و لأول مرة في تاريخ العالم

اشارة

اسم الكتاب: ولأول مرة في تاريخ العالم

المؤلف: حسيني شيرازي، محمد

تاريخ وفاة المؤلف: 1380 ش

اللغة: عربي

عدد المجلدات: 2

مكان الطبع: بيروت

الطبعة: اول

الجزء الاول

الجزء الاول

الفصل الاول: رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم قبل البعثة

الفصل الثاني: البعثة النبوية الشريفة

الفصل الثالث: من رحلة المعراج إلي بيعة العقبة

الفصل الرابع: الهجرة النبوية المباركة

الفصل الخامس: معارك الرسول صلي الله عليه و اله و سلم مع المشركين

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللّه علي أعدائهم أجمعين من الآن إلي يوم الدين.

وبعد: فهذا شيء من تاريخ الرسول الأعظم (ص) سميناه: (ولأول مرة في تاريخ العالم) لأنه لأول مرة في التاريخ وبعد فترة من الرسل ظهرت هذه الحركة الإصلاحية السلمية الشاملة، والإلهية المباركة، بقيادة الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه (ص) وذلك بهذا الشكل الذي لا يزال يتفاعل في النفوس، ويترك أثره الطيب في العالم حتي اليوم وإلي أن يظهر علي الدين كله في زمان الإمام المهدي (عجل اللّه تعالي فرجه الشريف).

واللّه أسأل القبول والفائدة وهو المستعان

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ولادته ونشأته

أما اسمه ونسبه:

فهو (ص): أبو القاسم محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَيّ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لُؤيّ غالب بن فهر بن مالك بن النَّضر بن كِنانة بن خزَيمة بن مُدركة بن الياس بن مُضَر بن نِزار بن معدّ بن عدنان، وعدنان من وُلد إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام) وإسماعيل هو الذبيح.

ولد (ص) بمكة عام الفيل، وكانت وقعة الفيل تقدمة قدمها اللّه تعالي لنبيه (ص)، وإلا فأهل الفيل نصاري أهل كتاب، دينهم خير من دين أهل مكة، لأنهم عبّاد أوثان، غير انّ أولئك كان يرأسهم ظالم غاشم وهو (أبرهة) فجرّ عليهم الوبال، وهؤلاء كان يرأسهم مؤمن عادل وهو جد النبي (ص) فعمّهم عدله، ونصرهم اللّه نصراً

لا صنع للبشر فيه، فأباد جيش الفيل الرهيب وحفظ ببركة نبيّه قريشاً من القتل، وبيته من الهدم، وحرمه من الهتك.

ولد (ص) يوم الجمعة سابع عشر ربيع الأوّل، وبُعِث بالنبوة في السابع والعشرين من شهر رجب، وأنزل عليه القرآن كاملاً في ليلة القدر، ثمّ نزل عليه تدريجاً في مدة ثلاث وعشرين سنة، وتوفي (ص) مسموماً شهيداً في الثامن والعشرين من شهر صفر عام أحد عشر هجرية.

الشجرة الطيّبة

أما جد النبي (ص) هاشم بن عبد مناف: فكان كبقية أجداده مؤمناً باللّه تعالي وسيد قريش، وإليه يُشار بالبنان في الفضل والكرم، وكان موسراً، وهو أول من سنّ الرحلتين لأهل مكة: (رحلة الشتاء والصيف)(1)، وأول من أطعم قومه الثريد بمكة، حتي قال الشاعر فيه:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه قومٍ بمكة مسنتين عجافِ.

وأما جدّه عبد المطلب: فهو الذي نذر للّه تعالي لئن آتاه اللّه عشرة من الولد يمنعونه، لينحرن أحدهم عند الكعبة، فلما توافي بنوه عشرة وعرف أنهم يمنعونه، جمعهم فأخبرهم بنذره ودعاهم إلي الوفاء، فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟

قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحاً ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني، ففعلوا.

فقال لصاحب القداح: اضرب علي بنيَّ هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذره، فأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه، وكان عبد اللّه بن عبد المطلب أحبّ ولده إليه، فكان يري أن السهم إذا أخطأ فقد أشوي، فلما أخذ صاحب القداح القداحَ ليضرب بها قام عبد المطلب يدعو اللّه تعالي، ثم ضرب صاحب القداح فخرج علي عبد اللّه، فأخذ بيده وأخذ الشفرة، فقامت إليه قريش من أنديتها فمنعوه من ذلك.

وقال له المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم وكان عبد اللّه ابنا اُخت القوم: واللّه لا تذبحه حتي تعذر فيه أبداً،

فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه.

ثم عرضوا عليه أن يضربه في ابله السوائم عشرة عشرة، فوافق عبد المطلب عليه وقام يدعو اللّه تعالي، ثم قربوا عبد اللّه وقربوا عشراً من الإبل، وعبد المطلب يدعو اللّه، فضربوا فخرج القدح علي عبد اللّه، فلم يزالوا يزيدون عشراً والقدح يخرج علي عبد اللّه، إلي أن بلغوا مائة من الإبل، وقام عبد المطلب يدعو اللّه فخرج القدح علي الإبل، ثم أعادوا الثانية فخرج علي الإبل، ثم أعادوا الثالثة فخرج علي الإبل، فنحرت وتُركت لا يُصدُّ عنها إنسان ولا يمنع، فجرت الدية في العرب مائة من الإبل، وأقرّها رسول اللّه (ص) في الإسلام.

وروي عن النبي (ص) أنه قال: (أنا ابن الذبيحين)(2) يعني: جدّه إسماعيل (ع)، وأباه عبد اللّه (ع).

وقد كان عبد المطلب فعل ذلك لإبطال عادة كانت في الجاهلية، وهي قتل الأولاد بسبب النذر أو غيره، كما كان إبراهيم (ع) فعل ذلك من قبل لهذه الغاية أيضاً.

أما عبد اللّه أبو رسول اللّه (ص) فهو: ابن عبد المطلب صاحب النذر المذكور، وكان عبد اللّه أحسن أولاد عبد المطلب وأعفّهم، وكان أبوه يحبه كثيراً.

توفي عبد اللّه والنبي (ص) حمل في بطن اُمه.

وكان جميع ما خلفه عبد اللّه علي قول خمسة أجمال، وجارية حبشية اسمها: بركة، وكنيتها: اُم أيمن، وهي حاضنته، وكان عبد اللّه (ع) مؤمناً موحِّداً.

واُمه (ص): آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب، وكانت مؤمنة باللّه تعالي.

ولد مختوناً مسروراً، فأعجب به عبد المطلب جدّه، وحظي عنده، وقال: ليكونن لهذا شأن.

ارهاصات المولد الشريف

ولما كانت الليلة التي ولد فيها رسول اللّه (ص) ارتجّ إيوان كسري وانشقّ من وسطه، وسقط منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك مدة ألف

عام، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي سماوة.

ولعل في سقوط الأربع عشرة شرفة إشارة إلي أنه يملك منهم ملوك وملكات بعدد الشرفات، ثم ينتهي حكمهم وتنهار الإمبراطورية الفارسية، وكان كذلك حيث تمّ بعدها علي أيدي المسلمين فتح إيران، وبذلك سقطت الإمبراطورية الفارسية.

كما ان في إخماد نار فارس إشارة إلي انتهاء دين فارس، وهكذا حال بحيرة ساوة وهي بحيرة في فارس.

وأما فيضان وادي سماوة: فسماوة من بلاد العرب، وفيه إشارة إلي فيضان دين الإسلام إلي كل العالم.

ولما ولد (ص) قالت اُمه: واللّه لما وضعت حملي علي الأرض اتكأ بيديه علي الأرض ورفع رأسه إلي السماء وأدار ببصره إلي الآفاق، وهو يتفوّه بالتوحيد، ثم سطع منه نور أضاء كل شيء حتي رأيت منها قصور الشام، وإذا بهاتف يهتف بي قائلاً: ولدتِ خير الناس فسمّيه محمداً.

ثم أرسلت اُمه إلي جدّه عبد المطلب وكان يطوف بالبيت تلك الليلة فجاء إليها فقالت له: ولد لك مولود له أمر عجيب، ثم أخرجته له، فنظر إليه وأخذه ودخل به الكعبة ودعا اللّه تعالي ثم خرج فدفعه إليها وسمّاه محمداً.

أيام الرضاع

وأرضعته (ص) ثويبة عتيقة أبي لهب، أعتقها حين بشّرته بولادته (ص).

وقيل: انه رؤي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار، إلا أنه يخفّف عني كل اُسبوع يوماً واحداً وأمص من بين إصبعيَّ هاتين ماء وأشار برأس إصبعه وان ذلك اليوم هو يوم اعتاقي ثويبة عندما بشّرتني بولادة النبي (ص) وبإرضاعها له.

وأرضعت ثويبة أيضاً مع رسول اللّه (ص) بلبن ابنها مسروح حمزة عمّ رسول اللّه، وأبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ثم أرضعته (ص) حليمة السعدية، والظاهر انهنّ كنّ مؤمنات بدين إبراهيم (ع) فلم يكنّ مشركات.

فقدان الاُم

لم يستكمل النبي (ص) سبع سنين إلا وفقد اُمه، وذلك حين انصرافها من زيارة أخواله بني النجار، وكانت خرجت به معها، ومعه حاضنته اُم أيمن، فقدمت به اُم أيمن إلي مكة بعد موتها، فكفله جده عبد المطلب، ورقَّ عليه لمعرفته بأمره وإيمانه به رقة لم يرقها علي أحد من أولاده، فكان لا يفارقه، وما كان يجلس علي فراشه إجلالاً له إلاّ رسول اللّه (ص).

وقدم مكة قوم من بني مدلج من القافة، فلما نظروا إليه قالوا لجده: احتفظ به، فلم نجد قَدَماً أشبه بالقدم الذي في المقام من قدمه، فقال عبد المطلب لأبي طالب وهو يوصيه به: اسمع ما يقول هؤلاء واحتفظ به.

فقد الجد

وتوفي جده عبد المطلب (ع) في السنة الثامنة من مولده (ص)، وأوصي به إلي أبي طالب (ع).

وكان عبد المطلب من سادات قريش، مؤمناً باللّه تعالي وكذا كان أبو طالب محافظاً علي العهود، يتخلّق بمكارم الأخلاق، يحب المساكين، ويقوم بالحجيج، ويطعم حتي الوحوش والطير في رؤوس الجبال، ويطعم في أزمان القحط، ويقمع الظالمين.

في كفالة أبي طالب

ثم قام أبو طالب بكفالة النبي (ص) من سنة ثمان من مولده إلي السنة العاشرة من النبوة ثلاثاً وأربعين سنة يحوطه ويقوم بأمره ويذبُّ عنه ويلطف به.

ونقل عن جُلهمة بن عرفطة قال: قدمتُ مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس ضحي تجلّت عنه سحابة قتماء حوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه الغلام وما في السماء قُزَعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا وأغدق واغدودق، وانفجر الوادي وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:

وأبيض يُستسقي الغمام بوجهه ثِمال اليتامي عصمة للأرامل

و(الثمال) بكسر المثلثة: الملجأ والغياث.

في طريق الشام

ولما بلغ رسول اللّه (ص) اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه أبي طالب (ع) حتي بلغ (بُصري) فرآه بحيرا الراهب واسمه جرجيس فعرفه بصفته، فقال وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه اللّه رحمة للعالمين.

فقال: وما علمك بذلك؟

فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة أقبل وعليه غمامة تظلّه، ولم يبق حجر ولا شجر إلاّ وخرّ ساجداً، ولا تسجد إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب أن يردَّه خوفاً عليه من اليهود.

ثم خرج (ص) مرة أخري، ومعه ميسرة غلام خديجة في تجارة لها، حتي بلغ سوق بُصري وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، فنزل تحت ظل شجرة، فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبيّ، وكان ميسرة يري في الهاجرة ملكين يظلاّنه من الشمس، فلما رجعوا إلي مكة ساعة الظهيرة وخديجة في علية لها، رأت رسول اللّه (ص) وهو علي بعيره وملكان يظلانه.

الزواج المبارك

تزوّج رسول اللّه (ص) وعمره خمس وعشرون عاماً بالسيّدة خديجة، وكان لها علي ما قيل حين تزوّجها من العمر أربعون سنة، فولدت لرسول اللّه (ص) بنين وبنات، وكل أولاده (ص) من خديجة، ماعدا إبراهيم، فإنه من (مارية القبطية)، فالذكور من ولده: القاسم وبه كان يُكنّي وهو أكبر ولده (ص).

والقاسم هذا كان يُدعي بالطاهر، وولد له عبد اللّه وكان يدعي بالطيّب.

وأما إبراهيم فولد له بالمدينة وعاش عامين غير شهرين ومات قبل موته (ص).

وأما بناته منها، فأربع:

زينب: تزوّجها أبوالعاص بن الربيع، وكانت خديجة خالته، وولدت له علياً واُمامة، أما علي فمات مراهقاً، وأما اُمامة فتزوّجها علي (ع) بعد فاطمة، وماتت زينب في حياة أبيها رسول اللّه (ص)، وذلك لسبب إخافة هبّار

لها وإسقاطها جنينها.

ورُقَية: وتزوّجها عثمان، فولدت له ابناً مات وله من العمر أربع سنين.

وأم كلثوم: وتزوّجها عثمان بعد موت رقية، وماتت عنده أيضاً كما ماتت رقية قبلها عنده.

وذهب بعض إلي أن بعضهنّ كنّ متبنيات للنبي (ص).

وفاطمة (عليها السلام): تزوَّجها علي بن أبي طالب (ع)، فولدت له الحسن والحسين (عليهما السلام) وزينب واُم كلثوم وابناً مات شهيداً اسمه المحسن، وهي (عليها السلام) وحدها التي بقيت بعد أبيها رسول اللّه (ص) لكن لم يطل بقائها بعده حتي لحقت به (ص) سريعاً، وذلك علي أثر الضرب المبرح الذي كسر به ضلعها وأسقطت منه جنينها محسناً.

كانت خديجة أول امرأة آمنت برسول اللّه (ص) وأول امرأة صلّت مع رسول اللّه (ص) وواسته بنفسها ومالها حتي أنفقت كل مالها في سبيل اللّه، ودخلت الشعب معه، وكانت هي أول امرأة تزوّجها، وأول امرأة ماتت من نسائه، ولم ينكح عليها في حياتها غيرها، وأمره جبرائيل أن يقرأ عليها السلام من ربها، كما أمره أن يعطي فدكاً إلي فاطمة (عليها السلام) بدل ما أنفقته اُمها خديجة (عليها السلام) في سبيل اللّه من أموالها.

مع حلف الفضول

حضر رسول اللّه (ص) (حلف الفضول) واشترك فيه.

ذكر المؤرخون: انه اجتمع رؤساء مكة في دار عبد اللّه بن جُدْعان، وكان أكرم حلف سمع به في العرب وأشرفه، وكان أول من تكلّم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب.

وكان سببه: أن رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل وكان ذا قدر بمكة وشرف فحبس عنه حقه، فاستعدي عليه الزبيدي، الأحلاف: عبد اللّه، ومخزوماً، وجُمَحاً، وسهماً، وعدياً، فأبوا أن يعينوه علي العاص بن وائل، فعلا جبل أبي قبيس وقريش في أنديتهم حول الكعبة فنادي بشعر يصف فيه ظلامته رافعاً

صوته، فمشي في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار ابن جُدعان، فصنع لهم طعاماً وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام قياماً، فتعاهدوا وتعاقدوا باللّه ليكوننّ يداً واحدة مع المظلوم علي الظالم حتي يؤدّي إليه حقه ما بلّ بحر صوفة كناية عن انه دائماً وأبداً فسمّت قريش ذلك الحلف (الفضول).

وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلي العاص بن وائل فانتزعوا منه مال الزبيدي وسلموه إياه.

وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك:

إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا ألاّ يقيم ببطن مكة ظالم

أمر عليه توافقوا وتعاقدوا فالجار والمعترُّ فيهم سالم

ثم ان رسول اللّه (ص) حين أرسله اللّه تعالي قال وهو يشير إلي حلف الفضول: (لقد شهدتُ في دار عبد اللّه بن جُدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو اُدعي به في الإسلام لأجبت).

تجديد بناء الكعبة

ولما بنت قريش الكعبة ورفعت سمكها وتأتّي لها ما أرادت في بنائها من الخشب الذي قيل انه ابتاعوه من السفينة التي رمي بها البحر إلي ساحله وكان قد بعث بها ملك الروم من القُلزُم من بلاد مصر إلي الحبشة ليبني بها هناك كنيسة، وانتهوا إلي موضع الحجر تنازعوا أيهم يضعه، فاتفقوا علي أن يرتضوا بأول من يطلع عليهم من باب بني شيبة، فكان أول من ظهر لأبصارهم النبي (ص) من ذلك الباب، وكانوا يعرفونه ب(الصادق الأمين) لوقاره، وهديه، وصدق لهجته، واجتنابه الأدناس، فحكّموه فيما تنازعوا فيه، وانقادوا لقضائه، فبسط (ص) ما كان عليه من رداء، وأخذ (ص) الحجر فوضعه في وسطه، ثم قال لهم: ليأخذ كل واحد منكم بجنبة من جنبات هذا الرداء.

ففعلوا ورفعوه من الأرض وأدنوه من

موضعه، فأخذ (ص) الحجر ووضعه مكانه، وقريش كلها حضور، فكان ذلك مما ظهر من فعله وقضاياه وأحكامه، فقال قليل ممن حضر من قريش تعجباً من فعلهم وانقيادهم إلي أصغرهم سناً: واعجباً لقوم أهل شرف ورياسة وشيوخ وكهول عمدوا إلي أصغرهم سناً وأقلهم مالاً فجعلوه رأساً حاكماً! أما انه ليفوتنهم سبقاً، وليقسمن بينهم حظوظاً وجدوداً، وليكونن له بعد هذا اليوم شأناً ونبأ عظيماً.

كما انّ رسول اللّه (ص) كان ينقل معهم الحجارة عند تجديد بناء الكعبة.

الجاهلية وعبادة الأصنام

كان الجاهليون يعبدون الأصنام في الجاهلية، فلما بعث رسول اللّه (ص) أبطلها وأتي عليها.

قال أبو رجاء: كنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجراً هو أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثية من تراب، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه، ثم طفنا به.

وروي الدارمي عن مجاهد قال: حدثني مولاي: أن أهله بعثوا معه بقَدح فيه زبد ولبن إلي آلهتهم، قال: فمنعني مخافتها أن آكل الزبد، قال: فجاء كلب فأكل الزبد وشرب اللبن ثم بال علي الصنم وهو أساف ونائلة.

وقال بعض المؤرخين: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر حمل معه أربعة أحجار: ثلاثة لقدره، والرابع يعبده.

وروي: أن رجلاً أتي النبي (ص) فقال: يا رسول اللّه، إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان، فكنا نقتل الأولاد، فكانت عندي بنت لي، فدعوتها يوماً فأتبعتني، فمررت حتي أتيتُ بئراً من أهلي غير بعيد، فأخذتُ بيدها فرديت بها في البئر، وكان آخر عهدي بها تقول: يا أبتاه يا أبتاه، فبكي رسول اللّه (ص) حتي وكف دمع عينيه.

فقال رجل: أحزنتَ رسول اللّه؟

فقال له: كفَّ فإنه يسأل عما أهمه. ثم قال: أعد عليّ حديثك، فأعاده، فبكي (ص) حتي وكف الدمع من عينيه علي لحيته، ثم قال

له: إن اللّه قد وضع عن الجاهلية ما عملوا، فاستأنف عملك.

ولما فتح رسول اللّه (ص) مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنماً، فجعل يطعن بسبة قوسه في وجوهها وعيونها ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً)(3) جاء (الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)(4) وهي تتساقط علي رؤوسها، ورفع عليّاً (ع) علي كتفه فأسقط ما تبقّي من الأصنام التي كانت منصوبة فوق الكعبة.

من خرافات الجاهلية

وكان من عادة الجاهليين جعل بعض الحيوانات محرمة عليهم مثل:

(البحيرة): وهي التي يمنع درها فلا يحلبها أحد من الناس.

و(السائبة): وهي التي يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها.

و(الوصيلة): وهي الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد باُنثي، وكانوا يسيبونها إن وصلت إحداهما بالاُخري ليس بينهما ذكر.

و(الحامي): فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا ضربه دعوه وأعفوه من الحمل فلا يحمل عليه، وسموه الحامي.

فلما بعث اللّه رسوله محمداً (ص) أنزل تعالي: (ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وَصيلة ولا حام)(5).

وأنزل سبحانه: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم علي أزواجنا … )(6).

وقوله تعالي: (قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً … )(7).

قريش وسكان الحرم

قال المؤرخون: كانت قريش قد ابتدعت للحُمْس (أي: سكّان الحرم) رأياً رأوه وأرادوه، فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم وولاة البيت وقاطنوا مكة وساكنوها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا، ولا تعرف له مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئاً من الحل مثل ما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم. فتركوا الوقوف علي عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرّون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم (ع)، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا نحن أهل الحرم، وليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرم ولا نعظم غيره.

ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم، وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك.

ثم ابتدعوا في ذلك اُموراً لم تكن

لهم حتي قالوا: لا ينبغي للحمس أن يقطوا الأقط ولا يسلوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الادم ما كانوا حرماً.

ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤا به من الحل إلي الحرم إذا جاؤا حجاجاً أو عماراً، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا شيئاً طافوا بالبيت عراة، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة ولم يجد ثياب الحمس وطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوافه ولم ينتفع بها ولم يمسها هو ولا أحد غيره، فكانت العرب تسمي تلك الثياب (اللقي) فحملوا علي ذلك العرب فدانت به، أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع المرأة ثيابها كلها إلا درعاً مفرجاً ثم تطوف فيه، وأحياناً عارية.

فكانوا كذلك حتي بعث اللّه محمداً (ص) فأنزل اللّه: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)(8) يعني قريشاً والعرب، وأنزل تعالي فيما حرموا علي الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد)(9) إلي قوله تعالي: (قل من حرَّم زينة اللّه التي أخرج لعباده والطيّبات من الرزق … )(10) وذلك علي ما ذكره بعض المفسّرين.

التحدث بأمر الرسول (ص)

كانت الأحبار من اليهود، والرهبان من النصاري، والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول اللّه (ص) قبل مبعثه بما يقارب زمانه.

فأما الأحبار من اليهود والرهبان من النصاري: فعمّا وجدوا في كتبهم صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه.

وأما الكهان من العرب: فلما كانوا يتلقّونه من الجن والشياطين حيث كانت تسترق السمع، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر

بعض اُموره، ولكن لا تلقي العرب لذلك فيه بالا، حتي بعثه اللّه تعالي ووقعت تلك الاُمور التي كانوا يذكرون فعرفوها.

فلما تقارب زمان رسول اللّه (ص) وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم، فعرفت الجن أن ذلك لما حدث من أمر اللّه، وذلك لئلا يلتبس بالوحي، وليكون ذلك أظهر للحجة، وأقطع للشبهة.

روي عن رجل من بني لهب يقال له لهيب قال: حضرت مع رسول اللّه (ص) فذكرت عنده الكهانة، فقلت: بأبي واُمي، نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك انا اجتمعنا إلي كاهن لنا يقال له خطر بن مالك وكان شيخاً كبيراً وكان من أعلم كهاننا فقلنا: يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمي بها؟ فإنا قد فزعنا لها وخشينا سوء عاقبتها.

فقال: ائتوني بسَحَر، اُخبركم الخبر، بخير أم ضرر، أو لأمن أو حذر.

قال: فانصرفنا عنه يومنا، فلما كان من غد في وجه السحر أتيناه، فإذا هو قائم علي قدميه شاخص في السماء بعينيه، فناديناه: يا خطر، فأومأ إلينا أن أمسكوا، فانقض نجم عظيم من السماء، وصرخ الكاهن رافعاً صوته: أصابه اصابه، خامره عقابه، عاجله عذابه، أحرقه شهابه، زايله جوّابه، ياويله ما حاله، عاوده خباله، تقطعت حباله، وغيرت أحواله، ثم أمسك طويلاً وذكر أشعاراً.

فقلنا له: يا خطر ومن هو؟

فقال: والحياة والعيش، إنه لمن قريش، ما في حلمه طيش، ولا في خلقه هيش، يكون في جيش أي جيش، من آل قحطان وآل أيش.

فقلنا له: بين من أي قريش هو؟

فقال: والبيت ذي الدعائم، والركن والأجائم، إنه لمن نجل هاشم، ومن معشر أكارم، يبعث بالملاحم، وقتل كل

ظالم.

ثم قال: هذا هو البيان، أخبرني به رئيس الجان، ثم قال: اللّه أكبر، جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجن الخبر، ثم سكت واُغمي عليه فما أفاق إلا بعد ثالثة فقال: لا إله إلا اللّه.

وعن عاصم بن عمرو بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي: هل تدري عمّ كان اسلام ثعلبة بن شعية، وأسيد بن شعية، وأسد بن عبيد إخوة بني قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإسلام؟

قال: قلت: لا.

قال: إن رجلاً من اليهود من أهل الشام يقال له الهيبان، قدم علينا قبل الإسلام بسنتين فحلّ بين أظهرنا، لا واللّه ما رأينا رجلاً قط لا يصلّي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا فكنا إذا قحط المطر علينا قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا.

فيقول: لا واللّه حتي تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة.

فنقول له: كم؟

فيقول: صاعاً من تمر ومدين من شعير.

قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلي ظاهر حرتنا فيستسقي اللّه لنا، فواللّه ما يبرح مجلسه حتي يمر السحاب ونسقي، وقد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث.

قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر اليهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلي أرض البؤس والجوع؟

قال: فقلنا: أنت أعلم.

قال: فإني قدمتُ هذه البلدة أتوقّع خروج نبيّ قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنتُ أرجو أن يُبعَث فأتبعه، قد أظلكم زمانه فلا تُسبقن إليه يا معشر اليهود، فلا يمنعكم ذلك منه.

فلما بُعث رسول اللّه (ص) وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية، وهم: ثعلبة بن شعية، واسيد بن شعية، وأسد بن عبيد، إخوة بني قريظة، وكانوا شباباً أحداثاً: يا بني قريظة واللّه إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه

ابن الهيبان.

قالوا: ليس به.

قالوا: بلي واللّه، إنه لهو بصفته، فنزلوا فأسلموا وأحرزوا دماءهم وأهليهم.

1 قريش: 2 2 بحار الأنوار: ج 12 ص 132 ب 6 ح 17، و: ج 36 ص 47 ب 32 ح 7.

3 الإسراء: 81. 4 سبأ: 49. 5 المائدة: 103.

6 الأنعام: 139. 7 يونس: 59. 8 البقرة: 199

9 الأعراف: 31. 10 الأعراف: 32.

المبعث الشريف وبداية الدعوة

ولما بلغ رسول اللّه (ص) أربعين سنة بعثه اللّه تعالي رحمة للعالمين، وكافة للناس أجمعين.

وكان اللّه قد أخذ له الميثاق علي كل نبيّ بعثه قبله بالإيمان به، والتصديق له، والنصر علي من خالفه، وأخذ عليهم أن يؤدّوا ذلك إلي كل من آمن بهم وصدقهم، فأدّوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيه، يقول اللّه تعالي لنبيه محمد (ص): (وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيّين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم)(1).

وقيل: انه أول ما بدأ به رسول اللّه (ص) من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يري رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلوة فكان يخلو بغار حراء فيتعبّد فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلي أهله ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلي خديجة(ع) فيتزوّد لمثلها، حتي فجأه الحق في السابع والعشرين من شهر رجب الحرام، وهو (ص) في غار حراء فجاءه الملك فقال له: اقرأ!

قال: وما أقرأ؟

قال: (بسم اللّه الرحمن الرحيم اقرأ بسم ربّك الّذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربّك الأكرم الّذي علَّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم)(2) فرجع بها رسول اللّه (ص) يرجف فؤاده، حتي دخل علي خديجة(ع)، فقال: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتي ذهب عنه الروع.

لقاء في الشام

عن عبد اللّه بن عباس: ان أبا سفيان بن حرب أخبره قائلاً: ان هرقل أرسل إليه في ركب من قريش كانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول اللّه (ص) قد أظهر الإسلام وهاجر إلي المدينة وكفار قريش تجحده.

فأتوه وهم بايلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيّكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟

قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً.

قال: أدنوه

مني وقربوا أصحابه واجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذَبني فكذِّبوه.

قال أبو سفيان: فواللّه لولا الحياء من أن يأثر عليّ كذباً لكذبتُ عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال:

كيف نسبكم فيه؟

فقلت: هو فينا ذو نسب.

قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟

قلت: لا.

قال: فهل كان من آبائه من ملك؟

فقلت: لا.

قال: فأشرافهم اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟

قلت: بل ضعفاؤهم.

قال: أيزيدون أم ينقصون؟

قلت: بل يزيدون.

قال: فهل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟

قلت: لا.

قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

قلت: لا.

قال: فهل يغدر؟

قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم يمكنّي كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة.

قال: فهل قاتلتموه؟

قلت: نعم.

قال: فكيف كان قتالكم إيّاه؟

قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.

قال: بماذا يأمركم؟

قلت: يقول: اعبدوا اللّه وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.

فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.

وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت: أن لا. فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسّي بقول قيل قبله.

وسألتك: هل كان في آبائه من ملك؟ فذكرت: أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه.

وسألتك: هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ: أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب علي الناس ويكذب علي اللّه.

وسألتك: أأشراف الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرتَ: أن ضعفاءهم اتّبعوه، وهم أتباع الرُسُل.

وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنهم يزيدون، وكذلك أمر

الإيمان حتي يتم.

وسألتك: أيرتدّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب.

وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرُسُل لا يغدرون.

وسألتك: بما يأمركم؟ فذكرت: أنه يأمركم بأن تعبدوا اللّه ولا تُشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج فلم أكن أظن أنه فيكم، فلو أعلم أنني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.

ثم دعا بكتاب رسول اللّه (ص) الذي بعث به مع دحية الكلبي إليه فقرأه عليهم فإذا فيه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد اللّه ورسوله إلي هرقل عظيم الروم، سلام علي من اتّبع الهدي، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك اللّه أجرك مرّتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، (يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ اللّه ولا نُشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللّه فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون)(3).

قال أبو سفيان: فلمّا قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات، وأخرجنا.

فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد عظم أمرُ ابن أبي كبشة، انه ليخافه ملك بني الأصفر.

امتحان واختبار

وقيل: انه كان ابن الناظور صاحب إيليا وهرقل اُسقف علي نصاري الشام يحدّث: أن هرقل حين قدم إيليا أصبح يوماً خبيث النفس، فقال له بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك.

قال ابن الناظور: وكان هرقل ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرتُ في النجوم أن ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الاُمة؟

فقالوا: ليس يختتن

إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلي مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم كذلك إذ جيء إلي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبره عن خبر رسول اللّه (ص)، فلما استخبره هرقل وسأله عن العرب: أهم يختتنون؟

فقال: هم يختتنون.

فقال هرقل: هذا ملك هذه الاُمة قد ظهر، ثم كتب هرقل إلي صاحب له برومية وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلي حمص فلم يرم حمص حتي أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل علي خروج النبي، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتتابعوا هذا النبي؟

فحاصوا حيصة حمر الوحش إلي الأبواب فوجدوها قد غلقت، فلما رأي هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردّوهم عليّ، وقال: إني قلتُ مقالتي آنفاً أختبر بها شدّتكم علي دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.

أول المؤمنين

وكان أول من آمن بالرسول (ص) من الرجال علي (ع)، ومن النساء زوجته خديجة(ع).

وعن أبي ذر انه قال: سمعت رسول اللّه (ص) يقول لعلي (ع): (أنت أوّل من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصدّيق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل … )(4).

وفي نهج البلاغة: (ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه (ص) وخديجة وأنا ثالثهما أري نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوّة)(5).

ثم زيد، وكان غلاماً لخديجة، فوهبته لرسول اللّه (ص) لمّا تزوّجها، وقدم أبوه وعمه في فدائه فسألا عن النبي (ص) فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه فقالا: يابن عبد المطلب يابن هاشم يابن سيّد قومه، أنتم أهل حرم

اللّه وجيرانه، تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عبدك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه.

قال: من هو؟

قالا: زيد بن حارثة.

فقال رسول اللّه (ص): فهلا غير ذلك؟

قالا: ما هو؟

قال: ادعوه فاُخيِّره، فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارني فواللّه ما أنا بالذي أختار علي من اختارني أحداً.

قالا: قد زدتنا علي النصف.

فدعاه فقال (ص): أتعرف هؤلاء؟

قال: نعم.

قال: من هذا؟

قال: هذا أبي، وهذا عمّي.

قال: أنا من قد علمتَ ورأيتَ صحبتي، فاخترني أو اخترهما.

قال: ما أنا بالذي أختار عليكَ أحداً، أنت منّي بمكان الأب والعم.

قالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية علي الحريّة وعلي أبيك وعمّك وعلي أهل بيتك؟

قال: نعم، قد رأيتُ من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً.

فلمّا رأي رسول اللّه (ص) ذلك أخرجه إلي الحجر فقال: اُشهدكم أنّ زيداً ابني.

فلمّا رأي ذلك أبوه وعمّه طابت نفوسهما فانصرفا، ودعي زيد بن محمّد، حتي جاء اللّه بالإسلام فنزلت (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند اللّه)(6) فدعي يومئذ زيد بن حارثة.

ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتي فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدّثت به قريش.

إبلاغ الرسالة

ثم ان اللّه سبحانه أمر رسوله (ص) أن يصدع بما جاءه منه، وأن ينادي الناس بأمره ويدعو إليه، فأنزل سبحانه: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)(7). ثم قال تعالي: (وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل انّي بريء ممّا تعملون)(8).

فعن سالم عن علي (ع) قال: أمر رسول اللّه (ص) خديجة وهو بمكّة فاتخذت له طعاماً، ثم قال لي: ادع لي بني عبد المطلب، فدعوتُ أربعين رجلاً.

فقال لي (ص): هلمّ طعامك، فأتيتهم بثريد إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها، فأكلوا منها جميعاً حتي أمسكوا.

ثم قال (ص): اسقهم،

فسقيتهم بإناء هو ريّ أحدهم، فشربوا منه جميعاً حتي صدروا.

فقال أبو لهب: لقد سحركم محمد، فتفرقوا ولم يدعهم.

فلبثوا أياماً ثم صنع لهم طعاماً مثله ثم أمرني فجمعتهم فطعموا ثم قال لهم:

(انّ الرائد لا يكذب أهله، واللّه الذي لا إله إلاّ هو اني رسول اللّه إليكم خاصّة، وإلي الناس عامة، واللّه لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، وانها الجنّة أبداً، والنار أبداً).

ثم قال (ص): يا بني عبد المطلب! انني واللّه ما أعلم أحداً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه تعالي أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني علي هذا الأمر، علي أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟

قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، فقلت واني لأحدثهم سنّاً: يا نبيّ اللّه أكون وزيرك، فأخذ (ص) برقبتي ثم قال: انّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.

قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع(9).

وعن ابن عباس: لمّا أنزل اللّه تعالي: (وأنذر عشيرتك الأقربين)(10) أتي النبي (ص) الصفا فصعده، ثم نادي: يا صباحاه! فاجتمع الناس إليه بين رجل يأتي إليه وبين رجل يبعث رسوله فقال رسول اللّه (ص): يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدّقتموني؟

قالوا: نعم.

قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد

فقال أبو لهب: تبّاً لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلاّ لهذا؟ فأنزل اللّه تعالي فيه: (تبَّتْ يدا أبي لهب وتب)(11).

موقف أبي طالب (ع)

مضي رسول اللّه (ص) علي أمر اللّه مظهراً لأمره لا يردّه عنه شيء، فلمّا رأت قريش أنّ رسول اللّه (ص) لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، ورأوا أنّ

عمّه أبا طالب (ع) قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشي رجال من أشراف قريش إلي أبي طالب وفيهم:

عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وأبو سفيان بن حرب بن اُمية واسمه صخر، وأبو البختري واسمه العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزّي بن قصي، والأسود بن عبد المطلب بن أسد بن العزّي بن قصي، وأبو جهل واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد اللّه بن مخزوم، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، والعاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم، وغيرهم.

فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلّي بيننا وبينه، فإنك علي مثل ما نحن عليه من خلافه(12) فنكفيكه.

فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً، وردّ عليهم ردّاً جميلاً، ثم بعث إلي رسول اللّه (ص)، فلما دخل عليه رسول اللّه (ص) قال له: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم، وقد سألوك أن تكفّ عن شتم آلهتهم ويدَعوك وإلهك.

قال: يا عم أفلا تدعوهم إلي ما هو خير لهم؟

قال: وإلي ما تدعوهم؟

قال: أدعوهم إلي أن يتكلّموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم؟

فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها؟

قال: تقولون: (لا إله إلاّ اللّه).

فنفروا وقالوا: سلنا غيرها

قال: لو جئتموني بالشمس حتي تضعوها في يديّ ما سألتكم غيرها، فقاموا من عنده غضاباً، وولّوا علي أدبارهم نفوراً

وهنا التفت أبو طالب (ع) إلي رسول اللّه (ص) وقال: يا ابن أخي ادع كما أمرت، ثم

أنشأ:

واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتي اُوسّد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر وقر بذاك منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي ولقد صدقتَ وكنتَ ثم أمينا

ولقد علمت بأنّ دين محمد من خير أديان البريّة دينا

منطق الجاهليّين

فلمّا نادي رسول اللّه (ص) بالإسلام وصدع بما أمره اللّه تعالي به، استجاب له الأحداث من الرجال، والضعفة من الناس، حتي كثر من آمن به، فعظم ذلك علي أصحاب الأغراض والأطماع من قومه، ورأوا أنّ مصالحهم الشخصية المعتمدة علي عبادة الأصنام مهدّدة بالخطر، فناكروه وأجمعوا علي خلافه وعداوته، وأكبّوا علي منابذته وايذائه، فحدب أبو طالب (ع) علي رسول اللّه (ص) ومنعه وقام دونه، لأنه بالإضافة إلي ايمانه باللّه والرسول (ص) كان شريفاً في قومه، معظّماً في قريش، مطاعاً في أهل مكة، فلم يتجاسروا معه مكاشفة الرسول (ص) بشيء من الأذي.

أما أصحابه:

فمن كانت له عشيرة تحميه امتنع بعشيرته، وأما من لم تكن له عشيرة، فقد تصدّوا له بالأذي والعذاب، فلقي أصحاب رسول اللّه (ص) من العذاب أمراً عظيماً.

عمّار وأبواه

وكان ممّن عذّبوه: عمّار بن ياسر واُمّه وأباه، وكان إذا مرّ بهم رسول اللّه (ص) يقول: صبراً يا آل ياسر فإنّ موعدكم الجنّة، فمات ياسر أبو عمّار تحت التعذيب القاسي، وكذلك ماتت سمية اُم عمار علي أثر حربة طعنها في قلبها أبو جهل، وبقي عمّار في أيدي أسياده وأخذوا يعذّبونه أشدّ التعذيب، إلي أن قالوا له: لا نتركك حتي تكفر بمحمّد وإلهه، فأجابهم إلي ذلك مكرهاً، فتركوه، فأتي النبي (ص) معتذراً باكياً، فأنزل اللّه تعالي: (إلاّ من اُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان..)(13) فقال له (ص): لا بأس عليك يا عمّار إن عادوا فعد.

مع بلال

وكذلك كان بلال، فإن أسياده كانوا يأخذونه إلي التعذيب خارج مكة، فيطرحونه علي الرمضاء ثم يلقون علي بطنه الصخرة العظيمة المحماة بالشمس، ثم يأخذونه ويلبسونه في ذلك الحرّ الشديد درع من حديد، ويضعون في عنقه حبلاً ويسلّمونه إلي الصبيان يطوفون به، وهو في كل ذلك صابر محتسب لا يبالي بما يلقي في ذات اللّه، وكان كلما اشتدّ به العذاب يقول: أحد، أحد.

الهجرة إلي الحبشة

فلمّا اشتدّ البلاء عليهم أذن رسول اللّه (ص) لهم في الهجرة الأولي إلي أرض الحبشة وقال: إنّ بها ملكاً لا يظلم الناس، وهي أرض صدق، فلو خرجتم إليها حتي يجعل اللّه لكم فرجاً ومخرجاً ممّا أنتم فيه.

فهاجر إليها جماعة يبلغ عددهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، فخرجوا متسالمين سرّاً فوفّق اللّه لهم ساعة وصولهم إلي الساحل سفينتين للتجّار فحملوهم فيها إلي أرض الحبشة، وكان خروجهم في رجب من السنة الخامسة من المبعث الشريف، فأقاموا بالحبشة شعبان ورمضان، وخرجت قريش في آثارهم حتي جاءوا البحر فلم يدركوا منهم أحداً.

ثم رجعوا إلي مكة في شوّال لما بلغهم أنّ قريشاً صافّوا رسول اللّه (ص) وكفّوا عنه.

ولكن لما وافوها ورأوا الأمر علي خلاف ما بلغهم، حيث تعرَّض كثير منهم لأذي المشركين واضطهادهم القاسي وبنحو أشد من المرة الأولي، استأذنوا الرسول (ص) ثانية بالهجرة، فأذن لهم في الهجرة إلي الحبشة مرة ثانية فخرجوا، فكان خروجهم الثاني أشق عليهم وأصعب، وكان عدّة من خرج في هذه المرّة ثلاثة وثمانين رجلاً وثمانية عشرة امرأة قرشيّة وغير قرشية، يرأسهم جعفر بن أبي طالب (ع).

فأكرم النجاشي وفادتهم وآمن بالرسول (ص).

من بركات الهجرة

ولما رأت قريش اطمئنان المهاجرين في أرض المهجر، وحسن صحبة النجاشي لهم، اجتمعوا في دار الندوة وقالوا: إنّ لنا في الذين عند النجاشي ثأراً، فاجمعوا مالاً واهدوه إلي النجاشي لعلّه يدفع إليكم من عنده، ولينتدب في ذلك رجلان من أهل رأيكم، فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد مع الهدية فركبا البحر.

فلمّا دخلا علي النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا: قومنا لك ناصحون، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك، لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول اللّه ولم يتّبعه إلاّ

السفهاء، فضيّقنا عليهم وألجأناهم إلي شِعب بأرضنا لا يخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم أحد، فقتلهم الجوع والعطش، فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك، فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم، وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيّونك بالتحية التي كنت تحيّا بها، رغبة عن دينك.

فلمّا دعاهم النجاشي وحضروا صاح جعفر بن أبي طالب بالباب: يستأذن عليك حزب اللّه.

فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليُعد كلامه، ففعل.

فقال: نعم فليدخلوا بأمان اللّه وذمّته.

فدخلوا ولم يسجدوا له.

قال: ما منعكم أن تسجدوا لي؟

قالوا: نسجد للّه الذي خلقك وملَّكك، وإنما كانت تلك التحيّة لنا ونحن نعبد الأوثان، فبعث اللّه فينا نبيّاً صادقاً، وأمرنا بالتحية التي رضيها وهي (السلام) تحية أهل الجنّة.

فعرف النجاشي أن ذلك حق، وأنه في التوراة والإنجيل.

فقال: أيكم الهاتف يستأذن؟

قال جعفر: أنا.

قال: فتكلّم.

قال: إنك ملك لا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم، وأنا اُحب أن اُجيب عن أصحابي، فمر هذين الرجلين فليتكلّم أحدهما فتسمع كلامنا وحوارنا.

فقال عمرو بن العاص لجعفر: تكلّم.

فقال جعفر للنجاشي: سله أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنّا عبيداً قد أبقنا من موالينا فارددنا إليهم.

فقال عمرو: بل أحرار كرام.

فقال: هل أرقنا دماً بغير حق فيقتص منا؟

قال: لا، ولا قطرة.

قال: فهل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟

قال عمرو: ولا قيراط.

قال النجاشي: فما تطلبون منهم؟

قال: كنا وهم علي دين واحد، علي دين آبائنا، فتركوا ذلك واتبعوا غيره.

فقال النجاشي لجعفر: ما هذا الذي كنتم عليه والذي اتّبعتموه؟ وأصدقني.

فقال جعفر: أما الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان، كنا نكفر باللّه ونعبد الحجارة، وأما الذي تحولنا إليه فهو دين اللّه الإسلام، جاءنا به من اللّه رسول، وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقاً

له.

فقال النجاشي: تكلمتَ بأمر عظيم فعلي رسلك.

ثم أمر بضرب الناقوس، فاجتمع إليه كل قسيس وراهب، فقال: اُنشدكم باللّه الذي أنزل الإنجيل علي عيسي، هل تجدون بين عيسي وبين القيامة نبيّاً مرسلاً؟

قالوا: اللّهمّ نعم، قد بشّرنا به عيسي وقال: من آمن به فقد آمن بي، ومن كفر به فقد كفر بي.

فقال النجاشي لجعفر: ماذا يقول لكم هذا الرجل؟ وماذا يأمركم به وماذا ينهاكم عنه؟

قال: يقرأ علينا كتاب اللّه، ويأمرنا بالمعروف، وينهانا عن المنكر، ويأمرنا بحسن الجوار، وصلة الرحم، وبرّ اليتيم، ويأمرنا أن نعبد اللّه وحده لا شريك له.

فقال: اقرأ ما يقرأ عليكم.

فقرأ عليه سورة العنكبوت والروم، ففاضت عين النجاشي وأصحابه من الدمع.

فقال: زدنا من هذا الحديث الطيّب.

فقرأ عليهم سورة الكهف.

فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال: إنهم يسبّون عيسي واُمّه.

فقرأ عليهم جعفر سورة مريم (ع).

فلمّا أتي علي ذكر عيسي واُمه رفع النجاشي نفاثة من سواكه قدر ما يقذي العين فقال: واللّه ما زاد المسيح علي ما يقول هؤلاء نقداً.

ثم التفت إلي جعفر ومن معه من المسلمين وقال لهم: اذهبوا فأنتم سيوم(14) بأرضي، من سبّكم غرم، فلا هوادة اليوم علي حزب ابراهيم، ما أحب أن لي دَبْرا(15) من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم.

ثم قال: ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي فيها، فواللّه ما أخذ اللّهُ منّي الرشوة حين ردّ عليّ ملكي فآخذ الرشوةَ فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه.

فخرجا مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به.

وفي النجاشي وأصحابه حسب بعض التفاسير نزلت: (وإذا سمعوا ما اُنزل إلي الرسول تري أعينهم تفيض من الدمع)(16).

اسلام النجاشي

ثم ان النجاشي أسلم سراً وآمن بالنبي (ص) خفية وقال: لو قدرتُ أن آتي النبي لأتيته، فكاتبه النبي (ص) في أن يزوّجه اُم حبيبة بنت

أبي سفيان، وكانت ممن هاجر إلي الحبشة مع زوجها عبيد اللّه بن جحش، فتنصَّر هناك ومات، فزوّجه إيّاها، وأصدقها عنه أربعمائة دينار، وكان الذي تولّي تزويجها خالد بن سعيد بن العاص، وكتب إليه أن يبعث إليه من بقي من أصحابه ويحملهم ففعل، وحملهم في سفينتين مع عمرو بن اُمية، وقدموا علي رسول اللّه (ص) حين افتتح خيبر.

ولمّا مات النجاشي نعاه رسول اللّه (ص) في اليوم الذي مات فيه وخرج إلي المصلّي فكبّر خمس تكبيرات ثم التفت إلي المسلمين وقال: استغفروا لأخيكم.

قيل: وكان موت النجاشي في رجب سنة تسع هجرية، ولما صلّي عليه رفع إليه سريره بأرض الحبشة حتي رآه بالمدينة، وتكلّم المنافقون وقالوا: يصلّي علي علج مات بأرض الحبشة.

1 آل عمران: 81. 2 القلم: 1 5. 3 آل عمران: 64.

4 بحار الأنوار: ج 22 ص 435 ب 12 ح 49، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 13 ص 228 ب 238 دار إحياء التراث العربي ط 2.

5 نهج البلاغة: الخطبة 192. 6 الأحزاب: 5. 7 الحجر: 94.

8 الشعراء: 214 – 215.

9 راجع شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 13 ص 210 211 ط دار إحياء التراث العربي.

10 الشعراء: 214. 11 المسد: 1.

12 سبق أنّ أبا طالب (ع) كان مؤمناً بالله تعالي. 13 النحل: 106.

14 السيوم: الآمنون. 15 الدبر بلسان الحبشة: الجبل. 16 المائدة: 83.

إسلام حمزة

ثم أسلم حمزة بن عبدالمطلب وكان سبب اسلامه أنّ أبا جهل مرّ برسول اللّه (ص) فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره، فلم يكلّمه رسول اللّه (ص)، ومولاة لعبداللّه بن جُدعان في مسكن لها تسمع ذلك.

ثم انصرف عنه عامداً إلي نادي قريش عند الكعبة

فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحاً قوسه راجعاً من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلي أهله حتي يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر علي ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدّث معهم، وكان أعزّ فتي في قريش وأشدّه شكيمةً.

فلما مرّ بالمولاة وقد رجع رسول اللّه (ص) إلي بيته قالت: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً من أبي الحكم بن هشام، وجده ههنا جالساً فآذاه وشتمه وسبّه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلّمه محمد.

فاحتمل حمزة الغضب لما أراد اللّه به من كرامته، فخرج يسعي لم يقف لأحد، معدّاً لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلقيه جالساً في القوم، فأقبل نحوه، حتي إذا قام علي رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه وتسبّه؟ فأنا علي دينه، أقول ما يقول، فردَّ عليّ إن استطعت.

فقامت رجال من بني مخزوم إلي حمزة لينصروا أبا جهل.

فقال أبوجهل: دعوا أبا عمارة، فإني واللّه قد سببتُ ابن أخيه سباً قبيحاً.

وتم حمزة علي إسلامه وعلي ما تابع عليه رسول اللّه (ص)، فعرفت قريش أن رسول اللّه (ص) قد عزَّ وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.

أبوطالب ومواقفه المشرّفة

فلما رأت قريش ان أمر رسول اللّه (ص) يتزايد ويقوي، مشوا إلي أبي طالب مرة اُخري فقالوا له: يا أباطالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك، فلم تنهه عنا، وإنا واللّه لانصبر علي هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتي تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك

حتي يهلك أحد الفريقين.

فبعث إلي رسول اللّه (ص) فقال: يا ابن أخي إن قومك جاءوني وقالوا لي كذا وكذا فما تقول؟

فقال له رسول اللّه (ص): يا عم واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي أن أترك هذا الأمر ما تركته حتي يظهره اللّه أو أهلك فيه.

ثم استعبر رسول اللّه (ص) فبكي، ثم قام. فلما ولي ناداه أبو طالب فقال: أقبل يابن أخي. فأقبل عليه رسول اللّه (ص) فقال له: قل يا ابن أخي ما أحببت، فواللّه لا اسلمك لشيء أبداً.

مكيَدَة قريش

ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أباطالب (ع) قد أبي خذلان رسول اللّه (ص) وإسلامه له، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد فقالوا له: يا أباطالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتي في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك وفرَّق جماعة قومك وسفّه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل كرجل.

فأجابهم أبو طالب قائلاً: واللّه لبئس ما تسومونني، تعطونني ابنكم اغذيه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا واللّه ما لايكون أبداً.

فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: واللّه يا أباطالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا علي التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً؟

فقال: واللّه ما أنصفتموني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك، فتنابذ القوم وبادي بعضهم بعضاً.

فقال أبو طالب عند ذلك يعرّض بالمطعم ويعم من خذلة من بني عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم أبياتاً أولها: (ألاّ قل لعمرو والوليد ومُطعم ألا ليت حظي من حياطتكم بكر).

قريش يتآمرون

ثم إن قريشاً تآمروا بينهم علي من في القبائل من أصحاب رسول اللّه (ص) الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة علي من فيهم من المسلمين يعذّبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع اللّه رسوله منهم بعمّه أبي طالب (ع)، وقد قام أبوطالب (ع) حين رأي قريشاً يصنعون مايصنعون في بني هاشم وبني عبدالمطلب فدعاهم إلي ما هو عليه من منع رسول اللّه (ص) والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه، إلا ما كان من أبي لهب وولده فإنهم ظاهروا قريشاً علي قومهم.

ثم إنهم أجمعوا علي أن يقتلوا رسول

اللّه (ص) علانية، فبلغ ذلك أباطالب، فجمع بني هاشم وبني عبدالمطلب فأدخلوا رسول اللّه (ص) شعبهم ومنعوه ممّن أراد قتله.

الصحيفة المشؤومة

فلما رأت قريش ذلك اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتاباً علي بني هاشم وبني عبدالمطلب ألاّ ينكحوا إليهم، ولا ينكحوهم، ولا يبيعوا منهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا منهم صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة حتّي يسلموا رسول اللّه (ص) للقتل.

وكتبوه في صحيفة بخط أحدهم، فاُصيبت يد الكاتب بعدها بالشلل، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة.

فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب، مسلمهم وكافرهم، إلي أبي طالب فدخلوا معه شعبه، فأقاموا علي ذلك ثلاث سنين حتي جهدوا وكان لا يصل إليهم شيء إلاّ سرّاً، وقطعت قريش عنهم الأسواق حتي كان يسمع أصوات نسائهم وأبنائهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع، واشتدّوا علي من أسلم ممن لم يدخل الشعب، وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالاً شديداً.

وكان أبوطالب (ع) إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول اللّه (ص) فاضطجع فراشه حتي يري ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر علياً (ع) أو أحد بنيه أو اخوته أو بني عمّه فاضطجع علي فراش رسول اللّه (ص)، وأمره أن يأتي بعض فرشهم، وفي ذلك أنشأ أبوطالب قصيدته اللامية المشهورة، والتي قال فيها:

(ولما رأيت القوم لا وُدّ فيهم وقد قطعوا كل العري والوسائل)

إلي آخر القصيدة.

نقض الصحيفة

ثم بعد ذلك تألّف قوم من قريش علي نقض تلك الصحيفة، كان أحسنهم فيها عناءً هشام بن عمرو بن الحرث، فإنه مشي إلي زهير بن اُمية بن المغيرة وكلّمه في ذلك، وكان زهير هذا شديد الغيرة علي النبي (ص) والمسلمين، وكانت اُمه عاتكة بنت عبدالمطلب، فأجابه زهير إلي نقض الصحيفة.

ثم مشي هشام إلي المطعم بن عدي فذكره أرحام بني هاشم وبني المطلب ابني عبدمناف فأجابه إلي ذلك.

ثم مشي إلي أبي البختري بن هشام فقال له مثل ما قال للمطعم بن

عدي.

ثم مشي إلي زمعة بن الأسود فكلّمه وذكر له قرابتهم وحقهم. فقال: وهل معي علي هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟

قال: نعم، ثم سمي له القوم.

واتعدوا خطم الجحون ليلاً بأعلي مكة، فاجتمعوا وتعاهدوا علي القيام في نقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلّم.

فلما أصبحوا غدوا علي أنديتهم، وغدا زهير بن أبي اُمية عليه حلة، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل علي الناس فقال: يا أهل مكة: أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنوهاشم هلكي لايباعون ولا يباع منهم، واللّه لا أقعد حتي تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

فقال أبو جهل وكان في ناحية المسجد: كذبت واللّه لاتشق.

قال زمعة بن الأسود: أنت واللّه أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت.

فقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضي ما كتب فيها ولا نقرّ به.

قال المطعم بن عدي: صدقتم وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلي اللّه منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك.

قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وتُشووِر فيه بغير هذا المكان.

هذا كله وأبو طالب (ع) يستعدّ للمجيء إلي المسجد، وكان قد أخبره رسول اللّه (ص): بأن اللّه قد سلّط الارضة علي صحيفتهم فأكلتها إلاّ ما كان من اسم اللّه تعالي، فلما أخبر النبي (ص) عمه أبا طالب بذلك، قال أبوطالب: لا والثواقب ما كذبتني.

فانطلق يمشي بعصابة من بني عبدالمطلب حتي أتي المسجد وهو حافل من قريش، فتكلّم وقال: إنه قد حدث أمر لعله أن يكون بيننا وبينكم صلحاً، فأتوا بصحيفتكم.

وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها.

فأتوا متعجّبين لا يشكّون أن رسول اللّه (ص) مدفوع إليهم.

قالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد قد

جعلتموه خطراً لهلكة قومكم.

فقال أبوطالب: لأعطينكم أمراً لكم فيه نَصَف، إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني: أن اللّه بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم ومحا كل غدركم وقطيعتكم إلاّ ما كان من اسم اللّه تعالي فيها، فإن كان ما قال حقاً، فواللّه لانسلمه إليكم حتي نموت عن آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلاً دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتموه.

قالوا: قد رضينا.

ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر، لكنهم أصرّوا في غيّهم وعنادهم وقالوا: هذا سحر من صاحبكم.

فتكلّم عند ذلك النفر الذين تعاقدوا، ومزّقت الصحيفة، فلما مزقت وبطل ما فيها أنشأ أبوطالب في ما كان من أمر اُولئك القوم الذين قاموا في نقضها يمدحهم قائلاً:

ألا هل أتي بحرٍّ يري صنع ربنا***علي نأيهم واللّه بالناس أروَد

إلي آخر الأبيات.

وخرج بنو هاشم من شعبهم وخالطوا الناس، وذلك بعد عشرة أعوام من المبعث الشريف.

عام الحزن

ولمّا خرج بنو هاشم من الشعب لم يمض عليهم من الزمان إلاّ ستّة أشهر حتي توفي أبوطالب (ع)، ثم توفيت خديجة بعده بثلاثة أيام علي قول، فسمّي رسول اللّه (ص) ذلك العام: عام الحزن.

اشتداد أذي قريش

وبموت أبي طالب (ع) اشتدّ البلاء علي رسول اللّه (ص) من قومه، وتجرّؤا عليه، وكاشفوه بالأذي الشديد، وأرادوا قتله، إلاّ أن اللّه منعهم منه، وجرّعوه غصصاً كثيرة:

فمنها: ما رواه بعضهم وقال: حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر يذكرون رسول اللّه (ص) فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه، سفّه أحلامنا وشتم آباءنا وفرَّق جماعتنا، فبينماهم كذلك إذ أقبل رسول اللّه (ص) فاستلم الركن، فلما مرّ بهم غمزوه، فعرفت ذلك في وجه رسول اللّه (ص) ثم مضي، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول اللّه (ص) ثم مر بهم الثالثة، فلما كان من الغد اجتمعوا كذلك إذ طلع، فقالوا: قوموا إليه وثبة رجل واحد وهكذا فعلوا.

مع ابن أبي معيط

ومنها: انه قال بعضهم: سألت بعض الصحابة عن أذي قريش للنبي (ص) بعد وفاة عمّه أبي طالب (ع) وقلت له: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول اللّه (ص).

قال: بينما النبي (ص) يصلّي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فخنقه خنقاً شديداً.

البنت الوفية

ومنها: ما عن عبداللّه بن مسعود قال: كان رسول اللّه (ص) يصلّي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلي هذا المرائي، أيكم يقوم إلي جزور آل فلان فيعمد إلي فرثها ودمها وسلاها فيجيء به ثم يمهله حتي إذا سجد وضعه بين كتفيه.

فانبعث أشقاهم، فلما سجد (ص) وضعه بين كتفيه، وثبت النبي ساجداً، فضحكوا حتي مال بعضهم علي بعض من الضحك، وأنا قائم أنظر، ولو كان لي منعه طرحته عن ظهر رسول اللّه (ص).

فانطلق منطلق إلي فاطمة، فأقبلت تسعي، وثبت النبي (ص) ساجداً حتي ألقته عنه، وأقبلت عليهم تؤنّبهم.

فلما قضي رسول اللّه (ص) صلاته رفع صوته شاكياً إلي اللّه ما نزل به وهو يقول: اللّهم عليك بقريش، اللّهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، واُمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد.

قال عبداللّه: فواللّه لقد رأيتهم صرعي يوم بدر قد غيّرتهم الشمس في يوم حارّ، ثم سحبوا إلي قليب بدر فاُلقوا فيه.

نماذج من أذي قريش

ومنها: انهم كانوا يحضّون سفهائهم لإلقاء التراب علي وجهه ورأسه(ص).

ومنها: انهم كانوا يطرحون الفرث والدم والشوك علي بابه (ص).

ومنها: ان اُمية بن خلف تجاسر علي النبي (ص) في وجهه، فاحمرّ وجه رسول اللّه (ص) ولم يقل له شيئاً.

مع البنت الحنون

ومنها: انه قال بعضهم: لما نثر ذلك السفيه علي رأس رسول اللّه (ص) التراب دخل رسول اللّه (ص) بيته والتراب علي رأسه، فقامت إليه فاطمة فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله (ص) يقول لها: لا تبكي يا بنية فإن اللّه مانع أباكِ.

قال: ويقول بين ذلك: ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتي مات أبو طالب.

في ظل الكعبة

ومنها: ما روي عن خباب قال: أتيتُ النبي (ص) وهو متوسّد بردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول اللّه ألا تدعو اللّه؟

فقعد (ص) وهو محمرّ وجهه فقال: لقد كان فيمن كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد مادون عظامه، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمّنَّ اللّه هذا الأمر حتي يسير الراكب من صنعاء إلي حضرموت ما يخاف إلا الذئب علي غنمه.

مع جماعة الأحلاف

ومنها: ما عن عبداللّه بن عباس انه قال: اجتمع جماعة من أحلاف الكفار عند غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلي محمد فكلّموه وخاصموه حتي تعذروا فيه، فبعثوا إليه من يقول له: ان أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلّموك فأتهم.

فجاءهم رسول اللّه (ص) وهو حريص عليهم، يحب رشدهم ويعزّ عليه عنتهم، حتي جلس إليهم.

فقالوا: يا محمد إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمك، وإنا واللّه ما نعلم رجلاً من العرب أدخل علي قومه ما أدخلت علي قومك، لقد سببت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، فما بقي من قبيح إلاّ قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنتَ إنما جئتَ بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتي تكون أكثرنا مالاً، وإن كنتَ تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنتَ تريد ملكاً ملكناك، وإن كان الذي يأتيك رئياً وكانوا يسمون التابع من الجن: رئياً تراه قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتي نبرئك عنه أو نعذر فيك، وإن كنتَ تريد امرأة زوّجناك أجمل بنت في العرب.

فقال لهم رسول اللّه (ص): ما بي ما تقولون، ما جئتُ بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن اللّه

تعالي بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليّ كتاباً وأمرني أن أكون بشيراً ونذيراً، فبلّغتكم رسالات ربّي، ونصحتُ لكم، فإن تقبلوا منّي ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر اللّه حتي يحكم اللّه بيني وبينكم.

قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منّا شيئاً مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً ولا أقل ماء ولا أشد عيشاً منا، فاسئل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعث من مضي من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا: قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسأله عما تقول أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من اللّه، وأنه بعثك رسولاً كما تقول.

فقال لهم رسول اللّه (ص): ما بهذا بعثتُ إليكم، إنما جئتكم من اللّه بما بعثني به، وقد بلغتكم ما اُرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ فأصبر لأمر اللّه، حتي يحكم اللّه بيني وبينكم.

قالوا: فإذا لم تفعل هذا فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك، واما لا، فليجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضّة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق تلتمس المعاش كما نلتمس، حتي نعرف فضلك ومنزلتك من ربّك إن كنتَ رسولاً كما تزعم.

فقال لهم رسول اللّه (ص): ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربّه، ولكن اللّه بعثني بشيراً ونذيراً فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر اللّه حتّي

يحكم اللّه بيني وبينكم.

قالوا: فأسقط السماء علينا كسفاً كما زعمتَ أنّ ربك إن شاء فعل.

قال: فقال رسول اللّه (ص): ذلك إلي اللّه، إن شاء أن يفعله بكم فعل.

قالوا: يا محمد، فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدّم إليك فيعلمك بما تراجعنا به ويخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به، إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا، رجل باليمامة يقال له: الرحمن، وإنا واللّه لانؤمن بالرحمن أبداً، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا واللّه لانتركك وما بلغت منا حتي نهلكك أو تهلكنا.

فقام رسول اللّه (ص) من عندهم وانصرف إلي أهله حزيناً أسفاً عليهم.

فلما قام عنهم رسول اللّه (ص) وانصرف، قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمداً قد أبي الا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا، وإني اُعاهد اللّه لأجلسنّ له غداً بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فلتصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.

قالوا: واللّه لا نسلمك لشيء أبداً فامض لما تريد.

فلما أصبح أبو جهل أخذ حجراً كما وصف ثم جلس لرسول اللّه (ص) ينتظره، وغدا رسول اللّه (ص) كما كان يغدو، وكان رسول اللّه (ص) بمكة وقبلته إلي الشام، فكان إذا صلّي، صلّي بين الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام.

فقام رسول اللّه (ص) يصلّي وقد غدت قريش في أنديتهم فجلسوا فيها ينظرون ما أبوجهل فاعل، فلما سجد رسول اللّه (ص) احتمل أبوجهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتي إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه مرعوباً قد يبست يداه علي

حجره حتي قذف الحجر من يده.

فقامت إليه رجال قريش وقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟

قال: قمتُ إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوتُ عرض لي دونه فحل من الإبل واللّه ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهمَّ بي أن يأكلني.

وروي ان رسول اللّه (ص) قال: ذاك جبرائيل، ظهر له بهذه الصورة، ولو دنا لأخذه.

فلما قال ذلك لهم أبو جهل قام النضر بن الحارث بن كلدة فقال:

يا معشر قريش! واللّه لقد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمّد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة، حتي إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا واللّه ما هو بساحر، قد رأينا السحرة نفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا واللّه ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة تخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون، لا واللّه ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه واللّه قد نزل بكم أمر عظيم.

الحرب الثقافية ضد القرآن

وكان النضر هذا من قريش، وممّن كان يؤذي رسول اللّه (ص) وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول اللّه (ص) مجلساً فذكّر فيه باللّه، وحذَّر قومه ما أصاب من قبلهم من الاُمم من نقمة اللّه، خلّفه في مجلسه إذا قام، وقال: أنا واللّه يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلم فأنا اُحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول: بماذا كان أحسن حديثاً منّي؟

قالوا: وهو الذي قال:

ساُنزل مثل ما أنزل اللّه.

وفد المشركين إلي أحبار المدينة

ثم انهم بعثوا النضر بن الحارث وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلي أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما: سلاهم عن محمّد، وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ليس عندنا من الأنبياء.

فخرجا حتي قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن رسول اللّه (ص) ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله وقالا لهم: انكم أهل التوراة قد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا.

فقالت لهما أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فروا فيه رأيكم:

سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجب.

وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه.

وسلوه عن الروح ما هي؟

فإذا أخبركم بذلك فاتّبعوه فإنه نبيّ، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط بن عمرو بن اُمية بن عبد شمس بن عبد مناف حتي قدما مكة علي قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمّد، قد أمرنا أحبار اليهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم بها فهو نبيّ، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل فروا فيه رأيكم.

فجاءوا رسول اللّه (ص) فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كان لهم قصّة عجب، وعن رجل كان طوّافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟

فقال لهم رسول اللّه (ص): اُخبركم بما سألتم عنه غداً.

فجاء جبريل من اللّه بسورة الكهف، وفيها ما سألوه عنه: من أمر الفتية، والرجل الطوّاف، والروح.

مع رؤوس الشرك

روي أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شُريق

الثقفي حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا القرآن من رسول اللّه (ص) وهو يصلّي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لايعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتي إذا طلع الفجر تفرَّقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لاتعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في قلبه شيئاً، ثم انصرفوا.

حتي إذا كانت الليلة الثانية عاد كل منهم إلي مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتي إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا.

حتي إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتي إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتي نتعاهد علي أن لانعود، ثم تعاهدوا علي ذلك ثم تفرّقوا.

فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتي أتي أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمّد.

فقال: يا أبا ثعلبة لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها.

قال الأخنس: وأنا كذلك، والذي حلفت به، ثم خرج من عنده حتي أتي أبا جهل، فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟

قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتي إذا تحاذينا علي الركب وكنا كفرسي رهان. قالوا: منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء، فمتي ندرك مثل هذه؟ واللّه لانؤمن به أبداً ولا نصدّقه، فقام عنه الأخنس وتركه.

تخطيط الوليد ضد القرآن

ثم ان الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا سنّ فيهم وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش

إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضاً، ويردّ قولكم بعضه بعضاً.

قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.

قال: بل أنتم قولوا وأسمع.

قالوا: نقول كاهن.

قال: لا واللّه ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما بزمزمة الكاهن ولا سجعه.

قالوا: فنقول مجنون.

قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.

قالوا: فنقول شاعر.

قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.

قالوا: نقول ساحر.

قال: وما هو بساحر، لقد رأينا السحرة وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده.

قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟

قال: واللّه إن لقوله حلاوة، وان عليه لطلاوة، وان اعلاه لمثمر، وان أسفله لمعذق، وانه ليعلو وما يعلي عليه، وما أنتم بقائلين من قولكم ذلك شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء وابنه، وبين المرء وعشيرته.

فتفرقوا عنه بذلك وجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذّروه إياه وذكروا لهم أمره، فأنزل اللّه سبحانه في الوليد بن المغيرة قوله تعالي: (ذرني ومن خلقت وحيداً)(1) إلي قوله تعالي: (سأصليه سقر)(2).

الوليد برواية اُخري

وعن ابن عباس: ان الوليد بن المغيرة جاء إلي رسول اللّه (ص) فقال: اقرأ عليّ. فقرأ عليه: (إنّ اللّه يأمر بالعدل والإحسان)(3) إلي آخر الآية.

قال: أعد. فأعاد عليه.

قال: واللّه إنّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمعذق، وما يقول هذا بشر.

فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم، إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً.

قال: ولِمَ؟

قال: أتيت

محمداً لتعرض مما قبله.

قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً.

قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له.

قال: ماذا أقول؟ ثم قال: انه سحر، فنزلت فيه الآيات.

مع العتبة بن ربيعة

عن جابر بن عبداللّه قال: اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرَّق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يردّ عليه.

فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد.

فأتاه عتبة فقال: يا محمد، أنت خير أم عبداللّه؟ فسكت رسول اللّه (ص).

فقال: أنت خير أم عبدالمطلب؟ فسكت رسول اللّه.

قال: فإن كنت تزعم ان هؤلاء خير منك فإنهم لم يظهروا كلاماً، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتي نسمع قولك، ثم أردف قائلاً:

إنّا واللّه ما رأينا شخصاً قط أشأم علي قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتّتّ أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، لقد طار فيهم: ان في قريش ساحراً، وان في قريش كاهناً، واللّه ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلي أن يقوم بعضنا إلي بعض بالسيوف حتي نتفاني. أيها الرجل، إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتي تكون أغني قريش، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أيّ نساء قريش شئتَ فلنزوّجك عشراً.

فقال رسول اللّه (ص): فرغتَ؟

قال: نعم.

فقال رسول اللّه (ص): (بسم اللّه الرحمن الرحيم، حم، تنزيل من الرحمن الرحيم)(4) حتي بلغ (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)(5) وحينئذ أمسك عتبة علي فيه (ص) وناشده بالرحم، ورجع إلي أهله ولم يخرج إلي قريش واحتبس عنهم.

فقال أبو جهل: يا معشر قريش، واللّه لانري عتبة إلا قد صبأ إلي محمد وأعجبه طعامه، وما ذلك إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه.

فانطلقوا إليه فقال أبو جهل:

يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلي محمد، وأعجبك طعامه، فإن كان لك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما نغنيك عن طعام محمد.

فغضب غضبة وأقسم: أن لا يكلّم محمداً أبداً وقال: واللّه إني من أكثر قريش مالاً، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء واللّه ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلي قوله: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)(6) فأمسكتُ بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب.

وفي رواية: ثم مضي رسول اللّه (ص) فيها يقرؤها عليه، فلما سمع عتبة أنصت لها وألقي يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهي رسول اللّه(ص) إلي السجدة منها فسجد ثم قال (ص): قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك.

فقام عتبة إلي أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف باللّه لقد جاءكم أبوالوليد بغير الوجه الذي ذهب به.

فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال: ورائي أني سمعت قولاً واللّه ما سمعت مثله قط، واللّه ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فواللّه ليكوننّ لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر علي العرب فملكه ملككم وعزّه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.

قالوا: سحرك واللّه يا أبا الوليد بلسانه.

قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.

1 المدّثر: 11. 2 المدّثر: 26. 3 النحل: 90.

4 فصّلت: 1 2. 5 فصّلت: 13. 6 فصّلت: 13.

الصبر علي الأذي

كان هناك جماعة يستهزؤون برسول اللّه (ص)، فأنزل اللّه فيهم آيات يذمّهم بها، ويحذّرهم فيها عاقبة أمرهم،

ويتوعّدهم العذاب والنار.

منهم: عمه أبولهب، وامرأته اُم جميل بنت حرب بن اُمية حمّالة الحطب.

سماها اللّه حمّالة الحطب لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه علي طريق رسول اللّه (ص) حيث يمر، فأنزل اللّه تعالي فيهما: (بسم اللّه الرحمن الرحيم تبّت يدا أبي لهب وتبّ ما أغني عنه ماله وما كسب سيصلي ناراً ذات لهب وامرأته حمّالة الحطب في جيدها حبل من مسد)(1).

وقد كانت تمشي بالنميمة، وتنقل الحديث، وتلقي العداوة بين الناس، وتوقد ناراً كما توقد النار بالحطب.

ثم ان اُم جميل حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول اللّه(ص) وهو جالس في المسجد عند الكعبة، وفي يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليه أخذ اللّه ببصرها عن رسول اللّه (ص) فلم تره، لكنها قالت: قد بلغني انه يهجوني، واللّه لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما واللّه إني لشاعرة، ثم أنشأت تقول:

(مذمماً عصينا) (لو أمرَه أبينا) (ودينه قلينا).

ثم انصرفت.

قال (ص): ما رأتني، لقد أخذ اللّه ببصرها عنّي.

وقد كانت قريش تسمّي رسول اللّه (ص) مذمّما، يسبّونه به، وكان رسول اللّه (ص) يقول: ألا تعجبون لما يصرف اللّه عني من أذي قريش؟ يسبون ويهجون مذمماً، وأنا محمد.

ويل لكلّ هُمَزَة

ومنهم: اُمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جُمح، كان إذا رأي النبي (ص) همزه ولمزه، فأنزل اللّه فيه: (ويل لكلّ هُمَزة لُمَزة)(2) إلي آخر السورة.

و(الهُمَزة): الذي يشتم الرجل علانية ويكسر عينه عليه ويغمز به، وجمعه همزات.

و(اللُمَزة): الذي يعيب الناس سرّاً ويؤذيهم.

الكافر بآيات اللّه

ومنهم: العاص بن وائل السهمي، فعن الخبّاب بن الأرتّ صاحب رسول اللّه (ص) انه قال: كنت قيناً بمكة، فعملت للعاص بن وائل السهمي، فجئت أتقاضاه، فقال: لا اُعطيك حتي تكفر بمحمد (ص).

فقلت: لا أكفر بمحمد حتي يميتك اللّه ثم يحييك.

قال: إذا أماتني اللّه ثم بعثني بعثني ولي مال وولد، فأنزل اللّه تعالي: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لاُوتينّ مالاً وولداً)(3) إلي قوله تعالي: (ويأتينا فرداً)(4).

الإنسان الطاغي

ومنهم: أبو جهل فإنّه سأل قومه يوماً وقال: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟

فقيل: نعم.

فقال: واللات والعُزّي لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ رقبته ولاُعفرنّ وجهه في التراب.

قال الراوي: فأتي رسول اللّه (ص) وهو يصلي، فزعم ليطأ علي رقبته، فما فجئهم منه إلاّ وهو ينكص علي عقبيه ويتقي بيديه.

فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟

قال: انّ بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة.

فقال رسول اللّه (ص): (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)، فأنزل اللّه فيه: (كلاّ إن الإنسان ليطغي أن رآه استغني)(5).

الأفّاك الأثيم

ومنهم: النضر بن الحارث، فإنه كان إذا جلس رسول اللّه (ص) مجلساً فدعا فيه إلي اللّه تعالي، وتلا فيه القرآن، وحذّر قريشاً ما أصاب الاُمم الخالية، خلّفه النضر بن الحارث في مجلسه إذا قام فحدّثهم عن رستم وإسفنديار وملوك فارس ثم يقول: واللّه ما محمد بأحسن حديثاً منّي، وما حديثه إلاّ أساطير الأولين أكتتبها.

فأنزل اللّه فيه: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملي عليه بكرةً وأصيلاً قل أنزله الذي يعلم السرّ)(6).

ونزل فيه: (إذا تتلي عليه آياتنا قال أساطير الأوّلين)(7).

ونزل فيه: (ويل لكل أفّاكٍ أثيم يسمع آيات اللّه تتلي عليه)(8) إلي قوله (فبشّره بعذاب أليم)(9).

حصب جهنم

ومنهم: ابن الزبعري، وذلك ان رسول اللّه (ص) جلس يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتي جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول اللّه (ص)، فعرض له النضر بن الحارث، فكلّمه رسول اللّه (ص) حتي أفحمه، ثم تلا عليه: (إنّكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم أنتم لها واردون)(10).

ثم قام رسول اللّه (ص) وأقبل عبد اللّه بن الزّبعري السهمي حتي جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبداللّه بن الزبعري: واللّه ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً وما قعد، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصبُ جهنم.

فقال عبد اللّه بن الزبعري: أما واللّه لو وجدته لخصمته، فاسألوا محمداً أكلّ ما يعبدون من دون اللّه في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود يعبدون عزيراً، والنصاري يعبدون عيسي بن مريم.

فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قوله، ورأوا أنه قد احتج وخاصم.

فذكر ذلك لرسول اللّه (ص)، فقال رسول اللّه (ص): كل من أحب أن يعبد من دون

اللّه فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم الشياطين بعبادته، فأنزل اللّه عليه: (إن الذين سبقت لهم منّا الحسني أولئك عنها مبعدون)(11).

ونزل في ماذكر من أمر عيسي بن مريم (ع) وأنه يُعبد من دون اللّه: (ولمّا ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدّون)(12) أي يصيحون فرحاً لزعمهم بأنّ الرسول (ص) قد انقطع به.

ثم ذكر عيسي فقال: (ان هو إلاّ عبد أنعمنا عليه)(13) إلي قوله: (وانه لعلم للساعة فلا تمترنّ بها)(14).

وفي رواية: ان رسول اللّه (ص) قال له: ما أجهلك بلسان قومك، (ما) لما لا يعقل، أي: فلا يشمل الملائكة وعزيراً والمسيح (عليهم السلام).

عظيما القريتين

ومنهم: الوليد بن المغيرة فإنه قال: أينزّل علي محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيّدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف؟ فنحن عظيما مكة والطائف القريتين.

فأنزل اللّه تعالي في ذلك: (وقالوا لولا نزّل هذا القرآن علي رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربّك)(15).

الظالم وخليله

ومنهم: عقبة بن أبي معيط، واُبيّ بن خلف بن وهب بن حذافة بن جُمح، كانا متصافيين حسناً ما بينهما، فكان عقبة قد جلس إلي رسول اللّه (ص) وسمع منه. فبلغ ذلك اُبياً، فأتي عقبة فقال له: ألم يبلغني عنك أنّك جالست محمداً وسمعت منه؟ ثم قال: وجهي من وجهك حرام أن أكلمك واستغلظ من اليمين إن انت جالست محمداً وسمعت منه، أو لم تأته فتتجاسر عليه في وجهه. ففعل ذلك عقبة، فأنزل اللّه فيهما:

(ويوم يعضُّ الظالم علي يديه يقول يا ليتني اتّخذتُ مع الرسول سبيلاً)(16) إلي قوله: (وكان الشيطان للإنسان خذولاً)(17).

صاحب المثل

ومنهم: اُبيّ بن خلف، فإنّه مشي إلي رسول اللّه (ص) بعظم بال قد أرفت فقال: يا محمد أنت تزعم أن اللّه يبعث هذا بعد ما أري؟ ثم فته في يده ثم نفخه في الريح نحو رسول اللّه (ص).

فقال رسول اللّه (ص): أنا أقول ذلك، فأنزل اللّه فيه:

(وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم)(18).

لا للحل الوسط

ومنهم: الأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، واُبيّ بن خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم، فاعترضوا رسول اللّه (ص) وهو يطوف بالكعبة فقالوا: يا محمد، هلُم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه. فأنزل اللّه فيهم:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين)(19).

طعام الأثيم

ومنهم: أبو جهل بن هشام حيث قال يوماً: يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟

قالوا: لا.

قال: عجوة يثرب بالزبد، واللّه لئن استمكنّا منها لنتزقمنها تزقماً، فأنزل اللّه فيه: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم)(20) أي ليس كما يقول.

مع الملأ من قريش

ومنهم: الملأ من قريش، فإنهم كانوا يستهزئون برسول اللّه (ص) إذا جلس في المسجد، وجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خبّاب، وعمّار، وأبو فكيهة، ويسار مولي صفوان بن اُمية، وصهيب، وأشباههم من المسلمين.

وكان بعضهم يقول لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهولاء منّ اللّه عليهم بالهدي من بيننا؟ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه وما خصّهم اللّه به؟

وكانوا كلما مرّوا علي رسول اللّه (ص) ووجدوا عنده خبّاباً وصهيباً وبلالاً. قالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء عن قومك؟

فانزل اللّه تعالي فيهم: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلي ربّهم ليس لهم من دونه وليّ ولا شفيع)(21) إلي قوله: (واللّه أعلم بالظالمين)(22).

وفي رواية قالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء عن قومك؟ أهؤلاء منّ اللّه عليهم بالهدي من بيننا، فنحن نصير تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم، فذاك أحري إن طردتهم أن نتبعك، فنزل: (ولا تطرد الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي)(23).

اتهامات واهية

ومنهم: جماعة من قريش فانهم لما رأوا رسول اللّه (ص) يمرّ أحياناً عند المروة علي مبيعة غلام نصراني اسمه: (جبر) وكان عبداً لبني الحضرمي، فيعرض عليه الاسلام، ويدعوه إلي اللّه، كانوا ينتهزونه فرصة لكيل التهم علي رسول اللّه (ص) فكانوا يقولون: واللّه ما يعلّم محمداً كثيراً مما يأتي به إلاّ (جبر) النصراني غلام بني الحضرمي.

فأنزل اللّه في ذلك: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنّما يعلّمه بشر، لسان الذين يلحدون اليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)(24) يلحدون أي: يميلون، فإن الإلحاد الميل.

الشماتة بالرسول (ص)

ومنهم: العاص بن وائل السهمي، فانه كان إذا ذكر رسول اللّه (ص) قال: دعوه فانما هو رجل أبتر لا عقب له، لو قد مات لانقطع ذكره واسترحتم منه. فأنزل اللّه في ذلك: (بسم اللّه الرحمن الرحيم إنّا أعطيناك الكوثر فصلّ لربّك وانحر إنّ شانئك هو الأبتر)(25).

و(الكوثر) الخير الكثير، والمراد من الكوثر: فاطمة الزهراء (ع) بنت رسول اللّه (ص)، حيث كان منها نسل رسول اللّه (ص) إلي يوم القيامة، كما جاء في بعض الروايات.

وعن أنس قال: سمعت رسول اللّه (ص) وقد قيل له: يا رسول اللّه ما الكوثر الذي أعطاك اللّه؟

قال: نهر كما بين صنعاء إلي أيلة، آنيته كعدد نجوم السماء.

ولا مانع من ان يكون المراد كل ذلك.

مع ركانة

ومنهم: ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف وكان أشد قريش، قيل: انه التقي برسول اللّه (ص) في بعض شعاب مكة، فقال له رسول اللّه (ص): يا ركانة ألا تتقي اللّه وتقبل ما أدعوك إليه؟

قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك.

فقال له رسول اللّه (ص): أفرأيت إن صرعتك تعلم أن ما أقول حق؟

قال: فهلم حتي أصارعك.

فقام اليه ركانة يصارعه، فلما بطش به رسول اللّه (ص) أضجعه لا يملك من نفسه.

ثم قال: عد يا محمد. فأعاد، فصرعه. فقال: والله يا محمد إن هذا للعجب، أتصرعني؟

قال رسول اللّه (ص): وأعجب من ذلك إن شئت أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري.

قال: وما هو؟

قال: أدعو لك هذه الشجرة التي تري فتأتيني.

قال: ادعها.

فدعاها، فأقبلت حتي وقفت بين يدي رسول اللّه (ص). فقال لها: ارجعي إلي مكانك. فرجعت إلي مكانها.

فلما رأي ركانة ذلك ذهب إلي قومه فقال: يا بني عبد مناف، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض، فواللّه ما رأيت

أسحر منه قط. ثم أخبرهم بالذي رأي والذي صنع.

اصطحاب الملائكة

ومنهم: زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، والأسود بن عبد يغوث، واُبيّ بن خلف، والعاص بن وائل، فانهم كانوا كلما عرض رسول اللّه (ص) الإسلام علي قومه وكلّمهم فابلغ إليهم، قالوا له: لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويري معك؟

فأنزل اللّه في ذلك: (وقالوا لولا اُنزل عليه ملك، ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر)(26) إلي قوله تعالي: (ما يلبسون)(27).

مع الهمّازين

ومنهم: الوليد بن المغيرة واُمية بن خلف وأبو جهل بن هشام، فإنهم كانوا كلما مرّ رسول اللّه (ص) بهم غمزوه واستهزءوا به، فأنزل اللّه عليه في أمرهم: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون)(28).

أشد من يوم اُحد

ومنهم: ابن عبد ياليل بن عبد كلاب، فانه روي عن إحدي نساء النبي (ص) أنها قالت: قلت للنبي (ص): هل أتي عليك يوم أشد عليك من يوم اُحد؟

فقال (ص): لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي علي ابن عبد ياليل بن عبد كلاب فلم يجبني إلي ما أردت، فانطلقت علي وجهي وأنا مهموم، فلم أرني إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني فإذا فيها جبرئيل فناداني فقال: ان اللّه سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعث اليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم.

فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ وقال: ان اللّه قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعثني إليك لتأمرني بما شئت، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين.

فقلت: أرجو أن يخرج اللّه من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً.

رؤوس المستهزئين

لقد عذب اللّه طائفة ممن كذّب رسول اللّه (ص) بأنواع من العذاب كالمستهزئين الذين قال اللّه فيهم: (إنّا كفيناك المستهزئين) فعذب كل واحد منهم بعذاب معروف.

كعتيبة بن أبي لهب. فإن أبا لهب لما عادي النبي (ص) أمر ابنيه أن يطلقا ابنتي النبي (ص) رقية واُم كلثوم(29)، وقال عتيبة لرسول اللّه (ص): كفرت بدينك وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا اُحبك، ثم تسلط عليه بالأذي وشق قميصه.

ثم إن عتيبة خرج بعد ذلك في نفر من قريش حتي نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء، ليلاً، فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو واللّه آكلي، فعدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فذبحه.

1 المسد: 1 5. 2 الهمزة: 1. 3 مريم: 77.

4 مريم: 80. 5 العلق: 6 7. 6

الفرقان: 5 6.

7 القلم: 15. 8 الجاثية: 7 8. 9 لقمان: 7.

10 الأنبياء: 98. 11 الأنبياء: 101. 12 الزخرف: 57.

13 الزخرف: 59. 14 الزخرف: 61. 15 الزخرف: 31.

16 الفرقان: 27. 17 الفرقان: 29. 18 يس: 78 79.

19 الكافرون: 1 6. 20 الدخان: 43 46. 21 الأنعام: 58.

22 الأنعام: 51. 23 الأنعام: 52. 24 النحل: 103.

25 الكوثر: 1 3. 26 الأنعام: 8. 27 الأنعام: 9.

28 الأنعام: 10. 29 علي بعض الروايات.

وفد قساوسة الحبشة

ومن الوقائع المذكورة: انه قدم علي رسول اللّه (ص) وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريباً من ذلك من النصاري حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد الحرام، فجلسوا إليه فكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة.

فلما فرغوا من مسألة رسول اللّه (ص) عما أرادوا، دعاهم رسول اللّه (ص) وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.

فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش وقال لهم: خيّبكم اللّه من ركب، بعثكم من وراءكم من اهل دينكم ترتادون لهم وتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتي فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال، ما نعلم ركباً أحمق منكم؟

فأجابوه: سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيراً.

فنزل فيهم قوله تعالي: (الذين آتيناهم الكتاب من قبل هم به مؤمنون)(1) إلي قوله سبحانه: (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين)(2).

مع شاعر الجاهلية: الأعشي بن قيس

واسم الأعشي ميمون قيل: إنه خرج إلي رسول اللّه (ص) يريد الإسلام، فقال يمدح رسول اللّه (ص) في قصيدة منها:

وآليت لا أري لها من كلالة ولا من حفي حتي تلاقي محمداً

متي ما تناخي عند باب ابن هاشم تراحي وتلقي من فواضله ندي

نبي يري ما لا يرون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا

له صدقات ما تغب ونائل وليس عطاء اليوم مانعه غداً

فلما كان بمكة أو قريباً منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول اللّه (ص) ليسلم.

فقال له: يا أبا بصير أنه يحرّم الزنا.

فقال الأعشي: واللّه إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب.

فقال له: يا أبا بصير

فانه يحرم الخمر.

فقال الأعشي: اما هذه فواللّه ان في النفس منها لعلالات، ولكني منصرف لأتروي منها عامي هذا. ثم آتيه فاُسلم. فانصرف فمات من عامه ذلك، ولم يعد إلي رسول اللّه (ص).

رحلة إلي الطائف

ولما اشتد البلاء من قريش علي رسول اللّه (ص) بعد موت عمه أبي طالب (ع) كما تقدم وعاني من سفهاء قومه ما عاناه حيث قد تجرأوا عليه وكاشفوه بالأذي ما لم يكاشفوه به من قبل، خرج (ص) إلي الطائف، ورجا أن يؤووه وينصروه علي قومه، ويمنعوه منهم.

فلما وصلها اجتمع (ص) بهم في ناديهم ودعاهم إلي اللّه، فلم ير فيهم من يجيبه أو يؤويه وينصره، ونالوه مع ذلك بأشد الأذي ونالوا منه ما لم ينل قومه.

وكان معه (ص) زيد بن حارثة مولاه، فأقام بينهم في الطائف عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلاّ جاءه وكلمه.

فقالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم، فأخذ هؤلاء السفهاء يرجمون عراقيبه (ص) بالحجارة حتي اختضبت نعلاه بالدماء، وكان إذا أذلقته الحجارة قعد إلي الأرض فيأخذونه بعضديه ويقيمونه، فإذا مشي رجموه وهم يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتي لقد شج في رأسه شجاجاً، وما زالوا به حتي ألجأوه إلي حائط لابني ربيعة: عتبة وشيبة، فعمد إلي الظل وانصرف عنه السفهاء، فأخذ (ص) يناجي ربه ويدعوه بالدعاء المأثور:

(اللهم إني أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلة حيلتي، وهواني علي الناس، أنت أرحم الراحمين، ورب المستضعفين، وأنت ربي، إلي من تكلني؟ إلي عدوّ بعيد يتجهمني، أو إلي عدوّ ملّكته أمري، ان لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك، أو يحل

عليّ سخطك، لك العتبي حتي ترضي، ولا حول ولا قوة إلاّ بك).

فلما رآه ابنا ربيعة ورأيا ما لقي (ص) من ثقيف تحركت له رحمهما، فبعثا إليه مع غلامهما عدّاس النصراني قطفاً من عنب، فلما وضع (ص) يده في القطف قال: بسم اللّه، ثم أكل.

ثم نظر عداس إلي وجهه وقال: واللّه إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة.

فقال له (ص): من أي البلاد أنت، وما دينك؟

قال: نصراني من أهل نينوي.

قال: من قرية الرجل الصالح يونس بن متّي؟

قال عداس: وما يدريك؟

قال: ذاك أخي، وهو نبي مثلي.

فأكب عداس علي يديه ورأسه يقبلهما.

فقال ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس مالك تقبّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟

قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا، فقد أخبرني ما لا يعلمه إلاّ نبي.

قالا: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.

ثم إن إبني ربيعة نهرا رسول اللّه (ص) من ان يستظل بظل بستانهما غيظاً وحنقاً منهما عليه، فخرج رسول اللّه (ص) من الطائف متّجهاً إلي مكة.

في منزل نخلة

ولما نزل رسول اللّه (ص) بنخلة في مرجعه من الطائف قام يصلّي في جوف اللّيل، فصرف اللّه إليه نفراً من الجنّ فاستمعوا قراءته، وكانوا من أهل نصيبين.

فلما فرغ (ص) من الصلاة ولوا إلي قومهم منذرين، قد آمنوا به وأجابوا إلي ما سمعوا، فقص اللّه خبرهم عليه فقال تعالي: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجنّ يستمعون القرآن)(3).

وأقام رسول اللّه (ص) بنخلة أياماً، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعني قريشاً.

فقال: يا زيد إن اللّه جاعل لما تري فرجاً ومخرجاً، وإن اللّه ناصر دينه ومظهر دينه.

ثم انتهي

(ص) إلي مكة، فأرسل علي قول رجلاً من خزاعة إلي المطعم بن عدي ليقول له: أدخل في جوارك؟

فقال: نعم. ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمداً.

فدخل رسول اللّه (ص) ومعه زيد بن حارثة، حتي انتهي إلي المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي علي راحلته فنادي: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمداً، فلا يهيجه منكم أحد. فانتهي رسول اللّه (ص) إلي الركن فاستلمه، وصلي ركعتين، وانصرف إلي بيته والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتي دخل (ص) بيته.

العودة إلي مكة

وفي مكة عاد رسول اللّه (ص) إلي تبليغ رسالات ربّه كما كان عليه من قبل، فكان (ص) يقف بالموسم علي القبائل ويتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز.

وكان (ص) لا يسمع بقادم من العرب له اسم وشرف إلاّ كان يأتيه ويعرض عليهم الاسلام وخلفه أبو لهب فيقول: لا تطيعوه فإنه كذاب، ثم يرميه بالحجارة.

لكن ذلك لم يكن صاداً رسول الله (ص) عن مهمّته ولا كافاً له عن ابلاغ رسالته وانما كان مجداً في مواصلة طريقه حتي أسلم جماعة كان منهم: (الطفيل بن عمرو الدوسي) فإنه أسلم ودعا قومه إلي الإسلام، فأسلم بعض قومه، فأقام الطفيل في بلاده إلي أن هاجر بعد عام الخندق هو وجماعة ما بين السبعين والثمانين بيتاً من قومه إلي المدينة فوافوا رسول اللّه (ص) بخيبر.

ثم إن الطفيل كان عند رسول اللّه (ص) بالمدينة حتي قبض اللّه رسوله (ص)، فخرج بعدها مع المسلمين إلي اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل فقُتل هو باليمامة، وجرح ابنه جراحةً شديدة، ثم استبسل فيها ثم قُتل عام اليرموك.

1 القصص: 52. 2 القصص: 55. 3 الأحقاف: 29.

رحلة إلي السماء

ومن القضايا التي اتفقت لرسول اللّه (ص) في مكة: قضية (المعراج) وذلك علي ما نطق به القرآن الكريم، فلقد اُسري به (ص) ليلاً بجسده الشريف وفي حال اليقظة من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي وهو: بيت المقدس، راكباً علي مركب أعدّه له جبرائيل بأمر من اللّه تعالي يقال له: البراق.

وذلك بصحبة جبرائيل حيث نزل به بطيبة في طريقه إلي المسجد الأقصي فصلي فيها رسول اللّه (ص) فقال له جبرائيل: هذه طيبة واليها مهاجرتك، ثم نزل به بطور سيناء، فصلي فيها فقال له جبرائيل: هذه طور سيناء حيث كلّم اللّه

موسي تكليماً، ثم نزل به بعد ذلك ببيت لحم فصلي فيها فقال له جبرائيل: هذه بيت لحم حيث ولد عيسي بن مريم علي رواية، ثم انتهي به إلي بيت المقدس فنزل هناك، وربط رسول اللّه (ص) البراق بالحلقة.

ثم التقي (ص) بالأنبياء (عليهم السلام) حيث رآهم قد اجتمعوا إليه هناك، واُقيمت الصلاة، فأذّن جبرائيل وأقام وقال فيهما: حيّ علي خير العمل(1)، ثمّ أخذ بعضد رسول اللّه (ص) وقدّمه للصلاة، فصلّي (ص) بالأنبياء (عليهم السلام) إماماً.

ثم سري به في تلك اللّيلة من بيت المقدس إلي مسجد الكوفة حيث صلّي هناك أيضاً.

ثم عرج منه بصحبة جبرئيل إلي السماوات، فرأي مكتوباً علي باب كل سماء، وعلي كلّ حجاب من حجب النور، وعلي كل ركن من أركان العرش: (لا إله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه، عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين)(2).

فلمّا بلغ إلي سماء الدنيا استفتح له جبرئيل، ففتح لهما، فرأي هناك آدم (ع) أباالبشر، فسلّم عليه، فرحّب به وردّ عليه السلام، وأقرَّ بنبوّته (ص) وولاية علي بن أبي طالب (ع)(3).

ثم عرج به إلي السماء الثانية، فرأي فيها يحيي بن زكريّا وعيسي بن مريم فسلّم عليهما، فردّا عليه، السلام ورحّبا به وأقرّا بنبوّته (ص) وولاية علي بن أبي طالب (ع).

ثم عرج به إلي السماء الثالثة، فرأي فيها يوسف الصدّيق (ع)، فسلّم عليه فرحّب به وأقرّ بنبوّته (ص) وولاية علي بن أبي طالب (ع).

ثم عرج به إلي السماء الرابعة، فرأي فيها إدريس (ع)، فسلّم عليه فرحّب به وأقرّ بنبوّته (ص) وولاية عليّ بن أبي طالب (ع).

ثم عرج به إلي السماء الخامسة، فلقي فيها هارون بن عمران (ع) فسلم عليه فرحب به، وأقرّ بنبوّته (ص) وولاية علي بن أبي طالب (ع).

ثم عرج

به إلي السماء السادسة، فلقي فيها موسي (ع)، فسلم عليه فرحب به وأقرّ بنبوّته وولاية علي بن أبي طالب (ع).

ثم عرج به إلي السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم (ع)، فسلّم عليه فرحب به وأقرّ بنبوّته (ص) وولاية علي بن أبي طالب (ع).

ثم رفع (ص) إلي البيت المعمور، فحضرت الصلاة، فأذّن جبرائيل وأقام، ثم صلّي (ص) بالنبيّين والملائكة إماماً.

ثم رفع إلي سدرة المنتهي وفيها نودي: استوص بعلي (ع) خيراً فإنه سيّد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجّلين يوم القيامة.

ثم رفع إلي حُجُب النور وخلّي عنه جبرائيل.

فقال له (ص): تخلّيني علي هذه الحالة؟

فقال: امضه فواللّه لقد وطئت مكاناً ما وطئه أحد قبلك.

ثم رفع (ص) إلي حجاب الجلال، فدنا من ربّه دنوّاً معنوياً، لأنّ اللّه ليس بجسم وليس له مكان، فناجاه ربّه، فكان ممّا ناجاه به: (بك وبعليّ وبالائمّة من وُلده أرحم عبادي وإمائي، وبالقائم منكم اُعمر أرضي … )(4).

ثم علي رواية فرض عليه (ص) وعلي اُمَّته خمسين صلاة، فرجع حتي مرَّ علي إبراهيم (ع)، فلم يقل له شيء فمرّ حتّي أتي موسي (ع). فقال: بما اُمِرت؟

قال (ص): بخمسين صلاة.

فقال: إنَّ اُمَّتك لا يطيقون ذلك، ارجع إلي ربّك فاسأله التخفيف لاُمَّتك.

فالتفت إلي جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار أن نعم إن شئت. فرجع يسأل ربّه التخفيف علي اُمَّته، ولم يزل يتردَّد بين موسي وبين ربّه تعالي حتّي جعلها خمس صلوات.

ثم ناداه مناد وهو يقول: فهذه الخمس بخمسين.

هذا، ولا يخفي ان النبي (ص) انما لم يسأل ربه التخفيف، لأنّه (ص) كان لايقترح علي ربّه عزّوجل ولا يراجعه في شيء يأمره به. فلمّا سأله موسي (ع) ذلك وصار شفيعاً لاُمّته إليه، لم يرد شفاعته، فرجع وسأل ربّه التخفيف.

وفيه أيضاً: اظهار

لفضل موسي (ع) فقد دعا له أبو عبداللّه (ع) وقال: (جزي اللّه موسي عن هذه الاُمَّة خيراً).

وفيه أيضاً: اظهار لفضله (ص) وتقرّبه عند اللّه عزّوجل.

المشركون وأنباء الرحلة

فلما أصبح رسول اللّه (ص) في قومه أخبرهم بمعراجه وبما أراه اللّه من آياته الكبري واذ يحدثهم بانه اتي بيت المقدس ورجع من ليلته، وان آية ذلك انه مرّ بعير لأبي سفيان علي ماء لبني فلان وقد اضلّوا جملاً لهم أحمر، وقد همّ القوم في طلبه.

فاشتد تكذيب القوم له وأذاهم، ومرّ به أبو جهل فجاء حتي جلس إليه، فقال له كالمستهزيء هل كان من شيء؟

قال (ص): نعم.

قال: وما هو؟

قال: اُسري بي الليلة.

قال: إلي أين؟

قال: إلي بيت المقدس.

قال: ثم اصبحت بين ظهرانينا؟

قال: نعم.

قال: إن دعوت قومك اتحدثهم بما حدثتني به؟

قال: نعم.

قال: يا معشر بني كعب بن لؤي. فانقضت اليه المجالس وجاءوا حتي جلسوا إليهما. فقال: حدّث قومك بما حدثتني.

فقال رسول اللّه (ص): إني اَُسري بي الليلة.

قالوا: إلي أين؟

قال: إلي بيت المقدس.

قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟

قال: نعم.

فمن بين مصعق، ومن بين واضع يده علي رأسه متعجباً. فقال المطعم بن عدي: كل أمرك قبل اليوم كان تماماً غير قولك هذا، أنا أشهد انك كاذب. نحن نضرب أكباد الإبل إلي بيت المقدس مصعداً شهراً ومنحدراً شهراً، تزعم أنك أتيته في ليلة! واللات والعُزّي لا اُصدّقك.

فقالوا: يا محمد، صف لنا بيت المقدس كيف بناؤه وكيف هيئته وكيف قربه من الجبل؟ وفي القوم من سافر إليه.

فذهب (ص) ينعت لهم: بناؤه كذا وهيئته كذا وقربه من الجبل كذا، فما زال ينعت لهم.

فقالوا: كم للمسجد من باب؟

فجاء جبرئيل فقال: يا رسول اللّه انظر ههنا، فنظر إلي بيت المقدس وقد انكشف له فأخذ (ص) يعدّ لهم أبوابها باباً باباً.

فقال

القوم: أما النعت فواللّه لقد أصاب.

ثم قالوا له: أخبرنا عن عيرنا وعن قدومها، فأخبرهم عنها في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وعن البعير الذي يقدمها. وكان الأمر كما قال. فرموه بالسحر ولم يؤمن منهم إلاّ قليل، وهو قول اللّه تبارك وتعالي: (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون)(5).

لا لليأس والخيبة

لقد مرّ أنّ رسول اللّه (ص) أقام بمكة ثلاث سنين من أوّل نبوته يبلّغ رسالات ربه إلي خاصته، ثم أجهر بها في الرابعة، وأخذ يبلّغ رسالة ربّه إلي الناس كافة وفي كل مكان، وبكل الطرق وذلك مدة عشر سنين، حتي إنه كان في السنين الأخيرة ليسأل عن القبائل ويأتي في المواسم منازلها قبيلة قبيلة ويقول: يا أيها الناس، قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا، تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونون ملوكاً فاذا متم كنتم ملوكاً في الجنة.

وأبو لهب وجماعته وراءه يقولون: لا تطيعوه فإنه كذاب. فيردون علي رسول اللّه (ص) أقبح ردّ ويؤذونه ويقولون: اُسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك.

فكان ممّن أتاهم رسول اللّه (ص) وبلّغهم رسالات ربه فلم يقبلوها: بنو عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة، وفزارة وغسان ومرة وحنيفة وسليم وعبس وبنو نصر وبنو البكاء وكندة وكلب والحارث بن كعب وعُذرة والحضارمة وغيرهم فلم يستجب منهم أحد.

الالتقاء بوفد اليمامة

وذات مرة اقبل رسول اللّه (ص) ومعه علي (ع) إلي مجلس من مجالس العرب، فدعاهم إلي دينه فقال أحدهم واسمه مفروق: وإلي م تدعو يا أخا قريش؟

فقال رسول اللّه (ص): (قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ألاّ تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحن نرزقكم وأياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلاّ بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون)(6).

قال مفروق: ما هذا من كلام اهل الأرض ولو كان من كلامهم عرفناه ثم قال: وإلي م تدعو أيضاً يا أخا قريش؟

فتلا رسول اللّه (ص): (إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكّرون)(7).

فقال مفروق:

دعوت واللّه يا أخا قريش إلي مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.

وكأنه أراد أن يشرك في الكلام هانئ ابن قبيصة فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا.

فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أري أن تركنا ديننا واتباعنا إياك علي دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لوهنٌ في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر.

وكأنه أحب أن يشرك في الكلام المثني بن حارثة فقال: وهذا المثني بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا.

فقال المثني: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا إياك في مجلس جلسته الينا ليس له أول ولا آخر، وإنا إنما نزلنا بين صريان اليمامة والسماوة.

فقال رسول اللّه (ص): ما هذان الصريان؟

فقال: أنهار كسري ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسري فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور وعذره مقبول، وإنما نزلنا علي عهد أخذه علينا كسري، لا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً وإني أري أنّ هذا الأمر مما تكرهه الملوك، فان أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.

فقال رسول اللّه (ص): ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، فان دين اللّه لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلاّ قليلا حتي يورثكم اللّه ارضهم وديارهم، أتسبّحون اللّه وتقدّسونه؟

فقال النعمان بن شريك: اللّهم لك ذا.

فتلا رسول اللّه (ص): (يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلي اللّه بإذنه وسراجاً منيراً) ثم نهض

النبي فأخذ بيدي علي (ع) ينهضه وقال: إنها أخلاق في الجاهلية ما أشرفها، بها يدفع اللّه بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم.

مع رهط من الخزرج

وفي السنة الحادية عشرة من البعثة النبويّة الشريفة خرج رسول اللّه (ص) علي ما دأب عليه إلي الموسم فعرض نفسه علي قبائل العرب كما كان يصنع في كل مرة، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد اللّه بهم خيراً، فلما لقيهم رسول اللّه (ص) قال: من أنتم؟

قالوا: نفر من الخزرج.

قال: أمن موالي اليهود؟

قالوا: نعم.

قال: أفلا تجلسون اُكلمكم؟

قالوا: بلي. فجلسوا معه، فبلّغهم رسالات اللّه، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.

وكان مما صنع اللّه به في الإسلام أن يهوداً كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: ان نبياً مبعوث الآن قد أظلّ زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.

فلما كلم رسول اللّه (ص) أولئك النفر ودعاهم إلي اللّه قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون واللّه أنه النبي الذي توعّدكم به اليهود، فلا يسبقنكم اليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام.

وقالوا: إنّا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم، فعسي اللّه أن يجمعهم بك، فسنقدم عليهم وندعوهم إلي أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم اللّه عليك فلا رجل أعز منك. وكان هؤلاء ستة نفر من الخزرج.

فقال لهم النبي (ص): أتمنعون ظهري حتي اُبلّغ رسالة ربي؟

فقالوا: يا رسول اللّه إنما كانت بعاث عام الهول يوم من أيامنا اقتتلنا به، فان تقدم ونحن كذا لا يكون عليك اجتماع، فدعنا

حتي نرجع إلي عشائرنا لعل اللّه يصلح ذات بيننا وندعوهم إلي ما دعوتنا إليه، فعسي اللّه أن يجمعهم عليك، فان جمعهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك، وموعدك الموسم العام القابل، وانصرفوا إلي المدينة.

فلما قدموا المدينة إلي قومهم ذكروا رسول اللّه (ص)، ودعوهم إلي الإسلام حتي فشا فيهم، فلم تبق دار من دور الانصار إلاّ وفيها ذكر من رسول اللّه (ص).

العقبة الأولي وبيعتها

ولما كان العام المقبل أي: في سنة اثنتي عشرة من البعثة النبوية وافي الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، وكان من بينهم: أسعد بن زرارة، وعبادة بن الصامت، فلقوا رسول اللّه (ص) عند العقبة الأولي، فبايعوه علي القرار التالي:

قال عبادة بن الصامت: بايعنا رسول اللّه (ص) علي أن لا نشرك باللّه شيئاً، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل اولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بيد أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف.

فقال لنا رسول اللّه (ص): ان وفيتم فلكم الجنة، وان غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلي اللّه عز وجلّ إن شاء عذّب وإن شاء عفا وغفر.

ثم انصرفوا.

وبعث (ص) معهم مصعب بن عمير يصلّي بهم، ويفقههم، ويعلمهم القرآن، وكان بينهم بالمدينة يسمّي بالمقرئ، فأسلم علي يديه جمع كثير، حتي لم يبق دار في المدينة إلاّ وفيها رجال ونساء مسلمون الاّ ما شذّ وندر.

العقبة الثانية وبيعتها

ثم رجع مصعب إلي مكة في العام المقبل ووافي في الموسم ذلك العام، أي بسنة ثلاث عشرة من البعثة النبوية خلق كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين، وزعيم القوم البراء بن معرور، فلما كانت ليلة العقبة وقد مضي الثلث الأول من الليل تسلل إلي رسول اللّه (ص) منهم ثلاثة وسبعون رجلاً وأمرأتان: نسيبة بنت كعب إحدي نساء بني مازن بن النجار، وأسماء ابنة عمرو ابن عدي اُم منيع إحدي نساء بني سلمة.

قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول اللّه (ص)، حتي جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ علي دين قومه إلاّ أنه أحب أن يحضر أمر أبن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس فقال:

يا معشر الخزرج! وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج، خزرجها وأوسها إن محمداً منا

حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا، وهو في عزٍّ من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبي إلاّ الانحياز اليكم واللحوق بكم، فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعونه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وان كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به اليكم فمن الآن فدعوه، فانه في عز ومنعة من قومه وبلده.

فقالوا له: سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول اللّه فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.

فتكلّم رسول اللّه (ص) وقال: ابايعكم علي الإسلام.

فقال له بعضهم: نريد ان تعرفنا يا رسول اللّه ما للّه علينا، وما لك علينا؟ وما لنا علي اللّه؟

فقال (ص): أما ما للّه عليكم: فان تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأما مالي عليكم: فتنصرونني مثل ما تنصرون ابناءكم ونساءكم، وان تصبروا علي عضّ السيوف وان يقتل خياركم.

قالوا: فاذا فعلنا ذلك ما لنا علي اللّه؟

قال: اما في الدنيا فالظهور علي من عاداكم، وفي الآخرة رضوانه والجنة.

فأخذ البراء بن معرور بيده (ص) ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول اللّه، فنحن واللّه أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر.

فاعترض القوم والبراء يكلم رسول اللّه (ص) أبو الهيثم بن التيهان فقال: يارسول اللّه، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، ونحن قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه أن ترجع إلي قومك وتدعنا؟

فتبسّم رسول اللّه (ص)، ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. وفي حديث آخر قال: المحيي محياكم والممات مماتكم.

ثم قال رسول اللّه (ص): أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيباً حتي يكونوا كفلاء علي قومهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً: تسعة من الخزرج، وثلاثة

من الأوس.

فقال لهم رسول اللّه (ص): ارجعوا إلي رجالكم.

قال الراوي: فرجعنا إلي مضاجعنا فنمنا عليها حتي أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتي جاءونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلي صاحبنا هذا تسترجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه علي حربنا، وانه واللّه ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تشب الحرب بيننا وبينهم منكم.

قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون باللّه ما كان من هذا شيء وما علمناه.

قال: وصدقوا، لم يعلموا. وبعضنا ينظر إلي بعض.

إبليس وبيعة العقبة

وفي حديث آخر: انه لما اجتمع الانصار في العقبة الثانية وبايعوا رسول اللّه (ص) علي أن يمنعوه مما يمنعون أنفسهم، ويمنعوا أهله مما يمنعون أهاليهم وأولادهم، وأخرجوا إليه منهم اثني عشر نقيباً ليكونوا شهداء عليهم بذلك، صاح ابليس: يا معشر قريش والعرب! هذا محمدٌ والصباة من أهل يثرب علي جمرة العقبة يبايعونه علي حربكم، فأسمع أهل مني، وهاجت قريش، فاقبلوا بالسلاح.

وسمع رسول اللّه (ص) النداء فقال للانصار: تفرقوا.

فقالوا: يا رسول اللّه إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا.

فقال رسول اللّه (ص): لم اؤمر بذلك، ولم يأذن اللّه لي في محاربتهم.

قالوا: فتخرج معنا؟

قال: انتظر أمر اللّه.

فجاءت قريش علي بكرة ابيها قد اخذوا السلاح، وخرج حمزة وعلي (ع) ومعهما السيف فوقفا علي العقبة. فلما نظرت قريش اليهما قالوا: ما هذا الذي اجتمعتم له؟

فقال حمزة: ما اجتمعنا وما ههنا احد، واللّه لا يجوز هذه العقبة أحد الاّ ضربته بسيفي هذا، فرجعوا إلي مكة وقالوا: لا نأمن ان يفسد أمرنا ويدخل واحد من مشايخ قريش في دين محمد.

بيعة العقبة علي لسان جابر

وعن جابر: ان النبي (ص) لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم وبذي المجاز ومجنّة وعكاظ وفي منازلهم من مني ويقول: (من يؤويني ومن ينصرني حتي أبلغ رسالة ربي وله الجنة) فلا يجد أحداً ينصره ولا يؤويه، حتي أن الرجل ليرتحل من مصر واليمن إلي ذوي رحمه فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش لايفتننّك.

وكان (ص) يمشي بين رجالهم يعرض عليهم رسالات اللّه، وهم يشيرون اليه بالأصابع.

قال الراوي: انه كان كذلك حتي بعثنا اللّه من يثرب فيأتيه الرجل منا فيؤمن به يقرئه القرآن، فينقلب إلي أهله فيسلمون باسلامه، وحتي لم تبق دار من دور الأنصار إلاّ وفيها رهط من

المسلمين يظهرون الإسلام، وبعثنا اللّه إليه فائتمرنا فيما بيننا وأجمعنا علي نصرته (ص) فرحلنا ونحن أكثر من سبعين نفراً حتي قدمنا عليه (ص) في الموسم، فواعدناه بيعة العقبة، فقال له عمّه العباس: يا ابن أخي، ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك، إني ذو معرفة بأهل يثرب.

فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا قال: هؤلاء القوم لا نعرفهم، هؤلاء أحداث. فقلنا: يارسول الله، علي ما نبايعك؟

قال (ص): (علي السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلي النفقة في العسر واليسر، وعلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلي أن تقوموا في اللّه لا تأخذكم في اللّه لومة لائم، وعلي أن تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة).

فقمنا نبايعه (ص)، فأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغرنا وقال: رويداً يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلاّ ونحن نعلم أنه رسول اللّه، وان إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وان تعضكم السيوف، فإمّا أنتم تصبرون علي ذلك فخذوه وأجركم علي اللّه، وإمّا أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو عذركم عند اللّه.

فقالوا: يا ابن زرارة امط عنا يدك، فواللّه لا نترك هذه البيعة ولا نستقيلها.

فقمنا إليه (ص) رجلاً رجلاً فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة. ثم انصرفوا إلي المدينة.

اسلام عمرو بن الجموح

فلما قدم الانصار إلي المدينة، اظهروا الاسلام بها، وكان في قومهم بقايا من شيوخ علي دينهم من الشرك، منهم: عمرو بن الجموح، وكان ابنه معاذ بن عمرو ممن شهد العقبة وبايع رسول اللّه (ص) وكان عمرو بن الجموح سيداً من سادات بني سلمة وشريفاً من اشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنماً من خشب يقال له: (مناة) كما

كانت الاشراف يصنعون، يتخذه إلهاً يعظمه ويظهره.

فلما أسلم فتيان بني سلمة معاذ بن جبل وابنه معاذ بن عمرو في فتيان منهم ممن اسلم وشهد العقبة، كانوا يدلجون بالليل علي صنم عمرو ذلك، فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها فضلات الناس منكساً علي رأسه، فإذا اصبح عمرو قال: ويلكم من عدا علي إلهنا هذه الليلة؟

قال الراوي: ثم يعود ويلتمسه حتي إذا وجده غسله وطهره وطيبه ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينّه.

فإذا أمسي ونام عمرو عدوا عليه فعملوا به مثل ذلك، فيغدوا فيجده في مثل ما كان فيه من الأذي، فيغسله ويطهره ويطيبه، ثم يعدون عليه إذا أمسي فيفعلون به مثل ذلك.

فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوماً فغسله وطهره وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال: إني واللّه ما أعلم من صنع بك ما تري، فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك.

فلما أمسي ونام عدوا عليه وأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلباً ميتاً فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها فضلات وقذارات الناس.

ثم غدا عليه عمرو فلم يجده في مكانه الذي كان فيه، فخرج يتبعه حتي وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلب. فلما رآه أبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه، فأسلم وحسن إسلامه، وأشترك مع رسول اللّه (ص) في غزوة احد فرزقه اللّه الشهادة فيها فمات شهيداً.

1 راجع بحار الأنوار: 10 / 162 ب 12 ح 13 ط بيروت.

2 راجع بحار الأنوار: 11 / 165 ب 3 ح 9 ط بيروت.

3 كنز الفوائد: 2 / 139 ط قم، 1410 ه وفيه: (عن النبي (ص): ليلة أسري بي إلي

السماء أوحي الله عز وجل إليّ أن سل من أرسل من قبلك من رسلنا علي ما بعثوا؟ فقلت لهم: علي ما بعثتم؟ فقالوا: علي نبوّتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما).

4 راجع أمالي الصدوق: 504 ح 4 المجلس 92 وفيه: (بك وبه وبالأئمة من ولده.. وبالقائم..).

5 يونس: 101. 6 الأنعام: 151. 7 النحل: 90.

قرار الهجرة

ثم أمر رسول اللّه (ص) أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلي المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار وقال (ص): إن اللّه قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها.

فخرجوا ارسالاً، وأقام رسول اللّه (ص) ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلي المدينة.

فكان أول من هاجر إلي المدينة من أصحاب رسول اللّه (ص) من قريش من بني مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد وأسمه عبد اللّه، هاجر إلي المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، وكان قد قدم علي رسول اللّه (ص) من أرض الحبشة، فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلي المدينة مهاجراً، وحبست عنه أمرأته أم سلمة.

ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة: عامر بن ربيعة ومعه أمرأته ليلي بنت أبي خيثمة.

ثم عبد اللّه بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، احتمل بأهله وبأخيه، وكانت أُمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، فغلقت دار بني جحش هجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب، وأبو جهل ابن هشام وهم مصعدون إلي مكة، فنظر إليها عتبة بن ربيعة تخفق أبوابها ليس فيها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصعداء ثم قال:

وكل دار

وإن طالت سلامتها يوماً ستدركها النكباء والحوب

كل امرئ بلقاء الموت مرتهن كأنه غرض للموت منصوب

وكان بنو غنم بن دودان أهل اسلام، وقد أوعبوا إلي المدينة مع رسول اللّه (ص) رجالهم ونساؤهم.

فمن رجالهم: عبد اللّه بن جحش، وأخوه، وعكاشة بن محصن، وشجاع، وعتبة بن وهب، وأربد بن جبيرة، ومنقذ بن نباتة، وسعيد بن قيس، ومحرز بن نضلة، ويزيد بن رقيش، وقيس بن جابر، وعمرو بن محصن، ومالك بن عمرو، وصفوان بن عمرو، وغيرهم.

ومن نسائهم: زينب بنت جحش، واُم حبيبة بنت جحش، وحمنة بنت جحش وجذامة بنت جندل، واُم قيس بنت محصن، واُم حبيب بنت ثمامة، وآمنة بنت ثمامة،

وقال بن جحش في ذلك شعراً:

لنحن الاُلي كنا بها ثم لم نزل بمكة حتي عاد غثاً سمينها

بها خيمت غنم بن دودان وابتنت وما أن غدت عنم وخف قطينها

إلي اللّه تغدو بين مثني وواحد ودين رسول اللّه بالحق دينها

ثم تتابع المهاجرون فنزل حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وأبو مرثد كناز بن حصين وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة بن عبد المطلب علي كلثوم بن هدم بقباء، وقيل: بل نزلوا علي سعد بن خيثمة وقيل: بل نزل حمزة علي أسعد بن زرارة أخي بني النجار، ونزل عبيدة بن الحارث بن المطلب وأخواه الطفيل والحصين ابنا الحارث علي عبداللّه بن مسلمة ونزل مصعب بن عمير علي سعد بن معاذ وهكذا.

القرار الأخير

فلما رأت قريش أن رسول اللّه (ص) صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين اليهم وقد ساقوا الذراري والاطفال والأموال إلي الأوس والخزرج فعرفوا أن الدار دار منعة، وأن القوم أهل حلقة وبأس وشوكة، فخافوا خروج رسول اللّه (ص) إليهم ولحوقه بهم، فاجتمعوا في دار

الندوة، ولم يتخلف أحد من ذوي الرأي والحجي منهم ليتشاوروا في أمره.

فاعترضهم إبليس في صورة شيخ كبير طاعن في السن عليه بت له، فوقف علي باب الدار فلما رأوه واقفاً علي بابها قالوا: من الشيخ؟

قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسي أن لا يعدمكم منه رأياً ونصحاً.

قالوا: أجل فادخل.

فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش، فقال بعضهم لبعض: ان هذا الرجل(1) قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإنّا واللّه لا نأمنه علي الوثوب علينا بمن اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً. فتشاوروا.

ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين قبله: زهير والنابغة ومن مضي منهم من هذا الموت، حتي يصيبه ما أصابهم.

فقال الشيخ النجدي: لا واللّه ما هذا لكم برأي، واللّه لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلي أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثرونكم به حتي يغلبوكم علي أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره.

فتشاوروا في أمره ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فواللّه ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.

قال الشيخ النجدي: لا واللّه ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته علي قلوب الرجال بما يأتي به؟ واللّه لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل علي حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتي يتابعوه عليه، ثم يسير بهم اليكم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا

فيه رأياً غير هذا.

فقال أبو جهل: واللّه إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد.

قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟

قال: أري أن نأخذ من كل قبيلة فتي شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتي منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه. فانهم اذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً فلم يقدر بنو عبدمناف علي حرب قومهم جميعاً، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم.

قال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي لا رأي غيره، فتفرق القوم علي ذلك وهم مجمعون له.

جبرئيل وإفشاء المؤامرة

فأتي جبرئيل رسول اللّه (ص)، فتلا هذه الآية: (واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين)(2) ثم قال: لا تبت هذه الليلة علي فراشك الذي كنت تبيت عليه وأمره بالهجرة وان يبيت علياً (ع) مكانه.

فدعا رسول اللّه (ص) علياً (ع) لوقته وقال له: يا علي ان جبرائيل هبط عليّ بهذه الآية آنفاً، يخبرني إن قريشاً اجتمعت علي المكر بي وقتلي، وانه أوحي إليّ عن ربي عز وجل ان أهجر دار قومي وان انطلق إلي غار ثور تحت ليلتي، وانه أمرني أن آمرك بالمبيت علي مضجعي تفديني بنفسك، وتخفي عليهم أمري، فما أنت قائل و صانع؟

قال علي (ع): أو تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبي اللّه؟

قال: نعم، فتبسّم علي (ع) ضاحكاً وأهوي إلي الأرض ساجداً شكراً للّه علي ذلك، فلما رفع رأسه قال له: يا نبي اللّه امض لما اُمرت، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت اكن فيه لمسرتك، واقع منه بحيث مرادك، وما توفيقي الاّ باللّه.

فشكره رسول اللّه (ص) علي ذلك وقال له: فارقد علي

فراشي واشتمل ببردي الحضرمي.

ليلة المبيت

لما أنام رسول اللّه (ص) علياً (ع) علي فراشه وعزم علي الخروج التفت إليه يودّعه وهو يقول: أخبرك يا علي ان اللّه تعالي يمتحن أولياءه علي قدر ايمانهم ومنازلهم من دينه، فأشدّ الناس بلاءاً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يابن العم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم (ع) والذبيح إسماعيل(ع)، فصبراً صبراً، فإنّ رحمة اللّه قريب من المحسنين.

ثم ضمّه النبي (ص) إلي صدره وبكي وجداً به، وبكي علي (ع) جشعاً لفراق رسول اللّه (ص) ثم أوصاه بوصاياه وأمره في ذلك بالصبر حتي صلّي العشائين ثم خرج (ص) في فحمة العشاء الآخرة، والرصد من قريش قد أطافوا بداره.

القرآن ومبيت علي (ع)

نام علي (ع) علي فراش رسول اللّه (ص) موطّناً نفسه علي القتل، فأوحي اللّه تعالي إلي جبرئيل وميكائيل: اني آخيتُ بينكما وجعلتُ عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بحياته؟ فاختار كل منهما الحياة وأحبّاها.

فأوحي اللّه عزّوجل إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب (ع) آخيتُ بينه وبين محمد (ص) فبات علي فراشه يفديه بنفسه، ويؤثره بالحياة، اهبطا إلي الأرض فاحفظاه من عدوّه، فكان جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل ينادي: بخّ بخّ، من مثلك يابن أبي طالب؟ يباهي اللّه بك الملائكة، فأنزل اللّه عزّ وجل: (ومن الناس من يشري نفسَه ابتغاء مرضات اللّه واللّه رؤوف بالعباد)(3).

ليلة الهجرة

أطاف المشركون بدار رسول اللّه (ص) وفيهم أبو جهل بن هشام، فقال وهم علي بابه: انّ محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه علي أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم فجُعِلَت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان لكم منه الذبح، ثم بُعثتم من بعد موتكم فجُعِلت لكم نار تحرقون فيها.

فخرج رسول اللّه (ص) في هذه الحال وقد أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم، وأخذ اللّه علي أبصارهم عنه، فجعل ينثر ذلك التراب علي رؤوسهم وهو (ص) يتلو هذه الآيات من سورة يس: (بسم اللّه الرحمن الرحيم يس* والقرآن الحكيم* إنّك لمن المرسلين)(4) إلي قوله تعالي: (وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فأغشيناهم فهم لايبصرون)(5) حتّي فرغ من الآيات، فلم يبق منهم رجل إلاّ وقد وضع علي رأسه التراب، ثم انصرف (ص) إلي حيث أراد أن يذهب.

وعلي رواية: أتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا؟

قالوا: محمّداً.

قال: خيّبكم اللّه،

قد واللّه خرج عليكم محمّد، ثم ما ترك منكم رجلاً إلاّ وقد وضع علي رأسه التراب، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟!

قال: فوضع كل رجل منهم يده علي رأسه فإذا عليه تراب.

ثم جعلوا يطّلعون فيرون علياً (ع) علي الفراش متسجياً ببرد رسول اللّه (ص)، فيقولون: واللّه إنّ هذا لمحمّد نائم عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتي أصبحوا. فقام عليّ (ع) من الفراش. فقالوا: واللّه لقد كان صدقنا الذي كان حدّثنا به.

فقال لهم علي (ع): ما شأنكم؟

قالوا: أين محمّد؟

قال: أجعلتموني عليه رقيباً؟! ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم.

فأقبلوا علي أبي لهب الذي كان يمنعهم عن مداهمة البيت ليلاً يلومونه ويقولون له: أنت تخدعنا منذ الليلة، ثم تفرَّقوا في طلبه.

وكان رسول اللّه (ص) يمشي تلك الليلة علي أطراف قدميه كي يخفي اثره حتي حفيت قدماه، ورأي (ص) في طريقه أبابكر فاصطحبه وذلك لعلل مذكورة في المفصّلات.

تاريخ الهجرة

وكانت الليلة التي خرج فيها رسول اللّه (ص) مهاجراً من مكة ليلة الخميس أول ليلة من شهر ربيع الأول بعد أن انقضت مدّة ثلاث عشرة سنة من مبعثه الشريف، وفيها كان مبيت علي (ع) علي فراشه، وكان خروجه من غار ثور ليلة الرابع من شهر ربيع الأول، حيث توجّه فيها إلي المدينة، ووصلها يوم الإثنين في الثاني عشر من شهر ربيع الأول أي: بعد اثنتي عشرة ليلة خلت منه، فنزل بقبا ينتظر قدوم علي (ع) عليه، فقد أمره النبي (ص) بعد المبيت علي فراشه أن يبقي في مكة حتي يؤدّي الودائع والأمانات التي كانت للناس عنده، ثم يحمل الفاطميّات معه ويلتحق بالنبي (ص)، وهكذا فعل علي (ع).

فعن أبي رافع انه قال: كان علي (ع) يجهّز النبي (ص) حين كان

في الغار يأتيه بالطعام والشراب، وخلّفه النبي (ص) ليخرج إليه أهله فأخرجهم، وأمره أن يؤدي عنه أماناته ووصاياه وما كان بمؤتمن عليه من مال، وأن يقضي عنه ديونه وينجز عداته، فلما أداها قام علي الكعبة فنادي برفيع صوته: (يا أيها الناس هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصيّة؟ هل من عِدة له قِبَل رسول اللّه (ص)؟) فلما لم يأت أحد لحق بالنبي (ص).

المشركون يطلبون الرسول (ص)

ولما فوجئ المشركون بمغادرة الرسول (ص) داره، وانّ النائم في فراشه هو علي بن أبي طالب (ع) أذكوا عليه العيون، وركبوا في طلبه الصعب والذلول.

وخرجوا يقتصون أثره، وأخذوا معهم القافة حتي وصلوا إلي الغار، وكان اللّه تعالي قد أمر العنكبوت فنسجت علي وجه الغار، وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا علي وجه الغار، وباضتا في أسفل النقب، فكان ذلك مما صد المشركين عنه، فلما أتوا الغار طارت الحمامتان ورأوا البيض ونسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا لتكسر البيض ولم يكن عليه نسج العناكب، فصرفهم اللّه عزّ وجل بذلك عنه.

الجائزة لمن جاء بالرسول (ص)

ولما يئس المشركون من الظفر برسول اللّه (ص) جعلوا لمن جاء به دية كاملة أي: مائة من الإبل جائزة لذلك، فجدّ الناس في الطلب (واللّه غالب علي أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).

وكان ممّن جدّ في طلبه سراقة بن مالك بن جعشم حيث يقول:

جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول اللّه (ص) دية كاملة لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي من بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتّي قام علينا ونحن جلوس فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل، أراها محمداً وأصحابه.

قال سراقة: فعرفت أنهم هم، لكني أردتُ الحصول علي الجائزة لوحدي.

فقلت: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا.

ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرتُ جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها عليَّ، فأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتي أتيت فرسي فركبتها، فدفعتها تقرب بي حتي دنوت منهم.

فلما رآني رسول اللّه (ص) أقترب منهم، رفع يديه نحو السماء وقال: (اللّهمّ اكفني شرّ سراقة بما شئت).

فساخت قوائم فرسي، فثنيت

رجلي ثم اشتددت وقلت: يا محمد اني علمت ان الذي أصاب قوائم فرسي انما هو من قِبلك، فادع اللّه أن يطلق لي فرسي، فلعمري ان لم يصبكم خير منّي لم يصبكم منّي شرّ.

فدعا رسول اللّه (ص) فأطلق اللّه عزّوجل فرسه، فعاد في طلب رسول اللّه(ص) حتّي فعل ذلك ثلاث مرّات، كل ذلك يدعو رسول اللّه (ص) فتأخذ الأرض قوائم فرسه.

فلما أطلقه اللّه في الثالثة قال: يا محمد هذه ابلي بين يديك فيها غلامي، وان احتجت إلي ظهر أو لبن فخذ منه، وهذا سهم من كنانتي علامة عليه، وأنا ارجع فأردّ عنك الطلب.

فقال (ص): لاحاجة لنا فيما عندك.

قال الرجل: ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم ان سيظهر أمر رسول اللّه (ص)، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، وكان الكتاب معه إلي يوم فتح مكّة، فجاء بالكتاب فوفي له رسول اللّه (ص) وكان يوم وفاء وبرّ.

مع بريدة الأسلمي

وممّن جدّ في طلب الرسول (ص) بريدة بن الحصيب الأسلمي، فقد ركب في سبعين راكباً من أهله من بني سهم يطلبه، فالتقي به فبادره الرسول (ص) قائلاً: من أنت؟

قال: أنا بريدة.

فقال (ص): برد أمرنا وصلح.

ثم قال (ص): وممّن أنت؟

قال: من أسلم.

فقال (ص): سلمنا.

ثم قال (ص): ممّن؟

قال: من بني سهم.

وهنا التفت إليه النبي (ص) وقال له: خرج سهمك.

فأعجب بريدة تفاؤل الرجل وحسن أخلاقه وأحبّه في قلبه، وتلهّف للتعرّف عليه فقال له: ومن أنت؟

فقال (ص): أنا محمد بن عبداللّه رسول اللّه.

فلم يتريَّث بريدة لما سمع ذلك حتّي قال: (أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأشهد أنَّ محمّداً رسول اللّه) فأسلم بريدة وأسلم من كان معه جميعاً.

فقال (ص): الحمد للّه لقد أسلمت بنو سهم طائعين غير مكرهين.

عند اُم معبد

ثم مضي رسول اللّه (ص) فيمن معه فمروا بخيمة اُم معبد الخزاعية، وكانت امرأة جلدة برزة تحتبي بفناء الخيمة ثم تطعم وتسقي من مر بها، فسألها (ص): هل عندها شيء يشترونه؟

فقالت: واللّه لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القري، والشاء عازب، وكانت سنة شهباء.

فنظر رسول اللّه (ص) إلي شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا اُم معبد؟

فقالت: هذه شاة خلّفها الجهد عن الغنم.

فقال (ص): هل بها من لبن؟

قالت: هي أجهد من ذلك.

قال (ص): أفتأذنين لي أن أحلبها.

قالت: نعم، بأبي واُمّي، إن رأيت بها حليباً فاحلبها.

فدعا رسول اللّه (ص) بالشاة فمسح بيده ضرعها وذكر اسم اللّه وقال: اللّهمّ بارك لها في شاتها، فتفاجّت عليه ودرّت واجترّت، فدعا بإناء لها يُربض الرهط فحلب فيه ثجاً حتي علته الرغوة، فسقاها فشربت حتي رويت، وسقي أصحابه حتي رووا، وشرب (ص) آخرهم، فشربوا جميعاً عللاً بعد نهل، ثم حلب فيه ثانياً حتي ملأ الإناء.

فلما

رأت اُمّ معبد ذلك قالت: إنّ لي ولداً له سبع سنين وهو كقطعة لحم لا يتكلّم ولا يقوم، فأتته به، فأخذ (ص) تمرة وقد بقيت في الوعاء ومضغها وجعلها في فيه، فنهض في الحال، ومشي وتكلّم، وجعل نواها في الأرض فصارت في الحال نخلة، وقد تهدّل الرطب منها، وكان كذلك صيفاً وشتاءاً، وأشار من الجوانب فصار ما حَولها مراعي، ثم ارتحلوا عنها.

فقلّما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزالاً. فلما رأي اللبن وما إلي ذلك عجب وقال: من أين لكِ هذا والشاء عازب حيال، ولا حلوبة في البيت؟!

فقالت: لا واللّه، إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك، كان من حديثه كيت وكيت.

قال: واللّه إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه، صِفيه لي يا اُمّ معبد.

فقالت: رأيتُ رجلاً ظاهر الوضاءة حسن الخلق، أبلج الوجه، لم تعبه ثجلة ويروي نحلة بالنون والحاء ولم تزر به صعلة، كأن عنقه ابريق فضّة، وسيم جسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور أكحل أزج أقرن شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلّم سما به وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، حلو المنطق فصل، لانزر ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه عين من طول ولا تقتحمه من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلي أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفنّد.

فقال: هذا واللّه صاحب قريش الذي ذكروا لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولو كنت أنا وافقته لالتمست أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلي

ذلك سبيلاً، فإنه صادق في قوله انه رسول اللّه، فليس هذا إلا من فعل اللّه، ثم قصده فآمن هو وأهله.

ويروي: أن الشاة التي لمس رسول اللّه (ص) ضرعها وحلبها بيده بقيت عند اُمّ معبد حتي كان زمن الرمادة في سنة ثمان عشرة من الهجرة.

قالت اُم معبد: هاجرت وأسلمت، وكنا نحلبها صبوحاً وغبوقاً وما في الأرض قليل ولا كثير.

انتظار المسلمين للرسول (ص)

وبلغ المسلمين خروج رسول اللّه (ص) من مكة إلي المدينة، فجعلوا يفدون كل غداة إلي الحرة فينظرون حتي يردّهم حر الظهيرة. فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلي بيوتهم أوفي رجل من اليهود علي أطم من آطامهم ينظر لأمر يريده، فبصر برسول اللّه (ص) وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن نادي بأعلي صوته: يا معشر المسلمين، هذا جدكم الذي تنتظرون.

فبادر المسلمون إلي السلاح فتلقوا رسول اللّه (ص) بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين وسار حتي نزل ب (قبا) في (بني) عمرو بن عوف) فكبّر المسلمون فرحاً بقدومه، وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف، فنزل علي كلثوم ابن الهدم، وقيل: علي سعد بن خيثمة، ب (قبا) وبقي هناك ينتظر قدوم علي (ع).

وكان علي (ع) قد خرج بالفواطم(6) بعد أن أدّي ودائع كانت عند رسول اللّه (ص) للناس، وقضي ديونه وأنجز عداته، فلما قدم المدينة رآه النبي (ص) وقد تورّمت قدماه وأصبحتا يقطران دماً، فاعتنقه وبكي رحمة لما به، ثم دعا له (ع) بالعافية، ومسح رجليه فلم يشكهما بعد ذلك.

ثم نزل (ع) مع النبي (ص) بقبا، وبقي رسول اللّه (ص) بعد قدوم علي (ع) في بني عمرو بن عوف يوماً أو يومين، وفي مدة بقائه بقبا أسّس مسجد قباء، وهو أول مسجد

اُسِّس علي التقوي بعد النبوّة بالمدينة المنوّرة.

أول جمعة بالمدينة

فلما كان يوم الجمعة ركب بأمر اللّه له، فاجتمعت إليه بنو عمرو بن عوف فقالوا: يا رسول اللّه أقم عندنا فإنّا أهل الجدّ والجلد، والحلقة والمنعة.

فقال (ص): خلّوا عنها فإنها مأمورة.

وبلغ الأوس والخزرج خروج رسول اللّه (ص) فلبسوا السلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته، لايمرّ بحيّ من أحياء الأنصار إلا وثبوا وأخذوا بزمام ناقته وطلبوا منه النزول عليهم، وهو (ص) يقول لهم: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة.

حتي مرّ (ص) ببني سالم عند الزوال من يوم الجمعة، فتعرضت له بنو سالم فقالوا: يا رسول اللّه هلم إلينا فإنا أهل الجد والجلد، والحلقة والمنعة، فبركت ناقته عند مسجدهم فنزل في مسجدهم الذي خطه (ص) لهم ونصب قبلته وصلّي بهم الجمعة وخطبهم، وكان أول مسجد خطب فيه بالجمعة، وصلّي إلي بيت المقدس، وكان الذين صلّوا معه في ذلك الوقت مائة رجل.

عند أبي أيوب

ثم ركب النبي (ص) ناقته وعلي (ع) معه لايفارقه يمشي بمشيه، فأرخي زمامها لايحركها وهي تنظر يميناً وشمالاً، فلم تزل ناقته سائرة، ولا يمر بدار من دور الأنصار إلاّ رغّبوه في النزول عليهم وأخذوا بخطام راحلته وقالوا: هلم إلي العوذ والعدة والسلاح والمنعة، فكان يجيبهم (ص) بعد التشكّر منهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة.

فلم تزل سائرة به حتي وصلت إلي موضع مسجده اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتي نهضت وسارت قليلاً، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول عند باب أبي أيوب فنزل عنها، ولم يكن آنذاك مسجداً، فجعل الناس يكلمون رسول اللّه (ص) في النزول عليهم، فبادر أبو أيوب الأنصاري إلي رحله فحلّه وأدخله منزله، فجعل رسول اللّه (ص) يقول: (المرء مع رحله).

وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فحوّلها إلي منزله، فقال النبي (ص): أي بيوت أهلنا أقرب؟

فقال

أبو أيوب: أنا يا رسول اللّه، هذه داري، وهذا بابي.

قال (ص): فانطلق فهي لنا مقيلاً.

قال: قوما علي بركة اللّه، فنزل رسول اللّه (ص) وعلي (ع) معه(7) في دار أبي أيوب، حتي بُني له مسجده، وبُنيت له مساكنه ومنزل علي (ع)، فتحوّلا إلي منازلهما.

وقيل: انه لما بركت ناقة رسول اللّه (ص) علي باب أبي أيوب الأنصاري ولم يكن أفقر منه في المدينة انقطعت قلوب الناس حسرة علي مفارقة النبي (ص) فنادي أبو أيوب: يا اُماه افتحي الباب، فقد قدم سيد البشر، وأكرم ربيعة ومضر، محمد المصطفي، والرسول المجتبي.

فخرجت وفتحت الباب وكانت عمياء فقالت: واحسرتاه ليت كانت لي عين أبصر بها وجه سيّدي رسول اللّه (ص)، فدعا (ص) لها فانفتحت عيناها، وكانت أول معجزة النبي (ص) في المدينة.

وفي رواية: انه لما أقبل رسول اللّه (ص) إلي المدينة لم يُر الناس فرحوا بشيء مثل فرحهم به، حتي ان النساء والصبيان والإماء كانوا يقولون: هذا رسول اللّه، قد جاء رسول اللّه.

وعن بعضهم انه قال: شهدته (ص) يوم دخل المدينة فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوء من يوم دخل علينا، وشهدته يوم مات فما رأيت يوماً قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات.

المسجد النبوي الشريف

وكان رسول اللّه (ص) يصلّي في المربد بأصحابه، فقال لأسعد بن زرارة: اشتر هذا المربد من أصحابه، وكان ليتيمين فساوم اليتيمين عليه، فقالا: هو لرسول اللّه. فقال رسول اللّه (ص): لا، إلاّ بثمن.

فاشتراه (ص) بعشرة دنانير، وكان فيه ماء مستنقع، فأمر به رسول اللّه (ص) فسيل، وأمر باللبن فضرب، فبناه مسجداً، وبني منازله ومنازل أصحابه حول المسجد، وخط لعلي بن أبي طالب (ع) ولحمزة (ع) مثل ما خطّ له ولأصحابه، فبنوا فيه منازلهم، وكل

منهم شرع منه باباً إلي المسجد، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد.

فنزل عليه جبرئيل (ع) وقال: ان السلام يخصّك بالسلام ويأمرك بسدّ الأبواب إلاّ بابك وباب علي بن أبي طالب، فإنه يحل له فيه ما يحل لك، فتأثر أصحاب الأبواب من ذلك.

فقال لهم رسول اللّه (ص): ما أنا أمرتُ بسدّها، ولكن اللّه أمر بسدّ أبوابكم وترك باب علي (ع).

فقالوا: رضينا وسلمنا للّه ولرسوله.

بناء المسجد

ولما أمر النبي (ص) ببناء المسجد طفق ينقل معهم اللبن وكان يقول وهو ينقل اللبن:

(هذا الحمال لا حمال خيبر، هذا وربّنا أبرّ وأطهر).

أي: هذا المحمول من اللبن أبرّ عند اللّه وأطهر يعني: أبقي ذخراً وأدوم منفعة من التمر والزبيب والطعام المحمول من خيبر الذي يغتبطه حاملوه، وكان يقول أيضاً: (اللّهمّ انّ الأجر أجر الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرين).

وأخذ المسلمون يرتجزون وهم يعملون، فقال بعضهم:

لئن قعدنا والرسول يعمل لذاك منا العمل المضلل

والنبي (ص) يقول: (لا عيش إلاّ عيش الآخرة، اللّهمّ ارحم الأنصار والمهاجرين).

فدخل عمّار بن ياسر وقد أثقلوه باللبن، فقال: يا رسول اللّه قتلوني، يحملون عليَّ ما لايحملون.

فتبسَّم رسول اللّه (ص) ونفض وفرة عمّار بيده وكان رجلاً جعداً وقال له: (ويح ابن سميّة، ليسوا بالذين يقتلونك، انما تقتلك الفئة الباغية).

وارتجز علي بن أبي طالب (ع) يومئذ وهو يقول:

لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيها قائماً وقاعداً

ومن يري عن التراب حائداً

وجعلت قبلته إلي بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب، وقيل: أكثر من ثلاثة، وجعل طوله مما يلي القبلة إلي مؤخّره مائة ذراع، وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه، وجعل أساسه قريباً من ثلاثة أذرع، وجعل عمده الجذوع، وسقّفه بالجريد، وجعل عضادتيه الحجارة، وقيل له: ألا تسقفه؟ فقال: لا، عريش كعريش موسي، وبني بيوتاً إلي جنبه

باللبن وسقفها بالجريد والجذوع لنفسه ولأصحابه.

وكان في مؤخر المسجد موضع مظلل يأوي إليه المساكين يسمّي (الصفّة).

وكان النبي (ص) يدعوهم بالليل فيفرقهم علي أصحابه، ويتعشي طائفة منهم معه، وأجري (ص) في مسجده نهراً.

مغادرة بيت أبي أيوب

ثم انتقل رسول اللّه (ص) من بيت أبي أيوب إلي مساكنه التي بنيت له، وقيل: ان مدة مقامه في بيت أبي أيوب بالمدينة إلي أن بني المسجد وبيوته: كان من شهر ربيع الأول إلي صفر من السنة الداخلة، واستجمع له إسلام هذا الحي من الأنصار، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، إلا ما شذّ وندر.

1 أي: الرسول(ص). 2 الانفال: 30. 3 البقرة: 207.

4 يس: 1 3. 5 يس: 9.

6 اُمه وبنت رسول الله (ص) وبنت الزبير. 7 راجع مناقب ابن شهرآشوب: 1 / 131 ط.

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

ثم آخي رسول اللّه (ص) بين المهاجرين والأنصار من أصحابه، وكانوا تسعين رجلاً، وقيل: ثلاثمائة رجل، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخي بينهم علي الحق والمواساة، ويتوارثون بعد الموت، إلي وقعة بدر. فلما أنزل اللّه تعالي: (واُولوا الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب اللّه)(1) ردّ التوارث إلي الرحم دون عقد الاُخوّة.

وقد تمت عملية المؤاخاة مرتين، وفي كل مرة اتّخذ النبي (ص) عليّاً (ع) أخاً لنفسه من دون الناس.

كما انه (ص) آخي بين النساء المهاجرات والأنصار أيضاً.

وروي السبط ابن الجوزي قائلاً: آخي رسول اللّه (ص) بين المهاجرين والأنصار، فبكي علي (ع) فقال رسول اللّه (ص): ما يبكيك يا علي؟

قال: لم تواخ بيني وبين أحد.

قال: أنا ادّخرتك لنفسي، ثم قال لعلي (ع): أنت منّي بمنزلة هارون من موسي(2).

ثم قال (ص): يا علي أما علمت ان أول من يدعي به يوم القيامة أنا، فأقوم عن يمين العرش، إلي أن قال: ثم أنت أول من يدعي به لقرابتك منّي ومنزلتك عندي، ويدفع إليك لوائي وهو لواء الحمد.

النبي (ص) ونقباء الأنصار

وكان من النقباء الاثني عشر الذين جعلهم رسول اللّه (ص) شهداء علي الأنصار: البراء بن معرور، وكان هو أول من تكلّم ليلة العقبة حين التقي رسول اللّه (ص) بالسبعين من الأنصار فبايعوه، وقد توفّي قبل قدوم رسول اللّه (ص) إلي المدينة بشهر، فلما قدم رسول اللّه (ص) انطلق بأصحابه فصلّي علي قبره وقال: (اللّهمّ اغفر له وارحمه وارض عنه وقد فعلت).

وكان البراء هذا هو أول من مات من النقباء، ومات بعده من النقباء الاثني عشر: أسعد بن زرارة، وذلك قبل أن يفرغ رسول اللّه (ص) من بناء مسجده، ودفن بالبقيع، والأنصار يقولون: هو أول من دفن فيها، والمهاجرون يقولون: أول من

دفن فيها هو عثمان بن مضعون.

ولما مات أبو امامة أسعد بن زرارة جاءت بنو النجار إلي رسول اللّه (ص) وكان أبو امامة نقيبهم فقالوا: يا رسول اللّه إنّ هذا الرجل قد كان منّا حيث قد علمت، فاجعل لنا رجلاً مكانه يقيم من أمرنا ما كان يقيم.

فقال لهم رسول اللّه (ص): أنا نقيبكم، وكره رسول اللّه (ص) أن يخص بها بعضهم دون بعض، فكان من فضل بني النجار أن كان رسول اللّه (ص) نقيبهم.

تشريع الأذان

ولما كثر المسلمون ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء، فذكروا: أن يوروا ناراً، أو يضربوا ناقوساً، أو ينفخوا في بوق، أو يبعثوا من ينادي بالصلاة.

فهبط جبرائيل (ع) علي رسول اللّه (ص) بالأذان والإقامة، وعندها أمر رسول اللّه (ص) علياً (ع) أن يدعو له بلالاً، فدعاه فعلمه رسول اللّه (ص) الأذان وأمره به، وكان من فصولهما: (حيَّ علي خير العمل).

ثم في يوم الغدير لمّا نصب النبي (ص) علياً (ع) بأمر من اللّه تعالي خليفة علي المسلمين، وأخذ منهم البيعة له بإمرة المؤمنين، زيد في فصولهما بأمره (ص) بعد الشهادة للّه بالوحدانية وللنبي بالرسالة: الشهادة لعلي (ع) بالولاية.

أبو سفيان: أول من صادر أموال المسلمين

وتلاحق المهاجرون إلي رسول اللّه (ص)، فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس.

وبعث رسول اللّه (ص) وهو بعد في منزل أبي أيوب: زيد بن حارثة وأبا رافع إلي مكّة، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم ليحملوا إليه بناته اللاتي لم يسلم أزواجهنّ، لنزول القرآن في حرمتهنّ علي أزواجهنّ إلاّ أن يسلموا، وليحملوا إليه زوجته سودة بنت زمعة، واُسامة بن زيد، واُمه، واُم أيمن، فقدما عليه بهنّ وباُسامة.

وأما زينب بنت رسول اللّه (ص) فقد خرجت فتعرّض لها هبّار في الطريق بما أسقط جنينها فتمرضت علي أثره وفارقت الحياة، فأهدر رسول اللّه (ص) دم هبار علي جريمته هذه حيث انه قتل الاُم وجنينها معاً.

نعم لم يستوعب من مكة أهل هجرة بأهليهم وأموالهم إلي اللّه وإلي رسوله إلا أهل دور يسمون بني مظعون من بني جُمح وبنو جحش بن رئاب وبنو البكير من بني سعد بن ليث، فإن دورهم اُغلقت بمكة هجرة.

ولما خرج بنو جحش من دارهم عدا عليها أبوسفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي.

فلما

بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ذكر ذلك عبداللّه بن جحش لرسول اللّه (ص)، فقال له: أما ترضي يا عبداللّه أن يعطيك اللّه بها داراً في الجنّة؟

قال: بلي.

قال: فذلك لك.

فلما افتتح رسول اللّه (ص) مكة كلمه ابن جحش في دارهم فأبطأ عليه رسول اللّه (ص).

فقال له الناس: إنّ رسول اللّه (ص) يكره أن ترجعوا في شيء من أموالكم اُصيب منكم في اللّه.

فأمسك عن كلام رسول اللّه (ص)، وقال:

أبلغ أبا سفيان عن أمر عواقبه ندامه

دار ابن عمك بعتها تقضي بها عنك الغرامه

وحليفكم باللّه رب الناس مجتهد القسامه

اذهب بها، اذهب بها طُوِّقتها طوق الحمامه

المدينة ودعاء الرسول (ص)

كان هواء المدينة وخماً وعفناً، وكانت المدينة من أوبأ أرض اللّه من الحمّي، وكانت مشهورة بالوباء في الجاهلية، ومن أجلها كانت تدعي باسم يثرب، فإذا دخلها غريب تمرض، فاستوخم المهاجرون هواء المدينة ولم يوافق مزاجهم، فمرض كثير منهم وضعفوا حتي لم يقدروا علي الصلاة قياماً، وكرهوا المدينة، فقال رسول اللّه (ص) وهو يدعو ربّه: (اللّهمّ حبّب إلينا المدينة كما حبّبت إلينا مكّة أو أشدّ، وبارك لنا في مدّها وصاعها، وانقل وباءها وحماها عنا) ثم سماها طيبة، فسمّيت بها واشتهرت بمدينة الرسول (ص).

علي (ع) يخطب فاطمة (ع)

ولما انتقل رسول اللّه (ص) من بيت أبي أيوب إلي منازله كانت ابنته فاطمة(ع) عنده، فخطبها أكابر قريش من أهل الفضل والسابقة في الإسلام والشرف والمال، كما خطبها بعض الصحابة، وكان كلما ذكرها له أحدهم أعرض عنه رسول اللّه (ص) بوجهه، حتي كان الرجل منهم يظن ان رسول اللّه (ص) ساخط عليه.

فقيل لعلي (ع): لم لا تخطب فاطمة؟ فواللّه ما نري رسول اللّه (ص) يحبسها إلاّ عليك.

فأقبل علي (ع) إلي النبي (ص) خاطباً وهو في دار اُم سلمة، وقبل أن يصل علي (ع) إلي الدار هبط جبرئيل علي النبي (ص) وأخبره بمجيء علي (ع).

فلما طرق الباب قال النبي (ص) لاُم سلمة: افتحي له الباب ومريه بالدخول، فهذا رجل يحبّه اللّه ورسوله ويحبّهما، فدخل فإذا هو علي (ع)، فسلّم علي النبي (ص) وجلس مطرقاً برأسه حياءاً.

فقال له النبي (ص): أني أري انك أتيت لحاجة؟

فقال علي (ع): فداك أبي واُمي يا رسول اللّه، انك لتعلم انك أخذتني من عمك أبي طالب ومن فاطمة بنت أسد، وأنا صبيّ، فغذّيتني بغذائك، وأدّبتني بأدبك، فكنتَ إليّ أفضل من أبي طالب ومن فاطمة بنت أسد في البرّ والشفقة، وان

اللّه تعالي هداني بك وعلي يديك، وأنت واللّه يا رسول اللّه ذخري وذخيرتي في الدنيا والآخرة، يا رسول اللّه، فقد أحببت مع ما شدّ اللّه من عضدي بك أن يكون لي بيت، وأن يكون لي زوجة أسكن إليها، وقد أتيتك خاطباً راغباً، أخطب إليك ابنتك فاطمة، فهل أنت مزوّجي يا رسول اللّه؟ ثم سكت وأطرق برأسه ينتظر جواب رسول اللّه (ص).

صداق الزواج

ولما خطب علي (ع) فاطمة(ع) من أبيها رسول اللّه (ص) تهلّل وجه رسول اللّه (ص) فرحاً وسروراً وقال له: فهل معك شيء اُزوّجك به؟

فقال علي (ع): فداك أبي واُمي، واللّه ما يخفي عليك من أمري شيء، أملك سيفي ودرعي وناضحي، ومالي شيء غير هذا.

فقال رسول اللّه (ص): يا علي أما سيفك فلا غني بك عنه تجاهد به في سبيل اللّه وتقاتل به أعداء اللّه، وناضحك تنضح به علي نخلك وأهلك وتحمل عليه رحلك في سفرك، ولكني قد زوجتك بالدرع ورضيت بها منك، يا علي أبشر فإن اللّه تعالي قد زوّجكها في السماء قبل أن اُزوّجك في الأرض.

ابداء الرضا

ثم قال رسول اللّه (ص) لعلي (ع): يا علي انه قد ذكر فاطمة رجال قبلك، فذكرتُ ذلك لها، فرأيتُ الكراهة في وجهها، ولكن علي رسلك حتي أخرج إليك.

فدخل (ص) عليها فقامت(ع) فأخذت رداء أبيها (ص) ونزعت نعليه، وأتته بالوضوء فوضّئته بيدها، وغسلت رجليه، ثم جلست تنتظر أمره (ص).

فقال (ص) لها: يا فاطمة!

فقالت: لبيك يا أبة يا رسول اللّه ما حاجتك؟

قال: ان علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه، واني قد سألتُ ربّي أن يزوّجك خير خلقه وأحبّهم إليه وقد ذكر عن أمرك شيئاً، فما ترين؟

فسكتت فاطمة(ع) ولم تولّ وجهها، ولم يرَ فيها رسول اللّه (ص) كراهة، فقام وهو يقول: (اللّه أكبر، سكوتها اقرارها).

إعلان خبر الزواج

ثم قام علي (ع) ومضي إلي المسجد، وجاء رسول اللّه (ص) في أثره، وفي المسجد المهاجرون والأنصار، فصعد رسول اللّه (ص) المنبر فحمد اللّه وأثني عليه ثم قال: معاشر المسلمين ان جبرئيل أتاني آنفاً فأخبرني عن ربّي عزّ وجل انه جمع الملائكة عند البيت المعمور، وانه أشهدهم جميعاً انه زوّج أمته فاطمة بنت رسول اللّه من عبده علي بن أبي طالب، وأمرني أن اُزوّجه في الأرض واُشهدكم علي ذلك.

ثم جلس وقال لعلي (ع): قم يا أبا الحسن فاخطب أنت لنفسك.

فقام فحمد اللّه وأثني عليه وصلّي علي النبي وآله ثم قال:

(الحمد للّه شكراً لأنعمه وأياديه، ولا إله إلاّ اللّه شهادة تبلغه وترضيه، وصلّي اللّه علي محمد صلاة تزلفه وتحظيه، والنكاح مما أمر اللّه عزوّجل به ورضيه، ومجلسنا هذا مما قضاه اللّه وأذن فيه، وقد زوّجني رسول اللّه ابنته فاطمة وجعل صداقها درعي هذا وقد رضيت بذلك، فاسألوه واشهدوا).

فقال المسلمون لرسول اللّه (ص): زوّجته يا رسول اللّه؟

فقال (ص): نعم.

فقالوا: بارك اللّه

لهما شملهما.

الصداق لمصلحة الزوجين

ثم أقبل رسول اللّه (ص) علي علي (ع) وقال له: يا علي انطلق الآن فبع درعك وأتني بثمنه حتي اُهيّيء لك ولإبنتي فاطمة ما يصلحكما.

قال علي (ع): فانطلقتُ فبعتُ درعي بأربعمائة درهم، وقيل: بأربعمائة وثمانين، وقيل: بخمسمائة درهم(3) وأقبلتُ بها إلي رسول اللّه (ص) وطرحتها بين يديه، فدعا رسول اللّه (ص) بعض أصحابه ودفع له بعض المال وقال له: اشتر بهذه الدراهم لابنتي ما يصلح لها في بيتها، فانطلق واشتري:

1 فراشاً من خيش مصر محشواً بالصوف.

2 نطعاً من ادم.

3 وسادة من ادم حشوها من ليف النخل.

4 عباءة خيبرية.

5 قربة للماء.

6 كيزاناً.

7 جراراً.

8 مطهرة للماء.

9 ستراً من صوف.

10 رحي لليد.

فلما وضع ما اشتراه بين يدي رسول اللّه (ص) نظر إليه فبكي وجرت دموعه، ثم رفع يده إلي السماء وقال: (اللّهمّ بارك لقوم جُلّ آنيتهم الخزف).

وهذا الدعاء يشمل من حينه كل زواج يتم ببساطة وسهولة وبلا تشريفات وتعقيدات إلي يوم القيامة، وعلينا إذا أحببنا أن يشملنا هذا الدعاء ويشمل أبناءنا وبناتنا أن نلتزم بذلك ولا نطلب سوي الكفاءة والأهلية من حسن الخلق والتديّن، كما في الحديث الشريف: (إذا جاءكم من ترضون خُلقه ودينه فزوِّجوه)(4).

البساطة في اُمور الزواج

ثم دعي رسول اللّه (ص) علياً (ع) وقال له: هيّيء منزلاً حتي تحوّل فاطمة إليه.

فقال علي (ع): يا رسول اللّه ما هاهنا منزل إلا منزل حارثة بن النعمان.

فقال رسول اللّه (ص): واللّه لقد استحيينا من حارثة بن النعمان، فقد أخذنا عامة منازله، فبلغ ذلك حارثة فجاء إلي رسول اللّه (ص) فقال: يا رسول اللّه أنا ومالي للّه ولرسوله، واللّه ما من شيء أحبّ إليَّ مما تأخذه، والذي تأخذه أحبّ إليّ ممّا تتركه.

فجزّاه رسول اللّه (ص) خيراً.

ثم فرشوا البيت بالرمل، ونصبوا فيه عوداً يوضع

عليه القربة، وستروه بكساء، ونصبوا خشبة من الحائط إلي الحائط للثياب، ثم حُوّلت فاطمة(ع) إلي علي (ع)، ولها من العمر تسع سنين.

وليمة الزفاف

ثم قال رسول اللّه (ص) لعلي (ع): يا علي اصنع لأهلك طعاماً فاضلاً، فجاء الأصحاب بالهدايا، فأمر النبي (ص) بطحن الحنطة، فطحن وخبز، وذبح الكبش، وجيء بتمر وسمن، فلمّا تهيّأ الطعام قال رسول اللّه (ص) لعلي (ع): يا علي ادع من أحببت.

قال علي (ع): فأتيتُ المسجد وهو غاص بأهله، فناديت: أجيبوا إلي وليمة فاطمة بنت محمد (ص)، فأجابوا وأقبلوا أفواجاً، فأكلوا ورفعوا منها ما أرادوا ولم ينقص من الطعام شيء.

ثم دعا رسول اللّه (ص) الأواني فملئت ووجه بها إلي منازل أزواجه، ثم أخذ آنية منها وقال: هذه لفاطمة وبعلها (عليهما السلام).

ليلة الزفاف وآدابه

ثم أمر رسول اللّه (ص) في ليلة الزفاف نساءه وبنات عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يصحبن فاطمة(ع) إلي بيت زوجها، وأن يفرحن، ويرتجزن، ويكبّرن، ويحمدن، ولا يقولنّ ما لا يرضي اللّه تعالي.

ولما دخلن الدار أنفذ رسول اللّه (ص) إلي علي (ع) ثم دعا فاطمة(ع) فأخذ يدها ووضعها في يد علي (ع) وقال: بارك اللّه في ابنة رسول اللّه، يا علي نعم الزوجة فاطمة، ويا فاطمة نعم الزوج علي، ثم قال: يا علي هذه فاطمة وديعتي عندك، ثم رفع يديه بالدعاء وقال:

(اللّهمّ اجمع شملهما، وألّف بين قلوبهما، واجعلهما وذرّيتهما من ورثة جنّة النعيم، وارزقهما ذرّية طاهرة طيّبة مباركة، واجعل في ذرّيتهما البركة، واجعلهم أئمّة يهدون بأمرك إلي طاعتك، ويأمرون بما يرضيك، اللّهمّ انهما أحبّ خلقك إليّ فأحبّهما واجعل عليهما منك حافظاً، واني اُعيذهما بك وذرّيتهما من الشيطان الرجيم).

ثم خرج (ص) إلي الباب وهو يقول: طهّركما وطهّر نسلكما، أنا سلم لمن سالمكما، وحرب لمن حاربكما، استودعكما اللّه، وأستخلفه عليكما.

صبيحة ليلة الزفاف

ولما انصرف الجميع من زفاف عليّ وفاطمة (عليهما السلام) باتت أسماء عندهما في البيت، وأصبح الصباح، وجاء رسول اللّه (ص) إلي زيارتهما وقال: السلام عليكما ءأدخل؟

ففتحت أسماء الباب، فدخل (ص)، فقال (ص) لعلي (ع): يا علي كيف وجدت أهلك؟

قال: نعم العون علي طاعة اللّه.

ثم قال لفاطمة(ع): كيف وجدت بعلك؟

قالت: خير بعل.

ثم جاء (ص) بقدح فيه لبن فقال لفاطمة(ع): اشربي فداك أبوك، وقال لعلي (ع): اشرب فداك ابن عمك(5).

ثم ذكر لهما بعض الوظائف الزوجية، وقسّم ادارة الشؤون المنزلية إلي قسمين: فأوكل ما هو في البيت إلي فاطمة(ع)، وما هو خارج البيت إلي علي (ع).

ولادة السبطين

لم يمض علي زواج علي (ع) من فاطمة الزهراء(ع) التي كان قد بني بها في ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة النبوية المباركة، إلاّ أقل من سنة حتي وَلَدت(ع) السبط الأكبر الإمام الحسن المجتبي (ع)، وذلك ليلة النصف من شهر رمضان المبارك سنة ثلاث من الهجرة النبوية المباركة.

كما وولدت(ع) السبط الأصغر الإمام الحسين الشهيد (ع) في اليوم الثالث من شهر شعبان المعظم سنة أربع من الهجرة النبوية المباركة.

ولادة الحسن بن علي (ع)

قالت أسماء بنت عميس: لما حملت سيدتي فاطمة (ع) بالحسن بن علي وولدته، جاء النبي (ص) فقال: يا أسماء هلمّي ابني، فدفعته إليه في خرقة صفراء، فقال (ص) وقد أزاحها عنه: يا أسماء ألم أعهد إليكم أن لاتلفّوا المولود في خرقة صفراء؟ فلففته في خرقة بيضاء ودفعته إليه، فأذّن (ص) في اذنه اليمني وأقام في اليسري.

ثم قال لعلي (ع): بأيّ شيء سمّيت ابني؟

قال: ما كنت أسبقك باسمه يا رسول اللّه.

فقال النبي (ص): ولا أسبق أنا باسمه ربّي.

فهبط جبرئيل (ع) وقال: يا محمّد، العليّ الأعلي يقرؤك السلام ويقول: علي منك بمنزلة هارون من موسي ولا نبيّ بعدك، سمّ ابنك هذا باسم ابن هارون.

فقال (ص): وما اسم ابن هارون؟

قال: شبر.

فقال: لساني عربي.

قال: سمّه الحسن.

قالت أسماء: فسمّاه الحسن، فلمّا كان يوم سابعه عقّ النبي (ص) عنه بكبشين أملحين، عق عنه بيده وهو يقول: (بسم اللّه عقيقة عن الحسن، اللّهم عظمها بعظمه، ولحمها بلحمه، ودمها بدمه، وشعرها بشعره، اللّهمّ اجعلها وقاءاً لمحمد وآله)، ثم أعطي القابلة فخذاً وديناراً، وحلق رأسه(ع)، وتصدّق بوزن الشعر فضّة، وطلي رأسه (ع) بالخلوق(6) مكان الدم الذي كان الجاهليون يطلون به رأس الوليد، وقال: يا أسماء الدم فعل الجاهلية.

ولادة الحسين بن علي (ع)

قالت أسماء: فلما كان بعد حول ولد الحسين (ع) فجاء النبي (ص) وقال: يا أسماء هلمّي ابني، فدفعته إليه في خرقة بيضاء، فأذّن (ص) في اذنه اليمني، وأقام في اليسري، ووضعه في حجره وبكي.

قالت أسماء: فقلت: ممّ بكاؤك فداك أبي واُمّي يا رسول اللّه؟

قال: علي ابني هذا.

فقلت: انه ولد الساعة.

قال: تقتله من بعدي الفئة الباغية من بني اُميّة، لا أنالهم اللّه شفاعتي، ثم قال (ص): يا أسماء لا تخبري فاطمة(ع) بهذا فإنها قريبة عهد بولادته.

ثم قال

لعلي (ع): أيّ شيء سمّيت ابني هذا؟

قال: ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول اللّه.

فقال النبي (ص): ولا أسبق باسمه ربّي.

فهبط جبرئيل (ع) وقال: يا محمد العليّ الأعلي يقرؤك السلام ويقول: عليّ منك كهارون من موسي ولا نبيّ بعدك، سمّ ابنك هذا باسم ابن هارون.

فقال: وما اسم ابن هارون؟

قال: شبير.

فقال: لساني عربي.

قال: سمّه الحسين.

قالت أسماء: فسمّاه الحسين، فلما كان يوم سابعه عق النبي (ص) عنه بكبشين أملحين، عق عنه بيده وقرأ الدعاء المزبور، ثم أعطي القابلة فخذاً وديناراً، ثم حلق رأسه وتصدّق بوزن الشعر فضّة، وطلي رأسه بالخلوق وقال: يا أسماء الدم فعل الجاهلية.

1 الأنفال: 75.

2 حديث المنزلة وقد أجمع عليه سائر فرق الإسلام، قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه علي نهج البلاغة: ج 13 ص 211 ط دار إحياء التراث العربي: (وقال النبي في الخبر المجمع علي روايته بين سائر فرق الإسلام (أنت منّي بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنه لا نبيّ بعدي) فأثبت له جميع مراتب هارون عن موسي، فإذن هو وزير رسول الله وشادّ أزره، ولولا أنه خاتم النبيّين لكان شريكاً في أمره) انتهي. وفي البخاري ج 5 ص 24 باب مناقب علي بن أبي طالب: (قال النبي لعلي أما ترضي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسي).

3 وفي بعض الأخبار: ان صداقها (ع) كان ثلاثين درهماً فقط [راجع الكافي: ج 5 ص 377 ح 2] وذلك لتتضع المناكح.

4 وسائل الشيعة: ج 14 ص 50 ب 28 ح 1 و 2 و 6 عن الرسول (ص).

5 كشف الغمة: 1 / 368 ط قم 1381 ه: (اشرب فداك ابن عمك).

6 الخلوق: نوع من الطيب فيه صفرة.

مع أحبار اليهود

ونصبت أحبار اليهود غالباً العداوة لرسول اللّه

(ص) بغياً وحسداً وضغناً لما خص اللّه به العرب من النبوّة، حيث جعلها في ولد اسماعيل، وأخرجها من ولد اسحاق، فقالوا: لا نكون تبعاً لولد اسماعيل أبداً.

هذا مع ان رسول اللّه (ص) قد كان وادعهم وكتب بينه وبينهم كتاباً علي أن لا يعينوا علي رسول اللّه (ص) ولا علي أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية، لا بليل ولا بنهار، واللّه بذلك عليهم شهيد، فإن فعلوا فرسول اللّه (ص) في حلّ من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وأخذ أموالهم.

وكانوا ثلاث قبائل:

1 بنو قينقاع، وقد تولّي أمرهم: (المخيريق).

2 بنو النضير، وقد تولّي أمرهم: (يحيي) بن (أخطب).

3 بنو قريظة، وقد تولّي أمرهم: (كعب) بن (أسد).

فحاربته الثلاث، فمنّ (ص) علي بني قينقاع، وأجلي بني النضير، وقتل بني قريظة. وقد ذكرنا في بعض الكتب: ان مقاتلي بني قريظة الذين قتلوا كانوا قليلين جداً.

هذا وقد نزلت سورة الحشر في بني النضير، وسورة الأحزاب في بني قريظة. وسيأتي الكلام عن القبائل الثلاث في غزواته (ص) وسراياه ان شاء اللّه تعالي.

اسلام ابن سلام

كان ابن سلام من علماء اليهود، في المدينة المنوّرة ومن أحبارهم، فلما جاء النبي (ص) إلي المدينة جاء عبداللّه بن سلام إليه يسأله عن أشياء قال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلاّ نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنّة، وما بال الولد ينزع إلي أبيه أو إلي اُمّه؟

قال (ص): أخبرني به جبرائيل آنفاً.

قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة.

قال (ص): أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلي المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنّة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد

إلي أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلي اُمّه.

قال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّك رسول اللّه، وأنّك جئت بحق، وقد علمت اليهود انّي سيّدهم وابن سيّدهم وعالمهم وابن عالمهم، فادعُهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيَّ.

فأرسل نبي اللّه (ص) إلي اليهود فدخلوا عليه. فقال لهم رسول اللّه (ص): يا معشر اليهود اتقوا اللّه، فوالذي لا إله إلاّ هو إنكم لتعلمون أنّي رسول اللّه حقّاً وأنّي جئتكم بحق، فأسلموا.

قالوا: ما نعلمه، قالوا ذلك للنبي (ص) ثلاث مرّات.

قال (ص): فأيّ رجل فيكم عبداللّه بن سلام؟

قالوا: ذاك خيرنا وابن خيرنا، وسيّدنا وابن سيّدنا، وعالمنا وابن عالمنا.

قال: أفرأيتم إن أسلم أتسلمون؟

قالوا: حاشا للّه، ما كان ليسلم.

قال: أفرأيتم إن أسلم؟

قالوا: حاشا للّه ما كان ليسلم.

قال: أفرأيتم إن أسلم؟

قالوا: حاشا للّه ما كان ليسلم.

قال (ص): يا ابن سلام اخرج عليهم.

فخرج إليهم فقال: أشهد أن لاإله إلاّ اللّه، وأشهد أنّ محمّداً رسول اللّه، يا معشر اليهود اتقوا اللّه فو اللّه الذي لا إله إلاّ هو إنكم تعلمون أنه رسول اللّه وأنه جاء بحقّ.

فقالوا: كذبت انك أنت شرّنا وابن شرّنا، وجاهلنا وابن جاهلنا ونقصوه.

فقال ابن سلام: هذا ما كنت أخاف يا رسول اللّه، فقد أخبرتك ان اليهود قوم بهت.

المخيريق يعلن اسلامه

وكان الذي تولّي أمر اليهود من بني القينقاع يقال له: (مخيريق)، وكان خيرهم، وكان حبراً عالماً، وكان غنياً كثير الأموال والأملاك، وكان يعرف رسول اللّه (ص) بصفته وما يجد في علمه، فقال لقومه: تعلمون انه النبي المبعوث فهلمّوا نؤمن به ونكون قد أدركنا الكتابين.

فلم يجبه قينقاع إلي ما دعاهم إليه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل

علي ذلك حتي إذا كان يوم اُحد وكان يوم السبت قال: يا معشر اليهود، واللّه إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق.

قالوا: ان اليوم يوم السبت.

قال: لا سبت لكم.

ثم أخذ سلاحه فخرج حتي أتي رسول اللّه (ص) وأصحابه باُحد، وعهد إلي من وراءه من قومه إن قتلت في هذا اليوم فأموالي لمحمد (ص) يصنع فيها ما أراه اللّه.

فلما اقتتل الناس قاتل حتي قُتل، وذلك بعد أن أسلم، فاستلم رسول اللّه (ص) أمواله ووهبها بأمر من اللّه تعالي للصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع) وكانت حيطان سبعة.

مع ابني أخطب

عن صفية بنت حُيي أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلي عمي أبي ياسر، ولم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه.

قالت: فلما قدم رسول اللّه (ص) المدينة ونزل قبا في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حُيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين.

قالت: فلم يرجعا حتي كان مع غروب الشمس. فأتيا كالّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا.

قالت: فهششت اليهما كما كنت أصنع، فواللّه ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي (أبا ياسر) وهو يقول لأبي (حيي): أهو، هو؟

قال: نعم واللّه.

قال: تعرفه وتثبته؟

قال: نعم.

قال: فما في نفسك؟

قال: عداوته واللّه ما بقيت.

مكائد اليهود وتلبيسهم

جاء اليهود إلي المدينة واستوطنوها ليدركوا النبي (ص) فكانوا يستفتحون به علي الأوس والخزرج قبل مبعثه، فلما بعثه اللّه من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه.

فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر اليهود اتّقوا اللّه وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد (ص)، ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته.

فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي نذكره لكم، فأنزل اللّه تعالي في ذلك: (ولمّا جاءهم كتاب من عند اللّه مصدّق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون علي الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به)(1).

وقال ابن صلويا لرسول اللّه (ص): يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل اللّه عليك من آية بيّنة فنتّبعك لها.

فأنزل اللّه في ذلك من قوله تعالي: (ولقد أنزلنا إليك آيات بيّنات وما يكفر بها إلاّ الفاسقون)(2).

وقال رافع بن حريملة ووهب بن زيد: يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرأه، وفجّر

لنا أنهاراً نتّبعك ونصدقك.

فأنزل اللّه تعالي في ذلك من قولهما: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسي من قبل)(3).

وكان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد اليهود حسداً للعرب، لما خصّهم اللّه برسوله (ص)، فكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل اللّه تعالي: (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ)(4).

ودعا رسول اللّه (ص) اليهود من أهل الكتاب إلي الإسلام ورغبهم فيه وحذرهم عذاب اللّه ونقمته، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم منّا وخيراً منا، فأنزل اللّه تعالي في ذلك: (وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل اللّه قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا)(5).

اليهود وتأجيج العداوات

وكان شأس بن قيس شيخاً قد عتا، عظيم الكفر، شديد الطعن علي المسلمين، شديد الحسد لهم، فمرّ علي نفر من أصحاب رسول اللّه (ص) من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه، فغاظه ما رأي من الفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم علي الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية.فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة في هذه البلاد، لا واللّه ما لنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار.

فأمر فتي شاباً من اليهود كان معه فقال: اعمد إليهم واجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.

وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، فكان الظفر فيه للأوس علي الخزرج، وكان علي الأوس يومئذ حضير بن سماك أبو أسيد بن حضير، وعلي الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، فقتلا جميعاً.

ففعل

الفتي، فتكلّم القوم عند ذلك وتفاخروا حتي تواثب رجلان من الحيين علي الركب أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث بن الأوس، وجبّار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها جذعة، فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة(6). السلاح، السلاح.

فخرجوا إليها، فبلغ ذلك رسول اللّه (ص)، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتي جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، اللّه اللّه، أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم اللّه للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألّف به بين قلوبكم؟

فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوّهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول اللّه (ص) سامعين مطيعين، وقد أطفأ اللّه عنهم كيد عدوّ اللّه، فأنزل اللّه تعالي في شأس بن قيس وما صنع:

(قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللّه واللّه شهيد علي ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل اللّه من آمن تبغونها عوجاً)(7).

وأنزل اللّه سبحانه في أوس بن قيظي وجبار بن صخر وكان معهما من قومهما: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الّذين اُوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين)(8)، إلي قوله تعالي: (ومن يعتصم باللّه فقد هُدِيَ إلي صراط مستقيم)(9).

1 البقرة: 89. 2 البقرة: 99. 3 البقرة: 108.

4 البقرة: 109. 5 البقرة: 170. 6 والظاهرة: الحرة.

7 آل عمران: 98 – 99. 8 آل عمران: 100. 9 آل عمران: 101.

مع ابن اُبيّ وأبي عامر

قدم رسول اللّه (ص) المدينة وسيد أهلها: عبداللّه بن اُبيّ، لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده

علي رجل من أحد الفريقين حتي جاء الإسلام، ومعه في الأوس رجل هو في قومه من الأوس شريف مطاع: أبو عامر عبد بن عمرو بن صيفي بن النعمان وهو أبو حنظلة الغسيل يوم اُحد، وكان قد ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح، وكان يقال له الراهب، فشقيا بشرفهما وضرهما.

أما ابن اُبي فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه ثم يملكوه عليهم، فجاءهم اللّه برسوله (ص) وهم علي ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلي الإسلام ضغن ورأي أنّ رسول اللّه (ص) قد استلبه ملكه، فلما رأي قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل كارهاً مصرّاً علي نفاقه وضغنه.

وأما أبو عامر فأبي إلاّ الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا علي الإسلام، فخرج إلي مكة ببضعة عشر رجلاً، وكان أبو عامر أتي رسول اللّه (ص) حين قدم المدينة قبل أن يخرج إلي مكة فقال: ما هذا الدين الذي جئت به؟

قال (ص): جئتُ بالحنيفية دين ابراهيم (ع).

قال: فأنا عليها.

فقال له رسول اللّه (ص): إنّك لست عليها.

قال: بلي، إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها.

قال (ص): ما فعلتُ، ولكني جئت بها بيضاء نقيّة.

قال: الكاذب أماته اللّه طريداً غريباً وحيداً، يعرّض برسول اللّه (ص) أي: إنّك جئت بها كذلك.

فقال رسول اللّه (ص): أجل فمن كذب يفعل اللّه به ذلك.

فكان هو ذلك فقد خرج إلي مكة، فلما فتحت خرج إلي الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها.

في طريق العيادة

وركب رسول اللّه (ص) إلي سعد بن عبادة يعوده من شكوي أصابته علي حمار عليه إكاف فوقه قطيفة فدكية مختطمة بحبل من ليف فمرّ بعبداللّه بن اُبيّ وهو في ظل (مزاحم) أطمه، وحوله رجال من قومه، فلما رآه رسول اللّه (ص) نزل فسلّم، ثم

جلس فتلا القرآن، وذكّر باللّه وحذر، وبشر وأنذر.

قال الراوي: وهو زام لا يتكلّم، حتي إذا فرغ رسول اللّه (ص) من مقالته قال: يا هذا إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقاً، فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدّثه إيّاه، ومن لم يأتك فلا تغشه به، ولا تأته في مجلسه بما يكره.

فقال عبداللّه بن رواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين: بلي فاغشنا به وائتنا في مجالسنا ودورنا، فهو واللّه ممّا نحب، ومما أكرمنا اللّه به وهدانا.

فقال عبداللّه حين رأي من خلاف قومه ما رأي:

متي ما يكن مولاك خصمك لا تزل تذل ويصرعك الذين تصارع

وهل ينهض البازي بغير جناحه وإن جذ يوماً ريشه فهو واقع

فقال سعد: يا رسول اللّه لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء، فو اللّه لقد جاءنا اللّه بك وإنا لننظم له الخرز لنتوّجه ملكاً علينا، فإنه ليري أن قد سلبته ملكاً أشرف عليه.

عفو رسول اللّه (ص)

وكان النبي (ص) وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم اللّه تعالي، ويصبرون علي الأذي، قال اللّه عزّوجل: (ولتسمعن من الّذين اُوتوا الكتاب من قبلكم ومن الّذين أشركوا أذي كثيراً، وإن تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم الأُمور)(1).

وقال تعالي: (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً)(2) إلي قوله تعالي: (فاعفوا واصفحوا حتّي يأتي اللّه بأمره)(3).

وكان النبي (ص) يأخذ بالعفو ما أمره اللّه حتي أذن اللّه فيهم، فلما غزا رسول اللّه (ص) بدراً فقتل اللّه صناديد كفار قريش قال ابن اُبيّ ومن معه من المشركين عبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا رسول اللّه (ص) وأسلموا.

تحويل القبلة

وصلّي رسول اللّه (ص) إلي بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكة وسبعة عشر شهراً بالمدينة، وكان يعجبه أن تكون قبلته الكعبة تخلّصاً من تعيير اليهود، فحوّل اللّه القبلة إليها، والنبي (ص) مع المسلمين في الصلاة، فتحوّلوا إلي الكعبة المكرّمة.

فخرج رجل ممّن كان صلّي معه فمرّ علي أهل مسجد وهم راكعون فقال: اُشهد باللّه لقد صلّيت مع النبي (ص) قِبَل مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت.

وكذلك بينما الناس يصلّون الصبح في مسجد قباء إذ جاءهم رجل فقال: إن النبي (ص) قد اُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها، وكان وجه الناس إلي الشام فاستداروا بوجوههم إلي الكعبة.

وكان في جعل القبلة إلي بيت المقدس ثم تحويلها إلي الكعبة حِكَم عظيمة وفتنة وامتحان للمسلمين والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين.

فأما المسلمون فقالوا: (سمعنا وأطعنا)(4)، وقالوا: (آمنّا به كلّ من عند ربّنا)(5)، وهم الذين هداهم اللّه ولم تكن كبيرة عليهم.

وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلي قبلتنا يوشك أن يرجع إلي ديننا.

وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء.

وأما

المنافقون فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجّه، إن كانت القبلة الاُولي حقاً فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان علي باطل.

وكثرت أقاويل السفهاء من الناس، وكانت كما قال اللّه: (وإن كانت لكبيرة إلاّ علي الّذين هدي اللّه)(6) وكانت فتنة من اللّه امتحن بها عباده ليري من يتبع الرسول ممّن ينقلب علي عقبيه، فأنزل اللّه جواب السفهاء: ( … قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم)(7).

صلاة الاستسقاء

وفي شهر رمضان المبارك سنة ست من الهجرة النبوية المباركة صلّي رسول اللّه (ص) بالناس صلاة الإستسقاء بكيفيتها الخاصة، فلما قضي صلاته جثا علي ركبتيه ورفع يديه نحو السماء ثم كبّر وقال: (اللّهمّ اسقنا وأغثنا) إلي آخر الدعاء المأثور.

فما أن تمّ دعاءه (ص) حتي أمطرت السماء عليهم مطراً غزيراً وصارت المدينة والسحاب عليها كالفسطاط.

عندها تبسَّم رسول اللّه (ص) وقال: للّه درّ أبي طالب، لو كان حيّاً قرّت عيناه، من الذي ينشدنا قوله؟

فقام علي بن أبي طالب (ع) وقال: يا رسول اللّه كأنّك أردت:

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامي عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاّك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت اللّه نبزي محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل

ونسلمه حتي نصرّع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول اللّه (ص): أجل. فقام عندها رجل من كنانة وقال:

لك الحمد والشكر ممّن شكر سقينا بوجه النبي المطر

وكان كما قاله عمّه أبو طالب أبيض ذو غرر

به اللّه يسقي صوب الغمام وهذا العيان لذاك الخبر

فقال رسول اللّه (ص): إن يك شاعراً أحسن فقد أحسنت.

ثم استمرت السماء تهطل عليهم حتي جاءوا وقالوا: يا رسول اللّه ادع اللّه تعالي أن يصرفها عنّا، فرفع يديه وقال: (حوالينا ولا علينا، اللّهمّ علي رؤوس الظراب، ومنابت

الشجر، وبطون الأودية، وظهور الآكام).

فتصدعت عن المدينة، تمطر مراعيها ولا تمطر فيها قطرة.

1 آل عمران: 186. 2 البقرة: 109. 3 البقرة: 109.

4 البقرة: 285. 5 آل عمران: 7. 6 البقرة: 143.

7 البقرة: 142.

الإذن في الحرب الدفاعية

ولما استقر رسول اللّه (ص) بالمدينة كما تقدّم، وأيّده اللّه بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، فمنعته أنصار اللّه وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلوا نفوسهم دونه، وقدّموا محبّته علي محبّة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولي من أنفسهم، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، ففرض اللّه علي المسلمين القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم، فقال تعالي: (وقاتلوا في سبيل اللّه الذين يقاتلونكم)(1).

آداب وسنن

وكان (ص) يستحب القتال أول النهار كما يستحب الخروج للسفر أوله، فإذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتي تزول الشمس وتهبّ الرياح وينزل النصر.

وكان يبايع أصحابه في الحرب علي أن لايفرّوا، وربما بايعهم علي الموت، وبايعهم علي الجهاد، كما بايعهم علي الإسلام، وبايعهم علي الهجرة قبل الفتح، وبايعهم علي التوحيد والتزام طاعة اللّه ورسوله.

وبايع (ص) نفراً من أصحابه علي أن لايسألوا الناس شيئاً، فكان السوط يسقط من يد أحدهم فينزل فيأخذه ولا يقول لأحد ناولني إياه.

وكان (ص) يشاور أصحابه في الجهاد ولقاء العدوّ و تخيّر المنازل.

وفي حديث: ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول اللّه (ص).

وكان (ص) يتخلّف في ساقتهم في المسير فيزجي الضعيف ويردف المنقطع، وكان أرفق الناس بهم في السير.

وكان (ص) إذا أراد غزوة ورّي بغيرها ليقل القتل، وكان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوّه، ويطلع الطلائع ويبث الحرس.

وكان (ص) إذا لقي عدوّه وقف ودعا واستنصر، وأكثر هو وأصحابه من ذكر اللّه، وخفضوا أصواتهم.

وكان (ص) يرتب الجيش والمقاتلة، ويجعل في كل جنبة كفؤاً لها.

وكان (ص) يبارز بين يديه بأمره.

وكان (ص) يلبس للحرب عدة، وربما ظاهر بين درعين.

وكان (ص) له الأولوية.

وكان (ص) إذا ظهر علي قوم أقام بعرصتهم ثلاثاً ثم قفل.

وكان (ص) يستحب

للرجل أن يقاتل تحت راية قومه.

وكان (ص) إذا لقي العدو يقول: (اللّهمّ مُنزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم، اللّهمّ أنزل نصرك، اللّهمّ أنت عضدي ونصيري، بك اُقاتل).

وكان (ص) إذا اشتدّ البأس وحمي الحرب وقصده العدو يعلم بنفسه ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب).

وكان (ص) إذا اشتدّ البأس اتقوا به، كما قال علي (ع) في نهج البلاغة: (كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه (ص)، فلم يكن أحد أقرب منّا إلي العدوّ منه).

وكان (ص) أقربهم إلي العدو.

وكان (ص) يجعل لأصحابه شعاراً في الحرب ورمزاً يعرفون به إذا تكلّموا.

وكان (ص) ينهي عن قتل النساء والولدان والشيوخ ونحوهم.

وكان (ص) إذا بعث سرية يوصيهم بتقوي اللّه ويقول: (سيروا بسم اللّه، قاتلوا من كفر باللّه، ولاتمثلوا، ولاتغدروا، ولاتقتلوا وليداً).

وكان (ص) ينهي عن السفر بالقرآن إلي أرض العدو ولعله حتي لا يقع القرآن في أيديهم فيبيحوا حرمته.

وكان (ص) يأمر أمير سريته أن يدعو عدوّه قبل القتال إما إلي الإسلام والهجرة، أو الإسلام دون الهجرة ويكونوا كأعراب المسلمين ليس لهم في الفيء نصيب، أو بذل الجزية، فإن أجابوا إليه قبل منهم، وإلا استعان باللّه وقاتلهم.

وكان (ص) إذا ظفر بعدوّه أمر منادياً فجمع الغنائم كلها، فبدأ بالأسلاب فأعطاها لأهلها، ثم أخرج خمس الباقي فوضعه حيث أراه اللّه وأمر به: من مصالح المسلمين، ثم يرضخ من الباقي لمن لاسهم له من النساء والصبيان والعبيد، ثم يقسم الباقي بالسوية بين الجيش: للفارس ثلاثة أسهم له سهم وسهمان لفرسه، وللراجل سهم.

وكان (ص) يسوّي بين الضعيف وغيره في القسمة ما عدا النفل.

النبي (ص) وانقسام الكفار عليه

ولما قدم رسول اللّه (ص) إلي المدينة، وأرسي فيها قواعد الإسلام صار الكفار معه علي ثلاثة أقسام:

قسم: صالحوه علي أن لا

يحاربوه ولا يظاهروا عليه.

وقسم: حاربوه ونصبوا له العداوة.

وقسم: تاركوه واتّخذوا موقف الحياد فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما ينتهي إليه أمره، وما يكون مصيره، وكان بين هؤلاء من يحب ظهوره وانتصاره باطناً، وإن لم يعلن بذلك.

أوّل سريّة في الإسلام

وحيث ان مشركي قريش قد نصبوا الحرب للمسلمين، وصادروا في مكة الأموال المنقولة وغير المنقولة للمسلمين الذين هاجروا إلي المدينة، وحاولوا أيضاً فرض حصار اقتصادي وسياسي علي المدينة نفسها ليعرقلوا مسيرة النبي (ص) التقدمية، ويصدّوا زحف المسلمين وانتشار الإسلام من المدينة إلي غيرها من المناطق الاُخري، فكر النبي (ص) بعد أن أذن اللّه له بمجابهة المشركين عسكرياً في أن يكسر جبروت المشركين، ويفك حصارهم، ويرغمهم علي إعادة النظر في مواقفهم العدائية تجاه الإسلام والمسلمين.

فرأي أن يتعرض لهم بتهديدهم، وذلك ببعث السرايا إليهم، أو غزوهم بنفسه (ص)، علماً بأن الغزوة فرقها مع السريّة هو: ان الغزوة كان يشترك فيها رسول اللّه (ص) بنفسه، دون السرية، فإنه كان يؤمّر عليها أحداً من المسلمين.

وكانت الغزوات علي رواية تعدّ (27) غزوة، بينما السرايا بلغت (66) سرية.

وأول سرية بعثها رسول اللّه (ص) في هذا المجال كانت بعد مضي ثمانية أشهر من الهجرة النبوية المباركة، فقد عقد (ص) اللواء لعمّه حمزة بن عبدالمطلب وأمّره علي ثلاثين رجلاً من المهاجرين ممّن تحمّل الأذي والتعذيب القاسي من مشركي مكّة، وممّن صودرت أمواله علي أيديهم، وبعثهم إلي سواحل البحر الأحمر، فالتقوا هناك في (العيص) من أرض جهينة بأبي جهل وهو في مائة وثلاثين راكباً من أهل مكّة في قافلة تجارية، فاصطفّ الفريقان للقتال، فحجز بينهما (مجدي بن عمرو الجهني) وكان موادعاً للفريقين جميعاً، فانصرف القوم بعضهم عن بعض، ولم تقع مناوشات بينهم.

سرية عبيدة بن الحارث

وكانت هذه السرية متزامنة مع سرية حمزة بن عبدالمطلب، فقد عقد رسول اللّه (ص) اللواء لعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب بن عبدمناف في ستّين أو ثمانين راكباً من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، فسار حتي بلغ ماءاً بالحجاز بأسفل (ثنية المرة).

فلقي

بها أباسفيان بن حرب في مائتين من أهل مكّة، فكانت بينهم الرماية دون أن يقع قتال بينهم، غير انه التحق بالمسلمين رجلان ممّن خرج مع المشركين كانا قد أسلما من قبل إلا أنهما لم يتمكّنا من الإلتحاق بالمسلمين، فجعلا ذلك وسيلة للإلتحاق بهم والتخلّص من المشركين وهما: المقداد بن عمرو البهراني، وعتبة بن غزوان المازني.

سريّة سعد

وفي شهر ذي القعدة في السنة الاُولي من الهجرة النبوية المباركة بعث رسول اللّه (ص) سريّة ثالثة تتشكّل من تسعة رجال من المهاجرين يرأسهم سعد بن أبي وقاص، ليرصدوا المشركين في تحرّكاتهم التجارية، فخرجوا حتي بلغوا موضعاً يقال له: (الخرّار) من أرض الحجاز، فلم يلقوا كيداً ورجعوا إلي المدينة.

غزوة الأبواء

وفي شهر صفر من السنة الثانية من الهجرة النبوية المباركة، أي: علي رأس اثني عشر شهراً من مقدم رسول اللّه (ص) إلي المدينة خرج (ص) مع جماعة من أصحابه بعد أن عقد اللّواء لعليّ بن أبي طالب (ع) واستعمل علي المدينة سعد بن عبادة حتي بلغ ودان وهي غزوة الأبواء يريد قريشاً وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادع فيها بني ضمرة، وعقد تلك المعاهدة معه سيد بني ضمرة (مخشي بن عمرو الضمري) وكان سيدهم في زمانه ذلك.

ثم رجع رسول اللّه (ص) إلي المدينة ولم يلق كيداً، فأقام بها بقية صفر وصدراً من ربيع الأول.

غزوة بَواط

ثم خرج رسول اللّه (ص) في أواسط ربيع الأول من السنة الثانية من الهجرة النبوية المباركة في مائتين من أصحابه، وذلك بعد أن استعمل علي المدينة السائب بن مظعون، وقيل: سعد بن معاذ، يريد (ص) قريشاً حتي بلغ (بواط) من ناحية رضوي(2)، فلم يظفر بقافلة قريش التي كان علي رأسها (اُمية بن خلف) في مائة رجل من المشركين.

ثم رجع (ص) إلي المدينة ولم يلق كيداً، فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادي الاُولي.

غزوة ذات العشيرة

ثم في أواسط شهر جمادي الاُولي خرج رسول اللّه (ص) من المدينة، وقد حمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، واستخلف علي المدينة أباسلمة بن عبدالأسد، وذلك في مائة وخمسين من أصحابه، وخرجوا علي ثلاثين بعيراً يعتقبونها ويتعرضون عيراً لقريش ذاهبة إلي الشام، وكان قد جاءه الخبر بفصولها مع أبي سفيان من مكة، وفيها أموال لقريش، حتي بلغ (ص) (ذات العشيرة) فبلغه الخبر بأنّ العير قد فاتته بأيام، وهذه هي التي وعده اللّه إيّاها، أو ذات الشوكة، ووفي له بوعده، وفيها وادع بني مدلج وعقد معهم معاهدة عدم اعتداء.

وفي هذه الغزوة نزل رسول اللّه (ص) بأصحابه عند عين، فنام علي (ع) وعمّار هناك في دقعاء من التراب، فأيقظهما رسول اللّه (ص) وحرّك علياً (ص) فقال له: قم يا أباتراب سمّاه (ص) بذلك لما عليه من التراب ثم قال: ألا اُخبرك بأشقي الناس؟ أحمر ثمود عاقر الناقة، والذي يضربك يا علي علي هذه، ووضع رسول اللّه (ص) يده علي رأسه الشريف، حتي يبلّ منها هذه، ووضع (ص) يده علي لحيته الكريمة.

وأراد رسول اللّه (ص) بهذه الغزوات:

أوّلاً: التحالف مع العشائر.

وثانياً: ارهاب قريش، لما سبق من انهم فرضوا حصاراً اقتصاديّاً علي المدينة.

غزوة بدر الاُولي

لما رجع رسول اللّه (ص) إلي المدينة قادماً من غزوة (ذات العشيرة) لم يبق فيها إلاّ ليال قلائل لا تبلغ العشر، حتّي أغار كرز بن جابر الفهري علي سرح المدينة فاستاقه، فخرج رسول اللّه (ص) في طلبه، واستعمل علي المدينة زيد بن حارثة حتي بلغ وادياً يقال له: (سفوان) في ناحية بدر ففاته كرز، فرجع رسول اللّه (ص) إلي المدينة ولم يلق حرباً.

سريّة عبد اللّه بن جحش

ثم رجع رسول اللّه (ص) إلي المدينة فأقام بها بقية جمادي الآخرة ورجباً، وفي رجب المذكور بعث عبداللّه بن جحش الأسدي إلي نخلة، وذلك في اثني عشر رجلاً من المهاجرين كل اثنين يعتقبان علي بعير، وقال: كن بها حتي تأتينا بخبر من أخبار قريش، ولم يأمره بقتال، فوصلوا إلي بطن نخلة يرصدون عيراً لقريش.

وكان رسول اللّه (ص) قد كتب له كتاباً وأمره أن لاينظر فيه حتي يسير يومين ثم ينظر فيه.

فلما فتح الكتاب وجد فيه: (إذا نظرت إلي كتابي هذا فامض حتي تنزل بنخلة بين مكة والطائف فترصد بها عيراً لقريش وتعلم لنا من أخبارهم).

فقال لمّا قرأ الكتاب: سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك وأنه لايستكرههم، فمن أحبّ الشهادة فليمض معه، ومن كره الموت فليرجع.

فمضوا كلهم حتي إذا نزلوا نخلة مرت بهم عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة، فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبداللّه بن المغيرة والحكم بن كيسان مولي بني المغيرة.

فتشاور المسلمون فيهم وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم أجمعوا علي ملاقاتهم، فرمي أحدهم وهو واقد بن عبداللّه التميمي عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل فأعجزهم، ثم قدموا بالعير والأسيرين إلي المدينة.

الشهر الحرام والقتال فيه

فلما قدموا علي رسول اللّه (ص) قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، وتوقف عن تأييدهم وامضاء عملهم، وانتظر تأييد اللّه تعالي وامضائه لهم عبر أمين وحيه جبرئيل (ع)، وذلك لأهميّة المسألة.

فلما توقف رسول اللّه (ص) عن استلام العير والأسيرين وأبي أن يأخذ من ذلك شيئاً وهو بانتظار الوحي، أسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين.

واشتدّ تعنّت قريش وإنكارهم

ذلك، وزعموا أنهم وجدوا مقالاً وقالوا: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام.

وتفاءلت اليهود علي رسول اللّه (ص) بذلك فقالوا: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبداللّه، (عمرو): عمرت الحرب، و(الحضرمي): حضرت الحرب، وواقد: وقدت الحرب، فجعل اللّه ذلك عليهم لا لهم، فأنزل علي رسوله:

(يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل اللّه وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل)(3).

بوادر النصر

فلما نزل القرآن بذلك انحسمت المسألة وانقطع النزاع فيها، فقد فرج اللّه عن المسلمين، واستلم رسول اللّه (ص) العير وما فيها من أموال وقسمها بين المسلمين، وكانت هذه أول غنيمة للمسلمين، وأول انتصار سجّله المسلمون علي المشركين بعد خمسة عشر عاماً سجّل المشركون فيها كل ما استطاعوه من ظلم وتعذيب، وتشريد وتهجير، ونهب وسلب، وضغط وكبت.

وأما الأسيران: فأرسلت قريش في فدائهما، وحيث كان رجلان من هذه السرية قد أسرتهما قريش أيضاً قال رسول اللّه (ص) لموفدها: لن نفديهما حتي يقدم صاحبانا، إنّا نخاف عليهما.

فأطلقت قريش سراح الأسيرين ومع وصولهما إلي المدينة اُطلق سراحهما.

فأما أحد الأسيرين وهو: الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول اللّه (ص) حتّي قُتِل يوم بئر معونة.

وأما الثاني وهو: عثمان بن عبداللّه فلحق بمكة، فمات بها كافراً.

فلما تجلي عن عبداللّه بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن طمعوا في الأجر فقالوا: يا رسول اللّه إنا نطمع أن تكون لنا غزوة نعطي فيها أجر المجاهدين.

فأنزل اللّه فيهم (إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه اُولئك يرجون رحمت اللّه)(4).

سرية عمير بن عدي

ولما خلت من شهر رمضان خمس ليال وعلي رأس تسعة عشر شهراً من الهجرة النبوية المباركة كانت سرية عمير بن عدي، إلي عصماء بنت مروان اليهودي، اُم المنذر بن المنذر، وكانت عصماء تعيب المسلمين، وتؤذي رسول اللّه (ص) وتمشي في مجالس الأوس والخزرج وتقول شعراً تحرّض عليه، والشعر يؤثر أثره في اظهار الضغائن واثارة الحروب آنذاك، وقد قال تعالي: (اُذن للّذين يقاتلون بأنهم ظلموا وانّ اللّه علي نصرهم لقدير)(5).

فلمّا نفّذ عمير مهمّته أتي فصلّي الصبح مع النبي (ص) بالمدينة وأخبره الخبر، فضرب رسول اللّه (ص) علي كتفه وقال: هذا

رجل نصر اللّه ورسوله بالغيب، أما انه لاينتطح فيها عنزان، كناية عن انه لا يتنازع من أجلها أحد، وكان كذلك.

1 البقرة: 190. 2 بقرب ينبع علي بعد ما يقارب تسعين كيلو متراً من المدينة.

3 البقرة: 217. 4 البقرة: 218. 5 الحج: 39.

غزوة بدر الكبري

ولما عادت سرية عبداللّه بن جحش إلي المدينة في شهر شعبان، أمضي رسول اللّه (ص) بعده في المدينة بقية شهر شعبان وشيئاً من شهر رمضان، ثم وصله (ص) خبر رجوع قافلة قريش التي كان فيها أبو سفيان عائدة من الشام فخرج إليها مع أصحابه.

وكان خروجهم يوم السبت لإثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، علي رأس تسعة عشر شهراً، وقيل: لثمان خلون منه.

واستخلف (ص) علي المدينة أبا لبابة، وعيّن للصلاة بالناس عبداللّه بن اُم مكتوم، وخرج معه الأنصار، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال تعالي: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد)(1).

وذلك أنّ رسول اللّه (ص) بلغه خبر العير المقبلة من الشام مع أبي سفيان في أربعين رجلاً، وفيها أموال عظيمة لقريش، وهي التي خرج إليها عند فصولها من مكة، فلم يدركها، فندب في هذه المرة أصحابه إليها، فخف بعض أصحابه وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول اللّه (ص) يلقي حرباً.

فخرج (ص) فيهم وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وهم اثنان وثمانون من المهاجرين، ومائة وسبعون من الخزرج، وواحد وستون من الأوس، وكانوا علي سبعين بعيراً يعتقبونها، ولم يكن معهم من الخيل إلا فرَسان: فرساً للمقداد، وفرساً للزبير بن العوام، فكان رسول اللّه (ص) وعلي بن أبي طالب (ع) ومرثد بن أبي مرثد الغنوي علي بعير.

فلما بلغ أبا سفيان مسيره (ص) أحجم عن

الإقتراب من بدر واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرة دنانير علي أن يأتي قريشاً بمكة فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد اعترض لعيرهم في أصحابه.

فنهضوا مسرعين في قريب من ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير، ولم يتخلف أحد من أشرافهم، إلا أبا لهب وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة كان له دين بذلك، وحشدوا فيمن حولهم من العرب، ولم يتخلف من بطون قريش سوي عدي بن كعب.

وخرجوا من ديارهم كما قال اللّه تعالي: (بطراً ورئاء الناس)(2) وقالوا: أيظنّ محمّد وأصحابه أن نكون كعير ابن الحضرمي؟ فخرجوا سراعاً وأخرجوا معهم القيان يشربون الخمور، ويضربون بالدفوف.

إلي وادي ذفران

وأقبل رسول اللّه (ص) فيمن خف معه من أصحابه قاصداً وادي ذفران، وقد عقد رايتين جعل إحداهما مع مصعب بن عمير، والاُخري وتسمّي العقاب مع علي بن أبي طالب (ع) وسلك طريقه من المدينة إلي ذفران ومنه إلي بدر علي نقب المدينة، ثم علي العقيق، ثم علي ذي الحليفة، ثم علي اولات الجيش، ثم علي تربان، ثم علي ملل، ثم علي غميس الحمام، ثم علي صخرات اليمام، ثم علي السيالة، ثم علي فج الروحاء، ثم علي شنوكة، حتي إذا كان بعرق الظبية لقوا رجلاً من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبراً.

ونزل رسول اللّه (ص) سجسج وهي بئر الروحاء، ثم ارتحل منها حتي إذا كان بالمنصرف ترك طريق مكة يساراً وسلك ذات اليمين علي النازية يريد بدراً، فسلك في ناحية منها حتي جزع وادياً يقال له: رحقان، بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم علا المضيق ثم انصب به، حتي إذا كان قريباً من الصفراء بعث بسيس بن عمرو الجهني حليف بني ساعدة، وعدي بن أبي الزغباء الجهني حليف بني

النجار يتجسّسان الأخبار عن أبي سفيان وعيره، ثم رحل (ص) وأخذ ذات اليمين علي وادي ذفران وجزع، ثم نزل ذفران.

النبي (ص) يستشير أصحابه

ولما نزل (ص) بأصحابه ذفران أتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، ونزل عليه جبرئيل فأخبره بأن العير قد أفلتت، وانّ قريشاً قد أقبلت لمنع عيرها وأمره بالقتال.

فاستشار أصحابه في ذلك وأخبرهم عن قريش وخروجهم إليهم، فقام المقداد بن الأسود وقال: يا رسول اللّه امض لما أمرك اللّه، فنحن معك، واللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسي: (فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون)(3) ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فوالّذي بعثك بالحقّ لو سرت بنا إلي برك الغماد وهو موضع باليمن لجالدنا معك من دونه حتي تبلغه، ولو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك.

فقال له رسول اللّه (ص) خيراً ودعا له بخير.

ثم قال رسول اللّه (ص): أشيروا عليَّ أيها الناس، وانما يريد الأنصار، ثم أعادها ثانية وثالثة، ففهمت الأنصار انه يعنيهم، فقام سعد بن معاذ الأنصاري وقال: لكأنّك يا رسول اللّه تريدنا؟

فقال النبي (ص): أجل.

فقال سعد: بأبي أنت واُمّي يا رسول اللّه إنّا قد آمنّا بك وصدقناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق من عند اللّه، وأعطيناك علي ذلك عهودنا ومواثيقنا علي السمع والطاعة، فامض يا رسول اللّه لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدوّنا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرُّ به عينك، فسر علي بركة اللّه، وصل من شئت، واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما

أخذت من أموالنا أحبّ إلينا ممّا تركت.

فسرّ رسول اللّه (ص) بقول سعد، وشكره والأنصار علي ذلك.

ثم قال (ص): سيروا علي بركة اللّه وأبشروا، فإن اللّه قد وعدني إحدي الطائفتين ولن يخلف اللّه وعده، واللّه لكأنّي أنظر إلي مصارع القوم، ثم ارتحل (ص) بهم ونزل قريباً من بدر.

استطلاع أخبار قريش

ولمّا نزل (ص) بأصحابه قريباً من بدر، ركب هو ورجل من أصحابه حتّي وقف علي شيخ من العرب، فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم.

فقال: لا اُخبركما حتي تخبراني من أنتما.

فقال له رسول اللّه (ص) إذا أخبرتنا أخبرناك.

قال: أو ذاك بذاك؟

قال: نعم.

قال: فإنه بلغني أنّ محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا المكان الذي به رسول اللّه (ص) وبلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، المكان الذي به قريش، فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟

فقال رسول اللّه (ص): نحن من ماء، ثم انصرف عنه ورجع إلي أصحابه.

فلما أمسي بعث جماعة إلي ماء بدر يلتمسون الخبر، فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج وعريض بن يسار غلام بني العاص بن سعيد فأتوا بهما فسألوهما لمن أنتما؟ ورسول اللّه (ص) قائم يصلّي.

فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء.

فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما حتي قالا إنهما لأبي سفيان فتركوهما، وذلك علي عادتهم في الجاهلية حيث كانوا يأخذون الإعتراف بالتعذيب، فنهي الإسلام عنه نهياً باتاً وحرّمه أشد تحريم، وجعل الإعتراف المأخوذ بالتعذيب كالعدم، ولذا نري انّ رسول اللّه (ص) انفتل من صلاته والتفت إلي أصحابه معترضاً عليهم وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما؟

صدقا واللّه، إنهما لقريش.

ثم التفت إليهما وقال: أخبراني عن قريش.

قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي تري بالعدوة القصوي، والكثيب: التلّ من الرمل.

فقال لهما رسول اللّه (ص): كم القوم؟

قالا: كثير.

قال (ص): ما عدّتهم؟

قالا: ما ندري.

قال (ص): كم ينحرون كل يوم؟

قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً.

قال رسول اللّه (ص): القوم ما بين التسعمائة والألف.

ثم قال (ص) لهما: فمن فيهم من رؤوس قريش؟

قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبوجهل بن هشام، واُمية بن خلف، ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو.

فأقبل رسول اللّه (ص) علي الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.

هروب أبي سفيان

وخفض أبو سفيان فلحق بساحل البحر، ولما رأي أنه قد نجا وأحرز العير كتب إلي قريش يخبرهم بهروبه وسلامة العير، فأتاهم الخبر وهم بالجحفة فهمّوا بالرجوع، فقال أبوجهل: واللّه لانرجع حتي نقدم بدراً فنقيم به، فننحر الإبل ونطعم من حضرنا من العرب الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فتخافنا بعد ذلك.

وأشار الأخنس بن شريق عليهم بالرجوع فعصوه، فرجع هو وبنو زهرة، فلم يشهد بدراً زهري قط، فاغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس، فلم يزل فيهم مطاعاً معظماً، وكان حليفاً لهم.

ليلة بدر

ولما كانت ليلة بدر وهي ليلة السابع عشر من شهر رمضان المبارك من السنة الثانية من الهجرة المباركة انتدب رسول اللّه (ص) أصحابه، وقد نزل بهم قريباً من بدر إلي الماء فسكتوا وأحجموا عن ذلك، فانتدب علياً (ع) فخرج، وكانت ليلة باردة ذات ريح وظلمة، فخرج (ع) بقربته، فلما كان إلي القليب لم يجد دلواً، فنزل في الجبّ تلك الساعة فملأ قربته ثم أقبل فاستقبلته ريح شديدة، فجلس حتي مضت، ثم قام، ثم مرت به اُخري، فجلس حتي مضت، ثم قام، ثم مرت به اُخري، فجلس حتي مضت، ثم قام، فلما جاء إلي النبي (ص) قال له: ما حبسك يا أبا الحسن؟

قال: لقيت ريحاً، ثم ريحاً، ثم ريحاً شديدة، فأصابتني قشعريرة.

فقال: أتدري ما كان ذاك يا علي؟ كان ذلك جبرئيل في ألف من الملائكة، وقد سلّم عليك وسلّموا، ثم مرّ ميكائيل في ألف من الملائكة فسلّم عليك وسلّموا، ثم مرّ إسرافيل في ألف من الملائكة فسلّم عليك وسلّموا، وهم مدد لنا.

وإليه أشار السيد الحميري في قصيدته المعروفة يمدح بها علياً (ع) ويقول:

اقسم باللّه وآلائه والمرء عما قال مسؤول

ان علي بن

أبي طالب علي التقي والبرّ مجبول

كان إذا الحرب مرتها القنا وأحجمت عنها البهاليل

يمشي إلي القِرن وفي كفّه أبيض ماضي الحدّ مصقول

مشي العفرنا بين اشباله أبرزه للقنص الغيل

ذاك الذي سلم في ليلة عليه ميكال وجبريل

ميكال في ألف وجبريل في ألف ويتلوهم سرافيل

ليلة بدر مدداً اُنزلوا كأنهم طير أبابيل

التشاور يهدي إلي التفوّق

ثم سار رسول اللّه (ص) حتي نزل مياه بدر، وكانت منطقة بدر واسعة، جنوبها العدوة القصوي، وشمالها العدوة الدنيا، وفيها عدّة آبار وعيون للماء، تنزل فيها القوافل.

فسبق رسول اللّه (ص) قريشاً إلي بدر، ومنع قريشاً من السبق إليه مطر عظيم أرسله اللّه تعالي مما يليهم ولم يصب منه المسلمين إلا ما لبّد لهم دهس الوادي وأعانهم.

ولما نزل (ص) مياه بدر مما يلي المدينة أتاه الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح فقال: يا رسول اللّه، أرأيت هذا المنزل هو منزل أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه، أم هو الرأي في الحرب؟

فقال (ص) في جوابه: بل هو الرأي.

فقال: يا رسول اللّه (ص) إنّ هذا ليس بمنزل، فانهض بنا حتي نأتي أدني ماء من القوم فننزله ونغوّر ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه فيكون الماء في متناولنا فنشرب ونروي.

فاستحسن رسول اللّه (ص) هذا الرأي وفعله، فكان سبباً من أسباب تفوّقهم علي المشركين.

ومشي رسول اللّه (ص) بعد أن استقرّ هو وأصحابه في مواقعهم علي موضع الوقعة فعرض علي أصحابه مصارع رؤوس الكفر من قريش مصرعاً مصرعاً وهو يقول: هذا مصرع فلان إن شاء اللّه، وهذا مصرع فلان إن شاء اللّه، وهكذا.

الجمعان يلتقيان

وفي صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة النبوية المباركة انحدر المشركون من وراء الكثيب إلي وادي بدر، فلما رآهم رسول اللّه (ص) ينحدرون من وراء الكثيب الذي جاءوا منه إلي الوادي رفع يديه بالدعاء وقال:

(اللّهمّ هذه قريش قد أقبلت بخُيَلانها وفخرها، تحادّك وتكذِّب رسولك، اللّهمّ فنصرك الذي وعدتني به، اللّهمّ أحِنهم الغداة) ثم عبّأ رسول اللّه (ص) أصحابه وقال: غضّوا أبصاركم، ولا تبدأوهم بالقتال، ولا

يتكلّمن أحد.

فلمّا نزل المشركون الوادي أقبل نفر منهم حتي وردوا حوض رسول اللّه (ص) فأراد بعض أن يمنعوهم. فقال رسول اللّه (ص): دعوهم، فشربوا منه.

وقال أبو جهل لما رأي قلّة المسلمين وبساطة أسلحتهم: ما هم إلا أكلة رأس، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد.

فقال عتبة بن ربيعة: أتري لهم كميناً ومدداً؟

فبعثوا عمرو بن وهب الجمحي وقالوا له: احزر لنا أصحاب محمد، وكان فارساً شجاعاً، فجال بفرسه حول العسكر، ثم صعد في الوادي وصوّب ثم رجع إلي قريش فقال: ثلاثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصونه، ولكن أمهلوني حتي أنظر أللقوم كمين أو مدد، فضرب في بطن الوادي حتي أبعد فلم ير شيئاً، فرجع اليهم فقال: ما رأيت شيئاً، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، أما ترونهم خرس لا يتكلّمون، يتلمضون تلمض الأفاعي، انهم قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم، واللّه ما أري أن يقتل رجل منهم حتي يقتل رجل منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فارتأوا رأيكم.

فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشي في الناس فأتي عتبة بن ربيعة فأشار عليه أن يرجع الناس ولا يكون بينهم حرب، فوافقه عتبة بن ربيعة، وقام عتبة في الناس خطيباً وأشار عليهم بالرجوع، فأبي أبو جهل ذلك وساعده عليه المشركون.

بوادر الهزيمة في المشركين

ولما كان من دأب الإسلام وسيرة رسوله العظيم (ص) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام)، أن لا يبدأوا أحداً بالقتال، لذلك بعث رسول اللّه (ص) إلي قريش من يقول لهم: يا معشر قريش ما أحد أبغض إليَّ من أن أبدأ بكم، فخلّوني والعرب، فإن أك صادقاً فأنتم أعلي بي عيناً، وإن أك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمري فارجعوا.

فقال

عتبة: واللّه ما أفلح قوم قطّ ردّوا هذا.

ثم ركب جملاً له أحمر، فنظر إليه رسول اللّه (ص) يجول في العسكر وينهي عن القتال، فقال (ص): إن يكن عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا.

فأقبل عتبة يقول: يا معشر قريش اجتمعوا واسمعوا، ثم خطبهم فقال: يمن مع رحب، ورحب مع يمن، يا معشر قريش أطيعوني اليوم، واعصوني الدهر، وارجعوا إلي مكة واشربوا الخمور، وعانقوا الحور، فإنّ محمّداً له إلّ وذمّة وهو ابن عمّكم، فارجعوا ولا تردّوا رأيي، وانما تطالبون محمّداً بالعير التي أخذها بنخلة ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعليَّ عقله.

فلما سمع أبوجهل ذلك غاظه وقال: ان عتبة أطول الناس لساناً وأبلغهم في الكلام، ولئن رجعت قريش بقوله ليكوننّ سيّد قريش إلي آخر الدهر.

ثم قال: يا عتبة نظرت إلي سيوف بني عبدالمطلب وجبنت، وتأمر الناس بالرجوع؟

فأخذه عتبة بشعره، وكان أبوجهل علي فرس، فقال الناس: يقتله، فعرقب فرسه فقال: أمثلي يجبن؟ وستعلم قريش اليوم أيّنا الألئم والأجبن، وأينا المفسد لقومه، لايمشي إلا أنا وأنت إلي الموت عياناً، ثم أخذه بشعره يجرّه.

فاجتمع الناس إليه وقالوا: يا أبا الوليد لاتفتّ في اعضاد الناس تنهي عن شيء تكون أوله، فخلصوا أباجهل من يده.

فبعث من فوره إلي عامر أخي عمرو بن الحضرمي الذي قتل بنخلة وقال له: هذا حليفك عتبة يريد أن يرجع بالناس، فقم وانشد خفرتك ودم أخيك.

فقام عامر وكشف عن رأسه وصاح: واعمراه، فهاج الناس وأجمعوا علي الحرب.

الحرب: القرار الأخير

ولما انتهي الأمر إلي ما انتهي إليه، نظر عتبة إلي أخيه شيبة وإلي ابنه الوليد وقال لهما: قوما ثم لبس درعه وطلبوا له بيضة تسع رأسه فلم يجدوها لعظم هامته، فاعتجر بعمامتين ثم أخذ سيفه وتقدّم هو وأخوه

وابنه حتي انفصلوا من الصف ونادوا: ليخرج إلينا أكفاؤنا من قريش.

فخرج إليهم فتية من الأنصار وهم: عوف، ومعوذ، ابنا حارث واُمهما عفراء وعبداللّه بن رواحة.

فقالوا: من أنتم؟

قالوا: رهط من الأنصار.

قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادي مناديهم: يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.

فقال رسول اللّه (ص): قم يا عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب، وكان له سبعون سنة، وقم يا حمزة بن عبدالمطلب، وقم يا علي بن أبي طالب، وكان أصغرهم سنّاً، فقاموا بين يدي رسول اللّه (ص) بسيوفهم.

فقال لهم: اطلبوا بحقّكم الذي جعله اللّه لكم، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفيء نور اللّه، (ويأبي اللّه إلاّ أن يتمّ نوره)(4).

ثم قال: يا عبيدة عليك بعتبة، ويا حمزة عليك بشيبة، ويا علي عليك بالوليد بن عتبة.

فمرّوا حتي انتهوا إلي القوم.

فقال عتبة: من أنتم انتسبوا حتي نعرفكم؟

فعرّفوا أنفسهم.

فقالوا: أنتم أكفاء كرام.

فبارز عبيدة وكان أسنَّ القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي (ع) الوليد.

فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله.

وأمّا علي (ع) فلم يمهل الوليد أن قتله.

واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه، فكرّ حمزة وعلي بأسيافهما علي عتبة فدفّفا عليه، واحتملا صاحبهما حتي أتيا به رسول اللّه (ص) وبه رمق، فلما نظر إليه رسول اللّه (ص) استعبر.

فقال عبيدة: بأبي أنت واُمّي يا رسول اللّه ألستُ شهيداً؟

فقال (ص): بلي أنت أول شهيد من أهل بيتي.

فقال: أما لو كان عمك حياً لعلم اني أولي بما قال.

قال: وأيّ أعمامي تعني؟

قال: أبو طالب (ع) حيث يقول:

كذبتم وبيت اللّه نبزي محمداً ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتي نصرّع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال له رسول اللّه (ص): أما تري ابنه كالليث العادي بين يدي اللّه ورسوله، وابنه

الآخر في جهاد اللّه بأرض الحبشة؟

جنود الرحمن وجنود الشيطان يتقابلان

واصطف الجيشان وجاء إبليس إلي قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: أنا جار لكم ادفعوا إليَّ رايتكم، فدفعوها إليه وجاء بشياطينه يهول بهم علي أصحاب رسول اللّه (ص) وتزاحف الناس علي أثره ودنا بعضهم من بعض.

فأمر رسول اللّه (ص) أصحابه أن لايحملوا حتي يأمرهم، وأن يكتفوا برمي القوم بالنبال حتي لايقتربوا منهم، ثم رفع يده إلي السماء يناشد ربّه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول:

(اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم فلن تعبد في الأرض أبداً، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد).

فأنزل اللّه تعالي: (إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم انّي ممدّكم بألف من الملائكة مردفين)(5) فأمدّه اللّه بالملائكة، حتي سمع الناس قعقعة السلاح من الجوّ، وقائل يقول: اقدم حيزوم، اقدم حيزوم، وكان ذلك جبرئيل في ألف من الملائكة مردفين، فلما نظر إبليس إلي جبرئيل تراجع ونكص علي عقبيه ورمي باللواء، فأخذ منبه بن الحجاج بمجامع ثوبه ثم قال: ويلك يا سراقة تفتّ في أعضاد الناس، فركله إبليس ركلة في صدره وقال: اني أري ما لاترون، حيث انه كان يري جبرئيل يلاحقه بحربة معه يريد أن يطعنه بها.

المشركون ينهزمون

ثم حرض رسول اللّه (ص) الناس علي القتال وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله اللّه الجنّة.

فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهنّ: بخ بخ، فما بيني وبين أنْ أدخل الجنّة إلاّ أن يقتلني هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتي قتل (رحمه اللّه).

ثم إنّ رسول اللّه (ص) أخذ حفنة من الحصي فاستقبل بها قريشاً ثم قال: شاهت الوجوه، ثم نفحهم بها، وأمر أصحابه فقال: شدوا، فكانت

الهزيمة.

فقال رسول اللّه (ص) وقد رفع يديه إلي السماء: (اللّهمّ لا يفلتنّ فرعون هذه الاُمّة أبو جهل بن هشام) فقتل فيها مع من قتل من صناديد قريش، واُسر فيها من اُسر من رؤوسهم، فكان الذين قتلوا سبعين، والذين اُسروا سبعين أيضاً.

مصير أبي جهل

روي عن بعض من شهد بدر انه قال: إني لواقف يوم بدر في الصف، إذ التفتّ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السنّ، فكأنّي لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرّاً من صاحبه: يا عم أرني أباجهل.

فقلت: يا ابن أخي فما تصنع به؟

قال: اُخبرت أنه يسبّ رسول اللّه (ص) ثم أردف يقول: والذي نفسي بيده لئن رأيته لايفارق سوادي سواده حتي يموت الأعجل منّا، فتعجّبت لذلك.

قال: وغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلي أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكم الذي تسألاني عنه.

قال: فابتدراه بسيفهما فضرباه حتي قتلاه، ثم انصرفا إلي رسول اللّه (ص).

فقال (ص): أيّكما قتله؟

فقال كل واحد منهما: أنا قتلته.

قال: هل مسحتما سيفيكما؟

فقالا: لا.

فنظر رسول اللّه (ص) إلي السيفين فقال: كلاّ كلاكما قتله.

وقضي رسول اللّه (ص) بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء.

وفي رواية: ان معاذ بن عفراء ضرب أبا جهل هو وأخوه عوف بن الحارث حتي أثبتاه، فعطف عليهما فقتلهما، ثم وقع صريعاً، فدفّف عليه ابن مسعود وذلك كما قال: انتهيت إلي أبي جهل وهو يتشحّط في دمه فقلت: الحمد للّه الذي أخزاك.

فرفع رأسه فقال: انما أخزي عبد ام عبد، أخبرني لمن الدائرة اليوم؟

قلت: للّه ولرسوله (ص)، واني قاتلك، ووضعت رجلي علي عاتقه.

فقال: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً، أما انه ليس واللاّت والعزّي شيء أشدّ من

قتلك إيّاي يا رويعيّ الغنم، ألا تولّي قتلي رجل من المطّلبين أو رجل من الأحلاف، فاقتلعت بيضة كانت علي رأسه فقتلته وأخذت رأسه وجئت به إلي رسول اللّه (ص) فقلت: يا رسول اللّه البشري هذا رأس أبي جهل، فسجد للّه شكراً.

لما ألقت الحرب أوزارها

ولما انقضت الحرب أقبل رسول اللّه (ص) حتي وقف علي قتلي المشركين فقال: جزاكم اللّه من عصابة شراً، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيّكم، كذّبتموني وصدّقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس.

ثم التفت (ص) إلي أبي جهل فقال: ان هذا أعتي علي اللّه من فرعون، انّ فرعون لما أيقن بالهلاك وحّد اللّه، وانّ هذا لما أيقن بالهلاك دعا باللاّت والعزّي.

ثم أمر بهم فاُلقوا في القليب، فلما اُلقوا فيه وقف عليهم وقال: (يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا اُمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام، وذكر أهل القليب واحداً واحداً، ثم قال: هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟ فإنّي قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقاً).

فقال رجل من الصحابة: أتكلّم قوماً موتي؟

فقال (ص): (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يُجيبوني).

ثم دفنوا شهداء المسلمين وكانوا تسعة رجال فيهم سعد بن خيثمة، وكان من النقباء بعد أن صلّوا عليهم، ثم صلّي رسول اللّه (ص) بالناس صلاة العصر ورحلوا من بدر.

في طريق العودة

ولما غادر رسول اللّه (ص) بأصحابه منطقة بدر متّجهاً نحو المدينة حمل معه الاُساري من المشركين وفيهم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، وحمل أيضاً معه الغنائم التي اغتنموها، والنفل الذي اُصيب من المشركين، وجعل علي النفل عبداللّه بن كعب بن عمرو بن عوف المازني من بني النجار، حتي إذا كان بالصفراء قسم الغنائم بين أصحابه بالسويّة وادّخر سهم الشهداء ليُسلّمها إلي ذويهم.

ثم دخل رسول اللّه (ص) المدينة مع أصحابه مؤيداً مظفراً منصوراً قد هاب جانب المسلمين كل عدوّ لهم بالمدينة وحولها، كما وأسلم بشر كثير من أهل المدينة ممّن لم يكن أسلم بعد، وحينئذ دخل عبداللّه

بن اُبيّ رأس المنافقين وأصحابه في الإسلام.

مع أسري بدر

ثم انّ رسول اللّه (ص) حين أقبل بالاُساري فرّقهم بين أصحابه وقال: استوصوا بالاُساري خيراً..

فكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه واُمّه في الاُساري، وكان يحمل أحد ألوية قريش، وكان يقول بعد أن اُطلق سراحه بالفداء: كنتُ أسيراً في أيدي رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدّموا غداءهم أو عشاءهم خصّوني بالخبز، وأكلوا التمر، والخبز عندهم قليل، والتمر زادهم، وذلك لوصية رسول اللّه (ص) بنا.

وما تقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها. فأستحي فأردها عليهم، فيردها عليَّ ما يمسّها، كما انهم كانوا لقلّة مراكبهم يحملوننا علي ما عندهم من مركب ويمشون هم بأنفسهم.

مع العباس بن عبد المطلب

ولما جنّهم الليل وولي بعض الصحابة وثاق الأسري فشدّ وثاق العباس، فسمعه النبي (ص) وهو يئن فلم يأخذه (ص) النوم، فبلغ الأنصار فأطلقوا العباس، فكان الأنصار فهموا رضاء رسول اللّه (ص) بفك وثاقه، وسألوه أن يتركوا له الفداء، فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن اُختنا عباس فداءه.

وفي حديث ابن عباس: انه (ص) قال: يا عباس افد نفسك وابني أخويك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمر.

فقال: إنّي كنتُ مسلماً، ولكن القوم استكرهوني.

قال: اللّه أعلم بما تقول، إن يكن ما تقول حقاً فاللّه يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا.

قال: ما ذاك عندي يا رسول اللّه.

قال: فأين المال الذي دفنته عند اُم الفضل فقلت: إن أصبت فالمال الذي دفنته للفضل وعبداللّه وقثم.

قال: واللّه يا رسول اللّه إني لأعلم أنك رسول اللّه، انّ هذا شيء ما علمه أحد غيري وغير اُم الفضل، فاحسب لي يا رسول اللّه ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي.

قال رسول اللّه

(ص): ذاك شيء أعطانا اللّه منك، ففدي نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنزل اللّه فيه: (يا أيّها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسري إن يعلم اللّه في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم)(6).

بين المنّ والفداء

وكان الفداء من أربعة آلاف درهم إلي ثلاثة آلاف درهم إلي ألفي درهم إلي ألف درهم، إلي قوم لامال لهم منّ عليهم رسول اللّه (ص).

وأسر رسول اللّه (ص) يوم بدر سبعين أسيراً، وكان يفاديهم علي قدر أموالهم، وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لايكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلّمهم، فإذا حذقوا فهو فداؤه.

وممّن منّ عليه رسول اللّه (ص): المطلب بن حنطب، وصيفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الجمحي، وأخذ عليه أن لايظاهر عليه أحداً، وكان محتاجاً ذابنات، فقال: يا رسول اللّه لقد عرفت مالي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن عليَّ، فمنّ عليه رسول اللّه (ص) وأخذ عليه أن لايظاهر عليه أحداً.

النبي (ص) يستوهب فداء صهره

وممّن منّ عليه رسول اللّه (ص) أبو العاص بن الربيع زوج زينب ابنته بعد أن بعثت زينب بنت رسول اللّه (ص) بفدائه، وكان فيما بعثت به: قلادة كانت خديجة اُمّها أهدتها لها ليلة زفافها، فلمّا رأي رسول اللّه (ص) القلادة تذكّر زوجته الوفيّة خديجة(ع) فرقّ لها وبكي.

ثم التفت (ص) إلي المسلمين وقال: إن رأيتم أن تطلقوا سراح أسيرها وتردّوا عليها ما بعثت به من الفداء فافعلوا.

أي: انه (ص) لم يفرض رأيه عليهم مع ان القرآن يقول: (النبيّ أولي بالمؤمنين من أنفسهم)(7) وبذلك أعرب عن حرية الإسلام ورسم سياسته الحكيمة.

فقال المسلمون: نعم يا رسول اللّه نفديك بأنفسنا وأموالنا، فردّوا عليها ما بعثت به، وأطلقوا سراح أبي العاص بغير فداء، فشكرهم رسول اللّه (ص) علي ذلك.

هذا، وكان رسول اللّه (ص) قد أخذ عليه، أو انه وعد رسول اللّه (ص) أن يخلي سبيل زينب، فلما خرج أبوالعاص إلي مكة بعث رسول اللّه (ص) زيد بن حارثة

ورجلاً من الأنصار فقال: كونا ببطن يأجج حتي تمرّ بكما زينب فتصحباها حتي تأتياني بها. فخرجا نحو مكة، وذلك بعد بدر بشهر.

فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، فتجهّزت وخرجت، فتعرّض لها هبار بن الأسود وروّعها بالرمح وهي في الهودج، وكانت حاملاً، فألقت ما في بطنها، فأمر رسول اللّه (ص) بقتله، فلم يظفروا به حتي إذا كان يوم الفتح هرب ثم قدم مختفياً، فلما مثل بين يدي رسول اللّه (ص) أسلم، فقبل (ص) اسلامه وعفا عنه.

النهي عن التعذيب والمُثلة

وقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو، وكان الذي أسره مالك بن الدخشم، وفداه بأربعة آلاف درهم.

وذكر ابن اسحاق أنّ رجلاً من الصحابة قال: يا رسول اللّه دعني انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً.

فقال رسول اللّه (ص): لا اُمثل به، فيمثل اللّه بي وإن كنت نبياً.

وفي حديث: انّ رسول اللّه (ص) قال في جوابه: انه عسي أن يقوم مقاماً لا نذمه.

بؤرة التآمر والبخل

اشترك في بدر لأبي سفيان ولدان: حنظلة وعمرو ابنا أبي سفيان، أما حنظلة فقد قتل، وأما عمرو فقد وقع أسيراً في يدي رسول اللّه (ص).

فقيل لأبي سفيان: افد عمرواً ابنك.

فقال: يجمع عليّ دمي ومالي، قتلوا حنظلة، واُفدي عمرواً، دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم.

فبينما هو كذلك إذ خرج سعد بن النعمان أخو بني عمرو بن عوف معتمراً، فعدا عليه أبوسفيان فحبسه بابنه عمرو، وقد كان عهد قريش لا يتعرضون لأحد جاء حاجاً أو معتمراً إلا بخير.

ومشي بنو عمرو بن عوف إلي رسول اللّه (ص) فأخبروه خبره وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان، فيفكوا به صاحبهم، ففعل رسول اللّه (ص)، فبعثوا به إلي أبي سفيان فخلي سبيل سعد.

المشركون وأنباء الحرب

وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش: الحيسمان بن عبداللّه الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟

قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبوالحكم بن هشام، واُمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبوالبختري بن هشام.

فلما جعل يعدّ أشراف قريش قال صفوان بن اُمية وهو قاعد في الحجر مستنكراً عليه ذلك: واللّه إن يعقل هذا فاسألوه عنّي.

قالوا: ما فعل صفوان بن اُمية؟

قال: ها هو ذا جالس في الحجر، وقد واللّه رأيت أباه وأخاه حين قتلا.

مصير أبي لهب

وفي حديث أبي رافع وكان غلاماً للعبّاس انه قال: لما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر سررنا بذلك، لأنا كنا قد أسلمنا من قبل، وكنت جالساً في حجرة زمزم أنحت السهام وأصنعها، وعندي اُم الفضل جالسة، إذ أقبل أبولهب وهو يجرّ رجليه بشرّ حتي جلس.

فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا ابن أخيك أبوسفيان بن الحارث بن عبدالمطلب قدم من بدر.

قال: فقال أبو لهب: هلم إليَّ، فعندك لعمري الخبر.

قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟

قال: واللّه ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وأيم اللّه مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضاً علي خيل بلق بين السماء والأرض، واللّه ما تبقي شيئاً ولا يقوم لها شيء.

قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة ثم قلت وكان الإسلام قد دخلنا وسرّنا ذلك: تلك واللّه الملائكة.

فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي ضربة شديدة.

فقامت اُم الفضل إلي عمود فضربت به في رأس أبي لهب وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيّده؟

قال: فواللّه ما عاش أبو لهب بعدها إلا سبع ليال حتي رماه اللّه بالعدسة وهي قرحة تتشاءم بها العرب

فتباعد عنه بنوه حتي هلك، وبقي ثلاثة أيام لا يقرب أحد جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتي واروه.

وكان فراغ رسول اللّه (ص) من بدر في عقب رمضان وأوائل شوّال، وفي أول شوّال صلّي (ص) صلاة الفطر.

1 الأنفال: 42. 2 الأنفال: 47. 3 المائدة: 24.

4 التوبة: 32. 5 الأنفال: 9. 6 الأنفال: 70.

7 الأحزاب: 6.

غزوة بني سُليم

وبعد بدر بسبعة أيام، خرج رسول اللّه (ص) في ثلاثمائة من الصحابة يريد بني سُليم، حيث كانوا يعيثون في الأرض فساداً ويستعدّون لشنّ هجوم علي المدينة.

فبلغ (ص) ماء يقال له: قرقرة الكدر، وهي أرض ملساء، والكُدر: طير في لونها كدرة، فأقام بها ثلاث ليال وقيل: عشراً، فلم يلق حرباً، وذلك بعد أن استخلف علي المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وقيل: ابن اُم مكتوم، وحمل اللواء علي بن أبي طالب (ع)، وقيل: إنه أصاب لهم نعماً يزيد علي خمسمائة وغلاماً يقال له يسار فأعتقه، ورجع ولم يلق كيداً.

وكانت هذه الغزوة من غزواته التأديبية.

غزوة بني القينقاع

ثم كانت غزوة بني قينقاع بطن من يهود المدينة في يوم السبت للنصف من شوال علي رأس عشرين شهراً من الهجرة النبوية المباركة، وكانوا أول من نقض العهد، فجمعهم رسول اللّه (ص) في سوق بني قينقاع وقال لهم:

(يا معشر اليهود احذروا من اللّه مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا، فإنكم قد عرفتم اني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد اللّه إليكم).

فقالوا: يا محمد لا يغرنّك انك لقيت قومك فأصبت منهم، ولا علم لهم بالحرب، فإنا واللّه لو حاربناك لعلمت انا خلافهم.

فكادت تقع بينهم المناجزة فنزل فيهم: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلي جهنّم وبئس المهاد، قد كان لكم آية في فئتين التقتا…)(1) إلي آخر الآية.

فبينما هم علي ما أظهروه من العداوة ونبذ العهد إذ جاءت امرأة رجل من الأنصار فجلست إلي صائغ في حلي لها، فجاء أحد بني قينقاع فعمد إلي طرف ثوبها فعقده إلي ظهرها وهي لا تعلم، فلما قامت انكشفت فصاحت، فضحكوا منها، فاتبعه رجل من المسلمين فقتله، فاجتمع عليه بنو قينقاع فقتلوه ونبذوا عهدهم ووقع الشر بين المسلمين

وبين بني قينقاع، فنزل فيهم: (وامّا تخافنّ من قوم خيانة، فانبذ إليهم علي سواء انّ اللّه لا يحبّ الخائنين)(2).

فسار إليهم النبي (ص) وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلي هلال ذي القعدة وكان اللواء بيد حمزة بن عبدالمطلب، وكان أبيض، فقذف اللّه في قلوبهم الرعب، فنزلوا علي حكم رسول اللّه (ص) علي ان له أموالهم، وان لهم النساء والذرّية.

فأمر (ص) المنذر بن قدامة بتكتيفهم، فتوسّط لهم عبداللّه بن اُبيّ وألحّ عليه من أجلهم.

فقال (ص): خلوهم، وأمر أن يجلوا من المدينة وتركهم من القتل، فأجلاهم محمد بن سلمة الأنصاري، وقيل: عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات الشام بنسائهم وذراريهم فلم يلبثوا إلاّ قليلاً حتي هلكوا، وأما أموالهم فخمّسها رسول اللّه (ص) وقسّم الباقي بين أصحابه.

غزوة السويق

ولما رجع رسول اللّه (ص) من غزوة بني القينقاع، أقام بالمدينة بقية شوال، وذي القعدة، وفادي في إقامته جلّ اُساري بدر من قريش، ثم كانت غزوة السويق.

وذلك ان أبا سفيان بن حرب كان نذر أن لا يمس رأسه من جنابة حتي يغزو محمداً (ص) فخرج في مائتي راكب من قريش ليبرّ نذره حتي نزل بصدر قناة إلي جبل يقال له: (نبت) وكان من المدينة علي بريد أو نحوه.

ثم خرج من الليل حتي أتي بني النضير تحت الليل، فأتي حُيي بن أخطب فضرب عليه بابه فأبي أن يفتح له وخاف.

فانصرف منه إلي سلام بن مشكم، وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك، وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه وبطن له من خبر الناس.

ثم خرج في عقب ليلته حتي أتي ناحية يقال لها: (العريض) فوجد فيها رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلهما، ثم حرق بيتاً وحرثاً لهم، ثم ولّي هارباً خوفاً

من ملاحقة المسلمين، وقد رأي فيما فعله براً لنذره.

فلما سمع رسول اللّه (ص) بذلك انتدب أصحابه وخرج في طلبهم حتي بلغ قرقرة الكُدر، ثم انصرف راجعاً وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وطرحوا كثيراً من أزوادهم، كالسويق وغيره، يتخففون منها للنجاء، فأخذها المسلمون، فسميت غزوة السويق.

فقال المسلمون: يا رسول اللّه أتطمع بأن تكون لنا غزوة؟ قال: نعم.

غزوة ذي أمَر

ولما رجع رسول اللّه (ص) من غزوة السويق، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريباً منها، ثم غزا نجداً يريد غطفان.

وذلك لأن جمعاً من غطفان تجمّعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة ويغيروا عليها، وقد جمعهم رجل يقال له: دعثور بن الحارث المحاربي.

فندب رسول اللّه (ص) المسلمين وخرج بهم في أربعمائة وخمسين رجلاً، ومعهم أفراس.

فلما سمعوا بمهبطه هربوا في رؤوس الجبال، فأصاب المسلمون رجلاً منهم يقال له: جبار من بني ثعلبة، فأدخل علي رسول اللّه (ص)، فدعاه إلي الإسلام فأسلم وضمه إلي بلال.

وأصاب النبيّ (ص) مطر فبلّ ثوبه، فجعل وادي أمر بينه وبين أصحابه، ثم نزع ثيابه ونشرها علي شجرة لتجفّ، واضطجع تحتها وغطفان ينظرون إليه، فقالوا لدعثور وكان أشدّهم فتكاً: قد انفرد محمد فعليك به، فأقبل ومعه سيف صارم حتي قام علي رأسه (ص) فقال: من يدفعك منّي اليوم؟

فقال (ص): اللّه، ودفع جبرئيل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه النبي (ص) وقام علي رأسه وقال: من يمنعك منّي؟

قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّك محمد رسول اللّه، ثم قال: واللّه لا أكثر عليك جمعاً أبداً، فأعطاه رسول اللّه (ص) سيفه.

وعلي رواية: قال (ص) له: من يمنعك منّي؟ فقال: عفوك يا محمّد، فأعطاه (ص) سيفه، فأسلم الرجل.

ثم أتي قومه فدعاهم إلي الإسلام، فأسلم منهم

ناس كثير، وأنزل اللّه تعالي: (يا أيّها الّذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفَّ أيديهم عنكم) الآية.

سريّة محمد بن مسلمة

ثم انه لما انتصر المسلمون في غزوة بدر علي أعدائهم المشركين وأسروا منهم سبعين، وقتلوا من صناديدهم ورؤوسهم سبعين، وألقوهم في القليب، قدم زيد بن حارثة بشيراً إلي أهل السافلة وعبداللّه بن رواحة إلي أهل العالية يبشران بالفتح.

فقال كعب بن الأشرف وهو من نبهان من طي وكانت اُمه من بني النضير: أترون محمداً قتل هؤلاء؟ ان هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، واللّه إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما أيقن كعب الخبر خرج حتي قدم مكة فنزل علي المطلب بن أبي وداعة السهمي، وجعل يحرّض علي رسول اللّه (ص) وينشد الأشعار ويبكي علي أصحاب القليب، ويشبّب بنساء المسلمين حتي آذاهم، ثم انبعث يهجو رسول اللّه (ص) والمسلمين، ويمدح عدوّهم ويحرضهم عليهم.

فقال له أبو سفيان والمشركون: أديننا أحبّ إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأيّ ديننا أهدي في رأيك وأقرب إلي الحق؟

فقال: أنتم أهدي منهم سبيلاً وأفضل.

ثم تحالف معهم وتعاقد علي أن تكون كلمتهم واحدة علي محمد (ص) وأخذ بعضهم علي بعض الميثاق بين الأستار والكعبة.

ثم رجع كعب بن الأشرف إلي المدينة فنزل جبرئيل (ع) وأخبر النبي (ص) بما تعاقد عليه كعب وأبوسفيان وأمره بقتل كعب.

فقال رسول اللّه (ص) وقد عاد كعب إلي المدينة: من لنا بابن الأشرف، فإنه قد آذي اللّه ورسوله، وقد استعلن بعداوتنا وهجائنا، وقد خرج إلي قريش فأجمعهم علي قتالنا، وقد أخبرني اللّه بذلك، ثم قدم بأخبث ما كان ينتظر قريشاً تقدم عليه فيقتلنا، ثم قرأ علي المسلمين ما أنزل اللّه فيه: (ألم تر

إلي الّذين اُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطّاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدي من الّذين آمنوا سبيلاً، اُولئك الذين لعنهم اللّه ومن يلعن اللّه فلن تجد له نصيراً)(3).

فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول اللّه أتأذن لي أن أقتله؟

قال: نعم، إنّ اللّه قد أذن في قتله.

فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاه إلي الحصن، فنزل إليهم، فقتلوه، ثم أتوا النبيّ (ص) فأخبروه بقتله، وكفي اللّه المسلمين شرّ حرب كان يريد كعب ايقادها، وكان ذلك لأربع عشرة ليلة مضت من ربيع الأول.

سرية زيد بن حارثة

ثم بعث رسول اللّه (ص) زيد بن حارثة في مائة راكب إلي (القَرْدَة) (بالقاف المفتوحة والراء الساكنة) اسم ماء من مياه نجد، وذلك بعد رجوعه من بدر إلي المدينة بستةأشهر، أي أوائل ربيع الثاني، وقيل: أوائل جمادي الآخرة علي رأس سبعة وعشرين شهراً من الهجرة النبوية المباركة.

وسببه ان قريشاً خافوا من طرقهم التي كانوا يسلكون إلي الشام حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، وكان فيهم أبوسفيان بن حرب ومعهم فضة كثيرة، وكانوا قد استأجروا رجلاً من بكر بن وائل يقال له: فرات بن حيّان يدلّهم علي الطريق، فلقيهم زيد ومن معه علي ماء يقال له: (القَرْدَة)، فأصاب تلك العير وما فيها وأعجزته الرجال هرباً، فقدم بها علي رسول اللّه (ص) مع أسير أو أسيرين كان أحدهم فرات بن حيان، فأسلم فترك، وأما الأموال فخمست وقسمت بقيّتها بين أهل السريّة.

وكانت هذه حملات تأديبية، ولكي يقابل قريش بالمثل حيث ضربوا علي المدينة حصاراً اقتصادياً كما أشرنا إليه سابقاً.

سرية عبداللّه بن عتيك

لما قتل المسلمون في سرية محمد بن مسلمة كعب بن الأشرف وكانوا من الأوس، قالت الخزرج: واللّه لاتذهب الأوس بهذه الفضيلة علينا، وأخذوا يتذاكرون من يعادي رسول اللّه (ص) كابن الأشرف، فذكروا أبا رافع سلام بن أبي الحقيق، وكان من يهود خيبر، وكان يظاهر كعب بن الأشرف علي رسول اللّه (ص) ويحرض المشركين عليه، ففكروا في قتله ليضاهوا في الفضل نظرائهم من الأوس، فاستأذنوا رسول اللّه (ص) في قتله، فأذن لهم.

فخرج إليهم من الخزرج: عبداللّه بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبداللّه بن أنيس، وأبو قتادة، وخزاعي ابن الأسود حليف لهم، وأمّر عليهم عبداللّه بن عتيك، فخرجوا حتي قدموا خيبر، فأتوا دار أبي رافع، فدخلوا عليه

فقتلوه وخرجوا وكان ذلك في جمادي الآخرة.

1 آل عمران: 12 و 13. 2 الأنفال: 58. 3 النساء: 51 و 52.

غزوة اُحُد

و(اُحُد) جبل مشهور بالمدينة علي أقل من فرسخ منها، ويسمّي بذلك لانفراده وانقطاعه عن جبال اُخر هناك، ويقال له: (ذو عينين) أيضاً، وهو الذي قال فيه رسول اللّه (ص) حين وقع نظره إليه: اُحُد جبل يحبّنا ونحبّه، وكانت عنده الوقعة المشهورة في شوال في السنة الثالثة من الهجرة النبوية المباركة.

وذلك لأنّ قريشاً لما رجعوا من بدر إلي مكة وقد اُصيبوا بأصحاب القليب، منعهم أبوسفيان من البكاء والنوح علي قتلاهم ليبقوا علي حنقهم وغيظهم ويفكّروا في الثأر لقتلاهم، وقال تأكيداً لذلك: الدهن والنساء عليَّ حرام حتّي أغزو محمداً.

وبقوا يستعدون لذلك، حتي قال صفوان بن اُمية، وعكرمة بن أبي جهل في جماعة ممن اُصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر: يا معشر قريش، إنّ محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال علي حربه يعنون عير أبي سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة لعلنا أن ندرك منه ثأراً.

فأجابوا لذلك فباعوها وكانت ألف بعير والمال خمسين ألف دينار، وفيهم أنزل اللّه تعالي: (انّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل اللّه، فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ثمّ يغلبون والذين كفروا إلي جهنّم يحشرون)(1).

رسالة من مكة

ولما اجتمعت قريش لحرب رسول اللّه (ص) كتب العباس بن عبدالمطلب وهو في مكّة كتاباً يخبر رسول اللّه (ص) بخبرهم، واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يقطع الطريق إلي المدينة في ثلاثة أيام، ويوصل الرسالة إلي رسول اللّه (ص).

فلما قدم الغفاري المدينة كان رسول اللّه (ص) في بعض حيطانها فقرأه ولم يخبر أصحابه وأمرهم أن يدخلوا المدينة، فلما دخلوا المدينة أخبرهم بالخبر.

النبي (ص) يستشير أصحابه

فلما فشي الخبر في الناس جمع رسول اللّه (ص) أصحابه يستشيرهم في مواجهة المشركين، فقال (ص): أشيروا عليّ، ورأي علي رواية أن لايخرج من المدينة.

فقال بعضهم: يا رسول اللّه ان مدينتنا عذراء ما فضّت علينا قط، وما خرجنا إلي عدوّ منها قط إلا أصاب منا، وما دخل علينا قط إلا أصبناهم، يعني بذلك: عدم الخروج من المدينة.

وقال بعضهم: يا رسول اللّه إنّا نخشي أن يظن عدوّنا انا نكره الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا.

وقال حمزة: والذي اُنزل عليه الكتاب لا اطعم اليوم طعاماً حتي اُجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة.

وكان هذا رأي الأكثرية، فعزم رسول اللّه (ص) علي الخروج، فصلّي بالناس الجمعة ثم وعظهم وأمرهم بالجدّ والإجتهاد، وأخبر أنّ لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيّؤ لعدوّهم، ففرح الناس بذلك.

ثم صلّي (ص) بالناس العصر وقد تحشدوا، وحضر أهل العوالي، واصطف الناس ينتظرون خروجه، فلبس (ص) السلاح وخرج.

الخروج إلي اُحُد

ولما خرج (ص) إلي اُحُد عقد ثلاثة ألوية: لواء الأوس بيد اسيد بن حضير، ولواء المهاجرين بيد علي بن أبي طالب (ع)، ولواء الخزرج بيد الحباب بن المنذر، وفي المسلمين مائة دارع، وخرج السعدان أمامه يعدوان دارعين، واستعمل علي المدينة ابن اُمّ مكتوم، وعلي الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة، وأدلج (ص) في السحر، وكان قد ردّ جماعة من المسلمين لصغرهم، منهم اُسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزم.

وكان المسلمون ألف رجل ويقال: تسع مائة، والمشركون ثلاثة آلاف رجل، ويقال: أربعة آلاف أو خمسة آلاف، فيهم سبعمائة دارع ومائتا فارس، وخمس عشرة امرأة من بينهم هند، وهي ترتجز وتقول أشعاراً.

وكان أبو سفيان

قد استأجر يوم اُحُد ألفين من الأحابيش يقاتل بهم المسلمين.

ونزل (ص) باُحُد، ورجع عنه عبداللّه بن اُبيّ بنحو ثلث العسكر فيمن تبعه من قومه وحلفائه، فتبعهم عبداللّه بن عمرو بن حرام والد جابر يوبّخهم ويحرضهم علي الرجوع ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل اللّه أو ادفعوا.

قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم وتركهم.

التقاء الجمعين

ونفذ رسول اللّه (ص) حتي نزل الشعب من اُحُد في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلي اُحد مستقبلاً المدينة، ونهي الناس عن القتال حتي يأمرهم.

وكان أبو سفيان قد نزل بطن الوادي من قبل اُحد مقابل المدينة، نزل بها يوم الخميس، بينما نزل رسول اللّه (ص) باُحُد يوم الجمعة.

فلما أصبح يوم السبت تعبأ (ص) للقتال، وكان فيهم خمسون فارساً، فسوّي الصفوف، وبوّأ كلاً منهم مكانه، وخطب فيهم خطبة بليغة حثهم فيها علي الثبات وحرضهم علي الجهاد والمقاومة، وكان ممّا جاء فيها: وما من ملك إلا وله حمي، ألا وان حمي اللّه محارمه، والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد، إذا اشتكي تداعي عليه سائر جسده.

ثم انه (ص) جعل علي ثغرة كانت في جبل اُحُد جماعة من الرماة وكانوا خمسين رجلاً، فأمّر عليهم عبداللّه بن جبير وقال له: انضح الخيل عنا بالنبل، واحموا لنا ظهورنا لايأتونا من خلفنا، فإن رأيتمونا قد هزمناهم حتي أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتي أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم.

وقيل: انه (ص) قال لهم: فإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتي اُرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتي اُرسل إليكم.

ثم جعل (ص) علي راية المهاجرين علياً (ع) وعلي راية الأنصار سعد بن عبادة.

وتعبأت قريش فجعلوا علي ميمنتهم خالد بن

الوليد، وعلي الميسرة عكرمة بن أبي جهل.

وقيل: انّ أبا سفيان وضع خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناًًًًًًًًًًًًًًًً وقال له: إذا رأيتمونا قد اشتدّ القتال وحمي، واختلط بعضنا ببعض، فأخرجوا عليهم من هذا الشعب حتي تكونوا من ورائهم.

بدء القتال

ولما اصطف الجيشان كانت راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة من بني عبدالدار، فالتفت إليه أبوسفيان وقال له بعد أن عبأهم للقتال: إن كنتم ترون أنكم قد ضعفتم عنها، فادفعوها إلينا نكفكموها.

فغضب طلحة بن أبي طلحة وقال: ألنا تقول هذا؟ واللّه لاُوردنّكم بها اليوم حياض الموت، وكان طلحة هذا يسمّي (كبش الكتيبة) فبرز ونادي: يا محمّد تزعمون انكم تجهّزونا بأسيافكم إلي النار، ونجهّزكم بأسيافنا إلي الجنّة، فمن شاء أن يلحق بجنّته فليبرز إليّ، فأنا كبش الكتيبة طلحة بن أبي طلحة.

فبرز إليه علي (ع) وهو يقول:

يا طلح إن كنت كما تقول لكم خيولٌ ولنا نصولُ

فاثبت لننظر أيّنا المقتولُ وأيّنا أولي بما تقولُ

فقد أتاك الأسدُ الصؤولُ بصارم ليس به فلولُ

ينصره القاهر والرسول

فقال طلحة: من أنت؟

قال: أنا علي بن أبي طالب.

فقال طلحة: قد علمت يا قضم(2) انه لا يجسر عليّ أحد غيرك، فشدّ عليه طلحة فضربه، فأتقاه علي (ع) بالحجفة، ثم ضربه (ع) علي فخذيه فقطعهما جميعاً فسقط علي ظهره، وسقطت الراية، فذهب علي (ع) ليجهز عليه، فحلّفه بالرحم فانصرف (ع) عنه.

فقال المسلمون: الا أجهزت عليه؟

قال (ع): قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبداً.

فسرّ رسول اللّه (ص) وكبّر تكبيراً عالياً، وكبّر المسلمون.

ثم أخذ الراية أبو سعد بن أبي طلحة فقتله علي (ع) وسقطت رايته علي الأرض.

فأخذها عثمان بن أبي طلحة فقتله علي (ع) وسقطت الراية علي الأرض.

فأخذها مسافع بن أبي طلحة، فقتله علي (ع) وسقطت الراية علي الأرض.

فأخذها الحارث

بن أبي طلحة، فقتله علي (ع) وسقطت الراية علي الأرض.

فأخذها أبو عزيز بن عثمان، فقتله علي (ع) وسقطت الراية علي الأرض.

فأخذها عبداللّه بن أبي جميلة، فقتله علي (ع) وسقطت الراية علي الأرض.

فأخذها أرطاة بن شرحبيل فقتله علي (ع) وسقطت الراية علي الأرض.

فأخذها مولاهم صوأب، فضربه علي (ع) علي يمينه فقطعها، فأخذها بشماله، فضربه (ع) علي شماله فقطعها، فأخذها علي صدره وجمع يديه وهما مقطوعتان عليها، فضربه علي (ع) علي اُم رأسه فسقط صريعاً.

… فاشتدّ القتال إلي أن انهزم القوم، وولّوا مدبرين حتّي انتهوا إلي نسائهم، وأكبّ المسلمون علي الغنائم.

المشركون ينهزمون

فلما انهزم المشركون، وأكبّ المسلمون علي جمع الغنائم، ورأي أصحاب الشعب الذين أوكلهم رسول اللّه (ص) بحفظ الثغرة من خلفهم ان الناس يغنمون، قالوا: نريد أن نغنم كما يغنم الناس!

قال لهم عبداللّه بن جبير: انّ رسول اللّه (ص) أمرني أن لا أبرح من مكاني هذا.

فقالوا له: أمرك بهذا ما لم يبلغ الأمر إلي ما نري، ومالوا إلي الغنائم وتركوه، ولم يبرح هو ونفر قليل معه من موضعه، واشتغل الباقي بجمع الغنائم.

قالوا: ما ظفر اللّه نبيّه في موطن قط بما ظفره وأصحابه يوم اُحُد، حتّي عصوا الرسول (ص) وتنازعوا في الأمر.

المسلمون لما عصوا الرسول (ص)

ولما عصي المسلمون أمر رسول اللّه (ص) وتركوا الثغرة التي وكلهم بها، ولم يبق فيها سوي نفر قليل، حمل عليهم خالد بن الوليد فقتلهم، بعد أن تراموا بالنبال، وتطاعنوا بالرماح، وتقاتلوا بالسيوف، ثم جاء من ظهر رسول اللّه (ص) يريده، فنظر إلي النبي (ص) وهو في قلّة من أصحابه فقال لمن معه: دونكم هذا الذي تطلبون فشأنكم به.

وبصرت قريش في هزيمتها إلي الراية قد رفعت فلاذوا بها، فحملوا عليه (ص) حملة رجل واحد ضرباً بالسيوف، وطعناً بالرماح، ورمياً بالنبل، ورضخاً بالحجارة.

وجعل أصحاب رسول اللّه (ص) يقاتلون عنه حتي قتل منهم سبعون رجلاً، أربعة من المهاجرين: حمزة، ومصعب بن عمير، وعثمان بن شماس، وعبداللّه بن جحش، وسائرهم من الأنصار، فانهزم علي أثره الباقون، ولم يثبت للقوم إلاّ علي (ع)، وأبو دجانة، وسهل بن حنيف، يدفعون عن النبي (ص) وقد كثر عليهم المشركون.

فالتفت النبي (ص) إلي علي (ع) وقال: ما صنع الناس يا علي؟

قال (ع): كفروا يا رسول اللّه وولّوا الدبر من العدو واُسلموك.

قال: ما لك لاتذهب مع القوم؟

فقال: أذهب وأدعك يا رسول اللّه؟ أكُفر بعد ايمان؟!

انّ لي بك اُسوة واللّه لابرحت حتي اُقتل، أو ينجز اللّه لك ما وعدك من النصر، فثبت معه يدفع عنه الكتائب.

فنظر رسول اللّه (ص) إلي كتيبة قد أقبلت إليه، فقال لعلي (ع): ردّ عني يا علي هذه الكتيبة، فحمل عليها وفرَّقها، وكلّما حملت طائفة علي رسول اللّه (ص) استقبلهم علي (ع) فيدفعهم عنه، ويقتلهم حتي تقطّع سيفه ثلاث قطع.

لا فتي إلاّ علي لا سيف إلاّ ذوالفقار

فلمّا انقطع سيف علي (ع) جاء إلي رسول اللّه (ص) فقال: يا رسول اللّه انقطع سيفي ولاسيف لي.

فخلع رسول اللّه (ص) سيفه ذا الفقار الذي نزل من الجنّة(3) وقلّده علياً (ع)، فمشي علي (ع) إلي المشركين وقتل كل من برز إليه، وصدّ كل كتيبة أغارت عليهم، فلم يزل علي ذلك حتي وهت درعه، وأصابته تسعون جراحة، وفي بعض جراحاته كان يسقط منها علي الأرض فيرفعه جبرئيل (ع).

فعرف رسول اللّه (ص) ذلك فرفع يديه نحو السماء وقال: (ننشدك يا ربّ ما وعدتني، فإنّك إن شئت لم تعبد).

وفي رواية قال (ص) وهو يدعو: (اللّهمّ إنّ محمداً عبدك ورسولك، جعلت لكلّ نبي وزيراً من أهله لتشدّ به عضده، وتشركه في أمره، وجعلت لي وزيراً من أهلي: علي بن أبي طالب أخي، فنعم الأخ ونعم الوزير، اللّهمّ وعدتني أن تمدّني بأربعة آلاف من الملائكة مردفين، اللّهمّ وعدك وعدك انّك لا تخلف الميعاد، وعدتني أن تظهر دينك علي الدين كلّه ولو كره المشركون)(4).

فبينما رسول اللّه (ص) يدعو ربّه ويتضرّع إليه إذ سمع دويّاً من السماء، فرفع رأسه فإذا جبرئيل (ع) علي كرسي، ومعه أربعة آلاف من الملائكة مردفين، وهو يقول: (لا فتي إلاّ علي، ولا سيف إلاّ ذو الفقار)، فهبط جبرئيل وحفّت الملائكة برسول اللّه (ص) وسلّموا عليه.

فقال جبرئيل (ع): يا

رسول اللّه والذي أكرمك بالهدي لقد عجبت الملائكة المقرّبون من مواساة علي (ع) لك بنفسه.

فقال رسول اللّه (ص): يا جبرئيل وما يمنعه أن يواسيني بنفسه وهو منّي وأنا منه.

فقال جبرئيل (ع): وأنا منكما(5).

فبكي علي (ع) سروراً وحمد اللّه علي نعمته.

مصرع حمزة سيّد الشهداء

ولما اقتتل الناس وحميت الحرب كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وسط المعركة، فكلما انهزم رجل من قريش دفعت إليه ميلاً ومكحلة وقالت: انما أنت امرأة فاكتحل بهذا.

وكان حمزة بن عبدالمطلب عم النبي (ص) يحمل علي القوم، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له أحد، وكانت هند قد أعطت وحشياً عهداً: بأنه إن قتل محمداً، أو علياً، أو حمزة، لأعطته رضاه، وكان وحشي عبداً لجبير بن مطعم حبشياً.

فقال وحشي: أما محمد فلا أقدر عليه، وأما علي فرأيته رجلاً حذراً كثير الإلتفات فلم أطمع فيه، وأمّا حمزة فإني أطمع فيه، لأنه إذا غضب لم يبصر بين يديه.

قال: فكمنتُ لحمزة، فرأيته يهدّ الناس هدّاً ما يقوم له شيء، فمرّ بي فوطئ علي جرف نهر، فانهار به، فأخذت حربتي فهززتها ورميته، فوقعت في خاصرته وخرجت من ثنيته فسقط.

ثم جاءت هند وأخذت تمثّل بجسد حمزة فبقرت بطنه واستخرجت كبده فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، كما قطعت أصابعه وكل ما برز من جسمه وجعلتها قلادة لها.

وعلي رواية عن وحشي انه قال: فأتيت حمزة فشققت بطنه، فأخذت كبده وجئت بها إلي هند، فقلت لها: هذه كبد حمزة، فأخذتها في فمها فلاكتها، فجعلها اللّه في فيها مثل الداغصة، فلفظتها ورمت بها، فبعث اللّه ملكاً فحمله وردّه إلي موضعه.

قال أبو عبداللّه (ع): أبي اللّه أن يدخل شيئاً من بدن حمزة النار.

ولما رأي رسول اللّه (ص) ما صنع بحمزة قال: (اللّهمّ لك الحمد

وإليك المشتكي، وأنت المستعان علي ما أري).

ثم قال علي رواية: (ولئن ظفرت لامثلنّ ولأمثلنّ).

فأنزل اللّه تعالي: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصّابرين)(6).

فقال رسول اللّه (ص): أصبر، ثم صلّي علي حمزة سبعين صلاة، وكبّر عليه سبعين تكبيرة، ودفنه في ثيابه بدمائه التي اُصيب فيها.

دناءة بني اُمية وأتباعهم

وروي: ان الحليس بن علقمة وهو سيد الأحابيش يوم اُحُد، نظر إلي أبي سفيان وهو علي فرس وبيده رمح يجأ به في شدق حمزة، فقال الحليس: انظروا يا معشر بني كنانة إلي من يزعم انه سيد قريش ما يصنع بابن عمه الذي قد صار لحماً! وأبو سفيان يقول: ذق عقق.

فلما التفت أبو سفيان إلي الحليس وما يقوله قال له: صدقت، اكتمها عليَّ.

مع أبي دجانة

وكان أبو دجانة هو الآخر الذي كان يحمل علي القوم حتي أمعن فيهم، وقد جعل من نفسه ترساً يقي رسول اللّه (ص) من سيوف الكفّار ورماحهم حين انكشف أصحابه عنه فقد ثبت هو ولم يكن من المنكشفين.

فالتفت إليه رسول اللّه (ص) وقال: يا أبا دجانة أما تري قومك؟

قال: بلي.

قال: فالحق بقومك، وأنت في حلّ من بيعتي.

فبكي أبو دجانة وقال: لا واللّه لا جعلتُ نفسي في حلّ من بيعتي، إنّي بايعتك، فإلي من أنصرف يا رسول اللّه، إلي زوجة تموت، أو ولد يموت، أو دار تخرب، أو مال يفني، أو أجل قد اقترب؟

فرقّ له رسول اللّه (ص).

فلم يزل يقاتل حتي أثخنته الجراحة وهو في وجه، وعلي (ع) في وجه، فلما سقط احتمله علي (ع) فجاء به إلي النبي (ص) فوضعه عنده فقال: يا رسول اللّه أوَفيتُ ببيعتي؟

قال: نعم، ودعا له بخير، فالتأمت جراحاته وعاش حتي كان يوم اليمامة، فاشترك فيها كما كان يشترك في غيرها من قبل، وقاتل حتّي قُتِل شهيداً.

الثابتون مع الرسول (ص)

وكان ممّن قاتل مع رسول اللّه (ص) يوم اُحُد نسيبة المازنية اُم عمارة وابناها عبداللّه بن زيد، وعمارة بن غزية، وزوجها غزيّة.

يقول عبداللّه بن زيد: شهدتُ اُحُداً مع رسول اللّه (ص)، فلمّا تفرّق الناس عنه دنوتُ منه واُمّي تذبّ عنه.

فقال (ص): يا ابن اُم عمارة؟

قلت: نعم.

قال: ارم، فرميت بين يديه رجلاً من المشركين بحجر وهو علي فرس، فاُصيب عين الفرس، فاضطرب الفرس حتي وقع هو وصاحبه.

ثم نظر (ص) إلي جرح باُمّي علي عاتقها، فقال: اُمّك اُمّك، اعصب جرحها بارك اللّه عليكم، لمقامك ومقام أخيك ومقام اُمّك ومقام زوج اُمك خير من مقام المنكشفين والمنهزمين عنّي.

ثم قال (ص): رحمكم اللّه من أب واُم واخوة.

قال: فقالت اُمّي

وهي لا تملك نفسها فرحاً: ادع لنا يا رسول اللّه أن نرافقك في الجنّة.

فقال: اللّهمّ اجعلهم رفقائي في الجنّة.

فقالت: ما اُبالي بعدها ما أصابني من الدنيا.

عمرو بن الجموح والشهادة

وكان عمرو بن الجموح رجلاً ذا عرج في رجله، فلما كان يوم اُحُد شهد مع النبي أربعة من ولده، أمّا هو فأراد قومه أن يحبسوه وقالوا له: انك ممّن لا حرج عليه، وقد ذهب بنوك الأربعة مع النبي (ص) فابق عندنا.

فأجابهم قائلاً: بخ لهم يذهبون إلي الجنّة، وأنا أجلس عندكم؟

فقالت امرأته: كأنّي أنظر إليه مولّياً قد أخذ درقته وهو يقول: اللّهمّ لا تردّني إلي أهلي، فخرج ولحقه بعض قومه يكلّمونه في القعود، فأبي.

ثم جاء إلي رسول اللّه (ص) فقال: يا رسول اللّه انّ قومي يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك، واللّه انّي لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنّة.

فقال له (ص): أمّا أنت فقد عذرك اللّه ولا جهاد عليك، فأبي.

فقال النبي (ص) لقومه وبنيه: (لا عليكم أن لا تمنعوه، لعلّ اللّه يرزقه الشهادة) فخلّوا عنه، فبقي في صفوف المسلمين وقاتل فقتل يومئذ شهيداً.

وبعد شهادته، أقبلت إليه امرأته لتحمله مع ابنها خلاّد وأخيها عبداللّه والد جابر الأنصاري، فحملتهم علي بعير تريد بهم المدينة.

فالتقي بها بعض النساء اللاتي خرجن يتفقّدن خبر رسول اللّه (ص) فسألنها عنه؟

فقالت: خيراً، أمّا رسول اللّه (ص) فصالح، وكلّ مصيبة بعده جلل، أي: قليل، واتّخذ اللّه من المؤمنين شهداء، وهؤلاء: ابني وأخي وزوجي أحملهم لأدفنهم في المدينة، فسارت بهم، فلما بلغت منقطع الحرّة برك البعير، فكانت كلما توجّهه إلي المدينة برك، وإذا وجّهته إلي اُحُد أسرع.

فرجعت إلي النبي (ص) فأخبرته بذلك.

فقال (ص): انّ الجمل لمأمور، هل قال عمرو بن الجموح شيئاً؟

قالت: نعم يا رسول اللّه،

انه لما توجّه إلي اُحُد استقبل القبلة ثم قال: اللّهمّ لا تردّني إلي أهلي وارزقني الشهادة.

فقال (ص): (فلذلك الجمل لا يمضي، انّ منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم علي اللّه لأبرّه، منهم عمرو بن الجموح، يا هذه ما زالت الملائكة مظلة علي أخيك من لدن قتل إلي الساعة ينظرون أين يدفن)؟

ثم مكث رسول اللّه (ص) في قبرهم ثم قال: انّهم قد ترافقوا في الجنّة جميعاً: بعلكِ وابنكِ وأخوكِ.

فقالت امرأته: يا رسول اللّه فادع لي عسي أن يجعلني معهم، فدعا لها بذلك.

الشهادة والمساهمة عليها

وكان خيثمة أبو سعد بن خيثمة ممّن قاتل بين يدي رسول اللّه (ص) في اُحُد ونال الشهادة، فقد أشار علي رسول اللّه (ص) بالخروج من المدينة لمجابهة قريش والتعرّض للنصر أو الشهادة قائلاً: لقد بلغ من حرصي علي الشهادة أن ساهمت ابني في الخروج إلي بدر فخرج سهمه، فرزق الشهادة، وقد رأيته البارحة في النوم وهو في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنّة وأنهارها، ويقول لي: ألحق بنا ترافقنا في الجنّة، وقد كبرت سنّي، ورقّ عظمي، وأحببت لقاء ربّي، فادع اللّه أن يرزقني الشهادة.

فدعا له رسول اللّه (ص) بذلك، فقاتل بين يديه حتي قتل باُحد شهيداً.

غسيل الملائكة

وكان حنظلة غسيل الملائكة رجل من الخزرج تزوّج في الليلة التي كانت صبيحتها حرب اُحُد، فلما أصبح خرج ولم يغتسل وحضر القتال.

فالتقي بأبي سفيان بن حرب وهو يجول بين العسكر، فحمل عليه فضرب عرقوب فرسه، فاكتسعت الفرس وسقط أبوسفيان إلي الأرض فصاح: يا معشر قريش أنا أبو سفيان وهذا حنظلة يريد قتلي، ثم عدا يركض نحو قومه وحنظلة في طلبه.

فعرض له شداد بن الأسود الليثي فطعنه، فمشي حنظلة في طعنته فضرب الليثي فقتله، وسقط حنظلة إلي الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبداللّه بن حزام، وجماعة من الأنصار.

فقال رسول اللّه (ص): رأيت الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف من ذهب، فكان يسمّي (غسيل الملائكة) لأنه خرج من عند زوجته إلي القتال مسرعاً ولم يغتسل من جنابته.

وقال أبو سفيان: حنظلة هذا بحنظلة وهو يقصد ابنه حنظلة الذي قتل ببدر.

عين قتادة

وكان ممّن شهد اُحُد وقاتل دون رسول اللّه (ص) قتادة بن النعمان، فاُصيبت عينه حتي وقعت علي وجنته، فأخذها بيده وجاء إلي النبي (ص) وقال: يا رسول اللّه اني جديد عهد بالزواج وامرأتي شابة اُحبّها وتحبّني وأنا أخشي أن تكرهني مكان عيني.

فأخذها رسول اللّه (ص) فردّها إلي مكانها، فأبصرت وعادت كما كانت لم تؤلمه ساعة من ليل ولا نهار.

فكان يقول بعد أن كبر وطعن في السنّ: هي أقوي عينيَّ، وكانت أحسنهما.

يد ابن عتيك

وكان ممّن شهد اُحُد وأبلي مع رسول اللّه (ص) بلاءاً حسناً عبداللّه بن عتيك فاُصيب يده فاُبينت، فأخذها وجاء بها إلي رسول اللّه (ص) واشتكي له ما يلقاه من ألمها.

فأخذها رسول اللّه (ص) وأركبها في محل قطعها ومسح عليها بيده الكريمة، فاستوت يد عبداللّه كأن لم يكن بها شيء.

نيف وسبعون جراحة

قال أنس بن مالك: اُتي رسول اللّه (ص) بعلي (ع) يوم اُحُد وعليه نيف وسبعون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل رسول اللّه (ص) يمسحها وهي تلتئم بإذن اللّه تعالي، كأن لم تكن.

وقيل: انّ رسول اللّه (ص) أخذ الماء بفمه فرشّه علي جراحاته، فكأنّها لم تكن من وقتها.

المتجرئو علي رسول اللّه (ص)

ورمي ابن قميئة الليثي رسول اللّه (ص) بقذافة فأصاب كفّه، وضربه عتبة بن أبي وقاص بالسيف حتي أدمي فاه، ورماه عبداللّه بن شهاب بقلاعة فأصاب مرفقه، وليس أحد من هؤلاء مات ميتة سوية:

فأما ابن قميئة، فقد سلّط اللّه عليه الشجر، فكان إذا مرّ بها وقع في وسطها فتأخذ من لحمه، فلم يزل كذلك حتي صار مثل الصرّ ومات.

وقيل: انه أتاه تيس جبل وهو نائم بنجد، فوضع قرنه في مراقّّه ثم دعسه فجعل ينادي: واذلاّه حتي أخرج قرنيه من ترقوته ومات.

وأما عتبة بن أبي وقاص فمات علي كفره قبل أن يحول عليه الحول، وكذلك كان مصير ابن شهاب.

ورمي المغيرة بن العاص رسول اللّه (ص) بحجر فأصاب جبهته (ص)، فضرب اللّه المغيرة بالتحيّر، فلما انكشف الناس تحيّر فلحقه عمار بن ياسر فقتله.

مع اُبيّ بن خلف

وروي: ان اُبيّ بن خلف قال للنبي (ص) بمكة: انه يعلف فرساً له ليقتله يوماً عليها.

فقال له رسول اللّه (ص): لكن أنا إن شاء اللّه تعالي.

فأقبل اُبي يوم اُحد علي فرسه وحمل علي رسول اللّه (ص) وكان الرسول بين الحارث بن صمّة وسهل بن حنيف، فوقاه مصعب بن عمير بنفسه، فطعن مصعباً فقتله.

فأخذ رسول اللّه (ص) عنزة كانت في يد سهل بن حنيف ثم طعن اُبيّاً في جرّبان الدرع، فاعتنق فرسه وانتهي إلي عسكره وهو يخور خوار الثور.

فقال له أبو سفيان: ويلك ما أجزعك؟ انما هو خدش ليس بشيء.

فقال: ويلك يا ابن حرب أتدري من طعنني؟ انما طعنني محمد وهو قال لي بمكة: اني سأقتلك، فعلمت انه قاتلي، واللّه لو انّ ما بي كان بجميع أهل الحجاز لقضت عليهم، فلم يزل يخور حتي مات.

نماذج من الصحابة المؤمنين

فلما سكن القتال قال رسول اللّه (ص): من يطلب لنا سعد بن الربيع، وأشار بيده إلي موضع من المعركة.

فجاء رجل نحو الموضع يطلبه، فرآه صريعاً بين القتلي.

فقال: يا سعد، فلم يجبه، حتي قال له: يا سعد إنّ رسول اللّه (ص) يسأل عنك.

فرفع سعد رأسه وانتعش كما ينتعش الفرخ، ثم قال بصوت ضعيف: انّ رسول اللّه (ص) لحيّ؟

فقال له: نعم.

قال سعد: الحمد للّه، أبلغه عنّي السلام، وأبلغ قومي الأنصار عنّي السلام وقل لهم: واللّه ما لكم عند اللّه عذر ان تشوك رسول اللّه (ص) شوكة وفيكم عين تطرف، ثم تنفّس فخرج منه مثل دم الجزور وقضي نحبه شهيداً.

فجاء الرجل وأخبر بذلك رسول اللّه.

فقال (ص): (رحم اللّه سعداً نصرنا حيّاً، وأوصي بنا ميتاً).

يوم بلاء وتمحيص

ولما انكشف المسلمون يوم اُحد وانهزموا أصاب فيهم العدو، فكان يوم بلاء وتمحيص أكرم اللّه فيه من أكرم بالشهادة، وقد خلص العدو إلي رسول اللّه (ص) فدُق بالحجارة حتي شج في وجهه وكلمت شفته السفلي، وكادوا أن يقتلوه (ص) لولا حفظ اللّه تعالي له، فقام رافعاً يديه إلي السماء وهو يقول: (إنّ اللّه اشتدّ غضبه علي اليهود حين قالوا: عزير ابن اللّه، واشتدّ غضبه علي النصاري ان قالوا: المسيح ابن اللّه، وان اللّه اشتدّ غضبه علي من أراق دمي، وآذاني في عترتي)(7).

وفي الحديث: انه كلما سال الدم علي وجهه المبارك (ص) تناوله بيده فرمي به في الهواء، فلا يرجع منه شيء.

قال أبو عبداللّه (ع): واللّه لو سقط منه شيء علي الأرض لنزل العذاب.

وقيل له (ص): ألا تدعو عليهم؟

فقال (ص): (اللّهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون).

ثم كان يقول (ص) أسفاً عليهم: (كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدم وهو يدعوهم إلي اللّه)؟

رجل من أهل الجنّة

وقيل: انه لما شج (ص) في وجهه واختضبت وجنتاه بالدم، أقبل مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري فامتصّ الدم من وجنة رسول اللّه (ص) فاستساغه ولم يمجّه.

فقال (ص) له: مجّه.

فقال: واللّه لاأمجّه أبداً حتي يمتزج بلحمي ودمي فأكون عند اللّه من الفائزين بك.

ثم أدبر يقاتل، فقال النبي (ص): من أراد أن ينظر إلي رجل من أهل الجنّة فلينظر إلي هذا، فقاتل، فقتل شهيداً.

ابليس ينتهز الفرصة

وكان ممّن قاتل دون رسول اللّه (ص) حتي قُتل: مصعب بن عمير، وكان الذي قتله ابن قمئة وهو يظنه رسول اللّه، فصاح ابن قمئة: قتلت محمداً.

وصرخ الشيطان: ان محمداً قد قتل، فوقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين.

فقال بعضهم: نقاتل علي ما قاتل عليه حتي نلحق به.

وقال آخرون: لو كان نبياً لما قتل، وارتد بعضهم، وانهزم بعضهم، وقال بعضهم: لو أرسلنا إلي أبي سفيان من يأخذ لنا أماناً منه، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم.

فمرّ أنس بن النضر بقوم قد ألقوا بأيديهم فقال: يا قوم ما تنتظرون؟

فقالوا: قتل رسول اللّه (ص).

قال: فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا فقاتلوا علي ما قاتل عليه، وموتوا علي ما مات عليه.

ثم استقبل الناس، ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد اني لأجد ريح الجنّة من دون اُحد.

ثم استقبل المشركين وقال: اللّهم إنّي أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني بعض المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المنافقين.

ثم شدّ بسيفه فقاتل حتي قتل.

وذهبت صيحة ابليس حتي دخلت بيوت المدينة، فبكت فاطمة(ع) ولم تبق هاشمية ولا قرشيّة إلا وضعت يدها علي رأسها، وخرجت فاطمة(ع) باكية حتي انتهت هي وصفيّة إليه (ص).

فلما دنت فاطمة(ع) ورأت ما بأبيها (ص) من الجراحات خنقتها العبرة، وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتدّ غضب اللّه علي

من

أدمي وجه رسول اللّه (ص).

المسلمون يثوبون

ثم أقبل رسول اللّه (ص) نحو المسلمين، وكان أول من عرفه كعب بن مالك الشاعر، فنادي بأعلي صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول اللّه (ص).

فأشار إليه رسول اللّه (ص) أن اصمت، فانحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم النبي (ص) علي الفرار.

فقالوا: يا رسول اللّه فديناك بآبائنا واُمهاتنا أتانا الخبر بأنك قتلت، فرعبت قلوبنا فولّينا مدبرين، فأنزل اللّه تعالي: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئاً وسيجزي اللّه الشاكرين)(8).

وقيل: نزلت هذه الآية عندما رجع رسول اللّه (ص) من اُحد إلي المدينة، فاستقبله أهلها بأجمعهم وهم يبكون ويطلبون التوبة ويقرّون بالذنب، ونساء الأنصار قد خدشن الوجوه، ونشرن الشعور، وجززن النواصي، وخرقن الجيوب، وحزمن البطون علي النبي (ص)، فلمّا رأينه قال لهنّ خيراً وأمرهنّ أن يتستّرن ويدخلن منازلهنّ، وقال: ان اللّه عزوجل وعدني أن يظهر دينه علي الأديان كلها، ثم قال لهم رسول اللّه (ص):

(أيها الناس انكم رغبتم بأنفسكم عنّي، ووازرني علي وواساني، فمن اطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني وفارقني في الدنيا والآخرة)(9).

صاحب المهراس

روي انه لما صاح ابليس بالمدينة: قتل محمد لم يبق أحد من نساء المهاجرين والأنصار إلاّ وخرجت، كما وخرجت فاطمة بنت رسول اللّه (ص) تعدو علي قدميها، حتي وافته وقعدت بين يديه تبكي لما رأت ما أصاب أبيها رسول اللّه (ص) من الجراحات، وأقبل علي بن أبي طالب (ع) وقد ملأ درقته بماء من المهراس(10) فجاء به رسول اللّه (ص) ليشرب منه، ثم غسل به عن وجهه الدم، وإليه يشير قول علي (ع) يوم الشوري: (نشدتكم باللّه هل فيكم أحد وقفت الملائكة معه يوم اُحد

حين ذهب الناس غيري؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم باللّه هل فيكم أحد سقي رسول اللّه (ص) من المهراس غيري؟ قالوا لا).

وعن سهل: انه سئل عن جرح رسول اللّه (ص) فقال: واللّه إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول اللّه (ص) ومن كان يسكب الماء؟

كانت فاطمة ابنته تغسله وعلي بن أبي طالب يسكب الماء، فلما رأت فاطمة أن الماء لايزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فاستمسك الدم.

الصلاة في زوال اُحد

وذكر مولي عفرة: ان النبي (ص) صلّي الظهر يوم اُحد قاعداً من الجراح، وكذلك صلّي المسلمون خلفه قعوداً من شدة ما بهم، وقد انهزم قوم من المسلمين يومئذ فبلغ بعضهم إلي الحلوب دون الأعوص.

فلمّا قدموا بعد ثلاثة أيام من هزيمتهم قال لهم رسول اللّه (ص): إلي أين انتهيتم؟

قالوا: إلي الأعوص.

قال: لقد ذهبتم فيها عريضة، أي: واسعة.

دأب بني اُمية وأتباعهم

ولما انكشف المسلمون عن رسول اللّه (ص) اشتغل المشركون ونساؤهم بقتلي المسلمين يمثلون بهم ويقطعون الآذان والاُنوف وغيرها، ويبقرون البطون، ويستخرجون منها الأكباد والكلي.. فلما تتبّع المسلمون قتلاهم لم يجدوا قتيلاً إلاّ وقد مثلوا به، إلاّ حنظلة غسيل الملائكة، فإنّ أباه وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول اللّه (ص) أبو عامر الفاسق وهو صاحب مسجد ضرار، كان مع المشركين فترك له، وكان حمزة عم النبي (ص) أكثر من مثّل به من بين القتلي.

1 الأنفال: 36.

2 تفسير علي بن إبراهيم قال: وحدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبد الله (ع) انه سئل عن معني قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي (ع): يا قضم؟ قال (ع): إن رسول الله (ص) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب، فأغروا به الصبيان، وكانوا إذا خرج رسول الله (ص) يرمونه بالحجارة والتراب، فشكي ذلك إلي علي (ع) فقال: بأبي أنت واُمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معك، فخرج رسول الله (ص) ومعه علي (ع) فتعرض الصبيان لرسول الله (ص) كعادتهم، فحمل عليهم علي (ع) وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم فكان الصبيان يرجعون باكين إلي آبائهم ويقولون: قضمنا علي، قضمنا علي، فسمي لذلك: القُضَم. (راجع بحار الأنوار: ج 20 ص 52 ب 12 ح

3).

3 راجع بحار الأنوار: ج 39 ص 47 ب 73 ح 15 بيان، و: ج 42 ص 57 ب 118 ح 1.

4 بحار الأنوار: ج 20 ص 105 ب 12 ح 30.

5 الكافي: ج 8 ص 318 ب 8 ح 502 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 10 ص 182 ب 190 و ج 13 ص 261 وج 14 ص 251 دار إحياء التراث العربي ط 2.

6 النحل: 126. 7 بحار الأنوار: ج 27 ص 206 ب 8 ح 14. 8 آل عمران: 144.

9 بحار الأنوار: ج 20 ص 106 ب 12 ح 30.

10 قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيراً، وقيل: هو اسم ماء بأحد.

خاتمة القتال

ولما قتل جمع من المسلمين وفرّ آخرون، واضطربت الصفوف وتداخلت، جَمَع رسول اللّه (ص) من بقي معه من المسلمين ثم حمل هو (ص) وعلي (ع) والمسلمون معه حملة رجل واحد علي القوم، فانهزم المشركون وتشتّت أمرهم وانصرفوا إلي مكة ولم يصلوا إلي ما أرادوا من قتل الرسول (ص) وابادة المسلمين، فكان النصر أخيراً للمسلمين وإن قتل منهم جمع كثير.

هتافات متقابلة

ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف علي الجبل، ثم صرخ بأعلي صوته: انعمت فعال، ان الأيام دول، وان الحرب سجال، يوم بيوم بدر.

فقال رسول اللّه (ص): ألا تجيبونه؟

قالوا: يا رسول اللّه ما نقول؟

قال (ص): قولوا: لا سواء، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار.

فقال أبو سفيان: لنا العزّي ولا عزّي لكم.

فقال رسول اللّه (ص): ألا تجيبونه؟

قالوا: يا رسول اللّه ما نقول؟

قال (ص): قولوا: اللّه مولانا ولا مولي لكم.

فقال أبو سفيان: اعل هبل.

فقال رسول اللّه (ص): ألا تجيبونه؟ قولوا: اللّه أعلي وأجلّ.

ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادي: أحيّ ابن أبي كبشة؟ فأما ابن أبي طالب فقد رأيناه مكانه.

فقال له علي (ع): أي والذي بعثه بالحقّ انه (ص) ليسمع كلامك.

فقال أبو سفيان: لعن اللّه ابن قمئة زعم انه قتل محمداً، ثم قال: انه قد كانت في قتلاكم مُثلة، وانّ موعدنا وموعدكم بدراً في العام القابل.

فقال رسول اللّه (ص) لعلي (ع): قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد.

استطلاع أخبار القوم

ثم بعث رسول اللّه (ص) علي بن أبي طالب (ع) وقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لاُناجزنهم.

قال علي (ع): فخرجت في أثرهم أنظر ما يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلي مكة، فلما وقع نظر أبي سفيان علي علي (ع) قال له: يا علي ما تريد هو ذا نحن ذاهبون إلي مكة، فانصرف إلي صاحبك فأخبره.

فأتبعهم جبرئيل (ع)، فكلّما سمعوا حافر فرسه جدّوا في السير، وكان يتلوهم فإذا ارتحلوا قالوا: هو ذا عسكر محمد قد أقبل، ومازالوا كذلك حتي

دخلوا مكة منهزمين ومرعوبين.

انّ اللّه بالغ أمره

وروي: انه لما انصرف أبو سفيان ومن معه من غزاة اُحد وبلغوا الروحاء، ندموا علي انصرافهم عن المسلمين وتلاوموا فقالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، قتلتموهم حتي إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم.

فبلغ ذلك الخبر رسول اللّه (ص) فأراد أن يرهب العدوّ ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال: (ألا عصابة تشدّد لأمر اللّه تطلب عدوّها، فإنها انكاء للعدوّ وأبعد للسمع) فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من القرح والجرح الذي أصابهم يوم اُحُد وامتثلوا ما أمرهم به.

مدفن الشهداء

ولما وضعت الحرب أوزارها يوم اُحد، حمل كل واحد قتيله علي جمل ليدفنوهم في المدينة، فكانوا كلما توجّهوا بهم نحو المدينة بركت الجمال، وإذا توجّهوا بهم نحو المعركة أسرعت.

فشكوا ذلك إلي رسول اللّه (ص) فقال: ألم تسمعوا قول اللّه تعالي: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلي مضاجعهم)(1) فأرجعهم (ص) إلي مكانهم ودفنهم بثيابهم الملطّخة بالدماء كل رجلين في قبر علي رواية الاّ حمزة (ع) فإنه دفن وحده.

علي مشارف المدينة

ثم انصرف المسلمون مع النبي (ص) إلي المدينة، فاستقبلته فاطمة(ع) ومعها اناء فيه ماء، فغسل به وجهه، فلمّا رأته فاطمة(ع)(2) قد شجّ في وجهه واُدمي فوه ادماءاً بكت(ع) وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتد غضب اللّه علي من أدمي وجه رسول اللّه (ص).

وكان معه (ص) علي (ع) وقد خضب الدم يده إلي كتفه، ومعه ذو الفقار، فناوله فاطمة(ع) وقال لها: خذي هذا السيف فقد صدقني اليوم، وأنشأ يقول:

أفاطم هاك السيف غير ذميم فلست برعديد ولا بمليم

لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد وطاعة ربٍ بالعباد عليم

اميطي دماء القوم عنه فإنه سقي آل عبدالدار كأس حميم

وقال رسول اللّه (ص): خذيه يا فاطمة فقد أدّي بعلك ما عليه، وقد قتل اللّه بسيفه صناديد قريش.

مع ابنة جحش

فلما ارتحل رسول اللّه (ص) ودخل المدينة، استقبلته النساء يولولن ويبكين، فاستقبلته زينب بنت جحش، فقال لها رسول اللّه (ص): احتسبي.

فقالت: من يا رسول اللّه؟

قال (ص): أخاك.

قالت: (إنّا للّه وإنّا إليه راجعون)(3) هنيئاً له الجنّة.

ثم قال (ص) لها: احتسبي.

فقالت: من يا رسول اللّه؟

قال (ص): حمزة بن عبدالمطلب.

قالت: (إنّا للّه وإنّا إليه راجعون)(4) هنيئاً له الشهادة.

ثم قال لها: احتسبي.

فقالت: من يا رسول اللّه؟

قال (ص): زوجك مصعب بن عمير.

قالت: واحزناه.

فقال رسول اللّه (ص): انّ للزوج عند المرأة لحدّاً ما لأحد مثله.

فقيل لها: لم قلت ذلك في زوجك؟

قالت: ذكرت يتم ولده.

النساء المخلصات

وكانت امرأة من بني النجار قتل أبوها وزوجها وأخوها مع رسول اللّه (ص)، فدنت من رسول اللّه (ص) والمسلمون قيام علي رأسه، فقالت لرجل متسائلة بتلهّف: أحيّ رسول اللّه (ص)؟

قال: نعم.

قالت وهي مستبشرة: أستطيع أن أنظر إليه؟

قال: نعم.

فأوسعوا لها، فدنت منه (ص) وقالت: كل مصيبة جلل بعدك يا رسول اللّه، ثم انصرفت.

البكاء علي حمزة

ولما انصرف رسول اللّه (ص) إلي المدينة بعد أن صلّي علي القتلي ودفنهم بثيابهم ودمائهم، مرّ بدور في المدينة، فسمع بكاء النوائح علي قتلاهنّ، فترقرقت عينا رسول اللّه (ص) بالدموع وبكي ثم قال: لكن حمزة لا بواكي له.

فلمّا سمعها سعد بن معاذ واسيد بن حضير قالا: لا تبكينّ امرأة حميمها حتي تأتي فاطمة(ع) فتسعدها بالبكاء.

فلما سمع رسول اللّه (ص) الواعية علي حمزة وهو عند فاطمة(ع) علي باب المسجد قال: ارجعن يرحمكنّ اللّه فقد آسيتنّ بأنفسكنّ.

غزوة حمراء الأسد

ولما وافي اليوم الثاني من انتهاء معركة اُحد، أذّن مؤذّن رسول اللّه (ص) في الطلب للعدو، وعهد رسول اللّه (ص) أن لا يخرج معه أحد إلا من حضر المعركة يوم اُحد، حيث قال: ألا لا يخرجنّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، ألا من كانت به جراحة فليخرج، ومن لم تكن به جراحة فليقم.

فخرج معه سبعون رجلاً ممّن أثقلهم الجراح وهم يأملون أن لا تفوتهم غزوة مع رسول اللّه (ص).

وقدّم (ص) علياً (ع) بين يديه براية المهاجرين، واستأذنه جابر بن عبداللّه في أن يفسح له في الخروج معه، ففسح له في ذلك، فخرجوا علي ما بهم من الجهد والجراح، وإنما خرج (ص) مرهباً للعدوّ ومتجلّداً، وذلك بعد أن استخلف علي المدينة ابن اُمّ مكتوم، فبلغ حمراء الأسد، وهي علي ثمانية أميال من المدينة.

وهناك مرّ برسول اللّه (ص) معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول اللّه (ص) مسلمهم وكافرهم، لايخفون عليه شيء، ومعبد يومئذ مشرك. فقال: يا محمد، أما واللّه لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن اللّه عافاك فيهم.

ثم خرج معبد من عند رسول اللّه (ص) حتي لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد

أجمعوا علي الرجعة إلي رسول اللّه (ص) وأصحابه وهم يقولون: أصبنا جلّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم؟ فلنكرنّ علي بقيتهم فلنفرغن منهم.

فلما رأي أبو سفيان معبداً، قال: ما وراءك يا معبد؟

قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرّقون عليكم تحرّقاً، وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا علي ما ضيّعوا وفيهم من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط.

قال: ويلك ما تقول؟

قال: واللّه ما أراك ترتحل حتي تري نواصي الخيل.

فساء ذلك أبا سفيان ومن معه، ووقع في قلوبهم الرعب مما دعاهم إلي الإنصراف عما عزموا عليه، والرجوع إلي مكة.

هذا ورسول اللّه (ص) لما نزل بحمراء الأسد أمر أصحابه في الليل بأن يوقدوا حولهم نيراناً كثيرة، فأوقدوا خمسمائة نار كانت تري من بعيد.

فتصوّر المشركون ان النبي (ص) يقفوا أثرهم في عدد عظيم من أصحابه، فتشاوروا فيما بينهم ثم عزموا علي الإنصراف إلي مكة.

وأقام رسول اللّه (ص) بأصحابه هناك ثلاثة أيام، فلما اطمئنّوا من انصراف المشركين عن الكرّة عليهم رجعوا إلي المدينة فوصلوها يوم الجمعة بعد أن غابوا عنها خمسة أيّام.

سرية الغنويّ إلي الرجيع

والرجيع بفتح الراء وكسر الجيم اسم ماء لهذيل بين مكة وعسفان، وكانت الوقعة بالقرب منه.

وذلك انه قدم علي رسول اللّه (ص) أوائل شهر صفر علي رأس أربعة أشهر من اُحد نفر من عضل والقارة، وقيل: من عضل والديش، وهما بطنان من العرب، فذكروا للنبي (ص) أنّ فيهم إسلاماً، ورغبوا أن يبعث معهم نفراً من المسلمين يعلّمونهم القرآن ويفقّهونهم في الدين.

فبعث رسول اللّه (ص) ستة رجال من أصحابه، وقيل: سبعة، وقيل: عشرة، فيهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، فجعله أميراً عليهم حتي إذا صاروا بالرجيع

غدروا بهم، واستصرخوا عليهم هذيلاً، فوقع بين الجانبين قتال شديد أسفر عن غلبة المشركين لكثرتهم، واندحار المجموعة الصغيرة من المسلمين لقلّتهم وعدم تهيّئهم للحرب والقتال.

سرية منذر إلي بئر معونة

وبئر معونة بضم العين موضع ببلاد هذيل بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، وهي الي حرة بني سليم أقرب.

وذلك في أواسط شهر صفر علي رأس أربعة أشهر من اُحد أيضاً، ولكن قبل أن يصل إلي المدينة أنباء الغدر بسرية الغنوي إلي الرجيع.

وكان سببها: ان أبا البراء عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة قدم علي رسول اللّه (ص)، فعرض (ص) عليه الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد: انّ أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل، فلو بعثت رجالاً من أصحابك إلي أهل نجد يدعونهم إلي أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.

فقال رسول اللّه (ص): إنّي أخشي أهل نجد عليهم.

فقال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم.

فبعث (ص) المنذر بن عمرو في بضعة وعشرين رجلاً، وقيل: في أربعين رجلاً، وقيل: في سبعين، وكانوا من خيار المسلمين ومن القرّاء، يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، ويتدارسون القرآن.

فساروا حتي إذا نزلوا بئر معونة بعثوا حرام بن ملحان بكتابه (ص) إلي عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتي عدا علي الرجل فقتله.

ثم استصرخ عليهم بني عامر فلم يجيبوه وقالوا: نحن لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقداً وجواراً، فاستصرخ قبائل من بني سليم: عصيّة ورعلا وذكوان، فأجابوه إلي ذلك.

ثم خرجوا حتي غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم حتي قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد، فإنهم تركوه وبه رمق، فارتث من بين القتلي فعاش حتي قتل يوم الخندق شهيداً.

وأسر عمرو بن اُمية الضمريّ، فلما أخبرهم أنه من

مضر أخذه عامر بن الطفيل وجزّ ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت علي اُمه.

فقدم عمرو بن اُميّة الضمري إلي رسول اللّه (ص) وأخبره الخبر، فنعاهم إلي أصحابه وقال: انّ أصحابكم قد اُصيبوا وانهم قد سألوا ربهم وقالوا: ربّنا أبلغ عنّا قومنا بأنا قد لقينا ربّنا فرضي عنّا ورضينا عنه.

ولما بلغ ذلك أبا براء، شقّ عليه اخفار عامر إياه وما أصاب أصحاب رسول اللّه (ص) بسببه وجواره، ونزل به الموت، فحمل ربيعة بن أبي براء لما وصله الخبر علي عامر بن الطفيل وهو في نادي قومه فأخطأ مقاتله فأصاب فخذه.

فقال عامر: هذا عمل عمي أبي براء، فلم يجرأ علي الثأر منه.

وقيل: ان خبر بعث الرجيع، وخبر أصحاب بئر معونة أتي النبي (ص) في ليلة واحدة فحزّ ذلك في قلبه وقلوب المسلمين، وعرف المسلمون ان الغدر والفتك من عادة الجاهلية والجاهليّين، ولايمكن قلعه ولا اجتثاث جذوره إلاّ بنشر الإسلام وابلاغ تعاليمه الأخلاقية إلي الناس كافة، فاندفعوا وبكل قوّة إلي نشر الإسلام وتبليغ أحكامه والإلتزام بإطاعة اللّه ورسوله (ص).

1 آل عمران: 154.

2 قد سبق أنها (صلوات الله عليها) خرجت إلي اُحد بعدما سمعت النداء بقتل أبيها (ص) وذلك علي رواية، أو أنها رجعت بعد ذلك ثم استقبلته (ص) عند رجوعه.

3 البقرة: 156. 4 البقرة: 156.

غزوة بني النضير

مضي فيما سبق: انه لما دخل رسول اللّه (ص) المدينة صالحه بنو النضير كبقيّة اليهود علي أن لايقاتلوه، ولايقاتلوا معه، فقبل ذلك منهم.

فلما غزا رسول اللّه (ص) بدراً وظهر علي المشركين قالوا: واللّه انه للنبيّ الذي وجدنا نعته في التوراة لاتردّ له راية، فلما غزا اُحد وانهزم المسلمون ارتابوا ونقضوا العهد وأتوا قريشاً وحالفوهم وعاقدوهم علي أن تكون كلمتهم واحدة علي محمد

(ص)، فنزل جبرئيل وأخبر النبي (ص) بالخبر.

ولكي يظهر النبي (ص) نوايا بني النضير العدوانية التي أضمروها للمسلمين، ويكشف واقعهم السيّء للرأي العام، خرج (ص) إليهم يوم السبت في شهر ربيع الأول وصلي في مسجد قبا ومعه نفر من أصحابه دون العشرة، ثم أتاهم فكلّمهم أن يقرضوه في دية بعض القتلي وكان الإستقراض جارياً بينهم فقالوا: نقرضك ما أحببت.

ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه علي مثل هذه الحال. وكان (ص) إلي جنب جدار من بيوتهم.

فقالوا: من رجل يعلو علي هذا البيت فيلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟

فانتدب لذلك عمرو بن جحاش، فقال: أنا لذلك.

فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، واللّه ليخبرنّ بما هممتم به، وانه لنقض العهد الذي بيننا وبينه.

فجاء جبرئيل وأخبر رسول اللّه (ص) الخبر، فخرج راجعاً إلي المدينة، وذلك بعد أن أوصي علياً (ع) بأن لايبرح من مكانه، وأن يخبر من سأله عنه من أصحابه بتوجّهه إلي المدينة، ففعل ذلك، ثم لحقوا به فقالوا: قمت يا رسول اللّه ولم نشعر.

فقال: همّت اليهود بالغدر فأخبرني اللّه بذلك فقمت.

ثم أرسل (ص) إليهم من يأمرهم بالجلاء من منازلهم، وكانت منازلهم بناحية الفرع وما والاها بقرية يقال لها: زهرة، وأمهلهم عشرة أيام.

فوصل الخبر إلي ابن اُبي فأرسل إليهم من ينهاهم عن الخروج ويعدهم نصرة قومه لهم، وامداد قريظة وحلفاءهم من غطفان، فطمعوا في ذلك.

فخرج إليهم رسول اللّه (ص) فصلّي العصر بفناء بني النضير وعلي (ع) يحمل رايته واستخلف علي المدينة ابن اُمّ مكتوم.

فلما رأوا رسول اللّه (ص) قاموا علي حصونهم معهم النبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخفرهم ابن اُبيّ، فحاصرهم رسول اللّه (ص) إحدي وعشرين ليلة، وقذف اللّه الرعب في قلوبهم فعزموا علي الخروج من المدينة

من دون قتال.

فقال لهم رسول اللّه (ص): اُخرجوا منها ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة وهي السلاح.

فخرجوا بالنساء والصبيان يزمّرون ويضربون بالدفوف، وتحمّلوا علي ستمائة بعير حتي ان الرجل منهم يقلع باب بيته ويضعه علي بعيره، ثم يخربون بيوتهم بأيديهم ويخرجون، فمنهم من صار إلي خيبر، ومنهم من صار إلي الشام، ومنهم من صار إلي الحيرة.

أموال بني النضير

وقبض رسول اللّه (ص) السلاح والأموال صافية له، لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وانما قذف اللّه في قلوبهم الرعب، فسلّموا بدون قتال ولا اراقة دماء، فكان ممّا أفاءه اللّه علي رسوله.

فدعي رسول اللّه (ص) حينئذ الأنصار كلها الأوس والخزرج، فحمد اللّه وأثني عليه وذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وانزالهم إيّاهم في منازلهم، واثرتهم علي أنفسهم، ثم قال (ص): ان أحببتم قسّمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء اللّه عليّ من بني النضير، وكان المهاجرون علي ما هم عليه من السكني في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم.

فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول اللّه بل تقسّمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا.

ونادت الأنصار: رضينا وسلّمنا يا رسول اللّه.

فقال رسول اللّه (ص): (اللّهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار) وقسّم ما أفاء اللّه عليه بين المهاجرين دون الأنصار إلا رجلين من الأنصار كانا محتاجين، ووسّع (ص) في الناس في أموال بني النضير، وأنزل اللّه تعالي في قصة بني النضير سورة الحشر، ومدح الأنصار علي رواية بقوله: (ويؤثرون علي أنفسهم)(1).

وفي مجمع البيان عن أبي هريرة: ان الآية نزلت في شأن علي (ع) وفاطمة(ع) في ضيافة كانت لهما قد آثرا ضيفهما علي أنفسهما.

وفي هذه الغزوة أبلي علي (ع) بلاءاً حسناً حيث قتل اليهود العشرة بقيادة رئيسهم عازورا

الذين خرجوا من الحصن في ظلام الليل لعمليات تخريبية واغتيال النبي (ص) وكفي اللّه المؤمنين به شرهم، وفيه يقول حسّان بن ثابت:

اللّه أيّ كريهة أبليتها ببني نضير والنفوس تطلّع

أردي رئيسهم وآب بتسعة طوراً يشلّهم وطوراً يدفع

من أسلم من بني النضير

ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير، وهو ابن عم عمرو بن جحاش الذي انتدب لإلقاء الصخرة علي رسول اللّه (ص)، وأبو سعد بن وهب.

أسلما علي أموالهما، واحرازها، وحسن اسلامهما، حتي أن يامين علي ما قيل: جعل لرجل جعلاً علي أن يقتل له ابن عمه عمرو بن جحاش علي ما أراده من اغتيال رسول اللّه (ص) ففعل الرجل ذلك.

غزوة بني لحيان

ثم كانت بعد غزوة بني النضير غزوة بني لحيان، فقد خرج اليهم رسول اللّه (ص) يطلب بأصحاب الرجيع الذين غدر بهم بنو لحيان وقتلوهم عن آخرهم.

وأظهر (ص) عند خروجه إليهم انه يريد الشام ليصيب من القوم غرة يفاجئهم بها فيستسلموا من دون حرب فيقل القتل وسفك الدماء، ولذلك خرج (ص) وأخذ في السير حتي نزل علي منازل بني لحيان بين أمَج وعسفان، فوجدهم قد حذروا وتمنّعوا في رؤس الجبال، فتركهم.

عندها قال المسلمون: لو انا هبطنا عسفان لرأي أهل مكة انا قد جئنا مكة، فسار (ص) وهو في مائتي راكب حتي نزل عسفان تخويفاً لمشركي مكة، وجاز علي قبر اُمه فزارها، وأرسل فارسين من الصحابة حتي بلغا كراع الغميم، ثم عادَ ولم يلق حرباً.

غزوة ذات الرقاع

وبعد مضي شهرين من غزوة بني النضير(2) كانت غزوة ذات الرقاع، وسمّيت ذات الرقاع لأنهم رقعوا راياتهم.

وقيل: لأنهم كانوا بقرب جبل فيه بقعُ بياض وسواد وحمرة.

وقيل: لأن أقدامهم نقبت فيها، فكانوا يلفّون علي أقدامهم الخِرق.

وقيل: لوقوع صلاة الخوف فيها وصلاة الخوف ترقيع للصلاة.

وكان سببها: ان قادماً قدم المدينة بمتاع له، فأخبر رسول اللّه (ص) بأن انماراً وثعلبة قد جمّعوا له الجموع يريدون اجتياح المدينة.

فخرج (ص) اليهم ليلة السبت لعشر خلون من المحرم في أربعمائة رجل، وقيل: في سبعمائة، وقيل: في ثمانمائة من أصحابه، فسار حتي نزل في محالّهم بذات الرقاع وهي جبل، فلقي المشركين ولم يقع بينهم حرب، ولكن خاف المسلمون أن يُغير المشركون عليهم، فنزلت صلاة الخوف، فصلّي رسول اللّه (ص) بأصحابه صلاة الخوف، وكان أول ما صلاّها.

كرم رسول اللّه (ص) وحلمه

ونزل رسول اللّه (ص) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة علي شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين، فقال لقومه: أنا أقتل محمداً فجاء وشدّ علي رسول اللّه (ص) بالسيف وقال: من ينجيك منّي؟

فقال (ص): ربّي وربّك، فنسفه جبرئيل عن فرسه فسقط، فقام رسول اللّه (ص) فأخذ السيف وجلس علي صدره وقال: من ينجيك منّي؟

قال: جودك وكرمك، فتركه (ص)، وقام الرجل فجاء إلي قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس، فأسلم بسببه جماعة.

وفي رواية: انه عندما جلس (ص) علي صدره قال له: تشهد أن لا إله إلا اللّه واني رسول اللّه؟ فقال الرجل: اعاهدك أن لا اُقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلي (ص) سبيله، فجاء الرجل إلي قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس …

ثبات وصمود

ثم انصرف رسول اللّه (ص) بأصحابه راجعاً إلي المدينة، وذلك بعد أن أصابوا بعض الغنائم، وفي الطريق باتوا في فم شعب، فانتدب عباد بن بشير وعمار بن ياسر للحراسة يتناوبانها بينهما.

فنام عمّار وقام عباد للحراسة واشتغل بالصلاة، وفي الأثناء جاء رجل من الأعداء وهو يريد اصابة شيء أو اراقة دم، فلما رأي طليعتهم عباد أخذ يرميه بالسهم تلو الآخر وعباد صامد لا يتحرك حتي إذا غلبه الدم ركع وسجد وأتمّ صلاته ثم أيقظ صاحبه وأخبره الخبر.

فقال له عمار: ألا أخبرتني أول ما رماك!

قال: كنت في سورة أقرؤها فلم اُحب أن أقطعها، وأيم اللّه لولا خوفي أن اُضيّع ثغراً أمرني رسول اللّه (ص) بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها.

تفقّد الرسول (ص) أصحابه

وكان رسول اللّه (ص) يسير في مؤخّر القوم ليسعف الضعيف منهم، ويحمل معه من قعد به مركبه وعجز به عن حمله، وفي هذه المرّة وفي طريق العودة من ذات الرقاع التقي بجابر بن عبداللّه الأنصاري وقد تخلّف عن القوم فقال له:

ما لك يا جابر؟

قال جابر وهو يشير إلي جمله: أبطأ بي هذا.

فدني رسول اللّه (ص) إلي الجمل، ومسح يده عليه فقوي الجمل وأخذ يواهق ناقته مواقهة، ثم قال لجابر: يا جابر أتبيعني جملك هذا؟

قال: بل أهبه لك يا رسول اللّه.

قال (ص): لا، ولكن بعنيه.

قال: اذن فساوِمني عليه يا رسول اللّه.

قال (ص): قد أخذته بدرهم.

قال: إذن تغبنني يا رسول اللّه.

قال (ص): فبدرهمين.

قال جابر: لا.

فلم يزل يرفع له رسول اللّه (ص) في ثمنه حتي بلغ الأوقية. فقال (ص): أرضيت يا جابر؟

قال جابر: نعم رضيت يا رسول اللّه فهو لك.

قال (ص): قد أخذته ولك ظهره إلي المدينة.

ثم قال له رسول اللّه (ص): هل تزوّجت يا جابر؟

قال: نعم يا رسول اللّه

(ص).

قال (ص): ثيّباً أم بكراً؟

قال: بل ثيّباً، فابتسم رسول اللّه (ص) وقال: أفلا جارية؟

قال جابر وقد تنفّس الصعداء: يا رسول اللّه إنّ أبي اُصيب يوم اُحد وترك سبع بنات فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤسهنّ وتقوم عليهنّ.

وهنا تأثّر رسول اللّه (ص) حتي ظهر علي قسمات وجهه الشريف آثاره وقال مستحسناً عمل جابر: أحسنت وأصبت يا جابر.

ثم سأله عن دَين أبيه فأخبره. فقال (ص) له: إذا دخلت المدينة وأردت أن تجذّ نخلك وتأخذ تمرها فأخبرني.

قال جابر: فدخلت المدينة وحدثت زوجتي الحديث وما قال لي رسول اللّه(ص). فقالت مستبشرة: فدونك، سمع وطاعة.

قال: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل حتي أنخته علي باب المسجد، ثم جلست في المسجد قريباً منه، فخرج رسول اللّه (ص) إلي المسجد فرأي الجمل فقال: ما هذا؟

قالوا: يا رسول اللّه هذا جمل جابر.

قال (ص): وأين جابر هو؟ فدُعي له، فلما مثل بين يديه قال (ص) له: ياابن أخي خذ برأس جملك فهو لك، ثم دعا بلالاً وقال له: اذهب بجابر فاعطيه اوقية.

قال جابر: فذهبت معه فأعطاني اوقية وزادني.

اللّه أرحم بكم

ومما يذكر وقوعه في غزوة ذات الرقاع: انّ رجلاً جاء وفي يده فرخ طائر حتي إذا وصل إليهم رأوا انّ أبوي هذا الفرخ يرفرفان فوق رأسه، فلما استقرّ الرجل بينهم طرحا أنفسهما علي فرخهما ولم يعبئا بالخطر شفقة ورحمة بفرخهما، فتعجّب الناس من ذلك.

فالتفت إليهم رسول اللّه (ص) وقال: أتعجبون من هذا الطائر، أخذتم فرخه، فطرح نفسه رحمة بفرخه؟ واللّه لربّكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه. ثم التفت (ص) بعد ذلك إلي الرجل وأمره بإطلاقه.

غزوة بدر الأخيرة

ولما قدم رسول اللّه (ص) من غزوة ذات الرقاع إلي المدينة أقام بها جمادي الاُولي إلي آخر رجب، ثم خرج في شعبان وقيل: أقام بها إلي آخر شوّال، ثم خرج في هلال ذي القعدة في السنة الرابعة من الهجرة النبوية المباركة إلي بدر لميعاد أبي سفيان.

وذلك انّ أبا سفيان قال يوم اُحد عند انصرافه منهزماً إلي مكة: الموعد بيننا وبينكم بدر العام القابل.

فقال رسول اللّه (ص) لعلي (ع) قل: نعم، هو بيننا وبينكم موعد.

فخرج رسول اللّه (ص) وحمل لوائه علي (ع) وسار معه ألف وخمسمائة من أصحابه، والخيل عشرة أفراس، وذلك بعد أن استعمل علي المدينة عبداللّه بن رواحة.

فلما وصلوا إلي بدر الصغري وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام أقاموا عليها ينتظرون أبا سفيان.

وخرج أبو سفيان من مكّة ومعه ألفان وخمسون فرساً حتي نزل مجنّة من ناحية مرّ الظهران ثم بدا له الرجوع، فبعث من يثبّط المسلمين عن الخروج إليهم ووعده علي ذلك عشرة من الإبل يضعها له علي يدي سهيل بن عمرو إن هو فعل ذلك.

ثم التفت أبو سفيان إلي مَن معه وقال: يا معشر قريش انه لا يصلحكم إلا عام

خصب، وإن عامكم هذا عام جدب، واني راجع فارجعوا، فرجع ورجع من كان معه.

فسمّاهم أهل مكة: جيش السويق يقولون: انما خرجتم تشربون السويق.

وأقام رسول اللّه (ص) وأصحابه ببدر ثمانية أيام لم يلقوا فيها أحداً من المشركين، ووافقوا السوق وكانت لهم تجارات فباعوها وأصابوا الدرهم درهمين، وانصرفوا إلي المدينة سالمين غانمين.

مع أشجع وبني ضمرة

وفي الطريق مرّ رسول اللّه (ص) ومعه أصحابه قريباً من بلاد أشجع وبني ضمرة، وكان قد هادن بني ضمرة ووادعهم من قبل.

فقال أصحاب رسول اللّه (ص): يا رسول اللّه هذه بنو ضمرة قريباً منّا، ونخاف أن يخالفونا إلي المدينة، أو يعينوا علينا قريشاً، فلو بدأنا بهم؟

فقال رسول اللّه (ص): كلا انهم أبرّ العرب بالوالدين، وأوصلهم للرحم، وأوفاهم بالعهد.

وكانت (أشجع) بلادهم قريباً من بلاد بني ضمرة وهم بطن من كنانة، وكان بين أشجع وبني ضمرة حلف في المراعاة والأمان، فاُجدبت بلاد أشجع، واُخصبت بلاد بني ضمرة، فصارت أشجع إلي بلاد بني ضمرة، فكان محالّها البيضاء والجبل والمستباح، وبذلك كانوا قد قربوا من رسول اللّه (ص) فهابوا لقربهم منه وخطرهم عليه، أن يبعث إليهم رسول اللّه (ص) من يغزوهم.

كما انّ رسول اللّه (ص) خافهم بسبب قربهم أن يصيبوا من أطرافه شيئاً، فهمّ بالمسير إليهم، فبينا هو علي ذلك، إذ جاءت أشجع ورئيسها مسعود بن رخيلة وهم سبعمائة فنزلوا شعب سلع، عندها دعي رسول اللّه (ص) اُسيد بن حضير وقال له: اذهب أنت ونفر من أصحابك حتي تنظر ما أقدم أشجع؟

فخرج اسيد ومعه ثلاثة من أصحابه، فوقف عليهم وقال: ما أقدمكم؟

فقام إليه رئيس أشجع مسعود بن رخيلة فسلّم علي اسيد وعلي أصحابه وقال: جئنا لنوادع محمداً، فرجع اسيد إلي رسول اللّه (ص) وأخبره بالخبر.

فقال رسول اللّه (ص): خاف

القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني وبينهم، ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدّمها أمامه ثم قال: (نعم الشيء الهدية أمام الحاجة) ثم أتاهم (ص) فقال: يا معشر أشجع ما أقدمكم؟

قالوا: قربت دارنا منك، وليس في قومنا أقلّ عدداً منّا، فضقنا بحربك لقرب دارنا منك، وضقنا بحرب قومنا لقلّتنا فيهم، فجئنا لنوادعك.

فقبل النبي (ص) ذلك منهم ووادعهم فأقاموا يومهم ثم رجعوا إلي بلادهم، وفيهم نزلت هذه الآية: (إلاّ الذين يصلون إلي قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم ان يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم)(3).

غزوة دومة الجندل

و(دومة الجندل) مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وبعدها من المدينة خمس عشرة ليلة أو ست عشرة.

وكان سببها أنه بلغه (ص) أن بها جمعاً كثيراً يظلمون من مرّ بهم، من المسافرين والتجّار، وانهم يريدون الإغارة علي المدينة، فخرج لخمس ليال بقين من ربيع سنة خمس للهجرة النبوية المباركة، وذلك في ألف من أصحابه، فكان يسير الليل ويكمن النهار، حتي إذا دنا من دومة الجندل بلغ أهلها خبره فتفرّقوا من فورهم.

فنزل (ص) بساحتهم فلم يلق بها أحداً، فأقام بها أياماً، وبث السرايا وفرقها، فرجعوا بعد يوم ولم يصادفوا منهم أحداً.

ثم عاد رسول اللّه (ص) إلي المدينة ولم يلق كيداً. وكان ذلك تمهيداً لما حدث بعد ذلك من فتح الشام.

1 الحشر: 9. 2 وقيل: بعد فتح بني قريضة. 3 النساء: 90.

غزوة الخندق (الأحزاب)

وكانت في شوال سنة خمس من الهجرة النبوية المباركة.

وذلك ان نفراً من اليهود منهم: سلام بن أبي الحقيق النضيريّ، وحييّ بن أخطب، وكنانة بن الربيع، وهوذة بن قيس الوالبي، وأبو عمارة الوالبي في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، خرجوا حتي قدموا علي قريش بمكة فقالوا لهم: انّ محمداً قد وترنا ووتركم، وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا، وأجلا بني عمنا بني قينقاع، فسيروا في الأرض وأجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتي نسير إليهم، فإنه قد بقي من قومنا بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة وبينهم وبين محمد عهد وميثاق، وإنّا نحملهم علي نقض العهد بينهم وبين محمد ويكونون معنا عليهم، فتأتونه أنتم من فوق، وهم من أسفل، وكان موضع بني قريظة من المدينة علي قدر ميلين وهو الموضع الذي يسميّ ببئر بني المطّلب، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتي نستأصله.

فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود

إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أديننا خير أم دينه؟

قالوا: بل دينكم خير من دينه، وانكم أولي بالحق منه.

فأنزل اللّه تعالي فيهم علي رواية: (ألم تر إلي الذين اُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدي من الذين آمنوا سبيلاً)(1) إلي قوله: (وكفي بجهنّم سعيراً)(2).

فلما قالوا ذلك لقريش سرّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول اللّه(ص).

وجاءهم أبو سفيان فقال لهم: قد مكّنكم اللّه من عدوّكم، هذه اليهود تقاتل معكم ولن تنفك عنكم حتي نأتي علي جميعهم، أو نستأصلهم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.

ثم خرج ذلك النفر من اليهود حتي أتوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلي حرب رسول اللّه (ص) وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأنّ قريشاً قد تابعوهم علي ذلك.

فخرجت قريش وقائدهم إذ ذاك أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني قرارة، والحارث بن عوف في بني مرة، ومسعر بن دخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع، وتوجّهوا في عشرة آلاف، وقيل: في ثمانية عشر ألف رجل، نحو المدينة.

المشورة تهدي إلي الظفر

فلما سمع بهم رسول اللّه (ص) استشار أصحابه، فكان رأيهم علي المقام في المدينة وحرب القوم إن جاءوا إليهم علي أنقابها.

فأشار سلمان الفارسي بالخندق واستحسنه القوم، ونزل جبرئيل علي رسول اللّه (ص) بصواب رأي سلمان.

فخرج رسول اللّه (ص) فحدّد حفر الخندق من ناحية اُحد إلي راتج، حيث كان سائر أنحاء المدينة مشبك بالنخيل والبنيان، وخطّ موضع الحفر بخط علي الأرض، فضرب الخندق علي المدينة فعمل فيه رسول اللّه (ص) ترغيباً للمسلمين في الأجر فحفر بنفسه في موضع المهاجرين، وعلي (ع) ينقل التراب من الحفرة، حتي عرق رسول اللّه (ص) وعيي وقال:

(لا عيش إلا عيش الآخرة، اللّهم اغفر للأنصار والمهاجرين).

فقالوا مجيبين له:

(نحن الذين بايعوا محمدا علي الجهاد ما بقينا أبدا)

وكان سلمان رجلاً قويّاً، فقال المهاجرون: سلمان منّا، وقالت الأنصار: سلمان منّا، فقال النبي (ص): (سلمان منّا أهل البيت).

وكان لكل عشرة منهم أربعون ذراعاً يحفرونها، فبدأ رسول اللّه (ص) فعمل فيه وعمل فيه المسلمون، فدأب فيه فدأبوا.

وأبطأ عن رسول اللّه (ص) وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون بالضعف عن العمل، ويتسلّلون إلي أهليهم بغير علم من رسول اللّه (ص) ولا إذن.

وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة من الحاجة التي لابدّ منها ذكرها لرسول اللّه (ص) واستأذنه باللحوق بحاجته فيأذن له، فإذا قضي حاجته رجع إلي ما كان فيه من عمله رغبةً في الخير واحتساباً له، فأنزل اللّه في اُولئك المؤمنين: (إنّما المؤمنون الذين آمنوا باللّه ورسوله وإذا كانوا معه علي أمر جامع لم يذهبوا حتي يستأذنوه)(3).

ثم قال تعالي في المنافقين الذين كانوا يتسلّلون من العمل ويذهبون بغير إذن: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً، قد يعلم اللّه الذين يتسلّلون منكم لواذاً)(4).

وكان الذي أشار بالخندق سلمان فقال: يا رسول اللّه، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، ولم تكن تعرفه العرب قبل ذلك، ولذا قال المشركون لما رأوا الخندق: انها مكيدة فارسية ما كانت العرب تكيدها.

النبي (ص) يجوع ليَشبع الآخرون

قال علي (ع): كنا مع النبي (ص) في حفر الخندق إذ جاءته فاطمة(ع) ومعها كسرة من خبز، فدفعتها إلي النبي (ص) فقال: يا فاطمة ما هذه؟

قالت (ص): قرص خَبَزته للحسن والحسين (عليه السلام) جئتك منه بهذه الكسرة.

فقال النبي (ص): أما إنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث.

بوارق الفتح

وبينا المهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل فيه المعاول، فبعثوا جابر بن عبداللّه الأنصاري إلي رسول اللّه (ص) يعلمه بذلك.

قال جابر: فجئت إلي رسول اللّه (ص) وقد شدّ علي بطنه حجر المجاعة، وأخبرته بالخبر.

فأقبل (ص) ودعا بماء في اناء، فشرب منه ثم مجّ ذلك الماء في فيه، ثم صبه علي ذلك الحجر، ثم أخذ معولاً فقال: بسم اللّه، فضرب ضربة، فبرقت برقة، فنظرنا فيها إلي قصور الشام، ثم ضرب اُخري فبرقت برقة فنظرنا فيها إلي قصور المدائن، ثم ضرب اُخري فبرقت برقة اُخري فنظرنا فيها إلي قصور اليمن.

فقال رسول اللّه (ص): أما انه سيفتح اللّه عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرقة، ثم انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل.

في ضيافة جابر

قال جابر: فلما رأيت رسول اللّه (ص) قد شدّ علي بطنه حجراً علمتُ بأنه جائع، فقلت له: يا رسول اللّه هل لك في الغداء؟

قال (ص): ما عندك يا جابر؟

قلت: عناق وصاع من شعير.

قال (ص) تقدّم وأصلح ما عندك.

قال جابر: فجئتُ إلي أهلي فأمرتها فطحنت الشعير، وذبحت العنز وسلختها، وأمرتها أن تخبز وتطبخ وتشوّي، فلما فرغت من ذلك، جئت إلي رسول اللّه (ص) فقلت: بأبي واُمّي أنت يا رسول اللّه قد فرغنا، فاحضر مع من أحببت.

فقام رسول اللّه (ص) إلي شفير الخندق ثم قال: يا معاشر المهاجرين والأنصار أجيبوا جابراً، وكان في الخندق سبعمائة رجل، فخرجوا كلّهم! ثم لم يمرّ (ص) بأحد من المهاجرين والأنصار إلا قال: أجيبوا جابراً!

قال جابر: فأسرعت إلي البيت وقلت لأهلي: قد واللّه أتاك رسول اللّه (ص) بما لاقبل لك به.

فقالت: هل أنت أعلمته بما عندنا؟

قال: نعم.

قالت: هو أعلم بما أتي.

قال جابر: فدخل رسول اللّه (ص) فنظر في القدر، ثم

نظر في التنور، ثم دعي بصحفة فثرد فيها وغرف، فقال: يا جابر أدخل عليّ عشرة، فأدخلت عشرة، فأكلوا حتي نهلوا، وما يري في القصعة إلا آثار أصابعهم.

ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته بالذراع فأكلوه.

ثم قال: أدخل عليّ عشرة، فدخلوا فأكلوا حتي نهلوا وما يري في القصعة إلا آثار أصابعهم.

ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته فأكلوا وخرجوا.

ثم قال: أدخل عليّ عشرة، فأدخلتهم فأكلوا حتي نهلوا ولم ير في القصعة إلا آثار أصابعهم.

ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته بالذراع فتعجّبت وقلت: يا رسول اللّه كم للشاة من ذراع؟

قال (ص): ذراعان.

قلت: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً لقد أتيتك بثلاثة.

فقال: أما لو سكتّ يا جابر لأكلوا كلهم من الذراع.

قال جابر: فأقبلت اُدخل عليه عشرة عشرة فيأكلون حتي أكلوا كلهم، وبقي واللّه لنا من ذلك الطعام ما عشنا به أياماً.

المشركون ومحاصرة المدينة

قال: وحفر رسول اللّه (ص) الخندق وأتمّه قبل قدوم قريش بثلاثة أيام، وقد طال حفره مايقارب من شهر واحد، وذلك بعد أن جعل له ثمانية أبواب، وجعل علي كل باب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الأنصار مع جماعة يحفظونه.

ثم ضرب (ص) عسكره هناك وكانوا ثلاثة آلاف، فجعل الخندق أمامه، وجعل ظهره إلي سلع وهو جبل بالمدينة، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام، وذلك بعد أن استعمل ابن اُمّ مكتوم علي المدينة.

وقدمت الأحزاب وعلي رأسهم قريش ومعهم حييّ بن أخطب، فلما نزلوا العقيق جاء حييّ بن أخطب إلي بني قريظة في جوف الليل، وكانوا في حصنهم وقد تمسّكوا بما عاهدوا عليه رسول اللّه (ص) فدقّ باب الحصن، فسمعه كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان هو بنفسه الذي وادع رسول اللّه (ص) علي قومه وعاقده علي ذلك،

فعرف انه حييّ بن أخطب، فأغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه، فأبي أن يفتح له.

فناداه حييّ: ويحك يا كعب افتح لي.

قال: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم، واني قد عاهدت محمداً، وانك لست بناقض مابيني وبينه ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً.

قال: ويحك افتح لي اُكلّمك.

فقال: ما أنا بفاعل.

قال حييّ، وقد فكّر في كلام يثير به كعب: واللّه ما أغلقت الباب دوني إلا عن جشيشتك التي في التنور تخاف أن آكل منها.

فأحفظ الرجل ففتح له وقال: لعنك اللّه لقد دخلت عليّ من باب دقيق.

فقال حييّ: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش علي قادتها وسادتها حتي أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة، وبغطفان علي قادتها وسادتها حتي أنزلتهم بذنب نَقَمي إلي جانب اُحد قد عاهدوني وعاقدوني ألا يبرحوا حتي يستأصلوا محمداً ومن معه.

قال كعب: جئتني واللّه بذلّ الدهر وبجهام قد هرق ماؤه، فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً.

فلم يزل حيي يفتله في الذروة والغارب ويقول له: بأن محمداً لا يفلت من هذا الجمع أبداً، وان فاتك هذا الوقت لاتدرك مثله أبداً، حتي سمع له علي أن أعطاه عهداً من اللّه وميثاقاً لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتي يصيبني ما أصابك.

وبهذا تمكّن حيي من اقناع كعب، فلما اقتنع كعب بذلك أرسل إلي كل من كان في الحصن من رؤساء اليهود وقال لهم: ما ترون؟

قالوا: أنت سيّدنا وصاحب عهدنا فإن نقضت نقضنا معك، وإن أقمت أو خرجت كنا معك.

فقال لهم (ابن باطا) وكان أحد رؤسائهم: انه قرأ في التوراة وصف هذا النبي وانه

لو ناوته الجبال الرواسي لغلبها، فلا يهولنّه هؤلاء وجمعهم، وحذرهم مغبّة نقضهم العهد معه.

وهنا انبري حيي وقال: ليس هذا ذاك، ذلك النبي من بني إسرائيل، وهذا من العرب، ومازال يقلّبهم عن رأيهم حتي أجابوه، ثم طلب حييّ الكتاب الذي كان بينهم وبين رسول اللّه (ص) فمزّقه وقال: قد وقع الأمر فتجهّزوا للقتال، فنقضوا عهدهم وعزموا علي القتال.

وجاء حييّ بن أخطب إلي أبي سفيان والأحزاب فأخبرهم بنقض بني قريظة عهدهم ففرحوا بذلك.

بني قريظة يعلنون خيانتهم

ثم بدأ بنو قريظة يظهرون خيانتهم ونقضهم للعهد، وحاولوا أن يغيروا علي المدينة من منافذها المؤدية إلي مساكن النساء والأطفال فبعثوا أحدهم ليطّلع علي المنافذ ويخبرهم بها.

وفي أثناء استطلاعه بصرت به صفية بنت عبدالمطلب وهي مع جماعة من النسوة والأطفال وفيهم حسان بن ثابت كانوا في حصن فارع حصن حسّان بن ثابت، فقالت لحسّان: لو نزلت إلي هذا اليهودي لتقتله، فإنه يريد أن يدلّ بني قريظة علي المنافذ المؤدية إلي الحصن.

فقال حسّان: يا بنت عبدالمطلب لقد علمت ما أنا بصاحب هذا.

وهنا تحزّمت صفية ثم نزلت وأخذت عموداً وقتلته به، ثم عادت إلي الحصن وقالت لحسّان: الآن فاخرج واسلبه.

أجابها حسّان: لا حاجة لي في سلبه.

النبي (ص) وأخبار بني قريظة

ولما نقض بنو قريظة عهدهم، انتهي خبرهم إلي رسول اللّه (ص) فبعث إليهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبداللّه بن رواحة وخوّات بن جُبير وقال: انطلقوا حتي تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه ولا تفتّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا علي الوفاء فاجهروا به للناس.

فخرجوا حتي أتوهم فوجدوهم علي أخبث ما بلغهم عنهم، ونالوا من رسول اللّه (ص) وقالوا: من رسول اللّه؟ لاعهد بيننا وبين محمد ولا عقد.

فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه وكان رجلاً فيه حدة.

فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربي من المشاتمة.

ثم أقبل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومن معهما إلي رسول اللّه (ص) فسلموا عليه ثم قالوا: عضل والقارة. أي: كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع.

فقال رسول اللّه (ص): اللّه أكبر أبشروا بنصر اللّه يا معشر المسلمين، وكان (ص) يبعث الحرس إلي المدينة خوفاً علي الذراري من بني قريظة.

لكن عظم علي المسلمين البلاء واشتدّ

الخوف عندما أتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم وحاصروهم حول الخندق حتي ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتي قال بعضهم: قد كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن علي نفسه أن يذهب لقضاء حاجته. وأنزل اللّه تعالي: (وإذ يقول المنافقون والّذين في قلوبهم مرض ما وعدنا اللّه ورسوله إلاّ غروراً)(5).

وقال رجال معه: (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا).

وقال بعضهم: يا رسول اللّه ان بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا فنرجع إلي ديارنا فإنها خارج المدينة، فأنزل اللّه سبحانه: (وما هي بعورة إن يريدوا إلاّ فراراً).

مفاوضات عسكرية

فلمّا اشتدّ البلاء علي المسلمين من كثرة الأحزاب وطول محاصرتهم، بعث رسول اللّه (ص) إلي عيينة بن حصن وإلي الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان، ففاوضهما بأن يعطيهما ثلث ثمار المدينة علي أن يرجعوا بمن معهما عنه وعن أصحابه، وذلك ليفتّ في عضد المشركين، فجري بينه وبينهما مذاكرة الصلح، ولم تقم الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك.

فبعث رسول اللّه إلي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول اللّه أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك اللّه به لابدّ لنا من العمل به فافعله، أم شيئاً تصنعه لنا؟

قال (ص): بل شيء أصنعه لكم، وما أصنع ذلك إلا لأنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وجاؤوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلي أمرمّا.

فقال له سعد بن معاذ: يا رسول اللّه قد كنا نحن وهؤلاء القوم علي الشرك باللّه وعبادة الأوثان ولا نعبد اللّه ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من ثمرنا تمرة إلا قري أو بيعاً، أفحين

أكرمنا اللّه بالإسلام وهدانا به نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، واللّه لا نعطيهم إلا السيف حتي يحكم اللّه بيننا وبينهم بحكمه.

فقال رسول اللّه (ص): الآن قد عرفت ما عندكم، فكونوا علي ما أنتم عليه، فإن اللّه تعالي لن يخذل نبيّه ولن يسلمه حتي ينجز له ما وعده.

وكان هذا بالإضافة إلي الفتّ في أعضاد المشركين، واستخبار معنويات المسلمين، تعليماً من الرسول (ص) في استشارة الحكام أهل الخبرة أيضاً.

بدء القتال

ولما علم رسول اللّه (ص) عزم أصحابه وعلوّ معنوياتهم رغم طول المحاصرة حيث دامت بضعاً وعشرين ليلة ولم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصي، قام (ص) يشجّع اُولئك الذين أصابهم الضعف والوهن خوفاً من المشركين، ويحرّضهم علي جهادهم، ويعدهم النصر من اللّه تعالي، ويحثهم بذلك علي المجابهة إذا نشب القتال.

وفي هذه الأثناء انتدبت فوارس من قريش، وعلي رأسهم فارس يليل: عمرو بن عبدود العامري، خرج مُعلماً ليري مشهده، وكان يعدّ بألف فارس، فأقبلوا علي خيلهم حتي وقفوا علي الخندق، فلما رأوه قالوا: واللّه إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، وكان عمرو العامري هذا ومن معه أول من عبر الخندق.

فخرج علي بن أبي طالب (ع) في نفر من المسلمين حتي أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ومنعوا من عبور الآخرين، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم.

وكان عمرو بن عبدود ينادي تارة: ألا رجل يبارزني؟

ويصرخ اُخري: أين جنّتكم التي تزعمون انّ من قتل منكم دخلها؟ ويرتجز ثالثة ويقول:

ولقد بُححت من النداء بجمعكم هل من مبارز؟

ووقفت إذ جبن الشجاع مواقف البطل المناجز

اني كذلك لم أزل متسرّعاً نحو الهزاهز

إن الشجاعة في الفتي

والجود من خير الغرائز

الايمان كله مع الشرك كله

وفي كل مرة يطلب عمرو المبارزة، كان رسول اللّه (ص) يقول لأصحابه: أيّكم يبرز إلي عمرو؟ وأضمن له علي اللّه الجنّة؟

وفي كل مرة يقوم علي بن أبي طالب (ع) ويقول: أنا له يا رسول اللّه، فيأمره بالجلوس انتظاراً منه ليتحرّك غيره، والمسلمون ناكسوا رؤوسهم كأنّ علي رؤوسهم الطير، لمكان عمرو بن عبدود.

فلما طال نداء عمرو بالبراز وتتابع قيام علي (ع) قال له رسول اللّه (ص): يا علي هذا عمرو بن عبدود فارس يليل.

قال: وأنا علي بن أبي طالب.

فقال (ص): إذن اُدن منّي يا علي، فدني منه، فنزع (ص) عمامته من رأسه وعمّمه بها، وأعطاه سيفه ذاالفقار وقال له: (اذهب وقاتل بهذا).

ثم رفع (ص) يديه نحو السماء وقال: (لاللّهمّ انّك أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبدالمطلب يوم اُحُد، وهذا أخي علي بن أبي طالب، ربّ لاتذرني فرداً وأنت خير الوارثين، اللّهمّ أعنه، اللّهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته).

فلما برز علي (ع) قال (ص): (برز الايمان كله إلي الشرك كله)(6).

ولما برز علي بن أبي طالب (ع) إلي عمرو، برز وهو يهرول في مشيته ويرتجز ويقول مجيباً لعمرو:

لاتعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة والصدق منجي كلّ فائز

اني لأرجو أن اُقيم عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقي ذكرها عند الهزاهز

علي أعتاب المصاولة

ولما اقترب علي (ع) من عمرو، قال له عمرو: من أنت؟

قال: أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول اللّه (ص) وختنه.

قال: واللّه انّ أباك كان لي صديقاً، واني أكره أن أقتلك، ما أمن ابن عمّك حين بعثك إليّ أن اختطفك برمحي هذا، فأتركك بين السماء والأرض لا حيّاً ولا ميّتاً؟

فأجابه علي (ع)

قائلاً: قد علم ابن عمّي انك إن قتلتني دخلتُ الجنّة وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنّة.

فقال عمرو: كلتاهما لك يا علي، تلك إذن قسمةٌ ضيزي.

فقال علي (ع): دع هذا يا عمرو، اني سمعتك تقول: لا يعرض عليّ أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلي واحدة منها، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلي واحدة.

قال عمرو: هات يا علي.

قال (ع): تشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمداً رسول اللّه.

قال: نحّ عني هذا، فأين ما أنفقت فيكم مالاً لبداً؟ وكان قد أنفق مالاً في الصدّ عن سبيل اللّه فأنزل اللّه فيه: (يقول أهلكت مالاً لبداً)(7).

قال (ع): فالثانية: أن ترجع من حيث جئت وترد هذا الجيش عن رسول اللّه (ص)، فإن يك صادقاً فأنتم أعلي به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره.

قال: إذن تتحدّث نساء قريش بأني جبنت ورجعت.

قال (ع): فالثالثة: أن تنزل إليّ وتقاتلني، فإني راجل وأنت راكب.

فنزل عمرو عن فرسه وعرقبه وقال: هذه خصلة ما كنت أظن انّ أحداً من العرب يسومني عليها، واني لأكره أن أقتل رجلاً كريماً مثلك، وقد كان أبوك لي صديقاً.

قال علي (ع): لكني اُحبّ أن أقتلك.

فغضب عندها عمرو وبدأ بالقتال فضرب علياً (ع) بالسيف علي رأسه، فاتقاه بالدرقة فقطعها، وثبت السيف علي رأسه (ع).

ثم بدره علي (ع) فضربه علي ساقيه فقطعهما جميعاً، وارتفعت بينهما عجاجة، وكبّر علي (ع).

فانكشف من كان مع عمرو حتي عبروا الخندق منهزمين، فوقع نوفل بن عبدالعزّي في الخندق، فطعنه علي (ع) في ترقوته فمات في الخندق.

ضربة علي (ع) يوم الخندق

ولما انكشفت العجاجة نظروا فإذا بعلي (ع) علي صدر عمرو قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه، فلمّا همّ أن يذبحه تركه وقام

فخطا خطوات ثم رجع إليه وأخذ بلحيته ثانية ليذبحه وهو يكبّر اللّه ويمجّده، فقال له عمرو: يا علي إذا قتلتني فلا تسلبني حلّتي.

فقال (ع): هي أهون عليّ من ذلك، فذبحه وتركه، ثم أخذ رأسه وأقبل نحو رسول اللّه (ص) والدماء تسيل علي رأس علي (ع) من ضربة عمرو، وسيفه يقطر منه الدم، وهو يقول والرأس بيده:

أنا علي وابن عبدالمطلب الموت خير للفتي من الهرب

يقول ذلك وهو يخطر في مشيته.

فقال بعض: ألا تري يا رسول اللّه إلي عليّ كيف يتبختر في مشيه؟

فقال رسول اللّه (ص): انها لمشية لا يمقتها اللّه في هذا المقام.

ثم استقبله رسول اللّه (ص) ومسح الغبار عن عينيه وقال له: أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل اُمّة محمد لرجح عملك بعملهم، وذاك انه لم يبق بيت من المشركين إلاّ وقد دخله ذلّ بقتل عمرو، ولم يبق بيت من المسلمين إلاّ وقد دخله عزّ بقتل عمرو.

ثم قال (ص): ضربة علي (ع) يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين.

وسُمع منادياً ينادي ولا يري شخصه يقول:

قتل علي عمرا قصم علي ظهراً

ابرم علي أمراً

ووقعت الهزيمة بالمشركين وتفرّقت الأحزاب خائفين مرعوبين.

فقال رسول اللّه (ص): الآن نغزوهم ولا يغزونا، فكان كما قال (ص) فلم يغزهم قريش بعد ذلك، وكان هو يغزوهم حتي فتح اللّه عليهم مكّة.

ولما سألوا علياً (ع) عن سبب قيامه عن صدر عمرو ثم العود إليه ثانية، وعن تركه سلبه؟

قال (ع): ان عمرواً تجاسر عليه مما أثار غضبه، فقام يخطو خطوات يطفيء بها غضبه ليكون قتله إيّاه خالصاً لوجه اللّه تعالي لا يشوبه شيء من التشفي والإنتقام لنفسه، كما انه ترك سلبه، لأن عمرواً قد سأله ذلك وطلب منه أن لايسلبه بعد قتله.

ضربتان: أعزّ وأشأم

روي الأودي قال:

سمعت ابن عياش يقول: لقد ضَرب عليّ (ع) ضربة ما كان في الإسلام ضربة أعزّ منها، يعني بها ضربة عمرو بن عبدود العامري، ولقد ضُرب علي (ع) ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها، يعني بها ضربة ابن ملجم المرادي، وفي قتل عمرو بن عبدود يقول حسّان بن ثابت:

أمسي الفتي عمرو بن عبد يبتغي بجنوب يثرب غارة لم تنظر

ولقد وجدت سيوفنا مشهورة ولقد وجدت جيادنا لم تقصر

ولقد رأيت غداة بدر عصبة ضربوك ضرباً غير ضرب المخسر

أصبحت لا تدعي ليوم عظيمة يا عمرو أو لجسيم أمر منكر

فسمعه أحد بني عامر فأجابه وهو يرد عليه افتخاره بالأنصار قائلاً:

كذبتم وبيت اللّه لم تقتلوننا ولكن بسيف الهاشميين فافخروا

بسيف ابن عبداللّه أحمد في الوغا بكف عليّ نلتمُ ذاك فاقصروا

فلم تقتلوا عمرو بن عبد ببأسكم ولكنه الكفو الهزبر الغضنفر

عليّ الذي في الفخر طال بناؤه ولا تكثتروا الدعوي علينا فتحقروا

مع ابنة عبدود

وروي انه لما قتل علي (ع) عمرو بن عبدودّ نعي إلي اُخته عمرة بنت عبدود، فلما جاءت إليه ورأته علي حلّته لم يسلبه قاتله، قالت: من ذا الذي اجترأ عليه؟

قالوا لها: علي بن أبي طالب.

قالت: لم يعد موته إلا علي يد كفو كريم، لا رقأت دمعتي ان هرقتها عليه، قتل الأبطال، وبارز الأقران، وكانت منيته علي يد كفو كريم من قومه، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر، ثم أنشأت تقول:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله لكنتُ أبكي عليه آخر الأبد

لكن قاتل عمرو لا يعاب به من كان يدعي قديماً بيضة البلد

ثم قالت: واللّه لا ثأرت قريش بأخي ما حنّت النيب والنيب جمع ناب وهي المسنّة من النوق كناية عن انها لاتستطيع ذلك أبداً.

في الحرب ومع المشركين فقط

كان نعيم بن مسعود الأشجعي ممن يجيد فنّ الشغب والفتنة، فأتي رسول اللّه (ص) في جوف الليل وكان قد أسلم قبل قدوم قريش بثلاثة أيام، فقال: يا رسول اللّه اني قد آمنتُ باللّه وصدقتك، وكتمتُ ايماني عن الكفرة، فإن أمرتني أن آتيك وأنصرك بنفسي فعلت، وإن أمرتني ان اُخذّل بين اليهود وبين قريش فعلت حتي لايخرجوا من حصنهم.

فقال رسول اللّه (ص): خذّل بين اليهود وبين قريش، فإنه أوقع عندي.

فجاء إلي أبي سفيان وقال له: انك تعرف مودّتي لكم ونصحي، وقد بلغني انّ محمداً قد وافق اليهود علي أن يأخذوا رهائن من أشرافكم ليسلّموهم إلي محمد يضرب أعناقهم، ثم يدخلوا بين عسكركم ويميلوا عليكم، ووعدهم إذا فعلوا ذلك أن يردّ عليهم جناحهم الذي قطعه بني النضير وقينقاع، فلا أري أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتي تأخذوا منهم رهناً تبعثوا بهم إلي مكّة، فتأمنوا مكرهم وغدرهم.

فقال له أبو سفيان: وفّقك اللّه وأحسن جزاءك،

مثلك من أهدي النصائح.

ثم جاء نعيم من فوره ذلك إلي بني قريظة وقال لكعب وكان نديماً له في الجاهلية: يا كعب انّك تعلم مودّتي لكم ونصحي، وقد بلغني انّ أبا سفيان قال: نخرج هؤلاء اليهود فنضعهم في نحر محمّد، فإن ظفروا كان الفخر لنا، وإن خسروا كانوا هؤلاء مقاديم الحرب، فلا أري لكم أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتي تأخذوا منهم عشرة من أشرافهم يكونون في حصنكم، فإنهم إن لم يظفروا بمحمد رجعوا إلي مكة وغزاكم محمد فقتلكم، لكن إن أخذتم رهائن منهم، لم يذهبوا حتّي يردّوا عليكم عهدكم الذي جعلتموه بينكم وبين محمد.

فقال له كعب: أحسنت وأبلغت في النصيحة لانخرج من حصننا حتي نأخذ منهم رهناً يكونون في حصننا.

وكان كذلك، فإنهم طلبوا رهناً حينما طلب منهم أبوسفيان أن يبدأوا القتال، فقال أبوسفيان: صدق نعيم، فاختلفت كلمتهم.

الأحزاب ينهزمون

لما قَتل علي (ع) عمرو بن عبدود دخل الوهن والذلّ معسكر الأحزاب، واضطربوا أشدّ اضطراب، فلما جنّ اللّيل قام رسول اللّه (ص) علي التلّ الذي عليه مسجد الفتح، وكانت ليلة ظلماء قرّة فقال: من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنّة؟ أعادها فلم يقم أحد، ثم قال: من هذا؟ وكان حذيفة قريباً منه، فقال: أنا حذيفة يا رسول اللّه.

فقال: اقترب يا حذيفة أما تسمع كلامي؟

فقام حذيفة وهو يقول: القرّ والضرّ جعلني اللّه فداك منعاني أن اُجيبك.

فقال رسول اللّه (ص): انطلق حتي تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم.

فقال حذيفة: نعم يا رسول اللّه، ثم قام فأخذ سيفه وقوسه وترسه، وليس به ضرّ ولا قرّ واتّجه نحوهم.

فقال له رسول اللّه (ص) بعد أن دعا له: يا حذيفة لاتحدث شيئاً حتي تأتيني، فلما ذهب حذيفة رفع رسول اللّه (ص) يديه إلي السماء ودعا قائلاً: (يا صريخ

المكروبين، ويا مجيب دعوة المضطرّين، ويا مغيث المهمومين، اكشف همّي وغمّي وكربي، فقد تري حالي وحال أصحابي) وما أن تمّ دعاؤه حتي نزل جبرئيل وهو يقول: يا رسول اللّه انّ اللّه عزّ ذكره قد سمع مقالتك ودعاءك وقد أجابك وكفاك هول عدوّك، فجثا رسول اللّه (ص) علي ركبتيه، وبسط يديه، وأرسل عينيه، ثم قال: (شكراً شكراً، كما رحمتني ورحمت أصحابي).

ثم قال: ان اللّه عزّ وجل قد بعث عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها حصي وأرسل عليهم ريحاً من السماء الرابعة فيها جندل.

حذيفة ودعاء الرسول (ص)

قال حذيفة: خرجت فلما وصلت إليهم، أقبل جند اللّه الأول ريح فيها حصي، فما تركت لهم ناراً إلاّ أذرّتها، ولا خباءاً إلاّ طرحته، ولا رمحاً إلا ألقته، حتي جعلوا يتترّسون من الحصي.

فجلست بين رجلين من المشركين، فقام أبو سفيان وقال: إن كنّا نقاتل أهل الأرض فنحن بالقدرة عليه، وإن كنّا نقاتل أهل السماء كما يقول محمد فلا طاقة لنا بأهل السماء، انظروا بينكم لا يكون لمحمد عين بيننا، فليسأل بعضكم بعضاً.

قال حذيفة: فبادرتُ إلي الذي عن يميني وقلت له: من أنت؟

قال معاوية.

وقلت للذي عن يساري: من أنت؟

فقال: عمرو بن سهيل، ولم يسألاني عن اسمي.

ثم أقبل جند اللّه الأعظم. ريح فيها جندل، فقام أبو سفيان إلي راحلته، ثم صاح في قريش: النجاء النجاء، ولما أراد أن يركب راحلته أمكنني قتله، فلما هممت بذلك تذكرت قول رسول اللّه (ص): (لا تحدثن حدثاً حتي ترجع إليّ) فكففت ورجعت بعد أن انهزم المشركون وذهب الأحزاب.

فأخبرتُ رسول اللّه (ص) الخبر وقد طلع الفجر، فتهيّأ وتهيّئنا معه للصلاة، فصلّي بنا الفجر ثم نادي مناديه: لا يبرحنّ أحد مكانه إلي أن تطلع الشمس، فلما طلعت الشمس انصرفنا مع رسول اللّه

(ص) إلي داخل المدينة وهو يقول علي رواية: (لا إله إلاّ اللّه وحده وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فله الملك وله الحمد، يحيي ويميت، ويميت ويحيي، وهو حيّ لا يموت بيده الخير وهو علي كلّ شيء قدير).

القرآن وغزوة الأحزاب

ثم انّ اللّه تعالي أوحي إلي نبيّه (ص) سورة الأحزاب يذكّر المسلمين فيها بما أصابهم ذلك اليوم من ضرّ، وبما منّ عليهم من الفتح وبما أنزل عليهم من النصر، اضافة إلي ما في تسمية السورة بالأحزاب من اشارة إلي أهمية الأمر وعظم الواقعة حيث يقول تعالي:

(يا أيّها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم، إذ جاءتكم جنود، فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها، وكان اللّه بما تعملون بصيراً، إذ جاءوكم من فوقكم، ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتظنّون باللّه الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً)(8) إلي قوله تعالي: (وردّ اللّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفي اللّه المؤمنين القتال، وكان اللّه قويّاً عزيزاً)(9).

ثمّ بشّرهم بفتح حصون اليهود حيث يقول تعالي: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطأوها، وكان اللّه علي كلّ شيء قديراً)(10).

1 النساء: 51. 2 النساء: 55. 3 النور: 62.

4 النور: 63. 5 الأحزاب: 12.

6 راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ج 13 ص 261 ط دار إحياء التراث العربي.

7 البلد: 6. 8 الأحزاب: 9 11. 9 الأحزاب: 25.

10 الأحزاب: 26 27.

غزوة بني قريظة

لما انصرف رسول اللّه (ص) من الخندق ودخل المدينة واللواء معقود، أراد أن يغتسل من الغبار، فناداه جبرئيل: عذيرك من محارب، واللّه ما وضعت الملائكة لامتها، فكيف تضع لامتك؟ ان اللّه يأمرك أن لا تصلّي العصر إلا ببني قريظة، فإني متقدّمك ومزلزل بهم حصنهم.

فخرج رسول اللّه (ص) وقال: ادعوا لي علياً، فجاء علي (ع) فقال له: ناد في الناس أن لايصلينّ أحد العصر إلا في بني قريظة، فنادي فيهم،

فخرج الناس، فبادروا إلي بني قريظة، وخرج رسول اللّه (ص) وعلي (ع) بين يديه مع الراية العظمي في ثلاثة آلاف رجل وثلاثين فرساً، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.

وكان حييّ بن أخطب لما انهزم الأحزاب جاء فدخل حصن بني قريظة، فجاء علي (ع) فأحاط بحصنهم، فأشرف عليهم كعب بن أسد من الحصن يشتمهم ويشتم نبيّهم.

فأقبل رسول اللّه (ص) وأنزل العسكر حول حصنهم فحاصرهم ثلاثة أيام، فنزل بعدها أحدهم إليه وقال: يا محمد تعطينا ما أعطيت إخواننا من بني النضير؟

فقال: لا، أو تنزلون علي حكمي.

فرجع، واستمر الحصار خمساً وعشرين ليلة.

فلما اشتد عليهم ذلك وأيقنوا انّ رسول اللّه (ص) غير منصرف عنهم، قام سيّدهم كعب بن أسد وعرض عليهم ثلاث خصال: اما الإسلام، وإما قتل ذراريهم ونسائهم ثم القتال حتي يموتوا، وإما تبييت النبي (ص) وأصحابه ليلة السبت، فإن المسلمين قد أمنوا منهم.

فأبوا كل ذلك، فأرسلوا إلي رسول اللّه (ص) أن يبعث إليهم أبا لبابة بن عبدالمنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس، ليستشيروه في أمرهم، فأرسله إليهم.

زلة أبي لبابة وتوبته

فلما جاء أبو لبابة إلي بني قريظة أحاطوا به وقالوا له: يا أبا لبابة، أتري أن ننزل علي حكم محمد؟

قال: نعم، وأشار بيده إلي حلقه أنه الذبح.

قال أبو لبابة: فواللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتي عرفت أني قد خنتُ اللّه ورسوله.

ثم انطلق أبو لبابة علي وجهه فلم يأت رسول اللّه (ص) حتي ارتبط في المسجد إلي عمود من عمده وقال: لا أبرح من مكاني هذا حتي يتوب اللّه عليَّ مما صنعت، وعاهد اللّه أن لا يطأ بني قريظة أبداً، ولا يراه اللّه في بلد خان اللّه ورسوله فيه أبداً.

فلما سمع رسول اللّه (ص) خبره

وكان قد استبطأه قال: أما لو جاءني لاستغفرتُ له، وأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتي يتوب اللّه عليه.

فنزلت توبة أبي لبابة علي رسول اللّه (ص)، فتولّي رسول اللّه (ص) إطلاقه بيده الكريمة، فنزلت بنو قريظة علي حكم رسول اللّه (ص).

حكمية سعد بن معاذ

فلما نزلت بنو قريظة علي حكم رسول اللّه (ص) قالت الأوس: يا رسول اللّه قد فعلت في بني قينقاع ما قد فعلت وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا.

فقال رسول اللّه (ص): ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟

قالوا: بلي فمن هو؟

قال (ص): فذلك سعد بن معاذ.

قالوا: قد رضينا بحكمه.

وكان رسول اللّه (ص) قد جعل سعد بن معاذ لما به من الجراح الذي أصابه من وقعة الأحزاب في خيمة في المسجد تسكنها رفيدة امرأة صالحة تقوم علي المرضي وتداوي الجرحي تحتسب بذلك الأجر، ليعوده من قريب، فأرسل رسول اللّه (ص) إلي سعد ليؤتي به ليحكم في بني قريظة، فاُتي به في محفّة وهو سرير يحمل عليه المريض، وأحاط به قومه وهم يقولون: يا أباعمرو، أحسن في مواليك، فإنما ولاّك رسول اللّه (ص) ذلك لتحسن فيهم.

فقال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في اللّه لومة لائم، فأحسّ قومه من كلامه هذا، انه يريد أن يحكم فيهم بما حكم به اليهود أنفسهم: من الحكم بقتل المحاربين وسبي ذراريهم ونسائهم ومصادرة أموالهم إذا كان الفتح لهم، وبما عاهد اليهود أنفسهم رسول اللّه (ص): من انهم لو نقضوا عهدهم معه كان له الحق في قتلهم ومصادرة أموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم، ولذلك قالوا: واقوماه ذهب واللّه بنو قريظة.

فلما استقرّ بسعد المجلس، التفت إلي اليهود وقال لهم: يا معشر اليهود أرضيتم بحكمي فيكم؟

قالوا:

بلي قد رضينا بحكمك، فأعاد عليهم القول.

فقالوا: بلي يا أبا عمرو.

عندها التفت سعد إلي رسول اللّه (ص) وقال اجلالاً له: بأبي أنت واُمّي يا رسول اللّه ما تري؟

قال (ص): احكم فيهم يا سعد، فقد رضيت بحكمك فيهم.

فقال سعد: قد حكمت يا رسول اللّه أن تقتل رجالهم، وتسبي نساءهم وذراريهم، وتقسّم غنائمهم وأموالهم بين المهاجرين والأنصار.

فنفّذ المسلمون حكم سعد فيهم فساقوا الاُساري إلي المدينة، وأمر رسول اللّه (ص) بأن يحفروا حفراً في البقيع، فلما أمسي أمر بإخراج رجل رجل، فاُخرج كعب بن أسد، فلما نظر إليه رسول اللّه (ص) قال له: يا كعب أما نفعك وصية ابن حواش الحبر الذي أقبل من الشام وقال: تركت الخمر والخمير، وجئت إلي البؤس والتمور، لنبي يبعث، هذا أوان خروجه، يكون مخرجه بمكّة، وهذه دار هجرته، وهو الضحوك الذي يجتزئ بالكسرة والتميرات، ويركب الحمار العاري، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوّة، يضع سيفه علي عاتقه لا يبالي من لاقي منكم، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر؟

فقال كعب: قد كان ذلك يا محمد، ولولا أن اليهود يعيّروني اني جزعت عند القتل لآمنتُ بك وصدقتك، ولكني علي دين اليهود عليه أحيا وعليه أموت.

فأمر رسول اللّه (ص) بضرب عنقه، فضربت.

ثم قدّم حييّ بن أخطب فضربت عنقه، ثم ضربت أعناق الباقين، وكانوا قليلين جداً.

ويؤيّد ذلك سيرة الرسول (ص) في التقليل من القتل حسب الإمكان.

واصطفي (ص) لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو ثم قسم رسول اللّه (ص) بين المسلمين الأموال والنساء والذراري، وذلك بعد أن أخرج خمسها.

شهداء الخندق وقريظة

وكان قد استشهد من المسلمين يوم الخندق وقريظة: سعد بن معاذ، فإنه بعد أن حكم في بني قريظة، انفجر جرحه بالدم فأرجعوه إلي خيمته الذي ضربت عليه في

المسجد، فما لبث أن نزل جبرئيل علي رسول اللّه (ص) وقال: من هذا العبد الصالح الذي مات، فقد فتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش.

فخرج رسول اللّه (ص) إلي المسجد فإذا بسعد بن معاذ قد قبض.

وممن استشهد يوم الخندق وقريظة: الطفيل بن النعمان، وأنس به اوس، وعبداللّه بن سهل، وثعلبة بن غنمة، وكعب بن زيد، وخلاد بن سويد الذي طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحي فقتلته به، ومات في الحصار أبوسنان بن محصن أخو عكاشة بن محصن.

مع ابن باطا

وكان لابن باطا وهو من رؤساء بني قريظة يد عند ثابت بن قيس، فأتي ثابت رسول اللّه (ص) وقال: يا رسول اللّه كان لابن باطا عندي يد وقد أحببتُ أن أجزيه بها فهب لي دمه.

فقال رسول اللّه (ص): هو لك.

فأتاه فأخبره بذلك.

فقال ابن باطا: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟

فأتي ثابت إلي رسول اللّه (ص) وقال: يا رسول اللّه أهله وولده.

قال (ص): هم لك.

فأتاه فأخبره بذلك.

فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم علي ذلك؟

فأتي ثابت إلي رسول اللّه (ص) وقال: ماله يا رسول اللّه.

قال (ص): هو لك.

فأتاه فأخبره بأنّ ماله له وفاءاً.

عند ذلك قال ابن باطا لثابت: أين كعب بن أسد؟

قال ثابت: قتل.

قال: فما فعل حييّ بن أخطب؟

قال: قتل.

قال: وما هي حال غزال بن شمول؟

قال: قتل.

فلما سمع ابن باطا بقتل هؤلاء قال لثابت: أسألك بيدي عندك يا ثابت إلاّ ما ألحقتني بالقوم، فواللّه ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر حتي ألقي الأحبّة، فلمّا رأي ثابت هذه اللجاجة من ابن باطا مع ما منّ عليه رسول اللّه(ص) من العفو عنه وعن أهله وأولاده وماله غضب وقال: لا بأس،

ثم قدمه وضرب عنقه.

سرية ابن مسلمة إلي نجد

ثم بعث رسول اللّه (ص) خيلاً قبل نجد وجعل عليهم محمد بن مسلمة، فظفروا برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن اُثال، وكان قد قتل من المسلمين، فأسروه وجاءوا به إلي المدينة فربطوه بسارية من سواري المسجد، وقيل: أودعوه في غرفة علي باب المسجد.

فخرج إليه رسول اللّه (ص) وقال له: ما عندك يا ثمامة؟

فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم علي شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل منه ما شئت.

فتركه حتي كان الغد، ثم قال (ص) له: ما عندك يا ثمامة؟

قال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم علي شاكر إلي آخره.

فتركه حتي كان بعد الغد فقال (ص) له: ما عندك يا ثمامة؟

قال: عندي ما قلت.

قال (ص): أطلقوا ثمامة.

فانطلق إلي نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لاإله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، يا محمد، واللّه ما كان علي الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، وأما الآن فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ، واللّه ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدين إليَّ، واللّه ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا اُريد العمرة، فماذا تري؟

فبشّره رسول اللّه (ص) وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟

قال: لا ولكن أسلمت مع محمّد رسول اللّه (ص)، ولا واللّه لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتي يأذن فيها النبي (ص)، وكانت اليمامة ريف مكة، فانصرف إلي بلاده ومنع الحمل إلي مكة حتي جهدت قريش، فكتبوا إلي رسول اللّه (ص) يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلي ثمامة يخلي لهم

حمل الطعام، ففعل رسول اللّه(ص) ذلك.

غزوة الغابة

وتعرف بذي قرَد بفتح القاف والراء، وهو ماء علي بريد من المدينة بطريق الشام، وكانت هذه الغزوة في ربيع الأول سنة ست من الهجرة النبويّة المباركة.

وسببها: أنه كان لرسول اللّه (ص) عشرون لقحة وهي ذوات اللبن القريبة العهد بالولادة ترعي بالغابة فأغار عليها عيينة بن حصن الفزاري ليلة الأربعاء في أربعين فارساً فاستاقوها وقتلوا الراعي، وكان فيهم رجل من غفار وامرأته، قتلوا الرجل وسبوا المرأة.

ونودي: يا خيل اللّه اركبي، وكان أول ما نودي بها، كما انه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع السلمي، كان ناهضاً إلي الغابة، فلما علا ثنية الوداع نظر إلي خيل الكفار فصاح، فأنذر المسلمين، ثم نهض في آثارهم فأبلي بلاء حسناً عظيماً، ورماهم بالنبل حتي استنقذ ما كان بأيديهم من اللقاح، واستخلص المرأة، واستلب منهم ثلاثين بردة.

فلما وقعت الصيحة بالمدينة كان أول من أتي إلي رسول اللّه (ص) من الفرسان المقداد بن عمرو، ثم عباد بن بشر الأشهلي، واُسيد بن حضير أخو بني حارثة، وعكاشة بن محصن، ومحرز بن نضلة الأسدي الأخرم، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وأبو عياش عبيد بن زيد بن صامت الزرقي.

فلما اجتمعوا خرج رسول اللّه (ص) حتي أدرك ابن الأكوع.

فلما رأي ابن الأكوع رسول اللّه (ص) قال: يا رسول اللّه قد حميت القوم الماء فابعث إليهم الساعة.

فقال (ص): يابن الأكوع إذا ملكت فاسجح، أي: سهّل وحسّن العفو.

ثم ان أول من لحق بهم محرز بن نضلة الأخرم، فأخذ ابن الأكوع بعنان فرسه، وقال: يا أخرم ان القوم قليل فاحذرهم لايقتطعوك حتي يلحق بنا أصحابنا.

فقال الأخرم: يابن الأكوع لا تحل بيني وبين الشهادة، فخلّي سبيله، فالتقي هو والفزاري فعقر

الأخرم فرسه، فطعنه الفزاري فقتل رحمه اللّه، ولحق أبو قتادة فقتل قاتل الأخرم، وولّي المشركون منهزمين.

وبلغ رسول اللّه (ص) ماء يقال له ذو قرد، ونحر ناقة من لقاحه المسترجعة، وأقام (ص) يوماً وليلة ثم رجع إلي المدينة، وأقبلت امرأة الغفاري علي ناقة رسول اللّه (ص)، فلما أتت المدينة نذرت أن تنحرها، فأخبرها رسول اللّه (ص) انه لانذر لأحد فيما لا يملك، كما لا نذر في معصية.

سرية عكاشة إلي الغمرة

والغمرة: ماء لبني أسد، علي ليلتين من فيد، أرسل إليهم رسول اللّه (ص) حين سمع بأنهم يريدون الإغارة علي المدينة عكاشة بن محصن في أربعين رجلاً، وذلك في آخر شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة النبوية المباركة.

فلما أحسّ القوم بهم بكّروا في الهروب وتركوا مكانهم مائتي بعير، فساقها عكاشة إلي المدينة.

سرية زيد الي العيص

والعيص هي: منطقة علي أربعة أميال من المدينة، خرج إليها في جمادي الاُولي زيد بن حارثة في مائة وسبعين راكباً ليأخذوا عيراً لقريش قد أخذت طريق العراق.

فالتقوا بأبي العاص ابن الربيع زوج زينب بنت رسول اللّه (ص)، وذلك عند مرجعه من الشام، وكان رجلاً مأموناً، وكانت معه بضائع لقريش، فاستاقوا عيره وأفلت، وقدموا علي رسول اللّه (ص) بما أصابوا، فقسّمه بينهم.

وأتي أبو العاص المدينة فدخل علي زينب بنت رسول اللّه (ص) مستجيراً بها وسألها أن تطلب من رسول اللّه (ص) ردّ ماله عليه، وما كان معه من أموال الناس.

فدعا رسول اللّه (ص) السرية وقال: إنّ هذا الرجل منا بحيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالاً ولغيره، وهو فيء اللّه الذي أفاء عليكم، فإن رأيتم أن تردوا عليه فافعلوا، وإن كرهتم فأنتم وحقكم.

قالوا: بل نرد عليه يا رسول اللّه، فردوا عليه ما أصابوا، حتي إن الرجل يأتي بالشيء والرجل يأتي بالإداوة والرجل بالحبل، فما تركوا قليلاً مما أصابوا ولا كثيراً إلا ردوه عليه.

ثم خرج أبو العاص بالبضائع حتي قدم مكة فأدّي إلي الناس بضائعهم، حتي إذا فرغ قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم مال لم أرده عليه؟

قالوا: لا، فجزاك اللّه خيراً، قد وجدناك وفياً كريماً.

قال: واللّه ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا توقّياً أن تظنّوا اني أسلمت لأذهب بأموالكم،

ثم قال معلناً: اني أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله.

سرية ابن حارثة إلي بني فزارة

وفي شهر رجب سنة ست من الهجرة النبوية المباركة بعث رسول اللّه (ص) زيد بن حارثة علي رأس جماعة إلي وادي القري وذلك لأن زيداً كان يذهب إلي الشام في تجارة ومعه بضائع من أصحاب النبي (ص)، فلما قربوا من وادي القري أغار عليهم قوم من فزارة، فقتلوا المسلمين، ونجي زيد بنفسه، فلما قدم زيد المدينة وقد خلص بنفسه، بعثه رسول اللّه (ص) مع جماعة إلي بني فزارة، فلقيهم بوادي القري فأصاب منهم أموالاً وقتل منهم رجالاً ورجع إلي المدينة بعد أن وطّد الأمن في الطريق.

غزوة بني المصطلق

ثم كانت غزوة بني المصطلق وهم بطن من خزاعة، ورأسهم الحارث بن أبي ضرار، وقد تهيّأ للزحف علي المدينة حيث سار الحارث في قومه ومن قدر عليه من العرب فدعاهم إلي حرب رسول اللّه (ص) فأجابوه.

فلما سمع بهم رسول اللّه (ص) خرج إليهم في بشر كثير لليلتين خلتا من شعبان سنة ست من الهجرة النبوية المباركة، واستعمل علي المدينة أبا ذر الغفاري وقيل: نميلة بن عبداللّه الليثي، فلقيهم علي ماء من مياههم يقال له: المريسيع، فتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر رسول اللّه (ص) أصحابه أن يحملوا عليهم حملة رجل واحد، فما أفلت منهم انسان، وقتل عشرة منهم وأسر سائرهم، وسبي رسول اللّه (ص) النساء والذراري، وغنم الأموال والشاء والنعم.

وكان من السبي اُم المؤمنين (جويرية) بنت الحارث بن أبي ضرار سيّد بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدّي رسول اللّه (ص) عنها وأعتقها فتزوّجها وسمّاها برّة، فلما بلغ المسلمون ذلك أعتقوا إجلالاً لرسول اللّه (ص) ما كان في أيديهم من السبايا وكانوا مائة أهل بيت من بني المصطلق وقالوا: أصهار رسول اللّه (ص)، فما علم امرأة أعظم

بركة علي قومها منها.

في طريق المدينة

وفي رجوع رسول اللّه (ص) من هذه الغزوة قال عبداللّه بن اُبيّ: لئن رجعنا إلي المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، وذلك لشرّ وقع بين جهجاه بن مسعود الغفاري من المهاجرين وبين سنان بن وبر الجهني من الأنصار.

فنادي الغفاري: يا للمهاجرين.

ونادي الجهني: يا للأنصار.

فقال رسول اللّه (ص): أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم؟

وبلّغ زيد بن أرقم رسول اللّه (ص) مقالة عبداللّه بن اُبي فنزل في ذلك من عند اللّه سورة المنافقين، وتبرأ عبداللّه بن عبداللّه بن اُبي من أبيه، وأتي رسول اللّه (ص) فقال له: يا رسول اللّه أنت واللّه الأعزّ وهو الأذلّ، واللّه لئن شئت لنخرجنّه يا رسول اللّه، ووقف لأبيه قرب المدينة فقال: لا تدخلها حتي يأذن لك رسول اللّه (ص) في الدخول.

فشكي الأب ابنه إلي رسول اللّه (ص) فأرسل إليه: أن خلّ عنه يدخل.

فقال: الآن وقد جاء الإذن فنعم.

وقال أيضاً: بلغني أنك يا رسول اللّه تريد قتل أبي واني أخشي إن أمرتَ بذلك غيري ألا تدعني نفسي أري قاتل عبداللّه يمشي علي الأرض فأقتله وأدخل النار إذا قتلت مؤمناً بكافر، وقد علمت الأنصار أني من أبرّها لأبيه، ولكن يا رسول اللّه إن أردت قتله فمرني بذلك فأنا واللّه أحمل إليك رأسه.

فقال له رسول اللّه (ص) خيراً، وأخبره أنه يحسن صحبة أبيه مادام هو معهم.

سرية الفهري إلي عرينة

وفي شهر شوّال سنة ست من الهجرة النبوية المباركة كانت قصة العرينيّين، وذلك انه قدم علي رسول اللّه (ص) عرينة وكانوا ثمانية أشخاص فأسلموا، فاستوبأوا المدينة واستوخموها.

فأمر رسول اللّه (ص) بهم إلي لقاحه وكانت خمس عشرة لقحة واللقحة ذات اللبن القريبة العهد بالولادة وقال: (لو خرجتم إلي ذود لنا فشربتم من ألبانها).

فلما خرجوا إليها قتلوا الراعي وقطعوا يده ورجله، وغرسوا

الشوك في لسانه وعينه حتي مات، واستاقوا الإبل.

فبلغ ذلك إلي رسول اللّه (ص) فبعث في اثرهم عشرين فارساً واستعمل عليهم ابن جابر الفهري، فعقّبوهم حتي أدركوهم، فلما أدركوهم أحاطوا بهم وأسروهم واستردّوا الإبل وقدموا بهم المدينة.

قال جابر بن عبداللّه ان رسول اللّه (ص) كان قد دعا لما بعث إليهم وقال: (اللّهمّ اعم عليهم الطريق) فعمي عليهم الطريق،

فلما اُتي بهم، أمر (ص) بقتلهم.

الجزء الثاني

الجزء الثاني

الفصل الأول: معارك علي طريق الفتح

الفصل الثاني: فتح مكة و الغزوات التي تلت الفتح

الفصل الثالث: الوفودو الرسل

الفصل الرابع: حجة الوداع

الفصل الخامس: الولاية و الامامة

الفصل السادس: الأيام الأخيرة من حياة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم

خاتمة

المسلمون يثوبون

ثم أقبل رسول اللّه (ص) نحو المسلمين، وكان أول من عرفه كعب بن مالك الشاعر، فنادي بأعلي صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول اللّه (ص).

فأشار إليه رسول اللّه (ص) أن اصمت، فانحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم النبي (ص) علي الفرار.

فقالوا: يا رسول اللّه فديناك بآبائنا واُمهاتنا أتانا الخبر بأنك قتلت، فرعبت قلوبنا فولّينا مدبرين، فأنزل اللّه تعالي: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئاً وسيجزي اللّه الشاكرين)(8).

وقيل: نزلت هذه الآية عندما رجع رسول اللّه (ص) من اُحد إلي المدينة، فاستقبله أهلها بأجمعهم وهم يبكون ويطلبون التوبة ويقرّون بالذنب، ونساء الأنصار قد خدشن الوجوه، ونشرن الشعور، وجززن النواصي، وخرقن الجيوب، وحزمن البطون علي النبي (ص)، فلمّا رأينه قال لهنّ خيراً وأمرهنّ أن يتستّرن ويدخلن منازلهنّ، وقال: ان اللّه عزوجل وعدني أن يظهر دينه علي الأديان كلها، ثم قال لهم رسول اللّه (ص):

(أيها الناس انكم رغبتم بأنفسكم عنّي، ووازرني علي وواساني، فمن اطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني وفارقني في الدنيا والآخرة)(9).

صاحب المهراس

روي انه لما صاح ابليس بالمدينة: قتل محمد لم يبق أحد من نساء المهاجرين والأنصار إلاّ وخرجت، كما وخرجت فاطمة بنت رسول اللّه (ص) تعدو علي قدميها، حتي وافته وقعدت بين يديه تبكي لما رأت ما أصاب أبيها رسول اللّه (ص) من الجراحات، وأقبل علي بن أبي طالب (ع) وقد ملأ درقته بماء من المهراس(10) فجاء به رسول اللّه (ص) ليشرب منه، ثم غسل به عن وجهه الدم، وإليه يشير قول علي (ع) يوم الشوري: (نشدتكم باللّه هل فيكم أحد وقفت الملائكة معه يوم اُحد

حين ذهب الناس غيري؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم باللّه هل فيكم أحد سقي رسول اللّه (ص) من المهراس غيري؟ قالوا لا).

وعن سهل: انه سئل عن جرح رسول اللّه (ص) فقال: واللّه إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول اللّه (ص) ومن كان يسكب الماء؟

كانت فاطمة ابنته تغسله وعلي بن أبي طالب يسكب الماء، فلما رأت فاطمة أن الماء لايزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فاستمسك الدم.

الصلاة في زوال اُحد

وذكر مولي عفرة: ان النبي (ص) صلّي الظهر يوم اُحد قاعداً من الجراح، وكذلك صلّي المسلمون خلفه قعوداً من شدة ما بهم، وقد انهزم قوم من المسلمين يومئذ فبلغ بعضهم إلي الحلوب دون الأعوص.

فلمّا قدموا بعد ثلاثة أيام من هزيمتهم قال لهم رسول اللّه (ص): إلي أين انتهيتم؟

قالوا: إلي الأعوص.

قال: لقد ذهبتم فيها عريضة، أي: واسعة.

دأب بني اُمية وأتباعهم

ولما انكشف المسلمون عن رسول اللّه (ص) اشتغل المشركون ونساؤهم بقتلي المسلمين يمثلون بهم ويقطعون الآذان والاُنوف وغيرها، ويبقرون البطون، ويستخرجون منها الأكباد والكلي.. فلما تتبّع المسلمون قتلاهم لم يجدوا قتيلاً إلاّ وقد مثلوا به، إلاّ حنظلة غسيل الملائكة، فإنّ أباه وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول اللّه (ص) أبو عامر الفاسق وهو صاحب مسجد ضرار، كان مع المشركين فترك له، وكان حمزة عم النبي (ص) أكثر من مثّل به من بين القتلي.

1 الأنفال: 36.

2 تفسير علي بن إبراهيم قال: وحدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبد الله (ع) انه سئل عن معني قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي (ع): يا قضم؟ قال (ع): إن رسول الله (ص) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب، فأغروا به الصبيان، وكانوا إذا خرج رسول الله (ص) يرمونه بالحجارة والتراب، فشكي ذلك إلي علي (ع) فقال: بأبي أنت واُمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معك، فخرج رسول الله (ص) ومعه علي (ع) فتعرض الصبيان لرسول الله (ص) كعادتهم، فحمل عليهم علي (ع) وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم فكان الصبيان يرجعون باكين إلي آبائهم ويقولون: قضمنا علي، قضمنا علي، فسمي لذلك: القُضَم. (راجع بحار الأنوار: ج 20 ص 52 ب 12 ح

3).

3 راجع بحار الأنوار: ج 39 ص 47 ب 73 ح 15 بيان، و: ج 42 ص 57 ب 118 ح 1.

4 بحار الأنوار: ج 20 ص 105 ب 12 ح 30.

5 الكافي: ج 8 ص 318 ب 8 ح 502 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 10 ص 182 ب 190 و ج 13 ص 261 وج 14 ص 251 دار إحياء التراث العربي ط 2.

6 النحل: 126. 7 بحار الأنوار: ج 27 ص 206 ب 8 ح 14. 8 آل عمران: 144.

9 بحار الأنوار: ج 20 ص 106 ب 12 ح 30.

10 قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيراً، وقيل: هو اسم ماء بأحد.

خاتمة القتال

ولما قتل جمع من المسلمين وفرّ آخرون، واضطربت الصفوف وتداخلت، جَمَع رسول اللّه (ص) من بقي معه من المسلمين ثم حمل هو (ص) وعلي (ع) والمسلمون معه حملة رجل واحد علي القوم، فانهزم المشركون وتشتّت أمرهم وانصرفوا إلي مكة ولم يصلوا إلي ما أرادوا من قتل الرسول (ص) وابادة المسلمين، فكان النصر أخيراً للمسلمين وإن قتل منهم جمع كثير.

هتافات متقابلة

ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف علي الجبل، ثم صرخ بأعلي صوته: انعمت فعال، ان الأيام دول، وان الحرب سجال، يوم بيوم بدر.

فقال رسول اللّه (ص): ألا تجيبونه؟

قالوا: يا رسول اللّه ما نقول؟

قال (ص): قولوا: لا سواء، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار.

فقال أبو سفيان: لنا العزّي ولا عزّي لكم.

فقال رسول اللّه (ص): ألا تجيبونه؟

قالوا: يا رسول اللّه ما نقول؟

قال (ص): قولوا: اللّه مولانا ولا مولي لكم.

فقال أبو سفيان: اعل هبل.

فقال رسول اللّه (ص): ألا تجيبونه؟ قولوا: اللّه أعلي وأجلّ.

ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادي: أحيّ ابن أبي كبشة؟ فأما ابن أبي طالب فقد رأيناه مكانه.

فقال له علي (ع): أي والذي بعثه بالحقّ انه (ص) ليسمع كلامك.

فقال أبو سفيان: لعن اللّه ابن قمئة زعم انه قتل محمداً، ثم قال: انه قد كانت في قتلاكم مُثلة، وانّ موعدنا وموعدكم بدراً في العام القابل.

فقال رسول اللّه (ص) لعلي (ع): قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد.

استطلاع أخبار القوم

ثم بعث رسول اللّه (ص) علي بن أبي طالب (ع) وقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لاُناجزنهم.

قال علي (ع): فخرجت في أثرهم أنظر ما يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلي مكة، فلما وقع نظر أبي سفيان علي علي (ع) قال له: يا علي ما تريد هو ذا نحن ذاهبون إلي مكة، فانصرف إلي صاحبك فأخبره.

فأتبعهم جبرئيل (ع)، فكلّما سمعوا حافر فرسه جدّوا في السير، وكان يتلوهم فإذا ارتحلوا قالوا: هو ذا عسكر محمد قد أقبل، ومازالوا كذلك حتي

دخلوا مكة منهزمين ومرعوبين.

انّ اللّه بالغ أمره

وروي: انه لما انصرف أبو سفيان ومن معه من غزاة اُحد وبلغوا الروحاء، ندموا علي انصرافهم عن المسلمين وتلاوموا فقالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، قتلتموهم حتي إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم.

فبلغ ذلك الخبر رسول اللّه (ص) فأراد أن يرهب العدوّ ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال: (ألا عصابة تشدّد لأمر اللّه تطلب عدوّها، فإنها انكاء للعدوّ وأبعد للسمع) فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من القرح والجرح الذي أصابهم يوم اُحُد وامتثلوا ما أمرهم به.

مدفن الشهداء

ولما وضعت الحرب أوزارها يوم اُحد، حمل كل واحد قتيله علي جمل ليدفنوهم في المدينة، فكانوا كلما توجّهوا بهم نحو المدينة بركت الجمال، وإذا توجّهوا بهم نحو المعركة أسرعت.

فشكوا ذلك إلي رسول اللّه (ص) فقال: ألم تسمعوا قول اللّه تعالي: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلي مضاجعهم)(1) فأرجعهم (ص) إلي مكانهم ودفنهم بثيابهم الملطّخة بالدماء كل رجلين في قبر علي رواية الاّ حمزة (ع) فإنه دفن وحده.

علي مشارف المدينة

ثم انصرف المسلمون مع النبي (ص) إلي المدينة، فاستقبلته فاطمة(ع) ومعها اناء فيه ماء، فغسل به وجهه، فلمّا رأته فاطمة(ع)(2) قد شجّ في وجهه واُدمي فوه ادماءاً بكت(ع) وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتد غضب اللّه علي من أدمي وجه رسول اللّه (ص).

وكان معه (ص) علي (ع) وقد خضب الدم يده إلي كتفه، ومعه ذو الفقار، فناوله فاطمة(ع) وقال لها: خذي هذا السيف فقد صدقني اليوم، وأنشأ يقول:

أفاطم هاك السيف غير ذميم فلست برعديد ولا بمليم

لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد وطاعة ربٍ بالعباد عليم

اميطي دماء القوم عنه فإنه سقي آل عبدالدار كأس حميم

وقال رسول اللّه (ص): خذيه يا فاطمة فقد أدّي بعلك ما عليه، وقد قتل اللّه بسيفه صناديد قريش.

مع ابنة جحش

فلما ارتحل رسول اللّه (ص) ودخل المدينة، استقبلته النساء يولولن ويبكين، فاستقبلته زينب بنت جحش، فقال لها رسول اللّه (ص): احتسبي.

فقالت: من يا رسول اللّه؟

قال (ص): أخاك.

قالت: (إنّا للّه وإنّا إليه راجعون)(3) هنيئاً له الجنّة.

ثم قال (ص) لها: احتسبي.

فقالت: من يا رسول اللّه؟

قال (ص): حمزة بن عبدالمطلب.

قالت: (إنّا للّه وإنّا إليه راجعون)(4) هنيئاً له الشهادة.

ثم قال لها: احتسبي.

فقالت: من يا رسول اللّه؟

قال (ص): زوجك مصعب بن عمير.

قالت: واحزناه.

فقال رسول اللّه (ص): انّ للزوج عند المرأة لحدّاً ما لأحد مثله.

فقيل لها: لم قلت ذلك في زوجك؟

قالت: ذكرت يتم ولده.

النساء المخلصات

وكانت امرأة من بني النجار قتل أبوها وزوجها وأخوها مع رسول اللّه (ص)، فدنت من رسول اللّه (ص) والمسلمون قيام علي رأسه، فقالت لرجل متسائلة بتلهّف: أحيّ رسول اللّه (ص)؟

قال: نعم.

قالت وهي مستبشرة: أستطيع أن أنظر إليه؟

قال: نعم.

فأوسعوا لها، فدنت منه (ص) وقالت: كل مصيبة جلل بعدك يا رسول اللّه، ثم انصرفت.

البكاء علي حمزة

ولما انصرف رسول اللّه (ص) إلي المدينة بعد أن صلّي علي القتلي ودفنهم بثيابهم ودمائهم، مرّ بدور في المدينة، فسمع بكاء النوائح علي قتلاهنّ، فترقرقت عينا رسول اللّه (ص) بالدموع وبكي ثم قال: لكن حمزة لا بواكي له.

فلمّا سمعها سعد بن معاذ واسيد بن حضير قالا: لا تبكينّ امرأة حميمها حتي تأتي فاطمة(ع) فتسعدها بالبكاء.

فلما سمع رسول اللّه (ص) الواعية علي حمزة وهو عند فاطمة(ع) علي باب المسجد قال: ارجعن يرحمكنّ اللّه فقد آسيتنّ بأنفسكنّ.

غزوة حمراء الأسد

ولما وافي اليوم الثاني من انتهاء معركة اُحد، أذّن مؤذّن رسول اللّه (ص) في الطلب للعدو، وعهد رسول اللّه (ص) أن لا يخرج معه أحد إلا من حضر المعركة يوم اُحد، حيث قال: ألا لا يخرجنّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، ألا من كانت به جراحة فليخرج، ومن لم تكن به جراحة فليقم.

فخرج معه سبعون رجلاً ممّن أثقلهم الجراح وهم يأملون أن لا تفوتهم غزوة مع رسول اللّه (ص).

وقدّم (ص) علياً (ع) بين يديه براية المهاجرين، واستأذنه جابر بن عبداللّه في أن يفسح له في الخروج معه، ففسح له في ذلك، فخرجوا علي ما بهم من الجهد والجراح، وإنما خرج (ص) مرهباً للعدوّ ومتجلّداً، وذلك بعد أن استخلف علي المدينة ابن اُمّ مكتوم، فبلغ حمراء الأسد، وهي علي ثمانية أميال من المدينة.

وهناك مرّ برسول اللّه (ص) معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول اللّه (ص) مسلمهم وكافرهم، لايخفون عليه شيء، ومعبد يومئذ مشرك. فقال: يا محمد، أما واللّه لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن اللّه عافاك فيهم.

ثم خرج معبد من عند رسول اللّه (ص) حتي لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد

أجمعوا علي الرجعة إلي رسول اللّه (ص) وأصحابه وهم يقولون: أصبنا جلّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم؟ فلنكرنّ علي بقيتهم فلنفرغن منهم.

فلما رأي أبو سفيان معبداً، قال: ما وراءك يا معبد؟

قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرّقون عليكم تحرّقاً، وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا علي ما ضيّعوا وفيهم من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط.

قال: ويلك ما تقول؟

قال: واللّه ما أراك ترتحل حتي تري نواصي الخيل.

فساء ذلك أبا سفيان ومن معه، ووقع في قلوبهم الرعب مما دعاهم إلي الإنصراف عما عزموا عليه، والرجوع إلي مكة.

هذا ورسول اللّه (ص) لما نزل بحمراء الأسد أمر أصحابه في الليل بأن يوقدوا حولهم نيراناً كثيرة، فأوقدوا خمسمائة نار كانت تري من بعيد.

فتصوّر المشركون ان النبي (ص) يقفوا أثرهم في عدد عظيم من أصحابه، فتشاوروا فيما بينهم ثم عزموا علي الإنصراف إلي مكة.

وأقام رسول اللّه (ص) بأصحابه هناك ثلاثة أيام، فلما اطمئنّوا من انصراف المشركين عن الكرّة عليهم رجعوا إلي المدينة فوصلوها يوم الجمعة بعد أن غابوا عنها خمسة أيّام.

سرية الغنويّ إلي الرجيع

والرجيع بفتح الراء وكسر الجيم اسم ماء لهذيل بين مكة وعسفان، وكانت الوقعة بالقرب منه.

وذلك انه قدم علي رسول اللّه (ص) أوائل شهر صفر علي رأس أربعة أشهر من اُحد نفر من عضل والقارة، وقيل: من عضل والديش، وهما بطنان من العرب، فذكروا للنبي (ص) أنّ فيهم إسلاماً، ورغبوا أن يبعث معهم نفراً من المسلمين يعلّمونهم القرآن ويفقّهونهم في الدين.

فبعث رسول اللّه (ص) ستة رجال من أصحابه، وقيل: سبعة، وقيل: عشرة، فيهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، فجعله أميراً عليهم حتي إذا صاروا بالرجيع

غدروا بهم، واستصرخوا عليهم هذيلاً، فوقع بين الجانبين قتال شديد أسفر عن غلبة المشركين لكثرتهم، واندحار المجموعة الصغيرة من المسلمين لقلّتهم وعدم تهيّئهم للحرب والقتال.

سرية منذر إلي بئر معونة

وبئر معونة بضم العين موضع ببلاد هذيل بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، وهي الي حرة بني سليم أقرب.

وذلك في أواسط شهر صفر علي رأس أربعة أشهر من اُحد أيضاً، ولكن قبل أن يصل إلي المدينة أنباء الغدر بسرية الغنوي إلي الرجيع.

وكان سببها: ان أبا البراء عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة قدم علي رسول اللّه (ص)، فعرض (ص) عليه الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد: انّ أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل، فلو بعثت رجالاً من أصحابك إلي أهل نجد يدعونهم إلي أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.

فقال رسول اللّه (ص): إنّي أخشي أهل نجد عليهم.

فقال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم.

فبعث (ص) المنذر بن عمرو في بضعة وعشرين رجلاً، وقيل: في أربعين رجلاً، وقيل: في سبعين، وكانوا من خيار المسلمين ومن القرّاء، يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، ويتدارسون القرآن.

فساروا حتي إذا نزلوا بئر معونة بعثوا حرام بن ملحان بكتابه (ص) إلي عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتي عدا علي الرجل فقتله.

ثم استصرخ عليهم بني عامر فلم يجيبوه وقالوا: نحن لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقداً وجواراً، فاستصرخ قبائل من بني سليم: عصيّة ورعلا وذكوان، فأجابوه إلي ذلك.

ثم خرجوا حتي غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم حتي قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد، فإنهم تركوه وبه رمق، فارتث من بين القتلي فعاش حتي قتل يوم الخندق شهيداً.

وأسر عمرو بن اُمية الضمريّ، فلما أخبرهم أنه من

مضر أخذه عامر بن الطفيل وجزّ ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت علي اُمه.

فقدم عمرو بن اُميّة الضمري إلي رسول اللّه (ص) وأخبره الخبر، فنعاهم إلي أصحابه وقال: انّ أصحابكم قد اُصيبوا وانهم قد سألوا ربهم وقالوا: ربّنا أبلغ عنّا قومنا بأنا قد لقينا ربّنا فرضي عنّا ورضينا عنه.

ولما بلغ ذلك أبا براء، شقّ عليه اخفار عامر إياه وما أصاب أصحاب رسول اللّه (ص) بسببه وجواره، ونزل به الموت، فحمل ربيعة بن أبي براء لما وصله الخبر علي عامر بن الطفيل وهو في نادي قومه فأخطأ مقاتله فأصاب فخذه.

فقال عامر: هذا عمل عمي أبي براء، فلم يجرأ علي الثأر منه.

وقيل: ان خبر بعث الرجيع، وخبر أصحاب بئر معونة أتي النبي (ص) في ليلة واحدة فحزّ ذلك في قلبه وقلوب المسلمين، وعرف المسلمون ان الغدر والفتك من عادة الجاهلية والجاهليّين، ولايمكن قلعه ولا اجتثاث جذوره إلاّ بنشر الإسلام وابلاغ تعاليمه الأخلاقية إلي الناس كافة، فاندفعوا وبكل قوّة إلي نشر الإسلام وتبليغ أحكامه والإلتزام بإطاعة اللّه ورسوله (ص).

1 آل عمران: 154.

2 قد سبق أنها (صلوات الله عليها) خرجت إلي اُحد بعدما سمعت النداء بقتل أبيها (ص) وذلك علي رواية، أو أنها رجعت بعد ذلك ثم استقبلته (ص) عند رجوعه.

3 البقرة: 156. 4 البقرة: 156.

غزوة بني النضير

مضي فيما سبق: انه لما دخل رسول اللّه (ص) المدينة صالحه بنو النضير كبقيّة اليهود علي أن لايقاتلوه، ولايقاتلوا معه، فقبل ذلك منهم.

فلما غزا رسول اللّه (ص) بدراً وظهر علي المشركين قالوا: واللّه انه للنبيّ الذي وجدنا نعته في التوراة لاتردّ له راية، فلما غزا اُحد وانهزم المسلمون ارتابوا ونقضوا العهد وأتوا قريشاً وحالفوهم وعاقدوهم علي أن تكون كلمتهم واحدة علي محمد

(ص)، فنزل جبرئيل وأخبر النبي (ص) بالخبر.

ولكي يظهر النبي (ص) نوايا بني النضير العدوانية التي أضمروها للمسلمين، ويكشف واقعهم السيّء للرأي العام، خرج (ص) إليهم يوم السبت في شهر ربيع الأول وصلي في مسجد قبا ومعه نفر من أصحابه دون العشرة، ثم أتاهم فكلّمهم أن يقرضوه في دية بعض القتلي وكان الإستقراض جارياً بينهم فقالوا: نقرضك ما أحببت.

ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه علي مثل هذه الحال. وكان (ص) إلي جنب جدار من بيوتهم.

فقالوا: من رجل يعلو علي هذا البيت فيلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟

فانتدب لذلك عمرو بن جحاش، فقال: أنا لذلك.

فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، واللّه ليخبرنّ بما هممتم به، وانه لنقض العهد الذي بيننا وبينه.

فجاء جبرئيل وأخبر رسول اللّه (ص) الخبر، فخرج راجعاً إلي المدينة، وذلك بعد أن أوصي علياً (ع) بأن لايبرح من مكانه، وأن يخبر من سأله عنه من أصحابه بتوجّهه إلي المدينة، ففعل ذلك، ثم لحقوا به فقالوا: قمت يا رسول اللّه ولم نشعر.

فقال: همّت اليهود بالغدر فأخبرني اللّه بذلك فقمت.

ثم أرسل (ص) إليهم من يأمرهم بالجلاء من منازلهم، وكانت منازلهم بناحية الفرع وما والاها بقرية يقال لها: زهرة، وأمهلهم عشرة أيام.

فوصل الخبر إلي ابن اُبي فأرسل إليهم من ينهاهم عن الخروج ويعدهم نصرة قومه لهم، وامداد قريظة وحلفاءهم من غطفان، فطمعوا في ذلك.

فخرج إليهم رسول اللّه (ص) فصلّي العصر بفناء بني النضير وعلي (ع) يحمل رايته واستخلف علي المدينة ابن اُمّ مكتوم.

فلما رأوا رسول اللّه (ص) قاموا علي حصونهم معهم النبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخفرهم ابن اُبيّ، فحاصرهم رسول اللّه (ص) إحدي وعشرين ليلة، وقذف اللّه الرعب في قلوبهم فعزموا علي الخروج من المدينة

من دون قتال.

فقال لهم رسول اللّه (ص): اُخرجوا منها ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة وهي السلاح.

فخرجوا بالنساء والصبيان يزمّرون ويضربون بالدفوف، وتحمّلوا علي ستمائة بعير حتي ان الرجل منهم يقلع باب بيته ويضعه علي بعيره، ثم يخربون بيوتهم بأيديهم ويخرجون، فمنهم من صار إلي خيبر، ومنهم من صار إلي الشام، ومنهم من صار إلي الحيرة.

أموال بني النضير

وقبض رسول اللّه (ص) السلاح والأموال صافية له، لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وانما قذف اللّه في قلوبهم الرعب، فسلّموا بدون قتال ولا اراقة دماء، فكان ممّا أفاءه اللّه علي رسوله.

فدعي رسول اللّه (ص) حينئذ الأنصار كلها الأوس والخزرج، فحمد اللّه وأثني عليه وذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وانزالهم إيّاهم في منازلهم، واثرتهم علي أنفسهم، ثم قال (ص): ان أحببتم قسّمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء اللّه عليّ من بني النضير، وكان المهاجرون علي ما هم عليه من السكني في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم.

فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول اللّه بل تقسّمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا.

ونادت الأنصار: رضينا وسلّمنا يا رسول اللّه.

فقال رسول اللّه (ص): (اللّهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار) وقسّم ما أفاء اللّه عليه بين المهاجرين دون الأنصار إلا رجلين من الأنصار كانا محتاجين، ووسّع (ص) في الناس في أموال بني النضير، وأنزل اللّه تعالي في قصة بني النضير سورة الحشر، ومدح الأنصار علي رواية بقوله: (ويؤثرون علي أنفسهم)(1).

وفي مجمع البيان عن أبي هريرة: ان الآية نزلت في شأن علي (ع) وفاطمة(ع) في ضيافة كانت لهما قد آثرا ضيفهما علي أنفسهما.

وفي هذه الغزوة أبلي علي (ع) بلاءاً حسناً حيث قتل اليهود العشرة بقيادة رئيسهم عازورا

الذين خرجوا من الحصن في ظلام الليل لعمليات تخريبية واغتيال النبي (ص) وكفي اللّه المؤمنين به شرهم، وفيه يقول حسّان بن ثابت:

اللّه أيّ كريهة أبليتها ببني نضير والنفوس تطلّع

أردي رئيسهم وآب بتسعة طوراً يشلّهم وطوراً يدفع

من أسلم من بني النضير

ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير، وهو ابن عم عمرو بن جحاش الذي انتدب لإلقاء الصخرة علي رسول اللّه (ص)، وأبو سعد بن وهب.

أسلما علي أموالهما، واحرازها، وحسن اسلامهما، حتي أن يامين علي ما قيل: جعل لرجل جعلاً علي أن يقتل له ابن عمه عمرو بن جحاش علي ما أراده من اغتيال رسول اللّه (ص) ففعل الرجل ذلك.

غزوة بني لحيان

ثم كانت بعد غزوة بني النضير غزوة بني لحيان، فقد خرج اليهم رسول اللّه (ص) يطلب بأصحاب الرجيع الذين غدر بهم بنو لحيان وقتلوهم عن آخرهم.

وأظهر (ص) عند خروجه إليهم انه يريد الشام ليصيب من القوم غرة يفاجئهم بها فيستسلموا من دون حرب فيقل القتل وسفك الدماء، ولذلك خرج (ص) وأخذ في السير حتي نزل علي منازل بني لحيان بين أمَج وعسفان، فوجدهم قد حذروا وتمنّعوا في رؤس الجبال، فتركهم.

عندها قال المسلمون: لو انا هبطنا عسفان لرأي أهل مكة انا قد جئنا مكة، فسار (ص) وهو في مائتي راكب حتي نزل عسفان تخويفاً لمشركي مكة، وجاز علي قبر اُمه فزارها، وأرسل فارسين من الصحابة حتي بلغا كراع الغميم، ثم عادَ ولم يلق حرباً.

غزوة ذات الرقاع

وبعد مضي شهرين من غزوة بني النضير(2) كانت غزوة ذات الرقاع، وسمّيت ذات الرقاع لأنهم رقعوا راياتهم.

وقيل: لأنهم كانوا بقرب جبل فيه بقعُ بياض وسواد وحمرة.

وقيل: لأن أقدامهم نقبت فيها، فكانوا يلفّون علي أقدامهم الخِرق.

وقيل: لوقوع صلاة الخوف فيها وصلاة الخوف ترقيع للصلاة.

وكان سببها: ان قادماً قدم المدينة بمتاع له، فأخبر رسول اللّه (ص) بأن انماراً وثعلبة قد جمّعوا له الجموع يريدون اجتياح المدينة.

فخرج (ص) اليهم ليلة السبت لعشر خلون من المحرم في أربعمائة رجل، وقيل: في سبعمائة، وقيل: في ثمانمائة من أصحابه، فسار حتي نزل في محالّهم بذات الرقاع وهي جبل، فلقي المشركين ولم يقع بينهم حرب، ولكن خاف المسلمون أن يُغير المشركون عليهم، فنزلت صلاة الخوف، فصلّي رسول اللّه (ص) بأصحابه صلاة الخوف، وكان أول ما صلاّها.

كرم رسول اللّه (ص) وحلمه

ونزل رسول اللّه (ص) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة علي شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين، فقال لقومه: أنا أقتل محمداً فجاء وشدّ علي رسول اللّه (ص) بالسيف وقال: من ينجيك منّي؟

فقال (ص): ربّي وربّك، فنسفه جبرئيل عن فرسه فسقط، فقام رسول اللّه (ص) فأخذ السيف وجلس علي صدره وقال: من ينجيك منّي؟

قال: جودك وكرمك، فتركه (ص)، وقام الرجل فجاء إلي قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس، فأسلم بسببه جماعة.

وفي رواية: انه عندما جلس (ص) علي صدره قال له: تشهد أن لا إله إلا اللّه واني رسول اللّه؟ فقال الرجل: اعاهدك أن لا اُقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلي (ص) سبيله، فجاء الرجل إلي قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس …

ثبات وصمود

ثم انصرف رسول اللّه (ص) بأصحابه راجعاً إلي المدينة، وذلك بعد أن أصابوا بعض الغنائم، وفي الطريق باتوا في فم شعب، فانتدب عباد بن بشير وعمار بن ياسر للحراسة يتناوبانها بينهما.

فنام عمّار وقام عباد للحراسة واشتغل بالصلاة، وفي الأثناء جاء رجل من الأعداء وهو يريد اصابة شيء أو اراقة دم، فلما رأي طليعتهم عباد أخذ يرميه بالسهم تلو الآخر وعباد صامد لا يتحرك حتي إذا غلبه الدم ركع وسجد وأتمّ صلاته ثم أيقظ صاحبه وأخبره الخبر.

فقال له عمار: ألا أخبرتني أول ما رماك!

قال: كنت في سورة أقرؤها فلم اُحب أن أقطعها، وأيم اللّه لولا خوفي أن اُضيّع ثغراً أمرني رسول اللّه (ص) بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها.

تفقّد الرسول (ص) أصحابه

وكان رسول اللّه (ص) يسير في مؤخّر القوم ليسعف الضعيف منهم، ويحمل معه من قعد به مركبه وعجز به عن حمله، وفي هذه المرّة وفي طريق العودة من ذات الرقاع التقي بجابر بن عبداللّه الأنصاري وقد تخلّف عن القوم فقال له:

ما لك يا جابر؟

قال جابر وهو يشير إلي جمله: أبطأ بي هذا.

فدني رسول اللّه (ص) إلي الجمل، ومسح يده عليه فقوي الجمل وأخذ يواهق ناقته مواقهة، ثم قال لجابر: يا جابر أتبيعني جملك هذا؟

قال: بل أهبه لك يا رسول اللّه.

قال (ص): لا، ولكن بعنيه.

قال: اذن فساوِمني عليه يا رسول اللّه.

قال (ص): قد أخذته بدرهم.

قال: إذن تغبنني يا رسول اللّه.

قال (ص): فبدرهمين.

قال جابر: لا.

فلم يزل يرفع له رسول اللّه (ص) في ثمنه حتي بلغ الأوقية. فقال (ص): أرضيت يا جابر؟

قال جابر: نعم رضيت يا رسول اللّه فهو لك.

قال (ص): قد أخذته ولك ظهره إلي المدينة.

ثم قال له رسول اللّه (ص): هل تزوّجت يا جابر؟

قال: نعم يا رسول اللّه

(ص).

قال (ص): ثيّباً أم بكراً؟

قال: بل ثيّباً، فابتسم رسول اللّه (ص) وقال: أفلا جارية؟

قال جابر وقد تنفّس الصعداء: يا رسول اللّه إنّ أبي اُصيب يوم اُحد وترك سبع بنات فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤسهنّ وتقوم عليهنّ.

وهنا تأثّر رسول اللّه (ص) حتي ظهر علي قسمات وجهه الشريف آثاره وقال مستحسناً عمل جابر: أحسنت وأصبت يا جابر.

ثم سأله عن دَين أبيه فأخبره. فقال (ص) له: إذا دخلت المدينة وأردت أن تجذّ نخلك وتأخذ تمرها فأخبرني.

قال جابر: فدخلت المدينة وحدثت زوجتي الحديث وما قال لي رسول اللّه(ص). فقالت مستبشرة: فدونك، سمع وطاعة.

قال: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل حتي أنخته علي باب المسجد، ثم جلست في المسجد قريباً منه، فخرج رسول اللّه (ص) إلي المسجد فرأي الجمل فقال: ما هذا؟

قالوا: يا رسول اللّه هذا جمل جابر.

قال (ص): وأين جابر هو؟ فدُعي له، فلما مثل بين يديه قال (ص) له: ياابن أخي خذ برأس جملك فهو لك، ثم دعا بلالاً وقال له: اذهب بجابر فاعطيه اوقية.

قال جابر: فذهبت معه فأعطاني اوقية وزادني.

اللّه أرحم بكم

ومما يذكر وقوعه في غزوة ذات الرقاع: انّ رجلاً جاء وفي يده فرخ طائر حتي إذا وصل إليهم رأوا انّ أبوي هذا الفرخ يرفرفان فوق رأسه، فلما استقرّ الرجل بينهم طرحا أنفسهما علي فرخهما ولم يعبئا بالخطر شفقة ورحمة بفرخهما، فتعجّب الناس من ذلك.

فالتفت إليهم رسول اللّه (ص) وقال: أتعجبون من هذا الطائر، أخذتم فرخه، فطرح نفسه رحمة بفرخه؟ واللّه لربّكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه. ثم التفت (ص) بعد ذلك إلي الرجل وأمره بإطلاقه.

غزوة بدر الأخيرة

ولما قدم رسول اللّه (ص) من غزوة ذات الرقاع إلي المدينة أقام بها جمادي الاُولي إلي آخر رجب، ثم خرج في شعبان وقيل: أقام بها إلي آخر شوّال، ثم خرج في هلال ذي القعدة في السنة الرابعة من الهجرة النبوية المباركة إلي بدر لميعاد أبي سفيان.

وذلك انّ أبا سفيان قال يوم اُحد عند انصرافه منهزماً إلي مكة: الموعد بيننا وبينكم بدر العام القابل.

فقال رسول اللّه (ص) لعلي (ع) قل: نعم، هو بيننا وبينكم موعد.

فخرج رسول اللّه (ص) وحمل لوائه علي (ع) وسار معه ألف وخمسمائة من أصحابه، والخيل عشرة أفراس، وذلك بعد أن استعمل علي المدينة عبداللّه بن رواحة.

فلما وصلوا إلي بدر الصغري وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام أقاموا عليها ينتظرون أبا سفيان.

وخرج أبو سفيان من مكّة ومعه ألفان وخمسون فرساً حتي نزل مجنّة من ناحية مرّ الظهران ثم بدا له الرجوع، فبعث من يثبّط المسلمين عن الخروج إليهم ووعده علي ذلك عشرة من الإبل يضعها له علي يدي سهيل بن عمرو إن هو فعل ذلك.

ثم التفت أبو سفيان إلي مَن معه وقال: يا معشر قريش انه لا يصلحكم إلا عام

خصب، وإن عامكم هذا عام جدب، واني راجع فارجعوا، فرجع ورجع من كان معه.

فسمّاهم أهل مكة: جيش السويق يقولون: انما خرجتم تشربون السويق.

وأقام رسول اللّه (ص) وأصحابه ببدر ثمانية أيام لم يلقوا فيها أحداً من المشركين، ووافقوا السوق وكانت لهم تجارات فباعوها وأصابوا الدرهم درهمين، وانصرفوا إلي المدينة سالمين غانمين.

مع أشجع وبني ضمرة

وفي الطريق مرّ رسول اللّه (ص) ومعه أصحابه قريباً من بلاد أشجع وبني ضمرة، وكان قد هادن بني ضمرة ووادعهم من قبل.

فقال أصحاب رسول اللّه (ص): يا رسول اللّه هذه بنو ضمرة قريباً منّا، ونخاف أن يخالفونا إلي المدينة، أو يعينوا علينا قريشاً، فلو بدأنا بهم؟

فقال رسول اللّه (ص): كلا انهم أبرّ العرب بالوالدين، وأوصلهم للرحم، وأوفاهم بالعهد.

وكانت (أشجع) بلادهم قريباً من بلاد بني ضمرة وهم بطن من كنانة، وكان بين أشجع وبني ضمرة حلف في المراعاة والأمان، فاُجدبت بلاد أشجع، واُخصبت بلاد بني ضمرة، فصارت أشجع إلي بلاد بني ضمرة، فكان محالّها البيضاء والجبل والمستباح، وبذلك كانوا قد قربوا من رسول اللّه (ص) فهابوا لقربهم منه وخطرهم عليه، أن يبعث إليهم رسول اللّه (ص) من يغزوهم.

كما انّ رسول اللّه (ص) خافهم بسبب قربهم أن يصيبوا من أطرافه شيئاً، فهمّ بالمسير إليهم، فبينا هو علي ذلك، إذ جاءت أشجع ورئيسها مسعود بن رخيلة وهم سبعمائة فنزلوا شعب سلع، عندها دعي رسول اللّه (ص) اُسيد بن حضير وقال له: اذهب أنت ونفر من أصحابك حتي تنظر ما أقدم أشجع؟

فخرج اسيد ومعه ثلاثة من أصحابه، فوقف عليهم وقال: ما أقدمكم؟

فقام إليه رئيس أشجع مسعود بن رخيلة فسلّم علي اسيد وعلي أصحابه وقال: جئنا لنوادع محمداً، فرجع اسيد إلي رسول اللّه (ص) وأخبره بالخبر.

فقال رسول اللّه (ص): خاف

القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني وبينهم، ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدّمها أمامه ثم قال: (نعم الشيء الهدية أمام الحاجة) ثم أتاهم (ص) فقال: يا معشر أشجع ما أقدمكم؟

قالوا: قربت دارنا منك، وليس في قومنا أقلّ عدداً منّا، فضقنا بحربك لقرب دارنا منك، وضقنا بحرب قومنا لقلّتنا فيهم، فجئنا لنوادعك.

فقبل النبي (ص) ذلك منهم ووادعهم فأقاموا يومهم ثم رجعوا إلي بلادهم، وفيهم نزلت هذه الآية: (إلاّ الذين يصلون إلي قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم ان يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم)(3).

غزوة دومة الجندل

و(دومة الجندل) مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وبعدها من المدينة خمس عشرة ليلة أو ست عشرة.

وكان سببها أنه بلغه (ص) أن بها جمعاً كثيراً يظلمون من مرّ بهم، من المسافرين والتجّار، وانهم يريدون الإغارة علي المدينة، فخرج لخمس ليال بقين من ربيع سنة خمس للهجرة النبوية المباركة، وذلك في ألف من أصحابه، فكان يسير الليل ويكمن النهار، حتي إذا دنا من دومة الجندل بلغ أهلها خبره فتفرّقوا من فورهم.

فنزل (ص) بساحتهم فلم يلق بها أحداً، فأقام بها أياماً، وبث السرايا وفرقها، فرجعوا بعد يوم ولم يصادفوا منهم أحداً.

ثم عاد رسول اللّه (ص) إلي المدينة ولم يلق كيداً. وكان ذلك تمهيداً لما حدث بعد ذلك من فتح الشام.

1 الحشر: 9. 2 وقيل: بعد فتح بني قريضة. 3 النساء: 90.

غزوة الخندق (الأحزاب)

وكانت في شوال سنة خمس من الهجرة النبوية المباركة.

وذلك ان نفراً من اليهود منهم: سلام بن أبي الحقيق النضيريّ، وحييّ بن أخطب، وكنانة بن الربيع، وهوذة بن قيس الوالبي، وأبو عمارة الوالبي في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، خرجوا حتي قدموا علي قريش بمكة فقالوا لهم: انّ محمداً قد وترنا ووتركم، وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا، وأجلا بني عمنا بني قينقاع، فسيروا في الأرض وأجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتي نسير إليهم، فإنه قد بقي من قومنا بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة وبينهم وبين محمد عهد وميثاق، وإنّا نحملهم علي نقض العهد بينهم وبين محمد ويكونون معنا عليهم، فتأتونه أنتم من فوق، وهم من أسفل، وكان موضع بني قريظة من المدينة علي قدر ميلين وهو الموضع الذي يسميّ ببئر بني المطّلب، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتي نستأصله.

فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود

إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أديننا خير أم دينه؟

قالوا: بل دينكم خير من دينه، وانكم أولي بالحق منه.

فأنزل اللّه تعالي فيهم علي رواية: (ألم تر إلي الذين اُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدي من الذين آمنوا سبيلاً)(1) إلي قوله: (وكفي بجهنّم سعيراً)(2).

فلما قالوا ذلك لقريش سرّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول اللّه(ص).

وجاءهم أبو سفيان فقال لهم: قد مكّنكم اللّه من عدوّكم، هذه اليهود تقاتل معكم ولن تنفك عنكم حتي نأتي علي جميعهم، أو نستأصلهم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.

ثم خرج ذلك النفر من اليهود حتي أتوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلي حرب رسول اللّه (ص) وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأنّ قريشاً قد تابعوهم علي ذلك.

فخرجت قريش وقائدهم إذ ذاك أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني قرارة، والحارث بن عوف في بني مرة، ومسعر بن دخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع، وتوجّهوا في عشرة آلاف، وقيل: في ثمانية عشر ألف رجل، نحو المدينة.

المشورة تهدي إلي الظفر

فلما سمع بهم رسول اللّه (ص) استشار أصحابه، فكان رأيهم علي المقام في المدينة وحرب القوم إن جاءوا إليهم علي أنقابها.

فأشار سلمان الفارسي بالخندق واستحسنه القوم، ونزل جبرئيل علي رسول اللّه (ص) بصواب رأي سلمان.

فخرج رسول اللّه (ص) فحدّد حفر الخندق من ناحية اُحد إلي راتج، حيث كان سائر أنحاء المدينة مشبك بالنخيل والبنيان، وخطّ موضع الحفر بخط علي الأرض، فضرب الخندق علي المدينة فعمل فيه رسول اللّه (ص) ترغيباً للمسلمين في الأجر فحفر بنفسه في موضع المهاجرين، وعلي (ع) ينقل التراب من الحفرة، حتي عرق رسول اللّه (ص) وعيي وقال:

(لا عيش إلا عيش الآخرة، اللّهم اغفر للأنصار والمهاجرين).

فقالوا مجيبين له:

(نحن الذين بايعوا محمدا علي الجهاد ما بقينا أبدا)

وكان سلمان رجلاً قويّاً، فقال المهاجرون: سلمان منّا، وقالت الأنصار: سلمان منّا، فقال النبي (ص): (سلمان منّا أهل البيت).

وكان لكل عشرة منهم أربعون ذراعاً يحفرونها، فبدأ رسول اللّه (ص) فعمل فيه وعمل فيه المسلمون، فدأب فيه فدأبوا.

وأبطأ عن رسول اللّه (ص) وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون بالضعف عن العمل، ويتسلّلون إلي أهليهم بغير علم من رسول اللّه (ص) ولا إذن.

وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة من الحاجة التي لابدّ منها ذكرها لرسول اللّه (ص) واستأذنه باللحوق بحاجته فيأذن له، فإذا قضي حاجته رجع إلي ما كان فيه من عمله رغبةً في الخير واحتساباً له، فأنزل اللّه في اُولئك المؤمنين: (إنّما المؤمنون الذين آمنوا باللّه ورسوله وإذا كانوا معه علي أمر جامع لم يذهبوا حتي يستأذنوه)(3).

ثم قال تعالي في المنافقين الذين كانوا يتسلّلون من العمل ويذهبون بغير إذن: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً، قد يعلم اللّه الذين يتسلّلون منكم لواذاً)(4).

وكان الذي أشار بالخندق سلمان فقال: يا رسول اللّه، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، ولم تكن تعرفه العرب قبل ذلك، ولذا قال المشركون لما رأوا الخندق: انها مكيدة فارسية ما كانت العرب تكيدها.

النبي (ص) يجوع ليَشبع الآخرون

قال علي (ع): كنا مع النبي (ص) في حفر الخندق إذ جاءته فاطمة(ع) ومعها كسرة من خبز، فدفعتها إلي النبي (ص) فقال: يا فاطمة ما هذه؟

قالت (ص): قرص خَبَزته للحسن والحسين (عليه السلام) جئتك منه بهذه الكسرة.

فقال النبي (ص): أما إنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث.

بوارق الفتح

وبينا المهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل فيه المعاول، فبعثوا جابر بن عبداللّه الأنصاري إلي رسول اللّه (ص) يعلمه بذلك.

قال جابر: فجئت إلي رسول اللّه (ص) وقد شدّ علي بطنه حجر المجاعة، وأخبرته بالخبر.

فأقبل (ص) ودعا بماء في اناء، فشرب منه ثم مجّ ذلك الماء في فيه، ثم صبه علي ذلك الحجر، ثم أخذ معولاً فقال: بسم اللّه، فضرب ضربة، فبرقت برقة، فنظرنا فيها إلي قصور الشام، ثم ضرب اُخري فبرقت برقة فنظرنا فيها إلي قصور المدائن، ثم ضرب اُخري فبرقت برقة اُخري فنظرنا فيها إلي قصور اليمن.

فقال رسول اللّه (ص): أما انه سيفتح اللّه عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرقة، ثم انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل.

في ضيافة جابر

قال جابر: فلما رأيت رسول اللّه (ص) قد شدّ علي بطنه حجراً علمتُ بأنه جائع، فقلت له: يا رسول اللّه هل لك في الغداء؟

قال (ص): ما عندك يا جابر؟

قلت: عناق وصاع من شعير.

قال (ص) تقدّم وأصلح ما عندك.

قال جابر: فجئتُ إلي أهلي فأمرتها فطحنت الشعير، وذبحت العنز وسلختها، وأمرتها أن تخبز وتطبخ وتشوّي، فلما فرغت من ذلك، جئت إلي رسول اللّه (ص) فقلت: بأبي واُمّي أنت يا رسول اللّه قد فرغنا، فاحضر مع من أحببت.

فقام رسول اللّه (ص) إلي شفير الخندق ثم قال: يا معاشر المهاجرين والأنصار أجيبوا جابراً، وكان في الخندق سبعمائة رجل، فخرجوا كلّهم! ثم لم يمرّ (ص) بأحد من المهاجرين والأنصار إلا قال: أجيبوا جابراً!

قال جابر: فأسرعت إلي البيت وقلت لأهلي: قد واللّه أتاك رسول اللّه (ص) بما لاقبل لك به.

فقالت: هل أنت أعلمته بما عندنا؟

قال: نعم.

قالت: هو أعلم بما أتي.

قال جابر: فدخل رسول اللّه (ص) فنظر في القدر، ثم

نظر في التنور، ثم دعي بصحفة فثرد فيها وغرف، فقال: يا جابر أدخل عليّ عشرة، فأدخلت عشرة، فأكلوا حتي نهلوا، وما يري في القصعة إلا آثار أصابعهم.

ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته بالذراع فأكلوه.

ثم قال: أدخل عليّ عشرة، فدخلوا فأكلوا حتي نهلوا وما يري في القصعة إلا آثار أصابعهم.

ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته فأكلوا وخرجوا.

ثم قال: أدخل عليّ عشرة، فأدخلتهم فأكلوا حتي نهلوا ولم ير في القصعة إلا آثار أصابعهم.

ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته بالذراع فتعجّبت وقلت: يا رسول اللّه كم للشاة من ذراع؟

قال (ص): ذراعان.

قلت: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً لقد أتيتك بثلاثة.

فقال: أما لو سكتّ يا جابر لأكلوا كلهم من الذراع.

قال جابر: فأقبلت اُدخل عليه عشرة عشرة فيأكلون حتي أكلوا كلهم، وبقي واللّه لنا من ذلك الطعام ما عشنا به أياماً.

المشركون ومحاصرة المدينة

قال: وحفر رسول اللّه (ص) الخندق وأتمّه قبل قدوم قريش بثلاثة أيام، وقد طال حفره مايقارب من شهر واحد، وذلك بعد أن جعل له ثمانية أبواب، وجعل علي كل باب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الأنصار مع جماعة يحفظونه.

ثم ضرب (ص) عسكره هناك وكانوا ثلاثة آلاف، فجعل الخندق أمامه، وجعل ظهره إلي سلع وهو جبل بالمدينة، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام، وذلك بعد أن استعمل ابن اُمّ مكتوم علي المدينة.

وقدمت الأحزاب وعلي رأسهم قريش ومعهم حييّ بن أخطب، فلما نزلوا العقيق جاء حييّ بن أخطب إلي بني قريظة في جوف الليل، وكانوا في حصنهم وقد تمسّكوا بما عاهدوا عليه رسول اللّه (ص) فدقّ باب الحصن، فسمعه كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان هو بنفسه الذي وادع رسول اللّه (ص) علي قومه وعاقده علي ذلك،

فعرف انه حييّ بن أخطب، فأغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه، فأبي أن يفتح له.

فناداه حييّ: ويحك يا كعب افتح لي.

قال: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم، واني قد عاهدت محمداً، وانك لست بناقض مابيني وبينه ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً.

قال: ويحك افتح لي اُكلّمك.

فقال: ما أنا بفاعل.

قال حييّ، وقد فكّر في كلام يثير به كعب: واللّه ما أغلقت الباب دوني إلا عن جشيشتك التي في التنور تخاف أن آكل منها.

فأحفظ الرجل ففتح له وقال: لعنك اللّه لقد دخلت عليّ من باب دقيق.

فقال حييّ: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش علي قادتها وسادتها حتي أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة، وبغطفان علي قادتها وسادتها حتي أنزلتهم بذنب نَقَمي إلي جانب اُحد قد عاهدوني وعاقدوني ألا يبرحوا حتي يستأصلوا محمداً ومن معه.

قال كعب: جئتني واللّه بذلّ الدهر وبجهام قد هرق ماؤه، فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً.

فلم يزل حيي يفتله في الذروة والغارب ويقول له: بأن محمداً لا يفلت من هذا الجمع أبداً، وان فاتك هذا الوقت لاتدرك مثله أبداً، حتي سمع له علي أن أعطاه عهداً من اللّه وميثاقاً لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتي يصيبني ما أصابك.

وبهذا تمكّن حيي من اقناع كعب، فلما اقتنع كعب بذلك أرسل إلي كل من كان في الحصن من رؤساء اليهود وقال لهم: ما ترون؟

قالوا: أنت سيّدنا وصاحب عهدنا فإن نقضت نقضنا معك، وإن أقمت أو خرجت كنا معك.

فقال لهم (ابن باطا) وكان أحد رؤسائهم: انه قرأ في التوراة وصف هذا النبي وانه

لو ناوته الجبال الرواسي لغلبها، فلا يهولنّه هؤلاء وجمعهم، وحذرهم مغبّة نقضهم العهد معه.

وهنا انبري حيي وقال: ليس هذا ذاك، ذلك النبي من بني إسرائيل، وهذا من العرب، ومازال يقلّبهم عن رأيهم حتي أجابوه، ثم طلب حييّ الكتاب الذي كان بينهم وبين رسول اللّه (ص) فمزّقه وقال: قد وقع الأمر فتجهّزوا للقتال، فنقضوا عهدهم وعزموا علي القتال.

وجاء حييّ بن أخطب إلي أبي سفيان والأحزاب فأخبرهم بنقض بني قريظة عهدهم ففرحوا بذلك.

بني قريظة يعلنون خيانتهم

ثم بدأ بنو قريظة يظهرون خيانتهم ونقضهم للعهد، وحاولوا أن يغيروا علي المدينة من منافذها المؤدية إلي مساكن النساء والأطفال فبعثوا أحدهم ليطّلع علي المنافذ ويخبرهم بها.

وفي أثناء استطلاعه بصرت به صفية بنت عبدالمطلب وهي مع جماعة من النسوة والأطفال وفيهم حسان بن ثابت كانوا في حصن فارع حصن حسّان بن ثابت، فقالت لحسّان: لو نزلت إلي هذا اليهودي لتقتله، فإنه يريد أن يدلّ بني قريظة علي المنافذ المؤدية إلي الحصن.

فقال حسّان: يا بنت عبدالمطلب لقد علمت ما أنا بصاحب هذا.

وهنا تحزّمت صفية ثم نزلت وأخذت عموداً وقتلته به، ثم عادت إلي الحصن وقالت لحسّان: الآن فاخرج واسلبه.

أجابها حسّان: لا حاجة لي في سلبه.

النبي (ص) وأخبار بني قريظة

ولما نقض بنو قريظة عهدهم، انتهي خبرهم إلي رسول اللّه (ص) فبعث إليهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبداللّه بن رواحة وخوّات بن جُبير وقال: انطلقوا حتي تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه ولا تفتّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا علي الوفاء فاجهروا به للناس.

فخرجوا حتي أتوهم فوجدوهم علي أخبث ما بلغهم عنهم، ونالوا من رسول اللّه (ص) وقالوا: من رسول اللّه؟ لاعهد بيننا وبين محمد ولا عقد.

فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه وكان رجلاً فيه حدة.

فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربي من المشاتمة.

ثم أقبل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومن معهما إلي رسول اللّه (ص) فسلموا عليه ثم قالوا: عضل والقارة. أي: كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع.

فقال رسول اللّه (ص): اللّه أكبر أبشروا بنصر اللّه يا معشر المسلمين، وكان (ص) يبعث الحرس إلي المدينة خوفاً علي الذراري من بني قريظة.

لكن عظم علي المسلمين البلاء واشتدّ

الخوف عندما أتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم وحاصروهم حول الخندق حتي ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتي قال بعضهم: قد كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن علي نفسه أن يذهب لقضاء حاجته. وأنزل اللّه تعالي: (وإذ يقول المنافقون والّذين في قلوبهم مرض ما وعدنا اللّه ورسوله إلاّ غروراً)(5).

وقال رجال معه: (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا).

وقال بعضهم: يا رسول اللّه ان بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا فنرجع إلي ديارنا فإنها خارج المدينة، فأنزل اللّه سبحانه: (وما هي بعورة إن يريدوا إلاّ فراراً).

مفاوضات عسكرية

فلمّا اشتدّ البلاء علي المسلمين من كثرة الأحزاب وطول محاصرتهم، بعث رسول اللّه (ص) إلي عيينة بن حصن وإلي الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان، ففاوضهما بأن يعطيهما ثلث ثمار المدينة علي أن يرجعوا بمن معهما عنه وعن أصحابه، وذلك ليفتّ في عضد المشركين، فجري بينه وبينهما مذاكرة الصلح، ولم تقم الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك.

فبعث رسول اللّه إلي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول اللّه أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك اللّه به لابدّ لنا من العمل به فافعله، أم شيئاً تصنعه لنا؟

قال (ص): بل شيء أصنعه لكم، وما أصنع ذلك إلا لأنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وجاؤوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلي أمرمّا.

فقال له سعد بن معاذ: يا رسول اللّه قد كنا نحن وهؤلاء القوم علي الشرك باللّه وعبادة الأوثان ولا نعبد اللّه ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من ثمرنا تمرة إلا قري أو بيعاً، أفحين

أكرمنا اللّه بالإسلام وهدانا به نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، واللّه لا نعطيهم إلا السيف حتي يحكم اللّه بيننا وبينهم بحكمه.

فقال رسول اللّه (ص): الآن قد عرفت ما عندكم، فكونوا علي ما أنتم عليه، فإن اللّه تعالي لن يخذل نبيّه ولن يسلمه حتي ينجز له ما وعده.

وكان هذا بالإضافة إلي الفتّ في أعضاد المشركين، واستخبار معنويات المسلمين، تعليماً من الرسول (ص) في استشارة الحكام أهل الخبرة أيضاً.

بدء القتال

ولما علم رسول اللّه (ص) عزم أصحابه وعلوّ معنوياتهم رغم طول المحاصرة حيث دامت بضعاً وعشرين ليلة ولم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصي، قام (ص) يشجّع اُولئك الذين أصابهم الضعف والوهن خوفاً من المشركين، ويحرّضهم علي جهادهم، ويعدهم النصر من اللّه تعالي، ويحثهم بذلك علي المجابهة إذا نشب القتال.

وفي هذه الأثناء انتدبت فوارس من قريش، وعلي رأسهم فارس يليل: عمرو بن عبدود العامري، خرج مُعلماً ليري مشهده، وكان يعدّ بألف فارس، فأقبلوا علي خيلهم حتي وقفوا علي الخندق، فلما رأوه قالوا: واللّه إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، وكان عمرو العامري هذا ومن معه أول من عبر الخندق.

فخرج علي بن أبي طالب (ع) في نفر من المسلمين حتي أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ومنعوا من عبور الآخرين، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم.

وكان عمرو بن عبدود ينادي تارة: ألا رجل يبارزني؟

ويصرخ اُخري: أين جنّتكم التي تزعمون انّ من قتل منكم دخلها؟ ويرتجز ثالثة ويقول:

ولقد بُححت من النداء بجمعكم هل من مبارز؟

ووقفت إذ جبن الشجاع مواقف البطل المناجز

اني كذلك لم أزل متسرّعاً نحو الهزاهز

إن الشجاعة في الفتي

والجود من خير الغرائز

الايمان كله مع الشرك كله

وفي كل مرة يطلب عمرو المبارزة، كان رسول اللّه (ص) يقول لأصحابه: أيّكم يبرز إلي عمرو؟ وأضمن له علي اللّه الجنّة؟

وفي كل مرة يقوم علي بن أبي طالب (ع) ويقول: أنا له يا رسول اللّه، فيأمره بالجلوس انتظاراً منه ليتحرّك غيره، والمسلمون ناكسوا رؤوسهم كأنّ علي رؤوسهم الطير، لمكان عمرو بن عبدود.

فلما طال نداء عمرو بالبراز وتتابع قيام علي (ع) قال له رسول اللّه (ص): يا علي هذا عمرو بن عبدود فارس يليل.

قال: وأنا علي بن أبي طالب.

فقال (ص): إذن اُدن منّي يا علي، فدني منه، فنزع (ص) عمامته من رأسه وعمّمه بها، وأعطاه سيفه ذاالفقار وقال له: (اذهب وقاتل بهذا).

ثم رفع (ص) يديه نحو السماء وقال: (لاللّهمّ انّك أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبدالمطلب يوم اُحُد، وهذا أخي علي بن أبي طالب، ربّ لاتذرني فرداً وأنت خير الوارثين، اللّهمّ أعنه، اللّهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته).

فلما برز علي (ع) قال (ص): (برز الايمان كله إلي الشرك كله)(6).

ولما برز علي بن أبي طالب (ع) إلي عمرو، برز وهو يهرول في مشيته ويرتجز ويقول مجيباً لعمرو:

لاتعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة والصدق منجي كلّ فائز

اني لأرجو أن اُقيم عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقي ذكرها عند الهزاهز

علي أعتاب المصاولة

ولما اقترب علي (ع) من عمرو، قال له عمرو: من أنت؟

قال: أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول اللّه (ص) وختنه.

قال: واللّه انّ أباك كان لي صديقاً، واني أكره أن أقتلك، ما أمن ابن عمّك حين بعثك إليّ أن اختطفك برمحي هذا، فأتركك بين السماء والأرض لا حيّاً ولا ميّتاً؟

فأجابه علي (ع)

قائلاً: قد علم ابن عمّي انك إن قتلتني دخلتُ الجنّة وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنّة.

فقال عمرو: كلتاهما لك يا علي، تلك إذن قسمةٌ ضيزي.

فقال علي (ع): دع هذا يا عمرو، اني سمعتك تقول: لا يعرض عليّ أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلي واحدة منها، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلي واحدة.

قال عمرو: هات يا علي.

قال (ع): تشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمداً رسول اللّه.

قال: نحّ عني هذا، فأين ما أنفقت فيكم مالاً لبداً؟ وكان قد أنفق مالاً في الصدّ عن سبيل اللّه فأنزل اللّه فيه: (يقول أهلكت مالاً لبداً)(7).

قال (ع): فالثانية: أن ترجع من حيث جئت وترد هذا الجيش عن رسول اللّه (ص)، فإن يك صادقاً فأنتم أعلي به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره.

قال: إذن تتحدّث نساء قريش بأني جبنت ورجعت.

قال (ع): فالثالثة: أن تنزل إليّ وتقاتلني، فإني راجل وأنت راكب.

فنزل عمرو عن فرسه وعرقبه وقال: هذه خصلة ما كنت أظن انّ أحداً من العرب يسومني عليها، واني لأكره أن أقتل رجلاً كريماً مثلك، وقد كان أبوك لي صديقاً.

قال علي (ع): لكني اُحبّ أن أقتلك.

فغضب عندها عمرو وبدأ بالقتال فضرب علياً (ع) بالسيف علي رأسه، فاتقاه بالدرقة فقطعها، وثبت السيف علي رأسه (ع).

ثم بدره علي (ع) فضربه علي ساقيه فقطعهما جميعاً، وارتفعت بينهما عجاجة، وكبّر علي (ع).

فانكشف من كان مع عمرو حتي عبروا الخندق منهزمين، فوقع نوفل بن عبدالعزّي في الخندق، فطعنه علي (ع) في ترقوته فمات في الخندق.

ضربة علي (ع) يوم الخندق

ولما انكشفت العجاجة نظروا فإذا بعلي (ع) علي صدر عمرو قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه، فلمّا همّ أن يذبحه تركه وقام

فخطا خطوات ثم رجع إليه وأخذ بلحيته ثانية ليذبحه وهو يكبّر اللّه ويمجّده، فقال له عمرو: يا علي إذا قتلتني فلا تسلبني حلّتي.

فقال (ع): هي أهون عليّ من ذلك، فذبحه وتركه، ثم أخذ رأسه وأقبل نحو رسول اللّه (ص) والدماء تسيل علي رأس علي (ع) من ضربة عمرو، وسيفه يقطر منه الدم، وهو يقول والرأس بيده:

أنا علي وابن عبدالمطلب الموت خير للفتي من الهرب

يقول ذلك وهو يخطر في مشيته.

فقال بعض: ألا تري يا رسول اللّه إلي عليّ كيف يتبختر في مشيه؟

فقال رسول اللّه (ص): انها لمشية لا يمقتها اللّه في هذا المقام.

ثم استقبله رسول اللّه (ص) ومسح الغبار عن عينيه وقال له: أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل اُمّة محمد لرجح عملك بعملهم، وذاك انه لم يبق بيت من المشركين إلاّ وقد دخله ذلّ بقتل عمرو، ولم يبق بيت من المسلمين إلاّ وقد دخله عزّ بقتل عمرو.

ثم قال (ص): ضربة علي (ع) يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين.

وسُمع منادياً ينادي ولا يري شخصه يقول:

قتل علي عمرا قصم علي ظهراً

ابرم علي أمراً

ووقعت الهزيمة بالمشركين وتفرّقت الأحزاب خائفين مرعوبين.

فقال رسول اللّه (ص): الآن نغزوهم ولا يغزونا، فكان كما قال (ص) فلم يغزهم قريش بعد ذلك، وكان هو يغزوهم حتي فتح اللّه عليهم مكّة.

ولما سألوا علياً (ع) عن سبب قيامه عن صدر عمرو ثم العود إليه ثانية، وعن تركه سلبه؟

قال (ع): ان عمرواً تجاسر عليه مما أثار غضبه، فقام يخطو خطوات يطفيء بها غضبه ليكون قتله إيّاه خالصاً لوجه اللّه تعالي لا يشوبه شيء من التشفي والإنتقام لنفسه، كما انه ترك سلبه، لأن عمرواً قد سأله ذلك وطلب منه أن لايسلبه بعد قتله.

ضربتان: أعزّ وأشأم

روي الأودي قال:

سمعت ابن عياش يقول: لقد ضَرب عليّ (ع) ضربة ما كان في الإسلام ضربة أعزّ منها، يعني بها ضربة عمرو بن عبدود العامري، ولقد ضُرب علي (ع) ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها، يعني بها ضربة ابن ملجم المرادي، وفي قتل عمرو بن عبدود يقول حسّان بن ثابت:

أمسي الفتي عمرو بن عبد يبتغي بجنوب يثرب غارة لم تنظر

ولقد وجدت سيوفنا مشهورة ولقد وجدت جيادنا لم تقصر

ولقد رأيت غداة بدر عصبة ضربوك ضرباً غير ضرب المخسر

أصبحت لا تدعي ليوم عظيمة يا عمرو أو لجسيم أمر منكر

فسمعه أحد بني عامر فأجابه وهو يرد عليه افتخاره بالأنصار قائلاً:

كذبتم وبيت اللّه لم تقتلوننا ولكن بسيف الهاشميين فافخروا

بسيف ابن عبداللّه أحمد في الوغا بكف عليّ نلتمُ ذاك فاقصروا

فلم تقتلوا عمرو بن عبد ببأسكم ولكنه الكفو الهزبر الغضنفر

عليّ الذي في الفخر طال بناؤه ولا تكثتروا الدعوي علينا فتحقروا

مع ابنة عبدود

وروي انه لما قتل علي (ع) عمرو بن عبدودّ نعي إلي اُخته عمرة بنت عبدود، فلما جاءت إليه ورأته علي حلّته لم يسلبه قاتله، قالت: من ذا الذي اجترأ عليه؟

قالوا لها: علي بن أبي طالب.

قالت: لم يعد موته إلا علي يد كفو كريم، لا رقأت دمعتي ان هرقتها عليه، قتل الأبطال، وبارز الأقران، وكانت منيته علي يد كفو كريم من قومه، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر، ثم أنشأت تقول:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله لكنتُ أبكي عليه آخر الأبد

لكن قاتل عمرو لا يعاب به من كان يدعي قديماً بيضة البلد

ثم قالت: واللّه لا ثأرت قريش بأخي ما حنّت النيب والنيب جمع ناب وهي المسنّة من النوق كناية عن انها لاتستطيع ذلك أبداً.

في الحرب ومع المشركين فقط

كان نعيم بن مسعود الأشجعي ممن يجيد فنّ الشغب والفتنة، فأتي رسول اللّه (ص) في جوف الليل وكان قد أسلم قبل قدوم قريش بثلاثة أيام، فقال: يا رسول اللّه اني قد آمنتُ باللّه وصدقتك، وكتمتُ ايماني عن الكفرة، فإن أمرتني أن آتيك وأنصرك بنفسي فعلت، وإن أمرتني ان اُخذّل بين اليهود وبين قريش فعلت حتي لايخرجوا من حصنهم.

فقال رسول اللّه (ص): خذّل بين اليهود وبين قريش، فإنه أوقع عندي.

فجاء إلي أبي سفيان وقال له: انك تعرف مودّتي لكم ونصحي، وقد بلغني انّ محمداً قد وافق اليهود علي أن يأخذوا رهائن من أشرافكم ليسلّموهم إلي محمد يضرب أعناقهم، ثم يدخلوا بين عسكركم ويميلوا عليكم، ووعدهم إذا فعلوا ذلك أن يردّ عليهم جناحهم الذي قطعه بني النضير وقينقاع، فلا أري أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتي تأخذوا منهم رهناً تبعثوا بهم إلي مكّة، فتأمنوا مكرهم وغدرهم.

فقال له أبو سفيان: وفّقك اللّه وأحسن جزاءك،

مثلك من أهدي النصائح.

ثم جاء نعيم من فوره ذلك إلي بني قريظة وقال لكعب وكان نديماً له في الجاهلية: يا كعب انّك تعلم مودّتي لكم ونصحي، وقد بلغني انّ أبا سفيان قال: نخرج هؤلاء اليهود فنضعهم في نحر محمّد، فإن ظفروا كان الفخر لنا، وإن خسروا كانوا هؤلاء مقاديم الحرب، فلا أري لكم أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتي تأخذوا منهم عشرة من أشرافهم يكونون في حصنكم، فإنهم إن لم يظفروا بمحمد رجعوا إلي مكة وغزاكم محمد فقتلكم، لكن إن أخذتم رهائن منهم، لم يذهبوا حتّي يردّوا عليكم عهدكم الذي جعلتموه بينكم وبين محمد.

فقال له كعب: أحسنت وأبلغت في النصيحة لانخرج من حصننا حتي نأخذ منهم رهناً يكونون في حصننا.

وكان كذلك، فإنهم طلبوا رهناً حينما طلب منهم أبوسفيان أن يبدأوا القتال، فقال أبوسفيان: صدق نعيم، فاختلفت كلمتهم.

الأحزاب ينهزمون

لما قَتل علي (ع) عمرو بن عبدود دخل الوهن والذلّ معسكر الأحزاب، واضطربوا أشدّ اضطراب، فلما جنّ اللّيل قام رسول اللّه (ص) علي التلّ الذي عليه مسجد الفتح، وكانت ليلة ظلماء قرّة فقال: من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنّة؟ أعادها فلم يقم أحد، ثم قال: من هذا؟ وكان حذيفة قريباً منه، فقال: أنا حذيفة يا رسول اللّه.

فقال: اقترب يا حذيفة أما تسمع كلامي؟

فقام حذيفة وهو يقول: القرّ والضرّ جعلني اللّه فداك منعاني أن اُجيبك.

فقال رسول اللّه (ص): انطلق حتي تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم.

فقال حذيفة: نعم يا رسول اللّه، ثم قام فأخذ سيفه وقوسه وترسه، وليس به ضرّ ولا قرّ واتّجه نحوهم.

فقال له رسول اللّه (ص) بعد أن دعا له: يا حذيفة لاتحدث شيئاً حتي تأتيني، فلما ذهب حذيفة رفع رسول اللّه (ص) يديه إلي السماء ودعا قائلاً: (يا صريخ

المكروبين، ويا مجيب دعوة المضطرّين، ويا مغيث المهمومين، اكشف همّي وغمّي وكربي، فقد تري حالي وحال أصحابي) وما أن تمّ دعاؤه حتي نزل جبرئيل وهو يقول: يا رسول اللّه انّ اللّه عزّ ذكره قد سمع مقالتك ودعاءك وقد أجابك وكفاك هول عدوّك، فجثا رسول اللّه (ص) علي ركبتيه، وبسط يديه، وأرسل عينيه، ثم قال: (شكراً شكراً، كما رحمتني ورحمت أصحابي).

ثم قال: ان اللّه عزّ وجل قد بعث عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها حصي وأرسل عليهم ريحاً من السماء الرابعة فيها جندل.

حذيفة ودعاء الرسول (ص)

قال حذيفة: خرجت فلما وصلت إليهم، أقبل جند اللّه الأول ريح فيها حصي، فما تركت لهم ناراً إلاّ أذرّتها، ولا خباءاً إلاّ طرحته، ولا رمحاً إلا ألقته، حتي جعلوا يتترّسون من الحصي.

فجلست بين رجلين من المشركين، فقام أبو سفيان وقال: إن كنّا نقاتل أهل الأرض فنحن بالقدرة عليه، وإن كنّا نقاتل أهل السماء كما يقول محمد فلا طاقة لنا بأهل السماء، انظروا بينكم لا يكون لمحمد عين بيننا، فليسأل بعضكم بعضاً.

قال حذيفة: فبادرتُ إلي الذي عن يميني وقلت له: من أنت؟

قال معاوية.

وقلت للذي عن يساري: من أنت؟

فقال: عمرو بن سهيل، ولم يسألاني عن اسمي.

ثم أقبل جند اللّه الأعظم. ريح فيها جندل، فقام أبو سفيان إلي راحلته، ثم صاح في قريش: النجاء النجاء، ولما أراد أن يركب راحلته أمكنني قتله، فلما هممت بذلك تذكرت قول رسول اللّه (ص): (لا تحدثن حدثاً حتي ترجع إليّ) فكففت ورجعت بعد أن انهزم المشركون وذهب الأحزاب.

فأخبرتُ رسول اللّه (ص) الخبر وقد طلع الفجر، فتهيّأ وتهيّئنا معه للصلاة، فصلّي بنا الفجر ثم نادي مناديه: لا يبرحنّ أحد مكانه إلي أن تطلع الشمس، فلما طلعت الشمس انصرفنا مع رسول اللّه

(ص) إلي داخل المدينة وهو يقول علي رواية: (لا إله إلاّ اللّه وحده وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فله الملك وله الحمد، يحيي ويميت، ويميت ويحيي، وهو حيّ لا يموت بيده الخير وهو علي كلّ شيء قدير).

القرآن وغزوة الأحزاب

ثم انّ اللّه تعالي أوحي إلي نبيّه (ص) سورة الأحزاب يذكّر المسلمين فيها بما أصابهم ذلك اليوم من ضرّ، وبما منّ عليهم من الفتح وبما أنزل عليهم من النصر، اضافة إلي ما في تسمية السورة بالأحزاب من اشارة إلي أهمية الأمر وعظم الواقعة حيث يقول تعالي:

(يا أيّها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم، إذ جاءتكم جنود، فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها، وكان اللّه بما تعملون بصيراً، إذ جاءوكم من فوقكم، ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتظنّون باللّه الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً)(8) إلي قوله تعالي: (وردّ اللّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفي اللّه المؤمنين القتال، وكان اللّه قويّاً عزيزاً)(9).

ثمّ بشّرهم بفتح حصون اليهود حيث يقول تعالي: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطأوها، وكان اللّه علي كلّ شيء قديراً)(10).

1 النساء: 51. 2 النساء: 55. 3 النور: 62.

4 النور: 63. 5 الأحزاب: 12.

6 راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ج 13 ص 261 ط دار إحياء التراث العربي.

7 البلد: 6. 8 الأحزاب: 9 11. 9 الأحزاب: 25.

10 الأحزاب: 26 27.

غزوة بني قريظة

لما انصرف رسول اللّه (ص) من الخندق ودخل المدينة واللواء معقود، أراد أن يغتسل من الغبار، فناداه جبرئيل: عذيرك من محارب، واللّه ما وضعت الملائكة لامتها، فكيف تضع لامتك؟ ان اللّه يأمرك أن لا تصلّي العصر إلا ببني قريظة، فإني متقدّمك ومزلزل بهم حصنهم.

فخرج رسول اللّه (ص) وقال: ادعوا لي علياً، فجاء علي (ع) فقال له: ناد في الناس أن لايصلينّ أحد العصر إلا في بني قريظة، فنادي فيهم،

فخرج الناس، فبادروا إلي بني قريظة، وخرج رسول اللّه (ص) وعلي (ع) بين يديه مع الراية العظمي في ثلاثة آلاف رجل وثلاثين فرساً، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.

وكان حييّ بن أخطب لما انهزم الأحزاب جاء فدخل حصن بني قريظة، فجاء علي (ع) فأحاط بحصنهم، فأشرف عليهم كعب بن أسد من الحصن يشتمهم ويشتم نبيّهم.

فأقبل رسول اللّه (ص) وأنزل العسكر حول حصنهم فحاصرهم ثلاثة أيام، فنزل بعدها أحدهم إليه وقال: يا محمد تعطينا ما أعطيت إخواننا من بني النضير؟

فقال: لا، أو تنزلون علي حكمي.

فرجع، واستمر الحصار خمساً وعشرين ليلة.

فلما اشتد عليهم ذلك وأيقنوا انّ رسول اللّه (ص) غير منصرف عنهم، قام سيّدهم كعب بن أسد وعرض عليهم ثلاث خصال: اما الإسلام، وإما قتل ذراريهم ونسائهم ثم القتال حتي يموتوا، وإما تبييت النبي (ص) وأصحابه ليلة السبت، فإن المسلمين قد أمنوا منهم.

فأبوا كل ذلك، فأرسلوا إلي رسول اللّه (ص) أن يبعث إليهم أبا لبابة بن عبدالمنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس، ليستشيروه في أمرهم، فأرسله إليهم.

زلة أبي لبابة وتوبته

فلما جاء أبو لبابة إلي بني قريظة أحاطوا به وقالوا له: يا أبا لبابة، أتري أن ننزل علي حكم محمد؟

قال: نعم، وأشار بيده إلي حلقه أنه الذبح.

قال أبو لبابة: فواللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتي عرفت أني قد خنتُ اللّه ورسوله.

ثم انطلق أبو لبابة علي وجهه فلم يأت رسول اللّه (ص) حتي ارتبط في المسجد إلي عمود من عمده وقال: لا أبرح من مكاني هذا حتي يتوب اللّه عليَّ مما صنعت، وعاهد اللّه أن لا يطأ بني قريظة أبداً، ولا يراه اللّه في بلد خان اللّه ورسوله فيه أبداً.

فلما سمع رسول اللّه (ص) خبره

وكان قد استبطأه قال: أما لو جاءني لاستغفرتُ له، وأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتي يتوب اللّه عليه.

فنزلت توبة أبي لبابة علي رسول اللّه (ص)، فتولّي رسول اللّه (ص) إطلاقه بيده الكريمة، فنزلت بنو قريظة علي حكم رسول اللّه (ص).

حكمية سعد بن معاذ

فلما نزلت بنو قريظة علي حكم رسول اللّه (ص) قالت الأوس: يا رسول اللّه قد فعلت في بني قينقاع ما قد فعلت وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا.

فقال رسول اللّه (ص): ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟

قالوا: بلي فمن هو؟

قال (ص): فذلك سعد بن معاذ.

قالوا: قد رضينا بحكمه.

وكان رسول اللّه (ص) قد جعل سعد بن معاذ لما به من الجراح الذي أصابه من وقعة الأحزاب في خيمة في المسجد تسكنها رفيدة امرأة صالحة تقوم علي المرضي وتداوي الجرحي تحتسب بذلك الأجر، ليعوده من قريب، فأرسل رسول اللّه (ص) إلي سعد ليؤتي به ليحكم في بني قريظة، فاُتي به في محفّة وهو سرير يحمل عليه المريض، وأحاط به قومه وهم يقولون: يا أباعمرو، أحسن في مواليك، فإنما ولاّك رسول اللّه (ص) ذلك لتحسن فيهم.

فقال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في اللّه لومة لائم، فأحسّ قومه من كلامه هذا، انه يريد أن يحكم فيهم بما حكم به اليهود أنفسهم: من الحكم بقتل المحاربين وسبي ذراريهم ونسائهم ومصادرة أموالهم إذا كان الفتح لهم، وبما عاهد اليهود أنفسهم رسول اللّه (ص): من انهم لو نقضوا عهدهم معه كان له الحق في قتلهم ومصادرة أموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم، ولذلك قالوا: واقوماه ذهب واللّه بنو قريظة.

فلما استقرّ بسعد المجلس، التفت إلي اليهود وقال لهم: يا معشر اليهود أرضيتم بحكمي فيكم؟

قالوا:

بلي قد رضينا بحكمك، فأعاد عليهم القول.

فقالوا: بلي يا أبا عمرو.

عندها التفت سعد إلي رسول اللّه (ص) وقال اجلالاً له: بأبي أنت واُمّي يا رسول اللّه ما تري؟

قال (ص): احكم فيهم يا سعد، فقد رضيت بحكمك فيهم.

فقال سعد: قد حكمت يا رسول اللّه أن تقتل رجالهم، وتسبي نساءهم وذراريهم، وتقسّم غنائمهم وأموالهم بين المهاجرين والأنصار.

فنفّذ المسلمون حكم سعد فيهم فساقوا الاُساري إلي المدينة، وأمر رسول اللّه (ص) بأن يحفروا حفراً في البقيع، فلما أمسي أمر بإخراج رجل رجل، فاُخرج كعب بن أسد، فلما نظر إليه رسول اللّه (ص) قال له: يا كعب أما نفعك وصية ابن حواش الحبر الذي أقبل من الشام وقال: تركت الخمر والخمير، وجئت إلي البؤس والتمور، لنبي يبعث، هذا أوان خروجه، يكون مخرجه بمكّة، وهذه دار هجرته، وهو الضحوك الذي يجتزئ بالكسرة والتميرات، ويركب الحمار العاري، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوّة، يضع سيفه علي عاتقه لا يبالي من لاقي منكم، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر؟

فقال كعب: قد كان ذلك يا محمد، ولولا أن اليهود يعيّروني اني جزعت عند القتل لآمنتُ بك وصدقتك، ولكني علي دين اليهود عليه أحيا وعليه أموت.

فأمر رسول اللّه (ص) بضرب عنقه، فضربت.

ثم قدّم حييّ بن أخطب فضربت عنقه، ثم ضربت أعناق الباقين، وكانوا قليلين جداً.

ويؤيّد ذلك سيرة الرسول (ص) في التقليل من القتل حسب الإمكان.

واصطفي (ص) لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو ثم قسم رسول اللّه (ص) بين المسلمين الأموال والنساء والذراري، وذلك بعد أن أخرج خمسها.

شهداء الخندق وقريظة

وكان قد استشهد من المسلمين يوم الخندق وقريظة: سعد بن معاذ، فإنه بعد أن حكم في بني قريظة، انفجر جرحه بالدم فأرجعوه إلي خيمته الذي ضربت عليه في

المسجد، فما لبث أن نزل جبرئيل علي رسول اللّه (ص) وقال: من هذا العبد الصالح الذي مات، فقد فتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش.

فخرج رسول اللّه (ص) إلي المسجد فإذا بسعد بن معاذ قد قبض.

وممن استشهد يوم الخندق وقريظة: الطفيل بن النعمان، وأنس به اوس، وعبداللّه بن سهل، وثعلبة بن غنمة، وكعب بن زيد، وخلاد بن سويد الذي طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحي فقتلته به، ومات في الحصار أبوسنان بن محصن أخو عكاشة بن محصن.

مع ابن باطا

وكان لابن باطا وهو من رؤساء بني قريظة يد عند ثابت بن قيس، فأتي ثابت رسول اللّه (ص) وقال: يا رسول اللّه كان لابن باطا عندي يد وقد أحببتُ أن أجزيه بها فهب لي دمه.

فقال رسول اللّه (ص): هو لك.

فأتاه فأخبره بذلك.

فقال ابن باطا: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟

فأتي ثابت إلي رسول اللّه (ص) وقال: يا رسول اللّه أهله وولده.

قال (ص): هم لك.

فأتاه فأخبره بذلك.

فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم علي ذلك؟

فأتي ثابت إلي رسول اللّه (ص) وقال: ماله يا رسول اللّه.

قال (ص): هو لك.

فأتاه فأخبره بأنّ ماله له وفاءاً.

عند ذلك قال ابن باطا لثابت: أين كعب بن أسد؟

قال ثابت: قتل.

قال: فما فعل حييّ بن أخطب؟

قال: قتل.

قال: وما هي حال غزال بن شمول؟

قال: قتل.

فلما سمع ابن باطا بقتل هؤلاء قال لثابت: أسألك بيدي عندك يا ثابت إلاّ ما ألحقتني بالقوم، فواللّه ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر حتي ألقي الأحبّة، فلمّا رأي ثابت هذه اللجاجة من ابن باطا مع ما منّ عليه رسول اللّه(ص) من العفو عنه وعن أهله وأولاده وماله غضب وقال: لا بأس،

ثم قدمه وضرب عنقه.

سرية ابن مسلمة إلي نجد

ثم بعث رسول اللّه (ص) خيلاً قبل نجد وجعل عليهم محمد بن مسلمة، فظفروا برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن اُثال، وكان قد قتل من المسلمين، فأسروه وجاءوا به إلي المدينة فربطوه بسارية من سواري المسجد، وقيل: أودعوه في غرفة علي باب المسجد.

فخرج إليه رسول اللّه (ص) وقال له: ما عندك يا ثمامة؟

فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم علي شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل منه ما شئت.

فتركه حتي كان الغد، ثم قال (ص) له: ما عندك يا ثمامة؟

قال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم علي شاكر إلي آخره.

فتركه حتي كان بعد الغد فقال (ص) له: ما عندك يا ثمامة؟

قال: عندي ما قلت.

قال (ص): أطلقوا ثمامة.

فانطلق إلي نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لاإله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، يا محمد، واللّه ما كان علي الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، وأما الآن فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ، واللّه ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدين إليَّ، واللّه ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا اُريد العمرة، فماذا تري؟

فبشّره رسول اللّه (ص) وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟

قال: لا ولكن أسلمت مع محمّد رسول اللّه (ص)، ولا واللّه لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتي يأذن فيها النبي (ص)، وكانت اليمامة ريف مكة، فانصرف إلي بلاده ومنع الحمل إلي مكة حتي جهدت قريش، فكتبوا إلي رسول اللّه (ص) يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلي ثمامة يخلي لهم

حمل الطعام، ففعل رسول اللّه(ص) ذلك.

غزوة الغابة

وتعرف بذي قرَد بفتح القاف والراء، وهو ماء علي بريد من المدينة بطريق الشام، وكانت هذه الغزوة في ربيع الأول سنة ست من الهجرة النبويّة المباركة.

وسببها: أنه كان لرسول اللّه (ص) عشرون لقحة وهي ذوات اللبن القريبة العهد بالولادة ترعي بالغابة فأغار عليها عيينة بن حصن الفزاري ليلة الأربعاء في أربعين فارساً فاستاقوها وقتلوا الراعي، وكان فيهم رجل من غفار وامرأته، قتلوا الرجل وسبوا المرأة.

ونودي: يا خيل اللّه اركبي، وكان أول ما نودي بها، كما انه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع السلمي، كان ناهضاً إلي الغابة، فلما علا ثنية الوداع نظر إلي خيل الكفار فصاح، فأنذر المسلمين، ثم نهض في آثارهم فأبلي بلاء حسناً عظيماً، ورماهم بالنبل حتي استنقذ ما كان بأيديهم من اللقاح، واستخلص المرأة، واستلب منهم ثلاثين بردة.

فلما وقعت الصيحة بالمدينة كان أول من أتي إلي رسول اللّه (ص) من الفرسان المقداد بن عمرو، ثم عباد بن بشر الأشهلي، واُسيد بن حضير أخو بني حارثة، وعكاشة بن محصن، ومحرز بن نضلة الأسدي الأخرم، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وأبو عياش عبيد بن زيد بن صامت الزرقي.

فلما اجتمعوا خرج رسول اللّه (ص) حتي أدرك ابن الأكوع.

فلما رأي ابن الأكوع رسول اللّه (ص) قال: يا رسول اللّه قد حميت القوم الماء فابعث إليهم الساعة.

فقال (ص): يابن الأكوع إذا ملكت فاسجح، أي: سهّل وحسّن العفو.

ثم ان أول من لحق بهم محرز بن نضلة الأخرم، فأخذ ابن الأكوع بعنان فرسه، وقال: يا أخرم ان القوم قليل فاحذرهم لايقتطعوك حتي يلحق بنا أصحابنا.

فقال الأخرم: يابن الأكوع لا تحل بيني وبين الشهادة، فخلّي سبيله، فالتقي هو والفزاري فعقر

الأخرم فرسه، فطعنه الفزاري فقتل رحمه اللّه، ولحق أبو قتادة فقتل قاتل الأخرم، وولّي المشركون منهزمين.

وبلغ رسول اللّه (ص) ماء يقال له ذو قرد، ونحر ناقة من لقاحه المسترجعة، وأقام (ص) يوماً وليلة ثم رجع إلي المدينة، وأقبلت امرأة الغفاري علي ناقة رسول اللّه (ص)، فلما أتت المدينة نذرت أن تنحرها، فأخبرها رسول اللّه (ص) انه لانذر لأحد فيما لا يملك، كما لا نذر في معصية.

سرية عكاشة إلي الغمرة

والغمرة: ماء لبني أسد، علي ليلتين من فيد، أرسل إليهم رسول اللّه (ص) حين سمع بأنهم يريدون الإغارة علي المدينة عكاشة بن محصن في أربعين رجلاً، وذلك في آخر شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة النبوية المباركة.

فلما أحسّ القوم بهم بكّروا في الهروب وتركوا مكانهم مائتي بعير، فساقها عكاشة إلي المدينة.

سرية زيد الي العيص

والعيص هي: منطقة علي أربعة أميال من المدينة، خرج إليها في جمادي الاُولي زيد بن حارثة في مائة وسبعين راكباً ليأخذوا عيراً لقريش قد أخذت طريق العراق.

فالتقوا بأبي العاص ابن الربيع زوج زينب بنت رسول اللّه (ص)، وذلك عند مرجعه من الشام، وكان رجلاً مأموناً، وكانت معه بضائع لقريش، فاستاقوا عيره وأفلت، وقدموا علي رسول اللّه (ص) بما أصابوا، فقسّمه بينهم.

وأتي أبو العاص المدينة فدخل علي زينب بنت رسول اللّه (ص) مستجيراً بها وسألها أن تطلب من رسول اللّه (ص) ردّ ماله عليه، وما كان معه من أموال الناس.

فدعا رسول اللّه (ص) السرية وقال: إنّ هذا الرجل منا بحيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالاً ولغيره، وهو فيء اللّه الذي أفاء عليكم، فإن رأيتم أن تردوا عليه فافعلوا، وإن كرهتم فأنتم وحقكم.

قالوا: بل نرد عليه يا رسول اللّه، فردوا عليه ما أصابوا، حتي إن الرجل يأتي بالشيء والرجل يأتي بالإداوة والرجل بالحبل، فما تركوا قليلاً مما أصابوا ولا كثيراً إلا ردوه عليه.

ثم خرج أبو العاص بالبضائع حتي قدم مكة فأدّي إلي الناس بضائعهم، حتي إذا فرغ قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم مال لم أرده عليه؟

قالوا: لا، فجزاك اللّه خيراً، قد وجدناك وفياً كريماً.

قال: واللّه ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا توقّياً أن تظنّوا اني أسلمت لأذهب بأموالكم،

ثم قال معلناً: اني أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله.

سرية ابن حارثة إلي بني فزارة

وفي شهر رجب سنة ست من الهجرة النبوية المباركة بعث رسول اللّه (ص) زيد بن حارثة علي رأس جماعة إلي وادي القري وذلك لأن زيداً كان يذهب إلي الشام في تجارة ومعه بضائع من أصحاب النبي (ص)، فلما قربوا من وادي القري أغار عليهم قوم من فزارة، فقتلوا المسلمين، ونجي زيد بنفسه، فلما قدم زيد المدينة وقد خلص بنفسه، بعثه رسول اللّه (ص) مع جماعة إلي بني فزارة، فلقيهم بوادي القري فأصاب منهم أموالاً وقتل منهم رجالاً ورجع إلي المدينة بعد أن وطّد الأمن في الطريق.

غزوة بني المصطلق

ثم كانت غزوة بني المصطلق وهم بطن من خزاعة، ورأسهم الحارث بن أبي ضرار، وقد تهيّأ للزحف علي المدينة حيث سار الحارث في قومه ومن قدر عليه من العرب فدعاهم إلي حرب رسول اللّه (ص) فأجابوه.

فلما سمع بهم رسول اللّه (ص) خرج إليهم في بشر كثير لليلتين خلتا من شعبان سنة ست من الهجرة النبوية المباركة، واستعمل علي المدينة أبا ذر الغفاري وقيل: نميلة بن عبداللّه الليثي، فلقيهم علي ماء من مياههم يقال له: المريسيع، فتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر رسول اللّه (ص) أصحابه أن يحملوا عليهم حملة رجل واحد، فما أفلت منهم انسان، وقتل عشرة منهم وأسر سائرهم، وسبي رسول اللّه (ص) النساء والذراري، وغنم الأموال والشاء والنعم.

وكان من السبي اُم المؤمنين (جويرية) بنت الحارث بن أبي ضرار سيّد بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدّي رسول اللّه (ص) عنها وأعتقها فتزوّجها وسمّاها برّة، فلما بلغ المسلمون ذلك أعتقوا إجلالاً لرسول اللّه (ص) ما كان في أيديهم من السبايا وكانوا مائة أهل بيت من بني المصطلق وقالوا: أصهار رسول اللّه (ص)، فما علم امرأة أعظم

بركة علي قومها منها.

في طريق المدينة

وفي رجوع رسول اللّه (ص) من هذه الغزوة قال عبداللّه بن اُبيّ: لئن رجعنا إلي المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، وذلك لشرّ وقع بين جهجاه بن مسعود الغفاري من المهاجرين وبين سنان بن وبر الجهني من الأنصار.

فنادي الغفاري: يا للمهاجرين.

ونادي الجهني: يا للأنصار.

فقال رسول اللّه (ص): أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم؟

وبلّغ زيد بن أرقم رسول اللّه (ص) مقالة عبداللّه بن اُبي فنزل في ذلك من عند اللّه سورة المنافقين، وتبرأ عبداللّه بن عبداللّه بن اُبي من أبيه، وأتي رسول اللّه (ص) فقال له: يا رسول اللّه أنت واللّه الأعزّ وهو الأذلّ، واللّه لئن شئت لنخرجنّه يا رسول اللّه، ووقف لأبيه قرب المدينة فقال: لا تدخلها حتي يأذن لك رسول اللّه (ص) في الدخول.

فشكي الأب ابنه إلي رسول اللّه (ص) فأرسل إليه: أن خلّ عنه يدخل.

فقال: الآن وقد جاء الإذن فنعم.

وقال أيضاً: بلغني أنك يا رسول اللّه تريد قتل أبي واني أخشي إن أمرتَ بذلك غيري ألا تدعني نفسي أري قاتل عبداللّه يمشي علي الأرض فأقتله وأدخل النار إذا قتلت مؤمناً بكافر، وقد علمت الأنصار أني من أبرّها لأبيه، ولكن يا رسول اللّه إن أردت قتله فمرني بذلك فأنا واللّه أحمل إليك رأسه.

فقال له رسول اللّه (ص) خيراً، وأخبره أنه يحسن صحبة أبيه مادام هو معهم.

سرية الفهري إلي عرينة

وفي شهر شوّال سنة ست من الهجرة النبوية المباركة كانت قصة العرينيّين، وذلك انه قدم علي رسول اللّه (ص) عرينة وكانوا ثمانية أشخاص فأسلموا، فاستوبأوا المدينة واستوخموها.

فأمر رسول اللّه (ص) بهم إلي لقاحه وكانت خمس عشرة لقحة واللقحة ذات اللبن القريبة العهد بالولادة وقال: (لو خرجتم إلي ذود لنا فشربتم من ألبانها).

فلما خرجوا إليها قتلوا الراعي وقطعوا يده ورجله، وغرسوا

الشوك في لسانه وعينه حتي مات، واستاقوا الإبل.

فبلغ ذلك إلي رسول اللّه (ص) فبعث في اثرهم عشرين فارساً واستعمل عليهم ابن جابر الفهري، فعقّبوهم حتي أدركوهم، فلما أدركوهم أحاطوا بهم وأسروهم واستردّوا الإبل وقدموا بهم المدينة.

قال جابر بن عبداللّه ان رسول اللّه (ص) كان قد دعا لما بعث إليهم وقال: (اللّهمّ اعم عليهم الطريق) فعمي عليهم الطريق،

فلما اُتي بهم، أمر (ص) بقتلهم.

غزوة الفتح

خرج رسول اللّه (ص) يوم الجمعة حين صلّي العصر بالناس، بكتائب الإسلام وجنود الرحمن، وهم عشرة آلاف من المسلمين، ونحو من أربعمائة فارس، وذلك لنقض قريش العهد الذي وقع بينهم وبين رسول اللّه (ص) بالحديبيّة.

وكان خروجه في شهر رمضان من السنة الثامنة من الهجرة النبويّة المباركة، بعد أن استخلف علي المدينة أبا لبابة، وقيل: أبا ذر الغفاري.

وكان سببها: ان بني بكر بن عبد مناة من كنانة، كانت بينهم وبين خزاعة حروب قبل الإسلام وقتل، فلما جاء الإسلام تشاغل الناس به، فلما كانت الهدنة عام الحديبية دخلت بنو بكر من كنانة في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عهد رسول اللّه (ص) وعقده.

فلما مضت سنتان من القضية، وقد استتبّ الأمن في البلاد وساد الهدوء في المنطقة، وصلت قريش أنباء حرب مؤتة وانهزام المسلمين بعد أن قتل فيها اُمراؤها الثلاثة، مما أطمعهم في التجرؤ علي إثارة البلبلة في البلاد، والإخلال بأمن المنطقة، ونقض العهد الذي وقعوه مع رسول اللّه (ص) بالحديبية.

فعمدوا إلي توزيع الأسلحة في حلفائهم بني بكر من كنانة، وحرّضوهم علي أن يبيّتوا خزاعة حلفاء المسلمين، ويغيروا عليهم ليلاً ويصيبوا الثأر منهم، كما وعدوهم بأن يمدّوهم بالرجال أيضاً، ثم بدأوا بإشعال فتيل نار الفتنة، وذلك عبر المخطّط التالي: فقد أوعزوا إلي رجل من كنانة

أن يقعد في صراط خزاعة، ويروي هجاء رسول اللّه (ص).

فلما فعل ذلك مرّ عليه رجل من خزاعة وقال له: يا هذا كفّ عن قولك.

فأجابه قائلاً: وما أنت وذاك؟

فردّ عليه مهدداً: لئن عدت لأكسرنّ فاك.

فأعادها الكناني، فرفع الخزاعي يده وضرب بها فاه الكناني، فاستنصر الكناني قومه، والخزاعي قومه، وبدأت المناوشات بين الجانبين.

قريش تنقض عهدها

ولما بدأت المناوشات بين الجانبين خرج نوفل بن معاوية في نفر من بني بكر فبيت خزاعة علي ماء بأسفل مكة يقال له الوتير، وأصاب منهم رجالاً وأموالاً، ثم اقتتلوا قتالاً شديداً، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً، وكان من بينهم عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، حتي حازوا خزاعة إلي الحرم.

فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل انا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك.

فقال نوفل: لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه؟

فقاتلوهم حتي لجأوا إلي دار بديل بن ورقاء الخزاعي ودار مولي لهم، وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً، حتي قدموا علي رسول اللّه (ص) يخبرونه بما قد وقع، ويستنصرونه.

وكان رسول اللّه (ص) إذ ذاك بين أصحابه في المسجد، فوقف عليه عمرو بن سالم الخزاعي وقال:

يا رب انّي ناشد محمداً حلف أبينا وأبيه الأتلدا

إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

هم بيّتونا بالوتير هُجّدا وقتلونا ركَّعاً وسجّداً

فقال رسول اللّه (ص): حسبك يا عمرو، ثم قام (ص) فدخل دار زوجته ميمونة وقال: اسكبوا لي ماءاً، فجعل يغتسل ويقول: (لا نصرت إن لم أنصر بني كعب) وهم رهط عمرو بن سالم الخزاعي.

وقيل: إنّ ميمونة سمعت رسول اللّه (ص) يقول في متوضّئه ليلاً: لبيك لبيك (ثلاثاً)، نصرت نصرت (ثلاثاً).

فلما خرج قالت: يا

رسول اللّه، سمعتك تقول في متوضئك: لبيك لبيك ثلاثاً، نصرتَ نصرت ثلاثاً، كأنك تكلّم إنساناً، فهل كان معك أحد؟

فقال (ص): هذا راجز بني كعب يستصرخني ويزعم أنّ قريشاً أعانت عليهم بني بكر.

ثم خرج بديل بن الورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، حتي قدموا علي رسول اللّه (ص) فأخبروه بما اُصيب منهم ومظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلي مكّة.

ندامة قريش

ثم ندمت قريش علي ما صنعت، وعلموا أنّ ذلك نقض لما كان بينهم وبين رسول اللّه (ص) وخافوا ردّه الحاسم عليهم، فبعثوا إليه أبا سفيان ليشدّد العقد.

وقد كان رسول اللّه (ص) قال للناس: كأنّكم بأبي سفيان قد جاء ليشدّد العقد ويزيد في المدّة.

ثم خرج أبو سفيان حتي قدم المدينة، فدخل علي ابنته اُمّ حبيبة، فلما ذهب ليجلس علي فراش رسول اللّه (ص) طوته عنه.

فقال: يا بنية أرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عنّي؟

قالت: بل هو فراش رسول اللّه (ص)، ما كنت لتجلس عليه وأنت رجس مشرك باللّه تعالي.

فقال: واللّه لقد أصابك يا بنية بعدي شرّ.

ثم خرج حتي أتي رسول اللّه (ص) فقال: يا محمد احقن دم قومك، وأجر بين قريش، وزدنا في المدة.

فقال (ص): أغدرتم يا أبا سفيان؟

قال: لا.

قال (ص): فنحن علي ما كنا عليه.

ثم لقي أبو سفيان أحد الصحابة فكلّمه أن يكلّم رسول اللّه (ص). فقال: ما أنا بفاعل.

ثم لقي صحابياً آخر، فقال له مثل ذلك.

ثم أتي إلي منزل علي بن أبي طالب (ع) وفاطمة (ع) بنت رسول اللّه (ص) وعندهما الحسن والحسين (عليهما السلام) يدبان بين يديهما.

فقال: يا بنت سيّد العرب تجيرين بين قريش، وتزيدين في المدة، فتكونين أكرم سيّدة في الناس؟

فقالت (ع): جواري جوار رسول اللّه (ص).

فقال: أتأمرين ابنَيْكِ

أن يجيرا بين الناس فيكونا سيدي العرب إلي آخر الدهر؟

قالت (ع): واللّه ما بلغ ابناي أن يجيرا بين الناس، وما يجير علي رسول اللّه (ص) أحد.

فقال عندها، وقد التفت إلي علي (ع): يا أبا الحسن أنت أمسّ القوم بي رحماً، واني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلي رسول اللّه (ص).

فقال (ع): ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول اللّه (ص) علي أمر لا نستطيع أن نكلّمه فيه.

فقال: يا أبا الحسن، اني أري الاُمور قد اشتدّت عليّ، فانصحني واجعل لي منها وجهاً.

فقال له علي (ع): أنت شيخ قريش فاذهب وقم علي باب المسجد فاجر بين قريش، ثم الحق بأرضك.

فقال: أو تري ذلك مغنياً عنّي شيئاً؟

قال (ع): لا واللّه ما أظن ذلك، ولكن ما أجد لك غيره.

ولعله قال له علي (ع) ذلك حتي يفتح باب الأمل عليه، فيلزمه عبرها بالصلح ويسد عليه طريق التفكير في تجييش الجيوش لمحاربة المسلمين من جديد.

فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين قريش، ثم ركب بعيره فانطلق.

فلما قدم علي قريش قالوا: ما وراءك؟

قال: أتيت محمداً فكلّمته، فواللّه ما ردّ عليَّ شيئاً، ثم جئت أحد الصحابة فلم أجد عنده خيراً، ثم أتيت صحابياً آخر فكان كذلك، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليّ بشيء صنعته، فواللّه ما أدري هل يغني شيئاً أم لا؟

قالوا: وبمَ أمرك؟

قال: أمرني أن اُجير بين الناس، ففعلت.

قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟

قال: لا.

قالوا: ويلك ما زاد الرجل علي أن لعب بك، أو أنت تجير بين قريش؟ مايغني عنا ما قلت.

قال: لا واللّه ما وجدت غير دلك.

النبي (ص) يتجهّز للفتح

ثم أمر رسول اللّه (ص) الناس بالجهاز، وأعلمهم انه سائر إلي

مكة، وقال: اللّهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتي نبغتها في بلادها، فتجهَّز الناس.

فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلي أهل مكة يخبرهم بمسير رسول اللّه(ص) إليهم، وسلّم الكتاب إلي امرأة سوداء اسمها سارة مع عشرة دنانير لتوصله إلي أهل مكة.

وسارة هذه هي مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام، وكانت قد أتت رسول اللّه (ص) من مكة إلي المدينة.

فقال لها رسول اللّه (ص): أمسلمة جئت؟

قالت: لا.

قال (ص): أمهاجرة جئت؟

قالت: لا.

قال (ص): فما جاء بك؟

قالت: كنتم الأصل والعشيرة والموالي، وقد ذهبت موالي واحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني.

قال (ص): فأين أنت من شباب المشركين؟ وكانت مغنيّة نائحة.

قالت: ما طلب منّي بعد وقعة بدر.

فحثّ عليها رسول اللّه (ص) بني عبدالمطلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة.

فلما كان رسول اللّه (ص) يتجهّز لفتح مكة، أتاها حاطب وسلّمها الكتاب وأمرها أن تأخذ علي غير الطريق. فلما خرجت سارة بالكتاب نزل جبرئيل علي رسول اللّه (ص) وأخبره بذلك.

فاستدعي (ص) علياً (ع) وقال له: إنّ بعض أصحابي قد كتب إلي أهل مكة يخبرهم بخبرنا، وقد كنت سألت اللّه أن يعمي أخبارنا عليهم، والكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت علي غير الطريق، فخذ سيفك وألحقها وانتزع الكتاب منها وخلّها، وصر به إليَّ.

ثم استدعي (ص) الزبير وقال له: امض مع علي بن أبي طالب في هذا الوجه.

فمضيا، فلما أدركاها، قال لها الزبير: أين الكتاب الذي معك؟

فأنكرت وحلفت وبكت.

فقال الزبير وقد التفت إلي عليّ (ع): ما أري معها يا أبا الحسن كتاباً، فارجع بنا إلي رسول اللّه (ص) نخبره ببراءتها.

فقال علي (ع): يخبرني رسول اللّه (ص) انّ معها كتاباً ويأمرني بأخذه منها، وتقول أنت: انه لا كتاب معها؟!

ثم اخترط (ع) السيف وتقدّم إليها

وقال: أما واللّه لئن لم تخرجي الكتاب ثم لأضربنّ عنقك.

فقالت لما رأت الجدّ: إذا كان لا بدّ من ذلك فأعرض يابن أبي طالب بوجهك عنّي، فأعرض بوجهه، فكشفت قناعها وأخرجت الكتاب من عقيصتها، فأخذه علي (ع) وصار به إلي رسول اللّه (ص).

مع حاطب بن أبي بلتعة

ولما كان أمر حاطب هذا، يتطلّب تهييج الرأي العام ضده، حتي يرتدع كل من يفكّر في ارتكاب أمثالها، ولعله لذلك نري انّ رسول اللّه (ص) أمر بالصلاة جامعة، ثم صعد المنبر وأخذ الكتاب بيده وقال: أيها الناس اني قد كنتُ سألتُ اللّه عزّوجلّ أن يخفي أخبارنا عن قريش، وانّ رجلاً منكم كتب إلي أهل مكة يخبرهم بخبرنا، فليقم صاحب الكتاب، وإلاّ فضحه الوحي.

فلم يقم أحد، فأعادها ثانية، فقام حاطب بن أبي بلتعة وقال: أنا يا رسول اللّه صاحب الكتاب، وما أحدثت نفاقا بعد اسلامي ولا شكاً بعد يقيني.

فقال له رسول اللّه (ص): فما الذي حملك علي أن كتبت هذا الكتاب؟

قال وهو يلتمس لنفسه عذراً: يا رسول اللّه انّ لي أهلاً بمكة، وليس لي بها عشيرة يدفعون عن أهلي، فأردتُ أن تكون لي عند القوم يد يدفع اللّه بها عن أهلي ومالي، إذ ليس أحد من المهاجرين إلاّ وله هناك من عشيرته من يدفع اللّه به عن أهله وماله.

فأعذره رسول اللّه (ص) وعفا عنه وقال لأصحابه يوصيهم به: لا تقولوا له إلاّ خيراً.

فقام أحد الصحابة وقال: يا رسول اللّه دعني أضرب عنق هذا المنافق، إنه قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين.

فقال له رسول اللّه (ص): اتركه، ونهاه عن التعرّض له.

فأنزل اللّه تعالي في حاطب: (يا أيّها الَّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة) إلي قوله سبحانه: (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم

القيامة يفصل بينكم واللّه بما تعملون بصير)(1).

الزحف نحو مكة

وبعث رسول اللّه (ص) إلي من حوله من العرب فجلبهم: أسلم وغفّار ومزينة وجهينة وأشجع وسُليم، فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من لاقاه بالطريق.

وخرج (ص) في عشرة آلاف من المسلمين، ونحو من أربعمائة فارس، ولم يتخلّف من المهاجرين والأنصار عنه أحد، وحيث انه كان في شهر رمضان صام وصام الناس، حتي إذا بلغ كراع الغميم، نزل (ص) فأمر بالإفطار لنزول الوحي عليه بذلك، فأفطر وأفطر الناس، وصام قوم فسمّوا (العصاة) لأنهم صاموا، ظنّاً منهم بأن الصوم حتي في مثل هذه الحال أفضل، فاجتهدوا مقابل نصّ رسول اللّه(ص) وأمره لهم بالإفطار، فأنذرهم القرآن وحذّرهم مغبّة التقدّم علي رسول اللّه (ص)، وأمرهم بالتقوي والتحرز عن الإجتهاد مقابل نصوصه الصريحة بقوله: (يا أيُّها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي اللّه ورسوله واتّقوا اللّه إنّ اللّه سميع عليم)(2).

من ذكريات الفتح

وقد كان العباس عم رسول اللّه (ص) خرج بأهله وعياله مهاجراً مسلماً فلقي رسول اللّه (ص) بالجحفة، فانضمّ إليه.

وكان ممن لقي رسول اللّه (ص) بالطريق أيضاً: أبوسفيان بن الحارث بن المطلب ابن عمه، وعبداللّه بن أبي اُمية ابن عمته، أخو اُم سلمة اُم المؤمنين، لقيا رسول اللّه (ص) بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فلم يأذن لهما.

فكلّمته اُم سلمة فيهما فقالت: يا رسول اللّه ابن عمك، وابن عمتك وصهرك.

قال (ص): لا حاجة لي بهما، أما ابن عمّي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال، وكان من قوله له: (لن نؤمن لك حتي تفجر لنا من الأرض ينبوعاً)(3).

فلما خرج الخبر إليهما بذلك قال أبو سفيان بن الحارث ومعه ابن له: واللّه ليأذننّ لي أو لآخذنّ بيد ابني هذا ثم لنذهبنّ في الأرض حتي

نموت عطشاً وجوعاً.

فلما بلغ رسول اللّه (ص) ذلك رقّ لهما وأذن لهما.

وقيل: انّ علياً (ع) قال لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول اللّه (ص) من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: (تاللّه لقد آثرك اللّه علينا وإن كنّا لخاطئين)(4) ففعل ذلك أبو سفيان بن الحارث.

فقال رسول اللّه (ص) مجيباً له وهو لا يرضي إلا بأن يتفوّق في حسن القول عليه: (قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين)(5).

فأنشده أبو سفيان بن الحارث أبياتاً، وقد أسلم وحسن إسلامه، وكذلك فعل عبداللّه بن أبي اُمية.

في مرّ الظهران

ثم مضي رسول اللّه (ص) حتي نزل مرّ الظهران عشاءً، أي: نزل علي مشارف مكة وقد عميت أخباره عن قريش فأمر (ص) أصحابه فأوقدوا أكثر من عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشاً مسيره وهم مغتمّون لما يخافون من غزوه إياهم.

فقال العباس: يا سوء صباح قريش، واللّه لئن دخل رسول اللّه (ص) مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلي آخر الدهر.

قال: فركبتُ بغلة رسول اللّه (ص) فخرجت حتي أتيت الأراك، فقلت لعلّي أجد بعض الحطّابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول اللّه (ص)، فيأتوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخل عليهم عنوة.

قال: فواللّه إني لأسير عليها إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام، وأبوسفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط، ولا عسكراً.

قال: ويقول بديل: هذه واللّه خزاعة حمشتها الحرب.

فيقول أبوسفيان: خزاعة أقل وأذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة.

فعرف صوتي فقال: يا أباالفضل؟

قلت: نعم.

قال: ما وراك وما هذه النيران؟

قلت: هذا رسول اللّه (ص) وراك، قد جاء بما لاقبل لكم به،

بعشرة آلاف من المسلمين.

قال أبو سفيان: فما الحيلة؟

قلت: واللّه لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتي آتي بك رسول اللّه (ص) فأستأمنه لك، فردفني، ورجع صاحباه.

المساعي الحميدة لعباس

انّ التقاء الشخصيات المرتبطة بالسماء كرسول اللّه (ص) له الأثر البالغ في احتواء الطرف واستهوائه، فإن كان عدوّاً ضعفت روحيته واستسلم للحق، ولو عن عدم قناعة، وإن كان صديقاً أو محايداً قويت معنويته، واستلهم الحق عن قناعة، ولذلك تأبي قوي الشرّ وبكل إصرار أن يلتقي الناس ويتعرَّفوا علي المرتبطين بالسماء، بينما العباس ذوالمكانة المعروفة، كان يريد الخير لأهل مكة، فقام بهذا الدور، ونال تأييد رسول اللّه (ص)، ولذلك أردف أباسفيان خلفه.

قال: فجئت به، فكلما مررنا بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول اللّه (ص) وأنا عليها، قالوا: عم رسول اللّه (ص) علي بغلة رسول اللّه (ص).

حتي مررت بنار أحد الصحابة فقال: من هذا؟ فلما رأي أباسفيان علي عجز الدابة قال: هذا أبوسفيان عدوّ اللّه؟ الحمد للّه الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول اللّه (ص)، فركضت البغلة فسبقته بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطيء، واقتحمت عن البغلة، فدخلت علي رسول اللّه (ص) ثم جلست وأخذت برأسه وقلت: واللّه لايناجيه الليلة أحد دوني.

فبينا أنا كذلك إذ دخل الصحابي وقال: يا رسول اللّه هذا أبوسفيان عدوّ اللّه قد أمكن اللّه منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه.

فقلت: يا رسول اللّه اني قد أجرته.

فلما أكثر الصحابي في شأنه قلت له: مهلاً، فواللّه ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني فلان ما قلت هذا.

قال الصحابي: مهلاً يا عباس، فواللّه إسلامك كان

أحبّ إليّ من إسلام أبي لو أسلم، وما ذلك إلا اني قد عرفت انّ إسلامك كان أحبّ إلي رسول اللّه(ص).

عندها التفت رسول اللّه (ص) الي عمّه العباس وقال يقطع حوارهما: اذهب به ياعباس إلي رحلك فقد آمنّاه، فإذا أصبحت فأتني به.

قال: فذهبت به إلي رحلي.

الأمر الذي لابدّ منه

قال العباس: فلما أصبحت غدوت بأبي سفيان علي رسول اللّه (ص)، فلما رآه رسول اللّه (ص) قال: ويحك يا أباسفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلاّ اللّه؟

قال: بأبي أنت واُمّي ما أحلمك وأكرمك، وأرحمك وأوصلك، واللّه لقد ظننت أن لو كان مع اللّه إله غيره لأغني عنّي شيئاً يوم بدر ويوم اُحد.

قال (ص): ويحك يا أباسفيان ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه؟

قال: بأبي أنت واُمي ما أحلمك وأكرمك وأرحمك وأوصلك، أمّا هذه ففي النفس منها شيء.

فقال له العبّاس: ويحك أسلم واشهد بشهادة الحق، إشهد أن لا إله إلا ّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه قبل أن تضرب عنقك.

فتشهد وقد تلجلج بها لسانه شهادة اضطرار، فأسلم اضطراراً.

فقال العباس: يا رسول اللّه، انّ أباسفيان رجل يحبّ الفخر، فاجعل له شيئاً.

قال (ص): نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

قال أبو سفيان: داري؟!

قال (ص): دارك، ثم قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.

ومع ذلك كله لم يأمن رسول اللّه (ص) أبا سفيان من الغدر إن تركه يذهب إلي مكة، ولذلك التفت إلي عمّه العباس وقال (ص): خذه يا عم إلي خيمتك، وكانت قريبة.

فلما جلس أبو سفيان في الخيمة ندم علي مجيئه مع العباس وقال في نفسه: من فعل بنفسه مثل ما فعلت أنا؟ جئت فأعطيت بيدي، ولو كنت انصرفت إلي مكة فجمعت الأحابيش

وغيرهم فلعلّي كنت أهزمه!

فناداه رسول اللّه (ص) من خيمته قائلاً: يا أبا سفيان إذن: كان اللّه يخزيك.

فسقط أبو سفيان في يده ولم يقل شيئاً.

فلما أصبح وقت الصلاة سمع بلالاً يؤذّن فقال: ما هذا المنادي يا أبا الفضل؟

قال: هذا مؤذّن رسول اللّه (ص) للصلاة.

ثم خرج به إلي رسول اللّه (ص) فرآه يتوضّأ وأيدي المسلمين تحت شعره، فليس قطرة تصيب رجلاً منهم إلا مسح بها وجهه، فقال أبو سفيان: باللّه ما رأيت كاليوم قط كسري ولا قيصر.

احتياطات

ثم أمر رسول اللّه (ص) العباس أن يحبسه بمضيق من الوادي عند خطم الجبل تمر به جنود اللّه فيراها، ففعل، فمرت القبائل علي راياتها.

قال العباس: وكان كلما مرت قبيلة قال لي أبو سفيان: يا عباس من هذه؟

فأقول: سُليم.

فيقول: ما لي ولسُليم.

ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟

فأقول: مزينة.

فيقول: ما لي ولمزينة، حتي نفدت القبائل، ما تمر قبيلة إلا سألني عنها، فأخبرته بهم، وكلما أخبرته عنها قال: ما لي ولبني فلان، حتي مرّ به رسول اللّه(ص) في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، لا يري منهم إلا الحدق من الحديد.

فقال: يا عباس، من هؤلاء؟!

فقلت: هذا رسول اللّه (ص) في المهاجرين والأنصار.

قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، ثم قال: واللّه يا أباالفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً.

قلت: يا أبا سفيان انها النبوّة.

قال: فنعم إذن.

قلت: النجاء إلي قومك.

وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مرّ بأبي سفيان قال له:

(اليوم يوم الملحمة اليوم تسبي الحرمة)

يا معشر الأوس والخزرج ثاركم يوم الجبل.

فسمعها أبو سفيان، فأضمرها في نفسه حتي إذا مرّ رسول اللّه (ص) به قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ انه قال كذا وكذا.

فقال (ص): ليس مما قال سعد شيء،

ثم أرسل رسول اللّه (ص) إلي سعد فنزع الراية منه ودفعها إلي علي (ع) وقال: اُدخلها ادخالاً رفيقاً.

فأخذ علي (ع) الراية بيده، ثم جعل ينادي ويقول:

اليوم يوم المرحمة اليوم تحفظ الحرمة

أبو سفيان: الداعية الجديد

ثم انّ رسول اللّه (ص) التفت إلي أبي سفيان وقال له: يا أباسفيان تقدّم إلي مكة، فأعلمهم بالأمان.

فمضي أبوسفيان حتي جاء قريشاً فصرخ بأعلي صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لاقبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن.

قالوا: قاتلك اللّه وما تغني عنّا دارك؟

قال: ومن أغلق بابه فهو آمن.

فتفرّق الناس إلي دورهم وإلي المسجد، وسار رسول اللّه (ص) فدخل مكة من أعلاها.

1 الممتحنة: 1 3. 2 الحجرات: 1. 3 الإسراء: 90.

4 يوسف: 91. 5 يوسف: 92.

الدخول إلي مكة

فلما ظهر رسول اللّه (ص) بكتيبته علي ثنية أذاخر دخل من ناحيتها، وضربت له خيمة من أدم بالحجون عند قبر عمّه أبي طالب (ع) وأبي أن يدخل بيته أو بيوتهم بمكة الذي صادره المشركون.

وكان ذلك بعد أن أمر كتائب أصحابه واُمراء عسكره أن يحيطوا بمكة كاملة، ثم يدخلوها من جميع المداخل والطرق النافذة إليها من أعلاها وأسفلها، ومن كل جوانبها حتي يسدّوا علي أهلها طريق المجابهة، وأمرهم أن يكفّوا أيديهم عن القتال، ولا يقاتلوا إلا مَن قاتلهم.

كما وعقد لواءاً لأبي رويحة الخثعمي وأمره أن ينادي بين أهل مكة: ألا ومن دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن، إضافة إلي المآمن الثلاثة المذكورة، ولذلك اطمئنّ الناس وألقوا أسلحتهم ودخلوا بيوتهم آمنين لم تُسب لهم ذرّية ولم يُسفك منهم دم.

وقيل: انه بعث رسول اللّه (ص) الزبير بن العوام علي المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كدل علي مكة، وأمره أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتي يأتيه.

وقيل: انه بعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسُليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يفرز رايته عند أدني البيوت.

وبعث ابن

عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول اللّه (ص) وأمرهم أن يكفّوا أيديهم عن القتال، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم.

علي مشارف مكة

ولما انتهي رسول اللّه (ص) في كتيبته الخضراء فاتحاً منتصراً إلي ذي طوي وهو موضع مرتفع يري منه بيوت مكة ومنازلها، ولمح بطرفه منازل مكة وبيوتها، ونظر إلي مسقط رأسه وموطنه الذي خرج منه عنوة، واليوم قد دخلها وفتحها، وتلمّس الفتح الذي منّ اللّه تعالي به عليه، والعودة التي بشّره جبرئيل (ع) بها، اغرورقت عيناه بدموع الشوق والرحمة، وسجد للّه تعالي تواضعاً وشكراً، وحمده علي نعمه وأياديه.

ثم نزل في خيمته التي ضربت له بالحجون عند قبر عمّه أبي طالب (ع) ليستريح فيها قليلاً، ويتهيّأ منها لزيارة المسجد الحرام والطواف حول بيت اللّه العتيق.

تطهير البيت من الأصنام

ثم انّ رسول اللّه (ص) بعد أن استراح قليلاً في خيمته اغتسل وركب راحلته القصواء واتّجه نحو المسجد الحرام، ولم يكن محرماً لحجّ ولا عمرة، وعليه السلاح، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، وعليهم السلاح، وهم يردّدون مع رسول اللّه (ص) قوله تعالي:

(جاء الحقّ وزهق الباطل إنَّ الباطل كان زهوقاً)(1).

وقد ارتجَّت مكة من قولهم، حتي دخل الرسول (ص) المسجد الحرام، فأقبل إلي الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت وهو علي راحلته، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستّون صنماً، فجعل يطعنها (ص) بالقوس ويقول: (جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً)(2) (جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد)(3) والأصنام تتساقط علي وجوهها.

ثم رفع (ص) علياً (ع) علي منكبيه حتي أسقط ما تبقّي من الأصنام التي كانت علي الكعبة، وكان رسول اللّه (ص) قد خصّ علياً (ع) بهذه المنقبة دون غيره، وإليه أشار ابن العرندس حيث يقول في قصيدته:

وصعود غارب

أحمد فضل له دون القرابة والصحابة أفضلا

وأمر رسول اللّه (ص) ابن أسد الخزاعي فحدد أنصاب الحرم، وبث رسول اللّه (ص) سراياه إلي الأوثان التي كانت فكسرت كلها. ومما كسرها رسول اللّه (ص) اللاّت والعزّي ومناة الثالثة الاُخري، ونادي مناديه بمكة: من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلاّ كسره.

من ذكريات الكعبة

فلما فرغ من طوافه أتي الصفا، فعلا عليه، وقيل: جلس في ناحية من المسجد حتي نظر إلي البيت، فجعل يحمد اللّه ويدعو ما شاء أن يدعو، ثم دعا بسادن الكعبة وهو يومئذ عثمان بن طلحة، وكان قد أغلق باب البيت لما بلغه انّ النبي (ص) قد دخل مكة، وامتنع من تسليم المفتاح. فقام إليه علي (ع) وأخذه منه وسلّمه إلي رسول اللّه (ص).

فأمر (ص) بباب الكعبة ففتحت، فدخلها، فرأي فيها صورتين، فدعا بثوب فبلّه في ماء ثم محاهما، فانطمستا، ثم صلّي بين العمودين علي الرخامة الحمراء ركعتين، ثم أقبل علي أركان البيت وكبّر إلي كل ركن منه.

ثم قصد (ص) الباب وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينظرون ماذا يفعل بهم، وهم يظنون حسب أعراف الجاهلية الخشناء ان السيف لا يرفع عنهم، وانهم سوف يبادون عن آخرهم، لكن الواقع لم يكن كذلك، فإن الإسلام هو دين المكارم والمحاسن، والنبي (ص) هو رسول الرحمة والإنسانية، ولذلك رأوه (ص) أقبل حتي أخذ بعضادتي الباب وخطب فيهم الخطبة التالية:

لائحة حقوق الإنسان

ابتدأ رسول اللّه (ص) خطابه بحمد اللّه تعالي والثناء عليه وقال:

لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ثم قال: ألا كل مأثرة، أو مال، أو دم يدّعي، أو مظلمة، أو احنة كانت في الجاهلية، فهو تحت قدميّ هاتين، إلاّ سدانة البيت وسقاية الحاج، فإنهما مردودتان إلي أهليهما، ألا إن مكة محرمة بتحريم اللّه، لم تحلّ لأحد كان قبلي، ولم تحلّ لي إلا ساعة من نهار، وهي محرّمة إلي أن تقوم الساعة، لا يختلي خلاها، ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولاتحلّ لقطتها إلا لمنشد.

ثم قال: أيّها الناس ليبلّغ الشاهد الغائب إن اللّه قد أذهب

عنكم بالإسلام نخوة الجاهلية والتفاخر بآبائها وعشائرها، ألا انكم من آدم، وآدم من طين، وعلي رواية: وآدم من تراب.

ثم تلا قوله تعالي: (يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر واُنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم)(4) الآية.

ثم قال: ألا إنّ خير عباد اللّه عبد اتّقي اللّه، ان العربيّة ليست بأب والد، ولكنها لسان ناطق، فمن قصر به عمله لم يبلغ به حسبه.

ثم التفت إلي القوم وقال وهو يخاطبهم: ألا لبئس جيران النبي كنتم، لقد كذبتم، وطردتم، وأخرجتم، وآذيتم، ثم ما رضيتم حتي جئتموني في بلادي تقاتلوني، والآن يا معشر قريش ماذا تقولون؟ وماذا تظنون اني فاعل بكم؟

قالوا: نظن خيراً، ونقول خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت.

قال (ص): فإنّي أقول لكم كما قال يوسف (ع) لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين)(5) اذهبوا فأنتم الطلقاء.

فخرج القوم كأنما انشروا من القبور، ودخلوا في الإسلام، وقد كان اللّه سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئاً، فلذلك سمّي أهل مكة: (الطلقاء).

مع سدانة الكعبة

ثم جلس رسول اللّه (ص) في المسجد، فقام إليه علي (ع) ومفتاح الكعبة في يده، ليُسلّمها إليه، فقام العباس وسأل رسول اللّه (ص) أن يعطيه المفتاح، فنزل: (إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلي أهلها)(6).

فأمر رسول اللّه (ص) علياً (ع) أن يردّ المفتاح إلي عثمان بن طلحة.

فلمّا ردّه إليه قال عثمان بن طلحة، وكان لا يتوقّع أن يُردّ المفتاح إليه: يا علي أخذته مني بكره، وجئت به إليّ برفق؟

قال (ع): نعم، لقد أنزل اللّه عزّوجل فيك قرآناً يقول: (إنَّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلي أهلها).

فلمّا سمع عثمان بن طلحة ذلك، أسلم، فأقرّه النبي (ص) في يده.

وروي: عن

عثمان بن طلحة انه قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الإثنين والخميس، فأقبل النبي (ص) يوماً وهو يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، وذلك قبل الهجرة، فأغلقت له ونلت منه.

فحلم (ص) عنّي ثم قال: يا عثمان لعلّك ستري هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت.

فقلت: لقد هلكت قريش يومئذ وذلّت.

فقال (ص): بل عمرت وعزّت يومئذ، ودخل الكعبة، فوقعت كلمته منّي موقعاً ظننت أن الأمر سيصير إلي ما قال.

فلما كان يوم الفتح قال: يا عثمان ائتني بالمفتاح، فأبيت أن آتيه به، فأخذه منّي علي، ثم دفعه إليه، فلما أتم صلاته وزيارته داخل البيت ردّه عليَّ وقال: يا عثمان بن طلحة إنّ اللّه استأمنكم علي بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف.

قال: فلما وليت ناداني فقال: ألم يكن الذي قلتُ لك؟

قال: فذكرت قوله (ص) لي بمكة قبل الهجرة، فقلت: بلي أشهد أنّك رسول اللّه.

أول أذان علي سطح الكعبة

فلما دخل وقت صلاة الظهر، أمر رسول اللّه (ص) بلالاً أن يصعد فيؤذّن علي الكعبة، وأبوسفيان بن حرب وخالد وعتاب ابنا اُسيد والحارث بن هشام وأشراف قريش جلوس بفناء الكعبة.

فقال خالد: لقد أكرم اللّه اُسيداً ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه.

وقال الحارث: أما واللّه لو أعلم أنه حق لاتّبعته.

وقال أبو سفيان: واللّه لا أقول شيئاً، ولو تكلمت بشيء لأخبرت عني هذه الحصباء والجدد، هذا وعتاب يسمع كلامهم.

فبعث إليهم النبي (ص) فقال لهم: قد علمت الذي قلتم، ثم ذكر لهم ذلك.

فقال أبو سفيان: أنت تعلم اني لم أقل شيئاً.

فقال (ص): اللّهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون.

عندها قال الحارث وخالد: نشهد أنّك رسول اللّه، واللّه ما اطّلع علي هذا أحد معنا فنقول أخبرك.

وقال عتاب لما جاء إليه: نستغفر اللّه ونتوب

إليه، قد واللّه يا رسول اللّه قلنا ذلك، فأسلم وحسن إسلامه، فولاّه رسول اللّه (ص) مكة.

وكان فتح مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.

في دار اُم هاني

ثم ان رسول اللّه (ص) كان قد عهد إلي المسلمين أن لا يقتلوا بمكة إلا من قاتلهم، سوي نفر كانوا يؤذون النبي (ص) ومن أسلم معه، ويحرّضون علي حربهم ومقاتلتهم، ويصدّون الناس عن سبيل اللّه والحقّ، مثل هبار بن الأسود الذي تعرّض لزينب بنت رسول اللّه (ص) حين هجرتها فأرعبها مما سبّب إسقاط جنينها ومرضها حتّي ماتت منه.

ومثل: عكرمة بن أبي جهل الذي كان أحد مثيري الحروب ومؤجّجي نيران الفتن ضد المسلمين.

ومثل: قينتين كانتا تغنّيان بهجاء رسول اللّه (ص) وتحضّضان المشركين يوم أحد عليه.

فاستتر هؤلاء عن أعين المسلمين، فبلغ علياً (ع) أن نفرين منهم وكانا حموين لاُم هاني اُخت علي (ع) قد استجارا باُم هاني فأجارتهما في بيتها، فقصد علي (ع) نحو دارها مقنعاً بالحديد، ونادي: أخرجوا من آويتم، فرعبا، وخافت اُم هاني عليهما، فخرجت إليه (ع) وهي لا تعرفه، فقالت: يا عبد اللّه أنا اُم هاني بنت عم رسول اللّه (ص) واُخت علي بن أبي طالب (ع) فانصرف عن داري.

فقال (ع): اخرجوهم.

فقالت: واللّه لأشكونّك إلي رسول اللّه (ص).

فنزع علي (ع) المغفر عن رأسه فعرفته، فجاءت إليه تشتدّ حتي التزمته وقالت: فديتك، حلفت لأشكونّك إلي رسول اللّه (ص).

فقال لها: اذهبي فبرّي قسمك، فإنه بأعلي الوادي.

فجاءت إليه تشتد، فلما سمع رسول اللّه (ص) كلامها قال لها: مرحباً بكِ يا اُم هاني، قد أجرنا من أجرتِ يا اُمّ هاني.

وأمّا هبار: ففرّ، ثم أسلم، وعفي (ص) عنه.

واستؤمن رسول اللّه (ص) لسارة وإحدي القينتين فأمنهما فأسلمتا.

وأما ابن أبي سرح فإنه أسلم فجاء به عثمان،

فاستأمن له رسول اللّه (ص)، فأمنه، وكان قد أسلم قبل ذلك ثم هاجر ثم ارتدّ ورجع إلي مكة.

مع فضالة بن الملوح

وقيل: إن فضالة بن عمير بن الملوح همّ أن يقتل رسول اللّه (ص) وهو يطوف بالبيت، فلمّا دنا منه قال رسول اللّه (ص): أفضالة؟

قال: نعم.

قال (ص): ماذا تحدّث به نفسك؟

قال: لا شيء كنت أذكر اللّه.

فضحك النبي (ص) ثم قال: استغفر اللّه، ثم وضع يده إلي صدره فسكن قلبه.

وكان فضالة يقول: واللّه ما رفع يده عن صدري حتي ما خلق اللّه شيئاً أحبّ إليّ منه.

قال فضالة: فرجعتُ إلي أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت شعراً، فأجبتها شعراً:

قالت هلمّ إلي الحديث فقلت: لا يأبي الإله عليك والإسلام

لو قد رأيت محمداً وقبيله بالفتح يوم تكسر الأصنام

لرأيت دين اللّه أضحي بيننا والشرك يغشي وجهه الاظلام

من مكارم رسول اللّه (ص)

ثم ان أكثر هؤلاء النفر الذين أهدر رسول اللّه (ص) دمهم استأمن لهم بعض معارفهم، فخرجوا من استتارهم، وجاءوا إلي رسول اللّه (ص) فأسلموا علي يديه، فقبل إسلامهم وعفا عنهم.

وكان أحد هؤلاء: صفوان بن اُمية، وقد فرَّ يومئذ، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول اللّه (ص)، فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة.

فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر فردّه وقال: يا صفوان، اذكر اللّه في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان رسول اللّه (ص) قد جئتك به.

فقال صفوان، وهو يستبعد ذلك حسب رأيه: اُغرب عني فلا تكلّمني.

فقال له عمير، وهو يريد أن يُطمئنه: أي صفوان اُعلمك انّ أفضل الناس وأبرّ الناس وخير الناس ابن عمك، عزّه عزّك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك.

فقال صفوان، وهو يبدي ما في قرارة نفسه وما انطوي عليه الجاهليون من الغدر: إني أخافه علي نفسي.

فقال له عمير: انه ليس كما تتصوّر، هو أحلم من ذلك وأكرم.

فاطمأنّ صفوان لما أراه عمير عمامة رسول اللّه (ص) بعثها إليه علامة لأمانه، فرجع

معه حتي وقف به علي رسول اللّه (ص)، فقال: هذا يزعم أنك أمنتني؟

فقال (ص): صدق.

قال: فاجعلني بالخيار شهرين.

قال (ص): أنت بالخيار أربعة أشهر.

وكان ممّن استأمن لهم فآمنهم رسول اللّه (ص) عكرمة بن أبي جهل، حيث استأمنت له زوجته اُم حكيم بنت الحارث بن هشام وأخبرت زوجها بذلك وهي تقول له: جئتك من عند أوصل الناس، وأبرّ الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك وقد استأمنت لك، فآمنك.

فجاء معها إلي رسول اللّه (ص) وأسلم علي يديه، ثم قال: يا رسول اللّه مرني بخير ما تعلم فاعلمه.

قال (ص): قل أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وجاهد في سبيل اللّه.

ولهذه الأخلاق الكريمة، والسيرة الطيّبة أسلم الناس زرافات زرافات، ورسول اللّه (ص) يقرأ علي رواية:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم إذا جاء نصر اللّه والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان توّاباً)(7).

البيعة رجالاً ونساءاً

ثم اجتمع الناس للبيعة، فجلس رسول اللّه (ص) علي الصفا يبايع الناس، فبايعه الرجال علي الإسلام والجهاد والطاعة للّه ولرسوله.

ولما فرغ من بيعة الرجال، أقبلت النساء يبايعنه وهو علي الصفا، فأنزل اللّه عزّوجلّ:

(يا أيها النبيّ إذا جاءك المؤمنات يبايعنك علي أن لا يشركن باللّه شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصينك في معروف فبايعهنّ واستغفر لهنّ اللّه إنّ اللّه غفور رحيم)(8).

فقالت هند، وكانت بين النساء وهي متنكّرة حتي لا يعرفها رسول اللّه (ص) لما صنعت بحمزة (ع): إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته علي الرجال!

ثم قالت: أما المال فقد أصبتُ من مال أبي سفيان هنات لأنه رجل ممسك لا يوسّع علي عياله.

فقال لها رسول اللّه (ص): وانكِ

لهند؟

قالت: نعم، فاعف عمّا سلف، عفي اللّه عنك.

ثم قالت: وأما الزنا فلا تزني الحرّة، وأمّا الولد فقد ربّيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر.

فتأثّر رسول اللّه (ص) من ذلك ولم يقل لها شيئاً، ثم قالت: وأما البهتان فإنه قبيح، وما تأمرنا إلاّ بالرشد ومكارم الأخلاق، وأما انه لا نعصيك في معروف، فإنّا ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

وقيل: انها لما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور.

ثم ان اُم حكيم بنت الحارث بن هشام زوجة عكرمة بن أبي جهل كانت بين النساء أيضاً فقالت: يا رسول اللّه ما ذلك المعروف الذي أمرنا اللّه أن لا نعصيك فيه؟

فقال (ص): لا تلطمنّ خدّاً، ولا تخمشن وجهاً، ولا تنتفن شعراً، ولا تدعين بويل وثبور.

وكان ذلك دأب النساء علي موتي الجاهلية فقد كنّ ينتفن شعر رأسهنّ حتي لا يبقي في رأسهنّ طاقة شعر، ويدعين بالويل والثبور.

فقالت: يا رسول اللّه كيف نبايعك؟

قال (ص): إنني لا اُصافح النساء، ثم دعا بقدح من ماء، فأدخل يده فيه ثم أخرجها وقال: ادخلن أيديكنّ في هذا الماء فهي البيعة، ففعلن.

معيار التفاضل في الإسلام

ثم قام رسول اللّه (ص) علي الصفا يخطب في عشيرته، بني هاشم وبني عبدالمطلب، ويوصيهم بوصاياه، لأنهم هم الذين سيخلّفونه إذا ارتحل عن مكة، ويجسّدونه في أعمالهم وتصرّفاتهم، وأهل مكة الذين هم حديثوا عهد بالإسلام ينظرون إليهم نظر اقتداء وتأسّي، لأنهم يرونهم رهط رسول اللّه (ص) وعشيرته، وممثّلوه فيهم.

ولذلك خطب (ص) عليهم يحفّزهم علي الخير والتقوي، وعلي العمل للآخرة، ويحذّرهم الإتّكال علي الأماني والإقتناع بحسبهم ونسبهم والإشتغال بالدنيا، فقال (ص):

(يا بني هاشم، ويا بني عبد المطلب، انّي رسول اللّه إليكم، واني

شفيق عليكم، لا تقولوا انّ محمداً منّا، فواللّه ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلاّ المتَّقون، ألا فلا أعرفكم تأتوني يوم القيامة تحملون الدنيا علي رقابكم، ويأتي الناس يحملون الآخرة، ألا وإني قد أعذرت فيما بيني وبينكم، وفيما بين اللّه عزّوجل وبينكم، وانّ لي عملي ولكم أعمالكم).

مع بديل بن ورقاء

ثم ان العباس الذي كان يقوم بدور الوسيط بين النبي (ص) وشخصيات قريش وكبار الجاهليين ويسعي لجذبهم وتقريب قلوبهم إلي الإسلام، جاء يوم الفتح بالخزاعي: بديل بن ورقاء حتي أوقفه بين يدي رسول اللّه (ص) وقال: يا رسول اللّه هذا يوم قد شرفت فيه قوماً، فما بال خالك (بديل بن ورقاء) وهو قعيد حيه؟ أي لم يشرف كبقية الشخصيات بوسام، ولم يعهد إليه أمر من قبل رسول اللّه (ص).

وكان بديل شيخاً طاعناً في السنّ، وقد جاء متلثّماً، فالتفت إليه رسول اللّه (ص) وقال: (إحسر عن حاجبيك يا بديل)، فحسر عنهما وحدر لثامه.

فرأي رسول اللّه (ص) سواداً بعارض بديل.

فقال (ص) له: كم سنّوك يا بديل؟

فقال: سبع وتسعون يا رسول اللّه.

فتبسّم رسول اللّه (ص) وقال: (زادك اللّه جمالاً وسواداً، وأمتعك وولدك)، لكن رسول اللّه قد نيف علي الستّين وقد أسرع الشيب فيه.

ثم قال (ص) له: يا بديل اركب جملك هذا الأورق وناد في الناس: انها أيام أكل وشرب.

وكان بديل جهير الصوت، فأتمر بأمر رسول اللّه (ص) وأخذ ينتقل بين خيامهم ويقول: أنا رسول رسول اللّه (ص) إليكم يقول لكم: إنها أيام أكل وشرب، وهي لغة خزاعة يعني: الإجتماع والاُلفة.

وهكذا كان يكرم رسول اللّه (ص) كبار القوم، ويبقيهم في مكانتهم، أو يمنحهم مكانة وجاهاً، حتي يستهوي قلوبهم ويشدّهم إلي الإسلام والايمان، ويجذب الآخرين الذين لم تطلهم يد رسول اللّه (ص) ولم

يسلموا بعد إلي الإسلام.

سرية غالب الي بني مدلج

ثم ان رسول اللّه (ص) بعث بعد ان فتح مكة السرايا فيما حول مكة، يدعون الناس الي اللّه عز وجل، ولم يأمرهم بقتال.

فبعث (ص) غالب بن عبد اللّه الي بني مدلج.

فقالوا: لسنا عليك ولسنا معك.

فقال الناس: اغزهم يا رسول اللّه.

فقال: ان لهم سيداً اديباً أريباً، وربَّ غازٍ من بني مدلج شهيد في سبيل اللّه(9).

سرية عمرو الي بني الديل

وبعث رسول اللّه (ص) ايضاً عمرو بن اُمية الضمري الي بني الديل، فدعاهم إلي اللّه ورسوله، فأبوا أشد الإباء.

فقال الناس: اغزهم يا رسول اللّه.

فقال (ص): ان سيدهم قد أسلم، فيقول لقومه: اسلموا، فيقولون: نعم ويسلمون، وهكذا كان.

سرية عبد اللّه بن سهيل

كما وبعث رسول اللّه (ص) ايضاً عبد اللّه بن سهيل بن عمرو الي بني محارب بن فهر، فقبلوا منه وأسلموا، وجاء معه نفر منهم ليلتقوا برسول اللّه (ص) من قريب ويتعلموا منه الاسلام وأحكامه.

سرية خالد الي بني جذيمة

وكان ممن بعث رسول اللّه (ص) بعد فتح مكة ليدعو الناس إلي اللّه خالد بن الوليد، بعثه إلي بني جذيمة داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، وانما بعث اليهم خالداً للترة التي كانت بينه وبينهم، فقد أصابوا في الجاهلية الفاكه بن المغيرة عم خالد، وعوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن، وكانا قد أقبلا في تجارة من اليمن، فأخذت بنو جذيمة ما معهما وقتلتهما، ولذلك أنفذ رسول اللّه (ص) عبد الرحمن بن عوف مع خالد للترة أيضاً التي كانت بين ابن عوف وبينهم.

هذا و رسول اللّه (ص) كان قد خطب يوم الفتح وقال: (ألا كل مال، أو مأثرة، أو دم، أو مظلمة، أو احنة كانت في الجاهلية فهو تحت قدمي).

فلما نزل خالد بمن معه علي الغميصاء وهو ماء من مياه بني جذيمة، اخذ بنو جذيمة السلاح وقالوا: يا خالد إنا لم نأخذ السلاح علي اللّه وعلي رسوله، ونحن مسلمون، فانظر فان كان بعثك رسول اللّه (ص) ساعياً فهذه ابلنا وغنمنا فاغد عليها.

فقال خالد: ضعوا السلاح.

قالوا: انا نخاف منك أن تأخذنا باحنة الجاهلية وقد اماتها اللّه ورسوله.

فانصرف عنهم بمن معه ونزلوا قريباً، ثم شنّ عليهم الخيل فقتل وأسر منهم رجالاً، ثم أمر بهم خالد فكتفوا، ثم عرضهم علي السيف وقتلهم.

أنباء الغدر وتداركها

فلما غدر خالد ببني جذيمة جاء رسولهم إلي رسول اللّه (ص) وأخبره بما فعل خالد بهم، فرفع (ص) يديه إلي السماء بعد أن صعد المنبر وأعلم الناس بفعل خالد وقال:

(اللّهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد) يعيد ذلك ثلاث مرات وبكي.

ثم دعا (ص) علياً (ع) وقد قدم عليه تبر ومتاع، فأعطي علياً (ع) التبر وقال: يا علي أئت بني جذيمة فانظر في أمرهم وارضهم مما صنع

خالد، ثم رفع (ص) قدميه وقال: يا علي اجعل قضاء اهل الجاهلية تحت قدميك.

فلما أتاهم علي (ع) حكم فيهم بحكم اللّه تعالي، فلما رجع الي النبي (ص) قال: يا علي اخبرني بما صنعت.

قال (ع) له: يا رسول اللّه عمدت فأعطيت لكل دم دية، ولكل جنين غرّة، ولكل مال مالاً، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم، وحيلة رعاتهم، وروعة نسائهم، وفزع صبيانهم، ولما يعلمون ولما لا يعلمون، ثم فضلت معي فضلة، فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول اللّه.

فقال عندها رسول اللّه (ص) وقد ظهر الرضا علي وجهه المبارك مؤكداً: يا علي أعطيتهم ليرضوا عني؟ رضي اللّه عنك، واللّه ما يسرني يا علي أن لي بما صنعت حمر النعم.

ثم قال (ص): يا علي إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي، يا علي أنت هادي اُمتي، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلي يوم القيامة(10).

1 الإسراء: 81. 2 الإسراء: 81. 3 سبأ: 49.

4 الحجرات: 13. 5 يوسف: 92. 6 النساء: 58.

7 النصر: 13. 8 الممتحنة: 12.

9 وهذا التعبير: (ان لهم سيداً أديباً أريباً) والذي يأتي بعده: (أن سيدهم قد أسلم) يدل علي دور القيادة الصالحة في إسعاد الأمة والعكس بالعكس.

10 بحار الأنوار: ج21 ص143 ب27 ح6.

غزوة حنين

ولما فتح رسول اللّه (ص) مكة، مكث فيها خمسة عشر يوماً يدبّر أمرها ويبعث السرايا منها، فلما أراد مغادرتها جعل عليها (عتاب بن اسيد) لإدارة اُمورها وإقامة الصلاة بالناس، وكان علي قول ابن إحدي وعشرين سنة، فأقام بها أميراً علي مكة حتي قبض رسول اللّه (ص).

كما وعين (معاذ بن جبل) لتعليم الناس القرآن وأحكام الإسلام.

ثم

خرج (ص) منها أوائل شوال في اثني عشر ألف رجل: عشرة آلاف ممن كانوا معه، وألف رجل من بني سليم، وألف رجل من مزينة، واتجه بهم إلي منطقة حنين، وحنين واد جنب ذي المجاز علي مقربة من الطائف، وبينها وبين مكة ثلاث ليال.

وذلك بعد أن عقد اللواء الأكبر ودفعه الي علي (ع) إضافة الي الرايات التي كانت معهم حين دخول مكة وفتحها.

وسبب هذه الغزوة: ان اللّه لما فتح علي رسوله (ص) مكة إنصاعت له قبائل العرب كلها وأسلموا، إلاّ (هوازن) و(ثقيف) فإنهم عتوا عن أمر رسول اللّه (ص) وفكّروا في اجتياح المسلمين والإغارة عليهم، فاجتمعوا وجمعوا الجموع والسلاح وقالوا: إن محمداً قاتله قوم لم يحسنوا القتال ولم يكن لهم علم بالحرب فغلب عليهم، ونحن اُولوا بصيرة في الحرب وتجربة في القتال، فسوف نغلبه.

ثم عزموا علي قصده قبل أن يقصدهم، وقالوا: قبل أن يظهر ذلك منه سيروا إليه.

فقصدوا جانب المسلمين بعد أن اجتمعت هوازن وثقيف كلها، وكان علي هوازن رئيسهم مالك بن عوف النصري، وعلي ثقيف رئيسهم قارب بن الأسود، واتفق معهما نضر وجشم وسعد بن بكر وناس من بني هلال.

هوازن وشيخ بني جشم

ثم خرجوا جميعاً بأموالهم وأولادهم ونسائهم لئلا يفروا وليكون ذلك أدعي لهم للحرب وللإستماتة من أجلها، وكان فيهم دريد بن الصمة الجشمي رئيس بني جشم وكان شيخاً كبيراً قد ذهب بصره من الكبر، وكان صاحب رأي وتدبير وله معرفة بالحروب، فساروا حتي انتهوا إلي أوطاس، فلما نزلوا بأوطاس اجتمع الناس، وفيهم دريد بن الصمة، فلما نزل قال: في أي وادٍ أنتم؟

قالوا: بأوطاس.

قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس.

ثم قال: مالي أسمع رُغاء البعير وخوار البقر ونهاق الحمير وثغاء الشاء وبكاء الصغير؟

قيل له:

ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم ليقاتل كل أمريء عن نفسه وماله وأهله فيكون أشد لحربه.

فقال دريد: راعي ضأن ورب الكعبة ماله وللحرب؟

ثم قال: أين مالك؟ فدعي له.

فقال: يا مالك إنك أصبحت رئيس قومك وانك تقاتل رجلاً كريماً وان هذا اليوم له ما بعده من الأيام، ثم مالي أسمع رُغاء البعير وخوار البقر ونهاق الحمير وغثاء الشاء وبكاء الصغير؟

قال: قد سقت مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، أردت ان اجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم.

قال: راعي ضأن واللّه، وهل يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك الاّ رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.

ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟

قالوا: لم يشهدها منهم أحد.

قال: غاب الجد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟

قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر.

قال: ذلك الجذعان لا ينفعان ولا يضران.

ثم التفت إلي مالك وقال: يا مالك إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن في نحور الخيل شيئاً، ارفعهم الي ممتنع بلادهم وعلياء قومهم، ثم الق الصبأة علي متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وان كانت عليك ألفاك ذلك وقد احرزت أهلك ومالك.

قال: لا واللّه لا أفعل، انك قد كبرت ووهن عقلك، واللّه لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكأنّ علي هذا السيف حتي يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأي.

قالوا: أطعناك.

قال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه، ثم قال:

(يا ليتني فيها جذع أخبّ فيها وأضع)

(أقود وطفاء الزمع كأنها شاة صدع)

عيون هوازن والمسلمين

وبعث مالك بن عوف عيوناً من رجاله فأتوه مرعوبين مذعورين فقال: ويلكم

ما شأنكم؟

قالوا: رأينا رجالاً بيضاً علي خيل بلق، واللّه ما تماسكنا أن أصابنا ما تري.

ولما سمع بهم النبي (ص) بعث إليهم عبد اللّه بن أبي حدود الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس، فدخل فيهم حتي سمع وعلم ما قد أجمعوا عليه من حرب رسول اللّه (ص) فأتاه وأخبره الخبر، وقال: سمعت مالك بن عوف رئيسهم يخطب علي هوازن ويقول: يا معشر هوازن انكم احدّ العرب واعدّه، وان هذا الرجل لم يلق قوماً يصدقونه القتال، فإذا لقيتموه فاكسروا جفون سيوفكم واحملوا عليه حملة رجل واحد.

الاستعداد لمواجهة هوازن

فلما أجمع رسول اللّه (ص) المسير الي هوازن، ذكر له ان عند صفوان بن اُمية أدراعاً وسلاحاً، فأرسل (ص) اليه وهو يومئذ مشرك فقال (ص): يا أبا اُمية أعرنا سلاحك هذا نلقي فيه عدونا.

فقال: أغصباً يا محمد؟

فقال (ص): بل عارية مضمونة حتي نؤديها إليك.

قال: ليس بهذا بأس. فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، وقيل: أربعمائة، فلبس رسول اللّه (ص) درعين منها ولبس المغفر والبيضة أيضاً.

ثم خرج رسول اللّه (ص) عامداً إلي حنين راكباً بغلته البيضاء دلدل وهو يسير خلف جيشه ليتدارك ضعيفهم والمنقطع منهم وكانوا اثني عشر ألفاً، وكان جيش العدو أربعة آلاف رجل.

ولذلك قال بعضهم لما رأي كثرة عددهم وقلّة عدوهم: لو لقينا بني شيبان ما بالينا، لن نغلب اليوم من قلة، فشقّ ذلك علي رسول اللّه (ص) غير انه لم يبدها لهم ولم يقل لهم شيئاً، فانتصر اللّه له فأنزل فيهم:

(لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرةٍ ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تُغنِ عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين)(1).

وكان قد خرج مع رسول اللّه (ص) ناس من المشركين منهم صفوان بن اُمية، فلما كان

عشية ذلك اليوم جاء فارس فقال: يا رسول اللّه إني طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن علي بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم.

فتبسم رسول اللّه (ص) وقال: تلك غنيمة للمسلمين غداً إن شاء اللّه.

ثم قال: من يحرسنا الليلة؟

قال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول اللّه.

قال (ص): اركب. فركب فرسا له، فقال (ص): استقبل هذا الشعب حتي تكون في أعلاه. ففعل. فلما أصبح جاء وقال: طلعت الشعبين كلاهما فلم أر أحداً.

فقال له رسول اللّه (ص): هل نزلت الليلة؟

قال: لا إلاّ مصلياً أو قاضي حاجة.

فقال رسول اللّه (ص): فلا عليك أن تعمل عملاً بعد هذا.

في وادي حنين

فلما انتهي النبي (ص) الي حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوال وكان قد سار إليها يوم السبت لست خلون منه، كان قد سبقهم مالك بن عوف فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي وفرقهم في الطرق والمداخل وحرضهم علي قتال المسلمين وأمرهم أن يكمنوا لهم ويرشقوهم أول ما طلعوا ويحملوا عليهم حملة واحدة وقال: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدّة واحدة.

فلما كان وقت السحر واندلع الفجر عبأ رسول اللّه (ص) جيشه بعد أن صلي بهم صلاة الفجر وعقد ألويته والرايات وفرقها علي الناس ودفع اللواء الأكبر الي علي (ع) ثم انحدروا نحو الوادي وكانت بنو سليم علي مقدمتهم.

قال جابر بن عبد اللّه: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في وادٍ من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحداراً، وذلك في عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلي الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأخبائه ومضايقه، وقد أجمعوا وتهيأوا، فواللّه ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب بايديها السيوف والعمد والقني، قد شدوا علينا شدة رجل واحد، فانكشف الناس راجعين

لا يلوي أحداً علي أحد.

وانحاز رسول اللّه (ص) ذات اليمين ثم قال: إليّ أيها الناس هلم اليّ، أنا رسول اللّه، أنا محمد بن عبد اللّه، والناس يفرّون لا يلوون علي شيء.

فلم يبقَ مع رسول اللّه (ص) الاّ نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، منهم وفي طليعتهم علي بن ابي طالب (ع) وأخوه عقيل والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث واُسامة بن زيد وأيمن بن عبيد وقتل يومئذ ورسول اللّه (ص) مصلت سيفه في المجتلد وهو علي بغلته البيضاء دلدل، وعلي (ع) بين يديه يضرب وجوه الناس ويردّهم عنه.

صاحب المواطن المشهورة

قال الفضل بن عباس: التفت العباس حين انقشع الناس عن بكرة أبيهم يوم حنين فلم يرَ علياً (ع) فقال لي: أفي مثل هذه الحال يرغب ابن ابي طالب بنفسه عن رسول اللّه (ص) وهو صاحب المواطن المشهورة؟

فقلت: يا أبة نقّص قولك لابن أخيك.

قال: ما ذاك يا فضل؟

قلت: أما تراه يقاتل في الرعيل الأول، أما تراه يناجز في الرهج؟

قال: أشعره لي يا بني.

قلت: هو ذو كذا وكذا ذو البردة.

فأمعن النظر اليه وقال: فما تلك البرقة؟

قلت: سيفه يزيل به بين الأقران.

فقال: برّ بن برّ، فداه عم وخال.

قال: فضرب علي (ع) يومئذ أربعين مبارزاً كلهم يقدّه حتي انفه فيموت من فوره.

شيبة يعلن إسلامه

وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: لما رأيت رسول اللّه (ص) يوم حنين وقد انكشف عنه أصحابه ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما، فقلت: أدرك ثاري اليوم من محمد، فذهبت لأجيئه عن يمينه فاذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائماً عليه درع بيضاء كأنها فضة، يكشف عنها العجاج، فقلت في نفسي: عمه ولن يخذله.

ثم جئته عن يساره فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقلت في نفسي: ابن عمه ولن يخذله.

ثم جئته من خلفه فلم يبق لي إلاّ أن اسوره سورة بالسيف إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق، فخفت ان يمحشني، فوضعت يدي علي بصري ومشيت القهقهري.

فالتفت اليّ رسول اللّه (ص) وقال: يا شيب يا شيب، اُدنُ مني، ثم قال (ص): اللّهمّ أذهب عنه الشيطان.

قال: فرفعت إليه بصري ولهو أحبّ إليَّ من سمعي وبصري.

وقال (ص): يا شيب قاتل الكفار. ثم اخبرني بما اضمرته في نفسي. فاستحييت واعتذرت منه وأسلمت علي يديه.

كرٌّ بعد فرّ

ولما رأي رسول اللّه (ص) هزيمة القوم عنه، قال لعمه العباس وكان رجلاً جهورياً صيّتاً: يا عم نادِ بالقوم، وذكّرهم العهد.

فنادي العباس بأعلي صوته: يا أهل بيعة الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، إلي أين تفرون؟ اذكروا العهد الذي عاهدتم عليه رسول اللّه (ص).

والقوم علي وجوههم قد ولّوا مدبرين. عندها رفع رسول اللّه (ص) يديه نحو السماء وقال: (اللهم لك الحمد واليك المشتكي وأنت المستعان).

فنزل جبرئيل فقال: يا رسول اللّه دعوت بما دعا به موسي حيث فلق له البحر، ونجّاه من فرعون.

ثم التفت رسول اللّه (ص) الي أبي سفيان بن الحارث وقال: ناولني كفاً من حصي، فناوله فرماه في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه، ثم رفع رأسه

نحو السماء وقال: اللّهم ان تهلك هذه العصابة لم تعبد، وان شئت أن لا تعبد، لا تعبد.

فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون: لبيك، وكانت ليلة ظلماء ورسول اللّه (ص) في الوادي والمشركون قد خرجوا عليه من شعاب الوادي وجنباته ومضايقه مصلتين سيوفهم وعمدهم وقسيّهم.

قال الراوي: فنظر رسول اللّه (ص) ببعض وجهه في الظلماء فأضاء كأنه القمر ليلة البدر ثم نادي المسلمين: أين ما عاهدتم اللّه عليه؟

فأسمع أولهم وآخرهم، فلم يسمعها رجل إلا رمي بنفسه إلي الأرض وانحدروا إلي حيث كانوا من الوادي، حتي لحقوا بالعدوّ فقاتلوه، وكان علي(ع) قد قتل حامل رايتهم: أباجرول وخذل القوم بقتله وولّوا منهزمين.

قال جابر بن عبداللّه: ما رجعت راجعة الناس حتي وجدوا الاُساري مكتفين بين يدي رسول اللّه (ص) وهو يقول: اللّهمّ إنك أذقت أول قريش نكالاً، فأذق آخرها نوالاً.

هوازن تنهزم

ولما قتل أبو جرول وخذل القوم بقتله، وضع المسلمون سيوفهم فيهم حتي قتل من القوم كثير والنبي (ص) ينظر إلي قتالهم ويقول: الآن حمي الوطيس كناية عن شدة الأمر واضطرام الحرب وهي من أحسن الإستعارات، وكان النبي (ص) أول من قالها.

ثم كانت الهزيمة والأسر حينئذ وجيء بالأسري إلي رسول اللّه (ص) مكتفين، وكان أبوسفيان صخر بن حرب بن اُمية في هذه الغزوة، فانهزم في جملة من المسلمين، فالتقي به ابنه معاوية وتلاوما علي ما ارتكباه من الهزيمة، ثم وقف فاجتمع معه الناس من أهل مكة، ثم رجعوا وأعادوا الكرة عليهم، وفي ذلك يقول مالك بن عبادة الغافقي:

لم يواس النبي غير بني هاشم عند السيوف يوم حنين

هرب الناس غير تسعة رهط فهمُ يهتفون بالناس أين؟

ثم قاموا مع النبي علي الموت فأتوا زيناً لنا غير شين

وقال العباس

بن عبد المطلب عم النبي (ص) في ذلك أيضاً:

نصرنا رسول اللّه في الحرب تسعة وقد فرّ من قد فرّ عنه فأقشعوا

وقولي إذا ما الفضل شدّ بسيفه علي القوم اخري يا بنيّ ليرجعوا

وعن البراء بن عازب أنه قال رجل: يا أبا عمارة أفررتم عن رسول اللّه (ص) يوم حنين؟

فقال: لكن رسول اللّه (ص) لم يفر، ان هوازن كانوا قوماً رماة، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا فأقبل الناس علي الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانهزم الناس، فلقد رأيت رسول اللّه (ص) علي بغلته البيضاء فنزل واستنصر وقال: اللّهمّ أنزل نصرك، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته.

قال البراء: وكنا واللّه إذا احمر البأس نتّقي برسول اللّه (ص).

مغانم حنين

ولما نصر اللّه تعالي نبيّه (ص) يوم حنين علي المشركين، وانهزم المشركون، وقع منهم في أيدي المسلمين غنائم كثيرة وسبي كثير، قيل: إن السبي كان أربعة آلاف رأس، وقيل: ستة آلاف رأس، ومن الإبل اثني عشر ألفاً، وقيل: أربعة وعشرين ألفاً، سوي ما لا يعلم من الغنائم.

وقد استجاب اللّه لنبيّه (ص) حيث كان يدعوه ويقول: (اللّهمّ انّك أذقت أول قريش نكالاً، فأذق آخرها نوالاً).

فإن تفريق رسول اللّه (ص) بين قريش الغنائم أغني قريشاً وأثراهم، وقد خلّف رسول اللّه (ص) الأنفال والأموال والسبايا كلها بالجعرانة حتي يفرغ المسلمون من عدوّهم، وولي عليها بديل بن ورقاء الخزاعي. فلما فرغ رسول اللّه (ص) من حنين والطائف قسم الغنائم بينهم وذلك علي ما سيأتي.

سرية أبي عامر إلي أوطاس

فلما فضّ اللّه تعالي جمع المشركين بحنين تفّرقوا فرقتين، فأخذت الأعراب ومن تبعهم إلي أوطاس، وأخذت ثقيف ومن تبعها إلي الطائف، فبعث رسول اللّه (ص) أبا عامر الأشعري علي جيش فيهم أبو موسي الأشعري إلي أوطاس، وذلك لملاحقة الأعراب ومن تبعهم بها، فلما بلغها هو ومن معه تقدم بالراية وقاتل حتي قتل دونها.

فقال المسلمون لأبي موسي: أنت ابن عمّ الأمير وقد قتل، فخذ الراية مكانه حتي نقاتل دونها، فأخذها أبو موسي فقاتل المسلمون دونها حتي فتح اللّه عليهم، ورجعوا إلي رسول اللّه (ص) بالسبي والغنائم فاتحين.

فأمر رسول اللّه (ص) بضمها إلي غنائم حنين وسبيها، وذلك في الجعرانة.

وقيل: انه قال أبو موسي: كنت مع أبي عامر فرمي أبو عامر في ركبته فانتهيت إليه فقلت: يا عم من رماك؟

فأشار إلي الذي رماه وقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدته فلحقته، فلما رآني ولّي، فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألا تثبت؟ فكف، فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت

لأبي عامر: قتل اللّه صاحبك.

فقال: يابن أخي اقرء النبي (ص) منّي السلام وقل له يستغفر لي.

ثم قال أبو موسي: واستخلفني أبو عامر علي الناس، فمكث يسيراً ثم مات، فرجعت فدخلت علي النبي (ص) في بيته فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وأنه قال قل له يستغفر لي، فدعا (ص) بماء فتوضّأ ثم رفع يديه ودعا له بالمغفرة.

وقيل: انه استشهد من المسلمين يوم حنين أربعة نفر منهم أيمن بن اُم أيمن، ويزيد بن زمعة بن الأسود، وسراقة بن الحارث رجل من الأنصار وأبو عامر الأشعري الذي قتل في أوطاس، وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلاً.

سرية أبي سفيان إلي الطائف

كما وبعث رسول اللّه (ص) أبا سفيان صخر بن حرب إلي الطائف لملاحقة ثقيف ومن تبعهم الذين لجأوا إليها، فلما بلغها هو ومن معه لقيته ثقيف فضربوه علي وجهه فانهزم ورجع إلي النبي (ص) يقول: بعثتني يا رسول اللّه (ص) مع قوم لا يرفع بهم الدلاء من هذيل والأعراب، فسكت عنه رسول اللّه (ص) ولم يقل له شيئاً، وعزم علي أن يسير إلي الطائف بنفسه.

1 التوبة: 25.

غزوة الطائف

والطائف منطقة سياحية ومصيف من مصايف الحجاز قديماً وحديثاً، وهي تبعد عن مكة اثني عشر فرسخاً إلي نحو الجنوب الشرقي منها، وثقيف التي هي من القبائل القوية والكثيرة العدد كانت تسكنها.

سار إليها رسول اللّه (ص) بأصحابه في أواخر شوّال من السنة الثامنة من الهجرة النبويّة المباركة.

وسببها: اشتراك ثقيف في حرب رسول اللّه (ص) مع هوازن، ولجوئهم بعد هزيمتهم النكراء مع رئيس هوازن مالك بن عوف إليها.

وسلك رسول اللّه (ص) في طريقه إلي الطائف نخلة اليمانية، ثم علي قرن، ثم علي نجرة الرعاء من لية فابتني فيها مسجداً فصلّي فيه.

ثم سلك (ص) في طريق، فسأل عن اسمها فقيل: الضيقة فقال: بل اجعلوا اسمها اليسري، ثم خرج (ص) منها حتي نزل تحت سدرة قريباً من مال رجل من ثقيف، ثم مضي حتي انتهي إلي الطائف فنزل قريباً من حصنه فضرب به عسكره.

فرموا المسلمين رمياً شديداً حتي اُصيب ناس من المسلمين بجراحة، وفقئت عين أحدهم فأخذها بيده، فرآه رسول اللّه (ص) فقال له: أيهما أحب إليك، عين في الجنّة أو ادعو اللّه أن يردّها عليك؟

فقال: عين في الجنّة، فبارك عليه النبي (ص) وعلي إيمانه.

وقتل منهم يومئذ اثناعشر رجلاً سبعة من قريش، ورجل من بني ليث، وأربعة من الأنصار، فارتفع (ص) إلي

موضع مسجد الطائف اليوم ووضع عسكره هناك، وكان معه من نسائه اُم سلمة وزينب، فضرب لهما قبّتين، وبقي رسول اللّه(ص) محاصراً لحصنهم بضع عشرة ليلة.

الطائف في محاصرة المسلمين

ثم شاور رسول اللّه (ص) أصحابه في حصن الطائف، فقال سلمان: أري أن تنصب المنجنيق علي حصنهم وتشدخه به حتي يحدث في الحصن ثغرة ننفذ منها إليهم، فأمر به فعمل منجنيق.

ويقال: قدم بالمنجنيق ودبابتين إليه، والدبّابة آلة لها سقف تحفظ الذين يستخدمون المنجنيق من سهام العدوّ وقذائفهم، فأرسل عليهم ثقيف قذائفهم: سكك الحديد المحماة بالنار، فأحرقت الدبّابتين.

فأمر (ص) بقطع أعناب ثقيف وتحريقها، فسألوه أن يدعها للّه وللرحم، فقال (ص): إني أدعها للّه وللرحم، فتركها.

ثم نادي منادي رسول اللّه (ص): أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا من الحصن فهو حرّ، فخرج منهم بضعة عشر رجلاً، منهم أبو بكرة وكان عبداً للحارث بن كلدة، اسمه نقيع بن الحارث، فتسوّر حصن الطائف وتدلي منه ببكرة مستديرة يستقي عليها فكنّاه رسول اللّه (ص) (أبا بكرة).

ومنهم: المنبعث وكان اسمه المضطجع فسمّاه رسول اللّه (ص) المنبعث، وغيرهما، فأعتق رسول اللّه (ص) من نزل منهم، ودفع كل رجل منهم إلي رجل من المسلمين يمونه ويحمله، وأمرهم أن يُقرئوهم القرآن ويعلّموهم السنن.

فشق ذلك علي أهل الطائف مشقّة شديدة، حتي انه لما أسلم أهل الطائف بعد ذلك تكلّم نفر منهم في اُولئك العبيد وقالوا: يا رسول اللّه ردّ علينا رقيقنا الذين أتوك.

فقال رسول اللّه (ص): لا، اُولئك عتقاء اللّه.

في أيام المحاصرة

وخرج من الحصن في أيام محاصرة النبي (ص) حصن الطائف نافع بن غيلان بن معتب في خيل من ثقيف، فلقيه علي (ع) في خيله، فالتقوا ببطن وجّ وهو بلد بالطائف ودار بينهم قتال شديد فقتله علي (ع) وانهزم من كان مع نافع من المشركين ودخلوا حصنهم خائبين مرعوبين، فلحق القوم علي أثر ذلك رعب كبير، فنزل منهم جماعة إلي النبي (ص) وأسلموا علي يديه.

مهمة كسر الأصنام

ثم انّ رسول اللّه (ص) أنفذ علياً (ع) في خيل عند محاصرته أهل الطائف إلي النواحي والأطراف وأمره أن يكسر كل صنم وجده.

فخرج (ع) فلقيه جمع كثير من خثعم، فبرز له رجل من القوم وقال: هل من مبارز؟

فلم يقم له أحد، فقام إليه علي (ع). ثمّ ضربه فقتله ومضي حتي كسر الأصنام وانصرف إلي رسول اللّه (ص) وهو بعد محاصر لأهل الطائف.

فك الحصار عن الطائف

قال جابر: فلما قدم علي (ع) فكأنّما كان رسول اللّه (ص) علي وجل، فارتحل.

وكان قد أشار عليه بعض أصحابه ممن هو خبير بأوضاع المنطقة، وبأحوال ثقيف، وبجزئيات الحصن ومعدّاته وذخائره بترك المحاصرة والإرتحال عنهم.

كما كان قد سأله القوم أن يبرح عنهم ويترك محاصرتهم، ليقدم عليه وفدهم فيفاوضونه في أمرهم فيشترط له ويشترطون لأنفسهم.

وقيل: انه لما حاصر رسول اللّه (ص) الطائف فلم ينل منهم شيئاً قال: إنا قافلون غداً إن شاء اللّه، فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟

فقال: اغدوا علي القتال، فغدوا فأصابهم جراح، فقال: إنا قافلون غداً إن شاء اللّه، فأعجبهم، فضحك النبي (ص).

وقد استشار النبي (ص) أصحابه في البقاء أو الرجوع، فأشاروا عليه بالرجوع.

فسار رسول اللّه (ص) حتي نزل مكة، فقدم عليه نفر منهم بإسلام قومهم، ولم ينجع القوم له بالصلاة ولا الزكاة أي: كانوا قد شرطوا لأنفسهم الإسلام علي أن لا يصلّوا ولا يزكوا.

فرفض ذلك رسول اللّه (ص) رفضاً باتاً وقال: انه لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود، أما والذي نفسي بيده ليقيمنّ الصلاة وليؤتنّ الزكاة، أو لأبعثنّ إليهم رجلاً امتحن اللّه قلبه للإيمان هو منّي كنفسي، فليضرب أعناق مقاتليهم وليسبينّ ذراريهم، هو هذا، وأخذ بيد علي (ع) فأشالها.

فلما صار القوم إلي قومهم بالطائف أخبروهم بما سمعوا من

رسول اللّه(ص) فأقرّوا له بالصلاة والزكاة وبما شرطه عليهم.

فتنة تقسيم الغنائم

ثم رجع رسول اللّه (ص) إلي الجعرانة بمن معه من الناس، وذلك عند دخول شهر ذي القعدة لأجل تقسيم غنائم حنين وأوطاس التي أودعت هناك، فبدأ يقسم بينهم الأموال، فقسمها كلها بأمر اللّه تعالي، وقيل: الخمس منها فقط في المؤلّفة قلوبهم من قريش ومن سائر العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير.

وقيل: انه جعل للأنصار شيئاً يسيراً، وأعطي الجمهور للمتألّفين من وجوه القبائل.

فأعطي أبا سفيان بن حرب مائة من الإبل، وروي أنّ أبا سفيان بن حرب جاء إلي النبي (ص) والأموال من نقود وغيره مجموعة عنده فقال له: يا رسول اللّه أنت اليوم أغني قريش، فتبسّم رسول اللّه (ص) ضاحكاً من قوله.

فقال أبو سفيان وقد اغتنم الفرصة: يا رسول اللّه حظنا من هذه الأموال؟

فأمر رسول اللّه (ص) بلالاً فأعطاه مائة من الإبل وأربعين أوقية من الفضّة.

فقال: حظ ابني يزيد.

فأعطاه أيضاً مائة من الإبل وأربعين أوقية.

فقال أبو سفيان: فأين حظ ابني معاوية، فأمر له بمائة من الإبل وأربعين أوقية حتي أخذ أبو سفيان يومئذ ثلاثمائة من الإبل ومائة وعشرين أوقية من الفضّة.

فقال أبو سفيان عند ذلك: بأبي أنت واُمّي يا رسول اللّه، لأنت كريم في الحرب والسلم، هذا غاية الكرم جزاك اللّه خيراً.

وأعطي (ص) صفوان بن اُمية من الإبل مائة، وقيل: ثم مائة ثم مائة.

وأعطي (ص) حكيم بن حزام مائة من الإبل. وقيل: فسأله مائة اُخري، فأعطاه ايّاها.

وأعطي (ص) الحارث بن الحارث إبن كلدة مائة من الإبل.

وأعطي كلاً من الحارث بن هشام أخا أبي جهل، وعبد الرحمن بن يربوع المخزوميين، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزّي، والعلاء بن حارثة الثقفي (وعدّه بعضهم في

أهل الخمسين) والأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، ومالك بن عوف النصري مائة من الإبل.

وأعطي دون المائة رجالاً من قريش وغيرهم، منهم: مخرمة بن نوفل، وعمير بن وهب، وهشام بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي.

وأعطي (ص) كلاً من سعيد بن يربوع المخزومي، وعدي بن قيس السهمي، وعثمان بن نوفل خمسين من الإبل.

وأعطي عباس بن مرداس أربعاً فسخطها وأنشأ يقول:

أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع

وقد كنت في الحرب ذا تدرأ فلم اُعط شيئاً ولم اُمنع

فطلبه رسول اللّه (ص) فلما جاءه قال له: أنت القائل: أتجعل نهبي نهب العبيد؟ ثم التفت إلي علي (ع) وقال له: يا علي قم إليه فاقطع لسانه.

فظن ابن مرداس ان الكلام علي ظاهره، فقال لعلي (ع): يا علي انك لقاطع لساني؟

قال (ع): إنّي ممض فيك ما اُمرت، ثم أدخله الحظائر وقال له: اعقل ما بين أربعة إلي مائة.

فقال لما رأي ذلك: بأبي أنتم واُمي ما أكرمكم وأحلمكم، وأجملكم وأعلمكم؟

فقال له علي (ع): انّ رسول اللّه (ص) أعطاك أربعاً وجعلك من المهاجرين، فإن شئت فخذها، وإن شئت فخذ المائة وكن مع أهل المائة.

فقال: أشِر أنت عليَّ.

فقال له علي (ع): إني أري أن تأخذ ما أعطاك وترضي، ففعل.

وقال لرسول اللّه (ص) قائل من أصحابه: اعطيت كلاً من عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة من الإبل، وتركت جعيل بن سراقة الضمري؟

فقال رسول اللّه (ص): اني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلي إسلامه.

مع ذي الخويصرة

عن جابر بن عبد اللّه قال: أتي رجل بالجعرانة في منصرفه (ص) من حنين، وفي رواية عن أبي سعيد الخدري:

أتاه ذو الخويصرة، وفي ثوب بلال فضّة ورسول اللّه (ص) يقبض منها يعطي الناس.

فقال: يا محمد اعدل.

فقال (ص): ويلك من يعدل إن أنا لم أعدل؟ لقد خبت أو خسرت إن أنا لم أعدل؟

ألا تري قسّمتُ الشاة حتي لم يبق معي شاة، أو لم أُقسّم البقر حتي لم يبق معي بقرة واحدة؟ أو لم أُقسم الإبل حتي لم يبق معي بعير واحد؟!

فقال أحد الصحابة: يا رسول اللّه ائذن لي في قتل هذا المنافق؟

فقال (ص): معاذ اللّه أن يتحدّث الناس أنّي أقتل أصحابي، إن هذا يخرج في قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، آيتهم رجل أسود إحدي عضديه مثل ثدي المرأة، يخرجون علي خير فرقة من الناس.

قال أبو سعيد الخدري: فأشهد أني سمعت هذا من رسول اللّه (ص) وأشهد أنّ علي بن أبي طالب (ع) قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس، فوجد، فاُتي به حتي نظرت إليه علي نعت رسول اللّه (ص) الذي نعت.

حكمة تأليف القلوب

ولما قسّم رسول اللّه (ص) بأمر من اللّه تعالي غنائم حنين في قريش خاصة، وأجزل القسمة للمؤلّفة قلوبهم، غضبت الأنصار واجتمعت إلي سعد بن عبادة، فانطلق بهم إلي رسول اللّه (ص) بالجعرانة فقال: يا رسول اللّه أتأذن لي في الكلام؟

فقال (ص): نعم.

قال: إن كان هذا الأمر من هذه الأموال التي قسّمت بين قومك شيئاً أنزله اللّه، رضينا، وإن كان غير ذلك لم نرض.

فقال رسول اللّه (ص) للأنصار وقد التفت إليهم: يا معشر الأنصار، أكلّكم علي قول سيّدكم سعد؟

قالوا: سيّدنا اللّه ورسوله.

فأعادها عليهم ثانية فأعادوها، ثم قالوا في الثالثة: نحن علي مثل قوله ورأيه.

وهنا قال زرارة: قال أبو جعفر (ع): فحطّ اللّه نورهم، وفرض للمؤلّفة

قلوبهم سهماً في القرآن، ثم قال: فلما كان من قابل جاء الذين تألّفهم رسول اللّه(ص) بضعف ما أخذوا، وأسلم ناس كثيرون.

فقام رسول اللّه (ص) خطيباً وقال: هذا خير أم الذي قلتم؟ قد جاءوا من الإبل بضعف ما أعطيتهم، وقد أسلم للّه عالم وناس كثير، والذي نفس محمد بيده لوددت انّ عندي ما أعطي كل إنسان ديته وهي مائة من الإبل مثلاً علي أن يسلم للّه ربّ العالمين.

اعتراض واسترضاء

وروي: انّ رسول اللّه (ص) بلغه لما قسّم غنائم حنين في قريش خاصة يتألفهم به أن الأنصار يحبون أن يصيبوا ما أصاب الناس من القسمة، فكأنهم غضبوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، حتي أنّ بعضهم قال: يغفر اللّه لرسوله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.

وقال بعضهم: لقي الرجل أهله وبني عمّه، ونحن أصحاب كل كريهة!

فأمر رسول اللّه (ص) أن يجتمعوا ولا يكن غير أنصاري معهم.

فلما اجتمعوا جاءهم رسول اللّه (ص) يتبعه علي (ع) حتي جلس وسطهم.

فقال (ص): ما حديث بلغني عنكم؟

فقال له ذوو الأسنان من الأنصار: أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئاً، وأما اُناس حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر اللّه لرسوله يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.

فقال (ص): إني أُعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألّفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال والشاء، وتذهبون بالنبي إلي رحالكم؟! فواللّه لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به.

قالوا: يا رسول اللّه قد رضينا.

فقال لهم النبي (ص): ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتي تلقوا اللّه ورسوله، فإني علي الحوض.

قالوا: سنصبر.

وقد قصد رسول اللّه (ص) بذلك ما يلاقونه بعده من مثل واقعة الحرّة وأشباهها.

النبي (ص) يستغفر للأنصار

وفي رواية: انه (ص) لما اجتمعوا جاء إليهم شبه المغضب ويتبعه علي (ع) حتي جلس في وسطهم وقال لهم: إني سائلكم عن أمر فأجيبوني عنه.

فقالوا: قل يا رسول اللّه.

فقال (ص): يا معشر الأنصار ألستم كنتم ضالّين فهداكم اللّه بي؟

قالوا: بلي واللّه، فللّه المنّة ولرسوله.

قال (ص): ألم تكونوا علي شفا حفرة من النار فأنقذكم اللّه بي؟

قالوا: بلي واللّه، فللّه المنّة، ولرسوله المنّ والطول والفضل علينا.

قال (ص): ألم تكونوا أعداءاً فألّف اللّه بين قلوبكم بي؟

قالوا: بلي، وللّه المنّة ولرسوله.

قال (ص): ألم تكونوا قليلاً فكثّركم اللّه بي؟

قالوا: بلي،

وللّه المنّة ولرسوله.

وقال (ص) ماشاء أن يقول، ثم سكت هنيئة.

ثم قال (ص): ألا تجيبوني بما عندكم يا معشر الأنصار؟

قالوا: بم نجيبك فداؤك آباؤنا واُمهاتنا يا رسول اللّه، فلقد أجبناك: بأنّ لك الفضل والمنّ والطول علينا.

قال (ص): أما لو شئتم لقلتم: وأنت قد كنت جئتنا طريداً فآويناك، وجئتنا خائفاً فآمنّاك، وجئتنا مكذّباً فصدّقناك.

فارتفعت أصواتهم بالبكاء، وقام شيوخهم وساداتهم إليه وقبّلوا يديه ورجليه وركبتيه ثم قالوا: رضينا باللّه وعنه، وبرسوله وعنه، وهذه أموالنا أيضاً بين يديك، فإن شئت فاقسمها علي قومك، وإنما قال مَن قال منّا علي غير وغر صدر، وغلّ في قلب، ولكنهم ظنوا سخطاً عليهم وتقصيراً بهم، وقد استغفروا اللّه من ذنوبهم، فاستغفر لهم يا رسول اللّه.

فقال رسول اللّه (ص): اللّهمّ اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار.

ثم قال (ص): يا معشر الأنصار أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاء والنعم، وترجعون أنتم وفي سهمكم رسول اللّه؟

قالوا: بلي رضينا.

فقال (ص) حينئذ: لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللّهمّ اغفر للأنصار.

مع أسري هوازن

وقد كان في السبي اُخت رسول اللّه (ص) الرضاعية: شيماء بنت حليمة السعدية، من بني سعد، حيث إن بني سعد قد شاركوا هوازن الحرب ضد رسول اللّه (ص)، فلما قامت علي رأسه قالت: يا محمّد اُختك شيماء بنت حليمة سبي.

قال: فنزع رسول اللّه (ص) برده فبسطه لها، فأجلسها عليه، ثم أكبّ عليها يسائلها، وهي التي كانت تحتضنه إذ كانت اُمها ترضعه، وكانت شفيقة عليه.

وكان قد أدرك وفد هوازن رسول اللّه (ص) بالجعرانة، وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول اللّه لنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا، منّ اللّه عليك، وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول

اللّه، إنما في الحظائر خالاتك وبنات خالاتك، وحواضنك وبنات حواضنك اللاتي أرضعنك، ولسنا نسألك مالاً وانما نسألكهنّ، وقد كان رسول اللّه (ص) قسّم منهنّ ما شاء اللّه.

فلما كلّمته اُخته قال (ص): أما نصيبي ونصيب بني عبدالمطلب فهو لك، وأما ما كان للمسلمين فاستشفعي بي عليهم.

فلما صلّوا الظهر قامت فتكلّمت وتكلّموا، فوهب لها الناس أجمعون وردّوا إليهم نساءهم وأبناءهم.

كما وكلمته اُخته في مالك بن عوف رئيس هوازن ومشعل نار الحرب في حنين.

فقال لها رسول اللّه (ص): إن جاءني مسلماً فهو آمن، فأتاه مسلماً، فردّ عليه ماله، وأعطاه مائة من الإبل اضافة إلي ماله، فأنشأ مالك حينئذ يقول:

ما ان سمعت ولا رأيت بمثله في الناس كلهم كمثل محمد

أوفي وأعطي للجزيل إذا اجتدي وإذا تشأ يخبرك عما في غد

فاستعمله رسول اللّه (ص) علي من أسلم من قومه.

وقيل: ان شيماء قالت: يا رسول اللّه إني اُختك من الرضاعة، فبسط (ص) لها رداءه فأجلسها عليه، ودمعت عيناه، وخيَّرها وقال: إن أحببت فأقيمي عندي محببة مكرمة، وإن أحببت أمتعتك وترجعي إلي قومك فعلت.

قالت: بل تمتعني وتردني إلي قومي.

فأسلمت فمنحها رسول اللّه (ص) هداياه وردّها إلي قومها.

وجاءته (ص) اُمه من الرضاعة حليمة السعدية بنت أبي ذئيب من هوازن، وهي التي أرضعته حتي أكملت رضاعه، فالتفت (ص) إليها وبسط لها رداءه فجلست عليه.

قال جمع: وقد أسلمت وأسلم زوجها.

معدن الحلم والكرم

قالوا: لما فرغ رسول اللّه (ص) من تقسيم الغنائم ركب واتبعه الناس يقولون: يا رسول اللّه أقسم علينا فيئنا، حتي الجأوه إلي شجرة، فانتزع عنه رداؤه.

فقال: أيها الناس ردّوا عليّ ردائي، فوالّذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجرتها نعماً لقسّمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً.

ثم جاءه رجل يخبره بمقالة أحدهم فيه، وطعنه

في القسمة، فأجابه رسول اللّه (ص) وهو يريد أن يخفّف عليه شدّة ما تحامل عليه البعض فيما يخص القسمة قائلاً: (قد اوذي أخي موسي بأكثر من هذا فصبر).

وقيل: إنه (ص) لما أراد أن يقسم الغنائم أمر زيد بن ثابت حتي أحضر الناس، ثم عدّ الإبل والغنم وقسّمها علي الناس، فوقع في سهم كل رجل أربع من الإبل مع أربعين شاة من الغنم، وإن كان فارساً وقع في سهمه اثناعشر بعيراً مع مائة وعشرين شاة من الغنم.

من معجزات الرسول (ص)

روي انه لما حاصر رسول اللّه (ص) أهل الطائف قال عيينة بن حصن الفزاري وكان من المؤلّفة قلوبهم: إئذن لي حتي آتي الحصن فاُكلّمهم، فأذن له، فجاءهم وقال: أدنو منكم وأنا آمن؟

قالوا: نعم، وعرفه أبو محجن فقال: اُدن.

فدخل عليهم وقال لهم: فداكم أبي واُمّي لقد سرّني ما رأيت منكم، وما في العرب أحد غيركم، واللّه ما في محمد مثلكم، ولقد قلّ المقام وطعامكم كثير، وماؤكم وافر لا تخافون قطعه، وشجّعهم علي المقاومة والمجابهة.

فلما خرج قالت ثقيف لأبي محجن: إنّا قد كرهنا دخوله وخشينا أن يخبر محمداً بخلل يراه فينا أو في حصننا.

فقال أبو محجن: أنا كنت أعرف به، ليس أحد منا أشدّ علي محمد منه، وإن كان معه.

فلما رجع عيينة إلي رسول اللّه (ص) قال: قلت لهم: إدخلوا في الإسلام، فو اللّه لا يبرح محمد من عقر داركم حتي تنزلوا وتأخذوا لأنفسكم أماناً.

فقال له رسول اللّه (ص): لقد قلت بخلاف ما تقول، قلت لهم كذا وكذا، وأخبره بكل ما قاله لهم، فعاتبه جماعة وأنّبوه علي فعله.

فقال: استغفر اللّه وأتوب إليه ولا أعود أبداً.

فعفا رسول اللّه (ص) عنه.

مغادرة مكة

ثم خرج رسول اللّه (ص) بعد تقسيم الغنائم من الجعرانة إلي مكة معتمراً، فلما فرغ رسول اللّه (ص) من عمرته انصرف راجعاً إلي المدينة، وكانت عمرته في منتصف ذي القعدة، فقدم رسول اللّه (ص) المدينة في بقية ذي القعدة أو في أول ذي الحجة.

وذلك بعد أن استخلف عتاب بن اُسيد علي مكة، وخلّف معه معاذ بن جبل يفقّه الناس في الدين ويعلّمهم الأحكام.

ثم حجّ عتاب بن اُسيد بالناس تلك السنة، وهي السنة الثامنة من الهجرة النبوية المباركة، وعتاب بن اسيد هذا، هو الذي استعمله رسول اللّه (ص) علي

مكة وكان ابن عشرين سنة أو أكثر بقليل، وكان في غاية الورع والزهد، وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام.

كما واستعمل (ص) علي هوازن مالك بن عوف، وعلي ثقيف عثمان بن أبي العاص، وكانا شابين أيضاً.

وكانت مدة غيبة رسول اللّه (ص) منذ خرج من المدينة إلي فتح مكة وأوقع بهوازن وحارب الطائف إلي أن رجع إلي المدينة شهرين وستة عشر يوماً.

معيار الأفضلية في الإسلام

وكان استخلاف رسول اللّه (ص) عتّاباً علي مكة وهو ابن عشرين سنة وأقرانه علي هوازن وثقيف مثاراً للجدل والنقاش بين بعض أهل مكة، الذين كانوا يرون المناصب للشيوخ وذوي الأسنان منهم، ولذلك قالوا: إنّ محمداً لا يزال يستخفّ بنا حتي ولّي علينا غلاماً حدث السن ابن ثمانية عشر سنة، ونحن مشايخ ذوو الأسنان، وجيران حرم اللّه الآمن، وخير بقعة علي وجه الأرض.

فكتب رسول اللّه (ص) إلي عتّاب كتاباً أجابهم فيه علي ذلك قائلاً: لا يحتجّ محتجّ منكم في مخالفته بصغر سنّه، فليس الأكبر هو الأفضل، بل الأفضل هو الأكبر، وهو الأكبر في موالاتنا وموالاة أوليائنا، ومعاداة أعدائنا، فلذلك جعلناه الأمير عليكم، والرئيس عليكم، فمن أطاعه فمرحباً به، ومن خالفه فلا يُبعد اللّه غيره.

وبقوله (ص): (ليس الأكبر هو الأفضل بل الأفضل هو الأكبر) أبطل مقاييس الجاهلية في تفويض المناصب إلي الشيوخ وذوي الأسنان وإن لم يكونوا أكفاءاً، وأثبت مقياس الإسلام والقرآن بتفويض المناصب إلي ذوي الكفاءات وإن لم يكونوا شيوخاً وذوي اسنان، وهذا هو منطق العقل أيضاً.

وكأنّ رسول اللّه (ص) باستخلاف عتّاب وأمثاله كان يريد تمهيد الأمر لاستخلافه علياً (ع) من بعده بأمر اللّه تعالي.

عروة بن مسعود

وقيل: إنّ رسول اللّه (ص) لما انصرف عنهم من الطائف اتبع أثره عروة بن مسعود حتي أدركه قبل أن يصل إلي المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلي قومه بالإسلام.

فقال له رسول اللّه (ص): إنهم قاتلوك، وعرف رسول اللّه (ص) أنّ فيهم نخوة الإمتناع الذي كان منهم.

فقال له عروة: يا رسول اللّه أنا أحب إليهم من أبصارهم، وكان فيهم كذلك محبباً مجاباً مطاعاً.

فخرج يدعو قومه إلي الإسلام ورجا أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف عليهم علي علية له وقد دعاهم إلي

الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله.

فقيل له: ما تري في دمك؟

فقال: كرامة أكرمني اللّه بها وشهادة ساقها اللّه إليَّ، فليس فيَّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول اللّه (ص) قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم.

فقال رسول اللّه (ص): مثله في قومه كمثل صاحب ياسين في قومه.

إسلام ثقيف

ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهراً، ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لاطاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا، وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع؟

فائتمروا بينهم وأجمعوا أن يرسلوا إلي رسول اللّه (ص) رجلاً كما أرسلوا عروة، فكلموا عبديا ليل بن عمرو بن عمير وكان في سن عروة بن مسعود وعرضوا ذلك عليه، فأبي أن يفعل، وخشي أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة فقال: لست فاعلاً حتي ترسلوا معي رجالاً، فأجمعوا أن يرسلوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك فيكونون ستة، فبعثوا كما أراد.

ولما قدموا ضرب رسول اللّه (ص) قبة عليهم في ناحية مسجده.

وقيل: كان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول اللّه(ص) حتي كتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذي يكتب كتابهم بيده، وكانوا لا يطعمون طعاماً يأتيهم من عند رسول اللّه (ص) حتي يأكل منه خالد حتي أسلموا وفرغوا من كتابهم.

وقد كانوا فيما سألوا رسول اللّه (ص) أن يدع لهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين، فأبي رسول اللّه (ص) ذلك، فما برحوا يسألونه سنة سنة وهو يأبي عليهم، حتي سألوه شهراً واحداً فأبي عليهم أن يدعها شيئاً مسمي، وإنما يريدون في ذلك علي ما قيل أن يسلموا بتركها

من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتي يدخلهم الإسلام، فأبي رسول اللّه (ص)، وقد كانوا سألوه أيضاً أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم.

فقال رسول اللّه (ص): أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فلا، فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه.

فقالوا: يا محمد فسنؤتكها.

فلما أسلموا وكتب لهم رسول اللّه (ص) كتابهم أمر عليهم عثمان بن أبي العاص، وكان من أحدثهم سنّاً، وذلك: لأنه كان أحرصهم علي التفقّه في الدين وفي الإسلام.

فلما فرغوا من أمرهم وتوجّهوا إلي بلادهم راجعين بعث معهم رسول اللّه(ص) من يهدم لهم صنمهم، فهدمه دون حدوث شيء مما كانوا يزعمونه، فوقفوا عند ذلك علي سخافة ما كانوا يعتقدونه وخرافته.

مع لامية كعب بن زهير

ولما رجع رسول اللّه (ص) إلي المدينة كتب بجير بن زهير، إلي أخيه كعب بن زهير، وزهير هذا هو زهير بن أبي سلمي أحد شعراء الجاهلية، وصاحب إحدي المعلّقات السبع التي كانت من مفاخرهم، وقد نصبوها في الكعبة حتي قُبيل نزول القرآن الحكيم، وقد مات زهير وخلّف من بعده ابنين:

أحدهما: بجير وكان قد أسلم وشهد مع رسول اللّه (ص) فتح مكة وغزوة حنين والطائف.

والآخر: كعب وكان شاعراً يهجو في شعره رسول اللّه (ص) ولم يكن أسلم بعد.

فلما عاد بجير مع رسول اللّه (ص) والمسلمين إلي المدينة، كتب إلي أخيه شفقةً منه عليه ونصيحةً له: يا كعب إن كانت لك في نفسك حاجة، فطِر إلي رسول اللّه (ص) فإنه لا يقتل أحداً جاءه تائباً.

فلما وصل الكتاب إلي كعب خرج حتي قدم المدينة، فنزل علي رجل من جهينة كانت بينه وبين ذلك الرجل معرفة وصداقة، فغدا به إلي مسجد رسول اللّه(ص) وهو يتهيّأ لصلاة الصبح.

فصلّي كعب مع

رسول اللّه (ص) صلاة الصبح لأوّل مرّة، وبعد السلام أشار له الرجل إلي رسول اللّه (ص) وقال: هذا رسول اللّه (ص) فقم إليه واستأمنه.

فقام كعب إلي رسول اللّه (ص) حتي جلس إليه فوضع يده في يده وقال: يا رسول اللّه إنّ كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائباً مسلماً، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟

قال رسول اللّه (ص): نعم.

قال: أنا يا رسول اللّه كعب بن زهير، ثم قام وأنشد قصيدته اللامية المشهورة التي كان قد أنشأها من قبل، والتي قال في مطلعها:

باتت سعاد فقلبي اليوم متبولُ متيّم إثرها لم يغد مكبولُ

إلي أن قال:

كل ابن اُنثي وإن طالت سلامته يوماً علي آلة حدباء محمول

نبئت أنّ رسول اللّه (ص) أوعدني والعفو عند رسول اللّه (ص) مأمول

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم اُذنب ولو كثرت فيَّ الأقاويل

إلي أن قال:

ان الرسول لنور يستضاء به مهنّد من سيوف اللّه مسلول

إلي آخر الأشعار.

فلما فرغ كعب من إنشاد قصيدته علي مسامع رسول اللّه (ص) والمسلمين، كساه رسول اللّه (ص) بردة كانت عليه.

ويقال: انه لما كان زمن معاوية، ومعاوية كان يحاول إضفاء الشرعية علي حكومته بعث إلي كعب من يقول له: بعنا بُردة رسول اللّه (ص) بعشرة آلاف.

فقال: ما كنت لاُوثر بثوب رسول اللّه (ص) أحداً.

فلمّا مات كعب بعث معاوية إلي ورثته بعشرين ألفاً وأخذها منهم، وتوارثها من بعده الأمويّون واحداً بعد واحد، ثم انتقلت منهم إلي العباسيين.

جباية الزكوات

ولما دخلت سنة تسع بعث رسول اللّه (ص) المصدّقين يأخذون الصدقات من الأعراب.

وقيل: انه لما رأي رسول اللّه (ص) هلال المحرم سنة تسع بعث المصّدقين يصدقون الأعراب:

فبعث (ص) عيينة بن حصن إلي بني تميم، كما وبعث

يزيد ابن الحصين إلي أسلم وغفار، وبعث رافع بن مكيث إلي جهينة، وبعث عمرو بن العاص إلي فزارة، وبعث الضحاك بن سفيان إلي بني كلاب، وبعث بشير بن سفيان إلي بني كعب.

وبعث ابن اللتبية الأزدي إلي بني ذبيان.

هذا وقد أمرهم رسول اللّه (ص) أن يأخذوا العفو منهم ويتوّقوا كرائم أموالهم. وبعث المهاجر بن اُمية إلي صنعاء.

وكذا بعث (ص) زياد بن لبيد إلي حضرموت، وبعث مالك بن نويرة علي صدقات بني حنظلة.

وفرّق صدقات بني سعد علي رجلين: فبعث الزبرقان ابن بدر علي ناحية، وقيس بن عاصم علي ناحية.

وبعث العلاء بن الحضرمي علي البحرين. وبعث علياً (ع) إلي نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم.

سرية الفزاري إلي بني تميم

ثم ان بعض القبائل رغم تحقق النصر الكبير للمسلمين ودخول الناس في دين اللّه أفواجاً بقوا علي شركهم وأصرّوا علي عنادهم ومحاربتهم للمسلمين، ولجّوا في صدهم عن سبيل اللّه وقطع الطريق علي الآمنين، ولأجل دفع شرّهم وفسادهم بعث رسول اللّه (ص) بعوثاً وسرايا:

منها: سرية عيينة بن حصن الفزاري إلي بني تميم، وذلك في المحرم من هذه السنة في خمسين فارساً ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم في صحراء، وقد سرحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولّوا فأخذ منهم أحد عشر رجلاً وعشرين امرأة وثلاثين صبياً، فساقهم إلي المدينة، فنزلوا في دار رملة بنت الحارث.

فقدم فيهم عدة من رؤسائهم: عطارد بن حاجب، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، ورياح بن الحارث، فلما رأوا نساءهم وذراريهم بكوا إليهم.

فعجلوا فجاءوا إلي باب النبي (ص) فنادوه: يا محمد إخرج إلينا لنفاخرك ونشاعرك، فنزل فيهم: (إنّ الّذين ينادونك من وراء الحجرات

أكثرهم لايعقلون)(1) الآية.

فخرج إليهم رسول اللّه (ص) فأقام بلال الصلاة وتعلّقوا برسول اللّه (ص) يكلّمونه فوقف معهم، ثم مضي فصلّي الظهر، ثم جلس في صحن المسجد، فقدّموا عطارد بن حاجب فتكلّم وخطب.

عندها أمر (ص) ثابت بن قيس بن شماس فأجابهم فغلبهم.

فقام بعد ذلك الزبرقان شاعر بني تميم فأنشد مفاخراً فقال:

نحن الكرام فلا حي يعادلنا منا الملوك وفينا تنصب البيع

وكم قسرنا من الأحياء كلهم عند النهاب وفضل العز يُتّبع

ونحن نطعم عند القحط مطعمنا من الشواء إذا لم يؤنس القزع

بما تري الناس تأتينا سراتهم من كل أرض هوياً ثم نصطنع

فننحر الكوم عبطاً في أرومتنا للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا

فلا ترانا إلي حي نفاخرهم إلا استقادوا وكاد الرأس يقتطع

فمن يفاخرنا في ذاك يعرفنا فيرجع القول والأخبار تستمع

إنا أبينا ولم يأب لنا أحد إنّا كذلك عند الفخر نرتفع

وكان حسان غائباً فبعث إليه رسول اللّه (ص).

قال حسان: جاءني رسول رسول اللّه (ص) فأخبرني أنه إنما دعاني لاُجيب شاعر بني تميم، فخرجت إلي رسول اللّه (ص) مسرعاً.

مع شاعر الرسول (ص)

قال شاعر الرسول (ص) حسان بن ثابت: فلما انتهيت إلي رسول اللّه (ص) وقام شاعر القوم فقال ما قال، قال لي رسول اللّه (ص): قم يا حسّان فأجب الرجل، فقمت وقلت:

ان الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنّة للناس تتبع

يرضي بها كل من كانت سريرته تقوي الإله وكل الخير يصطنع

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجيةٌ تلك منهم غير محدثة إن الخلائق فاعلم شرها البدع

إن كان في الناس سباقون بعدهم فكل سبق لأدني سبقهم تبع

لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا

لا يبخلون علي جار بفضلهم ولا يمسهم من مطمع طبع

إذا نصبنا لحي لم ندبّ لهم

كما يدبّ إلي الوحشية الذرع

نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها اذا الزعانف من أظفارها خشعوا

لا يفخرون إذا نالوا عدوهم وإن اُصيبوا فلا خور ولا هلع

كأنهم في الوغي والموت مكتنع اُسدٌ بحَلية في أرساغها فدع

خذ منهمُ ما أتوا عفوا إذا غضبوا ولا يكن همك الأمر الذي منعوا

فإن في حربهم فاترك عداوتهم شراً يخاض عليه السم والسلع

أكرم بقوم رسول اللّه شيعتهم إذا تقرّقت الأهواء والشيع

أهدي لهم مدحتي قلب يوازره فيما أحب لسان حائك صنع

فإنهم أفضل الأحياء كلهم ان جد بالناس جد القول أو شمعوا

فلمّا فرغ حسان قال الأقرب بن حابس: إن هذا الرجل لمؤتي، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلي من أصواتنا، ثم أسلموا فأجازهم رسول اللّه (ص) فأحسن جوائزهم وردّ عليهم نساءهم وأبناءهم.

سرية ابن عامر إلي تبالة

وبعث رسول اللّه (ص) قطبة بن عامر في عشرين رجلاً إلي حي من خثعم بناحية تبالة كانوا يستعدّون للإغارة علي المدينة، وأمره أن يشن الغارة عليهم.

فخرجوا علي عشرة أبعرة فاعتقبوها فشنوا الغارة عليهم فاقتتلوا قتالاً شديداً حتي كثر الجرحي في الفريقين، وقتل قطبة بن عامر من قتل وانهزم الباقون، فساقوا النعم والشاء إلي المدينة.

ثم ان القوم اجتمعوا وركبوا في آثارهم، فلما اقتربوا منهم أرسل اللّه سيلاً عظيماً حال بينهم وبين المسلمين فساقوا النعم والشاء وهم ينظرون لا يستطيعون أن يعبروا إليهم.

سرية الضحاك إلي بني كلاب

وفي ربيع الأول سنة تسع من الهجرة النبوية المباركة، بعث رسول اللّه (ص) جيشاً إلي بني كلاب كانوا يريدون الزحف علي المسلمين، وجعل عليهم الضحاك بن سفيان بن عوف ومعهم الأصيد بن سلمة، فلقوهم بالرخوخ، فدعوهم إلي الإسلام، فأبوا، فقاتلوهم فهزموهم، فلحق الأصيد أباه سلمة وسلمة علي فرس له في غدير بالرخ، فدعا أباه إلي الإسلام وأعطاه الأمان، فسبّه وسبَّ دينه.

فلما رأي الأصيد انّ أباه يسبّ دينه ويتعرّض لعقيدته ضرب عرقوب فرس أبيه، ولما وقع الفرس علي عرقوبه ارتكز سلمة علي الرمح في الماء ثم استمسك حتي جاءه أحد المسلمين فقتله.

وبهذا وأمثاله من التضحيات أثبت المسلمون الأوائل تصلبهم في عقيدتهم ومحافظتهم علي دينهم.

سرية علقمة بن محرز المدلجي

وفي ربيع الآخر سنة تسع من الهجرة النبوية المباركة بلغ رسول اللّه (ص) أنّ اُناساً من الحبشة يتعرّضون للمسلمين، ويريدون الفساد في الأرض والصدّ عن سبيل اللّه، فبعث إليهم علقمة بن محرز في ثلاثمائة فانتهي إلي جزيرة، وقد خاض إليهم البحر فهربوا منه، فرجع ومن معه من غير قتال.

سرية علي (ع) إلي طيّ

وفي هذه السنة وهي السنة التاسعة من الهجرة النبوية المباركة، بعث رسول اللّه (ص) علي بن أبي طالب (ع) في مائة وخمسين رجلاً من الأنصار علي مائة بعير وخمسين فرساً ومعه راية سوداء ولواء أبيض إلي الفلس وهو صنم طيء ليهدمه.

فشنوا الغارة علي موضع ذلك الصنم مع الفجر والناس نيام، حتي لا يقع تصادم أو قتال، وإذا وقع كان قليلاً، وكان كذلك، فقد استطاعوا هدم الصنم بلا مقاومة تذكر، سوي قليل ممّن تعرض لهم، فوقعوا في أسرهم، فاستاقوا معهم إلي المدينة ما وقع في أيديهم: من السبي والنعم والشاء، وفي السبي سفانة اُخت عدي بن حاتم، وكان عدي قد هرب إلي الشام، ووجدوا في خزانته ثلاثة أسياف وثلاثة أدراع.

وفي المنتقي: فكان فيما أخذ من خزانته بعد تحطيم فلس سيفان: أحدهما يسمّي مخذماً، والآخر رسوباً، وكان الحارث بن أبي شمر الغسّاني ملك غسّان قد أهداهما إلي فلس، فوهبهما رسول اللّه (ص) لعلي (ع).

واستعمل علي السبي أبا قتادة، وعلي الماشية والرقة عبد اللّه بن عتيك، وقسّم الغنائم في الطريق، وعزل الصفي لرسول اللّه (ص)، ولم يقسّم السبي من آل حاتم حتي قدم بهم المدينة.

عدي يشرح قصته

قال عدي بن حاتم: ما كان رجل من العرب أشد كراهيّة لرسول اللّه (ص) منّي حين سمعت به، وكنت امرءاً شريفاً، وكنت نصرانيّاً أدين بدين النصاري من غير أن اُبدي ذلك لأحد، وكنت أسير في قومي بالمرباع بأن آخذ الربع من أرباحهم، وكنت في نفسي علي دين، وكنت ملكاً في قومي.

فلما سمعت برسول اللّه (ص) كرهته، فقلت لغلام عربي لي وكان راعياً لإبلي: لا أباً لك، أعدَّ لي من إبلي أجمالاً ذللاً سماناً فاحبسها قريباً مني، فإذا سمعت بخيل محمد قد وطئت هذه

البلاد فآذنّي، ففعل.

ثم انه أتاني ذات غداة فقال: يا عدي ما كنتَ صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد.

قال: فقلت: قرّب لي أجمالي، فقرّبها، فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت في نفسي: ألحق بأهل ديني من النصاري بالشام، فسلكت الجوشية وهو جبل قرب أرض نجد، وقد تركت اُختي سفانة بنت حاتم الطائي في قومي.

فلما قدمت الشام أقمت بها، وخالفتني خيل رسول اللّه (ص) فأصابت ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها علي رسول اللّه (ص) في سبايا من طيء، وقد بلغ رسول اللّه (ص) هربي إلي الشام.

سفانة تشرح قصتها

تقول سفانة: أقبلوا بنا إلي المدينة وأودعونا قريباً من المسجد، حتي إذا كان وقت الصلاة جاء رسول اللّه (ص) إلي الصلاة فمرّ بي فتعرضت له وقلت: يا رسول اللّه هلك الوالد وغاب الوافد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة، فمنَّ عليَّ، منَّ اللّه عليك.

فقال (ص): من وافدك؟

قلت: عدي بن حاتم.

قال (ص): الذي فرَّ من رسول اللّه؟

ثم مضي رسول اللّه (ص) وتركني، فلما كان من الغد مرّ بي، فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس وتركني.

حتي إذا كان بعد الغد مرّ بي وقد يئست من إجابته، فأشار إليَّ علي (ع) وكان يمشي خلفه أنْ قومي فكلّميه.

فقمت إليه فقلت: يا رسول اللّه، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليَّ منَّ اللّه عليك.

فقال رسول اللّه (ص): قد فعلت، فلا تعجلي بخروج حتي تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتي يبلغك إلي بلادك، ثم آذنيني.

فأقمت حتي قدم ركب من بلّي أو قضاعة يريدون الشام، وفكّرتُ أن آتي أخي بالشام، فجئت رسول اللّه (ص) فأخبرته بقدوم رهط من قومي لي فيهم

ثقة وبلاغ.

فكساني (ص) وحملني وأعطاني نفقة، وساق معي من النعم والشاء ما شاء اللّه وقال (ص): لو كان أبوك مسلماً لترحّمنا عليه.

عند ذلك سألته أن يمنّ علي من معي من السبي ففعل.

قال عدي: فواللّه اني لقاعد في أهلي إذ أتتني اُختي بالشام.

فقلت: ابنة حاتم؟

قالت: نعم، ثم أخذت في ملامتي، فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها، احتملت أهلك وولدك، وتركت بقيّة والدك عورتك.

فقلت لها: اي اُخيّة لا تقولي إلاّ خيراً، فواللّه ما لي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت.

ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها، وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟

قالت: أري أن تلحق به سريعاً، فائته راغباً أو راهباً، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وفلان فأصاب منه.

بين يدي رسول اللّه (ص)

قال عدي: فأتيت رسول اللّه (ص) في المدينة وهو جالس في المسجد.

فقال لما رآني: من الرجل؟

قلت: عدي بن حاتم، وقد جئت بغير أمان ولا كتاب.

فلما عرّفته نفسي قام (ص) فأخذ بيدي وانطلق بي إلي بيته، وفي الطريق لقيته امرأة عجوز كبيرة السن، ضعيفة الحال، فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلّمه في حاجتها.

فقلت في نفسي: واللّه ما هذا بملك.

ثم أخذ بيدي حتي أتي داره فتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً فقدمها إليّ، فقال (ص): اجلس علي هذه.

فقلت: بل أنت فاجلس عليها.

قال (ص): بل أنت.

فجلست عليها وجلس رسول اللّه (ص) علي الأرض، فلما رأيت ذلك قلت في نفسي: واللّه ما هذا بأمر ملك.

ثم قال (ص): ايه يا عدي بن حاتم، ألم تكن ركوسياً؟ (وهو دين بين الصابئة والنصرانية).

قلت: بلي.

قال (ص): أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟

قلت: بلي.

قال (ص): فإن ذلك لم يحل لك في دينك.

قلت: أجل واللّه. وعرفت في نفسي أنّه نبيّ مرسل يعرف ما يُجهل.

ثم

قال (ص): يا عدي، لعلك إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما تري من حاجتهم، فواللّه ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتي لا يوجد من يأخذه.

ولعلك إنما يمنعك من الدخول فيه ما تري من كثرة عدوّهم وقلّة عددهم، فواللّه ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية علي بعيرها حتي تزور هذا البيت لا تخاف.

ولعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك تري أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم اللّه ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل أن تفتح عليهم.

قال: فأسلمتُ.

فكان عدي يقول بعد ذلك: مضت اثنتان وبقيت الثالثة، وواللّه لتكوننّ. قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية علي بعيرها لا تخاف حتي تحجّ هذا البيت، وواللّه لتكوننّ الثالثة، وليفيضنّ المال حتي لا يوجد من يأخذه.

عدي وقومه يُسلمون

وفي رواية: ان عدي قال: انتهيتُ إلي رسول اللّه (ص) وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية: (اتَّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه والمسيحَ ابن مريم…)(2).

فلما فرغ منها قلت له: إنا لسنا نعبدهم.

فقال (ص): أليس يحرّمون ما أحلّ اللّه فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم اللّه فتستحلّونه؟

فقلت: بلي.

قال (ص): فتلك عبادتهم، ثم قال: ما يضرّك أن يقال: لا إله إلاّ اللّه؟ فهل تعلم من إله سوي اللّه؟

قلت: لا.

ثم تكلّم ساعة. ثم قال: إنما تقرّ أن يقال: اللّه أكبر، وهل تعلم شيئاً أكبر من اللّه؟

قلت: لا.

قال (ص): فإنّ اليهود مغضوب عليهم، والنصاري ضالّون.

قلت: فإنّي حنيف مسلم، فرأيت وجهه منبسطاً فرحاً.

قال: ثم أمر بي فأنزلت عند رجل من الأنصار، وجعلت أغشاه وآتيه طرفي النهار.

قال: فبينا أنا عنده إذ جاء قوم في ثياب من الصوف من هذه الثمار، فصلّي (ص) وقام فحث عليهم ثم قال:

أيها

الناس ارضخوا من الفضل، ولو صاعاً، ولو بنصف صاع، ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة، يقي أحدكم نفسه من جهنّم أو النار، ولو بتمرة، فإن أحدكم لاق اللّه وقائل له ما أقول لكم: ألم أجعل لك مالاً وولداً؟ فيقول: بلي. فيقول: أين ما قدمت لنفسك؟ فينظر قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله ثم لا يجد شيئاً يقي به وجهه جهنّم، ليقِ أحدكم وجهه النار، ولو بشقّ تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيّبة، فإنّي لا أخاف عليكم الفاقة، فإن اللّه ناصركم ومعطيكم حتي تسير الظعينة ما بين يثرب والحيرة أكثر ما تخاف علي مطيتها السرق.

قال: فجعلت أقول في نفسي: فأين لصوص طي؟

وقد حسن إسلام عدي ودعي قومه الذين لم يسلموا إلي الإسلام، فأسلموا.

وقد حسن إسلام عدي ودعي قومه الذين لم يسلموا إلي الإسلام، فأسلموا.

1 الحجرات: 4. 2 التوبة: 31.

غزوة تبوك

و(تبوك) موضع معروف من بلاد البلقاء، ذو قلعة حصينة رفيعة الجدران، عند عين ماء علي منتصف طريق المدينة إلي دمشق.

وتسمّي هذه الغزوة: (الفاضحة) أيضاً، لافتضاح المنافقين فيها.وكذا تسمّي: (غزوة العسرة) أيضاً، لأنهم كانوا قد خرجوا في قلة من الظهر، وشدّة من الحر، وجفاف من الماء، وجدب من البلاد، حتي كان العشرة من المسلمين يخرجون علي بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان يلوك أحدهم التمر حتي يجد طعمها، ثم يعطيها صاحبه فيمصّها، وهكذا، فسمّيت لذلك (غزوة العسرة).

وقيل: انهم كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء.

وكانت في شهر رجب من السنة التاسعة من الهجرة النبوية المباركة، وهي آخر غزوات رسول اللّه (ص).

وسببها: انّ نصاري العرب الذين كانوا يقطنون المناطق الحدودية للشام كانوا قد كتبوا إلي هرقل ملك الروم يطلبون منه أن يبعث

إليهم من يجهّزهم لمحاربة هذا الرجل الذي خرج يدّعي النبوّة، ومن معه من المسلمين.

فبعث إليهم رجلاً من عظمائهم وجهّز معه أربعين ألفاً.

فبلغ ذلك النبي (ص) بسبب الصيافة التي يمترون في الصيف، حيث كانوا يقدمون إلي المدينة من الشام لبيع أمتعتهم، فأشاعوا في المدينة: ان الروم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول اللّه (ص) في عسكر عظيم، وانّ هرقل قد سار في جمعه وجنوده، وجلب معه غسان وجذام وفهراً وعاملة، وقد قدم عساكره البلقاء، ونزل هو حمص.

فأمر اللّه تعالي رسوله (ص) بحرب الروم وغزوهم، وأمر رسول اللّه (ص) أصحابه بالتهيّؤ إلي تبوك، كما وبعث إلي القبائل من العرب وإلي أهل مكة وكانوا كلهم مسلمين في هذا الوقت يستنفرهم.

وحضّ رسول اللّه (ص) من عنده من المسلمين علي الجهاد، وأمر بعسكره فضرب في ثنية الوداع، وأمر أهل الجدة أن يعينوا من لا قوّة به، ومن كان عنده شيء أخرجه، وحملوا وقوّوا وحثوا علي ذلك، وخطب رسول اللّه (ص) عليهم خطبة غرّاء، جاء فيها بعد الحمد للّه والثناء عليه تعالي ما يلي:

من كلمات الرسول (ص)

(أيها الناس انّ أصدق الحديث كتاب اللّه، وأولي القول كلمة التقوي، وخير الملل ملّة إبراهيم، وخير السنن سنّة محمّد، وأشرف الحديث ذكر اللّه، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الاُمور عزائمها، وشرّ الاُمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمي العمي الضلالة بعد الهدي، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدي ما اتّبع، وشرّ العمي عمي القلب، واليد العليا خير من اليد السفلي، وما قلّ وكفي خير مما كثر وألهي، وشرّ المعذرة حين يحضر الموت، وشرّ الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزراً، ومنهم من لا يذكر اللّه إلاّ هجراً، ومن أعظم الخطايا

اللسان الكذوب، وخير الغني غني النفس، وخير الزاد التقوي، ورأس الحكمة مخافة اللّه، وخير ما اُلقي في القلب اليقين، والارتياب من الكفر، والتباعد عمل الجاهلية، والغلول من جمر جهنّم، والسكر جمر النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الآثام، والنساء حبائل إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشرّ المكاسب كسب الربا، وشرّ المآكل أكل مال اليتيم ظلماً، والسعيد من وعظ بغيره، والشقيّ من شقي في بطن اُمّه، وانما يصير أحدكم إلي موضع أربعة أذرع، والأمر إلي آخره، وملاك العمل خواتيمه، وأربي الربا الكذب، وكل ما هو آتٍ قريب، وشنآن المؤمن فسق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية اللّه، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن توكّل علي اللّه كفاه، ومن صبر ظفر، ومن يعفُ يعفُ اللّه عنه، ومن كظم الغيظ يأجره اللّه، ومن يصبر علي الرزيّة يعوّضه اللّه، ومن يتبع السمعة يسمّع اللّه به، ومن يصم يضاعف اللّه له، ومن يعصِ اللّه يعذّبه، اللّهمّ اغفر لي ولاُمّتي، اللّهمّ اغفر لي ولاُمّتي، أستغفر اللّه لي ولكم … ).

قال الراوي: فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذه الخطبة، وقدمت القبائل من العرب ممن استنفرهم، وقعد عنه قوم من المنافقين وغيرهم.

وكان رسول اللّه (ص) قلّ ما يخرج في غزوة إلاّ كنّي عنها، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بيّنها للناس لبعد الشقة وشدّة الزمان وكثرة العدوّ الذي يعمد له، ليتأهّب الناس لذلك أهبته. فأمر الناس بالجهاز وأخبر أنه يريد الروم.

مع الجدّ بن قيس

ثم ان رسول اللّه (ص) قال ذات يوم وهو في جهازه ذلك لرجل من بني سلمة يقال له (الجدّ بن قيس): يا أبا وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزوة؟

فقال: يا رسول اللّه أو تأذن لي أن اُقيم ولا تفتني،

فواللّه لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشي ان رأيت بنات الأصفر أني لا أصبر.

فأعرض عنه رسول اللّه (ص) وأذن له، فأنزل اللّه تعالي علي رسوله في ذلك:

(ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين)(1).

ثم قال الجد بن قيس: أيطمع محمد انّ حرب الروم مثل حرب غيرهم؟! لا يرجع من هؤلاء أحد أبداً.

كما وقال لقومه: لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد، وشكاً في الحق، وإرجافاً بالرسول، فأنزل اللّه سبحانه: (فرح المخلّفون بمقعدهم خلاف رسول اللّه وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه وقالوا لا تنفروا في الحرّ قل نار جهنّم أشدّ حرّاً).

إلي قوله تعالي: (وماتوا وهم فاسقون)(2) ففضح اللّه الجدّ بن قيس وأصحابه.

وقيل: ان رهطاً من المنافقين كان يقول بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الاصفر كقتال العرب بعضهم لبعض؟ واللّه لكأني بكم غداً مقرنين بالحبال، يقولون ذلك إرجافاً بالمؤمنين، فأرسل رسول اللّه (ص) إليهم عمار بن ياسر ينبّأهم بما قالوا، فانطلق إليهم عمار فنبأهم بقولهم، فأتوا رسول اللّه (ص) يعتذرون إليه وانتهوا عن مقالتهم.

هذا وقد نوي ابن اُبي أن يشترك في غزوة تبوك فضرب خيمته في معسكر المسلمين، لكنه عدل عن رأيه ساعة ارتحال المسلمين ورجع هو وأصحابه إلي المدينة وقد أضمر سوءاً، فغضّ عنه رسول اللّه (ص) ولم يعترضه بشيء.

الضعفاء

ثم إنّ رجالاً من المسلمين أتوا رسول اللّه (ص)، وكانوا سبعة نفر.

فكان من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وكان قد شهد بدراً.

ومن بني حارثة: علبة بن زيد.

ومن بني مازن بن النجار: أبو ليلي عبد الرحمن بن كعب.

ومن بني سلمة: عمرو بن غنمة.

ومن بني زريق: سلمة بن صخر.

ومن

بني الغرّ: ناضر بن سارية السلمي.

ومن بني واقف: هرمي بن عمير.

هؤلاء السبعة جاءوا وهم يبكون، فاستحملوا رسول اللّه (ص) وكانوا أهل الحاجة، فقال (ص): لا أجد ما أحملكم عليه.

وقيل: انهم جاءوا وقالوا: يا رسول اللّه ليس بنا قوّة أن نخرج معك، فأنزل اللّه تعالي فيهم: (ليس علي الضعفاء ولا علي المرضي ولا علي الّذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا للّه ورسوله) إلي قوله سبحانه: (تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون)(3).

وقد كان نفر من المسلمين أهل نيات وبصائر تخلفوا عن رسول اللّه (ص) من غير شك ولا ارتياب، ولكنهم قالوا: نلحق برسول اللّه (ص)، منهم: كعب بن مالك أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن اُمية أخو بني واقف، وأبو خيثمة أخو بني سالم، وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم.

الإستخلاف وحديث المنزلة

فلما اجتمع لرسول اللّه (ص) الخيول ارتحل من ثنية الوداع، وذلك بعد أن استخلف علياً (ع) علي المدينة، فإنّ جبرئيل كان قد أتاه وقال له: إنّ العليّ الأعلي يقرؤك السلام ويقول لك: إمّا أن تخرج أنت ويقيم علي، أو تقيم أنت ويخرج علي.

فلمّا خلّفه علي المدينة وأمره بالإقامة فيهم، أرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالاً منه وتشؤماً به، فلما بلغ ذلك عليّاً (ع) أخذ سيفه وسلاحه ثم خرج حتي أتي رسول اللّه (ص) وهو نازل بالجرف.

فقال له رسول اللّه (ص) لما رآه مقبلاً: يا علي ألم اُخلّفك علي المدينة؟

قال (ع): نعم يا رسول اللّه، ولكن زعم المنافقون انك انما خلفتني لأنك استثقلتني وتشأمت بي.

فقال (ص): كذب المنافقون يا علي، ولكنّي خلّفتك لما تركت ورائي، أما يكفيك انك جلدة ما بين

عيني ونور بصري، وكالروح في بدني، فارجع فاخلفني، فإن المدينة لا تصلح إلاّ بي وبك، أفلا ترضي يا علي أن تكون أخي وأنا أخوك، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنه لا نبيّ بعدي، وأنت خليفتي في اُمّتي، وأنت وزيري وأخي في الدنيا والآخرة؟

فرجع علي (ع) إلي المدينة.

مع أبي خيثمة

ثم إنّ أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول اللّه (ص) أياماً إلي أهله في يوم حارّ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائط قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت فيه ماءاً وهيّأت له فيه طعاماً.

فلما دخل قام علي باب العريش فنظر إلي امرأتيه وما صنعتا له فقال: لا واللّه ما هذا بإنصاف، رسول اللّه (ص) في وهج الشمس ولفح الريح قد حمل السلاح يجاهد في سبيل اللّه، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيّأ وامرأتين حسناوين في ماله وعريشه مقيم! لا واللّه ما هذا بالنصف.

ثم قال: واللّه لا أدخل عريش واحدة منكما حتي ألحق برسول اللّه (ص)، فهيّئا لي زاداً، ففعلتا، ثم قدّم ناقته فشدّ عليها رحله، ثم خرج في طلب رسول اللّه (ص) حتي أدركه حين نزل تبوك.

وقد كان أدرك أبو خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول اللّه (ص) فترافقا حتي إذا دنوا من تبوك، قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إنّ لي ذنباً فما عليك أن تتخلّف عني حتي آتي رسول اللّه (ص)، ففعل، حتي إذا دنا من رسول اللّه (ص) وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب علي الطريق.

فقال رسول اللّه (ص): كن أبا خيثمة.

فقالوا: يا رسول اللّه (ص) هو واللّه أبو خيثمة.

فلما أناخ أقبل فسلّم علي رسول اللّه (ص) وأخبره خبره.

فقال له رسول اللّه (ص) خيراً،

ودعا له بخير.ثم التحق الجمحي بهم أيضاً.

من علامات النبوّة

روي: انه نال رسول اللّه (ص) والناس معه لما ساروا يومهم إلي تبوك عطش شديد، كادت تنقطع له أعناق الرجال والخيل عطشاً، فدعا (ص) بركوة فصبّ فيها ماءاً قليلاً من إداوة كانت معه ووضع أصابعه عليها فنبع الماء من تحت أصابعه، فاستقوا وارتووا والعسكر ثلاثون ألف رجل سوي الخيل والإبل.

وروي: انه لما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلي رسول اللّه (ص)، فدعا اللّه لهم بأن يسقيهم، فأرسل اللّه سحابة فأمطرت حتي ارتوي الناس واحتملوا حاجتهم من الماء، فقيل لبعض المنافقين: ويحك هل بعد هذا شيء؟

قال: سحابة مارّة.

حتي إذا كان رسول اللّه (ص) ببعض الطريق ضلّت ناقته القصوي، فخرج أصحابه في طلبها، فقال عمارة بن حزم كالمستهزئ: يخبرنا محمد بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته!

فقال رسول اللّه (ص): إنّ رجلاً قال: يخبرنا محمد بأمر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فاعلموا اني لا أعلم إلا ما علّمني اللّه، وقد دلّني اللّه عليها الآن، وهي في هذا الوادي من شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتي تأتوني بها، فذهبوا فرأوها كما وصف، فأخذوها وجاءوا بها إليه.

مواساة أبي ذر

ثم مضي رسول اللّه (ص) سائراً، فجعل يتخلّف عنه الرجل فيقولون: يا رسول اللّه تخلّف فلان. حتي قيل: يا رسول اللّه تخلّف أبو ذر وأبطأ به بعيره، وقد كان مدة تخلّف أبي ذر عن رسول اللّه (ص) ثلاثة أيام، وذلك ان جمله كان أعجف، وقد وقف عليه في بعض الطريق، فلما أبطأ عليه تركه وأخذ متاعه وثيابه، فحمله علي ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه (ص) ماشياً.

ونزل رسول اللّه (ص) في بعض منازله، فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلي شخص مقبل، فقالوا: يا رسول اللّه

إنّ هذا الرجل يمشي علي الطريق وحده.

فقال رسول اللّه (ص): كن أبا ذر.

فلما تأمّله القوم قالوا: يا رسول اللّه هو واللّه أبوذر.

فقال رسول اللّه (ص): أدركوه بالماء فإنه عطشان.

فأدركوه بالماء، ووافي أبو ذر رسول اللّه (ص) ومعه اداوة فيها ماء، فقال له: يا أباذر معك ماء وعطشت؟

فقال: نعم يا رسول اللّه بأبي أنت واُمّي، انتهيت إلي صخرة عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد، فقلت: لا اُشربه حتي يشربه حبيبي رسول اللّه(ص).

فقال له رسول اللّه (ص): يا أبا ذر رحمك اللّه أنت المطرود عن حرمي بعدي لمحبّتك لأهل بيتي، تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنّة وحدك، يسعد بك قوم من أهل العراق، يتولّون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك، اُولئك رفقائي في جنّة الخلد التي وعد المتّقون.

أبو ذر في الربذة

وتحقّق كل ما قاله رسول اللّه (ص) في حقّ أبي ذر، فقد سيّره عثمان إلي الربذة، فمات فيها ابنه (ذر) غريباً، حيث لم يكن مع أبي ذر بالربذة أحد إلا امرأته وابنه ذر، وابنته ذرّة.

فلما مات ابنه ذر وقف علي قبره وقال: رحمك اللّه ياذر، لقد كنت كريم الخلق، باراً بالوالدين، وما عليّ في موتك من غضاضة، وما بي إلي غير اللّه حاجة، وقد شغلني الإهتمام لك عن الإغتمام بك، ولولا هول المطلع لأحببت أن أكون مكانك، فليت شعري ما قالوا لك وما قلت لهم؟

ثم رفع يده نحو السماء وقال: اللّهمّ انك فرضت لك عليه حقوقاً، وفرضت لي عليه حقوقاً، فإني قد وهبت له ما فرضت لي عليه من حقوقي، فهب له ما فرضت عليه من حقوقك، فإنك أولي بالحق والكرم منّي.

وكانت لأبي ذر غنيمات يعيش هو وعياله منها، فأصابها داء فماتت كلها، فأصاب أباذر وأهله

وابنته الجوع، فماتت أهله.

فقالت ابنته: أصابنا الجوع وبقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئاً، فقال لي أبي: يابنيّة قومي بنا إلي الرمل نطلب القثّ وهو نبت له حبّ، فصرنا إلي الرمل فلم نجد شيئاً، فجمع أبي رملاً ووضع رأسه عليه ورأيت عينه قد انقلبت فبكيت وقلت: ياأبة كيف أصنع بك وأنا وحيدة؟

فقال: يا بنتي لا تخافي فإني إذا متُّ جاءك من أهل العراق من يكفيك أمري، فإنه أخبرني حبيبي رسول اللّه (ص) في غزوة تبوك فقال: (يا أبا ذر تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنّة وحدك، يسعد بك أقوام من أهل العراق، يتولّون غسلك وتجهيزك ودفنك) فإذا أنا متُّ فمدّي الكساء علي وجهي، ثم اقعدي علي طريق العراق، فإذا أقبل ركب فقومي إليهم وقولي: هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه (ص) قد توفّي.

فلما عاين الموت قال: مرحباً بحبيب أتي علي فاقة، لا أفلح من ندم، اللّهمّ خنّقني خناقك، فوحقّك انك لتعلم انّي اُحب لقاءك.

فلما مات مددت الكساء عليه، ثم قعدت علي طريق العراق، فجاء نفر فقلت لهم: يا معشر المسلمين هذا أبوذر صاحب رسول اللّه (ص) قد توفّي.

فنزلوا ومشوا يبكون، فجاءوا فغسّلوه وكفّنوه ودفنوه، وكان فيهم مالك الأشتر، فإنه قال: كفنته في حلّة كانت معي قيمتها أربعة آلاف درهم.

ثم لما دفنوه وقف الأشتر علي قبره وقال: اللّهمّ هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه (ص) عَبَدَك في العابدين، وجاهد فيك المشركين، لم يغيّر ولم يبدّل، لكنه رأي منكراً فغيّره بلسانه وقلبه حتي جفي ونفي وحرم واحتقر، ثم مات وحيداً غريباً، اللّهمّ فاقصم من حرمه، ونفاه من مهاجره وحرم رسولك (ص).

فقال من كان معه: آمين.

وقيل: انه لما نفي عثمان أبا ذر إلي الربذة فأصابه بها قدَره

لم يكن معه بها أحد إلاّ امرأته وغلامه. فأوصاهما أن غسّلاني وكفّناني، ثم ضعاني علي قارعة الطريق، فأول راكب يمرّ بكم فقولوا: هذا أبوذر صاحب رسول اللّه (ص)، فأعينونا علي دفنه.

فلما مات فعلا ذلك به، ثم وضعاه علي قارعة الطريق، وأقبل عبداللّه بن مسعود ومالك الأشتر في رهط من أهل العراق عماراً، فلم يرعهم إلا بالجنازة علي ظهر الطريق، فقام إليهم الغلام فقال: هذا أبوذر صاحب رسول اللّه (ص) فأعينونا علي دفنه، فاستهل عبداللّه يبكي ويقول: صدق رسول اللّه (ص)، تمشي وحدك، وتموت وحدك، ثم نزل هو وأصحابه فواروه، ثم حدثهم عبداللّه بن مسعود حديثه وما قال له رسول اللّه (ص) في مسيره إلي تبوك.

وقود جهنم

ومرّ رسول اللّه (ص) مع من كان معه في طريقه إلي تبوك بجبل يرشح الماء من أعلاه إلي أسفله من غير سيلان، فتعجّب القوم منه وقالوا: ما أعجب رشح هذا الجبل؟

فقال لهم رسول اللّه (ص): انه يبكي، فازداد تعجّبهم وقالوا: والجبل يبكي؟!

قال (ص): نعم، أتحبّون أن تعلموا ذلك؟

قالوا بتلهّف واشتياق: نعم نحبّ ذلك.

فالتفت رسول اللّه (ص) إلي الجبل وقال له وكأنّه يكلّم إنساناً: ممّ بكاؤك أيّها الجبل؟

فأجابه الجبل وقد سمعه الجماعة بلسان فصيح: يا رسول اللّه، مرّ بي عيسي بن مريم وهو يتلو: (ناراً وقودها الناس والحجارة)(4) فأنا أبكي من ذلك اليوم خوفاً أن أكون من تلك الحجارة.

فقال له رسول اللّه (ص): اسكن من بكائك، فإنّك لست منها، إنما تلك الحجارة الكبريت، فسكن الجبل وجفّ ذلك الرشح منه في الوقت حتي لم ير شيء من ذلك الرشح، ومن تلك الرطوبة التي كانت بعد ذلك.

في أرض تبوك

وقدم رسول اللّه (ص) تبوك في شعبان يوم الثلاثاء، وأقام بقية شعبان وأياماً من شهر رمضان المبارك، فكان مدّة إقامته بها قريباً من شهرين، ولما نزل رسول اللّه (ص) ومن معه بتبوك، واختلفت الرسل بينه وبين ملك الروم، طالت في ذلك أياماً حتي نفد الزاد والأكل، فشكوا نفاد زادهم إلي رسول اللّه (ص).

فقال (ص): من كان معه شيء من الدقيق،أو التمر،أو السويق، فليأتني به.

فجاء أحد بكف دقيق، والآخر بكف تمر، والثالث بكف سويق، فبسط رداءه وجعل ذلك عليه ووضع يده الكريمة علي كل واحد منها ثم قال: نادوا في الناس: من أراد الزاد فليأت، فأقبل الناس يأخذون الدقيق، والتمر، والسويق، حتي ملأوا جميع ما كان معهم من الأوعية، وذلك الدقيق والتمر والسويق علي حاله لم ينقص من واحد منها شيء.

مع صاحب أيلة

وأتي رسول اللّه (ص) وهو بتبوك يُحنة بن رؤبة، صاحب أيله، وأيله بالفتح مدينة علي الشريط الحدودي لبلاد الشام فصالحه علي الجزية، وكتب له رسول اللّه (ص) كتاباً بذلك واشترط عليهم قري من مرّ بهم من المسلمين، والكتاب عندهم.

وكذلك كتب لأهل جرباء، وأهل أذرح، وأهل مقنا، كتب لكل منهم كتاباً مستقلاً وصالحهم علي الجزية وهي أيضاً من البلاد الواقعة علي الشريط الحدودي لبلاد الشام.

سرية أبي عبيدة إلي جذام

وبعث رسول اللّه (ص) وهو بتبوك أباعبيدة بن الجراح إلي جمع من جذام، مع واحد منهم يقال له: زنباع بن روح الجذامي، فأصاب منهم طرفاً، وأصاب منهم سبايا، وبذلك قضي علي غائلتهم وأمن المسلمون جانبهم.

سرية سعد إلي بني سليم

كما وبعث رسول اللّه (ص) وهو بتبوك أيضاً سعد بن عبادة إلي ناس من بني سليم وجموع من بلّي، فلما قارب القوم وأحسّوا به ولّوا هاربين وأقلعوا من طغيانهم وتمرّدهم.

سرية خالد إلي الاكيدر

وبعث رسول اللّه (ص) أيضاً وهو بتبوك خالد بن الوليد في أربعمائة وعشرين فارساً، وقيل: انه بعث الزبير وسماك بن خرشة في عشرين من المسلمين، إلي أكيدر بن عبدالملك من كندة، وكان ملكاً عليها، وكان نصرانياً وحاكماً علي منطقة دومة الجندل، ودومة الجندل: حصن وقري بين الشام والمدينة قرب جبل طيء، ودومة هي من قريات من وادي القري، وذكر أنّ عليها حصناً حصيناً يقال له مارد وهو حصن أكيدر الملك.

وأكيدر هذا كان يهدّد رسول اللّه (ص) بأنه سيقصده ويقتل أصحابه ويبيد خضراءهم، وكان المنافقون يهدّدون المسلمين بهم وبسطوهم عليهم.

ولذلك قال خالد: يا رسول اللّه كيف لي به وسط بلاد كلب وأنمار وما هو عليه من العدّة والعدد وأنا في اُناس يسير؟

فقال رسول اللّه (ص): لعلّ اللّه يكفيكه بصيد البقر فتأخذه.

فخرج خالد ومن معه فلما بلغ قريباً من حصنه بمنظر للعين وكانت ليلة مقمرة صائفة وهو علي سطح له في الحصن ومعه امرأتين له يشرب الخمر معهما، إذ أقبلت البقر تنتطح وتحك بقرونها باب الحصن، فأشرفت امرأتاه علي باب الحصن وقالتا لما رأتا البقر تحكّ بقرنها: هل رأيت مثل هذا قط؟

قال: لا واللّه.

قالتا: فمن يترك هذه الليلة؟

قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فاُسرج له وركب معه نفر من أهل بيته ومعه أخوه حسّان، فخرجوا من حصنهم فطلبوها.

الاكيدر في الأسر

فلما خرج الاكيدر ونفر معه يطلبون الصيد، تلقّتهم خيل رسول اللّه (ص)، فاستأسر أكيدر وامتنع حسّان فقاتل فقتل، وهرب من كان معه ودخل الحصن، وأغلقوا الباب دونهم، وكان علي اكيدر قباء مخوَّص بالذهب، فقال: لي إليكم حاجة.

فقالوا: وما هي؟

قال: تأخذون قبائي هذا مع سيفي ومنطقتي وتبعثون بها إليه (ص)، ثم تحملونني إليه في قميصي لئلا يراني في هذا الزيّ،

بل يراني في زيّ التواضع، فلعلّه أن يرحمني.

ففعلوا ذلك، فلما وصل المبعوث بقباء اكيدر إلي رسول اللّه (ص) جعل المسلمون يلمسونه ويتعجّبون منه ويقولون: هذا من حليّ الجنّة.

فقال رسول اللّه (ص): أتعجبون من هذا؟ لمنديل سعد بن معاذ في الجنّة خير من هذا.

قالوا: وذلك خير من هذا؟

قال (ص): لخيط منه في الجنّة أفضل من ملء الأرض إلي السماء مثل هذا الذهب.

ثم بعد أن بعث خالد بقباء اكيدر وسيفه ومنطقته إلي رسول اللّه (ص) أقبل بأكيدر وسار معه أصحابه إلي باب الحصن، حتي إذا وصله سألهم أن يفتحوه له، فأبوا.

فقال له اكيدر: أرسلني أفتح الباب.

فأخذ عليه موثقاً وأرسله، فدخل وفتح الباب حتي دخل خالد وأصحابه، وأعطاه ثمانمائة رأس، وألفي بعير، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، وخمسمائة سيف.

فقبل ذلك منه وأقبل به إلي رسول اللّه (ص) فحقن (ص) دمه وصالحه علي الجزية، وعلي أن يضيّفوا من مرّ بهم من المسلمين ثلاثة أيام، وأن يزوّدوهم إلي المرحلة التي تليها، ثم خلّي سبيله بعد أن كتب له كتاباً بإمارته علي قومه.

عبداللّه ذو البجادين

قال عبداللّه بن مسعود: قمت في جوف ليلة من الليالي ونحن في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول اللّه (ص) وجماعة، وإذا (عبداللّه ذو البجادين) قد مات، وإذا هم قد حفروا له ورسول اللّه (ص) في حفرته.

فلما هيّأه لشقه قال: اللّهمّ إني أمسيت راضياً عنه فارض عنه، وكان يقول عبداللّه بن مسعود: ياليتني كنت صاحب الحفرة.

وانما سمي (ذو البجادين) لأنه كان ينازع إلي الإسلام فيمنعه قومه من ذلك ويضيقون عليه حتي تركوه في بجاد ليس عليه غيره، والبجاد: الكساء الغليظ، فهرب منهم إلي رسول اللّه (ص)، فلما كان قريباً منه شق

بجاده بإثنتين فاتّزر بواحدة واشتمل بالاُخري، ثم أتي رسول اللّه (ص) فقيل له (ذو البجادين).

المفاوضات وفوائدها

ثم انه كانت نتيجة اختلاف الرسل بين رسول اللّه (ص) وبين هرقل ملك الروم، أن بعث هرقل رجلاً من خاصته ومورد ثقته وكان من غسّان فجاء لينظر إلي رسول اللّه (ص) وصفته وعلاماته، وإلي خاتم النبوّة بين كتفيه، وسأل فإذا هو لا يقبل الصدقة، فوعي أشياء من صفات النبي (ص) ثم انصرف إلي هرقل فذكرها له.

فدعا هرقل قومه إلي التصديق به، فأبوا عليه حتي خافهم علي ملكه فتركهم، ولكنه امتنع من قتال النبي (ص)، وكان اللّه قد أخبر نبيّه من قبل بأنه لا يحتاج في هذه الغزوة إلي حرب، ولا يبتلي بقتال عدوّ، وان الاُمور تنقاد له بغير سيف، وانه يرجع منها بامتحان أصحابه واختبارهم.

ولذلك عاد رسول اللّه (ص) من غير قتال، وذلك بعد أن أرعب جانب العدوّ الرومي، وأبرم معاهدات مع البلاد الحدودية للشام وصالحهم علي الجزية، وعلي عدم التعرّض ممّا مهّد الطريق بعدها كما مهدت حرب مؤتة من قبل الطريق لفتح بلاد الشام ودخول الناس في الإسلام.

وقيل: انه شاور رسول اللّه (ص) أصحابه في التقدّم والمسير إليهم، فقال بعضهم: إن كنت أمرت بالمسير فسر.

فقال رسول اللّه (ص): لو أمرت ما استشرتكم فيه.

فقالوا: يا رسول اللّه إن للروم جموعاً كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنوت وأفزعهم دنوّك، لو رجعت هذه السنة حتي تري أو يحدث اللّه لك في ذلك أمراً عظيماً. فانصرف رسول اللّه (ص) إلي المدينة، ولم يلق كيداً.

وكان في الطريق ماء يخرج من وشل يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له: (وادي المشقق)، فقال رسول اللّه (ص): من سبقنا إلي الماء فلا يسقينّ منه

شيئاً حتي نأتيه، فسبقه إليه نفر من المنافقين، فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول اللّه(ص) وقف عليه فلم ير فيه شيئاً.

فقال (ص): من سبقنا إلي هذا؟

فقيل: يا رسول اللّه فلان وفلان.

فقال (ص): ألم أنهكم أن تستقوا منه شيئاً حتي آتيه؟

ثم نزل ووضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء اللّه أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا بما شاء اللّه أن يدعو، فانخرق من الماء وإن له حساً كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه.

فقال رسول اللّه (ص): لئن بقيتم أو بقي منكم لتسمعنّ بهذا الطريق وقد أخصب ما بينه وما خلفه.

المتآمرون علي النبي (ص) وخليفته (ع)

وفي مرجع رسول اللّه (ص) من تبوك، همّ المنافقون الذين كانوا مع رسول اللّه (ص) في تبوك بالغدر به وذلك في ليلة العقبة فعصمه اللّه منهم، كما وهمّ من بقي من مردة المنافقين بالمدينة في مؤامرة مشتركة بقتل علي (ع)، فما قدروا علي مغالبة ربّهم، وقد حملهم علي ذلك حسدهم لرسول اللّه (ص) في علي (ع).

فعن حذيفة قال: كنت آخذاً بخطام ناقة رسول اللّه (ص) أقود به، وعمّار يسوق الناقة، ومرّة أنا أسوق وعمّار يقوده، حتي إذا كنّا بالعقبة، فإذا أنا بسبعة عشر راكباً قد اعترضوه فيها.

قال: فصرخ بهم رسول اللّه (ص) وجعل عليهم لعنة اللّه، فولّوا مدبرين.

فقال لنا رسول اللّه (ص): هل عرفتم القوم؟

قلنا: يا رسول اللّه قد كانوا متلثّمين، ولكن عرفناهم برواحلهم.

قال (ص): هؤلاء المنافقون إلي يوم القيامة، ثم قال (ص): هل تدرون ما أرادوا؟

قلنا: لا.

قال (ص): هذا جبرئيل نزل عليّ يخبرني بأنهم أرادوا أن ينفروا بي في العقبة فيقتلوني بها.

قلنا: يا رسول اللّه ألا تبعث لعشائرهم حتي يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟

قال (ص): لا، أكره أن

تتحدّث العرب أنَّ محمداً قاتل بالقوم حتي إذا أظهره اللّه بهم أقبل عليهم يقتلهم.

ثم قال (ص): اللّهمّ ارمهم بالدبيلة.

قلنا: يا رسول اللّه وما الدبيلة؟

قال (ص): شهاب من نار يقع علي نياط قلب أحدهم فيورده النار وساءت مصيراً.

القرآن يفضح المتآمرين

ثم أخبر رسول اللّه (ص) حذيفة وعماراً بأسمائهم وأعدادهم، فكانوا اثني عشر رجلاً من بني اُمية، وخمسة من غيرهم، وكلهم من قريش، وما همّوا به، وأمرهما أن يكتما عليهم، وكان حذيفة يقال له: صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره.

وفيهم أنزل تعالي: (يحذر المنافقون أن تُنزَّل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إنّ اللّه مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولنّ انما كنا نخوض ونلعب قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون).

إلي قوله تعالي: (وما لهم في الأرض من وليّ ولا نصير)(5).

وذلك ان القرآن مازال ينزل بكلام المنافقين حتي تركوا الكلام واقتصروا بالحواجب يغمزون. فقال بعضهم: ما تأمنون أن تسمّوا في القرآن فتفتضحوا أنتم وأعقابكم؟ هذه عقبة بين أيدينا لو رميناه منها لتقطع، فقعدوا علي العقبة ويقال لها: عقبة ذي فتق، وائتمروا بينهم ليقتلوه.

فقال بعضهم لبعض: إن فطن نقول: انما كنا نخوض ونلعب، وإن لم يفطن لنقتلنّه، فحفظ اللّه رسوله من كيدهم، وأنزل فيهم تلك الآيات.

مع مسجد ضرار

ثم أقبل رسول اللّه (ص) من تبوك، فلمّا نزل بذي أوان وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، جاءه خبر أبي عامر ومسجد الضرار من السماء.

وكان من قصّة أبي عامر الراهب الذي سماه رسول اللّه (ص) بالفاسق لتآمره علي الإسلام والمسلمين وتجسّسه عليهم انه كتب إلي مَن كان في المدينة من المنافقين كتاباً جاء فيه: ابنوا مسجدكم واستعدّوا بما استطعتم من قوّة ومن سلاح، فإني ذاهب إلي قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فاُخرج محمداً وأصحابه من المدينة.

فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا رسول اللّه (ص) فقالوا: إنّا فرغنا من بناء مسجدنا، وقد بنيناه لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، فنحبّ أن تصلّي لنا فيه وتدعو بالبركة.

فقال رسول

اللّه (ص): إني علي جناح سفر، وكان يتجهّز إلي تبوك.

فانصرفوا، حتي إذا قدم رسول اللّه (ص) من تبوك غانماً ظافراً، ونزل بذي أوان، أتوه ثانية وسألوه اتيان مسجدهم، فأنزل اللّه تعالي عليه: (والّذين اتَّخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله من قبل) إلي قوله سبحانه: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطّع قلوبهم واللّه عليم حكيم)(6).

فبعث إليه رسول اللّه (ص) بأمر من اللّه تعالي من يهدمه ويحرقه ويتّخذه كناسة تلقي فيه الجيف، ففعلوا ذلك، وتفرّق عنه أهله، وهم يتوقّعون مجيء أبي عامر، لكنه مات قبل أن يبلغ ملك الروم.

المتطهّرون والثناء عليهم

ولما كان فيما نزل علي رسول اللّه (ص) بشأن مسجد ضرار وذمّه، ومدح مسجد قباء وأهله قوله تعالي: (لمسجد اُسِّس علي التقوي من أوّل يومٍ أحقّ أن تقوم فيه فيه رجال يحبّون أن يتطهَّروا واللّه يحبّ المطّهّرين)(7).

قال رسول اللّه (ص) لأهل قباء: ماذا تفعلون في طهركم، فإنّ اللّه تعالي قد أحسن الثناء عليكم؟

فقالوا: يا رسول اللّه إنا لا نكتفي بالإستنجاء بالأحجار، بل نغسل أثر الغائط ونتطهَّر منه ومن البول بالماء.

فقال رسول اللّه (ص): لقد أنزل اللّه تعالي فيكم: علي رواية (واللّه يحبّ المطّهّرين).

وبهذا وأمثاله من التعليمات السماوية حافظ الإسلام علي اُصول الصحّة، وأساس النظافة ورعاية آدابها بالنسبة إلي الفرد والمجتمع.

أول من يزوره الرسول (ص)

ثم انّ رسول اللّه (ص) قدم المدينة، وكان إذا قدم من سفر استقبل بالحسن والحسين (عليهما السلام) فأخذهما إليه وضمَّهما إلي صدره، وحفّ المسلمون به حتي يدخل أول ما يدخل علي ابنته فاطمة الزهراء (ع) احتفاءاً بها، وتقديراً لها، وإظهاراً لما لها من الفضل عند اللّه تعالي ورسوله (ص)، والمسلمون يقعدون بالباب، فإذا خرج من عندها مشوا معه، فإذا دخل منزله تفرَّقوا عنه وودَّعوه إلي منازلهم.

هذه طابة

وعن أبي حميد الساعدي قال: أقبلنا مع رسول اللّه (ص) من غزوة تبوك، حتي إذا أشرفنا علي المدينة، ألقي بنظرة إليها وقال (ص): هذه طابة، وهذا اُحد، جبل يحبّنا ونحبّه.

وفيه اشارة إلي مدح المدينة وأهلها وإلي بناء أمره علي المحبّة والرحمة لكلّ شيء.

مع الشركاء الغائبين

ثم لما دنا رسول اللّه (ص) من المدينة التفت إلي أصحابه وقال: إنّ بالمدينة لأقواماً ما سرتم من مسير، ولا قطعتم من وادٍ، إلا كانوا معكم فيه.

قالوا: يا رسول اللّه وهم بالمدينة؟

قال (ص): نعم، وهم بالمدينة حبسهم العذر.

وبهذا أشار رسول اللّه (ص) إلي انّ النية الحسنة لمن حبسه العذر الشرعي، لها الأثر الكبير في تقرير مصير الإنسان وانّها تشرك أصحابها في إحسان المحسنين، وتكسبهم من الأجر والثواب ما للمجاهدين عند اللّه من الأجر العظيم.

المتخلّفون عن تبوك

وقد تخلّف عن رسول اللّه (ص) قوم من المنافقين، وقوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق، منهم: كعب بن مالك الشاعر، ومرارة بن الربيع، وهلال بن اُمية الواقفي.

فلما تاب اللّه عليهم قال كعب: ما كنت قط أقوي مني في ذلك الوقت الذي خرج رسول اللّه (ص) إلي تبوك، وما اجتمعت لي راحلتان قطّ إلاّ في ذلك اليوم، فكنت أقول: أخرج غداً، أخرج بعد غد، فإنّي القوي وتوانيت، وبقيت بعد خروج النبي (ص) أياماً أدخل السوق ولا أقضي حاجة، فلقيت هلال بن اُمية، ومرارة بن الربيع، وقد كانا تخلّفا أيضاً، فتوافقنا أن نبكّر إلي السوق، فلم تقض لنا حاجة، فما زلنا نقول: نخرج غداً وبعد غد، حتي بلغنا إقبال رسول اللّه (ص) فندمنا.

فلما وافي رسول اللّه (ص) استقبلناه نهنّيه بالسلامة، فسلّمنا عليه، فلم يردّ علينا السلام، وأعرض عنّا، وسلّمنا علي إخواننا فلم يردّوا علينا السلام، فبلغ ذلك إلي أهلينا فقطعوا كلامهم معنا، وكنا نحضر المسجد فلا يسلّم علينا أحد ولا يكلّمنا.

قصة المتخلفين

وقيل: انّ كعب بن مالك قال: ما تخلّفت عن رسول اللّه (ص) في غزوة غزاها قط، غير أني كنت قد تخلّفت عنه في غزوة بدر، وكان في غزوة بدر لم يُعاقب أحد تخلّف عنها، وذلك أنّ رسول اللّه (ص) إنما خرج يريد عير قريش، فجمع اللّه بينه وبين عدوّه علي غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول اللّه (ص) العقبة، وما أحبّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت غزوة بدر أذكر في الناس منها، وكان من خبري حين تخلّفت عنه في غزوة تبوك اني لم أكن قطّ أقوي ولا أيسر مني حين تخلّفت منه تلك الغزوة، واللّه ما اجتمعت لي راحلتان قط حتي

اجتمعتا في تلك الغزوة، وكان رسول اللّه (ص) قلّ ما يريد غزوة يغزوها إلاّ ورّي بغيرها، حتي كانت تلك الغزوة فغزاها رسول اللّه (ص) في حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً، واستقبل عدواً كثيراً، فجلا للناس أمرهم ليتأهّبوا لذلك أهبته، وأخبرهم بوجهه الذي يريده، والمسلمون مع رسول اللّه (ص) كثير.

قال: وغزا رسول اللّه (ص) تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وجعلت أغدو لأتجهّز معه فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر علي ذلك إن أردت، فلم يزل ذلك يتمادي بي حتي شمر بالناس الجد، وأصبح رسول اللّه (ص) غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً.

فقلت: أتجهّز بعد يوم أو يومين ثم ألحق بهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهّز فرجعت فلم أقض شيئاً، ثم غدوت ورجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادي بي حتي أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت ولم أفعل، وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول اللّه (ص) فطفت فيهم يحزنني أن لا أري إلا رجلاً مغموصاً عليه بالنفاق، أو رجلاً ممن عذره اللّه من الضعفاء، ولم يذكرني رسول اللّه (ص) حتي بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟

فقال رجل من بني سلمة: يا رسول اللّه حبسه برداه ونظره في عطفيه.

فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، واللّه يا رسول اللّه ما علمنا منه إلاّ خيراً، فسكت رسول اللّه (ص).

فلما بلغني أنّ رسول اللّه (ص) توجّه قافلاً حضرني همّي وطفقت أُفكّر كيف اُقدّم عذري لرسول اللّه (ص) وأُوجّه له تخلّفي عنه، فلم أر شيئاً أحسن من الصدق، فأجمعت أن اُصدقه.

قال: وأصبح رسول اللّه (ص) قادماً إلي المدينة، وكان إذا قدم

من سفر جاء إلي المسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاء المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل رسول اللّه (ص) علانيتهم، ووكل سرائرهم إلي اللّه، حتي جئت فسلّمت عليه، فلما سلمت عليه تبسّم تبسّم المغضب ثم قال (ص): تعال، فجئت أمشي حتي جلست بين يديه فقال (ص): ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟

فقلت: بلي يا رسول اللّه ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو اللّه، لا واللّه ما كان لي من عذر، وما كنت قط أقوي ولا أيسر مني حين تخلّفت.

فقال رسول اللّه (ص): أما هذا فقد صدق، فقم حتي يقضي اللّه فيك.

فقمت وسألت رجالاً من بني سلمة: هل لقي هذا معي أحد؟

قالوا: نعم رجلان قالوا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك.

فقلت: من هما؟

قالوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن اُمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدر فيهما اُسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، والتقيت بهما فكنتُ لهما ثالثاً.

هذا وكان قد نهي رسول اللّه (ص) المسلمين عن كلامنا فاجتنبنا الناس وتغيّروا لنا حتي تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف.

توبة المخلّفين الثلاثة

قال كعب: فلما رأينا ما حلّ بنا قلنا: ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلّمنا رسول اللّه (ص) ولا إخواننا، ولا أهلونا؟ فهلمّوا نخرج إلي هذا الجبل فنقيم فيه حتي يتوب اللّه علينا أو نموت.

فخرجوا إلي ذناب جبل بالمدينة، فكانوا يصومون النهار ويحيون الليل، وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه في ناحية ثم يولّون عنهم ولا يكلّمونهم، فبقوا علي هذه الحالة أياماً كثيرة يبكون بالليل والنهار، ويدعون اللّه أن يغفر لهم.

فلما طال عليهم الأمد قال لهم كعب: يا قوم قد

سخط اللّه علينا، ورسوله قد سخط علينا، وإخواننا قد سخطوا علينا، وأهلونا قد سخطوا علينا، فلا يكلّمنا أحد، فلماذا لا يسخط بعضنا علي بعض؟

فتفرَّقوا في الجبل وحلفوا أن لا يكلّم أحد صاحبه حتي يموت أو يتوب اللّه عليه، فبقوا علي هذه الحالة ثلاثة أيام، كل واحد منهم في ناحية من الجبل، لا يري أحد منهم صاحبه ولا يكلّمه.

فلما كان في الليلة الثالثة ورسول اللّه (ص) في بيت اُمّ سلمة، نزلت توبتهم علي رسول اللّه (ص) لما عرف اللّه من صدق نيّاتهم، وأنزل فيهم: (وعلي الثلاثة الّذين خلّفوا حتي إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من اللّه إلاّ إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إِنّ اللّه هو التوّاب الرّحيم)(8).

فأصبح المسلمون يبتدرونهم ويبشّرونهم.

قال كعب: فجئتُ إلي رسول اللّه (ص) وهو في المسجد، وكان إذا سرّ يستبشر كأن وجهه فلقة قمر، فقال لي ووجهه يشرق سروراً: أبشر بخير يومٍ طلع عليك شرفه منذ ولدتك اُمّك.

قال كعب: فقلت له: أمن عند اللّه أم عندك يا رسول اللّه؟

فقال (ص): من عند اللّه. وتصدّق كعب بثلث ماله شكراً للّه علي توبته.

وفي رواية: انهم انطلقوا لما تاب اللّه عليهم فجاءوا بأموالهم إلي رسول اللّه (ص) وقالوا: يا رسول اللّه هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك، فخذها وتصدّق بها عنّا.

فقال (ص): ما اُمرت فيها بأمر، فنزل: (خذ من أموالهم صدقةً)(9) الآيات.

المخلّفون وتوبتهم

وقيل: ان كعب بن مالك قال: لما نهي رسول اللّه (ص) عن كلامنا.. فما كلّمنا أحد حتي تسوّرت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحبّ الناس إليّ، فسلّمت عليه، فواللّه ما ردّ عليّ السلام.

فقلت: يا أبا قتادة اُنشدك باللّه هل تعلمني أحب اللّه ورسوله؟ فسكت، فعدت له

فنشدته، فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: اللّه ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتولّيت حتي تسوّرت الجدار.

قال: فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني علي كعب بن مالك؟

فطفق الناس يشيرون له، حتي إذا جاءني دفع إليَّ كتاباً من ملك غسّان، وكنت كاتباً فقرأته فإذا فيه: (أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك اللّه بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك).

فقلت لما قرأتها: وهذا أيضاً من البلاء، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع فيَّ رجل من أهل الشرك، فتيممت بها التنور فسجرته بها.

حتي إذا مضت أيام وكملت خمسون ليلة آذن رسول اللّه (ص) بتوبة اللّه علينا حين صلّي صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشّرون، فانطلقت إلي رسول اللّه (ص)، فتلقّاني الناس فوجاً فوجاً يهنّئوني بالتوبة ويقولون: ليهنك توبة اللّه عليك.

قال كعب: حتي دخلت المسجد، فإذا رسول اللّه (ص) جالس وحوله الناس، فلما سلمت علي رسول اللّه (ص)، قال رسول اللّه (ص) وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك اُمك.

قال: قلت: أمن عندك يا رسول اللّه أم من عند اللّه؟

قال (ص): لا، بل من عند اللّه، وكان رسول اللّه (ص) إذا سرّ استنار وجهه حتي كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول اللّه إن من توبتي أن أتخلع من مالي صدقة إلي اللّه وإلي رسوله.

قال رسول اللّه (ص): أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك.

قلت: فإني أمسكت سهمي الذي بخيبر، ثم قلت: يا رسول اللّه إنما نجاني اللّه بالصدق، وإن من توبتي أن لا اُحدث

إلا صدقاً ما بقيت، فواللّه ما أعلم أحداً من المسلمين ابتلاه اللّه في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه (ص) أحسن مما ابتلاني، وما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه (ص) إلي يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني اللّه فيما بقي.

1 التوبة: 49. 2 التوبة: 81 84. 3 التوبة: 91 92.

4 التحريم: 6. 5 التوبة: 64 74. 6 التوبة: 107 110.

7 التوبة: 108. 8 التوبة: 118. 9 التوبة: 103.

نزول سورة (براءة)

وفي سنة تسع من الهجرة النبوية المباركة نزلت علي رسول اللّه (ص) سورة براءة واُمر بإبلاغها علي المشركين، فدفعها (ص) إلي أبي بكر لينبذ بها عهد المشركين، فلما سار غير بعيد نزل جبرئيل (ع) علي رسول اللّه (ص) وقال: إن اللّه يقرئك السلام ويقول لك: لا يؤدّي عنك إلا أنت أو رجل منك.

فاستدعي رسول اللّه (ص) عليّاً (ع) وقال له: اركب ناقتي العضباء وألحق أبابكر، فخذ براءة من يده وامض بها إلي مكة وانبذ بها عهد المشركين إليهم.

فركب علي (ع) ناقة رسول اللّه (ص) العضباء وسار حتي لحق بأبي بكر وأخذ منه براءة، فرجع أبو بكر إلي المدينة، فلما دخل علي رسول اللّه (ص) قال: يا رسول اللّه انك أهّلتني لأمر طالت الأعناق إليه، فلما توجّهت له رددتني عنه، مالي أنزل فيّ قرآن؟

فقال له رسول اللّه (ص): ان الأمين جبرئيل هبط إليّ عن اللّه عزّ وجل يقول: بأنه لا يؤدّي عنك إلا أنت أو رجل منك، وعلي (ع) منّي، ولا يؤدّي عني إلا علي (ع).

ثم انّ علياً (ع) سار ببراءة حتي أذّن بها بعرفة والمزدلفة ويوم النحر عند الجمار، وفي أيام التشريق، فكان هو المؤذّن، أذّن بأذان اللّه ورسوله يوم الحجّ الأكبر في المواقف

كلها، وكان ما نادي به: ألا لا يطوف بالبيت بعد هذا العام عريان، ولا يقرب المسجد الحرام بعد هذا العام مشرك، ومن كان له عهد فإلي مدّته، ومن لم يكن له عهد فإلي أربعة أشهر، ويحتج بقوله تعالي: (براءة من اللّه ورسوله إلي الّذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)(1).

ولما دخل مكة اخترط سيفه وقال: واللّه لا يطوف بالبيت عريان إلا ضربته بالسيف، حتي ألبسهم الثياب فطافوا وعليهم الثياب، وكان الطواف بالبيت عرياناً مما قد تعارف في الجاهلية، فاستساغوه مع ما عليه من القبح والهتك لحرم اللّه سبحانه وتعالي، ولذلك نزلت براءة بكل قاطعية ونفّذها علي (ع) بلا تهاون حتي استطاع قلع الناس عنه.

كتاب ملوك حمير إليه (ص)

وعند رجوعه (ص) من تبوك سنة تسع من الهجرة النبوية المباركة قدم عليه كتاب من ملوك حمير، وهم: الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان بن قَيل ذي رعين وهمدان ومعافر مع رسولهم وفيه خبر إسلامهم، وبعث زرعة ذو يزن إلي رسول اللّه (ص) مالك بن مرة الرهاوي بإسلامه ومفارقتهم الشرك وأهله، وقد كان رسول اللّه (ص) في مسيره إلي تبوك يقول: إني بشرت بالكنزين فارس والروم، وأمددت بالملوك ملوك حمير يأكلون في اللّه ويجاهدون في سبيل اللّه، فلما قدم مالك بن مرة بإسلامهم كتب (ص) إليهم:

بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه النبي، إلي الحارث بن عبد كلال، وإلي نعيم بن عبد كلال، وإلي النعمان بن قَيل ذي رعين وهمدان ومعافر، أما بعد: فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلا هو، فإنه قد وقع بنا رسولكم عند منقلبنا من أرض الروم فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم به وخبر ما قلتم وأنبأنا بإسلامكم، وأنّ اللّه

قد هداكم بهداه، إن أصلحتم وأطعتم اللّه ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس اللّه وسهم النبي وصفيه وما كتب علي المؤمنين من الصدقة وبيّن (ص) لهم صدقة الزرع والإبل والبقر والغنم..

ثم قال (ص): فمن زاد فهو خير له، ومن أدّي ذلك وأشهد علي إسلامه وظاهر المؤمنين علي المشركين فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وله ذمة اللّه ورسوله، وانه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنّ له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن كان علي يهوديّته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها وعليه الجزية علي كل حالم ذكر أو اُنثي حرّ أو عبد دينار وافٍ من قيمة المعافر أو عوضه ثياباً، فمن أدّي ذلك إلي رسول اللّه فإنّ له ذمّة اللّه وذمّة رسوله، ومن منعه فإنه عدوّ للّه ولرسوله.

وجاء فيما كتبه (ص) إلي زرعة: أما بعد: فإنّ محمداً النبي أرسل إلي زرعة ذي يزن أن إذا أتاكم رسلي فاُوصيكم بهم خيراً: معاذ بن جبل وعبداللّه بن زيد ومالك بن عبادة وعقبة بن نمر ومالك بن مرة وأصحابهم، وإن جمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم فأبلغوها رسلي، وان أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبنّ إلا راضياً.

وجاء فيما كتبه (ص) إليه أيضاً: أما بعد: فإن محمداً يشهد أن لا إله إلا اللّه وأنه عبده ورسوله. ثم ان مالك بن مرة الرهاوي قد حدثني أنك قد أسلمت من أول حمير وقتلت المشركين، فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيراً، ولا تخونوا ولا تخاذلوا، فإنّ رسول اللّه هو مولي غنيّكم وفقيركم، وإن الصدقة لا تحلّ لمحمد ولا لأهل بيته، انما هي زكاة يزكي بها علي الفقراء والمساكين وابن السبيل، وإنّ مالكاً

قد بلغ الخبر وحفظ الغيب وآمركم به خيراً، وإني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي، وأولي دينهم وأولي عملهم، وآمركم بهم خيراً فإنه منظور إليهم، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

سرية خالد إلي نجران

ثم انه لما فتح رسول اللّه (ص) مكة وانقادت له العرب، وأرسل رسله إلي الاُمم، وكاتب كسري وقيصر يدعوهما إلي الإسلام، أكبر شأنه نصاري نجران وخلطاؤهم علي اختلافهم في دين النصرانية، من المارونية، والنسطورية، والملكائية، وغيرها، وامتلأت قلوبهم علي تفاوت منازلهم رهبةً ورعباً، وانهم كذلك إذ وردت عليهم رسل رسول اللّه (ص) بكتابه يدعوهم إلي الإسلام، فازداد القوم لذلك قلقاً واضطراباً واجتمعوا في أعظم كنائسهم للمشورة.

فقام رؤساء القوم وكبارهم ومن كانوا يرون سيادتهم علي الناس في بقاء نصرانيتهم، فأشاروا عليهم بعدم الإستجابة وعدم الرضوخ والجزية، والإستمداد من الروم والإستعداد للحرب والزحف علي المدينة.

وقام آخرون من ذوي العقل والإنصاف، وأشاروا عليهم بدراسة ما أوحي اللّه عزّوجل إلي المسيح من نعت محمد رسول اللّه (ص) وصفته وملك اُمته وذكر ذرّيته وأهل بيته (عليهم السلام).

وحضر نفر من أصحاب رسول اللّه (ص) شورهم بطلب من بعض رؤسائهم، فلما قُريء علي القوم ما أوحي اللّه عزّوجل إلي المسيح من نعت محمد رسول اللّه (ص) انحاز القوم إلي رأي ذوي العقل والإنصاف وسألوهم ما يعملون؟

فقالوا لهم: تمسّكوا بدينكم حتي نسير إلي المدينة وننظر ما جاء به وما يدعو إليه، ثم توجّهوا فيما يقرب من مائة شخص إلي المدينة.

وهنا لما أبطأ الأصحاب واستراث رسول اللّه (ص) خبر أصحابه أنفذ إليهم خالد بن الوليد في خيل سرحها معه لمشارفة أمرهم، فألفوهم وهم متوجّهون إلي المدينة، فرجعوا معهم إلي المدينة.

اضطراب نصاري نجران

وقيل: انما تحرك وفد نصاري نجران إلي المدينة لأنّ رسول اللّه (ص) كتب إلي أهل نجران: باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد: فإني أدعوكم إلي عبادة اللّه من عبادة العباد، وأدعوكم إلي ولاية اللّه من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد

آذنتكم بحرب الإسلام.

فلما أتي إلي الاُسقف الكتاب فقرأه قطع به وذعر ذعراً شديداً، فبعث به إلي رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة، وكان من أهل همدان، ولم يكن أحد يدعي إذا نزلت معضلة قبله، لا الأيهم ولا السيد ولا العاقب، فدفع إليه الاُسقف كتاب رسول اللّه (ص) فقرأه.

فقال الاُسقف: يا أبا مريم ما رأيك؟

فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد اللّه إبراهيم في ذريّة اسماعيل من النبوّة، رأيي لو كان من أمر الدنيا أشرت عليك فيه برأي وجهدت لك فيه.

فقال الاُسقف: تنحَ فاجلس، ثم دعا الاُسقف رجلاً آخر منهم، يقال له: عبداللّه بن شرحبيل وهو من ذي أصبح، فقال مثل قول شرحبيل، فبعث إلي آخر، يقال له: جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب، فقال له مثل قول شرحبيل وعبداللّه.

فلما اجتمع الرأي علي تلك المقالة جميعاً أمر الاُسقف بالناقوس فضرب به ورفعت المسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا نزل أمر بالنهار، وإذا فزعهم ليلاً ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمع أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية ومائة ألف وعشرون مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول اللّه (ص) وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأي أهل الوادي منهم علي أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبداللّه بن شرحبيل وجبار بن قيس الحارثي فيأتونهم بخبر رسول اللّه(ص).

نصاري نجران في المدينة

فلما قدم نصاري نجران المدينة وفدوا علي رسول اللّه (ص) وهم علي قول ستّون راكباً، منهم أربعة وعشرون رجلاً من أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر يؤوّل إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره، واسمه عبدالمسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم

ومجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة ابن علقمة أخو بكر بن وائل اُسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه وموّلوه وخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم.

فلما توجهوا إلي رسول اللّه (ص) من نجران جلس أبو حارثة علي بغلة له متوجّهاً إلي رسول اللّه (ص)، وإلي جنبه أخ له يقال له: كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال له كرز: تعس الأبعد.

فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست.

فقال: ولمَ يا أخي؟

قال: واللّه إنه للنبيّ الاُميّ الذي ينتظرونه.

فقال له كرز: فما يمنعك وأنت تعلم هذا؟

فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا وموّلونا وكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا عنا كل ما تري، فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتي أسلم بعد ذلك.

فحضرت صلاتهم وهم في المسجد، فأقبلوا يضربون بالناقوس وقاموا لصلاتهم.

فقال أصحاب رسول اللّه (ص): يا رسول اللّه هذا في مسجدك؟

فقال (ص): دعوهم.

فلما فرغوا دنوا من رسول اللّه (ص) وقالوا: إلي ما تدعو؟

قال (ص): إلي شهادة أن لا إله إلا اللّه، واني رسول اللّه، وانّ عيسي عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث.

قالوا: فمن أبوه؟

فنزل الوحي علي رسول اللّه (ص) فقال: قل لهم: ما تقولون في آدم؟ أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب، ويحدث وينكح؟ فسألهم رسول اللّه (ص) ذلك.

فقالوا: نعم.

فقال: من أبوه؟

فبهتوا وبقوا ساكتين لا يحيرون جواباً.

فأنزل اللّه تعالي: (إنَّ مثل عيسي عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين فمن حاجَّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع

أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه علي الكاذبين)(2).

المباهلة: الحل الأخير

ولما نزلت هذه الآيات وأمر اللّه فيها رسوله (ص) بأن يباهل نصاري نجران، دعاهم رسول اللّه (ص) إلي أن يباهلوه، وذلك لأنهم قد افحموا في مناظرتهم، ووقفوا علي خطأهم، غير ان تعصبهم لم يسمح لهم بأن يذعنوا للحق الذي عرفوه في قرارة أنفسهم، ولم يبق سوي أن يروا الحق باُم أعينهم، وذلك بالإبتهال إلي اللّه تعالي في أن ينزل عذابه علي المبطل منهما.

ولذلك قال لهم رسول اللّه (ص): باهلوني، فإن كنت صادقاً نزلت اللعنة عليكم، وإن كنت كاذباً نزلت عليّ، وحيث لم ير نصاري نجران لأنفسهم طريقاً غير ذلك، ولم يشهدوا مناصفة كهذه قالوا: أنصفت، ثم تواعدوا للمباهلة.

تزلزل النصاري

ومن الواضح: انه لا يتجرّأ أحد علي أن يدعو أحداً للمباهلة إلاّ وهو علي يقين من حقانيته، ولذلك لما دعي رسول اللّه (ص) نصاري نجران للمباهلة، وتواعدوا لها، اُوجسوا في أنفسهم خيفة.

فلما رجعوا إلي منازلهم قال رؤساؤهم: السيد والعاقب والأهتم: انه لو لم يكن نبياً حقاً لما دعانا إلي المباهلة، ثم جعلوا لذلك علامة وقالوا: إن باهلنا بقومه باهلناه، فإنه ليس بنبيّ، وإن باهلنا بأهل بيته خاصة فلا نباهله، فإنه لا يقدم علي أهل بيته إلا وهو صادق.

تفسير عملي لآية المباهلة

فلما أصبح الصباح من اليوم الرابع والعشرين من شهر ذي الحجّة من السنة التاسعة للهجرة النبوية المباركة خرج نصاري نجران إلي موعدهم، وخرج رسول اللّه (ص) آخذاً بيد علي (ع)، والحسن والحسين (ع) بين يديه، وفاطمة (ع) تتبعه، وهو (ص) يقول: هؤلاء أبناؤنا: الحسن والحسين، وهذه نساؤنا: فاطمة(3) وهذا أنفسنا: علي.

وقد سأل النصاري عنهم وقالوا: من هؤلاء؟

فقيل لهم: هذا ابن عمه ووصيّه وختنه علي بن أبي طالب (ع)، وهذه ابنته فاطمة (ع)، وهذان ابناه الحسن والحسين (ع).

وتقدّم رسول اللّه (ص) بهم فجثا لركبتيه وجعل علياً (ع) بين يديه، وفاطمة بين كتفيه، والحسن (ع) عن يمينه، والحسين (ع) عن يساره وقال (ص): إذا دعوتُ فأمِّنوا، ورفع كفّه إلي السماء وفرَّج بين أصابعه ودعاهم إلي المباهلة.

فلما رأي ذلك اُسقفهم عبدالمسيح بن نونان قال: جثا واللّه محمد كما تجثوا الأنبياء للمباهلة، واني أري وجوهاً لو دعت اللّه سبحانه لاستجاب.

وقال شرحبيل: إن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعنّاه لا يبقي علي وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك.

فقال له صاحباه: فما الرأي؟

فقال: رأيي أن أحكمه، فإني أري رجلاً لا يحكم شططاً أبداً.

فتآمروا فيما بينهم، وقالوا: واللّه إنه لنبيّ، ولئن باهلنا

ليستجيبنّ اللّه له فيهلكنا، ولا ينجينا شيء منه إلا أن نستقيله، فأقبلوا وقالوا لرسول اللّه (ص): نعطيك الرضا فاعفنا عن المباهلة وأقلنا.

وثيقة صلح نجران

فرجع رسول اللّه (ص) ولم يلاعنهم، فصالحهم علي الجزية وأقالهم وكتب لهم هذا الكتاب:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد النبي رسول اللّه (ص) لنجران، إذا كان عليهم حكمه: في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فافضل عليهم وترك ذلك كله علي ألفي حلة، في كل رجب ألف حلة، وكل صفر ألف حلة، وكل حلة أوقية ما زادت علي الخرج أو نقصت عن الأواقي فبحساب، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بحساب، وعلي نجران مثواة رسلي ومنعهم من عشرين فدونه، ولايحبس رسول فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً إذا كان كيد باليمن ذو معذرة، وما هلك مما أعاروا رسولي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمان علي رسولي حتي يؤدّيه إليهم، ولنجران وحِشْيتها جوار اللّه وذمّة النبيّ علي أنفسهم وسكنهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم، وأن لا يغيروا مما كانوا عليه، ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملّتهم، ولا يغير اُسقف من أساقفتهم، ولا راهب من رهبانيتهم، ولا رقة من رقيته، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم دية ولا دم جاهلية ولا يخسرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل فيهم فيسهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل ربا فذمّتي منه بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، وعلي ما في هذه الصحيفة بجوار اللّه وذمّة محمد رسول اللّه حتي يأتي اللّه بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مبتلين بظلم).

ثم قال

لهم رسول اللّه (ص): أما والذي بعثني بالحق لو باهلتكم بمن معي من أهل بيتي ما ترك اللّه علي ظهر الأرض نصرانياً إلا أهلكه، ولأضرم اللّه عليكم الوادي ناراً تأجج، ثم ساقها إلي من وراءكم في أسرع من طرفة العين فحرّقتهم تأجّجاً.

فهبط عليه (ص) جبرئيل وقال له: ان اللّه يقرؤك السلام ويقول لك: وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني، لو باهلت بهؤلاء الذين معك من أهل بيتك أهلَ السماء وأهل الأرض لتساقطت عليهم السماء كسفاً متهافتة، ولتقطّعت الأرضون زبراً سايحة، فلم تستقر عليها بعد ذلك.

عندها رفع رسول اللّه (ص) يديه إلي السماء وعيناه ترمقان إلي علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقال: علي من ظلمكم حقكم وبخسني الأجر الذي افترضه اللّه عليهم فيكم بهلة اللّه تتابع إلي يوم القيامة.

آية المباهلة: وسام من اللّه تعالي

عن علي (ع) قال: خرج رسول اللّه (ص) حين خرج لمباهلة النصاري بي وبفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام).

وعن مجاهد قال: قلت لابن عباس: من الذين أراد رسول اللّه (ص) أن يباهل بهم؟

قال: علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) والأنفس: النبي (ص) وعلي(ع)..

وعن الشعبي قال: قال جابر: (أنفسنا وأنفسكم): رسول اللّه (ص) وعلي(ع)، و(أبناءنا): الحسن والحسين (ع)، و(نساءنا): فاطمة (ع).

وعن سعد بن أبي وقاص انه قال: لما نزل قوله تعالي: (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم)(4) دعا رسول اللّه (ص) علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقال: اللّهمّ هؤلاء أهلي.

وإلي غير ذلك ممّا يدلّ علي انّ آية المباهلة وسام من اللّه تبارك وتعالي منحه وخصّه برسوله (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) دون سائر خلقه.

سرية البجلي

وفي هذه السنة سنة تسع من الهجرة النبوية المباركة بعث رسول اللّه (ص) جرير بن عبداللّه البجلي إلي تخريب (ذي الخلصة) وهو صنم كان لقبائل من العرب.

وبعث (ص) أيضاً إلي ذي الكلاع فأسلم وأسلمت امرأته خزيمة بنت أبرهة بن الصباح، واسم ذي الكلاع سميفع، وقيل: انه كان قد استعلي أمره حتي ادعي الربوبية.

مع عمرو بن معدي كرب

لما عاد رسول اللّه (ص) من تبوك إلي المدينة قدم إليه عمرو بن معدي كرب وهو من بني زبيد، ومن الشعراء الفرسان في الجاهلية: وذلك أوائل السنة العاشرة من الهجرة النبوية المباركة، فقال له رسول اللّه (ص): أسلم يا عمرو يؤمنك اللّه من الفزع الأكبر.

قال: وما الفزع الأكبر فإني لا أفزع؟!

قال (ص): يا عمرو، انه ليس كما تظنّ وتحسب، ان الناس يصاح بهم صيحة واحدة، فلا يبقي ميّت إلا نشر، ولا حيّ إلاّ مات، إلاّ ما شاء اللّه، ثم يصاح بهم صيحة اُخري، فينشر من مات، ويصفّون جميعاً، وتنشقّ السماء وتهدّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّاً، وترمي النار بمثل الجبال شرراً، فلا يبقي ذو روح إلا انخلع قلبه، وذكر ذنبه، وشغل بنفسه، إلا من شاء اللّه، فأين أنت يا عمرو من هذا؟

قال عمرو: ألا إني أسمع أمراً عظيماً، فآمن باللّه ورسوله وآمن معه من قومه ناس ورجعوا إلي قومهم، ثم ان عمرو بن معدي كرب نظر إلي قاتل أبيه فأخذ برقبته ثم جاء به إلي رسول اللّه (ص) وقال: أعنّي علي هذا الفاجر الذي قتل والدي.

فقال له رسول اللّه (ص) بعد أن أمره بإطلاق سراحه: أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية، فاغتاظ عمرو من ذلك وانصرف مرتدّاً، وفي طريقه أغار علي قوم من بني الحارث بن كعب ثم مضي إلي قومه.

سريتان متزامنتان

فلما بلغ ذلك رسول اللّه (ص) استدعي علياً (ع) وأمّره علي المهاجرين وأنفذه إلي بني زبيد، وأرسل خالد بن الوليد في الأعراب وأمره أن يعمد إلي جعفي بطن من مذحج فإذا التقيا فأمير الناس علي (ع).

فسار علي (ع) واستعمل علي مقدّمته خالد بن سعيد بن العاص، واستعمل خالد علي مقدمته أباموسي الأشعري، فأما جعفي فإنها

لما سمعت بالجيش افترقت فرقتين: فرقة ذهبت إلي اليمن، وفرقة انضمّت إلي بني زبيد.

فبلغ ذلك علياً (ع) فكتب إلي خالد بن الوليد: ان قف حيث أدركك رسولي، فلم يقف، فكتب (ع) إلي خالد بن سعيد بن العاص: بأن يتعرّض له حتي يحبسه، وأدركه علي (ع)، ثم سار حتي لقي بني زيد بواد يقال له: كِسر.

فلما رآه بنو زيد قالوا لعمرو: كيف أنت إذا لقيك هذا الغلام القرشي فأخذ منك الاتاوة؟

قال عمرو: سيعلم ان لقيني، فخرج عمرو يطلب مبارزاً.

فنهض إليه علي (ع) وقام خالد بن سعيد وقال: يا أبا الحسن بأبي أنت واُمّي دعني اُبارزه.

فقال له علي (ع): إن كنت تري انّ لي عليك طاعة فقف مكانك، فوقف.

ثم برز (ع) إليه فصاح به صيحة، فانهزم عمرو مولّياً، ولكن ثبت أخوه وابن أخيه فقتلا، وأخذت امرأته ركانة بنت سلامة وسبيت نساء منهم.

ثم انصرف علي (ع) وخلّف علي بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم، ويؤمّن من عاد إليه من هرابهم مسلماً، فرجع عمرو بن معدي كرب واستأذن علي خالد بن سعيد، فأذن له فعاد إلي الإسلام، فكلّمه في امرأته وولده فوهبهم له، وكان لعمرو سيف يسمّيه: الصمصامة، فلما وهب خالد بن سعيد لعمرو امرأته وولده وهب له عمرو الصمصامة.

سريتان إلي اليمن

ثم ان رسول اللّه (ص) بعث خالد بن الوليد في السنة العاشرة من الهجرة النبوية المباركة، وذلك بعد قصة عمرو بن معدي كرب إلي أهل اليمن ليدعوهم إلي الإسلام، وأنفذ معه جماعة من المسلمين فيهم البراء بن عازب.

فلما وصلها أقام علي القوم ستة أشهر يدعوهم إلي الإسلام فلم يجبه أحد.

فدعا رسول اللّه (ص) علياً (ع) وأمره أن يسير إلي اليمن وأن يقفل خالداً ومن معه، وقال له: إن

أراد أحد ممن مع خالد أن يعقب معك فاتركه.

قال البراء بن عازب: فكنت ممن عقب معه، فلما بلغ القوم الخبر تجمعوا له، فصلّي بنا علي بن أبي طالب (ع) الفجر، ثم تقدّم بين أيدينا فحمد اللّه وأثني عليه، ثم قرأ علي القوم كتاب رسول اللّه (ص) إليهم، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك علي (ع) إلي رسول اللّه (ص).

فلما وصله كتاب علي (ع) وقريء عليه استبشر وابتهج وخرّ ساجداً شكراً للّه تعالي، ثم رفع رأسه وجلس وقال: السلام علي همدان، ثم تتابع بعد إسلام همدان أهل اليمن علي قبول الإسلام والدخول فيه.

من تعليمات السماء

قال علي (ع): بعثني رسول اللّه (ص) إلي اليمن وقال لي: يا علي لا تقاتلنّ أحداً حتي تدعوه إلي الإسلام، وأيم اللّه لئن يهدي اللّه علي يديك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت.

قال (ع): فقلت: يا رسول اللّه تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم؟

فضرب رسول اللّه (ص) بيده في صدري وقال: (اللّهمّ اهدِ قلبه، وثبّت لسانه) فوالّذي نفسي بيده ما شككت في قضاء بين اثنين.

ثم أوصاه وقال له: يا علي اُوصيك بالدعاء، فإن معه الإجابة، وبالشكر، فإن معه المزيد، وإياك أن تخفر عهداً وتعين عليه، وأنهاك عن المكر، فإنه لا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله، وأنهاك عن البغي، فإنه من بغي عليه لينصرنّه اللّه.

أذي علي (ع) أذي رسول اللّه (ص)

وروي عن الفريقين، عن عمرو بن شاس الأسلمي انه قال: كنت مع علي ابن أبي طالب (ع) في خيله إلي اليمن، فلحقني من علي (ع) أمر حسبته جفاءاً منه، فوجدت عليه في نفسي، فلما قدمت المدينة اشتكيته عند من لقيته من أصحابي.

فوصل ذلك إلي رسول اللّه (ص) فأقبلت يوماً ورسول اللّه (ص) جالس في المسجد، فنظر إليّ حتي جلست إليه، فقال (ص): يا عمرو بن شاس لقد آذيتني.

فقلت: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، أعوذ باللّه أن أكون قد آذيت رسول اللّه.

فقال (ص): (من آذي علياً فقد آذاني)(5).

سرية اُسامة بن زيد

وكانت هذه آخر سرية بعثها رسول اللّه (ص) في أُخريات أيامه، وسيأتي ذكرها(6).

1 التوبة: 1 2. 2 آل عمران: 59 61.

3 هذا وله (ص) يومئذ عدة نسوة لم يأتِ بإحداهنّ. 4 آل عمران: 61.

5 راجع بحار الأنوار: ج21 ص360 ب34 ح1، وبحار الأنوار: ج39 ص232 ب89 ح1.

6 راجع الفصل الأخير من الكتاب.

عام الرُّسُل والوفود

ولما فتح رسول اللّه (ص) مكة في السنة الثامنة من الهجرة النبوية المباركة، ودانت له قريش، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف، وكذا عاد علي بن أبي طالب(ع) من إعلان البراءة في موسم الحج في السنة التاسعة من الهجرة النبوية المباركة، أقبلت وفود القبائل العربية من شتي أنحاء الجزيرة تتري علي المدينة.

كما وبعث رسول اللّه (ص) رسله إلي الآفاق في السنة العاشرة من الهجرة النبوية المباركة، فكانت الرسل والوفود بين فتح مكة وارتحاله (ص)، كما كانت مراسلاته ومكاتباته مع الملوك والرؤساء بعد صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة النبوية المباركة حتي ارتحاله (ص) أيضاً، وحيث كانت الوفود مستمرة حتي زمن ارتحاله (ص)، لذلك قال (ص) في وصاياه: (أجيزوا الوفد).

وفد هوازن وثقيف

وكان ممن قدم عليه (ص): وفد هوازن، وقد مرّ ذكرهم، ووفد ثقيف، وذلك انه قدم علي رسول اللّه (ص) عروة بن مسعود الثقفي مسلماً، ثم استأذن رسول اللّه (ص) في الرجوع إلي قومه وإنذارهم، فقال (ص): إني أخاف أن يقتلوك.

فقال: إنهم إن وجدوني نائماً ما أيقظوني، إشفاقاً منهم عليَّ.

فأذن له رسول اللّه (ص) فرجع إلي الطائف ودعاهم إلي الإسلام ونصح لهم، فعصوه، وأسمعوه الأذي، حتي إذا طلع الفجر قام في غرفة من داره فأذّن وتشهّد، فرماه رجل بسهم فقتله.

ثم أقبل بعد ذلك وفد ثقيف بضعة عشر رجلاً هم من أشراف ثقيف، فأسلموا وذلك في قصّة مفصّلة مرّ تفصيلها، ثم دعوا قومهم ثقيف إلي الإسلام، فأسلموا.

فلما أسلمت ثقيف، ضربت إلي رسول اللّه (ص) وفود العرب، فدخلوا في دين اللّه أفواجاً، كما قال اللّه سبحانه في سورة النصر:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم إذا جاء نصر اللّه والفتح ورأيتَ الناس يدخلون في دين اللّه أفواجا فسبِّح بحمد ربِّك واستغفره إنَّه

كان توّاباً)(1).

وفد بني تميم

وقدم علي رسول اللّه (ص) وفد بني تميم في جماعة من أشرافهم، منهم: الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعيينة بن حصن الفزاري، وعمرو بن الأهتم، وعلي رأسهم: عطارد بن حاجب بن زرارة، وكان الأقرع وعيينة شهدا مع رسول اللّه (ص) فتح مكة وحنيناً والطائف، فلما قدم وفد تميم دخلا معهم، فأجارهم رسول اللّه (ص) وأحسن جوارهم.

وفد بني عامر

وممّن قدم علي رسول اللّه (ص) وفد بني عامر بن صعصعة، وفيهم: عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس أخو لبيد بن ربيعة الشاعر لاُمه، وكان عامر وأربد يريدان أن يغدرا برسول اللّه (ص)، فقيل: يا رسول اللّه هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك.

فقال رسول اللّه (ص): دعوه، إن يرد اللّه به خيراً يهده.

فأقبل حتي قام عليه فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؟

قال (ص): لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم.

فقال: تجعل الأمر لي بعدك؟

قال (ص): ليس ذلك إليّ، إنما ذلك إلي اللّه يجعله حيث يشاء.

قال: فاجعلني علي الوبر وأنت علي المدر.

قال (ص): لا.

قال: فماذا تجعل لي؟

قال (ص): أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها.

قال: وليس ذلك إليّ اليوم؟

وقيل: انه لما قدموا عليه قال عامر: يا محمد خالّني.

فقال (ص): لا، حتّي تؤمن باللّه وحده، قالها مرّتين.

فلما أبي عليه قال عامر: واللّه لأملأنّها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً.

وكان عامر قد قال لأربد: إذا قدمنا علي الرجل فأنا شاغل عنك وجهه، فإذا رأيتني اُكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف. فدار أربد ليضربه، فاخترط من سيفه شبراً، فحبس اللّه يده، فلم يقدر علي ذلك، فالتفت رسول اللّه (ص) فرأي أربد وما يصنع بسيفه..

فلما ولّي قال رسول اللّه (ص): اللّهمّ اكفني عامر بن الطفيل وأربد بن قيس، اللّهمّ اكفنيهما بما

شئت.

فلما خرجوا من عند رسول اللّه (ص) قال عامر لأربد: أين ما أمرتك به؟

قال: ويحك واللّه ما هممت بالذي أمرتني به إلا وحلتَ بيني وبينه، أفأضربك بالسيف؟

فأرسل اللّه علي أربد وجمله صاعقة فأحرقتهما. وقيل: وأنزل اللّه عزّوجل: (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء)(2).

وفي رواية: قال عامر: واللّه لأربطن بكل نخلة فرساً.

فقال رسول اللّه (ص): يمنعك اللّه من ذلك وأبناء قيلة، يعني الأوس والخزرج.

وبعث اللّه علي عامر بن الطفيل في طريقه ذلك الطاعون في عنقه فقتله في بيت امرأة من سلول، وكان رسول اللّه (ص) قد قال في عامر وأربد: اللّهمّ أبدلني بهما فارسي العرب، فقدم عليه زيد بن مهلل الطائي، وهو زيد الخيل الذي سماه رسول اللّه (ص) زيد الخير، وعمرو بن معدي كرب الذي مرّ ذكره.

وفد طي

وقدم وفد طي علي النبي (ص) وفيهم زيد الخيل وهو سيّدهم، وعديّ بن حاتم، فلما انتهوا إليه (ص) كلمهم وعرض عليهم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم، وقال (ص): ما ذكر لي رجل من العرب بفضل، ثم جاءني إلا رأيته دون مايقال فيه، إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه، ثم سماه (زيد الخير).

فلما خرج زيد من عند رسول اللّه (ص) راجعاً إلي المدينة قال رسول اللّه(ص): إن ينج زيد من حمي المدينة، فلما انتهي إلي ماء من مياه نجد يقال له فردة أصابته الحمي فمات بها.

وفد زبيد

وقدم وفد بني زبيد علي رسول اللّه (ص) في المدينة، وفيهم: عمرو بن معدي كرب، وقد مرّت قصته عند ذكر إسلامه فيما سبق.

وقيل: انه قتل في قتال الفرس.

وفد عبدالقيس

وقدم وفد عبدالقيس علي رسول اللّه (ص) وهي قبيلة كبيرة ينسبون إلي عبدالقيس بن أفعمي بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، فقال رسول اللّه(ص): ممن القوم؟

قالوا: من ربيعة.

قال (ص): مرحباً بالوفد غير خزايا ولا ندامي.

فقالوا: يا رسول اللّه إنّ بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نأخذ به من ورائنا وندخل به الجنّة.

فقال (ص): آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان باللّه وحده، أتدرون ما الإيمان باللّه؟ شهادة أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع: الدبّّاء، والحنتم، والنقير، والمزفت وكانت هذه الأربعة ظروفاً خاصة يصنع فيها الخمر، فنهاهم رسول اللّه (ص) عن الخمر وعن الشرب فيها، ثم أوصاهم قائلاً: فاحفظوهنّ وادعوا إليهنّ من ورائكم.

قالوا: يا رسول اللّه ما علمك بالنقير؟

قال (ص): بلي، جذع تنقرونه ثم تلقون فيه من التمر ثم تصبون عليه الماء حتي يغلي، فإذا سكن شربتموه، فعسي أن يضرب ابن عمه بالسيف أي: علي أثر السكر وفي القوم رجل به ضربة لذلك. قال: وكنت أخبئُها حياءً من رسول اللّه (ص).

قالوا: ففيم نشرب الماء يا رسول اللّه؟

قال (ص): اشربوا في أسقية الأدم التي تلاث أي تشد علي أفواهها.

قالوا: يا رسول اللّه إنّ أرضنا كثيرة الجرذان لا تبقي بها أسقية الأدم.

قال (ص): وإن أكلتها الجرذان (مرتين أو ثلاثاً).

ثم قال رسول اللّه (ص) لأشج عبد القيس:

إنّ فيك لخصلتين يحبّهما اللّه: الحلم والأناة.

وفد بني حنيفة

وقدم علي رسول اللّه (ص) وفد بني حنيفة، وفيهم مسيلمة الكذاب الذي ارتدّ وادّعي النبوّة فيما بعد، وكانوا قد خلّفوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا له (ص) مكانه فقالوا: يا رسول اللّه إنا قد خلّفنا صاحباً لنا في رحالنا وركابنا، فأمر له رسول اللّه (ص) بما أمر للقوم، ثم انصرفوا وجاءوه بالذي أعطاه.

فلما قدم مسيلمة اليمامة ارتدّ علي عقبه وتنبّأ وقال: إني اُشركت في الأمر معه، ثم جعل يسجع السجعات فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: (لقد أنعم اللّه علي الحبلي، أخرج منها نسمة تسعي، من بين صفاق وحشي) ووضع عنهم الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا ونحو ذلك، وكان مسيلمة الكذاب هذا صاحب يمامة، كما كان العنسي الكذاب صاحب صنعاء هو الآخر أيضاً الذي ادّعي النبوّة، وكذلك كانت سجاح التي ادّعت النبوّة كذباً، فأخزاهم اللّه جميعاً وأذلّهم.

وقيل: انه كتب مسيلمة لرسول اللّه (ص):

(من مسيلمة رسول اللّه إلي محمد رسول اللّه، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر ولقريش نصف الأمر، وليس قريش قوماً يعدلون).

فقدم عليه رسوله بهذا الكتاب، فكتب إليه رسول اللّه (ص): (بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلي مسيلمة الكذّاب، سلام علي من اتّبع الهدي، أما بعد فإن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتّقين).

وعن ابن عباس قال: لما قدم مسيلمة الكذاب علي رسول اللّه (ص) فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتّبعته، وقدمها في بشر كثير من قومه.

فأقبل النبي (ص) ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد النبي (ص) قطعة من جريد حتي وقف علي مسيلمة في أصحابه فقال: إن سألتني

هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعد أمر اللّه فيك، ولئن أدبرت ليعقرنّك اللّه.

وقيل: انه (ص) قال: وإن أراك الذي رأيت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني، ثم انصرف.

قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول اللّه (ص): وإن أراك الذي رأيت فيه ما رأيت، فأخبرني أن النبي (ص) قال: بينا أنا نائم رأيت رؤيا، فأوحي إليَّ في المنام: أن كذّابين يخرجان من بعدي: أحدهما العنسي صاحب صنعاء، والآخر مسيلمة صاحب اليمامة.

وفد كندة

وقدم وفد كندة علي رسول اللّه (ص) في ثمانين راكباً، وفيهم: الأشعث بن قيس، فدخلوا عليه (ص) مسجده وقد رجّلوا (أي: مشطوا) جممهم وتكحلوا، وعليهم جبات الحبرات مكفوفة بالحرير.

فلما دخلوا قال رسول اللّه (ص): أو لم تسلّموا؟

قالوا: بلي.

قال (ص): فما هذا الحرير في أعناقكم؟ فشقّوه ونزعوه منها، فألقوه.

وفد بني مراد

وقدم فروة بن مسيك المرادي مفارقاً لملوك كندة ومباعداً لها إلي رسول اللّه(ص)، فقال له رسول اللّه (ص): هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم؟ وقد كان بين مراد وهمدان وقعة قبل الإسلام أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا حتي أثخنوهم في يوم كان يقال له يوم الردم.

فقال: من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم ولا يسوؤه ذلك؟

فقال له رسول اللّه (ص): أما إنّ ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيراً، واستعمله علي مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص علي الصدقة، فكان معه في بلاده حتي توفي رسول اللّه (ص).

ولما توجّه فروة بن مسيك إلي رسول اللّه (ص) مفارقاً كندة قال:

لما رأيت ملوك كندة أعرضت كالرِّجل خان الرِّجل عرق نسائها

يمّمت راحلتي أؤم محمدا أرجو فواضلها وحسن ثرائها

وفد الأشعريين

وقدم علي رسول اللّه (ص) الأشعريون من أهل اليمن، وروي ان رسول اللّه (ص) قال قبل قدومهم: سوف يقدم عليكم قوم هم أرق منكم قلوباً، فقدم الأشعريون، فجعلوا يرتجزون ويقولون:

غداً نلقي الأحبّة محمداً وحزبه

وفد أهل اليمن

وقدم علي رسول اللّه (ص) وفد من أهل اليمن فقالوا: يا رسول اللّه جئنا لنتفقّه في الدين، ونسألك عن أول هذا الأمر.

فقال لهم رسول اللّه (ص): كان اللّه ولم يكن شيء غيره وكان عرشه علي الماء، وكتب في الذكر كل شيء.

وفد أزد

وقدم علي رسول اللّه (ص) صرد بن عبداللّه الأزدي فأسلم وحسن إسلامه، فأمّره رسول اللّه (ص) علي من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن.

فخرج يسير بأمر رسول اللّه (ص) حتي نزل بجرش وهي يومئذ مدينة كان يقطن بها بعض قبائل العرب، قال: وقد ضوت اليهم خثعم فدخلوا معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم فحاصروهم قريباً من شهر، وامتنعوا فيها فرجع عنهم قافلاً حتي إذا كان في جبل لهم، ظن أهل جرش انه انما ولي عنهم منهزماً، فخرجوا في طلبه حتي إذا أدركوه، فوقع القتال بينهم.

وقيل: انه قد كان أهل جرش بعثوا إلي رسول اللّه (ص) رجلين منهم يرتادان وينظران، فبينما هما عند رسول اللّه (ص) عشية بعد العصر، إذ قال رسول اللّه (ص): بأي بلاد اللّه شكر؟

فقام الجرشيان فقالا: يا رسول اللّه ببلادنا جبل يقال له كسر، وكذلك يسميه أهل جرش.

فقال (ص): إنه ليس بكسر ولكنه شكر.

قالا: فما شأنه يا رسول اللّه؟

قال (ص): إن بدن اللّه لتنحر عنده الآن.

قال: فجلس الرجلان إلي أحد الصحابة فقال لهما: ويحكما إن رسول اللّه (ص) لينعي لكما قومكما، فقوما فاسألاه أن يدعو اللّه أن يرفع عن قومكما.

فقاما إليه فسألاه ذلك، فقال (ص): اللّهمّ ارفع عنهم.

فخرجا من عند رسول اللّه (ص) راجعين إلي قومهما فوجدا قومهما قد اُصيبوا في اليوم الذي قال فيه رسول اللّه (ص) ما قال،

وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر، فخرج وفد جرش حتي قدموا علي رسول اللّه (ص) فأسلموا، وحمي لهم حمي حول قريتهم.

وفد بجيلة

وقدم علي رسول اللّه (ص) جرير بن عبداللّه البجلّي ومعه مائة وخمسون رجلاً من قومه، فقال رسول اللّه (ص) قبل قدومه: يطلع عليكم من هذا الفج من خير ذي يمن، علي وجهه مسحة ملك، فطلع جرير علي راحلته ومعه قومه، فأسلموا وبايعوا.

وفد بني كعب

وقدم وفد بني الحارث بن كعب علي رسول اللّه (ص) وفيهم: قيس بن الحصين، فسلّموا عليه وقالوا: نشهد أن لا إله إلا اللّه وانّك رسول اللّه.

فقال لهم رسول اللّه (ص): وأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وانّي رسول اللّه، ثم قال لهم: بم كنتم تغلبون من قاتلتم في الجاهلية؟

قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرّق، ولا نبدأ أحداً بظلم.

قال (ص): صدقتم، وأمّر عليهم قيس بن الحصين، فرجعوا إلي قومهم، ثم بعث إليهم رسول اللّه (ص) بعد ذلك عمرو بن حزم الأنصاري ليفقّههم في الدين، ويعلّمهم السنّة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم صدقاتهم.

وفد همدان

وقدم عليه (ص) وفد همدان، وفيهم: مالك بن النمط ومالك بن أيفع وضمام بن مالك، وعمرو بن مالك فلقوا رسول اللّه (ص) وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم العدنية علي الرواحل المهرية، ومالك بن النمط يرتجز بين يدي رسول اللّه (ص) ويقول:

همدان خير سوقة وأقيال ليس لها في العالمين أمثال

محلها الهضب ومنها الأبطال لها اطابات بها وأكال

ويقول الآخر:

إليك جاوزن سواد الريف في هبوات الصيف والخريف

مخطمات بحبال ليف

وذكروا له كلاماً كثيراً حسناً فصيحاً، فكتب لهم رسول اللّه (ص) كتاباً وأمر عليهم مالك بن النمط.

وفد مزينة

وقدم وفد مزينة علي رسول اللّه (ص) وفيهم: النعمان بن مقرن.

قال النعمان: قدمنا علي رسول اللّه (ص) أربعمائة رجل من مزينة، فلما أردنا أن ننصرف قال (ص): (زوّدوا القوم) فزوّدونا بتمر كثير.

وقيل: انه (ص) قال لبعض أصحابه: زوّد القوم.

فقال: ما عندي إلا شيء من تمر، ما أظنه يقع من القوم موقعاً.

قال (ص): إنطلق فزوّدهم.

فانطلق بهم فأدخلهم منزله ثم أصعدهم إلي علية، فلما دخلوا إذا فيه من التمر مثل الجمل الأورق، فأخذ القوم منه حاجتهم.

قال النعمان: وكنت في آخر من خرج، فنظرت وما أفقد موضع تمرة من مكانها.

وفد نجران

وقدم علي رسول اللّه (ص) وفد نصاري نجران وفيهم: السيد والعاقب والأتهم، وآل أمرهم إلي المباهلة فأحجموا عنها وقبلوا الجزية، فكتب لهم رسول اللّه (ص) كتاب صلح، وذلك في قصة مفصّلة مرّ ذكرها في حديث المباهلة.

وفد ملوك حمير

وقدم علي رسول اللّه (ص) وافد ملوك حمير: مالك بن مرة بكتابهم إليه(ص)، وبإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله، فكتب لهم رسول اللّه (ص) كتاباً وأرسله إليهم مع رسولهم مالك بن مرة وأوصاهم به خيراً، وقد سبق تفصيله.

وفد جماعة الأعراب

وقدم علي رسول اللّه (ص) اُهيب بن سمّاع وكان كبير قوم من الأعراب.

قال الراوي: كان رسول اللّه (ص) يوماً جالساً في نفر من أصحابه، وقد صلّي الغداة، إذ أقبل أعرابي علي ناقة له حتي وقف بباب المسجد فأناخها ثم عقلها ودخل المسجد يتخطّي الناس والناس يوسّعون له، وإذا هو رجل مديد القامة، عظيم الهامة، متعجّر بعمامة، فلما مثل بين يدي رسول اللّه (ص) أسفر عن لثامه، ثم همّ أن يتكلّم فارتجّ، ثمّ همّ أن يتكلّم فارتجّ، حتي اعترضه ذلك ثلاث مرات.

فلما رآه رسول اللّه (ص) وقد ركبه الزمع أي: الدهشة لهي عنه بالحديث ليذهب عنه بعض الذي أصابه، وقد كسا اللّه نبيه (ص) جلالة وهيبة، فلما أنس وفرّخ روعه قال له النبي (ص): قل للّه أنت، ما أنت قائل، فأنشد أبياتاً اعتذاراً عما أصابه.

فاستوي رسول اللّه (ص) جالساً وقد كان متكئاً ثم قال له: أنت اُهيب بن سماع؟ ولم يره قطّ قبل ذلك.

فقال: أنا اُهيب بن سماع، الآبي الدفّاع، القوي المنّاع.

قال (ص): أنت الذي ذهب جلّ قومك بالغارات، ولم ينفضوا رؤوسهم من الهفوات، إلا منذ أشهر وسنوات؟

قال: نعم أنا ذاك.

قال (ص): أتذكر الأزمة التي أصابت قومك، احرنجم لها الزيخ، وأخلف نوء المرّيخ، وامتنعت السماء، وانقطعت الأنواء، واحترقت العنمة، وخفّت البرمة، حتي ان الضيف لينزل بقومك وما في الغنم عرق ولا غزر، فترصدون الضب المكنون فتقتنصونه؟ وكأنك قلت في طريقك إليّ: لتسألني عن حلّ ذلك وعن حرمته؟ ألا ولا حرج

علي مضطرّ، ومن كرم الأخلاق برّ الضيف؟

قال: فقال اُهيب: لا واللّه لا أطلب أثراً بعد عين، لكأنّك كنت معي في طريقي وشريكي في أمري، أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأنّك محمداً رسول اللّه، ثم قال: يا رسول اللّه زدني شرحاً وبياناً ازدد بك إيماناً.

فقال له رسول اللّه (ص): أتذكر إذ أتيت صنمك في الظهيرة، فعترت له العتيرة وهي الذبيحة كانت تذبح للأصنام فيصبّ دمها علي رأسها ؟

فقال اُهيب: نعم بأبي أنت واُمّي يا رسول اللّه، ان الحارث بن أبي ضرار جمع لك جموعاً ليدهمك بالمدينة، واستعان بي علي حربك، وكان لي صنم يقال له: واقب، فرقبت خلوته، وقممت ساحته، ثم نفضت التراب عن رأسه، ثم عترت له عتيرة، فإني لأستخبره في أمري، وأستشيره في حربك، إذ سمعت صوتاً قفّ له شعري، واشتدّ منه ذعري، فولّيت عنه وهو يقول:

اُهيب ما لك تجزع لا تنأ عنّي وارجع

واسمع مقالاً ينفع جاءك ما لا يدفع

بني صدق أروع فاقصد إليه واسْرع

تأمن وبال المصرع وهول يوم المطلع

قال اُهيب: فأتيت أهلي ولم اُطلع أحداً علي أمري، فلما كان من الغد أتيته في الظهيرة فرقبت خلوته، وقممت ساحته، وعترت له عتيرة، ثم جسدته بدمها، فبينا أنا كذلك إذ سمعت صوتاً هائلاً، فولّيت عنه هارباً وهو يقول كلاماً في معني كلامه الأول.

قال: فلما كان من غد ركبت ناقتي، ولبست لامتي، وتكبّدت الطريق حتي أتيتك.

عندها قال النبي (ص) لعلي (ع): يا علي خذ بيد اُهيب وعلّمه القرآن، فأقام عندهم حتي حذق شيئاً من القرآن وتعلّم أحكام الإسلام.

1 النصر: 1 3. 2 الرعد: 13.

وفد دوس

وقد قدم وفد دوس قبل عام الوفود، وكان قدومهم بخيبر.

وفد فروة بن عمرو الجذامي

وقدم وافد فروة بن عمرو الجذامي علي رسول اللّه (ص) بإسلام فروة بن عمرو الجذامي وإيصال هديته إليه بغلة بيضاء، وكان فروة عاملاً للروم علي ما يليهم من العرب، وكان منزله (معان) فلما بلغ الروم ذلك طلبوه حتي أخذوه فحبسوه ثم صلبوه وقتلوه.

وفد بني سعد

وقدم وفد بني سعد بن بكر علي رسول اللّه (ص) وفيهم: ضمام بن ثعلبة.

قال الراوي: بينما نحن جلوس مع النبي (ص) في المسجد، إذ دخل جماعة ومعهم رجل علي جمل فأناخه في المسجد، ثم عقله ثم التفت إلينا وقال: أيكم محمد؟ والنبي (ص) متكيء بين ظهرانينا.

فقلنا وقد أشرنا إليه (ص): هذا.

فالتفت الرجل إليه وقال: يابن عبدالمطلب؟

فقال له النبي (ص): قد أجبتك.

قال الرجل: إني سائلك ومشدد عليك في المسألة فلا تجد عليّ في نفسك.

فقال (ص): سل عما بدا لك.

قال: أسألك بربّك وربّ من قبلك، آللّه أرسلك إلي الناس كلهم؟

فقال (ص): اللّهمّ نعم.

فقال: نشدتك باللّه، آللّه أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟

قال (ص): اللّهمّ نعم.

قال: نشدتك باللّه، آللّه أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا وتقسّمها علي فقرائنا؟

قال (ص): اللّهمّ نعم.

فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي مع هذه الجماعة، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.

فأجازهم رسول اللّه (ص) كما يجيز كل وفد وأكرمهم، ثم انصرفوا وانصرف معهم الرجل راجعاً إلي بعيره.

فقال رسول اللّه (ص) حين ولّي: إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنّة، وكان ضمام رجلاً جلداً أشقر ذا غديرتين، ثم أتي بعيره فأطلق عقاله ثم خرج، حتي قدم علي قومه بجماعته فاجتمعوا إليه، وكان أول ما تكلّم به أن قال: بئست اللات والعزّي.

فقالوا: مه يا ضمام.

فقال: ويلكم انهما ما يضرّان ولا ينفعان، وإن اللّه

قد بعث رسولاً وقد أنزل عليه كتاباً استنقذكم مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمداً عبده ورسوله، واني جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه.

قال الراوي: فواللّه ما أمسي في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً.

وفد طارق

وقدم وفد طارق بن عبداللّه وقومه، قال طارق: دخلنا المدينة فدخلنا المسجد، فإذا هو (ص) قائم علي المنبر يخطب، فأدركنا من خطبته وهو يقول: (تصدّقوا فإن الصدقة خير لكم، اليد العليا خير من اليد السفلي، اُمك وأباك، واُختك وأخاك).

وفد نجيب

وقدم وفد نُجيب علي رسول اللّه (ص) وهم من السكون ثلاثة عشر رجلاً قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض اللّه عليهم.

فقال لهم رسول اللّه (ص): ردّوها فاقسموها علي فقرائكم.

فقالوا: يا رسول اللّه ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا، ثم جعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، ورسول اللّه (ص) يجيبهم عما يسألونه.

ثم أمر (ص) بلالاً أن يحسن ضيافتهم، فلما أرادوا أن ينصرفوا أمر (ص) بلالاً فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود.

وقيل: انه (ص) قال: هل بقي منكم أحد؟

قالوا: غلام خلّفناه علي رحالنا.

قال (ص): أرسلوه إلينا.

فجاء الغلام فقال: يا رسول اللّه، إنّ حاجتي ليست كحاجة أصحابي، إني واللّه ما حملني من بلادي إلا أن تسأل اللّه أن يغفر لي ويرحمني ويجعل غناي في قلبي.

قال رسول اللّه (ص): اللّهمّ اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه، ثم أمر (ص) له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلي أهليهم، ووافوا رسول اللّه (ص) في الموسم بمني سنة عشر، فقالوا: نحن بنو أيدي.

فقال (ص): ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟

قالوا: يا رسول اللّه ما رأينا مثله قطّ، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه اللّه، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها.

فقال (ص): الحمد للّه.

قالوا: فعاش ذلك الرجل فينا علي أفضل حال وأزهده في الدنيا وأقنعه بما رزق، فلما توفي رسول اللّه (ص) ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام قام

في قومه، فذكّرهم اللّه والإسلام.

وفد بني سعد

وقدم وفد بني سعد هذيم بن قضاعة، وهم من أهل اليمن.

وفد بني فزارة

وقدم علي رسول اللّه (ص) وفد بني فزارة بضعة عشر رجلاً، فيهم: خارجة بن حصن، والحر بن قيس بن أخي عيينة بن حصن وهو أصغرهم، فنزلوا في دار بنت الحارث، وجاءوا رسول اللّه (ص) مقرّين بالإسلام، وهم مسنتون علي ركاب عجاف، فسألهم رسول اللّه (ص) عن بلادهم.

فقال أحدهم: يا رسول اللّه اسنتت بلادنا، وهلكت مواشينا، وجدبت جناننا، وغرث عيالنا، فادع لنا ربّك يغيثنا، وتشفع لنا إلي ربّك.

فصعد رسول اللّه (ص) المنبر ودعي لهم فكان مما حفظ من دعائه: (اللّهمّ اسق عبادك وانشر رحمتك وأحي بلادك، اللّهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً مريحاً مريعاً طبقاً واسعاً عاجلاً غير آجل، نافعاً غير ضارّ، اللّهمّ سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا غرق، ولا محق، اللّهمّ اسقنا الغيث وانصرنا علي الأعداء).

فرجعوا وقد استجيب فيهم دعاء رسول اللّه (ص).

وفد بني أسد

وقدم علي رسول اللّه (ص) وفد بني أسد، وفيهم: وابصة بن معبد وطليحة بن خويلد، ورسول اللّه (ص) في المسجد مع أصحابه، فتكلّموا وقالوا: يا رسول اللّه إنا شهدنا أن لا إله إلا اللّه وأنّك رسوله وجئناك ولم تبعث إلينا بعثاً، فأنزل اللّه علي رواية: (يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليَّ إسلامكم)(1) الآية.

وكان مما سألوا رسول اللّه (ص) عنه: العيافة والكهانة وضرب الحصي، فنهاهم عن ذلك كلّه.

وفد بهراء

وقدم وفد بهراء من اليمن علي رسول اللّه (ص) وكانوا ثلاثة عشر رجلاً، ونزلوا علي المقداد بن عمرو وأقاموا أياماً وتعلموا الفرائض، ثم ودّعوا رسول اللّه(ص) لينصرفوا إلي بلادهم، وعند توديعهم له (ص) أمر لهم بالجوائز وانصرفوا إلي بلادهم.

وفد عذرة

وقدم وفد عذرة، وكانوا اثني عشر رجلاً، منهم حمزة بن النعمان، فقال رسول اللّه (ص): من القوم؟

فقال متكلّمهم: ممن لا تنكر، نحن بنو عذرة إخوة قصي لاُمه، نحن الذين عضدوا قصياً وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، ولنا قرابات وأرحام.

فقال رسول اللّه (ص): مرحباً بكم وأهلاً، فأسلموا، وبشّرهم رسول اللّه(ص) بفتح الشام وهروب هرقل إلي ممتنع من بلاده، ونهاهم عن سؤال الكاهنة وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها، وأخبرهم أن ليس عليهم إلا الأضحية، ثم انصرفوا إلي بلادهم وقد اُجيزوا.

وفد بلّي

وقدم وفد بَليّ علي رسول اللّه (ص) فنزلوا علي رويفع بن ثابت البلوي، فقال رسول اللّه (ص): الحمد للّه الذي هداكم إلي الإسلام، ثم ودَّعوا رسول اللّه (ص) بعد أن أجازهم.

وقال (ص) له أبو الضبيب شيخ الوفد: يا رسول اللّه إنّي رجل فيّ رغبة من الضيافة، فهل لي في ذلك أجر؟

قال (ص): نعم، وكل معروف صنعته إلي غنيّ أو فقير فهو صدقة.

قال: يا رسول اللّه كم وقت الضيافة؟

قال (ص): ثلاثة أيام، ما كان بعد ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف أن يقيم عندك حتي يحرجك.

وفد ذي مرة

وقدم علي رسول اللّه (ص) وفد ذي مرة، وكانوا ثلاثة عشر، ورئيسهم الحارث بن عرف.

فقال رسول اللّه (ص): كيف البلاد؟

فقالوا: واللّه إنا لمسنتون، فادع اللّه لنا.

فقال (ص): اللّهمّ اسقهم الغيث، ثم أقاموا أياماً ورجعوا بالجائزة، ووجدوا بلادهم قد اُمطرت في ذلك اليوم الذي دعا لهم فيه رسول اللّه (ص).

وفد خولان

وقدم علي رسول اللّه (ص) وفد خولان وكانوا عشرة مسلمين، فقال(ص): ما فعل صنم خولان الذي كانوا يعبدونه؟

قالوا: أبدلنا اللّه ما جئت به، إلا أن عجوزاً وشيخاً كبيراً يتمسّكان به، وإن قدمنا عليه هدمناه إن شاء اللّه، ثم علمهم فرائض الدين، وأمرهم بالوفاء بالعهد والأمانة وحسن الجوار، وأن لا يظلموا، ثم أجازهم، ورجعوا إلي قومهم وهدموا الصنم.

وفد محارب

وكان ممّن قدم علي رسول اللّه (ص) وفد محارب، وهم عشرة نفر، فيهم سواء بن الحارث وابنه خزيمة وأسلموا، وقيل انه لم يكن أحد أفظّ ولا أغلظ علي رسول اللّه (ص) منهم، وكان في الوفد رجل منهم يعرفه رسول اللّه (ص) فقال وهو يعلن عن إسلامه: الحمد للّه الذي أبقاني حتي صدقت بك.

فقال له رسول اللّه (ص): إنّ هذه القلوب بيد اللّه، ومسح وجه خزيمة فصارت له غرة بيضاء، وأجازهم كما يجيز كل وفد، وانصرفوا.

وفد صداء

وقدم وفد صداء علي رسول اللّه (ص) فأسلموا، وهم خمسة عشر رجلاً، فبايعوه علي الإسلام ورجعوا إلي قومهم، ففشي فيهم الإسلام، فوافي رسول اللّه(ص) منهم مائة رجل في حجّة الوداع.

وفد غسان

وقدم وفد غسان علي رسول اللّه (ص) وكانوا ثلاثة نفر، فأسلموا وأجازهم رسول اللّه (ص) فانصرفوا راجعين، وقالوا: لا ندري أيتبعنا قومنا أم لا؟ فلما قدموا علي قومهم دعوهم إلي الإسلام، فلم يستجيبوا لهم.

وفد سلامان

وقدم وفد سلامان علي رسول اللّه (ص) وهم سبعة نفر، وقيل: هم ستّة عشر نفراً، وعلي رأسهم حبيب السلاماني فأسلموا، وشكوا إليه (ص) جدب بلادهم فدعا لهم، ثم ودعوه وأمر (ص) لهم بالجوائز، فرجعوا إلي بلادهم فوجدوها قد أمطرت في تلك الساعة من ذلك اليوم الذي دعا لهم فيه رسول اللّه(ص) بالمطر.

وفد عبس

وقدم مع رسول اللّه (ص) وفد عبس، فقالوا: يا رسول اللّه قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواشٍ، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا.

فقال (ص): اتّقوا اللّه حيث كنتم فلن يلتكم من أعمالكم شيئاً.

وفد بني سليم

وقدم علي رسول اللّه (ص) وفد بني سليم، وفيهم: العباس بن مرداس، فأسلموا وحسن إسلامهم وأمر لهم رسول اللّه (ص) بالجائزة.

وفد عامر

وقدم وفد عامر علي رسول اللّه (ص)، وكانوا عشرة، فأقروا بالإسلام، وكتب (ص) لهم كتاباً فيه شرائع الإسلام، وأمر اُبيَّ بن كعب فعلّمهم قرآناً وأجازهم (ص) وانصرفوا.

وفد الأزد

وقدم وفد الأزد علي رسول اللّه (ص) وفيهم: سويد بن الحارث، قال: وفدت سابع سبعة من قومي علي رسول اللّه (ص)، فلما دخلنا عليه وكلمناه وأعجبه ما رأي من صمتنا وزيّنا فقال (ص): من أنتم؟

قلنا: قوم من أزد مؤمنون.

فتبسّم رسول اللّه (ص) وقال: لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانكم؟

قلنا: خمس عشرة خصلة: خمساً أمَرَتْنا رسلك أن نؤمن بها، وخمساً أمرتَنا أن نعمل بها، وخمساً تخلّقنا بها في الجاهلية فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئاً.

فقال رسول اللّه (ص): ما الخمس التي أمرَتْكم رسلي أن تؤمنوا بها؟

قلنا: أن نؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت.

قال (ص): وما الخمس التي أمَرْتُكم أن تعملوا بها؟

قلنا: أن نقول لا إله إلا اللّه، ونقيم الصلاة، ونؤدّي الزكاة، ونصوم شهر رمضان، ونحجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً.

قال (ص): وما الخمس التي تخلّقتم بها في الجاهلية؟

قالوا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضا بمر القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء.

فقال (ص): حكماء علماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء، ثم قال(ص): وأنا أزيدكم خمساً فتتم لكم عشرون خصلة: إن كنتم كما تقولون فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غداً زائلون، واتّقوا اللّه الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا في ما عليه تقدمون وفيه تخلدون.

فانصرف القوم من عند رسول اللّه (ص) بعد أن أجازهم، وقد حفظوا وصيّته وعملوا بها.

وفد بني المنتفق

وقدم علي رسول اللّه (ص) وفد بني المنتفق: لقيط بن عامر، فإنه خرج ومعه صاحب له يقال له: نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق.

قال لقيط: فخرجت أنا وصاحبي حتي قدمنا علي رسول اللّه (ص)، فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة،

فقام في الناس خطيباً، فقمت أنا وصاحبي إليه وسألته عما عنده من علم الغيب.

فقال (ص): اختص ربكم بمفاتيح خمس من الغيب.

فقلت: ما هنّ يا رسول اللّه؟

فقال (ص): علم المنية، قد علم متي منية أحدكم ولا تعلمونه، وعلم النطفة متي يكون في الرحم، قد علمه ولا تعلمونه، وعلم ما في غد، قد علم ما أنت صانع ولا تعلمه، وعلم يوم الغيث، وعلم الساعة.

قلت: يا رسول اللّه علمنا مما علّمك اللّه، فانا من قبيل لا يصدِّق تصديقنا أحد من مذحج التي تربو علينا، وخثعم التي توالينا وعشيرتنا.

قال (ص): تلبثون فيها ما لبثتم، ثم يتوفي نبيكم، ثم تبعث الصائحة، فلا تدع علي ظهر الأرض شيئاً إلا مات، وكذلك الملائكة، ثم تحدّث (ص) عن القيامة والآخرة، وعن الثواب والعقاب، وعن الجنّة والنار.

قال: قلت: يا رسول اللّه فبم نجزي من حسناتنا وسيّئاتنا؟

قال (ص): الحسنة بعشر أمثالها، والسيّئة بمثلها، إلا أن يعفو اللّه.

قال: قلت: يا رسول اللّه ما الجنّة وما النار؟

قال (ص): إن النار لها سبعة أبواب، ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً، وإنّ للجنّة ثمانية أبواب، وعرضها كعرض السماوات والأرض، أعدّها اللّه للمتّقين من عباده.

قال: قلت: يا رسول اللّه فعلي مَ نطلع من الجنّة؟

قال (ص): علي أنهار من عسل مصفّي، وأنهار من خمر لذّة للشاربين، ما بها صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه، وأنهار من ماء غير آسن، وفاكهة مما تعلمون، وخير من مثله معه، وأزواج مطهّرة.

فقلت: يا رسول اللّه ما هو أقصي ما نحن بالغون ومنتهون إليه؟

قال (ص): ما لا عين رأت، ولا اُذن سمعت، ولا خطر علي قلب بشر.

فقلت: يا رسول اللّه علي مَ اُبايعك؟

فبسط النبي (ص) يده وقال: علي إقام الصلاة،

وإيتاء الزكاة، وأن لا تشرك باللّه شيئاً.

وفد النخع

وقدم علي رسول اللّه (ص) وفد النخع في مائتي رجل فنزلوا دار الأضياف، ثم جاءوا رسول اللّه (ص) مقرّين بالإسلام ومؤمنين باللّه وحده لا شريك له، فأكرمهم رسول اللّه (ص) وأجازهم كما يجيز غيرهم من الوفود، ثم رجعوا إلي قومهم وبلادهم.

وقيل: انه كان رسول اللّه (ص) قد بعث معاذ بن جبل إلي اليمن قبل ذلك هو وأبا موسي الأشعري، كل واحد منهما علي خلاف (أي: إقليم) ثم قال (ص): يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تخالفا.

وقال (ص) لمعاذ: (إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أنّ اللّه قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ علي فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم ليس بينها وبين اللّه حجاب).

وروي انه (ص) قال لمعاذ: يا معاذ انك تقدم علي قوم أهل كتاب، وانهم سائلوك عن مفاتيح الجنّة، فأخبرهم ان مفاتيح الجنّة (لا إله إلا اللّه) وانها تخرق كل شيء حتي تنتهي إلي اللّه ولا تحجب دونه، من جاء بها يوم القيامة مخلصاً رجحت بكل ذنب.

فقال معاذ: أرأيت ما سُئلت عنه واُختصم الي فيه مما ليس في كتاب اللّه ولم أسمع منك سنة اللّه؟

فقال (ص): تواضع يرفعك اللّه، ولا تقضين إلاّ بعلم، فإن أشكل عليك أمر فسَلْ ولا تستحي، واستشر ثم اجتهد، فإن اللّه إن علم من قلبك الصدق يوفقك، فإن التبس عليك فقف حتي تنتبه أو تكتب إليّ فيه، واحذر الهوي، فإنه قائد الأشقياء، وعليك بالرفق.

سائر الوفود

إلي غير ذلك ممن وفد المدينة وتشرّف باللقاء مع رسول اللّه (ص) حتي ان بعض

أهل السير والتاريخ ذكر مواصفات أكثر من سبعين وفداً قدموا المدينة من مختلف مناطق الحجاز ومن اليمن واليمامة والبحرين وما إلي ذلك.

قيل: انه كان رسول الله (ص) إذا قدم الوفد لبس أحسن ثيابه وأمر أصحابه بذلك.

1 الحجرات: 17.

فريضة الحج والولاية

وتسمي: حجة الإسلام، وحجّة البلاغ، وحجة الكمال، وحجة التمام، وذلك انه لما دخل علي رسول اللّه (ص) شهر ذي القعدة من السنة العاشرة من الهجرة النبوية المباركة نزل عليه جبرئيل وقال له: يا محمد ان اللّه عزّوجلّ يقرؤك السلام ويقول لك: إني لم أقبض نبياً من أنبيائي ولا رسولاً من رسلي إلا بعد إكمال ديني وتأكيد حجّتي، وقد بقي عليك من ذاك فريضتان مما تحتاج أن تبلّغهما قومك: فريضة الحج، وفريضة الولاية والخلافة من بعدك، فإني لم أخلُ أرضي من حُجّة، ولن اُخليها أبداً، فإن اللّه جلّ ثناؤه يأمرك أن تبلّغ قومك الحج وتحج ويحج معك من استطاع إليه سبيلاً من أهل الحضر والأطراف والأعراب، وتعلّمهم من معالم حجّهم مثل ما علّمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم، وتوقفهم من ذلك علي مثال الذي أوقفتهم عليه من جميع ما بلّغتهم من الشرائع.

فنادي منادي رسول اللّه (ص) في الناس: ألا إن رسول اللّه (ص) يريد الحج وان يعلّمكم من ذلك مثل الذي علّمكم من شرائع دينكم، ويوقفكم من ذلك علي ما أوقفكم عليه من غيره.

ثم تجهّز رسول اللّه (ص) للحج، وأمر الناس بالجهاز له، فتجهّزوا لذلك، وقد حضر المدينة من ضواحيها ومن جوانبها خلق كثير، فأجمع رسول اللّه (ص) عندها علي الخروج، فخرج مغتسلاً متدهّناً مترجّلاً متجرّداً في ثوبين صحاريين: إزار ورداء، وأخرج (ص) معه نساءه كلهنّ في الهوادج، كما وأخرج معه أهل بيته (فاطمة عليها السلام) وسار معه عامة

المهاجرين والأنصار، ومن شاء اللّه من قبائل العرب وأفناء الناس.

أقول: كنت قد كتبت فيما سبق كتاباً حول كيفية حجه (ص)، ننقله هنا:

هكذا حج رسول اللّه (ص)

وذلك كما ورد في صحاح الروايات:

وقد وفّقني اللّه أن أنشره في هذه الكراسة، بإضافة بعض التوضيحات بين قوسين هكذا () كما ألحقنا به صورة إجمالية عن (حجّ التمتّع) وعن (محرمات الإحرام) وذلك علي ما استفيد من (السنّة المطهّرة) واللّه المستعان.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

روي الكليني وشيخ الطائفة (رحمهما اللّه) بسندهما عن الإمام الصادق(ع): انّ رسول اللّه (ص) أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج.

ثم أنزل اللّه تعالي عليه: (وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلي كل ضامر يأتين من كلّ فجٍّ عميقٍ)(1).

فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلي أصواتهم: أنّ رسول اللّه (ص) يحج في عامه هذا.

فعلم به من حضر المدينة، وأهل العوالي والأعراب، فاجتمعوا لحج رسول اللّه (ص).

وانما كانوا تابعين، ينظرون ما يؤمرون به فيتبعونه، أو يصنع شيئاً فيصنعونه.

العمرة وأعمالها

فخرج رسول اللّه (ص) في أربع بقين من ذي القعدة فلما انتهي إلي ذي الحُليفة، فزالت الشمس..

1 اغتسل (وفي حديث آخر: لبس لباس الإحرام).

ثم خرج حتي أتي المسجد الذي عند الشجرة، فصلّي فيه الظهر.

ثم خرج حتي انتهي إلي البيداء (وهي صحراء قريبة من مسجد الشجرة) عند الميل الأول، فصفّ الناس له سماطين.

2 فأحرم، وأهلّ بالحجّ (أي: قال التلبية) وساق مائة بدنة (أي: ناقة) وقيل: ستاً وستّين بدنة، أو أربعاً وستين.

حتي انتهي (ص) إلي مكة، في أربع مضين من ذي الحجّة.

3 فطاف بالبيت سبعة أشواط.

4 ثم صلّي (ص) ركعتين خلف مقام إبراهيم (ع).

ثم عاد إلي الحجر فاستلمه، وقد كان استلمه في أول طوافه.

5 ثم قال: إنّ الصفا والمروة من شعائر اللّه، فبدأ بما بدأ اللّه عزّ وجل به.

وان المسلمين كانوا يظنون: ان السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون. فأنزل اللّه عزّ وجل: (إنّ الصفا والمروة من شعائر اللّه فمن

حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطّوّف بهما)(2).

ثم أتي (ص) الصفا، فصعد عليه، واستقبل الركن اليماني، فحمد اللّه وأثني عليه، ودعا مقدار ما يقرأ سورة البقرة مترسّلاً.

ثم انحدر إلي المروة فوقف عليها، كما وقف علي الصفا.

ثم انحدر وعاد إلي الصفا، فوقف عليها.

ثم انحدر إلي المروة، حتي فرغ من سعيه.

فلما فرغ من سعيه، وهو علي المروة أقبل علي الناس بوجهه، فحمد اللّه تعالي وأثني عليه ثم قال: إن هذا جبرئيل وأومأ بيده إلي خلفه يأمرني أن آمر من لم يسق منكم هدياً:

6 أن يحل (والإحلال بالحلق لبعض الشعر أو التقصير).

ولو استقبلت من أمري ما استدبرت، لصنعت مثل ما أمرتكم، ولكنّي سقت الهدي ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحلّ، حتي يبلغ الهدي محلّه (أي: في مني حيث يذبح الهدي) انّ اللّه عزّ وجل يقول: (ولا تحلقوا رؤوسكم حتّي يبلغ الهدي محلّه)(3).

قال: فقال له رجل من القوم: انخرج حُجّاجاً وشعورنا تقطر؟

فقال له رسول اللّه (ص): أما انك لن تؤمن بهذا أبداً؟ (أي: لن تؤمن بحج التمتّع).

فقال له سراقة بن مالك بن جشعم الكناني: يا رسول اللّه علمنا ديننا، كأننا خلقنا اليوم. فهذا الذي أمرتنا به، ألعامنا هذا أم ولما يستقبل؟ (أي: حج التمتع في هذه السنة أو في كلّ سنة؟).

فقال له رسول اللّه (ص) وقد أنزل اللّه آية التمتّع: (فمن تمتّع بالعمرة إلي الحجّ فما استيسر من الهدي)(4): بل هو للأبد إلي يوم القيامة.

ثم شبك (ص) بين أصابعه وقال: دخلت العمرة في الحج هكذا إلي يوم القيامة (أي: ان الحج صار حج تمتع، حيث ان عمرته وحجه يؤتيان معاً، الأول: العمرة، الثاني: الحج).

قال: وقدم علي (ع) من اليمن، علي رسول اللّه (ص) وهو بمكة.

فوافي الحج، فوجد

فاطمة (ع)، وقد أحلّت، ووجد ريحاً طيّباً، ووجد عليها ثياباً مصبوغة.

فقال (ع): ما هذا يا فاطمة؟ (أي: كيف أحللتم؟).

فقالت (ع): أمرنا بهذا رسول اللّه (ص).

فخرج علي (ع) إلي رسول اللّه (ص) مستفتياً؟ (لأن علياً (ع) كان قد أحرم، وطاف، وصلّي، وسعي.. ثم أراد أن يسأل رسول اللّه (ص)، هلي يبقي في إحرامه، أو يحل؟).

فقال: يا رسول اللّه إني رأيت فاطمة قد أحلّت وعليها ثياب مصبوغة؟

فقال رسول اللّه (ص): اني أمرت الناس بذلك.

فأنت يا علي بما أهللت؟ (أي هل اهللت بالحج، أو بالعمرة؟).

فقال: يا رسول اللّه إهلالاً كإهلال النبي (ص) (أي: اني قصدت أن أحرم كإحرام الرسول (ص)).

فقال له رسول اللّه (ص): قرّ علي إحرامك، وأنت شريكي في هديي.

الحج ومناسكه

قال: ونزل رسول اللّه (ص) هو وأصحابه بمكة، بالبطحاء، ولم ينزل الدور، فلما كان يوم التروية (ثامن ذي الحجّة) عند زوال الشمس.

1 أمر الناس أن يغتسلوا، ويهلّوا بالحج (أي: يقولوا التلبية) وهو قول اللّه عزّوجل الذي أنزله علي نبيّه (ص): (فاتبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً)(5). فخرج النبي (ص) وأصحابه مهلّين بالحج، حتي أتي إلي مني. فصلّي الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر (أي بقوا ليلة التاسع في مني).

ثم غدا والناس معه. وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع (أي: المشعر) ويمنعون الناس أن يفيضوا منها (أي: أن يجعلوا طريقهم إلي عرفات، من المشعر).

فأقبل رسول اللّه (ص) وقريش ترجو أن تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون، فأنزل اللّه عزّ وجل عليه: (ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا اللّه)(6) يعني: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق (عليهم السلام) في إفاضتهم منها، ومن كان بعدهم (أي: كلهم كانوا يفيضون ويذهبون إلي عرفات من غير طريق المشعر).

فلما رأت قريش انّ قبّة رسول اللّه (ص)

قد مضت، كأنه دخل في أنفسهم شيء للذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم.

حتي انتهي (ص) إلي (نمرة) وهي بطن (عرفة) بجبال (الاراك). فضرب (ص) قبته، وضرب الناس أخبيتهم عندها.

2 فلما زالت الشمس (أي: ظهر يوم عرفة، وهو تاسع ذي الحجة). خرج رسول اللّه (ص) ومعه قريش، وقد اغتسل، وقطع التلبية. حتي وقف بالمسجد، فوعظ الناس، وأمرهم ونهاهم، ثم صلّي الظهر والعصر بأذان وإقامتين، ثم مضي إلي الموقف، فوقف به.

فجعل الناس يبتدرون إخفاف ناقته، يقفون إلي جانبها، فنحّاها، ففعلوا مثل ذلك. فقال (ص): أيها الناس ليس موضع إخفاف ناقتي بالموقف، ولكن هذا كله. وأومأ إلي الموقف بيده فتفرّق الناس.

وفعل مثل ذلك بالمزدلفة (أي: أعلمهم ان الموقف: المشعر كله) فوقف الناس بالدعاء حتي وقع القرص (قرص الشمس).

3 ثم أفاض (ص) وأمر الناس بالدعة، حتي انتهي إلي المزدلفة، وهو المشعر الحرام.. فصلّي المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين.

ثم أقام حتّي صلّي فيها الفجر. وعجل ضعفاء بني هاشم بليل، وأمرهم أن لا يرموا الجمرة: جمرة العقبة حتي تطلع الشمس.

4 فلما أضاء النهار أفاض حتي انتهي إلي مني.

5 فرمي جمرة العقبة.

6 وكان الهدي الذي جاء به رسول اللّه (ص) مائة بدنة، وقيل: أربعة وستين أو ستة وستين، فأشرك (ص) علياً (ع) في الهدي.

وقيل: انه جاء علي (ع) بأربعة وثلاثين أو ستة وثلاثين (ولعل علياً (ع) جاء بها من اليمن).

فنحر رسول اللّه (ص) ثلاثاً وستّين، وقيل: ستة وستين، ونحر علي (ع) سبعاً وثلاثين، وقيل: أربعاً وثلاثين بدنة.

وأمر رسول اللّه (ص) أن يؤخذ من كل بدنة منها جذوة (أي: قطعة) من لحم، ثم تطرح في برمة، ثم تطبخ، فأكل رسول اللّه (ص) وعلي (ع) وتحسّيا من مرقها، ولم يعط الجزارين جلودها،

ولا جلالها، ولا قلائدها، وتصدّق به.

7 وحلق (ص).

8 وزار (ص) البيت (أي: طاف للزيارة، وصلّي صلاة الطواف، وسعي، وطاف طواف النساء، وصلّي صلاة الطواف).

9 ورجع (ص) إلي مني، وأقام بها، حتي كان اليوم الثالث من أيام التشريق.

10 ثم رمي (ص) الجمرات (أي: رماهنّ، في كل يوم).

هكذا حج رسول اللّه (ص) كما في الروايات الصحيحة.

حج التمتع

وإليك موجزاً من صورة (حج التمتع)(7):

1 الإحرام، لعمرة التمتع. 2 الطواف لعمرة التمتع. 3 ركعتان للطواف لعمرة التمتع.

4 السعي لعمرة التمتع. 5 التقصير لعمرة التمتع. 6 الإحرام، لحج التمتع.

7 الوقوف بعرفات لحج التمتع. 8 الوقوف بالمشعر لحج التمتع. 9 الإفاضة إلي مني لحج التمتع.

10 الرمي لجمرة العقبة لحج التمتع. 11 النحر، أو الذبح لحج التمتع. 12 الحلق، أو التقصير لحج التمتع.

13 الطواف، لحج التمتع. 14 ركعتان للطواف لحج التمتع. 15 السعي لحج التمتع.

16 طواف النساء لحج التمتع. 17 ركعتان لطواف النساء لحج التمتع.

18 المبيت بمني. 19 رمي الجمرات الثلاث، بمني، كل يوم.

محرمات الإحرام

وإليك محرمات الإحرام:

1 صيد حيوان البر. 2 النساء. 3 عقد النكاح.

4 الإستمناء. 5 استعمال الطيب. 6 لبس المخيط للرجال.

7 الإكتحال. 8 النظر في المرآة. 9 لبس الخف وكل ما يستر ظهر القدم.

10 الفسوق، الكذب، السباب، المفاخرة. 11 الجدال، أي مطلق اليمين، احتياطاً.

12 قتل هوام البدن. 13 التختم للزينة، بل مطلق الزينة. 14 تغطية الرجل رأسه.

15 تغطية المرأة وجهها. 16 التدهين. 17 إزالة الشعر.

18 إخراج الدم. 19 قلع الضرس. 20 تقليم الظفر.

21 التظليل للرجال، حال السير. 22 قطع شجر الحرم. 23 حمل السلاح.

من حوادث حجّة الوداع

وروي انه لما تجهّز رسول اللّه (ص) إلي الحج كتب إلي علي (ع) وقد بعثه في سرية إلي اليمن بأن يخرج ومن معه إلي الحج أيضاً، فلما قارب رسول اللّه(ص) مكة من طريق المدينة، قاربها علي (ع) من طريق اليمن، فتقدّم علي (ع) الجيش للقاء النبي (ص) وخلّف عليهم رجلاً منهم، فأدرك النبي (ص) وقد أشرف علي مكة، فسلّم عليه وعرض عليه أخباره، ثم أخبره بأنه أقبل مع الجيش وتقدم عليهم للقائه، فسرّ رسول اللّه (ص) ذلك وابتهج بلقائه وقال له: بم أهللت يا علي؟

فقال (ع): عقدت نيّتي بنيّتك يا رسول اللّه وقلت لمّا أحرمت: اللّهمّ اهلالاً كإهلال نبيّك.

فقال له رسول اللّه (ص): أنت شريكي في حجّي ومناسكي وهديي وكان رسول اللّه (ص) قد ساق الهدي معه ثم قال له: أقم علي إحرامك، وعد إلي جيشك فعجّل بهم إليّ حتي نجتمع بمكة إن شاء اللّه تعالي.

في موقف عرفات

ولما كان رسول اللّه (ص) في الموقف بعرفات ومعه المسلمون وصلّي بهم الظهر والعصر معاً عند زوال الشمس بلا أن يصلّ بينهما شيئاً، وقيل: لما نزلت سورة: (إذا جاء نصر اللّه والفتح)(8) وذلك في أوسط أيام التشريق وعرف رسول اللّه (ص) انه الوداع.ركب راحلته العضباء فحمد اللّه وأثني عليه ثم قال:

أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه، فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً.

أيها الناس: انّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلي أن تلقوا ربّكم..

أيّها الناس: كل دم كان في الجاهلية فهو هدر، وكل ربا كان في الجاهلية فموضوع.

أيها الناس ان الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرضين، وانّ عدّة الشهور عند اللّه

اثناعشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم: رجب مفرد الذي بين جمادي وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم، فإن النسيء زيادة في الكفر يُضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه وكانوا يحرّمون المحرّم عاماً ويستحلّون صفر، ويحرّمون صفر عاماً ويستحلّون المحرم.

أيها الناس: ان الشيطان قد يئس أن يعبد في بلادكم آخر الأبد، ورضي منكم بمحقّرات الأعمال.

أيها الناس: انكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلّغت، فمن كانت عنده وديعة فليؤدّها إلي من ائتمنه عليها.

أيها الناس: ان النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنّ ضراً ولا نفعاً، أخذتموهنّ بأمانة اللّه واستحللتم فروجهنّ بكلمات اللّه، فلكم عليهنّ حق، ولهنّ عليكم حق، ومن حقكم عليهنّ أن لايوطئنّ فرشكم، ولايعصينّكم في معروف، فإذا فعلن ذلك فلهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، ولا تضربوهنّ.

أيها الناس: اني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا أبداً: أمراً بيّناً كتاب اللّه عزّوجل وعترتي أهل بيتي.

أيها الناس: ألا فليبلّغ شاهدكم غائبكم: انه لا نبيّ بعدي، ولا اُمّة بعدكم، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟

قالوا: نشهد انّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت.

فقال (ص): اللّهمّ اشهد، اللّهمّ اشهد، ثلاث مرات.

عند مسجد الخيف

ثم ان رسول اللّه (ص) لما وقف بمني ومعه المسلمون خطب الناس في مسجد الخيف وهو مسجد مني، سمّي بذلك لأنه واقع في سفح جبل، مرتفعاً عن مجري السيل.

فقال (ص) بعد الحمد والثناء علي اللّه تعالي: (نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها وبّلغها من لم يبلغه، يا أيها الناس ليبلّغ الشاهد الغائب، فربّ حامل فقه ليس بفقيه، وربّ حامل فقه إلي من هو أفقه منه).

ثم قال (ص): (ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئٍ

مسلم: إخلاص العمل للّه، والنصيحة لأئمّة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم، المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يد علي من سواهم، يسعي بذمّتهم أدناهم).

آخر أيام التشريق

ولما كان اليوم الثالث من آخر أيام التشريق رمي رسول اللّه (ص) الجمار ونفر من مني حتي انتهي إلي الأبطح، ثم ارتحل من يومه وخرج من أسفل مكة من ذوي طوي، بعد أن دخل مكة من أعلاها من عقبة المدنيّين، فخرج (ص) متوجهاً نحو المدينة، وذلك بعد أن استتم حجه، وقضي مناسكه، وعرّف الناس ما يحتاجون إليه، وأعلمهم بأنه قد أقام لهم سنّة إبراهيم (ع) وأزال عنهم ما أحدثه المشركون.

الوحي وآخر آية من القرآن

في المناقب عن ابن عباس انه قال: لما نزل قوله تعالي: (إنّك ميّت وإنّهم ميّتون)(9) قال رسول اللّه (ص): ليتني أعلم متي يكون ذلك! هذا وهو (ص) يعلم الغيب بإذنه تعالي ووحيه. فنزلت سورة النصر، فكان بعد نزولها يسكت رسول اللّه (ص) بين التكبير والقراءة ثم يقول: (سبحان اللّه وبحمده، أستغفر اللّه وأتوب إليه).

فقيل له في ذلك، فقال: (اما انّ نفسي نعيت إليَّ) ثم بكي بكاءاً شديداً.

فقيل: يا رسول اللّه أوَتبكي من الموت وقد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟

فقال (ص): فأين هول المطّلع؟ وأين ضيقة القبر، وظلمة اللحد؟ وأين القيامة والأهوال؟(10)

ثم قال: فعاش (ص) بعد نزول هذه السورة عاما(11).

ثم نزلت آيات وآيات حتي إذا لم يبق علي ارتحال رسول اللّه (ص) من هذه الدنيا سوي سبعة أيام نزلت: (واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلي اللّه ثمّ توفّي كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)(12).

فكانت هذه الآية علي بعض الروايات هي آخر آية من القرآن الكريم نزل بها جبرائيل (ع) علي رسول اللّه (ص) وقال له: ضعها في رأس المائتين والثمانين من سورة البقرة(13)، كما انّ أول آية من القرآن كان قد نزل بها جبرئيل(ع) علي رسول اللّه (ص) هي قوله تعالي: (بسم

اللّه الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربّك الّذي خلق)(14) الآيات.

فأول آية من القرآن ابتدأ بأول يوم من البعثة النبوية الشريفة، وآخر آية من آيات القرآن اختتم الأيام الأخيرة لرسول اللّه (ص) وما بينهما من فترة كان نزول ما بين هاتين الآيتين، وتلك الفترة استغرقت مدة ثلاث وعشرين سنة.

مَن جمع القرآن؟

وهنا ما يلفت النظر ويجلب الإنتباه وهو قول جبرئيل للنبي (ص) عند نزوله بالآية الأخيرة كما في الرواية: ضعها في رأس المائتين والثمانين من سورة البقرة، فإنه صريح في انّ اللّه تعالي أمر نبيّه بجمع القرآن وبترتيبه ترتيباً دقيقاً حتي في مثل ترقيم الآيات، وقد فعل النبي (ص) ذلك في حياته (ص) كما أمره اللّه تعالي، ولم يكن (ص) يترك القرآن متفرّقاً حتي يجمع من بعده.

وهل يمكن للرسول (ص) مع كبير اهتمامه وكثير حرصه علي القرآن الكريم أن لا يقوم بجمع القرآن وترتيبه! وأن يتركه مبعثراً في أيدي المسلمين ويوكل جمعه إليهم، مع ان الوحي أخبره بقوله: (انّك ميّت وانّهم ميّتون)(15).

فهل يصح أن يكون (ص) حريصاً علي القرآن من جهة(16) وأن لا يجمع القرآن ويتركه مبعثراً من جهة اُخري؟

بل أليس القرآن هو دستور الإسلام الخالد، ومعجزته الباقية علي مرّ القرون والأعصار إلي يوم القيامة؟ ومعه هل يصح أن يتركه النبي (ص) مبعثراً من دون أن يجمعه؟!

أم كيف يأذن اللّه تعالي لنبيّه بأن لا يقوم بجمعه مع انه تعالي يقول: (إنّ علينا جمعه وقرآنه)(17) ويقول تعالي أيضاً: (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون)(18).

فعلي النبي (ص) إبلاغ القرآن مجموعاً ومرتّباً إلي الناس كافة، كما جمعه اللّه تعالي ورتّبه.

إذن: فهذا القرآن الذي هو بأيدينا علي ترتيبه وجمعه، وترقيم آياته، وترتيب سوره وأجزائه هو بعينه القرآن الذي رتّبه رسول اللّه (ص)

وجمعه للمسلمين في حياته (ص) بأمر من اللّه تعالي لم يطرأ عليه أيّ تغيير وتحريف، أو تبديل وتعديل، أو زيادة ونقصان.

ويؤيّده: ما روي عن تفسير علي بن ابراهيم عن الإمام الصادق (ع) عن رسول اللّه (ص) انه أمر علياً (ع) بجمع القرآن وقال (ص): يا علي، القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة، فانطلق علي (ع) فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه(19).

وفي مجمع البيان نقلاً عن السيّد المرتضي انه قال: إن القرآن جمع في عهد رسول اللّه (ص) بالشكل الذي هو اليوم بأيدينا. وقال بمقالته قبله الشيخ الصدوق (قده) والشيخ المفيد (قده)، وقال بمقالته بعده شيخ الطائفة الشيخ الطوسي (قده) والمفسّر الكبير الشيخ الطبري (قده) المتوفي سنة 548 وباقي علماءنا الأبرار إلي يومنا هذا.

وعن زيد بن ثابت انه قال: كنّا نجمع القطع المتفرّقة من آيات القرآن ونجعلها بأمر رسول اللّه (ص) في مكانها المناسب، ولكن مع ذلك كانت الآيات متفرّقة، فأمر رسول اللّه (ص) علياً (ع) أن يجمعها في مكان واحد، وحذّرنا من تضييعها.

وعن الشعبي انه قال: جمع القرآن في عهد رسول اللّه (ص) من قبل ستّة نفر من الأنصار.

وعن قتادة انه قال: سألت أنساً عن انه من جمع القرآن في عهد رسول اللّه (ص)؟ فقال: أربعة نفر من الأنصار ثم ذكر أسماؤهم.

وعن علي بن رباح: ان علي بن أبي طالب (ع) جمع القرآن هو واُبي بن كعب في عهد رسول اللّه (ص).

الشواهد الاُخري

هذا بالإضافة إلي شواهد ومؤيّدات اُخري تدل علي ان القرآن الذي هو بأيدينا هو نفسه الذي جمع ورتب في عهد رسول اللّه (ص) من غير زيادة ولا نقيصة.

منها: تسمية سورة الحمد بسورة الفاتحة

في عهد رسول اللّه (ص) يعني انها فاتحة القرآن مع انها لم تكن السورة ولا الآيات الاُولي التي نزل بها الوحي علي رسول اللّه (ص)، فتسميتها بفاتحة الكتاب في عهده (ص) يشير إلي ان الكتاب كان مجموعاً بهذا الشكل الموجود بأيدينا اليوم، وسورة الحمد فاتحته كما هو اليوم فاتحته أيضاً.

ومنها: ان النبي (ص) كان يقول في حديث الثقلين المروي عن الفريقين متواتراً: (إنّي مخلّف فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً).

فالكتاب المجموع والمرتب يخلّفه رسول اللّه (ص) في اُمته، لا الآيات المتفرّقة، إذ لا يطلق عليها الكتاب، وقد سبق اللّه تعالي رسوله(ص) في هذا التعبير حيث أطلق مراراً وفي آيات متعدّدة كلمة (الكتاب) علي القرآن، إشارة إلي انه مجموع ومرتّب عنده تعالي في اللّوح المحفوظ كما قال به بعض المفسّرين وانه تعالي أطلع رسوله (ص) علي جمعه وترتيبه لديه وأمره بأن يجمع القرآن علي ما هو مجموع في اللّوح المحفوظ، ويرتّبه وفق ترتيبه، وفعل النبي (ص) ذلك.

ومنها: ما ورد من أمر النبي (ص) بختم القرآن في شهر رمضان وفي غيره من سائر الأيام، وبيان ما لختمه من الفضيلة والثواب، حتي ان عبداللّه بن مسعود، واُبي بن كعب وغيرهما قد ختموا القرآن عند رسول اللّه (ص) عدّة مرات، ولولا ان القرآن مجموع ومرتّب، لم يكن لختم القرآن معني، لأن الختم يقال لما يبدأ من أوله وينتهي بآخره.

ومنها: روايات تأمر بعرض الأحاديث المروية عن الرسول (ص) وعن أهل بيته (عليهم السلام) لمعرفة غثها من سمينها علي القرآن الكريم وتقول: ما وافق كتاب اللّه فقد قاله رسول الله (ص) وقاله أهل البيت (عليهم السلام)، وما خالف الكتاب فهو زخرف وباطل،

وانهم لم يقولوه، فقد أحالتنا هذه الروايات إلي هذا القرآن الذي هو بأيدينا لمعرفة الحق من الباطل مما يدل علي سلامته من كل زيادة ونقيصة، وتبديل وتحريف، وإلا لم يصح أن يكون مرجعاً لمعرفة الحق من الباطل.

ومنها: ما ورد من ان القرآن كله كان مكتوباً موضوعاً بين المحراب والمنبر، وكان المسلمون يكتبون منه.

ومنها: ما ورد من ان جبرئيل (ع) كان يعرض القرآن علي رسول اللّه (ص) كل عام مرّة، وعرضه عليه (ص) في عامه الأخير مرتين.

ومنها: ما روي من ان جماعة من الصحابة كانوا قد حفظوا القرآن كله في عهد رسول اللّه (ص).

ولا يخفي ذلك علي من راجع تفسير القرآن للعلاّمة البلاغي (قدس سره)، ولوالدي (رحمه اللّه) (20) كلمة حول ذلك طبعت في إحدي أعداد (أجوبة المسائل الدينية) في كربلاء المقدّسة.

هذا بالإضافة إلي انّ هناك آيات وروايات تشير إلي ان القرآن نزل علي رسول اللّه (ص) مرّتين: مرّة نزل بمجموعه علي قلب رسول اللّه (ص) كما قال تعالي: (إنّا أنزلناه في ليلة القدر)(21) ومرّة نزل عليه نجوماً ومتفرّقاً عبر ثلاث وعشرين سنة في المناسبات والقضايا المتفرّقة، والنبيّ (ص) قد وعي قلبه القرآن الذي نزل عليه أوّلاً مجموعاً ومرتّباً، فجمع القرآن الذي نزل عليه ثانياً نجوماً ومتفرّقاً حسب جمع القرآن الأول، ورتبه وفق ترتيبه، وهو بعينه القرآن الذي هو اليوم بأيدينا.

إلي غير ذلك مما يشير بمجموعه إلي انّ هذا القرآن الذي هو اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جمع بأمر من اللّه ورسوله (ص) في عهد رسول اللّه (ص) لم يزدد حرفاً ولم ينقص حرفاً، ولم يتغيّر شيء منه ولم يتبدّل أبداً، كيف وقد قال تعالي: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)(22).

إلي غير ذلك

مما يشير بمجموعه إلي انّ هذا القرآن الذي هو اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جمع بأمر من اللّه ورسوله (ص) في عهد رسول اللّه (ص) لم يزدد حرفاً ولم ينقص حرفاً، ولم يتغيّر شيء منه ولم يتبدّل أبداً، كيف وقد قال تعالي: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).

1 الحج: 27. 2 البقرة: 158. 3 البقرة: 196.

4 البقرة: 196. 5 آل عمران: 95. 6 البقرة: 199.

7 أي: الحج مع العمرة. 8 النصر: 1. 9 الزمر: 30.

10 أراد النبي (ص) الإلماع إلي الأهوال لا أنه (ص) يبتلي بها.

11 راجع بحار الأنوار: ج22 ص471 ب1 ح20. 12 البقرة: 281.

13 تفسير شبّر (قدس سره): ص83. 14 العلق: 1. 15 الزمر: 30.

16 حتي انه (ص) كان يأمر بحفظ القرآن والاهتمام به والتحريض علي تلاوته والعمل به، وخاصة في أيامه الأخيرة، حيث كان يقول مراراً: إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً.

17 القيامة: 17. 18 الحجر: 9.

19 بحار الأنوار: ج89 ص48 ب7 ح7 ط بيروت.

20 آية الله العظمي السيد ميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره). 21 القدر: 1.

22 فصّلت: 42.

مهمة تبليغ الرسالة

ولما انصرف رسول اللّه (ص) من حجة الوداع والمسلمون معه وهم علي بعض الروايات زهاء مائتي ألف نسمة، سار (ص) نحو المدينة حتي إذا كان اليوم الثامن عشر من ذي الحجة وصل إلي غدير خم من الجحفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيين عن غيرهم، ولم يكن هذا المكان بموضع إذ ذاك يصلح للنزول، لعدم الماء فيه والمرعي، فنزل عليه الأمين جبرئيل عن اللّه بقوله تعالي: (يا أيّها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت

رسالته واللّه يعصمك من الناس)(1).

وكان نزوله هذا بهذا الشأن هي المرة الثالثة، فقد نزل عليه (ص) قبلها مرّتين وذلك للتأكيد: مرة عند وقوفه بالموقف، واُخري عند كونه في مسجد الخيف، وفي كل منهما يأمره بأن يستخلف عليّ بن أبي طالب (ع)، وأن يسلّم إليه ما عنده من العلم وميراث علوم الأنبياء (عليهم السلام) وجميع ما لديه من آياتهم، وأن يقيمه علماً للناس، ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية، وفرض الطاعة علي كل أحد، ويأخذ منهم البيعة له علي ذلك، والسلام عليه بإمرة المؤمنين، ورسول اللّه(ص) يسأل جبرئيل أن يأتيه من اللّه تعالي بالعصمة، وفي هذه المرة نزل عليه بهذه الآية الكريمة التي فيها: (واللّه يعصمك من الناس).

وكان أوائل القوم، عند نزول جبرئيل بهذه الآية التي أمرت رسول اللّه(ص) في تبليغ ما اُنزل إليه في علي (ع)، قريباً من الجحفة، فأمر رسول اللّه (ص) بالتوقّف عن المسير وأن يردّ من تقدّم من القوم ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان، فنزل (ص) ونزل المسلمون حوله، وكان يوماً قايظاً شديد الحرّ، فأمر بدوحات هناك فقمّ ما تحتها وأمر بجمع الرحال فيه، ووضع بعضها فوق بعض.

ثم أمر (ص) مناديه فنادي في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمعوا إليه وان الرجل منهم ليضع بعض ردائه علي رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الحرّ، فلما اجتمعوا صعد (ص) علي تلك الرحال حتي صار في ذروتها، ودعا علياً (ع) فرقي معه حتي قام عن يمينه ثم خطب (ص) الناس خطبة بليغة لم يسمع الناس بمثلها فحمد اللّه وأثني عليه، ووعظ فأبلغ الموعظة، ونعي إلي الاُمّة نفسه، وأشار إلي أمر الإستخلاف فنصب علياً (ع) بأمر من اللّه تعالي خليفة عليهم بعده، وقال في آخرها

ما يلي:

مقتطفات من حديث الغدير

معاشر الناس! ان اللّه أوحي إليّ يقول: (يا أيّها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللّه يعصمك من الناس إنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين).

وأنا مبيّن لكم سبب نزول هذه الآية: انّ جبرئيل هبط عليّ مراراً ثلاثاً يأمرني عن ربّي جلّ جلاله أن أقوم في هذا المشهد، فاُعلم كل أبيض وأسود، انّ علي بن أبي طالب أخي ووصيّي وخليفتي علي اُمّتي، والإمام من بعدي، وقد ضمن لي تبارك وتعالي العصمة من الناس وهو اللّه الكافي الكريم.

فاعلموا معاشر الناس! ان اللّه قد نصبه لكم ولياً وإماماً مفترضاً طاعته علي المهاجرين والأنصار، وعلي التابعين لهم بإحسان، وعلي البادي والحاضر وعلي الأعجمي والعربي، والحر والمملوك، وعلي كل موحّد.

معاشر الناس! انه آخر مقام أقومه في هذا المشهد، فاسمعوا وأطيعوا، وانقادوا لأمر ربّكم، فإنّ اللّه هو مولاكم وإلهكم، ثم من بعده رسوله محمّد وليّكم القائم المخاطب لكم، ثم من بعدي علي وليّكم وإمامكم بأمر ربّكم، ثم الإمامة في ذرّيتي من ولده إلي يوم تلقون اللّه ورسوله، لا حلال إلاّ ما أحلّه اللّه، ولا حرام إلاّ ما حرّمه اللّه، عرّفني اللّه الحلال والحرام وأنا أفضيت لما علّمني ربّي من كتابه وحلاله وحرامه إليه.

معاشر الناس! ما من علم إلاّ وقد أحصاه اللّه فيّ، وكل علم علّمت فقد أحصيته في إمام المتّقين، وما من علم إلا عَلَّمته علياً والمتّقين من ولده.

معاشر الناس! لا تضلّوا عنه، ولا تنفروا منه، ولا تستنكفوا من ولايته، فهو الذي يهدي إلي الحق ويعمل به، ويزهق الباطل وينهي عنه، ولا تأخذه في اللّه لومة لائم.

معاشر الناس! فضّلوه فقد فضّله اللّه، واقبلوه فقد نصبه اللّه.

معاشر الناس! انّ علياً والطيّبين من ولده

هم الثقل الأصغر، والقرآن هو الثقل الأكبر، وكل واحد منبيء عن صاحبه، وموافق له، لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض، هم اُمناء اللّه في خلقه، وحكماؤه في أرضه، ألا وقد أدّيت، ألا وقد بلّغت، ألا وقد أسمعت، ألا وقد أوضحت، ألا وان اللّه عزّوجل قال، وأنا قلت عن اللّه عزّوجل: ألا انه ليس أمير المؤمنين غير أخي هذا، ولا تحلّ إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره.

ثم ضرب بيده علي عضد علي فرفعه وقال:

معاشر الناس! هذا أخي ووصيّي، وواعي علمي، وخليفتي علي اُمَّتي وعلي تفسير كتاب اللّه عزّوجل، والداعي إليه، والعامل بما يرضاه، والمحارب لأعدائه، والموالي علي طاعته، والناهي عن معصيته، خليفة رسول اللّه، وأمير المؤمنين، والإمام الهادي، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بأمر اللّه، أقول وما يبدّل القول لديّ بأمر ربّي أقول: اللّهمّ والِ من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، والعن من أنكره، واغضب علي من جحد حقّه، اللّهمّ انك أنزلت عليّ: ان الإمامة بعدي لعليّ وليّك، اللّهمّ انّي اُشهدك وكفي بك شهيداً اني قد بلّغت.

معاشر الناس! انما أكمل اللّه عزّ وجل دينكم بإمامته، هذا علي أنصركم لي، وأحقّكم بي، وأقربكم إليّ، وأعزّكم عليّ، واللّه عزّ وجل وأنا عنه راضيان، وما نزلت آية رضيً إلا فيه، وما خاطب اللّه الذين آمنوا إلاّ بدأ به، ولا نزلت آية مدح في القرآن إلا فيه، ولا شهد بالجنّة في (هل أتي علي الإنسان)(2) إلاّ له، ولا أنزلها في سواه، ولا مدح بها غيره.

معاشر الناس! نبيّكم خير نبيّ، ووصيّكم خير وصيّ، وبنوه خير الأوصياء.

معاشر الناس! ذرّية كلّ نبيّ من صلبه، وذريّتي من صلب علي.

معاشر الناس! انّ اللّه قد أمرني ونهاني، وقد أمرتُ علياً ونهيته، فعلم الأمر

والنهي من ربّه عزّوجل، فاسمعوا لأمره تسلموا، وأطيعوا تهتدوا، وانتهوا لنهيه ترشدوا، وصيروا إلي مراده، ولا تتفرّق بكم السبل عن سبيله.

معاشر الناس! أنا صراط اللّه المستقيم الذي أمركم باتباعه، ثم عليّ من بعدي، ثم ولدي من صلبه أئمّةً يهدون إلي الحقّ وبه يعدلون، ألا انّ أعداء علي هم أهل الشقاق والنفاق، والحادّون، وهم العادون، وإخوان الشياطين الذين يوحي بعضهم إلي بعض زخرف القول غروراً.

معاشر الناس! ألا وانّي منذر، وعليّ هاد.

معاشر الناس! انّي نبيّ، وعليّ وصيّ، ألا انّ خاتم الأئمّة منّا القائم المهدي.

معاشر الناس! قد بيّنت لكم واُفهمتكم، وهذا علي يفهمكم بعدي، ألا واني عند انقضاء خطبتي أدعوكم إلي مصافقتي علي بيعته، والإقرار به، ثم مصافقته بعدي، ألا واني قد بايعتُ اللّه، وعليّ قد بايعني، وأنا آخذكم بالبيعة له عن اللّه عزّ وجلّ (فمن نكث فإنّما ينكث علي نفسه)(3).

معاشر الناس! وكلّ حلال دللتكم عليه، أو حرام نهيتكم عنه، فإني لم أرجع عن ذلك ولم اُبدّل، ألا فاذكروا ذلك واحفظوه، وتواصوا به، ولا تبدلوه ولا تغيّروه، ألا فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وامروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، ألا وانّ رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن تنتهوا إلي قولي وتبلّغوه من لم يحضر، وتأمروه بقبوله، وتنهوه عن مخالفته، فإنه أمر من اللّه عزّوجلّ ومنّي، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر إلاّ مع إمام معصوم.

معاشر الناس! فما تقولون؟ قولوا الّذي قلت، وسلّموا علي عليٍّ بإمرة المؤمنين، وقولوا: سمعنا وأطعنا، وقولوا: الحمد للّه الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه.

معاشر الناس! انّ فضائل عليّ عند اللّه عزّوجل الذي قد أنزلها في القرآن أكثر من أن اُحصيها في مكان واحد، فمن أنبأكم بها فصدِّقوه.

معاشر الناس! من يطع

اللّه ورسوله وعلياً أمير المؤمنين والأئمّة من ولده فقد فاز فوزاً عظيماً.

فناداه القوم: سمعنا وأطعنا أمر اللّه وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا.

ثم انّ رسول اللّه (ص) نادي بأعلي صوته ويده في يد علي (ع) وقال: يا أيّها الناس ألست أولي بكم من أنفسكم؟

قالوا بأجمعهم: بلي يا رسول اللّه.

فرفع رسول اللّه (ص) بضبع علي (ع) حتي رأي الناس بياض ابطيهما، وقال علي النسق من غير فصل: (فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، والعن من خالفه، وأدر الحقّ معه حيثما دار، ألا فليبلّغ ذلك منكم الشاهد الغائب، والوالد الولد).

الصحابة يبايعون عليّاً (ع)

ثم نزل رسول اللّه (ص) وكان وقت الظهيرة فصلّي ركعتين ثمّ زالت الشمس، فأذّن مؤذّنه لصلاة الفرض، فلما صلّي بهم جلس في خيمته وأمر عليّاً (ع) أن يجلس في خيمة له بازائه، ثم أمر (ص) المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنّؤوه (ع) بالولاية، ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، ويبايعوه علي ذلك.

ففعل الناس ذلك كلّهم حتي انّ أبا بكر وعمر بايعاه وعمر يقول له: بخّ بخّ لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولي كلّ مؤمن ومؤمنة(4)، ثم أردفا ذلك بقولهما: السلام عليك يا أميرالمؤمنين ورحمة اللّه وبركاته، ثم هنّؤوه بالخلافة.

ثم أمر رسول اللّه (ص) أزواجه وسائر نساء المؤمنين معه أن يدخلن علي علي (ع) ويسلّمن عليه بإمرة المؤمنين، ويبايعنه علي ذلك، ففعلن وسلّمن عليه (ع) وبايعنه بإدخال أيديهنّ في طشت فيه ماء كان قد أدخل علي (ع) يده فيه قبل ذلك.

جبرئيل ويوم الغدير

ولما فرغ رسول اللّه (ص) من خطبته رأي الناس رجلاً جميلاً بهيّاً طيّب الريح وهو ينادي ويقول: تاللّه ما رأيتُ محمداً (ص) كاليوم قطّ، فسعي أحد الصحابة بمقالة الرجل إلي رسول اللّه (ص)، فقال له رسول اللّه (ص): أتدري من ذلك الرجل؟

قال: لا.

قال (ص): ذلك هو الروح الأمين جبرئيل، فإيّاك إيّاك أن تحلّه، فإنّك إن فعلته، فاللّه ورسوله وملائكته والمؤمنون منك براء.

قال ابن عبّاس: قد وجبت واللّه بيعته في رقاب الصحابة إلي يوم القيامة.

القرآن يبارك خلافة علي (ع)

وعن ابن عباس، وحذيفة، وأبي ذر وغيرهم، انهم قالوا: واللّه ما برحنا من مكاننا ذلك حتي نزل جبرئيل بهذه الآية عن اللّه تعالي: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً)(5).

فقال رسول اللّه (ص): اللّه أكبر علي إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الربّ سبحانه وتعالي برسالتي إليكم، والولاية لعليّ بن أبي طالب بعدي.

فعندها قام حسّان بن ثابت وقال: يا رسول اللّه أتأذن لي أن أقول في هذا المقام ما يرضاه اللّه؟

فقال له (ص): قل يا حسّان علي اسم اللّه.

فوقف علي نشز من الأرض وتطاول الناس لسماع كلامه، فأنشأ يقول:

الغدير برواية الشعر

يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخمّ واسمع بالرسول منادياً

فقال: فمن مولاكمُ ونبّيكم؟ فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبيّنا ولم تلق منّا في الولاية عاصيا

فقال له: قم يا علي فإنّني رضيتك من بعدي إماماً وهادياً

فمن كنتُ مولاه فهذا وليّه فكونوا له أتباع صدق موالياً

هناك دعا اللّهمّ وال وليّه وكن للذي عادي علياً معاديا

فقال له رسول اللّه (ص): لا تزال يا حسّان مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.

ثم قام من بعده جماعة من الشعراء وألقوا علي مسامع القوم أبياتاً في مدح علي (ع) وتبجيل هذه المناسبة العظيمة كقيس بن سعد بن عبادة الخزرجي وغيره.

مع النعمان الفهري

ولما نصب رسول اللّه (ص) علياً (ع) يوم غدير خم وقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، قَدِمَ علي النبي (ص) النعمان بن الحارث الفهري فقال: أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلا اللّه، وانّك رسول اللّه، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ثم لم ترضَ حتي نصبت ابن عمك علينا وقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عند اللّه؟ فقال (ص): واللّه الذي لا إله إلا هو انّ هذا من اللّه، فولّي النعمان وهو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه اللّه بحجر علي رأسه فقتله، وأنزل اللّه تعالي: (سأل سائل بعذاب واقع)(6) الآيات(7).

من ذكريات الغدير

وفي يوم الغدير أمر رسول اللّه (ص) بعد أن أخذ البيعة لعلي (ع) بإمرة المؤمنين بزيادة الشهادة الثالثة: (أشهد أنَّ علياً وليّ اللّه) في فصول الأذان والإقامة.

وقد قال الإمام الصادق (ع): (إذا قال أحدكم لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، فليقل: علي أمير المؤمنين)(8).

وفي الحديث عن أبي ذر انه أذّن بعد واقعة الغدير وأخذ يهتف بعد الشهادتين بالشهادة الثالثة، فرفع ذلك بعض إلي رسول اللّه (ص)، فقال (ص): أما وعيتم خطبتي يوم الغدير لعلي بالولاية؟! أما سمعتم قولي في أبي ذر: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء علي ذي لهجة أصدق من أبي ذر؟!

وروي عن سلمان الفارسي أيضاً انه أذّن بعد قصة الغدير فذكر بعد الشهادتين الشهادة الثالثة في أذانه، فأخبر بعض الصحابة رسول اللّه (ص) بذلك، فلم يرَ من رسول اللّه (ص) إلا انه أقرّ لسلمان ذلك.

هذا بالإضافة إلي روايات اُخري تدلّ علي أنّ الشهادة الثالثة جزء من الأذان والإقامة، وقد اخترنا ذلك

في الفقه(9).

اللّه تعالي يعصم نبيّه (ص)

ثم انه لما تمّت بيعة الناس لعلي (ع) بالخلافة وبعد أن صلّي رسول اللّه (ص) بهم الفرض، أمرهم بالرحيل، وقد طال مكثهم هناك للبيعة ثلاثة أيّام.

فسار رسول اللّه (ص) بعد أن أمر الناس بالرحيل يومه وليلته حتي أشرف علي عقبة هدشا، وكان قد تقدّمه نفر من المنافقين إلي ثنية العقبة وأخذوا معهم دباباً قد طرحوا فيها حجارة لينفروا برسول اللّه (ص) ناقته ويقضوا عليه قبل أن يصل إلي المدينة.

قال حذيفة: فدعاني رسول اللّه (ص) وأمرني أن آخذ بزمام الناقة، ودعا عمّار بن ياسر وأمره بأن يسوقها، حتي إذا صرنا في رأس العقبة ودحرج اُولئك النفر تلك الدباب بين قوائم الناقة، فزعت الناقة وكادت أن تنفر، فصاح بها رسول اللّه (ص) أسكني يا مباركة فليس عليكِ بأس.

فلما رأي القوم ان الناقة لا تنفر تقدّموا إليها ليدفعوها بأيديهم، فجعلت أنا وعمّار نضرب وجوههم بأسيافنا وكانت ليلة مظلمة فتأخّروا عنا وقد أيسوا مما دبّروه.

فقلت: يا رسول اللّه ألا تبعث إليهم رهطاً من أصحابك يأتوك برؤوسهم؟

فقال (ص): اني أكره أن يقول الناس: دعا قوماً إلي دينه فأجابوه فقاتل بهم، حتي إذا ظفر بعدوّه قتلهم، ولكن دعهم فإن اللّه لهم بالمرصاد وسيمهلهم قليلاً ثم يضطرّهم إلي عذاب غليظ.

قال حذيفة: ثم انحدرنا من العقبة ونزل رسول اللّه (ص) وتوضّأ وانتظر أصحابه، حتي نزلوا واجتمعوا لصلاة الصبح، فرأيتُ اُولئك النفر قد انخرطوا مع القوم ودخلوا مع رسول اللّه (ص) إلي الصلاة، فلما قضيت الصلاة دعا رسول اللّه (ص) اُولئك النفر وعاتبهم علي ما كان منهم من الوقوف علي العقبة، فاعتذروا بأنّهم تقدّموه إليها لضيق المكان، وليأنس بعضهم ببعض، فنظر إليهم رسول اللّه (ص) مليّاً ثم قال: وما اللّه بغافل عمّا

تعملون.

1 المائدة: 67. 2 الإنسان: 1. 3 الفتح: 10.

4 بحار الانوار: ج21، ص388، مؤسسة الوفاء بيروت. 5 المائدة: 3.

6 المعارج: 1. 7 بحار الانوار: ج37 ص175 ب52 ح62.

8 بحار الانوار: ج27 ص1 ب10 ح1.

9 راجع موسوعة الفقه ج19 كتاب الصلاة، في فصول الأذان والإقامة.

الثقلان وديعتا رسول اللّه (ص)

ثم ان رسول اللّه (ص) لم يزل بعد يوم الغدير يكرّر من قوله:

(يا أيها الناس اني فرطكم، وأنتم واردون عليَّ الحوض، ألا واني سائلكم عن الثقلين، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنّ اللطيف الخبير نبّأني انّهما لن يفترقا حتي يلقياني، وسألت ربّي ذلك فأعطانيه، ألا واني قد تركتهما فيكم: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرّقوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم، أيها الناس لا ألفينّكم بعدي ترجعون كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض، فتلقوني في كتيبة كمجرّ السيل الجرّار، ألا وان علي بن أبي طالب أخي ووصيّي، يقاتل بعدي علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله).

تأكيد حديث الغدير

وعن علي (ع) انه قال: أمرني رسول اللّه (ص) أن أخرج فاُنادي في الناس: (ألا من ظلم أجيراً أجره فعليه لعنة اللّه، ألا من توالي غير مواليه فعليه لعنة اللّه، ألا ومن سبّ أبويه فعليه لعنة اللّه).

قال علي (ع): فخرجت فناديت في الناس كما أمرني رسول اللّه (ص) فقال الناس: هل لما ناديت به من تفسير؟

قلت: اللّه ورسوله أعلم.

قال (ع): فقام جماعة من أصحاب النبي (ص) فدخلوا عليه، فقالوا: يا رسول اللّه (ص) هل لما نادي علي من تفسير؟

قال (ص): نعم، أمرته أن ينادي: ألا من ظلم أجيراً أجره فعليه لعنة اللّه، واللّه يقول: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربي)(1) فمن ظلمنا أجرنا فعليه لعنة اللّه.

وأمرته أن ينادي: من توالي غير مواليه فعليه لعنة اللّه، واللّه يقول: (النبيّ أولي بالمؤمنين من أنفسهم)(2) ومن كنت مولاه فعليّ مولاه، فمن توالي غير علي وذرّيته فعليه لعنة اللّه.

وأمرته أن ينادي: من سبّ أبويه فعليه لعنة اللّه، وأنا اُشهد اللّه واُشهدكم اني وعلياً أبوا هذه الاُمّة، فمن

سبّ أحدنا فعليه لعنة اللّه.

قال الخباب بن الأرتّ: كان هذا الحديث قبل ارتحال النبي (ص) من هذه الدنيا بتسعة عشر يوماً.

سريّة اُسامة إلي الروم

ثم عقد رسول اللّه (ص) اللواء والإمرة لاُسامة بن زيد، وندبه أن يخرج بجمهور الاُمّة إلي حيث اُصيب أبوه من بلاد الروم، وكانت هذه هي آخر سريّة عقدها رسول اللّه (ص) في حياته، وكان قد اجتمع رأيه علي إخراج جماعة من الذين تآمروا عليه في العقبة وتعاهدوا بينهم علي نكث البيعة في معسكره، حتي لا يبقي في المدينة عند ارتحاله (ص) من يختلف في الرياسة، ويطمع في التقدّم علي الناس بالإمارة، ويستتب الأمر لمن استخلفه من بعده ولا ينازعه في حقّه منازع.

فعقد (ص) لاُسامة الإمرة علي كبار الصحابة وذوي أسنانهم وهو حدث السنّ، حتي لا يطعن أحد في تعيين اللّه ونصب رسوله علياً خليفة من بعده وأميراً للمؤمنين بحداثة السنّ، ثم جدّ في إخراجهم، وأمر اُسامة أن يعسكر بالجرف علي أميال من المدينة، وأمر الناس بالخروج إليه والمسير معه، وحذّرهم من التلوّم والإبطاء عنه. وقال (ص): نفّذوا جيش اُسامة، نفّذوا جيش اُسامة، لعن اللّه من تخلّف عن جيش اُسامة، يكرّرها ثلاثاً(3).

الإستغفار لأهل البقيع

بينا كان رسول اللّه (ص) يُحرص أشدّ الحرص علي تسيير جيش اُسامة، ومغادرة رؤوس أصحابه المدينة، وتخليتها لعلي (ع) من المعارضين، إذ عرضت له الشكاة التي ارتحل فيها من الدنيا، وكانت شكاته علي أثر اُكلة خيبر المسمومة، فإنه مازال ينتقض به سمّها حتي قال (ص) عند ارتحاله: (اليوم قطعت مطاياي الأكلة التي أكلتُ بخيبر، وما من نبيّ ولا وصيّ إلاّ شهيد). وهناك روايات اُخري في سبب شهادته (ص) مذكورة في المفصّلات.

فلما أحسّ رسول اللّه (ص) بذلك أخذ بيد علي بن أبي طالب (ع)، واتبعه جماعة من الناس، وتوجّه إلي البقيع، فقال لمن اتبعه: انني قد اُمرت بالإستغفار لأهل البقيع، فانطلقوا معه حتي وقف بين

أظهرهم وقال: (السلام عليكم يا أهل القبور، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع اللّيل المظلم يتبع أولها آخرها).

ثم استغفر (ص) لأهل البقيع طويلاً.

ثم أقبل إلي علي أميرالمؤمنين (ع) وقال له: (يا أخي انّ جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كل سنة مرة، وقد عرضه عليّ في العام مرتين، ولا أراه إلاّ لحضور أجلي)، ثم قال: (يا علي إني خيّرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها، وبين لقاء ربّي والجنّة، فاخترتُ لقاء ربّي والجنّة خالداً فيها، فإذا أنا متّ فتغسلني) وأوصاه أن يكون (ع) هو الذي يلي أمره.

لا نجاة الا بعمل مع رحمة اللّه

ثم عاد رسول اللّه (ص) من البقيع إلي منزله، فمكث ثلاثة أيام موعوكاً، ثم خرج إلي المسجد معصوب الرأس معتمداً إلي علي أمير المؤمنين (ع) بيمني يديه، وعلي الفضل بن العباس باليد الاُخري حتي صعد المنبر فجلس عليه، ثم حمد اللّه وأثني عليه وقال: (معاشر الناس قد حان منّي خفوق من بين أظهركم، فمن كان له عندي عدة فليأتني أعطه إياها، ومن كان له عليَّ دَيْن فليخبرني به).

فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه ان لي عندك عدة، اني تزوّجت فوعدتني أن تنحلني ثلاثة أفواق.

فأمر (ص) له بذلك وقال: انحلها وافضل.

ثم قال: معاشر الناس! انه ليس بين اللّه وبين أحد شيئاً يعط به خيراً، أو يصرف به عنه شرّاً، الاّ العمل، أيها الناس لا يدّعي مدّعٍ، ولا يتمنّي متمنٍّ، والذي بعثني بالحق نبياً لا ينجي إلا عمل مع رحمة اللّه، ولو عصيت لهويت، ثم قال: اللّهمّ هل بلّغت؟ ثم نزل فصلّي بالناس صلاة خفيفة، ثم دخل بيته.

الكتاب والعترة خليفتا رسول اللّه (ص)

فلمّا كان من الغد أقبل الأنصار وأحدقوا بالباب، وعلموا بشدّة نقاهة رسول اللّه (ص) والضعف الذي هو فيه فجعلوا يبكون، فسمع رسول اللّه (ص) البكاء فقال: من هؤلاء الباكون؟

قالوا: هم الأنصار يا رسول اللّه.

فقال (ص): مَن هنا مِن أهل بيتي؟

قالوا: علي (ع) والعبّاس، فدعا بهما وخرج متكياً عليهما واستند إلي جذع من جذوع مسجده، واجتمع الناس حوله، فحمد اللّه وأثني عليه وقال: (معاشر الناس! انه لم يمت نبيّ قطّ إلا خلّف تركة، وقد خلّفتُ فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي، فتمسّكوا بهما، فمن ضيّعهما ضيّعه اللّه، ألا وان الأنصار كرشي وعيبتي آوي إليها، اُوصيكم بتقوي اللّه والإحسان إلي محسنهم، والتجاوز عن مسيئهم).

مع اُسامة بن زيد

ثم انّ رسول اللّه (ص) دعا اُسامة بن زيد الذي أمره أن يعسكر بالجرف وقال له: سِر علي بركة اللّه حيث أمرتك بمن أمّرتك عليه.

فقال اُسامة: بأبي أنت واُمّي يا رسول اللّه، أتأذن لي في المقام عندك حتي يشفيك اللّه، فإني متي خرجت وأنت علي هذه الحالة خرجت وفي قلبي منك قرحة.

فقال له رسول اللّه (ص): انفذ يا اُسامة إلي ما أمرتك.

فخرج اُسامة من يومه ذلك، ونادي منادي رسول اللّه (ص): ألا لا يتخلّف عن جيش اُسامة أحد ممن أمَّرته عليه.

ثم أمر (ص) قيس بن عبادة والحباب بن المنذر بإخراج جماعة من الأنصار كانوا قد تثاقلوا، وأمرهم بترحيل القوم إلي عسكرهم، ففعلا ذلك حتي ألحقوهم بالعسكر، وقالا لاُسامة: إنّ رسول اللّه (ص) لم يرخّص لك في التأخير، فسر من قبل أن يعلم بتأخيرك، فارتحل بهم اُسامة، وانصرف قيس والحبّاب إلي رسول اللّه(ص) وأخبراه بمسير القوم، ومع ذلك فقد تخلّف عن جيش اُسامة بعض كما ورجع منهم آخرون إلي المدينة.

النبي (ص) يصلّي بالمسلمين جالساً

وكان رسول اللّه (ص) لشدّة شكاته في تلك الليلة لا يفارقه علي (ع) والفضل بن العباس، وكان بلال عندما يؤذّن لكل فريضة يأتي إلي النبي (ص) فيقول: الصلاة يا رسول اللّه، فإن قدر رسول اللّه (ص) علي الخروج إلي الصلاة خرج وصلّي بالناس، وإن لم يقدر أمر علي بن أبي طالب (ع) أن يصلّي بهم.

وفي صباح تلك الليلة أتاه بلال علي عادته يؤذنه بالصلاة، فوجده قد ثقل عن الخروج، فنادي: الصلاة رحمكم اللّه، فأذّن رسول اللّه (ص) بندائه ورأسه في حجر علي (ع). ولم يتمكّن (ص) من الخروج إلي المسجد.. هذا والمسلمون جالسون للصلاة فتقدّم أحد الصحابة إلي المحراب، فلمّا كبّر سمعه رسول اللّه(ص)، فقال لمن

حوله: سنّدوني وأخرجوني إلي المسجد.

فخرج (ص) وهو معصّب الرأس معتمداً بين علي (ع) والفضل بن العبّاس ورجلاه يخطّان في الأرض من الضعف، فتقدّم رسول اللّه (ص) ونحّي الصحابي عن المحراب، وابتدأ الصلاة وكبّر لها مستأنفاً وهو جالس، وبلال يسمع الناس التكبير.

فلما أكمل (ص) صلاته قال لمن حوله: عرّجوا بي إلي المنبر، فأجلسوه علي أدني مرقاة منها واجتمع له جميع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار حتي برزت العواتق من خدورهنّ فبين باك وصارخ والنبي (ص) يخطب ساعة ويسكت ساعة.

وكان مما ذكر (ص): أن حمد اللّه وأثني عليه بما هو أهله ثم قال (ص): (ألا أيُّها الناس اني مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض، فتمسّكوا بهما، فلا تتقدّموا أهل بيتي فتمرقوا، ولا تتأخّروا عنهم فتزهقوا، وأوفوا بعهدي، ولا تنكثوا بيعتي التي بايعتموني عليها، اللّهمّ اني قد بلّغت ما أمرتني، ونصحت لهم ما استطعت، وما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت وإليه اُنيب).

وفي رواية انه (ص) قال: ألا قد خلّفت فيكم كتاب اللّه فيه النور والهدي والبيان، ما فرّط اللّه فيه من شيء، حجّة اللّه عليكم وحجّتي وحجّة وليّي، وخلّفت فيكم العلم الأكبر، عَلَم الدين، ونور الهدي: وصيّي علي بن أبي طالب، ألا هو حبل اللّه فاعتصموا به جميعاً ولا تفرَّقوا عنه.

أيّها الناس! لا تأتوني غداً بالدنيا تزفّونها زفّاً، ويأتي أهل بيتي شعثاً غبراً، مقهورين مظلومين، تسيل دماؤهم.

أيّها الناس! اللّه اللّه في أهل بيتي، فإنهم أركان الدين، ومصابيح الظلم، ومعدن العلم، علي أخي ووزيري، وأميني والقائم من بعدي بأمر اللّه، والموفي بذمّتي، ومحيي سنّتي، أول الناس بي ايماناً، وآخرهم عهداً عند الموت، وأولهم لي

لقاءاً يوم القيامة، فليبلّغ شاهدكم غائبكم.

أيّها الناس! ومن كانت له قبلي تبعة فها أنا ومن كانت له عدة أو دَيْن فليأت فيها علي بن أبي طالب فإنّه ضامن لذلك كله حتي لا يبقي لأحد عليّ تبعة.

ثم قام (ص) معتمداً بين علي (ع) والفضل بن العبّاس ودخل منزله.

مع المتخلّفين عن جيش اُسامة

ثم انّ رسول اللّه (ص) بعث من استدعي له المتخلّفين عن جيش اُسامة، فلما حضروا قال لهم (ص): ألم آمركم أن تنفّذوا جيش اُسامة؟!

فقالوا: بلي يا رسول اللّه.

فقال (ص): فلم تأخّرتم عن أمري؟

فقال بعضهم: اني كنت قد خرجت ثم رجعت لاُجدِّد بك عهداً.

وقال بعض آخر: اني لم أخرج لأني لم اُحب أن أسأل عنك الركبان.

فقال رسول اللّه (ص): نفّذوا جيش اُسامة، نفّذوا جيش اُسامة يكرّرها ثلاثاً لعن اللّه من تأخّر عنه(4)، ثم اشتدّ ضعفه (ص) وانقطع عن الكلام لعظم ما لحقه من التعب والضعف، فبكي المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وولده ونساء المسلمين وجميع من حضره (ص).

الرزية كل الرزية

ثم مكث رسول اللّه (ص) هنيئة كذلك، حتي إذا أفاق من ضعفه نظر إلي من حضره وقال (ص): (ايتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً)، فقال بعضهم: ان الرجل ليهجر! (5).

هذا والقرآن يقول: (ما ضلّ صاحبكم وما غوي وما ينطق عن الهوي إن هو إلاّ وحي يوحي)(6).

عند ذلك أعرض رسول اللّه (ص) بوجهه عن القوم، فنهضوا.

قال سليم: وكان ابن عباس كلما تذكّر ذلك بكي وقال: الرزيّة كل الرزية ما حال بين رسول اللّه (ص) وبين أن يكتب لنا ذلك الكتاب.

أنتم المستضعفون بعدي

ولما أعرض رسول اللّه (ص) عن القوم بوجهه، نهض القوم من عنده وانصرفوا، وبقي عنده علي بن أبي طالب (ع) والعباس بن عبدالمطلب وأهل بيته خاصة.

عندها التفت اليهم رسول اللّه (ص) وقال لهم: أنتم المستضعفون من بعدي وصمت، فنهضوا وهم يبكون وقد يئسوا من النبي (ص).

مع ابن عباس

ثم ان ابن عباس استأذن علي رسول اللّه (ص) فأذن له، فلما دخل عليه ورآه بتلك الحالة قال: بأبي أنت واُمي يا رسول اللّه قد دنا أجلك؟

قال (ص): نعم، يابن عباس.

فقال: يا رسول اللّه فما تأمرني به؟

قال (ص): يابن عباس خالف من خالف علياً ولا تكوننّ لهم ظهيراً ولا ولياً.

ثم بكي رسول اللّه (ص) حتي اشتدّ ضعفه، فلما أفاق قال: يابن عباس سبق الكتاب فيهم وعلم ربي، والذي بعثني بالحق نبياً لا يخرج أحد ممن خالفه من الدنيا وأنكر ولايته وحقه حتي يغيّر اللّه ما به من نعمة، يابن عباس! إذا أردت أن تلقي اللّه وهو عنك راضٍ فاسلك طريقة علي بن أبي طالب، ومِل معه حيث ما مال، وارض به إماماً، وعادِ من عاداه، ووالِ من والاه، يابن عباس! إحذر أن يدخلك فيه شك، فإن الشك في علي (ع) كفر باللّه.

في وداع الأنصار

ثم انّ رسول اللّه (ص) دعا الأنصار، فلما حضروا التفت إليهم وقال: (يا معشر الأنصار قد حان الفراق، وقد دعيت وأنا مجيب الداعي، وقد جاورتم فأحسنتم الجوار، ونصرتم فأحسنتم النصرة، وواسيتم في الأموال، ووسّعتم في السكني، وبذلتم للّه مهج النفوس، واللّه يجزيكم بما فعلتم الجزاء الأوفي، وقد بقيت واحدة، وهي تمام الأمر وخاتمة العمل، العمل بها مقرون، اني أري أن لا يفرق بينهما جميعاً، لو قيس بينهما بشعرة ما انقاست، من أتي بواحدة وترك الاُخري كان جاحداً للاُولي ولايقبل اللّه منه صرفاً ولا عدلاً).

فقالوا: يا رسول اللّه بيّنها لنا نتمسّك بها فلا نضلّ ونرتدّ عن الإسلام.

فقال رسول اللّه (ص) في جوابهم: (كتاب اللّه، وأهل بيتي، فإن الكتاب هو القرآن، وفيه الحجة والنور والبرهان، كلام اللّه جديد غض طري شاهد ومحكم عادل ولنا قائد

بحلاله وحرامه وأحكامه، يقوم غداً فيحاجّ أقواماً فيزلّ اللّه به أقدامهم عن الصراط، واحفظوني معاشر الأنصار في أهل بيتي، فإن اللطيف الخبير أخبرني انهما لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض، ألا وان الإسلام سقف تحته دعامة لا يقوم السقف إلا بها، فلو انّ أحدكم أتي بذلك السقف ممدوداً لا دعامة تحته فأوشك أن يخرّ عليه سقفه فيهوي في النار. أيها الناس! الدعامة دعامة الإسلام وذلك قوله تعالي: (إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه)(7) فالعمل الصالح طاعة الإمام ولي الأمر من بعدي علي بن أبي طالب والتمسّك بحبله. أيها الناس! أفهمتم؟ اللّه اللّه في أهل بيتي مصابيح الظلم، ومعادن العلم، وينابيع الحكم، ومستقر الملائكة، منهم وصيي وأميني ووارثي علي بن أبي طالب وهو مني بمنزلة هارون من موسي، ألا هل بلّغت معاشر الأنصار؟ ألا فاسمعوا ومن حضر، ألا ان فاطمة بابها بابي وبيتها بيتي، فمن هتكه فقد هتك حجاب اللّه).

وداع مع المهاجرين

ثم أمر رسول اللّه (ص) بأن يجمعوا له المهاجرين، فلما اجتمعوا التفت إليهم وقال: (أيها الناس اني قد دعيت واني مجيب دعوة الداعي، قد اشتقت إلي لقاء ربّي واللحوق بإخواني من الأنبياء، واني اُعلمكم اني قد اوصيت إلي وصيّي، ولم أهملكم إهمال البهائم، ولم أتارك من اُموركم شيئاً).

فقام إليه أحدهم وقال: يا رسول اللّه أوصيت بما أوصي به الأنبياء من قبلك؟

قال (ص): نعم.

فقال الرجل: فبأمر من اللّه أوصيت أم بأمرك؟

قال (ص) له: اجلس يا فلان، أوصيتُ بأمر اللّه، وأمره طاعته، وأوصيت بأمري، وأمري طاعة اللّه، ومن عصاني فقد عصي اللّه، ومن عصي وصيّي فقد عصاني، ومن أطاع وصيّي فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع اللّه …

ثم التفت (ص) إلي الناس وقال: أيها الناس! اسمعوا وصيّتي،

من آمن بي وصدّقني بالنبوة واني رسول اللّه (ص) فاُوصيه بولاية علي بن أبي طالب وطاعته والتصديق له، فإن ولايته ولايتي وولاية ربّي، قد أبلغتكم فليبلّغ الشاهد الغائب: ان علي بن أبي طالب هو العلم، فمن قصر دون العلم فقد ضلّ، ومن تقدّمه تقدّم إلي النار، ومن تأخّر عن العلم يميناً هلك، ومن أخذ يساراً غوي، وما توفيقي إلا باللّه، فهل سمعتم؟).

قالوا: نعم.

وفي رواية: انه (ص) قال: ألا اني مخلف فيكم كتاب اللّه ربّي عزّوجل، وعترتي أهل بيتي.

ثم أخذ بيد علي (ع) فرفعها وقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي، خليفتان نصيران، لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض، فأسألهما ماذا خُلّفت فيهما.

مع الثقلين: الأكبر والأصغر

قال أبو سعيد الخدري: ان آخر خطبة خطبنا بها رسول اللّه (ص) لخطبة خطبنا في مرضه الذي قبض فيه، خرج متوكياً فجلس علي المنبر ثم قال: (يا أيها الناس اني تارك فيكم الثقلين) وسكت.

فقام رجل فقال: يا رسول اللّه ما هذان الثقلان؟

قال (ص): ما ذكرتهما إلا وأنا اُريد أن اُخبركم بهما، الثقل الأكبر: كتاب اللّه سبب طرفه بيد اللّه وطرف بأيديكم، والثقل الأصغر: أهل بيتي.

ثم قال (ص): وأيم اللّه اني لأقول لكم هذا ورجال في أصلاب أهل الشرك أرجي عندي من كثير منكم.

ثم قال (ص): واللّه لا يحبّهم عبد إلاّ أعطاه اللّه نوراً يوم القيامة حتي يرد عليّ الحوض، ولا يبغضهم عبد إلا احتجب اللّه عنه يوم القيامة.

وكان ممّا قاله رسول اللّه (ص) والمسلمون مجتمعون حوله: أيها الناس! انه لا نبي بعدي، ولا سنّة بعد سنّتي، فمن ادّعي ذلك فدعواه وباغيه في النار، أيها الناس! احيوا القصاص، واحيوا الحق لصاحب الحق، ولا تفرقوا، وأسلموا وسلّموا، كتب اللّه لأغلبنّ أنا ورسلي إنّ اللّه

قويّ عزيز.

ومما قاله (ص) في أيامه الأخيرة: أيها الناس حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم، فأما حياتي: فإن اللّه هداكم بي من الضلالة، وأنقذكم من شفا حفرة من النار، وأما مماتي فإن أعمالكم تعرض عليّ، فما كان من حسن استزدت اللّه لكم، وما كان من قبيح استغفرت اللّه لكم.

فقام بعض من حضر وقال: وكيف ذاك يا رسول اللّه وقد رممت؟ يعني: صرت رميماً.

فقال: كلا، ان اللّه حرم لحومنا علي الأرض فلا تطعم منها شيئاً.

وإلي هذا أشار أبو عبداللّه الصادق (ع) عندما قال: مالكم تسوؤن رسول اللّه (ص)؟

فقال له رجل: جعلت فداك وكيف نسوؤه؟

قال (ع): أما تعلمون ان أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأي فيها معصية اللّه ساءه؟ فلا تسوؤا رسول اللّه (ص) وسرّوه.

الوصية والوصي

ولما ثقل رسول اللّه (ص) في مرضه الذي قبض فيه كان رأسه في حجر علي(ع)، والبيت مملوء من أصحابه من المهاجرين والأنصار، والعباس بين يديه يذب عنه بطرف ردائه، فالتفت رسول اللّه (ص) إلي عمه العباس وقال: يا عباس يا عم النبي أقبل وصيّتي في أهلي، وفي أزواجي، واقض ديني، وأنجز عداتي، وأبريء ذمّتي.

فقال العباس: يا رسول اللّه أنا شيخ ذو عيال كثير، غير ذي مال ممدود، وأنت أجود من السحاب الهاطل، والريح المرسلة، تباري الريح سخاءاً وكرماً، فلو صرفت ذلك عني إلي من هو أطوق له منّي.

فقال رسول اللّه (ص): أما اني سأعطيها من يأخذها بحقّها، ومن لايقول مثل ما تقول، يا علي هاكها خالصة لا يحاقك فيها أحد، يا علي أقبل وصيتي، وأنجز مواعيدي، وأدِّ ديني، يا علي اخلفني في أهلي واُمّتي، وبلّغ عني من بعدي.

قال علي (ع): لما نعي رسول اللّه (ص) إليّ نفسه رجف فؤادي واُلقي علي لقوله البكاء،

فلم أقدر أن اُجيبه بشيء.

ثم عاد (ص) لقوله، فقال (ص): يا علي أوَتقبل وصيّتي؟

قال (ع): فقلت، وقد خنقتني العبرة ولم أكد ابين: نعم يا رسول اللّه.

فقال (ص): يا بلال ايتني بذي الفقار، ودرعي ذات الفضول، ايتني بمغفري ذي الجبين، ورايتي العقاب، ايتني بالعنزة والممشوق.

فأتي بلال بذلك كله إلا درعه كانت يومئذ مرهونة في أصوع من شعير، كان (ص) قد استقرضها لقوته وقوت عياله.

ثم قال (ص): ايتني بالمرتجز والعضباء، ايتني باليعفور والدلدل، فأتي بها فوقفها بالباب.

ثم قال (ص): ايتني بالأتحمية والسحاب، فأتي بهما، فلم يزل يدعو بشيء شيء، فافتقد عصابة كان يشدّ بها بطنه في الحرب، فطلبها فأتي بها والبيت غاص يومئذ بمن فيه من المهاجرين والأنصار.

ثم قال (ص): يا علي قم فاقبض هذا في حياة منّي، وشهادة من في البيت، لكيلا ينازعك أحد من بعدي.

قال علي (ع): فقمت واستودعت ذلك جميعاً منزلي، ثم جئت فقمت بين يدي رسول اللّه (ص) فنظر إليَّ ثم عمد إلي خاتمه فنزعه ثم دفعه إليَّ وقال: هاك يا علي هذا لك في الدنيا والآخرة.

ثم قال (ص) لي: يا علي أجلسني، فأجلسته وأسندته إلي صدري.

قال علي (ع): فلقد رأيت رسول اللّه (ص) وان رأسه ليثقل ضعفاً وهو يقول يسمع أقصي أهل البيت وأدناهم: إنّ أخي ووصيّي ووزيري وخليفتي في أهلي واُمّتي علي بن أبي طالب، يقضي ديني، وينجز موعدي، يا بني هاشم يا بني عبد المطلب لا تبغضوا علياً، ولا تخالفوا عن أمره فتضلّوا.

ثم قال (ص): أضجعني يا علي، فأضجعته، فقال (ص) لبلال: يا بلال ايتني بولديَّ الحسن والحسين، فانطلق فجاء بهما فأسندهما إلي صدره، فجعل (ص) يشمّهما.

قال علي (ع): فظننت انهما قد غمّاه يعني أكرباه فذهبت لآخذهما عنه.

فقال (ص): دعهما

يا علي يشمّاني وأشمّهما، ويتزوّدا منّي وأتزوّد منهما، فسيلقيان من بعدي زلزالاً، وأمراً عضالاً، فلعن اللّه من يخيفهما، اللّهمّ إنّي أستودعكهما وصالح المؤمنين.

مع ابنته فاطمة (عليها السلام)

قال سلمان: بينا أنا عند رسول اللّه (ص) في مرضه الذي قبض فيه، إذ دخلت عليه فاطمة (ع) فلما رأت ما به (ص) خنقتها العبرة حتي فاضت دموعها علي خدّيها، فأبصر ذلك رسول اللّه (ص) فقال: ما يبكيك يا بنيّة، أقرّ اللّه عينك ولا أبكاها؟

قالت (ع): وكيف لا أبكي وأنا أري ما بك من الضعف؟ فمن لنا بعدك يا رسول اللّه؟

فقال (ص) لها (ع): يا فاطمة لكم اللّه فتوكّلي عليه واصبري كما صبر آباؤك من الأنبياء، واُمّهاتك من أزواجهم، ألا أُبشرك يا فاطمة؟

قالت (ع): بلي يا أبه.

قال (ص): أما علمت ان اللّه تعالي اختار أباك فجلعه نبياً، وبعثه إلي كافة الخلق رسولاً، ثم اختار علياً فأمرني فزوّجتك إياه، واتخذته بأمر ربّي وزيراً ووصيّاً، يا فاطمة انّ علياً أعظم المسلمين علي المسلمين بعدي حقاً، وأقدمهم سلماً، وأعزهم خطراً، وأجملهم خلقاً، وأشدّهم في اللّه وفيّ غضباً، وأعلمهم علماً، وأحلمهم حلماً، وأثبتهم في الميزان قدراً، وأشجعهم قلباً، وأربطهم جأشاً، وأسخاهم كفاً.

فاستبشرت فاطمة (ع)، فأقبل عليها رسول اللّه (ص) وقال: هل سررتك يا فاطمة؟

قالت (ع): نعم يا أبة، الحديث.

وصايا خاصة

قال ابن عباس: لما مرض رسول اللّه (ص) وعنده أصحابه قام إليه عمار بن ياسر فقال له: فداك أبي واُمي يا رسول اللّه من يغسلك منا إذا كان ذلك منك؟

قال (ص): ذاك علي بن أبي طالب (ع)، لأنه لا يهمّ بعضو من أعضائي إلا أعانته الملائكة علي ذلك.

فقال له: فداك أبي واُمي يا رسول اللّه فمن يصلّي عليك منّا إذا كان ذلك منك؟

قال (ص): مه! رحمك اللّه، ثم قال لعلي (ع): يا ابن أبي طالب إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي فاغسلني، وانق غسلي، وكفّني في طمريّ هذين، أو في

بياض مصر، وبرد يمان، ولا تغال في كفني، واحملوني حتي تضعوني علي شفير قبري، فأول من يصلّي عليّ الجبّار جلّ جلاله من فوق عرشه، ثم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل في جنود من الملائكة لا يحصي عددهم إلا اللّه عزّوجل، ثم الحافّون بالعرش، ثم سكّان أهل سماء فسماء، ثم جلّ أهل بيتي ونسائي الأقربون فالأقربون، يؤمون ايماءاً، ويسلّمون تسليماً.

حقوق الناس

قال ابن عباس: ثم ان رسول اللّه (ص) قال لبلال: يا بلال هلمّ عليّ بالناس، فاجتمع الناس، فخرج رسول اللّه (ص) متعصّباً بعمامته، متوكياً علي قوسه، حتي صعد المنبر، فحمد اللّه وأثني عليه، ثم قال: يا معاشر أصحابي أيّ نبيّ كنت لكم؟

قالوا: كنت للّه صابراً، وعن منكر بلاء اللّه ناهياً، فجزاك اللّه عنّا أفضل الجزاء.

فقال (ص): وأنتم فجزاكم اللّه، ثم قال (ص): انّ ربّي عزّوجل حكم وأقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم، فناشدتكم باللّه أيّ رجل منكم كانت له قِبَل محمد مظلمة إلاّ قام فليقتص منه، فالقصاص في دار الدنيا أحبّ إليَّ من القصاص في دار الآخرة علي رؤوس الملائكة والأنبياء.

فقام إليه رجل من أقصي القوم يقال له: سوادة بن قيس وقال: فداك أبي واُمّي يا رسول اللّه، انك لما أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فلا أدري عمداً أو خطأً.

فقال (ص): معاذ اللّه أن أكون قد تعمّدت، ثم قال: يا بلال قم إلي منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق.

فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة: معاشر الناس من ذا الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة؟ فهذا محمد (ص) يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة!

فلما وصل منزل فاطمة (ع) طرق الباب وهو يقول: يا فاطمة قومي فوالدك يريد القضيب الممشوق.

فأقبلت فاطمة (ع) وهي

تقول: يا بلال وما يصنع والدي بالقضيب الممشوق في مثل هذا اليوم؟!

فقال بلال: يا فاطمة أما علمتِ انّ والدكِ قد صعد المنبر وهو يودّع أهل الدين والدنيا.

فصاحت فاطمة (ع) وقالت: واغمّاه لغمّك يا أبتاه، من للفقراء والمساكين وابن السبيل، يا حبيب اللّه وحبيب القلوب؟

ثم ناولت بلالاً القضيب، فجاء به حتي ناوله رسول اللّه (ص)، عندها قال رسول اللّه (ص): أين الشيخ؟

قام الشيخ وهو يقول: ها أنا ذا يا رسول اللّه بأبي أنت واُمّي.

فقال (ص): تعال فاقتصّ منّي حتي ترضي.

فجاء الشيخ وقال: فاكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه، فكشف (ص) عن بطنه مستسلماً للقصاص.

فقال الشيخ: بأبي أنت واُمي يا رسول اللّه، أتأذن لي أن أضع فمي علي بطنك؟

فأذن (ص) له، فوضع الشيخ فمه عليه يقبّله وهو يقول: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللّه (ص) من النار يوم النار.

فقال (ص) له عند ذلك: يا سوادة بن قيس أتعفو أم تقتصّ؟

قال: بل أعفو يا رسول اللّه.

فقال (ص): اللّهمّ اعف عن سوادة بن قيس كما عفي عن نبيّك محمّد.

أقول: الظاهر ان سوادة بن قيس أراد أن يقبّل جسم رسول اللّه (ص) فقال ما قال، وإلا فالرسول (ص) لا يخطأ حتي في مثل ما ادعاه سوادة، لأن العصمة تمنع عن الخطأ، ولعل الرسول (ص) لم يكذبه حتي لا يقول الناس ان النبي (ص) حيث أراد التخلّص من القصاص كذب سوادة.

ثم قام رسول اللّه (ص) فدخل بيت اُم سلمة وهو يقول: ربّ سلّم اُمّة محمد من النار، ويسّر عليهم الحساب.

فقالت اُم سلمة: يا رسول اللّه ما لي أراك مغموماً متغيّر اللون؟

فقال (ص): نعيت إلي نفسي هذه الساعة، فسلام لك في الدنيا، فلا تسمعين بعد هذا صوت محمد أبداً.

فقالت اُم سلمة:

واحزناه حزناً لا تدركه الندامة عليك يا محمداه.

1 الشوري: 23. 2 الأحزاب: 6.

3 راجع شرح النهج لابن أبي الحديد: ج6 ص52، دار إحياء التراث العربي، وفيه: (انفذوا جيش اُسامة، لعن الله من تخلّف عنه، وكرّر ذلك).

4 وفي شرح النهج لابن أبي الحديد: (انفذوا جيش اُسامة لعن الله من تخلّف عنه وكرر ذلك) ج6 ص52/ دار إحياء التراث العربي.

5 راجع مسند أحمد بن حنبل: ج1 ص355 ح3326 وفيه: (قال رسول الله: ائتوني باللوح والدواة، أو الكتف، اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فقالوا: إن رسول الله ليهجر) ومثله في صحيح مسلم: ج3 ص1259 ح1، وراجع صحيح البخاري ج1 ص29 ط دار إحياء التراث العربي، باب كتابة العلم، وفيه: (قال عمر: إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا) والبخاري: ج6 ص11 باب مرض النبي، وفيه: (فقال بعضهم: ان رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله). [الناشر].

6 النجم: 2 4. 7 فاطر: 10.

النبي (ص) ساعة الوداع

قال ابن مسعود: لما دنا فراق رسول اللّه (ص) جمعنا في بيت فنظر إلينا فدمعت عيناه ثم قال (ص): مرحباً بكم، حياكم اللّه، حفظكم اللّه، نصركم اللّه، نفعكم اللّه، هداكم اللّه، وفّقكم اللّه، سلمكم اللّه، قبلكم اللّه، رزقكم اللّه، رفعكم اللّه، اُوصيكم بتقوي اللّه، واُوصي اللّه بكم(1)، اني لكم نذير مبين أن لا تعلوا علي اللّه في عباده وبلاده، فإن اللّه تعالي قال لي ولكم: (تلك الدار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتّقين)(2). وقال سبحانه: (أليس في جهنّم مثويً للمتكبّرين)(3).

قلنا: متي يا رسول اللّه أجلك؟

قال (ص): دنا الأجل والمنقلب إلي اللّه وإلي سدرة المنتهي، وجنّة المأوي والعرش الأعلي، والكأس الأوفي، والعيش الأهنأ.

قلنا: فمن يغسّلك؟

قال (ص): أخي.

من كلمات الوداع

قال علي (ع): بينما نحن عند النبي (ص) وهو يجود بنفسه وهو مسجّي بثوب وملاءة خفيفة علي وجهه، فمكث ماشاءاللّه أن يمكث ونحن حوله بين باكٍ ومسترجع إذ تكلّم (ص) وقال: (ابيضّت وجوه، واسودّت وجوه، وسعد أقوام، وشقي آخرون، أصحاب الكساء الخمسة أنا سيّدهم ولا فخر، عترتي أهل بيتي السابقون المقرّبون، يسعد من اتّبعهم وشايعهم علي ديني ودين آبائي، أنجزتَ مواعيدك يا رب إلي يوم القيامة في أهل بيتي).

الأولي حتي من جبرئيل

وعن علي (ع) انه قال: دخلت علي رسول اللّه (ص) في شكاته فإذا رأسه في حجر رجل أحسن ما رأيت من الخلق، والنبي (ص) نائم، فلما دخلت التفت إليّ ذلك الرجل وقال لي: ادن إلي ابن عمك فأنت أحقّ به منّي، فدنوتُ منهما، فقام الرجل وجلست مكانه ووضعتُ رأس النبي (ص) في حجري كما كان في حجر الرجل، فمكث ساعة، ثم استيقظ النبي (ص) فقال: يا علي أين الرجل الذي كان رأسي في حجره؟

قلت: يا رسول اللّه إنّي لما دخلت دعاني إليك ثم قال: ادن إلي ابن عمك فأنت أحقّ به منّي، ثم قام فجلستُ مكانه.

فقال النبي (ص): فهل تدري من الرجل؟ ذاك جبرئيل كان يحدّثني حتي خفّ عني وجعي، ونمت ورأسي في حجره.

قال عمار: لما حضر رسول اللّه (ص) أمر اللّه دعا بعلي (ع) فسارّه طويلاً ثم قال له: يا علي أنت وصيّي ووارثي، قد أعطاك اللّه علمي وفهمي، فإذا متّ ظهرت لك ضغائن في صدور قوم، وغصبت علي حقك.

فبكت فاطمة (ع) وبكي الحسن والحسين (عليهما السلام).

فقال (ص) لفاطمة: يا سيّدة النسوان ممّ بكاؤك؟

قالت (ع): يا أبة أخشي الضيعة بعدك.

فقال (ص): أبشري يا فاطمة فإنك أول من يلحقني من أهل بيتي، لا تبكي ولا تحزني،

فإنّك سيدة نساء أهل الجنّة، وأباك سيد الأنبياء، وابن عمك سيد الأوصياء، وابناك سيدا شباب أهل الجنّة، ومن صلب الحسين (ع) يخرج اللّه الأئمّة التسعة مطهّرون معصومون، ومنك مهدي هذه الاُمّة.

جبرئيل وكتاب الوصيّة

قال علي (ع): دعاني رسول اللّه (ص) عند ارتحاله من هذه الدنيا وأخرج من كان عنده في البيت غيري، والبيت فيه جبرئيل والملائكة معه، فأخذ رسول اللّه (ص) كتاب الوصية من يد جبرئيل مختومة، فدفعها إليّ وأمرني أن أفضّها، ففعلت، وأمرني أن أقرأها فقرأتها، فإذا فيها كل ما كان رسول اللّه (ص) يوصيني به شيئاً شيئاً ما تغادر حرفاً.

قال موسي بن جعفر (ع): قلت لأبي عبداللّه (ع): أليس كان أميرالمؤمنين(ع) كاتب الوصية ورسول اللّه (ص) المملي عليه وجبرئيل والملائكة المقرّبون شهود؟

فقال (ع): قد كان ما قلت، ولكن حين نزل برسول اللّه (ص) الأمر نزلت الوصية من عند اللّه كتاباً مسجّلاً، نزل به جبرئيل مع اُمناء اللّه تبارك وتعالي من الملائكة، فقال جبرئيل: يا محمد مر بإخراج من عندك إلاّ وصيّك ليقبضها منا، وتشهدنا بدفعك إياها إليه.

ففعل رسول اللّه (ص) ذلك وأشهدهم عليه وقال: يا علي تفي بما فيها مِن موالاة مَن والي اللّه ورسوله، والعداوة لمن عادي اللّه ورسوله والبراءة منهم، علي الصبر منك، وعلي كظم الغيظ، وعلي ذهاب حقّك، وغصب خمسك، وانتهاك حرمتك.

فقال: نعم يا رسول اللّه.

فقال أمير المؤمنين (ع): والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئيل يقول للنبي (ص): يا محمد عرّفه انه ينتهك الحرمة وهي حرمة اللّه وحرمة رسول اللّه (ص).

قال أمير المؤمنين (ع): فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل حتي سقطت علي وجهي وقلت: نعم قبلت ورضيت وإن انتهكت الحرمة.

ثم دعا رسول اللّه (ص) فاطمة والحسن والحسين (عليهم

السلام) وأعلمهم مثل ما أعلم أميرالمؤمنين (ع) فقالوا مثل قوله، فختمت الوصية ودفعت إلي أمير المؤمنين (ع) وخرج جبرئيل والملائكة معه إلي السماء.

ثم عرض علي رسول اللّه (ص) ضعف شديد، فلما أفاق دخلت عليه النساء يبكين وارتفعت الأصوات وضجّ الناس بالباب من المهاجرين والأنصار.

وديعة اللّه ووديعة رسوله

قال موسي بن جعفر (ع): فقلت لأبي (ع): فما كان بعد خروج الملائكة عن رسول اللّه (ص)؟

فقال (ع): ثم دعا (ص) علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقال لمن في بيته: اخرجوا عني، وقال لاُم سلمة: كوني علي الباب فلا يقربه أحد، ثم التفت إلي علي (ع) وقال له: يا علي ادن مني، فدنا منه، فأخذ بيد فاطمة (ع) فوضعها علي صدره طويلاً، وأخذ بيد علي (ع) بيده الاُخري، فلما أراد رسول اللّه (ص) الكلام غلبته العبرة فلم يقدر علي الكلام.

فبكت فاطمة (ع) بكاءاً شديداً وأكبّت علي وجهه تقبّله، وبكي علي والحسن والحسين (عليهم السلام) لبكاء رسول اللّه (ص) ثم أكبّوا علي وجهه.

فرفع رسول اللّه (ص) رأسه إليهم ويدها في يده، فوضعها في يد علي (ع) وقال له: يا أبا الحسن هذه وديعة اللّه ووديعة رسوله محمد عندك فاحفظ اللّه واحفظني فيها، وانك لفاعل هذا يا علي، هذه واللّه سيّدة نساء أهل الجنّة من الأوّلين والآخرين، هذه واللّه مريم الكبري، أما واللّه ما بلغت نفسي هذا الموضع حتي سألت اللّه لها ولكم، فأعطاني ما سألته، يا علي أنفذ لما أمرتك به فاطمة، فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل، وأمرتها أن تلقيها إليك، فانفذها، فهي الصادقة الصدوقة، واعلم يا علي اني راضٍ عمّن رضيَت عنه ابنتي فاطمة، وكذلك ربي وملائكته، يا علي ويل لمن ظلمها، وويل لمن ابتزّها حقها، وويل لمن هتك

حرمتها، وويل لمن أحرق بابها، وويل لمن آذي حليلها، وويل لمن شاقّها وبارزها، اللّهم اني منهم بريء، وهم مني براء، ثم سماهم رسول اللّه (ص) وضمّ فاطمة إليه وعلياً والحسن والحسين (عليهم السلام) الحديث.

الإقرار بقبول الوصيّة

قال أبو عبداللّه الصادق (ع): ثم انّ رسول اللّه (ص) قال لعلي (ع) بعد أن دفع إليه الوصية وأشهد علي ذلك جبرئيل ومن معه من الملائكة: يا علي أضمنت دَيْني تقضيه عنّي؟

قال (ع): نعم، الحديث.

حنوط من الجنة

قال علي (ع): ثم انه كان في الوصية أن يدفع إليَّ الحنوط، فدعاني رسول اللّه (ص) قبل ارتحاله عن الدنيا بقليل وقال: يا علي ويا فاطمة هذا حنوطي من الجنة، وكان وزنه أربعين درهماً، قد دفعه إليَّ جبرئيل، وهو يقرئكما السلام ويقول لكما: اقسماه وأعزلا منه لي ولكما.

قالت فاطمة (ع): لك يا أبه ثلثه، وليكن الناظر في الباقي علي بن أبي طالب (ع)، فبكي رسول اللّه (ص) وضمّها إليه وقال: موفقة رشيدة، مهدية ملهمة، يا علي قل في الباقي.

قال (ع): نصف ما بقي لها، ونصف لمن تري يا رسول اللّه.

قال (ص): هو لك فاقبضه

النبي (ص) يستدعي أخاه

ولما ثقل رسول اللّه (ص) وحجب الناس عنه كان أمير المؤمنين (ع) لا يفارقه إلا لضرورة، فقام (ع) في بعض شؤونه، فأفاق رسول اللّه (ص) إفاقة فافتقد علياً (ع) فقال وأزواجه حوله: (ادعوا لي أخي وصاحبي) وعاوده الضعف فصمت.

فدُعي له غير علي (ع)، فلما فتح (ص) عينه ونظر إليه أعرض عنه بوجهه.

فقالت اُمّ سلمة: اُدعوا له علياً (ع)، فإنه لا يريد غيره.

فدعي أمير المؤمنين (ع) فلما دنا منه أومأ (ص) إليه، فأكبّ عليه فناجاه رسول اللّه (ص) طويلاً، ثم قام فجلس ناحية، فقال له الناس بعد ذلك: ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن؟

فقال (ع): علّمني ألف باب من العلم، يفتح لي في كل باب ألف باب، وأوصاني بما أنا قائم به إن شاء اللّه تعالي.

وفي رواية انه قال (ع): علّمني رسول اللّه (ص) ألف باب من الحلال والحرام، وما كان وما هو كائن إلي يوم القيامة، كل باب منها يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب، حتي علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب.

وفي رواية في المستدرك: ألف ألف باب يفتح

لي من كلّ باب ألف باب.

بين الحبيب وحبيبه

ثم انّ اُم سلمة استأذنت علي رسول اللّه (ص) فقال لها: ادعي لي حبيبتي وقرّة عيني وثمرة فؤادي فاطمة المظلومة بعدي، فدعتها، فأقبلت وهي تبكي، فاعتنقها رسول اللّه (ص) وضمها إلي صدره، فناجاها فرفعت رأسها وعيناها تهملان دموعاً، ثم ناجاها وأسرّ إليها شيئاً تهلّل وجهها له، ولما سئلت بعد ذلك عن بكائها وعن تهلّل وجهها؟

قالت (ع): نعي إليّ نفسه فبكيت، ثم أخبرني بأني أول أهل بيته لحوقاً به، وانه لن تطول المدّة لي بعده حتي أدركه، وأخبرني أني سيدة نساء أهل الجنّة، وابناي سيدا شباب أهل الجنة وان الأئمة الإثني عشر خلفاؤه هم بعلي ووُلدي: علي (ع) أبوهم وأولهم، والمهدي ابني آخرهم، فتهلّل وجهي لذلك.

ثم انه (ص) دعا الحسن والحسين وقبّلهما وشمّهما وجعل يترشفهما وعيناه تهملان وأخبر (ص) بأنهما سيُظلمان بعده ويقتلان ظلماً، ولعن قاتلهما.

قال ابن عباس: ثم قالت فاطمة (ع) للنبي (ص) وهو في لحظاته الأخيرة: يا أبة أنا لا أصبر عنك ساعة من الدنيا، فأين الميعاد غداً؟

قال (ص): أما انك أول أهلي لحوقاً بي وكان كذلك فقد لحقت بأبيها بعد خمسة وسبعين يوماً مظلومة شهيدة(4) والميعاد علي جسر جهنّم.

قالت (ع): يا أبة أليس قد حرّم اللّه عزّوجل جسمك ولحمك علي النار؟

قال (ص): بلي، ولكني قائم حتي تجوز اُمتي.

قالت (ع): فإن لم أرك هناك؟

قال (ص): تريني عند القنطرة السابعة من قناطر جهنّم، أستوهب الظالم من المظلوم.

قالت (ع): فإن لم أرك هناك؟

قال (ص): تريني في مقام الشفاعة وأنا أشفع لاُمّتي.

قالت (ع): فإن لم أرك هناك؟

قال (ص): تريني عند الميزان وأنا أسأل لاُمتي الخلاص من النار.

قالت: فإن لم أرك هناك؟

قال (ص): تريني عند الحوض، حوضي عرضه ما بين ايله إلي

صنعاء، علي حوضي ألف غلام(5) بألف كأس كاللؤلؤ المنظوم، وكالبيض المكنون، من تناول منه شربة فشربها لم يظمأ بعدها أبداً، وجعل يكرّرها.

النبي (ص) حياً وميتاً

ثم ان رسول اللّه (ص) ثقل وهو (ص) في بيت فاطمة (ع) فأشار إلي علي (ع) فدنا منه، فقال له وهو في لحظاته الأخيرة: (ضع يا علي رأسي في حجرك، فقد جاء أمر اللّه تعالي، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثمّ وجّهني إلي القبلة وتولّ أمري، فاستق لي ست قرب من ماء بئر غرص، فغسّلني وكفّني وحنّطني، فإذا فرغت فخذ بمجامع كفني واجلسني ثم سلني عما شئت، فو اللّه لاتسألني عن شيء إلا أجبتك، وصلِّ عليّ أول الناس، ولا تفارقني حتي تواريني في رمسي، يا علي ادفنّي في هذا المكان فإنّ بيتي قبري، وارفع قبري من الأرض أربع أصابع، وفي رواية: قدر شبر وأربع أصابع، وفي رواية: واجعل حول قبري حائطاً، ورش عليه من الماء واستعن باللّه تعالي).

فأخذ علي (ع) رأس رسول اللّه (ص) فوضعه في حجره وقد انقطع عن الكلام لما نزل به، فأكبت فاطمة (ع) تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول:

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامي عصمة للأرامل

ففتح رسول اللّه (ص) عينه وقال بصوت ضئيل: يا بنية هذا قول عمك أبي طالب، لا تقوليه، ولكن قولي: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم)(6).

علي مشارف الآخرة

ولما كان صباح يوم الاثنين لليلتين بقيتا من شهر صفر سنة إحدي عشرة من الهجرة النبوية المباركة استأذن علي رسول اللّه (ص) ملك الموت، وهو (ص) في بيت فاطمة (ع) وعمر رسول اللّه (ص) إذ ذاك ثلاث وستّون سنة.

قال ابن عباس: فلما طرق الباب قالت فاطمة (ع): من ذا؟

قال: أنا غريب أتيت رسول اللّه (ص) فهل تأذنون لي في الدخول عليه؟

فأجابت: امضِ رحمك اللّه لحاجتك، فرسول اللّه (ص)

عنك مشغول.

فمضي ثم رجع فدقّ الباب وقال: غريب يستأذن علي رسول اللّه (ص) فهل تأذنون للغرباء؟

فأفاق رسول اللّه (ص) وقال: يا فاطمة ان هذا مفرق الجماعات، ومنغّص اللذّات، هذا ملك الموت، ما استأذن واللّه علي أحد قبلي، ولا يستأذن علي أحد بعدي، استأذن عليَّ لكرامتي علي اللّه، ائذني له.

فقالت (ع): اُدخل رحمك اللّه، فلما اُذن له دخل كريح هفّافة وقال: السلام عليك يا رسول اللّه وعلي أهل بيتك.

قال (ص): وعليك السلام يا ملك الموت.

فقال: انّ ربك أرسلني إليك وهو يقرؤك السلام ويخيّرك بين لقائه والرجوع إلي الدنيا.

فاستمهله (ص) حتي ينزل جبرئيل ويستشيره، فخرج ملك الموت من عنده وجاء جبرئيل فقال: السلام عليك يا أباالقاسم.

قال (ص): وعليك السلام يا حبيبي جبرائيل.

فقال: يا رسول اللّه انّ ربك إليك مشتاق، وما استأذن ملك الموت علي أحد قبلك، ولا يستأذن علي أحد بعدك.

قال (ص): يا حبيبي جبرئيل ان ملك الموت قد خيّرني عن ربّي بين لقائه وبين الرجوع إلي الدنيا، فما الذي تري؟

فقال: يا رسول اللّه (وللآخرة خير لك من الاُولي ولسوف يعطيك ربّك فترضي)(7).

قال (ص): نعم، لقاء ربي خير لي، لا تبرح يا حبيبي جبرئيل حتي ينزل ملك الموت، فنزل ملك الموت فقال له رسول اللّه (ص): امضِ لما اُمرت له.

وفي رواية: قال جبرئيل: يا رسول اللّه أتريد الرجوع إلي الدنيا؟

قال (ص): لا، وقد بلّغت.

ثم قال ثانية: يا رسول اللّه أتريد الرجوع إلي الدنيا؟

قال (ص): لا، الرفيق الأعلي.

فقال جبرائيل: يا رسول اللّه هذا آخر يوم أهبط فيه إلي الأرض(8) انما كنت حاجتي من الدنيا.

فقال له رسول اللّه (ص): يا حبيبي جبرئيل ادن مني، فدنا منه، فكان جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، وملك الموت قابضاً لروحه (ص).

ثم مدّ

(ص) يده إلي علي (ع) فجذبه إليه وهو يقول: ادن مني يا أخي فقد جاء أمر اللّه، فدنا (ع) منه حتي أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه، ووضع فاه في اُذنه وجعل يناجيه طويلاً حتي فارقت روحه الدنيا، صلوات اللّه عليه وآله، ويد أمير المؤمنين (ع) اليمني تحت حنكه، ففاضت نفسه فيها، فرفعها (ع) إلي وجهه فمسحه بها.

ثم انسل علي (ع) من تحت ثيابه، وقال: أعظم اللّه اُجوركم في نبيّكم، فقد قبضه اللّه إليه ثم مدّ عليه ازاره، وقال: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، يالها من مصيبة خصت الأقربين وعمت المؤمنين، لما يصابوا بمثلها قط، ولا عاينوا مثلها.

فارتفعت عندها الأصوات بالضجّة والبكاء. فصاحت فاطمة (ع) وصاح المسلمون، وصاروا يضعون التراب علي رؤوسهم، وفاطمة (ع) تقول: يا أبتاه إلي جبرئيل ننعاه، يا أبتاه من ربّه ما أدناه، يا أبتاه جنان الفردوس مأواه، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه، واجتمعت نسوة بني هاشم وجعلن يذكرن النبي (ص). وقالت اُم سلمة: وضعت يدي علي صدر رسول اللّه (ص) يوم قبض فمرّت بي أيام وأسابيع آكل وأتوضأ ما تذهب رائحة المسك من يدي.

أعظم المصائب

وكان رسول اللّه (ص) قد قال لعلي (ع): يا علي من اُصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب، وإلي هذا المعني يشير ما جاء في الديوان المنسوب إلي أمير المؤمنين (ع) من انه كان يقول:

ما غاض دمعي عند نائبة إلا جعلتك للبكا سبباً

وإذا ذكرتك سامحتك به مني الجفون ففاض وانسكبا

وأنشأ أمير المؤمنين (ع) أيضاً يقول:

الموت لا والداً أبقي ولا ولداً هذا السبيل إلي أن لا تري أحداً

هذا النبي ولم يخلد لاُمته لو خلّد اللّه خلقاً قبله خُلدا

للموت فينا سهام غير خاطئة من فاته اليوم سهم

لم يفته غداً

وأنشأت الزهراء (ع) تقول:

إذا مات يوماً ميّت قلّ ذكره وذكر أبي طول الدُني في تزيّد

تذكرت لما فرّق الموت بيننا فعزّيت نفسي بالنبي محمد

فقلت لها: إن الممات سبيلنا ومن لم يمت في يومه مات في غد

التعزية من اللّه تبارك وتعالي

عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: لما قُبض رسول اللّه (ص) بات آل محمد (عليهم السلام) بأطول ليلة حتي ظنّوا أن لا سماء تظلّهم، ولا أرض تقلّهم، لأنّ رسول اللّه (ص) وتر الأقربين والأبعدين في اللّه.

فبينما هم كذلك إذ أتاهم آت لا يرونه ويسمعون كلامه، فقال: (السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته، انّ في اللّه عزاء من كل مصيبة، ونجاة من كل هلكة، ودركاً لما فات (كلّ نفس ذائقة الموت وإنّما توفّون اُجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار واُدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)(9) انّ اللّه اختاركم وفضّلكم وطهَّركم وجعلكم أهل بيت نبيّه، واستودعكم علمه، وأورثكم كتابه، وجعلكم تابوت علمه، وعصا عزّه(10)، وضرب لكم مثلاً من نوره(11)، وعصمكم من الزلل، وأمنكم من الفتن، فتعزّوا بعزاء اللّه، فإن اللّه لم ينزع منكم رحمته، ولن يزيل عنكم نعمته، فأنتم أهل اللّه عزّوجل الذين بهم تمّت النعمة، واجتمعت الفرقة، وائتلفت الكلمة، وأنتم أولياؤه، فمن تولاّكم فاز، ومن ظلم حقكم زهق، مودّتكم من اللّه واجبة في كتابه علي عباده المؤمنين، ثم اللّه علي نصركم إذا يشاء قدير، فاصبروا لعواقب الاُمور فإنها إلي اللّه تصير، قد قبلكم اللّه من نبيّه وديعة، واستودعكم أولياءه المؤمنين في الأرض، فمن أدّي أمانته آتاه اللّه صدقه، فأنتم الأمانة المستودعة، ولكم المودّة الواجبة، والطاعة المفروضة، وقد قبض رسول اللّه (ص) وقد أكمل لكم الدين، وبيّن لكم سبيل المخرج، فلم يترك لجاهل حجّة،

فمن جهل أو تجاهل أو أنكر أو نسي أو تناسي فعلي اللّه حسابه، واللّه من وراء حوائجكم، واستودعكم اللّه، والسلام عليكم).

قال الراوي: فسألتُ أبا جعفر (ع) ممّن أتاهم التعزية؟قال (ع): من اللّه تبارك وتعالي.

جبرئيل يعزّي أهل البيت (عليهم السلام)

وعن أبي عبداللّه (ع) قال: لما قبض رسول اللّه (ص) جاءهم جبرئيل، والنبي (ص) مسجّي، وفي البيت علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة (كلّ نفس ذائقة الموت وإنما توفّون اُجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار واُدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)(12) ان في اللّه عزاء من كل مصيبة، ودركاً من كل ما فات، وخلفاً من كل هالك، فباللّه فثقوا، وإياه فارجوا، إنما المصاب من حرم الثواب.

الخضر يعزّي آل الرسول (عليهم السلام)

عن أبي الحسن الرضا (ع) قال: لما قبض رسول اللّه (ص) أتاهم آت فوقف علي باب البيت فعزّاهم به وأهل البيت يسمعون كلامه ولا يرون شخصه، فقال علي بن أبي طالب (ع): هذا هو الخضر أتاكم يعزّيكم بنبيّكم، فكان مما قال في تعزيته:

(السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته (كلّ نفس ذائقة الموت وإنّما توفّون اُجوركم يوم القيامة)(13) انّ في اللّه عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فباللّه فثقوا، وعليه فتوكّلوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب وأستغفر اللّه لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته).

وفي رواية عن أبي ذر عن علي (ع) انه بعث اللّه عزّوجل إليهم حين قبض رسول اللّه (ص): بالتعزية وفاطمة (ع) تبكيه، قال (ع): سمعنا حساً علي الباب، وقائلاً يقول: (السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته، ربّكم عزّوجل يقرئكم السلام، ويقول لكم: انّ في اللّه خلفاً من كلّ مصيبة، وعزاءاً من كل هالك، ودركاً من كل فوت، فتعزّوا بعزاء اللّه، واعلموا انّ أهل الأرض يموتون، وانّ أهل السماء لا يبقون، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته).

قال (ع): وأنا في البيت وفاطمة والحسن والحسين أربعة

لا خامس لنا إلاّ رسول اللّه (ص) مسجّي بيننا.

المعصوم لا يليه إلا معصوم

قال ابن مسعود: قلت للنبي (ص) وهو في شكاته: يا رسول اللّه من يغسّلك إذا حدث بك حادث؟

قال (ص): يغسّل كل نبي وصيّه.

قلت: فمن يا رسول اللّه وصيّك؟

قال (ص): علي بن أبي طالب.

وقال سلمان: أتيت علياً (ع) وهو يغسّل رسول اللّه (ص) وكان قد أوصي (ص) أن لا يغسّله غير علي (ع)، وأخبر انه لا يريد أن يقلّب منه عضواً إلا قُلب له.

وقد قال أمير المؤمنين (ع) لرسول اللّه (ص): من يعينني علي غسلك يا رسول اللّه؟

قال (ص): جبرئيل.

فلما غسّله وكفّنه وحنّطه أدخلني وأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فتقدّم وصففنا خلفه وصلّي عليه، ثم أدخل عشرة من المهاجرين وعشرة من الأنصار، فيصلّون ويخرجون، حتي لم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلاّ صلّي عليه.

وفي رواية: ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله، ثم وقف أمير المؤمنين (ع) في وسطهم، فقال: (إنّ اللّه وملائكته يصلّون علي النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً) فيقول القوم كما يقول، حتي صلّي عليه (ص) أهل المدينة وأهل العوالي كلهم.

انقطاع النبوّة أكبر فجيعة للأرض

قال ابن عباس: لما قبض رسول اللّه (ص) تولّي غسله علي بن أبي طالب (ع)، فلما فرغ من غسله كشف الازار عن وجهه ثم قال (ع): (بأبي أنت واُمّي طبت حياً وطبت ميتاً، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممّن سواك من النبوّة والأنباء، وأخبار السماء، خصصت حتي صرت مسلّياً عمّن سواك، وعممت حتي صار الناس فيك سواء، ولولا انك أمرتَ بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفدْنا عليك ماء الشؤن، ولكان الداء مماطلاً، والكمد مخالفاً، وقلاّ لك، ولكنه ما لا يملك ردّه ولا يستطاع دفعه، بأبي أنت واُمّي اذكرنا عند ربّك، واجعلنا من همّك)، ثم

أكبّ (ع) عليه (ص) فقبّل وجهه.

وفي نهج البلاغة: (ولقد قُبِض رسول اللّه (ص) وانّ رأسه لعلي صدري، وقد سالتْ نفسه في كفّي، فأمررتها علي وجهي، ولقد ولّيت غسله (ص) والملائكة أعواني، فضجّت الدار والأفنية، ملأ يهبط، وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلّون عليه، حتي واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به منّي حياً وميّتاً؟)(14).

وفي النهج أيضاً: (إلاّ انّ لي في التأسّي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك موضع تعزٍّ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون)(15).

النبي (ص) في مثواه الأخير

ولما فرغ المسلمون من الصلاة علي رسول اللّه (ص) وقد صلّوا عليه فوجاً فوجاً خاضوا في موضع دفنه فقال بعضهم في البقيع، وقال آخرون: في صحن المسجد.

فقال علي (ع): انّ اللّه سبحانه لم يقبض نبياً في مكان إلا وارتضاه لرمسه فيه، واني دافنه في حجرته التي قبض فيها، وهي بيت فاطمة (ع) فرضي المسلمون بذلك.

فلما تهيّأ القبر وضع علي (ع) رسول اللّه (ص) علي يديه ثم دلاّه في حفرته، ثم نزل علي (ع) في القبر فكشف عن وجهه، ووضع خدّه علي الأرض موجّهاً إلي القبلة علي يمينه، ثم وضع عليه اللبن وأهال عليه التراب..

فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.

(السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا محمد بن عبداللّه، السلام عليك يا خيرة اللّه، السلام عليك يا حبيب اللّه، السلام عليك يا صفوة اللّه، السلام عليك يا أمين اللّه، أشهد أنّك رسول اللّه، وأشهد أنّك محمد بن عبداللّه، وأشهد أنّك قد نصحت لاُمّتك، وجاهدت في سبيل ربِّك، وعبدته حتي أتاك اليقين، فجزاك اللّه يا رسول اللّه أفضل ما جزي نبياً عن اُمَّته، اللّهمّ صلّ علي محمد وآل محمد أفضل ما صلّيت علي

إبراهيم وآل إبراهيم انّك حميد مجيد)(16).

1 أي: أطلب من الله سبحانه أن يتفضل بالمزيد عليكم ولفظ (اوصي) من باب المشاكلة مثل قوله تعالي: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك).

2 القصص: 83. 3 الزمر: 60.

4 أو بعد خمسة وتسعين يوماً، علي اختلاف الروايات.

5 هذا مثال الزيادة، لا العدد، فهو من قبيل قوله تعالي: (وإن تستغفر لهم سبعين مرة) [التوبة: 80].

6 آل عمران: 144، 7 الضحي: 4 5.

8 أي آخر هبوط علي رسول الله (ص) لأجل إبلاغ الوحي وإلاّ فقد نزل جبرائيل بعده، في قصص مختلفة لا لأجل الوحي.

9 آل عمران: 185.

10 تشبيه بتابوت بني إسرائيل، وعصا موسي (عليه السلام). 11 المراد آية النور.

12 آل عمران: 185. 13 آل عمران: 185. 14 نهج البلاغة: الخطبة 197.

15 نهج البلاغة: الخطبة 202.

16 وهذا مروي عن البزنطي قال: قلت للرضا (ع): كيف الصلاة علي رسول الله … وكيف السلام عليه؟ فقال (ع):

(تقول: … ).

خاتمة

وهل يمكن اعادة دور المسلمين، حتي يأخذوا بأزمة العالم مرة ثانية، كما أخذوها ببركة قيادة الرسول (ص) لينقذوا البشرية من الجهل والفقر والمرض والفوضي، والحروب والثورات، والإستبداد والإستغلال، ومن ألف مشكلة ومشكلة؟

وإذا أمكن فكيف؟

والجواب: نعم يمكن، والطريق هو الرجوع إلي الكتاب والسنّة، كما قال رسول اللّه (ص): (إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا)(1).

والضلال ليس في العقيدة فحسب، بل في العمل أيضاً، والخلاص ليس عن مشاكل الآخرة فحسب، بل عن مشاكل الدنيا أيضاً، لأن الإسلام دين ودنيا، كما قال القرآن الحكيم: (ومنهم من يقول ربّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار اُولئك لهم نصيبٌ ممّا كسبوا واللّه سريع الحساب)(2).

وكما قال الحديث

الشريف:

(ليس منّا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه)(3).

فإذا أرجعنا إلي المسلمين: (الاُمّة الواحدة) بإسقاط الحدود الجغرافية.

وأرجعنا إليهم: (الاُخوّة الإسلامية) بأن يكون كل مسلم في أي بلد من بلاد الإسلام، حاله حال أهل ذلك البلد في كل شيء.

وأرجعنا إلي مجتمعاتنا وشعوبنا: (الحريات الإسلامية) بأن يكون كل شيء حر ماعدا المحرّمات وما أقلّها.

وأرجعنا إلي الحكم: سائر قوانين الإسلام المذكورة في الكتاب والسنّة، وقد ذكرها علماء المسلمين في كتبهم الفقهية ورسائلهم العملية: في العبادات، والمعاملات، والقضاء، والقصاص، والحدود، والديات، والأحوال الشخصية، من: النكاح، والطلاق، والمواريث وغيرها وغيرها.

وكانت القيادة ممّا يعتمد عليها، كما قال علي (ع): (ووَثَقوا بالقائد فاتبعوه)(4) بأن كانت كقيادة الرسول (ص) في العمل فإنه (ص) ارتحل من الدنيا وتحت نفوذه تسع دول في منطق عالم اليوم، بينما درعه مرهونة لأجل أصوع من شعير أخذها لقوت نفسه وأهله.

أو كقيادة علي (ع) كما قال بنفسه: (ألا وانّ إمامكم قد اكتفي من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه)(5).

وكما قال (ع) أيضاً: (واللّه لئن أبيتُ علي حسك السعدان مسهّداً، أو اُجرّ في الأغلال مصفّداً، أحبُّ إليَّ من أن ألقي اللّه سبحانه وتعالي ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام، إلي أن قال (ع): واللّه لو اُعطِيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها علي أن أعصي اللّهَ في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت)(6).

وكان الحكم شوري، لا أن يستولي الحاكم علي الحكم بالسلاح والقوّة، أو يصل إليه بالوراثة ككسري وقيصر أو يتلاقفه بعض من بعض كالكرة.

وهذا كله لا يكون إلاّ بشوري المرجعية، وتعدّد الأحزاب الحرّة المستندة إلي المؤسسات الدستورية و …

فإنّ ذلك اليوم هو يوم رجوع الإسلام إلي زمام القيادة، وبقيادته الحكيمة لا ينجو المسلمون فحسب، بل ينجو العالم

كله حتي المسمّي بالحضاري والمتمدّن، الذي يرسف تحت ألف غلّ وغلّ، وألف مشكلة ومشكلة.

نعم إذا عمل المسلمون بالإسلام، وذلك ممكن فيما إذا عمَّ الوعي واتّقوا اللّه سبحانه في خطواتهم، ولم يتنازعوا بينهم، يقول اللّه تعالي: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)(7) حينئذ يرجع الإسلام إلي قمة القيادة ويتخلّص العالم من المشاكل والشرور، ومن المآسي والويلات، وما ذلك علي اللّه بعزيز، واللّه الموفّق المستعان.

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام علي المرسلين، والحمد للّه ربّ العالمين، وصلّي اللّه علي محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

1 بحار الانوار: ج36 ص338 ب41 ح201. 2 البقرة: 201 202.

3 من لا يحضره الفقيه: ج3 ص156 ب2 ح3568. 4 نهج البلاغة: الخطبة 182.

5 نهج البلاغة: في كتابه إلي عثمان بن حنيف/ الكتاب 45.

6 مستدرك الوسائل: ج12 ص97 ب77 ح13623، ونهج البلاغة: ا لخطبة 224.

7 الأنفال: 46.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.