العَدل أسَاسُ الملك
تَأليف
الإمَام المرجَع السَّيّد محَمّد الشّيرازي
مؤسسة البلاغ
بَیروت
كافة الحقوق محفوظة ومسجَّلة
الطبعَة الأولى
1407 ه- - 1987م
مؤسَسة البَلاغ - لبنان - بيروت-ص.ب7952
ص: 1
كافة الحقوق محفوظة ومسجَّلة
الطبعَة الأولى
1407 ه- - 1987م
مؤسَسة البَلاغ - لبنان - بيروت-ص.ب7952
ص: 2
بسمِ الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
إذا دخلت بلداً، وأردت أن تعرف هل انّ (الحريات متوفّرة فيها) ؟! فليس عليك إلّا وأن تستعمل الترمومتر السياسي وبذلك تتمكّن أن تعرف في أوّل أوّل يوم، هل يمكن البقاء في البلد أم لا ؟
والترمومتر السياسي هو ( الاعلام: والآراء ) فإذا رأيت الصحف تتكلّم بكلّ حريّة عن أيّ شأن من الشؤون، وتنتقد من تشاء من الأفراد والاتجاهات، وتنصح وترشد كما تريد .. وإذا رأيت الناس يتكلّمون علناً بما يشاؤون ، فاعلم انّ الحريّة تحكم البلاد، ولا تصدّق اذا جاءك ألف إنسان وإنسان، وقالوا: لا حرّية في هذا البلد.
ص: 3
أمّا إذا رأيت الصحف لا تتكلّم إلّا في جهة أو في جهات، ولا انتقاد الّا يسيراً، وفي الهوامش، والناس مكمّمون يتهامسون في مجالسهم الخاصّة، فاعلم انّ الديكتاتوريّة تسود البلاد، ولا تصدّق ألف انسان وانسان اذا جاءوك وقالوا لك أن لا ديكتاتوريّة في البلاد.
وحذار حذار أن تبقى في بلد الديكتاتوريّات، ولو كان لك ألف مبرّر ومبرّر، فانّ الحرية تعني الحياة والنور، والديكتاتورية تعني الموت والظلام...
وإذا رأيت شخصاً يأتي بألف دليل ودليل على انّ الموت خير من الحياة، فاعلم انّه لم يفهم معنى الحياة . .
وإذا رأيت إنساناً في الظلام يأتي بألف دليل ودليل على انّ الظلام الظلام خير من النور، فاعلم انّه لم يفهم معنى النور .
ولا يغرّنّك في بلد الديكتاتوريّات، العمران الكثير بأنهاره المطردة، وشوارعه الممتدّة، وأبنيته الفخمه، وأسواقه المزدحمة، وصنائعه الكثيرة و . . . فانّه كلّه
ص: 4
علائم الموت لا علائم الحياة.
أرأيت الانسان المبتلى بالسرطان الجميل المنظر المتورّم الجسم الذي تراه سميناً محمّر الوجه ؟ فهل هذا خير أم الانسان العادي الذي لا سمنة له، ولا احمرار في وجهه، لكنّه يتمتّع بحيويّة نفسيّة وصحّة جسديّة ؟.
انّ مثل بلد الحريّات ولو لم يكن فيه العمران مثل الانسان الثاني، ومثل بلد الديكتاتوريّات وان كان فيه العمران متوفّراً مثل الانسان الأوّل.
وإذا رأيت العمران مع الديكتاتوريّة، فاعلم انّه لو كانت حريّة، لكان العمران مأة ضعف، وإذا رأيت عدم العمران مع الحريّة فاعلم انّه لو كانت ديكتاتوريّة، لكان الخراب مأة ضعف.
ولتعلم الحكومات الديكتاتوريّة:
1 - أنّهم زائلون مهما طال بهم الزمن. ماله
المالة
2 - انّ بلدهم آيل الى الخراب والانقسام، مهما رؤي فيه العمران والوحدة - في الحال الحاضر - .
ص: 5
3- انّ الناس يكرهونهم أشدّ الكره، وان أظهروا أمامهم التملّق الكاذب والمدح الخادع.
4 - وأخيراً يجب أن يعلموا أنّهم يوقّعون خزيهم في الدنيا طول التاريخ، وعذابهم في الآخرة الى الأبد.
هذا ما يجب أن تعلمه الحكومات الديكتاتوريّة.
أمّا ما يجب على الناس المبتلين بأمثال هذه الحكومات أن يعلموه، فهو:
1 - انّ رقابهم مهيّئة للمقصلة.
2 - انّ أموالهم مهيّئة للنهب.
3 - انّ أبدانهم مهيّئة للتعذيب.
4 - انّ أهاليهم مهيّئة للضياع- العقيدي والخلقي والمعاشي-.
فالواجب على الناس، أن يعملوا بكلّ الوسائل لتهيئة مناخ الحريّة .. انّ مناخ الحريّة يجعل من النواة شجرة، ومناخ الديكتاتوريّة يجعل من الشجرة حطباً
ص: 6
يابساً لا يصلح الّا للإحراق.
وليعلم الانسان، انّه أن يقتل حرّاً، أو في سبيل الحرّية ، أفضل ألف مرّة من أن يعيش عبداً تحت حكم الديكتاتوريّة.
فأبى أن يعيش الّا عزيزا أو تجلّى الغبراء وهو صريع
آليت لا أقتل الّأ حرّا وان رأيت الموت شيئاً نكرا
ولا يظنّ المتديّن الذي يعيش تحت ظلّ الديكتاتوريّة انّه مثاب ومأجور، بل العكس هو الصحيح، اقرأ هذه الآية الكريمة: (انّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كَنّا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فاُولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيرا)(1)
وأحياناً تكون الديكتاتوريّة، بحجم كبير جدّاً، ممّا يخوّف الانسان أن يقابلها . . . لكن يجب أن يعلم الانسان انّ الديكتاتوريّة، مهما كانت كبيرة الحجم، فانّها (خشب مسنّدة) ولا يأس من روح الله سبحانه.
ص: 7
وبعد فهذا كتاب (العدل أساس الملك) انّما كتبته للارشاد الى لزوم العدالة، في الفرد، وفي الجماعة، وفي الحكومة، وعمدت الى نقل قصص عديدة لأنها أكثر تأثيراً في النفوس ولذا ذكر القرآن الكريم قصصاً كثيرةً وقال - في قصّة أصحاب الكهف -(نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ)(1) لعلّ الله سبحانه يهدي بسببه من يشاء الى سلوك طريق العدالة، وأن يكون معولاً في هدم الديكتاتوريّات، التي ابتلى بها المسلمون، لا في غالب حكوماتهم فحسب، بل وحتّى في اجتماعاتهم، وعوائلهم .
ولا غالب الّا الله وهو الموفّق المعين.
كربلاء المقدّسة - الكويت
محمد الحسيني الشيرازي
ص: 8
لا تظلمنّ اذا ما كنت مقتدرا *** فالظلم آخره يدعو الى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم
نعم، الظلم ظلمات في الدنيا وفي الآخرة، ولا يغرّ الظالم انّه امهل، فانّ الظالم يمهل ولا يهمل.
نقل لي أحد الأصدقاء، قال: ذهبت الى احدى القرى فاذا يقولون لي: انّ هنا خارج القرية قريب عمود التلفون وقع حادث عجیب.
قلت: وما هو الحادث العجيب.
قالوا: ذات مرّة نزل ضيف عندنا، ونام الليل في السطح وفي أثناء الليل، قام للتخلّي، وحيث كان الليل
ص: 9
مقمراً، خرج من القرية الى البريّة، لقضاء حاجته، واذا بأهل القرية سمعوا صيحة عجيبة، فقاموا من نومهم، وبعد الفحص والبحث عن مصدر الصيحة، رأوا الضيف مغماً عليه قرب القرية، فحملوه الى القرية، وبعد أن أفاق الضيف عن اغمائه، قال: لمّا خرجت لقضاء الحاجة، واذا بي أرى انساناً مشدوداً بعمود التلفون وهناك نفران، ليسا من جنس البشر، يضربانه ويعذّبانه أشدّ العذاب، وهو يستغيث ويصيح ولا أحد يغيثه، قال: ودخلني من ذلك رعب عجيب، حتى اغمي عليّ.
وبعد أن أعطى الضيف أوصاف ذلك الانسان المعذَّب، تبيّن لديهم انه كان كبير القرية وكان انساناً ظالماً، وأنّه دفن بعد موته، قرب ذلك العمود.
نعم (ولا تحسبنَ الله غافلا عمّا يعمل الظالمون، انّما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار)(1) . . . و: «يوم المظلوم من الظالم أشدّ من
ص: 10
يوم الظالم على المظلوم»(1)
ولذا فالواجب على الانسان أن يلاحظ كلّ حركاته وسكناته، حتّى لا يكون ظالماً، والظالم كلّ انسان يظلم، سواء يظلم أبويه، أو زوجته، أو أولاده، أو أقربائه، أو جيرانه، أو سائر الناس، أو كان يظلم الناس لأنّ بيده الحكم، وليس المراد بالحكم، أن يكون ملكاً، أو رئيساً، أو أميراً، بل كلّ موظّف في دائرته ، وكلّ معلّم في مدرسته، وهكذا ... هو حاكم على من سلّط عليه.
فإذا أخّر الموظّف توقيع ورقة المراجع كان ظالماً له.
واذا نقّص المدرّس درجة الطالب كان ظالماً له .
والظالم - مهما كان - يجني الكره ، والعذاب.
ص: 11
ذات مرّة هاجم الوهّابيّون، كربلاء المقدّسة، وقتلوا أهاليها قتلاً عاماً، وكان مجموع ما أحصي لهم من القتلى، سبعة آلاف إنسان بين كبير وصغير وطفل ورجل وامرأة ....
وفي مرّة ثانية هاجم الوهّابيّون أيضاً، كربلاء المقدّسة، وقتلوا فيها ثمانية عشر ألف إنسان، بأبشع قتلة.
والقصّتان مذكورتان - كما أظنّ- في كتاب شهداء الفضيلة، للشيخ عبد الحسين الأميني صاحب (الغدير) .
نقل الوالد (ره) عن مصدر موثوق به، انّه في أحد الحملتين، التجأ الناس بالحضرة المقدّسة الحسينيّة وأغلقوا أبواب الصحن، وازدحموا في الحرم الشريف، وأخذوا في البكاء والضراعة والدعاء والابتهال، ومرّ على
ص: 12
هذه الحالة أكثر من يوم، ولم تظهر أيّة علامة من علامات الاجابة، وكان من جملة هؤلاء رجل من الأخيار، فتعجّب من عدم الاجابة، وخاطب الإمام الحسين ( عليه السلام ) قائلاً: يا سيّدي انّ شرائط الاجابة متوفّرة، أليس الناس في حرمك، وعند رأسك الشريف - وفي الخبر استجابة الدعاء وأليسوا هم منقطعين وهم في أشدّ حالات التوجه والانكسار واذا لم يستجب الدعاء في هذا الحال ففي أيّ وقت وفي أيّ مكان وزمان يستجاب ؟.
فسمع الرجل هاتفاً يقول: (سبقتهم دعوة مستجابة) أي: انّ الإمام أو ملكاً من الملائكة دعا على البعض بالزوال والفناء والاضطهاد فاستجيب الدعاء فيهم، وهذا من أثر ذلك الدعاء، ولذا لا تؤثر هذه الأدعية في رفع البلاء.
نعم، كان قد كثر الظلم في ذلك الحين،فقد ضعفت الحكومة العثمانية، وكان الناس - إذ ذاك - (من عزّبزّ) ولذا جاء السيل وجرف الأخضر واليابس .
قال سبحانه: (واتّقوا فتنة لا تصيينّ الّذين
ص: 13
ظلموا منكم خاصّة)(1) ويكون العذاب في ويكون العذاب في مثل هذه الظروف، للظالم عقاب ولغير الظالم ترفيع درجة.
(ولا تزر وازرة وزر اخرى)(2) خاصّة بالآخرة، وبالأحكام الشرعيّة - في الجملة - امّا الأمور الطبيعيّة فتشمل الخيّر والشرير، ولذا كان الأنبياء والأئمة يصابون بأشدّ المصائب مع أنّهم ما اقترفوا ظلماً وعصياناً - وللكلام في هذا الباب مجال آخر - وانّما أردنا أن نشير الى انّ اضطهاد سائر الأبرياء، في الطبيعة كالزلازل، وفي أمثال الفجائع العموميّة - كقصّتنا وما أشبه - ليس بذنبهم، بل لأنّ البليّة إذا جاءت تعمّ، وان كانت أصلها من جهة العصيان والكفران الجماعة كبيرة من الناس :
وهنا لا بأس بالاستطراد حول الحديث المشهور:
«انّ الله سبحانه عوّض الحسين (عليه السلام) عن شهادته ثلاثاً: استجابة الدعاء تحت قبّته ، والأئمّة من
ص: 14
ذرّيته، والشفاء في تربته» فانّ حول هذا الحديث أسئلة هي:
1 - الحسن ( عليه السلام ) أطاع الله كالحسين ( عليه السلام ) - كلّ حسب ما أمر سبحانه - فلماذا يعوّض الله الحسن كما عوّض الحسين ؟
2-انّ الأمور الثلاثة لا ترجع الى الحسين ( عليه السلام ) فالدعاء والشفاء للناس، وكون الأئمّة من ذرّيته، للأئمّة لا له (عليه السلام)، فهل كون الأخيار من نسل نوح ، عوض لأتعاب نوح ، أم هو شيء يعود خيره الى الأخيار بأنفسهم.
3 - الدعاء اذا توفّرت شرائطه يستجاب في كلّ مكان ، واذا لم تتوفّر شرائطه لم يستجب حتّى في حرم الحسين (عليه السلام) .
ثم وزد في الحديث باستجابة الدعاء حتّى عند قبر الأبوين.
4 - وأيّ اختصاص للامام الحسين (عليه السلام) ؟ فقد وردت الأحاديث باستجابة الدعاء عند سائر المعصومين (عليهم السلام).
ص: 15
5-أما كون الأئمّة من ذرّيته:
فأولاً : ان أريد به بعض الأئمّة فالبعض أيضاً من ذرّية الامام السجّاد والباقر والرضا الى الامام العسكري (عليهم السلام) وان اريد به كلّ الأئمّة فهم ليسوا من ذرّية الحسين (عليه السلام).
وثانياً : الأئمّة من ذريّة الحسن (عليه السلام)، أيضاً ، منتهى الأمر أنّهم من ذريّته من طرف البنت حيث انّ الأئمّة يتصلون من طرف الأم بالامام الحسن (عليه السلام) أيضاً، والذريّة تشمل طرف الأم أيضاً، ولذا كان عيسى (عليه السلام) من ذريّة ابراهيم (علیه السلام) .
6 - وقد ورد في بعض الروايات، انّ الشفاء في تربة كلّ إمام.
7 - وإذا كانت استجابة الدعاء تحت قبّته فلماذا نرى ألوف الناس يدعون فلا يستجاب لهم ؟ .
8 - وإذا كان الشفاء في تربته، فلماذا نرى ألوف الناس يستعملون التربة فلا يشفون ؟ .
ص: 16
والجواب عن ذلك:
1 - انّ اثبات الشيء لا ينفي ما عداه، فتعويض الله للحسين (عليه السلام) شيئاً، لا يدلّ على ان الله لم يعوّض الامام الحسن ( عليه السلام ) عن أتعابه بشيء، وهذا الحديث لا يدلّ على أفضليّة الحسين (عليه السلام) عن الحسن (عليه السلام) كما لا يدلّ على أفضليّة الحسين (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلي (عليه السلام)، وانّما يدلّ على جزاء الحسين (عليه السلام ) - في الدنيا - بهذا الجزاء، ولكلّ من واحد من الأئمة اختصاصات، فليكن من مزايا الحسين (عليه السلام) هذه الأمور .
2 - والأمور الثلاثة ترجع الى الحسين ( عليه السلام )، حيث انّ فيها ذكراً وشرفاً له - عرفا - كما انّ كون الأخيار من ذريّة نوح (عليه السلام)، أيضاً شرف لنوح (عليه السلام)، ولذا يباهي الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على سائر الأمم بكثرة امّته ومباهات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) معناها الفرح بالخدمة، وتقديم امّة كثيرة اليه (سبحانه)، لا
ص: 17
المباهات بمعنى الكبرياء.
3 - والدعاء يستجاب تحت قبّة الحسين (عليه السلام) خمسون في المئة مثلاً، بينما يستجاب في أماكن أخر، عشرة في المأة، وهذه مزيّة في نفسها.
4 - واثبات الشيء لا ينفي ما عداه، والفرق بين الامام الحسين، وسائر المعصومين، انّ استجابة الدعاء عند الحسين (عليه السلام) عوض عن شهادته، وعند الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عوض عن أداء رسالته، وهكذا، أرأيت لو قلنا انّ الدولة تعطي خرّيج الثانوية كل شهر مئة دينار عوض أتعابه، لا ينفي ذلك ان تعطي الحكومة كل ضابط مئة دينار لخدمته العسكريّة .. ويمكن أن تكون نسبة الاستجابة عند الحسين (عليه السلام) أكثر، وهذا لا يستلزم أفضليّته عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعليّ (عليه السلام ) - مثلاً - .
5 - وكون الأئمة الثمانية من أولاد الحسين ( عليه السلام ) - من طرف الأب - مزيّة ، ليست متوفّرة في
ص: 18
الحسن (عليه السلام ) ولا في السجّاد ( عليه السلام ) وغيره ، والحديث في مقابل الامام الحسن (عليه السلام) فلا يعترض بأنّهم كذلك بالنسبة الى عليّ (عليه السلام) فهذا مزيّة للحسين (عليه السلام)، وان كانت للامام الحسن مزيّة اخرى من جهة ثانية، فهو كما اذا قال الأب أعطيت ابني محمداً، داراً - والحال انّه لم يعط ولده الآخر عليّاً داراً - وذلك لا ينافي انه أعطاه بستاناً.
6 - ومن الجواب الرابع ظهر الجواب عن هذا السؤال أيضاً.
7- والمراد كون المقتضى في الاجابة هنا أقوى، من المقتضى في سائر الأماكن،کمّا یقال انّ (السائل الفلانی) دواء لمرض كذا، فانّ معناه المقتضى، لا العلّة التامّة.
8- ومن جواب السابع يظهر الجواب عن السؤال الثامن هذا موجز الكلام . . . ذكرناه استطراداً، والّا فالكتاب موضوع لشأن آخر، وانّما رأينا التنبيه الى هذا الموضوع مناسباً فذكرناه.
ص: 19
كان رجل من أهل المدينة يذهب الى بعض الأرياف، لاشتراء الشاة والدهن والصوف، وكان له عميل في الريف يرد عليه وهو الذي يشتري له ما يريد، وذات مرّة أخذ معه مالاً ضخماً وقصد الريف ونزل عند عميله، وذكر له حاجياته، وانّه يريد اشتراء حاجيات بمبلغ كذا، قال التاجر، وبمجرّد أن ذكرت للعميل كميّة المال الذي معي، واذا بي أرى آثار التغيّر في وجه العميل، فعلمت انّه أراد بي سوءاً، فندمت، ولكن لا ينفع الندم.
نعم ... استر ذهبك، وذهابك ومذهبك (حتّى عن الأصدقاء) يقول الشاعر :
احذر عدوّك مرّة واحذر صديقك ألف مرّة فلربّما انقلب الصديق، فكان أعلم بالمضرّة
ص: 20
قال اِلتاجر: ولكن لم يكن لي ملجأ، ألجأ إليه في تلك الليلة، وبعد صرف الطعام فرش لي صاحب البيت فى غرفة من غرف البيت، وذهب هو وزوجته الى غرفة اخرى، لكنّ النوم لم يزر عيني من القلق، وأخيراً قرّرت أن أخرج من غرفتي واختفي في بعض زوايا البيت، وهكذا فعلت، فخرجت، وحيث لم أجد مكاناً للاختفاء، الّا الاصطبل اختفيت فيه، وأخفيت نفسي الى رقبتي في التبن، الذي خزن في الاصطبل لكن عيني الى غرفتي.
وإذا بي أرى نصف الليل ان انساناً دخل الدار وذهب الى غرفتي ... ولم أعرف من هو ذلك الانسان؟ وبعد مدة رأيت - في ضوء القمر - انّ صاحب البيت وزوجته قاما وهما يتهامسان حتّى دخلا الغرفة، وعلمت انّهما يريدان بي شرّاً .. ولم تمض مدّة، الّا ورأيت الزوجين أسرعا، وأضاءا مصباحاً نفطيّاً، ودخلا الغرفة، ثمّ رأيتهما يخرجان ويسحبان جنّة انسان ملفوف الى السرداب، قال الرجل ولّما دخلا السرداب، قمت من مكاني، وهربت من القرية قاصداً البلد،ومشيت
ص: 21
حتّى وصلت البلد بكلّ خوف وصعوبة، وأخبرت الشرطة بما جرى .
فجاءت مفرزة من الشرطة معي الى القرية، وألقوا القبض على الزوجين، ودخلنا السرداب وحفرناه، واذا بنا بجثة الرجل المذبوح، وبعد التحقيق تبيّن انّ المذبوح ولد صاحب البيت، وانّه كان خارجا لبعض شؤونه، ولّما دخل الدار نام في غرفتي، والزوجان ظنّاه (التاجر) فقتلاه - في الظلام - وبعد ما تبيّن الأمر لهما، دفناه خوف الفضيحة .. ولكن كان ربّك بالمرصاد.
وهكذا يلاقي الظالم جزاءه إن عاجلًا أو آجلًا.
ص: 22
يقول بعض الفلاسفة : انّ للمجتمع - بما هو مجتمع - روحاً غير روح كلّ فرد فرد، وتلك الروح هي التي تحرّك المجتمع، فقد يكون خاملاً وقد يكون نشطاً، وقد يكون صالحاً وقد يكون طالحاً، وهكذا ... وانّ للمجتمع - بما هو مجتمع - ضميراً غير ضمير كل فرد فرد، وذلك الضمير هو الذي يكون له رغبة في بقاء دولة أو هدم دولة، أو تحسين شيء أو تقبيح شيء، وهكذا ... وهذا الضمير هو الذي يهيمن على الحكومات الظالمة، ويحرّك الأفراد على مقاومتها، الى أن ترجع عن غيّها فتكون عادلة، أو الى أن تزيلها بالوسائل الديمقراطيّة أو بالوسائل العنيفة.
أنا لا أريد تصديق هذا الكلام - في هذا المكان - وانّما أريد أن أقول، لقد لمست الضمير الذي تحرّك لوضع الحدّ لظلم الحكومات الظالمة.
ص: 23
فقد عقد (صالح جبر) رئيس وزراء العراق (معاهدة) مع بلاد الغرب، وكانت المعاهدة عدواناً على العزاق، فتحرّك ضمير الناس، وطالبوا بعزله، فعزل بالوسائل الديمقراطيّة.
ورأيت (نوري السعيد) رئيس وزراء العراق يتنكب الطريق الإسلامي العادل، وقد ملأ العراق بالخمور والفجور والظلم والرشوة، وبدّل قوانين الاسلام الى القوانين الجاهليّة المستوردة من الشرق والغرب، فتحرّك الضمير، وطالبوه بالاصلاح فلم يفعل ، واذا بالسيل يجرفه، فيما يجرف الحكومة الملكيّة بكلّها ... وقد كان نوري السعيد يقول انّ الرصاصة التي تقتلني لم تخلق بعد، فيتبيّن انّها كانت خلقت منذ زمان، وانّها كانت أقرب اليه من حرّاسه وحفظته.
ورأيت (عبد الكريم قاسم) زعيم الثورة في (14) تموز، يزعم ويقول: انّه أقوى من الموت وأنّه أقوى من الحديد، وقد زوّد وزارة (الدفاع) بمختلف وسائل السلاح، حتّى كان يظنّ الظانّ انّه اذا حدثت ثورة، لا بدّ وأن يتمكّن من المقاومة، أشهراً
ص: 24
وأسابيع ... واذا بظلمه يحرّك ضمير الناس، ويقتحم الناس الدفاع، ولا يطول الأمر أكثر من ساعة، واذا بالرجل الذي يهزّ العراق هزّاً، قتيل ينظر إليه الناس على شاشة التلفزيون، وجاء جندي وبصق في وجه (قاسم) الميت.
فأيّا الحكومات وأيّا الظلم، فانّ الظلم يأخذ الظالم، مهما تصوّر الظالم أنّه قوي وأنّه مزوّد بالسلاح وبالحرص، انّ الذي يحفظ الانسان هو العدل - والعدل وحده-.
أمّا الظالم فبيته من زجاج، وان تصوّر هو انّه من فولاذ.
ص: 25
شخص وقال له: انّي ضربت زوجتي، فماتت من أثر الصدمة، بدون اختيار منّي فماذا أفعل لأبرأ عند الناس وعند أهلها من هذه المشكلة ؟ قال له ذلك الشخص، انّ الأمر سهل، قف على باب دارك، فاذا رأيت شاباً جميل المنظر، ادعه الى دارك بحجّة، ثم اقتل الشابّ فجأةً وضع الشابّ ملاصقاً لزوجتك، ثم اذهب الى أهل الزوجة وائت بهم، وقل لهم انّك دخلت الدار واذا بك ترى الزوجة والشاب في حالة ممارسة الجنس ولذا قتلتهما، ويكون ذلك عذراً مقبولاً عند أهلها وعند الناس.
عمل الرجل بنصيحة الشخص المذكور، وبعد أن قتل الشابّ الذي دعاه الى داره ذهب وأخبر أهل الزوجة فجاءوا وأعذروه في قتله لهما، وازدحم الناس كلّ يأتي ويذهب الى دار الرجل، ليسألوه حول القصّة.
ص: 26
الشخص الناصح، فقد ولده وأخذ يفحص عنه هنا وهناك، بلا جدوى، اذ لم يظفر له بعين ولا أثر، فجاء الى هذا الرجل، وقال: هل رأيت ولدي؟ قال الرجل: لا، قال الناصح: وهل عملتَ بما قلت لك في أمر زوجتك؟ قال الرجل: نعم، قال الشخص أخاف
أن يكون ذلك الشاب الذي قتلته هو ولدي، قال الرجل لا أعلم،قال الشخص دعني أتي الى المقتول لأراه،فأذن الرجل للناصح، فاذا به يرى انّ الشاب المقتول هو ولده بالذات ... فأخذ في البكاء والنحيب، قائلاً انّ المقتول ولده الوحيد، وأنّه كلّ أمله من الدنيا .
وهكذا أخذ الظالم جزاءه.
وانتشر الخبر بين الناس، وانّ الرجل قتل زوجته، واحتال بقتل شاب تخلّصاً من الجريمة، حتّى وصل الأمر الى السلطة، فأحضروه، وأخيراً اعترف بالأمر، وأنّه هو الذي قتل الزوجة وقتل الشاب، فأمرت السلطة بقتله، ولقي جزاءه في الدنيا مع
الفضيحة .
ص: 27
وإذا رأى الانسان شخصاً أو سلطة، يظلم ولا يلاقي جزاءه، فليعلم أنّه (سبحانه) (انّما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار)(1) لمصلحة وحكمة ... وفي الغالب النادر خلافه، يلاقي الظالم جزاءه في الدنيا، ويفتضح ( وان أمهل الله الظالم فرّبما ولعلّ).
وفي هذه القصّة، درس آخر، وهو انّ الانسان يجب عليه أن لا يشير على الناس بالظلم، فانّ المشير حينئذ يكون أحد الظالمين أيضاً، فيأخذه وبال اشارته.
ومن أشار على أمر بغير هدى *** يأتيه ما قال كفلا غير منتقص
ص: 28
قال لي أحد الأصدقاء: انه رأى في خراسان - إيران - رجلاً كهلاً عابداً زاهداً، يصوم النهار، ويحيى الليل بالعبادة، وحتى في أيّام الشتاء التي تطول لياليها، لا ينام الى الصباح، فاذا بزغت الشمس، نام، وهكذا كان حاله.
قال: فتعجّبت من أمره، وسألته عن سبب زهده بهذه الدرجة؟ وقلت له، ألا تأخذك النعاس في الليل لتنام فيه ؟ أم لم يكن حتّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أزهد الزاهدين ينام بعض الليل؟ ثم انّك لا تقدر أن تعمل، لأنّك تنام النهار، وتعبد الله بالليل، فمن أين تمرّ معاشك؟
قال الرجل وبعد الالحاح والاصرار، قال لي: انّی لا أقدر أن أنام الليل أبداً، وقد قال الشاعر:
ص: 29
قد أعجز الهرّ قذاذ القديد *** فقال مرّ مالح ما أريد
ثم أردف الرجل، انه كان جنديّاً في جيش بعض الحكّام الظالمين، وفي قصّة دينيّة، اصطدم الشعب بالحكومة فألقت الحكومة القبض على جماعة منهم... قال الرجل فأمرت أن أقتل نفرين منهم، فقتلتهما، ومن ذلك اليوم الى هذا اليوم بمجرّد أن أنام الليل، أرى في المنام، انّ المقتولين يأتياني، بصورة مرعبة، ويطالباني: بأنّي لِمَ قتلتهما؟ فأقوم من النوم مرعوباً، بما يوجب توتّر أعصابي، ولذا فقد قرّرت أن لا أنام الليل، ولا تعتريني هذه الحالة بالنهار .
ويروي مثل هذه القصّة عن أحد قتلة أصحاب الامام الحسين (عليه السلام)، فانّه كان جميل الوجه، قبل وقعة كربلاء ورأوه بعد ذلك قبيح الوجه مسودّاً، ولّما استفسروا عن سبب ذلك؟ قال: انّي قتلت شابّاً حسن الوجه من أقرباء الامام الحسين (عليه السلام)، ومنذ ذلك الحين، اذا نمت رأيت في المنام: انّ الشاب أتاني،
ص: 30
وأخذني الى جهنّم، وألقاني فيها، فاحترق فيها، بكلّ حرّها وكربها، الى أن أقوم من النوم، وهذا السواد والقبح الذي تشاهدون في وجهي من أثر ذلك.
والظالم يكون هكذا، انّه مهما طال به الزمن لا يهنّا بحياته، بل يكون دائماً متوتّر الأعصاب، قلق النفس، شارد الفكر، وهذا أوّل عقاب يتلقّاه الظالم في محكمة عدل الله سبحانه في الدنيا، ومن شكّ في ذلك فليجرب المجرمين من قريب.
من يظلم الناس تلقى الأذى *** وان يكن في ذروة السلطنة
ص: 31
كان في كربلاء المقدّسة، رجل مجرم، يسعى بالناس الى السلطة، ويوقعهم في المهلكة، مع انّه كان بأنّ ذلك عصيان وطغيان، وله عواقب سيّئة، وقد نصحه الناصحون بأن ينقلع عن فعلته، لكنّه أبى الّا السعاية والافساد .
نقل بعض من كان يعاشره، قال انه لا ينام طوال الليل بل يمشي ويدخّن ويفكر ويتقلّب، واذا أخذته غفوة يفزّ من النوم مرعوباً، ويكلّم نفسه، الى غيرها من الحالات المقلقة.
ومضى على هذه الوتيرة زمان، ثم افتقدناه، ولم نعلم أين ذهب ؟ وماذا عمل ؟ وبعد مدّة اخبرنا، انّ بعض الأعراب، وجده في مستنقع ماء في بعض الصحاري، رجلاً مقطوعة، ويداً مقطوعة، ورأساً
ص: 32
مقطوعاً، وجسماً كلّه قد انتفخ وتعفّن، ولّما فحص في ملابسه وجد صورته وهويّته، واذا به الرجل الآنف الذكر .. عجباً: من قتله؟ وكيف قتله؟ ولماذا قتله؟ و؟ و؟ و؟ (انّ ربّك لبالمرصاد)(1)والدنيا دار مكافاة، قبل الآخرة.
وقد كنت أرى - أنا - انساناً يظلم أهله، بسوء الخلق، والغيبة، والمقاطعة، والاستعلاء، وما أشبه ذلك . . . فلم تمض سنوات الّا ورأيت نفس ذلك الشخص، واذا به قد دارت به الدائرة، ذليلاً حقيراً مهيناً، قد شلّت رجلاه يسترحم الناس ويستعطفهم.
فقلت في نفسي، يا الله ؟ لو لم يكن جزاءه الّا هذا، لكفى عبرة، ولكن هل يعتبر الانسان؟ نعم (ما أكثر العبر وأقّل الاعتبار».
ولعلّ كل انسان، تقدّم به العمر جرّب مثل ما جرّبت...
ص: 33
يقال: انّ أحد البرامكة، بعد ذلّتهم، طلب الماء في الحمّام من (الدلّاك) فأتى إليه بالماء، في ظرف (النورة) استهزاءاً به ! قال البرمكي: انّا كنّا نسقي الناس الماء، في ظروف الذهب والفضّة، ومع ذلك نرى هذا الجزاء، فماذا يكون جزاء فعلتك أيّها ( الدلّاك)؟
والواقع انّ هذا لم يكن جزاء البرمكي لسقيهم الناس الماء، في ظروف الذهب والفضّة، بل هو جزاء ظلمهم للناس «أحصاه الله ونسوه» وكم لآل برمك من ظلم وعدوان ؟
ص: 34
(عبد الكريم قاسم) اتّخذ مقرّاً لنفسه من (وزارة الدفاع ليتحصّن بها.
وأقول: (قبل الشروع في القصّة) انّ ممّا فعله المستعمر ببلاد الإسلام: انّه سمّي (الجهاد) بالدفاع، وذلك لأمرين:
1 - اقصاء الاسم الاسلامي عن مجالات الحياة، فانّ (الجهاد) لفظ اسلامي، بخلاف (الدفاع) فانّه . وان استعمله الاسلام - لكنّه لا يعطي الظلال الذي يعطيه لفظ ( الجهاد ) . . وهكذا غيّر المستعمرون الألفاظ الإسلاميّة: أسامي الأشخاص، وأسامي المحلّات ، وأسامي الشوارع، وألفاظ التحيّة، وغيرها وغيرها ....
ولذا يلزم على كلّ مسلم واع، أن يهتّم لارجاع(الأسامي الإسلامية ) بقدر الامكان.
ص: 35
2 - حصر الاهتمام بالداخل، بعد أن كان الاسلام يحرّض المسلم على التغيير والبناء في كلّ مكان، داخلاً وخارجاً .. ولذا فمن اللازم على الحكومات الاسلامية، أن يسمّوا (الدفاع) بوزارة (الجهاد).. والكلام في هذا الموضوع طويل، وليس هذا الكتاب موضعه.
وإليكم القصة التالية - وقد نقلها أحد العلماء لعبد الكريم قاسم أيضاً -
ذات يوم كان (هارون) العبّاسي، يسعى بين الصفا والمروة، والناس يسعون في أفواج كبيرة، واذا بهارون يسمع من خلفه من يناديه (یا هارون) بهذه اللفظة، فاستشاط غضباً والتفت وراءه، ليرى من هو هذا الإنسان المتجرّي على مقام الخلافة ! ، واذا به يرى انّ المنادي بهلول، قال: هارون، وماذا تريد؟ قال بهلول: ارم ببصرك الى هذا الخلق، كم ترى من اناس؟ قال هارون: كثيرون، قال بهلول: كلّ واحد من هؤلاء عمّن يسأل يوم القيامة؟ قال هارون، يسأل
ص: 36
عن نفسه، قال بهلول: وأنت يا هارون عمّن تسأل يوم القيامة؟ فسكت هارون، فأردف بهلول: لكنّك تسأل عن کلّ هولاء، وعن غيرهم ممّن شملهم ملكك، يقول الله لك ماذا عملت فيهم؟ هل بالعدل أو الجور؟ هل بموازين الاسلام؟ أو بغير موازين الاسلام؟ فتأثّر هارون بذلك تأثّراً بالغاً . . .
نقل العالم هذه القصّة لعبد الكريم قاسم، ثم أردف:
انّ الزعيم يوم كان وحده جنديّاً في الجيش، كان مسؤولاً عن نفسه، ولّما ترقّى وصار أمراً على جماعة، صار مسؤولاً عن نفسه وعن اُولئك الجماعة، ولّما صار زعيماً (وهو منصب عسكريّ في العراق) صار مسؤولاً عن جماعة أكبر، وأفراد أكثر، واليوم حيث ثار، وجاءت أزمة الملك بيده، صار مسؤولاً عن كلّ من في العراق، صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، رجلهم وامرأتهم، و . ...
وأبدى عبد الكريم كلام العالم تأثّراً بالغاً .. لكن
ص: 37
كان تأثّره بهذا الكلام، مثل تأثَر هارون بكلام بهلول (ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها).
وأضيف - تعليقاً - أنّ هارون كان مسؤولاً (عن كلّ من في ملكه) كما قال (بهلول) ومسؤولاً أيضاً عن من ليس في ملكه ممّن كان بامكانه ارشادهم وهدايتهم الى الاسلام، ومسؤولاً أيضاً عن الأجيال القادمة التي كان بإمكانه انقاذهم وهدايتهم لو عمل بالاسلام . . . ولو عمل هارون وغير هارون بالاسلام، كان المسلمون هم الذين وصلوا الى القمر، وهم سادة العلم اليوم وكان الاسلام نشر جناحه - اليوم - في كلّ العالم، أو أكثر العالم . . وكذلك كان حال (قاسم) لكن في نطاق أضيق من نطاق هارون - طبعاً - .
لكنّهما وسائر الحكّام الظالمين «اتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين» .
ولولا الأئمَة الطاهرين، الذين مثّلوا الاسلام أفضل تمثيل، ولولا العلماء من أتباعهم، الذين خطوا مكان خطاهم .. لكان ما فعله الأمويّون والعبّاسيون
ص: 38
ومن حذا حذوهم كفيلاً بأن يكون الاسلام اليوم، كاليهوديّة والمسيحّية، التي لا تمتّ الى دين الله المنزل بصلة.
نعم ... ذهب هارون، وذهب قاسم، وذهب غيرهما من الحكّام الظالمين، ولم يخلفوا الّا تراثاً أسود من الظلم والخراب والدمار والتأخّر وسوء الذكر.
تلك آثارهم فقد عصروها *** قطراناً ونكبة وسوادا
فليعتبر بأمثالهم الحكّام الظالمون، وليقلعوا عن الظلم والاستبداد قبل فوات الأوان.
ص: 39
روى بعض الثقاة: انّ أحد الأخيار مرّ بقبر، فسأل الله أن يريه صاحب القبر، فانفتح له بصره، واذا به یری نفسه، في بستان كبير جميل، تطرد من أطرافه الأنهار، وتغرد فوق أشجارها الأطيار، وفيه من كلّ الثمرات، ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر .. فأخذ يمشي في البستان، حتى الى قصر شاهق، ما رأى في عمره أبدع منه، وفي وسط القصر سرير، وعلى السرير رجل جالس كأنّه أعظم ملوك الأرض، في كمال البهجة والسرور، وحوله عدد كبير من الخدم والحور .
فسلّم عليه وجلس، وسأله من هو؟ فتبيّن أنّه كان رجلاً مؤمناً في الدنيا، وانّ الله سبحانه تفضّل عليه بهذا القصر جزاءاً لما فعله في الدنيا من الأعمال الحسنة، والأفعال المستحسنة.
ص: 40
قال الرجل: وبينما كنت في ذلك الحال، رأيت انّ وجه صاحب القصر تغيّر، وأخذته الرعدة، واصفّر لونه، وسمّر نظره الى طرف من البستان، فاذا بي أرى زنبوراً يأتي من ذلك الطرف، فجاء الزنبور وأخرج صاحب القصر لسانه، فلدغ الزنبور لسانه، ممّا أوجب أن يغمى على صاحب القصر، وذهب الزنبور، وبعد مدّة رجع صاحب القصر الى حاله الأوّل، من الصحّة والبهجة.
قلت له: ما هذا الذي رأيت؟ قال: نعم هذا جزاء عمل عملته في الحياة، قلت ما هو؟ قال: كانت بنت ذات جمال لبعض جيراني، فخطبتها، لكن أهلها أبوا أن يزوّجونيها، ولذا أردت الانتقام منهم، فتر صّدت لها، وكلّما جاء انسان الى خطبتها، صرفته عنها بوجه من الوجوه، فبقيت البنت الى الآن، وأنا متّ منذ سنوات، وأعطاني الله ما رأيت جزاء أعمالي، لكن كلّما بكت تلك الفتاة لحظّها العاثر، جاء هذا الزنبور ولدغني كما رأيت وقد توسّلت بالامام أمير المؤمنين (عليه السلام)، أن يسأل الله خلاصي من هذا العذاب؟، لكن
ص: 41
الامام قا: لا خلاص لك الّا بتزويج وترضيتها، قلت: لا أقدر على ذلك، قال عليه السلام : انّى استأذنت الله (سبحانه)، أن أتيح لك فرصة لقاء أحد أهل الدنيا، فاسأله أن يرضيها ويزوّجها، وبذلك يكون لك الخلاص . .. وها أنت جئتني ببركة الامام، وانّي ألتمس منك أن تسعى في تزويج هذه الفتاة وتطلب رضاها منّي لأنجو من العقاب.
قال الرجل الخيّر، وبعد هذا الكلام، واذا بي أرى نفسي في نفس المقبرة، فلا بستان ولا قصر ولا أيّ شيء ممّا رأيت .. فجئت الى البلد، وتعرّفت على الفتاة وسعيت في تزويجها وأرضيتها عن الرجل.
نعم .. هناك أناس يصلّون ويصومون ويزكّون ويحجّون، ولكن لا يبالون بمثل هذه الأعمال التي يحسبونها هينة وهي عند الله عظيمة... وكم رأيت أنا هذا القبيل، وأتذكر الآن رجلاً - ليس متديّناً فحسب بل هو عابد ورع - اتّهم فتاة بأنها تزوّجت من رجل خفية، ممّا أوجب أن يعثر حظّها ولا يقدم الى خطبتها
ص: 42
أحد .. وأتذكّر امرأة فرقت بين رجل وزوجته باتّهامات باطلة . . وأتذكّر امرأة اخرى حالت بين بنتها وزوجها سنوات وسنوات حتّى ماتت الأم، وقد رأيت كيف انّ الله (سبحانه) ابتلى الله كلّ اُولئك بالفقر والأمراض والمشاكل.
بالا الضالع
ونقل لي أحد الأصدقاء، أنّه كان من المقرّر تزويج فتاة بشاب، فحالت دون الزواج احدى عجائز عشيرتهم، مع انّ كل شيء قد تمّ، وبعد مدّة ماتت العجوز، وبعد سنة من موتها ورأب بعض المصلحين الصدع، وتزوّجت الفتاة بالشاب واذا ببعض ذوي العجوز يراها في المنام، فتقول انّي كنت مبتلية طيلة هذه السنة بالعذاب لأجل حيلولتي دون الزواج، ولّما تمّ عرسهما، تخلّصت من العذاب.
وكم لهؤلاء من نظائر ونظائر، ممّا يفعله من يزعم انّه متديّن، ولكن لا يهتّم بهذه الأمور.
(وإذا قيل له اتّق الله، أخذته العزّة بالاثم)(1)
ص: 43
(وإذا قيل لههم لا تفسدوا في الأرض، قالوا: انّما نحن مصلحون، ألّا انّهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون)(1)
انّ الدين ليس منحصراً بالصلاة والصيام، والحج والانفاق، بل هو ألف شيء وشيء، واذا ترك الانسان شيئاً منها، دخل في زمرة الذين قالوا: (نؤمن ببعض ونكفر ببعض )(2).
وعلى أيّ حال فهذه أقسام من الظلم، يعاقب الانسان بها، في الدنيا قبل الآخرة.
ومن المؤسف أنّه قد انحسر الاسلام - ككل - حتّى عن المتديّن، فقد كان في السابق يطالع المتديّنون الأخبار المربوطة بهذه الشؤون، أمثال كتاب (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال) و (مكارم الأخلاق) و (جامع السعادات) و (قصص الأنبياء) وغيرها وغيرها، وكانت
ص: 44
هذه الكتب ترشدهم الى معالم الاسلام، في الأخلاق والاجتماع والعائلة والمعاشرة، وسائر الشؤون الحيويّة.
أمّا اليوم فأغلب المتديّنين يكتفون بالصلاة والصيام، ولا يعلمون عن سائر الشؤون الاسلاميّة ، الّا نزراً يسيراً، وبذلك انحسر المدّ الاسلامي الاصلاحي عن النفوس، كما انحسر المدّ الاسلامي الحكومي عن البلاد، وانحسر المدّ الاسلامي القانوني عن المشاكل والقضايا.
والعاقبة مشاكل الدنيا، وخسران الآخرة.
ص: 45
رأيت في مجلّة منذ سنوات هذه القصّة، وهي:
انّ رجلاً متهوّراً، دخل داره، وفقد في الدار زوجته فأساء بها الظنّ، وأخذ يفتّش في أثاث المرأة، واذا به يجد في بعض أثاثها رسالة غرامية موجهة من رجل اليها، فتيقّن انّ للزوجة اتّصالاً غير مشروع بصاحب الرسالة، فهياً للزوجة آلة قّتالة ، وبمجرّد أن جاءت الزوجة الى الدار حمل عليها بتلك الآلة القتّالة وقتلها، وهي تستغيث وتسأل عن السبب لكن الرجل كان قد ركبه الشيطان، فلم يمهلها ولم يستنطقها .. ثم أخبر الرجل أهل الزوجة بأنها كانت سيّئة ولذا قتلها (واذا علمنا انّ في بعض العشائر العراقيّة من المعتاد قتل الزوجة والاخت ومن أشبههما بأمثال هذه الظنون، وان القانون لا يعاقب أمثال هذا القاتل الّا بعقاب يسير، أدركنا
ص: 46
كيف يتمكّن ان يتخلّص مثل هذا الزوج من ملامة الناس، ومن عقوبة القانون).
وبعد يوم جاء الرجل الى الرسالة الغراميّة، ليرى تفصيل ما فيها، واذا به يفاجيء، بأنّ الرسالة موجّهة الی زوجته، وقرأ الرجل الرسالة والعنوان مرّة ثانية وثالثة، حتّى تيقّن انّ الرسالة ليست للزوجة، وأخذ يفحص عن (الفتاة) التي وجّهت اليها الرسالة، فيعلم انّها صديقة لزوجته، وانها جاءت بالرسالة الى زوجته لتودعها عندها، كما كانت عادتها، أن تودع عندها رسائلها ونقودها وثيابها لأنها جارة لهم، وتذكر ان زوجته لا تقرأ ولا تكتب.
فندم الرجل على فعلته ولّما ينفعه الندم .. لم تمض من الحادث الّا أيّام قلائل، واذا به يفاجأ بألم في موضع من ذراع يمناه، وأخذ الألم يشتدّ ويشتدّ، ويراجع الأطبّاء، وكلّما عالجوه لم ينفع، وأخيراً قرّروا اجراء عمليّة جراحية على نفس الموضع، مع انه لم يكن له أيّ
ص: 47
أثر من احمرار وورم وما أشبه، وأجروا العمليّة، وقطعوا قطعة لحم من مكان الوجع، لكن الألم لم يزل، وبقي في المستشفى الى انّ نبت اللحم الصالح لكن الألم بقي على حاله في كمال الشدّة، ممّا سلب استقراره، وأطار عن عينه النوم في الليل.
وأخيراً بعض الأطبّاء بمراجعة أطبّاء النفس، قالوا: لعلّه مرض نفسي، لا مرض جسدي .. وبعد أن راجع طبيباً نفسيّاً، واستنطقه الطبيب عن كلّ ما اقترفه في حياته، تذكّر انّه لمّا قتل زوجته ترشّح من دمها نقطة فأصابت هذا الموضع من اليد، فقال له الطبيب: أنّه عقاب من الله (سبحانه)، ولا علاج لك عندنا، وهكذا خرج من عند طبيب النفس يجر ّأذيال الخيبة والخسران.
سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله ربَ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
كربلاء المقدسة - الكويت 10/ رمضان / 1395 هجرية
ص: 48