مقالات

اشارة

اسم الكتاب: مقالات

المؤلف: حسيني شيرازي، محمد

تاريخ وفاة المؤلف: 1380 ش

اللغة: فارسي

عدد المجلدات: 1

الناشر: موسسه المجتبي

مكان الطبع: بيوت لبنان

تاريخ الطبع: 1421 ق

الطبعة: دوم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

الرحمن الرحيم

مالك يوم الدين

إياك نعبد وإياك نستعين

اهدنا الصراط المستقيم

صراط الذين أنعمت عليهم

غير المغضوب عليهم ولا الضالين

صدق الله العلي العظيم

كلمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

ما كان لله ينمو

صدق رسول الله صلي الله عليه و اله وهو الصادق الأمين دائماً وأبداً منذ أن ولد وإلي أن التحق بالرفيق الأعلي..

فما أجملها من كلمة، وما أعظمها من حكمة، وأرقها من لفظ، وأبلغها من جملة..

وذلك لأنها أوجزت معاني عظيمة، ربما فاقت البحور اتساعاً وعلت الشمس علواً وارتفاعاً، فإنها لخصت جوهر جميع أعمال العباد التي تصدر عن فهم وروية وعلم وتقي وعبادة وكل عمل صالح يراد به وجه الحق تعالي..

فكل ما يراد به وجه الله وليس إلا، فهو لله، والله سبحانه هو من يتولي تزكيته ونموه وانتشاره في الآفاق عبر العصور والدهور..

فما كان لله ينمو..

وينمو دائما وأبداً.

وهذا العمل الجميل، ذو النفحة الأدبية الراقية، والأسلوب السهل والعبارة الرشيقة التي جاد بها سماحة المرجع الديني الأعلي الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (حفظه الله وأدامه ذخراً للإسلام والمسلمين) منذ أيام بعيدة بل سنين طويلة زادت عن الأربعين سنة من حين تأليفها.

هذا الكتاب القيم مجموعة من مقالات مفيدة وبأسلوب أدبي مميز، كانت وليدة تلك الظروف التي عاشها سماحة الإمام في العراق العزيز..

وهو كتاب مفيد للعموم في وقته وحتي في يومنا هذا أيضاً، حيث يشتمل علي الفكر الإسلامي المستلهم من الكتاب والعترة الطاهرة، وما كان كذلك فجدير به أن يبقي طرياً..

ولذلك مؤسسة المجتبي للتحقيق والنشر حبذت أن تعيد طباعته تعميماً للفائدة داعين الله سبحانه وتعالي أن يرجع العراق وشعبه المسلم

محرراً معافاً من الطغاة والظالمين انه سميع قريب مجيب..

مؤسسة المجتبي للتحقيق والنشر

بيروت لبنان ص.ب: 6080 / 13 شوران

البريد الإلكتروني: almojtaba@shiacenter.com

مقدمة المؤلف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين.

هاج بي في فترة قصيرة مرت مر السحاب هائج الحزن، علي الأوضاع، ورأيت أن الفاسد منها أكثر من الصالح، وكنت كما في الحال الحاضر لا أملك من الإصلاح إلا أسلة قلم، وبياض ورق.. وهناك جرت لهفات قلبي من اليراعة علي القرطاس.

ولست أدري الآن مدي تطابق ما كتبت آنذاك للحقيقة.. لكن صديقاً طلب تجهيزها للطبع، ولم أر مبرراً للإحجام.

فإنها لا تخلو عن أحد اثنين:

1: حق أستنير به، ويستنير به غيري.

2: أو خطأ.. لعل صديقاً ينبهني عليه، فأرتدع..

والله أسأل أن يوفقني لاتباع الحق، ويسدد رأيي في فهم الإسلام.. ويأخذ بيدي لنشر الفضيلة.

وهو المستعان.

كربلاء المقدسة

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

سمة الفضيلة

لكي شيء سمة يستدل بها عليه، وان اختلفت الأشياء والسمات، فربما كان لشيء علامات كثيرة وظاهرة، كما ان هناك أشياء لها سمات خفية لا يعرفها إلا أفراد قلائل.

والفضيلة من الأولي فهي تتمتع بمظاهر كثيرة يعرفها كل أحد، ليست الفضيلة كالدرهم المختفي في صندوق الصيرفي، ولا كالجواهر الثمين الموضوع في سفط الصائغ، ولا كالصك الغالي المضموم في حقيبة التاجر، ولا كالذهب المكنوز في أطباق الأرض، لا يطلع عليها إلا أفراد خاصة لهم صلة الملكية، أو علم طبقات الأرض، أو نحو ذلك.

إن الفضيلة كالعقل يعرفها كل من نظر إلي صاحبها، فكما أن الشخص لو نظر إلي المجنون عرف أنه مسه طائف من الشيطان، بمجرد حركة تصدر منه، أو نظر يلقيه، أو لفظ يتكلمه، أو بيع أو شراء أو ما إليها.. فكذلك لو نظر إلي المنسلخ عن الفضيلة لعرف ذلك، بمجرد معاملة، أو مجلس، أو جلوة، أو خلوة.

كل من العقل والفضيلة يأخذ بزمام الإنسان، فالعقل

يمنعه من الطفرة في موضع المشي، والمشي في موضع الطفرة، والاقدام في محل الاحجام، والاحجام في محل الاقدام، والكلام حيث يقتضي السكوت، والسكوت حيث يقتضي الكلام، وهكذا.. والفضيلة تمنعه من الكذب في القول، والخيانة في الأمانة، والغدر في محل الوفاء، والخلف بالعهود، والبخل بالمال، والوقاحة في العمل والكلام، وما إليها..

لو قال المجنون: أنا عاقل، لكنه رقص وعربد، ووثب وترنح، لم يكن ينجع قوله ما كذبه عمله، وكذا لو قال الرذيل: أنا صاحب الفضيلة، لكنه كذب وبهت، وأحب الظهور وخان، ونقض العهد ولم يف بالوعد، لم يفد قوله ما كذبه عمله وناقضه فعله.

من يحمل العطر فاحت رائحته وان قال انه لم يحمله، ومن يحمل القذارة المنتنة، انتشر ريحه وان أظهر أنه لم يصاحبها، ان كل صبح تشرق شمسه، وكل مساء ينير قمره، لابد وأن يقف الإنسان مرة أو مرات علي مفترق طريقي الفضيلة والرذيلة، ولابد أن يختار، فان اختار الأولي شهد عمله بفضله، وان اختار الثانية دل اختياره علي نقصه.

ربما كنت أفكر: أن لو أعلن متجر من المتاجر: انه يكذب في البيع، ويغش المعامل، ويدفع إليه بدل الحسن قبيحاً، والصحيح معيباً، ويُغلي السعر ثم عمل بعكس ذلك، فصدق ونصح، وأعطي الحسن الصحيح رخيصاً، تزاحم عليه المشترين غير مبالين بما قال، ولو انقلب الأمر، فأعلن صدقه و… ثم عمل علي عكس ما أعلن، تفرق عنه الزبائن غير مبالين بقوله، وهذا مما يشهد بما ذكرناه ههنا: من أن الملاك في الفضيلة العمل لا القول.

إن ذا الفضيلة يعدل إذا حكم، ولا يرتشي، ويساوي بين القوي والضعيف، ويصدق، ويبكي للأشقياء، ويرحم الضعفاء، ويبطن الإخلاص، ويتواضع، ولا يسب، ولا يشمت، ويقنع، ويجد، ولا يكسل، ولابد أن يعرف ذلك منه صديقه وقريبه،

وجاره وحميمه، ومن جالسه أو صحبه أو سافر معه أو سمع منه أو رآه.

بخلاف ذي الرذيلة، فانه يعمل علي العكس من ذلك فينعكس أمره، وتبدو سوءته، حتي يحذره القريب، ويتجنبه البعيد، ويصبح معروفاً بالشر، لايرجي نواله، ولا يؤمل في عدله، ولا ينتظر معروفه.

انتحال الفضيلة من أهون الأمور، لكن العمل بها، من أصعب المشكلات، ولذا كثر القائلون، وقل العاملون، والناس مهما داهنوا ذا الرذيلة، وعارضوا ذا الفضيلة لهنات توجب ذاك وهذا فلابد وأن يجري مدح الأول علي لسانهم، وذم الثاني، ولو طال الكتمان وامتد الزمان.

الإصلاح

جرت سنن الكون علي التقلب والتحول، فيصير النهار ليلاً والليل نهاراً، والخريف شتاء والربيع صيفاً، والبر بحراً والبحر براً، تورق الأشجار ثم تسقط الأوراق، ويحيي الجماد، ثم ينقلب الحي جماداً، وهكذا دواليك، وليست القوانين الاجتماعية، والفكر والعادة والعلم وما إليها، إلا مما يسيطر عليه نظام التقلب وقاعدة التحول، فليس الفكر صخراً يبقي ما بقي الكون، ولا العادة والارتكاز يتمتعان بالحياة الأبدية ما أم نجم في السماء نجماً، ولا النظام الاجتماعي كالشمس المضيئة التي تطلع كل يوم عن مشرقها وتغرب في مغربها، لا تزحزح، ولا تضعضع، بل كلها مما تلعب بها أصابع الأقدار، وتدور دورة الفلك بسعدها مرة فتبقي دهراً طويلاً، وبنحسها أخري فما تلبث إلا وتجري عليها أعاصير الفناء، وتجعلها في خبر كان.

إن النظام الفاسد الذي يسود المجتمع لابد وأن يخلي مكانه لنظام صالح وان طال به البقاء، ومد جذوره إلي أعماق الأرض، وفروعه إلي عنان السماء، لكنه ليس انقلاب النظام كتقلب الأيام، يدور بنفسه، بل يحتاج إلي مصلح قدير، يشذب شجره، ويعبد سبيله، ويسقي فسيله، ويتعاهد روضه، تعاهد الفلاح جنته، وذلك ما يحتاج إلي التضحية، ويفتقر إلي التفدية، فإن خلع

العادات عن رقاب الناس لا يسهل، واجتثاث جذور التقاليد عن الأفئدة غير هين، ولذا يعاني المصلح مالا قبل له به، من أنواع الأذي، ويصب عليه ما لا يحمل غيره من سياط العذاب.

فعلي من يريد الإصلاح، سواء أكان دينياً، أم سياسياً أم وطنياً، أن يوطن نفسه علي صنوف الآلام، وأقسام السخرية والاستهزاء، ثم لا يدري بعد هذا وذاك أينجح في حياته أم بعد مماته، ويقدر في إحدي الحالتين، أم لا ينال شيئاً مما يطلب.

فطريق المصلح وعر خشن فرش بالقتاد، وألسنة من يريد إصلاحهم أحر من النار، وأفئدتهم تتلظي غضباً عليه، ونقمة منه، فمن كان باذلاً في هذا السبيل مهجته، وموطناً لكل شيء نفسه، فليقدم علي ذلك.

إن المصلحين الكبار الذين قاموا لهذا الشأن عانوا ما عانوا، ولاقوا ما لاقوا، أما سلسلة الأنبياء والأولياء عليهم السلام فمصاعبهم ومتاعبهم حديث الألسن، وشنف السماع، ونصب الأعين، وأما غيرهم من الذين سجل التاريخ صحائفهم النضالية، باسم المصلحين والثائرين، فكم قاسوا صنوف العذاب وسيموا الخسف والذل، مات أحدهم في السجن، والآخر تحت وقع السياط، والآخر التهمته النيران، والآخر مشرداً عن الأوطان.

ف(غاندي)() كان مشرداً عن وطنه، يلقيه سجن إلي سجن، وينشره حكم، ويطويه حكم، فقضي عمره في فقر وإرهاق.

و(لامارتين)() لم يجد في أخريات ساعاته إلا كلباً كان يلازمه، فيبث إليه حزنه، ويشكو إليه غدر أصدقائه.

و(كورني)() لم يكن يجد من متعة الحياة إلا الهواء والشمس، ورقعة الأرض يجر في رجليه نعالاً بالية، ويشرف جسده من ثقوب ثوبه.

و(سقراط)() لم يزل يدعو إلي الصلاح، حتي سقوه السم.

و(ساقورلانا)() كان يعطف علي البائسين، ويصيح في وجه بائع الدين، فأحرقوه بالنار.

و(جمال الدين)() كان تلفظه أرض إلي أرض، حتي قضي عمره بين شرد وطرد، وعذاب وعقاب، ويقال: لم يمت حتف

أنفه، بل قتل قتلاً.

المصلح يحتاج قبل كل شيء إلي صدر رحب، وإرادة قوية، وعزيمة صخرية، وذكاء ثاقب، وصدق لهجة، وحلم واسع، واستمرار في العمل، وعدم اليأس مهما لم يوفق لنتيجة، يؤذي المصلح فلابد أن يصبر، ويسب فلابد أن يحلم، ويهان فلابد أن يعفو، ويضرب فلابد أن يصفح، ويسجن فلابد أن لاييأس، ويغضب فلابد أن يكظم، لابد أن يستمر المصلح في عمله وان لم يثمر بذره، ولم يفرع شجره ولم ينبع الماء من حفره، ولم يؤمن به أحد، ان نوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ()، وصالح عليه السلام دعي شعبه مائة سنة، وعيسي عليه السلام دعي ما دعي فلم يؤمن به إلا اثني عشر شخصاً، ومحمد صلي الله عليه و اله دعي عشر سنين فلم يؤمن به إلا نفر قليل. من لبس جلباب الاصلاح لابد وأن يخلع جلباب العز والاحترام، والتجلة والاكرام، والرحة والرفاه.

إن فشل المصلح عاجلاً لا يضر بعد العلم بأن النظام الصحيح الجاري فعلاً من نتائج أعمال المصلحين، وان كان بينهم بعض الفروق بنجاح أحدهم ورسوب الآخر، فان تاريخ البشرية خيط طويل اشترك في فتله ونقضه انكاثاً طائفة لايستهان بهم كثرة، من المصلحين والمفسدين، فمصلح يبرم ومفسد ينقض، وهكذا حتي يتقشع سحاب الفوضي، وتجلو شمس النظام ليس عليها غبار.

لو عدم المصلح الاحترام في حال حياته، فانه لا يعدم الارتياح بصحة عمله، وان أهانه الناس وهو بين أظهرهم، فسيعظموه إذا فر من عالم الأحياء إلي عالم الأموات، ولو رموه بالجنون، فسيجعلوه أعقل العقلاء يوماً ما، ولو قالوا عنه: انه خائن، فالزمان كفيل بأن يزدحموا علي تعاليمه ليتلقوا عنها دروس الوفاء والأمانة، قليل أن يجتمع للرجل عز العظمة وعز الاحترام

والتجلة، فهو اما عظيم لا يحترم، أو يحترم وهو حقير.

أوذي علي عليه السلام وشُب، وقُوتل، وظُلم، وقُتل ثم لم يلبث أن صار: أعظم عظماء الشرق والغرب، وأعلم علمائهما، وأفصح عربي تكلم، وأكبر أمير، وخير خليفة للرسول صلي الله عليه و اله يفتخر به الشيعة لأنه إمامهم، والمسلمون لأنه خليفتهم، والعرب لأنه من عنصرهم، والشرق لأنه من عظمائهم، والدنيا لأنه من أبناء جلدتهم.

نظام اليوم مدين لكل مصلح مهما اختلف مذهبه، وحيثما كانت نشأته، وأينما دعي، ومن الجدير بالانسان سواء أكان دينياً أم اجتماعياً أم سياسياً أم حقوقياً، أن يربأ بنفسه من أن يكون في صف المديونين، ولا يكون في رعيل الداينين.

لم يتم صلاح العالم بعد، بل ربما كانت الحروب الطاحنة، والرذائل المنتشرة المدمرة، اللتين هما أكثر بكثير من الأزمنة الخالية، دليلين علي أن الفساد في الحال أكثر منه في الأيام الغابرة، فليشمر المصلحون عن ساق الجلد، ويجدفوا بملاء الحب، ?لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً?().

ففف

الدار الآخرة

إن من ضيق النظر، وسفيف الفكر، وقصور العقل، وضنك الإدراك أن يتخيل أحد أنه مادي محض، لا يربطه بالروح وشيجة، ولا يعلق بما وراء الطبيعة بعلاقة، ولا يجمعهما حبل، ولا تشملهما صلة.

تبرهن العلوم الحديثة علي أن الإنسان لم يخلق من مادة فقط، وإنما هو مزيج من مادة وروح: المادة تقوم بالواجبات المادية، والروح تقوم بالفكر والاختراع.

إذا بطلت المادة، فبقيت هامدة، ولفظت جوهرها العلوي الشريف، فقد أثبت علم النفس أن الروح تبقي، ودعم العلم التجربة التي يقوم بها أصحاب التنويم المغناطيسي الذي صار في عصرنا الحاضر من أوليات المعلومات، لا ترفرف حائمة الشك عليها، إن بقاء الروح لمما يدهش الإنسان أتري تبقي في نعيم وسعادة، وتحلق في أجواء الهناء تحليق الحمامة البيضاء

في القبة الزرقاء؟ أم تبقي في بؤس وشقاء وعذاب وألم؟ هذا هو الشغل الشاغل للعلماء الروحيين.

كشف القناع عن وجه هذه المشكلة، وحل هذه المعضلة الشرائع الإلهية بما فيها من المجوسية واليهودية والنصرانية والاسلام، تري الديانات أن الروح تبقي في إحدي الحالتين:

إما روح وريحان، وجنة ورضوان، بين حور وغلمان، في بلهنة من العيش آمنة وادعة فاكهة، لا يحزنه فزع، ولا ينتابه مضض، ولا يدخله هم، ولا يجد الألم إلي قلبه، والمرض إلي جوارحه سبيلا.

وإما عذاب أليم، ونار وجحيم، في حزن وانكسار، وذلة وصغار، لايعرف له قدر، ولا يقبل منه عذر.

ثم إن الديانات لم تجعل هذه النتائج وليدة الصدفة، بل جعلتها منجومة من الأعمال، فان طوي الشخص عمره فضلاً وكمالا، وبراً وإحسانا صدق، وأخلص وجد، وتواضع وواسي، وأحسن ووفي بوعده، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وصلي وصام وحج، وأطاع، ولم يفسد في الأرض، ولم يسرق، ولم يقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولم يزن ولم يسرق، كان من أهل النعيم، تتلقاهم الملائكة طيبين سلام عليكم طبتم فادخلوا الجنة خالدين، وهم علي سرر متقابلين، لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا، ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تظليلا.

وان أسلف سعادته في الفضائح، وباع نفسه بالضلال والآثام، تبع شهواته، دؤوباً في الشر، بعيداً عن الخير، ظلم وأفسد، وبخل واستغني، وكذب بالحسني، قتل ونهب، وسرق وسلب، غش الناس، ومنع الماعون، آذي جاره، وقطع رحمه، وعق والديه، كان جزاؤه ناراً تحيط به سرادقها، وان استغاث يغاث بماء كالمهل، بئس الشراب وساءت مرتفقا، وكلما نضجت جلوده بدلت بجلود وغيرها ليذوق العذاب بما كان يصنع، يقول: ارجعوني لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، كلا انها كلمة هو قائلها، ولو رد لعاد لما نهي عنه، فهو

في غم وحزن، ونار ولهب، خالد، لا يخفف عنه العذاب، وما له من أنصار، ولا حميم يطاع، ولا شفيع يسمع.

هذه هي الدار الآخرة، وهذه صفتها، وهذه ما دعي إليها الأنبياء المصلحون عليهم السلام، والأئمة الهادون عليهم السلام، والعلماء الأتقياء.

إن الدنيا الحاضرة ليست أكثر من مدرسة، فكما ان الطالب لو أكمل دراسته الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، والعالية، مما لا يطوي أكثر من ثلاثين سنة علي الأكثر، فإذاً بالشهادة الراقية، واقتعد كرسياً مرموقاً، وانهال من أطرافه العز، ونال الوظيفة الفخمة، ان كان من أصحاب الوظائف، أو در عليه الرزق من مراجعيه، ان لم يكن من ذوي الرواتب، وقضي بقية عمره التي تتراوح بين الثلاثين والأربعين علي الأغلب في هذه الرفاهية.

وذلك بخلاف من كسل عن الدرس، وبطل عن الحضور، حتي آل أمره إلي الرسوب، فانه لا يجزي بالحسني، بل إما أن يبقي في فقر مدقع، وذل موجع، أو لابد له أن ينشط في عمل آخر حتي يتخذه سلماً إلي العيش، يستظل بظلاله من لفح الحياة.

إن الدنيا كالمدرسة، والعمل الصالح كالدروس المتحضرة، والرجل الخير كالتلميذ النشيط، والرجل الفاسد، كمن جعل الدرس وراءه ظهرياً، منتهي الأمر أن الفرق بين المدرسة وبين الدنيا، أن الأولي تستغرق ثلاثين سنة، والثانية تستغرق ستين، ودار الجزاء للأولي هي الدنيا، وللثانية هي الدار الآخرة.

ولكن هناك فروق لا تخفي: فان جزاء النجاح في الدروس ضئيل وان كثر قدره، وعز محدود وان تعاظم شأنه، ولوقت قصير وان طال أمده، مشوب بالكدرة وان صفي مورده، وذلك علي خلاف النجاح في الدنيا بأخذ الشهادة العالية للدار الآخرة، فأنعمه لا تعد كثرة، وعزه لا يحد سعة، وأمده إلي غير النهاية، عذاب رقراق خال عن الأعراض والأمراض والأحقاد، لا يصيبه نصب ولا

ظمأ ولا مخمصة ولا يحزنه فزع، ولا يشوب قلبه غل، ولا يحمل فؤاد أحد عليه موجدة، دار عجيبة، ورفاق متصافون، وأزواج متحابون.

إن من البعد عن صوت الضمير: أن يترك الإنسان مثل هذا الموصوف الذي لا يتقاضي من الثمن إلا ساعات قلائل، وصبراً يسيراً، ومخالفة للشهوات التي يغلب عليها كونها تهدد الكيان الفعلي، مثلا الخمر تورث الأمراض، والخداع يوجب النفرة، والكذب يزيل الاعتماد، والزنا بؤرة الزهري، والربا محق للأموال، كما درسنا تاريخ اليهود وغيره وما أشبه.

ان الحياة لابد وان ينتهي شوطها، والآمال وإن بدت جساماً أمام عدسة الفكر، لكنها لا تلبث أن تنقلب مألوفة بعد الفوز بها، حتي إن ساكن القصر لايتذوق من لذته شيء، بعدما كان يخيل إليه شيء وألف شيء حينما كان يسكن الكوخ، وما إلي ذلك من سائر الملاذ..

فلو أخذ فارض ان الداعين إلي الدار الآخرة، أخطئوا، ولم يصيبوا الرمية، لكان هذا الثمن الزهيد قبال هذا المثمن الذي دعوا إليه، مما يجب إعطاؤه احتمالاً للفوز بالثمن.

أليس الإنسان يخاطر بمال ضئيل تجاه احتمال ربح كبير، وان كانت النسبة المجوزة للفوز قليلة جداً، بل نراهم يخاطرون بالنفس التي هي أكبر كبيرة من مقومات الحياة، وفي هذا بلاغ لقوم مفكرين.

ألا فمن شاء النجاح فليدخل هذه المدرسة، وان مضي من عمره ما مضي، فإنها ترحب حتي بالكبير الذي ربي علي التسعين، بشرط أن يصفي ما سبق، ويجد فيما لحق، ومن أراد الآخرة فليحسب الخسار المحتمل.

كيف نعمل؟

إن الغصون إذا قومتها اعتدلت

وليس ينفعك التقويم للحطب

إن الإصلاح في جامعة اتجهت نحو جهة الفساد من أشكل الأمور، فمن يريد الإصلاح في مثل هذه الجامعة، يكون حاله حال من يريد تقويم دوحة معوجة، أو من يريد تعديل شط عظيم، فيعمد الأول إلي

فأسه فيقطع أعواداً منها، ويعضدها عضداً، ويأخذ الثاني ظرفاً يغرف به بعض الماء ليصبه في طرفي الشط، حتي يكون هذين الماءين بضميمة الشط ماءاً مستقيماً!! ولو فرض أن هذين العملين في بعض الأحيان ينفع بعض النفع فان ذلك ليس إصلاحاً باهراً ونجاحاً مرموقاً، فان المجتمع الفاسد كالقصر الذي تضعضع أساسه، وبليت قواعده، فانه لا يصلح بترميم بعض أساطينه أو تبييض بعض جدرانه.

المجتمع الفاسد يلزم هدمه من أصله، وبناء مجتمع جديد من الأساس، كما أن من يريد أن يشتمل روضه علي أشجار مستقيمة يلزم عليه أن يقطع كل ما أعوج من شجره، ويغرس مكانها شجرة أخري، ومن يريد تقويم الشط احتاج إلي طم الشط السابق، وحفر شط جديد مستقيم ومن يريد سكني قصر فخم، افتقر إلي هدم القصر السابق، وبناء قصر حديث.

هذه طريقة الاصلاح، يعرفها كل بدوي وقروي، في أعماله اليومية، وأثاث داره، وأشجار حقله، وأعواد كوخه، ولذا نري أن المصلحين هادمون بانون في وقت واحد.

وجامعة المسلمين في هذا اليوم كتلك الجوامع التي لعبت بها أيدي العابثين، فأصبحت تحتاج إلي تجديدها من الأساس، مادام الخمر تتمتع باجازة من الحكومات، ومادام الخمار لا يعاقب بعقاب صارم، ومادام بيوت الدعارة تفتح علي رؤوس الأشهاد ولا يعاقب الزاني، ومادام القمار له المكانة السامية أندية ودور راقية، ومادام الربا قسم من التعامل لا يتحاشي عنه القانون، ومادام التبرج يتنعم بالحرية، ومادام الحرام مغنماً والزكاة مغرما، ومادام البرلمان يشرع القانون علي خلاف نصوص القرآن والشريعة، ويتحدي السنة ويقول: (سأنزل أفضل مما أنزل الله)!!

ان المسلمين مادامت هذه الأمور، لا يقوم لهم قائم، ولا يرجي لهم مستقبل، ولا يتمكنون من إنقاذ أنفسهم من مخالب إحدي الدول القوية، ترك المسلمون دينهم وقرآنهم وسنتهم، رغبة

في المدنية الزاهرة بمصانعها ومعاملها، ونعمها ورفاهها، وعلمها وعلمائها، وسطوتها وقوتها، وحريتها وبهارجها، وأرضها وسمائها، وبحرها وبرها، فلم يفيدوا الأول ولم يستفيدوا الثاني، أصبحت صحاريهم يبايا، وبلادهم خرابا، وعزهم ذلا، وقوتهم ضعفا، وامبراطوريتهم عبدا، وأخوتهم عدواة، هيهات هيهات أن يرجع إلي المسلمين سؤددهم، وأن يتمكنوا من التخلص من هذه الحبائل التي اقتنصتهم، والمصيدة التي احتوشتهم، حتي يرجعوا إلي قرآنهم ودينهم وأخلاقهم وكبرائهم.

أول ما يدعو القرآن هو الأخوة التي بها قوتهم، وفيها شوكتهم وإليها مرجعهم، ومنها مصدرهم، فان شاء المسلمون العزة والنصرة كان عليهم أن يخلعوا ثوب القانون البالي، ويلبسوا ثوب الإسلام القشيب، فلا تشريع ولا قانون، ولا مجلس ولا برلمان، ولا إرادة ملكية، ولا سيطرة أجنبية، ولا عداء بين بلاد الإسلام، ولا قومية، ولا مبادئ مستوردة.

أما ما يرومه المصلحون في إطار هذه المدنية الزائفة، فأقرب منه مناط الثريا، وسأضرب مثلاً لذلك: السباق الذي ولد في عصر الملوكية في العراق، كان يمتص أموال الشعب امتصاص العلق دماء الجسم، وكان المصلحون يملأون الدنيا صياحاً ونياحاً، بمضرة ذلك، ولم يكن الأمر مما يخفي علي المسابقين، فقد رأوا بأم أعينهم ما جر عليهم من الوبال والخراب، والفساد واليباب، وبالعكس من كل ذلك، فقد كان يزداد عدد المسابقين بصورة هائلة، حتي منعت الحكومة ذلك، وأغلق قاعة السباق، فرجع الناس إلي ما كانوا، وانتفعوا بما وفره عليهم هذا الحكم من المال، وكذلك حال الخمر والفجور والربا وما إليها، فان تمكن المصلح من هدم أساس ذلك هدماً لا مرد له، تغيرت الحالة، وتحسن المجتمع، أما النصح والوعظ والانذار والارشاد، والجنة والجحيم، والعذاب والنعيم بوحدها، فنتيجتها ضعيفة ولم يكن القاتل بذلك مغالياً ولا جائراً.

ان المسلمين نهضوا في هذه الأواخر نهضات مباركات، ولم يبق

إلا الاتحاد فيما بينهم، واستبدال القانون المستورد بالقرآن، حتي يرجع عزهم ودينهم ودنياهم وآخرتهم.. والله المستعان.

المدرسة

يدخل التلميذ المدرسة وقلبه أنقي من اللجين، وأصرح من المرآة، وأصفي من الماء الزلال، وهو مستعد لتلقي كل ما يرد إليه من المعلم أو التلاميذ الحافين به، استعداد الآلة اللاقطة لأخذ أمواج الصوت، إن خيراً فخير، وان شراً فشر، والمعلم أمين علي ثقافته وأدبه وأخلاقه وعرضه، وهو أعظم الأمانات بين يديه، مسؤول عن كل ما تنطبع فيه حتي خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، فانه كالشمع في كفه يتقلب به كيف يشاء، ويشكله بما يريد، فانه مستقي أفكاره، ومنبت عقله، ومغرس نباته، ومنجم جوهره.

وكما ان التلميذ يحتاج إلي علم وثقافة، ليرتقي به عن حضيض الجهلاء إلي أوج العلماء، ويأخذ بيده في مجاهل الكون إلي معالمه، ويهديه سبل الحياة، ويريه النافع عن الضار، والجادة عن المهوي، كذلك يحتاج إلي أخلاق وآداب يعيش في ظل شجرها الفيناء مرفه الخاطر، سعيد البال، مرتاح الضمير، بل احتياجه إلي الأخلاق أكثر، فان ذا الخلق المؤدب أسعد عيشاً من ذي العلم الذي لا أدب له.

إن العلم والأدب كلاهما يهديان إلي الخير، وينيران طريق الحياة المظلم، ويعبدان سبيل البقاء الوعر، لكن العلم لا ينتفع به إذا لم يقترن بالفضيلة، بل ربما ينقلب العلم جهلاً، والثقافة وبالا، حيث يزداد حامله كبراً وفخرا، يصعر خده، ويبرز صدره، ويمشي مرحا، ويهتز فرحا، فهو كالنهر الذي ان عهده الشخص، بكري قراره، وبناء السدود في وجهه انتفع به لروضه وحيوانه، لمأكله ومشربه، ومستحمه وملبسه، ومضجعه ومنتزهه، وان أغفل شأنه وتركه يجري كطبيعته، لم ينتفع به، بل ربما القلب وبالا وفساداً بالانتشار في الأراضي المنحدرة والتجمع في الوهاد مما يسبب التعفن والأوبئة، وكثرة

البعوض اللاذعة والأمراض الجازعة.

التلميذ إلي ملكة الصدق أحوج منه إلي علم الحساب، وإلي حب الخير من الهندسة، وإلي صفة الشجاعة من الفيزياء، وإلي فضيلة العفة من الجغرافيا، الصدق يعينه فيما لا يعينه علم، وحب الخير ينفعه فيما لا تنفعه ثقافة، وهو إلي أن يعرف كيف يعاشر أبويه إذا كان في ظلمها، ويسلك مع زوجه وأولاده إذا نكح وولد، وكيف يتودد إلي الناس ويتحابب، وكيف يبيع ويشتري، ويرحم ويعطف، أحوج منه إلي معرفة التاريخ والكيمياء، والانشاء والاملاء.

إن التاريخ لم يوضع إلا ليستنتج الشخص نتائج أعمال الماضين، فيأخذ الحسن، ويترك القبيح، ولم يكتب الجغرافيا إلا ليري وضع البلاد ويعرف صنوف الخلق وأخلاقهم وأعمالهم، كي يأخذ ما ينفعه ويترك ما لا ينفعه، ولم يرقم الحساب إلا ليحاسب أمواله فلا يبذر ولا يقتر، ولم يقنن الهندسة إلا ليتمكن من بناء الدار وشق الأنهار ليسكن تلك برفاه ويستثمر هذا بدعة، فإذا لم ينتفع بهذه العلوم فيما وضع لها، ولم يهتد بها طريق مشيه في حله وترحاله، وانزوائه وعشرته، وأخذه وعطائه فحاله أشبه شيء بالأعمي الذي لا يبصر وان كان يعلم معالم الطريق، يتمكن من هداية غيره بذكر أوصاف العلائم، ويتردي هو في بئر أو يهوي به العمي في مكان سحيق.

ثم إن المعلم كما له الرقم الأول من صحة أخلاق التلميذ وفسادها كذلك يشترك في ذلك الآباء والحكومة والعشراء، فلكل سهم، والجميع مسؤولون عن ذلك. المعلم مسؤول عنه في مدرسته، والأب في بيته، والعشير في منتزهه، والحكومة في مصره ومملكته، وحسن التربية ملقي في عاتق الكل علي أنصبة مختلفة وسهام غير متشابهة.

رجال الدين

يرتئي زمرة من الناس، ان شأن رجال الدين في المجتمع شأن التمثال الظريف، الذي ينبغي ان لا تمسها يد

الغبار، ولا يدنسه مدنس، ولا يعلق به ما يخدش جسمه، ولا تبلغه أشعة الشمس حتي يتغير لونه، وطلباً لهذه الغاية المتوخاة، وتوفيراً لهذا الجمال، يجب أن يتطرف عن الضوضاء ويتنكب الطريق، ويعتزل اعتزال من قبع في كهف من الكهوف، يأكل رزقه إلي أن يأتيه حتفه، فيحصرون عمله في الدرس والمناظرة، والصلاة في الجماعة، وجواب الأسئلة التي توجه إليها علي أن لا تمس عاطفة أبداً، وإذا زادوا علي ذلك جوزوا له أخذ بعض الدراهم المفروضة في الشريعة وإعطائها إلي مصارفها مشروطاً بأن يلاحظ عرضه في التقسيم، يؤلف القلوب بالدينار والدرهم، كما كان يعطي رسول الله صلي الله عليه و اله المؤلفة قلوبهم وقد أمره الله تعالي بذلك ?إنما الصدقات للفقراء… والمؤلفة قلوبهم?().

أما التدخل في الشؤون العامة سواءً ارتبطت بالأمور الدينية أم الأخلاقية أم الاجتماعية أم غيرها فقد حمي عن رجل الدين بسياج شائك، وجدار مكهرب، وهو سياج (السياسة) فما أشقها وما ألأمها، لا توضع علي شيء إلا هدمته من أساسه، ولا اقتربت من عالم إلا ألبسته جلباب البعد عن الحق، والقرب من الباطل، وبهذا يصبح غريباً عن العالم: لا تسمع له كلمة، ولا يستجاب له دعاء، ولا يسلم عليه، ولا يجاب إذا سلم، ولو كان ما وسم بهذا الاسم المنحوس، ومن خالص الدين، وصحيح الأخلاق وصريح الآداب، ونافع الاجتماع، من أجل الصالح العام.

والعامة همج يتبعون كل ناعق، سواء أكان صحيح الغرض أم فاسده، فإذا وسم مغرض عالماً بشيء: فهو الوحي المنزل، الذي لا يتضعضع ولا يتزلزل، سامح الله الناس وعفي عنهم، لا أدري لم افترقت الدنيا عن الدين وابتعدت الأخري عن الأولي ولأي أمر تناكر الشؤون العامة وشؤون الصلاة والدرس والمناظرة، تناكر الأضداد، وتعادي الأنداد، وهل

أنزل الله من سلطان يدعم رأي هؤلاء الناس؟ أم وصي بذلك أحد المرسلين؟ أم يأمرهم بذلك أحلامهم؟ أم هم قوم جاهلون؟!

أتدري لم تقارب لفظ الدنيا والدين؟ أم تعلم لم تقدم المتقدمون في ميادين الحياة وتأخر المتأخرون؟ ليس تقارب اللفظين إلا لتقارب المعنيين: فالدنيا مزيج بالدين، والدين دخيل في الدنيا تداخل السدي واللحمة، وحيث أن الأولين عملوا علي هذا الأساس تقدموا، وعمل المتأخرون في ناحية واحدة وطاروا بجناح واحد ولذا تأخروا، ان المرسلين والأئمة عليهم السلام وسائر المصلحين بعثوا إلي الأمم وتدخلوا في جميع الشؤون، فان الإصلاح والتهذيب يتوقف علي التدخل، وكما تحتاج صغار الأمور إلي الإصلاح، تحتاج كبارها إليه.

إن رجال الدين لا يكونون من الدين في شيء إلا إذا احتذوا حذو الرسل، وتبعوا الخلفاء والأئمة، وانتهجوا مناهجهم، وسلكوا سبلهم، وفعلوا ما فعلوا، وتحملوا ما تحملوا، وقد ضرب الرسل والمصلحون المثل الأعلي للتدخل في الأمور: صغيرها وكبيرها، أخلاقيها واجتماعيها، دينيها ودنيويها، ألم يكن إبراهيم عليه السلام حارب نمرود بلسانه وجنانه، وناقش الأمة جميعها في معبودياتها، وأخذ طريقاً لنفسه وتبرأ حتي من أقرب الناس إليه، وأوذي في ذلك وشرد وطرد، حتي أسكن أهله بواد غير ذي زرع، وألقي في النار بعدما حكم عليه بالإعدام، انه كان بنفسه أمة قانتاً، عندما كان معاصروه بأجمعهم أمة أخري، فكان هو يقابلهم بما فيهم الملك والسوقة، والكبير والصغير، والشريف والحقير، والغني والفقير، ألم يكن هذا تدخلاً في (السياسة) علي مصطلح هؤلاء الذين ذكرناهم؟!

ألم يكن موسي عليه السلام خالف فرعون، وخلع عبوديته عن رقبته، وأقام عليه الدنيا وأقعدها، ونصحه ووعظه، وأمره وزجره، وكافحه كفاحاً مريراً بلا هوادة ولا فتور، وانتقصه بقوله: ?وإني لأظنك يا فرعون مثبورا?() وأخذ بني إسرائيل وهم الألوف المؤلفة

معه، وقتل من أتباع فرعون من قتل، أليس هذا كله تدخلاً في شؤون الدولة بداعي الإصلاح وتعرضاً لأمور الدنيا بحذافيرها؟!

أليس عيسي عليه السلام حارب الملوك والكبراء بقوله وعمله، فكان (ذي بلاطس) و(هوردس) منه في حذر، وجاهد المرائين من أحبار اليهود وسبهم بقوله: (يا أولاد الأفاعي) ونحوه، وأخذ يهز كيانهم ويحطم كبرياءهم، ويفرق شملهم، ويفند مزاعمهم، حتي صلبوه (بزعمهم)؟ ألا يكون هذا من أروع الأمثلة لتدخل العالم الزاهد العزوف الحصور، في الأمور تدخلاً سافراً، لا يبالي حتي بنفسه، ويوطن نفسه علي كل شيء حتي الضرب والصلب؟

ألم يكن محمد صلي الله عليه و اله من أعظم الأمثلة للبطولة والعزم والثبات، والاستقامة والايغال في شؤون الفرد والجماعة، والدولة والملة، تدخلا في الأفكار والعقائد، والعادات والإرادات، والأخلاق والأعمال، والاقتصاد والاجتماع، وقد قاسي في سبيل إصلاحه من الظلم والعسف، والإرهاق والإرهاب، والضرب واللطم والشتم، تسلقه الألسنة بأبشع الألفاظ، وتزدريه العيون بأفضح الازدراء، حتي قاطعه الناس وقاطعوا أهليه وذويه شر مقاطعة، وشردوه عن عقر داره، وابتعدوا عن جواره؟ أليس في هذا كله ذكري واعتبار، وعظة وادكار، حتي يحذوه رجال الدين ان أرادوا التهذيب والاصلاح؟

إلي غيرهم من الرسل العظام، والمصلحون الكبار، فان أفعالهم وأعمالهم وحركاتهم وسكناتهم ليشبه بعضها ببعض، وتجمع كلها في إطار واحد، إطار الوضع والرفع، والمنع والدفع، والدخول والخروج، والابتعاد والازدلاف، لايلوون علي شيء، ولا يبالون بأمر، ولا تأخذهم في مبدئهم لومة لائم، ولاعتب عاتب، مشمراً عن ساق الجد، إلي أن يأتيهم الحمام.

فرجل الدين ليس بالتمثال الذي يضره الغبار، ولا بالجسد الذي لا يأكل الطعام، ولا بالزجاج الذي يصدعه الحجر، ولا بالشبح الذي تدميه الشوكة، وتستفزه الشتمة والتهمة، بل هو المصلح الذي يُسب ويُهان، وينتقص من قدره، وينسب إليه كل

شيء: من الخيانة، والجنون، وحب العظمة، والسفاهة، والخدعة، وما إليها.

بل لوجدّ في الاصلاح ولم يساعده جده في البقاء، لضرب وحُبس، وصلب وأحرق.

ألم يضرب أمير المؤمنين علي عليه السلام؟

ألم يسم الإمام الحسن عليه السلام؟

ألم يقتل الإمام الحسين عليه السلام؟

ألم يصب زيد عليه السلام حرق؟

بلي كل ذلك قد كان، وقد كانوا لهم السب المقذع، والاهانة الشنعاء، والاستهزاء والايذاء، فلم يكن ثانيهم يردعه عن إصلاحه ما يراه فعل بأولهم، ولا يثني عزيمته ما يعلم من أنه سيفعل به كما فعل بمن قبله.

يقال: إن الإمام موسي بن جعفر عليه السلام لم يتدخل في شأن من الشؤون، وكذلك بعض الهداة من قبله وبعده، لكن الكلام أقرب إلي المغالطة من الحقيقة، فان الأئمة عليهم السلام لو لم يكونوا يأخذون جانب الصلاح والاصلاح، وكانوا يجرون كما تشتهي السفن، لما عصفت بهم الرياح المسخبة والاعصارات المسممة، ولما نالوا الضيق والتشريد، والوعيد والتهديد، ولما ابتعدوا عن الأوطان، ولما التهمت بيوتهم لهات النيران، سامح الله القائل: فلماذا يجوز للرجل الديني: الصلاة جماعة، والدرس والمناظرة، وأخذ الأخماس والزكوات، وارشاد الناس في الغدوات والروحات! أليس الإمام السجاد، ومن بعده من هداة العباد، يصلون بانفراد، ولم يكن الإمام الكاظم عليه السلام يلقي الدروس، ولا الإمام الرضا عليه السلام يأخذ الماديات، ان الأئمة كانوا يعملون حسب محتمل الزمان، فمنهم من يجلس في الدار، ومنهم من يأخذ بالثأر، ومنهم من يلقي الدروس، ومنهم من يسكت ويزج في الحبوس (ولنا برسول الله أسوة حسنة)؟!

وما أعجب عجبي من جماعة كانوا يسرون إلي بعض رجال الدين بعدم التدخل في شأن من شؤون الدولة ولو كان لطلب الدين، فإذا أراد أن يستعطف الأمراء في منع الخمور، أو يستهوي الوزراء لغلق باب الفجور، أو يتضرع

إليهم لمنع حكرة، أو يستكين لعدم المنع عن حج أو عمرة، جاؤوا وحداناً وزرافات ناصحين مشفقين، يزينون إليه الأعراض، ويتشبثون بكل حشيش لإدخال ما ارتأوه في قلبه، يوصدون عليه أبواب الرجاء، ويفتحون أمامه أبواب الضرر، حتي يثنوه عن عزمه، حفظاً علي سمعته واسمه.

الدين

الدين: بغض النظر عن دعوته إلي عالم آخر حافل بما تشتهي الأنفس وتلذ الأسماع والأعين، يدعو إلي الفضيلة التي لا يدعو إليها أي قانون، ويمهد سبيل العيش الرغيد، في جو سلام ورفاه، إن الظواهر الاجتماعية الناجمة عن تفاعل القوي الشريرة في النفوس أخذاً وإعطاءً، لا تكبحها إلا العقيدة، فهي كقتب الناقة وزمامها اللذين يسهلان امتطاؤها.

ينظر بعض الناس من بعد إلي الهالة المحيطة، بزمرة من منتحلي الأديان، فيراها جامدة هامدة، لا ينفتق منها ضوء، ولا ينبثق منها نور، فيخال الأمر من آثار الدين، لكنه بالعكس من ذلك، فلو نظر إلي الدين بما هو شيء قائم في الفراغ فرضاً لرأي أجمل ما رآه في عمره، يلذ مخبره، ويبهج منظره، يكثر ضوؤه، ويعلو قدره.

الدين: أول مفعوله إيجاد حب الخير، وكراهية الإثم في القلب، ثم لا يزال يربي هذه الشجرة حتي تورق، وتظهر ثمارها من الحواس:

فثمرة الدين في العين: النظر والمطالعة والاعتبار، والغض عن المزالق والمهاوي.

وثمرته في الأذن: أن يقف علي النافع، ويستعصم عن الضار.

وثمرته في اللسان: الصدق وقول الحق والعدل، وقصره عن الهمز واللمز والطعن.

وثمرته في اليدين والرجلين: العمل والسعي والجد.

وثمرته في القلب: الإخلاص وحسن النية، وقطع دابر الحسد والغل وإضمار الشر.

من توفرت فيه هذه الثمرات، دلت علي العقيدة والدين، ومن انعكست فيه الآية، لم يقبل منه أنه مرتدي بهذا الرداء الجميل، يستدل علي كل شيء من خواصه، ونظير سائر الأشياء الدين سواءً بسواء.

أول ما

يمنع عنه الدين: الحرب علي سبيل الغلبة والسلطان التي تلفت اليوم أنظار أكثر من نصف سكان هذا الكواكب الأرضي، ثم يتدرج في الضرب علي أيدي المستغلين والمحتكرين والمستثمرين والمستعمرين، وبعد هذا وذاك يجعل النظام للشخص في حركته وسكونه، والبيت في جمعه وطرحه، والمدينة في حاكمها ومحكومها، وطبقاتها بعضها مع بعض.

استيفاد طاقة الدين في قلوب الناس، أنفع من استيراد عدة من الطائرات الحربية أو السلمية، وتثقيف الناس ثقافة سماوية أفضل من تجهيزهم بقوي الذرة والقنبلة الصاروخية والقنبلة الطائرة، وتضييق مسارح الرذيلة عليهم خير من تضييق الحدود الاقليمية والقومية والوطنية، هب أن في الدين ما يراه الإنسان عبئاً ثقيلاً عليه، لكن احتقاب آثام اجتماعية أثقل بأضعاف من أعباء الدين.

يوسع الدين ناحيتي الحياة العاملة والقابلة، يحرض الدين علي كثرة النكاح والنسل، وقد ضرب حملة أعبائه الأقدمون الرقم القياسي في هذا الشأن، ومن الناحية الثانية يحتم العمل والتعاون، ويحث علي العالم كي تتفتق آفاق من القابليات الكائنة في هذه الرقعة الفسيحة ذات الأبعاد الأربعة: الطول والعرض والارتفاع والزمان، وبذلك تحسن الزراعة، وتزهر الصناعة، ويؤتي كل ذي حظ حظه.

أليس هذا النظام، خير من نظام من يري تقليل النسل؟ أو يري جعل حدود قومية أو اقليمية تقل من المصانع والمزارع، وتكبت النشاط؟ فان المقيد بقيود مدنية، ليس كالحر المطلق في الأخذ والاعطاء، والقبض والبسط، فعلي الدول أن تكسر نوي طاقة الدين، حتي تخرج منه قوة سالبة موجبة، تسير ركب الحضارة بأسرع من سير الضوء في آفاق الكون.

لكن أصاب الدين إعصار فيه نار، فكل من ينتحل الدين في هذا الوقت لا ينظر إلي الدين كأمر سماوي، له شطران: جزء لنظام الاجتماع، وآخر لفضائل الروح والمعاد، وكل النظر إلي الدين هذا اليوم بما

هو مفهوم لدي المنتحل، ثم يقبله عقله وفكره، وطبعاً لا يقبل عقله إلا ما هو موافق لتقاليده وأهوائه وما يدعم مصالحه الشخصية قبل كل شيء، ولذا قام كل أحد يفسر الدين تفسيراً، ورفعت الأغلال عن المفسر، فهو يفسره وان كان لا يعلم في الحياة شيئاً، ولم يذق من معين الثقافة مذقة، وما دام باب التأويل واسع، ولا (جمرك) علي اللسان، ولا مؤاخذ علي القلم في هذا الأمر، وإن كانت العقوبات الصارمة علي القلم في أمر السياسة، ثم بعد ذاك لا يختار من الدين إلا ما ماشي الزمن واقتضته ظروف المتدين! لا يرفع لدين علم، ولا تقوم له قائمة، إلي يوم يبعثون، إلا أن يتدارك الله الدين برحمته، وينقذ الأمة من كابوس الجهل والغرور.

الدين كانت له الحرية يوم كان الناس مسلمين، أما اليوم وقد أصبحوا أحراراً، فاللازم أن يحاكم الدين، ويزج في قفص الاتهام، حتي يأتي الله له بمخرج، أو يحكم عليه بالإعدام.

لا يقبل اليوم أحد من الدين ما يريده الدين بل ما يريده هو، فان كان خلل في الدليل باعتقاد المنتحل فهو، وإلا فان وجد مساغاً للتأويل أول، وإلا فالأمر سهل بعد أن الدين يلزم أن يطابق عمل المتدين، وإلا فليضرب به عرض الحائط! ولذا أصبح الدين كالمطاط يجره هذا إلي هنا، وذاك إلي هناك، وقد عاينت في حياتي القصيرة أموراً متضاربة من منتحلي الدين لا يفي بها وصف، وإذا كنت أذناً لا أقابل مهما قدرت متكلماً بعنف وقسوة، بح كل مزامل لي ما في قرارة نفسه، وأظهر ما انطوي عليه فؤاده، وأبدي آراءه وأفكاره، ولم يكن لي تلقاء هذه السلسلة من الأفكار إلا مناقشة أدبية، لا تخرج عن نطاق المجادلة بالتي هي أحسن.

رأيت فيما

رأيت رجلاً لم يرقه المعاد، ولم يوقن باليوم الآخر، فكان لابد له بصفته مسلم أن يؤل ما ورد بهذا الشأن، فيقول: إن العذاب عذاب النفس، والجنة جنة الروح، والنفس بعدما تعدم، تكون نارها ونورها ذكرها الطيب أو الخبيث..

ورجلاً لم يكن يطيعه فكره في قبول الحجاب وحرمة التبرج، فيرتئي أن الحجاب عادة خارجية، دخلت في الإسلام من إبان بعض الخلفاء، ثم يقف علي قول القرآن العظيم: ?ولا تبرجن?()، موقف مؤل أو مجمجم لا يجد جواباً…

ورجلاً لم يكن يري حرمة الغناء، لا اجتهاداً أو برهاناً، بل شهوة وفكرة، فكان يقول: كل أمر يستحسنه العقل لا يحرمه الدين، فان الدين يساير العقل، وطبعاً يريد عقل مثله!…

ورجلاً لا يعترف بالمعجز، فكان يرمي مدعيه تارة بالكفر() وأخري بالجهل والسخافة، وكل نظره أن الأنبياء أناس مصلحون لا يربطهم بالسماء إلا رابط قلوبهم التي ملئت حناناً وإحساناً..

ورجلاً يري القوانين الدولية، أفضل من القوانين السماوية، فكان يقول: تلك ليومها وهذا ليومنا…

ورجلاً يري الدين الأخلاق والآداب فحسب، فكلما ينافي الأخلاق بزعمه فليس من الدين، وإن تواترت به النصوص، وكل ما لا ينافي الأخلاق فهو من الدين، وإن حاربه الإسلام بكل قواه.

إلي عشرات من أمثال ذلك!!

ليس الدين إلا قانوناً مدنياً أخلاقياً اجتماعياً، يصلح المعاش والمعاد في وقت واحد، وضعه إله السماء حسب المصالح الفردية والاجتماعية، وحيث كان هو العليم بالمصالح، وبما يسعد البشر، فلا سؤال في حكمه، ولا اعتراض عن أمره، ولا يسأل عمل يفعل وهم يسألون، ولا يرجع وبال العصيان وعواقبه إلا إلي الإنسان نفسه، فسيكون كمن عصي أمر الطبيب، فان المرض يهد ركني نفسه.

إن من الأمور ما لا مساغ للعقل فيه، ولا مدرج للفكر في شأنه كما أن من الأمور ما للعقل فيه

مجال، وللفكر فيه مسرح، والدين يضم بين جوانحه الأمرين، فالعقل يدرك مصالح الاعانة والصدق والزكاة والحج والاتحاد والطهارة والخمس والجهاد وما أشبه.. ومفاسد الخيانة والغش والخمر ولحم الخنزير والإسراف والبخل والجبن وما إليها.. ولا يدرك أن صلاة الصبح ركعتان لماذا؟ والسعي سبعة أشواط لأي علة؟، ومن أربعين شاة بالخصوص لا تسعة وثلاثين يخرج الفرض لأي سبب؟، وهكذا.

وحيث علمنا أن الدين من إله عالم بخفيات الأمور، لا يريد إلا الصالح، ولا يبغض إلا الفاسد، وعلمنا أن هذا من الدين وذاك، فان أحببنا خيرنا لزم علينا الاتباع، وآباؤنا قد اتبعوا برهة تقرب من ثلاثة عشر قرناً فرأوا الخير الكثار، وتركنا ورأينا الضر الجم ?وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون?() ونحن لانريد من الناس التقليد المحض، والاتباع الأعمي، كل ما نريد هو أنه لو عرفوا الطبيب حاذقاً، ورأوا مغبة ترك أقواله، فالواجب عليهم الوقف عند أوامره وزواجره، بدون سؤال عن علة كمية العقاقير، وانه لماذا يعطي من هذا نصف ذاك؟ ومن عقار عشر غيره؟ ولأي علة يمنع عن طعام شهي؟ ويحتم شرب دواء مر؟.

إن مرجع الدين الكتاب الحكيم والسنة الراشدة، ولا تعرف هاتان إلا من قبل علماء صادقين راسخين في العلم، فلو أحب رجل خير نفسه، واتساق أمر أولاه وأخراه اتبع الدين، وإلا فلا يلوم إلا نفسه، وهو بما كسب رهين.

الدين كما يقيد الفرد في لسانه وبصره، وسمعه وقلبه، وبطنه وشهوته، ويده ورجله، كذلك يقيد المجتمع، فالمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه()، والمؤمن أخو المؤمن()، ويجب عليه أن يحب لغيره ما يحب لنفسه()، ويكون مرآة غيره يريه زينه وشينه()، والناس إما أخ له في دين أو نظير له في الخلق()، ويلزم أن يجعل الأكبر منه أباً، والمساوي

له أخاً، والأصغر منه ولداً، وأن يبر أباه، ويصل أخاه، ويرحم ابناه، ولو فسر الدين بما يشاء الدين، لا بما يشاء التأويل، ولو عمل به كما عمل النبي صلي الله عليه و اله وأوصياؤه، ولو انتهج مناهجه، كما مشي عليه المسلمون الأولون، من الصحابة الأخيار، والتابعين لهم بإحسان، لمطرت السماء ذهباً، وأخرجت الأرض دراً وعقياناً، وأصبحت أفراد الإنسان أخواناً، وأضحي الأعداء خلاناً.

لكن اليوم يتمثل الدين بقول الشاعر:

أما الديار فانها كديارهم

وأري نساء الحي غير نساء

الآراء

صدق من قال: «إن بعدد الأدمغة آراءاً، وقدر اختلاف الأشكال اختلاف المدارك»، فكما أن الناس ذوو ألوان متباينة، وهيئات متباعدة وإن اجتمع الجميع في التشابه، كذلك لكل فرد فكر وحجي غير فكر الآخر وحجاه، فتري الأخ يخالف أخاف في المذهب والطريقة، والابن يضاد أباه في المرمي والروية، والزوج يرتئي غير ما ترتئي زوجه، والحاكم لا يصافق المتداعيين في كيفية النظر.. ومهما حصلت الوحدة الفكرية بين اثنين فإن هناك لابد وأن يكون بينهما خلاف في الحدود والخصوصيات!

وأغرب من هذا كله أن فرداً يري الحق في جانبه، ويخيل إليه أن الأدلة تعضد فكرته، ويظهر هذا الاختلاف في كثير من أعمال الناس، وطور سلوكهم، فهذا يختار الكسب، وذاك يرتضي العلم، ثم لا يقنع أصحاب كل من هذين الأمرين بالسير في طريق واحد، وانتهاج طريق فقط، بل يختار فرد الطب، وآخر الهندسة، وثالث الجغرافيا، ورابع علم الدين وخامس علم الفلك وهكذا.. ويجتبي أحد مختاري الكسب البناء، وثان التجارة، وثالث الزراعة، ورابع النجارة، وخامس الصناعة، وهكذا.. وتبدو اختلاف الفكر في اللباس والمسكن والمركب والمنتزه وما إليها..

إن اختلاف الآراء بحدود معينة لا شك وانه من أفضل نعم الله علي خلقه، وخير ما جهز به البشر، وإلا اختل

النظام، وكان حال الإنسان حال الوحش الذي يسكن في القفار والغاب، فلو اختار كل الناس علم الطب لم يجدوا دوراً وقصوراً وثكناً ومسكناً، ولو ارتضي كل فرد الكسب والتجارة، مات المرضي، وفشت الأوبية الفاتكة، ولو اجتبي كل اللون الأبيض مثلاً لاضمحلت الألوان الأخر، ووقف مغرسها ومصنعها وعاملها وبائعها عن العمل، وفي ذلك شلل عضو من أعضاء الكون!! إن اختلاف الآراء كاختلاف الأعضاء، فكما أن الإنسان يحتاج إلي عين يبصر بها، وأذن يسمع بها، ولسان يتكلم، وأنف يشم بها، ويد تبطش، وقلب وكبد ورئة ومعي.. كذلك الإنسان يحتاج إلي شخص يرتئي الكسب، وآخر يختار العلم، وثالث يحب الامارة.. وكما انه لو كان الإنسان ذا حاسة واحدة بطلت سائر الحواس، وانهد الاجتماع، كذلك لو كان المجتمع الإنساني ذا رأي واحد، وفكر فردة، لانهار النظام، وصار العمران يباباً، والبلدان خراباً.

لكن هناك شيء واحد، وهو أنه يلزم حفظ حدود الآراء في إطار صالح، فإنه لا شك أن الآراء قد تطغي، فتذهب نحو الايجاب إلي خارج حدود المصالح، أو تنكس إلي جهة السلب إلي حيث تخرج عن الخير إلي الشر، مثلاً حسن حفظ الذات، إذا خرج نحو الايجاب عن حدوده لكان وبالاً علي الآخرين، فان من يريد حفظ ذاته مطلقاً، يغش ويحتكر ويؤذي ويظلم وما إليها، وإذا خرج نحو السلب عن إطاره، لكان وبالاً علي النفس فان من لا يبالي بحفظ ذاته، لا يأكل قدر قوام جسمه، ولا يكسب لإقامة صلبه، ولا يتعب لأهله وذويه، وكذلك لو خرجت نظرة الشجاعة عن حدودها، انقلبت تهوراً، في جانب الافراط، وجبناً وخوراً، في جانب التفريط.

والغالب أن الشرائع السماوية، والقوانين المدنية تسترعي هذه الناحية بكل اهتمام، وإنما هناك فرق بين الشريعتين: فإن الأولي تخلق

في النفس فكرة حفظ الحدود، حتي يكون للنفس من ذاتها حافظ، يحرسها حتي في أضيق المسالك، وأحرج المواقف، ولذا نري أهميتها، البالغة بجانب الأخلاق الفردية والعائلية والمدنية، وليس كذلك القانون المدني، فانه لا يعني نحو الوازع النفسي عنايته نحو الاجتماع، ولهذا السبب نفسه يكون الدين السماوي قانوناً واجراءاً في وقت واحد، بينما القانون الذي يضعه المجلس، أو البرلمان، يعوزه الإجراء الذاتي.

ثم إن الآراء تفترق في ناحية مهمة جداً، وهي ناحية التركز والاستقامة، والتزلزل والاعوجاج، إن هناك أناساً جبلت آراءهم زائفة مائلة عن القصد، لاتزيدها التجربة والاختبار إلا ميلاً وانحرافاً، ومثل هذه الآراء مثل القاذورة التي لا تزيد بها الرياح إلاّ نتناً وعفونة، ونحن لا نتكلم في هذه الآراء، وإنما الكلام في القسم الثاني منها: وهي الآراء التي هي كالأغصان الرطبة، إذا توفرت لها شروط التربية والمحافظة، اعتدلت وأينعت، وأورقت، وأثمرت، وهذا النمو هو الطابع الغالبي علي الآراء، ويتربي هذا النحو من الرأي في ظلال ملاحظة الآراء المختلفة، والأفكار المتضاربة، فكما أن من يري الألوان الكثيرة اختار أجودها، ولو لم يرقه أحدها، ابتكر مزيجاً منها، يكون أبهج وأنضر من الألوان البسيطة، كذلك من يطالع الأفكار المختلفة، لابد وأن يختار إما الأشد منها، وإما أن يخترع رأياً غيرها يستمد من خلط بعضها ببعض، وأخذ جذور مختلفة تنتج ثمرة شهية.

وكلما كان مطالعات فرد في الآراء أكثر، يكون نظره أحسن، وثمره أنضج، إن المهندس الذي يصرف عمراً في ملاحظة دور وقصور، وشوارع ونواطح، لابد وأن تكون هندسته أجمل، وبناه آنق، والطبيب الذي يباشر مرضي، ويعالج أمراضاً، يكون بلا شك ذا حذق وخبرة لا يوجدان في من لم يعمل عمله ولم يراجعه الناس بقدر ما راجعوه، والحاكم الذي تكثر عنده

الدعاوي، وتتوفر لديه الشكايات، يكون علمه بالقضاء، وتمكنه من تمييز الحق عن الباطل، أكثر من غيره.

وعلي هذا فمن المفضل لكل فرد أن يكثر من مراجعة آراء كبار المفكرين، كل بحسبه، فان كان دينياً نظر في الأديان والملل، وإن كان سياسياً طالع أعمال السياسيين، ونظر في كتب السلاطين وتواريخ الأمراء والملوك، والوزراء والساسة، وإن كان مخترعاً لاحظ الاختراعات، وعمل في ضوء أعمالهم، وإن كان كاتباً، أكثر من مطالعة مقالات الكتّاب، واستحصل لب ما ارتئوه في منهج الكتابة والبيان، وبهذا يكون كمن غرس فسيلا، وسقاه الماء، ووفر فيه شرائط الصلاح والنتاج، ثم بعد ذلك فوض أمره إلي الله، فإما أن يوفق لما يرومه من الصالح، ولا خير أفضل منه، وإما تحول المقادير دونه، فلا يكون أمام ضميره ملوماً.

نعم الرأي قائداً إذا صلح، وبئس القائد الرأي إذا فسد، فهو كالماء إن استعملته بقدر انتفعت به، وإن أفرطت فيه ضرك ولا تلام إلا من قبل نفسك.

الدين والمدنيّة

أمران تاريخيان يتسابقان، فقد يكون لهذا الفوز، وقد يكون لذاك، هما: الدين والمدنية، فقد يتقدم هذه في حقول الحياة فتضيق العضلات في إطار من الأعباء والقيود، وقد يتقدم ذاك فيكسر الغل ويخرج إلي رحب الفضاء الوسيع، لكن هذا القول لدي التحليل ناشئ عن عدم دراسة الأمرين دراسة كافية عميقة، وإلا فالدين الصحيح والعلم الغائر لا يتناطحان، بل بالرغم من مزاعم بعض أنصار الأمرين المتطرفين يتلازمان ويتعانقان؟ لكن أغلب الظن أن معظم النزاع الواقع بين منتحلي الأمرين إنما كان بين أصحاب القداسة البابوية، وأصحاب الفضيلة العلمية الاختراعية، حيث إن الأولين يرون الدنيا بما فيها من فضاء واسع، ومواد غزيرة وقف لمعلوماتهم الضئيلة، ولذا أقاموا الدنيا وأقعدوها علي رجال العلم الأولين الذين أرادوا التخطي من

أغلالهم نحو الحقيقة الملموسة، ولذلك شاهد وألف شاهد، والآخرون يرتئون أن الحقيقة لا تتقيد بقيد الكتاب المقدس ولا الباب الأعظم، مهما قدر الثّاني علي الأخذ بأطراف السيادة.

وهذا بخلاف دين الإسلام ذي الصدر الرحب، والفؤاد الفائض حرارة وتحفيزاً، فإنه يدعو إلي العلم جهده، حتي أنه لا يقبل من معتنقيه أن يأخذوه تقليداً أعمي، بين ما نري أن الباب أصدر ورقة الحرمان لمن أراد ترجمة الكتاب المقدس في بدء الأمر، فكيف بالعلم، وهكذا يرد العلم الأشعة إلي الإسلام مكافئة بالمثل فيؤيد مباديه.

ولذا نري، بينما خلع نير الدين المسيحي كثير من معتنقيه عن رقابهم، أخذوا يعتنقون الإسلام، ويطرون مناهجه بقرآنه وسنته، بالرغم من كثرة ما وصمه تجار الأديان من النصاري وغيرهم بنبي الإسلام ودساتيره، ولا يتبادر إلي ذهن قارئ إني أريد الحوم حول كرامة السيد المسيح عليه السلام كما لا أريد الانتقاص من قدر الكتاب المقدس المنزل من السماء: بتوراته وإنجيله، فان الذي دعمه البرهان إن هذا الكتاب لا يطابق ذلك الكتاب، فقد عرض عليه عارض التطور لأسباب شتي، بل غاية المرمي أن العلم لا يستوحش من عدم مسايرة الدين النصراني معه بعد ما أدرك أنه لا يخلو عن أصابع لاعبة .

العلم والدين الصحيح كفيلان باسعاد المجتمع، أحدهما من الناحية الروحية، والآخر من الناحية المادية، والجامعة لا تطير إلا بهذين الجناحين، فلو قال الدين: أعتقد بإله قوي خلق وقدر، وبرسول كان علي خُلُق عظيم، وبخلفاء دعوا إلي الفضيلة والصلاح، وبيوم يحاسب الخلائق علي أعمالهم، ليس موقف العلم منه إلا موقف المستقبل الجذلان، ولو قال العلم: يلزم النظر والبحث والتعاون والتقدم وما إلي ذلك، رحب به الدين كل ترحيب، ورأي ضالته المنشودة، وهكذا يتخطي الدين والعلم سواءً بسواء.

هناك نقاط

وضعت علي ألواح الدين أو العلم، أخذها أصحاب كل من المتزمتين الذين لا يحبون إلا الدين المنحوت، أو العلم الموهوم! من أشد الأسلحة لإيقاع المحاربة التي لا هوادة لها بين الدين والعلم، فيعدد أصحاب العلم الموهوم علي الدين: قانون الرق، وحكم الحجاب، وشريعة التماثيل، وحلق اللحية، وما إليها مما لا يجاوز الأصابع.. من سيئات الدين، كما يأخذ المتزمتون من أصحاب الدين علي العلم: القول بكروية الأرض، وبخارية المطر، ودوران الأرض حول نفسها، وما انتحي هذا المنحي، لكن هذا سلاح يحتاج إلي ظلام، كي لا يفضح المتسلحون به، إذا طرد موكب النهار الليل البهيم.

إن الرق بحدوده المجعولة في الشريعة وأقصد بها الإسلام لا يكون إلا لقمة سائغة للعلم، فمن لاحظ منبع الرق، وحالاته التي يضطر الدين إلي أخذه الذي هي كحالات أخذ الدول الاسراء من الدول الآخرين ثم قاسي بين أسير الدين وأسير الدول في الأحكام المقررة، ثم نظر إلي مدي احترام الأرقاء ومدة رقهم وأسباب عتقهم، وجد السلاح المزعوم من أفضل أسباب الرفاه للسادة والعبيد، ومن المعلوم أن القصد هنا ما تقوله الشريعة، وعمل به النبي صلي الله عليه و اله وتابعوه بإحسان، لا ما نجم عن أفعال زمرة من متقمصي الخلافة والإمارة غير الشرعيين.

والحجاب ليس إلا صيانة عن العهر والفحشاء، وحفظاً للأنساب ووقاية عن الأمراض، ثم توزيع النساء علي الرجال توزيعاً عادلاً، لا يظلم أحد الطرفين، ومن لاحظ سجلات الشقاق والطلاق، والعزوبة والنكاح، وقارن بين الأمة المتحجبة، وأمة سافرة لرأي مدي صدق ما ذكرناه، ثم ان الحجاب بحدوده الشرعية لا ما يضيف إليه المتزمت، ولا ما ينقص عنه الخليع عند التعمق ينبغي أن يتسلح به العلم والدين معاً، لا أن يأخذه العلم علي الدين.

والتماثيل

وحلق اللحية ليسا بهذه المثابة من المدنية، كما لا يؤيدهما العلم تمام التأييد، بل الأمر بالعكس فانه إنما يتلقي تأييداً من رجال الترف، وإلا فالعلم أدرك مضاره، أضف إلي ذلك كله: إن رجال العلم يختلفون فمن موافق لنظرية الدين ومخالف لها، ومسائل الخلاف لا تصلح أن تكون سلاحاً علي الآخرين، ولو ماشي أحد مع هذا العلم المزيف وفرضه حقاً لا مرية فيه، فالدين في مندوحة إذ الاختلاف في مسألة أو مسائل مع الصداقة التامة في غالب الموضوعات الساحقة، لا يوجب اختلافاً جوهرياً.

وأما ما يأخذه الدين المزعوم علي العلم فليس إلا وليد التخرص غالباً فقد أثبت غير واحد من علماء الإسلام المعاصرين ان الدين يؤيد العلم في مكتشفاته المبنية علي التحقيق والدقة.

ونحن في هذه الكلمة الموجزة لا نريد إقامة البرهان علي التوافق التام، فان ذلك يحتاج إلي مجلد ضخم أو مجلدات، بل المرمي إثبات أن العلم إنما ينتفع في عالم الماديات فحسب، والدين الشيء الوحيد الذي يحافظ علي الفضيلة الروحية، فلا غني عن العلم من الدين، ولا غني من الدين عن العلم وإن هذا المهوي الذي حدث بين الموضوعين من منسوجات الجهل، فلا الدين يهزأ بالعلم، ولا العلم ينفر من الدين.

إذن علي الحكومات التي تحب الفضيلة أن تقرر منهج الدين في مناهج العلم، كي يطير البشر بجناح العلم والفضيلة، والمدنية والدين، في وقت واحد.

وأخيراً: الدين يدعو إلي العلم.. والعلم يدعو إلي الدين.. وليس علم يناقض الدين إلا جهلاً ولا دين يناقض العلم إلا خيالاً.

الحرب

أسفي علي الإنسان، ما أقل بصيرته، وأضيق قلبه، وأوسع حرصه، وأمال عقله!!

أسفي علي مواهبه العظيمة، كيف يصرفها؟! وعلي ثقافته الجمة، كيف يحرقها؟! وعلي علومه الكثار، أني يدفنها؟! وعلي مخترعاته الموفورة، أين يقبرها؟!

أسفي

عليه: عالماً جاهلاً، وبصيراً أعشي، وغنياً فقيراً، وقديراً عاجزاً!!

ما أقسي قلب الإنسان وأرحمه، وأوسعه وأضيقه، وأرفعه وأوضعه، لاأعجب من هذه الكتلة المؤلفة من لحم ودم وعظم، يحلق حيناً في الفضاء حتي تخال أنه يناطح الكوكب الزاهر أو سديماً آخراً، ثم بعد حين يراه الراؤون وقد أسف اسفاف الطائر المهيض حتي لا يكاد يتحرك فكيف بالطيران، لم يزل العلم يرقي رقياً مدهشاً، حتي خاط الأرض بالسماء والتراب بالماء، وأخذ يركب متن الهواء، كما يركب مناكب الغبراء، نفذ في باطن الذرة ومرق عن مجرة قطرها مليون سنة ضوئية، لكن المؤسف أن علمه انقلب وبالاً عليه، فأخذ يساير موكب الدمار موكب الحضارة، بل ذهب أمامه خطوات واسعات، فان بني المستشفيات، وكشف جراثيم عصت علي العين منذ زمن سحيق، وعالج القلب بما يكاد يلحق بالمعجز… صنع القنبلة الطائرة، والقنبلة الصاروخية التي وزنها كما قال تشرشل مائة طن، وبينا أراد علاج مصدوع، دمر مدناً وأناساً، وبينما اكتشف الكهرباء لراحة يوم أو بعض يوم، ألقي المجروحين والمصابين في فرن من العذاب الأليم.. يرتق فتراً، ثم يفتق شبراً!، عالم بالذرة، جاهل بمساقط نفعها وضرها، والآلة يستعملها في الضر أكثر من استعمالها في النفع، بصير بمنافع النفط والفحم والغاز، أعشي بموارد استعمالها، فيستعملها بدل جلب الراحة والهناء، للدمار والفناء، غني بالعلم الذي لم يزل يشير إليه بالتقدم، فقير إلي ذكانة ترشده إلي مواقع الحتف، والآلم انه يسقط في تلك سقوط الأعمي في البئر، قدير عجيب في كشف اللثام عن الأشعة السينية، والرادار، والبرتون، عاجز عن أن يحفظ أعصابه تجاه تيار من الغضب، أو الحسد والأنانية، أو حب الظهور والسلطة.

ولو فرض الإغماض عن كل سيئة من سيئات الإنسان علي كثرتها وتشعب طرقها، لم يكن

للإغماض عن حروبه مجال، الحرب كلمة قصيرة جداً لكنها حملت أضخم المعاني وأقساها، كأن أشعة الرحمة لم تعرف لفؤاد هذه اللفظة أي مسرب، وهذه اللغة بالرغم من قسوتها وجدت في قاموس الدول أرحب مسرح، كأنها لفظة الجنة التي وعد المتقون، فتري أن كبار الدول وصغارها في صف واحد تجاه إثارة مادة هذه الصورة المشوهة، ثم إفراغها في قالب الوجود بمجرد منافسة، أو تجارة، أو كلمة تغضب هذه أو لا تروق تلك.

طالت الحرب بين فرنسا وبريطانية مائة سنة، واستغرقت الحرب الكونية الأولي خمس سنوات، وطوت الحرب الكونية الثانية سبع سنين وكل يعم خرابها، ويشمل ضرها، ويهلك البلاد والعباد، ويدمر كل رطب ويابس، وبعد ما نفضت الأرض تراب الحرب الكونية الثانية، تتخذ كل دولة أهبتها لحرب أخري، فبدلاً عن أن تصنع المعامل مواد الغذاء واللباس، والمسكن، تري أفرانها مستعمرة لصنع الدبابات والقنابل والمدافع!!

عجيب أمر الإنسان جداً، ألسنا كلنا عائلة واحدة، والأرض دار واحدة، والمعادن والنباتات والحيوانات، ومتن الهواء وظهر الماء كلها في خدمة هذه العائلة بدون بخل أو تقتير؟ ألسنا لو عرفنا كيفية الانتاج من هذه الثروات وكيفية التوزيع بين الأفراد بالعدالة والإخاء، وكيفية الزواج والاستيلاد، لأصبح كل دولة معمورة بالمال والولد، ولدي الله المزيد؟!

إن العلماء قدروا طاقة هذا البشر بما تكفي لجعل غذاء هذا الألفين مليون وخمسمائة مليون من الإنسان الذين يعيشون فعلاً في هذا الكوكب الأرضي() بطرق التحسين قدراً يكفي لخمسة عشر ألف مليون.

كما قدروا إمكان تصيير هذه الكمية من الأفراد إلي ستة آلاف مليون، كل ذلك في مدة قصيرة كما يقوله (آفاق لا تحد) .

أليس بعد هذا وذاك يكون من الحمق والسفاهة تبديل هذه الطاقة الخيرة، بطاقة شريرة تجعل الألفين والخمسمائة ألفاً أو نحوه؟!

وبهذه النسبة أو برقم أكبر اهباط مرافه العيش؟!

ما أغربك يا إنسان! تتعجب من وحش يفترس فريسته لشبع بطنه، وتنسب إلي القساوة من لا يمد يده إلي فقير أوقعه بؤسه، ثم تصنع قنبلة زنتها مائة طن، تدمر كل شيء، وتفتك بكل أحد، وفيهم المجرم والبريء، والطفل الصغير والشيخ الكبير، والعالم العبقري، والمخترع المقتدر، ولو جمعنا جميع من افترسه الحيوان من أول عمر الأرض إلي هذا الحال لما بلغ عشر معشار ما دمرته حرب، وأهلكته أنانية شرذمة ابتغاء السلطة الموهومة.

الحرب بإطار أدبي في سبيل الفضيلة مما لابد منها، لكن هذه الحروب القاسية نسبتها إلي الوحش ظلم للوحش حقاً! أيها الإنسان العاتي كل شيء من أرض وسماء وبحر وماء يمد إليك يد الضراعة ويسألك الكف عن الحرب، الذي أنت نفسك بدورك لا تري لها مبرراً عقلياً.

يقول الروض: ارحم أشجاري وأطياري، وأزهاري وأنواري، وجداولي وأنهاري، وعشبي وظلي، ومنظري ومخبري..

ويقول البحر: ارحم نباتي وأسماكي، ومعادني وأصدافي، ودري ومرجاني..

وتقول الأرض: ارحم مدني الجميلة، ومناكبي المعبدة، ومناخي اللطيف، وانسي بمن يعمرني..

ويقول الحيوان: ارحم سابق عهدي، وما استثمرته مني: شائي وبقري، غزالي ويحموري، قطي وكلبي، صادحي وباغمي..

ويقول الإنسان: ارحم قوامي اللطيف، وهندامي الظريف، وعلمي وفهمي، ومخترعي ومكتشفي، وولدي الرضيع، وشيخي الصريع، وتذكر ما أسديته إليك من الرفاه، وما طردته عنك من الأتعاب، أمن النصف أن يقابل الإنسان كل هذه الضراعات بقساوة وأنانية؟

إن الشريعة السماوية: من مجوسية ويهودية ونصرانية وإسلام، والشريعة القانونية، والشريعة الإنسانية كلها تأبي هذه الحروب الوحشية، وكلها تنادي نداءاً واحداً ضد الدمار والهلاك في سبيل المزعوم، كلها تقول: أيها الإنسان ارحم بنفسك التي بين جنبيك أن تزهقها، وبحواسك التي تستعين بها في حوائجك أن تذهب بها، وبمنظرك البهيج أن تشوهه، وبسمعتك

وتاريخ حياتك أن لا تسمها بسمة العار والشنار، والهمجية والوحشية، وبمدنك الأنيقة أن تدمرها، وبمصانعك الضخمة أن تجعلها خراباً، وبرياضك النضرة أن تجعلها يبابا، وبالجملة إن كنت إنساناً في ضميرك كما أنت إنسان في صورتك فلا تفضل برد العدم، ورهبة الموت علي دفء الوجود، والفة الحياة.

ولكن هل تسمع هذه الضراعات روسيا وأمريكا.. وفرنسا وإنكلترا.. وألمانيا وإيطاليا.. وغيرها وغيرها؟!

رضا الناس

رضا الناس لا يملك، ومن السفاهة أن يتطلب الشخص مرضاتهم، إن الناس خلقوا وكل يباين الآخر في الطريقة، ويضاده في الفكرة، فهذا يحسن شيئاً، بينما الآخر يقبحه، ورجل يفضل أمراً، حين ان الثاني يفضل عليه غيره، فيكون مرتاد رضاهم كالكرة التي يطرحها هذا لذاك، فإذا لقفها الآخر لا تلبث في يده، حتي يرميها نحو الآخر، وهكذا دواليك.. وبهذا قد خسر رضا الناس ورضا نفسه دفعة واحدة، ومهما عمل الإنسان من خير وشر، وحسنة وسيئة، فإن بعض الناس يناله بلسانه، ويزدري عليه عمله، وقديماً قيل: لا يسلم أحد من ألسنة الناس:

فان اقتصد في المال، قيل: بخيل، وان جاد، قيل: مسرف، وان أقدم علي المخاوف، قيل: متهور، وان أحجم عنها، قيل: جبان، وان تواضع، قيل: مبتذل، وان ترفع، قيل: متكبر، وان قلل من الكلام قيل: به عي، وان أكثر، قيل: به ثرثرة، وان غني، قيل: يشمخ بأنفه، وان افتقر، قيل: يبحث عن حتفه بظلفه، وان رام معالي الأمور، قيل: يحب الظهور، وان لم يرمها، قيل: دنيء الهمة، وان ظرف، قيل: مهذار، وان سكت، قيل: متجهم، وان قام بالاصلاح، قيل: فيه جنون العظمة، وان لم يقم، قيل: لا يقوم بالتكليف، وان تعلم، قيل: مرائي، وان جهل قيل: كسول، حتي انه إذا نزل عليه الذكر الحكيم، قيل: لولا انزل هذا القرآن

علي رجل من القريتين عظيم؟!

وقد ضرب لقمان لابنه مثلاً رائعاً فيما يحكي وكان حينذاك سائراً مع ولده يسوق حماره إلي مزرعته، فقال لابنه: أي بني، ان الشخص لا يسلم من لسان الناس، فقال له الولد: وكيف ذاك يا أبه؟ قال لقمان: الآن آتيك بتجربة:

ثم ركب هو حماره وأمر ولده بأن يردفه، فما سارا شيئاً، حتي قال الناس: ما أقسي هذا الشيخ، انه يركب هو وولده حماراً ضعيفاً، لا طاقة له بهما.

فبقي لقمان راكباً، وأنزل ولده من علي الحمار، وما أن سارا هذا راكباً، وذاك راجلاً حتي مرا بملأ، ولما نظروا إليهما، قالوا: ما أظلم هذا الشيخ، إنه يركب الحمار، وولده يسير راجلاً مع أن الولد أحق بالركوب، لأنه فلذة كبده، وإنه لا يقوي ما يتحمل الكبير!

فعكس لقمان الأمر: فنزل هو، وأركب ولده، فما سارا شيئاً، حتي مرا بقوم، فقالوا: ما أحمق هذا الشيخ، لا يؤدب ولده صغيراً، حتي ينتفع به كبيراً، انه يجرئه علي الركوب، ويبقي هذا الشيخ الضعيف الوالد، راجلاً!

فأنزل لقمان ولده عن الحمار، وسارا كلاهما راجلاً، والحمار قدامهما، فما أن مرا بجماعة حتي قالوا: ما أسفه هذا الشيخ، إن الحمار خلق للركوب، فيمشي هو، ويتعب ولده، ويجعل الحمار لا راكب.

حقاً أصاب لقمان في تصوير المطلب، والناس في جميع الأزمنة والأمكنة يشابه بعضهم بعضا، والغر الغافل يصيخ إلي مقالهم، والنبيه العاقل من يختار الطريقة المثلي، والصراط المستقيم، فيسير عليه، لا يلوي علي شيء مما يقال فيه، ولقد جربت هذا الأمر بنفسي، فقد كنت أعمل عملاً أراه صواباً، فيأتيني جمع يباركون صفقتي، ويطرون فكرتي، ويمدحوني مخلصاً، ويشكرون لي صنيعي، وهناك أقوام آخرون يؤتي إلي بكلامهم، أو يأتي إلي بعضهم في لسان ناصح، وهم فيما أعلم

بين مخلص يعتقد ما يقول، ومغرض حركه غرضه، فيذمون عملي، وينصحوني بتركه.

وقد يزعم بعض الناس: أن كل من يخالف رأيهم، ويباين مسلكهم فهو مغرض خبيث، لكن الأمر ليس علي ما زعموا، فانه وان كان في الناس أعداء حاسدون، إلا أن جميعهم ليسوا كذلك، وإنما الاختلاف، باختلاف المدارك، فكما أن أحدهم يختار المدينة، والآخر الريف، وبعضهم يهش للربيع، وبعض للخريف، كذلك يصطفي أحدهم فعلاً، والآخر ضده، ويجتبي شخص عملا، والآخر نده، وعلي الإنسان أن يسلك ما يراه صواباً، وإن رآه غيره خطأ وعذاباً، ولو ترك صوابه إلي خطأ يرتضيه غيره، فقد الصواب والرضا في وقت واحد.

سوء الأخلاق

من الناس من يستخفه الغضب، ويستنهضه النصب، ويخرجه الكد عن حاله، والجوع والعطش عن عادته، فتراه في الأغلب عابس الوجه كاشراً، وكاسف اللون باسراً، فيتهجم في وجه زوجه، وينهر ولده، ويجبه صديقه، ويهر في وجه وديده، فيكون كما قال الشاعر:

فأقبل مغتاظاً كأني واتر

له ذو كلاح باسر الوجه قاطبه

فان أصابته سيئة عبس وبسر، وإن ألم به مرض كلح واكفهر، وإن نيل منه سب وشتم، وإن سأل منه سائل زبره، وإن طلب طالب منه شيئاً نهره، وإن جاع لم يكلم، وإن غضب لم يفهم، يصيح صياح المجانين، ويلغم لغم البعير إذا هاج، فصديقه منه في تعب، وأهله منه في نصب، ولو اقتعد مقعداً رفيعاً، أو صار رئيساً مطاعاً فالعياذ بالله منه يلقي مراجعيه ببسارة، ويطرد مرؤوسيه بتجبه، ولو فر منه فار إلي بعض المجاهل، لم يكن ملوماً.

وبالعكس من هذا الحليم الرزين، والحصيف المتين، والبشوش الضحوك، فأهله يلقون منه بشراً، وأصدقاؤه ظرافة، يتهلل للسؤال، ويهتز فرحاً بالنزال، ويري الرائي فيه دماثة وبشاشة، والطالب إشراقاً وهشاشة، فنفسه منه في راحة، والناس في كنفه كأنهم

في واحة، يكثر صديقه، ويقل عدوه، ويتسع جانبه، ويضأل مجانبه.

ولو سبرنا أغوار الناس لوجدناهم أحد اثنين: إما أن يكون سيء الأخلاق طبعاً، وهم قليلون وعليهم أن يفكروا في ما يجلب عليهم أخلاقهم هذا، من الويلات، وجشوبة الحياة، ثم يلتزموا البشاشة والتهلل في كل حركة وسكون، وقومة وقعدة، وجيئة وذهاب، حتي يكون التخلق خلقاً، والتطبع طبعاً، والفضيلة ملكة، فان النفس كالصفحة، إذا نقشت فيها عكوس وتصاوير، صعب زوالها، لكنها لو عولجت بأدوية ومحلولات، ازيلت، وأمكن أن ينقش فيها نقش آخر، ويلون بلون غير الأول، وربما كان سوء الخلق من جراء مرض، أو ضعف عصب، فاللازم أن يعالجه معالجة المرضي، ويراجع الأطباء.

وإما أن يكون انتحل سوء الخلق انتحالا، وادعاه ادعاءاً، فهو يقطب وجهه، مع أن نفسه بخلاف ذلك، ويسب عرسه، مع أن ضميره يخالفه، ويضرب وخلده لا يرضي، ويرفس وفؤاده ينهي، فليعلم أنه لو كان صاحب مقام وجاه، ومنصب ومرتبة، فسوء الخلق لا يرفعه بل يضعه، ولا يسميه بل يخفضه، ولا يزيده عزاً وشرفاً، ولا رتبة وجاها، وكثيراً ما يوجب سوء خلقه إنزاله عن منصته، وتزحزحه عن كرسيه، فانه لا يفتأ مقطبا حتي يمله مراجعوه، فيسعون في قلعه، كي يجلس مجلسه غيره، ممن يهش ويبش، ويتهلل ويشرق، ويطيب الكلام، ويكثر الاحترام.. وإن كان من أوساط الناس، فليعلم أنه لابد له من العيش بين بني نوعه: من زوج وولد، وصديق وعشير، وحبيب وخليل، وبائع ومشتر، وكلما رأي هؤلاء منه كلاحاً وبسراً، تفرقوا عنه وانفضوا من حوله، فلايبيع منه بائع، ولا يشتري منه مشتر، ويمله خليله، ويبرم منه وديده، ويستثقله أهله وولده، حتي يصبح فريداً يفر منه حتي ظله، كيوم ولدته أمه، ولو أطاب المقول، واختار الخلق الأمثل، أحبه

الناس، قريبهم وبعيدهم، كبيرهم وصغيرهم، فيتألق نجمه، ويكثر أوداؤه، ويستريح باله، ويقتبل أحواله.. وإن كان من أداني الطبقات، فلا يجمع إلي سفل المحتد، وجهالة الأصل، وخمول الذكر، وسوء الأخلاق، وبذاءة اللسان وقبح الغضب، وسيئ الأدب.

وكما أن رقي الفرد وانحطاطه، بحسن الخلق وضده، كذلك رقي الأمة وانحطاطها بهما، فكل أمه تحسن أخلاقها، وتطيب أعراقها، تكون راقية، تفتخر بها الأمم، ويزدهر بها التاريخ، يقول شوقي():

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

وإن هم ذهبت أخلاقهم، ذهبوا

وكل أمة، تسيء أخلاقها، فهي أمة منحطة، لا يذكرون إلا بسب، ولايذكرهم التاريخ إلا بحقارة.

الأنانيّة

ليس الرجل الأناني إلا قاصر العقل، ضعيف المدارك، كثير الهواجس، قليل المنة، بعيداً عن الإنسانية، وضيعاً عند الناس، صغيراً في الأعين، ضئيل النفس، فلا يغتر الرجل بعلمه، إلا إذا كان وطيف العلم، خفيف الحجي، إذ العلم بحر واسع، لا يدرك غوره، ولا يسبر قعره، ولا يحاط بجانبيه، ولا يعلم طوله وعرضه، ومهما أوتي الشخص من العلم الغزير، والمعرفة الجمة، فانه بالقياس إلي جميع العلوم، أقل من نسبة القطرة إلي البحر، فيكون مثل المغرور بعلمه كمثل من اغترف من الاقيانوس غرفة، ثم شمخ بما عنده من الماء، والمغتر بمعلومه، إما لا يعلم بحدود العلم، وإما لا يدرك ضآلة معلومه، وكلا الأمرين جهل…

ولا يغتر بماله، إلا من كان ضعيف المشاعر، زهيد العقل، إذ مقدار الشخص لا يرتفع بالمال، وإنما رفعة المرء بحسبه وأدبه، لا بفضته وذهبه، وإنما يحترم المال الأغبياء الذين لهم في المثرين مأرب، ويدل علي ذلك، أن التاريخ يحفظ العظماء: من الملوك والعلماء ونحوهم، ويأنف من أن يخص صفحة من صفحاته بالأغنياء.

ولا يعتز بجماله، إلا الني غير المحجوب لتقلب الدهور، واختلاف الأحوال، فان الجميل مهما أوتي من الاعتدال القوام، وإناقة

الهندام، لا يلبث حتي يتقوض سلطان جماله، ويذهب رونقه وبهجته، إدراج العمر وربما أنقلب الجميل بشع المنظر، قبيح الصورة، كريه الوجه.

لا يبالي ببلاغته، إلا من يؤت حظاً من النهية، ولم يرزق قسطاً من اللب، أما يري ما أكثر من فصيح بليغ، وخطيب مفوه، وشاعر مجيد، لا يعرف له قدر في المجتمع، وليس له حظ من الحياة، بينما من لا يعرف أن يتكلم عياً وحصرا، قد استوزر أو أومر، أو أشير إليه بالبنان وذكر، وهو لا يجد حتي قوت يومه، ولايحترمه حتي زوجه وقومه؟..

ولا يغتر بجاهه ومنصبه، من كان له أقل إلمام بالتاريخ، أو بعض الحجي، فان الجاه يزول بأسرع من لمح البصر وارتداد الطرف، وقد ترينا العبر أناساً كانوا سادة، فأصبحوا مسوداً، أو أضحوا أمراء، فأمسوا عبيداً، ولقد نظرنا بأم أعيننا إلي ملك، كان يطاع دون الله ويعبد، ويركع له ويسجد، فلما حان حينه، وأتي وقته، أجبر بالنزول عن عرشه واستبدال ولده به، وبعد عن وطنه إلي جزيرة نازحة عن العمران، رهين نصب ومرض وفقر وحرمان.! وإلي ملك كان الناس يظهرون له الطاعة والإخلاص، والود والمحبة، يستقبلونه إذا جاء استقبال العبد لسيده، ويهتفون باسمه هتاف الوالدة بوحيدها، فلما أن جاء دوره، وهاج ثوره، هجموا عليه في عقر داره، وقتلوه شر قتلة!. وإلي ملك أودي به أصحابه، وتبرأ منه أخلاؤه وأحبابه، وهو في غدة بينهم مطاع، يأمر فيطاع.

ولا يغتر بالخلان والجيران، والأقرباء والأقوام، والأهل والولد، والعطاء والصفد، إلا من كان قليل المدارك، فلربما تغير الأخلاء أعداءاً، والأقرباء حساداً، والعطاء وبالاً، والعيش مع الأهل محالاً …

أما الصحة فهي ?كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً?()، ويتلألأ عند باصرته الهواء دأماءاً، فلا تذهب الأيام حتي تنقلب مرضاً مضنياً، وسقماً مردياً.

ولو

أراد أحد أن يغتر، فليغتر بالفضيلة والأخلاق، والكمال والآداب، والملكات الحسنة، والخصال المستحسنة، وليباهي بالعلم والعمل، والسخاء والعفو، والإخلاص والصدق، والوفاء والحياء، والأمانة وحسن البشر… أما عدم احترام الناس لأنه حاكم، أو عدم الاعتناء بهم لأنه عالم، أو الافتخار بالنسب لأنه ذو محتد أصيل، أو المباهات باللسان لأنه فصيح بليغ، فليس إلا من أعمال النوكي، وأطوار الحمقي، وأفكار المجانين وأحلام المساجين.

إن من لا يقدر علي الخير، لابد وأن يتعزي بالشر، ومن لا يعرف الفضيلة، لابد وأن يعتز بالرذيلة، ومن لا يكاثر بالحسنات، لابد وأن يباهي بالسيئات، وكذلك حال الأنانيين المغرورين، والبلهاء المحدودين، وقد قدرت المقادير أن تعكس طلبة المغتر، فلا يكون في عين الناس إلا حقيراً، وفي أنفسهم إلا سخيفاً، وفي المجالس إلا مهاناً، وعن الناس إلا مباناً، يتبرم به الصديق، ويستثقله الرفيق، ويتجانبه القريب، ويتباعد عنه الغريب.

ولو افتكر الأناني في نفسه، وما كان بالأمس وما يكون غداً، وما تجلب عليه الأنانية من الويلات والشرور، لأقلع عن غلوائه، وأقصر عن كبريائه، فقد كان نطفة تستقذرها الطباع، وسيكون جيفة تتنفر منها حتي السباع.

وهو علي كبره ونخوته

في جنبيه يحمل العذرة ()

وهو بنخوته وكبريائه، يجلب إلي نفسه الآلام والهموم، والأحزان والغموم لأنه ينتظر من كل أحد تقديره، ويترقب من كل بشر احترامه، والناس يأبون لمثله إلا إذلالا، ويفرون منه فراسخ وأميالا، فيكثر أعداؤه، ويقل أوداؤه، ويصبح بلا صديق حبيب، ولا نجي قريب، وربما آل الأمر بمثل هؤلاء، أن ينعزلوا الناس انعزال وحش القفار، أو يعيشوا عيش ذل وصغار.

وبالعكس من هؤلاء الاريحي الذي يضع نفسه موضعها، ويعرف لشخصيته مقدارها، بل ينزل نزول الطائر عن مقامه، فلا يري لنفسه فضلاً علي سواه، ولا يتكبر علي غيره بما وعاه، فيري ما

علم ضئيلا، وما أعطي قليلا، وجاهه طفيفاً، وعزه وطيفاً، وبهذا يكرم الأنام، ويقوم لكل أحد بواجب الاحترام، فيكبر بذلك في عين الناس، ويتعاظم قدره، ويعتلي جده، فهو كالدر الذي يغوص في الماء، لثقله وحصافته، بينما الهباءة تعوم في الهواء، لخفتها وعدم متانتها.

ولذا نري أنه كلما كان الشخص أعظم قدراً، وأعلي شأناً، تكون أنانيته أقل، وتواضعه أكثر، وبهذا يكون عند الناس أرفع، وفي الأبصار أشرف، وهو في راحة واطمينان، وواحة وجنان، بل إن الأنانية تنزل صاحبها دوماً في مهالك مردية، وصحاري مقفرة، فتطيح به الطوائح، وتلفحه اللوافح.

تزكية الذات

جبل الإنسان علي حب النفس، وإرادة ترفيعها بأي نحو كان، أكان في الحقيقة رفيعة أم لا؟

ويختلف أقسام الترفيع، فمنهم من يرفع نفسه بالعلوم والصنائع، والجد والعمل، والاكتشاف والاختراع، ومنهم من يرفعها باكتساب الجاه والكبرياء، والمقام المرموق، والمرتبة العالية، ومنهم من يرفعها بالمادة والثروة، فتراه يجهد ليل نهار كي يحصل علي كمية وافرة من الدراهم البيض والدنانير الحمر، والقصور والحدائق، والمتاجر والمنازه، وقل من يجتهد في سبيل هذه الأمور لذاتها، أو لنفع مجتمعه خالصاً، دون أن يريد الرفعة والسمو، والاعتلاء والسموق، ونفس هذا القصد والعمل من أجله مكروه لدي النفوس الرفيعة، والأحلام الحصيفة، ولذا نري أنه لا يلبث الناس يمدحون المخلص، ويذمون من يريد العلو، فيقولون: فلان يعمل لأن يسود، أو ليجلب كرسي النيابة في برلمان، أو يقتعد مقعد الوزير، أو يجلس محل الأمير، أو يعتلي علي الأقران، أو يشار إليه بالبنان.

وهناك أمرا آخر أسوأ من ذاك، وهو تزكية الذات، والتشدق بمحامد النفس، والتكلم في الحسنات الشخصية، سواء أكان فيما يقول صادقاً أم كاذباً، فانه يذهب بالمحمدة، ويضؤل المعروف، ويقلل من العمل إن كان عاملاً، فتري أن من أحسن إليك

باحسان مهما عظم، لو نطق بذلك في منتدي، أو افتخر به في مجلس، ينقص كرمه، حتي تراه النزر الرتح، والطفيف النكد، ومن اخترع آلة ينتفع بها، لو مدح نفسه وذكاءه، وفهمه واختراعه، سقط من العيون، وهوي عن مكانته السامية في القلوب، فلا يري عمله إلا بكيا، ومكتشفه إلا حقيرا.

وربما انعكس الأمر، فيعوض الناس مدحه بالذم، وخيره بالشر، وعظيمه بالقليل، وكثيره بالزهيد، وبذلك يخسر قيمة نفسه، وقيمة عمله أو جاهه، فان الناس فطروا علي كراهة من يرفع نفسه، ويشمخ بأنفه، ولو سكت هذا عن لغوه، وألجم عن هذره، لكان في الناس من يكفيه المؤنة، ويطربه بالثناء، ويرشفه بأريج الحمد، فمن مدح نفسه سكت عنه غيره، ومن سكت مدحه الآخر.

ثم إن هناك سؤالاً عن المادح نفسه، يشكل الإجابة عليه، وهو أنه لو يمدح نفسه بخير سيق إليه، فلماذا لا يذمها لشر وقع فيه؟ وإن أطري ذاته بصدق، فلماذا لا يذمه بكذب؟ ولأن قرظه بأمانة، فلماذا لا يعيبه بخيانة؟ ولأن زكاه بطاعة، فلم لا يثلبه بعصيان؟

وربما كان تزكية النفس توجب إثارة كوامن النفوس، ممن يحسده أو لا يري له قيمة، فيتجاذب هو ومناوئوه حبل الترفيع والتخفيض، فيذكر هو محاسنه ومناقبه، وفضائله وفواضله، ومكارمه ومفاخره، ومساعيه ومآثره.. ويذكر الأنداد مثالبه ومشانيه، ومناقصه ومساويه، ومقابحه ومخازيه.

فالأفضل بالرجل: أن يسكت عن خير نفسه كما يسكت عن شرها، ويعمل ويجد، دون ذكر فضيلة أو نطق بمحمدة، فكثيراً ما يكون حمده نفسه وبالاً عليه، ويجلب تقريظه إياها، ذماً مقرعاً، لا قبل له به.

ومما توصم به الجاهلية: هو ما اعتادوه من الاجتماع وذكر المعالي والافتخار بالأحساب والأنساب، وقد أرانا التاريخ: أنه ما كان يسلم لهم ما يرومون فقد كانت القبيلة الأخري، تقدح فيهم، وتطعن

عليهم، وتقرعهم وتعيرهم، وتطيخهم بالقبائح، وربما آل الأمر إلي السباب والمهاترة، والبغضاء والمدابرة.

إن من يطري ذاته، إن قصد من ورائه الاحتقار والازدراء، فقد أحسن وأجاد، وأصاب الهدف، وإن رام العظمة والاعتلاء، فقد ضل سواء السبيل، وتاه من غير دليل، فليسكت متكلم عن تقريض ذاته وإلا فلا يرجون خيراً، وليهيئ نفسه رمية لرشق الألسن، وغرضاً لاسلات الأقلام، بل ربما كان الأمر بالضد من ذلك: فلو رأي عمله حقيراً، وجاهه ضئيلا، ارتفع في الانفس، وزيد في قدر عمله، واعتلاء مقامه، ولا يذهب علي مفكر: إن بعض الذم مدح، فكثيراً ما ينتقص الشخص من قدره، وهو يريد بذلك في الحقيقة مدحه، وهذا مما لا يخفي علي السامعين، وتكون النتيجة هي النتيجة الحاصلة من المدح، من الهوان والسقوط، والنزول والهبوط.

القرآن

ليس عند المسلمين اليوم سفر أعز وأسمي، وأعلا شأناً، وأعظم مرتبة، وأرفع قدراً، وأجل رفعة، وأمنع جانباً، وأعظم سمواً، من القرآن الحكيم.

فهم علي اختلاف فرقهم، وتباين مذاهبهم، وتضاد مشاربهم، وتخالف ألسنتهم، وتناطح آرائهم، وتشتت لغاتهم، وابتعاد ممالكهم، لا يختلفون فيه أي اختلاف، ولا ينظرون إليه إلا بالاكبار والتجلة، والاحترام والتكرمة، فالكل لديه خنوع، والجميع أمامه خضوع، وكافتهم يعترفون: بأنه الكتاب السماوي الذي لايأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وتنزيل من حكيم حميد، وانه هو ميزان الثواب والعقاب، والجنة والنار، والسعادة والشقاء، والعلم والعمل، والنجاة والهلاك، والاتحاد والاختلاف، فمن أخذ به سعد، ومن رفضه شقي، والكل يعتبرون القرآن اصل الدين وارومته، ومحتده وجرثومته، إليه يرجع، وإياه يتبع، ومنه يؤخذ، وعليه يعول، وهي العين الخرارة التي لا ينضب معينها، والشمس المنيرة، التي لا تضمحل أشعتها، لا يختلف في ذلك الشيعي والسني، والحنبلي والحنفي، والمالكي والشافعي، والأشعري والمعتزلي، والموالي والناصبي،

والعالم والجاهل، والرجل والمرأة، والكبير والصغير، والشريف والحقير، والعجم والعرب، والتركي والهندي، والحجازي والعراقي، والشامي والمصري، والأردني واللبناني، واليمني والفلسطيني، والتونسي والجزائري، والإيراني والباكستاني، والقديمي والجديدي، والشعوب والحكومات.

ويقرأه الناس في كل حفلة وندوة، واجتماع وخلوة، وفي المكبرات والمسجلات، والمدارس والاذاعات، وله في كل ذلك المكانة العليا والمرتبة المثلي، وكل هذه مما لا يختلف فيها اثنان، ولا ينازع فيها منازع، وتبذل المطابع القسط السخي من أوقاتها، والأثرياء الحظ الوافر من أموالهم لطبعه ونشره، وإجادته وإناقته، وتصحيح أغلاطه الطباعية، وتحسين ورقه وغلافه، وطروسه وسطوره، وينتفع القارئون والمقرئون، والناشرون والطابعون، والخطباء والحفّاظ، من ذلك أعظم انتفاع، ويجود المفسرون والمترجمون، لتفسيره وترجمته، أعماراً طوالا، ودهوراً عراضاً.

ومن الغريب بعد ذلك كله: ما يراه الرائي، من تظاهر أغلبهم علي عدم التمسك بما فيه من أحكام وسنن وقوانين، وشرائع وأخلاق وآداب، وعقوبات واقتصاديات وإجراءات، وحلال وحرام ومندوب، وأمر ونهي وعظة، كأنه تمثال ظريف، ينظر إليه بالإكبار والإعجاب، لا أحكام ودساتير تتبع..

ولقد صدق النبي صلي الله عليه و اله حيث قال: «لا يبقي من القرآن إلا رسمه» () فرسمه موجود، وصوته مشهود، لكن معناه ذهب مع أمس الماضي إلا عند قليل ممن عصمهم الله .

والمسلمون مختلفون في عدم الأخذ به، فمنهم من لا يؤمن بالغيب، ومنهم من لا يقيم الصلاة، ومنهم من لا يؤتي الزكاة، ومنهم من لا يحج البيت، ومنهم من لا يري العدل، ومنهم من لا يطيع الرسول صلي الله عليه و اله وأولي الأمر عليهم السلام، ومنهم من لا يؤمن بآية الخمر، ومنهم من لا يبالي بحكم الربا، ومنهم من يجعل حكم الميسر وراءه ظهرياً، ومنهم من لا يري العمل بآية حرمة التبرج، ومنهم من يستخف بآية الاعتصام بحبل الله

جميعاً، ومنهم من لا يعتني بدستور ?ومما رزقناهم ينفقون?()، ومنهم من لا يري حد الزاني الجلد والرجم، وحد السارق قطع اليد، وحد الذين يحاربون الله ورسوله أن يقتلوا… ومنهم من لا يري مقداراً لقوله تعالي: ?ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله?() بل لا يرضي بذلك، بل لسان تشريعه: سأنزل أفضل مما أنزل الله، ومنهم من لا يري مانعاً لموادة الكفار، ومنهم من لا يري مانعاً من مشاقة المسلمين ومضادتهم، ومنهم من لايعتني بآية الميراث، فليقل الله تعالي: ?للذكر مثل حظ الأنثيين?() والعياذ بالله ومنهم من لا يري ?والذين هم لفروجهم حافظون…?() ومنهم. ومنهم. ومنهم. إلي حيث تتم الآيات القرآنية.

أيها المسلمون، أتذكرون مجدكم الذي طال لكم أكثر من اثني عشر قرناً؟ فان لم تذكروه، فهذا التأريخ يذكركم.

أتدرون: لماذا كان ذلك؟

أتعلمون: إنكم اليوم لا مجد لكم ولا عز؟

أتدركون: لماذا صار هذا؟

أتحبون رجوع عزكم السابق، ومجدكم الباسق، وسيادتكم الرفيعة، وسعادتكم المنيعة؟

أتعلمون طريق ذلك؟

مما لا شك فيه انا كلا نطلب السعادة الرفيعة، لكن الناس في الطريق مختلفون، فبعض يرتئي أنه بالالتحاق بالحزب القومي، وفرقة يرون أنه بالانضمام إلي البعثي، وثلة يظنون أنه بسيادة الاشتراكية، وزمرة يخالون انه باتباع المنهج الشيوعي، وجماعة يقولون أنه بتطبيق المبادئ الديمقراطية.

أنا أقول: إنا قد جربنا منهاج القرآن الحكيم، ثم جربنا في هذه الآونة الأخيرة، التي لا تزيد علي نصف قرن قوانين الشرق والغرب، فرأينا أن الأول كفيل بالاجتماع والتحابب والتوادد، والسعادة والرفاهية والسيادة، والعز والمنعة والسمو، وقد طال أمده دليلاً علي قوة أصله، وسعة فكره، وجودة سياسته، ورصانة أسلوبه، وحصافة منبثقه، ورأينا الثانية، فرأيناه بغضاً وعناداً، وتشتتاً وتفرقاً، وعداوة وتمزقاً، وثرثرة وفوضوية.

وقد يشتبه علي القارئ، ويخلط بين الأحكام والاختراعات، أنا لا أريد نقد

الاختراع، وأي عاقل يفعل ذلك؟ بل أريد نقد الأحكام الغربية والدساتير الشرقية، وهل هناك تلازم بين الاختراع وبين الأحكام؟ كلا! وألف كلا! كلنا يعلم علم اليقين: إنا تأخرنا عن ركب الزمن، وبقي المسلمون السادة الكرام قبل نصف قرن، يستعطون هذا الكهرباء، وذاك التلفون، وتلك الطيارة، وذاك السيارة، وهذا النصف القرن، لا يشك شاك في أنه هو الوقت الذي رفض المسلمون أحكام دينهم، وقوانين شريعتهم، فصاروا إلي ما صاروا إليه من فقد الدين والدنيا في آن واحد.

ومن المدهش جداً، أن الغرب جاءوا لتثقيفنا كما يزعمون ثم رأينا: أنهم ردونا أسفل سافلين، فبينما كان هذه الستمائة مليون()، وحدة متماسكة، أصبحوا فرقاً ومدناً، وأحزاباً ولغاثاً، فتفرقوا أيادي، كلما نجم لأحدهم نجم، أو بزغت له شمس، حتي لو اراد اختراع أقل شيء، أخذوا باكظامه حتي يقبروه في مجهلة، لا يزار ولا يزور، فأصبحنا فقراء عبيداً، وبلهاءاً أعداءاً، ولا سيادة، ولا مال، ولا جاه، ولا ثقافة، ولا علم، ولا أدب، ولا أخلاق، ولا اختراع، ولا اكتشاف، ولا قوة، ولا وحدة، ولا عتاد، ولا أرزاق، ولا استقلال، ولا.. ولا.. ولا حتي تنتهي الفضائل بأجمعها، بل فقر، وذلة، ومتربة، وجهل، وعداء و.. و.. و. إلي أن تنتهي الرذائل قاطبة.

ولو أردنا رجوع السيادة إلي ما كانت، وجريان المياه إلي مجاريها، لابد وأن نرجع إلي ما كنا عليه أمس، فنجعل القرآن محور القضاء والحكم والسياسة والأمر والنهي، والاقتصاد والتجارة، والعلم والعمل، والأخذ والاعطاء، والاقدام والاحجام، فنأتمر بأوامره، وننزجر عن زواجره ونقف حيث أمر بالوقوف، ونتحرك حيث أمر بالتحرك، وإلا رجعت الحالة من سيئ إلي أسوأ حتي يقضي الله أمراً، اليوم تتجهز حكومات الغرب والشرق، بأقوي الأسلحة والعتاد، وتتمتع بأكبر المؤسسات الثقافية والعلمية، وترفه عن

أنفسها بأجمل الوسائل، وأحسن المخترعات، لكنا أصبحنا بعد السيادة مسوداً، وبعد العزة أذلاء، وبعد العلم جهالاً، وبعد الهداية ضلالا، لا يخفق لنا لواء، ولا يرفف باسمنا علم، وأمسينا كالكرة في أيدي الحكومات، وكالريفي بين أهالي البلد، يرميها أحدهم إلي الآخر، ويحوله بعضهم إلي بعض.

كل ذلك من جراء جهلنا بمقاديرنا، واستيراد كل شيء من الغرب والشرق، من غير ملاحظة النسبة بين ما بأيدينا، وبين البضائع المستوردة، فنستورد الأقمشة، ومواد البناء، والآراء والأفكار، والقوانين والأحكام كأنه لم تسبق لنا حضارة، ولسنا من المدنية في شيء، وقد جهلنا أن لدينا ثراءاً وسيعاً، وديناً ضخماً، ووحدة إسلامية، ومبادئ لا يباريها مبدأ، وكتاباً يكفل باسعادنا، كما أسعد آباءنا الأقدمين، بين أهم حضارة كانت تعرف في تلك الآونة، حضارة فارسية، وحضارة رومية.

والحكومات لا تساعد علي نشر هذه المبادئ الحية، في الاذاعات والصحف والمدارس والأندية، حتي لا يزعم الزاعم من شبيبتنا ما يزعم ولا يمده المستعمرون بما يمدون، ولم يبق الدين إلا علي اسلات أقلام جملة من الكتاب، وهم أقل قليل اليوم، أو اذهان حفنة من العلماء والخطباء، وليس أخذ الناس منهم، إلا بما انها طقوس عادية، وأحكام تقليدية، من غير تفهم للحقائق، وادراك المغازي، ثم انهم يرون تمزق البلاد الإسلامية كل ممزق، وخمودها عن الصناعة والاختراع، وموتها في مجاهل ركب الإنسانية، السائرة نحو الأمام، فيحسبون أن كل ذلك من سيئات الدين، أو القرآن والعياذ بالله مع ان الدين والقرآن يتبرءان من هذه التمزيقات، وينهيان عن الخمود والخمول، والتأخر والخنوع.

وقد جعل القرآن المسلم في أول قافلة البشر ?كنتم خير أمة أخرجت للناس?()، وإذا عرفنا موضع الداء، فاللازم أن نبادر إلي العلاج، إن أحببنا أنفسنا، وأردنا عزنا وسعادتنا، وسؤددنا ورفاهنا، وذلك يتم بالتعاون

بين الحكومات الإسلامية، والشعوب، والعلماء، وحملة الأقلام، والخطباء والوعاظ، والشعراء وأصحاب الأخلاق.

فانا اليوم نحتاج إلي درس الإسلام درساً صميماً، يرضاه الإسلام، لادرساً ترضاه الفلسفة والمدنية، ثم تحليله تحليلاً عميقاً، ثم تطبيقه علي ظرفنا الحاضر، ثم حل المشاكل التي تواجهنا عند التطبيق، وبعد هذه الأعمال، نقارن بين الإسلام وبين سائر المبادئ من شيوعية، وديمقراطية واشتراكية، وقومية، وبعثية، ونرمق الفارق علي ضوء من العقل والمنطق السليم، وحين توفرت لنا هذه المواد، يجب علينا أن نبلغ ذلك المسلمين أولاً، وسائر أهل العالم ثانياً، حتي يتضح الفرق، ونتمكن بذلك من تركيز العقيدة والايمان، وبث الإسلام والقرآن، في الأذهان كي ينشأ نشأ صالح، لا ينظر إلي الإسلام بمنظار الغرب، ويعرف عن حقيقة الإسلام ما أخفاه المستعمرون.

وعلي الحكومات الإسلامية القسط الوافر من العمل، فعليها أن تتقارب، وتتحد، وتعمل بأحكام القرآن، وتفسح المجال للخطابات الدينية، وتجعل الدين في المناهج الدراسية، وتقطع أيدي السارقين الذين يسرقون المال والشرف، والوحدة والدين، في وقت واحد.

وإن العيد: هو اليوم الذي تستبدل الحكومة قوانين القرآن بدلاً عن قوانين الغرب، وتعوض عقيدة الايمان بدلاً عن الآراء الماركسية وذي مقراطيسية وما إليها، وذلك اليوم هو اليوم الذي يطمئن فيه بالاستقلال، ونعرف إنا قد خرجنا عن ذل عبودية الدول المستغلة، إلي عز الإسلام.

لكن أني؟

وكيف؟

ومن؟

ومتي؟.

الصلاة

إن من يقدم إلي أحد (سيكارة) رأي أصحاب الضمير وجوب شكره بقدر تلك السيكارة، حتي أنه لو لم يشكره لكان كافراً لإحسانه، بعيداً عن الإنسانية.

ولو قدم إليه داراً، رأوا وجوب شكره أزيد من شكر السيكارة، بقدر النسبة بينها وبين الدار.

وكذلك تتدرج مراتب الشكر باختلاف قيم الاعطيات، فالسلطان الذي يغمر نعمه شخصاً، فيهيئ له الدار، ويزوجه، ويمنحه عزاً وجاهاً، ويعطيه ما يكفيه لمعاشه، ويقوم بكل شأن من

شؤونه، لابد وأن يشكره هذا الشخص ليله ونهاره، وغدواته وروحاته، ولم لم يشكره لكان ممن قابل الاحسان بالكفران، ولامه أهل الوجدان.

إن الله تعالي أوجد الإنسان من العدم إلي الوجود، فجعل التربة الغبراء، نبتة خضراء، ثم بدلها بحيوان، ثم صير الجميع نطفة، فعلقة، فمضغة، فعظاماً، ثم كسي العظام لحماً، وشق له السمع والبصر، وأنشأ له قلباً يعي، وفكراً يقي، ولساناً وأذنين، ويدين ورجلين، ثم أخرجه من ظلمات الأرحام، وأمال عليه قلب الأبوين والأرحام، حتي ترعرع وكبر، وسمع وبصر، وراقبه في آناء الليل وأطراف النهار من المؤذيات المهلكة، واللاسعات المردية، وهيأ له الأرزاق والراحة، ومهد له سبل الحياة الوعرة، حتي بلغ واحتلم واستوي أشده، ثم أراد منه شكراً خفيفاً يرجع نفعه إليه، ولا ينتفع به هو، وهو الصلاة!

إن الصلاة شكر لله تعالي علي نعمائه التي تجاوزت حد الإحصاء والوصف، وانقياد له وخشوع لعز جلاله، فتشتمل علي تكبيره وتحميده وتهليله وتوحيده وذكره، وقد وعد بذلك الثواب، وحذر تاركها من العقاب.

أليس من عدم الضمير والوجدان، أن يترك الإنسان شكر مثل هذا الخالق العظيم، الذي يحتاج إلي فواضله في كل غمضة وكلمة وقومة وقعدة، وكل شهيق وزفير، وحركة وسكون، وفعل وترك، ونوم ويقظة، وصحة ومرض، ذلك الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم.

ولو فرضنا إن الله تعالي لم يحسن إلي البشر في أدوار أرضيته ونباتيته وحيوانيته وجنينيته وطفوليته، وإنما شرع في الإحسان والأنعام من أول حال البلوغ، لكان العقل يري لزوم شكره والتضرع إليه والاستكانة ببابه، وحمد جنابه، لهذه الأيادي الجميلة الكثيرة التي أسداها إليه، لكن الإنسان العاتي لا يأل جهداً في مخالفة الرب العظيم، فلا يؤدي حقه، وينتهك حرمته، ويتمرد علي شكره، حتي انه لا يقدم إلي سبع

عشرة ركعة في اليوم والليلة، مما ينتفع هو بها، ويتنور بقرب باريه من أجلها.

ولو فرضنا أن أحداً من الملوك أسدي إلي بعض مواليه ربع هذه النعم، ثم أراد منه أن يعمل لأجله نصف يومه لكان جديراً بالاطاعة، حقيقاً بأن يشكر ويذكر، فكيف بالله العظيم الذي له كل شيء، ومنه كل نعمة؟

ومن لم يفعل فليس يضر الله شيئاً، وسيجزي الشاكرين، ويعاقب المخالفين، في يوم يقول العاصي: (ربي ارجعوني)()، فيقول: كلا، ولا ينفعه الندم، ولات ساعة مناص.

ومن أجل هذا وذاك، لم يزل النبي العظيم صلي الله عليه و اله وأوصياءه البررة عليهم السلام، يؤكدون في أمر الصلاة فضل تأكيد، والقرآن الحكيم حث عليها في كثير من الآيات، أما اليوم وقد وهت العقيدة بالله واليوم الآخر، وضعفت الصلة بين الخالق والمخلوق، فقد ذهبت الصلاة كالأمس الدابر، وصارت كبيرة إلا علي الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون، فتري الفنادق في البلاد الإسلامية في الصبح مستغرقة في نوم هادئ وعميق، لا يتنفس فيها متنفس، ولا يركع لربه فيها راكع، إلا من شذ ممن يخاف الله بالغيب، وكذلك حال الثكنات العسكرية، والمدارس التي ينام فيها النازحون عن بلادهم لتحصيل الثقافة، والقطار وسائر وسائل النقل من الطائرة والسائرة التي تمشي طيلة وقت الصلاة، فتحيط أول الوقت بآخره، والدور لا تفضل علي الفنادق وأخواتها، في هذه الظاهرة، فكأنا أمة مسيلمة وسجاح، لا أمة محمد صلي الله عليه و اله ينزل عليه: ?أقم الصلاة لدلوك الشمس إلي غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا? ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسي أن يبعثك ربك مقاماً محمودا?().

و: ?محمد رسول الله، والذين آمنوا معه أشداء علي الكفار، رحماء بينهم، تراهم ركعاً

سجداً، يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً، سيماهم في وجوههم من أثر السجود?().

لكن العصر عصر رقي وثقافة! تبدل فيه كل شيء، فصارت الجمال طائرة وسائرة، والسفينة باخرة، والسيف قنبلة، والشمع كهرباءً، فلتكن تبدل الآية: (لا تقم الصلاة… ومن الليل فلا تتهجد به …، رحماء علي الكفار.. أشداء بينهم.. تراهم لا يركعون.. ولا يسجدون.. ولا يبتغون… ليس سيماؤهم في وجوههم من أثر السجود).

فليقم علي أمير المؤمنين عليه السلام ويطوف في المسجد ليوقظ النائمين للصلاة وينشد، فيما يروي عنه: «خلوا سبيل المؤمن المجاهد إلي أن قال: ويوقظ الناس إلي المساجد» ().

إن النبي صلي الله عليه و اله والأئمة عليهم السلام ما كانوا يقتصرون علي الفرائض السبع عشرة ركعة، بل يزيدون عليها نوافلها المسنونة: للصبح اثنتان، وللظهر ثمان، وللعصر ثمان، وللمغرب أربع، وللعشاء واحدة أو اثنتان، ولليل ثلاث وثمان، ثم لايقفون في هذا الحد أيضاً، بل يضيفون إليها صلاة النبي صلي الله عليه و اله وجعفر عليه السلام، وعلي وزوجه وابنيه، والأئمة التسعة عليهم السلام.

ثم كان يقف النبي صلي الله عليه و اله في الصلاة حتي تورمت قدماه() فنزلت: ?طه ? ما أنزلنا عليك القرآن لتشقي?() واقتدت به ابنته الصديقة?()، وكان علي عليه السلام يصلي كل ليلة ألف ركعة()، واقتدي به ولده، حتي أن السجاد عليه السلام كان يقرض ثفنات مساجده كل سنة().

أفهل صلي أولئك عنهم وعنا! كما يقول المسيحيون: افتداهم عيسي عليه السلام.

حقاً صحيح ما قاله الحكيم العليم: ?وإنها لكبيرة إلا علي الخاشعين?() إن فريقاً من الإباحيين تركوا الصلاة بزعم انهم آتاهم اليقين، مستدلين بقوله: ?فاعبد ربك حتي يأتيك اليقين?() كأن الرسول صلي الله عليه و اله لم يأته اليقين ولذا كان يصلي حتي آخر لفظة من حياته،

وهم قد آتاهم؟!

وآخرين تركوها استثقالاً، ولم يبق لها إلا الخاشعون، وهم اليوم قليلون، ?وقليل من عبادي الشكور?().

ولا يسبق إلي ذهن أحد، إني أريد حطاً من كرامة المسلمين والعياذ بالله لكني أريد أن أقول: إن الصلاة أهم مما نراها اليوم، فيلزم الاهتمام بشأنها في كل فندق ودار، وسائرة وقطار، ومدرسة ومدينة وثكنة وريف، ?إن الصلاة كانت علي المؤمن كتاباً موقوتاً?().

الوقيعة

يفر غالب الناس من السب والوقيعة فرارهم من الأسد الغضبان، فلو عرفوا أن أحداً سبهم، دارت بهم الأرض الفضاء، ويضطرب لذلك قلوبهم، وتتهاوي جوارحهم، وتتغير ألوانهم، ويستشيطون غضباً، فكأن القيامة قد قامت عليهم، وإن احترامهم رهن ألسن الناس، فان لاكوا بشعتهم، ولو عن كبر وعناء، ذهب ريحهم، وسقطت مكانتهم في القلوب، وربما يخيل إلي بعضهم أنه ينظر إليه الناس، حين يمر بمنتدي، أو يجلس في مجلس، وقد يتهيئوا للانتقام، فيكيلون سباباً مقذعة، وافتراءات وسقطاً من القول، لمن مس كرامتهم، ونال منهم ما نال.

إن حفظ العرض لمن أهم الأمور، وحراسة الكرامة من كبر النفس والشهامة، والغضب علي من صدرت منه الوقيعة، سمة من سمات الغيرة، وخاصة من خواص صاحب الفضيلة والأخلاق، فإن من لم يبال بما قال وما قيل فيه يكون منقوص الهمة، عديم النجدة، قليل الحياء، لكن أمر مهم دعانا إلي بيانه وهو: ان كل مصلح ومفسد لابد وان تناله الألسن بما لا تحب، أما المفسد فليس من مرمي البحث في هذه الكلمة، وإنما البحث في المصلح، فنقول:

كل من قام بإصلاح لابد وأن يرميه الناس بسهام الانتقاد، ويرشقوه بنبال السب، ويسلقوه بألسنه حداد، وينقسم النائلون منه إلي رجلين:

رجل لا يقدر أن يراه يعتلي، وإن كان علي بصيرة من أمره، فهو يسبه حسداً، لعله يتمكن من إنزاله

من منعته الرفيعة والسمو، إلي حيث مستوي نفسه، فان من صغرت نفسه، وقلت همته، لا يتمكن أن يعلو إلي حيث علا قرينه، فيتأخذ حيلة لإنزال قرينه، حتي يجعله في ربقته، فهو كمن يري صديقه علي السطح، وإذ لا يتمكن من الصعود، يحتال لإنزال صديقه إلي مقره.

ورجل لا يطلع علي دخيلة أمره وانه يريد الاصلاح، أو يعلم لكنه ينافي مصالحه الشخصية، أو مصالح النوع بنظره، فهو ينال منه لئلا يفسد النظام الاجتماعي، فهو كمن يزعم أن فلاناً يريد أن يقتله، فيسبق إلي قتله ليستريح منه.

إن السب الموجه إلي المصلح لا يخلو من أحد هذين الوجهين في الأغلب والنظرة الإصلاحية لا تستوحش من السب، فان الرجل لا يقدم علي الإصلاح، إلا إذا وطن نفسه علي أمور أهونها الشتم والوقيعة فيه، لكن سرعان ما يتقشع السحاب، ويجلو العمي، فيطريه الساب، ويفتخر به الشاتم، ويعظمه النائل منه، ولو كان المصلح مجهزاً بحلم وثبات شديدين، لكان اللازم عليه أن يفرح بالسب أكثر من أن يفرح بالمدح فان من يمدحه جميع الناس، لا قيمة له، إذ يكشف ذلك عن نفس ضعيفة تنقاد لكل أحد، وعنق ذليل يجعله الناس جسراً، يعبرون عليه إلي مقاصدهم، ومن يكون الناس في حقه فرقتان، مادح وذام، وساب ومطري، هو الذي له المكانة والقدر، ولو قيل: إن الساب يحمل حجر عظمة المسبوب، لكان لهذا القول محل من الصواب، فان العظمة يحمل أحجارها الصديق والعدو علي حد سواء، فالأول يرصفها والثاني ينحتها، حتي تكون قصراً فخماً مطلاً علي الأجيال، لا يزحزحه تغير الزمان، واختلاف المكان، وتشعب الأقوام، وتشتت الأفكار.

وقد يكون الساب أقرب إلي تدعيم المسبوب، وتركيز جذوره، من الصديق المادح، إذ المادح متهم، بخلاف الساب، فانه لابد له

أن يذكر شيئاً من أعمال المسبوب، كي يتمهد له الطريق لسبه والقدح فيه، وكثيراً ما يكون لذكر عمله ترفيعاً له، وتثبيتاً لدعامته، مثلاً يقول: انه صاحب قلم، لكن يصرفه في الافساد، أو صاحب مقول، لكن يطلقه في الاضلال، أو تاجر لكنه غاش، أو عالم لكنه ممن يبيع الدين بالدنيا، أو مخترع لكنه يحب الظهور، أو مدرس لكنه معوج الذوق، أو ما أشبه. وفي هذا يكون قد أثبت له اليراع واللسان، والتجارة والثقافة والاختراع والتدريس، وغالب الناس يقبلون المدح من الذام، ويحملون ذمه علي أغراض شخصية، ومنافع مادية، فتسقط وقيعته، وتتركز مديحته.

وهناك أمر آخر يرجع إلي العظمة، يخدمه الذام والمادح علي حد سواء، بحيث لولا الذام، لذهبت أدراج الرياح، بل ربما كانت خدمة الذام أكثر، ويرجع النصيب الأكبر فيه إليه، وهو: أن الساب الذام، لا يسكن جأشه إلا ببسط المسبة علي مائدة مجالسه، وإبداء عورة المسبوب وهجنته في ممساه ومصبحه، وبذلك يستشيط المادح غضباً، فيعارضه بدحض كلامه، وإعلاء محاسن الممدوح، ويأخذ أهل الحجي من بين الأمرين صورة عظمة المنازع فيه، وبذلك يستطيل فرعه، ويكثر أنصاره، ويقوي جذره، وكثيراً ما يعظم وهو في التراب دفين، ويحتفل له وهو عظام رميم، ويرجع أكثر الفضل في ذلك إلي الساب، فانه لولاه لخفي مدحه، واندرست محاسنه، وانهارت عظمته.

وكثيراً ما يظن الباحثون أن بقاء عظمة العظماء من عوامله أنامل الخصماء، فلولا الظلمة ما عرف عظمة النور، ولولا الحرور لم يقدر الظل، ولولا المرض لم يعرف نعمة الصحة، ولولا التعب ما ظهرت قيمة الراحة، ولولا نمرود، وفرعون، وقارون، وهيردوس()، وذي بلاطس، وأبو جهل، وأبو لهب، ومعاوية، ويزيد، لم يكن يظهر لنا بعض السجايا الكريمة، والأخلاق الفاضلة والحلم في قبال الطيش، والعلم في

قبال الجهل، والعفو في قبال القسوة، والاحسان في قبال الشدة، والعدالة في قبال الظلم، والزهد في قبال التكالب، وما أشبه، التي برزت من إبراهيم وموسي، ومحمد وعيسي، وعلي والحسن والحسين، عليهم أفضل التحية وأزكي السلام، وليس هذا الظن بكثير بعيد عن الصواب، فان أبا سفيان كان يؤلب، ولما ملك النبي صلي الله عليه و اله أطلق، والذوق يري ازدياد الجميل جمالاً، إذا قابله القبيح البشع.

وربما يكون الساب الذام، من أقوي الأسباب لهدم كيان نفسه، بنحو لايقدر عليه المذموم لو أراد، فانه بالذم يبدي دخيلة نفسه، وقبح ما انطوي عليه قلبه، وخباثة جبلته، وقذارة طينته، مثلاً لو لم يكن زوج آكلة الأكباد، ينتقص النبي صلي الله عليه و اله ويناله بلسانه وبنانه، لانغمر في مجاهل التاريخ، وكان كسائر من لم يسطر له القلم ذكراً من البعداء عن الانسانية، لكنه بعمله هذا نصب نفسه مسبة الأجيال، وكشف سوءته لدي الأمم والأعقاب، ولولا ذلك ثم أخبر النبي صلي الله عليه و اله عن دخيلة فؤاده، وغل صدره، لآمنا بذلك تعبداً واذعاناً، لا رؤية وعياناً.

الجِدّ

الحياة نفق مظلم، تنيره الأعمال، ومسرب يقطعه الجد، فكما أن الواقف في مكانه، لا يتمتع بالتفرج في البلدان، ولا بكسب الأصدقاء والخلان، وكما أن العاطل لا يتهيأ له العيش الهنيء والمهاد الوثير، كذلك من لا يجدّ لا يتنعم بخير، ولا يتلذذ ببقاء، الجد كالشجرة النابتة، التي لا تلبث حتي يخضر ورقها، ويشهي ثمرها، مهما كان نوع الورق والثمر وصنف النبت والشجر، والكسول كالحجر الملقي في الصحراء، لا يستظل به ولا ينتفع منه.

من نظر إلي البلدان نظر معتبر رأي آثار الجد بادية عليها، فمن شوارع معبدة بالقار، وأرصفة مبلطة بالرخام، ودور مبنية من الآجر والحديد،

ملونة بالألوان، مبوبة بألواح الخشب، وسائرة تسير، وطائرة تطير، وباخرة تمخر الماء مخراً، وقطار يسير سيراً، إلي غيرها مما لا يحصيها المحصون، ولا يعدها العادون، كل هذه آثار الجد، وسمات الجهد، وعلامات العمل، فمن لا يجد ولايعمل، كان كلاً علي الحياة، يلفظه القريب، ويشمئز منه البعيد.

إن العمل والجد وإن كانا يكدران الحياة بعض التكدير، فانهما يتعبان الأعصاب، وينهكان الجسم، وينبيان منصلت الفكر، إلا أنه لو بطلا عاد الناس وحوشاً، وآل نظام الاجتماع إلي تبدد، وإن المرء يقاس بمقياس فكره وجده وعمله، أكثر مما يقاس بمقياس ثروته ونسبه وجاهه، ولذا نري التاريخ يحيط الكاد العامل من الملوك بهالة من الاحترام دون الكسول العاطل منهم، ويشق المفكر المخترع الصف الأول في الصفحات، بينما غيره قد لا يحظي بذكر اسمه في آخر ديوان التاريخ.

إن العلو في الحياة، والعلو في الممات، والشرف في الدنيا، والشرف في الأخري، يناط بالجد، وهو كالمرقاة التي كلما اعتلي الشخص درجة منها ازدادت رفعة ورقياً، مثلاً: من كتب كتاباً ينتفع منه المجتمع، فهو أرقي ممن لم يكتب، ومن كتب كتابين كان أرقي ممن كتب كتاباً واحداً، ومن اخترع أمراً، فهو أرقي ممن لم يخترع، ومن كشف سرين من أسرار الحياة، فهو أرقي ممن اكتشف أمراً، ومن زرع حقلاً، كان أرقي ممن لم يزرع، ومن زرع حقلين كان أرقي ممن زرع حقلاً، وهلم جرا..

والكبار الذين يحفظهم التاريخ في جو من العظمة، ليسوا إلا أفراداً عاديين جدوا واجتهدوا، حتي بزغت شمسهم، وساعدهم التوفيق، فغلبوا علي ما قصدوا، وإذا بهم يذكرون في صف العظماء، وكثيراً ما يكون محتدهم غير نابه، وأصلهم غير متألق، ولو نظر الإنسان في أنساب الكبار، لرأي أن أحدهم نشأ في بيت عامل، وثانيهم

ترعرع في كوخ زارع، وثالثهم يقع في مصعد جبل، ورابعهم شب في منقطع رمل، وخامسهم كبر في خباء بادية، وهكذا، فان كثيراً من مخصبي الأراضي مجدبي الفكر والعمل، وكثيراً من مجدبي الأراضي مخصبي الفكر والعمل.

ثم ان للنبوغ والعظمة غير الجد شرطاً آخر، وهو علو الهمة، وارتفاع النظر، وبعد الفكر، وإلا فالكناس وإن اجتهد في كنس الشوارع والأزقة، وصرف علي ذلك بياض نهاره، أو سواد ليله، فانه لا يتقدم نحو المعالي ولو قدر عقد اصبع، (فان المرء يطير بهمته، كما يطير الطائر بجناحيه) ()، فهذان شرطان لايجتمعان فيمن كان رائده التوفيق، إلا نبغ وازدهر نجمه، وارتفع حظه.

وقد ينظر الناظر إلي نابغة من النوابغ، فيحسده في علو ذاك، وبقاء نفسه في الحضيض، أو يتعجب من دوران الفلك بسعده، دون نفسه، لكن الأمر ليس كذلك، فلينظر إلي جده في النهار، وسهره في الليل، وحركته في الحر والقر، ودؤوبه علي العمل، ثم يتوجه لنحو نفسه كي يري بطالته نهاراً، ونومه ليلاً، وتكاسله عن العمل، وخفته في كل حل ومرتحل.

وقد نقل لي أحد رجال الدين، أنه ربما كان في أيام شبابه يقطع ليله مطالعة وبحثاً، إلا قدر ساعتين، بينما كان رفاقه في منتزه يلعبون، أو في سفر يمرحون، أو في جلسة أنسية، أو ملذة عائلية، ثم رأيتهم جميعاً بالكاد والعاطل في أبان شيخوختهم، فكان الكاد الذي حكي لي الحكاية، مرجعاً مرموقاً، وملاذاً مكرماً، حيث كان رفاقه أولئك في خمول وخسران، وسقوط وهوان.

وحدثت عن أحد المخترعين الكبار، أنه ربما كان في غرفة اختباره أسبوعاً كاملاً، لا يأكل إلا قدر ما يقوم صلبه، ولا ينام إلا مضمضة، حتي ظفر بمطلوبه، ونال ما أراد.

الجد والظفر توأمان..

والبطالة والحرمان شقيقان..

فمن جد ظفر، ومن كسل حرم..

وليس

للجد غاية وللعمل نهاية، فكلما كان الاجتهاد أكثر كان المطلوب أكبر، وحينما كان العمل أدوم كانت النتيجة أقوم.

والجد والكسالة حالتان وقودهما الفكر، فمن أطلق عنان نفسه ولم يفكر في ماضيه ومستقبله، آل أمره إلي الكسل والبطالة، ومن اضطر نفسه إلي العمل، ورفض الكسل فاز بالمراد..

فان من جد وجد..

ومن اجتهد رشد..

ومن لج ولج..

ومن شج عرج.

هل يمكن الإصلاح؟

كلنا نعرف الداء، وإنما الخلاف في الإصلاح، فالأغلبية الساحقة يرون أنه غير ممكن، ولهم حجج ومستندات.

يقول فريق: أمير المؤمنين علي عليه السلام مع كثرة اهتمامه بالإصلاح لم يتمكن، مع أنه كان مثالاً لكل شيء للعدالة والنشاط والدين..، وكان بصيراً بمواقع الأمور ومصادرها.

ويقول آخرون: إن الوقت هو الوقت الذي أخبر به النبي صلي الله عليه و اله وآله عليهم السلام، بكونه آخر الزمان، ولابد أن يقع ما وقع، ولن تجد لمشيئة الله تعالي تحويلا.

ويقول زمرة: يدور العقار المنتج مدار وحدة كلمة العلماء فان اتحدت صلح الناس، وإلا فلا يرجو راج إلا بلال، لكن الاتحاد محال..

ويقول ثلة: اتسع الخرق علي الراقع، فلا يفيد كلام وعظة، وصياح ونياح، وبكاء ولطم، وقلم وقدم.

ويقول جماعة: نحن لا نتمكن من إصلاح أنفسنا فكيف نتمكن من إصلاح غيرنا.

ويقول بعض: إن الغرب والشرق فغرا فاهما لالتهام هذه العدة القليلة من المسلمين، وليس للمسلمين عَدد ولا عُدد، ولا سلاح ولا كراع، وليسوا مجهزين بما يتطلبه الزمن، من الآلات والمعدات، والمعامل والمصانع، والمدافع والقنابل، ومع هذه الأوضاع لا يمكن تقدم شبر.

ويقول فئة: لو فرضنا أن أحداً قام بالإصلاح، رماه حتي أقرب الناس إليه بالجنون، وأخذ الأجرة، والعينية، وما أشبه، وبذلك تسقط كلمته، ويذهب هو بنفسه شهيد التهمة، فانه مع عدم تمكنه من الإصلاح، أفسد نفسه، وأذهب بروحه علي عالم آخر.

وهكذا يقولون..

ويقولون..

أنا

أدري: إن كل نهضة، وكل فكرة، كانت مهددة في بدو أمرها بكل هذه، وقد لاقت كل هذه المتاعب والمصاعب، وجوبهت بجميع هذه المجابهات، ومع ذلك فقد نجح كثير منها، مع أن ما يذكرونه بعيد عن الصواب، فان علياً عليه السلام وفق للاصلاح تمام التوفيق، إذ ليس شرط الاصلاح: أن يستتب الأمر له في زمان حياته، ولو نظرنا إلي ما بذره علي أمير المؤمنين عليه السلام، لرأينا غابته الشجراء التي تكونت ببركة بذرته، ولا تزال تؤتي أكلها كل حين باذن ربها.

وحديث كون الوقت آخر الزمان: لا يدعمه شاهد، وقد ظن كل قوم هذا بالنسبة إلي زمانهم، وأما وحدة كلمة العلماء فليست هي المدار الوحيد علي ما يزعمه القائل فانه لم ينزل الله لذلك من سلطان، مضافاً إلي أن توحيد كلمة العلماء علي المصلح المشمر ذيله، غير عزيز، وهل تفوق الحكومات الأخر والمبادئ الشائعة في غرب الأرض وشرقها ناجمة من اتحاد كلمة علمائهم؟!

ومن يقول: لا ينفع كلام وعظة، فهل يدعم كلامه دليل؟ أو أوحي إليه من يوحي إلي أوليائه؟ وهل كل هذا الأثر الباقي إلا من الكلام والعظة؟!

ولا كلام لنا بمن لا يتمكن من إصلاح نفسه، فهو بمعزل عن مدار الكلام، وإنما نطاق الحديث يدور علي من يزعمون الإصلاح، نعم حديث الغرب والشرق صحيح، لكن صحة هذا، لا يمنع عن الفكر وتداول الكلام حول طريق الإصلاح، والتاريخ يشهد: علي أن المسلمين كانوا يرصدون غزو الغرب والشرق، فما عكس الأمر منذ نصف قرن تقريباً، هو كفيل بأن يجري المياه في مجاريها الأولية.

وأما رمي المصلح بالجنون وما أشبه، فكم له في التاريخ من نظير، وكم نجح الذين رموا بالجنون ونحوه.

الأخلاق الفاضلة

ربما يظن الظان أن معني حسن الأخلاق: هو البشاشة

مع الناس، ومبادرتهم بالسلام والتحية، والمصانعة والابتسام، والمداهنة والاستسلام، لكن الأمر ليس بهذا الهوان، وليست الحال بهذه السهولة، بل الخلق الحسن شمس مطلعها القلب، وأشعتها منبثة في الجوارح والمشاعر، والخلق الحسن ليس إلا إيفاء كل ذي حق حقه، خالقاً كان أم مخلوقاً، قريباً أو بعيداً، جماداً أو نباتاً أو حيواناً أو إنساناً، ماءاً أم تراباً أم هواءاً أم نوراً.

الخلق الفاضل: هو أن لا تطلق اللسان في كل مذهب، ولا تلجمه في كل مأتي، فلا تسب ولا تكذب، ولا تغتاب ولا تعيب، ولا تهمز ولا تلمز، ولاتطعن ولا تجرح، ولا تقول هجراً، ولا تأمر نكراً، ولا تهجو أحداً، ولا تتخذ في الكلام ملتحداً، ولا تخوض في أباطيل الكلام، ولا تهدر هدير الحمام، تقول الحق وإن كان عليك، وتحكم بالعدل ولو علي الأقربين، وتأمر بالمعروف الحسن، وتنهي عن المحذور القبيح، تختار الصدق ولو ضرك، علي الكذب ولو نفعك.

هو أن تحد العين في حدها، وتضرب بينها وبين الرذائل بسور، فلا تنظر إلي أحد نظر خيانة، ولا تسرق النظر، وتطالع آيات الكون، وعلامات الحق، وتسرح اللحظ في مجاري الفكر، وتمنع العين عن السوم فيما يورث حسرة، أو يجلب غصة، أو يسبب ألماً، أو يعب مغرماً.

هو أن تزم الأذن بزمام الخير، ولا تطلق سراحها في المقافر المهلكة، فلاتسمع إلي ذم أحد، ولا تصغ إلي عيب، أو نقص، أو كذب، أو بهتان، أو غيبة، أو تهمة، أو كلام باطل، أو صوت لهو، ولا تصيخ إلي وشاية واش، أو لغو حديث، أو ما يفسد قلبك، أو يبتل فؤادك، وتسمع إلي ما ينفعك من الفضيلة والدين، والعلم والثقافة، وتواريخ الكبار، وقصص العظام، والعبر والآثار، والعظة والأخبار.

هو أن تقبض اليد عن السرقة والخيانة، والضرب

واللطم، واللهو واللعب، وأخذ الرشا، ونيل المحظور من المني، وتبسطها نحو الخير والمعروف، والجود والإحسان، تمسح بها علي رأس اليتيم، وتحمل بها سلة الأرملة من السوق إلي الدار، وتخدم الإنسانية بيراع أو اختراع، وتنظيف أو تخفيف، لاغش وتطفيف وقتل ونهب وتخريب.

هو أن تستعمل الرجل في العمل للصالح العام، تمشي في حوائج الناس، وتذهب للكد علي الأهل والعيال، وتحضر في حفلات الأخلاق والفضيلة، والمدارس العلمية، والمعاهد الأدبية.

هو أن تحفظ القلب وهو الأساس عن كل رذيلة مردية، وصفة مهلكة، فلا تنوي الشر، ولا ترائي، ولا ترتاب في الحق، ولا تحسد، ولا تحقد، ولا تضمر العداء، ولا تخفي البغضاء، وتبذر فيه الخير والمعروف، والإحسان والإخلاص، والحب والوداد، والصلاح والرشاد، والشجاعة والجود، والحمية والإنسانية، والشهامة والبسالة.

إن هذا هو الجمال، وهو الأخلاق، وهو الفضيلة، الفضيلة هي أن تعدل، لا أن تبتسم ابتسامة المصانعة والرياء، هي أن تحسن معاشرة أهلك وولدك وسائر من تعاشر.

لا أن تحفظ رطب التاريخ ويابسه، ثم تجلس في المجالس وتحوز قصب السبق في الثرثرة والنقل، والظرافة والطراوة.

لا أن تحسن رفع اليد بالسلام، وكسر الجفون والعيون في المحشد والمجتمع، ثم تكذب ما شاء هواك، وتقع في أعراض الناس ما يوحي إليك كبرياك.

لا أن تصانع الزبائن بلسان الين من الأراقم، ثم تغشهم بقلب تدب عليه عقارب الخديعة والنفاق، ويشير بالبغي والشقاق.

لا أن تصانع في الملاء، ثم تعادي في الخلاء:

أما اللسان فمطلي به عسل

أما القلوب زنابير وحيات

إلي ألوف غيرها، مما يجعله علماء الأخلاق، تحت عمودي الفضيلة والرذيلة، والمساوئ والمحاسن.

وقد انقلبت الآية في هذا العصر، وكأنه وقع زلزال في أبنية الأخلاق، فانتقل ما في قائمة الفضيلة تحت عنوان الرذيلة، وما في قائمة المساوئ تحت عنوان المحاسن، فسمي الجبان محتاطاً، والشجاع مخاطراً،

والكرم اسرافاً، والبخل اقتصادا، والغيرة توحشاً، والاستهتار تمديناً، واليقين خرافة، والشك حرية، والعفة جبناً، والخلاعة جرأة أدبية، وسمي الصادق أحمقاً، والكاذب ذكياً، والغاش عالماً بالمكسب، والناصح جاهلاً بمقتضي الزمن.

إن من يقرأ في تاريخ الغابرين، أو يطالع في صفحات بعض المدائن: ان هناك أناساً لا يغشون في المعاملة، أو لا يكذبون في معاشرة، أو يرحمون الضعفاء بجمعيات خيرية، أو يكرمون الغرباء بحفلات الحفاوة، أو يدافعون عن نواميسهم وأعراضهم مدافعة الأبطال، أو يمدحون المحسن ويذمون المسيء، يكاد أن يخيل أن تلك من أساطير الأولين، أو خيالات الآخرين، وإن تلك لم تتمتع علي هذه الكرة بيوم أو بعض يوم، فهي حكاية عن سكان المريخ، أو قضايا كحكايات: كليلة ودمنة، أو ألف ليلة وليلة.

ولو قدر يوماً أن رأينا بأم أعيننا العدل منبسطاً، والجور منكمشاً، والصدق فاشياً، والأمانة ذائعة، والنصح بادياً، والحلم ظاهراً، والعلم عاماً، والجهل معدوماً، والأخوة شاملة، والعداوة زائلة، والمكر بعيداً، والاخلاص قريباً، والنفاق مدبراً، والاستواء مقبلاً، لرأينا ما يري الأعمي حين يرتد بصيراً، أو من كان في الظلمة فيستبدل بها نوراً، حيث يري الأرض الفسيحة، والمروج والرياض، والأشجار والأنهار، والكواكب الزاهرة، والشمس الساطعة، والقمر البازغ، والسماء الزرقاء والألوان الزاهية، والصور الجميلة، والحدائق ذات بهجة، فيخيل إليه أنه انتقل من عالم إلي عالم آخر.

لكن هيهات وأني؟ وكيف لنا ذلك؟ والجهالة فاشية، والأخلاق زائغة، والقلوب متنافرة، فتري كل واحد يخفي لآخر ضباً، ويضمر له سوءاً، فهذا يعامل ذاك بالكذب، وذاك يبادله بالغش، وكل يري أن دولاب مصالحه لا يدور إلا بهذه الأخلاق وتلك الأعمال.

لكن لا يأس من روح الله، ولا قنوط من رحمته، ونحن بعد ننظر إلي المصلحين بعين تستمنح منهم الإصلاح، وننتظر من قادة الأمة وكتابها، وعلمائها وساستها،

أن يشمروا عن ساعدهم، ويقيموا المعوج من النظم، والزائغ من الأهواء، ويرجعوا المتنكب إلي الطريق وما ذلك علي الله بعزيز.

الحكومة الإسلامية

كانت ممالك المسلمين تحت سيطرة خليفة، يقبضها ويبسطها، ويطويها وينشرها، يأمر فيها ما يشاء ويحكم ما يريد، هو المرجع الأعلي لعامة البلاد الإسلامية، والقمة التي تنحدر منها سيول الأوامر والأعطيات والمناصب والعقوبات، لا يفرق في ذلك شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، برها وبحرها، سهولها وجبالها، مدنها وقراها، وأريافها وصحاريها، فكان يخاف جانبه البعيد، كما يخاف سطوته القريب، ويتصرف في قاصيها، كما يتصرف في دانيها، وإن ثار ثائر، أو غلب متغلب، أرسل إليه من يخمد ناره، ويطفي ثورته، حتي يكون مصير المخالف مصير أم عمر والتي ذهب بها الحمار، فكانت خيوط السياسة والاقتصاد والمعارف والزراعة وما إليها معقودة بأصابع الخليفة، إن شاء أرسلها وإن شاء مدها، ولم تكن الرقعة التي يحكم عليها قليلة، فان المسلمين كانوا يتربعون علي أكبر امبراطورية في العالم، وقد امتدت هذه الخلافة ثلاثة عشر قرناً وانتهت إلي محمد السادس من سلاطين آل عثمان، ولم يكن يضر الامبراطورية العامة انشعاب المسلمين في فترات، فان الانشقاق مهما كان، فان الصلة الإسلامية لم تكن واهية، والأخوة المحمدية صلي الله عليه و اله كانت تجمع بين الخليفتين، أو الملك والخليفة بأواصر ربما كانت أشد من أواصر الرحم، فيري كل فريق أن في علو صاحبه علوه، وفي انحطاطه زميله انحطاطه.

والمحور الأساسي في كل هذه المدة الطويلة في الجملة القرآن الحكيم، والسنة النبوية، وان اختلف المستفيدون في كثير من الفروع، بل وفي بعض الأصول فان ذلك كان كاختلاف أهل بيت واحد في المسلك والآراء لا يوجب قطع علائقهم.

وجملة القول: إن الاختلافات المذهبية، أو الطائفية لم تكن بالأمر الكثير من

حيث الامبراطورية العامة، والمكانة المرموقة العالمية التي فاز بها المسلمون ببركة رسول الإسلام صلي الله عليه و اله، ولذا كان طرفا خيط النزاع يجتمعان في أحايين كثيرة لحل مشكلة جامعة، أو دفع نكبة من النكبات التي تواجه البلاد الإسلامية، ومن أروع الشواهد لذلك ما كان يفعله أمير المؤمنين علي عليه السلام بالنسبة إلي من تقدمه من الخلفاء، فانه ما كان يألو جهداً في حل مشاكل الأمة علمياً وسياسياً وغيرهما، كما أنهم يرجعون إليه في غير واحد من القضايا بالرغم من سعة الشقة بينه وبينهم في مسألة الخلافة.

وقد تمتع المسلمون بأول امبراطورية في العالم، إذ الكون قبل بزوغ شمس الإسلام كان يعرف حكومتين فحسب، امبراطورية الفرس، وامبراطورية الروم، أما الأولي فقد ذابت في الامبراطورية الإسلامية، فصارت إيران مسرحاً من مسارح المسلمين، لها ما لمصر والعراق والشام وغيرها، وعليها ما عليها، ولم تبق إلا الثانية، وقد ضؤلت أما الإسلام الرفيع، فقد تبع كثير من مدنها امبراطورية المسلمين، فكان المسلمون آنذاك كالنجم الزاهر في السماء، لا تنالهم أيدي العابثين، ولا تعيث في أراضيهم أرجل الخائنين.

ثم أخذت شمس عزهم قبيل النصف الأول من هذا القرن في الأفوال فأخذت الغرب والشرق تغزو بلاد المسلمين قطعة فقطعة، حتي أنهكوهم، وجعلوا يشنون عليهم الحروب حتي لم يبق لهم مجال الدفاع، فطفقوا يتدخلون في أمورهم من وراء الستار، حتي مزقوهم كل ممزق، وبذلك انمحت من خريطة الدنيا هذه الامبراطورية العظيمة، وأخذت مكانها دويلات صغيرة لا تملك لأنفسها شيئاً، كان ذلك أمر المسلمين، ثم صار هكذا حالهم.

وفي هذه الآونة الأخيرة، أخذت البلاد الإسلامية تنتفض كانتفاض العصفور، وقد ظهر بذلك للناس بصيص من الأمل، لا يدري ما نوي له الزمان من الاشعاع أو الخمود.

والذي أري

ان المسلمين إن عملوا أمرين، فازوا ورجعت العزة والامبراطورية إليهم، وإلا كانت الانتقاضات أشبه شيء بانتقاضة العصفور بين صقرين، فانه يسلم بينهما مادام التنازع والتخاصم، أما لو اتفقا، أو صارت الغلبة لأحدهما، فمصير العصفور برد العدم.

أما الأمران اللذان ارتئيت ضرورتهما بهذا الشأن فهما: تقارب هذه الدول بعضها من بعض وذلك بتكوين وحدة عامة تشمل الدول كلها، وان تتمتع كل واحدة باستقلالها تحت هذه الوحدة، حتي تكون حال دول المسلمين، حال دار واحدة، حيث يتمتع كل فرد من أهاليها باستقلاله الذاتي في أكله وشربه وقومته وقعدته، وكسبه وأصدقائه، ومع ذلك يرتبطه بسائر أفراد أسرته رابطة الوحدة، ودخولهم جميعاً في ظل أب واحد، وأحضان أم واحدة، وألفة قوية، ووداد جامع. وجعل القانون الأساسي لهذه الدول المتحدة هو القرآن والسنة، بحيث يكونان مدار الأحكام الاجتماعية والانفرادية، والأخذ والعطاء، والتحابب والتباغض، كما كان في الامبراطورية الإسلامية السابقة.

ومن المغالطة ما يلهج به بعض المثقفين من أن الإسلام لزمن غير زمن الذرة، ان هؤلاء إما لم يدركوا حقيقة الأمر، أو يتعمدون في انتحال الجهل، هل أن كون الإسلام ذا حكومة قوية تضم بين جناحيها ستمائة مليون من المسلمين()، تعمل علي نهج القرآن والسنة، في التجارة والسياسة والعقوبة والتربية والتعليم وما إليها، ينافي الكهرباء، والطائرة، والرادار، والذرة، والسيارة، والغواصة، وما إليها.. الإسلام روح ومعنوية، وسياسة وقصاص واقتصاد، وأخلاق وآداب وفضيلة، والمذكورات مادة، وكشف واختراع، ولا يكون بين الأولي والأخري أي نزاع، وأية مخاصمة.

تبديل القانون المدني، بقانون ديني، أبسط من أن يقع فيه حوار، أو يقال بأنه ينافي العلم أو الذرة، إن ألمانيا يطبقون علي مدنهم قانوناً غير قانون فرنسا، وفرنسا تطبق علي ممتلكاتها قانوناً غير قانون إنكلترا، وهكذا بالنسبة إلي إيطاليا، وأمريكا،

والسوفيت، والهند، وغيرها فليكن قانون الإسلام مطبقاً في البلاد الإسلامية.

أوغل الغرب والشرق في البلاد الإسلامية، وقلد المسلمون أولئك ولا تزال أدمغتهم مكهربة بمزاعمهم الاستعمارية، ولذا يري بعض المسلمين، الإسلام ينافي العلم والعصر، ولو قيض الله الحكومة التي ذكرناها، لرأوا ان الأمر لم يكن كما زعموا.

قلم ولسان

معجزان من معاجز البشر الكثار: مقوله الجاري، ويراعه الساري، إن من البيان لسحراً، وإن من القلم لمعجزاً، ضمير الجاهل يطوي علي مثل ضمير العالم، نهاية الأمر ذاك مجمل وهذا مفصل، وضلوع الخطيب تنحني علي شبيه ما تنحني عليه ضلوع الأبكم، منتهي الفرق ذاك أشدق وهذا ألكن، وفؤاد الكاتب يشمل علي ما يشمل عليه فؤاد الأمي، أقصي التفاوت ان ذاك قادر علي إجراء ما في قلبه مع مداده علي بياض طروسه دون هذا.

قلم، ولسان، ولكل أهل، وغاية الخير لو اجتمعا، ومن يفقدهما كان كالأعزل، ومن يجدهما كان كالمسلح، فكما ان المسلح عن نفسه وعرضه وماله وأولاده، وعشيرته وأقاربه، وأهل بلده وقطره، بالسلاح، كذلك مثل الكاتب القدير والمتكلم البليغ، وفي التاريخ شواهد كثيرة لهذا المقال، فرب كلمة تلفظ أو تكتب جلبت نعماً ودفعت نقماً، ورب سكوت أورث حسرة.

بالقلم واللسان يهدي الناس ويضلون، ويؤمنون ويكفرون، ويعطون ويمنعون، ويصلحون ويفسدون، ويرحمون ويقسون، فمن أراد هداية البشر احتاج إليهما، ومن أراد اضلالهم لا يستغني عنهما، إن كل مبدأ انتشر في العالم، أو كان في الحال منتشراً، وكل دولة قامت علي ساق، أو هي قائمة فعلاً، كان في بدء أمره فكرة، فعزم، فنطق أو قلم، فأنصار فقوة، فجهاد وجهد، فسعة ومبدأ، أو ممالك ودولة، وكما أن المبدأ والدولة يحتاجان في بدء الأمر إلي هاتين الآلتين: المقول واليراع كذلك يحتاجان في دوامهما، فدين لا يظله قلم، ولا

يمده مقوال، أقرب إلي الانهيار من الليل إلي النهار، وكل دولة لا تدعمها أسلات الأقلام، ولا تعضدها ألسنة الدعاة، أذنت بمحوها عن الخارطة.

إن موسي عليه السلام أمر بالتبليغ، والرسول محمد صلي الله عليه و اله أمر بالتبليغ، وأمير المؤمنين علي عليه السلام أمر بالتبليغ، ومن الجزارين: هتلر() حث علي الدعاية، وتشرشل() حث علي الدعاية، ولينين() وروزفلت() حثا علي الدعاية، ليس ذلك إلا لأجل ما للقلم واللسان من التأثير العميق في النفوس مما يورث مد جذور المبدأ والدولة في أعماق الأرض، إن الدول تملك اليوم أقوي الآلات الحربية التي لم يشاهدها التاريخ، وهي الذرة، ومع ذلك تراها يرصد قسطاً كبيراً من اهتمامها ومادياتها ومعنوياتها، للتبليغ والدعاية.

إن المسلمين اليوم يحتاجون إلي هذين أكثر من احتياجهم إليهما في كل وقت مضي، فالدعايات المضادة لاصول الإسلام وفروعه تنهال من شرق الأرض وغربها.. والعتاد الحربي الموجه ضد البلاد الإسلامية من أدهش العتاد، وأول نهضة المسلم لسان وقلم.. فهل يتوفر فيهم هذان العاملان؟

إنك إن استمعت إلي خطب الاذاعات، تراها غربية وشرقية، أما الإسلامية فيها فأقل قليل، أو معدوم، ولو تصفحت الكتب التي تخرجها المطابع، رأيت الإسلامية إلي غيرها نسبة الواحد إلي عشرة آلاف!

ولم ذاك؟

لعدم توفر اللسان والقلم فينا نحن المسلمين!

الأدب

إن من أفضل الحسب الأدب، فهو كنز لا ينفد، وبئر لا تنزف، وعين لاتنضب، ونجم لا يغيب، وكمال لا يزول، وفضيلة لا تدانيها فضيلة، ولو اعتبر الأدب معتبر ساتر للعيوب، كان من الصواب بموقع، وليس الأدب خاصاً بحالة دون حالة، أو زمان دون زمان، أو مكان دون مكان، بل تجري الآداب في الأقوال والأفعال، ونظرة العين، ولفتة الجيد، واسلة اللسان، ومرعف اليراع، وجلسة الندوة، ونوم الليل، ويقظة النهار، وحركة الأصابع، ومراودة

المجامع.. وأقرب مثل للأدب: العقل، فكما أن العقل يتدخل في كل شيء، فينظمه، ويجري في كل حركة وسكون، فينسقهما، كذلك الأدب.

الأدب في الناظرة: أن لا تسيمها في كل منتدي وندوة، ومجلس وجلسة، والرياض الزاهرة، والمآسد الفاغرة، وان لا تقحمها في كل دار من الكرة والباب، وتهاجم بها علي البدن العاري والجسم البارز، وان لا تخطف بها الصور المستورة، ولا تختلس ما يوجب حسرة، ويعقب ندامة.

والأدب في السامعة: أن لا تصغي إلي سر مكتوم، أو نجوي مرموز، ولاتستمع إلي كلام يورثك هيجاناً، أو يجر إليك محناً وأشجاناً.

والأدب في اللافظة: أن لا ترمي بها الأبرياء، ولا تنال من أعراض الشرفاء وان لا تجعلها كالكلب العقور يعض كل مجرم وبريء، ونذل وسري، وان لاتطلقها حيث ينبغي التقييد، ولا تقيدها حيث يرجح الاطلاق.

والأدب في الباطشة: أن لا ترسلها إلي أموال الناس، أو تعين بها باطلاً، أو تخط بها سماً زعافاً، أو تبطش بها في غير مورده.

والأدب في المجمع: أن لا تبصق ولا تمتخط، ولا تجلس جلسة كبر وخيلاء، وفتور واتكاء، ولا تتكلم أثناء كلام أحد، ولا تلمز وتهمز، ولا تشير بعين، ولاتقلد بيد أو رجل أو وجه أو حاجب.

والأدب في العائلة: أن لا تأمر ولا تنهي، ولا تصيح ولا تعيب، ولاتغضب للتوافه، ولا تقطب ولا تزعج، وأما البطش باليد والرفس بالرجل، فهما من أعمال الحمر والثيران، لا العقلاء من بني الإنسان.

والأدب في الأكل: أن لا يلفظ النواة ما أشبه من فمه لفظاً، وان لا يأكل من أمام رفاقه، وأن لا يكبر اللقم، وأن يحفظ فاه حتي لا يسمع صوت مضغه.

والأدب في مجلس الدرس: أن لا يثرثر، ولا يجادل، ولا يناقش كثيراً، ولا يلهو بشيء.

والأدب في العشرة: أن يزور الصديق

والغريب، ويحترم الكبير والصغير، ويحفظ لسانه عن نيل أخلائه، ولا يحمل عبأه علي وديده.

والأدب في الكتابة: أن لا يباهي ولا يماري، ولا يسب ولا يتضجر، ولايصعد مرة إلي السماء وينزل أخري إلي قعر الدأماء، ولا يبالغ في المدح، ولايغرق في الذم، ويجعل رائده الصدق والأمانة، لا الاجرة والتعصب.

والأدب في النوم: أن لا يقله ولا يكثره، ولا يغط.

والأدب في التجاور: أن لا يؤذي جاره، ولا يلقي قمامته عند داره، ويزوره في الأوقات المناسبة.

إلي غير ذلك من الأدب في الغسل والكنس، والأخذ والعطاء، والسفر والحضر، والأمر والنهي، والزواج والاختتان، والبيع والشراء، وما إليها…

والأدب في الغالب منبعه أحد أشياء ثلاثة: إما النفس المؤدبة التي تكون بطبيعتها ذات أخلاق وآداب، وفضيلة وعدالة، وأما مصاحبة ذي أدب جم، وملكة رفيعة، وإما الاكثار من مطالعة كتب الآداب، وتطبيقها مع الخارج.

وربما يستفاد الأدب، ممن لا يتأدب، فان الإنسان إذا نظر إلي القميء البذئ الوسخ السخيف، لا يبرح حتي يستنكر فعله، ويزدري عمله، وينظر إلي فاعله نظر احتقار وتصغير، وبذلك يدرك نقص العمل وانه ينبغي أن يتجنب، ويفيده ذلك الأدب…

فانك إذا نظرت الرجل القاذورة، تنفرت منه نفسك، وعلمت أن مثله ينبغي أن يحتقر، فتترك القذارة إلي حسن الخلق، وإذا نظرت إلي الثرثار، أدركت قبح الثرثرة، وحسن الصمت، واكتسبت بذلك الصمت، وهكذا، ولذا قال (بوذرجمهر) الحكيم حين سئل منه: عمن تعلمت الأدب؟ «عمن لا أدب له» وما أعظمها من كلمة، بل يمكن أن يقال: ان هذا النحو من الاكتساب أفضل، من الانحاء السابقة، إذ في تلك الانحاء إنما يدرك الإنسان الفضائل صورة، وفي هذا يدرك عملاً، فكم فرق بين من يعرف ان خلف الوعد قبيح، وبين من وعده شخص بشيء، ثم انتظره في أبان

حاجته، فأخلف، وهكذا…

ولو داوم الإنسان علي الأدب، وقهر نفسه عليه مدة من الزمن، لم يلبث أن يعلق الأدب بذهنه، علوق الشجاعة بنفس الشجاع، والكرم بروح الكريم، فيكون ذا أدب رفيع، لا يتدخل في شيء إلا تدخلاً أدبياً، ولا يخرج من شيء إلا خروجاً أدبياً، ويكون قدوة للمتأدبين، ومثالاً فذاً للمطالبين، وكتاباً متحركاً للأخلاق والآداب.

وليعلم: أن كثرة مراعاة الأدب، ككثرة الكرم، والشجاعة، وغيرهما من الصفات الجميلة، ربما تنقلب إلي الضد، فكما يكون الافراط في الكرم اسرافاً، والافراط في الشجاعة تهوراً، يكون الافراط في الآداب، قيداً وسفهاً، فان من يجلس جلوس أدب ونزاهة، في خلواته جلوسه في النوادي، كان أقرب إلي السخف من العقل، ومن لا يتعلم السباحة لكونها منافية للوقار، أقرب إلي السفه من الحجي، فلكل شيء مقام، ولكل موضوع محل، والشيء إذا جاوز حده انقلب إلي ضده.

الدارسة

ذهب اليوم الذي كان السيف الآلة الوحيدة في ميادين الجهاد، وانقضي اليوم الذي كانت الخيل والبغال والحمير أسباب النقل إلي مشارق الأرض ومغاربها، وانحسرت الأزمنة التي كان يكتفي من العالم أن يعرف بعض قواعد النحو والصرف، والبيان والأصول والمنطق، وزمرة من المسائل الفقهية، مضت كل ذلك كمضي الأمس الدابر، ولكل زمان شيء ولكل شيء زمان.

إن من يريد أن يقاوم العدو في هذه الدورة، لابد وأن يتسلح بالمدافع والطائرات، والقنابل والباخرات، وكذلك من يريد العلم والتبليغ لابد وان يصلح منهج دراسته، ويقوم معوج بحوثه، ويلم شعث معلومه، فلابد أن يقسم وقته القصير الذي لا يزيد علي أربعين سنة مهما طال إلي قسمين: قسم للعلم الأسبق بأدبه وآدابه، وقسم للعلم الحديث بفصوله وأبوابه، ويقتنع في منهج القسم الأول، بشيء من قواعد النحو والصرف واللغة والبيان، ويصرف الأكثر من وقته في

التطبيق علي اللسان واليراع حتي يعرف القاعدة، ويتمكن من تطبيقها، وليعتبر أمر معرفة القواعد عرضياً، وأمر التطبيق ذاتياً، فان القواعد ما وضعت إلا للتطبيق، فلو كان في ذلك كالمعري وأبي الطيب لم يضره عدم معرفة القواعد، كما أنه لو انتفع بعلمه وعرف القواعد، لم يفده ذلك.

وبعد هذا فليصرف شطراً آخر من عمره في معرفة المنطق والسفسطة معرفة تؤدي إلي التمكن والتطبيق، وتمييز فاسد القضايا من صحيحها، لا عرفان المختلطات والمشبهات والمخيلات.

ثم ليبتدئ بالكلام ومعرفة الدين الصحيح بالعقل والنقل، ويهتم أثناء ذلك بمعرفة المذاهب والأديان، أكثر من اهتمام القدماء بعرفان الوجود والعدم، والحال والمحل، وبعد ما توفر لديه مقدار كاف من ذلك، فليشرع في أصول الفقه علي قدر الحاجة والاهتداء إلي مواقع الصواب والخطأ، لا القدر المستغرق للعمر، بل الاعمار، وبعد ذلك يكب علي معرفة الكتاب الحكيم وتفسيره، بما يدل علي معالم الظواهر، مستعيناً في ذلك بما ورد عن النبي صلي الله عليه و اله والعترة الهادين، لا ما احتمله رجال مما لم يدل عليه دليل، وليس له من الظاهر سبيل، والذي ارتئي:

إن نهج بلاغة الإمام عليه السلام، مما يجب أن يدرج في هذا المقام، فانه معين علي فهم أصول الدين والأخلاق، ومعرفة التاريخ الإسلامي والجاهلي، وبعد هذا وذاك، فهو منهل نمير لاستقاء القلم واللسان، وتمرين لقواعد النحو والصرف والبيان.

وليجعل في جنب القرآن الحكيم والكتاب الكريم، دراسة الأخلاق السامية، وتمرين التخلق بها، ومطالعة الأحاديث المروية مع لحاظ درايتها، حتي يصبح حين ما يدخل في الاستنباط، غزير المادة، جم الفقه، قوي الفهم، مطلعاً علي الأساليب الكلامية، فلا يأخذه الطير، أو تهوي به الريح في مكان سحيق.

ولما أتم هذه الأمور، كلا بقدر الوقت والاقتصاد، لا الاسهاب والامتداد، فليشرع

في بحر الفقه المواج، دخولاً متوسطاً حتي لا يبقي علي الجرف، ولايأخذه الموج إلي محل الغرق، فلا وقتاً أبقي، ولا معرفة حصل، كما قد يأخذ الأوحدي، بل الأكثري في هذه الأزمنة ذلك، فتراه لا يقطع من أربعين كتاباً من كتب الفقه، إلا المكاسب والطهارة، والحج والنكاح، وقد احترقت فحمة عمره، وأذنت قواه بالضعف، إن أقوال العلماء لا تتم، ودائرة التحقيق والتدقيق لا تزداد إلا اتساعاً، ولذا يري الرائي، إن من كتب في هذا الميدان الفسيح، لم يزد علي ربع الفقه علي الأكثر إلا من شذ وندر هذا منهج علم الدين بمقدماته.

وأما القسم الثاني من العلم، وهو الذي اتسع موجه في هذا العصر، حتي شمل كل قروي وبدوي، وإن كان في السابق له حظ من الوجود أيضاً، فمنهج درسه أن يقرأ شيئاً من الحساب، يعينه علي التمكن من الضرب والجمع، والطرح والتقسيم وما إليها، إلي أن يصل إلي الكسور الاعتيادية والعشرية.

وأما مسائل الجبر والمقابلة فهي لمن أراد أن يكون محاسباً فاضلاً، لا من أراد أن يصير عالماً جامعاً..

وشيئاً من الهندسة، بما يتبلغ به لمعرفة المثلث والمربع، والدائرة والقطاع، ليعرف مساحة الدور والأحواض، ويدرك البوصلة ونحوها، وشيئاً من علم الفلك قديمه المختصر، وحديثه المستطر، ليعرف القبلة بما كتبها القدماء، والمقاييس المتداولة فعلاً علي ألسنة الأدباء.. وشيئاً من الجغرافيا والتاريخ، فان هذين العلمين قد أصبحا اليوم ضروريين لا مناص عنهما للأديب والفقيه، والكبير والصغير.

ولو تطرق إلي الفيزياء والكيمياء وما إليهما بمقدار يعرف شيئاً من ضوئه الذي يستضيء به، ومروحته التي تحرك له الهواء، وسائرته وقطاره وطائرته ومداره، وميزان الحرارة والبرودة والمكواة، والمكبرة والهاتف والمذياع واللاسلكي والفوتوغراف والمضخات، لكان أكثر معرفة وأوسع إطلاعاً، كما أنه لو تطرق إلي علم

النبات وتشريح الإنسان، وبعض الطب وعجائب تركيب الحيوان، إزداد علماً بإله السماء، وكثرت قيمته لدي الأقرباء والبعداء، فان قيمة كل امرء ما يحسن، وارتفاع الفلز بحسن جوهر المعدن.

والأجود أن يحفظ في كل علم مختصراً، ويكتب في كل فن أسطراً، حتي يكون كالمكتب السيار، ويبقي ما بقي الليل والنهار، وقد كان علماء المسلمين يتبعون هذه الطريقة في كل وقت وزمان، تبعاً لنبيهم صلي الله عليه و اله حيث كان يعلم ما يكون وما كان، بوحي من الله المنان.

إن العالم هو المرجع الديني، الأدبي، الاجتماعي، السياسي، التأريخي، الفلسفي، وقد يريد الناس من العالم علم التعبير، والرمل والجفر والتفسير، فكيف يمكن أن يقتنع بضفيرة من الفقه، وليس هذا الكلام منا بعجب، فان من لاحظ سيرة النبي والأئمة (صلوات الباري عليهم)، لرأي الرجوع إليهم في كل صغير وكبير، وجليل وحقير.

وقد بقي علوم لم نذكرها، كالتجويد والعروض والقراءات، لكن بعضها أشبه بالزوائد، وإن كان في الاغتراف منها فوائد.

وليعلم إن ما ذكر من العلوم والمعارف، يحتاج اكتسابها إلي جد واجتهاد، وتشمر عن ساعد الجهود، فلا تغرب شمس نهاره إلا مكباً علي الدرس باحثاً، ولا يشيب شعر ليله إلا مطالعاً فاحصاً، فان العلم كما يقال عن لسانه يقول:

«أعطني كُلك، أعطك بعضي».

وليصرف همه إلي معالي العلوم ولبابها، ومجامع المعارف وعبابها، فان العلم سبيله سبيل ما سواه من الموجودات، اشتمل علي الغث والسمين، والحسن والأحسن، وجوامع الكلم، وأطراف الحكم، فليأخذ السمين الأحسن، الذي يفتح منه أبواب، وليترك الغث الذي ثمنه أقل من العمر المصروف من أجله، والله ولي التوفيق.

التربية والمحيط

أمران لهما كمال التأثير المباشر بحياة الكائن الحي، مهما كان من نبات وحيوان وإنسان، هما: التربية والمحيط.

إن النبات ينجم في الأراضي المستنقعة التي لا تشرق

عليها الشمس، فيكون أصفراً ضعيفاً بدون بهجة رواء، ونضارة ورونق، وهذا النبات بعينه، ينبت في التربة الصالحة، لا شرقياً فيعدم أشعة الشمس عند مغيبها، ولا غربياً فلا يري مطلع الشمس فيخضر بهيجاً، يستلفت البصر، ويستهوي القلب، وهذا الاختلاف نشأ عن تبدل المحيط، كما أن كلاً من القسمين لو هيئت لهما العناية الكافية والتربية الصحيحة، كان الفرق بين ما ربي، وما لم يرب، كالفرق بين النابت في هذا المحيط، من النابت في ذاك المحيط.

وكذلك الحيوان، فالذي ينشأ في موضع مناسب لقوامه، وكان تحت تأثير مرب عارف، يفرق عن الذي ينشأ في محل لا يناسبه، أو لم يهتم أحد بتربيته، وهذا أمر ملموس لا يختلف في اثنان.

الإنسان، وهو أحد الموجودات الحية، لا يختلف في هذه الظاهرة عن أخويه: النبات والحيوان، بل ربما كان تأثير التربية والمحيط فيه أكثر وأكثر، ان البياض والسواد، والحمرة والصفرة في أفراد الإنسان ناجمة عن اختلاف المحيطات، فمن كان أقرب إلي المحور كان أكثر سواداً، ومن كان أبعد كان اكثر بياضاً، وما بينهما الحمرة والصفرة، يؤثر المحيط في اللون والشكل، والأخلاق، والأمزجة، كما يؤثر في الطول والقصر، والحسن والقبح، والصحة والمرض، والذكاء والبلادة، وما إليها…

وكذا للتربية أهمية كبري من ناحية الأخلاق وما يمت إليها بصلة، وإن كان تأثيرها في اللون والشكل أقل من تأثير المحيط، لو ربي الصغير من فاتحة عمره بحب الخير، لا حبه.. ولو علم حب الشر، لا حبه.. فان الصغير كالشمع يتشكل بكل شكل، ويتطبع بكل طبع، ويرجع إلي ذلك غالب التقاليد الدينية التي ما تزال حلقها متصلة من الأجداد إلي الآباء، ومنهم إلي الأبناء، ومنهم إلي الأحفاد وهكذا.، حتي يقطعها قاطع، ويفرق بين حلقاتها قاسر، ولذا نري أبناء الطبيعيين

يعتقدون بالطبيعة، والاباحيين يتخذون الاباحية، وكل من أبناء اليهود والنصاري والمسلمين، يتبعون آباءهم، بالرغم من صياح العقل بحرمة التقليد في مثل هذه العقائد.

ومثل التقاليد الدينية، تقاليد العادات، فلو جرت عادة جماعة بجعل التحية رفع اليد إلي الصدغ، تبعهم أولادهم، وكذلك لو جرت برفع القبعة، أو السلام، أو قول صباح الخير، إلي غير ذلك، فالتربية كالحجر الأساسي لبناء مستقبل العمر، فمن علمه أبواه ومعلمه ومحيطه علي الصدق صدق، وعلي الكذب كذب، وعلي الأمانة صار أميناً، وعلي الخيانة صار خائناً، وعلي العدالة عدل، وعلي الظلم ظلم، إلي غير هذه من فضائل الأخلاق ورذائلها، ومحاسن الصفات ومساويها، وصالح الأعمال وفاسدها وخير الأمور وشرها، وطيب الأقوال وخبيثها.

ومن الأمثلة الرائعة لدعم المطلب، ما يحكي عن عمر بن عبد العزيز الخليفة المرواني، حيث انه سئل عن السبب الذي منع من أجله سب علي أمير المؤمنين عليه السلام مع أن الناس في تلك العصور كانوا يتناولونه من جراء دعايات الأمويين، حتي أصبح من التقاليد الموروثة لدي الأغلبية الساحقة إلا من عصمه الله فأجاب بأن العلة لذلك أمرين:

الأول: انهم حين كانوا أطفالاً عند المعلم يقرأون القرآن وسائر الدروس، جرت عادتهم لسبه عليه السلام في المكتب، ثم انه اطلع استاذه علي ابن عبد العزيز يوماً وهو ينال من علي عليه السلام فلما خلا المكان، قال له المعلم: هل بلغك إن الله تعالي رضي عن أهل بدر؟ قال: نعم، قال: وهل لك ما يدل علي انه غضب بعد ذلك عليهم؟ قال: لا، قال: فلم تسب من علمت رضي الله عنه، ولم تعلم سخطه عليه؟ قال عمر: قلت له: وهل كان علي عليه السلام حاضراً في بدر؟ قال المعلم: وهل خمدت نار تلك الحرب إلا بسيفه؟!

قال عمر: فرجعت إلي نفسي، وعجبت من أمري وأمر أقربائي والمسلمين! كيف يسب مثل هذا الشخص؟ وكيف لا يمنع عن ذلك أحد؟ ان ذلك أمر عجاب!!!

الثاني: انه كان والدي خطيباً مفوهاً، يخطب كالليث، ثم انه التفت إليه يوماً وهو يخطب، فلما أتم خطبته وأراد أن يسب علياً عليه السلام كما هو مرسوم الخطباء في أيامه، رأيته كأن مانعاً يمنعه عن ذلك، ويتلجلج، وكأنه يقلع الكلام عن لسانه قلعاً، فقلت في نفسي: لعله عرض له عارض ثم اني جربته بعد ذلك، فرأيته كذلك يكون في جميع خطبه، فهو يخطب كالسيل الجارف، فلما يصل الدور إلي سب الإمام عليه السلام يجمجم ويطمطم، ويتلجلج لسانه، فتعجبت من هذا الأمر غاية العجب، وقلت: لابد وأن يكون لهذا الأمر سر خفي يكتمه عني! وصرت في صدد الاستفسار، فسألت عنه يوماً عن السبب؟ فرأيته يخفي عني، ولا يبوح بما في ضلوعه، فأصررت عليه إصراراً، حتي أخذ مني العهود والمواثيق، بأن لا أبدي الأمر لأحد، وبعد ما اطمئن من دخيلة أمري، قال: إن سبي لهذا الشخص بدافع الراتب الذي أتقاضاه من الخليفة، وبحافز الابقاء علي مقامي ومنصبي، وإلا فان الإمام عليه السلام من خلفاء رسول الله صلي الله عليه و اله، وهو ممن يلزم أن يمدح ويعظم، لا أن يسب ويهان، هذان هما الأمران اللذان سببا منعي من سب الإمام عليه السلام، وكنت قد نويت من ذلك الحين: إني لو تمكنت من المنع، لأمنع في أول أزمنة الامكان، ولو اقتضي منعه كل غال وثمين.

وقد احتال لمنع السب حيلة ظريفة، ذكرتها كتب التاريخ والسير، وليس مما يهمنا هذه الكلمة، وإنما المقصد ذكر مثال يبين شدة صلة التربية بالعمل، فمن أحب أن يري الخير

في أولاده، فليربهم تربية صحيحة، تقر بهم عينه، ويثلج بهم صدره، وكل دولة تحب خير الشعوب، كان عليها، أن يكنفهم تحت تربية فضيلة وأخلاق، ودين وعلم وأدب وثقافة.

رثاء العمر

الآن وقد ترائي شبح الموت الجاثم عن كثب، واشتعل مبيض رأسي في مسوده، وذهبت عني حمارة قيظ الشباب، وترقرقت في جنباتي صبارة قر الشيب، وأخذ العمر يذوب شيئاً فشيئاً في شمس الخريف، حتي لا يبقي منه شيء حتي الحفنة الأخيرة، وانشأت الروح الحارة تصرد علي القوة تصريداً، وطفقت سماء النشاط تمطر طلاً رذاذاً، لا وابلاً غزيراً، فلا تعشوشب أراضي الفكر التي كانت يخرج نباتها باذن ربها إلا نكدا، لا ينجح مرعاه، ولا يسر مرآه، وشرعت أتنهد تنهد من فقد أعز ما لديه من مال وولد وعلم وجاه.

الآن وقد وصلت قمة حياتي..

قد بلغت الثلاثين وهو نصف العمر الطبيعي الذي أقدره لنفسي، والإرادة بيد الله، ولا أدري كيف أنحدر؟ هل كما صعدت؟ أقوم مرة وأقعد أخري، وأفرح تارة وأكتئب تارات، يرفعني سعد وينزلني نحس، يسوقني أمل ويوقفني يأس، بين غني وفقر، وصحة ومرض، وعز وذل، ورضي وغضب..

أم يكون انحداري كجلمود صخر حطه السيل من عل، فلا أري غير لين الشيب، وهدوء الضعف، وملائمة بياض الشعر، أم خفي لي الدهر بين طيات مستقبله الغائب شروراً وآلاماً، وأمراضاً وأسقاماً، وسباً وضرباً، وحبساً وذلا، وهوناً ومقصلة.

لعمرك ما تدري الطوارق بالحصي

ولا زاجرات الطير ما الله فاعل

الآن، وقد أخذت نذر الشيب تتري، واحداً تلوي الآخر، وثانياً تلو الأول، فبينما يقوم أحدها في اللمة، يقوم الثاني في الصدغ، والثالث في العثنون، كأنها نبال مريشة من مرامي الموت الكامن وراء أكمة الشيخوخة، ترميها كي تضعف هذه المنة، فلا تعضل عليه الصراع، ويكون له الغلب عن اللقاء،

الآن، وقد قرأت في سجل حياتي سطور العمر المنقضي، وتذكرت خيره وشره، ونجده ووهده، وجده وهزله، وعزه وذله، وحله وترحاله، وضعته واقامته، وصدقه وكذبه، وأحلامه وآماله، وأمانيه وغروره، وضعفه وقوته.

تذكرت حين كنت طفلاً أغرد كالشحرور في أغصان الرياض، لا أحمل هماً، ولا يشوب خاطري شائب حزن وألم، ولا يخالجني مضض وارتماض، ألعب مع أترابي، وأمرح مع أصحابي، لا أنام إلا فرحاً، ولا أستيقظ إلا جذلاناً، لا أري وراء يومي يوماً، ولا بعد فرحي حزناً.

وتذكرت أبان يفعتي حين كنت أغدو إلي الدرس صباحاً، وقد خالطني خوف العلم، وشماتة الرفاق إن لم أكن حفظت درسي، أو نبي بي ذهني في ما حفظته، ثم أروح إلي الدار مستبشراً فرحاً، أطير إليها طيران الحمام الزاجل، ألقي تعب المعلم والتلاميذ عن الكاهل، وتذكرت زمان كنت أعد فتي من الفتيان، وشاباً من الشبان، يجد جدي في التعليم والتعلم، والبحث والنقد، والحل والنقض، أتعلم الأصول تارة، وأعلم النحو أخري، وأباحث الحساب حيناً، والهندسة زماناً، وأطالع التاريخ والجغرافيا، وأمارس الكلام والفقه.

وها أنا وصلت إلي دوري الرابع، ولا أدري كيف يمر بي؟ أمرور الكوكب الزاهر في السماء؟ أم هوي الشهب دفعة في الظلماء؟ لا أدري هذا ولا ذاك؟ وإنما أدري خطفة الزمان، وعجيب تقلب الأيام، وانتقال الدهر من حال إلي حال، فلا أبقي كما أنا ولا يبقي كما هو، بيني وبين مستقبلي جدار لا يمكن نقبه، ولايعقل تسلقه، حتي أري ما وراؤه، وما تخط لي من الخطوط، وما يقسم لي بين الأقسام والأنصبة، أيزجر الطير بسعدي فأغتبط؟ أم بنحسي فأحزن؟ وأتمد أنامل القضاء خط عمري في خرائط الأعمال فأطيل الأمل وأحكم البناء؟ أم تقصر فأقصر الأمل وأزيد في العمل، وأتدارك ما فات، وأشد الحزام

لما هو آت.

لا علم لي بأي الأمرين، ولا أتمكن من استطلاع ما احتوت ضلوع الغيب المستور، كل ما أعلم ان عمر الدنيا قصير مهما طال، ومدته إلي انقضاء وان امتدت، فكأني انحدرت من هذه القمة التي أنا عليها اليوم، فوصلت السفح، وهناك دعاني داعي المنون، وقضي علي بقضائه الأخير، وحكم علي بترحال لاأرجو معه رجوعاً، وبظعن لا آمال معه في اقامة، حتي وانه ربما لا يمهلني لوداع أصحابي، واسترضاء أحبابي، ولا يستعتبني ولا يرضيني.

المبالغة

قسم من الناس يجيش في نفسهم جائش الاضطراب، فلا يجدون ملجأ لاطفائه إلا بإعمال إحدي المشاعر، إما أن يبطش بيده فتكاً وقتلاً وضرباً، وحركة ولعباً، وإما أن يرفس برجله ويركض ويحركها حركة، وإما أن يصيغ إلي أنغام وأصوات وما أشبه، وإما أن ينظر إلي مناظر مدهشة، أو منازه مطربة، أو أمور عجيبة، وإما أن يسوم لسانه في الرطب واليابس، سوم الماشية في الحشيش والخلاء، فيطلق مقوله رفعاً وخفضاً، وسباً وشتماً، ومبالغة واغراقاً، فان النفس الجائشة كالنار المحبوسة في التنور المسدود، لا تجد أبداً من أن تخرج من بعض ثقوبه، حتي تتنفس وتقذف بعض ما بها من الضغط، ولذا يهدأ الغضبان إذا استعمل بعض أعضائه استعمالاً خارجاً عن المعتاد.

المبالغة قسم من الكذب، إلا أنه كذب لا يؤاخذ به إذا لم يخرج عن حدودها المعروفة، فربما يبالغ المسهر في ساعة من الليل، فيقول ما نمت البارحة، وربما يخطو إلي فوق ذلك فيقول: ما غمض لي جفن في الشهر الماضي، وربما يغرق فيقول: ما زار الكري عيني في العام الغابر، ان الأخير والحق مبالغة بشعة لا يستسيغها الذوق، وإن اشتركت الثلاثة في كونها تخالف الحقيقة، وتنافي الواقع.

قد يقول المبالغ: إن فلاناً كالبحر جوداً، أو

كالمزن كفاً، أو أفضل منه:

(فذاك يعطي ويبكي، وأنت تعطي وتضحك).

وقد يمثل وجهه بالشمس الضاحية، أو القمر ليلة البدر، وقد يشبه المسلمين وهم ستمائة مليون() بحفنة الكف، فيقول: ما قدر ما تصنع هذه الحفنة تجاه أعدائها الألداء.

الأفضل للرجل أن يترك المبالغة قليلها وكثيرها، إلا قدر ما يستلذه الواقع، ويستسيغه الطبع، ولا يتنفر منه الذوق السليم، والذي أخال أن كراهة الشعر في الشريعة الإسلامية، بعض أسبابها: هي هذه المبالغات التافهة التي لا يزال الشعراء يستعملونها، والألطف أن كلاً من المبالغ والمبالغ فيه، ومن السامعين والناظرين في الدواوين، لا يفوتهم كذب المقال، وان هناك مأرباً خفياً جعل الشعر ستاره المسدول، من رغبة أو رهبة، أو تفريغ خاطر، أو متعة بأوهام.

ويفوت المبالغ ان الواقع أظهر من أن يخفي تحت حواجب المبالغة والاغراق، إنا كلا نعلم أن حاتم الطائي أجود من فلان وفلتان، ممن مدحهم الشعراء بمدائح هي غاية ما بلغ إليه فكر الشاعر، إلي غير ذلك من أوصافهم في البساطة والنجدة، والاقدام والاقتحام، والحسن والجمال، والخدم والحشم، والعلم والكمال.

وأما المبالغ في النثر فهو أسقط من المبالغ في الشعر، إذ ينصر الشاعر ناصر فيقول: أكذب الشعر أعذبه، أو أعذبه أكذبه، لكن المبالغ في القول لا يجد ناصراً في الأرض ولا في السماء، فلا يزال يبالغ، حتي يعرفه الناس بذلك، فتقتحمه العيون احتقاراً، وتشمئز منه النفوس صغاراً، وتتجافي عنه المسامع أنفة واستكباراً، فيعرف في الملأ بأنه ممن يجعل الجنة قبة، والذرة درة، والأرض سماءاً، والقطرة دماءاً.

ولقد منيت فيما منيت به برجل يقول عن استقبال حفاوة بوفد، وقد لايكون عدد المحتفين أزيد من مائة: استقبله مائة ألف أو يزيدون، ويقول لسهاد هزيع من الليل من وجع سن ألم به بعض الالمام: انه

أصيب في الليلة بسهر مستمر لوجع رباعية، لم ينزل بأحد من الأولين والآخرين، ولا يبالي أن يقول عن عالم ما أظنه تجاوز حدود أقرانه لو أحسنت الظن أنه لا يمر بالصراط بعد من اختاره الله للرسالة أو اصطفاه للولاية أدق ذهناً، وأقوم ذوقاً، وأعدل سليقة، وأقرب فهماً منه، ولقد رأيت فيمن رأيت من هذه الطبقة من جعل عدد تلاميذ بعض المدرسين فوق الخمسمائة، ومن سوء الحظ! إني كنت أحضر درسه ولم يكن يتجاوز عددهم عن العشرين، إلي غيرهم من المبالغين.

إن من يتكلم عدلا، ويقول فصلا، ولا يرفع شيئاً فوق مستواه، ولا ينزله دون مأواه، يكثر الاعتماد عليه، والاستناد إلي قوله، ويوسم عند الناس بسمة الوسط، وانه غير مقل ولا مكثر، ولا معظم ولا محقر، ومثل هذا الشخص هو محور التاريخ، وقطب الأخبار، وميزان الرجال، ومقياس الحوادث والوقائع، ولذا نري فيما يري أن بعض المؤرخين يوصمون بوصمة الاقلال أو الاكثار، أو الجرح أو التعديل، أو التعظيم أو التحقير، فلا ينقل عنهم ناقل إلا موصما، ولايكتب عن أسفارهم كاتب إلا معلقاً، وبذلك تنهار مكانتهم الاجتماعية، وتذهب ريحهم، ويلحقهم الفشل.

ليعلم المتكلم، وليدرك الكاتب، أن المبالغة هجنة وعار ومنقصة، وإن ترك المبالغة أقرب إلي قبول الناس، والنفوذ إلي أفئدتهم من المبالغة، فان الباطل لايعلو وإن تعالي، ولا يكبر وإن تكبر، وإن الحق هو خير وأبقي، وليترك كل منهما المبالغة ان أحب سمعته، وأكبر منزلته.

ومن الغريب المناقضة التي تقع بين المبالغين، فهذا يرفعه إلي السماء، وذاك ينزله حتي يلصقه بالدقعاء، وكل واحد منهما ضئيل الفكر، مضطرب الجنان، لايقدر لكلام ميزاناً، ولا يحسب لقلمه حساباً، ويبوء بالآخرة بخسران الثقة عن السامعين والناظرين، ولم يحصل ما رامه من رفع ممدوحه في أنفس

المصغين، وإنزال خصمه في أعين المبصرين، أو ما إليهما مما يتطرقه الاغراق، وتشينه المبالغة.

والمبالغة والاغراق، وإن كانا يظهران في المقول واليراع، إلا أن منبثقهما القلب، فمن حفظ قلبه حفظ اسلات لسانه وأطراف بنانه، وليس بين هاتين الخصلتين: الاعتدال والمبالغة، إلا الملكة الحاصلة من التمرين، فمن زم لسانه، ولجم بنانه، عن الزيغ والميل، مدة فلم يفرط في الكلام، ولم يفرط في الأقلام، وفق للوسط وحصل علي ملكة عادلة، وذوق مستقيم، فيري بشاعة المبالغة فيتركها، وقبح الاغراق فيتجنبه، وبذلك يصبح أميناً في الحديث، معتمداً في النقل، ثقة في الأنظار، يؤمن شططه، ولا يخاف مينه ولغطه، ويكون ممن يفتخر به التاريخ إن كان مؤرخاً، والصحف إن كان كاتباً، والجليس إن كان صديقاً، والتريب إن كان حميماً، والبعيد إن كان مطلعاً.

والمبالغ لا يؤمن جانبه علي كل حال، فان كان مادحاً أوصل الممدوح إلي الجوزاء، وإن كان ذاماً نزل به إلي الغبراء، وإن كان ناقلاً زاد في الحديث ان أحب الثرثرة، ونقص منه إن راقه الانتقاص، فهو كالارجوحة التي لا تبقي علي حال، وإنما تترجح بين الهبوط والصعود، والمترنح الذي يتمايل يمنة ويسرة.

القول والعمل

القول منجم العمل ومصدره، ومبدؤه ومظهره، فلولا القول لم يقم للعمل قائم، ولا كان له أساس ودعائم، ونسبة القول إلي العمل، كنسبة البخار إلي المطر، فلولا صغار الأمواه الصاعدة، لم يكن للسحب وجود، ولا الوابل بموجود.

وقد يخطئ القائل: إن الأثر في العمل وحده، وإن القول نازح عن النتيجة، لا علاقة بينه وبينها.

ولو شئت قلت: ان الكلام كالبذرة، والعمل كالشجرة الباسقة، فلولا البذرة لم تكن شجرة، ولولا الشجرة لم توجد ثمرة، والذي يقول: فلان رجل القول لا رجل العمل، وإن كان بمكانة من الصواب، إلا أن القول لا

يمكن إخراجه عن إطار العمل بالكل، فان اطار العمل يضم الفكر والقول والعمل، والنتيجة تترتب علي جميعها، إلا أن صدورها عن العمل بالمباشرة، بخلاف القول.. فانه أبعد بمرتبة، والفكر فانه أبعد بمرتبتين.

ولولا رجال القول، لم يتكون رجال العمل، كما أنه لولا رجال الفكر لم يتكون رجال القول، فكر، فقول، فعمل، فنتيجة.

ويشهد لذلك اهتمام كل من الأندية الدينية، والدعاية الحكومية، بالقول اهتماماً بليغاً، فان المذياع والصحف والكتب والمجلات وما أشبه، كلها قول وشبه قول، أليست خطب الخطباء، وألسنة الشعراء، وعظة الوعاظ كلها قول، وتترتب علي كلها النتائج الناجمة عن الأعمال؟

أفليست العقوبات قد وضع شطر كبير منها علي الأقوال؟ والمثوبات قد جعل قسط سخي منها علي الكلام؟ ولو لم يكن للقول أثر كما يزعم الزاعم فما تلك وهذه؟!

أنا أؤمن بالقول ايماني بالعمل، وأؤمن بالفكر ايماني بالقول والعمل، ولو نظرت إلي العالم نظرة معتبر، لرأيت الشرائع، والحكومات الفعلية والسابقة كلها مبنية علي أساس من القول.

فبوذا() لم يكن بدء أمره إلا رجلاً يدعو إلي مبدئه بالكلام فحسب، ثم قوي حتي صارت من الشرائع ويسود فعلاً علي خمس أهل العالم.

وموسي عليه السلام، كان يدعو بلسان ثم قوي حتي حطم كيان ملك عظيم.

وعيسي عليه السلام، بني شريعته علي القول، فكان يدعو بدون عدد وعُدد، ثم انتشر دينه، حتي ساد في العالم الحاضر علي أكثر من ربع أهل العالم.

ومحمد صلي الله عليه و اله كانت شريعته مبينة علي القول، فكان يدعو في مكة المكرمة باللسان فحسب، وبعدما اكتمل له الناصر جاهد مدافعاً، ويعتنق دينه اليوم أكثر من ربع أهل العالم.

و(جمال الدين الأفغاني)() لم يكن بأزيد من داعية بالقول، ولم يكن له سلاح إلا اللسان، وقد ذكر (عباس محمود العقاد) الكاتب المصري المعاصر،

وغيره: انه هو مبدأ حركات مصر وإيران والهند، مع العلم: إن هذه الأماكن تضم بين جوانحها ما يقرب من خمس أهل العالم. إلي غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.

لا أقول: إن القول ناجح مائة في المائة، بل أقول: له الحظ الوافر في بناء أمر وهدم آخر، وتأسيس دولة، وإبادة دولة، وتشييد دين سماوي كأديان الأنبياء الثلاثة (عليهم الصلاة والسلام) أو طريقة بدعية كما هي كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها.

فيتكلم المتكلمون، ويقول القائلون، إن أرادوا رشداً، ولكن يلزم علي المتكلم رعاية شرط إن أراد التأثير القريب، وهو أن يكون بليغاً، بمعني القاء الكلام بمناسبة الظروف، علي ما يرتضيه المصغون، فلا يكون الكلام نابياً عن المسامع، بعيداً عن المدارك، واقعاً في غير موقعه، فانه ربما تنعكس النتيجة، وينقلب المرمي، ويكون عليه لا له.

وأما العمل فهو العلة المباشرة للتأثير، لكن القائم به قليل، بل أقل من القليل، ولذا تكون النسبة بين القائل والعامل، نسبة الواحد إلي الألف أو نحوها.

أُمّي

كم أخجل يا أماه إني كنت في القديم، لا أعرف قدرك، ولا أنزلك منزلتك التي تليق بك، ولا أحترمك حق احترامك، ولا أكون عند أوامرك ونواهيك، ورغباتك وطلباتك، بل كنت قد أنظر إليك بنظر المهانة والازدراء، عوض أن أرمقك بالعظمة والكبرياء.

آه وما أكثر ما حملت من أجلي من التعب، وعانيت من النصب، فقد حملتني أبان كنت جنيناً في احفظ عيبة عندك: بين حنايا ضلوعك، متصلاً بفؤادك الذي هو منبع الرحمة والخير، فكان ثقلي ينوء بك عن القيام والقعود، والذهاب والاياب، فكنت تحملي ذلك راضية مغتبطة، فرحة مستبشرة، فلم أكن أزدد وأنا جنين إلا ثقلاً علي ثقلك، ووهناً علي وهنك، ولم تكن تزددين، إلا رضاً علي رضا، وصبراً علي صبر.

فلما أن

اقتربت ولادتي، وأزفت حياتي، تحملت من آلام الطلق والمخاض، ما لا يحمله بشر، ولا يدرك قدرها إلا أم مثلك، فكنت تتململين تململ السليم، تتنهدين مرة، وتكبين من شدة الوجع مرات، يندبك كل من يسمع صوتك، ويري تغيرات لونك، ويصغي إلي آهاتك، حتي القابلة لم تكن تقدر علي أن تري حالاتك، وكنت مع ذلك كله، صابرة محتسبة، تتوسلين إلي الله تعالي في أن يسهل عليك الولادة، وتتضرعين إليه في أن ترين قرة عينيك، وثمرة فؤادك.

آه!

ما أخجلني يا أماه، من هذه اللفظة:

«قرة عينيك، وثمرة فؤادك».

وإذ سقطت إلي الأرض، وزرت هذا العالم لأول مرة، استبشرت وكادت غبطتك بي أن تنسيك آلامك، فعلقت قلبك بي، وقرت بولدك عينيك، وثلج فؤادك، وبكيت فرحاً وسروراً، وغبطة وحبوراً، ثم كببت علي رضاعي وحفظي، فكرست حياتك كلها علي، فكنت لا تنامين حتي أنام، ثم يوقظك من أعمق نومك اللذيذ، صوتي الذي يقرع مسامعك فتقومين راضية، لا ترين أذية من ازعاجي إياك.

الحياة منخل

صدر التاريخ أضيق من أن يشمل علي كل حادث وكل تافه، وأوراق الكتاب أضن من أن يرقم فيها كل أمر جل أو دق، وأعين الناظرين وآذان السامعين وأفئدة الوعاة والسنة الناطقين أقصر من أن تحتوي كل شيء صغر أو كبر.

إن المدارك والمشاعر فطرت محدودة، لا تكفي لكل ما يحتويه الكون. فان للكون دفتراً رحباً، وفضاءاً وسيعاً، طويلاً عريضاً، يمتد في بعده الطولي من أول خلقة العالم إلي انقضائه، وفي بعده العرضي الكرة الأرضية بسطحها وجسمها، بل الفضاء الوسيع المهول، الذي قدرت سعة مجرة من مجراتها وهي مجرتنا التي هي احدي من بين المجرات والسدم، بأن مسيرة قطرها قدر سير الضوء مليوناً من الأعوام، وكيف يسع بصر تحجبه ابرة، وأذن تسدها صمة، وفم

تمنعه شكيمة، وفؤاد هذه المشاعر طرائقها، الأرض والسماء، والبر والدأماء، والتاريخ ليس إلا أثراً من آثار هذه الحواس، فلا يضم علي أكثر مما تضم هذه المشاعر.

الحياة منخل يبقي السهمين، ويطرح الغش، وهو ذو أطباق، فطبقة لا تبقي إلا الأندر من الأمور المهمة وهي ما تعم الكل أو الأغلبية الساحقة، ومن أمثلة ذلك عظام المرسلين، وكبار المصلحين، وأمثالهم، ومع ذلك فربما تضن القلوب عن معرفتهم، مثلاً بوذا، مع العلم أنه يتمتع في هذا العصر بخمسمائة مليون من التابعين، لا يعرف اسمه فضلاً عن سائر ما يتعلق به في الشرق الأوسط، إلا القليل من الباحثين، والنبي محمد صلي الله عليه و اله مع ما ملأ الدنيا صوته، وتابعوه، حتي أحصوا في هذه الأيام بما يقرب ستمائة مليون() لم يسمع باسمه كثير من أهالي ألمانيا كما حدثني بذلك بعض البعثات العلمية مع أن الغالب في هذه الأيام غزارة الاطلاع والثقافة العمومية…

وطبقة تبقي المتوسطين من ذوي المراتب والكبرياء، فهم يتمتعون بمعرفة صقع خاص، أو مدينة خاصة أو ما إليها..

وطبقة تبقي الصغار من النابهين والنوابغ، وهذه هي الباقية، وأما ما عداها فطعمة الفناء والانزواء.

ان الرجل بالعمل يبقي وبالعمل يفني، وبالعمل يكبر وبالعمل يصغر، والعمل إنما هو بالهمة، فمن علت همته كثر عمله وذاع كبره، ومن سفت همه استسلم لصغائر الأمور وتوافهها، فلا يقوم له قائم، ولا يحلق طيره في سماء الكرامة والمجد والعظمة، وقد ورد: «يطير المرء بهمته، كما يطير الطائر بجناحيه» و «من رام شيئاً، أدركه أو بعضه».

فليكن هم الإنسان بعيداً، وعلمه عظيماً، وسعيه حثيثاً.. ان أراد البقاء، بقاءاً للاقتداء لا للكبر والبهاء، يقول القرآن: ?واجعلنا للمتقين إماما?().

الصراحة

يلوي كثير من الناس وجه كلامه حتي اليومي منه، فإذا سئل

عن شيء؟ أجاب عن آخر، ويريد أن يقول ما في قرارة نفسه، فيقوله غامضاً، ويحب أن يسأل عن أمر، فلا يصرح بمصب النظر، بل يطرفه ويجمجم، ويستشهد لأمر فيؤدي، ويستفهم عن كلام؟ فيطمطم…

ووجه فعله، فيفعل هنا شيئاً وهناك آخر، ويقوم هذا اليوم بعمل، وغداً بعمل آخر، ويظهر عملاً ويبطن عملاً آخر، ويرائي شيئاً لا يطابق الواقع، ويفعل شيئاً ثم يخفيه…

ووجه درسه، فيقرأ كتاباً فلا يبديه، ويبدي ما لا يقرأه، ويضع نفسه في موضع عالم، وليس هناك، ويرفع نفسه عن مقام علمي وهو هناك…

ووجه نظره، فينظر إلي مستملح، ثم يظهر أنه نظر إلي السقف وينظر في كتاب وهو ذاهل، ليخفي بلابل نفسه، وهواجس صدره، ولا ينظر إلي شيء وهو يظهر أنه ينظر فيه..

وهكذا يلوي رضاه وغضبه، وغناه وفقره، ونعيمه وبؤسه، ورفعته وصفته، وأهله وماله وولده، ونومه ويقظته، وصحته ومرضه، إلي غير ذلك.. ولو سأل عنه سائل: ما يقصد من هذا الالتواء؟ وأي شي يعود إليه؟ رآه لا يتحري جواباً، ولا يهتدي هو بنفسه سبيلا إلي علة ذلك، ولو قرن عمله الملتوي بعمل غيره ممن يمشي سوياً وهو علي صراط مستقيم، لم يوجد فرق بينهما، من حيث النتائج، فهذا يعيش في رفاه أو ضنك، وذاك يعيش كذلك، فان الضيق والسعة لايعللان بالالتواء والاستقامة.

نعم هناك فرق يلمسه كل لامس، ويحسه كل شاعر، هو أن الوثوق والاعتماد يقلان بالنسبة إلي الأول دون الثاني، فتري الناس يركنون إلي قول من يستوي سبيله، ويستقيم قوله، فان حدث اطمأنوا بصدقه، وإن وعد لم يشكوا في وفاه، وإن نقل علموا مطابقة كلامه للحقيقة، وان أبي يئسوا منه… ويهتدون بعمل من استقام عمله، فان كان مهندساً وثقوا بخرائطه، وإن كان طبيباً يتيقنوا اخلاصه في

الفحص وتشخيص الداء والدواء، وإن كان حاكماً رأوا صوابه في القضاء والحكم، وإن كان تاجراً سكنوا إلي بيعه وشرائه… ويسكنون إلي أحواله الأخر، فان رأوا الرضا في وجهه عرفوا دخيلة قلبه، وإن بدت الغضبة علي ملامحه تفرسوا ما في فؤاده، وإن أقبل توسموا وده، وإن أدبر تفرسوا عداه.

وجملة القول: ان الرجل الصريح يؤمن شره، ويعرف أمره، ويري دخيلته، ويكشف ما ضمت عليه جوانحه، وانطوي عليه ضميره، فالناس منه في راحة!! وليس الكذب، والغش، والغدر، والخيانة، والرياء، وما إليها.. إلا أغصان شجرة الالتواء وعدم الصراحة، فان الصريح يصدق لأنه مطابق لما عنده، وينصح لأنه ما يراه، ويفي لأنه مسلكه، ولا يخون لأنه دأبه، ويخلص لأنه ديدنه، وهكذا كثير من الصفات الذميمة الناجمة عن الالتواء.

وليس بين الصراحة والالتواء، إلا الملكة الراسخة في النفس، وتحمل بعض مشاكل الصراحة بادئ ذي بدء، فان الصريح يصرح حتي تعلق الصراحة بنفسه، فتجري علي لسانه وعينه، ويده ورجله، وذهابه ورجوعه، وكل حركة وسكون يصدران منه، فيعرفه الناس بالصدق، والأمانة، والاخلاص، والنصاحة وما إليها، وتكون حالة الصراحة عنده، كحالة الالتواء عند من اعتاده، لا فرق بينهما إلا أن ذاك صريح وهذا غامض ملتو.

وليعلم ان هناك شيء آخر لا يسمي صراحة ولا غموضاً، وهو الفرار عن المأزق بما يتجافي عن الصراحة، ولا يلتحق بالغموض، وهذا هو الوسط بينهما الذي ربما كان أفضل من الصراحة، فمن سأل الإنسان عن حبه له؟ وهو لا يحبه، لا تجبره الصراحة بقوله الحقيقة، حتي يجر إليه العداء، فانه يكفي لذلك الخروج عن الموضوع، أو السكوت عنه مهما وجد سبيلا، ولا شك ان الصراحة التامة مهما لم يكلف أمرها شيئاً أضر من الالتواء أفضل، وهذا حديث آخر غير حديث الالتواء

الذي يعلق بالقلب، فتظهر آثاره من المشاعر عفواً، بلا فكر ولاتلجلج.

يقال: إن رجلاً غضب عليه سلطان زمنه، فأراد قتله، فلم يجد الرجل بداً من الاختفاء، كي لا يصيبه مكروه، ولا يقع في مخالب الملك الدامية، وكلما عقب الملك لم يظفر ببغيته، لأنه كان أخفي من أن يناله حاشية الملك وجواسيسه، ومضت علي ذلك مدة سنتين، والملك لا يزداد في طلبه إلا إصراراً، والفتي لايزداد إلا اختفاءاً وتستراً، ثم ان في أحد الأيام قال رجل للملك: إن للفتي المطلوب أباً صدوقاً، لم يكذب ولا يكذب قط، فان رأيت أن تحضره، وتسأله عن أمر فتاه، فان علم مكانه لم يبال بالدلالة عليه لصدقه في كل صغيرة وكبيرة، وفي الوقت أحضر الملك أبا الفتي وأخذ يسأله عن مكان ولده؟ فلم يتحاش الوالد إلا أن أراهم مكانه وقال: هو في الدار الفلانية، في غرفة مخصوصة، متزي بزي النساء، تعجب الملك من ذلك وشك في صدقه، ولم يلبث أن أرسل هناك جنوداً وضباطاً للقبض عليه، وبعد برهة جاءت الجنود متبشرين وقد قبضوا علي الفتي.

نظر الملك في وجه الوالد مرة، وفي وجه الفتي أخري، وجعل يكرر النظر تحيراً وذهولا، كيف أن الوالد هداه إلي محل فتاه؟ أليس يحبه؟ أم ليس يخاف عقابي المحتوم الذي كان يعلم بحلوله علي ولده؟ ثم رفع رأسه قائلاً: عفونا عن الولد، ووهبناه لوالده، كرامة لصدقه، واكباراً لصراحته، حتي في مثل هذا الموقف الرهيب!!!

ثم ان من غريب أمر هذين الرجلين: الصريح، والملتوي، أن الناس يطلعون علي كل صغيرة وكبيرة من أمرهما، فلا يضعون الغامض حيث يضع نفسه، بل حيث وضعه الواقع والحقيقة، ثم ربما تعدوا عن ذلك، فلا يأتمنون الخائن، حتي لو نوي الأمانة، ولا يصدقون الكذوب،

حتي في ما صدق، ولا يركنون إلي الغاش، حتي فيما نصح، ولا يقدرون المرائي، حتي فيما أخلص، فيسقط عن أعين الناس، ويهوي في مهوي سحيق، بينما كان يرائي نفسه في السماء السابعة، وليس ذلك إلا لأن الحقيقة كالنور الذي يضيء، وإن لف بلفائف من الالتواء وأردية سوداء من الرذائل، وبهذا يخسر الغامض حتي حقيقته، في حين يربح الصريح كل ثقة وركون واطمينان واعتماد.

إنا لم نزل نمدح الصريح، ونذم الملتوي..

فهل أنا من الأول أو الثاني؟

الإجابة علي هذا السؤال من أبسط ما يكون..

فمراقبة يوم واحد من أيام حياتنا، بل ساعة من ساعات اجتماعنا كفيلة بكشف ذلك، لكن إذا لاحظناه علي ضوء الحقيقة، لا في ظلمة الأنانية وتبرير الذات.

التبليغ

إن كل مبدأ عرفه التاريخ يتجلي أول ما يتجلي في فكر إنسان، إما بوحي من الله سبحانه، أو بوحي من الظروف ومقتضيات الاجتماع ونحوها، ثم لا يزال ينمو حتي يجري علي اسلات لسان ذلك المفكر، أو يجري مع مداده علي أنبوب يراعه، ومنه يتعدي إلي آخر، وثالث، ورابع، إلي أن يملأ جواً من الأفكار، ويكون له مركزاً من الأدمغة.

والمبدأ مهما كان فانه كالبذر قد يصيب أرضاً خصبة في ماء وهواء وشمس وتربية، فينمو ثم ينمو حتي يصير شجراً ذا أغصان وفروع وجذور وثمار حلوة أو مرة حسب طبيعة الشجرة، وقد يصطدم بحجر في جوف الأرض فلا يمتد له عرف، ولا يرتفع له فرع، أو يصيبه إعصار فيه نار، أو يقلعه قالع، أو لا يصيبه الهواء والماء والشمس قدر كفايته.

فالمبدأ إن أصاب أفكاراً موافقة، وأدمغة خصبة، وآذاناً سامعة، وقلوباً واعية، كان ?كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوي علي سوقه?()، وإن لم تتوفر فيه الشرائط، أو اصطدم بمانع، كان ?كشجرة خبيثة

اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار?()، أو لا يبلغ هذه المرتبة، بل يحترق قبل أوانه.

وعلي كل حال فالتبليغ أساس المبادئ والأديان، ثم يتطور المبدأ، بعدما وجد أنصاراً، فيستخدم القوة، في تنفيذه ومد جذوره في الأرض، وفروعه في السماء.

الإسلام بما هو أحد المبادئ يكون حاله كحالها في الحاجة إلي التبليغ مهما طالت شجرته، وامتدت عروقه، بل النبي صلي الله عليه و اله لم يكن يستخدم القوة إلا في الحالات الضرورية التي لابد منها، فكان يدعو إلي سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل بالتي هي أحسن، فإذا رأي عناداً أكيداً، وشحناءاً وبغضاً، وحسداً وغلاً، صبر حتي يتعدي الطرف الآخر ثم يجاهد جهاداً نبيلاً، ويدافع دفاع شرف وفضيلة، ولذا كان كثير من الناس تستهويهم دعوته، ويقربهم خلقه، ويؤلفهم عطفه وحنانه، وقد حث صلي الله عليه و اله علي الدعوة والتبليغ ?فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم?().

اليوم قد أذن الكون للمسلمين في التبليغ الذي لم يكن يعرفه آباؤهم الأقدمون، هيأ لهم المذياع الذي يتكلم فرد ويسمع ملايين، وأعد لهم المطابع التي يكتب شخص، ويستفيد ألوف، ومهد لهم الطريق السهل في التعليم بسبب انتشار المدارس في كل مدينة وقرية، بل تعدي الأمر عن ذلك فبنيت المدارس في الصحاري والقفار، وبذاك وتلك وهذه اتسعت رقعة التبليغ، إن استغلوها.

وليس لأحد عذر عند الله تعالي في ترك التبليغ مع توفر هذه الوسائل، ربما تساعد الحكومات الإسلامية مع ما فيها، علي إلقاء الخطابة في المذياع، أو جعل الدين في المدارس، أو فتح المدارس والكليات، أو إخراج الجرائد، أو اصدار المجلات.

أليس من المؤسف أن يكون لباب النصاري الأعظم مذياع خاص يتكلم فيه مع العالم

بأربعين لغة، ويبلغ دين المسيح عليه السلام ويوقر تعاليمه وأحكامه، ويتلو آي من العهدين، ويفسر ويشرح ويعلق، وليس للمسلمين مثل ذلك حتي يعلموا الناس الكتاب والحكمة، ويهدوهم من الظلمات إلي النور، ومن الظل إلي الحرور، يبينوا أخلاق نبي الإسلام صلي الله عليه و اله وأحكامه وشرائعه ودساتيره وقوانينه، ويشرحوا قرآنه الحكيم، ويفسروه ويهدوا البشر إلي الصراط المستقيم؟

وليس الأمر بالتبليغ متوجهاً إلي صنف، أو شخص، فان الملك مسؤول عن رعيته، والفقيه مسؤول عن مريديه، والزوج مسؤول عن زوجته، والأب مسؤول عن ولده، وهكذا كل صنف «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» ().

فمن الجدير بنا نحن المسلمين أن ننفض عن أفكارنا قتام الخمود، ونهب عن المضاجع، ونشرع في تبليغ الدين والأخلاق، والفضيلة والآداب، فان أخذ بقولنا، وعمل بمبدئنا، سعد العامل، وسعد القائل، وإن لم يؤخذ ولم يعمل، فنجونا بقولنا، وكان الوبال علي من ترك العمل بعد العلم.

التعمق

أمران متعاكسان في النتيجة، وإن توافقا في المقدمة وهما: التعمق في الماديات، والتعمق في المعنويات.

كلما تعمق الشخص في شيء من الأمور المادية أورث تعمقه علماً، وفتح بحثه باباً كان موصداً عليه قبل ذلك، وكثيراً ما يظفر في نتيجة ذلك بكنز ثمين لايقدر جوهره، ولا تدرك قيمته، وأكثر ما نشاهد اليوم من المخترعات التي تفيض علي الدنيا فيض السيل العرم، وليدة التعمق، وذلك لأن في الكون أركزة لا تلمس بالمشاعر، ولا تدرك بالفكر المجرد، وإنما بابه الوحيد البحث والتنقيب، والتجربة والتقليب، وكلما ازدادت التجربة ازداد المعلوم، وبازدياده يزداد الاختراع والانتاج، ولو نظر الإنسان في تاريخ هذه الهنات المستحدثة، وانها كيف ولدت فترعرعت، فشبت، فوصلت حد كمالها الحالي، لآمن بمدي تأثير الفكر والتعمق والتجربة في المدنية والرقي والعمران.

أما المعنويات، فلا يزداد المتفكر

فيها إلا حيرة واضطراباً، وذلك لأن نتائجها مما لا تلمس بيد، فانها غير قابلة لذلك، ويحلق بذلك التعمق في الألفاظ العرفية، ولذا تري أن مباحث كثير من العلوم اللفظية إذا دخلت فيها التدقيقات لاتزداد إلا تعقيداً وغموضاً واعضالا.

ولو نظر باحث في كثير من مباحث الصرف والنحو واللغة والمنطق والأصول والكلام، مما نمقها قلم متعمق لوجد لما ذكرناه ألف شاهد وشاهد وكثيراً ما يقع اللف والدوران في المسألة من جراء التعمقات العقيمة.

إن (أشياء) لفظة استعملتها العرب غير منصرفة، والمتبع في اللغة: العرب، لا أزيد ولا أقل، أما أن أصلها كذا، ثم عمل بها كذا ثم صارت كذا، فمما لايرتبط باللغة، بل هو أشبه بالبحث عن الضياء في الظلام، وعن الحقيقة في الأوهام، وكذا: الأمر معناه العرفي هل هو الوجوب أو الاستحباب، شيء يرجع فيه إلي العرف، كالرجوع اليهم في ان الماء ما هو؟ ودار زيد أين هي؟ أما الاستدلال لذلك بأنه طلب، والطلب يفيد الوجوب، أو انه القاء في عهدة المكلف، أو نحو ذلك، فمما هو أشبه باللف والدوران، وتعريف الوردة بأنها جسم يشمه الإنسان، لقد أصاب الأولون حيث اقتصروا علي متن اللغة، وعلي موارد العرف في المبحث الأصولي، والتوت الطريقة بعد ذلك، فربما وجد الباحث نفسه في علم لا يعرفه، فهو يبحث عن الحكم الفقهي، فإذا يري نفسه في الأصول ثم يظن انه آخر المطاف، فإذا نفسه في علم الكلام، ثم يخال انه آخر الشوط فإذا نفسه في الحكمة، ثم اما أن يرجع من حيث أتي، أو يبقي صفر اليد.

وربما تذكرت في أثناء مثل هذه البحوث عن اللغز الذي جعله بعضهم عن (القبلة) فقال: هي ضد (شرقي) بعدما أجري عليه التعريب والتعجيم والقلب والتصحيف، وسلسلة

الوصول هكذا:

1. شرقي.

2. غربي.

3. عربي.

4. ربيع.

5. بهار.

6. نهار.

7. يوم.

8. موي.

9. شَعر.

10. شِعر.

11. بيت.

12. دار.

13. راد.

14. زاد.

15. توشه.

16. بوسه: وهي القبلة.

وأما (الحكمة) فكثيراً ما ينتهي بالإنسان إلي (السفسطة) وانكار حقائق الأشياء، ولذا فمن الجدير بالباحثين أن يقفوا عند حد كل علم، ولا يجاوزوه إلي ما ليس من فصيله، وبذا يكون قد أدي حق العلم، وحق نفسه في آن واحد.

فمعني اللغة: ما ذكره أهلها من موارد استعمال العرب، الكلمات بأزاء المعاني.

ومعني الصرف: بيان مشتقات الأفعال والأسماء.

ومعني النحو: عرفان آخر الكلمات والجمل من حيث الرفع والنصب والجر وما إليها.

ومعني المنطق: بيان ما يدور في لسان العرف، وأقلام الناس من القضايا الصحيحة والفاسدة، وان أيها تنتج، وأيها لا تنتج.

ومعني البيان: عرفان الفصاحة والبلاغة بمراجعة كلام العرب والممارسة في منظومهم ومنثورهم، حتي تعلق بالذهن ملكة يتمكن الشخص بها من كلام فصيح بمقتضي الحال في موارد التكلم.

ومعني الأصول: اتباع موارد العرف في معني الأمر والنهي، وكيفية عملهم في المطلق والمقيد، والخاص والعام.

ومعني الكلام: بيان ما يتعلق بأصول الدين اثباتا ونفياً، من جهة العقل، وهكذا حال سائر العلوم.

والعلم أول ما يضعه واضعه إنما يلاحظ الغرض والغاية ويتكلم حوله، ثم لا يزال حتي يأتي أقوام آخرون، فيزيدون وينقصون، ويحلقون ويسفون، ويستخدمون موضوع علم لموضوع علم آخر، ويستوفدون مسائل عقيلة في علوم نقلية، وبالعكس، وليس الغرض من هذه المعاملات إلا حب الظهور الذاتي في بعض الناس، أو التحقيق والتعمق الذين يشغفهما المحققون طبعاً، فلا يلبث العلم حتي يخلع عن نفسه ثوبه القشيب البسيط، ويلبس ثوباً آخر لا يناسبه ويضيع وقت الطالب بين هذا وذاك.

التعمق في اللغة بيان الجامع بين المشابهات، وفي الصرف بذكر القلب والأصل والفرع، وفي النحو بتحشية النزاع بين فلان وفلتان، وفي

المنطق بتكثير الاصطلاحات وتطويل ذيل الكلي الطبيعي، وفي البيان بذكر رأي عبد القاهر والخطيب القزويني في الاستعارة والكناية، والاشكال والجواب، وفي الأصول بإطالة الكلام حول حد الأمر ومعني الحرف، وفي الكلام بذكر آراء الحكماء، وأقوال الفلاسفة، والبحث حول المجرد والمادي، إلي مئات وألوف من نحو هذه المذكورات في كل علم لا يفيد إلا تبلبل البال، واضطراب الفكر، وفي الغالب يخرج الباحث صفر اليد عن الكتاب، فيكون حاله حال من يريد معرفة الخياطة، ليستقطر رزقه من سم الخياط، ثم يذهب ويبحث عن الابرة ومعدن الحديد الذي تصنع منه، وأول من صنعها، أهو ادريس عليه السلام أم غيره؟ روجه الاحتياج الأول الذي أوجب اختراعه، وصانعها فعلاً، أو أمريكي أو ألماني؟ ومدة عمر الابرة، ومقدار قيمتها، ومظان بيعها وشرائها، وهكذا في الخيط، واللباس وغيرهما.

إن قارئ النحو والصرف والمعاني واللغة والعروض والتجويد، لو استبدل بها مطالعة منظوم كلمات العرب ومنثورها، وقرأ أثناء ذلك القواعد التي لابد منها من رفع الفاعل ونصب المفعول وجر المضاف إليه وما إليها، صار في نصف المدة المتداولة لدراسة هذه الأمور، ذا ملكة عربية تملأ بين جوانحه، تفيض من لسانه فيض دجلة، وتجري علي مداده جريان الفرات، ويشبه ذلك المنطق والأصول والكلام وغيرها.

وهذا الأمر يرجع بادئ ذي بدء إلي الأساتذة، فاللازم توجيه التلاميذ توجيهاً صحيحاً، كي يتمتعوا في مستقبلهم بأقلام قوية، وألسنة فصيحة، وقلوب بليغة، يكونوا من حسنات الدهر، ونوابغ العصر.

الأحمق

إن الإنسان لو اقيمت المناحة حول رحله، أو يفترسه الهزبر الهصور فيهصر عظمه، أو تقع النار في داره فتجعلها هشيماً تذروه الرياح، أو يأتيه العذاب من بين يديه أو بين خلفه، أو يخوي البيت علي عروشه عليه، لم يكن يجد في نفسه من الضيق

والضنك، ولا يبلغ قلبه الحنجرة، مثل ما لو مني بالأحمق، يموت الشخص فيستريح من هموم الحياة وآلامها ويهصره الأسد فيري أنه حيوان لا مفر منه، وتحترق داره بالنار فيعلم أنها لا تدرك فتهون عليه المصيبة، ويأتيه العذاب فيسلي نفسه بأنه قدر وحكم من الله العالم بالمصالح، وكان حكم الله قدراً مقدورا.

أما مصادقة الأحمق، فهي تمرد الفؤاد، وتكسر العظام، وتأكل اللحم، وتشرب الدم، وتفور من الفم، ليس الأحمق صاعقة تصيب الإنسان، ولا ناراً تحرقه، ولا فقراً ولا مرضاً، وإنما هو الأحمق فحسب، ولست أجد لفظاً أثقل علي القلب من هذه اللفظة، تدرك الهرة أنك محسن إليها أو مسيء، وتدرك الفأرة أن المصيدة يخاف شرها، وتفهم النملة مساقط النثار فتدأب نحوها، ويعرف الحيوان المفترس المحبوس في قفص الحديد أن فلاناً يخدمه ويقدم له الطعام، فيحرك ذنبه شكراً له.

أما الأحمق، فتنفعه وهو يزعم أنك تضره، وتنصحه فيخال نصحك غشاً، وتعلمه فيظن أنك تريد من ورائه نفعاً، إذا قال قولاً غلطاً يريد تصديقك، فان لم تصدقه فأنت من أعدائه أو من أعداء الحقيقة، وإذا عمل عملاً باطلاً يريد تحسينك، فان لم تمدحه فأنت تحسده، أو لا تتمكن أن تراه، وإذا ترك واجبه أراد منك عذره، فان لم تعذره فأنت جاهل بمواقع العرف، وإذا فعل ما ليس له أرادك أن توافقه، فان لم توافقه فأنت ممن لا يقدر الأشياء قدرها.

وجملة القول: يريد أن تكون مرآة لنفسه، لا مرآة للحقيقة، فتكبر الصغير من عمله إذا شاء ذلك وان كان عمله بنظر الحقيقة من أصغر الأمور، وتصغر الكبير إذا أحب صغره وإن كان العقل يري أنه كبير جداً، وهكذا تعظم قوله وإن كان تافهاً، وتجعل عمله حيث يحب أن يجعله وإن لم

يكن هناك، تضحك إذا ضحك، ولو في مكان البكاء، وتبكي إذا بكي، ولو في موضع الضحك، إلي كثير من أمثال ذلك التي يعرفها من بلي بأحمق.

والأحمق لا يزق عن غيره في مواده الأولية، وإنما يفرق في طرائق تفكيره، فهو كبيت بني مرحاضه في المكتبة، ومطبخه في غرفة النوم، أو جعلت الرواشن مكان الباب، والباب مكان الرواشن، أو طلي بئره بالسمنت الأبيض، وغرفته بالسمنت الأسود. ومن الظريف انه لا علاج لمثل هذا الشخص، فان المريض يعالج فيبل، والحريق يعالج فيطيب، والغريق يعالج فيرجع إلي ما كان عليه من الصحة، والجاهل يعلم فيتعلم، لكن الأحمق كلما عولج ازداد حمقاً وبلاهة، إلي أن تنطبق عليه آية «أحمق من هبنقة» () ولذا يروي عن المسيح عليه السلام انه قال: «عالجت الأبرص والأكمه، وعجزت عن معالجة الأحمق» ().

ولا أدري فيما أدري علاجاً أنجع من الفرار منه، وتجنب مواقع فرحه وبؤسه، وقومته وقعدته وغدوه ورواحه، وممساه ومصبحه.

إن الحمق شجرة تنبت في القلب، كأنها شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم، ثم تطول وتفرع حتي تثمر الحمق في جميع مشاعره، فيري الحسن مسيئاً، والمسيء محسناً، والقليل كثيراً، والكثير قليلاً، والأسود أبيضاً، والأحمر أصفراً، ويسمع المطرب محزناً، والمحزن مطرباً، والمدح ذماً، والذم مدحاً، والقرآن توراة، والتوراة قرآناً، والشعر نثراً، والنثر شعراً، ويشم المسك فيتخيل أنها حلتيت، والورد فينظر انه عذرة، والمرحاض فيخال انه روضة، ويذوق الحامض فيدركه حلواً، والمالح فيزعمه تافهاً، ويلمس الخشن فيتخيل أنه أملس، وهكذا.

وبالجملة تبدل السماوات في نظره أرضين، والشرق غرباً، والجنوب شمالا، والمرأة رجلاً، والشام عراقاً.

ان مثل هذا الشخص لا علاج له حتي يلج الجمل في سم الخياط، يحذر بعض الشعراء عن مصاحبة الأحمق أشد من تحذيره عن مصاحبة

الأفعي، يقول: ان الأفعي يلسع الجسم، والأحمق يلسع القلب.

وإذا أنسي، لا أنسي: ابتلائي بأحمق ممن ينتحل العلم، فكان يستفيد من بعض الآيات ما لا ربط له بالموضوع إطلاقاً، وذكرت حين ذاك الظريفة المشهورة: ان أحداً كتب كتاباً لبيان تحريم حلق اللحية، واستدل لذلك بكل آية في القرآن الحكيم، فاستدل ب?بسم الله الرحمن الرحيم?() بهذه الكيفية: أن الله الذي اسمه بهذه العظمة حتي يبتدأ أو يستعان به في أول اسمي الكتب السماوية، لابد وان يشكر حق الشكر، ومن أظهر أفراد شكره ان لا يؤذي خلقه، واللحية من خلق الله، فيجب أن لا تؤذي بالحلق.

ثم بعد مدة أخري بليت بأحمق آخر، كأنه أخو الأول نقلاً وبراعة وعلماً وفهماً، فانشدت:

بليت بأحمق فعجزت عنه

فكيف إذا بليت بأحمقين

وإذا ساعد الأحمق مال يرفعه، أو جاه يكبره، أو نسب طويل، أو وسط عليل، صدقت الآية الكريمة: ?تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا?() علي من مني به، وابتلي بصحبته، وليس له علاج إلا الفرار، ولو إلي وحش الفلوات، أو منقطع رمال الصحاري، أو رؤوس جبال البراكين.

العُمر

يخطو العمر سراعاً، وبوسع الخطا أميالاً لا ذراعا، فما هو إلا لحظة أو لمحة، حتي يأذن برحيل، ويدنوا إلي الأفول، ليل ونهار، وغدو وأصيل، فما يفتتح وجه النهار بالضحي، إلا يتجهم للأصيل، وما يطير الكون شمسها للنهار، إلا ليسترجعها للليل البهيم، فهو كالمجنون الذي لا يرفع دلاة من دلوائه إلا ليخفضها، ولا يظهرها حيناً إلا ليضمرها، فمن استمع إلي الساعة سمع وقع أقدام الزمان، كأنه يختلس الخطاء للفرار، ويملس املاساً ويتسلل لوذا، خوفا من أن يمنعه أحد من الهرب، أو يعقبه معقب، فالعمر كالبرد في شمس التموز، يذوب علي عجل، لا يلوي علي شيء،

ولا يقف عن السير، ثانية تتلو ثانية، ودقيقة تتبع دقيقة، وساعة تعقب ساعة، وليل ينسلخ من النهار، ونهار ينسلخ من الليل، ثم يلف الكون الأيام السبع في ملف أسبوع، ويجمع الأسابيع الأربع في شهر، ويشع الاثني عشر شهراً في سنة، ويلم سني العمر في علبة، ويختم عليها إلي يوم يبعثون.

تطلع شمس يوم، والانسان تراب تدوسه الأقدام، وتمشي عليه الماشية والأنعام، ثم تطلع شمس يوم آخر، وهو نبات يهتز بهيجاً، ويرتج خضرة ونشاطاً رجاً، ثم لا يلبث حتي يأكله حيوان سائم، أو يلتقطه طير حائم، فيستبدل اللحم والدم، بالنبات والحب، ثم يأكله الإنسان فيكون نطفة من مني يمني، ثم يجعل علقة تسوي، ثم يأخذ في أدوار الجنين والطفل والرضيع، ثم يشب ويشيب، ثم يموت وينقلب تراباً كما كان.

عجيب أمر العمر! فيه خفض ورفع، وفرح وترح، وعز وذل، وسعة وضيق، وأوج وحضيض، ونقص وكمال، ثم لا تمر أيام، ولا تذهب ليال، إلا والجميع مضت وليس منها إلا ذكر واتر: طيب جميل، أو سيء قبيح.

وإيما المرء حديث بعده

فكن حديثاً حسناً لمن روي

من نظر إلي التاريخ بعين لفت واعتبار، لا لهو وتذكار، رأي السلاطين العظام، والأمراء الفخام، والقضاة الكبار، والحكام الكثار، ممن قد كانوا أوتاد البلاد، وساسة العباد، يديرون الأمور، ويسكنون القصور، تثني لهم الرقاب، وتنقاد لهم الصعاب، لم يسمر السامرون إلا بأحاديثهم، ولا يدار في المجالس إلا كؤوس فرحهم وبذخهم وعَددهم وعُددهم، هذا يحارب، وذاك يرافق، ويزجر الطير بنحس أحدهم، ويظهر الكوكب بسعد الآخر، يصعد أحدهم إلي قمة العز دولاب الفلك الدوار، وينزل الآخر عن مركبه إلي حيث في الذل له قرار، فلم تطلع شمس، ولم يغرب قمر، ولم يزهر نجم، ولم تذر فلك، إلا والكل في طي

النسيان، وثني الأذهان، كأنهم ما جاءوا ولا ذهبوا، ولا سكنوا ولا ظعنوا، وكأنه لم يرفع لهم علم، ولم يجر علي الطروس باسمهم قلم، ولم يأمروا ولم يزجروا، ولم يتنعموا ولم ييأسوا.

هذا هو العمر، وهذا مقداره، وهذا أوله وآخره، وظاهره وباطنه، وعلوه وسفله، أصاب من أشبهه بالبرق الخاطف، والريح العاصف، أو الأحلام أو الخيال، أو الأفكار الطارية والصور الجارية، لا بؤسه يدوم، ولا عزه يبقي، كم من ملك أضحي أميراً، وأمسي أسيراً، وكم من فقير بات مدقعاً، وأصبح مرفعاً، ورب غني لم يدم له الغناء، ورب شقي لم يطل به العناء، لا تدون أحوالها، ولاتسلم نزالها، ولا يدري المصبح فيم يمسي، ولا الممسي فيم يضحي، ولو قدر لأحد أن لا يطويه الزمان والمكان، ولا ينشره طوارق الحدثان، ثم نظر إلي هذه الرحي الطاحنة، والفلك الشاحنة، وتلك الأيام، واختلاف الأنام، لرأي من الأمر عجباً، يهلك مشاعره، ويذهل لبه.

الإنسان إذا نظر إلي حاله يري أنه قد مر به مار الزمان، ولفظه مكان إلي مكان، ولو سألته؟ قال: قرأت وألفت، ومرضت وأبللت، وغنيت وافتقرت، وسدت وسادوا علي، ورأيت وأوريت، وفعلت ما فعلت، وتركت ما تركت، وقلت ما قلت، وصمت عما صمت، والآن كأنه لم يكن شيء، ولم يمر بي مار لا حلوه ولا مره، ولا خيره ولا شره، ولا علوه ولا سفله، وإنما حصلت كتابين: كتاباً إلي ربي، وكتاباً إلي مجتمعي، وإن كان بينها الاختلاف الكثير، فالأول ?لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها?()، كلا علي حقيقته واقعة، ومحاسنه ومساويه، والثاني أخذ ضغثاً من الخير فأكبره، وضغثاً من الشر فأصغره، وسجل عظيماً حقيراً، وضئيلاً خطيراً.

وليس بين هذه الآونة إلي أنة النزع، إلا بضع خطوات، إما أن تمحو ما سلف من

السيئات، وإما أن تمحق ما غبر من الحسنات..

وكذلك كتاب سائر الأعمار، وألوان سائر الديار، وإن كان هناك فرق في الخطوط والرسوم، والمحمود والمذموم، فملك يطوي كتابه علي العدل، وآخر علي الظلم، وأمير يسجل له المحاسن، وآخر المساوي، وكاتب يحفظ عنه الخير وآخر الشر، وحاكم يرقم له الاستقامة، وآخر الزيغ، وغني يطبع بطابع الجود، وآخر بالبخل، وعالم ينتفع منه، وآخر يتضرر عنه، وتاجر يوسم بسمة النصح، وآخر بالغش، إلي غير هؤلاء.

وإذ نحن كل علي جناح، إذ فات ما فات فلا يمكن رده، وبقي ما بقي فلايمكن طمه، فمن الجدير أن نشمر عن ساعد الجد قدر الممكن، فنسد الثغور التي أحدثنا، ونلم الشعث الذي بددنا، ونرقع الخرق الذي أبدينا، ونصلح الخلل التي أظهرنا، (إن دواء الشق أن تحوصه)..

ولنغتنم الفرص، فانها تمر مر السحاب، ولانقول غداً وبعد غداً، فان (ما فات مضي وما سيأتيك فأين، قم واغتنم الفرصة بين العدمين)..

إن سعادة الدنيا، وخير الآخرة، منوطان بالجد والعمل، والناس قسمان: ساع سريع نجي، وطالب بطيء هلك، والعمر لا يرجع فائته، ولا يؤوب ذاهبه، ولا يتدارك ماضيه، ولا يدري بم يأتي مستقبله.

ويكفي حادياً لكل نفس، وسائقاً لكل فرد، ما يراه من الأعمار التي تتهدم بين يديه، تهدم البناء، وتتقوض تقوض الخيام، فهذا يري صديقه وقد انساب عمره، وذاك ينظر إلي قريبه، وقد طار أمده، وذلك يسمع بالبعيد، وقد خفقت علي رأسه أجنحة الأجل، والحساب بيد أدق الحساب، لا تفوته حتي الثانية والثالثة، ولا يذهب عنه ساكن الخباء، ونازح الصحراء، ومن يطير في الهواء، ويغوص في الماء.

المبدأ والقوّة

إن المبدأ مهما كان خيراً أم شراً لا قوام له إلا بالقوة، أما المبدأ الفاسد فلأن الناس لا يدينون به لعلمهم بفساده فإذا لم

يدعمه القوة لكان حرياً بأن لا يقبل، وإن قبل بالقوة ثم ارتفعت لكان حقيقاً بأن ينهار، ولعل من الشواهد لهذا الأمر مبادئ (نابليون)() و(هتلر)() و(موسوليني)() حيث قام المبدأ بالارهاب والقوة بما لهما من معني متسع ثم انهارت بانهيار قواهم.

وأما المبدأ الصحيح، فلأن البشر لا يدرك الصالح ولو قام عليه ألف دليل، ولو أدرك لا ينساب إليه ما عارض التقاليد والعادات، ولو انساب إليه اضطهده آخرون، مما سيؤدي إلي رجوعه، ثم هناك عوامل أخري تكافح اعتناق المبدأ وإن كان في طرف الكمال، وهو كفاح أرباب المبدأ الآخر.. وكون المبدأ مهما خف فهو ثقل علي عاتق المعتنق، فانه لا يتيح الحرية المطلقة حتي ما أضرت الآخرين، لكل فرد، فلابد وأن يقع التصادم بين مصالح الفرد ومصالح الجماعة مما ينجر إلي خلع الفرد المبدأ عن عنقه، كي يمشي وراء صالحه.

وقد صاغ التاريخ لذلك أمثلة من أصحاب الأديان وغيرهم حيث كان المبدأ ما لم تدعمه القوة غير ملتفت إليه، ثم لما عاضدته القوة علي اختلاف صنوفها آوي إليه الناس، وأقبلوا يتهافتون عليه تهافت الفراش علي الزبالة، دعي عيسي عليه السلام إلي الله أعزل، فلم يؤمن به إلا نفر قليل، ثم لما ساعدت القوة مبدأه، أخذ يوسع رقعته في غرب الأرض وشرقها، والنبي محمد صلي الله عليه و اله دعي برهة من عمره فلم يكن نصيبه أكثر من نصيب أخيه من قبل، وبعدما هاجر وتعزز جانب الإسلام، رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا.

وجملة القول: ان القوة دعامة المبدأ، ولو أخذنا مبدأ بلا قوة فجدير بأن ينهار، كما انه لو كان هناك قوة بلا مبدأ لم تتمكن من القيام ولو استقلت يوماً أو بعض يوم..

المسلمون كان يدعم مبدؤهم القوة في

زمن الرسول صلي الله عليه و اله بعد الهجرة، وهكذا توالت الحلقات في زمن الخلافة حقاً كانت أم باطلة، أبي بكرية أم عمرية ام أموية أم عباسية أم عثمانية، ولذا كان قوانين الإسلام والقرآن لم تزل قائمة علي ساق ولو بنسبة أو أخري، وإن اختلف فهم الخلفاء تلك المبادئ، وإذا كان أفاد هذا شيئاً وذاك شيئاً، وكثيراً ما كان الدين يفرغ قوالب السياسة فسيكون شنفاً في أذن الخليفة، وقلادة في رقبة زوجه، ووشاحاً علي جاريته، لكن الدين بما هو دين قائم ومنبع الثقافة والاختلاف والاتفاق هو في القرآن الحكيم، وان نبذه الخليفة وراءه ظهرياً حين خلا بندمائه وجواريه، وأنبذته ومغنيه، وليس حال المسلمين في هذا الأمر إلا حال سائر الملوك الذين يعتنقون المبادئ، فالبشر هو البشر تجلي في لباس خليفة، أو تقمص قميص الملك، أو لبس طيلسان كسري، أو جلس مجلس قيصر.

فتح الغرب عينه في هذا القرن، ونفض عن جناحه غبار الخمود، وأخذ يمد يديه علي عينيه، ليتأكد عن أحوال ما في الكون، فإذا قادة المسلمين نائمون، وهذا أتاح لهم الفرصة للتدخل في شؤون المسلمين بلفظ الحق الذي يراد به الباطل، والظاهر الخلاب المنطوي علي آخر من النار، قطعوا أول الأمر أفلاذاً من مملكة آل عثمان حرباً ومعاهدة وغيرهما، ثم أسسوا جمعية الدستور الاتحاد والترقي وفي الحقيقة لم تكن الحرب إلا بين عبد الحميد وتتبعه الخلافة الإسلامية بقضها وقضيضها، وبين دول الغرب، وتمخضت عن سقوط الأول، فصارت الوحدة الإسلامية المتماسكة، والقوة التي تدعم المبدأ، أشلاء مبعثرة بين عراق يملكها فيصل الحسين، ومصر يتصرف فيها الخديو، وحجاز يتقلب فيها سعود، وأردن يأخذ بزمامها عبد الله الحسين، ودمشق ولبنان، ودروز، وجبال العلويين، واسكندرونة، وفلسطين، هذا من ناحية،

ومن ناحية أخري تشتيت شمل المسلمين الابعدين الذين يشملهم الهند والصين وغيرهما ممن كانوا يدينون بالخلافة العثمانية علي بعد بينهم، وأصبح تركيا بعد أن سادت البلاد، لا تزيد عنها عدداً أو عدة، أو سلاحاً أو نفوذاً.

ثم تدخلوا في إيران باسم انحصار التنباك تدخلا ينم عن مقاصدهم، ولم يفد تحريم الإمام الشيرازي() في قصته التاريخية إلا بعض الشيء فقد كان الملك مع الغرب ويتبعه رجال الدولة طبعاً.

وبانهيار هاتين الدعامتين الخلافة الإسلامية الفسيحة، والملوكية الشرعية الايرانية، انهار الإسلام بقواعده، وارتفعت النعرات الطائفية، وجالت الهمسات القومية، وانقلب المسلمون رأساً علي عقب، وأخذت قوانين الشريعة تتقلص علي نفسها، وتنكمش حول ذاتها، تارة باسم الرجعية، وأخري بسمة الخرافة، وثالثة بطابعة مناقضتها لقواعد الغرب التي كانت أصلح علي زعمهم لموكب الزمن السائر، ورابعة بقول انها تنافي العلم الحديث: الكهرباء والماء والراديو والتلفزيون والسائرة والطائرة والباخرة وما إليها، وهذه لابد منها في الحياة، وهكذا خامسة والسادسة وما بعدها… كل ذلك ولا حق لأحد أن يسأل عن هذه المزاعم، إذ القوة قد مال ميزانها إلي جانب الغرب، فأصبح المسلم وهو أخ المسلم يحارب أخيه، بينما يواد من حارب الله ورسوله ويقول ان أردت إلا الحسني.

وبهذا خرجت خيوط الملك والدين عن أصابع المسلمين، فأصبحوا يبكون علي دينهم ودنياهم في وقت واحد، ولم يبق لديهم التقدم المزعوم مع ركب الزمن، ثم لم يلبث المسلمون زمناً حتي أسفر الصبح لذي عينين، ورأوا الخداع في هذا أيضاً، فلم يسمح لهم الغرب تقدماً عمرانياً، ولا صناعياً، ولا غيرهما، فبينما كانت أرض العراق تسمي السواد في أوائل الاسلام، لكثرة عشبها وخضرتها، أصبحت أرض البياض، تكسوها الشمس كل يوم، وتظللها الكواكب الزاهرة كل ليلة، وبينهما الرافدان كانا يصبان الذهب الأحمر

في أرض العراق، أصبحا ينصبان في البحر، ليزيدا ماءاً علي مائه، وأسماكاً علي أسماكه، وهكذا لم يسمح لهم استيراد معمل، أو اختراع مخترع، أو صناعة مصنوع، بل عكسوا الأمر فجعلوا العقوبات والغرامات علي ذلك، ولم يزل المسلمون بأحكامهم الإسلامية في انحطاط وانهيار إلي يومنا هذا، ولا يعلم مصيرنا بعد اليوم.

والعلاج الوحيد الذي يمر في المخيلة: هو رجوع المسلمين علي ما كانوا من الوحدة والائتلاف، وان تفرقت مذاهبهم، وتباعدت بلادهم واختلفت ألسنتهم، وهذه هي الأساس الذي بني نبي الإسلام صلي الله عليه و اله عليه كيان المسلمين حتي تحلقوا في سماء المجد ونشروا أجنحتهم بين الغرب والشرق، وكبر هذا الوليد الجديد في مهد الهجير حتي صار يبادر قرنيه (فرس وروم) العتيدين، في ربع قرن، وبقي زهاء ثلاثَة عشر قرناً وحدة متماسكة، كلما أراد أعداؤه الايغال في بلاده رفضهم لفظ الفم النواة، والمنجنيق الحجر.

لو كان اختلاف الآراء، وتباين الشكل بالأبيضية والأحمرية والأسمرية والأسودية، وتباعد البلاد بالصينية والحجازية والمصرية والعراقية والجزائرية والتونسية، وعدم وحدة الألسن بالعربية والايرانية والهندية والتركية، توجب التضارب والتجانب، لكان اختلاف البلاد في القطر الواحد، وتباين المحلات في البلدة الواحدة، ومغايرة الدور في المحلة الواحدة، وتعدد الأفراد في الدار الواحدة، توجب التضارب والتباعد، حتي يصبح كل فرد من أفراد المسلمين والعياذ بالله كنبت الصحراء لا يربطه بغيره رابط، ولا يجمع بين هذا وذاك جامع، وهو رجوع إلي عصر لا يذكره التاريخ، ويجل الوحش أن يشبه به.

أنا لا أنكر انشعاب المسلمين إلي آراء، ولا أنكر اختلاف بلدانهم وألوانهم وألسنتهم، وإنما أنكر كل الانكار تشتتهم بهذا الشكل الفظيع الذي يسب بعضهم بعضاً، ويلعن أحدهم الآخر، ويرفع الحواجز الكمركية والحدود الخريطية أحدهم في وجه الآخر.

المسلمون وإن اختلفوا في

أشياء كثيرة، إلا أنهم متفقون في الأكثر: فإلههم: واحد، عالم، قادر، حي، مريد، مدرك، قديم، أزلي، متكلم، صادق، رؤوف، رحيم، حكيم، سميع، بصير، يحب الخير وأهله، ويبغض الشر وأهله… ونبيهم واحد، جاء ?مبشراً ونذيراً ? وداعياً إلي الله بإذنه وسراجاً منيراً?()، ?مصدقاً لما بين يديه من الكتاب?()…

وقرآنهم واحد، فيه ?شفاء لما في الصدور?()، ?هدي ورحمة للذين هم لربهم يرهبون?()، ?لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد?()… وعترة نبيهم صادقون مصدقون، تركهم الرسول فيهم()، كمثل سفينة نوح من ركبها نجي، ومن تخلف عنها هوي()…

وأحكامهم: الصلاة والصوم، والخمس والزكاة، والحج والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتولي لأولياء الله ورسوله والتبري من أعدائهم، وكعبتهم واحدة، وكلهم يعتقدون بعدل الله سبحانه، وكلهم يعتقدون بالقبر والحساب والمعاد والجنة والنار، وكلهم يرون حرمة الخمر والميسر والأنصاب والأزلام والزنا واللواط والسحق، والكذب والخيانة والغدر وبخس المكيال والميزان، والربا وشهادة الزور والتبرج والبدعة، والعقوق والكبر والاهانة، وما إليها من عشرات ألوف الأحكام أو مئاتها أو ألوفها، وكلهم يعتقدون بالمعاد.

نحن المسلمون إذا بقينا أشلاء متبعثرة، بين مليون، وثلاثة ملايين وخمسة، وثمانية عشر، وعشرين، وثلاثين، وما أشبه لا نتمكن من حفظ كياننا، ولاالمقاومة لمن عدي علينا من الأمم، ولذا نري أن كثيراً من دول الإسلام يحتمي في حمي دولة غير مسلمة شرقية أو غربية، جنوبية أو شمالية، ومع ذلك تسومها تلك الدولة الخسف، ولذا أصبح المسلمون، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولاموتاً ولا حياة، أليس المسلم أرأف بالمسلم، من غير المسلم؟ أليس هذا الخسف مبرراً للاتحاد؟

ولست أقصد الآن من الاتحاد أن يترك الايراني لسانه للهندي أو العربي مثلاً، ولا أن يترك العربي بلادة للتركي، ولا أن يترك

الهندي طريقته للتونسي أو ما شابه، فان هذا مما لا يكون بل كل المقصد أن يرفضوا أحكام غير القرآن والسنة فلا يشرع لهم الدستور، ولا البرلمان، ولا مجلس الأمة، فلا قانون إلا قانون الإسلام، ولا محكمة إلا المحكمة الشرعية، ولا خمور ولا فجور ولا ربا ولا زنا.

أليس الولايات المتحدة تختلف عناصرها ديناً، ومذهباً، وطريقة، ولوناً، ولساناً، ثم يجمعهم دستور واحد؟ وبذلك حازوا ما حازوا، وتقدموا في ميادين العلم والحضارة ما تقدموا، ومنعوا جانبهم عن الضيم والذل؟

أليس الاتحاد السوفيتي كذلك، مركب من جمهوريات ثم يجمعهم جامع الاتحاد والاتفاق؟

ألسنا نحن المسلمين أولي بهذا الاتحاد والاتفاق، من كل أمة؟

ألسنا يقول الله عنا: ?واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا?()؟ أما رأينا ذل التفرق والانقسام؟ ألم يكفينا هذا النصف القرن للتجربة؟

فريق يدعون إلي القومية، وآخرون يدعون إلي الماركسية، وجمعية إلي الديمقراطية، هب إنا قبلنا القومية، أهل يتمكن العربي أن يكون قوماً يكافح عن نفسه عادية الدولة القوية؟ وهل يتمكن الإيراني، أو التركي، أو الهندي ذلك؟

ولو أجبنا نداء الماركسية، فهل إنا مستقلون أم تابعون؟ مسلمون أم كافرون؟ ثم يحكمنا بعد ذلك علم آخر غير علم القومية والوطن والدين، ولو تمسكنا بالوطنية، فهل أوطاننا تكفي شر المعتدين؟ إنا لو جمعنا أنفسنا بعضاً إلي بعض، وأدخلنا في جامعتنا كل مسلم، وان اختلف لونه ومذهبه ولسانه وبلده، كنا علي الأكثر ستمائة مليون()، وحينئذ يكون النجاح خمسين في المائة.

وبعد ذلك نحتاج إلي الابتداء بكل شيء من صناعة وتجارة ومواصلات، حتي الدين الذي ابتعدنا عنه زهاء نصف قرن، وبعد هذا وذاك نصبح دولة قوية، يخاف جانبها، ولا تكون لقمة سائغة لكل مستعمر ومستثمر، ويكون حالنا حال سائر الدول، لنا ما لهم، وعلينا ما عليهم لا يخاف

ويخاف منه، ويأخذ ويعطي، ويستنشق الحياة.

من المؤسف أن يدرك (نابليون)() هذا المعني وهو شاب لم يبلغ الثلاثين ثم يأخذ في توسيع رقعة ملكة فرنسا، وإن لم يجمع أطراف دولة جامع، ويدرك (موسوليني)() هذا فيوسع إيطاليا، ويدرك (هتلر)() هذا فيأخذ في توسيع ألمانيا، ويدرك (لينين)() ذلك، فيأخذ في توسيع البلشفيك، وكذلك تجمع انكلترا وأمريكا أنفسهما، ثم لا يدرك المسلمون أو يدركون ولا يرجون التوفيق مع أن ما بأيديهم من سند قرآني ?إن تنصروا الله ينصركم?() ما لم يكن بأيدي أولئك.

قصة (حزمة القطب) والملك، وأولاده مشهورة! لا يتمتع أي أحد بقوة إلا إذا انضم إلي آخرين، ولا يمنع أحد جانبه إلا بالوحدة والائتلاف، ولا تنهار جامعة إلا بالتفرق.

فيا أيها المسلمون اتحدوا، وتمسكوا ?بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا?()، وطبقوا قول الله تعالي: ?إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم?()، وكونوا وحدة جامعة يجمعكم القرآن والسنة، ويرفرف علي رؤسكم علم الأخوة ?إنما المؤمنون أخوة?() الخفاق، ثم بعد ذلك كل وحريته في مذهبه، وكما يقال ان معني الحرية، هي حرية الفرد في اطار حرية المجتمع، كذلك حرية المذهب في اطار الدين، كل يقطع يد السارق بشروطه() وإن قطعها هذا من الاشاجع، وذاك من الزند، كل يعطي الزكاة، وإن أعطاها هذا من مال التجارة مستحباً، وذاك واجباً، كل يصلي الصلوات إلي الكعبة، وإن صلاها هذا مسبلا والآخر مكتفاً، كل لا يشرب الخمر وإن امتنع من النبيذ هذا، ولم يمتنع ذاك، كل يعطي الخمس، وإن أعطاه هذا من الأرباح أيضاً، ولم يعطه ذاك.. وهكذا..

وبعد هذا الاتحاد الذي هو منبثق القوة، ومنبع العزة، وجماع المنعة يتمكن المسلمون من تبليغ دينهم السماوي إلي كل من في غرب

الأرض وشرقها، برها وبحرها، متمدنها ومتوحشها، حتي ينخرطوا في هذا السلك النير، ويعتصموا بحبل الله المتين، ويسلكوا في صراطه المستقيم، فان حقائق الاسلام، ونواميس الشريعة المحمدية صلي الله عليه و اله من أحسن المبادئ التي عرفها البشر إلي هذا اليوم، خصوصاً والناس متنورون، والتعصب في غالب الأماكن قد انهزم وولي الدبر، وبهذا يزداد المسلمون يوماً فيوماً كما ازدادوا حين علموا حقائق القرآن في الأزمنة السابقة.

وأخيراً أقول: عوداً علي بدء إن المبدأ الإسلامي ما لم يدعمه القوة لايقوم علي ساق، فليكثر المسلمون من القوة حتي يرجع إليهم عزهم ودينهم ودنياهم وأخراهم، كما قال تعالي: ?وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ومن رباط الخيل?().

ولسنا نريد بالقوة القوة الحربية، بل القوة العلمية والصناعية والدفاعية.. وغيرها..

???

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام علي المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين.

كربلاء المقدسة

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

من مصادر التهميش

? القرآن الكريم

? نهج البلاغة

? أمالي الشيخ الصدوق

? اعلام الدين

? الاختصاص

? الخصال

? الصراط المستقيم

? الكافي

? المناقب

? المنجد في اللغة والأعلام

? بحار الأنوار

? تفسير القمي

? مسكن الفؤاد

? مكارم الأخلاق

? ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين

? موسوعة الفقه، كتاب الحدود والتعزيرات

رجوع إلي القائمة

پي نوشتها

() زعيم سياسي وروحي هندي (1869-1948م) لقب بالمهاتما، نادي باللاعنف وبالمقاومة السلبية، عمل علي تحرير الهند من نير الاستعمار البريطاني، دعي (مهندس الاستقلال الهندي)، قتله هندوسي متعصب.

() ألفونس دو لامارتين (1790-1869م) شاعر وسياسي فرنسي، تولي رئاسة الحكومة الموقتة بعد ثورة 1848م، له أعمال أدبية.

() كورناي (1606-1684م) شاعر مسرحي فرنسي كبير، ولد في روان، يعتبر مبدع الفن المسرحي الكلاسيكي في فرنسا.

() سقراط (نحو 470 – 399 ق م) فيلسوف يوناني، يعتبر هو وأفلاطون وأرسطو من واضعي أسس الثقافة الغربية، حارب السفسطة وانتقد الحكم، فاتهمه أخصامه بالزندقة وحكموا عليه بالاعدام، شرب السم فمات في سجنه.

() ايرونيمو ساقونارولا (1452-1498م) راهب دومينيكي، رئيس دير القديس مرمقس في فلورنسة، طالب بالإصلاح وحاول إقرار نظام تيوقراطي، حكم اسكندر 6 بحرقه.

() جمال الدين الأفغاني (1838-1897م) شيعي اثني عشري من كبار رجال الدين المصلحين، ومن فلاسفة الإسلام في عصره، جال في الشرق والغرب ودعا إلي الوحدة الإسلامية، أصدر مجلة (العروة الوثقي) في باريس 1884م.

() إشارة إلي قوله تعالي: ?ولقد أرسلنا نوحاً إلي قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما? سورة العنكبوت: 14.

() سورة الطلاق: 1.

() سورة التوبة: 60.

() سورة الإسراء: 102.

() سورة الأحزاب: 33.

() فإذا قيل له: أحيي عيسي عليه السلام الموتي، قال: هذا كفر بالله وشرك، أما القرآن عنده فباب التأويل فيه واسع.! وهكذا..

() سورة النحل: 118.

() راجع مكارم الأخلاق: ص438.

() الاختصاص: ص27.

() الخصال: ص351 ح227 للمؤمن علي المؤمن سبعة حقوق.

() راجع

الخصال: ص351 ح227 للمؤمن علي المؤمن سبعة حقوق.

() نهج البلاغة: الكتاب 53، عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلي مالك الأشتر حين ولاه علي مصر.

() وقد صرحت الاحصاءات الأخيرة بأن نفوس البشر بلغت ستة مليارات، عام 2000م.

() شاعر مصري (1868-1932م) بايعه شعراء عصره أميراً للشعراء في القاهرة (1927)، من آثاره: الشوقيات.

() سورة النور: 39.

() راجع مسكن الفؤاد: 92.

() اعلام الدين: ص406 باب ما جاء من عقاب الأعمال، وراجع أيضا غرر الحكم ودرر الكلم: ص111 ح1981.

() سورة البقرة: 3.

() سورة الأنعام: 93.

() سورة النساء: 11.

() سورة المؤمنون: 5. وسورة المعارج: 29.

() لا يخفي أن عدد المسلمين بلغ المليارين حسب إحصاءات عام 2000م، انظر كتاب (المتخلفون مليارا مسلم) للإمام المؤلف (دام ظله).

() سورة آل عمران: 110.

() اشارة إلي قوله تعالي: ?حتي إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ? لعلي أعمل صالحا … ? سورة المؤمنون: 99-100.

() سورة الإسراء: 78-79.

() سورة الفتح: 29.

() المناقب: ج3 ص310 فصل في مقتله عليه السلام.

() تفسير القمي: ج2 ص57، في تفسير سورة طه.

() سورة طه: 1-2.

() راجع بحار الأنوار: ج43 ص75 ب3 ح62.

() الكافي: ج4 ص154 ح1.

() بحار الأنوار: ج46 ص6 ب1 ح12.

() سورة البقرة: 45.

() سورة الحجر: 99.

() سورة سبأ: 13.

() سورة النساء: 103.

() هيدروس ملك اليهودية في ظل الرومان، أمر قبيل وفاته بذبح جميع أطفال بيت لحم في محاولة لقتل الطفل يسوع.

() راجع بحار الأنوار: ج18 ص380 ب3 ح86. والمناقب: ج1 ص177.

() الاحصاءات الأخيرة تؤكد علي أن المسلمين بلغوا المليارين عام 2000م.

() أدولف هتلر (1889-1945م) زعيم ألمانيا النازية، أدت سياسته الظالمة إلي نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1945م. انتحر عام 1945م أثناء حصار برلين.

() ونستون تشرشل (1874-1965م) رجل دولة انكليزي،

زعيم حزب المحافظين، احد محققي نصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

() فلاديمر لينين (1870-1924م) زعيم الثورة الروسية ومؤسس الحزب الشيوعي.

() فرانكلين روزفلت (1882-1945م) رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الثاني والثلاثون، له دور هام في حرب العالمية الثانية.

() بلغ عدد المسلمين المليارين حسب الاحصاءات الأخيرة عام 2000م.

() غوتاما بوذا (563-483 ق م) فيلسوف هندي، مؤسس الديانة البوذية، ولد في أسرة نبلية علي الحدود الحالية بين الهند والنيبال.

() مرت ترجمته في الصفحة 14 من هذا الكتاب.

() سبق أن آخر إحصائية لنفوس المسلمين بلغ المليارين، عام 2000م.

() سورة الفرقان: 74.

() سورة الفتح: 29.

() سورة إبراهيم: 26.

() سورة التوبة: 122.

() بحار الأنوار: ج75 ص38 ب35 ح36.

() مثل عريي.

() راجع بحار الأنوار: ج14 ص323 ب21 ح36، وفيه: (أبرأت الأبرص والأكمه وعالجت الاحمق فلم أقدر علي إصلاحه).

() سورة الفاتحة: 1.

() سورة مريم: 90.

() سورة الكهف: 49.

() نابوليون (1769-1821م) ولد في أجاكسيو من أسرة بونابرت، امبراطور فرنسا (1804-1815) اشتهر في حملة إيطاليا الأولي 1794 والثانية 1799، قاد حملة علي مصر (1798-1799).

() سبقت ترجمته، راجع الصفحة 101 من هذا الكتاب.

() بنيتو موسوليني (1883-1945م) زعيم إيطاليا الفاشية، أسس الحزب الفاشي عام 1919م أنشأ مع هتلر محور روما برلين عام 1936م، أعلن الحرب علي الحلفاء عام 1940 ولكن هزيمة قواته أدت إلي سقوطه عام 1943م، قتله خصومه عام 1945م.

() المرجع الديني الأعلي الإمام السيد محمد حسن الشيرازي، المعروف بالمجدد الشيرازي، صاحب قصة التنباك الشهيرة (ت: 1312ه).

() سورة الأحزاب: 45-46.

() سورة المائدة: 48.

() سورة يونس: 57.

() سورة الأعراف: 154.

() سورة فصلت: 42.

() إشارة إلي قوله صلي الله عليه و اله: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عزوجل وعترتي أهل بيتي، ألا وهما الخليفتان من بعدي، ولن يفترقا

حتي يردا عليّ الحوض» أمالي الشيخ الصدوق: ص415.

() الصراط المستقيم: ج2 ص81.

() سورة آل عمران: 103.

() سبق ان عدد المسلمين بلغ المليارين عام 2000.

() سبقت ترجمته.

() سبقت ترجمته.

() سبقت ترجمته.

() سبقت ترجمته.

() سورة محمد صلي الله عليه و اله: 7.

() سورة آل عمران: 103.

() سورة الحجرات: 13.

() سورة الحجرات: 10.

() ذكر الإمام الشيرازي (دام ظله) أكثر من أربعين شرطاً في قطع يد السارق، راجع موسوعة الفقه، كتاب الحدود والتعزيرات، وكتاب (ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين).

() سورة الأنفال: 60.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.