موجز عن الدولة العثمانية

اشارة

اسم الكتاب: موجز عن الدولة العثمانية

المؤلف: حسيني شيرازي، محمد

تاريخ وفاة المؤلف: 1380 ش

اللغة: عربي

عدد المجلدات: 1

الناشر: مركز الرسول الاعظم(ص)

مكان الطبع: بيروت

تاريخ الطبع: 1419 ق

الطبعة: اول

بسم الله الرحمن الرحيم

قل سيروا في الأرض

ثم انظروا كيف كان

عاقبة المكذبين

سورة الأنعام: 11

كلمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا أردنا ان نبني مستقبلاً أفضل لا بد ان نقرأ الماضي حتي نقف علي الأخطاء السابقة فلا نكررها. وقراءة التاريخ تتكفل نوعاً ما بذلك.

وعند ما نقرأ تاريخ الأمة الإسلامية نراها مليئة بالنقاط الإيجابية المشرقة التي أخذت تغزو جميع حضارات العالم أخذت تتقدم يوماً بعد يوم حتي بلغ المسلمون ما بلغوا من المجد والعزة، والتقدم في جميع مجالات الحياة مم اعترف به علماء الغرب وسموا المسلمين بآباء العلم الحديث، وكان كل ذلك بفضل التعاليم الإسلامية التي بينها وطبقها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أهل بيته الطاهرون (عليهم السلام). ولكن شيئاً فشيئاً أخذت ألأمه الإسلامية تتقهقر وحصل ما

حصل اليوم من التأخر الغريب للمسلمين!! لماذا؟؟.

عند دراسة التاريخ يتبين بوضوح ان هناك عوامل كثيرة أدت بنا الي ذلك، ومن أهمها: سيطرة الحكام غير اللائقين علي البلاد الإسلامية، والذين حكموا باسم الإسلام ولم يكونوا يعرفوا من الإسلام شيئا، فاخذوا بأزمة الحكم مستبدين في سياستهم، ديكتاتوريين في تصرفاتهم، ضاغطين علي الشعب، مصادرين لأبسط حرياته، منشغلين عن إدارة العباد والبلاد بشهواتهم واهوائهم، علي عكس ما أمر به الإسلام من الشوري في الحكم وحرمة الاستبداد ووجوب رعاية حقوق الشعب وتضمين حرياته الإسلامية و…

ومن هؤلاء الحكام: السلاطين العثمانيون الذين حكموا ستمائة سنة!! وتوالي منهم علي عرش الحكم ستة وثلاثون سلطاناً، وكان منهم من ارتكب من الأعمال ما تقشعر منه الأبدان، وكان منهم السفاكون الظالمون، والمبذرون المسرفون، والمهملون الجاهلون، والغارقون في بحور اللهو

والخلاعة، واللعب بالحسان من البنات والبنين!! التاركين للواجبات والفاعلين لأشد المحرمات، فكانوا لا يرحمون حتي اخوتهم وأولادهم فيكف بشعوبهم وكيف بسائر الناس من المسلمين وغير المسلمين.. علي خلاف صريح القرآ ن وسنة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وسيرته في أول حكومة إسلامية شكلها في المدينة المنورة.

هذا وقد اهتم المرجع الديني الأعلي الإمام الشيرازي (دام ظله) اشد الاهتمام بالقضية الإسلامية، أبدي كبير حرصه علي ان يستيقظ المسلمون ويستعيدوا عزهم ومجدهم، ويرجعوا الي حضارتهم الفائقة ولذلك خصص قسماً كبيراً من تأليفا ته القيمة التي تجاوزت آلف كتاب وكراس بهذا الموضوع.

وهذا الكتاب الذي بين يديك أيها القاري العزيز تلخيص لتاريخ الدولة العثمانية، وستري فيه البون الشاسع بين الحكومة الإسلامية وتعاليمها وبين هؤلاء الذين حكموا باسم الإسلام وكانوا من أهم أسباب تأخر المسلمين … فرأينا طباعته ليكون من مقدمات إنهاض المسلمين بعونه تعالي وما ذلك علي الله بعزيز.

مركز الرسول الأعظم (ص) للتحقيق والنشر

بيروت لبنان

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي محمد وآله الطاهرين.

وبهد: فهذا موجز مبسط في تاريخ العثمانين، وهو تلخيص لكتاب (تاريخ الدولة العثمانية).

اخترته لبيان بعض أسباب تأخر المسلمين وانقسام بلادهم وتشتتهم وتقدم الغرب عليه، بعد ما بلغت الحضارة الإسلمية أوجها حينما كان الغرب في تأخر كبير وكبير.

وما كان ذلك الا لابتعاد المسلمين وخاصة حكامهم عن التاليم الإسلامية ومخالفتهم للسيرة النبوية الشريفة (صلي الله عليه وآله وسلم) وأسلوب أمير المؤمنين علي عليه السلام في الحكم، فشوهوا بأعمالهم سمعة الإسلام وأخروا الأمة الإسلامية ومهدوا الطريق لسيطرة الأعداء علي بلاد المسلمين.

نسأل الله سبحانه ان يوفق المسلمين لاسترجاع عزهم والعود الي حضارتهم والرجوع الي سنته تعالي، انه سميع مجيب.

(موجز عن الدولة العثمانية) تلخيص (تاريخ الدولة العثمانية)

بقلم محمد الشيرازي والله المستعان.

قم المقدسة

مؤسس الدولة العثمانية

مؤسس الدولة العثمانية

مؤسس هذه الدولة هو (أرطغرل بن سليمان شاه التركماني) قائد إحدي قبائل الترك النازحين من سهول آسيا الغربية إلي بلاد آسيا الصغري، وذلك إنه كان راجعاً إلي بلاد العجم بعد موت أبيه غرقاً عند اجتيازه أحد الأنهر، إذ شاهد جيشين مشتبكين، فوقف علي مرتفع من الأرض ليمتع نظره بهذا المنظر المألوف لدي الرحل من القبائل الحربية، ولما آنس الضعف في أحد الجيشين وتحقق انكساره وخذلانه إن لم يمد إليه يد المساعدة دبت فيه النخوة الحربية ونزل هو وفرسانه مسرعين لنجدة أضعف الجيشين وهاجم الجيش الثاني بقوة وشجاعة عظيمتين حتي وقع الرعب في قلوب الذين كادوا يفوزون بالنصر، لولا هذا المدد الفجائي، وأعمل فيهم السيف والرمح ضرباً ووخزاً حتي هزمهم شر هزيمة وكان ذلك في أواخر القرن السابع للهجرة.

وبعد تمام النصر عمل (ارطغرل) لنجدة الأمير (علاء الدين) سلطان (قونية) إحدي الإمارات السلجوقية فكافأه (علاء الدين) علي مساعدته له بإقطاعه عدّة أقاليم ومدن.

ولما توفي (أرطغرل) سنة 687ه عيّن (الملك علاء الدين) أكبر أولاده مكانه (عثمان) مؤسس الدولة العثمانية.

وفي هذه السنة ولدت زوجته (مال خاتون) ولداً ذكراً وهو (أورخان).

ولم يلبث (عثمان) أن تحصل علي امتيازات جديدة عقب فتحه قلعة (قرة حصار) سنة 688ه فمنحه الملك في السنة المذكورة لقب (بك) وأقطعه كافة الأراضي والقلاع التي فتحها، وأجاز له ضرب العملة، وأن يذكر اسمه في خطبة الجمعة، وبذلك صار (عثمان بك) ملكاً بالفعل لا ينقصه إلا اللقب.

وتقريباً في سنة 699 ه أي السنة المتممة للقرن السابع من التاريخ الهجري أغارت جموع التتار علي بلاد آسيا الصغري وفيها كانت وفاة (علاء الدين) آخر السلجوقيين بقونية، قيل: قتله التتر، وقيل: قتله ولده (غياث الدين) طمعاً

في الملك.

ولما قتل التتار (غياث الدين) أيضا انفتح المجال (لعثمان) فاستأثر بجميع الأراضي المقطعة له ولقب نفسه (بادي شاه آل عثمان) وجعل مقر ملكه مدينة (يكي شهر) وأخذ في تحصينها وتحسينها ثم أخذ في توسيع دائرة أملاكه (أزميد) ثم (ازنيك).

ولما لم يتمكن من فتحها عاد إلي عاصمته واشتغل في تنظيم البلاد حتي إذا أمن اضطرابها وتجهز للقتال أرسل إلي جميع أمراء الروم ببلاد آسيا الصغري يخيرهم بين ثلاثة أمور: الإسلام أو الجزية أو الحرب فأسلم بعضهم وانضم إليه، وقبل البعض دفع الخراج، واستعان الباقون علي (السلطان عثمان) بالتتار واستدعوهم لنجدتهم، لكن لم يعبأ بهم (السلطان عثمان) بل هيأ لمحاربتهم جيشا جراراً تحت إمرة ابنه (أورخان) فسار إليهم هذا الشبل ومعه عدد ليس بقليل من أمراء الروم ومن ضمنهم (كوسه ميخائيل) صديق (عثمان) الذي اختار الإسلام ديناً، وبعد محاربة عنيفة شتت شمل التتار، وعاد مسرعاً لمحاصرة مدينة بورصة، فحاصرها سنة 717ه، وللتمكن من فتحها بسهولة هاجم حصن اردنوس الكائن علي قمة جبل أولمب فدخله عنوة ثم دخل مدينة بورصة بعد أن فتح كافة ما حولها من القلاع والحصون وحاصرها نحو عشر سنوات من غير حرب ولا قتال، إذ أرسل ملك القسطنطينية أوامره لعامله علي هذه المدينة بالانسحاب فأخلاها ودخلها (أورخان) وعساكره ولم يتعرض لأهلها بسوء مقابل دفع ثلاثين ألف من عملتهم الذهبية، وأسلم حاكمها (افرينوس) وأعطي له لقب (بك) وصار من مشاهير قواد العثمانيين.

وعقب ذلك بقليل استدعي (أورخان) إلي والده فوجده في حالة النزع، ولم يلبث أن أسلم الروح إلي بارئ النسمات ومبدع الكائنات، بعد أن أوصي للملك بعده (أورخان) ثاني أولاده المولود في سنة 680ه لاتّصافه بعلو الهمة والشجاعة والإقدام ولم يوص بها لبكر أولاده

(علاء الدين) لميله إلي الورع والعزلة، وتوفي في 21 رمضان سنة 726ه عن سبعين سنة قضي معظمها في تأسيس هذه الدولة.

ومن حسن حظ هذه الدولة أن (علاء الدين) لم يعارض هذه الوصية، واكتفي بوزارة المملكة (الصدارة العظمي) التي قلده إيّاها أخوه (اورخان).

ومن أهم أعمال (علاء الدين) أن أمر بضرب العملة من الفضة والذهب، ووضع نظاما للجيوش وجعلها دائمية، إذ كانت قبل ذلك لا تجمع إلا وقت الحرب وتصرف بعده، ثم خشي من تحزب كل فريق من الجند إلي القبيلة التابع إليها وانفصام عري الوحدة العثمانية التي كان كل سعيهم في إيجادها، فأشار عليه أحد فحول ذلك الوقت واسمه (قرة خليل) وهو الذي صار فيما بعد وزيرا أولا باسم (خير الدين باشا) بأخذ الشبان من أسري الحرب و فصلهم عن كل ما يذكرهم بجنسهم وأصلهم وتربيتهم تربية إسلامية عثمانية بحيث لا يعرفون أبا إلا السلطان ولا حرفة إلا الجهاد ولعدم وجود أقارب لهم بين الأهالي لا يخشي من تحزبهم معهم، فأعجب السلطان (أورخان) هذا الرأي وأمر بإنفاذه.

ولما صار عنده منهم عدد ليس بقليل سار بهم إلي (الحاج بكطاش) شيخ طريقة البكتاشية بأماسية ليدعو لهم بخير، فدعا لهم هذا الشيخ بالنصر علي الأعداء وقال: فليكن اسمهم (يني تشاري) يرسم بالتركية هكذا (يكيجري) أي الجيش الجديد، ثم حرف في العربية فصار (انكشاري).

ثم ارتقي هذا الجيش في النظام وزاد عدده حتي صار لا يعول إلا عليه في الحروب، وكان هو من أكبر وأهم عوامل امتداد سلطة الدولة العثمانية، كما أنهم خرجوا فيما بعد عن حدودهم وتعدوا واستبدوا بما جعلهم سببا في تأخر الدولة وتقهقرها.

واستمرت هذه الفئة عونا للدولة علي أعدائها، حتي تغيرت أحوالها وازداد طغيانها وانقلبت فوائدها مضرات. فأبطلها

(السلطان محمود الثاني) بعد أن قتل أغلبهم في يوم العاشر ذي القعدة سنة 1241ه لمقاومتهم إجراءات السلاطين وعصيانهم عليهم وتعديهم علي حقوقهم المقدسة.

اما (اورخان) أول عمل أجراه هو نقل مقر الحكومة إلي مدينة بورصة لحسن موقعها وارسل قواد جيوشه المظفرة لفتح ما بقي من بلاد آسيا الصغري.. ولم يبق من مدن الروم المهمة ببر آسيا إلا مدينة ازنيك فحاصرها وضيّق عليها الحصار حتي دخلها بعد سنتين فسقط بسقوطها نفوذ الروم في بلاد آسيا.

ولما نزل العثمانيون بساحل أوروبا تحققوا ضعف مملكة الروم وما آلت إليه من الانحلال فأخذ (السلطان أورخان) في تجهيز الكتائب سرا لاجتياز البحر واحتلال بعض نقط علي الشاطئ الأوروبي تكون مركزا لأعمال العثمانيين في أوروبا، حتي إذا سنحت الفرص وساعدت المقادير حاصروا مدينة القسطنطينية برا وبحرا ودخلوها فاتحين.

وفي سنة 760ه توفي (سليمان باشا) ولي عهد الدولة بسبب سقوطه من علي ظهر جواده وصارت ولاية العهد بعده إلي أخيه (مراد) وتولي منصب الصدارة بعده الوزير (خير الدين باشا).

وفي سنة 761 ه انتقل إلي الدار الآخرة (السلطان أورخان الغازي) وسنّه 81 سنة، ومدة حكمه 35 سنة بعد أن أيد الدولة بفتوحاته الجديدة وتنظيماته العديدة ودفن في مدينة بورصة حيث دفن ملوك آل عثمان الستة الأول.

وتولي بعده ابنه (السلطان مراد الأول) المولود سنة 726ه وكانت فاتحة أعماله احتلال مدينة (انقرة) مقر سكنة القرمان. وذلك أن سلطان هذا الإقليم واسمه (علاء الدين) أراد انتهاز فرصة انتقال الملك من (السلطان أورخان) إلي ابنه (السلطان مراد) لإثارة حمية الأمراء المستقلين وتحريضهم علي قتال العثمانيين.

اما في أوربا ففتح (البكلربك لالة شاهين) مدينة آدرنة في سنة 762ه سلمها قائدها الرومي بعد قتال قليل لما داخله من اليأس من استخلاصها.

ولأهمية موقعها الجغرافي

ووجودها علي ملتقي ثلاثة أنهر، نقل اليها السلطان تخت المملكة العثمانية واستمرت عاصمة لها إلي أن فتحت مدينة القسطنطينية سنة 857 ه.

ولما مات القائد (خير الدين باشا) أشهر قواد الدولة ظن متاخموها أنه لم يبق لديها من القواد من يرد كيدهم في نحرهم، فاتحد (علاء الدين) أمير القرمان الذي سبق ذكره، مع بعض الأمراء المستقلين واستعدوا للقتال وابتدءوا المناوشات. لكن لم يمهلهم (السلطان مراد) بل أرسل إليهم (ديمور طاش باشا) فحاربهم وقهرهم في سهل قونية وأخذ (علاء الدين) أسيرا. ولولا توسط ابنته التي كان تزوجها (السلطان مراد) عقب المحاربة الأولي، لجرده من أملاكه، ولكن مراعاة لزوجته لم يأخذ منه شيئا هذه الدفعة بل أقره في أملاكه بشرط دفع الجزية وكان ذلك سنة 788 ه.

ولما علم (لازار) ملك الصرب بانخذال رفيقه قرال البلغار مال بجيوشه قليلا جهة الغرب للانضمام إلي أمراء ألبانيا (الارنؤد) فلم يمكنه (السلطان مراد) من ذلك بل جد السير في طلبه حتي لحقه في سهل (قوص أوه) سنة 791 ه وانتشب القتال بين الجيشين بحالة يشيب من هولها الولدان، وبقيت الحرب بينهما سجالا مدة من الزمن تناثرت فيها الرؤوس وزهقت النفوس وأخيرا فر صهر (الملك لازار) المدعو (فوك برانكوفتش) ومعه عشرة آلاف فارس والتحق بجيش المسلمين فدارت الدائرة علي الصربيين وجرح (لإزار) ووقع أسيرا في أيدي العثمانيين فقتلوه.

مقتل السلطان مراد

وبعد تمام النصر والغلبة للعثمانيين كان (السلطان مراد) يمر من بين القتلي إذ قام من بينهم جندي صربي اسمه (ميلوك كوبلوفتش) وطعن السلطان بخنجر طعنة كانت هي القاضية عليه بعد قليل، فسقط القاتل قتيلاً تحت سيوف الانكشارية، لكن لم يفدهم قتله شيئاً إذ أسلم السلطان الروح بعد ذلك بقليل.

السلطان بايزيد خان الأول

وتولي السلطان (بايزيد خان الأول) بكر أولاده وكانت ولادته سنة 761ه وكان له أخ أصغر منه بقليل يدعي (يعقوب) متصفا بالشجاعة والإقدام وعلو الهمة، فخيف علي المملكة منه، من أن يدعي الملك ويرتكن علي أن الملك انتقل إلي (السلطان أورخان) بعد وفاة أبيه (السلطان عثمان) ولم يتول بعده ابنه البكر (علاء الدين) ولذلك قتل باتفاق أمراء الدولة وقواد جيوشها.

وهابه أمير (آيدين) فترك له أملاكه وعاش مطمئن الخاطر في إحدي المدن الخارجة عن النفوذ العثماني، وكذلك ترك (أميرا منتشا) و(صاروخان) ولايتيهما واحتميا عند أمير (قسطموني).

وتنازل الأمير (علاء الدين) حاكم بلاد القرمان للسلطان عن جزء عظيم من أملاكه ليؤمنه علي الباقي. ومع استمرار الحصار حول القسطنطينية ضم السلطان بلاد البلغار إلي الأملاك العثمانية فصارت ولاية عثمانية كباقي الولايات بعد أن قتل أميرها (سيسمان) وأسلم ابنه وعين حاكما لسمسون سنة 796 ه.

فلما علم (سجسمون) ملك المجر خبر ما حل ببلاد البلغار خشي علي مملكته إذ صار متاخما في عدة نقط للدولة (العثمانية) فاستنجد بأوروبا وساعد البابا، وأعلن الحرب الدينية بين أقوام أوروبا الغربية فأجاب الدعوة دوك (بورغونيا) وأرسل ابنه (الكونت دي نيفر) ومعه ستّة آلاف محارب أغلبهم من أشراف فرانسا وفيهم كثير من أقارب ملك فرانسا نفسه، وانضم إليه حين مسيره إلي بلاد المجر أمراء (بافاريا) و(استيري) و(شواليه) القديس (حنا الأورشليمي) وكثير من الالمانيين، قاتلوا قتالا عنيفا في يوم

23 ذي القعدة سنة 798ه.

كانت نتيجتها انتصار العثمانيين علي الجيوش المتألبة عليهم وأسر كثير من أشراف فرانسا منهم (الكونت دي نيفر) نفسه وقتل أغلبهم.

إغارة تيمورلنك

إغارة تيمورلنك

وسبّب إغارة (تيمور لنك) التتري الموغولي علي الدولة العثمانية أن أمير بغداد والعراق المدعو (أحمد جلاير) التجأ إلي (السلطان بايزيد) حينما هاجمه الموغول في بلاده، فأرسل (تيمور لنك) إلي السلطان بطلبه، فأبي تسليمه إليه فأغار (تيمور) بجيوشه الجرارة علي بلاد آسيا الصغري، وافتتح مدينة (سيواس) بأرمينيا وأخذ ابن (السلطان بايزيد) المدعو (ارطغرل) أسيرا وقطع رأسه، ولذلك جمع (السلطان بايزيد) جيوشه وسار لمحاربة (تيمور الأعرج).

فتقابل الجيشان في سهل انقره واستمرت الحرب من قبل شروق الشمس إلي غروبها، وأظهر السلطان خلالها من الشجاعة ما بهر العقول وأدهش الأذهان، ولكن ضعف جيشه بفرار فرق آيدين ومنتشا وصاروخان وكرميان وانضمامها إلي جيوش (تيمور) لوجود أولاد أمرائهم الأصليين في معسكر التتار ولم يبق مع السلطان إلا عشرة آلاف انكشاري وعساكر الصرب فحارب معهم طول النهار، حتي سقط أسيرًا في أيدي الموغول هو وابنه (موسي) وهرب أولاده (سليمان) و(محمد) و(عيسي) ولم يوقف لابنه الخامس (مصطفي) علي أثر، وكان ذلك في 19 ذي الحجة سنة 804 ه. فعامل (تيمور لنك) أسيره (بايزيد) بالحسني وأكرم مثواه، لكنه شدد في المراقبة عليه نوعا بعد أن شرع في الهروب ثلاث مرات وضبط. ويقال أنه سجنه في قفص من حديد حتي مات في 15 شعبان سنة 805 ه و عمره 44 سنة و مدة حكمه 13 سنة.

الفوضي بعد موت السلطان بايزيد

وبعد موت (السلطان بايزيد) تجزأت الدولة إلي عدة إمارات صغيرة، كما حصل بعد سقوط دولة آل سلجوق، لأن (تيمور لنك) أعاد إلي أمراء قسطموني وصاروخان وكرميان وآيدين ومنتشا وقرمان ما فقدوه من البلاد. واستقل في هذه الفترة كل من البلغار والصرب والفلاخ ولم يبق تابعا للراية العثمانية إلا قليل من البلدان.

ومما زاد الخطر علي هذه الدولة الإسلامية عدم اتفاق

أولاد (بايزيد) علي تنصيب أحدهم، بل كان كل منهم يدعي الأحقية لنفسه، فأقام (سليمان) في مدينة آدرنه، حيث ولاه الجنود سلطانا. ولأجل أن يستظهر علي اخوته عقد محالفة مع ملك الروم (أيما نويل الثاني) وتنازل له عن مدينة سلانيك وسواحل البحر الأسود، لينجده علي اخوته الباقين ولزيادة الوثوق منه تزوج إحدي قريباته.

وكان (محمد بايزيد) يحارب جنود (تيمور لنك) في جبال الأناطول، واستخلص منهم مدينتي (توقات) و(أمايسيا).

أما (عيسي) فلما بلغه خبر وفاة والده جمع ما كان معه من الجند بمدينة بورصة، حيث كان مختفيا وأعلن نفسه خليفة آل عثمان بمساعدة القائد (ديمور طاش باشا).

و مما يوجب الأسف والحزن أن استنجد كل من هؤلاء الثلاثة (بتيمور لنك)، سبب هذه الفتن والمفاسد، فقبل وفودهم بكل ارتياح وشجعهم علي المثابرة والثبات في الحرب، يريد بذلك إضعافهم ببعضهم حتي لا تقوم للدولة بعدهم قائمة.

فسار (محمد) لمحاربة أخيه (عيسي) وهزمه في عدة مواقع وقتله في الأخيرة منها، ولم يبق له بعد ذلك منازع من اخوته في آسيا الصغري، واستخلص أخاه (موسي) بعد ذلك من أميركرميان، وسلمه قيادة جيش جرار أرسله به إلي أوروبا لمحاربة أخيه (سليمان) فلم يقو عليه، بل انهزم أمامه وعاد مقهورا إلي آسيا.

ثم جمع جيشا آخر وعاد به إلي أوروبا وحارب أخاه (سليمان) وقتله خارج أسوار مدينة أدرنة في سنة 813 ه، وبعدها أغار علي بلاد الصرب وعاقب أهلها علي خروجهم عن الطاعة وقاتل (سجسمون) ملك المجر الذي تصدي له لرده عن بلاد الصرب، لكن داخل الطمع (الأمير موسي) فعصي أخاه (محمد) الذي أمده بالجنود لمحاربة أخيهما (سليمان) وأراد الاستقلال ببلاد الدولة بأوروبا وحاصر القسطنطينية ليفتحها لنفسه، فاستنجد ملكها ب (الأمير محمد) فأتي إليه مسرعا لمحاربته، وألزمه بعد

محاربة شديدة برفع الحصار عنها ثم حالف (الأمير محمد) ملك القسطنطينية وأمير الصرب وبثوا الدسائس في جيش (موسي) حتي خانه أغلب قواده ووقع أخيرا بين يدي أخيه (محمد) فأمر بقتله سنة 816 ه.

انفراد السلطان محمد جلبي الغازي بالملك

وبذلك انفرد (محمد) المولود سنة 781 ه2 بما بقي من بلاد آل عثمان واشتهر في التاريخ باسم (السلطان محمد جلبي الغازي).

هذا وقد كانت مدة حكم (السلطان محمد) كلها حروبا داخلية لإرجاع الإمارات التي استقلت في مدة الفوضي التي أعقبت موت (السلطان بايزيد) في الأسر، وحافظ علي محالفة ملك الروم، الذي لولا مساعدته له، لخيف علي عري الدولة من الانفصام، ورد له البلاد التي فتحها أخوه (موسي) واستمر علي محافظته لعهده إلي آخر عمره.

وظهر في أيام هذا الملك شخص يسمي (بدر الدين) من العلماء المشهورين في ذاك الوقت، وكان معينا بوظيفة قاضي عسكر في جيش (موسي)، أخي (السلطان محمد)، وبعد انهزام (موسي) كما سبق ذكره ألزم بالإقامة في مدينة (أزنيك) ثم هرب منها وابتدأ في نشر آرائه واستعان في نشر مذهبه بشخص يدعي (بير قليجه مصطفي) واشتهر أمره بسرعة وكثر عدد تابعيه. ولما علم السلطان بذلك جمع الجيوش، وأرسل وزيره الأول المدعو (بايزيد باشا) لمحاربة هذه الفئة فصار إليها وقابل (مصطفي) في ضواحي أزمير فحاربه في موقع يقال له (قره بورنو) وقهره وأخذه أسيرا ثم قتله وكثيرا من أتباعه.

وبعد ذلك بذل (السلطان محمد جلبي) قصاري جهده في محو آثار هذه الفتن بإجرائه الترتيبات الداخلية الضامنة لهم حدوث شغب في المستقبل، وبينما كان السلطان مشتغلا بهذه المهام السلمية فاجأه الموت في سنة 824 ه في مدينة أدرنه فاسلم الروح وعمره 43 سنة، بعد أن أوصي بالملك لابنه (مراد) الذي كان حينئذ في اماسيا.

وخوفا من

حصول ما لا تحمد عقباه لو علم موت (السلطان محمد) مع وجود ابنه (مراد) في بلاد آسيا، اتفق وزيراه (إبراهيم) و(بايزيد) علي إخفاء موته عن الجند حتي يحضر ابنه، فأشاعا أن السلطان مريض وأرسلا لابنه فحضر بعد واحد وأربعين يوما واستلم مقاليد الدولة.

السلطان مراد خان الثاني

ولد (السلطان مراد الثاني) سنة 806 ه وتولي سنة 824 ه بعد موت أبيه، وعمره ثماني عشرة سنة، وافتتح أعماله بإبرام الصلح مع أمير القرمان، والاتفاق مع ملك المجر علي هدنة خمس سنوات حتي يتفرغ لإرجاع ما شق عصا الطاعة من ولايات آسيا.

وفي محاربة بينه وبين عمه (مصطفي) خانه بعض قواده وتركه أغلب جنوده حتي التزم الهروب إلي مدينة جاليبولي، فسلمه بعض أتباعه إلي ابن أخيه (مراد الثاني) فأمر بشنقه.

وتنازل أمير قسطموني عن نصف أملاكه للسلطان، وزوجه ابنته سنة 826 ه إظهارا لإخلاصه وولائه، وفي السنة التالية عصي (قره جنيد) واستولي علي إمارة آيدين، لكن قهره (حمزة بك) أخو الوزير (بايزيد باشا) وقبض عليه وأمر بخنقه.

وأعاد (مراد الثاني) إلي أملاك الدولة ولايات آيدين وصاروخان ومنتشا وغيرها … وكلك استرد بلاد القرمان بعد أن قتل أميرها (محمد بك).

ووجه اهتمامه أولاً إلي بلاد ألبانيا، فأطاعه سكان يانيه، وسكان أغلب باقي البلاد، بدون كثير عناء، مشترطين عدم التعرض لهم في دينهم ولا عوائدهم، وألزم (جان كستريو) أمير الجزء الشمالي من بلاد ألبانيا، أن يسلم له أولاده الأربعة رهينة علي صدقه وولائه، ثم ضم أملاكه إليه بعد وفاته سنة 835 ه.

وفي سنة 837 ه اعترف (فلاد) أمير الفلاخ الملقب (دره قول)، أي الشيطان، بسيادة الباب العالي عليه تخلصا من الحرب التي كان لا يشك في وخامة عاقبتها عليه، لكن لم يكن هذا الخضوع إلا ظاهريا، فإنه

ما لبث أن ثار هو وأمير الصرب بنا علي تحريص ملك المجر لهما فحاربهما السلطان وقهرهما، ثم سار إلي بلاد المجر وخرب كثيرا من بلدانها وعاد منها في سنة 842 ه بسبعين ألف أسير علي ما يقال.

وأغار علي بلاد (ترنسلفانيا) وحاصر مدينة (هرمان ستاد) التابعة لملك الجر وكان حاكم هذا الإقليم (هونياد) قائد عموم جيوش المجر فأتي هذا القائد الشهير علي جناح السرعة للدفاع عنها وانتصر علي العثمانيين، وقتل منهم عشرين ألف نفس، وقتل قائدهم وألزم من بقي منهم بالرجوع خلف نهر الدانوب.

وأخيرا أبرم (السلطان مراد) معهم الصلح علي أن يتنازل عن سيادته علي بلاد الفلاخ ويرد إلي أمير الصرب مدائن (سمندريه) و(ألاجه حضار) وأن يهادن المجر مدة عشر سنوات واُمضيت المعاهدة في سنة 848ه.

وعقب ذلك توفي أكبر أولاد السلطان واسمه (علاء الدين) فحزن عليه والده حزنا شديدا وسئم الحياة فتنازل عن الملك لابنه (محمد) البالغ من العمر أربع عشرة سنة، وسافر هو إلي ولاية آيدين للإقامة بعيدا عن هموم الدنيا وغمومها.

لكنه لم يلبث فيها، لأن عساكر الانكشارية ازدروا بملكهم الفتي (محمد الثاني) وعصوه، ونهبوا مدينة أدرنة عاصمة الدولة، فرجع إليهم (السلطان مراد الثاني) في أوائل سنة 849 ه وأخمد فتنتهم. وخوفا من رجوعهم إلي إقلاق راحة الدولة أراد أن يشغلهم بالحرب فأغار علي بلاد اليونان.

وقد توفي في يوم 5 محرم سنة 855 ه وتولي بعده ابنه (السلطان أبو الفتح محمد الثاني) ونقلت جثته إلي مدينة بورصة وسنّه 49 ومدة حكمه 30 سنة.

السلطان محمد الثاني

ولد هذا السلطان في 26 رجب سنة 833 ه وهو سابع سلاطين هذه السلالة الملوكية.

وبعد أن أمر بنقل جثة والده إلي مدينة بورصة، لدفنها بها، أمر بقتل أخ له رضيع اسمه (أحمد)،

ولإرجاع (الأميرة مارا) الصربية إلي والدها.

ثم أخذ يستعد لتتميم فتح ما بقي من بلاد البلقان و مدينة القسطنطينية حتي تكون جميع أملاكه متصلة لا يتخللها عدو مهاجم أو صديق منافق.

لكنه قبل التعرض لفتح القسطنطينية أراد أن يحصن بوغاز البوسفور حتي لا يأتي لها مدد من مملكة طرابزون، وذلك بأن يقيم قلعة علي شاطيء البوغاز من جهة أوروبا تكون مقابلة للحصن الذي أنشأه (السلطان بايزيد ييلدرم) ببر آسيا.

ولما بلغ ملك الروم هذا الخبر أرسل إلي السلطان سفيرًا يعرض عليه دفع الجزية التي يقررها فرفض طلبه، وسعي [السلطان] في إيجاد سبب لفتح باب الحرب، ولم يلبث أن وجد هذا السبب بتعدي الجنود العثمانية علي بعض قري الروم ودفاع هؤلاء عن أنفسهم وقتل البعض من الفريقين.

فحاصر السلطان المدينة [القسطنطينية] في سنة 857 ه من جهة البر، بجيش يبلغ المأتين وخمسين ألف جندي، ومن جهة البحر بعمارة مؤلفة من مائة وثمانين سفينة، وأقام حول المدينة أربع عشرة بطارية طوبجية (مدفعية) وضع بها مدافع جسيمة صنعها صانع مجري شهير اسمه (أوربان) كانت تقذف كرات من الحجر.

فعند ذلك نبّه السلطان علي جيوشه بالاستعداد للهجوم في يوم 20 / ج1 / سنة 857 ه ووعد الجيوش بمكافأتهم عند تمام النصر وباقطاعهم أراضي كثيرة.

وفي الليلة السابقة لليوم المحدد أشعلت الجنود العثمانية الأنوار أمام خيامها للاحتفال بالنصرة، وظلوا طول ليلهم يهللون ويكبّرون. حتي إذا لاح الفجر صدرت إليهم الأوامر للهجوم، فهجم مائة وخمسون ألف جندي، وتسلقوا الأسوار حتي دخلوا المدينة من كل فج، وأعملوا السيف فيمن عارضهم. وقد أرّخ بعضهم هذا الفتح المبين (بلدة طيبة) سنة 857 ه وسميت المدينة إسلامبول أي تخت الإسلام أو مدينة الإسلام.

ثم دخل السلطان المدينة عند الظهر، فوجد الجنود

مشتغلة بالسلب والنهب وغيره، فأصدر أوامره بمنع كل اعتداء، فساد الأمن حالا.

ثم زار كنيسة (أياصوفيا) وأمر بأن يؤذن فيها بالصلاة إعلانا بجعلها مسجدا جامعا للمسلمين.

وبعد تمام الفتح علي هذه الصورة أعلن في كافة الجهات بأنه لا يعارض في إقامة شعائر ديانة المسيحيين، بل إنه يضمن لهم حرية دينهم وحفظ أملاكهم، فرجع من هاجر من المسيحيين وأعطاهم نصف الكنائس، وجعل النصف الآخر جوامع للمسلمين. ثم جمع أئمة دينهم لينتخبوا بطريقا لهم، فاختاروا (جورج سكولاريوس)، واعتمد السلطان هذا الانتخاب وجعله رئيسا لطائفة الأروام، واحتفل بتثبيته بنفس الأبهة والنظام الذي كان يعمل للبطارقة في أيام ملوك الروم المسيحيين، وأعطاه حرسا من عساكر الانكشارية ومنحه حق الحكم في القضايا المدنية والجنائية بكافة أنواعها المختصة بالاروام، وعين معه في ذلك مجلسا مشكلا من أكبر موظفي الكنيسة، وأعطي هذا الحق في الولايات للمطارنة والقسوس، وفي مقابلة هذه المنح فرض عليهم دفع الخراج مستثنيا من ذلك أئمة الدين فقط.

ولما عاد إليها جهز جيشا لمحاربة أمير الفلاخ المدعو (فلاد دره قول) أي الشيطان، لمعاقبته علي ما ارتكبه من الفظائع مع أهالي بلاده والتعدي علي تجار العثمانيين النازلين بها. فلما قرب منها أرسل إليه هذا الأمير وفدا يعرض علي السلطان دفع جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوكا بشرط أن يصادق علي جميع الشروط الواردة بالمعاهدة التي أبرمت في سنة 795 ه بين أمير الفلاخ إذ ذاك (السلطان بايزيد).

فقبل (السلطان محمد الثاني) هذا الاقتراح وعاد بجيوشه ولم يقصد أمير الفلاخ بهذه المعاهدة إلا التمكن من الاتحاد مع ملك المجر ومحاربة العثمانيين. فلما علم السلطان باتحادهما أرسل إليه مندوبين يسألانه عن الحقيقة فقبض عليهما وقتلهما بوضعهما علي عمود محدد من الخشب (خازوق).

وأغار بعدها علي بلاد بلغاريا

التابعة للدولة، وعثا فيها الفساد، ورجع بخمسة وعشرين ألف أسير، فأرسل إليه السلطان يدعوه إلي الطاعة وإخلاء سبيل الأسري، فلما مثل الرسل أمامه أمرهم برفع عمائمهم لتعظيمه وعند إبائهم طلبه لمخالفته لعوائدهم أمر بان تسمر عمائمهم علي رؤوسهم بمسامير من حديد.

فلما وصلت هذه الأخبار إلي (السلطان محمد) استشاط غضبا وسار علي الفور بمائة وخمسين ألف مقاتل لمحاربة هذا الشقي الظلوم، فوصل في أقرب وقت إلي مدينة (بخارست) عاصمة الأمير بعد أن هزمه وفرق جيوشه لكنه لم يتمكن من القبض عليه لمجازاته علي ما اقترفه من المظالم والمآثم، لهروبه والتجائه إلي ملك المجر فنادي السلطان بعزله ونصب مكانه أخاه (راوول) لثقته به بما أنه تربي في حضانة السلطان منذ نعومة أظفاره، وبذا ضمت بلاد الفلاخ إلي الدولة.

ويقال إن عند وصول (السلطان محمد) إلي ضواحي (بخارست) وجد حول المدينة جثث الأسري الذين أتي بهم أمير الفلاخ من بلاد بلغاريا وقتلهم عن آخرهم بما فيهم الأطفال والنساء وكان عددهم جميعا عشرين ألفا.

وبعد ذلك أخذ (البابا بيوس الثاني) يسعي في تحريض الأمم المسيحية علي محاربة المسلمين حربا دينية، لكن عاجله المنون قبل إتمام مشروعه. إلا أن تحريضاته هاجت (اسكندر بك) الألباني فحارب الجنود العثمانية وحصل بينهما عدة وقائع أهرق فيها كثير من الدماء وكانت الحرب فيها سجالا.

وفي سنة 871 ه توفي (اسكندر بك) بعد أن حارب الدولة العثمانية خمسا وعشرين سنة بدون أن تقوي علي قمعه، فكان من أشد خصوم الدولة وألد أعدائها.

وكانت الحرب متقطعة بين العثمانيين والبنادقة الذين استعانوا ببابا رومه وأمير نابولي ومع كل فكان النصر دائما للعثمانيين ولم يتمكن البنادقة من استرجاع شيء مما أخذ منهم. وفي سنة 880 ه أراد السلطان فتح بلاد البغدان فأرسل

إليها جيشا بعد أن عرض دفع الجزية علي أميرها المسمي (اسطفن الرابع) ولم يقبل.

وبعد محاربة عنيفة قتل فيها كثير من الجيشين المتحاربين عادت الجيوش العثمانية بدون فتح شيء من هذا الإقليم.

وبعد أن تم الصلح مع البنادقة وجهت الجيوش إلي بلاد المجر لفتح إقليم ترنسلفانيا، فقهرها كينيس كونت مدينة تمسوار بالقرب من مدينة كرلسبرج في سنة 881 ه، وقتل في هذه الموقعة كثير من العثمانيين وارتكب المجر فظائع وحشية بعد الانتصار فقتلوا جميع الأسري ونصبوا موائدهم علي جثثهم.

وفي يوم 4 ربيع الأول سنة 886 ه توفي أبو الفتح (السلطان محمد الثاني الغازي) عن ثلاث وخمسين سنة، حكمه 31 سنة، تمم في خلالها مقاصد أجداده، ففتح القسطنطينية وزاد عليها فتح مملكة طرابزوم الرومية والصرب والبوشناق وألبانيا (الأرنؤود) وجميع أقاليم آسيا الصغري ولم يبق في بلاد البلقان إلا مدينة بلغراد التابعة للمجر وبعض جزائر تابعة للبنادقة، ودفن في المدفن المخصوص الذي أنشأه في أحد الجوامع التي أسسها في الآستانة.

وأهم أعماله المدنية ترتيب وظائف القضاء، من أكبر وظيفة وهي قضاء الروملي إلي أقل وظيفة. ووضع أول مباديء القانون المدني وقانون العقوبات فأبدل العقوبات البدنية، أي ?العين بالعين… والسن بالسن? وجعل عوضها الغرامات النقدية.

السلطان بايزيد خان الثاني

توفي (السلطان أبو الفتح محمد الثاني) عن ولدين، أكبرهما (بايزيد) المولود سنة 851 ه و كان حاكما في باماسيا.

وثانيهما (جم) المشهور في كتب الإفرنج باسم البرنس (زيزيم) وكان حاكما في القرمان. فأخفي الصدر الأعظم (قرماني محمد باشا) موت (السلطان محمد) حتي يأتي بِكر أولاده (بايزيد). ولكنه لشدة ارتباطه ومودته بالأصغر أرسل إليه سرا يخبره بموت أبيه كي يحضر قبل أخيه الأكبر ويستلم مقاليد الدولة.

ولما أذيع هذا الخبر ثار الانكشارية علي هذا الوزير وقتلوه وعثوا في المدينة

سلبا ونهبا وأقاموا ابن (السلطان بايزيد) واسمه (كركود) نائبا عاما عن أبيه لحين حضوره و ذلك في يوم 5 ربيع الأول سنة 886 ه.

وفي يوم 13 ربيع الأول وصل الرسول إلي (بايزيد) فسافر في اليوم التالي بأربعة آلاف فارس، ووصل القسطنطينية بعد مسير تسعة أيام، مع أن المسافة تبلغ 160 فرسخا تقطع عادة في نحو 15 يوما، فقابله أمراء الدولة وأعيانها عند بوغاز (مضيق) البوسفور، وفي أثناء اجتيازه البوغاز أحاطت به عدة قوارب ملأي بالانكشارية وطلبوا منه عزل أحد الوزراء المدعو(مصطفي باشا) وتعيين (اسحاق باشا) ضابط القسطنطينية مكانه فأجاب طلبهم.

وكذلك عند وصوله إلي السراي الملوكية وجدهم مصطفين أمامها طالبين العفو عنهم فيما وقع من قتل الوزير ونهب المدينة وأن ينعم عليهم بمبلغ سرورا بتعيينه فأجابهم إلي جميع مطالبهم. وصارت هذه سنّة لكل من تولي بعده إلي أن أبطلها (السلطان عبد الحميد خان الأول) سنة 1187ه.

أما الرسول الذي كان أرسله الوزير (محمد) إلي الأمير (جم)، فقبض عليه (سنان باشا) حاكم (الأناطول) وقتله حتي لا يصل خبر موت (السلطان محمد) إليه.

وكانت أول حروبه داخلية وذلك أن أخاه (جما) لما بلغه خبر موت أبيه سار علي الفور مع من حاز به ولاذ به قاصدا مدينة بورصة، فدخلها عنوة بعد ان هزم ألفي انكشاري.

ثم أرسل إلي أخيه يعرض عليه الصلح بشرط تقسيم المملكة بينهما فيختص (جم) بولايات آسيا و(بايزيد) باوروبا، فلم يقبل (بايزيد) بل أتي إليه وقهره بالقرب من مدينة (يكي شهر) في يوم 23 جمادي الأولي سنة 886 ه وتبعه حتي أوصله إلي تخوم البلاد التابعة لمصر.

وفي عودته إلي عاصمته طلب منه الانكشارية أن يبيح لهم نهب مدينة بورصة مجازاة لها علي قبولها الأمير (جما) فلم يوافقهم علي

ذلك، وخوفا من حصول شغب منهم دفع إلي كل نفر منهم قرشين. فأقام (جم) هذه السنة بالقاهرة ضيفا عند (السلطان قايدباي) ثم عاد في السنة الثانية إلي حلب، و منها راسل (قاسم بك) آخر ذرية أمراء القرمان ووعده أنه لو أنجده وساعده للحصول علي ملك آل عثمان يرد له بلاد أجداده، فاغتر(قاسم بك) بهذه الوعود وجمع أحزابه وسار مع (الأمير جم) لمحاصرة مدينة قونيه عاصمة بلاد القرمان، فصدهم عنها القائد العثماني (كدك أحمد باشا) فاتح مدينتي كافا واوترنت وألزم الأمير(جما) بالفرار.

ثم حاول هذا الأمير الصلح مع أخيه بشرط إقطاعه بعض الولايات. ولما رفض السلطان هذا الطلب الذي لا يكون وراءه إلا انقسام الدولة، أرسل (الأمير جما) رسولا من طرفه إلي رئيس رهبنة القديس (حنا الأورشليمي) برودوس يطلب منه مساعدته علي أغراضه، فقبلوه عندهم بالجزيرة. ووصل إليها في 6 جمادي الثانية سنة 887 ه وقابله أهلها بكل تجلة واحترام.

وبعد قليل وصلت إلي الجزيرة وفود من (السلطان بايزيد) لمخابرة رئيس الرهبنة علي إبقاء أخيه (جما) عندهم تحت الحفظ، وفي مقابلة ذلك يتعهد لهم السلطان بعدم التعرض لاستقلال الجزيرة مدة حياته ويدفع مبلغا سنويا للرهبنة المذكورة قدره 45 ألف دوكا، فقبل لرئيسهم ذلك وأوفوا بوعدهم ولم يقبلوا تسليمه إلي ملك المجر أو إمبراطور ألمانيا اللذين طلبا إطلاق سراحه ليستعملاه آلة في إضعاف الدولة العثمانية، بل أرسله رئيس الرهبنة إلي فرنسا، ووضع تحت الحفظ أولا في مدينة نيس ثم في شمبري، وبقي ينقل من بلدة لأخري مدة سبع سنوات. وفي سنة 893 ه سلمه رئيس الرهبنة إلي (البابا أنوسان الثامن)، وهو خابر (السلطان بايزيد) طالبا أن يحفظه عنده وتدفع إليه الدولة ما كانت تدفعه إلي رهبنة رودس فقبلت، ثم

مات هذا البابا وخلفه (إسكندر بورجيا) الشهير.

وفي هذه الأثناء حاصر ملك فرانسا مدينة رومة وطلب من البابا أن يسلمه (الأمير جما) العثماني فسلمه إليه. ويقال أنه دس له السم قبل تسليمه إليه، وما فتئ هذا الأمير مصاحبا لجيوش فرانسا حتي توفي في يوم 18 جمادي الأول سنة 900ه في مدينة نابولي، ودفن في بلدة (جاييت) بإيطاليا، ثم نقلت جثته بعد ذلك بمدة إلي البلاد العثمانية ودفن في مدينة بورصة في قبور أجداده. وتوفي عن 36سنة قضي منها 13 في هذه الحالة الشبيهة بالأسر خارجا عن بلاده.

وفي عهد هذا السلطان ابتدأت علاقات الدولة مع مملكة الروس، وابتدأت العلاقات بينها وبين الدولة العثمانية في سنة 897ه حيث وصل إلي القسطنطينية أول سفير روسي ومعه جملة هدايا للسلطان. وبعد ذلك بأربع سنوات أتي إليها سفير آخر واستحصل من الدولة علي بعض امتيازات لتجار الروس.

ولقد تكدر صفاء حياة الملك في سني حكمه الأخيرة بعصيان أولاده عليه وإضرامهم نار الحروب الداخلية التي لولا ما وقع في قلوب أعدائها من الرعب لكانت هذه الحروب العائلية فرصة عظيمة لهم. وذلك أن (السلطان بايزيد الثاني) كان له ثمانية أولاد ذكور، توفي منهم خمسة في صغرهم، وبقي ثلاثة، وهم: (كركود) و(أحمد) و(سليم).

وكان أولهم مشتغلا بالعلوم و الآداب ومجالسة العلماء ولذا كان يمقته الجيش لعدم ميله للحرب، والثاني كان محبوبا لدي الأعيان والأمراء وكان (علي باشا) أكبر الوزراء مخلصا له، وكان ثالثهم وهو (سليم) محبا للحرب ومحبوبا لدي الجند عموما والانكشارية خصوصا.

ولاختلافهم في المشارب والآراء خشي والدهم وقوع الشقاق بينهم، ففرق بينهم وعين (كركود) واليا علي إحدي الولايات البعيدة و(أحمد) علي أماسيا و(سليما) علي طرابزون. وعين أيضا (سليمان) ابن ابنه (سليم) واليا علي (كافا) من

بلاد القرم فلم يرض (سليم) بهذا التعيين بل ترك مقر وظيفته وسافر إلي كافا بالقرم وأرسل إلي أبيه يطلب منه تعيينه في إحدي ولايات أوروبا، فلم يقبل السلطان بل أصر علي بقائه بطرابزون، فعصي (سليم) والده جهارا، وسار بجيش جمعه من قبائل التتر إلي بلاد الروملي وأرسل والده جيشا لإرهابه. ولما وجد من ابنه التصميم علي المحاربة قبل تعيينه بأوروبا حقنا للدماء وعينه واليا علي مدينتي (سمندرية) و(ودين) سنة 917ه.

ولما وصل إلي (كركود) خبر نجاح أخيه (سليم) في مقاومته انتقل إلي ولاية صاروخان، واستلم إدارتها بدون أمر أبيه، ليكون قريبا من القسطنطينية عند الحاجة.

ثم سار(سليم) إلي (أدرنه) وأعلن نفسه سلطانا عليها، فأرسل والده إليه من هزمه وألجأه إلي الفرار ببلاد القرم. وأرسل جيشا آخر لمحاربة (كركود) بآسيا فهزمه أيضا.

لكن التزم (السلطان بايزيد) بالعفو عن ابنه (سليم) بناء علي إلحاح الانكشارية لتعلقهم به وإعادته إلي ولاية سمندرية.

وفي أثناء توجه (سليم) إليها قابله الانكشارية وأتوا به إلي القسطنطينية باحتفال زائد وساروا به إلي سراي السلطان وطلبوا منه التنازل عن الملك لولده المذكور، فقبل واستقال في يوم 8 صفر سنة 918ه وبعد ذلك بعشرين يوما سافر للإقامة ببلدة ديموتيقا فتوفي في الطريق يوم 10 ربيع الأول سنة 918ه عن 67سنة، ويدعي بعض المؤرخين أن ولده دس إليه السم خوفا من رجوعه إلي منصة الملك. ومدة حكمه 32سنة كما فعل (السلطان مراد الثاني) الذي سبق ذكره.

السلطان سليم الأول

لما كان تعيينه بمساعي الانكشارية يقتضي توزيع المكافآت عليهم حسب المعتاد، أعطي لكل نفر منهم خمسين دوكا، ثم عين ابنه (سليمان) حاكما للقسطنطينية، وسافر بجيوشه إلي بلاد آسيا لمحاربة اخوته وأولاد اخوته حتي يهدأ باله بداخليته ولم يبق له منازع في الملك، فاقتفي

أثر أخيه (أحمد) إلي أنقرة، ولم يتمكن من القبض عليه، لوجود علاقات بينه وبين الوزير (مصطفي باشا) الذي كان يخبره بمقاصد السلطان. لكن علم السلطان بهذه الخيانة فقتل الوزير شر قتلة جزاء له وعبرة لغيره ثم ذهب إلي بورصة حيث قبض علي خمسة من أولاد إخوته وأمر بقتلهم.

وبعدها توجه بكل سرعة إلي صاروخان مقر أخيه كركود ففرمنه إلي الجبال وبعد البحث عليه عدة أسابيع قبض عليه وقتل.

أما (أحمد) فجمع جيشا من محازبيه وقاتل العساكر العثمانية فانهزم وقتل بالقرب من مدينة (يكي شهر) في يوم 17صفر سنة 919ه. ولما اطمأن خاطره من جهة داخليته عاد إلي مدينة ادرنة حيث كان بانتظار سفراء من البندقية والمجر والموسكو وسلطنة مصر، فابرم مع جميعهم هدنة لمدد طويلة بما أن مطامعه كانت متجهة إلي بلاد الفرس التي كانت أخذت في النمو والارتقاء في عصر ملكها (شاه إسماعيل) الشيعي، فإنه فتح ولاية شيروان وجعل مركزه مدينة تبريز سنة 914ه وبعدها فتح العراق العربي وبلاد خراسان وديار بكر سنة 914ه وأرسل أحد قواده فاحتل مدينة بغداد. وفي سنة 916ه ضم إلي أملاكه بلاد فارستان وآذربيجان وبذلك امتدت مملكته من الخليج الفارسي إلي بحر الخزر ومن منابع الفرات إلي ما وراء نهر اموداريا.

[قتل الشيعة]

ولإيجاد سبب للحرب مع ايران أمر (السلطان سليم) بحصر عدد الشيعة المنتشرين في الولايات المتاخمة لبلاد العجم بطريقة سرية، ثم أمر بقتلهم جميعا. ويقال أن عددهم كان يبلغ نحو الأربعين ألفا وهذه المذبحة كالمذبحة التي حصلت بباريس في 5 / ج1 / سنة 980ه المشهورة في التواريخ بمذبحه سان برتليمي.

وبعد ذلك أعلن (السلطان سليم) (الشاه إسماعيل) بالحرب وسافر بجيوشه من مدينة أدرنه في 22 محرم سنة 920ه. وفي أثناء مسيره

تبادل مع الشاه رسائل مفعمة بالسباب.

وسار الجيش العثماني تحت قيادة (السلطان سليم) نفسه كما جرت به العادة قاصدا مدينة تبريز عاصمة العجم، وكانت الجيوش الفارسية تتقهقر أمامه خدعة منهم لينهك التعب الجيوش العثمانية فينقضوا عليهم. واستمروا في تقهقرهم إلي أرباض تبريز فوقع القتال بين الجيشين في وادي (جان دران) في 2 رجب سنة 920 ه فانتصرت الجيوش العثمانية نصرا مبينا لمساعدة الطويجية لها، وفر الشاه بما بقي من جيوشه ووقع كثير من قواده في الأسر وأسرت أيضا إحدي زوجاته ولم يقبل السلطان أن يردها لزوجها بل زوجها لأحد كاتبي يده انتقاما من الشاه.

وفتحت المدينة أبوابها ودخلها السلطان في يوم 14 رجب سنة 920 ه واستولي علي خزائن الشاه وأرسلها إلي القسطنطينية. وكذلك أرسل إليها أربعين شخصا من أمهر صناع هذه المدينة.

وعندما أقبل الربيع بنضارته رجع السلطان إلي بلاد العجم ففتح قلعة كوماش الشهيرة، وإمارة ذي القدر سنة 921ه، ثم رجع إلي القسطنطينية تاركا قوّاده لإتمام فتح الولايات الفارسية الشرقية.

ولما وصل إليها أمر بقتل عدد عظيم من ضباط الانكشارية الذين كانوا سبب الامتناع عن التقدم في بلاد فارس، كما سبق الذكر، خشية من امتداد الفساد وعدم الاطاعة في الجيوش، وأمر بقتل قاضي عسكر هذه الفئة واسمه (جعفر جلبي) لأنه كان من أكبر المحرّكين لهذا الامتناع.

وبعد عودة السلطان إلي القسطنطينية فتحت الجيوش العثمانية مدائن ماردين واورفه والرقة والموصل وبذا تم فتح إقليم ديار بكر.

ولم ينته (السلطان سليم) من محاربة الشيعة وفتح بلاد ديار بكر والموصل حتي أخذ في الاستعداد لفتح سلطنة مصر وسلطانها (قانصوه الغوري)، وكان الغوري استعد أيضا لمحاربته، فتقابل الجيشان وهُزِمَ (الغوري) وساعدت المدافع العثمانيين علي النصر وقُتِلَ (الغوري) في أثناء انهزام الجيش وسنّه ثمانون

سنة. وكان ذلك في يوم الأحد 25 رجب سنة 922ه.

وبعد هذه الموقعة احتل (السلطان سليم) بكل سهولة مدائن حماه وحمص ودمشق، وعين بها ولاة من طرفه.

وفي يوم 8 محرم سنة 923ه دخل العثمانيون مدينة القاهرة رغما عن مقاومة المماليك الذين حاربوهم من شارع لآخر ومن منزل لآخر، حتي قتل منهم ومن أهالي البلد ما يبلغ خمسين ألف نسمة.

ومما جعل لفتح وادي النيل أهمية تاريخية عظمي أن (محمد المتوكل علي الله) آخر ذرية الدولة العباسية الذي حضر أجداده لمصر بعد سقوط مدينة بغداد مقر خلافة بني العباس في قبضة (هولاكو خان التتري) سنة 656ه وكانت له الخلافة بمصر اسماً، تنازل عن حقه في الخلافة الإسلامية إلي (السلطان سليم العثماني) وسلّمه الآثار النبوية الشريفة وهي البيرق والسيف والبردة. وسلمه أيضا مفاتيح الحرمين الشريفين، ومن ذلك التاريخ صار كل سلطان عثماني أميرا للمؤمنين وخليفة لرسول رب العالمين (صلي الله عليه وآله وسلم) اسماً.

وتمكنت الدولة العثمانية من إبقاء الديار المصرية تحت تصرفها نحو مأتي سنة، ثم أهملت ولم تلتفت الدولة لما كان يحصل من المماليك من الأمور المخلّة بالنظام، فضعفت شوكة الدولة وهيبتها التي كانت لها علي مصر، وأخذ البكوات تكثر من المماليك وتتقوي بها حتي فاقت بقوتها الدولة العثمانية في الديار المصرية، فآل الأمر والنهي لهم في الحكومة وصارت الدولة صورية غير حقيقية وكان من سبب ذلك إكثارهم من شراء المماليك.

ولو كانت الدولة تنبهت لهذا الأمر ومنعت بيع الرقيق لكانت الأمور باقية علي ما وضعها (السلطان سليم) ولكن غفلت عن هذا الأمر كما غفلت عن أمور كثيرة، ومن ذلك لحق الأهالي الذل والإهانة وهاجر كثير منهم إلي الديار الشامية والحجازية وغيرهما، وخربت البلاد وتعطلت الزراعة من قلة المزارعين

وعدم الاعتناء بتطهير الجداول والخلجان التي عليها مدار الخصب. ونتج من ذلك ومن خوف الدولة من تمكن (الباشا) في الحكومة أن تغلبت البكوات وصارت كلمتهم هي النافذة وانفردوا بالتصرف.

وفي أوائل شهر سبتمبر (ايلول) سنة 923ه سافر (السلطان سليم) من القاهرة عائداً إلي القسطنطينية، التي صارت من ذلك الوقت مقر الخلافة الاسلامية العظمي، وفي أثناء مروره بصحراء العريش التفت لوزيره الأكبر (يونس باشا) الذي كان فتح مصر علي غير رأيه و قال له ما معناه: أنه قد أتم فتحها خلافا لرأيه، فجاوبه (يونس باشا) بأن فتحها لم يعد عليه بشيء إلا قتل نحو نصف الجيش بما أنه سلمها لخائن كان غرضه التملك عليها لنفسه فلا يؤمن ولاؤه للدولة، فغضب السلطان من هذا الكلام الموجه إليه بصفة لوم وأمر بقتله في الحال فقتل.

وفي أثناء إقامة السلطان بمدينة أدرنه وصل إليه سفير من قبل مملكة إسبانيا ليخابره بشأن حرية زيارة المسيحيين للقدس الشريف، الذي كان قبلا تابعا لسلطنة مصر وتبعها في دخولها تحت ظل الدولة في مقابلة دفع المبلغ الذي كان يدفع سنويا للمماليك، فأحسن السلطان مقابلته وصرح بقبوله ذلك إذا أرسل ملكه رسولا آخر مخولا له حق ابرام معاهدة مع الباب العالي.

وكان في هذه المدة مشتغلا بتجهيز عمارة بحرية لمعاودة الكرة علي جزيرة رودس بحرا، وكان يستعد أيضا لمحاربة شاه العجم ثانيا، فجمع خمسة عشر ألف فارس بمدينة قيصرية وضم إليهم ثلاثين ألف جندي من المشاة تحت قيادة (فرحات باشا) بيلر بك الأناطول، وأرسل إليهم عددا عظيما من المدافع والذخائر، لكن لم يمهله المنون بل عاجله في رحلته من القسطنطينية إلي أدرنة، فتوفي في يوم 9شوال سنة 926ه وأخفي طبيبه الخصوصي خبر موته عن الحاشية ولم يبلغه

إلا للوزراء، فاجتمع كل من (بيرمحمدباشا) و(أحمدباشا) و(مصطفيباشا) وقرروا إخفاء هذا الأمر حتي يحضر ولده (سليمان) من إقليم صاروخان، خوفا من أن تثور الانكشارية كما هي عادتهم.

فكانت مدة حكمه كمدة حكم جده (محمد الفاتح). وكان ميالا لسفك الدماء، فقتل سبعة من وزرائه لأسباب واهية. وكان كل وزير مهددا بالقتل لأقل هفوة، حتي صار يدعي علي من يرام موته بأن يصبح وزيرا له.

السلطان سليمان خان الأول

السلطان سليمان خان الأول

ولد هذا الملك غرة شعبان سنة 900ه وهو عاشر ملوك آل عثمان. وبمجرد وصول خبر موت أبيه قام قاصدا القسطنطينية ودخلها في يوم 16 شوال سنة 926ه وكان في انتظاره علي إفريز السراي جنود الانكشارية فقابلوه بالتهليل وطلب الهدايا المعتاد توزيعها عليهم عند تولية كل ملك، وبعد ظهر ذلك اليوم حضر (بيرمحمدباشا) من أدرنه وأخبر عن وصول جثة (السلطان سليم) في اليوم التالي.

وفي صبيحة 17 شوال جرت رسوم المقالات السلطانية، فوفد الأمراء و الوزراء والأعيان يعزون السلطان بموت والده ويهنئونه بالخلافة في آن واحد وهو يقابلهم بملابس الحداد. وعند الظهر وصل إليه خبر قدوم الجثة فخرج لمقابلة النعش خارج الدينة وسار في الجنازة حتي واروها التراب علي أحد مرتفعات المدينة، وأمر ببناء جامع شاهق وهو جامع سليمية ومدرسة في المحل الذي دفن فيه.

وكانت باكورة أعماله بعد توزيع النقود علي الانكشارية تعيين مربيه (قاسم باشا) مستشارا خاصا، وإبلاغ توليته علي عرش الخلافة العظمي إلي كافة الولاة وأشراف مكة والمدينة بخطابات مفعمة بالنصائح والآيات القرآنية المبينة فضل العدل والقسط في الأحكام ووخامة عاقبة الظلم، وكان يستهل خطاباته بالآية الشريفة: ?إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم?.

ثم أخذ السلطان في الاستعداد برا وبحرا لفتح جزيرة رودس التي لم يتمكن (السلطان محمد الفاتح) من فتحها لتكون

حلقة اتصال بين القسطنطينية ومصر من جهة البحر، ولكي لا يكون للمسيحيين مركز حصين في وسط بلاده تلجأ إليه عمارات الدول المعادية للدولة وقت الحرب، وأراد الإسراع في تتميم هذا العمل العظيم الذي عجز أسلافه عنه لوجود ملوك أوروبا مشتغلين في جهات أخري لا يمكنهم مساعدة الرهبنة المحتلة لها. فكان ملك فرانسا (فرانسوا الأول) وشارل الخامس الشهير ب (شار لكان) ملك إسبانيا وألمانيا معا مشتغلين بمحاربة بعضهما، والبابا (لاون) العاشر مشتغلا مجادلة ومقاومة الراهب الألماني (لوثر) مؤسس مذهب البروتستانت، وبلاد المجر مضطربة في الداخل بسبب عدم اتفاق أمرائها وأعيانها وصغر سن ملكها (لويس الثاني)، كل هذه الأسباب حملت السلطان علي انتهاز هذه الفرصة لفتح هذا الحصن المنيع لكن اقتضت شفقته أن يرسل إلي رئيس الرهبنة قبل الشروع في الحرب كتابا يعرض عليه إخلاء الجزيرة والانسحاب منها بكل من معه من المسيحيين الذين يؤثرون المهاجرة علي البقاء متعهدا له بعدم التعرض لأنفسهم ولأموالهم، ولما لم يقبل رئيسهم هذا الاقتراح أمر السلطان العمارة البحرية فأقلعت قاصده رودس، وسافر هو من طريق البر إلي خليج (مرمورا) المقابل للجزيرة من جهة آسيا، ولما أعيت الحيل رئيس هذه الرهبنة واسمه (فيلي دي ليل أدام) الفرنساوي الأصل ونفدت مؤونته وذخائره أرسل اثنين من رهبانه إلي السلطان في 2 صفر سنة 929ه يطلب منه السماح لهم بإخلاء الجزيرة في مدة اثني عشر يوما بشرط أن تبتعد الجيوش العثمانية عن المدينة المحصورة مسافة ميل من كل جهاتها حتي لا يحصل للمحصورين ضرر عند خروجهم فقبل السلطان ذلك، لكن في الخامس منه دخل المدينة فريق من الانكشاري رغم أوامر السلطان واحتلوا المدينة، وارتكبوا كافة أنواع القبائح حسب عادتهم، فغضب السلطان وأمر بمراعاة شروط التسليم

وعاقب المفسدين، فأعيد الأمن وسادت السكينة. وفي اليوم التالي قابل السلطان رئيس الرهبنة وأنعم عليه بخلعة سنية. وفي يوم 13 صفر سنة 929ه سافرت هذه الفئة الممحضة نفسها للدفاع عن الدين المسيحي ومحاربة المسلمين قاصدة جزيرة مالطة التي تنازل لها عنها (الملك شاركان) واستمرت هذه الرهبنة نازلة بها حتي احتلها (بونابرت) عند قدومه مصر سنة 1213ه.

وعين الخليفة (أحمد باشا) واليا علي مصر لوفاة (خير بك) في الوقت الذي كان فيه السلطان محاصرا لجزيرة (رودس)، ولما وصل (أحمد باشا) إلي القاهرة أخذ في استمالة من بقي من أمراء المماليك إليه بإقطاعهم الأراضي وإغضائه عما يرتكبونه من أنواع الآثام والمظالم.

ولما تحقق من إخلاصهم أعلن العصيان مرة واحدة واستولي علي القلعة بعد قتل حاميتها، فأرسل إليه السلطان أمرا بعزله من ولاية مصر وبالعود إلي الآستانة وتسليم الولاية لخلفه (قره موسي)، فقتل الرسول و(قره موسي) الوالي الجديد. ثم خانه أحد وزرائه واسمه (محمد بك) وأراد القبض عليه فهرب واختفي عند عرب البادية، فاقتفي أثره حتي ضبطه وقتله وأرسل رأسه إلي الآستانة، فعين بدله (قاسم باشا) الوالي الأسبق وكوفيء (محمد بك) بتقليده وظيفة (دفتر دار الولاية) سنة 1214 ه.

هذا وفي 25 مارس سنة 931ه تذمر الانكشارية بعد عودة السلطان من مدينة (أدرنة) التي كان توجه إليها للإقامة بها في فصل الشتاء ونهبوا سراي (إبراهيم باشا)، الصدر الأعظم الذي كان إذ ذاك بمصر، ومحل الجمرك وعدة أماكن أخري من منازل الأعيان وحارة اليهود، ولولا أن تدارك السلطان الخطب بنفسه لأمتد العصيان، لكنه أسكتهم عن السلب والنهب بتوزيع ألف (دوكا) عليهم، ثم بعد ذلك عزل بعض رؤسائهم الذين كانوا سبب هذا العصيان، وقتل بعضهم.

وقابل (السلطان سليمان) السفير الفرانساوي في 6 ديسمبر سنة

931ه باحتفال زائد وأجزل له العطايا، وبعد أن عرض عليه السفير مطالب ملكه وعده السلطان بمحاربة المجر، لكن لم تمض بينهما معاهدة بل اكتفي السلطان بأن كتب لملك فرانسا بتاريخ أوائل ربيع الثاني سنة 932ه جوابا يظهر له فيه استعداده لمساعدته وهذه صورته نقلا عن ترجمة الجزء الأول من تاريخ (جودت باشا):

الله العلي المعطي المغني المعين

(بعناية حضرة عزة الله جلت قدرته وعلت كلمته، وبمعجزات سيد زمرة الأنبياء وقدوة فرقة الأصفياء محمد المصطفي الكثيرة البركات، وبمؤازرة قدس أرواح حماية الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله تعالي عليهم أجمعين، وجميع أولياء الله، أنا سلطان السلاطين وبرهان الخواقين متوج الملوك، ظل الله في الأرضين، سلطان البحر الأبيض والبحر الأسود، والأناضول والروملي وقرمان الروم وولاية (ذي القدرية) و(ديار بكر) و(كردستان) و(أذربيجان) و(العجم) و(الشام) و(حلب) و(مصر) و(مكة والمدينة والقدس) وجميع ديار العرب واليمن وممالك كثيرة أيضا، التي فتحها آبائي الكرام وأجدادي العظام بقوتهم القاهرة، أنار الله براهينهم، وبلاد أخري كثيرة افتتحتها يد جلالتي بسيف الظفر، أنا السلطان (سليمان خان) بن السلطان (سليم خان) بن السلطان (بايزيد خان) إلي (فرنسيس) ملك ولاية فرنسا: وصل إلي أعتاب ملجأ السلاطين المكتوب الذي أرسلتموه مع تابعكم (فرانقبان النشيط) مع بعض الأخبار التي أوصيتموه بها شفاهيا وأعلمنا أن عدوكم استولي علي بلادكم وأنكم الآن محبوسون وتستدعون من هذا الجانب مدد العناية بخصوص خلاصكم، وكل ما قلتموه عرض علي أعتاب سرير سدتنا الملوكانية وأحاط به علمي الشريف علي وجه التفصيل فصار بتمامه معلوما، فلا عجب من حبس الملوك وضيقهم فكن منشرح الصدر ولا تكن مشغول الخاطر فان آبائي الكرام وأجدادي العظام نور الله مراقدهم لم يكونوا خالين من الحرب لأجل فتح البلاد ورد العدو ونحن أيضا سالكون

علي طريقتهم، وفي كل وقت نفتح البلاد الصعبة والقلاع الحصينة، وخيولنا ليلا ونهارا مسروجة، وسيوفنا مسلولة، فالحق سبحانه وتعالي ييسر الخير بإرادته ومشيئته، وأما باقي الأحوال والأخبار تفهمونها من تابعكم المذكور فليكن معلومكم هذا)

تحريرا في أوائل شهر آخر الربيعيين سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة.

بمقام دار السلطنة

القسطنطينية المحروسة المحمية

فتح بلاد المجر وعاصمتها

وحارب الخليفة بلاد المجر، فأخذوا في التقهقر تتبعهم العساكر المظفرة حتي قتل اغلب الفرسان المجرية وقتل ملكهم ولم يعثر علي جثته.

فكانت هذه الواقعة سبب ضياع استقلال بلاد المجر بأسرها لعدم وجود جيش آخر يقوم العثمانيين في مسيرهم، ولحصول الفوضي في البلاد بسبب موت سلطانهم، ولذلك أرسل أهالي مدينة (بود) عاصمة المجر مفاتيح المدينة إلي السلطان فاستلمها، وانتشرت الجنود في جميع أنحاء المدينة وفي جميع أرجاء بلاد المجر ناهبين قاتلين مرتكبين كل الفظائع التي ترتكبها الجيوش غير المنتظمة عقب الانتصار.

وبعد دخول السلطان إلي مدينة (بود) جمع أعيان القوم وأمراءهم ووعدهم بأن يعين (جان زابولي) أمير(ترانسلفانيا) ملكا عليهم ثم غادر إلي مقر خلافته مستصحبا معه كثيرا من نفائس البلاد وأهمها الكتب التي كانت موجودة في خزائن (متياس كورفن).

وكذلك فعل (نابليون) حينما دخل مصر في أوائل القرن الثالث عشر من الهجرة فانه أخذ كثيرا من كتب الفقه وأحكام الشريعة الغراء.

ثم أغار ملك النمسا علي المجر وفتح مدينة (بود) فسار الخليفة الأعظم إلي مدينة (بود) عاصمة المجر، فوصلها في 3 سبتمبر وابتدأ الحصار لكن لم يلبث (فردينان) ملك النمسا أن فر هاربا من (بود) قاصدا مدينة (ويانه) عاصمة النمسا، وفي الثامن منه طلب قائد الحامية النمساوية بمدينة (بود) تسليم المدينة وقلاعها إذا وعدهم السلطان بالسماح لهم بالخروج بدون تعرض لحياتهم، ولما أجابهم السلطان لذلك أخلوا المدينة، وفي حال خروجهم منها انقض عليهم

الانكشارية وقتلوا أغلبهم غير طائعين لأوامر رؤسائهم مهددين من رغب في منعهم من القواد والضباط.

ولنذكر هنا حادثة شنيعة وهي قتل السلطان لولده الأكبر (مصطفي) بناء علي دسيسة إحدي زوجاته المسماة في كتب الإفرنج (روكسلان) أما في كتب الترك فاسمها (خورم)، ذلك حتي يتولي بعده ابنها (سليم)، ولما لها من الثقة بالصدر الأعظم (رستم باشا) إذ كان تعيينه بمساعيها لدي السلطان بعد موت (إياس باشا) وما زالت تساعده حتي زوجه السلطان ابنته منه فكاشفته بمرغوبها، وهو تمهيد الطريق لتولي ابنها (سليم) فانتهز هذا الوزير فرصة انتشاب الحرب بين الدولة ومملكة العجم في سنة 960ه ووجود (مصطفي) ضمن قواد الجيش، وكتب إلي أبيه بأن ولده يحرض الانكشارية علي عزله وتنصيبه كما فعل (السلطان سليم الأول) مع أبيه (السلطان بايزيد الثاني)، فلما وصل هذا الخبر إلي السلطان، وكانت والدة (سليم) قد تمكنت من تغيير أفكاره نحوه، قام في الحال قاصدا بلاد العجم متظاهرا بأنه يريد أن يتولي قيادة الجيش، ولما وصل إلي المعسكر استدعي ولده المسكين إلي سرادقه في يوم 12 شوال سنة 960 ه، وبمجرد وصوله إلي الداخل خنقه بعض الحجاب المنوطين بتنفيذ مثل هذه الأوامر، فقتل شهيد دسائس زوجة والده وعدم تثبت أبيه مما نسب إليه.

ثم نقلت جثته إلي مدينة (بورصة) ودفنت مع جثث أجداده. ولم تكتف هذه المرأة بقتل (مصطفي سلطان) بل أرسلت إلي مدينة بورصة من قتل ابنه الرضيع. وقال في ذلك بعض الشعراء:

يا دهر ويحك ما أبقيت لي جلدا وأنت والد سوء تأكل الولدا

أما الإنكشارية فثاروا وطلبوا من السلطان قتل الوزير (رستم باشا) المدبر لهذه المكيدة حبا في حفظ منصبه، فعزله السلطان تسكينا لخاطرهم وولي مكانه الوزير (أحمد باشا). لكن لم يهدأ بال

زوجة السلطان حتي أغرت زوجها علي قتل هذا الوزير وإرجاع (رستم باشا) مكافأة له علي تنفيذ سيئ أغراضها، فقتله السلطان.

وكان للسلطان (سليمان) ابن آخر اسمه (جهانكير) حزن حزنا شديدا علي قتل أخيه مصطفي حتي توفي شهيد المحبة الأخوية بعد موت أخيه بقليل، واختلف في موته أنه قتل نفسه أمام والده بعد ان بكتّه علي قتل أخيه، وقيل غير ذلك.

ولم تكن هذه الحادثة خاتمة الفظائع، بل أعقبها بقتل ابنه الثاني (بايزيد) وأولاده الخمسة، وذلك أن مربّي (بايزيد) المدعو (لاله مصطفي) عين ناظر خاصة (سليم سلطان) ولكون هذا الأمير كان يخشي مزاحمة أخيه (بايزيد) له في الملك بعد موت أبيهما كاشف (لاله مصطفي) بأنه يريد إيغار صدر علي (بايزيد) ليقتله ويكون هو (سليم) الوارث الوحيد لملك آل عثمان، فأخذ (مصطفي) يبحث عن الطريقة الموصلة حتي اغري السلطان عليه فأرسل السلطان رسلا إلي (بايزيد) وأولاده فقتلوهم جميعا، وهم (بايزيد) وأولاده الأربعة (أورخان) و(محمود) و(عبد الله) و(عثمان) في مدينة قزوين ببلاد العجم في 15 محرم 969ه ونقلت جثثهم إلي مدينة (سيواس) حيث واروها الثري. وكان ل (بايزيد) ابن صغير في مدينة بورصة فخنق أيضا ودفن في جانب والده واخوته. وفي أوائل شهر سبتمبر اشتد مرض السلطان وتوفي في 20 صفر سنة 974ه عن أربع وسبعين سنة قمرية، وكانت مدة ملكه ثمانية وأربعين سنة.

السلطان سليم خان الثاني

السلطان سليم خان الثاني

ولد (السلطان سليم الثاني) في 6رجب سنة 930ه وهو ابن (روكسلان) الروسية، وتولي الملك بعد موت أبيه ووصل إلي القسطنطينية في 9ربيع أول سنة 974ه، وبعد أن مكث بها يومين سار علي عجل إلي مدينة (سكدوار) للاحتفال بإرجاع جثة والده إلي القسطنطينية، فقابله خارج المدينة سفراء فرنسا والبندقية القادمين لتهنئة بالملك.

ولما وصل مدينة صوفيا في 6

أكتوبر أرسل الرسل إلي كافة الممالك الخارجية والولايات الداخلية يخبرهم بموت أبيه وتوليته علي عرش آل عثمان، ومنها قصد مدينة بلغراد ومكث فيها حتي أتي الوزير (محمد باشا صقللي) بجثة والده، وذلك أن الوزير (محمد باشا) لم يعلن بوفاة (السلطان سليمان) إلا في أثناء عودته من مدينة (سكدوار) إلي بلغراد، بل أوهم الجند أن السلطان مريض ولا يمكن لأحد مقابلته ولما أعلن موته إلي الجنود بعد موته بنحو خمسين يوما لبست الجيوش عليه الحداد وساروا إلي بلغراد حيث كان (سليم الثاني) في انتظارهم، فطلبت الجنود منه أن يوزع عليهم العطايا المعتادة، فأبي ثم أذعن لطلباتهم لإظهارهم العصيان والتمرد وعدم إطاعتهم أوامر ضباطهم وامتهانهم لهم بحضور السلطان، ثم انه أعطي امتيازات كثيرة للأجانب وقد كثرت المنكرات في عهدة خصوصا شرب الخمر.

وأيّد (السلطان سليم) الامتيازات القنصلية التي حصلت بين والده (السلطان سليمان) وملك فرنسا وزاد عليها امتيازات ومعاهدات أخري فسحت المجال أمام القناصل الفرنسية للتدخل في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية، وبذلك صارت فرنسا ملكة التجارة في البحر الأبيض المتوسط وجميع البلاد التابعة للدولة، وأرسلت تحت ظل هذه المعاهدات عدة إرساليات دينية كاثوليكية إلي كافة بلاد الدولة الموجودة بها مسيحيون، خصوصا في بلاد الشام، لتعليم أولادهم وتربيتهم علي محبة فرنسا. وكانت هذه الامتيازات الموجبة لضعف الدولة بسبب تدخل القناصل في الإجراءات الداخلية بدعوي رفع المظالم عن المسيحيين، واتخاذها لها سبيلا لامتداد نفوذها بين رعايا الدولة المسيحيين، وأهم نتائج هذا التدخل وأضره مآلا وأوخمه عاقبة استعمال هذه الإرساليات الدينية في حفظ جنسية ولغة كل شعب مسيحي، حتي إذا ضعفت الدولة أمكن هذه الشعوب الاستقلال بمساعدة الدول المسيحية أو الانضمام إلي إحدي هذه الدول، كما شوهد ذلك في هذا القرن

الأخير.

واقعة ليبانت البحرية

وفي هذه الأثناء غزت المراكب العثمانية جزيرة (كريد) و(ظنته) وغيرها بدون أن تفتحها، واحتلت مدائن (دلسنيو) و(انتيباري) علي البحر (الأدرياتيكي) ولما رأت البندقية تغلب العثمانيين عليها وفتح كثير من بلادها استعانت باسبانيا والبابا، وتم بينهم الاتفاق علي محاربة الدولة بحرا، خوفا من امتداد سلطتها علي بلاد إيطاليا، فجمعوا مراكبهم وجعلوا (دون جوان) ابن (شارلكان) سفاحا من إحدي خليلاته أميرا عليها. فسارت سفن المسيحيين إلي شواطيء الدولة، وكانت تلك الدونانمة المختلطة مؤلفة من سبعين سفينة اسبانيولية ومائة وأربعين سفن البنادقة واثنا عشر للبابا وتسعة من سفن رهبنة مالطه.

وقابلت هذه الدونانمة العمارة العثمانية مؤلفة من 300 سفينة في 17 جمادي الأول سنة 979ه بالقرب من ليبنته، واشتبك بينهم القتال مدة ثلاث ساعات متوالية انتهي الأمر بعدها بانتصار الدونانمة المسيحية، فأخذت 130 سفينة عثمانية، وأحرقت وأغرقت 94 وغنمت 300 مدفعا و30 ألف أسير. وهذه أول واقعة حصلت بين الدولة من جهة وأكثر من دولتين مسيحيتين من جهة أخري. واشتراك البابا فيها يدل علي أن المحرك لهذه التألبات ضد الدولة هو الدين، كما أيدته الحوادث والحروب فيما بعد لا السياسة كما يدعون.

وكان لهذا الفوز رنة فرح في قلوب المسيحيين أجمع.

وفي 27 شعبان سنة 982ه توفي (السلطان سليم الثاني)، وعمره اثنين وخمسون سنة قمرية، ومدة حكمه ثماني سنين وخمسة أشهر، وتوفي عن ستة أولاد وهم: (مراد) و(محمد) و(سليمان) و(مصطفي) و(جهانكير) و(عبد الله) وثلاث بنات تولي بعده ابنه (السلطان مراد الثالث).

السلطان مراد خان الثالث

ولد هذا السلطان بالقسطنطينية في 5 جمادي الأولي سنة 953ه وكانت فاتحة أعماله أن أصدر أمرا بعدم شرب الخمر الذي شاع استعماله أيام السلطان السابق وأفرط فيه الجنود الانكشارية، فثار الانكشارية لذلك واضطروه لإباحته لهم بمقدار لا يترتب منه ذهول

العقل وتكدير الراحة العمومية. وأمر بقتل أخوته، وكانوا خمسة، ليأمن علي الملك من المنازعة، إذ صار قتل الأخوة عادة تقريباً.

وفي أيامه تحصلت (إيزابلا) ملكة الإنكليز علي امتياز خصوصي لتجار بلادها، وهي ان مراكبها تحمل العلم الإنكليزي، وكان لا يجوز لها ذلك قبلا، بل كانت السفن علي اختلاف أجناسها، ما عدا سفن البندقية، لا تدخل إلي موانئ الدولة إلا تحت ظل العلم الفرنساوي ليس إلا، كما قضت بذلك العهود التي أبرمت مع (السلطان سليمان) وابنه (السلطان سليم الثاني)، وتجددت في أوائل حكم هذا السلطان.

وفي سنة 986ه حصلت فتنة داخلية في مملكة مراكش بالمغرب الأقصي، ونازع زعيمها السلطان في الملك، وحصلت بينهما عدة وقائع مهمة وأخيرا استنجد سلطانها بالعثمانيين واستعان مدعي الملك بالبرتغاليين، فأوعزت الدولة أو بالحري (محمد باشا صقللي) لوالي طرابلس بانجاد سلطانها الشرعي فأسرع بمساعدته. والتقي الترك والبرتغال بالقرب من محل يقال له القصر الكبير، وكان يوما مشهودا دارت فيه الدائرة علي البرتغال وقتل فيه رئيس الثائرين المستنجد بهم. وبعد تمام النصر وإعادة الأمن والسكينة إلي ربوع مراكش عادت الجيوش العثمانية حاملة ما أغدق عليها من الهدايا. وبذلك دخلت مملكة مراكش ضمن دائرة نفوذ الدولة وصار شمال أفريقيا بأجمعه تابعا لها تماما أو خاضعا لنفوذها. ولم يبق لها في عصرنا هذا إلا ولاية طرابلس والسيادة الاسمية علي مصر. واستولت فرانسا علي تونس والجزائر، وصارت مراكش ميدان مسابقة لدسائس الأجانب تسعي كل دولة في ازدياد نفوذها بها، وبعبارة أخري لابتلاعها.

وفي غضون ذلك قتل الخليفةُ الصدرَ الأعظم (محمد باشا صقللي) الذي حافظ علي نفوذ الدولة بعد موت (السلطان سليمان) وتمكن بسياسته ودهائه من إبرام الصلح مع دول أوروبا المعادية لها، وأنشأ عمارة بحرية بعد واقعة (ليبنته)، وفتحت

جزيرة قبرص بتعليماته وإرشاداته، وكوفئ علي خدماته الجليلة بالقتل لا لذنب جناه أو جناية ارتكبها، بل هي دسائس حاشية السلطان قضت عليه بالموت غدرا تبعا لدسائس الأجانب الذين لا يروق في أعينهم وجود مثل هذا الوزير يدير دولاب الأعمال علي محور الاستقامة، فدسوا إليه من قتله تخلصا من صادق خدمته للدولة. فكان موته ضربة شديدة ومحنة عظيمة لاسيما وقد كثر بعده تنصيب وعزل الصدور.. فعين أولا من يدعي (أحمد باشا) ثم عزل في أغسطس سنة 988ه وعين بعده (سنان باشا) أحد القواد المشهورين وأحد رؤساء الجيش المحارب في بلاد (الكرج) وتولي قيادة هذا الجيش بعد موت قائده العام (مصطفي) الذي قيل إنه انتحر مسموما لعدم حصوله علي منصب الصدارة ولكنه عزل من منصبه بعد قليل ونفي إلي خارج البلاد، وتولي مكانه (سياوس باشا) المجري الأصل في الصدارة العظمي، و(فرهاد) أو(فرحات باشا) أحد القواد العظام قائدا عاما للجيش المحارب في (الكرج) ولم يأت هذا القائد بأعمال تذكر لعدم انقياد الانكشارية وامتثالهم لأوامر رؤسائهم، ثم صار (عثمان باشا) الصدر الأعظم.

فسار في جيش (عرمرم) مؤلف من مائتين وستين ألف مقاتل، قاصدا بلاد (آذربيجان) فاخترقها بدون كثير مقاومة، ثم قصد مدينة (تبريز) عاصمة العجم فدخلها بعد أن انتصر علي (حمزة ميرزا) وترك فيها حامية قوية. وبعد أن استمرت الحرب سجالا بين الدولتين نحو ست سنوات توفي في خلالها الصدر الأعظم (عثمان باشا) سر عسكر الجيش تم الصلح والسكينة.

إلا أن هذه السكينة لم تكن لترضي الانكشارية الذين كانوا يفضلون استمرار الحروب للنهب والسلب وارتكاب مالا خير فيه، فكانت إذا انقطعت الحروب تمردوا وارتكبوا هذه القبائح في بلاد الدولة المعسكرين بها، بل وفي نفس الآستانة. فلما بلغهم أن المخابرات سائرة بين

الدولة والعجم للوصول إلي الصلح ثاروا بالقسطنطينية، وطلبوا تسليم (الدفتر دار) ناظر المالية و(محمد باشا) بكلربك الرومللي لقتلهما، بدعوي أنهما أرادا أن يصرفا إليهم نقودا ناقصة العيار! وحاصروهما في منزلهما إلي أن قتلوهما شر قتلة، ولم يقو السلطان علي منعهم. وتمردوا مرة أخري سنة 1001ه في الآستانة وأخري في مدينة (بود) وقتلوا واليها،وفي القاهرة وفي التبريز مما يطول شرحه، ووصلت بهم القحة إلي آخرها. ولذلك أشار (سنان باشا) الذي أعيد إلي منصة الوزارة في سنة 997ه بأشغالهم بمحاربة بلاد المجر، وأوعز إلي (حسن باشا) والي بلاد البشناق (بوسنه) أن يجتاز حدود بلاد المجر إعلانا للحرب، لكن هل يرجي نجاح أو فلاح حقيقي من جيوش بلغ عندها عدم النظام الدرجة القصوي حتي استطالت لقتل الولاة وعزل الحكام؟

وفي هذه الأثناء ولي (فرهاد باشا) منصب الصدارة في سنة 999ه، ثم أعيد (سياوس باشا) ثالثا إليها سنة 1000ه، ثم أصيب السلطان بداء عياء وتوفي مساء 8 جمادي الأولي سنة 1003ه وله من العمر خمسون سنة، وكانت مدة ملكه إحدي وعشرين سنة تقريباً. وكان كثير الميل لاقتناء الجواري الحسان عاملا بمشورتهن، وكان من ضمن حظياته جارية بندقية الأصل من عائلة شهيرة بها اسمها (بافو) سباها قراصين البحر وبيعت في السراي السلطانية وسميت (صفية)، اصطفاها السلطان لنفسه وتدخلت كثيرا في السياسة الخارجية، وساعدت بلادها الأصلية كثيرا وهي والدة (السلطان محمد الثالث).

السلطان محمد خان الثالث

ولد هذا السلطان في 7 ذي القعدة سنة 974 ه وتولي بعد موت أبيه (مراد الثالث) وهو ابن (صفية) الإيطالية الأصل، وكان له تسعة عشر أخا غير الأخوات فأمر بخنقهم قبل دفن أبيه، ودفنوا معا تجاه أياصوفيا.

وفي أوائل حكمه سار علي أثر سلفه في عدم الخروج إلي الحرب وترك أمور

الداخلية في أيدي وزرائه، الذين منهم (سنان باشا) و(جفالة زاده) وآخر يدعي (حسن باشا)، ففسدوا في الأرض وباعوا المناصب الملكية والعسكرية، وقللوا عيار العملة حتي علا الضجيج من جميع الجهات، وتعاقب انهزام الجيوش العثمانية أمام (مخائيل الفلاخي)، فضم لسلطانه بمساعدة الجيوش النمساوية إقليم البغدان وجزءا عظيما من ترنسلفاليا، لعدم وجود القواد الأكفاء لصدهم.

وفي ابتداء القرن السابع عشر للميلاد حصلت في بلاد (الأناطول) ثورة داخلية كادت تكون وخيمة العاقبة علي الدولة، خصوصا ونيران الحروب مستعر لهيبها علي حدود المجر والنمسا. وذلك أن فرقة من الجيوش المؤجرّة (يسمونها بالتركية علوفه جي) التي هي بالنسبة للإنكشارية كنسبة (الباشبوزق) للجيوش المنتظمة، لم تثبت في واقعة (كرزت) بل ولّت الأدبار وركنت إلي الفرار فنفيت إلي ولايات آسيا وأطلق عليها اسم (فراري) تحقيرا لهم وعبرة لغيرهم. وهناك اتّحد (قره يازيجي) مع أخيه المسمي (دلي حسن) والي بغداد، فاتبع وسوسة أخيه وكفر بنعمة الدولة وجاهر بعصيانها.

فأرسل صقللي (حسن باشا) مع جيش جرار، لمحاربتهما وانتصر علي (قره يازيجي) وألجأه إلي الاحتماء بجبال (جانق) علي البحر الأسود حيث توفي من الجراح التي أصابته في الحرب تاركا أخاه للأخذ بثأره. وفعلا فاز (الدلي حسن) علي صقللي (حسن باشا) وقتله علي أسوار مدينة (توقات)، ثم هزم ولاة دياربكر وحلب، ودمشق وحاصر مدينة (كوتاهية) في سنة 1010ه، واستفحل أمره حتي خيفت العاقبة. ولما رأت الدولة تجسم هذه النازلة أخذت في استعمال طرق السلم والتودد، فأجزلت إليه العطايا وأغدقت عليه الهبات، ثم عرضت عليه ولاية (بوسنه) فقبل بعد تعللات كثيرة ووضع السلاح.

وأعقبت هذه الثورة العظيمة ثورة أخري في نفس الآستانة كاد شرها يتعدي إلي نفس الخليفة، وذلك أن جنود السباه أي الخيالة طلبوا من الدولة أن تعوض عليهم

ما فقدوه من ربع الإقطاعيات المعطاة لهم في بلاد آسيا التي كانوا يسمونها (تمارا) بسبب فتنة (قرة يازيجي) و(دلي حسن) بآسيا الصغري، ولما لم يكن في وسع الدولة تلبية طلبهم لنقص دخلها هي أيضا بسبب هذه الفتنة، تمردوا وثاروا وطلبوا نهب ما في المساجد من التحف الذهبية والفضية.

وفي هذه السنة توفي السلطان وكانت وفاته في 12 رجب سنة 1012ه وعمره 37سنة ومدة حكمه تسع سنين وخلفه ابنه (أحمد الأول).

السلطان أحمد خان الأول

ولد هذا السلطان في 12 جمادي الثانية سنة 998ه فتولي الملك ولم يتجاوز سنّه الرابعة عشر إلا بقليل ولم يؤمر بقتل أخيه (مصطفي) بل اكتفي بحجزه بين الخدم و الجواري. وكانت أركان الدولة غير ثابتة في كافة بلاد آسيا ونار الحرب مستعرة علي حدود العجم شرقا والنمسا غربا، وكانت الحرب مع العجم شديدة الوطأة في هذه المرة لتولي (الشاه عباس) الشهير قيادتها. ومما جعل لها أهمية أعظم من كافة الحروب السابقة اضطراب الأحوال في الولايات الشرقية عموما وسعي كل أمة من الأمم المختلفة النازلة بها للحصول علي الاستقلال. وكان أهم رؤساء هذه الحركة رجلا كرديا لقب (بجان بولاد) لشدة بأسه وقوة إقدامه والأمير (فخر الدين الدرزي) وغيرهما.

وانتهز (الشاه عباس) هذه الفرصة لاسترجاع بلاد العراق العجمي التي أخذها العثمانيون، واحتل مدائن تبريز ووان وغيرهما.

ولمناسبة اضمحلال جيوش الدولة في هذه الحروب، التي استمرت عدة سنوات متوالية وموت أهم قوادها خصوصا الصدر الأعظم (قويوجي) يوم 5 أغسطس سنة 1020ه، تراسلت الدولتان علي الصلح، وتم الأمر بينهما في سنة 1021ه بمساعي (نصوح باشا) الذي تولي منصب الصدارة بعد موت (قويوجي مراد باشا) علي أن تترك الدولة لمملكة العجم الأقاليم والبلدان والقلاع والحصون التي فتحها العثمانيون من عهد السلطان الغازي (سليمان

الأول القانوني) بما فيها مدينة بغداد.

هذا ولو أن الحروب انقطعت علي كافة حدود الدولة تقريباً، إلا أنه قد حصلت ما بين سنة 1020ه وسنة 1024ه بعض مناوشات بحرية بين مراكب الدولة وسفن رهبان (مالطه) وملك اسبانيا وولايات إيطاليا، كان الفوز فيها غالبا لمراكب الأعداء. ولذلك أمر الصدر (نصوح باشا) بجمع جميع سفن الدولة في مياه البحر الأبيض المتوسط لصد تعديات مراكب الإفرنج وحفظ طريق البحر بين الآستانة وولايات الغرب، فانتهز بعض أخلاط القوزاق انسحاب السفن الحربية من البحر الأسود، وأغاروا علي ثغر سينوب ونهبوا ما به. ولما علم السلطان بذلك غضب علي الصدر الأعظم، وسعي به بعض مبغضيه طمعا في نوال منصبه وما فتئوا يوغرون صدر سيده عليه حتي أمر بقتله في 14 أكتوبر سنة 1021ه فخنق في قصره.

هذا وازدادت في أيام (السلطان أحمد الأول) العلاقات السياسية مع دول الإفرنج، فجددت مع فرانسا العقود والعهود القديمة في سنة 1014ه مع بعض زيادات طفيفة. وفي سنة 1019ه جددت مع مملكة بولونيا الاتفاقات التي أبرمت معها في زمن (السلطان محمد الثالث) وأهم ما بها تعهد بولونيا بمنع قوزاق الروسية من الإغارة علي إقليم البغدان وتعهد الدولة بمنع تتار القرم من التعدي علي حدودها. وفي سنة 1021ه تحصلت ولايات الفلمنك علي امتيازات تجارية تضارع ما منحته كل من فرنسا وإنكلترا، وهم (أي الفلمنك) الذين أدخلوا في البلاد الإسلامية استعمال التبغ أي تدخين الدخان، فعارض المفتي في استعماله وأصدر فتوي بمنعه، فهاج الجند واشترك معهم بعض مستخدمي السراي السلطانية حتي اضطروه إلي إباحته.

وفي 23 ذي القعدة سنة 1026ه توفي السلطان (أحمد الأول) وعمره 28 سنة، ومدة حكمه 14 سنة تقريباً. ولصغر سن ولده (عثمان) الذي كان لم يتجاوز ثلاث

عشرة سنة من عمره خالف العادة المتبعة من ابتداء الغازي السلطان (عثمان الأول)، أي تنصيب أكبر الأولاد أو أحدهم مكان والده، وأوصي بالملك بعده لأخيه.

السلطان مصطفي خان الأول

ولد هذا السلطان سنة 1001ه وقضي طول عمره داخل محلات الحرم، ولم يتعاطي أشغالا مطلقا، بل ولم يعلم من أمور المملكة شيئا كما كانت عادة بعض ملوك بني عثمان، وهي أن كل سلطان يتولي يأمر بقتل أخوته أو يحجزهم في السراي كي لا يكون منهم منازع في الملك.

ولم يلبث هذا السلطان علي سرير الملك إلا ثلاثة أشهر تقريباً ثم عزله أرباب الغايات وفي مقدمتهم المفتي و(قيزلر أغاسي) أي آغا السراي، وساعدهم الانكشارية علي ذلك لتوزيع الهبات عليهم عند تولية كل ملك جديد. فعزل في أول سنة 1027 ه وأقاموا مكانه (السلطان عثمان الثاني) المولود في غضون سنة 1013ه.

السلطان عثمان خان الثاني

هو ابن (السلطان أحمد الأول) وأمر بإطلاق قنصل فرنسا وكاتبه ومترجمه، وأرسل مندوبا لملك فرنسا (لويس الثالث عشر) يسمي (حسين جاووش) بجواب اعتذار عما حصل من الإهانة لسفيره، وبذلك انحسمت هذه المشكلة.

وحدث في هذه الأثناء أن تدخلت بولونيا في شؤون إمارة البغدان لمساعدة (جراسياني) الذي عزل بناء علي مساعي (بتلن جابور) أمير (ترنسلفانيا)، وأضيفت إمارته إلي (إسكندر شربان) أمير الفلاخ وصارت الإمارتان تابعتين له، فاتخذ (السلطان عثمان) هذا التدخل سببا في إشهار الحرب علي مملكة بولونيا وتحقيق أمنيته، وهي فتح هذه المملكة وجعلها فاصلا بين أملاك الدولة ومملكة (الروسيا) التي ابتدأت في الظهور، وقبل الشروع في الحرب أمر بقتل أخيه (محمد) تبعا للعادة، فقتل في 12 يناير سنة 1031ه مأسوفاً عليه.

ثم أصدر أمرا بتقليل اختصاصات المفتي ونزع ما كان له من السلطة في تعيين وعزل الموظفين، وجعل وظيفته قاصرة علي الإفتاء، حتي يأمن شر دسائسه التي ربما تكون سببا في عزله كما كانت سبب عزل سلفه، لكن أتي الأمر علي الضد بما كان يؤمل كما سيجيء وبعد

أن أتم هذه التمهيدات الداخلية سير الجيوش والكتائب لمحاربة مملكة بولونيا.

وتم الصلح وأمضي من الطرفين في 6 أكتوبر سنة 1030ه، فحنق السلطان علي الانكشارية من طلبهم الراحة وخلودهم إلي الكسل وإلزامه علي الصلح مع بولونيا بدون تتميم قصده أي ضمها إلي أملاكه وعزم علي إبطالها وإفنائها عن آخرها. ولأجل التأهب لتنفيذ هذا الأمر الخطير أمر بحشد جيوش جديدة في ولايات آسيا وتنظيمها وتدريبها علي القتال، حتي إذا كملت عدة وعددا استعان بها علي إبادة هذه الفئة الباغية. وشرع فعلا في إنفاذ هذا المشروع، لكن أحس الانكشارية بذلك فهاجوا فهاجوا وتذمروا واتفقوا علي عزل السلطان، وتم لهم ذلك في يوم 9 رجب سنة 1031ه وأعادوا مكانه (السلطان مصطفي الأول)، ولم يكتفوا بعزله بل هجموا عليه في سراية وانتهكوا حرمتها وقبضوا عليه بين جواريه وزوجاته، وقادوه قهرا إلي ثكناتهم موسعيه سبا وشتما وإهانة مما لم يسبق له مثيل في تاريخ الدولة، وزيادة علي ذلك أنهم نقلوه من هناك إلي القلعة المعروفة بذات السبع قلل (يدي قله)، حيث كان بانتظاره كل ممن يدعي (داود باشا) و(عمر باشا) الكيخيا و(قلندر أوغلي) وغيرهم، فأعدموا (السلطان عثمان) الحياة، ولم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره ومدة حكمه أربع سنين وأربعة أشهر.

وبعد ذلك صارت الحكومة ألعوبة في أيدي الانكشارية، ينصبون الوزراء ويعزلونهم بحسب أهوائهم، فعزلوا (داود باشا) قاتل السلطان بعد بضع أيام، وصاروا يمنحون المناصب لمن يجزل إليهم العطايا فكانت الوظائف تباع جهارا، وارتكبوا أنواع المظالم في القسطنطينية. ولما بلغ خبر قتل السلطان إلي الولاة وانتشرت بينهم أخبار الفوضي السائدة في الآستانة، أشهر والي طرابلس الشام استقلاله وطرد الانكشارية من ولايته. واقتفي أثره والي (أرضروم) المدعو (أباظة باشا) مدعيا أنه يريد الانتقام (للسلطان

عثمان) شهيد الانكشارية، وسار بمن تبعه إلي (سيواس) و(انقره) ففتحهما، مصادرا التزامات الانكشارية وإقطاعاتهم.. قاتلا كل من وقع في مخالبه من هذه الفئة التي تلوثت بدم سلالة سلاطينهم، وتبعه والي سيواس وسنجق (قره شهر)، ثم سار إلي مدينة (بورصة) فحاصرها ودخلها بعد ثلاثة أشهر إلا قلعتها فلم تسلم.

واستمرت الاضطرابات الداخلية في نفس كرسي الخلافة، ولا أمن ولا سكينة مدة ثمانية عشر شهرا متوالية، حتي إذا شعر العموم بما وراء هذه الفوضي من الدمار والخراب، وشبع الانكشارية نهبا وسلبا وقتلا في نفوس الأهالي وأموالهم، عينوا من يُدعي (كمانكش علي باشا) صدرا أعظم لتوسمهم فيه الخبرة والاستعداد، فأشار عليهم بعزل (السلطان مصطفي) ثانيا لضعف عزيمته ووهن قواه العقلية فعزلوه في 15 ذي القعدة سنة 1032 ه، وولوا مكانه (السلطان مراد الرابع)، وبقي في العزل إلي أن توفي في غضون سنة 1049ه.

السلطان مراد خان الرابع

هو ابن (السلطان أحمد الأول) ابن (السلطان محمد الثالث) ولد في 28 جمادي الأولي سنة 1018ه وولاه الانكشارية بعد عزل عمه (السلطان مصطفي الأول) ابن (السلطان محمد الثالث) مع حداثة سنّه، كي لا يكون معارضا لهم في أعمالهم الاستبدادية، ولا مضعفا لنفوذهم الذي اكتسبوه بقتل سلطان وعزل غيره، واستمروا مدة العشر سنين الأولي من حكمه علي غيهم وطغيانهم.

وانتهز (الشاه عباس) ملك العجم هذا الاختلال فرصة لاستعادة بلاده. وذلك أن رئيس الشرطة في مدينة بغداد واسمه (بكيرآغا) ثار علي الوالي وقتله واستبد في الأحكام فأرسلت له الدولة قائدا يدعي (حافظ باشا) حاربه وحصره في دار السلام، فسولت (لبكير آغا) نفسه أن يخون الدولة وراسل (الشاه عباسا) وعرض عليه تسليم المدينة، فسار الشاه بجنوده لاحتلالها. وفي الوقت نفسه عرض (بكير آغا) علي القائد العثماني أن يرد المدينة للعثمانيين

لو أقرته الدولة علي ولايتها فقبل ذلك، واحتلتها الجنود قبل وصول شاه العجم، وهو لما وصلها حاصرها ثلاثة أشهر ثم فتحها. وفي هذه الأثناء كانت ثورات الجنود متتابعة بالأستانة، وفي كل مرة يطلبون قتل من يشاءون من رؤساء الحكومة المخالفين لهم في الرأي، ولا يري السلطان مندوحة من إجابة طلباتهم إسكاتاً لهم وخوفا من أن يصل إليه أذاهم.

وفي غضون ذلك أصدر السلطان أمره بعزل (خسرو باشا) وإعادة (حافظ باشا) إلي منصب الصدارة، فسعي المعزول لدي الجند وأفهمهم أنه لم يعزل إلا لمساعدته لهم، فثاروا وأرسلوا إلي الآستانة يطلبون إرجاعه، ولما لم يجب السلطان طلبهم ساروا إلي القسطنطينية وقاموا بثورة عظيمة خيف منها علي حياة الملك، فإنهم دخلوا السراي السلطانية في 18رجب سنة 1041ه وقتلوا (حافظ باشا) رغما عن تدخل السلطان ومنعهم عنه. فاغتاظ السلطان وأمر بقتل (خسرو باشا) محرك هذه الفتنة، فقتل. وصار يأمر بقتل كل من ثبت عليه أقل اشتراك في الحركات الأخيرة. وبذلك داخلهم الرعب ووقعت مهابته في قلوبهم، وخشيه الصغير والكبير، والأمير والحقير، وسار كل في طريقه مكبا علي عمله بدون أن يأتي ما يكدر صفو كأس الراحة العمومية، وأمن الناس علي أموالهم وأعراضهم من التعدي، وسادت السكينة في القسطنطينية وضواحيها وجميع أنحاء المملكة.

وكانت آخر ثورة للانكشارية في آخر شوال سنة 1041ه. حركها من يدعي (رجب باشا) لغاية في النفس، فأمر السلطان بقتله وإلقاء جثته من شبابيك السراي حتي يراها المتجمهرون، فسكنت الخواطر ولم يحصل ما يعبث بالأمن بعد ذلك في مدته.

ثم سار السلطان بنفسه إلي بلاد العجم لاسترجاع فتوحات (السلطان الغازي سليمان الأول القانوني) ففتح مدينة (اريوان) في 25 صفر سنة 1045ه وأرسل السلطان رسولين إلي الآستانة لتزيين المدينة مدة سبعة

أيام، وقتل أخويه (بايزيد) و(سليمان) لبلوغه عنهما ما كدر خاطره واتباعا للعادة المذمومة. ثم قصد بغداد واسترده من شاه ايران، ثم وصل خبر انتصار العجم علي الجنود العثمانية إلي مسامع السلطان فأراد إذلالهم وكسر شوكتهم فسار بجيش عظيم كامل العدة والعدد إلي مدينة دار السلام و ابتداء حصارها بكيفية منتظمة في 8 رجب سنة 1048 ه، وكان يشتغل بنفسه في اعمال الحصار الشاقة تنشيطا للجند، وسلط علي أسوارها المدافع الضخمة التي نقلها إليها، ولما فتحت المدافع فيها فتحة كافية للهجوم أصدر السلطان أوامره بذلك، فهجمت الجيوش في صبيحة 18 شعبان سنة 1048ه ولم يثنها قتل الصدر الأعظم (طيار محمد باشا)، الذي تولي بعد موت (بيرام محمد باشا) المتوفي في 6 ربيع الآخر سنة 1048ه بل استمرت الحرب 48 ساعة متوالية ختمت بانتصار الجنود العثمانية، ودخولهم المدينة وإرجاعها إلي المملكة العثمانية، ولم تزل تابعة إليها حتي الآن.

وبعد ذلك رغب شاه العجم عدم استمرار القتال وعرض الصلح علي الدولة بان يترك لها مدينة بغداد بشرط أن تترك هي إليه مدينة (اريوان)، ودارت المخابرات بين الدولتين عشرة أشهر كاملة. وفي 21 جمادي الأول سنة 1049ه تم الصلح علي ذلك وانقطعت أسباب العدوان من بينهما.

ثم توفي عن غير عقب في 16 شوال سنة 1049 ه، وسنّه 31 سنة، ومدة حكمه 16 سنة و11 شهرا، وتولي بعده أخوه (إبراهيم).

السلطان إبراهيم خان الأول

هو ابن (السلطان أحمد الأول) ولد في 12 شوال سنة 1024 ه افتتح حروبه الخارجية بإرسال جيش جرار إلي بلاد (القرم)لمحاربة (القوزاق) الذين احتلوا مدينة (آزاق) فحاربهم العثمانيون واستردوا المدينة منهم بعد أن أحرقوها وذلك سنة 1051ه.

وأمر السلطان بتجهيز عمارة بحرية قوية لفتح جزيرة (كريد) لأهمية موقعها الجغرافي، وجهزت (الدونانمة) وسارت

باحتفال زائد تحت قيادة من يدعي (يوسف باشا) إلي أن ألقت مراسيها أمام مدينة خانية أهم ثغور الجزيرة في 29 ربيع الآخر سنة 1055 ه. وافتتحها بدون حرب تقريباً لعدم وصول (الدونانمة))البندقية إليها في الوقت المناسب، فانتقم (البنادقة) بحرق ثغور (بتراس وكورون ومودون) من بلاد (موره). ويقال: أن السلطان أراد في مقابلة ذلك قتل المسيحيين أجمع، ولولا معارضة المفتي (أسعد زاده أبي سعيد أفندي) لتمّ هذا الأمر.

ثم إنّ (السلطان إبراهيم) أراد أن يفتك برؤوس الانكشارية في ليلة زفاف إحدي بناته علي ابن الصدر الأعظم لتذمرهم وانتقادهم علي أعماله ورغبتهم في التداخل في شؤون الدولة والخروج عن حدودهم. فعلموا بقصد السلطان وتآمروا علي عزله، واجتمعوا بمسجد يقال له (أورطه جامع) وانضم إليهم بعض العلماء و(المفتي عبد الرحيم أفندي) وأهاجوا عساكر الانكشارية والسباه وقرر الجميع بعزله وتولية ابنه (محمد الرابع) المولود في 29 رمضان سنة 1051ه أي الذي لم يتم السابعة من عمره. وتمت هذه الثورة يوم 18 رجب سنة 1058ه وبعد ذلك بعشرة أيام أظهر السباه عدم ارتياحهم من الملك الفتي، وطلبوا إعادة (السلطان إبراهيم) إلي عرش الخلافة فخشي، رؤساء العصابة التي عزلته من تغلب السباه وإرجاعه رغم أنفهم وصمموا علي قتله، فساروا إلي السراي ومعهم الجلاد (قره علي) وقتلوه خنقا كما قتلوا (السلطان عثمان الثاني) من قبله فكانت مدة حكمه 8 سنين و9 شهور، وسنّه 34 سنة، وبذلك ارتاح خاطرهم واطمأن بالهم.

السلطان محمد خان الرابع

انفرد بالملك، ولصغر سنه وقعت المملكة في الفوضي، وصارت الجنود لا ترحم صغيرا ولا توقر كبيرا، وسعوا في الأرض فسادا، ورجعت الحالة إلي ما وصلت إليه قبل تولي (السلطان مراد الرابع) بل إلي أتعس منها.

وسري عدم النظام إلي الجنود المحاصرة (كنديا) بكيفية اضطر

قائدهم (السر عسكر حسين باشا) لرفع الحصار عنها، وكذلك كان سريان هذا الداء العضال إلي الجنود البحرية سبب انهزام (الدونانمه) العثمانية أمام (دونانمة) العدو أمام مدينة (فوقيه) سنة 1649 ه. ثم ثار بآسيا الصغري في هذه السنة أيضا رجل يدعي (قاطرجي أوغلي) وانضم إليه آخر يدعي (كورجي يني) وهزما (أحمد باشا) والي الأناطول وسارا إلي القسطنطينية، ولولا وقوع الشقاق بينهما لخيف علي العاصمة من وقوعها في قبضتهما، لكن وقع الخلف بينهما وافترقا فحاربهما الجند وهزم الثاني وقتل وأرسل رأسه إلي السلطان. وتمكن الآخر وهو (قاطرجي أوغلي) من الحصول علي العفو عنه وتعيينه واليا (للقرمان) وبذلك انتهت هذه الثورة.

وبعد ذلك توالت الثورات تارة من الانكشارية، وطورا من السباه، وآونة من الأهالي لما يثقل عليهم نير استبداد الجنود، وتعاقب عزل وتنصيب الصدور بسرعة غريبة لم تسبق في الدولة ولا في أيام حكم (السلطان سليم) تبعا للأهواء والغايات، واختل النظام، أو بعبارة صريحة صار عدم النظام نظاما للدولة.

وفي هذه الأثناء تغلبت مراكب جمهورية البندقية علي عمارة الدولة عند مدخل (الدردنيل)، واحتلت (تنيدوس) وجزيرة (لمنوس) وغيرهما. و منعت بذلك المراكب الحاملة للقمح وأصناف المأكولات عن الوصول إلي القسطنطينية من هذا الطريق حتي غلت جميع الأصناف، واستمر الحال علي هذا المنوال ولا نظام ولا أمن ولا سكينة. ثم تولي منصب الصدارة (محمد باشا) الشهير ب (كوبرياي) فعامل الانكشارية معاملة من يريد أن يطاع إطاعة عمياء وقتل منهم خلقا كثيرا عندما ثاروا، كعادتهم لما رأوه رجلا خبيرا بدخائل الأمور قادرا علي قمعهم وإلزامهم العود إلي السكينة، وأمر بعد تعيينه بقليل بشنق (بطريرك الأروام) لما ثبت له تدخله في الدسائس والفتن الداخلية.

ومما يؤثر عنه أنه استصدر أمرا من السلطان بمنع قتل سلفه،

وكان قد أمر بقتله.

وتوفي (محمد باشا) بعد أن أوصي السلطان بتولية ابنه (أحمد) وخلفه ابنه (كوبريلي زاده أحمد باشا). واستمر علي خطة أبيه من عدم التساهل مع الجندية ومجازات من يقع منه أقل أمر مخل بالنظام.

وفي زمانه استولي المسيحيون الفرنسيون علي إقليمي الجزائر وتونس.

ثم تقلد منصب الصدارة بعد وفاته (قره مصطفي) ولم يكن كفؤاً للسير في الطريق الذي رسمه (كوبريلي) الكبير وولده، بل اتبع مصلحته الذاتية وباع المناصب العالية والمعاهدات والامتيازات المجحفة بالدولة حالا واستقبالا بدراهم معدودة، وبسوء سياسته كدر خواطر (القوزق) وأبعدهم عن الدولة، ثم حصل قتال بينه وبين المسيحيين عند أسوار فيينا، وبعد أن استمر القتال طول النهار فاز المسيحيون بالنصر وانهزم (قره مصطفي باشا) وجيوشه أمامهم، تاركا كافة المدافع والذخائر والمؤن. فكان يوما مشهودا يجعل الولدان شيبا، ثم جمع (قره مصطفي باشا) ما بقي من جنوده ولمّ شعثهم علي نهر (راب)، ومن هناك قفل راجعا إلي مدينة (بود) والملك (سوبيسكي) سائر خلفه، يقتل كل من يتخلف في السير، وفتح مدينة (جران) بكل سهولة. ولما وصل خبر هذا الخذلان الذي لم يسبق لجيوش الدولة أمر (السلطان محمد الرابع) بقتل الصدر (قره مصطفي باشا)، وأرسل أحد رجال حاشيته فقتله وأرسل برأسه إلي القسطنطينية، وعين مكانه (إبراهيم باشا) سنة 1095ه.

وفي سنة 1096ه احتل النمساويون عدة حصون وقلاع شهيرة أهمها قلعة (نوهزل) وبسبب هذه الانهزامات المتعاقبة عزل الصدر (إبراهيم باشا) ونفي في جزيرة (رودس) ولم يلبث في منصب الصدارة إلا سنتين، وتعين مكانه (السر عسكر سليمان باشا).

وكان أول أعمال (سليمان باشا) الإسراع إلي إنجاد مدينة (بود) التي كان يحاصرها (الدوك دي لورين) بتسعين ألف جندي لكن لم تجد مساعدته شيئا فان القائد المذكور دخلها عنوة في

يوم 13شوال 1097ه، ولم تدخل هذه المدينة ثانيا في حوزة العثمانيين إلي الآن.

وبعد سقوط هذه المدينة في قبضة النمساويين ومحالفيهم أراد (الصدر سليمان باشا) أن يأتي عملا يكفر عنه عند الأمة ما أتاه من التهاون في مساعدة مدينة (بود)، لكن أتاه الضرر من حيث كان يريد النفع لنفسه، فإنه جمع من بقايا كتائبه جيشا مؤلفا من ستين ألف مقاتل يعززهم سبعون مدفعا، فالتحم الجيشان في 3 شوال سنة 1098ه وبعد قتال شديد دارت الدائرة علي الجيوش العثمانية، فانهزموا عن آخرهم وأخذ العدو في جمع ما معهم من المدافع والسلاح والمؤن والذخائر، واحتلت جيوشه إقليم (ترنسلفانيا) وعدة قلاع من (كرواسيه). ولما ذاع خبر هذا الانكسار بين الجيوش الموجودة بالأستانة هاجوا وماجوا وأرسلوا للجيوش الباقية مع (الصدر سليمان باشا) فاشهروا عليه العصيان، ولولا فراره إلي بلغراد لأعدموه الحياة.

ثم أرسل الانكشارية والسباه وفدا للآستانة يطلب من السلطان الأمر بقتل الصدر، فلم ير بدا من ذلك، وأمر بقتله تسكينا لثورة غضب الجند. ولما لم يفد شيئا ولم تعد السكينة بين الجيوش وخيف علي المملكة العثمانية من الداخل، قرر الوزير الثاني القائم مقام (قره مصطفي) باتحاده مع العلماء عزل (السلطان محمد الرابع) فعزلوه في 2 محرم سنة 1099ه، بعد أن حكم أربعين سنة وخمسة أشهر، وبقي في العزلة إلي أن توفي في 8 ربيع الآخر سنة 1104ه، بالغا من العمر 53 سنة.

السلطان سليمان خان الثاني

هو ابن (السلطان إبراهيم الأول)، ولد في 15 محرم سنة 1052 ه جلس علي كرسي الملك، فأغدق العطايا علي الجنود ولم يعاقبهم علي عصيانهم الذي كانت نتيجته عزل خلفه. ولذلك ما لبثت أن تمردت ثانيا وقتلت قوادها وحاصرت الصدر الجديد (سياوس باشا) في سراية وقتلوه وسبوا أزواجه. فكانت

الآستانة فوضي، وانتهز الأعداء هذه الاختلالات والاضطرابات المستمرة لفتح الحصون العثمانية، فاحتل النمساويون قلاع (ارلو) و(لبا) وغيرها، واحتل (موروزيني) البندقي مدينة (ليبه) من بلاد اليونان وكافة سواحل (دلماسيا) سنة 1099ه، وفي السنة التالية أي سنة 1100ه سقطت مدائن (سمندريه) و(قلومباز) و(بلغراد) في أيدي النمساويين، ثم فقدت الدولة العثمانية في سنة 1101ه مدائن (نيش وودين) من بلاد الصرب، وذلك لعدم كفاءة الصدر (مصطفي باشا) الذي خلف (سياوس باشا) قتيل الانكشارية. ولما رأي السلطان توالي المصائب عزل هذا الصدر وعين مكانه (كوبريلي مصطفي باشا) ابن (كوبريلي محمد باشا) الكبير، ولم يكن أضعف همة من والده بل كان يشبهه في علو المكانة ومضاء العزيمة.

وبذلك أعاد (كوبريلي مصطفي باشا) بعض ما فقدته الدولة من المجد والسؤدد بسبب ضعف الوزراء وعدم إطاعة الإنكشارية.

وفي 26 رمضان سنة 1102ه توفي (السلطان سليمان الثاني) عن غير عقب وعمره 50 سنة بعد أن حكم ثلاث سنوات وثمانية أشهر.

السلطان أحمد خان الثاني

المولود في 6 ذي الحجة سنة 1052ه، فأبقي الصدر الأعظم اعتمادا عليه في الحرب والسلم. لكن لم تمهل المنية هذا الوزير الشهير، بل قصفت عوده الرطيب وهو في عنفوان شبابه، فتوفي في24 ذي القعدة سنة 1102ه في ساحة القتال عند مهاجمة الجيوش النمساوية القائد لها (لويز دي باد)، فكان موته ضربة علي الدولة، لعدم كفاءة (عربه جي علي باشا) الذي خلفه في منصب الصدارة. ولم تحصل أمور ذات بال في أيام هذا السلطان، بل اقتصرت الحرب علي بعض مناوشات ليس لها من الأهمية شأن، يذكر غير أن البنادقة احتلت في سنة 1106ه جزيرة ساقز.

وتوفي في 22 جمادي الثانية سنة 1106 ه وعمره 54 سنة قمرية تقريباً، بعد أن حكم أربع سنين وثمانية أشهر.

السلطان مصطفي خان الثاني

ابن (السلطان محمد الرابع) المولود في 8 ذي القعدة سنة 1074ه وكان متصفا بالشجاعة وثبات الجأش، ولذلك أعلن بعد توليته بثلاثة أيام رغبته في قيادة الجيوش بنفسه، فسار إلي بلاد (بولينا) مستعينا بفرسان القوزاق وانتصر علي (البولونيين) عدة مرات. ولولا ما لاقاه من الدفاع أمام مدينة لمبرج لتقدم كثيرا، لكن كان هذا الحصن المنيع من أكبر العوائق لاستمرار فتوحاته. ومن جهة أخري حارب الروس واضطرهم لرفع الحصار عن مدينة أزاق ببلاد القرم التي حاصرها بطرس الأكبر.

ثم تقلد البرنس (أوجين دي سافوا) القائد الشهير قيادات الجيش النمساوي فأعمل الفكرة في عدم ملاقاة الجيش العثماني في الأراضي السهلة، بل حاوله مدة بدون أن يمكن السلطان من مهاجمته، حتي فاجأه هو أثناء عبور الجنود العثمانية لنهر (تيس) وعدم استعدادها للدفاع بالقرب من قرية صغيرة اسمها (زينتا) فقتل منهم عددا عظيما من ضمنهم (الصدر الأعظم الماس محمد باشا) وغرق منهم في النهر أكثر ممن قتل، ولولا

وجود السلطان علي الضفة الأخري لسقط في أيديهم أسيرا. وكان ذلك في 25 صفر سنة 1109ه ثم تبعهم (البرنس أوجين) ودخل بلاد البوسنة فاتحا. وعين بعد ذلك (عموجه زاده حسين باشا كوبريلي) صدرا أعظم.

وبعد مخابرة طويلة أمضيت بين الدولة والنمسا والروسيا والبندقة وبولونيا معاهدة (كارلوفتس) في 24 رجب سنة 1110ه، فتركت الدولة بلاد المجر بأجمعها وإقليم (ترنسلفانيا) لدولة النمسا، وتنازلت عن مدينة أزاق وفرضتها لروسيا، فصار لها بذلك يد علي البحر الأسود، وزادت أهمية جوارها للدولة أضعاف ما كانت عليه من قبل، وردت لمملكة بولونيا مدينة (كامينك) وإقليمي (بودوليا) و(اوكروين)، وتنازلت للبندقية عن (بحيث) جزيرة مورا إلي نهر (هكساميلون) وإقليم (دلماسيا) علي البحر (الادرياتيكي) بأجمعه تقريباً. واتفقت مع النمسا علي مهادنة خمس وعشرين سنة، وأن لا تدفع هي أو غيرها شيئا للدولة علي سبيل الجزية أو مجرد الهدية. وبهذه المعاهدة فقدت الدولة جزءا ليس بقليل من أملاكها بأوروبا وزادت أطماع الدول في بلادها.

وقد عين السلطان للصدارة العظمي (رامي محمد باشا) فسار علي أثر (كوبريلي حسين باشا)، وشرع في إبطال المفاسد ومعاقبة المرتشين ومنع المظالم. فأهاج ضده أرباب الغايات، وكثير عدادهم، وأثاروا عليه الانكشارية لميلهم بالطبع إلي الهياج للسلب والنهب وهتك الأعراض، فطلبوا عزله من السلطان فامتنع، وأرسل لقمعهم فرقة من الجنود فانضمت إلي الثائرين وعزلوا (السلطان مصطفي الثاني) في 2 ربيع الآخر سنة 1115ه بعد أن حكم ثمان سنوات وثمانية شهور.

وبقي معزولا إلي أن توفي في 22 شعبان من السنة المذكورة وعمره أربعون سنة تقريباً، وأقاموا مكانه بعد عزله أخاه.

السلطان أحمد خان الثالث

ابن (السلطان الغازي محمد الرابع)، المولود في 3 رمضان سنة 1083ه، وعند تعيينه وزع أموالا طائلة علي الانكشارية، وسلم لهم في قتل المفتي (فيض الله

أفندي) لمقاومته لهم في أعمالهم. ثم لما قرت الأحوال وعادت السكينة اقتص من رؤوس الانكشارية فقتل منهم عددا ليس بقليل، وعزل في 6 رجب سنة 1115 ه الصدر الأعظم (نشانجي أحمد باشا) الذي انتخبه الانكشارية وقت ثورتهم، وعين في هذه الوظيفة المهمة زوج أخته (داماد حسن باشا)، لكن لم تحمه مصاهرته للسلطان ولا ما أتاه من الأعمال النافعة، فأعملوا فكرهم وبذلوا جهدهم حتي تحصلوا علي عزله في 28 جمادي الأولي 1116ه ومن بعده كثر تغيير الصدور تبعا للأهواء. وكانت نتيجة ذلك أن الدولة لم تلتفت لإجراءات بطرس الأكبر ملك الروسيا في داخلية بلاده، ولم تدرك كنه سياسته الخارجية المبنية علي إضعاف الدولة العثمانية وأنه قد ابتدأ في تنفيذ مشروعه.

ثم عزل الوزير السابق وتولي بعده (بلطه جي محمد باشا) فأشهر الحرب علي روسيا وقاد الجيوش بنفسه، وبعد مناورات مهمة حصرت الجيوش العثمانية البالغ قدرها مأتي ألف جندي قيصر الروسيا وخليلته (كاترينا)، ولو استمر عليهم الحصار قليلا لأخذ أسيرا هو ومن معه وانمحت الدولة الروسية كلية من العالم السياسي.

لكن استمالت (كاترينا) (بلطه جي محمد باشا) إليها، وأعطته كافة ما كان معها من الجواهر الكريمة والمصوغات الثمينة، فخان الدولة ورفع الحصار عن القيصر وجيشه.. مكتفيا بإمضاء القيصر لمعاهدة (فلكزن) المؤرخة 9 جمادي الآخر سنة 1123ه الذي أخلي بمقتضاها مدينة أزاق، وتعهد فيها بعدم التدخل في شؤون القوزاق مطلقا.

ثم عزله السلطان، وتولي بعده (يوسف باشا)، وكان محبا للسلم، فامضي مع الروسيا معاهدة جديدة، تقضي بعدم المحاربة بينهما مدة 25 سنة. لكن لم تمض علي هذه المعاهدة بضعة أشهر حتي قامت الحرب ثانية بين الدولتين بسبب عدم قيام (بطرس الأكبر) بأحد شروط معاهدة (فلكزن) القاضي بتخريب فرضة (تجانزك) الواقعة علي

بحر آزاق، فتدخلت إنكلترا وهولاندا في منع الحرب، لإضراره بتجارتهما. وبعد مخابرات طويلة أمضيت بينهما معاهدة جديدة سميت (بمعاهدة أدرنة) في 24 جمادي الأولي سنة 1125ه تنازلت الروسيا بمقتضاها عما لها من الأراضي علي البحر الأسود حتي لم يبق لها عليه موانئ أو ثغور.

ثم تولي منصب الصدارة (علي باشا داماد) بعد (يوسف باشا) وكان ميالا للحرب.. غيورا علي صالح الدولة.. ميالا لاسترجاع ما ضاع من أملاكها، خصوصا بلاد (موره). ولذلك أعلن الحرب علي جمهورية البندقية، وفي قليل من الزمن استرد البحيث جزيرة بأجمعها والمدن التي كانت باقية للبنادقة بجزيرة (كريد)، حتي لم يبق لهم ببلاد اليونان إلا جزيرة (كورفو)، فاستعانت البندقية (بشارل الثالث) إمبراطور النمسا، أحد الماضين علي معاهدة (كارلوفتس)، ولكون الحرب كانت قد انقضت ووضعت أوزارها بين النمسا وفرنسا، وتم الصلح بينهما بمعاهدتي (أوترك ورستاه)، أسرع الإمبراطور لمديد المساعدة إلي البنادقة، بأن أرسل إلي السلطان بلاغا يطلب منه فيه إرجاع كل ما أخذه من البنادقة وكان أعطي لهم بمقتضي معاهدة (كارلوفتس) وإلا فيكون امتناعه بمثابة إعلان للحرب، فلم تقبل الدولة هذا الطلب وفضلت الحرب. وعقب ذلك طلبت الروسيا من الدولة تحوير المعاهدة السابقة بكيفية تبيح لتجارها المرور من أراضي الدولة وبيع سلعهم فيها، ولحجاجها التوجه لبيت المقدس وغيره من الأماكن والأديرة المقدسة عندهم، بدون دفع خراج مدة إقامتهم أو رسوم علي جوزات المرور، فقبلت الدولة.

ولما تولي (داماد ابراهيم باشا) منصب الصدارة سنة 1130ه أراد أن يستعيض عما فقدته الدولة من ولايات باحتلال ارمينيا وبلاد الكرج، لكن كان سبقه بطرس الاكبر واجتاز جبال القوقاز التي كانت تحد بلاده من جهة الجنوب واحتل اقليم طاغستان مع كافة سواحل بحر الخزر الغربية، فكادت الحرب أن تقع بين

الدولة والروس.. ولوساطة السفير الفرنسي أمضيت معاهدة بين الطرفين بأن يمتلك كل منهما ما احتله من بلاد الفرس.

أما الفرس فلم يقبلوا بهذا التقسيم المزري بشرفهم، والقاضي بضياع جزء ليس بقليل من بلادهم، لكن لم يتمكنوا من صد هجمات العثمانيين الذين فتحوا سنة 1138 ه عدة مدن و قلاع، أهمها همدان واريوان وتبريز. وطلب (الشاه طهماسب) من الدولة أن ترد إليه كل ما أخذته من بلاد أجداده، فلم تجبه الدولة، ولذا أغار علي بلادهم ولعدم ميل السلطان إلي الحرب ورغبته في الصلح ثار الانكشارية وأهاجوا الأهالي، فأطاعوهم طلبا للسلب والنهب في 15 ربيع الأول 1143ه، وطلب زعيم هذه الثورة المدعو (بترونا خليل) من السلطان قتل الصدر الأعظم والمفتي و(قبودان باشا) أي أميرال الأساطيل البحرية بحجة أنهم مائلون لمسالمة العجم، فامتنع السلطان عن إجابة طلبهم. ولما رأي منهم التصميم علي قتلهم طوعا أو كرها، فخوفا من أن يتعدي أذاهم إلي شخصه سلم لهم بقتل الوزير و(الأميرال) دون المفتي، فقبلوا، وألقوا جثثهم إلي البحر. لكن لم يمنعهم انصياع السلطان لطلباتهم من التطاول إليه، بل جرأهم تساهله معهم علي العصيان عليه جهارا، فأعلنوا بإسقاطه في مساء اليوم المذكور عن منصة الأحكام، ونادوا بابن أخيه (السلطان محمود الأول) خليفة للمسلمين وأميرا للمؤمنين، فأذعن (السلطان أحمد الثالث) وتنازل عن الملك بدون معارضة. وكانت مدة حكمه 27 سنة و11 شهراً، وبقي معزولا إلي أن توفي في سنة 1149ه.

السلطان محمود خان الأول

هو ابن (السلطان مصطفي الثاني) ولد في 4 محرم سنة 1108ه، ولما تولي لم يكن له إلا الاسم فقط، وكان النفوذ ل (بطرونا خليل)، يولي من يشاء ويعزل من يشاء تبعا للأهواء والأغراض، حتي عيل صبر السلطان من استبداده، وتجمهر حوله رؤساء الانكشارية لتعدي

هذا الزعيم علي حقوقهم، واتفقوا علي الغدر به تخلصا من شره، فقتلوه. ولم يقو محازبوه علي الأخذ بثأره، بل اطفئت ثورتهم في دمائهم. وبذلك عادت السكينة للمدينة، وأمن الناس علي أموالهم وأرواحهم.

وبعد أن استتب الأمن استأنفت الدولة الحرب مع مملكة الفرس، وتغلبت الجيوش العثمانية علي جنود (الشاه طهماسب) في عدة وقائع أهرقت فيها الدماء مدرارا، فطلب الشاه الصلح، وتم بين الدولتين الأمر في 12 رجب سنة 1144ه علي أن تترك مملكة العجم للدولة كل ما فتحته ما عدا مدائن تبريز وأردهان وهمدان وباقي إقليم لورستان. لكن عارض (نادرخان) أكبر ولاة للدولة في هذه المعاهدة، وسار بجيوشه إلي مدينة اصفهان، وعزل (الشاه طهماسب) وولي مكانه ابنه القاصر (عباساً الثالث)، وأقام نفسه وصيا عليه. ثم قصد البلاد العثمانية، وبعد أن انتصر علي جنود الدولة حصر مدينة بغداد، فأسرع الوزير طوبال أي الأعرج (عثمان باشا) إلي محاربته، وجرت بينهما عدة وقائع قتل فيها (عثمان باشا) المذكور، فطلبت الدولة الصلح. وبعد مخابرات طويلة اتفق مندوب الدولة مع (نادر خان) في 18 جمادي الأول سنة 1149ه في مدينة (تفليس) حيث نودي ب (نادر خان) ملكا علي العجم، علي أن ترد الدولة إلي العجم كل ما أخذته منها، وأن تكون حدود الدولتين كما تقرر بمعاهدة سنة 1049ه المبرمة في زمن (السلطان الغازي مراد الرابع).

وهناك غلطة أخري ارتكبها رجال الدولة، وهي نزع السلطة في إقليمي الفلاخ والبغدان من أشراف البلاد خوفا من تمردهم وطلبهم الاستقلال، وتعيين بعض أغنياء الروم من تجار الآستانة قرالات ممتازين فيهما، في مقابل جعل سنوي يدفع للخزانة السلطانية، وكانت تعطي لمن يدفع خراجا أكثر من غيره، وظاهر أن من يقدم علي التعهد بمثل هذه المبالغ الطائلة عازم ولا

شك علي الحصول علي ما يدفعه أضعافا مضاعفة من دماء الأهالي. فاستبد هؤلاء المعينون بالسكان وساموهم الذل والخسف، وفتكوا بالأشراف الأصليين وقتلوا كل من خالفهم منهم، وباعوا ألقاب الشرف جهارا حتي انقرضت أغلب العائلات الأثيلة في المجد، وحلت محلها عائلات جديدة أغلبها من تجار الأروام الذين اشتروا الألقاب بدراهم معدودة وكان نتيجة هذه السياسة أن سئم الأهالي هذه السلطة، ومالوا بكلياتهم إلي الروسيا، ووجهوا أنظارهم لها معتقدين أنها ستكون منقذتهم من هذه المظالم المستمرة، ولو أنصفت الدولة لجعلتها ولايتين بدون امتيازات تتناوبها الولاة، فما كانت تطمح إلي الاستقلال الإداري، فالسياسي.

وفي يوم الجمعة 27 صفر سنة 1168ه توفي (السلطان محمود الأول) بالغا من العمر ستين سنة، وكانت مدة حكمه 25 سنة.

السلطان عثمان خان الثالث

ولد هذا السلطان في سنة 1110 ه وبعد أن تقلد السيف في جامع (أبي أيوب الأنصاري) علي حسب العادة القديمة وأبقي كبار الموظفين في وظائفهم، عين في منصب الصدارة العظمي (نشانجي علي باشا) بدل (محمد سعيد باشا) الذي سبق تعيينه صدرا بعد عودته من مأموريته في فرنسا. فأعتمد (علي باشا) هذا علي ميل السلطان إليه، وسار في طريق غير حميد حتي أهاج ضده الأهالي أجمع. ولكون السلطان كان من عادته المرور ليلا في الشوارع والأزقة متنكرا لتفقد أحوال الرعية، والوقوف علي حقيقة أحوالهم سمع أثناء تجواله بما يرتكبه وزيره من أنواع المظالم والمغارم، وبعد أن تحقق ما نسب إليه بنفسه أمر بقتله جزاء له وبوضع رأسه في صحن من الفضة علي باب السراي عبرة لغيره، فقتل في 16 محرم سنة 1169ه وعين مكانه من يدعي (مصطفي باشا)، ثم عزله في 20 ربيع الأول سنة 1170 ه وعين مكانه (محمد راغب باشا) الشهير، وتوفي (السلطان عثمان

الثالث) في 17 صفر سنة 1171 ه وكانت مدة حكمه 3 سنين و11 شهرا، وعمره ستون سنة وخلفه (مصطفي الثالث).

السلطان مصطفي خان الثالث

ابن (السلطان أحمد الثالث) المولود سنة 1129ه، وكان ميالا للإصلاح، محبا لتقدم بلاده، خصوصا وزيره الأول (راغب باشا) الذي مر ذكره.

وأرادت الدولة في زمانه الحرب مع روسيا وأوعزت إلي (كريم كراي) خان القرم أن يفتح بابا للحرب فصدع بالأمر، ولكي يجعل الحق من جهة الدولة احتال علي بعض القوزاق التابعين للروسيا حتي أوقعهم في حبالة نصبها لهم، وأدت بهم إلي التعدي علي حدود الدولة والإغارة علي إحدي المدن التابعة لها وقتل بعض سكانها، فأشهرت الدولة الحرب علي الروسيا. وافتتحها (كريم كراي) بأن أغار بخيله ورجله علي إقليم (سربيا) الجديدة الذي عمرته الروسيا، مع أن المعاهدات التي بينها وبين الدولة كانت تقضي عليها بتركه صحراء بدون استعمار ليكون فاصلا بين أملاك الدولتين، وعمرته الروسيا لمنع وصول المساعدة من خان القرم إلي بولونيا عند مسيس الحاجة.

وكانت نتيجة إغارة (كريم كراي) علي هذه الولاية خراب كثير من المستعمرات الروسية وعودته بكثير من الأسري.

ثم سار الوزير (نشانجي محمد أمين باشا) الذي تولي الصدارة في جمادي الآخر سنة 1182ه بجيوشه للدفاع عن مدينة (شوكزيم) التي حاصرها (البرنس جالتسين) الروسي، فلم ينجح، لعدم اتباعه الأوامر العسكرية الواردة إليه من السلطان المهتم بنفسه بأمور الحرب، ولو لم يقد الجيوش بذاته. وكان جزاء القائد المذكور أن قتل بأمر السلطان في 9 ربيع الآخر سنة 1183ه، وأرسل رأسه إلي الآستانة عبرة لغيره من القواد وعين مكانه في الوزارة والسر عسكرية (مولدواني علي باشا)، وكان أشد اهتماما من سلفه بأمور الجند وأكثر اطلاعا علي ضروب القتال، لكن عاكسته الطبيعة وكانت هي السبب في تقهقره.

وبعد هذا

الانهزام الذي لم يكن فيه للروس من فخر، التزم (مولود واني باشا) بالتقهقر بعد اخلاء مدينة (شوكزيم)، فدخلها (البرنس جالتسين) واحتل علي الفور ولايتي (الفلاخ) و(البغدان).

وفي ذلك الوقت كان (علي بيك) الملقب ب(شيخ البلد) الذي استقل تقريباً بشؤون مصر. وفتح بمساعدة قائد الدونمانة الروسية في البحر الابيض مدائن غزة ونابلس واورشليم ويافا ودمشق. وكان يستعد للسير إلي حدود بلاد الاناطول إذ ثار عليه أحد بيكاوات المماليك، وهو (محمد بيك) الشهير ب (أبي الذهب)، فعاد (علي بيك) إلي مصر لمحاربته وانضم إلي جيوشه أربعمائة جندي روسي فقابلهم (أبو الذهب) عند الصالحية بالشرفية وفاز عليهم بالنصر، وأسر (علي بيك) واربعة من ضباط الروس بعد أن قتل كل من كان معهم ورجع إلي مصر، حيث توفي (علي بيك) مما أصابه من الجراح، فقطع رأسه وسلم مع الأربعة ضباط الروسيين إلي الوالي العثماني (خليل باشا) وهو أرسلهم إلي القسطنطينية.

ثم توفي (السلطان مصطفي الثالث) في 8 ذي القعدة سنة 1187ه، وبلغت مدة حكمه ست عشرة سنة وثمانية شهور.

السلطان عبد الحميد خان الأول

ابن (السلطان أحمد الثالث) ولد سنة 1137ه، وقضي مدة حكم أخيه (مصطفي الثالث) محجوزا في سرايته كما جرت به العادة. وفي اليوم الثالث من توليته توجه في موكب حافل إلي جامع (أبي أيوب) لتقلد سيف (السلطان عثمان) مؤسس هذه الدولة، ولم يوزع علي الجنود الانعامات المعتادة، لنضوب خزائن الدولة التي استنزفتها الحرب الأخيرة. ثم أقر الصدر الأعظم (محسن زاده) وأغلب كبار الموظفين والقواد البرية والبحرية في مناصبهم لعدم وقوع الخلل في الأعمال.

ثم وقعت الحرب بين الدولة وبين روسيا، انتهت بهزيمة العثمانيين وطلب الصدر الأعظم المهادنة وقبل المعاهدة التي تم الاتفاق عليها في سنة 1137 ه وهي مكونة من ثمانية وعشرين بنداً. أضيف

إلي هذه المعاهدة بندان سريّان، إحداهما تتضمن المصاريف الحربية، وذلك لأن الدولة كانت تعهدت بتأدية خمسة عشر ألف كيس لروسيا في مدة ثلاث سنين، يدفع منها في كل سنة قسط، وهو خمسة آلاف كيس. والمادة الثانية سرعة تخلية جزائر البحر الأبيض تأييدا لما هو مذكور في المادة السابعة عشرة من العهدة المذكورة وأسطول روسيا الموجود في البحر الأبيض، وإن كان مشترطا في المادة المذكورة أنه يخرج في مدة ثلاثة أشهر، فدولة روسيا قد تعهدت بإخراجه قبل المدة المذكورة إذا أمكن، وبذلك انتهت هذه الحرب ونالت روسيا أقوي أمانيها.

وتوفي (السلطان عبد الحميد الأول) في 12 رجب سنة 1203ه، بالغا من العمر 66 سنة، ومدة حكمه 15 سنة وثمانية شهور، وتولي بعده (سليم الثالث).

السلطان سليم خان الثالث

السلطان سليم خان الثالث

ابن (السلطان مصطفي الثالث)، المولود سنة 1175ه، تولي وجو السياسة مكفهر ورحي الحرب دائرة بلا انقطاع، فبذل جهده في تقوية الجيوش وإرسال المؤن والذخائر، لكن كان اليأس قد استولي علي الجنود وغادر كثير منهم مراكزهم.

وفي هذه السنة اتحد القائد الروسي مع قائد الجيوش النمساوية في الأعمال الحربية وضما جيوشهما لبعضهما، فاستظهرا علي العثمانيين في سنة 1203 ه وكانت عاقبة ذلك أن استولي الروس علي مدينة بندر (الحصينة) واحتلوا معظم بلاد الفلاخ والبغدان وبسارابيا، ودخل النمساويون مدينة بلغراد، وفتحوا بلاد الصرب.

وبعد تمام الصلح مع النمسا والروسيا أخذت الدولة في إصلاح داخليتها وخصوصا العسكرية والبحرية، فعين أحد المتقربين من الذات السلطانية واسمه (كوشك حسين باشا) قبودانا عاما. فوضع نظاما للجنود المشاة، وشرع في تنسيق فرق جديدة وتدريبها علي النظام الأوروبي، فأنشأ أول فرقة منتظمة في سنة 1211ه وجعل عددها 1600 جندي تحت قيادة ضابط إنكليزي دخل في الدين الإسلامي وسمي (إنكليز مصطفي). وكان القصد من

ترتيب العساكر النظامية الاستغناء بهم عن جنود الانكشارية الذين صاروا علة علي الدولة ومن عوامل تأخرها بعد أن كانوا أهم عوامل تقدمها وقت الفتوحات المستمرة التي كانوا يعودون منها بكثير من الغنائم، حتي اعتادوا النهب. وصاروا لما لم يجدوا بلادا مفتتحة حديثا لسلب أهاليها يعتدون علي أهالي الآستانة والعواصم الأخري بالسلب والنهب وغير ذلك، فضلا عن عصيانهم المرة بعد الأخري، وعزلهم الصدور والوزراء، وتعديهم علي السلاطين بالعزل أو القتل لما يرون منهم معارضا لفسادهم أو ضعفا في معاقبتهم.

وظهرت في هذه الأثناء فتنة (عثمان باشا) والي (ودين) الملقب ب (بازوند أوغلي) وانضمام كثير من أهالي الصرب اليه واستظهاره علي جنود الدولة التي أرسلت لأقماعه. وأخيرا سافر إليه (كوجك حسين باشا) بنفسه، وبعد عدة مناوشات كان الحرب فيها سجالا بينهما خشي هذا الوزير من دسائس أرباب الغايات أن تعصي كافة ايالات البلقان، فتدارك الأمر ومنح (بازونداوغلي) ولاية (ودين) طول حياته، وبذلك حسمت الفتنة سنة 1212ه.

دخول الفرنسيين مصر

وفي سنة 1213ه أمرت الجمهورية الفرنساوية (بونابرت) القائد الشهير بالمسير إلي مصر لفتحها بغير إعلان حرب علي الدولة وأوصته بكتمان هذا الأمر حتي لا تعلم به إنكلترا فتسعي في إحباطه، مع أن القصد منه لم يكن الا منع مرور تجارة الإنكليز من مصر إلي الهند وبالعكس. فجهز في مدينة طولون جيشا مؤلفا من 36 ألف مقاتل أغلبهم من العساكر المدربين في الحروب التي جرت بين فرنسا وإيطاليا وانتهت بمعاهدة (كامبوفورميو) وعشرة آلاف بحري تحملهم دونانمة مركبة من 30 سفينة حربية و72 قراويت و400 مركب حمل، وأضاف إلي جيشه 122 عالما علي اختلاف العلوم والمعارف لدرس القطر المصري والبحث عما يلزم لإصلاحه واستغلاله.

وفي مايو سنة 1213ه، رحل (بونابرت) بهذا الجيش بدون أن يعلم

أحدا بوجهته، فوصل جزيرة (مالطه) في 10 يونيو واحتلها بعد أن دافع من فيها من رهبان القديس (حنا الاورشليمي)، وفي 17 محرم سنة 1213ه وصل أمام مدينة الإسكندرية وأنزل عساكره علي بعد أربع فراسخ منها، وبعد أن دخلها عنوة ترك بها القائد (كليبر)، وسار هو قاصدا مدينة القاهرة عن طريق الصحراء الممتدة غرب فرع رشيد، فقابله (مراد بيك) بشرذمة من المماليك عند مدينة شبراخيت بالبحيرة في 29 محرم، فهزمه (بونابرت)، وواصل السير حتي وصل إلي مدينة (انبابة) مقابل القاهرة وحصلت بينه وبين (إبراهيم بيك) و(مراد بيك) أمراء المماليك واقعة الأهرام الشهيرة في 7 صفر وتقهقروا أمام المدافع الفرنساوية، فدخل (بونابرت) وجيوشه مدينة القاهرة بعد أن أعلن بها أنه لم يأت لفتح مصر بل انه حليف الباب العالي، أتي لتوطيد سلطته ومحاربة المماليك العاصين أوامره، كما قال الإنكليز عند دخولهم مصر سنة 1299ه.

وبذلك صار القطر المصري من البحر الأبيض المتوسط إلي أقاصي الصعيد في قبضته. ثم أسس المجلس العلمي للبحث عما يجعل احتلاله بوادي النيل دائميا.

وتحقق (نابليون) أنه إن لم يفاجئ الدولة في بلاد الشام قبل أن تتم استعداداتها الحربية تكون عواقب الحرب وخيمة عليه، وان من يحتل مصر لا يكون آمنا عليها إلا إذا احتل القطر السوري. فلهذه الدواعي عزم (بونابرت) علي فتح بلاد الشام، وقام من مصر ومعه ثلاثة عشر ألف مقاتل قاصدا بلاد الشام من طريق العريش فاحتلها في أواخر شعبان سنة 1213ه، ثم دخل مدينة غزة في 19 رمضان وارتحل عنها في 23 منه ووصل الرملة في 25 منه ومنها إلي يافة فوصلها في ستة وعشرين رمضان، ولما آنس منها المقاومة حاصرها ودخلها عنوة في يوم أول شوال، ثم رحل منها قاصدا

مدينة عكا، وقبل مزاولته ليافا ارتكب أمرا شنيعا لم يسبق في التاريخ وهو أمره بقتل جميع الجرحي والمرضي من عساكره حتي لا يعوقوه في سيره، ثم حاصر مدينة عكا من جهة البر وهاجمها مرارا.

ونزل جيش رودس العثماني بأبي قير وتحصن بها وكان يبلغ عدده 18 ألف مقاتل فسار (بونابرت) من القاهرة لمحاربتهم فتغلب عليهم والتجأ من لم يقتل منهم إلي المراكب في 24 صفر سنة 1214ه وأسر قائدهم الأكبر (مصطفي باشا) وكثيرا من الجنود.

ولنرجع إلي ذكر علاقات الباب العالي وفرنسا والروسيا وانكلترا بعد خروج الفرنساويين من مصر فنقول:

إن (بونابرت) أرسل إلي بلاد الشرق الجنرال (سبستياني) لتجديد ربط الاتحاد والوداد مع الدولة، فسافر إلي الآستانة حاملا خطابا من (بونابرت) إلي السدة السلطانية، وفي أثناء إقامته بالآستانة تمكن بمساعيه من عزل أميري الأفلاق والبغدان المنحازين لروسيا فعزلا في 5 جمادي الثاني سنة 1221ه وعيّن بدلهما من المخلصين للدولة فساء ذلك الروسيا وخشيت من امتداد نفوذ فرنسا في الشرق، فأرسلت جيوشها لاحتلال هاتين الولايتين بدون إعلان حرب، بدعوي أن تغيير أميريهما مضر بحقوق جوارها، فانتشبت نيران القتال بينها وبين الدولة واتحدت إنكلترا مع الروسيا في هذه الحرب لتأييد طلباتها، فأرسلت إحدي دونانماتها تحت قيادة اللورد (دوق وورث) أمام الدردنيل، وأرسل سفيرها السير (اربوثنوت) بلاغا إلي الباب العالي يطلب منه تحالف الدولة وإنكلترا، وتسليم الأساطيل العثمانية وقلاع الدردانيل إلي انكلترا، والتنازل عن ولايتي الأفلاق والبغدان إلي الروسيا، وطرد الجنرال (سبستياني) من الآستانة، وإعلان الحرب علي فرنسا، والا تكن إنكلترا مضطرة لاجتياز الدردنيل وإطلاق مدافعها علي الآستانة. فلم تقبل الدولة هذه المطالب بل أخذت في تحصين البوغار وإقامة القلاع علي ضفتيه. لكن لم يكن الوقت كافيا لتحصينه بكيفية تجعل المرور

منه غير ممكن، وفي 12 ذي الحجة الحرام سنة 1221ه قرن الإنكليز القول بالفعل، واجتاز الأميرال اللورد (دوك وورث) بوغاز الدردنيل بدون أن يحصل لمراكبه ضرر يذكر من مقذوفات القلاع، ووصل إلي فرضة (جاليبولي) ودمر كافة لسفن الحربية العثمانية الراسية بها، ومكث خارج البوسفور ينتظر تنفيذ لائحته التي سبق ذكرها.

وبورود الخبر إلي الدولة بذلك وقع الرعب في قلوب سكان الآستانة خشية من وصول السفن الإنكليزية إلي البوسفور وهناك تكون الطامة الكبري لوجود أغلب السرايات الملوكية ودواوين الحكومة علي ضفتيه. ووقع الوزراء في حيص بيص فأقروا بعد مداولات طويلة أن يذعنوا لطلب إنكلترا وأرسلوا إلي الجنرال (سبستياني) يدعونه للخروج من الآستانة خوفا من تفاقم الخطب، فقابل الفرنساوي الرسول العثماني محاطا بجميع مستخدمي السفارة والضباط الفرنساويين المستخدمين بجيوش الدولة وبحريتها، وأجابه قائلا إني لا أخرج من الآستانة الا مكرها، ثم طلب أن يقابل السلطان مقابلة خصوصية فأجيب طلبه. ولما قابله أظهر له استعداد فرنسا لمساعدة الدولة، وأن (الإمبراطور نابليون) قد أصدر أوامره إلي جيوشه المعسكرة بسواحل الادرياتيك للسفر إلي الآستانة لمساعدة الدولة علي مقاومة إنكلترا ورفض طلباتها، فاقتنع جلالته بعدم جوار الانصياع لطلبات الإنكليز، وإنها لو رأت من الدولة مقاومة أذعنت هي لسحب مطالبها خوفا علي تجارتها من البوار لو صدرت الأوامر بعدم قبولها في الممالك المحروسة. فأخذ في تحصين العاصمة وبناء القلاع حولها وتسليحها بالمدافع الضخمة، و شكل الفرنساويون النازلون بالآستانة فرقة من مأتي مقاتل أغلبهم من المدفعية، وكذلك الاسبانيون لمضادة سفيرهم المركيز (دالمنييرا) لسياسة إنكلترا في الشرق. واهتم كل من في الآستانة في هذا العمل الوطني حتي الشيوخ والأطفال والنساء وبذل الانكشارية من الاهتمام اكثر مما كان يؤمل منهم. وكان السلطان بنفسه يناظر الأشغال ويحث

المشتغلين بها علي مواصلة الليل بالنهار لإتمام القلاع لصد هجمات الأعداء. فلم يمض بضعة أيام حتي صارت المدينة في مأمن من كل طارئ، ووقفت عدة سفن في مدخل البوسفور لمنع كل مهاجم، مع استمرار الأشغال في (بوغاز الدردنيل).

فلما رأي الأميرال الإنكليزي استحالة دخوله البوسفور وقرب انتهاء تحصينات الدردنيل، خشي من حصر مراكبه بين البوغازين وقفل راجعا إلي البحر الأبيض.

وفي غضون ذلك اتحد المفتي (قاضي عسكر الروملي) مع قائم مقام الصدر الأعظم ولفيف من العلماء عل السعي في إبطال التزام العسكري الجديد الذي ادخله السلطان في الجيوش العثمانية قائلين إنه بدعة مخالفة للشرع. وللوصول إلي غايتهم هذه أخذوا يغرون العساكر غير المنتظمة التي كانت أضيفت إلي الفرق المنتظمة. وبعد هذا أخذت الجنود غير منتظمة تستعد بايعاز مهيجيها.. وانتخبوا لهم رئيسا منهم اسمه (قباقجي أوغلي) وهو أخذ في الاستعداد للدخول إلي الآستانة. وفي صبيحة يوم 27 مايو سنة 1807ه دخل هو ومن معه من الجنود غير المنتظمة، وانضم إليهم نحو مأتين من البحرية وثمانمائة من الانكشارية، حتي إذا وصل هذا الجمع إلي المحل المعروف باسم (آت ميدان) أتوا بقدور الانكشارية وصفوها علامة علي العصيان وقرء عليهم أسماء جميع المعضدين لمشروع النظام العسكري من الوزراء أو الذوات والأعيان، فانتشر الثائرون إلي منازلهم وقتلوهم وأتوا برؤوسهم ووضعوها أمام القدور.

ولما بلغ السلطان خبر هذه الثورة أصدر علي الفور أمرا بإلغاء النظام الجديد، وصرف العساكر النظامية لكن لم يكتف الثائرون بل قرروا عزل السلطان خوفا من أن يعود لتنفيذ مشروعه، وساعدهم علي ذلك المفتي الذي هو في الحقيقة المحرك لهذه الثورة فأفتي بأن: كل سلطان يدخل نظامات الإفرنج وعوائدهم ويجبر الرعية علي اتباعها لا يكون صالحا للملك. واستمرت هذه الثورة يومين

ثم أدت في 21 ربيع الآخر سنة 1222ه بفصل (السلطان سليم الثالث)، فعزل. وكانت مدة حكمه 19 سنة، وبقي إلي أن توفي في 4 جمادي الأولي سنة 1223ه وعمره 48 سنة تقريباً وأقيم بعده (مصطفي الرابع).

السلطان مصطفي خان الرابع

ابن (السلطان عبد الحميد الأول) المولود سنة 1193 ه، وكلف المفتي بتبليغ (السلطان سليم) خبر عزله، فذهب إليه وبلغه ذلك مظهراً أسفه من هذه الحادثة الجبرية، فقبل السلطان وذهب إلي سرايه الخصوصية وتفرق الجنود النظامية شذر ومذر.

ولم يكن (السلطان مصطفي) الا كآلة يديرها مبغضوا النظام الجديد كيف شاءوا تبعا لأهوائهم، فثبت الوزراء الذين لم يقتلوا في الثورة في وظائفهم واعتمد تعين (قباقجي أوغلي) حاكما لجميع قلاع البوسفور.

ولما وصلت أنباء هذه الثورة إلي الجيوش العثمانية المشتغلة بمحاربة الروس عند نهر الطونة شمل الانكشارية السرور، ولما رأوا من قائدهم العام وهو الصدر الأعظم (حلمي إبراهيم باشا) عدم الاستحسان لما حصل قتلوه، وأقاموا مكانه (جلبي مصطفي باشا) فوقع الفشل في الجيوش. ولولا وجود أغلب جيوش الروسيا في ألمانيا لمحاربة الإمبراطور (نابليون) الذي كانت تخر عروش الملوك أمامه، لكانت نتائج هذه الحروب أوخم مما سبقها.

وفي أثناء ذلك وصل خبر انتصار (نابليون) علي الروس ومحالفيهم. وعقب ذلك حصل الصلح بين فرنسا والروسيا بمقتضي معاهدة (تلسيت). وجاء في المعاهدة السرية التي اتفق عليها (نابليون) و(اسكندر الاول) قيصر روسيا إن لم يقبل الباب العالي توسط فرنسا بكيفية مرضية، بعد قبول هذه التوسط بخمسة وثلاثين يوما فتتّحد فرنسا مع روسيا علي سلخ جميع الولايات العثمانية بأوروبا ما عدا الآستانة وما حولها وتقسيمها فيما بينهما مع إرضاء النمسا بجزء يسير، وكيفية ذلك التقسيم أن يكون لفرنسا بلاد بوسنه وألبانيا (الارنؤود) و(أبيروس) وبلاد اليونان ومقدونيا، وللنسما بلاد الصرب، ولروسيا

الافلاق والبغدان والبلغار وإقليم تراس لغاية نهر ماريتسا.

ولنرجع إلي ذكر ما حصل في الآستانة بعد نجاح ثورة (قباقجي أوغلي) فنقول: إنه لم يمض قليل حتي وقع الخلاف بين رؤساء الثورة، فاتحد أولا (قباقجي أوغلي) مع المفتي علي عزل القائم مقام (مصطفي باشا)، فعزل وأبعد إلي خارج البلاد وأقيم مكانه من يدعي (طاهر باشا)، ثم عزل لرغبة المحافظة علي حقوق وظيفته وسافر إلي روستجق والتجأ إلي حاكمها (مصطفي باشا البيرقدار). وكان هذا الأخير من محازبي (السلطان سليم) ويود إرجاعه لمنصة الأحكام، فكاشف بذلك (جلبي مصطفي باشا) الصدر الأعظم وباقي الوزراء وأقنعهم بوجوب مجازاة المفتي و(قباقجي مصطفي) علي تهييج الجنود غير المنتظمة وعزل السلطان والاستئثار بالسلطة، فوافقه علي هذا الأمر كل من كاشفهم به وأصدر الصدر حكما علي (قباقجي مصطفي) قاضيا بإعدامه ووكل علي تنفيذه أحد رجال المؤامرة واسمه (حاجي علي) وهو تعهد بالقبض عليه عنوة، وسار إلي الآستانة في مائة فارس، بينما كان البيرقدار قاصدها في ستة عشر ألف جندي عن طريق أدرنه، ولما وصل (حاجي) إلي ضواحي الآستانة علم أن (قباقجي مصطفي) مقيم في قصر له خارج المدينة، فهاجمه وقتله، ثم أبرز لجنوده حكم الصدر الأعظم وأخبرهم أنه عين قائدا لهم، فلم يقبلوا بذلك بل أحاطوا به وبمن معه من الفرسان، وكادوا يأسرونه لولا ما أظهره من الشجاعة التي تمكن بها من التخلص واللحاق بالبيرقدار، وكان قد وصل هو والصدر الأعظم إلي الآستانة وعسكر خارجها.

ولما علم السلطان بهذه الوقائع خشي من تعدي الثورة عليه ووصول ضررها إليه، وأمر بعزل المفتي وصرف جنود (قباقجي مصطفي) غير المنتظمة التي عضدته علي عزل (السلطان سليم)، فأظهر البيرقدار الاكتفاء بما حصل ولم يكاشف أحدا بعزمه علي إعادة (السلطان سليم)

إلي عرش الخلافة العظمي وأشاع أنه عازم علي العودة إلي (روستجق)، لكن في صبيحة 4 جمادي الأولي سنة 1223ه ألقي القبض علي (شلبي مصطفي باشا) الصدر الأعظم، وسار بجيوشه إلي السراي السلطانية، وطلب إرجاع (السلطان سليم الثالث) إلي الملك، فأمر (السلطان مصطفي) بقتله وإلقاء جثته إلي الثائرين كي يكفوا عن الثورة لما يعلمون أن الذي يريدون إرجاعه قد دخل في خبر كان لكن أتي الأمر علي عكس ما كان يؤمل، فقد زاد الثائرون هياجا ونادوا علي الفور بعزل (السلطان مصطفي الرابع) وحجزه في نفس السراي التي كان محجوزا بها (السلطان سليم) فعزل بعد أن حكم ثلاثة عشر شهرا، وقتل في سرايه بعد ذلك بقليل، وأقيم بعده (محمود الثاني).

السلطان محمود خان الثاني

ابن (السلطان عبد الحميد الأول)، ولد في 13 رمضان سنة 1199ه، وافتتح أعماله بأن قلد (مصطفي باشا) البيرقدار منصب الصدارة العظمي، ووكل إليه أمر تنظيم الانكشارية وإجبارهم علي اتباع نظاماتهم القديمة المسنونة من عهد (السلطان سليمان القانوني) وأهملت شيئا فشيئا بعد ان انتقم البيرقدار ممن قاوموه عند إرجاع (السلطان سليم) وكانوا سبباً في قتله.

ثم لم يمض قليل حتي سار الانكشارية إلي فيليبه وأظهروا التمرد والعصيان، فأرسل البيرقدار اثني عشر ألف مقاتل من جيوشه لمحاربتهم ولم يبق إلا أربعة آلاف والثلاثة آلاف القائد لهم (عبد الرحمن باشا). ولذلك انتهز الانكشارية هذه الفرصة وقاموا كرجل واحد في 27 رمضان سنة 1223ه وساروا إلي سراي (السلطان مصطفي) بقصد إرجاعه إلي عرش الحكومة، فأعترضهم البيرقدار وقاومهم مقاومة عنيفة، ولما أحس بأن الضعف قد داخل جيوشه وخشي من فوز الثائرين وعزل (السلطان محمود) أمر بقتل (مصطفي الرابع) وإلقاء جثته للثائرين كما فعل (مصطفي الرابع) مع (السلطان سليم الثالث). فلما رأي الانكشارية جثة

(السلطان مصطفي) زادوا هياجا وأضرموا النار في السراي الملوكية لكي يلجئوا البيرقدار علي الفرار منها لكن فضّل الصدر الأعظم الموت علي التسليم لهذه الفئة والانصياع لطلباتها، وبقي يدافع هو و من معه حتي مات حرقا.

وسارت جيوش السلطان في صبيحة اليوم التالي تتقدمها المدافع تقذف الصواعق علي الانكشارية من كل صوب وحدب، ولما رأي الثائرون أن لا مناص لهم من الهلاك أضرموا النار في جميع جوانب المدينة، ولما كانت أغلب أماكنها من الخشب علا لهيب النيران وكاد الحريق يلتهمها بأجمعها، فاضطر السلطان للإذعان لطلبات الانكشارية حتي يمكنه إنقاذ المدينة من الدمار العاجل، مؤجلا إبطال هذه الفئة المفسدة إلي فرصة أخري، وبذل جهده في إخماده النيران التي كادت تلتهم المدينة بأسرها لولم يتداركها (السلطان محمود) بحكمته، واستمر الانكشارية في ثورتهم وهيجانهم. واستولي الروس علي مدائن (إسماعيل) و(سلستريه) و(روستجق) و(نيكوبلي) و(بازارجق) في سنتي 1224ه و1225ه.

الوهابيون ومذهبهم

الوهابيون ومذهبهم

الوهابيون قوم من العرب اتبعوا طريقة (عبد الوهاب)، وبعد أن درس (محمد عبد الوهاب) مذهب (أبي حنيفة) سافر إلي اصفهان ولاذ بعلمائها وأخذ عنهم ثم عاد إلي بلاده في سنة 1171ه فأخذ يقرر مذهب (أبي حنيفة) مدة، فأنشأ مذهبا مستقلا لتلامذته فأتبعوه وأكبوا عليه، وشاع أمره في نجد والإحساء والقطيف و[بعض] بلاد العرب مثل عمان وبني عتبة من أرض اليمن. إلي أن قيض الله لهم عزيز مصر (محمد علي باشا) فأطفأ سراجهم في سنة 1232ه وكسر شوكتهم وأخفي ذكرهم.

ولما رأي (السلطان محمود) أنّه من الضروري قمع هذه الفئة التي يخشي من امتدادها علي تفريق كلمة الإسلام، الأمر الذي جعله الأوروبيون مطمح أنظارهم للتمكن من فصم عري اتحادهم وامتلاك بلادهم، ولبعد ولايات الشام وبغداد عن مركز الفتنة كلف (محمد علي باشا) والي مصر ومؤسس

عائلتها الخديوية بمحاربتها، واسترجاع مكة المشرفة والمدينة المنورة من أيدي زعمائها، وأرسل إليه فرمانا بذلك في ذي القعدة سنة 1222ه. ولما كان إرسال الجيوش إلي بلاد العرب عن طريق البر أمرا متعسرا إن لم يكن مستحيلا لانتشار الوهابيين في جميع الطرق وقطعهم المواصلات، عزم (محمد علي باشا) علي إرسالهم بطريق البحر الأحمر، فأمر بإنشاء السفن في السويس لنقل الجنود إلي فرضة ينبع ولما استعدت المراكب وجمعت الجيوش والكتائب أعد حفلة في القلعة في يوم الجمعة 5 صفر سنة 1226ه لتسليم ولده (طوسي باشا) الفرمان المؤذن بتقليده قيادة الجيش المزمع إرساله إلي بلاد العرب لمحاربة الوهابيين.

وبعد ذلك سافر (طوسن باشا) بجيوشه إلي بلاد العرب وحارب الوهابيين واستخلص المدينة المنورة وكتب لوالده بذلك. ثم حصره الوهابيون في مدينة الطائف فسافر (محمد علي باشا) إلي مدينة مكة في 28 شعبان سنة 1228ه وقبض علي (الشريف غالب) شريف مكة المكرمة، وأرسله إلي مصر وأقام مكانه (الشريف يحيي ابن سرور) واحتل عدة مراكز مهمة من مراكز الوهابيين، فتضعضع حالهم خصوصا وقد توفي زعيمهم (سعود) في 19 ربيع الآخر سنة 1229ه، فساد الأمن في طريق الحج وأتي الناس أفواجا لتأدية فريضة الحج في ذي الحجة سنة 1229ه، وحج (محمد علي باشا) وجميع من معه، ثم عاد إلي مصر فوصلها في 15 رجب سنة 1230ه.

وقبل عودته كان قد سار (طوسن باشا) إلي بلاد نجد لمهاجمة الوهابيين في مدينة (الدرعية) عاصمة زعيمهم، فاحتل مدينة (الرس) الواقعة علي مقربة من الدرعية. ثم راسله (عبد الله بن سعود) الذي تولي زعامة الوهابيين بعد موت أبيه وأرسل إليه رسولا يدعي (الشيخ أحمد الحنبلي) يطلب منه الكف عن القتال والخضوع لأمير المؤمنين وترك (دعوتهم)، فأجابهم (طوسن باشا)

بأنه لا يمكنه إجابة ملتمسه الا بعد أخذ رأي والده، واتفقا علي مهادنة عشرين يوما ريثما يخابر (طوسن باشا) والده.عند ذلك أتي أليه خبر عودة والده إلي مصر، فأخذ علي نفسه إتمام الصلح وإخبار والده بعد إتمامه. فاتفق مع (عبد الله بن سعود الوهابي) علي أن يحتل (طوسن باشا) بجيوشه مدينة الدرعية، ويرد الوهابيون ما أخذوه من المجوهرات والنفائس من الحجرة الشريفة النبوية، خصوصا الكوكب الدري الذي زنته مائة وثلاثة وأربعون قيراطا من الماس. وكتب لوالده بذلك فأتي إليه الرد بتكليف (عبد الله بن سعود) بالتوجه إلي الآستانة وان لم يقبل يرسل إليه جيشا جديدا لمحاربته. وفي هذه الأثناء جمع (طوسن باشا) خبر تمرد الجنود علي والده بالعاصمة ونهبهم المدينة، فرجع هو أيضا إلي العاصمة منيطا قيادة جيوشه لأحد من كان معه من القواد، ووصل هو إلي القاهرة في غاية ذي القعدة سنة 1230ه.

ثم سافر (عبد الله بن سعود) إلي الآستانة من طريق مصر، فوصل القاهرة في يوم الاثنين 17محرم سنة 1234ه، و بعد أن قابل (محمد علي باشا) بسراي شبرا سافر قاصدا الآستانة في 19 من الشهر المذكور، وقتل بالقسطنطينية بمجرد وصوله. ولما هدأت الحال في بلاد الحجاز ونجد وضرب الأمن أطنابه بها واستؤصلت شأفة الوهابيين منها عاد (إبراهيم باشا) إلي مصر.

ثورة اليونان وطلبها الاستقلال

إن الدولة كانت كلما فتحت إقليما اكتفت من أهله بالخراج غير متعرضة لهم في دينهم أو لغتهم أو عوائدهم، وكان من مضار هذه الطريقة ان تحتفظ بها كل أمة لغتها ورابطها وعصبيتها، حتي إذا ساعدتها الظروف نشطت من عقالها وقامت من رقدتها طالبة نصيبها من شمس الاستقلال المنعشة، فلما قامت الثورة الفرنساوية علي دعائم الحرية والمساواة والإخاء وانتشرت مبادئها في جميع أنحاء

أوروبا التي وطئها (نابليون) بجيوشه، تعدت منها إلي غيرها ووصلت فصائلها إلي بلاد اليونان، فوجدت من أفكار وألباب سكانها مغرسا طيبا فنمت وأينعت وامتدت فروعها إلي سهلها وجبلها واجتمع تحت ظلها الوارف زعماء الأمة اليونانية، لكنهم أيقنوا أنهم لا يقوون علي طلب الاستقلال إلا إذا كان من أبنائهم شبان متعلمون يبثون المبادئ الجديدة بين جميع طبقات الأمة، فيعلمون أن لهم حقوقا يطالبون بها وواجبات يطالبهم الغير بها. ولذلك عمد أغنياؤهم إلي إرسال أولادهم إلي مدارس الممالك الأوروبية ليتحلوا بالعلوم والمعارف، وليكونوا رؤساء الأمة ودعاة حريتها في المستقبل. ثم ألفوا عدة جمعيات لنشر العلم بها بين أفراد الأمة وبث روح الوطنية بينهم، وشكلوا جمعيات أخري سياسية محضة، وجعلوا مراكزها في الروسيا والنمسا، وأهم هذه الجمعيات الجمعية السرية المسماة (هيتيري).

وانتهز اليونانيون الفرصة بانشغال الدولة مع والي يانيا (علي باشا) لنشر لواء العصيان ومقاتلة الجنود العثمانية المحتلة لحصونهم وقلاعهم فوجهت الدولة (خورشيد باشا) إلي بلاد اليونان لاخضاعها فتغلبوا عليه.

ولما رأي (السلطان محمود) ما ألم بجيوشه في هذه الحروب، وثبات اليونانيين أمام الجيوش العثمانية، أصدر فرماناً بتاريخ 5 رجب 1229ه بتعيين (محمد علي باشا) واليا علي جزيرة كريد وإقليم موره وهما بؤرتا هذه الثورة وفي الحال أصدر(محمد علي باشا) أوامره باستعداد سبعة عشر ألف جندي كلهم مصريون من المشاة للسفر، وعدد من الفرسان والمدفعية بقيادة (ابراهيم باشا). فأبحرت هذه الإرسالية من الإسكندرية في 19 ذي القعدة 1229ه، وبينما يستعد (إبراهيم باشا) لفتح ما بقي من بلاد اليونان إذ تدخلت الدول بين الباب العالي ومتبوعيه بحجة حماية اليونانيين في الظاهر، ولفتح المسألة الشرقية وتقسيم بلاد الدولة بينهم في الباطن. وبيان هذا التدخل ان الدولة لامت روسيا أكثر من مرة علي

مساعدتها الثائرين وحماية من يلتجئ منهم إلي بلادها، وهي لا تصغي لهذا اللوم ولا تنصت للحق، بل استمرت علي مساعدتهم طمعا في نوال بغيها الأصلية وهي احتلالها الآستانة وجعلها مركزا للديانة (الأرثوذكسية) كما أن مدينة (رومة) مركزا للديانة الكاثوليكية ثم استمرت المخابرات بين الدولتين مدة بدون فائدة لرغبة روسيا التدخل بين التابع والمتبوع، وعدم قبول الباب العالي أي تدخل أجنبي في شؤونه الداخلية بين رعاياه. ولما توفي القيصر (اسكندر الأول) في 18 ربيع الثاني سنة 1241ه وتولي بعده (نقولا الأول) واهتم بمسألة اليونان متبعا خطة سلفه السياسية وباتحاده مع إنكلترا التي كان قصدها منع الحرب بين الدولتين اضطر الباب العالي إلي التصديق علي معاهدة (آق كرمان) في 28صفر سنة 1242ه وملخصها:

(أن يكون لروسيا حق الملاحة في البحر الأسود، والمرور من البوغازين بدون أن يكون للدولة وجه في تفتيش سفنها، وأن تنتخب حكام ولايتي الأفلاق والبغدان بمعرفة الأعيان لمدة سبع سنوات مع عدم جواز عزلهما أو أحدهما إلا بإقرار روسيا، وأن تكون ولاية الصرب مستقلة تقريباً، وأن لا تحتل العساكر التركية إلا قلعة بلغراد وثلاث قلاع أخري). ولم يذكر بهذه المعاهدة شيء عن اليونان لإيجاد سبب للإشكال في المستقبل، بل اتفقت روسيا وإنكلترا علي استعمال كل نفوذهما لوضع حد للحروب المستعمرة بها ولو كره الباب العالي ووافقتهما دول النمسا والبروسيا وفرنسا، مما انجر بالنهاية إلي استقلال اليونان.

وأخذ الغربيون ينظمون جيوشهم ويرتبون أمورهم ولما تحقق (السلطان محمود) أفضلية النظامات العسكرية المستعملة في جيوش أوروبا، وسمع بذلك أهتم بالنظام الجندية علي الطرز الغربي، وابتدئ في تعليم الضباط بمعرفة من تعين من ضباط الإفرنج بصفة معلمين.

إلغاء طائفة الانكشارية

ولما كان يوم 8 ذي القعدة سنة 1240ه وتعرض الانكشارية للجند وقت التمرين

أصدر السلطان أمره بمعاقبة كل متعرض لهم بالقتل. ولذا تجمع المتعصبون في مساء ذلك اليوم وتأمروا علي العصيان.

وكان السلطان في سراي (بشكطاش) فحضر علي الفور سرايته وجمع العلماء وأخبرهم بما ينويه الانكشارية، فاستقبحوا عملهم وشجعوه علي المقاومة، فاستدعي الآيات الطوبجية التي نظمها نوعا عقب توليته واستعد لقتال الثائرين، وعزم علي عدم التساهل معهم خوفا من تفاقم شرورهم واسترسالهم في التمرد والطغيان.

وفي صباح 9 ذي القعدة أخرج السلطان العلم النبوي الشريف، وسار بجنود الطوبجية يتقدمه العلم إلي ساحة (آت ميداني)، حيث كان الثائرون مجتمعين في هرج ومرج لا مزيد عليهما، وتبعه كثير من العلماء والطلبة. ولم يمض قليل حتي أحاطت الطوبجية بالميدان واحتلت جميع المرتفعات المشرفة عليه، وسلطت مدافعها علي الانكشارية من كل صوب، فخرج جميع الانكشارية وتجمهروا قاصدين الهجوم علي المدافع للاستيلاء عليها، فقذفت عليهم من صيب قللها ما أوقعهم في الفشل وأيقنوا معه أن لا طاقة لهم علي مقاومتها، فعكفوا إلي ثكناتهم طالبين النجاة لكن أني لهم ذلك وقد سلطت أفواه المدافع عليها فهدمتها وأشعلت فيها النيران حتي دمرتها علي من التجأ إليها، وبذلك انتهت هذه الفتنة المريعة.

وفي اليوم التالي صدر فرمان سلطاني بإبطال فئتهم كلية وملابسها واصطلاحاتها واسمها من جميع الممالك المحروسة، ونودي بذلك في الشوارع، وصدرت الأوامر إلي جميع الولايات بالتفتيش علي كل من بقي منهم وإعدامه أو نفيه إلي أطراف البلاد حتي لا تبقي منها باقية.

ومن ثم أخذ السلطان في ترتيب وتنظيم الجيوش بهمة لم يمسسها ملال، وعين لإدخال هذه التنظيمات لجنة من أكابر الوزراء، وقلد (حسين باشا) الذي كانت له اليد الطولي في إبادة الانكشارية قائدا عاما لهم.

ولما رأي أن جماعة البكطاشية محازبة للانكشارية أمر بإلغائها وإبطال جميع تكاياها، فألغيت

وشتت أعضاؤها في أطراف الدولة حتي لا يخشي من تجمعهم بالآستانة، وقتل ثلاثة من رؤسائها النافذي الكلمة بناء علي فتوي شرعية. ومن جهة أخري أخذ في تغيير العوائد القديمة واتباع المستحسن من عوائد أوروبا، فاستبدل العمامة (بالطربوش الرومي)، وتزيّي بالزي الأوروبي، وأمر بأن يكون هو الزي الرسمي في العسكرية والمدنية، وأسس وساما دعاه (وسام الافتخار).

وأخيرا تجول بذاته في ممالكه بأوروبا ليستطلع أحوالها، ويقف علي حقائق الأمور وشكاوي الأهالي، وبالاختصار فانه سار سير من يريد مجاراة أوروبا في نظاماتها.

احتلال فرنسا لجزائر الغرب

وفي أواسط سنة 1245ه نفذت فرنسا ما كانت تنويه من مدة ضد ولاية الجزائر، ليكون لها مركز حربي بشمال أفريقيا حتي لا تكون إنكلترا صاحبة السيادة بمفردها علي البحر الأبيض المتوسط باحتلالها معاقل جبل طارق وجزيرة مالطة. واتخذت لذلك سبيلاً وقوع الخلاف بينها وبين عامل الدولة عليها المدعو (حسين باي) وقرروا في مجلس الوزراء المنعقد تحت رئاسة الملك نفسه في 13 شعبان سنة 1245ه وجوب الاستيلاء علي هذا الإقليم. ثم أرسل إليها جيشا مؤلفا من نحو ثمانية وعشرين ألف مقاتل، وعمارة بحرية مؤلفة من مائة سفينة، وثلاثة سفن تحمل سبعة وعشرين ألف جندي بحري. ولما علمت إنكلترا بذلك خشيت علي نفوذها من مشاركة فرنسا واحتجت ضد هذا المشروع.

ولما لم يفد احتجاجها شيئا أوعزت إلي الباب العالي أن يأمر عامله علي الجزائر بالتساهل مع فرنسا وتقديم ما تطلبه من الترضية والتعويضات، فأرسل الباب العالي مندوبا من طرفه لتبليغ هذه التعليمات إلي عامل الجزائر.

وفي 20 ذي الحجة سنة 1245ه نزلت عساكر فرنسا بالقرب من مدينة الجزائر، وانتشب القتال بين الفريقين في (19يونيو). وبعد محاربة شديدة فاز الفرنسيون بالغلبة. وفي 14محرم سنة 1246ه احتلوا القلعة المسماة (سلطانية قلعة سي) الواقعة

أمام مدينة الجزائر. وفي تلوه دخلت الجيوش مدينة الجزائر نفسها بعد خروج (حسين باي) منها، وأعلنت فرنسا امتلاكها لها. وبعد ذلك أخذت ترسل الجيوش تباعا إلي الجزائر لفتحها، وما زال الأهالي يقاومونها تحت إمرة الوطني الشهير (السيد عبد القادر الجزائري)، الذي دافع عن بلاده مدة سبع عشرة سنة وسلم نفسه في 24 رجب سنة 1263ه. ولم تزل الأهالي غير راضية عن الاحتلال الفرنساوي حتي الان، ولم تدع فرصة للتخلص منه إلا اتخذتها، لكن لم تقو حتي اليوم علي التخلص من ربقة الأجنبي.

ثم إن (محمد علي باشا) حارب والي الشام مرتين وحارب مع نفس العثمانيين. وتوفي (السلطان محمود الثاني) في يوم 19 ربيع الثاني سنة 1255ه فجأة بدون أن يعلم بتقهقر الجيش العثماني أمام جيش (محمد علي باشا) والي مصر لعدم وجود الأسلاك البرقية في هذا العهد، بالغاً من العمر 55 سنة، وتولي بعده ابنه (عبد المجيد)، وكانت مدة خلافة (السلطان محمود) إحدي وثلاثين سنة وعشرة شهور ومات عن أربع وخمسين سنة تقريباً.

السلطان عبد المجيد خان

وكانت ولادة (السلطان عبد المجيد) في 14 شعبان سنة 1237ه، وكان إذ ذاك سنّه 17، فتولي الخلافة ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، وكانت الحكومة في غاية الاضطراب بسبب انتصار جيوش (محمد علي باشا) بنصيبين، واحتلال جيوشه لمدائن عين تاب وقيصرية وملطية.

ومما زاد أحوال الدولة ارتباكا وشغل الخواطر وأوروبا، أن (أحمد باشا) القبودان العام للدونانمة التركية، خرج بجميع مراكبه الحربية وأتي بها إلي ثغر الإسكندرية، وسلمها إلي (محمد علي باشا) في 2 ج1 سنة 1255ه. وكان فعل (أحمد باشا القبودان) مسبباً عن توجيه منصب الصدارة العظمي إلي (خسرو باشا) الذي كان قد سبق تعيينه واليا علي مصر، وخرج منها بناء علي رغبة الأهالي

في تعيين (محمد علي باشا) عليها، وخوفه من الإيقاع به بسبب ما كان بينه وبين (محمد علي باشا) من علائق الارتباط والمحبة.

ثم أن الغربيين اتفقوا مع العثمانيين ضد والي مصر (محمد علي باشا)، وفي يوم 14 رجب أنزلت العساكر إلي البر في نقطة تبعد نحو ستة أميال في شمال بيروت، ولم يتمكن (إبراهيم باشا) ولد (محمد علي) من منعهم، لوجود هذه النقطة تحت حماية المدافع الإنكليزية.

وفي ظهر ذلك اليوم بعد نزول هذه العساكر إلي البر أرسل إلي (سليمان باشا) بلاغ من (الأميرالين) الإنكليزي والنمساوي بأن يخلي مدينة بيروت حالا فطلب منهم مسافة أربع وعشرين ساعة كي يتداول مع (إبراهيم باشا) في هذا الأمر الجلل، فلم يقبل طلبه وابتدأ في إطلاق المدافع علي المدينة، واستمر إطلاقها حتي المساء، وابتدأ أيضاً في اليوم التالي قبل الفجر ولم تقطع إلا بعد هدم أو حرق أغلب المدينة، وأحرقت كذلك كل الثغور الشامية قصد استخلاصها من (محمد علي باشا) وإرجاعها إلي الدولة كما كانت.

إن المراكب الإنكليزية والعساكر المختلطة التي أنزلت إلي البر في عدة مواضع تمكنت من أخذ جميع المدن الواقعة علي البحر وإخراج المصريين منها، حتي لم ير (محمد علي باشا) بدّاً من الإذعان إلي مطالب أوروبا، وأنه من العبث المحض مقاومة الدول المتحدة، فأصدر أوامره إلي ولده (إبراهيم باشا) بعدم تعريض عساكره للقتال والموت بلا فائدة، وباستدعاء الجنود المعسكرة في حدود الشام والانجلاء عنها، مع اتخاذ أنواع الاحتراس الكلي من العرب وسكان الجبل. فبلغ (إبراهيم باشا) هذه الأوامر إلي القواد جميعهم، وأخذ الجنود في الرجوع من كل فج وصاروا يتجمعون حول قائدهم الذي قادهم غير مرة إلي النصر والظفر. وبعد ذلك قسم الجيش عدة فرق كل منها تحت

إمرة أحد القوّاد وسار الكل راجعين إلي مصر تاركين البلاد التي سفكوا فيها دماءهم وتركوا فيها قبور إخوانهم.

وأما (إبراهيم باشا) وفرقته فلم يمكنهم العودة إلي القاهرة من طريق صحراء العريش، لشدة من لاقوه أثناء مرورهم في فلسطين من معارضة العرب (أي البدو) لهم وسدهم الطريق عليهم واحتلالهم جميع القناطر المبنية علي الأنهر، حتي اضطر لمحاربتهم في كل يوم بل وفي كل ساعة.

وأخيرا وصل مدينة غزة بعد أن قتل في الطريق ثلاثة أرباع من معه وكثير من المستخدمين الملكيين الذين أرادوا الرجوع إلي وطنهم مع عائلاتهم، فلما وصل غزة كتب لوالده إشعارا بقدومه وطلب منه إرسال ما يلزم له من المراكب لنقل فرقته إلي الإسكندرية وما يلزم لمؤونتهم وملبسهم.

إثارة الطائفية

وبمجرد إخلاء الجيوش المصرية لبلاد الشام وجبال لبنان، وعدم شعور سكانها بسطوة (إبراهيم باشا) وبطشه، زادت الدسائس الأجنبية لإضرام نار الشقاق وبذر الفتن الداخلية توصلا لغاياتهم الشخصية، وكانت فرنسا مساعدة للمارونية الكاثوليك، وإنكلترا معضدة للدروز ضدهم، لتلجئهم علي ترك المذهب الكاثوليكي واعتناق المذهب البروتستانتي، فيدخلوا بذلك تحت حمايتها الفعلية، ولم يعد لفرنسا حجة لحمايتهم لسبب مذهبي. وظن كل فريق من هؤلاء التعساء أن الدولة التي تغرره تود صلاح حاله وترقيه في المدنية، ولا تفقه لدخائل هذه السياسة التي لا يتأخر أصحابها أمام إهراق دماء الأبرياء، توصلا لمآربهم.

وبهذه الدسائس ساد الهياج في جميع أنحاء لبنان، وظهر ما تكنه صدور سكانه من الأحقاد الجنسية والدينية، حتي تعدي الدروز علي المارونية في سنة 1257ه، ودخلوا دير القمر، وارتكبوا فيه ما تقشعر منه الأبدان، من النهب والسلب وقتل النساء والولدان وسبي الحرائر، ولولا تدخل الجيوش بشدة لامتدت الثورة.

وحدثت في مدينة جدة نازلة أكثر أهمية من تلك، وهي قيام المسلمين بها علي

المسيحيين في يوليو 1274ه وقتلهم بعضهم وإصابة قنصل فرنسا وكاتبه إصابة شديدة وقتل زوجته، ومما جعل باباً للأوروبيين لرمينا بالتعصب الديني، فلما علم (فؤاد باشا) بهذه الحادثة لم يشعها بل أرسل من يدعي (إسماعيل باشا) ببعض الجند لتحقيقها ومجازاة القاتلين بالإعدام بدون طلب تصريح من الآستانة، كما جرت به العادة، لكن قبل وصول هذا المندوب علمت الدول بهذه المذبحة، وأرسلت فرنسا وإنكلترا لائحة للباب العالي بالاشتراك يخبرانه بها أنهما أرسلتا مراكبهما إليها بتعليمات شديدة، فأجابهم (فؤاد باشا) بأن الدولة لم تهمل واجبها بل رخصت ل (إسماعيل باشا) بإجراء اللازم، وأن الدولة مستعدة لتقدير التعويضات الواجب دفعها لمن لحقهم ضرر بالاتحاد مع من تعينهم الدولتان لهذا الغرض.

إطلاق الإنكليز المدافع علي جدة

إطلاق الإنكليز المدافع علي جدة

وفي هذه الأثناء أتي (نامق باشا) والي مكة إلي جدة وقبض علي المجرمين وحاكمهم، فحكم علي كثير منهم بالإعدام، لكن لم يمكن تنفيذ هذه الأحكام إلا بعد استئذان الدولة. وفي غضون محاكمتهم وصلت إلي ميناء جدة سفينة حربية إنكليزية اسمها (سيكلوب) وطلب ربانها من (نامق باشا) تنفيذ الحكم فورا وأمهله أربعة وعشرين ساعة وإن لم يعدم المحكوم عليهم يطلق مدافعه علي المدينة. ولما أجابه (نامق باشا) بعدم إمكانه إجابة طلبه سلط مدافعه علي هذه المدينة واستمر إطلاقه عليها نحو عشرين ساعة ولولا وصول السفينة المقلة (إسماعيل باشا) المندوب العثماني لدمرت المدينة عن آخرها فإنه لما وصل هذا المندوب أوقف ضرب النار ونزل معه العساكر العثمانية والإنكليزية وأمر بشنق المحكوم عليهم بالإعدام فشنقوا وانتهت هذه المسألة ورجعت العساكر الإنجليزية إلي سفينتهما بدون أن يجدوا علة للبقاء.

حادثة الشام واحتلال فرنسا لها

ووجه أرباب الغايات مساعيهم إلي بلاد الشام لاستعدادها لقبول بذور الفساد أكثر من باقي الولايات بسبب تعدد الجنسيات واختلافهم في الدين والمشرب ووجود العداوة بينهم خصوصا بين المارونية والدروز، فقامت بينهم أسباب الشقاق ودواعي الخلف إلي أن تعدي المارونية بالقتل علي الدروز في أواخر سنة 1275ه وقام الدروز للأخذ بالثار، ثم امتدت الفتنة إلي جميع أنحاء الشام وكثر القتل والنهب وحصلت عدة مذابح في طرابلس وصيدا واللاذقية وزحلة ودير القمر ومنها إلي مدينة دمشق الشام.

فعرضت فرنسا علي الدول إنها مستعدة لإرسال جيوشها إلي بلاد الشام لقمع الفتنة ومجازاة مثيريها وحماية المارونية، فلم تقبل الدول هذا الاقتراح بادئ الرأي خوفا من عدم خروج فرنسا من الشام لو احتلتها عسكريا وضحت أموالها ورجالها.

ولما حصلت مذبحة دمشق التي قتل فيها نحو ستة آلاف نسمة علي ما يقولون أرسلت جميع الدول إلي الباب العالي

تهدده بالتدخل إن لم يضع حدا لهذه الفتن، لكن بلاغاتهم لم تكن اشتراكية لعدم اتحادهم، فجمع (فؤاد باشا) جميع الوزراء واظهر لهم ضرورة تعزيز الجيش العثماني بهذه البلاد وإخماد الثورة قبل أن تتفق الدول علي التدخل عسكريا، فتقرر رأيه بالإجماع وانتدب هو لقيادة الجيوش بها ومجازاة كل من تظهر إدانته. فسافر علي جناح السرعة ووصل إلي بيروت في 28 ذي الحجة سنة 1276ه ومنها قصد مدينة دمشق في خمسة آلاف جندي وشكل مجلسا حربيا، وحاكم رؤساء الفتنة بكل صرامة وشنق كثيرا ممن ظهرت لهم يد عاملة فيها سواء كان من الدروز أو المسيحيين أو المسلمين أو من نفس كبار مستخدمي الحكومة وبذل همته في إعادة الأمن إلي البلاد.

وفي أثناء ذلك اتفقت الدول علي أن ترسل فرنسا إلي الشام ستة آلاف مقاتل لمساعدة الجيش العثماني علي إعادة السكينة لو عجز عن تأدية هذه المهمة، وفي 22 محرم سنة 1277ه نزلت الجنود الفرنساوية إلي بيروت تحت قيادة الجنرال (دوبول). وفي أثناء ذلك انعقدت بمدينة بيروت لجنة أوروبية مشكلة من مندوبين معينين من قبل الدول الموقعة علي معاهدة باريس وبعد مداولات طويلة اتفقوا مع (فؤاد باشا) علي أن يعطوا للمسيحيين الذين حرقت دورهم مبلغ خمسة وسبعين مليون قرش بصفة تعويض، وان يمنح أهالي الجبل حكومة مستقلة تحت سيادة الدولة يكون حاكمها مسيحي المذهب، وأن يكون للباب العالي حامية من ثلاثمائة جندي تقيم في حصن علي الطريق الموصل من دمشق إلي بيروت.

ثم عين بالإجماع من يدعي (داود أفندي) الأرمني الجنس أميرا للجبل لمدة ثلاث سنوات لا يمكن عزله الا باتفاق الدول. وبعد خروج الجيوش الفرنساوية من بيروت بعشرين يوما توفي (السلطان عبد المجيد خان) في 17 ذي الحجة سنة

1277ه وعمره أربعون سنة وكسور، ومدة حكمه 22 سنة ونصف، وفي يوم موته بويع بالخلافة لأخيه.

السلطان عبد العزيزخان

المولود في 14 شعبان سنة 1245ه وفي 18 ذي الحجة سنة 1277ه توجه في موكب حافل إلي ضريح سيدي (أبي أيوب الأنصاري)، وهناك تقلد السيف السلطاني علي ما جرت به العادة، ومنه سار لزيارة قبر(السلطان الغازي محمد الثاني) فاتح الآستانة، ثم قبر والده (السلطان محمود الثاني).

وكانت فاتحة أعماله أنه أقر الوزراء في مراكزهم ما عدا ناظر الجهادية (رضا باشا) فإنه أبدل ب (نامق باشا).

ولما تولي (السلطان عبد العزيز) منصب الخلافة العظمي أبقي (محمد أمين عالي باشا) في الصدارة العظمي، لكن لم يلبث أن أقاله تبعا للظروف، في جمادي الأول سنة 1278ه، وعين (فؤاد باشا) صدرا أعظم، ولم تدم صدارته الأولي بل فصل عنها. وبعد بعض تقلبات أعيد إليها بعد بضعة شهور فبذل جهده في إصلاح المالية، التي كانت علي شفا الإفلاس بسبب الديون الكثيرة التي اقترضتها الدولة في أيام (السلطان محمود الثاني) و(عبد المجيد) بسبب إنشاء القوائم، التي هي عبارة عن أوراق صغيرة ملونة بألوان مختلفة كل منها بقيمة معلومة من النقود. ولبيان سوء الأحوال المالية نقول: إنه لما انتشبت حرب استقلال اليونان ودمرت الدول دونانماتها ظلما وتعصبا التزمت الدولة لتجديد مراكبها وتقوية جيوشها، إلي اصدار القوائم المالية، فأصدرت أولا في سنة 1245ه أوراقا بمبلغ اثنين وثلاثين ألف كيسة بفائدة ثمانية في المائة سنويا تستهلك في ثماني سنوات، ثم بسبب حروب الشام بين مصر والدولة ما تيسر لها استهلاك هذا القدر بل أصدرت أوراقا بلا فائدة، وامتنعت عن دفع الفائدة عن الأوراق الأصلية، وتوالي بعد ذلك إصدار الأوراق في كل سنة تقريباً.

ولما تربع (السلطان عبد المجيد) في دست الخلافة

أراد سحب القوائم، إلا ان حرب القرم وما جرته علي الدولة من المصاريف الباهظة منعه عن تتميم مشروعة واضطرته الأحوال إلي الاستدانة من أوروبا للقيام بأعباء الحرب، ثم استغرقت المصاريف كل القرض فأصدر قوائم جديدة. واستمر الحال علي هذا المنوال، وكل سنة تزداد الديون الخارجية والقوائم الداخلية حتي ولي (فؤاد باشا) منصب الصدارة، فاقنع جلالة (السلطان عبد العزيز) بضرورة إبطال القوائم وتسوية جميع الديون بكيفية منتظمة، فأصدر السلطان فرمانا عاليا في 20 رجب سنة 1278ه ل (فؤاد باشا) بإصلاح المالية وإعمال ميزانية سنوية لإيرادات ومصروفات الدولة. ثم في 19 ذي الحجة سنة 1278ه أصدر إليه فرمانا آخر أهم ما جاء به سحب القوائم بأجمعها وتصفية جميع الديون السائرة ودفع بدل القوائم نقودا ذهبية أو فضية بقيمة أربعين في المائة وسهاما جديدة بقيمة الستين في المائة الباقية.

واقترضت الدولة لإتمام هذه العملية المالية ثمانية ملايين جنيها انكليزيا، ولما لم تف اقترضت ثمانية أخري بواسطة البنك العثماني الذي تأسس في هذه الغضون، ولكثرة المصاريف في الإصلاحات الداخلية وغيرها كثرت الديون وتراكمت وصار دفع الكوبونات (الفوائد) حملا ثقيلا علي عاتق ميزانية الدولة، فأمر السلطان بالاقتصاد من جميع فروع الميزانية حتي من المبالغ المخصصة لسرايته الخاصة. وبذلك أمكن ناظر المالية (مصطفي فاضل باشا) القيام بدفع الفوائد. وأخيرا لعدم موافقة ناظر المالية ل (فؤاد باشا) علي مشروعاته المالية عزل (مصطفي باشا فاضل) وعين (كاني باشا) مكانه، فقدم هذا الأخير بالاتحاد مع (فؤاد باشا) تقريرا إلي السلطان بتاريخ 21 شوال سنة 1281ه قاضيا بإنشاء هذا التقرير وسجل بمقتضاه أربعون مليون جنيها عثمانيا، لكن لم يأت زمن دفع الكوبون الا والخزينة ناضبة لا يوجد بها ما يكفي لدفعه فاضطرت الدولة إلي إصدار سهام

جديدة بواسطة البنك العثماني بمدينتي باريس ولوندره، فأصدرها البنك في شعبان سنة 1282ه بفائدة 12 في المائة. ولضعف الثقة بمالية الدولة لم يقدم أصحاب الأموال علي الاكتتاب ولم يتحصل من هذه السهام الجديدة إلا ما يكفي لدفع الكوبون المستحق فقط.

ولاستمرار هذا الضيق وعدم وجود النقود الكافية للمصروفات الضرورية سعي به أرباب الغايات لدي جلالة السلطان وأفهموه أن هذا العسر ناشئ عن سوء تدبير (فؤاد باشا) للمالية فعزله واستبدله ب (محمد رشدي باشا) وأصدر له فرمانا بذلك بتاريخ 21 محرم سنة 1283ه فسعي مرتين في إصدار قرض لتسوية الديون السائرة ولم ينجح، وأخيرا اتفق مع البنك العثماني علي أن يدفع البنك فوائد الديون المقيدة في السجل العمومي كل ثلاثة أشهر، وتتنازل له الدولة لوفائها عن بعض إيرادات معينة، وبذلك أمكن دفع الكوبونات أولا فأولا واتقي شر تأخير دفعها الذي يعد في عرف المالية إفلاسا، وصارت الدولة تقترض ما يلزمها من البنوك بدون إصدار أسهم عمومية.

بعد أن استقرت أحوال الدولة المالية أو كادت، تحركت الفتن السياسة أولا بسبب عدم قبول حكومة الصرب باتفاق 11 ربيع الأول سنة 1279ه القاضي ببقاء الجيوش العثمانية محتلة لأربع قلاع بداخل بلاد الصرب كما سبق ذكر ذلك، وطلبها من الدول بكل إلحاح إبطال هذا الشرط وانجلاء عساكر الدولة عنها قطعيا، فلم تقبل الدولة بل هددت الصرب بالحرب لو مست عساكرها المحتلين بسوء.. ولكن اشتعال نار الفتن بكريد أشغلها عن إخضاعها وقبلت أخيرا في ذي القعدة سنة 1283ه سحب عساكرها فكمل استقلال الصرب ولم يبق علي أميرها إلا لقب ملك.

ومثل ذلك حصل بخصوص الاعتراف بانتخاب (البرنس شارل دي هوهنزولرن البروسي) فإن الدولة بعد أن جمعت جيشا جرارا علي حدو رومانيا لفسخ الانتخاب وإلزام

الأهالي باتباع نصوص المعاهدات اضطرتها ثورة كريد إلي العدول عن هذه الخطة والاعتراف بانتخابه. ولقد أصابت الدولة في ذلك لأن وجود مثل هذه الإمارة في طريق روسيا يفيدها وقت الحرب خصوصا إذا لم يكن أميرها مصافيا لروسيا ولا متحدا معها في المذهب والجنس. أما الإصلاحات التي أجريت في داخلية الممالك المحروسة في خلافته، فمنها: القانون القاضي بجواز انتقال الأراضي الميرية (الخراجية) والموقوفة لورثة صاحب المنفعة الصادر في 17 محرم سنة 1284ه وهو يشبه لائحة الأطيان السعيدية المصرية. والقوانين التي أجازت للأجانب امتلاك العقارات وكافة الحقوق العينية والتصرف فيها بجميع الممالك المحروسة بعد أن كانت ممنوعة عنهم كلية، وذلك في سنة 1285ه، ومنها وضع مجلة الأحكام الشرعية ليعمل بها في المحاكم النظامية.

وحرر في المادة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة من هذه المجلة:

(فإذا أمر إمام المسلمين بتخصيص العمل بقول من المسائل المجتهد فيها تعين ووجب العمل بقوله، وإذا صارت هذه المعروضات المبسوطة لدي حضرتكم قرينة التصويب يجري توشيح أعلي المجلة الملفوفة بالخط الشريف الهمايوني والأمر لولي الأمر).

وفي سنة 1283ه غيرت طريقة التوارث في الخديوية المصرية وحصرت في ذرية (إسماعيل باشا)، ثم في سنة 1289ه أعطيت له عدة امتيازات جديدة، وفي 13 ربيع الأخر سنة 1290ه أرسل إليه فرماناً جديداً شاملاً لجميع امتيازات مصر وكيفية التوارث في منصب الخديوية. ثم وهب جلالة السلطان الأعظم إلي جناب خديو مصر مدينة (زيلع) وملحقاتها التابعة للواء الحديدة وأصدر له فرمانا بذلك.

مسألة قنال السويس

وكان يظن قبلا أن حفر خليج يصل بين البحرين (الأحمر والأبيض) مباشرة أمر مستحيل بسبب ادعاء بعض العلماء أن سطح مياه البحر الأحمر أعلي بنحو عشرة أمتار عن سطح مياه البحر الابيض كما قررته بعثة علمية فرنساوية في سنة 1192 ه

لكن أسقط هذا القول بالبحث الذي أجري في أواسط هذا القرن (التاسع عشر).

ولما تحقق لدي العموم بإجماع العلماء أن سطح البحرين متساو، سعي المسيو (فردينان دي ليسبس) قنصل فرنسا في مصر لدي (سعيد باشا) والي مصر إذ ذاك للحصول علي فرمان يخوّله امتياز تشكيل شركة عمومية لاتمام هذا العمل.

وبعد مساع لا مزيد عليها تحصّل علي هذا الفرمان سنة 1271 ه ومما جاء فيه: أن يكون الخليج المزمع انشاؤه ملكا للشركة مدة 99سنة تبتدئ من يوم فتحه للملاحة وأن لا يعمل بهذا الفرمان ولا يبتدأ في العمل إلا بعد تصديق الباب العالي عليه.

وفي سنة 1273 ه تعهدت الحكومة للشركة بإحضار من يلزم لها من العملة من المصريين قهراً بالطريقة التي كانت متبعة في الأعمال العمومية أو أن تدفع لهم الشركة الأجر من طرفها..

ولما صدرت سهام الشركة لم يقبل الجمهور علي شرائها لمعارضة الجرائد الانكليزية لهذا المشروع، فبقي في ايديها مائة وسبعة وسبعون ألف وستمائة واثنان واربعون سهماً، قيمة كل منها خمسمائة فرنك أي أن ثمنها عبارة عن ثلاثة ملايين وخمسمائة وخمسين ألف جنيه مصري وزيادة،، فحسن (المسيو دي ليسبس) ل (سعيد باشا) أن يشتريها للحكومة المصرية، فاشتراها. ولما طلب منه عشري ثمنها عند الابتداء في العمل اقترض له.

واعترض الباب العالي علي هذا الاتفاق، ومما جاء فيه.. أن لا يستعمل المصريون قهراً في أشغال الشركة، اذ كان يستغل بها في هذه الاثناء نحو ستين ألف مصري بطريق السخرة وأمهلت الدولة الشركة ستة أشهر لاعطاء الجواب والا يسقط حقها..

ولما انقضي الأجل ولم تجب الشركة بشيء، أعلنتها الحكومة المصرية بسقوط حقها في سنة 1279 ه فارعد (المسيو دي ليسبس) وأزبد، وتدخلت فرنسا، وكاد الأمر يفضي إلي ارتباكات سياسية، فقبلت

الحكومة المصرية بحكم (نابليون الثالث) امبراطور فرنسا، ظنّا منها أنه ينصفها ضد الشركة، وغاب عنها أنه لا بد أن يميل إلي الشركة بعملي الجنسية و السياسية.

ونكتفي بالقول أنه حكم بما يأتي:

أولا: أن تدفع الحكومة المصرية للشركة مبلغ ثمانية وثلاثين مليون فرنكاً في مقابلة إبطال الشرط القاضي عليهما بإحضار العمال.

ثانيا: ثلاثين مليون فرنكا نظير ترك الاراضي التي رخص للشركة باحيائها وزراعتها.

ثالثا: ستة عشر مليون في مقابلة تخلي الشركة عن الترعة الحلوة وفوائدها، وتلتزم الحكومة زيادة عل ذلك بحفرها من القاهرة إلي الوادي، وبجعلها صالحة للملاحة في جميع أوقات السنة وعلي الشركة تطهيرها سنوياً بمعرفتها في مقابلة ثلاثمائة ألف فرنك فأخذها من الحكومة ويكون للشركة الحق في أخذ سبعين ألف متر مكعب من المياه في كل أربع و عشرين ساعة وبذلك يكون ما دفع من الحكومة المصرية بسبب عدم تبصر رجالها مائة واثنين وعشرين مليون فرنكاً.

وفي سنة 1290 ه توجه الخديو (إسماعيل باشا) إلي اوربا لدعوة ملوكها لحضور الاحتفال الذي صمم جنابه علي اجراءها إظهاراً لسروره من إتمام العمل المضر بمصر مالياً و سياسياً وأخذ ايضاً يجهِّز ما يلزم لاقامة الملوك و الوزراء من السرايات اللائقة بمقامهم وأنشأ لهم سراية في مدينة الاسماعيلية الجديدة، أنشأتها الشركة علي نفقة الحكومة بمليونين من الفرنكات

وفي 17سبتمبر (ايلول) سنة 1869 قدم الوافدون وفي مقدمتهم إمبراطورة فرنسا وإمبراطور النمسا.. وقد طار ذكر هذا المهرجان حتي ملا البقاع وتحدث الناس في ترتيبه ونظامه ومصرفه. وقد بلغ مصرف هذا المهرجان ما يزيد علي مليون ونصف من الجنيهات، وذلك قدر السدس من إيراد مصر سنة كاملة.

عزل السلطان عبد العزيز

بعد الحوادث التي مر ذكرها اقتنع السلطان أن تحالف الدول مع الدولة في حرب القرم، وما بعدها لم تكن

نتيجته إلا إضعافها بالتدخل في شؤونها الداخلية ومساعدة الطوائف المسيحية الخاضعة لها علي الانشقاق عنها، وبث روح الفتن والفساد في ممالكها تحت غطاء الحرية ونشر العلوم، وأن كل ذلك يعود بالنفع علي روسيا جارتها القوية وعدوتها القديمة لا سيما وقد عدّل الدول بعد الحرب الفرنساوية الألمانية أهم بنود معاهدة باريس التي أبرمت بعد حرب القرم لحفظ التوازن في البحر الأسود وعدم مراعاتها عقب إبرامها في حق ولايتي الأفلاق والبغدان. فلهذه الأسباب علم السلطان أن الأولي والأنجح لسياسة الدولة هو التباعد عن الدول الغربية والتحالف مع روسيا، وعضده في هذا الفكر، فأكثر السلطان من الاجتماع مع الجنرال (اغنالتبق) سفير روسيا بالآستانة، والمتواتر وإن لم تثبته الاوراق الرسمية أنهما كانا يسعيان لوضع أساس معاهدة هجومية دفاعية يكون من أهم بنودها الاختصاص بجميع بلاد الشرق وتتبع الولايات الاسلامية أو التي يغلب فيها العنصر الاسلامي للدولة الإسلامية وضم جميع الأقاليم المسيحية أو التي يسود فيها هذا العنصر للدولة الروسية. ولما شاع هذا المشروع لم يرق في أعين الدول الأورويبة التي لها مصالح في الشرق، وخصوصاً انكلترا. فأخذ عمالهم و سفراؤهم الظاهرون والسريون يلقون الوساوس في عقول السذج من أهل الآستانة وينسبون السلطان للتبذير والاسراف وعدم الأهلية لإدارة مهام الملك، وربما استعان هؤلاء المغررون بطرق أخري المطالع بها أدري، وما زالوا يوسوسون ويلقون بذور الفساد حتي أقنعوا الوزراء بوجوب عزله، وأن إقالته من الأعمال، واجبة لانتظام الدولة وسيرها علي المحور المستقيم. وصادفت دسائسهم أذنا صاغية عند بعض العلماء لما خالج صدورهم من عدم الميل للسلطان بسبب عدم اتباعه بعض العوائد المألوفة لديهم مثل خروجه من ممالكه وزيارة معرض باريس وحضوره التشخيصات التياترية والباللوات (المراقص).

وكيفية خلعه علي أصح الروايات: أن المؤامرة

التي أوصلت إلي هذه النتيجة حصلت بين كل من (محمد رشدي باشا) الصدر الأعظم، و(حسين عوني باشا) ناظر الحربية، و(أحمد باشا قيصرلي) ناظر البحرية، و(أحمد مدحت باشا) وشيخ الإسلام (حسن خير الله أفندي) وقبل الشروع في تنفيذ ما صمموا عليه أصدر شيخ الإسلام فتوي بوجوب ذلك هذا نصها.

(إذا كان زيد الذي هو أمير المؤمنين مختل الشعور، وليس له إلمام في الأمور السياسية، وما برح ينفق الأموال الميرية في مصارفه النفسانية في درجة لا طاقة للملك والملة علي تحملها، وقد أخل بالأمور الدينية والدنيوية وشوشها وخرب الملك والملة وكان بقاؤه مضرا بها فهل يصح خلعه)؟

الجواب: (يصح).

كتبه الفقير حسن خير الله

عفي عنه

ثم أناطوا (حسين عوني باشا) بأمر خلع (السلطان عبد العزيز) وشيخ الإسلام وباقي الوزراء بمبايعة (السلطان مراد).

وفي يوم الاثنين 6 جمادي الأول سنة 1293ه أخذ ناظر البحرية في تجهيز المراكب لحصر السراية السلطانية بحرا، فاستغرب السلطان حصول المناورات بالبحر تحت شبابيكه بدون سابقة علمه، فأرسل يستعلم عن السبب فأجيب بأن دواعي الحال أوجبت ذلك، ثم أخبر (أحمد باشا) قيصرلي الصدر الأعظم و(مدحت باشا) بسؤال السلطان فعزموا علي تنفيذ مشروعهم في مساء ذلك اليوم خوفا من أن يكون السلطان قد شعر بسيئ قصدهم، واتفقوا علي تكليف من يدعي (رديف باشا) بحصر السراية برا، وتعهد (أحمد باشا) قيصرلي بحصرها بحرا وفي الساعة الثانية بعد غروب ذلك اليوم اجتمع المتآمرون في ديوان السر عسكرية وتوجه (رديف باشا) مع ألاف من الجند مؤلف من 2500 عسكري وأمر (سليمان باشا) رئيس المدرسة الحربية بخفر باب السراي مع مائة من تلامذة هذه المدرسة راكبين خيولهم ومسلحين بالبنادق الجديدة، ولما تم حصارها برا وبحرا وأخبر المتآمرون بذلك توجه (حسين عوني باشا) في عربة

إلي مقر (السلطان مراد) وأركبه معه وعادا معا إلي السر عسكرية حيث كان بانتظارهما (شيخ الإسلام) و(الشريف عبد المطلب) وجميع أعيان الدولة من عسكريين وملكيين، ولما دخلاها أحاطت بالسراية فرقة من الجنود لمنع من فيها من الخروج، ثم حصلت المبايعة للسلطان الجديد (مراد خان الخامس) من جميع الحاضرين علي الأسلوب المتبع.

السلطان مراد خان الخامس

وهو ابن (السلطان عبد المجيد)، وكانت ولادته في 25 رجب سنة 1256ه. هذا ولما تم أمر المبايعة أرسل مخصوص إلي (رديف باشا) يخبره بذلك ويسلمه صورة الفتوي القاضية بعزل (السلطان عبد العزيز)، فقصد (رديف باشا) باب الحريم واستدعي (جوهر آغا) رئيس آغاوات السراي وكلفه بأن يبلغ السلطان أن الأمة قد عزلته، وأنه مأمور بتوصيل السلطان المخلوع إلي سراي طوبقبو وسلمه صورة الفتوي ليطلعه عليها، فلم يصدق السلطان الخبر إلا بعد أن نظر من الشبابيك ورأي العساكر محيطة بسرايته برا وبحرا إحاطة السوار بالمعصم.

وعند ذلك أيقن أن التوقف لا يكون وراءه إلا الإكراه علي الخروج فنزل مستسلما، وبمجرد خروجه أحاطت به العساكر وأنزلوه مع ابنه (يوسف عز الدين أفندي) في زورق ووالدته في ثان وباقي أولاده وأمهاتهم في ثالث، ثم خفرتهم الزوارق الحربية إلي أن أوصلتهم إلي سراي طوبقبو حيث كانت العساكر مصطفة علي حافتي الطريق من البر إلي باب السراي.

وفي الساعة الحادية عشرة ليلا أطلقت المدافع من البر والبحر إيذانا بخلع (السلطان عبد العزيز) وتنصيب (السلطان مراد الخامس)، ونادي المنادون بذلك في الشوارع، فهرع الأهالي أفواجا إلي سراي السر عسكرية وبايعوا (السلطان مراد) ولم يحصل أدني مقاومة من أحد ولم تحتج إحدي الدول علي هذه الثورة الداخلية، وذلك مما يؤيد أن جميع القناصل كان عندهم علم بما حصل قبل وقوعه، وأنه ربما كان ذلك

باتفاقهم.

وفي الساعة الثالثة صباحا ذهب (السلطان مراد) في عربة بين صفوف الأهالي إلي سراي بشكطاش حيث استمرت المبايعة ثلاثة أيام متوالية.

وفاة السلطان عبد العزيز

وفاة السلطان عبد العزيز

ولقد اختلفت الأقوال في كيفية موت هذا السلطان، وكثرت الروايات عن ذلك، فمن قائل أنه قتل نفسه لعدم انتظام قواه العقلية بعد خلعه، ومن قائل أن الذين تآمروا علي خلعه ارتكبوا هذا الأمر الفظيع فقتلوه خيفة أن يسعي في الرجوع إلي منصة الأحكام. وقد شاع أو أشاع أرباب الغايات أن قد أصابته أمراض دماغيه يوم خلعه فاضطربت أحواله، وفي هذا الأثناء وعلي حين غفلة أخذ مقصاً وقطع عرقاً من ذراعه الأيمن وقطع عرق ذراعه الأيسر واضطجع علي متكأ حتي تصفّي دمه.

ولما شاع هذا الخبر علا صريخ الجواري وأتي الوزراء وبعد أن شاهدوا الحالة استدعوا لجنة طبية من مشاهير الأطباء، ومن ضمنهم أطباء سفراء الدول وبعد الكشف عليه طبع الكشف ووزع علي العموم ونشر في الجرائد ليعلم الناس كيفية موته. وفي الساعة الخامسة عربيا نقلت جثته إلي سراي طوبقبو (وكان قد نقل منها إلي سراية أخري يوم السبت السابق لوفاته بناء علي طلبه) وهناك غسلت وجهزت. وفي الساعة العاشرة شيعت جنازته ودفن بجوار أبيه (السلطان محمود).

قتل حسين عوني باشا ومحمد راشد باشا

(حسن بك) هو ابن (إسماعيل بك)، أحد أعيان الجراكسة المهاجرين من بلادهم بعد دخولها ضمن أملاك روسيا، وكان ياورا ل (يوسف عز الدين أفندي) نجل (السلطان عبد العزيز) الذي كان مشيرا للاوردي الهمايوني الخاص. ولما توفي (السلطان عبد العزيز) أراد (حسين عوني باشا) السر عسكر إبعاده عن الآستانة فألحقه بمدينة بغداد، وأمره بالسفر علي عجل، فامتنع، فحبس بحسب الأصول العسكرية، ثم أظهر الرغبة في السفر وطلب إمهاله يومين لا غير للتأهب للسفر فأفرج عنه، وفي مساء يوم الخميس 23 جمادي الأولي سنة 1293ه تسلح بأربعة مسدسات وخنجر ماض وقصد منزل (عوني باشا) فقيل له إنه بمنزل (مدحت باشا) فذهب إليه،

ولما سأل الخدم عن (حسين عوني باشا) قالوا له إنه مع سائر الوكلاء (النظار) في مجلس مخصوص، فأوهمهم أن معه تلغرافاً مهما يختص بالحربية يريد توصيله فورا للسر عسكر، ثم انتظر برهة وطلع إلي المحل المجتمع فيه الوكلاء فوجد حارسا بالباب منعه عن الدخول، فقال له من أنت، قال: (سالم آغا) خادم الصدر الأعظم، فقال: اذهب وناد خادم (حسين عوني باشا) لأني مستعجل، فنزل (سالم آغا) وعندها دخل (حسن بك) الغرفة وأطلق غدارته علي (حسين عوني باشا) فأصابه برصاصتين فقام للدفاع عن نفسه فأجهز عليه بالخنجر وأصاب (محمد راشد باشا) ناظر الخارجية برصاصة في عنقه أفقدته الحياة، ثم قام (أحمد باشا قيصرلي) ناظر البحرية وقبض علي يد (حسن بك) فاثخنه جراحا حتي فر مع باقي الوزراء إلي غرفة أخري تابعة لدائرة الحريم ووضعوا خلف الباب بعض امتعة ثقيلة، ثم جاء (أحمد آغا) رئيس خدم (مدحت باشا) وأراد القبض عليه فقتله، ثم حاول فتح الباب الذي اختفي باقي الوزراء خلفه، ولما لم يمكنه أطلق رصاصتين نفذتا من الخشب بدون أن تصيبا أحداً، ثم أخذ كرسيا وصار يكسر في الثريات لإطفاء النور وأخذ شمعدانا ليحرق به الأستار ويوقد النار في المنزل ليمكنه الهروب لكن لم يتمكن من ذلك، إذ حضرت عدة من عساكر الضبطية فقبضوا عليه بعد ان قتل (شكري بك) ياور الصدر الأعظم وأحد أنفار العساكر، ثم سيق إلي ديوان السر عسكرية، وفي صباح الجمعة تشكل مجلس حربي تحت رئاسة (رديف باشا) فحكم عليه بالتجريد من الرتب والقتل شنقا، وجرد في الحال من الرتب وعلامات الشرف. وفي فجر يوم السبت شنق علي شجرة في ساحة (بايزيد) وبقي مشنوقا إلي صباح الاثنين وعلي صدره ورقة تبين أسباب

شنقه ليكون عبره لغيره.

عزل السلطان مراد

وقد ظهرت علي السلطان علامات الاضطراب العصبي عقب توليته بنحو أسبوع، ثم ازدادت شيئا فشيئا، خصوصا بعد ما بلغه خبر قتل (حسين عوني باشا) و(محمد راشد باشا) بالصفة التي سبق شرحها، حتي لم يتمكن من تمييز الوزراء عن بعضهم، ومع ذلك فكان الصدر الأعظم يخفي هذا الأمر عن العموم لكن ذاع خبره لعدم إجراء الاحتفال بتسليمه السيف السلطاني في جامع (أبي أيوب الأنصاري) حسب العادة، ولعدم مقابلته قناصل الدول ليقدموا إليه أوراق تجديد تعيينهم لدي حكومته. وأخيرا لما اشتد عليه الحال استدعي الوزراء الطبيب (ليدزورف) النمساوي الشهير بمداواة الأمراض العقلية فحضر، وبعد أن فحصه ولازمه عدة أيام متفرسا كل ما يبدو منه من الأقوال والإشارات واستعلم عن عاداته وكيفية معيشته، قال: بتعسر برئه من هذا المرض. فتشاور الوزراء في الأمر ثم عرضوا علي أخيه (عبد الحميد أفندي) أن تسلم إليه مقاليد الأحكام، حيث حكم الأطباء بعدم لياقة أخيه (السلطان مراد) لإدارة مهامها، فأجابهم: أن الأولي عدم التسرّع.. فامتثل الوزراء، لكن لما رأوا أن الحالة في إزدياد اجتمعوا في يوم الأربعاء 10 شعبان سنة 1293ه وقرروا بوجوب المبايعة ل (عبد الحميد خان الثاني) وأرسلوا رقيما لوالدة (السلطان مراد) يخبرونها بذلك، فأجابت باستحسان ما قرروه. ثم في صباح يوم الخميس اجتمع الوزراء ثانية واستدعوا شيخ الإسلام (خيرالله أفندي) وجميع الذوات والعلماء والأمراء والأعيان واستفتوا شيخ الإسلام في الأمر، فأفتي بوجوب عزله وهاك نص الفتوي:

صورة استفتاء الوزراء

في وجوب خلع السلطان مراد خان الخامس

(إذا جن إمام المسلمين جنونا مطبقا ففات المقصود من الإمامة فهل يصح حل الإمامة من عهدته)؟

الجواب: (يصح والله أعلم).

كتبه الفقير حسن خيرالله

عفي عنه

السلطان عبد الحميد خان الثاني

السلطان عبد الحميد خان الثاني

وبعدها أرسلوا في طلب السلطان الجديد إلي سراي طوبقبو وبايعه الحاضرون. ومنها إلي

سراي بشكطاش حيث بايعه جميع من حضر من رؤساء روحانيين وغيرهم.

أما (السلطان مراد) فتوجه إلي سراي جراغان التي كان بناها (السلطان عبد العزيز) واستشهد بها، ثم أخطرت الولايات وزينت المدينة ثلاثة أيام توالي فيها إطلاق المدافع في الأوقات الخمس من الطوابي والمراكب الحربية. وفي يوم 18 شعبان سنة 1293ه تقلد السلطان السيف المنيف في جامع (أبي أيوب الأنصاري) علي ما جرت به العادة، وكان ذهابه إلي هذا الجامع في موكب حافل لم يسبق له مثيل، وبعد ذلك استلم إدارة الأعمال بهمة ونشاط.

البرلمان العثماني الأول

وفي 4 ربيع الأول سنة 1294ه فتح البرلمان العثماني الأول في سراي بشكطاش، وعند افتتاحه تليت خطبة أنيقة عن لسان السلطان، وبحضوره شرحت فيها جميع الأسباب التي أدت إلي انحطاط الدولة وتأخرها سلميا وسياسيا، وبعد تشخيص الداء بيّن فيها الدواء وما يلزم للمملكة من الإصلاحات ونشر التعليم والمساواة بين الجميع والعدل في الأحكام. وفي 12دسمبر سنة 1293ه قضت المراحم السلطانية فأصدر فرمانا بفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية وتعيين قضاة من الأهالي بطريق الانتخاب وتوحيد الضرائب والمساواة فيها بين المسيحيين والمسلمين.

حادثة سلانيك ولائحة برلين

وتفصيل هذه الحادثة أن فتاة بلغارية مسيحية اعتنقت الدين الحنيفي الإسلامي طائعة مختارة وأتت إلي سلانيك في سنة 1293ه لإثبات إسلامها شرعا، فتعرض لها بعض أوباش الأروام في الطريق حين توجهها إلي دار الحكومة واختطفوها من أيدي المحافظين عليها بالقوة، وأخفوها أولا في محل (قنصلاتو) أمريكا ثم في أحد بيوت كبرائهم، ولما اشتهر هذا الخبر بين المسلمين هاجوا وماجوا وتجمعوا في فسحة دار الحكومة طالبين البحث عن البنت وتخليصها من أيدي المخفين لها، فوعدهم الوالي بإجراء شؤون وظيفته.

ثم لما رأي المسلمون عدم نجاح بحث الحكومة تجمعوا ثانيا في اليوم الثاني في أحد الجوامع مشددين النكير علي الحكومة، وفي أثناء هذا الهياج حضر قنصلا فرنسا وألمانيا ويقال انهما دخلا الجامع، ولتواتر الاشاعة بان البنت في بيت قنصل المانيا ازداد الهياج، وفي أقل من القليل بلغت الحدة منتهاها من المجتمعين وتعدوا علي القنصلين بالقتل.

ولما وصل خبر هذه الحادثة إلي الدول اضطرب وزراؤها وتبادلوا المخابرات البرقية للاتفاق علي اتخاذ سبب للتدخل.

وفي 11 منه اجتمع (البرنس غورشاكوف) وزير روسيا و(الكونت أندراسي) وزير النمسا ب (البرنس دي بسمارك) بمدينة برلين وأخذوا في المداولة معا يومي 11و 12منه. وفي 13

منه حرروا لائحة إلي الباب العالي معروفة في كتب السياسة بلائحة برلين، وصدقت عليها دولتا ايطاليا وفرنسا، ومفادها التشديد علي الباب العالي بتنفيذ ما جاء في الفرمان السلطاني المؤرخ 12 دسمبر سنة 1875م وتعيين مجلس دولي لمراقبة تنفيذه وإجراء كل ما فيه إصلاح حال المسيحيين في هذه الولايات وأن تبرم الدولة مع الثائرين هدنة قدرها شهران أو ستة أسابيع علي الأقل للوصول إلي اتفاق مرض لهم، وأنه إن لم تتفق مع الثائرين في خلال هذه الهدنة تكون الدول الموقعة عليها مضطرة لاستعمال القوة لإجبار الباب العالي علي تنفيذ هذه اللائحة. فيري في ذلك المطالع أن الدول كانت متفقة علي محاربة الدولة لتقسيم أملاكها فيما بينهم أو بالأقل سلخ جميع الولايات التي بها مسيحيون.

وفي سنة 1293 ه حصلت عدة مذابح في كثير من القري قتل فيها كثير من المسلمين لتجردهم عن السلاح وعدم إمكانهم رد القوة بمثلها. ولما وصل هذا الخبر إلي الوالي أرسل إلي الآستانة يطلب الجيوش لاتساع نطاق الثورة شيئا فشيئا، وعدم كفاية العساكر الموجودة تحت أمره، ثم وزع كثيرا من الأسلحة علي المسلمين ونظمهم بهيئة رديف. ولما أتي إليه المدد أمكنه قمع الثورة بواسطة الألايات المنتظمة والباشبوزوق والرديف واستعمال الشدة مع من يضبط من الثائرين. ولما كادت تخيب مساعي دعاة الفساد أشاعوا بأوروبا ان العساكر العثمانية ارتكبت ما لا يرتكبه المتبربرون.

وفي شعبان سنة 1293 ه اجتمع مؤتمر بصفة رسمية في سراي البحرية تحت رئاسة (صفوت باشا) ناظر خارجية الدولة، وانتخب هو رئيسا له لانعقاد المؤتمر في الآستانة، وعضوية كل من (أدهم باشا) سفير الدولة ببرلين، والكونت (فرنسوا دي بورجوان) والكونت (دي شودوردي) عن فرنسا، والبارون (وزر) عن ألمانيا، والكونت (كورتي) عن إيطاليا، والكونت

(زيكي) من أشراف المجر، والبارون (كاليس) النمساوي عن النمسا، والجنرال (اغناتيف) عن روسيا، واللورد (سالسبوري) والسير(هنري ليوت) عن انكلترا. وفي يوم انعقاده اطلقت المدافع من جميع القلاع والمراكب إيذانا باعلان القانون الاساسي الذي ساوي بين جميع رعايا الدولة.

سقوط قارص

وفي أواخر شهر سبتمبر سنة 1294ه اتخذ الجنرال (لوريس مليكوف) خطة الهجوم ثانيا ولعدم إرسال جيوش جديدة إلي (مختار باشا) واستشهاد عدد كبير من جنوده في هذه الوقائع المستمرة لم يمكنه مقاومة الجيوش الروسية الجديدة التي لم يضنها التعب بل رجع القهقري قاصدا مدينة أرضروم، فتبعه القائد الروسي وهزمه في موقع يقال له (آلاجه طاغ) ثم حاصر مدينة قارص وفتحها عنوة في 18 نوفمبر سنة 1294ه بعد أن حاول من بها الخروج من وسط المدافع الروسية، وغنم منها ثلاثمائة مدفع تقريباً.

حل مجلس النواب

واستمر اجتماع مجلس النواب العثماني إلي أن قرر السلطان بالاتحاد مع جميع أعيان الدولة وجوب إرجاء اجتماعه لأجل غير محدد لعدم ملائمة الظروف لوجوده، وأعلن ذلك رسميا إليه في يوم 14 فبراير سنة 1295ه، وعقب فضه ضبط كثير من أعضائه ونفوا خارج البلاد بسبب تنديدهم بأعمال الحكومة واعتراضهم علي إجراءاتها، ولم يجتمع بعد ذلك.

أما الوزارات فتعاقبت بسرعة غريبة، مع ان الحكمة كانت تقضي بعدم تغييرها وبقاء الوزراء في مناصبهم في مثل هذه الظروف الخطيرة، ففي 7 محرم سنة 1295ه عزل (أدهم باشا) وعين مكانه (أحمد حمدي باشا) واستبدل أغلب النظار (الوكلاء) بغيرهم. وفي غرة صفر من السنة المذكورة أي بعد ذلك بثلاثة وعشرين يوما ألغي لقب الصدر الأعظم واستبدل بلقب رئيس الوكلاء، ووجه هذا المنصب إلي (أحمد رفيق باشا) الذي كان ناظرا للمعارف في الوزارة السابقة.

وفي 15 ربيع الثاني سنة 1295ه ولي (الصادق محمد باشا) مسند رئاسة الوكلاء. وفي 27 جمادي الأولي ألغي لقب رئيس الوكلاء وأعيد لقب الصدر الأعظم وأسند إلي (محمد رشدي) الملقب بالمترجم الذي تقلد هذا المنصب أكثر من مرة، ولم يلبث في هذا المنصب الا ستة أيام، وعزل في 4

جمادي الأخيرة وعين مكانه (صفوت باشا) الذي كان وزيرا للخارجية أثناء انعقاد مؤتمر الآستانة قبل إعلان الحرب من روسيا، واستمر هذا الوزير متقلدا منصب الصدارة العظمي إلي ديسمبر سنة 1295ه، حيث أحيل هذا المنصب إلي عهدة (خير الدين باشا).

حادثة جراغان

وفي يوم 17 جمادي الأولي حصلت بالآستانة حادثة كادت تكون سبباً لدخول عساكر الروس اليها واحتلالها عسكريا، وذلك أن شخصا يدعي (علي سعاوي أفندي)، بخاري الأصل، أتي إلي الآستانة لطلب العلم وتحصل علي نصيب وافر من العلوم العربية حتي صار علي جانب عظيم من الفصاحة في الإنشاد والخطابة، لكنه كان ميالا إلي إثارة الفتن وإلقاء الدسائس، فنفي أولا سنة 1287ه ومكث خارجا عن البلاد تسع سنوات، ثم عاد إلي الآستانة بمسعي (مدحت باشا) وعيّن ناظرا علي المكتب السلطاني الذي يتعلم فيه أولاد (السلطان عبد الحميد)، ثم عزل لعدم تحسن أحواله وتدخله في الأمور السياسية، وبعد عزله أخذ يدبر في طريقة لإثارة فتنة في الآستانة لعزل (السلطان عبد الحميد) وإعادة (السلطان مراد) إلي عرش الخلافة، وانتهز لذلك فرصة اشتغال الدولة بالمخابرات السياسية واضطراب الأفكار بسبب احتلال الروس لضواحي الآستانة ووجود نحو (150000) نفس من المسلمين المهاجرين من البلاد التي وطئتها عساكر روسيا بخيولها، و منهم من هو غير راض عن الحالة الحاضرة، واتفق مع نحو مائتين منهم علي تنفيذ ما يكنه صدره من الفتن.

واجتمعوا في اليوم المذكور قبل الظهر وانقسموا إلي قسمين، القسم الأول منهم قصد سراية جراغان من جهة البحر تحت رئاسة زعيم يقال له (صالح بك). والثاني تحت رئاسة (علي سعاوي أفندي) من جهة البر. وكانوا جميعهم متزيين بزي المهاجرين. ثم اجتمع القسمان عند باب السراية وحاولوا الدخول فيها، فمنعهم الحارس فقتلوه، ودخلوا السراية، وصاروا

يفتشون علي (السلطان مراد) حتي عثروا عليه في حجرته، وسلمه (سعاوي أفندي) طبنجة (مسدس).

وفي أثناء ذلك أتت فرقة من الجنود من سراي يلدز المقيم بها (السلطان عبد الحميد) وحاصرت الثائرين من جهة البر. كما حاصرتها قوارب المراكب البحرية من جهة البحر. ولم يمض الا قليل حتي قتل الجند جميع من دخل السراية من الثائرين وفي مقدمتهم رئيس العصابة (علي سعاوي). وبعد إطفاء هذه الفتنة والقبض علي من بقي حيا منهم، نقل (السلطان مراد) وعائلته إلي قصر داخل ضمن سراي يلدز العامرة، وبذلك هدأت الأفكار وعادت الناس إلي فتح دكاكينهم بعد أن أغلقوها.

وبعد ذلك بثلاثة أيام، أي في يوم 20 جمادي الأولي التهمت النيران جزءاً عظيماً من الباب العالي نفسه، وأحرقت دائرة شوري الدولة وتوابعها، ودائرة الأحكام العدلية والتشريفات والداخلية وغيرها مع جميع ما فيهما من الأمتعة والفروشات والأوراق الرسمية. ومن المظنون أن هذا الحريق لم يكن الا بفعل أرباب الثورة انتقاما مما أصابهم من الخذلان في حادثة جراغان.

ومن تأمل إلي خريطة الدولة يتضح له أن الروسية قد محت تركية أوروبا بأجمعها تقريباً من العالم السياسي، ولم يبق للدولة بها الا أربع قطع صغيرة لا اتصال بين ثلاثة منها إلا بطريق البحر ولا بين الثالثة والرابعة الا بطريق ضيقة تمر بين أراضي الصرب والجبل الأسود، ولا يزيد اتساعها في بعض المواضع عن خمسة كيلومترات بحيث يتيسر لإحدي الأمارتين منع الجيوش العثمانية من المرور وقطع الطريق عليها كلية، والقطعة الأولي هي مدينة الآستانة وضواحيها، والثانية مدينة سلانيك والبحيث جزيرة القريبة منها، والثالثة مكونة من بلاد ابيروس وجزء من بلاد الارنؤود، والرابعة من إقليمي البوسنه والهرسك. وما بقي من أملاكها أعطي منه جزء للصرب وآخر للجبل الأسود وشكل

الباقي بصفة إمارة مستقلة إداريا تسمي إمارة بلغاريا تمتد من الطونه إلي البحر الأسود شرقا، وبحر الارخبيل جنوبا، وتحيط بمدينة الآستانة من جميع جهاتها البرية، وزد علي ذلك ما اشترط من احتلال الجنود الروسية لبلاد بلغاريا مدة سنتين.

أما في آسيا فأخذت قلاع قارص وباطوم وبايزيد إلي حدود أرضروم تقريباً، واعترف الباب العالي ضمن هذه المعاهدة باستقلال كل من الصرب والجبل الأسود ورومانيا استقلالا سياسيا تاماً، وبالتنازل لمملكة رومانيا عن إقليم الدبروجه مقابل سلخ إقليم بساربيا من رومانيا وضمها إلي روسيا لتنظيم حدودها، حتي يكون كل من نهري البروث والطونه من ابتداء اتحاد البروث معه إلي البحر الأسود فاصلا بين رومانيا وروسيا. ولم يراع في هذه التقسيمات صالح الأمم المراد سلخها عن الدولة ولا حدودها، بل أضافوا إلي إمارة البلغار بلادا كثيرة أغلب سكانها من الأروام والصرب، وإلي الصرب والجبل الأسود بلادا بها كثير من الأرنؤود المسيحيين والمسلمين.

القانون الأساسي والسلطان عبد الحميد

خلع (السلطان مراد) سنة 1293ه وجلس (السلطان عبد الحميد) علي عرش الخلافة، وكان قد وعد رئيس الأحرار (مدحت باشا) قبل جلوسه علي العرش بمنح القانون الأساسي، وإمتاع الأمة العثمانية بالحرية.

إلا أن (عبد الحميد) أظهر حين جلوسه علامات دلت علي إخلافه وعده، فمن ذلك أنه جمع أعداء الأحرار وأضداد القانون الأساسي وعينهم في السراي لتقوية مركزه، مع أنه وعد (مدحت باشا) بتعيين الشاعر العثماني الكبير (نامق كمال بك) زعيم الانقلاب باشكاتبا، و(ضياء باشا) الأديب السياسي الشهير مشيرا للمابين، فأخلف وعده. كما أنه كان يسعي جهده لاستمالة الرأي العام إليه، فكان يخدع الأهالي، الا أن الأحرار لم ينخدعوا واستعدوا للمناضلة في سبيل القانون الأساسي.

وقرر (السلطان عبد الحميد) تعيين (مدحت باشا) كي ينظر في مسألة المؤتمر الأوروبي الذي قررت الدول عقده

في الآستانة. وفي اليوم السابع من شهر ذي الحجة سنة 1295 ه اجتمع الوكلاء والعلماء والأمراء وغيرهم في الباب العالي، ثم أقبل (مدحت باشا) وقرأ الارادة الشاهانية التي منحت الأمة العثمانية الدستور والحرية، فهتفوا له جميعا وحياه العثمانيون من صميم قلوبهم، واذ ذاك أطلقت القنابل تحية للقانون الأساسي. وكان أعضاء المؤتمر الدولي مجتمعين في الطوبخانة، وبينما كانوا يتباحثون في النقط التي سيتناقشون فيها سمعوا القنابل وهي تدوي فقام (صفوت باشا) ناظر الخارجية وقال للأعضاء: (أن الأمة العثمانية قد نالت مطالبها الشرعية وهي تتمتع بحريتها الشرعية فلا لزوم لهذا الاجتماع بعد هذا الانقلاب) فوجم الجميع وظلوا ساكتين، فطلب سفير روسيا المناقشة في الموضوع، ولكن المندوبين العثمانيين انسحبا وخرجا وقد قام العثمانيون بمظاهرة ضد اجتماع المؤتمر الدولي وطلبوا الحرب.

اجتماع مجلس المبعوثين الأول

اجتمع مجلس المبعوثين لأول مرة سنة 1295ه في سراي طولمه باغجة، وافتتحه (السلطان عبد الحميد) بخطابة مطولة بحث فيها بعد مقدمة تاريخية عن الامتيازات التي منحت للعناصر غير المسلمة، ثم القروض التي عقدت بعد حرب القرم، ثم الاختلالات المالية التي حدثت أثناء حكم (السلطان عبد العزيز) في عصيان البوسنة والهرسك، ثم وجوب منح القانون الأساسي لتخليص الدولة من الاضمحلال والانقراض، ثم قال:

(عليكم أيها الأعضاء هذه السنة أن تضعوا النظامات الداخلية للمجلس، وقانون الانتخاب، وقوانين ادارة الولايات والنواحي، وقانون البلدية، وأصول المحاكمات المدنية، وقانون ترقية الموظفين وقانون المطبوعات وديوان المحاسبات والتدقيق في الميزانية).

علي أنه لم يكد ينتظم مجلس المبعوثين وينظر في شؤون الدولة حتي صدرت الارادة الشاهانية بفضّه، فتقوضت كل أركان ذلك البناء وابتليت الأمة بطور استبداد جديد لم تعهد نظيره حتي في عصور الظلمات.

هدم (السلطان عبد الحميد) ما بناه الأحرار، ولكن رغما من ذلك لم تمت الفكرة في

رؤوس العثمانين، فإن هذا الجسم علي قوته الكامنة بل علي ضعفه الظاهر لم يقو علي تحمل أذي الحكومة الحميدية بما انتابته من ضروب الظلم، لاسيما وألوية الحكومات الدستورية قد انتشرت من أقصي المغرب إلي أقصي المشرق وكواكب الحرية قد سطعت في كل مكان.

وانتهي الدستوريون من وضع الخطة أواخر شهر يونيو سنة 1908م، فأرسلت الحكومة الحميدية (شمسي باشا) لاقتفاء أثر عصابة (نيازي بك)، ولكنه قتل قبل أن يبدأ في مهمته. وأرسلت أيضا من أزمير ثلاثين فرقة من فرق الرديف فانضمت إلي الدستوريين وقوت صفوفهم.

ولكن (السلطان عبد الحميد) استمر علي المقاومة فقرر جيش الحرية أن يحمل الحملة الأخيرة. فأطلقت القنابل علي حامية الباب العالي والنادي العسكري، واستولت عليهما. ثم قبضت علي الكثيرين من أنصار الحكم القديم الذين أثاروا الفتن، ومن بينهم (مراد بك الداغستاني)، وأعدم الجواسيس رميا بالرصاص، ويقدر عدد القتلي ب(1200) قتيل، وحاصرت الجنود الدستورية بعدها قشلاقات اسكودار، فاستولت عليها. ولم يبق إذ ذاك أي خطر علي القانون الأساسي، فعاد أعضاء البرلمان إلي الآستانة واجتمعت الجمعية العمومية لتتداول في أمر (السلطان عبد الحميد). وكانت النتيجة عزل (السلطان عبد الحميد) وتولية (السلطان رشاد) مكانه.

خليفة العثمانيين محمد رشاد خان الخامس

ولد سنة 1260 ه وقد قضي أغلب عمره في قصر زنجيرلي كوي محوطا بالجواسيس الذين يرصدون حركاته ويقدمون التقارير المشوهة عنه. فظل كذلك إلي حين حدوث الانقلاب العثماني، وتخلص مع الشعب العثماني من الاستبداد والمراقبة، اذ دالت دولة الجواسيس وثل عرش الاستبداد. الا أن (عبد الحميد) الذي طبع علي الاستبداد لم يرقه أن يري أمته متمتعة بالحرية راقية أوج الكمالات.. منظمة امورها بنفسها.. مقيمة العدل، فسوّلت له نفسه إحداث تلك الفتنة الارتجاعية لتقويض صروح الادارة الدستورية.

اجتمع المجلس العمومي اجتماعا سريا وخلع (عبد الحميد)

بموجب فتوي من شيخ الإسلام هذا نصها:

(إذا اعتاد زيد الذي هو إمام المسلمين أن يرفع من الكتب الشرعية بعض المسائل المهمة الشرعية، وأن يمنع بعض هذه الكتب ويمزق بعضها ويحرق بعضها، وان يبذر ويسرف في بيت المال ويتصرف فيه بغير مسوغ شرعي، وأن يقتل الرعية ويحبسهم وينفيهم ويغربهم بغير سبب شرعي وسائر أنواع المظالم، ثم ادعي أنه تاب وعاهد الله وحلف أنه يصلح حاله، ثم حنث وأحدث فتنة عظيمة جعلت أمور المسلمين كلها مختلة وأصر علي المقاتلة، وتمكن منعة المسلمين من إزالة تغلب زيد المذكور، ووردت أخبار متوالية من جوانب بلاد المسلمين أنهم يعتبرونه مخلوعا وأصبح بقاؤه محقق الضرر، وزواله محتمل الصلاح، فهل يجب أحد الأمرين خلعه أو تكليفه بالتنازل عن الإمامة والسلطنة، علي حسب ما يختاره أهل الحل والعقد وأُولي الأمر من هذين الوجهين)؟.

الجواب: (يجب).

كتبه الفقير

السيد محمد ضياء الدين عفي عنه

فلمّا قرئت الفتوي الشرعية الموقع عليها بتوقيع شيخ الإسلام (محمد ضياء الدين افندي) في المجلس العمومي المؤلف من المبعوثين والاعيان، ورجح بالاتفاق وجه الخلع الذي هو أحد الوجهين المخير بينهما، فأسقط (السلطان عبد الحميد خان) من الخلافة الاسلامية والسلطنة العثمانية، وأصعد ولي العهد (محمد رشاد أفندي) باسم (السلطان محمد خان الخامس) إلي مقام الخلافة والسلطنة وكان خلع (عبد الحميد) سنة 1909م.

أواخر سلاطين بني عثمان

إن آخر من ذكره المؤلف من سلاطين آل عثمان هو (السلطان محمد رشاد الخامس) وقد جاء ذكره استدراكا في هذه الطبعة التي بين أيدينا لأن المؤلف ذكر في المقدمة (السلطان عبد الحميد الثاني) علي اعتبار أنه خليفة المسلمين وأنه حي يرزق. ومن هذا يبدو بأن هذا الكتاب كتب قبل سنة 1909م ثم أعيد طبعه سنة 1912م، أي بعد مرور ثلاث سنوات علي خلافة

(محمد رشاد)، كما جاء في حديث المؤلف عن هذا السلطان، ولذا فإنه لم يذكر عنه شيئا ذا شأن ولم يتعرض لما كانت تعانيه البلاد من اضطرابات ورثها عن أسلافه، ومن ذلك ظهور الحزبية في الدولة، وضياع طرابلس الغرب واستقلال أكثر دول البلقان. ثم ظهور النزعة التركية بقوة وعنف، وأعني بذلك سعي حزب الاتحاد والترقي الذي استلم الحكم في البلاد إلي تتريك الشعوب غير التركية المشتركة مع العثمانيين، مثل العرب والشركس والأكراد والأرمن وبالتالي نشوب الحرب العالمية الاولي التي كان فيها القضاء علي الدولة العثمانية بعد ان عاشت ستمائة سنة.

لقد تولي (محمد رشاد) العرش والدولة في احتضار ولكنها كانت متماسكة وشاء القدر أن لا تلفظ أنفاسها في عهده وأن لا يشهد مأتمها بل أن يكون ذلك من نصيب خليفته، حيث أن (محمد رشاد) مات قبل ذلك.

ومن سوء طالعه أنه اعتلي العرش وجناح الدولة مهيض، وقد أضاعت كثيراً من بلادها في أوربا بعدت معاهدتي (سان استيفان) و(برلين)، وسوس القوميات ينخر في جسم الدولة، والأيدي الأجنبية تلعب بالقلوب والجيوب، و البلاد في حالة إفلاس بسبب الحروب المتواصلة، والأوربيون قد تسلّطوا علي مالية الدولة بحجة استيفاء ما لهم عليها من ديون.

يوسف عزالدين

كانت ولاية العهد بعد (محمد رشاد) للأمير (يوسف عزالدين)، لأن ولاية العهد في الدولة العثمانية كانت من حق أكبر أفراد الأسرة المالكة سنا، بعد الجالس علي العرش وليس من حق أكبر أولاد الجالس علي العرش. وقد مات مسموماً، قتله الاتحاديون لأنه لم يكن يري رأيهم، ولا يوافقهم علي سياستهم، وأشيع أنه مات منتحرا إثر نوبة جنون أصابته كالتي أصابت أباه (عبد العزيز) فانتحر.

محمد وحيد الدين السادس بن مراد

بعد وفاة (يوسف عزّ الدين) صارت ولاية العهد إلي الأمير (وحيد الدين)، فخلف أخاه (محمد رشاد) علي العرش باسم (محمد السادس) ولم تمض علي خلافته بضعة شهور حتي استسلمت الدولة العثمانية واستولت جيوش الأعداء علي كل البلاد من شرقها إلي غربها ومن شمالها إلي جنوبها، ولم يسلم من ايديهم وتعدياتهم إلا شرق الاناضول، لأن روسيا كانت قد انسحبت من الحرب سنة 1917م بعد ان فرضت عليها الشيوعية، ولذا فإنها لم تستطع ان تحرك ساكنا لتستولي علي شرق الاناضول. ولولا ذلك لما بقي بلد من بلاد الدولة العثمانية لم يدخل في حوزة اعدائها.

أراد (وحيد الدين) أن ينقذ ما يمكن انقاذه من البلاد، فاستعان (بمصطفي كمال) وعهد إليه بإنقاذ البلاد، ولكنه وضع ثقته في غير موضعها، فلما رأي أن (مصطفي كمال) أخذ يعمل لحسابه الخاص وليس لحساب الدولة، ورأي أن الأمور تسير علي غير ما كان يرجو، تنازل عن العرش سنة 1922م واعتزل الحياة السياسية ومات سنة 1926م.

عبد المجيد بن عبد العزيز

واعتلي عرش السلطنة العثمانية، بعد تنازل (السلطان محمد وحيد الدين)، ولي العهد الذي اصبح (السلطان عبد المجيد)، وبعد أن أصبح (مصطفي كمال) سيد الموقف جرد السلطان من السلطة الزمنية، ثم ألغي الخلافة سنة 1924م وطرد (عبد المجيد) فذهب ليعيش في منفاه في مدينة (نيس) الافرنسية علي الشاطئ اللازوردي.

الخاتمة

ما هي الأسباب التي أدت إلي انهيار الدولة العثمانية؟

إذا كان بعض الناس يعطون للدول أعمارا كأعمار المخلوقات ويقولون إن الدول تشيخ وتهرم فتموت بفعل مرور الزمن فأنا لست أري هذا الرأي ولا أري الدول تشبه المخلوقات ذات الأعمار المحدودة. وإنما عمر الدول يتجدد بتجدد الأجيال. فإذا كانت الأجيال التي تعيش في دولة ما من الدول حية قوية نشيطة عاملة واعية عاشت الدولة ما عاشوا متمتعين بهذه الصفات لأن عمر الدولة يتجدد مع كل جيل.

وأما إذا كانت هذه ضعيفة كسولة متواكلة مهملة ماتت دولتهم بموتهم لكي تعيش في غيرهم ممن يصلحون للحياة، فالدولة لا تموت بذاتها إذ ليس فيها ما يموت وإنما تموت بأهلها.

فبعد أن تقرر لدينا هذا يجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي أدت إلي زوال الدولة العثمانية بعد أن سيطرت علي العالم بضعة قرون كانت فيها ملئ عين الزمان وسمعه، لا بل كانت فمه القائل ويده الباطشة ولسانه الناطق.

وترجع هذه الاسباب، في نظري، إلي:

• زواج السلاطين بالأجنبيات وتسلّط هؤلاء الأجنبيات علي عواطف أزواجهن وتصريفهم في سياسة بلادهن الأصلية وتحكمهنّ بمقدرات الدولة. فكم من الملوك قتلوا أولادهم أو إخوانهم بدسائس زوجاتهم وارتكبوا أعمالا تضرُّ بمصلحتهم إرضاء لزوجاتهم.

• تعدد الزوجات والمحظيات اللواتي كان الأجانب والحكّام يقدمونهن هدية للسلطان كأنهن السلع أو التحف واللواتي كان السلاطين إذا رأوا كثرتهن في قصورهم يهدونهن أحياناً إلي قادتهم أو خواصهم علي

سبيل التكريم. وكان من البديهي أن يحصل بين أولاد الأمهات وأمهات الأولاد، سواء أكانت الامهات زوجات أو محظيات، تحاسد وتباغض يؤديان إلي قتل السلاطين أولادهم وإخوانهم وإلي أمور غير معقولة ومقبولة عقلاً وشرعاً.

• تفكك روابط الأسرة السلطانية بسبب كثرة النساء حتي أصبحت عادة قتل السلطان إخوانه أو أولاده، يوم يتولي العرش، أمرا معروفا و مألوفا. وكأنه يضحي بخراف احتفاء بهذا اليوم من غير أن يشعر بوخز ضمير أو لسعة ألم.

ولذا فقد كان أفراد الأسرة السلطانية يعيشون في خوف مستمر ويتربص بعضهم بالبعض الآخر الدوائر ولا يبالون بأن يشقوا عصا الطاعة في وجه السلطان سواء أكان أخا أم أبا أم ابنا وذلك ليس حبا بالسيطرة فقط بل لإنقاذ أعناقهم أحياناً من الغدر.

• تدخّل نساء القصر بالسياسة وشفاعتهن لدي أزواجهن السلاطين برفع الخدم إلي منصب الوزارة أو إيصال المتزلفين إلي مراتب الحل و العقد، كرئاسة الوزارة وقيادة الجيش. وفي كثير من الأحيان لا يكون لهؤلاء الرجال من ميزة يمتازون إلا تجسسهم لحسابهن.

• بقاء أولياء العهد مسجونين في دور الحريم فلا يرون من الدنيا شيئا ولا يعلمون شيئا، و كثيرا ما كانوا لا يتعلمون شيئا أيضا لأنهم لم يكونوا يدرون إلي ما سيصيرون فإما أنهم يذهبون ضحية مؤامرة قبل أن يصلوا إلي العرش وإما أنهم يصلون إلي العرش لكي يجدوا فئة من الناس تسيطر عليهم وتتحكم بهم أو يسحبون عن العرش ويقتلون أو تسيرهم نساء القصر أو يسيرهم جهلهم.

وتسليم أمور الدولة إلي غير الأكفاء من الناس إذ كان طباخ القصر وبستانيه وحطابه والخصي والخادم يصلون إلي رتبة رئاسة الوزارة أو القيادة العامة للجيش. فماذا ينتظر من جاهل أن يفعل؟

• احتجاب السلاطبن وعدم ممارستهم السلطة بأنفسهم والاتكال علي وزراء

جهال. فقد كان سلاطين آل عثمان حتي (السلطان سليم الأول) يتولون قيادة الجيش بأنفسهم، فيبعثون الحماسة والحمية في صدور الجنود، ثم صار السلاطين يعهدون بالقيادة إلي ضباط فصار الجنود يتقاعسون و يتهاونون تبعا للمثل القائل: (الناس علي دين ملوكهم).

• تبذير الملوك حتي بلغت نفقات القصور الملكية في بعض الأحيان ثلث واردات الدولة.

• خيانة الوزراء، إذا أنّ كثيرًا من الأجانب المسيحيين كانوا يتظاهرون بالاسلام ويدخلون في خدمة السلطان ويرتقون بالدسائس والتجسس حتي يصلوا إلي أعلي المراتب، وقد أبدي (السلطان عبد الحميد) استغرابه من وفرة الأجانب الذين تقدموا إلي القصر يطلبون عملا فيه حتي ولو بصفة خصيان وقال: لقد وصلني في أسبوع واحد ثلاث رسائل بلغة رقيقة يطلب أصحابها عملاً في القصر حتي ولو حراسا للحريم، وكانت الرسالة الأولي من موسيقي افرنسي، والثانية من كيمائي ألماني، والثالثة من تاجر سكسوني. وعلق السلطان علي ذلك بقوله: من العجب أن يتخلي هؤلاء عن دينهم وعن رجولتهم في سبيل خدمة الحريم. فهؤلاء وأمثالهم كانوا يصلون إلي رئاسة الوزارة، ولذا فقد قال (خالد بك) مبعوث أنقره في المجلس العثماني بهذا الصدد: لو رجعنا إلي البحث عن أصول الذين تولوا الحكم في الدولة العثمانية وارتكبوا السيئات والمظالم باسم الشعب التركي لوجدنا تسعين في المائة منهم ليسوا أتراكا.

• غرق السلاطين و الأمراء في الترف والملذات.

• الحروب الصليبية التي شنّت علي الدولة والتي لم تنقطع منذ ظهورها إلي يوم انهيارها.

• الامتيازات التي كانت تمنح للأجانب اعتباطا بسخاء وكرم لا مبرر لهما بل كانت تمثل التفريط بحق الوطن في أقبح صوره، فقد منحت الدولة العثمانية، وفي أوج عظمتها وسلطانها، امتيازات لدول أجنبية جعلتها شبه شريكة معها في حكم البلاد. ولا أري سبباً لهذا الاستهتار الا

الجهل وعدم تقدير الأمور قدرها الحقيقي وتقدير قوة ودهاء الدول التي منحت هذا الامتيازات والعاقل لا يستهين بعده مهما كان صغيرا و ضعيفا.

• الغرور الذي أصاب سلاطين بني عثمان الذين فتحت لهم الأرض أبوابها علي مصراعيها يلجونها كما يشاءون. وإن من يقرأ كتاب (الملك سليمان القانوني) إلي ملك فرنسا لا يجد فيه ما يشبه كتاب ملك إلي ملك أو إمبراطور عظيم إلي ملك صغير أو حتي إلي أمير، بل يجده وكأنه كتاب سيد إلي مسود. ومن يطالع صيغ المعاهدات، في أوج عظمة الدولة، وما كان يضفي فيها علي سلاطين بني عثمان من ألقاب يكادون يشاركون بها الله تعالي في صفاته بينما تكون ألقاب الأباطرة و الملوك عادية، أقول إن من يطالع صيغ هذه المعاهدات يدرك إلي أي حد بلغ بهؤلاء السلاطين الجهل و الغرور.

• إدخال [ما سموه ب] الدين في كل صغيرة و كبيرة من أمور الحياة والسير بعكس ما يأمر به الدين، باسم الدين، حتي أصبح الدين ألعوبة في أيدي قبضة من الجهال يحللون ويحرمون علي هواهم، ومثال ذلك إدخال أمر تغيير اللباس في نطاق الدين ثم لما أراد أحدهم إنشاء مطبعة في استانبول ووجد معارضة من قبل علماء الدين لجأ إلي السلطان وإلي حاشيته يطلب إليهم أن يقنعوا هؤلاء الجهال بفائدة المطابع فأمر السلطان شيخ الاسلام بأن يفتي بأن المطبعة نعمة من نعم الله وليست رجسا من عمل الشيطان كما أفتي العلماء من قبل فأفتي شيخ الإسلام بجواز إنشاء مطبعة شريطة ألا تطبع القرآن الكريم ولا كتب التفسير و الحديث و الفقه. وقد أنشئت أول مطبعة في استانبول سنة 1712م أي بعد أن كان قد مضي علي اختراع المطبعة ما يزيد علي قرنين

ونصف القرن وبعد أن أنشأت فرنسا المطبعة الوطنية بنحو قرنين.

هذه الأسباب هي التي قضت علي الدولة العثمانية وأنزلتها من شامخ عزها إلي حضيض المذلة والهوان. وإن من يدرس بإنعام نظر، كل سبب من هذه الأسباب المذكورة آنفا ويري مدي تأثيره الواسع في المحيط الدولي لا يعجب من انهيار هذه الدولة العظيمة تحت سياط هذه الضربات بل يعجب كيف استطاعت أن تعيش ستمائة سنة وهي تتحمل هذه الضربات القاسية التي نزلت بها والتي لو نزلت علي جبل لصدعته، ولكنها عاشت بفضل اختلاف أعدائها علي تقسيمها فيما بينهم وبفضل إيمان أهلها وتمسكهم إلي حد ما بالإسلام.

ومن المؤسف المحزن أن يهدم أبناء أولئك المؤمنين بتنكرهم للدين و بتخاذلهم ما بناه آباؤهم وأجدادهم بجدهم وجهدهم وبما قدموه من تضحيات بالدماء و الأرواح…

وليس لتركيا ما ينجيها إلا الرجوع إلي الدين، فالدين هو الحصن الوحيد الذي يمكن أن يحمي الدولة من شرور الأعداء…

إن الحركة الاسلامية في تركيا علي أشدها وأن العلمانيين هم رجال الحكومة وأما الشعب فهو بأكثريته مسلم متعصب ومتمسك بإسلامه، ويتبني قضايا العالم العربي والإسلامي بحماس بالغ.

فعلي الحكومة أن تستفيد من هذا الروح الإسلامي وأن تستغل هذه الطاقة التي هي أقوي طاقة إذا فجرت تزيل الجبال. لقد انتصر العثمانيون بإسلامهم وتلاشوا بانحرافهم عن الإسلام أو بالأحري بانحراف حكامهم عن أحكام الإسلام وإن كانوا ظلوا يرددون الإسلام بأفواههم، وليس لهم اليوم إلا الإسلام لكي يعودوا سادة محترمين.

***

هذا آخر ما أردنا تلخيصه في هذا الكتاب..

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام علي المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلي الله علي محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

پي نوشتها

-الموافقة سنة 1288م.

2- أي أولاد (أرطغرل).

- الموافقة سنة 1289م.

4- الموافقة سنة 1300م.

5- يكي شهر: تقع

شمال شرق مدينة بورصة.

6- وعندما تقرأ تاريخ الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين ? تري الفرق الكبير بين طريقتهم (عليهم السلام) وطريقة هؤلاء.

1- الموافقة سنة 1317م.

- الموافقة سنة 1281م.

- الموافقة سنة 1326م.

3- اي رئاسة الوزراء باصطلاح اليوم.

- يوم 16 يونيو سنة 1826م.

5- سنة 1359م.

- سنة 1360م.

- سنة 1326م.

3- سنة 1361م.

- سنة 1453م.

- سنة 1386م.

- سنة 1389م.

-سنة 1360 م.

- سنة 1394م.

1- (بافاريا) الآن ضمن حدود المانيا. و(استيريا) هي النمسا و(شواليه) المقصود منها رئيس طائفة القديس يوحنا.

- 27 سبتمبر 1396م.

-20 يوليو سنة 1402م.

-10 مارس سنة 1403م.

- سنة 1410م.

-سنة 1413ميلادية.

-سنة 1421م.

-سنة 1403م.

-سنة 1421م.

- سنة 1423م.

- سنة 1431م.

- سنة 1433م.

- سنة 1438م.

- هرمانستاد في رومانيا إلي الشمال الغربي من العاصمة بخارست.

-7 فبراير سنة 1445م.

-7 فبراير سنة 1451م.

- 20 آبريل سنة 1429م.

- أوائل أبريل سنة 1453م.

- وبعدها أخذ السلطان يفكر في طريقة لدخول مراكبه إلي الميناء لاتمام الحصار برا وبحرا، فخطر بباله فكر غريب، وهو ان ينقل المراكب علي البر ليجتازوا السلاسل الموضوعة (في البحر) لمنعه. وتم هذا الأمر المستغرب بأن مهّد طريقا علي البر، اختلف في طوله والمرجح أنه فرسخان أي ستة أميال ورصّت فوقه ألواح من الخشب صبّت عليها كمية من الزيت والدهن لسهولة زلق المراكب عليها. وبهذا الكيفية أمكن نقل نحو سبعين سفينة في ليلة واحدة، حتي إذا أصبح النهار ونظرها المحصورون أيقنوا أن لا مناص من نصر العثمانيين عليهم.

-29مايو سنة 1453م.

- أي إلي القسطنطينية.

- سنة 1393م.

- سنة 1467م.

- 13 اكتوبر سنة 1476م.

- سنة 1475م.

- سورة المائدة: 45.

- سنة 1447م.

- zizim.

- 4 مايو سنة 1481م.

- سنة 1774م.

-20 يوليو سنة 1481م.

- ويكتبها بعض (قايتباي).

- رودوس rodhos: جزيرة صغيرة تقع في البحر الأبيض المتوسط عند

مدخل بحر ايجه.

-23 يوليو سنة 1482م.

- سنة 1489م.

-borgia

-14 فبراير سنة 1495م.

- 1492م.

- سنة 1511م.

-25 أبريل سنة 1512م.

-26 مايو سنة 1512م.

- الملقب ب[ياوز] اي القاطع.

-24 أبريل سنة 1513م.

- سنة 1508م.

- سنة 1508م.

- سنة 1510م.

-24 أغسطس سنة 1572م.

- والمقصود أنه أعلن (السلطان سليم) الحرب علي (الشاه اسماعيل).

-19 مارس سنة 1514م.

- الصحيح وادي (جالدران).

-24 أغسطس سنة 1514م.

- من أهم أسباب انكسار جيش (الشاه اسماعيل) هو عدم وجود جيش نظامي للدولة وعدم تعرّفهم علي نظام المدفعية الذي كان سبب انتصار العثمانيين في هذه المعركة، ومع ذلك فقد قام (الشاه اسماعيل) مع عدّة من الخيالة بعملية انتحارية باقتحام صفوف العثمانيين وإبادة المدافع وإتلاف الذخيرة والعودة.

-4 سبتمبر سنة 1514م.

- سنة 1515م.

- أي إلي القسطنطينية.

-وفي بعض التواريخ انه قتل من الشيعة في هذه البلاد قتلا عاما حتي وصل عدد القتلي إلي ستمائة ألف. (محمد).

-24 أغسطس سنة 1516م.

-سنة 1091م.

- سنة 1517م.

- 22أيلول سنة 1520م.

-27 أبريل سنة 1495م.

-29 سبتمبر سنة 1520م.

- سورة النمل: 30.

-21 ديسمبر سنة 1522م.

-أول يناير سنة 1523م.

-سنة 1798م.

- سنة 1524م.

- سنة 1525م.

- سنة 1525م.

- بودابست عاصمة المجر (هنغاريا) وهي في الاصل مؤلفة من مدينتين (بود) و(بست).

- (فينّا) أو (ويانة) كما يكتبها الاتراك، لانهم يلفظون حرف الواو قريبا من حرف الفاء. وهي عاصمة النمسا.

- سنة 1553م.

-21 سبتمبر سنة 1553م.

-25 سبتمبر سنة 1561م.

-5 سبتمبر سنة 1566م.

-10 مايو سنة 1533م.

-24 ديسمبر سنة 1566م.

-7 اكتوبر سنة 1571م.

-12 دسمبر سنة 1574م.

-4 يوليه سنة 1546م.

- سنة 1578م.

- 1580م.

- بلاد الكرج معروفة الآن ب (جورجيا) احدي جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.

- سنة 1593م.

-19 يناير سنة 1595م.

-مايو سنة 1566م.

- المقصود: المدنيّة.

- وهم ما يسمّون اليوم بالمرتزقة.

- أي ذو الرأس الفاسد.

- حصلت بين الجيوش العثمانية وبين جيوش المجر و النمسا، وكان

النصر فيها للعثمانيين.

- أحد رؤساء المرتزقة.

- سنة 1601م.

-16 ديسمبر سنة 1603م.

-18 ابريل سنة 1590م.

- لقب هذا الشاه بالكبير، وخلف محمد ميرزا في الملك سنة 1585 ونودي به ملكا في خراسان، ثم سار إلي مدينة مشهد التي كانت قد احتلتها قبائل الأوزبك فاستخلصها منهم، وانتصر عليهم بقرب مدينة هرات سنة 1597م ثم حارب الترك واستخلص منهم الولايات التي سبق أخذها من مملكة الصفويين واحتل مدائن بغداد والموصل ودياربكر، ثم اتحد مع شركة الهند الانكليزية وطرد البرتغاليين من ثغر هرمز. وتوفي سنة 1037ه الموافقة سنة 1628م بعد أن حكم البلاد مدة ثلاث وأربعين سنة.

- أي ذو الروح الفولاذية.

- الأصح: استرجع فهي كانت عاصمة الدولة الصفوية أيام (الشاه إسماعيل).

- سنة 1611م.

- سنة 1612.

- سنة 1611م.

- سنة 1614م.

- سنة 1614م.

- سنة 1604م.

- سنة 1609م.

- سنة 1612م.

-هي مجموعة (هولاندا) و(بلجيكا).

-22 نوفمبر سنة 1617م.

- المسؤول عن جناح محظّيات السلطان.

-26 فبراير سنة 1618م.

- سنة 1621م.

- سنة 1620م.

-20 مايو سنة 1622م.

-11 سبتمبر 1623م.

-سنة 1639م.

-29 أغسطس سنة 1609م.

-9 فبراير سنة 1632م.

-19 مايو سنة 1632م.

-10 أغسطس سنة 1635م.س

-15 نوفمبر سنة 1638م.

-25 ديسمبر سنة 1638م.

-17 أغسطس سنة 1638م.

-19 سبتمبر سنة 1639م.

-فبراير سنة 1640م.

-4 نوفمبر سنة 1615م.

- سنة 1642م.

-24 يونيه سنة 1645م.

-أول يناير سنة 1642م.

-8 أغسطس سنة 1648م.

- أي سائق البغال.

- جزيرتين صغيرتين تشكلان معا قلاعا لحماية مدخل الدردنيل.

- ملك بولونيا الذي أتي لمحاربة المسلمين بناءا علي إلحاح البابا عليه.

- وبعد استخلاص مدينة (فينا) تألبت كل من النمسا وبولونيا والبندقية ورهبنة ماطا والبابا ومملكة الروسيا علي محاربة الدولة العثمانية وأطلق علي هذه التحالف (التحالف المقدس).

- سنة 1685م.

- 2 / 6 / 1686م.

- 12 أغسطس سنة 1687م.

- 8 نوفمبر سنة 1687م.

- 17 ديسمبر سنة 1692م.

-15 أبريل سنة 1642م.

-

سنة 1687م.

- سنة 1688م.

- سنة 1689م.

-23 يونيه سنة 1691م.

-25 فبراير سنة 1643م.

-19 أغسطس سنة 1691م.

- سنة 1694م.

-7 فبراير سنة 1695م.

-2 يونيه سنة 1664م.

- بلدة في الشمال الشرقي من يوغسلافية بالقرب من الحدود الرومانية.

-12 سبتمبر سنة 1697م.

-26 يناير سنة 1699م.

-15 أغسطس سنة 1703م.

-31 ديسمبر سنة 1703م.

-23 ديسمبر سنة 1673م.

-15 نوفمبر سنة 1703م.

-28 سبتمبر سنة 1704م.

-25 يوليه سنة 1711م.

-18 يونيو سنة 1713م.

- البحيث جزيرة: يقصد بها شبه الجزيرة.

- سنة 1718م.

- تعرف الآن ب (جورجيا).

- امبراطور روسيا.

- سنة 1725م.

-28 سبتمبر سنة 1730م.

-3 أغسطس سنة 1696م.

-10 يناير سنة 1732م.

-24 سبتمبر سنة 1736م.

- سنة 1639م.

- هما الآن ضمن الحدود السياسية لرومانيا.

-13 ديسمبر سنة 1754م.

-سنة 1696م.

-22 أكتوبر سنة 1755م.

-13 ديسمبر سنة 1756م.

-21 يناير سنة 1774م.

-سنة 1724م.

- 21 يوليو 1774م

-8 أبريل سنة 1789م.

-سنة 1762م.

- 31 يوليو وفي 22 سبتمبر سنة 1789م.

¬- سنة 1796م.

-الموافقة سنة 1797م.

- الموافقة سنة 1798م.

- سنة 1798م.

- 1يوليو.

- سنة 1882م.

-28 يوليو.

-20 أغسطس سنة 1806م.

-20 فبراير سنة 1807م.

-28 يونيه سنة 1807م.

-28 يونيو سنة 1808م.

-28 يونيو سنة 1808م.

- أي بقتل سليم الثالث.

-20 يوليو سنة 1785م.

-16 نوفمبر سنة 1808م.

- سنتي 1809م و 1810م.

- الظاهر أنه لم يدرس المذهب الحنفي بل درس المذهب الحنبلي، والوهابيون يعملون بمذهب أحمد بن حنبل.

- ديسمبر سنة 1807م.

- 26 أغسطس سنة 1812م.

- 10 أبريل سنة 1814م.

-23 يونيو سنة 1815م.

-3 نوفمبر سنة 1815م.

-16 نوفمبر سنة 1818م.

- هيتيري: كلمة يونانية معناها جمعية أخويّة.

- 6/3/1824م.

- 16/7/ 1824م.

-أول ديسمبر سنة 1825م.

-1 أكتبر سنة 1826م.

-24 يونيو سنة 1826م.

-25 يونيو.

- سنة 1830م.

-7 فبراير سنة 1830م.

-12 يونيو سنة 1830م.

-5 يوليو.

-8 يوليو سنة 1847م.

- مساحة الجزائر 2381741 كم، وأشهر مدنها (الجزائر) العاصمة و(وهران) و(قسنطينة) و(عنابة) و(صطيف)، وقد تعاقب علي هذه البلاد كثير من الأقوام من فنيقيين

ونوميديين ورومان وفندال وعرب وأتراك. ثم غلب عليها الأفرنسيون سنة 1830م ولم يحكموها مستعمرة بل جعلوها جزءا من فرنسا وأخيرا استقلت سنة 1962م وأصبحت جمهورية.

-2 يوليو سنة 1839م.

-6 مايو سنة 1822م.

-14 يوليو سنة 1839م.

-سنة 1841م.

- سنة 1858م.

- سنة 1859م.

-17 يوليو سنة 1860م.

-10 أغسطس سنة 1860م.

- أي سبعمائة وخمسون ألف ليرة ذهبية.

- 6يونيو سنة 1861م.

-8 فبراير سنة 1830م.

-7 يونيه سنة 1861م.

-نوفمبر سنة 1861م.

- سنة 1830م.

1- 21 يناير سنة 1862م.

-17 يونيو سنة 1862م.

-19 مارس سنة 1865م.

-ديسمبر سنة 1865م.

-5 يونيو سنة 1866م.

-6 سبتمبر سنة 1862م.

-مارس سنة 1867م.

-21 مايو 1867م.

-الموافقة سنة 1869م.

- 10 يونيو سنة 1873م.

- 1779م.

- مؤرخا 30 نوفمبر سنة 1854م.

- 20 يوليو سنة 1856.

- 12 اكتوبر سنة 1863.

- شهر مارس سنة 1869م.

-30 مايو سنة 1876م.

-22 سبتمبر سنة 1840م.

-16 يونيو سنة 1876م.

-31 أغسطس سنة 1876م.

-7 سبتمبر سنة 1876م.

-19 مارس سنة 1877م.

- سنة 1875م.

- 5 مايو سنة 1876م.

- أول مايو سنة 1876م.

- الرديف هو الاحتياط.

- يوم 23 ديسمبر سنة 1876م.

- سنة 1877م.

- آلاجه طاغ: بلد يقع في الشمال الشرقي من انقرة.

- قارص: تفع شرق البحر الأسود، وهي الآن في تركيا قرب الحدود الجورجية.

- سنة 1877م.

- سنة 1878م.

-11 يناير سنة 1878م.

-18 ابريل سنة 1878م.

-الموافق 29 مايو.

-5 يونيو.

- سنة 1878م.

-5 مايو.

- 1870م.

- 22مايو.

- سنة 1876م.

- ديوان القصر السلطاني.

-24 دسمبر 1877م.

- سنة 1877م.

- 1844م.

- هذا الملحق كتبه الدكتور إحسان حقي، وقد خضع للتلخيص.

- في الحرب العالمية الأولي سنة 1918م، حيث أن الدولة العثمانية كانت قد انضمت إلي جانب دول ألمانيا والنمسا والبلغار ضد انكلترا وفرنسا وايطاليا وروسيا.

- آثرنا نقل هذا البحث الذي كتبه الدكتور إحسان حقي في نهاية أصل الكتاب والذي يلخص فيه مجملاً بعض أسباب انهيار الدولة العثمانية. (الناشر)

¬¬- في هذا

اليوم.م.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.