العدل أساس الملك

اشارة

اسم الكتاب: العدل أساس الملك

المؤلف: حسيني شيرازي، محمد

تاريخ وفاة المؤلف: 1380 ش

اللغة: عربي

عدد المجلدات: 1

الناشر: مركز الرسول الاعظم(ص)

مكان الطبع: بيروت لبنان

تاريخ الطبع: 1419 ق

الطبعة: اول

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الله يأمر

بالعدل والإحسان

وإيتاء ذي القربي

وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي

يعظمكم لعلكم تذكرون

صدق الله العلي العظيم

سورة النحل: الآية 90

كلمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي محمد وآله الطيبين الطاهرين.

إن إقامة العدل بين الناس وشجب كل أنواع الظلم والاستبداد هو شعار تتخذه الحكومات والحركات التحررية في العالم وعلي مرّ التاريخ البشري.

ولكن ما هو الضمان لتطبيق مثل هذه الشعارات والأهداف؟

هل هو عن الطرق المادية وما تفرضه النظرية الماركسية من القضاء علي الملكية الفردية وإقامة المجتمع الشيوعي؟

أم هو عن الطرق الرأسمالية وسيطرة الأفراد علي مقدرات الأمم بمنح ما تصوّروه من الحريات المطلقة للأفراد علي حساب الآخرين؟

من الواضح أن الحل لا يكمن في هذين الطريقين بل إن إقامة الحق والعدل لايكون الا في ظل الإسلام وتعاليمه السمحاء.

وذلك لأن الإسلام جاء بالنظرة المتكاملة حول الكون والإنسان.. الفرد والمجتمع والتي تحمل في طيّاتها فاعلية التجسيد علي ساحة الواقع، حيث إن كل نظرية عادة تواجهها شتي أنواع المشاكل والصعوبات عند التطبيق ولا يمكن تذليلها إلاّ بالإحساس بالمسؤولية تجاه الأمة وأمام الله سبحانه وتعالي.. فالإنسان المؤمن الذي يستمد هدفه من العدل المطلق: (الله سبحانه وتعالي) لا يمكن أن تبهره زخارف الدنيا ولا يمكن أن يقف دون تحقيق العدل وتجسيد التعاليم السماوية علي وجه البسيطة..

وتاريخ الإسلام أكبر شاهد علي ذلك فقد استطاع الإسلام بما يحمل من مبادئ العدل والمساواة أن يجعل حتي من العبيد سادةً وقادةً، وجسّدت كذلك الدولة الإسلامية العدل والمساواة بين الحاكم والمحكوم فيعيش الحاكم بين الناس كأيّ مواطن عادي لايتميز عليهم

بالقصور الفخمة ولا يستأثر بالأموال دون الرعية..

ويظهر ذلك جلياً بممارسة النبي الأكرم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لمهامّ الحكم الإسلامي وقيادته للدولة الإسلامية، وكذلك في حكومة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

ويتبيّن من تتبع القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة وسيرة الأئمة (عليهم السلام) أن الإسلام جاء لإلغاء الفوارق والعصبيات.. وجعل المقياس هو الكفاءة والتقوي كما قال تعالي: ?يا أيها الناس إناّ خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ?.

فينظر الإسلام إلي الناس جميعاً نظرة واحدة أمام القانون، فلا فرق ولا تمييز بين الرئيس والمرؤوس.. ولا بين الغني الفقير.. ولا الأسود والأبيض.. ولا العربي والأعجمي..

فالقرارات التي تتخذها الحكومة الإسلامية العادلة لاتكون عن استبداد في الحكم والرأي بل بعد الاستشارة والاعتبار برأي الأكثرية وملاحظة المصلحة الاسلامية العامة حيث قال تعالي: ?وشاورهم في الأمر?.

ونظراً لأهمية موضوع العدل في الحكم قام المرجع الديني الأعلي آية الله العظمي السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله) بكتابة هذا الكتاب القيم (العدل أساس الملك) لكي يكون نبراساً ودرساً للأجيال في طريق إقامة العدل ورفض الظلم والاستبداد.

وقد قمنا بطبع هذا الكتاب راجين من الله سبحانه وتعالي أن يوفقنا لخدمة الدين الحنيف إنه سميع الدعاء.

مركز الرسول الأعظم (ص) للتحقيق والنشر

بيروت لبنان

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين.

إذا دخلت بلداً وأردت أن تعرف هل أنّ (الحريات) متوفرة فيها؟ فليس عليك إلاّ أن تستعمل الترمومتر السياسي، وبذلك تتمكن أن تعرف في أوّل يوم: هل يمكنك البقاء في البلد أم لا؟

ومن الترمومتر السياسي (الإعلام والآراء) فإذا رأيت الصحف تتكلّم بكل حريّة عن أيّ شأن من الشئون، وتنتقد من

تشاء من الأفراد والاتجاهات، وتنصح وترشد كما تريد..

وإذا رأيت الناس يتكلّمون علناً بما يشاؤون، فاعلم أنّ الحرية تحكم البلاد، ولا تصّدق إذا جاءك ألف إنسان وقالوا: إنه لا حريّة في هذا البلد.

وأمّا إذا رأيت الصحف لا تتكلّم إلاّ في جهة أو في جهات خاصة، ولا تنتقد إلاّ يسيراً، وفي الهوامش، والناس مكمّمون.. يتهامسون في مجالسهم الخاصّة، فاعلم أن الديكتاتورية تسود البلاد ولا تصدّق ألف إنسان وإنسان إذا جاءوك وقالوا لك: أن لا ديكتاتورية في البلاد.

وحذار حذار أن تبقي في بلد الديكتاتوريّات، ولو كان لك ألف مبرّر ومبرّر، فإنّ الحرية تعني الحياة والنور، والديكتاتورية تعني الموت والظلام …

وإذا رأيت شخصاً يأتي بألف دليل ودليل علي أن الموت خير من الحياة، فاعلم انّه لم يفهم معني الحياة …

وإذا رأيت إنساناً في الظلام يأتي بألف دليل ودليل علي أنّ الظلام خير من النور، فاعلم أنّه لم يفهم معني النور.

ولا يغرنك في بلد الديكتاتوريّات: العمران الكثير بأنهاره الجميلة، وشوارعه الممتدّة، وأبنيته الفخمة، وأسواقه المزدحمة، وصنائعه الكثيرة و… فانها كلّها علائم الموت لا علائم الحياة.

أرأيت الإنسان الجميل المنظر، المبتلي بالسرطان، المتورّم الجسم الذي تراه سميناً محمرّ الوجه؟

فهل هذا خير؟

أم الإنسان العادي الذي لا سمنة له، ولا احمرار في وجهه، لكنّه يتمتّع بحيويّة نفسية وصحّة جسديّة؟.

إنّ مثل بلد الحريّات ولو لم يكن فيه العمران مثل الإنسان الثاني، ومثل بلد الديكتاتورّيات وإن كان فيه العمران متوفّراً مثل الإنسان الأوّل.

وإذا رأيت العمران مع الديكتاتوريّة، فاعلم انّه لو كانت حريّة، لكان العمران مائة ضعف، وإذا رأيت عدم العمران مع الحريّة فاعلم انّه لو كانت ديكتاتوريّة، لكان الخراب مائة ضعف..

ولتعلم الحكومات الديكتاتوريّة:

1: أنهم زائلون مهما طال بهم الزمن.

2: أنّ بلدهم آيل إلي الخراب والانقسام، مهما

يشاهد فيه من العمران والوحدة في الحال الحاضر .

3: أنّ الناس يكرهونهم أشدّ الكره، وإن أظهروا أمامهم التملّق الكاذب والمدح الخادع.

4: وأخيراً يجب أن يعلموا انّهم يوقّعون علي خزيهم في الدنيا طول التاريخ، وعلي عذابهم في الآخرة إلي الأبد.

هذا ما يجب أن تعلمه الحكومات الديكتاتوريّة.

أمّا ما يجب علي الناس المبتلين بأمثال هذه الحكومات أن يعلموه، فهو:

1: أنّ رقابهم مهيّئة للمقصلة.

2: أن أموالهم مهيّئة للنهب.

3: أنّ أبدانهم مهيّئة للتعذيب.

4: أنّ أهاليهم مهيّئة للضياع العقيدي والخلقي والمعيشي .

فالواجب علي الناس، أن يعملوا بكلّ الوسائل المتاحة لتهيئة مناخ الحرية..

إنّ مناخ الحريّة يجعل من النواة شجرة، ومناخ الديكتاتوريّة يجعل من الشجرة حطباً يابساً لا يصلح إلاّ للإحراق.

وليعلم الإنسان، انّه إن يقتل حرّاً أو في سبيل الحريّة، أفضل ألف مرّة من أن يعيش عبداً تحت حكم الديكتاتوريّة:

فأبي أن يعيش إلاّّ عزيزا أو تجلّي الغبراء وهو صريع

***

آليت ان لا اقتل الا حرا وان رأيت الموت شيئا نكرا

ولا يظنّ المتديّن الذي يعيش تحت ظلّ الديكتاتوريّة ولا يستطيع التغيير والإصلاح إنّه مثاب ومأجور، بل العكس هو الصحيح، اقرأ هذه الآية الكريمة: ? إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كّنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيراً?.

وأحياناً تكون الديكتاتوريّة بحجم كبير جداً، ممّا يخاف الإنسان أن يقابلها … لكن يجب أن يعلم الإنسان أن الديكتاتوريّة، مهما كانت كبيرة الحجم، فإنها ?خشب مسنّدة? ولا ييأس من روح الله سبحانه..

وبعد، فهذا كتاب (العدل أساس الملك) إنّما كتبته للإرشاد إلي لزوم العدالة، في الفرد وفي الجماعة وفي الحكومة، وعمدت إلي نقل قصص عديدة لأنها أكثر تأثيراً في النفوس، ولذا ذكر القرآن الكريم قصصاً كثيرةً،

وقال في قصّة أصحاب الكهف: ? نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ ?.

لعلّ الله سبحانه يهدي بسببه من يشاء إلي سلوك طريق العدالة، وأن يكون معولاً في هدم الديكتاتوريّات التي ابتلي بها المسلمون لا في أكثر حكوماتهم فحسب، بل وحتّي في مجتمعاتهم وعوائلهم، ولا غالب إلاّ الله وهو الموفقّ المعين.

الكويت / 1395 ه

محمد الشيرازي

1 يُمهل ولا يُهمل

لا تظلمنّ إذا ما كنت مقتدراً فالظلم آخره يدعو إلي الندم

تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك و عين الله لم تنم

نعم، الظلم ظلمات في الدنيا وفي الآخرة، ولا يغرّ الظالم أنّه أمهل، فانّ الظالم يُمهل ولكن لا يُهمل.

نقل لي أحد الأصدقاء، قال: ذهبت إلي إحدي القري فإذا بهم يقولون لي: إنّ خارج هذه القرية وقع حادث عجيب قرب عمود الهاتف.

قلت: وما هو الحادث العجيب؟

قالوا: ذات مرّة نزل ضيف عندنا ونام الليل في السطح، وفي أثناء الليل قام للتخلّي، وحيث كان الليل مقمراً خرج من القرية إلي البرية لقضاء حاجته، وإذا بأهل القرية سمعوا صيحة عجيبة، فقاموا من نومهم، وبعد الفحص والبحث عن مصدر الصيحة، رأوا الضيف مغماً عليه قرب القرية، فحملوه إلي القرية..

وبعد أن أفاق الضيف عن إغمائه، قال: لما خرجت لقضاء الحاجة، وإذا بي أري إنساناً مشدوداً بعمود الهاتف وهناك نفران، ليسا من جنس البشر يضربانه ويعذّبانه أشدّ العذاب، وهو يستغيث ويصيح ولا أحد يغيثه..

قال: ودخلني من ذلك رعب عجيب حتي أغمي عليّ.

وبعد أن ذكر الضيف أوصاف ذلك الإنسان المعذّب، تبين لديهم أنه كان كبير القرية وكان إنساناً ظالماً، وانّه دفن بعد موته، قرب ذلك العمود.

نعم.. قال تعالي: ?ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون، إنّما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار?.

وقال (عليه السلام): (يوم المظلوم علي الظالم أشد من يوم الظالم

علي المظلوم).

ولذا فالواجب علي الإنسان أن يلاحظ كلّ حركاته وسكناته حتّي لا يكون ظالماً.

والظالم هو من يظلم نفسه أو غيره، سواء يظلم أبويه، أو زوجته، أو أولاده، أو أقرباءه، أو جيرانه، أو سائر الناس.

أو كان يظلم الناس لأن بيده الحكم، أو كان أميراً، أو رئيساً..

بل كلّ موظف في دائرته، وكلّ معلّم في مدرسته، وهكذا … هو حاكم علي من سلّط عليه، فإذا أخّر الموظف توقيع ورقة المراجع كان ظالماً له، وإذا نقّص المدرّس درجة الطالب كان ظالماً له..

والظالم مهما كان يجني الكره، والعذاب.

2 هجوم الوهابيين علي كربلاء

ذات مرّة هاجم الوهّابيّون كربلاء المقدّسة، وقتلوا أهاليها قتلاً عاماً، وكان مجموع ما أحصي من القتلي، سبعة آلاف إنسان.. بين كبير وصغير.. وصبي ورضيع.. ورجل وامرأة …

وفي مرّة ثانية هاجم الوهابيّون أيضاً كربلاء المقدّسة، وقتلوا فيها ثمانية ألف إنسان، بأبشع قتلة..

والقّصتان مذكورتان كما أظن في كتاب (شهداء الفضيلة) للشيخ عبد الحسين الأميني صاحب (الغدير).

ونقل الوالد (رحمه الله) عن مصدر موثوق به، أنّه في إحدي الحملتين، التجأ الناس بالحضرة المقدسة الحسينّية وأغلقوا أبواب الصحن، وازدحموا في الحرم الشريف وأخذوا في البكاء والتضرّع والدعاء والابتهال، ومرّ علي هذه الحالة أكثر من يوم، ولم تظهر أيّة علامة من علامات الإجابة.. وكان من جملة هؤلاء رجل من الأخيار فتعجب من عدم الإجابة، ولذا خاطب الإمام الحسين (عليه السلام) قائلاً: يا سيدي إن شرائط الإجابة متوفّرة، أليس الناس في حرمك، وعند رأسك الشريف وفي الخبر استجابة الدعاء تحت قبّتك..؟

وأليسوا هم منقطعين إلي الله وهم في أشد حالات التوجه والانكسار، وإذا لم يستجب الدعاء في هذا الحال ففي أيّ وقتٍ وفي أيّ مكان وزمان يستجاب؟.

فسمع الرجل هاتفاً يقول: (سبقتهم دعوة مستجابة).

أي: ان الإمام (عليه السلام) أو ملكاً من

الملائكة دعا علي بعض هؤلاء الناس بالزوال والفناء والاضطهاد وذلك لظلمهم بعضهم البعض فاستجيب الدعاء فيهم، وهذا من أثر ذلك الدعاء، ولذا لا تؤثر هذه الأدعية في رفع البلاء.

نعم، كان قد كثر الظلم في ذلك الحين، فقد ضعفت الحكومة العثمانية، وكان الناس إذ ذاك (من عزّ بزّ) ولذا جاء السيل وجرف الأخضر واليابس.

قال سبحانه: ?واتّقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصّة? ويكون العذاب في هذه الظروف، للظالم عقاب ولغير الظالم ترفيع درجة أو ما أشبه.

أما قوله تعالي: ?ولاتزر وازرة وزر أخري? فهي خاصة بالأمور المربوطة بالآخرة وبالأحكام الشرعية في الجملة أمّا الأمور الطبيعيّة فتشمل الخيّر والشرير، ولذا كان الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) يصابون بأشدّ المصائب مع أنهم ما اقترفوا ظلماً وعصياناً..

وللكلام في هذا الباب مجال آخر وإنمّا أردنا أن نشير إلي أن اضطهاد سائر الأبرياء في الطبيعة كالزلازل، وفي أمثال الفجائع العامة كقصّتنا وما أشبه ليس بسبب ذنبهم، بل لأن البليّة إذا جاءت عمّت، وان كانت أصلها من جهة العصيان والكفران لجماعة كبيرة من الناس لا جميعهم.

التعويض عن شهادة الحسين عليه السلام

وهنا لا بأس بالاستطراد حول الحديث الشريف المشهور: (إنّ الله سبحانه عوّض الحسين (عليه السلام) عن شهادته ثلاثاً: استجابة الدعاء تحت قبّته، والأئمّة من ذرّيته، والشفاء في تربته) فانّه قد يكون حول هذا الحديث بعض الأسئلة وهي:

1: الإمام الحسن (عليه السلام) أيضاً أطاع الله كالإمام الحسين (عليه السلام) كلّ بحسب ما أمره به سبحانه وتعالي فلماذا لم يعوّض الله الحسن (عليه السلام) كما عوّض الحسين (عليه السلام)؟.

2: إنّ الأمور الثلاثة لا ترجع إلي الإمام الحسين (عليه السلام) فالدعاء والشفاء للناس، وكون الأئمة من ذرّيته فإنها للائمّة (عليهم السلام) لا له (عليه السلام)، فهل كون الأخيار من نسل

نوح (عليه السلام)، عوض لأتعابه (عليه السلام)، أم هو شيء يعود خيره إلي الأخيار بأنفسهم.

3: والدعاء إذا توفّرت شرائطه يستجاب في كلّ مكان، وإذا لم تتوفّر شرائطه لم يستجب حتيّ في حرم الإمام الحسين (عليه السلام) ثم انه ورد في الحديث استجابة الدعاء حتّي عند قبر الأبوين.

4: وأي اختصاص في استجابة الدعاء عند الإمام الحسين (عليه السلام)؟ فقد وردت الأحاديث باستجابة الدعاء عند سائر المعصومين (عليهم السلام) أيضاً.

5: أما كون الأئمة (عليه السلام) من ذرّيته:

فأولاً: إن أريد به بعض الأئمّة (عليهم السلام) فالبعض أيضاً من ذريّة الإمام السجاد والباقر والرضا إلي الإمام العسكري (عليهم السلام).. وإن أريد به كلّ الأئمّة (عليهم السلام) فهم ليسوا من ذريّة الإمام الحسين (عليه السلام) خاصة.

وثانياً: ان الأئمّة من ذريّة الإمام الحسن (عليه السلام) أيضاً، منتهي الأمر إنهم من ذرّيّته من طرف الأم، حيث ان الأئمة (عليهم السلام) يتصلون من طرف الأم بالإمام الحسن (عليه السلام) والذريّة تشمل طرف الأم أيضاً، ولذا كان عيسي (عليه السلام) من ذريّة إبراهيم (عليه السلام) كما في القرآن الكريم.

6: قد ورد في بعض الروايات، إنّ الشفاء في تربة كلّ إمام.

7: وإذا كانت استجابة الدعاء تحت قبّته (عليه السلام) فلماذا نري الكثير من الناس يدعون فلا يستجاب لهم؟.

8: وإذا كان الشفاء في تربته (عليه السلام)، فلماذا نري الكثير من الناس يستعملون التربة فلا يشفون؟.

والجواب عن ذلك بالترتيب:

1: إنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، فتعويض الله للحسين (عليه السلام) شيئاً، لا يدل علي أن الله لم يعوّض الإمام الحسن (عليه السلام) عن أتعابه بشيء آخر، وهذا الحديث لا يدلّ علي أفضلية الإمام الحسين (عليه السلام) علي الإمام الحسن (عليه السلام) كما لا يدل علي أفضلية

الإمام الحسين (عليه السلام) علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وعليّ (عليه السلام)، وإنّما يدلّ علي جزاء الإمام الحسين (عليه السلام) في الدنيا بهذا الجزاء، ولكلّ واحد من الأئمة اختصاصات وامتيازات، فليكن من مزايا الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الأمور.

2: والأمور الثلاثة ترجع إلي الإمام الحسين (عليه السلام) أولاً، حيث أنّ فيها ذكراً وشرفاً له عرفاً كما أن كون الأخيار من ذريّة نوح (عليه السلام) أيضاً شرف لنوح (عليه السلام)، ولذا يباهي الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) علي سائر الأمم بكثرة أمّته ومباهاة الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) معناها: الفرح بالخدمة للإسلام، وتقديم هذه الأمّة الكبيرة بين يديه سبحانه، لا المباهاة بمعني الكبرياء.

3: والدعاء يستجاب تحت قبّة الإمام الحسين (عليه السلام) أكثر من غيرها، فمثلاً يستجاب الدعاء عند الإمام الحسين (عليه السلام) خمسون في المائة مثلاً، ويستجاب في أماكن أخر، عشرة في المائة، فهذه مزيّة في نفسها للإمام الحسين (عليه السلام).

4: واثبات الشيء لا ينفي ما عداه، والفرق بين الإمام الحسين (عليه السلام)، وسائر المعصومين (عليهم السلام)، أنّ استجابة الدعاء عند الإمام الحسين (عليه السلام) عوض عن شهادته، وعند الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عوض عن أداء رسالته، وهكذا..

أرأيت لو قلنا إنّ الدولة تعطي خرّيج الثانوية كل شهر مائة دينار عوض أتعابه، لا ينفي ذلك أن تعطي الحكومة كل ضابط مائة دينار لخدمته العسكرية..

ويمكن أن تكون نسبة الاستجابة عند الإمام الحسين (عليه السلام) أكثر، وهذا لا يستلزم أفضليته علي الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وعليّ (عليه السلام) كما هو مذكور في محله .

5: وكون الأئمة التسعة (عليهم السلام) من أولاد الحسين (عليه السلام) من طرف الأب مزيّة، ليست متوفّرة

في الإمام الحسن (عليه السلام) ولا في الإمام السجّاد (عليه السلام) ولاغيره من الأئمة المعصومين (عليهم السلام).

كما لا يصح أن يعترض بأنهم كذلك بالنسبة إلي الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فكيف تكون هذه من مزايا الإمام الحسين (عليه السلام)؟

وذلك لأن الحديث جاء بالنسبة إلي الإمام الحسن (عليه السلام)، وإن كانت للإمام الحسن (عليه السلام) مزيّة أخري من جهة ثانية، وهي كما إذا قال الأب أعطيت ابني محمداً داراً والحال انّه لم يعط ولده الآخر عليّا داراً وذلك لا ينافي أنه أعطاه بستاناً.

6: ومن الجواب الرابع ظهر الجواب عن السؤال السادس أيضاً.

7: والمراد من استجابة الدعاء تحت قبة الإمام الحسين (عليه السلام) كون المقتضي في الإجابة أقوي من المقتضي في سائر الأماكن لا إنه العلة التامة لاستجابة الدعاء، كما يقال إنّ (السائل المعين) دواء لمرض كذا، فانّ معناه المقتضي، لا العلّة التامّة.

8: ومن الجواب السابع يظهر الجواب عن السؤال الثامن.

وهذا موجز الكلام ذكرناه استطراداً، وإلاّ فالكتاب موضوع لشأن آخر.

3 إن ربك لبالمرصاد

كان رجل من أهل المدينة يذهب إلي بعض الأرياف، لشراء الشاة والدهن والصوف وما أشبه، وكان له عميل في الريف يرد عليه فيشتري له ما يريد.

وذات مرّة أخذ معه مالاً ضخماً وقصد الريف ونزل عند عميله وذكر له حاجياته، وانّه يريد اشتراء حاجيات بمبلغ كذا..

قال التاجر: وبمجرد أن ذكرت للعميل كميّة المال الذي معي، وإذا بي أري آثار التغيّر في وجه العميل، فعلمت أنه أراد بي سوءاً، فندمت، ولكن لا ينفع الندم.

نعم: استر ذهبك وذهابك ومذهبك، حتّي عن الأصدقاء يقول الشاعر:

احذر عدوّك مرّة واحذر صديقك ألف مرّة

فلربمّا انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة

قال التاجر: ولكن لم يكن لي ملجأ، ألجأ إليه في تلك الليلة.. وبعد صرف الطعام

فرش لي صاحب البيت في غرفة من غرف البيت، وذهب هو وزوجته إلي غرفة أخري، لكنّ النوم لم يزر عيني من القلق، وأخيراً قرّرت أن أخرج من غرفتي واختفي في بعض زوايا البيت، وهكذا فعلت..

فخرجت.. وحيث لم أجد مكاناً للاختفاء إلاّ الإسطبل اختفيت فيه، وأخفيت نفسي إلي رقبتي في التبن الذي خزن في الإسطبل.. لكن عيني كانت تحدق باتجاه الغرفة.

وإذا بي أري نصف الليل أن شخصاً دخل الدار وذهب إلي غرفتي.. ولم أعرف من هو ذلك الشخص؟

وبعد مدّة رأيت في ضوء القمر أنّ صاحب البيت وزوجته قاما وهما يتهامسان حتّي دخلا الغرفة، وعلمت انّهما يريدان بي شرّاً، ولم تمض مدّة إلاّ ورأيت الزوجين أسرعا وأضاءا مصباحاً نفطّياً ودخلا الغرفة، ثمّ رأيتهما يخرجان ويسحبان جثّة إنسان ملفوف إلي السرداب.

قال الرجل: ولمّا دخلا السرداب قمت من مكاني وهربت من القرية قاصداً البلد، ومشيت حتّي وصلت البلد بكلّ خوف وصعوبة، وأخبرت الشرطة بما جري.

فجاءت مفرزة من الشرطة معي إلي القرية، وألقوا القبض علي الزوجين، ودخلنا السرداب وحفرناه، وإذا بنا بجثّة الرجل المذبوح، وبعد التحقيق تبينّ أنّ المذبوح ولد صاحب البيت، وانّه كان خارجاً لبعض شؤونه، ولمّا دخل الدار نام في تلك الغرفة، والزوجان ظنّاه أنه التاجر فقتلاه في الظلام وبعد ما تبينّ الأمر لهما دفناه خوف الفضيحة … ولكن كان ربّك بالمرصاد.

وهكذا يلاقي الظالم جزاءه إن عاجلاً أو آجلاً.

4 ضمير المجتمع في مواجهة الظالمين

يقول بعض الحكماء: إنّ للمجتمع بما هو مجتمع روحاً غير روح كلّ فرد فرد، وتلك الروح هي التي تحرّك المجتمع، فقد يكون خاملاً وقد يكون نشطاً، وقد يكون صالحاً وقد يكون طالحاً، وهكذا.

وإنّ للمجتمع بما هو مجتمع ضميراً غير ضمير كل فرد فرد، وذلك الضمير هو الذي يكون له

رغبة في بقاء دولة أو هدم دولة، أو تحسين شيء، أو تقبيح شيء، وهكذا …

وهذا الضمير هو الذي يهيمن علي الحكومات الظالمة، ويحرك الأفراد علي مقاومتها، إلي أن ترجع عن غيّها فتكون عادلة، أو إلي أن تزيلها بالوسائل الديمقراطية أو بالوسائل العنيفة.

ولا نريد الآن تصديق هذا الكلام، فإن له مكاناً آخر، وإنمّا أريد أن أقول: لقد لمست بنفسي الضمير الذي يتحرّك لوضع الحدّ لظلم الحكومات الظالمة. فقد عقد (صالح جبر) رئيس وزراء العراق (معاهدة) مع بلاد الغرب، وكانت المعاهدة تمثل عدواناً علي العراق، فتحرّك ضمير الناس، وطالبوا بعزله، فعزل بالوسائل الديمقراطيّة.

ورأيت (نوري السعيد) رئيس وزراء العراق يتنكب الطريق الإسلامي العادل، وقد ملأ العراق بالخمور والفجور والظلم والرشوة، وبدّل قوانين الإسلام إلي القوانين الجاهليّة المستوردة من الشرق والغرب، فتحرّك ضمير المجتمع، وطالبوه بالإصلاح فلم يفعل، وإذا بالسيل يجرفه ويجرف معه الحكومة الملكية كلّها … وقد كان (نوري السعيد) يقول إنّ الرصاصة التي تقتلني لم تخلق بعد، فتبيّن أنهّا كانت خلقت منذ زمان، وأنها كانت أقرب إليه من حرّاسه وحفظته.

ورأيت(عبد الكريم قاسم)، زعيم ثورة (14) تموز، يزعم ويقول: إنه أقوي من الموت وإنه أقوي من الحديد، وقد زوّد وزارة (الدفاع) بمختلف وسائل السلاح، حتّي كان يظن الظان أنه إذا حدثت ثورة، لابد وأن يتمكّن من المقاومة أشهراً وأسابيع علي أقل التقادير وإذا بظلمه يحّرك ضمير الناس، ويقتحم الناس وزارة الدفاع، ولا يطول الأمر أكثر من ساعة، وإذا بالرجل الذي كان يهّز العراق هزاً، ينظر إليه الناس علي شاشة التلفزيون قتيلاً، وجاء جنديّ وبصق في وجهه الميّت.

فأيّاً كانت الحكومات وأيّاً كان الظالم، فانّ الظلم يأخذ الظالم، مهما تصوّر الظالم أنّه قويّ وأنه مزوّد بالسلاح وبالحرس، فإنّ الذي يحفظ

الإنسان هو العدل وحده. أما الظالم فبيته من زجاج، وإن تصور هو أنه من فولاذ.

5 جزاء من أشار بالظلم

يقال: إنه جاء رجل إلي شخص وقال له: إنيّ ضربت زوجتي، فماتت من أثر الصدمة، بدون اختيار منّي، فماذا أفعل لأبرأ عند الناس وعند أهلها من هذه المشكلة؟

قال له ذلك الشخص: إن الأمر سهل، قف علي باب دارك، فإذا رأيت شاباً جميل المنظر، ادعه إلي دارك بحجة، ثم اقتل الشاب فجأةّ وضع الشاب ملاصقاً لزوجتك، ثم اذهب إلي أهل الزوجة وائت بهم، وقل لهم: إني دخلت الدار وإذا بي أري زوجتي والشاب في حالة ممارسة الجنس ولذا قتلتهما، ويكون ذلك عذراً مقبولاً عند أهلها وعند الناس.

عمل الرجل بنصيحة الشخص المذكور، وبعد أن قتل الشاب الذي دعاه إلي داره ذهب وأخبر أهل الزوجة فجاءوا وأعذروه في قتله لهما، وازدحم الناس كلّ يأتي ويذهب إلي دار الرجل، ليسألوه عن القصّة.

وفي ذلك اليوم فقد الشخص الناصح، ولده وأخذ يفحص عنه هنا وهناك، بلا جدوي، إذ لم يظفر له بعين ولا أثر، فجاء إلي هذا الرجل، وقال: هل رأيت ولدي؟

قال الرجل: لا.

قال الناصح: وهل عملت بما قلت لك في أمر زوجتك؟

قال الرجل: نعم.

قال الشخص: أخاف أن يكون ذلك الشاب الذي قتلته هو ولدي.

قال الرجل: لا أعلم.

قال الشخص: دعني آتي إلي المقتول لأراه.

فأذن الرجل للناصح، فإذا به يري أنّ الشاب المقتول هو ولده بالذات … فأخذ في البكاء والنحيب، قائلاً إنّ المقتول هو ولدي الوحيد، وكان كلّ أملي من الدنيا.

وهكذا أخذ الظالم جزاءه..

وانتشر الخبر بين الناس، وأن الرجل قتل زوجته واحتال بقتل شاب تخّلصاً من الجريمة، حتّي وصل الأمر إلي السلطة فأحضروه، وأخيراً اعترف بالأمر، وأنّه هو الذي قتل الزوجة وقتل الشاب، فأمرت السلطة بقتله،

ولقي جزاءه في الدنيا مع الفضيحة والعار.

فإذا رأي الإنسان شخصاً أو جماعةً أو سلطة تظلم ولا تلاقي جزاءها، فليعلم انّه سبحانه ?إنما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار? وذلك لمصلحة وحكمة … وفي الغالب يلاقي الظالم جزاءه في الدنيا، ويفتضح قبل الآخرة أيضاً..

وإن أمهل الله الظالم فربّما ولعلّ..

وفي هذه القصة درس آخر، وهو أنّ الإنسان يجب عليه أن لا يشير علي الناس بالظلم، فإنّ المشير حينئذ يكون أحد الظالمين أيضاً، فيأخذه وبال إشارته.

ومن أشار علي أمر بغير هدي يأتيه ما قال كفلا غير منتقض

6 من عقاب الظالمين

قال لي أحد الأصدقاء: إنه رأي في خراسان إيران رجلاً كهلاً عابداً زاهداً، يصوم النهار، ويحيي الليل بالعبادة، وحتّي في أيام الشتاء التي تطول لياليها، لا ينام إلي الصباح، فإذا بزغت الشمس، نام، وهكذا كان حاله.

قال: فتعجبت من أمره، وسألته عن سبب زهده بهذه الدرجة؟ وقلت له: ألا يأخذك النعاس في الليل لتنام فيه؟ ثم أولم يكن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وهو أزهد الزاهدين ينام بعض الليل؟ ثم إنّك لا تقدر علي أن تعمل، لأنك تنام في النهار، وتعبد الله عزوجل بالليل، فمن أين تمرّ معاشك؟

قال الرجل وبعد الإلحاح والإصرار: إني لا أقدر أن أنام الليل أبداً، وقد قال الشاعر:

قد أعجز الهر قذاذ القديد فقال مرّ مالح ما أريد

ثم أردف الرجل قائلاً: إنه كان جندياً في جيش بعض الحكّام الظالمين، وفي مسألة دينية، اصطدم الشعب بالحكومة فألقت الحكومة القبض علي جماعة منهم … قال الرجل: فأمرت أن أقتل نفرين منهم فقتلتهما، ومن ذلك اليوم إلي هذا اليوم بمجرّد أن أنام الليل، أري في المنام أنّ المقتولين يأتياني بصورة مرعبة، ويطالباني: بأنّي لِمَ قتلتهما؟

فأقوم من النوم مرعوباً، بما يوجب توتّر

أعصابي، ولذا فقد قررت أن لا أنام الليل، ولا تعتريني هذه الحالة بالنهار.

ويروي مثل هذه القصة عن أحد قتلة أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) فإنه كان جميل الوجه، قبل واقعة كربلاء، ورأوه بعد ذلك قبيح الوجه مسوداً، ولمّا استفسروا عن سبب ذلك؟

قال: إني قتلت شاباً حسن الوجه من أقرباء الإمام الحسين (عليه السلام)، ومنذ ذلك الحين إذا نمت رأيت في المنام: أن الشاب أتاني، وأخذني إلي جهنم وألقاني فيها فاحترق فيها، بكلّ حرها وكربها، إلي أن أقوم من النوم، وهذا السواد والقبح الذي تشاهدون في وجهي من أثر ذلك.

والظالم يكون هكذا، فإنه مهما طال به الزمن لا يهنأ بحياته، بل يكون دائماً متوتر الأعصاب، قلق النفس، شارد الفكر، وهذا أول عقاب يتلَقّاه الظالم في محكمة عدل الله سبحانه في الدنيا، ومن شكّ في ذلك فلينظر إلي المجرمين من قريب.

من يظلم الناس تلقّي الأذي وإن يكن في ذروة السلطة

7 الدنيا دار مجازاة قبل الآخرة

كان في كربلاء المقدسة رجل مجرم، يشي بالناس إلي السلطة ويوقعهم في المهلكة، مع أنه كان يعلم بأن ذلك عصيان وطغيان وله عواقب سيّئة..

وقد نصحه الناصحون بأن ينقلع عن فعلته، لكنه أبي إلاّ السعاية والإفساد.

نقل بعض من كان يعاشره، قال: إنه صار بحيث لا ينام طوال الليل بل كان يمشي ويدخّن ويفكّر ويتقلّب، وإذا أخذته غفوة يقفز من النوم مرعوباً، وكان يكلم نفسه، وإلي غيرها من تلك الحالات القلقة.

ومضي علي هذه الوتيرة زمان، ثم افتقدناه، ولم نعلم أين ذهب؟ وماذا عمل؟

وبعد مدّة أُخبرنا بأن بعض الأعراب وجدوه في مستنقع ماء في بعض الصحاري، رجلاً مقطوعة، ويداً مقطوعة، ورأساً مقطوعاً، وجسماً كلّه قد انتفخ وتعفن، ولمّا فحص في ملابسه وجد صورته وهويته، وإذا به الرجل الآنف الذكر …

عجباً:

من قتله؟

وكيف قتله؟

ولماذا قتله؟

و..؟

?إن ربك لبالمرصاد? والدنيا دار مكافاة قبل الآخرة.

وكنت قد رأيت بنفسي أنّ إنساناً كان يظلم أهله بسوء الخلق والغيبة والمقاطعة والاستعلاء وما أشبه ذلك … فلم تمض سنوات إلاّ ورأيت نفس ذلك الشخص، وإذا به قد دارت عليه الدائرة، وقد أصبح ذليلا حقيراً ومهيناً، قد شلّت رجلاه يسترحم الناس ويستعطفهم..

فقلت في نفسي: يا لله؟ لو لم يكن جزاءه إلاّ هذا، لكفي به عبرة، ولكن هل يعتبر الإنسان؟ (ما أكثر العبر وأقلّ المعتبر).

ولعل كل إنسان تقدم به العمر جرّب مثل ما جربت ورأي مثل ما رأيت…

يقال: إن أحد البرامكة بعد ذلتهم، طلب الماء في الحمام من (الدلاّك) فأتي إليه بالماء في ظرف (النورة) استهزاءاً به.

فقال البرمكي: إنّا كنّا نسقي الناس الماء في ظروف الذهب والفضة، ومع ذلك نري هذا الجزاء، فماذا يكون جزاء فعلتك أيها (الدلاّك)؟

والواقع إن هذا لم يكن جزاء البرمكي لسقيهم الناس الماء في ظروف الذهب والفضة، بل هو جزاء ظلمهم للناس?أحصاه الله? تعالي?ونسوه? وكم لآل برمك من ظلم وعدوان؟.

8 الحكّام مسؤولون عن الرعيّة

(عبد الكريم قاسم) اتخذ من (وزارة الدفاع) مقراً لنفسه ليتحصّن بها.

وأقول قبل الشروع في القصة : إن ممّا فعله المستعمرون ببلاد الإسلام: تسمية (الجهاد) بالدفاع، وذلك لأمرين:

1: لإقصاء الاسم الإسلامي والمصطلاحات الاسلامية عن مجالات الحياة، فان (الجهاد) مصطلح إسلامي، بخلاف (الدفاع) فإنه وإن استعمله الإسلام، لكنه لا يعطي الظلال الذي يعطيه لفظ (الجهاد) …

وهكذا غيّر المستعمرون الألفاظ الإسلامية من أسامي الأشخاص، وأسامي المحلات، وأسامي الشوارع، وألفاظ التحية، وغيرها وغيرها.

ولذا يلزم علي كل مسلم واع، أن يهتم لإرجاع (الأسماء الإسلامية) بقدر الإمكان إلي كل مجالات الحياة.

2: لحصر الاهتمام بالداخل، بعد أن كان الإسلام يحرّض المسلم علي التغيير والبناء في كل مكان، داخلاً

وخارجاً …

ولذا فمن اللازم علي الحكومات الإسلامية أن تسمي (الدفاع) بوزارة (الجهاد) … والكلام في هذا الموضوع طويل، ليس هذا الكتاب موضعه.

وإليكم القصة التالية وقد نقلها أحد العلماء لعبد الكريم قاسم أيضاً .

ذات يوم كان هارون العباسي، يسعي بين الصفا والمروة، والناس يسعون في أمواج كبيرة، وإذا بهارون يسمع من خلفه من يناديه: (يا هارون) بهذه اللفظة!

فاستشاط غضباً والتفت وراءه، ليري من هذا المتجرّي علي مقام الخلافة، وإذا به يري أن المنادي بهلول.

قال هارون: وماذا تريد؟

قال بهلول: ارم ببصرك إلي هذا الخلق، كم تري من أناس؟.

قال هارون: الكثير.

قال بهلول: كل واحد من هؤلاء عمّن يُسأل يوم القيامة؟

قال هارون: يسأل عن نفسه.

قال بهلول: وأنت يا هارون عمن تسأل يوم القيامة؟

فسكت هارون.

فأردف بهلول: لكنك تسأل عن كل هؤلاء، وعن غيرهم ممن شملهم ملكك، فيقول الله تعالي لك: ماذا عملت فيهم؟ هل بالعدل أم بالجور؟ هل بموازين الإسلام أم بغير موازين الإسلام؟.

فتأثر هارون بذلك تأثراً بالغاً …

نقل العالم هذه القصة لعبد الكريم قاسم، ثم أردف: إنّ الزعيم يوم كان وحده جندياً في الجيش، كان مسؤولاً عن نفسه، ولمّا ترقّي وصار آمراً علي جماعة ما، صار مسؤولاً عن نفسه وعن تلك الجماعة، ولماّ صار زعيماً (وهو منصب عسكري في العراق) صار مسؤولاً عن جماعة أكبر وأفراد اكثر، واليوم حيث ثار هذا الزعيم، وجاءت أزمة الملك بيده، صار مسؤولاً عن كل من في العراق، صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، من رجالهم ونسائهم …

فأبدي عبد الكريم قاسم لكلام العالم تأثراً بالغاً بحسب الظاهر، لكن كان تأثره بهذا الكلام، مثل تأثر هارون بكلام بهلول..

ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها.

وأضيف تعليقاً أن هارون كان مسؤولاً عن كل من في ملكه كما قال بهلول

ومسؤولاً أيضاً عمن ليس في ملكه ممن كان بإمكانه إرشادهم وهدايتهم إلي الإسلام، ومسؤولاً أيضاً عن الأجيال القادمة التي كان بإمكانه إنقاذهم وهدايتهم لو عمل بالإسلام.

ولو عمل هارون وغير هارون بالإسلام، كان المسلمون هم الذين وصلوا إلي القمر، وهم سادة العلم اليوم وكان الإسلام نشر جناحه اليوم في كل العالم، أو أكثر العالم.

وكذلك كان حال (عبد الكريم قاسم) لكن في نطاق أضيق من نطاق هارون طبعاً.

ولكنهما وسائر الحكام الظالمين ? اتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ?.

ولولا الأئمة الطاهرين (عليهم أفضل الصلاة والسّلام)، الذين مثّلوا الإسلام أفضل تمثيل، ولولا العلماء من أتباعهم، الذين خطوا مكان خطاهم، لكان ما فعله الأمويون والعباسيون ومن حذا حذوهم كفيلاً بأن يجعل من الإسلام كاليهودية والمسيحية، التي لا تمت إلي دين الله المنزل بصلة.

نعم ذهب هارون..

وذهب قاسم..

وذهب غيرهما من الحكام الظالمين، ولم يخلفوا إلاّ تراثاً أسود من الظلم والخراب والدمار والتأخّر وسوء الذكر.

تلك آثارهم فقد عصروها قطراناً ونكبة وسوادا

فليعتبر بأمثالهم الحكّام الظالمون، وليقلعوا عن الظلم والاستبداد قبل فوات الأوان.

9 جزاء من يقطع سبيل الخير

روي بعض الثقاة: أن أحد الأخيار مرّ بقبر، فسأل الله أن يريه صاحب القبر، فانفتح له بصره، وإذا به يري نفسه في بستان كبير جميل، تمتدّ فيه الأنهار، وتغرّد فوق أشجارها الطيور، وفيه من كل الثمرات، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر علي قلب بشر …

فأخذ يمشي في البستان، حتي انتهي إلي قصر شاهق، ما رأي في عمره أبدع منه، وفي وسط القصر سرير، وعلي السرير رجل جالس كأنّه من أعظم ملوك الأرض، وهو في كمال البهجة والسرور، وحوله عدد كبير من الخدم والحور..

فسلّم عليه وجلس عنده، وسأله عن حاله.

فتبيّن انّه كان رجلاً مؤمناً

في الدنيا، وإن الله سبحانه تفضّل عليه بهذا القصر جزاءاً لما فعله في الدنيا من الأعمال الحسنة والأفعال الخيّرة.

قال الرجل: وبينما كنت في ذلك الحال، رأيت أن وجه صاحب القصر قد تغيّر، وأخذته الرعدة واصفر لونه وسمّر نظره إلي طرف من البستان، فإذا بي أري نحلاً يأتي من ذلك الطرف، فجاء النحل وأخرج صاحب القصر لسانه، فلدغ النحل لسانه، مما أوجب أن يغمي علي صاحب القصر، وذهب النحل، وبعد مدة رجع صاحب القصر إلي حاله الأول، من الصحة والبهجة.

قلت له: ما هذا الذي رأيت؟.

قال: هذا جزاء عمل عملته في الحياة الدنيا.

قلت: ما هو؟.

قال: كانت بنت ذات جمال لبعض جيراني، فخطبتها لكن أهلها أبوا أن يزوجوني، ولذا أردت الانتقام منهم، فترصدت لها، وكلما جاء إنسان إلي خطبتها، صرفته عنها بوجه من الوجوه، فبقيت البنت إلي الآن، وأنا مت منذ سنوات، وأعطاني الله ما رأيت جزاء أعمالي، لكن كلما بكت تلك الفتاة لحظها العاثر، جاء هذا النحل ولدغني كما رأيت، وقد توسلت بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، أن يسأل الله خلاصي من هذا العذاب؟ لكن الإمام (عليه السلام) قال: لا خلاص لك إلاّ بتزويج تلك الفتاة وإرضائها.

قلت: لا أقدر علي ذلك.

قال (عليه السلام): إني استأذنت الله سبحانه، ان أتيح لك فرصة لقاء أحد أهل الدنيا، فاسأله أن يرضيها ويزوّجها، وبذلك يكون لك الخلاص …

وها أنت جئتني ببركة الإمام (عليه السلام)، وإني ألتمس منك أن تسعي في تزويج هذه الفتاة وتطلب رضاها عني لأنجو من العقاب.

قال الرجل الخيّر: وبعد هذا الكلام، وإذا بي أري نفسي في نفس المقبرة، فلا بستان ولا قصر ولا أي شيء مما رأيت …

فجئت إلي البلد، وتعرفت علي الفتاة وسعيت في تزويجها وأرضيتها عن

الرجل.

نعم … هناك أناس يصلّون ويصومون ويزكّون ويحجّون، ولكن لا يبالون بمثل هذه الأعمال التي يحسبونها هينة، وهي عند الله عظمية … وكم رأيت أنا من هذا القبيل.

وأتذكر الآن رجلاً ليس متديناً فحسب بل هو عابد ورع اتهم فتاة بأنها تزوجت من رجل خفية، مما أوجب أن يعثر حظها ولا يقدم إلي خطبتها أحد …

وأتذكر امرأة فرّقت بين رجل وزوجته باتهامات باطلة …

وأتذكر امرأة أخري حالت بين بنتها وزوجها سنوات وسنوات حتي ماتت الأم..

وقد رأيت كيف أن الله سبحانه ابتلي كل أولئك بالفقر والأمراض والمشاكل..

ونقل لي أحد الأصدقاء، إنه كان من المقرّر تزويج فتاة بشاب، فحالت دون الزواج إحدي عجائز عشيرتهم، مع ان كل شيء قد تمّ، وبعد مدّة ماتت العجوز، وبعد سنة من موتها ورأب بعض المصلحين الصدع، تزوجت الفتاة بالشاب وإذا ببعض ذوي العجوز يراها في المنام، فتقول: إني كنت مبتلية طيلة هذه السنة بالعذاب لأجل حيلولتي دون الزواج، ولما تمّ عرسهما، تخلّصت من العذاب.

وكم لهؤلاء من نظائر ونظائر، مما يفعله من يزعم أنّه متديّن، ولكن لا يهتم بهذه الأمور.. قال تعالي: ?وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ?.

وقال سبحانه: ?وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون?.

إن الدين ليس منحصراً بالصلاة والصيام، والحج والإنفاق، بل هو ألف شيء وشيء، وإذا ترك الإنسان شيئاً منها، دخل في زمرة الذين قالوا: ?نؤمن ببعض ونكفر ببعض?.

وعلي أي حال، فهذه أقسام من الظلم، يعاقب الإنسان بها في الدنيا قبل الآخرة.

ومن المؤسف أنه قد انحسر الإسلام ككل حتي عن المتدين، فقد كان في السابق يطالع المتدينون الأخبار المربوطة بهذه الشؤون، أمثال كتب (ثواب الأعمال وعقاب

الأعمال) و(مكارم الأخلاق) و(جامع السعادات) و(قصص الأنبياء) وغيرها وغيرها، وكانت هذه الكتب ترشدهم إلي معالم الاسلام، في الأخلاق والاجتماع والعائلة والمعاشرة وسائر الشؤون الحيوية.

أما اليوم فأغلب المتدينين يكتفون بالصلاة والصيام، ولا يعلمون عن سائر الشؤون الإسلامية إلاّ نزراً يسيراً، وبذلك انحسر المدّ الإسلامي الإصلاحي عن النفوس، كما انحسر المدّ الإسلامي القانوني عن المشاكل والقضايا.

والعاقبة: مشاكل الدنيا، وخسران الآخرة.

10 ظنّ السوء

قرأت في مجلّة منذ سنوات هذه القصة، وهي:

إن رجلاً متهوراً، دخل داره وفقد في الدار زوجته فأساء بها الظن، وأخذ يفتش في أثاث المرأة، وإذا به يجد في بعض أثاثها رسالة غرامية موجهة من رجل إليها.

فظن أن للزوجة اتصالاً غير مشروع بصاحب الرسالة، فهيأ للزوجة آلة قتالة، وبمجرد أن جاءت الزوجة إلي الدار حمل عليها بتلك الآلة القتالة وقتلها..

وهي تستغيث وتسأل عن السبب، لكن الرجل كان قد ركبه الشيطان، فلم يمهلها ولم يستنطقها …

ثم أخبر الرجل أهل الزوجة بأنها كانت سيئة ولذا قتلها وإذا علمنا إن في بعض العشائر من المعتاد قتل الزوجة والأخت ومن أشبههما بأمثال هذه الظنون، وإن القانون لا يعاقب أمثال هذا القاتل إلاّ بعقاب يسير، أدركنا كيف يتمكن أن يتخلّص مثل هذا الزوج من ملامة الناس، ومن عقوبة القانون .

وبعد يوم جاء الرجل إلي الرسالة الغرامية، ليري تفصيل ما فيها، وإذا به يفاجئ، بأن الرسالة موجهة إلي فتاة اسمها (فلانة) وليست الرسالة موجهة إلي زوجته..

فقرأ الرجل الرسالة والعنوان مرة ثانية وثالثة، حتي تيقّن أن الرسالة ليست للزوجة، وأخذ يفحص عن (الفتاة) التي وجّهت إليها الرسالة، فعلم أنها صديقة لزوجته وأنها جاءت بالرسالة إلي زوجته لتودعها عندها، كما كانت عادتها، أن تودع عندها رسائلها ونقودها وثيابها لأنها جارة لهم..

وتذكر أن زوجته لا تقرأ ولا

تكتب..

فندم الرجل علي فعلته ولما ينفعه الندم …

ولم تمض من الحادث إلاّ أيام قلائل، وإذا به يفاجأ بألم في موضع من ذراع يمناه، وأخذ الألم يشتد ويشتد، ويراجع الأطباء، وكلّما عالجوه لم ينفع، وأخيراً قرروا إجراء عملية جراحية علي نفس الموضع، مع أنه لم يكن له أي أثر من احمرار وورم وما أشبه، وأجروا العملية، وقطعوا قطعة لحم من مكان الوجع، لكن الألم لم يزل، وبقي في المستشفي إلي أن نبت اللحم الصالح لكن الألم بقي علي حاله في كمال الشدّة، ممّا سلب استقراره، وأطار عن عينه حتي النوم في الليل.

وأخيراً احتمل بعض الأطباء أن يكون مرضه نفسيّاً وقال: لعلّه مرض نفسي، لا مرض جسدي …

وبعد أن راجع طبيباً نفسياً، واستنطقه الطبيب عن كل ما اقترفه في حياته، تذكّر إنّه لما قتل زوجته ترشّح من دمها نقطة فأصابت هذا الموضع من اليد.

فقال له الطبيب: إنه عقاب من الله سبحانه، ولا علاج لك عندنا.

وهكذا خرج من عند طبيب النفس يجرّ أذيال الخيبة والخسران.

11 نداء الضمير

جاءني لص شاب جميل المنظر، لكن عليه آثار الانهماك والشحوب، وأظهر لي: إنه يريد التوبة.

وكان ذلك بعد أن أرسل إليّ صديقاً لي يقول: إن هناك لصّاً يريد التوبة علي يديك، لكنه يريد أن يأتيك في وقت لا يوجد معك أحد!.

قلت: لا بأس ليأتيني في وقت متأخر من الليل.. ولما جاء مع الصديق توجست منه خوفاً لعله يريد شرّاً بي، وكانت القصة في زمان كنت مهدداً من قبل الشيوعيين بالقتل، فإن الشيوعيين كانوا قد قرّروا اغتيال أكثر من مائة إنسان، كنت أنا أحدهم.. لكن مع ذلك جمعت شجاعتي ولم أظهر خوفاً، وقد عملت بأصل من الأصول التي قررت في حياتي اتباعها عند الشك، وهو

(أصل الشجاعة) وهي من أصول وصلت إليها بعد التفكر والموازنة، مثل (اصل اللين) و(أصل الإعطاء) و(أصل الصفح) و(أصل الإقدام) و(اصل العمل) و.و.و. عندما أشك في أن الأفضل الخشونة أو اللين، المنع أو الإعطاء، المعاقبة أو الصفح، التوقف أو الإقدام، عدم العمل أو العمل؟.

قال الشاب: إنه لص محترف في فنادق بغداد، ولا يسرق إلا من المسافرين الأثرياء، وإنه مضت سنوات علي عمله هذا والآن يريد التوبة. فقلت له: إن تبت تاب الله عليك.

قال: وما هي كيفية التوبة؟

قلت: أن تستغفر الله سبحانه وتتوب إليه توبةً نصوحاً لا تعود معها إلي السرقة أبداً وأن تردّ كل ما تملك من الأموال إلي أصحابها حسب الإمكان، وأن تعطي ما لا تعرف أصحابها من الأموال إلي الحاكم الشرعي بعنوان مجهول المالك، وأن تبدل ملابسك وسائر ما عندك إلي ملابس وأشياء من الحلال، وأن تغتسل من الجنابة لو كنت جنباً وتقضي ما عليك من صلاة وصيام.

قال: كل ذلك بإمكاني إلاّ ردّ ما عندي من الأموال إلي أصحابها، إذ إني لا املك الآن شيئاً، ثم لا أعرف أصحابها، لأني كنت أسرق من المسافرين..

ثم قلت له: وما الذي حملك علي التوبة؟ وهنا محل الشاهد.

قال: تفاهة الحياة في مذاقي، وتأنيب الضمير، وعدم الراحة.

قلت: وكيف؟

قال: إنّي قبل أن اشرع في هذه المهنة الباطلة، كنت صانعاً عند نجّار براتب متواضع، ولكني كنت أجد من اللذّة والبهجة ما تغمر حياتي ليلاً ونهاراً، فكنت آكل الغذاء المتواضع بكل لذّة، وحين أنام أجد لذّة فائقة في النوم، وكان عملي محبّباً إليّ، ولكن بعد أن انزلقت في طريق السرقة، صرت آكل من أحسن الأطعمة وفي أضخم المطاعم ولكن لا أجد للطعام لذّة وإنّما صار الطعام في مذاقي مثل أكل نشارة الخشب،

ثم صرت أتمتّع بأجمل مومسة ولكن لا أجد اللذة الجنسية أبداً بل حالي حال من يلامس الحائط أو جسماً من مطاط، وأنام في أغلي الفنادق لكن لا أنام الليل كله، أتقلب يمنة ويسرة، وهكذا، كل ذلك بالإضافة إلي أني في قلق دائم والأشباح تطاردني وأري نفسي علي قاب قوسين من إلقاء القبض عليّ.. وفوق كل ذلك ضميري يهزني ويؤنبني.

وتاب هناك الشاب وذهب، وبعد مدة رأيته وقد تغيّرت ملامحه، فقد استقرت نظراته بعد أن كانت له نظرات شاردة، وذهب الشحوب عن لونه، وزال القلق من وجهه، وظهر عليه سيماء التواضع والإيمان … وقال لي: رجعت إلي دكان النجارة، وآخذ راتباً متواضعاً، ورجعت إليّ سعادتي ولذتي ونومي واستقراري، وقد جمع كمية من المال يريد الزواج بها.

إن من أكبر نعم الله سبحانه، التي تهدي الإنسان وتسوقه إلي الحق والخير:

نعمة الضمير

1: نداء الضمير… فإن المجرم مهما كان موغلاً في الجرم، يناديه ضميره علي طول الخط ويقول له: إن هذا العمل سيئ فاتركه، وهذا العمل حسن فافعله.. وهذا ما عبّر عنه في لسان الشرع (بالحجة الباطنة).

ولا بأس أن أنقل هنا قصة نقلها لي أحد الخطباء، قال: إن مدير الأمن العام طلبه، وقد رهب بذلك أيّما إرهاب، لأنه كان يري أمره منتهياً لكنه اجبر إلي الذهاب.

قال: وقد أرهبت من وضع الدائرة ومن تعدد الغرف الكبار شبه المعتمة والرجال الذين خصصوا لأجل إلقاء الرعب في القلوب بحركاتهم وسكناتهم.. حتي وصلت إلي مدير الأمن العام، لكنه أظهر لي البشاشة والتواضع.

(وهذا أسلوب نفسي لاستدراج الضحية إلي الاعتراف فإن الإنسان عادة إذا رأي الوجه البشوش بعد الرعب فتح له قلبه وقال كل شيء).

ثم إن مدير الأمن قال: إن البلاد تقدمت تحت ظل (فلان) عمراناً، ثقافةً،

صناعةً، أمناً، استقراراً، فاللازم علي أمثالكم من موجهي الناس أن تذكروا محاسن البلاد ومحاسن (فلان).. وأخذ يسرد من هذه الكلمات شيئاً كثيراً، وأنا معتصم بالصمت.

قال الخطيب: لكن لم أتمالك نفسي أخيراً وقلت له: هل تسمح لي بكلمة؟.

قال: تفضل.

قلت: إني أسألك بضميرك، وبالله الذي هو مطلع علي سرائرك، إنك إذا ذهبت إلي فراشك في الليل ووضعت رأسك علي الوسادة، ولا رقيب علي ضميرك إلا الله، هل تفكر كما قلت لي؟ وهل إنك مقتنع بأن البلاد في تقدم وأن (فلاناً) له محاسن؟.

قال الخطيب: فنكس مدير الأمن رأسه، وترقرقت الدمعة في عينيه، ولم يتفوه بكلمة.. قال سبحانه: ?ولو تري إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ?.

القلق

2. ومن آثار الاستبداد التي قد تسبب رجوع الظالمين إلي الصواب القلق الدائم تفاهة الحياة في أعينهم والمطاردة النفسية.. وكذلك مطاردة المجرمين من قبل السلطة أو من قبل الناس، علي طول الخط، مما يسبب لهم أعظم العناء والاضطراب.

كان عبد الكريم قاسم كما نقل مرافقه بعد مقتله لا ينام الليل كله، وكان دائماً يتساءل من مرافقيه: هل أنهم يسمعون ما يسمع من نداءات:

(عاش الزعيم عبد الكريم.. شعب العراق شعب عظيم)؟!

وهل أنهم يسمعون حفيف الدبابات وأزير الطائرات؟.

وكان يقول: أنا أسمع، فهذه مظاهرة مؤيدة تأتينا الآن، وهذه مؤامرة أسمع وقع أسلحتهم.. لكنهم كانوا يطمئنوه بأنه لا شيء إطلاقاً، لا (مظاهرة) ولا (عاش الزعيم) ولا (مؤامرة) ولا (حفيف الدبابة)، ويؤكدون له إن ما يجده إنما هو صدي ما حدث في النهار، يتردد في نفس الزعيم. قال تعالي: ?فما زالت تلك دعواهم حتي جعلناهم حصيداً خامدين ?.

نعم استمرت بالزعيم! هذه الحالة حتي دكّت معقله قنابل آلام الناس التي هيئها بنفسه.

وأحياناً، تعتري المجرمين حالات شاذة، تنتهي بهم إلي

الجنون.

تنقل زوجة أحد الرؤساء في مذكراتها إن الرئيس كانت له حالات مختلفة وكثيراً ما كان ينبح نباح الكلاب مما يثير دهشة من في القصر.

وقد كان رجل تولّي قتل الملكيين في العراق: (عبد الإله وفيصل ونسائهم وأطفالهم) يسمّي ب(عبد الجبار السبع) لم تمض عليه إلا مدة وجيزة حتي جنّ وأدخل (دار المجانين).

وكان (پهلوي) في جزيرة (موريس) يقف أمام المرآة ويمدح نفسه، ثم يعفط لنفسه عفطة كبيرة، استهزاءً بنفسه.

ورأيت في أحوال الملك العثماني (عبد الحميد) إنه كان في أواخر أيامه لا يهدأ له بال، وإذا نام رأي في المنام مناظر بشعة، من القتلي الذين قتلهم تمثل أمامه وهم مقطوعوا الرأس وأوداجهم تشخب دماً مما ترعبه وتسلبه النوم من عينيه.

ومما ينتاب المجرمين كذلك هو حالة اليأس والوحشة والخوف من سوء المصير، قال سبحانه: ?كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم?.

وينقل إن هارون العباسي أشتد به المرض ويئس منه الأطباء، وتكلم الناس عن قرب موته، فأمر أن يؤتي إليه بدابّة ليخرج ويقطع ألسنة الناس، لكنه لم يتمكن من الركوب، فقال متحسراً: لقد صدق الناس، هذه أوان مفارقتي للحياة.. ثم أمر بأن يحفر قبره في نفس غرفته أمام فراشه، لأنه يخاف من وحشة القبر في مكان منفرد، ولمّا حفر قبره نظر في القبر وأخذ يبكي ويقول قوله سبحانه: ?ما أغني ماليه ? هلك عني سلطانيه ?.

لكن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) لمّا ضربه ابن ملجم، قال: (فزت ورب الكعبة).

ومن غريب الأمر أن الديكتاتوريين المجرمين غالباً ما ينتظرهم مصير أسود، كالذلة والقتل والثورة عليهم..

فهذا (هتلر) و(نابليون) و(ستالين) و(عبد الحميد) و(عبد السلام عارف) و(قاسم) و(عبد الناصر) و(هيلاس لاسي) و(نوري السعيد) و(القاهر العباسي) و(المتوكل) و(البهلويان) و(السادات) وغيرهم وغيرهم.. كثيرون، هؤلاء كلّهم طحنهم الظلم

ولاقوا أبشع أنواع الذلة والصغار..

ألا يكفي هذا عبرة وذكري؟.

يقال: إن ملكاً ثار علي ملك آخر وأصبح في مكانه، فجاءه إنسان وقدم إليه مالاً، قال الملك: ولماذا هذا المال؟.

قال الرجل: إن أبي أوصاني أن أعطيه إليك.

قال الملك متعجباً: وكيف عرف أبوك أني أثور علي الملك السابق حتي أوصي لي بهذا المال؟.

قال الرجل: هذه وصية أبي وإني نفذتها.

فشدّد عليه الملك أن يقول الصحيح.

قال الرجل: إن أعطيتني الأمان قلت الصحيح.

قال الملك: لك الأمان..

قال الرجل: إن أبي أوصي أن أعطي هذه المال لأكثر الناس حمقاً، ولم أجد أنا أكثر حمقاً منك، ولذا قدّمت لك المال.

قال الملك: ومن أين عرفت حمقي؟.

قال الرجل: لأنك رأيت كيف انقلبت الأيام علي الملك الذي كان قبلك ومع ذلك تعتمد علي الملك وكأنك باق فيه إلي الأبد، وهل هناك أكثر حمقاً ممن رأي بنفسه كيف تلدغ الحية أناساً ومع ذلك يقدم إليها إصبعه لتلدغه؟.

وقصة ذلك الحكيم الذي كان جالساً في مجلس (عبد الملك) مشهورة، حيث إنه رآي رأس (مصعب) أمام عبد الملك، فقال لعبد الملك: أعيذك بالله من هذا المكان؟.

قال عبد الملك: ولم؟.

قال الرجل: إني كنت في هذا القصر، فرأيت رأس الحسين عليه السلام أمام ابن زياد.. ثم رأيت رأس (ابن زياد) أمام (المختار) في نفس هذا المكان.. ثم رأيت رأس (المختار) أمام (مصعب) في نفس هذا المكان.. والآن أري رأس (مصعب) أمامك في هذا القصر.. فأحذر أن تدور الدائرة ويري رأسك أمام إنسان آخر.

فتأثر عبد الملك بهذا الكلام وقام من مجلسه وأمر بهدم القصر. وفي القصة تعليقات:

1. إن الأمويين سوّدوا صحائف التاريخ بهذه الأعمال البشعة، التي يندي لها جبين الإنسانية فسنّوا قطع رؤوس الناس، والطواف بها في البلاد، ثم تبعهم (بنو عباس).

2. إن الإمام

الحسين عليه السلام كان داعياً إلي الصلاح، فقطع رأسه المجرمون، والمختار حاله معلوم أمّا (مصعب) و(ابن زياد) فقد أخذا بعض جزاء ما فعلا من الأعمال البشعة مما سوّدا به التاريخ.

3. إن الرجل الظالم (عبد الملك) ظنّ إن (الذنب) ذنب القصر ولذا أمر بهدمه ولم يفطن إلي أن الحجارة والجصّ والخشب لم تكن دخيلة في ذلك الأمر.. ولو عقل كان عليه أن يعدل، ويرجع الحق إلي نصابه، حتي يحفظ نفسه من غضبة المصلحين، ولو فرض إنه قتل بأيدي المجرمين إذا صار صالحاً كان له فضيلة وأجر وذكر أحسن. لكن..

من أين تعقل أرؤس أموية بالخمر تسكب في الضياع ذكائها)؟

نعم … قام عبد الملك من ذلك المكان وأمر بهدمه، لكنه تمادي في الظلم والعصيان والفسق والفجور وتمادي.. وتمادي.. حتي جاءه أمر الله، وقام بنو العباس بالسيف فيهم، يحصدونهم حصد السنبل (فهل تري لهم من باقية)؟

وصدق قول الله سبحانه فيهم: ?كم تركوا من جنات وعيون ? وزروع ومقام كريم ? ونعمة كانوا فيها فاكهين ? كذلك أورثناها قوماً آخرين ? فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين?.

12 جزاء عقوق الوالدين

نقل لي أحد الأصدقاء: إنه دخل ذات مرة بستاناً، فرأي إن صاحب البستان ربط شيخاً كبيراً ب(الناعور) الذي ينقل الماء بدل الدابّة والشيخ يدور، وينقل معه الماء.

قال: فناديت صاحب البستان وأخذت في تأنيبه وقلت له: ألا ترحم هذا الشيخ الكبير تُحمّله مالا يطيق؟ هل هو دابة؟ فمن هذا الرجل ومن أين جئت به؟ قال صاحب البستان: انه أبي، ويساعدني في شؤون هذا البستان..

ولمّا عرفت أنه أبوه أخذت في التشديد عليه بكلمات قارصة نابية، وقلت له: ألا تستحي أن تفعل بأبيك هذا الفعل؟ و.. و..

قال الرجل: وإذا بالشيخ يضحك ويقول: دع ولدي

يا هذا، إن ما أداه هو جزاء عملي، فلقد ربطت أنا أبي بنفس هذا (الناعور) مكان الدابة، الآن ولدي يجازيني جزاءاً وفاقاً.

ونقل صديق آخر، إن تاجراً دعاه هو وجماعة للطعام، قال: وعلي المائدة كان ولد التاجر موجوداً، وصار بينهما كلام خشن، فقام الابن ولطم أباه فتوتر المجلس وذهب الولد، ونحن لم نتمكن من تناول الطعام، فقمنا نريد الانصراف.

فقال التاجر: علي رسلكم، وهدّأ من روعنا، ثم قال: لا تستغربوا من هذا العمل، فقد لطمت ذات مرة أبي، وهذا جزاء ذاك، قد حفظه الدهر لي والآن جازاني بنفس العمل الذي قمت به أيام شبابي، صفعاً بصفع..

ولا بأس أن أتم قصة هذا الأب والولد وإن كان خارجاً عن موضوع الكتاب لأن فيه عبرة .

قال الصديق: وكان الولد خماراً فاسقاً، يحاول الاستيلاء علي مال أبيه، لكنه لا يقدر علي ذلك، ولما حضرت الأب الوفاة، أوصي بالخمس والثلث والحج والصلاة والصيام والخيرات، وجعل نفس هذا الولد وصياً، وبمجرد أن مات الأب، أخذ الولد يتصرف في أموال الأب، تصرفاً حراماً..

وذات مرة، سكر سكراً شديداً فذهب إلي المقبرة وخاطب أباه، إنك وصيت بكذا وكذا، ثم تغوّط علي قبر أبيه، وقال: هذا خمسه، وسآتي إليك بعد ذلك بسائر ما وصيت!

وهل تعلم عاقبة هذا الولد؟. إنه صرف كل الأموال في الفساد، فآل أمره إلي المرض والفقر والنكبة.

وأنا رأيت، أباً خلف لولده كمية كبيرة جداً من المال والعقار، والولد صرفها في الحرام، ثم صار موظفاً بسيطاً، راتبه كل شهر (سبعة عشر ديناراً). وهكذا يأخذ الظالم جزاءه، ولو بعد حين.

ليس يوم الحساب من بعد موت كل يوم يمرّ يوم حساب

13 هل يعتبر الظالمون

المتوكل العباسي، أحد الطغاة الذين سوّدوا صفحات تاريخ البشرية، بله الإسلام بمخازيه.

وكان رجلاً يشرب الخمر، يلعب

القمار، يقترف الموبقات، فاسقاً.. ماجناً، وكان بالإضافة إلي كل فسقه هذا، يقتل الناس بلا حساب، ويؤذي الصالحين بلا كتاب.

ذات مرة أحضر الإمام الهادي)عليه السلام) في مجلس خمره، وأساء الأدب بالنسبة إلي الإمام)عليه السلام).. فأنشد الإمام)عليه السلام) له أبيات جدّه أمير المؤمنين)عليه السلام) وقال:

باتوا علي قلل الجبال تحرسهم غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

إلي آخر الأبيات.

وكان المتوكل يستهزأ بالإمام أمير المؤمنين)عليه السلام) فيربط وسادة علي بطن رجل اسمه (عبادة) ويشبهه بالإمام)عليه السلام) فيرقص عبادة في المجلس، ويقلد علياً)عليه السلام) فيضحك المتوكل وأعوانه علي هذا المنظر.

إلي غيرها.. وغيرها..

وقد كان المتوكل شديد الخوف من الناس، فإن (الخائن خائف) ولذا أكثر من حرسه الخاص حتي وصل عدد حرسه الذين كانوا مأمورين بحفظه إلي تسعين ألف..

بالله! هل تسعون ألف إنسان لحماية شخص واحد؟.

ولماذا يظلم الإنسان حتي يحتاج إلي كل هذه الأمور؟

ولكن (العدل أساس الملك) كما قال أمير المؤمنين)عليه السلام) لا الحرس.. كما أنشد الإمام الهادي)عليه السلام) في الأشعار التي سبقت.

وإذا بولده المستنصر مع جماعة من نفس الحرس يدخلون مجلسه فيجدونه مع وزيره (فتح بن خاقان) في حالة السكر الشديد، فيهوون بسيوفهم عليهما بأشد الضرب، حتي يخلط لحم الأمير بلحم الوزير، وقد قطعتهما السيوف إرباً إرباً … بحيث لم يمكن إجراء مراسيم الإسلام من الغسل والكفن والحنوط عليهما …

وما كانا جديرين بمراسيم الإسلام، وقد خدما الكفر ونذرا أنفسهما له طول عمرهما.

فلقي الرجل بعض جزائه في دار الدنيا ليكون عبرة لمن خلفه..

ولكن هل يعتبر الظالمون؟

وقد صدق سبحانه وتعالي حيث يقول: ? أتواصوا به بل هم قوم طاغون?.

14 لقد شهد الحجل

كان أحد الأمراء بسط مائدة طعام وعلي مائدته جمع من أصحابه، وإذا بأحدهم يضحك ضحكاً من دون مبرر.

قال الأمير: لماذا ضحكت؟

قال: تذكرت قصة.

قال الأمير: وما هي؟

قال

الرجل: ليست بمهمة.

فأصرّ الأمير أن يبيّنها.

قال الرجل: رأيت (الحجل) علي المائدة، فتذكرت حمق إنسان أشهد الحجل علي قتله..

قال الأمير: وكيف كان ذاك؟.

قال الرجل: في أيام شبابي كنت سارقاً، وذات مرة التقيت بإنسان في الصحراء، فسلبته، ثم فكرت في أن أقتله تخلصاً منه ولما جرّدت السيف وكان الرجل أعزل، أخذ يلتمس ويتوسل أن أتركه قائلاً: لقد أخذت ما معي فلماذا تقتلني؟

وكلما أصر في أن لا أقتله، لم أقبل منه.

ولما رآي الرجل إصراري علي قتله نظر يمنة ويسرة، وإذا بسرب (حجل) يطير، فخاطب الحجل قائلاً: أيها الحجل اشهد لي إنه يقتلني ظلماً، فلم أمهله حتي علوته بالسيف وقتلته، ولما رأيت الآن الحجل ذكرت القصة، وضحكت من حمق الرجل كيف يخاطب الحجل؟

فلما سمع الأمير ذلك.. توجه إليه وقال: نعم، لقد شهد له الحجل، يا جلاد عليك بالنطع والسيف.

فأحضر الجلاد، النطع والسيف، وربط يد الرجل ورجله وأجلسه علي النطع وضرب رأسه، ثم شرع الأمير بصرف الطعام مع سائر أصحابه.

نعم.. كل شيء يشهد ضدّ المجرم حتي ينتقم منه: قال تعالي: ?ولا تحسبن الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار?.

وليس معني ?يؤخرهم? إنه لا ينتقم منهم في الدنيا، بل ينتقم منهم هنا وهناك، وإنما الانتقام الحقيقي هناك في الآخرة.

بل أكثر من هذا، الانتقام يكون حتي من ذوي الإنسان، قال تعالي: ?وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً?.

وفي حديث: (من لاط فعل بعقبه ذلك).

وفي حديث آخر: (من زني فعل بأهله ذلك).

إنه طبيعة الحياة، وقانون الكون وسنّته.. أليس من كان به مرض ساري يعدي إلي غيره، ومن كان به آفة وراثية سرت إلي نسله؟

وهل ذلك الغير وذلك النسل مذنبون؟

كلا.. وإنما لكل

فعل رد فعل، يتلقاه الإنسان نفسه، وأحياناً يتلقاه ذريته وأهله، وأحياناً سائر الناس أيضاً..!

15 جيش القلوب

ينقل في أحوال (نظام الملك) الوزير السلجوقي، إنه كان ذكياً، وكان يتصرف في الملك بلا منازع وكان الملك السلجوقي قد أعطاه مقاليد البلاد اعتماداً علي عقله وفكره وتدبيره … حتي توفي الملك وخلفه ولده (ملك شاه).

وكان الملك الجديد شاباً لم يجرب الحياة بعد، فاغتنم حساد الوزير الفرصة لإبعاد الوزير من الملك الجديد، بعدما أعيتهم الحيلة في إبعاده عن الملك السابق.

جاء الحسّاد إلي (ملك شاه) وقالوا له: إن (نظام الملك) يتصرف في الدولة حسب هواه، لا حسب ما تقتضيه المصلحة، وإنه يتلف أموال الدولة الكثيرة في غير شؤون المملكة، ولذا تجد أن واردات الدولة كذا، بينما مصروفات الدولة لاتصل إلي نصف هذا المبلغ، أما النصف الآخر فلا يعلم أحد أين يذهب؟ وقالوا.. وقالوا.. حتي شحنوا صدر (ملك شاه) ضدّ الوزير.

فطلب الملك الوزير، وعاتبه وقال له: أين تصرف أموال الدولة؟

فعرف الوزير بالوشاية وقال: أيها الملك: إنك شاب جميل، لو باعوك في سوق النخاسة كانت قيمتك ستين درهماً، لجمالك ولقوتك ولشبابك، وأنا شيخ ضعيف لو باعوني في سوق النخاسة لم تزد قيمتي من عشرين درهماً، والأعداء محيطة بالبلد وسهام جيشنا لا تبعد أكثر من خمسمائة ذراع وسيوفهم لا تبعد عن باع، فهل بهذه السهام وهذه السيوف نتمكن أن نحفظ البلاد؟

أم نتمكن أن نحفظ البلاد بثمنك وثمني؟

فلا قيمتنا الشخصية، ولا قدرتنا الدفاعية قادرة علي حفظ البلاد من الأعداء المتربصين.

إني قد هيئت لك جيشاً من القلوب بالمال يرعاك نهاراً، ويرفع أكفّهُ بالدعاء لبقاء دولتك ليلاً، ومادامت القلوب معك لا يتمكن الأعداء من السيطرة علي بلادك.

فاقتنع (ملك شاه) بصواب خطّة (نظام الملك) واستحسن عمله وأبقاه في منصبه

بعد أن عرف قدره وازداد رفعةً عنده.

وهكذا فإن الدولة تحتاج إلي جيش القلوب، وإلاّ تآمر الناس ضد الدولة حتي أسقطوها بالقوة، إن لم يتمكنوا من إسقاطها بالوسائل الديمقراطية.. وقد رأينا في العشرين سنة الأخيرة كيف تسقط دولة إثر دولة كأوراق الخريف.

فقد سقط (فاروق مصر) وسمّ (عبد الناصر) والجدير بالذكر إنه كان يقتل الناس بالسمّ.

وقتلوا العائلة المالكة في العراق ونوري السعيد وعبد الكريم قاسم وأحرقوا عبد السلام عارف وشردوا عبد الرحمن عارف …

وتكررت القصة وأمثالها في كل من سوريا والسعودية وإيران ولبنان والأردن وتركيا وليبيا وأثيوبيا وقبرص وأوغندا ومناطق من أفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية.

كما سقط (نكسون) وكبير ألمانيا، و(خرشوف) وغيرهم.. وغيرهم.. كثيرون.

إني لا أريد أن أقول إن كل ما قام به الانقلابيون، بالانقلاب السلمي، أو الانقلاب الدموي كان صحيحاً وكانوا علي حق، وإن كل الذين سقطوا أو قتلوا أو أحرقوا أو سفروا، كانوا يستحقون نوع الانتقام الذي انصبّ عليهم..

إنه مما لاشكّ فيه إن التفاهم الاستعماري، أو التحالف الاستعماري، أو الأطماع الشخصية، أو ما أشبه، كان وراء بعض تلك الأحداث.. كما أنه مما لاشك فيه إن بعض الذين جاءوا بعد الانقلابات ليحكموا البلاد، كانوا أسوء بكثير وكثير من الذين كانوا يحكمونها قبل الانقلابات.

بل أريد أن أقول: إنه يجب علي الهيئة الحاكمة أن لا يظلموا الناس حتي يهيئوا الظروف المتاحة للانقلاب عليهم، انقلاباً أبيض أو أحمر.

فإن المثل المعروف يقول: (يتمكن الإنسان أن يصنع بالسلاح كل شيء، لكنه لا يتمكن أن يجلس عليه).

16 الظالم يقتل بسيفه

لقد أكثر (بخت النصر) في ظلم الناس والتعدي عليهم وسجن أحد أنبياء الله سبحانه وهو النبي دانيال (عليه السلام) في بئر.. والله سبحانه أمهله حتي يمتحن الناس به، ويمتحنه بالناس، فقد قال سبحانه: ?أحسب الناس أن

يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون?.

ورأي (بخت نصر) ذات ليلة رؤيا هالته، فجمع المعبرين واستفسرهم عن تفسير الرؤيا، لكن الكل أحجموا عن الجواب وقالوا: لا علم لنا بها…

فغضب عليهم أشد الغضب: كيف يتصرفون في الدولة بكل رفاه ولكن يعجزون عن تفسير رؤيا الملك؟.

قال أحدهم: إن في ملكك عالماً واحداً يتمكن من تفسير رؤياك.

قال: ومن هو؟

قال: ذلك هو دانيال (عليه السلام) الذي يدعي النبوة وقد سجنته أنت.

قال الملك: عليّ به.

فاخرجوا دانيال (عليه السلام) من سجنه وجاءوا به إلي الملك.

قال الملك: رأيت رؤياً هالتني، فهل عندك تعبيرها؟

قال دانيال (عليه السلام): نعم.

فقص عليه الملك رؤياه.

قال دانيال (عليه السلام): إن هذه الرؤيا تدل علي إنك تقتل في يوم كذا، في ساعة كذا، من شهر كذا.. فاستشاط الملك غضباً، وقال: إنّا نسجنك إلي يوم الوقت المعلوم، فإن لم يكن كما ذكرت قتلتك.. فأمر بسجن دانيال.

ثم.. إن الملك أمر بإخراج كل من في القصر قبل اليوم الموعود وأمر جلاّده أن يكون في ساحة القصر، وقال له إذا رأيت أحداً هنا فاضرب عنقه كائناً من كان، وبدون مراجعتي، ودخل بخت النصر غرفة من غرف القصر وهو ممتلئ رعباً وخوفاً، وأخذ يعدّ اللحظات إلي الساعة التي ذكرها النبي دانيال (عليه السلام).

وقبل الساعة بلحظة ازداد خوف الملك وحسب ألف حساب وحساب، فخرج من الغرفة ليري هل دخل القصر أحد، وإذا بالجلاد يسمع وقع الأقدام من خلفه، فحمل علي الشبح الذي ترائي له بدون أن ينظر إليه ليتبين له من هو؟

وكان ذلك الشبح هو الملك بنفسه، ولما قدّه الجلاد نصفين، وإذا به يري أن المقتول هو الملك بعينه وصدق كلام دانيال (عليه السلام) ولم ينفع الحذر، وكان قتل الملك الجبار علي يد من كان

أوثق المعتمدين عنده.

نعم.. ?فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون?.

وانتهت بقتل هذا الرجل صفحة سوداء من تاريخ الجبارين وخلّف عبرة لمن يتبوّء السلطة ظلماً وعدواناً، ولكن ما أكثر العبر وأقل المعتبر، كما في الحديث الشريف.

17 لا يمكن الفرار من حكومته

نقل لي أحد الأصدقاء، قال: كان لي صديق من أعراب البادية وسمعت انه أُتهم بقتل إنسان وأُدخل السجن، وقد حكمت عليه المحكمة بالسجن مدي الحياة. قال: فتعجبت من ذلك وقد كنت أعلم أن الرجل بريء من القتل الذي أُتّهم به. قال: فزرته في السجن وقلت له: أنا اعلم أنك بريء، لكن كيف أثبتوا عليك ما أنت بريء منه؟

قال الرجل: نعم … هو كما ذكرت إني بريء من قتل هذا المقتول، وكلما دافعت وأتيت بالشواهد لم ينفع دفاعي، وحكمت المحكمة عليّ كما تعلم.. ثم أردف الرجل قائلا: لكن هذا بذنب سابق، فإني قد قتلت بريئاً قبل سنوات ولم يعلم بذلك أحد، ولكن الله سبحانه جازاني عن ذلك بهذا السجن.

وهكذا يأخذ الإنسان وبال عمله، إن عاجلاً أو آجلاً.

قيل: إنه ذات مرة أقبل سارق يريد سرقة ملابس عالم وجده مسافراً في الصحراء وحيداً.. لكن السارق خشي أن يأخذه وبال سرقته عاجلاً، حيث إن الرجل عالم.

فسأله هل ان الله تعالي يأخذ الإنسان بذنبه عاجلاً أو آجلاً؟

قال العالم وهو لا يعلم نية السارق : قد يمهل الله فاعل الحرام مدة طويلة تصل أحياناً إلي مدة أربعين سنة.

وإذا بالسارق ينقض علي العالم وينزعه ملابسه ويسرق كل ما عنده وكلّما ألحّ الشيخ وخوفه من عاقبة عمله لم ينفعه ذلك، بل قال السارق: سوف أتوب قبل بلوغي أربعين سنة من هذا التاريخ. ولما أخذ السارق ما عنده أخذ يعدو فراراً وإذا به يقع في حفيرة وتنكسر رجله،

فلحقه العالم وأخذ ملابسه، قال السارق له: ألم تقل إن الله سبحانه قد يؤخر العقاب؟ قال: نعم.

قال السارق: فكيف أخذني الله بالسرقة، ولم تمرّ ساعة؟

قال العالم: إن أخذه هذا إنما هو بذنب قديم.

وهكذا قد يؤخذ الإنسان بذنب قديم، لكن الأخذ يقيني، فإنه سبحانه (لا يمكن الفرار من حكومته) سواء اعتقد الإنسان بحكومته أم لم يعتقد بها؟.

لذا يجب علي الإنسان خصوصاً الحكام، أن يفكروا ألف مرة ومرة، قبل اقترافهم الظلم، فإن الظلم أخيراً يأخذ الإنسان.

وأيّنا لم ير ظالماً أُخِذ بظلمه؟

وأيّنا رأي ظالماً نجي من العقاب في الدنيا؟

لا تغرنك السلامة إذ ما تظلم الناس فالعقاب قريب

18 عاقبة الظالمين

كان أحد رؤساء بعض بلاد الإسلام رجلاً ظالماً يقتل الأبرياء ويستحل الحرمات ويهتك الأعراض حتي أهلك الحرث والنسل والزرع والضرع، وأكثر من الظلم والعسف … وكان الله سبحانه له بالمرصاد، فأُقصي من بلده ومات شرّ موتة.

نقل لي أحد الثقاة، أنه بعد موته ذهب إلي قبره أحد الأخيار، فرأي بعينه البرزخية: ان قبر الرجل ممتلئ ناراً، وإنه يتصاعد مع شرر النار إلي فوق، ويقول: (الويل الويل الويل) ثم يسقط في القبر الذي كان أشبه شيء في نظره بحفرة من نار.

قال ذلك الخيّر: ورأيت معه في نفس وضعه شخصاً آخر قصير القامة لكني لم أعرفه من هو.. وهكذا كان حال الاثنين.

قال تعالي: ?لا تدعو اليوم ثبوراً واحداً وأدعو ثبوراً كثيراً?.

قلت: للذي نقل لي هذه القصة، إنّا نؤمن بذلك قبل أن نسمع أمثال هذه القصص، ألم يرد في الأحاديث الصحيحة: (القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران).

إن هذا بعض جزاء الظالمين في دار الدنيا، وفي القبر، وهناك لهم? نار أحاط بهم سرادقها وان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب

وساءت مرتفقا?.

وقد حكي: إن رئيس وزراء بلد إسلامي، كان ظالماً عاتياً، وكان فاسد العقيدة، فكان يقول: لي ألف دليل علي أن الله ليس بموجود…

واتفق أن دارت به الدائرة وفسد قلب الملك عليه، فأمر بسجنه ومحاكمته، وأحضر الطاغوت أمام القاضي وكان القاضي رجلاً مؤمناً بالله.

فقال له القاضي: كنت قد سمعت إنك تقول: إن لك ألف دليل علي عدم وجود الله؟.

قال الرجل: نعم، كنت أقول ذلك.

قال القاضي: لكن لي دليل واحد أقوي من كل تلك الأدلة تدلّ علي وجود الله سبحانه.

قال الرجل: وما هو ذلك الدليل؟.

قال القاضي: الدليل هو أن أحضر مثلك الطاغوت العنيد، في محكمتي أنا القاضي المتواضع العادي ثم حكم القاضي عليه بالإعدام..

ونفذ فيه الحكم وقد خسر الدنيا والآخرة ولم يبق له إلا الذكر السيّئ في الدنيا والعذاب الأبدي في الآخرة.

19 العين بالعين

قيل لملك: كيف صرت عادلاً؟

قال: كنت ذات مرة أطارد صيداً، فأرسلت الكلب لقبضه، وإذا بالكلب يكسر رجل الغزال، ولم يكن ذلك من عادته، وإنما فعل الكلب ذلك عدواناً.

فلم يمض زمان إلاّ ورفس الفرس رجل الكلب، فكسرت.

ولم يمض زمان إلاّ وسقطت رجل الفرس في حفرة، فكسرت.

فعلمت أن الدنيا دار مجازاة، ومن عمل سوءً لا يجزي إلاّ بمثلها.

وفي المثل (لا يجني الجاني من الشوك العنب).

وورد في حديث: إن موسي (عليه السلام) سئل الله سبحانه أن يريه عدله؟.

فقال له الله سبحانه: اذهب إلي (العين) الفلانية، لتري مظهر عدلي.

فجاء موسي (عليه السلام) إلي العين، فرأي أن فارساً جاء إلي العين يريد الماء ولما رجع سقط منه كيس نقوده هناك.

فلما مضي الفارس، جاء شاب يريد الماء فأخذ كيس النقود وذهب.

ثم إن رجلا أعمي جاء يريد الماء، وفي هذا الأثناء جاء الفارس يطلب كيس نقوده وظنّ أن الأعمي هو الذي

أخذه وأخفاه، فطلب الكيس من الأعمي، لكن الأعمي أنكر وقال: الكيس ليس عندي، لكن الفارس لم يقتنع بمقالة الأعمي فجرد السيف وقتل الأعمي وذهب.

فأوحي الله سبحانه إلي موسي (عليه السلام) أرأيت عدلي؟.

قال موسي (عليه السلام): وكيف يا ربّ؟ إني لم أر إلاّ سرقة الشاب كيس الرجل الفارس وقتل الفارس الأعمي بدون ذنب؟

فأوحي الله سبحانه إلي موسي(عليه السلام): إن الفارس كان استولي علي هذا الكيس الذي كان لوالد الشاب ظلماً، وحيث مات والد الشاب أصبح الكيس للشاب، فأرجعنا المال إلي صاحبه الشرعي.

وإن الأعمي كان قد قتل والد الفارس ظلماً، فاقتصصنا من الأعمي علي يد ولد المقتول.

أقول: ينقل عن الإمام الأجل الشيخ نصير الدين الطوسي (قدس سره) إنه كان يقول: إذا فوض الله تعالي إليّ أمر الكون فرضاً لم أكن أغير فيه شيئاً، بل أديره كحاله الآن.. وكان يقول: إن الله سبحانه أعلم بالصلاح من الكل، فإذا رأيناه يدير الكون بمثل هذه الإدارة، لابد وان تكون الإدارة بهذه الكيفية في غاية الصلاح، بحيث ان أي تغيير تكويني فيه يكون خلاف الصلاح.

وقد علقت أنا علي كلمة الشيخ الطوسي (قدس سره): انه إذا لم يصل إلينا من الشيخ أي شيء من تاريخ حياته وعلومه وسائر أعماله الجليلة، إلاّ هذه (الكلمة) لعلمنا أنه في أرفع مكانة من العلم والحكمة.

كما علقت علي كلمة ابن سينا: حيث يقول: (ما قرع سمعك من غرائب الزمان، فذره في بقعة الإمكان ما لم يذرك واضح البرهان)… بمثل هذا التعليق.

ولك أن تسأل فلماذا يغير الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) الاعتقادات والتقاليد؟.

ولماذا يغير العُمّار بأمر من الله سبحانه الأرض، إلي زرع وعمارة؟.

ولماذا؟.. ولماذا؟.

والجواب: إن كل ذلك داخل في النظام المقرّر علي الأرض الذي لا ينبغي تغيير أي شيء

منه. فمعني كلام الشيخ: أن صنع الأرض بهذه الكيفية وخلق البشر بهذا النحو وإرسال الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) لأجل الهداية وتمكين البشر لأجل العمران و.. و.. كلّها حسب الصلاح الدقيق، حتي أن أيّ تغيير في شيء من ذلك تكويناً خلاف المصلحة.

ثم إن من الجهل أن ينكر الإنسان المصلحة لمجرد أنه لم يفهمها، كما هو واضح لكل ذي عقل.

قيل: إن أحد الحكماء، كان ينكر الفائدة في وجود قسم خاص من الخنفساء، فاتفق أن ابتلي بقرحة في جسده ولم ينفعها كل أقسام الأدوية.. إلي أن أتاه طبيب وقال: إن علاجه أن يقتل هذا النوع من الخنفساء ويحرقه ويضمد الجرح بمحروقه، ففعل ذلك بعد اليأس وبرء بإذن الله تعالي، فقال الحكيم: إن الله تعالي لم يفعل ذلك إلا ليفهمني جهلي.

لنرجع إلي موضوع الكلام وهو إن الظلم لابد وأن يجرف الظالم وإن طال الزمن.. وأحياناً ينمو الظلم نمو النبات، فيرجع إلي الظالم بأضعاف ظلمه، ونموه ليس اعتباطاً بل بميزان خاص دقيق، أرأيت كيف تقرر القوانين الإعدام أو حبس الأبد، علي بعض أقسام الإجرام الذي ليس له هذا الحجم؟. فانه قد يكون من هذا الباب.

والكلام حول هذا الموضوع خارج عن نطاق هذا الكتاب.

إذا ظلمت فراقب سوء منقلب من يطفئ الضوء لا ينفك في الظلم

20 شوب الماء باللبن

كان إنسان صاحب غنم وكان يخلط الماء باللبن عند البيع، ونصحه كثير من الناس أن يتجنب هذا الأمر، لكنه لم يكن يعير لكلامهم أهمية.. واستمر في فعله ذلك.

وذات مرة جاء سيل وذهب بالقطيع كله، فكان يبكي ويصرخ ويولول، فقال له أحد أولئك الناصحين له: لماذا البكاء والعويل؟ إن قطرات الماء التي كنت تشوبها باللبن، تجمعت حتي صارت سيلاً فذهبت بالقطيع!.

ويحكي قريباً من هذه القصة، قصة رجل

كان يشوب الماء باللبن، وذات مرة كان راكباً في سفينة تبحر من الهند وإذا بقرد هناك يلفق كيس نقوده ويصعد به إلي سارية السفينة وكلّما حاول الرجل ورجال السفينة إغراء القرد بالنزول لم ينفع، فنظروا إليه وإذا به يفتح الكيس ويقذف بليرة ذهبية في البحر وبليرة ذهبية في السفينة، وهكذا، حتي افرغ ما في الكيس.

فأخذ الرجل يبكي ويصرخ، قال له بعض من كان يعرفه ويعرف عمله، لماذا البكاء والصراخ؟ إن القرد طرح حصة الماء في الماء وحصة اللبن إليك.

وهكذا عاقبة الظالم، إن الظلم يتجمع ويتجمع، حتي يكون سيلاً يذهب بكل شيء، أو يصور الظلم في صورة قرد ويذهب ببعض الشيء من الأموال التي جناها بخداع الناس والغش …

ومن حكمة الله سبحانه أن لا يأخذ الإنسان دائماً بأفعاله مباشرةً، وربما أمهله لكي يرجع عن غيّه مرة ومرة ومرة، ولكن ليس معني ذلك إنه أهمله أو تركه.. قال تعالي: ? وإن ربّك لبالمرصاد?.

يقال: إنه جيء بسارق إلي علي (عليه السلام) وقد اجتمعت فيه شروط الحدّ فأمر الإمام (عليه السلام) بقطع يده، فأخذ في التوسّل والتضرّع، أن يكفّ الإمام عنه؟ لكن الإمام أبي إلاّ قطع أصابعه.

قال: يا أمير المؤمنين والله إن هذه أول مرة أسرق وسوف أتوب فلن تراني سارقاً أبداً.

لكن الإمام عليه السلام أمر بقطع يده.

ولما اخذ لتقطع يده، قال السارق: يا أمير المؤمنين، إن هذه السرقة كانت تمام المائة وقد سرقت قبل ذلك تسعاً وتسعين مرة.

قال الإمام (عليه السلام): وأنا كنت أعلم بذلك، فإن الله سبحانه لا يفضح العبد في أول مرة وكنت أعلم انك تكذب.

نعم.. إن الله سبحانه يمهل السارق ويمهل ويمهل.. ثم يأخذه ?أخذ عزيز مقتدر?.

وإذا رأيت الستر من رب العلا لا تغترر فلربّما

جاء القدر

21 ظلم أم عدالة

في أحد البلاد الإسلامية وجد قتيل لم يعرف قاتله، وحيث إن القتل كان فضيعاً ضغط وزير الداخلية علي المدير العام للتحريات الجنائية أن يجد القاتل بكل صورة، وأعمل المدير كل أجهزته الأمنية لمعرفة القاتل، ولكن القاتل ضلّ مجهولاً، ومضت مدة طويلة بدون الحصول علي أي شيء؟

حتي ظنّ الوزير أن المدير العام شريك في الجريمة، فأصدر إليه أمره أنه لابد من تشخيص ومعرفة القاتل خلال ثمانية وأربعين ساعة، وإلاّ يتهم الوزير نفس المدير بأنه شريك في الجناية.

فارتبك المدير وضغط علي الأجهزة للعثور علي القاتل، ومضت سبع وأربعون ساعة بدون جدوي.

وإذا بذهنية المدير تتفتق عن حيلة، فأصدر أمره إلي معاونه أن يخرج من الدائرة ويلقي القبض علي أول إنسان يراه، مهما كان ويأخذ منه الاعتراف بكل وسيلة، بأنه هو القاتل.

وخرج المعاون وألقي القبض علي صياد سمك طاعن في السن، وأحضره عند المدير.

قال له المدير: أنت قتلت فلان؟.

قال الصياد: لا أعرف فلاناً حتي أكون قاتله.

قال المدير: نعم، هناك أدلة وشواهد تدل علي أنك القاتل.

قال الصياد: أنا رجل فقير مسكين أصطاد السمك لقوت عائلتي، وعندما ألقيتم القبض عليّ كنت متوجهاً إلي البحر لصيد السمك.

فأمر المدير معاونه بأن يضربه حتي يعترف، وتحت وطأة التعذيب اعترف الصياد بالجريمة.

فخبر المدير الوزير بأنه وجد القاتل.

فأسرع الوزير وأصدر الحكم عليه بالإعدام فوراً، وتجمهر الناس ليروا كيف يلقي الصياد المجرم مصيره بعد أن هزّ البلاد بذلك القتل البشع.

ولما أُحضر الصياد عند المشنقة، قيل له: أوص وصيتك الأخيرة.

فقال: ليعلم هؤلاء الجمع، إني لست قاتل هذا المقتول، وإني أجبرت علي الاعتراف تحت وطأة التعذيب، لكن أنا قاتل إنسان آخر قبل سنوات، وقد ابتلاني الله بهذه العقوبة جزاءاً علي ذلك القتل، لا هذا القتل الذي أعدم

لأجله.

وأنصت الجميع إلي كلام الشيخ الصياد، ليقول:

كنت أنا في زمان شبابي ملاحاً أعبّر الناس من طرف البحر إلي طرفه الآخر.

وفي ظهيرة يومٍ شديد الحرّ وقد توقف المرور كلياً، جاءتني امرأة ومعها طفلان أحدهما رضيع والآخر يزحف وركبوا في السفينة ليعبروا البحر.. وكانت المرأة بارعة الجمال.

فوسوسني الشيطان.. وفي وسط البحر، حيث لا يراني أحد ممن في البحر غلبتني الشهوة وطلبت منها الفاحشة، لكن المرأة كانت شريفة فأبت، وكلما أغريتها، لم ترضخ.

وأخيراً هددتها بأنها إن لم ترضخ ألقيت ولدها في البحر، لكنها أصرت علي الامتناع فأخذت ولدها الصغير وألقيته في البحر وهي تبكي وتولول، لكن الشيطان كان قد أصمّني عن نداء العقل والعاطفة.

غرق الولد.. لكن الشهوة أخذت تشتعل فهددتها مرة ثانية بأنها إن لم تستجب ألقيت ولدها الثاني في البحر. لكنها لم تستجب، فاجتذبت ولدها الرضيع عن حضنها وألقيته في البحر وهي تبكي وتستغيث ولكن بدون جدوي.

ثم غلبني الشيطان، وعلوت المرأة بكل شراسة وفعلت معها الفاحشة، وبعد أن أتممت الأمر فكرت أن لو أوصلتها إلي اليابسة، فإنها سوف تخبر أقربائها، وأخيراً ستطاردني العدالة، ولذا فكرت في التخلص منها.. فأخذتها وألقيتها في البحر حتي غرقت.

وسمعت بعد ذلك من الناس إن امرأة وطفليها قد فقدوا، ولم يعثر لهم علي أثر وكنت أعلم في نفسي إني صاحب الجريمة.

قال الصياد: والآن يمرّ علي القصة المذكورة ثلاثون سنة … وإني أعلم أن هذا الاتهام انتقام لتلك القصة.

وقد نقلت قصتي، لأمرين:

الأول: لأنه كان يؤنبني ضميري طيلة هذه المدة وحين أنقل الآن القصة فقد أديت أمانة الضمير.

والثاني: إن من يظن أنه يتمكن أن يرتكب جريمة ثم يهرب من وجه العدالة، فليعلم أن ظنّه خطأ وان الله له لبالمرصاد.

ولما نقل الصياد قصته، أخبرت الشرطة الموكّلون

بشنقه المدير، وأخبر المدير بدوره الوزير.. فأمر الوزير بتأخير الشنق حتي يحقق عن القصة، فراجعوا ملفات الوزارة لما قبل ثلاثين سنة وإذا بهم يجدون ملف المرأة وطفليها الضائعين الذين لم يعثر لهم علي أثر وتبين صدق القضية التي نقلها الصياد.

ثم أُلقي حبل المشنقة علي عنق الصياد المجرم بين تصفيقات الجماهير ولقي بعض جزائه في الدنيا..

وهكذا ينتقم الله سبحانه من المعتدي ولو بعد حين، فلا يظن الظالم أنه يتمكن أن يفلت من يد العقاب والفضيحة.

22 الملك العادل

أخبرتُ أمير إحدي البلاد الإسلامية ذات مرة بأن البلاد تبقي آمنة مستقرة مادام الحاكم عادلاً لا يظلم الناس ولا ينوي الشرّ بهم، وينعكس الأمر إذا اخذ الحاكم في ظلم الناس، ونوي بهم السوء.

والأمير أيّدني في كلامي وقال: إنه يعتمد علي ذلك في إدارة البلاد، وإن رأيه الإحسان إلي المحسن، والعفو عن المسيء، إلا إذا لم يكن هناك مجال للعفو.

وذكرت له قصة ملك عادل انقطع ذات مرّة في سفر له عن مرافقيه، وأقبل الليل فلم يجد بدّاً من أن يلتجأ إلي خباء بعض أهل البادية بصورة متنكرة..

وبعد تناوله الطعام احتاج إلي الماء، فأمرت صاحبة الخباء بنتها أن تقدم الماء للضيف، وذهبت الفتاة وبعد لحظة قليلة جاءت بإناء ماء قد مزج بالسكّر، فشرب الملك وسئل الفتاة: كم عصرت في الماء من قصب السكر؟

قالت الفتاة: إنّما عصرت فيه قصبة واحدة.

حينذاك فكر الملك أن يضرب علي قصب السكر ضريبة مالية، حيث إن وارده كثير.

وبعد مدة تكررت قصة الالتجاء إلي ذلك الخباء من الملك، وطلب الملك الماء وذهبت الفتاة وأبطأت بقدر أكثر من بطأها في المرة الأولي وجاءت بالماء وكان حلاء الماء أقل، فسئل الملك عن سبب قلة الحلاء؟.

قالت الفتاة: إنها تظن إن قلب الملك تغير

علي البلاد، فإنها قد عصرت في هذه المرة قصبتين ومع ذلك فالحلاء أقل، وفي المثل المشهور (إن الزمان يتغير بتغير السلطان).

ومن الممكن أن تكون الفتاة لم تجد قصبة ريعانة في المرة الثانية..

ومن الممكن أن تكون النية بمنزلة الصخرة التي يلقيها الإنسان في الماء، حيث تحدث أمواجاً دائرية، فإذا نوي السلطان خيراً، أحدثت نيته أمواجاً من الخير والعكس بالعكس..

كما إنه من المحتمل أن تكون القصة مثالاً لآثار العدل وآثار الظلم بدون أن يكون لها واقع خارجي .

وعلي أي حال فلا شكّ في أن عدل الرؤساء له أعظم الأثر بالنسبة إلي أنفسهم والي شعوبهم. كما إن ظلم الرؤساء له أعظم الأثر بالنسبة إلي أنفسهم والي شعوبهم، فالعدل كالنور، والظلم كالظلمة، هذا ينير، وهذه تظلم.

23 أسئلة في العدل والعدالة

كيف يعدل الحاكم؟.

وهل العدالة ممكنة؟.

وهل يدع الناس أن يعدل الحاكم؟.

ألم يعدل رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ولاقي ما لاقي؟.

ألم يعدل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ولعدله صارت حياته قطعة من المآسي؟.

أليس الظالمون يعيشون أفضل مما يعيشه العادلون؟.

بل الظالم هو الذي يعيش.. أما العادل فيطرحه ويحاربه المجتمع بكل قوة.

هذه أسئلة تتبادر إلي الذهن أحياناً، بل يتساءلها بعض الناس.

والجواب: إن النظرة السطحية هي التي تملي هذه الأسئلة، إنه فرق بين (الجفاف) وبين (العدالة) فليس معني العدالة أن يكون الإنسان جافاً لا يفهم ولا يعمل الحزم في الأمور، بل معناها أن لا يظلم ولا يطغي.

ولنتكلّم أولاً حول النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) والوصي (عليه السلام)، ثم نأتي إلي تتمة الفرق بين الأمرين: (الجفاف والعدالة).

إن نجاح الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في حياته وبعد موته مرهون بعدالته، فهل كان يلتف حوله الناس، إذا كان ظالماً؟. وهل كان يبقي له هذا الذكر الجميل

والثناء العطر لو كان ظالماً؟.

كل عاقل يعلم أن الجواب علي السؤالين ب (النفي).

إنه لا يمكن الجمع بين الرسالة والظلم، لكن نقول ذلك علي طريقة (لو) وأن فرض المحال ليس بمحال.

وأمير المؤمنين علي)عليه السلام) بقي في التاريخ لأنه كان عادلاً، ولو كان علي)عليه السلام) ظالماً، لما سمعنا باسم الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ولا باسم علي (عليه السلام) إطلاقاً.. ولو كان علي (عليه السلام) يعمل لنفسه من دون ملاحظة مصلحة الإسلام لجرد سيفه في يوم السقيفة وأورث انشقاقاً في المسلمين ولتدخل الروم والفرس وغيرهما لمحو الإسلام.

ولو كان علي)عليه السلام) ظالماً، لاستلم اللواء من يده غيره، كغير واحد من الحكام الظالمين الذين أخذوا الحكم من الآخرين..

وقد ذكرنا طرفاً من الكلام حول الإمام علي)عليه السلام)، في كتاب (لكي لا تتنازعوا).

ونأتي إلي الفرق بين (العدالة) و(الجفاف): إن إعطاء المال للمؤلفة قلوبهم والتزويج والتزوج معهم، وإرضاءهم بأشياء لا تضر العدالة، كل ذلك لا ينافي العدالة، أما ما يوجب اجتثاث جذور العادل فهو (الجفاء) وعدم الحزم في الأخذ والعطاء وما إلي ذلك.

فالعدالة وسط بين (الظلم) وبين (الجفاف)، ومن يزعم ان (العدالة) تلازم (الجفاف) فانه يلزم عليه أن يفهم معني العدالة من جديد.

المداراة وتأليف القلوب والحزم وملاحظة قانون الأهم والمهم، و… و… كلّها من لوازم العدالة.

وبهذا علي إيجازه يظهر الجواب علي الأسئلة السابقة، وتفصيله يحتاج إلي إهاب وتطويل.

24 شمولية العدل

العدل ليس خاصاً بالحكام، ولا خاصاً بأمور الدنيا ولا بالأمور الشرعية فقط بل العدل مرغوب فيه في كل إنسان وفي كل الأمور.

فاللازم أن يكون الحاكم عادلاً في رعيّته، والفاتح عادلاً في البلاد التي فتحها لأجل إقامة العدل، والجيش عادلاً في ما يفعل من حرب وخراب، والعالم عادلاً في إدارة الأمور الدنيوية والدينية، والرجل

عادلاً مع زوجاته وأولاده. والمدير عادلاً في إدارته، والمرأة عادلةً مع زوجها وأولادها وإدارة شؤون بيتها، وهكذا.. وهكذا..

وكما أن الظالم يري سوء جزاء ظلمه، كذلك العادل يلقي حسن جزاء عدالته التي منها:

1. قلة الأتعاب، فإن الظلم يوجب عدم رضاية من رفعه الظالم وعدم رضاية من وضعه، أما عدم رضاية من رفعه، فلأنه يريد المزيد ويضيق بأن يري التقدير للطرف الآخر… وأما عدم رضاية من وضعه، فهو أمر واضح.

2. حسن الذكر، فإن نداء الضمير يوجب تحسين كل الناس للعدل، مهما اختلفت نزعاتهم.

3. جميل الأجر في الآخرة.

والظالم بالعكس من كل ذلك، فإن أتعابه أكثر، والناس بأجمعهم يذمونه حتي الذين رفع كفّتهم، وله في الآخرة الجزاء السيئ.

ولاشك في أن العادل يلقي صعوبات، إلاّ إن ما يلقيه الظالم من الصعوبات، اكثر واكثر.

وكثيراً ما يتبنّي إنسان العدالة، لكنه ينحرف في وسط الطريق، ظانّاً إن مشاكل الظلم أقل، لكنه لا يفتأ أن يجد مرارة الظلم الذي اقترفه، ويشعر بهناء العدل الذي تركه، وغالباً ما يجد نفسه في دوّامة من الظلم لا نهاية لها …

فاللازم علي الإنسان أن لا ينخدع بسراب الظلم من بعيد، وإذا انخدع وترك العدل إلي الظلم، فاللازم عليه حينئذ أن يرجع من حيث ترك العدل، والرجوع أهنأ وأيسر من الإيغال في الظلم.

وقد رأيت قسماً من الظالمين، يقولون: هذا طريق سلكناه ولا نتمكن من الرجوع … إنه كلام باطل، وتنقص هؤلاء الشجاعة في الاعتراف بخطئهم، ولكن الاعتراف والرجوع خير ألف مرة من الإنكار والتمادي.

25 حيث لا ينفع الندم

كان في سابق الزمان عالم زاهد منقطع إلي الله سبحانه، وقد أعطاه سبحانه روحاً قويةً، كما في الحديث القدسي: (عبدي أطعني تكن مثلي، أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون).

وكما ان التاجر، يفتح المجال

أمام صانعه الأمين في كل أموال تجارته، كذلك الله سبحانه يفتح يد عبده المطيع في كل ما يليق بذلك العبد من ملكوته، وهذا من أسرار قدرة الأنبياء والأئمة والصالحين (عليهم السلام) علي المعاجز والكرامات.

كان ذلك العالم يتمكن من إحضار الأموات لا بأرواحهم فحسب بل حتي بأجسامهم المكتسبة، وكان قادراً علي أن يُرِي الناس أولئك الأموات.

وذات مرة ذهب أحد الرؤساء عنده وطلب منه أن يحضر أباه، وكان أبوه رجلاً شقيّاً ظلم الناس كثيراً وبدّل دينهم، وأفسد في الأرض..

قال العالم: إنك لا تقدر علي أن تري أباك لما فيه من العذاب. لكن الرجل أصرّ علي العالم. وبعد إلحاح شديد قبل العالم إحضاره.. فأحضره.

ينقل الرئيس: وإذا به يفاجئ بإنسان أسود الوجه كالح، تتطاير النار من جميع جسده، وهو مغلول، يسحبه اثنان عن يمينه وشماله، مما أثار في الولد أكبر قدر من الرعب، وسمعه يقول: إن مخالفة الإسلام هي التي أوردتني في هذا المورد، فأغمي علي الولد من جراء المنظر المهيب الذي رآه.

ثم أمر العالم بعلاج الولد، حتي رجع إليه الوعي لكنه أخذ يرتجف كالسعفة حتي هدئت حالته و رجع إلي ما كان من الاستقرار.

إن الأب المعذب، صرّح بأن مخالفته للدين والشريعة وظلمه للناس هي التي أوردته هذا المورد الصعب، وهكذا ندم حيث لا ينفعه الندم.

قال سبحانه: ? ويوم يعض الظالم علي يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ? يا ويلتا ليتني لم اتخذ فلاناً خليلاً ?.

وهناك قصة أخري شبيهة بالتي ذكرناها وهي قصة ذلك الرجل الذي دفن أبوه أمواله في حياته ثم مات، والذي أمره الإمام (عليه السلام) أن يذهب إلي البقيع وينادي (يا برجان).

وعلي كل حال فالظالم يمهّد لنفسه أسوء المصير حيث لا رجوع ولا

ندم، وكلّما قال: ?ربّ ارجعونِ ? لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت ? أي: ما تركت من الأموال وما تركت من الدنيا أو ما تركت من الأعمال الصالحة، يجاب ب: ? كلاّ إنها كلمة هو قائلها?.

أي: لا تعدوا أن تكون هذه الكلمة كلمة المضطر، فإذا رجع إلي الحياة الدنيا، رجع إلي سالف أعماله الإجرامية: ? ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون?.

وهناك قصص ومطالب وتوجيهات كثيرة، يمكن أن تسطر بهذه المناسبة.. لكننا اكتفينا عن كل ذلك بهذا القدر، لان فيه كفاية لمن أراد اليقظة والاعتبار.

وربما يقال: وما فائدة أمثال هذه الكتب؟ فإنه لا يستفيد منه من بيدهم الحكم لأنهم لا يطالعون، ولا الرعية لأنه ليس بأيديهم شيء؟.

والجواب:

أولاً: يجب علي الإنسان أن يقول ما يراه صلاحاً وأن يبيّن الحكم الشرعي، سواء عمل به إنسان أم لا.

وثانياً: لعل الله سبحانه يجعل فيه الفائدة، فمن قال بأنهم لايطالعون؟ ثم أليسوا كانوا من الرعية الذين كانوا يطالعون وأثّرت فيهم أشياء وأشياء، وبنفس تلك الانطباعات يسيّرون الحياة؟.

ثم من قال إن الرعية ليس بأيديهم شيء؟ أليست قاعدة (هرم كبير تتكون من وحدات صغار) صحيحة.

بالإضافة إلي أن كل فرد من الرعية يتمكن من العدل ومن الظلم في محيطه الخاص به وقد يصبح كبيراً، كما ورد عن الإمام الحسن المجتبي (عليه السلام) حيث خاطب الأطفال وقال: (إنكم صغار قوم ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين).

???

وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الكتاب، والله الموفق المستعان.

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام علي المرسلين والحمد لله ربّ العالمين، وصلي الله علي محمد آله الطاهرين.

الكويت

10 رمضان المبارك 1395ه

محمد الشيرازي

رجوع إلي القائمة

پي نوشتها

- سورة الحجرات: 13.

- سورة آل عمران: 159.

- لا يخفي ان قسماً من هذا

الكتاب طبع سابقاً بنفس الاسم في 48 صفحة من الحجم الجيبي، اصدار مؤسسة البلاغ بيروت لبنان سنة 1407ه / 1987م. ويبدو أن المؤسسة لم تحصل علي النسخة الخطية بكاملها.

- سورة النساء: 97.

- إشارة إلي قوله تعالي: ?وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسنّدة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أني يؤفكون?. سورة المنافقين: 4.

- اشارة الي قوله تعالي: ?يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لاييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون?. سورة يوسف: 87.

- سورة الكهف: 13.

- سورة إبراهيم: 42.

- روضة الواعظين ص 466 مجلس في ذكر وبال الظلم.

- هو آية الله العظمي السيد الميرزا مهدي الشيرازي (قدّس سرّه).

- وسائل الشيعة ج14 ص537 باب76 ح19773. وفيه: احمد بن فهد في عدة الداعي قال: روي أن رسول الله (ص) عوض الحسين ? من قتله أربع خصال: جعل الشفاء في تربته، وإجابة الدعاء تحت قبته، والائمة من ذريته، وأن لا تعد أيام زائريه من أعمارهم.

- سورة الأنفال: 25.

- سورة الأنعام: 164 والإسراء: 15 وفاطر: 18 والزمر: 7.

- قال تعالي: ?ووهبنا له إسحاق ويعقوب كُلاًّ هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسي وهارون وكذلك نجزي المحسنين ? وزكريا ويحيي وعيسي وإلياس كل من الصالحين? سورة الأنعام: 84 - 85.

- أي استجابة الدعاء تحت قبته، والشفاء في تربته، والأئمة من ذريته (عليه السّلام).

- قال النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم. بحار الأنوار ج17 ص259 باب2 ح4.

- قال علي (عليه السّلام): (فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك فرُبّ كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة).بحار الأنوار ج68

ص290 باب78 ح62.

- إشارة إلي قوله تعالي: ?إن ربك لبالمرصاد? سورة الفجر: 14.

- سورة إبراهيم: 43.

- سورة الفجر: 14.

- بحار الأنوار ج68 ص327 باب80 ح25.

- سورة المجادلة: 6.

- راجع كتاب (إلي نهضة ثقافية إسلامية) للإمام الشيرازي.

- سورة القصص: 42.

- إشارة إلي ما ورد في وصف الجنّة، فمثلاً راجع ثواب الأعمال ص56 وفيه: (من صام من رجب أربعة عشر يوماً أعطاه الله من الثواب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر) الحديث.

- سورة البقرة: 206.

- سورة البقرة: 11.

- سورة النساء: 150.

- للشيخ الصدوق (قدس سره).

- للشيخ الطبرسي (قدس سره).

- للشيخ النراقي (قدس سره).

- للجزائري والراوندي (قدس سرهما).

- راجع بحار الأنوار ج1 ص137 باب4 ح30، وفيه: (قال الصادق ?: يا هشام إن لله حجتين، حجة ظاهرة وحجة باطنة فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السّلام) وأما الباطنة فالعقول) الحديث.

- سورة السجدة: 12.

- سورة الأنبياء: 15.

- سورة المنافقين: 4.

- سورة الحاقة: 28 - 29.

- بحار الأنوار ج41 ص2 باب99 ح4.

- سورة الدخان: 25 – 29.

- أين الملوك وأبناء الملوك ومن قاد الجيوش ألا يا بأس ما عملوا

باتوا علي قلل الجبال تحرسهم غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

فأنزلوا بعد عزّ عن معاقلهم وأسكنوا حفرة يا بأس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا أين الأسرّة والتيجان والكلل =

= أين الوجوه التي كانت منعّمة من دونها تضرب الأستار والحجل

فأفصح القبر عنهم حين سائلهم تلك الوجوه عليها الدود تنتقل

قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا فأصبحوا بعد طيب الأكل قد أكلوا

سالت عيونهم قذف الخدود ولو رأيتهم ما هنأك العيش يا رجل

- راجع بحار الأنوار ج75 ص83 باب16 ح87، وفيه: من كلامه (عليه السّلام) العدل أساس به قوام العالم.

-

سورة الذاريات: 53.

- سورة إبراهيم: 42.

- سورة النساء: 9.

- راجع بحار الأنوار ج13 ص296 باب10 ح13، وفيه: (لا تزنوا فتزني نسائكم ومن وطئ فراش امرئ مسلم وطئ فراشه). وأيضاً بحار الأنوار ج76 ص27 باب69 ح32.

- كما فعل مع (المشير عبد الحكيم عامر) ومع (دريد المفتي) وغيرهما، اقرأ (الحوادث) اللبنانية.

- سورة العنكبوت: 2.

- سورة الأعراف: 34.

- بحار الأنوار ج 68 ص327 باب80 ح25.

- إشارة إلي ما ورد في دعاء كميل، راجع مصباح الكفعمي ص555 وفيه: (ولا يمكن الفرار من حكومتك).

- سورة الفرقان: 14.

- راجع الأمالي للشيخ المفيد ص265 المجلس31، وفيه: (قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار) الحديث.

- سورة الكهف: 29.

- سورة الفجر: 14.

- هناك أكثر من أربعين شرطاً لإجراء حدّ السرقة، ذكرها الإمام الشيرازي في كتاب (ممارسة التغيير) ص 448 وأشار اليها في موسوعة الفقه ج101 كتاب الدولة الاسلامية ص 181.

- راجع بحار الأنوار ج40 ص287 باب97 ح45، وفيه: (فقال أمير المؤمنين ? لقد فرّج عني، قد كنت مغموماً بمقالتك الأولي، وإن الله حكيم كريم لا يعجّل عليك إن شاء في أول ذنب).

- سورة القمر: 42.

- ذكر الإمام المؤلف بعض الكلام في ذلك في هذه الكتب أيضاً (حكومة الرسول والإمام أمير المؤمنين?) و(تحويل المعنويات الإسلامية) و(الحكومة الإسلامية في عهد الإمام علي?) و…

- راجع بحار الأنوار ج90 ص376 باب24 ح16، وفيه: (في الحديث القدسي: يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون).

- سورة الفرقان: 27 – 28.

- سورة (المؤمنون): 99 – 100.

- سورة (المؤمنون): 100.

- سورة الأنعام: 28.

- بحار الأنوار ج2 ص152 باب19 ح37.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.