نهج البلاغة مرفأ الإنسانية المعذبة

اشارة

آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي

(قدس سره)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله علي آلائه ونعمائه، والصلاة علي محمد وآله، ولعنة الله علي أعدائهم أعدائه.

قبل أكثر من ألف عام، عندما قدم (الشريف الرضي رضوان الله تعالي عليه) هذه الكلمات إلي الرأي العام كتاباً بين دفتين؛ اختلف حولها ناس كثيرون، ولا يزالون فيها يختلفون.

ومهما تناقضت الدوافع والنتائج، فالذي لا يتناقض فيه المختلفون هو: المدي التصاعدي الذي أحدثه هذا الكتاب في الفكر الإنساني، ولمّا يزل آخذاً في التصاعد دون أن يبلغ مداه.

أولا يكفي أن الإمام أمير المؤمنين(ع) - بجميع أضوائه وآفاقه التي تتجاوز كل الأساطير مجتمعة - لا يذكر إلا ويذكر معه هذا الكتاب، أو شيء من هذا الكتاب؟!

لقد تموج المقطع الأخير من السنين من عمر التاريخ بأمجاد وفتوحات واسعة وحادة، كانت – بالنسبة إلي الأولين – أحلاماً تذهل من فرط خيالها الأحلام، ولا زالت – بالنسبة إلي المعاصرين – أشبه بأساطير الأولين. وفي هذا الطوفان العارم من غليان التاريخ: لم يتصل بنا – من الأنبياء والأوصياء(ع) - إلا نفر معدود بالأصابع نعدهم في الغابرين، وثبت أنهم أجدر منا بقيادتنا في نهاية القرن العشرين كما كانوا أجدر بقيادة آبائنا من قبل، ولا زال بعدهم الواقعي أمامنا اكثر من بعدهم التاريخي ورائنا، وأحد هؤلاء الإمام. ولم يتصل بمناهلنا - من منابع الماضين - إلا روافد معدودة بالأصابع كذلك لم تتسنّه، أحدها: (نهج البلاغة).

إن كل شيء في عالم المادة - ابتداء من الذرة وما هو أصغر من الذرة، وانتهاء بالسديم وما هو اكبر من السديم - يتحرك تحركاً دورياً، وفي كل دورة يفرغ طاقة ويجمع طاقة. وكل شيء في عالم المعني يتحرك تحركاً دورياً كذلك. للانسجام الكامل بين المادة والمعني، قد تختلف الدوائر

ولكنها تبقي دوائر. والإنسانية - كشيء - تتحرك التحرك ذاته: فمحطة المستقبل هي قاعدة الماضي، ونقطة المحطة - القاعدة هي نقطة اللا أمام واللا وراء، وهي نقطة سقوط الماضي والمستقبل.

وهذا.. هو سر رحلة الإنسانية نحو (نهج البلاغة) باعتباره كتاب حياة، بعد رحلتها عن (نهج البلاغة) باعتباره كتاب تراث. لأن (نهج البلاغة) من نقاط التقاء الماضي بالمستقبل، فهو من المأثور المسطور الذي وفد إلينا من وراء أربعة عشر قرناً. ولكن لا يمكن أن يعيش عليه ضباب القدم، لانه - كالفجر، كالربيع، كنجوم الأبد … - يزرع الضوء في الطرق الملغمة بالهوي والهوان. إنه كالكون: قديم بإطاره، وجديد بما تكتشف فيه من أفكار وتدجن منه من طاقات.

أنا.. لا أعلم كم - بالضبط - كان مدي صوت الإمام، ولكني أسمع صوته - بوضوح - يشجع ضمير الإنسان علي الانتشار وتغطية كل تصرفاته.

وأنا.. لا أعلم كم - بالضبط - كان حجم قلب الإمام، ولكني ألمسه - بوضوح - يضخ الحياة في شرايين الخانعين.

وأنا.. لا أعلم كم - بالضبط - كان مدي سيف الإمام، ولكني لا تغزوني سكرة الهموم إلا وأجدني أرفأ إليه، فيغسل عني الويلات؛ تماما.. كما كان المعذبون يلجأون إلي الإمام، فيمسح عنهم الرهق، ويفرغ عليهم صحوة الأمان.

إذن: ف(نهج البلاغة) جزء من الإمام، وجناح من أجنحته العريضة: يمنح الدفء للمتجمد من الجهل، ويفرش الظل للمحترقين بالظلم. صحيح: إنه يحتمل الصدمات بمقدار ما يحمي؛ ولكنه الفداء المستمر، الذي يعيش بخلوده لا بوجوده. فإذا استطاع (أن لا يقار علي كظة ظالم أو سغب مظلوم)، فلا يهمه (أوقع علي الموت أو وقع الموت عليه). بل يفضل أن يقع – هو – علي الموت، فيضع حداً لحياته بموت يحيي أموات الأحياء، ف(ألف

ضربة بالسيف أهون علي من ميتة علي فراش) قال هو(ع).

ولولا أن الإمام أبي إلا أن يكون الفداء المستمر: لكان (أدهي العرب) – كما قال -، ولعرف (فيم علاجهم) – كما قال -، ولاهتدي (الطريق إلي مصفي هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز).(1) ولاستطاع – أخيرا – أن يكون امبراطور العرب بل العالم. ولكنه لم يستطع – عندئذ – أن يكون (أمير المؤمنين) و(سيد الوصيين)… وهل يرضي القلب الكبير والعقل العظيم أن يلخص اهتمام (العالم الأكبر)(2) في (سجن المؤمن)(3) ويختصره (بين نثيله ومعتلفه)(4)؟! لقد رضي الإمام (من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه)(5)، ليقيم الحق ويدفع الباطل، وليكون مقاس الحق الذي يدور معه كيفما دار.

لكل ذلك: الحياة تطارد الإنسان نحو مصادره الأصيلة، ليقتبس منها وسيلة جديدة لفتح طريق لم يعركه صِدام أو خصام. فالتدافع الاجتماعي يمتص الإنسان ويستهلك وقوده، فإذا اصبح هشا ينفيه عن الصميم إلي المخابئ والمجاهل مع النفايات: كما تكتسح الأمواج إلي الساحل ما لا يستطيع الغوص في اللجج، وكما يدفع البدن زوائده من شبكة الجلد … فلابد من موانئ يرفأ إليها الإنسان كلما أضناه الرهق، ليستمد منها الطاقة علي استعادة التجربة.

وموانئ الإنسانية عديدة، ولكن - لعل - (نهج البلاغة) ثاني أعظم ميناء للطاقة الإنسانية، يتساقط إليها المتعبون، فإذا نفخ فيهم نشطوا نحو الأجواء العالية لمزاحمة السحاب.

فالقرآن الكريم - ولا شك - أغني رصيد للانسانية، وقد نظر إلي الكون والحياة والإنسان باستيعاب مركز وعمق معجز. ولكنه ألقي عليها نظرة تطل من ارتفاع شاهق، فتستجلي كل شيء، متجاوزاً عقبات الطبيعة وحواجز البشر. فأعطي درساً دستورياً مكثفاً، بعيد الآفاق والاعماق. فكان كخلاصة الفيتامينات: لا يمكن تناولها في جرعة، ولا يمكن الاكتفاء بها لإقامة جسم.

والرسول الأعظم(ص)

- ولا شك - أبلغ من جرب الضاد، ولكن دورة التأسيس لم تكن تسمح إلا بطرح القضايا المبدئية، وخلع نفسه علي سطح المجتمع لاقامة قواعد الإيمان وشعائره؛ كلما تراخي الصراع الدائر حول مبدأ التوحيد واصل الرسالة. فلم يكن في وسع الرسول – ولو في يوم واحد – أن يحدث الناس بكنه عقله، وإنما كان يحدثهم بمقدار عقولهم(6).

فكان في مقدور الإمام أن يقف تحت مظلة القرآن والرسول، ويعمق المفاهيم الجديدة ويركز المقاييس الجديدة التي أتي بها القرآن والرسول.

ووقف الإمام يعمق ويركز - في وفرة هائلة - الأحكام: ابتداء من أول الدين، وتوحيد الله، وصفاته تعالي. ومروراً بفلسفة الرسالات، وتقييم الإسلام ومفاهيمه وأحكامه، وشرح مواقف الرسول، وأبعاد القيادة، والحقوق المتكافئة بين الأطراف الكونية والبشرية. وانتهاء بوصف السماء، والأرض، والطاووس، والنملة، واشياء كثيرة، وبحوث متنوعة …؛ لولاها لكان في الإسلام فراغ كبير وغموض شديد.

وهو عندما يعمل في موضوع - أي موضوع: وضيع أو رفيع - لا يسرد سرداً ولا يجتر اجتراراً - كما نفعل نحن، أو حتي كما يفعل الفلاسفة والمفكرون - وإنما يجسد شيئاً حاق به، ويفرغ شحنةً ضاق بها. فلا تأخذه كيف شئت وإنما يأخذك كيف شاء، حتي كأنك في مشهد أو محراب لا أمام خطيب أو كتاب.

ثم: التسلسل المنطقي المتين وتولد الأفكار من الأفكار، فكل فكرة نتيجة طبيعية لما قبلها ومقدمة طبيعية لما بعدها. فلا فكرة إلا وتمسك بك للتأمل، ولا جملة إلا وتطلك علي آفاق تطل علي آفاق. بدون أي تلكأ، أو تكلف، أو جهاد، أو لهاث …؛ بل كما ينفجر الفجر، وينسرح العطر، وتهرب المياه في الانهار، وتفرز القطوف من الأشجار …

وهذه المقدرة الذكية مظهر لواقع الإمام المعجز في كل ما قال أو

كتب، حتي وهو يتناول أعتي الأشياء علي القلم واللسان.

فاستمع إليه وهو يتحدث عن الدين وعن التوحيد وعن الله:

(أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه: لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة).

(فمن وصف الله - سبحانه - فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزاه، ومن جزاه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده. ومن قال: (فيم)؟ فقد ضمّنه، ومن قال: (علام)؟ فقد أخلي منه).

(كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم. مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة. فاعل، لا بمعني الحركات والآلة. بصير، إذ لا منظور إليه من خلقه. متوحد، إذ لا سكن يُستأنس به ولا يستوحش لفقده).(7)

فالأصل الأول للدين هو (معرفة الله). ولا يمكن معرفة الله إلا ب(التصديق) فمجرد (التصور) ليس دينا، وإنما الدين هو الإذعان المطلق. ولا يكمل (التصديق) إلا بالإله الواحد، فالتصديق بالآلهة المتعددة بدائي يزول بالتأمل، لأن الإله لو كان متعدداً لتناقضوا وعلا بعضهم علي بعض ففسدت السماوات والأرض(8). هكذا.. تنبسط الأفكار الجليلة الماورائية لمدي الإمام، فتتولد وتتناسق بمثل هذه الجزالة وهذا العمق.

ويقول قبل ذلك:

(ليس لصفته: حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود).(9)

فالله (مطلق) غير متناه، فلا تطوقه دائرة الأبدية التي طوق بها خلقه، وإنما هو فوق هذه الدوائر ومعها وبعدها.

والوقت هو وليد حركة الأجرام الكونية، فلا يرقي إلي الله. فبالنسبة إلي المقهورين بالزمان يوجد شيء اسمه (الأبد)، أما بالنسبة إلي قاهر الزمان فلا يلغي مولدات الزمان إلا ويكون (الأبد) قد رحل.

وسئل الإمام

عن التوحيد والعدل، فكان الجواب:

(التوحيد: أن لا تتوهمه، والعدل: أن لا تتهمه).(10)

فالصور الذهنية مخلوقة لاصحاب الأذهان، وليست خالقة لهم. والإله المتهم، ليس عادلاً. أما الله، فهو: خالق الأوهام، وبعيد من الاتهام.

وفي كل ما قرأت عن الله، لم أجد جملتين بهذا الجلاء والمضاء: كل جملة تتضمن مدلولاً واضحاً يرفض أي احتمال، ودليلاً مكيناً لا يترك مجالاً لجدال. وهل يمكن أن يوجد إنسان يتحدث عن صفات الله بمثل هذه السيطرة علي التفكير والتعبير؟!

ويمضي - متابعاً خطوه - في دائرة المعارف التي نهجها لتعميق المفاهيم وتركيز المقاييس الجديدة، ويقف علي فلسفة الرسالات، فيلخصها في بندين:

1- إن الله أخذ الميثاق من بني آدم - قبل أن ينقلهم إلي هذا العالم - علي أن الله ربهم، فأعطوا الميثاق من أنفسهم: (وإذ أخذ ربك من بني آدم - من ظهورهم - ذريتهم، وأشهدهم علي أنفسهم: (ألست بربكم)؟! قالوا: (بلي.. شهدنا) …) سورة الأعراف، 172. وأخذ نفس الميثاق من الأنبياء - بصورة أكيدة -: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم، ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسي وعيسي بن مريم. وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) سورة الأحزاب، 7. ثم تمرد بنو آدم علي الميثاق الذي أعطوه من أنفسهم - لما انتقلوا إلي هذه الدنيا - فكفروا بالله، فبعث الله الأنبياء ليطلبوا من بني آدم العمل بذلك الميثاق.

2- إن الله أرسل إلي كل إنسان رسولاً هو ضميره، وهذا الرسول يقول للإنسان كل شيء، يقول: هذا.. حق، وذاك.. باطل، ولماذا فعلت الشر وتركت الخير؟؟!! ففي بعض الحديث: (إن لله علي الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة. فأما الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمة(ع)، وأما الباطنة: فالعقول).(11) ومحكمة الضمير تبقي مفتوحة ليل نهار، وتدأب في أعمالها واصدار أحكامها حتي في حالات

النوم، فتصور الأحكام بالاحلام. ولكن الضمير قد يضعف بكثرة تسفيهه وتقريعه، وقد يدفن تحت ركام من الشهوات والعادات، فأرسل الله الأنبياء لتحرير الضمائر المكبلة، وتفجير الضمائر المهلهلة:

(واصطفي - سبحانه - من ولده (آدم(ع)) أنبياء: أخذ علي الوحي ميثاقهم، وعلي تبليغ الرسالة أمانتهم؛ لمّا بدل اكثر خلقه عهد الله إليهم… فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم انبيائه؛ ليستأدوهم ميثاق فطرته … ويثيروا لهم دفائن العقول …).(12)

فالأنبياء ما جائوا ليناقضوا الإنسان، وإنما جائوا ليشجعوه علي الالتحاق بواقعه، ويفجروا طاقاته الدفينة تحت أنقاض التخلف والإجرام. أو لم يفسر القرآن فلسفة بعثة الرسول بقوله: (… ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم …) سورة الاعراف، 157؟!

من هنا.. من مصدر الوجود ومبعث الرسالات، يبدأ الإمام في فلسفة الوجود. ولا يحاول - مطلقاً - أن يفبرك فلسفة مستقلة، وإنما يتابع الرحلة التي صدح بها القرآن منذ بدأ القرآن رحلته إلي الأرض إلي أن بلغ ختامه، ويواكب سير الرسالة منذ أن دثر الله رسوله بالوحي إلي أن خلع الحياة. وإن كان - في بعض الأحيان - يبدو أنه ينسج من جديد، ولكن - لدي التحقيق والمقارنة - يظهر أنه يستقي من: الضمير القرآني المجيد، والعمق الرسالي الرشيد. وإن يكن - هناك - أي زهوق أو مروق، ففلسفة الوجود واحدة: عبر عنها القرآن باسلوبه الدستوري، وعبر عنها الرسول بأسلوبه التأسيسي، وعبر عنها الإمام باسلوبه التركيزي. أما سائر الفلسفات الأخر: فإنها تعاني من التخلف أو التجاوز، وفي كلتا الحالتين لا تطابق بينها وبين الواقع.

وفلسفة الوجود الصحيحة - التي عبر عنها الإمام - هي التي انبثقت عن الله، ولكنها ما انفصلت عنه بالمزايلة - حسب تعبير الإمام -. فكل شيء - مهما كان صغيراً أو كبيراً

- جزء من الكون، اندفع إلي الوجود وفق فلسفته العامة، فهو يعطي للحياة ويأخذ من الحياة. فلا ينظر إليه باعتبار حجمه، وإنما ينظر إليه باعتباره طرفاً متعاملاً مع الكل، فله احترام الكل. أو لم يقل القرآن: (… من قتل نفساً - بغير نفس، أو فساد في الأرض - فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) سورة المائدة، 32؟!

فقوة الوجود تمنح لكل صغير نصيبه من الرعاية بنفس الاهتمام الذي تعطي به نصيب الكبير: فللنبتة الزاحفة من الاهتمام بقدر ما للدوح العتي، ولصغار الحشرات وزغب الطيور ما لسباع الصحراء ونسور الفضاء … أو ليس الله (أعطي كل شيء خلقه، ثم هدي) سورة طه، 50. و(أتقن كل شيء) سورة النمل، 88؟!

وأقل حق يوفر علي المخلوق - وخاصة: إذا كان ذا حياة - أن يوفر له حق الحياة، فلا ينازع في ما يمسك عليه حياته، ف(لكل ذي رمق قوت) و(لكل حبة آكل) …

وعندما تكون الجناية علي ضعيف لا يقاوم، وعندما تكون الجناية من أجل شيء بخس لا يغري؛ تنقلب الجناية الصغيرة خيانة عظمي، لأنها تشويه لعدالة الله في الوجود، واعتداء علي العدالة الكونية: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، علي أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلته).

فلا يؤخذ الكون بعين الشاعر التي تظهره في وحدة وجودية، ولا يؤخذ بمعمل العالم الذي يجزء كل شيء ويفرده لتكبيله وتحليله، وإنما يؤخذ الكون - كما هو - أجزاء متباينة متعاونة. فعناصره المختلفة مترابطة مع بعضها، ولبعضها علي البعض حقوق متكافئة: فإذا كانت الشمس تمنح الوجود دفأ، فهي تأخذ منه ما يعوض استهلاكها، فلا يصغر حجمها. وإذا كان البحر يرطب الجو غيوما، فهو يسترجع روافده

عيوناً وأنهاراً، فلا ينضب. وإذا أخذت الوردة من الهواء والنور، فهي تدفع اليهما من عطرها ولونها بمقدار ما أخذت منهما …؛ ف(بالحق قامت السماوات والأرض) - قال الإمام -. ولكل شيء دور لابد له من القيام به، وإلا كان ميتاً استهلكته الأحياء بسرعة كبيرة، في عمليات التطهير الدائبة في الكون.

وبين البشر - الذين هم من عناصر هذا الكون - نفس الحقوق المتكافئة بين جميع عناصره، القائمة علي وحدة هي (الحق):

(ثم جعل - من حقوقه - حقوقاً لبعض الناس علي بعض. فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض).

فمن يعطي من نفسه الحق يأخذ الحق من نفوس الآخرين، ومن يرفض الاعتراف بحقوق الآخرين لا يكون له في الحق من نصيب. ومن اخذ اكثر مما أعطي فهو ظالم، ومن دفع أكثر مما أخذ فهو مظلوم. فإذا تزاحمت النعم علي فرد فهو لم يجمعها بقدرة قادر، وإنما هي حصيلة عناصر أخري بشرية وغير بشرية. فعليه أن يرتفع - في تعامله مع سائر عناصر الكون - إلي ذلك المستوي، وإلا انسحبت عناصر الكون عن التعامل معه إلي مقدار تعامله معها:

(من قبض يده عن الناس قبض عنهم يدا واحدة وقبضت عنه أيد كثيرة) وإذا قبضت عنه أيدٍ كثيرة، يبقي وحيداً لا يجيد إلا القليل.

(من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه: فمن قام لله فيها بما يجب عرضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرضها للزوال والفناء).(13)

فعدالة الله جارية في نواميس الكون، وهي (الحق) الذي به قامت السماوات والأرض، ولا يحيد عنه شيء إلا لينهار هو ويستهلك في غيره.

الناس لا يوجهون طاقتهم القتالية إلي الأموات، ولا يضربونها حتي بالحجارة، لأنهم بحاجة إلي طاقتهم

وجهدهم، فلا يوجهونها إلا إلي من يخافون منه، وهم لا يخافون من الأموات. فلا يهدرون شيئاً من طاقتهم وجهدهم إلي هدمها، وإنما يتركون الأموات يهدمها الزمان ويأكلها التراب.

ولكنهم يحاربون العمالقة بعد موتهم، لأن العمالقة لا يموتون، وإنما يعيشون - بعد غيابهم في التراب - حقبا مختلفة، يثيرون الهلع والفزع في قلوب الأقزام.

والإمام من العمالقة الذين ما ماتوا، وإنما استمروا يحركون الحياة وهم راقدون مع الأموات.

لقد استشهد الإمام في المحراب، ودفن ليلاً - لا يحمل جثمانه إلا اثنان من أبنائه - كما يدفن الغرباء، رغم أنه خليفة المسلمين. وبقي الناس يرهبونه، و(الخوارج) ينبشون القبور في ظهر (الكوفة) بحثاً عن جثمانه، خشية أن تعود إليه الروح. وجندوا كل أجهزة العالم الإسلامي للتشكيك: في كفائته كخليفة، وفي سعته كإمام، وفي إنسانيته وإسلامه … واتهموه بكل التهم المتوفرة في مختلف عصورهم؛ فلم تنجح في اقتلاعه من قلوب البشر - مسلمين وغير مسلمين - الذين: عرفوه بشراً بين الخالق والمخلوق، وعرفوا كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق. ثم نهض من تحت كل هذا الركام من الانقاض، يقود الناس.

عجيب أمر هذا العملاق الذي يرفض أن يموت!

لقد ظهر أن سيل النار الذي يتدفق نحوه - علي امتداد أربعة عشر قرناً - لإحراقه، ينصب في دمائه، ليزيد في مقدرته علي قيادة البشر، وتجاوز كل الحواجز التي تفصل بين الأمم.

عاطفة الإمام الحادة ما طافت فوقه كالطوفان، وإنما كان عقله الجبار ينظم عاطفته، فهي تجيش ولا تجرف ولا تغرق.

عينه علي كل حركة، وسمعه علي كل همسة: فلا يسمع أنيناً إلا خف بالنجدة، ولا سؤالاً إلا سارع بالجواب، ولا عثرة إلا بادر بالهدي يتتبع آلام الناس فيفندها، وجراحاتهم فيضمدها، ومشاكلهم فيضع لها حلاً بليغاً.

في قلبه

إيمان يخصب الأفئدة، وفي عينيه أسي عذب يتوهج كلما رأي العذاب في العيون، وعلي جبهته السموح نفار عزم رشيد.

ويسير - علي الزمان - مكدوداً، تمر ساعاته - كالدهور - بطيئة مثقلة بالمتاعب والمصاعب، فقد سلطت الدنيا عليه الأضغان والأحقاد بكل وسائل التعذيب والاضطهاد:

فهذا.. يعذب حتي تفيض روحه، وذاك.. يعذب واقصي أمانيه أن تفيض روحه ولا تفيض؛ وهو لا يملك أن يدرأ، فحوله أنصار كالأعداء. فيغضب، ولابد من الغضب.

الأديب يتصور، ولا يهمه أن يصور تصويراً جميلاً. بينما الإمام يكرس الواقع في تصوير جميل، ثم يفرغ الواقع والصورة في ما يهدي ويرشد. فالأدب ليس ترفاً والواقع ليس قرفا، إنما هما جزءان من الوجود لتكميل الجزء الثالث الذي هو الإنسان.

كان للإمام من روعة الأدب الجاهلي وسحر الواقع الإسلامي، ما حدا ببعضهم إلي أن يقول - في كلامه -: (فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق). فقد نشأ في المحيط الذي تصفو فيه الفطرة، وعايش أحكم الناس الرسول، وتلقي رسالته قبل أن يجري عليها نفس، بالإضافة إلي مواهبه العظيمة. فتلاقت: الفطرة، والتوجيه، والبيئة.

الإمام ذلك الإنسان الشامل، الذي وظف البحث والوصف للتعبير عن فلسفة الوجود: فيتحدث عن أحوال الدنيا وشؤون الناس، ويعرف البرق والرعد، ويوجه إلي خفايا النمل والخفاش، ويقنن الاخلاق، ويصوغ النظم.. أو ليس كل شيء وجد لحكمة، والله أتقن كل شيء، وله في كل شيء آية؛ لا فرق بين صغير وكبير؟! فالكل مضموم برباط، طرفاه الأزل والأبد.

الفلاسفة يحولون الواقع الملموس بالمشاعر، إلي فلسفة لا تلمس إلا بالأفكار. والقادة يحولون الفلسفة التي لا تلمس بالأفكار إلي واقع ملموس بالمشاعر، ثم يوظفونه في تحريك الجماهير في الطريق الذي يشقونه لها، نحو الهدف الذي يحددونه لها. فالجماهير لا تسير خلف الكلام، ولكن

الفلاسفة والجماهير معاً يسيرون خلف الواقع. فالقائد - دائماً - أمام الفيلسوف.

والإمام استطاع أن يحتضن الأفكار المجهضة، ويربيها، ويجعلها خلقاً حياً يسير بين الأحياء ويحرك الأحياء. فكان ذلك القائد الذي يحلق في الأعالي - كموكب ملائكي، كقاعدة النور.. - يغير ويطور. وأجيال الفلاسفة يقبعون في كل زاوية ومنعطف، في انتظار: أية لفتة أو كلمة، وأية نبضة فكر أو فتكة سيف … ليجتمعوا حولها: فيفسروها، ويكبروها، ويبنوا بها شخصياتهم الفلسفية.

يري الإمام، فيشعر، فيعبر بمقدار الموقف. فيجتمع لديه الصدق، بالموافقة لمقتضي الحال، اجتماعاً عفوياً. فيسجع بمقدار ما في الموقف من سجع، ويصنع بمقدار ما في الموقف من صنعة. فيكون - مع المنافقين، والمنتفخين علي حساب المستضعفين وأصحاب الحقوق المهدورة - ثائراً هادراً، يصعق: فتنخلع القلوب، وتزيغ الأبصار. ويبدو كل شيء - أمامه - هيناً تافهاً: (ما هي إلا الكوفة، أقبضها وأبسطها) حتي كأنك أمام: البركان إذ يتفجر، والزلزال إذ يدمر، أو أي مظهر من مظاهر الطبيعة لا يطال، فما لك إلا أن تعترف وتخشع. ويميز اسلوبه - في مثل هذا الموقف - بالتكرار بغية الاقرار، وباستخدام المترادفات من الكلمات، وتهويل التعبير، لمزيد من التأثير. وينتقل من: استعظام، إلي استفهام، إلي إخبار، إلي إنكار …

وإذا كان (نهج البلاغة) بعض التعبير الشفوي من قشرة حياة الإمام، فما هو عمق حياة الإمام؟ إنه (الإمامة) بمعناها الدقيق العميق.

وإذا كان ما وصل إلينا بعض ما كان بينه وبين الناس، فما كان بينه وبين الرسول أروع، وما كان بينه وبين الله أوسع وأجمع.

وكما تبكر الغزلان إلي الماء، لتنال رياً يساعدها علي رقصة الصحراء. وكما تقذف أعالي الصخور ما في ثقوبها من الطيور - مع ذرات النور - إلي السهول، لتلتقط زادها علي مسح

الفضاء. وكما ترمي البحار ما علي ظهورها من السفن إلي الضفاف، لتأخذ قسطها من الاطمئنان والنشاط علي مناورة الأمواج …؛ كتلك: يكون الإنسان عندما يقترب من (نهج البلاغة)، ل: ينهل من نميره العذب، ويتزود من عطائه السخي، ويستلهم منه الاطمئنان والنشاط علي الإبحار في محيط الحياة.

ولا أريد أن اسبق الكتاب إلي مواضع المتعة فيه: فالبحر هو البحر أجئته حينما تنزو موجاته علي شرفة الشمس مع الصباح، أو حينما يسجو علي صفحاته الليل. ونور الشمس هو نور الشمس، من أي جانب تأخذه … ولكن قد يرتفع الإنسان إلي قمته، فيفهم بعض شيء من كلام الامام، فيتباهي بأنه فهم هذا الشيء. وكفاه عبقريةً وشرفاً

1 - نهج البلاغة كتاب الإمام إلي عثمان بن حنيف الأنصاري.

2 - إشارة إلي الشعر المنسوب إلي الإمام:

أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوي العالم الأكبر؟!

3 - إشارة إلي الحديث الشريف: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر).

4 - إشارة إلي كلام الإمام حول عثمان: (… إلي أن قام ثالث القوم: نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفه). نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية.

5 - نهج البلاغة كتاب الإمام إلي عثمان بن حنيف الأنصاري.

6 - إشارة إلي الحديث الشريف: (إنا أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس بقدر عقولهم): موسوعة بحار الأنوار، ج2، ب13، ح23.

7 - نهج البلاغة، الخطبة الأولي.

8 - إشارة إلي الآية الكريمة: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون!) سورة الأنبياء، 22.

9 - نهج البلاغة، الخطبة الأولي.

10 - نهج البلاغة، الحكمة رقم 462.

11 - موسوعة بحار الأنوار، ج1، ب4، ح30، فقرة 16.

12 - نهج البلاغة، الخطبة الأولي.

13 - نهج البلاغة، الحكمة رقم 364.

[رجوع للقائمة]

پي نوشت

أخذنا هذا المبحث من شبكة النبأ المعلوماتية، مجلة النبأ

العدد 49 آيلول 2000 / جمادي الثانية 1421ه.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.