كتاب الانصاف

اشارة

نام كتاب: كتاب الإنصاف
نویسنده: ابن سینا
تاریخ وفات مؤلف: 428 ق
موضوع: الهیات
زبان: عربی
تعداد جلد: 1
ناشر: وكاله المطبوعات
مكان چاپ: كویت
سال چاپ: 1978
نوبت چاپ: دوم
ملاحظات: این كتاب در ضمن كتاب ارسطو عند العرب چاپ شده است.

مقدمة المحقق‌

- 3- «شرح كتاب حرف اللام للشیخ الرئیس ابن سینا»

و هذا أیضا عن المخطوطة 6 م؛ و له مخطوط آخر فی دار الكتب بالخزانة التیموریة رقم 86 حكمة (تیموریة). و لكن هذا المخطوط الثانی أحدث جدا و مشحون بالأخطاء بحیث لم تكن له أدنی فائدة فی مراجعته مع المخطوطة 6 م «1»، و من هنا اكتفینا فی الجهاز النقدی
__________________________________________________
(1) توجد عنها نسخة أخری حدیثة برقم 216 حكمة و فلسفة بدار الكتب، و هی مأخوذة لحساب دار الكتب عن المخطوطة 6 م، و لا قیمة لها إذن، فضلا عما وقع فیه الناسخ الحدیث من أخطاء عدیدة.
كذلك توجد مخطوطة من نفس النوع برقم 215 حكمة و فلسفة بدار الكتب تفسیر «أثولوجیا» لابن سینا، و مخطوطة من نفس النوع برقم 215، حكمة و فلسفة بدار الكتب تفسیر «كتاب النفس».
و لهذا رفضنا أن نعدها مخطوطات أصلیة أو أن نحسب لها أی حساب.
كتاب الإنصاف، المقدمة، ص: 23
بذكر الاختلاف فی صفحة واحدة، بدلا من تسوید الهوامش بما لا غناء فیه. فهذا هو المنهج الأسلم فی النشر.
و هذا الشرح كذلك یبدأ من الفصل السادس من مقالة اللام شأنه شأن النصین الأول و الثانی. فهل أراد الناسخ أو الكاتب ألا یختار غیر الابتداء من هذا الفصل دون الفصول السابقة الخمسة، أو لم یوجد- بالنسبة إلی شرح ابن سینا- إلا هذا القسم؟ إن لم نستطع القطع برأی نهائی، فإننا مع ذلك نرجح مطمئنین أن ابن سینا قد شرح المقالة كلها، و أن الناسخ هو الذی اختار ابتداء من الفصل السادس فحسب شأنه فی هذا شأنه فی بقیة ما أخذه من نصوص و شروح لهذه المقالة.
و أول مسألة یثیرها شرح ابن سینا هذا مسألة كتاب «الإنصاف». ففی المخطوطة ورد بصراحة: «و من كتاب الإنصاف: شرح حرف كتاب اللام للشیخ الرئیس ابن سینا علی ابن الحسین بن عبد اللّه» (ص 138 ب من المخطوطة 6 م حكمة و فلسفة). فلننظر الآن فی كتاب «الإنصاف» هذا.
قال البیهقی فی «تتمة صوان الحكمة» فی حدیثه عن ابن سینا إنه وقعت الحرب بین العمید أبی سهل الحمدونی صاحب الرّیّ من قبل السلطان محمود و بین علاء الدولة الذی كان ابن سینا فی خدمته، فنهب «العمید أبو سهل الحمدونی مع جماعة من الأكراد أمتعة الشیخ و فیها كتبه، و لم یؤخذ من كتاب «الإنصاف» إلا أجزاء.
«ثم ادعی عزیز الدین الفقاعی الزنجانی فی شهور سنة خمس و أربعین و خمسمائة أنه اشتری منه نسخة بأصفهان و حملها إلی مرو. و اللّه أعلم» (نشرة كرد علی، دمشق سنة 1946 ص 67- ص 68). ثم یروی ابن الأثیر فی حوادث سنة 425 أن أبا سهل الحمدونی لما استولی علی أصبهان نهب خزائن علاء الدولة و كان أبو علی ابن سینا فی خدمة علاء الدولة فأخذت كتبه، و حملت إلی غزنة، فجعلت فی خزائن كتبها إلی أن أحرقها عساكر الحسین ابن الحسین الغوری. و یقول القفطی (ص 277 طبع مصر سنة 1326 ه- 1908 م) و هو یروی ما رواه أبو عبید الجوزجانی تلمیذ ابن سینا: «و فی الیوم الذی قدم فیه السلطان مسعود إلی أصفهان نهب عسكره رحل الشیخ و كان الكتاب (كتاب «الانصاف»)
كتاب الإنصاف، المقدمة، ص: 24
فی جملته، و ما وقف له علی أثر». و ابن أبی أصیبعة یقول: «كتاب «الإنصاف»:
عشرون مجلدة، شرح فیه جمیع كتب أرسطوطالیس و أنصف فیه بین المشرقیین و المغربیین- ضاع فی نهب السلطان مسعود» (ح 2 ص 18 س 25- س 27).
تلك هی الروایات الرئیسیة الواردة فی كتب التراجم عن كتاب «الإنصاف» هذا.
و هی روایات متناقضة: فالقفطی و ابن أبی أصیبعة یؤكدان أن الكتاب فقد نهائیا فی نهب السلطان مسعود؛ و البیهقی یری أن هذا النهب لم یتناول من كتاب «الإنصاف» إلا أجزاء، ثم یروی دعوی عزیز الدین الفقاعی الزنجانی الذی زعم أنه اشتری من الكتاب نسخة بأصفهان و حملها إلی مرو سنة 545، أی بعد وفاة ابن سینا بمقدار 17 سنة. هذا إلی جانب الاختلاف بین هؤلاء الرواة فی بیان كیفیة هذا النهب.
بید أننا نعتقد أن بعضا من هذا التناقض یمكن أن یحل عن طریق ما ورد فی الرسائل التی نشرناها فی هذا الكتاب. ففی رسالة ابن سینا إلی أبی جعفر الكیا، و هی التی تكوّن المدخل إلی كتاب «المباحثات» هنا، یقول ابن سینا: «إنی كنت صنفت كتابا سمیته «كتاب الإنصاف» و قسّمت العلماء قسمین: مغربیین و مشرقیین؛ و جعلت المشرقیین یعارضون المغربیین، حتی إذا حقّ اللّدد، تقدمت بالإنصاف. و كان یشتمل هذا الكتاب علی قریب من ثمانیة و عشرین ألف مسئلة. فأوضحت شرح المواضع المشكلة فی الفصوص (أی فی نصوص كتب أرسطو أو المشائین) إلی آخر «أثولوجیا»، علی ما فی «أثولوجیا» من المطعن. و تكلمت علی سهو المفسرین، و عملت ذلك فی مدة یسیرة ما لو حرّر لكان عشرین مجلدة. فذهب ذلك فی بعض الهزائم، و لم یكن إلا نسخة التصنیف، و كان النظر فیه و فی تلك الخصومات نزهة (أی بین المشرقیین و هم المشاءون من أهل بغداد، و بین المغربیین و هم الشراح الأرسطیون مثل الإسكندر و ثامسطیوس و یحیی النحوی). و أنا بعد فراغی من شی‌ء أعمله أشتغل بإعادته و إن كان ظل الإعادة ثقیلا. لكن ذاك (أی «الإنصاف» فیما نظن) قد كان یشتمل علی تلخیص ضعف البغدادیة و تقصیرهم و جهلهم.
و الآن فلیس یمكننی ذلك، و لیس لی مهلته، و لكن أشتغل بمثل الإسكندر و ثامسطیوس و یحیی النحوی و أمثالهم» (راجع بعد ص 121- ص 122).
كتاب الإنصاف، المقدمة، ص: 25
و من هذا النص یتبین أولا: غرض ابن سینا فی هذا الكتاب و هو أن یأتی برأی المشرقیین و برأی المغربیین فی أمهات المسائل و یعارض الواحد بالآخر، ثم یتقدم بالإنصاف بینهما. و من أجل هذا قام یشرح النصوص- الأرسطیة، فیما یخیل إلینا- كلها إلی أن بلغ «أثولوجیا»، و یدل علی مواضع سهو المفسرین. و ثانیا: أنه لم یحرر الكتاب، إنما وضع مسوّداته، و هذه ذهبت فی «بعض الهزائم»، و هو یقصد بها نهب السلطان مسعود ابن السلطان محمود، حینما غزا أصفهان سنة 425. و ثالثا: أنه لم یستطع إعادته كله علی الأقل. فهل أعاد البعض منه؟
أما المسألة الأولی فمتفق علیها بین الروایات التی تحدثت عن موضوع الكتاب، إذ قال ابن أبی أصیبعة كما ذكرنا إن ابن سینا شرح فی هذا الكتاب «جمیع كتب أرسطوطالیس و أنصف فیه بین المشرقیین و المغربیین» (ح 2 ص 18 س 25- س 27) و یلوح أن ابن أصیبعة استقی هذا الخبر من تلك الرسالة التی أشرنا إلیها.
كذلك تتفق الروایات فی المسألة الثانیة و هی أن الكتاب كان لم یحرر منه إلا مسوداته، و أن هذه ذهبت فی نهب السلطان مسعود. و الجدید فیها قول البیهقی: «و لم یؤخذ من كتاب «الإنصاف» إلا أجزاء» (ص 67 من الطبعة المذكورة)، و ظاهر النص معناه أن ما نهب من هذا الكتاب هو أجزاء دون أجزاء، بدلیل إیراده بعد هذا لدعوی عزیز الدین الفقاعی أنه اشتری منه نسخة (كاملة؟) فی سنة 545 فی أصفهان.
و تلك هی المسألة الثالثة الرئیسیة، ألا و هی: هل أعاد ابن سینا كتابته إن كان قد ضاع كله؟ نری فی رسالة أخری نشرناها بعد (ص 245) أن ابن سینا یقول فی رسالة إلی صدیق تحزّن علی ضیاع «التنبیهات و الإشارات» و سأله عن «المسائل المشرقیة»: «و أما تحزّنه علی «ضیاع التنبیهات و الإشارات» فعندی أن هذا الكتاب توجد له نسخة محفوظة.
و أما «المسائل الشرقیة» فقد كتبت أعیانها، بل كثیرا منها، فی أجزائها لا یطلع علیها أحد، و أثبتّ أشیاء منها من «الحكمة العرشیة» فی جزازات: فهذه هی التی ضاعت.
إلا أنها لم تكن كبیرة الحجم، و إن كانت كثیرة المعنی كلیة جدا. و إعادتها أمر سهل.
بلی! كتاب «الإنصاف» لا یمكن أن یكون إلا مبسوطا؛ و فی إعادته شغل. ثم من هذا
كتاب الإنصاف، المقدمة، ص: 26
المعید و من هذا المتفرّغ عن الباطل للحق، و عن الدنیا للآخرة، و عن الفضول للفضل!! لقد أنشب القدر فیّ مخالیب الغیر، فما أدری كیف أتملّص، و أتخلّص»، إلی آخر ما قاله عن اضطراب أحواله بسبب مشاركته فی الأمور السیاسیة مما جعله ینسلخ عن العلم. و فی هذا النص كذلك ما یمیل بنا إلی القول بأنه لم یعد الكتاب كله، أعنی «الإنصاف»، لأنه لم یعد له «مهلة» لإعادته، و قد اضطربت أحواله بحیث لم یكن فی وسعه الانعكاف من جدید علی مثل هذا العمل الضخم. لهذا نری أن دعوی عزیز الدین الفقاعی یجب أن تؤول علی نحو آخر.
و هذا التأویل هو أن یقال إنه لم یقصد نسخة كاملة من «الإنصاف»، بل أجزاء منه هی التی بقیت بعد النهب، و هی التی قال عنها البیهقی: «و لم یؤخذ من كتاب الإنصاف إلا أجزاء». و یتأید هذا بقوله فی الرسالة السابقة: «و أما «المسائل الشرقیة» فقد كتبت أعیانها بل كثیرا منها فی أجزائها لا یطلع علیها أحد، و أثبتّ أشیاء منها من «الحكمة العرشیة» فی جزازات، فهذه هی التی ضاعت، ...». فقوله المسائل الشرقیة یقصد به من غیر شك كتاب «الإنصاف»، بدلیل قوله بعد: «بلی! كتاب «الإنصاف» لا یمكن أن یكون إلا مبسوطا» مع أنه لم یشر إلیه من قبل بالاسم، و هذا یدل بوضوح علی أنه لما أشار إلی «المسائل الشرقیة» قصد كتاب «الإنصاف» و قد تحزّن علی ضیاعه ذلك الصدیق الذی یوجه إلیه هذه الرسالة. و معنی هذا النص إذا أن كتاب «الإنصاف» لم یضع منه إلا الجزء الذی حرره و هو القسم منه الخاص بالحكمة العرشیة.
أما الباقی فلم یضع. و هذا الباقی هو الأجزاء الباقیة التی أشار إلیها البیهقی. و هذا من شأنه أیضا أن یفسر قوله فی الرسالة إلی الكیا: «و أنا بعد فراغی من شی‌ء أشتغل بإعاداته، و إن كان ظل الإعادة ثقیلا. لكن ذاك (أی الذی كان علی إعادته) كان یشتمل علی تلخیص ضعف البغدادیة و تقصیرهم و جهلهم» (ص 121- ص 122). و معنی هذا أن الشی‌ء الذی ضاع و هو الخاص بالحكمة العرشیة هو ذلك القسم الذی كان یشتمل علی تلخیص آراء البغدادیین و نقدها. أما القسم الآخر، و هو الذی بقی بعد هذا النهب، فهو المتصل بشرح كتب أرسطو و بیان سهو المفسرین؛ ففضل أن یشتغل «بمثل الإسكندر و ثامسطیوس و یحیی النحوی و أمثالهم» (ص 122) علی أن یشتغل بهؤلاء البغدادیین
كتاب الإنصاف، المقدمة، ص: 27
المشائین، و هم المشرقیون. و قد ترك هذا القسم دون أن یحرره تحریرا نهائیا، و هو بعینه الذی بین أیدینا أجزاء منه هی التی نشرناها هنا: «من شرح مقالة اللام» ثم «شرح كتاب النفس» ثم شرح كتاب «أثولوچیا».
و خلاصة رأینا إذن هو أن كتاب «الإنصاف» لابن سینا كان هذا قد كتب دساتیره و لم یحرر منه تحریرا نهائیا إلا القسم الخاص بالحكمة العرشیة، و هذا القسم هو وحده الذی ضاع فی نهب السلطان مسعود سنة 425، و لم یجد ابن سینا من الفراغ أو النشاط ما بدفعه إلی إعادة هذا المفقود، و لا إلی التحریر النهائی لما بقی من الكتاب، أو إن كان قد حرر شیئا فهو جزء قلیل لعله هو بعینه الباقی بین أیدینا. و أنه قد بقی إذن من كتاب «الإنصاف» أجزاء لعل بعضها فی صورة محررة و الآخر فی هیئة مسوّدات، و نرجح أن یكون قد فعل هذا: أی حرر جزءا و لم یحرر الباقی.
و یتأیّد هذا الرأی بطریقة حاسمة عن طریق ما أورده السهروردی المقتول (المتوفی سنة 587 ه- سنة 1191 م) فی كتاب «المشارع و المطارحات» فقال: «و لا یكفیهم ما قد یعتذرون به، و هو ما ذكره صاحب «الشفاء» (أبو علی بن سینا) فی بقایا مسوّدة له تسمّی ب «الإنصاف و الانتصاف» أن وجود الحق الأول لا یمكّن المعلولات من تقدّم الإمكان علیها «1»». ففی هذا النص الثمین ما یقطع برأینا هذا و هو أن كتاب «الإنصاف» ظل مسوّدة أو دساتیر، و أنه بقیت منه بقیة. و إنّا لنأمل أن یؤدی نشر نصوص أخری إلی زیادة توكید هذا الرأی، إن كان لا یزال بعد فی حاجة إلی فضل تأیید.
و تلك إذن المسألة الأولی المتصلة بكتاب «الإنصاف» من حیث تاریخ وجوده. و المسألة الثانیة هی ما إذا كانت النصوص الثلاثة التی عثرنا علیها فی مخطوطتنا هذه هی من «الإنصاف». و هی مسألة یسیرة الحل، و الجواب عنها بالإیجاب للأسباب التالیة:
أولا: أنه ورد صراحة فی المخطوطة 6 م فیما یتصل بالنصین الأول و الثانی و هما شرح
__________________________________________________
(1) «مجموعة فی الحكمة الإلهیة من مصنفات شهاب الدین یحیی بن حبش السهروردی»، عنی بتصحیحه ه. كوربین nibroC. H، المجلد الأول، ص 360، استانبول، مطبعة المعارف سنة 1945 (رقم 1/ 16 من النشریات الإسلامیة لجمعیة المستشرقین الألمانیة).
كتاب الإنصاف، المقدمة، ص: 28
«مقالة اللام» و شرح «أثولوچیا» أنهما من «الإنصاف» (ص 138 ب، و ص 146 ا من المخطوطة 6 م).
ثانیا: فیما یختص بالنص الثالث و هو «التعلیقات علی حواشی كتاب النفس» لا نجد ذكرا لكونه من «الإنصاف» فی مخطوطتنا هذه. و لكن هذا الصمت لا یمكن أن یؤخذ حجّة علی كونه من غیر كتاب «الإنصاف»، لأن لدینا أسبابا تدعو إلی عده من «الإنصاف». و أولها یتصل بموضوعه: ففی هذا النص عرض لآراء المشرقیین و ملاحظاتهم علی كتاب «فی النفس» لأرسطاطالیس، و فیه كذلك عرض لآراء ابن سینا و شروح له له علی مواضع متصلة من هذا الكتاب. و نحن نعلم مما أورده ابن سینا فی رسالته إلی الكیا أنه فی الإنصاف قسّم «العلماء قسمین: مغربیین و مشرقیین. و جعلت (أی أنا: ابن سینا) المشرقیین یعارضون المغربیین، حتی إذا حقّ اللّدد تقدمت بالإنصاف. و كان یشتمل هذا الكتاب علی قریب من ثمانیة و عشرین ألف مسألة. و أوضحت شرح المواضع المشكلة فی النصوص إلی آخر «أثولوچیا»- علی ما فی «أثولوچیا» من المطعن؛ و تكلمت علی سهو المفسّرین» (راجع بعد، ص 121). و هذا بعینه هو ما نجده فی هذا الشرح لكتاب «فی النفس»: فإنه فیه یضع آراء المشرقیین (و یقصد بهم المشائین المعاصرین له من أهل بغداد- و قد وضعنا خطا تحت كلمة: «المشرقیین» أینما وردت لإبراز رأیهم) بإزاء آراء المغربیین (و هم شراح أرسطو الغربیون: مثل الإسكندر و ثامسطیوس و یحیی النحوی الخ) و یتقدم بالإنصاف بینهم. كذلك یخبرنا ابن أبی أصیبعة عن موضوع كتاب «الإنصاف» فیقول: «شرح فیه جمیع كتب أرسطوطالیس، و أنصف فیه بین المشرقیین و المغربیین» ( «عیون الأنباء فی طبقات الأطباء»، ج 2 ص 18 س 25- 26، طبع. ا. ملّر).
و السبب الثانی هو ما أورده ابن أبی أصیبعة أیضا فی كلامه عن مؤلفات ابن سینا فقال:
«شرح كتاب النفس لأرسطوطالیس، و یقال إنه من «الإنصاف» (الكتاب نفسه، ج 2 ص 20 س 6- س 7). و لعل السر فی استخدامه العبارة: «و یقال إنه»- و هی التی تنطوی علی شی‌ء من التشكیك- هو أنه لمّا لم یطلع علی الكتاب (هو أو من روی عنه أو نقل) فلا یستطیع أن یطلق القول فی صیغة التوكید، خصوصا و قد قال من قبل: «ضاع (أی «الإنصاف») فی نهب السلطان مسعود» (ج 2 ص 18 س 27)، «و صنف
كتاب الإنصاف، المقدمة، ص: 29
الشیخ كتاب «الإنصاف»، و الیوم الذی قدم فیه السلطان مسعود إلی أصفهان نهب عسكره رحل الشیخ، و كان الكتاب فی جملته و ما وقف له علی أثر» (ج 2 ص 8 س 21- س 22) و هی عبارة نقلها ابن أبی أصیبعة عن القفطی.
لهذا نستطیع أن نؤكد مطمئنین أن النص الثالث و هو «التعلیقات علی حواشی كتاب النفس لأرسطاطالیس» هو أیضا من كتاب «الإنصاف».
ثالثا: أن موضوع النصین الأول و الثانی- شأنهما شأن النص الثالث- هو بعینه كما ورد فی بیان موضوع كتاب «الإنصاف» وفق ما ذكرناه منذ قلیل. و علی هذا فلا مریة فی أن هذه النصوص الثلاثة من كتاب «الإنصاف».
أما مسألة: هل هو كل «بقایا» كتاب «الإنصاف» بعد ضیاع ما ضاع منه؟- فهذه مسألة لا سبیلی إلی الخوض فیها، لأن الوثائق التی لدینا حتی الآن لا تخبرنا بشی‌ء عما بقی و لم یبق من هذا الكتاب؛ و لعل مخطوطات جدیدة أن تزیدنا وضوحا فی هذا الجانب.
و الآن و قد حللنا هاتین المشكلتین الرئیسیتین الخاصتین بنقد المصدر فیما یتصل بكتاب «الإنصاف»، فقد بقی علینا أن ننظر فی مسألة أخری هی تلك المتصلة باسم الكتاب. فالوثائق كلها مجمعة علی ذكر اسم «الإنصاف» لم تشذّ منها وثیقة واحدة. و إنما وجه الإشكال هو فی أن بعضها یذكره بهذا الاسم: «الإنصاف و الانتصاف»، ذكر هذا السهروردی فی الموضع المشار إلیه آنفا (ص 27) فقال: «بقایا مسوّدة له تسمّی ب «الإنصاف و الانتصاف ...» ( «مجموعة فی الحكمة الإلهیة» نشرة كوربان ص 360، استانبول سنة 1945)، و هكذا ورد فی جمیع المخطوطات لكتاب «المشارع و المطارحات» ما عدا مخطوطا واحدا (مخطوط راغب برقم 1480) فإنه یكتبه هذا: «الإنصاف و الانتصاف (بدون نقط الحرفین:؟؟؟ فی «الانتصاف»)، و لكن هذا یمكن إصلاحه بسهولة علی أساس بقیة النسخ، لو لا أننا نجد حاجی خلیفة (ج 1 تحت رقم 1371 ص 363، نشرة فلیجل) یقول: «الإنصاف و الاتصاف للشیخ الرئیس أبی علی الحسین بن عبد اللّه بن سینا المتوفی سنة 428»- و من هنا نتردد فی معرفة أی القراءتین أصحّ: «الانتصاف»، أو «الاتصاف»؟ لكن هذا التردد لا یلبث أن یزول فنقطع بصحة ما ورد فی «المشارع و المطارحات» من أنه
كتاب الإنصاف، المقدمة، ص: 30
«الانتصاف»، لا «الاتصاف» كما یرد فی نشرة فلیجل لحاجی خلیفة ( «كشف الظنون»)، و ذلك لأنه لا معنی لقوله «الاتصاف» فی هذا المعرض، لأنه إنما یبحث فی «الإنصاف» بین المغربیین و المشرقیین، و «الانتصاف» للمغربیین من المشرقیین (أو العكس؟)؛ فلا معنی إذن لقوله «الاتصاف»، و الخطأ إذا هو فی قراءة فلیجل.
و لهذا فلیست هنا المشكلة الحقیقیة، و إنما هی فی هذا الاسم: هل هو «الإنصاف» فقط، أو «الإنصاف و الانتصاف» معا؟ و إذا كان لنا أن نرجح، فالأرجح أن نقول إنه الثانی، لأنه لا مبرر لإضافة هذا الاسم الثانی: «الانتصاف»، إذا لم یكن موجودا فی الأصل. أما كون رسائل ابن سینا و بقیة المصادر (البیهقی، القفطی، ابن أبی أصیبعة) قد أغفلت ذكره بكامله، فما كان ذلك إلا علی سبیل الاختصار «1» و إذن فالاسم الحقیقی الكامل هو: «الإنصاف و الانتصاف».
أما معنی هذا الاسم فهو من: «أنصف الخصمین» أی: سوّی بینهما و عاملهما بالعدل، و هو یرید أن یسوّی هنا بین المغربیین و المشرقیین بذكر آرائهما، ثم بیان من هو علی الصواب؛ أما «الانتصاف» فهو لفریق المغربیین الذی جار علیه فریق المشرقیین (أو العكس؟). و قد أشار نلینو من قبل إلی خطأ كارا دی‌فو فی قراءة كلمة «الإنصاف» علی أنها: «الأنصاف»، جمع نصف، حتی ترجم اسمه بقوله: seitiom sed erviL eL، و تساءل عن «هذا التقسیم الجغرافی» بین المشرقیین و المغربیین! «2» و ما من شك بعد فی وجاهة اعتراض نلینو و خطأ كارا دی‌فو «3».
أما الإشارات إلی كتاب «الإنصاف» عند الكتّاب التالین فأما ما أورده السهروردی المقتول فی «المشارع و المطارحات» فی الموضع الذی أشرنا إلیه مرارا من قبل،
__________________________________________________
(1) أما ما ورد بعد (ص 245 س 6) باسم «المسائل الشرقیة» فالواضح أنه مجرد اسم وصفی و لیس الاسم القانونی (أعنی الموضوع فعلا) للكتاب، علی سبیل بیان مضمونه أو موضوعه، و لهذا ذكره باسمه القانونی من بعد فقال «الإنصاف» (س 9). و لهذا فلسنا نظن أن هاهنا مشكلة.
(2) راجع مقال نلینو: «حكمة ابن سینا الشرقیة، أو الإشراقیة؟»، الذی ترجمناه فی كتابنا:
«التراث الیونانی فی الحضارة الإسلامیة» ص 278 تعلیق 1، القاهرة سنة 1946 ط 2.
(3) راجع رأی كارا دی‌فو هذا فی كتابه «ابن سینا» باریس سنة 1900 ص 148: 1900 siraP, ennecivA: xuaV ed arraC.
كتاب الإنصاف، المقدمة، ص: 31
ثم ما أورده محمد الدیلمی فی كتابه «محبوب القلوب» (طبع حجر، بمبئی سنة 1317 ه- سنة 1899 م، ص 120) فذكر أن ابن سینا مدح الإسكندر الأفرودیسی. و قد رأی پاول كراوس «1» أن هذا یشیر خصوصا إلی كتاب «فی النفس» للاسكندر. بید أننا إذا رجعنا إلی النص الذی نشرناه هنا وجدنا أن ابن سینا علی العكس من هذا تماما یأخذ علی الإسكندر مآخذ فی الموضعین اللذین ورد فیهما ذكره (أنظر بعد ص 101 س 17؛ ص 106 س 1). و لهذا فإن افتراض كراوس هنا غیر صحیح، أعنی أن تكون إشارة محمد الدیلمی هی إلی شرح ابن سینا لكتاب «فی النفس» فی «الإنصاف». و لا نستطیع أن نقول إن نصنا هو الذی لیس من «الإنصاف»، نظرا إلی ما أوردناه من قبل من حجج خاصة بكونه بالضرورة من كتاب «الإنصاف».
أما و قد فرغنا من كتاب «الإنصاف» عامة، فلننظر فی الأجزاء الباقیة منه و هی التی نشرناها هنا. فنقول إن الشرح علی مقالة حرف اللام یبدأ كما قلنا من الفصل السادس. و الشرح لیس علی طریقة ثامسطیوس، لأنه لیس عرضا متصلا موسعا؛ و لیس علی طریقة ابن رشد، فهو أحیانا یذكر النص و یتلوه بالشرح، و أحیانا أخری یستطرد إلی مسائل و مناقشات و اعتراضات تدور حول النص، و هو فی هذا كله لا یتقید بالنص، و لا بكل ما ورد فیه، بل یختار بعضا من عباراته فیشرحها، أو یستمر فی العرض دون إشارة إلی نص. و إذا فسر أثار اعتراضات علی آراء أرسطو نفسه، أو علی الشراح من مشرقیین و مغربیین؛ و هو ما قصده بقوله فی رسالته إلی الكیا: «و تكملت علی سهو المفسرین» (راجع بعد ص 121 س 20). و یستمر الشرح إلی آخر الفصل العاشر، أی إلی آخر مقالة اللام.

- 4- تفسیر كتاب «أثولوجیا»

أما كتاب «أثولوجیا» و هو النص الثانی من الإنصاف فقد نشرناه عن مخطوطین: 6 م
__________________________________________________
(1) پاول كراوس: «أفلوطین عند العرب» (مقال مستخرج من مضبطة المعهد المصری المجلد رقم 23 etpyge'd tutitsnlp ed nitelluB جلسة سنة 1940- 1941، القاهرة سنة 1941) ص 272 تعلیق 4 sebarA sel zehc nitolP": suarK luaP".
كتاب الإنصاف، المقدمة، ص: 32
حكمة و فلسفة بدار الكتب المصریة، ثم عن نسخة التیموریة (و رمزها: ت) برقم 102 حكمة. و هذه المخطوطة تحتوی علی: (1) «تعلیقات الرئیس ابن سینا علی أثولوجیا»؛ (2) «أثولوجیا أرسطو»؛ (3) شرح الدوّانی علی «هیاكل النور» (للسهروردی المقتول). و هی بخط نستعلیق ردی‌ء، تاریخها 1095 ه- سنة 1683 م. و كما یظهر من الجهاز النقدی الذی وضعناه فی الهامش الثانی (أسفل هامش الإشارات إلی الفقرات المشروحة)، نری هذه المخطوطة سیئة بها نقص فی عدة مواضع، فضلا عن أنها ناقصة فی آخرها، إذ تقف عند نهایة الممر السابع، و ینقصها المیمر الخامس (راجع بعد ص 59 تعلیق 8)، و لم نكد نستفید منها شیئا ذا بال، و مع هذا فقد ذكرنا اختلاف القراءات كلها بالدقة، لأن البعض منها لیس ناتجا عن أخطاء ظاهرة، بل عن اختلاف فی العبارة.
و قد أشار كراوس فی البحث المشار إلیه آنفا، «أفلوطین عند العرب» (ص 275 تعلیق، من الصفحة السابقة تحت الفقرة ب)) b (إلی وجود مخطوط آخر لهذا النص فی أكسفورد (مكتبة بودلی، مخطوطات شرقیة برقم 536، ورقة 69 ب- 84 ب) 536 hsraM. rO. ldoB- 980 irU نبهه إلیه ف. روزنتال و قال عنه إنه «مخطوط ردی‌ء»، و البدء و الختام فیه كلاهما كما فی المخطوط 6 م. بید أنه لم یتیسر لنا مراجعته، فإن قدر لنا هذا- كما نتوقع قریبا- فسنشیر إلیه و إلی قراءاته فی الجزء الثانی من كتابنا هذا.
و كما قال كراوس (فی الموضع عینه) «لیس هذا النص شرحا متصلا لأثولوجیا»، بل سلسلة من الحواشی و الشروح للمواضع الصعبة، تمتد تقریبا إلی نصف النص الذی نشره دیتریصی. و كما تقول تعلیقة فی المخطوط 6 م (ص 153 ب، فی نهایة التفسیر: «آخر الموجود من هذا»)، لا تتضمن المخطوطات إلا قطعة من تفسیر «أثولوجیا» لابن سینا».
و لقد وضعنا فی الهامش الأول الفقرات الأصلیة التی شرحها ابن سینا، مأخوذة عن نشرة دیتریصی «لأثولوجیا»، حتی یكون لدی القارئ النص و الشرح معا. و لا نكتم القارئ أننا وجدنا أحیانا غیر قلیلة عناء شدیدا فی استخراج فقرات النص التی یشیر إلیها شرح ابن سینا، و ذلك لأن ابن سینا نادرا ما یشیر إلی النص بحروفه، و لهذا فإن الشروح قد تنطبق علی أكثر من موضع لا نستطیع بالدقة تمییز أیها قصد شرحه. علی أنه
كتاب الإنصاف، المقدمة، ص: 33
فی مواضع أخری كان یذكر النص بحروفه (و هنا كنا نضعه بین أهلّة حتی یتمیز من الشرح) و ربما یفید هذا فی القراءات الخاصة بنص «أثولوجیا» الأصلی نفسه، علی أن الاعتماد علیها فی تحقیق النص یحتاج إلی كثیر من الحیطة، فالأمر هنا لیس كما هو بالنسبة إلی شروح ابن رشد مثلا.
و شرح ابن سینا یتناول فقرات من المیمر الأول ثم المیمر الثانی. و لا نجد شیئا عن المیمر الثالث. أما المیمر الرابع فیبدأ شرحه من غیر تحدید فقرات بالذات، و لعل هاهنا اضطرابا فی النص المنشور هنا نفسه، و لكنه ما یلبث أن یستقیم فی الفقرتین ح ء فی نهایة هذا المیمر. و یأتی المیمر الخامس فیزید الأمور تعقیدا لأن الشروح ترد علی هیئة فصول من الصعب أن نحدد بالدقة ما تشیر إلیه من نصوص. ثم نصل إلی المیمر السابع فنعود إلی ما اعتدناه فی المیمرین الأول و الثانی من إیراد فقرات و شرحها علی نحو یتیسر معه معرفة النصوص الأصلیة التی یشرحها. كذلك الحال بالنسبة إلی المیمر الثامن و إن كان علی نحو أشد عسرا منه بالنسبة إلی السابع. و به ینتهی ما فی مخطوطتنا هذه من شرح لابن سینا علی «أثولوجیا».
و مما یجدر ذكره أمران: الأول أنه لم یشر إلی المشرقیین فی هذا الشرح، و لعل هذا لأنه لیس للمشرقیین فی هذا الكتاب آراء خاصة حتی یشیر إلیها ابن سینا.
و الثانی أنه لا یوجد شی‌ء فی هذا الشرح یمكن أن یؤید ما افترضه كراوس (راجع بعد ص 121، تعلیق) من أن ابن سینا طعن فی صحة نسبة «أثولوجیا» إلی أرسطوطالیس، اعتمادا علی العبارة الغامضة ( «علی ما فی «أثولوجیا» من المطعن») الواردة فی رسالة ابن سینا إلی الكیا أبی جعفر. و لهذا لا یزال هذا فرضا فی حاجة إلی فضل تأیید من الوثائق و الأسانید.

- 5- «التعلیقات علی حواشی كتاب النفس لأرسطاطالیس»

و هذا أیضا عن المخطوطة 6 م وحدها. و لا نعرف له مخطوطا آخر. إنما یوجد كتاب
كتاب الإنصاف، المقدمة، ص: 34
مخطوط هو «شرح كتاب النفس» لابن سینا و هو باللغة الفارسیة، محفوظ فی المخطوط رقم 3447 أحمد، باستانبول «1» و لم یتیسر لنا أن نعرف عنه شیئا مفصّلا حتی نتبین صلته بنصنا هذا، مهما تكن هذه الصلة.
و هذا النص یعنی عنایة خاصة بإیراد آراء المشرقیین، و هم المشاءون و البغدادیون، خصوصا من معاصری ابن سینا، و إن كان لا یذكر لنا شیئا یوضح هو یتهم، فلا یتبین بالدقة من نص كلامه من یقصد. و لذا فإن لبّ كتاب «الإنصاف» و وظیفته یمكن أن یستخرجا من هذا النص علی وجه التخصیص.
و یلاحظ علی الشرح أنه یتابع كتاب «فی النفس» لأرسطو منذ أوله، و یشیر إلی آراء المشرقیین فی بعض الآراء الواردة به، و یشرح فقرا مختلفة من النص، فمثلا الفقرة ا (ص 75 س 5- س 7) تشیر إلی نص أرسطو 402 ا 1- 4؛ و الفقرة ب (ص 75 س 8- س 13) إلی 402 ا 5- 6 (من نشرة بكر) rekkeB؛ و الفقرة ح (ص 75 س 14- س 15) إلی 402 ا 21- 22؛ و الفقرة د (ص 75 س 16- س 21) هی تعلیق عام یتصل خصوصا بالفقرة 124 ا 15- 25؛ و الفقرة ه (ص 75 س 22- ص 76 س 3) إلی 413 ا 3- 10؛ و الفقرة و (ص 76 س 4- س 7) تشیر إلی 413 ب 13 و ما یلیه؛ الخ الخ. و قد كان فی عزمنا أن نأتی بهذه الإشارات كلها و نتابعها؛ لكننا وجدنا الفائدة لن تكون كبیرة إلا إذا وضعنا الفقرات الأصلیة من نص أرسطو تحتها، علی الأقل فی ترجمة عربیة؛ و قد علمنا أن ثمت ترجمة عربیة قدیمة لكتاب «فی النفس» لأرسطو توجد فی استانبول، فآثرنا الانتظار حتی نظفر بها و ننشرها و نشیر فیها إلی الفقرات التی شرحها ابن سینا هنا، و عن هذا الطریق- و عنه وحده- نستطیع أن نحقق الفائدة المرجوة من هذه الإشارات. فإلی الجزء الثانی من هذا الكتاب نكل هذه المهمة، مع علمنا بأن عملنا هاهنا ناقص و سیظل كذلك إلی
__________________________________________________
(1) راجع ارجین: «فهرست كتب ابن سینا»، تحت رقم 103، استانبول سنة 1937 lubmatsI, isayfargoilbiB aniS nb 1: nigrE. O و قد أخطأ بروكلمن (الملحق ج 1 ص 817، تحت رقم 1) حین ظن أن هذا المخطوط نسخة عربیة أخری من الكتاب (راجع: كراوس، الموضع نفسه ص 273 س 6- س 7 من التعلیقات).
كتاب الإنصاف، المقدمة، ص: 35
أن نعثر علی تلك الترجمة و ننشرها، فنحیل إلیها كما فعلنا هنا من قبل بالنسبة إلی شرح ابن سینا «لأثولوجیا».
كتاب الإنصاف، النص، ص: 22

النص‌

و من كتاب الانصاف شرح كتاب حرف اللام للشیخ الرئیس ابن سینا علی بن الحسین بن عبد اللّه‌

اشاره

بسم اللّه الرحمن الرحیم بالعزیز الحكیم أثق و علیه أتوكل قال: غرضه بقوله: «إن كانت الجواهر فاسدة فالكل فاسد»، أن یثبت الجوهر المفارق للمادة. و قال فی باب الزمان و أزلیته: كیف یتصور قبل و بعد فی الأشیاء التی یختلف قبلها و بعدها؟ فلا یوجد معا [فی] قبل و بعد إلا فی زمان أو مع زمان «1» و إذا اتصل الزمان، و هو انفعال ما للحركة و عدد أو مقدار، اتصلت الحركة ضرورة، فإن الزمان:
إما حركة، و إما شی‌ء متعلق بالحركة موجود «2» معها. قال ثم یقول: و إذا «3» فرضنا فاعلا لا یفعل، فإن كانت له قوة علی أن یفعل لم ینتفع به فی اتصال الحركة و فی فیض الوجود، فكیف شی‌ء لیس له قوة علی أن یفعل مثل المثل الأفلاطونیة؟ فلا غناء له فی الوجود و التحریك. و إذا كان یفعل و یخالط ذاته ما بالقوة، فإنه لا یفعل أیضا متصلا، فلا یصح أن یكون مبدأ للتحریك المتصل «4». لقائل أن یقول: إن القوة قبل الفعل، لأن كل ما یفعل فله قوة أن یفعل، و لیس كل ما یقوی فهو یفعل؛ فالقوة قبل الفعل.
و لكن إن جعلنا القوة قبل الفعل، وجب أن تكون الهویات كلها معدومة وقتا ما. فإن الذی بالقوة المطلقة یكون معدوما و یبقی معدوما. فإذن كیف یخرج من القوة إلی الفعل إذا لم یكن شی‌ء هو بالفعل؟ فإنه لا العنصر یتحرك بنفسه و لا الصورة كالنجارة یأتی العنصر فی «5» تعیینها. فإذن العقل قبل القوة.
__________________________________________________
(1) أو مع زمان: ناقصة فی التیموریة رقم 86 حكمة؛ و نرمز له بالرمز ت؛ و سنكتفی بذكر الاختلاف فی صفحة واحدة حتی یتبین أنها ملیئة بالأخطاء، و لذا لن نذكرها بعد إلا إذا أتت بقراءة جیدة أو مقبولة أو بزیادات.
(2) ت: موجودة.
(3) ت: و إذ.
(4) المتصل: ناقصة فی ت.
(5) ت: مدة.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 23
إذا كان كون و فساد، فیجب أن تصدر «1» أفعال شتی؛ و لا یصدر عن الواحد من حیث هو واحد أفعال شتی. فیجب أن یصدر عن ذاته فعل واحد به الحفظ؛ و یصدر عنه بالعرض و بما یتفق من قربه و بعده و محاذاته و انحرافه- أفعال شتی، فیكون یفعل بذاته الحفظ، و بالعرض الاختلاف الداخل تحت الحفظ.
فعل الاختلاف إما أن یكون بحركة أخری حافظة للاختلاف تابعة للحركة الأولی من وجه، و إما من تلك الحركة بعینها حتی تكون تلك الحركة بالذات تحفظ النظام، و بالعرض تجدد «2» الأحوال و الأنظار.
و الوجه الأول مثل أن یكون المتحرك الحركة الأولی یحفظ فقط و لیس فیه مبدأ قریب للاختلاف مثل حركة الكرة التاسعة، و تكون حركة أخری تحفظ بهذه الحركة و نفسها تولد الاختلاف مثل حركة كرة البروج و ما تحته فكأنه یقول: فإذن الفعل المختلف إنما ینبعث عن فعل غیر الفعل الأول الثابت أو عنه؛ فإذن الأول أجود، أی الفعل الأول الثابت أفضل. فأما اجتماع الأبدیة و الاختلاف معا حتی یكون نظام الاختلاف و أدواره متصلة، فیكون اختلاف و اتصال- فذلك مما یتم بكلا السببین: السبب الثابت، و السبب المختلف.
فإذا كان بیّنا أنه إن كان یجزی الحركات علی خلاف هذا فذلك موضع حیرة:
كیف یجب أن تطلب المبادی؟ فإنه لیس إلا هذا النوع الذی طلبنا؛ و أما نوع آخر- إن كان، و لم یكن مبدأ حفظ و مبدأ اختلاف- فحینئذ ستكون الأشیاء من عدم و من ظلام.
و لیس یحتاج إلی المقدّم الذی لزمه، و ذلك المقدّم أن الحركات بالخلاف مما قلنا، لأن هاهنا ما یتحرك حركة دائمة لا یسكن، و لیس وجوده بحسب القول و الاستدلال [139 ا] العقلی بل و بالفعل الحسی؛ فلیس وجوده بالقوة بل بالفعل.
أنكر علی أرسطاطالیس و المفسّرین، فقال: قبیح أن یصار إلی الحق الأول من طریق الحركة و من طریق أنه مبدأ الحركة، و تكلف من هذا أن یجعل مبدأ للذوات: فإن القوم لم یوردوا أكثر من إثبات أنه محرّك لیس أنه مبدأ للموجود. وا عجزاه! أن تكون الحركة هی السبیل إلی إثبات الأحد الحق الذی هو مبدأ كل وجود!! و یقول: إنه لیس یجب من جعلهم المبدأ الأول مبدأ لحركة
__________________________________________________
(1) ت: یصد.
(2) و یمكن أن تقرأ: تحدد.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 24
الفلك أن یجعلوه مبدأ لجوهر الفلك. و یقول: أما ظنهم أن حركة الفلك قد صح فی أمرها أنها ضروریة لا ابتداء لها و لا انتهاء- فظن نحتاج أن تتأمّل مقتضاه، فنقول: إنهم لم یثبتوا أن جسم الفلك یجب وجوده فی نفسه، ثم إذا وجد وجب أن یكون له حركة، و أنه إذا لم یكن له الحركة بطل ذاته. بل قالوا إذ الفلك موجود، و إذ هو متحرك، فیجب ألا یكون لحركته ابتداء، فعلقوا كون الحركة دائمة بكونها [و] قد وجدت. فإذن ضرورة كونها متحركة دائما هو أنه وجد فیها «1» الحركة. و لا یجب من هذا أنه تجب لها الحركة كیف كان؛ (و) حتی لو فرضناها موجودة و لم یعرف أنها قد تحركت مرة، لم تجب من ذلك أن تكون لها حركة لا دائمة و لا غیر دائمة. فبین من هذا أن مثبت الحركة للفلك علی هذه الحجة لم یتعدّ إلی أن یثبت موجد ذاته و أنه كیف صدرت عنه مادته، و كیف صدرت عنه صورته.
و بالجملة، فإن من العجائب أن یكون مشته متقبل به أزلیا «2». فیجب لذلك أن یكون المتقبل به، من غیر زیادة سبب یزاد علی هذا، باقیا علی الدوام، متحركا، مع تناهی قوته- إن لم یكن هناك سبب آخر و فیض یصیر المعشوق و الغایة باعتبار ذلك الفیض مبدأ تأثیر و فعل، ثم یعود مرة أخری بسبب ما یؤثر فیصیر مبدأ شوق و مشتهی كالمعشوق. و ما ینفع العاشق المتناهی القوة أن یكون معشوقه إنما یعشقه فقط و هو باق دائم، من غیر أن یكون بینهما علاقة أخری غیر العشق. و من العجب أیضا أن یكون الشی‌ء لم یتسبّب لجرم السماء و لا لنفسه، بل یمثل معشوقا لنفسه. و ذلك لا محالة بعد وجود نفسه. و هذا هو الفصمة «3» بینهما فقط، ثم یقال إنه سبب لنفسه من غیر أن یتقدم، فیقال إنه من أی جهة هو سبب لجرم السماء؟ و من أی جهة هو سبب لنفس السماء؟ حتی إذا جعلا موجودین تمثل لنفس السماء معشوقا یحركه الدهر كله. ثم كیف یمكن أن یعقل الأول شی‌ء قائم فی جسم متحرك معه بالعرض لأنّه یصیر له بحسب أجزائه التی تتبدل أماكنها أجزاء. فإنا قد برهنا علی أن مثل هذا المعقول، بل ذلك معقول بعقل یعد غیر منطبعه فی مادة. فمن مثل هذه الأشیاء یعلم تبلدهم و تشوّشهم و عجزهم و بعدهم عن تقریر الحق. قال ثم یقول: و الأول مرتض «4» و ملائم، أی هذا الأول الذی قلنا إنه أول النظام المعقول مرتض «5»، أی أنه فی ذاته بحیث
__________________________________________________
(1) كتب فوقها: بها.
(2) ن: أزلی.
(3) بكسر الفاء- الكسرة، أی الفاصل أو الفارق. راجع ص 26 س 1.
(4) ن: مرتضی.
(5) ن: مرتضی.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 25
لا یمكن أن یكون كمال حقیقی إلا و هو له فی ذاته،- و الكمال الحقیقی هو الكمال الذی یلیق به. و یشیر بالملائم إلی تأكید ما ذكره أولا بلفظ المختار لذاته، و ملاءمته أن الأثر الذی ینال منه هو الملائم لكل شی‌ء: طبیعیا كان أو نفسانیا أو عقلیا. فكل شی‌ء ینال من فضل وجوده بحسب طاقته و یكون لكل نیل نسبة شبه ما به ابتداء من الوجود و انتهاء إلی أكمل ما یكون فی إمكانه أن یقبله من كمالات الوجود حتی یبلغ القدرة و العلم.
و هذه أظلال لكمالات ذاته و صفاته [و] حتی یبلغ أن [139 ب] ینال بالوجه العقلی حقیقته، فتلتقش فی جوهر القابل الهیئة، ثم یتفاضل هذا الانتقاش بحسب درجات النائلین. فأعظمهم إدراكا أشبههم به فی إدراكه لنفسه.
و السبب الذی لأجله وقعت الكثرة فی المتكوّنات أن السبب الموجب: منها ما هو الأول بذاته سببه، و منها ما لیس هو بذاته سببا له، بل و بتوسیط. و كأنه یقول: إن الكثرة وقعت لأن الأشیاء بعضها منه بلا توسیط، و بعضها من غیره بلا توسیط و إن كانت ترتقی إلیه.
قال ثم یقول: فإن هذا الذی وصفناه هو محرك، و لكن لا یتحرك و هو موجود بالفعل؛ و ما یتحرك عنه موجود بالفعل. و لا یجب أن تلحقه غیریة، أی اختلاف حال. و ذلك لأن اختلافات الأحوال تضطرّ ضرورة، فی تجددها، إلی حركة مكانیة، و ما لا یتحرك الحركة المكانیة لا ینتهی إلیه اختلاف حال. ثم یقول: و إذا كان یحرّك لأنه بذاته معشوق، و لأن المتحرك مستعدّ للانفعال الذی تتبعه الحركة، فیكون قد اجتمع المؤثّر بشروطه و المتأثر بشروطه، فإذا كان كذلك وجب الفعل و الانفعال ضرورة و لو فی القوی التی تقارب النطق. فیكون إذن الفعل و الانفعال ضرورتین «1»، و تكون ضرورة كریمة لها وجود شریف، إذ یتعلق به نظام الكل. و لسنا نعنی بهذه الضرورة أنها ضرورة قهر أو ضرورة لا بد منها فی شی‌ء، بل ضرورة بمعنی أنه لا یمكن أن تكون بوجه آخر.
و لیس معنی هذا الكلام أن السماء حركتها ضروریة بذاتها، و لا یمكن إلا أن تكون علی ما هی علیه، بل إنما هی ضرورة بالشرط المذكور. و إذا اعتبر كل شی‌ء بذاته غیر منسوب إلی جهة نیله من الحق الأول، فهو غیر ضروری الوجود، بل إمكانی الوجود.
__________________________________________________
(1) ن: ضرورتان.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 26
و لو جاز أن تفصم العلاقة لتلاشی و بطل. فكل شی‌ء باعتبار ذاته باطل هالك إلا وجه الحق الأول، هو الحق لذاته و الأشیاء الأخری حقیقة وجودها، جلّت قدرته.
و قوم ظنوا أن هذه الضرورة واجبة فی نفسها و لم یمیزوا بین الضروری شرطا و الضروری حقا، و قالوا ما هذه حكایته. فقلت لأبی بشر: فإذ «1» من الضرورة علی ما هی علیها، فأی موقع للعلة الأولی فی أمرها؟ فقال دوام الحركة. و هذا محال، فإن موقع الحق الأول هو أن الضرورة من قبله و لا ضرورة لشی‌ء فی ذاته. و مما یدل علی غفلتهم أنهم یجعلون الضرورة للشی‌ء فی ذاته و الدوام من غیره، حتی تكون الضرورة التی فی نفسها لا تقتضی الدوام ما لم یمدّ من غیره. و العجب من وجود حركة لیس دوامها مقتضی ضرورتها، و هی ضروریة لا من جهة مذهبها فتكون حركة توجد من غیر علقة بمحركها.
بل الحركة: وجودها، و ضروریة وجودها من حین توجد، و دوام وجودها- كلّه معلق بأسباب الحركة؛ و اللّه تعالی نرفعه عن أن نجعله سببا للحركة فقط، بل هو مفید وجود كلّ جوهر یمكن أن یتحرك فعلا عن حركة السماء. فهو الأول، و هو الحق، و هو مبدأ ذات كل جوهر، و به یجب كلّ شی‌ء سواه، و تأتیه الضرورة عند النسبة التی یجب أن یقع بینه و بینه.
قال ثم یقول: «فإذن بمبدإ مثل هذا علّقت السماء»، یعنی فإذن بأول و مبدإ مثل هذا واحد بسیط معقول الذات بذاته، عقله غیره أو لم یعقله، خیر محض، معشوق للكل من حیث لا تشعر به، منبجس عنه الضرورة إلی الأشیاء حتی تكون للموجودات ضرورة من قبله و من قبل سلطانه الذی لا سلطان للعدم المطلق [140 ا] من الأشیاء معه، بل إما أن یمنع العدم أصلا أولا و أخیرا، و إما أن تعرض منه قوة علی الوجود المتیسر عند الاستعداد بحسب قبول المنفعلات،- فبمبدإ مثل هذا علّق هذا الكل. و یعنی بالتعلیق قوام الذات به و تجزؤه به لا بحركتها، فإن ذلك أمر خسیس. فإنه و إن كان ذلك أیضا.
منه فلا یحسن أن یقتصر علیه كما یفعله هؤلاء المفسرون.
و مما یحسن ثامسطیوس «2» فیه أنه یصرح بأن المبدأ الأول یعقل ذاته، ثم من ذاته یعقل كل شی‌ء، فهو یعقل العالم العقلی دفعة من غیر حاجة إلی انتقال و تردد من معقول إلی
__________________________________________________
(1) أی إذا كانت الضرورة كما بیّنا ..
(2) راجع قبل ص 20.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 27
معقول، و أنه لیس یعقل الأشیاء علی أنها أمور خارجة عنه یعقلها منها كحالنا عند المحسوسات، بل یعقلها فی ذاته: فإنه لا یجب أن یكون كونه عقلا بسبب وجود الأشیاء المعقولة حتی یكون وجودها جعله عقلا؛ بل الأمر بالعكس. و یقول: إن كان للاول شی‌ء یكمله، فلیس بذلك الشرف سواء كان معقوله واحدا أو كثیرا.
قال أرسطوطالیس: و الطبیعة لنا كحال صالحة؛ و ما بعده یشیر بهذا إلی أن مثل هذا المبدأ الذی یعقل ذاته و یعقل كمال حقیقته و شرفها فهو مغتبط بذاته ملتذّ بها و إن جل عن أن تنسب إلیه اللذة الانفعالیة، بل یجب أن تسمی بهجة أو شیئا آخر. فإنه لا محالة له بها ذاته، و علاء ذاته، و هو مدرك لها و لیس المعنی الذی یسمی فی المحسوسات لذة إلا نفس الشعور بالملائم و الكمال «1» الواصل من حیث یشعر به و من حیث هو كذلك. فكیف الإدراك الأوّلی للكمال الخفی بالغایة؟ و كیف و نحن نلتذ بإدراك الحق و نحن مصروفون عنه مردّدون فی قضاء حاجات خارجة عما یناسب حقیقتنا التی بها نحن ناس! فنقول: إنا نحن مع ضعف تصورنا للمعقولات القویة و انغماسنا فی الطبیعة البدنیة قد نتوصل علی سبیل الاختلاس، فیظهر لنا اتصال بالحق الأول، فتكون كسعادة عجیبة فی زمان قلیل جدا. و هذه الحال له أبدا؛ و هو لنا غیر ممكن، لأننا بدنیون، و لا یمكننا أن نشیم تلك البارقة الإلهیة إلا خطفة و خلسة. ثم قال: «فإن كان الإله أبدا كحالنا فی وقت ما فذلك عجیب، و إن كان أكبر فأكثر عجبا فله «2» ذلك». كأنه یقول: لو لم یكن للأول من الاغتباط بذاته إلا القدر الذی لنا فی الاغتباط به حین ننقطع بكنه الالتفات العقلی إلی جبروته رافضین للمعشوقات الطبیعیة، ناظرین إلی الحق من حیث هو حق، منقطعین إلیه عن الباطل من حیث هو باطل، فنغتبط به و بذواتنا من حیث نتصل به، ثم دام ذلك القدر سرمدا- فذلك عجیب عظیم جدا؛ و إن كان أكثر من ذلك سرمدا أو غیر مقیس إلیه- فذلك أعجب و أعظم. فإن اللذة فعل لذلك، أی كونه بالفعل لیس انفعالا، و إنما هو كمال إدراك و كونه «3» بالفعل للإدراك المخصوص بالملائم. و لهذه العلة نلتذ بالتیقظ، لأنه إدراك، و بالخیر من حیث یستعمل و لا یعطل، و الفهم و التصور لذیذ لنفسه لأنه حیاة تامة، فإن الحیاة كالقوة علی هذا،
__________________________________________________
(1) ن: الكلام.
(2) إن هذا من شأنه لأنه إله.
(3) أی: و اللذة فضلا عن أنها فعل، فهی إدراك للملائم، و هذا یزید فی كمالها.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 28
و الرجاء و الحفظ لذیذان لمكان الفهم، فإن الرجاء یجعل ما بالقوة كالموجود المدرك و فی الحال نلتذ بخیاله، و الحفظ أی التذكر للأشیاء السارة یجعلها «1» كالموجود. و أما الفهم فإنما یلذ لذاته؛ ثم نقول و أما الفهم المتقدم بذاته فللذی هو أفضل بذاته. أما الذی یفهم ذاته فهو جوهر العقل إذا اكتسب المعقول، فإنه یصیر معقولا فی الحال كما یلامسه مثلا. و إنما یكون العقل و العاقل و المعقول [140 ب] واحدا بقیاس ذات الشی‌ء إلی نفسه، فتكون هناك الذات واحدة هی الصورة المعقولة، كما یقال: أولها ذاتها، أی ذاتها غیر مباینة من حیث هی معقولة بذاتها. ثم یقول: «و هی حیاة»، أی حی بذاته، أی كامل، فی أن یكون بالفعل مدركا لكل شی‌ء، نافذ الأمر فی كل شی‌ء. فإن الحیاة التی عندنا إنما تسمی حیاة لما یقترن بها من إدراك خسیس و تحریك خسیس، و أما هناك فالمشار إلیه بلفظ الحیاة هو كون العقل التام بالفعل، و ذلك هو العقل، و خصوصا العقل الذی من ذاته یتعقل كل شی‌ء من ذاته. ثم قال: فإذن هو حیاة و بصر متصل أزلی، أی حی بذاته باق بذاته؛ فإن هذا هو الإله.

(الفصل الثامن)

ثم یبحث هل المحرك المفارق الذی لیس بجسم واحدا أو أكثر من واحد. فیقول:
إذا كانت الحركات كثیرة- و المحرّك الواحد متحركه واحد- فیجب أن یكون عدد المحركات المفارقة كثیرة بحسب عدد المحركات الأزلیة، و لم یبین لم یحتاج المتحرك من محرك كالمشتهی إلی أن یكون خاصا یحركه محرك «2»، و أخذ ذلك مسلما.
ثم ینتج عن كلامه «3» مقدمة فی أن الجواهر المفارقة كثیرة، علی ترتیب أول و ثان.
قال: هذا حق- و لكن لیس بیّنا مما قاله. فإن المبلغ الذی قاله لا یمنع من أن یكون محرك مفارق یحرك كالمشتهی و المتحركون عنه كثیرون- [ف] یجب أن یهتدی للسبب الموجب لذلك. و قوله: «علی ترتیب أول و ثان»، إن عنی بالترتیب أن یكون بعضها علة لبعض
__________________________________________________
(1) أی یجعل الشی‌ء المتذكر كأنه موجود.
(2) ن: حركة. و تصح أیضا هذء القراءة بشی‌ء من التأویل.
(3) ن: كلام.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 29
فما بان من كلامه؛ فإن كلامه أوجب علی سبیل المساعدة أن هاهنا محركات مفارقة كثیرة و لم یتأت له أن یبین كیف أتینا بها إلی الأول الحق فی الوجود، و كیف أتینا ببعضها إلی بعض، و هل هی معا فی الذات، فلا یتعلق بعضها ببعض فی الوجود، أو تتعلق معا أو علی ترتیب، و یجب أن یعرف أن الرجل یری أن لكل كرة محركا مفارقا غیر متناهی القوة، و یحرك كما یحرك المشتهی. لیتأمّل أن المشتهی لا یكون مبدأ الحركة و المتولی للحركة، بل یكون آخر هو الذی یحرك كالعاشق و المشتهی للاتصال أو التشبه أو النیل أو غیر ذلك من المشتهی، و أن ذلك هو المحرّك بمعنی مبدإ الحركة المزاول للحركة، فإنه لا محالة صورة للجرم السماوی مشاركة، فهی نفس فإن الجرم نفسه بما هو جرم لا یتحرك بذاته. فإن سلمنا أنه یتحرك بذاته، فلیس یكون المتحرك علی أنه مدرك معنی معقولا یشتهی شهوة عقلیة أو شبیهة بالعقلیة. فقد بان عن مذهب أرسطو أنه یقول بمحركات تحرك علی أنها مشتهاة و مفاوقة، و محركات فی أجسام السماوات تحرك علی أنها مشتهیة و متشبّهة.
ثم إنه یطلب عدد المحركین من عدد حركات الأكر؛ و ذلك شی‌ء لم یكن ظاهرا بعد فی زمانه و إنما ظهر بعد. ثم أخذ یوضح أن المبدأ الأول واحد من جهة أن العالم واحد فیقول: إن الكثرة بعد الاتفاق فی الجوهر بسبب كثرة العنصر. ثم یقول: و أما ما هو بالإنّیة الأولی، أی الحقیقة الأولی للحق الأول، فلیس له عنصر، لأنه تمام، أی لأنه أنّیّة قائمة بالفعل لا تخالط القوة. فإذن المحرك الأول واحد بالكلمة و العدد، أی كلمته و القول الشارح لاسمه واحد؛ و هو أیضا واحد بالعدد، أی إنما له ذات واحدة فقط لا تشترك فیها ذاتان.
و لما قال: و محرك هذا السماء واحد، قال: یجب أن تكون السماء واحدة، فإنه لو كانت كثیرة لكانت مبادیها كثیرة؛ و لا یجوز؛ بل مبدؤها واحد. فبان من ذلك أن السماء واحدة. و هذا حق و قویّ إذا ربّی و تمم.

(الفصل التاسع)

ثم شرع فی بعض صفات الإله جلّت [141 ا] عظمته فیقول: و أما كیف یكون هذا المبدأ فی ذاته و فی عقله لذاته، ففیه صعوبة. فإنه إن كان لیس تعقله بالفعل، فما الشی‌ء
كتاب الإنصاف، النص، ص: 30
الكریم الذی له و هو الكون بأقصی كما له؟! بل یكون ذا حالة كحالة النائم عندنا. و إن كان یعقل الأشیاء، فتكون الأشیاء متقدّمة علیه فیتقوم بما تفعلها ذاته، و یكون جوهره فی نفسه فی قوته و طباعه أن یقبل معقولات الأشیاء، فیكون فی طباعه ما بالقوة، من حیث یكمل بما هو خارج عنه، من حیث أنه لو لا ما هو خارج عنه لم یكن له ذلك المعنی و كان فیه عدمها، فیكون الذی له فی طباع نفسه و باعتبار نفسه من غیر إضافة إلی غیره أن یكون عادما للمعقولات. و من شأنه أیضا أن یكون له، و إلّا لم یكن البتة.
فهو باعتبار نفسه مخالط للإمكان و القوة. و إن فرضنا أنه لا یزال موجودا بالفعل، فلا یكون الذی له من ذاته الأمر الأفضل الأكمل، بل من غیره؛ و یكون كما له من جهة الشی‌ء الذی یعقله، فإنه لو لا ذلك الشی‌ء لما كان یعقله. و قد یعبّر عن هذا الغرض بعبارة تؤدی قریبا من هذا المعنی، فیقول: و أیضا إن كان جوهره العقل و أن یعقل، فلذلك هو: إما بأن یعقل ذاته، أو غیره. فإن كان یعقل شیئا آخر، فما هو فی حد ذاته غیر مضاف إلی ما یعقله؟
و هل لهذا المعتبر بنفسه فضل و جلال مناسب لأن یعقل بأن یكون بعض أحوال أن یعقل له أفضل من بعض أحوال أن لا یعقل الشی‌ء الآخر، بل أن لا یعقل یكون له أفضل من أن یعقل، فإنه لا یمكن له القسم الآخر و هو أن یكون تعقل الشی‌ء الآخر أفضل من الذی له فی ذاته من حیث هو فی ذاته شی‌ء یلزمه أن یعقل، فیكون فضله و كما له بغیره. و من المحال أن یكون عاقلا لغیره، فإنه فی نفسه و فی رتبة وجوده الذی نخصه غیر معتبر من جهة غیره، عظیم الرتبة جدا لا یحتاج إلی غیره. و لا یتغیر سواء كان التغیر زمانیا أو كان تغیرا بإرادته، یقبل من غیره أثرا، و إن كان دائما فی الزمان لكنه بعد الذات فی الرتبة الذاتیة.
و إنما لا یجوز له أن یتغیر كیفما كان، لأن انتقاله إنما یكون إلی الشر لا إلی الخیر، لأن كل رتبة غیر رتبته فهی دون رتبته. فكل شی‌ء یناله و یتوصّف به فهو دون نفسه و یكون شیئا مناسبا للحركة، خصوصا إن كانت بعدیة زمانیة. و هذا معنی قوله: فإن التغیر إلی الذی هو أشرّ.
ثم ما ادعاه من أن تتابع العقل له متعب، خطأ؛ و نسی أنه نفسه قال فی العقل الهیولانی إنه یزداد بالتعقل قوة و لا یتعب فی جوهره، بل بسبب ما یحتاج إلیه فی العقل المنفعل و فی آلة العقل المنفعل؛ و هو لا یدعی فی نفس الإنسان أنه بالفعل عقل. ثم لیس إذا استكمل
كتاب الإنصاف، النص، ص: 31
الشی‌ء یجب أن یكل و یتعب، إنما التعب هو أذی یعرض بسبب خروج عن الحالة الطبیعیة. و إنما یكون ذلك إذا كانت الحركات التی تتولّی مضادة لمطلوب الطبیعة؛ أما الشی‌ء الملائم و اللذیذ المحض الذی لیس فیه منافاة بوجه فلم یجب أن یكون تكرّره متعبا.
و لا أیضا ما یقوله ثامسطیوس «1» حق. فإنه یقول إنه إنما لا یتعب لأنه یعقل ذاته، كما أن الشی‌ء لا یتعب من أن یحب ذاته، فإن العلة لیس هو أنه لذاته أو لغیر ذاته، بل لأنه لیس مضادا لشی‌ء فی جوهر العقل.
ثم نقول: و حینئذ لا یكون الكریم هذه الذات التی هی بالقوة، و لا المعقول الذی فرض أحسن و أحری، بل هذا الخروج إلی العقل، و هذا الإدراك للمعقول الخارج. فیكون الأثر المأخوذ من الخسیس فی غایة الشرف. [141 ب] و هذه كلها محالات، بل عسی الصواب أن یجعله عاقلا لذاته فی حد ذاته. فإن كثیرا من الأشیاء أن لا تبصر خیر من أن تبصر.
فلیس إذن الأفضل علی كل حال أن یعقل أیّ شی‌ء اتفق، بل أن یعقل ذاته. فأقول: إن عنی الرجل أن الأفضل أن یعقل ذاته فقط، فقد قال ما لیس بممكن. فإنه إن عقل ذاته علی كنه ما هی علیه عقل ما یلزمها لذاتها بالفعل، و عقل كونها مبدأ و انثال «2» علیه أن یعقل الكلّ و إلّا لم یعقل ذاته بكنهها. و إن عنی أن أول عقله هو عقله لذاته، و من ذاته یعقل الأشیاء، لا من الأشیاء، فلا تكون الأشیاء سببا لكونه عقلا، بل یكون كونه عقلا فی ذاته سببا للأشیاء- فهو صحیح. لكنه كان یجب أن یشیر إلیه و لا یسكت عنه. قال:
و لیس بمسلّم أیضا أنه إن لم تبصر بعض الأشیاء فهو خیر من أن تبصر، بل هو كلام عامی جدا. ثم قال: فإذن یعقل ذاته، إذ كان الأقوی. أقول: إنه یشبه أنه یری هذا و یقوله علی أنه من ذاته یعقل الأشیاء، و لأنه یعقل ذاته و قوله: إذ كان الأقوی یعقل ذاته، إذ كان أفضل كل شی‌ء، و لم یكن فی أن یكون مستكمل الذات بالذات نقص، بل بالغیر. ثم یقول: و یعقل التعقل، أی یعقل و یعقل أنها بالفعل متعقلة.
ثم یشیر إلی أنه لا یفرّق فیه العقل و العاقل و المعقول، و لیس یلزم كلامه هذا أن یكون مذهبه أن فی كل شی‌ء العقل و المعقول و العاقل واحد. و ذلك لأنه فرض أنه یعقل
__________________________________________________
(1) راجع قبل ص 21
(2) كذا فی الأصل، فإما أنه تحریف و إما أنه یحتاج إلی شی‌ء من التأویل.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 32
ذاته و یبحث عن هذا، و أعرض عما لعله یراه من أنه یعقل الأشیاء من ذاته و لم یتكلم فی ذلك. ثم نقول: إن كان كونه عاقلا و كونه معقولا مختلفا، فأی الحالین له أفضل؟ فإن فی ظاهر الأمر لیس أن یكون الشی‌ء معقولا هو أن یكون عاقلا، هذا حق، أی لیس یجب أن یكون كذلك فی كل شی‌ء. و أما أن كونه معقولا كیف (هو) مباین لكونه عاقلا، فذلك غیر مسلّم بل كونه معقولا هو أن تكون صورته غیر مباینة لشی‌ء غیر هیولانی؛ و كونه عاقلا هو أن یكون صورة شی‌ء غیر هیولانی غیر مباین له. فإن كان هذا الشی‌ء ذاته، كان كونه معقولا هو كونه عاقلا، و إن لم یكن ذاته كان المعقول منه شی‌ء و العاقل شی‌ء؛ و إما العقل؛ فلا ثالث فی هذا الموضع، إنما یكون ثالثا فی موضع یكون الذی یعقل فیه شیئا «1» و الذی یعقل فیه شیئا «2»، ثم یكون العقل منه غیر الثلاثة، و ذلك لأن العقل إما أنه معنیّ به جوهر الذات الذی من شأنه أن یعقل، فیكون فی ذاته عقلا و بالقیاس إلی ما یحصل له زیادة علی ذاته عاقلا. فإما أن یعنی به نفس نسبة هذه الذات إلی ما عقل، و إما أن یعنی به قوة هذه الذات و استعداده. و كیف كان، فإنه یختلف فی الذی یعقل غیر ذاته، و لا وجود لشی‌ء بعینه، و فی الذی یعقل ذاته، إلا بمعنی أنه الذی یصح أن یعقل صحة تعمّ الوجوب و الإمكان.
ثم یقول: فلیس الأمر علی ذلك، بل العاقلیة و المعقولیة فی مثل هذا التعقل واحد.

(الفصل العاشر)

ثم عزم علی أن یوضح الحال فی ترتیب الكل من حیث الأفضل و الأحسن، و من حیث النظام و العدل. فیقول ما معناه: لیعلم كیف الخبر أن وجود الصانع و الفاضل فی طباع الكل، أ هو كما نظر قوم أنه مفارق، أو هو موجود فی ذوات الترتیب، أو هو علی أنه جنس لنوعین: مفارق و مخالط؟ فإنّا نعلم أن الترتیب الجید یكون له نظام جید، و یكون فیه مبدأ هو أول الترتیب، لیس هو لأجل الترتیب بل الجنس و الترتیب كله لأجله.
ثم یقول: و قد ترتبت الأشیاء كلها فی طباع الكل علی [142 ا] نوع ما، لیس علی ترتیب المساواة، فلیس حال السباع كحال الطائر، و لا حالها كحال النبات، و لیس مع
__________________________________________________
(1) ن: شی‌ء.
(2) ن: شی‌ء.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 33
ذلك مطلقة منفصلة منقطعة لا یتصل بعضها ببعض، و لا یضاف بعضها إلی بعض، بل هناك مع الاختلاف اتصال و إضافة جامعة للكل، تجمع الكلّ إلی الأصل الأول الذی هو المبدأ الذی یفیض عنه الجود و النظام علی ما یمكن فی طباع الكل أن یترتب علیه.
ثم یقول ما معناه: إن ترتیب الطباع فی الكل كترتیب المنزل فی أن الأحرار و الأرباب فیها لا یطلق لهم أن یعملوا كل شی‌ء كما اتفق، بل یكون لهم أفعال مخصوصة مرتّبة علی النظام. و أما الممالیك و العبید و الكلاب و السّنانیر فقلما تشارك الأولین فی أعمالهم، بل أكثر ما یفعلونه جار علی ما یتفق، و خارج عن الترتیب المحفوظ، و مع ذلك فإن بدء الكل واحد من جملة أجزاء البیت و هو رب المنزل. فكذلك یجری الحال فی الطبع فی أن یكون هناك أجزاء أول مسوّدة و نفیسة لها أفعال مخصوصة مثل السماوات و محركاتها و مدبراتها و ما قبلها، و أجزاء خسیسة متأخرة یجری أكثر أمورها علی الاتفاق المخلوط بالطبع و الإرادة و إن كان المصیر فی كل حال إلی رأس واحد. ثم یقول: و مبدأ كل واحد منها الذی یبتنی علیه أمره هو احتماله فی نفسه هو علی ذلك. فإن الدرجة الأولی إمكانها علی نحو أفضل، و الثانیة دون ذلك، و الثالثة التی للأجرام السماویة دون ذلك، و التی عندنا دون الجمیع، و إذا لم یكن فی احتماله لم یكن ذلك بسبب المفید المفیض للوجود، بل لأن كل ماهیة من ماهیات هذه الأشیاء إنما تستطیع أن تلبس الوجود و كماله علی هذا النحو. و لذلك تقع العاهات و التشویهات فی الأمراض لما یلزم من ضرورة المادة الناقصة التی لا تقبل الصورة علی كمالها الأول و الثانی، بل: إما أن لا تقبلها أصلا، أو تقبل منها الكمال الأول دون الثانی. و لیطلب كمال هذا الكلام و تمامه من المشرقیین. ثم إنه یقول- و صدقا یقول- إنّا إن لم نجر الأمور علی هذا المنهاج التجأنا ضرورة إلی أن نقع فی محالات وقع فیها الذی قبلنا. و یعدّ بعد هذا مذاهب الثنویة و یفنّدها «1».
__________________________________________________
(1) فی الأصل یفسدها. و هی قراءة تصح أیضا؛ و لكن یغلب علی الظن أن یكون ما افترضنا هو الأصل.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 36

شرح كتاب «أثولوچیا» لمنسوب إلی أرسطاطالیس‌

اشاره

كتاب الإنصاف، النص، ص: 37
تفسیر كتاب «أثولوجیا» من الانصاف عن الشیخ الرئیس أبی علی ابن سینا بسم اللّه الرحمن الرحیم بالعزیز الحكیم أثق و علیه أتوكل الحمد للّه رب العالمین و صلواته علی نبیه محمد و آله أجمعین و هو حسبنا و نعم الوكیل.
(ا) لیس یعنی أن نفس الإنسان «1» كانت موجودة قبل البدن مدة لا تنزع «2» إلی بدن و لا تلابسه، ثم صارت إلیه؛ فإن هذا أمر «3» قد بان استحالته فی الكتب؛ و إن كانت النفس مع ذلك لا تموت؛ و لكن معناه أن النفس لمّا وجب «4» لها أن لا تكون مجردة عن البدن تجرّد الأمور «5» العقلیة المذكورة فیما بعد الطبیعة، بل وجد له فی الطبع علاقة و میل مع البدن فی أول الأمر.
[1] یرید أن یبین أن جوهر النفس الإنسانیة لیس جوهرا ینال الكمال فی أول وجوده حتی یكون بحیث یمكن أن یوجد الوجود الأكمل فی أول ما یعرض «6» له فی الوجود كحال الجواهر «7» العقلیة الأول، بل هی جوهر یستكمل بما یحصل لها بضرب من الكسب و الطلب، و أنه یلزمه شوق غریزی إلی طلب ذلك الكمال و إن كان قد یشتغل «8» عنه. و قبل ذلك عرّف حال الجواهر العقلیة فقال: إن كل جوهر عقلی أی مفارق للمادة فقط- أی لیس له وجود و لا كمال وجود، إلا أن یكون عقلیا بریئا عن المادة براءة مطلقة- موجود له «9» بالفعل أنه یعقل ذاته و ما یلزم معقول ذاته من مبادیه «10» و توالیه، عقلا بالفعل. و إنما كان عاقلا لذاته «11» لأن ذاته مجرّدة عن المادة، معقولة لما یكون لها و یجوز اقترانه بها. فكیف
__________________________________________________
(1): شرح الفقرة: «كیف فارقت (أی النفس) العالم العقلیّ و انحدرت إلی هذا العالم الحسی الجسمانی فصارت فی هذا البدن الغلیظ السائل الواقع تحت الكون و الفساد. فنقول: إن هی جوهر عقلی فقط ذو حیاة عقلیة لا تقبل شیئا من الآثار، فذلك الجوهر ساكن فی العالم العقلی ثابت فیه دائم لا یزول عنه» ( «أثولوچیا أرسطاطالیس» نشرة دیتریصی، ص 4 س 14- ص 5 س 3) قراءات نسخة التیموریة (رمزها: ت)
__________________________________________________
(1) النفس الإنسانیة
(2) نزع
(3) ناقصة
(4) لم یوجد
(5) الصور
(6) مضرة الأول فی ت
(7) الجوهر
(8) یشغل
(9) موجودة له بالفعل یفعل ذاته
(10) مادة
(11) بذاته
كتاب الإنصاف، النص، ص: 38
حالها «1» مع نفسها؟ فإذا عقلت ذاتها، فالمعقولات التی تتلو ذاتها بلا واسطة تكون ممكنة لها أن تعقلها؛ و الممكن فی مثل هذا الجوهر «2» واجب: إذ هو جوهر لا یتغیر، بل فرض علی كماله «3» الأول. فتكون المعقولات التی بلا واسطة معقولة له، و التی لتلك «4» بلا واسطة معقولة له «5»، و التی یلزم من اجتماعها معقولة له. فیكون العالم العقلی معقولا لها. و هو الحیاة العقلیة التی بیّن أمرها فی كتبه «6»، و أنها أفضل كل «7» حیاة و ألذّ كل حیاة. فإن «8» اللذات الحسیة و النطقیة كلها قاصرة عنه، فقال: «فی العالم العقلی»، [146 ب] أی فی عالم التجرد «9» من العلائق المادیة لا یخالطها و لا یلتفت إلیها و لا یلبس شیئا من أحوالها.
و قال: «ثابت فیه دائما «10» لا یزول عنه»، أی «11» لیس هذا التجرد و التفرد یكون وقتا دون وقت، بل دائما، لأن سببه هو الاستغناء بالكمال الأول «12» فی الوجود عن كمال یطلب من بعد ثابت دائم «13»، و لا مرتبة له یطلبها و لا كمال ینحوه و لا یشتاق غیر ما حصله له «14».
[1] قال: «و كل جوهر عقلی»، أی من حیث هو جوهر مستغن عن أن یقوم بالمادة، «یناله شوق»، أی یحتاج أن یحصل شی‌ء غیر حاصل له، «فذلك الجوهر بعد الجوهر الذی هو عقل فقط»، أی من حیث لیس واجدا للكمال «15» فی أول ما به یتجوهر فهو فی درجة ثانیة، أی لا یكون عقلیا صرفا فی قوام ذاته و فی كمال ذاته الذی یتلو قوامه؛ بل و إن كان من حیث ذاته مجردا عن المادة، فإنه فی حیث كمال ذاته الذی یكون له بعد، ما لم یكن یحتاج إلی مادة. و أما البرهان علی ذلك فقد صح «16»، و هو أن كل حالة تكون بعد ما لم تكن فإنها تتعلق بالحركات الجسمانیة و تنسب إلی الحركة المستدیرة، فإن «17» ذلك البرهان لم یقم من حیث إن التجدد و التغیر جسمانی، بل من حیث هو تجدد «18» و تغیر. و إذا كان كذلك لم یجز أن یكون مثل هذا الجوهر الذی لیس له كمالاته «19» مع أول تجوهره، عقلیا
__________________________________________________
(1): شرح الفقرة: «و كل جوهر عقلی له شوق ما، فذلك الجوهر بعد الجوهر الذی هو عقل فقط لا شوق له. و إذا استفاد العقل شوقا ما، سلك بذلك الشوق إلی مسلك ما» (ص 5 س 5 الخ).
__________________________________________________
(1) حالها له
(2) هذه الجواهر
(3) كمال
(4) لذلك
(5) له: ناقصة فی ت
(6) قد أمرها فی فنه
(7) كمال
(8) فان
(9) المجرد من
(10) دائم
(11) إذ
(12) و هو الاستكمال بالكمال فی الوجود عنه كمال
(13) و دائم
(14) حصل له
(15) واجد الكمال
(16) صحح
(17) قال: ذلك ...
(18) مجدد
(19) كمالا، لأنه مع أول جوهره
كتاب الإنصاف، النص، ص: 39
صرفا أی مجردا عن المادة و علائقها من كل وجه. فإذا استفاد العقل شوقا كان طلبه لما یشتاق إلیه فی قبیل «1» غیر قبیل العقل. فإن قبیل العقل قبیل جلی ساطع مبذول إنما یحصل فیضه للشی‌ء بسبب أنه لا شك و لا «2» نقص فی جوهره، فإن كان یمكنه أن یعدم «3» ذلك النقص و كان له أن یشتاق إلی مفارقته «4»، لزم ضرورة أن یطلب ذلك من حیز التغیر، لا من حیز الثبات «5» فإن حیز الثبات لم یبخل علیه بإزالة النقص قصدا، بل لقصور فیه، و احتیاج منه إلی صقال یحصل له فی جناب آخر.
[1] قوله: «یرها «6» فی العقل»، تحریف: فإن النفس لو كانت رأت العالم العقلی لكانت «7» استكملت، لأن رؤیة الشی‌ء «8» هو قبول صورته؛ و لكن مغزاه إلی رؤیة الأشیاء التی فی العقل، أی «9» یشتاق إلی أن یراها فی العقل. و بالجملة، فإن الثوق «10» یكون جملة غیر مفصّلة، كمن یشتاق إلی الجماع و لم یعرفه و لا جرب لذّته، و كالحیوانات الغیر الناطقة فی ذلك فإنها «11» تشتاق إلی جملة لا تنفصل إلا عند النیل.
[2] أی احتاج إلی أن یصیر ما فیه بالقوة من الاستكمال بالصور العقلیة موجودا بالفعل.
[3] یجب أن یقال: و یشتد شوقه إلی العالم الحسی، لما بینا «12» من أنه العالم الذی فیه یطلب التجرد «13».
[4] أی (أن) «14» النفس شی‌ء عقلی مجرد الذات عن المادة، قد صارت له صورة
__________________________________________________
(1): «و لا یبقی فی موضعه الأول لأنه یشتاق إلی الفعل كثیرا و إلی زین الأشیاء التی رآها فی العقل» (ص 5 س 7 الخ).
(2): «كذلك العقل إذا تصوّر بصورة الشوق المشتاق إلیه (احتاج) إلی أن یخرج إلی الفعل بما فیه من الصورة» (ص 5 س 9 الخ).
(3): «و یحرص علی ذلك حرصا شدیدا و یتمخض فیخرجها إلی الفعل لشوقه إلی العالم الحسی» (ص 5 س 10- 11).
(4): «فالنفس إذا إنما هی عقل تصوّر بصور الشوق» (ص 5 س 12- س 13).
__________________________________________________
(1) قبل- كذلك فی بقیة ما ورد فیه هذا اللفظ فی هذین السطرین
(2) لا یقبل و لسبب نقص ...
(3) یتقدم
(4) مقارنته
(5) أن یطلب ذلك من حیز الثبات فإن حیز الثبات ...
(6) و أما فی ...
(7) كانت
(8) للشی‌ء
(9) أی أنه یراها
(10) التشوق
(11) ذلك لأنها تشتاق ...
(12) من: ناقصة
(13) التجدد
(14) الزیادة عن ت
كتاب الإنصاف، النص، ص: 40
شوق إلی العالم الحسی. فبما «1» صارت له هذه الصورة- و بها تتصل بالعالم الحسی- تكون نفسا؛ و أنها إنما هی نفس لأنها كمال نفس طبیعی آلی.
[1] أی أن النفس قد یكون ما تستكمل به مما «2» تتشوّق إلیه أمرا كلیا، و قد یكون أمرا جزئیا. فإن كان أمرا كلیا صیّر «3» صورته الكلیة بالفعل و تصرّف فیه تصرفا كلیا من غیر أن یفارق عالمها العقلی الكلی، أی أن هذا العقل للنفس و إن كانت «4» فی البدن بوجه ما یصح بذاتها و من حیث تتصل بالعقول الفعالة، غیر مفارق لها، أی بالإقبال نحو غیرها. و إن [147 ا] كان ذلك الشوق إلی الأشیاء الجزئیة التی هی صور فی مواد «5» محاكیة للصور الكلیة زیّنتها النفس و زادتها نقاء و حسنا، و سائر ذلك «6». أی أن النفس یزیدها حسنا بما یجردها التجریدات المذكورة فی كتب «النفس» و «الحس و المحسوس».
و أفضل ذلك التجرید العقلی الذی یقشر «7» عنها اللواحق المادیة و الأشیاء التی هی فیها كالغطاء، لأنها تظن أنها من «8» جواهر تلك الصورة «9» و لا تكون؛ مثل أحوال محسوسة تظن أنها من حقیقة الأشیاء فیها «10»، و لا تكون كذلك، بل النفس الناطقة تنزهها عن تلك «11» القشور و تجردها «12» عن اللواحق «13» الغریبة و تتصرف فیها تصرفا أفضل من تصرف العلل القریبة «14» التی هی «15» بحسب ما ذكرها هنا للأجرام السماویة. و ذلك أن العلل القریبة «16» ألصقت الصور بمواد و لواحق للمواد، لكنه «17» یجب أن تعلم «18» أن نصیب الأجرام السماویة الإعداد و التهیئة و التدریج؛ و كما أن «19» الصور النوعیة فائضة من المبادی الغیر الجسمانیة،
__________________________________________________
(1): «غیر أن النفس ربما اشتاقت شوقا كلیا و ربما اشتاقت شوقا جزئیا. فإذا اشتاقت شوقا كلیا صوّرت الصور الكلیة فعلا، و دبرتها تدبیرا عقلیا كلیا من غیر أن تفارق عالمها الكلی. و إذا اشتاقت إلی الأشیاء الجزئیة التی هی صور تصورها الكلیة، زینتها و زادتها تقاویا و حسنا و أسلمت ما عرض فیها من خطأ، و دبرتها تدبیرا أعلی و أرفع من تدبیر علتها القریبة التی هی الأجرام السمائیة» (ص 5 س 13 الخ).
__________________________________________________
(1) فیما قد یكون نفسا
(2) بما
(3) صورت
(4) كان
(5) مواد: ناقصة
(6) و صار ذلك إلی أن
(7) یغیر
(8) فی
(9) الصور
(10) فیه لا تكون ...
(11) ذلك
(12) تجریدها
(13) اللون (و فی هامشها: الكون)
(14) الغریبة
(16) الغریبة
(15) تكون
(17) و لكنه
(18) تعمل
(19) فی م: و كمال الصور ... التصحیح عن ت
كتاب الإنصاف، النص، ص: 41
إلا أنه إنما ذكر الأجرام السماویة لأنها هی التی تلحق بتلك الصورة فیما یحصلها من تأثیر القشور المادیة. و أما المبادی الغیر الجسمانیة فإنما تفیض منها الصور علی قیاس ما هی فیها، لكن إذا اتصلت بالمثل «1» السماوی خالطت قرائن لم یكن منها بد، و قد تتأدی «2» إلیها الأفعال و الانفعالات المتصلة بین الأمور السماویة و الأرضیة حین صار لكل شی‌ء منها نصیب بحسبه.
[1] قال: هی مفارقة للبدن عند انتقاضه و تحلله، أی النفس الإنسانیة «3» التی هی الأصل و لها هذه (القوی) «4»؛ فإن الصحیح أن للإنسان و لكل حیوان نفسا واحدة، و لها قوی عدة، و أنها أصل «5» لانبعاث القوی. و أما أن القوی تبقی معها، فهو بحث آخر.
[2] أی أن النفس النقیة الطاهرة التی لم تتدنس و لم تتسخ بأوساخ البدن فإنها إذا فارقت البدن رجعت إلی عالمها بأهون سعی. أقول: إن النفس لصقت بالبدن لیكون لها الزینة «6» التی تختص بالأمور العقلیة، و هو الزینة «7» العقلیة، و لیكون لها إمكان اتصال بالجواهر «8» العالیة التی لها اللذة الحقیقیة و الجمال «9» الحقیقی و البهاء الحقیقی، فسبیل النفس أن تجعل البدن و الآلات البدنیة مكاسب یكتسب بها الكمال الخاص بها فقط «10». و من المعلوم أن اشتغال «11» النفس بالجانب الأدنی یصده عن الجانب الأعلی، كما أن إقباله علی الجانب الأعلی یصده عن الجانب الأسفل؛ فإن النفس لیست مخالطة «12» للبدن حتی یكون البدن بالمخالطة یصدها «13» عن الكمال العلوی إذا «14» لم یقع استعمالها علی الوجه الذی ینبغی، بل بهیئة تعرض للنفس من
__________________________________________________
(1): فإن الأنفس كلها حیة، انبعثت من بدء واحد؛ إلا أن لكل واحد منها حیاة تلیق به و تلائمه، و كلها جواهر لیست بأجرام و لا تقبل التجزئة. فأما نفس الإنسان فإنها ذات أجزاء ثلاثة: نباتیة و حیوانیة و نطقیة، و هی مفارقة البدن عند انتقاضه و تحلیله» (ص 6 س 14 الخ).
(2): «غیر أن النفس النقیة الطاهرة التی لم تتدنّس و لم تتسخ بأوساخ البدن، إذا فارقت الحسّ، فإنها سترجع إلی تلك الجواهر سریعا و لم تلبث» (ص 6 س 17- س 19).
__________________________________________________
(1) فی م: التمهید؛ و التصحیح عن ت
(2) قد تأدی
(3) انتقاصه و تحلله الإنسانیة
(4) الزیادة عن ت
(5) فی م: أصل القوی لانبعاث القوی
(6) یصح أن تكون «الرتبة» فی ت
(7) یصح أن تكون «الرتبة» فی ت
(8) الجواهر
(9) الكمال
(10) یكتسب بها المحاسن بها فقط
(11) و من المعلوم اشتغال بالجانب ...
(12) بمخالطة
(13) بضدها
(14) أو
كتاب الإنصاف، النص، ص: 42
الإقبال. فإذا صارت النفس بدنیة و تمكنت فیها هیئات انقیادیة للأمور البدنیة من الشهوة و الغضب و غیر ذلك بل صارت هذه الهیئات ملكات فیها، كانت النفس بعد البدن علی الجملة التی كانت فی البدن، فتكون مصدودة «1» عن العالم العلوی: و یعنی بالأوساخ زوائد ردیئة رذیلة «2» غیر طبیعیة و لا مناسبة تلزم الشی‌ء الذی هو بالقیاس إلیها نقی. فإذا فارقت النفس البدن و هیأتها استعلائیة «3»، بقیت متصلة بالعالم الأعلی، لابسة الجمال الأبهی، منقطعة عن العالم الذی كانت فیه.
[1] أی إذا فارقت البدن لم تتصل إلا بتعب شدید أی [147 ب]: تقاسی عذابا شدیدا كبیرا حتی «4» ینمحی عنها كل دنس و وسخ یعلق بها من البدن لأنها إنما تستبقی «5» بالأفعال الردیة «6». فإذا تعطلت جاز أن یبطل، بل وجب. فإن قال قائل: كما أن الهیئات و الكمالات التی ستحدث للنفس لا تتم إلا بالبدن علی ما ادعیتم و بیّنتم، فكذلك «7» بطلان الهیئات لا یكون إلا بالبدن، فإن الشی‌ء لا یبطل بذاته؛ و لیس حكم البطلان إلا كحكم التجدد، فإنا نعلم أن سبب عدمه بعد ما كان موجودا إما أن یكون هیئة النفس الناطقة المفردة بطبیعتها التی تخصها عند الخلو من البدن، أو سبب من الأسباب التی من خارج، من الأسباب القائمة التی لیست علی سبیل التجدد «8» أو سبب من الأسباب المتجددة؛ أو تكون تلك الهیئة لا تبطل أصلا. و لو كانت العلة فی ذلك هیئة النفس الناطقة أو شیئا من العلل القائمة، لوجب أن تكون النفس كما تتجرد عن البدن تتخلص عن تلك الأوساخ و لا یكون لتزكیتها «9» و هی فی البدن و لریاضتها و هی متعلقة بهذا العلم- فائدة: بل سواء كانت وسخة أو نقیة فحالتاهما عند المفارقة واحدة. و ذلك أنه لا یجوز أن یحصل للأوساخ من نفسها ضعف بلا علة و لا للمؤثرات فیها قوة جدیدة بلا علة، بل إذا لم یكن تجدّد حال كانت الأمور كما
__________________________________________________
(1): «و أما التی قد اتصلت بالبدن و خضعت له و صارت كأنها بدنیة لشدة انغماسها فی لذات البدن و شهواته، فإنها إذا فارقت البدن لم تصل إلی عالمها إلا بتعب شدید حتی تلقی عنها كلّ وسخ و دنس علق بها فی البدن» (ص 7 س 1 الخ).
__________________________________________________
(1) صعوده- و هو تحریف ظاهر
(2) رذلة
(3) استغنائیة
(4) حتی: ناقصة
(5) تستیقن
(6) و إذا
(7) كذلك
(8) و أی
(9) و لا یكون له كسبها
كتاب الإنصاف، النص، ص: 43
هی و بقیت ثابتة. فیجب إذن أن یكون التنقی عن الأوساخ لا یتأخر عن مفارقة النفس البدن. فإذا كان السبب فیه شیئا من أسباب التجدد فلعله التناسخ فی بدن آخر. لكنه إن كان فی أبدان البهائم و السباع، فالأولی أن تكون مثل هذه الأبدان أشد تأكیدا للأوساخ لا ماحیة لها. فإن كان بدن آخر من أبدان الناس، فالحال فی ذلك البدن كالحال فی هذا البدن «1». و هل للأغلب الأكثری إلا أن یغلب القوی الحسیة فی الأبدان؟! و الطبیعة لا تعلق أعراض المصالح بالأمور التی لا تكون بالتساوی أو بالأقل. و إن كان سبب التجدد حركات سماویة أو أمورا أخری تتعلق بالحركة، فسیصیر «2» الشی‌ء البری‌ء عن المادة مصكوكا «3» عن الحركات الجسمانیة من غیر أن یكون له ذلك بتوسط مادة یشاركها. فلعل الحق هو أن تلك الهیئات تبقی فی النفوس راسخة لا تبطل أصلا. و الجواب عن ذلك إحالة علی «الحكمة المشرقیة».
[1] «4» قال: «ثم ترجع إلی عالمها الذی خرجت منه»، أی تبقی مختصة بجهة عالمها الذی منه ابتدأ وجودها من غیر أن تهلك أو تبید. قال: «و لا یمكن أن یعرض الإفساد لآنیة من الآنیات التی مكانها عالم التجرد عن المادة و الثبات لأن تلك الآنیات آنیات بالحقیقة»؛ أی لیس یخالطها المادة فتخالطها ما «5» بالقوة فی جوهرها الموجود لها. قال:
«لأنها آنیات لا تدثر و لا تبید، كما قلنا»، أی من أن قابل الفساد ذو مادة. غضب اللّه هو الوقوع بالبعد عن الاتصال بملكوته الأعلی الذی هناك الغبطة العلیا و البهجة الأوفی «6».
و حرصهم علی أن یستغفروا هو لتأدّیهم بالهیئات الغریبة المضادة و اشتیاقهم إلی أضدادها.
فأما الترحم علی الموتی فهو من جنس استمداد الفیض الإلهی بالأدعیة. و لتطلب من «الحكمة المشرقیة».
__________________________________________________
(1): «ثم هی ترجع إلی عالمها الذی خرجت منه من غیر أنها تهلك و تبید، كما ظن أناس، لأنها متعلقة ببدنها و إن بعدت منه و نأت. و لم یكن أن یهلك أنّیة من الإنّیات لأنها أنّیات حق لا تدثر و لا تهلك كما قلنا مرارا» (ص 8 س 4 الخ).
__________________________________________________
(1) كالحال فی هذا البدن: ناقصة
(2) فیصیر
(3) صك الباب: أغلقه، أی ممنوعا
(4) الترقیم یختلف فی النسختین هنا، ففی ت رقم: یا
(5) ما: ناقصة
(6) یمكن أن تقرأ فی ت: الأولی
كتاب الإنصاف، النص، ص: 44
[1] قال: «حجبت الفكرة «1» عنی ذلك النور و البهاء»، أقول إنّ صریح التجرد و الإقبال علی الحق «2» ممنوّ بالنقص عن الوصول إلیه [148 ا]، فكیف إذا لمح «3» فی الذهن غیر الذی نتوصل منه إلیه؟ و ذلك الغیر هو المبادی المطلوبة للفكرة. فإن النفس إذا اشتغلت بشی‌ء انصرفت عن غیره و حجبت عنه و إن كانت الفكرة «4» (عنه) قد تنهج سبیلا إلی كثیر من إدراك معنی الربوبیة. لكن الإدراك شی‌ء، و المشاهدة «5» الحقة شی‌ء؛ و المشاهدة الحقة تالیة «6» للإدراك إذا صرفت الهمة إلی الواحد الحق و قطعت عن كل خالج و عائق به ینظر «7» (و خلج- فطم) إلیه، حتی كان مع الإدراك شعور بالمدرك من حیث المدرك المناسب اللذیذ الذی هو بهجة النفس الزكیة التی هی فی حالها تلك، و المخلّصة «8» عن كل محنة، الواصلة إلی العشیق «9» الذی هو بذاته عشیق «10»، لا من حیث هو مدرك فقط و معقول، بل من حیث هو عشیق «11» فی جوهره. و لما كان الإدراك قد تحجب عنه الشواغل، فكیف المشاهدة الحقة! و أقول إن هذا الأمر لا ینبئك عنه «12» إلا التجربة، و لیس مما یعقل بالقیاس، فإن «13» فی كل واحد من الأمور الحسیة بل أكثر ما یدرك منها بالقیاس «14»، و خواص أحواله تعلم بالتجربة، و كما أن الطعم لا یلحق بالقیاس و كذلك كنه اللذات الحسیة؛ بل أكثر ما یدرك منها بالقیاس إثباتها المبهم «15» عن التفصیل، كذلك فی اللذة العقلیة و كنه أحوال المشاهدة للجمال الأعلی إنما یعطیك القیاس منها أنها أفضل بهجة. و أما خاصیتها فلیس ینبیك إلا المباشرة و لیس كلّ بمیسّر «16» لها.
[2] الجزاء فی التعارف الظاهر یراد به ما یقابل به سعی ما من خیر و شر یكون
__________________________________________________
(1): «فإذا مرت فی عالم الفكرة و الرؤیة، حجبت الفكرة عنی ذلك النور و البهاء» (ص 8 س 14- س 15).
(2): «و تذكرت عند ذلك ارقلیطوس، فإنه مر بالطلب و البحث عن جوهر النفس و الحرص علی الصعود إلی ذلك العالم الشریف الأعلی. و قال: إن من حرص علی ذلك و ارتقی إلی العالم الأعلی جوزی بأحسن الجزاء اضطرارا» (ص 9 س 3- س 5).
__________________________________________________
(1) الفكر
(2) مملوء
(3) سنح فی الذكر
(4) الزیادة عن ت
(5) و المشاهدة الحقة شی‌ء: ناقصة
(6) ثابتة
(7) فی م: نظرا، و التصحیح عن ت
(8) كالمخلصة
(9) عشق
(10) عشق
(11) عشق
(12) عنه: ناقصة
(13) فی: ناقصة
(14) و الأمور العقلیة أحوال تعلم بالقیاس و خواص
(15) المهم عن التفضل كذلك كنه اللذة العقلیة
(16) میسر لها
كتاب الإنصاف، النص، ص: 45
بإزائه و فی هذا الموضع فقد جعل السعی تكلف النفس الإعراض عن عشیقها الأول الذی هو البدن منبّها للعشیق الحقیقی، و ذلك فی أول الأمر جشمة «1» ما و یحتاج إلی ریاضة حتی یصیر كالغریزة فتكون السعادة الأخرویة «2» جزءا بإزاء هذا السعی.
[1] قال: «فلما أخطأت»، أی لما كانت ناقصة «3» لم یمكن أن یوجد أول وجودها إلا كذلك؛ «سقطت» أی احتاجت «4» أن تنزل مثلا عن مكانها متصلة بالعالم الحسی.
قال: «و إنما صارت فی هذا العالم فرارا من سخط اللّه» (تعالی) «5» أی فرارا من أن تكون ناقصة الجوهر «6» فتبقی بعیدة عن عنایة اللّه (تعالی) «7». التأویل فی ذكر بعضهم للتناسخ «8» أن النفس الردیئة بعد «9» مفارقة البدن تكون فی هیئات بدنیة ردیئة؛ إنما یشعر بأذاها «10» حینئذ، فتكون كأنها معادة إلی البدن و ربما «11» كان ذلك یخیل «12» إلیها نوعا من التخیل قد أشیر إلیه «13» فی كتبه.
[2] كأنه یقول: إن النفس إنما صارت إلی هذا «14» العالم رحمة من اللّه علی هذا العالم و تزیینا له، بأن تكون فیه حیاة و عقل. فإنه ما كان یكون هذا العالم متقنا «15» الإتقان التام و قد نحس «16» ما هو ممكن من الحیاة العقلیة. و إذا (كان) ذلك ممكنا لها، وجب أن یفیض من العنایة الإلهیة التی هی جود محض، ثم لم یمكن أن یكون لأجزاء «17» هذا العالم حیاة عقلیة و لا نفس لها، فلذلك أسكن «18» فیها النفس لیتم «19» به هذا العالم و لیكون فیه «20» من كل شی‌ء مما فی العالم العقلی ما یمكن، أی فتكون المادة الجسمانیة
__________________________________________________
(1): «و أما أنبادوقلیس فقال إن الأنفس إنما كانت فی المكان العالی الشریف، فلما أخطأت سقطت إلی هذا العالم» (ص 9 س 9- س 10).
(2): «و إنما صار هو أیضا إلی هذا العالم فرارا من سخط اللّه تعالی» (ص 9 س 10- س 11) (یو): ذكر أفلاطون هذا العالم و مدحه، فقال إنه جوهر شریف سعید، و إن النفس إنما صارت-
__________________________________________________
(1) لم نجد هذا المصدر فی كتب اللغة، و لعلها فی الأصل: جشامة. و فی ت: جسمیة
(2) فی م: الأخریة؛ و الذی أثبتناه عن ت
(3) أی لما كانت أی لما كان. و هو تحریف
(4) م: احتاج، و المثبت عن ت
(5) الزیادة عن ت
(7) الزیادة عن ت
(6) اللذات
(8) التناسخ
(9) بعد: ناقصة
(10) بإزائها
(11) و إنما
(12) یتخیل
(13) أشیر به فی كتب
(14) هذه. و الكلام ساقط بعدها حتی قولی متقنا
(15) مستغنی
(16) ما هو له من
(17) الأجزاء
(18) سكن
(19) لتمیز
(20) منه فی
كتاب الإنصاف، النص، ص: 46
فیه مصورا بصورة هی محاكیة للصورة العقلیة الحقة التی فی عالم العقل علی ما یمكن، و أن یكون لها ضرب من الحیاة كما هناك، و أن یكون فیها منشأ حیاة عقلیة كما هناك.
[1] نعم ما حكم بأن جعل مبدأ الحق المعقول و الشی‌ء الموجود فی المحسوس و هو الموجود الجرمانی، واحدا و هو الحق الأول؛ و نعم ما قال: «إن الخیر لا یلیق بشی‌ء ...
إلا به» لأن الخیر فی كل شی‌ء هو كونه علی أتم أنحاء وجوده الذی یخصه. و كل شی‌ء [148 ب] باعتباره «1» فی نفسه مقطوعا عنه الاعتبار «2» المتعلق بالأمر الإلهی، مستحق للبطلان و هو غایة الشر؛ و إنما یأتیه الوجود و الخیر الذی یخصه، منه. فكل «3» شی‌ء كأنه خلط من شر و خیر: فإنه باعتبار نفسه ناقص لا خیر له، و باعتبار الأول مستفید للخیر بحسب منزلته و مرتبته. و الأول وجوده و كماله و علوه و بهاؤه من ذاته لا یشوبه شی‌ء آخر، و غیره لا یخلو من أحد حالین: إما أن یكون تارة بالقوة علی كماله و تارة بالفعل؛ و إما أن یكون أفضل من هذا، فلا یكون له الكون بالفعل من ذاته بل من غیره، فیكون لیس له الكون بالفعل بكل اعتبار و من كل جهة، بل إذا اعتبر بذاته لم یكن له الكون بالفعل، و لا أیضا كان ممتنعا فیكون الذی یلزمه باعتبار ذاته الإمكان، و هو قوة ما بوجه آخر، إلا أنه قرن بإمكانه وجوب من غیره. و لا تناقض بین «4» كون الشی‌ء ممكنا بحسب ذاته واجبا من غیره «5». و أما الأول فواجب من نفسه، عزّت قدرته.
__________________________________________________
- فی هذا العالم من فعل الباری الخیر. فإن الباری لما خلق هذا العالم أرسل إلیه النفس و صیرها فیه، لیكون هذا العالم حیا ذا عقل، لأنه لم یكن من الواجب، إذا كان هذا العالم عظیما متقنا فی غایة الاتقان، أن یكون غیر ذی عقل. و لم یكن ممكنا أن یكون العالم ذا عقل و لیست له نفس. فلهذه العلة أرسل الباری النفس إلی هذا العالم و أسكنها (فی الأصل المطبوع: و أمكنها) فیه ثم أرسل أنفسنا فسكنت فی أبداننا لیكون هذا العالم كاملا» (ص 11 س 1 و ما یلیه).
(1): «إن علة الإنّیات الخفیة التی لا أجرام لها، و الأشیاء الحسیة ذوات الأجرام، واحدة، و هی الأنیة الأولی الحق، و نعنی بذلك البارئ الخالق عزّ اسمه. ثم قال (أی أفلاطون): إن البارئ الأول الذی هو علة الإنیات العقلیة الدائمة و الإنیات الحسیة الداثرة، و هو الخیر المحض، و الخیر لا یلیق بشی‌ء من الأشیاء إلا به» (ص 12 س 10 و ما یلیه).
__________________________________________________
(1) باعتبار
(2) و الاعتبار
(3) و كل
(4) من
(5) من غیر ذاته
كتاب الإنصاف، النص، ص: 47
[1] أقول: إن صدور الفعل «1» عن الحق الأول إنما یتأخر عن البدء الأول لا بزمان، بل بحسب الذات علی ما صحح فی الكتب. لكن القدماء لما أرادوا أن یعبروا عن العلیة، و افتقروا إلی ذكر القبلیّة، و كانت القبلیة «2» فی اللفظ تتناول الزمان، و كذلك فی المعنی عند من لم یتدرب- أو همت عباراتهم أن فعل الأول الحق فعل زمانی، و أن تقدمه تقدّم زمانی. و ذلك باطل.

المقالة و المیمر الثانی‌

[2] سأل: «إنّ النفس إذا رجعت إلی العالم العقلی، فما تقول؟»، أی ما تحصله بالفعل؛ «و ما تذكر؟» أی تسترجع شیئا غائبا عن الذهن. فنقول إنها إذا تجردت عن البدن و لم یبق لها علاقة إلا بعالمها فإنما یجوز «3» أن یكون فیها بالفعل و الرأی و سائر ما یفعل، ما یلیق بذلك العالم الذی هو عالم الثبات و الكون بالفعل، و هو عالم اتصال النفس بالمبادئ التی فیها هیئة الوجود كله فینتقش به فلا یكون هناك نقصان و انقطاع من الفیض المتمم حتی یحتاج إلی أن یفعل فعلا ینال به كمالا، و یقول قولا ینال به كمالا «4». و ذلك هو الفكر و الذكر «5» و نحوه، فإنها تنتقش بنقش الوجود كله فلا تحتاج إلی طلب لنقش آخر فلا تتصرف فی شی‌ء ما «6» مما «7»
__________________________________________________
(1): «و ما أحسن و ما أصوب ما وصف الفیلسوف الباری تعالی ذ قال إنه خالق العقل و النفس و الطبیعة و سائر الأشیاء كلها! غیر أنه ینبغی لسامع قول الفیلسوف أن ینظر فیتوهم علیه أنه قال إن البارئ تعالی إنما خلق الخلق فی زمان. فإنه و إن توهم ذلك علیه من لفظه و كلامه، فإنه إنما لفظ بذلك إرادة أن یتبع عادة الأولین. فإنه إنما اضطر الأولون إلی ذكر زمان فی بدء الخلق لأنهم أرادوا وصف كون الأشیاء، فاضطروا إلی أن یدخلوا الزمان فی وصفهم الكون و فی وصفهم الخلیقة التی لم تكن فی زمان البتة» (ص 13 س 11 الخ).
(2): «إن سأل سائل فقال: إن النفس إذا رجعت إلی العالم العقلی و صارت مع تلك الجواهر العقلیة، فما الذی تقول و ما الذی تذكر؟ قلنا إن النفس إذا صارت فی ذلك المكان العقلی إنما تقول و تری و تفعل ما یلیق بذلك العالم الشریف. إلا أنه لا یكون هناك شی‌ء یضطرها أن تفعل و تقول» (ص 14 س 11- س 15).
__________________________________________________
(1) العقل
(2) و كانت القبلیة: ناقصة
(3) فإنه یجوز ... الذی: ناقصة
(4) و یقول قولا ینال به كمالا: ناقصة
(5) الفكر ناقصة، و الذكر: مكررة
(6) بشی‌ء
(7) شی‌ء مما كان ...
كتاب الإنصاف، النص، ص: 48
كان فی هذا العالم و فی تحصیلها علی هیآتها «1» الجزئیة طالبا لها من حیث كانت جزئیة. و لا یجوز أن تنالها من حیث إنها جزئیة، فقد علم أن النفس بمجرد ذاتها لا تباشر المعانی من حیث هی «2» جزئیة، و النفس الزكیة تعرض عن هذا العالم و هی متصلة بعد بالبدن و لا تحفظ ما یجری فیه علیه، و لا أحبت أن تذكره: فكیف الفائز (ة) «3» بسعادة التجرد المحض مع الاتصال بالحق! [1] العالم الأعلی فی حیز السرمد و الدهر هو عالم ثباتی لیس عالم التجدد الذی فی مثله یتأتی أن یقع الفكر و الذكر، إنما عالم التجدد عالم الحركة و الزمان. فالمعانی العقلیة الصرفة و المعانی العقلیة التی تصیر جزئیة مادیة كلها هناك بالفعل، فكذلك حال أنفسنا «4».
و الحجة فی ذلك أنه لا یجوز أن تقول إن صور المعقولات حصلت فی الجواهر التی فی ذلك العالم علی سبیل الانتقال من معقول إلی معقول، و قد بین ذلك فلا یكون هناك انتقال من حال إلی حال حتی إنه لا «5» یقع أیضا للمعنی الكلی تقدم زمانی علی المعنی الجزئی كما یقع هاهنا حین تكتسب المعلومات «فیحصل الكلی أولا، ثم تأتی الحال الزمانیة (ف) یحصل التفصیل»، بل یكون العلم بالمجمل من حیث هو مجمل، و المفصل من حیث هو مفصل معا، لا یفصل بینهما الزمان. و إذا كان هكذا فی الجوهر الذی هو كالخاتم، فكذلك هو فی [149 ا] الجوهر الذی هو كالشمع: فإن نسبة الجوهر الذی هو كالشمع حین ترتفع «6» العوائق إلی الذی هو كالخاتم نسبة واحدة فلا «7» یتقدم فیها انتقاش عنه و لا یتأخر آخر، بل الكل معا.
و نقول إن كل شی‌ء، كلیا كان أو جزئیا، تحصل صورته فی هذا العالم، و كل جزئی فإنه مدرك هناك علی الجهة التی لزمت من أسبابه، و هی جهة تجعل الجزئی كلیا- قد بیّن
__________________________________________________
(1): «إن كل علم كائن فی العالم الأعلی الواقع تحت الدهر لا یكون بزمان، لأن الأشیاء التی فی ذلك العالم كونت بغیر زمان. فلذلك صارت النفس لا تكون بزمان. و لذلك صارت النفس تعلم الأشیاء التی كانت تتفكر فیها هاهنا أیضا بغیر زمان، و لا تحتاج أن تذكرها لأنها كالشی‌ء الحاضر عندها. فالأشیاء العلویة و السفلیة حاضرة عند النفس لا تغیب عنها إذا كانت فی العالم الأعلی» (ص 5 س 18- ص 16 س 4).
__________________________________________________
(1) ثباتها- و هو تحریف
(2) هو
(3) الزیادة عن ت
(4) الفساد- و هو تحریف
(5) إنه یقع
(6) ترفع
(7) م: و لا، و التصحیح عن ت
كتاب الإنصاف، النص، ص: 49
ذلك و بین أنه لا بأس من أن تكون معلومات غیر متناهیة، فإن امتناع غیر المتناهی إنما یكون فی أشیاء مخصوصة.
[1] إن السائل سأل فقال: إنك لم تثبت فی القضیة أن العقل یعقل كل شی‌ء من ذاته، و لعله یعقل أشیاء «1» أخری لا من ذاتها بل من ذات تلك الأشیاء؛ و ما المانع (عن) «2» أن یكون هذا هو العقل أیضا، و إن لم یكن التقدم و التأخر فی ذلك زمانیا؟ فأجاب «3» فقال:
إن العقول الفعالة تعقل جمیع الأشیاء من ذاتها كما تعقل المعلولات «4» عن عللها الموجبة لها. فإن الشی‌ء إنما یعقل وجوده من جهة ما یجب وجوده، إلا وجود المبدأ الأول الحق: فإنه لا یمكن أن تكون العقول الفعالة تعقل ذواتها «5»، فتجب عن عقولها ذواتها وجوب المبدأ الأول، فإن وجوب المبدأ الأول لیس عن ذواتها بل وجوب ذواتها عنه. بل یجب أن یكون عقلها للمبدإ الأول لها هو «6» من جهة تجلی المبدأ الأول لها. فإذا تجلت لها عقلته، و عقلت ذاتها، و عقلت كلّ شی‌ء فی الدرجات الثالثة. لكن لقائل أن یقول: إن العقل الفعال إذا عقل «7» من ذاته أن وجوبه من غیره، عقل المبدأ الموجب له علی سبیل یشبه سبیل الاستدلال، و هو عكس البرهان، فجاز من هذه «8» السبیل أن یعقل من ذاته المبدأ الأول. فنقول: إنه إن كان كذلك فالتصرف «9» الذی استعمله من الحركة صحیح، لأنه إذا عقل وجود ذاته «10» عن غیره، و وجود ذاته هو عقلیته، فتكون عقلیته تلك عن غیره، فیكون «11» نائلا- لكونه عقلا- ذلك العقل عن غیره. و أما وجوده عقلا لشی‌ء بعده فلیس یكون إلا عن ذاته، لأن كونه عقلا لشی‌ء بعده معلول لكونه عقلا لذاته، لأن عقلیته فی ذاته علة لعقلیته «12» فی غیره، إذ ذاته الذی
__________________________________________________
(1): «فإن قال قائل: إن العقل إذا لم یرد علم الشی‌ء و لم یلق بصره علی شی‌ء، فلا محالة أنه فارغ خال عن كل شی‌ء. و هذا محال؛ لأن من شأن العقل أن یعقل دائما؛ و إن كان یعقل دائما فإنه لا محالة یلقی بصره علی الأشیاء دائما. فلا یكون هو ما هو بالفعل أبدا. و هذا قبیح جدا. قلنا: العقل هو الأشیاء كلها كما قلنا مرارا. فإذا عقل العقل (فی المطبوع: فإذا العقل) ذاته، فقد عقل الأشیاء كلها. فإن كان هذا هكذا، قلنا إن العقل إذا رأی ذاته فقد رأی الأشیاء كلها، فیكون هو ما هو بالفعل لأنه إنما یلقی بصره علی ذاته لا علی غیره فیكون أحاط بجمیع الأشیاء التی دونه» (ص 18 س 19- ص 19 س 7).
__________________________________________________
(1) الأشیاء أخری- و هو تحریف ظاهر
(2) الزیادة عن ت
(3) و قال
(4) من
(5) ذاتها
(6) یكون من ...
(7) عقلت
(8) هذا
(9) فالبصر
(10) ذواته هو عقلیته
(11) الكلمة ممزقة غیر مقروءة
(12) العقلیته
كتاب الإنصاف، النص، ص: 50
هو العقلیة التی تخصه، علة لكونه ذا عقل لغیره. فإذا نسب إلی الأول، جاز أن نقول إنه عقل ذاته فعقل الأوّل. و لم یجز أن یقول إن عقلیته فی ذاته علّة لعقلیته «1» الأول التی للأول بل معلولة له إذا كان هذا الوجود العقلی معلولا لذلك الوجود العقلی نائلا عنه.
و یشیر بالتحرك إلی النائل عن غیره. و أما إذا أضفته إلی ما بعده لم «2» یكن الصحیح أحد الوجهین دون الآخر بل كان الوجهان جمیعا إنما «3» یكون الذی بعد فی كونه معقولا له و فی كونه ذا وجود لما عقل فائضا عن العقل، لا أن العقل ناله من الآخر. و هذا بعد المسامحة فی أن یجعل العقل التام عاقلا أولا وجود ذاته ثم منه وجود العقلیة الذی للمبدإ الأول، بل الأوجب أنه یعقل «4» ذاته موجودا بعقله لعلته، فإن ذلك هو وجه التعقل الحقیقی. و إن تعقله لعلته یكون بتجلّ من العلة علیه لا یضی‌ء «5» بسبب البتّة إلا من «6» العلة، لیس «7» بسبب فی ذات العقل المعلول ینال به العلة فیعقله بعد عقل «8» ذاته. فإن قال قائل: إنك قد أوردت التعقل لا من حیث ماهیة المعقولات مجردة فقط، بل من حیث وجود ماهیتها، و أنت تعلم أن ماهیاتها من حیث ماهیاتها لا تتعلق فی أكثر «9» الأشیاء بعضها ببعض، إلا أن یكون أحد المعقولین جزءا من معقول ثان هو مركب، فیكون [149 ب] ماهیته مائیة «10» ماهیته. و إذا كان كذلك، لم یكن یعقل الماهیات التی لیست المبادی العقلیة بأجزاء لها تابعا بعضها لبعض «11» و الجواب أن الماهیات لا تعقل عند المبادی من حیث هی مفردة ماهیات «12» متمثلة كالصور الأفلاطونیة، بل إنما تعقل «13» الماهیة الثانیة بسبب أنها توجد و تلزم من الماهیة الأولی. و أما من حیث لا تلزم فیها، فلا تعقل تفاریق متكثرة «14» لا ینظم «15» بینها نظام واحد و لا یقع فیها تقدم و تأخر. فإنه لیس للواحد البسیط نسبة إلی كثرة بوجه من الوجوه یكون «16» معا لا ترتیب فیه.
__________________________________________________
(1) العقلیته
(2) و لم
(3) أن
(4) العقل
(5) یضی‌ء: ناقصه
(6) فی
(7) لیس: ناقصة
(8) عقله
(9) الأكثر- و هو تحریف
(10) فی الأصل مهملة النقط.
(11) بأجزاء تابعا لبعض
(12) منفرد ماهیة
(13) عقل الماهیات
(14) منكرة
(15) تنظم
(16) فیكون
كتاب الإنصاف، النص، ص: 51
[1] إن الأنفس «1» السماویة من حیث هی جسدیة و من حیث هی «2» محركة لا علی سبیل ما یحرك المشتاق و المعشوق، بل علی سبیل ما یحرك طالب الحركة- فهی مدركة للأحوال الجسمانیة بتوسط إدراكها بجسمیتها إدراكا جسمانیا جزئیا یفارق الإدراك العقلی «3» الصرف. فهی «4» تدرك جسدها و تحریكها لها و ما یشارك أجسامها فی الحركة؛ فتدرك من ذلك ما یلزمها و یتبعها «5» من الأمور التی تنسب إلیها إذا رفعت إلی مبادیها، فیكون إدراكها لأجسامها و ما بعد أجسامها «6» علی ضرب یلیق بأجسامها. فیكون إنما تتشبه «7» بالإدراك بأجسامها من حیث تأخذ صورتها و تستتبع من صورتها صورة غیرها مما یكون و یتولد عنها و ما یقارنها و یشاركها فی التأثیرات الصادرة عنه. و تتشوق المبادی المفارقة علی ضرب آخر، لیس الآن الكلام فیه، فیكون لها ذكر یلیق بذلك النمط من الإدراك. و أما «8» الأنفس الأرضیة فإنها تتشبه أیضا بالأمور المدركة الأرضیة «9» و بتوسطها یتوصّل إلی إدراك السمویات بالحس، و یكون ذلك ضربا آخر من الإدراك و التشبه. و كل واحد «10» من التشبهین «11» هو مرتبة نازلة بالقیاس إلی التشبه بالعقل. و ذكر المعانی العقلیة، و هو الانتقاش بالمعانی المعرّاة عن القشور المخالطة لها القریبة منها، المعراة عن الجزئیة التی هی من غواشی المعانی المتنزهة بالكلیة التی هی تجرید المعنی عن اللواحق الغریبة. فللنفوس تشبهات ثلاثة: تشبّه بالعقل یكون فیه كالذاكر للمعانی العقلیة، و تشبّه بالأجرام السماویة، و تشبّه بالأجرام الأرضیة. و استحصال كل تشبه بعد زواله [و] «12» هو تذكّر ما، و دوامه ذكر و حفظ ما.
__________________________________________________
(1) «إن النفس إذا ذكرت شیئا من الأشیاء تشهت بذلك الشی‌ء الذی ذكرته، لأن التذكر: إما أن یكون التعقل، و إما أن یكون التوهم. و التوهم لیس له ذات ثابت قائم علی حال واحدة، لكنها تكون علی حال الأشیاء التی تراها، أرضیة كانت أم سماویة. إلا أنها علی نحو ما تری من الأشیاء الأرضی و السماوی، فعلی قدر ذلك تستحیل و تصیر مثله» (ص 22 س 7- س 12).
__________________________________________________
(1) النفس
(2) هی: ناقصة
(3) العقلی: ناقصة
(4) و هی
(5) ما یلزمها و ما بعدها أجسامها و یتبعها من
(6) و ما بعد أجسامها: ناقصة، و لعلها الزائدة فی الرقم السابق، فحدث نقل من الناسخ و اضطراب نظر.
(7) یشبه
(8) فأما
(9) فإنها ... الأرضیة: ناقصة
(10) واحد: ناقصة
(11) الشبهیة
(12) زائدة فی م فقط.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 52
[1] إن المتوسط یتوسط علی وجهین: فإن منه موصلا و منه حاجبا «1». و إذا كان المتوسط موصّلا «2»، صار بعد الاتصال كأنه غیر متوسط، لأنه إذا وصل ما یصل بالمتوسط «3» فمن حیث وصل لا بمتوسط «4»، و إن كان من حیث به الوصول متوسط. و أما المتوسط الحاجب فهو الذی لولاه «5» لوصل الشی‌ء: و الخیر «6» الأول یصل منه إلی الأشیاء «7» ثلاثة أشیاء: أحدها الوجود، و الثانی كمالات الوجود الثانیة «8»، و الثالث جلیة ذاتها و نیلها و معرفتها علی الوجه الذی یمكن. فالمتوسط الموصّل: إما أن یتوسط فی الوجود فیكون موصّلا للوجود؛ و إما أن یتوسط فی كمالات الوجود فیكون موصّلا لكمالات الوجود؛ و إما أن یكون موصّلا لجلیة ذاته. فهناك یكون الموصل مرتفعا إذا وصل، فیكون الشی‌ء «9» مشاهدا بجلیة الحق مشاهدة بلا متوسط من حیث هی مشاهدة و إن كانت بمتوسط من حیث هی مشاهدة معلولة بجلیة الحق غیر محتجبة بذاتها عن القوابل. و إن كان القبول لا [150 ا] یقع إلا بتوسط فذلك توسط الإیصال، و هو رفع توسط الحجب، فیكون التوسط حینئذ كأنه زوال التوسیط، و تكون جلیة الحق ساریة إلی أقصی ما یصح أن ینالها نیل المعرفة- و إن كثرت المتوسطات- سریانا هاتكا للحجب.
[2] جواب الشك أن النفس فی حد «10» قبلیتها لا یجوز أن یكون لها إدراك جزئی معین،
__________________________________________________
(1): «إن النفس إذا كانت فی العالم الأعلی اشتاقت إلی الخیر المحض الأول. و إنما یأتیها الخیر الأول بتوسط العقل. بلی، هو الذی یأتیها. و ذلك أن الخیر المحض الأول لا یحیط به شی‌ء و لا یحجبه شی‌ء و لا یمنعه مانع من أن یسلك حیث شاء. فإذا أراد النفس أتاها، و لم یمنعه مانع من ذلك، جرمانیا كان أو روحانیا. و ذلك أنه ربما سلك ذلك الخیر الأول إلی الشی‌ء الآخر بتوسط ما یلیه. فإن لم تشتق النفس إلی الخیر الأول و اطلعت إلی العالم السفلی و اشتاقت إلی بعض ما فیه، فإنها تكون فی ذلك الشی‌ء علی قدر ذكرها إیاه أو توهمها له» (ص 23 س 1 س 9)
(2): «فإن قال قائل: إن كانت النفس تتوهم هذا العالم قبل أن ترده، فلا محالة أنها تتوهمه أیضا بعد خروجها منه و ورودها إلی العالم الأعلی؛ فإن كانت تتوهمه، فإنها لا محالة تذكره، و قد قلتم إنها إذا كانت فی العالم العقلی لا تذكر شیئا من هذا العالم البتة؟ قلنا: إن النفس، و إن كانت تتوهم هذا قبل أن تصیر فیه، لكنها تتوهمه بوهم عقلی. و هذا الفعل إنما هو جهل لا معرفة، غیر أن ذلك الجهل أشرف من كل معرفة. و ذلك أن العقل یجهل ما فوقه بجهل هو أشرف من العلم» (ص 23 س 11- س 17).
__________________________________________________
(1) فإن منه متوصل و منه حاجب
(2) حاصلا
(3) إلی المتوسط
(4) متوسط
(5) فی م، ت: لو لا هو. و یصح أیضا
(6) الجزء
(7) الأشیاء: ناقصة
(8) كذا فی م، و ینقص فی ت
(9) الشرف بهذا الجلیة
(10) أو: جد، كما فی ت
كتاب الإنصاف، النص، ص: 53
فلا یكون لها شوق جزئی معین، بل یكون نوع من الشوق كلی. و إن كان إلی جزئی كالشوق إلی الغذاء «1» مثلا حتی یتعین بسبب غیر الشوق، فلا یكون إذن الشعور (بالبدن «2») بحسب ذلك التقدم شعورا جزئیا. كذلك لا یكون بذكر البدن لو بقی بعده «3» ذكرا وهمیا بل عقلیا غیر مخصّص. و هذا الضرب من الإدراك- و إن سمیته توهما عقلیا- فهو جهل بالجزئی من حیث هو جزئی. إلا أن ذلك الجهل لیس جهل نقص بل جهل شرف. و هذا كما قیل:
«أن لا یعلم كثیر من الأشیاء أفضل من أن یعلم «4»». و الجهل جهلان: جهل لما هو فی المرتبة «5» العالیة، و جهل لما هو فی المرتبة «6» السافلة. و كل واحد له حكم غیر حكم الآخر: فالشی‌ء العالی قد یجهل كنهه لعجز السافل لا لكونه مجهول الكنه؛ و الشی‌ء السافل قد یجهل كنهه لكونه فی ذاته مجهول كنهه «7» الجزئی. و العقل لا یتصور فیه الحقیقة الإلهیة إلّا بضرب من المقایسات و اعتبار اللوازم و بالأشیاء الخارجة عنه كما یفطن له من طریق الرسم. و لو كانت ذات العقل ذاتا یتوصل من ذاته إلی أن بینت له كنه حقیقة الأول كأنه كان ذات العقل موجبة لذات الأول حتی یلزم عنها اكتناه ذات الأول. فإذا كانت ماهیته غیر موجبة لماهیة الأول بل الأمر بالعكس، لم یكن تجلی ذات العقل للعقل ناقلا للعقل عن ذاته إلی ذات الأول، بل إنما تطلع علیه حقیقة ذات الأول من ذات الأول من حیث یجب لها الطلوع علی «8» كل مستعد قابل وجوبا من جهته و لیس من جهة القابل إلا الاستعداد. فیكون إدراكه إیاه من حیث ینال عنه فقط من غیر وجوب فی ذات العقل و لا الماهیة «9» أصلا. و من عادة القوم أن یجعلوا مثل هذا الإدراك فی التصورات و التصدیقات جمیعا ناقصة غیر مكتنهة. و أما الكلام الفصل فیها فلیتأمّل فی الكتب و فی «الحكمة المشرقیة» و أنه كیف یجب أن یقال فی إدراك العقل لما فوقه «10».
[1] یقول إن الأنفس لا تتذكر أحوال العالم من حیث هی جزئیة، و بهذه الجهة
__________________________________________________
(1): إن النفس إذا فارقت هذا العالم الأعلی و صارت فی العالم العقلی، لم تتذكر شیئا مما علمته، و لا سیما إذا كان العلم الذی اكتسبته دنیا، بل تحرص علی رفض جمیع الأشیاء التی نالت فی هذا العالم، و إلا (فی المطبوع: و لا) اضطرت إلی أن تكون هناك أیضا تقبل الآثار التی كانت تقبلها هاهنا. و هذا قبیح جدا أن تكون النفس تقبل آثار هذا العالم و هی فی العالم الأعلی» (ص 24 س 14- س 19).
__________________________________________________
(1) العلا
(2) الزیادة عن ت
(3) أو بقی بعد ذكرا
(4) أرسطو: «ما بعد الطبیعة»، مقالة اللام، ف 9، 1074 ب 33. و راجعه قبل ص: 20، 31.
(5) الرتبة
(6) الرتبة
(7) له
(8) علی: ناقصة
(9) م: لمیة
(10) لما فوقه: ناقصة
كتاب الإنصاف، النص، ص: 54
لا تكون مذكورة «1»، و إلا لوجب أن یعرض لها الانفعالات الجسمانیة، لأن إدراكات «2» أمثال هذه الأشیاء تكون بانفعالات جسمانیة، فإنها إنما یمكنها أن تتذكر ما یمكنها أن یتصوره التصور التخیلی المنسوب إلی القوة المصوّرة، و ذلك إنما یكون لها إذا انفعلت «3» بتوسط آلة بدنیة و صار «4» لها الآثار الخاصة بالعالم «5» الجسمانی فتكون بعد المفارقة كأنها مواصلة.
[1] إن النفس لها فی جوهرها قوة واحدة لا لها «6» قوی مختلفة، و لا أیضا هی مجموع من قوی مختلفة، بل هی مبسوطة «7» الذات، ذات «8» قوة شریفة، و هی التی لها فی نفسها «9» و هی القوة العقلیة و تعطی الأبدان القوی ما دامت علی مزاجها. فالقوی «10» إنما تتكثر من حیث هی قوی للبدن فی البدن، لا للنفس فی النفس، بل للنفس بأنها منه. و لا یجوز أن یقال إن النفس واحدة ثم انقسمت هی أو قوی فائضة منها لا لسبب «11» منها بل لسبب «12» البدن، حتی لما كان البدن كثیر الأجزاء (و القوی) «13» مختلفها فی المزاج صارت النفس بسببه كثیرة الأجزاء و القوی مختلفتها «14»، و إلا فما السبب الذی أوجد «15» للبدن [150 ب] أجزاء مختلفة الأمزجة إلا النفس؟ و ما السبب فی أن جعلها مختلفة الأمزجة و الهیئات إلا «16» لأن القوی التی تحتاج إلیها النفس فی سكونها فی هذه الدار قوی كثیرة مختلفة اختلافها فی أنفسها لا بسبب أن الأبدان «17» هی التی جعلتها مختلفة، بل الأبدان هی التی هیأت باختلافها لقبول المختلفات منها؟ فلما كانت النفس تحتاج فی استكمالها إلی «18» بدن، خلق لها بدن لتعلق به. و لما كانت تنال كمالها العقلی بتوسط الإدراكات الحسیة، احتیج إلی أن یكون لها قوی حسیة بعضها تنال فی خارج و بعضها لحفظ ما ینال و توصیله إلی النفس، و احتیج لها بعد القوی الحسیة
__________________________________________________
(1): «و لیس للنفس قوی مختلفة و لا هی مركبة منها؛ بل هی مبسوطة ذات قوة تعطی الأبدان القوی إعطاء دائما. و ذلك أنها فیها بنوع بسیط لا بنوع تركیب، فلما صارت النفس تعطی الأبدان القوی، تنسب إلیها تلك القوی لأنها علة لها، و صفات المعلول أحری أن تنسب إلی العلة منها إلی المعلول، لا سیما إذا كانت شریفة تلیق بالعلة أكثر مما تلیق بالمعلول» (ص 28 س 5- س 10).
__________________________________________________
(1) بهذه الجهة تكون مذكورة
(2) إدراك
(3) انفعلت جسمانیة
(4) لها: ناقصة
(5) بالعلم
(6) لأنها
(7) مبسوط
(8) ذات: ناقصة
(9) أنفسها
(10) و القوی
(11) بسبب
(12) بسبب
(13) الزیادة عن ت
(14) فی المزاج ... مختلفها: ناقصة
(15) وجد
(16) لا
(17) قوی ... الأبدان: ناقصه
(18) استكمالها بدن
كتاب الإنصاف، النص، ص: 55
إلی قوة «1» دفّاعة للضار غضبیة و خوفیة، و قوة جلابة للنافع و الضروری شهوانیة غذائیة.
فكانت بعض هذه القوی تحتاج إلیه النفس أولا حاجة «2» الواحد إلی الواحد، و بعضها یحتاج إلیه بتوسط الحاجة إلی قوة قبلها و قبلها بتوسط حاجة ثابتة، و خلقت النفس بحیث «3» یصلح أن تفیض عنها فی البدن هذه القوی، فیكون بعضها، و إن كان أولا فی الوجود المادی «4»، أخیرا فی الوجود الصوری. فإن سأل سائل: لم كثرت القوی، و لم انقسمت؟ فالجواب: إن عنیت أنها لم هی مختلفة «5» فی ماهیاتها- فلیس ذلك لعلة من خارج، فإنها لا یمكن إلا أن تكون كذلك.
بلی «6»! إن كان فیها شی‌ء مركب فتكون علته العلة لوجود ذلك التركیب. و أما كون ذلك التركیب ذلك الشی‌ء فلا علة له لاختلاف ماهیات الأشیاء من حیث هی ماهیاتها، بل لا یمكن إلا أن تكون مختلفة و أوجب لها أن تكون مختلفة «7». و إن عنیت أنه كیف أمكن أن یوجد عن الواحد أشیاء مختلفة الماهیات فنقول: أمكن ذلك بأن أعدّ لها موضوعات مختلفة جاز أن یصدر عن الواحد فیها آثار مختلفة. و إن عنیت كیف وقع إلیها قسمة شی‌ء- فما وقع قسمة شی‌ء، فإنه «8» ما انقسم البتة «9» نفس واحدة إلی قوی «10» كثیرة مختلفة. بلی قد تنقسم نفس ما كالنباتیة «11» إلی أجزاء متشابهة فی أجزاء متشابهة «12» أو مختلفة؛ و إما أن یكون الواحد البسیط قد انقسم إلی كثرة «13» فلم یعرض ذلك البتة لا للنفس الأول فی ذاتها، و لا لشی‌ء من قوی النفس.

المیمر الرابع «14»

[1] أورد ضربا من التعریف للحس الباطن لیس علی سبیل القیاس بل علی سبیل المشاهدة التی لیس ییسّر كلّ لها، بل إنما ییسّر لها صاحب النفس بفسالة «15» هذا العالم
__________________________________________________
(1): الشرح هنا یتعلق بالصفحات من 44 إلی 50 بدون تحدید لموضع بالذات.
__________________________________________________
(1) دفاعیة.
(2) إذ لا حاجة
(3) صلح
(4) فی الوجود المادی أخیرا: ناقصة
(5) لم تنمی مختطفة من- و هو تحریف شدید
(6) بل
(7) و أوجب ... مختلفة: ناقصة
(8) فما وقع ... فإنه: ناقصة
(9) البتة: ناقصة
(10) قوی: ناقصة
(11) كالإنسانیة
(12) المتشابهة
(13) كثیر
(14) المیمر الثالث
(15) نفسا له هذا
كتاب الإنصاف، النص، ص: 56
المستحیل و خساسة مبلغ شهواته و أعراض الغضب و الطمع و غیر ذلك فیه. فإن «1» جمیع ذلك دون أن یستحق اعتكاف الهمة علیه. فإذا زكّی نفسه و طرح عنها هذه الأغشیة و راضها و هذّبها «2»، أعدّها لقبول الفیض العلوی. فرأی أول شی‌ء حسن نفسه فی جزئیتها و اعتلائها و عتاقها عما یعبد غیرها، و صار إلیها من اللّه تعالی نور یصرفها عن كل شی‌ء و یحقّر عندها كل شی‌ء حسی، فابتهج و اغتبط و عزّ عند نفسه و علا و رحم دود هوة الملكوت «3» المرددین فی لا شی‌ء المتناحرین «4» علیه، بیناهم فی ذلك التخبط، إذ صاروا إلی البوار، و ضل عنهم ما كانوا یطلبون، و رحمهم من حیث هم محفوفون بكل غم و خوف و حسد و همّ «5» و رغبة و شغل فی شغل فی شغل «6»، و ذلك بهجة و نور یأتی «7» من عند اللّه بتوسط العقل لیس یهدی إلیه الفكر «8» و القیاس إلا من جهة [151 ا] الإثبات «9»، و أما من جهة خاصّ ماهیته و كیفیته فإنما یدل علیه المشاهدة. و لا ینال تلك المشاهدة إلا من استعدّ لها بصحة مزاج النفس «10»، كما أن من لم یذق الحلو «11» فیصدّق «12» بأنه لذیذ، بضرب من القیاس أو الشهادة، و لا ینال خاصة الالتذاذ به إلا بالتطعیم إن كان مستعدا لصحة مزاج البدن. فإن كانت هناك آفة لم یلتذّ بها أیضا و وجدت المشاهدة مخالفة لما كان یقع «13» به التصدیق السالف.
[1] لما أشار إلی النور الذی یسنح علی النفوس الزكیة من النور «14» الحق، قال: إن النور الحق الأول جلت عظمته لیس نورا، و لا علی أحد وجهین: فإنه لیس نورا علی أنه نور شی‌ء یتصل «15» إلی ما یصل إلیه ذلك الشی‌ء، و یكون وصول ذلك الشی‌ء سبب وصوله؛ و أیضا لیس هو نور الصفة من صفاته حتی یكون هو شیئا «16» لیس له النوریة فی هویته، بل فی شی‌ء من صفاته «17» و توابعه؛ بل هویته نور من حیث هو هویته. و ذلك أن الشی‌ء من حیث
__________________________________________________
(1): الإشارة الموجودة هنا لم نعثر علیها بحروفها فی المنشور من «أثولوجیا»، لكنه یستنتج و بقیة الفقرة مما سنورده بعد خاصا بالفقرة ج.
__________________________________________________
(1) و إن
(2) هداها
(3) غیر واضح المعنی
(4) المتاخرین
(5) و هم
(6) و شغل فی شغل
(7) أی
(8) العقل یهتدی إلیه الفكر
(9) الإیثار
(10) البدن
(11) الحلو: ناقصة
(12) فسیصدق
(13) وقع
(14) نور
(15) فیقبل ... فیكون وصول ...
(16) م: شی‌ء
(17) حتی یكون ... من صفاته: ناقصة
كتاب الإنصاف، النص، ص: 57
هو واجب الوجود، و هو ذات الحق الأول، هو الجمال و الكمال و الرتبة و البعد عن المخالطة للمادة و العدم و ما بالقوة و سائر ما به یقبح «1» وجود الشی‌ء و ینزل و یسفل. فإذا «2» كان الشی‌ء نورا بذاته و نورا قائما بذاته «3» لیس لغیره، جاز أن یصل بكل شی‌ء إلی كل شی‌ء إذا كان مستعدا لقبوله لیس یختص من قبل ذاته بشی‌ء هو نور فیه محجوب به عن غیره، بل هو نور لكل شی‌ء غیر محجوب الذات عنه بشی‌ء «4» من الأشیاء الأخر، بل هو یصل إلی كل قابل بتجلی ذاته لذاتها وصولا «5» بذاته؛ و یصل إلی كل شی‌ء من طریق كل شی‌ء، فإنه ساطع علی كل شی‌ء متأدّ عنه إلی كل شی‌ء، لكن هو بل الأشیاء تقتضی ترتیبا خاصا فی النیل، لیس بسبب هویته و احتجابها، فهو المتجلی لكل شی‌ء بكل شی‌ء.
[1] أی إن «6» كانت فاعلیته لا بذاته بل بصفة فیه لیس مبدؤها من ذاته علی أن تكون الصفة لازمة من ذاتها «7»، فكان «8» ما یلزم عن ذاته بسبب تلك الصفة یكون مبدؤها الأول ذاته لا باعتبار تلك الصفة- لكانت الصفة التی له التی بها یفعل لیست من ذاته بل من غیره، فصارت فاعلیته من غیره، فلم تكن «9» فاعلیته فاعلیة الفاعل الأول. و نقول إن المبدأ الأول عزّت قدرته إما أن لا تكون له صفة البتة؛ بل یكون ذاتا مجردة عن الصفات إن أمكن ذلك؛ و إما أن تكون صفته معلولة ذاته، تابعة له، لازمة، فإن كثیرا من الصفات تتبع الذوات مثل الأمر الذاتی للإنسان الذی هو هویة ذاته یتبعه أنه بحال «10» و أنه كذا و أنه كذا من الخواص و الأعراض اللازمة التی لیست مقوّمة له بل تابعة لوجوده متقوّمة بوجوده. فإن جعل الأول صفة لیست معلولة لذاته، كانت مكافئة لذاته فی وجوب الوجود
__________________________________________________
(1): «و النور الأول لیس هو بنور فی شی‌ء، لكنه نور وحده، قائم بذاته. فلذلك صار ذلك النور بنیر النفس بتوسط العقل بغیر صفات كصفات النار و غیرها من الأشیاء الفاعلة. فإن جمیع الأشیاء الفاعلة إنما أفاعیلها بصفات فیها، لا بهویّتها. فأما الفاعل الأول فإنه یفعل الشی‌ء بغیر صفة من الصفات، لأنه لیست فیه صفة البتة، لكنه یفعل بهویته، فلذلك صار فاعلا أولا و فاعل الحسن الأول الذی فی العل و النفس» (ص 51 س 7- س 12).
__________________________________________________
(1) فتح؛ و هو تحریف ظاهر
(2) و إذا
(3) و نورا ... بذاته: ناقصة
(4) بشی‌ء: ناقصة
(5) أی الشی‌ء الآخر غیره. و فی ت: و هو لا بذاته
(6) إذا
(7) لذاته من ذاتها
(8) و كان
(9) تكن: ناقصة
(10) لحال
كتاب الإنصاف، النص، ص: 58
و لا سبق لذاته علیها بالعلة. فوجب من ذلك أن یقع وجوب الوجودین علی أمرین. و ذلك قد بیّن امتناعه «1» فوجوب «2» الوجود دائما هو لذاته تعالی و إن كانت له صفات فهی واجبة بوجوب ذاته. فهذه هی المعلولیة. و إذا كان فیها النوریة المشرقة علی القوابل، فإن مبدأها الأول یكون ذاته لا تلك الصفة إن كانت.
[1] قال: الروحانیون أصناف. فترك الصّنف الذی عقلته و عرفته و هو العقول و النفوس، و ذكر الصنف الذی «3» هو كالنفوس فی العقول و النفوس الزكیة. فإن العقل بالفعل منتقش «4» بماهیة كل موجود [151 ب]، و أنه لیس الأمر «5» علی ما یقولونه إنه لا كثرة هناك، و لا أیضا الكثرة هناك بحیث تكون أجزاء الذات، بل هی لوازم للذات و بعضها لوازم لبعض فی عالم المعقول علی ما فصّل فی «الحكمة المشرقیة» خاصة. فإذا كان كذلك، فالعالم المحسوس منقوش بما «6» فی العالم المعقول بضرب من روحانیات تلك النفوس المجردة عن المادة الجسمانیة. و الفرق بینهما و بین نفوس العالم المحسوس أن نفوس العالم المحسوس رتبة فضلیة «7» و شرف للذات المادیة التی هی نقوش لها و هناك. فإن نقوش المعانی التی للعالم المحسوس لیست زینة للذات التی یلزمها تلك النقوش من حیث تعقل بل تلك الذات مترتبة بنفسها، و أشرف من تلك النفوس العقلیة الی یلزمها «8» من حیث تعقل ذاتها، إلا أن تكون النفس لماهیة أعلی، فتكون رتبة و جلالة للماهیة السافلة مثل تجلی هویة الحق الأول إذا نالها «9» ذات العقل، و صورة العقل إذا نالها النفس من حیث هی صورة العقل. فهناك صورة السماء و العالم و صورة ما فی السماء
__________________________________________________
(1): «و الروحانیون أصناف: و ذلك أن منهم من یسكن السماء التی فوق هذه السماء النجومیة؛ و الروحانیون الساكنون فی تلك السماء كل واحد منهم فی كلیة فلك سمائه. إلا أن لكل واحد منهم موضعا معلوما غیر موضع صاحبه، لا كما یكون الأشیاء الجرمیة التی فی السماء لأنها لیست بأجسام و لا تلك السماء جسم (ص: جسما) أیضا، فلذلك صار كل واحد منهم فی كلیة تلك السماء. و نقول إن من وراء هذا العالم سماء و أرضا و بحرا و حیوانا و نباتا و ناسا سماویین (فی المطبوع هذه الأسماء كلها مرفوعة)؛ و كل من فی هذا العالم سمائی، و لیس هناك شی‌ء أرضیّ البتة. و الروحانیون الذین هناك ملائمون للأنس الذی هناك لا یتغیر بعضهم من بعض، و كل واحد لا ینافی صاحبه و لا یضادّه، بل یستریح إلیه» (ص 52 س 16- ص 53 س 6).
__________________________________________________
(1) فوجب فی ذلك. امتناعه: ناقصة
(2) فوجب
(3) الذی: ناقصة
(4) متعین
(5) لیس إلا علی ...
(6) بما: ناقصة
(7) و فضیلته
(8) بل تلك .. من حیث: ناقصة
(9) فإنها لها ذات ...
كتاب الإنصاف، النص، ص: 59
و العالم بنوع أعلی و أشرف، فإذا انطبع بها مادة العالم الجسمانی یشرف بها؛ إلا أنه لا ینالها كما هی، بل كما یمكن لها و كما تصیر به جزئیة ملابسة للغواشی، و تلك الصور التی من [1] عالم العقل لیست تتمیز و تنفرد [2] و یقوم كل واحد منها بمعزل من الآخر، كما أنك تری الشمس فی العالم الجسمانی بمعزل عن القمر و زیدا عن عمرو بل كلها معا و كل منها فی كل الآخر، لو جاز أن یكون لكل واحد منها هناك قسمة- فلا مثنویة [3] إلا بالمعنی فقط، و أما بغیر ذلك فلا.
و أما هذه التی فی الأجسام فهی متتابعة فی المعنی و فی غیر المعنی إذا كانت أجساما. و أما إذا لم تكن أجساما، فربما كان الكثیر منها معا كاللون و الرائحة فی التفاحة: فهذا ربما أشار إلی تفهیم شی‌ء مما هناك مما لا یتباین إلا بالمعنی. و تلك لا منافرة فیها و لا مخالفة و هی بعیدة عن منافرة تجری بین غیر [4] الأجسام من الصور المتضادة و المتنافیة التی لا یجوز اجتماعها معا فی ذات واحدة. بل صور المتضادات و المتنافرات هناك متسالمة [5] متساعدة، كمال [6] كل واحد بأنه مجامع للآخر و بحیث یصلح أن یجامع الآخر و یكون معه لروحانیته [7].

المیمر الخامس‌

[143 ب] فصل [8]. المبدع علی الإطلاق هو الذی وجوده من شی‌ء آخر و له من نفسه أن لا یكون له وجود، ثم لیس یتوسط مادة قدّر فیها وجود ذلك، و المبدع علی الوجه
__________________________________________________
(1) فی
(2) تتعود. و هو تحریف
(3) ینسونه
(4) تغیر
(5) متألمة
(6) باكمال
(7) هنا وردت التعلیقة التالیة فی صلب النص فی كلتا النسختین:
«من میمر من كتاب «الأثلاث» مكتوب فی مجموع الإلهیة و هو الفصل الذی أوله: المبدع علی الإطلاق و هو الذی وجوده ... إلی الفصل الذی آخره: و فقد الخیر أعظم من الشر النادر فإن ذلك شر عام تال. أنت إذا فكرت وجدت طبیعة البدن منفعلة من الهیئات النفسانیة، و إن لم تكن الهیئات النفسانیة موجهة نحو ذلك، مثل أن الفكر فی الحامض قد یضرس، و تأمل العین الرمدة قد یرمد و تخیل صورة حسنة لأن یجامع ینهض أعضاء الجماع، و تخیل المفزعات یرعش، و تخیل المزاج إلی البرد من غیر أن یقصد الأمر النفسانی ما یعرض من الأمر الطبیعی- كذلك حال انفعال طبیعة العالم من نفسه».
و علی هذا فعلینا أن ندخل هنا القسم المشار إلیه و هو موجود فی 143 ب إلی 145 ب.
(8) هنا ترد الشروح علی هیئة فصول و لم نستطع تحدید المواضع المشروحة بالدقة من المطبوع من «أثولوجیا». فهل هذه تعلیقات عامة علی بقیة أجزاء الكتاب لم یراع فیها ابن سینا أن تشیر إلی مواضع بعینها، بل إلی الأفكار العامة الواردة «بأثولوجیا»؟ أو لم یبق لدینا القسم من «أثولوجیا». الذی یشرحه هنا؟ هذا إلی أنه غیر موجود فی ت.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 60
المخصص هو الذی مثل هذا الوجود له عند المبدأ من غیر توسط واسطة أصلا بوجه من الوجوه، و یكون وجوده هذا من الموجد له [144 ا] بحیث لم یتسلّط علیه قبله العدم، بل أن یكون المبدع أعطاه وجودا مطلقا وضع عدمه، لیس أن عارض عدمه بمنع بعد تمكن. و الإبداع نسبة المبدع إلی المبدع من حیث هذا الوجود. قال: لیس [1] فیضان الصور عن الأول الحقّ علی سبیل ما یترتب فی الفكر و یطلب بالرویة بل أبدعت الإبداع الشریف الذی ذكروا، مما یبدعها الباری بذاته لا بتوسیط شی‌ء غیر ذاته، بل أبدع العقل بذاته، و لما تجلی للعقل عقله العقل و عقل ذاته و عقل منهما كل شی‌ء دفعة لا بطلب و لا فكر. فلما أبدع ذلك أبدع بعد ذلك- بعدیة ذاتیة لا زمانیة- العالم الحسیّ و ما فیه.- لیس إبداع تلك الأشیاء كان لأجل هذا العالم، فإن الأفضل لا یكون لأجل الأخس، و لیس أیضا الجود وقف هناك، و إن كان ذاك لیس لما بعده لكنه لیس فی إبداعه منع لأن یفیض الجود الإلهی إلی آخر ما یقبل منه الجود من ماهیات الأشیاء المكتسبة وجودها من هناك. فلما لم یمكن أن یكون المعنی الإلهی الفائض واقفا و وراءه إمكان، و لم یمكن أن یكون فی المعقول ماهیات تنال جمیع أصناف الوجود العقلی و الحسی ثم لا یأتیها الجود الإلهی، تعدّی الإیجاد تلك الأشیاء التامة الكاملة التی لو كان إیجادها لحاجة من الموجد أو فاقة أو شوق إلی وجود شی‌ء أو غرض فی وجود شی‌ء لكان بها غنیة. لكن لیس الإیجاد لذلك، بل لكون الجود أكمل ما یمكن و كون الماهیات المعقولة صحیحا لها أن تقبل وجودا آخر حسیا و كون ما یصح وجوده من عند الفیاض بإبداعه.
فصل: أول اثنینیة فی المبدع- أیّ مبدع كان هو- أن له بحسب ذاته الإمكان، و من جانب الحق الأول الوجود. و من هذین تأتلف هویة موجودة. و لو كان المبدع عقلا
__________________________________________________
(1): «لم یدبر المدبر الأول حیا من الحیوان و لا شیئا من هذا العالم السفلیّ أو فی العالم العلوی بفكرة و لا رویة البتة. فبالحری أن لا یكون فی المدبر الأول رویة و لا فكرة».
و راجع أیضا: «لیس لقائل أن یقول إن الباری روّی فی الأشیاء أولا ثم أبدعها. و ذلك أنه هو الذی أبدع الرویة، فكیف یستعین بها فی إبداع الشی‌ء و هی لم تكن بعد؟! و هذا محال، و تقول إنه هو الرویة، و الرویة لا تروی أیضا؛ و یجب من ذلك أن یكون تلك الرویة تروّی؛ و هذا ما لا نهایة له.
و هذا محال. فقد بان و صحّ صحة قول القائل: إن الباری- عزّ و علا- أبدع الأشیاء من غیر رویة» (صفحة 164 س 8- س 13).
كتاب الإنصاف، النص، ص: 61
فیعقل ذاته و یعقل الأول. و ناله من الأولی بذلك للأول اثنینیة تقع له لا بعد هویته، بل بهما تكون هویته، ثم یتبعها عقلها لما یتبعها و یصدر عنها، فتكون تلك. و إن كان فیها كثرة، فإنما هی كثرة لازمة بعد استكمال الهویّة كما أن تلك الوجودات بعد الهویة. و بهذه الجهة جاز أن یبدع من العقل المبدع الأول، عقل و نفس سماویة. و أما البحث عن أن كل واحد من تلك الاثنینیة یكون لها أیضا اثنینیة أخری، فیجب أن یكون علی هذا. نقول: إنه لا یمكن أن نذهب إلی غیر نهایة، فیجب إذن أن نقف عند وحدتین صرفتین، فیكون أقل ذلك أن یكون أحدهما ماهیة و الأخری وجودا من الأول. فنقول: إن الماهیة لا تركیب فیها من جهة النسبتین فإنها لیست مبدعة من حیث هی ماهیة، بل من حیث مقرون بها الوجود؛ فلیست الماهیة إذا التفت إلیها من حیث هی ماهیة مجموع ماهیة و وجود من الأول به وجبت، بل الوجود مضاف إلیها كشی‌ء طارئ علیها. فلیست الماهیة تقتضی اثنینیة فی ذاتها لأنها ماهیة، بل لعل ذلك یكون لأنها ماهیة شی‌ء مركب فی حقیقته. و أما جانب الوجود فلعل قائلا یقول: وجود تلك الماهیة فی حیز نفسها ممكن أن یكون و أن لا یكون، و من الأول هو واجب فهو أیضا متكثر ذو اثنینیة بتسلسل إلی غیر النهایة. فنقول: لیس كذلك، بل وجود تلك الماهیة لیس إلا نفس الوجود و لیس شیئا یلحقه الوجود، بل هو نفس الوجود الذی یلحق الماهیة و لیس له وجود آخر حتی ینظر هل هو [144 ب] له بإمكان، و هو فی نفسه وجود، و هو أعم من وجود الإمكان و وجود الوجوب، فمن حیث تلتفت إلیه من أنه وجود لیس لك أن تحكم علیه بتخصیص إمكان أو وجوب. و أما كونه للماهیة فممكن بإمكان للماهیة و واجب من الأوّل ذلك الوجوب، هو ذلك الوجود من حیث هو ذلك الوجود. و هذا الإمكان لیس جزءا من ذلك الوجود حتی ینقسم به، بل هو حال لازمة لتلك الماهیة من نفسها. و ذلك الوجوب هو حال لتلك الماهیة مقیسة إلی الأول. و الوجود نفسه، من حیث هو معتبر بنفسه، وجود فقط لا شی‌ء من الأشیاء الأخر، بل ربما قارنها من غیر أن ینقسم بها فی نفسه. و أما أن الإمكان كیف یكون من لوازم الماهیات، و هل یدخل مع ذلك فی الإبداع أم لا یدخل، و كیف القول فیه إن لم یدخل فیكون شی‌ء بعد الأول غیر منسوب إلی الإبداع، و كیف القول فیه إن دخل- فقد شرح فی «الحكمة المشرقیة».
كتاب الإنصاف، النص، ص: 62
فصل: قال: إن الرحمة الإلهیة توجب تدارك الضعف بما یمكن أن یتدارك به بحسب كل شی‌ء من مادته و صورته. فإن كان الحیوان ضعیفا عادما للعقل احتال له العقل الذی فیه، أی الأمر العقلی الذی هو هبة و قوة من قوی نفسه التی تصوّره حتی تعطیه آلات دفّاعة عنه جلابة إلیه. و نعنی بالعقل هاهنا النصیب من الأمر العقلی الذی كأنه فیض واحد لا یزال یتناقص و ینحط من العقلیة إلی النفسیة إلی الطبعیة. و هذا كلام بحسب التخییل، و أما بالحقیقة فلیس الواحد بالعدد ینقسم بل بالتناسب.
فصل: قال: إن كان ذلك العالم تاما غایة التمامیة و هی الفضلیة، فلا محالة أن فیه الأشیاء كلها- أی لأنه یلزمه من حیث هو عقل أن یعقل ذاته و یعقل جمیع الأشیاء التی تلزم ذاته، لأنه إذا عقل ذاته كان عاقلا لما یلزمها بلا توسط و عاقلا لكل ما یلزم ما یلزم له و ما أیضا بلا توسط إذ لم یكن عقلا بالقوة یحتاج إلی إخطار بالبال حتی یصیر له ذلك الواجب أن یعقله الذی لا یمكن أن یجهله خاطرا بالبال. فإن هذا إنما یجوز فی العقول الناقصة. و إذا كان كذلك كان حكمه حكمنا لو خطرت لنا الأوساط بالبال علی ترتیبها، فعقلنا بالضرورة جمیع النتائج. و أما هناك، فالذی لنا بالقوة الناقصة أو القوة القریبة من التمام هو بالفعل التام، فیجب أن یعقل كلّ شی‌ء، و أن یعقل كل شی‌ء: هو أن یحضره صورة كل شی‌ء معقولة مهذبة عن الغواشی الغریبة.
فصل: قال: أما الحق الأول فكل ما یوجد عنه فهو معلوم له أنه یوجد عنه و یتبع وجوده وجوده، و یصیر به إمكانه وجوبا، و لكنه لا ینزل منه منزلة من یقصده و یجعله غایة و یطلب له وجودا، بل وجوده وجود یفیض عنه كلّ وجود علی ترتیبه و علی ما یعلم هو من الأصلح فی وجود كل شی‌ء و الأصلح لنظام الكل الذی نعلم أن فیضانه عن ذاته ممكن الإمكان الأعمّ، و أن أحسن ما یمكن علیه أن یكون كذا فیصیر المعقول عنده من إمكان وجود الكل عنه علی الوجه الأصلح لنظام الخیر موجودا؛ و سببه عقله لذاته و عقله للنظام الفاضل فی وجود الكل. و هذا المعنی یسمی «انبجاسا» من حیث اعتبار جانب الموجودات عن الأول «و إبداعا» من جانب نسبة الأول إلیها. و لقائل أن یقول: إن كان وجود الأشیاء لازما لذاته علی ما هی علیه فلیس لتعلقها بأنه یعقل وجود الكل علی أصلح الوجوه
كتاب الإنصاف، النص، ص: 63
تأثیر، و إن كان إنما یتبع وجود الأشیاء بعقله لزومها [145 ا] إیاه، فیكون إنما وجبت بتعقله لها، و تعقله لها لیس فی مرتبة تعقله لذاته بل تابع لتعقل ذاته فیكون لذاته اعتبارها مع ذاته، و لذلك قبلیة ذاتیة علی تعقله أو معیة اعتبار ما لم یجب بل إنما یجب بتوسط أن یعقلها و إذا كان كذلك فتكون باعتبارها فی درجة تعقله لها ممكنة أن تكون عنه. فتعقلها إذن ممكن عن ذاته، لا واجب عن ذاته. فما ذا یجب إذن؟ فإنه إن عقلها واجبة كان عقله لها موافیا لوجوب لها عنه فی أنفسها، صادفه العقل. و كذلك فیكون لزومها عنه لیس بتوسط عقله لها بل معه أو قبله، فلا یكون إنما وجدت لأنه عقلها، و لا یكون إنما صلحت و انتظمت أحسن الانتظام لأنه عقل أن النظام الخیری ذلك، بل وجبت كذلك بتعقلها [1] كذلك. فتكون إذن ذاته إما جلابة للأشیاء إلی الوجود لا من حیث تعقلها بل من حیث ذاته، و إما أن تقول إنه یقصدها و ینظمها. فإذا قلت یقصدها و ینظمها، فقد قلت علیها مرة أخری إنه یعقلها، لأن قصد مثله لا یجوز أن یكون إلا عقلیا. فبقی أن ذاته جلابة للأشیاء إلی النظام، لیس إنما عقلها علی مراتبها و علی الأصلح لها فتبع عقل ذلك نظامها، بل وجب عن ذاته نظامها فعقلها علی نظامها. و یرتفع الشی‌ء الذی تسمیه أنت عنایة و هو تعقل الأول للمصلحة و الصواب. فیكون كون الأشیاء من الأول صرف انبجاس لا یتعلق بتعقله لها، و إن كان قد یصحبه تعقله لها. فنقول إن الأول تعقّل الأشیاء ممكنة عنه فی حد تعقلها الأول، و عقله لها ممكن یتبعه لزومها لوجوده فتصیر بأن تعقلها واجبة عنه. فهی مع عقله لها فی الترتیب الذاتی ممكنة، و بعد عقله لها بالترتیب الذاتی واجبة. ثم یعقل وجوبها عنه بأحوال لها: بعضها واجبة لازمة لما یوجد عنها، و بعضها غیر واجبة بل ممكنة. و تعقل الأصلح لها من وجوه إمكانها، فیصیر الأصلح من الممكنات لها بعد أن عقلت أصلح واجبا، و هو العنایة، و هو العقل الأصلح ما یكون. و إن وجودها منه لكمال وجوده و الزائد علی الكمال؛ و إنها إنما تلزم عنه لأنه علی أفضل أنحاء الوجود فیصیر كالمقصود بالعرض. و أما الحق فغنیّ بذاته عن كل طلب و قصد جمیل أو غیر جمیل. فإن الجمیل لا یكون علة داعیة له إلی شی‌ء و إلا حمل به إن تحبّب؛ و إن كان سواء فلا داعی؛ هذا بیّن عند العقول الصحیحة. و قد جل الأول عن
__________________________________________________
(1) ن: تعقلها.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 64
داع بدعوة و حامل یحمله و أمر خارج عن وجوده الأحسن به أن یكون موجودا، بل وجود كل شی‌ء عنه كذلك و تعقل ذاته الذات التی بها یمكن وجود كل شی‌ء و یجب تعقله لها، و إن ذاته الذات الذی یلزم عنها الممكنات عنها لأنه یعقلها، و بهذا یتم كون العنایة عنایة و یكون للذات تقدم علی وجوب الأشیاء. و إنما یكون بالقیاس إلیها إمكان الأشیاء عنها و لا یكون وجوبها مع وجوبه بلا توسط وجوب صفاته التی له فی ذاته. و أما الإبداع فأن یكون للشی‌ء وجود عن الأول وحده، فلا یكون كان الأول و شی‌ء آخر من أسباب الشی‌ء و شرائطه، ثم وجد الشی‌ء. و كذلك إن قال قائل كان الأول و إمكان وجود ذلك الشی‌ء فی نفسه، فقد قدم علیه اثنین؛ فإن قال كان الأول و لم یكن معه إمكان وجود ذلك الشی‌ء فی نفسه فكان ذلك الشی‌ء لیس ممكن الوجود فی نفسه، و ما لیس ممكن الوجود فی نفسه موجوده إما واجب لا علة له، [145 ب] و إما ممتنع لا علة له أیضا، و لا یصح أن یقال: إن إمكان وجوده هو حال العلة من حیث یصح عنها وجوده، فإن ذلك قد بیّن خطؤه فی الكتب. فالإبداع الحق أن لا یتمكن إمكان وجود الشی‌ء أن یتقدمه مجاورا لعدمه تقدما بقبلیة لا تصطحب هی و بعدیتها معا. إذ عرفت أن القبلیات منها ما یصاحب البعدیات، و منها ما لا یصاحبها. فیجب إذن أن یكون التقدم فی الإبداع إن كان الإبداع وجود الشی‌ء عن المبدأ وحده فقط بلا توسط سبب؛ و شرط آخر هو تقدم ذات المبدع تقدما ذاتیا لیس بقبلیة منافیة للبعدیة، و هی القبلیة الزمانیة التی تصاحب الإمكان و كل شی‌ء إلیه مرجعه، أی إنما یطلب الاستكمال من قبیله و یستكمل بالتشبه به.
فصل: قال یجب أن یترك [1] أن العالم بأسرها مدینة دبرها الشریعة الفاضلة، فجعلت لها أخری منظومة بعضها مع بعض سابقة بعضها لبعض إلی نظام كلی و خیر كلی، و هو واحد فی الأصل و یتشعب فی الفروع؛ كذلك السماوات من جملة أخری مدینة التدبیر الأول المتوسطة بین مبدأ التدبیر و بین منتهاه؛ یفیض عنها التدبیر بحسب العنایة و تتحرك للطاعة الأولی و التشبه بالمعقول المحض علی ما عرف، فیتبعه نظام أو خیر فیما دونه و إن لم یقصده بذاته لأجله، بل المقصود غیره. و لیس إنما یؤثر فی عالم الكون و الفساد بحركاته
__________________________________________________
(1) كذا فی الأصل و لعله: یدرك، و اشتبه علی السامع حرف الدال فكتب یترك.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 65
و قواه لأجل أن حركاته و قواه لأجلها، بل لسبب آخر تتبعه هذه التأثیرات. فربما ضرّت و ربما نفعت، لا قصد لها بالمضرة و الشر، بل هی ضروریات تتبعها لا بد منها و لا یصدر عنها المذمومات بالقصد الأول، بل اتباع أمور ضروریة لازمة للخیر لا یمكن أن تكون أسباب الخیر أسبابا للخیر علی الجهة التی هی بها أسباب إلا و تلزمها بالضرورة فی الأول. و الندرة أمور ضارة و شرور، مثل أنه لن یجوز أن یقع الانتفاع الكلی بالنار و الماء فی عالم الكون و الفساد إلا و یكون هذا بحیث یتفق منه عند تصادم الأسباب المرتب كل منها فی مرتبته المجعول لكل واحد منها حركته للخیر الأعم أن یحترق منه شی‌ء نفیس إن كان نارا أو یغرق منه حیوان إن كان ماء. و أنه إذا جعلت النار لا بحیث تحرق و الماء لا بحیث یغرق أو جعلت حركات الأشیاء بحیث لا تنادی إلی التقاء نار و ثوب نفیس أو وقوع حیوان شریف فی الماء لم یمكن أن یكون لا ذلك الخیر العام و لا ذلك الشر النادر. و فقد الخیر العام أعظم من الشر النادر، فإن ذلك شر عام.
فصل: تقول إنه لو لا صنع اللّه و جلالته و أنه بحیث له هذه القدرة لم تكن ذاته الذات المتعالیة، لا أن هذا علة ذاته متعالیة بل دلالة علی تعالی ذاته و أنه یجب للذات المتعالیة أن تكون بحیث یفیض منها الوجود علی نظامه و الخیر علی نظامه، علی أن ذلك تبع لوجوده لا علی أن وجوده یشرف به، بل لأن وجوده لمّا شرف بذاته وجب أن یفیض عنه الوجود فلو لم یفض عنه الجود لم یكن ذلك سببا لأن لا تكون ذاته شریفة، بل كانت أولا لا تكون ذاته شریفة لأمر لها فی نفسها و لسبب یتعرض أن لا یفیض منه الجود و یلزمه و یتبعه. قالوا: لو لم یكن الباری بحیث یفید وجود كلّ ذات و كل دائم، لم یكن الأول الحق، لا أن كونه غیر فائض عنه الوجود یرفع أولیته، بل یدل علی أن أولیته غیر موجودة [164 ا] لا علی أن رفع هذا علة لرفع ذاك. و تقول إنما احتیج فی العنایة الإلهیة كما هی عنایة إلی وجود شی‌ء مثل الهیولی یكون المكوّن منه قابلا للكون و الفساد لأجل أن أن تصیر قابلة لتصرّف النفس فیها لیكون فی الملكوت نشوء النفوس الناطقة إلی غیر نهایة مما لم یقبل ذلك صورا علی أحسن ما یقبل و جعلها له و منفعة للجوهر الذی له النفس الناطقة و جعل كل أدنی كذلك للأفضل، لم یضع الممكنات من التكوین الشریف و أوجدت،
كتاب الإنصاف، النص، ص: 66
و إن لم یكن المقصود الأول بحسب العنایة و الفیض الإلهی انقسم إلی إفادة ما وجوده وجود ثابت دائم بالعدد و إلی وجود ما وجوده غیر دائم و لا ثابت إلا بالنوع. فلو أفیض الوجود علی أحد النحوین لم یكن الوجود مشتملا علی جمیع أنحاء الوجود الممكن، فلم یجب أن یقف الوجود قبل الوصول إلی حیز الكون و الفساد.

المیمر السابع «1»

[1] أی أن النفس هبطت لاستطاعتها و قدرتها للغلبة «2» التی لها لتصور «3» الوجود الذی یلیها و یتلوها و هو الوجود الحسی و مدبّرها و لأن یستفید منها الكمال.
[2] أی إن كانت زكیة [152 ا] یتأتی «4» لها أن تفارق «5» عالمها بسرعة لاستكمالها و مقارنة طبعها طبع مبادیها «6» العقلیة و نزاهتها عن الأدناس المثبطة بعد انحلال التركیب الجسمانی عن اللحوق «7» بالعالم العقلی و كانت بحیث تسرع لحوقها بما قبلها لم تتضرّر «8» بهبوطها بل انتفعت به.
[3] أراد أن الباری جعل «9» فی طباع النفس و قواه أن یفعل هذه الأفاعیل و ینفعل
__________________________________________________
(1): «النفس الشریفة السیدة، و إن كانت تركت عالمها العالی و هبطت إلی هذا العالم السفلی، فإنها فعلت ذلك بنوع استطاعتها و قوتها العالیة لتصوّر الأنیة التی بعدها و لتدبرها» (ص 75 س 16- ص 76 س 1).
(2): «و إن أفلتت من هذا العالم بعد تصویرها و تدبیرها إیاه و صارت إلی عالمهما سریعا، لم یضرّها هبوطها إلی هذا العالم شیئا، بل انتفعت به. و ذلك أنها استفادت من هذا العالم معرفة الشی‌ء و علمت ما طبیعته بعد أن أفرغت علیه قواها و تراءت أعمالها و أفاعیلها الشریفة الساكنة التی كانت فیها و هی فی العالم العقلی» (ص 76 س 1- س 6).
(3): «فلولا أنها أظهرت أفاعیلها و أفرغت قواها و صیرتها واقعة تحت الأبصار، لكانت تلك القوی و الأفاعیل فیها باطلا، و لكانت النفس تنسی الفضائل و الأفعال المحكمة المتقنة إذا كانت خفیة لا تظهر.
و لو كان هذا هكذا، لما عرفت قوة النفس، و لما عرفت شرفها. و ذلك أن الفعل إنما هو إعلان القوة الخفیة بظهورها. و لو خفیت قوة النفس و لم تظهر، لفسدت و لكانت كأنها لم تكن البتة» (ص 76 س 6- س 11).
__________________________________________________
(1) فی ت: المیمر الرابع
(2) كذا فی الأصل، و نظن أن صوابه هو: «و قوتها العالیة»، كما فی نص «أثولوجیا» (ص 76 س 1)، علی أن المعنی یستقیم علیه أیضا. و فی ت: لعلته
(3) یتصور
(4) فیأتی
(5) تفاق ... و هو تحریف ظاهر
(6) عادتها
(7) اللواحق العالم ...
(8) م: یتصور؛ ت: یتصرع
(9) حصل
كتاب الإنصاف، النص، ص: 67
بهذه الانفعالات لتخلص بذلك إن وقعت فتركت «1» عقلیة علی نوع یلیق بالنفس أن تكون عقلیة به، و لو لا ذلك لتعطل ما كان فی قوتها من مساورة عالم الشر «2» و الاستیلاء علیه و كسب الهیئة الاستعدادیة مع النزاهة و الاستكمال العقلی.
[1] لیس غرضه أن یشیر إلی أن الباری استفاد بهذا منزلة أو درجة «3» أو كان خلقه للأشیاء لینتفع فإن «4» یتعرف إلی أحد من خلقه بجلاله و لا أن یعرف بذلك أولی و أجمل به و أعود علیه من تركه للتعرف؛ و لا أن یكون فیض للوجود عنه یجعله شریف الذات كامل الوجود. و لیس الحال فی ذلك كالحال فی النفس، فإن النفس تتم بالبدن و تستكمل بالتصرف فیه. لكنه یقول إنه لو لا صنع اللّه تعالی و جلالته و أنه بحیث له هذه القدرة لم تكن ذاته الذات المتعالیة، لا أن «5» هذا علة لكون ذاته متعالیة، بل «6» دلالة علی تعالی ذاته، و أنه یجب للذات المتعالیة أن تكون بحیث یفیض عنه الوجود علی نظامه. علی أن ذلك تبع لوجوده، لا علی أن وجوده یشرف به، بل لأن وجوده لمّا شرف بذاته وجب أن یفیض عنه الوجود، فلو لم یفض منه الوجود لم یكن ذلك سببا لأن لا تكون ذاته شریفة، بل كانت أولا لا تكون ذاته شریفة لأمر لها فی نفسها أو لسبب فنفرض أن لا یفیض منه الجود و یلزمه و یتبعه.
[2] أی: لو لم یكن الباری بحیث یفید «7» وجود كل دائر و كل دائم لم یكن الحقّ الأول، لا أن لا كونه فائضا عنه الوجود یرفع أولیته، بل یدل- لو كان- علی أن أولیته غیر موجودة، لا علی أن رفع هذا علة لرفع ذلك. و مراده أن یبین أن النفس لو لم تكن بحیث
__________________________________________________
(1): «و دلیل علی أن هذا هكذا (أی ما سبق قوله فی ج)، الخلیقة؛ فإنها لما صارت حسنة بهیّة كثیرة الأثر متقنة واقعة تحت الأبصار، صار الناظر إلیها، إذا كان عاقلا، لم یعجب من زخرف ظاهرها، بل ینظر إلی باطنها فیعجب من بارئها و مبدعها. فلا شك أنه فی غایة الحسن و البهاء لا نهایة لقوّتها إذ فعل مثل هذه الأفاعیل الممتلئة حسنا و جمالا و كمالا» (ص 76 س 12- س 16).
(2): «فإذا لم یكن الأشیاء الدائمة و الأشیاء الداثرة الواقعة تحت الكون و الفساد موجودة، لم حقا یكن الواحد الأول علة حقا. و لیس یمكن أن لا یكون الأشیاء موجودة و علتها علة حقا و نور حقا و خیر (فی المطبوع: علة و نورا و خیرا، بالنصب)» (ص 77 س 3- س 5).
__________________________________________________
(1) أن وقعت فنزلت
(2) من مبادرة عالم النفس
(3) وجه
(4) أن
(5) أن: ناقصة
(6) بل دلالة علی نظامه و الخیر علی نظامه علی أن ذلك تبع ...
(7) یفیض
كتاب الإنصاف، النص، ص: 68
یمكنها التصرف المذكور كانت لا یثبت «1» لها شرفها.
[1] كأنه یقول: و إنما احتیج فی العنایة الإلهیة، كما هی عنایة، إلی وجود شی‌ء مثل الهیولی یكون المكوّن منه قابلا للكون و الفساد لأجل أن تصیر قابلة لتصرف النفس فیها لیكون فی الملكوت نشوء النفوس الناطقة إلی غیر النهایة، فما لم یقبل صور علی أحسن ما یقبل و جعل آلة «2» و منفعة للجوهر الذی له النفس الناطقة و جعل كل أدنی كذلك للأفضل، فلم تضیّع الممكنات فی التكوین الشریف ما وجدت، و إن لم یكن المقصود الأول بحسب العنایة.
[2] إن الفیض الإلهی انقسم إلی إفادة ما وجوده وجود ثابت دائم بالعدد، و إلی وجود ما وجوده غیر دائم و لا ثابت إلا بالنوع. فلو أفیض الوجود علی أحد النوعین لم یكن الوجود مشتملا علی أنحاء جمیع الوجود الممكن، فلم یجب أن یقف الوجود قبل الوصول إلی حیز الكون و الفساد. و قال إن العقل و النفس، و إن تقدما «3» الطبیعة بالذات، فهما تالیان للطبیعة فی تأثیرهما فی العالم الحسی القابل للكون و الفساد.
[3] قال: هذا یدعی أن لنفوسنا إذا فارقت الأبدان تأثیرات فی هذا العالم و حفظا
__________________________________________________
(1): «كذلك لم یكن ینبغی أن یكون النفس فی ذلك العالم العقلی وحدها و لا یكون شی‌ء قائم لآثارها، فمن أجل ذلك هبطت إلی العالم السفلیّ لتظهر أفعالها و قوتها الكریمة. و هذا لازم لكل طبیعة أن تفعل أفاعیلها و تؤثر فی الشی‌ء الذی یكون تحتها» (ص 77 س 11- س 15).
(2): «لما قبلت الهیولی الصورة من النفس، حدثت للطبیعة ثم صوّرت الطبیعة و صیّرتها قابلة للكون اضطرارا. و إنما صارت الطبیعة قابلة للكون لما جعل فیها من القوة النفسانیة و العلل العالیة. ثم وقف فعل العقل عند الطبیعة و مبدأ الكون. فالكون آخر العلل العقلیة المصوّرة و أوّل الملل المكونة.
و لم یكن یجب أن یقف العلل الفواعل المصوّرة للجواهر من قبل أن تأتی الطبیعة. و إنما كان ذلك من أجل العلة الأولی التی صیرت الإنیات العقلیة فعلا و فواعل مصوّرة للصور العرضیة الواقعة تحت الكون و الفساد» (ص 79 س 3- س 10).
(3): « (إن النفس إذا صارت فی هذه الأشیاء الحسیة الدنیة و صلت إلی الأشیاء الضعیفة القوة القلیلة النور. و ذلك أنها لمّا فعلت فی هذا العالم و أثّرت فیه الآثار العجیبة، لم تر من الواجب أن تحلّها، فتدثر سریعا، لأنها رسوم. و الرسم إذا لم یمدّه الراسم بالكون، اضمحلّ و فسد و انمحی، فلا یتبیّن جماله و لا تبین حكمة الراسم و قوته. فلما كان هذا هكذا، و كانت النفس هی التی أثرت هذه الآثار العجیبة فی هذا العالم، احتالت أن تكون هذه الآثار باقیة). و ذلك أنها لما رجعت إلی عالمها و صارت فیه، أبصرت ذلك البهاء و النور و القوة فأخذت من ذلك النور و تلك القوة، و ألقته إلی هذا العالم، فأمدته بالنور و الحیاة و القوة. فهذه حال النفس. و علی هذا تدبر حال هذا العالم و تلزمه (فی المطبوع: «تدبر»، «و تلزم» علی هیئة مصادر)» (ص 82 س 16- ص 83 س 6)
__________________________________________________
(1) غیر واضحة فی الأصل فی م، و فی ت: كان یغیب لها شرفها
(2) م: من
(3) ن: تقدم.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 69
لنظام العالم. و الذی یجب أن تعلمه فی هذا، أن النفوس إذا فارقت الأبدان و استكملت بالعقل التام بالفعل [152 ب] صار لجواهرها قوة أفضل مما كانت و كأنها جنس قد ولد و له فی عالم الولادة أحوال أخری و قوة أخری؛ و هی بمثابة أن تشارك العلل و المبادی فی الفیض علی هذا العالم بحیث لو جاز أن یوجد فی هذا العالم مزید فی الكمال تقبله و فی الاستعداد یكون له، لكان یجب أن یزداد كل وقت نظام هذا العالم و فضائله، بل لكان قد حصل منه ما لا نهایة له و هو علی الزیادة. إلا أن استعداد المادة و منتهی احتمالها محدود، و ذلك الحدّ لیس یقصّر عن تدبیره المبادی الأول حتی إذا انضاف إلیها ماله قوة أخری زاد فی ذلك. و هذا مثلا كما یتوهّم أن للماء فی تسخنه حدا محدودا، و أن ذلك الحد قد یخرج إلی الفعل بسبب نار ما معینة یصل إلیه و یزید علی النار أضعافا مضاعفة، لم یقبل الماء من التسخین إلا ما فی قوته أن یقبل مع صدق قولك إن كل نار منها مبدأ للتسخین و فیه قوة التسخّن.
[1] أی كما أن الأسماع إذا شغلتها الضوضاء و الجلبة لم تسمع شیئا، كذلك النفس مشغولة بما یورد علیه العالم الحسّی، عن الشعور بعالمها.
[2] أی لكل نفس قوتان: قوة معدّة لیحسّ بها مواصلتها لعالم العقل، و قوة معدّة لیحسّ بها مواصلتها لعالم الحس. و القوة الأولی هی العقل الهیولانی فالعقل بالملكة.
و القوة الثانیة (و هی) أقربها إلی النفس، العقل العملی. و هذه الحواس الباطنة و الظاهرة.
[3] قال إن نفس السماء غیر مبتلاة من بدنها بما تختلف أحواله و أوقاته فیختلف تدبیره و یحتاج إلی جلب نوافع و دفع مضار فیختلف أیضا تدبیره؛ بل جوهره واحد متشابه
__________________________________________________
(1): «فإن قال قائل: فلم لا نحسّ بذلك العالم (أی العلوی الذی كانت فیه النفس) كما نحسّ بهذا العالم؟ قلنا لأن العالم الحسی غالب علینا، و قد امتلأت أنفسنا من شهواته المذمومة، و أسماعنا من كثرة ما فیه من الضوضاء و اللغط (فی المطبوع اللفظ)، فلا نحسّ بذلك العالم العقلی و لا نعلم ما یؤدی إلینا النفس منه. و إنما نقوی علی أن نحسّ بالعالم العقلیّ و بما تؤدی إلینا النفس منه متی علونا علی هذا العالم و رفضنا شهواته الدنیة و لم نشتغل بشی‌ء من أحواله» (ص 83 س 13- س 18).
(2): «إن لكل نفس شیئا یتصل بالجرم سفلا، و یتصل بالعقل علوا» (ص 84 س 6).
(3): «و النفس الكلیة تدبّر الجرم الكلی ببعض قوتها بلا تعب و لا نصب، لأنها لا تدبره بالفسكرة كما تدبر أنفسنا أبداننا، بل إنما تدبره تدبیرا عقلیا كلیا بلا (فی المطبوع: لا) فكر و لا رویّة (المطبوع: رؤیة). و إنما صارت تدبره بلا رویة (فی المطبوع: رؤیة) لأنه جرم كلی لا اختلاف
-
كتاب الإنصاف، النص، ص: 70
الأجزاء، متشابه الأحوال فی الأزمان، لا یحتاج أن یختلف الحال فی مراعاة أمر كلیته و أجزائه و لا ینفعل فیحتاج أن یدبر الخارجات عنه، فلا تحتاج النفس معه إلا إلی علاقة و إلی تحریك له وحده بسیط فتكون العلاقة البدنیة غیر صارفة له عن العلاقة العقلیة، فیكون موجودا لها من جانب العقل ما من شأنه أن یوجد لها منه فی أول وجودها.
[1] یعنی أن النفس ثابتة لعالمها التی هی متعلقة به كمن یكون فی یده شی‌ء و قد نسیه. و إذا نسیت عالمها نسیت اللذة الحقة التی لها منه اشتغالا باللذة الفانیة، اللهم إلا أن تنزّه نفسها فیبقی لها من البدن ضرورات العلاقة و یسقط عنها أكثر الشواغل فهناك تكاد تشبه نفس الكل، و إن كانت من جهة أشرف منها.

(المیمر الثامن)

قال «1»: إن سأل سائل أن النفس قد تدرك المعقولات فی هذا البدن و ذلك بملاحظة عالم العقل، أ تدركه بقوة صرفه لذاتها أو باستعمال العمل معها؟ فإن كانت تدركها بالقوة التی
__________________________________________________
- فیه، و جزؤه شبیه بكلّه؛ و لیست تدبّر مزاجات مختلفة و لا أعضاء (فی المطبوع: الأعضاء) غیر متشابهة، فتحتاج إلی تدبیر مختلف؛ لكنه جرم واحد متصل متشابه الأعضاء، و طبیعته واحدة لا اختلاف فیها (ص 84 س 6- س 12).
(1): «فإن قویت النفس علی رفض الحسّ و الأشیاء الحسیة الداثرة و لم تتمسك بها، دبّرت هی هذا البدن بأهون السعی بغیر تعب و نصب، و تشبهت بالنفس الكلیة، و كانت كهیئتها فی السیرة و التدبیر، لیس بینهما فرق و لا خلاف» (ص 85 س 2- س 5).
__________________________________________________
(1): «فإن قال قائل: فالنفس إذا كانت فی هذا العالم فكیف تعلم الأشیاء التی فی العالم العقلی؟
و كیف تدركها: إما بالقوة التی كانت تعملها بتلك و هی فی ذلك العالم، أم تفعل بغیر تلك القوة؟ و إن كانت تعملها بتلك القوة، لم یكن بد فی ذلك أن تدرك الأشیاء العقلیة هاهنا كما كانت تدركها هناك؟ و هذا محال، لأنها هناك مجرّدة محضه، و هی هاهنا مشوبة بالبدن. و إن كانت النفس تدرك الأشیاء هاهنا بفعل ما، و الفعل غیر القوة، فلا محالة أنها تدرك الأشیاء العقلیة بغیر قوتها الدرّاكة؛ و هذا محال، لأن كل إدراك لا یدرك شیئا من الأشیاء إلا بقوتها الغریزیة التی لا تفارق الشی‌ء إلا بفساده. قلنا إن النفس تعلم الأشیاء العالیة العقلیة هاهنا بالقوة التی كانت تعمل بها و هی هناك. غیر أنها لمّا صارت فی البدن احتاجت إلی شی‌ء آخر تنال به الأشیاء التی كانت تنالها مجردة. فأظهرت القوة الفعل و صیّرته عمّالا، لأن النفس كانت تكتفی بقوتها فی العالم الأعلی و لم تكن تحتاج إلی الفعل، فلمّا صارت هاهنا احتاجت إلی الفعل و لم تكتف بقوتها، و القوة فی الجواهر العقلیة العالیة [و] هی التی تظهر الفعل و تتممه؛ و أما فی الجواهر الجرمیة فإن الفعل هو الذی یتمم القوة و یأتی بها إلی الغایة» (ص 96 س 9، 97 س 4).
كتاب الإنصاف، النص، ص: 71
لها فی ذاتها فتكون لا حاجة لها إلی الفعل و العمل، فهی فی البدن كالمجردة عن البدن، و لیس كذلك بل إنما تستكمل أفعالها و هی فی البدن بأفعال و فكر و آلات و إن كان لا بدّ لها من فعل فلا ینتفع بقوتها فی إدراك المعقولات فیكون إدراكها للمعقولات بالآلات.
و هذا محال: فإن المعقولات لا تدرك إلا بالقوی الغریزیة التی للجوهر النفسانی دون الآلات الخارجة. فالجواب أن النفس لا تدرك العقلیات الصرفة إلا بقوتها تلك، لكنها لما صارت بدنیة، أی محتاجة إلی البدن فی أفعالها، احتاجت إلی شی‌ء آخر تجلو به القوة، و یكملها و یصیرها كما ینبغی أن یكون لها فی ذاتها، فلا تكمل تلك القوة لفعلها لأنها احتاجت إلی زیادة فیها و جلاء لها و معبّر. و إنما كملت للأفعال التی بها تنال ذلك الجلاء و الاستعداد التام فصارت عمّالة بعمل لتكمل القوة و تجعلها بمطالعة المحسوسات مهیأة لقبول فیض [153 ا] من فوق تتم به قوتها. و لو كانت للنفس قوة كاملة بها تتصل بالعقل، لم تحتج إلی أن تلابس الأبدان، فإن ملابستها الأبدان لتكمیل تلك القوة. قال إن القوی فی الجواهر العالیة تقع تامة مقارنة للفعل، و إنما تكون القوة فیها لیس أن یمكن أن یكون عنها الفعل و أن لا یكون، بل إنما التی یصدر عنها الفعل وجوبا لكمالها ثم استغناؤها بعد كمالها بنفسها، لأن كل شی‌ء منها یفعل بعد الأول و بعد ذاته كل شی‌ء من ذاته، و لأنه یلزم. و أما فی الجواهر التی فی هذا العالم فإن القوة إنما تكمل بالفعل، كما تری أن قوة الكتابة بعیدة فتصیر بالاستعمال قریبة، و كذلك الصناعات و غیرها. و أما هناك فالقوة توجب الفعل و تتمّه.
و هاهنا فالقوة إنما تقوی و تنشأ بالفعل.
ذكر [1] المشاهدة الحقة: [و] هی التی لا یكون الالتفات فیها نحو الصور الحقة من غیر حاجة إلی ملاحظة ما ینتجها أو یكون عنه، و إنما تكون إذا تمت القوة و كملت فتشاهد الجنس الحق بالقوة التی لها دون عمل أكثر مما یسمیه النهوض، و هو كالإعراض عن هذا العالم و شواغله و الإقبال علی عالم الحق، و لا یحتاج إلی هذا النهوض إذا كانت متجرّدة.
__________________________________________________
(1) «إن الشی‌ء الذی به تری النفس الأشیاء العالیة و العقلیة و هی هناك، تراها و هی هاهنا و هو قوتها؛ و فعلها إنما هو نهوض تلك القوة. و ذلك أنها اشتاقت إلی النظر إلی ذلك العالم و نهضت بقوتها و استعملتها غیر الاستعمال التی كانت تستعملها و هی هناك، لأنها كانت تدرك الأشیاء هناك بأهون السعی و لا تدركها هاهنا إلا بتعب و مشقة. و إنما ینهض تلك القوة فی خواصّ الناس و من كان فی أهل السعادة.
و بهذه القوة تری النفس الأشیاء الشریفة العالیة التی كانت هناك أو هاهنا» (ص 97 س 5- س 12).
كتاب الإنصاف، النص، ص: 72
قال [1]: إن الأنفس التی تفارق الأبدان لا تخلو من أغشیة و لبوسات، و إنها تحتاج أن یكون لها بدن ما، یكون له به تعلق ما تستبقی به إن كانت قد وجدت الكمال العقلی، و إن الأجسام السماویة لا تمتنع أن تستعملها أنفس غیر أنفسها ضربا من الاستعمال. و النفس إذا تمت قوّتها فی هذا البدن فبالحری أن یكون لها أن تستعمل بدله- لضرورة ما و حاجة ما- بدنا أجلّ منه و أشرف.
قال [2]: إن النفس إنما یجوز أن تتذكر المعانی الجزئیة ما دامت لها الآلات التی بها تنال و تتخیل المعانی الجزئیة، و هی آلات بدنیة. و نفوسنا إن كان حقا ما نظن بها أنها ربما كانت لها علاقة مع الأجسام السماویة حتی تكون مثلا كالمرئی لها و تكون مرآة واحدة مشتركة لعدة ناظرین فیها- جاز أن یكون هناك ذكر، فإذا تنزلت من العالم العقلی الذی هناك العقل المحض و الإدراك المحض للمعنی الكلی العقلی، فأول حیّز الذّكر هو عالم السماء، فیجوز أن یكون لأنفسنا أن تتذكر هناك شیئا. و أما أنه كیف یجوز و بتوسّط ما ذا یكون، فلیطلب من «الحكمة المشرقیة». و لیس ببعید أن یكون لبعض أنفسنا، و نحن فی هذه الأبدان، علاقة ما مع الأحوال السماویة و بها نتصل بالنفس السماویة فنأخذ الجزئیات منها فی المنامات و غیرها فإذا فارقت البدن فكانت بدنیة بعد، كانت لها تلك العلاقة أشد. و بتلك العلاقة البدنیة یتأتی لها أن تتجدد علیها الأحوال، و تنسلخ عن الهیئات المستفادة من هذه الأبدان.
قال [3]: الصور المادیة لا تصلح أن تتصور المعقولات من حیث هی معقولة، بل تتصورها علی نحو آخر.
قال [4]: إن النفس تزیّنها العقول الفعالة و تتممها، فإنها لها كالولد لأن عقلیة النفس غیر جوهریة بل مستفادة.
__________________________________________________
(1) یجوز أن تكون الإشارة إلی قوله: «و ذلك أنه إذا اعتنقت (فی المطبوع: اعتنفت) الأكوان النفس دائما نسیت ما كانت فیه من قبل» (ص 99 س 10- س 11)، ثم إلی ما ورد بعد فی الصفحات التالیة عن الكواكب. غیر أن الإشارة هنا أیضا لیست صریحة، بل مشكوك فیها تماما.
(2) یجوز أن تكون الإشارة هنا إشارة عامة إلی ما ورد فی الصفحات 98 و ما یلیها من نشرة دیتریصی. فلیس فیه إشارة صریحة إلی نص بالذات مما لدینا.
(3- 4): «إن النفس عقلیة إذا صارت فی العقل. غیر أنها و إن كانت عقلیة، فإن عقلها لن یكون إلا بالفكر و الرویة، لأنه عقل مستفاد. فمن أجل ذلك صارت تفكر و تروّی. إن عقلها ناقص، و العقل هو متمّم لها كالأب و الابن: فإن الأب هو المربی لابنه و المتمّم له. فالعقل هو الذی یتمم النفس، لأنه هو الذی ولدها» (ص 105 س 13- 17).
كتاب الإنصاف، النص، ص: 73
قال [1]: إنه لما كان مبدأ الأشیاء كلها الباقی بذاته و الحق بذاته، كانت الأشیاء كلها نازعة إلیه إما بالاختیار و إما بالإرادة و إما بضرب من الإلهام و إما بحسب (میل) الطباع إلی حب البقاء، و طلبه بالشخص أو تخیله لیبقی بها بالنوع و لتحركه بذلك.
قال [2]: إن جمیع ما یتأدی إلیه الوجود داخل فی العنایة الأولی، و بسبب العنایة الأولی [153 ب] ما یحال العفونات إلی حیوانات هی أشرف من أن تكون عفونات، و هی التی تغتذی بالعفونات فتأخذها من الهواء و من الماء و من الأرض كأنها كسّاخات للعالم.
قال [3]: لیست الفضائل- و بالجملة، المعانی المعقولة- مرتسمة فی النفس بالفعل دائما كأنها تنظر إلیها، بل إنما تحضرها إذا فكرت فیها. فأقول إنها إذا كانت طالبة لها فكرت، و إذا كانت واجدة لها، فكلما شاءت أقبلت عن الأمور البدنیة إلی جانب العقل فاتصلت بالعقل. و إنما لا تتمثل المعقولات عند العقل دائما بالفعل لأن النفس منا تخلو عنها، و لو لم تخل عنها لكانت متمثلة بالفعل بها و لیس لها خزانة كالذكر، فإن الذكر للمحسوسات؛ بل للنفس اتصال و انفصال، و الذكر طلب استعداد تام الاتصال. فإذا فكّرت و علمت، كان لها أن تتصل متی شاءت، و أما أن الخطأ كیف یقع منها و كیف یزول عنها و كیف یعود إلیها، ففیه كلام طویل.
[حجج أفلاطون علی بقاء النفس. قال: «النفس الناطقة تعرف ذاتها و الأشیاء التی لا تلابس الهیولی البتة. و كلّ ما یعرف ذاته و الأشیاء التی لا تلابس الهیولی البتة فإنه غیر جسم و مفارق للأجسام». أما: غیر جسم، فلأنه یعرف ذاته، و أما: مفارق للأجسام، فلمعرفته بالأشیاء التی لا تلابس الهیولی البتة. فالنفس الناطقة إذن غیر جسمانیة و مفارقة للأجسام. و كل ما لیس بجسم و مفارق للأجسام لا ینحلّ كانحلال الأجسام و لا یتفرق و لا یبید إذا فارق البدن كما یبید العرض. فالنفس الناطقة إذن لا تنحل و لا تبید إذا فارقت
__________________________________________________
(1) «و نحن أیضا قوامنا و ثباتنا بالفاعل الأوّل و به نتعلق و علیه اشتیاقنا و إلیه نمیل و إلیه نرجع، و إن نأینا عنه و بعدنا فإنما مصیرنا إلیه و مرجعنا» (ص 132 س 12- س 14).
(2) یجوز أن تكون الإشارة إلی قوله: «و یری هناك العقل الشریف قیّما (فی المطبوع: فیما) علیها و مدبرا لها بحكمة لا توصف و بالقوة التی جعل فیه مبدع العالمین جمیعا» (ص 107 س 1- س 3) أو إلی مواضع مختلفة من العنایة الإلهیة وردت فی أماكن متفرقة من الكتاب.
(3) یجوز أن تكون الإشارة إلی ص 133 و ما یلیها؛ و لكن الإشارة غیر صریحة.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 74
البدن. و كل ما لا یفسد علی أحد هذین الوجهین فهو غیر فاسد. فالنفس الناطقة إذن غیر فاسدة أیضا.- كل ما یفسد فی جوهره ففیه شر خاص به لجوهره، و النفس لیس منها من الشر الخاص بها مفسد لجوهرها. فالنفس إذن غیر فاسدة فی جوهرها.- أیضا النفس عارفة بجمیع الأشیاء الموجودة بذاتها، و كل عارف بجمیع الأشیاء الموجودة بذاتها فهو غیر جسمانی و مفارق للأجسام كلها. فالنفس إذن غیر جسمانیة و مفارق للأجسام. و كل ما هو غیر جسمانی و مفارق للأجسام كلها فهو غیر فاسد و غیر مائت؛ فالنفس إذن غیر فاسدة و لا مائتة.
حجة أخری فی بقاء النفس: النفس تعطی الحیاة أبدا لما توجد فیه إذ كانت هی العلة فی حیاة ما یحیا من الأبدان، و كل ما یعطی الحیاة أبدا لما یوجد فیه فلن یقبل ضدّ الحیاة، إذ كان لیس شی‌ء من الأشیاء التی تعطی أبدا أمرا من الأمور تقبل ضدّ الأمر الذی تعطیه. فالنفس لا یمكن أن تقبل ضد الحیاة التی تعطیها و ضد الحیاة الموت. فالنفس لا یمكن أن تقبل هذا الموت الذی هو الشی‌ء الذی یعطیه البدن أعنی الحیاة. حجة أخری:
فی كتاب السیاسة قال: النفس لیست تفسد من ذاتها الخاصة، و كل ما یفسد إنما یفسد من ذاته الخاصة به؛ فالنفس إذن لیس تفسد] [1].
آخر الموجود من هذا.
و الحمد للّه رب العالمین و صلواته علی نبیه محمد و آله الطیبین الطاهرین الأخیار
__________________________________________________
(1) واضح أن هذه الفقرة الخاصة «بحجج أفلاطون علی بقاء النفس» لا تنتسب إلی شرح «أثولوچیا»، بل هی من التعلیقات و أنواع الحشو الكثیر الموجود فی هذه المخطوطة، لأنه یلوح أن ناسخها أو من أشار علیه بنسخها قد شاء أن یقید مذكرات و معلومات و فوائد مأخوذة من هنا و هتاك.
أو یجوز أنها كانت فی تعلیقات ابن سینا علی أثولوچیا و هو بسبیل شرح المیمر التاسع منه: «فی النفس الناطقة و أنها لا تموت»، فقدم لشرح هذا الفصل بذكر حجج أفلاطون علی خلود النفس. و لعل هذا هو ما یفسر ذكرها فی هذا الموضع.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 75

التعلیقات علی حواشی كتاب النفس لأرسطاطالیس من كلام الشیخ الرئیس أبی علی بن سینا

اشاره

بسم اللّه الرحمن الرحیم بالعزیز الحكیم أثق، و علیه أتوكل الحمد للّه رب العالمین، و صلواته علی نبیه محمد و آله أجمعین، و حسبنا اللّه و نعم الوكیل.
(آ) المشرقیون: قد تحققنا، من أمر النفس، شرف الموضوع؛ فأما دقة البراهین و لطف المذهب، فالذی یشتمل علیه هذا الكتاب من ذلك، فهو دون ما فی كتبه من أجزاء العلم الطبیعی.
(ب) أما معونتها فی العلم الطبیعی، فظاهر؛ لأنها تعرف أحوال الحرث و النسل، و لأن السماء أیضا تتحرك بالنفس. و یتبع ذلك توابع من علم الطبیعة. و أما فی العلم الإلهی، فلأن من النفس یتوصل إلی معرفة الأمور المفارقة للمادة و تصوّر كیفیة الإدراك بالعقل. و قد یتوصل من معرفة أن حركة السماء نفسانیة إلی أحكام إلهیة تعرف فیما بعد الطبیعة. و أما الریاضیات فلا مدخل لعلم النفس إلیه. فیشبه أن یكون أشار بقوله: «الحق»، إلی الأمر الموجود دفعا للموهوم.
(ح) أی لما كان مبادئ الأمور المختلفة مختلفة، صعب أن تطلب البادئ التی إلیها تنسب النفس.
(د) النفس لفظ یدل لا علی جوهر الشی‌ء الذی یقال له نفس، بل علی كونه محرّكا و مدركا أو ما یشبه ذلك، و جوهره مجهول؛ فلذلك هو مطلوب، لأن جوهره لیس جزءا من حدّ كونه نفسا، لأنه یعقل كونه نفسا من جهة كونه محرّكا و مدركا لبدن بحال مخصوصة فقط من غیر زیادة. و لو كان النفس اسما موضوعا له من جوهره، كان یجوز أن یطلب وجوده، و لكن كان لا یطلب جنسه فإنه جزء وحده. و بالجملة تأمّل أقاویل المشرقیین فی المقدمات أنها متی یطلب و متی لا یطلب.
(ه) كأنه یطلب هل النفس موجودة بالقوة قبل البدن، أو بالاستكمال. و إنما تحتاج
كتاب الإنصاف، النص، ص: 76
أن تلابس البدن. أو یعنی أنه یطلب: هل الأمر الموجود للنفس بذاته من المعقولات حاصلة له بالقوة ثم یخرج إلی الفعل، أو هی بالفعل له أبدا علی ما برهن أفلاطن؟ و یشبه أن یكون أراد: هل النفس مبدأ عنصری، أو مبدأ صوری؟
(و) أی هل نفس البدن اسم لشی‌ء واحد مجموع من عدة اشیاء مثل بدنه، فیكون لكل جزء فعل خاص مثل ما أن للقلب من أجزاء البدن فعلا «1» و للكبد آخر؟ و النفس ذات واحدة لها قوی شتی، تفعل بقواها المختلفة أفاعیل مختلفة، و ذاتها واحدة تعلّقها الأوّلی بعضو واحد.
(ز) هل هی واحدة بالنوع أو بالجنس وحده حتی یكون لها من حیث هی نفس حدّ و من حیث هی نفسانیة أو إنسانیة حدّ أخص.
(ح) أی لست أقول، لما أوردت الحیّ مثلا للجنس، أی أخذه من حیث هو كلی و جنسی فإن ذلك أمر متوهم و متأخر عن الوجود الخارج إلی الوجود الوهمی؛ و كذلك كلّ عام من حیث هو عام.
(ا) لیس یورد هذا علی أنه واجب، بل علی أنه موضع شك ثم سیسنّ «2» أن التصور بالعقل غیر التخیل، و أنه یكون بلا تخیل البتة.
(ب) كان یجب أن تصحح كل واحدة من هاتین المقدمتین، و لم یفعل ذلك و لم یتعرض له.
(ح) إنه أورد مقدمة و أتبعها مقدمة أخری، لا علی أنها استثناء، و لا علی أنها نتیجة و لو شاء لقدّم [154 ب] ما أخّر، و أخّر ما قدّم، و كانت النسبة تلك بعینها.
(د) قال المشرقیون: قوله و إن لم یكن شی‌ء یخصها فلیس یمكنها المفارقة، بناء علی أن الشی‌ء لا یوجد إلا و له فعل و انفعال، و إلا كان معطلا. و هذا كلام من جنس المشهور لا یصحّ للعلوم. فربما كان للشی‌ء كمال فی نفسه لا یتعدی إلی غیره و لا یتعدی إلیه من غیره.
و لم یجب من ذلك فی بدیهة العقل أن لا یكون موجودا. و أما قولهم لأنه یكون معطلا، فإنه قول إذا حصل یرجع إلی المصادرة علی المطلوب الأول، فإنه كان یقول: و إلا فإنه یكون
__________________________________________________
(1) فی الأصل: فعل.
(2) مهملة النقطة فی الأصل.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 77
غیر فاعل فعلا، و لا ینفعل انفعالا. و هو نفس الدعوی و یحتاج أن یردف بالكبری، فیقال:
و ما كان كذلك فهو غیر موجود. فحینئذ یقال: من أین علم هذا؟
(ه) قوله: لكن الأمر فی ذلك أورده علی سبیل الاستظهار فی البیان للتالی، فنقول:
و إن لم یكن لنا شی‌ء یخصها، أی بانفرادها من كل وجه، فلیس یتهیأ أن یكون مفارقا، و لكن یكون الأمر فیه كالأمر فی المستقیم.
(و) یجوز أن یكون یعنی بكل نفس النفس الناطقة و غیر الناطقة، و بالنفس المشار إلیها النفس الحیوانیة التی تذكر انفعالاتها؛ فیكون معناه أن النظر فی جوهر النفس الناطقة من حیث هو مفارق و غیر ملابس للمادة، لیس من عمل الطبیعی. و یحتمل أن یكون یعنی بكل نفس النفس السمائیة و الأرضیة، و بالنفس المشار إلیها نفوس الحیوانات الأرضیة.
(ز) أی إنما عنی بقولی غیر مفارق أنه: و لا فی الانتزاع أیضا لا مثل لا مفارقة السطح و الخط. قال الشرقیون لم یبین ما قاله إن الغضب لا یمكن أن یجرّد عن الموضوع الخاص، فإن الغضب هو نفس شهوة الانتقام. و أما الغلیان فلازم من لوازمه مثل حمرة الوجه و انتفاخ العروق فی العین. فلیس ذلك جزءا من ماهیة الغضب. و قد یفهم الغضب و لا یدری هل معه غلیان دم القلب، بل و لا یدری هل قلب و هل دم. فقول الرجل لیس یواضح فی أن یبین أن الغضب لا یقبل الانتزاع.
أعلم أن الشی‌ء الذی لا یوجد إلا مع بدن یفهم منه ثلاثة وجوه: أحدها أن یكون ذلك الشی‌ء صورة بدنیة؛ و الثانی أن یكون سببه حالة بدنیة؛ و الثالث أن یكون معه انفعال بدنی لا یخلو منه. و الأول من هذه الثلاثة یوجب أن یكون الشی‌ء غیر موجود إلا مع البدن، و أن یكون الموصوف به غیر قائم دون البدن، و هو أن یكون ذلك المعنی من حقه أن یكون صورة قائمة بالبدن، فیكون الذی ینسب إلیها أولا نسبة الملاسة إلی السطح قائما فی البدن. و أما إذا كانت المشاركة علی أن البدن سببه، فلیس یجب من ذلك أن یكون المسبب قائما فی البدن أیضا. فإنه جائز أن یؤثر الشی‌ء فیما لا یقارنه، و أن یتأثر عنه تأثر السماوات عن المحرّك الأول المفارق سواء جعلت التأثر من المفارق للبدن فی البدن، أو جعل التأثر من البدن فی المفارق إذا كان المفارق قد ینفعل، فإن كل واحد منهما [له] تأثیر من متأثر إلی متأثر قابل. و كذلك إن كانت المشاركة علی أن انفعال أحدهما یتبعه
كتاب الإنصاف، النص، ص: 78
انفعال فی الآخر. فهو أیضا راجع إلی مثل ذلك: فالغضب و الشهوة لا یكفی فی الدلالة علی أنهما بدنیان صرفان «1» أن البدن بحسب أحواله یؤثر غضبا و شهوة، فلا یبعد أن یكون البدن إذا صار بحال صار لها النفس المفارقة بذاتها المواصلة بعلاقة ما تستعد أن یحدث فیها انفعال خاص بها من أسباب [155 ا] بدنیة، أو إذا صارت النفس بحال مما یخصها تتبع ذلك حال فی البدن من غلیان دم أو انتشار عضو. فالذی ندری أن النفس غیر متعلقة بنفس الدم المنبث فی البدن، و قد تعرض له انفعالات تابعة لانفعالات النفس أو العضو الذی به أول تعلق النفس. و كذلك یجوز أن یكون التأدی للمحسوسات من خارج إلی البدن و من البدن إلی النفس؛ فیكون الحاسّ النفس، و إن كان السبیل البدن. و إذا توهمنا أن النفس بلا بدن فجائز أن یتأدی إلیها من الأمور البدنیة ما من شأنه أن یتأدی إلیها. و أما ما تأدّی إلیها فلیس بواجب أن ینقطع عنها و یزول، إلا أن یصحح أن ذلك لا یثبت إلا بالمقابلة مع السبب. و جائز أن تكون لها انفعالات خاصة لا تلزمها انفعالات من البدن. فما لم یصح أن الغضب و الشهوة و الحسّ أمور تقوم فی المادّة البدنیة لم یجب أن یحكم أنها انفعالات بالشركة بسبب أنها تشتد و تفتر أو تسترخی و تضعف، أو تتبعها أحوال بدنیة مع اختلاف أحوال البدن. و الدلیل علی أن الغضب و الشهوة لهما انفراد حكم بوجه، أن العقل یمنع الغضب و یمنع الشهوة، و لا یمكنه أن یمنع الألم الحسّی و لا اللذة الحسیة.
فمعلوم أن هذه مبادؤها الأول فی النفس. و یعرض لها أن تؤثر فی البدن إذا تركت، حتی إذا منع العقل عن ذلك، لم ینفعل البدن بشی‌ء. فلا یبعد أن یكون الغضب أو الشهوة أمرا فی النفس یتبعه أمر فی البدن من غیر أن یكون هو معنی فی البدن أو قائما به. و قال جالینوس: إن الأخلاق تابعة لمزاج البدن؛ و لو كانت الأخلاق تابعة لمزاج البدن، لم یكن بعیدا أن یكون علی أن النفس، و إن كانت مباینة للبدن فی القوام، فإنها تتأثر مع كل مزاج تأثیرا روحانیا تستعد به لسرعة غضب أو مهم أو غیر ذلك. و الذی یقوله الإسكندر و نبیّنه «2» أن النفس لا فعل لها بذاتها من هذا القبیل. و لیس فی جمیع ذلك ما یدل علی أن النفس صورة فی الجسم.
__________________________________________________
(1) فی الأصل: صرفین.
(2) ص: ونسه.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 79
هذا الكلام قد غرّ كثیرا ممن یمیل إلی أن لا تبقی النفس البتة. فقالوا إن هذا الرجل حكم بأن أحوال النفس كلها بشركة حتی یلزم من ذلك أن یكون النفس لا تتهیأ لها المفارقة. و قد التبس علیهم الأمر من وجهین: أحدهما لأنه یقول بشبه و لیس یجزم القول جزما؛ و الثانی لأنه سلف له فی مقدّم المقدمة الشرطیة الفعل و الانفعال جمیعا. فیجب أن یكون القول فی المقدمة الثانیة، و إن لم یكن لها شی‌ء یخصها- أی مما ذكرنا من الفعل و الانفعال- و إذا كان كذلك كان الاستثناء الذی یمنع المفارقة. و لكن یشبه أن یكون لا شی‌ء من أفعال النفس و انفعالاتها یخصها حتی ینتج أنها لیس یتهیأ أن تكون مفارقة.
و هو إنما أورد الانفعالات وحدها و حین یتجرد لأن یری أن للنفس أمرا یخصه نذكر أن ذلك الأمر لیس من حقه أن یسمی انفعالا، بل هو أمر فعلی. و الدلیل علی أنه یرید ذلك أنه یعید أشیاء انفعالیة مثل الغضب و السرور و الشجاعة و البغض و المحبة. فإذن غرض الرجل غیر ما ذهبوا إلیه. و قال المشرقیون: و مع ذلك فإن استدلاله علی أنها بسبب ما یظهر معها من أحداث بدنیة، و یظهر معها من هیئات بدنیة خاصة للمذعور و الغضبان، و بسبب أنها تسرع فی بعض المستعدین- استدلال ضعیف، كما شرح قبل. أی أن الناس [155 ب] طلبوا النفس من أحد الطریقین أو من مجموعهما.
(آ) قال المشرقیون: ما كان یجب أن یورد أفلاطن بعد انبدقلیس، فینبه علی أنك تظلم ابندقلیس. فإن الناس یعلمون أن أفلاطن یری أن النفس جوهر غیر جسمی، فتأوّلوا كلامه أنه یعنی بما یقوله أنّا نعقل كل شی‌ء بصورة عندنا فی العقل كان جمادا «1» أو إنسانا أو أی شی‌ء كان. فتبینوا أیضا أن ابندقلس ذهب مذهب هذا التأویل- یعنی مدارسات أفلاطن.
من هاهنا یبین أن المعقولات لا تدرك بعظم، و شی‌ء من عظم بیانا كلیا. و إن كان أورده جزئیا كأنه یخاطب طیماوس و یورد العظم علی نحو ما یقول هو. فنقول إنكم تقولون إن العقل جسمانی، و یتصور المعقول بالملامسة جزءا بعد جزء. فلیتنا عرفنا كیف نتصور الشی‌ء بجزء منه و بشی‌ء منه: الجزء عظمی، أو بجزء علی سبیل الاستعارة، مثل نقطة ما،
__________________________________________________
(1) ن: بادا.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 80
إذا كانت النقطة بملامستها تنال الشی‌ء و تتصوره. فما معنی الدوران و الانقلاب علی المعقول فإنه إن كان ینال بكل ملامسة بعرض فی كل آن بنقطة. و تلك الملامسات فی قوتها غیر متناهیة، فیكون إنما یدرك الشی‌ء مرارا غیر متناهیة. و إن كان إنما یدرك بعظم سواء كان عظما مجلوبا من حركة مستدیر لا یلاقی معظمه إلا بحركة مثل المدور بتدحرج علی مسطّح أو كان غیر مجلوب به. فأما أن یكون ذلك العظم مستحقا لذلك الإدراك أو لا یكون مستحقا؛ فإن كان ذلك العظم مستحقا لذلك الإدراك، فیجب أن یكون لنسبة عظیمة بین المدرك و المدرك. فبحسبه أن یكون المدرك العقلی شیئا مشارا إلیه، معه نسبة مخصوصة، مثل ما للخیر. و ذلك غیر واجب، فإن من المدركات العقلیة ما لا یتجزأ و لا ینقسم فی النسب العظمیة. و إن كان ذلك العظم غیر مستحق له، فیكون الإدراك قد حصل بما هو دونه. فإنه إن كان بالوصول دور، إنما هو أقل منه، لا یحصل الإدراك حتی یستوفیه. فذلك القدر مستحق. و قد قلنا إنه غیر مستحق؛ هذا محال. فإذن یجب أن یكون الإدراك حصل قبله. ثم الكلام فی ذلك المقدار الذی یحصل فیه قبله، مثل الكلام فیه، فیكون إذن قد أدرك الشی‌ء مرارا كثیرة، بل بغیر نهایة. و إنما كلامنا فی إدراك واحد من حیث هو واحد. فإن كان قد یجری فی الإدراك أن ینال بأی جزء كان، فما الحاجة إلی الحركة؟ و إن كان یحتاج فی الإدراك إلی أن یقع لكل المتصوّر ملامسة ما مع كل المتصوّر، فالملامسة جزءا بعد جزء لا غناء له، لأن كل واحد منها لا ینال به تصور؛ و كل واحد منها یبطل عند انتقال الملامسة بالدور إلی جزء آخر، فلا تحصل الملامسة بالكل معا، فلا یتهیأ البتة الملامسة بالكل معا. ثم كیف یدرك المعنی المتجزئ إن كان یدرك بغیر مجزّئ، و غیر المتجزئ؟ و هذا الكلام عام لوجوه كثیرة، سواء كان یدرك بحركة أو بغیر حركة، و بملامسة و غیر ملامسة. أما بالملامسة و الحركة، فالأمر فیه ظاهر؛ و أما إذا أرید به وجه العموم فلیعلم قبله أن المعنی المعقول، و إن كان من المعانی التی لها أوضاع و أعظام، فإنه لا یختص بوضع و لا عظم، و لا یمكن أن یجعل له البتة، من حیث یعقل، وضع و لا عظم مخصوص. فإن المعنی المعقول هو المشترك للجمیع. و إذا خصّ بوضع و عظم مشار إلیه معین، وجب أن لا یشترك فیه الجمیع. و إذا كان كذلك، فالمعنی المعقول مبرّأ عن الأوضاع و الأعظام المعینة و عن سائر
كتاب الإنصاف، النص، ص: 81
اللواحق التی یجوز أنه [156 ا] یعرض لجزئیاته من الكیفیات و الإضافات و غیر ذلك، بل إنما یكون الأمر المشترك فیه، فإذا حللنا الصورة المعقولة أو العلم العقلی شیئا متجزّئا، و فرضنا لذلك المتجزئ جزءا بالفعل بالفرض، كما نفرض للجسم الأبیض جزءا بالفعل بالفرض أو بسبب آخر من الأسباب التی توجب نوعا من التجزئة، و إن لم یفكك الاتصال. فإما أن یكون المعنی العقلی كما هو موجودا فی كل واحد من الجزءین، أو یكون لا كما هو، أو لا یكون موجودا بوجه من الوجوه. فإن لم یكن لا هو و لا شی‌ء منه موجودا فی شی‌ء من الجزءین، فكلیة الجزءین خال عنه أصلا. فإن التربیع أیضا، و إن لم یوجد فی جزء السطح الذی یوجد فیه التربیع، فإن شیئا منه و مما یتم هو به موجود فیه لا محالة.
و هذا بیّن بنفسه. و إن كان هو فی الجزءین معا موجودا، ففی كل واحدة منهما صورة معقولة مما غناء ما فی الجزء الآخر فی أن یتم ذلك المعقول، و لأی سبب اختص المعقول بأن أخذ من العظم كلیته دون جزئیته أو جزءا منه بعینه دون جزء، و إذ كان حقیقة ذلك یتأتی أن یرتسم فی الجزء كما یرتسم فی جزء أعظم منه، أو فی الكل. و إذا كانت الحقیقة لا توجب ذلك، فإنما یوجب ذلك الاختصاص معنی مضاف إلی الحقیقة. و لا یخلو إما أن یكون لازما له أو عارضا لوقت و حین، و فی بعض الأقسام و الأحوال. فإن كان لازما له، وجب أن یكون موجبه لازما له. فوجب أن یكون ذلك الاختصاص واجبا. فوجب أن أن لا یكون الانقسام إلی أجزاء متشابهة فی الصورة. و قد فرضنا أنه كذلك. فإذن هو عارض له.
و نحن قد أخذنا المعنی العقلی مجردا عن الأحوال الأخری غیر ماهیته و ما توجبه ماهیته فی أن یعقل. فبیّن أن القسم الذی اعتبرناه فاسد. فبقی القسم الآخر، و هو أن لا یكون المعنی فی أحد الجزءین كما هو فی الكل و یكون مخالفا له. فلا یخلو إما أن یكون جزءا من معناه، أو لا یكون. فإن كان جزءا من معناه، و الآخر جزءا آخر من معناه، فالمعنیان أجزاء الماهیة، و ما كانا لیتفقا فی تمییزهما إلی أن جزّأنا نحن و قسّمنا، بل هما فی أنفسهما متمیزان، و إن لم یكن جزءا من معناه و شیئا منه فكل واحد منهما جزء من معناه. فلنا أن نجزئ مرة أخری و قسمة أخری و لا نقف. فتكون إذن أجزاء المعانی للشی‌ء الواحد
كتاب الإنصاف، النص، ص: 82
بغیر نهایة. و هذا محال. فإذن لیس یمكن أن یجعل المعنی المعقول ممثّلا فی شی‌ء منقسم فإن كان المعنی المعقول غیر منقسم- و لا بد من معنی معقول غیر منقسم، إما لأنه آخر ما ینتهی إلیه أجزاء القسمة إلی مبادئ الحد، أو لأنه بعض الذوات المشبهة للنقطة مثلا و للعقل إن كان غیر منقسم ثم یقدر فی منقسم- وجب من ذلك أن ینقسم علی النحو الذی ذكرنا، و كان لا یمكن أن ینقسم بمتشابهه و لا غیر متشابهه، لأنها تكون حینئذ آخر المعانی علی ما بیّنا. و المعنی لا جزء له، فبیّن أن المعنی المعقول- كان منقسما أو غیر منقسم- فإنه لا یتمثل فی عظم ساكن أو متحرك. هذا، و إن «1» جعل المتلقی للمعنی المعقول شیئا «2» لا یتجزأ كالنقطة، فإن كان ذلك بالملامسة و المحاذاة أو غیر ذلك، فمن البیّن أنه ممتنع، و إن كان بغیر [156 ب] ملامسة لم یمكن أیضا، فإن الذی لا یتجزأ لا ینفرد بشی‌ء یختصّ به فیصیر الانفراد فی الوضع من جمیع جهاته عما یلیه. و قد علم أن ذلك باطل. فبیّن من هذا أن المعنی المعقول لا یتصور فی جسم و لا فی شی‌ء ذی جسم و فی جسم. و أما المحسوسات و المتخیّلات فإنها أشیاء مأخوذة مع أعراض لها تختص بأعظام ما علی سبیل ما توجبه الملامسات و المحاذیات و نسب الأعظام و الأوضاع فی الجهات و الأبعاد، فلا یحصل إلا كذلك. و تلك تقتضی أعظاما معینة و مقادیر معینة، و المعقول النسب غیر معتبر مع الأجسام بالقرب و البعد و لا مناسب للأعظام و الأوضاع، و لهذا السبب یختلف المحسوس عند الحس بحسب اختلاف هذه الأحوال. و لهذا یری الشی‌ء مرة صغیرا، و مرة كبیرا بحسب البعدین. و لهذا السبب لا یحس الإنسان من حیث هو إنسان، و لا الخیال أیضا تحضر صورة متخیّلة إلا علی وضع معیّن و قدر معین، و بحیث لا یصلح أن یكون محمولا علی كل إنسان، و ذلك لأنه فعل بآلة جسمانیة لقوة جسمانیة. فقد اتضح و تبرهن حقّ التبرهن أن المعقول لا ینال بمتجزی‌ء و لا یعتبر متجزئا «3»، و أن المعقول الواحد لا تقع علیه البتة التجزئة التی تكون علی سبیل المجاورة و الترتیب. و إذا كان كذلك، فالمعقول غیر مدرك بمتجزی‌ء و لا عظم. و یجب أن تعلم أن أرسطو توقع أن یعلم من هذا الموضع أن المعقول لا یلحق بقوة جسمانیة، و أن النفس
__________________________________________________
(1) ص: فإن.
(2) ص: شی‌ء.
(3) ص: متجز.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 83
العاقلة جوهر غیر جسمانی و لا منطبع فی جسم، و إنما بینه و بین الجسم علاقة أخری. فهو بعد هذا لا یشتغل بإثبات أن النفس العاقلة تفارق أو لا تفارق. و إنما یشتغل بأن: أیّ قوی النفس یصحبها إذا فارقت، و ذلك فی الثالثة من مقالات الكتاب. و یجب أن نعلم أنه قد بقی علینا فی تفهیم هذا البرهان عهدة شی‌ء واحد، و هو أن الإدراك العقلی یكون بأخذ صورة معقولة مطابقة لصورة الشی‌ء الذی یقال إنه عقل، و لیكن هذا دینا. فإن أحببت أن تجعل هذا البرهان كالمحسوس كما یفعله المهندسون فاجعل العظم العاقل ا ب و الصورة المعقولة ح ء و اقسمهما معا بخط ه ز.
و اعتبر ا ه هل فیه شی‌ء من ح ء مثل ح ز، أو لیس فیه. و ذلك الشی‌ء هو نفس ا ه ب ح ء، فی المعنی أو غیره فی المعنی و شی‌ء منه. و اعتبر كیف یكون ح ز فی المعنی هو ح ز ء ح ء، و هما غیر إن أفهما بالشخص غیرین «1»، أو بالمعنی. و لم وجب أن یكونا بالشخص غیرین. ثم انظم الكلام علی الوجه المذكور، و اعتبر أیضا انقسام ا ه إن احتجت إلیه؛ و ستجد هذا فی كتب المشرقیین [كالمحسوسة].
(ا) یعنی أنه و إذا كان التصور بالعقل یحتاج إلی دوران لا یقف، فلا یجب أن یكون الجوهر العقلی مغتبطا به و حریصا علیه. و إن كانت تلك الحركة لیست ذاتیة دائمة فهی عارضة قسریة من محرّك من خارج یجب أن یكون علی خلاف مقتضی طبیعته، فیكون التصور بالعقل أمرا خارجا عن مقتضی طبیعة العقل.
(ا) أی أن الأشیاء التی توهم أنها حركات و أنها للنفس، فهی مثل الاغتمام و السرور و الإحساس و التمییز. و یعنی بالتمییز الحیوانیّ الذی هو مكانه الوهم أو تصرف العقل فی الخیالات، لیس الإدراك [157 ا] العقلی، تصورا كان أو تصدیقا، فإن ذلك یفرد له قولا بعد قلیل. قال: فهذه یظن أنها حركات، ثم یظنّ أن النفس تتحرك بها.
(ب) أی أنّا، و إن سلّمنا أن هذه حركات، فإنها حركات للبدن من النفس، لا حركات فی نفس النفس. و ذلك أن النفس إذا تمثل فیه رأی ما فظن- و إن لم یكن ذلك نفسه حركة للنفس و لا للبدن- عرض للقلب انتفاخ و لدمه غلیان، فكان ذلك غضبا.
و كذلك فی سائر الأعراض المذكورة. قال المشرقیون: هذا القول غیر محصّل، و ذلك أنه
__________________________________________________
(1) ص: غیران.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 84
إذا نسب إلی النفس رأی ما، فلیس نفس ذلك الرأی غضبا. فإنه قد یعرض مثل ذلك و یكون مع ضد الغضب؛ و نفس غلیان الدم لیس هو الغضب، لأن الغضب یعقل غضبا و أذی هی شهوة من النفس إلی الانتقام، و لا یدری أنه غلیان نفسه و لا مع الغلیان. و إذا تصوّر الإنسان غلیان دم القلب فی نفسه لم یتصور المعنی المطابق للاسم الذی هو الغضب.
و إذا أضاف الغلیان إلی شهوة الانتقام جعله غلیانا من الغضب كمعلول الغضب لا كجزء من الغضب، و لا هما جزءان من معنی الغضب فلا یعرف إذن الغضب فیما بین ذلك و كذلك سائر العوارض. فیشبه أن یكون الغضب حالا تختص بالشی‌ء الذی معه الرأی، و یكون حیث الرأی، أو یكون فی غیره، إلا أنه غیر الجسم الذی یصفونه، أو یكون فی ذلك الجسم، كأنه غیر الحركة التی یصفونها. قال المشرقیون: فیحتاج إذن أن یبحث فی هذا، لا مثل هذا البحث و لا یقتصر علی هذا القول.
(ا) قال المشرقیون هذا یصح إن لو تقدم فبیّن أن موضوع الغضب شی‌ء غیر النفس مباین له جملة، أو هو جملة، مركبة منه و من البدن. قالوا: ثم قوله إن هذا سببه؛ فقول القائل إنها تنسج و تبنی كان هذا قولا باطلا «1». و لیس هذا بقول باطل، بل النفس فی النسج و البناء مستعمل لآلات ملازمة بدنیة و آلات مضافة إلیها من خارج تتحرك هی عن النفس، و النفس فیها المحرك الأول، و إلیه ینسب النسج و البناء. فإن الإنسان من طریق ما هو إنسان ینقسم فی نسجه إلی محرّك و إلی آلات. فإذا نسب النسج إلی الجملة فیكون كما ینسب الفعل إلی جملة محرّك و آلات. و هذه النسبة لا تمنع أن یكون المحرك منها هو المحرك الأول و أن ینسب إلیه الفعل و هو أن یكون الفاعل بالحقیقة. ثم مع هذا فإن كون النفس محرّكا للبدن أمر یختص بالنفس، لیس یمكن أن یقال إن كونه محركا أمر بشركة بینه و بین البدن.
و إذا كان كذلك فالنفس هی المبدأ الأول للنسج و البناء و هو بالحقیقة النسّاج و البنّاء، و إن كان الناس یجرون علی حسب الظاهر و علی حسب قلة تمییزهم بین المحرك بذاته و المحرك، تجری «2» فیه الجملة مجری المحرك و النسّاج. فإذن إن كان یجب أن تجری النفس فی نسبة
__________________________________________________
(1) ص: قول باطل.
(2) الأصل غیر واضح تماما، و هو: و المحرك لحرفیه الجملة مجری ...
كتاب الإنصاف، النص، ص: 85
الغضب إلیها مجراها فی نسبة النسیج إلیها فهی أیضا المبدأ الأول للغضب.
(ب) أی فإذن هذه المعانی التی یسمونها حركات لیست فی النفس، بل فی البدن؛ فتارة إذا حصلت فی البدن تأدی أسرها إلی النفس فیكون الابتداء منها، كما أن الإحساس یتم بتأثیر فی البدن یؤدی إلی النفس؛ و تارة یكون ابتداؤها من عند النفس و یؤدی ذلك إلی وجود الحركات فی البدن أو السكونات مثل التذكر، فإن مبدأه [157 ب] هیأة فی النفس، ثم تعود الهیئة المتذكّرة فتتحرك بها الروح التی فیها الخیال، أعنی القوة المصورة و یرتسم فیه منه. و إنما قال: أو السكونات، لأنه إنما یسمیها حركات علی وجه المساعدة؛ و لیست بحركات، بل هی هیئات تحصل مستقرة، فتكون أشبه بالسكونات.
لما فرغ من الانفعالات التی هی ما هی بمشاركة البدن أراد أن یعلم أن هاهنا أمرا «1» یختص بذات النفس بلا شركة. فقال: فأما العقل و هو الإدراك العقلی المحض، تصورا كان أو تصدیقا، فإنه شی‌ء یكون فینا بعد ما لم یكن، أی فی أنفسنا؛ و لیس مما یفسد. و لو كان ذلك مما یفسد لأجل البدن، لكان یضعف لأجل ضعف قوی البدن. فكان لا یمكن أن یكون شیخ البتة تتحفّظ فیه المعقولات و یتصرّف فیها إلا أضعف مما یكون فی شبابه، كالحال فی جمیع قواه البدنیة. و كان تألیف القیاس فی هذا أن یقول: لو كان العقل یفسد لأجل فساد البدن، لكان كل عقل یضعف لأجل ضعف البدن. ثم نستثنی نقیض التالی و هو أنه لیس كل عقل یضعف لأجل ضعف البدن، فینتج بعض المقدم و یصحح نقیض التالی بقیاس من الشكل الثالث:
كل ما یعقل به من شیخ فهو عقل.
و لیس كل ما یعقل به من شیخ یكل و یضعف فی الشیخوخة.
فینتج: فلیس كل عقل یكل و یضعف عند الشیخوخة.
ثم یقول: و لكنا نجد ما یعرض- أی أحیانا- من كلال فعل الشیخ إنما یعرض كما یعرض فی الحواس- یعنی بهذا أنه لیس بالواجب فی صحة ما قلنا أن لا یكون عقل الشیخ یكلّ البتة. بل إذا كان عقل ما لم یكلّ فی الشیخوخة- و إن كانت العقول تكلّ
__________________________________________________
(1) ص: أمر.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 86
فیها- فالمطلوب صحیح. فإنه یجوز أن یكون الفعل الذی لیس بشركة قد شغل عنها الفاعل بأفعال بالشركة، مثل ما یعرض للفارس الراكب فرسا ردی‌ء الحركات نزاعا من أن یشتغل بمراعاة مركبه عن أفعال خاصة به لیس صدورها عنه بشركة الفرس. و كذلك قد یشتغل الإنسان عن خواص أفعاله لما یتلذذ به من مشاركة غیره أو یتأذی. و یجوز أن یكون الفعل الذی لیس بالشركة إنما یصار إلیه من الفعل الذی بالشركة، مثل أنه قد یحتاج فی اكتساب المعقولات فی أول الأمر إلی تخیلات تتصرف فیها النفس تصرفا سنذكره، فإذا عیق عن استعمال التخیلات لآفة فی أعضاء التخیل كلّ فیها عن عقله. فالشیخ إذا عرض له أن یكل و أن ینصرف عن المعقولات و لا یتصرف فیها، فالسبب أنه قد شغل عن أفعاله الخاصة أو عرضت له آفة فی آلات ربما احتاج إلیها فی الابتداء، لا لأن الأصل ضعف أو انفصل؛- أعنی بالأصل النفس-؛ و إلا لكان كل شیخ یفقد كمال عقله عند التشیخ؛ و لیس كذلك. بل ربما صار تصوره العقلی حینئذ أفضل. بل هذا سبب عائق له عن خاصّ فعله علی النحو الذی ذكرناه، كما یعوقه عن صحة الحسّ. و معنی هذا أنه یجعل الحسّ أمرا تابعا للنفس التی هی الأصل، فائضا منه إلی الآلات. إذ النفس عنده واحدة هی الأصل و القوی تفیض منه فی الأعضاء بحسب الأعضاء و قبولها. و یری أن النفس الحساسة لیست نفسا أخری، بل نفسانیة أو قوة فائضة عن النفس الأصل إنما كما لها بالعضو [158 ا] الذی هی كمال له. و هذا شی‌ء یتكفل المشرقیون بتتمیم القول فیه. فكما أن النفس یعرض له بسوء مشاركة البدن أن لا یفیض عنه الشی‌ء الذی لیس فیضه عنه بشركة البدن. و كیف و البدن هو القابل، و النفس هی مبدأ الإفاضة، بل فیضه منسوب إلی النفس وحدها. و إنما لا یفیض أو یفیض لا علی الكمال بسوء مشاركة البدن. كذلك قد یعرض سوء مشاركة البدن أن لا یتم الفعل الخاص بالنفس من النفس. فالشیخ لم یؤت فی كلال تعرّض له فی التصور إذا عرض یسبب أن النفس الأصل قد انفعل شیئا، بل سبب عارض له كذلك لم یؤت فی كلال حسی یعرض له حتی تكون قوة الخیر الفائضة عنه بسبب أن جوهره قد انفعل، بل لسبب عارض له. و لو أعطی الشیخ عینا كعین الشاب فی المزاج لكان حسّه مثل حسّ الشاب. و لو كان قد انفعل أصل النفس شیئا لكان- و إن صلحت الآلة- لا یتم فعلها بها، أو الموضوع لا تتم إفاضته علیها. فبین أن النفس فی الشیخ- و إن ضعفت حاسته،
كتاب الإنصاف، النص، ص: 87
غیر منقطعة فی نفسها، بل عارض لها حال عارضة من خارج تعوقها عن خاص فعلها، كما یعرض فی السّكر و فی حال المرض. و كذلك إذا عرض للتصور العقلی و النظر المنسوب إلیه أن تغیر حاله و اختلف، فلأنّ شیئا من الأسباب الباطنة فی البدن عرض له حال كما یعرض فی مثل الإحساس، و لكن فی الأعضاء الظاهرة. و أما أصل النفس و ذاته الأولی الحقیقیة فلم تتغیر البتة، و لم تتوجه إلی الفساد. و ذلك لأن الشی‌ء الذی به نعقل، لا یمكن أن یكون مشاركا للبدن فی القوام لما علمت، و لأن الشیخوخة قد لا یخلقه و لا یضعفه و یضعف سائر القوی. و اعلم أن هذا البیان خاصّ بالنفس الإنسانیة. و أما النفوس الأخری فلا یسلم فیها أن العین إذا صلحت أبصر المسنّ فیها كالشاب. و ذلك لأن العین، و إن صلح مزاجها، فإن القوة تأتیها من عضو آخر هو المبدأ، أو من قوة أخری هی أصل النفس.
فإذا كان الحیوان ممعنا فی السن فكان النفس الأصل منه بدنیا، وجب أن تعرض للنفس الأصل آفة بالأسنان، فلم یكن الفاعل قویا علی الفعل، فلم یتمّ الفعل، و إن كان المنفعل تام الاستعداد و یكون كما یعرض أن یلحق الدماغ آفة و العین صحیحة المزاج و التركیب، فتلحق الإبصار آفة. و لم یورد أرسطو مثال الخیر مثال الحس علی أنه أمر ظاهر لا ریب فیه. بل علی أنه مثال من نفس المذهب، یقال فیه ما یقال فی المقدمة التی یقاوم بها إعراض- فكأنه قد أعرض أحد- فقال: و الشیخ یكلّ فی التصور العقلی. فكلّ ما یكل، فیه سبب آفة فی مشارك ما، فذلك لآفة فی الأصل. فبین أن ذلك لا یجب أن یكون لآفة فی الأصل، بل یجوز أن یكون لكذا. و قولنا فی الحس أیضا هو هذا القول، فإنه یصدر عن النفس، ثم یعرض عائق فلا یصدر عن النفس علی ما ینبغی، و إن لم یكن بالنفس آفة فإنه یجوز أن تكون لا لآفة فی النفس بل لآفة فی شی‌ء غیره و هو المنفعل و أن یكون الشیخ لو صلحت عینه و أعضاء أخری أن كانت متوسطات بین النفس و عینه لحصلت له قوة باصرة یبصر بها كما یبصر الشاب.
و كما أن هذا یجوز أن یدّعی و یقال من غیر أن یكون [158 ب] محالا فی نفسه، إلی أن یبین أمره، فكذلك یجوز أن یقول أیضا إن هذا المبدأ قد یشغل عن فعله و یعاون عن فعله من غیر آفة فی جوهره. فتكون إذن الكبری فی قیاسهم غیر مسلم. و لقائل أن یقول إن الشیخ لعله إنما كان یمكنه أن یستمر فی أفعال عقله علی الصحة، لأن عقله یتم بعضو فی البدن یتأخر إلیه الفساد و الاستحالة و إن ظهرت الآفة فی سائر القوی و الأعضاء. لكنه
كتاب الإنصاف، النص، ص: 88
یجب أن یعلم أن الأعضاء الطرفیة إنما یلحقها الضعف و الفساد لضعف یسبق إلی المبادی و لو كانت المبادی صحیحة، لانحفظت الأطراف و لم تسقط قواها، و كان الحال فیها هو الحال فی شرخ الشباب. فإنما تسلم المبادی و الأطراف لأنها تكون قد نزلت عن درجتها الأولی و انحطت و حلت بین الأطراف و بین الفاعلات فیها. فلا كبد الشیخ و لا دماغه و لا قلبه علی الحال الصحیحة أو القریبة من الصحیحة. و لذلك نجد فی نبضه و فی بوله و فی أفعال دماغه الطبیعیة تفاوتا عظیما. ثم لقائل أن یقول: إن الشیخ تخیّله أیضا و تذكّره و حفظه محفوظا «1» لیس دون حال عقله. و الجواب أنه لیس كما نظن به. فأما ذكره للأمور الماضیة التی فی ذكره لها كالشابة، فإنما یكون ذلك لأن تكرر مذكوراته علی وهمه و هو شیخ أكثر من تكررها علیه و هو شاب. فیكون السبب المؤكد للحفظ أقوی فیه منه فی الشاب فان استویا فإنما یستویان بسبب المنفعل و إن كان أضعف. فالسبب المؤكد له أكبر، علی أنه لیس كذلك، لا فی حفظه لصور المحسوسات، و لا فی حفظه لمعانیها. و إن شئت أن تعلم ذلك فجرب حفظه لها و قد تأدیا إلیه و هو شیخ، و قسه بمثل ذلك و هو شاب أو صبی.
فنجده لا یتحفظ له الشی‌ء، لا عددا و لا مدة، كما كان یتحفظ له قبل ذلك، و نجد تذكره لما فات أضعف أیضا إلا فیما للعقل سبیل إلی المعونة فیه. و أما الأمور المحفوظة قدیما فإنما یتساوی فیه حفظها و حفظ الشباب، لأنه لیس یتساوی فیهما السبب المحفظ عددا. و مع ذلك فإن المرتسم من ذلك فی حفظ الشباب أوضح و أصفی و أشد استصحابا للأحوال المطیفة به؛ و المرتسم فی حفظ الشیخ أطمس و أدرس و أخفی لوحا و لمعانا. و لقائل أن یقول إن الشیخ لیس إنما یوجد سلیم العقل بحسب الأمور العقلیة الكلیة؛ بل قد یوجد أثقب رأیا و أصح مشورة من الشاب فی الأمور الجزئیة الخیالیة. و أنت لا تقول إن خیاله أسلم من خیال الشاب أو مثله. فالجواب عن ذلك أن ذلك بسببین: أحدهما لأن آلاته أكثر، و الثانی أنه یستعین بما هو مساو لمثله من الشاب أو أقوی بسبب قلة المنازعات. فأما أن آلاته أكثر، فهو أن الأمثلة الجزئیة عنده أكثر، لأن تجاربه أوفر. ثم إنه لیس یتصرف فیها بالخیال و القوی الوهمیة فقط، بل یرجع فیها إلی العقل، فیستعین به فی طریق القسمة
__________________________________________________
(1) ص: محفوظ.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 89
للأسباب الواقعة و الممكنة و طرق الاعتبار للأوائل. ثم لقائل أن یقول إن الشیخ قد استفاد فی استعمال العقل دربة، فصارت آلاته، و إن ضعفت فی طباعها، أقوی فی دربتها قوة و لذلك الشیخ المدرّب أقوی فی صناعاته و استعماله لها من الشاب الذی یدرب. فالجواب أن الدربة إنما یتحصل لها حكم من جهتین [159 ا]: أحدهما أن هیئات التحریكات الصادرة بالإرادة تتمثّل فی الخیال أشد، فیكون وجه استعمالها عند الوهم أحضر. و الثانی أن الأعضاء تستفید بذلك حسن تشكل تستعد به لهیئات التحریك. و لیس یمكن أن یقال هذا فی باب المعقولات. فإن العقل أیضا، و إن سلمنا أنه یعقل بتحریكات لآلات، فلیس یستحفظ فی النفس خیالا لشی‌ء منها، كما یستحفظ لهیئات الید و القدوم و نحوه. و لا أیضا یمكن أن یقال إنه یستعین بآلات حاسیة عاصیة یفیدها الاستعمال طاعة. فإنه و إن سلمنا أن العقل بفعل بتحریك، فلیس بتحریكات مستعصیة، و لذلك فإن الصحیح الفطرة الأصلیة یسرع فی العلوم فیمیز فیها علی الاستواء. و إن كان بعض الناس یحتاج أن یراض من جهة التفطن لمعانی الألفاظ، و من جهة معاوقة من خیاله و معارضة منه لعقله، حتی یفهم الحال فی ذلك، فیعقله و یستوی فی أدنی مدة و أخف كلفة. ثم یقول: و أما التمییز- و قد عرفنا ما یرید به- و المحبة و البغضاء فلیست عللا أی آثارا و انفعالات لذلك، أی للنفس الأصل. لكن إنما هی علل و آثار لهذا البدن الذی له ذلك النفس الأصل من حیث له ذلك، أی و لو لم یكن له ذلك لكان لا یصلح أن یتأثر بهذه الآثار. قال: و لذلك إذا فسد هذا- أی البدن- لم یبق لذلك الذی هو النفس أن یتذكر أو أن یحب، فإن هذا لم یكن لذلك، بل للحالة المشتركة التی بینهما. و یشبه أن یعنی به الوهم و التخیل أو قوة الشهوة و نحو ذلك. فإن أمثال هذه هی أشیاء بدنیة نفسانیة معا، لأن قوامها فی البدن و فیضها من النفس الأصل، علی مذهب الرجل و هو المذهب الحق.
قال: فأما قوة العقل فخلیق أن تكون شیئا إلهیا و شیئا لا یتأدی بالانفعالات الجسمانیة.
و یجوز أن یكون یعنی بالعقل هاهنا، الجوهر العاقل، و هو النفس الناطقة. و یجوز أن یكون یعنی به الأثر النفسانی و الصورة التی ترتسم فیه. و یجوز أن یعنی به الفعل النفسانی الخاص به، و هو التصرف فی المعقولات. و یجب أن تعلم أنه لیس یعنی بالمحبة و البغضة إلا الحیوانیة
كتاب الإنصاف، النص، ص: 90
و الشهوانیة و ما یتعلق: إما بشخص فاسد، أو بقوة فاسدة، دون المحبة العقلیة فإنها لا تفسد و إن فسد البدن.
و المحبة العقلیة هی للأمور الجمیلة بذاتها، الكاملة فی حقیقتها، اللذیذة فی هویتها، البریئة عن التغیر و الفساد. و عشق القوی العقلیة لها و للتشبه بها عشق لا یفسد بوجه.
(ا) أی كیف تعلق الحیاة بها: أ بواحد، أو بأكثر منه، أو بالجمیع؟ فأقول إنه یجعل الحیاة معلقة بالأصل و لیس یصرح به الآن.
(ا) أی أنها التی بها تكون جواهر ما، بالقوة. فإن كل جوهر مركب هو بهیولاه بالقوة، و بصورته بالفعل. أو یعنی أنه الجوهر الذی لا وجود له باعتبار ذاته إلا الإمكان و القوة، و إنما تقیمه بالفعل الصورة.
(ا) قال المشرقیون: هذا الكلام یتم هكذا: و النفس من الأشیاء التی فی موضوع، و لیس كموضوع حتی یكون قیاسان من الشكل الثانی بأوسطین: أحدهما قوله: من الأشیاء التی فی موضوع؛ و الثانی قوله: كموضوع. و ینتج مع المقدمة التی أوردت بالفعل أن النفس لیس بجسم، أو أن الجسم لیس بنفس. لكن المقدمة التی موضوعها النفس [159 ب] غیر مسلمة. فإنه بعد لم یعرفنا من حال النفس شیئا. فلا ندری: هی موضوع أو كموضوع؟
فإنا فی هذا الوقت جاهلون بأمر النفس. فإن أراد بالنفس الحیاة، فإن جمیع ما قاله مسلم به.
و إن أراد به شیئا یفعل الحیاة فلا ندری أنه جسم أو لیس بجسم، و أنه مفارق أو غیر مفارق. فلعله جسم نافذ فی الجسم المحسوس، أو لعله سبب مفارق لیس منطبعا فی المادة.
و الصواب أن یقال فی بیان أن النفس لیس بجسم هكذا: إن الجسم بجسمیته لا یفارق جسما آخر حتی یكون أحق بأن یكون نفسا منه «1»، بل بأمر آخر و سبب آخر و صورة فیه. فلتكن تلك الصورة هی المبدأ الأول و هو النفس. و ذلك أن الجسم، بما هو جسم، كسائر الأجسام التی فی جواره؛ فلأمر ما اختص بأفعال و أحوال: و یسمی ذلك الشی‌ء نفسا.
(ب) قال المشرقیون: لیس یتم كونه صورة بجسم طبیعی له حیاة بالقوة، إلا بعد كونه
__________________________________________________
(1) فی الكلمة كشط و فوقها منه، و المعنی یتسق معها لهذا أثبتناها.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 91
صورة و لم یبیّن بعد أنه صورة. بل أخذ أخذا فی قوة القیاس الذی یقدّم أن النفس فی موضوع.
و كان یجب علی هذا أن یقول: و النفس هی فی موضوع لهذا الذی له الحیاة؛ فهو صورته.
(ج) قال المشرقیون: إنه لم یبین بالاستكمال، بل هو الاستكمال، و سكت.
(د) یشبه أن یكون أرسطو یعنی بالصورة كل ما یضاف إلی الموضوع، فیكون باقترانه به أمر له وحدة ما طبیعیة متجهة نحو أفعال تتم فیهما، سواء كان ذلك الشی‌ء منطبعا فی المادة، أو لم یكن. و یكون قوله: «و النفس فی موضوع»، المحذوف من قیاسه، مفهوما «1». و النفس لا تمنع أن تكون فی موضوع. و الجسم یمنع من ذلك. لأن كل ما یقال له إنه نفس هو منطبع فی الموضوع قائم به. و یشبه أن یكون یعنی بالاستكمال أمرا غیر ما یعنیه بالصورة. و إن كان لازما له فیكون إنما یسمی الشی‌ء صورة بقیاسه إلی موضوعه، و یسمیه استكمالا بقیاسه إلی كل ما یكمل به. و قد یكمل به الموضوع أو الهیولی لا علی أنه جزء منه. و قد یكمل به المركب الذی ینال طبیعة نوع علم أنه جزء منه تصدر أفعاله، فیكون أثر الاستكمال علی الصورة، لأن الاستكمال استكمال النوع و الصورة صورة الهیولی. فإن الهیولی هی التی تتصور بالصورة، لا المستكمل. فإن المستكمل إن تصور بشی‌ء فإنما یتصور بأشیاء بعده ترد علیه لا كالجزء منه. و لأن الصورة توهم الانطاع هرب منها إلی لفظ آخر یصلح للمفارق و غیر المفارق. و إن كان غرضه الآن بالصورة ما یعمّهما، فقد عدل عنه إلی لفظ جدید لیس له إیهام معتاد.
قال المشرقیون: ما أحسن ما ذكرت، فأین الرجل عن معرفة ذلك! قد یفهم من القوة النظریة الاستعداد لقبول المعقول و الاقتدار علی النظر العقلی؛ و قد یفهم منه الجوهر الذی له هذا الاستعداد، أو الجوهر الذی كمل بحسب هذا الاستعداد؛ و لذلك قد یفهم من العقل الجوهر العاقل بالقوة أو الفعل، و قد یفهم منه الاستعداد المخصوص باسم العقل الهیولانی؛ و قد یفهم منه كمال هذه القوة و هو المعنی المعقول المرتسم فیه كالصورة فی القابل؛ و قد یفهم منه العقل المفارق الذی هو سبب لخروج أنفسنا من القوة إلی الفعل فی المعقولات.
فنقول: إنه یجوز أن یكون أراد الاستعداد نفسه. فإن ذلك یجب أن لا یكون بنفسه أمرا قائما بذاته، بل الاستعداد لا محالة یكون بجسم أو بجوهر غیر جسم [160 ا] و لا یمكن
__________________________________________________
(1) ص: مفهوم.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 92
أن یكون بما هو استعداد یفارق ما هو مستعد به و هو استعداد فیه إن كان قائما ربما «1» هو مستعد به. و إن لم یكن قائما به، فلیس هو صریح استعداد، لأنه من حیث هو موجود قائم بذاته، هو غیر مضاف، بل هو معقول بنفسه. و من حیث هو استعداد فهو معقول بالقیاس إلی غیره. و لا یجوز أن یكون أراد نفس الصورة المعقولة، فهی غیر مفارقة عند أرسطو. و إنما یقول بقیامها بأنفسها مجردة عن النفوس أفلاطن.
و لا یجوز أن یكون أراد العقل المفارق؛ فإن شیئا من العقول المفارقة لا یجوز أن یقال فیه إنه أحد ما یجوز أن یفارقنا أو یقوم دوننا. فإن الشی‌ء الذی هو مبدأ وجود الكل كیف شك فی أمره أنه مفارق لكل شی‌ء؟ و كذلك الملائكة الذین لا یخالطون شیئا من الأشیاء. و مثل من ذهب إلی أنه أراد العقل المفارق مثل من یعد الأعراض و الأحوال التی لأبداننا: ما الذی یفارق منها و ما الذی لا یفارق. فنقول: أما السواد فغیر مفارق، و أما الشعاع الذی یقع علیه فغیر مفارق، لكن الشمس مفارقة، و هو لا. فإنهم أیضا یقولون إن هذا الشی‌ء الذی هو العقل الفعال إنما یخرج نفوسنا من القوة إلی الفعل فی العقل بأن یتحد هو نفسه بنفوسنا و یصیر صورة لها، و یصیر عقلا لنا مستفادا. فإذا اضمحلت أبداننا بقی هو كما كان أولا، لیس أنه یؤثر فی أنفسنا أثرا، و یرسم فی قوانا مثل ذاته نفسا عقلیا محاكیا. و مع ذلك فإنهم یجعلون المستعد لقبول تلك الذات قوة جسمانیة و استعدادا فی قلب أو دماغ، فیجعلون المفارق الذی یقضون لمثله أن قوته غیر متناهیة.
و قد صرح أرسطو أن عدة من الأمور العقلیة كل واحد منها غیر جسم لسبب واحد و هو كونه غیر متناهی القوة؛ و بذلك حكم علیه بالمفارقة و أن لا یتحرك و لا بالعرض، فإنه قال: ما قوته غیر متناهیة لا یتحرك، و لا بالعرض. فنری- إذا صار عقلا مستفادا فی جسم لنا- هل یكون إلا كسائر الصور و القوی، متحركا بالعرض و محصورا فی قلب أو دماغ.
ثم كثیر منهم یجعل العقل الفعال هو الإله الأول، فیبلغ من جهله أن یجعل الإله الأول الحق محصورا فی قلب أو دماغ. و هذا جهل و جسارة علی رب العالمین. فنقول لهم: إذا خرج نفسنا من القوة إلی الفعل فی معقول واحد، فصار له ذلك بالفعل، فقد اتحد به العقل الفعال
__________________________________________________
(1) هذا اللفظ مضاف من عند ناسخ آخر فوق اللفظ التالی.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 93
كما هو، أو اتحد به شی‌ء منه. أو إنما یمثل فیه أثر منه. فإن كان اتحد به العقل الفعال كما هو، فقد صار عقلا بالفعل فی جمیع المعقولات، فلم یجهل شیئا من الأشیاء و یطلبه. و إن كان إنما یتحد به شی‌ء منه هو ذلك المعقول، فقد جعلوا ذات العقل الفعّال كثیر الشعب، و أن بعض أجزائه و أحواله تتصل بشی‌ء دون الباقی. فهو مع ذلك بحیث یفارقه بعض أجزائه و لواحقه. فإنه لا یمكن أن یكون، و هو واحد، بالعدد فیه، و هو مباین، و فی غیره. ثم العجب الآخر أنهم یقولون فی مثل العقل الأول أنه لا یعقل إلا ذاته فقط. فهذا الذی یقول منهم هذا، یلزمه أن یقول إن العقل الفعّال إنما یتحد بالنفس حین تعقّله النفس فقط. فأما المعقولات الأخر فلا یحتاج فیها إلی اتحاد العقل الفعال به. و لكن من رأیه أن كل خروج عقل من قوة إلی فعل هو بالعقل الفعال، و إن كان العقل الفعال لیس یتصل فی خروج من القوة إلی الفعل إلا بكلیته و لا بأجزائه، بل إنما یقع منه فی القابل للمعقولات أثر فقط یحاكیه [160 ب]؛ و نحن إنما نخرج إلی الفعل معقولا معقولا، فلا یتفق البتة أن یتحد بنا العقل الفعال و یصیر كمالا بالفعل لشی‌ء منا. فإذن لا یجوز أن نقول إن أرسطو یشیر إلی أن الذی یفارقنا هو ذلك العقل الفعال. فبقی أن یكون غرضه باقی الأقسام، و هو الشی‌ء الذی له قوة علی أن یعقل بالفعل أو الشی‌ء الذی صار عاقلا بالفعل، أو هو عاقل بالقوة.
فلنفرض أن كلامه فی الذی هو الجوهر العاقل إذا حصل عاقلا بالفعل؛ و لنفرضه غیر عاقل بالقوة. فإن كان لیس من شأنه أن یقوم بذاته فماهیته مفتقرة إلی شی‌ء آخر یقوم به.
و لیس یمكن أن یلحقه شی‌ء من الأعراض التی تعرض له، و الكمالات التی تلحقه فتجعله قائما بنفسه، فإنهم أنفسهم یقولون إن الشی‌ء الذی لا یكون قائما إلا بشی‌ء یقوم به، فإنه لا یصیر بلاحق یلحقه یعینه مستغنیا عن الشی‌ء الذی یقوم فیه. فیكون الواحد یكون صورة أو عرضا لا یقوم إلا بموضوع أو هیولی، ثم ینقلب إلی جوهر آخر مفارق بنفسه للاحق یلحقه. فإذ كان هذا مما لا یقولونه هم، و البرهان یمنعه، فإذن لا فائدة فی أن یتخصص هذا بالجوهر العاقل بالفعل. فبقی أن یكون غرضه بهذا الجوهر، الذی من شأنه أن یعقل. و لا یخلو إما أن یكون ذلك جسما أو جوهرا غیر جسم. و معلوم أنه لیس إنما وقع الشك عند أرسطو فی أن أجزاء من البدن هل تفارق، و من شأنه أن یعقل علی حاله فبقی أن یكون جوهرا غیر جسم. ثم قد علم من مذهب أرسطو أنه یری أن النفس واحدة
كتاب الإنصاف، النص، ص: 94
فی كل بدن حیوانی و أنه إنما تتكثر القوی المنبعثة عنه لعلل. فلا یخلو: إما أن یكون هذا الجوهر فینا هو هذا الأصل؛ أو یكون الأصل شیئا آخر و یكون هذا شیئا منبعثا. فإن كان الأصل شیئا آخر، فإما أن یكون من الجواهر المفارقة فیكون ذلك مفارقا و معه هذا المفارق فیكون إذن هو الذی له هذا المفارق، و ینبعث منه و یقوم به، فیكون هو أصل الجوهر الذی الكلام فیه؛ و إن كان غیر مفارق و ینبعث منه جوهر مفارق، فهو من المحال الذی لا یمكن، أعنی أن یكون ما لا یفارق علة لوجود ما هو مفارق.
فیلزم من جمیع هذا البحث و التفصیل أن النفس الأصل الذی فینا، الواحد الذی هو مبدأ لجمیع القوی الأخر- هو الذی یبقی و یفارق؛ و أن هذا هو مذهب الرجل. و أما كیف تكون النفس الأصل فیما هو غیر الإنسان، و كیف یكون، ما نظن أنه الآن منبعث عن أصل، أصلا فی غیره- فإن ذلك من المباحث التی من شأنها أن یفرد لها قول.
و یجب أن یعلم ذلك من كلام المشرقیین.
(آ) إن أرسطو ینادی فی كل موضع أن الشی‌ء الذی للإنسان له حكم آخر.
(ب) یعنی أن غایة ماله النفس النباتیة، التولید للمثل. و ذلك إنما هو للكامل مما له تلك النفس، دون ذی العاهة و دون ما یتولد من تلقاء نفسه- و إن كان المشرقیون لا یسلمون هذا- و یحفظ النوع، فیشبه الفاسد الأبدی، إذ كان لا یمكنه أن یبقی بالشخص فأعطی أن یبقی بالنوع، إذ كان البقاء شیئا مشوقا إلیه شوقا طبیعیا أو إرادیا.
و بسبب البقاء یغتذی ما یغتذی، و یولد ما یولد.
(ح) أی «الذی من أجله» علی ضربین: أحدهما الذی من قبله، و هو مثل اللذة و الخیر و الصحة و غیر ذلك؛ و الثانی الذی له، و هو نفس الطالب للغایة، مثل طالب اللذة أو الصحة. فالغایة فی الأمور الفاسدة أن تتشبه- ما أمكنها- بالأمور الأبدیة الإلهیة، و هو الأمر الإلهی الذی هو البقاء. و الغایة التی بمعنی: «له»، هی هذه الأمور الواقعة فی التغیر. و لما كان الفاسد [ة] لا یمكنه أن یبقی دائما و ینال هذا [161 ا] التشبه و هذا الشی‌ء المشتاق إلیه طمعا و طوعا فی شخصه، طلبه فی نوعه.
(د) أی أن النفس سبب للبدن من جهة أنه مبدأ كونه و هو الشی‌ء الذی لأجله البدن و غایة، و أیضا سبب علی أنه صورة للمركّب، و الصورة كما علمت سبب كون كل شی‌ء
كتاب الإنصاف، النص، ص: 95
بالفعل. و إذا قال الجوهر، فیعنی به الصورة. و كمال وجود ما یحیا هو أن یحیا؛ و النفس سببه.
(ه) إنما قال ذلك لأن أصل الحركات المكانیة هی نفس السماوات المحركة للحركة المستدیمة التی بها تتحدد الحركات الطبیعیة و الطبیعة المحركة سفلا كأنها ظل ما فی النفس التی للكل و العقل الذی للكل.
(*) القوة الحاسّة تحدث فی المتولّد حیوانا مثل أن العقل الهیولانی الأول یحدث فی المتولد إنسانا. ثم القوة الحاسّة قد تتمّ و تحصل لها الملكة فی بعض الحیوان بعد لأی، كما یحصل للقوة العاقلة ملكة العلم، ثم یحصل الإحساس بالفعل و هو آخر الدرجات كما یحصل التصور للعلوم متمثلا فی الذهن و هو آخر الدرجات. و ربما كان الحاسّ الأول یحصل فی أول التولد تاما لیس یحتاج (إلی) إصلاح و إعطاء ملكة.
(+) أی و لما لم تكن الأمور العقلیة مما یغیب و یحضر مثل الجزئیات الحسیة، كان لنا أن نعلم بملكة العلم متی شئنا مطلقا. و أما الإحساس فلیس لنا أن نحس بملكة الحس مطلقا، بل إذا حضر المحسوس و قابلناه بالحاسة أو قریبا «1» منه الحاسة. و أما المعقول فحاضر لا یغیب. و یجب أن تعلم أن المعقول هو كیف حاضر. و الذی علیه المشرقیون أن الاستكمال التام بالعلم إنما یكون بالاتصال بالفعل بالعقل الفعّال. و نحن إذا حصّلنا الملكة و لم یكن عائق، كان لنا أن نتصل به متی شئنا. فإن العقل الفعال لیس مما یغیب و یحضر، بل هو حاضر بنفسه. إنما نغیب نحن عنه بالإقبال علی الأمور الأخری، فمتی شئنا حضرناه. و لا كذلك المحسوس. فأیضا الخیالات التی كثیرا ما تتبین منها المعقولات و إن كان ذلك أیضا بالاتصال بالعقل الفعال، فلیست غائبة عنا.
(ا) یعنی أن العضو الحاسّ یتكیف بكیفیة المحسوس فیحصّل له. و أقول إن البصر یكون بتمثّل المبصرات فی البصر و فی الحاس المشترك، و كذلك فی كل حس. و بالجملة یحصل له شبح ذلك الشی‌ء و خیاله حتی ربما غاب و بقی فیه الأثر كما یعرض. أما فی المحسوس القوی مثل الشمس إذا قوبلت ثم أعرض عنها فإنه لا یزال یری شبحا شمسیا متمثلا فی
__________________________________________________
(1) كذا فی الأصل، و الأصح أن تقرأ: قرّبنا.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 96
العین، و إما فی المحسوس السریع. و بسبب هذا یری القطرة خطا و النقطة المدارة دائرة.
و لو لا أن النقطة بقی شبحها متحركة فی آلة البصر لكان لا یمكن أن یری خطا، لأنها حین تری خطا فكأنها تری مرتین معا، و كذلك حین تری دائرة. فالأشیاء المحسوسة تغیب و تبقی صورها فی التخیّل. و كذلك قد تتجرّد و تبقی فی العقل.
(ب) المحسوس بالذات هو الذی یتشبّح فی الحس كما هو، سواء كان فی نفسه أو بتوسط محسوس آخر بعد أن یتشبح فی الحس شبحه، و یسمی هذا الثانی المحسوسات المشتركة. و المحسوس بالعرض هو الذی لا یتمثل فی الحسّ شبحه و الذی تكون حاله فی الحسّ، سواء كان كذلك أو لم یكن كذلك، حالا واحدة مثل أن یقال: أبصرت ابن زید.
(+) لیس شی‌ء من الحواس قوامه من محسوساته إلا اللمس. و لیس شی‌ء من الحواس لا ینال كل متوسط إلا اللمس، فإنه لا ینال ما یشبه مزاجه المتفق علیه. و لیس شی‌ء من الحواس یهلك ما یفسده غیر اللمس. قال المشرقیون إنهم لم [161 ب] یتكلموا فی إحساس اللذیذ و المؤذی باللمس. فإن الألم الذی نحس عند تفرق الاتصال لا یجوز أن ینسب إلی أنه حس بحرارة أو برودة. و كذلك الألم المحسوس عند تمدد أو عند ضغط: إذ لیس یخلو عن تفرق الاتصال، و لم یبینوا هل الخفة و الثقل یحس باللمس بالذات أو بالعرض، و كذلك الصلابة و اللین و الرطوبة و الیبوسة. و أما أنت فإن شئت أن تعلم هذا، فعلیك بكتب المشرقیین.
(ا) یقول: المحسوسات إما بملاقاة، و إما بمباینة؛ و ما ینفعل عنه بالملاقاة فكله محسوس لنا. و إذا كان ما یلمس محسوسا لنا، و ما یحس بواسطة محسوسا لنا، فكل محسوس محسوس لنا. فجمیع ما نحس به (من) الأشیاء موجودة لنا. قال المشرقیون:
و لسائل أن یسأل فیقول: و لم كانت الملموسات ما یحسّ بها دون غیره؟
(ب) تبیّن أن المحسوسات بمتوسطات محسوسة لنا بأن نقول: و ما نحسه بمتوسطات لا بأن نلمسه فهو بالبسیطة، أعنی مثلا: الهواء و الماء. قال المشرقیون: لسنا ندری بأوائل العقول أن المتوسط یجب أن یكون فی كل حین بسیطا و أن یكون ماء أو هواء إلا بحسب الموجود لنا؛ و لا شك أن الموجود حاصل لنا، و الكلام فی غیره.
(ح) قال: إذا كان المتوسط مشتركا، أو الآلة مثلا الماء و الهواء للصوت و اللون،
كتاب الإنصاف، النص، ص: 97
فإنّا مع ذلك لسنا إنما نحس الواحد، بل نحس بالمحسوسین جمیعا. و كذلك إن كان المحسوس الواحد مشتركا لا لشی‌ء كاللون نحس بالهواء و الماء من حیث یشفّان، فقد نحس ذلك بهما جمیعا. قال المشرقیون: هل تقولون فی هذا إلا علی الوجود؟ فلعل الماء و الهواء من شأنهما أن یتوسطا فی محسوس لیس لنا؛ و لعل الجرمین البسیطین یتوسطان فی محسوس لیس بلون و لا صوت و لا رائحة؛ أو لعل بعض المحسوسات أیضا ینال و یحسّ بغیر الماء و الهواء، بل بالأرض مثلا أو بجسم مركب. و أكثر ما یوجبه هذا الكلام أن التوسّط المعروف لنا فی المحسوسات المعروفة لنا حاصلة عندنا. و هذا مما لا شك فیه. إنما یجب علی من یعشق هذا البیان أن یبین أنه لا یمكن أن یكون إلا كذا و كذا. أما الوجود فلا اختلاف فیه.
(ء) یقول فی الحواس البسیطة إنما هی من الماء و الهواء. و أما النار فمشتركة. إذ كل حس فبحرارة. و أما الأرض فجانبیة «1» لا تصلح للطف الإدراك. و لذلك العظام لا تحس لأرضیتها؛ و أكثر ما یقال فی الأرضیة أنها توافق اللمس. و إذا كان فینا آلات المائیة كالبصر و الهوائیة كالسمع، فجمیع الحواس فینا- كأنه أحسّ بقائل یقول له: إن هاهنا حیوانات كاملة الهیولیات الصالحة للتوسط و للكون آلة، و تفقد حاسة كالخلد. فقال:
و الخلد له تحت الجلد أیضا عینان. قال المشرقیون: أ لیس من مذهبكم أنهما إن كانتا غیر مبصر بهما فهما عینان باشتراك الاسم؟ و أیضا فإذا كان لها عینان و لا تبصر بهما صح نقیض مقدّمه: یستعملونها؛ و هو أن من له هیولی إلا آلة، فله فعل بتلك الآلة. و ذلك لأن للخلد هیولی حاسة ما، بل مصورة مع ذلك بصورة تلك الآلة و لا تحس بها.
(آ) إنه یرید أن یعرفنا التخیل و كیفیة فعله و اتباعه للحس، فیقول: إنه قد یكون لك أن تقول فی شی‌ء مفروض أنه یتحرك «2»: تحرّكه حصل فی شی‌ء غیره. فكأن فعل التخیل یری أنه حركة ما. فهو حركة لا تكون إلا بعد حركة هی للحس. أی: فإذا تحرك الشی‌ء عن المحسوس و أخذ مثاله؛ تحرك التخیل عنه و أخذ مثاله أخذا آخر و حفظه، و أنت تعلم أن الحسّ تتبعه حركة باطنة [162 ا] فهی التخیل. و یجب أن تكون شبیهة بالحس لأنها تابعة للحس، حافظة له علی نحو قبول الحس لا یكون دونها و لا یوجد فیما
__________________________________________________
(1) فقاسیة؟
(2) ن: یتحركه (أو یقصد أنه یتحرك حركة التخیل؟)
كتاب الإنصاف، النص، ص: 98
لا حس له، و یكون الشی‌ء الذی له حركة التخیل التابعة لحركة الحس یفعل بتلك الحركة أشیاء كثیرة و ینفعل بها، و تكون أفعاله و انفعالاته صادقة و كاذبة. و یعنی بالأفعال التركیب و التفصیل الذی یفعله التخیل من حیث یفعله منفردا أو بشركة من الحس، إذا أورد الحسّ شیئا فأضاف إلیه الخیال غیره. و یعنی بالانفعالات ارتسام تلك التركیبات و التفصیلات فیه. و الذی جمعه هاهنا فی اسم التخیل یتفرق إلی عدة قوی فاعلة: كالوهم و الفكر، و حافظة: كالمصوّرة و المذكّرة.
(ب) أی یلزم التخیل أن یصدق أو یكذب بما سنقوله و هو أن الحسّ للأشیاء الخاصة یقلّ وقوع الخطأ فیه، مثل أنه: هل هذا الأبیض زید؟ فإنه قد یقع فیه الخطأ أكثر كثیرا مما یقع فی الشی‌ء أنه أبیض. و الثالث حكم الحس فی المحسوسات المشتركة.
و هذا لا یكاد یضبط الخطأ فیه، فإنه كثیر جدا.
(آ) یقول: لما كان هذا الشی‌ء الذی هو التخیل متصرفا فی أشیاء كثیرة مأخوذة من جمیع الحواس مخزونة عنده علی مثال واحد، كانت مادته كثیرة، فكان له تصرف كثیر فوق تصرف الحواس. فیكون الحیوان متمكنا من التصرف فیه (التصرّف) الحق، و الباطل إذا لم یوجد له فی فطرة عقل أو كان له عقل فغشیه غشاوة سعل حارب أو مرض أو نوم كما للناس. و قد یجوز أن یفهم من هذا الكلام أنه لما كانت الأجسام ترتبت فیه علی مثال واحد، صار الحیوان یفعل بحسب ما یدعو إلیه التخیل، فیجمع علیه أفعالا كثیرة تابعة للتخیل.
(ب) إنه شرع فی البحث عن القوة النظریة، و یطلب فیها: هل هی مفارقة فی قوام ذاته؟ و یعنی بقوله: أو غیر مفارق بالعظم، أی غیر مفارق للعظم. و فهم ثامسطیوس أنه أراد: أو هو غیر مفارق بالمكان. و لیس هذا بصحیح، لأن كلام الرجل فی أنه مفارق أو غیر مفارق فی هذا الموضع لیس فی المكان و لا هو الآن مشتغل به، بل قصاری كلامه و بحثه مصروف إلی القوام. و فی ترجمة أخری: «أو غیر مفارقة كمفارقة الجسم للجسم»، أی من حیث لا یحتاج فی القیام «1» إلیه. و كأن هذه الترجمة أصحّ.
(ح) یقول: إن كان التصور بالعقل مناسبا للتصور بالحس، جاریا مجراه فی أنه إدراك
__________________________________________________
(1) كانت «القوام» ثم شطبها و كتب: «القیام».
كتاب الإنصاف، النص، ص: 99
ما و قبول صورة المدرك، فیجب إما أن یقال إنه انفعال ما عن المدرك، و إما غیر ذلك من الأسماء كالاستكمال. فإن هذا واجب، إذ كان إنما یستفید «1» زیادة صورة لیس یتغیر عن حاله، و أنه یكون بالقوة كذلك لا بالفعل حتی یكون مستفیدا و تكون حاله عند تلك الصور حال الحاسة عند المحسوسات فیكون كما الحاسّ للمحسوسات، كذلك العقل للمعقولات.
(ء) أی: إن كان یعقل الأشیاء كلها، فیجب ضرورة أن یكون غیر مخالط للأشیاء كلها متشبكا بشی‌ء منها، كما یمكنه أن یظفر باقتناص واحد واحد منها. فإنه إن ظهر فیه من نفسه شی‌ء ظاهر، أی وجد فیه بالفعل نفی المباین، أی منع المباین المغایر لها، و إنما «2» غیره- أی إنما حدث عن غیره، و هو المتصور فیه، أی كان إدراكه للموجود فیه بالطبع، إذ كان من طبعه أن یكون تصور الشی‌ء فیه إدراكا منه له، فكانت صورته اللازمة هی التی عنده بناؤها و لا یقبل غیره. قال المشرقیون: كان یجب علیهم أن یبینوا أنه: لم إذا كانت له صورة أو خالط شیئا ذا صورة منعه صورته [162 ب] و صورة ما یخالطه عن أن یقبل صورة غیره؟ فإن قوة الحس له صورة أو هو مخالط لصورة، و یقبل من خارج صورا أخری. و لم یبین ذلك لا صاحب النص و لا المفسّرون. و أیضا: فلم لا تكون حال الصورة التی توجد فیها قدیمة كحال الصور التی تستفیدها، فإنها تتقرر فیه و لا تمنع ازدیادها فی استفادة الصور. و لا فرق بین هذه الصورة و الصورة القدیمة لو كانت موجودة فیه من حیث إنها صورة متقررة فیه. فإن القدیمة إن منعت فإنما لا تمنع لأنها كانت دائمة، أو لأنها بسبب مخالطة شی‌ء، بل لأنها صورة موجودة فیه؛ فكذلك حال المستفادة. فإن كان السبب فی ذلك كونها طبیعیة أو كونها بسبب یخالطه، فكان یجب أن یبین. و لعلهم اغتروا بهذا من أمثلة مثل أن الشّمع لو كان له فی نفسه شكل هو مطبوع علیه لكان لا یقبل شكلا غریبا؛ و مثل ما یجری مجراه من الأمثلة. فإن اغتروا بهذا، فلینظروا فی السبب، و لیعلموا أن السبب لیس أن ماله شی‌ء من الصور بالطبع لا یقبل غیره، أو لا یقبل كل شی‌ء غیره، بل السبب أن الشی‌ء الواحد لا یمكن أن یكون له شكلان حتی یكون متشكلا معا بشكلین. بلی! المشرقیون یمكنهم أن یبینوا أن المخالط لا یقبل صورة شی‌ء آخر من المعقولات، و أن ماله صورة
__________________________________________________
(1) یصح أن تقرأ: یستعید.
(2) ن: أنبا.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 100
تخصه من الصور الهیولانیة فلیس یمكنه أن یكون قابلا لجمیع الأمور التی یتصورها العقل، بل تمنع تلك الصورة عن بعض ما للعقل أن یعقله. فلیطلب ذلك من علومهم.
(ه) أی أن هذا الشی‌ء الذی یقبل المعقولات، طبیعته أنه مهیأ لها، و لیس له فی جوهره شی‌ء منها.
(و) یجب أن یعلم أنه یضع نفسا تمیز و هو نفس الإنسان، و هو النفس الناطقة؛ و یجعل له قوة بها یرتئی و ینظر فی المعقولات. فهو یتكلم فیها مفردة عن سائر قواها، و ذلك لأن لها قوة أخری نحو البدن: تدبر بها البدن، و بحسب الوصلة التی لها مع ما دونها. فأما هذه القوة التی یتكلم فیها الآن، فإنها لها نحو الأشیاء العالیة، و بحسب الوصلة التی لها مع ما فوقها.
و هذه القوة یجوز أن یكون كونها قوة علی حسب أنها استعداد لقبول المعقولات، و یجوز أن تكون قوة علی حسب أنها تكون مبدأ طلب المعقولات. و هی بالاعتبار غیر الأولی، فإن الاستعداد الصرف لیس له القبول. و أما هذا الآخر فله قوة تصرّف فی أمور لینال بها أمورا أخری. و نحن نعلم أن للنفس القوتین جمیعا، لكن أحدهما متقدمة و أولی، و الثانیة كأنها تحصل من بعد. و الأولی أن تسمع تمام الكلام فی ذلك من المشرقیین. و قوله إن هذه القوة لیس شیثا من الأشیاء، لیس یعنی أن النفس الناطقة لیس لها فی ذاتها وجود جوهری، و لا أن هذه القوة لیس لها وجود بالفعل قویّ استعدادی، حتی نقول إنها لا شی‌ء البتة بوجه من الوجوه، إلا أن یعقل بها؛ فإن ما هو فی نفسه لا شی‌ء و لا موجود، فلا یصیر هو بعینه شیئا بوجه من الوجوه. بل إن حدث شی‌ء فیكون شیئا بنفسه آخر غیره، لیس أن یكون هو یصیر ذلك الشی‌ء. و لا یجوز أن یكون ما لا وجود له استعداد الشی‌ء عند شی‌ء؛ فإنه إن لم یكن شیئا البتة لم یكن استعداد حاصلا؛ و إذا لم یكن استعدادا حاصلا، لم یكن مستعد «1». و إذا لم یكن مستعد «2»، لم یكن قابل للخروج إلی الفعل؛ بل یعنی بهذا أن هذه القوة لیس یقارنها شی‌ء من صور الأشیاء التی تكتسبها بعد، و لا فعل لها البتة من حیث صور المعقولات. و یرید بهذا [163 ا] خلاف أفلاطون الذی یظن أن الصور المعقولة موجودة فی النفس و جوهرها، لكنه ینساها و یشغل عنها. و هذا مما لا یمكن، فإنه إذا لم یكن كون النفس عاقلة بالفعل، إلا أن تكون فی ذاتها صورها بالفعل، و إذا كانت صور الأشیاء فی ذاتها، لم یجز أن یقال إنها معرضة عنه. فإن الإعراض عن مثل ذلك إنما یمكن فی شی‌ء له تجزؤ، أو له قوی، فیكون عنده شی‌ء فی جزء منه أو قوة؛ و یكون الإدراك بأن یستعمل فی تلك الأشیاء جزءا آخر أو قوة أخری، لتحصل
__________________________________________________
(1) أی: موجودا
(2) أی: موجودا
كتاب الإنصاف، النص، ص: 101
صورتها فیه. فإذا لم یفعل ذلك كان إعراض صرف عنها، مثل الإنسان یكون فی یده شی‌ء و لا ینظر فیه بعینه؛ فإذا نظر فیه بعینه حصل فی عینه صورة ما فی یده، فأدركه.
و أما الشی‌ء البسیط الذی لا أجزاء له و إنما یقبل الصورة فی صریح ذاته الواحدة، فلا یجوز أن تتقرر فیه تلك الصور و هو معرض عنها، كما لا یجوز أن یتقرر فی البصر أو فی الخیال صورة شی‌ء محسوس و هو معرض عنه؛ و أما الصورة المخزونة فی الخیال و قد أعرض عنها، فلأن مستعرضها قوة أخری غیر الخازن- یعلم ذلك من العلوم المحققة. و إذا كان كذلك فلیس یمكن أن یكون فی النفس صور معقولات و هی منسیة معرض عنها؛ فإذا حال ما تجهل النفس شیئا فهی خالیة عنه أصلا، و لیست موجودة فیه بالفعل. ثم یقول: «فلذلك صار بالواجب لیس مخالطا للبدن»، أی و لأجل كونه أمرا لیس فیه صورة شی‌ء من المعقولات و هو بالقوة جمیعا، لا لأنه لا شی‌ء و لا موجود؛ فإن لا شی‌ء و لا موجود، لا یعلل كونه غیر مخالط: إنما یقال هذا الموجود، و إنما یعلل هذا فی الموجود، فیقول: و لكونه بهذه الصفة هو غیر مخالط، و لو كان مخالطا لكان یصیر بسببه بحال مثل أن یكون مخالطا بحر أو برد. و أیضا لو كان مخالطا لاختص بآلة یستعملها وحدها كما للحاسّ، لكن لیس له شی‌ء من ذلك؛ و تبیّن لم ذلك عن قریب. فصح من جملة كلامه أنه یری أن هذه القوة و النفس التی لها هذه القوة غیر مخالط، و أنه بری‌ء عن المادة، لیس حین یعقل فقط، بل قبل ذلك. و قد بیّنا أنه لیس قبل ذلك غیر مخالط، لأنه معدوم، بل لأنه موجود له صفة و حال لا یصلح لمن له تلك الصفة و الحال أن یخالط. فما أدری كیف جوّز الإسكندر أن ینسب إلی هذا الرجل أنه یقول إن العقل الهیولانی، و هو هذه القوة الاستعدادیة، هیولانیة مادیة؛ و أن النفس التی لها هذه القوة هیولانیة مادیة! (ا) أی: تنزیهنا «1» قبول الحسّ للصور عن أن یكون انفعالا و إیجابنا أن نسمی ذلك استكمالا، لیس فی الحس و العقل سواء. فإن الحسّ ینفعل أیضا عن المحسوسات مع الشی‌ء الذی لیس انفعالا، و هو قبول الصور ضربا من الانفعال یصیر له بحال مانعة إیاه عن الاستكمال.
قال: و ذلك لأن الحسّ لا یقدر أن یحس عن محسوس قوی- أی بعد محسوس قوی، و یجوز أن یعنی لیس یحس أصلا، لأن المحسوس القوی یجعله كالّا لا یحس بشی‌ء: لا بذلك القویّ، و لا بما
__________________________________________________
(1) ن: ننزیننا.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 102
هو أضعف منه. و یجوز أن یعنی لیس یحس ما دونه ثم أری خلافه فی العقل فقال: لكن العقل إذا تصور القویّ كان تصوره للضعیف أزید. فأقول: إنه لیس یحتاج فی هذا الفرق إلی أن یكون هذا الأمر دائما، بل یجوز أن یكون و لو فی حال واحدة، یتصور الضعیف بعد القوی تصورا بسرعة وجیدا «1»- و وجود هذا مما «2» لا خلاف فیه. و إن أمكن أن یكون فی بعض الأحوال یعرض للنفس كلال من جهة قوی أخری كآلة یستعان بها، فإنه [163 ب] ربما احتاج العقل فی أفعاله إلی الاستعانة بالتخیل، و كل التخیل، لأنه بدنی، قاصر العقل، لأن النفس تشتغل بكلاله، أو ربما دعا النفس داع شغله عن العقل فنشط لغیر العقل و استعماله من غیر كلال فیه و تركه إلی شی‌ء آخر. فإن للنفس منّا دواعی كثیرة و أمورا كثیرة متلبدة «3» و لا یقیم علی واحد منه. لكنه إذا كان فی بعض الأوقات لا تكله القوی، علم أنه لیس یوجب الإكلال لقوته حین یوجب، بل لأسباب عارضة فی غیر جانب عقله؛ من غیر أن یكون جانب عقله قد كل أو مل من فعله، بل ترك استعماله- و إن كان سلیما- كالسیف یغمد لشغل «4» غیره و هو سلیم لا آفة به.
(ب) هذا كلام هو من وجه: علة و لمیة، و من وجه: نتیجة. فهو یقول: و ذلك أن الحاس لیس یخلو من جسم، و هذا مفارق، فأعطی هذا علة لذلك الافتراق. و مع أنه علة، فإنه هو المطلوب بذلك الافتراق علی سبیل المطلوب ببرهان: إن. أما أنه إن كان حقا فهو علة للافتراق، فأمر لا خلاف فیه. و أما أنه هل هو علة ذلك الافتراق، و الافتراق لا یتعلق بعلة أخری غیره، فأمر یجب أن یطلب و لا یقصر فیه. قال المشرقیون: إنه صحیح أن هذا علة الافتراق، و أن الافتراق یوجبه، لكن صحته عند المشرقیین. فأما القدر الذی قاله الرجل فلیس فیه شفاء، و ذلك لأنه یجوز أن تكون صورة الشی‌ء المدرك تنال الآلة الجسمانیة، و لا یكون منها أكثر من أن تتشبح بها الآلة الجسمانیة. و یجوز أن تكون تلك الصورة لاتصل إلا مقارنة لشی‌ء له غیر تقریر الشبح بأثر آخر؛ أو تكون فی نفسها موجبة فی موضوعها أمرا آخر، كالحركة للحرارة، مثل أن الضوء مع أنه ینقل علی جهة ما الصور إلی المرئی فإنه محلّل،
__________________________________________________
(1) اللفظ مهمل النقط فی الأصل.
(2) ن: باما.
(3) ن: سلبدة.
(4) ن: بشغل.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 103
و الموج الذی ینقل الصوت صادم. فإذ لیس بیّنا أن كل صورة یجب أن تحدث فی موضوعها الجسمانی أمرا غیرها، و لا كل صورة تحدث فی موضوعها أمرا غیرها، یكون الأمر الذی تحدثه ضارا. و لا كل صورة یقارن وصولها وصول شی‌ء آخر، و لا لو قارن وجب أن یكون ضارا، فلیس بیّنا أنه إن كانت الآلة جسمانیة فیجب أن یكون قبولها الصور یحدث فیها كلالا. فإذن لیس لهم أن یتعلقوا بهذه المقدمة علی أنها بینة، و لیس معولهم إلا علی الاستقراء، و الاستقراء لا یوجب كلیا، فإذن كلامهم فیه تقصیر. علی أنه للخصم أن یقول- و إن كان قولا ضعیفا یسهل نقضه عند المشرقیین- من أن المباشرة و الممارنة قد تفید قوة و هیئة للأعضاء علی الأعمال، فربما كان استعمال القویّ میسّرا للقویّ.
(ح) یرید أن یعرف الدرجة الثانیة للنفس فی نسبته إلی المعقولات، و هو الدرجة التی یكون قد انتزع فیها من المعانی الكلیة، و حصل لها من الأوائل العقلیة ما یتمكن به من التصرف فیها، و اقتناص المعقولات المكتسبة بها، غیر محتاج إلی الحس إلا علی سبیل عرض و معونة- فتكون هذه قوة للنفس غیر القوة الأولی الاستعدادیة الصرفة، فإن ذلك یكون للصبی، و هذا لا یكون إلا لمن یسمیه العامة عاقلا.
(د) یرید أن یبین بهذا الفصل أن المعقولات بسائط، و أن العقل لا یعقل المركب؛ فقال: الأشیاء المركبة مائیتها شی‌ء، و وجودها بصورها و هو شی‌ء آخر؛ و یعرف المركب بشیئین كجسم ما، فإن بسائطه لجوهره و صورته تختبر بالعقل، أی تعقل بالعقل، و كونه جارا و باردا و طویلا و قصیرا بالحس. فهو یختبر بشیئین: العقل و الحس. و الأشیاء البسیطة لا تعرف إلا بالعقل. و عنی بقوله: و أما و حاله [194 ا] یختلف مثل الفطس فإن البصر یدرك الأفطس و لا یدرك الفطس.
(ه) عنی باللحم اللحمیة، لا اللحم الذی هو عظم و صورة، و إنما هو من جملة المركبات لا البسائط.
و بالجملة، أراد بهذا الفصل أن الذی یتصوره العقل بسائط للأشیاء خالیة من المواد إن كانت ذات مواد. قوله فی الفص: «فتكون هذه لیس لها عقل»، یحتمل معنیین، أحدهما: فتكون هذه- یعنی المادیات- لا یحمل علیها العقل، أی لا یقال هی عاقلة.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 104
و الثانی إن هذه لیست معقولة؛ و ذلك أن العقل لها، أی: أن یعقل، إنما هو قوة للنفس العاقلة بعد تجریدها من المواد، و كون لذلك، أی للبسیط المجرد من الهیولی، أنه معقول، أی هو الذی یصیر معقولا للعقل.
(ط «1») و قد یسأل الإنسان إن كان العقل بسیطا، هما سؤالان ذكرهما ثم أجاب عنهما:
أحدهما أن یقال: العقل بسیط، فكیف ینفعل عن المعقول و لا شركة بینه و بین المعقولات؟
و من حكم الفاعل و المنفعل أن یكون شی‌ء من حالهما، فیفعل فیه أحدهما و ینفعل الآخر.
و الجواب: أن الانفعال هاهنا علی الوجه الأعم الذی یعم الانفعال الذی یلزم فیه ما ذكرت، و هو تغیر لشی‌ء و عن شی‌ء، و الاستكمال الذی لم یزل فیه عن الموضوع شی‌ء، بل حدث فیه ما لم یلزم غیر زوال شی‌ء عنه، كاللوح یكتب فیه. و علی هذا الوجه ینفعل العقل- فلا یلزم ما ذكره السائل. و السؤال الثانی: هل العقل معقول «2»؟ لأنه إما أن یكون معقولا لهویته، و هذا محال، لأنه یلزم أن یكون كل شی‌ء معقولا لأن له هویة. و إن كان معقولا لشی‌ء آخر، فما ذلك الشی‌ء؟ فالجواب: أن هاهنا فرقا بین المعقول مما هو فی مادة، و بین البسیط الذی لا مادة له. فتصور المعقول البسیط، و المعقول: شی‌ء واحد. فالعقل لا یحتاج فی تصور ذاته إلی شی‌ء غیر ذاته، إذ تصوره لذاته، و ذاته: شی‌ء واحد، و لهذا یعقل ذاته دائما. و ما فی الهیولی یعقله بالقوة. و عنی بقوله: «فتكون هذه لیس لها عقل»؛ و ذلك أن العقل لهذه إنما هو قوة هذه مجردة من الهیولی، و كون كذلك أنه معقول.
إنه یفهم كیف یصور العقل للمعقولات، و ابتدأ بالمعقولات البسیطة لأنها تكون أولا، ثم ما بعدها. فقال: أما تصور العقل لها فیكون فیما لا صدق فیه و لا كذب، أی و لم یعمه كله. ثم انتقل إلی المركبات، و فی جملتها الصدق و الكذب. و إنما یكون الصدق و التركیب علی أنه یطابق به الوجود، أی فیكون ما هو مطابق صادقا، و ما هو غیر مطابق كاذبا.
ثم مثل المعقولات المركبة كیف اتفق بما یقول أنبدقلیس، فربما كان التركیب صالحا للحیاة، و ربما لم یكن. كذلك تركیب القول من معقولات تفاریق مثل تركیب العطر، و المشارك بسلب أو إیجاب: أی إذا كان التركیب یشیر إلی مضی و استقبال أو حال تمثّل
__________________________________________________
(1) كذا جاء الترقیم فی الأصل.
(2) ن: معقولا.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 105
للعقل الزمان، و تهیأ لأن یقرنه بتركیباته. و أقول: إن الزمان معقول لا یتمثل للخیال و الحس لا سیما ماضیه و مستقبله: أی إذا تصور العقل الزمان فإنما یتصور (ه) مقرونا بشی‌ء زمانی، كحركة فی طول فیه سالف و آنف، و لیس یعنی الطول من حیث هو طول، بل من حیث هو مسافة. فإن أجری ذلك الشی‌ء علی اتصاله من غیر أن یحدث فیه قسمة بالفعل تنصّفا؛ و غیره عقل زمانه واحدا و إن جعله بالفعل نصفین مثلا جعل زمانه زمانه، لأن الزمان غیر منقسم بالفعل و منقسم بالقوة، و یعقل معه مطابقا له [164 ب] ما هو مثله فی أنه غیر منقسم بالفعل و منقسم بالقوة. و أما ما هو واحد غیر منقسم لا من الكمیة فلعله لا كمیة له أو له كمیة منقسمة بالفعل: كبدن الإنسان أو كالعشرة من العدد؛ و إنما هو واحد بالصورة، فلیس یحتاج أن یقسم معه الزمان أو یعقله فی زمان، فإنه یعقله فی زمان غیر منقسم.
ثم یقول: «و بغیر منقسم من النفس، لكن بطریق العرض»، و كأنه یقول: و بتصور غیر منقسم فی الزمان. و معنی قوله: «لكن بطریق العرض»، أن الزمان و التصور قد ینقسمان أیضا من وجوه و اعتبارات یتكثر بها، لا أن ذینك: أی الذی یعقل و الزمان: منقسمان؛ فإنه لا بد فیهما، و فی كل شی‌ء منقسم، من شی‌ء غیر منقسم. فیكون هو فی الزمان الآن، و فی المعقولات، البسیطة، و إن كان الحق من أمره أنه غیر مفارق للمنقسم، و هو الذی یعطی المنقسم الوحدة.
(ع «1») الذی یقولونه من أن العقل و العاقل و المعقول شی‌ء واحد، یصح فی العقل وحده؛ و فی غیره: العقل شی‌ء، و العاقل شی‌ء، و المعقول شی‌ء، و تصور العقل للمعقول شی‌ء. و قول أرسطو هاهنا و فی غیر هذا المكان، العلم و المعلوم شی‌ء واحد معناه صورة المعلوم التی تنطبع منه فی العالم كما تنطبع صورة المحسوس فی الحس.
(ف «2») معناه أن العقل الهیولانی الموجود فی الشخص إذا اعتبرته بوجوده فی الشخص فهو أقدم وجودا فیه بالزمان، و إذا اعتبرت جملة هذا العقل من غیر نظر إلی الأشخاص، لم یكن أقدم من العقل الفعال، بل الفعال أقدم منه، لأن الكاتب بالفعل قبل الكاتب بالقوة، إذ لو لا ما بالفعل لما كان ما بالقوة.
(ح) أی العقل تارة تحضره صور المعقولات و تارة لا تحضره، بل تكون بالقوة، فإذا تذكر حضرته.
__________________________________________________
(1) كذا!
(2) كذا!
كتاب الإنصاف، النص، ص: 106
(ه) غلط الإسكندر و من كان علی رأیه فی هذا، ففهموا منه أنه إذا فارق صار (كما) كان قبل اتصاله بالبدن. و لیس المراد هذا، بل یعنی إذا فارق بقی كما هو علی [ما «1»] قدر ما اقتناه من السعادة بحسب المعقولات، لم یزد و لم ینقص، بل بقی أبدیا كما هو، و لم یمت.
أی ما كان من غیر المنقسمة بهذه الصفة. فإن فهم العقل إیاه بأنه یعدم ما هو مفهوم صوری بنفسه، فإن مثل هذا غیر منقسم، علی طریق أنه لیس فیه معنی قابل للانقسام كالكمیة، فالعقل لیس یعقل هذا علی أنه معنی متقرر فی العقل، بل علی أنه عدم لمعنی معقول. یعقل العقل هذا بأنه عدم ذلك، مثل ما یعقل الشر (بأنه عدم الخیر) و الأسود بأنه مثلا عدم اللون، فكأنه إنما یعرف هذا لا من نفسه بل بضده: یعرفه إذ یعرف ضده لذاته، و هذا یعرفه بأنه لیس ذلك، فلا یأتی العقل بسببه صورة جدیدة، بل یكون عادما للتصور، عالما أنه عادم لصورة یریدها. و یجب أن یكون ما یدرك هذین واحدا بذاته.
فیعقل الصورة بوجه، ثم یعقل ضد ذلك و مقابله لأنه لیس یجده «2».
(ه) «3» أی: فإن كان عقل من العقول و سبب من الأسباب الأولی لیس فیه حالتا قوة و فعل، فلا یكون فیه اختلاف؛ فإنما یعقل أول عقله لذاته، و هو بذاته مفارق لكل شی‌ء.
قال المشرقیون: غرض الرجل، علی ما یشهد به مفسروه، أن ما لیس یمكنه أن یكون بالقوة، فلیس یعقل الأعدام، كما أن البصر إذا لم یكن بالقوة لم یدرك الظلمة، فتكون المبادی العقلیة لا تعقل الشرور، فإن الشرور هی أعدام كمالات. و یجب علینا أن نتأمل هذا، فنقول: تحصیل یجب أن یحصل [165 ا] بالجملة حال البصر عند الظلمة، و أنه علی كم وجه هو. فنقول إن الظلمة إما أن تكون عامة، فیكون البصر بالقوة المطلقة مبصرا، أی بحسب المبصرات بذاتها؛ و إما أنه بحسب إدراكه أنه لا یری، فهو بالفعل یدرك أنه لا یری؛ و إما أن تكون خاصة، فیكون البصر بالقیاس إلی بعض الأشیاء مدركا له بالفعل الإدراك الصوری، و هی الأشیاء المستضیئة، و بحسب إدراكه أنه لا یدرك- و هو إدراكه الظلمة- مدركا بالفعل أنه لا یدرك؛ و بحسب إدراكه أشیاء لیست بالفعل مرئیة، بل بالقوة، فهو مدرك بالقوة؛ و لو كان شی‌ء طبیعته و هیئته الظلمة، و لیس هناك طبیعة أخری جعلته الظلمة مرئیة بالقوة، و لو جاء بدلها الضوء صار مرئیا بالفعل- لما كان البصر بالقیاس إلیه مدركا
__________________________________________________
(1) فوقها خط.
(2) أو: یحده.
(3) هنا تبدأ أرقام.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 107
بالقوة، بل كان یكون بالقیاس إلیه غیر مدرك بالفعل و القوة، مدركا لأنه غیر مدرك.
و لیس البصر فی الظلمة بالقوة لأجل أنه لا یدرك فقط بالظلمة، بل لأن الشی‌ء المظلم من شأنه أن یصیر مدركا؛ و من شأن البصر حینئذ أن یصیر مدركا له بالفعل؛ فلما جعلته الظلمة غیر مدرك بالفعل، صیرت البصر غیر مدرك بالفعل. و بهذا «1» وحده لم یجعله مدركا بالقوة، بل ذلك لأن المظلم فی نفسه من شأنه فی حال أخری أن یدرك؛ فإن كان عدم إدراك العقل لمدركه یجتمع فیه الأمران جمیعا: أنه غیر مدرك بالفعل إدراكا وجودیا لحائل حال.
أو لشرط زال، و لكنه فی طباعه مدرك إذا زال العائق أو وجد الشرط، فیكون العقل بالقیاس إلیه مدركا بالقوة، و إن كان إنما هو معنی عدمی، و یدرك من حیث هو عدم فقط، فتكون حاله كحال الظلمة فی أن البصر فی أنه یدرك أن لا یدركها هو بالفعل. ثم إن كان ذلك المعنی العدمی سببا فی أن لا یعقل معنی وجودیا صیره المعنی العدمی بالقوة معقولا، فهی بالقیاس إلی ذلك عقل بالفعل. و إن لم یكن كذلك، فلا یلزم أن یكون عقلا بالقوة. و اعلم أنه اجتمع فی الظلمة أنها عدم استضاءة ما من شأنه أن یستضی‌ء، و لزمها عدم أن یری شی‌ء آخر هو اللون. فإذا أبصر البصر الظلمة صار بالقوة رائیا لما تزول عنه الظلمة و تخلفه؛ و لو دام الظلمة لم یكن بالقوة رائیا، و لیس ذلك بسبب أنه یری الظلمة و هی عدمیة، بل لو كان ذلك ضدا كان حكمه هذا الحكم. و هذا الضرب من القوة یتبع المدرك من حیث هو زمانی متغیر.
قال المشرقیون: فعلی تحصیلك یجب أن یكون عقل العقل عدم الخیر و النظام فیما لیس له ذلك، لا یجعله عقلا بالقوة، لأنه لم یصر بذلك بالقوة بحسب فعل البتة، بل إذا كانت معقولات جعلها ذلك غیر معقولة بالفعل كما تجعل الظلمة الألوان غیر مرئیة بالفعل؛ أو إذا عقلها من حیث هی متغیرة متبدلة. و أما ما یجب أن یقال فی عقل السبب الأول ذاته و غیره، ففی كتب أخری. جملة هذا الكلام: أن المعقول إذا لم یكن من شأنه أن یكون تارة بالقوة و تارة بالفعل، أدركه العقل الذی بالفعل. و إذا كان من شأنه الانتقال من حالة إلی حال، لم یدركه العقل الذی بالفعل علی هذا الوجه. و مثاله فی البصر و الظلمة و اللون، أن البصر لو كان یدرك ظلمة ما لیس من شأنها أن تزول فیخلفها اللون، لم یصح أن یقال إن البصر
__________________________________________________
(1) ن: بهذه.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 108
یدرك بالقوة. و إن كان من شأنها أن تزول و یخلفها اللون، فإن البصر یدرك بالقوة [165 ب] بالقیاس إلی اللون. و الأعدام و الشرور التی یدركها العقل بالفعل تشبه الظلمة التی لا یخلفها ضوء أو لون.
أی: و قولك بلسانك أو فی عقلك إن كذا كذا هو الذی یجری فیه أن یكون صادقا أو كاذبا. فإن كل ما یجری هذا المجری صادق أو كاذب. و كذلك لیس كل تصرف عقلی فی المعقولات یجب أن یكون هو ما هو الصادق. لكن التصرف الصادق، أی الذی لا كذب فیه، هو تصور الماهیة. و هذا یعنی بقوله: لكن الذی یقول فی ماهیة الشی‌ء ما هی، أی الذی یتصور ماهیة الشی‌ء فقط بلا تركیب آخر. و لیس یعنی الذی یقول لماهیة الشی‌ء إنها ماهیة الشی‌ء و تعقلها ماهیة الشی‌ء، فإن هذا یدخله الكذب أیضا. و لیس الكلام فی ذلك أولی بأن یشتغل به من سائر المعقولات، بل یعنی به نفس تصور المعانی البسیطة. و هذا هو البری‌ء من الغلط، و إیاه یعنی بالصدق. ثم یقول:
لیس هذا الصادق البری‌ء من الغلط من التصرف هو تصرف التركیب؛ بل كما أن الإبصار لا یكذب فی البسیط و هو اللون الذی یتصور فیه، فلا غلط له فیه، بل إنما یغلط إذا ركب به غیره. ثم قال: كذلك حال البری‌ء من الهیولی. و قد ظن بعض أصحاب أرسطو أن البری‌ء من الهیولی یجب أن یكون عقله للبسائط الذی لا غلط فیها، و أن لا یكون بینه و بین المركبات سبب: قالوا أیضا لأن الموجبة و السالبة معقولان معا، و عقل السلب و العدم یجعل العقل بالقوة. قال المشرقیون: العجب من قولهم إن العقل لا یعقل التركیب لأن التركیب یمكن أن یقع فیه «1» غلط. فنقول إذا كان طبیعة الشی‌ء بحیث یعقل الأشیاء كما هی و لم یخالطه ما بالقوة، لم نخش علیه أن یغلط فی عقل المركب، بل كان عاقلا للبسیط من غیر غلط، و للمركب من غیر كذب، لأنه یعقل منه الصادق، و عقله السلب و العدم لا یضره. و العجب أنهم یقولون إن منافع أعضاء الحیوان و أجزاء النبات و الحكم فی تركیب الكل، صدر عن الأمر الإلهی، و عن حكمة علویة. ثم یقولون: لا الشرور، و لا الضرر، و لا المركبات، معقولة. و كثیر من تلك لا تكون مقصودة ما لم یعقل ضرر و لم یعقل مركب.
(ز) إنه یذكر أمر الشوق و الإجماع. فقال: و الإحساس یشبه ما یدل علیه أن یقال
__________________________________________________
(1) ن: فیها.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 109
لفظ فقط، أو اللفظ فقط، أی ما یدل من طریق ما هو لفظ من غیر اشتراط صدق و كذب، و أن یتصور بالعقل، یعنی المعنی البسیط الذی هو تصور لا یقارنه التصدیق، قال: فإذا اقترن بالإحساس أنه لذیذ، أو مؤذ، بمنزلة إیجاب اللفظ و سلبه- طلب أو هرب: إن اقترن بالمحسوس أنه لذیذ، طلب؛ أو اقترن به أنه مؤذ، هرب منه. ثم قال: الالتذاذ و التأذی هما سببا الفعل الذی یكون بالواسطة الحسیة، و یعنی بالواسطة الشی‌ء الذی هو سبب فی أن یطلب الشی‌ء و یهرب، كأنه لما كان لذیذا أو مؤذیا أنتج أنه مطلوب أو مهروب من طریق ما هما كذلك، أی من طریق ما هما واسطة طلب و هرب.
(ا) أی: و هذا الذی علی هذه الجهة هو الهرب و الشوق اللذان بالفعل. و إنما قال:
«بالفعل» حتی لا نظن أنه یعنی القوة الشوقیة التی للحیوان، بل فعلها.
(ب) فنقول: و أما القوة و النفس التی لها ذلك، فإن القوة المتشوقة و الهاربة قوة واحدة، لا یتخالفان، بل و لا یخالفان الحس علی أنها قوة أخری من جهة أن الأول هو النفس. و المتشوق و الهارب و الحاس [166 ا] الأول هو النفس، و هو واحد، لكن الوجود مختلف.
(ل) «1» أی كما أن الحس یتصرف فی المحسوسات، كذلك العقل یتصرف فی الخیالات.
- یعنی من الأشیاء المطلوبة و المهروب عنها.
- أی النفس الناطقة إذا كان خیرا طلبه، و إذا كان شرا هرب منه.
- أی أنه ینفعل من الفزع و ینفعل عنه الحس المشترك و التخیل.
(ح) إنه لم یصرح بالغرض فی هذا الكلام؛ و غرضه أن المحرك القریب للحس هی المحسوسات الخارجیة؛ و للخیالات، هی المحسوسات التی ارتسمت فی الحس؛ و للعقل، الخیالات. و إذا وجدت الخیالات و لم توجد المحسوسات الخارجیة، كان تأثیرها فی العقل كما لو صدرت من المحسوسات المشاهدة، و كذلك إذا استعان العقل بالقوة الوهمیة و أنشأ الخیالات إنشاء، و انفعل عنها فظن فیها.
__________________________________________________
(1) فی هامش المخطوطة فی أعلی هذه الصفحة ما یلی: «نسخة الفص كان إلی هاهنا نقل إسحاق ابن حنین. و من هاهنا نقل آخر بإصلاحات كثیرة للمفسّر».
كتاب الإنصاف، النص، ص: 110
(ح) كأنه تشكك علیه متشكّك، فقال: إن النفس الناطقة و العقل كیف تنفعل عن مثل الحلو و الحار، فضلا عن الحلو و المر، و كیف یتأدی هذا إلیه، و هذه جزئیة لا ترتقی إلی الكلیات. فقال: «و قد قیل».
(د) یعنی أن العقل كیف یقدر علی أخذ الفصول بین الأشیاء المتشابهة، و كیف یجردها- فالكلام فیه مناسب للكلام فی الحد، أی من حیث یتوصل العقل إلی بسائط الحد و تركیبها حدا.
(ه) إن الشك إما أن یقع من حیث أنها متقابلة، مثل الحلو و المر، و إما من جهة أن كل واحد منها لیس هو الآخر، و مباین له بالعدد المعنوی لا الشخصی.
(و) أی إذا جاز فی هذا الشی‌ء أن تجتمع فیه الأضداد علی نحو ما قلنا فی التخیل، جاز أن یجتمع فیها طبقات الأضداد المختلفات، فیكون واحدا بالموضوع كثیرا من جهة الآنیة و الصورة؛ و كأنه یقول: إنّا بینا أن هذه المختلفات المتباعدة و المتقابلة أیضا تجتمع فی التخیل، ثم تتأدی عنه و قد سطع علیها نور العقل الفعال، فقشرها عن العوارض، و قلبها كلیات مجردة بما یوجد فیها من التشابه و الافتراق الذاتیین، فحصلت عند العقل كلها «1»، و إن كانت كالمنقلبة عن حالها، فكان للعقل أن یحكم فیها. قال المشرقیون: إما أنه هل تكون ملاحظة النفس العاقلة للخیالات بمعونة العقل الفعال علی سبیل أن یقبل المعقولات من الخیال، أو تستعد بسبب الخیال، و ضرب ما من الانفعال عنه، لأنه یقبل نظائر ما فی الخیال من المعقولات عن العقل الفعال، و أنه كیف یصیر معرضا عن معقولاته إلا لأنها «2» مخزونة فی خزانة غیر المستعرض لها، كما الخیالات. أو لأنه یتصل بالعقل الفعال الاتصال القابلی، و یفارقه بأمور تطلب من كتب المشرقیین.
(ز) یعنی حال العقل فی إدراك المتقابلین كحاله فی إدراك المختلفین. و سواء و ضعنا الألف و الباء أبیض و أسود أو وضعناهما حلوا و أبیض «3».
(آ) أی: فیكون حینئذ المثال المتخیل إذا قرن به المعنی الآخر من أنه خیر و شر، مطلوبا أو مهروبا عنه، من غیر أن یكون فی الحس شی‌ء مشاهد مطلوب أو مهروب عنه، بل یكون بحسب ما ینظر للمستقبل.
(ب) أی: یكون منه من غیر حس للأعداء المحاربین، بل بأن یری النار توقد علی المنارة
__________________________________________________
(1) فی الهامش: كلیا (ظ).
(2) عن الهامش؛ و فی الصلب: أنها.
(3) ن: أبیضا و أسودا ... و أبیضا.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 111
لیعلم بها وجوب الاستعداد للحرب، فیكون شی‌ء حاضر ینذر بغائب فی المكان، كذلك الخیال الحاضر ینذر بغائب فی الزمان، و إن لم یحس به.
[166 ب].
(ج) أی: أن الصدق و الكذب غیر اللذیذ و المؤذی، لأن ذلك مسكّن للنفس إلی قرار، و هذا محرك نحو طلب؛ أو لأن ذلك أمر بحسب الأمر فی نفسه، و هذا بحسب الملتذ و المتأذی.
(د) أی: أن العقل یدرك المجرد عن الهیولی و الهیولانی جمیعا.
(ه) أی: إذا جرّد العقل من الفطوسة التقعیر، فذلك هو المعقول الانتزاعی الذی لا یحتاج فی تصوره إلی الهیولی.
(آ) الغرض فی هذا الكلام أن النفس محاك للوجود كله، متشبّه به.
(ب) أی: إنما قال لا بد من ذلك لأن الأشیاء متمثلة للنفس تلاحظها بعینها، فإما أن تكون من حیث هی موجودة خارجا تلاحظها، فیجب إذا عدمت أن لا تلاحظها، و یجب إذا فرضت بحال غیر الحصول أن تلاحظها؛ و إما أن تلاحظها متمثلة و هی فیه، و هو الباقی؛ ثم لا یخلو إما أن تكون هی المدرك بأعیانها أو بماهیاتها منزوعة.
(ح) الغرض فی هذا الكلام تحقیق ما سلف من قوله إن النفس الأشیاء كلها، و بیان وجهه، و ذلك أنها منتقشة بماهیات الأشیاء كلها.
(د) أی: كما أن الید آلة تستعمل كل آلة، و تفتقر إلیها كل آلة، كذلك العقل منا هو صورة جملة الصور. یعنی: لا كالحس الذی هو صور بعض الأشیاء.
(ه) أی: و أما العقل فتتأدی إلیها المحسوسات و قد قشرت عن الأمور الغریبة، و أما المعقولات فهی لها، و الحس لا ینال المعقولات- كأنه یقول إن الغاذیة و الحساسة یجدهما فی الناطق و غیر الناطق، و اقتصر علی الغاذیة لتعرف مثل حكمه فی الحساسة. قال المشرقیون:
لا تعرض له مشقة، بل یفرق بینها بالأفعال، و یجمع بینها فی البدن. و ما كان یجب أیضا أن یعرض فی التخیل كل ذلك المشقة، بل یفرقون بین المتخیل و الحساس، مثل ما بین الحاس و المحسوس. فإنه لیس یجوز أن یكون المتحرك و المحرك واحدا.
- أی الشخص الذی هو فاسد المزاج و التركیب لا یقبل الكمال، فإن أعطی قوة لم یتأت
كتاب الإنصاف، النص، ص: 112
فی حیلتها أن تعطی إلیه، و ربما لم یقبل القوة، و إن لم یتخیل بها علیه بفساد مزاجه أو تركیبه.
و كأنه یقول إن مثل هذا فی الشخص یجوز، و فی النوع لا یجوز. ثم یبین أن هدان الحركة لهذه الحیوانات لیس فی الشخص فقط، بل و فی النوع؛ و لا آفتها طارئة، بل نوعیة- أی لا من طریق الحكم الكلی فقط.
- أی ربما یفكر الإنسان فی صورة هائلة، أو سمع ذلك من إنسان یحكی أمرا، أو یصف كیفیة موت أو قتل، فیعرض للقلب منه انفعال و أذی یشبه الخوف، كمثل ما یعرض إذا شبه الشی‌ء اللذیذ بمتقزّر منه، أو تكلم علیه بقاذورة فتقزّز منه. و لیس ذلك عن العقل بل عن الخیال، فإن للخیال أحكاما فی الحیوان ربما غلبت فی الإنسان الضعیف المسكة علی العقل قال المشرقیون: تذكّروا الغضبی أیضا.
- أی مثل آلة الإیلاد و الآلة المولدة للّعاب.
(ع) یعنی بالشوق ما یعم الشهوانی و الغضبی و الإرادی.
- یجوز أن یكون هذا سهو (ا) فی النسخة، و الواجب نقیضه. و ان كان هذا، أعنی قوله لعله، و من أجل شی‌ء كان یجب أن یقرن بالعقل العملی، فوقع فی النسخة تقدیم، و یجوز أن یكون أراد: عقل نظری، نظره أن یطلب الوسط و العلة، و یعرف كل شی‌ء من أجل شی‌ء معلوم قبله؛ أو لعل الواجب أن ینقل هذا الموضع هكذا. و العقل عقلان: [167 ا] عقل یروّی بسبب و لأجل شی‌ء، أی مما یحصل من الجزئیات؛ و عقل فعال، أی نظّار مطلق.
- أی أحدهما ینظر لیعلم فقط، و الآخر ینظر لیس لیعلم فقط، بل شوقا إلی عمل. فغایة العقل النظری بذاته، العقل العملی، كأن العقل النظری یعلم الكلی فیما یجب أن یعمل، فیتلقاه العقل العملی مشتاقا إلیه فی الجزئی، آمرا للقوة المحركة، فیكون أیضا ما یشتاق إلیه العملی یتلقاه المبدأ المحرك، فیستعمله فی الجزئی.
- یجوز أن یكون الكلام علی هذا الوجه، بل آخر العقل النظری هو بدء العقل أی العملی؛ أی الغرض یحدده العقل النظری، فیكون مبدأ لشوق العقل العملی. و یجوز أن یكون علی هذا، بل آخر العقل العملی هو بدء للعمل، لأن آخر الفكرة أول العمل.
- أی: لو كان المحرك اثنین «1»: عقل و شهوة؛ علی أن لكل واحد منهما نصیبا «2» فی أنه مبدأ
__________________________________________________
(1) ن: بالرفع فیهما ..
(2) ن: بالرفع فیهما ..
كتاب الإنصاف، النص، ص: 113
حركة، من غیر أن أحدهما سبب للآخر، بل أن یلیا الحركة معا، لكان یجب أن یحركا معا، و تكون صورتهما فی أنهما یحركان صورة واحدة. ثم إذا تأملنا لم نجد هناك إلا عقلا یروّی فیشتهی ثم یحرك، فلا یجد للعقل تحریكا إلا الذی یتبع الشوق الذی فیه، فیكون التحریك مبدؤه القریب هو الشوق، و ذلك لأن العقل یبتدئ فیروّی بطلب ما یختاره و یشاؤه، و هو كأنه طلب تشوقه.
(ا) یجوز أن یعنی هاهنا بالشهوة الشوق، فیقول: و أما الشوق فلیس بینه و بین الحركة واسطة فكر، كما كان للعقل حاجة إلی فكر لیحدث شوق ثم تحدث حركة.
و یجوز أن یعنی به الشهوة الحیوانیة، فیقول: إن هذه القوة الشهوانیة ینبعث فیها شوق من غیر فكر، بل هی فی نفسها قوة شوقیة، و كمالها الشوق.
(ب) یعنی بالمستقیم: ما جمع مع إصابة الغرض وحدانیة المسلك. و یعنی بغیر المستقیم:
ما إما أن یكون مخطئ الغرض، أو یكون مفتنّ السبیل إلی الغرض فیأخذ السبیل الأبعد، أو یجمع بین الأمرین.
- إنه لما قال المشتهی و المتشوق إلیه محرك علی أنه غایة، لاح من ذلك أنه یعنی أن المحرك الذی هو مبدأ الحركة، لا علی أنه غایة، هو الشوق؛ فجعل الشوق أمرا هو مبدأ الحركة.
فالذی یجب أن تعلم أنه: هل هذا الشوق هو قوة أخری غیر الشهوة و غیر الغضب و غیر العقل العملی، أو هو فعل تام من أفعال هذه القوی إذا تحركت و انتهت إلی تمام الحركة؟ كأن هذا الشوق یفاد «1» عنه التحریك. و أیضا یجب أن یحقق: لم صار الشوق مبدأ الحركة؛ و قد قال من قبل إن الناسك یشتاق فیمنعه العقل. و مما یجب أن یحقق أیضا؛ أنه هل الشوق مبدأ كالأمر و بعده قوی محركة هی كالخوادم، و هی المبادی القریبة للحركات؟ فنقول: إنه لا حاجة إلی قوة أخری للشوق غیر القوی الثلاث، و أن یفعل الشوق إذا تمثل و تم، حرّك.
و یقول إن هذا الشوق لیس یراد به الشوق الساذج الذی یزید و ینقص و یكسر و یخالف، بل یعنی به الشوق العزمی الإجماعی، فإنه یحرّك بالضرورة إذا لم یكن حائل؛ و أنه لیس كشوق الناسك، فذلك شهوة فقط، و لیس معها العزم الإجماعی الذی هو من العاقل مشیه.
__________________________________________________
(1) ن: یضاد.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 114
و من ظن أن الشوق قوة برأسها غیر الشهوانیة و الغضبیة و الفكریة فقد أخطأ، فلا حاجة إلیها. [167 ب] و یقول إن هذا مبدأ كالأمر أیضا لا كالفاعل. و لذلك قد یقع العزم و الإجماع، فإذا عرض للقوی التی فی العضل آفة، لم تتم الحركة، و إن لم یكن بالعضل فی أنفسها آفة، بل فی المبدأ، و مع ذلك یكون شوق صحیح- فإذن الشوق آمر. و أما القوی المحركة فقوی من طباعها أن تحرك الأعضاء بتوسط العضل عند استحكام هذا الشوق. و نعم ما قال الإسكندر و غیره: إنه كما أن القوی الدراكة كثیرة، و إن اشتركت فی الإدراك- كذلك القوی المحركة كثیرة، و إن اشتركت فی الشوق. و اعلم أنه ربما تضادّ شوقان، فأطاعت القوة المحركة الأغلب.
- أی الشهوة تتبع الحال و الحاضر، و ما هو فی حكم الحاضر، و تتخیل حاضرا. و أما المهلة و المدة و العاقبة فیعلمها العقل فقط.
(ا) أی هو یحرك لأنه مشتهی و مطلوب، و مشتهی و مطلوب لأنه متمثّل فی عقل أو وهم.
- أی أن الآلة التی بها یحرك الشوق یجب أن تكون عضوا فی الوسط هو البدء و إلیه الانتهاء، كالمركز و المحور. و هذا یسیر إلی القلب علی أنه أصل الآلات البدنیة فی أن یحرك و منه متشعب الآلات عنده، أی ینقبض عن شی‌ء یؤذیه، و ینبسط عن نحو ما یستلذه.
- هذا كلام فیه نقصان؛ و تمامه أن یقال إنه لا بد من أن یكون منه تخیل غیر محفوظ و لا ثابت.
- أی: إما راسخا ثابتا، و إما مضطربا.
(ح) هذا التخیل هو الذی یستعمله العقل الإنسانی و الوهم الحیوانی.
- یعنی أن التخیل الذی یشتاق إلی أن یتبعه اختیار؛ و هو تعین أحد الأمرین من الفعل و الترك، بحسب سكون النفس إلی أنه خیر، سكونا یتبع قیاسا أو تمثیلا أو غیر ذلك.
(ع) أی: لأن الشهوة محدودة الإرب بینه «1» الشی‌ء الذی فیه الغرض لیس یحتاج أن یطلبه.
(ا) هذا استعارة مشبهة للنفس بالبدن المریض.
- أی لیس یمكنه إلا أن یستعمل تخیلا كثیرا.
__________________________________________________
(1) لعلها: بینما.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 115
- أی إنما یفكر لأنه فاقد الغرض الكائن عن القیاس، فإذا قام القیاس عزم.
- أی المستعلی من السماویات یجر معه ما یحیط به.
(ب) یعنی أن الشهوة غلبتها طبیعیة، و استعلاؤها عظیم: و أما استعلاء العقل فمكتسب صناعی.
(ح) أی مذهب العقل و مذهب الشهوة و مذهب انقلاب أحدهما إلی الآخر.
هذا أصل یجب أن یحفظ و یعلم، فلیس إنما هو نافع «1» فی الإنسان، بل قد ینتفع به فی معرفة الحركات الفلكیة و قواها المحرّكة. و بالجملة فإن الكلی لا تختصّ نسبته بجزئی بعینه، و ما لم یختصّ بنسبة العلة بالمعلول لم یجب أن یكون عنه المعلول. فاعلم أن كل محرك بإرادة فإنه مدرك للجزئیات ضربا من الإدراك: إما حسیا و إما تخیلیا و إما مناسبا لهما؛ و إدراكه ذلك جسمانی. فإن المشرقیین قد بینوا أن مثل هذا الإدراك لا یتم إلا بآلة جسمانیة. قال المشرقیون:
لم یجد إظهار الحاجة إلی الغذاء، فإن الغذاء محتاج إلیه الحاجة الدائمة الضروریة فی أن یكون سادّا مسدّ ما یتحلل، و قد یحتاج إلیه للنمو حاجة فی وقت ما. و النمو محتاج إلیه، إذ كان لا یمكن الحیوان أن یتكون بكماله دفعة، فالحاجة إلی الغذاء بسبب النمو حاجة مؤقتة؛ و أما الوقوف فلیس یحتاج فیه إلی الغذاء لأنه وقوف، بل كان من حق كونه وقوفا أن یغنی عن الغذاء الذی هو زیادة، بل یحتاج إلیه بسبب أن یسدّ بدل ما یتحلل. و أما النقصان فهو أبعد من أن یكون له مدخل فی الحاجة إلی [168 ا] الغذاء من حیث هو نقصان، و لا النقصان من الأشیاء التی تناسب النمو و الوقوف فی جهة الضرورة، لأن النقصان وارد بأسباب غریبة، فضرورتها ضرورة قهر، و النمو و الوقوف ضرورتها هو ضرورة ما یحتاج إلیه. فقول الأطباء فی هذا الباب أسدّ من قول فیلسوف مثله.
- أی، لأنه یحتاج إلی طلب لما یتعیش به، لیس كالنبات المذكور حیث یتعیش منه.
- أی أن النبات لو أعطی حسا لكان باطلا، لأنه كان لا یحتاج إلیه، لأنه ما كان ینذره بمطلوب فیتأتی له المصیر إلیه، أو مهروب فیتأتی له الهرب عنه. و لو أعطی النبات لمسا أو ذوقا لم یكن فی ذلك فائدة فی الغذاء و جذبه، لأن جذب الغذاء الملاقی طبیعی، حتی فینا أیضا، و الملائم الغذاء أی المماس. و یجوز أن یكون معناه: و لو أعطی الحیوان قوة محركة
__________________________________________________
(1) ن: نافعا.
كتاب الإنصاف، النص، ص: 116
و حاجة إلی الطلب، و لم یعط حسّا، كان ذلك باطلا. ثم یكون تمام الكلام هو أن الطبیعة تفعل لأجل شی‌ء، أو تفعل ما یقع بالضرورة.
- أی أنه لا ینحرس عن الآفات و لا یهتدی إلی ما به یغتذی و ینمی و یتم.
قال المشرقیون: قد اعتمدوا أن الأجرام السماویة لا ینبغی أن یكون لها حسّ، لأنها لا تحتاج إلی غذاء، و لا لها طلب شی‌ء و لا هرب من شی‌ء. و لیس هذا بواجب، فإن الحس و الإدراك بنفسه معنی مطلوب لذاته، فلیس بمنكر أن یكون للأجرام السماویة ضرب من الحس لا یحتاج فیه إلی انفعال و استحالة، بل یكون كحال القمر فی استضاءته من الشمس.
و لعل لها حاجة من وجه ما إلی أمر حسی و إدراك زمانی كما یذكره المشرقیون. أو لو كان الإدراك یحتاج إلیه لدفع أو جذب، لكان الباری تعالی لا یوصف بأنه عالم. و قد قال ثامسطیوس: أخلق بالإجرام الملكیة و الفلكیة أن تدرك المحسوسات مثل ما یدرك الموّلد الموّلد. و لكن لیس هذا بجواب، فإنه یلزم أیضا أن یقال: و كیف یدرك الموّلد الجزئی، الموّلد الجزئیّ الشخصی من المحسوسات: أ بعقل أم بحس؟ و لكن الجواب أن ذلك یمكن بهما جمیعا. و أما أنه كیف یمكن بالعقل، فلیطلب من كتب المشرقیین. و لكنه إذا خصص بالزمان لم یمكن إلا أن یكون الإدراك بآلة جسمانیة.

آخر ما وجد من ذلك‌

و الحمد للّه رب العالمین و صلواته علی نبیه محمد و آله أجمعین، و حسبنا اللّه و نعم الوكیل.
(حاشیة) عند كثیر من الأوائل أن الأعداد مبادئ للعالم. و أمثل ما حمل علیه هذا القول أن یكون معناه: كون الشی‌ء واحدا غیر كونه موجودا أو إنسانا، و هو فی ذاته أقدم منهما. فالحیوان الواحد لم یحصل واحدا إلا و قد تقدمه معنی الوحدة الذی به صار واحدا، و لولاه لم یصح وجوده. فإذن هو الأبسط الأشرف الأول. و هذه صورة العقل. فالعقل یجب أن یكون الواحد من هذه الجهة، و العلم دون ذلك فی الرتبة، لأنه بالعقل و منه. فهو الاثنان الذی ینفرد إلی الواحد. و العلم یؤول إلی العقل. و معنی الظن عدد السطح، و الحس عدد المصمت: أن السطح لكونه ذا ثلاث جهات هو طبیعة الظن الذی هو أعم من العلم مرتبة، لأن العلم یتعلق بمعلوم معین، و الظن ینجذب إلی الشی‌ء و نقیضه، و الحس أعم من الظن فهو المصمت، أی الجسم له أربع جهات.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.