من أخلاق العلماء

اشارة

اسم الكتاب: من أخلاق العلماء

المؤلف: حسيني شيرازي، محمد

تاريخ وفاة المؤلف: 1380 ش

الموضوع: اخلاق علماء

اللغة: عربي

عدد المجلدات: 1

الناشر: مركز الرسول الاعظم(ص)

مكان الطبع: بيروت

تاريخ الطبع: 1417 ق

الطبعة: اول

مقدمة المؤلف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمّد وآله الطاهرين، واللعنة الدائمة علي أعدائهم أجمعين إلي قيام يوم الدين.

إنّ من أهم ما يحتاج إليه الإنسان لينال به سعادة الدنيا والآخرة وكرامتهما، هو الخلق الحسن، والإنسان كما يرتفع ويبتهج بالأخلاق الفاضلة، كذلك ينتكس ويتعذب برذائل الأخلاق.

ألا تري أنّه لو غفل الإنسان عن نفسه وتلفظ بكلام غير لائق به كيف يندم ويتعذب نفسياً عند ما يلتفت إلي خطأه ويعود إلي نفسه.

وكذلك الحسود ألا تراه كيف يؤذي نفسه ويعذّب ضميره حين يحسد الآخرين ولا يحس بالراحة إلاّ إذا تخلّي من الحسد، وازاح هذه الصفة السيئة عن نفسه؟

وهكذا البخيل ألا تري كيف يذمه الناس وينفضّون من حوله، وبمجرّد ما يرجع إلي الجود والسخاء يرجعون عليه بالمدح والثناء ويلتفّون حوله؟

وعليه: فمن الخطأ أن يتصور الإنسان أنّه لو تخلّي عن الفضائل ومحاسن الأخلاق ان سوف يحصل علي التحرر من عذاب الضمير، وتأنيب الوجدان، وان سيعيش برغد اكثر، وحرية كبري، وسعادة قصوي، بل بالعكس من ذلك تماماً.

ولهذا نري أنّ رسول اللّه صلي الله عليه وآله وسلم لخّص رسالته في قوله: إنّما بعثت لاتمّم مكارم الأخلاق وذلك لما في ظلال الأخلاق من حياة كريمة، وراحة وجدان، وسعادة أبدية.

وقال الشاعر:

إنّما الأمم الأخلاق إن بقيت وإن هُم ذُهبت اخلاقهم ذهبوا

هذا هو الواقع المتسالم عليه، رغم ما ادعته الشيوعية من ان الأخلاق أوهام اختلقها أصحاب الأموال وبثّوها في الناس لحفظ رؤوس أموالهم ورعاية مصالحهم، فإنّ هذا الإدعاء لا أساس له، ولذا تري الشيوعيّة نفسها تمدح الجندي المقدام

لشجاعته، وتذم الجندي الجبان علي جبنه، وترفّع الحزبي المناضل لحزبه، وتطرد الحزبي الخائن من حزبه، وهكذا.

ولأجل تثبيت قواعد الأخلاق، وترسيخ اُصوله ومبانيه، كتبت هذا الكراس وسمّيته: (من اخلاق العلماء) والقصد من كتابته تبيين نبذة يسيرة من اخلاق فقهائنا المراجع، حتي يكونوا لنا اُسوة وقدوة، وخاصة لرجال الدين فإنّه يجب علينا أن نواصل طريقهم ونسعي لنشر الإسلام وتعاليمه الأخلاقية الفذة، وتبليغ الدين الحنيف إلي الأجيال كما بلّغوه الينا، وفقنا اللّه تعالي لما فيه رضاه والجنة، وهو الموفق المعين.

كربلاء المقدسة

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

التجاهر بزيارة الجامعة

يحكي عن المرحوم الشيخ مرتضي الأنصاري (قدس سره) أنّه أيام كان في النجف الأشرف، كان يواظب علي زيارة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام فكان يتشرف كل يوم بالحضور في الروضة الحيدرية المباركة ويقف عند الضريح المبارك من الحرم الشريف، ويزور الإمام بزيارة الجامعة الكبيرة ويرفع صوته بها.

وذات مرة أقبل عليه أحد المغرضين الذين في قلوبهم مرض وقال له: إلي متي ترائي في عملك؟

فأجابه الشيخ برحابة وابتسام: وأنت أيضاً ائت بمثل هذا الرياء. وذلك من دون ان يغضب عليه أو يعنّف به، مع أنّ المعترض عليه أراد تنقيصه والازدراء به.

من آثار الوضوء

قيل لوالدة الشيخ مرتضي الأنصاري (قدس سرّه): هنيئاً لك علي ما رزقك اللّه من ولد وبارك لك فيه، فلقد بلغ في العلم والتقوي درجات رفيعة، ومقامات عالية، قلّ ما يبلغهما أحد مثله.

فقالت في جوابهم: انّي كنت اتوقع منه أكثر مما ترونه فيه، وارقي ممّا وصل إليه اليوم، وذلك لأنّي لم ارضعه حتي رضعة واحدة من غير وضوء، فقد تحملت البرد والحر، في الصيف والشتاء وفي السفر والحضر وفي كل حال حتي توضأت ثمّ أرضعته، فكيف لا يكون هكذا من نشأ كذلك؟

التورّع عن المعصية

ينقل المرحوم السيد محمّد مهدي بحر العلوم (قدس سرّه) - الذي كان يُعرف بكثرة تشرفه بزيارة الإمام المهدي عليه السلام ويحظي بلقائه (عجل الله فرجه) - انّه لما كان يافعاً لم يبلغ الحلم، خرج من مجلس مقاطعاً له وهو يبكي.

فقيل له في ذلك، متسائلين عن سبب بكائه؟

فقال: كيف لا ابكي ولا اقاطع مجلساً يعصي اللّه تعالي فيه علانية وجهاراً؟

ثمّ تبيّن انّه كان قد اشتغل أهل المجلس باغتياب الناس فيه.

نعم هكذا انسان يؤهل لأن يكون ممن ينال شرف الزيارة، ويحصل علي لقاء بقية اللّه في الأرضين، الحجّة بن الحسن المهدي عجل اللّه تعالي فرجه الشريف.

المعاشرة الحسنة

نقل أحد الشخصيات العلمية الذي كان قد سافر إلي سوريا لزيارة السيدة زينب سلام اللّه عليها: انّه راي المرحوم السيد محسن الأمين صاحب اعيان الشيعة في سوق الحميدية بالشام، وهو في تشييع جنازة أحد علماء العامّة.

قال: فلحقته وسلمت عليه وصحبته حتي وصلنا إلي المسجد الأموي، فامتلأ المسجد بالمشيعين وتقدم السيد الأمين للصلاة عليه - بطلب من اولياء الميت - ولمّا أتمّ الصلاة ازدحم الناس عليه يحبّونه ويقبلون يديه.

فتعجبت من ذلك وسألت السيد قائلاً: أوليس هؤلاء من العامة، فكيف طلبوا منك الصلاة علي جنازة عالمهم؟

ثمّ كيف يقبّلون يديك وهم يعلمون بأنّك من علماء الشيعة وشخصياتهم؟

فأجاب السيد: إنّ ذلك كلّه نتيجة الرفق بهم والمدارة معهم طوال عشرة سنين.

ثمّ واصل كلامه وقال: اني لما قدمت الشام اغري بعض الجهال بي اشد المخالفين عليّ، ليؤذونني حتي انّهم علّموا اطفالهم يرمونني في السوق بالحجارة، ويسحبون عمامتي من رأسي أحياناً من الخلف، فصبرت علي ذلك، وقابلت مسائهم بالإحسان، وأذاهم بالغفران، وشيّعت جنائزهم، وعدت مرضاهم، وتفقدت غائبهم، وعاشرت حاضريهم بوجه منطلق، حتي تبدّل البغض حباً، والعداء ودّاً، والفرقة

الفة وانسجاماً.

مع شاعر أهل البيت

يقال: ان المرحوم السيد حيدر الحلي - شاعر أهل البيت، المعروف بولائه وجودة شعره - دخل يوماً علي الميرزا محمد حسن الشيرازي (قدس سرّه) قائد ثورة التنباك، وألقي عليه قصيدة كان قد نظمها بالمناسبة، فأمر له الميرزا بجائزة قدرها عشرون ليرة ذهبية.

فقال له ابن عمه الميرزا اسماعيل الشيرازي (قدس سرّه) - وكان هو أيضاً شاعراً قديراً وعالماً نحريراً وقد حصل لجدارته مرتبة مشاورة الميرزا -: ان السيد حيدر هو شاعر أهل البيت ومن ابنائهم، وصلة شعراء أهل البيت أكثر من ذلك، وجائزتهم اكبر.

فقال له الميرزا: صدقت يا ابن العم، ثمّ أمر له بجائزة قدرها ستمائة ليرة ذهبية.

الملوك علي أبواب العلماء

يذكر عن كافي الكفاة الصاحب بن عباد، الذي هو أحد كبار شخصيات الشيعة في عصره وزمانه، وكان عبقرياً نحريراً وشاعراً أديباً، ولغوياً بارعاً، وقد ولي منصب الوزارة في حكومة البويهيين اعواما طويلة، وأفاض ايام وزارته علي البلاد والعباد تقدماً ورُقباً وجوداً وحساباً وأدباً واخلاقاً.

يذكر عنه: أنّه سافر إلي إحدي المدن النائية ليلتقي فيها بأحد العلماء القاطنين هناك وينال زيارته من قريب، فلما وصل إليها، بعث بأبيات شعرية إلي ذلك العالم يطلب منه فيها اذنه بملاقاته وزيارته ايّاه في داره، وعندما وصلت الأبيات الشعرية إلي ذلك العالم واطلع علي مضمونها، كتب في جوابه - وهو يرفض لقاء الوزير بلا مبالاة به ولا خوف منه أو تملق له - البيت التالي:

اهمّ بأمر الحزم لو استطيعه وقد حيل بين العير والنزوان.

نعم، لما يكون الملوك علي ابواب العلماء، فنعم الملوك ونعم العلماء، واذا انقلب الأمر إلي العكس وكان العلماء علي أبواب الملوك، فبئس الملوك وبئس العلماء.

قال علي عليه السلام: (الملوك حكام علي الناس والعلماء حكام علي الملوك)

مأوي الأسد: الأجَمات

كان قد طرق سمع (ناصر الدين شاه) كلمات اطراء حول مؤلف كتاب (المنظومة) في المنطق والحكمة، الحاج هادي السبزواري، فأحب ان يراه من كثب، ولذلك عزم علي السفر إلي خراسان - ولكن سفراً غير رسمي - حتي يتوفق لرؤيته.

فلما وصل في طريقه إلي نيشابور، زاره فيها العلماء وشخصيات البلد، ولم يكن فيما بينهم الحاج هادي السبزواري، فاضطرّ ان يذهب وحده إلي سبزوار علّه يحظي هناك بزيارته.

ولما وصلها توجّه الي داره ودخل عليه بلا خبر مسبق، فرآه جالساً علي حصير عادي في بيت متواضع، خال من كل زخارف الحياة ومباهجها، فتعجب من ذلك.

لكن زاد تعجبه لما صار وقت تناول طعام الغذاء، حيث جاء

اليه خادمه بطبق فيه قرصان يابسان من الشعير، وقليل من الملح الجريش، ومقدار من اللبن الحامض، وملعقتان من خشب، ووضعه امامهما.

عندما توجه السبزواري الي الملك وقال: تفضل علي اسم اللّه.

فلما رأي الملك انّه لا يستطيع الأكل منه، اخرج منديلاً وأخذ كسرة من ذلك الخبز الشعير اليابس للتبرك ووضعها فيه، ليكون قد شارك السبزواري في طعامه وغذائه، ثمّ عزم علي مغادرته فقام وهو يودّعه ليخرج من عنده.

فشيّعه السبزواري ببيت من الشعر مضمونها: انك لو رأيت عندي الحصير العادي والبيت المتواضع، فلا تتأثر فان الأسد الذي هو سلطان الغاب يسكن الأهوار والأجمات.

فاستحسن الملك كلامه وودعه وهو متعجب من شدة زهده وتقشفه.

أوحدي زمانه

يقال: انّه لما دخل (نادر شاه) العراق فاتحاً، توجه الي النجف الأشرف لزيارة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فزاره علماء النجف غير واحد منهم لم يزره.

فظن الملك ان ذلك العالم الذي غاب عن زيارته قد تكبّر عليه، فأمر وزيره باحضاره، وقال: إذا امتنع عن الحضور فهدّده بالقتل.

بلّغ الوزير رسالة الملك إلي ذلك العالم.

فابي العالم ان يأتي لزيارته وقال: قل للملك يفعل ما يشاء.

فلما وصل هذا الخبر إلي الملك استطار غضباً وعزم علي تنفيذ ما هدّده به من القتل.

لكن الوزير قال له - وهو يحاول زحزحة الملك عن تهديداته والنزول عن غضبه-: ان هذا العالم هو الأوحدي في زمانه، ومن خصائص هكذا علماء الابتعاد عن الدنيا واهلها، وملوكها وسلاطينها، والعزوف عنهم، فلو شئت زرته أنت بنفسك.

وافق الملك علي قول وزيره وعزم علي ان يزور ذلك العالم بنفسه، فلما دخل عليه في بيته المتواضع ووقعت عينا الملك عليه، أكبره ووقّره، واحترمه وتواضع له، ثمّ قال له بكل تواضع: لوكانت لكم حاجة فامروني بتنفيذها.

فأجابه العالم: ليست لي اليك حاجة،

وإنّما ارجوك ان لاتمس الناس وخاصة أهالي النجف الأشرف بسوء وأذي.

فقال الملك بانكسار: سمعاً وطاعة: ثمّ ودعه ورجع القهقري حتي خرج من عنده.

فتعجب الوزير من ذلك، فالتفت اليه - عندما خرجا -: كم الفرق بين السيرتين: التهديد بالقتل، والتواضع له والإنكسار إلي هذا الحد؟

فأجاب الملك: إني لما عزمت علي فتح العراق رأيت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في المنام ورأيت هذا العالم إلي جنبه.

التحدي الجريء

يحكي أنّه لما أراد البريطانيون احتلال العراق، واجهوا مقاومة العراقيين لهم بكل شدة، ورأوا أنّ جذر المقاومة التي تمد الناس بالقوة والمعنوية هي مراكز العلم والعلماء وفي مقدمتهم: النجف الأشرف وكربلاء المقدسة.

ولذلك لما فرضوا سيطرتهم علي العراق بالكامل، فكّروا في الإنتقام، فبدأوا بالنجف الأشرف، فبعثوا الحاكم البريطاني الي السيد محمّد كاظم اليزدي صاحب العروة قدس سرّه ليقول له: ان الحكومة البريطانية تطلب من سماحتكم مغادرة النجف الأشرف.

قال السيد: ولماذا؟

اجاب: لانا نريد الإنتقام من الأهالي.

قال: اخرج وحدي أم مع عائلتي واُسرتي؟

أجاب: بل مع عائلتكم واُسرتكم.

قال: فإنّ أهالي النجف الأشرف كلهم اُسرتي وعائلتي، وإنّي لن اخرج منها مهما كلف الأمر، وسوف ابقي وليصيبني فيها ما يصيبهم.

وبذلك ردّ الحاكم البريطاني خائباً، وتراجعت الحكومة البريطانية عن نواياها بالنسبة لأهالي النجف الأشرف علي أثر مقاومة السيد اليزدي وشجاعته، ووفائه واخلاصه.

المرجعية: مسؤلية كبري

كنت بصحبة والدي المرحوم السيد ميرزا مهدي الشيرازي، وابن عمي المرحوم السيد ابو القاسم الشيرازي، في مجلس كان فيه المرحوم السيد عبد الهادي الشيرازي أيضاً، وفي الأثناء جاءنا خبر وفاة المرجع الديني الكبير السيد ابو الحسن الاصفهاني (قدس سره) فتأسفنا جميعاً وتأثرنا بالخبر المفجع، غير انّ الذي تغيّر لونه واضطربت احواله اكثر من الجميع، كان هو الميرزا السيد عبد الهادي الشيرازي (قدّسüسره)، حيث إنّه كان مرشحاً من قبل بعض خواص العلماء وأهل الرأي والنظر للزعامة العامة والمرجعية الدينية، وخوفاً من ذلك بدي الاضطراب عليه وهو يقول مردداً: استجير باللّه تعالي مما اخاف واحذر، واني يا رب اخاف من ان تصلني مسؤولية الزعامة والمرجعية، واحذر من عبئها الثقيل ومسؤوليتها الكبري، وهكذا بقي مضطرباً من ألم المصاب ومن خوف المسؤولية.

وحق له ذلك، فإنّ مصاب فقد مرجع كبير كالسيد الاصفهاني (قدس سره) كان

كبيراً ومؤلماً، كما ان عبئ المرجعية الشيعيّة والزعامة الدينية العامة كبير وثقيل أيضاً، ومن المعلوم: ان من يخاف من شيء، يأخذ حذره منه ويتهيّأ له، ويتحفظ عن مساقطه ومهاويه بقدر ما يستطيع، وكذلك كان (قدس سرّه) فقد استطاع ايام مرجعيته العليا بعد السيد البروجردي (قدس سرّه) من بث روح التقوي والورع، ونشر الثقافة الدينية والأخلاق الإسلامية في أوساط المسلمين وخاصة الحوزات الدينية والعلمية المباركة.

التربية العبادية

نقل لي والدي (قدس سرّه) عن ذكريات صغره القصة التالية قائلاً:

اني لا انسي ايام كنت صغيراً ادرج في البيت بمنظر ومرأي من والدتي رحمهااللّه، تعتني بتربيتي وتأديبي غاية الإعتناء، حتي إني اتذكر جيداً انّها كانت من الصالحات القانتات، وعلي اثر ذلك كان لا يفوتها نافلة الليل وتلاوة القرآن بالاسحار، وكانت اذا قامت لصلاة الليل والتهجّد فيه ايقظتني معها، واصطحبتني الي مصلاها، واقعدتني الي جنبها، وكانت توصيني بالإنتباه اليها وعدم النوم والغفلة عنها.

وحيث كنت صغيراً يغلب عليّ النوم، ولم اكن في سنّ اقدر علي الصلاة معها، كانت تجعل امامي ظرفاً وفيه شيء من الحمص والكشمش لاشتغل عن النوم بأكلها واللعب بها، وبالفعل كنت الهو بها عن النوم، وبهذا الأسلوب كانت تعلمني والدتي - رحمهما الله تعالي- علي القيام في الاسحار، وتعوّدني علي الانتباه المبكّر قبل الفجر لنافلة الليل والتهجّد فيه، رغم اني كنت صغيراً ويطغي عليّ النوم، وربما كنت لا استطيع المشي عندما توقضني والدتي في السحر من غلبة النعاس، لكنها كانت تتحمل كل ذلك مني برحابة صدر، وانبساط وجه، وطيبة لسان، وطهارة قلب، حتي اعتدت الإسحار والتبكير بلا مشقة وعناء.

ومن طلب العلي سهر الليالي

الكثير من الناس يسهرون الليل، ولكن ليس كلهم يسهر علي وشيكة واحدة، وإنّما هم في ذلك علي قسمين:

قسم يسهر الليل فيكتسب من الليل بؤساً وعناءاً، وظلاماً وضعة.

وقسم يسهر الليل فيكتسب من الليل غني وراحة، ونوراً ورفعة، ومن هذا القسم العلماء وتاريخهم يشهد لهم بذلك.

فهذا العلامة الشيخ محمّد باقر المجلسي (قدس سرّه) صاحب كتاب بحار الأنوار، علي ما ينقل عنه كان اكثر ايام حياته مريضاً، وقد اصيب مدة غير قصيرة برمد في عينيه مما منعته من التأليف والتصنيف، اضافة الي ذلك كان اجتماعياً، كثير المعاشرة، مرجعاً

وملاذاً للناس يرجعون اليه في أمورهم وقضاياهم، ومسائلهم واحكامهم، وكان مضافاً الي ذلك مدرساً قديراً، يلقي الدروس العلمية ويفسر المعارف الدينية علي طلاب العلوم، اضافة الي تعهد شؤونهم وشؤون الحوزات العلمية والي غيرها من المشاغل الإجتماعية التي كان مشتغلاً بها ومع كل ذلك ألّف وكتب عدداً كبيراً من الكتب والتصانيف المهمة والمفيدة، منها بحار الأنوار، مما لو قسّم علي أيّام عمره، كان حصة كل يوم ما لا يقل عن مائتي سطر - علماً بأنّه توفي عن عمر بلغ ثلاثة وستين عاماً - حتي انّه - علي ما قيل - كتب رسالة الإعتقادات، الحاوية لما يقرب من الف سطر في ليلة واحدة مما يظهر انّه لم يكن ذلك منه الا لما كان يسهره من الليالي.

فإن من طلب العلي سهر الليالي وغاص البحر من طلب اللئالي

مصاحبة الخلفاء والملوك

كتب احد الخلفاء إلي أحد العلماء، يطلب منه ان يرافقه لينصحه ويرشده.

فكتب اليه العالم في جوابه: الذي ينصحك لا يصحبك والذي يصحبك لا ينصحك.

وربما نسب هذا الي احد الأئمّة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام مع احد خلفاء بني العباس.

علي مائدة الملك

قيل عن احد الملوك: انه دعي العلماء والقضاة الي الافطار في ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك.

فامتنع أحدهم من الإجابة، وكان قصد الملك من الضيافة هو ذاك الممتنع وإنّما اضاف الباقين لأنّ يشبّه الأمر عليه، علّه يجيب.

فأصرّ الملك علي قبوله، واخيرا قبل العالم بشرط ان لا يأكل من طعام الملك، وإنّما يحضر مجلس الضيافة مصطحباً معه طعام فطوره يأكل منه لكن علي مائدة الملك.

فقبل الملك شرط العالم، فحضر العالم علي المائدة وبسط منديله وأخذ يأكل لقيمات بجنب الملك، فمدّ الملك يده الي منديل العالم وأكل منه لقمة ليفتح علي نفسه طريقاً الي اجبار العالم علي الأكل من طعامه بحجة المقابلة، ولكن فوجئ الملك بقول العالم: الحمد للّه رب العالمين، وجمع المنديل مؤذناً بتمام افطاره.

قال الملك وهو آيس من نجاح خطّته: انا اكلت من طعامك فارجو ان تأكل من طعامي.

قال العالم: اني شبعت وقد نهي الرسول صلي الله عليه وآله وسلم عن الأكل علي الشبع.

وبعد ذلك سئل من العالم عن سبب ما فعل؟

قال: عرفت ان مقصود الملك من اكله من طعامي هو اجباري علي ان آكل من طعامه ولذا استعجلت في الأكل ولما ان اكل من طعامي، جمعت المنديل ليعرف اني انهيت الأكل فلا يبقي له محل في الاصرار علي ان آكل من طعامه، علماً بان الأكل من طعام الخلفاء والملوك - عادة - يقسي القلب وينسي الآخرة ويجرّ الإنسان الي المداهنة والغض علي ظلمهم علي العباد والبلاد.

مع صاحب الفصول

يقال: انّ (فتح علي شاه) الملك الايراني رغب في ان يزوج ابنته من العالم الجليل صاحب الفصول (قدس سره)، فأبي صاحب الفصول ذلك.

فقيل له: لم رغبت عن مصاهرة الملك، مع ان الملك مسلم، ملتزم بأحكام الدين، ومعلوم ما

يناله صهر الملك من العزّ والشأن، وانت بأشدّ حالة من الفقر.

قال: لانّ مواصلة الملوك تدخل الإنسان في الدنيا، وتبعّده من الآخرة، ولا حاجة لي في عزّ وغني يبعّدني عن الآخرة.

التأليف حياة العالم

المرحوم الحاج الشيخ عباس القمّي (قدس سره) صاحب كتاب مفاتيح الجنان، والتأليفات الكثيرة المفيدة، سافر مع جماعة من التجار الي سوريا.

قالوا: انّه باستثناء الصلاة والزيارة كان ينكبّ علي التأليف والمطالعة، وحين كنّا نخرج للتنزه والصيافة كنا نصرّ عليه علي المرافقة معنا، فكان يأبي.

وكذا كان يسهر الليل حين كنّا ننام، وهو يطالع ويؤلف.

نعم لو كان ينام كثيراً ويتنزّه طويلاً، لما استطاع ان يؤلف ما يؤلف من الكتب المفيدة والممتعة مثل سفينة البحار وغيرها.

جوهرة الجواهر

قالوا: ان صاحب الجواهر كان قد عهد علي نفسه ان يكتب كل ليلة مقداراً من الجواهر، وفي ذات ليلة مات ولد له، قالوا: فأخذ القلم والقرطاس، وهو باك العين محترق القلب، فجاء وجلس عند جثمان ولده، واخذ يكتب وفاءاً بعهده.

وهكذا استطاع صاحب الجواهر بصبره وتجلده وثباته واستقامته ان يخلد كتاب الجواهر للحوزات الدينية والمجامع العلمية.

نوم العلماء

يقال: انّ واحداً من أولاد العلماء جاء بفراش النوم، وأراد أن ينام، فقال له والده - وكان حينذاك مشغولاً بالكتابة-: ليس هكذا النوم يابنيّ.

فقال الولد: فكيف إذن هو ياأبة؟

فأجابه الوالد: انظر يابني.. ثم وضع القلم من يده وأغفي وهو جالس مقداراً قليلاً، ثم استيقظ وقال: يلزم أن يكون نوم العالم هكذا.

نعم انّ العلم لاينال بالنوم والكسل، فإنّ من طلب العلي سهر اللّيالي.

بين العلم والزيارة

كان أحد العلماء في النجف الأشرف لاشتغاله بالدرس والبحث لايكثر السفر إلي كربلاء المقدّسة وزيارة الإمام الحسين عليه السلام، فقيل له في ذلك؟

فأجاب قائلاً: لأني أري أن وظيفتي الدرس والبحث والتعليم والتعلّم في هذه الظروف العصيبة، فإذا ذهبت إلي كربلاء المقدسة للزيارة أخشي أن يقال لي: لماذا تركت في هذه الظروف القاسية واجبك الملقي علي عاتقك وأهملت ترويج العلم ونشر الدين وذهبت إلي الزيارة؟

نعم لكل ظرف من الزمان حكمه الخاص به، والعالم النبيه هو من يستطيع معرفة الزمان ومعرفة ما يتطلبه منه وإلا فثواب الزيارة لايخفي علي أحد.

في طريق الزيارة

قيل: انّ واحداً من العلماء الأعلام كان إذا سافر من النجف الأشرف إلي كربلاء المقدّسة للزيارة، صلّي جمعاً فسئل منه عن ذلك؟

فأجاب قائلاً: أري ان الإسلام والمسلمين قد تعرّضوا للغزو والتشويه، ولايستطيع الوقوف أمام هذا التيار الجارف وردّه إلا العلماء عن طريق نشر العلم، فيكون هذا الأمر واجباً عينياً، بينما الزيارة أمر مستحب، ولذلك في الزيارة اُصلّي جمعاً رعاية للاحتياط.

البحث الدائم

كان الحاج آقا حسين القمي (قدس سره) المرجع المعروف، من دأبه أنه إذا سافر إلي مكان اصطحب معه أصحاب بحثه الخاص، ليشتغل معهم بالبحث طيلة الطريق والسفر.

وقد شاهدته مراراً كذلك.

وكان يقول: كيف آكل من السهم الشريف، سهم الإمام عليه السلام الذي هو للمشتغل، وأنا عاطل عن البحث والمدارسة ولو في الطريق؟

مع صاحب مستدرك البحار

اتّفق عدّة من رجال الدين علي السفر إلي سامراء والتشرّف بزيارة الإمامين العسكريين، وكان الوقت صيفاً والهواء حاراً، ولذلك كانوا يصطافون ليلاً علي شواطيء دجلة وينامون هناك علي مشارف سامراء.

وكان من بينهم المرحوم الشيخ ميرزا محمد الطهراني، صاحب مستدرك البحار وكان يشتغل بكتابة مستدركه طيلة الليل، فكان هو الوحيد من بينهم الذي لاينام، حتي انه كلما انتبه أحد منهم رآه مشتغلاً بالكتابة والتأليف مع انه كان قد كبر سنّه وضعف جسمه وبصره، لكنه مع ذلك كان يجتهد ويتعب نفسه في انجاز تأليفه.

مثال الزهد والتقوي

نقل لي ابن العم: السيد ميرزا أبوالقاسم الشيرازي(قدس سره): انهم أيام تواجدهم للدراسة في سامراء، كانوا يذهبون في أيام الربيع خارج المدينة للإصطياف والنزهة، حيث ان أمطار الربيع كانت تملأ الصحراء بالأوراد والزهور وكان لها أبهج المناظر، وأحسن الأريح والعطور.

قال: وكنّا نصرّ علي والدك: سماحة السيّد ميرزا مهدي (قدس سره) في أن يصحبنا إلي خارج المدينة للإرتياح، لكنه كان يأبي ويتعلّل بالدرس والبحث.

حتي إذا كان يوم جمعة، قلنا له: لابدّ أن تخرج معنا فإنه لا درس في هذا اليوم.

قال: إن لم يكن عندي درس فعندي مطالعة وتحضير.

قلنا: يمكن لك أن تطالع في الصحراء حيث المنتزه؟

قال: وعندي برنامج حفظ القرآن الحكيم.

قلنا: ويمكن أيضاً أن تحفظ هناك.

قال: لكني في عصر الجمعة أريد زيارة الإمام المهدي عليه السلام في السرداب المقدّس.

وهنا قال ابن العم: فثارت حفيظتي وقلت له: إذن قل من أوّل الأمر: اني لااريد الخروج معكم.

العلم والعمل

لقد كان الوالد(قدس سره) يحثّني كثيراً علي المطالعة ومواصلة الدراسة، وكان يقول لي عن نفسه: انه كان ابان اشتغاله بالدرس لاينام في الليل والنهار إلا مايقارب الساعتين فقط، وكان إلي جانب الدرس يحفظ القرآن عن ظهر الغيب، وكان قد خصص وقتاً لذلك في الليل وعلي ضوء القمر، حيث لم يكن آنذاك برق وكانت اُمورهم عسرة لا تسمح لهم بتوفير سراج للمطالعة في ضوئه، وكان في النهار مشتغلاً بالدرس والبحث ولذلك كان لا يتمكّن من حفظ القرآن إلا ليلاً، وكان(قدس سره) يقول: انه قد عهد مع نفسه منذ أوائل بلوغه أن يجتنب بتوفيق من اللّه تعالي كل التي يمكن أن يبتلي بها طالب العلم، من حب الصدارة في المجالس، وحبّ الغلبة علي المباحث في أثناء البحث، وحب الجاه والمقام، وبيع الآخرة بالدنيا

وما أشبه ذلك، وقد رأيته بنفسي انه(قدس سره) كان ملتزماً بعهده، موفياً لوعده، إلي آخر عمره.

وقد صادف ذات مرّة أن كنت بخدمته وذلك حين رجوعه من النجف الأشرف إلي كربلاء المقدسة وبعد أن زرنا الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام في إحدي المناسبات الخاصة بزيارته عليه السلام، إذ توقّفت السيارة في الطريق قرب (النخيلة) لنفاد وقودها، فأخذ الوالد(قدس سره) يتمشي ويتلو القرآن عن ظهر الغيب حفظاً - حيث كان حافظاً له - واستمر إلي الفجر علي عمله ذلك، ولما سألته عن المقدار الذي قرأه من القرآن، قال: ثمانية أجزاء.

وقد كان(قدس سره) ملتزماً بعدم النوم بين الطلوعين، وكان يتلو كل يوم بعد صلاة الصبح جزءاً من القرآن الكريم، بالإضافة إلي الأدعية اليوميّة المأثورة.

وكانت من سيرته: أن ينقل صلاة جماعته في أيّام الزيارة - حيث يتوافد الزوّار علي كربلاء المقدّسة - من الصحن الشريف إلي المسجد أو الحسينية، وكان يقول: لااُحب أن اُزاحم الزائرين.

وكان في أوائل امامته للجماعة يصلّي صلاة الصبح في الحرم الحسيني عليه السلام وراء الضريح المقدّس، ثم نقل جماعته من ذلك المكان الطاهر حتي لا يسبّب مزاحمة الزائرين.

وكان(قدس سره) قد فتح لنفسه حساباً خاصاً مع الإمام المهدي (عجّل اللّه تعالي فرجه الشريف) حتي انه كان لا يغيب عن ذهنه، ولا يغفل عن ذكره، وكان يذهب عصر كلّ يوم جمعة، إلي مكان خلوة من سطح أو نحوه، ويتوجّه إلي الإمام عليه السلام بقلبه، ويناجيه بسره، ويتوسّل إلي اللّه تعالي بتعجيل فرجه، وتسهيل ظهوره، ويقرأ الأدعية الواردة في ذلك.

وكان(قدس سره) حليماً صبوراً علي أذي الناس، ويعفو عنهم. ففي ذات مرّة كتب إليه شخص كتاباً ذكر فيه شتائم كثيرة، وكان قد صدره بكلمة قاسية جدّاً، فامتقع لونه من مطالعته،

لكنه أجري الحوقلة علي لسانه وسري عنه.

حياة كحياة الأنبياء (ع)

قيل: انه لما اشتهر الشيخ الأنصاري(قدس سره) بالمرجعية وعلا صيته في الآفاق، أرسل الخليفة العثماني آنذاك مبعوثاً إلي النجف الأشرف ليري الشيخ من قريب، فلمّا جاء ودخل علي الشيخ في داره، رأي ما أثار تعجّبه وغرابته، رأي داراً عادية وبسيطة، ورأي الشيخ جالساً في غرفة متواضعة قد فرش بعضها ببساط عادي، وعليه عمامة وعباءة وقباء مادون المتوسّط، وبين يديه كتب كثيرة وهو مشغول بها.

فلمّا دخل ورآه الشيخ، قام إليه واستقبله وأجلسه علي البساط، ثم جلس إليه يحدثه وسأل عن صحّته، ثم قام وجعل قليلاً من الدبس في اناء من خزف وصبّ عليه الماء وقدّمه للمبعوث، وبعد أن شرب، قال له الشيخ معتذراً: لقد حان وقت الدرس وان الطلاب في انتظاري وأنا عازم - مع اذنكم - علي أن أذهب إليهم، فقام المبعوث وودّع الشيخ وخرج.

ولما رجع المبعوث إلي الخليفة ونقل له ما رآه من الشيخ، قال الخليفة: وجدته كما يحكي عن رسول اللّه صلي الله عليه وآله وسلم. يقصد بذلك ماعند الشيخ من الزهد في الدنيا والبساطة في العيش.

من حياة المرجعية

نقل لي أحد العلماء: انه كانت له عمّة، لها مزاورة مع اُسرة الشيخ الأنصاري(قدس سره) وعائلته، فحكت لي ذات مرة وهي تقول: كنت أختلف إلي دار الشيخ الأنصاري(قدس سره) لمعرفة لي مع زوجته، ففي ذات يوم لما جاءت ابنة الشيخ من الدرس إلي الدار أخذت تشتكي إلي اُمّها قائلة: ان زميلاتي في الدرس يأتين كل يوم بمختلف الأطعمة وأنواعها، وأنا أذهب كل يوم بخبز ولبن، فلقد عجزت عن أكل لون واحد من الطعام في كل يوم.

قالت: ثم جاء الشيخ، فنقلت الاُم إلي الأب كل كلام البنت وانتظرت جوابه.

فقال الشيخ بأنها تصدق لابدّ من التنويع، فاعطيها في

يوم خبزاً فقط، وفي يوم خبزاً ولبناً وهكذا، حتي تشتهي ذلك، ولا تملّ من أكل لون واحد من الطعام كلّ يوم.

نعم هكذا يروّض المرجع الإلهي نفسه وعائلته علي الزهد والتقشف، حتي لا ينزلق في المغريات وزخارف الدنيا الفانية.

من مواقف المرجعية

يقال: ان البهلوي الثاني جاء بعد سفرة له إلي الهند، إلي قم المقدسة وأراد أن يلتقي بمرجع عصره السيد البروجردي الحاج آقا حسين (قدس سره)، وكان يتم اللقاء بينهم في كل مرة في حرم السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام.

لكن السيد(قدس سره)أبي في هذه المرة عن الإجتماع به في حرم السيدة المعصومة عليها السلام - كالمرات السابقة - فجاء وسائط الشاه وأصروا علي اقناع السيّد بأن يكون اللقاء في الحرم كما كان عليه سابقاً، فلم يتمكّنوا من إقناعه، وأخيراً قالوا له: نقول للشاه ان السيد مريض، ولا يتمكّن من الخروج إلي الحرم، فيزورك الشاه في دارك، وقد كان الشاه مصرّاً علي زيارته.

فلم يقبل السيّد وقال مغضباً: كيف أجتمع بمن يدعي الشاهنشاهية علي بلد إسلامي وشعب مسلم، ثمّ يذهب إلي الهند، ويركب زوجته وهي سافرة علي الفيل يطوف بها في البلاد علي أعين الناس بما يوجب خزي المسلمين وذلّهم؟ ورفض بكل صلابة اللقاء به تأديباً له، وهكذا استطاع السيّد بموقفه الصلب من أن يصدّ الشاه عن ارتكاب مثل هذه الموبقات والفضائح.

المرجعية قوّة عظمي

قالوا: ان البهلوي الثاني كان ينوي اجراء بعض القوانين غير الإسلامية في ايران، لكن السيد البروجردي(قدس سره) وقف صامداً ضد نواياه الشريرة، فأرسل الشاه رئيس وزرائه لكسب رضا السيّد.

فقال فيما قال له، وهو يتكلّم عن لسان الشاه: فإنّ هذه القوانين قد اجريت في البلاد المجاورة ونحن مجبورون علي إجرائها.

فقال السيّد: قولوا للشاه: لكن تلك البلاد قد تبدّل نظام الحكم فيها من الملكيّة إلي الجمهوريّة، ثم اجريت القوانين، فاُلقم الوزير حجراً ولم يتمكّن أن يتكلّم بعدها بشيء، لأنّ هذا كان أكبر تهديد للملك، ولم يتمكّن الشاه من إجراء تلك القوانين غير الإسلامية في ايران مادام كان السيّد

البروجردي(قدس سره) حيّاً.

من كياسة المرجعيّة الشيعيّة

قيل: ان البهلوي الثاني أصرّ ذات مرّة علي إجراء قانون التساوي بين الذكر والاُنثي في كل شيء، وهو قانون مخالف للقرآن، فصمد السيّد البروجردي(قدس سره) في قبال ذلك واعترض علي القانون وأعلن خلافه له بكلّ قوّة.

فأرسل الشاه إلي السيّد من يستميله ويسترضيه، فجاء إليه ودارت بينهما مباحثات حادة، لكن أحدهما لم يتغلب علي الآخر ولم يستطع استمالته واسترضاءه، وأخيراً قرّر الشاه اجراء القانون متحدّياً كلّ الضغوطات والإعتراضات الموجودة والتي ستوجد ضدّه، ولكن فور ماعلم السيد البروجردي(قدس سره) بذلك، أعلن عن عزمه علي مغادرة ايران، وأمر بجمع أثاثه وشدّ رحاله، ولما عرف الشاه ذلك انصرف عن عزمه، لأنه كان يعرف جيّداً انّ معني هذه الهجرة ايجاد ثورة عارمة عليه، لايُحمد عقباها.

المراجع والأنظمة العسكرية

جاء عبدالسلام عارف رئيس الجمهورية العراقية الذي قفز إلي الرئاسة عبر انقلاب عسكري إلي كربلاء المقدّسة وكان من عزمه أن يلتقي بالسيّد الحكيم (قدس سره)، لكن السيد أبي عن استقباله، وعلّق ذلك علي استجابته لشرط واحد وهو: أن يعلن في بيان رسمي عبر الإذاعة - وقبل حصول اللّقاء - عن الغاء كل القوانين المخالفة للإسلام مثل قانون الأحوال الشخصيّة، وقوانين الإشتراكية، وقانون التأميم وما أشبه ذلك.

لكن الرئيس المغرور، الذي جاء إلي الرئاسة علي عجلة الدبابات، وزئير قاذفات الصواريخ، ولهيب نيران الرصاص، وبانقلاب عسكري، بلا موازين صحيحة، ولا مقاييس دولية معترف بها، كان أبعد من أن يعرف مقادير الرجال، ومن أن يضع الاُمور في مواضعها، ولذلك بقي وهو يصرّ علي عدم الإجابة، وحرم نفسه من الإلتقاء بالسيّد وكان ذلك قبل احتراقه في الطائرة بما يقارب الشهر، كما لم يجتمع به أحد من علماء كربلاء المقدّسة مع انهم كانوا قد دعوا للإلتقاء به في روضة الإمام الحسين

عليه السلام المباركة، وكان لهذا الرفض المجمع عليه من قبل العلماء الأثر الكبير في ابتعاد الناس عنه.

المرجعية ومواقفها المشرّفة

أول يد معتدية امتدّت لخرق القانون الشرعي والعرفي السائد وفتحت ثغرة الإنقلابات العسكرية في العراق، هي يد عبدالكريم قاسم، لذلك لم يستجب السيّد الوالد ولا السيّد الحكيم (قدس سرهما) لطلبه اللقاء بهم حينما أراد أن يزور كربلاء المقدّسة والنجف الأشرف، واشترطوا عليه مقدمة لزيارته لهما أن يغيّر ما جاء به من القوانين المخالفة للإسلام، والتي من أهمّها الغاء قانون الإعتراف بالحزب الشيوعي والغاء قانون الإصلاح الزراعي المزعوم، والغاء قانون الأحوال الشخصية.

لكنه علي أثر ما أصابه من غرور، وسكرة المقام والملك، وعدم تقديره موقف مراجع الدين، أصرّ علي عدم اجابته لهم، وأصرّوا هم أيضاً علي عدم استقباله، فلم يتمّ اللقاء، ولم يمض علي الحادث أكثر من ستّة أشهر إلا وقد قامت الثورة ضده مما أودي بحكومته وحياته، وهذا مصير كل من يستهين بالحوزات الشيعيّة، ولم يعبأ بمطاليبهم الشرعية، ولم يرما لها من المنزلة المرموقة في قلوب الجماهير.

المرجعية رأفة ورحمة

كان السيّد الوالد(قدس سره) ابان سيطرة الشيوعيين علي العراق واشتغالهم بالنهب والهتك وسفك الدماء البريئة - يقول: ان دم البريء لغم موقوت يتفجر فيدك عروش الظالمين، ويزيل حكمهم وملكهم، واني أتمنّي أن لو كنت أقدر علي أن أكف القتل عن الجميع وأكون أنا المقتول علي أيديهم مكان من قتلوا فيحدث قتلي ضجة في الأوساط ويكون ذلك سبباً لزوال سيطرتهم وخلاص الشعب العراقي المسلم من ظلمهم، وكان يحز ذلك في قلبه إلي أن استطاع علي عقد الإتّفاق مع علماء النجف الأشرف في النهوض ضد الشيوعيين، وقد توفقوا للقضاء عليهم بإذن اللّه تعالي، فزال عن صدر العراق المسلم كابوسهم المرعب، والحمد للّه ربّ العالمين.

بين سلوكين

من المعروف: انه لما توفي صاحب الجواهر(قدس سره) انتقلت الرئاسة العامة بعده إلي الشيخ الأنصاري(قدس سره) وكان الشيخ الأنصاري(قدس سره) يسلك سلوك الزهد في الدنيا، بينما كان صاحب الجواهر(قدس سره) يسلك سلوك الرؤساء والملوك.

فجاء شخص إلي الشيخ الأنصاري(قدس سره) وقال: أيّها الشيخ إن كان مسلككم حقّاً، فإنّ صاحب الجواهر علي باطل، وإن كان مسلك صاحب الجواهر حقاً، فإنّ مسلككم علي باطل، فأيّهما حقّ وأيهما باطل؟

أجاب الشيخ قائلاً: ليس الأمر كما زعمت محصوراً في الشقّين، بل هناك شقّ ثالث: وهو انه يمكن أن يكون كلاهما حقّاً، فصاحب الجواهر كان يعكس بسلوكه عظمة الإسلام وشوكته، وأنا أعكس بلوكي زهد الإسلام ويسره، وحيث انّ للإسلام جوانب متعدّدة، كان كل واحد منّا يسلك جانباً منه.

ثم انه بعد أن نقل لي أحد الأعلام هذه القصّة الموحية أردف قائلاً: انّ الأمر كما قال الشيخ، والدليل علي ذلك: ماروي انّ شخصاً جاء إلي دار الإمام الحسن عليه السلام فرآها غاصّة بالضيوف وهم علي موائد وفيها ألوان الأطعمة، ثم ذهب إلي

دار الإمام الحسين عليه السلام فرآه وأصحابه صائمين يتلون القرآن، فسئل من الإمام الحسين عليه السلام عن سبب اختلافه مع أخيه الإمام الحسن عليه السلام في اسلوبه؟ فأجاب عليه السلام بما مضمونه: انّ أخي الإمام الحسن أخذ بالجانب الإجتماعي في الدين، وانّما أخذت بالجانب العبادي في الدين.

المكافأة علي الأعمال

قال لي أحد أعلام قم المشرّفة: انه علي اثر اشاعة البهلوي الفحشاء في العاصمة طهران، ترك السفر إليها طويلاً، فلم يذهب إلي طهران مدة اثنتي عشرة سنة.

قال: ثم صارت لي حاجة في طهران فسافرت إليها اضطراراً، وفي يوم من الأيام وأنا ذاهب إلي حاجتي في أحد شوارع طهران رأيت ما أهمنّي فإنّ (البهلوي الأول) كان قد حكم برفع الحجاب عن النساء حكماً جبريّاً، وفرض عقوبات صارمة علي المتحجّبات، وكان عمّال الشاه يطبّقونه بكلّ عنف، فرأيت امرأة محجبّة كانت قد خرجت بالعباءة لبعض حوائجها، وإذا بأحد عمّال الشاه أخذ يلاحقها، فلمّا وصل إليها صفعها صفعة شديدة علي رأسها.

قال: فدهشت لهذه الحالة المؤلمة وصُعقت من هذا العمل القاسي وأخذت أجود بنفسي من وقع الحادث الأليم، واُفكّر كيف ينتقم اللّه من هذا الظالم، وبينا أنا كذلك وإذا بعربه تقف بالقرب من الحادث وينزل منها السيّد أبوالقاسم الكاشاني(قدس سره) ويصفع الموظّف صفعة شديدة علي رأسه ثم يركب عربته ويذهب، وذهل الموظّف عندما رأي السيّد الكاشاني هو الذي صفعه، ولم يستطع أن يتكلّم بشطر كلمة.

قال: ففرحت بذلك فرحاً شديداً وشكرت اللّه تعالي علي أن أراني كيف جعل الدنيا تكافيء الناس علي أعمالهم، ولعذاب الآخرة أخزي وأشدّ، ثم غادرت طهران راجعاً إلي قم المقدّسة.

من آثار الرفق

كان للميرزا الشيرازي الكبير(قدس سره) صاحب قصّة التنباك تلاميذ كثيرون، ومن جملة اُولئك كان هو الشيخ حسن الاصفهاني(قدس سره) المستوطن مدينة مشهد المقدّسة، وكان رجلاً عظيماً، له ختومات، وأدعية وأوراد يومية، وممّا ينقل عنه هو:

انه كان ذات مرة وهو في طريقه من الكوفة إلي النجف الأشرف، وإذا باللصوص يجتمعون عليه ويأمرونه بأن يتجرّد من ثيابه ويسلمها مع ما فيها إليهم، وفعل الشيخ ذلك حيث تجرّد من ملابسه

باستثناء الازار، ثم سلمها إليهم قائلاً: قد وهبتها لكم حتّي لا تقعوا في معصية اللّه من أجل غصب ملابسي.

وإذا بهذا الكلام يفعل كالمعجزة في اللصوص، حيث يحصل فيهم ردّ فعل داخلي يقودهم إلي الإنتباه والإرتداع، وإذا بهم لايأخذون الثياب، ويتوبون علي يديه قائلين: انه ليس من الحقّ عصيان اللّه تعالي بالسرقة، بعد أن نري منك مثل هذه الشفقة علينا، وبالفعل فقد تابوا وصار أمرهم إلي خير، وهكذا يفعل الرفق بالنفوس.

الزهد مرقاة الكمال

من المتعارف أن يكون لمن يبدأ بالدراسة زملاء في الدرس يرتقون معاً مدارج التقدّم، وقد يتّفق لأحدهم سبق الجميع، كما اتّفق ذلك للشيخ الأنصاري(قدس سره) مع زملائه في الدراسة، فقد كان له زميل ملازم له، لكنه لم يتوفّق لما وفق له الشيخ، وذلك لأن الشيخ توفق لأن يبقي في النجف الأشرف، حتي استطاع أن يصل إلي ما وصل إليه، بينما سافر زميله ذلك إلي بلده، وعاد ابان رئاسة الشيخ إلي النجف الأشرف للزيارة والإلتقاء بالشيخ.

فلمّا رأي عظمة الشيخ قال له متسائلاً: شيخنا لقد كنّا زميلين في الدرس فكيف وصلت أنت إلي ماوصلت إليه اليوم، وبقيت أنا علي ما كنت عليه في السابق.

أجابه الشيخ وهو يشير إلي قضيّة كانت بينهما قائلاً: لأنّي تركتُ أكل الدبس وأنت أقدمت عليه.

وكانت تلك القضية التي اتّفقت لهما في أيام الدراسة هو انهما قصدا ذات مرّة مسجد الكوفة وهناك صار وقت الغذاء، وأرادا تهيئة الطعام لهما، فلم يجدا عندهما إلا فلساً واحداً وكان رغيف الخبز بفلس واحد آنذاك، وذهب الزميل ليشتري به رغيف خبز يأكلانه معاً، لكنه عاد وقد اشتري خبزاً وشيئاً من الدبس علي الخبز.

فقال له الشيخ متعجّباً: بكم اشتريتهما؟

قال: بفلسين.

قال الشيخ: ومن أين لك الفلس الثاني؟

قال: اشتريت الخبز نقداً

والدبس دَيْناً.

فقال الشيخ: أما أنا فلا آكل من الدبس شيئاً، لأني لاأعلم هل أتمكّن من قضاء هذا الدين أم لا؟

فضحك الزميل وقال: وأمّا أنا فآكله وحدي وعليّ قضاؤه، فأكل هو ولم يأكل الشيخ إلا أطراف الخبز…

نعم الزهد في الدنيا من مأكل ومشرب وملبس وغير ذلك هو الذي يرتقي بالشيخ الأنصاري(قدس سره) إلي ماارتقي إليه، بينما عدم الزهد يضع زميله علي ماكان عليه، ولعلّ الشيخ أراد بإشارته إلي تلك القضية الفات الزميل إلي حقيقة من حقائق الحياة، وإعلامه ومن بلغته القصّة: بأنّ اللازم علي طالب العلم أن يزهد في الدنيا ويحتاط فيما يرتبط بها هذا المقدار من الإحتياط حتّي يصل إلي مرتبة من العلي.

المرجع والمرجعيّة

المرجعية عبيء ثقيل، ومن شروطها حسب ما دلت عليه التجارب أربعة، فلابدّ للمرجع من التحلي بها وتوفيرها في نفسه وهي:

1 - أن لا يتوقع من الناس شيئاً.

2 - أن يستعدّ لتلبية كل توقّع من كل أحد حسب تمكّنه.

3 - أن لا يسيء إلي أحد ولو بشطر كلمة.

4 - أن يستعدّ لتقبّل كلّ اساءة.

لكن كل ذلك في الاُمور التي لا ترتبط بالدين، وإلا فاشتراء سخط اللّه تبارك وتعالي برضا المخلوقين يوجب خسران الدارين، أعاذنا اللّه تعالي من ذلك.

المخالف لهواه

قيل: انّ رجلاً رأي ابليس في المنام، وهو مغضب، وفي يديه مجموعة حبال غلاظ ورقاق، وسلاسل مختلفة، من بينها سلسلة غليظة قد تقطّعت في سبعة مواضع منها، فسأله عن الحبال والسلاسل التي يحملها في يديه، وعن السلسلة المتقطّعة ماهي، وما هو سبب تقطيعها؟

فقال ابليس: الحبال والسلاسل آلاتي ووسائلي أغلّ بها الناس وأسحبهم إليّ.

فقال الرجل: اني أراك غضبان فما هو سبب غضبك؟

فقال ابليس: أردت في هذه الليلة أن أغلّ الشيخ الأنصاري بأعظم ماعندي من السلاسل وأسحبه إليّ، غير اني لم أقدر عليه، وكلّ مرّة حاولت ذلك قطع السلسلة وانفلت من شباكي، فكرّرت العملية إلي سبع مرّات، حتّي يئست منه ورجعت خائباً خاسراً، وهذه السلسلة التي تراها مقطوعة هي التي كنت قد أعددتها لأسحب بها الشيخ إليّ، وانّ ماتري عليّ من غضب فهو من ذلك.

قال له الرجل حينئذ: وهل لك أن تريني السلسلة أو الحبل الذي تغلّني به لتسحبني بواسطته إليك؟

قال له ابليس: شامتاً: انّ أمثالك يأتون نحوي بمجرّد اشارة منّي إليهم، ولا يحتاجون إلي الحبل فكيف بالسلسلة؟

فانتبه الرجل من نومه مذعوراً وذهب إلي الشيخ الأنصاري ونقل له الرؤيا.

فلما سمع الشيخ ذلك استوي جالساً وأخذ يحمد اللّه تعالي علي سلامته

من مكائد إبليس ووساوسه، وقال: نعم لقد اُصيبت زوجتي في الليلة البارحة بحالة الطلق والولادة واحتجتُ إلي مال أتمكّن من أن أشتري به ماتحتاج إليه المرأة في هذه الحالة، فلم يكن عندي شيء سوي وديعة استودعها عندي بعض المؤمنين كأمانة، ففكّرت في نفسي وقلت: انّ صاحبها يرضي بأن أتصرّف فيها وخاصّة في مثل هذا الوقت الذي أنا بأشدّ الحاجة إليها، ثمّ إذا وسّع اللّه تعالي عليّ أرجعتها مكانها، فذهب إلي الرف الموجود فيه الأمانة لأخذها، لكنّي احتطت ورجعت، وهكذا إلي سبع مرات، حتي عزمت علي عدم الأخذ، وبالفعل تركتها ولم آخذ منها شيئاً، وسهّل اللّه الأمر علي زوجتي ووضعت بسلامة، ولعلّ هذا هو تفسير الرؤيا التي رأيتها.

نعم هكذا يحاول ابليس أن ينفذ إلي القلوب ويوسوس فيها، غير انّ أولياء الله قد عرفوا ذلك، فقاموا بتأييد من اللّه تعالي بسدّ الطريق عليه، ليكونوا مصداقاً للحديث الشريف: (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً علي هواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه).

أزهد علماء البلد

يذكر ان أحد الخلفاء قال لوزيره ذات ليلة: ياتري من هو أزهد العلماء في عصرنا هذا لنذهب إليه فينصحنا؟

قال الوزير: فلان وفلان، فمضيا حتّي وصلا إلي باب دار أحدهما، فطرق الوزير الباب، فجاء العالم خلف الباب وقال: من الطارق؟

قال الوزير: الخليفة بالباب.

قال العالم بكل حفاوة: اصبر حتي آتي بالمصباح، فلم يلبث إلا أن جاء بالمصباح وأقبل نحو الباب وفتحه، وأخذ يسلّم علي الخليفة بامرة المؤمنين ويقول: لماذا لم تبعث عليّ حتّي آتيك أنا بنفسي ولا تتحمّل تعب المجيء؟ ثم عرض عليهما الدخول، فأبي الخليفة من الدخول وودعه والوزير وانصرفا، فلما ابتعدا عنه، التفت الخليفة إلي الوزير وقال له: ماأردت مثل هذا.

فذهبا حتي أتيا

باب دار العالم الثاني، فطرق الوزير الباب وانتظر فتحه، ولكن لم يُفتح عليهما، فسمعا صوت العالم وهو يتلو القرآن، وبعد عدّة طرقات، قال العالم وهو في مصلاّه: من بالباب؟

قال الوزير: انّه الخليفة، يريد زيارتك.

قال العالم بكل برودة: فليذهب الخليفة من حيث جاء فإنّي مشغول مع ملك الخليفة - يعني بالملك اللّه تعالي -.

وكلّما ألحّ الوزير علي العالم بفتح الباب، أصرّ العالم علي عدم الإجابة، حتّي اضطرّا إلي أن يجعلا سلّماً ويتسلّقا الجدار، ويدخلا عليه في مصلاّه.

فلما أحسّ العالم بذاك ورأي الخليفة والوزير عنده في مصلاّه، وقد مدّ الخليفة إليه يده للمصافحة، رأي العالم نفسه أمام الأمر الواقع، واضطرّ إلي أن لا يردّ يده إلا بما ينبّهه به، ويردّه عن غفلته، فلمّا استقرّت يد الخليفة في يد العالم، قال العالم: آه ما ألينها لنار جهنّم؟

فوقع الخليفة مغشياً عليه من البكاء، فلمّا أفاق جلس بين يدي العالم كالغلام، وطلب منه أن ينصحه، فنصحه العالم بالشفقة علي الرعية والعدل فيهم والإحسان إليهم، ثمّ ودّعاه وقاما وخرجا، عند ذاك التفت الخليفة إلي وزيره وقال: لمثل هذا أردت، انه العالم حقّاً.

الساعات الأخيرة

قيل لصاحب الفصول: إذا علمت انّ أجلك قد اقترب، ولم يبق من حياتك إلاّ ساعات قليلة، فماذا كنت تصنع فيها؟

انه سؤال دقيق يرتبط بأمر مصيري بالنسبة إلي الإنسان، فإنّ آخر ساعات الحياة هي التي يتمكّن فيها الإنسان - بما يفعلها من خير - أن يقرّر سعادته في تلك الدار الآخرة، فإنّ من اختتم عمره بعمل صالح ختم له بخير، وفي الدعاء: (واجعل أفضل أعمالنا عند اقتراب آجالنا) فما هو أفضل الأعمال حتّي يجعلها عالم جليل كصاحب الفصول خاتمة عمره؟ فهو إذن سؤال دقيق طرحه سائل ذكيّ علي رجل خبير،

فلننظر ماهو جوابه؟

التفت صاحب الفصول إلي السائل وقال: كنت أجلس علي دكّة باب الدار لأقضي حوائج الناس، فلعلّ محتاجاً يأتي ويطلب منّي حاجة فأقضيها له، حتّي ولو كانت حاجته طلب استخارة.

وهذا الجواب من هذا العالم الجليل يدلّ علي أهميّة قضاء حوائج الناس وايصال النفع إليهم، فإنّ خير الناس أنفعهم للناس.

وهكذا أراد صاحب الفصول(قدس سره) في جوابه أن يكون خير الناس في عقباه، باختتام عمره بخدمة الناس كما كان طيلة عمره في خدمتهم، ليعلمنا طريق السعادة ويرشدنا إلي مافيه خير الدنيا والآخرة.

أنفع الأعمال

قال لي أحد الأخيار: انه رأي والدي السيّد ميرزا مهدي(قدس سره) في المنام بعد وفاته، وهو بحالة جيّدة يُغبط لها، قال: فدنوت منه وسلّمت عليه وسألته: ماكان أنفع الأعمال الدنيويّة التي وجدتم ثوابها هناك؟

قال: كان أنفع الأعمال بحالي هو: ماكنت أعطيه للفقراء الّذين يقصدونني باب الدار يريدون منّي مبالغ قليلة يستعينون بها علي اُمورهم - كما هي عادة الفقراء - فإن اسعافهم في ذلك اليوم كان أنفع الأعمال بحالي هذا اليوم.

ولعلّه هذا إرشاد إلي ماجاء في الروايات من تحريض الناس علي عدم ردّ الفقير؛ فقد ورد الخبر بعدم ردّ السائل ولو كان علي ظهر فرس، كما ورد الخبر بأنّ اللّه تبارك وتعالي خلق الجنّة لاُناس وقفوا أنفسهم لخدمة الناس واسعاف الفقراء والمساكين.

العطف علي الحيوان

قال أحد العلماء: كنت أعيش أنا وعائلتي الثقيلة في غاية الفقر والمسكنة، واتّفق أن وقع قحط في بعض السنين والأعوام، فأخذ أهلي وأطفالي يتضوّرون جوعاً، وصعب تحمّل الأمر عليّ غاية الصعوبة، فخرجت في طلب شيء أسدّ به رمق الأهل والأطفال، وبعد صعوبات كثيرة حصلت علي ريّة شاة، فأخذتها فرحاً وفكرت في الرجوع بها إلي الدار، وفي الطريق وجدت كلبة قد أنهكها الضعف من شدّة الجوع، حتّي وقعت علي الأرض وصارت بلاحراك، وحولها جراء لها هزال يمتصّون أثدائها الخالية، مما يزيد في ضعفها.

قال: فوقفت عليها ورق قلبي لها حتي نسيت ما كان من أمر أهلي وأطفالي، وأخذت ألقمها ما معي من ريّة الشاة حتّي أتيت علي آخرها، ثم وقفت أنظر إليها، فأحسست بأنّها تقوّت بذلك، ثم هبّت قائمة متوجّهة إلي السماء، فعلمت بأنها تدعو لي وتشكرني علي عملي، قال: ومن ذلك الحين أخذ الرزق يدرّ عليّ من كلّ مكان بلا حساب.

مع الملوك والرؤساء

كانت العادة في سابق الأيّام قد جرت علي انّ ملوك المسلمين، إذا زار أحدهم العتبات المباركة في النجف الأشرف وكربلاء المقدّسة، زاره بعض العلماء في محلّ نزولهم، وحيث انّ الملوك كانوا يحتفظون بظواهر الإسلام لم يكن ذلك شيناً للعلماء.

حتي زار (ناصرالدين شاه) النجف الأشرف، فزاره العلماء آنذاك في محل نزوله باستثناء الميرزا المجدّد الحاج السيد محمد حسن الشيرازي(قدس سره)، وكلّما حاول حاشية الشاه ترتيب مايقنع الميرزا علي زيارة الشاه، أو زيارة الشاه له، أبي ولم يقبل، وأخيراً قرّر أن يتزاور هو والشاه في الحرم الشريف بقصد نصيحة الشاه، ومنذ ذلك الحين جرت عادة العلماء بزيارة الملك في الحرم المطهّر دون الذهاب إلي محلّ نزولهم.

تنازل مقابل رفعة

قيل: انّ علاّمة دهره، ونابغة عصره الشيخ البهائي(قدس سره) جاء بصحبة الملك الصفوي إلي النجف الأشرف، واتّفق أن اجتمع بالمقدّس الأردبيلي(قدس سره) وجري بينهما بحث علمي بحضور من الملك، وبعد نقاش طويل أخيراً كان الغلب ظاهراً للشيخ البهائي (قدس سره).

ولمّا انفضّ المجلس وأراد العلمان الإفتراق، أخذ المقدّس الأردبيلي بيد الشيخ البهائي وانتحي به ناحية البيت، وأورد علي مطالبه بما بيّن له خطأه وسقم نظره، وذلك بكلّ قوّة ومتانة.

عندها قال له الشيخ البهائي: فلماذا لم تبيّن هذه المطالب والايرادات في المجلس وبحضور الملك؟

قال المقدّس الأردبيلي: لأنّك شيخ الإسلام في ايران وينظر إليك الملك نظر إكبار وعظمة، فإذا غلبتك أمامه، سقطت من عين الملك وذهب بهاؤك عنده، أمّا إذا غلبتني فإنّ ذلك موجب لعظمتك في عين الملك أكثر من ذي قبل، ممّا ينتهي بالأخرة إلي عزّة العلم وأهله وإجلال العلماء وإكرامهم، بينما لم يكن عليّ بأس، أن اُغلب أمامه، فإنما أنا طالب من طلاّب النجف الأشرف، ورفعة مقامي العلمي وضعته لا تنتجان أمراً،

ولذا لم اُبيّن مايرد علي كلامك أمام الملك وانّما بيّنت لك الآن المطلب لإظهار الحقّ.

نعم هكذا نفوس طيّبة وقلوب طاهرة تتأهّل لنصرة الإسلام ونشر التشيّع المذهب الحقّ، وتتشرف بزيارة الإمام المهدي عليه السلام ولقائه.

تفقّد أحوال المسلمين

كان من دأب الميرزا الكبير- وكذا يكون دأب العظماء - هو: أن يفحص ويسأل عن أحوال أهل البلاد ويتفقّد شؤونهم، فإذا جاءه أحد من بلد لا يعرفه سأله عن مختلف شؤون ذلك البلد، عن عدد نفوسهم، وعن كيفيّة اقتصادهم، وثقافتهم ومعاملة الحكومة معهم، وعدد المسلمين وغير المسلمين هناك، وإلي غير ذلك من الأسئلة؟

وفي ذات يوم جاءه جماعة من البلاد البعيدة، فأخذ علي عادته يتفقّد أحوالهم، فلمّا وصل السؤال إلي كيفيّة اقتصادهم، قال أحدهم: إنّنا من الفقر بمكان حتّي لا يستطيع كلّ واحد منّا الإنفراد بزوجة خاصة، فنحن - مثلاً- ثلاثة عشر رجلاً ولنا زوجة واحد.

قال الميرزا مندهشاً: ماذا قلت؟

فأعاد الكلام عليه قائلاً: نحن ثلاثة عشر رجلاً ولنا زوجة واحدة مشتركة بيننا.

فتأثّر الميرزا تأثّراً كبيراً وقال لهم: ألم تعلموا أنّ المرأة لا يحقّ لها إلا زوج واحد؟

قالوا: لا.

قال: أليس عندكم عالم أو رجل دين يرشدكم؟

قالوا: لا.

عندها طلب الميرزا من بعضهم البقاء في سامرّاء لتحصيل العلم، وقال مشوّقاً لهم: أخبروا أهل بلدكم: بأنّ من يأتي إلي هذه البلاد لطلب العلم، فإنّي مستعدّ لبذل نفقاته.

أقول: لقد سنّ الميرزا بعمله هذا سنّة حسنة، فإنّ قسماً من طلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف وكربلاء المقدّسة وقم المشرّفة حالاً من ذلك المكان، وحيث انّ ذكر بلدهم قد يكون خدشاً لكرامتهم أمسكنا القلم عن بيانه.

من شؤون المرجعيّة

لقد كان من عادة علمائنا المراجع أن لا يقطعوا الحقوق الشهريّة عن الطلبة غير المجدين رجاء استقامتهم واجتهادهم، مقتدين في ذلك بالإمام أمير المؤمنين عليه السلام، حيث لم يقطع اعطاء الخوارج من بيت المال، إلا حين حاربوا المسلمين وعاثوا في الأرض الفساد، وقد نفعه عليه السلام ذلك، بحفظ مثاليته، وبإتمام الحجّة علي الخوارج، وبرجوع كثير منهم عن

غيّه، وذلك لما شاهدوه من عدله وحسن تعامله، ونفع الحوزات أيضاً باستقامة كثير ممّن كانوا غير مجدين، ورجوعهم إلي الجدّ والإجتهاد وخدمة الإسلام والمسلمين.

كما انّه كان من عادة علمائنا المراجع أن لاييأسوا كلّ اليأس عمّن انحرف عنهم، ولايطمئنّوا كلّ الإطمينان إلي من انضمّ إليهم، وذلك اتّباعاً لما ورد عنهم عليهم السلام: (ولا تثقّ بأخيك كلّ الثقة، فإنّ صرعة الإسترسال لن تستقال).

وقد أخذ الشاعر هذا المعني ونظّمه في بيت فقال:

احذر عدوّك مرّة واحذر صديقك ألف مرّة

ولما رأوه من عدم يأس الرسول صلي الله عليه وآله وسلم من المنحرفين في زمانه وقد انخرط بعضهم بمرّ الزمان في سلك أقوي مؤيّديه وأعظم مناصريه.

مع المقدس الكاظمي

يذكر انّ المقدّس الكاظمي(قدس سره) صاحب الوسائل في الفقه، كان في الزهادة والورع بمكان، حتّي انه زاره من ايران بعض الشخصيات المرموقة في سفرة له إلي العراق في داره، فوجد الدار في غاية البساطة بادية عليها آثار القناعة والعزوب عن الدنيا، ووجد صاحب الدار في غاية العظمة بادية عليه آثار الزهد والورع.

وبعد أن جري بينهما ماتعارف من التحيّة والترحاب، وتفقّد كلّ منهما أحوال صاحبه، وتزاورا، أطال الزائر جلوسه وهو لا يعلم بأنّ المقدّس قد أخرج زوجته وطفله الصغير إلي ساحة الدار تحت الشمس المحرقة في حرّ الظهيرة، ولذلك التفت المقدّس إلي زائره وقال: لو دار الأمر بين مستحب وحرام فما هو الأهم؟

أجاب الزائر: معلوم انّ الحرام هو الأهم، فإنّه يجب ترك المستحب حتّي لا يرتكب الحرام، ثمّ قال: وكيف؟

فأجابه المقدّس: هل تسمع صراخ طفل صغير؟

أنصت الزائر إليه ثمّ قال: نعم وما هو؟

قال المقدّس: انّه وزوجتي تصهرهما الشمس حيث لا ظلال لنا إلاّ هذا المكان وقد أخلياه لنا.

عندها عرف الزائر مغزي سؤال المقدّس فاعتذر من اطالة

جلوسه وقام وانصرف وهو معجب بزهد المقدّس وورعه.

ولمّا رجع الزائر إلي ايران، وزاره الملك، سأله: هل أتيت من العراق بهديّة؟

قال: نعم وأعظم الهدايا، ثمّ ذكر للملك ماشاهده من المقدّس الكاظمي من زهد وورع، فتأثّر الملك بذلك تأثّراً كبيراً وأمر بمال كثير للمقدّس الكاظمي، فجيء بالمال مع مبعوثين من قبل الملك إلي الكاظميّة، ولمّا وصل مبعوث الملك إلي الكاظمية زارهما الأعيان والأشراف باستثناء المقدّس الكاظمي، فكلّما ألحّ عليه بأن يزورهما لم يقبل، حتّي اضطرّا - مبعوثا الملك - أن يزوراه بأنفسهما، فأقبلا إلي دار المقدّس وزاراه بأنفسهما، وقصّا عليه قصّتيهما وإرسال الملك المال معهما إليه علي أثر ماجري بين المقدّس الكاظمي وبين زائره، حيث قد قصّ الزائر ذلك علي الملك وأطلعه عليه.

فلمّا سمع المقدّس الكاظمي مقالتهما أجهش بالبكاء واعتذر من قبول المال المبعوث إليه وأصرّ علي ذلك حتّي يأس مبعوثا الملك من قبوله وأرجعا المال إلي ايران.

وبعد ذلك قيل للمقدّس الكاظمي: ممّ كان بكاؤك؟

قال: من جهة علمي بأنّ ماجري بيني وبين زائري قد صار سبباً لأن يذكر اسمي في ديوان الظالمين.

بين أشياء ثلاثة

قيل: ان الشيخ الأنصاري(قدس سره)كان يقول: ثلاثة أشياء ينبغي للإنسان وخاصّة رجال الدين الإهتمام بها، وذلك بأن يأخذ أولها ولو كان في ابتداء الأمر غير جامع للشرائط، وأن يترك ثانيها ولو كان في ابتداء الأمر جامعاً للشرائط، وأن يأخذ بثالثها إذا كان جامعاً للشرائط ويتركه إذا كان فاقداً للشرائط.

أمّا الأوّل: فهو العلم، فإنّه ينبغي للإنسان أن يطلب العلم ويتعلّمه ولو لم يكن في أول الأمر قصده اللّه تعالي والتقرّب إليه، وذلك لأنّ العلم بالأخرة يجرّه إلي اللّه تعالي.

وأمّا الثاني: فهو القضاء بين الناس، فإنّ القاضي مشكل أمره وإن كان عدلاً فقيهاً، لأنّه كثيراًما يجر الإنسان

إلي الحكم بخلاف الحقّ.

وأمّا الثالث: فهو امامة صلاة الجماعة، فإن كان عادلاً أقدم عليها، وإلاّ تركها.

أقول: بهذا الكلام المتين قد أشار الشيخ(قدس سره)إلي خطورة منصب القضاء، ولزوم أن يحتاط القاضي في الحكم أشدّ الإحتياط.

العبادة و الالتزامات ألاخلاقيّة

ينقل عن الميرزا الكبير المجدّد الشيرازي(قدس سره)انّه كان يقول: إذا لم يحضر إمام الجماعة إلي الصلاة، فعلي المأمومين أن يذهبوا إلي تشييعه، وإذا لم يحضر المدرّس إلي الدرس، فعلي التلاميذ أن يذهبوا إلي عيادتهô كناية عن لزوم حضور الإمام إلي الصلاة حتّي في أشقّ أحواله، ماخلا الموت، وحضور المدرّس إلي الدرس في جميع أحواله ماخلا المرض.

تعديل وتصحيح

يقال: انّ أحد زملاء الشيخ الأنصاري(قدس سره) في الدراسة - وكان ممّن لم يصل إلي ماوصل إليه الشيخ - قال يوماً في محضر الشيخ معرّضاً به: من السهل أن يصير الشخص عالماً، لكن من المحال أن يصير انساناً - وكان يقصد بذلك انّ الشيخ عالم ولكن ليس له أخلاق -.

فقال الشيخ(قدس سره)في جوابه ببساطة وبشاشة: انّه من الصعب أن يصير الشخص عالماً ولكنّ الأصعب هو أن يصير انساناً.

واجبات اجتماعيّة

التجارب دلّت علي انّ اللازم علي الإنسان - خصوصاً العالم والحاكم - أن لايعادي أحداً، مهما عاداه ذلك الشخص وناواه، إلا في موارد خاصّة أمره اللّه تعالي بمعاداته، وذلك للمثل المشهور المستفاد من الروايات والأحاديث الشريفة الآمرة بعدم الإستهانة باُمور مهما كانت تلك الاُمور ضئيلة وقليلة - كالنار، والعداوة، والمرض - فإنّها وإن كانت تأتي في باديء أمرها ضئيلة، لكنّها تستفحل وتطغي فلا يدري الإنسان مايكون نهايتها؟ فربّما أحرقت نار صغيرة مدينة كبيرة، وربّما كانت كلمة جارحة سبباً لحرب طاحنة، وربما صار مرض بسيط مبدأ وباء عظيم يسبّب موت آلاف من الناس.

من أجل إعادة حكم اللّه

نُقل عن المرجع الكبير الحاج آقا حسين القمي(قدس سره)انّه بعد عزل الغرب البهلوي الأول من الملوكية، غادر العراق بصحبة مراجع آخرين إلي ايران لإصلاح ماأفسده البهلوي فيها، ومن جملة مفاسده: إجبار النساء علي الخلاعة والسفور، واختلاط الفتيان والفتيات في المدارس والمسابح وماأشبه ذلك، وانحراف الإقتصاد ومصادرة ممتلكات الناس، وإلي آخر القائمة.

ولما رأي(قدس سره)انّ الهيئة الحاكمة مصرّة علي عدم تلبية مطالبه هددّها بالقيام عليها وأعلن قائلاً: بأنّه مستعدّ للمحاربة مع الدولة وارغامها علي تطبيق حكم اللّه ولو بإصدار فتوي توجب علي الناس النفير العام لمجابهتها وعزم علي ذلك، ولما رأت الدولة قيامه(قدس سره) واستعداده إلي هذا الحدّ من التفاني في سبيل اللّه، وكانت تعرف جيّداً شعبيّته في أوساط الناس وتأثيره فيهم، هابته وخافت من نفوذه وقيامه وأسرعت إلي تلبية مطاليبه.

وهذه القصّة نفسها مذكورة ولكن بشكل مفصّل وبنوع من الاسهاب في بعض ما كتبناه، وألمعنا فيها بأنّه هكذا ينبغي أن يكون العالم شجاعاً ومقداماً.

مع طاغية ايران

قيل: ان البهلوي الأول أمر رؤساء الأصناف بأن يطلبوا حضور أصنافهم وأن يأتوا إلي محل الإجتماع هم ونساؤهم سافرات، كل صنف في يوم، وابتدأ هو بنفسه، ثم الوزراء، ثم الوكلاء، ثم سائر الموظّفين، ثم الكسبة ومن إليهم، وذلك حتي يروّج السفور والخلاعة.

وأخيراً دعي البهلوي إمام الجمعة وقال له: لابدّ وأن تدعو أهل العلم بهذه الكيفيّة، فاستمهله امام الجمعة وهو يعلم انه لو لم يلبّ طلبه كان نصيبه القتل، ثمّ أخذ يفكّر بأنّ خوف القتل هل يكون مبرّراً للقيام بطلب البهلوي أم لا؟

وأخيراً قرّر أن يستشير في أمره مع مرجع عصره ومعروف دهره السيّد مير محمد البهبهاني(قدس سره)، فجاء إليه سراً واستشاره في الأمر.

فقال له السيّد البهبهاني: اعلم ان للإنسان أربعة أشياء يحيي من

أجلها ويموت وهي عبارة عن: المال، والحياة، والعرض، والدين، وكلّ مرتبة سابقة يفدّي بها من أجل المرتبة اللاحقة إذا دار الأمر بينهما، هذا من جهة، ومن جهة اُخري يجب أن تعلم انه قد كبر سنّك وطعنت في العمر ولم يبق من حياتك إلا بضع سنوات علي أحسن الفروض، فإذا لبّيت طلب البهلوي فقد اشتريت لنفسك قبال حياة سنوات معدودة، الخزي والعذاب الأبدي، بالإضافة إلي لعنة التاريخ وشجبه ذلك، وإنه لم يلبّ طلب البهلوي فمنتهي الأمر انّك تقتل فتشتري لنفسك قبال فقد سنوات معدودة من عمرك، السعادة والحياة الأبدية، اضافة إلي ثناء التاريخ ومنحه لك. والعقل يوجب عليك أن تختار ما فيه السعادة الأبدية، إذن: فلاتلبّ طلب البهلوي.

وبالفعل لمّا طلبه البهلوي للجواب، أجابه بكلّ قاطعيّة بالنفي، وأبدي عزمه علي عدم تلبية ما أراد منه حتي وإن انتهي به الأمر إلي مالايتحمّل عادة، معلّلاً ذلك بأنه لم يبق من عمره شيء وانه علي أعتاب الآخرة، ولابدّ للإنسان من أن يموت، فليكن موته قتلاً في سبيل اللّه.

ولمّا سمع البهلوي كلام امام الجمعة هذا، قال مغضباً: انّ هذه الجرأة علي أن تكلّمني بهذا الكلام ليس منك، وانما هو من ذلك السيّد، ويقصد به السيّد البهبهاني، وأخيراً حفظهما اللّه تعالي عن أن يصل إليهما مكروه، ونالا بموقفهما المشرف، عزّ الدنيا والآخرة، رحمةاللّه تعالي عليهما.

المرجع أب حنون

ذكر لي الخطيب الكبير والواعظ الشهير الحاج الشيخ مهدي المازندراني(قدس سره) صاحب التصانيف القيّمة كمعالي السبطين وغيره من الكتب الثمينة، نقلاً عن والده الشيخ عبدالهادي(قدس سره)وكان من تلاميذ الميرزا الكبير المجدّد الشيرازي(قدس سره) قائلاً:

انه لما ولد له الشيخ مهدي تمرض الطفل بعد أيام من ولادته، وكانت زوجة الميرزا لها إلمام بالطب وتعرف طريق العلاج، فأخذ الشيخ

وزوجته الطفل إلي دار الميرزا لتعالجه زوجة الميرزا.

فاتّفق أن كانت زوجة الميرزا مشغولة بأمر، فطلبت منهما بأن يأتوا بالطفل بعد ساعة، فانزعج الشيخ، وعاد إلي داره مغضباً وعزم علي عدم مراجعتها.

وبعد ساعة أرسلت زوجة الميرزا إليهم ليأتوا إليها بالطفل فتعالجه، لكن الشيخ أبي عليها ذلك، وتكرّر الطلب من ناحيتها مرّات، والشيخ مصرّ علي عدم تلبية الطلب.

قال الشيخ: قال والدي: وبينا أنا كذلك وإذا بي أسمع طرق الباب، ولما تقدمت إلي الباب وفتحته، رأيت الميرزا، وخلفه زوجته قد جاءا بأنفسهما.

قال: فخجلت كثيراً وأخذت أعتذر من الميرزا.

فأجابني الميرزا قائلاً: لابأس عليك، ولكن ألم يكن من المقرّر بيننا أن نكون في سامرّاء كعائلة واحدة؟

ثم دخلت زوجة الميرزا إلي الدار وجلس الميرزا إليّ في الدهليز يحدّثني، حتّي إذا وصفت الدواء للطفل وعالجته، خرجت من الدار، فودّعني الميرزا وعاد بصحبتها إلي داره.

قال الشيخ مهدي(قدس سره): وطبت ببركتها بعد أن كنت مشرفاً علي الهلاك والموت.

المكافأة بالإحسان

نقل لي أحد الفضلاء، قصّة طريفة عن أحد الخطباء المبرّزين في طهران وقال: انه بلغ في الناس منزلة رفيعة وبزغ نجمه حتّي حسده واحد من السادة وأخذ ينتقصه كلّما قام وقعد، وذات يوم كان ذلك الخطيب في الدار، وإذا بزوجته تدخل عليه وهي باكية محمرّة العين، مبحوحة الصوت، ضيقة الصدر من كثرة البكاء، فسألها عن السبب؟

فأجابت وهي تبكي: ذهبت إلي مجلس وإذا بأحد من السادة يقوم وينتقصك علي مسمع من الناس ومنظر، وقد قال في جملة ما قال: ان زوجته سافرة وهي ترقص في الملاهي - ومعلوم ماذا يفعل مثل هذا الكلام في قلب امرأة عفيفة محجّبة شريفة -.

فلمّا سمع الخطيب ذلك قال: لابأس عليك، احتسبي ذلك علي جدّه رسول اللّه (صلي الله عليه وآله وسلم)

وأخذ يسلّيها حتّي سكن ما بهاô ولم تمض إلا أيّام وإذا بذلك السيّد يقع في مشكلتين: مشكلة التجنيد، ومشكلة المرض، فقد كان له ابنان شمل أحدهما قانون التجنيد الذي أحدثه البهلوي الأول، وأصاب الثاني مرض السل، وكلما حاول الأب اعفاء ابنه الأول من الجندية وادخال ولده الثاني في المستشفي لم يتمكّن، فقيل له: لاوسيلة لنجاحك في مهمّتك إلا بتوسيط ذلك العالم الخطيب الذي كان ينتقصه هو، وقالوا له: إنّ نفوذه كبير، ولايتمكّن أحد من ردّ وساطته، فلم ير السيّد بدّاً من طرق باب ذلك العالم الخطيب لخلاص ولديه، وأخيراً جاء وطرق الباب عليه، فأذن له بالدخول.

قال السيّد: فلمّا دخلت عليه تلقّاني بوجه منبسط وصدر منشرح، ورحّب بي وأجلسني إلي جانبه وأخذ يتفقّدني ويسأل عن أحوالي وكأنّه صديق حميم، ثم سألني عمّا جاء بي إليه، وهل لي حاجة حتّي يقضيها لي؟

فقلت: نعم، وقصصت عليه قصّة ابني الأول وجنديته، وابني الثاني ومرضه.

فقال: لابأس عليك، سأتّصل بالمسؤولين واُكلّمهم في ذلك، ثم اتّصل عبر الهاتف بإدارة التجنيد وتوسّط في اعفاء ابني الأول فعفي عنه، ثم اتّصل بمدير المستشفي العام وأراد منه ادخال ابني الثاني في المستشفي.

فقال المدير: لا مكان لنا اطلاقاً، وأراد أن يعتذر من قبوله لولا أن تداركه العالم الخطيب بقوله: انصبوا له سريراً في صالة المستشفي حتي يفرغ سرير داخل الغرفة، ثم انقلوه إليها.

فلم ير المدير بُدّاً من اجابته، ونقل المريض إلي المستشفي لمعالجته، وهكذا قابل العالم الخطيب الإساءة بالإحسان.

الأمانة وثمراتها

قيل: ان بنت أحد الملوك الصفويّين زارت بعض أقربائها في دارهم وبقيت عندهم حتّي جنّ عليها اللّيل فخرجت وهي لاتعرف كم مضي من الليل، ولكن لما توسّطت الطريق ورأته خالياً من المارة عرفت انه قد مضي من

الليل شطر كبير، فاستوحشت وخافت ولم تملك القدرة علي مواصلة طريقها إلي دار أبيها الملك، ولا علي الرجوع إلي دار قريبها الذي خرجت عنهم، وبقيت متحيّرة تفتش عن مأمن قريب تلجأ إليه.

وإذا بإحدي المدارس العلمية الشبيهة بالقسم الداخلي المتعارف في المدارس اليوم مفتوح بابها، فدخلته وتوجّهت إلي غرفة من غرفها كانت مفتوحة الباب، وسيّد شاب فيها كان من جملة طلبة المدرسة مشغول بالمطالعة.

فوقفت عليه وحيّته ثم قالت: هل لك أن تستضيفني في مكان أمن سواد هذه الليلة؟

قال السيّد: نعم ادخلي المخدع.

فدخلت وبقيت هناك إلي الصباح، ولمّا أصبح الصباح خرجت من عنده مودّعة دار أبيها وجاءت إلي مقرّ السلطنة، فرأتهم مضطربين أشدّ الإضطراب لفقدها تلك الليلة وقد طلبوها في كلّ مكان فلم يظفروا بها، ولذلك لما مثلت بين يدي أبيها الملك، قال لها أبوها الملك بتأثّر: أين كنت الليلة البارحة؟

فنقلت القصّة كاملة، فلم يشأ يصدقها الملك، وأمر بأن يبعثوا إلي القوابل ليفتشوها، فلمّا وجدوها سالمة كما كانت، بعث الملك إلي السيّد يطلب منه حضوره، فلما حضر رآه شاباً في أوّل عمره، فقال له وهو معجب بايمانه وتقواه: ماقصّتك مع ضيفتك البارحة؟

قال السيّد الشاب: الأمر كما حدثتك.

قال الملك: أخبرني كيف استطعت أن لاتتعرّض لها ولو بنكاح حلال، وهي في قبضتك وتحت قدرتك ولم تكن تعرفها؟

قال السيّد الشاب: لأنها استأمنتني ولاذت بي، فلم اُحب الخيانة بها

وفي أثناء المكالمة كانت قد وقعت عين الملك علي أصابع السيّد ورآها مضمّدة، فقال له متسائلاً: مابال أصابعك مضمّدة كلّها؟

قال السيّد الشابّ: انّ الشيطان كان يعترضني البارحة ويوسوس في صدري بأن أقوم إلي ضيفي فكنت ازجره، فإذا أحرجني وألحّت عليّ نفسي وخفت الخيانة أخذت رأس اصبع من أصابعي فوق المصباح لأحرقه بالنار مذكّراً

نفسي بنار جهنّم في الآخرة، حتّي إذا احترق، أخذت اصبعي الآخر، وهكذا حتّي أصبح الصباح وقد أحرقت أصابعي العشرة كلّها.

وهنا صدّقت بنت الملك كلامه وقالت: لقد كنت أشمّ عنده رائحة اللّحم المحترق طول الليل ولم أعرف سرّه، والآن قد عرفته.

فتعجّب الملك من أمره، ثم عرض علي السيّد الشابّ الزواج من ابنته تلك، فوافق السيّد علي ذلك وتزوّج منها وصار بذلك صهر الملك وسمي من بعدها بالسيّد)الميرداماد(يعني: صهر الملك.

تأليف القلوب

يقال: انه ادعي ذات مرّة رؤية هلال شهر رمضان عند العامة، في سامرّاء ولم يدّع رؤيته أحد من الشيعة فيها، فقام الميرزا المجدّد(قدس سره)بمبادرة حسنة فقال لمن عنده: ادعوا لي من يدّعي رؤيته من العامّة، فدعوهم له، فجاءوا وشهدوا عند الميرزا بأنهم قد رأوا الهلال وشرحوا له كيفيّة رؤيتهم له، ووفقاً لشهادتهم حكم الميرزا بالهلال.

فتعجّب بعض الناس من هذه البادرة وسألوا الميرزا عن السبب وانه كيف اعتمد في الحكم بالهلال علي شهادتهم؟

فقال الميرزا: اني كنت قد رأيت الهلال بنفسي وثبت عندي شهر رمضان لكنّي أردت عبر هذه المبادرة جمع قلوب المسلمين، والتأليف بينهم.

وهكذا يكون أولياء اللّه، فإنّ علماء الشيعة دأبوا علي ايجاد الالفة والتقارب بين المسلمين، فإنّ في تنفير القلوب منشأ كلّ فساد.

انتقال أعباء المرجعية

قيل عن الوحيد البهبهاني(قدس سره)انه لما طعن في السنّ وصار شيخاً كبيراً، فوّض أمر التقليد إلي السيّد بحر العلوم(قدس سره)، وأمر بإرجاع الناس إليه، ولما سئل عن ذلك قال: اني لشيخوختي وكبر سنّي لاأتمكّن من ادارة الاُمور المربوطة بالمرجع، ولا النهوض بالأعباء الثقيلة للمرجعية، والسيد أقدر منّي علي ذلك، وأقوي بالقيام بمهامّ الاُمور، فهو أليق منّي بها. نعم هكذا كان علمائنا الأخيار رحمةاللّه تعالي عليهم أجمعين.

من وعي المرجعية

نقل لي المرحوم الوالد(قدس سره) قصة طريفة اتّفقت للميرزا المجدّد(قدس سره) قائلاً:

انه جاء جماعة من ايران إلي سامراء لزيارة الميرزا المجدّد وذلك بعد قصّة التنباك وكانوا قد أتوا معهم بالهدايا وتحف كثيرة إلي الميرزا، ثم اقترحوا عليه أن يضع منهجاً لتصحيح النظام في ايران، وقالوا: انه لايصح أن يكون الملك مطلق العنان وأن يفعل مايشاء بلا مشورة من العلماء الأعلام مما يسبب كثرة المظالم علي العباد، وفساد البلاد، وتخريب الإقتصاد، كل ذلك في مثل هذا البلد المسلم والموالي لأهل بيت رسول اللّه(صلي الله عليه وآله وسلم)

فمن الجدير أن تأمروا بوضع مايُلزم علي الملك التقيّد بالمشورة في كل مايريد أن يفعله بالنسبة إلي مايرتبط بشؤون الناس ومصير البلاد، وأن يكون تشاوره مع جماعة من العلماء الأخيار ورجال من الأعيان المتديّنين والمطّلعين علي الأوضاع، ثمّ أكّدوا ذلك وكرّروه بصيغ مختلفة وعبارات متفاوتة.

فلم يجبهم الميرزا في مجلسه بشيء وانما أصغي لهم واستمع إلي ما يقولونه بدقّة، وكان من عادته انه يسكت إذا كان لايروق له كلام السائل.

فقاموا وخرجوا من المجلس وطلبوا من بعض أصحاب الميرزا أن يعقّبوا الموضوع، ويأخذوا منه النتيجة ويخبروههم بها.

ولمّا عقّبوا الموضوع وأرادوا من الميرزا الجواب علي اقتراح القوم قال الميرزا في جوابهم: اني أفهم ما يريدون، ولكنّي لا

اسبب الاضطراب والفوضي لايران بسبب مايذكرونه من المحاذير وردّ هدايا الجماعة ولم يقبلها، وتبيّن بعد ذلك ان الأمر كان مدبّراً من قبل المستعمرين الطامعين في بلاد المسلمين، وكان قد أدرك الميرزا القصّة بفراسته، وعرف انها كلمة حقّ يراد بها باطل.

مصارعة الهوي

ذكر لي أحد الأصدقاء انه كان في طهران، حين ورود المرحوم الشيخ علي المقدس، اليها وهو في طريقه إلي خراسان، فدعي من قبل الأهالي إلي الصلاة بهم جماعة، فوافق الشيخ علي طلبهم وصلّي بهم أيّاماً، وازدحم المسجد بالمصلّين من كافة طبقات الناس، وخاصّة بالمقدّسين والأخيار، حتي حسده بعض الناس.

وذات يوم حين كان راكباً علي حمار له وهو في طريقه إلي زيارة السيّد عبدالعظيم الحسني (عليه السلام) في ري وإذا به يسقط من فوق الحمار علي اُمّ رأسه إلي الأرض وينقل من فوره إلي المستشفي ويبقي فيها تحت العلاج والمراقبة عدّة أسابيع، وكان في أوائل الحادث علي أثر اصطدامه الشديد بالأرض مغمي عليه مما سنحت الفرصة لحسّاده أن يقولوا عنه ان قد جُنّ من أثر الصدفة.

حتي إذا بريء الشيخ مما نزل به وخرج من المستشفي طلب منه مواصلة امامته للصلاة، فلبّي الطلب وخرج وقت الصلاة إلي المسجد، وإذا به يري انه قد ازدحم المسجد بالمصلّين ازدحاماً منقطع النظير وقد توافد الناس للصلاة خلفه من كل صوب ومكان.

فلما رأي ذلك وكان قد وصله مقالة حاسديه، أخذ يحدث نفسه قائلاً: أين الذين كانوا يقولون عنك انك قد جننت وفسد عقلك ليسقطوك عن أنظار الناس؟ فليحضروا حتي يشاهدوا هذا الإجتماع الكبير، والحشد الهائل من المصلّين!

وبمجرّد أن تمّ حديث الشيخ مع نفسه انتفض وكأنّه أفاق من غشوه، وجذب عنان مركبه ولوّي برأسه ليرجع من حيث أتي.

فقال له بعض من كان

بصحبته: إلي أين يا سماحة الشيخ؟

فأجاب قائلاً: إلي البيت.

قال: ولم؟

قال: لأنّه قد حدثتني نفسي بحديث تبيّن لي منه: انّ امامتي للصلاة من الآن ليست خالصة لوجه اللّه تبارك وتعالي، وانما هي مشوبة بهوي نفسي، وإلا فما أنا والتباهي بكثرة المصلّين المؤتمّين بي؟ وما أنا والردّ علي الطاعنين فيّ والباغين عليّ؟ ثم رجع.

ولما علم الناس برجوعه، ازدحموا عليه، وكلما حاولوا ارجاعه لم يقبل بالرجوع ولم يؤمّ بعد ذلك صلاة جماعة مدّة بقائه في طهران، وانما جمع أمره وسافر إلي مدينة مشهد المقدّسة للتشرّف بزيارة الإمام الرضا (صلوات اللّه وسلامه عليه).

المرجع وموقفه من الناس

قيل: انه لما اتّخذ الميرزا الكبير المجدّد الشيرازي(قدس سره) من سامراء مقراً له ولمدرسته العلمية، ضاق ذلك علي بعض السنّة، وفكّر المنحرفون منهم في انزال الشرّ والسوء بالميرزا، ولذا حرضوا أولادهم برمي دار الميرزا بالحجارة، ثم تعدّي الأمر حتّي أخذوا يرمون دور الشيعة.

فوصل الخبر إلي بغداد وانتشر بين الناس حتي وصل إلي مسامع الحكومة، وإذا بأربعة من السفراء ورجال الحكم: الوالي العثماني والسفير الايراني والسفير البريطاني والسفير الروسي يقصدون سامراء للإتّصال بالميرزا واستئماره فيمايجب أخذه من التدابير اللازمة.

لكن الميرزا أبدي عند التقائه لهم عدم اهتمامه بالأمر ممّا أثار تعجّبهم قائلاً: بأنّ أهل سامراء هم مثل باقي المسلمين بمنزلة أولادي وأبنائي والأب لايغضب إذا أساء بعض ولده.

وهنا أصرّ السفير العثماني علي الميرزا بإجازته له في تعقيبهم وتأديبهم قائلاً: أحمل تراب سامراء بالعَليق - كناية من انهاكه لهم في التأديب -.

ولكن الميرزا أصرّ علي الإباء والإمتناع عن أن يأذن له بذلك وصرفهم بسلام.

ولما علم أهالي سامراء بالقضية، واطّلعوا علي موقف الميرزا المشرف ونواياه الطيّبة اتّجاههم، ندموا وانقلبوا إلي أولياء محبّين، وتبدّل بغضهم حبّاً وحناناً وندموا علي مافعلوا وجاءوا

إلي الميرزا تائبين مستغفرين.

في استقبال الشيخ التستري

يقال: انّه لما عزم الشيخ جعفر التُستري(قدس سره)الزاهد المعروف، علي زيارة الإمام الرضا(عليه السلام) وسافر إلي ايران واستقبله الناس في طهران استقبالاً منقطع النظير، وكان قد خرج في جملة الناس للتفرّج، وليس للإستقبال، السفير الروسي في طهران يومذاك.

وعندما توسّط الشيخ المستقبلين طلبوا منه أن يعظهم، فرفع الشيخ رأسه وأدار بنظره في وجوه من حوله من المستقبلين ثمّ رفع صوته فيهم وقال: أيّها الناس اعلموا انّ اللّه موجود، وسكت، وحيث انّ هذه الكلمة كانت قد خرجت من القلب ومن مثل الشيخ التستري وقعت في القلب وأثرت أثرها البالغ والمدهش في النفوس، فجرت الدموع، ووجلت القلوب، وحدث في حال الناس انقلاباً روحيّاً عجيباً.

فكتب السفير الروسي - وقد اصطدم معنوياً مما رآه من تعاطف الشعب مع علمائه - إلي نيوقولا قيصر روسيا: انه يجب علينا مراجعة نوايانا السياسية تجاه ايران والشعب المسلم واعادة النظر فيها، فإنه مادام رجال الدين والعلماء موجودين بين الناس، وللناس تعلّق كبير بهم، لانتمكّن من فعل أيّ شيء يمسّ كرامتهم ويهدّد استقلالهم، فإنّ كلمة واحدة من واحد من علمائهم كافية لإحداث موجة عارمة في نفوسهم، فكيف بالأوامر الصارخة والصريحة منهم؟.

علي موائد الخلفاء

جاء في التاريخ انّ أحد علماء العامة ويدعي (شريكا) كان معاصراً للخلفاء العباسيّين وكان من أشدّ الأعداء لهم بحيث لم يكفّ عن معارضتهم أبدا، وكان الخليفة المعاصر يخشي من تأديبه لمكانته في الناس، فتحيّر الخليفة في أمره، وأخيراً فكّر في احتوائه وإغرائه عبر المقام والجاه.

فطلبه ذات مرّة، فأبي أن يلبّي طلبه، وبعد اصرار من الوسائط وافق علي الحضور، فحضر مجلس الخليفة، فرحّب به الخليفة وأكرمه وقال له فيما قال: انّك تعلم انّ القضاء هوالأساس المقوم للناس والسبب لايصال كلّ ذي حقّ إلي حقّه، ومن

المعلوم: انّ القضاة غير الأكفاء يفسدون أكثر ممّا يصلحون، ولذلك فإنّي رأيت انقاذ الاُمّة بعرض منصب قاضي القضاة عليك.

فأبي (شريك) قبول ذلك وقال: كلاّ فإنّي لاافسد بإصلاح غيري.

قال الخليفة بعد أن فكّر مليّاً: إذن فهذان ابناي أدّبهما فإنّ الأمر يؤول إليهما، ولو أدّبتهما كانت الأمة بمنجي من غوائل الخلفاء.

قال شريك: انّ الأمر كما تقول ولكنّي غير مستعدّ لذلك.

وكلّما حاول الخليفة اقناعه لأن يوافق علي أحد الأمرين لم يزدد شريك إلا إصرارا في الرفض.

عندها قال الخليفة: إذا كنت لم تقبل شيئاً من ذلك، فكن إذن في منصب مشاور الخليفة، وأنت خبير بدور المستشار وأثره في تقويم الخلافة وتطبيق العدالة في المجتمع.

فأبي (شريك) من قبول هذا المنصب الثالث أيضاً.

وأخيراً قال له الخليفة: إذن فكن ضيفنا هذا اليوم وابق عندنا لتناول طعام الغداء، فقبل شريك ذلك بعد إصرار كبير، وأمر الخليفة بإقامة الضيافة علي شرفه، كما وأمر خادمه بأن يقدم له من طعامه الخاص به، ففعل الخادم ذلك، ولما ذاقه(شريك) من الطعام استساغه، فلم يرفع اليد عنه حتّي أكله بالتمام وأتي عليه كاملاً، ولماء جاء الخادم ولم ير من طعام الخليفة أثراً سأل بعض الحاضرين عمّا فعل (شريك) بالطعام؟

فقيل له: أكله تماماً.

قال الخادم لما سمع ذلك: إذن لن يفلح واللّه بعد أكله هذا أبداً.

وكان كما ذكر، فإنّ (شريكاً) لم يقم من مجلسه هذا حتّي قال للخليفة: لقد فكّرت فيما قلت فرأيت كلامك حقّاً، وقد قبلت تعليم الأولاد، ومنصب قاضي القضاة وأن أكون مستشاراً لك.

ففرح الخليفة فرحاً عظيماً من موافقة (شريك) علي ماعرضه عليه، وأمر بإسناد المناصب الثلاثة إليه فوراً، وبعد ذلك انتهت معارضته اطلاقاً، وصار موافقاً ومدافعاً.

وفي الأيام الاولي كان مرتبه الشهري يقدم إليه علي باب داره، ثمّ

كان يذهب هو بنفسه لاستلامه، لكن كان يراعي ويقدّم له مرتبه بسرعة واحترام، وبعد فترة جاء شريك ذات مرّة ليأخذ مرتبه، فلم يسرع المأمور بدفع الراتب إليه.

فغضب (شريك) من التأخير وصرخ في وجه المأمور ليعجّل له بمرتبه قائلاً: هات حقّي.

فقال له المأمور بامتعاض: وهل بعتنا شيئاً تريد منّا قبض ثمنه؟

قال (شريك) ببرودة: نعم بعتكم أغلي شيء أملكه وهو ديني.

وهكذا تباع الضمائر والأديان علي موائد الخلفاء والحكّام، وهكذا أيضاً تفعل المغريات بالنفوس الضعيفة.

في مجالس الوعظ

نقل عن الشيخ الأنصاري(قدس سره)انه كان إذا جاء من النجف الأشرف لزيارة كربلاء المقدّسة صحبته جماعة من طلاّبه، فكان إذا وصلها وتشرّف بزيارة السبط الشهيد عليه السلام التفت لمن جاء معه من المصاحبين له وقال لهم: تعالوا نذهب إلي مجلس وعظ الخطيب الشهير الشيخ جعفر التستري.

ثمّ كان يعقّب كلامه ذلك بقوله: فما أحوجنا إلي استماع الموعظة، فقد مالت قلوبنا إلي القسوة وران عليها.

نعم من الضروري للإنسان وخاصّة المراجع ورجال الدين مطالعة كتب الوعظ كمواعظ البحار، ومجموعة ورّام، وغيرهما، أو حضور مجالس الوعظ وماأشبه.

تصحيح عقائد الغلاة

كان من دأب الميرزا الكبير، المجدّد الشيرازي(قدس سره)اكبار رجال الدين وتوقيرهم، واحترامهم والاحتفاء بهم جميعاً، وذات مرّة دخل عليه واحد من رجال الدين، فاحترمه الميرزا غاية الإحترام، وأظهر له من العناية والإقبال مالم يظهره لأحد، لقد استقبله بحفاوة وشيّعه بإجلال كبير، مما سبب تعجّب الحاضرين واستغرابهم، فسألوا الميرزا بعد ذلك عن السبب؟

فقال: احترمته لإخلاصه في دينه، ولواقعيّته وصدقه مع ربّه، ولقدرته النفسيّة العجيبة، انه كان زميلي في الدراسة الحوزويّة حتّي إذا أكمل السطوح والدروس العالية وبلغ درجة الإجتهاد، عزم علي الرجوع إلي بلاده ليكون هناك مرجعاً في الإفتاء ومتصدّياً لمسائل الناس وأحكام دينهم، وفي طريقه إلي بلاده مرّ علي منطقة كان يسكنها الغلاة القائلين باُلوهيّة الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) من نواحي (كرمانشاه)، ولمّا عرف الأمر واطّلع عليهم، رأي أنّ واجبه ارشاد هؤلاء وتصحيح عقائدهم، وانّه مقدّم شرعاً علي الذهاب إلي بلاده لإفتاء الناس وتصحيح فروعهم، فترك العودة إلي بلاده وبقي هناك، وبدأ عمله من المسجد، فقد قام فيه معلناً لأهل القرية: بأنّه معلّم، ومستعدّ ليعلّمهم الكتابة والقراءة بثمن زهيد لايتجاوز سدّ رمقه.

فتكاثر عليه التلاميذ وأخذ يعلّمهم إضافة إلي القراءة والكتابة، اُصول الإعتقاد وسائر

الاُمور الإسلاميّة وبقي هنا حتّي ربّي جيلاً مؤمناً تحوّلت القرية علي أثرهم إلي قرية شيعيّة، وصار أهلها شيعة بعد أن كانوا من الغلاة، وذلك علي أثر تضحية هذا الرجل وتفانيه في سبيل اللّه، والإغضاء عن مصالحه ومآربه الشخصيّة، ولذلك فهو جدير بهذا الإحترام، ولائق بالتجليل والتقدير.

من مهامّ المرجعيّة

انّ من مهامّ المرجعيّة تعيين وكلاء أكفاء يكونون حلقة وصل بين المرجع وبين مقلّديه، ينقلون إليهم فتاواهم، ويقومون بشؤونهم الدينية، وكان السيّد أبوالحسن الاصفهاني(قدس سره) من بين المراجع نموذجاً في حسن التوكيل وكثرة الوكلاء في أطراف البلاد الإسلامية، وذات مرّة اشتكي أهل إحدي البلاد إلي السيّد أبوالحسن الاصفهاني(قدس سره) من وكيله.

فاستدعاه السيّد إلي النجف الأشرف وطلب منه الالتقاء به، فجاء الوكيل وجلس في المجلس بعيداً عن السيّد، حيث كان المجلس غاصّاً بالناس، ولمّا تفرّق الناس وخف المراجعون، طلبه السيّد قريباً منه، فجاء مهرولاً إلي السيّد حتي جلس عنده، فالتفت إليه السيّد(قدس سره) وقال له بعد أن سأله عن أحواله: هل تعرف لماذا بعثت إليك؟

أجاب: لا.

قال السيّد: بعثت إليك لأطلب منك البقاء عندنا في النجف الأشرف ومواصلة دروسك، فابق معنا ولاترجع إلي منطقة تبليغك، فسوف نرسل إليها من يكفيك عنها.

قال: لابأس وبقي ليواصل دروسه، ثم ودّع السيد وقام وانصرف.

فلمّا انصرف قيل للسيّد: انّك لم تتحقّق منه عن الأمر وعزلته بلا تحقيق؟

قال السيّد: نعم اني كنت قد طلبته للتحقيق، ولكن لما استدنيته منّي هرول في المجلس بطريق غير معتاد مع انه لم يكن مكان هرولة، فعرفت انه لايصلح للوكالة وان الحق مع الّذين اشتكوا منه، لكن حيث اني لم أرد جرح عواطفه ولا إذهاب ماء وجهه، أمرته بالبقاء عندي بدون أن أذكر له السبب، نعم هكذا ينبغي مراعاة حرمة رجال الدين،

والمحافظة علي مكانتهم الإجتماعية.

مداراة الناس

قيل: انه كان أحد رجال المنبر مخالفاً للمرحوم السيّد محمد كاظم اليزدي، وكان يعرّض به احياناً علي المنبر.

قال أحد العلماء: فاتّفق لي أن كنت في مجلس وكان فيه السيّد اليزدي(قدس سره) حاضراً، فجاء ذلك الرجل المخالف وصعد المنبر وهو لايعلم بحضور السيّد -لأنّه لأجل تقصيره في حقّ السيّد ماكان يتجرّأ علي صعود المنبر عند حضوره ومشاركته في المجلس- وفي الأثناء وقعت عيناه علي السيّد، فارتبك واضطرب، وتلجلج في كلامه، حتي انه أخطأ في بيان مسألتين شرعيّتين كان قد شرع في الكلام عنهما ممّا ألفت نظر الجميع إلي خطئه وأخذوا يرقبون ردّ السيّد له.

لكن السيّد(قدس سره) لم يتكلّم بشيء ولم يعترض عليه حتي نزل الرجل عن المنبر، فطلبه السيّد ونبّهه علي خطئه، وذلك بعد إقبال شديد منه عليه، واحتفاء كبير به، حتّي كأن لم يكن بينهما حزازة أبداً، ثم قام الرجل وانصرف.

قال وهو يواصل قصته: فحضرت المجلس في اليوم الثاني أيضاً، لأري نتيجة ماحدث بالأمس، فإذا بالرجل جاء وصعد المنبر وتلا في طليعة منبره آية التوبة، ثم أعلن توبته عمّا كان يبدر منه احياناً من سوء الأدب والإساءة إلي السيّد وقال: انكم جميعاً قد رأيتم قصّتنا يوم أمس، فقد كان للسيّد الحقّ شرعاً وعرفاً في الإعتراض عليّ من تحت المنبر، لأنّي قد بيّنت الحكم مخالفاً للشرع اشتباهاً، وكان في ذلك افتضاحي وانكساري، ولكن السيّد لم يفعل ذلك مع ما كان يصله عنّي من سوء أدب وإساءة بالنسبة إليه، وانما دعاني إليه، وبعد اكباره واحترامه لي أخذ ينبّهني بكلّ رحابة علي اشتباهي في الحكم الذي ذكرت، ثم عقّب كلامه ذلك بقوله: نعم وهكذا يكون أخلاق مرجع كبير ونائب للإمام المهدي عجّل اللّه تعالي

فرجه الشريف حقّاً كالسيّد.

ثم قال: الآن أنا نادم ممّا فعلت سابقاً ومعتذر إليه وإليكم، والعذر عند كرام الناس مقبول.

الإحسان مقابل الإساءة

حكي عن الميرزا الشيرازي(قدس سره)أيّام تواجده في سامراء بأنّ جماعة من أهالي سامراء غير الشيعة كانوا قد أغروا صغارهم وشبانهم لأذيّة الميرزا والشيعة، وتحمل الشيعة منهم الأذي بأمر الميرزا، وفي ذات يوم أراد أحد اُولئك الشبان أن يتزوّج، فقال في نفسه: سوف أذهب إلي الميرزا وأطلب منه مؤنة الزواج فإن أعطاني شيئاً فهو، وإلا اذيته.

وبالفعل جاء إلي الميرزا وعرض عليه أمر زواجه ثم طالبه بمساعدة مالية.

فقال له الميرزا: وكم مصرف زواجك؟

قال الشاب بمبلغ ذلك اليوم: خمسون ليرة.

فأعطاه الميرزا المبلغ من دون مماكسة، فتعجبّ الشاب كثيراً وجاء إلي أبيه وحكي له القصّة، فتعجّب أبواه أيضاً وانبهر من مقابلة الميرزا إساءتهم بالإحسان، وأخذ يحكي القصّة لكلّ من يراه، حتّي انه حكي ذلك في ديوان أحد شيوخهم في سامرّاء، فتعجّب الجمع، وقالوا بكلمة واحدة: لاينبغي ايذاء مثل هذا الرجل الكريم.

ثم قام جماعة من الشيوخ ومعهم القرآن الحكيم والسيف وأتوا إلي دار الميرزا وكان مثل هذا العمل عادة منهم لإظهار التوبة عند الكبراء، فلمّا التقوا بالميرزا قالوا له وهم نادمون معتذرون: انّ أولادنا آذوك ولم يحفظوا حرمتك، وقد جئناك معتذرين، فإن رأيت أن تغفر لنا وهذا القرآن نحلف به أن لانعود إلي مايسخطك عنّا أبداً، وإن رأيت أن تقتص منّا فهذا السيف خذه واقتص به منّا.

فأجابهم الميرزا بكل عطف وحنان قائلاً: لابأس عليكم، انّ هؤلاء الشباب أولادي، وهل يقتص الأب من أولاده؟ ثم اني مطمئنّ بحسن جواركم، وطيب تعاملكم، فلا حاجة لشيء من الأمرين، فشكروا الميرزا علي قبوله عذرهم وقاموا وخرجوا من عنده وهم فرحون مستبشرون، وصار هذا الصنيع من

الميرزا سبباً من أسباب الاُلفة بين السنّة والشيعة، والإجلال والإكبار من الأهالي للميرزا وأصحابه.

مصاهرة الملوك

يقال: انه كان للميرزا القمي(قدس سره) صاحب (القوانين) ولد بلغ سنّ الرشد وحان وقت زواجه، وكان للملك المعاصر لصاحب القوانين (فتح علي شاه) بنت أراد تزويجها منه، فأرسل الملك رسوله إلي الميرزا القمي ليكلّمه في هذا الموضوع.

فلمّا جاءه الرسول وأخبره بالخبر، قال الميرزا: سوف اجيب.

ولما رجع رسول الملك، تفرغ الميرزا لمناجاة ربّه، وأخذ يدعو اللّه ويقول مامضمونه: اللّهمّ إني أشكو إليك مافي مصاهرة الملوك من البلايا والفتن، والإقبال علي الدنيا والعزوف عن الآخرة، وما لايليق بالعلماء ورجال الدين، اللّهمّ وانّ ابني هذا ممّن سلك طريق العلم وهو يريد رضاك، اللّهمّ فإن كان نجاة ابني من هذا البلاء بالموت، فإنّي أطلب منك موته - كل ذلك خوفاً منه مما يجرّه مصاهرة الملوك علي الإنسان من الدخول في الدنيا وزخارفها ونسيان الآخرة وخسرانها -.

وبالفعل فقد استجاب اللّه دعاءه وأخذت الولد الحمي من فوره ولم تمض ثلاثة أيّام من دعاء الميرزا إلاّ والتحق الولد بالرفيق الأعلي.

ومثل هذه القصّة ينبغي أن تكون درساً لرجال الدين، مع العلم انّ (فتح علي شاه) كان مجازاً من قبل الشيخ جعفر كاشف الغطاء(قدس سره) في ادارة اُمور البلاد ورعاية شؤون العباد، فإنّ الإجازة موجودة بنصّها في كتابه كشف الغطاء، وكان نوعاً مّا مواظباً علي الأحكام الشرعيّة.

وينقل عن أحد العلماء انه قال: ذات مرّة سافرت من النجف الأشرف إلي كربلاء المقدسة وحين كنت أزور في الحضرة الحسينية عليه السلام إذ رأيت (فتح علي شاه) جاء إلي قرب الرأس الشريف ودموعه جارية علي لحيته، ثم ذهب خلف الرأس ورجع، قال: فتعجّبت كيف جاء الشاه إلي العراق ولم نعلم به وكيف انه

وحده يزور بلا كوكبة وحشد؟

قال: فخرجت في أثره لاُحقّق الأمر فلم أجده فسألت عن الخدم عنه؟

قالوا: لم نجد ما قلت وأنت مشتبه، فزاد تعجّبي وسألت عن حافظي الأحذية(الكشوان) وأجابوا بمثل أجوبة الخدم فخرجت من الحضرة وأرخت القصّة، ولم تمض إلا أيام حتّي جاء نعي الشاه وانه كان مصادفاً لنفس ذلك اليوم الذي رأيته في الحضرة الحسينية.

شوري المراجع

كان ناصر الدين شاه - علي ما قيل - يتّخذ القرارات السياسية المرتبطة بشأن البلاد والعباد وحده بلا مشورة من مراجع الاُمّة الفقهاء، ولا طلب رأي من العلماء الأعلام، ولذلك كانت الإعتراضات تتوالي من العلماء والمراجع علي قراراته غير الصائبة، عملاً بوظيفتي: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكانت هذه الإعتراضات تقلّل من شخصيّة الشاه وتعرضه للسقوط في أنظار الشعب.

وتلافياً للأمر كان الشاه يضغط - ولكن بكل خفاء - علي العلماء والمراجع حتي لايتجرّءوا علي معارضته بتصوّره.

وكان من جملة اُولئك المعترضين المرحوم الفشاركي في اصفهان، ففكّر الشاه في طلبه وتهديده بالكفّ عن معارضته، واستقدمه لذلك.

فوصل خبر هذا الأمر إلي أحد علماء طهران وعلم بأنّ الشاه يقصد من استقدام الفشاركي(قدس سره) تنقيصه وتهديده، ورأي انّ هذا الأمر لو توفّق له الشاه، تعرّضت كرامة كلّ العلماء والمراجع إلي الخطر، ففكّر في العلاج، فرأي انه لم يكن هناك شيء يعالج الأمر بسلام، ويصدّ الشاه عن نواياه أفضل من اتّحاد العلماء والمراجع فيما بينهم.

وانجازاً لهذه المهمّة، اتّصل ذلك العالم الفقيه ببقيّة علماء طهران وقام بزيارتهم بنفسه ليلاً، وأعلمهم باستقدام الشاه للعالم الفاضل: الفشاركي إلي طهران وما ينويه تجاهه، وحذرهم من مغبة الأمر، وانه إذا تم للشاه ماينويه تجاه الفشاركي فسوف يسهل عليه التعرّض لهم أيضاً، اضافة إلي انه منكر شرعاً ويجب عليهم ردعه.

ولاتّخاذ موقف

موحد عقدوا اجتماعاً طارئاً بحثوا فيه كيفيّة مواجهة الشاه، وخرجوا باتّخاذ القرار التالي: وهو أن يعلنوا في الصباح المبكر من يوم غد عن خروجهم إلي استقبال الفشاركي، وفور ما سمع الناس هذا أغلقوا محلاتهم وتركوا أعمالهم وخرجوا بصحبة علمائهم للإستقبال خارج المدينة.

فورد الفشاركي(قدس سره)علي المستقبلين بكلّ عزّ واحترام، ونزل ضيفاً علي علماء طهران الذين كانوا في مقدّمة المستقبلين، ولما رأي الشاه ذلك، قال لوزيره: أرأيت كيف اتّحدت العمائم ضدّي؟

قال الوزير: والآن لاعلاج إلاّ أن تزوره وتكرمه وتعتذر منه.

وقبل الشاه ماأشار عليه الوزير وفعل ذلك وانتهي الأمر بانتصار الدين ورجاله، وعظمة الإسلام وأهله ببركة ذلك الإتّحاد المنبعث عن العقل والرؤية الصائبة.

نعم انّ (شوري الفقهاء المراجع) ضرورة دينيّة ملحّة، وواجب شرعي وعقلي، وخصوصاً في هذا العصر الذي لم ينفرد شخص واحد أو جهة واحدة بالعداء ضد الاسلام، وانما أحاط الأعداء بالمسلمين من كلّ جانب.

من حزم المرجعيّة

يحكي انه وقع قحط في بغداد أيام مرجعيّة السيد المرتضي علم الهدي(قدس سره)، وحيث ان السيّد كان يجري علي طلبة العلم ورجال الدين الذين يحضرون درسه في بغداد المرتّب الشهري، احتال يهودي للتوصّل إلي المرتّب الشهري والحصول عليه بإظهار الإسلام، والإنضمام في صفوف الطلبة.

فأظهر اليهودي الإسلام وجاء إلي درس السيّد، وذلك في تلك الأيّام العجاف، والقحط الشديد، فقبله السيّد وأجري له مرتّباً شهريّاً كما يجريه لبقيّة طلبته، وأحسن معاشرته.

فلمّا رأي اليهودي حسن معاشرة السيّد، وطيب معاملة المسلمين، أسلم قلباً وآمن حقيقة، وبقي يواصل دراسته عند السيّد، ولم يفارقه حتّي الموت - وذلك بعد أن هدي إلي الإسلام جماعة من أقربائه وذويه اليهود - وهذا كان من بركة حزم السيّد(قدس سره) وحسن تقديره.

بين الاُستاذ وتلميذيه

قيل: انّ الشيخ المفيد(قدس سره) رأي ذات مرّة في عالم الرؤيا انّ فاطمة الزهراء صلوات اللّه وسلامه عليها أتته بولديها الإمامين: الحسن والحسين عليهم السلام وقالت له: ياشيخ علّمهما الفقه.

وفي صباح الغد أتت السيّدة فاطمة والدة السيّدين: الرضي والمرتضي بابنيها إليه وقالت له: ياشيخ علّمهما الفقه.

فعرف الشيخ - علي أثر الرؤيا التي رآها - انّ لهذين الولدين السيّدين يكون شأناً كبيراً، فاهتمّ بتعليمهما وتأديبهما.

وبعد مدّة جيء إلي الشيخ المفيد(قدس سره) بهديّة مجموعة أمشاط، فوزّعها علي الطلاّب ماعدا السيّدين: الرضي والمرتضي (قدس سرهما).

فقيل له في ذلك؟

فقال: انيّ لاأعلم أنّهما قد التحيا، إذ عند مجيئهما إليّ كانا شابّين أمردين وسيمين، فلم أنظر في وجههما منذ ذلك اليوم.

نعم كلما ازداد تقوي الإنسان وورعه ازداد احتياطه واجتهاده فيما يبعده عن موارد الريب والشك، إضافة إلي انّه كان بعمله ذلك يريد تربية مجتمعه علي الحياء والعفّة وغضّ الطرف.

الترحيب بالضيف

قيل: انه كان من عادة الميرزا الكبير المجدّد الشيرازي(قدس سره)أن يأكل في اليوم مرّة، لا ثلاث مرّات، كما اعتاد عليه معظم الناس، واتّفق أن ورد عليه الشيخ حبيب اللّه الرشتي(قدس سره) ضيفاً، فكان الميرزا قد أمر بتهيئة الطعام له في وجبات ثلاث وكان هو يحضر علي المائدة في الأوقات الثلاثة احتراماً له، وإن كان لايأكل إلا مرّة واحدة علي عادته السابقة، وكان ذلك مع كثرة اشتغالاته وقلّة وقته(قدس سره).

مع قائد ثورة العشرين

يقال: انه جاء رجل إلي المرحوم الشيخ ميرزا محمّدتقي الشيرازي(قدس سره) قائد ثورة العشرين، الثورة العراقية المعروفة ضدّ المستعمرين الانجليز، فسبّه وأكثر من الوقيعة فيه، والمرحوم ساكت لا يتكلّم.

وبعد ذلك أمر الميرزا بإرسال مقدار من الدابوعة (الرقّي) والنقود إلي داره.

فقيل له في ذلك؟

فقال: انّ درجة حرارته قد ارتفعت، وهذا كان من أثرها، والدابوعة تخفّف من شدّة الحرارة فبعثت بها إليه ليعالج بها نفسه، ويتخلّص من العناء الذي ابتلي به، هذا وقد جرت العادة في سامراء بإرسال الطعام والفاكهة إلي بيوت أهل العلم والفقراء من أهل البلد.

التأديب بالإحسان

نقل عن الآخوند(قدس سره) صاحب الكفاية، انه كان رحب الصدر كبير النفس، لا يعبأ بمن يهجوه أو يجفوه ولا يلتفت إليه، هذا مع عظم مرجعيّته وكبير شوكته، وممّا يدلّ علي ذلك القصّة التالية:

انّه كان أحد الطلاّب يهجو الآخوند(قدس سره) ويذكره بسوء، وذات يوم سمع الآخوند بأنّ للّذي يهجوه مريضاً، واتّفق أن مرّ به في بعض الطريق ذلك الطالب حاملاً طفلاً له.

فسلّم عليه الآخوند وقال له وهو يتفقّده: كيف حالك؟

فأجاب بكلّ برودة، ثم قال ذلك الطالب: فرأيت الآخوند يصافح ولدي ولم أفهم قصده من مصافحته، ولكن بعد أن ودّعني وذهب رأيت انّ في يد ابني سبع ليرات ذهبيّة، مما ظهر انه(قدس سره) قد أعطاه المال اشفاقاً عليه، وإن كان هو يهجوه ويظهر الجفاء له، وبهذا انقلب الطالب الذي كان يهجو الآخوند(قدس سره)إلي رجل يثني علي الآخوند ويمدحه.

من مكارم الأخلاق

حكي عن السيّد محمّد الحجّة الكوه كمري(قدس سره)انه قال: أول ما وردت مدينة قم المقدّسة ذهبت إلي حرم السيّدة فاطمة المعصومة للزيارة والصلاة.

وفي أثناء الزيارة إذا برجل جاء إليّ وأخذ يهمس في اذني بشيء، فلمّا أصغيت، إذا هو يكيل لي التهم والأكاذيب، ويرشقني بوابل من الكلمات اللاذعة، والسباب والشتائم القبيحة.

فلم أرد عليه بكلمة، فذهب لكنه لم يلبث أن عاد وكأنّه لم يبرد غليله حيث جاء وأخذ يهمس في اذني الثانية بما همس في الاولي أوّلاً.

وفي هذه المرّة أيضاً لم أردّ عليه بكلمة، فذهب ثمّ جاء ثالثاً وقال مهدّداً: لا أدعك تبقي في قم فارجع من حيث أتيت، ثم أخذ يسبّني بما يحلو له من سباب حتي أفرغ ما في قلبه، ثم ذهب، كل ذلك وأنا ساكت، لم أرد عليه حتي بشطر كلمة، لكن سكوتي هذا جعله يرجع إلي نفسه،

ويتوب إلي ربّه، وينقلع عن التعرّض لي بسوء حيث لم يمسني منه مكروه طيلة توقّفي في قم المقدّسة ومدّة اقامتي فيها مشتغلاً بالدرس والتدريس.

من هو الأعلم؟

نقل لي أحد الخطباء عن والده قائلاً: كان المرحوم الشيخ حبيب اللّه الرشتي يري نفسه أعلم من الميرزا المجدّد(قدس سره)، لكن الزعامة الدينية كانت مع الميرزا، وذات يوم كنت عند الشيخ الرشتي والمجلس غاص بأهله، إذ سأله أحد الحاضرين قائلاً: انّا كنّا نقلّد الشيخ الأنصاري(قدس سره) ونرجع إليه في مسائلنا، فمن نقلّد الآن بعد وفاة الشيخ(قدس سره) وإلي من نرجع؟

فأجابه الشيخ الرشتي وقال: اسألوا أهل الخبرة عن ذلك.

قال السائل: وأيّ شخص هو أكثر منكم تخصّصاً في الخبروية؟

فأجابه قائلاً: قلّدوا مرجعاً يجوز تقليده.

فقال السائل: ومن هو الأعلم بنظركم القابل للتقليد؟

فقال الشيخ الرشتي(قدس سره): وماذا تريد من الأعلم؟ انّ الميرزا المجدّد الشيرازي اليوم بيده لواء التشيّع، وفي حوزته الزعامة الدينية، والمرجعيّة الشيعيّة، فالتفوا حوله، لئلاّ يسقط اللواء.

قال الراوي: فتعجّبت من كلام الشيخ وزاد اخلاصي له وحبّي إيّاه، لأنه لم يقل ما لايكون في نظره صحيحاً، ولم يوجه الرجل إلي نفسه، بل عظّم من بيده لواء التشيّع، ورفع من شأنه، وهذا لايكون إلاّ لمن ربّي نفسه علي الأخلاق والمكارم.

العلماء ورثة الأنبياء(ع)

حكي عن أحد رجال الدين انه كان ابان قضايا المشروطة والمستبدّة من أشدّ الناس تحاملاً علي المستبدّين، وبالأخص السيد محمد كاظم اليزدي(قدس سره) وكان وكيلاً من قبل أحد العلماء في بعض بلاد العراق، فلمّا توفي ذلك العالم وصارت الزعامة الدينية والمرجعية الشيعية إلي السيّد سقط في يد الوكيل ولم يعرف ماذا يصنع؟

وأخيراً فكّر في أن يأتي إلي أحد المقرّبين من السيّد ويوسّطه في قضيّته، وهكذا فعل، فقد جاء إلي النجف الأشرف ولقي بعض المرتبطين بالسيّد وأخبره عن أمره.

فقال له: لابأس عليك كن في الصحن الشريف بعد صلاة العشاء حتّي نذهب إلي السيّد وأتوسّط لك عنده.

فانتظر الوكيل الوسيط بعد الصلاة،

ثمّ التقيا معاً بالسيّد.

عندها قال الوسيط للسيّد: سيّدنا كان هذا الرجل من المتحاملين عليكم وهو اليوم نادم علي ماسبق منه إليكم، وقد جاءكم تائباً ويريد منكم الوكالة ليبقي في مكانه السابق ويكون وكيلاً عنكم.

فقال السيّد: بكلّ انبساط وبشاشة: لابأس، فليأت إلي البيت لأكتب له الوكالة.

وبهذه البساطة عفي السيّد اليزدي(قدس سره)عنه وقبل منه عذره، ولاعجب، فإنّه من حيث النسب ابن رسول اللّه(صلي الله عليه وآله وسلم) ومن حيث الحسب وريث رسول اللّه(صلي الله عليه وآله وسلم) فإن رسول اللّه(صلي الله عليه وآله وسلم)عفي عن أهل مكّة حين جاءوا إليه معتذرين وبكلّ بساطة.

المرجعية حلم وحزم

نقل لي احد رجال الدين الثقاة وقال: كنت جالساً في صحن الإمام الحسين عليه السلام قرب باب الزينبيّة وكان الي جنبي رجل آخر كان قد جلس بانتظار أحد، وفي هذه الأثناء وإذا بالسيد أبوالحسن الاصفهاني(قدس سره) قد خرج من الروضة المباركة قاصداً باب الزينبيّة وخلفه بقليل جماعة من حاشيته.

فقال الرجل الذي كان قد جلس إلي جنبي: سأذهب لأسمع السيد ما اريد، ثمّ قام ولحق السيد وأخذ يهمس في اذنه شيئاً حتي غاب عن نظري.

وبعد قليل جاء الرجل والي مكانه الأوّل وجلس فيه وهو يبكي ويرتجف، فتعجبت من حاله وقلت له: ماذا دهاك؟

فأجاب بعد ان سكن اضطرابه وقال: ذهبت الي السيد وأخذت أسبّه في اذنه بكل سب لاذع، والسيد ساكت لا يتكلم، حتي وصلت معه الي باب داره.

عندها التفت اليّ السيد وقال: ابقي في مكانك ثمّ دخل الدار وخرج وناولني ظرفا فيه كميّة من المال وقال: اذا كان لك حاجة فراجعني شخصيّا، ولا تراجع غيري حتي يصدوك عني، ثمّ قال لي السيد: اني مستعد لأن اسمع كل شتم، لكن رجائي ان لا تسمعني بعد ذلك

سب العرض والأهل.

ثمّ اضاف الرجل قائلاً: فأحدث فيّ هذا الخُلق الكريم من السيد ردّ فعل عجيب جعلني أرتجف وأبكي كما تري.

مع فتوي الميرزا المشهورة

يقال: انّه لما حرم الميرزا الشيرازي الكبير(قدس سره)التنباك، فكر الاستعمار البريطاني ان يقوم عبر سفارته في بغداد بنقض حكم الميرزا بسبب احد العلماء، فحركت السفارة عبر الوسائط - بحسب عادتها - جماعة من الوجهاء فجاءوا الي المرحوم الشيخ زين العابدين المازندراني المعاصر للميرزا الكبير وذلك في يوم كان مجلس الشيخ غاصاً بأهله ولما استقروا سأله أحدهم قائلاً: ما تقولون في هذا الحديث: حلال محمّد(صلي الله عليه وآله وسلم) حلال الي يوم القيامة وحرام محمّد(صلي الله عليه وآله وسلم) حرام الي يوم القيامة.

قال الشيخ: حديث لا اشكال فيه.

فقال السائل: أخبرني هل التنباك كان حلالاً قبل تحريم الميرزا أم كان حراماً؟

وهنا عرف الشيخ بالمكيدة، فأجاب قائلاً: كان حلالاً.

قال السائل: فبمقتضي هذا الحديث هو حلال الي هذا اليوم والي يوم القيامة، ولا اثر لتحريم الميرزا؟

قال الشيخ: لا ليس الأمر كما زعمت، بل انّه حرام الآن بسبب فتوي التحريم ولا منافات بين هذا الحديث الشريف وبين فتوي الميرزا بالتحريم، وذلك لأنّ العناوين الأولويّة، تبقي علي حالها ما لم يصادمها عنوان ثانوي فإذا صادفها تغيّرت، كالصوم الذي هو واجب الي الأبد ما لم يطرأ عليه عنوان الضرر، فإذا طرء عليه عنوان الضرر صار حراماً، والتنباك حلال في ذاته لكن طروّ عنوان الضرر عليه صيّره حراماً، فافتي الفقيه الجامع للشرائط والمرجع البصير بالاُمور بحرمته، فأصبح حراماً بفتواه، فهو من اليوم حرام حتي يرجع الميرزا عن حكمه وذلك فيما اذا ذهب العنوان الثانويô

وبهذا الكلام اكد الشيخ، فتوي الميرزا بالتحريم فسدّ طريق الاعتراض علي المعترض بحيث لم يجد ثغرة يتسلل منها الي

مآربه.

الحزم مع الملوك

قيل: انه كان السيد ابو القاسم الكاشاني(قدس سره) يختلف في بعض آرائه السياسيّة مع السيد البر وجردي(قدس سره) ولكن السيد البروجردي لم يكن يعبأ بخلافه، ولذلك لما سمع نبأ اعتقال السيد الكاشاني من قبل حكومة الشاه، وعلم بصدور حكم الاعدام عليه، ارسل من فوره الي الشاه من يخبره بلزوم الغاء حكم الاعدام عن السيد واطلاق سراحه.

جاء الرسول الي الشاه وابلغه رسالة السيد البروجردي، لكن الشاه تعلل عن قبولها متظاهراً بان الأمر ليس في يده وان المحكمة العليا هي التي تحكم بالسجن والافراج - وكان الشاه يريد اعدام السيد الكاشاني لأنه كان متأثراً منه في قضايا (المصدق) المعروفة.

ولما رجع الرسول وابلغ السيد البروجردي بالخبر، غضب السيد وقال للرسول: اذهب الي الشاه، وقل له: ان لم تأمر بالافراج عنه لحكمت انا بالافراج عنه - وكان ذلك تهديداً من السيد البروجردي للشاه بأمر لا يحمد عقباه -.

ولما علم الشاه عزم البروجردي(قدس سره) علي ذلك امر بالافراج عن السيد الكاشاني فوراً، فافرج عنه وذلك ببركة حزم السيد البروجردي وتدبيره، وحفاظه علي كرامة رجال الدين.

الحفاظ علي وحدة الكلمة

كان ولا يزال من عادة المراجع الاخيار مساعدة الجهات الدينية ومساندتها والحفاظ علي وحدة الكلمة بين الناس علي اختلاف مشاربهم وآرائهم، وذلك بالحفاظ علي وحدة رجال الدين لأنّهم قادة الناس وأسوتهم في كل خير، وفي مقدمة الخيرات: وحدة الكلمة.

وكان السيد ابو الحسن الاصفهاني(قدس سره) خير نموذج في هذا المجال، فقد كان يبذل الأموال الطائلة في سبيل تأليف القلوب وتوحيد الكلمة، حتي قيل: انّه كان اذا ثبت لديه هلال شهر رمضان - مثلاً - أو هلال شوال، أو ما اشبه ذلك، ارسل رسوله بالمال الي من يحتمل خلافهم، ثمّ يقول له الرسول بعد ذلك: لقد ثبت

الهلال عند السيد الاصفهاني فما رأيكم؟ وكان الجواب هو الموافقة مع السيد.

وكان السيد الحاج آقا حسين القمّي(قدس سره) أيضاً خير مثال في هذا المجال، فقد قيل عنه: انّه كان يتعاهد أحد مخالفيه بارسال أموال طائلة اليه استمالة له وتأليفاً لقلبه، وكان بذلك يحفظ وحدة كلمة رجال الدين من التصدع والتشتت، حتي لا يطمع من في قلبه مرض في النيل منهم.

كما ان السيد البروجردي(قدس سره) كان هو الآخر أيضاً كذلك، فقد كان - كما قيل عنه -: يوصل المال الي المخالفين له الذين يأمل فيهم فائدة دينية أو يخشي من مخالفتهم بما يوجب فتّ العضد في كلمة رجال الدين، يتألف بذلك قلوبهم، ويستميلهم إليه، حتي انّه قال أحد رؤساء بعض الأحزاب الاسلامية - وكان شديد العداء للسيد - ذات مرة: ان السيد البروجردي كان يرسل الينا المال بين حين وآخر، نعم هكذا كان المراجع الاخيار يتألفون القلوب اتباعاً للرسول(صلي الله عليه وآله وسلم)الذي كان يتألف اصحابه ورؤس قومه بالمال والمداراة.

كيف تقلب الوشاية نصيحة؟

حكي عن أحد اسباط الشيخ الأنصاري(قدس سره) وهو المرحوم السيد موسي السبط، انّه قال: قيل للشيخ الأنصاري في وشاية تلميذه الميرزا محمد حسن الشيرازي انه عند ما تحلّ احدي المناسبات لزيارة الإمام الحسين عليه السلام يذهب الميرزا مع زملاء درسه للزيارة الي كربلاء المقدسة بالسفينة، ويبسط وقت الغذاء سفرة ملوّنة فيها ما ينافي الزهد ولا يناسب مثل ذلك.

وكان قصد الواشي من كلامه هذا، التنقيص من قدر الميرزا لدي الشيخ، فقال الشيخ للرجل بكل بداهة: رحمك اللّه لقد نبّهتني الي شيء كنت غافلاً عنه طيلة هذه المدة، وهو ان الميرزا ابن تاجر وقد اعتاد الرفاه في حياته، والنفقة التي يحتاجها للمعيشة كثيرة، وليس مثلي فاني قد اعتدت

حياة التقشف ولا احتاج الي كثير من النفقة، ولكني كنت الي الآن في غفلة من ذلك وكنت اعطيه بمقدار ما اعطي سائر الطلاب من تلاميذي فمن اللازم عليّ من اليوم فصاعداً ان ازيد في مرتبه الشهري، فرحمك اللّه حيث ذكرتني به، ثمّ زاد الشيخ بعد ذلك في مرتب السيد الشهري، واعتذر اليه من غفلته، وهكذا قلب وشاية الواشي الي نصيحة وعظة، والي درس لنا وعبرة.

الصفح الجميل

قيل انّه كان للمرحوم السيد ابوالحسن الاصفهاني ولد شاب فاضل يدير غالب امور السيد وكان يدعي باسم السيد حسن، فاتفق ان طلب منه رجل يسمي: علي القمي، مقداراً من المال، وحيث لم يكن مع السيد حسن المقدار الكافي من المال اعطاه اقل منه، فاخرج القمي من فوره سكيناً حادّاً وذبحه في صحن الإمام امير المؤمنين عليه السلام وفي صلاة الجماعة وذلك بمنظر من والده ومن الناس.

ولكن حيث كانت العملية هذه قد تمّت بسرعة فائقة تامة، لم يستطع أحد من صدّها والحيلولة دون وقوعها، وانّما فوجئوا بها كاملاً وسقط في أيديهم، ولذلك كانت هذه الحادثة فاجعة كبري فجعت الناس يومذاك، وامتحاناً الهياً كبيراً للسيد(قدس سره)، فقد صبر عليها كما صبروا اجداده الطاهرون عليهم السلام وابلي فيها بلاءاً حسناً، و غضّ الطرف عنها وعن مرتكبها حتي كأن لم يكن شيئاً مذكوراً.

ولذلك لما القت الحكومة القبض علي القاتل وسجنته، ارسل السيد رسوله الي الحكومة ليطالبها بالافراج عنه، ويبلغها قوله: اني عفوت عنه، انّه كأحد أولادي، وهل يرضي الأب بان يجتمع عليه مصيبتان في ولده: قتل احدهم، وسجن الآخر؟ كلا، افرجوا عن القاتل، فأفرجوا عنه.

مع الناحية المقدسة

من المعروف ان الميرزا الشيرازي الكبير(قدس سره) صاحب فتوي تحريم التنباك - رغم تشاوره مع علماء عصره ومراجع وقته، وعقده لشوري الفقهاء المراجع - لم يكتب فتوي التحريم الا بعد ان استأذن الإمام الحجة عليه السلام في الأمر، ويؤيد ذلك انّه كتب في فتواه: استعمال التنباك اليوم في حكم محاربة امام العصر)عجل اللّه تعالي فرجه الشريف).

وللتنباك قصة طويلة ومفصلة كتبها احد معاصري الميرزا في كتاب كبير رأيته مخطوطاً عند المرحوم الشيخ ميرزا محمد الطهراني(قدس سره) فحرضته علي طبعه ونشره فقال: اردت طبعه لكن الحكومة

منعت عنه.

نعم لم يكن هذا الأمر خاصاً بالميرزا الشيرازي: بل نقل عن بعض علمائنا الاعلام أيضاً ذلك، وانّهم كانوا يتلقون المهام عن الناحية المقدسة مباشرة، كما يحكي من الشيخ المفيد والسيد بحر العلوم، والمقدس الأردبيلي، والسيد ابن طاووس وغيرهم رضوان اللّه عليهم جميعاً.

محاربة الفقر

حكي عن المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي(قدس سره) صاحب الثورة ضد الانجليز، انّه كان يشترط العدالة فيمن ينوب عن الميت لقضاء عباداته الفائتة منه، وذات مرّة جاءه من يطلب منه عبادة نيابية - وكان الميرزا كبقية المراجع مستودعاً اميناً للناس يرجعون اليهم في تسليمهم مبالغ لقضاء ما فات أمواتهم من عبادات - ولم يكن اتفاقاً عند الميرزا شيء من ذلك، فغضب الرجل واشتد مع الميرزا في الكلام وسبه، كل ذلك والميرزا ساكت لا يجيبه بشيء.

وبعد ايام جيء الي الميرزا بمبالغ للعبادة، فأمرالميرزا أحد الحاضرين بأن يأخذ بعضه ويدفعها الي ذلك الرجل.

فقال بعض من حضر للميرزا متعجباً: ان هذا الشخص ليس بعادل بدليل ما صدر منه قبل ايام، وانتم تشترطون العدالة فيمن ينوب عن الميت لقضاء عباداته الفائتة منه، فكيف تأمرون له بذلك؟ وهل هو صحيح في نظركم أو نسيتم ما صدر منه اليكم؟

فقال الميرزا: ان ما صدر منه اليّ قبل ايام كان من شدة الفقر، ومثله لا يضرّ بالعدالة، لأنّه صدر عن حالة غير طبيعية، اضافة الي انّه لم يسبّ غيري ولم يتعرض بالسوء لأحد سواي، وأنا قد عفوت عنه واستغفرت له ربي.

الصبر والثبات

المرجعية منصب ديني الهي، والمرجع نموذج مثالي للأخلاق والمكارم، ومعلوم انّه بقدر أهمية المنصب وعظم الشخصية تكون المسؤوليات، وتأتي المشاكل والصعوبات، وقد عددت ذات مرة المشاكل والمصاعب التي لاقاها السيد ابوالحسن الاصفهاني(قدس سره) وصمد أمامها، فكانت كثيرة وجسيمة، مثل:

قتل ابنه بتلك الصورة الفجيعة امام عينيه، وتبعيده من العراق حيث خالف سياسة الملك فيصل، وحمله السلاح ومحاربته للانجليز في قصة احتلال العراق وهو حينذاك مرجع للناس قد ارجع اليه الشيخ الميرزا محمد تقي احتياطاته، وقصّة هجرته من النجف الأشرف الي كربلاء المقدسة حينما

كثر الضغط هناك حوله واشتراكه مع الآخوند(قدس سره) في قصة المشروطة، وحمل اعبائها، واشتراكه مع القمي(قدس سره) وغيره في طرد الانجليز من العراق، وذلك إبان الحرب العالمية، وصموده في نشر الاسلام وحفظ التشيع ايام تسلط امثال البهلوي واتاتورك وياسين الهاشمي علي بلاد المسلمين، وغير ذلك من القضايا التاريخية المهمة.

وهكذا ينبغي أن يصمد المرجع امام الحوادث والكوارث، والمشاكل والمصاعب، وذلك اقتداءاً بالرسول صلي الله عليه وآله وسلم والأئمة الطاهرين عليهم السلام، فان العلماء هم ورثة الانبياء كما جاء في الروايات والأخبار.

من غدر الانجليز

كان المرحوم الشيخ عبد الكريم الزنجاني صديقاً مع أحد شيوخ العشائر العربية الكبار وكان من عادة الشيوخ حسن الضيافة، فكان يستضيف الشيخ كل عام الزنجاني مرة ويكرمه غاية الاكرام ويزوده بالمال الكثير الذي كان يكفيه وطلابه مدّة من السنة.

تكررت السنين والأعوام علي هذه الحالة حتي احتل الانجليز العراق، واذا بذلك الشيخ يتفق مع المحتلين الانجليز للبقاء علي مصالحه.

وفور ما علم الزنجاني بذلك ارسل الي صديقه الشيخ من يحذّره عاقبة توافقه مع المحتلين الانجليز، ويطلب منه - بنصيحة وصداقة - فسخ اتفاقه ونقض معاهدته معهم، لانّهم لا وفاء لهم ولا امان، مذكّراً له بقوله تعالي: (ولا تركنوا الي الّذين ظلموا فتمسّكم النار).

لكن الشيخ لم يعبأ بالرسالة ولم ينزل الي ما عرضه عليه الزنجاني.

فكرّر الزنجاني رسالته الي الشيخ وحذّره بقطع علاقاته معه وهدم صداقته له، فلم يؤثّر كل ذلك علي سلوك الشيخ واتفاقياته، فقاطعه الزنجاني ولم يذهب لضيافة الشيخ كما كان من عادته في كل عام، فكتب اليه الشيخ يستضيفه ويطلب منه الاغماض عما وقع منه، لكن الأمر حيث لم يكن شخصياً وانما يرتبط بالاسلام والمسلمين اجابه بالجواب التالي: فرّق بيني وبينك كلمة الإسلام والكفر.

وهكذا غض الزنجاني(قدس

سره) طرفه عن صداقة الشيخ لأجل الدين، وقطع نظره من تلك المنافع الطائلة لمصالح المسلمين، ولكن الشيخ حيث لم ينزل لنصح الزنجاني وقع بالتالي فيما حذّره منه من غدر الانجليز، فقد قتلوه شر قتلة في سجون عميلهم: البهلوي الأوّل في ايران.

مع حَمَلة لواء الإسلام

قيل: انّه ولمبادرة اصلاحية حسنة، حرّم المرحوم السيد ابو الحسن الاصفهاني منبر احد الخطباء الشهيرين، حيث ان ذلك الخطيب كان يُعرّض في منبره بالعلماء الاعلام وذلك في قصص مشهورة.

وكان التحريم هذا سبباً لتفرق الناس عنه، مما اضطر اخيراً الي اعلان التوبة واظهار الندم عند السيد، والسيد هو بدوره قام برفع التحريم عنه واجاز منبره من جديد، ولكن قبل التوبة ورفع التحريم قال احد اصدقاء ذلك الخطيب:

ذهبت الي النجف الأشرف عند احد العلماء ممن كان في طراز السيد علماً واجتهاداً وقلت له: الست من المجتهدين والمراجع الذين يرجع اليهم الناس في مسائلهم؟

قال: ثمّ ماذا؟

قلت: فكما ان السيد افتي بتحريم منبر الخطيب الفلاني الشهير، فافتوا انتم في المقابل بتحليله فانكم لستم باقل من السيد علماً ومنزلة عند الناس.

عندها اطرق العالم برأسه هنيهة ثمّ رفع رأسه والتفت اليّ وقال: يا فلان اتق اللّه ولا تكن سبباً لشق عصا المسلمين، ان لواء الإسلام وراية التشيع اليوم بيد السيد ويلزم علي الجميع اتباعه والتعاون معه والاحتراز عن معارضته ومجابهته، فان مجابهته معناه مجابهة الإسلام، وفت عضد المسلمين وذلك مما لا يجوز في الشريعة.

وبهذا الرد الجميل سدّ الطريق علي كل من يحاول الشغب والقاء الخلاف بين العلماء ولو عن حسن نية، وقطع اطماع الطامعين اصحاب النوايا السيئة الذين يتربصون بالعلماء ويحاولون ضرب بعضهم ببعض عن نيل ذلك.

اهمية الوحدة الاسلاميه

حكي عن بعض ملوك السلسلة الصفوية انه كان ذكياً وحريصاً علي نشر الإسلام وترويج التشيع مذهب أهل البيت عليهم السلام وكان قد عرف مدي نفوذ المرجعية الشيعية ومحبوبية الفقهاء المراجع في قلوب الشعب الشيعي المسلم، فرأي ان يتوسّل بالمراجع ليكونوا هم الآمرين والناهين.

وذات مرة خرج بصحبة السيد الداماد والشيخ البهائي (قدس سرّهما) - وكان

هذان المرجعان يعرفان بوزيريه ومشاوريه - فاراد ان يقوم بعملية اختبار حتي يزداد ايمانه بهما ويقوي اطمينانه اليهما، وكان أحدهما قد تقدم به فرسه وهو الشيخ، والآخر وهو السيد قد تأخر به مركبه، فأقبل الي الشيخ وقال له: انّك رجل متواضع خالٍ عن الكبر ولذا تسرع في المشي، اما السيد ففيه شيء من الكبر حيث انّه قد تأخر لأنّه لا يمشي الا بخيلاء وتكبّر.

قال الشيخ وهو يردّ عليه: كلا بل بالعكس انّه يلازم السكينة والوقار، واني لأتعجب من فرسه كيف لا ترسخ اقدامها في الأرض من جهة ما تحمله علي ظهرها من تمثال العلم والايمان.

شكر الشاه الشيخ واعتذر منه، ثمّ تثاقل في مشيه حتي وصل الي السيد فاقبل عليه وقال له: انك تمشي كما ينبغي للعالم الوقور والمتّزن ان يمشي في طريقه، لكن الشيخ خفيف النفس غير وقور ولذا تراه كيف يسرع في مشيه ولا يراعي الآخرين.

قال السيد في الردّ عليه: كلا ان الأمر بالعكس انّ الشيخ متواضع وليس بمتكبر ولذا لا يمشي مشي المتكبرين واني لأتعجب من فرسه كيف لاتطير فرحاً مما تحمله علي ظهرها من مجسمة الايمان والعلم.

شكر الشاه السيد واعتذر منه، ثمّ نزل عن فرسه وسجد للّه شكراً علي ما رآه في هذين العَلَمين من الاتحاد والاتفاق والصفاء، والتقوي والايمان.

وهنا لا بأس بذكر بعض قصص الاتحاد وآثاره البنّاءة، وعرض بعض قصص التفرقة وويلاته المدمّرة، للاشارة الي اهمية الأوّل وخطر الثاني، فإنّ من أولي الضروريات التحفيظ علي وحدة الكلمة والاجتناب علي اختلافها، مهما كلف الأمر، ولا يكون ذلك الا بالاستشارة بين الكبار في السطوح العالية وخاصة بين الفقهاء والمراجع.

*يقال: انّ ملكاً اقترب موته فجمع اولاده وكانوا اثني عشر شخصاً، فأمر بحزمة قصب وشدت

بعضها الي البعض فاعطاها لكل واحد منهم وامره بكسرها فلم يقدر أحد منهم علي ذلك، ثمّ فلّها واعطاها قصبة قصبة لواحد منهم فكسرها جميعاً، عندها التفت الملك اليهم وقال لهم: ان مثلكم في الحياة كمثل هذا القصب ان اتحدتم لم يقو علي كسركم احد، وان تفرقتم تمكن من كسركم واحد من الناس.

*وحكي عن أحد الخطباء المفوّهين: بأن خطيبا آخر حسد ولم يتق اللّه فيه، وكان الخطيب المحسود يرقي المنبر في المسجد الجامع للبلد، فقام الحاسد بتهيئة المنبر في المسجد الجامع بظن انّه سوف ينال هذا الحظ اذا منع زميله وسيكون هو الخطيب هناك، لكن هيهات، فقد منع هو أيضاً حيث دعي صاحب المجلس خطيباً ثالثاً.

*ويقال في المثل عن لسان الحيوانات: ان ثلاثة من الابقار بألوان ثلاثة: احمر واصفر واسود كانت تعيش معاً في مزرعة، فجاء اسد ليفترسها فرآي انه لا يقوي عليها جميعاً، فاحتال في ان يفرّق بينها ليسهل له افتراسها، فاقبل نحوها وقال: لنمش معاً بأمان، فاني احرسكم من كل عدو، ولكن هذا الثور الاصفر قد يفضحنا بلونه ويكشفنا للعدو، فلو تخلصنا منه؟ قال هذا وهو ينظر الي الثور الأسود والأحمر كأنّه يستشيرهما، فأجاباه بدورهما: انّه كما تقول، ولكن كيف نتخلص منه؟ فقال: انّه سهل لو احرزت موافقتكما، فقالا: نحن موافقون، فقال: افترسه ونتخلّص منه، ثمّ افترسه بكل راحة وسهولة وجعله لقمة سائغة، ثمّ أمضي معهما مدة حتي اذا جاع واضرّ به الجوع التفت الي الثور الأسود وقال: انّي قلق واخاف من العدو ان يكشفنا، فان هذا الثور الأحمر قد يفضحنا بلونه، فسكت الأسود، فواصل الأسد كلامه وقال: فلو تخلصنا منه كي نعيش معاً بأمان؟ فابدي الثور الأسود رضاه ولم يقل شيئاً، فوثب الأسد

علي الثور الأحمر وافترسه بكل سهولة لقمة سائغة، ثمّ بعد مدّة لما جاع الأسد وثب علي الثور الأسود واراد افتراسه واكله، فقال الثور: دعني حتي اتكلم كلمتي الأخيرة، ثمّ صرخ بصوت عال وقال: (لقد اُكلتُ حين اُكل الثور الأصفر).

*ويحكي عن شخصين مسافرين مرّا في الطريق علي مضيف، فأقاما هناك للاستراحة وبقيا فيه، فقام احدهما لقضاء حاجته، فسأل الشيخ وهو صاحب المضيف من الآخر عن صديقه قائلاً: كيف صديقك؟ قال: انّه ثور، فسكت الشيخ ولم يقل له شيئاً، حتي اذا رجع ذلك وخرج هذا لقضاء حاجته، سأله الشيخ عن صاحبه قائلاً: كيف صاحبك، قال: انّه حمار، فسكت الشيخ أيضاً ولم يقل له شيئاً، لكنه أضمر في نفسه تأديبهما، ولذا لما حان وقت الغذاء، امر بأن يقدم لأحدهما تبناً والآخر شعيراً، فلما قدم لهما ذلك غضبا وقالا: ما هذا الذي قدّمت لنا؟ فقيل في جوابهما: انه بحسب اعتراف كل منكما في حق صاحبه، فان أحدكما قد قال في الجواب لما سألته عن صديقه: انه ثور، وهل طعام الثور الا التبن؟ وقال الآخر في الجواب لما سألته عن صاحبه: بأنّه حمار، وهل طعام الحمار الا الشعير؟ فسقط في ايديهما، وعلما انهما قد عوملا بما في انفسهما من سوء نية بالنسبة لكل واحد منهما.

*ويقال: انّ ثلاثة اشخاص ذهبوا معاً يتنزهون فدخلوا في طريقهم بستاناً واخذوا يأكلون منه بلا اذن من صاحبه، فجاء صاحب البستان فلما رآهم يعثون بالفواكه ويسرفون في اقتطافها واكلها فكّر في تأديبهم، لكن رآي انّه لا يقدر علي مقاومة الجميع لانّه واحد وهؤلاء ثلاثة، الا ان يُلقي التفرقة بينهم، ولذلك جاء وأقبل علي اثنين منهم وقال: كأني اراكما من معارفي فاهلاً بكما، وهنيئاً لكما، ولكن اخبراني

عن هذا الثالث بأنّه بإذن من دخل البستان وبإذن من أكل ما أكل فإني لا اعرفه؟ فقالا في جوابه: ونحن أيضاً لا نعرفه. فقال: اذن هو متجاوز ويجب تأديبه، ثمّ التفت اليهما وقال: اعينوني عليه، فشدوه بنخلة من نخيل البستان ثمّ اوجعه ضرباً، وبعد برهة من الزمان التفت الي واحد من هؤلاء الاثنين وقال: اخبرني من أنت لأعرف هل أنت كمن ظننت من معارفي أم لا؟ فقال: اني فلان ابن فلان الكذائي، فقال صاحب البستان: عجيب اني اذن مشتبه في ظني، فلست انت من تخيلت انّه من معارفي، ثمّ التفت الي الآخر وكأنه يحرّضه عليه وقال: اذن صاحبك هذا متجاوز فأعنّي علي تأديبه، ثمّ شدّه بنخلة ثانية من نخيل البستان وأوجعه ضرباً، وبعد فترة أخذ صاحب البستان اهبته واقبل علي الأخير وقال له: وأنت أيضاً كصاحبك اتصور انّي مشتبه فيك، ولما أراد أن يعرّف هذا الأخير نفسه، فاجأه صاحب البستان بالقبض عليه ثمّ شده بنخلة ثالثة في البستان واوجعه ضرباً، وهكذا استطاع تأديبهم جميعاً لما فرّق بينهم.

الي غير ذلك من القصص الكثيرة الواردة بهذه المضامين في هذا المجال وربما لا يقدر الانسان علي حفظ الوحدة واتحاد الكلمة لعنف طرفه وشدة خرقه فاللازم عليه ان يسكت من ناحيته ويتحلي بالرفق والحلم تجاهه حتي يقلّل من حدة التوتر وشدة الخلاف.

كيف تتألف القلوب؟

يحكي عن المرحوم السيد ابوالحسن الاصفهاني(قدس سره)انّه ارسل وكيلا الي أحد المناطق الشمالية في العراق، لارشاد الناس وتعليمهم المسائل والأحكام، وكان هناك شيخ عشيرة في المنطقة، فقام بمعارضة الوكيل اشد المعارضة حتي عجز عنه الوكيل، فراجع الوكيل حاكم المنطقة ليمنع منه الشيخ.

فقال الحاكم: اني لا اقدر علي منع هذا الشيخ عنك لعشيرته الكبيرة، فان اردت ذلك فقل

للسيد ابو الحسن يأمر من يراجع وزارة الداخلية ويطلب منهم توفير الحماية لك، وحينذاك تبعث لنا الوزارة امكانات فنقوم رسمياً بمنع الشيخ عنك.

فجاء الوكيل الي السيد ونقل له القصة.

فقال السيد: لا بأس ثمّ كتب كتاباً الي ذلك الشيخ يخصه وعشيرته بالسلام ويوصيه بالوكيل وجعل في الكتاب مبلغاً محترماً من الدنانير وقال للوكيل: اذهب الي المنطقة وادخل علي الشيخ في ديوانه واعطه هذا الكتاب.

فجاء الوكيل وفعل ما امره السيد، فلما فتح الشيخ الكتاب ورآي المبلغ المحترم من الدنانير والعطف والحنان من السيد انقلب الي صديق مؤالف، واحترم الوكيل غاية الاحترام، وامر قومه وعشيرته باحترام الوكيل وحضور مجلسه والاستماع اليه، واطاعة أوامره، والتعاون معه، وهكذا فعلوا.

فتوسّع نفوذ الوكيل في تلك المنطقة واستطاع ارشاد كثير من الناس وهدايتهم الي مذهب أهل البيت عليهم السلام ونشر الثقافة الإسلامية هناك.

وذات مرة جاء الوكيل الي النجف الأشرف مع جماعة من اهالي تلك المنطقة لزيارة الإمام امير المؤمنين عليه السلام والالتقاء بالعلماء وبالسيد وزيارته، وعندما التقي الوكيل بالسيد، قص له تأثير الكتاب وتعطف شيخ العشيرة معه، فاستبشر السيد من الخبر وقال: هكذا امرنا الإسلام ان نتعامل مع الناس.

تهادوا تحابّوا

هناك قصة اُخري منقولة عن السيد ابو الحسن الاصفهاني(قدس سره) أيضاً مشابهة للقصة السابقة وهي: انّه(قدس سره) ارسل وكيلا آخر الي نقطة اُخري من مناطق العراق، فانكره شيخ العشيرة في تلك المنطقة ومنع الناس منه وهدّدهم بقطع الماء عنهم وقال: كل من يكلم الوكيل أو يصلي معه أو يحضر مجلسه فهو محروم من الماء، وكان ماء تلك المنطقة بيد الشيخ.

فلم يقدر الوكيل من البقاء هناك لمقاطعة الناس له، فرجع الي النجف الأشرف لينقل للسيد القصة ويستشيره في الأمر.

فقال له السيد: لا بأس زرني غداً،

وفي الغد لما جاء الوكيل الي السيد، اعطاه السيد فروة ثمينة وعشر ليرات، وقال اذهب بهما الي الشيخ وبلغه سلامي وتحياتي وقدمهما اليه.

فجاء الوكيل الي الشيخ وهو في ديوانه وقدمهما اليه وبلغه تحيات السيد وسلامه.

قال الوكيل: فلبس الشيخ الفروة وأخذ يحتال فيها كالطاووس عندما ينشر جناحيه وقال: اهلاً بك وبمن ارسلك، ثمّ التفت الي عشيرته ومن حوله في المجلس وقال مهدداً لهم: ان من لا يذهب الي صلاة الوكيل ومجلسه أو لا يتعاون معه ويطيعه، يمنع عنه الماء، مما سبب توجه جميع اهل تلك المنطقة نحو الوكيل والإلتفات حوله، والاهتداء بتبليغه وارشاده.

بين الآيتين الشيرازي والمازندراني

كان الميرزا الكبير الشيرازي(قدس سره) والشيخ زين العابدين المازندراني(قدس سره) معاصرين في فترة من الزمان وكانا في تلك الفترة مرجعين كبيرين من مراجع المسلمين في العالم، فقد كان كثير من مسلمي الهند يقلدون الشيخ المازندراني كما كان كثير من المسلمين يقلدون الميرزا الشيرازي(قدس سره) وكان الصفاء بين هذين المرجعين نتيجة تقواهما الي درجة بحيث ان زوجة الميرزا لما سألت الميرزا عن احتياطاته الي من ترجع فيها، أرشدها بالرجوع الي الشيخ، وكان هذا من صفاء الميرزا.

واما صفاء الشيخ فقد قيل: انّه جاء بعض مسلمي الهند ممن يقلد الميرزا الي الشيخ وقالوا له ما معناه: هل انكم أيضاً ممن يقلد الميرزا القبلة الكعبة؟ والقبلة الكعبة: من الألقاب المهمة التي كان ينحلها مسلمو الهند علمائهم ومراجع دينهم.

فقال الشيخ: نعم انا أيضاً اتوجه الي القبلة والكعبة، وهو يقصد من ذلك التوجه الي القبلة في الصلاة ولم يصرح بانّه لا يقلد الميرزا حفاظاً علي عظمة الميرزا وتثبيتاً لمرجعيته، واعظامه في اوساط المسلمين عامة، ولدي مقلديه خاصة، وهذا لا يكون الا من صفاء القلب وشدة التقوي والورع.

قائد ثورة العشرين بين العبادة والعمل

قيل: انّه اقترح بعض رجال الدين علي المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي(قدس سره) - قائد ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني - الاقتراح التالي قائلاً: انكم اسوة للناس وقدوتهم لكل خير، ولذا من الأفضل ان تقبّلوا عتبة الإمام الحسين عليه السلام حتي يتعلم الناس هذا التأدّب منكم.

فأجاب الميرزا قائلاً اني اقبّل عتبة العباس عليه السلام والحرعليه السلام فكيف بالإمام الحسين عليه السلام؟ وهكذا كانوا يعلمون الناس التوجه الي قادة الاسلام وائمة المسلمين من أهل بيت رسول اللّه صلي الله عليه وآله وسلم.

*ونقل لي والدي رحمه اللّه تعالي عن عمي السيد ميرزا عبد اللّه(قدس سره) الذي

كان ملازماً للميرزا - علماً بأن الميرزا(قدس سره) من اخوال والدي وعمي - انه مع طول ملازمته للميرزا لم تقع عينه في عيني الميرزا الا مرّتين، حيث ان الميرزا كان شديد الحياء، كبير التواضع، كثير الفكرة، مطراقاً لا يرفع رأسه حتي مع من يريد ان يكلمه الا نادراً، ولذلك لم تقع عين احد في عينيه عادة.

*ونقل لي والدي(قدس سره) أيضاً: بأنّ الميرزا انحرفت صحته وتدهور مزاجه وحاله، واتفق ان اهله سافروا مدينة بلد لزيارة السيد محمد اخ الإمام الهادي عليه السلام فاخذ عمي المذكور يباشر ادارة أموره الداخلية ويهيّء له طعامه وشرابه معتنياً به في ذلك من حيث الجودة والتركيز، فتحسّنت حاله واعتدلت صحته، وتبيّن ان الانحراف في صحته انما كان قد نشأ من سوء التغذية، ومن عدم التركيز في الطعام الذي كان يقدم اليه، ولم يكن من عادته ان يأمر أحداً بشيء اطلاقاً وخاصة في مجال الغذاء واللباس وما اشبه ذلك مما يخصّه.

*ونقل أحد علماء النجف الأشرف قائلاً: صحبت انا وجماعة، الميرزا محمد تقي الشيرازي(قدس سره) ذات مرة الي زيارة مسجد السهلة، وبعد ان اتم اعماله خرج وخرجنا معه باتجاه مسجد الكوفة، ولما ابتعدنا مقداراً عن المسجد، اذا به يبحث عن شيء ويلتفت يميناً ويساراً، فسألناه عما اذا فقد شيئاً، فلم يجبنا بشيء، وانما رجع الي ورائه حتي دخل المسجد وجاء الي مكانه الذي كان قد جلس فيه، واذا بقلمه ومحبرته قد نسيتهما هناك، فأخذهما والتحق بنا، ثمّ لما سألناه أرانا القلم والمحبرة وقال: قد نسيتهما في مكاني فرجعت وأخذتهما. فتبين لنا انّه من عفّة نفسه لم يحب تكليف أحد حتي بمثل هذا التكليف البسيط.

*وحكي أحد تجار كربلاء المقدسة وكان وكيلاً في توزيع الخبز

من قبل الميرزا(قدس سره) قائلاً: وكنت ذات مرّة قد أتيت الي دار الميرزا للمحاسبة، فلم أجده، فاحتملت ان يكون علي السطح فصعدت السطح فإذا بي أراه مفترشاً جبهته الأرض، ساجداً للّه تعالي وهو يبكي ويناجي ربه، قال: فقلت في نفسي: لعله لا يحب أن أراه بهذه الحالة، فرجعت إلي صحن الدار وأخذت اناديه برفيع صوتي، فقال: من المنادي؟ قلت: أنا، فأذن لي بالصعود اليه بعد ان قام ولبس عباءته وقبائه وعمامته ورادئه ومسح دموع عينيه وتراب وجنتيه، فصعدت فرأيته في حالة طبيعية، فصفيت حسابي معه وودّعته وخرجت.

الي غير ذلك من أحواله العجيبة وزهده وورعه وتقواه، حتي قال أحد تلامذته، كنا إذا سئل عنا عن عدالة الميرزا، نقول لهم: اسألوا عن عصمته الصغري؟

من لطائف قصة التنباك

قيل: إنّ الميرزا الشيرازي الكبير(قدس سره) لما كان في سامراء كان يواظب علي تربية نخبة من رجال الدين النزيهين ويشجعهم علي البقاء هناك وكان إذا رأي الاعوجاج من أحد الطلاب نصحه وحثّه علي الإعتدال، فإذا لم يعتدل هيأ وسائل خروجه من سامراء - من غير مباشرة - وذات مرّة اتفق ان جاء أحد ابناء الأشراف من طهران إلي سامراء وتتلمذ علي الميرزا، لكنّه كان ينتقص الميرزا في مجالسه، وكلّما قيل للميرزا بقطع مرتبه الشهري أو اخراجه من سامراء، لم يجبهم إلي ذلك.

وبعد مدّة جاء وفد من طهران إلي سامراء وطلبوا من الميرزا أن يرسل لهم وكيلاً.

فقال لهم الميرزا: وهل ترغبون أن يكون فلان وكيلي فيكم - وهو يقصد ذلك الذي كان ينتقصه -؟

قالوا: نعم.

فهيأ الميرزا اسباب سفره بأحسن وجه وكتب له الوكالة عنه وأرسله معهم إلي طهران بكل احترام ممّا اثار اعتراض المطّلعين عن حاله علي الميرزا لكن الميرزا لم يلتفت إلي اعتراضهم

وسكت عنهم حتي ثارت قصة التنباك.

وكان هذا الوكيل، قد ارتفع شأنه وصار من علماء طهران المبرّزين ومن المقرّبين لناصر الدين شاه ففكّر الشاه في نقض حكم الميرزا علي أيدي رجال الدين أنفسهم ولذا أمر هذا العالم أن يدعوا العلماء إلي داره ويخبرهم بأنّ الشاه يريد الإجتماع بهم في داره، فلمّا اجتمعوا جاء الشاه ولما استقربه المجلس اقبل عليهم وقال: (اليس حلال محمّد صلي الله عليه وآله وسلم حلال إلي يوم القيامة)؟

قالوا: بلي.

قال فمن هو الميرزا محمّد حسن الشيرازي الذي حرّم التنباك؟

فأحجم العلماء عن الجواب وعمّ المجلس السكوت لحظات، وإذا بهذا العالم نفسه يخترق السكوت ليقول للشاه: ايها الشاه لا تقل (محمّد حسن) انّه زعيم الشيعة ورئيس الحوزة، ومقتدي الناس ونائب الإمام المهدي عليه السلام، إنّه آية اللّه العظمي الحاج ميرزا محمّد حسن الشيرازي ادام اللّه ظلّه علي رؤوس الأنام.

فغضب الشاه وقال: ثمّ ماذا، وما أنتم صانعون؟

فأجابه هذا العالم: انّنا بانتظار تنفيذ أمره وإلاّ نفذناه نحن بالسيف.

وهنا غضب الشاه غضباً شديداً وقام وخرج من المجلس وهو يقول: أردناه لنا عوناً فانقلب علينا فرعوناً.

وهكذا فشل الشاه في تآمره علي رجال الدين وتخطيطه لحفظ مصالحه الشخصيّة.

فكتب بعض الحاضرين تفصيلاً عن القصّة إلي الميرزا وأرسله إليه.

فلمّا وصل الميرزا ذلك طلب المنتقدين له والمعترضين عليه في قصة توكيله ذلك الذي كان ينتقصه في مجالسه وعدم موافقتهم له في ارساله إلي طهران وكيلاً عنه، وأراهم الرسالة.

فلمّا عرفوا مضمونها، اعتذروا من الميرزا وأكبروه علي حسن سلوكه وبُعد نظره، وعلموا أنّ الرفق بالناس والمداراة لهم من أهمّ الاُمور في الحياة.

الشيخ كاشف الغطاء لم يفعل مكروه

يقال: أنّه سئل الشيخ جعفر، صاحب كتاب كشف الغطاء (قدس سره)عن أنّه هل من الصحيح أنّ النبي صلي الله عليه وآله وسلم، أو

الإمام عليه السلام لا يعصي اللّه تعالي طيلة عمره وكيف يمكن ذلك؟ فأجاب قائلاً: وهل تتعجّبون من ذلك؟ فإنّه لا عجب إذ انّي لست بمعصوم ولم افعل مكروها طيلة اربعين سنة، فكيف بالإمام المعصوم عليه السلام؟

نعم إنّ علماءنا الأخيار هم كذلك، ومن اللازم علي الجميع الإقتداء بهم وخصوصاً طلاب العلوم الدينيّة، فإنّ خير الدنيا وسعادة الآخرة في التقوي واجتناب معصية اللّه تبارك وتعالي.

كتاب بكتاب

كتب رجل بعيد عن الآداب الإسلاميّة إلي العالم العظيم الخواجه نصير الدين الطوسي(قدس سره) كتاباً خشناً وكان في جملة ما كتب فيه: (يا كلب).

فأجابه الخواجه الطوسي(قدس سره) في كتاب بجواب ليّن، وكان في جملة ما كتب فيه: وأمّا خطابك لي بالكلب، فإنّي لست بذلك، فإنّ الكلب منحني الظهر، وأنا مستقيم القامة امشي علي رجلين، وما اشبه هذه العبارات، وذلك بكل هدوء ورفق، وبدون أيّ خشونة وخُرق ممّا أدّي إلي خجل الكاتب والإعتذار منه.

المرجع السمح

كان أحد العلماء المعاصرين للآخوند الخراساني(قدس سره) مخالفاً لبعض آراء الآخوند الخراساني(قدس سره) ومظهراً لخلافه له.

قال: فجاءني ذات يوم رجل غريب وهو يحمل كيساً مملواً بليرات ذهبية وقال: من هو المرجع هنا؟

قلت: إنّ فلاناً هو من المراجع وأنا موافق له لكن لا يعطي، والآخوند هو من المراجع أيضاً وأنا مخالف له لكن يعطي.

قال الرجل الغريب: ليس لي حاجة بمن لا يعطي، فاذهب بي إلي من يعطي.

قال: فأخذته إلي دار الآخوند وأنا فقير مقدّم محتاج إلي ليرة واحدة منها، فدخلنا علي الآخوند فرأيناه يتوضأ، فقلت للرجل الغريب: إنّ هذا الذي يتوضأ هو الآخوند، فالتفت إليه الرجل الغريب وقال: إنّ هذا المال هو ثلث ميّت وقد جئت به إليك.

فقال له الآخوند: تقبّل اللّه منه ومنك ورحمه وايّاك، نعم ضعه علي الحصير، ثمّ أتمّ وضوئه، وقد ذهب الرجل.

عندها قال لي الآخوند: خذ هذا المال لك.

فتعجبت من كلامه وقلت: لا إنّما آخذ بعضه.

فقال الآخوند: كلا، بل كلّه لك وبالتالي وبإصرار كثير اعطاني المال كلّه ولم يرضي لي بغيره، ممّا صار ذلك سبباً لأن ارفع اليد عن مخالفتي له، وأن أكون بعد اظهار الخلاف له ممّن يظهر الوفاق له ويعلن بالمحبّة والإجلال، والمدح والثناء عليه.

القاضي الوحيد

يشترط في اجراء الحدود، والقوانين الجزائية في الإسلام، شروطاً من أهمّها:

تطبيق كل احكام القرآن والإسلام تطبيقاً صحيحاً كاملاً وذلك في الأوساط الإجتماعية والشخصية، والأبعاد السياسية والإقتصادية وغيرها، فإذا طبق كل ذلك وفي كل المجالات، وصار الجوّ والمناخ جوّا ومناخاً اسلامياً عندها يأتي في آخر المطاف دور تطبيق الحدود الإلهية والقوانين الجزائية في الإسلام مع رعاية شروطها الخاصة.

والظاهر: انّ هذه الشروط كانت متوفرة كلها في زمن المرحوم البهبهاني نجل العلامة الوحيد البهبهاني(قدس سره)، مما جعله يفتي

باجراء الحدود في عصره وزمانه ويقيمها علي المستحقين في بلده ومكانه.

وذات مرة جاؤا اليه بساحر قد ثبت عليه ارتكابه للسحر وقتله لإنسان بري، فلما أراد اجراء الحد عليه، قال له الساحر: انك لو اجريت الحدّ عليّ لم تبق حياً اكثر من اسبوع واحد، وكان الساحر يقصد من قوله هذا التهديد له بسحره والقضاء علي حياته بالسحر في مدة اسبوع.

فأجابه البهبهاني بكل صراحة: ان الحدود الإلهية لا تعطّل بمثل هذه التهديدات، ثمّ أمر باجراء الحد عليه.

مسؤولية الحقوق الشرعية

حكي عن المرحوم الحاج آقا رضا الهمداني(قدس سره) صاحب كتاب: (مصباح الفقيه): انّه ايام كان في سامراء اصبح مديوناً، وذات مرّة جاء اليه شاب وهو في إبان بلوغه، واوّل تكليفه وقال له: اني اريد ان اقلّدكم في مسائل ديني وارجع اليكم فيها، وقد جعلت رأس سنتي المالية اوّل بلوغي وهذا مقدار خمسي اقدمه اليكم.

فقال الهمداني(قدس سره) في جوابه: اما التقليد مني فلا بأس به، واما الحقوق الشرعية فإني غير مستعد لاستلامها.

وكلما أصر عليه الشاب في أخذها، لم يقبل من ذلك، حتي رجع الشاب خائباً من استلام الهمداني لخمسه.

عندها سُئل الهمداني(قدس سره) عن سبب امتناعه وعدم تسلّم المال، مع انّه مديون ولا مال له؟

فأجاب: اما اني مديون فلا مشكل لأنّ اللّه تعالي قد وعد بوفاء مثل هذه الديون، واما انّه لا مال لي فقد ضمن اللّه رزقي وتكفل لي بذلك، وبعد هذا كله، فما حاجتي الي اخذ الحقوق الشرعية، التي يجب صرفها في محلها وهو خارج من وسعي وقدرتي، وان اخذها يوجب لي اشتغال الذمة واعظام التكليف، والوقوع فيما لا اطيق؟

نعم انّ المرجع الذي يستلم الحقوق الشرعية ليس هو فيها اكثر من امين فيأخذها من اصحابها ليسلّمها الي مستحقيها، وانّ المراجع

عادة لا يصرفون منها شيئاً علي أنفسهم وفي أمورهم الشخصية، وإنّما يضيقون علي أنفسهم ويقنعون بموارد الهدايا وما اشبه من الأموال الشخصية ويصرفون الأخماس والزكات في مواردها: من اسعاف المحوجين، وهداية الضالين، ونشر الإسلام، وترويج المذهب الحق مذهب أهل البيت عليهم السلام، وتأليف القلوب وجمع الكلمة، وفي مصالح المسلمين العامة وغير ذلك مما ذكر في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.

الكلمة الأخيرة

وهذا آخر ما أردنا سرده من قصص علمائنا الأعلام في هذا الجزء من الكتاب ونحن نرجوا من اللّه تعالي أن يوفقنا لأن نذكر قصصاً اُخري في هذا المجال في جزء ثان ان شاء اللّه تعالي.

كما ونسأله تعالي ان يوفقنا لصالح الأعمال ولنشر آثار شخصياتنا العلمية والدينية، وأن يوفقنا لاتباع آثارهم والإقتداء بسيرتهم حتي نكون كما قال الإمام زين العابدين عليه السلام:

(اللهم صلّ علي محمّد وآله، وسدّدني لأن اعارض من غشّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبرّ، واثيب من حرمني بالبذل، واكافئ من قطعني بالصلة، واخالف من اغتابني الي حُسن الذِكر، وان اشكر الحسنة، واغضّي عن السيئة).

سبحان ربك ربّ العزة عمّا يصفون، وسلام علي المرسلين، والحمد للّه رب العالمين، وصلي اللّه علي سيدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

كربلاء المقدسة

محمّد بن المهدي الحسيني الشيرازي

1388/هجرية

رجوع إلي القائمة

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.