كلمة الإمام الكاظم عليه السلام

اشارة

آية الله الشهيد

الإمام السيد حسن الحسيني الشيرازي رحمة الله عليه

الطبعة الأولي

1421 ه 2000م

مؤسسة المجتبي للتحقيق والنشر

بيروت لبنان ص.ب: 6080 شوران

البريد الإلكتروني: almojtaba@shiacenter.com

كلمة

الإمام الكاظم عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلي الله علي محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين

كلمة الناشر

الحمد لله أولا وآخراً، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطاهرين دائماً وأبداً.

1 الكلمة

إن كلمة الإمام موسي الكاظم عليه السلام مظلومة كشخصه الشريف النوراني..

فإنهم حاولوا إخفاء نور الشمس بزجاج عندهم، وما دروا أن الزجاج يضفي علي النور بهاءً وجمالا، ويتحول النور إلي حزمة من الألوان المختلفة، وأن الشمس في السماء العالية، وأنّي لهم الوصول إلي ما أرادوا..

حاولوا إخفاء ضوء البدر، فنشروا ظلمهم وكفرهم وفسادهم في الأمة واختبئوا في المغارات والخمارات والحانات وما دروا أن البدر عالٍ لا يطال، ونوره كلما حلك الليل ازداد بهاءً وجمالاً، فدبروا ومكروا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم ولكنهم لم يقرؤوا في كتاب الله آية، ولا في كتاب الحياة أخلاقا، ولا في كتاب الإنسانية عن الضمير والقيم.. إلا أن الله خير الماكرين..

فاعتقلوا الإمام الكاظم عليه السلام وسجنوه، فتحول السجن إلي مدرسة في الفقه والأخلاق، وتحول السجان إلي عبد خادم للمسجون، وذلك عندما عرف أن السجن والحصون لا تمنع تنقل وذهاب الإمام عليه السلام متي وكيف وأين شاء.. كمن حبس نور الشمس في زجاج تماماً..

وتنقلوا بالإمام من سجن إلي سجن، ومن بلد إلي بلد، ودبروا التدابير، والله أفشل تدبيرهم وجعل كيدهم في نحورهم وأركسهم في الخزي إركاساً والإمام عليه السلام يري ويسمع ويعلم بكل ما يجري وهم كالخفافيش وما أن يحل النور حتي يبدؤوا بالبحث عن الظلام لأنه لا طاقة لهم برؤية النور.

وحالوا أن يطعموا الإمام الكاظم عليه السلام للوحوش المفترسة الجائعة، وما عرفوا أن تلك الوحوش غير الآدمية هي أطوع للإمام عليه السلام من الوحوش الآدمية، بل راحت الوحوش تتمسّح بالإمام عليه السلام وتقف وراءه عندما يصلي وكأنها تصلي خلفه مؤتمة به…

هذا والحاكم الإسلامي يومذاك كان لا يصلي إلا رياءاً، إذ كيف يصلي

خالصاً لوجه الله من يسجن ويحاول قتل الإمام عليه السلام الذي لا تجوز الصلاة إلا بذكره والصلاة عليه مع جده الرسول المصطفي صلي الله عليه و اله.

كما إنهم بأفعالهم تلك أرادوا إخفاء معالم جريمتهم إذا ما استطاعوا قتل الإمام الكاظم عليه السلام، أو إخفاء ذكر ذاك الإمام العظيم عليه السلام، إلا أن ذكره ونسله المبارك كان الأكثر والأشهر والأعظم من بين جميع الأئمة عليهم السلام حتي أنه بلغ عدد أبنائه حسب الروايات ستاً وثلاثين ولداً وبهذا يكون قد فاق جده أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام الذي قيل أن عدد أبنائه حسب أكبر الروايات في مروج المسعودي أربع وثلاثون ولداً مع المحسن السقط المبارك آخر أبناء السيدة الزهراء عليه السلام.

ف (كلمة الإمام الكاظم عليه السلام) هذه هي من الموسوعة النورانية لكلمات المعصومين عليهم السلام التي جمعها ورتبها بهذا الأسلوب الجميل سماحة السيد الشهيد حسن الشيرازي رحمة الله عليه وأسماها ب (موسوعة الكلمة).

فهذه الكلمة الجميلة التي حوت أحاديث وأقوال الإمام موسي بن جعفر عليه السلام تفيدنا الكثير في وقتنا الحاضر حيث الظلم يشملنا من كل ناحية، والكفر والطغيان يلفنا من كل نواحينا، ولا يسعنا إلا المقاومة بالأسلوب الصحيح وكظم الغيظ والدعاء بالفرج لهذه الأمة المرحومة والتي أصبحت محزونة ومكلومة.

نعم إن في كلمات الإمام الكاظم عليه السلام الكثير من الدروس والعبر المفيدة للبشرية جمعاء..

2 جامع الكلمة

جامع الكلمات، شهيد الكلمة.. سماحة آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي رحمة الله عليه الذي كان متأسياً في كثير من مراحل حياته بالإمام موسي بن جعفر عليه السلام.

فقد كان عالماً ومجاهداً من الطراز الأول، وكان لا يخاف في الله لومة لائم، وكان يردد كثيراً «لا السجن يرهبني ولا الإعدام»، وبالفعل فقد اعتقل أكثر

من مرة، وسجن وعذب عذابات شديدة بأقسي همجية وأبشع أسلوب قلما عرفه التاريخ الإنساني علي مر العصور والدهور..

فأرادوا أن يشتروا منه قلمه فلم يبعه إلا بالحق..

وأرادوا أن يساوموه علي صوته ولسانه فلم يبعهما إلا للأمير عليه السلام وولده الشهيد في كربلاء عليه السلام.

وأرادوا أن يشتروه كله فلم يرض لنفسه ثمناً إلا الجنة، فراح شهيداً مضرجاً، بل ممسكاً معطراً، بدمه الزكي علي أرض لبنان المقاوم، وعلي تراب جبل عامل الأشم..

فظلامة السيد حسن رحمة الله عليه بالسجن والتعذيب، والنفي والتشريد، وأخيراً القتل والتصفية الجسدية، كلها تذكرنا بالمصائب العظيمة والوقائع الفجيعة التي جرت علي الإمام موسي بن جعفر عليه السلام سابع أئمة أهل البيت عليه السلام ولكن الظلم لا يدوم والحق سينتصر، فان الظلم ظلمات في الدنيا والآخرة، ولا يمكنه أن يقاوم النور، والله سبحانه لعن وشدد اللعن علي الظالمين، وتوعدهم بالخزي في الحياة الدنيا، وبجهنم وبئس المصير في الدار الآخرة، وقد قال عليه السلام:

«يوم المظلوم علي الظالم أشد من يوم الظالم علي المظلوم…» ().

فما عساه يفعل الظالم بالضحية في هذه الحياة الدنيا الا بزهق روحه الأسيرة في هذا الجسد الترابي بضربة سيف، أو طلقة رصاص غادرة، أو جرعة سم قاتلة، لكنه تنطلق الروح الطاهرة من أسرها إلي ربها وتنتظر ذاك الظالم الذي سيخلد في دركات جهنم ويتقلب في نيرانها ويخلد فيها مهاناً ولا خلاص يومئذ ولا منفذ منها ولا شفيع له…

يا ويلهم ما أصبرهم علي النار..

فقد قتلوا الإمام موسي الكاظم عليه السلام بجرعة سم آثمة وأرادوا إخماد ذكره، إلا أن ذكر الإمام المظلوم عليه السلام صار أشهر من النور وأذكي من عبق الربيع..

وواصلوا هذه الطريقة الآثمة بقتل العلماء والمصلحين.. وقد قتلوا سماحة السيد حسن رحمة الله عليه

بحفنة من الرصاص الغادر والحاقد، ولكن ذكره صار منار ثورة ضد الظلم، وأصبح سفراً مقدساً وصار شهيداً خالداً، وكفي بهذا فخراً عند الافتخار لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون..

فالحق باق بقاء الحق تعالي، والباطل مهما صال وجال فلابد أنه زاهق لأن الله سبحانه يقول: ?إن الباطل كان زهوقاً? ().

3 صاحب الكلمة

هو الإمام السابع من أئمة المسلمين الإثني عشر عليهم السلام الذين نص عليهم رسول الله صلي الله عليه و اله..: الإمام موسي بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب، عليهم صلوات الله وصلوات المصلين إلي يوم الدين، إله الحق آمين..

قال سبحانه وتعالي: ?إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا?().

وقال عزوجل: ?الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور علي نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار?().

وقال جل من قائل: ?ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون?().

وأما سورة الدهر فهي تصدح بفضائل أهل البيت عليهم السلام، وتعطي لبني البشر الصورة الحقيقية والكاملة للإنسان الإلهي والرباني، وتجعل أهل البيت عليهم السلام المثل الأعلي في هذا الوجود، وتقرر بأنهم السبيل إلي الله، وسبيل الله وطريقه

هو الصراط المستقيم وما سواه سبل ضلال وضياع..

فكتاب الله الصامت يحتضن بين دفتيه الكثير الكثير من الآيات النازلة بحق أهل البيت الكرام عليهم السلام، وحسب الروايات المختلفة ما بين الربع والثلث من مجموع آياته الشريفة إن لم تكن أكثر.

ولا غرو في ذلك، لأنهم عليهم السلام كتاب الله الناطق، ولسان الحق المبين، ونور الله في الأرض المظلمة، وسراج الدنيا عندما يلفها الظلام الدامس.

فأهل البيت عليه السلام هم المطهرون بإرادة الله سبحانه.

وهم المثل الأعلي لنور الله في الوجود، وهم نور علي نور..

وهم الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله..

وهم العروة الوثقي في (آية الكرسي) الإلهي العظيم..

وهم من الشجرة الطيبة ذات الأصل الثابت والتي تضرب بفروعها إلي سماء الفضائل والعلم والتقوي والورع..

وهم، وهم.. وما أرداك من هم؟

وبكلمة واحدة لم يعرفهم حق معرفتهم إلا الله عز وجل، وإلا فالإنسان ليس بإمكانه أن يعرف نفسه حق المعرفة، فكيف به وهو يريد أن يعرف من لا يعرفهم إلا الله ورسوله!! فهذا مطمح صعب ومستصعب، لا بل مستحيل لمخلوق محدود تقيده الظروف وتكبله الذنوب، وتعوزه القدرة، وتنقصه الاستطاعة، ويشمخ ليحيط علماً بأهل العلم والوحي..

لا.. أبداً هذا لا يمكن..

لذلك تري رسول الله صلي الله عليه و اله يقول مراراً: «نحن أهل البيت، لا يقاس بنا أحد..» ()، نعم لنا أن نستضيء بنورهم ونتأسي بما أمرنا الله عز وجل من التأسي بهم.

فهم عليهم السلام استثناء في الوجود، بل هم أسباب الوجود، وبيوتهم مهابط الوحي ومزارات للملائكة الكرام، فإنها أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.

وفيما تروي كتب التاريخ: «أنه ذات مرة كان الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عند أحد ولاة بني العباس والمجلس غاص بالخواص والعوام، وهناك الكثير من

الطالبيين والعلويين، فقال الرجل: يا بني فاطمة ما فضلكم علي الناس..؟ وكان متبجحاً مغروراً حاقداً حاسداً.

فسكت كل من كان في المجلس من الفاطميين خوفاً علي أنفسهم من القتل.

فقال الإمام الصادق عليه السلام: إن فضلنا علي الناس: إنّا لا نحب أن نكون من أحد سوانا، وليس أحد من الناس لا يحب أن يكون منّا..» ().

صدق مولانا عليه السلام، نعم كل الناس تتمني أن تنتسب إليكم وتفتخر بخدمتكم حتي، وأنتم لا تحبون أن تكونوا من أي قوم آخرين، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء..

وهؤلاء العظماء، هم الذين لم تخل الأرض من أحد منهم قط، لأنها لو خليت لخربت وساخت بأهلها، فكل واحد منهم يكون صمام أمان لهذه الدنيا في عهده، مهما بلغ من الصعوبة والقسوة سياسياً واجتماعياً واقتصاديا وغير ذلك..

وسابعهم الذي نتبرك بذكره في هذا الكتاب، ونعطر السطور ونزكي العيون ونطيب الشفاه بالكتابة والقراءة عنه، هو الإمام موسي بن جعفر المعروف بالكاظم عليه السلام.

ذاك النجم اللامع في دنيا الفضيلة والعلم والإسلام، الذي حاول حكام الجور وطغاة بني العباس أن يخمدوا نوره، أو يمنعوا الاستضاءة به حتي، إلا أنه يأبي الله لهم ذلك ورسوله والمؤمنون..

فالإمام موسي بن جعفر عليه السلام هو قائد الأمة وحجة الله علي الخلق بعد أبيه الذي أضاء الدنيا بالعلم والنور، وشغل العالم بالتفكير والكتابة والرواية عنه وعن آبائه الكرام في مختلف العلوم.

فالإمام الكاظم عليه السلام كان شبه محط رحال ونقطة تلاق وافتراق، هذا والجميع حتي الأعداء يشهدون للإمام الكاظم عليه السلام بالفضل والعلم وعلوّ الشأن.

وقد دلت النصوص والمعاجز علي إمامته دلالة واضحة لأولي الألباب، وعلاماتها منه كانت لائحة، وكلمات وأحاديث والده عليه السلام بذلك مصرحة..

وذلك بقوله عليه السلام: نعم هذا هو صاحبكم وهذا وليكم

من بعدي.. وهؤلاء ولدي وهذا سيدهم.. إلي غيرها من الأحاديث المصرحة بذلك().

مضافاً إلي ما ورد عن رسول الله صلي الله عليه و اله بذكر أسماء الأئمة واحداً بعد واحد كما في حديث جابر رحمة الله عليه().

الولادة والنسب الشريف

هناك ولكن ليس في المدينة المنورة، ولا في مكة المكرمة.. بل فيما بينهما محلّة يقال لها (الأبواء) ولد الإمام السابع موسي بن جعفر الكاظم عليه السلام، تلك المحلّة التي توفيت فيها (آمنة بنت وهب) والدة الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله.

وذلك في يوم الأحد 7 صفر الخير من عام 128 للهجرة الشريفة.

أي أن ولادته المباركة كانت في الأيام الأخيرة من حكومة بني أمية البغيضة، والتي كانت تتداعي وتهتز وتترنح من أجل السقوط، حيث كان قائدها (مروان الحمار) وبئس لأمة وحكومة يقودها حمار، والويل كل الويل لتلك البلاد التي يحكمها مثل ذاك الحاكم…

والده الشريف: هو الإمام جعفر الصادق عليه السلام واسطة عقد الإمامة وجوهرته الثمينة الغالية، فلكل عقد من الجواهر والدرر لابد من أن تتميّز واسطته بالكبر والشكل وبعض المميزات الأخري عن بقية العقد الذي يكون كله وفي معظم الأحيان والحالات من جوهر واحد، وينظمه ناظم واحد..

فعقد الإمامة في الأمة الإسلامية كان من جوهر واحد، وذرية واحدة، وضعها خالقها بقوله: ?ذرية بعضها من بعض ? ()وهم ?نور علي نور?().

تلك الذرية المباركة التي تنتمي إلي رسول الإنسانية محمد بن عبد الله صلي الله عليه و اله، من إبنته فاطمة الزهراء عليها السلام سيدة نساء العالمين، وأخيه وابن عمه الأمير علي بن أبي طالب عليه السلام.

فذاك العقد المرصّع النوراني، الذي صنع من نور القدس، وجعل في جسم بشر علي هيئة رجال مخصوصين بالاسم والصفة والسمت، إلا أنهم كانوا مثالاً للبشرية، وملاذاً

للإنسانية وينابيع خير وفضيلة، وبحور علم لا تعرف شواطئها، وقمم مجد استعصت علي طالبها مهما بلغ من علوّ الهمة، فهم.. هم ولا أحد مثلهم أبداً..

ذاك العقد النوراني الذي ينظمه ناظم الإمامة، ويرصعه المولي جلّت قدرته بالعصمة والعلم والعمل والأدب والتقوي والورع، فكان كل من ينظر إليه يهابه ويكبره ويعشقه، لا سيما واسطته العظيمة والجميلة..

وواسطة عقد الإمامة كانت الإمام جعفر بن محمد عليه السلام الذي كان الأكبر سناً، فإنه عاش أطول عمراً من الجميع.

وفكراً: لأنه صاحب الجامعة الإسلامية الشهيرة في الدنيا يومذاك.

وذكراً: لأنه الألمع من حيث الظروف المواتية فكانت كل الفرق الدينية وغير الدينية، الإسلامية وغير الإسلامية، تأخذ عنه وتستفيد من فيض علمه وفكره النوراني، وذلك بسبب استغلاله الفرصة السانحة بين تطاحن الناس علي الدنيا، وانتقال الحكم من الأسرة الأموية إلي الأسرة العباسية، فسنحت له الفرصة وخدمته الظروف، فخدم الأمة والرسالة الإسلامية خدمة خلدتها في الأجيال ورسختها في العقول والقلوب وأرست قواعدها في الواقع الإسلامي..

أما الترصيع الخاص به فقد كان (الصدق) فعرف بالصادق عليه السلام وهذه الدّرة الثمينة والجوهرة الغالية، أصل للإمام موسي الكاظم عليه السلام ووالده.

أما أمه المكرمة: فقد كانت من شمال أفريقيا السوداء() وتسمي (حميدة)، وهي جارية كريمة حليمة وكنيت ب(اللؤلؤة).

هذه اللؤلؤة الكريمة اشتراها الإمام محمد الباقر عليه السلام وأهداها إلي ولده الإمام الصادق عليه السلام وأوصاه بها خيراً، لأنه يعلم أنها والدة الإمام السابع، فأخذها الإمام الصادق عليه السلام واعتني بها خير اعتناء، فعلمها ورباها تربية إسلامية خالصة وخاصة وثقفها بثقافة العصر حتي صارت من الفقيهات الجعفريات، فأوكل إليها الإمام الصادق عليه السلام مهمة تعليم النساء أمور دينهن وأحكامهن، وإرشادهن إلي قوانين الإسلام الحنيف، وعقائده وأخلاقياته ومفاهيمه، وإعطائهن كل ما يخلصهن في الدنيا

والآخرة..

أي أنها عليها السلام كانت صاحبة حلقة درس نسائية في جامعة الإمام الصادق عليه السلام، وهذا فضل عظيم ينبئ عن علوِّ شأن هذه المرأة الجليلة، وعلوّ همتها كذلك وسموِّ مكانتها عند أهل البيت الأطهار عليهم السلام وسمو تطلعها إلي العلم والنور.

ويروي التاريخ أن في ذاك اليوم الميمون يوم الأحد الذي كانت فيه ولادة الإمام موسي الكاظم عليه السلام كان والده الإمام الصادق عليه السلام يتناول طعام الغداء مع بعض أصحابه في محلة الأبواء، وعندما بشِّر بولادته تركهم وخفّ مسرعاً إليه يستقبل ابنه المبارك ويحتضنه ويقوم بواجباته عند الولادة().

وما إن وصل حتي قال عليه السلام: أعطوني ولدي المبارك.. فأعطوه ولده طاهراً نظيفاً مختوناً مشرق الوجه، فأخذه بيديه الكريمتين، والبشر يملأ عينيه، والفرح والسرور يطفو علي وجهه الشريف، والغبطة بادية علي محياه، فاستقبله بابتسامة حنونة يملؤها الحب والطف والحنان، فأذن في أذنه اليمني وأقام في اليسري وعوَّذه بالمعوذتين، وأعاده إلي أمه وأوصاها به خيراً، فأغدقت عليه كل ما لديها من حب وحنان الأمومة الطاهرة.

وكعادة أهل البيت عليهم السلام وعملاً بالآداب الإسلامية عقّ الإمام الصادق عليه السلام عن ولده العزيز وأولم له وأطعم الأضياف لمدة ثلاثة أيام احتفاءً واحتفالاً بمولوده المبارك، الذي أسماه موسي بن جعفر عليه السلام.

ومنه البداية كانت مشاعر الحب والعطف والحنان مميزة باتجاه ولده (موسي) أكثر من بقية أبنائه الكرام، رغم أنه لم يكن أكبرهم سناً، إلا أن الإمام الصادق عليه السلام كان يعرف أنه سيكون الحجة علي الخلق والإمام من بعده.

وعاد الإمام الصادق عليه السلام من الأبواء إلي المدينة المنورة ومعه ولده ووارثه موسي الكاظم عليه السلام فرحاً به مسروراً.

والإمام موسي عليه السلام ولد ضعيفاً أسمراً يأخذ معظم هذه الصفات من والدته إلا أن

قسمات وجهه وبهاء طلعته، وحسن محياه الشريف، كان يأخذها عن والده صادق الآل الكرام عليهم السلام الذي جمع جمال الصفات العربية ببهاء ورقة الصفات الفارسية الملكية بالخصوص..

النشأة الطيبة

لقد أحيط الإمام موسي عليه السلام منذ بدايته بكل الرعاية والحنان من أبويه الكريمين، فكانت أمه ترضعه لبناً مماساً بعشق الرسالة الإلهية، وأبوه يغذي عقله وفكره وقلبه بآيات القرآن الكريم، ويحوطه بجوِّ روحاني عجيب من أدعية أهل البيت عليه السلام، ويعيذه بكل التقارير النافعة والأحراز الواقية..

فدرج ونمي واشتد عوده الشريف في بيت العظمة والشرف والإباء والعلم والفضل والسؤدد، في منازل الرسالة، ومهابط الوحي، ومهوي القلوب الطاهرة الزكية.

فالإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام الذي ربّي الأمة الإسلامية كلها وعلّم العلماء والفقهاء، وخرّج من مدرسته العظيمة الجامعة الواسعة عدداً هائلاً من التلاميذ الذين توزعوا في كل البلاد الإسلامية حتي وصل عددهم إلي أربعة آلاف أو عشرين ألفاً او يزيدون حتي، وكان شيخ واحد في مسجد الكوفة يقول: إنني أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد عليه السلام.

فذاك العظيم الذي فعل كل ذلك كيف ستكون تربيته لولده ووارثه..؟

فالجواب عن مثل هذا السؤال واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، ولايحتاج إلي كثير تفكير أو إجالته حتي في الخاطر، لأن تربيته لولده كانت أفضل تربية، وعنايته به خير عناية، فكان ولده خير التلميذ، وأفضل من تعلم من مدرسته علي الإطلاق ودون منازع رغم شبابه وفتوته الغضّة، وهذا كان مضافاً إلي العلم اللدني الذي يمنحه الله عزوجل للائمة المعصومين عليهم السلام.

فالإمام موسي الكاظم عليه السلام تسلّم زمام الأمة وقيادتها بكامل الأهلية وهو في ريعان الشباب ونضارته وهو ابن العشرين ربيعاً فقط لا غير، وذلك حين انتقال والده العظيم

عليه السلام إلي الرفيق الأعلي.

نعم الإمام الكاظم عليه السلام تربي وعاش في رحاب وكنف أبيه عليه السلام هذه المدة القصيرة بحساب الزمن وتعلم في مدرسته العلمية الكبري الجامعة التي توافد عليها الطلاب والتلاميذ من كل حدب وصوب ومن كل ناحية ومصر، ومن كل عشيرة وقبيلة وعائلة، فكل كان يتسابق إلي إرسال ولده النبيه والذكي المميَّز إلي تلك المدرسة العالية في تلك الأيام الخالية..

وراحوا يتخرجون منها، وهم بين علماء وفقهاء وحكماء محدثين، ولم يبق علماً من العلوم المعروفة وغير المعروفة يوم ذاك إلا وكان للإمام الصادق عليه السلام كلام وأحاديث، وخرَّج منها الجامعة علماء في كل الاتجاهات والأنواع، حتي الكيمياء الذي وضع أسسه وقواعده بخمسمائة رسالة لجابر بن حيان (رضوان الله عليه) بألف صفحة، وهكذا الهيئة والنجوم والرياضيات والطب والتسريح والصيدلة والدواء وحتي علوم الماوراء..

وكل هذه العلوم وما يرتبط بدين الله وكتابه الكريم وأحكامه الشرعية، أخذها الإمام موسي بن جعفر عليه السلام تعلماً ودارسة، وتعليماً ووراثة، لدنياً وغير لدني، حتي بزَّ الجميع وفاقهم في كل ذلك، وبهرهم بغزارة علمه وسلامة منطقه وقوة حجته بالإضافة إلي آياته وفضائله ومعجزاته الدالة علي إمامته عليه السلام.

فورث صدق الصادق عليه السلام وعلم الباقر عليه السلام وعبادة السجاد عليه السلام وإباء سيد الشهداء عليه السلام وحلم الحسن الزكي عليه السلام وصبر الأمير علي عليه السلام وظلم الزهراء عليها السلام وثبات جده النبي صلي الله عليه و اله فكان كاظماً وخير كاظم..

نهل من منهل أبيه العذب، وتشبع بروحه وأخلاقه العالية الفاضلة، وشبّ علي صفاته الحسنة وخصاله النورانية وخصائصه الرحمانية، فكان مثلاً أعلي في الشجاعة والثبات علي الحق وذلك في مقارعة طغاة بني العباس.

فقد كانت حياته امتداداً واستمراراً رائعاً لمسيرة أهل بيت النبوة

والرسالة الأطهار الأبرار عليهم السلام، في العلم والعمل، والجهاد والقيادة، والإمامة للأمة الإسلامية المرحومة بهم.

وقد عبّر الإمام الصادق عليه السلام عن هذه الحقيقة واصفاً ولده الإمام موسي الكاظم عليه السلام بقوله: «الحمد لله الذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء..» ().

فالإمام الصادق عليه السلام يري في ولده الفتي كل هذا الزخم، فهو خلف من الآباء الكرام، وهم السلسلة الذهبية أهل بيت الرسالة الخاتمة، الذين ورثهم الإمام موسي عليه السلام علماً وفضلاً ورسالة.

وهو عليه السلام السرور من الأبناء، لأنه الخليفة والوارث والوصي له دون غيره، لذلك كان الإمام الصادق عليه السلام شديد الحب له والإعلاء من شأنه أمام الخاص والعام وفي كل حال وآن.

صفاته النورانية

إن أول ما يجب أن يتناوله الباحث في الصفات السامية للإمام السابع من أئمة المسلمين الإمام موسي بن جعفر عليه السلام واللافت للنظر هو الصفة التي عرف الإمام عليه السلام بها ألا وهي (الكاظم)..

والكاظم: هو الممسك والجامع للشيء..

والكظم: هو اجتراع الغيظ والإمساك عن إبدائه، وكأنه يجمعه في جوفه، قال تعالي: ?والكاظمين الغيظ?.()

والكظوم: السكوت.

والكظم: مخرج النَّفس، يقال: آخذ بكظمه أي انه منع نفسه أن يخرج().

ومن هذا الاستعراض السريع لمعني الكلمة (كاظم) في اللغة العربية نعرف مدي الصبر علي البلاء وشدته، الذي تجرّعه الإمام موسي عليه السلام في ذلك الزمن الموغل في الظلم والتجبر والطغيان من قبل الحكام العباسيين الجبابرة علي الأمة كلها وعلي الأئمة بالخصوص، وكان الإمام موسي بن جعفر عليه السلام بعد أبيه الصادق البار الأمين كالقذي في عيونهم الآثمة، وكالشجي في حلوقهم الغارقة بالحرام.

فبعد أن اغتال المنصور العباسي الإمام الصادق عليه السلام ونجح بعد محاولات كثيرة لذلك، تفرّغ للإمام الفتي موسي عليه السلام وأفرغ كل ما في

قلبه من حقد دفين، وتبعه العباسيين الواحد تلو الآخر حتي هارون الذي نقل الإمام عليه السلام من سجن إلي سجن ومن بلد إلي بلد حتي دسّ إليه السم فقتله شهيداً مسموماً.

ورغم كل تلك الأعمال الشنيعة من الحكام الجائرين صبر الإمام موسي بن جعفر عليه السلام واحتسب عناءه عند الله، وكظم غيظه وحبسه في قلبه النوراني المشع بالخير والفضيلة والنور، وحبسه في عقله الذي كان يوزن الكون وأكبر فإنه عملاق من عمالقة الإنسانية.

هذا وكان الإمام عليه السلام قادراً علي أن يجتثهم من جذورهم ويرميهم إلي حيث يشاء.. متي يشاء.. وكيف يشاء، لأنه صاحب الولاية التكوينية والتشريعية يومذاك، فلو عزم علي الله أن يبدلهم قردة أو خنازير أبدلهم، ولو أراد أن يقلب وجوههم ومدنهم رأساً علي عقب لفعل ذلك وأكثر.. ورغم كل ذلك صبر وغفر.. وهذا من تقوي القلوب ويحق له أن يسمي ب(الكاظم).

وكذلك الطغاة الجبارون الذين أخذوا عليه أقطار السماء والأرض ومنعوه من العيش بين الناس أو بين أهله، فضيقوا عليه الخناق حتي أودعوه في ظلمات السجون أعواماً متطاولة، فأخذوا بكظمه وأرادوا أن يمنعوا نفَسَه من الخروج، فكان كاظماً مظلوماً مكظوماً.

والمتتبع في صفحات التاريخ ومن خلال هذا الكتاب كله سيجد استحقاق الإمام موسي عليه السلام بهذا اللقب الموجع للقلب والشاغل للفكر..

ومن صفاته النورانية عليه السلام أنه كان مشهوراً ومعروفاً بين أصحابه وخواصه الذين كانوا لا يجرؤون علي البوح باسمه أو حتي بصفته.. فعند الحديث أو التحدث عنه كانوا يقولون: حدثنا (العبد الصالح) وهذا من شدة التضييق العباسي حول الإمام عليه السلام وأصحابه فيخافون علي أنفسهم وإمامهم حتي من ذكر اسمه الصريح.

ومن ألقابه النورانية السابقة بين شيعته: لقب (زين المتهجدين) وذلك لكثرة عبادته وتهجده في الليالي المظلمة،

وفي السجون الظالمة والمظلمة، فكان من صلاته ما تعجب منه سجانيه أنفسهم، واعترفوا أنهم لم يروه إلا صائماً أو قائما أو تالياً للقرآن أو متهجداً لله بالدعاء..

وكان من أقرأ أهل زمانه لكتاب الله الصامت (القرآن) وكان حسن الصوت حزيناً يبكي روحي فداه ويُبكي كل من يسمعه يتلو آيات الذكر الحكيم، فإذا قرأ القرآن يأخذ بمجامع القلوب.

فهو كتاب الله الناطق، وسطر مميّز من سطوره النورانية، الرحمانية.

وكان (باب الحوائج) إلي الله، لوجاهته وقربه عند الله وعلو مقامه الشريف، فكان المؤمنون يدعون الله بحقه فتقضي حوائجهم بإذن الله تعالي ولا زال كذلك.

وأما كناه فهو: أبو الحسن الأول، وأبو إبراهيم.

ورغم الأيام الطويلة والسّنوات المتعاقبة التي قضاها الإمام موسي الكاظم عليه السلام في السجون العباسية ورغم كل التضييق والتعسف والتضييق علي عائلة الإمام عليه السلام فإن الملفت للنظر هو البركة في نسله وكثرة أبناء الإمام موسي الكاظم عليه السلام بنين وبنات وهناك روايات مختلفة وأقلها هي:

أن للإمام (37) ولد، 18 ذكر و19 أنثي..

وأكبرها هي (46) ولد، 28 ذكر 18 أنثي..

تبارك الله وما شاء الله وبالفعل فان ذرية الإمام موسي بن جعفر عليه السلام وإلي اليوم هم الأكثر والأشهر والأوسع بين أبناء الأئمة عليه السلام جميعاً وهم المعروفين ب(السادة الموسوية) زادهم الله عزاً وفخراً.

الإمام عليه السلام والسجن والحكام

قد ارتبط اسم الإمام السابع من أئمة المسلمين عليه السلام الإمام موسي بن جعفر عليه السلام بالسجن الظالم، فما قصة السجون العباسية التي تنقل بينها الإمام الكاظم عليه السلام؟

وهل كل مسجون مسيء، أو كل سجن سيئ.

فالسجن هو غرفة تختلف بالحجم والخصوصيات، يوضع فيها المسجون لمنعه من ممارسة حريته في الهواء الطلق، وبين البشر.

فالسجن إن كان لذنب فتقديره حسب الذنب المسجون لأجله، فالقاتل قد يسجن لما ارتكبه من

ذنب حتي يعرف مصيره، والسارق والزاني واللص وقاطع الطريق و.. و.. ربما يحكم عليهم بالسجن لفترة أو أكثر، فهؤلاء السجناء سجنهم ذلّ ومذلّة لأن الذنب المقترف والموجب للسجن هو رذيلة بحدّ ذاته.

أما المظلوم، والبريء، فالسجن له عزّ وفخر، لأنه فرصة ثمينة للامتحان والتزكية والتنقية والسمو في درجات الفضائل والتفرغ للعبادة والطاعة، فتعرف البشرية قيمة الحرية وفداحة الظلم وبشاعة وجه الظالم.

ولذلك يقول الشاعر مفتخراً:

قالوا حبست فقلت ليس بضائر

حبسي وأيّ مهند لا يغمد

أو ما رأيت الليث يألف نميله

كبراً وأوباش السباع تردد

والشمس لولا أنها محجوبة

عن ناظريك لما أضاء الفرقد

والنار في أحجارها مخبوءة

لا تصطلي إن لم تثرها الأزند

والحبس ما لم تغشه لدنية

شنعاء، نعم المنزل المستورد

بيت يجدد للكريم كرامة

ويزار فيه ولا يزور ويحفد

فالسجن بنظر البريء والمظلوم كما يقول هذا الشاعر هو كالسيف أو المهند في غمده، وكالليث الغضنفر في عرينه، وكالشمس المحجوبة، وكالثار المخبوءة.

والسجن إذا لم يكن لدنِّية أو فعل شنيع فهو منزل جديد للإنسان ذي الهمة العالية، فيجدد فيه عزمه وطاقته، وتسمو درجته وكرامته فيزار ولا يزور ويختص بالتقدير والاحترام والتبجيل.

والسيد الشهيد المؤلف رحمة الله عليه كان يقول: لا السجن يرهبني ولا الإعدام..

فالسجن للعظماء: تزكية ونماء.

وللأولياء: عبادة وزهادة ودعاء..

وهو علم وفكر لدي الحكماء، وثقافة وكتابة لدي العلماء.

وقصة، ورواية، وشعر لدي الأدباء..

فقصة السجن قصة الإنسان المظلوم بالحقيقة والواقع وهذه طويلة طول الزمن، عريضة عرض الليالي والأيام، والقرآن الكريم يحدثنا عن نبي الله يوسف الصديق عليه السلام الذي قضي ردحاً من الزمن في السجن، فكان مرجع السجناء وحكيمهم وإمامهم وهو خلف القضبان الحديدية.

وذنب نبي الله يوسف عليه السلام أنه من أجمل خلق الله خَلقاً وخُلقا، ورفض العروض المقدمة له من قبل امرأة العزيز وبقية النساء الأخريات، وكل تدعوه إلي نفسها فيرفض

ويعتصم بنقائه وصفاته وطهره من أن يلوث نفسه بهن أو أن يواقعهنَّ علي البغاء والزنا والعياذ بالله..

فذنبه عفته وشرفه ودينه وعصمته..

وكذلك الإمام موسي بن جعفر عليه السلام سجن لسنوات ضعف أو ضعفين مما سجن فيها يوسف الصديق عليه السلام وذنبه كان (حب الناس له) ومعرفة الحكام العباسيين انه المؤهل الوحيد لقيادة الأمة، بل هو قائدها الشرعي والحقيقي، فهو إذن مصدر الخطر علي دنياهم الدنية..

فأخذ عليه السلام بذاك الذنب، وبذنب قول الحق، وجريمة التقوي والإيمان وتعلق الناس به، وكان كثيراً ما يخاطب أصحابه بقوله عليه السلام: «اتق الله وقل الحق، وإن كان فيه هلاكك فإن فيه نجاتك، ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك إن فيه هلاكك» ().

فذنب الإمام الكاظم عليه السلام عند هارون العباسي كبير وعظيم، فلم يكتف بالسجن بل لحقه بالسم والقتل والله حسيبه علي ما افترقت يداه الآثمتان.

فقد روي أنه حج هارون طاغية بني عباس ذات سنة، فبدأ بقبر النبي صلي الله عليه و اله وعند وصوله إليه، قال: يا رسول الله اني أعتذر إليك من شيء أريد أن أفعله، أريد أن أحبس موسي بن جعفر، لأنه يريد التشتت بين أمتك وسفك دمائها!!.

ثم أمر بالإمام موسي الكاظم عليه السلام فأدخل إليه فقيّده، وأخرج من الدار الذي ينزل بها بغلين عليهما قبتان مغطاتان وكان الإمام في إحداهما، ووجه مع كل واحدة منهما خيلاً للحراسة، فأخذوا بواحدة علي طريق البصرة والأخري علي طريق الكوفة ليعمي علي الناس أمر الإمام الكاظم عليه السلام وكان الإمام عليه السلام في التي ذهبت إلي البصرة، فأمر الرسول أن يسلمه إلي عيسي بن جعفر بن المنصور العباسي، وكان والياً علي البصرة حينئذ، فمضي إليه فحبسه عنده سنة..

وبعدها كتب إلي هارون العباسي

أن خذه مني وسلمه إلي من شئت، وإلا خليت سبيله فقد اجتهدت عملت جهدي أن آخذ عليه حجة فما قدرت علي ذلك، حتي أني لأتسمع عليه أتنصت إذا دعا لعله يدعو عليّ أو يدعو عليك، فما أسمعه يدعو إلا لنفسه، ويسأل الله الرحمة والغفران.

فأرسل إليه هارون من تسلّمه منه، وحبسه بعد ذلك عند الفضل بين الربيع في سجن بغداد، وبقي عليه السلام في ذاك السجن البغيض مدة طويلة، وأراد هارون من السجان أن يلي أمر قتله والعياذ بالله فرفض ذلك لأنه عليه السلام عرف ان الإمام بريء وليس له أي ذنب..

فكتب هارون أن يسلمه إلي الفضل بن يحيي فتسلمه منه، وأراد ذلك منه فلم يفعل، وبلغه أنه لم يضيق علي الإمام عليه السلام في السجن فأرسل هارون مسرور الخادم إلي بغداد علي البريد، وأمره أن يدخل من فوره إلي الإمام موسي عليه السلام فيعرف خبره فإن كان الأمر علي ما بلغه أوصل كتاباً منه إلي السندي بن شاهك ليتولي أمر الإمام ويسجنه عنده ويشد عليه.

فقدم مسرور ونزل دار الفضل بن يحيي لا يدري أحد ما يريد، ثم دخل علي الإمام موسي عليه السلام فوجده علي ما بلغ هارون، فمضي من فوره إلي السندي بن شاهك، وأوصل الكتاب إليه وكان قد أمر هارون الطاغية بتسليم الإمام موسي الكاظم عليه السلام إلي السندي بن شاهك، فحبسه في سجنه إلي أن دسّ السم إلي الإمام عليه السلام وذهب إلي ربه شهيداً().

ورغم كل هذه التنقلات وهذه السجون وهذه الأعوام المتطاولة في تلك المطابق اللعينة، كيف كان يقضي الإمام الكاظم عليه السلام الأيام والليالي في السجن المظلم..؟

الجواب واضح ومأخوذ من كلمات الإمام الكاظم عليه السلام ودعائه المشهور الذي كان يقول

فيه: (اللهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرِّغني لعبادتك وقد فعلت ذلك.. فلك الحمد)().

فالإمام عليه السلام ليس كبقية البشر، إذا ما حبس أو ضيق عليه، أو قتر عليه في معيشته، فانه يجلس ويندب حظه ويبكي أهله وأطفاله، أو يداهن ويراهن للخروج من السجن، أو يلين في مواقفه العقائدية أو الإنسانية، أو يُفتَّ من عضده، أو يُنال من كرامته وشرفه وعزته.

حاشا وكلا..

فالسجن فخر للبريء المظلوم، وخزي للمجرم والظالم عبر الأجيال المتلاحقة، وهو بمثابة فرصة للعبادة والدعاء والتهجد إلي الله في الليالي الحالكات، فتسمو فيه الدرجات، ويرتفع الإنسان إلي ساحات القدس المقربة من رب العباد جلَّت قدرته.

فالدنيا وجدت لتكون محراب عبادة ومجال واسع للتسبيح والتهليل والتقديس، ورحلة روحانية رائعة للتقرب إلي الله سبحانه، والوصول إلي معرفته، لاتتغير علي الإمام عليه السلام الأحوال، ولا تختلف لديه الأماكن والظروف، بل كلما ضاقت عليه حلقات البلاء، وعظمت الشدائد، وتراكمت وتتابعت المحن ازداد قرباً من الله، لأنه عليه السلام سيستعين بالله ويتسلح بالصبر ويلوذ بالصلاة والدعاء.

وبالفعل هذا الذي اتخذه الإمام موسي بن جعفر عليه السلام في سجنه حيث جعله مسجداً، فحول ظلماته إلي أنوار وروحانية، فاعتكف فيه واستأنس بذكر الله (جلت عظمته) فكان يقضي نهاره بالصيام وليله بالقيام والتهجد وتلاوة القرآن..

يروي عن أحمد بن عبد الله عن أبيه أنه قال: دخلت علي الفضل بن ربيع وهو جالس علي السطح فقال لي: اشرف علي هذا البيت وانظر ماذا تري..؟

فقلت: ثوباً مطروحاً.

فقال: انظر حسناً.. فتأملت فقلت: رجل ساجد..

فقال لي: أتعرفه؟ هو موسي بن جعفر عليه السلام.. أتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا علي هذه الحالة، إنه يصلي الفجر فيعقب إلي أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة فلا يزال

ساجداً حتي تزول الشمس، وقد وكل من يترصد أوقات الصلاة، فإذا أخبره وثب يصلي من غير تجديد الوضوء، وهو دأبه، فإذا صلي العتمة أفطر، ثم يجدد الوضوء، ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتي يطلع عليه الفجر().

نعم لم يكن السجن هو وجه الشبه الوحيد بين نبي الله يوسف عليه السلام وإمامنا موسي الكاظم عليه السلام بل وقضية الإغراء النسائي كذلك الذي سجن لأجلها يوسف عليه السلام استخدمت لتشويه صورة الإمام عليه السلام وهو في سجنه. إذ ينقل أصحاب التواريخ أن هارون العباسي أنفذ إلي الإمام موسي بن جعفر عليه السلام جارية خصيفة، لها جمال ووضاءة لتخدمه في السجن! فقال الإمام عليه السلام للسجان: قل له ?بل أنتم بهديتكم تفرحون ?() لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها..

فاستطار هارون غضباً، وقال للسجان: ارجع إليه وقل له: ليس برضاك حبسناك، ولا برضاك أخذناك، واترك الجارية عنده وانصرف…

ثم قام هارون عن مجلسه وانفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها وهي تقول: (قدوس، قدوس، سبحانك، سبحانك) فقال هارون: سحرها والله موسي بن جعفر عليه السلام السحرة().

وفي هذه المحاولة الخبيثة لإلهاء الإمام الكاظم عليه السلام عن عبادة ربه جل وعلا، وبهذه الطريقة الخسيسة والدنيئة، حيث يرسل إليه بهذه الجارية الحسناء، وهو في السجن بعيداً عن أهله وزوجاته وإمائه، ولكن الإمام عليه السلام حولها إلي عابدة زاهدة تقضي معظم أوقاتها بالسجود والتقديس والتسبيح.

وكلمته تلك (سحرها) لم تنطلق من جاهل لا يعرف قدر الإمام موسي بن جعفر عليه السلام بل كلمة أطلقها وهو يعلم عظمة الإمام عليه السلام وعصمته، ولكن قالها ليخفي فيها فشله، وليستر من ورائها خبثه ودهاءه، فقال عن الإمام انه ساحر،

حاشاه.. بل إمام معصوم عليه السلام.

والحديث عن سجن الإمام موسي بن جعفر عليه السلام هو حديث طويل جداً لأن سجن الإمام عليه السلام طال من 8 إلي 14 سنة حسب اختلاف الروايات، وله فيها معاجز وحكم وحوادث كثيرة سجل التاريخ بعضها، وهناك أسرار في السجن لا يعرفها إلا الله عزوجل..

فكم قطع القيود وعاد لأهله لقضاء حوائجهم ثم رجع إلي سجنه قبيل الفجر.

وكم غاب عن السجن ولم يدر به سجانيه.

وكم حاولوا قتله فلم يفلحوا حتي انهم ألقوه في غرفة السباع بعد أن جوّعوها لأيام متتالية عسي ولعل تأكله السباع، فعادوا إليه بعد برهة من الزمن ليروا أن السباع مصطفة خلفه كأنها تصلي مقتدية به، وربما رأوها تتمسح به وتمرغ ناصيتها في تراب قدميه الشريفتين.

وكم من الحوادث الخارقة شهدها سجن الإمام الكاظم عليه السلام إلا أن المقام يقصر بنا عن ذكر ذلك كله ومن أرادها فليراجع المفصلات.

الحياة السياسية للإمام عليه السلام

كانت الحياة السياسية للإمام عليه السلام في ضيق وضنك شديد من قبل الدولة والحكام العباسيين الطغاة، فالدور الرسالي للإمام موسي عليه السلام كان بإكمال دور أبيه العظيم الإمام الصادق عليه السلام الذي ورث عنه جامعة متكاملة وحلقات درس مختلفة وهو ابن العشرين ربيعاً فقط، في بداية تسلمه لقيادة الأمة وتوجيهه للحركة الرسالية التي بلغت أوجها وكادت أن تطيح بالحكومة العباسية لولا تدخل الظروف والأقدار التي حالت دون ذلك..

ففي عهد الإمام موسي الكاظم عليه السلام اتسعت الأرضية الثورية وتوزع رجال الحركة في الأمة كلها ووصل بعض الموالين إلي الوزارات العباسية ك(علي بن يقطين) وأمثاله الذين كانوا يأتمرون بأمر الإمام الكاظم عليه السلام بحذافيره، وقصصه مشهورة، فكم استشار الإمام عليه السلام في أن يستقيل من العمل لدي طغاة بني العباس إلا أن

توجيهات الإمام عليه السلام له كانت بالبقاء، ومقولته الشهيرة التي يقول فيها: (كفارة العمل لدي السلطان الإحسان إلي الإخوان)().

ومواقف الإمام عليه السلام مع علي بن يقطين الوزير الموالي للإمام عليه السلام كثيرة وطويلة.. فمرة يعيد إليه الدراعة، وثانية خمس الأموال، وثالثة يوجهه في كيفية وضوئه وغيرها، وفي كل مرة كان ينجو فيها علي بن يقطين من الحاكم العباسي ومن وشاة الظلمة، وينجيه الله بفضل ورعاية وتوجيه الإمام الكاظم عليه السلام.

إلا أن الحركة الرسالية شهدت ضربة قاضية وقاسية جداً علي الأمة الإسلامية في واقعة (فخ) واستشهاد تلك الكوكبة الدرية من سلالة النبوة وأصحابها الكرام والمخلصين من أوليائهم، والتي وصفها الإمام محمد الجواد عليه السلام بقوله: «لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ» ().

تلك الثورة التي فجرها العلوي البطل (أبو عبد الله الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب) (عليهم سلام الله)، وذلك من جوار جده الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله في المدينة المنورة عام (169 للهجرة) وفي عهد موسي العباسي الملقب بالهادي، وهو غير هاد للحق بل هاد إلي الجحيم وبئس المصير.

فأبادتهم جيوش بني العباس عن بكرة أبيهم في يوم التروية الثامن من ذي الحجة وعند صلاة الفجر تماماً في مكان يقال له (فخ) وهي عين ماء بعيدة عن مكة المكرمة مقدار فرسخ فقط.

وتحمل العلويون والطالبيون تبعات هذه الثورة، وروِّعوا شر ترويع بشكل عام، وحمل الإمام موسي بن جعفر عليه السلام القسط الأوفر من تلك التبعات وذلك لمكانته السامية بين الجميع.

وقصص الإمام الكاظم عليه السلام مع الحكام العباسيين كلها كانت تتسم بالمواجهة والتحدي، فهم يريدون إيذاء الإمام عليه السلام والاصغار من شأنه، والإمام عليه السلام

بتصرفاته الحكيمة كان يظهر للعالم صغرهم وعظمته في كل مرة..

ففي ذات يوم قال هارون العباسي للإمام الكاظم عليه السلام: كيف جوزتم للناس أن ينسبوكم إلي رسول الله صلي الله عليه و اله ولم ينسبونا ويقولوا لكم: أبناء رسول الله، وانتم بنو علي عليه السلام وإنما ينسب المرء إلي أبيه لا إلي أمه؟

فقال له الإمام عليه السلام: لو أن النبي صلي الله عليه و اله نشر أي أعيد إلي الحياة وخطب إليك كريمتك، هل كنت تجيبه؟

قال هارون: سبحان الله وكيف لا أجيبه؟

فقال الإمام عليه السلام: ولكنه لا يخطب إلي ولا أجيبه.

قال هارون: ولم؟

فقال الإمام عليه السلام: لأنه ولدني، ولم يلدك.

فانقطع هارون بهذه الكلمة القوية وانحط غروره وتكبره عند نفسه وعند كل من حضر في ذاك المجلس العباسي.

وبكلمة مختصرة إن الإمام الكاظم عليه السلام بدوره الرسالي العظيم سلب الشرعية عن أمثال هارون العباسي الذين كانوا يسمون أنفسهم بخلفاء رسول الله صلي الله عليه و اله، فعرف العالم أن هؤلاء حكموا ظلماً واستبداداً، والرسول صلي الله عليه و اله والإسلام بريئان منهم، كما قام عليه السلام ببيان (مدرسة أهل البيت عليهم السلام) في العقائد والفقه والأحكام والآداب والسياسة والاجتماع وغيرها للبشرية وإلي يوم القيامة، وهذا الكتاب القيم (كلمة الإمام الكاظم عليه السلام) نموذج من كلماته الدرية في مختلف الأبواب.

الشهادة المفجعة

إن الطغاة والحكام دائماً يخافون من الأتقياء الصالحين لأنهم لا يغترون بالدنيا.. ويخالفون الظالم في ظلمه، فان سيف الحق مسلّط علي رقبة الباطل دائماً ولا يزال يتتبعه إلي أن يزهقه لأن ?الباطل كان زهوقاً?().

وكل طاغية من حكام بني العباس كان يري في الإمام موسي الكاظم عليه السلام سيف ذي الفقار الذي يريد أن يقطعه إلي قطعتين أو يشطره إلي

نصفين، فكان هاجسه في الليل والنهار هو كيف له أن يتخلص من ذاك السيف المشهور والمسلط عليه وعلي ملكه العقيم وظلمه الجاري.

فالاستبداد والتسلط وحب الرياسة هو من أبشع أمراض الدنيا وأتباعها، وجنون العظمة والغرور والتكبر والتجبر كلها تصيب الحكام المنحرفين، فيري كل البلاد تحت تصرفه فيخاطب السحابة قائلاً: اذهبي أينما شئت فسوف يأتيني خراجك..

وآخر يخاطب ولده قائلاً: إن الملك عقيم ولو نازعتني عليه لقطعت الذي فيه عينيك أي رأسك.

وثالث يقول: أنا ربكم الأعلي.

ورابع يقال له:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فأمرنا فأنت الواحد القهار

فالاستبداد أساس وأصل كل فساد في هذه الحياة والمستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بارادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب والمتعدي، فيضع كعب رجله علي أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته..

فالمستبد عدو الحق، عدو الحرية، وقاتلهما، والحق أساس التقدم والازدهار.. ولكن كثيراً من الناس كصبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم اخوتهم الكبار الراشدون، فإن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا وإلا فيتصل نومهم بالموت.

إن المستبد يتجاوز الحد ما لم ير حاجزاً من حديد أو ما أشبه، فلو رأي الظالم علي جنب المظلوم سيفاً رادعاً وقوة مانعة لما قدم علي الظلم..

والمستبد إنسان مستعد بالطبع للشر فعلي الرعية أن تعرف ما هو الخير مما هو الشر، فتلجئ حاكمها للخير رغم طبعه الشرس، أو تنحيه.

وقد قالوا: إن المستبد يود أن تكون رعيته كالغنم دراً وطاعة، وكالكلاب تذللاً وتملقاً، وعلي الرعية أن تكون كالخيل إن خُدمت خَدمت وإن ضربت شرست.

فالاستبداد أعظم بلاء تقع فيه أمة من الأمم، وأعظم الناس بلاءاً هم العلماء والعظماء وأصحاب الحق والقادة الحقيقيين للأمم عبر الأجيال، فتري أمثال هؤلاء يصطلون حرباً لا هوادة

فيها، لأنهم لسان الأمة الناطق، وعقلها المفكر، وعلمها المدبر، وهم أعلم الناس بمفاسد الحكام وبمصالح الأمة.

وفي زمن هارون العباسي الذي يصفونه بالذهبي بالنسبة إلي سائر أزمنة الحكومة العباسية، الذي طال مدة (15) سنة كان الخطر الداهم عليه وناقوس الأمة وضميرها الحي وعقلها المفكر والمدبر هو الإمام موسي بن جعفر عليه السلام فهو مكمن الخطر علي الدولة العباسية كلها.

فأمر جلاوزته باعتقال الإمام وإرساله إلي البصرة.. ومنها إلي بغداد.. متنقلاً من سجن إلي سجن كما مر من قبل إلي أن وضعه في سجن السندي بن شاهك وأمره بدس السم إليه ليقتله، وذلك بتعليمات ومراقبة يحيي بن خالد الذي خطط ودبر مع هارون الطاغية للخلاص من الإمام عليه السلام.

فاجتمعا ودسا السم في رطب قدم للإمام عليه السلام أو في الطعام المقدم له وربما في الاثنين معاً.. فأكل الإمام عليه السلام ليتقوي علي العبادة بعد الصيام.. وقد أحس بالسم يسري في جسده الشريف النحيل.. فراح يكابد أوجاع السم وآلامه مدة ثلاثة أيام متتالية إلي أن لفظ أنفاسه الشريفة الأخيرة وفاضت روحه الطاهرة وصعدت إلي بارئها تشكو من ظلم حكام بني أمية، وذلك في يوم الجمعة 25 رجب الأصب سنة 183ه، فحمله أربعة رجال ووضعوا جسده الشريف مدة ثلاثة أيام علي جسر بغداد مكشوف الوجه يقال للمارين: هذا موسي بن جعفر قد مات حتف أنفه.

وبعد ذلك جاء الشيعة والموالون ليشيعوه إلي مثواه الأخير ليدفن في ضاحية ببغداد سميت فيما بعد بمحلة الكاظمية والمعروفة الآن باسمه ومقامه ومزاره الشريف.. والتي يحج إليها المؤمنون من كل حدب وصوب، وتقضي حوائج المحتاجين عنده لأنه باب الحوائج إلي الله.

فسلام الله عليه حين ولد، وحين سجن، وحين استشهد، وحين يبعث حياً شاهداً علي أعمال الأمة

الإسلامية.

وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.

خاتمة

نعم.. لقد هوي ذاك النجم الإنساني، فارتفع إلي الجنان..

وسمي علي الوجود، فارتفع فوق الزمان والمكان..

سجنوه وما دروا أن سجنه كان كسجن الروح في الجسد، وانه سينقلب السجن عليهم ويعريهم أمام التاريخ.

نعم انهم سجنوه ولكنه هو النور الإلهي وحاشا للنور أن يسجن.

ودسوا إليه السم وما عرفوا أنه يتوق إلي الانطلاق إلي رحاب الله عز وجل، فالروح المشتملة علي أعلي القيم والمثل والتقوي تشتاق إلي الجنة.. واشتياقها إلي ساحة القدس وجنة القرب أكبر وأعظم..

قتلوه ولم يعرفوا أن الملايين من البشر ستزوره وتجعل من مقامه مزاراً ومناراً لقضاء حوائج الدنيا والآخرة..

فما ضرّوه ولكن أضروا أنفسهم، فأين هم؟ وأين صاروا؟ ومن يذكرهم؟ إلا من يلعنهم باللعنات المتلاحقة..

فاستشهد الإمام عليه السلام بعد أن سلم الراية الربانية إلي ولده البار علي بن موسي الرضا عليه السلام وهو خير أبناء الإمام موسي عليه السلام رغم كثرتهم، وهو إمامهم وسيدهم ومولاهم وملجأهم في المهمات والملمات..

فالإمام موسي بن جعفر عليه السلام هو مظلوم آل محمد عليهم السلام المظلومين، منذ أن انتقل سيدهم رسول الإنسانية محمد بن عبد الله صلي الله عليه و اله إلي جوار ربه، فأول ظلم وقع، كان علي جدتهم فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وبعلها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ثم استمر الظلم علي بقية الكوكبة الدرية، وقد صدق الإمام المعصوم عليه السلام حيث يقول: «ما منا إلا مقتول أو مسموم» ().

فسلام الله عليهم جميعاً ولعنة الله علي ظالميهم أجميعين بإله الحق، آمين.

والحمد لله رب العالمين.

مؤسسة المجتبي للتحقيق والنشر

بيروت لبنان ص.ب: 6080 شوران

البريد الإلكتروني: almojtaba@shiacenter.com

[رجوع للقائمة]

پي نوشتها

() مستدرك الوسائل: ج12ص97 ب77 ح 13623.

() سورة الإسراء: 81.

() سورة الأحزاب: 33.

() سورة النور: 35 37.

() سورة إبراهيم: 24 و25.

()

بحار الأنوار: ج65 ص44 ب15 ح90.

() بحار الأنوار: ج47 ص166 ب6 ح8.

() راجع بحار الأنوار: ج48 ص12 ب3 ح1، ج50 ص25 ب2 ح17.

() راجع بحار الأنوار: ج27 ص118 ب4 ح99.

() سورة آل عمران: 34.

() سورة النور: 35.

() راجع بحار الأنوار: 48 ص5 ب1 ح5.

() بحار الأنوار: ج25ص42ب2ح17.

()بحار الأنوار: ج48 ص24 ب3 ح39.

() سورة آل عمران: 134.

() انظر معجم مقاييس اللغة: ج5 ص184 مادة (كظم).

() بحار الأنوار: ج2 ص79 ب13 ح71.

() راجع مقاتل الطالبيين للأصفهاني، وبحار الأنوار: ج48 ص231 ب9 ح38.

() بحار الأنوار: ج48 ص107 ب5 ح9.

() البحار: ج48ص107ب5ح9.

() سورة النمل: 36.

() البحار: ج48ص237ب9ح46.

() بحار الأنوار: ج75 ص319 ب25 ح3.

() بحار الانوار: ج48 ص165 ب7 ح6.

() سورة الإسراء: 81.

() بحار الأنوار: ج27ص216ب9ح18.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.