().

وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (يعني الإمام الصادق عليه السلام) قال: سُئل وأنا حاضر: عن رجل أحيي أرضاً مواتاً، فكري فيها عيراً، وبني فيها بيوتاً، وغرس نخلاً وشجراً، فقال عليه السلام: «هي له، وله أجر بيوتها … » ().

إلي غير ذلك من الروايات الكثيرة في ذلك.

نظام الحكم العادل

والإسلام بهذا القانون العادل والسديد تمكن من توسيع رقعة العمارات، وتكثير حصة الزراعات.

ومن المعلوم: أنّ سعة العمارة، ووفرة الزراعة هي أقوي مؤشر وأكبر دليل علي ارتفاع المستوي الاقتصادي، وانتشال الأمّة عن متاهات الفقر والعوز. وبالعكس فإنّ قلّة العمارات، وتقلّص المزارع مؤشران قوّيان، ودليلان واضحان علي تدهور مستوي الاقتصاد، وسقوط الأمّة في الحضيض المالي.

ألا تري أنّ الدول كيف تفتخر بعضها علي بعض بكثيرة عمارتها، وزيادة زراعتها؟ فيقال مثلاً: إنّ الدولة الفلانية متقدمة راقية الاقتصاد؛ لأنّها ملؤها العمارة والزراعة، والدولة الفلانية واطئة منحطة الاقتصاد، لأنّها قليلة العمارة والزراعة.

والإسلام وهو جامع السعادتين: سعادة الدنيا والآخرة حيث كان يعلم مدي أهمية التقدّم الاقتصادي في إنقاذ الأمّة من مهاوي الفقر والشقاء، وكان يعرف أيضاً مدي مدخلية ازدياد العمارة والزراعة في رفع المستوي الاقتصادي،

وإنعاش الحالة المعيشية للناس، أباح الأراضي مجاناً لمن يُعمّرها بأي نوع من أنواع العمران: بالبناء، أو شق نهر، أو إخراج عين، أو حفر بئر، أو إحداث زرع أو غير ذلك، لكي يتسني لكل فقير ومعدم أن يكوّن لنفسه عيشاً كاملاً يسكن إليه، ويهنأ به، ولو بالتدريج …

الأجر والثواب علي العمران

ثمّ إنّ الإسلام مع ذلك حبّذ العمارة والزراعة ووعد عليهما الأجر والثواب، وأمر باتخاذ الدور الوسيعة، والمنازل الفارهة، ونهي عن بيعها إلاّ أن يستبدل بها غيرها، وحبّب غرس الأشجار والنخيل، وإحداث الجنان والبساتين، وكره قلعها واجتثاثها إلاّ أن يتخذ عوضاً عنها أشجاراً ونخيلاً، ويحدث مكانها بساتين وجنانٍ أخر.

فقد روي عن النبيّ صلي الله عليه و اله أنّه قال: «مَنْ بني بنياناً بغير ظلم ولا اعتداء، أو غرس غرساً بغير ظلم ولا اعتداء كان له أجر جارياً ما انتفع به أحد من خلق الرحمان» ().

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «ما في الأعمال شيء أحب إلي الله تعالي من الزراعة، وما بعث الله نبياً إلاّ زرّاعاً إلاّ إدريس فإنّه كان خيّاطاً» ().

وروي أنّه سأل الإمام الصادق عليه السلام رجل، فقال: جُعلت فداك أسمع قوماً يقولون: إنّ الزراعة مكروهة!

فقال عليه السلام: «ازرعوا، واغرسوا، والله ما عمل الناس عملاً أحل وأطيب منه … » ().

وعن يزيد بن هارون، قال: سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول: «الزارعون كنوز الأنام، يزرعون طيباً أخرجه الله عزّوجلّ، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً، وأقربهم منزلة، يدعون المباركين» ().

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات.

العمران في ظل النظامين

الإسلام والوضعي

إنّ الإنسان إذا رأي الأرض مباحة لمن عمّرها، ونظر إلي هذا التأكيد البالغ والتحبيذ الكبير من الإسلام بالنسبة إلي العمران، والزراعة، فمن ذا الذي لا يأخذ قطعة من الأرض ليعمّرها، فيبني لنفسه بها داراً، أو يتخذ له منها بستاناً؟

بل إنّ كل إنسان حسب تمكنه من ذلك يقوم بتعمير الأرض، والآخر يمكنه غرس آلاف الأمتار من الأرض بالنخيل والأشجار، والرابع باستطاعته أنْ يحمل بذوراً ليدفنها في الأرض حتّي يستفيد من حاصلها يوم الحصاد، وهكذا، وهكذا.

والمهم أنّ الناس عند

الإسلام أحرار فيما يزرعون، وفيما يبنون!

أحرار في انتخاب البلد الذي يريدون التوطن فيه، والمكان الذي يختارونه للزرع أو البناء!

أحرار في اختيار الكمية التي يريدون زرعها أو بناءها من الأرض، شريطة عدم هضم حق الآخرين!

أحرار في تعيين الزمان الذي ينتخبونه لتهيئة الزراعة والعمارة!

أحرار في هذه كلها، وفي غيرها.

فليس هناك دائرة للزراعة تكبت حرية الزراعة، ولا إدارة للتسوية تحدّ من حرية العمارة، ولا روتينات يجب مراجعتها، ولا صرف للأموال الطائلة وبذل للجهود الكبيرة وإلقاء للنفس في العناء والنصب، لزراعة شبر، أو بناء متر من الأرض.

ففي ظل نظام الإسلام لا تكاد تمر سنين قلائل إلاّ وتري أرض الله الواسعة ملأها النخيل والأشجار، والدور والبنايات، والزروع والعمارات … تجري فيها الأنهار، وتنشق من بينها العيون، لتؤمّن للناس حاجاتهم كلّها، وتدر عليهم بالمال الوفير، والاقتصاد

الرفيع.

نقاط مشرقة

عن العمران في الإسلام

وقد كانت الأراضي في العهد الإسلامي معمورة: مزروعة، أو مبنية، وقلّما تجد فيها فراغاً من الزرع والبناء، نتيجة لقانون «إحياء الموات» الذي سنّه الإسلام لتوفير الزراعة والبناء.

فكان شخص يبني داراً، ويأتي الآخر ويبني إلي جنبها داراً أخري، ويأتي ثالث ليزرع إلي جانبهما، ويأتي الرابع ليغرس نخيلاً وأشجاراً عندها..

وهكذا حتّي أنّ القطعة الكبيرة من الأرض الجرداء كانت تصبح بعد مدة قليلة، بلدة كبيرة، وبساتين يانعة، وأشجاراً مثمرة.

فكانت البلاد وسيعة كبيرة جداً، والزراعات تغطّي الأرضي، وتملأ الأبصار!

العراق: أرض السواد

فالعراق كانت تسمي في العهد الإسلامي ب «أرض السواد» وذلك؛ لأنّه لم يكن يوجد فيها من أولها إلي آخرها، ولا في طولها وعرضها أرض خالية عن البناء والزراعة، فكانت العراق قطعة واحدة من الزرع، وحيث إنّ الزرع أخضر اللون، والخضرة تميل إلي السواد، لذلك قيل لها: «أرض السواد» فكان الإنسان إلي حيث يرمي ببصره لا يكاد يقع نظره إلاّ علي المزارع والبساتين، والخضار والأشجار التي غطّت البلاد، واسوّد بها وجه الأرض، وذلك من جميع الجوانب ومن كل الجهات!

فقد حفظ التأريخ أنّ الديكة كانت تتصايح بين البصرة والكوفة ومعني ذلك: أنّ البصرة والكوفة كانتا متصلتين، ولم يكن توجد بينهما أرض فارغة عن العمارة والزرع بل كانت البنايات والعمارات، والمزارع والبساتين متواصلة ومتراكمة، تغطّي كل المسافة الشاسعة الموجودة بين المدينتين: البصرة والكوفة، حتّي إذا صاح الديكُ في البصرة صاحت الديكة في المزارع المجاورة للبصرة التي يبلغها صوت ديك البصرة، وعلي أثر صوت ديكة تلك المزارع كانت تصيح الديكة في البساتين المجاورة لتلك المزارع، وعلي أثر صوت ديكة تلك البساتين كانت تصيح ديكة الدور الملصقة بتلك البساتين والتي كانت تسمع صوت ديكة تلك البساتين، وهكذا.. وهلم جراً، حتّي كانت من

البصرة إلي الكوفة صيحة واحدة لديكتها.. مع العلم أنّ المسافة بينهما يقرب من خمسمائة كيلو متر..

كما حفظ التأريخ في سطوره البيضاء عن بلدة «سامراء» أنّها كانت واسعة العمران بحيث كان طولها فقط يقرب من ثمانية وأربعين كيلو متراً!

وأنّ «الكوفة» وحدها كانت نفوسها تعد بالملايين!

وأنّ «البصرة» وحدها كان فيها مائة وعشرون ألف نهر متفرع عن شطّي دجلة والفرات!

مع العلم أنّ جميع هذه البلاد كانت قبل الإسلام أرضاً جرداء أو قري صغاراً مبعثرة، فلما استولي الإسلام علي الحكم العالمي، وتولي قيادة الدنيا، ونفَّذَ قانون «إحياء الموات» بلغت هذه البلاد وغيرها إلي ما بلغت إليه وبقدر مدهش من كثرة النفوس، وزيادة العمارات، وسعة الزراعات، وذلك في ظرف سنين قلائل.

تقارير عمرانية

ولننظر بتروّ وإمعان في ما كتبه «جرجي زيدان» عن بعض ما يخصّ أمر العمارة والزراعة في الدولة الإسلامية، وفي العهد الذي كان الإسلام نظاماً للحكم وكانت الدولة الإسلامية تسير علي هداه، وتطبقه في مختلف مجالات الحياة، إنّه يقول ما يلي:

« … ولكن كثيراً من المدن الإسلامية أصبحت خراباً بعد ذلك بالقياس إلي ما كانت عليه في عهد الدولة الإسلامية، وخصوصاً «العراق» أو «السواد» وعلي الأخص «بغداد» و «البصرة» و «الكوفة» وسائر مدن العراق! وقد وصف الاصطخري() مدينة البصرة وصفاً يمثّل ما كانت عليه أرض العراق من العمارة في عصره: قال: البصرة مدينة عظيمة لم تكن في أيام العجم وإنما مصّرها «المسلمون». وليس فيها مياه إلاّ أنهار، وذكر بعض أهل الأخبار: أنّ أنهار «البصرة» عدّت أيام «بلال بن أبي بردة» فزادت علي مائة ألف نهر، وعشرين ألف نهر (120000) تجري فيها الزوارق() وقد كنت أنكر ما ذكر من عدد هذه الأنهار في أيام «بلال» حتّي رأيت كثيراً من تلك البقاع،

فربما رأيت في مقدار رمية سهم عدداً من الأنهار صغاراً تجري في كلّها زوارق صغار، ولكل نهر اسم ينسب إلي صاحبه الذي احتفره، أو إلي الناحية التي يصب فيها، فجوّزت أن يكون ذلك طولَ هذه المسافة وعرضها».

ثمّ يقول جرجي زيدان: «فاعتبر المسافة التي تحفر فيها

(120000) نهر أو ترعة كم يمكن أن يكون سكانها؟ وهذا مستغرب عند أهل هذا الزمان، لكنه يدل علي كل حال علي عمران تلك الأرض … »

عمران دار الخلافة

ثمّ إنّ جرجي زيدان أردف يقول: «وناهيك ببغداد … فقد ذكر الاصطخري أيضاً في وصفها كما شاهدها في أيامه في القرن الرابع للهجرة قال: وتفترش قصور الخلافة وبساتينها من «بغداد» إلي نهر بين فرسخين() علي جدار واحد، حتّي تتصل من نهرين إلي شط دجلة، ثمّ يتصل البناء بدار الخلافة مرتفعاً علي دجلة إلي الشماسية نحو خمسة أميال. وتحاذي الشماسية في الجانب الغربي الحربية فيمتد نازلاً علي دجلة إلي آخر الكرخ … ».

ثمّ أضاف قائلاً: «فأين هذه العمارة بما صارت إليه «بغداد» عند اضمحلالها؟».

تطور دمشق وواسط

ثمّ عن جرجي زيدان يواصل كلامه ويقول: «وقس علي ذلك مدينة «دمشق» وغيرها من المدن التي ضعف أمرها اليوم() وهناك مدن اُخري كانت يومئذ (أي: في الحكومة الإسلامية) في إبّان مجدها فاصبحت اسماً بلا مسمي مثل «الفسطاط» في مصر، و «الكوفة» في العراق و «القيروان» في أفريقية، و «بصري» في حوران، وغيرها … » ().

وقد بنيت مدينة «واسط» في العراق ولم يمر علي تأسيسها إلاّ زمان قليل حتّي صارت مدينة كبيرة فيها آلاف الشوارع كما يقول جرجي زيدان.

كانت هذه نماذج قليلة عن العمران بالبناء والمؤسّسات في البلاد الإسلامية في العهد الإسلامي. وأما العمران بالحرث والزراعة، وعمارة الأراضي بالمزارع والبساتين، والأنهار والعيون في العهد الإسلامي.. فهي أكثر توسعاً من توسع البناء والمؤسّسات في ظل حكم الإسلام، إنّ صورة واحدة من ملايين الصور عن الزراعة في تلك الأيام يكفي لأن يرينا مدي ازدياد الزراعة في عهد الإسلام.

مزارع وادي النيل

اقرأ معي النص التاريخي:

قال المقريزي وهو من المؤرخين ما يلي:

«إنّ هشام بن عبد الملك سنة 107 هجرية أمر عبد الله بن الحجاب عامله علي خراج «مصر»: أن يمسحها (أي: يستعلم مساحة أرض مصر الزراعية) فمسحها بنفسه فوجد مساحة أرضها الزراعية مما يركبه النيل ثلاثين مليون فدان (30000000)».

وبعد ما نقلَ جرجي زيدان هذا الكلام عن المقريزي يقول:

مع أنّ مساحة الأرض الزراعية في وادي النيل سنة 1914() مع ما تبذله الحكومة من العناية في إخصابها وتعميرها لم تتجاوز ستة ملايين فدان كثيراً (6000000) …

ثمّ يستطرد قائلاً: «لأنّ مساحة مصر بما فيها من الواحات في صحراء (ليبيا)، والأرض بين النيل والبحر الأحمر، وبينه وبين بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) إلي العريش تزيد علي أربعمائة ألف (400000) ميل مربع، وذلك يساوي نحو مائة وسبعة

وثمانين مليون فدان (187000000) ().

فلا غرابة إذن في أن يكون العامر منها (30) مليون فدان!» ().

فتأمل جيداً، وانظر إلي هذه الأسطر التاريخية بدقة وإمعان: إنّها تُخبر عن قرون سابقة، والإسلام جديد الانتشار، وأنظمة حديثة السيادة، والناس قريبو عهد بالإسلام.

في ذلك الحين: وحيث لا أدوات زراعية، ولا تطور في الزراعة حيث الزمان الذي يحرثون الأرض بالثيران، ويزرعون البذور بالأيدي، ويسقون الأرض بالدوالي والنواضح، ويحصدون بالمناجل والآلات البدائية، وقد كانت الحشرات تهاجم الزرع ولا محيص لأصحاب الزرع، ولا قدرة لهم علي إزالتها!

في ذلك العهد تماماً ومع كل تلك المشكلات الطبيعية والصناعية تبلغ الزراعة في «مصر» ثلاثين مليون فدان!، بينما هذا الزمان الذي تطورت الزراعة فيه تطوراً كثيراً، وتقدمت الصناعة، وصنعت الآلات الحديثة، والمكائن الزراعية الجديدة، وتحسنت وسائل الرّي وتطورت أجهزته، بحيث أصبحت الماكنة الزراعية تحرث آلاف الأمتار في دقائق، وتزرع البذور في آلاف الأمتار في دقائق، والمضخّات الكهربائية تسقي مساحة كبيرة في دقائق، والحاصدات الزراعية تحصد زرعاً كثيراً في دقائق، ثمّ أنّه لو تسربت الحشرات الفاتكة في الزرع فهناك الأدوية الكيماوية تقضي علي الحشرات فوراً!

في هذا العهد المتطور، ومع هذه الوسائل الحديثة تبلغ الأرض الزراعية في نفس «مصر» ستة ملايين فدان!

أي: خمس النسبة!

ما سبب ذلك؟!

علماً بأنّ الأرض واحدة، والماء واحد، والأدوات الزراعية متطورة، متقدمة بنسبة الواحدة إلي الألف، أو بأكثر من ألف، ومع ذلك تكون الزراعة أقل من الوقت الذي لا أداة فيه للزراعة!!

إنّ معني ذلك: تدهور الزراعة تدهوراً ذريعاً، فإذا لم تكن الأدوات الزراعية الحديثة موجودة، لكانت الزراعة في «مصر» تبلغ أقل من ستة آلاف فدان! ولو كانت هذه الأدوات الزراعية الحديثة تستخدم في ظل نظام «إحياء الموات» الإسلامي لكانت النسبة من

(30) مليون فدان تترفع حتّي

لا تجد شبراً واحداً خالياً من الزرع أو البناء.

النيل وأضخم سدّ عليه

والأعجب الأغرب هو: أنْ يبني أخيراً علي النيل «السد العالي» وتبذل من أجله الملايين، ثمّ يكون نتيجته زيادة المزارع عن سنة 1333 هجرية بأقل من مليوني فدان فقط، حيث جاء في التقرير المنقول عن مزارع وادي النيل، وازدهارها في ظل «السد العالي» وأنّها بلغت إلي سبعة ملايين فدان، ونيف وسبعمائة ألف فدان.

ولو كان هذا السد العظيم، بهذه الضخامة والإتقان، يسوده النظام الإسلامي الزراعي، لكان لا يبقي متراً واحداً من الأرض مواتاً غير مزروع.

فلو كانت الحكومة تعلن بأنّ الأرض مباحة لمن عمرّها.

إنّه لا يحتاج التعمير بالبناء، أو الزراعة، أو غيرهما إلي إذن، أو رخصة، ولا إلي ضرائب أو رسوم.

إنّه ليس لأحد المنع عن أي مقدار يريد الفرد بناءه، أو زراعته، فيما لم يكن فيه هضم حقوق الآخرين.

فهل كانت تبقي أرض خالية عن زراعة أو بناء؟

إنّه لو صدر مثل هذا القانون الإسلامي عن حكومة من حكومات العالم لأصبح الناس يسبق بعضهم بعضاً لتعمير الأرض بالبناء والزراعة، ولبذل كل شخص غاية جهده لبناء وزرع أكبر قطعة يستطيع زرعها، أو يقدر علي بنائها.

وعليه: فلا تمضي سنوات إلاّ وتجد البلاد متصلة بعضها ببعض، من وفرة المزارع، وكثرة الدور!

ثمّ إنّه هل يبقي مع ذلك فقر وعوز؟

وهل يملأ المقاهي، والنوادي، والسينمات، والشوارع العاطلون الذين لايجدون عملا يشغلون به أنفسهم؟

كلا وألف كلا.

تقدم العمران في عهد الظهور

ثمّ إنّ الأحاديث التي تصرح بأنّ الإمام الموعود الحجة بن الحسن المهدي (عجل الله تعالي فرجه) حينما يظهر وينشر راية العدل في العالم كله، ويجعل كلمة الإسلام وحدها هي العليا، ويجعل كلمة غيره هي السفلي تصير البلاد متلاصقة، أو متقاربة بعضها ببعض.

فلعل المراد من ذلك: أنّ الإمام المهدي عليه السلام حيث إنّه يسير علي نظام الإسلام في كل صغيرة وكبيرة، ومن

ذلك تطبيق قانون «إحياء الموات» فإنّه لأجل هذا القانون يزداد الحرث والزرع، وتكثر العمارات والبنايات، حتّي تلتصق بعض المدن ببعض، أو تتقارب!

ثمّ إنّه كيف يكون مصير أمة طبقت نظام «إحياء الموات»؟

من المعلوم إنّ مصيرها يكون من حسن إلي أحسن، إذ في ظلّه لا تبقي الأيادي العاملة عاطلة عن العمل، بل يشتغل الجميع، ويستثمر الجميع الأرض والماء، والشمس و الهواء، ويسخّرها لخدمته وخدمة الآخرين، حتّي تبلغ تلك المرحلة التي تغزو فيها العالم كلّه بانتاجاتها.

إنّ «اليابان» التي غزت انتاجاتها بعض البلاد، لم يكن إلاّ من أجل تسهيلها شيئاً قليلاً في العمل والصناعة، وإعطائها نصيباً ضئيلاً من حرية العمل والإنتاج.

فلو أطلقت اليابان الحرية: للعمل، والزراعة، والصناعة، والتصدير والاستيراد وغيرها علي ما هو في الإسلام، فماذا يكون؟

وعليه: فبماذا يُفسر هذا التدهور الموجود عند المسلمين في الزراعة؟ وماذا يكون معني تقهقر العمران في بلادهم؟

إنه ليس إلاّ من جراء ترك نظام الإسلام، والسير علي مناهج الغرب والشرق.

تدهور العمران في القانون الوضعي

إنّ القوانين الوضعية المستوردة من الشرق والغرب مثل قانون الإصلاح الزراعي وغيره، هي التي تقف سدّاً منيعاً دون تعميم العمران في الأرض كما أنّها هي التي تكون حاجزاً صلباً دون ازدهار الزراعة في البلاد!

إنّ الإنسان في بلادنا اليوم لو أراد عمارة أرض، أو زراعة قطعة فلابد أن يقع أمامه العقبات التالية:

عقبات في طريق العمران

العقبة الأولي

1: شراء الأرض، مع ما في ذلك من صعوبات وعقبات!

فمشتري الأرض يلزم عليه ما يلي:

أ أن تكون له جنسية الدولة التي هو فيها غالباً.

ب أن لا يكون مسؤولاً بتبعات حكومية.

ج أن يدلي عريضة إلي الجهات المختصة الحكومية يدوّن فيها مقدار الأرض، ومساحتها، وشكلها الهندسي، واسمه، واسم أبيه، وأوصافهما، وجنسيتهما، وتاريخ الجنسيتين، وغير ذلك، وغير ذلك.

د أن يلصق في آخر العريضة طابعاً مالياً، ذا كمية معينة.

ه أن تذهب العريضة لتبقي أشهراً، بل سنوات إذا لم يكن للمشتري وسائط ورشوات تسيّر عمله سريعاً تلتفّ وتدور في مختلف الدوائر، حتّي تخرج النتيجة بالموافقة، أو عدم الموافقة، أو الموافقة علي بعضها، وعدم الموافقة علي البعض الآخر.

وبعدما تمّ شراء الأرض، وبذل كل من المشتري والبائع جهوداً، وأموالاً، وأفني طاقات يأتي دور العقبة الثانية:

العقبة الثانية

2: تسجيل الأرض في دائرة الطابو أو التسوية! وهل من مناص عن ذلك؟

كلا!

إنّه لو لم يسجلها في مديرية الطابو، أو التسوية سوف تغصب عنه قهراً، ولا تسمع الحكومة لإدّعاء المشتري علي الغاصب!

وهل هذا أمر سهل؟

كلا!

فإنه يحتاج إلي الذهاب، والإياب في المديريات، والمحاكم، وغيرها، إلي أن يسجل في الطابو أو في التسوية!

ثمّ بعد هذا يأتي دور: العقبة الثالثة:

العقبة الثالثة

3: تقديم عريضة رسمية يطلب فيها مشتري الأرض من الحكومة الإجازة للبناء، أو الزراعة.

وهذا مثل سابقيها يجب فيه تقديم عريضة، كذا، وكذا، مع بيان الكمية التي يريد بناءها

أو زرعها من الأرض.

ويجب أنّ تتوفر الشروط السابقة في القائم بالزرع والبناء، حتّي يأتي السماح بالبناء، أو الزرع!

وبما أن زراعة مطلق أقسام الزرع ليست حرّة، فلا يستطيع الزارع أن يزرع ما يشاء، فيجب عليه في العريضة بيان ما يلي:

أ ما يزرع!

ب ما هو مقدار الزرع!

ج وغير ذلك، من أشياء اُخري ترتبط بالزراعة.

وكذلك البناء، فبما أنّه ليس مطلق البناء حُراً، فلا يستطيع الذي يريد البناء أنْ يبني ما يحبّ ويريد، بل يجب عليه أن يبيّن في العريضة الأمور التالية:

أ ما يبني!

ب ما هو مقدار البناء!

ج وغير ذلك مما يرتبط بأمر البناء!

فلابدّ من تجاوز هذه العقبات حتّي يتم للشخص بعد هذه المتاعب، وبعد بذل تلك الجهود، والأموال، والطاقات أن يبني داراً، أو يزرع قطعة من الأرض!

ازدهار العمران في ظلِّ نظام الإسلام

وتعال معي إلي البناء والزراعة في ظل حكم الإسلام، كيف يتم للشخص بسهولة وبساطة، بناء أرض أو زرعها:

الأرض بالمجان

أولاً: يبيح الإسلام بالمجان وكهدية سائغة الأرض لمن أحياها، كما دلّت علي ذلك النصوص الكثيرة، التي قدّمنا بعضاً منها.

تعاقب الأيدي علي الأرض

ثانياً: إذا أحيي شخص أرضاً، ثمّ تركها حتّي ماتت، فيجوز لآخر أن يحييها بالزرع والبناء مجاناً، وليس للمحيي الأول حق المنع عن إحيائها، إلاّ إذا كان المحيي الأول مالكاً لها، بوجه من الوجوه الشرعية، فيؤدي المحيي الثاني أجرة الأرض إلي صاحبها أو يشتريها منه.

فعن معاوية بن وهب، قال: سمعتُ أبا عبد الله (يعني: الإمام الصادق عليه السلام) يقول: «أيما رجل أتي خربة بائرة فاستخرجها، وكري أنهارها وعمرّها، فإنّ عليه فيها الصدقة () فإن كانت أرضاً لرجل قبله، فغاب عنها وتركها وأخربها، ثمّ جاء بعدُ فطلبها فإن الأرض لله ولمن عمّرها» ().

وعن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر (يعني: الإمام الباقر عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي عليه السلام:

«إنّ الأرض لله يورثها مَنْ يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ونحن المتقون، والأرض كلّها لنا، فمن أحيي أرضاً من المسلمين فليعمرها، وليؤد خراجها إلي الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها، فإن تركها وأخربها، فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها … » ().

وذلك لأنّ الإسلام يهدف تكثير الزرع، وتوسيع البناء، فالشخص مادام هو مشغولاً بإحياء الأرض ليس لأحد معارضته.

أما إذا ترك الأرض، حتّي صارت مواتاً خراباً، فلا تبقي له سلطة عليها، وترجع إلي حالتها الأولي مباحة لمن عمرها وأحياها.

الإحياء بلا قيود مانعة

ثالثاً: لا يوجب الإسلام لإحياء الأرض الجرداء التي لا مالك لها، ولا لشرائها أو استئجارها، تقديم عريضة إلي الحكومة، والاستئذان منها، والتسجيل في الطابو أو التسوية، أو غير ذلك، والذهاب والمجيء، واللف والدوران، وبذل الجهود والأموال وإفناء الطاقات وغير ذلك في الروتينيات. إذ أنّ هذه القيود هي التي تقف دون ازدهار الزراعة،

وتمنع عن تقدم العمران.

ولذلك نري الإسلام لا يقرّ شيئاً من تلك الأمور، بل يعتبر بناء مجرّد حائط حول أرض شروعاً في إحيائها، ويكتفي بها.

فقد روي عن النبيّ صلي الله عليه و اله أنّه قال: «مَنْ أحاط حائطاً علي أرض فهي له» ().

وعليه فكل مَنْ بني حائطاً في أطراف أرض، كان ذلك بمنزلة شراء تلك الأرض، وتسجيلها في الطابو أو التسوية وتحصيل الإجازة، للبناء والزراعة، وما إلي ذلك.

ثمّ إنّ الإسلام لا يتعرّض لتحديد مقدار البناء، والزرع، كما تحدد ذلك الحكومات اليوم في العالم. بل بالعكس يحبذ الإسلام التوسعة في البناء والزرع إلي حدٍّ لم يكن فيه هضم حقوق الآخرين.

فإلي أيّ مقدار تتصور تقدّم العمارة في البلاد في ظل الإسلام؟

وإلي أي مدي تظن ارتفاع المستوي الزراعي في حكم الإسلام؟

مقابلة النتائج ومقايستها

ولما تحكّمت في البلاد الإسلامية قوانين الشرق والغرب المستوردة، التي تحدّ من نشاط البناء والزرع، اكتنز الأغنياء المثرون ثرواتهم التي لم تكن الحكومات تسمح بصرف مجموعها في البناء والزرع، وجمّدوها عن المشاركة والاستثمار، فبقيت علي أثر ذلك الأيادي العاملة عاطلة عن العمل، حيث إنهم فقراء ولا مال لهم يبنون به أو يزرعون..

فتقلّص الزرع وتدهور الاقتصاد، وكثرت البطالة وساد الفقر جميع البلاد.

وهنا بادرت بعض الحكومات في البلاد الإسلامية واستجارت من الرمضاء بالنار، وجاءت بقانون: الإصلاح الزراعي، لتوفير الزراعة، فصنعوا لها وزارة أسموها: وزارة الإصلاح الزراعي، ووضعوا فيها قوانين لاستخراج الأرض المملوكة لأناس من أيدي مالكيها، وتوزيعها علي الفلاحين. وذلك ليعمل كل فلاح في قطعة أرض له ويزرعها، بغية أنْ تتقدّم الزراعة، ويعم الزرع البلاد!

ولكن النتيجة كانت عكسية ذلك حيثُ تراجع الزرع وتقلّصت المزارع، أكثر فاكثر.

نعم إننا حينما ننظر إلي الوضع الزراعي والأمور الزراعية للبلاد الإسلامية نجد الزراعة في العهد

الإسلامي أوفر بعشرات المرات من الزراعة في أحضان قانون الإصلاح الزراعي الوضعي.

أمثال ونماذج

فالعراق مثلاً كانت كلُّ أرضها مزروعة في العهد الإسلامي، بينما اليوم الذي أصبح للإصلاح الزراعي وزارة فيها نري أرض العراق قد أصبحت جرداء في طولها وعرضها، لا غرس ولا زرع فيها إلاّ القليل والقليل منها.

ولو أردنا أنْ نقيس البلاد الإسلامية قبل الإصلاح الزراعي بما بعد الإصلاح الزراعي لوجدنا البون شاسعاً أيضاً.

فهذه العراق المعروفة بأرض السواد مثلاً كانت قبل الإصلاح الزراعي الوضعي تُصدّر الطعام إلي الخارج سنوياً، بينما نراها حينما جاء فيها قانون الإصلاح الزراعي ووزعت الأرض علي الفلاحين، أصبحت تستورد الطعام من الحنطة والشعير والأرز وغيرها من الخارج سنوياً!

وهذه إيران أيضاً كانت تموّن مدناً كثيرة في خارجها بالطعام قبل الإصلاح الزراعي الوضعي، فلما جاءت الحكومة بالإصلاح الزراعي الوضعي، تدهور الاقتصاد، وقلَّ الزرع، وتقلّصت الزراعة حتّي آل الأمر إلي استيراد إيران الحنطة وغيرها، من الخارج!

فمن أين هذا التدهور السريع؟

وعلي أي شيء يدل؟

إنّه إنْ دلَّ علي شيء فإنّه يدلُّ علي أن قانون الإصلاح الزراعي الوضعي يُحطّم الزراعة، كما قد تحطمّت زراعة الدول حينما سادها هذا القانون! ولو كانت الحكومات اليوم تبذل ما تصرفه من أموال طائلة علي وزارة الإصلاح الزراعي وتوابعها، في إجراء أنابيب الماء، وإيصال أسلاك الكهرباء إلي كلِّ منطقة تُزرع أو تبني وكانت تسمح بالزرع والبناء كما سمح الإسلام «مَنْ أحيي أرضاً ميتة فهي له، قضاء من الله ورسوله».

لكانت الأراضي الجرداء لا تمرُّ عليها إلاّ مدة يسيرة حتّي تنقلب دوراً وقصوراً، ومزارع وبساتين ينعم الناس فيها هادئين مطمئنين، ويعيشون في ظلّها متنعّمين غانمين، عيشة ملئها السعادة والهناء، والغني والثراء، وانتعاش المال والاقتصاد.

فواصل بين النظامين الزراعيّين

الإسلامي والوضعي

وحينما نطالع نظام الإسلام في إحياء الأراضي، وننظر في قانون الإصلاح الزراعي الوضعي نجد بينهما فرقاً كبيراً، وبوناً شاسعاً، وفواصل كثيرة، تدلّنا

علي مدي حصافة الإسلام في سن النظام الزراعي، وبلوغه القمة في استثمار أكبر قدر ممكن من الأرض، وإعماره بالزرع والبناء.

كما وتدلّنا أيضاً علي مدي هزالة القوانين الوضعية وتقهقر الزراعة والبناء في ظلِّ قانون الإصلاح الزراعي الوضعي.

ونحن نشير هنا إلي بعض تلك الفواصل، ليكون نموذجاً حياً يُقاس عليه بقية الفواصل الموجودة بين قانون السماء، والقانون الوضعي، ونُحيلُ القارئ الكريم بعد ذلك إلي مطالعة كل من إحياء الموات الإسلامي الذي هو قانون السماء، ونظام الإسلام في إحياء الأراضي، وقانون الإصلاح الزراعي الذي هو قانون وضعي ونظام مستورد في الزراعة، ليلمس هو بنفسه الفواصل الكثيرة التي لم نتطرق إلي ذكرها، كي يعرف نجاح الإسلام في سنّ نظام إحياء الأراضي، وفشل القانون الوضعي في سنن قانون الإصلاح الزراعي!.

وأمّا تلك الفواصل التي وعدنا أنْ نشير إلي بعضها، فهي كالتالي:

الفاصل الأول

تحديد كمية الإعمار

1: الفاصل الأول بين نظام الإسلام الزراعي وقانون الإصلاح الزراعي الوضعي هو: تحديد كمية الإعمار وتقليص العمران، فإنّ الإسلام يبيح عمارة الأرض بالزرع، والبناء، من غير تحديد لمقدار العمارة، فهو يدع الناس يبنون ويزرعون، مهما تمكنوا علي البناء والزراعة، وأي قدر يستطيعون، ما لم يكن فيه هضم لحقوق الآخرين.

وعليه: فلا ينبري الإسلام في وقت من الأوقات ليمنع شخصاً عن البناء والزراعة، وإن عمّر آلاف الكيلو مترات من الأرض.

بل الإسلام يشجّع هكذا إنسان، ويؤيده، ويمدّه بالعون، لتخضر الأرض بالزرع، وتملأ بالبناء، فترخص الأسعار، ويعيش الجميع في هناء..

وقد أسلفنا في أوائل الكتاب بعضاً من الأحاديث الواردة في تشجيع الزارعين، مثل حديث الإمام الصادق عليه السلام التالي:

«يزرعون طيباً أخرجه الله عزّوجلّ، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً، وأقربهم منزلة، يدعون المباركين () وغير ذلك.

ولكن الإصلاح الزراعي المستورد لا يبيح للفرد أنْ يزرع

إلاّ مقداراً محدوداً وإن كان له نشاط في تعمير أضعاف ذلك المقدار.

تقرير وأرقام

أنظر التعهدات والمواد التالية:

يقول الدكتور عبد الصاحب علوان أستاذ الاقتصاد الزراعي، المساعد العام ونائب عميد كلية الزراعة في جامعة بغداد سابقاً ما يلي:

لقد نصّ قانون الإصلاح الزراعي المصري رقم 178 لسنة 1952 علي أنّ: «توزع الأراضي المستولي عليها في كلّ قرية علي صغار الفلاحين بحيث يكون لكل منهم ملكية صغيرة لا تقل عن فدانين، ولا تزيد علي خمسة أفدنة () تبعاً لجودة الأرض».

أما قانون الإصلاح الزراعي في سوريا لسنة 1958 فقد نصَّ علي أنّه: «توزّع الأراضي المستولي عليها في كلِّ قريةٍ علي الفلاحين، بحيث يكون لكلِّ منهم ملكية صغيرة لا تقل عن ثمانية هكتارات()».

ونصّ قانون الإصلاح الزراعي العراقي رقم 30 لسنة 1958 في المادة الحادية عشر منه علي ما يلي:

«توزع الأرض المستولي عليها: ويكون التوزيع علي الفلاحين بحيث تكون لكل منهم ملكية صغيرة لا تقل عن ثلاثين دونماً ()».

وفي إيطاليا كان الحد الأدني المقرر للتوزيع يتراوح بين سبعة هكتارات إلي ستة عشر هكتاراً».

«وتترواح مساحة الملكية الموزعة في فنلندة بين خمسة عشر إلي سبعة وثلاثين فداناً».

«ويبلغ متوسط المساحة الموزعة في يوغسلافيا بحوالي أربعة عشر فداناً».

«وفي تشيكوسلوفاكيا احتفظت الدولة بحوالي ثلثي مساحة أرضها للمزارع الحكومية، وللاستثمارات التعاونية، ووزعت الثلث الباقي بوحدات استثمارية مساحتها خمسة هكتارات في أراضي البنجر، وثمانية هكتارات في المناطق المزروعة بالبطاطة، وخمسة عشر هكتاراً في أراضي المراعي … ».

«وفي بولندة صدر قانون (الإصلاح الزراعي) في سنة 1944 علي أساس مماثل للأسس التي شرعت بموجبها قوانين الإصلاح في تشيكوسلوفاكيا … ».

«وفي هنغاريا (المجر) أخذ بنظر الاعتبار عند التوزيع موقع الأرض ونوعيتها، ونوع الزراعة المطبقة فيها، ففي الأراضي المزروعة بالمحاصيل الحقلية لم تزد المساحة

الموزعة عن خمسة عشر فداناً، وفي أراضي البساتين لن تزد عن ثلاثة أفدنة … ».

«وفي المكسيك تزرع الأراضي الزراعية بمعدل ثمانية هكتارات من الأراضي المروية (أي: التي تروي بنفسها من الأرض فلا تحتاج إلي ماء قليل) وثلاثين هكتاراً من الأراضي الأخري (أي: الجافة) لكل عائلة … ».

«وفي كوبا نص قانون الإصلاح الزراعي الكوبي الصادر في 17 مايس سنة 1959 علي أن يكون الحد الأدني للمساحة الموزعة علي الفلاحين: كاباليرياين اثنين (أي: ما يعدل ستة وستين فداناً … » ().

هذه مواد مقتطفة عن قوانين الإصلاح الزراعي في بعض البلاد، قد رأيت أنّها جميعاً بلسان واحد تحدد مقدار الزراعة المسموحة للفلاحين والزارعين، سواء في ذلك البلاد الإسلامية منها، وغير الإسلامية؟

إنما الفرق في مقدار التحديد، فمصر بين فدانين وخمسة أفدنة، وسوريا بين ثمانية هكتارات فما فوقها بقليل، والعراق بين ثلاثين دونماً وستين دونماً، وإيطاليا بين ستة هكتارات وستة عشر هكتاراً، وفي فنلندة بين خمسة عشر فداناً إلي سبعة وثلاثين فداناً، وهكذا، وهكذا.

من أضرار تحديد كمية الإعمار

وعلي نفس هذا النمط يكون الإصلاح الزراعي الوضعي في بقية البلاد، فكل بلد دخله هذا القانون الوضعي كان أحد مواد تحديد مقدار الأرض المعطاة للفلاح أو الزارع، وهذا هو من الأخطاء الجسيمة التي اشتمل عليها هذا القانون.

وهذه النقطة: هي «تحديد كمية الإعمار والزرع» محطة توليد مفاسد كثيرة تؤدي بالزرع والزارعين، وتُسقط البلاد في حضيض التقهقر الاقتصادي، ونشير فيما يلي إلي بعضها.

تعطيل الأراضي عن الإعمار

أولاً: تعطيل الأراضي وتجميد الطاقات البشرية من التقدم والإعمار، فإنّ الناس يختلفون كثيراً في مقدار القوة والنشاط والاستعداد، فهناك شخص يستطيع أن يعمل في كل يوم ست عشر ساعة دون أن يصيبه كلل، أو يلحقه أذي.. بينما تري بعض الناس لو عمل في اليوم الواحد خمس ساعات أردي به المرض في الفراش.

وهكذا قد يكون إنسان متوقداً نشطاً في حين أنّه يوجد إنسان ليس له من التوقّد والنشاط إلاّ الشيء الضئيل!

فإعطاء سبعة هكتارات (أي ما يعادل 000/70 متر مربع) من الأرض لعائلة تستطيع أنْ تزرع، وتقدر أن تعمر من الأرض أضعاف ذلك في السنة ظلم مجحف، وتعطيل لطاقات كثيرة دون مبرّر، وتبديد لنشاط متوقد دون سبب.

كما أنّ منح سبعة هكتارات من الأرض لعائلة لا تتمكن من الإعمار والزرع فوق هكتارين أو ثلاثة هكتارات في السنة تعطيل للأرض، وتبذير لها، وإحتكار لخيراتها ومنافعها.

إذن فمن الجفاء وعدم الحكمة تحديد الأرض المعطاة للزراعة والغرس وغيرهما.

ولكن قانون الإصلاح الزراعي لا يبيح للشخص أنْ يزرع أكثر مما وزع عليه من الأراضي، وإن كانت إمكاناته كفيلة بإحياء أضعاف ما أ ُعطي من الأرض، بل يغرّم ويعاقب عقوبة شديدة لو فعل ذلك.

أنظر إلي التصريح التالي من قانون الإصلاح الزراعي العراقي رقم (30) لسنة 1958م.

«المادة السادسة والأربعون: يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن

ستة شهور، وبالغرامة التي لا تتجاوز مأتي دينار، أو بإحدي هاتين العقوبتين: كل طرف في علاقة زراعية استولي عمداً علي حصص تزيد عن الحصص المقررة له قانوناً» ().

إنّ الاستيلاء غير العدواني إذا كان لأجل الإعمار والزرع والإحياء فمن الواجب علي السلطة المسؤولة التقدير من هكذا إنسان يعمل أكثر من المتعارف، والتشجيع له وترغيبه بتقديم المِنح والجوائز إليه.

فلا يصح تطبيق هذه المادة علي إطلاقها من دون تقييدها بكون الاستيلاء عدوانياً أو من دون قصد الأحياء.

إخماد النشاط الزراعي

ثانياً: إخماد نشاط الزراعة عند المزارعين من أصحاب الأراضي الزراعية، فإنّ هناك خطأ ً أخر ينجم عن هذا التحديد، في حين أنّ الإسلام عالج هذا الخطأ أيضاً بعدم التحديد:

وهو أنّ الشخص إذا عرف أنّ له هذا المقدار من الأرض، وأنّها ملك له سواء قام بإعمارها وزرعها أم تركها بائرة جرداء بلا إعمار وزرع، فلا شك أنّه يسوّف في القيام بزراعتها وإعمارها والاستفادة منها، فتمر السنون والأعوام وهو لم يستفد إلاّ من بعض تلك القطعة، وفي ذلك يكون أكبر ضرر قاصم في الاقتصاد.

أما إذا عرف الشخص أنّه بقدر ما يزرع من الأرض يملكها سواء كان قليلاً، أم كثيراً فإنّه يكون حافزاً له علي أن يزرع قدراً أكبر من الأرض.

مثلاً: إذا علم أنّه لو زرع هكتاراً واحداً من الأرض ملك هكتاراً واحداً فقط ولا يملك أكثر من هكتار، بينما لو زرع ألف هكتار يملكها برمتها، فإنّه لا ريب في أنّه يعمل دائباً ويزرع ويغرس دائماً، وذلك للاستزادة من تملّك الأرض، فتري الشخص الواحد يزرع ويغرس في الأرض أضعاف ما كان يزرعه ويغرس فيه لو كانت قطعته الخاصة به معلومة الحدود، محصورة المقدار.

وفي ظل إلغاء التحديد هذا تزداد الزراعة يوماً فيوماً وتعمر الأرض بالمزارع

المترامية الأطراف الشاسعة الواسعة..

وفي أثرها يكون انتعاش الاقتصاد، واستئصال الفقر والجوع، واتساع المحاصيل والمنتجات، وانخفاض الأسعار، وارتفاع الغلاء.

وحيث كان الإسلام حكيماً ويحيط منذ بدئه وذلك قبل أربعة عشر قرناً بهذا الخطأ الكبير في التحديد، ألغي تحديد الأراضي للزراعة والبناء علي حدٍّ سواء، وجاءت الأحاديث الشريفة تصرّح بإباحة الأرض لمن عمّرها دون أي قيد أو تحديد. وقد سبق في أوّل الكتاب بعض تلك الأحاديث التي كان منها حديث الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله: «موتان الأرض لله ورسوله فمن أحي منها شيئاً فهو له» ().

فلم يحدد (صلّي الله عليه وآله) مقدار الإحياء.

وبهذه الالتفاتة الذكية الحكيمة إلغاء تحديد الزراعة والبناء تمكن الإسلام من تشغيل الطاقات في رفع المستوي الاقتصادي

في الوقت الذي لم يبذر في سبيل ذلك شبراً من الأرض يذهب

هباءً.

تزلزل المقادير والحصص

ثالثاً: مشكلة التعديل المتسبّب لعدم الاستقرار في الحصص الموزّعة علي المزارعين وتزلزل مقاديرها لديهم، فإنّ تاريخ الإصلاح الزراعي يثبت وجود خطأ ثالث نتيجة لتحديد الأراضي وهو مشكلة التعديل، والزيادة والتنقيص.

فهم يحددون المقدار المعطي للأفراد من الأرض يحددونه بحدود ثمّ لا تمر شهور عن تنفيذ نظام الإصلاح الزراعي إلاّ وتتمثل أمامهم هذه المشكلة وهي أنّ المقدار المحدد زائد بالنسبة لبعض الأفراد وقليل بالنسبة لآخرين، فيقومون بالتعديل والتنقيص من بعض، والزيادة علي بعض؟

وهل تحسم المشكلة هنا؟

كلا!

فبعد التعديل أيضاً يفاجئهم خطأ في نفس التعديل، فينهضون بإجراء تعديل لذلك التعديل.

وهكذا تبقي عمليات التعديل تجري، بالتزويد والتنقيص مادام الإصلاح الزراعي قائماً علي قدم وساق.

ومن أجل هذا وغيره وضعت وزارة خاصة بتوابعها الكثيرة، وأعبائها الباهضة لذلك، وسميت باسم: وزارة الإصلاح الزراعي.

وفي بعض المناطق بلغ اتساع الخرق حداً لم يكد يصلح بالتعديل الجزئي للأراضي الموزعة علي الأفراد، مما جعلت الحكومة تلتجئ إلي تعديل

أصل المقدار المحدّد من جذره.

ثمّ إنّه بعدما أجري التعديل الكلّي في التحديد الجديد، ووزعت الأراضي للمرة الثانية بعد التعديل الكلّي لم تمرّ أيام إلاّ وشعرت الحكومة بفساد التعديل الجديد، فقامت للمرة الثالثة بتوزيع الأراضي بعد إجراء التعديل الكلّي عليها ثانياً كل ذلك في ظرف سنتين أو ثلاث سنوات.

تقرير الأستاذ: العلوان

يقول الأستاذ عبد الصاحب العلوان في كتابه:

«توزيع الأراضي الزراعية العائدة للقري إلي أهالي القرية بمعدل أربعة هكتارات لكلِّ شخص في الأراضي المروية إرواءً طبيعياً كافياً، وثمانية هكتارات في الأراضي المطرية (الجافة).

وثم عدل القانون فأصبحت الوحدة الموزعة ستة هكتارات في الأراضي المروية واثني عشر هكتارات في الأراضي الديمية.

ثمّ عدل مرة أخري في سنة 1945م فأصبح التوزيع الجديد بمعدل ثمانية هكتارات من الأراضي المروية وثلاثين هكتاراً من الأراضي الأخري لكل عائلة()».

مع أنّ هذه التعديلات اُجريت في الإصلاح الزراعي في بلاد المكسيك التي تعتبر في طليعة البلاد الراقية الخاضعة للإصلاحات الزراعية العالمية، يقول الأستاذ العلوان نفسه وفي كتابه الآنف: «يُعتبر الإصلاح الزراعي المكسيكي من الإصلاحات الزراعية المهمة المشهورة» ().

فإذا كان الإصلاح الزراعي المشهور بالأهمية تجري عليه يد التعديل مرتين في مدة سنتين أو ثلاث سنوات فكيف بالإصلاحات الزراعية غير المهمة؟

إنّها بلا ريب تكون أحوج إلي التعديل سواء عدلت أم لا تعدل فكيف يعتمد عليها؟

الفاصل الثاني

تحجيم القائم بالإعمار

2: والفاصل الثاني بين نظام الإسلام الزراعي، وقانون الإصلاح الزراعي الوضعي هو: تحجيم القائم بالإعمار وتحديده، فإنّ الإسلام لايقيّد تعمير الأرض وإحيائها بالبناء والزراعة بقيود في المعمّر والمحيي، فهو يعطي أرض الله لعباد الله يزرعون ويحيون كيف كان لونهم، ومهما كانت جنسياتهم، وأي قدر كانت أعمارهم، إلي غير ذلك، كي يستطيع أي إنسان فيه شيءٌ من النشاط والقوة من تعمير الأرض وإحيائها بعد الموت، واستثمارها بعد البوار. فهو يهتف من فم الرسول الأكرم صلي الله عليه و اله: «عادي الأرض لله ولرسوله، ثمّ هي لكم مني فمن أحيي مواتاً فهي له» ().

وذلك من دون قيد أو شرط إطلاقاً: سواء كان المحيي ممن حرفته الزراعة والبناء أم لا؟

وسواء كانت له أرض سابقة أم

لا؟

وسواء كانت أراضيه قليلة أم كثيرة؟

وسواء كان بالغاً من العمر السن الثامنة عشرة أم لا؟

وسواء كان عراقياً، أم مصرياً، أم إيرانياً، أم تركياً، أم هندياً أم كردياً، أم غيرهم؟

وسواء، وسواء، وهلّم جرا؟

ولكن نظام الإصلاح الزراعي كما يقيّد الزرع والعمران بتحديد مقادير الأرض، فكذلك يقيّد زرع الأرض وعمارتها بقيود في الزارع مما تجعل الزراعة والعمارة تتقلص بنسبة كبيرة؟ وتبقي الأراضي معظمها يابسة جرداء، لا زرع فيها ولا بناء.

وإليك نموذجاً واحداً في هذا المجال وذلك علي ما يحدّثنا به الدكتور عبد الصاحب العلوان يقول: «وتشترط المادة الثانية عشرة من القانون أي: من قانون الإصلاح الزراعي العراقي فيمن توزع عليه الأرض:

أ أنْ يكون عراقياً بالغاً سن الرشد().

ب أن تكون حرفته الزراعة.

ج إنّ أقل ما يملكه من الأراضي الزراعية عن ستين دونماً تسقي سيحاً أو بالواسطة، أو عن مائة وعشرين دونماً تسقي ديماً ().

ومعني هذا أنّ الإصلاح الزراعي الوضعي لا يشمل الأشخاص التالين:

1: غير العراقيين مطلقاً الذين يشكلّون قرابة عشرة بالمائة من نفوس العراق.

2: غير البالغين في العمر السنة الثامنة عشرة.

3: أولئك الذين ليست حرفتهم الزراعة وهم نصف العراقيين تقريباً.

4: أولئك الذين لا يقل ما يملكونه من الأراضي عن ستين أو عن مائة وعشرين دونماً.

إذن فمن بقي؟ ومن الذين لا يحرمون من الإصلاح الزراعي؟

إنّهم أقل من عشرين بالمائة من مجموع النفوس، فكيف تتقدم الزراعة وتخضر الأرض، ويترفع الاقتصاد مع هذه التحديدات؟

وهل يرجي معها خير بعدئذٍ؟

إنّ الإسلام يرفض كلَّ هذه التحديدات، فانظر بإمعان في الفرق بين الإسلام والقانون الوضعي في هذه الفقرة منه؟

إنّه لو كان السير علي منهاج الإسلام لكان الذين يشملهم نظام إحياء الموات الإسلامي هم: مائة في مائة من الناس، لأنّه يلغي التحديدات كلّها، ولا يعترف بشيء منها

أبداً، ولكن الآن وفي ظل قانون الإصلاح الزراعي الوضعي تري أنّه لا يشمل إلاّ عشرين بالمائة من الناس علي أكبر تقدير.

فما النسبة؟ وكم الفرق؟

إنّه بنفس هذه النسبة، وبقدر هذا الفرق، ينشأ الفرق ضعفاً وقوة في الاقتصاد.

فالترفع الاقتصادي في ظل نظام الإسلام يكون بنسبة مائة في المائة، بينما الترفع الاقتصادي في ظلِّ الإصلاح الزراعي يكون بنسبة عشرين بالمائة علي أكثر تقدير.

ولو درسنا هذا الموضوع بدقة لم يبق لنا مجال للتعجب حينما نقرأ ونسمع أنّ الزراعة تنكمش وتتقلّص كثيراً في ظل قانون الإصلاح الزراعي الوضعي، عنها في ظل نظام الإسلام الزراعي؟

بل لا نقيم أي وزن لقانون الإصلاح الزراعي الوضعي أمام نظام الإسلام الزراعي.

الفاصل الثالث

تخصيص الأرض بأوليات موهومة

3: والفاصل الثالث بين نظام الزراعة في الإسلام، وبين قانون الإصلاح الزراعي الوضعي هو: تخصيص الأرض بأوليات موهومة غير واقعية، مما يعرقل تقدّم الزراعة وتطوّرها، فإنّ الإسلام لا يري لأحد أولوية علي آخر في عمارة أرض بالزراعة أو البناء؟

فالناس بنظر الإسلام سواسية كأسنان المشط، وكلُّ مَنْ سبق إلي أرض ميتة فأحياها فهو أحق بها من غيره، كما صرّحت بذلك الأحاديث الشريفة، ومنها حديث الإمام الباقر عليه السلام:

«أيما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عمّروها فهم أحق بها» ().

وهذا هو أحد الأسباب التي تمكن الإسلام عبرها من تبديل الفيافي الشاسعة الجرداء، والصحاري الواسعة الملساء إلي جنان ومزارع،، وحقول وبساتين، ولم يحتكر الإسلام أرضاً لقوم

لا يستفيدون منها مادام هناك مَنْ يستثمرها ويزرعها، ويقوم بإحيائها.

ولكن قانون الإصلاح الزراعي الوضعي يري لبعض الناس أولوية علي الباقين بالنسبة لإحياء بعض الأراضي، سواء قام مَنْ هو أولي بالزراعة والإحياء أم لم يقم بها وإنما ترك الأرض قاحلة

ميتة.

بنود ومواد في الأولويات الوضعية

اقرأ معي المواد التالية، والبنود الآتية من الأولويات الموهومة في قانون الإصلاح الزراعي الوضعي في بعض البلاد:

«لقد روعي في فنلندة عند توزيع الأراضي المستولي عليها أنْ تكون الأولوية ممّن فقد أرضاً كان يمتلكها أو يستأجرها في المناطق التي استقطعت من فنلندة عند تقدير الحدود بعد الحرب العالمية الأخيرة.

ويأتي في الدرجة الثانية في التوزيع المسرّحون من الخدمة العسكرية واليتامي الذين فقدوا ذويهم في الحرب العالمية.

ويأتي بعد هؤلاء جميعاً: المستأجرون، والعمال الزراعيون ممن كانوا بغير عمل» ().

«وفي (يوغسلافيا) قد اُعطيت الأولوية للزارعين الذين كانوا في الخدمة العسكرية، والمحاربين القدماء وعوائل الأسري» ().

«وفي (كوبا) توزع الأراضي علي المزارعين المعدمين والعمال الزراعيين الذين يعملون ويسكنون في نفس الأرض الموزّعة، وإلي المزارعين المعدمين الآخرين في المناطق

الأخري التي لا توجد فيها أراضي كافية للتوزيع …

ويفضلّ من بين هؤلاء جميعاً:

مَنْ كان من جنود الثورة وضباطها.

أو كان من ضحايا الحرب.

أو من الذين كانت الحكومة السابقة ساخطة عليه.

أو من اليتامي الذين فقدوا ذويهم في الثورة ضد حكم الطغاة» ().

«وفي (مصر) تكون الأولوية لمَن كان يزرع الأرض فعلاً مستأجراً أو مزارعاً.

ثمَّ لمن هو أكثر عائلة من أهل القرية.

ثمّ لمن هو أقل مالاً منهم.

ثمّ لغير أهل القرية» ().

«وفي (العراق) تكون الأولوية لمن كان يزرع الأراضي فعلاً مستأجراً، أو مشاركاً، أو مزارعاً.

ثمّ لمن هو أكثر عائلة.

ولمن هو أقل مالاً من أهل المنطقة.

ثمّ لغير أهل المنطقة» ().

أقوال وتصريحات

فهذه الأقوال والتصريحات والعشرات من غيرها لمختلف دول العالم تقر مادة التوزيع علي الأوْلي فالأولي من الناس. ورأيت كيف كانت هذه النصوص تطلق الأولوية لبعض سائر الناس من دون تقييدها بالإحياء والزراعة؟

فمثلاً: مَنْ هو أكثر عائلة أولي من غيره، وإن كان لا يقوم بإحياء الأرض وإن كان غيره مستعداً للقيام بالزراعة والغرس.

وأهل القرية أو أهل المنطقة أولي من غيرهم، سواء قاموا بالإحياء أم لا، وسواء كان غيرهم جاهزاً للإحياء أم لا!

وفي بعض الدول يصرّح قانون الإصلاح الزراعي الوضعي بوجوب السير علي هذا الترتيب في توزيع الأراضي، وأنّه ليس لأحد الحق في خرق هذه الأولوية، وإعطاء الأرض لأناس مادام هناك مَنْ يصرّح القانون بأولويته من غيره، وتقدمه علي سواه.

يقول قانون الإصلاح الزراعي العراقي في هذا المجال: «وهذا الترتيب (يعني: الترتيب الذي قدّم بعضاً علي آخرين) ينبغي الأخذ به ولا مجال للجان التوزيع الاجتهاد في تفسير هذا النص» ().

وقد كان فشل الإصلاح الزراعي في بعض المناطق، وبوار كثير من الأراضي، نتيجة لهذه المادة من هذا القانون الوضعي.

وذلك لأنّ الأراضي كانت توزّع علي المزارعين

والفلاحين وغيرهم بحسب هذا القانون الوضعي وأولوياته الموهومة، من دون مطابقته للهدف المقصود من التوزيع الذي هو إحياء الأراضي بالزراعة، فكانت توزّع مثلا: لهذا ثلاثة هكتارات، ولذاك أربعة هكتارات، وللآخر خمسة هكتارات، وهكذا من دون ضمانات تلزمهم بإحيائها، فيترهّل كثير منهم ويكسل ولم يقم بإحياء حصته من الأرض، فتبقي بواراً خالية من زرع وغرس، إذ ليس لأحد غيره الحق في القيام بإحيائها، وعمارتها.

بينما لو كان الإصلاح الزراعي ينظّم وفق منهاج الإسلام في إحياء الأراضي لم يكن يواجه هذه المشكلة.

فإنّ الإسلام كما سبق لا يمنح مقداراً من الأرض لشخص معين سواء أحياها أم تركها، وإنما يمنحها له بشرط إحيائها ليكون ذلك ضماناً من جهة وتحفيزاً من جهة أخري لإحيائها، فإنّه يقول: «أيما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عمروها، فهم أحق بها» ().

وعليه: فكلُّ إنسان في نظام الإسلام الزراعي يملك من الأرض بالمقدار الذي يحييها ويعمرها، لا غير.

هذا، ولكي لا يبقي شبر من الأرض ميتاً خالياً من الزرع والعمارة لا يبيح الإسلام للشخص أنْ يحدث سوراً وحصاراً حول أرض ويدع إحياءها ما دام هناك مَنْ يريد النهوض بإحيائها.

ولو فعل شخص ذلك أجبره الحاكم الشرعي علي الإحياء، أو رفع اليد عنها ليحيي عباد الله أرض الله.

مسائل وأحكام

قال في هذا المجال الإمام الفقيد آية الله العظمي السيد أبو الحسن رحمة الله عليه في (وسيلة النجاة) ما يلي:

«ليس للمحجّر (أي الذي وضع أحجاراً في أطراف أرض لتكون علامة علي أنْ يريد إحياءها) تعطيل الموات المحجر عليه والإهمال في التعمر، بل اللازم أن يشتغل بالعمارة عقب التحجير، فإنْ أهمل وطالت المدة وأراد شخص آخر إحياءه، فالأحوط أن يرفع الأمر إلي الحاكم مع وجوده وبسط يده، فيُلزم المحجّر بأحد أمرين: أما

العمارة، أو رفع يده عنه ليعمرّه غيره، إلاّ أن يبدي عذراً موجهاً، مثل: انتظار وقت صالح له، أو إصلاح الآلة، وحضور العَمَلة، وليس من العذر عدم التمكن من تهيئة الأسباب لفقره، فلا يمهل انتظاراً للغني والتمكن، بل يمهل مدة يزول فيها العذر الموجه، فإذا مضت المدّة ولم يشتغل بالعمارة بطل حقه وجاز لغيره القيام بالعمارة، وإذا لم يكن حاكم يقوم بهذه الشؤون() فالظاهر: أنّه يسقط حقه أيضاً لو أهمل في التعمير، وطال الإهمال مدة طويلة يعدّ مثله في العرف تعطيلاً، فيجوز لغيره إحياؤه وليس له منعه».

فهل بعد هذا يبقي في ظلِّ نظام إحياء الأرض الإسلامي قطعة من الأرض بائرة وهناك مَنْ يريد عمرانها؟

كلا.. ثمّ كلا.

الفاصل الرابع

تقييد الإعمار بقيود مثبّطة

4: الفاصل الرابع بين نظام الإسلام للزراعة، وقانون الإصلاح الزراعي الوضعي هو: أن الإسلام لا يلزم مَن يريد إحياء الأرض بقيود مثبّطة ومانعة عن العمل والتقدم، كالتي يلزمها القانون الوضعي للإصلاح الزراعي، مثل: تقديم طلب بذلك إلي الدولة، ومراجعة الداوئر المعنيّة بالأمر، واجتياز العقبات الموجودة في الطريق، والانتظار المشين الذي يطول أحياناً مدة سنوات، فالأرض لله والناس عباد الله، ومَنْ سبق إلي أرض فأحياها فهي له قضاء من الله ورسوله صلي الله عليه و اله.

فليست هناك في الإسلام دوائر خاصة لإحياء الأراضي بحيث يجب علي كلّ مَنْ أراد الإحياء مراجعتها، وتقديم الطلب إليها، للحصول علي إجازة بما يريد أن يحيي، والذهاب والإياب، واللف والدوران، وبذل الجهود والأموال، ودفع الرسوم والضرائب، وتبديد الطاقات والقدرات، وغير ذلك.

فالشخص في الآن الذي ينوي فيه إحياء ميتة لا مالك لها يستطيع في نفس الوقت وبلا أيّ مانع من القيام بالزرع أو البناء دون أية مراجعة، أو أي تعب ونصب أو أية رسوم

وضرائب أو غير ذلك.

ففي (وسيلة النجاة) قال رحمة الله عليه:

«الموات أرض العطلة التي لا ينتفع بها، إما لانقطاع الماء عنها، أو لاستيلاء المياه، والرمول، أو السبخ، أو الأحجار عليها، أو لاستئجامها والتفاف القصب والأشجار بها، أو لغير ذلك.

وهو علي قسمين:

الأوّل: الموات بالأصل، وهو ما لم يعلم مسبوقيته بالملك والإحياء، أو علم عدم مسبوقيته بهما، كأكثر المفاوز، والبراري، والبوادي، وصفحات الجبال، وأذيالها، ونحوها.

الثاني: الموات بالعارض، وهو ما عرض عليه الخراب والموتان بعد الحياة والعمران، كالأراضي الدارسة التي بها آثار المرور والأنهار، والقري الخربة التي بقيت منها رسوم العمارة»

ثمّ أردف ذلك بقوله: «الموات بالأصل … يجوز في زمان الغيبة لكلِّ أحد إحياؤه … والقيام بعمارته، ويملكه المحيي علي الأقوي».

ثمّ أضاف قائلاً: الموات بالعارض … ما باد عنها أهلها، وصارت بسبب مرور الزمان وتقادم الأيام بلا مالك … فهو بحكم الموات بالأصل في كونه من الأنفال، وأنّه يجوز إحياؤه، ويملكه المحيي، ولا يحتاج إلي الإذن من حاكم الشرع، أو الشراء منه، بل يملكها المحيي والمعمر بنفس الإحياء والتعمير».

هذا كلّه عند الإسلام.

أما في ظل الإصلاح الزراعي الوضعي، فليس من الممكن القيام بالزرع والغرس وغيرهما إلاّ بعد عقبات وعقبات، ومشكلات وويلات، مثل: تقدم طلب لإدارة الإحياء، بما في ذلك من تعقيدات حتّي بالنسبة للسقي وأخذ الماء للزرع().

والصبر أشهراً وأشهراً، حتّي تخرج النتيجة.

والطواف علي دوائر متنوعة ومختلفة.

والتذلل أمام موظفين لايتحسسون موقف المراجعين واضطرارهم، مضافاً إلي ما هنالك من تبديد جهود وصرف أموال، وإفناء طاقات، وغير ذلك من أنواع المصائب التي يعانيها مَنْ أراد إحياء قطعة من الأرض في ظلِّ نظام قانون الإصلاح الزراعي الوضعي. لقد كان هذا أحد العوامل المهمة في فشل قانون الإصلاح الزراعي الوضعي في بعض الدول، وذلك لأنّ

الناس كانوا يرون أنّ الأموال والجهود التي يبذلونها في سبيل تحصيل قطعة من الأرض، هي أكثر من الأرض التي ينالونها ويحصلون عليها، ولذلك كان كثير منهم لا يتقدمون بتاتاً إلي تقديم طلب في هذا المجال.

يقول الأستاذ عبد الصاحب العلوان في كتابه «دراسات في الإصلاح الزراعي» ما يلي:

«وقد تعثرت عملية الإصلاح الزراعي بسبب الإجراءات المعقدة التي وضعت لتنفيذه».

ثمّ يسرد قائلاً: «ولأجل إعادة الأرض إلي أهالي القرية أي: لكي تمنح الحكومة أهالي القرية القيام بالزرع والغرس لابدَّ من تقديم طلب إلي الحكومة، فإن لم يقدّم الطلب فلا يجري الاستيلاء».

ثمّ يردف قائلاً: «وقد تأخرت قري كثيرة عن تقديم الطلب بسبب الإجراءات المعقدة التي يستلزمها».

فإذا كان تقديم الطلب يستلزم تعاقيد يفرّ عنها الناس، فكيف تعمّر الأرض؟ وكيف تنتشر الحقول والمزارع، والجنان والبساتين؟

ولذا أصبحنا نري الأراضي في ظلِّ قانون الإصلاح الزراعي الوضعي، صحاري ومفاوز، خالية من الزرع والعمران، بينما كنا في ظلِّ نظام إحياء الأرض الإسلامي حينما نرمي ببصرنا إلي الأرض، نراها علي أثر وسعة المزارع والعمران، مخضرّة كخضرة السماء، فلا تكاد تجد أراضي بائرة لا زرع فيها ولا عمارة بها، بفضل أحكام الإسلام؛ وبسبب نظامه الحكيم في إحياء الموات.

الفاصل الخامس

مضايقة المزارعين في ثمن الأرض

5: والفاصل الخامس بين نظام الإسلام للزراعة، وقانون الإصلاح الزراعي الوضعي هو: أن الإسلام مع أنّه يخلّي بين الأرض وبين عباد الله يزرعون ويبنون ويغرسون ويحيون، فإنّه مع ذلك إذا رأي هناك مَنْ يستطيع القيام بذلك ولكنه لم يكن عنده مال يحي به الأرض، يدفع الإسلام إليه مالاً كافياً دون أن يأخذ منه بدلاً.

وقد ألمع القرآن الحكيم إلي ذلك في عموم قوله تعالي: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ

اللَّهِ … ().

فالزكوات أحد مصارفها: سبيل الله، وهو كل عمل خيري يحبّه الله ويتقرب به إلي الله تعالي.

وهذا العمل وهو: إعطاء المال لمن كانت له قوة الزرع والبناء لكنه ليس عنده مال عمل خيري يتقرّب به إلي الله.

بينما نري قانون الإصلاح الزراعي الوضعي يفرض في كثير من المناطق علي المزارعين والفلاحين ثمن الأراضي التي يعطيها إليهم ويضايقهم بمطالبتهم.

يقول الدكتور العلوان في كتابه الآنف: «ويتوجب علي المنتفعين من الإصلاح الزراعي أن يدفعوا مبلغاً رمزياً ضئيلاً كتعويض لما حصلوا عليه» ().

ولنا أن نتساءل: لماذا يأخذون المبلغ الرمزي الضئيل من المزارعين هل أنّهم يحتاجون إليه؟

لكن الجواب علي ما اعتقد هو أنّ الواضعين لقانون الإصلاح الزراعي هكذا ساروا، ونحن أيضاً نسير كما ساروا، سواء أكان سيرهم صحيحاً نافعاً للبلاد، أم خطأ ً مضراً بالاقتصاد؟

فكأننا فقراء محتاجون حتّي لاستيراد الأنظمة والقوانين! مع العلم أن لنا نظاماً كالإسلام لو أتبعناه لاستطعنا أن نجعل من الأرض مزرعة واحدة خضراء دكناء، لا تكاد تجد فيها شبراً واحداً خال من الزرع والعمران، وقد ذكرت بعض المجلاّت بعض القصص عن كيفية مطالبة الدولة أقساط ثمن الأرض وأنّ قانون الإصلاح الزراعي حينما نفذ في بعض البلاد الإسلامية كان ذلك سبباً لمطاردة بعض الفلاحين والمزارعين من أجل تقاضي الحكومة مبلغاً ضئيلاً بحسب كتاب الدراسات بدلاً عما أعطت لهم من الأراضي.

من قصص الإصلاح الزراعي

وإليك القصة التالية:

وزّعت الحكومة «الكذائية» أراضي علي الفلاحين فكان لكل واحد منهم ملكية صغيرة … ملّكوا الأراضي، ثمّ دفعت الحكومة لكل منهم شيئاً قليلاً من البذور، فقام المزارعون الملاكون الجدد بالزرع ودفن البذور في الأرض …

فما مضت أيام إلاّ وإذا بعمال الإصلاح الزراعي يفاجئونهم ليطالبوهم بقسط من المبلغ.

يقول الفلاح: فقلت لهم: إننا بعدُ لم نزرع فأمهلونا حتّي

نزرع ونحصد.

قالوا: لا يمكن قد حان أوان دفع القسط الأول.

جاء المزارع إلي زوجته قائلاً: اخرجي ماعندك من النقود فقد آن وقت دفع القسط الأول من المبلغ.

فأخرجت ما كان عندها من النقود إلي عمال الإصلاح الزراعي.

وبعد أيام عن هذه الواقعة وقبل أن يحصد الزرع فاجئهم وفد آخر من عمال الإصلاح الزراعي يطالبونهم بالقسط الثاني من المبلغ.

قالت زوجة الفلاح لزوجها: ليس لنا شيء من النقود، وقد دفعنا إليهم كل نقودنا في المرة الأولي.

فقال لها: إننا اليوم أصبحنا من الملاكين والمالك قد ينتفع وقد يتضرر، فلنودع أثاثنا عند بعض الجيران ونأخذ منهم نقوداً ندفعها إلي هؤلاء علّنا وقت الحصاد نسدد ديوننا، ونزيد.

وضعوا أثاثهم رهناً عند بعض الجيران وأخذوا منهم نقوداً، ودفعوها عن القسط الثاني من الأرض التي امتلكوها.

فما مضي إلاّ أيام وإذا بهم يرون رجالاً آخرين من عمال الإصلاح الزراعي من بعيد متوجهين إلي أراضيهم.

فجاء الرجل إلي زوجته يخبرها النبأ.

فقالت: ما الذي أنت صانع؟

قال: إنّ هؤلاء إن أتونا فليس عندنا نقود ندفعها إليهم، ولا أثاث نجعلها رهناً عند الجيران، فلا شك أنّهم يطالبوننا بالقسط الثالث فإذا لم ندفع لهم، فهم يأخذوننا إلي السجن فنكون قد أفنينا نقودنا وأثاثنا، وسجنا بعدهما، فالرأي: أن نفر حتّي لانسجن!!

فركب الفلاح دابته، وأردف زوجته خلفه، وساروا حتّي وصلوا في أثناء الطريق إلي عمال الإصلاح الزراعي، فسأل العمال عن الرجل وزوجته أين أرض فلان يقصدون نفس هذا الراكب؟

فقالا لهم: هناك، وأشارا إلي خلفهم.

فتوجه العمال إلي تلك الأرض، وأسرع الفلاح وزوجته بدابتها لكي لا يرجع العمال عليها … »!.

هذه القصة ذكرتها بعض المجلات ضمن قصصها الطريفة في هذا المجال، وهي وإن كانت قصة والقصة قد تحتوي علي نوع من المبالغة والزيادة علي واقعها، ولكن نتيجة

الفلاحين في ظلِّ قانون الإصلاح الزراعي الوضعي هي هذه وليست أفضل منها.

أما الإسلام الحكيم في نظامه فإنّه لا يأخذ بدلاً عن الأراضي شيئاً، مع أنّه يساعد الفقراء والمعدمين بالمال وسائر الإمكانات مجاناً وبلا عوض لكي يقوموا بزراعة الأرض وعمرانها.

فكم الفرق؟

الفاصل السادس

استرجاع الأرض من المزارعين

6: والفاصل السادس بين نظام إحياء الأراضي في ظل الإسلام، وقانون الإصلاح الزراعي الوضعي هو: إنّ الإسلام لايعطي لأحد حق استرجاع الأرض من المزارعين.

فالشخص عند الإسلام إذا أحيي أرضاً ميتة فهي له مادام يعمرها بالزراعة أو البناء.

ويدلُّ علي ذلك ما ورد من الأحاديث الشريفة التي تقول بأنّ الذي يحيي أرضاً ميتة فهي له، وليس لأحد فيها حق، وقد مرّ بعض منها.

ومنها: ما رواه السيد الرضي رحمة الله عليه في «المجازات النبوية» قائلاً: «قال صلي الله عليه و اله: من أحيي أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم

حق» ().

بينما نجد قانون الإصلاح الزراعي الوضعي يؤكد علي أنّ للحكومة حق استرجاع الأراضي الموزّعة علي الفلاحين، سواء زرعوها أم لم يزرعوها، وإجراء التوزيع من جديد عليهم وإليك النص بذلك:

« … واستصدرت لأجل ذلك قوانين وتعليمات ملحقة بها كثيرة، وأهمّها ما نصّ عليه دستورها في سنة 1917م: من أنّ للدولة الحق في تأميم الأرض ومصادرتها وإعادة توزيعها» ().

فكم تترك هذه الفقرة من القانون أثراً سيّئاً علي الزراعة من إنحطاط وشلل؟

إنّ هذه الفقرة وحدها، كافية لأنْ تجعل العمال والفلاحين ثقيلين بطيئين في القيام بالزراعة والإحياء، لأنّهم لايعملون أي يوم تنبري الحكومة لتصادر الأراضي منهم، فتذهب أعمالهم هباءًً، دون أنْ تعود إليهم منافعها.

إنّ هذه الفقرة وحدها بإمكانها أن تشل حركة الزراعة وتصدّ نشاطها وتقدمها.

وضع مثل هذه الفقرة في قانون الإصلاح الزراعي الوضعي يدلُّ في أقل تقدير علي عدم

إحاطة واضعي القانون بما يصلح الزراعة مما يفسدها، وعدم الإحاطة هذه هي ميزة القوانين الوضعية عادة والتي تبتلي بها كل القوانين الوضعية فتؤدّي إلي نتيجة عكسية غير مطلوبة في مجالها، وفي مجال الإصلاح الزراعي أدّي إلي تقهقر الزراعة، وانحطاط الاقتصاد.

النتيجة والحاصل

لقد ظهر مما مرّ من المقايسة بين قانون الإصلاح الزراعي الوضعي وبين نظام إحياء الموات الإسلامي التي ذكرناها علي الإجمال: إنّ الإسلام بواسطة نظامه في إحياء الموات قد ساعد علي تقديم الزراعة ورفع مستوي الاقتصاد، بينما الإصلاح الزراعي بسبب قوانينه الوضعية قد أخّر الزراعة وقلّلها، وعلي أثره تقهقر مستوي الاقتصاد.

هذه كانت نتيجة إجمالية للمقايسة والمقارنة الإجمالية بين النظامين، ومَنْ أراد المزيد فعليه بمراجعة الإحصائيات المنتشرة عن نتائج ومؤدّيات: إحياء الموات في عهد الإسلام والإصلاح الزراعي منذ وضعه حتّي اليوم.

ومن الجدير بل من الواجب علي الحكومات التي تدّعي الاستقلال والسيادة الوطنية، والتي تسعي في تحقيق السعادة لشعبها ورفع مستوي الاقتصاد لأبنائها وخاصة الحكومات الإسلامية أنْ تتخذ من نظام إحياء الموات الإسلامي، مدخلاً إلي الاقتصاد السليم، والعيش والرغد والهنيء، وتتجنب قانون الإصلاح الزراعي الوضعي الذي إنْ أفاد شيئاً فإنّما يفيد لتحطيم الاقتصاد، وتعميم الفقر، وتكثير العاطلين والبائسين.

شروط تنظيم العمران في الإسلام

هناك لإحياء الأرض وعمرانها بالزراعة والبناء في ظلِّ الإسلام شروط خمسة إنسانية وضعها الشرع الإسلامي لغلق باب الفوضي والتعدي ونحو ذلك، نذكرها بإجمال:

الشرط الأول

الأول: يشترط في الأرض التي يراد إحياؤها أن لا يسبق عليها يد مسلم، فلو حرث مسلم كمية من الأرض، ولم يزرعها بعدُ، أو كانت ملكاً له لا يجوز لمسلم آخر أنْ يتخذ شيئاً من تلك الأرض ويحييها، فإنّ في ذلك منع الأول عن الإحياء، وهذا غير صحيح!

والإسلام الذي يريد أن يعم الزرع والبناء، كيف يبيح أخذ الأرض ممن شرع في العمارة والزرع؟ أو ممّن ملك الأرض؟

قال المحقق الحلي رحمة الله عليه في الشرائع: «ويشترط في التملّك بالإحياء شروط خمسة، الأول: أنْ لا يكون عليها يد مسلم، فإنْ ذلك يمنع عن مباشرة الإحياء لغير المتصرف» ().

الشرط الثاني

الثاني: أن

لا تكون الأرض الجرداء حريماً لأرض معمورة، بحيث يسبب الإحياء ضرر الجار، فلا يجوز إحياء الأرض والزراعة أو البناء فيه، أو حفر بئر، أو عين، أو شق نهر فيه، إذا كان سبباً لتضرر الجار بذلك.

فقد روي في هذا المجال عن حماد بن عثمان أنّه قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «حريم البئر العادية أربعون ذراعاً حولها» ().

وعليه: فإذا حفر شخص بئراً عادية لا يجوز لآخر حفر بئر أخري عندها إلاّ بفاصلة لا تقلّ عن أربعين ذراعاً أي عشرين متراً أو أكثر، لأن البئر الثانية إذا كانت قريبة من الأولي أضرّت بالأولي وصارت سبباً لتقليل الماء فيها.

وروي أيضاً: «قضي رسول الله صلي الله عليه و اله إنّ البئر حريمها أربعون ذراعاً، لا يحفر إلي جانبها بئر اُخري لعَطَن أو غنم» ().

والعطن: هو مَبرك الإبل، يعني: سواء كانت البئر قد حُفرت لشرب الإبل منها، أو لأجل شرب الغنم منها.

وحريم العين ألف ذراع إذا كانت في الأرض الرخوة، وخمسمائة ذراع إذا كانت في الأرض الصلبة.

وقال بعض الفقهاء: حد حريم العين أنْ لا تضر الثانية بالأولي بأن لا تسبب نقصاً في ماء الأولي. فلا يجوز لأحد أن يوجد عيناً في أرض تقلل من ماء عين مجاورة.

قال الصدوق (رضوان الله عليه): وروي أنّ حريم المسجد أربعين ذراعاً من كلِّ ناحية ().

وقال المحقق الحلّي صاحب الشرائع رحمة الله عليه: «وحريم الحائط في المباح مقدار مطرح ترابه نظراً إلي مساس الحاجة إليه لو استهدم، وقيل: للدار مقدار مطرح ترابها وصب مياهها ومسلك الدخول والخروج».

إذن: فلو بني شخص داراً في أرض بائرة أحياها لنفسه، أو أحدث بستاناً أو مزرعة، فإنّه لا يجوز لأحد أن يبني عندها بناء أو يزرع زرعاً أو

يغرس نخلاً إلاّ علي بعد مطرح تراب الدار إذا هدمت من جوانب الدار كلها.

ثمّ أردف المحقق رحمة الله عليه ذلك بقوله:

«وكل ذلك إنما يثبت له حريم إذا ابتكر في الموات، أما ما يعمل في الأملاك المعمورة فلا» ().

الشرط الثالث

الثالث: أن لا تكون الأرض محلاً للعبادة، فلا يجوز البناء والزرع والغرس وغيرها في مثل «عرفات» و «مني» و «المشعر».

قال المحقق الحلّي صاحب الشرائع (رضوان الله عليه): «الثالث: أنْ لا يسميه الشرع مشعراً للعبادة ك «عرفة» و «مني» و «المشعر» فإنّ الشرع دلّ علي اختصاصها موطناً للعبادة فالتعرض لتمليكها تفويت لتلك المصلحة. أما لو عمّر فيها ما لا يضر ولا يؤدي إلي ضيقها عمّا يحتاج إليه المتعبدون كاليسير لم يُمنع منه» ().

الشرط الرابع

الرابع: أنْ لا تكون الأرض مما أقطعها ووهبها النبيّ صلي الله عليه و اله أو الإمام عليه السلام لشخص، فلو وهب النبيّ أو الإمام (عليهما السلام) أرضاً لشخص، فإنّه لا يجوز لأحد غيره إحياؤها وتمليكها، بل تبقي ملكاً لذلك الشخص وإنْ لم يستطع من إحيائها وبقيت مواتاً جرداء لا بناء فيها ولا زرع.

فللنبي الخاتم وللإمام المعصوم (عليهما السلام) الحق في أن يتصرفا في ما يريدان كما يشاءان وقد منحهما الله تعالي هذه السلطة العامة. فإذا هما منحا شخصاً شيئاً من الأرض فقد منحا ما يملكانه، ويكون ملكاً أو مختصاً لمن منح له فلا يجوز لغيره إحياؤها من غير إذنه.

قال المحقق الحلّي رحمة الله عليه في الشرائع:

«الرابع: أنْ لا يكون مما أقطعه إمام الأصل عليه السلام ولو كان مواتاً خالياً من تحجير كما أقطع النبيّ صلي الله عليه و اله الدور() وأرضاً بحضرموت()، وحضر() فرس الزبير فإنه يفيد اختصاصاً مانعاً من المزاحمة فلا يصح رفع هذا

الاختصاص بالإحياء» ().

الشرط الخامس

الخامس: أن لا تكون الأرض معلّمة بعلامات تفيد أنّ شخصاً آخر سبق إليها ووضع في أطرافها هذه العلامات ليحييها، ويسمي ذلك «تحجيراً».

قال المحقق الحلّي رحمة الله عليه في الشرائع: «والتحجير هو أنْ ينصب عليها المروز() أو يحوطها بحائط().

ولو اقتصر علي التحجير، وأهمل العمارة أجبره الإمام عليه السلام علي أحد الأمرين: إما الإحياء وإما التخلية بينها وبين غيره. ولو امتنع أخرجها السلطان من يده لئلا يعطلها … » ().

استخلاص واستنتاج

نعم، إنّ هذه الشروط الخمسة المذكورة آنفاً هي ضرورة لنظام «إحياء الموات» في الإسلام، وذلك:

أما الأول والثاني والخامس: فلأنّها تمنع عن حدوث الفوضي وظهور المنازعات والخلافات، وفيها إعطاء الحق إلي صاحبه فإنّ مَنْ ملك أرضاً كيف يمكن إباحتها لمن يعمّرها مع العلم أنّها ملك للغير؟ وبأي مبرر؟

وكذلك كلُّ من أحيي أرضاً فليس من المنطق أن يسمح نظام حكيم وعادل لشخص آخر مزاحمة ذلك المحيي.

وهكذا بالنسبة إلي مَنْ قام بتحجير أرض، فإنّه هو أولي بها من غيره، فلا يصح لأحد أنْ يحييها من دون إذنه وذلك؛ لأنّ السابق أحق من اللاحق.

وأما الشرط الثالث: فإنّ المصالح العامة تقتضي جعل أماكن مختصة بالعبادة تغذية للروح واستقامة الفكر وغير ذلك، فإجازة إحيائها بالبناء والزرع وغيرهما تقديم للمصلحة الخاصة علي المصلحة العامة وهذا غير صحيح.

وأما الشرط الرابع: فيجب أن يكون للنبي صلي الله عليه و اله والإمام عليه السلام الحق في أنْ يفعل ما يشاء فيما يشاء حتّي يستطيع بذلك أن يهدي إلي الإسلام أكبر عدد ممكن من الناس، أو يتألف قلوبهم، ليسكبهم إلي الإسلام والإيمان، أو يستهوي نفوسهم لصالح الإسلام ونفع المسلمين، وصدّ العدّو ودفع الأذي عنهم، أو غير ذلك.

مع العلم أنّ النبيّ صلي الله عليه و اله

أو الإمام عليه السلام معصومان عن كلِّ ذنب وخطأ، وخلل وفساد، فلا يعملان أبداً ما ينافي المصلحة العامة، ولا ما فيه ضرر بالصالح العام أو تضييع لحق الآخرين.

وكلما فعلوه من أمثال هذه مع أنّها كانت قليلة ونادرة فإنّما هي لمصالح تعود علي الإسلام والمسلمين بالخير والبركة.

سبحان ربك ربّ العزّة عما يصفون، وسلام علي المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.

كربلاء المقدسة

صادق مهدي الحسيني

پي نوشتها

() مستدرك الوسائل: ج17 ص111 ب1 ح20902.

() مستدرك الوسائل: ج17 ص111 ب1 ح20903.

() مستدرك الوسائل: ج17 ص112 ب1 ح20905.

() الكافي: ج5 ص279 باب في إحياء أرض الموات ح1.

() وسائل الشيعة: ج25 ص412 ب1 ح32243.

() مستدرك الوسائل: ج13 ص460 ب1 ح15895.

() وسائل الشيعة: ج17 ص41 ب10 ح21933.

() الكافي: ج5 ص260 باب فضل الزراعة ح3.

() وسائل الشيعة: ج19 ص34 ب3 ح24090.

() هو أحد المؤرخين في القرن الرابع الهجري.

() الزوارق: جمع «زورق» وهو: السفينة الصغيرة.

() الفرسخ: ستة كيلو مترات تقريباً.

() يعني بذلك: بعد الحرب العالمية الأولي، وبعد سيطرة الكفار علي بلاد المسلمين، وبعد سيادة القانون الغربي للبلاد الإسلامية.

() تاريخ التمدن الإسلامي ص117119.

() أي سنة 1333 هجرية، وحيث كان الكاتب قد ذكر التاريخ الميلادي فأمانة للنقل ذكرنا ذلك، وإلا فالتاريخ الميلادي تاريخ غير إسلامي لا يجدر بالمسلمين استعماله.

() لكن مساحة أرض مصر كما في بعض الكتب المعنيّة بذلك هي مائتان وسبعة وثلاثون مليون فدان تقريباً (000/000/37» لأنه يقول: إنّ مساحة أرض مصر وحدها تسعمائه وأربعة وتسعون ألف كيلو متر مربع (000/994» وكل كيلو متر مربع هو مليون متر مربع، والفدان المصري «200/4» أربعة آلاف ومائتا متر مربع.

() تاريخ التمدن الإسلامي ج1 ص120 121.

() أي: الزكاة.

() تهذيب الأحكام: ج7 ص152 ب11 ح21.

() وسائل الشيعة: ج25 ص414-415 ب3 ح32246.

() مستدرك

الوسائل: ج17 ص111 ب1 ح20904.

() وسائل الشيعة: ج19 ص34 ب3 ح24090.

() الفدان المصري = 200/4 متر مربع.

() الهكتار الواحد = 000/10 متر مربع.

() الدونم الواحد = 500/2 متر مربع.

() النصوص كلّها منقولة عن كتاب «دراسات في الإصلاح الزراعي» للدكتور عبد الصاحب علوان.

() دراسات في الإصلاح الزراعي: ص403.

() مستدرك الوسائل: ج17 ص111 ب1 ح20903.

() دراسات في الإصلاح الزراعي: ص 216.

() دراسات في الإصلاح الزراعي: ص 215.

() مستدرك الوسائل: ج17 ص112 ب1 ح20907.

() المراد ب (الرشد) عندهم طبعاً هو الثامنة عشرة.

() دراسات في الإصلاح الزراعي: ص 220.

() وسائل الشيعة: ج25 ص411 ب1 ح32238.

() دراسات في الإصلاح الزراعي: ص 212.

() دراسات في الإصلاح الزراعي: ص 213.

() دراسات في الإصلاح الزراعي: ص 218.

() دراسات في الإصلاح الزراعي: ص 218.

() دراسات في الإصلاح الزراعي: ص220.

() دراسات في الإصلاح الزراعي: ص 220.

() وسائل الشيعة: ج25 ص411 ب1 ح32238.

() كما في هذه الأزمان التي أزاح المستعمرون فيها العلماء عن مجالات الحكم وأبعدوهم عن القيادة السياسية، فأصبح العالم الديني الذي هو الحاكم من منظار الإسلام لا يُسمع له كلام. ولو أراد المداخلة في هذه الشؤون والحكم بما أنزل الله فهناك الويل عليه والعذاب له من سجن وتعذيب، ونفي وتشريد، كما يعلم ذلك الجميع.

() تعرفت علي شخص صاحب بستان كان قد وقع له أمر عجيب من أجل ?

?بستانه، ولكنه وإن كان في بادئ الأمر عجيباً، إلاّ أنه أمر واحد، وقصّة واحدة من مئات بل من آلاف القصص من أمثالها التي تقف حجرة عثرة في طريق الفلاح والمزارع من جراء قانون الإصلاح الزراعي الوضعي الحاكم علي البلاد..

وقصته حسب قوله كالتالي:

«أنه كان صاحب بستان يقع علي مقربة من الجدول (مجمع النزيز والمياه القذرة وهو أشبه شيء

بالمستنقع) قال: فقلَّ الماء الحلو، ولم يرو البستان بما فيه من الأشجار والزرع كما ينبغي، فأراد نصب «مضخة» علي ذلك الجدول لأخذ شيء من مائه الذي لا يصلح سوي لسقي الزرع، حتّي يسقي به بستانه، فأدلي بعريضة إلي دائرة الإصلاح الزراعي في المحافظة لكي يمنحوه إجازة علي ذلك.

انتظر الرجل أياماً عديدة من دون جدوي، وبعدها حولّته الإدارة في المحافظة إلي وزارة الإصلاح الزارعي في العاصمة.

سافر الرجل إلي العاصمة، وقدّم عريضة اُخري إلي الوزارة، فألجأت الوزارة النظر في أمره إلي ما بعد أيام وطبعاً: لكثرة أعمال الوزارة وعدم تمشية الأمور.

رجع الرجل إلي بلده، ثمّ راجع الوزارة ثانية وفي الوقت المحدد له، فأخذوا يحوّلونه من غرفة إلي غرفة، ومن دائرة إلي أخري، ومن موظف إلي آخر.

وهكذا جعل يطوف عليها وعليهم عبر الأيام، والأسابيع، إلي أن كلّ عن المتابعة، وعجز عن المواصلة وأخذه اليأس بعد شهرين، أو ثلاثة، مما جعله يفضل الانصراف علي الاستمرار في الطلب، فغض النظر عن الأمر، وترك مراودة الدوائر المختصة، ورجع خائباً خاسراً إلي بلده».?

?هذه قصة واحدة من المآت، بل من الألوف من أمثالها، ولعل القارئ إذا كانت له صلة ببعض الفلاحين، أو كان هو منهم يحفظ مجموعة ضخمة من مثل هذه القصة.

() سورة التوبة: 60.

() دراسات في الإصلاح الزراعي: ص 215.

() مستدرك الوسائل: ج17 ص 111 ب1 ح20902.

() دراسات في الإصلاح الزراعي: ص 216.

() شرائع الإسلام: ج4 كتاب إحياء الموات.

() وسائل الشيعة: ج25 ص425 ب11 ح32269.

() وسائل الشيعة: ج25 ص426 ب11 ح32275.

() من لا يحضره الفقيه: ج3 ص102 باب حكم الحريم ح3419.

() شرائع الإسلام: ج4 كتاب إحياء الموات.

() انظر شرائع الإسلام: ج4 كتاب إحياء الموات.

() موضع بالمدينة أقطعه النبي ? لعبد الله بن

مسعود.

() اسم بلد في الحجاز، أقطع النبي ? فيه أرضا لوائل بن حجر.

() بالضّم والفتح: عدو الفرس، فأجري الزبير فرسه حتي عجز ووقف فرمي الزبير بسوطه طلبا للزيادة فأعطاه النبي ? من حيث وقع السوط. وفي الجواهر: وأقطع ? بلال بن الحارث أرض العقيق.

() شرائع الإسلام: ج4 كتاب إحياء الموات.

() جمع مرز: وهي جمع التراب حول ما يريد إحياءه من الأرض ليتميز عن غيره.

() شرائع الإسلام: ج4 كتاب إحياء الموات.

() شرائع الإسلام: ج4 كتاب إحياء الموات.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.